ولو كان لهذا الوجه صحةٌ وثبوتٌ، فلا بد من طرده في مسالة بيع الثمار إذا تقدم واستأخر عنه بيع الأشجار.
5000- ومما نفرّعه في ذلك أنه لو قال المالك: زارعتك على هذه الأراضي بالنصف، وساقيتُك على النخيل بالنصف، وقدّم لَفْظَيْه على النسق الذي ذكرناه، على قبول العامل. ثم قال العامل: قبلتهما، فللأصحاب طريقان: منهم من ألحق ذلك بمحل الصحة وجهاً واحداً.
ومنهم من ذكر في هذه الصورة، اختلافاً، لتمييز المزارعة في الذكر عن المساقاة، ثم يُرتِّب هذا القائلُ هذا الخلافَ على ما لو أفرد كل واحد منهما بعقدٍ، وقبولٍ، على حكم التمييز.
وقد قال القاضي: " لو قال: زارعتك على هذه الأراضي، وساقيتك على النخيل بالنصف، فهذا يصح وجهاً واحدأ، وإن تعدّدت العبارة عن مقصود الأراضي والنخيل؛ إذا كان ذكرُ الجزئية بعدهما راجعةً إليهما. ومسألة التردد فيه إذا ذُكر جزئيةُ المزارعة، ثم ذُكر المساقاة وجزئيتُها، ثم ذكر القبول بعد ذلك ".
وهذا الذي ذكره صحيح، فلا يشترط في تصوير الوفاق أن نذكر عبارةً واحدةً صالحةً لهما، مثل أن يقول: عاملتك، أو ما جرى هذا المجرى.
ولو جمع بين الأراضي والنخيل في العقد واللفظ، ولكنه غاير بين الجزئين فقال: ساقيتك على هذه النخيل، وزارعتك على هذه الأراضي على أن لك من الثمر النصفَ، ومن الزرع الثلث، فقد اختلف أصحابنا: فمنهم مَنْ صحح ذلك، لاتحاد العقد والعاقد، وجريان التبعية. ومنهم من لم يصحح المزارعةَ؛ لأنها ميزت على الصيغة المغايرة عن النخيل، وأفردت بقسطٍ وجزء، فكان ذلك خارماً للتبعية.
ثم لا يخفَى أن الخلاف في ذلك يترتب على الخلاف فيه إذا أُفردت المزارعة بعقدٍ تقديماً أو تأخيراً، ولا يشكل وجه الترتيب.
و [كل] (1) ما ذكرناه فيه إذا جرت المزارعة على الأرض، مع المساقاة في النخيل، واتحد العامل.
__________
(1) في الأصل: ولكن.(8/18)
وقد قدمنا صورة المزارعة، وأوضحنا أن البذر فيها يكون من جهة مالك الأرض، والعمل من الزراع.
5001- فلو ساقى المالك رجلاً على النخيل وخابره على الأراضي المتخللة.
والمخابرة أن يكون البذر من العامل، ويقع شرط جزء من الزرع لمالك الأرض عوضاً عن منفعة أرضه.
فلو جرت هذه المعاملة في الأراضي في ضمن المساقاة على النخيل، ففي المسألة وجهان ذكرهما الشيخ أبو علي: أحدهما- أن المخابرة صحيحة لمعنى التبعية؛ فإنها في معنى المزارعة، وكل واحدة منهما باطلة لو أفردت.
والوجه الثاني- أن المخابرةَ فاسدة؛ لأنها لا تُضاهي المساقاة؛ من جهة أن وضع المساقاة على شرط [شيء] (1) من الثمار للعامل، والأصل أن تكون الثمار لمالك الأشجار، والمزارعة في معناها؛ فإن الغلّة تبعُ البذر، فالأصل أن تكون الغلةُ بكمالها للمزارع، فإذا شُرط جزء منها للعامل؛ فإن (2) ذلك كشرط جزء من الثمار للعامل؛ وليس كذلك المخابرة؛ فإن البذر فيها من العامل، والأصل أن تكون الغلة له.
وكل هذه المسائل تدور على التبعية، ومراعاتها.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت الأراضي بحيث لا يتأتى إفرادها [بالسقي] (3) والعمل دون النخيل، وكانت مع ذلك قليلةً، لا يجرّد القصدُ إلى إفرادها.
5002- فأما إذا كانت تلك الأراضي كثيرة، وكان يمكن إفرادُها بالعمل فيها، فلا تجوز المزارعة عليها مع النخيل، وإن احتوى عليها حائط واحد.
ولو كثرت الأراضي، ولكنها كانت لا تفرد بالعمل، ولا يتأتَّى إفرادها، ففي المسألة وجهان: أحدهما- أن المزارعة فاسدة؛ لأنها بكثرتها يمتنع تقديرها تبعاً.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) (ي) ، (هـ 3) : كان ذلك.
(3) في الأصل: بسقي.(8/19)
والثاني- وهو الأصح- أن المزارعة تصح؛ فإنها تابعة في العمل؛ من جهة أنه لا يتأتَّى إفرادُها بالعمل عليها.
ثم اختلف أئمتنا المعتبرون في ذلك: فمنهم من اعتبر كثرة الأراضي، وقال: إن كانت أكثر من مغارس النخيل، أو كانت مثلَها، فتقع في الخلاف، وإن كانت أقلَّ من النخيل، فالتبعية ثابتةٌ والمزارعة صحيحة، على شرط التبعية.
ومن أئمتنا من راعى الرَّيْعَ، وقال: إن كان ريْعُ النخيل أكثرَ فالأراضي تابعةٌ، وإن كان ريعُ الأراضي أكثرَ، أو كان مماثلاً، فلا تبعية.
وبالجملة كل ما ذكرناه فيه، إذا كان لا يتأتى إفراد الأراضي بالعمل فيها دون النخيل، فإن كان يتأتى ذلك، فلا وجه لتصحيح المزارعة أصلاً. هكذا ذكره الأئمة رضي الله عنهم.
فصل
قال: " ولا تجوز المساقاة إلا على جزء معلوم ... إلى آخره " (1) .
5003- الثمار في المساقاة بمثابة الربح في القراض، وعوض العامل في المعاملتين جزءٌ من الفائدة الحاصلة بأثر عمل العامل، ثم سبيل الإعلام الجزئية، وقد ذكرنا تفاصيلها في القراض.
وجُملة تلك المسائل في هذا الفن تعود هاهنا: فإذا قال المالك للعامل: لك نصف الثمار ولي نصفُها، صحَّ ذلك. ولو قال: لي نصف الثمار، وسكت عن النصف الثاني، أو قال: لك نصف الثمار، وسكت عن إضافة النصف الثاني إلى نفسه، فالخلاف في ذلك كالخلاف في نظيره من القراض.
ولو سمى للعامل في مقابلة [عمله] (2) ثمرة نخلة، أو نخلات، فالمساقاة فاسدةٌ؛ لأن تيك إن لم تُثمر، تجرّد عملُه على باقي النخيل عن مقابل، وإن أثمرت، ولم يثمر
__________
(1) ر. المختصر: 3/72.
(2) ساقطة من الأصل.(8/20)
غيرُها، فلا يَسْلَمُ لرب النخيل شيء، وهذه المعاملة لا يجوز أن يعدل عن موضوعها.
ولو شرط للعامل صاعاً، ثم جعل الباقي نصفين، أو شرط لنفسه صاعاً، فذلك فاسد، كنظيره من القراض. وكذلك لو شرط أن تكون الثمار نصفين، ثم إنّ أحدهما يردُّ على الآخر صاعاً، فيفسد؛ إذ قد لا يكون النصف إلا صاعاً، وهو بمثابة ما لو شرط لصاحبه صاعاً، ثم قدّر القسمة بعده.
وكل هذه الفصول متكررة، اكتفينا بالرمز إليها.
5004- والذي يجب الاعتناء بدَرْكه: أن شرط جميع الثمار للعامل فاسدٌ مفسد للمعاملة، وكان لا يمتنع من طريق المعنى تجويز ذلك اكتفاءً من مالك الأشجار بتنميتها، وقد يقع هذا غرضاً في أوّل نماء الأشجار الحديثة، المحتاجة إلى التعهد، ولكن لا يسوغ هذا، كما لا يسوغ شرطُ تمام الربح للعامل.
ومبنى المعاملةِ على تمليك حق المالك في اقتضاء ملك الثمرة لمالك الأشجار، وصرف شيء منه إلى العامل، والغرضُ من صرف شيء إليه أن يسعى في تكثيره، بناءً على أن ما [يبقى] (1) للمالك عند عمل العامل أكثرُ من كل الثمرة لو لم يكن عمل.
هذا هو المفهوم من وضع هذه المعاملة.
وقال القاضي في أثناء هذه المسائل: " لو باع نصفاً من صُبرة، وصاعاً من النصف الآخر، لم يجز؛ لأنه لم يمحض الجزئية ".
وهذا لستُ (2) أراه كذلك؛ فإن هذا التفريع إنما يحسن إذا جوزنا بيع صاع من صُبرة مجهولة الصيعان، وفيه خلافٌ، ذكرناه؛ فإن جوزنا هذا، فبَيعُ النصف من الصُّبرة المجهولة جائزٌ؛ فيقع (3) النصفُ الثاني كصُبرة مجهولةٍ، بيع صاعٌ منها، ولا يجوز غير هذا.
__________
(1) في الأصل: بقي.
(2) (ي) ، (هـ 3) : لا أراه.
(3) عبارة (ي) ، (هـ3) : وبيع صاع من النصف الثاني كصبرة ...(8/21)
فصل
قال: " ولو دخل في النخيل على الإجارة ... إلى آخره " (1) .
5005- هذه المعاملة تنعقد بلفظ المساقاة وهو خِصِّيصٌ بها، نصٌّ فيها، ولو لم يأت بها، وذكر المعاملةَ، صح العقدُ، ولا بدّ من القبول.
ولو قال: خذ هذه النخيل، واسقها، وتعهدها، واعمل فيها كذا وكذا، على أن ما رزق الله من الثمار، فهو بيننا نصفان، جاز هذا.
ولا بدّ من القبول باتفاق الأئمة، بخلاف نظيره في القراض؛ فانا ذكرنا فيه تردداً.
والفارق أن المساقاة لازمة، فلا بد فيها من التزام، وإنما يحصل الالتزام بالقبول، والقراض جائزٌ، فضاهى الوكالة. وقد مضى هذا.
ثم إن قال: خذ، فلا بدّ من شرحٍ للأعمال التي تستحق على العامل، على تفصيلها.
وإن قال: ساقيتك، كفى أن يذكر جزئية الثمار، ويقبل العامل، ولا حاجة إلى تفصيل الأعمال؛ فإنها بيّنة في موضوع العقد، كما سنشرحها.
ولو قال: عاملتك على هذه النخيل، ففي اشتراط تفصيل الأعمال تردد واحتمال.
ولو قال: استأجرتك لتعمل في هذه النخيل، ولك النصف من ثمارها، لم يصح ذلك أصلاً قبل بُدوّ الثمار.
5006- فإن قيل: هلاّ صححتم المساقاة بلفظ الإجارة، والإجارةُ موضوعة لاستحقاق المنافع، وفي المساقاة استحقاق المنافع؟ قلنا: الإجارةُ صريحةٌ في بابها، وهي ممكنةٌ فيما نحن فيه، وكل لفظٍ صريحٍ استعمل في مكان إمكان استعماله، لم يجز أن يُصرف بالنية إلى غيره، كالطلاق لا يصرف إلى الظهار، والظهار لا يصرف إلى الطلاق.
فإذا كانت المساقاة لا تصح بلفظ الإجارة، والإجارةُ تستدعي عوضاً معلوماً مَوْجوداً، أو ملتزماً في الذمة. ولو استأجر إنساناً ليعمل عملاً في غير البستان،
__________
(1) ر. المختصر: 3/72.(8/22)
وجعل أجرته جزءاً من ثمرة البستان، فالإجارة فاسدة، لا شك في فسادها، فالاستئجار على العمل على النخيل بهذه المثابة.
هذا إذا جرت لفظة الإجارة، والثمار معدومة، فإن كانت موجودةً، فاستأجره على أعمالٍ معلومةٍ ببعضٍ من تلك الثمار، لم يخلُ إما أن يكون ذلك قبل بدوّ الصلاح، وإما أن يكون بعد بدوّ الصلاح. فإن كان قبل البدوّ، لم يصح؛ لأن بيع الثمار قبل البدوّ مشروط بشرط القطع، ولا يتأتى القطع في جزءٍ مشاعٍ. وإن فُرض استئصال الثمار بالقطع، تضمّن تقرير العقد على البعفقطعَ ما ليس معقوداً عليه (1) ، وهذا فاسد غير محتمل.
وإن بدا الصلاح، فاستأجره على أعمالٍ، وجعل أجرته نصف الثمار، صحت الإجارة، ويحمل الأمر على التبقية إلى أوان الجداد.
وإن استأجره ليعمل على النخيل أعمالاً بيّنها، وأعلمها، وشرط أجرته ثمرةَ نخلة أو نخلات بعينها، فإن لم تكن الثمار خارجةً، لم تصح الإجارة، وإن خرجت، فإن كان قبل بدوّ الصلاح، جاز بشرط القطع، وإن كان بعده، جاز مطلقاً.
والأجرةُ في الإجارة حكمها حكم العوض في البيع في كل تفصيل.
فصل
قال: " وكل ما كان [فيه] (2) مستزاذٌ في الثمرة ... إلى آخره " (3) .
5007- مقصود الفصل بيان ما على العامل من الأعمال، ونحن نفصلها، ثم نعود، فنضبطها من جهة المعنى على أقصى الإمكان، إن شاء الله.
فعلى العامل السقي وتنقية الأنهار مما فيها لسَوْق الماء، وعليه كنسُ الآبار من الحمأة، وتصريفُ (4) الجريد، وتأبيرُ النخيل، وقطعُ الحشيش المضرّ، وقد تمس
__________
(1) لأنه يستحيل قطع الجزء الشائع إلا بقطع الكلّ.
(2) مزيدة من نص المختصر، حيث سقطت من النسخ الثلاث.
(3) ر. المختصر: 3/72.
(4) تصريف الجريد: الجريد سعف النخيل، ويسمى جريداً لأنه يجرّد من خوصه، وتصريف=(8/23)
الحاجة إلى تقليب الأرض في المغارس، وهو عليه أيضاً، وعليه الجِدادُ، ونقلُ الثمار إلى الجرين، وتجفيفُها. فهذه الأعمال على العامل.
5008- فأما ما يتعلق بإصلاح الحائط، وبناء الجدران، ونصب الأبواب، وشراء الدولاب، وحفرِ بئرٍ جديد، ونهرٍ، فهذه الفنون تجب على رب النخيل.
5009- والضبط فيما على العامل، أن ما يتعلق بتنمية الثمار، ولا يتأصل عمارةً في البستان ثابتةً، فهو على العامل، وما يتعلق بالعمارات الدائمة في البستان، فليس على العامل.
وعبّر بعضُ الأصحاب، فقال: ما تكرر في كل عامٍ، ولا يبقى أثره بعد مضي السنة، فهو الذي يلتزمه العامل، وما لا يتكرر في كل عام، ويبقى أثره بعد مضي السنة وخروج العامل عن العمل، فهو في جانب رب النخيل.
ونحن نعلم أن الأعمال المنمِّيةَ للثمار تؤثر أثراً ظاهراً في الأشجار؛ إذْ لو قُطع السقي في سنةٍ، لتأثرت الأشجار تأثراً بيّناً، وكذلك إذا تُرك تصريف الجريد عن النخيل تأثرت، والنخلة تُخْلِف كلّ سنة [ضغثاً] (1) من السعف والجرائد، وتجف، ولو لم تقطع، لتضررت النخلة.
فإذا كنا نعلم ذلك، ونستيقن أن الأشجار تنتفع بأعمال العامل، فالوجه ما ذكرناه من تكرر العمل في كل سنة، فالواجب ما يؤثر في الثمرة، ويتكرر في كل سنة، ولا يثبت أثراً دائماً.
5010- وتردد أئمتنا في القيام بحفظ النخيل، فمنهم من قال: على العامل؛ فإنه مما تتأثر به الثمار بأن لا تسرق، وليس هو أمراً دائماً، فشابه السقي.
ومن أصحابنا من قال: ليس ذلك على العامل، وهو القياس؛ فإنه ليس عملاً
__________
=الجريد أن يشذِّبه من سُلائه (شوْكه) ، ويذلّل العذوق فيما بين الجريد لقاطعه. والتشذيب: تشنيخُ شوكه عنه، وتنقيحه مما يخرج من شَكيرِه الذي يضرّ به إن ترك عليه (والتشنيخ: تنحية الشوك عن الشجر، والتنقيح مثله) . (الزاهر: 250 فقرة: 537، والمعجم) .
(1) في الأصل: صنفاً.(8/24)
ينمِّي الثمار بطباعه، وإنما هو حفظٌ عن اللصوص، لا يعدُّ من أعمال المُساقَى.
ولو حصل أدنى ثُلمةٍ في الحائط، وكان يهون ردْمها، فقد ردّد القاضي جوابه فيه أيضاً؛ فإنه من الأمر الهين، الذي لا يعد من الآثار المتخلّدة. والمسألة محتملة.
فلو قيل: قطعتم القولَ بأن القطاف على العامل، وليس القطاف منمِّياً للثمار.
قلنا: هو إصلاحٌ لها، وكذلك النقل إلى الجرين، والتجفيف.
ثم إن جرى العقد بلفظ المساقاة، فلا حاجة إلى تفصيل هذه الأعمال ذكراً؛ فإنها مقتضى المساقاة.
وظاهر نص الشافعي يوهم أنه لا بد من ذكرها؛ لأنه قال في الأعمال: " جاز شرطها على العامل "، ولو كانت المساقاة مقتضيةً لها، لما كان لشرطها على العامل معنى، وقد رمز إلى هذا بعض الأصحاب، وصار إلى أن أعمال المساقاة مختلفة الأصناف، وقد يُفرض الذهول عن بعضها [وتختلف] (1) عاداتُ أهل النواحي (2) فيها، فالاقتصار على إطلاق لفظ المساقاة لا يفيد إعلامَنا. وهذا وإن أمكن توجيهه، فلا ينبغي أن يُعتدَّ به مذهباً إذا كان المذكورُ لفظَ المساقاة.
والوجه القطعُ بأن المساقاةَ تُغني عن تفصيل الأعمال، ولو فصلت مع هذا اللفظ لم يضر، وعليه يُحمل كلامُ الشافعي رضي الله عنه.
5011- ولو شرط مع الأعمال المستحقة في المعاملة ما ليس مستحقاً، كحفر بئرٍ جديدٍ، أو ما في معناه، فالمعاملة تفسد عندنا؛ فإن ما شرط لا يُستحَقُّ إلا بطريق الاستئجار، والاستئجار يستدعي عوضاً يليق بالإجارة (3) ، فإذا وقع الاقتصار على ذكر جزء من الثمار، لم يكن ذلك على وفق الاستئجار، فيبقى ذلك المزيد مشروطاً في العقد على حكم الفساد، فيفسد وتفسد، وأجاز مالك (4) : أن يشترط في العقد كل ما كان من مصلحة الحائط. وهذا باطل.
***
__________
(1) في الأصل: فتخلف.
(2) (ي) ، (هـ 3) : البوادي.
(3) (ي) ، (هـ 3) : عوضاً معلوماً.
(4) ر. جواهر الإكليل: 2/180، حاشية العدوي: 2/193.(8/25)
باب الشرط في الرقيق
قال: " ولا بأس أن يشترط المساقى على رب النخيل غلماناً يعملون معه ...
إلى آخره " (1) .
5012- أراد بالمساقي -والقاف مكسورة- العاملَ، ولو قال المساقَى- بفتح القاف - لكان أظهر في تفاوض الفقهاء، غير أن ما ذكرناه صحيح في اللغة؛ فإن المساقاة مفاعلة، فيجوز أن يعبَّر عن كل واحد منهما باسم الفاعل والمفعول، وهو يضاهي كلمة المصادفة والموافاة، وما في معناهما، فيجوز أن تقول إذا التقيت بزيد: صادفتُ زيداً، ويجوز أن تقول صادفني زيد، ووافيتُ زيداً، ووافاني زيد، ولاقيتُ زيداً، ولاقاني زيدٌ.
وغرض الباب أنه لو كان في البستان الذي جرت المعاملة فيه غلمانٌ مرتبون للعمل فجرت المساقاة مطلقة بين ربُّ البستان وبين العامل، فالعبيد لا يدخلون في موجَب العقد المطلق.
وقال مالك (2) : الغلمان الذين هم من عَمَلة الحائط يدخلون تبعاً، والعامل يستعملهم، وهذا الذي ذكره وهمٌ، وغلطٌ؛ لأن المالك ربما لم يرضَ بالمساقاة إلا [لقطع] (3) غلمانه عن العمل، حتى يتفرغوا، وهو يستعملهم في أمورٍ سواه، فيجب حملُ المساقاةِ على مقتضاها. وخروج العبيد.
هذا إذا كان العقد مطلقاً، [فإن قُيّد، فشرَط] (4) العاملُ دخولَهم في العقد،
__________
(1) ر. المختصر: 3/73.
(2) جواهر الإكليل: 2/179، حاشية الدسوقي: 3/541.
(3) في الأصل: يقطع.
(4) في الأصل: فلو شرط، والمثبت عبارة (ي) ، (هـ 3) .(8/26)
ليعملوا معه، فظاهر النص أن الشرط صحيح، وإذا (1) وقع التوافق عليه، لزم الوفاء به. ثم لو جرى هذا الشرط لعبيدٍ (2) مرتّبين معروفين بالعمل في هذا البستان، أو جرى في عبيد آخرين، لم يُشْهَروا بالعمل في هذا البستان، فلا فرق، والكل على وتيرة.
ومن أصحابنا من قال: لا يجوز أن (3) يشترط عملَهم معه؛ فإن المعاملة تقتضي استحقاق صنوفٍ من الأعمال على العامل، فإذا اشترط أن يعمل العبيد معه، اقتضى ذلك الحطَّ من تلك الأعمال، وقد يتعاطى العبدُ معظمها وهذا تغييرٌ لوضع العقد.
وسنذكر (4) أن المالك لو شرط أن يعمل مع العامل، لم يجز.
وعمل العبد كعمل المالك، ويدُ العبد إذا كان يتصرف بإذن المالك كيد المالك، فإذا امتنع شرطُ عمل المالك، وجب أن يمتنع شرطُ عمل العبد.
5013- فيخرج من هذا الترتيب أن المالك لو شرط أنه يعمل، لم يجز على ما سنذكره. وفي شرط عمل العبيد الخلاف الذي ذكرناه (5) : ظاهر النص الجوازُ، وفيه الوجه المخرّج المشهور.
ومَنْ نصر النصَّ، انفصل عن عمل المالك بأن قال: المالك إذا كان يعمل، ففي عمله إفساد تدبير العامل، وشرطُ عمله أن يكون صادراً عن استقلاله بنفسه، واستبدادِه برأيه؛ وهذا لا يتحقق في العبد؛ فإنه مع العامل في حكم المصرَّف المستخدم، حتى لو وقع الشرطُ على أن يستقلَّ العبدُ بالعمل، ولا يتبعَ استعمال العامل إياه، فذلك فاسدٌ مفسدٌ، نازلٌ منزلة اشتراط عمل المالك، فإذاً العبيد إذا ذكروا، وقعوا [عوناً] (6) للعامل على سبيل التبع.
__________
(1) (ي) ، (هـ 3) : وإن.
(2) (ي) ، (هـ 3) : في عبيدٍ.
(3) (ي) ، (هـ 3) : لا يشترط.
(4) عبارة (ي) ، (هـ 3) : وسنذكر أن العامل لو شرط على المالك أن يعمل معه لم يجز.
(5) (ي) ، (هـ 3) : ذكره.
(6) في الأصل: عيناً.(8/27)
ولو شرط رب النخيل أن يُعينَ العاملَ بثيرانٍ عوامل، أو ما في معناها من الآلات
التي يحتاج إليها العامل، لم يضرّ شرطُ ذلك، اتفق الأئمة عليه في الطرق، والفرق أنها ليست عواملَ بأنفسها (1) ، وإنما هي كالآلات، والعملُ مضافٌ إلى مستعملها، ولا يُتوقع منها مزاحمةٌ، بخلاف عبيد رب النخيل. وإنما يتّضح هذا الفصل بآخره.
5014- وقد ذكر المزني في آخر مسائل التحري شيئاً، وأنا أرى في طريق البيان أن أذكره الآن: فلو شرط العامل أن يستأجر في الأعمال الأجراءَ، أو في بعضها، وشرط أن تكون أجرتُهم على المالك، ففي جواز ذلك وجهان: أحدهما- أنه يسوغ. والثاني- لا يسوغ.
توجيه الوجهين: من قال: لا يجوز شرطُ ذلك، احتج بأن الأعمال إذا تولاها الأجراء واستحق المساقَى جزءاً من الثمار، لم يكن استحقاقه في مقابلة عمل [و] (2) رب المال كان متمكناً من تحصيل تفاصيل هذه الأعمال بالأجراء، فإذا حصلت بهذه الجهة، والتزم المالك الأجرة، لم يبق للعامل مع ذلك معنىً.
ومن قال بالجواز، احتج بأن قال: إذا وقع التشارط كذلك، فالمطلوب من العامل استعمالُ الأجراء في الوجوه التي يستصوبها، وتخيّر الأوقات للأعمال، وانتصابه قهرماناً (3) عليهم، وهذا جارٍ في العرف.
فإن قيل: هلا وقع القطعُ بجواز ذلك اعتباراً بمؤنة الحمال والكيال والدلال في مال القراض؛ فإن مؤنهم محسوبة من عُرض (4) المال، فليكن الأُجراء بهذه المثابة؟
قلنا: لا سواء؛ فإنّ الأعمال التي يتولاّها هؤلاء في القراض لا يتولاها التاجر بنفسه، ويستحيل أن نكلف مرموقاً في التجارة أن يتعاطاها، فتلك الأعمالُ خارجةٌ عن كونها ثابتةً على المقارض، والأعمال التي يقع استئجار الأجراء عليها في مسألتنا
__________
(1) (ي) ، (هـ 3) : ليست مستقلة بأنفسها.
(2) الواو ساقطة من الأصل، ومن (ي) .
(3) القهرمان: أمين المَلك، ووكيله الخاص بتدبير دخله وخرجه. فارسي معرب (معجم) .
(4) في الأصل: غرض: وعُرض المال، عامته، ووسطه. (معجم) .(8/28)
مستحقةٌ على العامل في وضع المعاملة. نعم، قد ذكرنا أن عرض الثياب، ونشرَها، وردَّها إلى ظروفها من عمل المقارَض، فلو شرط الاستئجارَ على هذه الصنوف، جرى الخلاف الذي ذكرناه في الاستئجار على أعمال المساقاة.
5015- ولو شرط العامل في المساقاة أن يصرف إلى أجرة الأجراء أجزاء من الثمار، فهذا الشرط يُفسد؛ فإنه لا يجوز إضافةُ الثمار إلا إلى العامل والمالك.
وإذا قال: أصرف إليهم من الثمار أجرتهم والباقي بيننا، فهذا يجر جهالةً في المشروط بين العامل وبين رب النخيل، وإذا وقع الشرط على أن يبذل المالك أجرة الأجراء، لم تصِرْ جزئيةُ الثمار مجهولةً، وسنقرر هذا الفصل، وهو إضافة مؤن الأجراء إلى الثمار في آخر المسائل.
وكان قَدْرُ غرضنا التردّدُ الذي ذكرناه إذا كانت الأجرة مشروطةً على المالك.
ثم مَنْ صحح ذلك، [فلا خلاف] (1) أنه يجب أن يبقى متعلَّقٌ من عمل العامل، وأوْلى أعمالِه استعمالُه الأجراء في وجوه الاستصواب، فإذا وقع الشرط على ألا يعملَ، ولا يستعملَ، فلا شك أن المعاملةَ فاسدةٌ.
ولو ذكر أنه يَعُدُّ الأجراء، أو يضبط حسابَهم، فالذي أراه أن (2) هذا لا يكتفى به، إذا لم يكن يهتدى (3) إلى الدهقنة، وجهات الاستصواب، ولم يقع الشرط على الاستقلال بالاستعمال، فإنّ عدّ الأجراء، أَوْ ضبطَ حسابهم عملُ أجيرٍ، آخر لا يختص بالدهقنة المطلوبة.
5016- فإذا تمهد ما ذكرناه، التحق اشتراط عمل العبيد باشتراط الأجراء. وفي عمل العبيد مزيد أمرٍ يشير إلى فساد الشرط، وهو أنّ أيديهم تضاهي يدَ المالك بخلاف أيدي الأجراء، فالوجه ترتيب اشتراطهم على اشتراط الأجراء، والمصيرُ إلى أن اشتراطهم أولى باقتضاء الفساد من طريق القياس، والنصُّ على الصحة، فليقع التفريع عليه.
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) عبارة (ي) ، (هـ 3) : أنه.
(3) (ي) ، (هـ 3) : إذا لم يهتد إلى..(8/29)
5017- فنقول: إذا شُرطوا وتعينوا بالشرط، فالكلام بعد ذلك في نفقاتهم ومؤنهم، وقد أجمع الأئمة على أنه لو لم يقع التعرض لنفقتهم، فنفقاتُهم على المالك؛ فإن النفقة تتعلق بالمالك إذا لم يقطعها قاطع عنه، ولو وقع الشرط على أن ينفق المالك، فقد تطابق الشرطُ ومقتضى الشرع.
ولو وقع الشرط على أن تكون النفقة على العامل، فقد اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: هذا فاسدٌ؛ لأنه قطعٌ لمقتضى الشرع في اقتضاء الملك نفقةَ المملوك.
ومنهم من قال: يصح شرطُ النفقة على العامل؛ فإن العمل في وضع العقد مستحَقٌّ عليه، فلا يمتنع شرط مؤنة [العملة] (1) عليه، وهذا ظاهرُ النص؛ فإنه قال: رضي الله عنه: ونفقة الرقيق على ما يتشارطان.
وذهب مالك (2) إلى أن مطبق العقد يقتضي أن تكون النفقة على العامل، وإياه قصد الشافعيُّ بالرد حيث قال: والنفقة على ما يتشارطان، فهذا هو الترتيب في الأصل.
وذكر شيخي عن بعض الأصحاب وجهاً أن شرطهم لو كان مطلقاً، ولم يقع التعرض لذكر نفقاتهم، فالعقد يفسد بهذا الإطلاق؛ فإنه يجرّ جهالة في المقصود.
وهذا مزيف ضعيفٌ.
فإذا حكمنا بأن النفقة على المالك في التفاصيل التي ذكرناها، فإنه ينفق عليهم إنفاقه قبل ذلك. فإن قلنا: النفقة على العامل عند الشرط، فهل يُشترط إعلامها؟ فعلى وجهين: أحدهما- أنه يجب الإعلام، وهو الأقيس، ولا يخفى وجهه.
والثاني- لا يشترط الإعلام ويتسامح في ذلك، ويُرد الأمر إلى [الأمر] (3) القَصْد الوسط في الإنفاق، ومثل ذلك محتمل في عرف المعاملات.
__________
(1) في النسخ الثلاث: العمل. والمثبت تقدير منا لرعاية السياق.
(2) ر. جواهر الإكليل: 2/179، حاشية الدسوقي: 3/541.
(3) في الأصل: إلى الآمر القصد. وفي (ي) : إلى القصد الوسط. والمثبت من (هـ 3) .(8/30)
ومما أجراه الشافعي في محاجّة مالك لما نقل عنه أن [نفقة العبيد] (1) على العامل من غير شرط، فقال رضي الله عنه: كما [ألزمته] (2) النفقة، فألزمه أجرة العبيد؛ فإن أجرة أعمالهم تزيد على نفقاتهم. وهذا الكلام ينشىء في المذهب نظراً على الفقيه.
5018- وقد ذكرنا في اشتراط أجرة الأجراء على المالك تفصيلاً، [فإذا جَرَيْنا] (3) على أن حقَّ العمل أن يكون مستحقاًً على العامل، فاشتراط أجرة العبيد عليه لا [يمتنع] (4) ليكون هو الموفي عملَ المساقاة.
ويرجع النظر إلى تعيين العبيد وأن أيديهم هل تنزل منزلةَ يد المالك، فليتبيّن الناظرُ ذلك، ثم ليعلم أن الأصح جوازُ اشتراط أجرة الأجراء على المالك، وردّ الأمر إلى أن جملة الأعمال لو قوبلت بجزءٍ من الثمار، جاز. ولو قوبل بعضها على شرط الاستقلال بجزءٍ من الثمار، فالأصح الجواز.
ولو لم يكن للعامل استقلالٌ، وإنما كان يصرّفه المالك في عملٍ يريده، وذكر له جزءاً من الثمار، لم يجز ذلك بلا خلاف، فإن هذا خارج عن المساقاة المعهودة، وهو على الحقيقة استئجارٌ بجزءٍ من الثمار. والاستئجار على هذا الوجه فاسد.
فهذا بيان أطراف الكلام في الفصل.
***
__________
(1) في الأصل: أن النفقة على العامل.
(2) في الأصل: لزمته.
(3) في الأصل: وأجرينا.
(4) في الأصل: يمنع.(8/31)
باب (1)
قال المزني: "هذه مسائل أجبتُ فيها على معنى قوله وقياسه ... إلى آخره" (2) .
5019- فمن ذلك لو ساقاه على نخيلٍ سنين معلومة، على أن [يعملا] (3) فيها جميعاً، لم يجز في معنى قوله.
فقال الأئمة: أصاب فيما قال؛ لأن [المالك] (4) إذا شرط أن يعمل معه في البستان مَنَع انفراده بالرأي والاجتهاد (5) ، وغيَّر وضْعَ المعاملة، وردَّ مرتبة العامل إلى محلّ مستعمَل محتكمٍ عليه، وهذا صفة الأجير الذي يستعمله مستأجِره، ووجدت الطرقَ متفقةً على ما ذكرت، وقد قدمتُ في القراض أن المالك لو شرط أن يعمل مع المقارَض، أفسد القراضَ بهذا الشرط.
وهذا في القراض أظهر؛ من جهة أن صاحب المال إذا كان يزاحِم في العمل عليه فأهل العرف لا يعاملون العامل، ولا يقيمون له وزناً والغرض من نصبه أن يظهر أثره في التجارة، وهذا قبضٌ على يده.
وهذا التعليل على هذا الوجه قد لا يظهر في المساقاة إلا على وجه التكلف، في أن العامل لو لم يكن مستبداً، فقد يؤدي ذلك إلى فوات وجوهٍ من العمل، وأعمال الدهقنة في أحيانها [كالفُرص] (6) في أوانها. وقد ذكرنا في القراض أن المالك لو لم يشترط أن يعمل مع المقارض، ولكن شرط أن يكون له يدٌ في المال، فهذا الشرط مفسدٌ وفاقاً.
5520- ولو شرط ربُّ النخيل أن يكون البستان تحت يده، نُظر: فإن لم يكن
__________
(1) هذا العنوان (باب) سقط من نسخة الأصل وحدها.
(2) ر. المختصر: 3/73.
(3) في الأصل: يعمل. والمثبت من (ي) ، (هـ 3) .
(4) في النسخ الثلاث: العامل. والمثبت تقدير منا.
(5) (ي) ، (هـ 3) : والاستبداد.
(6) في الأصل: كالقراض، وفي (ي) ، (هـ 3) : كالقرض. والمثبت تقدير منا.(8/32)
للعامل يدٌ، وكان يحتاج إلى مراجعة المالك، مهما (1) أراد الدخول والعمل في البستان، فهذا التضييق مفسدٌ للعمل إجماعاً؛ فإنه يؤثر أثراً بيِّناً في عين مقصود المعاملة، إذ قد يَرْهَق (2) عملٌ في الدهقنة لا يقبل التأخير.
وإن كانت اليد ثابتةً للعامل، وكان متمكناً من الوصول إلى العمل متى شاء، فهذا مما رأيت كلامَ الأصحاب فيه على التردّد، فرأى بعضُهم أن تُلحَقَ المساقاة بالقراض، حتى تكون مشاركةُ المالك في اليد مُفسدةً كالقراض.
وهذا غير سديد؛ فإن المالك إذا كان لا يزاحِمُ في العمل، فلا أثر ليده، والحالة كما وصفنا، بخلاف اليد في القراض؛ فإن نفسَ مخالطة المالك للمال تصرف وجوهَ الطالبين والراغبين عن العامل، وتتضمن قبضاً على يده، وهذا لا يتحقق في عمل المساقاة أصلاً.
وتمام البيان في ذلك: أنا إذا لم نجعل مجردَ يد المالك مؤثراً، فلو شرط أن يعمل مع العامل على حسب استعمال العامل إياه، من غير أن يستبد بنفسه، أو يزاحمه في التدبير والاستقلال، فهذا فيه احتمالٌ ظاهر، ولكن مقتضى قول الأصحاب أنه إذا كان يشارك في العمل، وجرى شرطُ ذلك، كان فاسداً مفسداً. وهذا فيه نظر، ولا يبعد حمل كلام الأصحاب على اشتراط العمل، على وجهٍ يزاحم تدبير العامل.
هذا منتهى الكلام في هذا.
فصل
قال: " ولو ساقاه على النصف، على أن يُساقِيَه في حائط آخر على الثلث، لم يجز ... إلى آخره " (3) .
5021- وهذا كما قال: وعلّة الفساد أنه شرط عقداً في عقد، وكان كما لو قال:
__________
(1) مهما: بمعنى إذا.
(2) رهق الشيء: حان أوانه، ودخل وقتُه. (معجم) .
(3) ر. المختصر: 3/73.(8/33)
بعتك هذا العبدَ بألفٍ، على أن تشتريَ داري بألفين.
وكذلك لو قال: ساقيتك في هذا الحائط على النصف على أن تساقيني في حائطك هذا- لا يجوز، كما لو قال: بعتك هذا العبدَ بألفٍ، على أن تبيعني دارَك.
ثم المساقاة الثانيةُ صحيحة، إذا جرت مطلقةً؛ فإنها خليّةٌ عما يُفسدها، وإنما فسدت المساقاةُ الأولى بشرط هذه فيها، فإذا لم يقع في العقد المتأخر شرطٌ، وجرى على موجب الشرع، صحَّ.
وكذلك القول في البيعين، فالبيع الأخير المطلق صحيحٌ.
فإن جرى ما يتضمن تعليقاً في العقدين، مثل أن يقول: ساقيتُك في هذا الحائط على النصف على أن تساقيني في حائطك هذا على الثلث، فإذا وجب لك هذا، وجب لي هذا، فإذا رأيا ذلك إنشاءً للعقدين، لم يصح واحدٌ منهما؛ فإنَّ كلَّ واحد معلّقٌ بالآخر، والتعليق ممنوعٌ في ذلك.
ولو جرى هذا على هذه الصيغة، ثم [استفتحا] (1) المساقاةَ الثانيةَ، أو البيعَ الثاني، وقد جرى قبلُ صيغةُ التعليق، فلا أثر لما تقدم، ويصح العقد الثاني إذا استقل بشرائط الصحة، ولا يؤثر إضمارُهما أن ذلك وفاءٌ بالتعليق المقدّم، إذا لم يَجْرِ تعليقٌ عند استفتاح هذا العقد.
5022- ثم مهما فسدت المساقاة، فللعامل أجر مثل عمله، والثمار، بجملتها لرب النخيل. فلو فسدت المساقاة، وعمل العامل، واجتاح الثمارَ الجوائح، ولم يحصل شيء منها، فهل يستحق العامل على الفساد أجرةَ المثل؟ فعلى وجهين: أحدهما- أنه يستحق بعمله، ولا تعويل على الثمار في حقه، كانت أو لم تكن.
والثاني- أنه لا يستحق شيئاً، لأن العقد لو كان صحيحاً، لما استحق شيئاً، فإذا عمل على الفساد، فقد صدر منه العمل على وجهٍ لا يعتقدُ استحقاق شيء بعمله، مع اعتقاد الصحة، فليكن الفاسدُ كالصحيح، حتى لا يختلفا إلا في المستحق، فالواجب في الصحيح جزءٌ من الثمار، وفي الفاسد أجرة المثل. وقد ذكرنا نظير ذلك في القراض.
__________
(1) في الأصل: استثنى. وفي (ي) : غير مقروءة، صورتها هكذا: (اسسحقا) . والمثبت من (هـ 3) .(8/34)
فصل
قال: " فإن ساقاه أحدهما نصيبه على النصف، والآخر نصيبه على الثلث ... إلى آخره " (1) .
5023- البستان إذا كان مشتركاً بين شريكين فساقيا عاملاً على نخيلهما، وشرط أحدُهما له نصفَ الثمار من نصيبه، وشرط الثاني له الثلثَ، وكان العامل عالماً بنصيب كل واحد منهما من النخيل، فهذه المعاملة صحيحةٌ، والجاري في حكم عقدين، كلُّ واحد منهما منفردٌ عن الثاني، وإن كان العامل جاهلاً، ولم يدر أن نصيب مَن شرط الثلث كم، ونصيبَ من شرط النصف كم، فالمعاملة فاسدةٌ؛ فإنه لا يدري كم يخصه من النصيبين؛ فإنَّ نصيبَ من شرط الثلث إذا كان أقل، كثُر نصيبُ العامل، وإذا كان على العكس قلّ نصيبه، فلا تنعقدُ المعاملة على الجهالة.
ولو جهل مقدارَ ملك كل واحد منهما من النخيل، ولكنهما شرطا له النصف من نصيبهما، فالمذهب الصحيح تصحيحُ المعاملة؛ إذْ لا جهالة فيما يستحقه، ولا أثر لتفاوت ملكيهما.
ولو ساقى واحد رجلين، وشرط لأحدهما النصفَ، وللآخر الثلثَ، جاز.
5024- ولو ساقى رجلان رجلين، وشرطا النصفَ للعاملين، جاز، وإن لم يُبيّنا قدْرَ ما يستحق كل واحدٍ من العاملين من النصف الذي سمَّيا لهما، جاز؛ لأن الإطلاق يقتضي كونَ المسمى لهما بينهما، ثم الباقي يقسّم بين المالكين على قدر الملكين.
[فإن وقع الشرطُ على أن الباقي يقسم بعد نصيب العاملين بين المالكين، لا على قدر الملْكين] (2) [وذلك بأن يستشرطا] (3) الاستواء في الباقي، وملكهما متفاوت أو [يشترطا] (4) التفاوت وملكهما متساوٍ، فلا شك في فساد هذا الشرط، وأنه غير متبع.
__________
(1) ر. المختصر: 3/74.
(2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(3) عبارة الأصل هكذا: ثم الباقي يقسم على قدر الملكين، فإن شرطا الاستواء في الباقي ...
(4) في الأصل: أو اشترطا.(8/35)
ثم قال قائلون من أئمتنا: هذا يفسد العقد إذا جرى شرطاً فيه. وقد ذكرتُ نظير ذلك في القراض، وحكيت الوفاق فيه عن الأصحاب، وتكلُّفَ (1) تعليلِه على وجهٍ يلوح من خَلَله احتمالٌ في أن القراض لا يفسد؛ من جهة أن هذا الشرط يتعلق بالمالكَيْن، ولا تعلق له بالعامل والمعاملة، وهذا أظهر في المساقاة؛ لأن تشارط المالكَيْن في الثمار لا أثر له في المشروط للعامل، وليس استحقاقهما الثمار بحكم عقدٍ حتى يظهر في العقد أثرُ تشارطهما، فيظهر جداً أن نقول: يفسد هذا الشرط، وتصح المساقاة، ويقسم الفاضل من نصيب العاملين بينهما على نسبة المِلْكين.
وإنما رأينا ذلك في المساقاة، وأشرنا إلى فرقٍ بينها وبين القراض؛ من جهة أن الربح كأنه جزءٌ من عمل المقارَض، ولو لم يصرف الدراهمَ إلى العُروض، لما ثبت ربحٌ أصلاً. والثمار قد لا تكون كذلك؛ فإن حصولَها بالخَلْق والفطرة وتعهدها لتحسُنَ وتنمو بعمل العامل.
فصل
قال: " ولو ساقاه على حائطٍ فيها أصنافٌ ... إلى آخره " (2) .
5025- إذا كان في الحائط أجناس من النخيل كالدَّقَل، والعجوة والصَّيحاني وغيرها. فذا عامل المالك عاملاً على أن له من العجوة النصف، ومن الدَّقَل الثلث، ومن الصَّيْحاني الربع، نُظر فإن علما مقدار كل نوع بالعِيان، جاز العقد، كما لو كانت الأصناف الثلاثة في حدائق مفرَّقة. وإن جهلا، أو أحدهما، لم يجز.
فإن شَرط له النصفَ من كل صنفٍ، جاز، ولا يضر الجهل بأقدار الأصناف، وهذا بيّن.
قال الأصحاب: لو اشترى عبداً من رجلين مطلقاً، يصح الشراء، وإن جهل
نصيب كل واحد منهما، فإن قال: اشتريت نصيب زيد بألف، ونصيب عمرو بألفين،
__________
(1) (ي) ، (هـ 3) : تكلفتُ.
(2) ر. المختصر: 3/74.(8/36)
نُظر: فإن كان عارفاً بنصيب كلِّ واحدٍ منهما، صح، ولو جهل نصيبَ كلِّ واحد منهما، لم يصح؛ فإن الغرض يتفاوت في ذلك تفاوتاً بيِّناً، كما ذكرناه في المساقاة.
فصل
قال: " ولو كانت النخيل بين رجلين، فساقى أحدُهما صاحبَه على أن للعامل ثلثي الثمر ... إلى آخره " (1) .
5026- صورة المسالة نخيلٌ بين رجلين نصفان، ساقى أحدُهما صاحبَه على أن للعامل فيها الثلثين، وله الثلث، فهو جائزٌ، وكأنه ساقاه في نصف نصيبه على ثلث الثمرة، وهو سدس الجملة، ولا يكاد يخفى أن المساقاة إنما تنعقد على النصف الذي ليس للعامل، وإجراء ذكر العمل (2) على جملة البستان غير ضائر.
وإن ساقاه على أن يعمل في الجميع بالنصف، فهذا فاسد؛ لأنه لم يشترط له شيئاً، واستعمله في نصيب نفسه، ولم يقابل عمله في نصيبه بشيء؛ فإنه يستحق النصف بأصل الملك.
ولو ساقاه والنخيل نصفان على أن يعمل في الجميع بثلث الثمرة، فلا شك في الفساد؛ فإنه استعمله، وحط من حصته من الملك شيئاً.
5027- ثم إذا عمل العمل في هاتين الصورتين، فهل يستحق أجرةَ المثل لعمله [في] (3) نصيب مستعمِله؟ في المسألة وجهان: أحدهما- وهو ظاهر اختيار المزني أنه لا يستحق؛ لأنه تبرع بالعمل، حيث دخل في العقد على ألاّ يأخذ من الثمار إلا النصف أو الثلث، ولم يكن عمله على قصد استحقاق عوض.
والوجه الثاني- أنه يستحق أجر مثل عمله على نصيب صاحبه، وهو اختيار ابن سُريج، لوجود لفظ المساقاة، وفيها اقتضاء معنى المعاوضة (4) .
__________
(1) ر. المختصر: 3/75.
(2) (ي) ، (هـ3) : العقد.
(3) في الأصل: من.
(4) (ي) (هـ3) : المعامة.(8/37)
وقد تعترض مسألة في أجرة المثل تخالف هذه، وفيها الخلاف، وذلك أن يشترط المالكُ الثمارَ بجملتها للعامل، فالمعاملة فاسدة، فإذا عمل، فهل يستحق أجر مثل عمله؟ فعلى وجهين: أصحهما- أنه يستحق؛ لأنه عمل ليستحقَّ الثمرة، فإذا لم تسلّم له بحكم الفساد، استحق أجرةَ المثل. والوجه الثاني- أنه لا يستحق شيئاً، لأنه عمل لنفسه في الثمار، إذا (1) اعتقد أنها بجملتها له، ومن عمل على هذا القصد لم يستحق أجر المثل.
وهذا الخلاف يناظر مسائلَ: منها أن من استأجر رجلاً حتى يعمل على معدنٍ (2) للمستأجِر، وشرط له ما يستفيده من نيلٍ (3) في مدة عمله، فالنَّيْل لا يُصرف إليه، وهل يستحق أجر المثل. إذا عمل، فعلى وجهين، وسبب الاختلاف أنه كان يعمل لنفسه في [ابتغاء] (4) النيْل.
ومن ذلك أن يستأجر الرجل أجيراً على أن يحجْ على وجهٍ يصح، فإذا أحرم ذلك الأجير عن مستأجِره، ثم صرف الإحرام إلى نفسه، فالإحرام يقع عن مستأجِره، وفي استحقاق اجرة خلافٌ مشهور.
وعندي أن هذه الضروب من المسائل شرطُها أن يكون العامل جاهلاً، فإن علم المساقَى. وقد شرط له جميع الثمار أن المساقاة فاسدة، فالظاهر أنه يستحق أجرة المئل؛ لأنه خاض في العمل على علمٍ بأنه لا يستحق الثمار، فلم يكن عاملاً لنفسه. والله أعلم.
فصل
قال: " ولو ساقى أحدهما صاحبه نخلاً بينهما ... إلى آخره " (5) .
5028- إذا كان بين رجلين نخيلٌ نصفين، فإذا تساقيا فيها على أن يعملا معاً، ولأحدهما ثلثُ الثمرة، وللآخر ثلثاها، فلا شك في فساد المعاملة؛ لأنهما استويا في
__________
(1) (إذا) بمعنى (إذ) .
(2) معدِن: المعدن: موضع استخراج الجوهر من ذهبٍ ونحوه. (معجم) .
(3) النَّيل: ما ينال. وقد جرى هذا اللفظ على ألسنة الفقهاء اسماً لما ينال من المعدن.
(4) في الأصل: استيفاء.
(5) ر. المختصر: 3/76.(8/38)
العمل والمِلك، فلا معنى للتفاوت في الاقتسام، بل الوجهُ القسمةُ على نسبة الملك، وكأن الذي رضي بالثلث وهب من صاحبه ثلث ثمرة نصيبه، وهي معدومة، لم تخلق.
ولو كانت الثمرةُ موجودةً، لم تصح الهبة أيضاًً؛ فإن الذي جرى ليست صيغةَ الهبة.
ولو شرطا أن يعمل أحدهما ثلث العمل، ويأخذ ثلث الثمرة، ويعمل صاحبه ثلثي العمل، ويأخذ ثلثي الثمرة، فالمعاملة فاسدةٌ على كل حال، ولو لم يكن فيها إلا اشتراكهما في العمل، وقد مهدنا أن اشتراك المالك. والعامل في العمل -إذا جرى شرطاً - فاسدٌ مفسدٌ. ثم الثمار مقسومةٌ نصفين على نسبة الملك، وصاحب العمل الكثير يرجع على شريكه بأجر مثل زيادة عمله.
وينتظم في ذلك عبارتان: إحداهما- أنه يرجع عليه بنصف أجر مثل ما زاد من عمله؛ لأن عمله مِثلا [عمل] (1) شريكه فيُحطّ مثلُ عمل الشريك، وهو الثلث (2) فيكون قد زاد عليه بسدس العمل.
والعبارة الثانية- أنه يرجع عليه بأجر مثل ما زاد من عمله على ملكه، وكلاهما يرجعان إلي معنى واحد.
ولو شرطا على أحدهما زيادةَ العمل وشرطا له الاقتصار على نصف الثمار أو على أقلَّ من النصف، فهل يرجع بأجر مثل ما زاد من عمله جملى ملكه، على شريكه؟ فيه الوجهان المقدمان في نظائر هذه المسألة.
فصل
قال: "ولو ساقى رجلاً نخلاً مساقاة صحيحة، فأثمرت، ثم هرب العامل ... إلى آخره " (3) .
5029- هذه المسألة تداني مسألة هرب الجمال على ما سيأتي مشروحاً في كتاب
__________
(1) في الأصل: على.
(2) عبارة (ي) ، (هـ 3) : فيحط مثل عمل شريكه، وهو السدس.
(3) ر. المختصر: 3/76.(8/39)
الإجارة، إن شاء الله وحده. ولكنا نذكر مساق المذهب هاهنا، ونوضح ما في المساقاة من خواص، فنقول: إذا عمل العامل في المساقاة بعضَ العمل، وظهرت الثمار، فهرب، ولم يستتم العمل، فإن كان للعامل مالٌ، وكانت يد الحاكم ممتدةً إليه، وسهل الاستئجار عليه، فالحاكم يفعل ذلك إذا التمس منه مالكُ النخيل، والسبب فيه أن المعاملة لازمةٌ، والعملُ ديْن في ذمة المساقَى، ومهما امتنع مَنْ عليه الدينُ عن توفيته، وتمكن الحاكم من أدائه من ماله أداه.
ثم إذا تيسر ذلك، لم يملك ربُّ النخيل فسخَ المعاملة، ونزل التمكن [مما] (1) ذكرناه منزلة استمرار العامل على العمل.
وإن رأى السلطانُ أن يستقرض عليه من بيت المال، أو من واحدٍ من عُرض الناس، فهذا يلتحق بما ذكرناه، [فيقضي] (2) العملَ، وللعامل ما شُرط له من الثمرة، وعليه ما استقرض الحاكم عليه.
5030- وإن تعذّر ذلك، فلم يكن له مال، ولم يرَ الحاكم الاستقراض من بيت المال، أو لم يكن في بيت المال مالٌ، فإذا تحقق [التعذّر] (3) ، فأول ما نذكره أن المألك لو أراد فسخ المعاملة، كان له ذلك؛ فإن تعذر العوض في المعاملات يثبت سلطانَ الفسخ.
فلو جاء متبرع أجنبي، وقال: أنا أعمل [عنه] (4) أو أستاجر من يعمل، فلا [تفسخ] (5) ، فإن رضي المالك بذلك، جاز، واستمر العقد، وكان ذلك بمثابة ما لو أدى أجنبيٌّ دينَ إنسان، وقبله مستحِق الدين، فتحصل براءةُ الذمة. وإن كان الأجنبي غيرَ مأذونٍ من جهة من عليهَ الدين، [فلا] (6) يجد مرجعاً عليه إذا أدى دينه.
__________
(1) في الأصل: بما.
(2) في الأصل: فينقضي.
(3) في الأصل غير مقروءة، رسمت هكذا (التغرض) . والمثبث من (ي) ، (هـ 3) .
(4) ساقطة من الأصل.
(5) في الأصل: ينفسخ.
(6) في الأصل: ولا.(8/40)
ولو بذل الأجنبي من نفسه الاشتغال بالعمل، فامتنع عليه رب البستان، وقال لا أرضى بدخولك بستاني، فله منعه، وإذا منعه، فله حق الفسخ، كما قدمناه.
5031- ولو دخل أجنبيٌّ البستان من حيث لم يشعر المالك، وأكمل العمل المطلوب، فهذا فيه فضل نظر يبيّنه تقديمُ أصل مقصودٍ، وهو أن الأعمال المطلوبة بعقد المساقاة إذا وقع الاستغناء عن بعضها، مثل أن وقع العقد على السقي وغيره من ضروب الأعمال، فأغنت الأمطار عن السقي، فهل يستحق المساقَى [تمام] (1) ما شرط له؟ أم كيف السبيل فيه؟ أولاً - إن وقع الاستغناء عن جميع أعمال المساقَى، أو عن معظمها، فلا شك أن هذا يؤثر؛ إذ لو قلنا: لا أثر لذلك، لزم أن يستحق ما شرط له من الثمر من غير عمل، وهذا محال؛ فإنّ الجزء الذي شرط له قوبل استحقاقه بالعمل، فيستحيل ثبوتُ استحقاقه دونه.
ثم يجري هذا فى المعظم.
ويعترض إشكال، وهو أن التقسيم في الثمار، وإبقاء بعضها، وإسقاط بعضها، ليس بالهيّن، وليس ينقدح لي فيه وجه، إلا نسبة أُجرة المثل إلى الأعمال حتى يتبيّن أنه لو استتمها كم كان أجر مثله؟ وإذا سقط بعض الأعمال، فكم أجر مثله؟ فينسب ما سقط من أجرة المثل إلى جميعها، وتضبط الجزئية ويسقط مثل ذلك من الجزء المشروط له من الثمار، فإن كان الساقط نصفَ أجرة المثل، سقط نصف ما شرط له من الثمار.
هذا هو الوجه لا غير.
وقد يعترض في ذلك أن أعمال المساقَى خارجةٌ عن الضبط، بعضَ الخروج، والجهالة متطرقةٌ إليها على حالٍ؛ فإن من أعمالها السقيَ، وهو لا يجري على نسق واحد في كل سنة، فقد تزيد أعدادُ السّقيات، ثم لا يقام لما يزيد مزيدُ عوض، وقد تنقص أعدادُها لكثرة الأنداء، ثم لا يُحطُّ لما ينقص.
__________
(1) ساقطة من الأصل.(8/41)
[فالقدر] (1) الذي يتساهل فيه أهلُ الشأن، ويرَوْن مقابلة الزائد فيه -لو مَسّت الحاجة- بالناقص لو أغنت الأنداء؛ فذلك لا كلام فيه.
وهذا عندي قريب الشبه بما يطلقه الفقهاء فيما يتغابن الناس بمثله [وقد لا يحتمل] (2) مثل هذا في الإجارة. فما يتساهل أهلُ العرف فيه، لم يؤثِّر سقوطُه في حطٍّ، وما يسقطُ من العمل على ندورٍ ولم يكن مما يُتساهل في مثله، فهو الذي فيه الكلام.
5032- ومما يعترض في ذلك أنه إذا عمل العامل بعضَ الأعمال وهرب، وامتنع باقي العمل، وأثبتنا حقَّ الفسخ، فإذا فسخ المالك لا نقول: يستحق العامل جزءاً مما شرط له ويسقط جزء، بل ينقطع حق الاستحقاق من الثمار بالكلية.
ولو جَرْينا على قياس الإجارة، ونزّلنا الثمار منزلةَ الأجرة، لأثبتنا بعضاً من الثمار؛ فإن الإجارة إذا انقضى بعضُ مدتها، وطرأ في باقيها ما يوجب الفسخَ، فإذا فسخت في البقية، لم تنفسخ الإجارة فيما مضى، على ظاهر المذهب.
فأعمال المساقَى لا تجري مجرى المنافع في الإجارة، حتى يقابَلَ [المنقضي] (3) منه بقسطٍ [من] (4) العوض المسمى في المعاملة.
فإذا ثبت ذلك، فلو سقط جملةٌ من أعمال المساقى، لا يُتسامح بمثله، فلست أرى إجراء هذا على قياس حالة الفسخ، حتى يقال (5) : إذا تبعض الأمر، واستحال إثباتُ جميع المسمى من الثمن، فالرجوع إلى أجر المثل ويسقط الاستحقاق من الثمن.
والفارق فيما أظن أن نماء الثمر قد حصل، وسقط بعضُ العمل. والفسخُ مفروضٌ فيه إذا كان الثمر لا ينمو إلا بأعمالٍ تعذر صدورها من العامل، وعسُر تحصيلها من
__________
(1) في الأصل: القدر (بدون فاء) .
(2) عبارة الأصل: وذلك لا يحتمل مثل هذا.
(3) في الأصل: المقتضي.
(4) ساقطة من الأصل.
(5) ساقطة من (ي) ، (هـ 3) .(8/42)
جهته، فإذا جرى الفسخُ، فالوجه ما ذكرناه.
وإن قيل: إذا حصل بعض النماء بما تقدّم من العمل، فكيف وجهُ إسقاطه، وردّ الأمر إلى أجر المثل؟ قلنا: هذه المعاملة مائلة إلى مضاهاة القراض في النظر إلى العقبى، ومنقرض العمل، فالذي (1) تحصّل إذاً أن الفسخ يوجب إسقاط الحق من الثمار، نص عليه الأصحاب. وسقوطُ بعض الأعمال بالاستغناء عنه ما أراه كذلك.
ومظنوني فيه ما ذكرته من اعتبار نسبة الثمار بنسبة أجر المثل، وليس يبعد المصير إلى سقوط الحق من الثمار؛ فإن تبعيض الثمار عسر في وجه الرأي.
5033- وليس يصفو هذا الفصل إلا باستتمامه، فنقول: إذا عمل الأجنبي من حيث لا يشعر المالك؛ فيمكن أن يكون هذا بمثابة سقوط بعض الأعمال بغناء السنة (2) عنه، ويمكن أن يقال: إذا أوقع الأجنبي العمل، كان كما لو أوقعه العامل، وهذا هو الظاهر، وبه يشعر كلام الأصحاب.
وتمام البيان، و [جُمَام] (3) الفصل أن الأئمة أجمعوا على أن المالك لو لم يفسخ، وعمل بنفسه متبرعاًً استحق العامل تمام ما سمي له، ونزّلوا تبرعه بالعمل منزلة تبرع الأجنبي إذا رضي به المالك، وقد يخطر للفقيه أن تبرع الأجنبي بمثابة أداء الدين، وتبرع المالك ليس يضاهي هذا المسلك، ولكن النصوصَ وأقوال الأصحاب متفقةٌ على ما ذكرناه.
ولو لم يعمل العامل شيئاًً وتبرع المالك بجميع العمل، فهذا مشكلٌ، وما أرى العاملَ مستحقاً في هذا المقام -ولم يعمل شيئاً- وإن كنا ننزّل عملَ المالك متبرعاً كعمل الأجنبي، فالمسألة محتملة.
فهذا منتهى النظر، وغاية المضطرَب فيما حضرنا.
__________
(1) (ي) (هـ 3) : فإذا تحصل إذا.
(2) السنة: المراد المطر والخصب. وهو هنا من أسماء الأضداد. فالسنة تستعمل أصلاً بمعنى الجدب. (معجم) .
(3) في الأصل: وختام.(8/43)
5034- ومما يتعلق بأطراف الكلام في الفصل، أن الحاكم لو أذن للمالك أن يستقرض على العامل الهارب، ينفق على قدر الحاجة في استكمال العمل، فهل يجوز ذلك؟ فعلى وجهين، وكذلك لو أذن له أن ينفق من مال نفسه بشرط الرجوع عليه، ففي المسألة وجهان: أصحهما- أن ذلك يجوز، ثم يرجع على العامل، إذا تمكن من الرجوع؛ لأنه مؤتمنٌ من جهة الحاكم.
والثاني- لا يجوز ذلك؛ لأنه يستحق إتمام عمل العامل، ويستحيل أن يكون الإنسان مؤتمناً فيما يستحقه لنفسه على غيره، وهذا بعينه يأتي في هرب [الجمال] (1) ، فلم نطنب فيه، وإنما أَغْرَقنا الكلام في خصائص المساقاة.
5035- ولو أنفق المالك بنفسه وفي البلد حاكم يمكن أن يراجَع، وقصد بما ينفقه الرجوعَ به على العامل، لم يجد مرجعاً؛ لأنه ترك الاستئذان من صاحب الأمر، مع القدرة، ولو لم يكن [بتلك] (2) الناحية حاكم، وصاحب أمرٍ يراجع، فأنفق [المالك] (3) ، ففي رجوعه على العامل إذا وجده ثلاثة أوجه: أحدها- أنه لا يرجع؛ لأنه لم يصدر إنفاقه عن أمر حاكم، ولا عن إذن العامل، ولم يفسخ أيضاً بل تمادى على العقد، فكان كالمتبرع، ولو قصد التبرع، لم يرجع.
والوجه الثاني- أنه يرجع؛ فإن تخسيره لا وجه له، ولا تقصير من جهته في ترك استئذانٍ ممكنٍ، فاستحقاقه، مع تحقق الضرورة يُثبت له سلطانَ الرجوع.
والوجه الثالث- أنه إن كان يُشهد (4) على ما يُنْفق، فيرجع، ويتنزّل (5) ذلك منزلة ما لو أذن الحاكم لو كان حاكم.
وإن لم يشهد، مع القدرة على الإشهاد، لم يجد رَجْعاً (6) .
__________
(1) في الأصل: المال.
(2) في الأصل: مثل. وهو تصحيف عجيب.
(3) في النسخ الثلاث: العامل.
(4) (ي) ، (هـ3) : قد أشهد.
(5) عبارة (ي) ، (هـ 3) : وينزل منزلة إذن الحاكم، لو كان الحاكم.
(6) رَجْعاً ومرجعاً بمعنىً. تقول: رجع يرجع رجوعاً، ورَجْعاً ومرجعاً. (مصباح) .(8/44)
وفي كلام القاضي إشارة إلى أن حق العامل إنما يسقط بالفسخ إذا لم تظهر الثمرة، فأما إذا ظهرت الثمرة، ففي كلامه تردد ظاهرٌ، في أن الفسخ لو جرى، لم يتضمن إسقاطَ حق العامل من الثمرة بالكلية؛ التفاتاً على ما ذكرناه في الإجارة، ثم لا بد من سقوط البعض، ولا مرجع فيه إلا ما مهدناه في صدر الفصل.
هذا منتهى مرادنا في ذلك، وبقية التقرير هو ما يشترك فيه العامل، والجَمّال وسنذكره في كتاب الإجارة. إن شاء الله عز وجل.
فصل
قال: " وإن عُلم منه سرقةٌ، وفسادٌ، مُنع من ذلك ... إلى آخره " (1) .
5036- إذا ادّعى المالك على العامل سرقةً وخيانةً، فالقول أولاً قولُ العامل؛ فإنه أمين، والأصل عدم ما يدّعيه المالك، فإن أثبت ذلك بالبينة، أو بإقرار العامل، لم يثبت للمالك حقُّ الفسخ، كما إذا ظهرت خيانةٌ من المرتهن في الرهن، لم يثبت للراهن حق الفسخ، بل تُزال يدُ المرتهن، ويعدّل الرهن، ويُقرّ العقدُ.
ثم إذا أثبتنا الخيانة، فقد قال المزني: يُكترى عليه من يقوم مقامه، وتزال يده عن النخيل. وذكر في موضع آخر أنهُ يضم إليه من يعمل معه، ويحفظه من الخيانة، ولا تُزال يدُه.
فقال الأئمة: إن كان لا تنحسم خيانته بمراقبة من يراقبه؛ لتهدّيه إلى سبل الخيانة، فإذا تبين ذلك، أو غلب على الظن، نُحِّي، على (2) هذا يُحمل قول المزني، حيث قال: " يكترى عليه، وإن أمكن تمكينُه من العمل مع درء خيانته بالمراقبة، لم ينح ولم تُزل يدُه ".
فالمسألة على حالتين، وليست على قولين.
__________
(1) ر. المختصر: 3/77.
(2) (ي) ، (هـ3) : وعلى هذا.(8/45)
ثم قد يعترض في ذلك الكلامُ في [أجرة] (1) مَنْ [يُشارفه] (2) ، وفيها إشكالٌ، فإن الحاجة إلى بذلها نشأت من قلة الثقة بالعامل، وظهور الخيانة [منه] (3) ، ويبعد عندنا أن تكون هذه الأجرةُ محسوبةً عليه، وهو يزعم أنه ليس يخون في المستقبل.
وإن كان يعترف بالتمادي على الخيانة مهما وجد فرصةً، فيجب تنحيتُه، والاكتراءُ عليه، وإذْ ذاك يُستغنى عن الرقيب وأجرتِه.
ولو لم تثبت خيانةٌ من العامل، ولكن المالك اتّهمه، فلا تُزال يده عن النخيل، ولكن ينصب عليه المالك مشرفاً يطالع أحواله إن شاء، ولا يرتاب الفقيه في أن نفقة الرقيب ومؤنته على المالك في هذا المقام إذا لم يظهر من العامل خيانة.
فصل
قال: " فإن مات قام ورثته مقامه ... إلى آخره " (4) .
5037- قد ذكرنا أن المساقاةَ عقدٌ لازم، لا ينفسخ بموت العاقد، ثم ننظر، فإن مات رب المال؛ أكمل العامل ما بقي من الأعمال، واستحق المشروط له من الثمرة.
وإن مات العامل، فالذي قدمناه من لزوم المعاملة يقتضي ألاّ يحكم بانفساخ المساقاة. وهذا هو الذي ذكره المزني، وقطع به الأصحاب في طرقهم، وهو الذي صححه الشيخ أبو علي.
وحكى وجهاً غريباً عن بعض الأصحاب أن المساقاة تنفسخ بموت العامل، وهذا وجهٌ ضعيف لا مستند له من أصل؛ فإن الحقوقَ اللازمةَ إذا أمكن تحصيلها بعد الموت، لم تنقطع بالموت، فالذي حكاه غلط إذن، غيرُ مُعتدٍّ به.
والوجه أن نقول إذا مات العامل، لم يخْلُ: إما أن يُخلّف تركةً تفي بتحصيل العمل، وإما ألاّ يُخلّف.
__________
(1) في الأصل: أخرة.
(2) في الأصل: مشارفه. ومعنى يشارفه أي يطلع عليه، ويدنو مه. (معجم) .
(3) ساقطة من الأصل.
(4) ر. المختصر: 3/77.(8/46)
فإن لم يخلف شيئاًً، لم يجب على [الورثة] (1) تحصيل العمل؛ فإن العمل كان ديناً في ذمته، والمديون إذا مات لم ينتقل الدين إلى ذمة وارثه. ولكن لو أراد الوارث أن يتمم العمل بنفسه، أو بمن يستأجره، جاز له ذلك، لثبوت عُلقة الاستحقاق في الثمار، فإن استتم العمل، صرفنا إليه الجزءَ المشروطَ له من الثمرة، وإن أبى أن يعمل، فللمالك حقُّ الفسخ، وقد قدمنا التفصيل فيه فيما تقدم، وفرّقنا بين أن يكون ذلك قبل بُدوّ الثمرة أو بعدها، وأوضحنا وجوه الرأي.
وإن كان خلّف تركة، فالسلطان يحصّل بقيةَ العمل من التركة، كما يؤدِّي الديون منها.
وكذلك القول فيه إذا كان التزم في ذمته خياطةً، أو صبغاً، ثم مات، فالأمر على ما ذكرناه في الفرق بين أن يخلّف تركةً وبين ألاّ يخلفها.
5038- ومما يتم به غرض الفصل، وهو أصلٌ بذاته أن المساقاةَ حيث تُفرض [تصرفٌ] (2) [واردٌ] (3) على الذمة، وحكمُ المعاملةِ الواردةِ على الذمة أن يكون تحصيلها على الملتزم، فإن حصَّلها بنفسه، أو استأجر من يعمل، فلا معترض عليه، ولو شرط في المساقاة تعيين العامل (4) ، حتى يعمل بنفسه، ولم يسوّغ له أن يستأجر؛ فيجوز أن يقال: لا تصح المساقاة؛ فإنّ هذا تضييق، والتضييق ينافي هذه المعاملةَ، وأمثالَها، وتركُ تعرض الأصحاب يدل على أنهم لم يعتقدوا جوازَ المساقاة متعلقةً بعين العامل، والمسألة محتملة على حال؛ فإن المالك ربما لا يعتمد الأجراء، ولا يرضى بدخولهم البستان. وليس في التعيين [كبير] (5) تضييق أيضاً.
ثم لو قدرنا ورودَ المساقاةِ على عين العامل، فلو مات، انفسخت المساقاة بموته، لا محالة، فإنْ عمل غيرُه، والمعاملة واردةٌ على عينه.، لا يسدّ مسدّ عمله.
__________
(1) في الأصل: الوثرة. وهو تصحيف واضح، حصل بالقلب المكاني.
(2) في الأصل: يصور واردة.
(3) في النسخ الثلاث: واردة.
(4) " العامل ": أي "المساقى" والمعنى أن يشترط في العقد قيامه بالعمل بنفسه.
(5) ساقطة من الأصل.(8/47)
فصل
قال: " ولو عمل فيها العامل، فأثمرت ثم استحقها ربُّها ... إلى آخره " (1) .
5039- إذا استُحقت النخيلُ بعد تمام العمل، وحصولِ الثمرة، فلا يخلو إما أن تكون الثمرة قائمةً، أو هالكةً.
فإن كانت باقيةً، فهي للمستحِق؛ لأنها حدثت من عَيْن مِلكه، ولا حقّ للعامل فيها.
ثم قال الأصحاب: إذا أخذ المستحِق الأشجار والثمار، وقد عمل العامل، فلأصحابنا طريقان: منهم من خرّج أمرَه على قولين؛ لأنه أتلف عمل نفسه، غير أن الغاصب هو الذي استعمله، فهل يرجع على الغاصب بأجرة مثل نفسه؟ فعلى قولين مأخوذين من أصل الغرور.
ومن أصحابنا من قطع بأنه يرجع على الغاصب؛ لأن قولٍ الغرور إنما يجريان فيه إذا رجع الحظُّ من الإتلاف إلى المغرور، فحينئذ نقول في قولٍ: لا يرجع؛ لأنه المنتفع بما أتلفه، فيبعد أن يجتمع له الانتفاع به [وحق] (2) الرجوع.
وفي قول نغلّب حكمَ الغرور؛ ونثبت الرجوعَ على الغار.
فأما العامل في مسألتنا؛ فإنه لم يُتلف شيئاً له فيه حظٌّ ونصيب، ولكنه عمل، ولم يقصَّر، وإنما حمله على العمل الغاصبُ، فوجب القطع بثبوت الرجوع عليه.
هذا إذا كانت الثمار قائمةً، فردت على المستحِق.
5040- فأما إذا كانت الثمار تالفةً، فالقول في ذلك ينقسم: فإن اقتسماها، وتلف نصيب كل واحد منهما في يده، فليقع الكلام أولاً في نصيب العامل.
فالذي ذكره معظمُ الأصحاب في الطرق: الشيخ أبو محمد، وصاحب التقريب، والصيدلاني في مجموعه، وصاحب التصنيف المعروف؛ أن المستحِق إذا غرَّم العاملَ
__________
(1) ر. المختصر: 3/77.
(2) في الأصل: وهو.(8/48)
ما تلف في يده، فهل يرجع على الغاصب؟ كان ذلك خارجاً على الترتيب المشهور في الغارّ والمغرور؛ فإن العامل يدُه مترتبةٌ على يد الغاصب، والغاصب سببٌ في تحصيل يده؛ فكان في مرتبة الغارّ. وفصّل الصيدلاني ذلك، فقال: إن تلف ما خصّ العاملَ في يده من غير إتلافٍ من جهته، فطولب، ضمن، ثم رجع على الغاصب قولاً واحداً. وإن أتلفه على [حكم] (1) الغرور، ففي رجوعه على الغاصب قولان، كالقولين إذا قدّم الغاصبُ الطعامَ المغصوبَ إلى ضيفه، فأكله، فجعل يده عند التلف بمثابة يد المستودَع من الغاصب، وجعل إتلافه بمثابة إتلاف الضيف للطعامِ الذي قُدِّم إليه. هذا ما ذكره هؤلاء.
وأما العراقيون، فإنهم قطعوا أقوالهم بأن الضمان يستقر على العامل في حصته التي [قبضها] (2) ، سواء تلفت في يده، أو أتلفها؛ لأنه قبضه عوضاً، وحكم العوض في المعاوضة الصحيحة أن يضمنه مَنْ قبضه؛ فكانت يد العامل في حصته من الثمرة بمنزلة يد المشتري من الغاصب، وقد قطعنا القول في كتاب الغصوب أن قرار الضمان فيما قبضه المشتري [على المشتري] (3) ؛ فلا يتجه في القياس إلا ما ذكره هؤلاء، وهو الذي اختاره القاضي لنفسه، وظن أنه غير مسبوقٍ بهذا الاختيار. ولم يذكر العراقيون غيره.
هذا قولنا في حصته إذا فرض [منه] (4) قبضها عند اقتسام الثمار.
ولست أرى لما ذكره أصحابنا (5) وجهاً، إلا إخراجَ عوض المساقاة عن قياس الأعواض، وهذا غير متجه، مع كونه عوضاً عن منافعَ مستحَقة، في معاملة لازمة.
5041- ولو تلفت الثمار على الأشجار قبل قطافها بجائحة، أما الكلام في حصة العامل، فعلى ما ذكرناه، وأما الكلام في الحصة الأخرى، فقد ذكر الأئمةُ
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في الأصل: قبضوا.
(3) ساقط من الأصل.
(4) في الأصل: فيه.
(5) يريد المراوزة، حيث جعلوا المسألة على قولين، ولم يقطعوا قولهم كالعراقيين.(8/49)
المراوزة، والعراقيون في توجه المطالبة على العامل (1) خلافاً، وقالوا: من أصحابنا من قال: لا تتوجه المطالبة على العامل، وهو ظاهر كلام المزني، ومنهم من قال: تتوجه المطالبة عليه، وهذا الخلاف في توجيه المطالبة أولاً، لا في قرار الضمان.
ثم وجه الأئمة الخلاف بأن قالوا: لا تثبت اليد للعامل؛ فإنه غيرُ مستحفظٍ بخلاف المودَع؛ فإنه مستحفظٌ من جهة المودع، واستدلّوا في ذلك بأن قالوا: لو جرت المساقاة مع المالك، ثم سُرقت الثمار، وكانت على رؤوس الأشجار بتقصيرٍ من العامل في الحفظ؛ فلا ضمان عليه؛ فإنا لا نكلّفه القيامَ بالحفظ، وإنما نكلفه الأعمال المشهورة المؤثرة في تنمية الثمار.
فهذا وجهُ من لا يضمّن العامل الآخذ من جهة الغاصب.
والوجه الثاني- أنه يضمن لثبوت يده ظاهراً حساً.
قال القاضي: قد ذكرنا تردداً في أنه هل يجب على العامل القيام بحفظ الثمار، وهل يلتحق ذلك بالأعمال المشروطة عليه، وهذا الخلاف الآن دليلٌ على ذلك التردد الذي قدمناه، فيجب أن نقول: إن ألزمناه الحفظَ، توجهت عليه المطالبةُ؛ إذ ترتبت يده على يد الغاصب، وكان كالمستودَع من الغاصب، وإن لم نُلزمه الحفظَ، لم تتوجه عليه المطالبة.
وهذا عندي كلام خارج عن الضبط المعتبر في مثل ذلك، من وجهين: أحدهما- أن اليد وثبوتَها أمرٌ محسوس، فتلقِّي ذلك من وجوب مؤنة الحفظ كلامٌ مضطرب، فالثمار مما تثبت اليدُ عليها، ويد العامل -من طريق الصورة- ثابتةٌ حسّاً، وضرورةً، ومن ثبتت يدُه على عينٍ مغصوبة فيستحيل بعد ذلك إبداءُ المراءِ في أنه هل يطالب أم لا.
وعندي أنه يجب القطع بوجوب الحفظ على العامل في الثمار، حالةَ استمرار يده؛ فإنا لا نجد صاحب (2) يدٍ في ملكِ غيره بجهةٍ شرعيةٍ، إلا وهو مأمور برعاية حق الحفظ
__________
(1) وجه المطالبة للعامل -وقد تلفت الثمار على الأشجار- أنها تكون تحت يده.
(2) (ي) ، (هـ 3) : أصحاب.(8/50)
[فيها] (1) ، وهذا جارٍ في الوكيل بالبيع، وفي المستأجِر في العين المستأجرة، وفي المرتهن، وغيرهِ من أصحاب الأيدي.
نعم. إنما يظهر التردد في مؤنة الحفظ (2) في صورة، وهي أن العامل إذا كان يعمل نهاراً، ويترك العمل ليلاً، فإذا فارق البستان، ولم يستخلف عليه ناطوراً، حتى سُرقت الثمار، ولا يد للعامل، فهذا فيه ترددٌ، قد ذكرناه، فيجوز أن يقال: يجب استخلافُ حافظٍ، ويجوز أن يقال: لا يجب عليه.
فأما ما دامت يدُه ثابتةً في زمان عمله، فكيف يستجيز المستجيز أن يسوّغ له الإغضاء على سرقة من يسرق، مع التنبّه لذلك؟ أم كيف يجوز ألا يتكلف بذلَ المجهود في الحفظ ما استمرت يدُه في مدة العمل؟ وكيف يستقيم أن يُتمارى في اليد المحسوسة، لزللٍ وخطأٍ في أن الضمان هل يجب على العامل لو قصر في الحفظ.
فيجب إذاً على القاعدة توجيه الطّلبة على العامل من جهة المستحِق المغصوب منه لتحقق اليد.
5042- ومما يتفرع عليه، أن الأشجار في أنفسها لو تلفت تحت يدِ العامل، أو تلف بعضها، فلا حظ، ولا حصةَ للعامل في رقاب الأشجار، وقد أجراها الأئمة مجرى الثمار الواقعة في حكم المعاملة حصةً للمالك، فترددوا في توجيه المطالبة حَسب ما ذكرناه، وبنَوْا الأمرَ فيه على مؤنة الحفظ، وقد أوضحنا أن ذلك كلامٌ مضطرب، ووجه ردِّه إلى سَنن التحقيق ما ذكرناه.
ومن بديع ما ذكره الأصحاب الذين لم يثبتوا للعامل في حصته من الثمار يدَ قرارِ الضمان، أنهم قالوا: الكلام في حصة العامل إذا تلفت الثمار بالجوائح قبل القطاف، يجوز أن يخرّج على ما ذكرناه في حصة المالك؛ لأن اليد غيرُ ثابتةٍ قبل القطاف، والإحراز.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في (ي) ، (هـ 3) : "في ثبوته في صورةٍ ... ".(8/51)
وهذا في نهاية البُعد؛ فإنه فرع أصلين ضعيفين جاريين غلطاً وخطأ (1) ، أحدهما - التماري في اليد المحسوسة. والثاني - التغافل عن ضمان العوضية في حق العامل، في مقدار حصته، فوقع الفرع بعيداً بصدَره (2) عن هذين الأصلين.
5043- ولو جنى العامل الثمارَ، وردّها إلى المخزن (3) ، فقد رأيت الطرقَ متفقةً على ثبوت اليد على الحقيقة، وهذا صحيح، ولكن لا معنى لتخيل [الفرق بين] (4) هذه الحالة، وبين حالة قيام الثمار على الأشجار.
ومن أخذ ما ذكرناه من التردد في توجيه الطَّلِبة من القول في مؤنة الحفظ، لزمه أن يتردد في مؤنة الحفظ بعد الرد إلى الجرين؛ إذ لا فصل، واليد ثابتة حساً في الموضعين، فلا وجه إلا القطعُ بقرار الضمان في حصة العامل عليه.
ثم يجب القطع بتوجيه المطالبة بما ليس حصتَه، ثم الكلام في أنه فيما ليس حصتَه إذا طولب عند الفوات يرجع على الغاصب رجوع المستودَع عليه.
وللعراقيين طريقة ذكرناها في كتاب الغصب، في أن المستودَع من الغاصب إذا ضمن ما تلف في يده للمغصوب منه، فهل يرجع على الغاصب؟ أم يستقر الضمان عليه تنزيلاً لليد منزلة الإتلاف؛ من جهة أنها تضمِّن كما يُضمِّن الإتلاف؟ هذا مختلفٌ فيه عندهم، وهو مجانب لطريقة المراوزة، ثم يجب طرد قياسهم فيما ليس حصةً للعامل إذا تلفت تحت يده.
هذا بيان حقيقة المسألة، وقد اتفقت فيها عثرات وغلطات متداركة لأصحابنا المراوزة. والتردد في اليد والثمار على الأشجار، مما استوى في الغلط فيه المراوزةُ، والعراقيون. وهذا قبيحٌ، وأخْذ ذلك من مؤنة الحفظ زللٌ آخر؛ فإنَّ الأمر مفصلٌ فيه عندنا، كما قدمناه. ولسنا على ظنٍّ في جميع ما نبهنا عليه، بل الأمر مقطوع به.
__________
(1) في الأصل: أو خطأ.
(2) صَدَره: أي صدوره. وهذا استعمالٌ شبه دائم لإمام الحرمين لهذا المصدر.
(3) (ي) : الجرين.
(4) في الأصل: الفرقة من.(8/52)
فصل
قال: " وإن ساقاه على أنه إن سقاها بماء سماء أو نهر ... إلى آخره " (1) .
5044- صورة المسألة أن يقول المالك للعامل: ساقيتك على هذه النخيل على أنك إن سقيتها بماء سماءٍ أو نهر، فلك الثلث، وإن سقيتها بالنَّضح، فلك النصف، فالمعاملة فاسدةٌ على هذا الوجه؛ لمكان التردد الذي فيها، وشرط المعاملة الجزمُ، وبتُّ القول في تقدير العوض.
وقد قال الأئمة: لو قال رب المال للمقارض: إن، اتّجرت في البز، فلك ثلث الربح، وإن اتَّجرت في الطعام، فلك نصف الربح، فالقراض فاسد على هذا الوجه، فإذا فسد القراض مع جوازه ومشابهته الجعالة باحتمال (2) الجهالة، وإطلاق الأعمال من غير ضبطٍ بوقت، فلأن تفسد المساقاة أوْلى.
5044/م- ثم ذكر المزني تفصيلَ القول في أجرة الأجراء، وأنها على العامل أو على المالك، وقد فصلتُ القولَ في هذا في باب الشرط في الرقيق، فلا أُعيده.
ومما جدده القاضي في الأجراء صورةٌ أراها مضطربة، فأنقلها، وأبين التحقيق فيها.
قال: ولو قال المالك: ساقيتك، ولك الثلث من الثمار، والسدس فيها (3) إلى تتمة النصف للأجراء.
قال: "هذا صحيح". وهذا مختلٌّ، والخلل من الناقل، فإن إضافة جزء من الثمار إلى الأجراء باطل؛ فإنهم ليسوا في عقد المساقاة، وإنما تضاف الثمار إلى المالك بحكم الأصل أو إلى العامل بحكم العمل. نعم، لو أضاف النصف من الثمار إلى العامل، ثم ذكر أن مؤنة الأجراء عليه، فهذا جائز.
ولو أجرى قبل العقد أو بعده في معرض [المفاوضة] (4) أني زدتك سدساً، وحقُّك
__________
(1) ر. المختصر: 3/77.
(2) في (ي) ، (هـ 3) : في احتمال.
(3) في (ي) ، (هـ 3) : منها.
(4) في الأصل: المعاوضة.(8/53)
الثلث، لتتحمّلَ مؤنةَ الأجراء، فهذا -إذا لم يُجره شرطاً- كلامٌ لا يقدح في العقد.
وقد ذكرتُ أن إطلاق المساقاة توجب قيام العامل بالأعمال المنمِّية للثمار كلها، وإنما تنصرف مؤنة الأجراء عند بعض الأصحاب إلى المالك، بالشرط، كما قدمناه مفصلاً.
فصل
قال: " ولو ساقاه على وديٍّ (1) ، لوقت يعلم أنها لا تثمر إليه، بم يجز ... إلى آخره " (2) .
5045- مقصود هذا الفصل تحصره مسائل: منها- أن يقول المالك في وديٍّ مغروس لرجلٍ: ساقيتُك على هذا الوديّ، لتعمل عليها، ودكر مدةً يُعلم أنها لا تثمر في مثلها، وإنما يدخل أوان إثمارها وراء تلك المدة، وجرى في لفظ المساقاة شرطُ شيء من ثمارها للعامل، فهذه المساقاة فاسدة؛ فإنها مستندةٌ إلى شرط شيءٍ لا يكون للعامل.
ثم إذا عمل العامل، فهل يستحق أجر المثل على المالك؟ قال الأئمة: إن علم العامل أنها لا تثمر في المدة المذكورة في المعاملة، ففي استحقاقه أجر المثل وجهان: أحدهما - أنه لا يستحقه؛ لأنه شرع في العمل شروع من لا يشك أن ما شرطه له لا يكون، فكان قانعاً بإحباط عمله، غيرَ خائضٍ فيه على اعتقتاد استحقاق عوض.
والوجه الثاني - أنه يستحق أجرة المثل، وهو اختيار ابن سريج وتعلق هؤلاء بلفظ المساقاة والمعاملة؛ فإن متضمنه إلزام عملٍ في مقابلة عِوض، فلئن كان لا يثبت ذلك العوض، فهو عبارة عن استحقاق عوضٍ ممكنٍ، وهو أجر المثل.
هذا إذا كان العامل عالماً بأن الوديّ لا يثمر في تلك المدة، فإن ظن أن الوديّ يثمر
__________
(1) الودي: على فعيل صغار الفسيل. الواحدة: وديّة. (المصباح) .
(2) ر. المختصر: 3/78. وفي الأصل: لا تثمر ... الفصل. إلى آخر.(8/54)
في تلك المدة، فالذي ذهب إليه الأئمة أنه يستحق أجرة المثل في هذه الصورة [وجهاً واحداً] (1) لمكان الظن.
ومن أصحابنا من طرد الخلاف الذي ذكرناه في استحقاق أجر المثل، والتفصيل أفقه وأحسن.
5046- ومن مسائل الفصل أن تقع المساقاة في مدة يعلم أنها تثمر في السنة الأخيرة منها، أو في سنتين في آخر المدة، فهذا مثل: أن يعامله على العمل فيها عشرَ سنين، ويعلم أنها إن بقيت، وسلمت عن الآفة، ستثمر في سنتين من آخر المدة، فقد أجمع الأصحاب على صحة المساقاة، وجعلوا هذه السنين وإن خلا [معظمها] (2) عن الإثمار كالسنة الواحدة في النخيل المثمرة.
ثم إذا حصل الثمر، فليس للعامل إلا ما شُرط له.
ولو أصابت الثمار آفةٌ وجائحةٌ، فلا حق للعامل، كالمساقاة على النخيل المثمرة، فإن الجوائح إذا اجتاحت ثمارها، لم يستحق العاملُ شيئاً من أجر المثل، وكان كالعامل في القراض إذا لم يربح، فإنه لا يستحق شيئاًً.
ولو كنا نعلم أن الوديَّ يثمر في السنة الأخيرة، من المدة المضروبة، وكنا لا نقدّر أنها تثمر (3) قبل السنة الأخيرة، فإذا اتفق الإثمار في سنة على النُّدور، وكان قد شرط للعامل جزءاً من الثمار الحاصلة في المدة، ولم يقع التخصيص بثمار السنة الأخيرة، فالعامل يستحق الجزءَ المشروطَ له من ثمار السنة النادرة، كما يستحق من السنة الأخيرة.
5047- ولو ساقى مالك النخيل رجلاً سنين، وكانت النخيل تُثمرُ إن لم تُصبها جائحة في كل سنة، فإن عُقدت المعاملة على أن يستحق العامل جزءاً من ثمرة كل سنة، جاز ذلك في السنين، جوازَه في السنة الواحدة.
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) في الأصل: معظم أواخرها.
(3) (ي) ، (هـ 3) : لا تثمر.(8/55)
وإن قال مالك النخيل المثمرة: ساقيتك ثلاث سنين على العمل (1) فيها، وليس لك إلا ثلث الثمرة في السنة الأخيرة، وتخلُص الثمرة لي في السنة الأولى والثانية، فهذه المعاملة فاسدة، قطع بفسادها المحققون.
وسبب الفساد أنه أثبت لنفسه الاستبدادَ [بثمار] (2) سنةٍ، أو سنتين، وإن كان عمل العامل جارياً فيها، وخصّص استحقاقه بسنة، وهذا بمثابة ما لو عامله، وشرط أن يعمل على جميع النخيل، ولا يستحق إلا النصف من بعض أنواع النخيل، وهذا ممتنع غيرُ سائغٍ كما تقدم.
5048- ولو ساقاه على الوديّ، على جزءٍ من الثمار في السنة الأخيرة، وإنما خصص السنةَ الأخيرة [بالذكر] (3) بناءً على أن الثمرة إنما تقع فيها، فإذا اتفقت الثمرة في سنة أخرى قبلها، فالذي ذهب إليه الأئمة صحةُ المساقاة في هذه الصورة، ولم يجعلوها كالمساقاة على النخيل التي تثمر في السنين مع التخصيص بجزءٍ من ثمار بعض السنين.
وبنى (4) الأئمة على مسألة الوديّ وجوبَ الوفاء بالشرط وتخصيصَ الاستحقاق بثمار السنة الأخيرة، على حسَب الشرط ومقتضاه، والفرق ظاهر على رأي الأئمة لا غُموضَ فيه.
ولكن في مسألة الودي ضربٌ من الاحتمال؛ من جهة أن هذه المعاملة لا تحتمل انفرادَ المالك بثمار سنة (5) لا حظَّ للعامل فيها.
وكان (6) يجوز أن يقال: كان من حق مالك الودِي ألا يخصص استحقاق العامل بثمار السنة الأخيرة، بل يطلق لجواز أن يتّفق إثمارٌ في سنةٍ قبل السنة الأخيرة.
__________
(1) (ي) ، (هـ 3) : على أن تعمل.
(2) في الأصل: بثماره.
(3) ساقطة من الأصل.
(4) (ى) ، (هـ 3) : ثم بنى.
(5) (ي) ، (هـ 3) : سنين.
(6) (ي) ، (هـ 3) : فكان.(8/56)
5049- ومن مسائل الفصل أن يساقي مالكُ الودِي العاملَ مدةً، ويغلب على القلب إثمارها فيها، ولا ينتهي الأمر إلى الاستيقان، فكيف الوجه في ذلك؟
جمع الأئمة هذه الصورة إلى الأخرى، وهي أن تكون المدة المذكورة بحيث لا يغلب على القلب إثمارُ الودِيّ فيها ولكن كان لا يبعد أن يثمر، وما نذكره يرجع إلى المدة، لا إلى تقدير السلامة من الجائحة والآفة؛ فإن الجوائح ممكنة في النخيل الباسقة.
فليفهم الفاهم أن هذا التردد محمول على قصر المدة وطولها.
ثم حاصل ما ذكره الأصحاب في الصورتين اللتين ذكرناهما طريقان: منهم من قال: إن كان لا يغلب على القلب إثمار الوديّ في تلك المدة، فالمساقاة فاسدة، وإن كان يغلب على الظن إثمارُها، ولكن لا ينتهي الأمر إلى الاستيقان، ففي صحة المساقاة وجهان.
وهذه الطريقة غيرُ مرضية، والصحيح عكسها، فنقول: إن غلب على الظن الإثمار، صحت المساقاة وجهاً واحداً، وإن لم يغلب على الظن، ولكن الإثمار كان ممكناً، فعلى وجهين.
وإنما رأينا القطع بالتصحيح عند الغلبة على الظن؛ لأن الحكم للأعم الأغلب، في مثل ذلك. والدليل عليه أن من أسلم في جنسٍ يغلب على الظن وجودُه في محله، فإن السلم يصح، كما يصح الإسلامُ فيما يستيقن وجودُ جنسه حالةَ المحل.
وإذا تبين ما ذكرناه في الصحة والفساد، فنقول وراء ذلك: إن صححنا المساقاة، فإن اتفقت الثمار، فللعامل ما شُرط له منها، لا شيءَ له غيرُه. وإن لم يتفق الإثمار في تلك المدة، فقد خاب العامل، ونزل عدمُ الإثمار في المساقاة التي حكمنا بصحتها منزلة عدم الثمار بالجوائح في النخيل المثمرة.
وإذا حكمنا بفساد المساقاة فللعامل أجر المثل، أثمرت الودي، أو لم تثمر، ونقطع بأنه يستحق أجرَ المثل إذا كان على رجاء من وجود الثمار. وإنما الخلاف فيه إذا عُلم أن الثمار لا تكون وقنع بشرط جزءٍ من الثمار، ففي استحقاقه الأجرةَ الخلاف المقدم.(8/57)
وللقاضي تفصيلٌ، لم أره لغيره، وذلك أنه قال: إذا [استوى] (1) الاحتمالان في وجود الثمار، ففي الفساد.، والصحة وجهان، وإن ترجّح ظنُّ العدم، فالقطع بالفساد.
وهذا حسنٌ. ويُحتمل المصير إلى الصحة بمجرد الإمكان، وإن كان الغالب على الظن ألا تكون الثمار. وهذا ما ذكره الأصحاب. فليتأمل الناظر المنازلَ والمراتبَ، فقد نبهنا عليها فلا نعيد ترتيبها.
5050- ومن مسائل الفصل أن يدفع المالك ودِيَّاً إلى العامل ليغرسه وينميه مدةً، ستثمر في آخرها إن علقت، فالذي ذهب إليه جماهير الأصحاب فسادُ المعاملة؛ فان ابتداء الغراس ليس من أعمال المساقاة، وإنما أعمالها تنميةُ أشجارٍ مغروسةٍ، والمطلوب ثمارها، وهذا يضاهي في هذه المعاملة ما لو قال المالك للمقارَض: بع هذه العروض و [قد] (2) قارضتك على أثمانها إذا نضّت.
هذا مسلك الأصحاب.
وقد حكى شيخي وجهاً في تصحيح المساقاة، وهذا مزيَّفٌ، غير معتدٍّ به، ولكن ذكره صاحب التقريب، كما حكاه شيخي.
وتمام القول في ذلك أنا إن قلنا: لا تصح المساقاة، فلا كلام.
وإن قلنا: تصح المساقاة على الثمار التي ستكون في آخر المدة، فلو قال: اغرس هذا الوديّ، ونمّه، على أن لك الثلثَ من أعيان هذه الأشجار ورِقابها، فالذي قطع به الأئمة في الطرق فسادُ هذه المعاملة؛ فإن مبناها على استحقاق فوائد الأشجار، لا على استحقاق جزء من أعيانها. وذكر صاحب التقريب [وجهاً] (3) في صحة المعاملة على هذا الوجه، في الودِيّ والفسيل، فإنّ تعلّق (4) الودي هو مقصودُ
__________
(1) في الأصل: اشترى.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) في الأصل: وجهين.
(4) تعلّق الودي: أي نشوبها في الأرض، وتشبثها بها، كنشوب الجنين، وقراره في الرحم (ر. المعجم) .(8/58)
المعاملة، فكانت أعيانها بمثابة الثمار، إذا كان العامل يسعى في تحصيلها.
ثم قال صاحب التقريب: لا يضر وجودُ أعيانها حالة العقد؛ فإن الثمار قد تكون موجودة حالة عقد المساقاة، كما ذكرنا ذلك في أول الكتاب.
فهذا بيان مسائل الفصل.
فصل
قال: " وإن اختلفا بعد أن أثمرت النخيل ... إلى آخره " (1) .
5051- إذا اختلف العامل ورب النخيل في المشروط من الثمار للعامل، فقال رب النخيل: شرطتُ لك الثلث، وقال العامل: بل النصفَ، فإذا لم يكن في الواقعة بيّنة، فإنهما يتحالفان، ويفسخ العقد بالتحالف، وترتدُّ الثمار بجملتها إلى مالك النخيل، ويرجع العامل بأجر المثل، وإن كان أكثرَ من قيمة نصف الثمار.
فأما إذا كان في الواقعة بيِّنةٌ، فإن انفرد أحدهما بقامة البيّنة على ما يدّعيه، قُضي له بموجبها على [خصمه] (2) ، وإن أقام كل واحد منهما بيِّنةً على وَفْق دعواه، وليقع الفرض فيه إذا [تعرضت] (3) البيِّنتان لتعيين الوقت الذي جرى العقد فيه على وجهٍ لا يمكن حمل البينتين على عقدين، فإذا جرى العقدُ كذلك، ففي المسألة قولان مشهوران: أصحهما - الحكم بتهاتُر البيّنتين، ورَدُّ الأمر إلى خلوّ الواقعة عن البيّنة، ولو خلت عنها، كنا نحكم بتحالفهما، فالأمر إذن كذلك.
والقول الثاني - أن البينتين تستعملان، ثم في استعمال البيّنتين في غير هذه الواقعة أقوال: أحدها - القسمة. والثاني - الوقف. والثالث - القرعة، على ما سيأتي في كتاب الدعاوى، إن شاء الله تعالى.
فأما قول الوقف، فلم يُجره الأصحاب هاهنا، وفيه فضل نظرٍ، سيأتي في
__________
(1) ر. المختصر: 3/78.
(2) في الأصل، (هـ 3) : حصته. والمثبت من (ي) .
(3) (ي) ، (هـ 3) : تعارضت.(8/59)
الدعاوى. وأجرَوْا قولَ القرعة، فمن خرجت له القرعة، فاز. وهل يحلف مع القرعة؟ فعلى وجهين.
والأصح أنه لا يجري قولُ القسمة.
ومن أصحابنا من قال: يثبت للعامل ما حصل الاتفاق عليه، وهو الثلث مثلاً، والمتنازع الزائد يقسّم بين الدعويين فيسقط نصفُه، ويثبت نصفه. وهذا بعيدٌ.
5052- ولو ساقى رجلان رجلاً، فادعى العامل أنهما شرطا له النصف، فصدقه أحدهما، وكذبه الآخر، فيثبت نصيبه على موجَب التصديق على المصدِّق، ويعود الخلاف والنزاع إلى المكذِّب والعامل؛ فيتحالفان، ويرجع عليه بنصف (1) أجر مثل عمله.
فلو شهد المصدّقُ من المالكيْن على المكذّب للعامل، قبلت شهادتُه؛ إذ لا تهمةَ، ولا معنىً يوجب ردَّ شهادته.
ثم ذكر المزني أن رجلين لو ساقيا رجلاً، وشرط أحدهما له النصفَ من نصيبه، وشرط الثاني له الثلث، فإن تعيّن مقدار نصيب كل واحد منهما للعامل، صح ذلك.
وإن لم يبن له مقدارُ نصيب كل واحد منهما، وقد جرى الشرطُ على التفاوت، فالمعاملة فاسدة. وقد ذكرنا ذلك، ونظائره فيما سبق، وأوضحنا تعليله بما فيه مقنع، فلا حاجة إلى الإعادة.
وقد نجزت مسائل الكتاب.
فرع:
5053- قد رمزنا في صدر الكتاب إلى تردُّدِ الأصحاب في أن الخرْص هل يجري في حكم المساقاة؟ فالذي مال إليه الأكثرون أن الخرص يجري في المساقاة [بين] (2) المالك والمساقَى، وهؤلاء استدلّوا بحديث عبد الله بن رواحة، لما خرص على أهل خيبر، بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن خرصُه لأجل الزكاة؛
__________
(1) (ي) ، (هـ 3) : بمثل.
(2) في الأصل: من.(8/60)
فإن أهل خيبر كانوا يهوداً، لا زكاة عليهم، فدلّ [على] (1) أن الخرص كان في حكم المساقاة. ومن أصحابنا من قال: لا يتعلّقُ في المساقاة بالخرص حكمٌ، وحمل ما جرى على معاملةٍ بين المسلمين والكفار، لا يجوز فرض مثلها بين المسلمين بعضهم مع بعض.
فإن أثبتنا للخرص حكماً، فقد تقدم قولان في كتاب الزكاة، في أن الخرص عِبْرةٌ، أو تضمينٌ، وأوضحنا أنا إذا جعلنا الخرص عبرةً، فليس يتعلّق به حكمٌ محقّق. وإذا جعلناه تضميناً، فأثره قطعُ تعلّق الزكاة عن عَيْن الثمار، وردُّها إلى ذمة من عليه الزكاة، وتسليطُه على التصرف في الثمار بجملتها، حتى كأنا ننقُل حقَّ المستحقين من عين الثمار إلى الذمة.
فمن أثبت للخرص حكماً في المساقاة، فقد يعتقد أن حصة المالك بعد تقدير التَّجفيف تنقلب إلى ذمة العامل المخروص عليه، وتصير الثمار بجملتها ملكاً له؛ لضمانه حصةَ المالك.
وهذا لا يجترىء على القول به إلا جسورٌ؛ فإنّ قطعَ ملك المالك عن أعيان الثمار، وردَّه إلى ذمة العامل، من غير معاوضة يهتدي إليها محالٌ، وليس كالزكاة؛ فإن الأصل في ملك النصاب المالك، والزكواتُ حقوقٌ معترِضةٌ. وقد نقول: الأصح أنها لا تتعلق بالمال تعلق استحقاق، فردُّ الزكاة إلى الذمة على شرط الضمان، لا يبعد كلَّ البعد.
وإن قلنا في المساقاة: أثر الخرص أن يتقدر نصيب المالك على العامل، حتى لو ادعى نقصاناً مفرطاً، عما حزره الخارص تقريباً، لم يُقبل منه، إلا أن تعترض جائحة وآفةٌ، فهذا أقرب من نقل حق المالك من العين إلى الذمة، وتمليكِ العامل جميع الثمار، وهذا يضاهي تفريعَنا على قول العبرة في حق الزكاة.
فهذا ما أردناه في ذكر الخرص ومعناه.
__________
(1) ساقطة من الأصل.(8/61)
ومن امتنع من تأثير الخرص في المساقاة فسببُ امتناعه غموضُ أثره في العِبرة، والتضمين، كما أشرنا إليه.
5054- ثم إن جعلنا للخرص أثراً، فالخرص يجري في النخيل والكرم، [وجرت] (1) المساقاة فيها، وهل يجري الخرص فيما عداهما من الأشجار؟ فعلى قولين. ولذلك خرّجنا المسألة في المساقاة على سائر الأشجار على قولين.
فإذا أثبتنا الخرص وتأثيره، اعتقدناه أمراً مرعيّاً، وأصلاً معتبراً في تصحيح المساقاة. والله أعلم بالصواب.
وإن لم نثبت للخرص أثراً، فيليق (2) بهذا القول تجويز المساقاة على جميع الأشجار، وإن افترقت في جريان صورة الخرص عادةً وإمكاناً.
5055- ومما نلحقه بآخر هذا الفصل أن الثمار إذاً وجدت، فالمشروط للعامل منها مملوكٌ له، ولا يتوقف جريان ملكه فيه على استكماله الأعمالَ المشروطةَ عليه، وليست الثمار في ذلك بمثابة الأرباح في القراض؛ إذا (3) اختلف القول فيها، و [أن] (4) العامل هل يملك حصته منها بالظهور.
وهذا الذي ذكرناه مأخوذ من فحوى كلام الأئمة في الطرف، والسبب فيه أن [من] (5) منع ثبوتَ الملك للعامل في القراض تمسك بحرفين: أحدهما - أن الربح وقايةٌ [لرأس] (6) المال، وهذا المعنى لا يتحقق في الثمار، بالإضافة إلى الأشجار؛ فإن الأشجار لو عابت في أنفسها لآفةٍ أصابتها، لم يُجبر نقصانها بالثمار.
__________
(1) في الأصل: فجرت.
(2) في الأصل: فلا يصح، فيليق.
(3) كذا في النسخ الثلاث: "إذا" وهي بمعنى (إذ) .
(4) في الأصل: وأنا.
(5) سقطت من الأصل.
(6) في الأصل: "برأس"(8/62)
ومن أصحابنا من عوّل في الربح على تنزيله منزلة الجُعل في الجعالة؛ من حيث لا تنضبط أعمال المقارَض في معاملة جائزة وهذا لا يتحقق في المساقاة؛ فإن الأعمال فيها إلى الضبط، وهي لازمة لا يملك العامل التخلص منه اختياراً.
فرع:
5056- أجرى القاضي في أثناء المسائل كلاماً متعلقاً بالعاريّة أحببنا نقله، وإن لم يكن من مسائل المساقاة.
قال: إذا وهب الرجل نَيْلَ معدنٍ مملوكٍ له، في مدةٍ من واحدٍ، ليعمل عليه، ويكونَ له ما يستخرج منه، فالهبة فاسدة في نص الشافعي، لأنها هبةُ [مجهولٍ] (1) ، وليس كما لو أعار المالك من إنسانٍ عبدَه أو دارَه، وترك العين في يده من غير إعلام وضبطٍ؛ فإن المستعير يملك المنافع مدةَ اتّفاق بقاء العين المستعارة في يده، وهذا في التحقيق هبةٌ ومنحةٌ [في] (2) مجهول.
ثم فرّق، فقال: المنافع في وضع الشرع جعلت كالأعيان الموجودة، وجاز إيراد المعاوضة عليها، كما يجوز إيراد ذلك في الأعيان الموجودة، فكذلك يجوز أن تكون كالأعيان الموجودة في عقد التبرع، ومثل هذا لا يتحقق في نيل المعادن. ثم ما يستفيده العاملُ على المعدن من نيلٍ يلزمه ردُّه على مالك المعدن؛ فإن الرد فيه ممكن، والرد غيرُ ممكن في المنافع المستوفاة.
وهذا كلامٌ مختلطٌ.
وكان شيخي يقول: الإعارة ليست تمليكاً، والمستعير لا يملك المنافع قط، وإنما الإعارةُ إباحةٌ وإمتاعٌ، والمستعير ينتفع [بالمنافعِ] (3) انتفاع الضيف بما يأكله من الطعام، والأصح أن الضيف لا يملك ما يأكله، والإباحة لا تجري إلا في منتفعٍ به حالةَ الاستيفاء، ونيل المعدن ليس كذلك، ولو كان النَّيل مطعوماً، فأباح لمن
__________
(1) في الأصل: مجهولة.
(2) في الأصل: من.
(3) ساقطة من الأصل.(8/63)
يأكله، أو يشربه، فما جرى من ذلك، فلا معترض فيه، ولا ضمان (1) .
تمّت المساقاة.
***
__________
(1) في خاتمة نسخة (ي) . ما نصه:
(والله أعلم. ثم في الهامش: بلغ مقابلة سنة 674 وبالله التوفيق) .
ثم بعد ذلك
(آخر المجلد الثامن، يتلوه - ولله الحمد والمشيئة، في التاسع
كتاب الإجارة
الحمد لله أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً حمداً كثيراً طيباًَ مباركاً وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه الطيبين الطاهرين، وسلم تسليماً كثيراً.
وحسبنا الله ونعم الوكيل. نعم المولى ونعم النصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
انظر إلى الدهر وتفكر بعجايبه، وانظر إلى الناس تراهم كثيري التقلب) .
أما نسخة (هـ 3) ، فقد جاء في خاتمتها ما نصه:
(والله أعلم. يتلوه في الذي يليه بعون الله وحسن توفيقه
كتاب الإجارة
صح. نقل هذا الجزء بأسره من النهاية لإمام الحرمين
إلى خزانة سيدنا ومولانا الفقيه الإمام العالم سيد الورى فخر الدين شرف الأئمة أدام الله عليه....... لمجد....)(8/64)
كتاب الإجارة (1)
5057- الإجارة معاملة صحيحة، تورد على منافعَ مقصودةٍ قابلةٍ للبذل والإباحة، على شرط الإعلام مع العوض المبيّن.
5058- وقد أجمع من بإجماعه اعتبار على صحة الإجارة، وخلاف ابن كيسان (2) الأصم، والقاساني (3) غيرُ معتدٍّ به من وجهين: أحدهما - أنهما ليسا من أهل الحل والعقد، والآخر - أن خلافهما مسبوقٌ بإجماع الأمة على صحة الإجارة قبلهما.
5059- وتيمّن الأئمةُ بذكر قصة شعيب في استئجار موسى صلوات الله عليهما، والاستئجار على الإرضاع منصوصٌ عليه في قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] .
__________
(1) من هنا -من كتاب الإجارة- بدأ العمل معتمداًَ على نسختين فقط، حيث انتهت نسخة (ي) ، ونسخة (هـ 3) وبدأت نسخة (د 1) مع نسخة الأصل: (د 2) .
(2) ابن كيسان، عبد الرحمن بن كيسان الأصم، أبو بكر، فقيه معتزلي، تلميذ العلاف، وله معه مناظرات، ت نحو 225 هـ. (ر. نشأة الفكر الفلسفي: 1/397، 410، 451 - والمنية والأمل: 52، لسان الميزان: 3/427، والأعلام: 3/323) .
(3) القاساني، محمد بن إسحاق القاساني الظاهري، أخذ عن داود، وخالفه في مسائل، نقضها عليه ابنُ المغلّس. والقاساني بالسين، والعامة تقولها بالشين، نسبة إلى قاسان، من نواحي أصبهان. (تبصير المنتبه، بتحرير المشتبه: 3/1146) زاد الشيرازي في (طبقات الفقهاء: 176) قوله: " خالف داود في مسائل كثيرة في الفروع والأصول " ثم ذكر اسم كتاب ابن المغلس الذي رد به على القاساني، وهو: (القامع للمتحامل الطامع) ، كما زاد أيضاًًً أنه يكنى بأبي بكر. وانظر (الفهرست: 300) وعنده: القاشاني (بالمعجمة) وعنده أيضاًًً أنه انتقل إلى مذهب الشافعي، وألف في إثبات القياس!!! قلتُ: لعله وهمٌ من ابن النديم، فالإمام في (البرهان) يعدّه ممن لا يقولون بالقياس على إطلاقه. وكذلك لم يقل هذا أحدٌ من أصحاب طبقات الشافعية (فيما نعلم) .(8/65)
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أعطوا الأجير أجره، قبل أن يجفّ عرقُه " (1) . والحديث الذي أجراه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً، إذ قال: " مثلكم ومثل الذين من قبلكم من اليهود والنصارى، كمثل رجل استأجر أجيراً من الصبح إلى الظهر بقيراط " (2) . معروف. وهو أصل في الباب. وقال صلى الله عليه وسلم: " ثلاثةٌ أنا خصمهم، ومن كنت خصمه خصمتُه: رجل باع حراً، وأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً، فاستوفى منفعته، ولم يؤدّ أجره، ورجل أعطاني صفقةَ يمينه، ثم غدر " (3) .
" وأجّر عليُّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه نفسَه من يهودي كان يستقي له الماء، كل دلو بتمرة " (4) . " واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بنَ أريقط دليلاً " (5) .
__________
(1) حديث " أعطوا الأجير أجره "، رواه ابن ماجة: كتاب الرهون، باب أجر الأجراء: 2/817، ح 2443، والطبراني في الصغير: 1/43، ح 34، وأبو يعلى: 12/34، ح 6682، وابن عدي في الكامل: 6/230، والبيهقي في السنن: 6/120، 121. وانظر التلخيص: 3/132، 1314.
(2) حديث: " مثلكم ومثل الذين من قبلكم "، رواه البخاري: كتاب المواقيت، ح 557، وكتاب الإجارة، ح 2268، وكتاب الأنبياء، ح 3459، والترمذي: كتاب الأدب، ح 2871، وأحمد: 2/6، 111.
(3) حديث: " ثلاثة أنا خصمهم ... " عند البخاري من الأحاديث القدسية، فقد رواه عن أبي هريرة بلفظ: " عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: قال الله تعالى: "ثلاثة أنا خصمهم ... " وهو أيضاًًً على غير هذا الترتيب، فقد قدم من أعطى وغدر، وهو بلفظٍ مغاير أيضاًً: " رجل أعطى بي ثم غدر " وقد رواه في كتاب البيوع: باب إثم من باع حراً، ح 2227، وفي كتاب الإجارة: باب إثم من منع أجر الأجير، ح 2270، ورواه أحمد: 2/358.
(4) حديث علي " أنه أجر نفسه من يهودي " أخرجه ابن ماجة: كتاب الرهون، باب الرجل يستقي كل دلو بتمرة، ح 2446، 2447، وأخرجه البيهقي في السنن: 6/119، ورواه أحمد في مسنده: 1/90، 135، وانظر التلخيص 3/134 ح 1319.
(5) حديث استئجار الرسول صلى الله عليه وسلم لابن أريقط، أخرجه ابن إسحاق، وابن جرير، وهو عند البخاري من غير تصريح باسم الدليل. (تخريج أحاديث السيرة للألباني. بهامث فقه السيرة للغزالي: 170، والبخاري: كتاب الإجارة، باب استئجار المشركين عند الضرورة، ح 2263. وأيضاًً باب إذا استأجر أجيراً ليعمل له بعد ثلاث، ح 2264) .(8/66)
والحاجة ماسة إلى الإجارة بينةٌ لا خفاء بها.
5060- ولسنا ننكر أن الإجارة من حيث وردت عدى منافعَ لم تخلق [بعدُ] (1) مائلةٌ عن القياس بعض الميل، ولكنها مسوغةٌ لعموم الحاجة. وقد ذكرنا في مواضعَ أن الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة. ثم ما ثبت أصله بالحاجة، لم يتوقف إثباته وتصحيحه في حق الآحاد على قيام الحاجة، حتى يقال: الإجارة تنعقد في حق من لا مسكن له، وهو محتاج إلى المسكن، ولا تنعقد في حق من يملك المساكن، بل يُعمم [في حكم] (2) التجويز الكافة.
5061- ثم نذكر تراجم في أصول الكتاب بالتوطئة والإيناس، وننعكس في المسائل على تفصيلها، فنذكر معقود الإجارة، والألفاظَ التي تنعقد الإجارةُ بها، وما تصح الإجارة فيها، ونرمز إلى [انقسام] (3) الإجارة في قاعدتها. إن شاء الله تعالى.
5062- فأما القول في معقود الإجارة، فقد ظهر اختلاف الأصحاب فيه قديماً وحديثاً، فقال بعضهم: المعقود عليه في الإجارة العينُ المستأجرة، وإنما حملهم على ذلك محاذرةُ الحكم بإيراد المعاوضة اللازمة على مفقودٍ، وهي المنافع.
وقال قائلون: المعقود عليه في الإجارة المنافعُ.
وهذه الطريقةُ هي المرضية عند الفقهاء، فإن معقودَ كلِّ عقدٍ هو المقصود منه، والمنافع هي المقصودةُ، والإجارة عقدُ تمليكٍ، والمنافع هي التي تُملّك، وتستحق فيها دون العين، والأجرة في الإجارة تتوزع على المنافع، إذا تبعضت في منازل الفسخ والانفساخ، فهي المقصودة المعقودُ عليها، ولكن الشرعَ احتمل إيراد العقد عليها، وهي تثبت شيئاًً شيئاً (4) ؛ لما أشرنا إليه من مسيس الحاجة.
__________
(1) مزيدة من: (د 1) .
(2) في الأصل: بحكم.
(3) في الأصل: انفساخ.
(4) (د1) : شيئاًً فشيئاًً.(8/67)
وقد ينتهي الكلامُ إلى ماهية المنفعة، وليست المنافع (1) رقبةَ العين المستأجرة، ولا ما يعقل من صفاتها كتركّب الجدران وتنضّد السقف على الهيآت (2) المطلوبة، وغيرها من الصفات.
فالمنافع إذن نعني بها تهيُّؤَ العين المستأجرة لانتفاع المستأجِر بها في الوجه المطلوب، ولا مزيد في الأحكام الشرعية على هذه المواقف.
5063- وقال القاضي: الإجارة ترد على العين، لاستيفاء المنفعة منها، وأشار بذلك إلى أن [العاقد] (3) يقول: أجرتك هذه الدارَ، فيضيف لفظَه إلى عينها، والمقصود استيفاء المنفعة منها.
وهذا الذي قاله قريب؛ فإنه (4) عَنَى [بذكر] (5) العين إضافةَ لفظ الإجارة إليها.
وهذا لا اختلاف فيه، ثم أشار إلى المنافع، وأبان أنها المقصودة، وفيما ذكره مزيد نظر وتفصيل، [سننبه] (6) عليه في ألفاظ هذا العقد، إن شاء الله تعالى.
5064- فأما القول في الألفاظ التي تنعقد الإجارةُ بها، فاللفظ الشائع الصريح في الباب -من غير استكراه- الإجارةُ، والإكراءُ. فقول المالك: أكريتُك هذه الدارَ سنةً، أو أجرتك بكذا. ولو قال: ملكتك منفعةَ هذه الدار، أو منفعةَ هذا العبدِ شهراً بكذا، صحَّ، باتفاق الأصحاب. وهذا يدل دلالة ظاهرة على أن المعقود عليه المنافع.
5065- ولو قال: بعتُ منك منافعَ هذه العين شهراً بكذا، ففي صحة الإجارة وجهان مشهوران: أظهرهما - أن الإجارة لا تنعقد؛ لأن لفظ البيع موضوعٌ لتمليك الأعيان، فاستعماله في المنافع بعيدٌ عن موضوعه، ونقْلٌ له عن حقيقة بابه.
__________
(1) (د1) : المنفعة.
(2) (د1) : اللبنات المطلوبة.
(3) في الأصل: القائد.
(4) (د1) : فإن.
(5) في الأصل: ذكر.
(6) في الأصل: سنبينه.(8/68)
ولفظُ التمليك لا اختصاص له ببابٍ (1) ، بل هو صالح لكل ما يثبت فيه الملك، والمنافع مملوكة بالإجارة.
وقال ابن سُريج: تصح الإجارةُ باستعمال لفظ البيع على الصيغة التي ذكرناها؛ فن البيع يتضمن تمليكَ الأعيان، والمنافعُ تملك بملك الأعيان، فلا يبعد استعمال لفظ البيع فيها، كما لا يبعد مساواةُ المنافع للأعيان في جريان الملك، وقد قال الشافعي: الإجاراتُ صنفٌ من البيوع.
5066- ولو قال: أكريتك، أو قال: أجرتك منافع هذه الدار، كان اللفظ لاغياً؛ فإن وضع لفظ الإجارة على الإضافة إلى العين المنتفع بها، فإذا أضيف إلى المنافع، كان لاغياً في اللسان، غيرَ مفيد، ولا يضاف إلى المنافع إلا ما يقتضي التمليك في وضعه وصيغته، والإجارةُ ليست كذلك. وإنما أفادت الملكَ بالشيوع في الاستعمال، فلتستعمل على الوجه المعتاد.
5067- وهذا أوان التنبيه على ما ذكرناه قبلُ من كلام القاضي: فقوله: الإجارة ترد على العين لاستيفاء المنفعة، يختص بلفظ الإجارة والإكراء؛ فإنهما لا يتضمنان تمليكاً، وما يتضمن تمليكاً يَضاف إلى المنفعة دون العين، فلو قال: ملكتك هذه الدارَ شهراً، وأراد الإجارة، لم يجز، وحُمل اللفظُ فيه (2) على تمليكٍ مؤقت في العين، وهو فاسد. فإذا كان [يقع الكلام كلياً] (3) في معقود الإجارة، فلا معنى للتعلق بصيغة لفظة من الألفاظ مختصة، وإنما يمتحن المعقود من الألفاظ الناصّة على الغرض كالتمليك، فلا جرم هو مضاف إلى المنافع، والإجارة تعمل عن جهة شيوعها في العادة، لا عَنْ معناها. فهذا ما أردنا التنبيهَ عليه.
5068- فأما القول فيما تصح إجارته، وما لا تصح إجارته، فالأوْلى فيه التعرض
__________
(1) هذا توجيهٌ للوجه المقابل للأظهر الذي فهم من الكلام، ولم يذكره صراحة، ولكنه سيأتي فيما نقلها عن ابن سريج.
(2) (د 1) : منه.
(3) في الأصل: نفع الكلام كلّها.(8/69)
للتقسيم. فالأعيان تنقسم إلى الجمادات، والحيوانات، فأما الجمادات، فإنما تجري الإجارة فيما يُنتفع به انتفاعاً [يقابَل] (1) بالمال عرفاً، مع بقاء العين. وما لا يتأتى الانتفاع به إلا باستهلاكه، فلا يتخيل فيه الإجارة. كالأطعمة والأشربة، فلا تُستأجر التفاحةُ لتُشتمَّ؛ فإن ذلك، وإن كان منفعة، فليست من المنافع التي تُبذل عليها الأموال، ومالك التفاحة لا يرضى بتسليمها لتُبذلَ، وتقربَ من الفساد، ثم تُرد.
5069- واختلف أئمتنا في استئجار الدراهم والدنانير، لتزيين الحوانيت، ودكاكين الصيارفة، فذهب الأكثرون إلى منع استئجارها؛ فإن ما ذكرناه ليست منفعةً مقصودةً؛ فإن الغرض مما أشرنا إليه موقوفٌ على أن يُرِي الصرافُ أنها ملكُه، ولو ظهر ذلك، لفسد الغرض، فغاية المقصود تلبيسٌ إذاً، وإذا منعنا الاستئجار، ففي جواز استعارتها للمقصود الذي ذكرناه خلافٌ، ولا وجه لمنع الإعارة إلا ما نبهنا عليه من التلبيس، وإلا فالإعارة تقبل الجهالةَ والإبهام، ولا تقبلها (2) الإجارة.
5070- وذكر القاضي في الاستشهاد بفساد إجارة الدراهم، والدنانير: أن استئجار الأطعمة لمثل الغرض الذي ذكرناه في الدراهم فاسدٌ. ولستُ أرى الأمرَ كذلك، فلو استأجر الرجلُ صُبرةَ حِنطةٍ، ليزين بها دكّانه، فالكلام فيه [كالكلام في] (3) استئجار الدراهم والدنانير. ولا يجوز تخيّل الفرق بينهما (4 والخلاف جارٍ فيهما 4) ، والأصح المنع، كما قدمناه.
5071- وأما الحيوان قسمان (5) : آدمي، وغيرُ آدمي، فالآدمي يجوز إجارته، حراً كان أو عبداً. وغير الآدمي قسمان: منتفعٌ به، وغير منتفع به. فما لا ينتفع به
__________
(1) في الأصل: فيقابل.
(2) (د 1) : ولا تقتضي ما تقتضيه الإجارة.
(3) في الأصل: فالكلام فيه كاستئجار الدراهم.
(4) ما بين القوسين ساقط من (دا) .
(5) هكذا. بدون الفاء في جواب (أما) وهي لغة (كوفية) ، يجري عليها غالباً إمام الحرمين، في كتابه هذا، وفي غيره، كما أشرنا مراراً.(8/70)
يظهر فساد إجارته، كالخنازير، والسباع غير (1) الجوارح، والحشرات ونحوها.
والمنتفع به قسمان: نجس العين، وطاهر العين. فأما ما هو نجس العين، فالكلب المعلّم، وفي جواز إجارته وجهان: أحدهما - لا تصح، كما لا يصح بيعه.
والثاني - أنها تصح؛ لأن مَوْرد البيع العين، وعين الكلب نجسة، ومورد الإجارة المنافع، وهي لا تتصف بالطهارة والنجاسة.
وأما الحيوان الطاهر المنتفع به، كالجوارح من [الطيور] (2) ، وكالفهد، والحُمر، والبغال، والفيلة، والبقر، التي تركب، وتَحمل، أو تصلح للحراثة، فاستئجارها جائز.
5072- ولا يجوز استئجار الأعيان لأعيانٍ تنفصل منها، كاستئجار الأشجار لمكان الثمار؛ قصداً إلى تملكها، وكاستئجار المواشي قصداً إلى درِّها ونسلها. هذا ممتنع لا مجوّز له.
5073- ثم الإجارة تنقسم، فقد تُفرضُ واردةً على العين، بحيث لا يتصور ورودها على الذمة، وهذا بمثابة استئجار الأراضي، والمساكن، والقنوات، ونحوها، فلا يتأتى فرض إيرادها على الذمة، كما لا يتأتى الإسلامُ في شيءٍ (3) منها في الذمة، يُلتزم، ثم يُعيّن، والسبب فيه أن مقصودَها الأعظم يتعلق بتعيينها؛ وإلا، فالقَراح (4) في موضعٍ يُقوّم بمائة، ومثله في موضع آخر يُقوّم بعشرة، فإذا كان مقصودُها الأظهر في تعينها، ولا يتصور نقلُها، لم ينتظر إيراد البيع إلا على ما يتعين منها. وكذلك القول في إجارتها.
فأما ما سواها من الأعيان [وهي] (5) المنقولات، فالإجارة تنقسم فيها إلى ما يرد على العين، وإلى ما يرد على الذمة. وهذا مما سيأتي مفصلاً في مسائل الكتاب.
__________
(1) المراد هنا الجوارح التي يمكن تعليمها للصيد.
(2) في الأصل: الصيود.
(3) (د 1) : في موصوفٍ.
(4) القَراح: وزان كلام: المزرعة التي ليس فيها بناء ولا شجر (المصباح) .
(5) في الأصل: فهي.(8/71)
ولكنا نذكر الآن جُملاً من خواصّ ما يرد على الذمة، وقضايا ما يرد على العين.
والقسمان أولاً يستويان في وجوب الإعلام في العوض والمعوّض، [وقد تختلف طرق الإعلام] (1) في المنافع على ما سنذكر معاقد الكلام، فيها، إن شاء الله تعالى.
5074- فإن وردت الإجارة على عينٍ مثل أن يقول: استأجرت [منك] (2) هذا العبد أو هذه الدّابة، صحّت الإجارة. ولإعلام المنفعة مسلكان: أحدهما - المدة، والآخر - الإعلام بذكر نهاية المقصود، فأما المدة، فيقول: استأجرت منك هذه الدّابة لأتردد عليها في حوائجي في هذا اليوم، أَوْ أَحملَ عليها في هذا اليوم أقمشةً أنقلها من الحانوت إلى الدار، فهذا وجهٌ.
والوجه الآخر - أن يقول: استأجرت هذه الدابة، [لأركبها] (3) إلى موضع كذا، أو أحمل عليها كذا وكذا إلى موضع كذا، فإذا صحت الإجارة، فمن حكمها ألا يجب تسليم الأجرة في المجلس؛ فإنها لم تقع سلماً، بل ارتبطت بعينٍ، ولا يجري فيها إبدال العين المعيّنة بغيرها، وإن تلفت قبل استيفاء المنفعة، انفسخت الإجارة. كما سنصف ذلك من بعدُ، إن شاء الله، وإن عابت، فردها المستأجر، انفسخت الإجارة.
5075- ثم مما نمهده في هذا القسم أن المستأجر إذا ذكر نوعاً من الانتفاع، لم يتعين، وكان ما (4) يساويه في الإضرار بالدابة في معناه. فلو قال: استأجرت هذه الدابة لأركبها، ثم أراد أن يُركب غيرَه، وكان ذلك الغير مثلَه، فذلك جائز.
ولو استأجر أرضاً لزراعة الحنطة، كان له أن يزرعها شعيراً؛ فإن ضرر الشعير أقلُّ، ولسنا نلتزم تفصيل هذا؛ فإنه بين أيدينا (5) .
والضابط الذي يليق بعقد التراجم أن الإبدال جائز في جهات الانتفاع، إذا لم يزد
__________
(1) في الأصل: قد يختلف طرفا الإعلام.
(2) زيادة من (د 1) .
(3) ساقطة من الأصل.
(4) في (د 1) : بما.
(5) أي سيأتي فيما نستقبل من مسائل.(8/72)
الضررُ، ولم يختلف جنسُه. أما زيادة الضرر، فمثل: أن يستأجر الدابة لركوب نفسه، وهو نحيف، ثم يُركبها رجلاً ضخماً، وأما الاختلاف في الجنس، فهو أن يستأجر دابة ليحملها تبناً، فحمّلها مثلَ وزن التبن تبراً، [لم يجز] (1) ؛ فإن ضرر التبن في أن [يغمر] (2) الدابة ويعمّها، وضرر التبر في ثقلها [على] (3) موضع من البهيمة؛ فهي (4) تكُدُّ (5) ذلك الموضعَ، وتُميده (6) ، فلا يجوز هذا النوع من الإبدال.
ثم إجارة العين تضاهي بيعَ العين في الافتقار إلى الرؤية، على حسب ما ذكرناه في اختلاف القول في بيع الغائب.
5076- وأما الإجارة الواردة على الذمة، فمثل أن يقول: ألزمت ذمتَك خياطةَ هذا القميص، أو نقلَ هذه الحمولة ووزنُها كذا، من هذا الموضع إلى موضع كذا، أو تنقلني إلى موضع كذا، فهذا النوع جائز على الجملة.
فإن وقع العقدُ بلفظ السّلم، صح، ويجب تسليمُ الأجرة في المجلس، كما يجب تسليم رأس المال في السلم. (7 وإن جرت الإجارة على الذمة من غير لفظ الإسلام 7) والإسلاف، ففي اشتراط تسليم الأجرة في المجلس وجهان أجرينا نظيرهما في البيع الوارد على الذمة [من غير لفظ السلم والسلف.
ثم من أحكام الإجارة الواردة على الذمة] (8) ذكرُ أوصاف ما ينتفع به على ما يليق بأوصاف المسْلَم فيه، فإذا طلب مركوباً، ذكر جنسَه ونوعَه، والذكورة والأنوثة، وصفةَ المشي، والتعرضُ للذكورة والأنوثةِ يؤول إلى صفة المشي، وسيأتي استقصاء
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) في الأصل: يعم.
(3) في الأصل: حتى.
(4) (د 1) : فهل.
(5) (د 1) : تهدّ.
(6) (د 1) : وتكده. وتميده: من ماد الشيء ميداً: اضطرب وتمايل. (المعجم) .
(7) ما بين القوسين ساقط من (د 1) .
(8) ما بين المعقفين سقط من الأصل.(8/73)
هذا في موضعه، إن شاء الله تعالى. وقَدْرُ (1) المقصود الآن عقدُ الجُمل.
ثم إذا جاء الملتزِم بالمنتفَع به، فلم يكن على الوصف المستحق، أبدله، وإن عابت تلك الدابة، ولم يرض بذلك العيبِ المؤثر في المنفعة - المستأجرُ ردَّها، ولم ينفسخ العقد، فليأخذ (2) بدلها. وكذلك لو تلفت تلك الدابة، وجب إبدالها.
5077- ولو قال: استأجرت هذه الدابة، كانت الإجارة واردةً على عينها.
ولو قال للرجل الذي يخاطبه: استأجرتك بكذا وكذا، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن الإجارة واردةٌ على عين المخاطب، وقوله: استأجرتك، كقوله: استأجرتُ هذه الدابة.
والوجه الثاني -وهو الذي صححه القاضي- أن الإجارة تنعقد على الذمة بهذه العبارة؛ لأن معناها في التحقيق: استحققت عليك خياطةَ هذا الثوب، أو ما عينه من العمل سواه، وهذا يتضمن إلزامَ الذمة، وليس كما لو قال: استأجرت هذه الدابّة؛ لأنه طلب انتفاعاً (3) بعينها، وفي مسألتنا طلب أن يوقع المخاطَب عملاً في عين مالٍ له، إما بنفسه، وإما بغيره.
فعلى هذا لو أراد أن يعلّق الإجارة بعين المخاطب، احتاج إلى مزيد تقييد، فيقول: استأجرت عينَك، أو نفسك، أو استأجرتك لتخيط بنفسك.
5078- ومما يليق بالمعاقد الكلية، أن إعلام المنفعة قد يقع بذكر المدة، كما ذكرناه. وليست المدّةُ في الحقيقة تأجيلاً، (4 ولا تأقيتاً؛ فإن الأجل معناه مَهْلٌ يحِلّ الحق عند انقضائه، وهذا لا يتحقق في مدّة 4) الإجارة، والإجارة ليست مؤقتة في الحقيقة؛ فإن علائق العقد تبقى بعد انقضاء المدة، ويكفي في تحقيق بقائها تصوّر فسخها بعد المدة بالتحالف، والاختلاف في مقدار الأجرة والمدة، فالمدة إذاً تُعلِم
__________
(1) عبارة (د 1) : وقد رد المقصود الحمل. (ففيها سقط وتصحيف) والله أعلم.
(2) عبارة (د 1) : فليطالب ببدلها.
(3) (د 1) : انتفاعها.
(4) ما بين القوسين سقط من (د 1) .(8/74)
المنافعَ إعلام الكيل والوزن [المكيلَ] (1) والموزون.
فإذا كان يتأتى إعلام المنفعة من غير مدة، كفى، مثل أن يقول: استأجرتك لخياطة هذا القميص، فهذا كافٍ، فلو جمع بين الإعلام بهذه الجهة وبين ذكر المدة، فقال: استأجرتك لتخيط هذا الثوبَ في هذا اليوم، ففي صحة الإجارة وجهان: أحدهما - أنها تصح، وأن مزيد الإعلام لا يضر.
والثاني - أنها لا تصح؛ فإن الوفاء بالوجهين يعسر، فقد يتم العمل وفي النهار بقية، وقد ينقضي النهارُ وفي العمل بقية، فلا معنى للجمع بين الجهتين.
وإذا صححنا الجمعَ بين الجهتين، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن المقصود العملُ، فإذا تم، كفى، ولا يستعمل الأجير في بقية النهار، ولو انقضى النهار، وبقي من العمل وجب استتمامهُ.
ومن أصحابنا من قال: يتم المقصود المقابل (2) بالأجرة بإحدى الجهتين، فإن قم العمل، كفى، وإن انقضى النهار والأجير مُكبٌّ على العمل، كفى، واستحق تمامَ الأجرة.
فهذه جملٌ رأينا تصدير الكتاب بها.
فصل
قال: " وقد يختلف الرضاعُ ... إلى آخره " (3) .
5079- أبان الشافعي أن الشرط في صحة الإجارة كونُ العمل معلوماً على الجملة، فإن تطرقت جهالةٌ إلى التفاصيل، لم يضر؛ إذ لو شرطنا العلم بالتفاصيل، لما صحت الإجارة على الإرضاع، وقد دل نصُّ القرآن على صحتها، ثم ما يشربه الصبي من اللبن في كل يوم غيرُ معلوم، وقدرُ ما يحتاج إليه غيرُ معلوم، وهو إلى النموّ والازدياد،
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) (د 1) : والمقابل.
(3) ر. المختصر: 3/80.(8/75)
والأعراض تعرض، والصبيّ للأمراض بالمرصاد، فثبت ما أشار إليه الشافعي من المقصود.
5080- ثم نجمع ما يتعلق بالاستئجار على الحضانة والإرضاع تأصيلاً وتفصيلاً، فنقول: الاستئجار على الحضانة المجرّدة من غير إرضاع جائز، ويجوز استئجار الحاضنة في الولد الذي ليس مرتَضعاً، ويجوز للأم أن تستأجر حاضنةً لا لبن لها، والأم ترضع.
ثم نقول وراء ذلك: إن استأجر مرضعةً على الإرضاع المجرد من غير حضانة، فقد اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من جوّزه، ومنهم من لم يجوّز الاستئجار على الإرضاع دون الحضانة.
5081- توجيه الوجهين: من قال: لا يجوز، استدل بأن [الإرضاع] (1) المجردَ صرفُ اللبن إلى الصبي، وهو عينٌ، [واستحقاق] (2) الأعيان مقصودةً بالإجارة بعيدٌ عن القواعد؛ فإن الإجارةَ تعتمد المنافعَ، كما أن البيع يعتمد العين. وأيضاًً، فإن الإرضاع لا يتأتى دون الاحتضان في رفع الصبيّ ووضعه، وهو مقصودُ الحضانة.
ومن قال بالجواز، احتج بظاهر قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] ، فذكر الأجْرَ في مقابلة الإرضاع، ثم الفقيه من (3) لا يألف فنّاً من الكلام، ويتبع المعنى، فالمرعي الحاجةُ في هذه الأبواب، وهي ماسة إلى الإرضاع، واللبن وإن كان عيناً، فليس موجوداً في الحال، ولكنه يَدِرُّ شيئاًً شيئاًً، ويضاهي المنافع من هذه الجهة، والمتبع الحاجةُ. وما ذكره القائل الأول من استحالة الأرضاع دون الحضانة، ليس بشيء؛ فإن المرضعة تلقم الصبيَّ الثديَ، وعلى غيرها الرفع والوضع.
ومما يتصل بهذا المنتهى أن المرأة لو كانت ذاتَ لبن، فقد اضطرب طرق
__________
(1) في الأصل: إرضاع.
(2) في الأصل: فاستحقاق.
(3) (د 1) : ثم الفقيه لا يألف فنّاً.(8/76)
الأصحاب في ذكر الحضانة دون الإرضاع، وفي ذكر الإرضاع دون الحضانة. ونحن نصف ما ذكره الأصحاب، ثم ننص على المختار.
5082- فإذا استأجر المرضعةَ للحضانة، ولم يتعرض للإرضاع، فهل يدخل الإرضاع تبعاً؟ ولو ذكر الإرضاعَ، ولم يتعرض للحضانة، فهل تدخل الحضانة تبعاً؟ اضطرب الأئمة: فقال قائلون: في الطرفين وجهان: أحدهما - أن ذكر الحضانة يستتبع الإرضاع، إذا كانت الحاضنةُ مرضعةً، وذكر الإرضاع يستتبع الحضانة.
والوجه الثاني - أنه لا يستتبع أحدُ المقصودين الثاني، بل لا يثبت إلا ما ذكر.
التوجيه: من قال بالاستتباع، قال: الإرضاع في العرف لا يخلو عن الحضانة -وإن كان يتصوّر تجريده- فَحُمِلَ الأمرُ على المفهوم عرفاً، والحضانة في ذات اللبن لا تطلق إلا والمراد القيام بالإرضاع مع الحضانة، فوجب تنزيل اللفظ في الشقين على موجَب العرف.
ومن قال بنفي التبعية، تمسك بظاهر الصيغة. ومعناها الاقتصارُ على المذكور.
وذكر القاضي وجهاً ثالثاً - وهو أن الحضانة لا تستتبع الإرضاعَ، والإرضاعُ إذا ذكر، استتبع الحضانة. وهذا فقيهٌ حسنٌ؛ من جهة أن انفراد الإرضاع يتضمّن صرفَ الإجارة إلى استحقاق العين، وإذا ثبتت الحضانةُ، كان اللبن في حكم التبع، كما سنصفه.
فالخارج إذاً مما ذكرناه: أن إفراد الحضانة من غير لبنٍ جائزٌ. وكذلك (1) يجوز إفرادُ الحضانة من ذات اللبن، إذا وقع التنصيصُ على ذلك، وقُطعَ العرفُ -كما ذكرناه في التوجيه- وذلك بأن يقول: استأجرتكِ على الحضانة دون الإرضاع. والاستئجار على الإرضاع من غير حضانةٍ فيه خلافٌ قدّمناه، ونبهنا على وجهه.
5083- وتمام البيان عندي يقف على بيان الحضانة، وبيانُها مقصود في الفصل.
قال علماؤنا: الحضانة تنقيةُ بدن الصبي عن الدرن والنجاسات، وغسلُ الخرق،
__________
(1) (د 1) : ويجوز أيضاً.(8/77)
وثياب البدن، [عما] (1) يغسل عنه ثياب الصبيان، ورفعه، ووضعُه، وإضجاعه في المهد، وربطه، وتحريكه، على المعتاد في مثله. فهذه جمل أعمال الحاضنة.
فإذا (2) قلنا: يجوز (3) إفراد الإرضاع بالاستئجار، لم يشترط جميع هذه الأعمال، بل يكفي ضمُّ الرضيع إلى النحر عند الإرضاع، ووضعُه في الحجر، وما جرى هذا المجرى، [مما] (4) يتعلق بالإرضاع، هذا لا بد منه. فأما ما يزيد على هذا من الغسل، وغيرِه، فلا وجه لاشتراطه.
وأما الكلام في إطلاق الحضانة، وأن الرضاع هل يتبعها، وفي إطلاق الإرضاع، وأن الحضانة هل [تتبعه] (5) ، فعلى ما قدمناه. وإذا أتبعنا الحضانةَ الإرضاعَ بحكم العرف، أردنا جميعَ أعمال الحضانة.
ولو استأجر امرأة للحضانة والإرضاع، وصرح بالجمع، وأراح نفسه من الخلاف، ثبت الأمران.
5084- ثم اختلف أئمتنا في أن المقصود من العقد أيّهما، فمنهم من قال: المقصود الحضانة، والخدمةُ، واللبن تبعٌ؛ لأن المنافع هي المستحقةُ بالإجارة، واللبن عينٌ، وإذا انعقد على المنفعة، لم يبعد أن يتبعها عينٌ، كما إذا استأجر داراً فيها بئرٌ، فالإجارة على منافع الدار، وماء البئر يختص بالمستأجِر تبعاً، والدليل عليه أن الله تعالى [سمى] (6) ما يبذل لصاحبة اللبن أجرةً، والأجرةُ عِوض المنافع، واللبن يبعد أن يكون مقصوداً، وهو مجهول متفاوت.
ومن أئمتنا من قال: المقصود اللبن، والحضانةُ تابعةٌ، فإن إحياء الولد وتربيتَه باللبن، والحضانةُ تعهدٌ، وقيامٌ بالخدمة.
__________
(1) في الأصل: "كما".
(2) (د 1) : وإذا.
(3) (د 1) : لا يجوز.
(4) في الأصل: فيما.
(5) في الأصل: تتبعها. وعبارة (د 1) : وأن الحضانة تتبعه.
(6) في الأصل: ثمى (بالثاء) .(8/78)
وبالجملة إنما يتميز المقصود بحكم العرف.
ومن أئمتنا من قال: هما جميعاً مقصودان. ولعله الأصح، والأعدلُ؛ فإنه يجوز الاستئجار على كل واحدٍ منهما، على حياله. وما ذكرناه من منع إفراد الإرضاع عند بعض الأصحاب بعيدٌ، وقد فسرناه بما يخرج معظم أفعال الحاضنة، فبان أن كل واحدٍ منهما يجوز إفراده بالعقد، فإذا جمعا كانا مقصودين.
التفريع على الوجوه:
5085- إن قلنا: المقصود الحضانة، فلو انقطع اللبن، لم تنفسخ الإجارةُ؛ لبقاء مقصودها، ولكن يثبت الخيار، كما لو استأجر طاحونةً، وانقطع الماء المدير، فللمستأجر خيارُ الفسخ.
ومن قال: المقصود اللبن؛ فإذا انقطع، وجب الحكم بانفساخ الإجارة.
ومن جعل اللبن والحضانة مقصودين، فإذا انقطع اللبن، وجب أن يقال: هو بمثابة ما لو اشترى عبدين، فتلف أحدهما قبل القبض، فينفسخ البيع في التالف، وفي الانفساخ في الثاني قولا تفريق الصفقة.
هذا بيان الوجوه وفوائدها.
5086- وقال قائلون: ما ذكرناه من أن الحضانة تتبع الإرضاعَ، والإرضاعُ يتبع الحضانةَ مأخوذٌ من هذا الاختلاف الذي ذكرناه في أن المقصود من الإجارة المشتملة على الحضانة والإرضاع ماذا؟ وهذا غفلةٌ عن مأخذ الكلام؛ فإن الإتباع والاستتباع محالان على حكم العرف، كما قدمناه، بدليل أنه يجوز إفراد الحضانة والتصريحُ بقطع الإرضاع، وكذلك يجوز إفراد الإرضاع والتصريح بقطع الحضانة.
فرع:
5087- ليس للمنكوحة أن تؤاجر نفسها للإرضاع، وإن كان الزوج لا يستحق منها هذه المنفعة، والسبب في المنع أنها لا تقدرعلى تسليم نفسها، وعلى توفية ما يستحق عليها، ولو قدرنا صحة الإجارة؛ إذ لو أرادت إدخال الصبي دار زوجها، لم يكن لها ذلك، وللزوج منعها من الخروج. ولو أجرت نفسها بإذن زوجها للإرضاع، صح ذلك، ثم يجب الوفاء بالعقد.
5088- ولو أراد الزوج أن يستأجرها لترضع ولده منها، أو من غيرها، فقد ذكر(8/79)
العراقيون أن الاستئجار فاسد، فإنها على الجملة مستغرقة المنافع بحق الزوج.
وقطع المراوزة بصحة الاستئجار، والوجه ما ذكروه؛ فإنّ استئجار الزوج إياها بمثابة إذنه لها في أن تؤاجر نفسها، والإرضاع ليس واجباً عليها، والزوج لا يستحق من منافعها شيئاً إلا منفعة المستمتع. والذي ذكروه (1) مذهبُ أبي حنيفة (2) - رضوان الله عليه، فلستُ أعتد إذاً بما حكَوْه، وإن قطعوا به.
فرع:
5089- إذا استأجر الرجل وراقاً ليكتب له شيئاً معلوماً، فهل يدخل الحِبرُ في مطلق الاستئجار؟ ذكر الشيخ أبو علي طريقين للأصحاب: فمن أصحابنا من قال: في المسألة وجهان، كالوجهين في أن الرضاع هل يتبع الحضانة. وقد ذكرنا وجهين في ذلك، والمتبع في تشبيه الحبر باللبن العرفُ، وجريانُه بأن يهيء الوراق الحبرَ منْ عند نفسه، ويصلحه على ما يُحب [ويؤثر] (3) .
التفريع (4) :
5090- إن قلنا: الحبر يتبع، فلا كلام، وإن قلنا: لا يتبع، فلو شُرط، ثبت، وإن كان مجهولاً كالرضاع. هذه طريقة.
ومن أصحابنا من قطع بأن الحبر لا يتبع الكتابة، وليس في معنى [اللبن في] (5) الإرضاع، ولو ذكر مع الكتابة على الجهالة، فسد، وإن ذُكر وأُعلم، فهو جمعٌ بين بيع عينٍ وإجارة في صفقة واحدة، وفيه الخلاف المشهور.
وهذه الطريقةُ أمتن وأقيس؛ فإن الاستئجار على الرضاع المجرد جائز، ولا يجوز أن يبتاع الإنسان من الحبر ما يكتب به مجلّدةً، أو مجلدتين، والسر في ذلك أن تصحيح الاستئجار على الإرضاع متلقى من الضرورة المرهقة، والحاجة الحاقة.
__________
(1) المراد العراقيون.
(2) الذي عند الأحناف -فيما رأيناه- أن استئجار الزوجة على إرضاع ولده ليس جائزاً بإطلاقه، بل يجوز إذا كان الولد من غيرها، أما إذا كان منها فلا يجوز، نص عليها السرخسي والكاساني (ر. المبسوط: 5/127، 129، البدائع: 4/192) .
(3) في الأصل: ويؤثره.
(4) (د 1) : التفريع عليه: أنا إن.
(5) زيادة من (د 1) .(8/80)
وكان شيخي يقطع بأن استئجار الخياط لا يُلزمه الخيطَ، بخلاف الحبر، والأمر على ما ذكر.
والفاصل أن جريان العرف في الورّاق قريبٌ من الاطراد، في أن الورّاق يتكلف الحبرَ، والأمر في الخياط بخلاف ذلك.
وإن اضطربت العادة في الخياط والورّاق، في الحبر والخيط، فقد ذكر القاضي وطائفة من الأصحاب أن إطلاق العقد يُبطله، ولا بد من التعرض لما يقع التوافق عليه في الحبر والخيط؛ فإنّ العادات إذا ترددت واللفظ بينها لا تفصيل فيه، فهو ملتحق بالمجملات.
وكان شيخي يقطع بأن العادات إذا اختلفت، فالحبر والخيط على المستأجر، وليس على [الآجِر] (1) إلا الكتابة [والخياطة] (2) ؛ فإنها المذكورة، فلا مزيد على مقتضى اللفظ، ووضع العقود على اتباع [قضايا] (3) الألفاظ إلا أن يغيّرها العرف، فإذا اضطرب العرف، لم نبالِ به، ورجعنا إلى موجب اللفظ، وكذلك القول في الخياطة.
فصل
قال: " والإجاراتُ صنفٌ من البيوع ... إلى آخره " (4) .
5091- الإجارات معاوضةٌ محققة مشتملةٌ على التمليك من الجانبين، فالمُكري يملك الأجرة على المستأجر، والمستأجر يملك عليه في مقابلة الأجرة منفعةَ العين، أما الأجرة، فنها بمثابة الأثمان، فإن عُجِّلت، تعجلت، وإن أُجلت، وكانت ديناً، تأجلت. وإن أطلقت، تعجلت، كما لو قيدت بالتعجيل، فهي فيما ذكرناه تنزل منزلة الثمن.
__________
(1) في الأصل: الورّاق. وأثبتنا (الآجر) من (د 1) ، كي تشمل الخياط، الذي زدناه منها.
(2) مزيدة من (د 1) .
(3) ساقطة من الأصل.
(4) ر. المختصر: 3/80.(8/81)
5092- ولو كانت الأجرة عيناً مشاراً إليها، تعيّنت، ولو كانت الأجرة صُبرةَ دراهم أشير إليها، ولم تكن معلومةَ المقدار، فلأصحابنا طريقان: منهم من قال: يصح ذلك، وتثبت الأجرة جزافاً، تعويلاً على الإشارة، كما يثبت الثمن كذلك.
ومن أصحابنا من خرّج جواز ذلك على قولين، كالقولين في رأس المال في السلم، وقد قدمنا قولين في أن رأس مال السلم إذا كان جُزافاً هل يصح السلم، والجامع بين العقدين أن السلم عقدُ غررٍ، وكذلك الإجارة عقدُ غرر؛ فإنّ المنافعَ توجد شيئاًً، فشيئاًً، ولا يستقر الضمان ما لم تنقض المدة في يد المكتري، وقد [يعرض] (1) تلفُ العين المستأجرة، وانفساخُ الإجارة في المدة المستقبلة، ثم تمس الحاجة إلى توزيع الأجرة المسماة على ما مضى وبقي، فإذا لم تكن الأجرة معلومةً، جَرَّ ذلك خبطاً وجهالة يعسر دفعُها.
والفقه في العقدين أنهما جُوَّزا على حسب الحاجة، واحتمل فيهما من الغرر ما يليق بقدر الحاجة، [فما] (2) يفرض زائداً على مقدار الحاجة [فسد وأفسد] (3) . هذا قولنا في الأجرة.
5093- فأما المنافع، فمذهب الشافعي أن المستأجر يملكها بالعقد، ومعنى ملكه لها أنه يستحق على مالك الدار توفيةَ المنافع، من عين الدار، وهذا الاستحقاق يضاهي من وجهٍ استحقاقَ الديون؛ من حيث إن المنافع ليست موجودة، ونحن نقضي بالملك حملاً على الاستحقاق، كما نقضي بكون الدين مملوكاً لمستحقه، وإن لم نكن نعني به استحقاقَ عينٍ موجودة في الحالة الراهنة، ولكنّ الدين لا يتعلق بعين، والمنافع تستحق من عينٍ مخصوصة. وقد قررنا ذلك في (الأساليب) .
5094- ثم إذا قبض المستأجر العينَ المستأجرةَ، ثبت حكم الملك، والقبضِ في
__________
(1) في الأصل: يفرض.
(2) في الأصل: وما.
(3) عبارة الأصل: يفسُد ويُفسِد.(8/82)
منافع [العين] (1) المستأجرة، وآية ذلك أنه لو أصدق امرأةً سكنى دارٍ مدةً معلومة، وسلم الدار إليها؛ فإنه يستحق عليها تسليمَ النفس.
ولو فُرض ما ذكرناه نجْمَ الكتابة، فالمكاتب يعتِق. لكن لا ينتقل الضمان إلى المستأجِر؛ فإن العين المستأجرة لو تلفت بعد قبض المستأجر، انفسخت الإجارة في المدة المستقبلة، فالقبض في العين وإن كان يؤثر في تأكيد حق المستأجِر، وتسليطه على الإجارة، فلا يتضمن نقلَ الضمان عن المُكري بالكلّية، ولا تنقطع العلائق بالكلية؛ فإن القبضَ في المنافع لم يحصل محسوساً، وإنما حصل حكماً.
ومن الدليل على بقاء العُلقة أنه يجب على المكري السعيُ في إدامة يدِ المستأجر على العين المستأجرة، حتى لو استرمّت الدارُ المكراة ولوْ لم تُعمَّر، لَعسُر استيفاء المنفعة، فيجب على المُكري أن يعمّرها، كما سيأتي ذلك مشروحاً في موضعه، إن شاء الله عز وجل.
5095- ثم المذهب الأصح أن المستأجِر لو أراد أن يُكري الدارَ المستأجرةَ قبل قبضه إياها، لم يجد إلى ذلك سبيلاً، وإنما يتسلط على إجارتها إذا قبضها. وقبضُه يؤثر في تسليطه على الإجارة، ولا يقطع عُلقة الضمان عن المكري؛ لأن العين المستأجرة، لو تلفت بعد القبض، حُكم بانفساخ الإجارة.
وأبعد بعض أصحابنا، فجوّز للمستأجر إجارة العين المستأجرة قبل القبض، فإنّ قبض العين إذا كان لا ينقل الضمان على الحقيقة، ولا يقطع عُلقةً من المكري، فلا أثر لهُ في التسليط على الإجارة، فكما تصح الإجارة من المستأجر بعد قبض العين، فكذلك يصح ذلك منه قبل القبض.
__________
(1) في الأصل: الدار.(8/83)
فصل
قال: " فإن قبض العبدَ، فاستخدمه، أو المسكن، فسكنه ... إلى آخره " (1) .
5096- قد ذكرنا أن القبض في العين المستأجرة لا ينقل الضمان عن المكري، وإن كان يُبيح التصرفَ للمكتري، فإذا استأجر عبداً وقبضه، فتلف، نُظر: فإن تلف كما (2) قُبض، ولم ينقضِ [من] (3) مدة الإجارة شيء به اعتبار؛ فإن الإجارة تنفسخ، وترتدّ الأجرة.
وإن مضى بعضُ المدة في يد المستأجر، ثم تلفت العين، فالإجارة تنفسخ في المدة الباقية المستقبلة.
وهل نقضي بانفساخها في المدة الماضية؟ فعلى قولين: أظهرهما وأشهرهما - أنها لا تنفسخ في المدة الماضية؛ فإن المنافع صارت مستوفاة فيما مضى تحت يد المستحِق، ثم فاتت من ضمانه واستحقاقه، فلا ينعطف انفساخ العقد عليه.
والقول الثاني - وهو ضعيف مزيف، أن الإجارة تنفسخ فيما مضى. وهذا القول يجري فيه إذا اشترى عبدين، وقبض أحدَهما، وتلف في يده، ثم تلف العبدُ الآخر في يد البائع، فالبيع ينفسخ في العبد الذي تلف في يد البائع. وهو نظير الإجارة في المدة المستقبلة في مسألتنا. وهل نحكم بانفساخ البيع في العبد الذي قبضه المشتري وتلف في يده؟ المذهب أنا لا نحكم بذلك؛ لتلفه تحت يد المستحق.
وفيه قولٌ بعيد أنا نحكم بانفساخ العقد فيه.
التفريع على القولين في الأجارة:
5097- فإن حكمنا بأن الإجارة تنفسخ في المدة الماضية بانفساخها في المدة المستقبلة، فترتد الأجرة المسماة بكمالها على المستأجر، ويغرَم [المستأجر] (4)
__________
(1) ر. المختصر: 3/81.
(2) "كما" بمعنى "عندما".
(3) ساقطة من الأصل.
(4) مزيدة من: (د 1) .(8/84)
للآجر قيمةَ ما تلف في يده، وهو أجرة مثل المنافع في الزمان الماضي.
وإن حكمنا بأن الإجارة لا تنفسخ في المدة الماضية، ولا يقع الانفساخ فيها، فهل يثبت للمستأجر الخيارُ في فسخ الإجارة؟ فعلى قولين: أصحهما - أنه لا يثبت خيارُ الفسخ فيها؛ فإنها لو قبلت الفسخَ إنشاءً بسبب الخيار، لقبلت الانفساخ.
والقول الثاني - أنه يثبت خيار الفسخ فيها لتبعّض الأمر وانفساخه، وخيار الفسخ أعم من الانفساخ؛ فإنه يثبت لا محالة، حيث لا يثبت الانفساخ وقوعاً.
5098- فإذا انتهى التفريع إلى التبعيض، وهو الجواب الصحيح، وأردنا أن نبُقي العقدَ وحُكمَه في الزمان الماضي، ونقضي بانفساخه في الزمان المستقبل، فلا ننظر في ذلك إلى مقدار الزمان، حتى إذا كان مضى نصفُ المدّة، وبقي نصفُها، فلا نحكم بالانفساخ في النصف وبقاء العقد في النصف، ولكن ننظر في أصل التوزيع إلى أجرة المثل، فإن كان مثل ما مضى كأجر مثل ما بقي، نصّفْنَا، وقضينا بانفساخ العقد في النصف، واستقراره في النصف.
وإن كانت الأجرة (1) للزمان الماضي أكثرَ، [لوقوع ذلك الزمان في موسم يكثر في مثله الرغبات] (2) في منافع العين، وكان (3) أجر مثل ما بقي أقل، ضبطنا النسبة (4) ، ونسبنا ما بقي إلى ما مضى وأجرينا الحكم على حسب ذلك.
فإذا كان أجر مثل الماضي ثلثين، وإجر مثل الباقي ثلثاً، قضينا باستقرار العقد في ثلثي المعقود، واستقر بحسب ذلك ملكُ الآجِر في ثلثي الأجرة المسماة، ونحكم بانفساخ الإجارة في الثلث، فيسترد المستأجر ثلثَ الأجرة المسماة.
وكذلك الاعتبار لو كان الأمر على العكس في ذلك، وكانت أجرة مثل ما مضى مائة، وأجرة مثل ما بقي مائتين والأجرة المسماة خمسمائة، فيستقر ثلثها، ويرتد ثلثاها إلى المستأجر لمكان الانفساخ في المدة المستقبلة.
__________
(1) عبارة (د 1) : وإن كانت أجرة المثل في الزمان الماضي..
(2) عبارة الأصل: مثل الزمان في الموسم، فإنه تكثر الرغبات.
(3) عبارة (د 1) : وكانت أجرة المثل فيما بقي أقل.
(4) (د 1) : ضبطنا التقسيم.(8/85)
وتفاوت الأجرة في المدتين كتفاوت القيمة في عبدين يشتريهما، ويقبض أحدَهما، ويتلف في يده، ثم يتلف الثاني في يد البائع، فينفسخ البيعُ في العبد التالف في يد البائع، ويستقر في العبد الذي قبضه المشتري وتلف في يده، والرجوع إلى القيمتين في العبدين قراراً وانفساخاً. ووضوح ذلك يغني عن مزيد الشرح فيه.
وهذا كله فيه إذا استأجر عيناً، وقبضها، ثم تلفت في يده تحقيقاً، كالعبد يتلف في يد المستأجر، وهو موْرد العقد.
5099- فلو استأجر داراً، وقبضها، ثم انهدمت في يده بعد مضي مدة كما سبق تصويرها، فالذي ذهب إليه الجماهير أن الإجارة تنفسخ بانهدام الدار في المدة المستقبلة، كما تنفسخ بموت العبد المستأجَر. والكلام في انفساخها أو فسخها بالخيار في المدة الماضية على التفصيل الذي تقدم ذكره.
وذهب بعض القياسين من الأئمة إلى أن الإجارة لا تنفسخ بالانهدام [في] (1) المستقبل، فإن المنافع لا تزول بالكلية؛ إذ العرصةُ باقية، والانتفاع بها سُكُوناً (2) ممكن على الجملة، وليس كموت العبد المستأجَر؛ فإن موته يزيل وجهَ الانتفاع بالكلية.
فإن جرينا على ما ذهب إليه الأصحاب في الانهدام، فالتفريع في التوزيع كما تقدم في تلف العبد.
وإن لم نجعل الانهدام بمثابة التلف، فإنا نجعله بمثابة تعيّب المعقود عليه، ولو تعيّب، لثبت للمستأجر حقُّ الخيار. فإن أجاز العقدَ، استقرت الأجرة المسماة بكمالها للمكري، ولم يملك المستأجر استرداد شيء منها، لرضاه بالعيب، ولا يخفى نظير ذلك في المبيع إذا وقع الرضا [بعيبه] (3) .
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) سكوناً: أي سكناً، وهذا الاستعمال واردٌ في كلام الغزالي أيضاً وغيره من الفقهاء، ولم أعثر عليه في المعاجم، ولم أجد أحداً ممن يشتغلون بعلوم اللغة سمع به، بل كانوا جميعاً يستغربونه، ويعجبون منه.
(3) في الأصل: بعينه، و (د 1) : بدون نقط.(8/86)
وإن فسخ العقدَ، انفسخ بفسخه في المستقبل، وعاد التفريع على التوزيع الذي قدمناه في المدة الماضية والمستقبلة.
والانهدامُ إذا لم يكن تلفاً عند هؤلاء، فهو كالتعيب في المعقود عليه، وليست العَرْصة الباقية مع السقوف التالفة بمثابة عبدين استأجرهما، وتلف أحدهما وبقي الثاني.
5100- وقد ذكرنا في أحكام البيع أن من اشترى داراً واحترق سقفها في يد البائع، فيكون ذلك كتعيّب المبيع في يد البائع، أم يكون كتلف بعض المبيع، حتى نقول (1) : السقف مع بقاء العرصة بمنزلة تلف أحد العبدين المبيعين مع بقاء الثاني؟ فيه اختلاف مشهور، تقدم ذكره في كتاب البيع. وهذا الاختلاف لا يجري في الإجارة.
فإن حكمنا بأن انهدام الدار بمثابة تلف العبد المستاجَر، فلا كلام. وإن لم نجعله تلفاً في جميع المعقود عليه، لم (2) نقل: تَلِفَ بعضُ المعقود في الإجارة، وبقي البعضُ. والفرق بيّنٌ بين العقدين: الإجارة والبيع؛ فإن الغرض من البيع المالية، فلا يمتنع أن يكون للسقف جزءٌ معلوم من المالية، ولا يتحقق مثل ذلك في الإجارة.
وهذا بينٌ للمتأمل لا خفاء به.
5101- ومما فرعه الأئمة في ذلك أن قالوا: من استأجر عبداً مدةً معلومة، وقبضه، ثم إن المستأجر أتلفه بنفسه، فالإجارة تنفسخ بفوات العبد بهذه الجهة، كما تنفسخ إذا مات حتف أنفه، أو قتله أجنبي، وليس ذلك كما لو اشترى عبداً وأتلفه؛ فإنا نجعل إتلافه إياه قبضاً منه، كما تقدم تقريره، في كتاب البيع، ولا نجعل إتلافَ المستأجِر للعين بهذه المثابة.
والفرق أن إتلاف المشترى يرِد على عين المعقود عليه، فيقع قبضاً لما تقدم ذكره (3) في البيع. وإتلاف المستأجَر (4) لا يرد على المعقود عليه في الإجارة؛ فإن
__________
(1) (د 1) : ننزل السقف مع العرصة منزلة.
(2) (د 1) : ثم.
(3) (د 1) : تقريره.
(4) (د 1) : المشتري.(8/87)
المقصود فيها المنافع، والإتلافُ لا يتناولها. نعم يمتنع بسبب إتلاف العبد وجودُ منافعه في المستقبل، فالحكم إذاً ما ذكرناه من الانفساخ، كما لو مات العبد بنفسه، أو قتله أجنبي.
5102- قال القاضي إذا استأجر داراً، وقبضها، وعابت الدار في يده، فإنا نُثبت له حقَّ الفسخ، كما سنشرح ذلك في مسائل الكتاب، إن شاء الله تعالى.
فلو أنّ المستأجر عيّب تلك الدارَ بنفسه، والتزم أرش النقص بسبب جنايته، فله حق فسخ الإجارة؛ فإن العيب قد وقع، فلا نظر بعد وقوعه إلى جهة الوقوع؛ بناء على ما مهدناه في التلف؛ فإنه يوجب الانفساخ، سواء وقع أو أوقعه المستأجر قصداً.
[فالقول] (1) في وقوع العيب كالقول في وقوع التلف.
وهذا الذي ذكره منقاسٌ حسن، لا ينقدح في الفقه غيرُه.
ولكن قد يختلج في صدر الفقيه خلافُه؛ من جهة أنه المتسبب إلى إيقاع هذا العيب، وهذا الاحتمال لا يظهر في الإتلاف؛ (2 من جهة أن المنفعة قد فاتت بالإتلاف 2) ، ولم يصادفها في عينها إتلاف، والمنفعة في مسألة التعييب لم تفت، وإنما طرأ عليها عيبٌ، والمستأجِر (3) سببه، فلا يبعد ألا يثبت الخيار.
5103- وقال القاضي مفرعاًعلى ما ذكره: إذا (4) جعلنا طريان الجَبّ على الزوج مثبتأ للمرأة حقَّ الفسخ، على التفصيل الذي سيأتي ذكره في كتاب النكاح، إن شاء الله تعالى، في الفرق بين ما قبل المسيس وبعده، فلو (5) جبَّت المرأةُ بنفسها زوجَها ينبغي أن يثبت لها الخيار في الفسخ، وإن حصل العيب بجنايتها، وفعلها.
وهذا الذي ذكره جارٍ على قياسه الفقيه الذي مهده، وفيه الاحتمال الذي ذكرناه،
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) ما بين القوسين سقط من (د 1) .
(3) (د 1) : فالمستأجر.
(4) سقطت من (د 1) .
(5) جواب (إذا) .(8/88)
وقد [يعتضد] (1) الاحتمال بشيء، وهو أن المرأة لو أخّرت حق الفسخ مع التمكن منه، فقد نجعل ذلك سبباً في بطلان حقها، فإذا كان يبطل حقها بالتأخير لإشعاره برضاها بالمقام تحت الزوج المجبوب، فإقدامها على الجب لأن (2) يدل على رضاها أولى.
هذا وجهٌ، والأوجه الأفقه ما ذكره القاضي.
فصل
قال: " ولا تنفسخ بموت أحدهما ما كانت الدار قائمة ... إلى آخره " (3) .
5104- مذهب الشافعي أن الإجارة لا تنفسخ بموت أحد المتعاقدين، إذا بقيت العين المستأجرة، فلا نقضي بانفساخها بموت الآجِر، ولا بموت المستأجر؛ فإن الإجارة معاوضةٌ لازمة، فإذا لزمت، لم يتضمن موتُ أحد المتعاقدين انفساخَها، كالبيع.
وأبو حنيفة (4) خالف في ذلك.
ولو أجر الحرُّ نفسَه، ثم مات، فالإجارة تنفسخ لفوات المعقود عليه، لا لفوات العاقد.
والإجارة فيما ذكرناه تضاهي النكاح في القاعدة، فإذا زوّج السيد أمته من إنسانٍ، ثم مات السيد، وبقيت الأمة المزوّجة وزوجُها، فالنكاح قائم، ولا يؤثر فيه تلفُ السيد المزوَّج، وإذا مات أحد الزوجين، فموته يضاهي موت المعقود عليه في الإجارة، ولكن لا ينفسخ النكاح بموت أحد الزوجين، بل ينتهي نهايته؛ فإن النكاح معقودٌ للعمر، فإذا تصرّم، كان منقضَى العمر منتهى النكاح.
__________
(1) في الأصل: يقتضيه.
(2) (د 1) : لا يدل.
(3) ر. المختصر: 3/81. وفي الأصل: باقية، وفي (د 1) : مادامت باقية. والمثبت نص
المختصر.
(4) ر. حاشية ابن عابدين: 5/52.(8/89)
وإذا فاتت العين المستأجرةُ في أثناء المدة، فات بفواتها المنفعة المستحقة في بقية المدة؛ فإن الإجارة عقدت للمنفعة التي تحتويها المدة.
ثم ذكر الأئمة أحكاماً في طريان الملك على الإجارة، ونحن بعون الله تعالى نأتي بها موضّحة مشروحة إن شاء الله عز وجل.
5105- فنقول أولاً: من نكح أَمَةً، ثم ملكها بإرثٍ، أو اكتسابٍ، فينفسخ النكاح بطريان الملك على رقبة الزوجة، بلا خلاف.
ومن اكترى داراً اكتراءً صحيحاً، ثم ملك في أثناء المدة رقبةَ الدار بإرثٍ، أو اكتسابٍ، فهل نقضي بانفساخ الإجارة في بقية المدة، فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - أنا نحكم بالانفساخ قياساً على النكاح؛ إذ لا خلاف أن طريان الملك على الزوجة يتضمن انفساخَ الزوجيّة، والجامع أن ملك اليمين يُثبت استحقاق منفعة البضع، والنكاحُ يتضمن ذلك، فيستحيل (1) أن يستحق منفعةَ البضع بجهتين. وملكُ الرقبة لا سبيل إلى درائه (2) ودفْعه، فاقتضى ذلك انقطاعَ النكاح. فكذلك ملك الرقبة يتضمن ملك المنفعة، والإجارة تقتضي ملكَ المنفعة، فلا يسوغ اجتماعُ موجبي الاستحقاق في شيء واحدٍ.
5106- ومن أصحابنا من قال: لا تنفسخ الإجارة بطريان الملك على الرقبة، بل تبقى على مقتضاها، كما سنبين حكمَ بقائها بالتفريع، إن شاء الله تعالى.
ولو أكرى الإنسانُ داره، ثم إن المالكَ المكري اكترى تلك الدارَ من المكتري، ففي صحة ذلك وجهان [مأخوذان] (3) مما تقدم ذكرُه. فإن جعلنا ملك الرقبة والاستئجارَ نقيضين، لم تصح الإجارة، وإن حكمنا بأنهما لا يتناقضان، وإذا طرأ الملك على الرقبة، بقيت الإجارةُ، فنحكم بأنه يصح من المالك أن يُكريَ ملكه، ثم يكتريه من المكري.
__________
(1) في (د 1) : ويستحيل.
(2) درائه: أي درئه، ويستخدم الإمام دائماً، بل غالباً هذا الوزن (دراء) مكان الدّرء.
(3) ساقطة من الأصل.(8/90)
5107- فإذا ثبت ما ذكرناه، فنقول في التفريع: من اكترى داراً سنةً، ثم ملكها في أثناء السنة، فإن حكمنا بأن الإجارة لا تنفسخ في بقية المدة، فلا يسترد [المكتري] (1) شيئاًً من الأجرة؛ فإن الإجارة قائمة، ولو انقطع الملك الطارىء في رقبة الدار بسببٍ مثل أن يشتري المستأجر الدارَ، ثم يطلع على عيبٍ قديمٍ يُثبت مثلُه حقَّ الفسخ في البيع، ولا يُثبت حق الفسخ في الإجارة، فإذا فُسخ البيعُ بالعيب، فالإجارة باقية كما كانت، فيتمسك بالدار بحق الإجارة إلى انقضاء المدة.
وإن حكمنا بانفساخ الإجارة بسبب طريان الملك على الرقبة، فإذا رد المبيعَ بالعيب، فالإجارة لا تعود بعد انفساخها. وهذا بيّن لا شك فيه.
5108- ثم إن ابنَ الحداد فرّع على هذا الأصل، واختار أن طريان الملك على الرقبة يوجب انفساخ الإجارة، وقال (2) بعد هذا الاختيار: إن حصل الملك في الرقبة قهراً بالإرث، وحكمنا بانفساخ الإجارة، فالمستأجر يرجع بقسطٍ من الأجرة في مقابلة المدة المستقبلة، ولو حصل له الملك باختياره، فاشترى الدار المستأجرة، فالإجارة تنفسخ، كما ذكرناه في اختيار ابن الحداد. ثم قال: لا يسترد من الأجرة شيئاًً، واعتلّ بأن الانفساخ ترتب على اختياره لمَّا تملّك الرقبةَ قصداً، وإذا كان حصول ذلك مترتباً على الاختيار كما ذكرناه، فهو المتسبب إلى رفع الإجارة في المستقبل، من غير سببٍ خاص يُثبت حقَّ رفع الإجارة، كالرد بالعيب المؤثر في مقصود الإجارة، فلا يثبت له حق استرجاع الأجرة في المستقبل (3) .
5109- وهذا الذي ذكره ضعيف، خارج عن قياس الفقه خروجاً ظاهراً؛ فإن الإجارة إذا انفسخت، فلا أثر للقصد، وعدم القصد في سبب ارتفاع الإجارة.
[وسنذكر هذا الفرع لابن الحداد مستقصىً في آخر المزارعة من هذا الكتاب، إن شاء الله تعالى] (4) .
__________
(1) في الأصل: المكري.
(2) (د 1) : وقال ابن الحداد.
(3) سيأتي مزيد شرح، وتفصيل لفروع ابن الحداد في آخر كتاب الإجارة.
(4) ما بين المعقفين سقط من الأصل.(8/91)
وليت شعري ماذا يقول ابن الحداد فيه إذا هدم المستأجر الدار المستأجرة، أو قتل العبدَ المستأجر، فهو المتسبب إلى انفساخ الإجارة قصداً، فقياس ابن الحداد أنه لا يسترد من الأجرة شيئاًً في مقابلة المدة المستقبلة. وهذا إن قال به في نهاية البعد.
5110- ثم فرق ابن الحداد بين طريان الملك القهري، وبين طريان الملك على سبيل الاختيار، فحكم بأن الملك إذا كان قهرياً، وترتَّب عليه انفساخ الإجارة، فيثبت (1) حق استرداد الأجرة في المستقبل، بخلاف ما لو حصل الملك باختياره، واستشهد الأصحاب لما ذكره من الفصل بين القهر والاختيار بأصلٍ يناظر ما نحن فيه من النكاح، وهو أن من نكح أمةً، ثم ورثها قبل المسيس، وانفسخ النكاح، فلا يثبت من مهرها شيء، ولو اشترى زوجته قبل المسيس تشطّر المهرُ، كما لو طلّق قبل المسيس، فرقاً بين أن يختار سبب الفسخ، وبين أن يقع من غير اختياره.
وهذا التفريع من ابن الحداد والفرق (2) بين الملك القهري، وبين الملك الاختياري ساقط لا أصل له، ويلزمه بحسبه أن يقول: لو أتلف المستأجر [العين المستأجرة، لم يسترد من الأجرة شيئاًً، لمكان اختياره؛ بخلاف ما لو تلفت] (3) العين بنفسها، فإن (4) ارتكب ذلك طرداً لقياس مذهبه، رجع الكلام معه إلى إفساد أصل مذهبه، وإن سلم ذلك، لم يجد فصلاً.
هذا تمام البيان في طريان ملك الرقبة على مدة الإجارة.
5111- ومما يتصل بما نحن فيه أن المالك إذا أجر الدار، ثم أراد بيعها، ففي بيع الدار المكراة قولان مشهوران، سيأتي ذكرهما، إن شاء الله تعالى، ولكنا نشير إليهما لغرضٍ لنا ناجزٍ في الفصل.
فإن قلنا: لا يصح البيع، فلا كلام.
__________
(1) (د 1) : يثبت.
(2) (د 1) : في الفرق.
(3) ما بين المعقفين سقط من الأصل.
(4) (د 1) : وإن.(8/92)
وإن قضينا بصحة البيع، فالإجارة لا تنفسخ، ويجب الوفاء بها إلى انقضاء مُدتها، فإن أقدم المشتري على الشراء عالماً بأنها مستأجرة، فلا خيار له، وإن اطلع على ذلك بعد الشراء، فله خيار الفسخ.
ولو باع مالك الدار الدارَ من المستأجر، صح بلا خلاف، سواء قلنا: إن طريان الملك على الرقبة يوجب انفساخ الإجارة، أو قلنا: تبقى الإجارة. فأما إن حكمنا بانفساخ الإجارة، فقد زال المانع (1) .
وإن حكمنا ببقائها، فسبب القطع بصحة البيع أن الحق لا يعدوهما، وإن كنا نمنع بيع المكري لمكان يد المكتري وتعذّر إزالة يده؛ فاليد فيما نحن فيه للمشتري، فإنه المكتري.
5112- فإذا وضح الحكم بصحة البيع من المكتري، فنقول بعد ذلك: إذا صححنا البيع في صورة القولين، والمكتري غير المشتري، فلو فسخ المكتري الإجارة بسببٍ، فالدار تسلم إلى المشتري أم للبائع الاستمساكُ بمنافع الدار إلى انقضاء مدة الإجارة؟ فعلى وجهين: أحدهما - أن الدار تسلم إلى المشتري؛ فإن الحق في المنافع [كان] (2) للمكتري، وقد انقطع حقُّه، فصار كما لو اشترى داراً خليَّةً عن الإجارة.
والثاني - أن حق المنافع إلى تمام مدة الإجارة للبائع؛ فإن البيع ورَدَ والمنافعُ مستثناةٌ عن استحقاق المشتري، والردّ من المكتري على البائع، لا على المشتري، فيخلف البائعُ المكتري باستحقاق المنفعة.
5113- وهذا الخلاف ينبني على مسألةٍ، وهي أن الرجل إذا باع داراً واستثنى سكناها سنةً، ففي صحة البيع على هذا الوجه وجهان: أحدهما - أنه يفسد؛ فإنه يخالف موضوعَ البيع؛ إذ مقتضاه أن يملك المشتري المنافعَ بملك الرقبة.
والثاني - أنه يصح وتبقى المنافع المستثناة للبائع.
قال الأئمة: اختلاف القول في صحة بيع الدار المكراة يؤخذ من هذا. فإن قلنا:
__________
(1) المانع: تفويت المنفعة على المستأجر.
(2) في الأصل: كانت.(8/93)
لا يمتنع استثناء منافع الدار، فلا يمتنع بيع الدار المكراة، وإن قلنا: يمتنع استثناؤها، فيمتنع بيع الدار المكراة. وهذا الذي ذكره يقارب من طريق اللفظ، ولولا خبرٌ ورد في استثناء منافع المبيع، لما كان للاختلاف في استثناء المنافع وجه.
ولكن ورد خبرٌ (1) في جواز استثناء المنافع مدة يقع التوافق عليها، ومقتضى العقد في وضعه يخالف ذلك.
5114- ولا نعرف خلافاًً أنه لو باع أشجاراً، لم تثمر بعدُ، واستثنى ثمار تلك السنة، أو ثمار سنين، فلا يصح الاستثناء، وملك الرقبة يقتضي للمشتري استحقاقَ المنافع، كما يقتضي له استحقاق الزوائد والفوائد، فالحكم بفساد الاستثناء لا ينافي إجراء القولين في صحة بيع العين المكراة؛ فإن استحقاق المنافع بالإجارة تقدم على جريان البيع، ولم يُبعد تنزيلَ البيع على الرقبة، وإن كان لا يتأتى تسليم الدار على الفور إلى المشتري، كما لو باع الرجل داراً مشحونةً [بالأمتعة] (2) ، وكان لا يتأتى منه تفريغُها على الفور، ولو أقدم على التفريغ باذلاً جهده، لم يتأت إلا في مدة، فالبيع يصح؛ فإذاً القولان في بيع المكري لا يستدّ (3) أحدهما من مسألة الاستثناء لما نبهنا عليه.
فصل
5115- الإجارة عندنا لا تفسخ بالمعاذير، إذا لم يثبت في العين المستأجرة ما يقتضي الفسخَ، خلافاًً لأبي حنيفة (4) ، فإنه قال: تفسخ الإجارة بالمعاذير، فلو اكترى رجل حانوتاً ليحترف عليه، ثم بدا له الانتقالُ إلى سوقٍ آخر، فيفسخ به العقدَ، وكذلك إذا اكترى دابة للمسافرة، ثم انتقض عزمُه، فله الفسخ في تفصيلٍ لهم.
ونحن لا نرى الفسخَ بشيء من ذلك، وقد ألزمونا في أثناء الكلام مسألة مذهبية، لا بد من شرح القول فيها.
__________
(1) يشير إلى الخبر الذي جاء فيه أن جابراً رضي الله عنه باع في بعض الأسفار بعيراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يكون له ظهره إلى المدينة.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) يستدّ: أي يستقيم. والمعنى: لا يؤخذ أحدهما من مسألة الاستثناء.
(4) ر. مختصر الطحاوي: 130، حاشية ابن عابدين: 5/50.(8/94)
5116- فنقول: من استأجر من يقلع له سناً، نُظر، فإن لم يكن به وجع، فالإجارة فاسدة؛ لأن السن الذي لا وجع به يحرُم قلعه، كما يحرم قطعُ عضو من غير علّة، ولا ضرورة مرهقة. وإن كان السن وجِعاً وقال أهل الخبرة: قلعُه لا يُريح ولا يقطع الألم، فلا يجوز الاستئجار، والحالة هذه. ولو قيل: قلعُ السن يريح من الألم، فيسوغ القلع. وهذا فيه إذا عظم الوجعُ، وصعب احتمالُه. وقد يؤدي إلى السهر، ثم السهر عظيمٌ يجر أمراضاً صعبة.
فأما الوجع القريب، فلا يجوز قلع السن لأجله.
ومن هذا القبيل قطعُ اليد المتآكلة إذا قال أهل الصنعة: إن الأكَلَة تترامى وتتقاذف لو لم تقطع اليد، ثم إنما ينفع القطع إذا أخذ القاطع شيئاًً من الصحيح، وإن قلّ.
وكان شيخي أبو محمد يحكي في هذا اختلافاً، من جهة وضع الحديدة على المحل الصحيح، والقطع في نفسه مهلك، ولعله أرجى من الأكلة. وأما السن الوجِع، (1 فليس في قلعه قطعُ ما لا وجع به، فإن جوّزنا قطع اليد المتآكلة، كما يجوز قلعُ السن الوجع 1) فقد قال الأئمة: يحق بذل مالٍ لمن يقلع السن.
5117- واختلفوا في أن سبيله سبيل الجِعالة (2) ، أم سبيله سبيل الإجارة؟ فمنهم من قال: هو جعالة، فإن الوجع قد يسكن في أثناء الأمر، وإذا سكن، لم يجز القلع، وليس فتور الوجع أمراً بدعاً غريباً، فجواز العمل ليس موثوقاً به، والإجارة إنما تصح في عمل موثوقٍ به، أما الجعالة مبناها (3) على الغرر، [وترقُّب] (4) ما يكون.
ومنهم من قال: لا يمتنع الاستئجار عليه؛ فإن القلع في نفسه فعلٌ معلوم، وإمكانهُ ظاهر، وفتور الوجع في الزمان الذي يتأتى فيه القلع بعيد، ولا يشترط في
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (د 1) .
(2) الجعالة: بالكسر، وفيها التثليث.
(3) مبناها: جواب أما بدون الفاء، كما نبهنا على ذلك مراراً.
(4) في الأصل: فيرقب.(8/95)
صحة الإجارة القطعُ بسلامة العقد عمّا يُنافيه، ويطرأ عليه؛ فإن الإجارة الصحيحة متعرضة لتقدير الطوارىء.
5118- وأما قطع اليد المتآكلة إن جوزناه، فيظهر جواز الاستئجار فيه، وذلك أن الذي اعتمدناه في منع الاستئجار على قلع السن إمكان فتور الوجع، ولا إمكان في اليد المتآكلة؛ فإنا على تحقيقٍ نعلم أن الأكلة لا تزول في الزمان الذي يُفرض فيه عقد الإجارة على القطع، وليس لقائلٍ أن يقول: القطع في نفسه مما لا ينضبط؛ فإنه مضبوط، ولو لم يكن منضبطاً، لما جاز. فإذا جوزناً القطعَ، وجب أن يجوز الاستئجار عليه.
5119- فإن قيل: معتمد من منع الاستئجار على قلع السن أن الوجع قد يفتر، ويمتنع القلع، فقولوا على حسب ذلك: من استأجر امرأة على كنس المسجد، وهي مُشفيةٌ (1) على دَوْر حيضها، لا يجوز استئجارها، لظهور الاحتمال في طريان الحيض، والسؤال مفروض في الاستئجار على الكنس في زمان معين.
قال القاضي: لا نص في هذه المسألة. ولو قلنا: لا يصح الاستئجار إذا صور المصور مسألته على التضييق الذي وصفناه، لم يمتنع، ولا يمتنع الفرق أيضاًًً؛ فن الكنس على الجملة أمر جائز، وإنما الكلام فيمن يتولاه، ولا ثقة بأدوار النسوة (2) ، فيحمل الأمر على الظاهر.
فإن قيل: هلا قلتم: إن من استأجر امرأةً حائضاً على كنس مسجدٍ، ففعلت، فقد عصت، ولكنها وفت العمل المستحق عليها بالإجارة؟ قلنا: هذا لا سبيل إليه؛ فإن كنس الحائض في زمان الحيض حرام في نفسه، والاستئجار على الحرام باطل.
5120- وقد يتصل بهذا الفصل إشكالٌ نبيّنه من بعدُ، إن شاء الله تعالى.
وهو أن من استأجر شخصاً لكنس دارٍ معينة، ثم أراد أن يستعمل ذلك الأجير في
__________
(1) مشفية: من أشفى على الشيء أشرف عليه وقاربه. (مصباح) .
(2) (د 1) : النسوية.(8/96)
كنس دارٍ أخرى تساويها، فكيف السبيل [فيه] (1) ؟ إن جوّزنا ذلك، فالتعيين إذاً لا حكم له، ومعقود الإجارة كنسُ بقعةٍ تساوي البقعةَ المذكورة في قدرها، ويلزم من مساق ذلك تصحيحُ الاستئجار على كنس المسجد، ثم تنزيل المعقود عليه على ما ذكرناه. وهذا مع ما يتصل به سنذكره من بعدُ، إن شاء الله عز وجل.
فصل
5121- الإجارة إذا أضيفت إلى مستأجَرٍ معين، فيجب اتصال الاستحقاق بالعقد، فلو وقعت الإضافة إلى زمانٍ منتظرٍ، لا يعقب انعقادَ العقد، والمستأجَر عينٌ، فإجارةٌ فاسدةٌ عندنا. وذلك إذا قال في رجب: أجرتك داري هذه شهراً مبتدؤه غرةُ شعبان، والمسألة خلافية مع أبي حنيفة (2) وإضافة العقد في المعيّن إلى زمانٍ سيأتي تتنزل (3) منزلة تعليق العقد عندنا على مجيء الوقت المذكور، فلا فرق بين أن يقول: أجرتك داري هذه الشهرَ الآتي، وبين أن يقول: إذا جاء [رأس] (4) الشهر، فقد أجرتك.
5122- واختلف أئمتنا فيه إذا أجر شيئاًً من شخصٍ، واستعقبت الإجارةُ الاستحقاقَ، ثم قال معه: إذا انقضت هذه المدة، فقد أجرتك هذه البقعةَ سنةً أخرى. فمنهم من قال: لا يصح ذلك. وهو القياس؛ لأنه تعليق العقد، والإجارة الثانية متميزة عن الأولى، وهي [مستأخرة] (5) كما ذكرناه، فلتبطل هذه الإجارة، كما لو لم تتقدّم الإجارةُ الأولى.
ومن أصحابنا من قال: تصح (6) الإجارةُ الثانية المترتبةُ على الأولى، إذا (7) اتحد
__________
(1) مزيدة من (د 1) .
(2) ر. مختصر الطحاوي: 131، ومختصر اختلاف العلماء: 4/128 مسالة: 1824.
(3) عبارة (د 1) : تنزل عندنا منزلة تعليق العقد على.
(4) سقطت من الأصل.
(5) في النسختين: مستأجرة بالمعجمة من أسفلها. والمثبت اختيار منا، لعله الصواب.
(6) (د 1) : لا تصح. (وهو سبق قلم) .
(7) (د 1) : واتحد.(8/97)
القائل؛ وذلك أن المنافع في حقه متواصلة الاستحقاق، لا تقطّع فيها، فلا فرق بين أن تفرض في عقدٍ واحدٍ أوْ عقود، وإذا أجر الرجلُ داراً سنة، فالشهر الأخير من السنة مستأخِر عن العقد، وكذلك كل جزء يتأخر عن الجزء المقترن بالعقد.
وهذا [لا] (1) أصل له. والصحيح الحكم بفساد الإجارة الثانية؛ نظراً إلى هذه الإجارة في نفسها، وما ذكرناه بجملته فيه إذا كانت الإجارة واردةً على العين.
5123- فأما إذا كانت واردة على الذمة، فلا يمتنع ثبوت الأجل فيه، وذلك بأن يقول: ألزمتُ ذمتك خياطةَ هذا الثوب غُرةَ شعبان، فالتأجيل غيرُ ممتنعٍ؛ فإن العمل المستحق دينٌ، والدين يتأجل ويحل.
5124- ويتعلق بالقاعدة التي نحن فيها تفصيل القول في كراء العُقَب (2) ، فله التفات على [تأخر] (3) الاستحقاق عن العقد، ونحن نستوعب ما فيه من الصور، ثم نذكر في كل صورةٍ ما يليق بها، إن شاء الله تعالى.
فمن الصور أن يضيف المستأجر الإجارةَ إلى دابةٍ معيّنة، ويقول: أركب هذه نصف الطريق وأسلّمها إليك نصفَها، فالذي سبق إليه المزني أوّلاً في هذه الصورة، وتابعه معظمُ الأصحاب عليه أن الإجارة فاسدة، في هذه الصورة؛ فإن مضمونها أن يركب على الاتصال مثلاً، ثم ينقطع استحقاق ركوبه، ثم يعود الاستحقاق بعد تخلّل قاطعٍ، والإجارة تبطل على هذا الوجه؛ فإن الاستحقاق الثاني غيرُ متصل بالأول، فيقع في حكم تأخر الاستحقاق عن العقد، واستئجار دابةٍ الزمانَ الآتي.
ومن أصحابنا من قال: الإجارة صحيحةٌ، ومعناها استئجار نصف الدابة على الشيوع، ومذهبنا أن الشيوع لا يمنع صحةَ الإجارة، كما لا يمنع صحة الرهن والهبة والبيع، فمقتضى (4) الإجارةِ استحقاقُ نصف منفعة الدابة، ثم حكم المهأياة بين
__________
(1) سقطت من الأصل.
(2) العُقب: جمع عقبة: وزان غرفة وغرف: وهي هنا النوبة، حينما يتعاقب الراكبون دابة الركوب (مصباح ومعجم) .
(3) في الأصل: أخر.
(4) (د 1) : ومقتضى.(8/98)
المستأجِر والمالك توجب التقطّعَ لا محالة، فرجع التقطّع إلى قسمة المنافع بالمهايأة، والعقد في أصله يضمن استحقاقَ نصف المنافع على الاتصال والاستعقاب (1) . وهذا منقدحٌ في القياس بالغٌ.
ونص الشافعي يدل على تصحيح كراء العُقب.
هذا ما ذكره الأئمة في هذه الصورة، وعلينا فيها فضلُ نظر.
5125- فنقول: هذه الصورة تنقسم قسمين: أحدهما - أن تعقد الإجارة على صيغة التقطيع، وتدرج هذه القضية في موجب العقد، مثل أن يقول: أركب هذه الدابة نصف المنزل، وأتركها إليك في الباقي، هذه صورة.
والأخرى - ألا يقع التعرض لذلك، بل يستأجر الرجل النصفَ من دابة.
فإن جرت صيغة التقطيع في صلب العقد، فميلُ الجمهور إلى الفساد، لما ذكرناه من التقطيع في الاستحقاق، وهؤلاء لا يرَوْن الإجارةَ واردة على [كل] (2) الدابة مع التقطيع الذي ذكرناه.
ومن أصحابنا من لم يجعل التقطيعَ محمولاً على حقيقته، وجعله عبارة عن الشيوع في الإجارة، ثم اعتقد أن الشيوع لا يمنع صحة الإجارة.
5126- ولو لم يقع في العقد تعرض للتقطيع، ولكنه استأجر نصف دابة معيّنة، فالذي ذهب إليه الجمهور صحةُ الإجارة، ثم المهايأة موقوفة في أصلها وتفصيلها على ما يقع التراضي به.
وغلا بعض أصحابنا، فلم يصحح الإجارةَ في العين المعينة إذا وقع التعرض إما باللفظ، وإما بقرينة الحال للركوب، فإن ذلك لا يتأتى إلا بالتقطيع، فيعود الكلام إلى التصريح بالتقطيع. وهذا القائل يقول: الشيوع لا يمنع صحةَ الإجارة ما لم يُردّ إلى ما ذكرناه من تقطيع الاستيفاء، فإذا علمنا أن الاستيفاء لا يتصور إلا مقطَّعاً، حكمنا بالفساد.
__________
(1) والاستعقاب: ساقطة من (د 1) .
(2) مزيدة من (د 1) .(8/99)
5127- وهذا وإن كان يتأتى توجيهه بعيدٌ عن مذهب الشافعي مخالف لنصه.
فإن قيل: فمتى يجوّز هذا القائل استئجارَ الجزء الشائع؟ قلنا: إنما نجوّزه إذا كان لا يحتاج إلى التقطيع في توفية المنافع، كالذي يستأجر جزءاً من دارٍ، ويتأتى منه مساكنة غيره من غير فرض مهايأة.
وهذا خبطٌ وتخليط. والصحيح (1) التصحيحُ، إذا لم يجْر لفظُ التقطيع في العقد، فهذا بيان صورة واحدةٍ، قسمناها، وفصلنا (2) ما قيل فيها.
5128- فأما إذا استأجر رجلان دابة معينة على أن يتعاقبا، ويتناوبا في الركوب، فهذا ينقسم أيضاًًً: فإن لم يتعرضا للتناوب وذكر التعاقب، ولكنهما استأجرا دابة معينة عن مالكها، فلا يجوز أن يفرض في ذلك اختلاف.
والوجهُ القطع بصحة الإجارة. ثم إنهما إن أرادا المهايأة أجرياها على حسب التوافق، وأصل العقد وارد على استعقاب العقد الاستحقاقَ.
وشَبّبَ بعضُ الضَّعَفةِ من الأصحاب بفساد الإجارة؛ لأنهما يستحقان المنافع، واستيفاؤها على هيئة التقطّع لو صحت الإجارة، والتقطّع يُفضي إلى استئخار الاستحقاق، وهو مفسد عند الشافعي.
وكأن هذا القائل لا يصحح الإجارةَ على نعت الشيوع، إلا حيث يُتصور الوصول إلى الانتفاع على الاشتراك، من غير تقطيع، وهذا كالرجلين يستأجران بعيراً على أن يحمّلاه محمَلاً ويركبانه جميعاً، فهذا مسوغٌّ لا دافع له، فأما إذا كان لا يتأتى اجتماعهما للركوب (3) والانتفاع، وكان سبيل الانتفاع التعاقب، فالإجارة فاسدة؛ فإن العقد إنما يصح إذا كان يصح استيفاء المعقود فيه (4) على وجه يطابق الشريعة.
هذا إذا استأجرا على الشيوع، ولم يتعرضا في العقد لصيغة التقطيع.
__________
(1) عبارة (د 1) : والصحيح إذا لم يجر لفظ التقطيع في العقد - أنه يصح.
(2) (د 1) : وفصلناها من قيل فيها.
(3) (د 1) : في الركوب.
(4) (د 1) : عليه.(8/100)
5129- فأما إذا تعرضا للتقطيع، فقالا: يركب زيد هذا شطر المرحلة، ثم يركب عمرو هذا، فإذا جرى العقد كذلك، فمن قطع بصحة الإجارة الواردة على الإشاعة من غير تقطيعٍ في اللفظ والصيغة، يجعل في هذا العقد وجهين، لما فيها من التصريح بالاستئخار، حتى كأن مضمونَها أن كل واحدٍ استأجر جملةَ الدابة في بعض المرحلة.
هذا منتهى البيان في ذلك.
5130- ثم نصَّ الشافعيُّ على صحة استئجار الرجلين الدابة على أن يركباها تعاقباً وتناوباً، ولفظه رضي الله عنه صالح لأن يُحمل على الاستئجار المطلق من غير تعرضِ لذكر التقطيع في صيغة العقد، وهو صالحٌ أيضاًً لذكر التقطيع في صيغة العقد.
ثم من تفريعه رضي الله عنه أنهما إذا كانا يتناوبان على الدابة، فينبغي أن يرعيا الإنصاف، والانتصاف، ومن مقتضى هذا ألاّ تطولَ مدةُ ركوب كل واحدٍ، فإن أحدهما إذا ركب فراسخ وصاحبه (1) يمشي فإذا أراد الركوبَ، وقد لحقه العِيُّ (2) والكلال، فيثقل بدنه على الدابة إذا ركب، وهذا مما يظهر أثره، وإذا كانا يتناوبان على أزمنة متقاربة بحيث لا ينتهي واحدٌ منهما إلى الكلال، فلا يؤدي إلى الإضرار بالدابة.
وهذا حسنٌ، لا بد من مراعاته، إلا أن يكون الذي يُطيل المشيَ لا ينتهي إلى العِيّ الذي يُفضي إلى ثقل البدن، وهذا يختلف باختلاف الأشخاص، واعتبارُه هيّن، إذا فهم المقصود.
__________
(1) (د 1) : فصاحبه إذا أراد الركوب..
(2) (د 1) : العياء. والعي والعياء بمعنى العجز، وإن غلب على الأول الاستعمال في وصف المرض الذي يعجز عنه الطبيب. وعلى الثاني الاستعمال في وصف من عجز عن البيان، ولم يهتد إلى الرأي، والمعنى المراد هنا كما هو واضح من السياق: العجزُ عن المشي، لا عن البيان (المعجم والمصباح) .(8/101)
فصل
قال: " وإن تكارى دابة من مكة إلى [بطن] (1) مَرّ، فتعدى بها إلى عُسفان ... إلى آخره " (2) .
5131- صورة المسألة أن يكتري دابة ليركبها إلى موضعٍ معلوم، فإذا انتهى إلى ذلك الموضع، وتعدّاه راكباً للدابة، وذلك بأن يكتريها للذهاب إلى ذلك الموضع فحسب، من غير رجوع من ذلك الموضع إلى مكان الإجارة، فإذا كان كذلك، فكما (3) انتهت الدابة إلى المنتهى المذكور، فقد انتهت الإجارة، ولا يجوز للمستأجر أن يركبها بعد ذلك، وعليه أن يسلمها للمالك إن كان معه المالك، أو إلى نائبه.
فإن لم يكونا حاضرين في ذلك المكان، سلّم الدابة إلى حاكم البقعة، فإن لم يتمكن من شيء من ذلك، فحكمه حكم المودَع إذا كان يضطر إلى مفارقة البلدة والانجلاء منها، وكان لا يجد من يودع الوديعةَ عنده، ولم يجد أيضاًًً حاكماً يراجعه، فلا وجه إلا أن يسافر بالوديعة، كذلك القول في المسافرة بالدابة بعد انتهاء الإجارة نهايتها، فيسوقها أو يقودها راجعاً، ولا ينتفع بها.
5132- فلو جاوز المكانَ المعلومَ، وتعدّاه راكباً منتفعاًَ بالدابة، فقد تعدى إذا فعل ذلك، وصار غاصباً للدابة، ودخلت في ضمانه فيغرَم أجر المثل بعد انتهاء الإجارة.
فإن تلفت الدابة في يده، ضمنها بأكثر قيمتها من يوم التعدي إلى يوم التلف، وكذلك يغرم أجر المثل لمدة العدوان، فلو رد الدابة إلى المكان المعلوم المعيّن في الإجارة، لم يخرج عن الضمان.
وهذا جارٍ على قياسنا؛ فإنا نقول: المودَع إذا تعدى في الوديعة، ثم كف عن
__________
(1) في النسختين (إلى مرّ) والزيادة من مختصر المزني. وبطن مَرّ: بفتح الميم وتشديد الراء: من نواحي مكة، عنده يجتمع وادي النخلتين، فيصيران وادياً واحداً. (ياقوت الحموي) .
(2) ر. المختصر: 3/83.
(3) "فكما": بمعنى (فعندما) .(8/102)
عدوانه، لم يعد (1) أميناً، وبقي ضامناً.
وأبو حنيفة (2) خالف في ذلك، وحكم بأن المودَع إذا ترك عدوانه، عاد إلى حكم الائتمان، ثم إنه مع المخالفة في هذا الأصل، وافق في أن المستأجر إذا جاوز بالدابة المنتهى المعلوم، وصار متعدّياً ضامناً، فإذا ردّها إلى ذلك المنتهى، لم ينقطع أثر العدوان، وتكلّف فرقاً لسنا له (3) الآن.
5133- ومما يتعلق بأصول هذا الفصل أن من اكترى دابة ليركبها إلى موضعٍ عيّنه، فلا يتعين الخروج في ذلك الصوب، فلو ركبها في صوب آخر، واستوت المسافتان، وتماثل المسلكان في السهولة والوعورة، فلا معترض، ولا بأس؛ فإن المنفعة هي المستحقة، والدابة متعيّنة، ولا يتعين جهة استيفاء المنفعة مع رعاية الاقتصار، فليس الصوب المعيّن معقوداً عليه، حتى يتخيل تعيّنه، ولهذا الأصل جوّز الشافعي أن ينيب المستأجرُ غيرَه مناب نفسه في الركوب إذا كان مثلَه، وجوّز أن [يُكري] (4) مستأجرُ الدابةِ الدّابةَ من غيره، على شرط استواء المستأجر الأول والثاني.
ولو استأجر ثوباً ليلبسه مدة، فله أن يُلبِسَه غيرَه، مع رعاية التساوي والاقتصاد.
ومنع أبو حنيفة (5) الاستنابة تبرعاً، وإجارةً في الحيوان والثوب، ووافق في العقار والدار، فجوز الاستنابة والإجارة من المستأجر.
5134- فإذا تمهد ما ذكرناه إلى أن الصوب المعين لا يتعين في الإجارة، فلو
__________
(1) لم يعد أميناً: بمعنى لم يرجع، ولا تعود له صفة الأمانة ومنصبها.
(2) ر. حاشية ابن عابدين: 5/26 آخر سطر، نقلاً عن الهداية، ومختصر اختلاف العلماء: 4/116- مسألة 1809.
(3) الفرق الذي يشير إليه إمام الحرمين، هو " أنه مأمور بالحفظ في الوديعة قصداً، فيبقى الأمر بعد العَوْد (أي إلى الأمانة والانكفاف عن العدوان) أما في الإجارة، والإعارة، فهو مأمور بالحفظ تبعاً للاستعمال، فإذا انقطع الاستعمال لم يبق هو نائباً ". ا. هـ من حاشية ابن عابدين: 5/26.
(4) في الأصل: يكون.
(5) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/116 مسألة 1808، وحاشية ابن عابدين: 5/18 سطر 13.(8/103)
استأجر دابة من مكة إلى مَرّ ظهران، فركب المستأجر إلى نصف الطريق، ثم عنت له حاجة في البلدة، فانعطف راجعاً، قلنا له: إن كنت استأجرت الدابة لتركبها أربعة فراسخ وعيّنت لانتهاء سفرك مرّ ظهران، فقد استوفيت ما استحققت؛ إذ ركبت ذاهباً، ومنعطفاً راجعاً أربعة فراسخ، فقد استقرت الأجرة، والدابة مردودةٌ على ربها.
ولو خرج نصفَ فرسخٍ من مكةَ، ثم انعطف على مكة، فقد استوفى ربعَ المنفعة.
فلو [اتجه] (1) في صوب [مَرّ] (2) ، فإذا طوى ثلاثة فراسخ، قيل له: انتهى استحقاقُك، فلا تتعدَّ موضعَك، فإن تعدَّيْته راكباً، كنت غاصباً، وعليك أجرُ المثل للزيادة، مع التعرض لضمان [الدابة] (3) .
وكل ذلك يخرج على ما مهدناه من أن الاعتبار بالمسافة، ولا أثر لتعيين الصوْب.
5135- ويعترض فيما نُجريه أنه إذا ذكر صوباً سهلاً معبّداً، ثم ركب الدابة في صوبٍ آخر وعرٍ، فهذا عدوان. وإذا فرض عيبُ الدابةِ أو تلفُها بسبب سلوك المسلك الوعر، كان هذا كما لو استأجر داراً ليسكنها، فأسكنها القصَّارين، والحدادين، فتزلزلت القواعد، واختلت، ففي ذلك كلامٌ مجموعٌ، يأتي من بعدُ، إن شاء الله عز وجل.
ولو استأجر دابةً إلى مَرّ ليركبها إليه، ثم يرجع، فهذا استحقاق الركوب، في ثمانِ (4) فراسخ، فإن من مكة إلى مَرّ أربعةَ فراسخَ، فالذاهب إليه والراجع طاوٍ ثمانِ فراسخَ، وما مهدناه من أن المرعِيَّ المسافةُ، لا الصوْبُ المعين، يقتضي أن يجوز
__________
(1) في الأصل: أتى.
(2) في الأصل: مرّة.
(3) ساقطة من الأصل.
(4) كذا في النسختين. وهذا لأنه نظر إلى لفظ الجمع، فعامله معاملة المؤنث، أما حذف الياء في (ثماني) ، فله وجه عند أهل الصناعة، جاء في أوضح المسالك، لابن هشام، قوله: "لك في (ثماني) فتح الياء، وإسكانها، ويقلّ حذفها مع بقاء كسر النون، ومع فتحها" أوضح المسالك: 172 طبعة مصطفى الحلبي.(8/104)
للمستأجر [أن] (1) يمرّ على الدابة ثمان فراسخَ في [أيّ] (2) صوبٍ.
ولكن يعترض فيه أنه إذا فعل هذا، وانتهى إلى منقطع الفراسخ الثمان، فإلى من تسلم الدابة، وكيف الطريق فيه؟ فنقول: إن رضي المالك بهذا، وصاحَب الدابةَ، أو أصحبها نائباً له، فلا امتناع، ولا عدوان، والدابة تسلّم عند منتهى الفراسخ الثمان إلى المالك، أو إلى نائبه من غير عدوانٍ، وهذا جرى بعد إيراد العقد على الذهاب إلى مَرّ والرجوع منه.
5136- ثم حكم هذه الصورة استقرار الأجرة المسماة لحصول استيفاء الركوب في ثمان فراسخَ، ولو جرى العقد على المرور والرجوع، ثم لم يصدر من المالك إذنٌ في مجاوزة مَرّ، وعسر تسليم الدابة على منتهى ثمان فراسخ، فهذا يجر عدواناً لا محالة؛ فإن العقد انعقد على رد الدابة إلى بلدة المكري، وهو بها، ولكن إذا اتفق هذا، فنقول: أما الأجرة المسماة، فقد استقرت من جهة استيفاء المنافع، وإذا انتهت المسافة، فلا شك أن الراكب المستأجر متعدٍّ؛ فإنه كان مأموراً بالرد إلى مكة راجعاً، وقد ترك هذا وأنهى الدابةَ إلى محل يعسر الجريان فيه على موجب الشرط، ولو ردها من تلك المسافة، فهو في ردّه معتدٍ غارمٌ لأجر المثل.
5137- ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أنه إذا جاوز مَرّاً، والمسألة مفروضةٌ فيه إذا لم يكن الطريق الذي سلكه -مجاوزاً (3) - أوعرَ مما بين مكة ومَرّ، فإنا نجعله بنفس مجاوزته متعدياً، من جهة أنه بمجاوزة مرٍّ، يتعرض لمخالفة الأمر في جهة رد الدابة، وهو مقصودٌ بَيِّنٌ، فهو إذاً غيرُ متعدٍّ من جهة استيفاء المنفعة، ولكن [يأتيه] (4) العدوان من الجهة التي أشرنا إليها، وهذا واضحٌ لا إشكال فيه.
__________
(1) زيادة من (د 1) .
(2) زيادة من المحقق.
(3) مجاوزاً: بالنصب (حالٌ) من الضمير الفاعل، و (أوعرَ) (خبر) يكن.
(4) في الأصل رسمت هكذا: [ـاننه] . بدون إعجام الحرف الأول. وإعجام الثالث والرابع من فوق، وفي (د 1) : ثابتة.(8/105)
وقد يخطر للفقيه أنه لا يصير متعدياً ما لم يستوف الفراسخ، فإنّ (1) عُسْر الرد يتبيّن (2) إذ ذاك. وهذا ليس بشيء ولم نذكره ذِكْرَنا الاحتمالات الممكنة.
5138- ومما يتم به الغرضُ أنه إذا استأجر دابةً ليركبها إلى مرّ، ويرجع عليها إلى مكة، وكانت العادة أن من انتهى إلى مرّ لم يرجع على فوره، بل يبيت ثم يُصبح راجعاًً، فإذا جرى على العادة، جاز، ولا [مستدرك] (3) ، ولا نقول: اليوم الذي سكن فيه بمرّ محسوبٌ عليه؛ من جهة تضييعه المنفعة، كما سنوضح هذا في آخر الفصل، إن شاء الله تعالى.
ولو كانت العادةُ جاريةً بأن ينكفىء (4) على فوره راجعاًً، فلينكفىء. فإن أقام على خلاف المعهود في العادة، كان ذلك الزمان محسوباً عليه. كما سيأتي تفصيله.
ولو اضطربت العادةُ فالأصح حملُ مطلق العقد على الانكفاء (5) على البدار.
ومن أصحابنا من أوجب التعرض لذلك عند اضطراب العرف، وزعم أن إطلاق العقد مع اضطراب العرف يفسده. وهذا رديءٌ لا أصل له.
5139- ولو استأجر دابةً للذهاب والرجوع، فخرج والطريق آمنٌ، فلما انتهى إلى المكان المعيّن، حدث خوفٌ في الطريق، فليس له أن يقتحمه، ولو فعل، وضاعت الدابة، صار ضامناًً، وإذا مكث في ذلك المكان، (7 وتثبط (6) إلى أن انجلى الخوف، فذلك الزمان غيرُ محسوبٍ، فإنا أمرناه بمصابرة تلك البقعة في ذلك الزمان 7) احتياطاً
__________
(1) (د 1) : وإن.
(2) ساقطة من (د 1) .
(3) في الأصل: يستدرك.
(4) (د 1) : ينقلب.
(5) (د 1) : الانقلاب.
(6) تثبط: تريث، وتعوّق. وهنا تظهر براعة إمامنا، ودقة عبارته، وحسن اختياره لألفاظه، وهو هنا ناظرٌ لقوله تعالى: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة: 46] ، فالتأخر بهذا المكان ليس برادة المكتري، وإنما هو معوّق، ثُبط، فتثبط، ولذا لم يكتف بقوله: " مكث في ذلك المكان ".
(7) ما بين القوسين سقط من (د 1) .(8/106)
للدّابة، فكان في حكم المودَع المؤتمن في تلك المدة.
وإن استأجر الدابة، وفي الطريق خوفٌ، ثم رجع، وذلك الخوفُ قائم، ففاتت الدابة، فلا ضمان؛ لأن الخوض في العقد جرى مع العلم بالخوف القائم، ووقع الرضا بالذهاب، والرجوع.
ولو كان الخوفُ قائماً، ولكن لم يكن مالكُ الدابة عالماً به، بل كان يظن أن الطريق آمن، فهذا مما تردد فيه كلامُ الأصحاب، فقال بعضهم: لا ضمان على المستأجر، وإن فاتت الدابة؛ وكان التقصيرُ من المالك؛ إذْ (1) لم يبحث، ولم يحتط لملكه.
ومن أصحابنا من قال: يجب الضمان على المستأجر؛ فإن المالك بنى الأمرَ على تقدير الأمن، وقصّر المستأجر؛ إذْ (1) لم [يبيّن] (2) له حقيقةَ الحال.
5140- ولو كان الطريق آمناً في الممر، ووقع بناءُ العقد عليه، ثم حدث الخوف بعد الانتهاء إلى الموضع المعيّن، فقد ذكرنا أن المستأجر لا ينقلب راجعاًً حتى ينجلي الخوفُ، فلو رجع، وسلمت الدابةُ من جهة ذلك الخوف المعترض، ولكن أصابتها آفةٌ أخرى، فالمذهب أن الدابة مضمونة؛ لأن المستأجر في خروجه في هذا الوقت متعدٍ. ومن صار [متعدّياً] (3) ، لم يتوقف وجوب الضمان عليه على أن يكون التلف من جهة عدوانه. هذا هو الذي لا يجوز أن يُعتقد غيره.
وقد أنهيتُ مسائلَ الفصل وختامها ما وعدناه من بيان احتساب الضمان على المستأجر.
5141- وتفصيل القول فيه أنه إذا اكترى دابةً، وذكر في الإجارة مدةً معلومة، فإن
__________
(1) في (د 1) : إذا.
(2) في الأصل: يتبين.
(3) في الأصل: معتدٍ. والمثبت من (د 1) .(8/107)
لم يسلِّم المكري الدابةَ حتى انقضت المدةُ المضروبة، تنفسخ الإجارة، وترتفع بانقضاء مدتها، ولو سلم الدابةَ إلى المكتري على أثر العقد، فربطها المكتري، ولم ينتفع بها حتى انقضت المدة، فقد انتهت الإجارة نهايتَها، وقرّت الأجرةُ المسماة؛ فإنه استمكن من الانتفاع، وضيّع حقَّه، حتى تلفت المنافع تحت يده.
ولو لم يضرب مدةً في الإجارة ولكن استأجر دابة (1) معينةً ليركبها إلى موضعٍ عيّنه، فلو سلّم المكري الدابةَ إلى المستأجر، فربطها مدةً لو سافر فيها، لأمكنه قَطْع المسافةِ المذكورة، فالإجارةُ تنتهي، وتستقر الأجرة، ولا يملك المسافرة؛ فإنا جعلناه في حبسه وربطه بمثابة المستوفي.
5142- ولو كانت المسألة بحالها، فلم يسلِّم المكري الدابةَ حتى انقضت مدة كان يتأتى في مثلها قطعُ المسافة، فهل نحكم بانفساخ الإجارة قياساً على ما لو اعتمد العقدُ مدةً مضروبة، ثم حبس المكري الدابةَ فيها، حتى انقضت تلك المدة؟ اختلف أصحابنا: فذهب المراوزةُ إلى أن الإجارة تنفسخ، وإن لم يجر للمدة ذكرٌ، إذا مضى زمنٌ يسع في مثله استيفاءُ المنفعة، وقطعُ المسافة، وهذا قياسٌ حسنٌ، لا يتجه غيره؛ فإنَّ المدة وإن ذُكرت، فليست معيّنة، وإنما المطلوب المنفعةُ فيها، فليكن الاعتبار بمضي زمان إمكان الانتفاع، وأيضاًً لم يختلف أصحابنا في أن الإجارة تنتهي نهايتها بربط المستأجر الدابة في الإجارة التي لم يجر فيها ذكر المدة، فإذا استوى ذكرُ المدة وذكرُ المنفعة في حق المستأجر، وفي حكم انتهاء الإجارة، فينبغي أن يكون الأمر كذلك في حق المكري.
5143- وذهب العراقيون إلى أن المدةَ إذا لم يجر لها ذكرٌ في الإجارة وإنما اعتمدت الإجارةُ قطعَ المسافة، وإعلامَ المدى، فإذا لم يسلم المكري الدابةَ في زمان لو سلمها فيه، لأمكن استيفاء المنفعة، فالإجارة لا تنفسخ، والمكري مطالبٌ بتسليم الدابة، وعللوا بأن المدة لم يجر ذكرُها، والتسليم ممكنٌ بعد هذا الحبس، وليس كحبس
__________
(1) (د 1) : مدة معينة.(8/108)
المستأجر الدابة، فإنا لو لم نحسب عليه تلك المدة، لكان ذلك تضييعاً للمنفعة على المكري، وإسقاطاً لحقه.
وهذا الذي ذكروه وإن كان في ظاهره بعضُ الإخالة، فلا وجه عندنا في القياس إلا ما ذكره المراوزة. وهذا واضح لا إشكال فيه على [المتأمل] (1) .
5144- ولو استأجر دابة وقبضها، ثم تعذَّر عليه المسافرة عليها، واحتبست عنده مدةً تسع المسافرة لو أمكنت، فالأجرة تتقرر عليه؛ فإن المنافع فاتت (2) تحت يده.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت الإجارة واردةً على العين.
5145- فأما إذا كانت واردةً على الذمة، فالإجارة الواردة على الذمة تقبل التعجيل والتأجيل، فإن كانت معجلةً، فلم يسلّم المكري حتى مضت مدة، لم تنفسخ الإجارة وبقي الدين مستقراً في الذمة؛ فإن الإجارة ليست تعتمد عيناً حتى يُفرض انفساخ العقد بضياعٍ وتلفٍ فيها، وهذا بيِّنٌ، لا شك فيه.
ولو سلم المكري في إجارة الذمة دابةً إلى المكتري على شرط الاستحقاق، فحبسها، حُسبت المدةُ عليه؛ فإنَّ حقه تعين بتسليم الدابة، فلم يفترق الأمر في حقه بين أن يكون أصل العقد على العين، أو على الذمة.
وهذا واضحٌ، لا إشكال فيه.
5146- وقد يتصل بهذا الفصل القول في ثبوت الخيار في الإجارة، ثم الكلام في أن الخيار إذا ثبت، فالمدة من أي وقتٍ تُحتسب.
وهذا قد استقصيناه في أول كتاب البيع على أبلغ وجهٍ في البيان، فليطلبه في فصول الخيار من يريده.
__________
(1) في الأصل: التأمل.
(2) (د 1) : تلفت.(8/109)
فصل
قال: " وله أن يؤاجر عبده وداره ثلاثين سنة ... إلى آخره " (1) .
5147- نص الشافعي هاهنا على أن من أراد أن يؤاجر ملكه ثلاثين سنة في عُقدةٍ (2) واحدةٍ، جاز له ذلك، ونص في بعض كتبه على أنه لا يزيد على سنة واحدة في مدة الإجارة، ونص في كتاب الدعاوى على أنه يؤاجر ما شاء، فجعل المدة إلى خِيَرَته من غير ضبط.
واختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من جعل هذه النصوص أقوالاً، وأجرى ثلاثة أقوال: أحدها - أنه لا ضبط من طريق التعبد في المدة، والأمرُ مفوّضٌ إلى ما وقع التراضي عليه، وهذا هو القياس، ولا حاجة إلى تكلف توجيهه.
والقول الثاني - أنه لا يجوز المزيد على سنة؛ فإن الإجارةَ أُثبتت للحاجة، وإلا فهي حائدةٌ عن القياس؛ من جهة إيرادِها على مفقودٍ، يتوقع (3) وجوده من عينٍ مخصوصة، والحاجة في الأغلب لا تزيد على السنة، والسنة الواحدة تشتمل على جميع جهات المنفعة، وما يزيد بعد انقضائها في حكم المتكرر.
والقول الثالث -وهو أضعف الأقوال- أن الأمدَ الأقصى ثلاثون سنة، ولا مزيد على هذه، وهذا وإن (4) لم يترتب على أثرٍ، فلا يليق بقاعدة الشافعي -رضي الله عنه - في توقِّيه عن التحكم بالتقديرات، من غير توقيفٍ، ولكنّ الممكن في توجيهه، أن هذه المدة في تفاوض الناس [هي] (5) المعتبر الأقصى في نهايات [التغايير] (6) وهي نصف العمر الغالب.
__________
(1) ر. المختصر: 3/82.
(2) (د 1) : في عقدٍ واحد.
(3) في الأصل: ويتوقع.
(4) (د 1) : إن لم يترتب.
(5) في الأصل: هو.
(6) التغايير. هذه أقرب قراءة إلى السياق، فالكلمة غير واضحة في (د 1) بسبب أثر تصويب فيها، وغير واضحة -قراءةً- في الأصل بسبب عدم استقرار (النقط) فوق الحروف وتحتها.=(8/110)
وهذا وما يدانيه لا ثبات له.
5148- وذهب المحققون من أئمتنا إلى قطع القول بأن مدة الإجارة مردودة إلى التراضي، ولا تعبّد فيها، ولا ضبط، ولكن يجب أن يؤاجر كلُّ شيء مدةً يُعلم بقاؤُه فيها، أو يظن ذلك، فإن كانت المدة بحيث يُقطع بأن المستأجَر لا يبقى فيها، فالإجارة مردودة، وإن كان [يغلب] إمكان البقاء فيها، صحت الإجارة، وإن غلب على الظن أن العين لا تبقى فيها، وأمكن البقاء على بُعدٍ، ففي المسألة احتمالٌ، والأظهر التصحيحُ.
وهذا القائل يحمل ذكر الثلاثين على وفاقٍ أجراه الشافعي في [محاولةِ] (1) بيان تطويل المدة. وقد يُجري المبيِّن عدداً على قصد المبالغة، ولا يبغي تقديراتها، وهو كقوله تعالى: [إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ] [التوبة: 80] .
ومما يجب التنبيه له أن القول الثالث في طريقة الأقوال، وهو القول المنقاس المحكي عن الدعاوى، محمول على ما وقع القطع به في هذه الطريقة لا محالة.
5149- ثم من أجر شيئاًً سنة لم يلزمه بيان حصة كل شهر من الأجرة. وإذا آجر سنين، ففي المسألة قولان: أحدهما -وهو القياس- أنه لا يلزمه أن يبين حصةَ كل سنة منها، كما لو اشترى عبيداً صفقةً واحدةً؛ فإنه لا يجب بيان ما يخص كلّ واحد من العبيد.
والقول الثاني - أنه يجب أن يُبيّن ما يخص كلَّ سنة من الأجرة؛ لأن في ذلك تقليلَ الغرر، وقد يُفرض تلف المعقود عليه، ومسيس الحاجة إلى تقسيط الأجرة المسماة على ما مضى وبقي، فإذا كانت الحصصُ مُبيّنةً، هان دَرْكُ المقصود، ووقع الاكتفاء بنص العقد عن طلب الحصص بالاشتهار، وقد يعسر البحث عن الأُجَر في الأزمنة
__________
=وساعد على ذلك الاختيار ورجحه قول الرافعي: ".. لأنها نصف العمر، والغالب ظهور (التغيير) على الشيء بمضي هذه المدة ". فتح العزيز: 6/111. والمعنى أن مدة الثلاثين هي أقصى مدة يتخيل فيها بقاء الحال على ما هو عليه، والآن نحن نقول: إن الحياة يتغير وجهها كل ثلاثين سنة؛ حيث ينتهي جيل، وينشأ جيل في نحو هذه المدة.
في الأصل: يعقب.
(1) في الأصل: مجاوزة.(8/111)
الماضية، وإذا أمكن تقليل الغرر، تعيّن في عقود الغرر. ثم هذا القائل يرعى هذا في السنين؛ فإن إدراك حصص الشهور قريب، وإنما يُتوقع التفاوت في السنين، لتطاول الآماد بها.
وهذان القولان يقربان من الخلاف الذي حكيناه في كون الأجرة جزافاً مشاراً إليها.
5150- ومما يتعلق بهذه الفصول أنه لو قال: أجرتك هذه الدارَ سنةً، مبتداها من وقت العقد، صح ذلك.
ولو قال: أجرتك هذه الدارَ سنةً، ولم يذكر أنها السنة التي تعقب العقد، فقد اختلف أصحابنا في ذلك، فذهب بعضهم إلى أن الإجارة تفسد؛ فإن السنة ذكرت مطلقةً مجهولةً، وهي متناولة للسنة المتصلة بالعقد ولغيرها، والإجمال في صيغ العقود يفسدها.
ومن أصحابنا من يصحح الإجارة، وإلى ذلك مال الجمهور؛ فإن السنة إذا ذكرت على الصيغة التي ذكرناها، لم يُفهم منها في مطرد العرف إلا السنة المتصلة بالعقد، والعرفُ إذا اقترن باللفظ المجمل بيّنه وأوضحه. وهو كما لو قال: بعتك عبدي هذا بألف درهم، فاللفظ في نفسه مجملٌ من طريق وضع اللغة، ولكنه محمول على النقد الغالب يوم العقد.
وهذا متِّجه، ولا يبقى معه للوجه الأول متمسك، إلا أن يقال: الإجارة تقع على أنحاء ووجوه، وقد لا يحيط بتفاصيلها إلا الخواص، والمدة تختلف فيها، ولا يمكن اطراد العرف في أنها تحتسب في ظن المتعاملين من وقت العقد، أو من وقت التسليم، وإذا كان الأمر مضطرباً في ظنون الناس، فلا بد فيه من البيان.
5151- ومما يتعلق بأحكام المدة أنه لو قال: أكريتك هذه الدار شهراً من السنة، ولم يعين الشهر، فهذا فاسد وفاقاً. وما ذكرناه من الخلاف فيه إذا ذكر شهراً، ولم يضفه إلى سنة، فإذا قال: شهراً من السنة، فتقديره: أكريتك شهراً من شهور السنة، وهذا إبهام لا شك فيه.(8/112)
ولو قال: بعتك صاعاً من هذه الصُّبرة، وكانت معلومةَ الصيعان، فالبيع صحيح. وإن كانت مجهولة (1) الصيعان، ففيه وجهان، قدمنا ذكرهما في كتاب البيع، والجريان على الصحة. والفرقُ بين صاعٍ من صُبرة، وبين شهر من شهور السنة أن الغرض يختلف بتقدم الشهر وتأخره، وينضم إلى ذلك أنه لو فرض متاخراً، لكان ذلك باطلاً؛ من جهة استئخار الاستحقاق عن العقد الوارد على العين، وهذا لا يتحقق في الصاع من الصُّبرة؛ فإنه إذا عقد عليه، فقد تنجّز استحقاقُ جزءٍ من الصُّبرة، وتسليمه سهلٌ، لا عسر فيه.
5152- ولو قال: أجرتك الدار سنةً، كلُّ شهر منها بكذا، وأوضح حصةَ كل شهر، فهذا جائزٌ، ولا فرق بين أن يجعل الشهور متساوية في الحصص، وبين أن يقدّرها مختلفة، ونظير ذلك من مسائل البيع أنه لو قال: بعتك هذه الصُّبرة: كل صاعٍ بدرهم، فالبيع صحيح، ولو قال: بعتك هذه الصّبرة: كلّ صاع من نصفها بدرهم، وكلُّ صاع من نصفها الآخر بدرهمين، فالبيع صحيح وإن تفاوت ثمن الصيعان؛ فإن (2 النصف من الصُّبرة كصبرةٍ على حالها، فكأنه في تقدير 2) النصفين يشير إلى صُبرتين، ويقول: بعتك هذه الصبرة: كل صاع بدرهم، وبعتك هذه
الصبرة الأخرى: كلّ صاع بدرهمين.
5153- ولو قال: أكريتك هذه الدارَ: كلَّ شهرٍ بدينار، [ولم] (3) يذكر مدةً مضبوطة، فالإجارة لا تصح على هذه الصيغة عندنا، والمذهب أنها لا تصح في الشهر الأول أيضاًً.
ومن أصحابنا من قال: تصح الإجارةُ في الشهر الأول، وهو اختيارُ ابن سُريج، وهو غير مرضي عند أئمة المذهب؛ فإن الإجارة وردت على صيغةٍ واحدةٍ مسترسلة على الشهور كلها، فتصحيحها في بعضها دون البعض لا يتجه.
__________
(1) (د 1) : معلومة.
(2) ما بين القوسين ساقط من (د 1) .
(3) سقط من الأصل.(8/113)
ونظير الإجارة فيما ذكرناه من البيع ما لو قال: بعتك كلَّ صاع من هذه الصُّبرة [بدرهم.
قال الأئمة: لا يصح البيع في جميع الصبرة؛ فإنه لم يقل: بعتك هذه الصُّبرة] (1) ، كلَّ صاع بكذا، بل قال: بعتُك كلَّ صاعٍ من هذه الصُّبرة، فلم يأت بعبارةٍ تشتمل على جميع الصّبرة.
وكان شيخي يقول: إذا قال: بعتك كلَّ صاع من هذه الصبرة بكذا، فالبيع يصح في الصبرة، كما لو قال: بعتك الصبرة كل صاع بكذا.
والمسألة محتملة.
5154- فإذا فرعنا على المشهور الذي ذكره (2) القاضي، فلم (3) نجعل ذلك بيعاً في جميع الصبرة، فهل يصح البيع في صاعٍ واحد من الصبرة؟ فعلى الوجهين اللذين ذكرناهما فيه إذا قال: أجرتك داري هذه كل شهر بكذا، فهل تصح الإجارة في الشهر الأول؟ فيه ما ذكرناه من خلافِ ابن سريج، ولكن مذهبه يختص بالشهر الأول؛ [إذْ] (4) لا يتصور تصحيح الإجارة في غيره. وفي مسألة الصبرة يصح البيع في صاعٍ من جملتها عند ابن سريج، والأصح أن لا تصح الإجارة في الشهر الأول، ولا يصح البيع في صاعٍ من الصبرة إذا لم نجعل ما جرى بيْعاً في جميع الصُّبرة.
فهذا تمام المراد في ذلك.
فصل
5155- ذكر الأئمة في إجارة الوقف كلاماً متصلاً بما نحن فيه، فنقول: إذا أجر
الوقفَ من تصح إجارته، فذكر مدةً معلومة، ثم مات الآجرُ، نُظر: فإن كان الآجِرُ
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(2) في النسختين: ذكر.
(3) (د 1) : ولم.
(4) ساقطة من الأصل.(8/114)
متولِّياً، ولم يكن موقوفاً عليه، فموته لا يؤثر في الإجارة، وهي باقية على لزومها.
فأما إذا أجر الوقفَ من هو موقوف عليه، وكان شرط الواقف مقتضياً ترتيبَ البطون، وألا يستحق من في البطن الثاني شيئاً ما لم ينقرض مَن في البطن الأول، ثم أجّر الموقوفُ عليه في البطن الأول الوقفَ، فالقول في أن الموقوف عليه هل يؤاجر بسبب استحقاقه لرَيْع الوقف يأتي مستقصًى في كتاب الوقف، إن شاء الله عز وجل، وفيه نذكر تخريج ذلك على الأقوال في أن الملك في رقبة الوقف لمن؟ فلسنا نخوض الآن في تفصيل ذلك؛ فإنه من أقطاب كتاب الوقف، كما سيأتي، إن شاء الله تعالى.
5156- فإذا أجر الموقوفُ عليه حيث يجوز له ذلك، ثم مات الآجر في البطن الأول، وشرْطُ (1) [الواقف] (2) يقتضي انتقالَ الاستحقاق إلى البطن الثاني، فهل نحكم بارتفاع الإجارة في بقية المدة عند موت من في البطن الأول؟
في المسألة وجهان مشهوران: أحدهما - أن الإجارة لا تنفسخ؛ فإنها انعقدت على
اللزوم، فلا يتضمن طريانُ الموت انفساخَها، كما لو أجر المالك داره المملوكةَ، ثم مات في أثناء المدّة، فالملك ينتقل إلى الوارث في الرقبة، ولكن لا تنفسخ الإجارة.
والوجه الثاني - أن العقد لا يبقى في بقية المدة إذا انتقل الاستحقاق إلى البطن الثاني.
5157- وبنى الأصحاب هذين الوجهين على اختلافٍ ذكروه في الوقف، وذلك أنَّهم قالوا: البطن الثاني يتلقى الاستحقاقَ من البطن الأول تلقي الوارثِ من الموروث أم يتلقى من الواقف؟ فيه اختلاف مشهورٌ بين الأصحاب، ثم بنَوْا مسألتنا على ذلك، فقالوا: إن حكمنا بأن البطن الثاني يتلقى من الأول، فالإجارةُ تبقى في بقية المدة، كما تبقى الإجارة إذا مات الموروث، وإن حكمنا بأن البطن الثاني يتلقى الاستحقاقَ من الواقف، فالعقد يزول في بقية المدة إذا مات من في البطن الأول.
__________
(1) (د 1) ؛ فشرط.
(2) في الأصل كما في (د 1) : الوقف. والمثبت تقدير منا على ضوء عبارة الأصل التي مضت آنفاً.(8/115)
وهذا الاختلاف الذي ذكره الأصحاب في الوقف لست أرى له وجهاً، بل يجب عندي القطعُ بأن البطنَ الثاني يتلقى الاستحقاقَ من الواقف؛ فإن المتبع في الوقف، وتعيينَ المستحقِّ والقدرِ شرطُ الواقف، ومن في البطن الثاني يستحق [بما] (1) يستحق به من في البطن الأول ولا وِراثةَ (2) في الوقف.
ولكن توجيه الوجهين مع القطع بما ذكرته ممكنٌ؛ فإن الإجارة صحت من البطن الأول على حالٍ، فلا يمتنع الحكمُ بدوامها.
ثم إذا حكمنا ببقاء الإجارة في بقية المدة، فيجب صرف حصة تلك المدة إلى البطن الثاني لا محالة، ولو استنفق من في البطن الأول جميعَ الأجرة، فحصة بقية المدة دينٌ في تركته. هذا لا بد منه، ولا شك فيه.
5158- ثم ذكر الأصحاب وجهين في انفساخ الإجارة، وهذا يستدعي عندنا نظراً، والوجه ألاّ نذكر عبارةَ الانفساخ، بل نقول: نتبيّن في وجهٍ أن الإجارة باطلةٌ في بقية المدة؛ من جهة أنا علمنا أن من في البطن الأول تصرّف فيما لم يكن له. ومساق هذا يقتضي [تبيّنَ] (3) البطلان، لا الحكمَ بالانفساخ؛ فإن الانفساخ يُشعر بانعقاد العقد، ثم بارتفاعه بعد حقيقة الانعقاد، كقولنا: إذا تلف المبيع قبل القبض، انفسخ البيع، وكقولنا: إذا انهدمت الدار في أثناء مدة الإجارة، انفسخت في بقية المدة، فلا معنى إذاً للانفساخ في مسألة الوقف. ولم يصرح بالبطلان على أحد الوجهين إلا الصيدلاني، والأمر على ما ذكرنا، ووافق فيه الصيدلاني.
5159- ومما يتصل بهذه القاعدة، ويناظر ما نحن فيه أن الولي إذا آجر الطفلَ، فهو جائز على حكم الغبطة على الجملة، فلو أجَّره مدةً سيبلغ بالسن في أثنائها لا محالةَ، فالإجارة وراء البلوغ باطلةٌ؛ فإنها وقعت وراء أمد الولاية. وهل تصح الإجارة في المدة التي تقع في الصبا؟ ذكر الأصحاب بطلانَ الإجارة من غير تفصيل،
__________
(1) في الأصل: مما.
(2) (د 1) : وارث.
(3) في الأصل: تبيين.(8/116)
ولم يتعرضوا لبيان الإجارة في مدة الصبا.
وقال القاضي: يجب تخريج صحة الإجارة في المدة الواقعة في الصبا على قولي تفريق الصفقة. وهذا حسنٌ متّجهٌ، ويحمل ترك تعرض الأصحاب لذلك على اعتمادهم وضوحَ الأمر في هذا.
5160- ولو أجر الولي الطفلَ مدة لا يعلم أنه يبلغ بالسن فيها، ولكن كان بلوغه بالاحتلام ممكناً في أثناء المدة، فيحكم على ظاهر الحال باستمرار الإجارة، فإن لم يتفق البلوغ حتى تمت الإجارة، فلا كلام.
وإن اتفق البلوغ في المدة، ففي الإجارة وراء البلوغ خلافٌ، ذكره الأصحاب منهم من قال: الإجارة تبقى، فإنها جرت من وليٍّ على شرط الغبطة، ووقع الحكم أولاً بنفوذ الإجارة، فيجب الوفاء بها.
والصحيح أن الإجارة لا تبقى.
ثم ذكر الأصحاب عبارة الانفساخ، والوجه عندنا أن نقول: نتبين بطلانَ الإجارة وراء البلوغ، وهذا كما ذكرناه في مسألة الوقف.
5161- ثم إذا حكمنا ببطلان الإجارة وراء مدة البلوغ، فهل نقول: تبيّنا أن الإجارةَ اشتملت على ما يصح، وعلى ما يفسد، حتى يُخرّج على قولي تفريق الصفقة قولٌ إن الإجارة باطلة في جميع المدة، كما ذكرناه فيه إذا أجر الصبي مدةً يعلم أن شيئاًً منها يقع وراء بلوغه بالسن؟ هذا لم يتعرض إليه الأصحاب. وإذا أوضحنا أن انتفاء الإجارة وراء البلوغ سبيله البطلان، لا الانفساخ، فلا بد من خروج هذا القول.
وقد يظهر للفقيه القطعُ بصحة الإجارة فيما تقدم على البلوغ بالاحتلام، وأن الإجارة عقدت على احتمال أن تصح وتستمر في جميع المدة، وكل عقد يُعقد كذلك، ثم يتبين آخراً أمرٌ، فيظهر تخصيصُ الإبطال بما يتبين آخراً، وسنذكر نظير ذلك في محاباة المريض في البيع، إذا لم يفِ الثلث باحتمالها.
5162- ومما يتصل بما نحن فيه أن المالك إذا أجر عبده سنة، ثم إنه أعتقه في أثنائها، فالذي قطع به الأصحاب أن الإجارة لا تنفسخ في بقتة المدّة بطريان العتق.(8/117)
وذكر صاحب التقريب في ذلك وجهين: أحدهما - ما ذكره الأصحاب.
والثاني - أن الإجارة تنفسخ في بقية المدة. وهذا ضعيفٌ لا خروج له على قاعدة المذهب. والسبب فيه أن الإجارة جرت من المالك بحقِّ الملك، ثم طرأ عليها ما يتضمن زوال الملك عن الرقبة، فكان ذلك بمثابة ما لو أجر المالك فى اره، ثم مات.
وأبو حنيفة (1) مع مصيره إلى أن الإجارة تنفسغ بموت المكري- سلّم أن العبد المستأجَر إذا أُعتق في خلال المدة، لم تَنْفسخ الإجارة (2) ، فالوجه القطع بأن الإجارة لا تنفسخ.
ثم هل يثبت للعبد إذا عَتَق الخيارُ في فسخ الإجارة في بقية المدة؟ فعلى وجهين- ذكرهما صاحب التقريب أيضاًًً: أحدهما - أنه لا خيار له، والإجارة تجري على موجب لزومها.
والوجه الثاني - أنه يثبت له الخيار كما تتخير الأمة إذا عَتَقت تحت زوجها القِنّ، وهذا بعيدٌ لا أصل له.
نعم إن حكمنا ببقاء الإجارة ولزومها، وأوجبنا الوفاء بها، فإذا عمل المعتَق في بقية المدة، بعد نفوذ العتق، فهل يرجع بأجرة مثله في هذه المدة الواقعة بعد العتق
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 128، المبسوط: 15/153، البدائع: 4/222، مختصر اختلاف العلماء: 4/129 مسألة 1826، البحر: 8/41، تبيين الحقائق: 5/144، فتح القدير: 8/84، حاشية ابن عابدين: 5/52، الاختيار: 2/55، مجمع الأنهر: 4/401.
(2) هذه المسألة (انفساخ الإجارة بعتق العبد المستأجر) أجهدتنا كثيراً، فلم نجدها في مظانها من كتب السادة الأحناف برغم طول بحثنا. وأخيراً وجدناها في (البدائع: 4/199 عند شروط المستأجَر) كما وجدناها في غير مظانها أيضاًً في: تبيين الحقائق وحاشية الشلبي عليه: 5/141، والبحر: 8/37، وحاشية ابن عابدين: 5/46، ومجمع الأنهر: 1/396، والاختيار: 2/55. كلهم في باب ضمان الأجير، وليس في باب فسخ الإجارة. وهذا مما يدعونا أن ننادي مع المنادين بضرورة فهرسة كتب الفقه وتكشيفها. ورحم الله ابن حجر الذي قال: " ولطالما قرأت المجلدة كاملة فلم أظفر بما أريد " فمن لنا بصبره وجَلَده!!! والله المستعان.(8/118)
على سيده؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - أنه يرجع به على سيده؛ فإنه بسبب العقد الذي قدّمه في الرق استسخره بعد العتق، مع أنا نعلم أن السيد لا يستحق منفعةَ مُعتَقه بعد نفوذ العتق.
والوجه الثاني - أنه لا يرجع عليه بشيء، نظراً إلى ابتداء العقد، وقد جرى في حالة الرق، وما بقي منه من بقايا أحكام الرق، والدليل عليه أن المعتَق على المذهب الذي عليه الجريان لا يجد محيصاً عن العمل في بقية المدة، فالمعنى الذي أوجب إلزامَ الإجارة وإدامتَها بعد العتق، ذلك المعنى يوجب قطعَ الرجوع [والتبعة] (1) عن السيد.
5163- ومما يجب تجديد العهد به في آخر الفصل التنبيه للفرق بين البطلان، وبين الانفساخ، فما ذكرناه من انتفاء الإجارة بعد بلوغ الطفل محمول على البطلان، وكذلك ما ذكرناه من انتفاء الإجارة بعد موت مَنْ هو في البطن الأول محمول على البطلان، وما ذكرناه في العبد إذا عتق [عن] (2) صاحب التقريب من أن الإجارة تنتفي (3) بعد العتق، فهو إن صح محمولٌ على الانفساخ؛ فإن الإجارة صدرت من المالك بحق الملك، ثم أنشأ تصرفاً ينافي حجرَ الرق، فكان ذلك بمثابة ما لو أتلف البائع المبيعَ قبل القبض، وقلنا بانفساخ البيع.
وهذه المراتب يجب أن يتنبه لها الفقيه، ولا يعتقدها على قضية واحدة.
5164- ثم قال الأئمة: إذا أكرى من في البطن الأول الوقفَ ممّن في البطن الثاني، ثم مات القريب قبل انقضاء المدة، فهذا يُخرّج على ما ذكرناه من أن تصرفه ينتفي (4) إذا مات أم لا؟
فإن قلنا: إجارته تنتفي بموته لو جرت مع أجنبي، فلا شك أنها تنتفي في الصورة
التي فرضناها. وإن قلنا: لا تنتفي إجارته مع الأجنبي في بقية المدة إذا مات، ففي
__________
(1) في الأصل: والمنفعة.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) (د 1) : تنتهي.
(4) (د 1) : ينتهي.(8/119)
انتفاء الإجارة، وقد جرت ممّن هو في البطن الثاني وجهان، والسبب في جريانهما أنه قد طرأت حالةٌ في حقه توجب له استحقاق المنفعة من غير إجارة.
وقد ذكرنا أن المستأجر إذا اشترى في خلال المدة الدارَ المستأجرة، فهل تنفسخ إجارته؟ والوجه ترتيب مسألة الوقف على طريان الملك على الرقبة، ومسألة الوقف أولى بارتفاع الإجارة، والفرق أن طريان الملك في الرقبة ليس يُثبت الاستحقاقَ في المنافع مقصوداً، بل مالكُ الرقبة يستحق منفعتها تبعاً لملك الرقبة، والموقوف عليه في البطن الثاني يستحق المنافع استحقاقاً مقصوداً، من غير تقدير تبعية، فكان ذلك أولى بانفساخ الإجارة.
ثم نقول في هذا المنتهى هذا انفساخٌ، وليس بطلاناً، وهو بمثابة ما لو اشترى الزوج زوجته، فإن النكاح ينفسخ بما يطرأ من ذلك.
هذا بيان مسائل الفصل.
فصل
قال: " وأي المتكاريين هلك ... إلى آخره " (1)
5165- قد ذكرنا من مذهب الشافعي أن الإجارة لا تنفسخ بموت واحد من المتعاقدَيْن، ولا بموتهما جميعاً؛ فإنها معاملةٌ لازمةٌ، فيجب الوفاء بها.
5166- وإذا أجر الحرُّ نفسه، ثم مات، فانفساخ الإجارة ليس بسبب موت الآجر، وإنما هو بسبب فوات المعقود عليه.
5167- ثم نقول: الإجارة لا تخلو إما أن تُفرضَ واردةً على عينٍ، أو تُفرضَ واردةً على ذمة الآجر، فإن وردت على عينٍ، وبقيت العين، ومات العاقد، فالإجارة تبقى. وإن كانت الإجارة واردةً على [ذمة الآجر] (2) فإذا مات، فسبيل الإجارة في
__________
(1) ر. المختصر: 3/82.
(2) في الأصل: على الذمة.(8/120)
ذِمّته كسبيل الديون اللازمة، فإن كان في تركته وفاءٌ استأجرنا منها من يتمم العمل المستَحق في ذمته، وإن لم يكن في تركته وفاءٌ، أو لم يخلّف شيئاًً فوارثه بالخيار إن شاء سعى في إتمام العمل، واستحق الأجرة، وإن شاء أعرض.
ثم المستأجر يتخير في فسخ الإجارة، ورفع المعاملة لتحقق العذر (1) ، ولم نحكم بانفساخ الإجارة، فإن العجز لا يتحقق إلا عن مباحثة، وما كان كذلك، فهو متعلّق بخيَرةِ صاحب الحق.
ولو كان عمل بعض العمل في حياته، وكان استوفى تمامَ الأجرة، فإذا انفسخت، وقع الاعتداد بقسطٍ يقابل عملَه في الحياة، ويصير الباقي ديناً في ذمة المتوفَّى، وهذا بيّنٌ، والعهد بتقريره قريب في كتاب المساقاة.
5168- ثم ذكر الأصحاب مسائلَ مختلفاً فيها، منها: أن الشيوع لا يمنع صحة الإجارة عندنا، خلافاً لأبي حنيفة (2) ، وقد ذكرنا تحقيق المذهب فيه في مسألة كراء العُقَب (3) .
ومنها أن من استأجر شيئاًً وقبضه، ثم أراد أن يكريه، فله ذلك، ولا معترض عليه في مقدار الأجرة، فلو كان استأجر [داراً] (4) بمائةٍ سنة، وقبضها، ثم أكراها بمائتين، ساغ، وما يأخذه (5) من الزيادة حلالٌ طيب. وقال أبو حنيفة (6) : الإكراء بالزيادة صحيح، ولكن الزيادة على الأجرة ليست بطيّبة (7) ، ويلزم التصدق بها، وهذا لا أصل له في الشريعة عندنا.
5169- ولو أجر المستأجر العينَ التي قبضها من المالك المُكري، فقد ذكر
__________
(1) (د 1) : التعذر.
(2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/124 مسالة: 1821، إيثار الإنصاف: 334.
(3) العُقَب: جمع عقبة وزان غرفة وغرف، ويراد بها (النَّوْبة) حينما يتعاقب الراكبون دابة الركوب. وانظر ما يحيل إليه في فصل وجوب اتصال الاستحقاق بالعقد.
(4) سقطت من الأصل.
(5) (د 1) : يأكله.
(6) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/126 مسألة: 1823، ومختصر الطحاوي: 129.
(7) (د 1) : ليست طيبة، ويجب.(8/121)
الأصحاب في صحة ذلك وجهين وبنَوْهما على الوجهين في أن المكتري إذا ملك رقبةَ المكترَى، فهل تنفسخ الإجارة؟ وقد قدمنا تفصيلَ المذهب في ذلك، والوجهُ ترتيب الوجهين فيه إذا أكرى من المكري على الوجهين فيه إذا طرأ للمكتري ملكُ الرقبة، والإكراء (1) من المكري أولى ألا يصح، والسبب في ذلك أنه اجتمع مع ملك المكري للرقبة أن المنافع بعدُ في ضمانه للمكتري منه، فلو صححنا الإجارة معه، لكانت المنافع مضمونةً له، و [مضمونة] (2) عليه، وهذا متناقضٌ في موجب المعاملات، والله أعلم.
***
__________
(1) (د 1) : والاكتراء.
(2) سقطت من الأصل.(8/122)
باب كراء الإبل
قال الشافعي: " وكراء الإبل جائز للمحامل والزوامل والرحال ... إلى آخره" (1) .
5170- المحامِل جمع مَحْمِل، وهو كالمرقد، والزوامل جمع الزاملة، ومعناها ما يزمّل ويلف من الثياب والأمتعة على ظهر الدابة ليركبها من يركبها، ويقال: تزمّل فلانٌ بكسائه إذا التفَّ به، ومنه قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ] [المزمل: 1] ، وقيل: الزاملة على صيغة الفاعل، ومعناه المفعول؛ فإن الزاملة اسمٌ للثياب المزمِّلة، ويجوز أن يقال: الزاملة اسمٌ لشكلٍ في وضع الأمتعة جامعٍ لها، فتلك الصورة زاملةٌ [لاثةٌ] (2) للأمتعة.
والرحال جمع الرحل، وهو يطلق على الإكاف، وقد يطلق على الزاملة أيضاًًً.
5171- ثم قال المرتَّبون مقصود الباب تفصيلُ القول في كراء الدواب في الوجوه والمقاصد التي تُكترى إليها. ثم لها أربعة مقاصد: أحدها - الركوب. والثاني - الحمل. والثالث - الاستقاء. والرابع - الحرث. ونحن نذكر كلَّ مقصودٍ من هذه المقاصد، ونوضّح ما يتعلق به، إن شاء الله عز وجل.
5172- فلتقع البداية بالركوب. والاستئجارُ لهذا المقصود، ولغيره ينقسم إلى الإجارة الواردة على العين، وإلى الإجارة الواردة على الذمة، ونحن نذكر تفصيل الإجارة الواردة على عينِ الدابة فنقول: لا بد أولاً مع تعيين الدابة من وجوهٍ في
__________
(1) ر. المختصر: 3/82.
(2) في الأصل تقرأ (لانه) ، وفي (د 1) : لافة. والمثبت هو أقرب صورة للأصل. ولاثّة: من لاث العمامة إذا لفها على رأسه، وعصبها به. (المعجم) .(8/123)
الإعلام: منها إعلام المنفعة، وذلك يحصل بوجهين: أحدهما - المدة، وذلك بأن يقول المكتري: اكتريت منك هذه الدابة لأركبها في بياض هذا النهار، وأتردد عليها في حوائجي. فهذا وجه في إعلام المعقود عليه.
والوجه الثاني - ألا يتعرض للمدة، ولكن يذكر المقصود ويوضحه، بأن يقول: اكتريت هذه الدابة لأركبها إلى الموضع الفلاني، وهذا إعلامٌ تامٌّ، ولا حاجة إلى ذكر الوقت، مع ما ذكرناه.
5173- ومما يجب إعلامه في إجارة العين للركوب صفةُ الراكب، فإن حضر، وعاينه مالك الدابة، كفى ذلك وإن لم يحضر، فلا بد من وصفه، فإن ذكر وزنه، كفى. وإن لم يذكر وزنه، وذكر قدّه، وما هو عليه من نحافة أو سمن، على التقريب الممكن، فالأصح أن ذلك كافٍ؛ فنا إذا كنا نكتفي بمعاينة الراكب، فذكر هذه الأوصاف تنزل منزلة المعاينة، وإن كنا لا نحيط بحقيقة الوزن في المعاينة، ولا في الوصف.
ومن أصحابنا من أوجب ذكر الوزن إذا لم يكن الراكب حاضراً حالة العقد -ولا خلاف أن العِيان يكفي في ضبط الراكب- وهذا الوجه ضعيف غيرُ معتد به.
5174- ثم إذا انعقدت الإجارة على عين الدابة، فمن أحكامها أن تلك الدابة لا سبيل إلى بدلها؛ فإن بقيت استمرَّت الإجارة، وإن تلفت في يد المستأجر، انفسخت الإجارة في بقية المدة، كما تقدم تقرير ذلك.
ولو عابت عيباً يؤثر في مقصود الإجارة تخيّر المكتري، فإن رضي بالعيب، استمر العقدُ، وإن فسخ ارتفعت الإجارة.
5175- ومن أحكام تعيّن الدابة أن (1) استئجارها يجب أن يكون بحيث يستعقب العقدُ استحقاقَ منفعتها، فلو أضيف العقدُ إلى مدة في الاستقبال، لم يصح مثل: أن يقول: أجرتك هذه الدابة غرة شعبان، والعقد في رجب. وقد أوضحنا ذلك.
__________
(1) (د 1) : على استئجارها.(8/124)
5176- ثم إذا قبض المستأجر الدابةَ، وكان ذكر أنه يركبها، فلو أراد أن يُركبها غيرَه، جاز، [والجملة] (1) الضابطة في ذلك أن المستحَقَّ في الإجارة منفعةُ الدابة، فهي مخصوصةٌ، وذكرُ عين الراكب (2) لا يعيّنه، فإن التعيين إنما يؤثر في المعقود عليه، والراكب مستوفٍ للمنفعة وليس معقوداً عليه، فإذا أراد أن يُركب غيرَه، جاز.
ولهذا قطع الأئمة بأنه (3) يُكري الدابة إن رام ذلك، ومن ضرورة تجويز ذلك تبدّل الراكب.
ثم إنما يجوز تبديل الراكب إذا كان مثلَ المستأجر المعيّن للركوب، فإن كان أثقلَ منه، لم يجز، وذلك بيّنٌ.
5177- ولو كان المستأجر رفيقاً في ركوبه وتزْجيَة الدابة، فلو أكراها ممن هو في الجثة مثلُه، ولكن كان أعنفَ منه في الإجراء، أَو التَّزْجِية، فهذا لا يؤثر في إفساد الإجارة، والسبب فيه أن ما يصدر من ذلك الراكب من ضربٍ وتعنيف ينقسم، فمنه ما كان لا يُمنع منه المستأجر لو أراده، وهو القدر المعتاد في إجراء الدابة، ومنه ما يزيد على المعتاد الشائع، فيمنع منه الراكب. فإذا ثبت ما ذكرنا، فلو ركب المستأجِر من المستأجِر، وعنّف، واعتدى، وزاد في التعنيف والضرب، على ما يسوغ، فهلكت الدابة بهذا السبب، فلا شك أن الضمان يتوجه عليه.
5178- ثم قال الأئمة: ليس للمالك مطالبةُ المستأجر الأول ليرجع بما يغرَم.
وهذا متفق عليه.
وليس كما لو [أكرى] (4) الدابة من رجل ضخمٍ تزيد جثتُه في الثقل؛ فإن الدابة إذا هلكت بسبب ثقل الراكب الثاني؛ فالضمان يتوجه عليه، ويتوجه أيضاًًً المطالبةُ على المستأجر الأول من جهة المالك. والفرق أن الدابة إذا تلفت بتعنيفٍ من الثاني،
__________
(1) في الأصل: فالجملة.
(2) (د 1) : الدابة، وهو سبق قلمٍ لا شك.
(3) (د 1) : بأن.
(4) في الأصل: اكترى.(8/125)
فالأول غيرُ مقصّرٍ في الإجارة والتسليم، وإنما جاء العدوان من الثاني، فلم يتعلق بالأول عدوانٌ، ولا سببُ عدوان، وليس كذلك إذا ركب من هو أثقل منه؛ فإن عيْنَ ذلك عدوان. ولكن إذا تحقق الإتلاف من الثاني، فعليه قرارُ الضمان، والمطالبة تتوجه على الأول؛ لأنه تسبب إلى ما جرى. وهذا واضحٌ.
5179- ومما يتعلق بالركوب في الدابة المعيّنة أنه لو اكترى بعيراً (1) [ليحمله] (2) مَحْمِلاً ليركبه، فلا بد من إعلام المَحْمِل، فإن عاينه، كفى، إجماعاً، ولا يشترط مع العيان معرفةُ الوزن.
وإن لم يكن المَحْمِل حاضراً، فلا بد من وصفه؛ فإن وقع الاقتصار على ذكر وزنه، فالذي قطع به المحققون أن ذلك لا يكفي؛ فإن المحامل تختلف بالسعة والضيق، وغيرهما من الصفات، مع التقارب في الوزن، ويختلف الضرر والعناء على الدابة باختلاف هذه الصفات اختلافاًً بتناً.
وذكر بعضُ الأصحاب أن الاقتصار على ذكر الوزن كافٍ، ثم لهيئة المحمل على الوزن المعلوم ضبطٌ يعرفه أهل الصناعة فيتّبع ذلك. وهذا الوجه ضعيفٌ، لا أعتدُّ به.
ولو وصف المَحْمِل بالطول والعرض والسعة، وكل ما يختلف الغرض به، ولم يتعرض للوزن، ففي المسألة وجهان: أصحهما - أن الوزن لا بد منه؛ فإنه الأصل.
والثاني - أن الصفات كافية كما في العيان؛ إذ لا خلاف أنه لا يجب الوزن مع العيان.
5180- والأصح أن الراكب إذا كان غائباً، كفى في إعلامه وصفُه، ولا حاجة إلى ذكر وزنه، وفيه أيضاًً خلافٌ قدّمته، والأصح في المحمل وجوب ذكر الوزن إذا كان غائباً، والأصح أن ذلك لا يجب في الراكب الغائب، والمتبع في النفي والإثبات والفرق والجمع العرفُ، وهو هيّنٌ على أهل المعاملة.
5181- ولو جرى ذكر المَحْمِل في موضعٍ محاملُه متدانية كمحامل بغداد،
__________
(1) (د 1) : بعين.
(2) في الأصل: ليحملها.(8/126)
وشقادف (1) الحجاز، فقد قال أبو إسحاق المروزي: إطلاق المحمل في مثل هذه البقعة كافٍ، وخالفه معظمُ الأصحاب؛ فإن المحامل لا تتوافق في شيء من البقاع، ولا بد وأن تختلف اختلافاًً معتبراً.
5182- ومما يتعلق بالركوب أن المستأجر إذا ذكر أنه يركب الدابة بالإكاف، فلو أبدله بالسرج، جاز، فإن السرج أهونُ، وأخفُّ على الدابة من الإكاف.
ولم يذكر أحد من الأصحاب اشتراط ذكر الوزن في السرج والإكاف، وإنما تعرضوا للوزن في المحامل الغائبة، واكتَفَوْا بالعادة في الإكاف والسرج؛ لأن ذلك مما لا يختلف اختلافاًً به مبالاة.
5183- ومما ذكره الأئمة في ذلك أن قالوا: من اكترى دابة وقبضها، ثم أفلس [المكري] (2) ، فلا أثر لفلسه في الإجارة، فإن منعنا بيع المكرَى يصْبرُ الغرماء حتى تنقضي الإجارة، ثم تباع الدابة، وتصرف إلى الغرماء. وإن جوزنا بيْعَ المكرَى، فأراد الغرماء البيعَ، جاز لهم ذلك، وإن كانت القيمة تنتقص والرغبات تقلّ، فإنا لا نكلفهم أن يؤخروا حقوقهم رعايةً لغبطة المحجور عليه. وقد ذكرنا لذلك نظائر في كتاب التفليس.
ثم إذا بيعت الدابة، فهي تقِرّ في يد المستأجر إلى أن يستوفي تمام حقه، وتنقضي الإجارة، وذلك واضحٌ لا إشكال فيه.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كان المقصود من الإجارة الركوب، وقد وردت على عين الدابة.
5184- فأما إذا كانت الإجارة واردة على الذمة، فيجري في ذلك لفظان: أحدهما - أن يقول: ألزمت ذمتك إركابي إلى الموضع الفلاني، فهذا لفظٌ.
ولا بد فيه من إعلام المركوب، فإن الغرض يختلف بذلك اختلافاًً عظيماً. وقد
__________
(1) الشُّقدُف: بضم الشين والدال، مركب أكبر من الهودج، يستعمله العرب، وكان يركبه الحجاج إلى بيت اله الحرام. جمعه شقادف. (المعجم) .
(2) في الأصل، كما في (د 1) : المكتري، والمثبت تقدير منا رعاية للمعنى.(8/127)
ذكرنا في السَّلَم أنه يجب فيه ذكر الأوصاف المقصودة، فليذكر الجنسَ والنوعَ، وليبيِّن أن المركوب حمار، أو بغل، أو فرس، أو بعير (1) ، وذكر الأئمة أنه يذكر أنه ذكر أو أنثى؛ فإن السير يختلف بالذكورة والأنوثة، والذي يدل عليه ظاهرُ كلام الأئمة أن ذلك شرطٌ، وقد رأيت في كلام بعضهم ما يدل على أن ذلك احتياطٌ، وليس بشرط، والمسألة محتملة.
ولم يتعرض أحدٌ من الأصحاب لوصف سير الدابة، وأنها تخطو أو تُهَمْلج (2) ، والذي لا يستراب فيه وجوبُ ذكر ذلك؛ فإن البهائم تختلف في هذا، وما ذكرناه في صفة السير يجري لها مجرى الأوصاف، ومعظم الغرض يتعلق بذلك، وإذا ذكروا الذكورة والأنوثة، فما ذكرتُه أولى بالاشتراط.
فهذا بيان ما يتعلق من الإعلام بلفظٍ يتفق استعماله في إلزام المقصود ذمّةَ المكري.
5185- واللفظ الثاني أن يقول: ألزمت ذمتك تسليمَ مركوبٍ إليَّ أركبه إلى موضع كذا، فهذا يُداني اللفظَ الأول، ولكنهما قد يختلفان في التفريع، كما سيأتي شرحُ ذلك، إن شاء الله تعالى- ثم القول في وصف الدابة كما ذكرناه.
5186- ولا يشترط أن يذكر صحةَ الدابة وقوّتَها، واستقلالَها؛ فإن مطلق العقد يقتضي ذلك، وما يقتضيه مطلقُ العقد، فلا حاجة إلى التصريح بذكره.
5187- ثم إن جرى العقد بلفظ السَّلَم، فيجب تسليمُ الأجرة في مجلسِ العقد، وإن لم يجر لفظُ السلم، وإنما قال: ألزمت ذِمتك، ففص وجوب تسليم الأجرة في مجلس العقد خلافٌ بين الأصحاب قدّمنا ذكره، وهو جار في البيع الوارد على مبيع موصوفٍ في الذمة من غير ذكر لفظ السلم، والسلف.
5188- ثم إذا وردت الإجارة على الذمة، فيتصور فيها الحلول والتأجيل: فالحالّ
__________
(1) (د 1) : أو غيرهما.
(2) تهملج: هملجت الدابة سارت سيراً حسناً في سرعة. (المعجم) .(8/128)
هو الذي يُقيَّد بالحلول، أو يطلق؛ فإنَّ المطلق عندنا كالمقيّد بالحلول والتعجيل.
والمؤجل مثل: أن يقول: ألزمت ذمتك أن تُركبني غُرّةَ المحرم إلى موضع كذا، فهذا جائز؛ فإنّ الديون تقبل الآجال.
فأما إذا ورد العقدُ على دابة معينة، ففرض الأجل محال؛ فإن الأعيان لا تقبل الآجال، ولو أضيفت إجارة الدابة المعيّنة إلى وقتٍ مستقبل، فهو باطل، كما تقرر من المذهب.
ثم لا بد من إعلام الراكب في عقد الذمة، وقد ذكرنا طريق إعلامه بالعيان، أو الوصف، فإن قيل: أليس التعيين ينافي وضعَ السَّلم، فلم تجوّزون تعيين الراكب؟ قلنا: إنما يمتنع تعيين المعقود عليه، مثلُ أن يعيّن المسلم في الرطب نخلاتٍ من بستان، هذا ينافي مقصودَ السلم، والراكب ليس معقوداً عليه، والذي يوضح الحقَّ في ذلك أن الراكب وإن عُيِّن في الإجارة في الدابة المعيّنة، فإنه لا يتعين؛ إذ له أن يُركب غيرَه، فلا أثر إذاً لتعيين الراكب. والأمر على ما وصفناه.
5189- ثم من أحكام الإجارة [الواردة] (1) على الذمة أن المكري لو سلّم دابةً على الصفة المطلوبة، ثم تلفت تلك الدابة في يد المستأجِر، فلا تنفسخ الإجارة، بل يجب على المكري أن يأتي بدابةٍ أخرى، على صفتها، وتحقيق ذلك أن الدابة إذا كانت معيَّنةً في الإجارة، فسلمها المستأجرَ، وتلفت في يده، فالإجارة تنفسخ، والتلف يقع من ضمان المكري. هذا حكم الإجارة الواردة على العين.
فأما إذا كانت واردةً على الذمة، ففيها متسع، فلا وجه للحكم بالانفساخ إذا كان الوفاء بالعهد ممكناً، وكذلك لو عابت تلك الدابة في يد المكتري، فإنه يردّها ولا تنفسخ الإجارة، بل يستبدل عنها دابةً أخرى، غيرَ معيبة، وإذا عابت الدابة المعيّنة في الإجارة، فردُّها يتضمن انفساخَ الإجارة لا محالة.
ومما يتعيّن الاعتناء بفهمه في هذا المقام أن الدابة المسلّمة في إجارة الذمة يتعلق بها حق المستأجر على التحقيق، وإن كان مستند الإجارة الذمةَ، وبيان ذلك: أن
__________
(1) ساقطة من الأصل.(8/129)
المستأجر لو أراد أن يكري الدابةَ التي قبضها عن إجارة الذمة، فله ذلك، أطبق عليه أئمة المذهب.
ومما ذكروه في تحقيق ذلك أن المكري لو أفلس قبل تسليم الدابة، فقد يُضارب بحقه المستأجرُ، كما سنصفه الآن، إن شاء الله تعالى- وإذا سُلِّم الدابة، ثم جرى الإفلاس، فلا مضاربة، والمستأجر أولى بتلك الدابة حتى يستوفي حقَّه منها؛ فإن اختصاصه بها -وقد تسلمها- يزيد على اختصاص المرتهن بالرهن.
5190- ومما ذكره الأئمة في ذلك: أن المستأجر لو أراد الاعتياض عن حقّه قبل تسلّم الدابة، لم يكن له ذلك؛ فإنه اعتياضٌ عن المسلم فيه، وهو ممنوعٌ إجماعاً، ولو تسلم دابة على الصفة المطلوبة، ثم أراد المكتري أن يعتاض عن حقه في تلك الدابة، فله ذلك، وفي تصحيح هذا الاعتياض سقوطُ حقِّ المستأجر، وعللوا بأن حقَّه إذا تعين في الدابّة (1) ؛ فإن الاعتياض يقع عن حقٍّ في عين، فإذا كنا نجوز للمستأجر في إجارة الذمة أن يُكري الدابةَ التي قبضها، فقد أثبتنا له حقاً في عينها محققاً، فالاعتياض من المسلم إليه يَرِدُ على حقه المتعيّن في الدابة، ثم يترتب على تصحيح الاعتياض انقطاع حقّه من المسلم.
فإن قيل: لو تعين حقه كما ذكرتموه في الدابة، فلم قلتم إذا تلفت تلك الدابة، وجب على المسلم إليه الإبدال؟ قلنا: لأن القبض لا يتحقق في المنافع من الوجوه كلِّها قبل انقضاء المدة، فلذلك قلنا: لو تلفت الدابة المعيّنة في الإجارة في يد المستأجر، تضمن ذلك انفساخ الإجارة.
5191- فلينتبه الناظر إلى هذه الأحكام؛ فإنها مستقيمةٌ على قاعدة الإجارة، وموجب الذمة، وقد يظن المبتدىء فيها تناقضاً، وليس الأمر كذلك. وسبب اختلافها ظاهراً [صدورُها] (2) عن حكم الذّمة (3) ، وثبوتُ حق التعيينِ بالقبض، مع
__________
(1) في (د 1) : الذمة.
(2) في الأصل: صدورهما.
(3) (د 1) : ظاهر صدورها عن حكم الحدمة.(8/130)
العلم بأن القبض لا يتم في المنافع، ما لم تنقض المدّة (1) .
5192- ومن تمام البيان في ذلك أن المكري في الذمة لو سلم دابَّة، ثم استردّها وأتى بأخرى، وقد يعتاد المكرون ذلك، فنقول: إن لم يرض المكتري بهذا، فلا يسوغ استرداد الدابة منه، لما قرره الأئمة من ثبوت حق اختصاصه بالدابة، حتى أثبتوا له أن يُكري تلك الدابة، وهذا ينافي جواز انفراد المكري بالاستبدال.
5193- وكان شيخي أبو محمد يقول: إن كان لفظُ الإجارة معتمِداً ذكر الدابة، مثل أن يقول: ألزمتك دابة صفتُها كذا، أركبها، فإذا سلمت إليه الدابة، فلا يجوز الاسترداد أصلاً. وإن قال: ألزمت ذمتك إركابي، فالمعتمد الإركاب، فيجوز الاستبدال، والحالة هذه.
والأئمة لم يفصلوا بين اللفظين؛ فإن المعتمدَ -كيف جرى اللفظُ- الدابةُ وصفتُها، والذي ذكره شيخي إنما يتجه، ويحسن، إذا كان الاكتراء لنقل حُمولة؛ فإن الدابة لا أثر لذكرها (2) ، فإذا قال: ألزمت ذمتك نقلَ متاعي هذا إلى موضع كذا، فلا ينبغي أن يكون لتسليم الدابة في هذه الصورة أثرٌ ووضعٌ 3) أصلاً، وسنوضح أنه لو أراد نقلَ ذلك المتاع بكتفه، جاز، فلا أثر إذاً للدابة في هذا الموضع إذا لم يقع التعرض لها، فإذا جاء المكري المتلزمُ بالدابة وحمّلها الحُمولة المذكورة، فلا أثر للإتيان بها وتسليمها؛ فإن مقصودَ العقد نقلُ المتاع على أيِّ وجهٍ فُرض.
أما إذا كان المقصود الركوب، فلا بد من التعرض للدابة، بل لا بدّ من ذكر جنس المركوب ووصفه؛ فإن الغرض يختلف بذلك اختلافاً بيّناً، ولا أثر لذكر الدابة في نقل الحُمولات. هذا منتهى القول [في] (4) ذلك.
5194- ومن بقية الكلام في هذا القسم أن المكري الملتزم في الذمة إذا أفلس قبل
__________
(1) (د 1) : الذمة.
(2) (د 1) : لدركها.
(3) (د 1) : ووقع.
(4) في الأصل: من.(8/131)
تسليم الدابة الموصوفة، وإقباضها، فإن كانت الأجرة التي سلمها إليه قائمةً بعينها، فالمكتري بالخيار بين أن يفسخ العقد، ويسترد عينَ ماله، وبين أن يُمضي العقدَ، ويضارب الغرماء.
وإن لم تكن الأجرة باقيةً، فلا وجه له إلا المضاربة، والسبيل فيها أن يضارب بكراء مثل إركابه على الدابة الموصوفة، إلى الموضع المذكور، وما خصه بالمضاربة لا يسلّم إليه؛ إذ لو سُلّم إليه، لكان اعتياضاً عن المسلَم فيه، ولكن يصرف ما يخصه إلى دابة يركبها، فإن أمكن شراء دابة للمفلس، حتى يركبَها المكتري إلى المكان المسمى، ثم الدابة تباع، وتصرف إلى الغرماء، فهذا بالغٌ حسن، وفيه توفية حق المكتري من غير تنقيصٍ من حقوق الغرماء. وإن لم يتمكن من ذلك، اكترينا بما يخصه دابةً على الصفة التي ذكرها، فإن لم يف ذلك المقدارُ بتمام الغرض، حصّلنا بعضَ المقصود، وبقي الباقي ديْناً له في ذمة المفلس، وقد ذكرنا المضاربة في السلم في كتاب التفليس. وهذا عين (1) ذاك.
وقد نجز القول في اكتراء الدابة للركوب على صفة التعيين، وعلى إلزام الذمّة.
5195- فأما الاكتراء للحمل، فينقسم إلى إجارةٍ ترد على عين الدابة وإلى إجارةٍ تعتمد إلزام ذمة [المكري] (2) ، فأما ما يتعلق بالعين، فهو استئجار دابة معيّنة لتحمل متاعاً، وفي اشتراط رؤيتها قولان، كالقولين في شراء العين الغائبة، ثم لا بد من الإعلام، وله مسلكان، كما تقدم ذكره: أحدهما - الإعلام بالزمان، وذلك مثل أن يقول: اكتريت منك هذه الدابة بياضَ هذا النهار، لأنقل عليها أمتعةً لي من الحانوت إلى الدار؛ فالإجارة تصح، فإنّ ذكْر المدة يُعلم المقصودَ، ويبيّنه، ولكن لا بد من ذكر المقدار الذي تحمله الدابة كلَّ كرّة، فإنها لو حملت ما لا تُطيق في كل كرة، لتفسخت، وهلكت.
فهذا وجهٌ في الإعلام.
__________
(1) (د 1) : غير ذاك.
(2) في الأصل: المكتري.(8/132)
والوجه الثاني - أن يتعرض لنفس المقصود من غير ذكر زمان؛ مثل أن يقول: اكتريت منك هذه الدابة لأحملها كذا وكذا، إلى موضع كذا، فهذا إعلامٌ كافٍ، وإن لم يقع لذكر الزمان تعرّضٌ.
5196- ثم التعويل في هذا السبيل على ذكر المقدار المحمول (1) ، ولإعلامه مسالكُ ذكرها الأصحاب، ونحن نذكرها على وجوهها، ونُتْبع كلَّ وجهٍ بتعليله، ثم إذا نجزت فصول اكتراء الدواب، وما ذكره الأصحاب فيها، جمعنا بعد انقضائها كلاماً ضابطاً، يحوي مآخذ الكلام، إن شاء الله تعالى.
فمن وجوه الإعلام في (2) الحُمولة ذكرُ الوزن، فإذا قال: اكتريت هذه الدابة لأحمّلها مائة مَنٍّ، إلى الموضع الذي يُسمّيه، كفى ذلك في الإعلام، وأجمع الأصحاب على أنه لا يجب ذكر جنس المحمول، وإن كان قد يختلف الغرض به، كما سيأتي شرح الكلام عليه، إن شاء الله تعالى.
ثم قال الأئمة: (3 إذا ذكر الوزن 3) ، فله أن يحمّلها مائةَ منٍّ من أي جنسٍ شاء.
هذا وجهٌ في الإعلام.
5197- ومما ذكره الأصحاب في الإعلام معاينة المحمول، فإذا قال: اكتريت هذه الدابة لأحمّلها هذا، جاز. اتفق عليه الأصحاب، وأطبقت عليه الطرق وإن كان العيان لا يبيّن مقدار الوزن، وإنما يقرّب بعضُ الخواص، القولَ في وزن ما يعيّنه خرصاً وتخميناً، والعقد يصح تعويلاً على العِيان فيما يُخرَص، وفيما لا يُخرَص.
5198- ومما ذكره الأئمة أن المتاع لو كان في ظرف لم يعايِن جنسَه، فشاله (4) المُكري باليد، كفى ذلك في الإعلام، إذ الشَّيْلُ في الوزن أقرب إلى العِيان، فإذا كفى العيان، كفى الشَّيْلُ، والتقريب المستفاد منه. أما إذا لم يعايَن المتاع في الظَّرْف،
__________
(1) (د 1) : المعلوم.
(2) (د 1) : أن الحمولة.
(3) ما بين القوسين ساقط من (د 1) .
(4) شاله: أي رفعه، فهي من العامي الفصيح. (المعجم) .(8/133)
ولم يُشَلْ، فلا يصح العقد؛ فإن المحمول مجهولٌ، لم يتطرّق إليه وجهٌ من الإعلام.
ويجوز أن يكون المغطّى بظرفه شيئاًً خفيفَ الجنس، ويجوز أن يكون حديداً، أو تبراً.
هذا بيان إعلام المحمول فيما ذكره الأصحاب.
5199- ثم قالوا: إن قال: استأجرت هذه الدابة لأحملها مائة (1 منّ من الحديد، لم يتعين الحديد، بل كل ما يشابهه في الرزانة والاكتناز، فهو بمثابته، فإذا قال: أحملها مائة منّ من الحديد، لم يتعين الحديد، فله أن يحملها النحاس والرصاص والتبر؛ فإن هذه الأجناس متقاربة، ولو أراد أن يحملها مائة منّ من التبن لم يكن له ذلك؛ وكذلك لو عين التبن، فقال: أحمّلها مائة 1) منّ من التبن، فله أن يُحمّلها مائة من من القطن؛ فإنه في معنى التبن، وليس له أن يحمّلها مائة منّ من الحديد.
والسبب فيه أن كلّ واحدٍ من الحديد والتبن فيه نوع من الضرر لا يمكن دفعه، أما الحديد، فإنه باكتنازه، وثقله يَلْقَى موضعاً من الدابة، [فيهدّ] (2) ذلك الموضع، ويدقه، وقد يُقرّحه.
وفي حمل التبن ضرر آخر؛ فإنه [يغمّ] (3) الدابة ويعمّها ويحوي جملتَها، فإذا وقع [تعيين] (4) في أحد هذين الجنسين، لم يكن للمكتري أن يبدله بالجنس الآخر.
ولو قال أُحمّل الدابة مائةَ مَنّ من الحنطة، فله أن يحمّلها مائةً منّ من الشعير، وكذلك عكسه؛ لأنه لا يتفاوت الأمر، وهذا لائح، لا إشكال فيه.
وإنما نذكر الآن المسائل مرسلةً، وسيأتي ضابطها في آخر الفصل، إن شاء الله تعالى.
5200- ومما ذكره الأئمة في ذلك أنه لو قال المستأجر: أحمّلها مائة مَنّ، فالظرف
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (د 1) .
(2) في الأصل: فيمد.
(3) في الأصل، كما في (د 1) : يعمّ. والمثبت تقدير منا لتحقيق التغاير بين المعطوف والمعطوف عليه، وغمّ الشيء غطاه (المعجم) .
(4) ساقطة من الأصل.(8/134)
محسوبٌ في المائة، ولو قال: أحمّلها مائة مَنٍّ مِن الحنطة، فالظرف زائد على المائة المنّ؛ فإن الحنطة التي ذكر وزنها لا يتأتى حملُها إلا في ظرف.
ثم لا بد وأن يكون الظرف معلوماً، إما بالمعاينة، وإما بالوصف، ثم من ضرورة الوصف التعرض لوزنه، وإن جرت الإجارة في موضعٍ لا يتفاوت الظروف فيه، كالغرائر الحبليّة (1) التي تُنسج على منوالٍ واحد، فالعرف المقترن بالعقد كافٍ في البيان، هذا ظاهر المذهب.
ومن أئمتنا من قال: إذا قال: أحمّلها مائةَ منّ، فالظرف زائد على المائةِ أيضاًً؛
فإن الغالب أن التعرض يقع للمحمول في الظَّرف، وإن لم يقع التنصيص على جنسه.
[فقوله: أحمّلها مائة منّ، كقوله: أحملها مائة مَنّ من الحنطة] (2) . وهذا محتمل.
وظاهر المذهب ما قدّمناه.
ثم سيأتي في الظروف وأنها على المكري أو على المكتري فصلٌ منفردٌ، إن شاء الله عز وجل.
5201- وما ذكرناه فيه إذا كانت الإجارة واردةً على عين الدابة. فأما إذا أورد الاكتراء على الذمة بحمل الحُمولة، فلا يجب فيها وصف الدابة والتعرض لها؛ ويكفي أن يقول للمستأجر: ألزمت ذمتك نقل مائة منٍّ من الحنطة إلى موضع كذا، وإنما لم نوجب التعرضَ للدابة؛ لأن المقصود لا يتفاوت في نقل الحُمولة بتفاوت الدواب، وليس كما إذا كان المقصود الركوب؛ فإن الغرض الأظهر يتعلّق بصفة المركوب، فلو ذكر المكتري دابةً ووصفها، ولم يعيّنها، والمقصود نقل الحُمولة، فلا بأس أيضاًً، وقد يكون له في وصف الدابة غرضٌ.
__________
(1) الحبلية: نسبة إلى (الحبْل) اسم موضع بالبصرة، أو إلى قرية من قرى عسقلان اسمها: (حبْلة) . أو إلى (الحَبْل) الذي منه مادتها. كل ذلك فحتمل، فلم أصل فيما راجعت من أسماء المواضع والبلدان، ومعاجم الألفاظ والأنساب، ما يقطع بواحدٍ من هذه. والله أعلم.
(2) المثبت بين المعقفين عبارة (د 1) ، وعبارة الأصل: "وإن لم يقع التنصيص على جنسه بقوله: أحملها مائة من من الحنطة".(8/135)
5202- فخرج مما ذكرناه أن الكراء الواقع في الذمة لنقل الحُمولة يفرض على وجهين: أحدهما - الاقتصار على إلزام الذمة من غير ذكر مركوب. والثاني - التعرضُ لمركوبٍ، ووصفُه، وكلا الوجهين جائزان.
وإن كان المقصود الركوب، فلا بد من التعرض لمركوب كما ذكرناه.
5203- قال القاضي: إذا كان المحمول شيئاًً يُخاف انكساره، وكان مما يتأثر بالحركة العنيفة، فلا بد من التعرض للدابة، كالزجاج وما في معناه، فلا يصح فيما هذا سبيله إطلاق الإلزام في الذمة، حتى يذكر الدابة، وهذا الذي ذكر حسنٌ، وهو مفروض فيه إذا أشار إلى المحمول، وهو زجاج، أو ما في معناه، أو ذكره.
فأما إذا جعل عماد العقد الوزنَ، ونوى حملَ الزجاج، وأضمره، وما ذكره، وما أظهره، فلا يجب التعرّض للدابة، والحالة هذه.
5204- فأما الاكتراء للاستقاء، فإنه ينقسم أيضاًًً إلى ما يرد على عين الدابة وإلى ما يرد على الذمة.
فأما الإجارة الواردة على عين الدابة، فهي أن يقول: اكتريت هذه الدابة لأستقي بها، وهذا يستدعي الإعلامَ، وله وجهان: أحدهما - أن يتعرض للزمان، فيقول: أستقي بها في هذا اليوم، فهذا ضبطٌ (1) ، ولا بد معه من ذكر الدار التي يقع بها الاستقاء، والبئر التي يقع منها الاستقاء، وهذا يناظر قولنا في نقل الحُمولة: إنه إذا ذكر زماناً ينقل فيه حُمولةً من الخان إلى المنزل، فلا بد من ذكر مقدار ما تحمل الدابة كل مرة، كذلك لا بدّ هاهنا من ذكر الدلو، والبئر، ولا يخفى اختلافُ الغرض فيما ذكرناه.
هذا وجهٌ في الإعلام.
والوجه الثاني - في الإعلام أن لا يتعرض للمدة، ويُبيّن العملَ، فيقول: اكتريت هذه الدابة لأستقي من هذه البئر كذا وكذا دلواً إذا أشار إلى دَلو وعيّنه، ولو وصفه،
__________
(1) (د 1) : إعلام.(8/136)
ووصف البئر، وعمقها، كان الوصف كالتعيين، بل هو أبلغ في إفادة الإعلام من التعيين.
5205- وأما الكراء الواقع على الذمة في هذا القسم، فإنه ينقسم انقسام الاكتراء الواقع على الذمة في نقل الحُمولة، فيجوز إيراده على الذمة المطلقة، من غير تعرُّضٍ للدابة، ولا بد من إعلام البئر والدَّلْو، إن كان التعويل على عدد الدِّلاء. وإن أراد المكتري التعرضَ لدابة يصفها، يقع بها الاستقاء، فله ذلك، كما قدمناه في نقل الحمولة.
5206- فأما الاستئجار للحرث، فينقسم إلى العين، والذمة، فأما الإجارة الواردة على العين، ففيها الإعلامان المذكوران قبلُ في المسائل: أحدهما - يشتمل على ذكر الزمان، فيقول: اكتريت منك هذه الدابة لأحرث بها اليومَ، ولا بد من وصف الأرض، أو الإشارة إليها، فإن أشار إليها، كفت الإشارة، والتعيينُ إذا كان يُطلع بالإشارة على صفة الأرض، فقد تكون الأرض مُتستِّرة بترابٍ حُرّ ووراءه الحجرُ والرمل (1) .
وإن اعتمد الوصفَ، ولم يعيّن الأرضَ، قال: إنها خصبة، أو سهلية، أو جبلية، أو صلبة، أو خوارة، [جاز] (2) .
والغرض يختلف بهذا اختلافاًً ظاهراً. وإن لم يُرد أن يذكر الزمان، فعيّن الدابة، وأعلم العمل بالإشارة إلى الأرض، أو بذكر أرضٍ موصوفةٍ، فذلك جائز، كما تقدم.
5207- والاكتراء على الذمة في الحراثة ينقسم، كما تقدم في الاستقاء، ونقل الحُمولة؛ فلا يمتنع إلزام الحرث في الأرض المعيّنة، أو الموصوفة في الذمة. وإذا كان المكتري لا يُجري ذكرَ البهيمة، ذَكَرَ مساحةَ الأرض، والمنتهى الذي يبغيه في التكريب (3) ، والتقليب، والحرث، فلا بد من وصف الأرض كما تقدم.
__________
(1) (د 1) : والوصف.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) التكريب: هو تقليب الأرض، وزناً ومعنىً. (المصباح) .(8/137)
وإن أراد التعرضَ للدابة التي يقع الحرث بها، فيجب الاعتناء بوصف الدابة، وذكر جنسها؛ فإن الغرض يختلف بذلك اختلافاً بيناً.
5208-[فهذه جهات الأغراض] (1) في اكتراء الدواب وبيان الإعلام في المطلوب من كل فن، وإيضاح انقسام الإجارة إلى ما يرد على العين، أو على الذمة، وقد ضمّنَّا الكلامَ انقسامَ الإعلام، وانقسامَ كراء الذمة.
ونحن نرسم بعد ذلك فصولاً متصلةً بالأصول التي مهدناها، ثم نذكر بعد نجازها الضابط الموعود.
فصل
فيما على المكري والمكتري من الآلات في تحصيل الأغراض التي قدمنا ذكرها.
5209- فإن كانت الإجارة واردةً على العين، وكانت مطلقة، فالإكافُ والحزامُ (2) والبرذعة والخِشاش (3) ، أو البُرَةُ (4) ، والخطامُ في البعير، كل ذلك على المكري [إذا] (5) جرت الإجارةُ مطلقةً واردةً على عين الدابة، والمعوّل فيما ذكرناه على العرف الغالب؛ فإن مطرد العرف يقضي بكون هذه الآلات على المكري.
واختلف أصحابنا في السرج والدابةُ معينة للركوب، فمنهم من قال: يأتي به المكري قياساً على الإكاف، ومنهم من قال: يأتي به المستأجر، بخلاف الإكاف.
والتعويلُ في ذلك على العادة، وأنها في السرج تجري على خلاف حكمها في الإكاف، والمتبع في الخلاف والوفاق العرفُ، كما سنصفه، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) عبارة الأصل: هذه الأغراض في اكتراء الدواب.
(2) في الأصل، كما في (د 1) : الحرام بالإهمال للراء.
(3) الخِشاش: بكسر الخاء عود يجعل في أنف البعير يشدّ به الزمام. يقال: خشَّ البعيرَ إذا جعل في أنفه الخشاش. (المعجم) .
(4) البرةُ: حلقةٌ من صُفرِ (نحاسٍ) أو غيره تجعل في أحد جانبي أنف البعير للتذليل.
(المعجم) .
(5) في الأصل: أو.(8/138)
5210- وأما الظروف التي فيها نقل الحُمولة، فإن كانت الإجارة واردةً على عين الدابة، فهي على المكتري، وليس على مُكري الدابة إلا تسليمُها، مع الإكاف، وغيره، مما وصفناه.
وإن كانت الإجارة واردةً على الذمة في نقل الحُمولة، فقال الملتزم: التزمتُ نقلَ متاعك إلى موضع كذا، فالظرف على المكري الملتزم؛ فإنه إذا التزم النقلَ مطلقاً، فقد التزم التسبب إلى تحصيل الآلات التي يقع النقلُ بها.
5211- وإن كان الاكتراء للاستسقاء، فقد قال القاضي: إن كان الرجل معروفاً بالاستقاء بجمل نفسه، ودَلْو نفسه، فمطلق التزام الاستقاء يلزمه الإتيان بالدَّلو والرِّشا. وإن لم يكن المكري معروفاً باعتياد ذلك، فليس عليه إلا الإتيانُ بدابةٍ صالحةٍ للاستقاء.
ويتجه عندنا في ذلك ضربٌ من التفصيل، فنقول: إن لم يقع التعرض للدابة، وإنما اعتمد العقدُ الالتزامَ المطلق في تحصيل الغرض، فالظرفُ، والدَّلو، والرّشا، وما عداها من الآلات، التي تمس الحاجةُ إليها- على المكري الملتزم.
وإن وقع التعرضُ للدابة ووصفها، فالأمر يختلف وراء ذلك بالعادة، فإن اطّردت عادةُ الناحيةِ بأن يأتي الملتزم بالآلات، فعليه الإتيان بها، وهي تنزل منزلة الإكاف، وما في معناه، وإن جرت العادة بأن المكتري يأتي بالظروف والآلات، فليس على المكري الإتيان بها.
5212- وإن اضطربت العادات، والإجارةُ واردةٌ على الذمة، وقد وقع التعرض
للدابة وصفتها، فالمسألة محتملة: يجوز أن يقال: [على المكتري] (1) الظروفُ والآلات؛ فإن الاعتماد على الدابة والإتيان بها، ويجوز أن يقال: إنها على الملتزم المكري، فإنه التزم النقلَ، فأشعر التزامُه بالتزام الأسباب التي لا بد منها في النقل.
ثم يتصل بهذا المنتهى أن العادة إذا اضطربت، ورأينا اتباع العادة، فهل يبطل العقدُ لاضطراب العادة، حتى يقال: لابد من التقييد، حتى لا يقعَ العقدُ في
__________
(1) في الأصل: ليس على المكري.(8/139)
مضطرب العادة؟ أم لا حاجةَ إلى ذلك، ويرجع إلى صيغة اللفظ (1) ومقتضاها؟ [فيه] (2) خلاف قدمته.
ولا خلاف بعد تقدير ذلك أنه لو خصص العقد بالدابة، ونفى التزام الإتيان بالآلات فينعقد العقد على حسب ذلك، حتى قال الأصحاب: ولو قال: أكريتك هذه الدابةَ العاريةَ، بلا إكافٍ وحزام وبرذعة، فالإجارة تنعقد على هذا الوجه، وينقطع اتباع العادة.
5213- ولا خلاف أن المكتري إذا كان يركب المَحْمِل، فعليه الإتيان بالمَحْمِل، والمظلة والغطاء، وما يفرش في المحمل والحبل الذي يُشدّ به أحدُ المحملين إلى الآخر، والذي يشد به المحمل على الدابة. هذه الأشياء بجملتها، يأتي بها المكتري، إلا أن يشترطها على المكري.
5214- وإن مست الحاجةُ إلى سائقٍ يسوق، وإلى هادٍ دالٍّ يدل، فإن كانت الإجارة واردةً على العين، فليس على المكري إلا تسليم الدابة.
وإن كانت الإجارةُ واردةً على الذمة، فالتفصيل في أجرة السائق والهادي، كالتفصيل في الإتيان بالظرف، وقد بينا ذلك.
فصل
5215- قد ذكرنا في قاعدة المذهب أن المَحْمِل لا بد وأن يكون معلوماً للمكري، وأوضحنا طريقَ الإعلام فيه، ونحن نذكر الآن تفصيلَ القول في المعاليق التي يُعلّقها المكري كالسفرة (3) ، والقُمقُمة (4) ، والمِطهرة (5) ، ونحوها.
__________
(1) (د 1) : العقد.
(2) في الأصل: ففيه، ومطموسة في (د 1) .
(3) السفرة: طعام يصنع للمسافر، وسميت الجلدة التي يوعى فيها الطعام سفرةً مجازاً، والجمع سُفر، مثل غرفة وغرَف. (المصباح) .
(4) القُمقمة: وعاء من صفر (نحاس) له عروتان، يستصحبه المسافر. (مصباح) .
(5) المطهرة: الإداوة، وهي إناء صغير يحمل فيه الماء (المعجم، والمصباح) .(8/140)
5216- فأول ما نذكره فيها أنها إن أُعلمت وصفاً، أو تعييناً، فلا كلام، وإن أُطلقت، قال الشافعي: القياس أن إطلاقها فاسدٌ مفسد؛ فإنه لا بيان فيها، ولا ثبت يُرجَع إليه، وهي مذكورة في العقد على الجهالة. قال: ومن الناس من يقول: يصح العقد، والرجوع إلى ما يراه الناس وسطاً مقتصداً.
هذا كلام الشافعي.
5217- واختلف أصحابنا، فمنهم من قال: هذا الذي ذكره الشافعي ترديدُ قولٍ منه، ففي المسألة قولان: أظهرهما - أن العقد لا يصح للجهل، كما قررناه.
والثاني - أن العقد يصحّ، ويحمل الأمرُ على ما يراه أهل العرف قريباً مقتصداً في المعاليق.
ومن أئمتنا من قال: لا يصح العقد قولاً واحداً؛ لما قدمناه من ظهور الجهالة، فالمذهب الآخر حكاه الشافعي عن بعضِ الناس، فلا يُلحق بمذهبه.
5218- وفي بعض التصانيف (1) أن المَحْمِل إذا أطلق، ولم يقرن ببيانٍ من طريق الوصف، ولا من طريق العيان، فهو كالمعاليق حتى يُخرَّجَ فيها الطريقان. وهذا غلطٌ لا تعويل عليه، لم أره إلا في هذا التصنيف، وليس المَحْمِل كالمعاليق؛ فإنه من الأمور المقصودة، ولا يعد من التوابع في الإجارة، فإبهامه كإبهام الحُمولة.
5219- وإذا أجرينا القولين في المعاليق، وهي الطريقة المشهورة، ثم فرّعنا عليها، وقلنا بصحة العقد، وتنزيل المعاليق على المعتاد، فلو لم يذكر المعاليقَ أصلاً، فعلى هذا القول وجهان: أحدهما - أن المكتري (2) لا يحمل المعاليق؛ فإنه لم يجر لها ذكر. ومن الناس من لا معاليق له.
ومنهم من قال: يقبل من المكتري المعاليق، ويحمل على قضية الاعتياد، كما ذكرناه.
__________
(1) يقصد ببعض التصانيف، كتب الإمام أبي القاسم الفوراني، فهو كثير الحط عليه، وتغليطه.
وقد سبقت الإشارة إلى ذلك مراراً.
(2) في (د 1) : " المكري ".(8/141)
5220- ومما يتصل بما نحن فيه، أن من اكترى دابة ليحمّلها حُمولة تستقلّ الدابة بها فحسب، ولا يتأتى ركوبها، فلا معاليق في مثل ذلك، وإنما [المعاليق] (1) للدابة التي يركبها المكتري. وهذا بيّن متفق عليه.
ولا شك أن المعاليق تختلف باختلاف المركوب، فمعاليق الحمار دون معاليق البعير.
5221- وألحق أئمتنا السُّفرةَ بالمعاليق. فأما حمل طعامٍ فيها، فقد اختلف الأصحاب فيه، فمنهم من ألحقه بالمعاليق، ورد الأمر في مقداره إلى الاقتصاد في العادة.
ومنهم من لم يُثبت حملَ الطعام إلا مبيناً مُقدَّراً؛ فإن التقدير فيه متيسّرٌ غيرُ بعيدٍ عن العادة، فأما وزن القماقم [والإداوات] (2) ، فممَّا لا يُعتاد أصلاً، ويُبنى الأمر فيه على التسامح والتساهل.
فإن قلنا: لا بد من ذكر مقدار الطعام المحمول، فهو مما يؤكل في كل محط ومنزل.
5222- فإذا وقع التشاوط على حمل عشرين مَنّاً من الطعام، فقد قال الشافعي: القياسُ [أن له إبدال] (3) ما يفنى من الزاد.
والتفصيل فيه أن المكتري إن أكل الطعام المحمولَ، فالمذهب أن له أن يأخذ مثل ذلك الطعام، وأبعدَ بعضُ أصحابنا فيما نقله بعضُ المصنفين، فقال: ليس للمكتري أن يحمل طعاماً جديداً، إذا فني ما حمله أولاً؛ فإن المكري إنما يسامح في حمله بناء على أنه يؤكل ويَفْنَى، ثم المكتري يشتري في كل مرحلةٍ قدرَ حاجته.
وهذا وجه مزيّفٌ، لا أعدّه من المذهب. وقد قطع الأئمة بأن الطعام إذا فَني، أخذ المكتري مثلَه.
__________
(1) في الأصل: المعلاق.
(2) في الأصل: الإداوة.
(3) في الأصل: أن يبدل.(8/142)
5223- والمسائل مفروضة فيه. إذا قال المكتري: أحمل عشرين منّاً من الطعام، فهذا اللفظ يشعر باستدامة حمل هذا المقدار، والعادةُ جاريةٌ بين المسافرين، بأن حَشْو السفرة إذا فني أعادوا مثله، وإذا تطابق اللفظ والعرف، فلا وجه لمخالفتهما.
نعم. محلّ تردد الأصحاب ما نصفه.
قالوا: إذا نفذ جميعُ الزاد، فله حملُ مثله، وإن انتقص، فهل له أن يُكمل المقدارَ المذكورَ كلما انتقص، أم ليس له ذلك، حتى ينفد الزاد؟ فعلى قولين: أصحهما - وهو اختيار المزني أنه يزيد كلّما نقص، كما أن الحمولة المقصودة لو نقص شيء منها بسببٍ، فإن المكتري يُكملُها ويردّها إلى المقدار المشروط، فكذلك الزاد المشروط.
والقول الثاني - أنه لا يكمل ما نقص؛ لأن العادة في الزاد أنه لا يشتري منه ما لم يَفْن الأول.
5224- ثم موضع التردد والخلاف فيه إذا كان في المراحل المستقلة زادٌ بأسعارٍ راخية. فإن لم يكن فيها زادٌ، أو كان، ولكن بسعرٍ عالٍ زائد على سعر المنزل، الذي اتفق فيه نقصانُ الزاد، فيجوز الإبدال في هذه المنازل، قولاً واحداً؛ فإن اللفظ في تقدير الزاد مشعرٌ بهذا، والعادةُ مطردة، موافقةٌ، ثم تحقق القحط (1) والغلاء كما ذكرناه، والظن فيه والاستشعار بمثابة التحقق، وهذا معلوم في العادة.
5225- ومن تمام البيان في ذلك أن المسائل التي حكينا النصَّ، وتردُّدَ الأصحاب فيها في إبدال الزاد وجَبْر النقصان مصوّرةٌ فيه إذا ذكر المكتري أنه يحمل خمسين منّاً من الزاد مثلاً، فإن لم يجر للزاد ذكرٌ، والطعام موجود، فالذي عليه التعويل أن المكتري لا يحمل شيئاًً، وليس القول في ذلك كالقول في المعاليق؛ فإن المسافر لا يخلو عن المعاليق، والعادات مضطربة في حمل الطعام، إذا كان موجوداً في المنازل.
وأبعد بعضُ أصحابنا كما قدمنا، فألحق حملَ الطعام بالمعاليق.
__________
(1) (د 1) : تحقيق العقد.(8/143)
فإن فرعنا على هذا الوجه الضعيف، وجوزناً له أن يحمل مقداراً من الطعام، ورجعنا فيه إلى عادة المسافرين، فالظاهر في التفريع على هذا المنتهى أنه إذا نقص شيء من الطعام، لم يجبره؛ فإن المعتمد في المسائل المتقدمة أن المكتري ذكر مقداراً من الزاد، فاقتضى اللفظُ استدامةَ ذلك المقدار، فإذا لم يجر ذكرُ مقدارٍ، ووقع التعويل على العادة المجردة، فالعادة تقتضي أن الطعام لا يزاد كلما نقص.
5226- وذكر بعض الأصحاب وجهاً بعيداً في جواز الزيادة، وهذا على نهاية
الضعف؛ فإنه تفريع ضعيف على أصلٍ ضعيفٍ. نعم، إذا لم يكن بين يدي المسافر طعام في المنازل، أو كان ولكن بسعر زائد، فالعادة تقتضي الاستظهار بالزاد، ويعود الكلام الآن إلى المقدار، وفيه جهالة، فيتصل ترتيب المذهب في هذا المقام بالمعاليق؛ فإنها معتادة محمولة. هذا منتهى البيان في ذلك.
فصل
قال: " وإن أكراه إلى مكة، فشرط سيراً معلوماً، فهو أصح ... إلى آخره (1) .
5227- إذا اكترى دابةً ليركبها، أو يُحمّلها إلى موضعٍ مخصوص، فإن ذكرا قدرَ السير كلَّ يوم، وأبانا أنهما يسيران خمسة فراسخ، أو أقلَّ، أو أكثر على ما يتوافقان عليه، وكانت الدابة تحتمل ذلك، فالشرط متبع.
وإن لم يذكرا مقدار السير، وأطلقا العقدَ، نُظر: فإن لم (2) يكن في الطريق مراحلُ معلومةٌ، كطريق سماوة (3) ، وتبوك، فالمذهبُ الصحيح أن العقد يفسد؛ فإن المقصود فيه مجهولٌ، غيرُ متقيّد بلفظٍ، ولا عادة. ومن أصحابنا من صحح الإجارة، وتشوّف إلى ضبط السير بالزمان، مع الاقتصاد في المسير.
__________
(1) ر. المختصر: 3/83.
(2) (د 1) : فإن كان.
(3) السماوة: بادية السماوة بين الكوفة والشام.(8/144)
فإن كان في الطريق مراحل معلومة، بالمناهل والرباطات، والقُرى، أو بالأميال، والبُردُ والصُّوى (1) ، فالعقد صحيح محمول على موجب العادة والكلام في كيفية تسيير الدابة استحثاثاً وتزجيةً، مردودٌ إلى العادة، وهو مضبوطٌ، لا يعدّ من المجاهيل، فإذا تقيّد المسير بالعرف، والمراحل المرتبة في الطريق، فلا مزيد ولا نقصان إلا عن تراضٍ من المكري والمكتري.
5228- ومما يتعلق بما نحن فيه الكلامُ في زمان السير والسُّرَى (2) ، فإن بيّناه شرطاً في العقد، اتّبعناه، وإن أعرضا عن ذكر الزمان، وأطلقا العقدَ، فالعادة يُكتفَى بها في ذلك، فنحملها إذا تنازعا في زمان المسير على المعتاد في ذلك الطريق، فإن لم يكن للعادة ضبطٌ في الزمان الذي يقدّر السير فيه، فهذا يجرّ جهالةً مفسدةً؛ من جهة أن المتعاقدَيْن إذا تنازعا، وليس أحدهما بالموافقة بأولى (3) من الثاني، فيؤدي مثلُ هذا إلى قيام الخصومة ناشئةً بينهما، لا نجد لها مفصلاً. وهذا غير مُحتمل.
5229- ولو تنازع المكري والمكتري في محل النزول، فطلب المكري النزولَ في الصحراء بارزاً من القرية وخِطّتها، ورأى صاحب المتاع النزولَ في القرية احتياطاً لمتاعه، وليشتري في القرية ما يبغيه على يُسر، فإذا تنازعا كذلك، حملناهما على العادة، فإن كان وقت أمنٍ، فالعادة النزول في الصحارى، وإن كان وقت خوف، فالعادة النزول في القرى، ومما يؤثر في ذلك الصيفُ والشتاءُ، والعادة هي المتبعة.
وإن اضطربت العادة في محل النزول، ولم نجد منها بيّناً (4) بعَيْنه نتَّبعه، ففي المسألة احتمال، والأظهر أن ذلك يؤثر في الفساد؛ فإنه يجرّ نزاعاً عظيماً بين المكري والمكتري.
__________
(1) الصوى: جمعُ صُوّة، وهي العَلَم من الحجارة المنصوبة في الطريق، وزان مُدية ومُدّى (المصباح) .
(2) السُّرى: سيرُ عامة الليل (يذكّر ويؤنّث) وفي المثل: " وعند الصباح يحمد القومُ السُّرى " (المعجم) .
(3) (د 1) : بالموافقة منها أولى ...
(4) كذا في النسختين. ولعلها: شيئاً.(8/145)
5230- ومما يتصل بذلك أن المكتري الراكب قد ينزل بالرواح، ويمشي مقداراً، فإن وقع فيه شرط على المكتري، فقد قال الأصحاب: يلزمه اتباعُ ذلك الشرط، وهذا يعترض فيه إشكال، وهو أنه إذا قُدّر ذلك مستحقاًً، رجع استحقاق الركوب إلى بعض المسافة، وينقطع الأمر فيه، ويقع في تفريع كراء [العُقَب] (1) ، وقد تَفَصَّل ذلك فيما مضى.
وذهب طوائف من أصحابنا إلى احتمال هذا القدر -وإن منعنا كراء [العُقَب] (2) - بناءً على التساهل، وهذا إنما يحسن إذا لم يكن النزول محتوماً.
هذا إذا جرى شرطُ النزول، فإن لم يَجْرِ، فقد ذكر الأصحابُ وجهين: أقيسهما - أنه لا يلزمه النزول؛ فإنّ لفظَ الاكتراء للركوب يقتضي استدامةَ الركوب، فالتعلق بموجب اللفظ أولى.
والوجه الثاني - أنه يلزمه النزول، ولفظ العقد ينزل على العادة. وهذا مزيّفٌ؛ فإن العادة لا تقضي بإلزام النزول، بل هي جاريةٌ بالتبرع بالنزول، ثم قرّبَ القاضي الوجهين في هذا المقام من القولين في المعاليق؛ فإن تفصيل المذهب فيها دائر على اللفظ والعادة، كما تقدم.
فصل
قال: " وعليه أن يُركِبَ المرأة، ويُنزلَها عن البعير، والبعيرُ بارك ... إلى آخره " (3) .
5231- قال الأئمة: إن كانت الإجارة واردةً على العين، فلا يلزم مالك الدابة الإركاب، والإنزال وإناخة البعير، وإنما عليه تسليمُ الدابة المعيّنة.
وإن كان العقدُ وارداً على الذمة، وقد التزم المُكري تبليغَ الراكب المنزلَ المعيّنَ،
__________
(1) في الأصل: العُقبة، وهي مفرد العقب، وقد مرّ شرحها آنفاً.
(2) في الأصل: العقبة.
(3) ر. المختصر: 3/84.(8/146)
فالذي ذهب إليه الجمهور أنه يجب على المُكري إعانة الراكب إن كان عاجزاً، فيُركب المرأة، ويرعى حدَّ الشرع، وموجب الدين في إركابها. وكذلك القول في الشيخ الهِمِّ (1) ، والمريضِ والصبي، ويجب إناخة البعير لهؤلاء، أما الشاب القوي القادر على أن يركب بنفسه، لا يجب إعانته، ولا يجب إناخة البعير له، إذا قدر على أن يَركب بنفسه، والبعير قائم.
هذا الذي ذكرناه يجب القطع به؛ فإن الإجارة إذا وردت على الذمة؛ فمعتمدها تبليغُ المكري الراكبَ الموضعَ المعيَّنَ، وهذا يتضمن -لا محالة- الإعانةَ عند العجز.
5232- وفصل شرذمة من الأصحاب بين أن يقع التعويلُ في إجارة الذمة على التبليغ، ويجري ذكر الدابة تبعاً، مثل أن يقول: ألزمت ذمتك أن تبلغني الموضعَ المسمّى، على دابةٍ صفتُها كذا وكذا، فإن كان كذلك، وجبت الإعانة، وبين أن يقع التعويل على الدابة، على صيغة الإيقاع في الذمة، مثل أن يقول: ألزمت ذمتك منفعة دابةٍ صفتها كذا وكذا.
وهذا الفصل فقيهٌ لا بأس به. والمشهورُ إيجاب الإعانة في إجارة الذمة كيف فرضت؛ وذلك لأنّ إجارة الذمة لا بد فيها من التعرض للدابة، إذا كان المقصود الركوب، فلا يختلف الأمر باختلاف الصيغ.
5233- وذكر بعض المصنفين وجهاً بعيداً في أن الإجارةَ إذا وردت على عين الدابة، وجبت الإعانة فيها على الركوب، وهذا على بعده معتضدٌ بالعادة بعضَ الاعتضاد، وللعادة وقعٌ عظيمٌ في أمثال ذلك.
5234- ومما يتصل بما نحن فيه حملُ الحُمولةِ على الدابة وحطُّها في المنزل. وقد ألحق القياسون ذلك بالإعانة على الركوب. وقد تفصّل المذهب فيه.
وذهب آخرون إلى أن الإعانة على الحطّ والترحال مستحقةٌ لعموم العادة فيها، من
__________
(1) الهمّ: الشيخ الفاني. (المصباح) .(8/147)
غير فرقٍ بين إجارة العين والذمة، بخلاف الإعانة على الركوب؛ فإن التعويل على العادة، وهي مطردة في الحط والترحال، وإن اضطربت في الركوب والإعانة عليه.
5235- ثم قال العراقيون تفريعاً على هذا: رفعُ المَحْمِل، وحطُّه على المكري، وشدُّ (1) أحدِ المحملين إلى الثاني على الرسم في مثله في ابتداء السفر- فيه وجهان: أحدهما - أنه على المكري؛ فإنه من تمام الترحال، وقد عمت العادةُ به.
والوجه الثاني - أن ذلك على المكتري؛ فإنه بمثابة ضمّ المتاع بعضِه إلى بعض، وتنضيدُ الأمتعةِ في ظروفها على مالك المتاع، فليس على المكري أن يفعل ذلك، وإنما عليه حطُّها ورحْلُها.
فصل
قال: " وينزل الرجل للصلاة ... إلى آخره " (2) .
5236- قال الأئمة: كل ما يتهيّأ فعلُه على الدابة، كالأكل والشرب، وإقامة النافلة، فالمكري لا يُنزلُ المكتري لأجله، وكل ما لا يتأتى فعله على الدابة كصلاة الفرض، وقضاء الحاجة، والوضوء، فالمكتري ينزل لأجله، والمكري هل يُعينه؟ فيه التفصيل المقدّم في الإعانة، وتقف الدابة حتى يفرغ. فإذا نزل للصلاة، لم يعجله المكري، والمكتري لا يطوّل ولا يبطىء، بل يصلي على حقّه وتمامه.
هذا منتهى القواعد والأصول، في مضمون الباب، وفيه فصول منتشرة، يحسبها المبتدىء متفاوتة غيرَ داخلةٍ تحت ربطٍ وضبط، وهذا أوان الوفاء بما وعدناه في صدر الفصول.
5237- فنقول: هذه المسائل بما فيها تدور على مقتضى اللفظ، وموجب العرف في إفادة الإعلام، ويتعلق بعضُ أطرافها بتساهلٍ معتادٍ في بعض المقاصد، فأما النظر في مقتضى الألفاظ، فلا يكاد يخفى على الفطن، وأما العادة، فإنها تنقسم إلى
__________
(1) (د 1) : وسنذكر أحد المحملين.
(2) ر. المختصر: 3/84.(8/148)
ما يطّرد، ولا يستراب في اطراده، وإلى ما يضطرب بعضَ الاضطراب، فأما العادةُ المطَّردة، فنعم المرجعُ هي في أمثال هذه المعاملات، ولها أثران: أحدهما - تقييدُ اللفظ المطلق. وهذا معلوم من أثر العادة، وبيانُه فيما نحن فيه أن السير إذا أطلق في مسلكٍ فيه مراحل، فليس في اللفظ تقييد في مقدار السير، ولا في كيفيته، ولكن العادة المطردةَ تُنزل المعنى المتردد في اللفظ على وجهٍ واحد، وهذا بمثابة حمل النقود المطلقة في العقود على ما يعمّ في المعاملة جريانُه. فهذا أثر في [العادة] (1) لا ينكر.
والأثر الثاني - أن العادة إذا اقتضت شيئاًً، وليس في لفظ العقد له ذكرٌ، لا على إجمال، ولا على بيان، فهذا موضعُ نظر الفقهاء، ثم ينقسم، فمنه ما تظهر العادة فيه على اطرادٍ، كالإعانة على وضع الحُمولة ورفعها، في الإجارة الواردة على العين.
ظاهرُ المذهب أن ذلك واجبٌ، وكأن العادة [نطقت] (2) به.
ومن أصحابنا من لم يوجب ذلك، وقال: أثر العادة في بيان إجمال اللفظ، فأما أن تقتضي شيئاًً لا ذكر له، فلا.
5238- ويلتحق بهذا القسم (3) إيجاب الإتيان بالإكاف، وما في معناه في إجارة العين، وهذا متفق عليه، لاطراد العادة، ولا يعرف خلافُه. وقد يفرض نزاعٌ على الإعانة في الرفع والخفض.
هذا بيان أثر العادة المطردة.
5239- فأما إذا اختلفت العادة، وحصل الوفاق على اختلافها، فلا حكم لها.
فإن كان اللفظ مستقلاً بإفادة المقصود، فعليه التعويل. وقول القائل: عادةٌ مضطربة: كلامٌ (4) مضطرب؛ فإن المضطرب ليس عادة.
__________
(1) في الأصل: الفساد.
(2) في الأصل: قطعت.
(3) (د 1) : الفن.
(4) خبر، مبتدؤه: وقولُ القائل: عادة مضطربة.(8/149)
ومن أصحابنا من يقول: إذا اختلفت العادة فيما يتعلق بمقصود العقد، فلا بد من تقييد لفظ العقد بما يقطع العادة المضطربة.
وقد قدمتُ لهذا نظائرَ في المسائل، وهو كلام ضعيفٌ، مزيفٌ عندي؛ فإن اللفظ إذا كان مستقلاً، فلا مبالاة بما يضطرب من أحوال الناس.
5240- ومما يتعلق بالضوابط في هذا المنتهى أنا قدمنا في صدر الفصول الاكتفاءَ بذكر وزن الحُمولة، وقد يخطر للناظر أن ذلك مجهول؛ فإن الغرض يختلف باختلاف الحُمولات، فالرزينُ منها المكتنز يهُدُّ [الأضلاع] (1) ، ويكُدّ، ويُقرّح، والمنفوش منها كالتبن والقطن، يَغُمّ ويَعُمّ. ولكن لم يعتبر الأصحاب ذلك؛ لأن الضررين يتقاربان (2) ويدنوان من التقابل، وإنما الذي يجب ذكره ما يظهر غرضاً، ولو سكت عنه، لأشكل، ولم يقابله ما يماثله. فأما التعرض لأعيان الأغراض القريبة من التقابل، فبعيدٌ اشتراطه، فليفهم الناظر ذلك.
5241- وما أجريناه من الاكتفاء بالعِيان في الحمولة والشَّيْل باليد، فهو من باب التسامح والتساهل. فإذا انتشر المطلوبُ وكثر، لاقَ به التساهل في بعض الأطراف؛ سيّما إذا اعتضد بالعرف. وعلى هذا الأصل انبنى كثير من الكلام في أوصاف السَّلَم، ولما عظمت الأوصاف في الحيوان، ومست الحاجة إلى السلم، ازداد التسامح في السلم في الحيوان، على حسب كثرة أوصافها، وانتشار الأمر فيها.
5242- وأما مسائل التردد كالمعاليق؛ فإنها مأخوذةٌ من عادةٍ جاريةٍ فيها، مع إبهامٍ ونزاعٍ يُؤلَف في أمثالها، وعُسرٍ في ضبطها، ولا ينبغي أن يظن الفقيه أن اختلاف القول من اختلاف العادة، فإن العادة لو اختلفت، لأسقطناها وعدنا إلى تحكيم اللفظ.
5243- فهذا منتهى الإمكان في ذكر مأخذ الفصول المقدمة، والتطلع إلى ضبطها. وإنما يصعب مُدركُ أمثالها على من لا يستمدّ من بحور الأصول، ولا يغزر حظُّه من مآخذ الشريعة.
__________
(1) في الأصل: الأضلاح.
(2) (د 1) : يتفاوتان.(8/150)
فصل
قال: " وإن اختلفا في الرِّحْلة (1) ، رُحِل لا مَكْبوباً، ولا مستلقياً ... إلى آخره" (2) .
5244- إذا تنازع المكري والمكتري في كيفية رِحْلة المحمِل، فقال المكتري: نُرْحله مكبوباً، وقال المكري: بل نُرحله مستلقياً، فقد اختلف الأئمة في تفسير ذلك، فقيل: المكبوب أن يكون مقدّم المحمل الذي يلي عنقَ البعير منكبّاً، والمستلقي أن يكون مؤخره الذي يلي العجز متسفِّلاً، والمكبوبُ أهون على الراكب، وأشق على البعير.
وقيل: المكبوب أن يكون الجانب الذي يلي جنب البعير في عرض المحمل مُلتصقاً به، ويستعلي ما يلي الصحرا (3) في مقابلة ذلك. وهذا يشق على الراكب.
والمستلقي عكس ذلك (4) .
وعلى الجملة إذا فرض نزاعٌ بينهما، لم يُحمل لا مكبوباً، ولا مستلقياً، ولكن يحمل معتدلاً بينهما.
فصل
قال: " وإن هرب الجمال ... إلى آخره " (5) .
5245- إذا هرب الجمّال، فلا يخلو: إما أن يذهب بالجمال أو يدعَها في يد
__________
(1) الرّحْلة: بكسر الراء، وضع الرَّحل على البعير، من رَحَله يرحله رحلاً ورِحلةً (المعجم) .
(2) ر. المختصر: 3/84.
(3) كذا في النسختين، ولم يسعفنا في بيان معناها، لا المصباح، ولا المعجم، ولا القاموس، ولا الزاهر، ولا الأساس. وقد يكون بها تصحيف أو تحريف. والله أعلم.
(4) للرافعي في الشرح الكبير، وكذلك النووي في الروضة تفسير آخر للمكبوب والمستلقي، وفيه أن المستلقي أسهل على الراكب من المكبوب. ولم أجد عند أيهما لفظ (صحرا) الذي أبحث له عن معنى هنا. (الشرح الكبير: 6/141، والروضة: 5/222) .
(5) ر. المخثصر: 3/85.(8/151)
المكتري. فإن ذهب بها، لم تخلُ الإجارة إما أن تكون واردةً على أعيانها، أو تكون واردة على ذمة المكري. فإن كانت واردةً على أعيانها، فلا شك أن الإجارة تنفسخ في المدّة التي تغيّب الجمّال فيها، ولا سبيل إلى الاكتراء عليه؛ فإن المعقود عليه كان متعيَّناً، والعقد إذا ورد على العين، لم يتعدّها إلى غيرها.
فإن كانت الإجارة واردةً على الذمة، فهرب الجمال، فلا نقضي بانفساخ الإجارة، ولكن ما التزمه الجمال دينٌ في ذمته، فيرفع المكتري القصةَ إلى مجلس الحاكم، وإذا ثبت عنده الأمر على حقيقته، ووجد مالاً للمكري، فإنه يكتري عليه من ماله. وإن لم يجد له مالاً، فله أن يستدين عليه إن رأى ذلك.
فإن لم يفعل الحاكم، ولم يتيسر [المقصود] (1) فللمكتري أن يفسخ الإجارة. هذا إذا هرب بالجمال.
5246- فأما إذا هرب وترك الجمال في يد المكتري، فلا يخفى أن المؤن عليها كانت على مالكها، وكذلك القيام بتعهدها، فإذا هرب، فإن تبرع المكتري بالإنفاق، وبَذْلِ مؤنةِ التعهد، لم (2) يجد مرجعاً.
فإن أبى (3) ، ورفع الأمر إلى الحاكم ثَمَّ، يفعلُ الحاكم في تحصيل المؤونة ما وصفناه.
[فإن] (4) لم يجد الحاكم له مالاً، ولم ير الاستقراضَ عليه، وكان في الجمال [فضلٌ] (5) عن مقصود المكتري، فله بيع الفاضل من رقابها، وصرفُه إلى نفقة الباقي.
5247- ولو أذن للمكتري في أن يُنفق عليها من مال نفسه، على شرط الرجوع،
__________
(1) في الأصل: المفقود. ومعنى "لم يتيسّر المقصود": أي تعذر الأكتراء عليه، كما في عبارة الرافعي في الشرح الكبير: 6/174. والجملة حينئذٍ تكون من باب عطف البيان للجملة قبلها.
(2) (د 1) : المتعهد ولم نجد.
(3) (د 1) : وإن أراد رفع الأمر.
(4) في الأصل، كما في (د 1) : وإن لم.
(5) في الأصل: قصد.(8/152)
ففي المسألة قولان: أحدهما - يجوز ذلك، فإن الضرورة على الجملة قد تُحْوج إليه، والضرورات تغيّر قياس العقود، ثم إذا تمهّد أصلٌ لإمكانِ حاجةٍ، لم يتوقف نفوذُه على [تحقق] (1) الحاجة في كل صورة. وعلى هذا الأصل جرت الإجارة جملةً وتفصيلاً، والحاجة ظاهرة في الإذن للمكتري؛ فإن الغالب أن الحاكم لا يجد مالاً للهارب، ولا يثق بالرجوع عليه لو استقرض.
والقول الثاني - أن ذلك غيرُ جائز، فإن المكتري لو تعاطى، كان قائماً بتأدية حق نفسه، واستيفائه، وهذا لا سبيل إليه.
فإن قلنا: يجوز للحاكم تفويض الأمر إليه، فلو أنفق، واقتصد، ووجد الجمّال، رجع عليه.
ولو نازعه في المقدار، فقد ذكر صاحب التقريب وجهين: أحدهما - أن القول قولُ المكري؛ فإن الأصل براءة ذمته، عن المقدار الذي يدّعيه المكتري.
والوجه الثاني (2) - أن القول قول المكتري؛ فإنه إذا كان مأذوناً من جهة الحاكم، فهو مؤتمنٌ من وجهٍ، وإن كان راجعاًً بنفسه لنفسه، فيجب أن يُصدَّق مع يمينه.
والمعنى الذي جوّز تفويضَ الأمر إليه، لا يبعد على مقتضاه تصديقُه [في] (3) القدر الممكن المقتصد مع يمينه.
5248- ولو استبدّ المكتري، فأنفق بنفسه، مع إمكان مراجعة الحاكم، لم يجد مرجعاً.
وإن لم يجد حاكماً، وأنفق، ففي المسألة الأوجهُ الثلاثة، التي ذكرناها في كتاب المساقاة: أحدها - أنه يرجع للحاجة الماسة.
والثاني - لا يرجع.
والثالث - أنه إن أشهد، رجع. وإن لم يُشهد، لم يرجع.
__________
(1) في الأصل: تحقيق.
(2) (د 1) : والقول الثاني.
(3) في الأصل: على.(8/153)
ولا يرجع ما لم يقصد الرجوع، فلو قصد التبرعَ، لم يرجع، ولو لم يقصد شيئاًً، فلا يرجع أيضاًً، وإنما التردد والاختلاف إذا أنفق على قصد الرجوع.
ولو كان في الموضع حاكم، ولكن عسر عليه إثبات الواقعة في مجلسه، والقاضي لا يتصرف على غير بصيرة، فهذا بمثابة ما لوْ لم يجد الحاكم في التفصيل الذي ذكرناه.
5249- وما ذكره الأصحاب من الفصل بين أن يُشهد، وبين أن لا يُشهد مشهورٌ في المذهب، ولكن لستُ أرى لذلك أثراً في إثبات الرجوع في الأصل؛ فإن الشهود لا يسقطون على حكمٍ غيرِ ثابتٍ، وإنما التفويض والتسليط إلى الولاة.
ولكن هذا يضاهي أصلاً سيأتي في كتاب اللقطة، وهو أنه هل [يجب] (1) على الملتقط أن يُشهد، إذا تمكن من الإشهاد، فهذا مأخوذٌ من ذلك، وسيأتي مشروحاً، إن شاء الله عز وجل.
5250- ثم قد ذكرنا فيه إذا فوّض الحاكمُ إليه الإنفاقَ أنه لو اختلف المكري والمكتري في المقدار، فالقول قول من؟ والذي يقتضيه القياسُ أنه إذا أنفق بنفسه من غير تفويضٍ، وقلنا: له الرجوع في القدر المتفق عليه، فلو فرض نزاعٌ، فالقولُ قولُ المكري؛ فإنه لم يستند إنفاقُه إلى ائتمان من جهة السلطان. وفيه احتمالٌ؛ من جهة أن الشرعَ سلّطه على الإنفاق، فيجوز أن يكون كتفويض الحاكم إليه، وللحاكم سلطنةٌ في مال الغُيّب على شرط النظر، والمصلحة.
ولو وجد مالاً لغائب، وكان ضائعاً لا يتأتى حفظه إلا بمؤونة، وقد يبلغ مبلغاً، فلو أراد بيع ذلك المال، وإمساك ثمنه للغائب، جاز ذلك، وسنصف هذه الأبواب في أحكام القضاة، إن شاء الله عز وجل.
فرع:
5251- الأجرة إذا كانت مؤجلةً في الإجارة، فحلّت، وقد تغيرت صفةُ النقد، وكان ذُكر مطلقاً في العقد، فلا شك أن الاعتبار في صفة النقد بالنقد الذي كان غالباً يومَ العقد، ولا نظر إلى نقدِ يوم الحلول. وكدلك القولُ في الثمن إذا حل.
__________
(1) ساقطة من الأصل.(8/154)
5252- فأما إذا ذُكر في الجعالة مقدارٌ من الدراهم، وكانت الدراهم إذ ذاك على صفةٍ، ثم استكمل المجعولُ له العملَ، وقد تغيرت صفة النقد، فقد اختلف أصحابنا فيما حكاه القاضي، فذهب بعضُهم إلى أن الاعتبار باليوم الذي تم العملُ فيه؛ فإنه يوم استحقاق الجُعل. وهذا ضعيفٌ، لا أصل له.
والصحيح أن الاعتبار بالنقد [العام، يوم ذُكر؛ فإن العرف العام قرينُ اللفظ، فكأنه وإن أطلق الدراهم] (1) قيدها بالصفة العامة حالة الذكر.
***
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.(8/155)
باب تضمين الأجراء
قال الشافعي رحمة الله عليه: " والأجراء كلهم سواء، وما تلف في أيديهم، ففيه واحدٌ من قولين ... إلى آخره " (1) .
5253- نقول أولاً قبل الخوض في مقصود الفصل: من استأجر دابةً، أو غيرَها من الأعيان، وقبضها ليستوفي المنفعةَ منها، فإذا تلفت في يده من غير عدوانه وتقصيره في الحفظ، لم يضمنها، لا نعرفُ في ذلك خلافاًً، والسببُ فيه- عندنا- أنه استحق المنفعة منها، ولا سبيل إلى استيفاء المنفعة منها إلا بقبضها، وليست العين هي المستحقة في نفسها، فلما كان قبضُها طريقاً في استيفاء المنفعة، لم يثبت الضمان فيها.
ولو اشترى رجل سمناً في بُستوقة (2) ليستخرج السمن منها، فتلفت في يده من غير عدوانٍ وتقصيرٍ، فقد ذهب بعض أصحابنا إلى أن البُستوقة لا تكون مضمونةً على القابض، قياساً على العين المستأجرة، ووجه التقريب أن اتصال المنفعة بالعين كاتصال السمن بالبُستوقة.
وهذا غير صحيح، والذي ارتضاه المحققون أن البستوقة مضمونة؛ فإن إخراج السمن منها من غير نقلٍ وإثبات يدٍ عليها ممكنٌ، ولا يتأتى الانتفاعُ دون نقل الأعيان التي بها الانتفاع، فالبستوقة في يده كالعين المستعارة، فهذه مقدمةٌ، جددنا ذكرها.
ونحن نخوض بعدها في مقصود الباب، فنقول:
__________
(1) ر. المختصر: 3/85.
(2) البُستوقة: إناءٌ من الفخار، فارسي معرّب (معجم الألفاظ الفارسية المعربة) .(8/156)
5254- إذا تلفت عينٌ في يد الأجير، [وكانت سُلِّمت] (1) إليه ليوقع فيها العملَ المستحَقَّ على الأجير بالإجارة، فلو تلفت تلك العينُ، فنقول: إن كانت يد المالك قائمةً، والأجير كان يعمل بين يديه، فليس للأجير يدٌ على الحقيقة، فإذا تلفت العينُ بآفة سماوية، فلا ضمان؛ فإنها لم تتلف في يد الأجير، وهذا يسمى الأجير المشاهَد. ومعناه أنه يعمل في مشاهدة المالك، وتحت يده.
5255- فأما إذا زالت يد المالك وثبتت يد الأجير على العين التي كان يوقع عملَه
فيها، فإذا فرض التلف بآفةٍ من غير صُنعٍ من جهة الأجير، ولا تقصيرٍ، ولا عدوانٍ، فحاصل المذهب طريقان: من أصحابنا من رأى أقوال الشافعي محتملة في ذلك، ففي المسألة ثلاثة أقوال: أحدها- أنه لا يجب الضمان، وهو الأقيس؛ فإنه لم تثبت يده على العين لمنفعةِ نفسه، وإنما أثبتها ليوقع فيها عملاً مستحقاً عليه، وإذا كان مستأجرُ العين لا يضمنها، لأنه يستوفي منها منفعةً له، فلأن لا يضمن الأجير -وسببُ قبضه منفعةٌ مستحقة عليه- أولى؛ فإن من استحق شيئاً متخيِّرٌ في إسقاط حقه، ومن استحق عليه شي، فلا خِيَرَة له.
والقول الثاني - أنه يجب الضمان؛ لأنه يقبض ما يقبض لتقرير عوضِ عملِ نفسه، وترجع المنفعةُ إليه.
والقول الثالث- أن الأجير المشترك يضمن، والأجير المنفرد لا يضمن.
5256- واختلف أئمتنا في الأجير المشترك، ويظهر من ذكر الاختلاف فيه الأجيرُ المنفرد، فمنهم من قال: الأجير المشترك هو الذي يلتزم تحصيلَ العمل في ذمته، فإن شاء أوقعه بنفسه، وإن شاء استأجر من يُحصِّلُه، فيجتمع في يده أعيان أملاك الناس، وسمي مشتركاً، لأنه لا يختص بواحدٍ من المستأجرين، والأجير المنفرد هو الذي تتعلق الإجارة بعينه لا بد منه، فهو منفرد لمستأجِره. والمشترك أولى بالضمان؛ لاتساع الطريق عليه، حتى كأنه غيرُ مأمورٍ في عينه بتحصيل العمل، بخلاف المنفرد.
__________
(1) في الأصل: " وكأنه سلمه " بهذا الرسم.(8/157)
5257- وذكر العراقيون وجهاً آخر في معنى المشترك والمنفرد، فقالوا: المشترك من لا يتعين لعمله مكانٌ، وهو الذي يستأجَر لعملٍ موصوفٍ، من غير ذكر وقت، وقد يُتصور ذلك مطلوباً من عمله، حتى لو أراد إقامة غيره مقام نفسه، لم يجد إليه سبيلاً، وذلك أن يقول: خِط بنفسك هذا الثوبَ، فيتصور إذاً أن يعاقده على عمله في عينه أقوامٌ، والأجير المنفرد هو الذي يستعمل عقيب العقد، ولا يمهل، ويتعين له مكانٌ على هذا، ولا يقدّر مشتركاً.
5258- وهذا الذي ذكره العراقيون فيه نظر، أولاً - في نفسه، ثم الرجوع يقع بعد ذلك إلى مقصود الفصل.
فإذا استأجر رجل شخصاً في خياطة ثوب وأورد الإجارةَ على عمله (1) ، فلو أراد أن يلزمه الاشتغال بما استحقه عليه، فله ذلك، وإذا كان يملك هذا، فمنافعه مستحقة في هذه الجهة، فيجب أن لا يصح من الغير استئجاره، ومنفعة عينه مستحقةٌ مستغرقةٌ.
وهذا فيه احتمال، فلو جرينا على حقيقة الاستغراق، لزم منه أن يقال: إذا مضى على أثر العقد زمانٌ يسع العمل، فلم يعمل فيه، تنفسخ الإجارة، كما لو استأجر داراً شهراً، ولم يتفق تسليمُها حتى انقضى الشهر، وقد ذكرت طرفاً من هذا فيما تقدم، وهذا أوان استقصائه.
فإذا وردت الإجارة على الذمة، لم يخف مقصودُنا فيه، وإذا وردت على العين، وقُرنت بالتأقيت، فيتحقق [لا محالة] (2) الاستغراق، ويترتب عليه الانفساخ إذا مضت المدة قبل التسليم.
وإن كانت الإجارة متعلقةً بالعين، ولكن المعتمدَ فيها صفةُ العمل، وبيانُ مقداره، كخياطة الثوب، وما في معناها، فهذا مختلف فيه. والاختلاف مأخوذ من فحوى كلام الأئمة.
__________
(1) كذا في النسختين، ولعلها: "على عينه".
(2) ساقطة من الأصل.(8/158)
فالذي يقتضيه قياس المراوزة أن الإجارة إذا كانت متعلقة بالعين، [فهي] (1) على التضييق، وحقيقةِ الاستغراق، كما لو تقيدت بالوقت.
والذي تقتضيه طريقة العراقيين أنها ليست على التضييق، حتى كأنها مستحقة في ذمة الأجير من عينه، فمهما أقامها (2) ، وقعت الموقع.
وإن استبعد سائلٌ الجمعَ بين العين والذمة، أمكن أن يقال: كل إجارة واردةٍ على عينٍ بهذه المثابة؛ فإن المستأجر يستحق منفعةَ الدار من عين الدار، قبل وجود المنفعة.
فرجع حاصل الكلام إلى أن الأجير المشترك هو الذي (3) لا يضيّق عليه تضيّق التأقيت. والأجير المنفرد هو الذي يضيّق عليه المستأجر، [فيقول] (4) : استأجرتك لتخيط هذا، ويشتغل به عقيب العقد من غير تأخير، وقياسهم أن إطلاق العمل لا يتضمن التضييق المؤدي إلى الانفساخ، وإذا قيد بالتضييق، ومضى الزمان الذي يسع العمل وقد [تقيّد] (5) بالتضييق، اقتضى ذلك الانفساخَ.
5259- فإذا ظهر ما أردناه، فالذي [نُجلِّيه] (6) من فرق بين الأجير المشترك، والأجير المنفرد، أن المنفرد كأن يده [نائبة] (7) عن يد المالك؛ فإنها مستغرَقة به لا يُشارَك فيها، ويد الأجير المشترك ليست مختصةً بأحد، فتثبت اليد له على التحقيق.
__________
(1) في الأصل: فهو.
(2) (د 1) : أتى بها.
(3) (د 1) : هو الذي لا يضيق التأقيت.
(4) في الأصل: ويقول.
(5) في الأصل: تفسد.
(6) في الأصل: (نخيله) أو (نحيله) تقرأ بهما. وفي (د 1) : (ـحليه) هكذا بإهمال الأول والثاني. والمثبت اختيار من المحقق.
(7) في الأصل: (ثايبة) و (د 1) : ثانية. والمثبت تصرف منا، على ضوء السياق، وعبارة الرافعي التي تقول: " يده كالوكيل مع الموكل " (الشرح الكبير: 6/148) .(8/159)
وكل ما ذكرناه من التطويل، [والتفصيل] (1) وإن كان مُقيداً في نفسه، فلا جدوى فيه فيما نحن فيه، كما سيتبين في الطريقة الثانية.
هذا بيان المسلك الأول.
5260- الطريقة الثانية - قال معظم المحققين: الأجير لا يضمن ما يتلف تحت يده من غير عُدوان وتقصير، قولاً واحداً، ويده يد أمانة. وقد حكى الربيع " أن الشافعي كان يرى أن الأجراء لا يضمنون، ولكنه كان لا يبوح به لأجراء السوء، وكان يرى أن القاضي يقضي بعلمه، وكان لا يبوح به لقضاة السوء ". ووجه ذلك في القياس واضح لا حاجة إلى تكلف بيانه.
وهذا القائل يقول في قول الشافعي: " لا يجوز في الأجير إلا واحدٌ من قولين ": لم يُرد الشافعيُّ به ترديدَ القول، وإنما قصد محاجة أبي حنيفة (2) ، فإنه يقول: ما يتلف بعمل الأجير، وإن اقتصد فيه يضمنه، وما يتلف تحت يده من غير صُنعه لا يضمن، فقال: لا يجوز إلا واحدٌ من قولين: إما ألا يضمن أصلاً، وإما أن يضمن كيف فرض الأمر، سواء تلف بآفة أو بصنعٍ هو مأذون فيه، فرجع قوله إلى الرد على من فصل بين أن يتلف بصُنعه أويتلف بآفة.
هذا بيان طرق الأصحاب.
5261- ثم إن جعلنا يدَ الأجير يدَ ضمان، فلو تلف تحت يده بآفةٍ، ضمن، ولو تلف بصُنعه، ضمن. وإن قلنا يدُه ليست يدَ ضمان، فلو تلف بآفة، لم يضمن، [وإذا تلف] (3) بسبب عمله، نُظر: فإن جاوز الحدَّ، وتعدَّى في عمله، ضمن، وإن اقتصر واقتصد، ولم يجاوز الحدّ، فلا ضمان أصلاً، ولا أثر للعمل من غير تفريط وعدوان، عند أصحابنا.
وقد يخطر للفقيه على قياس [قول] (4) الشافعي أنا إذا جعلنا يدَ الأجير يدَ الضمان،
__________
(1) في الأصل: في التفصيل.
(2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/85، مسألة: 1767، المبسوط: 15/80، إيثار الإنصاف: 335.
(3) في الأصل: فإذا أتلفه.
(4) في الأصل: مذهب.(8/160)
فلو عمل في العين ما أُمر به، ولم يزد، فأدى ذلك إلى عيبٍ، فلا يجب ضمان ذلك، وينزل ذلك منزلة ما لو لبس المستعيرُ الثوبَ وأبلاه (1) ؛ فإن المذهب أن ضمان الأجزاء البالية لا تجب، ولو تلف الثوب بآفةٍ، وجب ضمانُه على المستعير. وهذا ظاهرٌ في الأجير، ولا ينبغي أن يقدَّر خلافٌ في أن الأجير لو فصَّل الثوبَ النفيسَ وقطّعه، فانتقصت قيمته بالقطع أنه لا ضمان عليه، فإذا جرى ذلك في النقصان الذي يوجبه القطع، فغيره بمثابته إذا اقتصر العامل على امتثال الأمر، وقد قررتُ هذا في (الأساليب) (2) .
هذا بيان عقد المذهب في تضمين الأجراء.
5262- ثم إن الشافعي ذكر مسائلَ، وبين فيها عملَ الأجراء، [وتعدّيهم] (3) واقتصادهم، ونحن نذكرها، ولكن حظَّ الفقيه في جميعها ما قدّمناه، من أنه إن اعتدى، ضمن، وإن لم يعتد واقتصد، فالذي أطلقه الأصحاب تخريجُ ذلك على أن يدَ الأجير يدُ أمانة، أو يد ضمان.
والذي نراه في القياس الجلي أنه لا يضمن ما يقتضيه عملُه المأذون فيه، كما ذكرناه في بلى الثوب باللُّبس المأذون فيه للمستعير.
وإذا تمهدت القاعدة شرعنا بعدها في المسائل، ونُفرد لكل مسألة فصلاً، ونوضِّح ما يليق به.
فصل
قال: " إذا استأجر من يحجمه، أو يختن غلاماً له، أو يبيطر دابته ... إلى آخره " (4) .
5263- إذا استأجر من يحجمه، فلم يقصّر الحاجم، فأدى إلى سبب محذور،
__________
(1) (د 1) : وأبلاه بالإذن.
(2) الأساليب: اسم كتاب في علم الخلاف لإمام الحرمين. وقد تكرر ذكره مراراً.
(3) تقدير من المحقق، مكان كلمة بالأصل رسمت هكذا: " وبعد خيطهم " فهل هي كناية عن التعدي. وقد خلت (د 1) من الكلمة.
(4) ر. المختصر: 3/85.(8/161)
فإن كان المحجوم حراً، فلا ضمان، لأن يدَ الحر ثابتةٌ عليه، وإن كان استأجره ليحجم غلاماً له، فإن كانت يد المالك ثابتةً على الغلام، فلا ضمان على الحجام، إذا لم يجاوز ما أُمر به، وإن ثبتت يده عليه، ولم يكن السيد معه، ففيه التفصيل الذي ذكرناه من اختلاف الطرق، والفرق بين المنفرد والمشترك، ويعترض فيه ما نبهنا عليه من أن ذلك حاصل بفعلٍ مأذونٍ فيه، كما تقدم، ولسنا نعود بعد ذلك إلى هذا التفصيل، ولكن نذكر ما يتجدّد.
فصل
قال: " ولو استأجر للخبز ... إلى آخره " (1) .
5264- الخبز عملٌ من الأعمال، فإن فسد الخُبز بتقصيرٍ من الخباز، ضمن، وإن لم يَزد الخبّاز على ما استدعى منه، ولكن احترق بعض الخبز، ففي الضمان التفصيلُ الذي ذكرناه.
5265- والذي نذكره في هذا الفصل أن من استأجر خبازاً، فلا بد من أن يوضّح أنه يخبز في تنّور (2) ، أو فرنٍ، وأنه يخبز الأقراص، أو الغلاظَ من الأرغفة، أو الرقاق. والغرض يختلف بذلك. وكل ما يوضحه العُرف من غير تردّد، فهو متبع، وهذا بمثابة ذكر التنور في هذه الديار؛ فإن العرف يعيِّنها، وإنما تمس الحاجة إلى التعيين عند إمكان التعدد.
5266- ثم إن كانت الإجارة واردة على العين، فالآلات التي لا بد منها على
المستأجر، وليس على الأجير إلا تسليم نفسه إلى المستأجر.
وإن كانت الإجارة واردةً على الذمة، فالآلات على الملتزم في الذمة.
5267- وأما حطب التسجير، فإن عمّت العادة بأنه يأتي به المستأجر، فهو يجري
__________
(1) ر. المختصر: 3/86.
(2) لم يفرق المعجم الوسيط بين الفرن والتنور، بل فسر التنور بأنه الفرن، ولكن المصباح نقل عن ابن فارس: أن الفرن الذي يخبز عليه غير التنور.(8/162)
على حكم العرف، وإن كانت العادة مطردةً في أن الحطب يأتي به الملتزم، ففيه اختلاف بين الأصحاب. فالذي ذهب إليه القاضي والمحققون أن العادة محكّمةٌ في ذلك، وقد التزم الأجير تحصيل الخبز، فعليه التسبب إليه.
ومن أئمتنا من قال: لا يكون على الملتزم حطبٌ؛ فإنه عينٌ يُشترى، وهو تمليك بجهات التملك، فلا يتبع المنفعة.
وهذا الذي ذكرناه في الخبز [يجري في القلم والحبر] (1) في حق الورّاق، والخيط في حق الخياط. وإن اضطربت العادة، فلا يستحق على الخباز، ولكن في بطلان العقد الخلاف الذي قدّمناه.
فصل
قال: " وإن اكترى دابة، فضربها أو كبحها باللجام ... إلى آخره " (2) .
5268- هذه المسألة ليست نظيراً للمسائل التي تقدمت؛ فإنها كانت مفروضة في استئجار أجيرٍ للعمل، وهذه المسألة فيه إذا استأجر الرجل دابةً ليركبها، أو يحمّلها حُمولةً، فلو قبضها، أو ضربها (3) في التسيير، أو كان يكبح لجامها، فهلكت، فقد قدمنا أن العين المستأجرة أمانةٌ في يد المستأجر، وأنها لو تلفت بآفةٍ سماوية تحت يده، لم يلتزم الضمان أصلاً، فإذا وجد من المستأجر فعلٌ كما ذكرناه، من الضرب وكبح اللجام، فإن لم يجاوز المعتادَ في ذلك، ففرض التلفُ، فلا ضمان أصلاً، وإن جاوز العادةَ في ذلك، بحيث يُعدّ مجاوزاً، فقد أثبت الأصحاب الضمان.
وقال أبو حنيفة (4) يجب الضمان سواء عُدّ الضارب مقتصداً أو مجاوزاً للعادة، وهذا أجراه على مذهبه في أن سراية القصاص مضمونة، وسنجمع بعد ذلك بفصول قولاً بالغاً في التعزيرات، وحكم الضمان [فيها] (5) إذا أدت إلى الهلاك، ونعيد هذا
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق، سقطت من النسختين.
(2) ر. المختصر: 3/87.
(3) (د 1) : وتركها.
(4) ر. بدائع الصنائع: 4/213، وحاشية ابن عابدين: 5/24.
(5) في الأصل: منها.(8/163)
الفصل في أثناء التعزير والتحرير الضابط، إن شاء الله عز وجل.
5269- فأما إذا استأجر رائضاً حتى يروض دابةً له، فضربها الرائض، وكبح لجامها، فعابت، أو هلكت، فهذا عائد إلى سَنَن المسائل التي تقدمت، فإن عُد متعدياً، ضمن؛ وإن لم يعد متعدياً في تحصيل المستدعَى منه، فيعود التفصيل في المشترك، والمنفرد، واختلاف الطرق.
والرأي عندنا القطع بنفي الضمان، (1 إذا كان السببُ الفعلَ المأذون فيه، كما أجرينا ذكرَ ذلك مراراً. وتمام البيان فيه بين أيدينا 1) ، ونحن، إن شاء الله- ذاكروه في فصل التعزير.
فصل
قال: "وهذه الأغنام والبقور التي تسلم إلى الراعي من غير عقدٍ ... إلى آخره" (2) .
5270- إذا سلم مالك المواشي المواشيَ إلى الراعي، واستعمل الراعي في رعيها، ولم يذكر أُجرة مسماةً، فهذا يخرّج على أن المستعمل إذا عمل هل يستحق أجر المثل؟ وهذا سيأتي مستقصَى، إن شاء الله تعالى.
فإن قلنا: يستحق، فالذي جرى في حكم إجارةٍ فاسدةٍ، وحكم الفساد في الضمان حكم الصحيح، وقد فصلنا ذلك.
فأما إذا قلنا: لا يستحق المستعمل شيئاًً إذا عمل، فالذي جرى ليس باستئجار على الفساد، وإنما العامل متبرع بالعمل، وليس على المتبرع ضمانٌ إذا لم يجاوز فيما فَعلَ
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (د 1) .
(2) هذه العبارة بألفاظها ليست في المختصر، وإنما عبارته: " قال: والراعي إذا فعل ما للرعاة فعله مما فيه صلاح لم يضمن، وإن فعل غير ذلك، ضمن " المختصر: 3/87.
هذا. ولم أصل إلى هذا النص من كلام الشافعي في "الأم"، كما لم أصل إلى هذا الجمع (البقور) للبقرة، لا في المعاجم اللغوية، ولا في معاجم ألفاظ الفقهاء، ومما ذكرته المعاجم: البقرة للمذكّر والمؤنث، والجمع: بقر، وبقرات، وبُقُر (بضمتين) ، وبُقَّار، وأُبْقور، وبواقر، وأما باقر، وبقير، وبيقور، وباقور، وباقورة، فأسماء للجمع. (القاموس، واللسان) .(8/164)
مراسمَ المالك، وعلى هذا [يخرّج] (1) على ضياع الثوب في الحمام، وليس فيه إجراء ذكر الأجرة.
وتمام البيان في هذه الفصول يأتي في فصل [التعزيرات] (2) وما يتعلق بها، إن شاء الله تعالى.
فصل
قال: " ولو أكرى حَمْلَ مكيلةٍ، وما زاد فبحسابه، فهو في المكيلة جائز، وفي الزيادة فاسد ... إلى آخره " (3) .
5271- نذكر في مقدمة الفصل فصولاً تتعلق (4) بإعلام المعقود عليه، وترتبط بألفاظ العقد، ثم نخوض بعدها في مقصود الفصل.
[فإذا] (5) أشار إلى صُبرة مجهولة الصيعان، وقال: اكتريت هذه الدابة لتحمل هذه الصبرة إلى موضع كذا، أو ألزمت ذمتك ذلك، فالعقد جائز، وقد مهدنا ذلك فيما سبق، وقلنا: الإشارة كافيةٌ كما لو أشار في بيع الصّبرة.
ولو قال: تحمل هذه الصُّبرة كلَّ صاع بكذا، صحّ، وإن لم تكن الصيعان معلومة، كما لو قال: بعتك هذه الصّبرة كلَّ صاع بدرهم. ولو قال: تحمل عشرة آصعٍ من هذه الصبرة، فجائز.
ولو قال: تحمل كل صاعٍ من هذه الصبرة بكذا، ولم يذكر لفظاً يتضمن حملَ الصُّبرة بكمالها، فقد قال الجمهور: يفسد العقد، [فإنه] (6) لم يتعرض لحمل الصبرة، ولم يبين مبلغاً منها، بل أبهم، وكذلك يبطل البيع على هذه الصيغة.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في الأصل: التقريرات.
(3) ر. المختصر: 3/88.
(4) (د 1) : فصول لا تتعلق.
(5) ساقطة من الأصل.
(6) في الأصل: فإن.(8/165)
وقال بعضُ الأئمة: قوله " تحمل كلّ صاعٍ بكذا من هذه الصبرة " بمثابة قوله: " تحمل هذه الصبرة كل صاع بكذا ". وكذلك القولُ في البيع. وهذا متجهٌ في المعنى، وإن كان بعيداً في الحكاية، ووجهه أن قوله: " تحمل كل صاع من هذه الصبرة " عبارةٌ تشمل جميعَ الصّبرة من غير اختصاص بمقدار.
5272- فأما صورة مسألة الكتاب، فهي أن يقول: تحمل عشرة آصاع من البُرِّ بكذا، وما زاد، فبحسابه. قال الشافعي: الاستئجار صحيح في المقدار المبين، وهو فاسد في الزيادة، أما الفساد في الزيادة، فمن قبل الجهالة؛ فإنه لم يذكر للزيادة ضبطاً، لا بإشارة، ولا بإعلام المنتهى، [فأما] (1) علة الصحة في المقدار المذكور، [فهي] (2) أنه صحيحٌ لو فرض الاقتصار عليه، والزيادة المذكورة لم تذكر على صيغةٍ تتضمن إلزامَها، واشتراطَها في العقد مع المذكور المقدّر، فليست معقوداً عليها مع المقدّر، ولا مشروطة في العقد الوارد على المقدّر.
فإذا ثبت ما ذكرناه في ألفاظ العقد، فقد قال الشافعي بعده: لو حمل مكيلةً، فوجدها زائدة ... إلى آخره.
5273- إذا استأجر دابة ليحمل عليها مقداراً مُقدَّراً: عشرةَ آصعٍ مثلاً، فاتفق حملُ أحدَ عشرَ، فلا يخلو إما أن يحصل هذا التعدي من المكتري، أو من المكري، أو من أجنبيٍّ سواهما.
5274- فإن (3) حصل التعدي من المكتري، وكان تولّى بنفسه الاكتيالَ، فزاد على المشروط، وحمل على الدابة، فانفرد باليد في الدابة، وكان مالكها سلّمها إلى المكتري، فنقول: إن سُلمت الدابة، فعلى المكتري الأجرةُ المسماةُ في مقابلة المذكور المشروط، وعليه أجرةُ المثل في مقابلة الزائد، ولو تلفت الدابة في يده، ضمن في هذه الصورة كمالَ قيمتها؛ وذلك لأنه لما حمَّلها أكثرَ مما تستحق، صار
__________
(1) في الأصل: وأما.
(2) في الأصل: فهو.
(3) (د 1) : أما إذا حصل.(8/166)
عاصياً، ويده يدُ عدوان، فيلتزم كمالَ الضَّمان. ولو تلفت الدابة والحالة هذه بآفةٍ سماوية، فيجب ضمانُها أيضاً، وإن لم يكن التلف بسبب العدوان.
ولو كان المكتري يكتال بمرأًى من مالك الدابة، فكان يراه يزيد، فسكت، ولم ينكر، فحكم أجرة المثل، وضمان الدابة لو تلفت كما ذكرناه، وسكوتُ المالك على سبب الضمان، لا يغيّر حكمَ وجوبه.
5275- ولو اكتال المكتري وزاد، ولكنه سلّم إلى المكري، حتى تولى الحملَ بنفسه، وكانت اليدُ له في دابته، قال الأئمة: إن كان المكري عالماً بما جرى، فلا يستحق للزيادة أجرَ المثل؛ فإنه تعاطى حملها، ولو تلفت الدابة، فلا يستحق ضماناً على المكتري؛ فإن المالك هو الذي تعاطى سببَ الهلاك بنفسه، مع العلم بحقيقة الحال.
وهذا الذي ذكروه في نفي الضمان سديدٌ، فأما نفي أجرة المثل في الزيادة، ففيه نظر، ولا أقل من أن يُحمَلَ ذلك على استعمال إنسان، أو استعمالِ دابته من غير ذكرِ الأجرة، وفي ذلك تفصيل سيأتي مشروحاً، إن شاء الله عز وجل.
فأما إذا زاد المكتري، وسلّم إلى المكري، فحمل المكري على الدابة، مع الجهل بحقيقة الحال؛ فقد قيل: يستحق الأجرة (1) في مقابلة الزيادة، ويثبت الضمان لو تلفت الدابة؛ فإن المكري لم يرض بهذه الزيادة إذا (2) كان جاهلاً بها.
5276- وهذا فيه فضل نظر. فأما الضمان، فقد تعاطى المالك بنفسه حَمْلَ الزيادة
__________
(1) هنا خلل غريب في سياق نسخة (د 1) ، فقد أقحمت في السياق إحدى عشرة ورقة، ومن العجيب أن الخلل ليس في رؤوس الصفحات، فقد انتقلت من ص 39 س1 من منتصفه، إلى ص50 س1 من نهايته، مما يشهد بأن الخلل كان في الأصل المنقول عنه، وليس من عمل ناسخ نسختنا هذه (د 1) وهذا المقدار (إحدى عشرة ورقة) يشهد بأن سبب الخلل أن ناقل الأصل المنقول عنه، وضع كراسة كاملة في غير مكانها، ونسخها في غير سياقها، فقد كانوا يقسمون الكتاب إلى كراسات كل كراسة عشر ورقات، وهذا بعينه نظام الملازم الذي يتبع الآن في المطابع، حيث يقسم الكتاب إلى ملازم، كل ملزمة ثماني ورقات.
(2) في الأصل، كما في (د 1) : إذا. وهي بمعنى (إذ) وهو استعمال سائغ، كما أشرنا إلى ذلك مراراً.(8/167)
على الدابة، فوُجد منه سببُ التلف مباشرة، ولكنه كان مغروراً من جهة المكتري، فيجب تخريج ذلك على قولي الغرور، كما تكرر مراراً. فأما لزوم أجر المثل في الزيادة، ففيه احتمالٌ أيضاًًً على بُعدٍ؛ فإنه لم يجرِ لتلك الزيادة ذكرٌ، والظاهر لزومُ أجر المثل؛ فإن الزيادة حُملت في ضمن عقد معاوضة، وليس كالعمل المطلق، حيث لا يجري ذكر الأجرة.
5277- ثم إذا تلفت الدابة بآفةٍ تحت يد مالكها، وما تلفت بسبب الحمل، فلا يجبْ ضمان الدابة أصلاً. وإن كان تلفُها بسبب الحمل الثقيل، واتفق التلف في يد المالك، ففي مقدار الواجب قولان: أحدهما - أنه يجب نصف الضمان، ولا ينظر إلى مقدار الزيادة، قل أو كثر، والقول الثاني - أنا نوزع قيمة الدابة على المحمول المستحق وعلى الزائد، ونوجب ما يخص الزائد، فإن كان جزءاً من أحد عشر جزءاً، وجب ضمان جزء من أحدَ عشر جزءاً من القيمة، وإن كان أقلَّ أو أكثر، فبهذا الحساب.
وهذان القولان بناهما الأصحاب على القولين في أن الجلاد إذا زاد على الحد سوطاً أو أكثر، وهلك المحدود، ففيما يلتزمه الجلاد قولان: أحدهما - أنه يلتزم شطرَ الضمان. والثاني - أنه يلتزم جزءاً من الأجزاء؛ فإن كان الحدُّ ثمانين، فزاد سوطاً، التزم جزءاً من أحد وثمانين جزءاً من الدية. وعلى هذا البابُ وقياسُه، إن كثرت الزيادةُ، أو قلَّت. ومن يُوجب الشطرَ يطردُه فيه إذا كثرت الزيادة، وزادت على المقدار المستحق.
5278- ولا خلاف أن الجراحات إذا تعددت من شخصين، وآل الأمر إلى التوزيع، وكان جَرَحَ أحدُهما مائةَ جراحة، وجَرح الثاني جراحةً واحدةً، فالدية عليهما نصفان، والسبب فيه أن آثار الجراحات تتفاوت تفاوتاً عظيماً، وربما يكون أثرُ الجراحةِ الواحدةِ أكثرَ من أثر مائةِ جراحة، وإذا كان الأمر كذلك، فلا نظر إلى أعداد الجراحات، ولا سبيل إلى استدراك أغوارها، فالوجه التوزيعُ على رؤوس الجناية، وأما الزيادةُ على الجلدات المستحقة، فإنها خارجة على القولين، فهي في قولٍ: كالجراحات، والمتبع التشطير، وفي قولٍ: يقع التوزيعُ على الأعداد؛ فإن آثار(8/168)
الجلدات لا تتفاوت، بخلاف الجراحات والزيادة في الحمل ملحقةٌ بالجلدات.
وذهب بعضُ المحققين إلى أن الأولى القطعُ بالتوزيع في الزيادة المحمولة على الأجزاء؛ فإنها لا تتفاوت قطعاً، والسياط يقدّر فيها تفاوت، وهذا حسنٌ. ولكن الطريقة المشهورة تخريج القولين بناءً على الجلدات.
5279- وكل ما ذكرناه في زيادةٍ تتحقق، فأما إذا كانت تلك الزيادة بحيث يقع مثلُها من الكيلين، فلا حكمَ، ولا وقعَ لها؛ فإنها غيرُ متحققة، وقد يعاد الكيل مرة أخرى، فلا تظهر الزيادة، وقد يظهر نقصان.
5280- وما ذكرناه فيه إذا زاد المكتري والمكري [مغرور] (1) ، وقد حمل بنفسه.
وقد يحمل المكتري بنفسه، واليدُ في الدابة [للمكري] (2) ، فحكم الأجرة والضمان على ما ذكرناه، وهذه الصورة تقع مقطوعاً بها، في أجرة المثل، في الزيادة، وفي أصل الضمان. ثم القولان في مقداره على ما ذكرناه، ولا حاجة إلى تخريج الضمان على قاعدة الغرور؛ فإن المكتري قد تولى بنفسه حملَ الزيادة.
والذي يجب التنبيهُ له في تفاصيل المسألة أن لا يُصوّرَ حملُ الزيادة والدابة في يد المكتري؛ فإنها لو كانت تحت يده، فيصير بنفس حمل الزيادة غاصباً، ولو تلفت الدابة بسبب آخر، وجب كمال الضمان، فكذلك بسبب الحمل، فليقع التصوير فيه إذا كانت الدابة في يد مالكها.
5281- فأما إذا تولى المكري الكيلَ وكان المكتري فوّض إليه أن يكيل القدرَ المشروط، ويحملَه، فزاد المكري وحمل أكثر من المشروط، فنقول: لا يستحق في مقابلة الزيادة أجرةً، ولو تلفت الدابة بسبب الحمل، (3 فلا ضمان 3) ، وتعليله بيِّنٌ.
5282- ويطرأ في المسألة شيء آخر، وهو أن المكري نقل شيئاًً من حنطةِ المكتري
__________
(1) في الأصل: معذور.
(2) في الأصل: للمكتري.
(3) ما بين القوسين سقط من (د 1) .(8/169)
إلى بلدةٍ أخرى، من غير إذنه، فكان حكمه فيما فعل حكمَ الغاصب.
ونحن نذكر ما يتعلق بذلك. ونقول:
أولاً- يجب على الناقل أن يرد تلك الزيادة إلى الموضع الذي نقلها منه؛ جرياً على وجوب ضمان الرد، فلو ظفر صاحب الحنطة بالناقل في المكان الذي نقل عنه؛ فإنه يلزمه مثلُ حنطته، لمكان الحيلولة التي أوقعها، وقد جرى سبب الضمان في هذا المكان ابتداءً، فهو كما لو أتلف حنطةً، فظفر صاحب الحنطة بالمتلِف في مكان الإتلاف؛ فإنه يغرمه المثلَ، ثم لا تنقطع الطَّلِبةُ عن الناقل بهذه الغرامة، بل هو مطالب برد تلك العين التي نقلها إلى موضعها، ولا فرق بين أن تكثر المؤنة، أو تقل، فإذا ردّها، فإنه يسترد ما كان بذله، والقول في أنه يسترد عينَه، إن كانت باقيةً، كما تقدم في المغصوب منه، إذا أبق العبد المغصوب وغرم الغاصبُ للمالك قيمتَه، لمكان الحيلولة، فإذا رجع العبدُ، وعينُ تلك القيمة باقية، فهل يستردّها؟ فيه تفصيل قدمتُه.
5283- ولو ظفر صاحب الحنطة في مسألتنا بالناقل في البلدة التي نقل إليها، فلو قال المتعدي بالنقل: خذ حنطتَك، فإن أخذها مالكها، فلا كلام، ولو طلبها من الناقل، وجب عليه ردُّها عليه، وإذا قبضها، انقطعت مؤنة الرد، فلو بدا لمالك الحنطة، فقال: ردّها الآن من يدي إلى المكان الذي نُقلت عنه، فالظاهر أنه لا يلزمه ذلك؛ فإنّ قبضَه قد تم في [الملك] (1) ، فكان ذلك قطعاً للمادّة، واستئصالاً لتبعة الطّلبة، وإبراءً عن مؤنة الرد.
وفي المسألة احتمالٌ على تأويلِ أنه يقول: لست أثق بيدك في عين مالي، فاليد لي، والْتزم النقلَ.
5284- ولو لم يقبل منه الحنطة في تلك البلدة، وقال: الْتزم ردَّها إلى مكانها، فله ذلك.
فلو قال الناقل؛ خذها إليك، وأنا أنقلها في يدك، فللمالك أن يمتنع، ويقول:
__________
(1) في الأصل: ملك.(8/170)
لو قبضتُها، لكانت مؤنة الحفظ عليّ، ولو تلفت في يدي، لسقط الضمان، فكن أنت الملتزمَ لذلك كله.
5285- ثم لو قال المالك، والحالة هذه: اغرم لي على مقابلة الحيلولة، فله ذلك؛ فإن الحنطة، وإن كانت حاضرةً، فهي بمثابة الغائبة للوجوه التي ذكرناها، ثم لا يغرّمه مثلَها؛ إذ يستحيل أن يغرّمه المثلَ، وعينُ ماله قائمة، ويعسر عليه نقل المثل، كما يعسر عليه نقلُ العين، فلا يغرّمه إلا القيمة. ثم إذا ردّ الحنطةَ إلى مكانها، استرد القيمة.
5286- وكان شيخي يقول: يغرّمه أرفعَ قيمةٍ من مكان النقل، إلى حيث انتهت؛
فإن العدوان مطّردٌ في هذه الأماكن جملتِها، ولا مكان منها وإلا للمالك طلبُ حنطته إن صادف ناقلَها فيه مع الحنطة، وله طلب قيمتها في ذلك المكان، حملاً على تكليفه نقلَها إلى الأول، الذي نقلها منه، فينتظم من مجموع ذلك إيجابُ أقصى القيم.
5287- وقد مهدنا في كتاب الغصوب في ظاهر المذهب أصلاً، فقلنا: إذا أتلف رجل مثليّاً في مكان، ثم ظفر المتلَفُ عليه بالمتلِف في غير مكان الإتلاف، فالمذهب الظاهر أنه لا يطالبه بالمثل، وإنما يطالبه بقيمة مكان الإتلاف. وما ذكرناه في هذا الفصل مباينٌ لذلك الأصل؛ فإن الحنطة في عينها فائتةٌ، واقتضى الترتيب على ما رآه الأصحاب ألا نُغرّمَه المثلَ في غير مكان الإتلاف، والحنطة قائمة في مسألتنا، فجرى ما مهدناه من غرامةِ المثلِ والقيمةِ على ترتيبٍ يخالف الإتلاف، ويكفي في ذلك التنبّه والتأمل.
5288- ولو جرى نقلُ تلك الحنطةِ الزائدةِ من ثالثِ، مثل أن يُفوّض المكتري الكيلَ إلى إنسانٍ، فيزداد ويحملَ أكثر من المشروط، فالكلام في أجر المثل والضمان في الدابّة لو تلفت معلّقٌ بهذا الثالث، فيغرَم أجرَ المثل في الزائد، وفي الضمان عند فرض التلف اختلافُ القول، كما تقدم.
وللمالك أن يكلفه ردَّ الزيادة إلى البلد المحمول عنه، كما ذكرناه في حق المكري إذا كان هو الناقل.(8/171)
5289- ومما يتعين [التصوير] (1) عنه في أطراف المسألة ألا تُفرض اليدُ عند فرض حمل الزيادة للضامن؛ فإن اليدَ لو كانت له، ونقدِّر التلفَ في الدابة وجب ضمانُ تمام القيمة، لأنه بنفس حمل الزيادة، صار في حكم الغاصب للدابة، وإذا كان كذلك، فإذا كانت اليد للمكتري، وهو الحامل، ضمن تمام القيمة، وإنما يختلف القول في مقدار الضمان، مع القطع بأن جميع القيمة لا تلزم إذا كانت اليد في الدابة للمكري، فإذا فرضنا ثالثاً، فينبغي أن يكون منصوباً من جهة المكري، ثم ينبغي أن تكون يده مع يده؛ إذ لو انفرد باليد، لضمن تمامَ القيمة إذا اعتدى بحمل الزيادة، ثم لا نظر إلى صدور ذلك عن أمر المكتري؛ فإن الأمر بالعدوان من غير إكراهٍ لا يُثبت على الآمر ضماناً.
فخرج من ذلك أن الثالث إذا انفرد باليد، ثم نفقت الدابة، ضمن تمام قيمتها، إذا كان هو الحامل للزيادة بالأمر [أو بغير] (2) الأمر، وإن كانت اليد للمكري، فإذ ذاك يضطرب القول في مقدار الضمان.
فصل
قال: " ومعلّم الكتّابِ، والآدميين، مخالف لراعي البهائم ... إلى آخره" (3) .
5290- هذا الفصل يجمع قواعدَ المذهب في بيان التلف الذي يُفضي إليه ضربٌ جنسُه مأذونٌ فيه. والوجه أن نرسل المسائل، فنذكرَ ما يتعلق بالمذهب فيها، ثم نحرص على ضبطها، كصنعتنا في أمثالها.
فنقول:
5291- لمعلّم الصبي أن يؤدِّبه إذا مست الحاجةُ إلى تأديبه، وعليه التحفظ عما
__________
(1) في الأصل: التصور، والمثبت من (د 1) .
(2) في الأصل: لو تغير الأمر.
(3) ر. المختصر: 3/88.(8/172)
يؤدي إلى هلاكه، أو تعييب عضوٍ من أعضائه؛ فإن تأديبَه في الشرع، مشروطٌ بالسلامة. ولو كانت العرامة (1) التي به لا تزول بالضرب الخفيف، وكان يظهر أن إمكانَ زوالها يقتضي ضرباً عنيفاً مخوفاً، فلا يجوز أن يُضرب ضرباً عنيفاً، وإن كان زوال العرامة موقوفاً عليه.
فإن فرض تأديبٌ لا يقصد في ظاهر الظن بمثله الإهلاكُ، فاتفق التلف منه، تعلق الضمان به. فإن قال المؤدب: قد اقتصدتُ، واقتصرتُ على حدّ الأدب، فقد جوزتم لي هذا القدرَ، فلم تثبتون الضمان فيما جوزتموه؟ قلنا: لا يتصور التلفُ إلا بمجاوزة الحدّ في كيفية الضرب، أو مقدارِه، أو محلِّه، أو زمانه، وقولُ القائل وقع التلفُ وفاقاً عريٌّ عن التحصيل؛ فإن القتلَ لا يقع وفاقاً إلا بمجاوزة حدٍّ من الحدود التي أشرنا إليها. ثم إذا حصل التلف، وبان أن سببَه مجاوزةُ الحد، وكان التأديب مشروطاً بتوقي [التَّلف] (2) ، وجب الضمان.
5292- ثم ما جرى شبهُ عمدٍ، ولا يخفى الكلامُ في متعلّق ضمانه، فالدية على العاقلة، وهي مغلظةٌ، والكفارة على الضارب.
5293- والزوج إذا أدّب زوجتَه، فالكلام فيه على نحو ما ذكرناه.
5294- ولو كان أذن الولي للمؤدب في الضرب العنيف، فلا حكم لإذنه، مع نهي الشرع عنه، ولا يتعلق بالولي الضمانُ لإذنه.
5295- وأبو حنيفة (3) رضي الله عنه لا يوجب الضمانَ في تأديب الصبي إذا أفضى
__________
(1) العرامة: الشراسة والشدة، من قولهم: عَرُم فلان يعرُم (بالضم فيهما) عرامةً وعُراماً إذا شرس واشتد. (المعجم) .
(2) في الأصل: المتلف.
(3) قال السرخسي في المبسوط (16/13) : "فإن ضربه بغير إذن الأب، فلا إشكال في أن يكون ضامناً، وإن ضربه بإذن الأب، فلا ضمان عليه في ذلك؛ لأنه غير متعدٍ في ضربه بإذن الأب.
ولو كان الأب هو الذي ضربه بنفسه فمات، كان ضامناً في قول أبي خنيفة، ولا ضمان عليه في قول أبي يوسف ومحمد، وهما يدعيان المناقضة على أبي حنيفة فيقولان: إذا كان الأستاذ لا يضمن باعتبار إذن الأب، فكيف يكون الأب ضامناً إذا ضربه بنفسه؟ لكن أبا حنيفة رحمه الله=(8/173)
إلى إهلاكه، مَصيراً إلى أن المرعي مصلحته، وأوجب الضمانَ على الزوج إذا أدّب زوجتَه، وأهلكها، وقال: مطلوب الزوج أن تصلح الزوجةُ له، فإذا هلكت، ضمنها.
وهذا كلامٌ ساقط؛ فإن التأديب المهلك، لا استصلاح فيه.
5296- ولو سلّم مالكُ العبد عبدَه إلى من يعلّمه، وسوغ له من تأديبه ما يسوغه
الشرع، فالقول في وجوب الضمان إذا أدى التأديب إلى التلف ما ذكرناه في الصبي.
ولو أذن له المالك في الضرب العنيف المخُوف، فإذا ارتسم المأمورُ رسمَه، ولم يتعدّه، فأدى إلى التلف، لم يضمنه لمالكه، وإن تعدى، وظلم؛ فإن حق المالية في رقبة العبد للمولى.
ولو أباح دمَه، لم يحلّ للمأمور بقتله أن يقتله، ولكن لو قتله، لم يضمنه.
5297- ولو عزر السلطانُ في أمرٍ يتعلق بحق الله وأدى التعزيرُ إلى التلف، وجب الضمان. ثم في محله قولان: أحدهما - أن محلّه عاقلتُه المختصون به. والثاني - أن محله بيتُ المال. وسيأتي شرح ذلك في موضعه، إن شاء الله - ولكن إذا انتهى نظمُ كلامٍ إلى حكمٍ، فلا بد من الرمز إلى أصله، مع إحالة البيان على موضعه.
ثم إن أوجبنا الضمان على عاقلته، فالكفارةُ يختص وجوبها به، لا تحملها العاقلةُ. وإن ضربنا الغرمَ على بيت المال، ففي ضرب الكفارة عليه قولان، سيأتي ذكرهما، ومأخذ وجوب الضمان أن التعزير لحق الله تعالى يجري مجرى التأديب، وهو مشروط بالسلامة.
__________
=يقول: ضربُ الأستاذِ لمنفعة الصبي لا لمنفعة نفسه، فلا يوجب الضمان عليه إذا كان يأذن وليه، فأما ضرب الأب إياه لمنفعة نفسه؛ فإنه يغير سوء أدب ولده، فيتقيد بشرط السلامة، كضرب الزوج زوجته لما كان لمنفعة نفسه ". اهـ..
والواقع أنه لا مناقضة في كلام أبي حنيفة رضي الله عنه، حيث علق الحكم بالمصلحة، فمن يؤدب لمصلحة نفسه كالأب والزوج يضمن، ومن يؤدب لمصلحة غيره بإذنه كالمعلم، لا يضمن. على حين علّق الآخرون الحكم بالإذن، وقد ألمع إلى هذا السرخسي رحمه الله.(8/174)
5298- واختلف أئمتنا في أن التعزير إذا وجب حقّاً للآدمي، فأقامه الإمام لأجله، فأدى إلى التلف مع الاحتياط في الاقتصاد، فهل يجب الضمان؟ والأصح القطعُ بوجوب الضمان، والمصيرُ إلى نفي الضمان ذهولٌ عن حقيقة مذهبنا، كما سنصفه عند خوضنا في ذكر ضابط المذهب في المسائل.
5299- فإن قيل: من أصلكم أن سِرايةَ القصاص ليست مضمونة، وإن كان مستحقُّ القصاص (1) بالخيار في استيفاء القصاص، وليس محمولاً عليه بقهر شرعي، فما المتّبعُ في هذه المسائل؟
قلنا: قد ظن من لا يحيط بمأخذ الكلام أن المذهب مُدارٌ في النفي والإثبات على كون سبب الإتلاف مقدَّراً أو غيرَ مقدَّر، وزعم أن التعزير اقتضى الضمانَ، من حيث إنه لا يتقدّر، فالأمر فيه مفوّضٌ إلى اجتهاد المعزِّر، والقصاص في حكم الأفعال المقدّرة المحدودة، ولا اجتهاد فيها، فإذا أفضى إلى التلف، لم ينتسب المقتصُّ إلى الخطأ في الاجتهاد.
وهذا كلام غيرُ بالغٍ في مقصوده، وإن كان تحويماً على الحق (2) .
5300- والمتبع في الباب فَهْمُ الشرع على وجهه، فحيث ينهى الشرعُ عن السبب المتلِف، ويأمر بالاقتصار على ما لا يُتلف، فإذا فُرض التلف، فقد تعدّى الضارب ما رُسم له، مخطئاً، أو عامداً، فإذا أباح الشرعُ سبباً متلفاً، لم يتعلق به الضمان.
والاقتصاص من الأسباب المتلفة، ثم لا يختلف ذلك بالوجوب والإباحة، ولا يختلف بكونه مضبوطاً، أو محالاً على الاجتهادِ والنظرِ، بدليل أن من دفع صائلاً على (3) نفسه، أو ماله، فمقدار الدفع يتقيد بقدر الحاجة، وليس فيها ضبطٌ شرعي، وتقديرٌ محسوس، ثم ما يُفضي إلى تلف الصائل لا يُعقب ضماناً؛ لأن الشرع سلّط
__________
(1) (د 1) : وإن كان المقتص بالخيار.
(2) في (د 1) : تحويماً عليه.
(3) (د 1) : عن. و (على) تأتي بمعنى (عن) .(8/175)
على القدر المتلف عند الحاجة، ثم لا يضرّ أن يكون ذلك مظنوناً؛ فإن معظم مسائل الدماء تتعلق بالظنون.
ويُخرّج على القاعدة التعزيرُ؛ فإنه لم يَثبت مُهلكاً، وإنما أُثبت أدباً يستبقي المؤدَّب، فإذا أهلك، أثبت الضمانَ.
ومن أخذ هذا من أن التعزير لا يجب، تعرّض كلامُه للانتقاض بالقصاص، ومن فرّق بين التعزير [الذي يجب لحق الله تعالى، وبين التعزير الذي يجب للآدمي، فقد اضطرب عن مأخذ هذا الأصل؛ فإن الشرع لم يثبت التعزير] (1) لحق الآدمي إلا أدباً، بمثابة تعزير الزوج زوجته. وهذا أصل جليٌّ، فليتبعه الناظر.
5301- وإذا سلم المكري الدابة إلى المكتري، فكان المكتري يزجيها ويضربها، فهلكت، أو عابت، فإن عدّ مقتصداً، فلا ضمان.
فإن قيل: كيف يُخرّجُ هذا على الحد الذي ذكرتموه، وقتل البهيمة ممتنع شرعاً؟ قلنا: الأسباب التي أذن الشرع فيها في البهائم مهلكاتٌ، أو أسباب في الهلاك؛ فإن تحميل البعير العبء الثقيل على الاعتياد في مثله، وجَوْب البوادي عليه، على الظمأ، مع التَّزجية بالضرب المعتاد، مما لا يندر الهلاكُ منه، فالإذن فيه من المالك إذنٌ في سبب الإهلاك.
5302- ومما يجب التنبه له في هذا المنتهى أن المتمادي في كلامه إذا قال: لا يجوز السعي في إهلاك البهيمة، رُدّ عليه قوله بما ذكرناه، وقيل له: أباح الشرعُ قتلَ كثيرٍ من البهائم لحاجة الآدميين إلى أكل لحومها، فتحميلها المشاقَّ في معنى الإذن في إهلاكها، ولكن على اقتصادٍ معتادٍ.
فإن لم يقنع السائل وقال: كيف يرضى مالك الدابة النفيسة بإهلاكها وحظه من كِراها مقدارٌ نزرٌ؟ قلنا: مثل هذه الدابة لا تتلف إلا بسَرفٍ، فلا جَرَم يجب الضمان.
والتلفُ إنما يقع في الدابة الضعيفة، أو المئوفة (2) ، والإذن في تحميلها إذنٌ في سبب
__________
(1) ما بين المعقفين سقط من الأصل.
(2) المئوفة: شيء مئوف وزان رسول، والأصل مأووف على مفعول، لكنه استعمل على=(8/176)
تلفها، أو تعيّبها، فقد خرج ما ذكرناه على القاعدة خروجاً بيّناً.
5303- فإن قيل: إذا تعدى المكتري، وجاوز حدّ الحاجة، فتلفت الدابة، فقد حصل التلف بما له أن يفعله، وبما ليس له أن يفعله، فهلا قسَّطتم الضمان، وحططتم بعضَه على مقابلة ما يجوز فعله؟ وتقريب القول فيه أن ضرباتٍ معلومة لو فرض الاقتصار عليها، لعد الضارب مقتصداً، فإذا زاد، عُدَّ مجاوزاً، فقد حصل التلف بما يجوز وبما لا يجوز؟
قلنا: إن كان المكتري منفرداً باليد، فيصير بأول العدوان غاصباً، والغاصب يضمن ليده، وإن لم يصدر منه إتلافٌ.
وإن كانت الدابة في يد مالكها، وكان المكتري يزجيها، فزاد على حد الاقتصاد، فهذا موضع السؤال، فانه لا يضمن ليده، وإنما يضمن لفعله.
5304- والذي قطع الأصحاب به وجوبُ تمام الضمان؛ والسبب فيه أن القدرَ الذي لو اقتصر عليه، لكان مقتصداً إنما يكون مأذوناً فيه من المالك بشرط الاقتصار عليه، فإذا جاوزه، فقد خرج أصل الضرب عن الإذن. فهذا بيّنٌ في فنِّه. ولكنّ الاحتمالَ متطرقٌ إليه من طريق المعنى؛ لأن الفعل المقتصد منفصلٌ عن الزائد، فكان لا يبعد في القياس التقسيطُ إذا لم يكن سببُ الضمان اليدَ، كما نبهنا عليه. وهذا بمثابة الزيادة على الجلد في الحدّ.
ولنا أن نعتصم بتأديب المؤدب، وتعزير المعزّر؛ من جهة أن الهلاك يحصل بالقدر الزائد، ثم يجب تمام الضمان.
ولم نُبد الاحتمالَ الذي ذكرناه ليكون مذهباً وإنما ذكرناه للتنبيه على وجوه الكلام.
5305- وإذا تعدّى الأجير في فعله، وزاد على الحد المطلوب، وأتلف العين التي استؤجر لإيقاع الفعل فيها، وجب كمالُ الضمان؛ تخريجاً على هذه القاعدة. ثم الضبط في هذا القبيل يستدعي الربطَ بالخروج عن التقدير، فإذا كان كذلك، وثبت
__________
=النقص. والمئوف هو من أصابته آفة (المصباح) .(8/177)
النهي عن سبب الإتلاف، وفوّض القدر إلى المتعاطي، فلا تقسيط إذا تعدّى الحدَّ أصلاً.
هذا منتهى الكلام في غرض الفصل.
فصل
قال: " ولو اختلفا في ثوب، فقال ربُّه: أمرتك أن تقطعه قميصاً ... إلى آخره" (1) .
5306- إذا دفع مالكُ الثوب الثوبَ إلى خياطٍ ليخيطه، فخاطه قَبَاءً، ثم اختلفا، فقال صاحب الثوب: أمرتك بأن تخيطه قميصاً، وقال الخياط: بل أمرتني بأن أخيطه قَباءً، فقد حكى الشافعي من قول ابن أبي ليلى (2) أن القول قولُ الخياط، وحكى من مذهب أبي حنيفة (2) أن القول قولُ رب الثوب، ورجَّحَ مذهبَ أبي حنيفة ورآه أوقع، ثم قال: " وكلاهما مدخول "، فأشار إلى قولٍ ثالثٍ في المسألة، وقد نصّ في الأمالي على أنهما يتحالفان.
وهذا هو القول الثالث الذي أشار إليه هاهنا.
واختلف أئمتنا: فمنهم من قال: مذهب الشافعي التحالف، وما سواه حكاه مذهباً لغيره.
ومن أصحابنا من أثبت للشافعي ثلاثة أقوالٍ، وأخذ ذلك من ترجيحه مذهبَ أبي حنيفة على مذهب ابن أبي ليلى، وهذا يشر بتردده في القولين؛ فإن من يُفسد القولين لا يرجّح أحدهما على الثاني.
فليقع التعويل على طريقة الأقوال، ونحن نوجهها ونفرع عليها.
__________
(1) ر. المختصر: 3/89.
(2) ر. المبسوط: 15/96، وبدائع الصنائع: 4/219، واختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى: 106، ومختصر اختلاف العلماء: 4/98 مسألة: 1779.(8/178)
5307- فمن قال: القولُ قول الخياط، احتج بأن أصل الإذن متفقٌ عليه، والأجير مؤتمن فيما أُمر به، وصاحب الثوب يبغي تضمينَه، والأصل براءةُ ذمته.
ومن قال: القول قول رب الثوب، احتج [بأنه] (1) الآذن، ولو أنكر أصلَ الإذن، يصدّق مع يمينه، فالقول في تفصيل الإذن قوله. والذي يوضّح الحقَّ أنه إذا ثبت الرجوع إلى قوله في أصل الإذن، فإنه ينكر أصلَ الإذن في قطعه قباءً.
[فهذا] (2) وإن سمي تفصيلاً، فهو أصلٌ متنازع فيه نفياً وإثباتاً، فليقع الرجوع إلى الآذن.
ومن قال: يتحالفان، احتج بأن سبب التحالف بين المتعاقدين الاختلافُ في المعقود عليه، وتعرُّضُ كلِّ واحدٍ منهما لكونه مدعياً من وجهٍ ومدعىً عليه من وجهٍ.
فإن نظرنا إلى المنفعة المعقود عليها، فهي على التنازع، وكل واحد مدّعىً ومدعىً عليه، فالمالك يدعي جنايةَ الخياط، ويُدّعَى عليه الإذن، والخياط يدعي إذنَ المالك ويُدّعَى عليه الجناية، ومجموع ذلك يقتضي التحالفَ؛ إذ ليس أحدهما أولى بالتصديق من الثاني.
فإذا توجهت الأقوال، فرعنا عليها.
5308- فإن قلنا: القول قول الخياط مع يمينه، فقد قال الأصحاب: إنه يحلف بالله ما أمره بقطع الثوب قميصاً، وإنما أمره بقطعه قَباءً، فيشتمل اليمين على النفي والإثبات.
فإن قيل: هلا اقتصر على النفي؟ قلنا: نفي الأمر بقطعه قميصاً لا ينفعه في نفي الجناية، فإن نفي الجناية ادّعاها ربُّ الثوب؛ من حيث قطع الثوبَ قَباء، فلم يكن بدٌّ من التعرض لنفي. ذلك، وسبيل نفي الجناية إثباتُ الإذن، فإن كان لهذا إشكال، فهو من إشكال القول، وإلا، [فلا] (3) طريق في تفريعه- غيرُه إذا اعتمد أصله. ثم من
__________
(1) في الأصل: بأن.
(2) في الأصل: هذا.
(3) في الأصل: فطريق في تفريعه غيره.(8/179)
حكم يمينه أنه لا يغرم لرب الثوب أرشَ النقصان.
5309- ويقع النظر وراء ذلك في استحقاق الأجرة.
وقد اضطرب طريق الأصحاب فيه، فالذي صرح به شيخي -وهو مقتضى ما ذكره الصيدلاني وغيرُه- ذكرُ الاختلاف في أنه هل يستحق الأجرة المسماة إذا حلف؟
وقال العراقيون: لا يستحق الأجرة المسماة وجهاً واحداً، وهل يستحق أجرَ مثل عمله؟ فعلى وجهين، فنوجه الخلافَ في استحقاق الأجرة، ثم نبين ما صار إليه العراقيون من الفرق بين الأجرة المسماة وأجرة المثل.
فالتوجيه في الأصل: من قال: لا يستحق الأجرةَ، قال: يكفيه أن تنفي يمينُه الغرمَ عن نفسه، فأما أن يُتوصل بها إلى استحقاق ما يدّعيه، فهو بعيد عن [نظم] (1) الخصومة.
ومن قال: إنه يستحق الأجرَ، احتج بأن أصلَ الأجرة متفق عليه، وإنما الكلام في تعيين العمل، وبينهما عملان يتنازعان فيهما، ومن ضرورة انتفاء الغُرْم عن الأجير ثبوتُ الإذن في العمل الذي صدر منه. فإذا ثبت كونه مأذوناً فيه، وقد تقرر أن العمل المأذون فيه مقابَلٌ بالأجرة، فتثبت الأجرة.
5310- هذا أصل التوجيه. والذي صار إليه العراقيون من الفرق بين المسمى وأجرة المثل مُنقدح؛ فإن الأجرة المسماةَ قد تزيد على أجرة المثل، فثباتها بقولِ من يدّعيها بعيدٌ، [ويبعد أن يحبَطَ تعبُ العامل] (2) إذا ثبت كونُه مأذوناً فيه، فالإنصاف أن ألا يزيد على أجر المثل.
ومن يُثبت الأجرةَ المسماةَ يقول: سبب ثبوت الأجرة أنها متفقٌ عليها ذكراً، وقد انتفى العدوان بيمينه، وتعيّن بانتفائه وقوعُ الفعل مأذوناً فيه، ومساق ذلك يُثبت الأجرة المسماةَ، إن كنا نرى إثبات الأجرة.
__________
(1) في الأصل: تعلّم.
(2) في الأصل: ولا يمتنع ألا يحبط تعب العامل.(8/180)
ومما يجري في [خلل] (1) الكلام، أن من أثبت أجرة المثل؛ فإنه يقول لا محالة: إن كانت المسماة أقلَّ منها، فليس للخياط إلا الأجرةُ المسماة؛ فإنه ليس يدّعي أكثر منها، فيستحيل أن يستحق أكثر من المدَّعَى.
التفريع على ما ذكرناه في الأجرة:
5311- فإن حكمنا باستحقاقها، فلا كلام، واستقلت يمين الخياط بنفي الغُرم، وإثبات الأجرة.
وإن قلنا: لا يستحق الأجرةَ، فله أن يعرض اليمين في طلب الأجرة على رب
الثوب، فإن حلف رب الثوب، انتفت الأجرة في ظاهر الحكم، وإن نكل، فقد اختلف مسلك الأئمة: فذهب بعضهم إلى أنا نثُبت الأجرةَ الآن باليمين السابقة الصادرة من الخياط؛ فإنها اشتملت على النفي والإثبات، ولكنا لم نثبت بها مالاً للحالف، حِذاراً من إثبات المدعَى بيمين المدعي ابتداءً، فإذا تبيّن آخراً نكولُ رب الثوب، وقع الاكتفاء بما تقدّم، فإنا لو أعدنا تحليفه، لم نزد على تحليفه على إثبات الإذن، وقد تقدّم هذا، فلا معنى لإعادته، فهذه يمينُ ردٍّ اقتضى ترتيبُ الخصومة تقدُّمَها، ولكنها لا تقع الموقع في استحقاق الأجرة، حتى يتبين نكولُ رب الثوب عن اليمين.
هذا مسلك متجه، فإن كان فيه إشكالٌ، فلا إشكال القول (2) لا بخلل التفريع، ولكن تصديق الخياط يجر هذا.
5312- وهذا [هو] (3) الذي ارتضاه القاضي في التفريع. وذهب ذاهبون إلى أنا إذا لم نثبت الأجرة بمجرد يمين الخياط ابتداءً، فيقتصر على درء الغرم عنه، وخروجه عن العدوان. فإن أراد الأجرةَ، فينبغي أن يبتدىء دعوى فيها، ولا نظر إلى ما تقدم، ثم حكم الدعوى التي يبتديها عرضُ اليمين على رب الثوب، فإن نكل، رددنا اليمينَ على المدعي، وحلّفناه، ولا نظر إلى ما تقدّم.
__________
(1) في الأصل: ذلك الكلام.
(2) (د 1) : الوجه. والعبارة غير مستقيمة في النسختين، ولعل بها سقطاً، أو تصحيفاً. ولعلها: "فالإشكال في القول، والخلل في التفريع" والله أعلم.
(3) مزيدة من (د 1) .(8/181)
وهذا قياس الخصومات، وقد يفرض في خصومةٍ ذاتِ أطراف نكولٌ عن يمينٍ في جانب مع الإقدام عليها في جانب آخر، فإذا تميزت الخصومة عن الخصومة، وجب أن نُوفِّر على الخصومة الأخيرة حقَّها، وترتيبَها. وهذا حسنٌ منقاس.
وكل ذلك تفريع على قولنا بتصديق الخياط.
5313- وإن قلنا: القول قولُ ربّ الثوب مع يمينه، فيحلف بالله ما أمره بقطعه قَباءً، وتنتفي الأجرة عنه بيمينه.
ثم اتفق الأصحاب على أن الخياط يضمن، ولم يختلفوا في أصل الضمان، وهذا في الترتيب قد يناظر الأجرة في التفريع على القول [الأول] (1) .
ثم ثبوت الأجرة مختلف فيه، وثبوت الضمان في التفريع على تصديق المالك غيرُ مختلف فيه، والسبب أن رب الثوب بيمينه يهجم على إثبات عدوانه؛ فإن الإذن إذا انتفى، ثبت العدوان، فإذا كان العدوان يثبت بالنفي وهو متضمَّنُ اليمين في قياس الخصومة، والأجرة لا تثبت إلا بتقدير إثبات، فكان الافتراق لذلك.
5314- ثم إذا ثبت الضمان على الخياط، ففي قدره قولان: أحد القولين- أنه يجب ما بين القطعين، وبيانه أن الثوب لو كان يساوي عشرةً، غيرَ مقطوع، وكان يساوي القميص تسعة، والقَباء ثمانية، فالتفاوت بين القطعين دينار؛ فهو الواجب في قولٍ.
والقول الثاني - أنه يجب ما بين قيمة الثوب غيرَ مقطوع وبين كونه قَباء، وهو ديناران.
توجيه القولين: من أوجب الدينارين، احتج بأنه إذا لم يكن القطع مأذوناً فيه، فهو عدوان، ومن اعتدى، فقطع ثوباً قباءً، التزم كمالَ النقصان.
ومن قال بالقول الثاني، احتج بأن قال: أصل القطع مأذون فيه، وفي تقرير هذا لطف، فقطع الثوب بنصفين مثلاً يليق بتفصيله قميصاً، وهذا القدر يقع مأذوناً فيه،
__________
(1) مزيدة من (د 1) .(8/182)
والعدوان في الزيادة، فإن من يبغي القَباء يَزيد بعد هذا القطع قطعاً، وذلك هو المضمَّنُ، وهذا يتضمن تضمينه ما بين القطعين.
5315- وبنى الأئمة هذين القولين على أن الوكيل بالبيع إذا باع بغبن فاحش، وفاتت العين، فماذا يضمن؟ وفيه قولان -نص عليهما في الرهن اللطيف (1) : أحد القولين- أنه يضمن كمال قيمة العين، والقول الثاني - أنه يغرَم المقدارَ الذي لو باع به، لنفذ، ويُحطّ عنه ما يتغابن الناس بمثله. وقد ذكرنا حقيقة هذين القولين. ووجْهُ بناء القولين في مقدار الضمان في مسألتنا على هذا ظاهرٌ من طريق اللفظ.
ولست أوثر هذا البناء؛ فإن مَن يوجب ما بين القطعين يأخذ مذهبه ممّا أشرت إليه، من جريان ابتداء القطع على حسب الإذن، كما ذكرته. وإذا كان مأخذ تعليل الضمان هذا، فلا مناسبة بين هذا الأصل، وبين ما ذكرناه في الوكيل.
5316- وأنا أقول: لو كان القطع المنفي باليمين على وجهٍ لا يترتب شيء منه على جنس القطع المأمور به، فيجب القطعُ بإيجاب تمام الضمان، وإنما يختص القولان بالصورة التي ذكرناها، وهي أن يجري ابتداء القطع على حسب الإذن، ثم يترتب عليه قطعٌ يخالف الإذنَ، ثم الأصح في صورة القولين إثباتُ تمام الضمان؛ فإن بعض الإذن لا ينفع مع العدوان. ولهذا قلنا: إذا تعدى القصار، وزاد في الدّق، ضمن التمامَ وإن كان بعضُ الدقات مأذوناً فيه.
5317- وإن قلنا: إنهما يتحالفان، فيترتب على جريان التحالف سقوطُ الأجرة؛ فإن من ضرورة التحالف انتفاء الإذن، وانقطاعُ العقد، وهذا يقتضي سقوط الأجرة.
ثم ذكر العراقيون في التفريع على قول التحالف قولين للشافعي منصوصين، في أن الخياط هل يضمن؟ أحدهما - أنه لا يضمن؛ فإن الذي يقتضيه الإنصاف أن تسقط الأجرة ويسقط بإزائها الضمان، وبهذا يحصل الاعتدال في الجانبين.
__________
(1) (الرهن اللطيف) عنوان ضمن كتاب الرهن في كتاب الأم، وهو بلفظ (الرهن الصغير) وتحته اختصار وزيادات لكتاب الرهن.(8/183)
والقول الثاني - أن الضمان يثبت؛ لأن المتعاقدَيْن إنما يتبارآن إذا رجع كلٌّ إلى ما كان عليه قبل العقد، وصاحب الثوب يقول: هذا الثوب رددتموه عليَّ مقطعاً على خلاف إذني، وقد انتفى العقد، فضمّنوه لي. وهذا القول مشكلٌ؛ من جهة أنه يضاهي [تصديقنا] (1) صاحبَ الثوب، ويسقط أثر تحليفنا الخياط، ولو قدّرناه ناكلاً عن اليمين، لما لزمه إلا هذا، واليمين التي لا تجرّ نفعاً، ولا تفيد دفعاً لا معنى فيها.
وسبب جريان هذا القول ضعفٌ في (2) أصل التحالف؛ فإن ملك الإنسان إذا غُيّر عليه والقول قوله في نفي الإذن فيه، فالتحالف يبعدُ في هذه الصورة، فإذا قيل به، ثم رجع في عاقبته إلى إبطال أثر التحالف، كان تناقضاً، ولا (3) يستدّ على القول بالتحالف إلا سقوطُ الغُرم، في مقابلة سقوط الأجرة.
5318- ومما يتعلق بتمام البيان في المسألة أن الخياط إذا أسقطنا أجرتَه، لو قال: كانت الخيوط لي، وأنا أنزعها؛ [فإنها تبعت عملي الموجب للأجرة] (4) ، فإذا كانت الخيوط له، فله نزعها إذا كانت متقوّمة منتفعاً بها بعد النزع.
ثم قال الأصحاب: إذا نزعها، يغرَم ما دخل الثوبَ من النقص بسبب نزع الخيوط، كما إذا صبغ ثوبَ الغير بصبغ من عنده، ثم نزع الصبغ، فإنه يضمن لمالك الثوب أرشَ النقص، الذي يلحقه بسبب نزع الصبغ، كما قدمنا تقريره.
وهذا يستدعي مزيد نظر، فإن قلنا: لا يجب الضمان على الأجير، تفريعاً على قول التحالف، فإذا نزع، فقد أحدث نقصاً؛ [إذ] (5) ردَّ الثوب قِطَعاً؛ فيغرم ما بين الثوب مخيطاً، [وبين] (6) القِطَع.
وإن قلنا: إنه يضمن نقصان القطع في الأصل، فقد ضمّناه أرشَ نقصان التقطيع
__________
(1) في الأصل: تصديقاً.
(2) (د 1) : ضعف أصل التحالف.
(3) (د 1) : فلا.
(4) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(5) في الأصل: إن.
(6) في الأصل: أو بين.(8/184)
مرة، فيبعد أن يضمنه مرة أخرى، ولكن إن حدث بسبب نزع الخيط مداخلُ الإبر، وكانت انسدت بالخيوط، وقد يُحدث النزعُ خرقاً في موضع الخيط، فهذا يضمنه، فأما تضمينه الزيادة، وقد ضمّناه مرة؛ فإنه يتضمن تضعيف الضمان.
والذي ذكره الأصحاب ظاهرٌ في إيجاب الضمان عليه مرة أخرى، لتفصيله للثوب بعدما نظمه (1) ، وهذا غير سديد؛ فإنه لا معنى لضمّه إلا وصل الخيوط به، فإذا جوزنا نزع الخيوط، عادَ الأمرُ إلى ما كان عليه.
هذا منتهى الكلام في الفصل.
فصل
قال: " ولو اكترى دابة، فحبسها ... إلى آخره " (2) .
5319- إذا اكترى دابة، وقبضها، فالإجارة لا تخلو إما أن تكون معقودةً على مدة، وإما أن تكون معقودة على منفعة معلومة.
فإن كانت معقودة على مدة، فإذا حبسها حتى انقضت المدة، ولم ينتفع بها، استقرت الأجرة، وانتهى العقد، ووجب ردُّ الدابة.
ولو وردت الإجارة على منفعة معلومةٍ، ولم يقع التعرض للمدّة، فمضى في يد المستأجر من الزمان ما يسع استيفاءَ تلك المنفعة، استقرت الأجرة، وانتهت الإجارة، وقد قدمنا ذلك.
5320- ثم قال الأئمة: لو تلفت الدابة في يد المستأجر في المدة المضروبة، أو
في مدة العمل الموصوف، بآفة سماوية، فلا ضمان على المكتري؛ فإن يده يدُ أمانة، والأمانةُ لا تختلُّ بتركه حظَّ نفسه في الانتفاع، وإذا كان الزمان محسوباً عليه، فترك الانتفاع ترفيهٌ للدابة. نعم لو ربطها في إصطبلٍ، فانهدم الإصطبل عليها، من
__________
(1) كذا، ولعلها: بعد ما قطّعه. أو لعلّ نظمه في لغة السوق في ذلك العصر تعني (فصّله) . أي قطعه إعداداً للخياطة.
(2) ر. المختصر: 3/91.(8/185)
غير انتسابه إلى تقصير، بأن اتفقت رجفة ورجّة، تهدَّم السقف لها، فقد قال الأئمة: يجب الضمان، وإن كنا نقول: لو كانت الدابة مودعة عنده، وربطها في المحل الذي وصفناه، فاتفق انهدام السقف، فلا ضمان.
والسبب في إيجاب الضمان في مسألتنا أنه لو كان راكبها وسائراً عليها، لما كانت ربيطةً تحت سقفٍ، فإن ربطها، وكان ذلك سببَ الهلاك، أوجب الضمانَ؛ فإن التلف حصل بسببٍ يخالف مضمون [العقد] (1) .
وسيأتي تقرير ذلك في كتاب الوديعة إن شاء الله، عند ذكرنا مخالفة المودَع المالك في جهة الحفظ.
5321- ولو ربط الدابة في إصطبل، كما ذكرناه، فماتت بآفة لا تتعلق بالإصطبل، فلا ضمان، فنفس الربط ليس عدواناً، ولكنه يجر ضماناً من الجهة التي ذكرناها، فهذا ربط على شرط السلامة من آفة الربط في الإصطبل.
وتمام البيان في هذا محال على الوديعة.
5322- ثم قال الشافعي: إذا انقضت المدة، فحبس الدابة بعد انتهاء المدة، ضمنها.
وهذا مما اضطرب الأصحاب فيه، فقال المراوزة: لا يجب على المستأجر ردُّ العين المستأجرة. نعم لا يمنع المالك من استردادها، وسبيله فيها كسبيل المودَع. ثم ليس على المودَع ردُّ الوديعة، ولكن إن أرادها المالك، لم يحل بينه وبينها، ومكّنه من أخذها، فقول الشافعي: " ضمنها " عند هؤلاء محمولٌ على ما إذا طولب بالتمكين من الاسترداد فأبى.
5323- ومن أصحابنا من قال: إذا انقضت المدة، دخلت الدابة في ضمان المستأجر، وهؤلاء ذهبوا إلى أنه يجب عليه ردُّ العين، والتزام (2) مؤنة الرد. وهذا الوجه ذكره العراقيون، وصاحب التقريب.
__________
(1) في الأصل: مضمون ذلك.
(2) (د 1) : ويلزمه مؤنة الرد.(8/186)
ثم فرع صاحب التقريب وقال: لو اكترى دابة وشرط أن يردّها إلى بلد المكري من منتهى سفره، لزمه الرد.
وإن كان العقد مطلقاً، فإن كان المالك مع الدابة، هان ردُّها عليه في منتهى السفر، وإن لم يكن رب الدابة معها، فعليه أن يردها إلى بلده جرياً على وجوب الرد.
والمراوزة يقولون: لا يلزم الرد، ولكن إذا انتهى السفر، فالمستأجر في العين المستأجرة كالمودَع إذا أراد سفراً، وسبيله إذا أراد ذلك أن يسلّم العين إلى الحاكم، وفيه تفصيل سيأتي في كتاب الوديعة، إن شاء الله عز وجل.
وهؤلاء يقولون: لو شرط الردَّ على المستأجر، كان شرطاً باطلاً، مفسداً للإجارة.
5324- فخرج من مجموع ما ذكرناه اختلافُ الأصحاب في أن الإجارة إذا انتهت، فيد المستأجر يدُ ضمان أم لا؟ وعليه يترتب مؤنةُ الرد، أو على مؤنة الرد يترتب الضمان. وهما كالقضية الواحدة؛ فإن ضمان العين نتيجة ضمان الرد، كما قررناه في العواري.
وطريقة المراوزة أمثل، ويبعد كل البعد أن يقال: إذا انقضت المدة، وهمَّ المستأجر بالرد، فتلفت العين في يده من غير تقصيره، يجب الضمان عليه. ومن أوجبه طردَ القياس في إثبات الضمان وألحق العينَ بعد الإجارة بالمستعار، والمأخوذِ سَوْماً.
ولا يمتنع عندنا أن يفصل الفاصل بين ألا يرد ويحبس، وبين أن يسعى في الرد غيرَ مقصّر. ولفظ الشافعي -إن كان الأخذُ منه- يتضمن هذا، فإنه قال: " ولو حبسها بعد انتهاء المدة، ضمنها ". فخصص الضمان بالحبس.
5325- وذكر القاضي مسألةً لها اتصالٌ بما نحن فيه، فقال: إذا دفع الرجل بضاعةً إلى إنسان، فالتمس منه أن يحملها إلى بلد،، ويشتري له جاريةً، ففعل، فلا يلزمه نقلُ الجارية، بل يتركها؛ لأنه متبرع في عمله، وقد فعل ما أُمر به. وهذا الذي ذكره قياسٌ، لا شك فيه، والجارية التي يقبضها وتحصُل في يده، في حكم وديعةٍ وهو في(8/187)
تركها مسافر عن الوديعة. ثم في المسافرة عن الوديعة تفصيلٌ سيأتي مشروحاً، إن شاء الله.
ولا يمتنع أن يقول القائل: إذا [قبض البضاعة] (1) التزم ردَّ الجارية إليه. وإنما سمحت نفسُ صاحب البضاعة بتغييبها حتى يرد الجارية إليه. [و] (2) هذا له ظهورٌ في حكم العرف. ولكن الأصل ما ذكره القاضي، ثم لا نفصل بين أن يلتزم ردّها، ثم يبدو له، وبين أن يجري الإبضاعُ مطلقاً؛ فإن من التزم ردّ مال إنسان، ولم يُستأجر عليه، لم يلزمه الوفاء به.
فصل
نجمع فيه تفاصيلَ ما على المكري في عمارة الدار المكراة
5326- فالوجه أن نرسل عبارات الأصحاب في الغرض المقصود، ثم نبحث عن الحقيقة. قالوا رضي الله عنهم: إذا انكسر جذعٌ من الجذوع، وأمكن إصلاحه من غير إبدالٍ، فذلك على المكري، وإذا استرمّ جدارٌ، فمال، فإقامته على المكري.
وإن مست الحاجة في العمارة إلى الإتيان بجذعٍ جديدٍ، فقد ذكر شيخي وجهين: أحدهما - أن على المكري ذلك. والثاني - ليس عليه الإتيان بجذعٍ جديد، وهو الذي قطع به معظمُ الأئمة.
توجيه الوجهين: من قال: لا يجب الإتيان بجذعٍ، قال: إن كانت الإجارة متعلقةً بما انكسر، فقد فات محل الإجارة، فلا يجب إبداله، كما لو أجر جذعاً، فانكسر، لم يلزم الإبدال.
ومن قال بالوجه الثاني، احتج بأن الجذع كان في حكم الصفة للدار، والإتيان بجذعٍ جديد في حكم تغيير (3) الصفة، وليس كما لو كان الجذع مخصوصاً بالإجارة
__________
(1) المثبت من (د 1) . وعبارة الأصل: " إذا التزم ذلك، ردّ الجارية ".
(2) زيادة من المحقق للإيضاح فقط، وإلا فالعبارة صحيحة مستقيمة، وإن كان هذا الأسلوب غير مألوف.
(3) تغيير الصفة: أي إعادة صفة الدار إلى ما كانت عليه، كما سيشير إليه، فيما يأتي قريباً.(8/188)
مقصوداً فيها. وهذا الخلاف نازع إلى تردد الأصحاب في أن أجزاء البنيان هل توصف بكونها معقوداً عليها؟ أم هي كالصفات بمثابة أطراف العبد؟ وفيه تردد ظاهر قدمناه.
5327- ومما نرى تقديمه في صدر الفصل أن العمارة التي أطلقنا القولَ بوجوبها على المكري، كإصلاح الجذع المنكسر، وإقامة الجدار المائل، مما تمارى الأصحاب فيه، فالذي ذكره العراقيون أنه لا يجب في التحقيق، ولكن إن فعلها المكري، استمرت الإجارة، وإن امتنع تخير المكتري. وهذا مذهب أبي حنيفة (1) .
ووجه هذا أن الإجارة وردت على عين الدار، فإيجاب إحداثِ فعل فيها إيجابُ زائدٍ، لا تقتضيه الإجارة بلفظها. نعم، يثبت الخيار؛ إذ الدار لو انهدمت، لانفسخت الإجارة، فإذا كان العقد ينفسخ بالتلف، يثبت التخير فيه [بالتعيُّب] (2) .
5328- وذكر شيخي والقاضي ما يدلّ على أن العمارة تجب، على التفصيل الذي ذكرناه. وهذا متجه، من جهة أن توفية المنافع لا تتأتى إلا بمرمة الدار إذا هي [استرمت] (3) ، وبناء مذهبنا على أن المنافع مستحقة على المكري، ولا يتجه في الحكم بانفساخ الإجارة إذا انهدمت الدار في يد المكتري إلا أن يقال: يد المكتري وإن ثبتت، وسلّطته على التصرف بالإجارة، ففي العين عُلقةٌ متعلقة بالمكري، وهي وجوب توفية المنافع عليه، فإذا كنا لا نوجب عليه العمارة، فلا يبقى لإيجاب توفية المنافع على المكري [معنى] (4) سديد.
فقد حصلنا إذاً على طريقين للأصحاب أثبتناهما عنهم على ثبتٍ وثقة.
5329- ولو استأجر داراً، ولم يكن على بعض مداخلها بابٌ، أو لم يكن على مجرى مائها مزراب، فإذا اطلع المكتري على ذلك، وكان ما رآه مؤثراً في تنقيص
__________
(1) ر. المبسوط: 15/144، وحاشية ابن عابدين: 5/49، ومختصر اختلاف العلماء: 4/134 مسألة: 1833.
(2) في الأصل: بالتعصب. وهو تصحيف طريف.
(3) في الأصل: استرجت.
(4) في الأصل: نعنى.(8/189)
المنفعة، فلا نوجب على المكري في هذه الحالة تعليقَ بابٍ، ولا نصبَ مزراب؛ فإنا لو ألزمناه ذلك، كنا موجبين عليه إحداث ما لم يكن ثابتاً حالةَ العقد، ولكن للمكتري الخيار في الفسخ والإجازة.
5330- ولو انكسر جذعٌ، وكان الاكتفاء يقع بأن يُدعم بدِعامة، فقد اختلف الأئمة في هذه المسألة، فذهب معظمهم إلى أن هذا يلتحق بإصلاح الجذع من غير مزيد، وإقامة الجدار المائل؛ فإن الدعامة وإن لم يكن منها بد، وهي زائدة لم تكن، فإنها ليست جزءاً من الدار، وإنما هي مستعارة.
وفي كلام بعض أصحابنا ما يدل على أن هذا بمثابة إحداث جذع جديد؛ فإن الدعامة جديدة، وقد شغلها بالعمارة، وإذا تحقق شغلها، وهي لم تكن، فلا أثر وراء ذلك لكونها جزءاً من الدار، أو خروجها عن أجزاء الدار. وفي المسألة احتمال.
5331- ومما يتعلق بذلك أن كنس الدار مما لا يجب على المكري، وليس هذا معدوداً من عمارة الدار، وإنما هو من تنقية الساكن مسكنه إن أراد تنقيته، ولا تؤثر في المنافع المقصودة.
5332- واختلف أئمتنا في تنقية البالوعة إذا امتلأت، فمنهم من قال: هي على المكري. ومنهم من قال: ليست على المكري؛ فإن ما يتجمع فيها يضاهي ما يتجمع في الدار من الكناسات، وفضلات الأطعمة ونَفْض الموائد، وقشور البطيخ، ونحوها.
ومنهم من قال: هي ملتحقة بعمارة الدار؛ فإن الكناسات ليس لها ضبط، فقد تكون، وقد لا تكون، والعادة جارية بأن السكان يتولَّوْن طرحَها وإلقاءها، وتنقيةُ البالوعة من الرواتب التي تقع لا محالة، فإذا امتلأت البالوعة، تعذّر الانتفاع، فوجب إلحاقُها بالعمارات.
5333- فأما كسحُ الثلوج، فالقول فيه منقسمٌ إلى كسح عَرْصة الدار، وإلى كسح السطوح. فأما كسح العرصة، فإن كان الواقع فيه من الثلج لا يمنع كن الانتفاع، لقلّته وخفته، فهو ملتحق بكنس الدار من الغبار، وإن كثف الثلج، وكثر، وامتنع التردد(8/190)
في الدار بسببه، فظاهر المذهب أنه يلتحق بالكنس، ولا يمتنع التحاقه بتنقية البالوعة.
وفي كلام الأصحاب ما يدل على المسلكين جميعاً، وهو لكثرته [يجانب] (1) الغبار المعتاد الذي يكنس، ويخالف امتلاء البالوعة، من حيث إن ذلك يقع على اعتياد، بخلاف الثلج.
5334- فأما الثلج على السطوح، فلا يجب على المكتري كسحُه؛ فإن كان يضر بالسقوف إضراراً مؤثراً في الانتفاع، فكسحه بمثابة إقامة الجدار المائل، وإصلاح الجذع. ثم يعود ما قدمناه من التفصيل في أن ذلك يجب على المكري، حتى يطالَب به أم لا يجب؟ فإن أوجبناه، فلا كلام. وإن لم نوجبه، فما لم يظهر نقصٌ مؤثر في الانتفاع، لا يثبت الخيار للمكتري.
ومن أصحابنا من قال: لا يجب كسحُ الثلج على المكري، وإن أوجبنا عليه العمارة؛ فإن العمارةَ تغييرٌ في [صفة] (2) الدار، وردّها إلى ما كانت عليه، وكسح الثلج ليس بهذه المثابة.
5335- وإن انتهت الإجارة، وانقضت، فلا يجب على المكتري تنظيفُ البالوعة التي امتلأت في زمان الإجارة، ليردّها منظَّفة كما قبضها، هذا لا يجب وفاقاً على المكتري، وإن ترددنا في أنه هل يجب على المكري تنقية البالوعة في أثناء المدة.
5336- ومما يجب التنبه له أنا إذا لم نوجب التنقيةَ في أثناء المدة، فلو امتنع الانتفاع بالدار بسبب امتلاء البالوعة، والتفريع على أنه لا يجب على المكري التنقيةُ، فهل يثبت خيار الفسخ للمكتري؟
اضطرب (3) أئمتنا، فذهب الأكثرون إلى أنه لا خيار له، ولكنا نقول له: إن أردت الانتفاع فنقِّ البالوعةَ، كما تنقي الدارَ من الكناسة. وهذا هو الظاهر.
وأبعد بعض أصحابنا، فأثبت للمكتري التخيّر، وهذا التردد إنما يحسن إذا كنا
__________
(1) في الأصل: بجانب. وفي (د 1) : بدون نقط.
(2) في الأصل: وصف.
(3) (د 1) : اختلف.(8/191)
نوجب العمارة على المكري، ونوجِّهُ عليه الطَّلِبة بها، فنقول هاهنا: لا يجب عليه التنقية، ولكن [للمكتري] (1) الخيار.
5337- ويظهر أثر ما ذكرناه بمسألة، وهي أن الإجارة إذا انتهت، وقد تجمعت كناسةٌ في الدار، فقد قال الأصحاب: على المكتري نقلُها، وتسليمُ الدار فارغةً منها، ولم يوجبوا تنقيةَ البالوعة، فكذلك لا يوجبونها في أثناء المدة، ويقولون: إذا عسر الانتفاع، ثبت الخيار، بخلاف ما لو عسر باجتماع الكناسة. والكناسةُ التي أطلقناها عَنَيْنا بها، ما يُلقيها المكتري من قشور، ونَفْض طعام، وأما ما يقع في الدار من ترابٍ بسبب هبوب الرياح، فلا يجب على المكتري نقلُه، وتنقيةُ الدار منه أصلاً؛ فإن هذا لم يحدث بفعله، وسببِه، وهو -إن كان ثقل- ينزل منزلة الثلج، الذي يقع، في أنه لا يجب على المكتري تنقيتُه.
5338- ولو اغتصب مغتصب الدارَ من يدي المكتري في أثناء المدة، فالذي [أطلقه] (2) معظم الأئمة أنه لا يجب على المكري تخليصُها من يد الغاصب، وإن اقتدر عليه. وفي كلام بعض المحققين ما يدل على أنه يجب عليه التخليص؛ لتمكين المكتري من الانتفاع. وهذا يتفرع على مذهب من يرى إيجابَ العمارة، التي يحصل بها التمكّنُ من الانتفاع.
5339- وإذا اكترى الرجل حماماً، فتنقية الأتّون عن الرماد على المكتري؛ فإنه بمثابة الكناسة التي تجتمع في الدار المكتراة، بإلقاء المكتري إياها؛ إذ الرماد من أثر وقود الأتّون، فإذا انتهت الإجارةُ، فعلى المكتري نقلُ ذلك، كما ذكرنا في كناسة الدار.
ولا يجب على المكتري تنظيفُ مستنقع الماء، كما لا يجب عليه تنظيف البالوعة، وهذا فيه إذا انتهت الإجارة نهايتَها.
وهل يجب في أثناء المدة تنقية المستنقع، ومجتمع فضلات الماء؟ فعلى وجهين، كالوجهين في تنقية البالوعة في الدار، فلا فرق. والذي اختاره الأئمة في المسألتين أنهما على المكتري.
__________
(1) في الأصل: المكري.
(2) في الأصل: أطلق.(8/192)
5340- ثم إذا اكترى حماماً، فالذي يجب على المكري أن يسلّمه [مع] (1) الأبواب؛ فإنها (2) بمثابة الأبواب المُحكمة (3) ، وإن كان يسهل نقلها، فأما الأرز (4) العتيدة، والطاسات والحبل، والدَّلو، فلا يدخل شيء منها في إجارة الحمام.
وإذا اشترطنا في إجارة الأعيان رؤيةَ العين المستأجرة، فلا بد من رؤية مواضعَ من الحمام، وما يتصل بها، إحداها [البيوت] (5) وبئر الماء، والقِدر، ومطرح الرّماد، ومبسط القماش، والوقود والأتون، والموضع الذي تجتمع فيه فضلات الماء، وعلى مشتري الحمّام أن يراها، إذا اشترطنا رؤيةَ المبيع.
5341- وإذا اكترى الرجل داراً، فعلى مكريها تسليمُ المفتاح إلى المكتري؛ فإن منعه منه، انفسخ الكراء في زمان المنع، هكذا قال الأصحاب، وإن كان يتأتى من المكتري قلعُ الباب، أو قلعُ الأغلاق، أو العلوّ (6) في السطح، فمنع المفتاح منعٌ من المكرى.
ولو سلّم إليه المفتاحَ، فضاع في يده، أبدله المكري بغيره. ثم قال الأئمة: لا يجبر المكري على الإبدال، وإنما يُجبر ابتداءً على بذل المفتاح؛ فإن البذل الأول هو ابتداء التسليم، وابتداء التسليم واجبٌ على المكري، والإبدال بعد التسليم الأول في حكم الامتناع الطارىء.
وألحق الأئمة إبدال المفتاح، بإبدال جذع ينكسر في الدار، والحاجة ماسة في توفية المنافع إلى الإتيان بجذعٍ جديد، غيرِ الذي انكسر. ثم ينبني على ذلك أن
__________
(1) زيادة من (د 1) .
(2) عبارة (د 1) : فإنها الأبواب المحكمة، إن كان يسهل نقلها.
(3) والمعنى المفهوم من السياق أن للحمامات أبواباً غير ثابتة تتميز بها عن أبواب الدار، ويُرَاد بها -فيما نقدِّر- مزيد السَّتر، وأظنها تشبه الحواجز المتنقلة التي تفصل بعض الناس عن بعض في الصالات والفناءات الواسعة.
(4) في الأصل: الأزر. والأرز هو الصاروج، وهو النُّورة وأخلاطها، وهو مسحوق يستخدم في التنظيف، وإزالة الشعر (طلبة الطلبة للنسفي: 259، والمصباح، والمعجم) .
(5) في الأصل: الثبوت.
(6) (د 1) : أو التسلق.(8/193)
المكري إذا لم يُبدل، فللمكتري الخيار، كنظيره في الجذع.
5342- وإذا اكترى الرجل طاحونة، فعلى المكري [مع] (1) تسليم البيت تسليمُ الآلات العتيدة، كحجرِ الرَّحا، والآلةِ المعلّقة فوق الرّحا، التي هي مجتمع الحب، والقطبِ، وما عليه مداره من أسفل في رحا الماء؛ فإن العادة مطردة بتسليم هذه الأشياء، وإن كان يسهل نقلُها، فهي بجملتها معدودة من الطاحونة، على اعتيادٍ مطرد.
والقول في بيع الطاحونة كالقول في إجارتها، وقد ذكرنا في كتاب البيع تردداً في أن مطلق البيع في الدار هل يستتبع ما فيها من رحاً مثبتٍ، وليس ذلك مما نحن فيه؛ فإن متعلّق العقد اسمُ الدار، ومتعلّقُ العقد فيما ذكرناه اسمُ الطاحونة، وهذا الاسم يستدعي هذه الأشياء.
وذكر الأئمة نقولاً جاريةً لقواعدَ في الإجارة، ونحن نأتي بها مستقصاة، إن شاء الله عز وجل.
فصل
5343- إذا اكترى الرجل داراً بعشرين ديناراً، وشرط المكتري على المكري أن يصرف مالَ الكراء إلى عمارة الدار، فالكراء فاسد، وعلّة الفساد الاحتكام على المكري في صرف عين الكراء إلى العمارة، ولفظ الشافعي في ذلك الكراهية، فإنه قال: " لو اكترى داراً، وشرط أن يُنفق الكراءَ على الدار، كرهتُ ذلك " وأجمع الأصحاب على حمل الكراهية من لفظ الشافعي على التحريم.
ولو وقع العقد بكراءٍ معلوم، وشرط المكري على المكتري أن يعمّر الدارَ بها، فهذا فاسد مفسدٌ أيضاًًً؛ من جهة أن قيامَ المكتري بالعمارة عملٌ منه مجهولٌ، واشتراط عمله مضموماً إلى الأجرة، يتضمن جهالةً بيّنة في العِوض.
ولو جرت الإجارة مطلقة عرية عن الشرط، ثم إن المكري وكّل المكتري ابتداءً بأن يصرف ما عليه من الأجرة إلى عمارة الدار، فهذا جائزٌ لا منع فيه.
__________
(1) زيادة من (د 1) .(8/194)
فصل
5344- إذا استأجر من يحفر بئراً، ولم يتعرّض لذكر المدة، ولا بد من تبيين محلّ الحفر، وذكر عرْضِ البئر وعمقها، فإذا وقع الاستئجار على هذا الوجه، فأخذ الأجير في الاحتفار، فكل ما يحتفره، فهو جزء من عمله، واقعٌ [مسلّم] (1) ، وأثر ذلك أنه لو شرط على الأجير احتفارَ عشرين ذراعاً في عرض ذراعين، فإذا احتفر عشرة أذرعٍ ثم انهارت البئر، فانطمست، فالأجير يستحق من المسمى مقدارَ عمله.
ولا يخفى أن التوزيع لا يقع على أذرع العمق في العرض المذكور، حتى يقال: إذا كان المشروط عشرين ذراعاً، وقد احتفر عشرة أذرع، فنجعل ذلك في مقابلة نصف الأجرة المسماة. هذا لا سبيل إليه. ولكنا نوزّع المسمى على أجرة المثل فيما عمل، وبقي. فإن قيل: أجر مثل ما بقي خمسةَ عشرَ درهماً، وأجر مثل ما حفر خمسةُ دراهم، ولا شك أن العمل يكثر كلما ازداد عمقُ البئر، فيستحق الحافر من المسمى ربعَه، والأذرع المذكورة في توزيع الأجر عليها كالأيام في مدة الإجارة في الدور والمساكن، مع وقوع بعضها في المواسم.
5345- ولو انتهى الأجير في حفره إلى موضع صلب يخالف ما كان يعمل فيه، فإن كانت المعاول والفؤوس تعمل في الكُدية (2) ، فعلى الأجير أن يعمل.
وهذا الفن من التفاوت يقع في أمثال هذه الإجارة، فيحتمل، من جهة أن الضبط في قبيله غيرُ ممكن، ومبنى (3) تصحيح الإجارة على الضرورة والحاجة.
ولو كانت المعاول لا تعمل في محل الإكداء (4) ، وكان الأجير يحتاج إلى استعانة بإيقاد النار على الكُدية، فليس على الأجير ذلك؛ فإن هذا مجاوزةٌ لحد الحفر المطلق.
__________
(1) في الأصل: مسلّماً.
(2) الكُدية: الأرض الغليظة أو الصلبة، لا تعمل فيها الفأس (المعجم) .
(3) (د 1) : فمبنى.
(4) الإكداء: مصدر أكدى إكداءً: إذا بلغ الكُدية. (المعجم) .(8/195)
5346- ولو استأجر أجيراً ليحفر، واعتمد في الإجارة ذكر المدة، فقال: تحفره في بياض هذا النهار، فلا حاجة -ومعتمد الإجارة المدة- إلى إعلام العمق والعرض؛ فإن الإجارة وردت على عين الأجير، [والمطلوب منه] (1) عمل الحفر في المدة المقدرة.
فصل
يجمع مسائل على نسقٍ
5347- فإذا استأجر من يذبح له شاةً، ويسلخها، فجعل أجرة الأجير جلدَ الشاة، لم يجز له ذلك؛ لأنه جعل الأجرة جزءاً من الحيوان، وذلك ممتنع.
ويجوز أن يقال: الفساد بعلةٍ أخرى، وهي أن الجلد إنما ينفصل عن الشاة المذكّاة بعمل السلخ، فعمله المذكور في الإجارة يتصل بالأجرة المسماة ويقع [عملاً] (2) فيها، وهذا ممتنع، والشرط أن يقع عمل الأجير في خالص ملك المستأجر.
5348- وإذا استأجر من يحمل ميتة إلى المزبلة، ويسلخها، وجعل الأجرة جلدَها، فهذا ممتنع للمعنيين المقدّمين، ولمعنى ثالث أجلى منهما، وهو أنه جعل الأجرة جلدَ الميتة، وهو قبل الدباغ نجسُ العين، غيرُ متقوّم، إلى أن يدبغ.
5349- ولو استأجر من يجني ثماراً له، وجعل أجرة الأجير جزءاً من تلك (3) الثمار، فالإجارةُ فاسدةٌ عند الأصحاب؛ لأن عمله يقع فيما سُمي أجرةً، وقد ذكرنا أن الشرط أن يقع عملُ الأجير في خالص ملك المستأجر؛ فإذا وقع بعضٌ من عمله فيما قُدّر أجرة، فكأنه عمل فيما هو ملكه.
5350- وإذا استأجر من ينخل دقيقاً، وجعل أجرته النخالة، لم يجز، وكذلك إذا
__________
(1) في الأصل: ومطلوبه عمل الحفر..
(2) (د 1) : عمداً.
(3) هنا انتهى الخلل في السياق في نسخة (د 1) ، وصوابه الرجوع من ص60 ش (هنا) إلى ص 39 ي.(8/196)
استأجر من يطحن حنطةً بقفيزٍ من الطحين، فالإجارة فاسدة.
5351- والعلل وإن كانت ظاهرةً في إفساد الإجارة في هذه المسائل، فالمعتمد الأظهر فيها ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نهى عن قفيز الطحان " (1) ، ومراده صلى الله عليه وسلم استئجارُ الطحان بقفيزٍ من الطحين.
5352- ولو استأجر مالكُ الجاريةِ مرضعةً لترضع الجاريةَ الرضيعةَ، وشرط أجرتها جزءاً من الجارية إذا فُطمت، فالإجارة فاسدة، تخريجاً على قفيز الطحان.
ولو قال: استأجرتُكِ على إرضاعها، وأجرتُك ثلثُ رقبتها في الحال، فهذا يخرّج على مسألةٍ نُقدّمها، ونذكر ما فيها: وهي أنه إذا كان بين رجلين جاريةٌ رضيعةٌ، فلو استأجر المالكان مُرضعة، جاز ذلك، ويقع العمل على نصيبهما، والأجرةُ عليهما، ولو أراد أحدُهما أن يستأجر مرضعةً، ولم يساعده شريكه، فالإجارة لا تنتظم في بعض الجارية؛ من جهة أن إيقاع العمل في البعض غيرُ ممكن، وإيقاع العمل في الجميع يتضمن إيقاعَ عملٍ في ملك الغير، من غير إذنه، وهذا مما لا يسوغ من الشريك الانفرادُ به. نعم، لو ظهرت الضرورة، فالحاكم يستأجر على الممتنع، والطالب.
ولو كانت الجارية الرضيعة مشتركةً بين رجلٍ ومرضعته، فاستأجر الرجل المرضعة على الإرضاع، فعملها يقع على ملكها وملك الشريك المستأجِر، فتفسد الإجارة.
فإذا ثبت ما ذكرناه، فنعود، ونقول: إذا كانت الجارية الرضيعة خالصةً لإنسانٍ، فاستأجر مرضعةً، وجعل أجرتها جزءاً من الجارية، فعملها لو صحت الإجارة يقع على ملكها وملك المستأجر، فتفسد الإجارةُ بناء على القاعدة التي مهدناها.
فرع:
5353- إذا استأجر حلياً من ذهبٍ بذهب، أو فضة، فلا بأس، ولا نظر إلى جوهر الحلي، وإلى الأجرة المذكورة، فإن الأجرة في مقابلة منفعة الحلي، لا في مقابلة جوهره، فلا يثبت شيءٌ من أحكام الربا على هذا الوجه.
__________
(1) حديث النهي عن قفيز الطحان رواه الدارقطني: 3/47، والبيهقي: 5/5339، وانظر تلخيص الحبير: 3/1533، ح 1316.(8/197)
5354- ولو أتلف الرجل حُليّاً قيمته تزيد على زنته، وكانت الصنعة فيه (1) محترمة، فللأصحاب فيه اضطراب، فيما يغرَمه المتلف، قدمنا ذكره. وسببُ الاختلاف أن ما يبذله المتلف بدل المتلَف؛ فامتنع بعضُ الأصحاب من مقابلة حلي الذهب بما يزيد على مقدار وزنه من الذهب، على التفصيل الذي سبق، وليست الإجارة من هذا بسبيل.
فرع:
5355- إذا استأجر الرجل صباغاً، ووصف العملَ المطلوبَ منه، فالعادة جاريةٌ -على الطرد- بكون الصِّبغ من جهة الصباغ، فإذا جرت (2) الإجارة على الصبغ، ففي دخول عين الصبغ تبعاً من التفصيل ما ذكرناه في دخول الحبر في عمل الورّاق، وقد ذكرنا ثَمَّ التفصيلَ في اطراد العادة واختلافها، فمسألة الصبغ ملحقةٌ بما إذا اطرد العرف في كون الحبر من جهة الورّاق، وقد مضى ذلك مشبَعاً.
فصل
5356- قد ذكرنا أنه لا يجوز للمرأة وهي في حياة زوجها أن تؤاجر نفسَها للإرضاع، ولا يختص ذلك بهذا النوع، بل لا تؤاجر نفسَها في عملٍ من الأعمال، كالغَسْل، والخَبز، والغزل والخياطة، وما في معناها، وليس ذلك لاستحقاق الزوج هذه المنافع منها، ولكن لكونها مزحومة بحق الزوج؛ فإن (3) حق الزوج في الحرة [المنكوحة] (4) على الاستغراق.
ولو كانت الزوجة أمةً، فقد ذكرنا أن للسيد أن يستخدمها نهاراً، في المدة التي كان يستخدمها فيها إذا كانت خَلِيَّة عن [حق] (5) الزوج. فلو أراد أن يكريها في تلك المدة، جاز؛ لأن منفعة الأمة لا تكون مزحومةً بحق الزوج.
__________
(1) (د 1) : غير محترمة.
(2) (د 1) : ثبتت.
(3) (د 1) : إذ بناء حق الزوج.
(4) مزيدة من (د 1) .
(5) ساقطة من الأصل.(8/198)
5357- ولو أذن الزوج لزوجته الحرة في أن تؤاجر نفسَها، صح ذلك منها، ثم يجب الوفاء بموجَب الإجارة.
ولو كانت آجرت نفسَها للإرضاع، قبل أن نَكَحت، ثم نَكَحت، فطريان النكاح لا يغير أمرَ الإجارة، ويجب عليها الوفاء بمقتضى الإجارة، حتى قال الأصحاب: لو كنا نخشى من وطء الزوج إياها أن تعلَق، وتحبَل، فإذا حبِلت، قلّ اللبن، وفسد، فالزوج ممنوعٌ عن (1) وطئها؛ فإن حقَّ الإجارة تأكد أولاً، ثم طرأ النكاح، ومنع الزوج من الوطْء المؤثر في مقصود الإجارة بمثابة منع الراهن من وطْء الجارية المرهونة.
ولو فرضنا الإجارة بعد النكاح واردةً على ذمة المرأة، لصحت؛ فإن ذلك لا ينافي حقَّ الزوج؛ من جهة أنها لو أرادت تحصيلَ ما التزمته بأن تستاجر، كان لها ذلك، وهذا لا يزاحم حقَّ الزوج.
ثم إذا انعقدت الإجارة على ذمتها، فوجدت في خَلَل الأيام فرصة، واستمكنت من توفية بعض العمل بنفسها، فلها ذلك؛ فإن معتمد الإجارة الذمة. وهذا واضحٌ.
5358- ومما يتعلق بهذا الفصل أن المرأة إذا آجرت نفسها لإرضاع ولدٍ، ولم تكن ذات زوج، أو كانت ذاتَ زوج، وقد جرت الإجارة بإذن الزوج، فيجب عليها توفيةُ المنفعة بكمالها، فلو مات ذلك المولود الذي استؤجرت المرضعة لإرضاعه، فتفصيل القول في هذا يستدعي تقديمَ أصلٍ مقصودٍ في الإجارة، فنقول:
5359- من استأجر دابةً معينةً لمنفعة معلومة، فلو تلفت الدابة، ترتب [على تلفها] (2) انفساخُ الإجارة لا محالة؛ فإن المعقودَ عليه قد مات، ولو مات المستأجر للدابة أو مُكريها، لم يؤثر موتُ واحدٍ منهما في الإجارة، وقد مهدنا هذا في صدر الكتاب، إذ قلنا: لا تنفسخ الإجارة بموت أحد المتعاقدين، والجملة المرعية فيه أن المكتري مستحِقٌ مستوفٍ، والحقوق يرثها الورثةُ، وتبدُّلُ المستوفي غيرُ ضائر، وقد قدمنا أن المستأجر لو أجر ما استأجره، جاز ذلك، ولو أقام غيره مقام نفسه، لم يمتنع.
__________
(1) سبق أن أشرنا أن (عن) تأتي مرادفة لـ (مِنْ) .
(2) في الأصل: عليها.(8/199)
5360- ولو استأجر أجيراً ليعمل في عينٍ من الأعيان عملاً، مثل أن يقول: استأجرتك لتخيط هذا الثوبَ، فلو تلف ذلك الثوبُ المعيّن، فقد ذكر العراقيون في انفساخ الإجارة وجهين: أصحهما - أنها لا تنفسخ؛ فإن العمل لا يتعذّر، ومن الممكن الإتيانُ بثوبٍ آخر يضاهي ذلك الثوبَ، وليس الثوب معقوداً عليه في نفسه.
والوجه الثاني - أن العقد ينفسخ بتلف محل العمل، فإنه كان متعيَّناً في بقائه (1) ، فإذا فات، انقطع العقد. وهذا وجهٌ ضعيف.
وينبني على ما ذكرناه تمامُ التفريع.
5361- فنقول: إن حكمنا بانفساخ الإجارة، فلا كلام، وإن حكمنا ببقائها، فلو أتى المستأجر بثوبٍ آخر، وأمر الأجير أن يُوقع العملَ المستحَقَّ عليه في الثوب الثاني، جاز ذلك.
ولو قال المستأجر: ليس عندي ثوبٌ آخر، أو قال: لست آتي بثوبٍ آخر، والثياب عتيدةٌ عندي، فكيف السبيلُ فيه؟ ذكر العراقيون وجهين وأطلقوهما، ثم فصلوهما على أحسن وجهٍ في البيان: قالوا: من أصحابنا من قال: إن لم يأت المستأجر بعينٍ أخرى عن عجزٍ، أو عن امتناع، ومضت المدة التي يتأتى في مثلها العملُ لو صادف محلاً، استقرت الأجرة المسماة؛ فإن الأجير مسلِّمٌ نفسَه، لا امتناع منه.
والوجه الثاني - أن الأجرة لا تستقر، [وإذا مضت المدةُ، انفسخت الإجارةُ.
ويتأتى أن نعبر عن هذين الوجهين بتخير المستأجر في وجهٍ وعدم تخيّره في وجه.
5362- ولا يتضح الغرض ما لم نكشف الأصلَ فيه، فالأجير الحر إذا سلّم نفسه إلى المستأجر، والإجارة واردةٌ على عينه، فلم يستعمله المستأجر حتى انقضت المدة، ففي استقرار الأجرة وجهان: أحدهما - أنها تستقر، كما لو سلم مكري الدار الدارَ إلى المستأجر، فلم ينتفع بها، وانقطعت المدة، والدار تحت يده.
__________
(1) في بقائه: أي لو لم يتلف يكون متعيَّناً للعمل ومحلاً له، ولا يجوز إبداله.(8/200)
والوجه الثاني - أن الأجرة لا تستقر] (1) في مسألة الحر؛ فإن منفعته إن ضاعت في مدة التمكين، فإنما ضاعت تحت يده؛ فإن اليد لا تثبت على الحر، وعلى هذا يخرّج القول في حبس الحر قهراً ظلماً حتى تتعطل منافعه، فهل يجب على حابسه أجرته؟ فيه كلام قدمناه في كتاب الغصوب.
5363- وإذا ثبت ما ذكرنا، عدنا إلى غرضنا، وقلنا: إذا لم يأت المستأجر بثوب آخر بعد تلف الثوب المعين، فنقدر أولاً كأن الأجير مسلِّم نفسَه إلى المستأجر، ولو فعل ذلك، ففي استقرار أجرته الخلاف، فإن رأينا أن نقول: لا تتقرر أجرته، فينشأ من هذا المنتهى شيء، وهو أن الثوب المعيَّنَ للقطع والخياطة لو كان باقياً، فلم يسلِّمه إلى الأجير المعيّن، فالقول في أن أجرته لا تستقر على ما ذكرناه. ولكن لو بدا (2) له في قطع ذلك الثوب، فهل نقول: يجب عليه الإتيان به أم كيف السبيل فيه؟ فالذي يتجه عندنا أنه لا يجب عليه الإتيان بذلك الثوب ليقطع، وقد سنح له غرضٌ ظاهر في الامتناع من قطعه، ولكن إذا كنا نفرع على أن أجرة الأجير تستقرّ، فلو ترك الإجارة حتى انقضى زمانُها، استقرت الأجرة.
ولو قال: أفسخ الإجارة، أو بدا لي لم يكن له فسخها؛ إذ لو أثبتنا له الفسخ، لكان ذلك فسخاً بالمعاذير، ونحن لا نرى ذلك، وإنما قال به أبو حنيفة (3) رحمة الله عليه.
وإن قلنا: أجرة الأجير لا تستقر بانقضاء زمان الإجارة، ولا [يجب] (4) -على ما ذكرناه- الإتيانُ بالثوب ليقطع، فيثبت حق الفسخ للأجير لا محالة، فإن فسخ تخلَّصَ، وسلمت منافعُه، وإن تمادى الأجير، ولم يفسخ، فهو الذي تسبب إلى تضييع منفعة نفسه. وإذا أثبتنا للأجير حقَّ فسخ الإجارة على الوجه الذي نفرّع عليه، فلو أراد المستأجر الفسخَ، فلست أرى له ذلك، ولست أعلم في فسخه غرضاً؛ فإنه لو لم يفسخ، لم يلتزم شيئاًً، وغرض الأجير ظاهرٌ في الفسخ. وإذا ترك الأجير الحظ
__________
(1) كل ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(2) بدا له: أي غير رأيه، وصرف نظره عن قطع وخياطة ذلك الثوب المعين.
(3) ر. المبسوط: 16/2، وبدائع الصنائع: 4/197، وحاشية ابن عابدين: 5/50.
(4) في الأصل: " نجيز ".(8/201)
لنفسه (1) ، فلا يجب على المستأجر تحصيلُه له.
ولو شبب مشبب بإثبات الخيار للمستأجر، كان ذلك وقوعاً في مذهب أبي حنيفة، على أن أبا حنيفة إنما يفسخ بعذر ظاهر، ولا عذر للمستأجر، حيث انتهى الكلام إليه.
فإذا ظهر ما ذكرناه في امتناع المستأجر عن قطع ذلك الثوب المعيّن، مع بقائه، قلنا بعده: إن تلف ذلك الثوب، وقلنا تنفسخ الإجارة بتلفه، فلا كلام. وإن قلنا: لا تنفسخ بتلفه، وفرعنا على أن أجرة الأجير تستقر بانقضاء زمان الإجارة، فالظاهر عندنا أن المستأجر له أن يفسخ الإجارةَ؛ فإنه قد لا يجد ثوباً، وإن وجده، فقد يظهر غرضُه في أن لا يقطعه، وليس كما إذا بقي الثوب المعيّن الذي أوْرد العملَ عليه.
5364- وعن هذا الخبط صار من صار من أصحابنا إلى انفساخ الإجارة بتلف الثوب المعيّن. وقد ظهر لي من كلام طوائفَ من أصحابنا أن الإجارة لا يفسخها المستأجر إذا قلنا: إنها لا تنفسخ، وإن حكمنا بأن الأجرة تستقر بانقضاء زمان الإجارة.
فهذا إذاً واقعةٌ تلتحق بتوابع العقود، ومَغَبَّاتها، فالأمر في [تخيّر] (2) المستأجر، وقد تلف الثوب المعيّن على التردد الذي ذكرناه.
5365- ومما يتصل بتمام القول في هذا الفصل، ما قدمناه من الاستئجار على قلع الضرس، والذي سبق ذكره لا نعيده، فإن صححنا الاستئجار، فسكن الوجع، امتنع القلع. والأصح في هذه الحالة انفساخ الإجارة؛ فإن محل العمل قد انتهى إلى حالة يمتنع إيقاع العمل فيه، [ولا بدل له] (3) .
وكان شيخي يحكي عن بعض الأصحاب أن الإجارة تبقى، والأجير يستعمل في
قلع وتدٍ أو مسمار، مع تقريب القول في تداني العملين. وهذا عندي كلامٌ سخيف
__________
(1) كذا. ولعلها: حظ نفسه، أو الأحظ لنفسه.
(2) في الأصل: تغيّر.
(3) في الأصل: ولا بد له.(8/202)
لا حاصل له، فليس قلعُ الوتد من قلع السن في شيء، ومن كان له في قلع السن
غرض؛ لم يقع قلعُ الوتد من غرضه بسبيل، فلا وجه إلا الحكم بانفساخ الإجارة.
5366- وإذا ثبت ما ذكرناه، عاد بنا الكلامُ إلى المرضعة واستئجارها لإرضاع الولد المعيّن، [فنقول] (1) : إذا مات ذلك الولد، فالقول في انفساخ الإجارة على ما تفصّل، والتفريعاتُ (2) تنتظم على ما مضى.
فإن قلنا: لا تنفسخ الإجارة، فذلك فيه إذا كانت تُرضع ولداً ليس منها.
5367- وإن وقع استئجارها لترضع ولد الزوج منها، فمات ذلك الولد، والتفريع على أن الإجارة لا تنفسخ بموت الولد الأجنبي منها، لو كانت الإجارة واردةً عليه، فإذا كان الولد ولدها، وقد مات، فهل تنفسخ الإجارة أم يأتيها المستأجر بولد رضيع أجنبي؟
فعلى قولين منصوصين: أحدهما - أن الإجارة لا تنفسخ؛ بناء على المنتهى الذي انتهينا إليه، وذلك لأن إرضاع الولد الأجنبي ممكن، ويجوز الاستئجار عليه ابتداء، فيجب بقاء العقد بإمكانه انتهاءً.
والقول الثاني - أن الإجارة تنفسخ؛ فإن لبنها لا يدرّ على الأجنبي درورَه على ولدها، ولا [تترأم] (3) الأجنبيَّ حسب ما كان تترأم على ولدها.
وهذا قولٌ ضعيف، لا أصل له. والذي عندي فيه أن المصير إلى الانفساخ باطلٌ على الأصل الذي نفرّع عليه، وإنما الذي يخيل على بُعدٍ ثبوتُ الخيار لها لما أشرنا إليه؛ فإن الانفساخ ينبني على تعذر العمل بالكليّة، ثم الخيار أيضاًً فاسد من جانبها؛ من جهة أن المستأجر لو قال: رضيت بما يحصل من اللبن على نقصانٍ، فلا عذر لها.
نعم قد يتجه ثبوت الخيار للمستأجر؛ من حيث يقدّر أن لبنها يقل على الأجنبي،
__________
(1) فىِ النسختين: ونقول.
(2) (د 1) : في التفريعات.
(3) في الأصل: تتزأم. وتترأم (بالراء) : أي تتعطف، وتتحبب، وتلزم (المعجم) .(8/203)
وحضانتها لا تصدر عن ترأُّمٍ وشفقة، وكلّ ذلك خبطٌ، وسببه ضعف القول الذي عليه التفريع.
والوجه القطع بأن ولده منها كالولد الأجنبي منها في التفريعات.
فصل
5368- إذا استأجر الرجل قميصاً ليلبسه، جاز ذلك على شرطِ الإعلام بالمدة، ثم يرعى المستأجرُ العادةَ في اللُّبس، فيلبس بالنهار، وبالليل في اليقظة، ولا ينام فيه؛ فإن ذلك مما يؤثر أثراً زائداً على اللّبس، ويتجه أن يقال: إنه غير معتاد، وإن كان يعتاده بعض الناس، فهو من احتكامه على ملكه، فإذا تعلق الكلام بالمضايقة في الانتفاع، فالعرف حاكم بالتوقّي من مثل هذا في ملك الغير.
وقال بعض الأصحاب: لا يلزم نزع القميص للقيلولة بالنهار؛ فإن العادة جارية بأن الرجل لا يتجرد للقيلولة، ويتجرد لنوم الليل، وقد يتطرق إلى وجوب النزع بعضُ الاحتمال في حق من يعتاد القيلولة.
ولو استأجر قميصاًً ليلبسه فوق قميصٍ، فقد يظهر وجوب النزع للقيلولة؛ إذ هكذا العادة.
ولو استأجره للّبس، فاتّزر به، لم يجز؛ فإن الاتزار أضرُّ بالثوب من اللُّبس على الوجه المعتاد.
ولو ارتدى به، فقد ذكر العراقيون وجهين في جواز ذلك: أحدهما - أنه لا يجوز؛ فإنه انتفاعٌ مخالف للمعتاد، والوجه الثاني - أنه يجوز؛ لأنه أقلُّ ضرراً من اللُّبس.
فصل
5369- إذا دفع ثوباً إلى غسالٍ ليغسله، فإن ذكر أجرةً مسماةً، فلا كلام، وإن لم يذكر الأجرةَ، ولكن عرّض بها، فقال: اغسله، وأنا أُرضيك، أو أعرف حقك، فإذا غسل، استحق أجرة المثل.(8/204)
ولو لم يتعرض للأجرة لا بتصريع ولا بتعريض، فالمنصوص عليه، وهو ما عليه عامة الأصحاب أنه لا يستحق شيئاً؛ لأن المنافع غايتها أن تكون كالأعيان في المالية، بل هي دونها.
ولو أتلف رجل مال رجل برضاه، لم يضمن شيئاًً، فكذلك إذا أتلف الأجير منفعة بدنه برضا صاحب الثوب.
ومن أصحابنا من قال: يستحق العاملُ أجر مثل عمله، وهذا اختيار المزني.
ومن أصحابنا من قال: إن كان ذلك الرجل معروفاً بالغسل بالأجرة، استحق الأجرة بحكم العادة، ونزلت منزلة النطق، وإن لم يكن معروفاً بهذا، لم يستحق لعمله أجراً.
ومن أصحابنا من قال: إن التمس الغسال دَفْع الثوب إليه فأسعفه صاحبُ الثوب، لم يستحق الأجرة؛ فإنه الذي ورّط نفسه في هذا، ورضي بتلف منفعته، فلا يستحق شيئاًً، وإن التمس صاحب الثوب منه الغسلَ، فيستحق حينئذ أجر عمله؛ فإن المالك هو الذي أوقعه في العمل، فكان بمثابة المتلِف لمنفعته.
والقول في أمثال ذلك كثير، ونحن نذكر مجامع المذهب فيها.
5370- فإذا دخل الرجل الحمّام، ولم يَجْرِ للأجرة ذكرٌ، فنقول: أما قيمة الماء الذي سكبه، فواجبة، وقد يتجه إثبات المثل؛ فإنه من ذوات الأمثال، ويجب أجرة منفعة الحمام؛ فإنه أتلفها، وعلى المتلف قيمةُ ما أتلف، وإن جرى الإتلاف بمشهدٍ من المالك، فإذا كان كذلك، فما الظن، والعرف جارٍ بالتزام الأجرة.
فأما أجرة الدلاّك، والمزيّن، فتُخرّج على القاعدة التي ذكرناها في الاستعمال من غير ذكر أجرة، ومهما غلبت العادة، ظهر وجوب اتباعها.
ويبعد أن نقول: إذا تقدم الغسّال إلى ثوب إنسان، فرفعه وغسله أنه يستحق الأجر إلا أن يُفرضَ في رجل معروف بذلك، وقد جرت عادته بهذا، واستمرت عادة الناس معه ببذل الأجرة. والمزيّن في الحمام يتقدم من غير استدعاء في الغالب، وكذلك الدّلاك، ولكن اطرد به العرف، وهو في نهاية الظهور، فَقَوِي إيجابُ الأجر مع العلم، بتطرق الخلاف.(8/205)
5371- ومما يتعلق بهذا أن الماء وإن كان مثلياً، فقد جرى العرف بأنه يُتلف بالقيمة، فللعرف في هذا أثر، ووجه الخلاف في هذا المقام لائح، فكأنا في وجهٍ نجعل عموم العرف، كبيع الماء، وقد ذكرنا في المعاطاة الغالب، وأنها هل تكون بيعاً، خلافاًً للأصحاب، وسنذكر في الضيافة، وتقديمِ الطعام إلى الضيفان كلاماً بالغاً، من الفن الذي نحن فيه في باب الوليمة، ونلحق بها فصولاً في النَّثر واللقط، إن شاء الله عز وجل.
5372- ونختم هذا الفصلَ بأمرٍ، وهو أن العادة تفسَّر اللفظَ المجملَ في العقود وفاقاً، وعلى هذا تحمل الدراهم المطلقة على غالب النقود يوم العقد، فلا يمتنع ذلك من حكم الحرف، وإن لم يجر لفظ أصلاً، ففي إقامة العرف الغالب مقام اللفظ التردُّدُ الذي ذكرناه.
فصل
5373- يتعلق بالاستئجار في القصارة، وتلف الثوب مقصوراً، وما يتعلق به، وهو فصلٌ عويص، يجب إلاعتناء بفهم ما فيه.
5374- فنقول أولاً: إذا استأجر الرجل قصَّاراً حتى يقصُر الثوبَ، فعليه أن يقتصد ويقتصر على ما يُحصّل الغرض، فإن جاوز الحدّ، وعدّه أهلُ الصناعة زائداً في الدق وغيره من الأعمال المؤثرة على قدر الحاجة، ثم ترتب عليه تلفُ الثوب أو تعيّبُه، وجب الضمان. وهذا العدوان لو فرض من الأجير المشاهَد، لأوجب الضمان عليه؛ فإنه إتلافٌ، والإتلاف يستقلّ بإيجاب الضّمان من غير فرض يد.
ولو اقتصر على القدر المطلوب في مثل الغرض المستدعَى، لم يتعلّق الضمان بفعله، وإن أدّى إلى التلف.
5375- وينشأ الاختلاف من اليد، وقد ذكرنا تردّدَ القول في يد الأجير المنفرد، ويدِ الأجير المشترك، وقد ذكرتُ ما في النفس من هذا، وهو إشكالٌ على المذهب لا يُحلّ، فإني قلتُ: إن كان التلف بآفةٍ سماوية، فيخرّج هذا على اليد، وأنها يدُ(8/206)
أمانة، أو يدُ ضمان قريب، ويؤول الكلام إلى تقوية قولٍ، وتضعيفِ قولٍ، كما قدمتُه في تضمين الأجراء.
ثم إن جعلنا يدَ الأجير يدَ ضمان، فيده كيد المستعير، وفي كيفية الضمان على المستعير القولان المشهوران: أحدهما - أنه كضمان الغصب، والثاني - أنه ليس كضمان الغصب.
5376- فأما إذا كان سببُ العيب أو التلف الفعلُ، وهو مقتصدٌ مأذون فيه، فلست أرى لإيجاب الضمان وجهاً. ولو أذن المغصوب منه للغاصب في إتلاف العين، فأتلفها، لم يلتزم الضمان، ولكن الذي ذكره الأصحاب في الطرق تخريج التلف بالفعل على التلف بآفة سماوية.
والأجير المشاهَد إذا قَصَر، وما فرّط وما قصّر، فإن الأصحاب لم يصرِوا إلى إيجاب الضمان عليه؛ إذ لا يدَ له، والفعل مأذون فيه، وانفرد أبو سعيد الإصطخري بإيجاب الضمان على الأجير المشاهَد إذا عمل، واقتصد وأدى عملُه إلى التلف، أو التعيُّب، على ما حكاه العراقيون عنه، وهذا متروكٌ عليه، وليس معدوداً من المذهب، وهو كثير الهفوات في القواعد، ولا شك أنه لم يوجب الضمان على المشاهَد بسبب اليد؛ فإن اليد للمالك الكائن معه، وإنما أوجبه للفعل، وهذا ينافي قاعدةَ الشافعي؛ فإن الفعل مأذون فيه، وقد صوّرناه مقتصداً، وضمان الأجراء يأتي على قول التضمين من جهة اليد؛ لا من جهة الفعل. وإنما ربط الضمان بالفعل أبو حنيفة، لما قال: لو تلفت العين في يد الأجير بآفةٍ، لم يلزم الضمان، ولو تلفت بسبب الفعل المستدعى يجب الضمان.
5377- ومما يتعلق بمضمون الفصل أن الأجيرَ لو قصَرَ الثوبَ، كما رُسم له، ثم جحد الثوبَ، وتلف في يده، فضمان الثوب واجبٌ، لمكان الجحود؛ فإنه عُدوان يناقض الأمانة، ويضمنُ به المودَع.
5378- والكلامُ في استحقاق الأجرة، فنقول: إن قَصَر أولاً، ثم جحد، استحق
الأجرة، فلو اعترف بعد الجحود، وردَّ الثوب مقصوراً، طلب الأجرَ. ولو جحد(8/207)
أولاً، وقصر الثوبَ جاحداً، ثم اعترف، ورد الثوبَ، ففي استحقاق الأجرة وجهان: أحدهما - أنه يستحق الأجرة لإيفائه العمل المعقودَ عليه، ووقوعه على حسب الاستدعاء.
والوجه الثاني - أنه لا يستحق الأجرة، فإنه أضمر أن يعمل لنفسه لمّا جحد، ثم قصر، فلا يستحق لذلك أجراً. والوجهان في ذلك كالقولين فيه إذا نوى الأجيرُ على الحج [الحجَّ عن] (1) مستأجِره أولاً عند العقد، ثم صرف النية إلى نفسه، ظاناً أن الحج ينصرف إليه، فنقول: الحج يقع عن المستأجِر، وفي استحقاق الأجير الأجرةَ قولان، مأخوذان من الأصل الذي ذكرناه.
5379- ومما يتعين تجديد العهد به، وعليه تتفرع مسائل مهمّة أن القِصارة إذا وقعت من القصَّار، فهي أثرٌ أم هي نازلةٌ منزلةَ الأعيان؟ وفيه قولان مشهوران، ذكرناهما في كتاب التفليس، وتناهينا في تقريرهما، وبيانهما، ونبهنا على غلطاتٍ لبعض المفرّعين [فيهما] (2) ، ونحن الآن نذكر في هذا المقام ما يليق بالتفريع عليهما، فنقول أولاً:
5380- إذا صبغ الأجير الصبّاغُ الثوبَ بصِبغٍ من عند نفسه، وظهرت قيمةُ الصبغ زائدةً على عين الثوب، فللأجير أن يحبس الثوبَ حتى يستوفي الأجرة؛ لأن له فيها عينُ مالٍ. هكذا أطلقه الأئمة.
5381- وإن كان الأجير قصَّاراً، فقَصَر، فهل يستمسك بالثوب إلى أن تتوفر الأجرةُ عليه؟ فعلى قولين مبنيَّيْن على أنَّ القِصارة أثرٌ أو عين، فإن جعلناها عيناً، جوزنا للأجير التمسكَ بالثوب حتى تتوفر الأجرةُ عليه؛ فإن حقَّه على هذا القول يتعلق بالقِصارة تعلّق استيثاق، كما تقدم إيضاحه في التفليس، ولا يتصور التمسك بالقصارة وحدَها، فيثبت التمسك بالثوب.
__________
(1) عبارة الأصل: " إذا نوى الأجير على الحج مستأجر أولاً عند العقد " وفي نسخة (د 1) : " إذا نوى الأجير على الحج مستأجره أولاً عند العقد والمثبت تصرف من المحقق رعاية للمعنى.
(2) في الأصل: منهما.(8/208)
5382- (1 وإن قلنا: القصارة أثر، فليس للأجير التمسك بالثوب، فليتعيّن 1) عليه ردُّه، وطلبُ الأجرة حقّه لا تعلق له بالثوب.
5383- وما أطلقه الأصحاب من حبس الثوب المصبوغ فيه مستدرَكٌ للناظر؛ فإنا ميَّزنا في التفليس بين الصِّبغ، وبين عمل الصابغ، فيجب أن يقال: ما يقابل قيمةَ الصبغ يجوز إمساك الثوب لتسلّمه، وما يزيد على قيمة الصبغ، فهو في مقابلة العمل، فيُبنى على القولين في أنه أثر أم عين.
5384- ومما يجب التنبّه له في هذا المقام أنا ذكرنا اختلافَ القول في أن بائع العين هل يثبت له حق حبسها إلى استيفاء الثمن، ولم يتعرض الأصحاب لذلك في الصبغ، ولم يُشيروا إلى الاختلاف، بل قطعوا بجواز الحبس، وفيه توقُّفٌ وتردد، فيجوز أن يقال: جرى قطعهم بذلك تفريعاً على ثبوت حق الحبس، وكثيراً ما يُجري الأصحابُ التفريع على قول الحبس من غير تعرض لذكر الخلاف، والظاهر الذي يشير إليه فحوى كلام الأصحاب أن حق الحبس في هذا غيرُ مختلَفٍ فيه، وليس من قبيل حبس المبيع، ولعل السببَ فيه أن الأجير إذا تمم العمل، فقد وفّى ما عليه كَمَلا، وفات [المعوَّضُ] (2) من جانبه، وهذا يوجب له حقَّ استمساكٍ واستدراكٍ، ثم الصبغ جرى على منهاج المنافع، ولذلك لم يُشترط إعلامه على الصباغ، وانبثاثه في الثوب المملوك للمستأجِر مشابهٌ لحصوله في يد مالك الثوب.
وحق الفقيه أن يتفطّن للأصول ويميّزَ بعضَها عن البعض، فلا يعتقد انسحابَ حكمٍ
واحدٍ على القواعد، فهذا إذن قاعدة أطلقها الأئمة في الصبغ، لم يشبّبوا فيها بخلاف.
5385- فإذا تمهّد ما ذكرناه، رتّبنا عليه أصلاً، ينْشعِب عنه أربعُ مسائل.
والأصل أن القصارَ إذا قصرَ الثوبَ، ثم تلف في يده، وفات، فلا يخلو إما أن يتلف بآفةٍ سماوية.
أو يتلف بإتلاف أجنبي.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (د 1) .
(2) في الأصل: المقصود.(8/209)
أو يتلف بإتلاف المالك.
أو يتلف بإتلاف القصار.
5386- فإن تلف الثوب بآفةٍ سماويةٍ، أُثبتت المسألة أولاً على القولين في أن القصارة أثرٌ أو عين.
فإن حكمنا بكونها أثراً، (2 وهو الأصح، الذي لا [يستدّ] (1) على القياس غيره 2) ، فالحكم الآن يُبتنى على أصلٍ آخر، وهو أن يد الأجير يدُ أمانة أو يدُ ضمان، إن قلنا: يده يدُ أمانة، فلا شيء للمالك على القصَّار، وللقصَّار عليه الأُجرة، ومن حُكم هذا القول ثبوتُ الأجرة، مهما ثبت العمل، والأصل أنا نقدره في حكم المسلَّم الموفّر، فنقضي [بالأجرة] (3) ، ثم ننظر فيما وراءها من الأحكام.
وإنّ حكمنا بأن يدَ الأجير يدُ ضمان، ألزمناه ضمان الثوب مقصوراً، وله حقُّ الأجرة، ثم يجري التقاصّ [بعد الأجرة] (4) ومقدارِها، مما يلتزمه الأجير للمالك.
فهذا إذا فرعنا على أن القِصارَة أثر.
5387- فإن حكمنا، بأنها عينٌ أو حالّة محل العين، فحكم هذا القول يتفرع أيضاًًً على قولي الضمان والأمانة.
فإن حكمنا بأن يد القصار يدُ أمانة، لم يضمن الأجير شيئاًً للمالك، ولم يستحق الأجرَ أيضاًً، وكأنا نقول: ضَرباً للمثل: القصارةُ قبل تسليم الثوب إلى المالك، تحت يد الأجير، بمثابة المبيع تحت يد البائع، فإذا فات الثوبُ، وفاتت القِصارة، سقط عِوض القِصارة سقوطَ الثمن بتلف المبيع، وهذا تمثيلٌ. والتحقيق فيه أنا نقدر القِصارَة جزءاً من عمل الأجير، فإذا لم يصل إلى المالك، قدّرنا كأن العمل لم يكن.
وقول العين في نهاية الضعف، وتضمين الأجير بالغٌ في الضعف أيضاًًً، فإذا اجتمعا
__________
(1) في الأصل: "يستمرّ" والمثبت تصّرف من المحفق، على ضوء المعهود من ألفاظ الإمام، والأوفق للمعنى.
(2) ما بين القوسين ساقط من (د 1) .
(3) في الأصل: الأجرة.
(4) ساقط من الأصل.(8/210)
تفرَّعَ عليهما تفريعٌ ملفقٌ أضعفُ منهما، فإن حكمنا على قول العين بأن يدَ الأجير يدُ ضمان، فيتفرع أولاً سقوطُ الأجرة لفوات القِصارة، ونزوله منزلةَ تلف المبيع، والنظر وراء ذلك فيما يضمنه الأجير.
والصور تتشعب، وقد أتيْتُ على أطرافها في كتاب التفليس، وأنا أرتاد الآن منها صورةً تقع وسطاً، وننبّه على طرفها، فأقول:
5388- كان الثوب على البت (1) يساوي عشرة، فصار يساوي مقصوراً خمسةَ عشرَ، والأجرة المسماة درهمٌ.
أما الأجرة، فتسقط لفوات القِصارة، وأما ما يضمنه الأجير، فالذي أشار إليه كلامُ الأصحاب، وصرّح به المحققون أن الأجير يغرَم قيمةَ الثوب على البت، ونجعل كأن القصارة لم تكن، فإذا اعتقدنا القِصارةَ من طريق التقدير كالعين المبيعة وبائعها الأجير، فإذا فات المبيع قبل القبض، لم يلتزم البائع شيئاً إلا سقوطَ الثمن، فكذلك الأجير، تسقط أجرتُه ويغرَم قيمةَ الثوب غيرَ مقصور، وكأن القصارة لم تقع.
5389- وهذا يتطرّق إليه إشكال من كتاب التفليس، وذلك أنا إذا فرعنا على أن القِصارة عينٌ، وقد اشترى الرجل ثوباً قيمتُه عشرة، واستأجر من يقْصُره بدرهم، فبلغت قيمةُ الثوب خمسةَ عشرَ، ثم أفلس المشتري، وأجرة [الأجير] (2) وثمن الثوب في ذمته، فإذا فرّعنا على أن القصارة عينٌ، وفسخ البائع البيع وآثر الأجير التعلّقَ بالقصارة، حتى لا يضارب، فالثوب يُباع ولا يُصرف من ثمنه إلى الأجير إلا درهمٌ. وباقي التفصيل مذكور في موضعه.
5390- ووجه التعلّق بالمسألة أنا لم نجعل الأجير راجعاً إلى تمام قيمة القصارة ولم يزد على أجرته، وما ذكرناه قبلُ من أن القِصارة إذا فاتت في يد الأجير، فكأنها فاتت له، يناقضُ هذا الذي ذكرناه الآن، والمصير إلى قصر حقه على الأجرة يوجب أن يضمن الأجيرُ لمالك الثوب أربعةَ عشرَ درهماً. هذا بيّنٌ، فإذاً ينقدح في الصورة
__________
(1) البت: أي قبل القصارة. (الخام) بلغة عصرنا.
(2) في الأصل: الثوب.(8/211)
التي ذكرناها وجهان: أحدهما - وهو ظاهر كلام الأصحاب أن القصارة تسقط بجملتها من حساب الضمان، ووجهه ما نبهنا عليه.
والوجه الثاني - أنه لا يسقط إلا قدر الأجرة من القِصارة، والباقي يضمنه الأجير ضمّاً إلى قيمة أصل الثوب.
5391- وذكر شيخنا أبو علي وجهاً غريباً، عن بعض الأصحاب: أنا إذا حكمنا بتضمين الأجير، وجرينا على أن القصارة أثرٌ، فإذا قَصَر، وتلف الثوب المقصور في يده، لم يستحق الأجرَ، وإن حكمنا بكون القصارة أثراً؛ فإنَّ تغليظ التضمين ينافي استحقاق الأجر. وهذا الوجه ضعيفٌ جداً بالغ الشيخُ في تزييفه، وحكم بكونه غلطاً، ولهذا أخّرتُه عن ترتيب المذهب وسياقِه.
هذا كله كلامٌ فيه إذا تلف الثوبُ المقصور في يد الأجير بآفةٍ سماوية.
5392- فأما إذا تلف بتلاف أجنبي، فذلك يتفرع على الأصلين: أحدهما - أن القِصارة أثر، أو عين، والآخر أن يد الأجير يدُ أمانة، أو يدُ ضمان، وترتيب التفريع أن نقول: إن صرنا إلى أنها أثر، فللقصار الأجرة المسماة؛ فإنه قد أتم العمل، واستحق الأجرة، ثم إن قلنا: يدُ الأجير يدُ أمانة، فلا تبعةَ على الأجير، والأجنبي يغرَم الثوبَ مقصوراً لمالكه.
وإن قلنا: يد الأجير يد ضمان، فلا شك أن قرار الضمان على الأجنبي المتلِف، ولكن الأجير طريقٌ في الغرم، فالمالك يُغرِّم أيَّهما شاء، فإن غرَّم الأجنبيَّ طلب منه قيمةَ الثوبِ مقصوراً، [واستقر الضمان.
وإن اختار تغريمَ الأجير غرَّمه قيمةَ الثوب مقصوراً] (1) أيضاً، ثم إنه يرجع بما يغرَم على الأجنبي، وللأجير أجرتُه على قولِ الأثر سواء ضَمَّنَّاه، أو لم نضمِّنه.
5393- وإن جعلنا القصارة عيناً، فليقع التفريع على الأصح، وهو أن الأجنبيَّ إذا أتلف المبيعَ قبل القبض، لم نحكم بانفساخ العقد، فنقول على موجَب هذا: إذا
__________
(1) ما بين المعقفين سقط من الأصل.(8/212)
جعلنا القصارةَ عيناً، وقد أتلف الأجنبيُّ الثوب، وفوّت القِصارة، فلا ينفسخ العقد بين الأجير والمالك المستأجِر، لكن يثبت للمستأجر الخيارُ في فسخ العقد المعقود على القصارة، وهكذا القول في المشتري، وتخيُّره إذا أتلف الأجنبيُّ المبيعَ قبل القبض، فإن اختار المستأجرُ فسخَ العقد في القصارة، سقطت الأجرة للقصار عن المستأجر، ثم نقول وراء ذلك:
5394- إن جعلنا يده يدَ أمانة، فلا تبعة، ولا طَلِبَة للمالك عليه، ثم لا يحبَط حقُّه؛ فإن القصارة في حكم عين متلفة عليه، ونصور في هذا المنتهى الصورة التي ذكرناها قبلُ، فالثوب على البت عشرة، والأجرة المسماة درهمٌ، والثوب المقصور خمسةَ عشرَ، ونزيد، فنقول: أجرة مثل القصار نصف درهم، فيرجع الأجير على الأجنبي المتلِف. والذي قطع به الأئمة قاطبةً أنه لا يغرِّمه قيمةَ القِصارة خمسة، بل يرجع بمقدار أجرته، ثم المسألة محتملة، فيجوز أن يقال: إنه يستحق مقدار الأجرة المسماة من القصارة، وكأن ذلك القدر ارتدّ إليه بفسخ المستأجر، فيطالِب بقيمة ذلك المقدار المتلِف المفوّت. ويجوز أن يقال: لا يطالب المتلِف إلا بأجر مثله؛ فإنَّ فسخ المستأجر، أسقط اعتبار الأجرة المسماة، فلا يستحق الأجير إلا مقدارَ قيمة عمله من القصارة، وقيمةُ عمله أجرُ مثله. فإن قيل: هلا جعلتم جميع القصارة له؟ قلنا: هذا أصلٌ مهدناه في كتاب التفليس، فلا حاجة إلى إعادته هاهنا.
5395- وتمام الكلام في ذلك أن المالك إن غرّم الأجنبيَّ، غرَّمه قيمةَ الثوب إلا ما غرّمه الأجير، فإنه لو غرمه القيمة [التامة] (1) وغرمه الأجير (2) ما ذكرناه لتثنَّى الضمان عليه في ذلك المقدار.
5396- وإن جعلنا يد الأجير يدَ ضمانٍ، فإنه يضمّنه إن أراد ما يضمّن المتلِف، ثم إنه يرجع بما يغرَمه على الأجنبي المتلِف.
5397- وإذا بأن الحكم في الصورة التي ذكرناها، لم يخف ما سواها، فلو كان
__________
(1) في الأصل: الثانية.
(2) في (د 1) : " الأجنبي ".(8/213)
الثوب على البت عشرة، وهو مقصور أحدَ عشرَ، والأجرةُ درهمٌ، فينتظم في هذه الصورة أن نقول على قول العين، وعلى تضمين الأجير: إن أراد المالك تضمينَ الأجنبي، ضمّنه قيمةَ الثوب على البت، وكذلك إن أراد تضمين الأجير، ولانطلق هذا الحد في الصورة الأولى، فإنا صوّرنا القِصارة زائدةً على الأجرة [في الصورة الأولى] (1) ، ورأينا قصرَ حق الأجير على مقدار أُجرته، فنظمنا في تلك الصورة ما يليق [بها] (2) ولا يحيط الناظر بهذه المسائل علماً، ما لم تكن قاعدةُ التفليس على ذُكرٍ.
5398- وما ذكرناه فيه إذا اختار المالك في مسألة إتلاف الأجنبي فَسْخَ العقد المعقود على القِصارة، فإن أجازَ العقدَ فيها، غرم للقصار الأجرة المسماة، ثم إن قلنا: يد الأجير يدُ أمانة، [فلا] (3) تبعة للمستأجر على الأجير، فيغرِّم الأجنبيَّ قيمةَ الثوب مقصوراً، بكمالها. وإن قلنا: الأجير ضامن تخيَّر المالك، فإن شاء غرّم الأجير القيمةَ التامة والثوب مقصور، ثم إنه يرجع بما يغرَمه على الأجنبي المتلِف، وإن غرّم الأجنبيَّ، استقر الضمان عليه، فيغرّمه قيمةَ الثوب مقصوراً، ولا تعلّق للأجير بالثوب؛ فإنه استوفى أجرته من المستأجر؛ إذْ أجاز العقد، فلم يبق له طَلِبة.
5399- فأما إذا تلف الثوبُ بإتلاف المالك، فالأجرة تتقرر على كل قول؛ فإنها مستقرة على قول الأثر، وإن جعلنا القِصارة عيناً، فقد أتلفها مستحقُّها، فصار بإتلافها قابضاً، كالمشتري يُتلف المبيعَ، فإن الثمنَ يتقرر عليه.
5405-[وأما إذا] (4) تلف الثوبُ بإتلاف الأجير، فينبني هذا على القولين في أن البائع إذا أتلف المبيع، فكيف حكمه. وفيه قولان:
أحدهما - أنها كآفةٍ سماوية.
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) في الأصل. بهذا.
(3) في الأصل: من يد من لا تبعة.
(4) في الأصل: وإن تلف.(8/214)
والثاني - أنها كجناية أجنبي.
5401- فإن جعلناها كآفة سماوية، وجعلنا القصارة أثراً، فللأجير أجرته، ويغرَم هو قيمةَ الثوب مقصوراً للمالك. وإن قلنا: القصارة عين، فتسقط الأجرة بسبب إتلاف الأجير الثوبَ، وتفويته القصارةَ، ويغرَم للمالك ما يزيد على حقه من الأجرة، كما فصّلته في الصورة المقدّمة.
5402- وإن جعلنا إتلافَه كجناية أجنبي، وقلنا: القِصارةُ أثر، فله أَجْرُه، وعليه قيمةُ الثوب مقصوراً.
5403- وإن قلنا: القصارة عين مالٍ، فللمالك الخيار في فسخ العقد المعقود على القصارة، فإن فسخ، سقطت الأجرة، وطالب الأجيرَ [بما] (1) يطالب به الأجنبي المتلِف، ولا شك أن حق الأجير محطوطٌ من القيمة كما ذكرنا وجهَ الكلام فيه على أبلغ سبيل في البيان.
ثم لا شك أنه لا يستحق الأجرة؛ فإنا (2) حططناها له، والقول في أجرة المثل، والأجرة المسماة على ما تفصل. وإن اختار المالك الإجارة، استحق الأجير الأجرة، وغرم قيمة الثوب مقصوراً.
وقد نجزت المسائل على أحسن مساق، والله المشكور.
***
__________
(1) في الأصل: ما.
(2) (د 1) : قلنا حططناها.(8/215)
كِتَابُ المُزَارَعَةِ
5404- قد قدمنا تفسيرَ المزارعة، والمخابرة في كتاب المساقاة، ونحن نجدد ذكرهما لغرضٍ لنا، فالمزارعة أن يسلّم مالكُ الأرض الأرضَ والبَذْرَ إلى مَنْ يعمل في الأرض، ويزرعها بتكريبه، وتقليبه، وثيرانه، وفَدّانه (1) ، وسائر آلات الزراعة، على أن ما يحصل من الزرع، فهو بينهما على ما يتشارطان، وعبّر الأئمة، فقالوا: المزارعة استئجار الزراع ببعض ما يخرج من الزرع.
5405- والمخابرة أن يسلّم الأرض ليزرعها ببَذرٍ من عند نفسه، والزرع بينهما، على ما يتشارطان، فمعنى المخابرة إكراء الأرض ببعض ما يخرج منها.
5406- والمعاملتان باطلتان عندنا، وهو مذهب معظم العلماء، لا تصح واحدة منهما، إلا المزارعةُ على الأراضي الواقعة في خَلَلِ النخيل، تبعاً للمساقاة المعقودة على النخيل، كما تقدّم تفصيلُ ذلك في كتاب المساقاة، وقد روي عن ابن عمرَ أنه قال: " كنا نخابر أربعين سنة ولا نرى بذلك بأساً، حتى ورد علينا رافعُ بنُ خَديج، فأخبرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة، فتركناها لقول رافع " (2) . وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن المزارعة، غير أن النهي عن المخابرة أصح (3) .
__________
(1) الفدّان: بالتثقيل آلةُ الحرث (المحراث، والنِّير) (المعجم والمصباح) .
(2) حديث رافع بن خديج أخرجه الشافعي عن ابن عيينة، في مسنده: 2/136، ح 447، ورواه مسلم بمعناه: كتاب البيوع، باب كراء الأرض، ح 1536. وانظر التلخيص: 3/130 ح 1309.
(3) حديث جابر وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة، متفق عليه من حديث جابر: اللؤلؤ والمرجان: ح 992، التلخيص: 3/130 ح 1310.
أما حديث النهي عن المزارعة فقد رواه مسلم من حديث ثابت بن الضحاك (المساقاة، باب في المزارعة والمؤاجرة، ح 1549) ، وانظر التلخيص: 3/131 ح 1312.(8/217)
والمزارعة عند الشافعي مقيسة على المخابرة، وصحح محمدُ بنُ الحسن رحمة الله عليه المزارعة، وقاسها على المساقاة، فإنه من القائلين بصحة المساقاة.
5407- ثم حكم المزارعة أن الزرع بكماله لمالك البَذر، لا حظ للأجير فيه، وله مثلُ أجر عملهِ، ولا شك أن الأجرة تكون من النقد، وحكم المخابرة أن الزرع بكماله للزراع، فإنه صاحب البَذْر، وليس لمالك الأرض إلا أجرةُ مثلِ أرضه.
5408- ثم الناس مبتلون بصورة المزارعة مع الحرّاثين، فذكر العلماء حيلاً قريبة في تصحيح الغرض، ذكر الشافعي منها حيلتين- إحداهما- أن [يعير] (1) مالكُ الأرض نصفَ الأرض من صاحبه، ثم يأتيان ببَذْر من عندهما، ويعملان فيها معاً، فيكون الزرع بينهما نصفين بحكم الاشتراك في البَذْر. وهذا صحيح.
ولكن عمل مالك الأرض مع الحراث، غيرُ معتاد؛ فالأولى تمهيدُ طريقٍ تُبرىء مالكَ الأرض من العمل.
5409- فقال الشافعي في ذلك: يكري مالكُ الأرض نصفَ الأرض بنصف عمل العامل، ونصف منفعة الآلات التي يستعملها العامل- إن كانت الآلات له، ويكون البَذْر مشتركاًً، فيشتركان في الزرع على حسب الاشتراك في البذر، فإن ملك الغلّة يتبع ملكَ البذر في الخلوصِ والاشتراكِ، والعملُ يقع نصفُه عوضاًً عن نصف منفعة الأرض، فيعتدل الأمر.
وإذا أراد أن يكون الزرع بينهما أثلاثاً، فليكن البذر بينهما كذلك، فالتعويل على البذر، فإن لم يكن للعامل بذر أقرضه ربُّ الأرض المقدارَ الذي يُشترط له من الزرع، وإذا وقعت الشركة في البَذْر، فلا حاجة إلى شرطٍ في الزرع، ولو جعل بعض البذر أجرةً لبعض عمل الزارع، أمكن ذلك.
ولست للأطناب في مثل هذا؛ فإني لا أنتهض إلا لحل المشكلات، وأرى الاجتزاءَ بالمرامز في الجليّات.
__________
(1) في الأصل: يعين.(8/218)
هذا مقدار الغرض في صدر هذا الكتاب.
5410- ثم مسائل الكتاب بعد ذلك في إجارة صحيحة، على الأراضي على شرط الشرع، فيقع مضمون الكتاب باباً من الإجارات في صنفٍ من العقارات، وإنما أفردها الشافعي [لاختصاصها] (1) بقضايا وخواصَّ تتعلق بها.
5411- ثم قال الشافعي: " ويجوز كراء الأرض بالذهب والورِق، وما ينبت من الأرض " (2) وقصد بهذا الفصلِ الردَّ على مالك (3) ، فيجوز استئجار الأرض عندنا بالنَّقْدين، وبمقدارٍ مُقدَّرٍ مما تنبته الأرض، ومنع مالك اكتراء الأرض بما تنبته الأرض وإن قُدّر وأثبت عوضاً، ولم يُضَف إلى ما تنبته الأرض المكتراة (4) . وهذا من القول الركيك، والنظرِ الحائد، وإنما حمله على هذا إطلاقُ الناس قولَهم بأن المزارعة هي إكراء الأرض ببعض ما يخرج منها، ولم يعلم أن المحذور جعلُ جزء مما يخرج من الأرض أجرةً؛ فإن ذلك مجهول وغرر.
فصل
قال: " ولا يجوز الكراء إلا على سنة معروفة ... إلى آخره " (5) .
5412- اكتراء الأرض بمثابة اكتراء الدور والمساكن، وغيرها؛ فلا بد من إعلامِ المعقود عليه بضربِ المدة، ثم شرطُها أن تكون مضبوطةً بالزمان المقدّر، ولو قال: اكتريت هذه الأرضَ مدة الزراعة والحصاد، لم تصحّ الإجارة، وإن كنا قد نُصحح معاملةَ المساقاة على هذا الوجه؛ فإن المساقاة فيها جهالات محتملة لائقة بمصلحتها، فقد لا يبعد احتمالُ مثل ذلك في المدة. وأما إجارة الأراضي، فإنها بمثابة إجارة
__________
(1) في الأصل: لاختصاص هذا.
(2) ر. المختصر: 3/92.
(3) ر. حاشية الدسوقي: 4/17، جواهر الإكليل: 2/188، ومختصر اختلاف العلماء: 4/120 مسألة: 1813.
(4) في (د 1) : المكرَاة.
(5) ر. المختصر: 3/93.(8/219)
الدور، ثم سبيل إعلام مدة الإجارة كسبيل إعلام الآجال في الأعواض المؤجلة.
5413- فإن قال: اكتريت هذه الأرضَ سنة، [صحّ و] (1) حملت السنة على الأشهر بالأهلة، وتحسب أحد عشرَ شهراً بالأهلة نقصت أو وفت، وينكسر الشهر الذي جرت الإجارة فيه، فتحسب أيام ذلك الشهر ثلاثين يوماً، نقص الشهر، أو وفى، ثم تُستكمل أيام ذلك الشهر من الشهر الثالث عشر. وهذا بيّنٌ مكررٌ في مواضعَ. وحظ الفقه (2) منه أن السنة المطلقة لا تحمل إلا على السنة العربية، وهي بالأهلة، كما وصفنا.
وإن ذكر سنة رومية، أو فارسية، وكانا عالمين بذلك الحساب، صحّ العقد، وإن جهلا أو أحدُهما، لم يصح العقد. والتأجيل بعيد الفطر والأضحى جائز.
وإن وقع التأقيت بعيدٍ من أعياد المشركين، فإن كان المسلمون لا يعرفون ذلك إلا بمساءلة الكفار، فلا يصح؛ إذ لا تعويل [على] (3) أقوالهم، وإن كان المسلمون يشاركونهم في معرفة ذلك اليوم، صح التأقيت به على المذهب الأصح.
وأبعد بعضُ الأصحاب، فمنع التأقيت بما يشتهر بالكفار ويعزى إليهم من المواقيت. وهذا ساقطٌ لا أصل له؛ فإن الغرض من التأقيت الإعلام، فإذا حصل، لم يختلف الأمر بأن يُعزى إلى الكفار أو إلى المسلمين. نعم يجوز أن يقال: يكره ربط المواقيت بحسابهم من طريق الأدب.
فصل
قال: " وإذا تكارى الرجل الأرض ذات الماء من العين، أو النهر ... إلى آخره" (4) .
5414- مَن أكرى أرضاً للزراعة، فكان لها شِربٌ معلوم، من عينٍ، أو نهر،
__________
(1) زيادة من (د 1) .
(2) (د 1) : الفقيه.
(3) في الأصل: عن.
(4) ر. المختصر: 3/93.(8/220)
فالاستئجار صحيحٌ، على شرط الشرع، وغرض الفصل أن الإجارة إذا صحت، ثم انقطع الماء الذي كان منه شِربُ الأرض، فالمنصوص عليه للشافعي أن الإجارة لا تنفسخ، ولكن يثبت للمكتري الخيارُ، ونص الشافعي على أن من اكترى داراً، فانهدمت، حُكم بانفساخ الإجارة.
5415- قال العراقيون وغيرهم من نقلة المذهب: الأصح نقلُ النصين في المسألتين وتخريجهما جميعاً على القولين: أحدهما - أن الإجارة لا تنفسخ فيهما؛ لأن منفعة الأرض لا تتعطل بالكلية بانقطاع الماء، وكذلك منفعة الدار لا تنقطع بجملتها، بالانهدام؛ فإنه يمكن سكون (1) العَرْصة، واتخاذها مُخيَّماً.
5416- وكان شيخي أبو محمد يرى القطعَ بانفساخ الإجارة الواردةِ على الدار، بانهدامها، وكان يقطع بأن الإجارةَ على الأرض لا تنفسخ بانقطاع الماء، وكان يفرّق بأن الماء ليس صفةً للأرض، [فانقطاعه] (2) لا يغيّر صفةَ مورد العقد، وانهدامُ الدار تغيير معطّلٌ للمنفعة، واردٌ على المعقود عليه.
وهذا الفرق غيرُ سديد؛ فإن المنفعة في الموضعين لا تتعطل بالكلية، ومعظم المنفعة زائل، ولعل ما بقي في عرصة الدار أكثر، وهو إمكان السكون وضرب الخيام، والزراعة إذا [انقطعت] (3) في القراح (4) الضاحي، لم يبق فيه منتفعٌ به مبالاة.
وعلى الجملة طريقة القولين أسدّ، وتوجيهها ما أجريناه في أثناء الكلام.
5417- فإن قلنا: تنفسخ الإجارة في مسألة انقطاع الماء، أو اختار المستأجر فسخها، إن قلنا: إنها لا تنفسخ، فإذا فسخها، فيرتد إليه ما يقابل بقيةَ المدة من الأجرة المسماة، والوجه توزيعها على أجر المثل، كما تفصَّل في المسائل المقدّمة.
__________
(1) سكون العرصة: أي سكنى الساحة. واستعمال هذا الوزن (سكون) بمعنى السكن، والسكنى، وارد في لسان إمام الحرمين، والغزالي كثيراً، وقد مضى في مواضع من قبل.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) في الأصل: انقطع.
(4) القراح: الأرض الخالية من الزراعة، ليس عليها بناء، ولا غيره (المعجم، والمصباح) .(8/221)
ثم إذا انفسخت -على قول الانفساخ في بقية المدة- لم تنفسخ في الزمان الماضي على الرأي الأصح. وفيه قولٌ غريب [حكيناه] (1) ، فلا وجه لإعادة ما تكرر، والوجهُ الاكتفاءُ بالرمز في مثل ذلك.
5418- فإن قلنا: الإجارة لا تنفسخ، وللمستأجر حقُّ الفسخ، نُظر: فإن فسخ، استرد ما يقابل المدةَ الباقية من الأجرة، وإن لم يؤثر الفسخ، وأجاز العقدَ، فالذي قطع به الأئمة أنه لا يرجع بشيءٍ إذا رضي؛ فإنَّ انقطاعَ الماء يتنزل منزلة العيب، وإذا وقع الرضا بالعيب، فلا يثبت للراضي الرجوعُ بشيءٍ من العوض (2) ، وهو بمثابة ما لو تعيّب المبيعُ في يد البائع، فللمشتري الخيارُ، فإن رضي المشتري بالعيب، لزم العقدُ، ولم يرجع بقسطٍ من الثمن؛ فإن العوضَ لا يتوزّع على الصفات في هذا المقام.
5419- وذكر شيخي وجهين في المسألة: أحدهما - ما ذكره الأصحاب. والثاني - أنه يرجع مع اختيار الإجازة بقسطٍ من الأجرة.
وهذا بعيدٌ، لم أره إلا لشيخي، وكأنه تشوّف إلى تنزيل انقطاع الماء منزلةَ تلف بعضِ المعقود عليه، وهذا لا أعتدُّ به، ومساقه يقتضي الحكمَ بانفساخ العقد في [جزءٍ؛ إذ] (3) هذا حكم فوات بعض المعقود عليه.
ثم إن صحّ ذلك، واتجه القول به، فوجه التوزيع أن يقال: لو بقي الماء في بقية المدة، فكم أجرة المثل؟ فيقال: كذا، ثم يقال: كم أجرة مثل الأرض في بقية المدة، ولا ماء؟ فيقال: كذا، فنضبط ما بين المبلغين، ونوزّع الأجرة المسماةَ على المبلغين.
وهذا ضعيف، لا أصل له.
5420- ومما ذكره الأصحاب في ذلك أن المكتري إذا أجاز العقد، وكان عوْد الماء
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) (د 1) : العين.
(3) في الأصل: حق واحد.(8/222)
المنقطع مأيوساً في مدة الإجارة، فإذا وقع الرضا بذلك، ثم حاول الراضي الفسخَ، لم يكن له ذلك، كالمشتري إذا رضي بالعيب الذي اطلع عليه.
ويليق بهذا القسم كون الخيار ثابتاً على الفور، كخيار الرد بالعيب.
5421- وإن لم يكن عوْدُ الماء مأيوساً، بل كان مأمولاً، فالخيار ثابتٌ، لتحقق الانقطاع في الحال، فإن أجاز المكتري، ثم ندم، وأراد الفسخَ، فله الفسخ؛ فإن إجازته محمولةٌ على توقّع العَوْد، فلا يمتنع أن يفسخ بعدما قدّم الإجازة. وهذا شبّهه الأصحابُ برضا المرأة بالمقام تحت زوجها المعسر بالنفقة، وأنها بعد الرضا لو أرادت الفسخَ، كان لها ذلك، حَمْلاً لرضاها على رجاء زوال العسر. وكذلك إذا انقضت مدة الإيلاء، فرضيت المرأة بالمقام تحت زوجها، فلو أرادت أن تعود إلى المطالبة بالفيئة، أو الطلاق، فلها ذلك بناءً على ما ذكرناه.
5422- وإذا غصب غاصبٌ الدارَ المكراةَ في مدة الإجارة، فللمكتري أن يفسخ، فإن أجاز والغصب دائم، ثم أراد العودَ إلى الفسخ، كان له ذلك.
5423- ومما يتعلق بتمام البيان في المسألة أن الأرض إذا (1) كان لها شِرب معلوم، كما وصفناه، فإن اكتراها المكتري للزراعة، وذكر قسطَها من الشّرب، صح، وكان ما [ذكره] (2) تصريحاً بمضمون العقدِ ومقصودِه.
5424- وإن أطلق اكتراء الأرض، وهي ذاتُ شربٍ، ولم يتعرض لذِكر شِربها من الماء، فهل تصح الإجارة؟ وكيف الوجه؟
هذه المسألة لها التفاتٌ على مسألة الحبر والورّاق، والصِّبغ والصباغ، ثم يتطرق إليها نظرٌ في اطراد العادة، (3 واختلافها، فرُبما تطرد العادة 3) بألا تكترى قطعة من الأرض إلا مع قسطها من الشِّرب، وربما تجري العادة بإفراد الأرض بالإجارة، وربما
__________
(1) (د 1) : التي لها شرب.
(2) في الأصل: ذكرناه.
(3) ما بين القوسين سقط من (د 1) .(8/223)
تختلف العادة. وإذا اشتركت هذه الأصول في المسألة، فالرأي أن نؤخرها حتى نذكر التفصيل في إجارة أرضٍ لا ماء لها، ثم نختم ذلك الفصل بما نبهنا عليه الآن.
فصل
قال: " ولو تكاراها سنة، فزرعها، فانقضت السنة ... إلى آخره " (1) .
5425- إذا اكترى أرضاً مدةً للزراعة، لم يخْلُ إما أن يذكر زرعاً، ويذكر مدة يُدرِك الزرعُ المذكور فيها. وإما أن يذكر مدة لا يُدرِك الزرعُ المذكور فيها. فإن كان الزرعُ المذكور يُدرِك في المدة المذكورة، فالإجارة تصح، ثم إن أدرك الزرعُ في تلك المدة، فلا كلام.
5426- وإن استأخر إدراك الزرع، لم يخل إما أن يكون ذلك لتقصيرٍ وتأخيرٍ من المكتري في الزراعة، وإما أن يكون لأمورٍ قدريّة، سماويّة، فإن أخّر الزراعة، وابتدأها في وقت يُخرح إدراكَ الزرع عن منتهى المدّة، فلا يقلع زرعه ما دامت المدة؛ فإن المنافع فيها مستحقّة له. وإذا انقضت المدّة، والزرع بقلٌ بعدُ، فلمالك الأرض قلعُه؛ فإن المكتري خالفَ جهةَ الانتفاع، ولم يأت بالزراعة على مقتضى العقد والعادة، وإن رضي مالك الأرض تبقية الزرع معيراً متبرعاً، فحسنٌ، وإن أراد تبقيته بأُجرة المثل، فالأمر مردود إلى صاحب الزرع، فإن قلعها، فلا أجرة، وإن أبقاها، استمرت عليه الأجرة، ولا يتوقف استمرارها على رضا المكتري، إذا كان يُبقي الزرعَ.
ولو لم يوجد من مالك الأرض تعرّض للقلع، ولا للإبقاء، وبقي الزرع زماناً فعلى الزارع أجرُ المثل؛ فإنه بإدامة زرعه منتفعٌ بملك غيره، من غير عقدٍ واستحقاقٍ.
5427- ولو استأجر الأرضَ مدةً تسع للزرع المذكور، ولكنه حُبس، وامتنعت
__________
(1) ر. المختصر: 3/93.(8/224)
عليه الزراعة، للحيلولة القهرية، ثم زرع لمّا تمكّن، واستأخر عن منتهى المدّة، فللمالك القلعُ، وإن كان المكتري معذوراً؛ فإن الحكم لا يختلف بما يطرأ على العاقد، إذا لم يحدث في المعقود عليه منع، وهذا مستغنٍ بوضوحه عن تكلّف بسطه.
5428- ولو زرع المكتري في أوان الزراعة، ولم يقصّر، ولم يؤخّر، ولكن استأخر الإدراك لبرد الهواء، أو كثرةِ الأنداء، فإذا انقضت المدةُ المضروبةُ والزرعُ غير مدرِك، فالذي ذهب إليه الأصحاب أنه لا يقلع أصلاً؛ لأن المكتري غيرُ مقصر، وهو جارٍ على موجَب العقد والعادة.
5429- وذكر العراقيون وجهين: أحدهما - ما ذكرناه. والثاني - أن الزرع يُقلع إذا انقضت المدة، وما فرض من عذرٍ، بمثابة ما لو حُبس المكتري، وحيل بينه وبين الزراعة، فهذا العذر لا ينتصب سبباً في وجوب تبقية زرعه.
5430- ثم إذا رأينا تبقية الزرع، فهو مبقّى بأجرة المثل، وراء المدة المضروبة.
5431- ومما يتم به الغرض أن الزراعة لو امتنع ابتداؤها، لتتابع الأمطار والبرد المفرط، ثم لما انجلى المانع، وزرعَ الزارع، استأخر الإدراك، فهذا محتمَلٌ مترددٌ، يجوز أن يشبَّه بحبس المكتري، ومنعه من الزراعة.
ويظهر أن يُلحق ما يقع من ذلك في ابتداء المدة بما يطرأ بعد الزراعة، فإن الأمور الكليّة الهوائية تنطبق على معاذير الزرع والحرث، والحبس للمكتري لا تعلّق له بالمعقود عليه.
هذا كله فيه إذا ذكر مدةً يسع مثلُها الزرع المذكور.
5432- فأما إذا ذكر نوعاً من الزرع، وذكر مدة لا تسعه، ولا تفي بإدراكه، مثل أن يستأجر الأرض شهرين ليزرعها قمحاً، أو شعيراً، فمعلوم أن الشهرين لا يفيان بإدراك الزرع المذكور، فيتشعب من هذا مسائل:(8/225)
5433- إحداها- أن يذكر الزرع (1 والمدة، ويقع التشارط على قلع 1) الزرع عند منقرض المدة، فإن كان كذلك، صحّ -ولعل غرضَ المكتري [القصيلُ] (2) ، وهو على الجملة مقصود- ثم إذا انقضت المدة، قُلع الزرع، وللمالك أن يُبقيه مجاناًً وبأجر المثل، فإن اتفق إبقاؤه بعد المدة، جرى أجرُ المثل من غير تعرضٍ له، فإنّ أجر المثل قيمة المنفعة التالفة من غير استحقاق، فإذا حصل تلفُ المنفعة، تقوّمت.
هذه مسألة.
5434- المسألة الثانية - أن يقول: اكتريت هذه الأرضَ لزراعة الحنطة شهرين، على أن الزرع لا يقلع عند منقرض المدة، ويبقى إلى الإدراك، فالعقد يفسد على هذه الصيغة، نصَّ عليه الشافعي في المختصر، وعلل بأن التأقيت واشتراط الإبقاء بعد انقضاء الوقت متناقضٌ؛ فإنَّ ما وراء المدة إن قدّر معقوداً عليه، فالتأقيت لا معنى له، على أن التأقيت بإدراك الغلّة مفسدٌ.
وإن قدر ما وراء الوقت غير معقودٍ عليه، فاشتراطه في العقد لا معنى له، فالإجارة فاسدة إذاً، والأجرة المسماة ساقطةٌ، والواجب أجرُ المثل.
ثم إذا انقضت المدة المضروبة، فلا يجوز قلع الزرع.
فإن قيل: إذا لم يصح العقد، لم يترتب استحقاق الانتفاع عليه. قلنا: الإذن في الإجارة الفاسدة، بمثابة الإعارة، ومن أعار أرضاً، فزرعت، لم يكن [للمعير] (3) قلعُ الزرع، وإن كان مبنى العارية على جواز الرجوع فيها، وقد مهدنا ذلك في كتاب العواري، وفرقنا بين الزرع، وبين البناء والغراس.
ثم الرجوع إلى أجر المثل في المدة التي يبقى الزرع فيها.
5435- المسألة الثالثة - أن يذكر المتعاقدان مدةً لا تسع الزرع المذكور، ويُطلقا
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (د 1) .
(2) في الأصل: الفضيل، وفي (د 1) بدون نقط. والقصيل: هو ما يقطع من الزرع أخضر لعلف الدواب.
(3) في الأصل، كما في (د 1) : المستعير.(8/226)
العقدَ من غير تعرض للقلع والتبقية بعد انقضاء المدة، فالذي قطع له شيخي أن الإجارة تفسد؛ فإن الزرعَ المذكورَ ليس يوافق المدة المذكورة، فظاهر إطلاق الزراعة يشعر بإبقاء الزرع إلى أوان الحصاد، وهذا غير ممكن في المدة المحصورة. فحصرها إذن يوجب في الإطلاق قصرَ الانتفاع عليها، وذكر الزراعة يتضمن الزيادة عليها؛ فكان ذلك تناقضاً، في صيغة العقد، ومقصوده، وكان يشبِّه هذا بما لو قال الرجل: اكتريت منك هذه الدابة على أن أسافر بها إلى مكة في يوم (1) ، فالإجارة تفسد لا محالة، وفي نص الشافعي في السواد (2) ما يشير إلى هذا من طريق المفهوم.
5436- وقطع غيره من الأئمة بصحة الإجارة، وقالوا: استأجر مدة معلومة، فإذا انقضت المدة، نظرنا فيم يقتضيه الحكم من القلع، أو [التبقية] (3) .
5437- ثم قالوا: في ذلك وجهان: أحدهما - أنه يُقلع عليه الزرع، وهو فائدة التأقيت المطلق، فكان هذا بمثابة ما لو وقع التصريح بشرط القلع عند منقرض المدة.
والوجه الثاني - أنه لا يقلع الزرع بل يُبقَّى إلى الاستحصاد بأجر المثل؛ فإنه لم يقع التعرّض للقلع، ولم يرض واحد منهما بتوقيت حقِّه، فالذي يقتضيه رعايةُ الحقين، والنظر للجانبين أن يبقى الزرع إلى الحصاد، بأجرة المثل وراء المدة المضروبة، فيستحق المكري الأجرة المسماةَ للمدة المذكورة، ويستحق أجر المثل وراءها.
5438- فإذا (4) كان الأئمة يختلفون كذلك في التأقيت المطلق، فيجب أن يختلفوا على هذا الوجه في الإعارة المؤقتة، حتى يقولوا في جواز قلع الزرع وراء المدة المذكورة وجهان. وظاهر المذهب الذي مهدناه في كتاب العاريّة أن التأقيت المطلق
__________
(1) يلاحظ في ضرب هذا المثل أنه يضربه على لسان من يقيم في نيسابور، حيث كان يعيش الشيخ. أما إذا كان في عرفات أو في منى، وقال: اكتريت منك هذه الدابة على أن أسافر عليها إلى مكة في يوم، فالإجارة صحيحة. فليلاحظ ذلك.
(2) السواد: يراد به المختصر. مختصر المزني، كما تكررت الإشارة إلى ذلك.
(3) في الأصل: الترك. والمثبت لفظ (د 1) .
(4) (د 1) : وإذا.(8/227)
لا يسلِّط على القلع وراء المدة، وإنما صار إلى القلع أبو حنيفة، والقلع محتمل من طريق المعنى. فإن ذكرنا هذا الاختلاف في العارية المؤقتة، فهو المراد، وإن لم نذكره، تعيّن إلحاقه؛ إذ لا فرق بين التأقيت في العاريّة، وبين التأقيت في العقد على الوجه الذي وصفناه.
5439- ولا ينبغي أن يغتر الفقيهُ بفرقٍ لا أصل له؛ فيقول: إذا صححنا العقد في مسألتنا، تضمن ذلك حصرَ الاستحقاق في المدة المذكورة، وهذا الانحصار يوجب الفرقَ بين المدة وبين ما وراءها، بخلاف العاريّة، فإنه لا استحقاق فيها، والأمر محمولٌ على مكارم الأخلاق، والمساهلةِ ابتداءً ودواماً. وهذا لا يتحصل (1) مع القطع باستواء الأصلين في جواز اشتراط القلع صريحاً، وإذا جاز ذلك في الموضعين، فإشعار التأقيت المطلق بالقلع في الموضعين على وتيرة واحدة.
5440- ومما يتعلق بهذا المنتهى أن من استأجر أرضاً مدة لزرعٍ، فكانت المدة تسع ذلك الزرعَ غالباً، فلو زرعها المكتري زرعاً تطول مدتُه، وتزيد على المدة المذكورة، ولكن كان إضرار ذلك الزرع بالأرض كإضرار الزرع المذكور، من غير مزيد، فإذا اتفق الزرعُ، فلا شك أنه مقلوع عند منتهى المدة المذكورة؛ من جهة أن المكتري فرّط، إذ عدَل عن النوع المشروط، والمدة تَسَعُه، إلى النوع الذي لا تسعه المدة.
ثم لو أراد المكري قلعَ الزرع في أثناء المدة؛ [بناءً] (2) على أن له أن يقلعه وراء المدة، لم يكن له ذلك؛ فإن المنفعة في المدة مستحقة للمكتري، وليس في ترك الزرع إضرارٌ، فيجب إدامتُه إلى انقضاء الوقت.
وهذا بيّن بعد (3) الزرع.
5441- ولو همّ المكتري بابتداء الزراعة فأراد المكري منعَه من الابتداء، فقد ذكر العراقيون: أن له أن يمنعه من الابتداء.
__________
(1) (د 1) : تحصيل.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) يمهد بهذه الجملة للمسألة الآتية، وهي حكم منعه قبل الزرع.(8/228)
والذي يقتضيه قياس المراوزة القطعُ بأنه لا يمنعه من الابتداء؛ فإن المنفعة مستحقة، ولا ضرار، فكما يمتنع على المكري القلعُ دواماً، وجب أن لا يجوز له المنع ابتداءً، وإنما سلطان المكري عند انقضاء المدة، فينتظم من الطريقين قياساً ونقلاً وجهان: الأصح أن لا يُمنع المكتري من ابتداء الزرع، وليس لما ذكره العراقيون -وإن قطعوا به- وجهٌ.
فصل
قال: " وإذا تكارا الأرضَ التي لا ماء لها ... إلى آخره " (1) .
5442- جملة الأراضي تنقسم إلى ما لها شِرب معلوم، وإلى ما ليس لها شرب معلوم.
5443- فلتقع البداية بالأرض التي لا شِرب لها على علم. وهذا القسم ينقسم ثلاثة أقسام:
5444- أحدها - أن لا يتوهم لها ماء بحالٍ يتأتى بناءُ الزرع عليه، وذلك بمثابة أرضٍ في قُلّة جبلٍ مَحْلٍ (2) ، إن وقع عليه مطرٌ على الندور (3) ، لم (4) يسد مسدّاً، فإن كان كذلك، فلا يجوز اكتراؤها للزراعة، فلو اكتراها المكتري، وذكر الزراعة، فالعقد باطل؛ لاشتماله على جنسٍ من الانتفاع مستحيلٍ.
ويجوز اكتراء مثل هذه الأرض لغرضٍ آخر، لا يستدعي الماءَ، وهو أن يتخذها مبركاً لجماله، أو مجثماً لغنمه، أو مُخيَّماً لنزوله، فهذه الجهات إذا وقع التصريح بها، صحت الإجارة، ولا أثر لذكر الماء فيها.
وهذا بيّنٌ غير ملتبسٍ.
__________
(1) ر. المختصر: 3/95.
(2) مَحْل: المحل انقطاع المطر، ويُبس الأرض من الكلأ، وأرضٌ محْل: لا مرعى بها (المعجم) .
(3) في الأصل: النذور (بالذال المعجمة) . وغير منقوطة في (د 1) .
(4) (د 1) : ولم.(8/229)
5445- فلو وقع العلم بما ذكرناه، فجرى اكتراء مثل هذه الأرض مطلقاً، من غير تعرضٍ للزراعة، أو لجهةٍ أخرى من الجهات التي أشرنا إليها، فالإجارة صحيحة محمولة على الانتفاع الممكن، كما سنذكره في التفريع.
5446- وذكر العراقيون وجهاً بعيداً أن إطلاق [الإجارة] (1) لا يصح من غير ذكر حالِ الأرض في أنها لا ماء لها، ثم إنهم كما نقلوه زيفوه، وهو لعمري ضعيفٌ، حريٌّ بالتزييف؛ فإن الغرض من ذكر ما يُذكر الإفادةُ، ولا إفادة في التقييد، مع القطع بأن مثل هذه الأرض لا يتصور أن يكون لها ماء في مطّرد العرف.
5447- فليقع التفريع على صحة الإجارة المطلقة. ثم المكتري يتسع في الجهات الممكنة من الانتفاع، ولا يمنع عن شيء منها؛ فإن الأرض تحتمل جميعَها، فلا منعَ منها، وإنما يمنع المكتري من تغيير جِرْم الأرض بحفرٍ أو غيره. وهذا متفق عليه، بين الأصحاب.
وما ذكره العراقيون وجهاً ضعيفاً ليس يقتضي تعيينَ جهة الانتفاع ذكراً، وإنما يشترط ذلك القائل التعرضَ لذكر انتفاء الماء، فأما التنصيص على تعيين جهة الانتفاع، فلم يصرْ إليه أحد، فليفهم الناظر ذلك.
وهذا كلام في قسم واحد، وهو إذا كان لا يتصوّر للأرض ماءٌ يستقلّ الزرع به.
5448- فأما القسم الثاني، وهو أن تكون الأرض بحيث قد يُرجى لها ماءٌ، ولا يأس منه، ولكن لم يكن لها شِربٌ معلوم، [فإذا] (2) كان كذلك، فلو استأجرها وذكر في صلب العقد أنه لا ماء لها، فالقول في هذا القسم، يتنوع:
5449- فنقول: إن اكتراها للزراعة بناءً على إمكان الماء على بُعدٍ، فلا خلاف بين الأصحاب أن الإجارة فاسدة؛ إذ لا ثقة على الظهور بالماء، الذي لا بد منه للزرع؛ فكانت جهة الزراعة فاسدةً، لم يختلف الأصحاب فيها.
__________
(1) (د 1) : الجارية.
(2) في الأصل: وإذا.(8/230)
ثم لا فرق بين أن يذكر أنه لا ماء للأرض، وبين أن لا يذكر ذلك؛ فإن الفساد أتى من [جهة] (1) تعذر الزرع في ظاهر الظن.
وقد ألحق الأصحاب [فسادَ هذه الأجارة] (2) بفساد بيع [العبد] (3) الآبق؛ فإن رجوعه وعَوْدَه ممكنٌ، لكنْ بناءُ البيع على كوْن المبيع مقدوراً على تسليمه حالة العقد.
5450- ولو اكترى المكتري هذه الأرضَ ليتّخذَها مخيّماً، أو مبركاً، أو مأوى للأغنام، فتصح الإجارةُ.
ولا حاجة في هذا القسم إلى التعرض للماء، نفياً، ووجوداً؛ فإن هذه الجهات لا تستدعي الماء.
5451- فأما إذا اكترى الأرضَ مطلقاً، ولم يقع التعرض للزراعة، ولا لغيرها من جهات الانتفاع، فإن جرى في العقد أن الأرض لا ماء لها، صحت الإجارة، وانقطع الوهم عن اقتضاء الإجارة زراعةً، وإذا صححنا العقدَ، فالمكتري ينتفع بالجهات التي ذكرناها، وإن لم يقع لها تعيين.
فلو أراد أن يزرع الأرضَ بناءً على توقّع الماء، كان له ذلك؛ وهذا إذا جرى ذكر الماء نفياً، فأما إذا لم يجر لنفيه ذكرٌ، لم يخلُ إما أن يكون أمر الماء مشكلاً على المكتري، وإما أن يكون عالماً بحقيقة الحال، فإن كان جاهلاً، فالإجارة فاسدة؛ لأن مطلق استئجار الأرض يشعر بالزراعة، فيصير المطلق كالمقيّد بالزراعة، وقد ذكرنا أن استئجار الأرض التي وصفناها للزراعة باطل، ونزّلنا الاستئجار لها على رجاء الماء من غير ثبت منزلةَ ابتياع العبد الآبق على رجاء العَوْد والإياب، والعقد المطلق كالمقيّد بالزراعة. هذا ولا علم بحقيقة الحال.
5452- فأما إذا كان المتعاقدان عالمين بصفة الأرض، وأنه ليس لها شِرب
__________
(1) في الأصل: جهته.
(2) ما بين المعقفين سقط من الأصل.
(3) سقطت من الأصل.(8/231)
معلوم، ورجاء الماء ليس غالباً، فالعلم في ذلك هل يتنزل منزلة التصريح بأن الأرضَ لا ماء لها؟ فعلى وجهين ذكرهما صاحب التقريب:
أحدهما - أن العقد يصح، كما لو تقيّد بنفي الماء، ووجهه أن ما يذكر في العقد فائدته الإعلام، والإشعار به، فإذا عَلم المتعاقدان ما يدل عليه لفظ نفي الماء، فلا حاجة إلى الذكر.
والوجه الثاني - أن العقد لا يصح؛ فإن اللفظ المطلق فيه يتضمن الزرعَ، فلا بد من قطع تضمّن (1) اللفظ صريحاً بلفظ.
5453- ولا بد وأن يتنبه الفقيه في هذا المنتهى للفرق بين هذا القسم الذي نحن فيه، وبين ما إذا كانت الأرض بحيث لا يتصور [أن يكون] (2) لها ماء؛ فإن الرجاء إذا كان زائلاً، فلا يتوقع طلب الأرض للزراعة، وذلك القسم الأول فيه، إذا كانت الأرض بحيث لا يخفى أنها لا تصلح للزراعة، ولا يُتوقع لها ماء، وإذا انتهى الأمر في الظهور إلى هذا المنتهى، فلا حاجة إلى التعرّض والذكر.
وإنما يظهر موقع الذكر إذا كان الإمكان متطرَّقاً على قربٍ أو بعدٍ. والذي ذكر العراقيون من الوجه الضعيف في القسم الأول بَعُدَ [لذلك] (3) .
ولو كان المكتري مثلاً لا يحيط بأن مثل تلك الأرض لا تصلح للزراعة، لجهله وسلامة صدره، وذلك في القسم الأول - فقد ينقدح الآن والحالة هذه التعرضُ لنفي الماء، ويجوز أن يقال: الجهل بصفة الأرض في القسم الأول بمثابة العلم بصفة الأرض في القسم الثاني.
5454- فأما القسم الثالث - وهو أن تكون الأرض بحيث يغلب على الظن إمكانُ زراعتها بماء (4) المطر أو سيلٍ يتفق [و] (5) تنمية الزرع.
__________
(1) (د 1) : ما يضمن اللفظ.
(2) زيادة من (د 1) .
(3) في الأصل: كذلك.
(4) (د 1) : ووفاء المطر.
(5) الواو زيادة من المحقق، والمعنى: "سيل يصادف، ويناسب نماء الزرع ".=(8/232)
فلو استأجر مثلَ هذه الأرض للزراعة، ولم يتعرض [لنفي] (1) الماء والشِّرب.
فالذي يظهر من كلام الشافعي، وهو اختيار القفال أن الإجارة فاسدة؛ فإنه إذا لم يكن للأرض شربٌ معلوم، فبناء الزراعة على وقوع القطر غررٌ، والغرر مجتنبٌ في العقود.
وقال القاضي: ينبغي أن يصح اكتراء مثل هذه الأرض للزراعة؛ بناءً على الغالب، واحتَجَّ عليه بأن الأرض إذا كان لها شِرب معلوم، فاستئجارها للزراعة جائز، ولسنا نقطع ببقاء ذلك الشِّرب؛ فإن انقطاعَه ممكنٌ، ولكن حُمل تصحيح الإجارة للزراعة على ظاهر الحال، ووقوع هذا الغالب في المطر بمثابة وقوعه في الشرب من النهر العِدِّ (2) ، والعين الفوارة بالماء.
5455- فالقاضي يقول إذاً: يصح الاستئجار للزراعة مطلقاًً من غير تعرض لذكر الماء؛ بناءً على الغالب، والقفال يقول: لا يصح الاستئجار للزراعة بناء على المطر، وما في معناه، ثم في قول القفال تردُّدٌ نُنبِّه عليه.
5456- أما إذا لم يجر لنفي الماء ذكر، فالاستئجار للزراعة باطلٌ عنده، وإن ذكر المتعاقدان أن الأرض لا ماء لها على علمٍ، ثم جرى الاستئجار على الزراعة، فالقفال [مُردِّدٌ] (3) قولَه في ذلك، وهو لعمري محتمل، تفريعاً على اختياره.
فتحصَّل من مجموع ما ذكرناه: أن استئجار مثل الأرض التي نحن فيها للزراعة جائز عند القاضي من غير تعرض لنفي الماء، وهو ممتنع عند القفال، إذا لم يجر ذكرُ نفي الماء العِدّ، وإن جرى ذكرُ نفي الماء، ففي جواب القفال تردّدٌ.
5457- ومما يلتحق (4) بهذه الأقسام أن الأراضي التي يسقيها فيضُ النيل إذا امتد،
__________
=وأما (د 1) فعبارتها: "إمكان زراعتها، ووفاء المطر، أو سبيل يتفق تنمية فلو استأجر.... " ولعل كلمة (تنمية الزرع) مقحمة، وبحذفها يستقيم الكلام.
(1) في الأصل: نفي.
(2) العِدّ: الجاري الذي لا انقطاع له. (المصباح) .
(3) في الأصل: مردود.
(4) (د 1) : ومما يليق.(8/233)
فصفتها (1) أولاً: أن النيل إذا زاد أوانَ المدّ، انبسط الماء على الأراضي، [و] (2) بقي عليها، ثم ينحسر الماء إذا نقص النيل، و [يفيض] (3) من ماء النيل على الأراضي ما يفيض، ثم إذا انحسر الماء، زُرعت الأراضي، ووقع الاكتفاء بتلك الندوة الواحدة، ولو [مُطر] (4) أهلُ مصر، فسدت زروعهم.
فهذا معتمد الزراعة في تلك الديار.
والنيل كثيراً ما يخون، فلا يفيض، إذا لم تنته زيادتُه إلى المكان الذي يعرفونه.
فاكتراء هذه الأراضي كيف سبيلها؟ قال الأئمة: إن اكتراها المكتري للزراعة بعد جريان الفَيض والانحسار، والاكتفاء بما جرى، فالعقد صحيح؛ فإن الزراعة ممكنةٌ، ولا حاجة إلى الماء، والماء ليس يُعنَى لعينه، وإنما يعنى لتنمية الزروع، فإذا كانت الأرض مستقلة بندوتها، صح استئجارها للزروع.
ولو استأجر أرضاً من تلك الأراضي قبل الفيض على توقّع مدّ النيل، فهذا ملتحق بالقسم الثاني: وهو إذا كان البناء على رجاء المطر، وليس وقوعه غالباً.
والسبب فيه أن النيل خوّان، ولا يمكن حملُ الأمر فيه على غلبة الظن. وإذا أحلنا هذا على القسم الثاني، لم يخفَ تفصيل المذهب فيه.
ولو كان بالقرب من ضِيفة (5) النيل أرضٌ يغلب على الظن فيضُ النيل عليها، وإن نقص المدّ. وإنما تتقابل الظنون في الأراضي البعيدة، فالقول في الأراضي القريبة، والظنُّ غالبٌ يلتحق بالقسم الثالث.
وقد فصلنا المذهب فيه.
__________
(1) (د 1) : فيفيضها.
(2) في الأصل: أو.
(3) في الأصل: ويغيض.
(4) في الأصل: نظر. ولعلها حرفت عن (قُطر) أي أصابهم القطر.
(5) ضيفة: الضِّيف (بكسر الضاد المعجمة) : الجانب والناحية، يقال: ضِيفُ الوادي، وضيف الجبل. (المعجم) . وفي (د 1) : ضفة.(8/234)
5458- وأما الأراضي التي تبنى زراعتها على مدّ (1) البصرة، فيجوز استئجارها للزراعة مطلقاً باتفاق الأصحاب؛ فإن مدّ البصرة لا يختلف، وهو أثبت من كل ماءٍ عِدٍّ، وشِربٍ معلوم.
ومن أحاط بالأصول التي ذكرناها، لم يخف عليه تفريعُ (2) المسائل بعدها.
5459- ومما يتصل بهذا المنتهى كلامٌ للشافعي، ذكره في الأم، فقال: إذا كانت الأرض بقرب نهرٍ، لو ازداد ماؤه، امتنعت زراعتها، ولو انتقص الماء، أمكنت الزراعة، فإذا كان الماء مزداداً، فاستأجرها مستأجرٌ للزراعة، بناء على انحسار الماء، وكان الانحسار موهوماً، لا يغلب فيه ظنٌّ، فالإجارة فاسدةٌ؛ فإن المانع قائم في وقت العقد، وزوالُه موهومٌ، فكأن الاستئجار والحالة هذه بمثابة ابتياع العبد الآبق.
5460- ولو كان الماء ناقصاً، وكان الانتفاع ممكناً، فجرت الإجارةُ والأرض حالة العقد على هذه الصفة، ولكن كان يُتوقع ازدياد الماء وامتناع الزراعة، فالإجارة تصح، ويعتمد (3) صحتها انتفاءُ المانع في الحال، وتوهمُ طريان الزيادة المانعة لا حكم له، ولا عبرةَ (4) بالموهومات، إذا صادف العقدُ حالةَ إنشائه الشرطَ المرعيَّ.
وهذا ننزله منزلة ما لو اشترى الرجل عبداً، وكان إباقه ممكناً بعد العقد، فإمكان ذلك لا يمنع صحةَ العقد. ثم إن طرأ لم يخف حكم طارئه.
وهذا الذي ذكره الشافعي في الطرفين متجهٌ بالغٌ متفَق عليه.
__________
(1) المدّ: السيل، وكثرة الماء، وارتفاع الماء، ضد الجزر. (المعجم) . والمراد هنا فيضان النهر بالبصرة.
(2) عبارة (د 1) : ومن الأصول التي ذكرناها ثمّ عليه تفريع المسائل.
(3) كذا في النسختين. ولعل الأولى: ومعتمد صحتها.
(4) (د 1) : وغيره.(8/235)
5461- ثم قال الأصحاب: زيادة الماء إذا كانت تمنع، أو تقطع، بمثابة انقطاع الماء العِدّ في أثناء مدّة الإجارة.
والأمر كما ذكروه؛ فإن الانقطاع إنما يؤثر طريانه لامتناع تنمية الزرع، وإذا تحقق المانع بالزيادة، كانت في معنى الانقطاع.
وكل ما ذكرناه من تفصيل الكلام وتنويع الأقسام في الأرض التي ليس لها شِربٌ من ماءٍ عِدّ. فإن أجرينا ذكرَ ماءٍ عدٍّ كمدّ البصرة، فذاك وقع طرفاً من الكلام.
5462- ونحن الآن نذكر غرضَنا في الأرض التي لها شِربٌ من ماءٍ عِدّ (1) ونُنجز ما وعدنا في ذلك، فنقول: إذا أكرى مالك الأرض الأرضَ مع شِربها، ووقع التصريح بذلك ذكراً، فالإجارة صحيحة، لا اختلاف في صحتها.
ولو اكتراها المكتري للزراعة وحدها، ونفى (2) استحقاقَ سقيها من شِربها العِدّ المعلوم نُظر: فإن كان يهون على المكتري سقيُها من أوديةٍ وأنهارٍ ومياهٍ عِدّة، فيصح اكتراؤها للزراعة (3 على هذا الوجه؛ فإن الزراعة ممكنة، ولا امتناع 3) فيما ذكرناه، لا عرفاً ولا شرعاً.
ولو تشارطا [نَفْيَ] (4) استحقاق السقي من الشرب (5) العِدّ، وكان المكتري لا يجد ماءً عِدّاً، وإنما يعوّل على أملٍ ورجاءٍ في المطر، أو سيلٍ إن اتفق، فهذا يلتحق باستئجار أرضٍ ليس لها ماءٌ عِدّ، ثم الكلام ينقسم إلى الأقسام الثلاثة، فلا فرق بين أن لا يكون للأرض ماء عدٌّ، وبين أن يُشترط في العقد نفيُ استحقاقه.
5463- ولو استأجر الأرضَ ذاتَ الشرب العِدّ مطلقاً، ولم يقع التعرض لنفي السقي من الشِّرب، ولا لإثباته، لم يخل العرف في ذلك المكان، فإن كان يقتضي اقتضاءً
__________
(1) هذا هو القسم الثاني، قسيم القسم الأول، الذي جعله ثلاثة أقسام، وانتهى منها.
(2) (د 1) : وبقي استحقاق.
(3) ما بين القوسين سقط من (د 1) .
(4) (د 1) : وبقي، وفي الأصل: ففي. والمثبت تصرف من المحقق، على ضوء السياق.
(5) (د 1) : الماء.(8/236)
غالباًً [مطرداً] (1) السقيَ من الشِّرب، حُمل العقدُ المطلقُ عليه، بلا خلاف، وجعل كما لو وقع التصريح بالسقي من الشِّرب.
وإن وقع ترديدٌ في حبر الورَّاق، وخَيْط الخياط، وإرضاع المستأجَرة للحضانة، فلا ترديد فيما نحن فيه؛ فإن ذلك من الأمور الكليّة العامة التي يتبع المسلمون العرفَ فيها، وحق مثل (2) هذا الأصل التمهيد (3) ، ثم يستثنى (4) منه الجزئيات في آحاد المسائل.
هذا إذا غلب العرف بالسقي من الشِّرب، واستمر؛ فإن الإجارة على الأرض لا تُطلب إلا مع السقي من الشِّرب العِدّ.
5464- فأما إذا لم يطّرد العرف في ذلك على وجهٍ، فكانت الأرض تكرى وحدها، والماء يكرى مجراه وحده، وربما يُجمع بينهما، فإذا كانت الحالة هذه، فاستأجر [الرجل] (5) الأرض للزراعة مطلقاً، ولم يتعرض للماء، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن الإجارة المطلقة بمثابة الإجارة المقيّدة بشرط الماء، فأما الزراعة إذا ذكرت، أشعر ذكرها بالاستمداد من الماء، وعلى المكري توفيةُ المنفعة المذكورة في الإجارة، ومن الوفاء بتوفية منفعة الزراعة إمدادُ الزرع بالماء.
هذا وجهٌ ظاهر، وإليه صَغْو (6) جماهير الأصحاب.
والوجه الثاني - أن الإجارة لا تحمل على استحقاق الماء، وهذا هو القياس؛ فإن اللفظ ليس يشعر باقتضاء الماء، والعرف ليس يحكم به أيضاًًً، وإذا عُدم اقتضاء اللفظ والعرف، فإثبات الاستحقاق لا معنى له، وليس لما ذكره ناصر الوجه الأول أصلٌ؛ فإن الزراعة ليس من ضرورتها ما ذكره ناصر ذلك الوجه، بدليل أن التصريح بنفي
__________
(1) في النسختين: مطردَ السقي.
(2) ساقطة من (د 1) .
(3) (د 1) : أن يمهد.
(4) (د 1) : يستقى.
(5) سقطت من الأصل.
(6) (د 1) : صغُوا. والصغو الميل.(8/237)
السقي من الشِّرب العِدّ ينتظم في الكلام، ولا يعدّ ذكر الزراعة مع نفي استحقاق الشِّرب كلاماً متناقضاً.
التفريع على الوجهين:
5465- إن فرعنا على الأول، لم يخف حكمُه.
وإن فرعنا على الوجه الثاني، فعليه وجهان: أحدهما - أن الإجارة تفسد، لتردد العرف.
وهذا وجهٌ رددناه في مسائلَ، وليس بمرضيٍّ عندنا.
والوجه الثاني - أن صحة الإجارة وفسادَها يُؤخد من إمكان سقي تلك الأرض من جهةٍ أخرى، وقد فصلنا هذا.
والقول الوجيز في ذلك: أنا نجعل إطلاق الاستئجار للزراعة، حيث انتهينا إليه، بمثابة التصريح بنفي استحقاق السقي.
هذا تمام البيان (1) في هذه الأقسام.
5466- وكل ما ذكرناه فيه إذا كان الاستئجار للزراعة. فأما إذا قيدت الإجارة بغرضٍ من الأغراض، سوى الزراعة، لم يخف الحكم بصحة الإجارة.
ونحن وإن لم نغادر من البيان شيئاًً، فإنا نرى اختتام هذا الفصل بالتنبيه على شيء.
5467- وهو أن الأرض التي لا ماء لها، إذا ذكر أنه لا ماء لها، فلا حاجة إلى تعيين جهةٍ سوى جهة الزراعة، ولكن يكفي نفيُ الماء. ثم الإجارة تُحمل على كل منفعةٍ ممكنة، ومنها الزرع إن أراده المستأجر، بناء على الرجاء.
ولو جرى الاكتراء مطلقاًً، حيث لا ماء، فإن لم يكن رجاء للماء، صح، وحمل على الممكن من الانتفاع، وإن كان رجاء الماء ثابتاً، ولم يجر ذكر نفي الماء، فالأصح فسادُ الإجارة، وفيه وجه آخر ذكره القاضي: أن الإجارة تصح.
فهذه قواعد يجب التنبه لها في مجاري الكلام.
__________
(1) (د 1) : الكلام.(8/238)
5468- وإن كان للأرض شربٌ، فيجب التنبه لأمر العرف في اطراده وموقع اختلافه، إذا كانت الإجارة مطلقة، لا ذكر للماء فيها. والله أعلم.
فصل
قال: " وإن تكاراها، والماء قائم عليها، وقد ينحسر لا محالة في وقتٍ يمكن فيه الزرع، فالكراء جائز ... إلى آخره " (1) .
5469- صورة المسألة: أرض علاها الماء وعلمنا انحساره عنها بالنضوب (2) ، أو بالتحدّر في وقت الزراعة.
قال الشافعي: إذا كانت الأرض كذلك، فاستؤجرت، والماء قائم، فالاستئجار صحيح.
5470- وتفصيل المذهب فيها: أن الماء الواقف إن لم يمنع من رؤية الأرض لصفائه، أو كانت سبقت فيها الرؤية على وجهٍ يُكتفى بها، وكان ذلك الماء الواقف لا يمنع من الزراعة، وإن بقي واقفاً. وهذا كاستئجار الأرض لزراعة الأرز؛ فإن كان كذلك، فالإجارة صحيحة؛ إذ لا مانع.
5471- ولو كانت الرؤية ثابتةً، أو سبقت، ولكن كانت الزراعة ممتنعة في الوقت، فلا يخلو: إما أن يكون الماء بحيث يمنع الزراعة في الحال، وفي الوقت الذي نرقب فيه الزراعة، أو كانت الزراعة تمتنع في الحال، [ولكن الماء ينحسر لا محالةَ، في وقت الحاجة إلى الزراعة.
فإن منع الماءُ الزراعة في الحال] (3) والمآل، لم تنعقد الإجارة (4 لا شك فيه 4) ؛ فإن المقصود ممتنعٌ.
__________
(1) ر. المختصر: 3/95.
(2) في هامش الأصل: " بالنضب نسخة أخرى ".
(3) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(4) ما بين القوسين سقط من (د 1) .(8/239)
وإن كان الماء الواقف مانعاً من الزراعة في الوقت، ولكنه كان [ينحسر] (1) لا محالة في وقت الحاجة إلى الزراعة، فالذي نص عليه الشافعي، وقطع به معظمُ الأصحاب أن الإجارة صحيحة، والماء القائم على الأرض ليس مانعاً من الانتفاع في وقت الحاجة، وهو فيما قيل: ينفع، ويُعفِّن (2) ما في الأرض من عروق العُشب.
5472- وذكر العراقيون في المسألة وجهاً بعيداً: أن الزراعة إذا كانت ممتنعةً بالماء الواقف، [فالإجارة] (3) غيرُ صحيحة.
وهذا نقلوه وزيّفوه، والأمر على ما ذكروه.
5473- والفصل على ظهوره ملتبسٌ لا بدّ من كشفه (4) ، فنقول:
لم يختلف الأصحاب في صحة استئجار الأرض للزراعة، وإن كانت الإجارة لا تستعقب إمكانها في الحال، وإنما تنشأ الزراعة بعد تاريخ العقد، وليس ذلك من استئخار الانتفاع عن العقد، حتى يقال: الإجارة إذا تقدّمت على وقت الزراعة، وإمكانُ الانتفاع متأخرٌ، فيكون كاستئجار الدار (5) الشهرَ القابل.
والفرق بين ما جوّزناه، وبين ما منعناه، أن الإجارة إذا صحت في الأرض، [ثبتت] (6) يد المستأجر عليها، واستمر احتكامه فيها بالإمساك، والإجارة إن [تنشأ، فتأخر] (7) الزراعة غيرُ ضائر، والعقد إذا أضيف إلى زمانٍ في الاستقبال، كان في حكم المعلّق به، ولا يثبت للمستأجر استحقاقٌ ناجزٌ.
فإذا بأن هذا، فإنا نقول:
__________
(1) سقطت من الأصل.
(2) يعفن ما في الأرض من عروق العشب: أي ما تحت السطح من بقايا جذور الزرع السابق، بل وما تناثر على السطح. وتعفّنه يحوله إلى سماد نافع. كما يعرف ذلك أهل هذا الشأن.
(3) ساقطة من الأصل.
(4) (د 1) : لا كشف فيه.
(5) (د 1) : الدابة.
(6) في الأصل، كما في (د 1) : وثبتت. وحذف الواو تصرّف منا، لاستقامة العبارة.
(7) في الأصل: شاء وتأخر.(8/240)
5474- إذا كان الماء واقفاً في زمانٍ لا يمكن إنشاء الزراعة فيه، ولو كانت الأرض ضاحيةً عريّةً، لأُخِّرت زراعتُها، وسينحسر الماء قطعاً في أول وقت الزراعة، أو قبله، وزالت الموانع التي أشرنا إليها، كامتناع الرؤية، فلا معنى لذكر الخلاف في هذه الصورة.
5475- فأما إذا كان الماء واقفاً في أول وقت الزراعة، ولولاه، لأمكن افتتاحُها، وكان (1) لا يمتنع لمكان الماء الوقتُ (2) المطلوب في الزراعة (3) ؛ فإنّ تأخُّرَ الزراعة بأيامٍ معدودة، لا أثر له عند الدهاقنة، ويقومُ انتفاع الأرض بالماء مقام البدار إلى الزراعة.
فهذا موقع النظر.
والظاهر تصحيح الإجارة، وقد استشهد الأصحاب في تصحيحها بما لو اشترى الرجل داراً مشحونةً بأمتعة البائع، فالبيع صحيح، والبائع مشتغل بتفريغ الدار على الاعتياد في مثله.
5476- والذي ذكره العراقيون قد يتجه على بُعدٍ في هذا المقام؛ فإن الزراعة ممتنعةٌ (4) لاجل الماء ووقوده.
وكان شيخي يقول: لو أجر داراً مشحونة بالأمتعة، كان كمسألة الماء؛ فإن الانتفاعَ متأخر وليس (5) كابتياع الدار المشحونة؛ فإن المنفعة ليست معقوداً عليها في البيع، وقد يجوز بيع الدار المكراة في قولٍ، ولا شك في امتناع إكراء الدار المكراة، وإذا كان في الماء الواقف الحائر خلاف، فالدار المشحونة بالأمتعة أولى بالخلاف؛ إذ الماء من مصلحة الزراعة، وإجراؤه في الأرض فاتحةُ العمل.
__________
(1) (د 1) : لكن.
(2) (د 1) : الموقت.
(3) أي أن وجود الماء، وإن لم يمكن معه بدء الزراعة (الآن) إلا أنه لا يؤخرها عن وقتها، ويضيّع إمكانها.
(4) (د 1) : متبعة.
(5) سقطت من: (د 1) .(8/241)
فهذا ما لابد من التنبه له.
5477- وإذا جوّزنا الإجارة مع الماء، ولكنه كان كَدِراً يحول بين الناظر وبين درك الأرض، ولم تتقدّم رؤية قبل وقوف الماء يقع الاكتفاء بها، فالمذهب تخريج المسألة على قولي بيع الغائب.
ومن أصحابنا من صحح الإجارة في هذه الصورة، وإن منع استئجار الغائب، وصار إلى أن الماء من مصلحة الأرض واستتارُ الأرض به استتارُ اللبوب بالقشور.
وهذا ضعيف، لا أصل له؛ فإن ما استشهد به هذا المجيزُ، خِلقةٌ يتوقف عليها صلاحُ الادخار، والماء عارض يعرض، فإذا استتر الأرض به كانت غائبة عن نظر المستأجر، فلا حاصل إذاً لهذا.
وما ذكرناه فيه إذا استأجر الأرضَ والماء واقف على ما فصلناه.
5478- وأما إذا استأجر والأرضُ عارية ضاحية، وانعقدت الإجارة، ثم تغشاها ماء، فقد أكثر الأصحاب في التفاصيل، والتقاسيم، وهذا فن، لا أوثره في هذا المجموع. وقد تولّع المصنفون بتطويل الكلام، بالإعادات، ونحن إذا كنا نُضطر إلى مجاوزة الحد في كشف المشكلات، فينبغي أن نؤثر قبضَ الكلام في المعادات، ونقتصرَ على ذكر المعاقد، والمرامز، ونقول:
إذا كان الماء بحيث لا يُرقب انحداره، وانحساره، حتى يفوت وقت الزراعة، فهذا ينزل منزلةَ تلف المعقود عليه، فإن كان في جميع الأرض، فهو كانهدام جميع الدار، إذا جعلنا الانهدام من أسباب الانفساخ، وإن كان ما جرى في بعض الأرض، فهو كالتلف في البعض، ويتشعب منه قواعد التفريق في دوام العقد.
5479- وإن كان الماء [بحيث] (1) يُتوقع انحساره عن الأرض [قبل انقضاء مدة الزراعة] (2) ، نظر: فإن تحققنا ذلك من غير تردد، فلا أثر لطريان هذا. ومن ذكر خلافاً في الابتداء، لم يجعل هذا مؤثراً في الدوام.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) ما بين المعقفين سقط من الأصل.(8/242)
وإن كنا نظن الانحسار، ولا نقطع به، فهذا بمثابة ما لو غصب غاصبٌ الأرضَ قبل أوان الزراعة، فإن زال الغصب، ولم تفت الزراعة، فلا أثر لطريانه، وإن تمادى الغصب والاستيلاء إلى فوات الزراعة، انفسخت الإجارة، والقول في الماء على هذا النحو.
وإن وُجد ما ذكرناه في البعض من الأرض، جرت فصول (1) التفريق.
5480- وما استشهدنا به من الغصب من أصول الكتاب، وسيأتي فيه فصل (2) مقصود، فلذلك لم نُطنب في بيان حُكمه. وهذا القدر مقنع.
فصل
قال: " وإن مرّ بالأرض ماء، فأفسد الزرعَ ... إلى آخره " (3) .
5481- إذا زرع المكتري، وأنبتت الأرض، فركبها ماءٌ، وأفسد الزرعَ، وذلك بعد إمكان ابتداء الزراعة، فالذي جرى في حكم جائحةٍ.
ولو احترق زرع المستأجر بالصواعق، أو حطّمه البَرَدُ، أو استأصله الجرادُ، فلا أثر لما يجري في العقد، والإجارة قائمة، والأجرة ثابتة بكمالها؛ فإن هذه الجوائح لم تغير المعقود عليه في الإجارة، وإنما أفسدت ملكَ المستأجِر.
5482- ولو أفسد السيل الأرض بعد فوات (4) الزراعة، فهذا قد يتردد الناظر فيه.
والرأي عندنا أنه لا يؤثر في الإجارة؛ فإن الأرض لو بقيت على صفتها، وقد هلك الزرع، لما كان للمستأجر فيها منتفع.
وهذا الذي ذكرناه مصوّرٌ فيه إذا فسد الزرع بالماء، ثم فسدت الأرض. وليست المسألة خاليةً عن احتمال؛ من جهة أن بقاء الأرض على صفتها على الجملة مطلوب
__________
(1) (د 1) : أصول.
(2) (د 1) : فصول مقصودة.
(3) ر. المختصر: 3/97.
(4) أي بعد هلاكها بالجوائح، كما صوره.(8/243)
في تنمية الزرع، وقد حالت الأرض عن صفة التنمية، وإن هلك الزرع.
5483- ولو فسدت الأرض أولاً، وفسد الزرع بفسادها، فهذا يؤثر في الانفساخ وسقوط بعض الأجرة (1) .
5484- وينقدح فيه وجه آخر، وهو أن فساد الأرض آخراً لو جُعل سبباً لانفساخ أصل الإجارة فيما مضى من الزمان، لكان ظاهراً؛ فإن فسادها أحبط أصلَ الانتفاع، ولم يبق إلا نَصَبُ (2) الزرَّاع.
وهذا بديع في التصوير؛ فإن المنافع في الزمان الماضي في حكم المستوفاة، ولكن الأوجه التوقّف فيها إلى بيان الأمر، وسلامة الأرض عن إحباط ما مضى وبقي.
فهذا محالّ النظر والتردد؛ فَلْيتثبَّت عندها الفقيه.
فصل
قال: " ولو اكتراها ليزرعها، قمحاً ... إلى آخره " (3) .
5485- إذا أكرى الرجلُ أرضاً للزراعة، وسمى نوعاً من الزرع، فلا يتعين ذلك النوع، بل للمستأجر أن يزرع ما يساوي المسمّى في الضرر، أو يتقاصر عنه؛ فإنه إذا استحق منفعةَ الأرض على حدّ، فالزرع استيفاءٌ لتلك المنفعة، ولا يتعين على مستحِق المنفعة جهةُ استيفائها، إذا كان لا يتعدّى المستحقَّ، ولهذا قلنا؛ من استأجر دابة ليركبها، فله أن يُركب الدابة غيرَه، إذا كان على حدّ المستأجر في الضخامة والعبالة، أو كان أقلَّ منه؛ ولهذا جوّزنا للمستأجر أن يُكري المستأجَر. وكذا لو استأجر أرضاً ليزرعها قمحاً، فزرعها شعيراً، وضررُ الشعير -فيما يقال- أقلُّ.
5486- ولو عين القمح، ثم أراد أن يزرعها ذرةً، مُنع؛ لأن ضرر الذرة يزيد على ضرر القمح زيادةً ظاهرةً.
__________
(1) (د 1) : الأرض.
(2) نصب: أي تعب الزراع، وضاع ما سبق من المنافع التي حصلوها.
(3) ر. المختصر: 3/97.(8/244)
5487- ولو عين القمحَ وشرَط أن لا يزرع غيرَ القمح، فقد ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أن الشرط يُفسد الإجارة، وهذا هو الظاهر؛ لأنه يتضمن احتكاماً على مستحِق المنفعة، وحَجْراً في التصرف، فهو كما لو قال: أجرتك هذه الأرض على أن لا تؤاجرها، وهذا لا شك مفسد، كما لو قال البائع بعتك عبدي هذا، على أن لا تبيعه.
والوجه الثاني - أن الشرط يلغو، والعقد يصح والمستأجر على خِيَرته، كما ذكرناه في الإجارة المطلقة. ووجه هذا: أن هذا التعيين ليس يتعلق بغرضٍ صحيح في الجانبين، اشتراطاً وقبولاً، وما كان كذلك، فهو حقيق بأن يلغى، وليس كذلك المنعُ من الإجارة؛ فإنه حجرٌ في الملك يتعلق بغرضٍ؛ إذ المكري ربما لا يثق بيد غير المستأجِر، ولا يؤثر أن تتداول الأيدي ملكَه، وهذا الذي يهواه على خلاف مقصود العقد ومقتضاه، فكان الشرط فاسداً مفسداً.
5488- وذكر القاضي وجهاً ثالثأ لا يليق بمنصبه، وهو أن الشرط يصح (1) ، ويتعيّن ما عيّن، وزعم أنه تلقّى هذا مما إذا نوى المتوضىء بوضوئه استباحةَ صلاةٍ بعينها، دون غيرها، فإن تيك الصلاة تتعين عند بعض أصحابنا.
وهذا ظاهر السقوط؛ فإن ذلك الوجه أولاً مما لا يليق بالفقيه (2) التفريعُ عليه، ولا ينبغي أن يزيد من له قدرٌ على تزييف ذلك الوجه، ثم العبادات والنيات بعيدةٌ عن المعاملات، وما فيها من الشرط الفاسد والصحيح.
5489- ومقصود الفصل أن المستأجر إذا عيّن القمح، ثم زرع الذرة، فهو أولاً ممنوع عن ابتداء الزرع لما قدّمناه، فإن زرع قلع المالكُ زرعه، ولم يكن له أن يقول: اتركه إلى الحصاد، أغرَم لك ما يوجبه عليّ من مزيد، وكذلك لو قال: ليس يتبين ضرره في ابتداء النبات، فاتركه حتى ينتهي إلى توقّع الإضرار؛ فإن هذا أمرٌ لا ينضبط، فالزرع مقلوعٌ، ثم المالك يكلّفه القلعَ، وإذا أثر قلعُه في احتفار
__________
(1) (د 1) : لا يصح.
(2) (د 1) : الفقه.(8/245)
الأرض، وإظهار حفائرَ فيها، لزمه تسويتُها، كما يلزم الغاصب.
فإن غَفَل المالكُ عن تعدّيه، حتى حصدَ الزرعَ المضرَّ، قال الشافعي: لصاحب الأرض الخيارُ، فإن شاء ألزمه الأجرة المسماةَ، وألزمه أرشَ نقص الأرض بسبب الذّرة، فينظر إلى ما بين تنقيص القمح وتنقيص الذرة، ويُلزمه مع الأجرة المسماة أرشَ ما زاد من النقص بسبب الذرة.
وإن شاء أن لا يطالبه بالأجرة المسماة أصلاً، ويطالبه بأجر مثل الأرض لو زرعت ذرة، فله ذلك.
5490- ولما نقل المزني هذا قال: الأول أولى بقوله، فاحتمل كلامُ المزني أنه فهم من كلام الشافعي قولين، ثم اختار الأول، حتى كأنه اعتقد أن ما ذكره الشافعيُّ ليس إثباتَ خِيَرةٍ بين خصلتين؛ فإن إثبات الخيرة مذهبٌ واحد، ومن ضرورة الخِيرة تعلّقها بأمرين، فرأى المزني أن هذا من الشافعي ترديدُ القول بين الحُكْمين على ما سنوضحهما.
وقد اختلف أئمتنا في المسألة، فنذكر [ما ذكروه] (1) ثم نتصرف في لفظ المزني.
5491- فمن أصحابنا من قال: في المسألة قولان: أحدهما - أن صاحب الأرض ليس له إلا الأجرة المسماة، والرجوعُ بالنقص المتخصص بالذرة. والقول الثاني - أنه ليس له إلا أجرة المثل.
توجيه القولين: من قال: ليس له إلا أجرةُ المثل، احتج بأن المستأجر تركَ الانتفاعَ الذي يستحقه جملةً، وشغل الأرضَ بنوع آخر، فانفسخت الإجارة، وصار المستأجِر في حكم من يغصب أرضاً، ويزرعها ذرة.
ومن قال بالقول الثاني (2) ، احتج بأنه لم يحِد (3) عن قبيل الزراعة وجنسها، ولكنه اعتدى، وزاد، فكأنه استوفى المنفعة المستحقةَ، وتعدّى محلّ الاستحقاق، ففي
__________
(1) في الأصل: ما ذكرتموه.
(2) الثاني هنا: هو الأول ذكراً، ففي الكلام لفٌّ ونشرٌ.
(3) (د 1) : يمل.(8/246)
الذرة ضررُ القمح، مع مزيدٍ، والدليل على هذا أن ما ذكره ناصر القول الأول من ادعاء الانفساخ لا أصل له، وقد انقضت المدة تحت يد المستأجر، فكان يجب لو صح ذلك المسلك أن يقال: إذا فاتت المنفعةُ تحت يده في كمال المدة، وجب الأجرةُ المسماة، ويجب أجرة المثل لزراعة الذرة، وهذا سرفٌ في الإلزام.
ولناصر القول الثاني أن يقول: المستأجر بزراعة الذرة سدَّ جهةَ الانتفاع بزراعة القمح، والمستأجر لو أتلف العين المستأجرة، ترتب على إتلافه انفساخُ الإجارة، كما لو تلفت بنفسها، فلا معنى لتخيل (1) الجمع بين الأجرة المسماة، وبين أجرة المثل.
5492- وهذه الطريقة في القولين تخالف نص الشافعي، فإنه صرح بتخيّر المالك، وهذا القائل [بإجراء] (2) القولين رفَعَ حكم الخيرة من البَيْن.
5493- ومن أصحابنا من سلك طريقةً أخرى، فقال: في المسألة قولان:
أحدهما - أن صاحب الأرض مخيرٌ، كما نص عليه الشافعي، فإن شاء ألزم المستأجِرَ الأجرةَ المسماةَ، وأرشَ النقص الزائد، كما ذكرناه. والقول الثاني - أنه يتعين عليه أخذُ أجرة المثل.
5494- وذكر بعضُ أصحابنا القولين على صيغة أخرى، فقال أحدهم: إنه يتخير كما ذكرناه. والثاني - أنه لا يتخير، وليس له إلا المسمَّى وأرشُ النقص.
وكان شيخي يؤثر هذه الطريقة، ويراها أصحَّ من التي قبلها.
5495- التوجيه: من أثبت الخيرة وهو ظاهر النص، احتج بأن المستأجر من وجهٍ لم يحد عن الزرع، ومن وجهٍ لم يأت بالجنس المستحَق، والحكم بالانفساخ بعيدٌ، والمسألة مترددةٌ بين القواعد، فإذا لم ينقدح الانفساخ وقوعاً، ولم يتجه تعيّن الأجرة المسماة لحيد المستأجر عن النوع المستحق، فلا (3) وجه إلا أن يخيَّرَ المالك.
__________
(1) سقطت من (د 1) .
(2) في الأصل: في إجراء.
(3) (د 1) : فالأوجه.(8/247)
ووجه من منع التخيير أن الإجارة قد انتهت، [فَعَطْفُ] (1) الفسخ عليها محال، فيجب أن يقع الحكمُ مجزوماً. ثم من جزم القولَ بأجرة المثل، فوجهه ما تقدم. ومن رأى الجزم بالمسمّى، وأرْشَ النقص، فقد سبق في الكلام ما يوجه ذلك أيضاً.
5496- ومن أصحابنا من أبى طريقةَ القولين، وقال: لا مذهب للشافعي إلا التخيُّر بين المسمَّى وأرشِ النقص، أو أجر المثل. وهذا بيِّنٌ في لفظه. ومن استنبط من كلام المزني القولين، فهو غير منصفٍ؛ فإنّ ترك نص الشافعي، وهو صريح في الخِيرة، لا معنى له بخيالٍ في كلامِ المزني.
على أنه يمكن حملُ كلامه، إذ قال: الأوّل أولى: أنه لا يؤثر التخير مذهباً لنفسه، بل رأى ما ذكره الشافعي إحدى الخيرتين المذهبَ المجزوم، فإذا (2) احتمل كلام المزني هذا، فلا معنى لمخالفة النص، وليس للشافعي نص إلا التخيير، فمذهبه التخير إذاً.
هذا بيان مسالك الأصحاب في المسألة.
5497- ولو أردنا أن نجمع ما ذكروه وننظمه أقوالاً، انتظم منه ثلاثةُ أقوال:
أحدها - أنه يتعين المسمى وأرشُ النقص.
والثاني - يتعين أجر المثل.
والثالث - أنه يتخير، كما سبق معنى التخيّر.
5498- ومما يتعيّن الإحاطة به في ضبط المذهب، في هذا الأصل: أن من استأجر دابةً ليحملها مائة منٍّ من الحنطة، فحمّلها مائةً وخمسين، فالأجرة المسمّاة تثبت قولاً واحداً، ويجب في مقابلة الزيادة أجرةُ المثل، وليس هذا [من صور] (3) القولين؛ فإنه استوفى ما استحق، وزاد عليه، فثبت لاستيفائه الحكمُ اللائق، وثبت لما زاد الحكم الذي تقتضيه الزيادة.
__________
(1) في الأصل: بعطف.
(2) (د 1) : إذا.
(3) في الأصل: في صورة القولين.(8/248)
وإذا ذكر زراعةَ البرّ، وعدل [منها] (1) إلى زراعة الذرة، فهذا ميلٌ من نوعٍ إلى نوعٍ من غير خروج عن قبيل الزراعة، فترددت الأقوال لذلك، ونظير هذه المسألة ما لو استأجر داراً ليسكنها، فأسكنها الحدّادين، والقصارين، حتى اشتغلوا بأعمالهم، فتزلزلت السقوف لهَا، وبدت الشقوق في الجدرات (2) وغيرها، فهذا يخرّج على الخلاف المذكور في إبدال زراعة الحنطة بزراعة الذرة.
5499- ومما يلتحق بذلك أنه لو اكترى دابة ليحمّلها مائة منٍّ من الحنطة، فحمّلها مائة منٍّ من الحديد، فهذا عدوان [منه] (3) وتعد من النوع المستحَق إلى نوعٍ آخر، فيكون هذا على الأقوال التي ذكرناها.
وقد لا يظهر من [تحميل] (4) الدابة الحديدَ نقصٌ، فترجع (5) [الخيرةُ] (6) على قول التخيّر إلى الأجرة المسماة، وإلى أجرة المثل. وإن كانت الأجرة المسماة في تحميل الحنطة كأجرة مثل حمل الحديد، فلا يظهر للتخيّر معنى.
والذي يظهر في ذلك أنا إذا عيّنا المصيرَ إلى أجرة المثل، فنحكم بأن الإجارةَ قد انفسخت، ويظهر هذا المسلك، وإن كان لا يظهر تفاوتٌ. وكذلك إذا عيّنا الأجرة المسماة، فيكون هذا مسلكاً، ومقتضاه أن الإجارة غيرُ منفسخة.
ويجوز أن يقال: على قول التخيّر: إن أراد الفسخ، فيرجع إلى أجرة المثل، وإن كانت مثلَ المسمى، والظاهر أن التخيّر لا معنى له؛ فإن الخيار في الفسخ إذا كان مربوطاً (7) [بغرضٍ] (8) لا يثبت حيث لا يظهر الغرض.
__________
(1) في الأصل: فيها.
(2) كذا في النسختين. ولعلها: الجدران. فلم أر هذا الجمع (الجدرات) منصوصاً.
(3) في الأصل: فيه.
(4) في الأصل: تحمل.
(5) (د 1) : فيراجع.
(6) غير مقروءة في الأصل.
(7) (د 1) : مضبوطاً.
(8) في الأصل: لغرض.(8/249)
وفي هذا المقام احتمال، فليتأمله الناظر، كما نبهنا عليه.
5500- ورأى بعض أصحابنا أن يشبه القولين في بعض الطرق بأصلٍ قدمناه في الغصوب، وهو أن الغاصب إذا تصرف في الدراهم المغصوبة، وظهر الربح، ففي القول المنقاس نقول: المالك يتبع دراهمَه لا غير، وفي القول الثاني يتخيّر بين أن يأخد منه الدراهمَ، وبين أن يُجيز العقودَ لمكان الربح.
وهذا تشبيهٌ من طريق اللفظ، مع إضمار خروج التخيّر، في الموضعين عن ضبط القياس.
وليس هذا بناءً على التحقيق؛ فإن البناء على التحقيق شرطُه أن يجتمع المبني والمبني عليه في مأخد الكلام، ومسألة الغصب مأخذها ضربٌ من الاستصلاح في تحصيل الأرباح، وقطعُ ذريعة الغاصب، وهو يلتفتُ، على وقف العقود، وما نحن فيه من باب حَيْد المستحِق عن النوع المستحق، مع الاجتماع في الجنس، فكانا متباعدين.
5501- ولو استأجر أرضاً ليزرعها قمحاً، فغرس فيها غراساً، فقد كان شيخي يقول في هذه الصورة: المذهبُ الرجوع إلى أجرة المثل، لتباين الزرع والغراس، ولا يخرّج فيه قولُ التخيّر، وكان يحكي عن بعض الأصحاب قولَ التخيّر أيضاًً على بُعدٍ، وسبب خروجه أنه بإثباته اليدَ على المستأجَر في حكم المستوفي للمنفعة، وإن مال عن جهة الاستحقاق، ففي المسألة احتمالٌ على حال.
فصل
قال: " ولو قال: ازرعها ما شئت ... إلى آخره " (1) .
5502- إذا استأجر أرضاً، وذكر في الإجارة أنه يزرعها ما شاء، فالإجارة صحيحة، وكأن المكري رضي بأن يزرعها أكثر أنواع الزرع ضرراً، والأرض (2) تحتمل
__________
(1) ر. المختصر: 3/98.
(2) (د 1) : إذ الأرض.(8/250)
ذلك، وإذا جرت الإجارة على هذه الصيغة، فليس له أن يغرس، فإنَّ اسم الزرع لا ينطلق عليه.
5503- ولو اكترى دابّةً على أن يحمل عليها ما شاء، لم تصح الإجارة؛ فإنّ الدابة لا تحتمل كل شيء، احتمال الأرض كلَّ زرع، ولو قال: اكتريت هذه الدابةَ على أن أحمل عليها مائة منٍّ من أي جنسٍ شئتُ، فتصح الإجارة؛ لأنها تحتمل مائة منٍّ من أي جنس قُدّر، فالإجارة فيها على هذه الجهة تساوي استئجارَ الأرض على أن يزرع المكتري ما شاء.
5504- ولو قال: اكتريتُ هذه الأرضَ لأغرسها، فله أن يزرعها؛ فإن الزرع أهون من الغرس.
ولو قال: أكريتك هذه الأرض، ولم يذكر زراعةً، ولا غراسةً، بل أطلق الكراء، كما وصفنا، فالكراء فاسد وفاقاً؛ فإنه لم يشتمل على إعلام المقصودِ المعقود عليه، ولا نظر إلى احتمال الأرض كلّ شيء في جهات المنفعة؛ فإن الجهالة يجب اجتنابها في المعاوضات. والإجارة معقودةٌ في الصورة التي ذكرناها على جهالةٍ بيّنة، وليس كما لو قال: أجرتكها لتزرعها ما شئت؛ فإنه أَعْلمَ بلفظه هذا الرضا بأظهر أنواع الزروع ضرراً، فكان كما لو قال: أكريتكها لتزرعها الذرةَ. ولو جرى العقد كذلك، لكان للمستأجر أن يزرعها الذرة، والقمح، إن شاء، فرجع مقتضى التخيير إلى تنزيل العقد على أضرّ الزرع بالأرض، فقد حصل الإعلام إذاً وزال الإبهام.
5505- ولو قال: أكريتك هذه الأرضَ على أن تزرعها، ولم ينص على نوع الزرع، ولكن ذكر الزراعة مطلقاًً، فقد ذكر العراقيون وجهين في هذه الصورة: أحدهما - أن الإجارة تصح، كما لو قال: ازرعها ما شئت.
والوجه الثاني - أن الإجارة فاسدة للجهالة؛ إذ ليس في صيغتها التفويض إلى خيرة المكتري حتى تنزل الإجارة على أضر الزروع، وليس في صيغتها تعيين نوعٍ، ففسدت الإجارة، فإن أنواع الزروع تتفاوت تفاوتاً بيّناً في قلة الضرر وكثرته.
5506- ولو اكترى داراً معينة مطلقاًً، ولم يذكر جهة الانتفاع بها، فالإجارة(8/251)
صحيحة، لم يختلف الأصحاب فيها، وذلك أن العرف يعيّن الانتفاعَ بالدار، ويبيّن أنه لا جهة إلا السكون، والانتفاع بالأرض ينقسم في العادة.
5507- ولو اكترى دابة ليحمل عليها مائة منٍّ، ولم يبين جنسَ المحمول، فالإجارةُ صحيحةٌ، قطع الأصحاب بصحتها، ولم ينزلوا هذه المسألة منزلة ما لو اكترى أرضاً للزراعة، من غير تعيين نوعٍ، وإن كان الضرر يتفاوت على الدابة باختلاف أجناس المحمول، كما يتفاوت الضرر في أنواع الزرع.
وسبب قطع الأصحاب بما ذكرناه في الدابة أن الأمر قريبٌ في أجناس المحمول، ولا يبلغ تفاوتها مبلغ تفاوت الزروع.
وكنت أود أن يقال: إن قصُر السفر، لم يظهر تفاوت في الضرر، وإن طال، فقد يُظهر التفاوتُ ضرراً بيّناً، والظهور [إلى] (1) الدواب أسبقُ منه إلى الأراضي، فإذا فرضت المسألة في طول السفر، لم يبعد التخريج على الخلاف المذكور فيه إذا قال: أكريتك هذه الأرضَ لتزرعها.
5508- ومما يتعلق بما نحن فيه أنه لو قال المكري: أكريتك هذه الأرضَ لتنتفع بها في أي وجهٍ شئت (2) ، فتصح الإجارة، وله أن يغرس، ويبني، وإن أراد الزرعَ، فلا شك في جوازه.
5509- ولو قال: أكريتك هذه الأرضَ، فإن شئت، فازرعها، وإن شئت، فاغرسها، فما صار إليه الكافةُ تصحيحُ الإجارة، كما ذكرناه الان.
قال صاحب التقريب في هذه الصورة الأخيرة: يحتمل أن نقول: لا تصح الإجارة، كما لا يصح أن يقول: بعتك هذا (3) العبد بألفٍ، فإن شئت مكسرة، وإن شئت صحاحاً.
وهذا الذي ذكره بعيدٌ، مع اتفاق الأصحاب على أنه لو أجره على ما شاء من
__________
(1) في الأصل: لأن.
(2) (د 1) : من أي نوعٍ شئت.
(3) (د 1) : بعتك هذه الأرض.(8/252)
الانتفاع، جاز. وقوله: إن شئت، فازرع، وإن شئت، فاغرس، تنصيصٌ على معنى قوله: أكريتك ًعلى ما شئت من جهات الانتفاع، وليس كما استشهد به من ترديد الألف بين المكسر (1) والصحاح؛ فإنّ ذلك إثباتُ عِوض على الجهالة.
5510- ولو قال: بعتك عبدي هذا بألف درهم من أي نقدٍ شئت، لم يصح، وهو يناظر من طريق اللفظ ما لو قال: أجرتك هذه الأرضَ على أن تنتفع بها كيف شئت.
5511- ولو قال: أكريتك هذه الأرضَ، فازرعها، واغرسها، فقد اختلف أصحابنا في المسألة.
فالذي صار إليه الأكثرون أن الإجارة فاسدة؛ فإنها لم تُعقد على صيغة التفويض والتخيير، بل ذكرت الزراعة، والغراسة جميعاً، فاقتضى ذلك أن يزرع المكتري بعضاً، ويغرس بعضاً، ثم البعض الذي يغرس مجهول.
ومن أصحابنا من قال: تصح الإجارة وينزل على حكم التنصيف، فيزرع المكتري نصفها، ويغرس نصفها، واحتج هذا القائل بأن الإضافة إلى جهتين على الإرسال مقتضاها التنصيف، كما لو أضيفت عَيْنٌ إلى شخصين في الإقرار لهما بها، فإنه لو قال: الدار التي في يدي لفلان وفلان، كان قوله هذا محمولاً على وقوع الدار نصفين بينهما.
5512- فإن قلنا بالفساد، فلو قال: ازرع نصفَ الأرض، واغرس نصفَها، فأجرى ذلك في صلب العقد، فهل تصح الإجارة على هذا الوجه، وليس فيها تعيين النصف المزروع، وتعيين النصف المغروس؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يصح إطلاق النصفين، وتفسد الإجارة، وهو اختيار القفال؛ فإن الغرض يختلف في ذلك اختلافاًً ظاهراً؛ إذ لو وقع (2) الغراس في الجانب الشرقي، يفسد الزرع في الغربي، ولو كان
__________
(1) (د 1) : ترديد النقد بين المكسور والصحاح.
(2) (د 1) : ولو وقع.(8/253)
على العكس (1) ، صحّ الزرع والغرس، فلا بد من التمييز والتعيين.
ومن أصحابنا من قال: إبهام الأمر في التعيين مقتضاه تفويض الأمر للمكتري، حتى [يزرع] (2) أي نص شاء، ويغرس أيّ نصفٍ شاء.
5513- ولا خلاف أنه لو قال: أكريتكها على أن تزرع أي نصفٍ شئت، وتغرس أي نص شئت، فالإجارةُ تصح كذلك.
وإذا صحت الإجارة على أن يزرع النصف، ويغرس النصف، فلو غرس الكل، لم يجز، ولو زرع الكلّ، جاز، ووجهه بيِّن.
ولو قال: ازرعها واغرسها ما شئت، فزاد (3) التفويضَ إلى المشيئة، فالذي ذهب إليه معظم الأصحاب، أن هذا بمثابة ما لو قال: ازرعها، واغرسها. وقد ذكرنا ترددَ الأصحاب في التفريع. وذهب بعض أئمتنا إلى أن التقييد بالمشيئة يقيّد تفويضَ زراعة الكل، وغراسة الكل. وهذا زلل، فاللفظ لا يشعر به.
ولو قال: أكريتكها على أن تزرعها، أو تغرسها، فهذا الآن تخيير في الكلّ، فتصح الإجارة، وتحمل على تنزيلها على أضر جهات الانتفاع، ثم الخيرةُ إلى المكتري في الكل، إن شاء غرس الكلَّ، وإن شاء زرع الكلَّ، فإذا انبسطت خِيرَتُه في الكل، فله أن يزرع بعضاًً، ويغرس بعضاً.
فصل
قال: "وإذا انقضت سنون، لم يكن لرب الأرض أن يقلع غراسه ... إلى آخره " (4) .
5514- إذا اكترى أرضاً للغراس والبناء، وضرب مدَّةً معلومة، فالإجارة تصح،
__________
(1) على العكس: أي وقع الغرس في الجانب الغربي، ولك أن تعجب معي من دقة ملاحظة أئمتنا ومعرفتهم بالواقع، وذلك أن الغراسَ -أي زراعة الأشجار- إذا كان في الجانب الشرقي يلقي بظلاله على الجانب الغربي؛ فلا يصح الزرع، إذ يحتاج إلى ضوء الشمس، ولا يصح في الظل.
(2) في الأصل: يعين.
(3) (د 1) : فردّ.
(4) ر. المختصر: 3/98.(8/254)
ولو أطلق الإجارة، وأبهم مدتَها بناء على أن المقصود من الغراس أن يؤبد، فينبغي أن تنطبق الإجارة على المقصود في المنفعة المذكورة، فالإجارة تفسد، وليست كالنكاح المؤبد؛ فإن وضع الشرع فيها (1) التأبيد.
فإذا ثبت أن التأقيت لا بد منه، فالقول في أن الغراس يقلع مجاناً، أو على شرط الضمان ممّا سنفرد فيه فصلاً -إن شاء الله عز وجل- وإن سبق مقرراً في العاريّة.
وغرض هذا الفصل مقصودٌ واحد، ولكن لا وصول إليه إلا بإجراء طرفٍ من الكلام في [القلع] (2) وأنه يقع (3) بعوض، أو مجاناً.
5515- فنقول: الفصل يتشعب عنه ثلاثُ مسائل: إحداها - أن يشترط على المكتري قلعَ الغراس بعد انقضاء مدة الإجارة، فيصح العقد على هذا الشرط، باتفاق الأصحاب.
ولو أجر، وشرط المستأجر أن لا يقلع غراسه مجاناً، صح؛ فإن مطلق العقد يقتضي أن لا يقلع غراسه بعد انقضاء المدة مجاناًً، فإذا ذكر هذا شرطاً، كان مصرِّحاً بمقتضى إطلاق العقد.
فخرج مما ذكرناه أن شرط القلع على الوجهين مجاناًً، أو على ضمان النقصان جائز، والمطلق محمولٌ على القلع على شرط الضمان، كما سنصفه، إن شاء الله تعالى.
5516- ولو ذكر في الإجارة المدةَ، وشرط أن لا يقلع غراسه أصلاً، بل يبقى من غير أجرة، أو بالأجرة في الزمان المستقبل، فالإجارة تفسد على هذه الصفة (4) باتفاق الأصحاب؛ فإنها تتضمن إلزام المكري تأبيد الغراس، ولو كان لهذا مساغٌ، لجاز شرط التأبيد في صيغة الإجارة.
5517- ومقصود الفصل الآن حيث انتهى الكلام إليه أن الإجارة إذا عقدت على
__________
(1) كذا في النسختين، بتأنيث الضمير، ويصحّ على تأويل العقود مثلاً.
(2) في الأصل: القطع.
(3) (د 1) : يقلع.
(4) (د 1) : الصيغة.(8/255)
شرط القلع بعد المدة مجاناًً، فإذا قلع المستأجرُ بعد انقضاء المدة وفاءً بالشرط، فقد قال الأئمة العراقيون وغيرهم: ليس على المستأجر تسويةُ الحفر التي تقع بسبب القلع وراء المدة، وتعليل ذلك بيّن؛ فإن القلع مشروط، وفي إيقاعه وفاء بالشرط، فلا ينبغي أن يتضمن ذلك مَغْرَماً.
ولو لم يجْرِ شرطُ القلع، ولكنا حكمنا بأن العقد يقتضي القلعَ، ومنع التبقية، فإذا انقضت المدة، وقلع المستأجر، يلزمه تسويةُ الحفر.
وهذا متفق عليه بين الأصحاب.
والفرق أنه إذا لم يجْرِ للقلع ذكرٌ، فلا يتعين القلعُ، بل يتجه وجوهٌ في الغراس: أحدها - أن يبقى بأجرة المثل في الاستقبال، والآخر أن يبتاعه المكري بثمن المثل، والآخر أن يُباعَ الأرضُ والغراسُ، ويوزّع الثمن.
وسنصف هذه التفاصيل على الاستقصاء، إن شاء الله تعالى.
فإذا كان القلع لا يتعين عند الإطلاق، فاختاره المستأجر؛ فإنه يلتزم تسوية الحفر.
هذا ما ذكره الأئمة.
وللنظر فيما ذكرناه مجال.
أما إذا جرى شرط القلع، فالأمر على ما ذكره الأئمة في أنه لا يجب على القالع تسوية الحفر، كما قدمناه؛ فإنه وقع مأذوناً فيه.
5518- وأما إذا قلع في إطلاق العقد، فيحتمل أن يقال: لا يلزمه تسوية الحفر أيضاًً؛ فإن القلع من مقتضيات العقد، فكان مقتضى العقد فيه كالمشروط.
5519- ومما (1 يتصل بما 1) نحن فيه أنه لو جرى شرطُ القلع بعد العقد، فلو قلع في أثناء المدة، فلا يلزمه تسوية الحفر، كما لو قلع بعد المدة؛ فإن القلع بعد المدة تصرفٌ في أرضِ الغير عند انقضاء حق المستأجر وزوال يده المستحقة بالإجارة، فإذا كان القلع في الانتهاء [لا يلزمه] (2) تسوية الحفر، فالقلع في أثناء المدة لأن لا يوجب
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (د 1) .
(2) في الأصل: لا يؤذن.(8/256)
ذلك أولى، والأرض تحت يد المستأجر، وتحت تصرّفه.
5520- ولو لم يجر للقلع ذكر، ووقعت الإجارة على الإطلاق، فقد ذكرنا من قول الأصحاب أن المستأجر، إذا قلع بعد المدة، التزم تسوية الحفر، فقال العراقيون بناء على ذلك: لو قلع في أثناء المدة، فهل يلتزم تسوية الحفر؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يلتزمها (1) قياساً على ما إذا قلع بعد المدة.
والثاني - لا يلتزمها؛ فإن القلع في أثناء المدة تصرفٌ منه في ملكه، وفي الأرض التي هي تحت يده، فلم يتضمن إلزام التسوية.
وهذا فيه ضعفٌ، مع المصير إلى أن التسوية بعد المدة واجبة، كما ذكرنا.
نعم هذا الاختلاف لائح في القلع (2) بعد المدة كما ذكرناه، فأما الفرق بين القلع الواقع بعد، المدة وبين القلع الواقع في المدة، فلا اتجاه له.
وكنا وعدنا أن نذكر مسائل؛ ثلاثاً، وقد نَجَّزنا غرضنا من واحدة. والثانية، والثالثة نذكرهما رمزاً وفاءً بما وعدنا، واستقصاءُ القول فيهما في فصلٍ معقود بعد ذلك.
5521- فالمسألة الثانية - أن يقول المستأجر: إذا انقضت المدة، [فلا تقلع غراسي] (3) مجاناً، فالإجارة تصح، وما ذكره ليس تأبيداً للغراس، بل هو (4) نفيٌّ للقلع مجاناً، وهو غير منافٍ لمقتضى العقد.
5522- والمسألة الثالثة - أن لا يقع للقلع تعرّضٌ، ويذكر في الإجارة مدة، فإذا جرت الإجارة كذلك، وأمر القلع مبهم، فالذي يقتضيه النص أن الغراس لا يُقلع مجاناً، والتأقيت محمول على الوفاء بشرط الإعلام في العقد؛ فإنّ إطلاق الإجارة من غير مدة باطلٌ، وأمر القلع محمولٌ على أن لا يقع مجاناًً.
وقال أبو حنيفة: الغراس مقلوعٌ بعد المدة مجاناً، وصار إلى أن ذكر المدة في
__________
(1) (د 1) : لا يلتزمها.
(2) عبارة (د 1) : نعم هذا الاحتمال لائق بالاختلاف.
(3) في الأصل: لم تقلع بنائي.
(4) (د 1) : لكنه.(8/257)
العقد يُشعر بهذا، ويُبيِّن أن استحقاق تبقية إلغراس موقوفٌ على بقاء المدة.
وهذا اختيار المزني.
وقد مال إلى قياس المزني طائفة من أصحابنا. وفي كلام القاضي رمزٌ إليه. وقد قدمت في بعض مسائل المزارعة ذلك.
5523- ورأيت لبعض الأئمة أن التأقيت في العاريّة من غير تعرض للقلع يقتضي القلعَ مجاناً، بعد [آخر] (1) المدّة؛ فإن العاريّة تبرّعٌ، ويصح إطلاق العاريّة وتأقيتُها، فإذا أُقتت، اقتضى التأقيت الحملَ على القلع مجاناً، وليس كذلك التأقيت في الإجارة؛ فإن التأقيت مستحقٌّ في الإجارة لإعلام المعقود عليه، فلم يقتض الحملَ على القلع مجاناً بعد انقضاء المدة، وأيضاًً فإن الغراس مستحق في [الإجارة] (2) ، وهو مباحٌ في العارية.
5524- وكل ما ذكرناه غيرُ معتد به في أصل المذهب، والذي عليه التعويل في مذهب الشافعي أن إطلاق المدّة في الإجارة والإعارة لا يتضمن القلع مجاناًً، وما اختاره المزني مذهبٌ له يختص به.
فصل
قال: " وما اكترى فاسداً فقبضها، ولم يزرع ... إلى آخره " (3) .
5525- إذا اكترى الرجل أرضاً، أو غيرها اكتراءً فاسداً، ثم قبض ما اكتراه على الفساد، وأمسكه المدّة المذكورة، فيلزمه أجر المثل سواء، استوفى المنفعة، أو لم يستوفها.
5526- وقال أبو حنيفة (4) : إن لم يستوفِ المنفعة، لم يلزمه الأجرة بثبوت
__________
(1) زيادة من (د 1) .
(2) في الأصل: الاستئجار.
(3) ر. المختصر: 3/99.
(4) ر. بدائع الصنائع: 4/195، ومختصر اختلاف العلماء: 4/133 مسألة: 1832.(8/258)
يده، وإن ضاعت المنفعة، وإن استوفاها، وجب أجر المثل. ثم له خبط في تفصيل المسمَّى وأجرِ المثل إذا كان أحدهما أقلَّ من الثاني.
وليست الإجارة الفاسدة كالنكاح الفاسد؛ فإن من نكح امرأة بشبهة وردّها [إلى حالته] (1) ، فلا يلتزم مهرَها ما لم يطأها، والسبب فيه أن اليدَ لا تثبت على منافع البُضع، فإذا لم يجْر وطءٌ، ولا يدَ، لم يجب الضمان، وهذا لا ينتفع به أبو حنيفة؛ فإن منافع الدور والأبدان، وغيرِها لا تضمن عنده (2) بالإتلاف على سبيل العدوان، ثم جعل الإتلاف سبباً في ضمان المنافع في العقد الفاسد.
5527- فإن قيل: إذا اشترى شيئاًً على الفساد، فوضع البائعُ الشيءَ بين يديه، فلا يكون ذلك إقباضاً، ولو جرى مثله في الصحيح (3) ، كان إقباضاً، فلقد فرقتم بين [الإقباض في الصحيح والإقباض في الفاسد] (4) ، فهل تسلكون هذا المسلك في الإجارة؟ قلنا: نعم، وسبب الفرق في البيع أن الإقباض [مستحق] (5) ، فإذا قدّم البائع المبيعَ إلى المشتري، كفى ذلك، فكان خروجاً منه عن الحق المستحق عليه، فإذا خرج عما عليه، [لزم] (6) الحكم بثبوت يد المشتري من طريق الحكم، وإذا لم يكن القبض مستحقاًً في الفاسد، فالإقباض ليس توفيةً لحق مستحق، فلا يتعلّق به حكمٌ، ما لم يوجد قبضٌ في الحقيقة.
وهذا الفرق نجريه في الإجارة الصحيحة والفاسدة. فإذا قال المكري في الإجارة الصحيحة للمكتري: دونك الدار، فاقبضها، قد خلّيت بينك وبينها، كان ذلك إقباضاً، وقد يكون من تمامه تسليم المفتاح إليه، وإذا سلم الدار إليه على هذا الوجه
__________
(1) في الأصل: إلا حالته. والمثبت من (د 1) . والعبارة غير مستقيمة على كلا اللفظين. ويلوح لي أنها بمعنى: وردّها إلى خبائه، والله أعلم.
(2) (د 1) : عندنا.
(3) أي في البيع الصحيح.
(4) في الأصل، كما في (د 1) : بين الإقباض والإقباض في الصحيح والفاسد.
(5) في الأصل: يستحق.
(6) في الأصل: لزمه.(8/259)
في الإجارة الفاسدة، ولم يوجد منه تسلُّمٌ ودخولٌ للدار، فهذا تسليم لا تسلّم معه،
فلا يتعلق به وجوب أجرة المثل على المستأجِر على الفساد.
فصل
5528- قد ذكرنا طرفاً من البناء على الأرض المستأجرة، والغراس فيها، في الإجارة التي تقتضي الغراس والبناء، ونحن نستقصي الآن ما يتعلق بأطراف الفصل، إن شاء الله تعالى.
وقد تقدم في العارية القواعدُ الممهدة على أحسن مساق، ولم نغادر من أصول المذهب شيئاًً إلا زوائد وفوائد ذكرها الشيخ أبو علي في شرح الفروع في كتاب الإجارة، ونحن ذاكروها، وقد نُحوَج إلى إعادة بعض تلك الأصول لنبني عليها ما زاده الشيخ فنقول:
5529- إذا انقضت مدة الإجارة، وما كانت قيدت بشرط القلع مجاناً، [أو] (1) كانت قيدت بأن لا يقلع مجاناً؛ فإن رضي صاحب البناء بقلع البناء ونقله، لم يمنع من ذلك، لا شك فيه، فهل عليه تسوية الحُفر التي تحدث بسبب القلع؟ فيه تفصيلٌ قدمناه على أبْين الوجوه.
وإن باع البناء من صاحب الأرض، فاشتراه، لم يخْفَ الحكم.
وإن رضي بيعَ الأرض مع البناء، فيقسّط الثمن عليهما، وقد سبق القول في كيفية التقسيط، في كتاب التفليس.
5530- ثم ذكر ابن سريج أن صاحب الأرض مخيّر إن شاء كلّف المستأجر قلْعَ البناء، وغرِم له ما ينقصه القلع، وإن شاء أمره أن يبيع منه البناء قائماً، ويأخذَ ثمنَه، وإن شاء رب الأرض رضي بإمساك البناء وإدامته على صفته، وألزم المستأجر أجر مثل الأرض في المستقبل، فيتخيّر بين هذه الخلال.
__________
(1) في الأصل: وإن.(8/260)
والرجوعُ إلى صاحب الأرض في تخيّر ما شاء من هذه الخلال، فلو قال: بع مني، فليس له أن يقول: بل أُبقّيه بشرط أجرة المثل. ولو قال: بقِّه بشرط الأجرة، فليس لصاحب البناء أن يقول: بل ألزمك قيمته وابتياعه؛ إذ الخيرة إلى المالك.
ثم قال ابنُ سريج: إذا اختار صاحب الأرض قسماً من هذه الأقسام، فلم يرض به صاحب البناء، فيقال له: إما أن ترضى به [وإما] (1) أن تقلع بناءك مجاناً.
وهذا قد فصّلته على نظائرَ وترتيب يقضي اللبيبُ العجبَ من النظر فيه، في كتاب العواري.
وما ذكره ابنُ سريج، هو الذي قطع به معظمُ أئمة المذهب.
5531- قال الشيخ أبو علي: فيما ذكره ابنُ سُريج نظرٌ عندي، فإني أقول: إذا عيّن صاحبُ الأرض خَصلةً من الخصال الثلاث، فلم يساعده صاحبُ البناء، فله أن يقلع بناءه، ولكنه لا يقلعه مجاناً؛ إذ يستحيل أن يبطُل حقُّه، ويحبَط ملكه، بسبب امتناعه عمَّا له الامتناع منه، حتى يصير في حكم من بنَى على أرضٍ مغصوبة.
وبيان ذلك أنه إذا قال مالك الأرض: "بع مني، فامتنع، فلا سبيل إلى أن يباع عليه ملكه قهراً، ولكن، يقال له: إن بعتَ [منه] (2) فلك ذلك، وإلا فاقلع، ولك أرشُ ما ينقصُه القلع، فأما أن يبقى بشرط الأجرة، فليس ذلك دون رضا مالك الأرض.
فهذا معنى حمله على اختيار صاحب الأرض. واستدل الشيخ في هذا بأن قال: لو اضطُر رفيقُ الرجل، وكان له طعام لا يحتاج إليه، فعليه أن يسلّمه إلى رفيقه بالقيمة، ولو امتنع من تسليم الطعام، أُخذ منه قهراً، ولكن لا يؤخد منه مجاناًً، وتثبت القيمة له، وإن أُجبر.
وحقيقة ما ذكره الشيخ يؤول إلى أن مالك الأرض يخيِّر صاحبَ البناء على القلع، ويغرَم له أرشَ النقص، فأما إذا طلب منه البيعَ، أو التبقية، لم يحمل مالك البناء على ما يطلبه.
__________
(1) سقطت من الأصل.
(2) في الأصل: منك.(8/261)
وهذا الذي ذكره يخالف ما ذكره ابن سريج، واختاره معظم الأئمة، [وإن] (1) كان متجهاً في المعنى.
وقد ذكرت في العاريّة ما يتوجه به مذهب ابن سريج والأصحاب.
5532- ثم ينشأ من هذا المنتهى أمر مبهم، لم يصرح به الأصحاب، ودلت مرامزهم فيه على تردد، فإذا طلب المالك القلعَ، فصاحب البناء محمول على هذا في كل مذهب، وقد ذكرنا أن مالك الأرض يغرَم ما ينقصه القلع. ولكن ربما يحتاج في القلع إلى مؤونة لها قدرٌ، فمؤونة القلع كيف السبيل فيها؟ وعلى من هي؟
ظاهر كلام معظم الأصحاب يشير إلى أن القلعَ على صاحب البناء، ثم إذا قلع، فعليه النقل، ومؤونة تفريغ الأرض، وعلى مالك الأرض أن يغرَم له ما بين قيمة النقض وقيمة البناء القائم. والقلع على هذا التقدير من النقل، ولكنه نقلٌ فيه معاناة ومقاساة مشقة، فلا يجمع على مالك الأرض بين مؤونة القلع، وأرش النقص.
وفي كلام الأصحاب ما يدل على أن مؤونةَ القلع على مالك الأرض، كما أن عليه ما ينقصه القلع. وهذا متجهٌ جداً؛ من قِبل أنا لو جعلنا القلعَ نقلاً، لوجب أن لا يغرمَ مالكُ الأرض ما ينقصه القلع، فإن ما هو نقلٌ وتفريغٌ، فهو محتومٌ على المستأجر، فإذا اتفق القلع [منه] (2) ، فلا خلاف أن نقلَ النقض، وتفريغ الأرض منه على المستأجر، فلو كان القلع معدوداً منه، لوجب أن لا يلزم مالك الأرض شيء.
والمسألة في نهاية الاحتمال، والوجه إلزام مالك الأرض مؤونة القلع لما نبهنا عليه.
5533- ومما ذكره الشيخ أبو علي أن مالك الأرض إذا طلب من صاحب البناء أن يقلع مجاناً، وأبى صاحبُ البناء، وطلب التبقية مجاناً، وأصرَّا على التناكر وطلب كل واحد منهما محالاً. هذا مما ذكرتُه في العاريّة، ولكن الشيخ ذكر وجهين، وأنا اقتصرت على أحدهما، [وإن كان أظهرَهما] (3) قال رحمه الله: إذا تناكرا، وطلب كلٌّ
__________
(1) في الأصل: فإن.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) زيادة من (د 1) .(8/262)
ما ليس (1) له، ودام الخصام، فللأصحاب وجهان: أحدهما - أن الأمر يوقف بينهما إلن أن يستمسكا بما يجوز، وقد ذكرنا ما لكلِّ واحدٍ منهما، وما عليه.
والوجه الثاني - أنهما إذا تناكرا، حُملا على القلع، ثم مالك الأرض يغرَم ما ينقصه القلع.
وهذا كلام مبهم عندي، جاز عليه الناقلون، ولم يبحثوا عن حقيقته، وأول إشكالٍ فيه عُسر تصوير التناكر؛ فإن المالك إن طلب قلعاً مجاناً، لم يُجب إليه، وإذا طلب صاحبُ البناء تبقيتَه بلا أجرة (2) ، لم يجب إليه، فكل واحدٍ طلبَ أمراً هو فيه مبطلٌ، ومقتضى الشرع منعُ المبطلين.
وهذا التردد عندي يرجع إلى أن المأمور بالقلع مَن؟ فإذا طلب مالك الأرض القلعَ من صاحب البناء، فلأصحابنا وجهان: أحدهما - أنه لا يُجبر صاحب البناء على القلع، وإذا لم يجبر وُقف الأمر، وقيل لمالك الأرض: مهما (3) أردت أن تقلع، فاقلع، واغرَم. هذا معنى وقف الأمر، لا معنى غيرُه.
والوجه الثاني - أن مالك البناء يجبر على القلع، ثم إذا قلع، فعلى مالك الأرض أرشُ النقص، ثم إذا فرّعنا على وجه الوقف، وقد بيناه، وأوضحنا معناه، فالظاهر أن أجرة مثل الأرض تجب في مدة الوقف، على صاحب البناء؛ فإن استحقاقه لمنفعة الأرض قد انقضى، ولو رضي صاحب الأرض بالتبقية على شرط الأجرة، ثبتت الأجرة، لم يختلف فيها أصحابنا، ولا حاجة في إثبات أجرة المثل إلى ذكرٍ وشرطٍ.
وفي المسألة احتمال على بُعدٍ إذا قلنا: القلع على مالك الأرض، وقد طلب القلعَ، ثم لم يقلع، والتمس القلع من صاحب البناء، والتفريع على أن القلع على مالك الأرض إذا (4) أراد القلعَ، وهذا لا أعتدّ به، والفقه إيجاب أجر المثل. والله أعلم.
__________
(1) (د 1) : ماله، وطال الخصام.
(2) (د 1) : بالإجارة.
(3) مهما بمعنى (إذا) .
(4) (د 1) : وإذا.(8/263)
5534- فهذه غوائل نبهنا عليها، ولا اختصاص لها بالإجارة، وهي بأعيانها تجري في الإعارة، وفي كل بناء ساغ ابتداؤه، وجاز قلعُه، إذا لم يُشترط فيه القلعُ مجاناً.
ومن جملة ذلك لو اشترى رجلٌ أرضاًً بعَرْضٍ، وتسلَّم الأرضَ، وبنى عليها، ثم رُدّ العَرْضُ عليه بالعيب، وفي تكلّف البناء من المشتري في الشِّقص المشفوع عُسرٌ، وقد تناهينا في تصويره في كتاب الشفعة، وجملة هذه المسائل تُخرّج على نسقٍ واحد.
ومن ضم ما ذكرناه الآن إلى ما مهدناه في العاريّة، لم يخف عليه خافية، إن شاء الله تعالى. ِ
فرع:
5535- إذا اكترى أرضاً ليبني عليها بناء، فهل يُشترط في صحة الإجارة أن يذكر مبلغ البناء في وزنه وقدْره؟
ذكر الشيخ أبو علي في ذلك وجهين: أحدهما - وهو الأصح، أن ذلك لا يشترط؛ فإن الأرض لا تتغير بكثرة البناء ولا يتفاوت ما يُقدّر من ضراره بثقل البناء وخفته.
ولو استأجر غرفة ليبني عليها بناء، فيجب بيانُ قدر البناء ووزنه؛ فإن الغرفة تتأثر بالكثرة والثقل، والأرضُ لا تتأثر.
والوجه الثاني - أنه يُشترط ذكر مقدار البناء ووزنه في استئجار الأرض له، ووجه هذا الوجه أن مالك الأرض ربما يحتاج أن يغرَم قيمة البناء، وما ينقصه القلع، فإذا كان ذلك من مقتضيات العقد، فلا بد من إعلامه للاحتياج إليه آخراً.
وكلامُ ابن الحداد يدل على اختيار هذا الوجه الأخير.
وفي التوجيه بما ذكرناه نظر؛ فإن التعرض لما تُفضي إليه العواقب لا يشترط في العقود.
ويمكن توجيه هذا الوجه بمسلك آخر، [فيقال] (1) : إذا بنى المستأجر بناء قريباً،
__________
(1) في الأصل، كما في (د 1) : ويقال.(8/264)
قلّ انتفاعه، وإذا عظم البناء، وطال ارتفاعه، كثر انتفاع المستأجر، وسبب انتفاعه البناءُ على هذه الأرض، فيجوز أن يقع التعرض لهذا، والدليل عليه أن الدابة القوية قد لا تتأثر بحمل خمسين منّاً، ولكن إذا كان [المحمول] (1) دون الخمسين، فيجب ذكر مقداره؛ فإن تأثر الدابة وإن كان لا يُحَسّ، فازدياد انتفاع الحامل معلوم.
والذي يكشف الغطاء في ذلك أن من استأجر أرضاًً، وقال المالك: ابن عليها ما شئت، فالظاهر صحةُ الإجارة، [فإن ذكر الشيخ أبو علي هاهنا وجهاً، فليس يتوجه إلا بما ذكره] (2) من النظر إلى العاقبة وتوقّع ضمان النقصان عند القلع.
ولو أكرى أرضاًً، وقال للمكتري: ازرعها ما شئت، صحت الإجارة بلا خلاف؛ فإن القلع لا يتوقع في الزرع، والتفويض يتضمن تنزيلَ الإجارة على الزرع الأعظم الذي يكثر ضرره، ثم الرضا بما دونه يسوغ.
ولو أكرى أرضاًً للبناء مطلقاً، ولم يتعرض لتفويض الأمر إلى المستأجر، فالظاهر صحة الإجارة، وإذا ذكرنا وجهاً في فسادها، أمكن توجيهه بالمعنى الذي نبهنا عليه من كثرة انتفاع المستأجر عند كثرة البناء، ولم يقع تفويضٌ إليه على التصريح.
فهذا حاصل القول في ذلك.
فرع:
5536- إذا بنى المستأجر على الأرض المستأجرة استئجاراً صحيحاً، فأراد صاحب الأرض بيعَ الأرض وعليها البناء، نظر: فإن باعها قبل انقضاء مدة الإجارة، خرج ذلك على قولين في بيع المكرَى، فإن منعنا البيعَ، فلو انقضت المدة، فباع الأرضَ مالكُها، والبناء قائم بعدُ، فقد ذكر الشيخُ وجهين في صحة البيع: أحدهما - أنه لا يصح؛ فإن الأرض مشغولة، ونحن نفرّع على منع بيع الدار المكراة. ومنهم من
__________
(1) في الأصل: (القوك) بهذا الرسم تماماً. ولم أدر لها معنى، فلم أجدها في (المصباح) ولا (المعجم) ، ولا (الأساس) ولا (الألفاظ الفارسية المعربة) ، ولا (المعرب) للجواليقي. فلعلها صحفت على الناسخ من (المحمول) . والله أعلم.
(2) عبارة الأصل " فإن ذكر الشيخ هاهنا وجهاً، فليس يتوجه إلا بما ذكره الشيخ أبو علي " ومعروف أنه إذا أطلق إمام الحرمين لفظ الشيخ، فنما يقصد به الشيخ أبا علي، ومن هنا استقامت عبارة (د 1) التي أثبتناها دون عبارة الأصل.(8/265)
صحح البيع، ووجّه ما قال بقدرة البائع على السعي في تفريغ الأرض، فإنه مهما أراد، قلَعَ البناءَ على شرط الضمان، وكلّف المستأجر النقلَ والتفريغَ، فإن هذين الوجهين مفروضان بعد انقضاء مدة الإجارة.
5537- ولو أراد المستأجر بيعَ البناء القائم على الأرض، فإن باعه من صاحب الأرض، صحّ ذلك منه، وإن باعه من أجنبي، فقد ذكر الشيخ في صحة البيع وجهين: أحدهما - أنه لا يصح؛ فإن صاحب الأرض متسلّطٌ على قلعه، وإذا كان مستحقَّ القلع، لم يصح بيعه.
والوجه الثاني - أنه يصح، وهو الصحيح، كما يصح من المشتري بيعُ الشقص المشفوع، وإن كان بيعه بصدد النقض.
وإذا منعنا صحة البيع لتوقع القلع (1) ، لم يفرّق بين أن [يبيع] (2) في زمان الإجارة أو يبيع بعد انقضائها؛ فإن البناء يراد للتخليد، وإذا كان القلع ممكناً بعد انقضاء المدة، فهو منافٍ للمقصود.
فصل
قال: " وإذا اكترى داراً، فغصبها رجلٌ ... إلى آخره " (3) .
5538- قد ذكرنا أن القبض في العين المكراة لا يقتضي نقل الضمان إلى المكتري، فلو تلفت العين التي وردت الإجارة عليها، أو على منافعها، ِ في يد المكتري قبل انقضاء المدة، انفسخت الإجارة في مستقبل الزمان. وهذا الفصل مقصوده الكلامُ في غصب الدار المكراة، وهذا يترتب على القاعدة التي ذكرناها.
5539- فإذا غصب الغاصبُ الدار، نظر: فإن اتصل الغصبُ بالعقد، ودام إلى آخر المدة، سقط المسمّى عن المكتري، والمالكُ يستحق على الغاصب أجرَ المثل.
__________
(1) (د 1) : الفرق.
(2) في الأصل: يمنع.
(3) ر. المختصر: 3/100.(8/266)
5540- وإن انتزع المالكُ من يده الدارَ في خلال المدة، بعد مضي شطرها مثلاً، فالإجارة قد انفسخت في الشطر. الأول، الذي انقضى في يد الغاصب، وهل تنفسخ في بقية المدة؟ فعلى قولي تفريق الصفقة. وهذا يناظر ما لو اشترى رجل عبدين، وتلف أحدهما قبل القبض، وحكمنا بانفساخ العقد فيه، ففي انفساخ العقد في العبد الثاني قولان.
ولا يخفى أن ما ذكرناه في شطر المدة يجري في الزمان [القريب] (1) الذي يُقدّر لمثله أجرة، حتى إذا أمسك الغاصب الدارَ من أول المدة يوماً واحداً، ثم انتزعت من يده [فالإجارة] (2) تنفسخ في اليوم الواحد من أول المدة، وفي انفساخها في بقية المدة قولا تفريق الصفقة: فإن حكمنا بالانفساخ، فحكمه حكم ما لو دام الغصب إلى آخر المدة، وإن لم نحكم به، فللمكتري الخيارُ في الفسخ تخريجاً على قاعدة التفريق، فإن فسخ، فحكمه ما قلنا، وإلا فعليه ما يخص باقي المدة من المسمَّى، ويسقط عنه ما يقابل المدة التي جرت من أول الزمان في يد الغاصب.
ثم المالك (3) يتبع الغاصب ويُلزمه أجرَ المثل لزمان الغصب.
هذا إذا جرى الغصب في أول المدة.
5541- فإن قبض [المكتري العينَ] (4) المكتراة، وبقيت تحت يده زماناً، ثم جرى الغصب في خلال المدة، فإن استمر الغصب إلى آخر المدة، انفسخ العقد في زمان الغصب، وسقط (5) قسطُه من الأجرة المسماة، وللمالك على الغاصب أجر مثل تلك المدة.
وفي الزمان الماضي الذي انقضى في يد المستأجر طريقان: ذكرناهما مراراً -أن
__________
(1) في الأصل: المرتب.
(2) في الأصل: الإجارة.
(3) في (د 1) : للمالك.
(4) سقط ما بين المعقفين من الأصل.
(5) في (د 1) : ويثبت.(8/267)
الإجارة هل تنفسخ فيها؟ فإن منعنا الانفساخ في تلك المدة، ففي ثبوت الخيار في الفسخ فيها كلامٌ مضى في أحكام التفريق، فإن أثبتنا الخيار للمكتري، ففسخ في الزمان الماضي، سقط المسمى، وغرِم أجرَ مثل ما استوفى من المنفعة، وإن أجاز العقد، ولم يثبت الخيار، استقر عليه من المسمى حصةُ ما استوفى من المنافع.
وقد تمهد أنا كيف نقسط المسمّى على ما مضى وبقي.
هذا الذي ذكرناه قاعدة المذهب والأصل المعتبر.
5542- وذكر العراقيون في قاعدة المسألة قولاً: أن العقد لا ينفسخ في زمان الغصب، بل يثبت للمكتري الخيارُ، فإن اختار الفسخ في المدة التي مضت في يد الغاصب، فيعود التفريع إلى ما ذكرناه في قاعدة المذهب في الحكم بالانفساخ.
فإن [أجاز العقد] (1) ، اتبع المكتري الغاصبَ بأجر المثل (2) ، وكانت المنافع تالفة في ملكه، والتزم كمالَ المسمى للمالك المكري، وعللوا هذا القولَ، فقالوا: تلفُ المنافع في يد الغاصب ينزل منزلة تلف المبيع في يد البائع، بإتلاف الأجنبي، وقد ذكرنا أن إتلاف الأجنبي قبل القبض لا يوجب انفساخ البيع، ولكن يُثبت للمشتري الخيارَ.
وهذا الذي ذكروه غريبٌ جداً لا يعرفه المراوزة، وإن كان جارياً على ضربٍ. من القياس.
ولكن ما يقتضيه النص وقواعدُ المذهب أن المنفعة إذا استوفيت قهراً، [بأن] (3) استوفاها غاصبٌ، فإنها تتلف على ملك مالك الرقبة، وإنما تثبت أجرةُ المثل للمالك، فإذا وقع تلفُ المنافع على ملكهِ، فلا شك أن العقد ينفسخ فيما تلف على ملك المكري.
وهذا الذي ذكره المراوزة لا يسلّمه العراقيون، بل يقيسونه على إتلاف الأجنبي
__________
(1) عبارة الأصل: فإن أجاز المكتري العقد.
(2) (د 1) : بأجر المنافع.
(3) ساقطة من الأصل.(8/268)
المبيعَ قبل القبض، إذا قلنا: لا ينفسخ البيع، ثم لم يختر المشتري الفسخ، فإذا لم نحكم بالانفساخ، ولم يختر الفسخ، فتلفُ المبيع واقعٌ على ملك المشتري، وهو يطالب المتلِفَ بالقيمة، كذلك القول في المنافع التي تلفت تحت يد الغاصب.
5543- وفيما ذكروه فضل نظر: فإن استوفى الغاصب المنفعة، فانتفاعه بالمنافع ينزل في الشرع منزلة الإتلاف، فليقع ذلك بمثابة إتلاف الأجنبي المبيع، وإن تلفت المنافع تحت يد الغاصب، ولم يوجد من الغاصب انتفاعٌ، فهذا يناظر ما لو غصب أجنبي العينَ المبيعة قبل قبض المشتري، ثم تلفت تلك العين في يد الغاصب من غير إتلافه، وهذا فيه تردد ظاهر: يجوز أن يقال: التلف تحت يده (1 بمثابة إتلافه، ويجوز أن يقال: التلف تحت يده 1) يوجب انفساخ العقد، بخلاف (2) التلف بإتلافه.
فليتأمل الناظر مواقع الكلام.
5544- ولا نعرف خلافاًً أن المرأة المنكوحة إذا وطئت بالشبهة، فإنها تستحق مهر المثل على الواطىء، ولا نقضي بأن الزوج يستحق مهر المثل؛ مصيراً إلى أن المنافع تتلف على ملك الزوج. هذا لا يصير إليه أحد من الأئمة، ثم لا نقول: يسقط عن الزوج قسطٌ من المسمّى بسبب ما جرى؛ فإن النكاح معقود على التأبيد، ولا يبين للمنفعة في [اللحظة] (3) التي جرى الوطء فيها قسطٌ من المهر؛ فإن التوزيع من غير مدة مقدّرة غيرُ ممكن وهذا بيّن. وكيف يتوقع هذا والمهر يتقرر على الزوج بوطأة واحدة، والبدل في الإجارة يتوزع.
5545- ومما يتعلق بتفصيل المذهب، والتفريع على الطريقة المشهورة التي لا يعرف المراوزة غيرها، وهي أن المنفعة تتلف في يد الغاصب على ملك المكري، فإذا غصب الغاصب الدار المكراةَ، فالذي يقتضيه ظاهر النص أن الخصومة إلى
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (د 1) .
(2) (د 1) : بخلاف إتلافه.
(3) في الأصل: (الحطه) هكذا بدون نقط.(8/269)
المكري دون المكتري، نص عليه الشافعي. وعلل في الأم، فقال: " أرأيت لو أقر المكري للغاصب برقبة الدار، أما كنتُ أقبل إقراره؟ أرأيت لو أقر به المكتري أكنت أقبل إقراره؟ ".
أشار إلى أن الملك للمكري، وبنى عليه حكمَ الإقرار، ونحن نذكر ما قال الأصحاب في الإقرار في آخر الفصل، بعد انتظام الكلام فيما نريده.
5546- فمن أصحابنا من قال: لا يثبت حق المخاصمة مع الغاصب إلا لمالك الرقبة؛ فإن الملك في الرقبة له، والمنافع تتلف أيضاًًً على ملكه، فكان حقُّ المخاصمة ثابتاً له.
ومن أصحابنا من يُثبت للمكتري حق المخاصمة مع الغاصب لأجل المنفعة في مستقبل الزمان؛ فإنه وإن كان لا يملك الرقبةَ، فحقه ثابت تحقيقاً في المنفعة، وحقٌّ على الغاصب أن يرد الدار المغصوبةَ على المستأجر. وإذا وجب (1) عليه في حكم اليد (2) الردّ على المكتري، فللمكتري أن يطالبه بما هو واجبٌ عليه.
وهذا وجهٌ ذكره المراوزة وهو منقاسٌ. [و] (3) ظاهر النص، وما ذهب إليه الجمهور أنه لا يثبت حق المخاصمة للمكتري أصلاً، وإنما يثبت للمكري، مالكِ الرقبة، ومن تمسك بالوجه الذي ذكرناه أوَّلَ النصَّ، و [قال] (4) : أثبت الشافعي حقَّ الخصومة في الرقبة للمكري، والمكتري إنما يخاصم في المنفعة.
5547- فإذا تبين ما ذكرناه من مقصود الفصل في حكم الغصب الواقع أولاً، وفي أثناء المدة، فنذكر الآن تفصيلَ القول في إقرار المكري (5) ، وهو الذي أجراه الشافعي في أثناء الكلام، فنقول:
__________
(1) (د 1) : أوجب.
(2) في (د 1) : في حكم الله تعالى.
(3) في الأصل: فظاهر.
(4) سقطت من الأصل.
(5) في (د 1) : المكتري.(8/270)
إذا أكرى (1) الرجل الدارَ، وجرى الحكمُ بصحة الإجارة، ثم إن المكري (2) أقر بأن الدار مملوكة لفلان، وأنه أكراها، ولم يكن له أن يكريها، فترتيب المذهب في ذلك أنا إن قلنا: يصح بيع الدار المكراة من المكتَري (3) ، فيقبل إقراره في رقبة الدار؛ فإن البيعَ إذا كان ينفذ، فالإقرار أولى بالنفوذ.
وإن قلنا: لا يصح بيع الدار المكراة، كما لا يصح بيع المرهون، فإذا أقر المكري برقبة الدار لإنسان، وزعم أنه اعتدى لما أن أكرى ملكَ غيره، ففي قبول إقراره للغير في دوام الإجارة قولان، ذكرهما الأصحاب، كالقولين فيه إذا رهن عيناً وأقبضها، ثم أقر بأنها كانت مغصوبة في يده. وقد سبق التفصيل فيه في كتاب الرهن.
ثم قال الأصحاب: إن لم نقبل الإقرار في الرقبة، فلا كلام.
وإن قبلنا (4) الإقرار في الرقبة، فهل يُقبل في المنافع حتى (5) يبطل حق المستأجر منها؟ فعلى ثلاثة أوجه: أحدها- أنا لا نقبل الإقرار بالمنفعة؛ فإنها مستحقةٌ، ملكاً للمستأجر.
والثاني - أنه يقبل في المنافع؛ فإنه إذا قبل في الرقبة، فالمنافع تتبع الرقبة.
والوجه الثالث - أن الدار إذا غصبها الغاصب. من يد المكتري، وثبتت يده عليها، فأقر المكري لهذا الذي حسبناه غاصباً، فنقبل إقراره في الرقبة والمنافع؛ فإنه أقر في حالةٍ تحدث المنافع فيها على ملك المكري على الصحيح، بدليل أن أجرة المثل تكون لمالك الأرض، لا لمستأجرها.
فإذا جرى الإقرار في حالةٍ لولا الإقرار، لكانت المنافع تحدث على ملك
__________
(1) (د 1) : اكترىَ.
(2) (د 1) : المكتري.
(3) في (د 1) : المكري.
(4) (د 1) : وإن قلنا: الإقرار في الرقبة يقبل؟ هل يقبل ...
(5) في (د 1) : التي.(8/271)
[المكتري] (1) ، فالإقرار في مثل هذه الحالة [غير] (2) مقبول، وبمثله: لو أقر المكري بالدار لإنسان، وكانت الدار في يد المكتري، وهو يستوفي ما يراه حقاً له من المنافع، فلا ينفد إقرار المكري في هذه الحالة في المنافع؛ نظراً إلى ثبوت يد المكتري عليها.
هذا بيان اختلاف الأصحاب في ذلك.
5548- وعلينا فضل بحث في الفصول (3) ، وذلك أن نقول: وإن منعنا بيع الدار المكراة، فردُّ إقرار المكري في الرقبة محال، لا اتجاه له؛ فإن الرقبة ليست حقاً للمكتري، وليس كذلك ما [إذا] (4) أقر بالرقبة بعد الرهن والإقباض؛ فإن الإقرار وحقَّ المرتهن يزدحمان على الرقبة، والإقرارُ في رقبة الدار المكراة لا يزاحِم (5) حقَّ المكتري؛ فبعُد ردّ الإقرار. نعم، ردُّ الإقرارِ في المنافع جارٍ على قياس الباب، فإنها مستحقة للمكتري؛ فالوجه تنفيد الأقرارِ في الرقبة، وإجراءُ الخلاف في المنفعة.
ثم الخلاف في المنفعة يترتب على القولين في قبول إقرار الراهن في الغصب، ووجه الترتيب أن إقرار الراهن بالغصب [أصلاً، يصادم] (6) حقَّ المرتهن، والمنافع تابعةٌ للعين، وقد يثبت على التبعية ما لا يثبت على الابتداء.
فليفهم الناظر ترتيبَ الكلام على ما ذكرناه أولاً، ثم رتبناه آخراً.
5549- ومما فرعه الأصحاب في أطراف الفصل أن قالوا: إذا أكرى الرجل الدارَ مدةً معلومة، ثم إنه لم يسلّم الدارَ إلى المكتري زماناً، من أول المدة، فالإجارة
__________
(1) في النسختين: المكري. والمثبت تقدير منا لاستقامة العبارة.
(2) زيادة اقتضاها السياق، كما سيتضح من المثال الآتي. والمراد: غير مقبولٍ في المنافع.
ولولا هذه الزيادة (غير) لكان في الكلام تناقضاً، ثم لم يكن هناك فرق بين الوجه الثاني والوجه الثالث.
وراجع الأوجه الثلاثة عند الرافعي في الشرح الكبير: 6/172.
(3) (د 1) : فضل نظر في الفصل.
(4) ساقطة من الأصل.
(5) (د 1) : يزاحمه.
(6) في الأصل: أصل يصادر.(8/272)
تنفسخ في زمان المنع، وإن كنا نعذر المكري إذا كان يحبس الدارَ لتتوفّر المنفعة بالأجرة عليه (1) .
ثم إذا انفسخت الإجارة في تلك المدة، فالقول في انفساخها في بقية المدة يخرّج على الترتيب الذي مهدناه. هذا طريقة المراوزة.
5550- وإذا فرع العراقيون على الوجه الذي انفردوا بحكايته، فإنهم يقولون: لو غصب غاصبٌ الدار مدةً، كان ما فات من المنافع تحت يده بمثابة المبيع إذا أتلفه الأجنبي، فإذا فاتت المنافع في يد البائع، فهو خارج على أن البائع إذا أتلف المبيع، فإتلافه كآفة سماوية، أو هو بمثابة إتلاف الأجنبي المبيع؟ ثم لا يخفى التفريع في ذلك.
وهذا قول مهجور لا تفريع عليه.
وقد نجز ما طلبناه من تحقيق مضمون الفصل.
5551- ثم ذكر المزني فصولاً متقرّرة في مواضعها، منها استئجار الأرض من أراضي الخراج. والقولُ في الخراج، وضربِه، وكيفيته مذكور في موضعه، ثم تعرض لأصلٍ ليس من غرضنا في هذا الكتاب، فقال: العشر يجب على مالك الزرع في الأرض الخراجية، وكذلك العشر في الزرع الحاصل [للمكتري] (2) على المكتري (3) ، (4 فإنه مالك الغلّة 4) والعشر يتبع الغلّة، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في باب العشر من كتاب الزكاة.
ثم أعاد المزني فصلاً من الاختلاف بين رب الأرض والمنتفع بها، بأن (5) قال المالك: أكريتكها، وقال الزارع: بل أعرتنيها، وهذا فصل أجرينا تأصيله
__________
(1) عبارة (د 1) : لتتوفر المنفعة عليه.
(2) في الأصل: المكري.
(3) من وضع الظاهر موضع الضمير، أي (عليه) . وهي في (د 1) : المكري، وهو تصحيف ظاهر.
(4) ساقط من (د 1) .
(5) (د 1) : فإذا.(8/273)
وتفصيله، على أبلغ وجهٍ في البيان، في كتاب العاريّة، فليطلبها الناظر من موضعها.
وقد نجزت مسائل الكتاب، ونحن نرسم بعدها فروعاً شذت عن ضبط الأصول.
فرع لابن الحداد:
5552- إذا اكترى رجلٌ داراً، ثم اشترى تلك الدارَ في خلال المدة، فلا خلاف في صحة البيع، وإن [منعنا بيع المكرَى] (1) من غير المكتري. ثم إذا اشترى المكتري، فهل تنفسخ الإجارة؟ في المسألة وجهان مشهوران: أحدهما - وهو الذي اختاره ابن الحداد أن الإجارة تنفسخ؛ فإن ملك الرقبة واستحقاق المنفعة لا يجتمعان، كما لو اشترى الزوج زوجته؛ فإن النكاح ينفسخ، لا خلاف فيه.
والثاني - لا تنفسخ الإجارة، وهو الذي صححه معظم الأصحاب.
5553- فإن قلنا: لا تنفسخ الإجارة، فمن التفريع على ذلك أنه لو اطلع على عيبٍ بالدار يثبت به حقُّ ردّ المبيع، ولا يثبت به حق فسخ الإجارة؛ من جهة أنه يؤثر في نقصان المالية، ولا يؤثر في نقصان المنفعة، فإذا فسخ البيعَ بالرد بالعيب، بقيت الدار في يد المكتري بحكم الإجارة التي حكمنا ببقائها.
وإن قلنا: تنفسخ الإجارة، فهل يسترد المشتري قسطاً من الأجرة في مقابلة بقية المدة؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يسترد قسطاً من الأجرة، وهو القياس؛ لأن الإجارة إذا انفسخت، فحكم انفساخها ارتداد الأجرة.
والوجه الثاني - أنه لا يسترد شيئاًًً وهو اختيار ابن الحداد. ووجهه أنه لما اشترى، فقد تسبب إلى ما يتضمن انفساخَ الإجارة، ومن تسبب إلى رفع عقدٍ، لم (2) يثبت له حق الرجوع إلى عوضه.
وهذا ضعيفٌ لا ثبات له، وقد أوضحنا ما يفسده في أول الكتاب.
5554- ثم إذا حكمنا بانفساخ الإجارة، وقد صح الشراء، فهل تُردّ الدار إلى
__________
(1) عبارة الأصل: وإن منعناه بيع المكراة.
(2) (د 1) : فلا يثبت.(8/274)
البائع، حتى ينتفع بها، في [بقية] (1) المدة؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يردها عليه، والأصح أنه لا يردّها، والمنافع تحدث على ملك المشتري بعد انفساخ الإجارة.
5555- وهذا الخلاف يناظر ما قدمناه فيه إذا باع المكري الدارَ من غير المكتري، وقلنا بصحة العقد، فلو فُسخت الإجارة بسببٍ من الأسباب، وقد بقيت بقيةٌ من المدة، فالدار تسلم إلى البائع المكري لينتفع بها في بقية المدة، أم تبقى في يد المشتري؟ فعلى وجهين: وحقيقتهما (2) أنّا في وجهٍ نعتقد أن المنافع -بعد انفساخ الإجارة- تحدث على ملك المشتري، وفي وجهٍ نعتقد أن منافع الإجارة مستثناة من استحقاق المشتري، فإذا انفسخت الإجارة، ارتدت المنافع في بقية المدة إلى البائع، وهي خارجة عن استحقاق المشتري.
5556- ثم ما قدمناه من الوجهين في أن المكتري إذا اشترى الدارَ التي اكتراها، وحكمنا بانفساخ الإجارة هل يسترد شيئاً من الأجرة؟ إذا أردنا جمعه إلى الخلاف في أن المنافع هل ترتد إلى البائع؟ قلنا: سواء حكمنا بأنه يسترد قسطاً من الأجرة، أو قلنا: لا يستردّ، فالخلاف جارٍ في ارتداد المنفعة إلى البائع، ولا تعلّق لأحد الخلافين بالثاني.
فليفهم الناظر ذلك؛ فإن سبب الخلاف في ارتداد المنافع إلى البائع أنا نتخيل كونَ منافع الإجارة مستثناة عن استحقاق المشتري في وجهٍ، وأما سقوط الرجوع بقسطه من المسمّى على وجهٍ (3) ، فسببه انتساب المشتري إلى جلب الملك، وهو السبب الفاسخ.
فليفهم الناظر، ما ذكرناه، وليميز الأصل عن الأصل، حتى يتضح له أن الخلاف في أحدهما لا يتفرع على الخلاف في الثاني.
__________
(1) في الأصل: غير مقروءة، فقد رسمت هكذا: (ـينة) . والمثبت من (د 1) .
(2) في (د 1) : أحدهما أن في وجهٍ ...
(3) (د 1) : على وجهه.(8/275)
5557- وكان شيخي يقول: إذا حكمنا بارتداد المنافع إلى البائع في بقية المدة، استرد المشتري قسطاً من الأجرة وجهاً واحداً. وإن قلنا: لا ترتد المنافع إلى البائع في بقية المدة، فهل يبسرد المشترفي قسطاً من الأجرة؟ فعلى وجهين.
وهذا ليس وراءه تحصيل، والأصل ما قدمناه.
5558- ثم قال ابن الحداد: إذا ملك المكتري رقبة الدار عن جهة الإرث، فالإجارة تنفسخ، وهذا جوابٌ منه على أحد الوجهين. ثم قال: إذا حكمنا بانفساخها، فالمكتري يرجع بأجرة بقية المدة، وليس كما لو اشترى. وفرّق بأنه إذا اشترى، فقد نُسِبَ (1) إلى تحصيل سبب الفسخ، [وإذا] (2) ورث، فالانفساخ حصل من غير سببٍ (3) من جهته.
ولم يرض الأصحابُ هذا الفرقَ، ورأَوْا تنزيلَ الملك الحاصل بالإرث منزلةَ تحصيل الملك الحاصل بالشراء، وقد ذكرت توجيهَ هذا، والردَّ على ابن الحداد، في فرقه في أول الكتاب.
5559- ثم ذكر ابن الحداد أن من أكرى داراً، ثم إن المالك المكري اكترى من المكتري تلك الدار، فالإجارة، تصح، وهذه المسألة فيها وجهان ذكرهما الأصحاب، كالوجهين في أن المكتري إذا اشترى الدار المكراة هل تنفسخ الإجارة؟ والوجهان جاريان مهما حصل الملك في رقبة الدار للمكتري، فإذا اكترى المكري، فالملك في الرقبة ثابت [له] (4) فإذا أراد الاكتراء، مع ثبوت الملك في الرقبة، اطرد الخلاف، فالذي ذكره ابن الحداد، تناقضٌ بيّنٌ في التفريع؛ من جهة أنه اختار انفساخَ الإجارة إذا ملك المكتري رقبة الدار المكتراة، ثم جوز من المكري أن يكتري من
__________
(1) (د 1) : تسبب.
(2) في الأصل: فإذا.
(3) (د 1) : تسبب.
(4) ساقطة من الأصل.(8/276)
المكتري وإن كان يتضمن ذلك اجتماعَ الإجارة وملكَ الرقبة في حق شخصٍ واحد، وهذا ظاهر في التناقض.
وأراد بعضُ أصحابنا الانتصار لابن الحداد، وتصويبَه في تصحيح الاكتراء من المكتري، مع مصيره إلى أن الإجارة تنفسخ إذا طرأ عليها حصول الملك في الرقبة للمكتري، وهذا (1) لا ينتظم قط. وإن تخيّل متخيلٌ شيئاً، لم يصبر على السبر.
فرع:
5560- قد تمهد أن الرجل إذا اكترى دابة معينة، وعيّن لركوبها عبداً من العبيد، فلو أراد أن يُركب عبداً آخر مثلَه، جاز له ذلك، إذا كان الثاني في مثل حال الأول، وهو كما لو اكترى أرضاً ليزرعها قمحاً، فزرعها شعيراً، ويخرج من ذلك أنه لو تلف ذلك العبد المعيّن والإجارة واردة على عين الدابة، لم تنفسخ الإجارة، ولكن يبدل [المستأجر] (2) بعبد آخر؛ فإن لم يفعل، والدابة (3) في يده، فانقضت المدة التي تسع مقصود الإجارة، فقد استقرت عليه الأجرة، وهو الذي عطل حق نفسه.
وبمثله ما لو اكترى دابة في الذمة من غير تعيين، وشرط أن يُركبها عبداً عيّنه، فلو تلف ذلك العبد المعيّن، فهل تنفسخ الإجارة؟
ما صار إليه ابن الحداد أن الإجارة تنفسخ في هذه الصورة؛ فإنه لم يتعيّن في المعاملة إلا العبد المعيّن، فهو متعلَّقُ العقد، فإذا فات (4) مَنْ تعلق به [تعيُّنُ العقد] (5) ، انفسخ، ونزل في هذه الصورة منزلةَ تلف الدابة المعيّن في الإجارة الواردة على عين الدابة.
5561- ونصُّ الشافعي يدلّ على ذلك في كتاب الصداق؛ فإنه قال: " لو أصدق امرأته خياطةَ ثوبٍ معين، ثم تلف ذلك الثوب، فالرجوع إلى مهر المثل"، ولولا أنه
__________
(1) (د 1) : ولا ينتظم ذلك قط.
(2) في الأصل: المستأجرة.
(3) في الأصل: والدابة والدار في يده.
(4) (د 1) : مات، والمعنى واحد.
(5) في الأصل نفس العبد.(8/277)
حكم بانفساخ العقد الوارد على المنافع، وإلا كان يقول: تأتي المرأة بثوبٍ آخر ليخيطه، فالرجوع إلى مهر المثل تصريحٌ بارتفاع (1) استحقاق المنافع.
5562- ومن أصحابنا من قال: إذا تلف العبد المعين للركوب في الإجارة الواردة على الذمة، لم تنفسخ الإجارة، ويأتي المستأجر بعبدٍ آخر. وهذا متجه في القياس؛ فإن العبد إذا كان لا يتعين في الإجارة الواردة على العين، وجب ألا يتعين في الإجارة الواردة على الذمة.
قال الشيخ (2) : وهذا القائل يقول في مسألة الصداق: المرأة تأتي بثوبٍ آخر ليخيطه الزوج، ولا رجوع إلى مهر المثل. وقد قدمنا نوعاً من الكلام، وبالغنا في تفصيله، وفرضناه في الإجارة الواردة على العين، وأجرينا فيه الخلاف. وذلك أنا قلنا: لو استأجر رجلاً ليخيط له ثوباً، ولم يرض خياطةَ غيرِ من عيّنه، وعيّن الثوبَ، فلو تلف ذلك الثوب، فهل تنفسخ الإجارة؟ فيه خلافٌ قدمته، ومستنده أنه لو لم يأت بثوب، وسلّم الأجيرُ نفسَه، فهل تتقرر الأجرة بتسليم الأجير نفسَه، وهو حرّ؟ فيه خلافٌ قدمتُه.
فليفصل الفاصل بين النوع الذي أجريت الخلاف (3) فيه قبلُ، وبين ما ذكرناه الآن؛ فإن سبب الخلاف فيما ذكرناه الآن تعلّقُ الإجارة بالذمة، مع ارتباطها بتعيين عينٍ فيها، كتعيين العبد للركوب، وتعيين الثوب للخياطة.
فرع:
5563- ذكر صاحب التقريب وجهين في أن الأب هل يجوز له إجارةُ ابنه الطفل؟ أحدهما - أنه يجوز له ذلك، على شرط النظر، وهو الذي قطع به الأصحاب.
والثاني - لا يصح؛ لأن في إجارته امتهانه، وإذلاله. وهذا لا يعادل ما يحصل
__________
(1) (د 1) : بانتفاء.
(2) الشيخ: المراد به الشيخ أبو علي السنجي، وقد أشرنا إلى ذلك في أجزاء سابقة.
(3) (د 1) : القول.(8/278)
بإجارته، فإن صححنا الإجارة، فاتفق بلوغه في أثناء المدة، فقد ذكرنا وجهين في أن الإجارة هل تنفسخ في بقية المدة؟
فإن حكمنا بأنها تنفسخ، فلا كلام.
وإن حكمنا بأنها لا تنفسخ، فهل يثبت له الخيار إذا بلغ؟ فعلى وجهين.
ثم إن حكمنا بأن الإجارة تنفسخ، أو قلنا يثبت الخيار، ولا تنفسخ، فلو أجر الأب عيناً من أعيان ملك الطفل، فبلغ الطفل، فهل تنفسخ الإجارة المعقودة على تلك العين فعلى وجهين.
ولو فرعنا على أن الإجارة الواردة على عين الصبي لا تنفسخ، وقلنا: يثبت له الخيار، فهل يثبت الخيار في الإجارة المعقودة على ملكه؟ فعلى وجهين.
والإجارة على الملك أبعد من الفسخ والانفساخ، والسبب فيه أنها عقدٌ وردت على قضية المصلحة على مال الطفل، في حال اطراد الولاية، وليس في إدامته حجرٌ على بدن الصبي بعد بلوغه واستقلاله، والمحذور في الإجارة الواردة على عينه أن يبقى بعد استقلاله مصرفاً للمستأجر، وهذا مفقود في الأموال (1) .
5564- وكل ذلك فيه إذا كان البلوغ طارئاً بالاحتلام، فأما إذا كان البلوغ بالسن، فقد وقعت الإجارة بحيث يصادف [بعضُها] (2) ما وراء البلوغ، وقد ذكرنا امتناع ذلك في أول الكتاب، وربطنا به ما يليق به.
فرع:
5565- إذا قال لإنسان: اشتر لي العبدَ الذي لفلان، ولك عليَّ درهم، أو قال: بع عبدي هذا، ولك كذا، فإن كان عملُ ذلك المستعمَلِ مضبوطاً، فالذي جرى إجارةٌ، وإن كان عملُه لا ينضبط، ويحتاج إلى ترددات خارجةٍ عن الضبط، وقد تقل وقد تكثر، فالذي جرى جعالة، وسنذكر أصل الجعالة وتفصيلها في آخر كتاب اللقطة، إن شاء الله عز وجل.
***
__________
(1) (د 1) : في الإجارة في ماله.
(2) زيادة من (د 1) .(8/279)
كتاب إحياء الموات (1)
قال الشافعي رحمه الله: " بلاد المسلمين شيئان عَامرٌ وموات ... إلى آخره " (2) .
5566- الأصل في الكتاب السنة والإجماع. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أحيا أرضاًً ميتةً، فهي له " (3) . وقال صلى الله عليه وسلم: " مَوتان (4) الأرض لله، ولرسوله، ثم هي لكم مني أيها المسلمون " (5) . وأجمع المسلمون على الأصل، وإن اختلفوا في التفاصيل.
5567- ثم ابتدأ الشافعي، فقسم الأراضي، وعبر عنها بالبلاد على دأب العرب، وأراد بالبلاد الأراضي.
والتقسيم الجامع فيها أن نقول: الأراضي تنقسم إلى أراضي بلاد الإسلام وإلى أراضي بلاد الكفر، فأما أراضي بلاد الإسلام تنقسم (6) إلى عامر وغامر، فالعامر لأهله، وكذلك حقوق الأراضي، وسأجمع إن شاء الله قولاً شافياً في حقوق الأملاك.
__________
(1) من هنا صار العمل يعتمد على ثلاث نسخ، نسخة الأصل (د 2) مع نسخة (د 1) وزاد عليهما نسخة (ت 3) .
(2) ر. المختصر: 3/102.
(3) حديث: "من أحيا أرضاً ميتة ... " أخرجه البيهقي: 6/147، 148، وهو عند أبي داود بمعناه: باب إقطاع الأرضين، ح 3071، وانظر التلخيص: 3/139 ح 1327.
(4) موتان: بفتح الميم والواو.
(5) حديث: "موتان الأرض لله ورسوله ... " عند الشافعي في الأم: 4/54، بلفظ: " عادي الأرض " وعند البيهقي بهذا اللفظ: 6/143.
وقد نبه الحافظ أن قوله: " أيها المسلمون " مدرج، وليس في شيء من طرق الحديث. انظر التلخيص: 3/138 ح1325.
(6) جواب (أما) بدون الفاء، كدأب إمام الحرمين في أحيان كثيرة.(8/281)
وأما الغامر، فقسمان، قسمٌ لم يجرِ عليه ملكٌ في الجاهلية والإسلام، وهو المَوَات الذي يُملك بالإحياء. وغرض الباب بيان أحكامه، إن شاء الله عز وجل.
وقسم جرى عليه ملكٌ، وذلك ينقسم: قسمٌ جرى عليه ملك، ثم درست العمارة، فهو ملكٌ لمالكه، والأملاك لا تزول بزوال العمارات.
فإن كان مالكه متعيّناً، لم يخف حكمه.
وإن تطاول الزمن، وأشكل المالك في فترات [وانجلى لأهل] (1) النواحي، فهو ملك لمسلم غير متعيّن، والأمر فيه مفوّض إلى رأي الإمام، فإن رأى أن يحفظه ليتبيّن مالكه، أو وارثه، فَعَلَ، وإن رأى أن يبيعه، ويحفظ ثمنه على مالكه، فيفعل من ذلك ما يرى النظر فيه. ثم إن أراد أن يستقرض ذلك على بيت المال، فله ذلك.
ولعلنا نستقصي ما يتعلّق بالفقه من أحكام الإيالة في موضعٍ نوفق له، إن شاء الله تعالى، وأراه لائقاً بأدب القضاء.
هذا إذا كانت الأرض ملكاً للمسلمين، فدرست عمارتها، وغاب ملاكها.
5568- فأما إذا كان على الأرض عمارة جاهلية، وقد خفي الأمر، ولم يدر كيف جرى استيلاء المسلمين عليها؟ فإذا استبهم كما وصفناه، ففي تملكه بالإحياء قولان منصوصان للشافعي: أحدهما - أنها تملك كما يملك ركازُهم، وإن لم يُدر كيف الاستيلاء، فإن آثارهم القديمة لا معوّل عليها، ولا حُرمة لها.
والقول الثاني - لا تملك بالإحياء؛ فإنها ليست مواتاً، بل قد جرى الملك عليها، والموات هو الذي لم يجر عليها (2) ملك قط. وهذا القائل ينفصل عن الركاز، ويقول: هو عرضةُ الضياع، فلو لم يأخذه أول واجدٍ، لأخذه غيره. ونحن نرى تمليك الملتقط اللقطة، وإن علمناها لمسلم، لقربت مما ذكرناه، كما سيأتي مشروحاً، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) في الأصل: في فترات وأهل النواحي. والعبارة على الحالين قلقة. ولعلّ المعنى: "وأشكل معرفة المالك في فترات، وانجلى لأهل النواحي في فترات" والله أعلم.
(2) كذا في النسختين بضمير المؤنث، وهو صحيح على تأويل "الأرض" مثلاً.(8/282)
فأما ا"لأرض، فلا نخشى فواتَها، ولا نتوقع الاستزلال (1) فيها.
ثم من لم ير إحياءها (2) ، فإن أمكن معرفة كيفية الاستيلاء، أحدثنا الحكمَ على مقتضاه، فإن كان الاستيلاء عَنوة، سُلك بالأرض مسلك المغانم، ثم حصة الغانمين تلتحق بملك المسلم الذي لا يُدرى، وسبيله سبيل الضوالّ. وإن عرفنا أن الاستيلاء من غير إيجاف خيلٍ وركاب، فسبيله سبيل الفيء، وإن أشكل الأمر، لم يخرج عن ملكٍ جُهل مالكه سواء كان من الغانمين أو من المرتزقة.
والذي أراه في ذلك أنه إذا كان إدراك كيفية الاستيلاء ممكناً، فلا يلتحق هذا بصورة القولين، وإنما القولان فيه إذا عرفنا أن العمارة جاهلية، وأشكل علينا دخولُها تحت أيدينا.
5569- وذكر الشيخ أبو علي أن العمارة إذا تقادمت، وانتهت إلى عصر عادٍ وثمود، في الأمم السالفة، فلا حكم لها، وهي ملتحقة بالموات قولاً واحداً، واحتُج عليه بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " عادي (3) الأرض لله ولرسوله، ثم هي لكم مني أيها المسلمون "، فعلى طريقه (4) لو تفاحش التقدّم والتقادم، فلا حكم له (5) ، وقد أوضحتُ أن العمارة الجاهلية إذا قربت، وأمكن استدراك كيفية الاستيلاء من التواريخ، فيتعين الحكم بما يظهر في ذلك. وإن استبهم الأمرُ فيخرّج القولان حينئذٍ، ولعل المرعي في التقدم الذي ذكره الشيخ أن يكون بحيث لا ينتهي إليه ضبطُ ناقلٍ، إلا على إجمال.
وما ذكره ليس متفقاً عليه. ومعظم الأصحاب على مخالفته، والمصيرِ إلى طرد القولين، مهما رأينا عمارة جاهلية.
__________
(1) الاستزلال: بهذا الرسم تماماً في النسخ الثلاث، ولعلها بمعنى الأخد والاستيلاء. من: زلّ يزلّ من باب ضرب إذا أخذ، أو هي بمعنى الخطأ والانحراف، على نحو قوله سبحانه: {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَان} [آل عمران: 155] ، أي استدرجهم إلى الزلل. (المعجم، والمصباح) .
(2) عبارة (د 1) ، (ت 3) : ثم من أحياها.
(3) هذه الرواية بلفظ (عادي الأرض) هي لذات الحديث الذي تقدم آنفاً.
(4) (د 1) : قوله.
(5) "له" الضمير يعود على الإحياء.(8/283)
وإذا لم نر أثرَ عمارة أصلاً، وقلنا إنه الموات الذي يُملك بالإحياء، فلسنا نشترط فيما ذكرناه في ذلك العِلْمَ والدرْك الحقيقي؛ فإنا لا نبعد أن ذلك الذي نقدّره مواتاً كان مملوكاً قبلُ، ولكن يكفي ألا نرى أثرَ عمارةٍ، ولا نراه من حقوق (1) موضعِ أثرِ عمارة الإسلام، ولا نعلم أنه كان عامراً فدرست عمارته بسبب من الأسباب، وإنما نُجري أحكام الأملاك دواماًً وابتداء على الظواهر، ولا يتصور مُدرَك القطع فيها.
هذا بيان أراضي بلاد الإسلام في غرضنا المتعلق بالتقسيم.
5575- فأما أراضي بلاد الشرك، فإنها تنقسم إلى عَامرٍ، وموات. فأما العامر فملك الكفار، وإن استولينا عليها قهراً، كانت غنيمة، وإن انجلَوْا عنها مرعوبين من غير قتال، فهو فيءٌ إذا ثبتت الأيدي عليها.
فأما الموات في دار الحرب، فقسمان: قسم كانوا يذبّون عنه، ويحامون، وقسم لا يذبون عنه.
فأما ما كانوا يذبون عنه، فإن استولينا على ديارهم، نُظر: فإن جرى الاستيلاء عَنوة عن قتال واقتهار، فكل من له حقٌّ في المغنم يصير فيه بمثابة المتحجّر، وسنذكر أن من يحجِّر موضعاً ليُحييه، فهو أولى به.
وإن كان الاستيلاء من غير قتالٍ، فأهل الفيء في ذلك الموات بمثابة المتحجرين، كما ذكرنا. وسيأتي بيان التحجُّر، ومعناه، وحكمه.
وإن كانوا لا يذبّون عن ذلك الموات، فهو مما يشترك فيه كل محيي، فإن أحياه مسلم، ملكه، وإن أحياه كافرٌ ملكه؛ فإنه ليس من بلاد الإسلام، حتى يمتنع إحياؤه على الكفار، كما سنذكره من بعد.
5571- ومما يتعلق بذلك أنا إذا قررنا طائفةً من الكفار على بلدةٍ لهم صُلحاً، ووضعنا الأمر على ألاَّ نتعرّض لديارهم ويقبلوا الجزية، فإذا كان ببلدتهم مواتٌ، وكانوا يذبّون عنه، كما قدّمنا وصفه، فليس للمسلمين إحياء مواتهم، كما ليس
__________
(1) عبارة (د 1) ، (ت 3) : من حقوق موضعٍ عليه أثر عمارة الإسلام.(8/284)
للكفار إحياءُ موات بلاد الإسلام؛ فإن موات بلدتهم منسوبٌ إليها، كما أن موات بلاد الإسلام منسوب إلى بلاد الإسلام.
وليس هذا الذي ذكرناه على حد التحجّر؛ فإن التحجر لا يُثبت حكماً دائماً، ومن تحجر ثم توانى، بطل حقُّه، والاختصاصُ الذي ذكرناه دائمٌ للكفار في البلدة المختصة بهم، وللمسلمين في موات بلاد الإسلام، ثم الموات الذي يملك بالإحياء في بلاد المسلمين يختص به المسلمون، فلا يملكه أهل الذمة إذا أحْيَوْه، خلافاً لأبي حنيقة (1) .
5572- ولا يتوقف حصول الملك بالإحياء للمسلم على إذن الإمام وإقطاعه، خلافاًً لأبي حنيفة (2) .
5573- ثم قد كثرت غلطات المزني في هذا الكتاب، وبلغت مبلغاً لا يليق بمنصبه، ولا محمل لها عندي إلا شيء واحد، وهو أنه أحاط بفقه المسائل وأتى به على وجهه، وصادف في الكتاب ألفاظاً قليلةَ الجدوى في الفقه، فلعله انتسخها من نسخة، فوقع فيها بعض الزلل، والخللُ يتطرق إلى اعتماد النسخ (3) ، فممّا أُخذ عليه أنه قال: " والموات الثاني ما لم يملكه أحد في الإسلام يُعرف، فإذا لم يملكه، فهو الموات الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " (4) .
وهذا فيه خلل؛ لأنه جعل قوله: "إذا لم يملك" تكراراً لما سبق من قوله: " والموات الثاني ما لم يملكه " [فجعلهما] (5) شيئاً واحداً. وإنما قال الشافعي: " أو
__________
(1) ر. البدائع: 6/195، حاشية ابن عابدين 5/277، الاختيار 3/66، تكملة فتح القدير: 9/5.
(2) ر. البدائع: 6/194، حاشية ابن عابدين: 5/278، الاختيار: 3/66، تكملة فتح القدير: 9/3.
(3) (د 1) ، (ت 3) : والنسخ.
(4) عبارة المزني بتمامها: "والموات شيآن: موات ما قد كان عامراً لأهله، معروفاً في الإسلام، ثم ذهبت عمارته، فصار مواتاً، فذلك كالعامر لأهله، لا يملك إلا بإذنهم.
والموات الثاني - ما لم يملكه أحد في الإسلام يعرف؛ ولا عمارة ملك في الجاهلية، إذا لم يملك. فذلك الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أحيا أرضاً ميتة فهي له " المختصر: 3/102.
(5) في الأصل: وبجعلهما.(8/285)
لم يُملك، فهو الموات "، فجعل المواتَ الذي يملك بالإحياء قسمين: أحدهما - لم يملكه أحد في الإسلام يعرف، وليس عليه عمارة في الجاهلية، والثاني - ما عليه عمارة في الجاهلية، فجعل المزني القسمين قسماً واحداً.
فصل
قال: " وسواء كان إلى جنب قرية عامرة، أو نهر ... إلى آخره " (1) .
5574- قصدَ الشافعي بذلك الردَّ على أبي حنيفة (2) ، حيث قال: " الموات الذي بقرب العمران [لا يملكه] (3) غير ملاّك العمران بالإحياء، ومالك العمران أحق بقدر صَيْحته (4) منه في كل جانب ".
5575- فأما عندنا، فالموات القريب من العمران والبعيد سواء، إذا لم يكن من حريم العمران وفِنائه، والحقوق المعدودة من حقوق الأملاك: كمسيل الماء، ومناخ الإبل، ومراح الغنم، ومتحدّث النادي، وملعب الصبيان، وسأجمع حقوقَ الأملاك في فصل -إن شاء الله تعالى- وهو من أهم مقاصد الكتاب.
5576- والغرض الآن أن ما لا يتعلق بحقوق الأملاك من الموات يملكه من يبتدره بالإحياء. واحتج الشافعي عليه بأنه صلى الله عليه وسلم أقطع ابن مسعود موضعاً يقال له: "دور" وكان بين ظهراني عمارة الأنصار، فجاءه حيٌّ من بني زهرة يقال لهم: بنو عبد بن زهرة، فقالوا: نَكِّب عنَّا ابنَ أم عبد، قال صلى الله عليه وسلم: " فلم ابتعثني اللهُ إذاً، إن الله لا يقدس أمةً لا يؤخد للضعيف فيهم حقُّه" (5) . وأراد حقَّ
__________
(1) ر. المختصر: 3/103.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 134، البدائع: 6/194، تكملة فتح القدير: 9/2.
(3) في النسخ الثلاث: يملك.
(4) (د 1) : حصته. وعبارة الإمام في الدرّة " بقدر مدى صوته " مما يؤكد صحة نسخة اصل، ومعها (ت 3) .
(5) حديث إقطاع النبي صلى الله عليه وسلم لابن مسعود رواه الشافعي في الأم: 3/268، 273، ومن طريقه البيهقي: 6/145، قال الحافظ: وهو مرسل، ووصله الطبراني في الكبير: 10/274، ح10534. (التلخيص: 3/140 ح1330) .(8/286)
الإكرام والتعظيم، وأبان أنه ضعيف في جسده، حقيقٌ بأن يعظم حقُّه، لمقامه في العلم والدين، والحق نوعان حقٌّ واجب، يُقضى ويقتضى (1) ، وحق تقديم وتفضيل.
5577- وغلط المزني، فقال: فجاء حيٌّ من بني عُذْرة (2) ، وهذا غلط؛ لأن عبدَ بن زهرة، لم يكونوا من بني عُذْرة، وإنما هم من قريش، وهم رهط عبد الرحمن بن عوف.
وغلط المزني غلطاً آخر، حيث قال: " وإن ذلك لأهل العامر ". والشافعي قال: ليس ذلك لأهل العامر.
وغلط بعد هذا غلطاً آخر، فقال: " والموات الذي للسلطان "، واقتصر على هذا، وهذا كلام يستدعي جواباً، والشافعي قال: والموات الذي للسلطان أن يقطعه كذا وكذا (3) .
فصل
قال: " والذي عرفناه نصاً ودليلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حمى النقيع (4) ، وهو بلد ليس بالواسع ... إلى آخره " (5) .
5578- مضمون الفصل الحمى، وتصويره: أن يحمي الإمامُ ناحيةً، مرعىً لإبل المصالح، ويَمنع نَعَمَ العامة عنه. وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمى لخاصته ولمصالح المسلمين من نَعَم الصدقة والجزية، والضوالّ، والخيل المعدّة في سبيل الله، فلا يُنكِر حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم (6) أحدٌ.
__________
(1) سقطت من (د 1) ، (ت 3) .
(2) في مختصر المزني المطبوع بين أيدينا: "فجاء حي من بني زهرة" على الرواية التي صححها إمام الحرمين. راجع المختصر: 3/103.
(3) هذا الغلط الثالث، تراه مصوّباً في نسخة المختصر المطبوعة، راجع: 3/103.
(4) النقيع: موضع قرب المدينة، وهو بالنون المثقلة المفتوحة، على بعد عشرين فرسخاً من المدينة، وهو من ديار مزينة (معجم البلدان) .
(5) ر. المختصر: 3/104.
(6) حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب أهل الدار يُبيَّنون فيصاب الوِلدان والذراري، ح3013، وكتاب الشرب والمساقاة، باب لا حمى إلا لله ورسوله، ح 2370.(8/287)
5579- وهل يجوز للأئمة بعده أن يحموا؟
أما إن حمَوْا لخاصتهم، لم يجز، وإن جاز لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو إذاً معدودٌ من خواصّه، وخصائصه.
وهل للأئمة أن يحموا لمصالح المسلمين؟ فعلى قولين: أحدهما - لا يجوز لهم ذلك، كما لا يجوز لآحاد الناس، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا حمى إلا لله ورسوله " (1) .
والثاني - يجوز، والحديث محمول على الحمى للخاصة، بدليل ما روي في بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم قال: " لا حمى إلا لله ولرسوله وللأئمة بعده " (2) .
وصح أن عُمر حمى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الزَّبَذة، وولّى حماه مولاه هُنَيّ، وقال " يا هُنيّ ضمَّ جناحك للناس "، وعنى به تواضع ولا تتكبر، " واتق دعوة المظلوم؛ فإن دعوة المظلوم مجابة، وأدخل ربّ الصُرَيْمة والغُنيمة، وإياك ونَعَم ابنِ عوف ونعمَ ابنِ عفان؛ فإنهما إن تهْلِك ماشيتُهما يرجعا إلى نخل وزرع، وإن رب الغنيمة يأتيني بعياله، ويقول: يا أمير المؤمنين أفتاركُه أنا؟ لا أبالك، فالكلأ أهون عليّ من الدينار والدرهم " (3) وأراد به أنه إن هلكت ماشيته، احْتجتُ إلى الإنفاق عليه من الدنانير والدراهم في بيت المال، والكلأ دونهما.
5580- ثم قال: " حمى رسول صلى الله عليه وسلم النقيع " ثم فسر النقيع، فقال: " هو بلد ليس بالواسع الذي إذا حُمي ضاقت البلاد على أهل المواشي حوله ". وقال: " وإنه قليل من كثير مجاوزٌ للقدر ". وهذا مختلٌّ؛ فإن الشافعي قال: " فإنه
__________
(1) رواه البخاري، وجعله ترجمة للباب بلفظه، فقال: باب لا حمى إلا لله ولرسوله. وهو برقم الحديث السابق نفسه. وانظر التلخيص: 2/533 حديث 1106.
(2) لم أصل إلى هذه الرواية.
(3) حديث عمر ومولاه هني رضي الله عنهما رواه البخاري بهذا السياق، غير أنه لم يذكر الربذة (كتاب الجهاد، باب إذا أسلم قوم في دار الحرب، ح 3059) ، وقد بين ابن سعد أنه كان على حمى الربذة (فتح الباري 6/176) ورواه الشافعي في مسنده: ح 434، وعبد الرزاق في المصنف: ح 19751.
وننبه هنا إلى أننا اعتمدنا في مراجعة نص الحديث في البخاري طبعة دار السلام للكتب الستة في مجلد واحد، وفيها " ... إن تهلك ماشيتهما يرجعان ... " كذا بإثبات النون؛ مما لفت نظرنا وجعلنا نبحث لها عن وجه في شواهد التوضيح والتصحيح لابن مالك، وأخيراً راجعنا كثيراً من طبعات البخاري فلم نجد في أيٍّ منها إثبات النون، فليتنبّه الباحثون لذلك.(8/288)
قليل من كثير غيرُ مجاوز للقدر "، وقد يتجه تصويب المزني بأن نجعل (مجاوز) نعتاً لكثير، [فنكسر] (1) الزاي، فيقال: من كثيرٍ مجاوزٍ للقدر.
5581- ثم قال الشافعي: " وفي حماه -[عنى] (2) رسول الله صلى الله عليه وسلم- صلاحٌ لعامة المسلمين، وذكر وجهَ الصلاح (3) .
وكان للعرب في الجاهلية حِمًى، فكان الكبير منهم يحمي لنفسه، إذا انتجع بلداً مخصباً، فكان [يوفي] (4) بكلبٍ على جبل أو نشزٍ، ثم استعوى الكلبَ، ووقف له من يسمع منتهى صوته، فحيث انتهى عواؤه حماه من كل ناحية لنفسه، وهو يرعى مع العامة فيما سواه، ولا شك في فساد مثل هذا.
ثم قال المزني: ورسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يحمي، إن شاء الله تعالى، لصلاح عامة المسلمين. وهذا استثناء (5) في غير موضعه؛ فإنه يتضمن شكّاً، وتردّداً، والشافعي لم يقل هكذا، ولم يذكر الاستثناء في حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: إنه ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر الاستثناء، فحذف المزني الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووضع الاستثناء مكانه.
5582- ثم احتج الشافعي على أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يحمي إلا لصلاح العامة، وإن جاز له الحمى لخاصته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يملك [مالاً] (6) إلا ما لا غنى به وبعياله عنه، وأنه صلى الله عليه وسلم ملك خمسَ الفيء والغنيمة، وأربعة أخماس الفيء، وكان يصرف خمس الخمس إلى الكُراع والسلاح عُدّةً في سبيل الله، وينفق على نفسه وعياله من أربعة أخماس الفيء، ويدّخر منها نفقةَ
__________
(1) في الأصل: ونكسر.
(2) في الأصل: غير.
(3) عبارة المختصر: "وفيه صلاحٌ لعامة المسلمين بأن تكون الخيل المعدّة لسبيل الله تبارك وتعالى، وما فضل من سهمان أهل الصدقات، وما فضل من النعم التي تؤخد من الجزية، ترعى جميعها فيه.. " جزء 3/104.
(4) في الأصل: يؤتى. يوفي بكلب على جبل، أي يعلو به عليه، من أوفى على المكان: أي أشرف عليه. (المعجم. والمصباح) .
(5) يشير إلى قوله: إن شاء الله تعالى.
(6) زيادة من (د 1) ، (ت 3) .(8/289)
سنتهم، فما فضل كان يصرفه إلى الكُراع والسلاح، وقال صلى الله عليه وسلم: " إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة " (1) .
[وأخلّ] (2) المزني بنقل هذا اللفظ (3) ، لأنه نقل: " حتى صيّر ما ملّكه الله من خُمس الخُمس قوت سنته " (4) ، وهذا يوهم أنه كان ينفق من خمس الخمس، وليس الأمر كذلك.
والشافعي قال: " صيّر ما ملّكه الله من خمس الخمس مردوداً في الكراع والسلاح ".
5583- ثم من بقية الكلام في الحمى أنا إذا جوّزنا للإمام أن يحمي، فحمى على موجب الشرع، فلو أراد إمامٌ بعده أن ينقض حمى الإمام قبله، ففي جواز النقض قولان: أحد القولين- أنه يجوز، ولعله الأصح؛ فإن حمى الإمام اجتهادٌ منه في جهة النظر، وطلبٌ لمصلحة المسلمين، فإذا رأى مَن بعده ردَّ الحمى نظراً، لم يُعترض عليه.
والقول الثاني - لا يجوز نقضه؛ فإنه في حكم المُحْرز للجهة المعيّنة، فلا سبيل إلى نقضه، كما إذا جعل بقعةً مسجداً، أو مقبرةً، فلا يجوز تغييره، وإن اقتضت المصلحة التغيير.
والقائل الأول ينفصل عن هذا، ويقول: المسجد يترتب على ملك مالك، ثم هو تصرفٌ لازمٌ، فلم يقبل النقضَ، والحمى يرد على الموات، وهو ضربٌ من الحَجْر على حسب المصلحة، فنقضُه، وردُّه إلى ما كان عليه من حكم العموم لا يشابه نقضَ تصرفات الملاك.
وأطلق الأئمةُ القولَ بأن حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يُنقض،
__________
(1) حديث: إنا معاشر الأنبياء لا نورث. متفق عليه من حديث أبي بكر رضي الله عنه. بلفظ: " لا نورث ما تركناه صدقة" وبلفظ المؤلف عند النسائي في الكبرى. (البخاري، ح 3093، 3712، 4046، 4241، 6726 ومسلم: الجهاد، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نورث ... "، ح 1758، 1759، والنسائي، ح 6275 طبعة مؤسسة الرسالة، وانظر التلخيص: 3/213 ح 1461) .
(2) في الأصل، (د 1) : وأخذ.
(3) (د 1) ، (ت 3) : الكلام.
(4) نص عبارة المختصر: " حتى صير ما ملّكه الله من خمس الخمس، وماله -إذا حبس قوت سنته - مردوداً في مصلحتهم في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله " جزء 3/107.(8/290)
وقالوا: إنه نصٌّ، ونصُّ الشارع لا يتطرق إليه نقضٌ، وحمى الإمام اجتهادٌ، ولا يمتنع نقض الاجتهاد. وقال قائلون فيما ذكره الأئمة، وفيما ذكره الشيخ أبو علي وغيرُه: لو ظهر لنا أن حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لعلّةٍ، ثم تبيّن زوالُ العلة، ففي ردّ حماه إلى حكم العموم وجهان أيضاًً.
ثم من جوّز الردَّ إلى حكم العموم يقول: لا بد من صَدَر ذلك عن رأيٍ متَّبع، من جهة الوالي، ولا نقول: كما (1) زالت العلة، انقطع حكم الحمى، وذلك أن هذا [مختلفٌ] (2) فيه، والهجوم على مخالفة حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم مُخطرٌ (3) ، فلا بد عند من يرى جوازَ الرد إلى حكم العموم من نظرِ صاحب الأمر، فينتظم في جواز نقض الحمى قولان في حمى الإمام، ثم وجهان مرتبان في حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
5584- ومما يجب التنبه له أن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد بين الولاة والقضاة ومن جوّز نقض الحمى جوزه عن اجتهادٍ، وقد يُخيِّل ذلك أنه من باب نقض الاجتهاد بالاجتهاد قلنا: المعنيُّ بقول العلماء لا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد أن القاضي إذا أمضى حكمه وقضاءه في واقعةٍ، وكان لقضائه مستندٌ من مذهب العلماء، ومتعلّق بالحجة، فإذا أراد قاضٍ بعده أن ينقض قضاءه، لم يجد إليه سبيلاً. وأما الحمى فمن جوّز نقضَه، فليس يأخذه من هذا المأخذ، ولكنه يقول: حَمْيُ الأول كان لمصلحة، فالمتبع المصلحة في كل عصر.
ثم إذا جوزنا للإمام أن ينقض حَمْي إمامٍ قبله، فيجوز للحامي أن ينقض حَمْي نفسه، إذا رأى في ذلك مصلحة، ولا يتوقف جواز النقض على ضرورة مرهقة.
فهذا منتهى الكلام ومأخذه في الحمى، وما يتعلق به ابتداءً ونقضاً انتهاءً.
ولو ابتدر مبتدر، فأحيا قطعةَ أرضٍ مما حماه، فسنذكر هذا مفصلاً، إن شاء الله تعالى.
***
__________
(1) كما: بمعنى (عندما) . وهذا جارٍ بكثرة في لسان إمام الحرمين.
(2) في الأصل: مجتهد.
(3) مخطر: من أخطر المرضُ ونحوه فلاناً: جعله بين السلامة والخطر، وهو مثل: أنجد وأتهم، إذا دخل نجداً وتهامة، فأخطر: دخل في الخطر. (المعجم) .(8/291)
باب ما يكون إحياءً
5585- قد ذكرنا أن إحياء الموات -على التفصيل المقدّم- سببٌ يُملّكه. وهذا الباب معقود لتفصيله، وكيفيته، وليس يكاد يخفى أن صفة الإحياء تختلف باختلاف المقصود في المُحيا، والمتبع في ذلك العرفُ، وقد مهدنا في (الأساليب) وغيرِها: " أن ما ورد في الشرع غيرَ محدود، وهو ما يختلف تفصيله، فالرجوع فيه إلى العرف، وسبب اقتصار الشرع على الإطلاق الإحالةُ على ما يفهمه أهل العرف في الفن الذي ورد الخطاب فيه " (1) .
5586- فنطلق في صدر الباب أن ما يعد إحياءً عرفاً في الغرض المقصود، فهو سبب تملّك الموات، وما لا فلا.
5587- فإن أراد أن يتخد من الموات مسكناً فإحياؤها (2) بأن يحُوطَها ويسقُف (3) البعض بأن يتأتى سُكونه (4) ، ثم يقع استتمامُ الأبنية والمرافق بعد جريان الملك.
5588- وإن أراد أن يتخد من الأرض حظيرة تأوي إليها الأغنام، والمواشي، فقد رأيت الأصحاب متفقين في الطرق على أنه لا يكفي أن ينصب حوالي البقعة شوكاً وسعفاً، وجريداً، من غير أن يبني؛ فإنّ الزريبة التي يُقصد تملكها لا يُكتفَى بهذا التحويط فيها، وإنما يعتاد الاقتصارَ على هذا القدر المنتجِعُ (5) المجتاز، وأيضاً فإن
__________
(1) نهاية ما ذكره في (الأساليب) .
(2) تأنيث الضمير على معنى البقعة أو الدار.
(3) سقفتُ البيت سقفاً من باب قتل. (المصباح) .
(4) سكوناً: أي سكناً، وهذا جارٍ في لفظ إمام الحرمين، وتلميذه أبي حامد الغزالي كثيراً.
(5) المنتجِع: طالبُ الكلأ، يقصد أخصب بقعةٍ يراها، وانتجع القوم: إذا ذهبوا لطلب الكلأ في موضعه. (المصباح) .(8/292)
ما يفرض من ذلك ليس تغييراً للأرض به مبالاة، وإنما هو بمثابة نصب الأخبية والخيام، ثم لو حوّط على الحظيرة حائطاً مبنياً، فإذاك، ولو أثبت [بناء] (1) في طرفٍ يأوي إليه الراعي والمراقب، وجعل الباقي حظيرةً من سعفٍ أو قصبٍ، فقد ذهب بعضُ أصحابنا إلى أن هذا كافٍ.
والمنقولُ عن القاضي وما اقتضاه كلام شيخنا (2) أنه لا يملك صاحبُ هذه الواقعة إلا محلَّ البناء، والباقي يجري على قياس التحويط بالسعف والجريد، وليس كما إذا وُجد البناء ممن يبغي مسكناً بعد التحويط؛ فإنَّا نجعل ذلك إحياءً، تعويلاً على التحويط المعتبر مع إمكان السكون في المبنى، ونصب السَّعَفِ والقصب ليس حائطاً معتبراً.
5589- فإن أراد أن يتّخد بستاناً، فلا بد من أن يحوِّط ويحفر الجداول ويهيّىء مجرى الماء إلى الأشجار. وذكر الأصحاب أنه لا بد من غرس الأشجار؛ لأن اسمَ البستان لا ينطلق على الأرض البيضاء الخليّة عن الغراس. فإن أراد مزرعةً، لم يحتج إلى التّحويط فوقها؛ فإن معظم المزارع بارزٌ لا تحتوي عليه الحيطان، ولكن لا بد من تمييز البقعة أوّلاً بجمع ترابٍ حولها؛ حتى تتميز عن الغير، وهذا التمييز فيها ينزل منزلة التحويط في غيرها، ثم لا بد من أن يسوق إليها الماء من نهرٍ، أو يُنبط (3) لها عَيْناً، أو يحفر بئراً، لتعتمد الزراعة الشِّرب العِدَّ، وإذا أجرى ماءً من نهرٍ عِدٍّ، كفى.
وإن كان يحتاج إلى شراء الماء؛ فإن الشرط أن يتمكن من السقي من الماء العِدّ.
5590- ثم اختلف الأئمة في أنا هل نشترط في إتمام الإحياء أن تُزرعَ وينبت البذر في الأرض؟ فمن أصحابنا من قال: لا بد منه، وهو ظاهر النص، فإن الشافعي قال: " وتزرع ".
ومن أصحابنا من قال: لا حاجة إلى إيقاع الزراعة؛ فإن الإحياء تهيئةُ البقعةِ للمقصود، وإيقاع الانتفاع ليس شرطاً؛ فإن من يبغي اتّخاد مسكنٍ يكفيه أن يهىء
__________
(1) في الأصل: مأوى. وفي ت 3: " ولا يثبت بنا طرفا يأوي " وهو تحريف متفاحش.
(2) شيخنا: يعني والده، وقد صرح بذلك الرافعي. (فتح العزيز: 6/244) .
(3) يُنبط: يستخرج. وماضيه أنبط إنباطاً. (المصباح) .(8/293)
البقعة لإمكان السكون فيه، ولا يشترط في تتمة الإحياء أن يسكن.
وقد ذكرنا أن ظاهر المذهب أنه إذا أراد اتخاد بستانٍ، فلا بدّ من غرس الفسيل، وهذا القائل يفرق بين البستان والمزرعة، ويقول: اسم البستان لا يُطلق على البقعة قبل الغرس، واسم المزرعة يثبت قبل الزراعة.
ومن أصحابنا من أجرى في الغراس والمقصودُ البستانُ خلافاً، وزعم أنه لا يشترط في وجهٍ؛ فتحصّل في الزراعة والغرس ثلاثةُ أوجه.
وذكر شيخي تردداً في أنا إذا جرينا على الأصح في اشتراط الغرس في البستان، فهل يشترط أن يَعْلَق الغراس، أم يكفي في جريان المِلْك الغرس؟ فذكر في ذلك خلافاً، والوجه عندنا القطعُ بأن العلوق ليس شرطاً.
ولا شك أنه يشترط فى اتخاد المزرعة التسوية والتكريب والتقليب بالثيران والفدان (1) ، أو المساحي، هذا لا بد منه، فلو عمد إلى مواتٍ، وحرثه وبذره، معتمداً على القَطْر والمطر، فقد تردد صاحب التقريب في أن هذا هل يكون إحياء مملِّكاً؟ ومال إلى أنه لا يكون مملّكاً؛ فإن هذا لا يعدّ أمراً مؤبداً معتمداً، ولا اعتماد حتى تستند البقعةُ إلى ماءٍ يعتمد، كما قدمناه.
قال: ويحتمل أن يحصل الملك؛ فإن المطر من جهاتِ السقي، ويحتمل أن يفصّل الأمر في ذلك رجوعاً إلى العرف، ويقال: إن كان أهل الناحية يعتمدون المطر. ويتّكلون عليه، فيكون ما فعله إحياء، وإن كانوا لا يعتمدون المطر، فمن (2) فعل ما وصفناه عُدَّ طالباً رزقاً على غرر، فهذا محلّ تردد صاحب التقريب.
فإن قيل: هلاّ قطعتم في الصورة الأخيرة بأنه لا يملك لما أشرتم إليه، قلنا: لأن المزرعة تنقسم في عرف الزرّاعين، فمنها مزرعةٌ أصلية تعتمد ماءً عِدّاً، ومنها مزارع مهيّأة على الأمطار.
5591- فهذه جُملٌ من كلام الأصحاب فيما يكون إحياءً وفيما لا يكون إحياءً.
ومجاري كلامِ الأصحاب دالّةٌ على اختلاف صفةِ الإحياء باختلاف المقصود في المحيا.
__________
(1) الفدان: آلة الحرث، ويطلق على الثورين يحرثُ عليهما في قران. (المصباح) .
(2) (د 1) ، (ت 3) : ثم فعل.(8/294)
5592- وكنت أود أن نقول: كلُّ ما يحصِّل الملكَ في بُقعةٍ إذا انضم إليه القصد، فإنه يحصِّل الملك، وإن (1) فُرض القصدُ في جهةٍ أخرى.
[والذي] (2) أراه في ذلك الاستشهاد بالحائط، فالتحويط يملِّك البقعةَ إذا انضم إليه قصدُ اتخاد الحظيرة، فليكفِ مجردُ التحويط [في كل غرضٍ يفرض] (3) . وقد وجدتُ هذا لصاحب التقريب، ولكنه لم يصرح بالقاعدة التي رُمتُها (4) ، بل قال (5) : لو قلتُ في حق من يبغي مسكناً يكفي التحويط فيه، لكان محتملاً.
5593- وإنما قلنا ما قلنا؛ لأن ما كان سبباً في تملّك مباح، فليس للقصد فيه وقعٌ، فإنّ من كان يتّبع ظبية وكان يبغي امتحانَ شدة سَعْي نفسه، فأدركها، وضبطها، ملكها، وإن لم يخطُر (6) له قصدُ التملك. ومن احتشّ حشيشاً، وملأ ظرفاً كان معه، فقصد أن يتخد منه مقعداً يجلس عليه إذا ركب، فيملك الحشيشَ، وإن لم يقصد تملّكه، وكذلك القول فيما يداني ذلك، والمتعلَّقُ من جهة النقل فيما ذكرته ما حكيتُه
__________
(1) جواب هذا الشرط مفهومٌ مما قبله، تقديره: فإنه يحصّل الملك أيضاً. وكان العبارة: " كل ما لا يفعله إلا المتملّك يحصّل الملك، انضم إليه القصد، أو فرض في جهة أخرى " كما يتضح ذلك من حكاية النووي والرافعي لكلام الإمام في التعليق الآتي قريباً.
(2) في الأصل: (فالذي) بالفاء على أنها جواب الشرط. ولكن الواو هنا للاستئناف.
(3) في الأصل: من كل غرضٍ يطلب. والإمام بهذا يخالف الأصحاب، في اعتبارهم اختلاف صفة الإحياء باختلاف المقصود في المحيا.
(4) القاعدة التي رامها إمام الحرمين هنا هي النظر إلى اعتبار قصد المحيي، وعدم قصده، وحاصل قوله: " أن ما لا يفعله -في العادة- إلا المتملك كبناء الدار، واتخاد البستان يفيد الملك، قصد أو لم يقصد.
وما يفعله المتملك وغيرُه، كحفر البئر في الموات، وكزراعة قطعة من الموات اعتماداً على ماء السماء، إن انضم إليه قصد أفاد الملك، وإلا، فوجهان.
وما لا يكتفي به المتملك كتسوية موضع النزول، وتنقّيته عن الحجارة، لا يفيد الملك، وإن قصده ". ر. الروضة: 4/291، وفتح العزيز: 6/246.
(5) في الأصل: بل لو قال: لو قلت.
(6) يخطُر: من بابي قعد وضرب.(8/295)
من الاكتفاء بالتحويط في المسكن. والله أعلم، وإن أصرّ الأصحابُ، وهم كذلك يصرّون في تحصيل الإحياء على حسب المقاصد، فلو شبّبَ [مُشبِّبٌ] (1) بالخلاف فيما استشهدتُ به في الاحتواء على الظبية والحشيش، كان بعيداً (2) .
وقد ظهر اختلاف أصحابنا في صُورةٍ سنذكرها في الصيد والذبائح، وهي أن ظبية لو دخلت داراً فلو قام صاحب الدار إلى الباب وأغلقه، وجرّد قصده إلى أَخْذ الظبية، فهذا يثبت الملك في الظبية، وإن اتّفق منه إغلاق الباب من غير قصدٍ، ففيه اختلافٌ بين الأصحاب، وسيأتي مشروحاً في موضعه، إن شاء الله تعالى.
5594- والذي ذكرته يجري في كل سبب يشترك فيه وجهان فصاعداً، وهذا كالتكريب، والتقليب، والتسوية، فهذا القدر يكفي في المزرعة، مع تمييز البقعة، والاعتمادُ على ماءٍ؛ عِدٍّ كما وصفناه، وما ذكرناه مقدمةٌ لاتخاد البستان، فيتجه جداً الحكمُ بحصول الملك. ثم [العَامل] (3) على قصده في استتمام العمارة، والدليل عليه أنه لو كان يبغي بستاناً تَمَثَّلَه في نفسه، وهو على نهاية العمارة، فلا يشترط أن يبلغها، حملاً للعمارة على قصد العامر، وهذا نبنيه على وجهٍ من الرأي مع [تشبّثٍ] (4) بطرفٍ من النقل، مع الاعتراف بأن طريقة الأصحاب في المسلك الظاهر ما قدمناه.
5595- ومما يدور في الخَلَد أن الحائط له أثر في اتخاد المسكن، والبستان، والحظيرة، كما أطلقه الأصحاب، ثم لم يتعرضوا لتفصيل الحيطان، ولا نشك أنها تختلف باختلاف المقاصد، فحائط المسكن يزيد على حائط الزريبة، والمعتبر في كل مقصود ما يليق به، فالساكن يزداد قصدُه في التحصين بالجدار على قصد صاحب البستان.
5596- ومما نختتم به هذه الفصول أن من استفتح حائطاً، وأحكم الأساسَ ورفع
__________
(1) سقطت من (د 1) ، (ت 3) ، وحرفت في الأصل إلى (فشبب) .
(2) كذا. ولعلها: " كان مبعداً " كما هو جارٍ في لفظ الإمام.
(3) في الأصل: "العامر" والمثبت من (د 1) ، (ت 3) .
(4) حرفت هذه الكلمة في النسخ، وهذا عجب من العجب، فقد رُسمت في الأصل هكذا: (تنبّث) وفي (د 1) : (تثبيت) و (ت 3) : (التثبت) .(8/296)
منه مقداراً مثلاً، ولم يكن ذلك المقدار حاجزاً، فلا يحصل الملك به، فإذا لم نجعله مالكاً، جعلناه متحجراً، كما سنصف على أثر ذلك التحجرَ وحكمَه، فإذا أضرب عن استتمام العمارة، وتبين ذلك منه، فأراد إنسان أن يعمر تلك البقعة، واحتاج إلى نقض ما بناه ذلك الأول، فهذا سائغٌ، وأرى ذلك مشروطاً بالتزام الضمان في النقص الذي يُحدثه القلعُ؛ فإن الذي بنى كان له أن يبني، وكلُّ من بنى بناءً مباحاً، ثم تسلّط الشرعُ على نقضه، فعلى الناقض أرشُ ما ينقصه القلع.
وتمام البيان في هذا يتضح بفصل التحجر كما سنذكره الآن إن شاء الله.
فصل
قال: " ومن أُقطع أرضاًً أو تحجّرها، فلم يعمُرها ... إلى آخره " (1) .
5597- اتفق أصحابنا أولاً أن لإقطاع الوالي مساغاً في الأراضي الموات، وليس الإحياء مشروطاً بالإقطاع، كما ذهب إليه أبو حنيفة (2) ، فمن ابتدر وأحيا بقعة من الموات، ملكها، وإن لم يراجع الإمامَ، ولا معترضَ للأئمة فيما فعله، ولكن إذا جرى إقطاعُ صاحب الأمر، اختُصّ المقطَع بمحل الإقطاع، حتى لا يزاحمَ فيه اختصاص المتحجر. والتحجُّرُ أن يبتدىء الرجل تحقيقَ قصده في إحياء بقعةٍ، فينصب عليها علامة، بأن يخط حولها خطوطاً بيّنةً، أو يغرز خشباً وقصبات، أو يجمع حولها تراباً، وليس ما يأتي به محسوباً من العمارة، [وإنما يفعله إعلاماً أنه يهمّ بالعمارة] (3) حتى لا يقصد البقعةَ مبادرٌ.
هذا هو التحجر. وغرضُه الإعلامُ، فيحصل بما يحصل به الإعلام.
5598- ثم ليس لغير المتحجّر أن يعمُر الموضعَ المتحجَّر، فإن ابتدره وعمَره مع
__________
(1) ر. المختصر: 3/108.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 134، مختصر اختلاف العلماء: 3/518 مسألة 1661.
(3) ما بين المعقفين سقط من الأصل. وعبارة (د 1) ، (ت 3) : " وإنما يفعله أن يهم بالعمارة " والمثبت تقدير من المحقق.(8/297)
كونه ممنوعاً، فهل يملك البقعة بالإحياء المعتبر التام؟ حاصل ما ذكره الأئمة أوجهٌ ثلاثة:
أحدُها- أنه لا يملك؛ فإنّه أقدم على إحياءٍ هو ممنوعٌ منه، فكان مقتضى المنع إعدام أثر الإحياء.
والوجه الثاني - أنه [يملك] (1) ، وهو ظاهر القياس؛ فإنه لم يوجد من المتحجِّر إلا إظهارُ همّه بسبب التملك، وليس ما جاء به محسوباً من السبب، وهذا الذي أكمل الإحياء أتى بسبب التملك، وهذا بمثابة تحريمنا السّوْمَ على السَّوْم والخطبة على الخِطبة، ثم لو سام على سَوْم أخيه، واشتراه، ملَكه، وإن فعل ما لم يكن له أن يفعله.
والوجه الثالث- أن التحجر إن لم يتصل بإقطاع الإمام، ملك المحيي، وإن أقطع الإمامُ فتحجر، أو وجد الإقطاع المجرد من غير تحجر، فالمُحيي لا يملك؛ فإن الإقطاع (2) صادر من صاحب الأمر، ولا يليق بتأكيد الشرع طاعةَ الولاة [تجويزُ] (3) الخروج عن مراسمهم. والتحجر الذي ينفرد به المتحجر يجوز أن يُفرض مزاحمتُه.
5599- ولو تحجر المتحجر، ثم طال الزمان، وامتدت المدة، وأعرض عن العمارة، فللوالي أن يقول: إن أحيَيْتَها، وإلا خلّينا بينها وبين من يُحييها، فإن الموات مُرصدٍّ لعامّة المسلمين، وإنما ثبت حق المتحجِّرِ فيه؛ لأنه ذريعةٌ إلى العمارة، فإذا طال الزمان، بطلت الذريعة.
ثم لا يتوقف بُطلانُ التحجر على إبطال الوالي، وإنما نؤثر رفعَ الأمر إلى الوالي لقطع الخصومة، وإلا فالحكمُ أن التحجرَ إذا بطل أثره، فلا حكم له، حتى إذا قلنا: لا يملك المُحْيي البقعةَ المتحجرة، فيُقضَى بأنه يملكها إذا ظهر انقطاعُ أثر التحجّر.
ثم لا مرجع في ذلك إلى ضبطٍ محدود، وإنما الرجوع إلى أهل العرف، والذي
__________
(1) في الأصل: تمليك.
(2) (د 1) ، (ت 3) : الإقرار.
(3) في الأصل: تحريف.(8/298)
نفهمه منه أن الإنسان لا يؤخر العمارة عن التحجر إلا في زمانٍ يتهيّأ فيه للعمارة، ويهيِّء أسبابَها. والوجه فرض ذلك من متمكن من تهيئة أسباب العمارة، فإذ ذاك [يعتبر] (1) زمان التهيؤ، فأما إذا تحجر فقيرٌ بقعة، وأخد ينتظر أن يُملّكه الله عزّ وجل ما يهيّىء به أسباب العمارة، فهذا لا معوّلَ عليه، وكذلك لو تحجّر المتمكن بقعةً، وزعم أنه سيعمُرُها في السنة القابلة، فلا حكم لتحجّره، والأصلُ ألا ينفصل التحجرُ عن العمارة إلا بمدة التهيُّؤ.
وإذا حصل الانقطاع، فلا فرق بين أن يكون هذا عن عذر: مثل أن يغيب أو يُحبس، وبين أن يكون عن [إضرابٍ] (2) وإعراضٍ، والأصل في الباب أن عامة المسلمين مشتركون في الموات، وأثر التحجُّر ما نصصنا عليه. [فإذا زال أثرُ التحجّر] (3) ووقعُه، استمر حكمُ الاشتراك، وهو الأصل، وإذا أقطع الإمام بقعةً فالمُقطَع فيه كالمتحجِّر، فليشتغل بالعمارة، على حدّ اشتغال المتحجّر، فإن لم يفعل، كان القول [فيه] (4) كالقول في المتحجر في جميع ما قدمناه.
وبَيْن أئمتنا الخلافُ في أن من ابتدر وأحيا البقعة المتحجَّرة قبل ظهور التقصير من المتحجِّر، فهل يملك بالإحياء؟ على خلاف سيأتي في الصيد، وهو أن ظبيةً لو توحّلت في ملكٍ لإنسان، أو عشَّش طائرٌ في ملكه، فصاحب الوحل والملك الذي فيه العُش لا يملك الظبيةَ والفرخَ، ولكن ليس لغير المالك أن يأخد الصيدَ والفرخَ، فلو أخذه هل يملكه؟ فيه خلافٌ سيأتي مشروحاً، إن شاء الله تعالى.
ووجه التشبيه أن التوحّل والتعشيش في الملك أثبت للمالك على الجملة حقّاً، والاصطيادُ سببٌ للتملك، فإذا ورد على حق التملك، كان مختلفاً فيه، كالتحجُّر مع الإحياء.
__________
(1) في الأصل: يغيّر.
(2) في الأصل: إضرار.
(3) في الأصل: فإذا زاد التحجر.
(4) ساقطة من الأصل.
(5) في (د 1) ، (ت 3) متحققاً. وهو مخالف للسياق.(8/299)
5605- ومما يتصل بتمام البيان في ذلك أن المتحجِّر إذا أخد في العمارة، وكان تمهّد الأساس، أو بنى بعضَ الجدار، فقد ذكرنا أن هذا القدرَ لا يُثبت له الملك، ولكن لو ابتدر مبتدر إلى إحياء هذه البقعة، يجب القطع بأنه لا يملكها؛ فإن السابق إلى العمارة أولى، فقد تأكد حقُّ تملكه. والخلاف الذي ذكرناه في الابتدار إلى عمارة البقعة المتحجرة، [فسببه] (1) أن العمارةَ أقوى، وإن كان التحجر أسبق، فرأى بعضُ الأصحاب تقديمَ السبب الأقوى على الأسبق؛ فإن التحجر ليس من العمارة، وإذا ابتدأ العمارة في مسألتنا، فله حقُّ السبق، والتمسكُ بالسبب الأقوى.
5601- ومما يتعلق بذلك أن الإمام إذا حمى بقعةً، وصححنا الحمى، فلو ابتدر مسلمٌ، وأحيا طرفاً من المكان المحمي، فقد اختلف أصحابنا في أنه هل يملكه؟ وهذا يقرب من الخلاف في إحياء الأرض المتحجِّرة، ولعل الأولى في الحمى ألا يملك؛ فإنه حكمٌ ثابت، وليس في حكم العلامة على ما سيكون، بخلاف التحجر.
5602- وقد ذكرنا في قاعدة المذهب أن المسلمين إذا استولَوْا على موات بلاد الشِّرك، وكان المشركون يذبُّون عنه كما يذبّون عن عامر البلاد، فالغانمون فيه كالمتحجّرين. وذكر الشيخ أبو علي وجهين آخرين:
أحدهما - أنهم يملكون الموات إذا قصدوا تملّكه، كما يملكون المغانم؛ فإن الإحياء إثباتُ يدٍ على الاختصاص على الأرض المشتركة، فإذا ثبتت أيدي الغانمين، وظهر قصدُهم إلى الاستيلاء، كان ذلك بمثابة الإحياء، وليس يبعد أن يملكوا بالاستيلاء ما لم يكن ملكاً قبل استيلائهم، كما يملكون الحرائر، والذراري بالسبي.
والوجه الآخر- أنه لا يثبت لهم اختصاص بالموات، وإن اختصوا بالاستيلاء، ولا ينزلون منزلة المتحجِّرين أيضاًًً، بل المسلمون كافة في إحيائها شَرَعٌ (2) ؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم علق ملكَ الموات بالإحياء، وحقَّ التخصيص بالتحجر، ولم يوجد منهم إحياءٌ، ولا تحجّرٌ.
__________
(1) في الأصل: وسببه. والفاء هنا على تقدير: وأما الخلاف. والله أعلم.
(2) شَرَع: بفتح الشين والراء، أي متساوون (المعجم) .(8/300)
فقد تحصَّلَ مما ذكرناه، مع ما قدمناه ثلاثة أوجه:
أصحُّها -وهو الذي قطع به معظمُ الأئمة- أن المستَوْلين بمثابة المتحجّرين.
والثاني - أنهم في الموات بمثابتهم في المغانم.
والثالث- أنه لا حقَّ لهم، ولا اختصاص.
وهذا فيما كانوا يذبّون عنه، فأما إذا كانوا لا يذبّون عن موات بلادهم، فقد تقدم التفصيل فيه، فلا مزيد عليه.
5603- ومما ذكره الأئمة أن المتحجِّر لو باع ما تحجَّره، ففي صحة بيعه وجهان: أصحهما - المنعُ؛ فإن البيع يستدعي ملكاً ثابتاً، والتحجّر لا يقتضي ملكاً للمتحجّر.
والوجه الثاني - أنه يصح، ومورده حقُّ الاختصاص، وهذا القائل يستشهد ببيع حق البناء على العلوّ، كما قدمناه في كتاب الصلح. وهذا عند هذا القائل بيعُ حق مللكٍ، وليس بيعَ عينٍ مملوكةٍ من العلوّ، وقد قدمنا تفصيلَ القول في ذلك. وتصحيحُ البيع من المتحجِّر في نهاية الضعف.
5604- ومما أرى ختمَ الباب به أن الجهة التي لا تردد فيها في قصد التملك، لا حاجة إلى فرض القصد فيها، وهذا كبناء الدار، والمساكن، وكاتخاد البساتين، والتحويط عليها، وكل ما يقصده المتملك.
5605- وقد يقع ممن يطلب انتفاعاً" (3) ثمّ إعراضاً بعده، كالزرع في بقعةٍ من الأرض على القَطْر -وكان أهل البادية يعتادون ذلك- فهذا مما يستدعي قصداً، وكذلك حفر البئر في المفاوز، ومواضع العشب، قد يفعله [المنتجِع] (2) وقد يفعله المتملك، فإذا تردد الأمر، فلا بدّ من القصد.
5606- وكل ما " لا " (3) يقتصر عليه المتملك أصلاً؛ لم يتضمن ملكاًً، وإن انضم
__________
(1) (د 1) : انتفاعها. و (ت 3) : انتفاعها، ثم أغراضاً بعيدة.
(2) في الأصل: المنتهج.
(3) ساقطة من (د 1) ، (ت 3) .(8/301)
القصدُ إليه، وهذا كتسوية بقعة للنزول فيها، فهذا وإن قصد به المسوِّي تملكاًً، لا يكون تملّكاً.
5607- وهذه القواعد في النفي والإثبات تضاهي نظائرها في الاصطياد، فمن نصب أحبولة، وهيأ أسبابها على مدارج الصيود، فهذا مما لا يقصد به [إلا] (1) الاصطياد، فلا حاجة إلى تقرير ضمِّ قصدٍ إليه. وإغلاقُ الباب على الصيد إذا اتفق دخولُه الدارَ مما يُقصد على علمٍ، وقد يقع من غيرِ علمٍ، فإن كان على علمٍ وقَصْدٍ، أفاد تملكاًً، وإن لم يجرِ به (2) قصدٌ، ففي الملك وجهان.
ونحن نطرد هذه المسالك في الإحياء، فما لا تردد فيه، فلا حاجة إلى القصد فيه، حتى كأنه من قبيل الأفعال يضاهي التَّصريحَ من قبيل الأقوال.
وما يتردَّدُ إذا انضم إليه قصدُ التملك، كان تملّكاً، وإن لم ينضم إليه القصدُ، ففي حصول الملك به وجهان.
وما لا يقصد به التملك لم يؤثِّر انضمامُ القصد إليه، فيناظر توحّلَ الظبية في الأرض المسقيّة، ويضاهي من الألفاظ ما لا [يحتمل] (3) معنى الطلاق.
هذا حاصل القول في قواعد الباب.
فرع:
5608- موات الحرم يُملك بالإحياء؛ فإن جهات التملكاًت جارية عندنا في الحرم، جريانَها في غير الحرم، وما ملكت رِباع مكة إلا على هذه الجهة.
ولو أحيا المُحيي بعضَ بقاع عرفة، فقد اضطرب أصحابنا فيه، فذهب القياسون إلى أنه يملك ما أحياه، ولا تضيق عرفةُ وإن اختلت (4) أطرافها عن حجيج الدنيا.
ومن أصحابنا من قال: لا يَملك المُحيي من عرفةَ شيئاً، لتعلق حق الوقوف بها؛ وإذا فتحنا بابَ التملك، ارتفع الاختصاص، وقد يُفضي ذلك إلى الاستيعاب، ثم
__________
(1) سقطت من الأصل.
(2) (د 1) ، (ت 3) : وإن لم يكن عن قصدٍ.
(3) في الأصل: يحصل.
(4) (د 1) ، (ت 3) : أحييت. هذا، واختلت هنا بمعنى انتُقصت (معجم) .(8/302)
لا حجرَ على المحيي لو بنى، أو غرس وهذا يؤدي إلى إبطال حق الوقوف من البقاع المحياة.
والوجه الثالث - أن من أحيا مواتاً من عرفة ملكه، ويبقى حقُّ الوقوف للواقفين، ثم اضطرب أصحابنا في تفصيل هذا الوجه، فمنهم من قال: يبقى حقُّ الوقوف، وإن لم يضق الموقف، حتى لو قصد الموضعَ المحيا رهطٌ من الحجيج، لم يُمنعوا.
ومنهم من قال: إن كان في الموقف متسعٌ، لم يجز استطراق ما مُلك، وإن ضاق الموقف، استُطرِقت الأملاك.
***(8/303)
باب ما يجوز أن يُقطع وما لا يجوز
قال: " ما لا يملكه أحد من الناس يُعرف صنفان ... إلى آخره " (1) .
5609- وقد أتى المزني بألفاظٍ مضطربة في صدر هذا الباب، وجاوزت غلطاتُه في الكتاب حدَّ العثرات، ولو قيست مواضع غلطه بمواقع إصابته، لعادلتها، إن لم تزد.
قال: " ما لا يملكه أحدٌ من الناس يُعرف صنفان: أحدهما - ما مضى، ولا يملكه إلا بما يستحدثه فيه، والثاني - ما لا تُطلب المنفعة فيه إلا بشيء يجعل فيه " (2) ، عَنَى بالأول المواتَ؛ فإنه غير مملوك قبل الإحياء، وإنما يملكه المحيي بأن يجعل فيه شيئاً، [وعنى] (3) بالثاني المعدن، غيرَ أنه غَلِط، إذ قال: " لا تُطلب المنفعة فيه إلا بشيءٍ يُجعل فيه " وهذا والأول واحدٌ. والشافعي قال: "والثاني - ما تُطلب منفعتُه، لا بشيء يجعل فيه، وهذا صفة المعادن " (4) .
5610- ثم مقصودُ هذا الباب الكلامُ في المعادن الظاهرة، ونحن نقول: المعادن تنقسم، فمنها كامنة، وفيها بابٌ معقودٌ سيأتي، إن شاء الله تعالى، ومنها ظاهرة، والكلام يتعلق بتصوّرها، ثم بيان الحكم فيها.
فأما القول في تصويرها: فالمعادن الظاهرة هي التي نيلُها ظاهر بادٍ، لا حاجة إلى عملٍ في إظهار نيلها، ثم قد يسهل أخذُ نيلها على يُسر، وقد يعاني الآخد بعضَ المشقة في الأخذ، لا في إظهار النَّيل، والقسمان جميعاً من المعادن الظاهرة، فمنها معدن
__________
(1) ر. المختصر: 3/108.
(2) السابق نفسه.
(3) في الأصل: وعين.
(4) عبارة الشافعي في (الأم) بهذا النص: "والثاني - ما تطلب المنفعة منه نفسه ليخلص إليها، لا شيء يجعل فيه من غيره، وذلك المعادنُ" ا. هـ (الأم: 3/265) .(8/304)
الملح، وهو ينقسم إلى ما ينعقد من ماءٍ ظاهرٍ، وإلى ما يُلفى في الجبال ظاهراً من غير حاجة إلى إظهاره بتنحية التراب والأحجار عنه، والقِيرُ (1) ظاهر، وكذلك النَّفطُ (2) ، والكبريت، والموميا (3) . ويلتحق بالمعادن الظاهرة المياه العِدّة، وهي العيون والأودية، ومن المعادن الظاهرة الأحجار ذوات المنافع الخاصة، كأحجار الأرْحية، وأحجار البَرام (4) ، فإذا كانت ظاهرةً، فهي من المعادن الظاهرة، وإن كان يتعب آخذها باحتفارها وقلعها، وألحق الأئمة بالظاهر ما لو ظهر في مسيل الماء ذهبٌ أو غيره من الجواهر المطلوبة، مما يجرفه (5) السيل وسال به، وأظهره، فهو الآن بمثابة المعادن الظاهرة.
هذا بيان التصوير.
5611- فأما الحُكم، فالأصل في الباب أن هذه المعادن مشتركة بين الناس لا يتطرق إليها اختصاصٌ بمالكٍ (6) بوجهٍ، ولا يتطرق إليها تخصيصٌ بإقطاعٍ، بل الخلقُ فيها شَرَعٌ، وهي فوضى بينهم لا تحجّر فيها، ولا تملك، ولا إقطاعَ، والأصل في ذلك مع الإجماع ما روي أن أبيض بنَ حمال استقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم ملحَ مأرب، فأقطعه إياه، أو أراد، فقيل: يا رسول الله إنه كالماء العِدّ، فقال عليه السلام: " فلا إذاً " (7) ، وإنما همَّ عليه السلام بالإقطاع لأنه لم يحسبه
__________
(1) القير: هو القار، وهو لغةٌ فيه. (المصباح) .
(2) النَّفطُ: بالفتح أجود، وقيل الكسر أجود (المصباح) .
(3) الموميا: مادة شمعية توجد في الجبال، وهي لفظة فارسية. (المعجم الفارسي العربي الجامع، لواضعه حسين مجيب المصري) .
(4) البَرام: بفتح الباء جمع بُرمة، وهي القدر من الحجارة (المعجم) .
(5) في (د 1) ، (ت 3) جرى. وساغ هنا عطف الماضي على المضارع؛ لأن الشرط اتحاد المعطوف، والمعطوف عليه زماناً، وإن اختلفا في النوع، فالفعل (يجرفه) بمعنى (جرفه) ، ومثاله قوله تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّار} [هود: 98] فالفعلان يتحققان في المستقبل، فهما متحدان في الزمن، وإن اختلفا في النوع (ر. النحو الوافي: 3/621) .
(6) (د 1) ، (ت 3) : تملك.
(7) حديث أبيض بن حمال: رواه الشافعي في الأم: 3/265، وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء، باب في إقطاع الأرضين: 3064، والترمذي: الأحكام، باب ما جاء في القطائع: =(8/305)
ظاهراً، وقدّره من المعادن الكامنة، فلما تبيّن له ظهوره، أبى من الإقطاع.
5612- فإذا تمهد ما ذكرناه من حقيقة الاشتراك فيها، [فللسّابق إليها حقٌّ] (1) لا ينكر، وقال الأئمة: من سبق إلى معدنٍ (2) من هذه المعادن، فهو أحق بها حتى يستوفي حقَّه، لا يزاحمه من يلحقه، وهذا لا موقف فيه يقف الفقيه عنده، ولا توقيف من جهة الشرع يُنتهَى إليه، غيرَ أنا نعلم أن السابق لِحَقِّ سبقه مزيّةٌ، فلو قال الذي يلحقه: نشترك في أخْذِ النّيل، فيأخد وآخُذ، قيل: هذا إبطالٌ لِحَقِّ السبق، وقد اتفق العلماء على ثبوته، وهذا بمثابة إثباتهم حقَّ السبق لمن يسبق إلى مجلس القاضي؛ فإنه يُقدّم بحكومته لحق سبقه، وكذلك السابق إلى المفتي، والعالم المعلِّم (3) .
ولو قال السابق: أُوقر من نيل المعدن أوقاراً كثيرة وأرُدّ الحُمُرَ ذاهبة وجائية، وأنا في ذلك لا أبرح حتى أقضي وطري، قلنا: ليس لك إلا ما يقتضيه العرفُ لأمثالك إذا سبق، فلك ما يعتاده السابق الذي يبغي الرفعَ والانكفافَ، ولا عليك لو [استعنت] (4) على الاعتياد، فأما ترديد الدواب، فمحاولةٌ للاختصاص بالمعدن، ثم لا ضبط في جهة النهاية، وهذا كما أن السابق إلى مجلس القاضي لا يقدّم إلا بحكومةٍ [واحدةٍ] (5) ؛ إذ هذا هو المعتاد في المجلس الواحد بلا مزيدٍ.
ولو تكلّف السابق إلى المعدِن جمْعَ مائة حمار فصاعداً، وهذا لا يعتاده الرجل السابق إلى المعدن، لم يمكّن من هذا، فليس له إذاً إلا ما يليق به. لا يزاحمُ في
__________
=1380، والنسائي في الكبرى: إحياء الموات باب الإقطاع: 5764-5768، وابن ماجه الرهون باب إقطاع الأنهار والعيون: 2475، والدارقطني: 4/221، والبيهقي: 6/149.
ر. التلخيص: 3/142 ح1337.
(1) في الأصل: " فالسبق فيها حكم لا ينكر "، و (د 1) : " فللتسبيق إليها حق لا ينكر "، وفي (ت 3) : " فلنسق إليها حتى لا تنكر ". والمثبت تصرف من المحقق، على ضوء السياق والسباق.
(2) "المعدن " يستخدم في هذا الباب بمعنى ما يُسمّى (المنجم) عندنا الآن، فهو مكان استخراج المعادن. وما يستخرج من (المعدِن) هو الذي يُسمّيه هنا (النَّيْل) .
(3) في الأصل: والعالم إلى المعلّم.
(4) في الأصل: أسبغت.
(5) ساقطة من الأصل.(8/306)
النَّيْل حتى يستوفيه، وأثر سبقه أن يتخفف ويأخد اللائق بحاله، على قربٍ من غير مزاحمة، فإذا فعل، لم نمنعه من أخد النيل أيضاًًً، ولكنه يزاحمه غيرُه؛ فإنه استوفى حقَّ سبقه، وصار في الزائد عليه كغيره، فلو عكف على المعدن، وكان لا يبرح، ولا يمتنع من أن يزاحَم، ولكن كان يأخد مع الآخذين، فالمذهب أنه لا يُمنع منه.
5613- وذهب بعضُ الأصحاب إلى أنه يُمنع ويُنحَّى؛ فإنه في عكوفه مجاوزٌ لعادة
الآخذين من نيل المعدن، والأصح الأول؛ فإن الازدحام غير منكر في نيل المعادن، ولو كان يبتكر إلى المعدن كلَّ يوم، أو كان يبعث إليه غلمانه [يتناوبون] (1) ، فلا منعَ.
5614- ولو استبق رجلان إلى المعدن، فإن استمْكنا من الاشتراك في أخد النيل، اشتركا فيه، وإن ضاق مدخل المعدن (2) ، ففي المسألة وجهان:
أحدهما - أنه يُقرع بينهما، فمن خرجت قرعته، قُدّم، فيستوفي حقَّه على ما فسرناه في حق السابق، والقرعة تُلحقه بالسابق، كما (3) إذا ازدحم رجلان على مجلس القاضي، فإنا نقرع بينهما، فمن خرجت قرعته، قدم، كما نُقدِّم السابق.
والوجه الثاني - أن الإمام يقدّم بالاجتهاد أحدَهما، من غير قرعة.
وذكر أصحابنا مسلكاً ثالثاً، فقالوا: ينصب القاضي من ينوب عنهما، ويأخد قدرَ ما يحتاجان إليه، ويقسم بينهما.
وهذه الأوجه تحتاج إلى مزيد بحث. أما وجه القرعة، فبيِّنٌ، وأما تقديم القاضي، فليس يستند إلى تَشَهٍّ (4) ، وإلى وفاقٍ في انطلاق اللسان، وإنما يرجع إلى رأي، فإن خفي، مثل أن يرى أحدَهما أفقر وأضيق وقتاً، فيقدمه لهذا، فإن استويا عنده، اضطر إلى القرعة، إذا دام نزاعُهما.
ثم ما أشرنا إليه من وجوه الرأي لا يجوز أن يستمسك به المستبقان؛ فإن الرأي يدِق فيه، فهو مفوضٌ إلى من إليه الأمر، وأما ما ذكره بعض أصحابنا وجهاً ثالثاً من
__________
(1) في الأصل: يتناولون.
(2) أي فتحةُ المنجم، كما فسرناه في التعليق آنفاً.
(3) (د 1) ، (ت 3) : فلما.
(4) (د 1) ، (ت 3) : تشيه.(8/307)
استنابة إنسان، فهذا إذا وجدنا متبرعاًً، أو رضيا بأن يستأجرا، فإن لم يرضيا، ولم نجد متبرعاًً، فالقرعةُ، فهي إذاً مآل كل مسلك، وهي [المفتتح] (1) في الوجه الأول.
5615- ومن تمام البيان في ذلك أنهما إذا استبقا، والنَّيلُ غيرُ عزيزٍ، فلو أخذا يبتدران النيلَ، فقد يأخد أحدهما أكثر، فيُمنع من هذا، فليس الأمر [بالتسالب] (2) ، وليس [كتناهب] (3) اللاقطين، [لما يُنثر] (4) ؛ فإنّ قصد الناثر أن يبتدره المتناهبون، والشرع يشير إلى الانتصاف، فإذا تنازعا، وقد ضاق النيل (5) ، فالتسوية، إلا أن يتسامحا.
5616- ومما يتصل بذلك أن العين العِدّ لو احتفّ به ناسٌ سبقوا إليه، واتخذوا بساتينَ ومزارعَ، وكان الماء كافياً، وافياً، من غير مزيد، فلو لحق لاحقٌ، واستحدث بستاناً، أو مزرعةً، وأراد أن يَشْركَ السابقين، ولو فعل لضاق الماء، وقَصَر عن البساتين، فالقدماء أولى بحق السبق، ولكن السبق في هذا النوع من الانتفاع لا يُزال، ولا يتصور التناوب فيه، بخلاف السبق إلى النَّيْل الذي يوجد من المعدن، وفي هذا مزيد كشفٍ سأذكره، إن شاء الله عز وجل- في البئر التي تحفر في المفازة؛ إذا فصَّلنا القول في فضل مائها.
هذا منتهى الكلام في المعادن الظاهرة، تصويراً، وحكماً.
5617- ثم قال الأئمة: إذا عمد الرجل إلى أرضٍ على [الساحل] (6) ، وسوّاها، واحتفر فيها حفيرةً يدخل الماء إليها، وينعقد الملح، فهذا مما يختص به العامر المحتفر، هكذا قال الأصحاب.
والوجه أن نقول: إن كان يبغي بالعمل على الأرض إحياءها لمقصودٍ، فسبق إليها
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في الأصل حُرّفت إلى: بالتنالب.
(3) في الأصل: كناهب.
(4) ساقط من الأصل.
(5) (د 1) ، (ت 3) : البناء.
(6) في الأصل: التناحل.(8/308)
الماء، وانعقد الملح، فلا شك أنه يختص بذلك الملح الحاصل، وسنوضّح أن من أحيا أرضاًً، فظهر فيها معدن من المعادن الكامنة، فمُحيي الأرض مالكه.
5618- ولو احتفر الأرض على الساحل، وقصد بما يفعله جذبَ الماء لينعقد الملح، فهذا في التحقيق أخذٌ من النَّيْل العام، على جهة الاختصاص.
فالوجه فيه أن يقال: إن كان بالقرب من مملحةٍ ينعقد الملح فيه (1) ، فإن احتفر حفيرةً، وجرَّ شيئاً من الماء، فهو مزاحَمٌ [فيه إن أراد أن يبقى له دائماً، وقد يُميل إليه جملةَ المملحة، فاحتفاره كأخذه] (2) من النيل، وقد مضى الأخد مفصَّلاً، فالاحتفارُ طريقٌ في الأخْد فدائمُه كدائمه، وما يحصل شيئاً فشيئاً [كالأخذ] (3) المقطّع من المعدن.
ولو احتفر الأرضَ على شط البحر، والبحر ليس [مملحة] (4) ، ولا ينعقد الملح فيه أبداً، ولكن إذا فتح منه فتحات ضيقة، إلى سَبْحة (5) ، انعقد الملح منه على قرب، فإذا فعل الفاعل هذا، اختص، ولم يزاحَم، فكان بما فعله كاسباً منفعةً بجهةٍ في إحياء الأرض، كالزارع والغارس وغيرهما. هذا تفصيل ما أبهمه الأصحاب.
***
__________
(1) كذا في النسخ الثلاث، بضمير المذكر، ولها وجهٌ أشرنا إلى مثله كثيراً.
(2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(3) في الأصل: كأخد.
(4) في الأصل محرفة إلى: ممكنة.
(5) كذا بالأصل، بالحاء المهملة، فقد رسم تحتها (حاءً) صغيرة علامة على إهمالها، وهي بمعنى الحفرة، من سبَحَ فلانٌ في الأرض: حفر. (المعجم) .
وفي (د 1) ، (ت 3) : سبْخَة، بالخاء المعجمة، وهي أرضٌ ذات ملحٍ ونزّ، لا تكاد تنبت. (المعجم) وكلا المعنيين يستقيم به الكلام، والله أعلم أيهما أراد المؤلف رضي الله عنه.(8/309)
باب تفريع القطائع
5619- مقصود الباب الكلام في مقاعد الأسواق وما يتعلق بها ويُدانيها، فالأصل في الشوارع المرورُ والاستطراقُ. وكلُّ ما يضيّق على المارة، فهو ممنوعٌ، فإن الشوارع مقصودُها مضطرَبُ الناس في الذهاب والمجيء.
فإن اتسع الشارع، وقلّ الطارقون بالإضافة إليه، فلا يمتنع أن يقعد القاعد في وسط الشارع، أو في جانبٍ إذا وجد الطارقون سبيلاً (1) عن مقعده، على يُسرٍ، وليس للطارق أن يقول: لا أبغي الطروق إلا في مقعدك، وموضِع جلوسك؛ فإنا وإن حكمنا بأن الشارع للإطراق، فلسنا ننكر حقوق الكائنين [وهم] (2) وقوفٌ أو قعود، غيرَ أن الطروق أولى إذا ضاق المسلك.
فخرج من ذلك أن من جلس غير مضيِّقٍ على المارة، وتخيَّر مقعداً يبيع فيه ويشتري، فلا منعَ، وإذا سبقَ إليه، لم يزاحمه غيرُه.
ولا حاجة إلى استئذان الوالي؛ فإنه من حقوق الطريق، فأشبه المرورَ.
5620- والاختصاصُ بالبقعة التي يتخيّرها بمثابة اختصاص المحي بالإحياء قطعةً من الموات، بيدَ أَنَّ المُحْيي يملك ما يُحييه، ومن يتخيّر مقعداً لا يملكه؛ فإن الشارع تعلّق به حقوقُ الناس قبل أن تخيَّر القاعدُ مجلسَه، فقيل: لا مطمع في الملك مع العلم بتأكد حق الطروق، وقد يزدحم الناس، ويضيق الشارع، ولكن إن لم يضق، فلا ننكر اختصاص السابق إلى المكان الذي تخيّره، كما سنصفه.
5621- فنقول: من حقه ألا يُزعَج مادام فيه، ولا يُضيّقَ عليه في مجلسه، فلو
__________
(1) (د 1) ، (ت 3) : مميلاً.
(2) في الأصل كلمة غير مقروءة صورتها هكذا: (تؤهم) .(8/310)
جلس جالس أمامه أو بالقرب منه، بحيث يتعذر عليه انبساطُه في الكيل والوزن والإعطاء والأخذ، كان ذلك تزاحماً ممنوعاً، فإنا إذا أثبتنا للسابق إلى المقعد حقّاً، فقد التزمنا توفيرَه عليه، وهذا يُثبت لمقعده حريماً، والمحكَّمُ في مثله العادةُ.
وذكر بعضُ من لم يُحط بحقيقة ذلك شيئاً أَشْعَرَ بذهوله، فقال: لو جلس بجنبه من يمنع المساومين معه، لم نتركه (1) ، وهذا ليس بشيءٍ؛ فإنه جارٍ في الدكاكين المملوكة، فلا تزيد المقاعد عليها، وإنما المرعي ما نبهنا عليه من الانبساط، مع الرجوع إلى العادة، وقد يختلف بكثرة القاعدين، وضيق المقاعد؛ فإن أصحابها يتضامّون إذا كثروا، ويتوسعون إذا قلّوا، وموجب الشرع الحملُ على أحسن المراشد في العوائد.
5622- ومن تخيّر بقعةً، وجعلناه أولى بها، فإنه يُزايلها ليلاً، وهو أولى بها، إذا كان ينتابها، ولا يسوغ لسابقٍ أن يسبق إلى مجلسه لتخلّل قيامه، وليس ذلك بمثابة المعادن الظاهرة؛ فإنها لا تتعين لمنتابٍ؛ إذْ مبناها على الاشتراك، وليس فيها حق الاختصاص إلا على قدرٍ ذكرناه في السابق، ومبنى المقاعد على الاختصاص.
ثم المتبع فيه الاعتيادُ، ومن يتخيّر مقعداً يبيع فيه ويشتري، أو يحترف، فغرضه الأظهر أن يظهر مكانُه، حتى يعرفَه المعاملون، وهو الركن الأعظم في المكاسب، فإذا كان هذا هو المقصود في تعيين المقاعد، فلا بد من الوفاء به.
5623- وأنا أقول: لو جلس الجالس في بقعةٍ، ولم يضيِّق على الطارقين، لم يُزعَج، وإذا لم يكن له غرضٌ كما نصصنا عليه، فليس له حقُّ العوْد إلى ذلك المكان، حتى يقالَ لو سبق إليه سابق، لم يكن له ذلك؛ إذ لا غرض للجالس فيه؛ حتى يقالَ: يتعطل غرضه بتفويت مجلسه.
5624- ثم إذا عيَّنا المقعد لذي الغرض الصحيح، فلو استأخر يوماً ويومين، لم ينقطع حقه عن المقعد، سواء كان معذوراً أو غير معذور، وإن طال الزمان وتمادى
__________
(1) المعنى لو جلس بجواره من ينافسه في بضاعته نفسها، فيجذب المساومين والمبتاعين ويمنعهم بجلوسه عن الشراء منه، لم نتركه.
ووجه الذهول والخلل في هذا الكلام، أن هذا التنافس بين المتجاورين موجودٌ في الدكاكين المملوكة، والاختصاص بالمقاعد لا يمكن أن يزيد على الدكاكين المملوكة.(8/311)
الفصل، لم يعطَّل المقعد، وكان للغير السبقُ إليه. وكذلك إذا غاب غيبةً بعيدةً.
هذا ما أطلقه الأصحاب، وما ذكروه كلام مرسل [ومقصودنا] (1) ضبطُه، ولم يهتم به أئمةُ المذهب، ولم يُعملوا فيه وفي أمثاله القرائحَ الذكيةَ، واكتفى الناقلون عنهم بظواهر الأمور، وانضم إليه قلة الاعتناء (2) بالبحث، فصار أمثال ذلك عماية عمياء، والموفق من يهتدي إلى المأخد الأعلى (3) ؛ فإن مذهب إمامنا الشافعي تَدْواره على الأصول، ومآخد الشريعة.
5624/م- وأنا أقول مستعيناً بالله تعالى: إن أضرب صاحبُ المقعد، وتبيّن إضرابه، بطل حقُّه على قربٍ من الزمان، وذلك بأن يَبْذُل مجلسَه لغيره، أو يتخذ مقعداً آخر، وأخد ينتابه، فيتبين إضرابُه عن الأول.
هذا مسلك في بطلان اختصاصه بالمقعد الذي تخيره.
وإن لم يفعل ذلك، ولكن وُجد يختلف بعذر أو بغير عذر، فالذي ذكره الأصحاب فيما (4) لا يُبطِل حقَّه اليومَ (5) واليومين، ولو روجعوا في الثلاثة والأربعة، لاسترسلوا عليها، ولا يمكننا أن نقول: المعتبر الزمن الذي يدل مثله على الإضراب، فإن المريض المعذور إذا طال زمانُه غيرُ مضرب، ويبطلُ حقُّه، وكذلك من استفزَّه سفرٌ، لم يجد منه بداً، فحاله يُظهر عدمَ إضرابه، فالوجه أن يقال: لا حقَّ في [تعيُّن] (6) المقعد إلا أن يُعرف فيعامل، وإلا فمقعد كمقعد، فكل زمانٍ يظهر فيه انخرامُ الغرض، ففيه سقوطُ حقه، فإذا طال انقطاعه، انقطع أُلاّفُه، واستفتحوا المعاملةَ مع غيره، فينقطع غرضُه، في تعيّن المقعد (7) .
ولهذا لم نفصل بين المعذور وغيره، فإذا عاد، كان كمن يتخيّر مقعداً على الابتداء.
__________
(1) في الأصل: ومقصوده.
(2) (د 1) ، (ت 3) : قلة الرغبات في البحث.
(3) (د 1) ، (ت 3) : الأصلي.
(4) (د 1) ، (ت 3) : فيها أنه لا يبطل.
(5) اليومَ (مفعول ذكره) ، وفاعل (يبطل) ضمير مستتر.
(6) في الأصل " تعلّق ". وآثرنا هذه لمّا رأيناه في نسخة الأصل في السطور التالية.
(7) عبارة (د 1) : فينقطع غرضه، فينقطع حقه في تعين المقعد.(8/312)
ولو كان ينتاب تلك البقعة، فاتفق استئخاره مدة، لا ينقطع بمثلها حقُّه، فلو جلس جالسٌ على مقعده بانياً على أن ينزعج إذا عاد، ويسلِّم له مقعده، فظاهر المذهب أنه لا يُمنع، ويحتمل أن يقال: يمنع؛ لأن هذا يُظهر لأُلاّفه ما يُظهره الزمانُ الطويل في الانقطاع.
فأما القعود في غير أوقات المعاملة، فلا بأس، والقعود في أوقات المعاملة لغير المعاملة، فلا بأس به.
فهذا هو الممكن في ضبط ذلك.
5625- وإن طرأت حالة يتقابل فيها الظنان في انقطاع الغرض وبقائه، فلعل الظاهر بقاءُ حقِّه ودوامُه.
5626- ثم أحدث الأصحاب فنّاً من الكلام، فقالوا: إذا طال عَوْد الرجل إلى مقعدٍ واحد، فهل يُزعج عنه، ويقال له: تنحَّ وتخيّر مقعداً آخر؟
ذكر نقلةُ المذهب وجهين في ذلك، واعتبروهما بالوجهين في العاكف على المعدن العِدّ، إذا طال مقامُه عليه، وهو في ذلك دائبٌ في أخد النَّيْل.
5627- ونحن نقول: أما الخلاف في تنحية من يُطيل [عكوفه] (1) على المعدن، فمأخود من طلبه الانفرادَ بما يأخذه من النّيْل، وخروجه عن العادة العامة في تقرير المعادن الظاهرة على الاشتراك والتناوب، فأما الخلاف في إزعاج من يتخيّر مقعداً من الشارع فبعيدٌ جدّاً، وهو موضوعُ الباب؛ فإن الغرض الذي يُدار عليه تخيّرُ المقاعد ما أشرنا إليه من ظهور الأُلاَّف، وكثرةِ المعارف في المعاملة، وفي تنحيته، وإزعاجه إبطالُ هذا الغرض، فأَخْذُ النيل على التناوب، وتخيّر المقاعد على نقيض ذلك؛ فإن الناس لو تناوبوا عليها، لبطلت أغراض الجميع فيها.
فإذا لاح ما ذكرناه من التنبيه، فالوجه في تنزيل الخلاف المأثور عن الأصحاب في المقاعد أن نقول:
__________
(1) في الأصل: وقوفه.(8/313)
إن اتسعت المقاعد واستوت الأغراض في أعيانها، وتخيّر كلٌّ مجلساً ينتابه، ويأوي إليه، فلا معنى لتنحيته والتبادلِ (1) ، والحالةُ هذه؛ فإن ذلك يُبطل أغراضَ الكافَّة. وإن ضاقت المجالس، وكثر المزدحمون، فيظهر إذْ ذاك الخلافُ بعضَ الظهور، ثم وجه التقريب فيه أَنَّ من طال انتيابُه بقعةً، وظهر انتفاعه بسبب جلوسه فيه، وهو مطلوبٌ من غيره في الصورة التي ذكرناها، فقد يقال: مبنى هذه البقاع على الاشتراك، فإذا اكتسبْتَ بسبب الجلوس في بقعةٍ منها مالاً، فسلِّمْها إلى غيرك، وهذا يناظر ما ذكرناه في المعادن، غيرَ أن نيْل المعدن العِدّ عتيدٌ يوجد، والمنفعة المطلوبة من [المقاعد] (2) لا تظهر إلا على طول الزمان، [فالنُّوَبُ] (3) في الأصلين تتفاوت طولاً وقصراً، والمعنَى هو المتبع في كل صنف.
ثم لا نظر إلى اتساع المتاجر والمكاسب على أصحاب المقاعد؛ فإن ذلك أرزاقٌ، فمن محظوظٍ فيها، ومن محروم، ولكنّ الاعتبارَ بالزمان الذي يتسع في مثله المتجر والمكسب على المرزوق. وهذا تفصيلٌ لا بد منه.
5628- وذهب بعضُ الأصحاب في ذكر الخلاف مذهباً آخر، أشار إليه صاحب التقريب، وغيرُه، فزعموا: أن الغرض من تنحية من ينتاب مقعداً إذا طال الزمان أن يخرج عن مضاهاة المتملّكين، فقد يدعي على طول المدى ملكَ البقعة.
وهذا ركيك، لا أصل له؛ فإن الشوارع، وإن طال المدى عليها لا يَنسَى حُكمَها المحتفون بها، ولو صح هذا المعنى، لوجب سدُّ طريق لزوم المقاعد جملةً، لما أشار إليه هذا القائل، فلا أصل لهذا إذاً، وإنما التَّدْوار على ما ذكرناه.
ثم قدمنا أن الأصل أن العاكف على المعدن العِد لا ينحَّى، والوجه الآخر ضعيفٌ
جداً، ثم وقع الخلاف في تنحية من تخيَّر (4) مقعداً أبعد، فتضاعف الضعفُ. ثم إن أردْنا التشوفَ إلى ضبطٍ في الزمان الذي تقع التنحية بعده، لم نجد إليه سبيلاً، مع
__________
(1) أي تبادل المقاعد.
(2) في الأصل: القاعد.
(3) في الأصل: فالأمر.
(4) (د 1) ، (ت 3) : في تنحية أصحاب المقاعد.(8/314)
اختلاف المكاسب، وأحوال الناس في البلاد، وغايتُنا إن أردنا ذلك تحكيمُ العرف، واتخاذُ الزمان الذي يتسع المكسبُ فيه معتمداً.
5629- ثم مما يتعين ذكره في هذا المقام أن الذي صار إليه معظم الأصحاب أن الوالي لو أراد أن يُقطع المقاعد، فله ذلك، كما له أن يُقطع المواتَ مَنْ يُحييه.
وذكر صاحب التقريب والشيخ أبو علي، ومعظمُ الأئمة وجهاً آخر في أن الإقطاع في المقاعد لا ثبات له، وإنما جريانه فيما يفيد التسببَ إلى التملك؛ فإن الأمر فيه يعظم خطره.
5630- وللاجتهاد مساغٌ، فالمحل محل التنافس، والأظهر جريانُ الإقطاع لإمكان التنافس في المقاعد، ولكن التنافس المجردَ لا يصلح للاعتماد مع إمكان جريانه في المعادن العِدة الظاهرة، وقد أجمع الأصحابُ، وشهد الخبرُ على أنه لا يجري الإقطاع فيها، [فالتعويل] (1) إذاً على تطرّق الاجتهاد في الأمر المطلوب، وأمر المعادن العِدة ظاهر، فلم يجر فيه الإقطاع، وأما الموات، ففي كونه مواتاً، ثم في كونه خارجاً عن حقوق الأملاك نظرٌ بيّنٌ، والاجتهاد يظهر في المقاعد من جهة أنها هل تُضيِّق على الطارقين، أم كيف السبيل فيها؟ ثم إن أجرينا الإقطاع أوّلاً، فلا كلام، وإن لم نُجْره، تعين مراجعة الوالي في تنحية من نُنحِّي إذا رأينا ذلك مذهباً، حتى لا يُفضي الأمرُ إلى التجاذب، والاجتهاد يدِق مُدركُه في الاكتفاء بالمدة التي استوفاها من يُنحَّى.
هذا هو الذي يظهر عندنا.
ولا يمتنع طرد الخلاف في ذلك أيضاًً؛ فإن التنافس متوقّع الجريان في الابتداء أيضاً، مع ظهور الخلاف، وغايتنا أن ننبّه على مسالك المعاني، إذا عدمنا النقلَ في التفاصيل.
5631- ومما يتعلق بمضمون الباب، ويلتحق به السبقُ إلى المواضع المعيّنة في الرباطات المسبّلة على السابلة.
__________
(1) في الأصل: والتعويل.(8/315)
فمن سبق إلى بقعة، لم يزاحم فيها، وإن فرض استباق وازدحام، فالأصل القرعةُ، وقد ينقدح فيه تحكيم صاحب الأمر، إن كان في الرُّفقة، والأصل القرعةُ.
ثم من تخيّر لسكونه (1) بيتاً، أو بقعة، فلو زال عنها، لم يُمنع من العوْد إليها؛ فإن الحاجة قد تضطره إلى الانتشار في حوائجه، ولا نظر إلى استخلافه على البقعة بعضَ خدمه وعبيده، أو تركه فيها شيئاً من متاعه، فقد لا يكون الرجل مخدوماً، ثم المنفرد لا يمكنه أن يترك متاعَه، وينتشرَ في مآربه، فيكفي إذاً ما ذكرناه. هذا في رباط السابلة.
5632- ولو جاوز من تخيّر البقعة الغرضَ الذي بُنيت البقعة له، فأقام، أُزعج، إذا زاحمه نازلٌ يبغي أن ينزل، ويرحل. و [قد،] 2) نقول: إذا ظهر أن البقعة مسبلة على من لا يُعرِّج (3) ، فلا تعريج، وإن لم يكن زحمة؛ فإنّ شرط الواقف متبع.
5633- ولو بنى الرجل رباطاً، وهيأ فيه مساكن، ووقفها على من يبغي السكونَ فيها، فهذا يخالف في وضعه رباط السابلة، فلا يمتنع السكون.
ولكن ذكر الأصحاب الخلافَ السابق في أن من يُطيل مدةَ الإقامة، ويجاوز الحدَّ، فهل يزعج؟ وشبهوا هذا بتنحية العاكف على المعدن العِدّ، وهذا لعمري متجهٌ؛ من جهة أن في إطالة مدة الإقامة اختصاصاً بالبقعة، [ومنعاً للأمثال من ذلك النوع من الانتفاع] (4) .
ولمّا ذكر القفال هذا الخلاف فلفظه في تصويره: أن من أقام سنين هل يزعج أم لا؟ وهذا لا ضبط له على التحقيق، والممكن فيه أن البقعة إن بنيت لغرضٍ يحصّله
__________
(1) لسكونه بيتاً: أي لسكنه حجرة من حجرات الرباط.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) عرّج بالمكان أقام به، والمعنى: أنه قد نقول: " لا إقامة، وإن لم يكن زحمة، اتباعاً لشرط الواقف ".
وفي (د 1) ، (ت 3) : مسبلة على ألا يزعج، فلا يزعج. وهو عكس المعنى المقصود.
(4) عبارة الأصل: " ومنعاً عن ذلك نوعاً من الانتفاع للأمثال ".(8/316)
الساكنون فيه، كالمدرسة المنسوبة إلى الطلبة، فإذا حصّل ساكنُها الغرضَ، تنحَّى.
وهذا إن ظهر، فهو مشكل فيما لم يربط بغرضٍ.
فإن صح المصير إلى أن مدة الإجارة لا تزيد على سنة، فهذا القول حريٌّ بالاستعمال في هذا المقام. وإن لم نصححه -وهو غير صحيح- فليس لنا مأخذٌ في هذا الأصل، ولا مرجعٌ إلا إلى نظر الوالي، وصاحب الأمر.
والموقفُ الأعظمُ على العلماء استعمالُ ما يجمعونه [في] (1) آحاد الوقائع (2) إذا بُلوا بها، وكان شيخي يشبّه هذا بجمع الجامع العلومَ المخصوصةَ بفن الطب، وهو هيّن على صاحب القريحة [والجد] (3) ، وإذا أراد استعمالَ ما جمعه في معالجة الأشخاص، عظم الأمر عليه فيها.
وإنما أحلنا ما انتهينا إليه إلى ذي الأمر لتفاوت الناس في الحاجات، واختلاف البقاع والأصقاع.
والظاهر في هذه الأبواب تركُ التنحية والإزعاج.
وما نحن فيه مفروضٌ فيه إذا أطلق المحبِّسُ التحبيسَ على من ذُكر (4) ، ولولا اتصالُ هذا بالمصالح العامة، لحذفنا الخلاف في هذا المقام؛ إذ لا خلاف أن من سبَّل بقعةً على سكون شخصٍ، لم يُعترض عليه بالتنحية، فذكْر منفعة السكون على الإطلاق بهذه المثابة.
5634- وألحق الأئمة بما ذكرناه نزولَ المنتجِع قُطراً (5) من الصحراء، وتركَه بهائمه تنتشر في مرابعها، فلا سبيل إلى إزعاج من يسبق إلى مثل هذه البقاع، ولا سبيل إلى مزاحمته بنشر المواشي في محل انتشار [ماشيته] (6) إلا أن تكون الرياض
__________
(1) في الأصل: (من) .
(2) في (د 1) ، (ت 3) : المسائل.
(3) في الأصل: والحر. (وهي بدون نقط) .
(4) في (د 1) ، (ت 3) : يسكن.
(5) قطراً: ناحيةً.
(6) في الأصل: ما يثبته.(8/317)
أُنُفاً (1) لا يظهر في أمثالها ضرارٌ من زحمة.
5635- وتكلم الأصحاب في تخيّر الإنسان مجلساً في المسجد، فأجرى بعضهم تخيّره مجرى تخيّر المقاعد في الشوارع، حتى إذا ظهر ذلك من قصد سابقٍ إلى البقعة، لم يزاحم فيها، والمسجد مشترك كالشارع، ومن ضرورة هذا الحكم أنه إذا فارقها، وعاد إليها، كان أولى بها، على القياس الذي قدمناه في مقاعد الشارع.
وكان شيخي يأبى هذا على هذا الوجه، ووجدت صاحب التقريب على موافقته، والأمر في ذلك مبتوتٌ عندي على هذا الوجه؛ فليس المسجد في ذلك كالشارع؛ فان ما ذكرناه من تخيّر البقاع في الشوارع محمولٌ على غرضٍ ظاهرٍ في المعاملة، ولا يتحقق مثله في المساجد، فبقاع المسجد تضاهي مجالس المتحدثين في الشوارع.
وكان شيخي يثبت أثر التعيين في الصلاة الواحدة، إذا اتفق الخروج والعود، ثم كان يحكي في ذلك وجهين أنه لو رعف بعد الشروع في الصلاة، وخرج ليتهيّأ (2) ، فإذا عاد، لم يُزحم. وهذا وجه.
والآخر أنه لو شهد المسجدَ قبل إقامة الصلاة في اتساع الوقت، ثم أخرجته حاجةٌ، فإذا عاد، كان أولى بمجلسه. وهذا أمثلُ.
ولا نستريب في انقطاع تصرّف الإمام عن [تعيين] (3) البقاع في المسجد وإقطاعها؛ فإن المساجد لله، والسبق فيها لمن سبق، ولا يظهر في لزوم موضعٍ واحدٍ غرضٌ، كما نصصنا عليه.
فهذا منتهى الكلام في ضم النشر، وإيضاح المقصود، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا قام أحدكم من مجلسه في المسجد، فهو أحق به إذا عاد إليه " (4) .
***
__________
(1) أنُفاً: بضم الهمزة والنون: أي جديدة، لم تُرعَ من قبل، ويوصف بها المذكر والمؤنث (المعجم) والمعنى المراد هنا: أنها خصبة وافية كافية لا يظهر فيها ازدحام.
(2) (د 1) ، (ت 3) : بسببها.
(3) في الأصل: تغيير.
(4) حديث: إذا قام أحدكم من مجلسه: رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه دون التقييد=(8/318)
باب إقطاع المعادن وغيرها
قال الشافعي رحمه الله: " في إقطاع المعادن قولان: أحدهما - أنه يخالف إقطاع الأرض ... إلى آخره " (1) .
5636- وقد أخل المزني في النقل؛ فإنه نقل: " أحدهما أنه يخالف إقطاع الأرض لا وإنما قال الشافعي: " أحدهما أنه لا يخالف إقطاع الأرض "، فحذف المزني كلمة " لا "، وجعل القولين واحداً، وقد سئمنا تتبع كلامه (2) .
5637- فمقصود الباب القولُ في المعادن الكامنة التي يظهر نيلها بالعمل عليها، ولو جدَّدْنا عهدنا بتراجم القول في محالّ الإقطاع نفياً وإثباتاً، وخلافاًً ووفاقاً، لقلنا: الأراضي وما يتصل بها من المعادن والمقاعد أربعةُ أقسام:
أحدها - ما يملك بالعمل فيها، وللإمام أن يُقطع، ويصير المقطَع أحقَّ بمحل الإقطاع كالمتحجر.
__________
=بالمسجد. (ر. مسلم: كتاب السلام، باب إذا قام من مجلسه ثم عاد فهو أحق به، ح 2179) . قال الحافظ: وقد أورده بالزيادة إمام الحرمين في النهاية وصححه، وأقره في الروضة على ذلك. ر. التلخيص: (3/142 ح1335) .
(1) ر. المختصر: 3/110.
(2) في طبعة المختصر التي معنا (بهامش الأم) مصداقٌ لكلام إمام الحرمين؛ فقد أسقط المزني فعلاً لفظ (لا) ثم ذكر بعد ذلك القولَ بمخالفة إقطاع المعادن لإقطاع الأرض، وبذلك (فعلاً) جعل القولين قولاً واحداً، وهو مخالفة إقطاع المعادن لإقطاع الأرض. (ر. المختصر: الموضع السابق نفسه) .
ولكن الذي يستحق أن يذكر هنا هو هذا التعقب من إمام الحرمين للمزني، ووصفه (بالغلط) على حين نجده عند النقل عن كثير من الأئمة يعزو أخطاءهم إلى النقلة عنهم، فيقول مثلاً: "وما أرى هذا إلا من غلط الناقلين عنه ". فلماذا المزني؟؟(8/319)
والثاني - ما لا مدخل للإقطاع فيه أصلاً، وهو المعادن الظاهرة، ويلتحق بها مقاعد المساجد.
والثالث - ما لا يملك، وفي جريان الإقطاع فيه خلاف، [وهو المقاعد في الشوارع، والأظهر جريان الإقطاع.
والرابع - ما اختلف القول في جريان الإقطاع فيه] (1) وهو المعادن الكامنة.
5638- والأولى في ضبط ما يجري فيه الإقطاع، وما لا يجري، وما يختلف فيه المذهبُ أن نقول: إذا كان المطلوب تملك مباحٍ، وهو في محل الاجتهاد، فالإقطاع يجري فيه قولاً واحداً، وهو الموات، كما قدمناه؛ فإن الملك هو الاختصاص الأكبر، فيجوز أن يؤثّر فيه تخصيص الوالي، وما لا يتصور فيه اختصاص الملك، ولا اختصاصُ الانتفاع، فلا معنى للإقطاع فيه وهو المعادن الظاهرة العِدة. وما يجري فيه الاختصاص من غير تملك، ففي جريان الإقطاع فيه خلاف، كما ذكرناه في المقاعد.
والمعادنُ [الكامنة] (2) ينبني أمرها في الإقطاع على أن العامل عليها هل يملكها؟ فإن قلنا: يملك العامل رقابها، فيجري الإقطاعُ فيها كالموات، وإن قلنا: لا يملك العامل رقبة المعدن، ولكنه يختص به، كما سنصفه، فهل يجري الإقطاع فيها؟ فعلى الخلاف.
فهذا تفصيل القول في الإقطاع.
5639- ثم نبتدىء فنصف المعادن الكامنةَ، ونذكر أحكامها أولاً، فأولاً.
فأما صفتها، فهي المعادن التي ليس يظهر نيلُها إلا بالعمل عليها، ثم النيل [فيها] (3) مكتتم بالطبقات، فيظهر النيل، ثم لا يتواصل النيل على الظهور، كمعادن الذهب والفضة، والفيروز، والبَلْخَش (4) ، وما في معانيها.
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(2) في الأصل: الكافية.
(3) في الأصل: فمنها، (د 1) ، (ت 3) : عليها. والمثبت تقدير منا.
(4) البلْخش: جوهر يُجلب من بلخشان. والعجم يقولون له: بدخشان. وهو اسم ولاية، ويقال=(8/320)
وكان شيخي يتردد في الأحجار التي فيها جواهر، وهي باديةٌ على الأحجار كالحديد، فإن أثره يبدو على الحجر، ولكنه لا يستخرج منه إلا بمعاناة، ولا يكون البادي عينَ الحديد المجسّم (1) ، وهذا فيه تردد واحتمالٌ ظاهر.
5640- فإذا تصورت المعادن، فمن سبق إليها، فله العمل عليها؛ فإن الإقطاع حيث يثبت ليس شرطاً في استفادة العامل، بدليل أن الإقطاع متفق عليه في الموات، ولا يتوقف التملك بالإحياء عليه. ومن ابتدر إلى معدنٍ (2) من المعادن الكامنة، وعمل حتى بدا النَّيْل، فهل يتملك المعدنَ بعمله تملكَ الموات بالإحياء؟ لا يخلو: إما ألاّ يكون على المعدن أثر العمارة الجاهلية، وإما أن يكون عليها أثر عمارتها، فإن لم يكن عليها أثر الجاهلية، فابتدر العمل عليه مبتدر، فهل يملك رقبة المعدن (3) ؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه يملك ملك الموات بالإحياء؛ فإن المعدن قطعة من الأرض المباحة التي لم يظهر عليها أثر تملك سابق، والنيل من طبقاتها معدود من جملتها، فأشبهت الموات يُحيَا.
والقول الثاني - أن رقبة المعدن لا تملك بالعمل عليها، بخلاف الموات؛ فإن الموات بالإحياء (4) يتهيّأ للانتفاع الدائم، والمعدن وإن ظهر منه بعضُ النيل، فإظهار ما لم يظهر يستدعي من العمل ما استدعاه النيل الأول، فلم ينته الأمر فيه إلى عمارة تامة تتهيأ البقعة لأجلها لمنفعة دارّة.
هذا إذا لم يكن عليها أثر عمارة الجاهلية.
5641- فإن كان على المعدن أثر عمارة الجاهلية، فلأصحابنا فيه خبطٌ وتخليط، وما استد أحد من الأئمة استداد الشيخ أبي علي، فنذكر ما ذكره الجمهور، ثم نذكر طريقته.
__________
=لها: بَدْخش أيضاًً، وهي بين خوزستان وهندستان، فيها معادن الذهب والأحجار الكريمة (معجم الألفاظ الفارسية المعرّبة) .
(1) (ت 3) : المحتم.
(2) المعدن: يراد به ما يعرف الآن (بالمنجم) .
(3) رقبة المعدن: أي أرض المنجم.
(4) بدأ من هنا خرمٌ في نسخة (ت 3) ، مقداره نحو صفحة.(8/321)
قال الأئمة: في المعدن الذي عليه أثر العمارة الجاهلية ثلاثة أقوال: قولان تقدم ذكرهما، والثالث - أنه بمثابة المعادن الظاهرة العِدة، وليس يتوجه هذا إلا بأن يقول قائل: ألفيناه في الإسلام معدناً، فلا يضر اكتتام نَيْله إذا كنا نعلم أن المعدن نيل (1) .
وهذا بعيدٌ؛ فإن المعدن إذا لم يكن عليه أثر الجاهلية، فأظهر نيلَه مسلم، وقلنا: إنه لا يملكه، ثم أضرب عنه، أو مات، فلا يصير المعدن ملتحقاً بالمعادن الظاهرة، لا نعرف في ذلك خلافاً، ولو صح ما ذكره [موجِّه] (2) القول الثالث، للزم التحاق المعادن التي ظهر نيلُها بعمل المسلمين بالمعادن الظاهرة، وهذا لا سبيل إلى التزامه.
5642- فأما الطريقة التي ذكرها الشيخ أبو علي، فهي المنقاسة المرضية، وهي أنه قال: إذا عمل أهل الجاهلية على المعدن، وقلنا لا تملك المعادن بالعمل عليها، فوجود عملهم وعدمه بمثابةٍ (3) ، وهو كما لو لم يكن عليه أثر عمارة، وإن قلنا: إن المعادن (4) تملك بالعمارة، فإذا عمروها، فكأنهم ملكوها، فإذا تحولت البلاد إلى المسلمين، فالتفصيل فيها كالتفصيل في الموات الذي ملكوه بالعمارة في الجاهلية، وفيه قولان تقدم ذكرهما، وسبب التردد في هذا أنا نحكم لأهل ملتنا بتملك الموات إذا أحْيَوْه، وإسناد هذا الحكم إلى الجاهلية في حكم تقديم الحكم من ملّتنا على أهل الملل السابقة، ولم يتبين من أديانهم حكمُ إحياء الموات، فأما ما نصادفه في أيديهم متموَّلاً متحوَِّلاً، فنحكم فيه بحكم الماليّة.
هذا بيان قاعدة الحكم في المعادن الكامنة.
5643- فإذا أحيا رجل أرضاًً مواتاً، وحكمنا له بالملك فيه، فظهر فيه معدن من المعادن الكامنة، فهو باتفاق الأئمة ملك محيي الأرض؛ فإنه بالإحياء ملك الرقبة إلى
__________
(1) أي سبق اكتشافه وإظهارُ نَيْله.
(2) في الأصل: فوجه.
(3) بمثابةٍ: أي بمثابةٍ واحدة.
(4) عبارة (د 1) : العمارة تملك بها المعادن.(8/322)
منتهى التخوم (1) ، فإذا استقر الملك بالإحياء، لم ينتقض، ولو ظهر في الموات المملوك بالإحياء (2) معدن ظاهر كالكبريت ونحوه، فهو ملك المحيي إجماعاً، لا يزاحَم فيه، لأن الملك بالإحياء استقر على رقبة الأرض، وكل ما في الأرض فهو حقُّ مالك الأرض.
ومن احتفر قناةً، ملك الآبارَ، والأسرابَ، فالماءُ الجاري على صورة المعدن العِد (3) .
5644- فإذا تمهد ذلك، فلو علم الرجل بمعدن، فاتخد عليه داراً أو بستاناً، وقال: إنه موات، وقد قصدتُ إحياءه، فإذا قلنا: لا يملك المعدن، فالظاهر من [المذهب] (4) أنه لا يملك البقعة، وإنما ملكناه بالإحياء حيث يصح قصده في تملك الرقبة للإحياء، وهاهنا لا يصح القصد، والبقعةُ معدنٌ (5) ، فإن المعادن في القصود الصحيحة لا تتخد مزارعَ.
وقال بعضُ أصحابنا: يُملَكُ المُحيَا بالإحياء، ولا أثر للعلم.
وإن (6) قلنا: هذه البقعة لا تملك بهذه الجهة، والمعدن يُملك، فليس بناء الدار مما يملك به هذه البقعة، وسبيل الملك فيها إظهار النيل.
5645- ومما يتصل بهذا المنتهى أن من احتفر معدناً، واتسعت الحفيرة، وظهر في طرفٍ منها، أو في وسطها النَّيل، فكيف القول إذا لم يظهر النيل إلا في هذا الجانب؟ أنقول: هو المملوك، أو المملوك جملة الحفيرة؟ لا بد في هذا من نظر،
__________
(1) التخوم: جمع تخْم بفتح وسكون، مثل فلس وفلوس، وهو حدّ الأرض، ومن معانيها الأعراق أيضاً، فالمراد: أن ملك محيي الأرض يمتد إلى نهاية حدودها، وإلى أعمق أعماقها (المصباح، والمعجم، والقاموس، حيث ترى لها أكثر من وزن) .
(2) إلى هنا انتهى الخرم الذي كان في نسخة (ت 3) .
(3) في (د 1) ، (ت 3) : "ملك الآبار والأسرابَ، والماءَ الجاري على صورة الماء العدّ".
(4) في الأصل: " من المعدن ": وهو سبق قلم من الناسخ.
(5) معدن: أي منجم. كما سبق.
(6) في الأصل: فإن قلنا.(8/323)
فلا سبيل إلى الحكم بتخصيص الملك بمحل النيل، وقد يكون كالذَّر وجناح البعوض (1) ، ولا سبيل إلى إطلاق القول بملك كل ما يتصل بموقع النَّيل من غير [ضبط] (2) وانتهاءٍ إلى موقف.
والوجه فيه أن يقال: إذا وجدنا النَّيل بدداً في أطراف بقعةٍ ووسطها، عُدَّ ذلك معدناً، وعُدّ النيل ظاهراً بالعمل، وإذا بعدت بقعة لم يتواصل النيل إليها، ولم يكن ذلك البعد معتاداً في تضاعيف النَّيْل المتبدِّد، فهو خارج عن حدّ المعدن. ومعظم هذه الأمور والتصويرات آيلة إلى العادات، والمحكَّمُ فيها أهل العادات.
5646- ثم قال الأئمة: إذا ملك الرجل معدناً من المعادن الكامنة: إما على قولنا: المعدن يملك بالعمل المُظهِر لنيله، وإما إذا وقع الفَرْض في إحياء مواتٍ مُلك، ثم ظهر فيه معدنٌ، فإذا باع الإنسان هذا المعدن، فالذي ذهب إليه الأصحاب أن البيع مردودٌ، واعتلّوا بأن المقصود من هذا المعدن النيلُ، وهو مجهول، والمعادن لا تُبغى لترابها وحجرها، ومدَرها، والانتفاعِ فيها بالوجوه المعلومة في الأراضي، فإذا صار المقصود مجهولاً، امتنع البيعُ.
ورأيت في مرامزِ كلام الأصحاب ما يدل على تصحيح البيع، وهو متّجهٌ في القياس على تقدير إيراد البيع على الرقبة، ثم النيل على موجب الوفاق.
والذي يجب القطع بفساد البيع فيه أن يجمع الرجل مقداراً من تراب المعدن وفي حشوه النيلُ، فإذا باعه على علم بأنّ فيه نيلاً، فهذا باطل؛ فإنه لا يبغي من البيع الترابَ، وإنما يبغي النيلَ، وهو مجهول. وقد ذكرنا تردُّدَ الأصحاب في المعاملة على الدراهم المغشوشة إذا كانت جارية في المعاملات، وسبب (3) الاختلاف أن النُّقرة
__________
(1) الدَّر وجناح البعوض: مثال للقلة والصغر.
(2) في الأصل: وقف.
(3) يعلل للخلاف في الدراهم المغشوشة، ويبين سببَه في مقابلة القطع بفساد بيع تراب المعدن المختلط بالنيل، مع أن المحكوم فيه واحد، وهو الخليط المجهول المقدار. وقد بين أن سبب القطع هناك في (التراب الخارج من المنجم) والتردد هنا (في الدراهم المغشوشة) أن الدراهم المغشوشة لا تراد عادة لما فيها من النقرة الخالصة، وإنما تراد لرواجها، أي قدرتها الشرائية،=(8/324)
ليست مقصودة، وإنما المقصود الجريان.
5647- ثم قال الشافعي: " ولا ينبغي أن يقطعه من المعادن إلا قدرَ ما يحتمل ... إلى آخره " (1) .
ما يجري الإقطاع فيه، فلا ينبغي أن يُقطِع الإمامُ الشخصَ إلا مقدارَ ما يستقلّ به، فإن زاد، لم يكن للإقطاع حكمٌ.
وكذلك إذا تحجر الإنسان متسعاً من الموات لا يستقل بإحيائه، فلا حكم لتحجره. ثم إذا أبطلنا تحجرَه، لم يثبت له في المتحجر حقُّ الاختصاص في المقدار الذي يتصور أن يستقلّ به؛ فإن ذلك لا يتعين في قُطرٍ (2) ، وحق الاختصاص على الشيوع غير معقول، فإن عين شيئاً، فهو تحجّرٌ منه [الآن] (3) والإنسان لا يمنع من ابتداء التحجر.
5648- ثم قال الشافعي: " وكل ما وصفناه من إحياء الموات، وإقطاع المعادن وغيرها، فإنما عنيتُه في عفو بلاد العرب فإنه الذي عامره عشر، وعفوه مملوك " (4) .
وهذا مما أخل المزني بنقله خللاً فاحشاً؛ فإنه قال: وعفوه مملوك. والشافعي
قال: " وعفوه غيرُ مملوك " (5) ، وعنى بالعفو المواتَ، فحذف المزني كلمة " غير " حتى إنها تُزاد في بعض النسخ، وتُثبت على الاستقامة (6) ، ومعنى كلام الشافعي ما ذكرته في الغامر والعامر في بلاد العرب، وخصصها بالذكر (7) ؛ لأن العرب أسلمت على بلادها، ولم تُملك على القهر، إلا في مواضع مخصوصة، وأراد بقوله عامره عشر، أي ليس على أهل عامره إلا عشرُ الزروع، ولم يضرب عليه خراج.
__________
=فكان هذا فرقاً، جعل من نظر إليه يتردّد في القطع بتحريم البيع.
(1) ر. المختصر: 3/111.
(2) قطر: أي ناحية.
(3) ساقطة من الأصل.
(4) ر. المختصر: 3/112.
(5) هذا فعلاً ما قاله الشافعي في الأم، ج 4 ص51.
(6) على الاستقامة: أي يثبتها قرّاء مختصر المزني إقامةً للنص.
(7) (د 1) ، (ت 3) : بالملك.(8/325)
وظنَّ الشافعيُّ أن بلاد العجم افتتحت قهراً، وغُنمت عليهم، وفي غامرهم
التفصيل المقدّم في الذب والمحاماة، وتنزيل المستولين منزلة المتحجِّرين، فأراد أن يصوّر أراضي عامرُها ليس [خراجياً] (1) ، ولم يُقضَ (2) بالاستيلاء على غامرها ومواتها من الغانمين، حتى تتسق المسائل التي أطلقها من غير احتياج إلى تفصيل.
فرع:
5649- إذا عمل العامل على المعدن الكامن، فإن قلنا: إنه يملكه، فلا كلام، وإن قلنا: إنه لا يملكه، فقد ذكر الأئمة وجهين في أن الإمام لو أراد تنحيته بعد طول الزمان لينتفع بالموضع غيره، فهل له ذلك؟
وقد قدمنا مثلَ هذين الوجهين في مقاعد الشارع، وأطلقنا وجهين أيضاً في المعادن العِدة الظاهرة، وما ذكرناه من الوجهين في المعادن الكامنة -حيث انتهى الكلام إليه- يناظر ما ذكرناه من الوجهين في المقاعد المُقْطعة في الأسواق.
ثم ذكرنا أن من تخيّر بقعةً على الشرط المقدم، أو اتصل بها إقطاع صاحب الأمر فيمهل فيه زماناً، وقرّبنا القولَ في ضبطه، ثم ذكرنا التنحيةَ وراء ذلك، كذلكَ يمكَّنُ العامل على المعدن زماناً متطاولاً، ثم الخلاف في تنحيته يقع وراء ذلك.
وسبيل التقريب اللائق بهذا الموضع في الزمان المتطاول، أن يبلغ مبلغاً يظهر منه فائدةُ العامل إذا اقتصدت الإنالة، فلم يتفق إكداء (3) ولا نيلٌ نادرٌ مجاوزٌ المعتاد، ثم قد يتفق مثل هذا الزمن، والعامل لا يستفيد في ذلك الزمن للحرمان والمجازفة، فالخلاف في تنحيته على ما ذكرناه. ولو استفاد العامل نيلاً نادراً (4) في زمان قريب، ففي إجراء الخلاف في تنحيته احتمالٌ ظاهر. يجوز أن يقال: لا ينحى نظراً إلى الزمان، ويجوز أن يقال: ينحَّى نظراً إلى الفائدة، وإذا طال الزمان في حق المحروم جرى الوجهان في طرده من غير أن ينظر إلى عدم الفائدة، وقد يُنحَّى المحروم ويرزق
__________
(1) في الأصل: خراجاً.
(2) (د 1) ، (ت 3) : ولم يتفق الاستيلاء.
(3) إكداء: يقال: أكدى العامُ أجدب، والمعدن (المنجم) لم يتكون به جوهر، أي ليس له نَيْل، وهو المراد هنا (المعجم) .
(4) أي استفادَ نَيْلاً كثيراً مجاوزاً للاعتياد.(8/326)
غيره، وقد يبقى المعدن حاقداً (1) لا ينيل في عمل شخص، وإذا عمل غيره، ظهرت الأنالة، وأمرُ المعدن وفاق، ونيله [أرزاق] (2) .
فصل
قال: " ومن عمل في معدنٍ في أرضٍ ملكُها لغيره، فما يخرج منها، فلمالكها ... إلى آخره " (3) .
5650- إذا ملك الرجل معدناً من المعادن الكامنة، ثم قال لغيره: اعمل عليه، وما يخرجه من النيل، فهو لك، فما يظهر من النيل، فهو لمالك المعدن؛ فإنه لا يجوز أن يقدَّرَ عوضاً على الجهالة، ولا متبرعاًً به موهوباً، فلا وجه إلا تقريره على ملك مالك المعدن، وهل يستحق العامل أجراً في مقابلة عمله؟ هذه القاعدة يفصّلها يربع مسائل:
5651- إحداها - أن يقول رب المعدن: أذنت لك في نهارك، أو أسبوعك، ولك ما يظهر من نيلٍ، فهذه الصيغة لا تتضمن استعماله، وإنما هو إطلاق التصرف، وتبرعٌ بما يتوقع من نيل، فإذا جرى الأمر كذلك، فالنيل مردود على المالك، كما قررناه. والذي ذهب إليه الجمهور أنه لا يستحق العامل على مقابلة عمله شيئاً، فإنه كان يعمل لنفسه ابتغاء النَّيل.
وحكى القاضي عن ابن سريج أنه أثبت للعامل أجر مثل عمله، لأن النيل انصرف إلى صاحب المعدن. وإن قصده العامل لتحصيل غرض نفسه، ووجّه ابنُ سريج هذا بأن قال: لم يرض العامل بأن يعمل مجاناً، ولم يسلَّم له ما طمع فيه، فينبغي أن يرجع بالأجر على من أوقعه في العمل، وسُلِّم له ما طمع فيه العامل؛ [فإنّ ذلك ثمرةُ عمله وفائدتُه] (4) .
__________
(1) حاقِداً: أي حابساً، يقال: حقِد المعدِن لم يخرج شيئاً. (المعجم) .
(2) سقطت من الأصل.
(3) ر. المختصر: 3/114.
(4) ساقط من الأصل.(8/327)
وقرّب الأئمة هذا من أصل ذكرناه في كتاب الحج، وهو أن المستأجَر على الحج إذا نوى مستأجِره أولاً، ثم صرف الإحرام إلى نفسه ظانّاً أنه ينصرف إلى نفسه، واستمر على عمله على هذا الظن، فالحج ينصرف إلى مستأجِره، وفي استحقاقه الأجرة الخلافُ المشهور.
وعندي أن الصورة التي ذكرناها بعيدة عن استحقاق الأجرة؛ إذ لا استعمال فيها، وإنما جرى الإذن إطلاقاً، ورفعاً للحجر، وليس كمسألة الأجير في الحج؛ فإن المستأجِر استعمله أولاً، وانصرف إليه العمل آخراً، فلا يبعد أن يلغو القصد الفاسد اللاغي من الأجير، ثم إذا رأى ابن سريج في هذه الصورة إثباتَ الأجرة للعامل، فليت شعري ماذا يقول إذا عمل، ولم يستفد شيئاً؟ فإن جرى على قياسه في إثبات الأجر، كان في نهاية البعد إذا لم يحصُل نَيْلٌ هو شوفُه، ومتعلّق [طمعه] (1) ، حتى يقال: إذا قُطع عنه ما أُطمع فيه، فهو عِوض (2) عنه.
وإن سلّم في هذه الصورة أنه لا يستحق الأجرة، فقد وُجد الكدّ، وظاهر العمل، وعلى الجملة هذا محتمل على قياس ابن سريج.
وما ذكرناه شرح مسألة واحدة.
5652- المسألة الثانية - أن يقول: اعمل في بياض هذا النهار، ولك ما تُظهره من النيل، فالقول في النَّيْل كما مضى؛ واستحقاق الأجرة مختلف فيه بين الأصحاب، وهو ظاهرٌ في هذه الصورة؛ من قِبل استعماله العامل بأمره.
5653- المسألة الثالثة - أن يقول: استأجرتك لتعمل في نهارك وأجرتك النَّيْلُ الذي تصادفه، فالظاهر هاهنا أنه يستحق أجرَ المثل، للتصريح بالاستئجار، وإثبات العوض.
وأبعد بعض أصحابنا، فأسقط الأجرة، لتعلق قصد العامل بأخد النيل الذي يُظهره عمله.
__________
(1) في الأصل: قلعه.
(2) هو عوض: أي الأجر، وفي (د 1) ، (ت 3) : إذا قطع عنه ما أطمع فيه، عُوّض عنه.(8/328)
5654- المسألة الرابعة - أن يقول: استأجرتك لتعمل، ولك نصف النيل الذي تصيبه، فلا شك أنه يستحق نصفَ الأجر على مقابلة النصف الذي شرط لرب المعدن، وهل يستحق النصف الآخر من الأجر؟ فيه التردد الذي ذكرناه في الأجر كله إذا قال: استأجرتك وأجرتك النيل كله.
فهذا بيان المسائل المفصِّلةِ للقاعدة.
فصل
ذكر [الشافعي] (1) الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من منع فضلَ الماء ليمنع به الكلأ، منعه الله فضل رحمته يوم القيامة ... إلى آخره " (2) .
5655- قد ذكرنا في كتاب البيع فصلاً في المياه وبيعها، وجريان الملك فيها، وخلاف من خالف من الأصحاب في أن الماء لا يُملك.
ونحن نذكر غرضَ هذا الفصل، وما نراه غيرَ مذكور في الفصل المقدم، فإن تكرر شيء غاب عن الذكر، [لم يضر] (3) .
ومعتمد الفصل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من منع فضل الماء ليمنع به الكلأ، منعه الله فضل رحمته يوم القيامة " (4) ، والمراد بالحديث أن من احتفر بئراً في برّيّة، يسقي بمائها ماشيتَه، فإذا لحقت ماشيةٌ لإنسان، وقد فضل من
__________
(1) زيادة لمجرد الإيضاح.
(2) ر. المختصر: 3/114.
(3) ساقط من الأصل.
(4) حديث منع فضل الماء: رواه بهذا اللفظ الإمام الشافعي في الأم: 3/272، ومن طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رواه البيهقي في الصغرى: 3/332 حديث: 2206، وبلفظ مقارب رواه الإمام أحمد: 2/179، 221.
والحديث متفق عليه بلفظ " لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ " (ر. اللؤلؤ والمرجان: 2/147، ح 1009) أما باللفظ الأول فنقل الحافظ عن البيهقي قوله: " هو مما لم يُقرأ على الشافعي، وحمله الربيع على الوهم، ولو قرىء على الشافعي لغيّره إن شاء الله.
وانظر التلخيص: (3/146 ح 1342) .(8/329)
ماء البئر عن حاجةِ حافرها، فليس له أن يمنع الفاضل من حاجته من الماشية الواردة؛ فإن منعَ فضل الماء يكون سبباً لمنع الكلأ في تلك الناحية؛ إذ الماشيةُ إنما ترعى بقرب الماء، فإذا منع صاحب البئر فضلَ مائه، فكأنه منع الكلأ في تلك البقعة.
هذا هو المعنيّ بقوله صلى الله عليه وسلم: " ليمنع به الكلأ ".
5656- ثم تفصيل المذهب بعد بيان الحديث أن من احتفر بئراً، لم يخل من ثلاثة أحوال:
أحدها - أن يقصد تملك البئر.
والآخر - ألا يقصد تملكها، ولكن قصد استعمال مائها في جهة حاجاته.
والثالث- أن يحتفر بئراً ولا يقصد شيئاً.
5657- فإن احتفر وقصد التملك ملك البئر كما (1) ظهر الماء، ولا يتوقف استقرار ملكه على أن يصير الماء غديراً، ثم إذا ملك البئر، صار أوْلى بالماء والتفريع على أن الماء يُملك، فجمَّةُ (2) البئر مملوكةٌ لمالك البئر، وهي بمثابة ما لو أحرز ماءً في قربة، أو آنية، أو انتزح ماءً، وجمعه في حوض. فإذا صار مالكاً للماء، فإذا أدركت ماشيةٌ، لم يلزمه تركُ فضلِ مائه لها، ولي الحديث في هذا القسم.
وإن أشرفت الماشية على الهلاك سقاها فضلَ مائه بالقيمة.
والجملةُ أن الماء في البئر المملوكة بمثابة الماء المجموع في الحوض، والأواني.
5658- فأما إذا لم يقصد تملكَ البئر، ولكن قصدَ الانتفاعَ بمائها، فإنه يتقدم في انتفاعه، فإذا فضل الماءُ عن حاجته وحاجة ماشيته، وعن مزرعةٍ هيأها بالقرب من البئر، فيجب بذلُ الماء للمواشي، كما نطق الخبر به، وهو محمول على هذه الحالة. ثم ذلك الفاضل لا يتقوّم؛ فإنه لم يَملك رقبةَ البئر، بل صار أولى بها، كذلك هو أولى بمائها على قدر حاجته، والفاضلُ في حق الماشية كالماء المباح العِدّ.
__________
(1) كما ظهر: بمعنى عندما ظهر.
(2) جمّةُ البئر: ما يرجع من مائها بعد الأخد منه. والمراد هنا ما هو متجمع في البئر.(8/330)
ثم قال الأصحاب: لو اتخد متخذٌ بالقرب من البئر مبقلةً، أو مزرعةً، فأراد أن يسقيها من فاضل ماء البئر، فليس له ذلك؛ فإنّ حقَّ السقي إنما ثبت لحرمة أرواح المواشي.
وهذا وإن أطلقه الأئمة كذلك في الطرق، يتطرق إليه احتمالٌ -من جهة القياس- ظاهرٌ؛ فإن حافر البئر إذا لم يصر مالكَها، ولم يصر مالكاً لجَمَّتها، وإنما يثبت له حق الاختصاص والتقدم بقدر الحاجة، فالقياس أن الفاضل عن الحاجة بمثابة الماء العِد الذي يشترك الناس كافة فيه. هذا وجه الاحتمال. والذي ذكره الأصحاب ما قدمناه من أنه لا يَمنع فضل مائه الماشيةَ، ويمنعه من المزارع وغيرِها.
وفي هذا تفصيلٌ لا بد من التنبّه له. وهو أن الذي لا يقصد تملك البئر إن كان يقصد كونَه أولى بالاستيلاء على البئر والاحتكام في مائه، فهو على موجب قصده أولى، وهذا الحكم يوجب له حق الاختصاص، وإن لم يكن ملكٌ. ولو أجرينا قياسَ الاختصاص على حقِّه، لما أوجبنا عليه بذلَ فضلِ مائه للمواشي من كير ضرورة، ولكن أوجبنا [ذلك] (1) للخبر. وحق الاختصاص مطّرد في غير المواشي.
هذا إذا قصد الاختصاص مطلقاً.
وإن خطر له في احتفاره أن يتقدم بقدر حاجته من غير مزيد، فهذا موضع الاحتمال، فيجوز أن يقال: لا حكم له في الفاضل، وليس له منعه من أحدٍ من الناس، سواء طلبوا سقي المواشي به، أو سقي المزارع، ويجوز أن يقال: إذا ثبت اختصاصه، لم يتبعض، والبئر بحكم ذلك الاختصاص تحت يده وتصرفه [والاختصاص] (2) لا يتبعض حكمه، حتى يثبت من وجه وينتفي من وجه.
وهذا يتضح بذكر الحالة الثالثة.
5659- وهي أنه إذا احتفر بئراً، ولم يقصد أن يختص بمائها، ولم يظهر منه قصد التملك ولا قصد الاختصاص، فالذي ذهب إليه المحققون أن الحافر مع كافة الناس
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) مزيدة من (د 1) ، (ت 3) .(8/331)
في ماء البئر على قضيةِ الاستواء، فلا يتقدم بحاجته وهو في الماء كغيره.
ومن أصحابنا من قال: هو متقدم بحاجته. وهذا محتمل حسنٌ، ووجهه أن فعله هذا توصُّلٌ منه إلى الماء، فلا أقل من أن يُفيده الاختصاص، وإن لم يقصده، وهذا في إفادة الاختصاص بمثابة ما لو بنى رجلٌ على مواتٍ داراً، فإنه يملك عَرْصتَها، وإن لم يقصد التملك؛ لأن مثل ذلك لا يقع إلا من متملك، كذلك حفر البئر لا يقع إلا من مختصٍّ، فإن كان كذلك، ظهر على هذا الوجه ما ذكرناه في الحالة الثانية؛ فإنه وإن قصد التقدّم بالحاجة، فحق الاختصاص يثبت له بسبب الاحتفار.
هذا منتهى التفصيل في ذلك.
5660- ولو أوجبنا عليه بذلَ فضل الماء للماشية، ولكن كان الفاضل فاضلاً عن سقيه وماشيته، ولم يفضل عن مزارعه التي هيأها، ومباقله، ظاهرُ كلام الأصحاب أنه لا يلزمه بذلُ فضل مائه، حتى يفضل عن مزارعه، وهذا فيه احتمالٌ على بعدٍ، لحرمة الأرواح.
5661- ولو لحقت الماشية، فاستحدث حافرُ البئر مزرعة، فيظهر [هاهنا] (1) أنه لا يصرف الماء إلى تلك المزرعة المستحدَثة بعد لحوق الماشية؛ إذ لو جوزناً منعَ الفضل بهذه الجهة، لاستمكن صاحب البئر من طرد الماشية [بالزيادة] (2) في المزارع.
5662- ثم مما ذكره الأصحاب من جليِّ الكلام في هذا الفصل أن الفضل الذي أوجبنا بذلَه للماشية أردنا ببذله التخليةَ بينه وبين أصحاب المواشي، وعليهم تكلّفُ السقي إن أرادوه، ولا يجب على صاحب البئر إعارة البكرة والدلو، والرِّشا؛ فإنه لا يسوغ الاحتكام على أملاكه إلا في أوقات الضرورات، كما سبق وصفها.
5663- وإذا كان حافر البئر مالكاً للبئر، لم يُحتكم عليه في الملك، والماءِ الذي فيه، هذا ما قطع به المحققون.
__________
(1) زيادة من: (د 1) ، (ت 3) .
(2) في الأصل: لزيادةٍ.(8/332)
وإنما أعدته لأن شيخي كان يكرر في دروسه وجوبَ بذل فضل الماء للمواشي، وإن كانت البئر مملوكةً؛ تمسكاً بظاهر الخبر؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لم يفصل بين البئر المملوكة لحافرها وبين البئر التي ليست مملوكة لحافرها، لأنه لم يقصد تملّكها.
وكلام الصيدلاني في هذا الفصل مطلقٌ ليس فيه تفصيلٌ، وفرقٌ. [ولو كان] (1) الحكم يختلف عنده، لأشبه أن يفصّل.
وإنما (2) أخرت ذلك لأني لست أعتمده ولا أعتدّ به، ولا آمن أن يكون إطلاق من أطلقه عن غفلة، ولم يصرح أحدٌ بوجوب صرف فضل الماء إلى المواشي مع التصريح بكون البئر مملوكة إلا شيخي.
5664- ومما ذكره الأئمة متصلاً بما ذكرناه أن من حاز ماءً، وأحرزه في أوانيه، أو جمعه قصداً في حوضٍ له، وسد المنافذ، فهذا مملوك على الرأي الظاهر، وإن لم نجعله مملوكاً على مذهب المروزي، فمحرزه أوْلى من غيره.
والماء الذي يجري في النهر المملوك، كماء القنوات مملوك (3) على الرأي الظاهر لمالك القناة، وكل من تصرف فيه بما ينقُصه، ويُظهر نقصَه، فهو ممنوع منه، ولو استاق أصحاب المواشي مواشيَهم إلى هذه المياه، وكان يظهر النقص منها، فهي مجلاةٌ عن الماء ممنوعةٌ، وما لا يظهر له أثر كالشرب، أو كسقي دوابَّ معدودة، أو كأخد قِربٍ، فقد ذهب ذاهبون إلى أنه لا يسوغ المنع من هذا القدر، واستمسكوا بقوله صلى الله عليه وسلم: " الناس شركاء في ثلاثة: الماء والنار، والكلأ " (4) وهذا بعينه هو الذي نقلتُه عن شيخي وأنكرته، فإنه انتفاعٌ بفاضل مملوكٍ.
__________
(1) في الأصل: وإن الحكم عنده.
(2) (ت 3) : وما أخرت.
(3) في الأصل، (ت 3) : مملوكة.
(4) حديث " الناس شركاء في ثلاث ": رواه أبو داود: البيوع، باب في منع الماء، ح 3477، وابن ماجه: الرهون، باب المسلمون شركاء في ثلاث، ح 2472، وأحمد: 5/364، والبيهقي في الكبر: 6/150، والصغرى: 3/329 رقم: 2196، وأبو عبيد في الأموال: 728. وكلهم بلفظ (المسلمون) سوى أبي عبيد وحده فإنه قال: الناس.(8/333)
وذهب القاضي وطبقةُ المحققين إلى إجراء القياس، والمصيرِ إلى أن [للملاّك أن يَمْنعوا] (1) من هذا.
5665- وما درج عليه الأولون من التسامح فيه محمول على أن الناس لا يضنون بهذا القدر، فصارت قرائن الأحوال بمثابة التصريح بالإباحة.
5666- وذكر الأئمة تفصيلَ القول في بيع المياه في القنوات، وأنه لا يصح، وقد ذكرت ذلك مفصَّلاً في موضعه.
ومما ذكره القاضي أن القناة إذا كانت مشتركة، فالمهايأة لا تصح فيها؛ من جهة أن النُّوب تختلف من وجهين: أحدهما - أن الماء يزيد وينقص، والآخر - أنها تتفاوت في حاجات الدهقنة، فليس ما يقع في النوبة الأولى كما يقع في النوبة الأخيرة، وهذا فيما أظن لم أذكره في كتاب البيع.
ويتحصل مما ذكرته قبلُ، ومن هذا ثلاثة أوجه: أحدها - أن المهايأة تصح في نُوب القنوات ولا تلزم.
والثاني - أنها تصح وتلزم؛ فإن الانتفاع بنوبها لا يصح إلا كذلك، وهذا لا يخفى على أصحاب البصائر
والثالث - وهو الذي جددناه الآن أن المهايأة لا تصح أصلاً.
فصل
5667- قد ذكرنا في الكتب السابقة مسائلَ متفرقة في حريم الأملاك، ونحن نذكر الآن في ذلك قولاً كافياً، إن شاء الله عز وجل، فنقول:
من كان له ملكٌ، لم يخل إما أن يتاخم مواتاً لا حق فيه لأحد، وإما أن يتاخم الشارعَ، وفيه الحقوق العامة، وإما أن يتاخم ملكاً.
فأما ما يجاور مواتاً، فيثبت له من ذلك الموات حقُّ الحريم، وهو ينقسم عندنا
__________
(1) في الأصل: الملاك إذ منعوا.(8/334)
قسمين: أحدهما - يتعلق بإدامه الملك، وإقامته، وصونه عن الخراب، وعن إمكانه.
وبيان ذلك أن من أراد أن يحتفر في الموات الذي بقرب العمران بئراً أو نهراً عميقاً، وكان الملك يتَضرّر على تحقيقٍ، أو يُخاف ضررُه، فيمنع المتصرف في الموات من ذلك، وهذا المنع في حكم الوقاية للملك سمي حريماً.
ويظهر الحريم ويتسع في القنوات اتساعاً بيّناً، فإذا احتفر الإنسان قناةً في موات، وتملك آبارها، ورسومَها، وأسرابها، فيحرم على من يريد التصرف في الموات أن يتصرف تصرفاً يضر بالقناة، ويُفضي إلى هدمها أو ينقُص من مائها. ولو أراد مريدٌ أن يجري على معارضة تلك القناة [قناة] (1) أخرى، ولو فعل، لانقلب ماء هذه القناة المتقدّمة إلى المستحدثة، فهذا ممنوع، ويختلف ما ذكرناه باختلاف صفات الأراضي، فإنها تكون حَرّة (2) ، وحصبة، وذاتَ رملٍ متخلخل.
والجملة ما ذكرناه من المنع من التصرف المنقص.
هذا أحد القسمين المذكورين في الحريم.
5668- والقسم الثاني - لا يتعلق بخيفة الهدم، ولكنه يتعلق بالاتساع، وإثبات المضطرب، وهذا قد يقع عاماً لأهل القرية بالإضافة إلى الموات، فلهم فيه مطرحُ التراب، ومناخُ الإبل، ومجتمعُ النادي، وملعبُ الصبيان، ومركض الخيل إن كان سكان القرية خيّالة.
فأما المحتطَب والمرعى الذي ينشر فيه بهائم القرية، فالقول فيه ينقسم، فما يبعد لا يستحقّه أهل القرية، ولو أحياه محيٍ، ملكه، فأما ما يقرب من القرية، فلا يستقل مرعىً ومحتطَباً، ولكن قد تستدير البهائم بالقرب من القرية إذا استشعر أهلُها خوفاً من الإبعاد، فما كان كذلك، فهو مختلف فيه، على ما ذكره الشيخ أبو علي، والرأي الظاهر أنه ليس من حقوق القرية. هذا فيما يتعلق بالقرى على الجملة.
__________
(1) ساقطهَ من الأصل.
(2) أرض حرّة: ذات حجارة سود كأنها أحرقت. وحصبة: كثيرة الحصباء. (المعجم) .(8/335)
فأما إذا ابتنى الرجل داراً في مواتٍ، وفتح بابها في صوبٍ منه، فلصاحب الدار من الموات حقُّ مطرح التراب، والكُناسات، ومطرح الثلج، والممر في الصوب الذي فتح الباب فيه.
ولو أحيا محيٍ وبقَّى له الممرَّ، ولكن كان يحتاج أن [يزورّ] (1) عن قبالة الباب، فليزورّ؛ فإنه لا يستحق الممر في صوب الباب على طول الامتداد في الموات الكائن في تلك الجهة.
وقد ذكرت في كتاب الصلح أحكامَ المزاريب والأجنحة إلى الشوارع، وافتتاح المنافد والأبواب إلى الممر العام.
5669- فأما إذا تضايقت الأملاك، فقد زال المتسعُ والحقُّ الذي سمّيناه المضطربَ والاتساعَ؛ إذ تتقابل الأقوال في ذلك.
وهذا إنما يُفرض في أملاكٍ صودفت كذلك، والكلامُ يرجع إلى تصرف الملاك في أملاكهم، فإذا تجاور ملكان، فلصاحب كل ملك أن يتصرف في ملكه بما يُعتاد مثله، وإن كان يُخاف منه اختلال ملك صاحبه، وهذا كتسليط كل مالك على حفر بئر في ملكه على الاقتصاد المعتاد، وكذلك القول في اتخاد مبرز لا يجاوز فيه حدّ ملكه.
وقد منعنا مثلَ هذا التصرف إذا خيف منه الضررُ في الموات؛ فإن الموات المطلق هو الذي لم يتعلق به حق. وما تعلق به حقُّ الحريم، فهو واقية الملك، وليس مواتاً مطلقاًً، وهذا لا يتحقق في الأملاك المتجاورة.
ثم يتفرع على ما ذكرناه أن احتفار البئر إذا أدى إلى اختلال دار الجار، فلا ضمان على الحافر لأنه متصرفٌ في ملكه، فليعتقد الملاك في الأملاك المتجاورة أنهم بصدد هذا الضرار، فلا بد من احتماله، ولولاه، لتعطلت الأملاك ناجزاً لخيفة الضرار، ولا سبيل إلى قطعِ مرافق الأملاك، وتحصيلِ الضرار، وتعطيلِ المنافع لتوقع ضرارٍ.
والذي يجب إنعام النظر فيه أمور العادات، فلو كانت دار الإنسان محفوفةً بالدور
__________
(1) في الأصل: يزوي.(8/336)
والمساكن، فلو [أجلس] (1) فيها قصاراً، أو حداداً، فهذا -والدار كما وصفناها- خارجٌ عن الاعتياد، والظاهر عندنا منعُه؛ فإنه وإن كان ارتفاقاً، فهو مجاوز للعادة، وكذلك إذا اتخد داره حمّاماً، وهي محفوفة بالمساكن، فهذا من القبيل الذي ذكرناه، إلا أن يستمكن من الإبرام والإحكام على حدٍّ لا يزيد ضرره على ضرر المرافق المعتادة.
وكان شيخي يتردد في اتخاد الإنسان داره مدبغةً، ويميل إلى التجويز؛ فإن الضرار إذا كان لا يتعلق بالدور فتضرر السكان بالروائح لا يوجب منعَ المالك من التصرف.
وهذا محتملٌ على ما كان يتردد فيه رحمه الله.
5670- والقول المغني عن التفصيل: إذا جاوز في التصرف العادةَ وعُد في حق نفسه مضرّاً بملك نفسه، فهذا لا يحتمل. وإن كان مرتفقاً بملك نفسه، ولكنه جاوز العادةَ في ذلك الفن وجرّ ضراراً ظاهراً، فهذا في ظاهر المذهب لا يحتمل. وإن لم يجرّ ضراراً على المساكن، وارتفق ارتفاقاً لا يعتاد، وجرّ إلى السكان تضرراً، فهذا فيه احتمال ظاهر. فهذا منتهى القول في ذلك والله المستعان.
***
__________
(1) في الأصل: فتح.(8/337)
كِتَابُ العطَايَا (1) والحبس والصدقات
قال الشافعي: " فجميع ما يعطي الناسُ من أموالهم ثلاثة وجوه ... إلى آخره " (2) .
5671- صدّر الكتابَ بالتقاسيم في التبرعات، وقال: يقع قسمان منها في الحياة: وهما - الهبات، والصدقات.
ثم الصدقات تنقسم إلى صدقات البتات، وهي تصدّق الرجل بطائفة من ماله على من أراد.
والثاني - الوقف.
ومن التبرعات ما يقع بعد الوفاة. والمقصود من هذه التقاسيم انتزاع الوقف من خَلَلها، وباقي التبرعات تأتي في أبوابها.
5672- والأصل في الوقف السنة، وإجماع الأمة، أما السنة، فما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا مات ابن آدم، انقطع عمله إلا عن ثلاث: ولد صالح يدعو له، وعلم ينتفع به بعد موته، وصدقة جارية " (3) فقال العلماء: الصدقةُ الجارية هي الوقف على وجوه الخير، وقال عمر رضي الله عنه: " أصبت مالاً من خيبر، لم أصب مثله في الإسلام، فراجعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم،
__________
(1) (د 1) ، (ت 3) : باب.
(2) ر. المختصر: 3/115.
(3) حديث: " إذا مات ابن آدم ": رواه مسلم: الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، 3/1255، ح 1631. وأبو داود: الفرائض، باب ما جاء في الصدقة عن الميت، 3/117، ح 2880، والترمذي: الأحكام، باب ما جاء في الوقف، 3/660، ح 1376 والنسائي: الوصايا، باب فضل الصدقة عن الميت 6/251، ح 3681، وأحمد: 2/372، والبيهقي في الكبرى: 6/278 " كلهم من حديث أبي هريرة "، وانظر تلخيص الحبير: 3/148 ح 1346.(8/339)
وكان حدائقَ، ونخيلاً، فقال صلى الله عليه وسلم: حبِّس الأصلَ، وسبّل الثمرَ " (1) .
وأجمع المسلمون على أصلِ الوقف، وإن اختلفوا في التفصيل.
5673- ومذهبُ الإمام الشافعي أن الوقف إذا استجمع شرائطَه صحيحٌ لازمٌ، لا يتوقف لزومُه على تسجيلٍ من جهةِ قاضٍ، ويصح مُنَجَّزهُ في الحياة، ومنفَّذُه في الوصية بعد الوفاة.
5674- ثم هو في التقسيم الأولي متنوع، فمنه ما يقع مضاهياً للتحرير، وهو كجعل بقعة مسجداً، وهذا مما وافق فيه من أنكر لزومَ الوقف والتحبيس. ويتصل بهذا القسم جعْلُ بقعة مقبرةً، على ما سيأتي، إن شاء الله. عز وجل تفصيل الصنفين.
والقسم الثاني - ما يتضمن صرفَ منفعته إلى الغير، وهو ينقسم إلى ما يقصر مقصوده على حق السكون، كالمدارس والرباطات. والوقفُ فيهما قريبٌ من جَعْل البقاع مساجدَ ومقابرَ، وإلى ما يفوّض الأمر إلى المستحِق، فإن شاء، انتفع بنفسه، وإن شاء استغلّه، وتملّك ما يحصل من غَلَّته، وهذا يجري على نوعين: أحدهما - ما تصرف الغلّةُ فيه إلى عمارة المساجد، والرباطات، والمدارس، وإلى ما يصرف إلى من يتملكه.
ثم الوقف يصح على مخصوصين معيّنين، وإلى جهةٍ عامة كجهة المسكنة والفقر.
وفي تصحيح الوقف على أقوام لا ينحصرون، وليس المراد حاجتَهم قولان، كالوقف على بني هاشم وبني المطلب، ونحوهم.
5675- ومما يتعين تصدير الكتاب به أن الوقفَ إذا كان على معينين، أو على
__________
(1) حديث عمر بن الخطاب متفق عليه بلفظ: " إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها " البخاري: الشروط، باب الشروط في الوقف 5/418، ح 2737، مسلم: الوصية، باب الوقف 3/1255، ح 1632. أما بلفظ إمام الحرمين فقد رواه الشافعي في مسنده: 2/138، ح 457 [السندي] والنسائي: الإحباس، باب حبس المشاع 6/232، ح 3603، 3604، 3605. وابن ماجه: الصدقات، باب من وقف 2/801، ح 2397، وأحمد: 2/156، 157، والبيهقي في الكبرى: 6/162 والصغرى: 3/336، ح 2223، 2224.(8/340)
جهةٍ، والغرض منه أن يملكوا ما يحصل من غَلّةٍ وثمرة، فللشافعي في هذا الصنف ثلاثة أقوال: أحدها - أن الملك في رقبة الموقوف يبقى للواقف، ويثبت لمن عليه الوقف استحقاقُ الرَّيْع والفائدة.
والقول الثاني - أن الملك يزول إلى الموقوف عليه في الرقبة، ولكنه محبَّس، لا يباع، ولا يوهب ولا يورث، فيثبت ملك التصرف في الفوائد، وملك التحبيس في الرقبة.
والقول الثالث- أن الملك في الرقبة يزول إلى الله تعالى، والفوائد يستحقها الموقوف عليه.
وما يقع مضاهياً للتحرير كجعل البقاع مساجدَ، لا يتجه فيه إلا زوالُ الملك إلى الله تعالى، على تفصيلٍ سيأتي في المسائل، إن شاء الله عز وجل.
5676- وحقيقة مذهب أبي حنيفة (1) ردُّ الوقف إذا كان المقصود به تمليكَ الفوائد، ومن أصله أنه يلزم بالتسجيل، وهذا يخرّج على اتباع قضاء القاضي في مواقع الخلاف، ونُقل عنه أنه ألزم الوصية بالوقف إذا خرجت من الثلث، وهذا عنده بمثابة الوصية بالمنافع والثمار، فلا يصح الوقف على أصله (2) بنفسه (3) ، وسلّم لزومَ جعل البقاع مساجدَ ومقابرَ، ولم ير ذلك وقفاً، وإنما اعتقده تحريراً.
5677- فإذا تمهد ما ذكرناه ترجمةً، فنذكر بعد ذلك فصلين في مقدمة مسائل الكتاب: أحدهما - في الألفاظ وذكر الصريح منها، والكناية. والثاني - في بيان ما يصح وقفه.
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 136، البدائع: 6/218، الاختيار لتعليل المختار: 3/40.
وما ذكره إمامنا هو قول أبي حنيفة وزفر، وأما أبو يوسف ومحمد، فعندهما لا يشترط شيء من هذا، فقد وافقا الشافعية.
(2) " على أصله " أي أصل أبي حنيفة وقواعده، فإن من أصله أن الوقف لا يصح، لأنه حبسُ الرقبة، وتصدقٌ بالثمرة، والثمرة معدومة، وعنده لا يجوز التصدق بالمعدوم، ولذا يصح عنده الوقف إذا كان موصىً به، ويكون إذاً وصيةً بالمنافع، وهي تصح عنده.
(3) أي بذاته بصفته وقفاً، وانما يصح إذا كان في صورة وصيةٍ بالمنافع، كما وضحناه في التعليق السابق.(8/341)
5678- فأما القول في الألفاظ، فلفظ الوقف على انفراده من غير انضمام قرينةٍ إليه صريحٌ في الباب، في الفن الذي يتضمن تمليك المنافع والفوائد. هذا هو الذي يُقطع به.
ولفظ التصدق بمجرده غيرُ كافٍ.
وتردد الأئمة بين اللفظين في التحبيس والتَّسبيل، والتحريم والتأبيد، فاشتهر خلافُ الأصحاب في التحريم والتأبيد، فإذا قال: جعلتُ هذه البقعةَ محرّمةً [عليَّ] (1) وريعُها للمساكين، أو لفلان وفلان، وبعدهم للمساكين. أو قال: أبّدتُها، أو جعلتُها مؤبَّدةً، وذكر المصرف كما سيأتي، فمن أصحابنا من رأى الاكتفاء بأحد هذين اللفظين، وزعم أنهما جاريان على الشيوع والذيوع في المقصود، وذهب آخرون إلى أنهما لا يستقلاّن؛ فإنهما [يستعملان] (2) تأكيدين للوقف والتحبيس، فإذا ذكرا مفردين، لم يستقلا.
فأما لفظ التحبيس والتسبيل، فالذي قطع به الأئمة أنهما كلفظ الوقف.
وذهب أبو سعيد الإصطخري إلى أنهما كنايتان في الباب، حكاه الشيخ أبو علي عنه وزيفه.
وذهب بعض الأئمة إلى نقل تفصيلٍ عن أبي سعيد الإصطخري، فقال: من أصله أن التحبيس صريح، والتسبيل ليس كذلك. وهذا القائل [يذكر] (3) للتفصيل والفرق بين التحبيس والتسبيل مسلكين: أحدهما - أن الرسول صلى الله عليه وسلم غايرَ بين اللفظين في قصة عُمر؛ إذ قال: "حبِّس الأصل وسبِّل الثمر" فاستعمل التحبيس في الأصول والرقاب، والتسبيل في الثمار، وقيل: [عنى] (4) صلى الله عليه وسلم بالتسبيل صرفَ الثمار إلى السابلة.
__________
(1) في الأصل: غلتها.
(2) في الأصل: يستقلان.
(3) في الأصل: يرجم.
(4) في الأصل: عبر.(8/342)
والوجه الثاني - أن التسبيل من السبيل، وهو لفظ مبهم، والتحبيس معناه حبس الملك في الرقبة عن التصرفات المزيلة، فكان في معنى الوقف.
5679- ومما يتعلق بذلك أن الأصحاب ترددوا في لفظ الوقف إذا استُعمل فيما سبيله مضاهاة التحرير، مثل أن يقول مالك البقعة: وقفتها على صلاة المصلين، وهو يبغي بذلك جعلَها مسجداً.
ثم من تردد في التحبيس والتسبيل، جعلهما صريحين إذا اقترنا بالقرائن المشهورة في الباب، مثل أن يقول: حبّست على فلان كذا، تحبيساً محرّماً مؤبداً، أو ذكر التسبيل وقرنه بما ذكرناه.
5680- وقد ذكرنا أن لفظ التصدّق لا يستقل في الباب، إذا تجرّد وفاقاً، وسبب ذلك أنه يستعمل صريحاً في التبرع بالأعيان، فيقول من يصرف طائفةً من ماله إلى محتاج: تصدَّقتُ بهذا عليك، وهو يبغي تمليكه الرقبةَ تقرباً إلى الله تعالى، والمتصدَّقُ عليه يتصرف في الرقبة تصرفَ الملاّك.
فلو قال: تصدقت بهذا على فلان وفلان، -وذكر معينين- صدقةً محرَّمةً مؤبدةً، أو قال: تصدقت على المساكين صدقةً محرّمةً مؤبدةً، فللأصحاب اضطرابٌ في لفظ الصدقة مع التقييدات التي ذكرناها. فذهب الأكثرون إلى أن اللفظ إذا [تقيد، التحق] (1) بالصرائح في الباب، وهذا ظاهر المذهب.
وامتنع آخرون، وسبب الامتناع أن التصدق صريح في تمليك الرقبة على خلاف الغرض المطلوب في الوقف.
وذهب ذاهبون إلى اشتراط التقييد بقطع التصرف عن الرقبة، مثل أن يقول: لا يباع ولا يوهب؛ فإن التحريم والتأبيد مع لفظ الصدقة قد يحملان على تأكيد الملك في الرقبة على معنى أن الملك فيها [مسرمدٌ] (2) لا ينقضه المتصدق.
__________
(1) في الأصل: تقيدت الثمن. وهو تحريف ظاهر.
(2) كذا في: (د 1) ، (ت 3) ، وفي الأصل: غير واضحة الحرت الثاني (السين) . والسَّرْمد الدائم الذي لا ينقطع. ولم يرد للفعل (سَرْمد) ذكرٌ في المعاجم التي رأيتها (اللسان، والأساس، والقاموس، والمصباح، والمعجم، والزاهر) فقد ذكر من الاسم فقط (السرْمد) .(8/343)
وفصل فاصلون بين أن يستعمل التصدّق في معينين يُتصوّر الهبة منهم، وبين أن يستعمله في جهة لا يتأتى تصوير الهبة فيها كالتصدق على المساكين.
5681- وحاصل خلاف الأصحاب يؤول أوّلاً إلى وجهين في استعمال لفظ الصدقة، من غير ذكر الوقف والتحبيس والتسبيل، فمنهم من لم ير استعمال لفظ الصدقة دون الألفاظ الثلاثة؛ من جهة إشعاره بتمليك الرقبة [لا] (1) على جهة الوقف، ومنهم من جوز استعمال لفظ الصدقة مع الاقتران بالقرائن التي ذكرناها.
ثم اختلف هؤلاء في القرائن، فمنهم من شرط أن يقترن بنفي البيع والهبة، على ما جرى الرسم فيه.
ومنهم من اكتفى بأن يُقرنَ بالتحريم والتأبيد، على ما جرى تفصيل الكلام به.
ثم إذا شرطنا الاقتران، فجرّد الصدقةَ، فإن خاطب بلفظها قابلاً متعيناً، فالأصح أنه صدقة بتات، مقتضاها تمليك الرقبة؛ فإنها صريحٌ في الباب.
فأما إذا أضاف اللفظ إلى المساكين وغيرِهم من الجهات العامة، ونوى الوقف، فالنية هل تنزل منزلة القرائن اللفظية؟ اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من نزّل النية منزلةَ التقييد بالألفاظ، وأقام لفظ الصدقة مقام الكنايات في الطلاق والعتاق، وحكمها أنها تعمل مع النية.
ومنهم من لم يكتف بالنية؛ فإن التصدق صريحٌ في تمليك الرقبة، وإنما فرقنا بين إضافة الصدقة إلى الجهات العامة وبين إضافتها إلى معين يتصور منه القبول، لأنها إذا أضيفت إلى معيّن، تحقق كونها صريحاً في تمليك الرقبة.
فهذا حاصل الكلام في الألفاظ.
وإذا قلنا: التحريم ليس صريحاً، واقترنت النية به، يجب القطع بصحة الوقف؛ لأنه ليس [موضوعاً] (2) لتمليك الرقبة، وقد انتجز غرضنا من الكلام في الألفاظ.
5682- فأما القول فيما يصح وقفه، فنقول أولاً: يصح وقف العقار، والمنقول،
__________
(1) سقطت من الأصل.
(2) في الأصل: صريحاً.(8/344)
ويصح وقف الجماد والحيوان. والمتبع أن يكون الموقوف المحبَّس بحيث يثبت له منفعة مقصودة، أو فائدة مقصودة، كالثمار وما في معانيها.
والمنفعة المقصودةُ يضبطها ما يصح استئجارها على شرط ثبوت الملك في الرقبة، فإن الحرّ يؤاجر نفسَه، ولا يصح منه تحبيس نفسه على جهةٍ، أو على أشخاصٍ معينين. ثم على جهةٍ بعدهم.
5683- واختلف الأصحاب في وقف الدراهم لتزيين الدكاكين، اختلافهم في إجارتها، والأصح منع الوقف والإجارة، والتصحيح أقربُ إلى الإعارة.
ويصح أن يحبس حلياً مباحاً ليتحلى به معينون، ثم بعدهم أيتام، على ما يجري الوقف به.
ويصح وقف عبدٍ صغير، وإن لم يكن منتفعاً به في الحال، لأن الوقف معقودٌ على التأبيد، فلا يضر استئخار الانتفاع من الأول لنقصٍ في المعقود عليه مصيره إلى الزوال. وهذا كتصحيح النكاح على الرضيعة، وإن لم يكن منتفعاً بها في الحال.
والمعنى ما نبهنا عليه.
وألحق الأصحاب بهذا وقفَ الدراهم على أن يصاغ منها حلي، على قولنا بفساد وقف الدراهم على أن تبقى على صفتها، ويكتفى منها بالتزيين، وزعموا أن استئخار صيغة الحلي بمثابة استئخار إمكان الانتفاع والمحبّسُ عبدٌ صغير، أو مُهرٌ صغير.
وهذا فيه بعض النظر؛ فإن المُهرَ والعبد الصغير يصيران من طريق الخلقة إلى إمكان الانتفاع، والدراهم والنّقرة ليست كذلك، [واختيار] (1) إنشاء صوغها افتتاح أمرٍ من طريق الإيثار، ويكاد الوقف أن يكون في حكم المعلّق بما سيكون.
5684- فأما وقف الكلب المنتفع به، فنقول أولاً: تصح الوصية به، وفي صحة هبته خلافٌ قدمتُه في البيع، ولا شك في امتناع بيعه، وفي صحة إجارته خلافٌ مشهور، ذكرناه في كتاب الإجارة.
__________
(1) في الأصل: والخيار.(8/345)
فإذا تجدد العهد بهذه الأصول، فمن أئمتنا من لم يصحح وقفَ الكلب وإن صححنا إجارته؛ لأن رقبته ليست مملوكة، والوقف يستدعي وروداً على رقبةٍ مملوكة، ولهذا يمتنع وقفُ الحرِّ نفسَه، وإن كان يصح منه أن يؤاجر نفسَه.
ومن أصحابنا من خرّج صحة وقف الكلب على صحة هبته؛ فإن الوقف إثبات اختصاصٍ في جهةٍ، فكان في معنى الهبة، وليس الكلب فيه كالحر؛ فإنه ليس مملوكاً، وليس في رقبته اختصاص.
وبنى الشيخ أبو حامد جواز وقف الكلب على جواز إجارته.
هذه مسالك الأصحاب في وقف الكلب.
5685- وأما وقف أم الولد، فقد اختلف أصحابنا فيه، ورتبوا الخلاف على الوجهين في وقف الكلب، وجعلوا وقف المستولدة أولى بالصحة؛ من جهة أنها مملوكة، ولم يمتنع فيها من أحكام الملك إلا البيع والرهن، وبنَوْا الخلافَ على أن الوقف هل يتضمن نقلَ الملك إلى الموقوف عليه؟ وفيه الاختلاف المقدم.
فإن قضينا بأن رقبة الوقف مبقَّاة على ملك الواقف، فلا يمتنع وقف المستولدة، وإن حكمنا بأن الوقف يتضمن نقل الملك في رقبة الموقوف إلى الموقوف عليه، فالوقف باطل؛ فإن الملك في رقبة الموقوف لا يقبل النقل.
هذا منتهى القول فيما يصح وقفه وفيما لا يصح وقفه.
5686- ثم إن صححنا وقف المستولدة فلو عتَقَت بموت مولاها، انفسخ الوقف وزال؛ لأن الوقف يناقض حرية الموقوف.
5687- وقد ذكرنا أن العبد المستأجر إذا عتَقَ في أثناء المدة، فالظاهر أن الإجارة لا تنفسخ، والفرق ما قدمناه من أن الوقف ينافي الحرية، والإجارة لا تنافيها. وقد جرت من مالكٍ لها، ويعتضد ما ذكرناه بأن الإجارة مؤقتة، والوقف مبناه على التأبيد، فيستحيل بقاؤه بعد زوال الرِّق، ولا حاجة إلى هذا مع العلم بأن النكاح معقود على التأبيد والحرية الطارئة عليه لا توجب انفساخ النكاح، فالتعويل على ما قدمناه من أن الوقف في موضوعه يستدعي ملكاًً تاماً. كما قدمناه.(8/346)
وكان شيخي يقول: من استحق منفعة عبدٍ على التأبيد بطريق الوصية، لم يملك صرفَ ذلك الاستحقاق إلى غيره بجهة الوقف؛ فإنه لا ملك له في الرقبة، والوقف وإن لم يكن تحريراً، فهو قريب منه؛ من حيث إنه يقتضي قطعَ تصرف المالك عن الرقبة التي حبَّسها. وقد ظهرت مضاهاة التحرير في المساجد والمقابر.
فهذا ما أردناه.
فصل
5688- موضوع الوقف على التأبيد ومنافاة التأقيت، وهذا الفصل معقود لبيان مسائلَ يجري الوقف فيها على قضية التأقيت، ومجموعها يدخل تحت نوعين، ثم يلتحق بهما مسائلُ؛ التحاقَ الفروع بالأصول، والنوعان أصلان مقصودان في الكتاب.
5689- فنقول: الوقف الوارد على التأبيد هو الذي يجد مصرفاً من إنشائه ولا ينتهي إلى منقطعٍ، بل يتصل بمصرفٍ لا يُتوقع انقطاعه، وهذا كما لو وقف على المساكين والمحاويج، وجهات الخير، وكالوقف على معيّنين موجودين على قضية تتضمن تعجيل حقوقهم متصلةً بالعقد، ثم يذكر الواقف انصرافَ الوقف بعد انقراضهم إلى جهةٍ لا تنقطع.
5690- ثم قد يُفرض الوقف منقطعَ الآخر، وقد يفرض منقطع الأول، ونحن نذكر كل قسم [و] (1) ما يليق به.
ونبدأ بالوقف المنقطع الآخر، وهو أن يقول: وقفت هذه الدار على أولادي، ولا يتعرض لمصرفِ الوقف بعد انقراض المذكورين، ففي صحة الوقف قولان مشهوران:
أحدهما - أن الوقف لا يصح؛ فإنه مخالف لموضوعه؛ إذ موضوعُه [على] (2)
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) مزيدة من (د 1) ، (ت 3) .(8/347)
التأبيد، وبه تميّز عن العواري، ولما رسم رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرَ الوقفَ والتحبيس، قيّد عمرُ رضي الله عنه التحبيسَ بالتأبيد والتحريم. والوقفُ في الحقيقة قربةٌ يبغي [المتقرِّب بها] (1) إدامتها. هذا وضعها ومبناها، والصدقات المملِّكةُ تقطع سلطان المتصدق، وتنتهى نهايتَها بالوصول إلى يد المتصدَّق عليه، والوقف هو الصدقة الجارية، فإذا لم يثبت له مصرف متأبَّد، كان مائلاً عن موضوعه. هذا هو القول الصحيح وبه المنتهى.
والقول الثاني - أن الوقف يصح؛ فإنه ليس فيه تأقيت، والموقوف عليه إذا تعلّق الاستحقاق بعمره جانب الوقفُ التأقيتَ، والنكاحُ مع ابتنائه على التأبيد ينتهي بانتهاء عمر أحد الزوجين.
وذكر صاحب التقريب قولاً ثالثاً: أن الوقف إذا كان في عقارٍ، لم يصح إنشاؤه منقطعَ الآخر، وإن كان الوقف في حيوان، لم يمتنع ألا يتأبد مصرفه، فإن الحيوان المحبَّس إلى الهلاك مصيره، فإذا وقف مالكُ الحيوان الحيوانَ على شخص معين، كان ارتقاب بقاء الموقوف مع وفاة الموقوف عليه متعارضاً في التقدير بارتقاب موت الموقوف، مع بقاء الموقوف عليه.
هذا بيان الأقوال في الأصل. وحقيقتها تتبين بالتفريع.
5691- فإن حكمنا بفساد الوقف، فهو جرى لغواً، والموقوف مقَرٌّ على ملك الواقف، لا يتعلق به استحقاقُ المسمَّيْن، ولا استحقاقُ غيرهم في حياتهم وبعدهم.
5691/م- وإن حكمنا بأن الوقف صحيح، فهو [لازم] (2) في بقاء المسمَّين وريعُه مصروف إليهم ما بقوا؛ وفاءً بشرط الواقف، فإذا تصرّم المذكورون، وانقضَوْا، ففي المسألة قولان: أحدهما - أن الوقف ينتهي بانقضائهم انتهاء النكاح بموت أحد الزوجين، ثم حكم انتهائه أن يرتد ملكاً، كما كان قبل الوقف.
والقول الثاني - أن الوقف لا ينقطع بانقراض المسمّين.
__________
(1) في الأصل: المتصرّف بها.
(2) في الأصل: نازل.(8/348)
توجيه القولين: من قال بانقضاء الوقف، استدلّ بأن المتبع فيه شرطُ الواقف، ويبعد أن يثبت فيه مصرِفٌ لم يتعرض له المحبِّس، فإذا انقضى مصرفه المسمّى، واستحال تقدير مصرفٍ، وامتنع استقلال الوقف من غير مصرف، فلا يبقى إلا انقلابُه ملكاً.
ومن قال بالقول الثاني، احتج بأنا لو حكمنا بانقضاء الوقف، لكان ذلك مفضياً إلى تأقيت الوقف. وهذا تغييرٌ لوضعه، وتبديل لحقيقته.
التفريع على القولين:
5692- إن حكمنا بانقلاب الوقف ملكاًً، فمن ضرورة هذا القول التزام تطرق حكم التأقيت إلى الوقف، وكأن هذا القائل يقول: المرعي في امتناع تأقيت الوقف جانب الموقوف عليه، وهو غير متأقت في حقه، وليس الوقف مما يورث حتى يقال: ليثبت في حق الموقوف عليه ثبوتاً يخلفه فيه وارثه، وليس كالملك في البيع؛ فإن الخلافة ممكنة فيه.
ومن منع هذا، فكأنه يرعى التأبيد في الموقوف [المحبَّس] (1) ، فإنه المتقرب به.
وهذا هو الصحيح. فإذا صححنا الوقف، ثم رددناه ملكاًً، فقد التزمنا نوعاً من التأقيت.
5693- وبنى بعض الأصحاب على هذا القول مسألةً، وهي أن الرجل إذا وقف داراً سنةً، أو سنتين على شخص، أو على جهةٍ من جهات الخير، فهل يصح الوقف؟ المذهب الذي عليه التعويل أنه لا يصح، وإن صححنا الوقف المنقطع الآخر؛ فإن تصحيح ذلك (2) مقرّب (3) من حكم التأبيد؛ نظراً إلى الموقوف عليه، وتشبيهاً بالنكاح. فأما التصريح بالتأقيت، فلا اتجاه له.
5694- وأبعد بعض أصحابنا، فصحح الوقف على هذه الصيغة، وقضى بانتهائه
__________
(1) في الأصل: للحبس.
(2) تصحيح ذلك: الإشارة إلى الوقف منقطع الآخر.
(3) (د 1) ، (ت 3) : يقرب.(8/349)
إذا انتهت المدة، وهذا لا يحل الاعتداد به، ولا يسوغ إلحاقه بالوجوه الضعيفة؛ فإنه في التحقيق إلزامُ عاريةٍ، والعارية يستحيل الحكمُ بلزومها؛ فإنها تَرِد على ما يوجد شيئاً شيئاً، فلا تستقر فيه اليد، والتبرعات إنما تلزم بالقبوض، والوقف خُصَّ بالتصحيح، ليستمكن المحبِّس من تأبيد قُرَبِه، فإذا ترك الأصل الذي [بنى الشرعُ الوقفَ عليه] (1) ، لم يبق فرقٌ بين العاريّة والوقف.
5695- فأما إذا قلنا (2) : لا يرتدُّ الموقوف ملكاًً عند انقراض المسمَّيْن، فلا يستقل الوقف دون مصرف. وقد اختلفت الأقوال في مصرِف هذا الوقف، بعد انقضاء الجهة التي سماها الواقف، فكان شيخي يذكر أوجهاً، وأطلق صاحب التقريب الأقوال، ولعل بعضها من تخريجات ابن سريج.
فأحد الأقوال - أن الوقف يُصرف إلى أقرب الناس بالمحبِّس.
والقول الثاني - أنه يُصرف إلى المساكين.
والقول الثالث - أنه يصرف إلى المصالح العامة، وهي مصرف خمس الخمس من الفيء والغنيمة.
وتوجيه الأقوال يستدعي تنبيهاً على مسلكٍ لبعض الأصحاب غيرِ مرضيٍّ، وذلك
أن بعض الأصحاب قال: هذه الأقوال تنزل على قصود الناس في أوقافهم [فمن] (3)
يصرف إلى أقرب الناس بالمحبِّس يدعي أن هذا هو الغالب في الأوقاف، فكأن الواقف ذكره، وإن لم يصرح به.
والقائل الثاني - يبغي القُربة، وهي إلى سدّ الحاجات أقرب.
والقائل الثالث - يذكر الجهة العامة الحاويةَ لوجوه الخير.
ودوران الطريقة على حمل الوقف على مايظن كلُّ واحد عمومَه عُرفاً في المصارف. وهذا زلل ظاهر، وميلٌ عن المسلك المطلوب.
__________
(1) في الأصل: بين الشرع الوقف، لم يبق.
(2) عوْدٌ إلى مسألة الوقف منقطع الآخر.
(3) في الأصل: ومن.(8/350)
5696- ونحن نقول: إذا ثبت بقاء الوقف، فتلقِّي مصرفه من العرف محالٌ؛ فإنه مضطرب، والظاهر أن الواقف لم يرد تأبيد الوقف، فإن كان المتبع في ذلك حَمْل لفظه على موجب العرف، فلفظه ناصٌّ في التخصيص، فلا معنى لترك موجب لفظه لعرفٍ مختلطٍ، لا ثبات له، ولا اطراد فيه، فالطريقُ في توجيه الأقوال أنا إذا اضطررنا إلى إبقاءِ الوقف، والوقف أُثبت قربةً في الشرع متعلقةً بمصرف، ونحن لم نجد مصرفاً من جهة شرط الواقف، ولا من جهة إرادته، ردَّدنا الظنون في أَوْلى القربات، وأثبتناها على الاختلافِ (1) على خلاف مراد الواقف، فرأينا في قولٍ الصرفَ إلى أقرب القرابات أولى؛ فإن أفضل القربات ما يضعها المرء في القرابات، ويستفيد بها مع التقرّب صلةَ الرحم.
وفي قولٍ: تُعتبر الحاجة؛ فإن سدّ الحاجات أهمُّ الخيرات.
وفي قول: يحمل المصرف على أعم الجهات؛ إذ لا متعلق عندنا في تعيينٍ.
فهذا حقيقةُ هذه الأقوال [والتقرير] (2) بعدُ أمامنا.
التفريع على هذه الأقوال:
5697- إن حكمنا بأنه يصرف إلى الأقربين، فقد اختلف أصحابنا، فمنهم من
قال: يصرف إلى المحاويج من الأقربين، فإنا إذا كنا نبغي القربة، فالوجه أن نرعى الحاجة، ثم نعتبرها مع القرابة.
ومن أصحابنا من قال: لا نرعى الحاجة، ثم هؤلاء يكتفون بصلة الرحم، ويضمون إليه أن الوقف الحق (3) ذخرٌ وعمادٌ للأغنياء إذا افتقروا (4) ، فإن الأموال المعرضة [للانتفاع] (5) والتصرفات تبيد بالتبذير والصرف، والأوقاف تبقى لامتناع
__________
(1) (د 1) ، (ت 3) : وأثبتناها على اختلاف مراد الواقف.
(2) في الأصل: والتقريب.
(3) (د 1) ، (ت 3) : المحرّم.
(4) (د 1) ، (ت 3) : افترقوا.
(5) زيادة من: (د 1) ، (ت 3) .(8/351)
بيعها، وهذا ظاهرٌ في قصود الواقفين على أولادهم، وإن خلفوا عليهم أموالاً.
5698- ومما اختلف أصحابنا فيه في التفريع على هذا القول: أنا إذا صرفنا إلى الأقرب، راعينا أَوْلى القرابة باستحقاق الإرث، أو أقربهم رحماً؟
من أصحابنا من قال: الأقرب هو الأوْلى بالميراث، فابن العم أوْلى بالوقف من ابن البنت.
والوجه الثاني -ولعله الأصح على حكم هذا التفريع- أن قرب الرحم أوْلى؛ فإن الغرض صلة الرحم، ولا مزيد على قاعدة الشرع؛ [إذْ] (1) حرم الوارثَ وجوهَ المبارّ الواقعةِ وصيةً، وحمله على الاكتفاء بالإرث.
وإن فرعنا على صرف الوقف إلى المساكين، فقد اختلف أصحابنا على ذلك: فمنهم من رأى محاويجَ الجيران أوْلى، ومنهم من لم يفرّق. وتقديم الجيران لا معنى له؛ فإنا إن سلكنا هذا المسلك [وقعنا] (2) في الصرف إلى محاويج القرابة، وهو القول الأول، فلينتبه الناظر لما يمرّ به.
وينقدح في هذا القول جواز نقل الرَّيْع من مساكين البلدة، ومنعُ ذلك يجري على اختلاف القولين في نقل الصدقات.
وإن فرعنا على الصرف إلى المصالح العامة، لم يتصرف فيه غيرُ الوالي. هذا هو الرأي الظاهر. ولا يبعد عن الاحتمال ردُّ ذلك إلى نظر المتولِّي، إن كان في الوقف متولٍّ. والقول في المتولي في الوقف المنقطع الآخر قد يغمض، على ما سنذكره من بعدُ.
5699- ومن تمام التفريع أن من رأى الصرف إلى الأقربين، قال: لو انقرضوا، أو لم يكونوا، فالمصرف مردودٌ إلى القولين الآخريْن، وانقراض الأقربين لا يوجب انقطاع الوقف؛ فإنا نفرع على أن الوقف لا ينقطع، وإن انقطعت الجهات التي ذكرها الواقف.
__________
(1) في الأصل: إن.
(2) في الأصل غير مقروءة.(8/352)
5700- ومما نفرعه أيضاًًً أن مَنْ وقف وأقّت، وصرّح بالتأقيت، فقال: وقفت هذا على فلانٍ سنةً، فإذا كنا [لا] (1) نصحح الوقفَ المنقطع الآخر، وكنا نرى أن الوقف يتأبّد وراء انقراض ما ذكره الواقف، فإذا وقع التصريح بالتأقيت، فلا شك أن هذا أحرى بالفساد، ولكن إذا صححنا فنثبت وراء الوقف مصرفاً، والقول فيه يختلف، كما تقدم في الوقف غلى الأولاد من غير تعرضٍ للمصرف بعدهم.
5701- ومأخد هذا الذي ذكرناه مع التصريح بالتأقيت أصلٌ عظيم في الوقف، يكاد أن يكون قطباً لشطر المسائل، ونحن نقرره، ونذكر ما فيه، ثم نعود إلى التصريح بالتأقيت، فنقول:
العتق إذا نُجِّز وأُقِّت، نفذ، وتأبد، وإذا شُرط في العتق شرطٌ فاسد، لا على معرض التعليق، لغا الشرطُ، ونفد العتقُ، فمؤقته منفّذٌ مؤبد، ومذكوره على حكم الفساد صحيح، وكذلك القول في الطلاق.
5702- فأما الوقف، فإنه ينقسم إلى وقفٍ يضاهي التحرير، وإلى وقفٍ يبعد عن مضاهاة التحرير. فأما الوقف الذي يضاهي التحرير، وهو جعل بقعةٍ مسجداً، فهذا النوع لا يفسد بالشرط، ولا يتأقت بالتأقيت، بل يتأبد على الصحة. هذا هو الظاهر، وما عداه مطَّرحٌ، وسيأتي الشرحُ عليه، إن شاء الله عز وجل.
5703- فأما ما لا يضاهي التحرير، كالوقف على الأعيان، وجهات الخير، فإذا قرن بشرطٍ فاسد أوْ أقّت، لم يخلُ إما أن يكون مما يشترط القبول فيه، وإما ألا يكون شرطاً فيه، فإن لم يكن القبول شرطاً فيه، ففي نفوذه مع الاقتران بالشرط المفسد.
وجهان، وفي تأبده مع تصريحه بالتأقيت وجهان: أحدهما - أنه يُنحى به نحو العتق، فنيفد على موجب الشرع، وينحذف التأقيت، والشرطُ الفاسدُ.
والوجه الثاني - أنه يفسد، ولا ينفذ؛ فإن الوقف مداره على اتباع الشرائط في جهة
__________
(1) في النسخ الثلاث " نصحح " بدون [لا] . وزيادتها تقدير منا على ضوء عبارة الإمام: " فلا شك أن هذا أحرى بالفساد "، فإن أفعل التفضيل يقتضي اشتراك المسألتين في صفة الفساد وعدم الصحة، والله أعلم.(8/353)
الصحة، وكل ما اتبع الشرط الصحيح فيه أفسده الشرط الفاسد، والعتق قطعٌ للملك، واستئصالٌ لسلطنة التصرف.
فأما الوقف الذي يشترط القبول فيه على رأي [بعض] (1) الأصحاب، فالأصح أنه يفسد بالشرط الفاسد، فسادَ العقود المفتقرة إلى الإيجاب والقبول.
5704- فإذا ثبتت هذه المراتب، عاد بنا الكلامُ إلى التصريح بتأقيت الوقف، فإن أفسدناه، فالملك دائم، والوقف باطلٌ، في [الوقت] (2) ووراءه، وإن صححناه، وأبَّدناه (3) ، فهذا الوجه على هذا القول له (4) اتجاه على حال؛ أخذاً مما ذكرناه الآن.
فأما تصحيح الوقف مع التأقيت، وردّه إلى الملك بعد الوقف كما ذكرناه في التفريع على القول الأول، فكلام فاحشٌ مشعر بذهول صاحبه عن فقه الكتاب.
هذا منتهى الغرض الآن في ذكر الوقف المنقطع الآخر، وهو أحد الصنفين الموعودين.
5705- فأما الوقف الذي لا ينتجز له مصرف في الأول، فنصوّره، ثم نذكر تفصيل المذهب فيه، ومضطرب المختبطين ونردّ الأمرَ إلى التحقيق.
5706- فإذا قال القائل: وقفت داري هذه على من سيولد لي، ولا ولد له، أو وقفتُ على المنتظَرين، دون الموجودين منهم، فهذا الوقف لا مصرف له من جهة الأول.
وقد قال الأئمة: في صحة هذا الوقف قولان مرتبان على القولين في الوقف المنقطع الآخر، وجعلوا الانقطاع في الأول أولى باقتضاء الفساد؛ من حيث لم يجد الوقف مرتبطاً يثبت عليه، بخلاف ما إذا انقطع آخره.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في الأصل: الوقف. وعبارة (د 1) ، (ت 3) : بالوقت.
(3) (د 1) ، (ت 3) : وإن صححناه، أيدناه، وهذا.
(4) (د 1) ، (ت 3) :.. لا اتجاه له على حال.(8/354)
5707- والذي أراه عكسُ هذا الترتيب؛ فإن الوقف إذا انقطع آخره، حاد عن وضعه، كما مهدته قبلُ، والوقف إذا لم يستعقب مصرفاً، ومصرفه منتظَر، فليُنتظر إلى أن يقع. وإن دل هذا على الفساد، فالانقطاع في الآخر أدلّ عليه. وتعليق الوقف في الأول -مع التصريح به في هذا القسم- يناظر التصريحَ بالتأقيت في قسم انقطاع الآخر، فإذا قال: إذا جاء رأس الشهر، فقد وقفت داري هذه على المساكين، فالذي ذهب إليه أئمة العراق القطعُ بالفساد، وذكر المراوزةُ خلافاًً في تصحيح تعليق الوقف.
وأنا أقول: قد ذكر العراقيون في الوقف المؤقت خلافاًً، فما وجه قطعهم بإفساد التعليق، وقد ذكروا في هذا الوقف على ما سيكون خلافاً، وهو على التحقيق تعليق، والعتق يصح تعليقه، وإن كان يفسد تأقيتُه، وليس بين التعليق وبين [القُرْبة] (1) المؤبدة -إذا وقعت من المنافاة- ما بين التأقيت والتأبيد. نعَمْ، إن كان الوقف لا يشترط القبول فيه، (2 فتصحيح التعليق فيه متجه، وإن كنا نشترط القبول فيه 2) ، فالتعليق فيه بعيد، كما ذكرناه في تعليق التوكيل.
ولا يتبيّن سرُّ القول إلا بالتفريع، ونحن نفرع على الوقف على من سيكون، ثم نعود إلى التعليق.
5708- فإذا قال: وقفت على من سيولد لي، فإن أفسدنا الوقف، فالملك مطرد، والوقف لاغٍ، ولا يثبت إذا ولد المنتظر.
وإن حكمنا بصحة الوقف، فقد ذكر الأئمة خمسة أوجهٍ في مصرف الوقف، قبل وجود المولود المنتظر، ذكرنا ثلاثة منها في انقطاع الآخر، ولا يضر إعادتها، فأحد الوجوه- أن الوقفَ يصرف إلى الأقربين بالمحبِّس.
والثاني - أنه يصرف إلى المساكين.
والثالث - أنه يصرف إلى المصالح العامة.
__________
(1) في الأصل: القرابة.
(2) ما بين القوسين سقط من (د 1) ، (ت 3) .(8/355)
وزاد الأصحاب وجهين: أحدهما - يخرج في هذه الصورة والآخر يخرج في نظيره لها.
فأما الوجه الخارج، فهو أن الرَّيع مصروف إلى الواقف إلى وجود من يوجد.
والوجه الثاني - أن الموقوف عليه إن كان موجوداً، وكان الشرط الذي تعلق الوقف به مفقوداً، فهو مصروف إليه، وبيانه لو قال: وقفت داري هذه على من يفتقر من أولادي، ولا فقير منهم، فهو مصروف إليهم.
هذا نقل ما ذكره الأصحاب، والتحقيق عندنا وراء ذلك.
5709- فنقول: ظهر التفريع على إفساد الوقف، فإن صححناه، فمقتضاه تأخير استحقاق الريع عن وقت إنشاء الوقف، فنقول: أيقع الوقفُ كذلك أم يقع مستعقباً للاستحقاق؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يقع على حسب ما وضع، كما يتعلق العتق إذا عُلق، وينتجز إذا نجِّز، هذا وجه.
والوجه الثاني - أنه يستعقب الاستحقاق على خلاف ما أشعر به لفظُ المحبِّس.
توجيه الوجهين: من قال: لا يثبت الاستحقاق عَقِيب الوقف، قال: إذا لم يفسد الوقفُ، ولم يبعد أن يثبت كما أثبته الواقف، لزم الجريان على موجب لفظه، ومقتضاهُ تأخير المصرف.
ومن قال بالوجه الثاني، استدل بأنه نجّز الوقفَ إذا قال: " وقفت هذا "، ولم يعلقه، وسنتكلم في التصريح بالتعليق، وإذا انتجز الوقف، لزم ثبوت مصرفٍ له.
وقد يقول هذا القائل: الوقف لا يقبل التعليق، فإذا تضمن اللفظُ التعليق، ثم حكمنا بصحة الوقف، فهو على مذهب إلغاء الفاسد، وتنفيد الوقف على موجب الشرع، وهذا يتضمن تنجيز المصرف.
التفريع:
5710- إن حكمنا بأن الاستحقاق يستأخر، فالوقف هل يثبت أم يتأخر ثبوته؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يتأخر ثبوته، كما يتأخر العتق إذا أُخر.
وقد قال شيخي أبو محمد: وقعت مسألة في الفتاوى في زمان الأستاد أبي إسحاق وهي أن من قال: " وقفتُ داري هذه على المساكين بعد موتي ". فأفتى الأستاذ بأن(8/356)
الوقف يقع بعد الموت وقوعَ العتق في المدبّر بعد الموت، وساعده أئمة الزمان، وهذا تعليق على التحقيق، بل هو زائد عليه؛ فإنه إيقاع تصرفٍ بعد الموت، وسنتكلم في هذه المسألة في فروع الكتاب، إن شاء الله تعالى.
والوجه الثاني - أن الوقف يثبت، وإن استأخر الاستحقاق به، فإنه قال: وقفت هذا على من سيولد، فلفظه تنجيز الوقف مع تأخير الاستحقاق.
فإن قلنا: الوقف غير واقع، فالدار ملكه في الحال، والتصرفات فيها نافذةٌ، حَسَب نفوذها في العبد المعلّق عتقُه بصفةٍ.
وإن قلنا: الوقف واقعٌ، والاستحقاق [مستأخر] (1) فالريْع مصروفٌ إلى المالك؛ فإن استحقاق الريْع مستأخر.
هذا إذا فرعنا على هذا الوجه.
وإن قلنا بالوجه الآخر، وهو: إن الوقف ناجز، والاستحقاق ناجزٌ أيضاًًً، فالواقف لم يذكر مصرِفاً قبل وجود المنتظَر، أو قبل تغيّر صفة في الموجود [تجعله متعلقاً] (2) للاستحقاق، فهذا إذاً وقف يقتضي مصرفاً، لم يذكر الواقف مصرفه، فينقدح فيه الأوجه الثلاثة التي ذكرناها.
ولا يجري في هذا المسلك الصرفُ إلى المالك، فإنا نبغي فى هذا المنتهى مصرفَ قُربةٍ لوقفٍ يستدعي مصرفاً عاجلاً.
نعم، إذا قال: وقفت على من يفتقر من أولادي، فذِكْر وجهٍ رابعٍ في الصرف إلى الولد قبل أن يفتقر قد يتّجه على بُعْدٍ، من حيث إنه أولى من أقاربه الذين لم يذكرهم، فالوقف عليه قربة.
فهذا تحقيق القول في تنزيل هذه الوجوه. وقد أرسلها الأصحاب وأتينا بها في مظانها مفصلةً.
__________
(1) في الأصل: والاستحقاق غير واقع.
(2) في الأصل: " جعله منغلقاً " وعبارة (د 1) ، (ت 3) : " جعله متعلقاً ". والمثبت تصرّف من المحقق، نرجو أن يكون صواباً.(8/357)
5711- ونحن نذكر وراء ذلك التصريحَ بتعليق الوقف.
فإذا قال: إذا جاء رأس الشهر، فقد وقفت داري هذه، فهذه الصورة رتبها الأئمة المراوزة على ما إذا قال: وقفت على من سيولد لي، أو على من يفتقر من أولادي، ورأَوْا التصريحَ بالتعليق أولى بالفساد، وبنَوْا ذلك على أن قوله: " وقفتُ " تنجيز للوقف.
وقد ذكرنا ما يتعلق بهذا [و] (1) فهم الناظر من كلامنا أن قبول الوقف الذي لا يُشترط القبول فيه- للتعليق ليس بدعاً، سيّما إذا حكمنا بأن الوقف لا يفسده الشرط، كالعتق والطلاق.
ثم إن أفسدنا الوقف، فلا كلام، ولا يقع الوقف عند وجود الصفة أيضاً.
وإن لم يبطل، عاد الوجهان في أن الوقف ينتجز، أو يتعلق، وانتظم التفريع بعده على حسب ما مضى، حرفاً حرفاً، غيرَ أن ما وجهنا به بعضَ الوجوه من اقتضاء قول الواقف: " وقفت " تنجيزاً لا يتجه في التصريح بالتعليق.
5712- وعلى الفقيه الآن أن يفهم موقع الوجهين في الصنفين اللذين هما عماد الكلام، ذكرنا وجهاً في انقطاع الآخر يشير إلى أن تأقيت الوقف صحيح، وهذا في نهاية الفساد، وذكرنا الآن وجهاً أن تعليق الوقف صحيح عند بعض أصحابنا، وهذا وإن استبعده العراقيون غيرُ بعيد عندي في القياس.
5713- وكنت أود أن أجد لبعض الأصحاب وجهاً في جواز تعليق الإبراء؛ فإنه ليس بعيداً عن القياس [إذا] (2) لم يشترط القبول فيه، فإذا وجدت هذا في الوقف، اتجه مثله في الإبراء، وقد قال ابن سريج في تفريعات القول القديم في الضمان: إنه يصح تعليقه، فإذا صح تعليق الالتزام، فلأن يصح تعليق الأبراء أولى.
وقد انتهى تأسيس الكلام بانقطاع الوقف في الطرف الآخِر، والطرف الأول.
__________
(1) مزيدة من: (د 1) ، (ت 3) .
(2) ساقطة من الأصل.(8/358)
5714- ثم إنا نُلحق بما مهدناه مسائل سهلةَ المُدرك على من أحاط بما تقدم.
منها- أن من وقف داره على وارثه في مرض موته، ثم بعده على المساكين، فالوقف باطلٌ على الوارث في مرض الموت، فتلتحق هذه المسألة بانقطاع الوقف في الأول، ولكن قال الأصحاب: لا نقطع ببطلان الوقف على الوارث في الحال، وإنما [يتبين] (1) الفساد إذا مات من مرضه، فقد وجد الوقف متشبثاً، فرأى الأصحاب أن يرتبوا هذا على ما إذا عري الوقف عن مصرفٍ من جهة اللفظ والذكر.
وهذا الترتيب قليل النَّزَل (2) ؛ فإنه إذا تبين انقطاع الوقف أولاً، فالظن السابق لا حكم له، إذا كان التبين على خلافه.
5715- ومما ذكره الأصحاب ملتحقاً بهذا الأصل: أن من وقف على شخص معيّن، ثم بعده على المساكين، فلم يقبل ذلك المعين، والتفريع على أن قبوله شرط، فالوقف انقطع من هذه الجهة، فيخرّج على الخلاف المتقدم في انقطاع المصرف أولاً، ورأَوْا ترتيب ذلك على ما إذا وقف [على] (3) من سيولد، وزعموا: أنه علق الوقف بحاضرٍ، ثم كان الانقطاع من جهة غيره.
وهذا كلام عري عن التحصيل، لا ينبغي أن يقع التشاغل به. نعم، لو قلنا: إن القبول ليس بشرط، فإذا وقف على معيّن، ثم بعده على المساكين، فلو رد الموقوفُ عليه الوقفَ، فينقدح في هذه الصورة ترتيبٌ؛ من حيث إن الوقف ثبت متصلاً مستعقباً ثبوت مصرفٍ، ثم ارتد بالرد، فلا يمتنع أن يرتب هذا [على ما لو لم يثبت للوقف متعلق أصلاً] (4) .
5716- ومما يجري في هذه الفنون، أنه لو قال: وقفت على فلانٍ، ثم بعده على
__________
(1) في الأصل: ينشأ.
(2) النَّزَل: بفتح النون المشدّدة، والزاي أيضاً، من قولهم: فلان ليس بذي نَزَل، أي ليس له عقل ولا معرفة، وقولهم: طعامٌ كثير النزل (وزان سبب) أي كثير البركة، فالمعنى: ترتيب لا طائل وراءه. (المعجم والمصباح) .
(3) ساقطة من الأصل.
(4) ما بين المعقفين سقط من الأصل.(8/359)
المساكين، فإذا لم يقبل، أوْ ردَّ على التفصيل الذي ذكرناه، فيتجه هاهنا الصرف إلى المساكين؛ من جهة أنه جعل المصرف صائراً إليهم إذا انقطع استحقاق المسمَّى أولاً، فإذا لم يستقر الاستحقاق عليه، فيتجه تنزيل ذلك منزلة ما لو انقرض المعيّن بعد ثبوت الاستحقاق لهم. هذا بيان تمهيد الأصول وفروعها.
5717- ومما يجب التنبيه له أن من وقف على بطونٍ، ورتبهم في الاسْتحقاق، فاستحقاق البطن الأول إذا اعتبر بنفسه، كان على حكم التأقيت، واستحقاق البطن الثاني إذا اعتبر بنفسهِ، فهو على حكم [التعليق] (1) ، ولا امتناع فيما ذكرناه من التأقيت والتعليق إذا اطرد الوقف، ولم ينقطع أهل المصرف أولاً وآخراً، ووسطاً. ومثل هذا لا يسوغ فرضه في الإجارة، فإن المعتبر فيها أعيان العاقدين، والمعتبر في الوقف وقوعه قربة على وضع الشرع، فلا نظر إلى تناوب المستحقين.
فرع:
5718- إذا أشار إلى عبدين، وقال: وقفت أحدَهما، ولم يعيّن، ففي صحة الوقف على الإبهام وجهان: أحدهما - المنعُ؛ فإن الوقف مبنيٌّ على قضيةٍ معلومة، يقصد الواقف بوقفه التقرّبَ إلى الله تعالى بتحبيسِ معينٍ، أو يقصد تمليك شخصٍ رَيْعَ عينٍ معينة، فإذا فرض على الإبهام، كان كالإبهام في البيع والهبة، والإجارة وغيرها.
ومن أصحابنا من قال: يصح الوقف على الإبهام، كما يقع العتق على الإبهام، إذا قال مالك العبدين: " أحدكما حُرّ ". وهذا التردد يضاهي ما قدمناه من تردد الأصحاب في أن الوقف هل يقبل التعليق قبولَ العتق له، ويلتفت على التردد في أن الوقف إذا اقترن بالشرط المفسد، هل يفسد أم ينفد نفوذَ العتق؟
ثم إن لم نحكم بثبوت الوقف على الإبهام، فلا مساغ لتنفيذه على خلاف إيقاعه، وليس كما إذا أُقِّت، فقد يُؤبّد مؤقَّته، والسبب فيه أنا نجد لتأبيد المؤقت مثالاً، ووجهاً، ولا وجه إذا بطل الإبهام (2 غيره.
__________
(1) في النسخ الثلاث التعلق.
(2) هذا القوس متصل بنظيره في الصفحة التالية.(8/360)
وإن صححنا الوقف على الإبهام، فهو إذاً على هذا الوجه بمثابة العتق 1) .
[فلو قال: " وقفت: أحدَهما "، طالبناه بالتعيين، كما نطالب من يُبهم العتقَ، ثم قد يُفضي التفريع إلى الإقراع، فهو إذاً على هذا الوجه بمثابة العتق] (2) .
5719- ولو قال: " وقفت عبدي هذا على أحدكما "، فأبهم الموقوفَ عليه، فقد قال الأصحاب: الوقفُ مردود، لا مساغ له.
وكان شيخي يقول: " إن حكمنا بأن الوقف يفتقر إلى القبول، فالإبهام يُبطله، وإن حكمنا بأنه لا يفتقر إلى القبول، لم يبعد ثبوت الوقف على الإبهام، ثم على الواقف البيان، ولا يبعد إجراء القرعة بينهما عند تعذر البيان ".
وهذا فرع بعيد على أصلٍ نازحٍ، فيبعد مأخد الكلام فيه.
فرع:
5720- إذا قال الرجل: " وقفت داري هذه "، ولم يتعرض لذكر المصرف أصلاً، فقد ذكر الأئمة أن الأصح بطلان الوقف، وحكَوْا وجهاً بعيداً في صحته، ثم رددوا الأقوال في المصرف، كما تقدم، ورتبوا فساد الوقف في هذه الصورة على فساد الوقف المنقطع من جهة الأوّل، وعلى فساد الوقف المنقطع من جهة الآخر، وزعموا أن إطلاق الوقف مع السكوت عن مصرفٍ أولى بالفساد.
وفي هذا فضلُ نظر؛ فنا إذا كنا نثبت مصرفاً حيث نفى المصرفَ في طرفي الوقف، فلا يبعد أن نُثبت مصرفاً حيث لم ينفه، ولم يثبته.
ولا شك أن الأظهر الفساد.
5721- ومن لطيف القول أنه لو وقف على الكنائس والبِيع، وكتبة التوراة، فوقفه باطلٌ، لا خلاف فيه، ولم يصر أحد إلى إبطال المصرف الذي ذكره، وتنزيل الوقف على مصرفٍ صحيح، وهذا يؤكد أن إطلاق الوقف باطل؛ فإنه لو جمع جامع بين إفساد المصرف الذي ذكره بناءً على حذف الفاسد، وبين تنزيل الوقف بعد هذا
__________
(1) هذا القوس متصل بما قبله في ذيل الصفحة السابقة. وما بين القوسين ساقط من (د 1) ، (ت 3) .
(2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.(8/361)
الحذف على مصرفٍ يصح، لكان قياساً على حسب هذه الأصول. ولكن الذي بلغنا من الأصحاب القطعُ بالبطلان.
والذي يتجه فيه أن الوقف ينقسم إلى وقف تمليك، وإلى وقف قُربة، فأما وقف التمليك، فهو بمثابة الوقف على معينين، وهو جائز، وإن لم يكن فيه قُربة، وهو كالوقف على الكفار. والقسم الثاني - الوقف على جهات القربة، فأما الوقف على البِيَع، فليس تمليكاً، ولا قربة، فبطل، والوقف المطلق يحتمل الصرف إلى القربة، فانقدح فيه الخلاف على البعد.
وقد نجز تمهيد هذا الأصل على أحسن مساق.
فصل
معقود في شرائط الوقف، وما يصح منها وما يفسد
5722- فنقول أوّلاً: موضوع الوقف الإلزام والإبرام، وقطعُ الخِيَرة، كما أن موضوعه التأبيد، كما تفَصّل القولُ فيه في الفصل السابق.
فإذا وقف على معيّنين، أو على جهةٍ من جهات القُربة، فالرجوع إلى شرط الواقف في الصفات المرعية في الاستحقاق، وفي الأقدار المستحقَّة، والترتيب والجمع؛ فإن الواقف هو المفيد، وله الخِيَرةُ في كيفية الإفادة وقدرِها.
فلو وقف وقدَّر، وأثبت لنفسه الخِيَرةَ في التغيير والتقديم، والتأخير، والأثرة [والتفضيل] (1) ، وجعل لنفسه أن يحرم بعد الوقف من شاء، ويزيد من أراد، فهل يصح الشرط على هذا الوجه؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يصح؛ فإن مبنى الوقف على اللزوم، فإن كان الموقوف عليه عرضةً لأن يُحرم، لم يتحقق اللزوم في مستقر الوقف، وبقيت سلطنةُ الواقف بعد ثبوت الوقف. وهذا محالٌ.
ومن أصحابنا من صحح الشرط كذلك، وأوجب الوفاء به، وحكم بأن اللازم
__________
(1) في الأصل: التفاصيل.(8/362)
أصلُ الوقف، فلا مردّ له بعد صحته، فأما تفاصيل المصارف، فلا يمتنع تعلُّقُها باختيار الواقف.
5723- ولا خلاف أنه لو أطلق ذكرَ المصارف، وأتى بالوقف مستجمعاً لشرط الصحة، ثم رام تغييراً، لم يجد إليه سبيلاً.
5724- فإن صححنا الشرط الذي وصفناه، فلا كلام، وإن أفسدناه فهل يفسد الوقف بفساده؟ فعلى الخلاف الذي قررناه قبلُ في تشبيه الوقف بالعتق والطلاق، أو قطعِه عنهما، فإن أفسدنا الوقفَ، فالملك مستدامٌ، والوقف لاغٍ.
وإن حذفنا الشرطَ، قررنا الوقفَ على المصارف على الإلزام.
5725- ولو قال الواقف بعد ذكر المصارف: جعلتُ إلى فلان التقديمَ، والأثرةَ، والحرمانَ، فإن لم نصحح من الواقف شرطَ ذلك لنفسه، فلأن لا يصح شرطه ذلك لغيره أولى، وإن صححنا شرطه لنفسه، ففي صحة الشرط للغير وجهان: أصحهما - الفساد، ثم إذا فسد، ففي فساد الوقف الكلامُ المقدم.
5726- ومسائل الوقف تنتشر من اختلاف ألفاظ الواقفين، وحظ الفقه منها اتباعُ مقتضى الصيغ، وإنما يُحيط بالألفاظ ذَرِبٌ باللغة، وعلمِ اللسان، ماهرٌ فيما يتعلق بمعاني الألفاظ في أصول الفقه (1) ، وليس الفقه إلا الإرشادَ إلى ما يصح ويفسد، والدعاءَ إلى اتباع اللفظ.
ثمّ يقع في ألفاظ الواقفين العمومُ والخصوص، والاستثناءات، والكنايات، وهي المتاهة الكبرى، ويجب التثبت عندها، [ليتبيّن] (2) انصرافُ الضمائر (3) إلى محالّها.
ومما يتكرر مسيس الحاجة إليه الجمعُ والترتيب، (فالواوُ) جامعةٌ، وكلمة (ثُم) مرتِّبةٌ، فإذا قال: " وقفت على فلان وفلان "، اقتضى ذلك اشتراكَهما، [ولو قال:
__________
(1) عُني إمام الحرمين بمعاني الألفاظ في كتابه (البرهان) في أصول الفقه (ر. الفقرات: 84-114) .
(2) في الأصل: لبيتني.
(3) (د 1) ، (ت 3) : الضمان.(8/363)
على فلان، ثم فلان، اقتضى ترتّباً] (1) .
وفيه دقيقة، وهي أن الواو إذا لم يقترن بها، أو لم يستأخر عنها ما يقتضي ترتيباً محمولةٌ على الجمع، وقد يستأخر عن الواو ما يتضمن ترتيباً، وهذا مثلُ قول المحبِّس: وقفت على أولادي، وأولاد أولادي، وأولادهم، فهذا لو اقتصر عليه، لاشتركوا، ولا يمتنع أن يقول: بطناً بعد بطن؛ [فيترتب] (2) ؛ فإن الواو قد تقتضي الاشتراك في أصل الاستحقاق، وقد تقتضي الاشتراكَ في الأصل، والتفصيلَ، وذلك إذا تجرد (3) عما يقتضي الترتيب.
5728- وأما الاستثناءات، فيتعين تتبعها، فالمسألة المشهورة للشافعي أن الاستثناء الواقع آخراً ينصرف إلى جميع ما تقدم إذا لم يمنع من انصرافه مانع، فكذلك القول في الصفات، وبيان ذلك أنه لو قال: وقفت على أولادي ثم على إخوتي، ثم على أعمامي إلا أن يفسق منهم أحد، فهذا ينصرف إلى الجميع، ولا يختص به المتأخرون.
والمسألة تذكر في الأصول (4) ، وعليها بنى الشافعي قوله في قبول شهادة القاذف إذا تاب، تعلقاً بظاهر قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 5] ومثال الصفة، أن يقول: " وقفت على أولادي، ثم بعدهم، على إخوتي، ثم بعدهم على أعمامي، الفقراء منهم "، فهذه الصفة يُنحى بها نحو الاستثناء، وتنصرف على المذكورين، وهذا الكلام مبهمٌ، يحتاج إلى مزيد تفصيل.
والوجه فيه أن نقول: إذا قال: وقفت على أولادي، ثم بعدهم على بني فلان، ثم بعدهم على إخوتي إلا أن يفسق منهم أحد، فهذا ينصرف إلى المتقدمين، كما ذكرناه، ولا يختص بالمتأخرين، بل يتعلق حكمُه بالجميع.
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(2) سقطت من الأصل.
(3) كذا: بحذف (تاء) المضارعة في أوله، أو (تاء) علامة التأنيث في آخره. أو تُنطق بالبناء للمجهول.
(4) راجع البرهان: فقرة 287-293.(8/364)
ولو ذكر الذين وقف عليهم، وأطال الكلام، في وصف كل قبيلٍ، ثم كان يستفتح في كل صنف كلاماً مستقلاً بنفسه، فلست أرى الاستثناء والوصفَ الواقعين آخراً منصرفَيْن إلى الجمل المتقدمةِ السابقةِ المذكورةِ على صيغ الاستقلال.
وبيان ذلك بالمثال؛ أنه إذا قال: وقفت على أولادي، فمن مات منهم رجع نصيبه إلى أولاده، للذكر مثلُ حظ الأنثيين، ومن لم يعقب رجعت حصتُه إلى الذي في درجته. ثم قال: فإذا انقرضوا، فالريع مصروفٌ إلى إخوتي: فلانٌ، وفلان، وفلان ثم قال: إلا أن يفسق منهم أحد، فهذا يختص بالإخوة عندي.
5729- وإن أطلق الأصحابُ صرفَ الاستثناء إلى المتقدمين، فكلامُهم (1) محمول على ذكر البطون على التواصل بعاطفٍ جامع، أو عاطف مرتِّب، من غير تخلل كلامٍ يفصل جملةً عن جملةٍ، ويوجب بين البطون اختلافاًً وتفاوتاً، مثل أن يقول: وقفت على أولادي، ثم بعدهم على إخوتي، ثم على أعمامي إلا أن يفسق منهم أحد، فظاهر مذهب الشافعي رجوعُ ذلك إلى الكافة، وما ذكره في عطف الجمل، بعضِها على بعض بالواو أظهر، فإذا كان العطفُ يقتضي ترتيباً، فالصرف إلى جميع المقدَّمين فيه بعضُ النظر والغموض؛ فإن انصراف الاستثناء إلى الذين يليهم الاستثناء مقطوعٌ به، وانعطافه على جميع السابقين والعطف بالحرف المرتِّب محتملٌ غيرُ مقطوع به، وإذا ثبت الاستحقاق بلفظ الواقف نصاً، ولم يثبت ما يغيره، وجب تقرير الاستحقاق، ولم يجز تغييره بمحتملٍ متردَّدٍ.
5730- فانتظم مما ذكرناه ثلاث مسائل: إحداها - أن يطول الفصل، ويتخلل بين الصنف والصنف فواصل، كما صورناه، فالاستثناء لا ينصرف إلى الجمل السابقة.
وإن كان العطف بثُمَّ، فالذي أراه اختصاص الاستثناء بالمتاخرين.
وإن كان العطف بالواو، ولا فاصل، فمذهبُ الشافعي رجوعُ الاستثناء إلى الجميع، وكذلك القول في الصفة.
__________
(1) في الأصل: وكلامهم.(8/365)
والأصحابُ وإن لم يفصِّلوا الكلام، فما أطلقوه محمولٌ على هذا التفصيل لا محالة.
فرع:
5731- إذا قال: وقفتُ على أولادي، فهل يدخل أولاد الأولاد في الاستحقاق؟ فعلى وجهين: أصحهما - أنهم لا يدخلون.
ومن أصحابنا من قال: يدخلون في الاستحقاق، واسم الأولاد يتناول الأدنَيْن والأحفاد، فإن فرعنا على أنهم يندرجون تحت اسم الأولاد، فالأصح أن أولاد البنات لا يدخلون.
هذا ما اختاره صاحب التقريب، وتعليله: أن أولاد البنات ينسبون إلى آبائهم، وهم أزواج البنات؛ فإن الانتساب إلى الآباء دون الأمهات، وعلى هذا المعنى قال القائل:
بنونا بنو أبنائنا وبناتُنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعد (1)
وذهب ذاهبون إلى أن أولاد البنات على الوجه الذي نفرع عليه يدخلون دخول أولاد البنين، ثم الوجهان في الأصل فيه إذا لم يجر ما يتضمن إخراج الأحفاد. فلو قال: وقفت على أولادي، فإذا انقرضوا، فلأحفادي ثلث ما سميتُ لهم، والباقي لأخواتي، فهذا، وما في معناه، يخرج الأحفاد عن الاندراج تحت مطلق اسم الأولاد.
فرع:
5732- إذا قال: وقفت على زيد وعمرو، ولم يذكر بعد انقراضهما مصرِفاً، وفرعنا على أن الوقف المنقطع الآخر صحيح، فلو مات أحد الرجلين، ففي نصيبه وجهان: أحدهما - أنه مصروف إلى الباقي منهما، والصرف إليه مع تعرض الواقف له أولى من تقدير مصرِف لم يذكره الواقف.
ومن أصحابنا من قال: نصيب من مات منهما بمثابة نصيبهما لو ماتا، وقد تفصل المذهب في مصرف الوقف بعد انقراض المسمَّيْن.
__________
(1) هذا البيت من شواهد ابن عقيل. وقد قال عنه العلامة الشيخ محمد محي الدين عبد الحميد، نسبه جماعة إلى الفرزدق، وقال قوم: لا يعلم قائله. مع شهرته في كتب النحاة، وأهل المعاني والفرضيين. (شرح ابن عقيل: 1/233) .(8/366)
فصل
في التولية
5733- وهو من قواعد الكتاب، وفيه أمر يكاد أن يخرج عن القياس بعضَ الخروج.
والذي نراه أن نذكر التفصيلَ في الوقف على الجهات، ثم نذكر الوقف على معيّنين.
فأما إذا وقف على جهةٍ، كالوقف على المساكين، فإن شرط التولية لنفسه، وصرّح به، فهو القائم بالصدقة لا يزاحَم، سواء قلنا: الملك له في رقبة الوقف، أو قلنا: إنه زائلٌ إلى الله تعالى، ولا يجري في الأوقاف على الجهات إلا قولان؛ فإن إضافة الملك في الرقبة إلى المساكين لا يتجه. هكذا قال الأئمة.
وعندي أنه لا يمتنع تقدير إضافة الملك إليهم، كما أنا نضيف الملك في رَيْع الوقف إليهم، والملك في الريع محقق، فإذا لم يمتنع إضافة الملك المحقق، لم يمتنع إضافة الملك المقدّر.
وغرض الفصل الآن أن حق التولِّي يثبت للواقف إذا شرط لنفسه، فإن قيل: هلاّ كان حق التولي تابعاً لملك الرقبة؛ حتى يقال: إن أضفنا الملك إلى الواقف، فحق التولِّي له، وإن أضفناه إلى الله تعالى، فحق التولي للسلطان؟ قلنا: حق التولِّي من جملة الحقوق المستفادة من الوقف، والمتَّبع في [حقوق] (1) الوقف شرط الواقف.
ثم إذا شرط الواقف لنفسه حقَّ التولِّي، فليس هو بمثابة ما لو أثبت لنفسه في الوقف حظّاً ونصيباً، وكل ذلك متفق عليه.
والذي تمهد مذهب العلماء فيه قديماً وحديثاً أن الواقف هو المتقرِّب إلى الله تعالى بصدقته، فكان أولى بالقيام عليها من غيره، فإذا انضم إلى ما ذكرناه تصريح الواقف بشرط التولي لنفسه، لم يبق ريبٌ في اختصاصه بالتولِّي.
__________
(1) في الأصل: حكم.(8/367)
5734- ولو شرط الواقف حق التولِّي لرجلٍ عينه، فهو المتولِّي، إذا كان مستجمعاً للشرائط المرعية، وسبيل ذكره الأجنبي كسبيل إثباته في الوقف حظاً لمن يريد أن يُثبت له حظاً، فشرط التولِّي للغير كشرط قسط من الريع.
وشرطُ الواقف التولِّي لنفسه يؤخد بما تمهد من كون الواقف أولى بتربية صدقته التي تقرب بها؛ فإنا لو حملنا التولِّي في حقه على إثباته حظّاً لنفسه، وقعنا في وقف الرجل الشيء على نفسه، أو صرفه قسطاً من الريع إلى نفسه.
وسيأتي هذا متصلاً بهذا الفصل.
ويجوز أن يقال: نَصْبُه أجنبياً صادر مما ثبت له من حق القيام، ثم له أن يستنيب غيرَه مناب نفسه. هذا إذا وقع التعرض لذكر من يتولى الوقف.
5735- فأما إذا كان الوقف على جهة القربة مطلقاًً، من غير تعرضٍ لمن يتولى الوقفَ، فلأصحابنا طريقان: منهم من قال: أمر التولِّي يُبنى على الملك، فإن حكمنا بأن الملك فىِ الرقبة للواقف، فله حق التولِّي، وإن قلنا: الملك في الرقبة زائل إلى الله تعالى، فحق التولّي للسلطان. وهذا ظاهر المذهب.
ومن أصحابنا من قال: حق التولِّي للواقف، وإن قلنا: الملك لله تعالى، فإن الوقف تقرب، والقيام عليه تتمة للقربة، فكان مفوَّضاً إلى المتقرِّب.
والأصح الطريقة الأولى.
5736- ثم شرط القائم في الوقف الذي هو قربة أن يكون مستصلحاً للقيام، ولذلك
شرطان: أحدهما - الأمانة. والآخر - الكفاية. ولو انخرم أحدهما، تسلط السلطان عليه، حتى لو كان الواقف شرطَ لنفسه التولِّي، ثم اختل فيه الوصفان، أو أحدهما، لم يتركه السلطان، على ما سنصف في آخر الفصل في القول في العزل والانعزال.
هذا في الوقف على الجهات، والوقف عليها لا يكون إلا قربةً.
فلو وقف على الأغنياء شيئاً، فقد اضطرب أصحابنا فيه: فمنهم من أبطل الوقف، ومنهم من صححه.(8/368)
والغرض في هذا يتبين بذكر ثلاث مراتب: إحداها - الوقف على جهات القربة، فهو منفّذ.
والأخرى - الوقف على الجهات التي يزجر الدين عنها، ولا يقرر عليها، إلا على موادعة ومتاركة، فالوقف على هذه الجهات باطل، وذلك كالوقف على الكنائس والبيع وكتبة [التوراة] (1) .
والمرتبة الثالثة - في الوقف على جهةٍ لا نهي فيها، ولا يتضح فيها وجهُ القُربة، كالوقف على الأغنياء من غير تعيين أشخاص.
وكل ما ذكرناه في أحكام التولية في الوقف على الجهات، فأما إذا كان الوقف على معيّنين، فهذا ليس مبنياً على القربة، حتى يقال: المتقرِّب أولى بتتمة القربة.
5737- فإذا وقع التنبّه لهذا، قلنا:
الواقف لا يخلو إما أن يتعرض لذكر من يتولَّى [الوقفَ، وإما أن يُطلق الوقفَ، فأما إذا أطلق، ولم يتعرض لمن يتولّى] (2) ، فإن قلنا: الملك للموقوف عليه، فهو المتولِّي بلا مدافعة؛ إذ الريْع له، والملك في الرقبة مضاف إليه.
وإن قلنا: الملك مضاف إلى الله تعالى، فظاهر المذهب أن السلطان لا يتولّى الوقفَ؛ فإنه إنما يخوض فيما يتعلق بالجهات العامة، والملك الذي يضاف إليه في هذا النوع من الوقف تقدير.
ومن أصحابنا من قال: حق التولِّي يتبع الملك، فإذا أضفناه إلى الله تعالى، فحق التولِّي إلى القائم بحقوق الله تعالى.
وإن فرّعنا على أن السلطان لا يتولى، فحق التولِّي للموقوف عليه نظراً إلى استحقاق الريع والمنفعة.
وإن قلنا: الملك للواقف في الرقبة، فالأصح أن حق القيام ثابت له؛ فإنه ملك خاص، فيجوز أن يكون القيام بذلك الملك إليه.
__________
(1) في الأصل: " الزبور ". واخترنا هذه، لأنها اللفظة التي تكررت مراراً مع الكنائس والبيع.
(2) ما بين المعقفين سقط من الأصل.(8/369)
وإن قال قائل: حق القيام لمن له حق المنفعة والريع، قيل له: القيام يمكن أن يضاف إلى الملك، ويمكن أن يضاف إلى المنفعة، وإضافته إلى الملك أولى من إضافته إلى المنفعة.
فهذا حاصل القول في إطلاق الوقف.
5738- وتتمة البيان فيه أنا قد نقول: إذا أُتلف الموقوفُ، يستحق الواقف قيمته ملكاً. وإذا قلنا: الملك لله تعالى، فالقيمة في وجهٍ من الوجوه لا تصرف إلى مال الله تعالى، فاتضح بما ذكرناه أن إضافة الملك تقدير في الوقف على الأعيان، وهو تحقيق في حق الواقف، وكما لا يظهر إضافة الملك في رقبة الوقف إلى المساكين، فكذلك لا يظهر إضافة الملك في الوقف على الأعيان إلى الله تعالى، وليس الوقف قربة.
5739- فأما إذا وقف الواقف، وشرط التولِّي لنفسه، أو لأجنبي أو لبعض من عليه الوقف، فقد قال الأئمة يُتّبع شرطُه، فإن شرط لنفسه التولِّي، فهو له. وإن شرطه للموقوف عليه، فلا شك في ثبوته، وإن شرط لأجنبي، فظاهر المذهب أنه ينتصب ذلك الأجنبي بنصب الواقف. وهذا الآن في حق الأجنبي يُحمل على إثبات حق له، وسلطنةٍ في الوقف بشرطٍ من إنشاء [الواقف] (1) .
فإن قال قائل: إذا فرعنا على أن الملك للموقوف عليه، والحق في الريع له، فما وجه حق ثبوت التولِّي لغيره؟ قلنا: من أنكر تخصيصات الواقف وتحكماته في شرائطه، فليس على خبرةٍ من الكتاب؛ فإن العلماء متفقون على أنه لو شرط ألا تُكرى الضيعة الموقوفة، بل تُستغل، فلا يجوز أن تكرى، ولو شرط ألا تكرى أكثر من سنة، وجب اتباع شرطه، ومبنى الوقف على اتباع تحكمات الواقف، إذا لم يخالف موجَب الشرع، وليس كهبة الواهب؛ فإنه لا يبقى له تحكم إذا أقبض، ولو تحكم بطلت الهبة بتحكّمه، فللواقف على الأعيان تعيينُ جهات الانتفاع.
والأصل الشاهد فيه أنه وإن ملك الموقوفُ عليه الرقبةَ -على قولٍ- والمنفعةَ،
__________
(1) في النسخ الثلاث: الوقف. والمثبت تقدير منا.(8/370)
فالرقبة محبَّسة عليه، [وأصل] (1) تحبيسها [اتِّباع] (2) شرط الواقف. ومن أحاط بوضع الوقف، هان عليه هذا.
5740- فإن قيل: إذا كان الوقف على الأعيان، فهل يجوز أن يكون المتولِّي فيه فاسقاً، أم ترعَوْن فيه الأمانة والكفاية، على ما ذكرتموه في القسم الأول؟ قلنا: هذا مما تردد الأصحاب فيه. والمذهب أنه يشترط الأمانة والكفاية، فإنا نشترط هاتين الصفقتين في الوصي والقيّم، والمتولِّي في معناهما، وإنما تخيّل من لم يشترط ذلك من جهة أنه حَسِب التولِّي حقّاً للمتولِّي، وهذا كلامٌ عريٌّ عن التحصيل، فلا اعتداد به.
ثم من جوز نصب المتولِّي مع العُرُوّ عن الصفتين يقول: لأرباب الوقف أن يُقيموا أَوَدَه، ويحملوه على المراشد، فإن أبى، استعدَوْا عليه.
ولا خلاف أنه إذا كان فيهم طفل، فالمتولي يجب أن يكون أميناًً كافياً.
5741- ثم لو فسق المتولِّي وقد شرطنا عدالته، فتفصيل القول في فسقه الطارىء كتفصيل القول في فسق الوصي، وسيأتي مفصَّلاً في كتاب الوصايا، إن شاء الله تعالى.
5742- ثم إذا نصب الواقف متولِّياً، فإليه القيام بالعمارة، وتحصيل الريع من وجهه وإيصاله إلى مستحقيه، وإليه عقد الإجارة على حكم النظر.
ولا يمتنع أن ينصب الواقف متولِّياً في بعض المصالح المتعلِّقة بالوقف، ويفوِّض الباقي إلى أرباب الوقف، فالتولية تصحّ على الخصوص، وعلى العموم، كما يصح الإيصاء على الوجهين.
5743- ولو نصب متولِّياً، وشرط له من الريع شيئاً، جاز. وإن لم يشرط له شيئاً، فهل يستحق المتولِّي من الريع قدرَ أجرة مثله؟ فعلى خلافٍ بين الأصحاب، وهو خارج على المسائل التي ذكرناها في كتاب الإجارة، إذا استعمل الرجل إنساناً، ولم يذكر لعمله أجرة.
__________
(1) في الأصل: " فأصل " وفي (د 1) ، (ت 3) : والأصل. والمثبت تصرف من المحقق.
(2) في النسخ الثلاث: لاتباع.(8/371)
5744- فإذا كان الوقف متعلِّقاً بالمتولِّي، فاليد نتُبعُها شرطَ الواقف، فلا يمتنع أن يشترط كون الوقف في يده، أو في يد ثالث. وإن أطلق الوقفَ، فاليد في الوقف تتبع التصرّفَ، فإن أثبتنا حقَّ التصرف للموقوف عليه، وجب تسليم الوقف إليه، وإن أثبتنا حقَّ التصرف للواقف، فيقرر الوقف في يده، والقول الجامع أن اليد تتبع التصرفَ، وقد مضى التفصيل في ذلك، وتولِّيه عند الإطلاق والشرط.
5745- ومذهبنا أن لزوم الوقف لا يتوقف على إقباضه للموقوف عليه وتسليمه إليه، وليس كالهبات والصدقات، وخالف في هذا أبو يوسف ومحمد (1) ، واضطربت مذاهبهم. هذا منتهى القول في التولية، وما يتعلق بها.
فصل
5746- قد ذكرنا في أثناء الكلام مصارفَ الوقف، إذ جرى ذكرها معترضاً، ونحن نجمعها على الإيجاز في هذا الفصل، فنقول:
الوقف ينقسم إلى وقف تمليك، وإلى وقف قربة.
فأما وقف التمليك، فالضابط فيه أن كل من تصح الوصية له يصح الوقف عليه.
وذهب معظم الأئمة إلى أن الوقف على المساكين يلتحق بالقربات، ويُرعى في هذا المسلك طريق القُربة، وآية ذلك أنه لا يجب استيعاب المساكين، بل يسوغ الاقتصار على ثلاثة منهم؛ فعلى هذا لا يلتحق الوقف على المساكين بقسم وقف التمليك، ويترتب على هذا امتناع الوقف على اليهود والنصارى.
وحكى شيخي عن القفال أنه كان يُلحق هذا القسمَ بوقف التمليك، ويجوّز الوقف على الكفار، وعلى الفسقة، ومعاقري الخمور، والمُجّان، كما يصح الوقف على معينين من هؤلاء. وهذا قياس حسن، وربما كان لا يذكر شيخي في بعض الدروس غيرَه. والوصية تصح لهؤلاء، كما تصح لمعينين منهم، وإنما ينفصل المذهب في الوصية لأهل الحرب بالسلاح، كما سيأتي في كتاب الوصايا، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 137، البدائع: 6/219.(8/372)
5747- فعلى هذا الوقفُ الذي يستدعي القربة، هو الوقف على الجهات التي لا تستدعي تمليكاً، كالوقف على البِيع، وكتبة التوراة، فهو باطل، والصحيح الوقف على المساجد والرباطات.
فحصل من مجموع ما ذكرناه ترددٌ في أن الأجناس الذين لا ينحصرون هل يُرعى في الوقف المضاف إليهم وجهُ القربة أم لا؟ فإن راعينا وجه القربة، ففي الوقف على الأغنياء تفصيلٌ، قدمته فيما مضى.
واختلف القول في الوقف على أقوام يعسر حصرهم، ولو قدرنا صحة الوقف، لوجب استيعابهم، وهذا كالوقف على بني هاشم، والعلوية، والطالبية، وسنذكر هذين القولين في كتاب الوصايا، إن شاء الله تعالى. وغرضنا الآن منها أنا إن صححنا الوقف، لم نعلِّقه بالقربة؛ فإنه يتضمن تمليكاً واستيعاباً.
5748- ومما يتصل بهذا الفصل وقف الإنسان على نفسه، وقد ظهر اختلاف الأصحاب فيه، فذهب القياسون إلى منعه؛ فإن الغرض من الوقف إخراج الواقف ملكَه إلى غيره، ولا حاصل لوقف خالص ملكه على نفسه؛ فإن مقصود الوقف نوعٌ من الاختصاص، والملك الخالص زائد على كل اختصاص.
ومن أصحابنا من جوّز وقفَ الإنسان على نفسه، وحمل ذلك على طلبه تحبيسَ الملك، حتى تنحسم عنه التصرفات المزيلة للملك.
ثم بنى الأصحاب على هذا أن الرجل إذا وقف على نفسه شيئاً من ملكه، ثم ذكر أنه [بعد موته] (1) وقفٌ على فلان وفلان، ثم بعدهم على المساكين، فإن صححنا وقفه على نفسه، انتظم الأمر واتسق الوقف، وإن حكمنا بأن وقف الإنسان على نفسه باطلٌ، فهذا وقفٌ منقطع الأول، وقد مضى تفريع انقطاع الوقف من الأول.
5749- ومما فرعوه أنا إذا أبطلنا وقف الإنسان على نفسه، فلو وقف شيئاً على الفقراء والمساكين، ثم افتقر هو في نفسه، فهل يحل له أن يأخد من رَيْع الوقف ما يسد حاجته، لاندراجه تحت اسم المساكين؟ فيه اختلاف بين الأصحاب على قولنا
__________
(1) ساقط من الأصل.(8/373)
يمتنع منه أن يقف على نفسه قصداً، وسبب الخلاف ما أشرنا إليه من أنه لم يقصد نفسَه، وإنما تناوله عموم اسمٍ، وسنذكر نظير هذا في الوصايا، إن شاء الله.
5750- ومما يتصل بهذا الفصل، وبما تقدم في التولية أن الواقف لو شرط أن يتولى بنفسه الوقف، ثم أثبت لنفسه أجرة من الرَّيْع، فهذا ينبني على أن وقفه على نفسه هل يصح؟ فإن حكمنا بصحته، لم يمتنع هذا الذي ذكرناه، فإن لم نصحح وقفه على نفسه، ففي الأجرة التي يشترطها لنفسه من ريع الوقف وجهان مبنيان على أصلٍ سيأتي في قَسْم الصدقات، وهو أنا إذا حرّمنا الصدقات المفروضات على بني هاشم وبني المطلب، فلو انتصب واحد منهم عاملاً، فهل يحل له أن يأخد من سهم العاملين؟ فيه [خلافٌ] (1) سنذكره، إن شاء الله عز وجل. وهذا إذا كان المأخود قدر أجر المثل، فإن زاد، لم يخرّج جواز أخذه إلا على قولنا بتصحيح وقف الإنسان على نفسه.
هذا منتهى قولنا في مصارف الصدقات، وسنلحق بهذا الفصل وبما قدمناه فروعاً في آخر الكتاب نتدارك بها ما لم تحتوِ الفصول عليه، إن شاء الله عز وجل.
فصل
معقود في جناية العبد الموقوف، والجناية عليه
5751- فنبدأ بالجناية عليه، فنقول: هي تنقسم إلى الإتلاف، والجنايةِ على الأطراف، مع البقاء. فأما الإتلاف، فلا يخلو إما أن يصدر من أجنبي، وإما أن يصدر من الواقف، أو من الموقوف عليه.
5752- فإن أتلف الأجنبيُّ العبدَ الموقوفَ، ضمِنَ القيمةَ، لا محالة، والكلامُ في مصرفها على أقوالِ الملك.
فإن حكمنا بأن الملك في الرقبة مزالٌ إلى الله تعالى، فالقيمة على المذهب المبتوت الذي عليه التعويل تصرف إلى عبدٍ آخر يُشتَرى ويُحبَّس، فإن وجدنا عبداً
__________
(1) في الأصل: اختلافهم.(8/374)
خالصاً، فإذاك، وإن لم نجده، صرفنا القيمة إلى شقصٍ من عبد، ومصرفه مصرف العبد.
وليس هذا كالأضحية؛ فإنها إذا أتلفت، ولم نجد بقيمتها إلا بعضَ شاة، لم نصرفها إلى بعض الشاة، وذلك لأن التضحية ببعض الشاة غيرُ مجزئة، ووقفُ بعض العبد جائز.
5753- وإن حكمنا بأن الملك في رقبة [العبد] (1) للواقف، فقد اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: يجب عليه أن يشتري بتلك القيمة عبداً، أو بعض عبد، كما ذكرنا في حق الله تعالى.
ومنهم من قال: القيمة تنقلب ملكاًً للواقف، ونحكم بأن الوقف انتهى بفوات العبد، وهو الذي كان مورد الوقف.
وهذا غير سديد؛ فإن من أتلف عبداً مرهوناً، والتزم قيمته، لزم جعل قيمته رهناً، مكان العبد، ولم نقل: انتهى الرهن نهايته، فليكن الأمر كذلك هاهنا؛ فإنّ تَعَلُّق الوقف لا ينقص عن تعلق حق المرتهن.
5754- وإن فرعنا على أن الملك للموقوف عليه، ففي صرف القيمة إليه وجهان، كما ذكرناه الآن على قولنا الملك للواقف: أحد الوجهين - أن القيمة تصرف إلى الموقوف عليه ملكاً، وقد انتهى التحبيس.
ومنهم من قال: يجب صرفها إلى عبدٍ.
وإذا سلكنا هذا المسلك في هذا القول، وفي قول الواقف (2) ، وقد مضى مثله في قولنا: إن الملك لله تعالى، فلا تختلف الأقوال إذاً بالتفريع، ولا يظهر لها أثر، ويطلق القول بصرف القيمة إلى عبد، أو بعضٍ من عبد على الأقوال كلِّها.
5755- وإنما يظهر [أثر] (3) الأقوال إذا فرعنا (4) على أن الواقف يملك القيمة، أو ملكنا الموقوف عليه.
__________
(1) في الأصل: الوقف.
(2) أي قول: الملك للواقف.
(3) سقطت من الأصل.
(4) (د 1) ، (ت 3) : إذا ملكنا الواقف القيمة، أو ملكنا الموقوف عليه.(8/375)
فإن قيل: إن حكمنا على قول الواقف بارتداد القيمة إليه ملكاً، فوجهه انقطاع الوقف، وانقلابُ الموقوف قُبَيْل التلف ملكاًً خالصاً، وهذا مفهوم على الجملة، صحَّ أو فسد.
فأما إذا قلنا: الملك للموقوف عليه، فما وجه تمليكه القيمة، والواقف ما ملكه مِلْكَ إطلاق، فكيف يملك القيمة مطلقاً؟
وإذا قلنا: يملك القيمة على قول الواقف، فقد أزلنا الوقف، وإذا أزلناه في حق الموقوف، فلا يبقى له عُلقةُ استحقاق؟ قلنا: هذا سؤال مُخيلٌ، ولكنه يجاب عنه بأنا إذا ملَّكنا الموقوفَ عليه رقبةَ الوقف، فكأن الواقف تصدق عليه، وملّكه الرقبة مِلكَ الصدقات، غير أنه حبّس عليه الملك، فإذا انحل الحبس الذي هو نعت ملك الموقوف عليه، بقي الملك المطلق.
هذا إذا كان الجاني أجنبياً.
5756- فأما إذا قتل الواقفُ العبدَ الموقوفَ، فإن حكمنا بأن القيمة التي يلتزمها الأجنبي بقتل العبد تُصرف إلى الواقف ملكاًً، فإذا كان القاتل هو الواقف، لم يلتزم شيئاً؛ فإنه لو التزم القيمة، لالتزمها لنفسه. وهذا محال.
وإن قلنا: القيمة التي يلتزمها الأجنبي مصروفةٌ إلى عبدٍ، أو إلى شقص من عبد، فعلى الواقف القيمة لتصرف إلى الجهة التي ذكرناها.
وإن قلنا: القيمة التي يلتزمها الأجنبي تُصرف إلى الموقوف عليه ملكاًً، فعلى الواقف القيمة للموقوف عليه إذا كان هو القاتل.
5757- ولو قتل الموقوفُ عليه العبدَ الموقوف، اتجهت هذه الوجوه في حقه، فإما ألا [نوجب] (1) عليه شيئاً؛ تفريعاً على أن القيمة التي يلتزمها الأجنبي مصروفة إلى الموقوف عليه ملكاًً، وإما أن نقول: على الموقوف عليه القيمةُ لتصرف إلى شراء عبد، وإما أن نقول: على الموقوف عليه القيمةُ للواقف؛ تفريعاً على أن ما يلتزمه الأجنبي مصروفٌ إلى الواقف ملكاً.
__________
(1) في الأصل: يتوجه.(8/376)
هدا بيان التفريع فيه إذا كانت الجناية على العبد الموقوف قتلاً.
5758- فأما إذا كانت الجناية عليه دون القتل، فإن كانت من جهة الأجنبي، فقد زاد بعضُ أصحابنا وجهاً فيما حكاه صاحب التقريب: أن أروش الأطراف والجنايات الواقعة دون النفس مصروفةٌ إلى الموقوف عليه على الأقوال كلِّها، تنزيلاً لها منزلة المهر الذي يجب بوطء الموقوفة، وسنذكر على أثر ذلك أن المهر مصروف إلى الموقوف عليه.
وهذا القائل يحتج بأن أروش الجنايات الواقعة دون النفس فوائدُ تتعلق بإفاتةٍ (1) وتفويتٍ، فضاهت المهرَ.
والمذهب الظاهر أن أروش الجنايات تنزل منزلة قيمة الجملة، وقد سبق التفصيل في القيمة إذا وجبت، أو قُدّر وجوبها بالقتل، على حسب تصويرنا القاتل أجنبياً، أو الواقف، أو الموقوف عليه.
هدا إذا كانت الجناية على العبد الموقوف عليه.
5759- فأما إذا صدرت الجناية من العبد الموقوف، فإن كانت موجبةً للقصاص،
اقتُصَّ منه، فالقصاص لا يمنعه مانع.
5760- وإن كانت الجناية تتعلق بالمال، فلا مطمع في بيع العبد الموقوف أصلاً في الجناية؛ فإن الوقف لا يقبل النقض، ولو بعناه، لتضمن بيعُه نقضاً للوقف. وإذا امتنع البيع، تعيّن التعلق بالفداء.
والقول فيمن يفديه يتفرع على الأقوال في ملك الرقبة، فإن قلنا: مالك الرقبة الواقف، فعليه أن يفديه؛ فإنه بوقفه تسبَّب إلى منعه من البيع، فكان ذلك موجباً للفداء عليه، وينزل وقفُه إياه منزلةَ استيلاد السيد الجاريةَ، وإذا جنت المستولدة، فعلى المستولد الفداء.
__________
(1) كذا في جميع النسخ، والمعنى واضح: أي تتعلق بتفويت منافع الموقوف. وعبارة الرافعي التي نقلها عن صاحب التقريب: " أن أروش الأطراف والجنايات تصرف إلى الموقوف عليه، على كل قول، وتنزل منزلة المهر والأكساب ". ر. فتح العزيز: 6/296.(8/377)
5761- وإن حكمنا بأن الملك للموقوف عليه، فقد اختلف أصحابنا في وجوب الفداء، فذهب بعضهم إلى أنه يجب على الموقوف عليه الفداء؛ نظراً إلى الملك في الرقبة وتفريعاً على ذلك.
ومن أصحابنا من قال: يجب الفداء على الواقف؛ فإنه المتسبّب إلى المنع من البيع، كما قررناه، والتعويل في وجوب الفداء على المنع من البيع.
ومن أصحابنا من قال: وجوب الفداء يبنى على القبول، فإن حكمنا بأن الوقف لا يتم إلا بقبول الموقوف عليه، فعليه الفداء، فإنه المتسبب إلى تحقيق الوقف، وانضمّ إليه ما ذكرناه من الملك في الرقبة. وإن قلنا: يثبت الوقف دون قبول الموقوف عليه، فالفداء على الواقف.
5762- ونحن نقول في القبول وقد انتهى الكلام إليه: إن كان الوقف على جهة من الجهات، أو على جنسٍ لا يضبطون، فلا يتوقف ثبوت الوقف على قبول أحدٍ؛ فإنه لا يمكن تقدير القبول إذا لم يكن الموقوف عليه شخصاً معيَّناً.
فأما إذا كان الوقف على متعيّن، ففي اشتراط قبوله وجهان: أحدهما (1) - أنه لا بدّ من قبوله، أو من قبول من ينوب عنه بجهة الولاية، إذا كان طفلاً أو مجنوناً، هذا هو الصحيح؛ فإن تمليك الغير رقبةً، أو منفعةً إلزاماً من غير قبول منه خارجٌ عن قياس القواعد.
ومن أصحابنا من لم يشترط القبول، ومال إلى أن الوقف ليس هبة على التحقيق، ولهذا لا يشترط فيه الإقباض الذي هو الركن في الهبات، فينبغي ألا يشترطَ القبول، كما لا يشترط الإقباض.
وإن حكمنا بأن القبول لا بد منه، فيشترط اتصاله بالوقف، على حسب اشتراطنا ذلك في كل قبولٍ يتعلق بإيجاب.
وإن قلنا: لا يشترط القبول، فلا خلاف أن الوقف يرتد برد الموقوف عليه،
__________
(1) (د 1) ، (ت 3) : أصحهما.(8/378)
وهذا يناظر (1) قولَنا في الوكالة، وإذا فرّعنا على أن القبول ليس شرطاً فيها، فلا شك أنها ترتد بالرد، وقد فصلنا ذلك في الوكالة.
وتصوير الرد في الوكالة على الغرض الذي نريده [عسر] (2) مع أن الوكيل بعد قبول الوكالة لو رد الوكالة، لكان رده لها فسخاً، والوكالة جائزة على أي وجهٍ فرضت.
5763- وما ذكرناه [من] (3) القبول والرد إنما يجري في البطن الأول. فأما إذا استقر الوقف بقبول من في البطن الأول، ثم انقرض، وانتهى إلى البطن الثاني، فلا يشترط القبول ممن في البطن الثاني، على المسلك الصحيح؛ فإن اشتراط القبول منهم، مع استئخار الاستحقاق في حقهم عن الوقف غيرُ متجه، وشرط القبول الاتصال.
وأبعد بعض أصحابنا، فاشترط القبول في كل بطن، وجعل استئخاره عن الوقف بمثابة استئخار قبول الموصَى له الوصية عن وقت الإيصاء.
فإن لم يُشترط القبول، فهل يرتد الوقف بردهم؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يرتد، فإن إلزامهم حقاً لهم في المنفعة والرقبة بعيدٌ عن القياس. والثاني - أنه لا يرتد بردهم؛ فإنهم دخلوا في الوقف تبعاً على وجه البناء، فكانوا بمثابة الورثة الذين يملّكهم الشرع إرثاً، ولو أرادوا دفْعَ الملك عن أنفسهم، لم يجدوا إلى ذلك سبيلاً.
وهذا كأنه يلتفت على خلاف الأصحاب في أن البطن الثاني يتلقَّوْن الاستحقاق من البطن الأول تلقِّي الوارث من المورث، أو يتلقَّوْنَه من الواقف؟ وفي ذلك وجهان: فإن نزلناهم منزلة الورثة، لم يبعد أن يلزم الوقفُ في حقهم. وإن حكمنا بأنهم يتلقَّوْن من الواقف، فينبغي أن يرتد الوقف بردّهم.
وعلى هذا الأصل أجرى الأصحاب الخلافَ بأن من في البطن الأول إذا أجَّر الوقفَ، ثم مات في أثناء المدة، فالإجارة هل تنفسخ بموته، أو تبقى إلى منتهى المدة؟ وقد ذكرنا هذا في كتاب الإجارة.
__________
(1) عبارة (د 1) ، (ت 3) : وهذا بمثابة قولنا في الوكالة إذا فرعنا ...
(2) في الأصل: يحسن.
(3) في الأصل: في.(8/379)
5764- هذا إذا فرعنا على أن القبول غيرُ معتبر [في البطن الثاني. فإن اعتبرنا قبولهم] (1) ، أو قلنا: يرتد الوقف بردهم، فهذا يتضمن انقطاع الوقف في جهة الآخِر، إذا لم يقبلوا أو ردوا.
وقد مهدنا أصل انقطاع الوقف في الآخر.
ونحن نقول هاهنا: إذا انتقض الوقف في حق البطن الثاني بردّهم، أو لم يثبت بعدم قبولهم، ففي المسألة خلاف بين الأصحاب في أن الوقف هل يبقى على الجملة؟ منهم من قال: لا يبقى، بل ينقطع، وهو ظاهر القياس، ومنهم من قال: إنه يبقى؛ فإن الوقف قد ثبت بقبول من في البطن الأول، وحق الوقف إذا ثبت ألا ينقطع.
فإن قلنا: إنه لا ينقطع، فقد اختلف أصحابنا في مصرفه: فمنهم من رأى ردَّ البطن الثاني، أو عدم قبولهم بمثابة الانقراض منهم، حتى ينقل استحقاق الوقف إلى البطن الثالث.
ومنهم من لم يجعل ذلك بمثابة انقراضهم، فإن جعلنا ذلك كالانقراض، نظرنا في البطن الثالث إذا كانوا موجودين، وفرعنا قبولهم وردهم، وإن لم نجعل ردّ من في البطن الثاني بمثابة الانقراض، فتعود الأقوال في أن الوقف يصرف إلى أية جهة؟ ففي قولٍ نصرفه إلى الأقربين، وفي قولٍ إلى المساكين، وفي قولٍ إلى المصالح العامة.
فإن صرفنا إلى المصالح، أو إلى المساكين، استقر الوقف في الجهة؛ إذ لا قبول في الوقف على الجهات، وإن صرفنا إلى الأقربين، فيعود التفريع في قبولهم وردّهم، فإن قبلوا، فذاك، وإن ردّوا، لم يخرج إلا قولان في الصرف إلى المساكين، أو المصلحة العامة.
وهذا كله تفريع على قولنا: إنا نمهّد للوقف المنقطع مصرفاً.
فإن قلنا: لا نمهد له مصرفاً، فلا يتبين والحالة هذه بطلان الوقف في حق الأولين، وقد قبلوا. هذا لا سبيل إليه. ولكن يتجه عند فرض الانقطاع انقلابُ الوقف ملكاً، ولا يخرج على ترتيب التفريع غيرُ هذا.
__________
(1) عبارة الأصل: غير معتبر، فإن اعتبرنا قبول من في البطن الثاني.(8/380)
5765- ولا شك أنه يجري مع ما ذكرناه أن الوقف إذا تعذر صرفه إلى الجهات المضبوطة، وقد ذُكر وراءها جهةٌ لا تنقطع، فهل يصرف الوقف إليها؟ ويظهر هاهنا الصرف إلى الجهة التي لا تنقطع، ثم لا قبول في تلك الجهة، ويخرج أنا لا نفعل ذلك حتى تنقرض البطون المعيّنون؛ اتباعاً لشرط الواقف. وقد كان قال: فإذا انقرضوا فللمساكين.
5766- ثم الكلام فيما يتجمع من الريع -وقد أبينا إلا اتباعَ الشرط- أن نقول: إنه مصروف إلى الواقف، فيخرج من ذلك أوجه إذا جمعها الإنسان: أحدها- الرجوع إلى المالك، وينضم إليه ثلاثة أوجه ذكرناها، أو ثلاثة أقوال عند انعدام المصرف الذي عينه الواقف، وينضم إلى هذه الوجوه النقل إلى الجهة العامة التي هي مصير الوقف ومرجعه في الآخر، إذا انتهت الجهات المعلومة.
وإذا لم يكن ذكر الواقف جهةً عامة بعد انقراض الجهات المضبوطة، عاد الكلام إلى اضطراب الأصحاب والتفّ الخلاف في الباب.
وهذا الأصل سيأتي مستقصىً في كتاب الدعاوى عند فرض الحلف والنكول من البطون، وهو فصل منعوتٌ في ذلك الكتاب، ونحن مهدنا نهاية المقصود منه فيما يتعلق بالقبول والرد، وانتجز بما ذكرناه تمامُ الغرض في فصل القبول، وإن انسل عنا وجهٌ لم يذكر، فقد نبهنا عليه.
5767- والناظر إذا أحكم الأصول، فهو على سعةٍ في أمثال هذه المضطربات، في أن يستدرك ما يزلّ عن الذكر.
5768- وإنما اتجه هذا الكلام من قولنا: إن القبول إن جعلناه شرطاً، وفرّعنا على أن الملك للموقوف عليه، ففداءُ العبد الموقوف -إذا جنى- عليه (1) .
5769- ومن تحقيق المذهب في ذلك أنا إذا اعتبرنا القبول، والتفريعُ على أن الملك للواقف، فهل يلزم الموقوف عليه الفديةُ، لمكان قبوله، وإن لم نحكم له
__________
(1) " عليه " في موضع خبر مبتدؤه: " فداء ".(8/381)
بالملك في الرقبة؟ الظاهر أنا لا نفعل ذلك، ونحيل الفداء ولزومَه إلى الواقف؛ نظراً إلى ملكه في الرقبة، ثم إلى إنشائه الوقف الذي هو سبب القبول.
5770- ومن أراد أخد المذهب من حفظ الصور، اضطرب عليه (1) في أمثال هذه الفصول. ومن تلقاه من معرفة الأصول، استهان بدرك أمثال هذه الفصول.
وكل ما ذكرناه تفريعٌ على أن الملك للواقف أو للموقوف عليه.
5771- فأما إذا قلنا: الملك زائل في الرقبة إلى الله تعالى، فقد ذكر شيخي وصاحب التقريب ثلاثة أوجه في الفداء: أحدها - أن الفداء على الواقف؛ فإنه الأصل في المنع من البيع.
والثاني - أن الفداء يتعلّق بمال الله تعالى، وهو السهم المرصد للمصالح، وهذا فيه إشكال؛ من جهة أن المغارم إنما تتوجّه إلى بيت المال من جهةٍ يتوقع توجّه فوائد منها إلى بيت المال، فإنا لمَّا ضربنا العقل على بيت المال عند عدم العاقلة الخاصة، كان ذلك معارَضاً (2) بصرفنا تركة من يموت، ولا وارث له على الخصوص إلى بيت المال، وقد ينقدح في بعض الصور انصرافُ الوقف إلى المصلحة العامة، كما ذكرناه، فيستدّ الوجه (3) عليه، وينتظم إيجاب الفداء من بيت المال.
والوجه الثالث - أن الفداء يتعلق بكسب العبد؛ فإنا لم نجد سواه متعلَّقاً، فإذا عدمنا تعلُّقاً في جهة الرقبة، فكأن الموقوف عليه حرٌّ، وإذا جنى الحر، لم يبعد مطالبته.
فهذه مضايق يضطر الفقيه إليها.
5772- ثم القول في أن الموقوف بكم يُفدى، كالقول في المستولدة، وذلك يأتي مستقصىً في آخر كتاب الديات إن شاء الله عز وجل.
وقد نجز منتهى الغرض تأصيلاً وتفصيلاً في جناية الموقوف، والجناية عليه.
__________
(1) (د 1) ، (ت 3) : عقله.
(2) معارضاً: أي مقابلاً: بمعنى معاوضاً.
(3) (د 1) ، (ت 3) : الوقف.(8/382)
فصل
في وطء الجارية الموقوفة في الجهات التي يجري الوطء فيها، مع ما يُفضي الوطء إليه من العلوق.
5773- فنقول في مقدمة الفصل: لا خلاف أن الموقوف عليه لا يستبيح وطء الجارية الموقوفة، وإن حكمنا بانه يملك رقبتها، وسنبين أنه مالك منفعة بضعها، من جهة صرفنا المهرَ الواجبَ على الواطىء بالشبهة إليه، فهذا متفق عليه بين الأصحاب.
5774- ثم اختلفوا في أن الموقوفة هل تزوج؟ فقال بعضهم: يجوز تزويجها، كما يجوز تزويج المستولدة، وإن [امتنع] (1) بيعُها.
وقال آخرون: لا يصح تزويجها؛ فإنها قد تلد إذا وطئها الزوج، ثم يُفضي ذلك إلى هلاكها، والوقف لازم، فينبغي أن تحرم الأسباب المؤدية إلى رفعه. وهذا كتحريمنا وطءَ المرهونة على الراهن، وأيضاًً: فإن القول في ملكها مضطرب، ويُشكل بسببه من يزوّجها.
فإن حكمنا بأنها لا تزوج، فلا كلام.
5775- وإن حكمنا بأنها تزوّج، فمن يزوّجها؟ قال الأئمة: هذا يُخرّج على الأقوال في الملك؛ فإن حكمنا بأن الملك زائل إلى الله تعالى، فيزوّجها القاضي.
واختلف الأئمة في أنه هل يستشير في تزويجها الواقفَ والموقوفَ عليه؟ فمنهم من قال: لا بد من استشارتهما، ولا يصح النكاح دون رضاهما.
ومنهم من قال: ينفرد القاضي بتزويجها على حسب النظر، ولا يستشير. وهذا ضعيفٌ، لا اتجاه له، لما ذكرناه من إفضاء التزويج إلى العلوق والطلق، ونقصان الوِلاد (2) .
__________
(1) في الأصل: عسر بيعها.
(2) الوِلاد: "الحَمْل. يقال: شاة (والد) أي حامل بينة الولادة، ومنهم من يجعلها بمعنى
الوضع" (المصباح) .(8/383)
وإن قلنا: الملك للواقف، فهو المزوِّج، وهل يستشير الموقوفَ عليه؟ فعلى وجهين، ولا خلاف أنه لا يستشير القاضي.
وإن قلنا: الملك للموقوف عليه، فهو المزوِّج ولا يستشير أحداً، وجهاً واحداً؛ لأن الملك له في الرقبة والمنفعة.
فإن قيل: [إذا لم يستشر] (1) فلم (2) ذكرتم وجهاً في استشارة القاضي الواقفَ والموقوفَ عليه إذا قلنا: الملكُ زائل إلى الله تعالى؟ فهلاّ اقتصرتم على استشارة الموقوف عليه، لمكان استحقاقه المنفعة، ولرجوع قيمة منفعة البضع إليه؟ فما وجه استشارة الواقف؟ قلنا: استشارته من جهة أنه منشىء الوقف، والقاصدُ إلى تخليده، وتأبيده، على حسب الإمكان في كل موقوف.
وما ذكرناه لو قيل به لم يكن بعيداً، وهو الفرق بين الواقف والموقوف عليه في وجوب الاستشارة.
وما ذكرناه في الاستشارة له التفات من طريق اللفظ، وعلى نظر قريب في المعنى إلى مسألةٍ في كتاب النكاح، وهي أن السلطان إذا كان يزوّج المجنونة البالغة عند مسيس الحاجة، فقد قال الشافعي: " ويستشير ذا الرأي من أهلها ". وفي هذا الأصل خلاف، وتردّدٌ، سيأتي مشروحاً في كتاب النكاح، إن شاء الله عز وجل.
5776- ومما نذكره في مقدمة الفصل أن الموقوفة لو جاءت بولد من سفاحٍ، أو نكاح -إن صححنا النكاح- فالحكم في ولدها ماذا؟ أوّلاً- اختلف أئمتنا في أن من وقف بهيمةً على إنسانٍ أو جهةٍ، فأتت بولدٍ، فما حكم ولدها؟
منهم من قال: ولدها من فوائدها، فهو بمثابة الصوف، والوبر، واللبن، فيقع ملكاًً للموقوف عليه مطلقاًً، كالثمار المستفادة من الأشجار الموقوفة.
ومن أصحابنا من قال: الولد موقوفٌ كالأم؛ فإنه جزء من الأم، فينبغي أن يكون
__________
(1) ما بين المعقفين سقط من الأصل.
(2) (د 1) ، (ت 3) : فقد.(8/384)
بمثابته؛ فإن الوقف جهةٌ لازمةٌ، لا يتوقع ارتفاعها، فولد الموقوفة في جهة الوقف كولد الضحيّة في جهة التضحية.
هذا قولنا في ولد البهيمة الموقوفة.
فأما إذا أتت الجارية الموقوفة بولد من سفاحٍ، أو نكاح، ففيه وجهان مرتبان على الوجهين في ولد البهيمة، وولد الأمة أولى بأن يكون موقوفاً كالأم، بمثابة ولد المستولدة من المستولدة. قال الشافعي: " ولد كل ذات رحم بمثابتها " ووجه الترتيب أن الجارية لا تقتنى لتلد بخلاف البهيمة، فكان عدُّ ولد البهيمة من الفوائد أقربَ.
5777- ومما نقدمه أن الجارية الموقوفة إذا وطئت وطئاً يتعلق به لزوم المهر، فالمهر مصروف إلى الموقوف عليه، باتفاق الأصحاب، وإن حكمنا بأن الملك في الرقبة للواقف.
وهذا فيه إشكالٌ من طريق النظر، والحكمُ متفق عليه من طريق النقل. ووجه الإشكال أن منفعة البضع لا تملك وحدها دون ملك الرقبة، بخلاف منافع البدن، وقد ذكرنا الاتفاق على أن الموقوف عليه لا يستفيد بالوقف استباحة وطء الموقوفة، ولكن لم نجد مصرفاً أولى وأقرب من مصرف المنافع، ولا سبيل إلى تعطيل المهر، ولا إلى صرفه إلى جاريةٍ أو عبد ليوقف، فكان ما ذكره الأصحاب أقربَ الوجوه.
فإذا ثبتت هذه المقدمات؛ فإنا نفرض بعد ذلك وطء الموقوفة من الأجنبي، ثم نفرضه من الواقف، والموقوف عليه.
5778- فأما إذا وطىء الأجنبيُّ الجارية الموقوفة، نُظر: فإن وطئها بشبهة وعري الوطء عن العلوق، وجب عليه مهر مثلها للموقوف عليه، كما ذكرناه.
وإن علقت مع الشبهة بولدٍ، فهو حرٌّ، وعلى الواطىء قيمتُه. ثم القول في مصرف قيمة الولد يترتب على ما ذكرناه، فإن جعلنا الولد الرقيق من فوائد الوقف، فالقيمة بمثابته، وهي مصروفة إلى الموقوف عليه.
وإن قلنا: ولدها الرقيق موقوف كالأم، فقيمة الولد تصرف إلى عبدٍ، أو شقصٍ، كما تقدم.(8/385)
وإن وطىء الأجنبي زانياً، نظر: فإن كانت الموقوفة مستكرهة، وجب المهر، وإن كانت مطاوعةً، فعلى وجهين، تقدم ذكرهما في كتاب الغصب. وإن أتت بولد والواطىء زانٍ، فهو رقيق، والخلاف فيه كما تقدم. هذا في وطء الأجنبيّ.
5779- فأما إذا وطىء الموقوفُ عليه الجاريةَ الموقوفة، فلا يخلو إما أن يتصل بالوطء الإحبال، وإما ألا تعلق، فإن لم تعلق، فلا حدّ للشبهة، ولا مهر؛ إذ لو وجب المهرُ، لوجب له على نفسه، وهذا محال.
فأما إذا علقت بمولودٍ، فهذا يتفرع على الملك، فإن قلنا: الملك في الرقبة للموقوف عليه، فينفذ الاستيلادُ بناءً على الملك.
وإن قلنا: الملك في الرقبة زائل إلى الله تعالى، أو هو باقٍ للواقف، فلا ينفذ الاستيلاد أصلاً.
فإن قيل: هلا أثبتموه لعلقة الملك، كما قضيتم بأن جارية الابن تصير مستولدةً للأب [إذا أولدها] (1) ؟ قلنا: ذاك إن قلنا به، ليس جارياً على قياس؛ فإن جارية الابن لا حقَّ فيها للأب، ولو كان للأب في ملكها شبهةٌ، لما حلّت للابن، فإن حِلَّ الوطء لا يصادف إلا ملكاً محضاً، فإذاً ذاك خارجٌ عن القياس، متعلقٌ بحرمة الأبوّة، كما تعلق بها انتفاء القصاص عن الأب، فلا نتخيل قياساً على ذلك الأصل.
5780- ثم أمر الولد يتفرع على الاستيلاد، فإن حكمنا بأن الاستيلاد يثبت، فالولد يعلق حرّاً.
وإن حكمنا بأن الاستيلاد لا يثبت، نظر: فإن وطئها على ظن أنها زوجته، أو مملوكتُه القنّة، فالولد حر، وإن وطئها عالماً بحالها، قاطعاً بأنها محرمةٌ عليه، فالمذهب أن الولد ينعقد حراً أيضاًًً.
ومن أصحابنا من لم يحكم بحريته.
5781- وهذا يضاهي اختلافاً للأئمة في أن من وطىء جاريةَ الغير ظاناً أنها زوجته
__________
(1) ساقط من الأصل.(8/386)
المملوكة، ومن حكم ولد الزوجة المملوكة الرق، فهل نحكم بحرية الولد؟ فيه اختلاف: من أصحابنا من قال: إنه رقيق بناء على ظنه، وهو فيما أظن اختيار القفال، ووجهه أن الوطء اكتسب حرمةً من ظنّ (1) الواطىء، وإن لم يكن الأمر على ما ظن في علم الله تعالى، فلا ينبغي أن تثبت حرمةٌ، لا يقتضيها موجَب الظن، لو تحقق وصدق، وقد ظن الواطىء أنه يطأ زوجته المملوكة وولد الرجل من زوجته المملوكة رقيق.
ومن أصحابنا من قال: يعلقُ الولد حراً في الصورة التي ذكرناها؛ فإن الوطء محترم، والرق لا يثبت في الولد المترتب على الوطء المحترم إلا بما يقتضي الرق، والأصل في بني آدم الحرية، وثبوت الرق يستدعي مقتضياً.
5782- فإذا ثبت ما ذكرناه فوطءُ الموقوفِ عليه إذا كان عالماً بحقيقة الحال -والتفريع على أن الملك ليس له- وطءٌ ليس بساقط الحرمة، ولكن علمه بأنه يطأ جارية الغير، ينافي الشبهة التي تقتضي الحرية للمولود، فتخرج حرمة الولد على الخلاف الذي ذكرناه.
فإن قضينا بكون الولد حراً، فالأمر في مصرف القيمة، وفي إثباتها على التفصيل الذي تقدم.
وإن حكمنا بأن الولد يكون رقيقاً، يترتب الأمر على الخلاف السابق، في أنه مصروف إلى الموقوف عليه ملكاً مطلقاًً؛ إلحاقاً له بالزوائد وفوائد الريع، أم هو موقوف بمثابة الأم؟
فإن حكمنا بأن الولد ملحق بالريْع والفوائد، لو كان من غير الموقوف عليه، فإذا كان من الموقوف عليه، فهو موقع النظر؛ فإنه لو ثبت الرق، لعتَق عليه؛ فإن الولد منتسب إليه، والنسب (2) صحيح، فالوجه أن يقال: ينعقد الولد رقيقاً، ثم يعتِق، ولا يتوقف نفود العتق فيه على الانفصال.
__________
(1) (د 1) ، (ت 3) : وطء الواطىء.
(2) في (د 1) : والتسبب، وفي (ت 3) : والسبب.(8/387)
5783- وقد اختلف أصحابنا في أن الرجل إذا سبى ابنته الكافرة، فهل نقول: إنه يملكها، ثم تعتِق عليه؟ أم نقول: يمتنع جريان الرق؛ لمكان القرابة المقتضية لمنافاة الملك؟ فيجوز أن يقال: يمتنع جريان الرق على الولد على هذا القياس، [وليس] (1) هذا كابتياع الرجل ولده؛ فإن الملك يحصل، ويترتب العتق عليه؛ من جهة أن الابتياع ذريعةٌ في تحصيل العتق، وكذلك القول في الملك الذي يحصل إرثاً؛ فإنه لولاه، لما حصل العتق، وفي مسألتنا لو حصل الرق يحصل في ابتدائه للأب، فينبغي أن يمتنع حصول الملك لمكان الأبوّة والبنوّة، ولا شك أن هذه المسألة لا تنفصل عن مسألة السبي، على ما سيأتي شرحها في موضعها، إن شاء الله عزجل.
هذا إذا قلنا ولد الموقوفة ينحى به نحو فوائد الوقف.
5784- فأما إذا قلنا: ولد الموقوفة موقوف، فولدها من الموقوف عليه موقوفٌ، إذا وقع التفريع على أن الملك في رقبة الوقف ليس للموقوف عليه. ثم هذا الولد لا يعتِق على الموقوف عليه؛ إذ لا ملك له فيه. ولو فرعنا على أن الملك للموقوف عليه في رقبة الوقف، لأثبتنا الاستيلاد.
5785- ومما يتعلق بمنتهى الكلام أنا أطلقنا القول بنفود استيلاد الموقوف عليه إذا حكمنا بأن الملك له، وفي هذا أدنى نظر، سنشير إليه في آخر الفصل، إن شاء الله تعالى.
هذا إذا كان الموقوف عليه هو الواطىء.
5786- فأما إذا وطىء الواقف، فإنه يلتزم المهر للموقوف عليه، كما ذكرناه.
وإن اتصل الوطءُ بالعلوق، فثبوت الاستيلاد، يتفرع على الأقوال في الملك: فإن حكمنا بأن الملك في الجارية الموقوفة لله تعالى، أو للموقوف عليه، فلا ينفذ الاستيلاد.
وإن حكمنا بأن الملك للواقف، فقد كان شيخي يقول: القول في نفود استيلاد
__________
(1) في الأصل: فليس.(8/388)
الواقف، كالقول فيه إذا وطىء الراهن الجاريةَ المرهونة، وأعلقها، فمن قضى بنفوذ الاستيلاد بناء على ملك الراهن، قضى في مسألتنا بنفود استيلاد الواقف، ومن أبى ثَمَّ، أبَى هاهنا، والسبب فيه أنا وإن حكمنا للواقف بالملك، فللموقوف عليه حقٌّ متأكد ينقضه العتق إذا طرأ، فكان شيخي يقول: استيلاد الواقف أوْلى بألا ينفذ، فإن الوقف مبناه على ألا يُرَدَّ، وحق المرتهن يقبل الفسخ، والرفع.
5787- وهاهنا نفي بما وعدناه؛ فنقول:
ظاهر كلام الأصحاب يدل على أن استيلاد الموقوف عليه ينفد قولاً واحداً، إذا قلنا: الملك في الجارية له، وفي نفود استيلاد الواقف الخلافُ الذي ذكرناه إذا قلنا: الملك في رقبة الوقف للواقف.
والفرق أنا إذا أثبتنا الملك للموقوف عليه في الرقبة، وحق المنفعة له أيضاًًً، فقد اجتمع له ملك الرقبة، واستحقاقُ المنفعة، فالحق كله له إذاً أصلاً وفرعاً، وليس كذلك الواقف، فإنا وإن حكمنا بأن الملك في الرقبة له، فحق المنفعة للموقوف عليه. وهذا الفرق لا بأس به.
ولكن يبقى معه أن الموقوف عليه ليس له أن يُبطل الوقفَ، وإن جعلنا الملك في الرقبة والمنفعة له، وكأن (1) الواقف قصد إلى تحبيس الملك على الموقوف عليه، فلو مَلَّكْنا الموقوف عليه أن يُبطل الوقف، لكان ذلك تسليطاً منا إياه على قطع الوقف بعد لزومه، وهذا لا يليق بوضع الوقف، فليس يبعد عن الاحتمال تخريج نفوذ الاستيلاد من الموقوف عليه على الخلاف على قولنا: إن الملك له؛ فإنا لو نفذنا الاستيلاد، لأبطلنا الوقف، على خلاف وضعه، وعلى خلاف مراد الواقف.
5788- والذي يحقق ذلك أن نفود الاستيلاد في هذه الأبواب بمثابة نفود العتق لو قدر إنشاؤه، ولو أعتق الموقوف عليه العبدَ الموقوفَ، على قولنا: إن الملك للموقوف عليه، فلا سبيل إلى قطع القول بنفود العتق، فإذا كان الأمر في العتق على التردّد، فليكن الاستيلاد بمثابته.
__________
(1) " وكأن ": ليست هنا للتشبيه، وإنما للتحقيق.(8/389)
والذي يحقق ذلك، ويوضّحه أن الملك محبّس على الموقوف عليه، والتحبيس مقتضاه الحجر، فالموقوف إذاً محجور عليه، وإن ثبت له الملك.
وينقدح من هذا فرقٌ بين العتق والاستيلاد على بُعدٍ والظاهر التسوية بينهما؛ فإن عتق المحجور عليه لا ينفذ، واستيلاده ينفذ، لأنه فعلٌ، لا سبيل إلى ردّه في ملكه، والمرعيّ في الحجر حق المحجور، والملك خالص له، وملك الموقوف. عليه ليس بخالصٍ؛ إذ لو كان خالصاً، لأفاد إباحة الوطء.
هذا منتهى المراد في وطء الجارية الموقوفة، وما يتعلق به.
5789- ونحن وراء ذلك نبتدىء أصلاً متصلاً بما ذكرناه، فنقول: إن صححنا تزويج الجارية الموقوفة، وقلنا: الملك في الوقف للواقف، أو هو زائل إلى الله تعالى، فيجوز للموقوف عليه، أن يتزوجها. وإذا قلنا: الملك للموقوف عليه، فلا شك أنه لا يتزوجها؛ فإن المالك لا يتزوج مملوكته، ولا فرق بين أن يكون الملك قويّاً، أو ضعيفاً، فإذا حكمنا له بالملك نمنعه من التزوّج (1) . ولو كان نكح أمةً، فوقفها سيدُها عليه، والتفريع على أن الملك للموقوف عليه، فإذا تم الوقفُ، انفسخ النكاح على ظاهر المذهب.
5790- وذكر صاحب التقريب وجهاً بعيداً أن دوام النكاح لا ينفسخ بالملك الذي يحصل بالوقف للموقوف عليه؛ فإن هذا ليس ملكاًً حقيقياً، وإنما هو في حكم تقديرٍ. ثم خرّج هذا على مسائل اختلف الأصحاب فيها: منها- أن الأب لا ينكح أمة ابنه، ولو كان نكح أمةً، فاشتراها ابنُه، ففي انفساخ النكاح بالملك الطارىء للابن وجهان. وكذلك لا ينكح السيد جاريةَ مكاتَبه، ولو نكح أمةً، فاشتراها مكاتَبه، ففي انفساخ النكاح وجهان (2) .
كذلك لا ينكح الموقوف عليه الجاريةَ الموقوفةَ ابتداءً، ولو كان نكح أمةً، فوُقفت عليه، ففي المسألة وجهان. والتفريع على أن الملك للموقوف عليه.
__________
(1) (د 1) ، (ت 3) : التزويج.
(2) (د 1) ، (ت 3) : قولان.(8/390)
ولو أرادت المرأة أن تنكح مكاتَبها، لم تجد إليه سبيلاً.
ولو زوج الرجل ابنته من مكاتَبه، ثم مات، وورثت الزوجةُ زوجها، انفسخ النكاح، باتفاق الأصحاب، فالملك في المكاتَب [يقطع طارئُه النكاحَ] (1) ، كما يمنع ابتداءه.
قال صاحب التقريب: " الملك على المكاتب ثابت، وهو بعُرْض (2) أن يَرِق إذا عجز، ولا يتصور أن يتمحّض ملكُ الموقوف عليه في الموقوف، فكان هذا الملك غيرُ محقق ". وهذا مما انفرد به.
والأصحاب مجمعون على أن التفريع إذا وقع على أن الملك للموقوف عليه، فهذا الملك كما يمنع الابتداء يقطع الدوام.
5791- ومن أهم ما نختتم الفصلَ به أن الأئمة قالوا: إذا حكمنا بأن الموقوفة تصيرِ أم ولد للواقف، إذا فرعنا على أن الملك له، وحكمنا بأن حق الوقف لا يمنع نفوذَ الاستيلاد، فهذا الآن يخرّج على أن المستولدة هل يصح وقفها ابتداء؟ فإن حكمنا بأنه يصح وقفُها ابتداء، فيبقى الوقف فيها مع ثبوت الاستيلاد.
ثم قال الأصحاب إذا وطىء الموقوف عليه، وأولدَ، وحكمنا بنفوذ الاستيلاد تفريعاً على أن الملك للموقوف عليه، فبقاء الوقف يخرّج على الخلاف الذي ذكرناه.
5792- وهذا عندي أخْذٌ بالظاهر، وإضرابٌ عن الغوص في الحقائق.
وبيان ذلك أنا لا نثبت الاستيلاد في الموقوفة للموقوف عليه، إلا بتقدير نقل الملك إلى الموقوف عليه بالكليّة، مع انبتات (3) الملك الذي أفاده الوقف، ومساق ثبوت الاستيلاد يوجب إحلالها للموقوف عليه. وإذا حلّت له، فليس هذا من جنس الملك الذي كان بسبب الوقف قبلُ، فكيف تكون مملوكة له بالوقف، ومنتقلةً إليه بالاستيلاد، وهذا تناقض لا سبيل إلى التزامه، وليسى هذا كما إذا وقع التفريع على
__________
(1) في الأصل: " فالملك في المكاتب ينقطع طارئه بالنكاح ".
(2) كذا في النسخ الثلاث، والعُرض بضم العين المهملة: الجانب.
(3) (د 1) ، (ت 3) : إثبات.(8/391)
أن الملك للواقف وقد استولد؛ فإنه إذا كان يقف مستولدتَه ابتداء، فلا يمتنع بقاء الوقف مع الاستيلاد انتهاءً، وكل واقف إنما يقف خالصَ ملكه، والدليل عليه أن مستولدة الرجل لا توقف عليه، فيلزم من ثبوت الاستيلاد في حق الموقوف عليه بطلان الوقف، ولا ينقدح غيره، بخلاف ثبوت الاستيلاد في حق الواقف؛ فإن تخريجه على الخلاف في وقف المستولدة غير بعيد.
ومن قال من أصحابنا: الوقف يبقى مع ثبوت الاستيلاد في حق الموقوف عليه، يلزمه ألا يبيح المستولدة للموقوف عليه. وهذا خبطٌ عظيم، ولست أحمل ما ذكره الأصحاب إلا على ترك النظر، وإجراء الأمر على الظاهر.
5793- ومن وقف مستولدةَ نفسهِ، وجوزنا ذلك، فإنا نحرّم عليه وطأها بعد الوقف، لا من جهة نقصان الملك في المستولدة؛ [فإن الملك في المستولدة لا ينقص] (1) ولكن الواقف لو وطئها بعد الوقف، أمكن أن تعلق بمولود، ثم ذلك قد يُفضي إلى موتها، وهذا تسبب إلى إبطال حق متأكد، فوجب المنع منه.
ثم إذا حكمنا ببطلان الوقف بالاستيلاد الثابت في حق الواقف، أوفي حق الموقوف عليه، فيكون الاستيلاد بمثابة استهلاك الوقف، وإتلافه من جهة الواقف، أو من جهة الموقوف عليه.
وقد ذكرنا تفصيلَ المذهب في ذلك، وفي تقدير القيمة، وبيان مصرفها، أو سقوطها رأساً، فلا حاجة إلى إعادة هذه الفصول.
فصل
في بيان نفقة الموقوف
5794- إذا ذكر الواقف أن نفقة العبد الموقوف في كسبه، فما فضل عن نفقته من منافعه وكسبه، فهو مصروف إلى الجهات التي يذكرها، فشرْطُ الوقف يصح على هذا الوجه.
__________
(1) ما بين المعقفين سقط من الأصل.(8/392)
والأولى لكل واقف أن يبدأ بصرف المستفاد من الوقف إلى ما به قوامُ الوقف وبقاؤه. هذا هو العادة المعتادة في شرائط الواقفين.
فإن أطلق الوقف على معيّن مثلاً، وبعده على جهة لا تنقطع، ولم يتعرض للنفقة، فلا يخلو العبد إما أن يكون كسوباً، وإما ألا يكون كذلك، أو كان كسوباً ولكن كسبه لا يفي بمؤنته ونفقته، أو يكون كسوباً أوّلاً، ثم يطرأ عليه الزمانة المقعدة من الكسب.
فأما إذا كان كسوباً، فالذي قطع به الأئمة في طرقهم أن نفقته تتعلق بكسبه، وإن لم يتعرض الواقف لذلك.
وذكر بعض المصنفين أن نفقته تخرّج على أقوالِ الملك، ولا تتعلق بكسبه، كما لو أقعدته زمانة عن الكسب، وهذا وإن كان يمكن توجيهه بأن الوقف تضمَّن صرفَ كسبه إلى الموقوف عليه، فكأنه غير مكتسب، إذا كان مستغرَق الكسب في استحقاق الموقوف عليه، فما أرى ذلك معتداً به، والتعويل على ما ذكره الأئمة في الطرق، وهو أن النفقة تتعلق بالكسب، ووجه ذلك الحملُ على العادة أوَّلاً (1) ، والعادة إذا اطردت، كانت بمثابة التصريح بالشرط. وهذا أصلٌ، لا حاجة إلى تقريره بالشواهد.
5795- فأما إذا لم يف الكسب بالنفقة، أو طرأ مانع يمنع عن الكسب، فالنفقة حينئد تخرّج على أقوال الملك: فإن حكمنا بأن الملك للواقف في الرقبة، فالنفقة عليه.
وإن حكمنا بأن الملك للموقوف عليه، فالنفقة تجب عليه.
وإن حكمنا بأن الملك لله، فالنفقة في مال الله.
وهذا إنما يجري في الإنفاق على ذي الروح لحرمته؛ فإنه لا يجوز تعطيله، وتركه يهلك هَزْلاً.
__________
(1) (أوَّلاً) : بمعنى الأصل الثابت. ولذا لم يتبعها بـ (ثانياً) ، وهذا أسلوب معهود، أن يذكر السبب الأصيل الذي يكفي وحده بلفظ (أولاً) ، ولا ثاني له.(8/393)
5796- فأما عمارة الوقف إذا كان الموقوف عقاراً، وكان الوقف مطلقاًً، وريْعه لا يفي بالعمارة التي لا بدّ منها في إقامة الوقف وإدامته، فلا خلاف أنها لا تجب على أحدٍ: لا على الموقوف عليه إذا نسبنا الملك إليه، ولا في مال الله تعالى على قول إضافة الملك لله تعالى، ولا على الواقف، على قولنا: إن الملك له.
والسبب فيه أن عمارة الأوقاف يُنحى بها نحو عمارة الأملاك، ولا يجب على المالك أن يعمر ملكه.
وقد ذكرنا في كتاب الإجارة وجهاً أن المكري يلزمه عمارةُ الدار المكراة، ليتوفر المنافع منها على المكتري، وهذا سببه عهدةُ العقد، والتزامُ المكري توفية المنافع، وتوفيرها على مقابلة استحقاق العوض، وهذا المعنى لا يتحقق في حق الواقف.
فصل
في خراب الوقف وما يلحقه من التغايير
5797- فإذا وقف الرجل شجرةً لتصرف ثمرتُها إلى شخص، وبعده إلى جهة، فلو يبست الشجرةُ، وصارت حطباً، فقد اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: يبطل الوقف في ذلك، وينقلب الحطب ملكاًً للواقف؛ فإن الوقف المضافَ إلى الشجرة إنما يتعلق بالشجرة ما دامت ناضرة؛ فإن اسم الشجرة في التحقيق ينطلق عليها ما دامت كذلك، فإن سمى مسمٍّ حطبها شجرة، كان ذلك على مذهب الاستصحاب، فجفاف الشجرة إذاً، كهلاك العبد الموقوف، غير أنه إذا هلك، لم يفرض ردُّ جثته إلى ملكٍ؛ من جهة أنها ليست مالاً، والحطب مال.
5798- ومن أصحابنا من قال: لا نحكم بارتداد الحطب إلى ملك الواقف، ولا نقضي بانقطاع أثر الوقف.
ثم هؤلاء اختلفوا على وجهين: فذهب بعضهم إلى أن الشجرة تستعمل في جهة إمكان الانتفاع بها، ويقدر كأن الواقف وقف جذعاً على إنسان، فإذا أمكن الانتفاع به، بإجارته وأخد أجرته واستعمال الموقوف عليه إياه في جهةٍ ينتفع به فيها، فهو الواجب.(8/394)
ومن أصحابنا من قال: إذا انقضت الجهة التي أرادها الواقف من الشجرة، فالحطب أو الشجرة التي تصلح للانتفاع تباع، ويصرف ثمنه إلى ابتياع شجرة أخرى، أو إلى قسطٍ، إن لم يتأت شراء شجرةٍ أخرى كاملة، ثم تحبّس على الجهة التي ذكرها الواقف.
ومن أئمتنا من قال: ذلك الحطب يصرف ملكاًً إلى الموقوف عليه.
وهذان الوجهان الأخيران يقربان من تردد الأصحاب في قيمة العين الموقوفة إذا أتلفها جانٍ. وقد ذكرنا التفصيل فيها.
5799- ومما أطلقه الأئمة في الكتب أن حُصُر المساجد إذا بليت، وصارت بحيث لا ينتفع بها، أو انكسر جذع وترضّض في مسجدٍ، وخرج عن إمكان الانتفاع، أو كنا نتعهد خشبة قائمة في المسجد، فاتفق نحتُ شيء منها، فتلك النحاتة ما حكمها؟
قال الأئمة رضي الله عنهم: الوجه بيع هذه الأشياء، وصرفُ ثمنها إلى مصلحة المسجد؛ فإنا لو لم نفعل هذا، لتعطل، ولا يمكن تقدير ارتداد أجزاء المسجد إلى ملك أحد؛ فإنها على التحقيق [ملكٌ لله تعالى] (1) ، والقول فيما يتعلق بمصالح المسجد كالفرش بمثابة القول في أعيان المسجد.
وذهب بعض أصحابنا إلى أنا لا نتعرض لبيع هذه الأشياء؛ فإنها خرجت عن المالية، إذ صرفت إلى هذه الجهة، فلا تعود أموالاً، فالوجه أن تترك على حالتها.
وهذا بعيد، لا اتجاه له.
5800- نعم اشتهر الخلاف في أنه إذا أشرف جذع في المسجد على الانكسار، وتبيّن أنه إليه يصير، وهو في الحال على بقيةٍ من المنفعة المطلوبة، فهل يجوز للقائم بالمسجد أن يرعى المصلحة ويبيعَه قبل أن ينكسر، أم لا يجوز ذلك حتى يتحقق تعطل منفعته في جهته؟ هذا موضع اشتهار الخلاف.
5801- ومما يتعلق بهذا الأصل أن من وقف داراً فأشرفت على الخراب، وعرفنا
__________
(1) عبارة الأصل: " فإنها في التحقيق له ".(8/395)
أنها لو انهدمت، عسر ردُّها وإقامتُها، فهل نحكم والحالة هذه بجواز بيعها؟
اختلف الأئمة فيه: فذهب الأكثرون إلى منع البيع.
وجوّز المجوّزون البيعَ.
فإن منعنا البيع، أدمنا الوقف، وانتظرنا ما يكون.
وإن جوّزنا البيع، فالأصح صرف الثمن إلى جهة الوقف.
ومن أئمتنا من نحا بالثمن نحو القيمة إذا أتلف العينَ الموقوفة متلف. وهذا ضعيفٌ، لا أصل له في هذا المقام.
وإن حكمنا بأن الثمن يصرف إلى ابتياع شيء وتحبيسه على الجهة التي كانت، فهذا حكم منا ببقاء مقتضى الوقف.
وإن حكمنا بصرف الثمن إلى الجهة التي ذكرناها في قيمة العين الموقوفة إذا أتلفت، فمن جملة ما قيل في مصرف القيمة: أنها تصرف إلى الموقوف عليه؛ تفريعاً على أن الملك في العين له.
5802- فلو قال الموقوف عليه: لا تبيعوا هذه الدار المشرفة على الخراب واقلبوها إلى ملكي؛ فإنكم [لو بعتموها، لصرفتم الثمن إليّ] (1) ، فلا فائدة في البيع، والوجهُ الحكم بانقلاب هذه العين إلى حقي وملكي على الوجه الذي انتهى التفريع عليه.
فالمذهب أنا لا نجيبه إلى ذلك، ولا نقلب عين الوقف ملكاً، بل إذا جوزنا البيع، فبطلان الوقف يتوقف على جريان البيع، وهو باقٍ إلى [اتفاقه] (2) .
وأبعد بعض الأصحاب، فأسعف الموقوفَ عليه، بما أراد، ثم هذا القائل لا يحوج إلى إنشاء عقدٍ، أو قولٍ في قلب العين إلى الموقوف عليه. ولكنه يقول: إنها تنقلب إليه. وهذا في نهاية الضعف.
__________
(1) عبارة الأصل: لو بعتموه ولصرفتم الثمن.
(2) في الأصل: العامة. وهو تحريف عجيب.(8/396)
فصل
فيما يتضمن حجراً في الوقف
5803- قد مهدنا في أصول الكتاب أن شرائط الواقف متبعة في تعيين الجهات وتفصيلها.
والمذهب الظاهر الذي قطع به معظم الأئمة أنه لو وقف داراً على معينين، وشرط
أن يسكنوها، ولا يؤاجروها، فليس لهم أن يتعدَّوْا موجَب الشرط، وتنزل الدار في نوْبتهم -ما بقوا- منزلة الرباطات والمدارس [المسبّلة] (1) على جهة السكون (2) .
وقال بعض أصحابنا: الوقف على معينين سبيله سبيلُ التمليك، ولا يُرعى في هذه الجهة وجهُ القربة، ولذلك يجوز التحبيس على جماعة معيّنين من الكفار، والفسقة، وإذا كان محمولاً على التمليك، فالمنع من الاستغلال (3) بجهة الإجارة حجرٌ في الملك، فكان فاسداً مناقضاً للتمليك.
ثم إذا فسد الشرط، انقدح فيه وجهان مبنيان على الأصل الممهد فيما تقدم: أحد الوجهين- أن الشرط يفسد، والوقف مقدر دونه على حكم الإطلاق، ولا حجر على الموقوف عليهم.
والوجه الثاني - أنه يفسد، ثم لا يخفى [حكم] (4) فساده؛ فتبقى العين على ملك الواقف ويلغو الوقف، ويسقط أثره.
5804- ولو وقف ضيعةً، أو داراً على معينين، وسوّغ الإجارة، ولكن حجر عليهم في زيادة مدة الإجارة على سنةٍ مثلاً، فالمذهب الذي يجب القطع به أن شرطه متبع؛ فإن هذا الشرط ليس حجراً في التحقيق، بل فيه رعايةُ مصلحة الوقف،
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) السكون: أي السكن. وقد مضت إشارتنا إلى أن هذا الوزن وارد في لسان الحرمين، وتلميذه الغزالي، ولم نره في المعاجم المعروفة لنا.
(3) (د 1) ، (ت 3) : الاستقلال.
(4) ساقطة من الأصل.(8/397)
واستبقائه؛ فإن مدة الإجارة إذا طالت واستولت أيدي المستأجرين فقد يؤدي ذلك إلى تعطيل الوقف رأساً.
فهذا القائل يقول: وإن منعنا الحجر، فلا نمنع ما يتعلق باستصلاح الوقف وتوفير المنفعة.
وأبعد بعض أصحابنا فأفسد هذا الشرطَ، ورآه ملحقاً بما يتضمن الحجرَ. وهذا مما لا أعتد به أصلاً.
5805- ولو جعل بقعةً مسجداً، وأطلق، ثبت حكم المسجد في حق الناس كافة، ولم يتخصص بها قوم.
ولو قال: لا يدخل المسجد إلا عصبة خصصهم، فهذا الشرط باطل؛ فإن مبنى الحكم في المساجد التعميم.
5806- ولو شرط ألا يقام في المسجد إلاّ شعارُ مذهبٍ خصَّصه بالذكر، فالمذهب والقياس أن ذلك التخصيص باطل، لما حققناه من أن أمور المساجد لا تقبل التخصيص.
وذهب طائفة من الأصجاب إلى وجوب اتباع شرط الواقف في تعيين ذلك الشعار.
وهذا قاله من قاله على جهة المصلحة؛ فإن التنافس بين أهل المذاهب ليس بالخفي، ولو ثبت المسجد عاماً، [يشترك] (1) أصحاب المذاهب في إقامة شعارهم فيها (2) مع الاختلاف، لأدى ذلك إلى الازدحام، والأمرِ الذي لا ينكر في طرد العرف، ثم الوالي لا يمكنه أن يتحكم في تعيين شعار مذهب، فأولى متبع في الباب ما ينص عليه ناصب المسجد وجاعله.
5807- ولو جعل بقعة مقبرة، اشترك فيها كافة المسلمين، وخرج عن إطلاق الوقف
الكفارُ؛ فإن مطلق اللفظ يقتضي القربةَ، وقرينةُ الحال تشهد بذلك، فحمل الوقف عليه.
ولو جعل بقعة مقبرة لمخصوصين بالذكر، فقد ظهر اختلاف أصحابنا فيه، فذهب
__________
(1) في الأصل: فيشترك.
(2) كذا بضمير المؤنث، وهي على تأويل لا يخفى مُدركه.(8/398)
بعضهم إلى تنزيل المقابر منزلةَ المساجد، حتى لا يسوغ التخصيص فيها.
وذهب الأكثرون إلى اتباع الواقف في تعيينه؛ فإن القبور في حق الأموات بمثابة المساكن في حق الأحياء، ثم تعيين المساكن لأقوام سائغٌ صحيح، فليكن تعيين المقابر كذلك.
5808- ومهما فسد شرط في جعل المسجد، فالمذهب المبتوت أن الشرط يلغى، وينفد المسجد؛ فإن هذه الجهة مشابهة للإعتاق، والشرط الفاسد إذا لم يقع على جهة التعليق لا ينافي نفود العتق. هذا منتهى القول فيما يتضمن حجراً سائغاً، أو ممنوعاً في جهات الوقف.
فرع:
5809- إذا علق الرجل عتق عبده بصفةٍ، ثم حبَّسه فوقفه، فالوقف نافذٌ في الحال، فإذا وُجدت الصفة بعد الوقف، فهذا يخرج على الأقوال في ملك الوقف: فإن حكمنا بأن الملك في الموقوف للموقوف عليه، فالعتق لا ينفذ، وينزل هذا منزلة ما لو علق عتق عبده، ثم باعه، وألزم البيع، ووجودُ الصفة في ملك المشتري لا يتضمن حصولَ العتاقة.
وهكذا التفريع على قولنا إن الملك في الموقوف زائلٌ إلى الله تعالى.
فأما إذا حكمنا بأن الملك في رقبة الوقف للواقف، فظاهر المذهب أن العتق ينفذ عند وجود الصفة.
ومن أصحابنا من قال: القول في نفود العتق في هذه الصورة كالقول في إعتاق الواقف العبدَ الموقوف، ولو أعتقه، لخرج نفود عتقه على أقوال نفود عتق الراهن في المرهون، وهذا يتردد على أحكامٍ، ويجمعها أن الاعتبار بحالة التعليق، أو بحالة تقدير وقوع العتق، وعليه يخرّج أمر (1) من علق عتق عبده في صحته، ثم مرض، فوجدت الصفة في مرض موته، فهذا ملحق بعتق الصحة، أو عتق المرض؟ وهذا الخلاف يجري فيه إذا علّق عتقَ عبده بصفةٍ، ثم رهنه.
5810- ومما يجري في أثناء ذلك أنه لو علق عتق عبده بمجيء وقتٍ، فهذا
__________
(1) (د 1) ، (ت 3) : يخرّج أن من علّق عتق عبده.(8/399)
[يأتي] (1) لا محالة، فلو وقفه، احتمل أن يلحق ذلك بالوقف المؤقت إذا كنا نحكم بنفوذ العتق بعد الوقف. وإذا كنا لا نحكم بنفوذ العتق، فلا شك في [صحة الوقف] (2) .
فرع:
5811- إذا وقف بهيمةً على إنسان، وجعل له الركوب منها، ولم يُثبت له لبنَها، وصوفَها أو وَبَرها، فمن أصحابنا من قال: حكم الوبر واللبن حكمُ منافعِ وقفٍ انقطع مصرفه، وقد ذكرنا التفصيل في ذلك، فلا نعيده.
ومن أصحابنا من قال: تخصيص الوقف ببعض المنافع يُفسده.
ومنهم من قال: الشرط يفسد، والوقف يعمّ، ولا خلاف أنه لو جعل الركوب لشخصٍ، واللبن والوبر لآخر، جاز.
فأما القول في نتاج البهيمة، فقد ذكرناه مفصلاً على الاستقصاء.
فرع:
5812- سئل ابنُ سُريجٍ عمن وقف شجرةً على رجل، هل يجوز له قطع أغصانها إذا كانت الشجرة تبقى مع القطع؟ فقال: إن أجاز الواقف ذلك في شرط الوقف، جاز، وإن أطلق الوقفَ، لم يجز قطعُ الأغصان. قال الأصحاب: هذا في شجرةٍ لا يعتاد قطع أغصانها، فإن كانت الشجرة بحيث لا تطلب إلا لقطع أغصانها، ثم إنها تخلُف كالخِلاف، فمطلق الوقف فيها محمولٌ على حكم العادة، وأغصان شجرة الخِلاف كثمرات الأشجار المثمرة.
فرع:
5813- لو وقف أرضاً، وشرط أن تصرف غلتُها إلى زكوات تجمعت عليه، أو كفارات لزمته، فحاصل المذهب في هذا أن ما ذكره وقفٌ منه على نفسه، وقد تقدم ذكر الخلاف فيه.
فإن منعنا ذلك، فالوقف باطلٌ؛ فإن الزكوات التي لزمته ديونٌ عليه، وتأديةُ ديونه من حقه، فقد صرف الوقفَ إلى حق نفسه.
__________
(1) في الأصل: باقٍ.
(2) في الأصل: "فساد الوقف"، وفي هامشها: " صحة الوقف " مع إشارة إلى أنها في نسخة أخرى.(8/400)
ولو وقف شيئاً على مصارف الزكاة، صح، وحمل ذلك على الصرف إلى الأصناف المذكورين في كتاب الله تعالى، إلا العاملين والمؤلفة، أما العاملون، فلا شك في خروجهم، وأما المؤلفة، ففيهم تفصيل سيأتي مشروحاً في قَسْم الصدقات، إن شاء الله تعالى، فإن رأيناهم من جهات الخير، لم يمتنع صرف الوقف إليهم.
فرع:
5814- إذا قال: وقفت على جهة الثواب، فقد ذهب ذاهبون إلى أن هذا محمول على الوقف على الأقارب، ولو وقف على جهة الخير، صُرف إلى مصارف الزكاة على التفصيل الذي ذكرناه، مع استثناء العاملين، كما سبق، ويصرف إلى قِرى الضيفان، أورده شيخي كذلك، وذكره العراقيون على هذا النحو، ففصلوا بين الثواب والخير.
ثم خصصوا كلّ لفظ بما ذكرناه، فالذي نحققه أن الخير رأوا صرفه إلى مصارف القربات الثابتة في الكتاب والسنة، وهي محصورة في مصارف الصدقات، وقِرى الضيفان.
ورأيت في بعض التعاليق المعتمدة عن شيخي أنه لا فرق بين لفظ الثواب والخير، وحكى في ذلك نصَّ الشافعي.
وذكر بعضُ المصنفين أن الفرق بين الثواب والخير مذهبُ بعض السلف. ولا فرق في ذلك عندنا.
وذهب معظم القياسين إلى أن الثواب والخير لا يختصان بجهة من جهات القُرب، ولكنهما يحملان على جميع جهات الخير. وهذا هو الحق الذي لا يجوز غيره ولا ينقدح فيه تردد، إلا في شيء.
5815- وهو أن رَيْع الوقف لو فرض جمعه وبناء رباطٍ به، أو مسجدٍ، فهو من جهات الخير، ويحتمل أن يقال: لا يحمل الوقف على هذا؛ فإن العادةَ ما جرت به، وإنما العرف الجاري في إخراج الريع إلى من ينتفع به، فأما اقتناء عقاراتٍ، وبناء مساجدَ، فليس مما يعتاد، والقول الضابط عندنا في الباب اتباع اللفظ في عمومه وخصوصه، إلا أن يتحقق عرفٌ مطردٌ مقترنٌ باللفظ، فيحكم العرف في اطراده، على تفاصيلَ مضت.(8/401)
5816- والذي أراه أن تشعيب المسائل اللفظية ليست من مسائل الوقف؛ فإنها تجري في الوصايا وغيرها، وليس من الرأي الإطناب فيها؛ فإنها بالوصايا أليق.
5817- ولو وقف على سبيل الله تعالى، كان ذلك محمولاً على الوقف على الغزاة؛ تعلقاً بقوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60] .
فرع:
5818- اسم المولى ينطلق على المعتِق المنعِم، وهو الذي يسمى المولى الأعلى، وينطلق على المعتَق المنعَم عليه، ويسمى المولى الأسفل.
فقال أئمة العراق: إذا قال الواقف: وقفتُ هذا على (1) مولاي، وكان له معتِق منعِم، ولم يكن له معتَق، انصرف الوقف إليه.
وإن كان له معتَق منعَم عليه، ولم يكن له معتِق أعتقه، ولم يكن عليه ولاء، انصرف إلى المولى الأسفل.
وإن كان له على إنسان ولاء، وكان عليه ولاءٌ لغيره (2) ، فإذا اجتمع المعتِق والمعتَق، فقد ذكر أئمة العراق ثلاثة أوجه: أحدها - أن الوقف يصرف إلى الصنفين، يستويان فيه.
والثاني - أنه يصرف إلى الأعلَيْن؛ فإن المولى إذا أطلق، كان ظاهراً في المنعِم، محتملاً في غيره.
والوجه الثالث - أن الوقف يبطل، لتردده بين الأعلى والأسفل.
5819- وهذا الذي ذكروه يفتقر إلى فضل بيان. فإن كان ذكر الواقف المولى على صيغة التوحيد، لم ينقدح فيه إلا وجهان: أحدهما - الحمل على المولى الأعلى، لما ادعيناه من ظهور اللفظ، والآخر - البطلان؛ فإن اللفظ إذا كان على صيغة الوحدان، لم يصلح للعموم، وكل لفظ مشترك بين معنيين، فهو غير محمول عليهما؛ فإن اللفظ المشترك غيرُ موضوعٍ للاشتمال على المسميات جمعاً، بل هو صالح لآحاد المعاني على البدل، وهذا يجرّ إبهاماً لا محالة.
__________
(1) (د 1) ، (ت 3) : على أعلى موالي.
(2) عبارة (د 1) ، (ت 3) : " وإن كان عليه ولاء، وكان له على غيره ولاء ".(8/402)
وقد ينقدح حيث انتهى الكلام إليه مراجعة الواقف؛ فإن اللفظ الذي جاء به محتمل، وليس كما لو قال: وقفت على أحد هذين الرجلين؛ فإن ذلك صريح في الإبهام.
ولا يتأتى منا المبالغة في كشف ذلك، فهو محال على معرفة الألفاظ.
5820- وهذا إذا ذكر اللفظ على صيغة الوحدان، فأما إذا قال: وقفت على مواليَّ، وله الصنفان: الأعلَوْن والأسفلون، فينقدح في هذه الصورة الصرفُ إليهم، والصرفُ إلى الأعليْن.
وقد يخرّج وجهُ الإبطال من جهة تقدير التردد، وهذا فيه بُعدٌ؛ لصلاح اللفظ للعموم والشمول.
ولكن قد ينقدح أن الإنسان لا يطلق هذا إلا وهو يريد أحد الصنفين؛ فإنهما في حكم المختلفين، ويبعد إرادة المختلفين في مثل هذا المقام. وينجرُّ هذا إلى التردد في الموقوف عليه.
وهذا إذا كان له جمعٌ من كل صنف، فإن كان لا ينتظم الجمع إلا بالصنفين، فالوجه الحمل عليهما.
فرع:
5821- إذا وقف على عبد إنسان شيئاً، صح، وكان وقفاً على سيده، ولو وقف على بهيمة، اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من أبطله، ومنهم من صحّحه، وحمله على مالكها. ولو وقف على إنسان شيئاً وقال في شرطه: يصرف الرَّيع إلى عبد الموقوف عليهم، فهذا حجرٌ في رَيْع الوقف فاسدٌ باتفاق الأصحاب، ويعود الكلام إلى أن الشرط الفاسد هل يُفسد الوقفَ أم لا؟
فرع:
5822- قال الشيخ أبو علي: إذا وقف رجل في مرض موته شيئاً على وارثه، وبعده على جهة الخير. فالوقف على الوارث مردود، ولكن هذا وقف منقطع الأول، وفيه من التفصيل ما تقدم في صدر الكتاب. فإذا صححناه، انقدح في [مصرفه] (1) قبل انقراض الوارث الوجوه المذكورة.
__________
(1) في الأصل: صرفه.(8/403)
ولو ذكر جهةً فاسدةً، ثم جهةً صحيحة، وكان لا يتوقع فرض الانقراض في الجهة الفاسدة، مثل أن يقول: وقفت على رجلٍ، ثم على المساكين، فإذا لم يعيِّن رجلاً، لم ينتظم تقدير انقراضه، فإن أفسدنا الوقف، فذاك، وإن صححناه، فلا يتجه فيه إلا الصرف إلى المساكين، وكأن الرجلَ المذكور لا ذكر له. وهذا حسن فقيه، لا ينقدح غيره.
فرع:
5823- إذا أجّر البقعة الموقوفة من يصح منه إجارتُها، ثم طُلبت البقعةُ بأكثرَ من الأجرة المسماة، فالوجه أن نقول: إن كان الوقف على معيّن، وقد تولى الإجارة، فلا أثر لطلب الموضع بزيادة؛ فإن الإجارة متعلقةٌ بحقه الخاص، لا يعدوه، فكان كالمالك يُكري.
وإذا كان الأمر على هذا الوجه، ولا حجر على الموقوف عليه، فلو تبرع، وأعار، أو أكرى بدون أجر المثل، فلا [معترض] (1) عليه.
ولو استثمر الأشجار المحبسة، وتبرع بجميعها، فإنما يتصرف في ملك نفسه.
والغرض مما ذكرناه تنزيل إجارة الموقوف عليه منزلةَ إجارة المالك.
5824- فأما إذا كان الوقف على جهةٍ من جهات الخير، وإجارتُه مفوّضة إلى متولٍ، فلا شك أنه لا يصح منه التبرع؛ فإنه ناظر محتاطٌ في تحصيل ما هو الأغبط، وطلبِ ما هو الأحوط.
فلو أجر البقعة الموقوفة بأجر مثلها مدة، ثم طُلبت بالزيادة، فحاصل المذهب فيه أوجه: أحدها - أن الإجارة إذا لزمت على شرط الاحتياط، يجب الوفاء بها، ولا يغيِّرها بذلُ الزيادة من زائدٍ؛ فإن ارتفاع القيمة كان (2) إلى ملك المستأجر، وإذا ارتفع ملك المستأجر، لم يعترض عليه.
__________
(1) في الأصل: يتعرّض.
(2) كان إلى ملك المستأجر: أي ارتفع ملكُ المستأجر؛ إذْ هو ملك المنافع بعقد الإجارة، وارتفاع قيمة الإجارة هو في الحقيقة ارتفاع قيمة المنافع، وقد ملكها المستأجر وفي (د 1) ، (ت 3) : بحال إلى ملك المستأجر.(8/404)
ومن أصحابنا من قال: مهما (1) ارتفع السعر، وزادت الأجرة، وظهر من يطلب بالزيادة، جاز للمتولي نقضُ الإجارة، بل وجب عليه ذلك؛ فإن الإجارة ترد على المنافع، وهي تؤخد شيئاً شيئاً.
وهذا عندي مزيف مجانب لمذهب الشافعي. ولم أر أحداً من أصحابنا يخالف في أن القيِّم إذا آجر ملك الطفل، ثم فرضت زيادة، على ما صورناه أنه لا يجوز نقض الإجارة.
فإن شبب صاحب هذا الوجه بطرد الخلاف في ذلك، كان قوله قريباًً من خرق الإجماع إن لم [يكنه] (2) .
وقال بعض أصحابنا يجب الوفاء بالإجارة فى سنة، فأما إذا زادت المدة، واختلف الأجر، لم يجب الوفاء بالإجارة، وكأن هذا القائل يرى السنة مع ما يفرض فيها من تغايير قريباً (3) محتملاً.
ولهذا التفات على أن الإجارة حقها ألا تُزاد على سنة، وقد ذهب بعض أصحابنا إلى ذلك في الوقف، مع المصير إلى أن إجارة الملك تزاد على السنة، وهذا له اتجاه في الوقف على جهاتِ الخير.
5825- فإن فرعنا على أن الزائد يغير حكمَ الإجارة، فيحتمل أن يقال: المتولي يفسخ، ويحتمل أن يقال: الإجارة تنفسخ.
5826- وعندي أن هذا كلّه إذا تغيرت الأجرة بكثرة الطالبين، فأما إذا وجدنا زبوناً يزيد على أجر المثل، فلا [خير فيما يزيد، ولا حكم له] (4) . نعم، لو فرض هذا في ابتداء العقد، أسعف الزائد، وعقدت الإجارة معه، والله أعلم.
__________
(1) "مهما": بمعنى (إذا) .
(2) مكان كلمة رسمت في الأصل هكذا: (ـلقه) تماماً. والمثبت من (د 1) ، (ت 3) .
(3) كذا في النسخ الثلاث، ولعل فيها سقطاً تقديره: " زماناً قريباً محتملاً "، أو فيها تحريف.
والله أعلم.
(4) عبارة الأصل: فلا حكم لما يزيد.(8/405)
فرع:
5827- إذا عسر الوصول إلى شرائط الوقف، فإن لم نأيس، وقفنا الأمرَ،
وحملنا المستحقين على الطلب، وإن أيسنا من العثور على شرائط الوقف، فقد سمعتُ شيخي يقول: حق هذا أن ينزَّل منزلة الوقف الذي لا مصرف له، إذا صححناه، وهو إذا قال القائل: وقفت داري هذه. وكان يحكي عن القفال في هذا: " أن أصح الوجوه فيه -إذا قال: وقفتُ- الحملُ على الجهة العامة ".
ولا يتأتى هذا إذا عدمنا شرطَ الوقف، وأشكل علينا تفصيله، مع العلم بانحصاره في معينين. والوجه [عندي] (1) وقف الريّع إلى أن يصطلحوا؛ فإنا إنما نقدِّر مصرفاً إذا تيقَّنا أن الواقف لم يثبته، وقد صححنا الوقف، فننظر في مصرفٍ، أما إذا ثبت المصرف، فالوجه الوقف على الاصطلاح، ثم يدخل في الوقف من نستيقنه مستحقاًً، فأما من لا نتحققه مستحقاًً، فلا مدخل له في الوقف والاصطلاح.
نجز كتاب الوقف بحمد الله ومنِّه، والصلاة على نبيه.
***
__________
(1) ساقطة من الأصل.(8/406)
كتاب الهبات
5828- الأصل فيها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شك أنها كانت تجري في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطريق ثبوتها التواتر، وإنما ينقُل الآحادُ في تفاصيل أحكامها أخباراً، وهذا سبيل كل أصلٍ من أصول الشريعة.
فمما ورد في تفاصيل أحكام الهبات ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: " العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه " (1) ، وقال صلى الله عليه وسلم: " لا يحل لواهبٍ أن يرجع فيما وهب إلا الوالد، فيما وهب لولده " (2) .
وأصل الهبة مجمعٌ عليه.
5829- ونحن نصدّر هذا الكتاب بذكر ركني الهبة. ولها ركنان: أحدهما - الإيجاب، والقبول، والثاني - الإقباض.
فأما الكلام في لفظ العقد، فقاعدة الباب أن الهبة عقد يفتقر إلى الإيجاب والقبول، كالبيع، وقد حكينا عن ابن سريج مذهباً بعيداً مائلاً عن قياس المذهب في أن البيع في المحقرات ينعقد بالمعاطاة، وهذا متروك عليه غيرُ معتد به، ولا شك أن من يصير إليه [يُجريه] (3) في الهبة.
ونحن نضرب عن هذا، ونأخد في مسلك آخر ونقول:
__________
(1) حديث "العائد في هبته". متفق عليه (اللؤلؤ والمرجان: 2/397 ح 1047) .
(2) حديث "لا يحل لواهب أن يرجع فيما وهب إلا الوالد ... " أخرجه الشافعي عن طاووس مرسلاً: المسند ح 174، ومن حديث ابن عباس رواه أبو داود: البيوع والإجارات، باب الرجوع في الهبة: 3539، والترمذي: البيوع، باب ما جاء في كراهية الرجوع في الهبة: 1299، والنسائي: الهبة، باب رجوع الوالد فيما يعطي ولده: 372، وابن ماجه: الهبات، باب من أعطى ولده ثم رجع فيه: 2377، وابن حبان: 7/289 رقم: 5101، والحاكم: 2/46 ر. التلخيص: 3/158 ح 1363.
(3) في الأصل: يجزئه. والمثبت من (د 1) ، (ت 3) .(8/407)
قد عم في عادات السلف، ومن بعدهم المهاداة والإتحاف بالتحف، من غير فرض إيجابٍ فيها وقبول.
وهذا لا ينزل منزلة ما عمت به عادات بني الزمان بعد دروس شعار التقوى في الاكتفاء بالمعاطاة في البياعات؛ فإن هذه العادة لا يمكن دعوى إسنادها إلى الأوّلين، بخلاف ما ذكرناه في التحف.
وقد ذهب بعض المصنفين إلى القطع بتصحيح هذا من غير لفظ، وقطع العراقيون باشتراط اللفظ في الإيجاب والقبول، وما ذكروه قياس العقود، ولما أشرنا إليه من أمر العادة وقعٌ في القلب.
ثم إنما [يصار] (1) إلى التوجيه المحمول على العادة فيما يمكن دعوى إسناد العرف فيه إلى الأولين، وهذا فيما أراه يتعلق بالمطعومات، فأما ما يضطرب النظر في ادّعاء العادة فيه، فهو غير ملتحق بتنزيل المعاطاة في البيع منزلة اللفظ.
5830- ومما يتصل بهذا الركن أن الأب إذا وَهَب من طفله وهو وليه، فقد ظهر اختلاف الأصحاب في أن هبته من الطفل هل تصح بمجرد الإيجاب، أو بمجرد القبول، أم لا بد من الإتيان بهما؟ فمنهم من قال: لا بد منهما، ومنهم من قال: يقع الاكتفاء بأحدهما؛ فإن التخاطب يجري بين اثنين، وهما في حكم ابتداء خطاب وجواب، وهذا لا ينتظم من الشخص الواحد، فاللفظ الواحد منه يعطي معنى العقد.
ثم رأيت الطرق متفقةً على أنا إذا لم نشترط اللفظين، فالاكتفاء بلفظ القبول جائز.
وفي هذا عندي فضل نظر. فأقول: للقبول صيغتان: إحداهما - أن يقول المخاطب بالبيع: اشتريت، إذا قال البائع: بعتُ. والأخرى: أن يقول: قبلت. كذلك يفرض مثل هذا في الهبة، فالمخاطب المتبرَّع عليه يقول: اتَّهبت، ويقول: قبلت. ثم الطالب في البيع يحسن منه أن يبتدىء، فيقول: اشتريت هذا العبدَ بألف، فلو قال: قبلتُ بيع هذا العبدِ بألف، فما أرى ذلك جائزاً؛ فإن هذا صيغة الجواب، والجواب قبل الخطاب لا ينتظم، ولا أشك أنه لو قال: [قبلت] (2) مبتدئاً، كان كلامه لغواً.
__________
(1) في الأصل: يضاد.
(2) ساقطة من الأصل.(8/408)
فإذا تمهد لنا ذلك، عدنا إلى الغرض، فنقول:
إذا قال الأب: قبلت هبة هذا الطفل، أو قبلت بيع هذا له، فما أرى ذلك صحيحاً، ولا أشك في بطلان اقتصاره على قوله قبلتُ؛ فإنه كلام غير مفهوم.
وإن قال: اتّهبت لطفلي، أو اشتريت لطفلي، فهو موضع خلاف، وهو بمثابة قوله: بعت من طفلي، أو وَهَبت من طفلي.
وأما اكتفاؤنا بقرائن الأحوال في تقديم الطعام إلى الضيفان في الرأي الأصح، فهو خارج عما نحن فيه؛ فإن سبيله الإباحة، والإباحة ليست تمليكاً، ولم يختلف أصحابنا أنها لا تفتقر إلى القبول، على رأي من يغلو، ويشترط اللفظ. هذا قدْرُ غرضنا الآن، فيما يتعلق باللفظ.
5831- فأما القول في القبض، فحصول الملك في الموهوب يتوقف على القبض التام، والقبض في الهبة كالقبض الناقل للضمان في البيع، وقد فصلنا القولَ في القبوض والمقبوضات في كتاب البيع.
والذي نذكره هاهنا التفصيلُ في هبة الأب من طفله، فيما يتعلق بالقبض، والوجه تجديد العهد بهبة المودَع الوديعةَ من المودِع، وقد ذكرنا هذا في كتاب الرهن، وأثبتنا قولين في أن نفس الهبة والرهن هل يكون إقباضاً؟ فإن قلنا: إنه ليس بإقباضٍ، ففي كيفية الإقباض والعينُ في يد المتهب والمرتهن كلامٌ.
فإذا تجدد العهد بذكر هذا، عدنا إلى القول في الأب إذا وهب من طفله.
فإن قلنا: الهبة من المودَع تُحوِج إلى إقباض، فهذا في الأب أولى. وإن قلنا: من المودَع إقباض، ففي هبة الأب من طفله طريقان: من أصحابنا من قال: لا حاجة إلى الإقباض في حق الأب، ونفسُ اللفظ كافٍ؛ فإن الموهوب في يد من يكون في يده لو قدّر القبض.
ومن أصحابنا من قال: لا بد من الإقباض؛ فإن الموهوب في يد المالك الواهب في مسألة الأب، وهو في يد المتهب في مسألة المودَع. وقد ذكر الخلاف على هذا الوجه الصيدلاني.
5832- وسلك بعضُ من لا يحيط بحقيقة المذهب مسلكاً آخر، فقال: إن قلنا:(8/409)
يجوز الاقتصار على أحد شقين لفظاً، فلا حاجة إلى إقباض، وإن قلنا: لا بد من اللفظين، فهو خارج على قياس المودَع. وهذا هَوَسٌ؛ فإن الاقتصار على أحد اللفظين مأخذُه غيرُ مأخد القبض، كما دل عليه التنبيهات الجارية في أثناء الكلام.
5833- فإذا ثبت القول في القبض، فالقول الصحيح المنصوص عليه في الجديد أن الملك يحصل مع القبض إذا ترتب على الصحة على الهبة المنعقدة. وعنينا بصحة القبض ترتيبه على إقباض الواهب، فلو ابتدر المتّهب، وقبض من غير إقباض، ولا إذنٍ، لم يحصل الملك، خلافاً لأبي حنيفة (1) رحمة الله عليه. وقد قدمنا تفصيل القول فيه إذا ابتدر المشتري، فقبض العين المشتراة في كتاب البيع.
ولو أتلف المشتري المبيع، كان إتلافه قبضاً ناقلاً للضمان، ولو أتلف المتَّهب الموهوب، لم يكن ذلك قبضاً، ولزمته القيمة للواهب، والسبب فيه أن إتلاف المشتري صادفَ ملكَه، فبعُد أن يغرَم القيمة لتُحبس في مقابلة الثمن، إن قلنا: بالحبس. وإتلافُ المتّهب صادف ملك الواهب.
هذا بيان القول الجديد.
وللشافعي قولٌ في القديم: أن الهبة إذا اتصلت بالإقباض، تبيَّنا أن الملك حصل بعقد الهبة للمتهب، وهذا قولٌ ضعيف في حكم المرجوع عنه.
5834- ثم الترتيب السديد أنا إذا حكمنا بأن الملك يحصل مع القبض، فلو مات الواهب أو المتهب قبل جريان القبض، انفسخت الهبة، ولو أراد وارثُ الواهب الوفاء بها، احتاج إلى إنشاء هبة.
وإن حكمنا بأن الملك يستند إلى العقد تبيُّناً إذا جرى القبض، فلو مات [الواهب] (2) ، أو المتهب قبل جريان القبض، ففي انفساخ الهبة وجهان، وقد ذكرنا نظيرهما في الرهن.
وأطلق بعض المحفقين الوجهين على القولين، ووجّهوهما من غير تعرضٍ للترتيب
__________
(1) ر. المبسوط: 12/57.
(2) في الأصل: الراهن.(8/410)
على القولين في وقت حصول الملك: من قال بالانفساخ، احتج (1) بأن العقد قبل القبض جائز من الطرفين جوازاً شرعياً فينفسخ، كالجعالة، والوكالة، والقراض.
ومن قال: لا ينفسخ، احتج بأن مصير الهبة إلى اللزوم عند فرض جريان القبض، فالموت قبل القبض بمثابة الموت في زمان الخيار في عقد البيع.
وقد أجرينا هذا الخلاف في الرهن.
هذا منتهى غرضنا في ذكر ركني الهبة: اللفظ، والقبض.
فصل
مشتملٌ على بيان ما يصح هبته، وما يمتنع هبته
5835- فكل عينٍ صح بيعُها، صح هبتُها.
والشيوع لا يمنع صحةَ الهبة فيما ينقسم، وفيما لا ينقسم، كما لا يمنع صحة البيع والرهن، وخالف أبو حنيفة (2) رحمة الله عليه في الهبة، وقياسه فيها يخالف قياسَه في الرهن، فلا جَرم قال: بيعُ الشائع الذي لا ينقسم أصله جائز، وتعويله في منع هبة الشائع على أن الهبة تبرع، فلو صحت في الشائع، لملك المتَّهب [إلزام] (3) الواهب القسمة، وهذا يؤدي إلى إلزام المتبرع مؤونةً على (4) التبرع في عين ما تبرع به، وهذا قد رددناه عليه في (الأساليب) (5) وغيرها (6) .
وإنما غرضنا أنهم يستمسكون بالقبض، ويقولون: " إنما يوقف الملك في الهبة
__________
(1) في الأصل: واحتج.
(2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/139 مسألة: 1837، والمبسوط: 12/64، ومختصر الطحاوي: 139، وإيثار الإنصاف: 280.
(3) في الأصل: التزام.
(4) (د 1) ، (ت 3) : في. والمراد إلزام المتهب مؤونةً بسبب هبته، وهي مؤونة القسمة.
(5) الأساليب: أحد كتب الإمام في الخلاف، ولما نصل إليه.
(6) وغيرها: أي غير الأساليب، ولعله يعني (الدرّة المضيئة) ، فقد ردّ فيها على الحنفية هذه المسألة.(8/411)
على القبض؛ لأن الملك لو حصل بنفس الهبة، لوجب الإقباض، فيؤدي هذا إلى إلزام الشرع (1) للمتبرع شيئاً بسبب تبرّعه، وهذا بعيد ".
وهذا الكلام باطل عندنا.
5836- فإن قيل لنا: فما معتمد المذهب في اشتراط القبض، وقد قال مالك (2) : الهبة تملك بنفسها من غير إقباض؟
قلنا: اعتمد الشافعي في اشتراط القبض حديث أبي بكر: فإنه كان منح عائشة رضي الله عنهما جِداد عشرين وَسْقاً، فلما مرض مرضه الذي مات فيه قال لها: " وددت لو حُزتيه قبل هذا، وهو الآن مالُ وارث بينك وبين أخويك وأختيك ". قالت: " عرفت أخويّ محمداً وعبدَ الرحمن، وأختي أسماء، فخطر لي أن خارجةَ كانت حاملاً من أبي بكر، وأنها ستلد أنثى، فولدت أنثى " (3) .
هذا متعلق الشافعي في اشتراط القبض.
5837- ثم تردد الأصحاب في أمور نُرسلها، ثم ننبه على حقيقتها:
فذكر بعضهم في صحة هبة الكلب خلافاًً، وأورد الشيخ أبو علي هذا، ونَحَوْا بالهبة في الكلب نحو الوصية به، وهذا بعيد جداً، وحق هذا الإنسان أن يطرد هذا الخلاف في المجاهيل وغيرِها، [مما] (4) تصح الوصية به، ويمتنع بيعُه، ولا شك أنهم يُلزَمون طردَ هذا في الجلد قبل الدباغ، والخمر المحترمة، وكل ما يثبت فيه حق الاختصاص إذا صحت الوصية؛ فإن الهبة تبرعٌ ناجز والوصية تبرعٌ مضاف إلى ما بعد الموت.
__________
(1) (د 1) ، (ت 3) : التبرع. ولفظ (الدرة المضية) : " الشرع " مثل الأصل.
(2) ر. جواهر الإكليل: 2/212، الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/673 مسألة: 1198.
(3) حديث هبة أبي بكر لعائشة، رواه مالك في الموطأ (كتاب الأقضية: باب ما لا يجوز من النحل 2/752، ح 40، وفيه أن عائشة سألت أبا بكر: " إنما هي أسماء، فمن الأخرى " فقال لها أبو بكر: " ذو بطن، بنت خارجة، أُراها جارية " رضي الله عنهم أجمعين.
(4) ورواه البيهقي (6/172) من طريق ابن وهب عن مالك وغيره. تلخيص الحبير: (3/72 1328) .
(4) في الأصل: فما.(8/412)
وكان شيخي لا يعرف هذا، وينزل الهبة منزلة البيع. وقد أجرى هو وغيره قولين في هبة الغائب، كما أجروْهما في بيع الغائب، وسنذكر في باب العمرى والرقبى أن تعليق الهبة باطل، والوصايا تقبل التعليقات، كما سيأتي شرحها، إن شاء الله تعالى.
5838- وذكر طائفة من أصحابنا في صحة هبة المرهون وجهين: أحدهما - البطلان؛ قياساً على البيع.
والثاني - الصحة، ومعناه البناء على الانتظار، فإن بِيع الرهنُ في حق المرتهن، تبيّنا بطلانَ الهبة. وإن انفك الرهن، فالخِيرَةُ إلى الراهن الواهب. فإن أقبض، حصل الملك.
وهذا على ضعفه يتجه بشيء، وهو أن الهبة لا تُعقب الملك في وضعها؛ فإن صادفت مرهوناً، لم يبعد الانتظار فيها؛ فإن القبض المملّك منتظَرٌ، وهذا يجرّ خبطاً (1) عظيماً، ويُلزم تصحيحَ الهبة في الآبق، وما لا يقدر عليه في الحال.
ويجوز أن ينفصل عن الآبق؛ فإنه غير مقدورٍ عليه، والراهن قادر على فك الرهن بأداء الدين.
5839- ومما يتصل بما نحن فيه القول في هبة الدين. (2 ونحن نقدم عليه تفصيل القول في بيع الدين، وقد قدّمتُ -فيما أظن- قولين في بيع الدين 2) من غير مَنْ عليه الدين، وغرضنا الآن تفصيل القول في الهبة. فإن حكمنا بصحة بيع الدين، ففي صحة هبته وجهان ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - أنه يصح هبة الدين، فإن ما يصح بيعه، يصح هبته.
والثاني - لا يصح هبته؛ فإن الهبة تفتقر إلى القبض، والدين لا يتصور قبضه وهو دين.
فإن قلنا: لا تصح الهبة، فلا كلام.
__________
(1) (د 1) ، (ت 3) : يخرج خبلاً.
(2) ما بين القوسين ساقط من (د 1) ، (ت 3) .(8/413)
وإن قلنا: تصح، فهل يفتقر انبرامها إلى قبض الدين واستيفائه، حتى تكون الهبة جائزةً (1) ، يبطلها الواهب قبل القبض الحسي؟
قال صاحب التقريب: في المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا بد من القبض في الانبرام، وهو قياس الهبات.
والوجه الثاني - أنه لا يفتقر إلى القبض المحسوس، بل تنبرم الهبة قبل استيفاء الدين.
ثم من أصحابنا من قال: تنبرم بنفس الإيجاب والقبول، ومقصود هذه الهبة أن يصير المتَّهب بعد الهبة كالواهب قبل الهبة، ومعلوم أن الواهب كان يستحق الدين في الذمة من غير قبض، فعلى هذا تنزل هبة الدين منزلة الحوالة، وهذا لا بأس به، وقد ذكره العراقيون على قريبٍ من الوجه الذي ذكرناه حكاية عن صاحب التقريب.
ومن أصحابنا من قال: لابد من تسليطٍ بعد الهبة، وهو في حكم الإقباض بالقول، فتنعقد الهبة بالإيجاب والقبول، ثم يقول الواهب بعدهما دونك والدين، فاستوفه، فقد سلطتك عليه، ويضاهي هذا التخلية في الأعيان التي لا تقبل النقلَ.
5840- وخرّج صاحب التقريب التصدقَ بالدين، حتى يقع عن الصدقة المفروضة إذا نواها- على هذا القياس؛ حتى إذا صحَّحْنا الهبة من غير استيفاء، قلنا على ذلك: لو كان مال الرجل ديناً، فتصدق بشيء منه على مستحقِّي الزكاة، وقع ذلك موقع الاعتداد والاحتساب. ولو كان له على مسكينٍ دينٌ، فوهبه منه عن حساب الزكاة، لم يقع الموقع؛ فإن هذا إبراء، وليس بتمليك على الحقيقة، وتنزيل الإبراء منزلة التمليك من باب الإبدال في الزكوات، ولا مساغ لها عند الشافعي. وقد قيل: إن أبا حنيفة رحمة الله عليه يمنع ذلك، مع توسّعه في إقامة غير المنصوص عليه مقام المنصوص عليه.
5841- ومما يتصل بذلك رهن الدين، وقد قدمنا في كتاب الرهن منعه، وهو الأصل، ولكن خرّج الأصحاب الرهن على الهبة فقالوا: إن منعنا الهبة، منعنا
__________
(1) "جائزة": أي غير لازمة: أي هي حينئذٍ عقدٌ جائز.(8/414)
الرهن، وإن صححنا الهبة، لم يمتنع تصحيح الرهن. ولكن الوجه الذي ذكرناه في انبرام الهبة قبل الاستيفاء المحسوس لا يخرّج في الرهن، ولا يتجه فيه إلا اشتراط الاستيفاء، فإن المقصود من الرهن التوثق بالعين، وهذا لا يحصل فيما ليس مقبوضاً حسّاً، فصحة الرهن بتأويل انعقاده، ووقوف انبرامه على القبض المحسوس يخرّج على بعد.
***(8/415)
باب العمرى والرقبى
5842- هذه اللفظة استعملتها العربُ في الجاهلية قبل المبعث، ونحن نذكر صيغتها ومعناها، ثم نذكر حكمها.
فإذا قال الرجل: أعمرتك هذه الدار ووهبت (1) منك عمرك، أو ما بقيت، فهذه صيغ العمرى. ومعناها أن الموهوب يكون للمعْمَر ما بقي، فإذا مات، لم يخلفه الوارث، ولم يقم مقامه. هذا معنى اللفظ، وكانت العرب تعنيه (2) وتريده، وتبني (3) النحلةَ على رجوع الموهوب إلى الواهب إذا مات المتَّهب.
فإذا بأن اللفظ ومعناه، عدنا إلى ترتيب حكم الشرع فيه.
5843- والترتيب القريب أن نقول: إذا قال: أعمرتك، أو وهبت عمرك، أو ما بقيتَ، ولم يتعرض لقطع الملك عن ورثته، ولا استمرار الملك عليهما، ففي المسألة قولان: أصحهما - وهو المنصوص عليه في الجديد أن الهبة تصح. وقال الشافعي في القديم: لا تصح الهبة.
توجيه القولين: من قال: لا تصح، فوجهه بيّن في القياس؛ فإن الهبة قياسها أن تقتضي ملكاًً يقتضي البيعُ مثلَه، وحكم الملك المستفاد من البيع أن يطّرد على الوارث، واللفظ لا يعطي هذا المعنى في الهبة، فينبغي أن تبطل.
ومن نصر القول الجديد، فمعتمده الخبر، وهو ما روي أن رسول الله صلى الله
__________
(1) (د 1) ، (ت 3) : ووهبتك.
(2) تعنيه: أي المعنى.
(3) (د 1) ، (ت 3) : تبغي.(8/416)
عليه وسلم: جعل العمرى للوارث (1) . وروي أنه قال صلى الله عليه وسلم: " لا تُعمروا ولا تُرقبوا، فمن أعمر شيئاً، أو أرقبه، فسبيله الميراث " (2) .
فإن تعلق ناصر القول القديم بنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإعمار والإرقاب، قيل له: هذا محمول على طريق المشورة، وحاصله لا تعمروا، وأنتم تبنون الأمر على أن الموهوب يزجع عليكم، واعلموا أن سبيله الميراث.
التفريع على القولين:
5844- إن حكمنا بفساد الهبة، فلا كلام، وهي لاغية، وملك الواهب باقٍ، وإن
اتصل بالإقباض.
وإن حكمنا بأن الهبة صحيحة، فالأصح أن ما في اللفظ من التعرض للتخصيص بالعمر باطل، والهبة مؤبدةٌ، والملك مسترسل على الورثة إذا مات المتَّهِب المُعْمَر.
وحاصل هذا القول يرجع إلى تصحيح الهبة وإبطال مقتضى اللفظ في تضمين التخصيص والتأقيت، والمعتمد فيه الخبر، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: " فسبيله الميراث ".
5845- وللشافعي قولٌ في القديم: إن الهبة تصح، وتقتضي الملك متقيداً بحياة المتَّهب، وإذا مات، رجع إلى الواهب.
وهذا وإن كان مشهوراً، فهو مختلٌّ جداً؛ فإن المعتمد الخبرُ، ومقتضاه طرد الملك على الورثة.
__________
(1) حديث: " العمرى ميراث لأهلها " رواه مسلم عن جابر وأبي هريرة: الهبات، باب العمرى، 3/1248، ح 1625، 1626. وأحمد عن سمرة: 5/8، 13، 22. وعنه أيضاًً الترمذي: الأحكام، باب ما جاء في العمرى، 3/623، ح 1349. وابن حبان عن زيد بن ثابت بنحوه: 7/292 حديث: 5110. وانظر التلخيص: 3/156 ح 1358.
(2) حديث " لا تعمروا، ولا ترقبوا ... " رواه الشافعي: 2/168 (السندي) وأبو داود: البيوع، باب من قال فيه ولعقبه 3/293، ح 3556. والنسائي: العمرى، باب ذكر اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر جابر في العمرى 6/273، ح 3731. والبيهقي في الكبرى: 6/175 ومعرفة السنن والآثار: 9/58، ح 12344 (كلهم من حديث جابر) . وانظر التلخيص: 3/156، ح 1359.(8/417)
ثم تفريع القديم على الجديد لا يحسن في نظم المذهب، والأحسن أن نقول: في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها - وهو المنصوص عليه في الجديد أن الهبة تصح، ويطّرد الملك على الورثة، ولا مبالاة فيما في اللفظ من معنى الإشعار بتخصيص الملك بعُمر المتهب.
والقول الثاني - أن الهبة تفسد.
والقول الثالث - أنها تصح، والملك مقصور على عُمر المتهب. وهذان القولان نص عليهما في القديم، وكل ما ذكرناه فيه إذا قال: أعمرتك هذه الدار، أو وهبتك هذه الدار عمرك.
5846- ووراء هذه الصورة صورتان: إحداهما - أن يقول: أعمرتك ما بقيتَ، فإذا متَّ، فلورثتك.
والأخرى - أن يقول: فإذا متَّ، انصرف إليَّ الموهوب ملكاً. فإن قال: وهبتك عمرك، والموهوب [بعدك] (1) لورثتك، فالهبة صحيحة، لا خلاف في صحتها، ويستوي في الحكم بالصحة الجديدُ، والقديمُ؛ فإنه صريح بتأبيد الملك، وتثبيته على حكم الاطراد.
فأما إذا قال: وهبتك عمرَك، فإذا متَّ، رجع إليّ الملك في الموهوب، فلا شك أن هذا باطل على المذهب القديم، إذا رأينا إبطال الإعمار المطلَق، فإن رأينا في الترتيب القديم تصحيحَ العُمرى، وتخصيصَ الملك بعمر المتَّهِب، فالهبة صحيحة، على هذه القضية، والملك فيها مقصور على عمر المتَّهِب. وهذا التقييد عند هذا القائل تصريحٌ بما يقتضيه مطلق الإعمار.
فأما إذا فرعنا على القول الجديد، وقلنا: الإعمار المطلق صحيحٌ، والملك مسترسل على الورثة، وما في اللفظ من معنى التخصيص باطل.
فإذا جرى اللفظ مقيداً بالرجوع إلى الواهب، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن هذا يبطل لما فيه من التصريح بالتأقيت. وهذا القائل يقول: الإعمار المطلق
__________
(1) زيادة من (د 1) ، (ت 3) .(8/418)
لا تأقيت فيه؛ فإنه إذا ذكر الملك في عمر المتهب، فقد تناهى في تأبيد الملك؛ فإن أقصى ما يمتد فيه ملك المالك عمرُه. ثم إذا ثبت هذا، فالإرث بعد انقضاء العمر فرعُ هذا المقتضَى. ولم يجر له ذكرٌ بنفيٍ ولا إثبات. فهذا وجه.
والوجه الثاني - أن الهبة لا تفسد؛ فإن ما صرح بهِ من التأقيت هو مقتضى الإعمار المطلق، فإذا ثبت أن الهبة تصح بلفظ الإعمار، فينبغي أن تصح، وإن قُيّدت بالتأقيت، فالشرط إذاً باطل، والهبة صحيحة.
5847- ومما يتصل بتفصيل المسائل أنه إذا قال: وهبتك عُمْرَ زيدِ، وذكر رجلاً غيرَ المتَّهِب، أو قال: وهبتك عمري، أو ما بقيتُ، والتفريع على الجديد، وقد تبين ميله إلى التصحيح، فالمذهب الظاهر أن الهبة تفسد؛ فإنها ما أضيفت إلى عمر المتَّهب، حتى يقال: تقديرها ملكتك على أقصى ما يتصور ملكك، واللفظ حائد عن اللفظ المعهود [في الباب] (1) ، ومعتمد التصحيح الخبرُ، وهو محمولٌ على الصيغة المعروفة.
وذكر الشيخ والعراقيون وجهاً آخر: أن الهبة تصح على الجديد، ويفسد التأقيت ولم يصر أحد ممن يُحتفل به إلى الحكم بالصحة، مع الوفاء بموجب الشرط، حتى يقال: يثبت الملك مختصاً بالعمر المذكور، حتى إذا مات زيدٌ، الذي ذكر عمرَه قبل موت المتَّهب يرجع الملك إلى الواهب المُعْمِر، ولكن يتأبد الملك بعد موته للمتهب، ثم لورثته بعده، فيؤول الخلاف إلى أن الشرط الفاسد هل يُفسد الهبةَ أم يُطّرح الشرط، ويحكم بصحة الهبة مؤبدةً على خلاف الشرط؟
5848- ولو قال: وهبت منك داري هذه سنةً، أو يوماً، فهذا خارج على الخلاف الذي ذكرناه؛ إذ لا فرق بين تقييد الملك بعمر غير المتهب، وبين تقييده بالوقت الصريح، فيخرَّجُ على الجديد وجهان: أحدهما - أن الهبة فاسدة، وما جاء به إعارةٌ بلفظٍ فاسد.
__________
(1) ساقط من الأصل.(8/419)
والوجه الثاني - أن الشرط محذوف، والهبة في نفسها متبعة على حكم التمليك المؤبد.
5849- وينشأ من هذا المنتهى جريان الخلاف في تصحيح الهبة، وإبطال الشرط الفاسد، ثم خصص بعض أصحابنا هذا الخلافَ فيما يتعلق بالوقت.
وقال قائلون: كل شرطٍ فاسد مذكورٍ في عقد الهبة، فهو خارج على الاختلاف، حتى نقول في وجهٍ: يفسد الشرط، وتصح الهبة على موجب الشرع، حتى لو قال وهبت منك عبدي هذا على [ألا تبيعه] (1) إذا قبضته، ولا تتصرف فيه، أو ما جرى هذا المجرى، فهذه الشرائط منحذفة، والملك حاصلٌ للمتَّهِب.
وهذا القائل يفصل بين الهبة وبين البيع، ويقول: الشرائط التي تذكر في البيع تُصيِّر الثمن -الذي هو ركن البيع- مجهولاً، وجهالة الثمن تُفسد البيع، ولا عوض في الهبة.
فهذا وإن نقله الأئمةُ حَيْدٌ عظيم، وإبعادٌ ظاهر، وسببه تصحيح الإعمار، وقد حكينا في كتاب البيع قولاً غريباً، عن صاحب التقريب، ردّده مراراً: أن الشرط الفاسد ينحذف في البيع، ونحكم بصحة البيع، (2 وذلك غير معتدٍّ به من أصل المذهب. وليس ما حكيناه في الهبة ذلك القول 2) ، وإنما هو محكي مع الفرق بين الهبة والبيع.
هذا مجموع القول في العمرى، مع ما يتعلق بأطرافها.
5850- فأما القول في الرقبى فنذكر لفظها، وما كان يريده من يُطلقه، ثم نذكر حكمَ الشرع على ترتيبنا في العمرى.
فلفظ الرُّقبى أن يقول: وهبت داري هذه على أنك إن متّ قبلي، رجعت إليّ، فإن متُّ قبلك، استقر ملكُك.
وسُمِّي هذا النوعُ رقبى؛ لأن كلّ واحد منهما يرقب موت صاحبه، فالمتّهِب يرقب
__________
(1) في الأصل: أن تبيعه.
(2) ما بين القوسين ساقط من (د 1) ، (ت 3) .(8/420)
موتَ المُرقِب ليستقر ملكه، والمُرقِب ينتظر موت المتَّهِب ليرجع الملك إليه.
هذا بيان اللفظ ومعناه عند أهله.
5851- والحكم فيه إلحاقُ هذا اللفظ بما إذا قال: أعمرتك، أو وهبتك عمرك، وإذا مت، رجع إليّ، وقد ذكرنا في هذه الصورة طريقين للأصحاب. وقوله: فإن مت، استقر لك الملك لا يتضمن مزيد فساد، ولا يؤثر أصلاً، وإنما النظرُ إلى تصريحه برجوع الملك في الموهوب إليه عند تقدير موت المتّهِب في حياته.
فهذا تفصيل القول في العمرى [والرقبى] (1) .
5852- ووراء ما ذكرناه فرعٌ نذكره ينتجز به مقصود الباب.
وهو أنه إذا قال: أعمرتك داري هذه، أو وهبتكها عمرك، وقلنا: تصح الهبة، ويثبت الملك متقيداً بعمر المتَّهِب، فلو مات المُعْمِر الواهب قبل موت المتَّهِب، فلو قدرنا رجوع الملك، فكان يرجع إلى ورثة المعمر. وهذا فيه استبعاد؛ من جهة أنه ثبوت ملكٍ للورثة ابتداء فيما لم يملكه الموروث في حياته، ولكن ما يقتضيه قياس هذا القول أنه يرجع إلى ورثته بحكم شرطه، ويكون كما لو نصب شبكة في حياته وتعقَّل بها صيدٌ بعد موته، فالملك يحصل في الصيد للورثة.
والصحيح أنه تركة تُقضى منه الديون والوصايا، فإن حمل [حامل] (2) حصولَ الملك للورثة على حصول الملك لهم في الشبكة، كان ذلك غيرَ صحيح؛ إذ لا يمتنع فرضُ تسبب قوي يقصد مثله من غير تقدير ملك، وذلك بأن يحتفر حفيرة على مدارج الصيود، ولا يَقصد تملكها (3) ، فالصيد الواقع فيها للورثة، ولا ملك لهم في الحفيرة.
وقد يتكلف متكلف فيقول: صار الحافر أولى بالحفيرة من غيره، وهذا الحق
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) تملكها: الضمير يعود إلى الحفيرة، لا إلى الصيود، كما قد يتوهّم، وذكر الحفيرة غير المملوكة مثالاً للسبب، حيث يردّ قول من قال: إن الملك يحصل للورثة لملكهم الشبكة، فأراهم أن الصيود يحصل ملك الورثة فيها بحفيرة غير مملوكة.(8/421)
ينزل إلى ورثته. والذي عليه التعويل ما قدمناه من كون الصيد من جملة التركة.
5853- ومما يتعلق باستقصاء الكلام في ذلك أنا إذا أثبتنا الملكَ للمتَّهب، وقيدناه بعمره، فلو باع ما ملكه، ثم مات، والعين مبيعة، فهذا فيه احتمال ظاهر: يجوز أن يقال: لا ينفد بيعُه؛ فإن مقتضى البيع -إذا صح- التأبيدُ، وهذا لا يسعه الملك المؤقت، وليس له أن يملّك غيرَه ما لا يملكه في نفسه. فإذن له الانتفاع، وله وطء الجارية التي جرى الإعمار فيها، وليس له أن يبيع.
ويجوز أن يقال: بيعه نافد محمول على التأبيد الذي يقتضيه البيع، وهو بمثابة ما لو علَّق عتقَ عبده بمجيء الغد، ثم إنه لم يجر بيعه قبل الوقت الذي هو متعلق العتق، فالبيع ينفذ، ويتعطل العتقُ، وتعليقُه. ولو لم ينفد البيع في مثل الإعمار، لما كنا مثبتين للمتَّهِب ملكاً.
5854- ولعل الأصح منعُ صحة البيع؛ فإن من علق عتق عبده لا يقال: تأقت ملكه، بل ملكه على التأبد الذي كان. والتعليق مشروط بألا يتقدم على وجود الصفة ما يتضمن دفعَ العتق عند وجود الصفة. والملكُ مؤقت في عمر الإنسان إذا فرّعنا على القول الذي انتهينا إليه.
وإذا خرج أصلٌ عن قانون القياس، فكلما كثرت الفروع، ازداد الفرعُ بعداً.
***(8/422)
[باب عطية الرجل ولده] (1)
5855- الأصل أن الهبة إذا صحت وأفادت ملكاً عند القبض، فالملك يطرد ولا يتطرق إليه إمكان القبض؛ فإن الملك يتم، ويتسلط المتّهِب على سائر جهات التصرفات، ومبنى الهبة على أنها إذا اقتضت ملكاًً، انقطعت فيها علائق العقود؛ إذ لا يتطرق إليها ردٌّ بعيب، ولا تفاسخٌ على الرضا على موجب الإقالة في البيع، فالذي يقتضيه الأصل ألا يرجع واهبٌ فيما وهب، غير أنا (2) نثبت للأب الرجوع فيما وهبه لولده.
والأصل في الباب ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يحل لواهب أن يرجع في هبته إلا الوالد فيما وهب لولده " (3) وروى الشافعي حديثَ النعمان بن بشير إذ رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه غلام، فقال: " أنَّى لك هذا؟ " فذكر أن أباه بشيراً أنحله إياه، فقال صلى الله عليه وسلم لبشير: " أنحلت سائر ولدك مثل هذا؟ " فقال: لا. فقال صلى الله عليه وسلم: " أيسرُّك أن يكونوا في البر إليك سواء "، فقال: نعم، قال: " فارجعه ". وروي " فاردده " (4) . فثبت أن رجوع الواهب فيما وهب لولده في حكم المخصوص بتخصيص رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم الكلام يتعلق بثلاثة فصول: أحدها - فيمن يثبت له حق الرجوع.
والثاني - في وقت الرجوع.
والثالث - فيما يقع الرجوع به.
__________
(1) في الأصل: فصل. واخترنا هذا لما سيأتي قريباً من تفصيله هذا الباب إلى ثلاثة فصول.
(2) (د 1) : لا نثبت.
(3) سبق تخريج هذا الحديث آنفاً.
(4) حديث النعمان بن بشير متفق عليه بنحو هذا اللفظ (اللؤلؤ والمرجان: 398، ح 1048، 1049) .(8/423)
[الفصل الأول] (1)
5856- فأما القول فيمن يرجع، فحاصل ما ذكره الأصحاب أربعة أوجه: أحدها - أن الرجوع يختص بالوالد إذا وَهَب من ولد صلبه، ولا يثبت للأم، ولا للأجداد والجدات.
ومعتمد هذا الوجهِ، ما مهدناه من خروج الرجوع عن القياس، ووجوب اتباع النص وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: " لا يحل لواهبٍ أن يرجع فيما وهب إلا الوالد "، فخصص الرجوع بالوالد، فيجب اختصاصه به.
5857- والوجه الثاني - أن الأم تَشْرك الأبَ في الرجوع إذا وَهَبت؛ فإنها في معناه، والولد ولدهما، وانتسابه إلى الأب ظاهر، واتصاله بالأم من جهة الولادة مستيقنٌ.
ثم هذا القائل يقول: حق الرجوع [لا يعدوهما إلى الأجداد والجدات، ووجه هذا الوجه أن الوالد يثبت حق الرجوع] (2) له بالنص، والتحقت الأم به التحاق الجارية بالعبد في قوله صلى الله عليه وسلم: " من أعتق شِرْكاً له في عبد قُوّم عليه " (3) .
5858- والوجه الثالث - أن حق الرجوع يثبت للأصول فيما وهبوا لفصولهم، ولا فرق بين الأبوين وبين الأجداد والجدات، وبين من يلي منهم، وبين من لا يلي، وبين من يرث، وبين من لا يرث.
وهذا القائل ينحو بهذا الحق نحو القصاص؛ فإنه لا يجب على أصلٍ بقَتْل من ينتمي إليه بجهة الولادة بدرجة، أو درجات.
5859- والوجه الرابع - أن حق الرجوع يثبت للأب، ولكل أصلٍ يتصور أن يكون
__________
(1) العنوان من عمل المحقق، رعايةً لتقسيم المؤلف.
(2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(3) حديث من أعتق شركاً له في عبد ... متفق عليه (اللؤلؤ والمرجان: 364، 412، ح 958، 1082) .(8/424)
له ولاية على الذي وَهَب منه بالقرابة. فهذا إذن يختص بالوالد، والأجداد المتّصلين به إذا كانوا ورثة، وصاحب هذا لا يخصص حقَّ الرجوع بحال قيام الولاية؛ فإن الهبة قد تكون من الابن (1) البالغ الرشيد، وقد يكون الأب أو الجد فاسقين غيرَ صالحين للولاية، فلا نظر إلى ثبوت الولاية وتحققها، وإنما النظر إلى كون الواهب صالحاً للولاية على الموهوب منه على الجملة إذا تجمعت الأسباب التي تقتضي قيامَ الولاية.
5860- ولا شك أن الأولاد لا يرجعون فيما وَهبوا لأصولهم. ومن يقع على جانبٍ من عمود النسب لا يرجع إذا وَهَب وأقبض. وكذلك القول في الأجنبي إذا وهب وأبرم هبته بالقبض.
فهذا تمام المقصود فيمن يملك الرجوع، وفيمن لا يملكه.
والفصل الثاني
معقود في الأوقات التي يثبت فيها الرجوع.
5861- فنقول: إن بقي المتهب، وبقيت العين الموهوبة، واستمر الملك المستفاد بالهبة، فيثبت حق الرجوع، ثم إن كانت العين الموهوبة غيرَ متغيرة عن صفتها الثابتة لها حالةَ القبض، فلا كلام.
وإن تغيرت صفتها بنقصانٍ وعيب، فللواهب الرجوع فيها، على ما هي عليها من الصفات، ولا رجوع له بأرش النقص؛ فإن العين الموهوبة لو تلفت، لم يجد الواهب رجوعاً بشيء إجماعاً، فنقصان الصفة يؤخد من المأخد الذي يُتلقَّى منه فوات الموصوف.
5862- وإن زادت العينُ الموهوبة، لم تخل الزيادة إما أن تكون متصلة وإما أن تكون منفصلة، فإن كانت منفصلة، فهي متروكة على المتهب مُبقَّاة على ملكه، لا رجوع فيها، وحق الرجوع ثابت في العين الموهوبة.
__________
(1) واضح أن قوله: " من الابن " معناه للابن.(8/425)
5863- وإن كانت الزيادة متصلة ككبر الغلام، وإرقال (1) الوديّ، وسِمَنِ الهزيل، وما في معانيها، فهذه الزيادات لا أثر لها، وحق الرجوع قائم في العين على ما هي عليه. ثم إذا رجع في العين تبعتها الزوائد المتصلة، وهذا قياس الأصول.
ولا أثر للزيادة [المتصلة] (2) إلا في الصداق عند تطليق الزوج زوجته قبل المسيس، على ما سيأتي شرح ذلك في كتاب الصداق، إن شاء الله عز وجل.
5864- ولو وهب جارية حبلى، وبقيت، كذلك إلى أن رجع، فالجارية تنقلب إلى الراجع حاملاً، كما خرجت [في] (3) الهبة والإقباض عن ملكه حاملاً.
وإن كانت حائلاً عند الإقباض، فعلقت، وولدت قبل الرجوع، فالولد متروك على المتَّهِب، وحق الرجوع مختص بالأم.
وإن كانت حاملاً عند القبض، ووضعت قبل الرجوع، أو كانت حائلاً عند القبض، وعلقت بمولود رقيق، واتفق الرجوع قبل وضع الحمل، ففي الطريقين قولان: وقد قدمنا تحقيق ذلك ونظيرَه في الرهون والبياعات، ومسائل التفليس، وكل ما ذكرناه إذا اطرد الشرطان: أحدهما - بقاء المتَّهِب، والآخر - اطراد الملك المستفاد بالهبة.
5865- فإن مات المتهب، وخلفه ورثته، فلا رجوع بعد موت المتَّهِب إجماعاً؛ فإن الملك تحوّل إلى الورثة، وإنما يثبت الرجوع على الموهوب منه، وهذا يعارضه أن الواهب لو مات، سقط حقه من الرجوع، ولم يخلفه الورثة، ولم يقوموا مقامه.
هذا منتهى ما أردناه.
5866- وأما اطراد الملك المستفاد من الهبة، فالتفصيل فيه أن ملك المتهب لو زال عن رقبة الموهوب، فلا رجوع على المتهب، إذا كان لا يصادف العينَ الموهوبة في
__________
(1) إرقال الودي: أرقل النخل طال، والودِيّ والوَدْيُ: صغار الفسيل، فالمعنى: كنموّ
الفسائل، حثى تصير نخيلاً (الزاهر، والمعجم) .
(2) في الأصل: المفصلة.
(3) زيادة من (د 1) ، (ت 3) .(8/426)
ملكه؛ فإن مما يجب القطع به أن حق الرجوع لا يتعلق إلا بعين الموهوب، [فلو] (1) زال ملك المتهب زوالاً، لا يتحقق عوده مثل أن يَعتِق العبدُ الموهوب، فقد انقطع حق الرجوع بالكلية.
ولو استولد الجارية الموهوبة، كان الاستيلاد فيها بمثابة العتق؛ فإن المستولدة في حكم المستهلكة.
5867- ولو زال ملك المتهب عن الموهوب ببيع أو هبة، ثم عاد، فهل يثبت للواهب الرجوع؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يرجع لمصادفة العين الموهوبة ملكاًً، بحيث يتصور التصرف فيه.
والثاني - أنه لا يرجع؛ لأن الملك المستفاد بالهبة قد زال، وهذا ملكٌ جديد، وقد ذكرنا استقصاء القول في ذلك في كتاب التفليس.
5868- ولو كان وهب عصيراً، فاستحال خمراً، ثم عادت الخمر خلاً، فلا خلاف أن الواهب يرجع، وما تخلل من زوال الملك لا اعتبار به، وسبب القطع بما ذكرناه أن ما تخلل في حكم العارض، فإذا زال، قُدّر كأن لم يكن، والملك على الخل هو الملك الذي كان على العصير، وإنما يختلف الأصحاب إذا زال الملك، ثم حدث عن جهةٍ أخرى.
5869- ولو ارتد المتَّهِب، ثم عاد إلى الإسلام، فإن قلنا: الردة لا تزيل الملك، فلا أثر لها، وإن قلنا: إنها تزيل الملك، فإذا عاد المتّهِب مسلماً، فالمذهب الأصح أن الرجوع يثبت للواهب وجهاً واحداً، قياساً على انقلاب العصير خمراً، ثم انقلابها خلاً.
ومن أصحابنا من يُلحق مسألة الردة بصور الخلاف، ويقول: هي بمثابة ما لو زال ملك المتهب، ثم عاد بهبةٍ أو غيرها من الجهات الضرورية، أو الاختيارية.
5870- ومما يجب الاعتناء بدركه تفصيلُ القول في العوارض التي لا تتضمن زوال
__________
(1) في الأصل: ولو.(8/427)
الملك، ولكنها تتضمّن الحجر، كالرهن المبرم بالقبض، والكتابة (1) الصحيحة، فلا شك أن الراهن يمتنع عليه التصرف في المرهون على حسب ما كان يتصرف من قبل، وكذلك القول في الكتابة، ولكن الملك قائم فيهما.
5871- فنقول: أما إذا رهن المتّهِب العبدَ الموهوب، وأقبض، فنتكلم في استمرار الرهن. أولاً: قال علماؤنا: قد ذكرنا وجهين في أن هبة المرهون على التقدير الذي أوضحناه من قبلُ هل تصح؟ فإن حكمنا ببطلان هبة المرهون، وهو المذهب والقياس، فلا يصح الرجوع من الواهب مع استمرار الرهن.
وإن قلنا: هبة المرهون تصح، فلو رجع الواهب في المرهون، صح رجوعه. ثم ليس المعنيُّ بصحة الرجوع أن الواهب يتسلط على الرهن بالإبطال، فلا سبيل إلى إبطال حق المرتهن، ولكن فائدة تصحيح الرجوع حملُ الأمر على الوقف، فإن مست الحاجة إلى بيع الرهن في دين المرتهن بيعَ فيه، وتبيّن بطلان الرجوع، وإن انفك الرهن، تبيّنا أن الرجوع صح، واكتفينا بما [جرى] (2) من الرجوع حالة استمرار الرهن، ولم نحوج الواهب إلى تجديد الرجوع، هذا فائدة تصحيح الرجوع في استمرار الرهن.
5872- ولو بيع الرهن، فلا مطمع في إثبات حق الرجوع للواهب [بقيمة] (3) الموهوب على المتهب؛ فإنه برهنه تصرف في ملكه، ولا معترض عليه، فلئن أراد الراجع الرجوع بعد لزوم الرهن، فرجوعه موقوف على إمكان الاسترداد، فإذا لم يتفق التمكن منه، فلا معترض على المتهب، وليس المتهب على عهدة وعلقة ضمانٍ بسبب الرجوع من الواهب.
5873- وإن قلنا: لا يملك الواهب الرجوع في العين المرهونة، فإذا انفك الرهن، فالذي يجب القطع به أنه يرجع الآن؛ فإن الملك لم يتحول، وليس ملك
__________
(1) الكتابة الصحيحة: يريد مكاتبة السيد عبده.
(2) في الأصل: جاء.
(3) في الأصل: في قيمة الموهوب.(8/428)
المتهب بعد انفكاك الرهن ملكاًً جديداً، فكان بمثابة انقلاب العصير، وانقلاب الخمر، بل ما ذكرناه في الرهن أوضح؛ لأن ملك المتهب كان [دائباً] (1) دائماً على العين المرهونة، وإنما طرأ حجرٌ، ثم زال، ولو استحال العصير الموهوب خمراً، لم تكن الخمر مملوكة، ثم لما انقلبت خلاً، ثبت الملك، (2 ثم قضينا بثبوت حق الرجوع؛ مَصيراً إلى أن ملك الخمر سببه ملك 2) العصير. وغلط بعضُ الأصحاب فقال: إذا قلنا: لا يرجع الواهب في استمرار الرهن، فلو انفك الرهن، ففي ثبوت حق الرجوع وجهان مرتبان على الوجهين فيه إذا زال الملك [عن] (3) الموهوب وعاد.
ولعل هذا القائل يظن فرقاً؛ من جهة أن التصرف بالرهن، ثم السعي في الفك يتعلق بالاختيار، بخلاف الانقلاب الجاري في العصير.
وهذا [عري] (4) عن التحصيل، فلا [يقعن] (5) به اعتداد، مع القطع بأن الملك بعد الانفكاك -ملكَ الهبة (6) - لم ينقطع. هذا قولنا في الرهن.
5874- فإما إذا كاتب المتهبُ العبدَ الموهوب، كتابةً صحيحة، فالمذهب منعُ بيع المكاتب، فعلى هذا يمتنع الرجوع. وليس يخرّج إمكان الرجوع إلا على التردد الذي ذكرناه في أثناء الرجوع في المرهون، على تأويل التوقف والانتظار، حتى إذا عجز المكاتَب، أو عجَّز نفسه، فيتبيّن أن الرجوع صحيح. وهذا على نهاية البعد.
وما عندي أن من يجوّز هبة المرهون على انتظار الانفكاك يجوّز هبة المكاتب إذا منعنا بيعه؛ فإن الملك في المرهون غيرُ ناقصٍ، ولكن الراهن محجور عليه، والملك في المكاتب ناقص.
__________
(1) دائباً: أي ملازماً مستمراً، وقد حرّفت في الأصل إلى (دابيا) وسقطت من (د 1) ، (ت 3) .
(2) ما بين القوسين سقط من (د 1) .
(3) في الأصل، بين، وفي (د 1) ، (ت 3) : على.
(4) في الأصل: يجري.
(5) في الأصل: يقص.
(6) " ملك الهبة " بدل من قوله: "الملك" و" لم ينقطع " خبر لقوله: " بأن الملك "، فالمعنى: مع العلم بأن ملك الهبهَ -بعد انفكاك الرهن عنها- لم ينقطع.(8/429)
5875- وإن جوزنا بيع المكاتب على قولٍ بعيد، فالبيع فيه لا يتضمن نقض الكتابة ويؤول [فائدته] (1) إلى نزول المشتري منزلة البائع في قبض نجوم الكتابة واستحقاقِها، فالبيع وارد على الرقبة والفائدة عائدة إلى النجوم، فعلى هذا التأويل لوْ أراد الواهب الرجوع، تطرق الاحتمال إليه، من جهة أنه في التحقيق راجع في النجوم ويمكن أن يقال: يصح رجوعه نظراً إلى مورد [النجوم] (2) ، وهو الرقبة.
5876- ولو عجّز المكاتب نفسه وانقلب رقيقاً، وقد قدرنا صحة القول بالرجوع، وقع الاكتفاء بالرجوع السابق، كما ذكرناه في [المرهون] (3) .
5877- ولو آجر المتهب العبدَ الموهوبَ، فإن قلنا: المستأجَر يباع، فيصح من الواهب الرجوع في عينه، والإجارة باقية إلى منتهى مدتها.
ولو قلت: لا يصح بيع المستأجر، وصححنا الرجوع في المرهون، على تقدير التوقف وانتظار ما يكون، فيصح الرجوع في العين المكراة، ولا حاجة إلى تقدير [التوقف] (4) وليس إلا تمكين المستأجِر من استيفاء حقه من المنافع، وملك الراجع مستقر في رقبة المستأجَر، وإن منعنا الرجوع في [المرهون] (5) ، أمكن أن نتردد في الرجوع في المستأجَر، لاطراد الملك فيه، واختصاص حق المستأجِر بالمنافع.
5878- ويخرّج على هذا تردد فيه إذا وهب عبداً وأقبضه، ثم أبق من يد المتهب، فرجع الواهب في دوام الإباق، ففي صحة رجوعه احتمالٌ ظاهر، وإن كنا نقطع على هذا الطريق بإبطال هبة العبد الآبق؛ فإن الهبة تمليك، فيجوز أن تستدعي قدرة [المالك] (6) على التسليم، والرجوعُ وإن كان تملكاًً جديداً، فهو جارٍ على مذهب
__________
(1) في الأصل: حرّفت إلى (فالدّية) .
(2) في الأصل: الرجوع.
(3) في الأصل: الرهون.
(4) في الأصل: الوقف.
(5) في النسخ الثلاث: " الملك " وهذا تقدير منا نرجو أن يكون صواباً.
(6) في الأصل: المستأجَر.(8/430)
البناء، ولا يتوقف عَوْدُ ملك الراجع [على] (1) قبضه ما رجع فيه وحصول الملك في ابتداء الهبة يتوقف على إقباضِ الواهب.
فهذا منتهى القول في الأحوال التي تطرأ على الموهوب فيما يتعلق بحق رجوع الواهب.
فأما
الفصل الثالث
فمضمونه ما يقع الرجوع به من الألفاظ والتصرفات.
5879- فأما الألفاظ، فكل ما يعطي معنى الرجوع، فهو جارٍ صحيحٌ، فإذا قال: رجعت فيما وهبت أو استرجعته، أو نقضتُ ملكك فيه، أو رددته إلى ملكي، فكل ذلك رجوع.
5880- فأما إذا أقدم الواهب على تصرفٍ يستدعي ملكَ المتصرف فيه، كالبيع والعتق، فحاصل المذهب أوجه: أحدها - أن البيعَ والعتق ينفذان من الراجع، ويتبين انقلابُ الملك إليه قُبَيْل نفود التصرف.
ومن أصحابنا من قال: لا ينفد البيعُ والعتقُ. وهو الأصح؛ فإن ملك المتَّهِب تامٌّ، فلا يجوز الهجومُ على التصرف فيه من غير تقديم الرجوع.
والوجه الثالث - أن العتق ينفد متضمناً للرجوع، والبيعُ لا ينفذ، والفرق بينهما اختصاص العتق بسلطان النفود عن البيع.
5881- ولو وطىء الواهب الجارية الموهوبةَ، فلا شك في تحريم الوطء، وإن قصد به الرجوع؛ لاستحالة إباحة وطء الجارية لشخصين. ولا خلاف أن المتهب يستبيح وطأها قبل الرجوع؛ فتجويز الإقدام على الوطء في حق الواهب محال. ولكن إذا جرى الوطء حراماً، فالمذهب أنه لا يصح الرجوع به؛ فإنه تصرفٌ ممنوع، وليس
__________
(1) في الأصل: إلى.(8/431)
كالبيع والعتقِ، إذا جعلناهما رجوعاًً؛ فإنا نسوِّغ الإقدام عليهما.
وأبعد بعض أصحابنا فجعل الوطء رجوعاً، كما أنه يقع فسخاً من البائع في زمان الخيار، والأصح أنه لا يكون رجوعاًً.
ثم إذا اتصل بالوطء الإعلاق، فالذي يظهر عندنا القطعُ به أن الاستيلاد لا يكون رجوعاً. فإن حكمنا به لأن نفود استيلاد الأب لا يتخصص بالجارية الموهوبة؛ بل هو جارٍ في كل جارية قِنَّةٍ للابن. فإذا كان حصول الملك بهذه الجهة لا يختص بالجارية الموهوبة، وتقدير الرجوع فيها، فلا (1) أثر له في الرجوع.
وفيه احتمالٌ على بُعْد.
ثم من يقدر الاستيلاد رجوعاً، ففائدته أنه يثبت الاستيلاد، ولا يغرم قيمة الجارية للموهوب منه، وهذا إذا لم نجعل عين الوطء رجوعاً. فإن جعلناه رجوعاً، لم يخف الحكم، ثم إن قلنا: الوطءُ ليس رجوعاًً، وقدرنا الاستيلاد على الاحتمال البعيد رجوعاًً، فالوطء السابق المتقدم [على العلوق] (2) يصادف ملك المتهب، فيتعلق به المهرُ، كما يتعلق بوطء الإنسان جاريةَ غيره.
وقد انتهى غرضُ الفصول، وضبط الأصول، ونحن نُتبعها على عادتنا بفروعٍ.
فرع:
5882- إذا وهب من ولده شيئاً، [فوهبه] (3) الولدُ من ولده (4) ، وأقبض، فالمذهب الصحيح أن الجدّ لو أراد الرجوعَ، لم يجد إليه سبيلاً، إلا أن يعود الموهوب إلى ملك الواهب، فيجري الخلاف الممهد.
وأبعد بعض أصحابنا فجوّز للجد الرجوعَ على الحافد، تفريعاً على الأصح في أن الجد يرجع رجوعَ الأب. وهذا القائل يقول: لو وهب من حافده ابتداءً، لرجع، فليكن الأمر كذلك، وإن لم تصدر الهبة منه في حق الحافد. وهذا ليس بشيءٍ، ولكن أورده العراقيون، وغيرهم، من نقلة المذهب.
__________
(1) جواب شرط، لقوله: فإن حكمنا به.
(2) ساقط من الأصل.
(3) في النسخ الثلاث: فوهب. والمثبت تقدير منا، رعاية لاستقامة المعنى.
(4) (د 1) ، (ت 3) : "والده". وهو سبق قلم من الناسخ.(8/432)
فرع:
5883- إذا أفلس المتَّهب، وأحاطت به الديون والعين الموهوبة قائمة، فهل يثبت للواهب الرجوع؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - أنه يرجع ويستردها ملكاًً، كما يرجع البائع إذا أفلس المشتري بالثمن، وليس طريان الإفلاس بمثابة طريان الرّهن من الموهوب منه؛ فإن ذلك تصرّفٌ من قبله في ملكه تضمَّن حجراً عليه، وإثباتَ حقٍّ للمرتهن، بخلاف الإفلاس، والدليل عليه أن المشتري لو رهن ما اشتراه، لم يملك البائع الرجوع منه، ولو أفلس، كان البائع أولى بالرجوع في عين المبيع من سائر الغرماء.
والوجه الثاني - أنه لا يثبت الرجوع للواهب، لتعلق حق الغرماء بالعين الموهوبة، [وليس رجوع الواهب كرجوع البائع؛ فإن للبائع تعلقاً بالبيع، لمكان الثمن، ولا حق للواهب في العين الموهوبة] (1) . ورجوعه ابتداء تملُّكٍ أثبته الشارع على خلاف القياس، وشرطه ألا يتعلق به حق متأكد لغير المتهب.
فصل
مشتملٌ على الهبة العرية عن الثواب والهبة المشتملة عليه
5884- فنقول: الهبة تنقسم ثلاثة أقسام: أحدها - هبةٌ مقيّدة بإسقاط الثواب.
والأخرى هبة مطلقة لا تعرّض فيها لثبوت الثواب، ولا بسقوطه.
والأخرى هبة مقيدة بشرط الثواب.
5885- فأما الهبة المقيدة بنفي الثواب، فهي التبرع المحض وفاقاً، ولا ثواب للواهب، مع التصريح بالنفي.
5886- وأما الهبة المطلقة، فقد أجمعوا على أن هبة الكبير ذي الدرجة ممن هو دونه (2) لا تقتضي ثواباً؛ فإن اللفظ لا يقتضيه، وحكم العرف والعادة لا يقتضيه؛ فإن الكبير لا يستثيب من الصغير.
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(2) واضح أن المقصود إعطاء الكبير لمن هو دونه.(8/433)
فأما إذا وهب الرجل ممن هو أكبر منه، وأطلق الهبة، ففي المسألة قولان:
أحدهما - أنه لا يثبت الثواب في مطلق الهبة؛ لأن لفظ الهبة مصرَّحٌ بالتبرع، وهو مناقض لاقتضاء العوض.
والقول الثاني - أنه يثبت الثواب حملاً لذلك على العرف الجاري بين الناس، والعرف نازل منزلة التقييد باللفظ.
ولو دارت الهبة بين قرينين متساويين في الدرجة، أو متدانيين، فقد ذكر العراقيون أن الهبة لا تقتضي ثواباً بين الأقران والأمثال، كما لا تقتضيه [إذا كان الواهب] (1) أعلى درجة من المتهب.
والذي ذكره المراوزة أن هذا يلتحق بهبة الرجل الصغير القدر من الرفيع الدرجة؛ فإن الأقران يغلب فيهم طلب الثواب إذا تهادَوْا، والذي اختاره المراوزة أمثل.
5887- ولم يفصل أحدٌ من أصحابنا بين أن يقول الواهب: وهبت [أو] (2) تبرعت، وبين أن يقول: ملكتك هذا. والهبة تصح بلفظ التمليك، وكان لا يبعد الفصل بين اللفظين، وإلحاق لفظ الهبة والتبرع بما يتقيد بنفي الثواب، بخلاف لفظ التمليك، والاحتمالُ في الفصل بين اللفظين ظاهر، وسيتبيّن بالتفريع.
فإن قلنا: لا يثبت الثواب في الهبة المطلقة، فلا كلام.
5888- وإن حكمنا بأن الثواب يثبت، ففي قدره أقوال ذكرها الأئمة بطرقٍ (3) مختلفة: أحدها - أن الثواب ينبغي أن يكون على قدر قيمة الموهوب. وهذا أقصد المذاهب وأقربُها من الضبط، ووجهه بيّن؛ فإنه إذا لم يجر لمقدار الثواب ذكرٌ، ولا بد من ضبطٍ يقف عنده، فأقرب معتبر قيمة الموهوب.
والقول الثاني - أنه إن استمسك المتَّهِب بالموهوب، تعين عليه أن يُرضي الواهب، ولا موقف إلا عند رضاه.
__________
(1) سقط من الأصل.
(2) في الأصل: (و) .
(3) في الأصل: في طرقٍ.(8/434)
وقد روي: " أن أعرابياً وَهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعيراً، فأثابه عليه بعيرَيْن، فلم يرض، فزاده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يرض حتى آذى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: عزمت ألا أقبل الهدية إلا من قرشي " (1) .
وهذا القائل يقول: بناء ثبوت الثواب على العادة، ولم تجر العادة برضا الواهب بقدر قيمة الموهوب؛ فإنه لو حاول ذلك، تمكن من الوصول إليه بالبيع، ثم لا ضبطَ وراء ذلك إلا طلب رضا الواهب، غير أنه إذا أبى، وكان لا يرضى، فللموهوب منه ردُّ الموهوب، وللواهب الاسترداد قهراً، وهذا يدرأ سؤال من يقول: قد لا يرضى الواهب إلا بمالٍ عظيم القدر، فيقال: وجهُ دفع ذلك ردُّ الموهوب.
القول الثالث - أنه يقع (2) الاكتفاء بأدنى ما يتمول؛ إذ لا تقدير، وليس في العادة أيضاًً ضبطٌ، ولا وجه لتعليق الأمر بالرضا، فنجعل كأن الثوابَ مطلق وننزله على أقل الدرجات.
والقول الرابع - أنه يُرجع في هذا إلى العادة، فكل ما يعدّ ثواباً، وإن كان أنقصَ قيمةً من الموهوب، وجب على الواهب الاكتفاءُ به. وهذا القائل لا يرضى بالأقل، ولا يتبع رضا الواهب، ولا يعتبر القيمة، بل يقول: كل ما يتساهل الناس في مثله في باب الثواب، تعيّن قبوله، ووجب الاكتفاء به.
وهذه الأقوال لا تُلفى منصوصة، وأنا أراها أوجهاً من أجوبة ابن سريج، وليس يخلو كلام الشافعي عن الإشعار بمعظمها.
التفريع:
5889- إن قدرنا الثواب بمبلغ قيمة الموهوب، فلو أراد المتَّهِب أن يرد الموهوبَ في عينه، فهذا فيه احتمال، ويتجه جدّاً أن يقال: يتعين الثواب؛ فإنه
__________
(1) حديث: " أن أعرابياً وهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ... " رواه أحمد: 1/295، وابن حبان في صحيحه: 8/100، ح 6349، 6350 كلاهما عن ابن عباس. وهو أيضاًً عن أبي هريرة، عند أبي داود: البيوع، باب في قبول الهدايا، 3/290، ح 3537، والترمذي: المناقب، باب في ثقيف وبني حنيفة، 5/686، ح 3945، والنسائي: العمرى، باب عطية المرأة يغير زوجها، 6/279، ح 3759. وانظر التلخيص: 3/158 ح 1365.
(2) (د 1) : " لا يقع ". وهو وهم من الناسخ.(8/435)
مضبوط، ويظهر أيضاًً جواز أن يتسلط على الردّ، حتى يقال: لا قرار للهبة إلا بأن يتفق بذلُ الثواب. وإذا رأينا لزوم الهبة، فلو أراد أن يردّ الموهوبَ ثواباًً، فهذا فيه احتمال.
والأوجه ألا يجوز؛ فإنّ هذا ليس معتاداً في الثواب، [وتحويمنا] (1) في أصل الثواب، وتفصيلة على العادة، ولا خلاف أنه إذا أراد الثواب، لم يتعين عليه جنسٌ من الأجناس.
وإن فرّعنا على طلب الرضا، تخيّر الواهب والموهوب جميعاً؛ فهذه هبةٌ جرى القبض فيها، والخيار ثابتٌ في نقضها من الطرفين، وسبب ذلك تطرّق الثواب إلى الهبة وخروجُها عن حقيقة التبرع المحض.
وإن رأينا الاكتفاء بأقل ما يتمول، ففي تخير الواهب احتمال ظاهر، وإذا أثاب بقدر قيمة الموهوب، فلا خيار للواهب على هذا الوجه الذي انتهينا إليه.
وإن فرعنا على اتباع العادة في قدر الثواب، ولم نجزم قولَنا بلزوم قدر القيمة، فإن أثاب بقدر القيمة، فلا خيار، وإن أثاب بما ينقص عن قيمة الموهوب، ولكن يُعتاد مثلُه ثواباً، فالظاهر أنه لا خيار، وإن جرى نزاعٌ في حكم العرف، رفع الأمر إلى الحاكم، ورجع إلى أرباب العرف.
فهذا منتهى ما أردناه الآن في الهبة المطلقة.
5890- فأما القسم الثالث - وهو تقييد الهبة بالثواب، فلا يخلو الثواب إما أن يكون مقدراً، وإما أن يكون مبهماً.
فإن كان مقدراً، فالأصح الصحةُ. وذكر بعضُ الأصحاب قولاً في الفساد؛ بناءً على أن الهبة المطلقة لا تقتضي الثوابَ، ومصيراً إلى أن الجمع بين الهبة وبين إلزام الثواب تناقضٌ. وهذا وإن كان متجهاً بعض الاتجاه، فهو غريب في الحكاية.
وإذا صححنا وأثبتنا الثواب فقد اختلف أصحابنا في أن ذلك: هبةٌ أو بيعٌ؟ فذهب المحققون إلى أنه بيعٌ في جميع أحكامه، ولا يتوقف ثبوت الملك على الإقباض، ويتعلق به عُهَدُ البيع، واستحقاقُ الشفعة.
__________
(1) في الأصل: وتحويمها.(8/436)
ومن أصحابنا من قال: هو على حكم الهبة، حتى لا يلزم إلا بالإقباض، ولا تثبت الشفعة فيه.
وهذا بعيدٌ جداً، ذكره بعض المصنفين، ورمز إليه صاحب التقريب وغيره. ولو صح، فلا حيلة في دفع الشفعة أوقعُ (1) منها، فإن معظم الحيل المذكورة في دفع الشفعة تتضمن خطراً على من يتمسك به، كما قررناه في آخر الشفعة. وهذا لا خطر فيه. هذا إذا كان الثواب مُقدَّراً.
5891- فأما إذا كان الثواب مجهولاً، غير مقدر، فقد اختلف ترتيب الأئمة، فقال قائلون: إن حكمنا بأن مطلق الهبة لا يقتضي ثواباً، فذكر الثواب المجهول يُفسد الهبة، وفي ذكر الثواب المعلوم خلافٌ، كما قدمناه. وإن قلنا: يثبت الثواب في الهبة المطلقة، فإذا ذكر من غير تقدير، صحت الهبة؛ فإنّ ذكره كذلك يضاهي حكمَ الإطلاق، والتصريح بما يقتضيه مطلق العقد غيرُ ضائرٍ.
[و] (2) قال العراقيون لو ذكر ثواباًً معلوماً، ففي صحة الهبة خلاف، [ولو] (3) ذكره مجهولاً، صح؛ تفريعاً على أن الهبة المطلقة تقتضي ثواباً.
فجعلوا إعلام الثواب حيث انتهى الكلام إليه أولى باقتضاء الفساد، وعللوا ذلك بأن إعلامه إخراجُ الهبة عن حيّز بابها، وإلحاقٌ لها بالبيع المحض، وعقد البيع المحض بلفظ الهبة فاسدٌ. فأما الثواب المبهم، فلا يليق بالمعتاد في الهبة.
وقالوا: لما كان التأبيد لائقاً بمقصود النكاح مع الجهل بمنقرض العمر، كان هذا النوع من الجهل شرطاً في صحة النكاح. هذا ترتيبٌ.
وقال قائلون: إعلام الثواب أولى بالتصحيح. وإن ذكر الثواب مجهولاً، فهو أولى بالفساد؛ لأنه لو أُطلق احتُمل الجهل في التوقّع، وإذا ذكر، فقد ألحق بالأعواض، فيجب الوفاء بشرط العوض.
__________
(1) يشير إلى ما جرى عليه بعض الفقهاء من تقدير صورٍ يفترضونها، تمكِّن المشتري من دفع الشفعة عما اشتراه، حتى يخلص له، ويستقر في يده.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) في الأصل: وفي ذكره.(8/437)
وهذا له وجه. وما ذكره العراقيون أفقه.
فرع:
5892- قال العراقيون: إذا صحت هبةٌ بثواب وسلم المتّهب الثواب إلى الواهب، فوجد به عيباً. قالوا: له ردّه. فإذا ردّه، استرد الموهوب بعينه، إن كان باقياً، وإن كان تالفاً، ذكروا فيه وجهين: أحدهما - أنه لا يرد العوض، ولا حقَّ له أصلاً؛ فإن الموهوب إذا تلف، بطلت الحقوق فيه، وانقطعت العلائق. والدليل عليه أن الأب إذا وهب لولده شيئاً، وسلمه، فتلف في يده لم يملك الرجوعَ وتغريمَه القيمة.
والوجه الثاني - أنه يرد الثوابَ، ويسترد قيمة الموهوب.
وهذا الذي ذكروه (1) كلامٌ مختلط؛ فإنهم إن فرضوا هذا في الهبة المطلقة، أو في هبةٍ ذُكر فيها ثواب مطلق مجهول، فلا يقع الثواب معيّناً، بل يقع في ذمة المتهب، وسبيل ما وقع في الذمة إذا صادف القابض به عيباً أن يُستبدل، فأما أن يُردّ وتُسترد العين، فلا معنى له. وهذا بيّن لا خفاء به، ولا اتجاه لما ذكروه إلا في الثواب المعين. ولو فرض تعيين الثواب، خرج هذا على ما قدّمناه من أن الهبة تلتحق بالبيع المحض، فإذا التحقت به، فلا معنى لذكر الخلاف عند تلف الموهوب، بل يجب القطع بالرجوع إلى القيمة عند تلف الموهوب.
وما ذكره الأصحاب في المسلك البعيد، من افتقار الهبة إلى القبض في إفادة الملك مع ذكر العوض المقدّر، أو المعيّن بعيدٌ، ثم إنما ذكر الأصحاب الخلاف في هذا الحكم؛ فإن القبض من خصائص الهبة وفي الشفعة (2) ، فإنها لا تثبت إلا في المعاوضات المحضة، فإن تعدى متعدٍّ هذين الحكمين، وطرد الخلاف الذي ذكره العراقيون في تلف الموهوب، كان في نهاية البعد؛ فإن من طلب عوضاًً وقدّره، استحال أن يسقط تبعيّةً في أحكام الأعواض، هذا لا سبيل إلى احتماله، ولا مساغ له أصلاً.
__________
(1) في (د 1) : ذكره.
(2) كذا في النسخ الثلاث: " وفي الشفعة " ولعل الأولى: " والشفعة " بدون (في) .(8/438)
5893- وقد رأيت لبعض الأصحاب تردداً في أن الأب إذا وهب من ابنه بثواب قدّره، فهل يملك الرجوع في الهبة؟ هذا يخرّج على أن المعاملة بيعٌ، أو هبةٌ؟ فإن قلنا: إنها بيعٌ، فلا رجوع. وإن قلنا: فيها معنى الهبة، فالرجوع محتمل، ثم إن رجع في الموهوب، ردّ العوض.
وهذا وإن كان بعيداً، فله اتجاه على حال، وأما ما ذكره العراقيون، فلا وجه له أصلاً كيفما فرضنا الهبة.
فرع:
5894- إذا وهب حلياً من ذهب أو فضة، وثبت في الهبة ثواب مطلق، على [ما تقدّم] (1) ، فما دام المجلس جامعاً، فله أن يُثيبه (2) نقداً، بحيث لا يؤدي إلى الربا.
فإن كان المبذول أقلَّ، أو أكثر، فهذا فيه احتمال ظاهر، خارجٌ على ما ذكرناه، من أن حقيقة الأعواض هل تثبت؟ والذي مال إليه معظم الأصحاب، وقطع به العراقيون: أنه يجب محاذرة صورة الربا؛ فإن الثواب على كل حالٍ عوضُ الموهوب، ويحتمل عندنا على بعدٍ خلافُ ذلك. والظاهر ما ذكروه.
ووجه الاحتمال أن باذل الثواب في حكم واهبٍ جديد، وكأنه يقابل هبةً بهبة، ولولا ذلك، لبطلت حقيقة الهبة.
5895- ولا خلاف أن الثواب إذا لم يجر له ذكر، أو جرى ذكره مطلقاًً مجهولاً، فالملك في الموهوب موقوف على الإقباض، وإنما التردد في الثواب المقدّر، أو المعين.
وهذا يتطرق إليه خلل، من أنا لا نشترط في الثواب لفظ [الثواب] (3) وإجراءَ الإيجاب والقبول، وعن هذا لزم ظهور ما ذكر العراقيون (4) ، حتى لا يُعتدَّ بغيره من المذهب.
__________
(1) (د 1) ، (ت 3) : تقرر.
(2) في النسخ الثلاث: يثبته. وهو تحريف ظاهر. وانظر فتح العزيز: 6/332.
(3) في الأصل: الهبة. وعبارة الرافعي التي نقلها عن إمامنا: " أنا لا نشترط في الثواب لفظ العقد إيجاباً وقبولاً " (ر. فتح العزيز: 6/333) .
(4) ما ذكر العراقيون: أي آنفاً من وجوب محاذرة صورة الربا.(8/439)
5896- ومما ذكروه أنه إن فارق المجلس، فإن أثابه عَرْضاً، أو ثوباً، جاز. وإن أثابه نقداً، لم يجز؛ فإنه يكون صَرْفاً، ومن شرط الصرف تقابض العوضين في المجلس، وهذا الذي ذكروه حسنٌ، وفيه من طريق المباحثة الاحتمال البعيد. والله أعلم.
فرع:
5897- إذا وهب [شيئاً] (1) مطلقاًً، وحكمنا بأن مطلقَها يقتضي الثوابَ، ونزَّلنا الثواب على مقدار القيمة، فعلى هذا لو قبض الموهوب، فزادت في يده زيادة متصلة، أو نقصت، فالاعتبار بأية قيمة؟
ذكر صاحب التقريب تفصيل الزيادة والنقصان.
فنبدأ بالزيادة، ونفرض ارتفاع القيمة بسببها، قال صاحب التقريب: في المسألة وجهان: أحدهما - أنا نعتبر قيمة يوم القبض؛ فإن وفى به المتَّهِب، فقد خرج عما عليه.
والوجه الثاني - أنا نعتبر قيمة الموهوب يوم بذل الثواب؛ فإن بذلها، خرج عن العهدة، وإلا كان الثواب قائماً، ولا خلاف أن الزيادة بعد بذل القيمة لا حكم لها.
هذا حكم الزيادة.
أما إذا قبض الموهوب، ونقص في يده بعيبٍ طرأ، ففي المسألة الوجهان في أن الاعتبار بقيمة يوم القبض، أو بقيمة يوم بذل الثواب؟ ولكن إن اعتبرنا قيمةَ يوم بذل الثواب، وهذا أضعف الوجهين هاهنا؛ لأن فيه بخساً، وإجحافاً بالواهب، فلا كلام.
وإن اعتبرنا قيمة يوم القبض، فإن بذلها المتَّهب، فلا كلام، وإن امتنع، وَرَدَّ الموهوبَ، فقد ذكرنا في هذا المقام تردّداً في الرَّد، وجرى صاحب التقريب على الرد، فإن رد الموهوب، فهل يغرم أرش النقص؟ فعلى وجهين ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - أنه يغرَم أرش النقص.
والثاني - لا يغرم؛ فإن الهبة ليست عقد ضمان، وهذا التفريع يُنبه على حقائق الأصول.
__________
(1) ساقطة من الأصل.(8/440)
فصل (1)
5898- قد ذكرنا أن للأب الرجوعَ فيما وهب لولده، ونحن نقول: لا يستحب للإنسان أن يخص بعضَ أولاده بنِحلةٍ؛ فإن ذلك قد يكون سبباً لقطيعة الرحم، وقد يحمل المحروم على خلاف البر.
وإذا استحسنا التسوية فيهم، فقد ذكر شيخي وجهين في الابن والبنت: أحدهما - أنا نرعى في الاستحباب التسوية بينهما.
والثاني - أنا نجعل النحلة على نسبة الميراث: للذكر مثل حظ الأنثيين.
وقد ذكر. العراقيون هذين المذهبين عن السلف، ولم يجعلوهما وجهين للأصحاب.
والجملة أن المرعيَّ في هذا طلبُ الرضا، والأمر يقرب مأخذه فيما يتعلق بالاستحباب.
5899- ومما ذكره الشيخ أبو علي في شرح التلخيص أن ابن سريج ذكر وجهاً أن الأب إنما يملك الرجوع إذا نوى بهبته استجلابَ مزيدٍ في البر، أو دفعَ عقوق، فإذا لم يحصِّل غرضَه؛ فيرجع إذ ذاك، فأما إذا أطلق الهبة، ولم يقصد هذا، فلا رجوع له.
وهذا خرمٌ عظيم، وخروج عن المذهب، ولهذا لم أذكره في سياق فصول رجوع الوالد فيما وهب.
فرع:
5900- إذا ملّك الرجل رجلاً شيئاً، وأقبضه إياه، ثم اختلفا، فقال القابض: اتهبتُه، ووهبتنيه، وقال المقبض: قد بعتُه منك بكذا، وسلمته إليك مبيعاً، والثمن عليك؟ ذكر صاحب التقريب قولين: أحدهما - أن القول قول المتَّهِب؛ فإنهما اتفقا على ملكه، والمُقبض يدّعي عليه عوضاً، والأصل براءة ذمته منه، فقد
__________
(1) (د 1) ، (ت 3) : فرع مكان (فصل) .(8/441)
ثبت الملك وفاقاً وآل الخلاف إلى ادعاء شغل الذمة، والأصل براءتها.
والقول الثاني - أنه لا يثبت الملك مجاناً؛ فإن القول قول المالك في سبيل إزالة الملك، فيتحالفان، وينفي كل واحدٍ منهما بيمينه ما ادعاه صاحبه.
ثم حكم التحالف انتفاء الهبة، وانتفاء العوض المدّعى، ونتيجة ذلك ردُّ العين إلى المقبض.
وهذا يلتفت على تعذر (1) عوض العين. واليأس منه في الحال.
5901- وما أطلقه هذا القائل من التحالف ليس على قياس التحالف المذكور في اختلاف المتبايعين في مقدار الثمن على ما تفصّل [المذهب] (2) فيه؛ فإن كل واحد من المتداعيين في هذه المسألة يحلّف صاحبه على نفي ما يدعيه عليه، فإن حلف المقبض على نفي الهبة، وحلف القابض على نفي الثمن، كان سبيل رد العين على المقبض بعد إقراره بأنه قد ملّك القابضَ العينَ، وسلّمها إليه قريباً من استرداد المبيع ممّن قبضه، تفريعاً على أن البائع مأمور بتسليم المبيع أولاً، إذا امتنع عن تأدية الثمن.
وقد ذكرنا نص الشافعي، في ذلك في كتاب البيع، وتصرُّفَ الأصحاب فيه، ولعل الظاهر أنه ينفرد المسترد في مسألتنا بفسخ البيع. وإذا كان كذلك، لم يتعرض له، ولم يقل: افسخ البيع أولاً، إذا كان الفسخ مما ينفرد به، فيؤول ذلك إلى الحكم الواقع بين العبد وبين [ربه] (3) .
فليتأمل الناظر هذا الموضع.
وهذا حُكْمُنا على الظاهر، فإن كان مدعي البيع صادقاً في علم الله تعالى، فالحكم ما ذكرناه ظاهراً وباطناًً، وإن كان مدعي الهبة صادقاً، فمدعي البيع ظالمٌ باسترداد العين، والعين مبقّاة على ملك المتَّهب القابض باطناً.
وقد ذكرنا في تحالف المتبايعين قولاً: أن الحالف يجمع بين النفي والإثبات،
__________
(1) ساقطة من (د 1) ، (ت 3) .
(2) ساقطة من الأصل.
(3) في الأصل: كلمة غير مقروءة، رسمت هكذا (دية) .(8/442)
وذكرنا تفصيلاً فيمن نبدأ به، وأوضحنا انفصال التحالف في ذلك الموضع عن غيره، وهاهنا كل واحد يحلف على النفي، والمدعي على الحقيقة ابتداء [هو الذي] (1) يدعي البيع والثمنَ، ثم صاحب اليد بعد ذلك ينتصب مدعياً.
هذا منتهى القول في ذلك.
***
__________
(1) في الأصل: والذي.(8/443)
كتاب اللقطة
5952- الأصل في أحكام اللقَطة ما روي عن زيد بن [خالد] (1) الجهني: " أن رجلاً أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فسأله عن اللقَطة، فقال: اعرف عِفاصها ووِكلاءها، ثم عرّفها سنة، فإن جاء صاحبها، وإلا فشأنك بها. فقال السائل: ما تقول في ضوالّ الغنم يا رسول الله؟ فقال: هي لك، أو لأخيك، أو للذئب، فقال: ما تقول في ضوالّ الإبل؟ قال: فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى احمرَّت وجنتاه، فقال: مالَكَ ولها، معها حذاؤها، وسقاؤها، ترد الماء، وتأكل الشجر؛ ذَرْها، حتى يلقاها ربُّها ".
نقل المزني أول الحديث، ثم عطف عليه، وقال: وكذلك البغال، والحمر كالإبل، ولم يَجْر ذكر الإبل (2) .
5903- واتفق المسلمون على قاعدة الكتاب وإن اختلفوا في التفصيل، والأصلُ أن من وجد لقطة في مضيعةٍ في دار الإسلام، وأخذها- عليه أن يعرّفها سنة، فإن جاء صاحبها في سنة التعريف، فذاك، وإلا فهو بالخيار بعدها بين أن يحفظها أمانةً على مالكها، وبين أن يتملكها، على شرط العوض، تملُّك القروض.
وذهب داود إلى أنه يتملكها، ويغرَم عوضها.
5904- ثم إذا رام الملتقط التملكَ، وكان التقاطُه على هذا القصد ابتداءً، فقد اختلف أصحابنا فيما يقع به ملك الملتقط في اللقطة: فذهب بعضهم إلى أن الملك يحصل بنفس مضي السنة. وهذا غريبٌ ضعيف.
__________
(1) في نسخة الأصل وغيرها: "زيد بن أسلم" وهو وهمٌ توارد عليه النساخ، وسيذكره الإمام على الصواب بعد ذلك. والحديث متفق عليه. (ر. اللؤلؤ والمرجان: 433، ح 1123) .
(2) ولم يجر ذكر الإبل أي في الجزء الذي ذكره المزني من الحديث.(8/445)
وقال بعضهم: يحصل الملك بانقضاء سنة التعريف، وقصد التملك.
وقال بعضهم: لا بد من التلفظ بالتملك.
وقال بعضهم: لا بد من مضي السنة، ولفظِ التملك، والتصرفِ الذي يزيل الملك.
وهذا يقرب من الخلاف المذكور في أن المستقرض هل يملك القرض بنفس الإقراض والقبض، أم يتوقف حصول ملكه على تصرفٍ منه مزيل للملك، (1 ثم يَبين أن الملك انتقل إليه قبيل التصرف؟ فيه اختلافُ قولٍ، قدّمنا ذكره في أحكام القروض 1) .
ونحن نوجه هذه الوجوه، ثم نذكر حقائقها، وما ينشأ منها: أما من صار إلى أن مضي السنة يُثبت الملك، فإنه يستدل بما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في بعض الروايات: " فإن جاء صاحبها، وإلا فهي لك ".
ومن قال: إن الملك يحصل بالقصد، تعلّق بالرواية المشهورة، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: " فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها " وهذا ظاهر في التخيير بين التملك وتركِه.
ومن اعتبر اللفظ، بناه على استبعاد التملك بمجرد النية.
ومن اعتبر التصرف، خرّجه على قاعدة القرض؛ فإن اللقطة تملّك ملك القروض.
هذا بيان الأوجه، وذِكرُ ما يستند إليه كل وجهٍ.
5905- ونحن نقول بعد ذلك: من زعم أن الملك يحصل بمضيّ سنة التعريف إنما يقول ذلك إذا لم يقصد الملتقط حفظَ اللقطة على مالكها، فإن التقط على هذا القصد وعرَّف لهذا، فلا شك أن مضيَّ السنة لا يثبت له الملك. وكذلك لو قصد بالالتقاط التملك، ثم تغير قصدُه في آخر السنة، فانقضت وهو على أن يحفظها لمالكها، فالملك لا يحصل بانقضاء السنة.
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (د 1) ، (ت 3) .(8/446)
ولو التقط ولم يخطر له قصد التملك، ولا قصد الحفظ على حكم الأمانة، وعرّف سنة، فالظاهر عندي أن الملك لا يحصل بانقضاء السنة على هذا الوجه الذي نفرع عليه، وكأن حقيقة هذا الوجه تؤول إلى أن قصد التملك في الابتداء هل يفيد الملك عند انقضاء [سنة] (1) التعريف، وللاحتمال مجال فيه، إذا التقط مطلقاً، ولم يضمر الأمانة، ولا التملك.
ويمكن تخريج هذا على أن الغالب على اللقطة الكسبُ، أو الأمانة؟ حتى إن غلَّبنا الكسبَ، حصَّلنا الملك بمضي السنة على هذا الوجه، إذا لم يقصد الأمانة، ويكفي قصد الالتقاط على الإطلاق، على هذا القول.
هذا بيان وجهٍ واحدٍ.
5956- فأما من شرط قصد التملك، واكتفى بالقصد؛ فإنه لا يجعل للقصد المقترن بالالتقاط أثراً في الملك؛ فإن الملتقِط وإن قصد التملك بعد السنة، فاللقطة أمانة في يده إذا لم يتعدَّ، ولو ثبت حكم القصد، لكانت اللقطة مضمونة ضمان [الغصب، والمأخوذ] 2) على سبيل السوم. والذي يحقق ذلك أن القصد هو الذي يتعلق بالمقصود في حاله، وما يرتبط بمنتظرِ عزمٍ، وإذا عزم، فعليه الوفاء به إن أراد تحقيق المعزوم عليه. ومن الوفاء به أن يجزم قصد التملك في وقت إمكانه.
5907- ومن اعتبر اللفظ فسببه أن تملك ملك الغير من غير لفظ إذا لم يكن استيفاءً [لحقٍّ] (3) ، لم ينفرد باللفظ من غير تمليكٍ من مالك اللقطة؛ إذ على هذا ينبني (4) الكتاب، ومصلحة الباب، فإذا شرطنا اللفظ بالتملك، فباع اللقطة، فهل يكفي البيع؟ وهل ينزل منزلة لفظ التملك؟ فيه وجهان مبنيان على الوجهين في أن من يثبت له حق الرجوع في الهبة لو باع الموهوبَ، أو أعتقه، فهل ينزل ذلك منزلة التصريح بالرجوع، وفيه خلافٌ قدمناه.
__________
(1) في الأصل: زمن.
(2) عبارة الأصل: ضمان العين المأخوذة على سبيل السوم.
(3) في الأصل: (بحق) و (د 1) ، (ت 3) : الحق. والمثبت اختيار منا.
(4) (د 1) ، (ت 3) : مبنى.(8/447)
وإن كنا نكتفي بقصد التملك، فباع، فإن خطر له قصد التملك، فهو المراد، وإن باع، ولم يخطر له قصد التملك، وقد ينبني الأمر على بيعه مال غيره متعدياً، فهذا أيضاً يخرّج على الوجهين المذكورين الآن، إذا اشترطنا التلفظ بالتملك.
5908- فأما اشتراط التصرف تخريجاً على أحد القولين في القرض، فإنه يدور على الأوجه الثلاثة التي قدمناها، فكأنا في وجه نقول: مضي السنة كالاستقراض، وفي وجهٍ نقول: قصد التمليك كالاستقراض، وفي الثالث نقول: التلفظ بالتملّك بعد السنة كالاستقراض، ثم في القرض إذا حصل فيه ما يشترط في تحقيق القرض قولان في أن الملك هل يفتقر إلى التصرف أم لا؟ هذا بيان الأوجه التي قدمناها، توجيهاً، وتحقيقاً، وتفريعاً.
فصل
في أحكام الملتقِط عند اختلاف قصوده، وفي حقيقة التعريف ومدته
5909- فنقول للملتقط قصودٌ: أحدها - أن يقصد بالالتقاط التعريفَ والتملكَ.
على مقتضى الشرع.
والثاني - أن يقصد حفظَ اللقطة على ربِّها إلى أن يصادفه.
والثالث - أن يقصد تغييبَ اللقطة، واختزالَها (1) ، وتَرْكَ تعريفها، وتعجيلَ التبسط فيها.
5910- فأما إذا قصد تعريفها ليتملكها بعد مدة التعريف، فاللقطة في سنة التعريف أمانة في يده، إذا تلفت، لم يضمنها، ما لم ينتسب إلى عدوان، وهل عليه الابتدار إلى التعريف كما (2) تمكن من التعريف؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ أبو علي: أحدهما - أن الابتدار واجبٌ، والتأخير مع التمكن عدوانٌ، وذلك لأن العثور على
__________
(1) اختزالها: خيانتها، أي أخذها خيانة، يقال: اختزل الوديعة: أي خانها (المصباح) .
(2) "كما": بمعنى عندما.(8/448)
المالك يغلب على قربِ العهد بالضلال والالتقاط، والتأخير سببٌ في التَّعْمية، والتغييبُ، وكَتْمُ اللقطة عدوان.
والوجه الثاني - أن التأخير لا يكون عدواناً إذا لم يقصر في الحفظ، ولم يتعدَّ باستعمال اللقطة، والشرط ألا يطمع في التملك إلا بعد تعريف اللقطة سنةً كاملة، وسنعقد على أثر هذا فصلاً في كيفية التعريف، إن شاء الله عز وجل.
5911- فأما إذا قصد الملتقط حفظَ اللقطة على مالكها، أمانة حتى يلقاها ربُّها، فقد ذكر الشيخ أبو علي وجهين في أنه هل يجب أصل التعريف على الملتقط؟ أحد الوجهين - أنه لا يجب؛ فإن التعريف شرطٌ يتقدم على تملك اللقطة، فإذا كان لا يبغي الملتقط التملكَ، فلا معنى لإلزامه التعريفَ.
والوجه الثاني - أنه يجب التعريف؛ إذ في تركه كتمانُ اللقطة وسترُها، وهذا تسبب إلى تَغْييبها، للحيلولة بينها وبين مالكها.
وهذا الذي ذكره هو الخلاف الذي قدمناه الآن في أن الابتدار إلى التعريف هل يجب؟ فإنا إذا لم نوجب الابتدارَ إليه، لم يكن (1) لذلك منتهىً وموقفاً، ويؤول حاصل الكلام إلى أنه إنما يعرّف ليتملك، فإذا كان الذي يقصد الأمانةَ لا يطلب التملك، فلا تعريف عليه.
5912- فأما إذا قصد بالالتقاط الاختزالَ، والخيانةَ، وتعجيلَ التبسط، فلا شك أن اللقطة مضمونةٌ عليه؛ فإن الالتقاط أَخْذُ مال الغير من غير إذنٍ، ولا ولاية، فصرفه الشرعُ؛ نظراً لحفظ الضوالّ- إلى جهة الأمانة بالقصد الصحيح، فإذا فسد القصد، رجع أخد مال الغير إلى قاعدة الظلم، فلو خطر له أن يعرّفها سنة، فوفى بما وقع له، وأراد التملك بعد السنة، فالذي قطع به شيخي أنه لا يتملك؛ لأن أخذه الأول لم يكن على موجَب الشرع، وإنما كان غصباً، والغاصب لا يتوصّل إلى ملك المغصوب منفرداً بنفسه.
__________
(1) (د 1) ، (ت 3) : يذكر.(8/449)
وذكر الشيخ أبو علي وجهين في أنه هل يتملك إذا عرّف، ووفى بشرط التعريف: أحدهما - ما ذكرناه.
والثاني - أنه يتملك [لأن] (1) الالتقاط منه على صورة الالتقاط، ممن لا يقصد الخيانة، وقد وفى بالتعريف، فالذي صدر منه مما يقتضي التملك على الجملة، وهو من أهل التملك، فيجب أن يسوغ له التملك.
5913- ومما يتصل بذلك أنه إذا لم يقصد الاختزالَ عند ابتداء الالتقاط، ويُثبت يدَه على اللقطة على حكم الأمانة أولاً، ثم إنه أضمر بعد حصول اللقطة في يده- الخيانةَ، فقد اختلف أئمتنا في أنه بنفس إضمار الخيانة هل يصير ضامناًً؟ فمنهم من قال: إنه يصير ضامناً، كما لو نوى الخيانة مع الالتقاط، ومنهم من قال: لا يصير ضامناً، كما لو نوى المودَع أن يخون ويعتدي، فإنه لا يصير بمجرد النية ضامناً، وإن أضمر الخيانة.
ولو سلم المالكُ الوديعةَ إلى المودَع وائتمنه، فنوى المودَع مع أخد الوديعة الخيانة، ففي وجوب الضمان عليه وجهان، سيأتي ذكرهما، في كتاب الوديعة، إن شاء الله عز وجل، فالترتيب في المؤتمن عن جهة المالك يجري على الضِّد مما ذكرناه في الملتقط؛ فإنه لو اقترن قصدُ الخيانة بأخذ الملتقط ابتداء، لصار ضامناً وجهاً واحداً، وإذا لم يفسد قصده ابتداء، وخبثت نيته على دوام الإمساك، ففي المسألة وجهان، والقصد الفاسد إذا طرأ على دوام يد المودَع، لم يوجب الضمان، وإذا اقترن بابتداء أخْذه، فوجهان. والفرق استبدادُ (2) الملتقط، وصدورُ يد المودَع عن إذن
المالك.
5914- فإن قلنا: لا يصير الملتقط بالقصد الطارىء ضامناً، فلا كلام.
وإن جعلناه ضامناً، فلو استتم التعريف في مدته، فهل يثبت له حق التملك؟ فعلى
__________
(1) في الأصل: بأن.
(2) (د 1) ، (ت 3) : استقلال.(8/450)
وجهين ذكرهما الأمام (1) وغيره، وإن قطع بأن الملك لا يحصل إذا اقترن القصد الفاسد بالأخد الأول.
فأمّا الشيخ أبو علي، فإنه طرد -على وجه الضمان- الخلافَ الذي ذكره في الابتداء، وفصل شيخي بين الابتداء والطريان، وكان يستشهد بنص الشافعي في أحكام الرخصة، فإنه قال: " لو اقترن بابتداء السفر قصدُ المعصية به، فلا ترخّص، ولو جرى السفر ابتداء على قصدٍ صحيح لا معصية فيه، ثم طرأ قصدُ المعصية، فالحكم للقصد الأول ".
وهذا الذي ذكره من مشكلات المذهب في موضعه، ولأجله اتجه تخريج ابن سريج في التسوية بين المعصية المقارنة، والطارئة. ثم ما ذكره إنما يحسن في الفرق بين الابتداء وبين الطريان في تثبيت الضمان ونفيه، كما ذكرناه.
5915- ومما يتم به الغرض أنا إذا قلنا: لا تزول الأمانة بالقصد الطارىء، فلو أحدث عدواناً فعلاً، فلا شك أنه يصير ضامناًً، فلو وفى -مع ثبوت الضمان وفاقاً- بحق التعريف، ففي التملك الوجهان، اللذان ذكرناهما.
فهذا غاية ما أردناه في ذكر تفاصيل القصود.
5916- ولو التقط مطلقاً ولم يُضمر خيانة، ولا أمانة، أو أضمر أحدهما، ثم نسي ما أضمره، فلا يثبت الضمان، وإذا عرّف على الشرط، ثبت له حق التملك.
وهذا متفق عليه.
فصل
معقود في معنى التعريف وكيفيته، والقول في ذلك ببيان زمان التعريف ومكانه وكيفيته
5917- فأما القول في الزمان، فينبغي أن يحصل التعريف على تدانٍ من الأزمنة في ابتداء الأمر، لما أشرنا إليه فيما سبق، من أن طلب من أضل شيئاً يظهر ويكثر، على
__________
(1) الإمام: يعني به والده. وقد صرّح بذلك في زكاة الفطر. وهو يعبر عنه غالباً: بـ (شيخي) ، كما هو واضح على طول الكتاب.(8/451)
قرب الزمان، فيجب أن يكون الاعتناء بالتعريف في الزمان القريب أكثرَ، لذلك؛ فإن الغرض من التعريف التسبب إلى إظهار مالك اللقطة. وإذا تمادى الزمان، لم يضر أن يتقاصر قدرُ التعريف، ويتخلل بين النُّوب فيه من الزمان ما يزيد على الابتداء، ثم كذلك على هذا التدريج إلى انقضاء السنة، حتى لو كان يعرّف في الابتداء في كل يومٍ فإذا انقضت أيامٌ، فيعرّف في كل أسبوع، ثم يعرف في كل شهر المرةَ والمرتين.
والرجوع في ذلك إلى العادة، والمطلوب منه ألا يتخلل بين [نوب] (1) التعريف ما يُلحق سائرَ النوب فيه بالمنسي (2) ، حتى يصير التعريف في كل نَوْبة كالمبتدأ، فإذا غلب على الظن اتصالُ الذِّكر في نُوب التعريف، فهو الغرض، وذلك يختلف بالزمان الأول وما بعده، إلى الانقضاء، فلا بد من تأكيد التعريف بالتكرير على التقارب أولاً، فإذا تأكد ذلك، وشاع، لم يتبين بالتطاول في المدد [المتخلّلة] (3) وهكذا إلى الانتهاء. وإذا لم يكن معنا ضبط شرعي نقف عنده، فهذا أقصى الإمكان في التقريب. وهو القول في الزمان.
5918- فأما المكان فإن وجد اللقطةَ في مكان عامرٍ، كالبلدة، والقرية، وكان لا يمتنع شهود مالك اللقطة في المكان أو عَوْدُه إليه بعد مفارقته إياه، فينبغي أن يرتاد التعريف في مكان الوجدان، إذا كان مطروقاً. وحسنٌ أن يرتاد التعريفَ على باب الجامع، يومَ الجمعة، فإن ذلك المجمع جامعُ الجماعات، وإذا ظهر الغرض في مثل هذا أغنى عن التطويل.
5919- ولو وجد اللقطة في برّيّةٍ وهو مارٌّ، في سفره إلى صوب بيته، ولم يكن معه من يقدِّره مالكَ اللقطة، فلو أخد يعرّف في الصحارى والمواضع الخالية، فلا معنى لهذا التعريف، وهو غير معتدٍّ به؛ فإنه لا يفيد الغرضَ المقصودَ من التعريف؛ فإن المقصود منه إظهار المالك، وهذا بعيد توقُّعه مع هذا التعريف.
__________
(1) في الأصل: " ثوب " وهكذا في كل موضع وردت فيه. والمثبت من (د 1) ، (ت 3) .
(2) (د 1) ، (ت 3) : بالمنشىء.
(3) في الأصل المنحلة. وهو تحريف ظاهر.(8/452)
5920- ثم من وجد لقطةً في طريقه، وهو مسافر، لم نكلفه أن يرجع عن صوب سفره حتى يعرّف اللقطة في مكانه الذي أنشأ السفر [منه] (1) ، بل يستتم سفره، طال أم قصر. فإذا انتهى إلى مقصوده، ابتدأ التعريفَ فيه، على ما ذكرناه؛ فإنه لا يبعد مسير صاحب اللقطة إلى تلك البلدة. وإن كان هذا التعريف يبعد بعض البعد في إظهار المالك. فإذا كنا لا نجد طريقاً غيره، اكتفينا به.
ولو بدا للمسافر أن يرجع، ويقطع نيّته في منتهى سفره، فليعرّف في المكان الذي ينتهي إليه، وإن بدا له أن يأخد صوباً آخر، فليعرّف حيث ينتهي إليه؛ فإن البقاعَ متساويةٌ في توقّع الظهور على مالك اللقطة.
ولو وجد اللقطة في بلدة، ففارقها مسافراً وأخد يعرّف في القرى، والبلاد التي ينتهي إليها، فلا يكون ذلك تعريفاً منه، وحق التعريف في مثل هذه الصورة أن يتخصص بمكان الوجدان.
فلو أراد سفراً، لم يسافر باللقطة، واستناب في التعريف في مكان الوجدان نائباً والذي ذكرناه من استواء الأمكنة والبقاع في تعريفه فيه إذا وجد اللقطة في مكانٍ لا يفيد التعريف فيه.
5921- ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أن الموالاة على الحدّ اللائق بمقصود التعريف- مشروطةٌ، حتى لو تقطعت، وغلب على الظن أن النوبة السابقة قد نُسيت، فلا يقع الاعتداد بما تقدم أصلاً.
5922- ولو أخر التعريف، فقد ذكرنا في أنه هل يكون بتأخيره ضامناًً؟ فعلى وجهين. فلو تمادى التأخير، وأمكن أن يقال: نُسيت اللقطة في طول هذا الزمان، فهل يقع التعريف بعد ذلك- والحالة كما وصفناها؟ فعلى وجهين. والاحتمال فيهما ظاهر، وتوجيههما بيّن.
ْومن يصير إلى التعريف يقول: حق المعرّف أن يؤرخ وجدان اللقطة في تعريفه،
__________
(1) ساقطة من الأصل.(8/453)
ويسنده إلى الوقت الذي اتفق فيه، حتى يكون ذلك في معارضة ما جرى من التأخير المُنسي. وقد تساهل بعضُ الأصحاب في اشتراط ذلك، ورآه من باب الأوْلى، وجوّز الاقتصار على التعريف المطلق.
هذا بيان ما يتعلق بالمكان والزمان.
5923- ولا يخفى أن ابتداء مدة التعريف من وقت [إنشائه، لا من وقت] (1) وجدان اللقطة. وما أجريناه في أثناء الكلام من تأخير التعريف، والأمر بالبدار إليه يصرح بهذا.
5924- وقد بقي علينا الكلام في كيفية التعريف، فحقّ المعرِّف أن يصف اللقطةَ بعضَ الوصف؛ فإن الضوالّ قد تكثر، والغرض القربُ من إظهار المالك، وتنبيهه، وإذا لم يذكر المعرف بعضَ أوصاف اللقطة بعُد التعريف عن فائدته، سيّما إذا كثر المنشدون (2) ، وازدحم المعرّفون في الضوالّ، ولا ينبغي أن يتناهى في وصف الضالة؛ فيتخذه الكاذب عمدته، ويصف اللقطة به.
واختلف أصحابنا في أنا هل نشترط التعرّض لبعض البيان أم يكفي الإنشاد المطلَق في الضالة؟
فمنهم من جعل بعض البيان مأموراً به ندباً، ولم يشترطوه.
ومنهم من شرطه.
وتوجيه الخلاف يقرب من مقصود التعريف نفياً وإثباتاً، فالشارط يدّعي سقوط فائدة التعريف، ومن لا يشترط يقول: صاحب اللقطة يحرص على طلبها، فيكفيه الإنشاد المطلق. ومن قال بالوجه الأول يقول: ربَّ شخصِ يضل شيئاً، ولا يدري أنه أضلّه، فإذا ذكر في الإنشاد جنسه أفهمه ذلك الإضلالَ، فيطلب بعد ذلك، ويبحث.
ومن شرط من الأصحاب التعرض لبعض البيان أجرى ذكر الجنس.
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) المنشدون: جمع منشد، من أنشد الضالة، إذا عرّفها، ودلّ عليها. (المعجم) . فالعطف هنا عطف بيان.(8/454)
وما عندي أن هذا المقدار [من البيان] (1) يختص بذكر الجنس، بل لو وصف العِفاص والوكاء، والظرف، كفى، والحديث دالٌّ عليه، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: " اعرف عفاصَها ووكاءها، وعرَّفها سنة " وهذا منه صلى الله عليه وسلم إيماءٌ إلى ذكر العِفاص، والوكاء في التعريف.
5925- فإذا نجز ما يتعلق بالتعريف، فإنا نقول بعده: ليس على الواجد أن يتولى التعريف بنفسه، وله أن يستنيب فيه متبرِّعاً أو مستأجَراً، وإذا مست الحاجة إلى مؤونة في التعريف، فقد أطلق العراقيون أن مؤونة التعريف على الملتقط، واعتلّوا بأن التعريف ذريعةٌ إلى التملك، والسبب الذي به يحصل الملك في اللقطة، فكأنه يسعى لنفسه. وهذا الذي ذكروه ليس على ما أطلقوه، فإن كان الالتقاط على قصد الحفظ للمالك، فهذا يتفرع على ما قدمناه من الوجهين في أن التعريف هل يجب على مثل هذا الملتقط؟ فإن أوجبناه، وقصدُه الأمانة، فيبعد أن نُلزمه مؤونةَ التعريف، والحالة هذه، والوجه أن نطلق له رفع الأمر إلى الحاكم، حتى يقترض على صاحب اللقطة، أو [يأذن للملتقط على تفاصيلَ] (2) قدمناها في هرب الجمال. ثم تكون المؤونة في التعريف محسوبة على رب اللقطة؛ فإن هذا تسبّبٌ إلى إيصالها إليه.
وإن لم نوجب على من لا يبغي التملك التعريفَ، فلا تُحسب المؤونة على صاحب اللقطة، ويقدر التعريف تبرعاً منه. وما يتبرعّ به الأمين لا يرجع به.
هذا إذا قصد الأمانة.
5926- فأما إذا قصد التملك بعد التعريف على النظام الشرعي، فما قطع به العراقيون من إيجاب المؤونة على الملتقط فيه متسع لمجال (3) النظر؛ فإن التعريف في حاله تشوفٌ إلى إظهار المالك ليردّ اللقطة عليه، والتملك يقع بعد اليأس المظنون من العثور على مالك اللقطة، فالقول في المؤنة محتملٌ على قياسنا، حيث يبغي التملك.
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) عبارة الأصل حرفت هكذا: أو بإذن الملتقط، على تفصيل.
(3) (د 1) ، (ت 3) : في مجال النظر.(8/455)
ثم إذا تعيّن الفصل بين أن يقصد الأمانةَ والحفظَ على المالك، وبين أن يقصد التملك، فلو قصد الأمانة أولاً، ثم بدا له أن يتملك، فيجب أن يكون النظر إلى العاقبة، وإلى ما يستقر عليه منتهى الأمر.
فإن اطردت الأمانةُ والقصدُ إليها، فلا مؤونة على المعرِّف، وإن تملك خرّج في المؤنة مما ذكره العراقيون، مع احتمالٍ ظاهرٍ فيه، كما نبهنا عليه.
5927- ثم إذا جاء من يدّعي اللقطة ووصفها، وأغرق في الوصف، ولم يغادر مما يُطلب في مقصود الباب شيئاً، فالذي ذهب إليه معظم الأصحاب، وإليه ميل النص أنه لا يجب على الملتقط تسليمُ اللقطة إلى واصفها، فإنه لا يبعد أن يكون مودَعاً فيها، أو مطلعاً عليها، محيطاً بأوصافها من غير أن يكون مالكها، فإذا أمكن ذلك، فلا وجه لإيجاب الرد بناء على مجرد الوصف.
5928- وذهب طوائف من أئمتنا إلى أنه يجب الرد بالوصف، وهو اختيار الشيخ أبي حامد فيما أظن.
والسْاهد لذلك أن الرد جائز تعويلاً على الوصف، وما يجوّز الرد يوجبه؛ إذ (1) لو لم يكن الوصف معتمداً، لبطل التعويل عليه في جواز الرد، وأيضاً فإنّ طلب الشهادة على الضوالّ والأموال الخفية عسر في النهاية، والمطالبةُ بها قطعٌ لحق ملاّك الضوال، فاللائق بمصلحة الباب وجوبُ الرد اعتماداً على الوصف.
وفي كل باب مسلك يليق به لا يسوغ قياسه على غيره، وتوصل الملتقط إلى التملك من هذا القبيل؛ فإنه تملكٌ من غير تمليكٍ من جهة المالك، وقيامٌ بالتصرف في الملك من غير إقامة واستنابة من المالك، ولكن اللائق بمصلحة الباب هذا؛ فإنا لو توقفنا على تقدير إنابةٍ، لكان ذلك تعطيلاً لمقصود اللقطة، ولو لم يتسلط الملتقط على التملك مع الضلال، واستبهام الحال، لما رغب في الالتقاط، فلْيَجْرِ الوصف، والاقتصار عليه على حسب مجاري العرف.
__________
(1) (د 1) ، (ت 3) : إذا لم يكن الوصف معتمداً لبطل.(8/456)
5929- ثم من اكتفى بالوصف، فلا شك أنه يرعى فيه وصفاً يغلّب على الظن صدقَ الواصف، ولا يكتفي بما يمكن حمله على اتفاق الإطلاق، وندور موافقة الصواب.
5930- ومن يكلف الواصفَ الشهادة، فالذي أراه لصاحب هذا الوجه ألا يسلم جوازَ الرد؛ فإنه إن سلمه، لم يبق له متعلَّق.
وسماعي من شيخي في دروسه جوازُ الرد، وهو ظاهرُ كلام الأصحاب.
5931- ثم إذا شرط هذا القائل الشهادةَ، فإنه يشترط (1) -لا محالة- الدعوى والارتفاعَ إلى مجلس القاضي وتعيين الشهود، ويجوز أن يقال: يكفي في وجوب الرد إخبار الشاهدين من غير ارتفاعٍ إلى مجلس الحكم، ثم يجوز أن يكتفى بالواحد العدل. والذي أطلقه الأصحاب ما قدمته. والعلم عند الله تعالى.
فصل
5932- اختلف نص الشافعي في وجوب الالتقاط، فالذي دل عليه بعض نصوصه أنه يجب الالتقاط على الأمين الموثوق به، ونص في بعض المواضع على أنه لا يجب، فاختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من أطلق القولين في وجوب الالتقاط: أحدهما - لا يجب، وهو القياس؛ فإن الالتقاط قبولُ أمانة، أو هو من أبواب الكسب، أو هو متردد بينهما، وعلى أي وجهٍ فُرض، لم يتجه إيجابه.
ومن أوجب الالتقاطَ، احتج بأن ذلك من التعاون الذي تمَس الهحاجة إليه، والذي تقتضي المصلحةُ الحملَ عليه.
ومن أصحابنا من قطع بنفي الوجوب، [وهو الوجه] (2) ، وحمل نصَّ الشافعي على
__________
(1) (د 1) : لا يشترط.
(2) ساقط من الأصل.(8/457)
التأكّد في الندب والاستحباب، وذلك سائغ في الكلام.
ومن أصحابنا من فصّل، وقال: إن كان يغلب ضياع اللقطة لكونها على مطرق الناس والغالب عليهم الاستزلال، والاختزال، فهذا محل الوجوب، أو محل القولين. وإن لم يظهر ذلك، تعيّن القطع بنفي الوجوب.
ومن أصحابنا من قال: إن كان لا يأمن الملتقط نفسَه، ولا يثق بها، فلا يجب عليه الالتقاط، قولاً واحداً، والقولان فيمن يغلب على ظنه أنه لا يخون.
ومنهم من سوى، ولم يفرق إذا كان الشخص من أهل الالتقاط وأوجب على من يحاذر داعية السوء أن يتقي الله تعالى.
5933- وكل ذلك خبط، لا معنى للإطناب فيه.
والوجه القطع بأنه لا يجب الالتقاط.
ثم قال الأصحاب: إذا نفينا الوجوب، وكان الرجل في ظاهر الظن واثقاً بنفسه، فهل يستحب له أن يلتقط؟ فعلى وجهين. وإن كان لا يثق بنفسه، ولكن لم يلتحق بالفسقة حتى يتردد في أنه هل يكون من أهل الالتقاط أم لا؟ فلا نستحبُّ له إذا نفينا الوجوبَ أن يلتقط.
وذكر شيخي وجهين حيث انتهى الكلام إليه في أنه هل يجوز له أن يلتقط إذا كان لا يثق بنفسه؟ وهذا يقرب من خلافٍ سنذكره في أن المجتهد الصالح للقضاء إذا كان لا يثق بنفسه، ولا يأمن أن يخون ويرتشي، ويغير الأحكام عن مناصبها، فهل يحل له تقلّد القضاء؟ وفيه خلافٌ، وترتيب سيأتي الذكر عليه في أول أدب القضاء، إن شاء الله عز وجل.
5934- والوجه عندنا هاهنا القطع بجواز الالتقاط؛ فإنه لو حرم الالتقاط، لما تعلق به جواز التعريف والتملك، وإذا كان كل ذلك ثابتاً، والملتقط ليس ممن يُحكم بفسقه، وسقوط رشده، فلا وجه لتحريم الالتقاط عليه. هذا منتهى الكلام.(8/458)
فصل
معقودٌ فيمن يكون من أهل الالتقاط ومَن لا يكون من أهله،
وهو غمرة الكتاب، وعلى الناظر مزيدُ اعتناءٍ به
5935- وهذا الفصل يستدعي تقديم أصلٍ في حقيقة اللقطة: وهو أن اللقطة فيها معنى الكسب؛ من جهة أن الملتقط يتملكها إن أراد، وفيها معنى الأمانة؛ من جهة أنها لو تلفت في يد الملتقط في مدة التعريف أو قبل الاشتغال بها، فإنها لا تكون مضمونة على الملتقط، فقد اجتمع فيها معنى الكسب والأمانة، ولا وجه لإنكار اجتماعهما.
وذكر الأئمة قولين مأخوذين من معاني كلام الشافعي في أن الغالب على اللقطة حكمُ الأمانة، أو حكمُ الكسب، ففي ذلك قولان إذاً، وعليهما خروج المسائل:
أحد القولين - أن الأمانة هي الغالبة؛ لأن الالتقاط يقترن به معنى الأمانة وحكمُها، ثم يتمادى إلى انقضاء التعريف، فهذا ناجز متحقَّق، والتملك منتظَر، قد يكون، وقد لا يكون، فليقع التغليب للحكم الحاضر.
والقول الثاني - إن الاكتساب أغلب؛ فإنه مآل الأمر، وعاقبتُه في الغالب، والنظرُ إلى عواقب الأشياء، لا إلى مباديها. وأيضاً، فإن الملتقط ينفرد بالالتقاط. وهذا بعيد -في حق من لا يلي- على قياس الأمانات، فإن الأمين من آحاد الناس من يأتمنه المالك، وهذا هو الأصل، فإذا جاز الانفراد بالالتقاط، كان ذلك حملاً على الانفراد بالاكتساب، ثم حكم الأمانة يثبت ثبوتاً غيرَ غالب.
هذا بيان القولين، وظهورهما بتفريع المسائل عليهما.
5936- ثم فرّع الأصحاب على القولين مسائلَ: منها التقاط الصبي، ومنها التقاط العبد، والمكاتب، والفاسق، والمبذّر، وقد يجري التقاط الذمّي في آخر الفصل.
فأما الصبيّ المميز إذا التقط، فهو مخرّجٌ على القولين. فإن قلنا: الغالب على اللقطة معنى الأمانة، فليس الصبي من أهلها؛ فإنه ليس ممن يؤتمن، وكيف يؤتمن(8/459)
من يتردد بين غباوة يمتنع معها الاستقلالُ بالأمر، وبين فطنةٍ تُطلعه على أنه غير معاقب [أو مُتَّبَع] (1) .
وإن قلنا: الغالب على الالتقاط معنى الاكتساب، فهو من أهله؛ إذ يتصور منه الاكتساب الذي يتعلق بالأفعال كالاحتشاش والاحتطاب، وما في معناهما.
5937- فإذا ثبت القولان، فالتفريع عليهما أنا إن قلنا: ليس الصبي من أهل الالتقاط، فلو التقط فيده يدُ ضمانٍ، حتى لو تلفت اللقطة في يده أو أتلفها، وجب الضمان في ماله، ولو علم الولي حصولَ اللقطة في يده، لم يجز له تقريرها تحت يده، بل عليه أن يسعى في انتزاعها من يده.
5938- ثم ذكر العراقيون وجهين في أن [الولي] (2) لو أراد أخد اللقطة من يد الصبي، والتفريع على أنه ليس من أهل الالتقاط، على نية ابتداء الالتقاط: أحد الوجهين- أن ذلك سائغ؛ فإن اللقطة في يد الطفل ضائعة، وهي بمثابة ما لو صادفها في مضيعة، فله الأخذُ من يده، كما له الالتقاط من قارعة الطريق.
والوجه الثاني -وهو قياسنا- أنه لا يصح الالتقاط من يده؛ فإن الالتقاط له صورة في العرف، وعليها يدلّ الشرعُ. والقياس لا جريان له في مفتتح الأمر. والذي يحقق ذلك، أن الصبي يعرض للضمان إذا ثبتت يده على اللقطة، فلو جعلنا الوليَّ ملتقطاً، لتضمَّن إسقاطَ الضمان عن الصبي، وهو في التحقيق إسقاطُ [حق تملّك] (3) اللقطة بعد ثبوته.
فإن حكمنا بأن الولي يلتقط من يد الطفل، لم يختص هذا به، فلو صادفه أجنبي من أهل الالتقاط، كان له الأخد من يده، على حكم الالتقاط. وإنما يختص بالولي ما يختص
__________
(1) في الأصل: " أو يتبع " هكذا قرأتها بكثيرٍ من التوسّم. وفي (د 1) ، (ت 3) : " لو توسع " والمثبت اختيار منا على ضوء السياق. والمعنى أنه غير معاقب في الآخرة، وغير مؤاخذٍ في الدنيا، فلا يتبع بالطلب والمؤاخذة.
(2) في الأصل: الوالي.
(3) في الأصل، (ت 3) : حق لمالك اللقطة، وفي (د 1) : لحق المالك اللقطة. والمثبت تقدير منا، نرجو صوابه.(8/460)
بالطفل من مصالحه، ولا نظر إلى سقوط الضمان عن الطفل عند التقاط الأجنبي من يده.
ثم يتفرع على ذلك أنا إذا جعلنا الولي ملتقطاً، فيزول الضمان عن الصبي بالكلية، ولا يبقى في ماله تبعة؛ إذ قد التقط اللقطة من هو من أهل التقاطها، وانقلب الصبي عند التقاطه مشبَّهاً بمضيعةٍ بقارعة طريق.
هذا ما ذكره الأصحاب.
5939- وللاحتمال إليه تطرّقٌ من قِبل أن من غصب عيناً، وأضلّها، فالتقطها ملتقط، فقد ثبت حكم اللقطة فيها، ويبعد في هذه الصورة إبراء (1) الغاصب، وإن اتصلت العين بيد ملتقطٍ هو من أهل الالتقاط. وستكون لنا إلى مسألة الغاصب عودة في آخر الفصل، إن شاء الله عز وجل.
5940- وإن لم نجعل [للولي] (2) مرتبةَ الالتقاط بعد ثبوت يد الطفل، فالكلام وراء ذلك في فصلين:
أحدهما - أن العين لو تلفت في يد الصبي، فلا شك في وجوب ضمانها، كما لو غصب عيناً، وكذلك لو أتلفها، فالتلف والإتلاف يضمِّنانه القيمة.
وأما (3) الولي، فينبغي أن لا يترك نظرَه للطفل، فإن استمكن من رفع الأمر إلى مجلس القاضي، فعل، وفيه تفصيل ساذكره في فصل العبد، وأرمز إذْ ذاك إلى حظ الصبي منه، إن شاء الله عز وجل.
وإن لم يتمكن من رفع الأمر إلى الحاكم، حَفِظ اللقطةَ جهدَه، وأخذها من يد الطفل، ثم لو تلفت، فالضمان ثابت على الطفل، وفائدة الاحتياط صون العين عن التلف، والتضييع.
وهذا أيضاًً [ممّا] (4) لا يمكن تقريره إلا بعد تمهيد أصلٍ، نذكره في فصل العبد على أثر ذلك، إن شاء الله عز وجل.
__________
(1) (د 1) ، (ت 3) : أثر.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) هذا هو الفصل الثاني قسيم (أحدهما) الذي سبق من عدة أسطر.
(4) في الأصل: فيما.(8/461)
5941- وإن [جعلنا] (1) الصبي من أهل الالتقاط، فلا يترك الولي العينَ في يده، بل يأخذها منه. وإذا ثبتت يد الولي عليها، فهي أمانة، لو تلفت في يد الولي، لم نثبت ضمانها وفاقاً؛ فإنا نفرّع على أن الصبي من أهل الالتقاط، ولو ترك الولي اللقطة في يد الطفل، كان منتسباً إلى التضييع؛ فإنه إذا كان لا يترك في يده خالصَ ملكه، فكيف يترك في يده ملكَ غيره.
وإن علم الولي بكون اللقطة في يده، فتركها حتى ضاعت، فسنذكر ما يتعلق بذلك في فصل العبد، إن شاء الله عز وجل.
5942- ولو لم يشعر الولي بحصول اللقطة في يده، فأتلفها الصبي، تعلق الضمان بماله، وإن تلفت في يده، ففي وجوب الضمان وجهان. والتفريع على أنه من أهل الالتقاط.
ولو أودع رجل عند طفلٍ مالاً، فلو تلف في يد الطفل، لم يضمن، وإن كان سبب التلف تضييعه، فإن استحفاظه لم يصح، وانتسب من استحفظه إلى تضييع ماله، وإن أتلف الصبي الوديعةَ، ففي وجوب الضمان وجهان، وإنما اختلف الترتيب؛ من جهة أن المودِع هو الذي ضيع ماله؛ إذ استحفظ الصبيَّ فيه، وإذا التقط الصبي، فلم يوجد من جهة المالك تفريط في استحفاظه، فلذلك جعلنا المسألة على وجهين فيه إذا تلفت اللقطة في يده.
فإن قيل: لم ضمّنتموه، والتفريع على أنه من أهل الالتقاط؟ قلنا: معنى كونه من أهله أنه قد يُتملّك له قيمة ما التقط، إذا رأى النظرَ فيه، فأما أن تكون يده صالحة للأمانة في مدة التعريف قبل دخول وقت التملك، فلا.
فإن قيل: هلا قطعتم بوجوب الضمان لما ذكرتموه؟ قلنا: صاحب الضالّة على الجملة منتسب إلى التقصير، وإن لم يستحفظ الصبي على التعيين.
5943- ومما يتعلق بالتقاط الصبي أن القيّم إذا استخرج اللقطة من يده، فعرّفها
__________
(1) في الأصل: حملنا.(8/462)
سنة، فإن كان صلاحُ الطفل في أن يتملكها له فعل، وكان (1) ذلك استقراضاً للطفل.
وإن لم يرَ في التملك صلاحاً، أمسك اللقطة أمانةً، أو سلمها إلى القاضي. وقد أحلنا أطرافاً من الكلام في لقطة الصبي على العبد وبيان حكمه.
5944- فأما العبد إذا التقط، فقد خرّج الأئمةُ التقاطه على القولين في تغليب الأمانة والكسب.
فإن حكمنا بتغليب الأمانة، فإن العبدَ ليس من أهل الالتقاط.
وإن حكمنا بتغليب الكسب، فهو من أهل الاكتساب. هكذا أطلقه الأئمة المراوزة. وفي هذا فضل تفصيل، سيأتي الشرح عليه، إن شاء الله تعالى.
ولا ينبغي أن يعتقد الناظر في أوساط أمثال هذه الفصول أنه يطّلع على سرّ ما ينتهي إليه، فإن أسرار المسائل المسلسلة تتبيّن عند نجازها.
5945- قال صاحب التقريب: اختلاف القول فيه إذا التقط العبد ونوى نفسه، فأما إذا نوى سيدَه، بالالتقاط، ففي المسألة احتمالٌ: يجوز أن يقال: يصح ذلك قولاً واحداً، ويجوز طرد القولين في هذه الحالة.
وفي هذا الكلام فضلُ نظر؛ فإن السيد لم يأذن لعبده في هذا النوع، فاستبداد العبد به دون إذن سيده لا يختلف حكمه بأن ينوي نفسَه، أو سيدَه، فلا وقع للتردد الذي أبداه.
5946- ولو أذن السيد لعبده في الالتقاط، وقال: مهما وجدت ضالةً، فارفعها، وائتني بها، فيجب قطعُ القول بوقوع الالتقاط عن جهة السيد، ويتطرق إليه نوعٌ من الاحتمال، لما في اللقطة من معنى الأمانة.
فإن قيل: لو أذن السيد لعبده في قبول الوديعة، صح منه قبولها، وكانت يده بمثابة يد السيد؟ قلنا: الأمر كذلك، ولكن الأمانة الثابتة في اللقطة مشوبةٌ (2) بقضية الولاية؛ فإن الملتقط يستبدّ بإثبات اليد على اللقطة من غير إذنٍ من ربّها، والإذن
__________
(1) (د 1) : " وكل ذلك استقراض "، (ت 3) : وإن كان ذلك استقراضاً.
(2) (د 1) ، (ت 3) : مثبوتة.(8/463)
لا يُلحق العبد بالولاية، وسيتضح هذا المعنى -إن شاء الله عز وجل- في أثناء الفصل.
التفريع على القولين:
5947- فإن قلنا: العبد ليس من أهل الالتقاط، فإذا حصلت اللقطة في يده، فلا يخلو إما أن يشعر السيدُ بها أو لا يعلمها، فإن لم يعلمها، فاللقطة مضمونة في يد العبد؛ فإن تلفت أو أتلفها، تعلّق الضمان برقبته؛ فإن ما يتلف تحت اليد العادية بمثابة ما يتلف بالجناية.
ثم تفصيل القول في فداء السيد إياه لا يخفى.
وتقريره في آخر كتاب الجراح، إن شاء الله تعالى.
هذا إذا لم يشعر السيد بحصول اللقطة.
5948- فأما إذا علم حصولها في يد العبد، فأضرب عنها مقصّراً، حتى تلفت أو أتلفها العبد، فالقيمة تتعلق برقبة العبد، كما قدمناه، فإن ضاقت قيمة العبد عن الوفاء بقيمة اللقطة، فالذي نقله المزني عن الشافعي: " أن الفاضل من مقدار قيمة العبد يتعلق بسائر مال السيد، وتتوجه عليه الطَّلبة به، وإن سلّم العبدَ ليباع في الجناية، ولم يؤثر فداءه " ونقل الربيع عن الشافعي قولاً آخر: " أن الغرم ينحصر في رقبة العبد، ولا يتعلق الفاضل بسائر مال السيد ".
5949- توجيه القولين: من قال: بانحصار الضمان في رقبة العبد، قاس ما نحن فيه على ما إذا أتلف العبدُ شيئاً بإذن سيده؛ فإن الضمان لا يعدو رقبة العبد، ولا أثر لإذن السيد في الإتلاف، فتقريره اللقطة في يد العبد لا تزيد على إذنه في الإتلاف وأمرِه به من غير إكراهٍ.
ومن قال: لا ينحصر الضمان في رقبة العبد، احتج بأن يد العبد بمثابة يد السيد، فإذا انضم إلى يد العبد تقصيرُ السيد في تقرير اللقطة في يد العبد، كان ذلك بمثابة ما لو تلفت العين في يد السيد، وهو معتدٍ. وهذا إنما كان يقوى، لو كنا نعلّق الضمان في الفاضل بالسيد، وإن لم يشعر بحصول اللقطة في يد العبد؛ فإن أسباب الضمان(8/464)
لا تختلف [قضاياها] (1) بالعلم والجهل.
5950- ومما يتعلق بالتفريع على هذا القول أن السيد لو أخد اللقطة من يد العبد، وقصد بأخذها من يده الالتقاطَ، فقد ذكر العراقيون وجهاً أن ذلك يكون التقاطاً من السيد؛ لأن يدَ العبد على القول الذي عليه نفرع ليست يدَ التقاط واللقطة فيها ضائعة، فكانت بمثابة ما لو صادفها السيد في مضيعة.
وهذا الذي ذكروه بعيدٌ غيرُ متَّجهٍ؛ فإن العبد تعرّض للضمان بأخد اللقطة، فلو قلنا: يصح التقاط السيد من يده، لتضمّن ذلك إسقاطَ الضمان وتبرئةَ رقبة العبد، وفيه إبطال حق مالك اللقطة، واستفادة السيد حقَّ التملك في اللقطة. وهذا بعيد، لا اتجاه له، على قياس المراوزة. وما ذكره العراقيون لا يختص بالسيد، بل لو أخذ الأجنبي اللقطة من يد العبد، لبرىء العبدُ، وثبت الأجنبي ملتقطاً على الابتداء، وهذا بعيدٌ، لا اتّجاه له.
5951- فإن فرعنا على أن السيد لا يصير ملتقطاً، فيتعلق (2) الكلام بعد هذا بأمرٍ يستدعي تفصيل مقدمة.
وهي أن نقول: إذا صادف القاضي عيناً مغصوبة في يد الغاصب، فلو أخد القاضي العين المغصوبة من الغاصب ليحفظها على مالكها، فهل يبرأ الغاصب عن الضمان؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يبرأ، وهو ظاهر القياس، لأن يدَ القاضي نائبةٌ عن يد المالك، فرجوع العين المغصوبة إلى يده، بمثابة رجوعها إلى يد المالك. والوجه الثاني - أنه لا يبرأ الغاصب عن عهدة الغصب، ما لم ترجع العين إلى يد المالك؛ فإن مالك العين ليس موليّاً عليه وِلاية قهر، وليس القاضي مستناباً من جهته، ولكنه يرعى المصلحة لتصدّيه للنظر العام، والذي يقتضيه الصلاح إزالة يد الغاصب، مع بقائه على غرر الضمان.
__________
(1) في الأصل: " قضاها "، وقد تكون قضاؤها.
(2) (د 1) ، (ت 3) : فنفتتح الكلام.(8/465)
فإن قلنا: يبقى الغاصب في عهدة الضمان، فالقاضي (1) يأخد العين المغصوبة منه، وإن قلنا: يبرأ الغاصب لو أخد القاضي منه العين المغصوبة، فهل للقاضي أن يأخذها، ويحفظها على مالكها؟ فعلى وجهين: أحدهما - له ذلك؛ فإن قطع العدوان وحفظَ العين المملوكة للمالك أحوط وأليق بالنظر للغاصب والمغصوب منه.
والوجه الثاني - ليس له ذلك؛ فإن إبقاء العين في عُهدة الضمان أولى من تبرئة الغاصب، ورد العين أمانة.
وهذا التردد فيه إذا لم تكن العين المغصوبة معرضة للضياع، [فإن كانت معرضة للضياع] (2) ، وكان الغاصب بحيث لا يبعد تغييبه وجهَه، فالرأي: للقاضي أخذُ العين، وإن وقع التفريع على أن الغاصب يبرأ. هذا قولنا في القاضي وأخذه العينَ المغصوبة.
5952- فأما إذا أراد واحدٌ ممن ليس والياً أن يأخد العينَ المغصوبة محتسباً، ويوصِّلَها إلى مستحقها، فهل له ذلك، أم لا؟
ننظر: فإن لم تكن العين عرضةً للضياع، ولم يكن الغاصب ممن يفوت توجيه الطلب عليه، فليس لآحاد الناس أن يتعرضوا لإزالة يده.
وإن كانت العين عرضة للضياع، فهل يجوز للأمين من آحاد الناس أن يزيل يدَ ذلك الغاصب، ويحفظ المغصوب على المالك؟ فعلى وجهين: أحدهما - ليس له ذلك؛ فإن هذه الأمور يستفيدها الولاة بالولاية؛ من جهة أن الأمر يُفضي إلى المغالبة، وقد يؤدي إلى القتال، وشهْر السلاح، وكل ما كان كذلك، فهو مفوّض إلى راعي الرعية، والقاضي ينوب عن الغائبين بولايته.
والوجه الثاني - أنه يجوز للأمين أن يتولى ذلك احتساباً، ونهياً عن المنكر.
وهذا غير مرضيّ.
ثم يتصل بذلك أنا إذا لم نجوّز ما ذكرناه، فلو فعله الأمين، صار ضامناًً، وكان بمثابة الغاصب من الغاصب.
__________
(1) (د 1) ، (ت 3) : والقاضي.
(2) ساقط من الأصل.(8/466)
وإن جوزنا ذلك، فلا ضمان على الأمين، وفي براءة الغاصب وجهان مرتبان على الوجهين في براءته إذا أزال القاضي يدَه، وهاهنا أولى بأن يبقى الغاصب في عهدة الضمان.
ولو فصل فاصلٌ بين أن يجري ذلك من الواحد من الناس وفي الموضع قاضٍ يمكن رفعُ الأمر إليه، وبين أن تكون البقعة شاغرةً عن الوالي، لكان حسناً خارجاً على الترتيب الذي قدمناه في تفاصيل هرب الجمّال.
5953- فإذا تمهد ما ذكرناه، عاد بنا الكلامُ إلى العبد إذا التقط، وقلنا: إنه ليس من أهل الالتقاط، ويده على اللقطة يدُ غصب. فلو أراد السيد أن ينتزع تلك العينَ من يده، ويحفظها لمالكها، فهل له ذلك أو لا؟
نقول: لو استدعى السيد من السلطان أن يفعل ذلك، فهذه الصورة أولى بأن يزيل السلطان فيها يدَ العدوان، وإذا أزالها، فحصول البراءة أولى، والسبب فيه أن البراءة من الضمان ترجع إلى السيد، وهو غير منتسب إلى العدوان، حتى يغلّظ عليه الحكم، وليس كذلك إذا كانت الواقعة مع الغاصب نفسه.
5954- هذا إذا التمس السيد من السلطان، فأما إذا أراد السيد بنفسه أن يزيل يدَ العبد ويحفظ اللقطةَ على مالكها، فهل له ذلك؟ ولو فعل هذا يسقط الضمان؟
فعلى وجهين مرتبين على الوجهين فيه إذا تعرض لإزالة يد الغاصب آحادُ الناس، وهذه الصورة أولى بألا تحصلَ البراءة فيها؛ فإن السيد ساعٍ في حق نفسه ويدُ العبد يدُه، فلا يحصل الانتقال التام، ولا تتحقق الحسبة، والسيد في حكم من يبرىء نفسه بنفسه.
فإن قلنا: لا يملك السيد انتزاع العين من يد العبد، ولو فعله، لكان غاصباً بنفسه، والضمان باقياً، كما كان، فلا كلام.
وإن قلنا: للسيد أن يزيل يدَ العبد، وإذا أزالها، زال الضمان فلو كان العبد موثوقاً به، والتفريع على الوجه الذي انتهينا إليه، فأراد السيد استحفاظ عبده، وتقرير العين في يده، وإحلال يده على الابتداء محل يده، فهل يسقط الضمان إذا فعل(8/467)
ذلك؟ فعلى وجهين: أظهرهما - أنه لا يسقط؛ فإن اليد، لم تتبدل حسّاً، وقد كانت يدَ ضمان في ابتداء ثبوتها، وهذا هو الأصل.
ومن أصحابنا من قال: استحفاظ السيد إيّاه نازلٌ منزلة أخذه العينَ من يده.
وهذا بعيد.
وكذلك تكون التفاريع إذا كثرت، فإنها تزداد بعداً.
5955- وقد كنا وعدنا أن نذكر في الصبي إذا لقط، وشعر الوليّ به، وقرره تحت يده، والتفريع على أن الصبي ليس من أهل الالتقاط تفصيلاً، فنقول أولاً:
السلطان ينبغي أن يُزيل هذه اليد؛ نظراً للطفل، واحتياطاً له، فإذا فعل، فالأصح أنه يبرأ، ولا يغلَّظ عليه التغليظ الذي ذكرناه في الغاصب. هذا هو الأصل.
وقيل لا يزول الضمان بعد ثبوته، ولكنا مع ذلك نزيل يد الطفل.
5956- والوليُّ هل يأخد من الطفل ما التقطه إذا قلنا: إنه ليس من أهل الالتقاط؟ هذا يترتب على أخد الأمين من آحاد الناس العينَ المغصوبة من الغاصب عند الإشراف على الضياع، والولي أولى بذلك؛ لأنه منصوبٌ شرعاً للنظر للطفل.
وإن قلنا: لا يبرأ الصبي، ولا سلطان في البقعة، تعيّن على الوليّ انتزاعُ المال من يد الطفل، وإن كان لا يستفيد بذلك تبرئة الصبي عن الضمان؛ لأنه إن كان [لا] (1) يحصِّل البراءة، فيصون العينَ عن التلف، وهذه فائدة ظاهرة، فإذا فعل الولي ذلك، فهل يتعلق الضمان به؟ هذا فيه احتمالٌ؛ من جهة أن التفريع على أن البراءة لا تحصل، وليس لآحاد الناس أن يفعلوا ذلك محتسبين، ويجوز أن نجعل الولي كالقاضي في هذا المقام؛ حتى لا يتعلق الضمان به، ووجه الاحتمال بادٍ؛ من جهة أن ولاية الأب لا تتعلق بصاحب المال، وإنما هي مقصورة على رعاية مصلحة الصبي.
وإذا قررنا الضمان على الولي، فلو تلفت العين في يده، فيبعد أن يكون القرار عليه، مع أنا جوزنا له، أو أوجبنا عليه أن يأخد العين من يد الصبي، فالوجه أن نجعله كالمودَع من الغاصب، مع الجهل بحقيقة الحال، حتى تتعلق الطّلبة به،
__________
(1) ساقطة من الأصل.(8/468)
ولا يتقرر الضمان عليه. هذا تفصيل المذهب في انتزاع العين من يد الطفل.
5957- فلو قررناها في يده، تفرع هذا على ما ذكرناه. فإن قلنا: الولي لو انتزع العين، لم يزُل الضمان، فلا يكاد يظهر فائدة. وإن قلنا: لو أزال يدَ الطفل، وأخذ العينَ منه لبرىء، فإذا قرر العين تحت يده، مع العلم بحقيقة الحال، تعلق الضمان بالولي، لا محالة؛ فإنه حيث انتهينا إليه تَرَكَ النظرَ، وورَّطَ الطفل في الضمان، مع التمكن من تبرئته عنه، فيستقر الضمان عليه؛ فإنه لو سلم مالَ الطفل إليه حتى ضاع تحت يده، ضمنه، وما ذكرناه بهذه المثابة.
وقد قال الأئمة: لو أركب الولي الطفل دابة صعبة، فأتلفت الدابة بخبطها ورفسها شيئاً، فالضمان على الولي.
فهذا منتهى الكلام في ذلك.
5958- وقد حان أن نفرع على أن العبد من أهل الالتقاط.
فإذا التقط وأراد السيد أن يُبقي اللقطةَ في يد العبد ليعرفها، وكان موثوقً به، فله ذلك.
وإن أراد أخد اللقطة منه، ومباشرة التعريف بنفسه، فله ذلك، ثم إذا مضت سنة التعريف، فالسيد بالخيار إن شاء تملك، وإن شاء حفظ اللقطة أمانة، واستحفظ العبد فيها، إن كان موثوقاً به.
5959- ومما يجب التنبه له الآن أنا إذا جعلنا العبد من أهل الالتقاط، فلو التقط، ولم يشعر السيد، وعرّف بنفسه [سنة] (1) ، من حيث لم يدر السيد، ثم إنه بعد مضي السنة تملك اللقطة لمولاه، فهل يصح ذلك أم لا؟
هذا يترتب على أن الرجل إذا وهب من عبد إنسان شيئاً، فاتهبه دون إذن مولاه، فهل يصح اتّهابُه، حتى يدخل الموهوب في ملك السيد؟ فيه وجهان: أحدهما - أن الاتّهاب يصح، والموهوب يدخل في ملك السيد، كما يدخل في ملكه ما يصطاده، ويحتطبه.
__________
(1) ساقطة من الأصل.(8/469)
والثاني - لا يصح؛ فإن الهبة عقدٌ متعلِّق بقولٍ، ويبعد أن يصح من العبد عقدٌ يتضمن تمليكَ السيد من غير إذن السيد.
ولم يختلف أصحابنا أن العبد إذا خالع زوجته على مالٍ أن الخلع يصح، وعوضه يدخل في ملك سيد العبد قهراً دخول الصيد إذا اصطاد العبدُ؛ فإن العوض في الخلع يتبع الإبانة (1) ، وهي حق الزوج، فلم يثبت مقصوداً، وملك الموهوب مقصودُ الهبة.
5960- فإذا ثبت ذلك، فلو عرّف العبدُ اللقطةَ، وتملكها بعد السنة للسيد، فقد ذكر صاحب التقريب وجهين في صحة ذلك: أصحهما (2) - أنه لا يصح؛ فإنه تملك للسيد بعوضٍ، وليس كالتملك بالهبة.
وحق ما ذكره من الوجهين أن يرتبا على الوجهين في انفراد العبد بالاتهاب، وهذا أولى بألا يصح، والفرق لائح.
5961- ولو اشترى العبدُ شيئاً بثمن في الذمة بغير إذن مولاه، فالأصح بطلان البيع. وقد ذكرنا قولاً بعيداً: إن البيع يصح، وهو ضعيف غير معتد به، ومن صححه، فالثمن عنده في ذمة العبد يطالب به إذا عتَق.
5962- فإن قلنا: يصح تملك العبد للسيد، فيبعد أن يقال: لا يطالب السيد بعوض اللقطة إذا ظهر مالكها، وليس كما إذا فرعنا على صحة شراء العبد بغير إذن سيده؛ فإن البائع رضي بذمة العبد، ولم يرض مالك اللقطة بذمة العبد في مسألتنا، فيجب القطع بأنا إذا صححنا تملّكَ العبد لسيده، فالعوض في ذمة السيد.
فإن قيل: فجوِّزوا أن يستقرض العبد لسيده، ويشغل ذمته بعوض القرض. قلنا: ذلك غير سائغ، والفرق على هذا الوجه الضعيف أنا جعلنا العبد من أهل الالتقاط، وهو السبب الأظهر في التملك، حتى كأنه ملتحق بالأفعال المملّكة، كالاحتشاش ونحوه.
__________
(1) (د 1) ، (ت 3) : الإنابة.
(2) (د 1) ، (ت 3) : أحدهما.(8/470)
5963- وإن جرينا على الأصح، وقلنا: لا يتملك العبد اللقطة دون إذن سيده، فمن أصحابنا من قال: لا يصح تعريفه دون إذن سيده أيضاً، وهذا غير سديد؛ فإنا إذا جعلناه من أهل الالتقاط، فالتعريف في معنى الالتقاط. نعم، إن قلنا: انقضاء التعريف يوجب حصولَ الملك، فيجوز أن يقال: لا يصح التعريف؛ فإنه لو صح، لاقتضى الملك. ويجوز أن يقال: يصح، ولا يقتضي الملك في هذه الصورة، كما لو عرف الملتقط، ولم يقصد التملك ابتداءً ودواماً.
5964- ومما يتم به تفريع التقاط العبد أن مدة التعريف إذا انقضت، ودخل وقت التملك، وليقع الفرض فيه إذا كان أذن السيد لعبده في التملك، فلو تلفت اللقطة في يد العبد أو أتلفها، فكيف الحكم؟ نُقدِّم على ذلك بيانَ هذا الحكم في حق الحر الملتقط الذي هو من أهل الالتقاط.
5965- فإذا عرّف (1) اللقطة سنة، نُظر: فإن كان قصد بالالتقاط التملك بعد التعريف، ثم انقضت مدة التعريف، وهو على قصد التملك، والتفريعُ على أن مضي السنة لا يفيد التمليك، فإذا تلفت اللقطة قبل التملك، فهي مضمونة على الملتقط، بمثابة العين المأخوذة على سبيل السَّوْم.
ولو التقط أوّلاً على قصد الحفظ، ثم لم يغيّر قصده، وعرّف، فتلفت اللقطة بعد انقضاء التعريف، فهي أمانة؛ فإنّ قصد الأمانة اقترن بالابتداء، ولم يطرأ ما يناقضه.
ولو التقط، ولم يقصد تملكاً، ولا أمانةً، وعرّف على هذا الإطلاق أيضاً، ثم انقضت السنة، ولم يُحدث قصداً في التملك ولا في نفيه، فلو تلفت اللقطة، فيمكن أن يخرّج الضمان في هذه الحالة على القولين في أن الغالب على اللقطة حكمُ الأمانة أو حكم الكسب، حتى إذا قلنا: الغالب مقتضى الكسب يضمن اللقطةَ إذا تلفت، وإن قلنا: الغالب الأمانة لا يضمن.
__________
(1) فإذا عرّف: أي الحر الذي هو من أهل الالتقاط.(8/471)
هذا بيان حكم الضمان في [حق] (1) الحر، ونقول بعده:
5966- العبد إذا كان مأذوناً في التملك، فإذا مضت سنةُ التعريف، فتلفت اللقطة في يده قبل أن يتملكها، وهو مأذون من جهة السيد في التملك، فإذا لم يتملك، وتلفت اللقطة، فالضمان يتعلق بذمة السيد، وذمة العبد، وهو كما لو أمر عبده حتى أخد عيناً على سبيل السوم، فتلفت في يد العبد، فالضمان يتعلق بالسيد من جهة صدور سبب الضمان عن إذنه.
هذا هو المذهب.
ومن أصحابنا من قال: إذن السيد في هذا بمثابة إذنه في الغصب، ولو أذن لعبده، فاعتدى وغصب، لم يتعلق الضمان بذمة السيد، كذلك هاهنا.
والقائل الأول يقول: لو اشترى بإذن السيد، تعلّق الضمان بكسب العبد، وهو من ملك السيد، ويطالَب السيد بالثمن أيضاً إذا وقع المبيع ملكاًً له.
والأقيس أن الضمان في [التالف] (2) المأخود على سبيل السوم لا يتعلق بذمة السيد.
فإن قيل: هلا علقتم الضمان بكسب العبد، كالثمن الذي يلتزمه بإذن مولاه؟
قلنا: إذا قال السيد، التزِم، فقد قال: أدِّ. وأقرب مصرف يحمل الأداء عليه مع بقاء العبد على حكم الرق الكسبُ، وإذا قال له: خد شيئاً مستاماً، فليس في هذا إذنٌ بالالتزام.
5967- ولو لم يصدر من السيد إذنٌ في التملك، وتلفت اللقطة في يد العبد بعد مضيّ زمان التعريف، فالمذهب أن القيمة تتعلق بذمة العبد يتبع بها إذا عتق، ولا يطالب السيد به أصلاً.
وأبعد بعض أصحابنا، فقال: تتعلق القيمة برقبة العبد؛ فإنها لزمت من غير معاملة صدرت من مالك العين، فكانت كأرش الجناية. وهذا مزيّفٌ، لا أصل له؛
__________
(1) في الأصل: حكم.
(2) في الأصل: التلف.(8/472)
فإن الشرع (1) إذا سلّط على التملك بالعوض (2 في وجهٍ 2) ودخل وقتُه وأوانُه، كان ذلك بمثابة رضا المالك. والدليل عليه أن التملك يسوغ من غير إذن المالك تعويلاً على تسليط الشرع.
5968- ولو أتلف العبدُ اللقطة قبل التملك، فقد ذكر صاحب التقريب وجهين: أحدهما - أن القيمة تتعلق برقبة العبد لمكان الإتلاف، وإذا صادف الإتلاف ملكَ الغير، فموجبه يتعلق بالرقبة إذا كان المتلِف العبدَ.
والوجه الثاني - أن القيمة تتعلق بذمة العبد؛ فإن اللقطة وإن لم تتملك، فهي في حكم المتملّكة، وإذا اشترى العبد شيئاً شراءً فاسداً، وأتلفه، فالقيمة تتعلق بذمته؛ لأن البائع [قد سلط المشتري على الإتلاف، وتسليطُ الشرع كتسليط البائع] (3) .
وقد نجز القول في العبد والتقاطه (4) .
فرع:
5969- إذا التقط العبد، وقلنا: إنه ليس من أهل الالتقاط، فلو أعتقه السيد واللقطة في يده، فعرّفها سنةً، فهل يملكها؟
ردّد الشيخ أبو حامد في هذه المسألة جوابه، ولم يفصّل (5) فيها جواباً، ولكنه قال: المسألة محتملة، فيجوز أن يقال: إنه يملك في الصورة التي ذكرناها، ويجوز أن يقال: لا يملك استدامةً للحكم السابق.
وهذا التردد الذي ذكره رضي الله عنه قريبُ المأخد مما ذكرناه فيه إذا التقط الحرّ، ونوى الاختزالَ والخيانة، وقرن النية بالالتقاط، فلو عرّف، وأراد أن يتملك، ففيه خلاف ذكرناه، والعلم عند الله تعالى.
5970- فأما الفاسق إذا التقط، فطريق المراوزة فيه تخريجه على القولين في أن
__________
(1) (د 1) ، (ت 3) : السيد.
(2) ساقط من (د 1) ، (ت 3) .
(3) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(4) في الأصل هنا العبارة الآتية: " تم الجزء بحمد الله ومنه " وبعدها " بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده ".
(5) في (د 1) ، (ت 3) : ينقل.(8/473)
الغالب على اللقطة الأمانة أو الكسب؟ فإن قلنا: الغالب الأمانةُ، فالفاسق ليس من أهل الالتقاط، والعين التي أخذها مغصوبة في يده، ولو عرّفها لم يتملكها. وهذا فائدة قولنا: إنه ليس من أهل الالتقاط.
وإن قلنا: الغالب على اللقطة معنى الكسب، فالفاسق من أهل الالتقاط، وإذا عرّف، تملك.
5971- ثم ذكر المراوزة وجهين في أن اللقطة هل ينتزعها الوالي من يده، حتى تنقضي مدة التعريف: أحدهما - أنه يفعل ذلك احتياطاً لمالك المال. والثاني - لا ينتزعها من يده، ولكن يضم إليه من يراقبه، حتى إذا مضت المدة، انفرد بنفسه، واستقل بالتملك.
فإن قيل: إن لم يكن العبد ممن [يؤتمن] (1) فالفاسق يجوز ائتمانه. ولو أودعه إنسان شيئاً، فتلف في يده، لم يلزمه الضمان.
قلنا: يتصور الإيداع عنده، ولكن الشرعَ لا يأتمنه، وحكم الأمانة في اللقطة ثابت شرعاً. وأيضاً الأمانة ممزوجة بحكم الولاية؛ فإن الملتقط يستقل بالالتقاط، من غير ائتمان، والفاسق ليس من أهل الولاية على هذا الوجه.
هذا طريق المراوزة.
5972- وأما العراقيون، فإنهم سلكوا مسلكاً آخر، فقالوا: الفاسق إذا التقط، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنه يُخرِج القاضي اللقطةَ من يده.
والثاني - لا يخرجها من يده. ولكن ينصب من يشارفه (2) حتى لا يضيعها.
5973- ثم قالوا على القولين: إذا عرّف وتحقق تعريفه؛ فإنه يتملك اللقطة، فقطعوا [القول] (3) بأن الفاسق من أهل تملك اللقطة، وردّدوا القول في إزالة يده.
__________
(1) في الأصل: يوثق.
(2) يشارفه: يدنو منه ويطلع عليه. (المعجم) .
(3) ساقطة من الأصل.(8/474)
وهذا يخالف طريقَ المراوزة. وما ذكروه [منقاس] (1) حسن، فإنه إذا أمكن إجراء الأمانة [دون] (2) الفاسق، مع تبقية حقه في الكسب، فلا وجه لمنعه من الاكتساب.
وليس الفاسق في هذا كالعبد؛ فإن العبد ليس من أهل الاكتساب لنفسه، فيبعد أن يكتسب بالعوض لسيده، فكان الكلام في العبد على نسق آخر.
5974- ويجوز أن يقول من يسلك طريق المراوزة: الفاسق لو تملك اللقطة، لتملكها بالعوض من غير رضا مالك اللقطة، وهو ليس موثوقاً به، ولم يصدر من المالك رضاً بذمته، فيتجه خروجه عن هذا النوع من الاكتساب، مع أن إجراء الأمر في اللقطة مأخود من أوّله، والغالب على أول اللقطة الأمانةُ، وقد أوضحنا أن الفاسق ليس من أهلها.
5975- فأْما المكاتب، فقد قال أئمتنا: إن غلَّبنا معنى الكسب، فالمكاتب من أهل الالتقاط، ثم يستبد بالتعريف، والتملكِ بعد مدة التعريف، ولا شك أنه يتملك لنفسه.
وإن قلنا: الغالب الأمانة، فلا يلتقط المكاتَب، وإذا التقط، كان غاصباً، ولا يتملك في العاقبة.
والمكاتب وإن كان موثوقاً به، ويجوز الإيداع عنده. فليس من أهل الولاية، وقد أوضحنا أن الالتقاط فيه شَوْبُ الولاية.
وربما كان يقول شيخنا: المكاتب مرتب على القِنّ، وهو أولى بأن يكون من أهل الالتقاط.
والعراقيون قطعوا بأن المكاتب إذا التقط؛ فإنه يتملك اللقطة قولاً واحداً.
والقولان في أن اللقطة هل تبقى تحت يده أم لا؟ على القياس الذي قدموه في الفاسق.
__________
(1) في الأصل رسمت هكذا: " مُد قياس حسن " وهو تصحيف طريف.
(2) في الأصل: في حق الفاسق. والمعنى: إذا أمكن مشارفة الفاسق أو حفظها من يده حتى يتم تعريفها -وهذا معنى إجراء الأمانة دونه- فلا معنى لمنعه من الكسب، وهو من أهل الاكتساب بالاتفاق.(8/475)
وما ذكروه من القطع بأنه يتملك متَّجهٌ، لأنه موثوق به، وهو من أهل الاكتساب.
وما ذكروه من القولين في إزالة يده فيه بعدٌ، مع القطع بأنه يتملك، وهو موثوق به، فإن قيل: تزال يده في قولٍ لما ذكرت من شَوْب الولاية، فلا وجه للقول الآخر الذي ذكروه من أن القاضي ينصب عليه من يشارفه، فإن هذا إن اتجه في الفاسق من جهة سقوط الثقة به، فلا اتجاه له في المكاتب الموثوق به، فالوجه أن يقال: تزال يده على قولٍ وتترك اللقطة تحت يده على قولٍ من غير مشارفةٍ ونصب مراقبٍ، فقد تبين من أصل العراقيين أن الفاسق، والمكاتَب من أهل تملك اللقطة قولاً واحداً، لمّا كانا من أهل الاكتساب. والتردد في العبد القِنّ، كما ذكرناه.
5976- وأما الصبي، فهو من أهل الاكتساب، ولكنه ليس من أهل التملك بنفسه، فيجوز أن يوافق العراقيون فيه المراوزة في تخريج القولين في أن ما التقطه الصبي هل يتملكه؟
5977- فأما من نصفه حر، ونصفه عبد، فقد قال أئمتنا: هو بمثابة المكاتب؛ فإن له على الجملة استقلالاً بسبب [حرية نصفه] (1) كالمكاتب.
وهذا فيه نظر؛ فإن الرق الذي فيه كامل، وإذا كمل الرق، ضعف التصرف فيما يقابل الرق، وإذا تحقق ذلك في بعض الملتقَط، عم جميعه؛ فإن التقاط البعض الذي يضاف إلى الحرية غيرُ ممكن؛ إذ من ضرورته لقطُ الكل.
5978- فإن قلنا: إنه من أهل الالتقاط، فلا يخلو إما أن يكون بينه وبين مالك الرق منه مهايأة، وإما ألا يكون بينهما مهايأة، فإن لم تكن مهايأة، فاللقطة إذا ملكت، تقسطت على النصف الحر، والنصف الرقيق.
وإن كانت مهايأة فاللقطة من الأكساب النادرة، وقد اختلف الأصحاب في أن الأكساب النادرة هل تدخل تحت المهايأة؟ فإن قلنا: إنها لا تدخل تحت المهايأة، فالملك فيها يقع منقسماً.
__________
(1) في الأصل: بسبب حريته كالمكاتب.(8/476)
وإن قلنا: إنها تدخل تحت المهايأة، فالنظر إلى النوبة، فإن وقع ما هو المعتبر في نوبة السيد، فالملك في اللقطة له، وإن وقع في نوبة من نصفه حر، فالملك له.
5979- وفحوى كلام الأصحاب يدل على أن الاعتبار فيما ذكرناه بما بعد سنة التعريف، وفي كلام بعض المحققين ما يدل على أن الاعتبار بيوم الالتقاط؛ فإنه المستند، وهذا فقيه حسن.
فلو وقع الالتقاطُ في نوبةٍ، وانقضاءُ سنة التعريف في نوبة أخرى، فللتردد في ذلك مجال.
والأصل عندي القطع بأن الالتقاط لا يدخل تحت المهايأة؛ فإنه ليس اكتساباً محضاً، وإنما هو في حكم استقراض، وإنما يقع هذا بجملته.
هذا منتهى القول فيمن يكون من أهل الالتقاط، وفيمن لا يكون من أهله.
فرع:
5980- ذكر العراقيون وجهين في [أن الذمي هل يكون من أهل الالتقاط في دار الإسلام، والذي قطع به] (1) أئمتنا أنه من أهل الالتقاط؛ فإنه أمينٌ مكتسب.
فصل
جامع فيما يجوز التقاطه، وما لا يجوز التقاطه
5981- فنقول: إذا وجد الرجل مالاً ضائعاً، لم يخل إما أن يجده في الصحراء أو يجدَه في العمران.
فأما إذا وجد في الصحراء، فلا يخلو: إما أن يكون الموجود حيواناً، أو غير حيوان. فإن لم يكن حيواناً، لم يخل: إما أن يكون مما يتسارع إليه الفساد، أو لا يكون كذلك.
فإن كان مما يتسارع إليه الفساد كالطعام، وما في معناه، يأكلْه على مكانه، ولا نكلفه التعريف؛ فإنه غير ممكن في الحال، ولو ترك الطعامَ، ولم يأكله،
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.(8/477)
لضاع، وسبب الأمر بالتعريف فيما لا يفسد التسبب إلى ظهور مالك اللقطة، ليأخذها قبل أن تملك عليه، فإذا كان التعريف يؤدي إلى إفساد المال، استحال اشتراط تقديمه.
ثم إذا أكل الطعام، فهل يجب عليه التعريف بعد الاكل؟
فعلى وجهين: أحدهما - لا يجب عليه، فإنَّ وَضْع التعريف في الشرع أن يقدّم على التصرف في اللقطة، فإذا تقدم التصرف، وفاتت العين، فالتعريف خارج عن وضعه، ويشهد لهذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما سئل عن الشاة يجدها الواجد، فقال: " هي لك، أو لأخيك، أو للذئب " ولم يتعرض صلى الله عليه وسلم لإيجاب التعريف، والطعام في معنى الشاة، وأيضاً التعريف في المضْيعة لا يفيد، والطعام مما لا يطلب في الغالب، فإذا تقدم الأكل ولم يُفد التعريفُ في مكان الوجود، وبَعُد العثور على صاحب الطعام في بلدةٍ سيصل إليها، فاجتماع هذه
الأسباب يُسقط التعريف.
والوجه الثاني - أنه لا بدّ من التعريف؛ فإنه لو تركه، وقد أكل الطعام، كان في حكم الكاتم المُغَيِّب لملك الغير. وهذا بعيد.
5982- فأما ما لا يتسارع إليه الفساد، فلا بد من تعريفه سنةً أوّلاً.
وسبيل تعريفه ما ذكرناه في فصول التعريف، فيبتدىء التعريف إذا انتهى إلى البلدة التي يقصدها، وقد قدمنا تفصيل ذلك.
5983- فأما الحيوان إذا وجد في الصحراء، فلا يخلو إما أن يكون مما يمتنع عن صغار السباع كالإبل، والبقر، والخيل، والبغال، والحمير، فلا يجوز التعرض لها. والدليل عليه حديث زيد بن خالد، وما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله متبعٌ، وفيه مَقْنع، ولعل المعنى أن هذه الحيوانات لا يطرقُها الطارقون في الصحارى إلا على الندور، وهي ممتنعة من صغار السباع، ويندر انتهاءُ كبار السباع إليها، كالأُسْد والنمور، وكأنها ليست ضائعة، وقد يخطر للإنسان أن الحُمر ضعيفة لا تمتنع عن الذئاب، ولكن الأصحاب مجمعون على إلحاق الحُمر بالحيوانات الممتنعة عن صغار السباع.(8/478)
5984- وأما الحيوانات التي لا تمتنع عن صغار السباع، كالغنم، والفُصلان، والعجاجيل، وما في معانيها، فواجدها يأخذها. والأصل فيها قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الشاة: " هي لك، أو لأخيك، أو للذئب "، ثم لواجد الشاة الانتفاعُ بها في الحال، والقول في التعريف بعد الانتفاع بها، على ما قدمناه في الطعام الذي يتسارع إليه الفساد، وسيأتي في ذلك فضل بيان في أثناء الفصل، إن شاء الله تعالى.
5985- فأما ما لا يؤكل من صغار الحيوانات كالجحش، فكيف السبيل فيه؟ وقد وجده من وجده في الصحراء؟ الأصح أنه لا بد من تعريفه سنة، بخلاف الشاة؛ فإنها ملتحقة بالمطعومات، والعاثر على الجحش لو كان يستديمه، فهو مما يبقى، وإن كان يعسر استدامته، فلا طريق إلى الانتفاع به.
ومن أصحابنا من ألحقه بالغنم، وجوز تملّكه في الحال، واستدل عليه بأن تعهده بالعلف مما لا تسمح به الأنفس من [غير] (1) تملكه، وفي منع تملكه في الحال تضييعُه وتركُه بالعراء في مضيعة الصحراء، وأصل اللقطة أُثبت محافظةً على الأموال أن تضيع. هذا قولنا فيما يوجد في الصحراء.
5986- فأما ما يجده الإنسان في العمران؛ فإنه ينقسم على حسب ما ذكرناه في الصحراء، فمنه ما ليس بحيوان، ومنه الحيوان.
فأما ما ليس بحيوان، فينقسم إلى ما يتسارع إليه الفساد، وإلى ما لا يتسارع إليه الفساد.
5987- فأما ما لا يتسارع إليه الفساد، فهو اللقطة التي سبق وصفها، وسبيلها أن تُعرّفَ سنةً، كما تقدم.
ثم القول في السبب المملك ما ذكرناه.
5988- فأما ما يتسارع إليه الفساد كالطعام، فهل يجوز لمن يجده أن يبتدر أكله
__________
(1) سقطت من الأصل.(8/479)
إذا كان بيعه ممكناً؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه يأكله، وفي بعض الكتب (1) أنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيمن وجد طعاماً: " أكله، ولم يعرّفه " (2) .
والقول الثاني - أنه لا يأكله، بل يسعى في بيعه، ثم إن كان في الموضع حاكم، فرفعت القصة إليه، وباع الطعام، فلا كلام.
وإن أراد الملتقط أن ينفرد بالبيع مع القدرة على مراجعة الحاكم، ففي المسألة وجهان مشهوران: أحدهما - أنه لا يبيعه؛ فإن التصرف بالبيع في الأموال التي غاب عنها ملاكُها إلى الحكام.
والوجه الثاني - أن الملتقط ينفرد ببيعها، كما ينفرد بأخذها وتعريفها وتملكها، والسبب في ذلك أن الشرع أثبت له التصرفَ في اللقطة على الموضوعات المعلومة في الشريعة.
التفريع:
5989- إن حكمنا بأن واجد الطعام يأكله، فالأصح أنه يجب عليه التعريف، بخلاف ما لو وجد الطعام في الصحراء؛ فإن التعريف في المفازة عسرٌ، غيرُ مجدٍ، وإذا استأخر التعريف بَعُد العثور على مستحق الحق، والأمر في العمران على خلاف ذلك.
ثم إذا أوجبنا التعريف، فالتعريف يعتمد ذكرَ بعض أوصاف الطعام؛ فإنه المعرَّف، وبذكره يتوقع العثور على مالكه.
5990- ثم هل يجب على معرِّفه أن يميِّز قيمته من ماله، حتى يقع التعريفُ، والقيمةُ مُمَيَّزَةٌ؟ فعلى وجهين معروفين: أطلقهما الأصحاب: أحد الوجهين - أن ذلك واجب، لتقومَ القيمة مقام المقوَّم، ويصادفَ التعريفُ كائناً موجوداً خلفاً عن العين المستهلكة.
__________
(1) في بعض الكتب: يقصد الإمام أبا القاسم الفوراني، وإمامنا شديد الحط عليه، وتضعيفه -وبخاصة- في النقل.
(2) نقل الحافظ في التلخيص قول الإمام الرافعي في "التذنيب" عن هذا الحديث: " الأكثرون لم ينقلوا في الطعام حديثاً، بل أخذوا حكم ما يفسد من الطعام من قوله صلى الله عليه وسلم؛ هي لك أو لأخيك أو للذئب ". فافهم أن هذا ليس بحديث. ر. التلخيص: 3/75 ح 1336.(8/480)
والوجه الثاني - أن ذلك لا يجب، ولكن يعرِّف من يعرف، والقيمةُ في ذمة من استهلك الطعام.
وقال أئمة العراق: التعيين في القيمة والتمييز من سائر أملاك الملتقط موجَبُه أن القيمة لو تلفت في مدة التعريف، كان تلفها على حكم الأمانة، وكان ينزل منزلة تلف العين المعرَّفة، لو كانت باقية، حتى تلفت في مدة التعريف.
5991- وهذا فيه بعض الخبط، وسببه شيئان: أحدهما - إطلاق الأصحاب لذكر القيمة وتمييزها، وهذا [يجرّ] (1) إشكالاً في التصوير. والآخر - ضعفُ الوجه.
أما التصوير، فوجه الغموض فيه أن الملتقط المستهلك للطعام لو ميز قيمة الطعام في قصده فعيَّنها في تقديره، فهذا ليس بشيء، وليس هو التعيين الذي ذكره الأصحاب؛ فإن القيمة لا تتعين بمثل هذا من غير فرض يدٍ قابضة عن المتلِف الملتزِم، والذي أراده الأصحاب بالتعيين ما ذكره الصيدلاني، وكلُّ واقفٍ على المراد من هذا الفصل، قالوا: حقٌّ على الملتقط أن يسلّم القيمةَ إلى القاضي أو إلى نائبه، ثم يكون القاضي بمثابة يد المستحِق في إفادة التعيين، وتفرض القيمة من طريق التقدير مملوكةً لمالك الطعام، ثم إذا فرضنا تلفَ القيمة في مدة التعريف، فيكون تلفُها بمثابة تلف العين المعرَّفة في مدة التعريف، إذا كانت باقية.
هذا بيان ما يتعلق بالتصوير.
5992- أما ضعف الوجه، فلا شك فيه، فإن التزام القيمة من غير طالبٍ ومطالَبٍ بها في اللقطة (2) بعيد، وليس في تمييزها احتياط لمالك الطعام؛ فإن تبقية [الطعام] (3) في ذمة الملتقط المستهلك للقطة أحوطُ لمالك اللقطة، من تعريض حقه للسقوط بتقدير تلف القيمة.
ثم الأصحاب قالوا في التفريع على تمييز القيمة: القيمة قائمة مقام العين، وليست مملوكة في الحقيقة لمالك اللقطة.
__________
(1) في الأصل: جرّ.
(2) (د 1) ، (ت 3) : اللغة.
(3) في الأصل: الضمان.(8/481)
والقدر الذي ذُكر في ثبوت حكم التعيين ما صرح به العراقيون، إذ قالوا: لو أفلس الملتقط، وظهر مالكُ الطعام، فهو أولى بالقيمة المميَّزة على الصورة التي ذكرناها، يستبدّ بها ولا يضارب الغرماء. وهذا فيه بُعدٌ، وسببه أنه مفرّعٌ على وجه بعيد.
5993- ثم الذي أراه في ذلك أن يتملك صاحب الطعام إذا ظهر القيمةَ المميَّزةَ له، ويكون أولى بتملكها بحق التعيين السابق، ولو لم يتملكها، وأعرض عنها، لم يكن إعراضه عنها كإعراض المالك عن ملكه، وتمكّنُه من التملك فيها بمثابة تمكن البائع من الرجوع إلى العين المبيعة بطريق فسخ البيع، ولم يكن المبيع ملكاًً له حالة الإفلاس، ولكنه أوْلى به من الغرماء، كذلك القول في القيمة.
5994- ولو انقضت السنة على شرط التعريف، والقيمةُ المميَّزةُ متروكةٌ في يد الحاكم، أو في يد من عينه الحاكم مبقَّاةٌ على حق مالك اللقطة، فإن لم يظهر، ولم (1) يظهر المالك، وتلفت القيمة، سقطت العهدة بالكلية عن الملتقط المستهلك.
ولو لم يكن في الناحية حاكم، فأراد الملتقط بسلطان الالتقاط أن ينصّب نائباً عن مالك اللقطة، ويسلم [القيمة] (2) إليه، فيُنزله منزلة الحاكم لو كان. هذا فيه احتمالٌ، كما ذكرناه من الاختلاف في أن الملتقط هل يملك بيع الطعام، إذا فرعنا على أنه يباع؟ ثم هذا الاحتمال يجري، وإن كان في الناحية حاكم، غيرَ أن البقعة إذا شغرت عن الوالي، والتفريعُ على وجوب البيع، فالملتقط يبيع وجهاً واحداً.
وإذا فرضنا خلوَّ المكان عن الوالي، فلا يجري إنفاقٌ على ملك الملتقط [و] (3) نصب نائبٍ عن مالك اللقطة حتى يقبض القيمة التي يعتمدها التعريف، بل الأمر محتمل مشكل في ذلك؛ فإن ملك بيع مال الغير أمرٌ مفهوم، وتمييز القيمة، ونصب من يقبضها عن مالكٍ مجهول، كلام فيه اضطراب بيّن. [وإنما] (4) يظهر بعض الظهور إذا صدر قبضُ القيمة من والٍ ينوب عن الملاك الغُيَّب، وإن كانوا مجهولين.
__________
(1) كذا في النسخ الثلاث، فما وجه هذا التكرار؟.
(2) في الأصل: اللقطة.
(3) زيادة اقتضاها السياق، حيث سقطت من النسخ الثلاث. والله أعلم.
(4) في الأصل: فإنما.(8/482)
هذا منتهى القول في ذلك.
5995- ولو عين القيمة على الوجه الذي يصح، ثم أراد إبدالها، لم يكن له ذلك، وامتناع الإبدال من أول آثار التعيين الذي يهتدى إليه. فأما إذا قلنا: بأن الطعامَ يباع، وأمكن بيعه فنحصِّل ثمن الطعام أولاً، ثم نفرض ابتداء التعريف، فإذا مضت سَنةُ التعريف، تملَّك الملتقط الثمنَ، ولو تلف الثمن في مدة التعريف، كان أمانةً، ثم الثمن يسلّم إلى الملتقِط إذا كان من أهل الالتقاط، كما تُبقَّى اللقطة في يده لو كانت اللقطة مما لا يتسارع الفساد إليها.
هذا كله إذا لم تكن اللقطة حيواناً.
5996- فأما إذا كانت حيواناً، وصادفها، وأخذها في أثناء العمران، من القرى والبلدان، فقد جمع صاحب التقريب ثلاثة أوجه للأصحاب:
أحدها - أنه لا يأخد الحيوان واجدُه، فإنه ظاهر ليس عرضة للضياع. وإنما يثبت حق الالتقاط في متعرَّض للضياع.
وهذا القائل لا يفصل بين الكبار من الحيوانات التي منعنا التقاطها في الصحراء، وبين الصغار منها، وأجرى الجميع في منع الالتقاط مجرى الكبار في الصحراء.
والوجه الثاني - أن الواجد يلتقط ما يجد من الحيوانات في العمران، من غير فرق بين الكبار وبين الصغار؛ فإن جميعَها عرضةٌ لأخد الآدميين، واحتوائهم، وإذا أمكن اختزالها وتقدير تغييبها، فالكل بمثابةٍ واحدةٍ، وليس كذلك الصحارى؛ فإن طروق الآدميين فيها نادر، والحيوانات منقسمة بالإضافة إلى السباع، كما تقدم، وإمكان التغييب يعمّ في العمران الصغارَ من الحيوانات والكبارَ.
والوجه الثالث - أن واجدَ الحيوان يلتقط في العمران ما يلتقطه في الصحراء، ولا يلتقط ما يمتنع عليه التقاطه في الصحراء؛ تمسكاً بظاهر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
5997- ثم ذكرنا في صغار الحيوانات إذا صادفها واجدُها تفصيلاً، وقسمناها إلى(8/483)
المأكول، كالشاة وإلى ما لا يؤكل كالجحش، فالشاة إذاً ملحقة بالطعام، وقد مضى التفصيل في الطعام في العمران. وفي الجحش، وما لا يؤكل التفصيلُ المقدم.
ومن سَلَّط على تعجيل التملك فيه، فسببه تعذر العلف.
والرأيُ الظاهر أنه لا يتملكه قبل التعريف، فإنا ألحقنا الشاة بالطعام للخبر، ومن رأى تعجيل التملك لضرورة العلف لا يصير إلى هذا المذهب في الحيوان الكبير، إذا فرّعنا على جواز التقاطه في العمران، فإنه يصير إلى ما يصير إليه لمشابهة الصغير الشاةَ في الضعف، وعدمِ الاستقلال.
5998- ثم إذا التقط حيواناً، فلا خلاف أن مؤنة علفها (1) لا تكون على الملتقط، وإنما هي على مالك اللقطة، ثم الوجه في تحصيلها بيعُ جزءٍ من الحيوان، وصرفُ الثمن إلى العلف، وسائر المؤن، فإن تمكنا من رفع الأمر إلى قاضٍ، فعلناه، ثم إنه يفعل ذلك فعلَه لو كان يريد إمساك بهيمةٍ على مالكها.
وإن لم نجد حاكماًً، تولّى الملتقط ذلك بنفسه، ولو أراد أن يتولاه مع وجود الحاكم، ففيه الوجهان اللذان سبق ذكرهما.
وكان شيخي يقول: يجوز أن تُلحِق ضرورةُ العلف وتوقعُ مسيس الحاجة إلى أن تأكل الدابةُ [نفسها] (2) - الدابة (3) بالطعام الذي يتسارع الفساد إليه، حتى يباع [ويَعْتُد] (4) ثمنُه، [ثم] (5) يفرض التعريف على حسب ما فرعناه في بيع الطعام، وهذا حسن بالغ.
__________
(1) كذا بضمير المؤنث، وتوجيهه ميسور.
(2) في الأصل: " تشبيها ".
(3) الدابةَ: مفعول لقوله: تُلحق. والمعنى أن ضرورة العلف، والإنفاق على الدابة الملتقطة، قد يستهلك قيمتها، وهذا معنى " تأكل الدابةُ نفسها " وهذا يجعلها تشبه الطعام الذي يتسارع إليه الفساد، فتأخد حكمه، من جواز البيع وغيره.
(4) ويعتُد: أي يصير حاضراً معدّاً. يقال: عتُد الشيء (بفتحٍ وضم) : أي تهيأ وحضر (المعجم، والمصباح) وهي في نسخة الأصل: بعد.
(5) ساقطة من الأصل.(8/484)
وقد نجزت معاقد الكلام على أصناف اللقطة في البقاع المختلفة.
5999- ومما يجب إلحاقه بخاتمة الفصل الكلامُ في الفرق بين القليل والكثير، وتصرف الأصحاب فيه، فنقول أولاً: القليلُ الذي لا يتمول لقلته، لا [لخسته] (1) إذا صادفه الواجد، فأخذه، لا يتعلق به حكمٌ في تعريفٍ أو غيره. ولكن الواجد يختص به، وهذا كالزبيبة يجدها، وما في معناها، وقد ذكرتُ في آخر كتاب البيع ما يجب اتباعه فيما يتموّل، وما لا يتمول، ويمكن أن يطرد في ذلك لفظان: أحدهما - الانتفاع، وكل ما يقدّر له أثر في النفع، وموقعٌ في هذه الجهة، فهو متموّل. وكل ما لا يظهر له أثر في الانتفاع، فهو لقلته خارج عما يُتموّل. وهذا مما قدمته.
ويمكن أن يقال: المتمول (2) هو الذي يفرض له قيمة عند غلاء الأسعار، والخارج عن التموّل هو الذي لا يفرض ذلك فيه.
6000- ثم ما لا يتموّل لا يصح بيعه، لا بما يتموّل ولا بما لا يتمول. وصاحبه الظاهر أولى به، فلا يزاحَم عليه، وله منع من يزاحمه.
ولو وهبه، فيظهر عندي تصحيح الهبة فيه، على معنى إحلال المتَّهِب محلَّ الواهب في الاختصاص. وهذا محتمل لا أقطع به.
وإذا كنا نذكر الخلاف في هبة الكلب، تعويلاً على حق الاختصاص، فلا يبعد إجراؤه فيما ذكرناه. ويسوغ أن يقال: الهبة في الكلب تعتمد إمكان الانتفاع به، ولا نفع فيما لا يتمول، فيظهر إبطال الهبة.
6001- ولو أتلف متلفٌ المقدار الذي لا يتمول، وكان جنسه من ذوات القيم، فلا شيء على المتلف، كسلك من ثوب.
وإن كان المتلَف من ذوات الأمثال، فقد ذكر [بعض] (3) الأصحاب خلافاًً في أنه
__________
(1) في الأصل: لجنسه.
(2) هذا هو اللفظ الثاني الذي يطرده، قسيماً (لأحدهما) الذي ذكره في الأسطر السابقة.
(3) ساقطة من الأصل.(8/485)
هل يضمن له مثلَ ما أتلفه. ويخرّج عليه التردد الذي ذكرناه في الهبة، والأظهر إبطال الهبة، ونفيُ غرامة المثل.
6002- فإن أخذ الملتقط ما لا يتموّل، استبد به، ولا تبعة في الحال؛ فإن ما يقتضيه سلطانُ الالتقاط [يزيد] (1) على ما ذكرناه.
6003- فأما إذا كان الشيء المصادف متموَّلاً، ولكن عُدّ يسيراً، فللأصحاب فيه تردد، نأتي به على وجهه، ثم بيان القول فيه يبين آخراً.
فإذا وجد الملتقط شيئاً يسيراً متموّلاً، فمن أصحابنا من قال: هو كالكثير في جميع الأحكام، فلا بد من تعريفه سنة؛ فإن أحكام الأموال في هذه المنازل لا تختلف بالقلة والكثرة إذا كان الشيء مما يتمول.
ومن أصحابنا من قال: لا يجب تعريف الموجود سنة كاملة.
وهذا فيما ذكره الأصحاب ظاهرُ المذهب. ووجهه أن الشيء الخطير لا يبعد توقُّع طلبه في مدة السنة، والشيءُ الحقير قد ينعكس عليه فاقده على قربٍ، فإن لم يجده بَعُد (2) دوامُ الطلب فيه المدةَ الطويلة، هذا حكم العرف.
فإن قيل: فلا توجبوا التعريف أصلاً؛ فإن الحقير قد لا يطلب. قلنا: لا يمكن الحكم بهذا على طبقات الخلق، فإن فيهم من يرجع على طلب ما نعتقده حقيراً.
فإن قيل: هلا أوجبتم التعريف سنةً؛ إذ في الناس من يطلب ما نراه حقيراً مدة طويلة؟ قلنا: ليس الأمر كذلك؛ فإن طبقات الناس على خلاف المراتب يستوون في ترك إدامة الطلب في الحقير الذي لا يؤثر العاقلُ التعبَ الكثيرَ في طلبه، ثم لهذا السؤال صار صائرون إلى وجوب التعريف سنة على ما قدمناه.
6004- فإن قيل: إذا لم تُوجبوا التعريف سنة، فما المعتبر عندكم؟ وقد أوجبتم
__________
(1) في الأصل: زِيدَ.
(2) بَعُد: بفتح وضم. ومن عجبٍ أنها ضبطت في الأصل: بفتح الباء وسكون العين وفتح الدال.
والأعجب من العجب أن هذه النسخة نادرة الضبط جداً، وهي مع ذلك من أضبط النسخ وأصحها. ولكن لكل جوادٍ كبوة، ولكل صارمٍ نبوة.(8/486)
أصل التعريف؟ قلنا: الذي تلقيناه من كلام الأصحاب في ذلك تحصره أوجه:
أحدها - أن مدة التعريف ثلاثة أيام. وهذا تقريب لا بأس به. وفي بعض التصانيف (1) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من التقط لقطة يسيرة، فليعرّفها ثلاثة أيام ". وهذا إن صح معتمدٌ ظاهر.
ومن (2) أصحابنا من لم يقدّر في ذلك مدة، وقال: تعرف مدة يُظن في مثلها رجوعُ الفاقد على ذلك المفقود، وهذا يختلف باختلاف أقدار ما يندرج تحت اليسير.
وهذا وإن كان مستنداً إلى فقه الفصل، فهو كلام مبهم، لا يكاد يتحصل. ثم عبر الأئمة عن هذا، فقالوا: يعرّفه يوماً، أو يومين، ومنهم من قال: وأكثره ثلاثة أيام.
ومن (3) أصحابنا من رمز إلى أنه يكفي فيه التعريف مرة واحدة على شرط الإظهار.
وهذا في نهاية الحسن؛ فإن هذا القدرَ يكفي في إخراج اللقطة عن حيز ما يُكتم؛ فإنه لا ضبط بعده لمدة تذكر.
__________
(1) هنا أمور نبينها على النحو الآتي:
أ- قوله: " بعض التصانيف " يقصد أبا القاسم الفوراني، فهكذا يعبّر عنه!! وقد أشرنا إلى ذلك مراراً، ولكن نجدد العهد به هنا؛ لأن الحافظ ابن حجر صرح بذلك في التلخيص، حيث قال تعقيباً على هذا الحديث: " قال إمام الحرمين في النهاية: ذكر بعض المصنفين هذا الحديث، وعنى بذلك الفوراني، فإنه قال: فإن صح، فهو معتمد ظاهر " ا. هـ بنصه.
ب- إن إمام الحرمين لم يذكر هذا الحديث قاطعاً به، ولا معتمداً عليه، ولكنه قال عن التحديد بثلاثة أيام: " إنه تقريب لا بأس به " ثم أردف ذلك بذكر الحديث، قائلاً: " إن صح، فهو معتمد".
ج- إن إمام الحرمين استخدم في الرمز إلى ضعف الحديث، أداة الشرط (إن) وهي تدل على الشك وعدم التوقع، ولم يستخدم (إذا) .
د- الحديث رواه أحمد (4/173) والطبراني، والبيهقي (6/195) عن عمر بن عبد الله بن يعلى عن جدته. وقال عنه الحافظ: "لم يصح، لضعف عمر" ا. هـ. ر. التلخيص: (3/162 ح 1371) .
هـ- قلت: ألا يدرأ هذا عن إمام الحرمين قول القائلين: " إنه كان لا يدري الحديث "؟
(2) هذا هو الوجه الثاني في المسألة.
(3) هذا هو الوجه الثالث.(8/487)
وهذا إنما يتجه لو لم يصح الخبر الذي ذكرناه.
6005- فإن قيل: لم تذكروا ضبطاً يُتمسك به في الفصل بين الحقير والخطير؟ قلنا: ذكر أولاً بعض المصنفين في ذلك ثلاثة أوجه: أحدها - أن الحقير ما دون نصاب السرقة؛ فإن ما دون ذلك تافه، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: " كانت الأيدي لا تقطع في المال التافه، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم " (1) هذا وجه.
والوجه الثاني - أن التافه ما دون الدرهم؛ فإن ما ينقص عنه مما يستوي طبقات الخلق في الحكم بتحقيره، والدرهم التام قد لا يكون كذلك، ثم لا ضبط للهمم، فقد يستحقر الرجل المعظمُ المالَ العظيمَ في حق غيره.
والوجه الثالث - أن الدينار، فما دونه حقير، وقد روى من ذكر هذه الأوجه: أن علياً رضي الله عنه وجد ديناراً، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأن يستنفقه، ولم يأمره بتعريفه (2) . وهذا لم أره في غير هذا التصنيف، وفيه إشكال وهو إسقاط أصل التعريف، ولم يصر أحد من أصحابنا إلى إسقاط أصل التعريف، وإن قل مقدارُ الملتقَط.
وقد يتجه خروج ذلك إن صح الأثر على الاكتفاء بالتعريف مرة واحدة.
فإن قيل: لم يجر التعريف مرة واحدة؟ قلنا: ليس للتعريف لفظٌ يجب اتباعه، وإنما الغرض شهر الأمر وإظهار القصة، وهذا يحصل بمراجعة عليّ رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الواقعة على رؤوس الأشهاد، وحكمه صلى الله عليه وسلم فيها.
وكان شيخي أبو محمد لا يضبط اليسير بمقدارٍ ويأبى أن يحتكم في التقدير من غير توقيف، ويقول: الرجوع في ذلك إلى ما يغلب على الظن أن مثله لا يطول من طبقات
__________
(1) أثر عائشهَ رضي الله عنها رواه ابن أبي شيبة: 9/476، ح 8163. وانظر التلخيص: 2/162 ح 1372.
(2) حديث علي رواه الشافعي في الأم 4/67، وأبو داود: كتاب اللقطة، باب التعريف باللقطة، ح 1714، 1715، وعبد الرزاق 10/142، 143، ح 18637، والبيهقي: 6/194.
وانظر التلخيص: 3/163 ح 1373.(8/488)
الخلق طلبه، وإن فُرِض طلبُ الفاقد له، فلا يتمادى أمدُ طلبه.
وهذا الذي ذكره حسن في طريق المعنى، وفَرْضُنا وراءه قائم في التقريب إن أمكن.
فرع:
6006- إذا صادف الإنسان كلباً منتفعاً به، فقد ذكر العراقيون: أنه إذا صادفه في العمران، وقلنا بالتقاط الحيوان فيه، فإنه يعرّفه، ثم يصير أولى من غيره.
ولست أرى الأمر كذلك؛ فإنه لا يتصور جريان الملك فيه، وأحكام الالتقاط تثبت فيما يملك، ثم [يعسر] (1) التفريع على ما ذكروه؛ من جهة أن الملتقِط إنما يصير أولى باللقطة بعوضٍ يلتزمه، والكلب لا عوض له.
وإن قيل: يعتبر عوضه بمنفعته، فعوض المنفعة لا تتقدّر من غير فرض مُدّة، ثم يلزمهم طرد هذا في الأعيان النجسة المنتفع بها؛ فإنه يثبت فيها حق الاختصاص، والكلب نجس العين، فإن طردوا ما ذكروه في الأعيان النجسة، كان بعيداً.
فرع:
6007- من وجد لقطة في الحرم، فقد ظهر اختلاف أصحابنا فيها: فمنهم من قال: لا سبيل إلى تملكها، واستدل بظاهر الحديث المشهور المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذْ ذكر الحرمَ، وتحريمَ الله تعالى له، وقال في أثناء كلامه: " لا يُنَفَّر صيدُها، ولا يُعْضَدُ شجرُها، ولا تَحِلّ لُقَطَتُها إلا لمنشد " (2) .
ومن أصحابنا من قال: من صادف لقطة في الحرم، عرّفها، وملكها على قياس اللقطة في سائر البلاد، وتأويل هذا الحديث عند هذا القائل [قريب] (3) محتمل؛ فإنه يقول: قطع رسول الله صلى النه عليه وسلم وَهْمَ من يظن أن اللقطة في الحرم لا تعرّف أصلاً، وقد يظن ذلك ظانٌّ فيما يَلقى في المواسم إذا تفرق الحجيج مشرِّقين، ومغرِّبين؛ فإنه يبعد منهم أن ينعطفوا في طلب ما يفقدون، وقد مَدّت المطيُّ
__________
(1) في الأصل: يصير.
(2) حديث: " لا تحل لقطتها ... " رواه البخاري من حديث ابن عباس: اللقطة، باب كيف تُعَرَّف لقطة أهل مكة، ح 2433، وأطرافه كثيرة، وانظر مواضعها عند الحديث 1349، وعن ابن عباس رواه مسلم: الحج باب تحريم مكة وتحريم صيدها وخلاها وشجرها ولقطتها إلا لمنشد على الدوام، ح 1353، وعن أبي هريرة، ح 1355.
(3) زيادة من (د 1) ، (ت 3) .(8/489)
أعناقها (1) ، وأخذت أصوابَها، فأبان رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يجوز ترك الإنشاد؛ حملاً على ما نبهنا عليه.
ويجوز للقائل الأول أن يقول: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريمَ اللقطة في سياق ذكْرِه خصائص الحرم وما يتعلق به من تحريمٍ وتعظيمٍ، وليس في كلامه ما يشعر بالتعرض للمواسم ومزدحم الخلق. ثم هذا لا يختص بالحرم، بل يمكن فرضه في كل بقعة يجتمع عليها سَفْرٌ (2) ، ثم ينقلبون.
فصل
6008- قد ذكرنا أصل الالتقاط وأنه واجب، أو مستحب، أو مباح، وقد تردد نص الشافعي في الإشهاد على الالتقاط، فدل بعضُ مجاري كلامه على إيجاب ذلك، وقد اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: يجب الإشهاد، وهو مذهب أبي حنيفة (3) ، وفي بعض التصانيف، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من التقط لقطة، فليشهد عليها " (4) وهذا إن صح متعلق قوي.
ومن أصحابنا من قال: الإشهاد احتياط، وهو غير واجب، وهو مذهب أبي يوسف، وتعليله أن الالتقاط تردد بين الأمانة والكسب، ولا يجب الإشهاد عليهما
__________
(1) " مدت المطي أعناقها " كناية عن السرعة في السير.
(2) السفْر: بسكون الفاء: المسافر للواحد والجمع.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 140، المبسوط: 11/12، البدائع: 6/201، تبيين الحقائق مع حاشية الشلبي: 3/301، 302، الاختيار: 3/32. وانظر هنا أيضاً مذهب أبي يوسف الذي سيشير إليه الإمام.
(4) حديث الإشهاد على اللقطة رواه أبو داود: اللقطة، التعريف باللقطة، ح 1709، والنسائي في الكبرى: اللقطة، باب الإشهاد على اللقطة، ح 5808، وابن ماجه: اللقطة، باب اللقطة، ح 2505، وابن حبان: 7/199 رقم: 4874، والبيهقي في الكبرى: 6/193، والطحاوي في معاني الآثار: 136، والطبراني في الكبير: 985، 989، 990، 991. والحديث صحيح كما قال ابن الملقن في البدر المنير: 7/153، وانظر التلخيص: 3/161 ح 1370.(8/490)
جميعاً، والخبر إن صبح محمولٌ عند هذا القائل على الاستحباب، كقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] .
6009- ثم من أراد الإشهاد، ورآه مستحقاً أو مستحباً، فإنه لا يشترط وصف اللقطة بكمالها للشهود، أو إظهارها لهم؛ من قِبل أنه لو فعل ذلك، لم يأمن أن يجرّ ذلك لَبْساً، وخبلاً، بأن يذكر للشهود الوصفَ ويواطئوا شخصاً حتى يصف اللقطة ويدّعي الملك فيها، وهذا يظهر إذا قلنا: يجب ردّ اللقطة اعتماداً على الوصف، ولا نأمن أن يشهد أولئك له بالملك عن مواطأة؛ فإذاً الوجه الاقتصارُ على بعض الوصف.
ومن أصحابنا من قال: يكفي أن يُشهد على أنه وجد لقطةً من غير أن يتعرض لشيءٍ من الأوصاف. وهذا ساقطٌ عديمُ الفائدة. فإن قيل: أتحرّمون ذكرَ تمام الوصف، أم تكرهونه؟ قلنا: ما نرى الأمر ينتهي إلى التحريم في ذلك.
فرع:
6010- إذا التقط لقطة، فجاء إنسان، ووصفها بصفاتها، فإن غلب على الظن صدقُ الواصف، فله أن يسلّمها إليه. وظاهر المذهب أنه لا يلزمه التسليم، حتى يقيم البيّنة.
وإن لم يغلب على ظن الملتقط صدقُه، وجوز كذبَه مع الإحاطة بالأوصاف عن قرينةٍ، فلا ينبغي أن يسلمها إلى الواصف، وقد رأيت في هذا تردداً في جواز التسليم.
والظاهر عندي أنه لا يسلِّم ما لم يغلب على ظنه صدقُه، فلو سلمه إليه عند الغلبة، ثم ثبت أن المستحِق غيرُه، وأقام المستحِقُّ بينةً، فله أن يطالب من شاء، فإن طالبَ الآخد الواصفَ، وكانت العينُ تالفةً، وغرّمه القيمة، فلا يجد به (1) مرجعاً على الملتقط.
ولو غرَّم المستحقُّ الملتقطَ، فلا يخلو إما إن كان أقر ابتداءً بالملك للواصف، أو لم يقر له، ولكن اقتصر على ظاهر الرد، فإن أقر له بالملك، لم يرجع عليه إذا
__________
(1) كذا في النسخ الثلاث بضمير المذكر.(8/491)
غرِم؛ فإنه مُؤاخد بموجب إقراره المتقدم. وإن لم يقر بالملك لمن ردّ عليه، فإذا غرَّمه المستحِقُّ، رجع بما غرِم له؛ على المردود عليه؛ فإن قرار الضمان على من تلفت العين المضمونة في يده.
فصل (1)
6011- إذا انقضت سنةُ التعريف، وتملّك الملتقطُ اللقطةَ، فإذا ظهر مالكها، فهل يكون أوْلى بعين اللقطة؟
فيه اختلاف بين الأصحاب، ذكرنا مثله في القرض. فمن استقرض شيئاً، ولم يخرجه، ولم يتصرف فيه، فأراد المقرض الرجوعَ في عينه، وقال المستقرض: أردّ بدله، فهل يجاب المقرض إلى مُراده؟ فيه خلاف قدمتُه في موضعه.
ومأخذ الملك في اللقطة كمأخذ الملك في القرض، غير أن الاستقراض مبني على الإقراض (2) ، والملك يحصل في اللقطة من غير تمليك من مالكها، ثم إذا ظهر المالك، كان كحضور المقرض.
6012- ثم إذا عابت اللقطة بعد التملك، فإن قلنا: لا يملك الرجوع في عينها، فيطالِب بالبدل. وإن قلنا: يملك الرجوع في العين، فلو كانت عابت بعد التملك، كما ذكرنا، فإنه يسترجع العينَ، ويغرِّم الملتقطَ أرش النقص؛ فإن العين لو تلفت، لكانت مضمونة بقيمتها، فإذا عابت، كانت مضمونة بالأرش.
وإذا كنا نفرعّ على أنه أوْلى بعين اللقطة، فلو كانت سليمة، فأراد أن يطلب بدلَها، لم يجبه الملتقط إلى مراده، فإذا عابت، فقال: لست أستردها، وقد عابت، وأرجع إلى البدل، وقال الملتقط: بل أردُّ العينَ، وأغرَم أرش النقص، فقد ذكر الأئمةُ في هذا خلافاً: فمنهم من قال: ليس له إلا الرجوع في العين الناقصة مع أرش النقص.
ومنهم من قال: له الرجوع إلى البدل؛ فإن العيب قد لا يقف، ويسري.
__________
(1) في (د 1) ، (ت 3) : (فرع) مكان (فصل) .
(2) أي أن تملك القرض مبنيٌّ على تسليم المقرِض.(8/492)
ومن غصب عيناً فعابت في يده عيباً لا سريان له، فليس للمغصوب منه إلا استرداد العين، وتغريم الغاصب أرش النقص، وفي مسألتنا الخلاف الذي ذكرناه يتعلق بنقص يد ثابتةٍ شرعاً متعلقةٍ بحق في الاختصاص، فكان الخلاف لذلك.
فرع:
6013- قال صاحب التلخيص: من وجد بعيراً في الصحراء، فقد ذكرنا أنه لا يحل له أخذها (1) . ثم استثنى من هذا مسألة، وهي أن يجد الرجل بعيراً في أيام منى ضالاً في الصحراء، وهو مقلَّد بما يقلّد به الهدايا، فظن الواجد أنه هديٌ شرد عن صاحبه. قال: نص الشافعي على أن له أن يأخذه، فإن خاف فوات أيام النحر، فله أن ينحره (2) .
قال الشيخ أبو علي وأئمة المذهب: هذا الذي ذكره صاحب التلخيص، فهو مصدق في نقله. ولكن ذكر بعض أصحابنا قولاً آخر: إنه لا يأخذه، ولا يحل له أخذه؛ بناءً على ما ذكرناه من أنه لا يجوز التعرض لكبار البهائم في الصحراء.
وكان الشيخ القفال يُخرِّج هذين القولين على أن من وجد بدنة منحورة، ورأى ميسمَها قد غُمس في دمها، وضُرب به غاربها، فهل يحل له الأكلُ بناء على هذه العلامة، وعلى شعار الإشعار؟ والهدي المسوق إذا كاد أن يعطب، يُفعل به هذا؛ دَلالةً على أنه مأكول. ففي جواز الأكل اعتماداً على هذه العلامات قولان مذكوران في كتاب الحج، وله نظائر. كذلك الهدي المقلّد بما يقلد به الهدايا عليه العلامة، والظاهر أنه خُلِّف لانقطاعه عن المسير.
6014- والضحية المعيّنة لجهة التضحية إذا ذبحها في أيام الذبح من ظفر بها، وقعت مجزئةً، وإن لم يصدر الذبح عن [إذن] (3) صاحبها.
وهذا فيه بعض النظر؛ فنا وإن حكمنا بأن التضحية وقعت موقعها ممن ليس مأذوناً فيها، فلا يجوز الإقدام عليها.
__________
(1) كذا بضمير المؤنث، فلفظ (البعير) يقع على الذكر والأنثى. (المصباح) .
(2) ر. التلخيص لابن القاص: 430.
(3) ساقطة من الأصل.(8/493)
وصاحب التلخيص استثنى هذه المسألة وحكم فيها بجواز الأخذ والنّحر، كما وصفناه.
وهذا قد لا يشبه المنحور الذي على غاربه العلامة التي وصفناها؛ فإن تلك العلامة تثبتُ مسلّطةً على جواز الأكل منها، ولم يثبت في مسألتنا علامة تسلط على جواز الذبح، مع جواز أن هذه البدنة شردت عن الرفاق، وامتنع عليهم أن يلحقوها، فغاية الإمكان أن تُقدَّر أنها خُلِّفت، ولم تُنحر قصداً لضعفها عن المسير قبل أيام النحر.
فهذا منتهى الإمكان في ذلك، مع التنبيه على ما فيه.
6015- وقد يستثنى عن تحريم أخذ البدنة جواز أخذها على قصد الرد على مالكها. وهذا يخرّج على الوجهين اللذين ذكرناهما فيه، في أن من وجد مالاً ضائعاً، فأراد أن يأخذه محتسباً ليرده على مالكه، فهل له ذلك أم لا؟ وفيه الخلاف الذي مهدناه فيما تقدم.
***(8/494)
باب يجمع فصولاً في الجعالة (1)
6016- ذكر المزنيُّ فصولاً في آخر هذا الكتاب في أحكام الجعالة، ونحن نضبط قواعدَها، ونبين طريقها وتحقيقها، فنقول أولاً:
هذه معاملة أُثبتت، واحتُمل فيها جهالةٌ لمسيس الحاجة إليها، وسميت جِعالة لما فيها من ذكر الجُعل. ووجهُ مسيس الحاجة إليها أن العبد إذا أبِق، والبهيمةَ إذا شردت، ومست الحاجة إلى ردها، فقد (2) لا يستقل به صاحب الواقعة، ولا يسمح به من يتمكن منه. والغالب وقوع هذه الوقائع عند الجهل بمكان العبد الآبق، والجهةِ التي أخذ [فيها] (3) ؛ وإذا كنا نحتمل جهالةَ القراض توصّلاً إلى تحصيل الأرباح من غير اضطرار وإرهاق إليها، فجهالة الجعالة أولى بالاحتمال.
ثم أثبت الشارع هذه المعاملة جائزةً، على ما سنصف ذلك فيها؛ فإن منتهاها غيرُ معلوم، وكل ما كان كذلك ثبوته على اللزوم بعيد، كما ذكرناه في القراض، بخلاف المساقاة والإجارة فإن المقصود منهما مضبوط، كما تقدم ذكر ذلك. ولا تُحتمل الجَهالة في الجُعل المسمى؛ من جهة أنه لا حاجة إلى احتمالها، كما وصفنا القول في ذلك، فليكن الجُعل في هذه المعاملةِ على قياس الثمن المذكور، والأجرةِ المسماة، ويُحتمل ما وراء ذلك من غررٍ.
6017- ثم الجعالة تُتصور على وجهين: أحدهما - أن تُعلَّق بمخاطب معيّن.
والآخر - أن تُبهَم، ولا يُعيَّنُ فيها عاملٌ مخصوص.
__________
(1) الجعالة: بكسر الجيم، وبعضهم يحكي التثليث فيها (المصباح) .
(2) في جميع النسخ: وقد.
(3) في الأصل، (د 1) : منها. و"أخذ فيها": أي انطلق، وأوغل ضارباً فيها.(8/495)
وصورة تعليقها بمعيّن أن يقول قائلٌ لشخصٍ: إن رددتَ عليّ عبدي، فلك دينار. أو يقولَ: رُدّ عليَّ عبدي، ولك دينار؛ فتصبح المعاملةُ كذلك، على صيغة الشرط، وعلى صيغة الأمر.
ثم لم يشترط أئمة المذهب القبولَ من المعيَّن للعمل، واكتفَوْا بصدور الشرط من الجاعل.
وهذا فيه بعض الاحتمال، وهو بعينه كما ذكرناه فيه، إذا قال (1 لمن يوكِّل: " بع عبدي هذا "، فقد أوضحنا أن الظاهر أن القبول لا يشترط في هذه الصيغة، وإنما التردّد، فيه إذا قال 1) : وكلتك بيعَ هذا العبد، فيحتمل أن يقال: إذا قال الجاعل لمن يخاطبه: جعلت لك على رد آبقي ديناراً، فاشتراط القبول هاهنا لا يبعد أن يخرّج على الخلاف الذي ذكرناه في الوكالة.
وبالجملة الجعالة المعلّقة بمعيّن لا يمتنع أن تكون كالوكالة في اشتراط القبول، ولا يمتنع مع ما ذكرناه الفرقُ؛ من جهة أن الوكالة لا تحتمل إبهام الوكيل المستعمل، والجعالة تحتمل ذلك؛ فإنه لو قال: أذنت لكل من أراد في بيع عبدي هذا، لم يصح التوكيل على هذا الوجه. ولو قال: من رد عليّ عبدي الآبق، فله كذا، صحت الجعالة على هذا الوجه.
فهذا ما أردناه.
6018- ثم قد أوضحنا أن الجهالة احتملت في الجعالة لمسيس الحاجة، فلو فرضى الجعالة، حيث لا جهالة، مثل أن يقول القائل لمن يخاطبه: إن خطت ثوبي هذا، فلك كذا، أو أبهم، فقال: من خاط ثوبي هذا، فله درهم، ففي صحة الجعالة حيث لا جهالة، ولا حاجة إلى احتمالها وجهان. والضابط لمحل الخلاف أن ما أمكن الاستئجار عليه على الشرائط المذكورة في الإجارة، ففي عقد الجعالة فيه ما ذكرناه، والأصح منعُ الجعالة إذا أمكنت الإجارة.
6019- ثم من حَكم بالجعالة حيث تصح، قال: إن المجعول له لا يستحق من
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (د 1) .(8/496)
الجُعل شيئاً ما لم يتم العمل. هذا متفق عليه، حتى لو ردّ العبدَ الآبق من مسيرة فراسخ إلى قرب البلدة، ثم سيَّبه، أو تركه على مكانته مقدوراً عليه، ولم يردّه، فلا يستحق مما سمي له شيئاً، ولا يستحق -والحالة هذه- أجرَ المثل أيضاً؛ فإن موضوع هذه المعاملة على تحصيل تمام المقصود من العمل، فإذا لم يحصل، لم يثبت للعامل استحقاقٌ.
هذا إذا أضرب العامل قصداً.
ويتصل به ما لو عسُر عليه إتمام العمل؛ فإنه لا يستحق الجُعْلَ، وإن لم يقصِّر وفاقاً، وكذلك القول فيه إذا مات العبدُ في الطريق.
والجملة أن تمام العمل لا بد منه، ولا يحصل استحقاقُ جزء من الجُعل دونه.
6020- ولو فسخ الجاعل الجعالة، انفسخت، ولكن إن جرى الفسخُ على علمٍ من المجعول له قبل الخوض في العمل، فقد ارتفعت المعاملة.
ولو خاض المجعول له في العمل، أحبطنا عمله. وهذا على قياس فسخ القراض قبل الخوض في العمل.
ولو عمل العامل بعض العمل، وكان متمادياً إلى استتمامه، ففسخ الجاعل، نفذ فسخُه، وفائدة نفوذه سقوطُ الجعل المسمى بالكلّيّة، ولكن لا يحبَط عمل العامل، وله أجر مثل عمله.
وقد ذكرنا نظير ذلك في القراض.
وهذا هو الذي يليق بمصلحة المعاملة. أما سقوط الجعل، فلثبوت الجواز من الجانبين، وأما منعُ إحباط عمله، فسببه أن يثق العامل بالخوض في عمله، ولو لم يكن كذلك، لما حصلت الثقة، ولما رغب العامل في تعريض عمله للإحباط.
ولو فسخ الجاعل المعاملة من حيث لم يشعر العامل، فهذا لا يبعد تخريجه على أن الوكالة هل تنفسخ على غيبة من الوكيل قبل أن يبلغه الخبر؟ والظاهر أن الجعالة تنفسخ في مسألتنا؛ فإن مقتضاها ما ذكرناه من الجواز، وقبول الجهالة. والله أعلم.
6021- فهذه صيغةٌ في الجعالة معلقة بمعيّن مخصوصٍ، ويجوز فرضها مع(8/497)
شخصٍ واحد، ومع أشخاصٍ معينين، فإذا قال لنفرٍ: إن رددتم عليّ عبدي الآبق، فلكم كذا، فإذا ردّوه، واشتركوا في رده، استحقوا الجُعل. ثم ظاهر كلام الأصحاب أنهم إذا كانوا ثلاثة وردّوا العبدَ، فالجعل مفضوضٌ عليهم، نظراً إلى الرؤوس، دون أقدارِ الأعمال؛ وذلك أن العمل في أصله مجهول، فلا يمكن رعاية مقداره في الفضّ والتفسيط.
وليس يبعد عن قاعدة المذهب أن نقول: الجعل إنما يدفع إليهم عند تمام العمل، وإذا تم، فقد انضبط العمل، وتبين ما صدر من كل واحد؛ فيجوز أن يُفضَّ الجُعل على أقدار أُجور أمثالهم.
6022- ومن حُكم الجعالة أن العمل إذا تم، استقر الجُعل، ولزم لزوماً لا يُدرَأ، وانتهر، بانتهاء العمل مقتضى الجواز، وسلطان الفسخ.
6023- والأصل المقصود في الجعالة الذي منه ينشأ الإشكال على الناظر ما نصفه، ونبيّن ما فيه على تدريجنا في محاولة البناء.
فإذا قال القائل لمن يخاطبه: إن رددت عبدي الآبق، فلك دينار، فهذا في ظاهره يقتضي استدعاءَ العمل من المخاطب دون غيره. وهذا يتأكد في صيغة الشروط؛ فإن المطلق منها ما يقع التعرض له على التعيين، حتى يمتنعَ قيامُ غيره مقامه.
ولكن المعاملات تُبنى على مقاصد الخلق، لا على صيغ الألفاظ، لا سيّما إذا عم العرف، في بابٍ، فهو المتبع. ومما نعلمه من مقصود الخلق في هذه المعاملة أن من قال لمعيّن: إن رددت عبدي، فلك كذا، فقد لا يستمكن المعيّنُ من تعاطي ذلك بنفسه على الانفراد، والغالب أن حاجته تمس إلى الاستعانة بغيره، فلا معنى لحمل اللفظ على قصر العمل في المخاطب، ولكن يتعيّن حمله على تحصيل المقصود، والسعي فيه بأي وجهٍ أمكن، حتى لو استعان العامل بمن أراد بأجرة يبذلها، أو بأن يتبرع عليه المستعان بالإعانة، فإذا حصل المقصود، فلا نظر إلى جهات العمل بناءً على مقصود الباب.
وقد قال الشافعي: إذا عيّن الجاعل شخصاً في عمل الجعالة، فأعانه آخر، قلنا(8/498)
للعامل: ماذا أردتَ بعملك، ومن أردته به؟ فإن زعم أنه أراد إعانة العامل متبرعاً، فللعامل تمامُ الجُعل، نظراً إلى ما مهدناه الآن. وإن زعم أنه قصد إعانة الجاعل فنفضُّ الجُعلَ عليهما، ونُسقط منه قدراً، ثم يعترض الفض على الرؤوس أو على أقدار الأعمال؟ والظاهر عندنا في هذا المقام الفض على أقدار الأعمال، والله أعلم.
6024- ومما يتعلق بالقاعدة التي نحن فيها أنه إذا قال لزيد: رد عبدي الآبق، ولك عشرون درهماً، وقال لرجل ثانٍ: ردّ عبدي، ولك ثلاثون، وقال لثالث: رُدّ عبدي ولك ستون، فإذا اشتركوا في العمل وردوا العبد، فلكل واحدٍ منهم ثلثُ الجعل الذي سمي له، نصَّ الشافعي على ذلك.
فإن قال قائل: ينبغي ألا يستحق واحدٌ منهم شيئاً؛ فإنه علق استحقاق كل واحدٍ لما جعله له بأن يُتم العمل، ولم يتم واحدٌ منهم العملَ، ولم يعلق المعاملة بهم، على الاشتراك، ولم يقل: إن رددتم؟
قلنا: هذا خارج على الطريقة التي ذكرناها في اتباع المقصود وتحكيمه في الغرض المطلوب من غير رجوعٍ إلى صيغة اللفظ؛ فهذا مبنى الباب، وهو متفق عليه بين الأصحاب.
ولا حكم لبعض العمل فيها، قبل حصول المقصود، كما ذكرناه في ترك العامل عملَه في أثناء الأمر، وإذا حصل المقصود، فهو الأصل، وعليه التعويل.
هذا كله إذا علّق المعاملة بمعينين.
6025- فأما إذا أبهم الشرط، ولم يعيّن، وقال: من رد عليّ عبدي الآبق، فله دينار، فالمعاملة تصح على هذا الوجه اتفاقاً، وسببه ما قررناه من بناء العمل على المقصود؛ فإن الرد قد لا يتمكن منه معيّن، ومن يقدر عليه لا يكون حاضراً، فإذا أشاع في الناس اشتراطَ الجُعل، واستوى فيه من شهد، ومن غاب، ترتب عليه حصول الغرض. وهذا حسنٌ في بابه.
ولا يلزم مثله في القراض؛ فإن تعيين العامل ثَمَّ ممكنٌ، والغالب مسيسُ الحاجة إلى إبهام العامل في الجعالة.(8/499)
ولو قال: من رد عبدي، فله دينار، فتبرع إنسان بردّه، وما كان بلغه ذكرُ الجُعل على الردّ، فلا يستحق الرادُّ المتبرع شيئاً.
ولو رد إنسان العبدَ، وبنى عملَه على أنه يستحق الأجرة على كدِّه، وقد يعتقد ذلك كثير من الناس في العادات، ويرَوْن أن حق عملهم ألا يحبَط، فإذا جرى الرد على هذا القصد، وقد سبق من صاحب العبد ذكرُ جُعلٍ على الإبهام في العامل، فهذا مما تردد فيه شيخي، إذ طُرحت عليه المسألةُ، وزعم أن ثبوت الجُعل للرّادّ ممكن؛ فإن لفظ الشرط على الإبهام قد شمله بشيوعه وعمومه، وقد حصل المقصود بالرّد.
6026- والظاهر عندنا القطعُ بأنه لا يستحق شيئاً؛ فإنه لم يخصَّص بالمعاملة تعييناً. ولم يبلغه لفظُ الجاعل على مقتضى العموم، وإذا انتفى الأمران، تجرد عملُه عن [العوض] (1) .
وسر الباب أنا إنما احتملنا إثبات الجُعل مع إبهام العامل ليشيع اللفظُ في الناس ويستحثهم الجُعْل على إتمام العمل، وتحصيل المقصود، حتى كأن شيوع الخبر فيهم في دُعائهم إلى تحصيل المقصود ينزل منزلة تعيين العامل وتخصيصه بالمعاملة. فإذا وقع [العمل] (2) من غير تعيينٍ، ولا بلوغِ خبرٍ، كان خارجاً عن الضبط بالكليّة.
6027- ولا ينبغي أن يعتقد الفقيه في مسائل هذا الباب فرقاً بين أن يذكر الجاعل لفظَ الشرط، فيقول: إن رددتَ، وبين أن يقول: رُدَّ عليّ، ولك دينار؛ فإن الأمر معه معنى الشرط، ولهذا نجزم جوابَه بالعربية جَزْم الجزاء، فنك تقول: ائتني أُكُرمْك، كما تقول: إن أتيتني أكُرمْك.
6028- ولو أثبت الجاعل جُعلاً مجهولاً، أو أثبت مكان الجُعل خمراً أو خنزيراً، فإذا عمل العامل، استحق أجر المثل.
ولو ذكر الجاعل ثوباًً معيناً، وكان مغصوباً، أمكن تخريجه على جَعْل المغصوب صداقاً، أو بدلاً في الخلع حتى يخرّج على قولين في أن الرجوع إلى قيمة ما يقابل
__________
(1) في الأصل: التعلق.
(2) في الأصل: العامل.(8/500)
الجُعل، وهو أجر المثل في هذه المعاملة، أو إلى قيمة العوض المسمى.
ويمكن أن يقال: نقطع هاهنا بثبوت أجر المثل؛ فإن العوض ركنٌ في المعاملة، بخلاف الصداق، والعلم عند الله تعالى.
6029- ولو قال الرجل لإنسانٍ: رُدّ علي عبدي الآبق، ولم يسمّ له شيئاً، فإذا ردّه هل يستحق عليه أجرَ المثل؟ هذا يخرّج على ما مهدناه في الإجارة فيه إذا استعمل رجلاً في غسلِ ثوبٍ، أو خياطته، أو ما عنّ له من المقاصد، ولم يذكر له أجراً، وفيه الاختلاف المعروف بين الأصحاب.
6030- ولو لم يستعمل أحداً، ولكن ردّ العبدَ رادٌّ من غير إذنٍ من المردود عليه، فإنه لا يستحق عندنا شيئاً، خلافاًً لأبي حنيفة (1) ، ولا فرق بين أن يكون الرادُّ معروفاً برد الإباق متعرّضاً لهذا الشأن، وبين ألا يكون كذلك، فلا يستحق شيئاً إذا لم يذكر صاحبُ العبد جُعلاً، ولم يستعمل في رد العبد أحداً.
ومن يَرُدّ العبد من غير أمرٍ هل يصير ضامناًً للعبد بإثبات اليد عليه؟ فعلى الوجهين اللذين ذكرناهما في أخْد الرجل المالَ على قصد الرد إلى المالك.
***
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 141، المبسوط: 11/17، البدائع: 6/203، مختصر اختلاف العلماء: 4/351 مسألة: 2049، الاختيار: 3/35.(8/501)
باب (1) التقاط المنبوذ
6031- وصل الشافعي هذا البابَ بمنقرض اللقطة لمّا كان فيها التقاطٌ، والغرض منه الكلامُ في أخذ الصبي الضائع الموضوع في قوارع الطرق، على الاعتياد فيه.
وللصبي الضائع اسمان مأخوذان من طرفي حاله، فيسمى المنبوذ؛ أخذاً من نبذه وطرحه، ويسمى اللقيط أخذاً من لقْطه وأخذه.
ثم الحكم الكلي فيه أنه إذا وُجد صبي في مضيعة، افتُرض على الكافة كفايتُه، والقيامُ بما يصلحه، ويقيه عن الهلاك، فإن قام بذلك قائم، سقط الفرضُ عن الكافّة بقيامه، وإن لم يقم به أحدٌ حتى ضاع، حَرِجَ أهلُ الناحية، على تفاصيلَ سنذكرها، إن شاء الله تعالى، في فروض الكفايات.
وكان يجمعها شيخي في كتاب السِّيَر إلحاقاً لها بالجهاد الذي يقع على الكفاية.
وروي: " أن عمر استشار الصحابة رضي الله عنهم في أمر اللقيط، فأجمعوا على أن نفقته في بيت المال " (3) . فإذاً لكل من يستقل بأمر هذا الطفل، على ما سنذكر
__________
(1) تستمر نسخة (د 2) أصلاً، ويستمر معها (د 1) ، (ت 3) ، ويضاف إليها (ت 2) .
(2) أثر عمر رضي الله عنه أنه استشار الصحابة في نفقة اللقيط فقالوا: " في بيت المال ". هو بهذا السياق غير معروف، فقد قال الحافظ في التلخيص: لم نقف له على أصل. وإنما يعرف من قصة أبي جميلة، ففيها أن عمر قال: " وعلينا نفقته من بيت المال ".
وقصة أبي جميلة هي أن أبا جميلة -واسمه سنين- وجد منبوذاً فجاء به إلى عمر، فقال: " ما حملك على أخذ هذه النسمة؟ " فقال: وجدتها ضائعة فأخذتها، فقال عريفه: يا أمير المؤمنين إنه رجل صالح، فقال: " اذهب فهو حر، ولك ولاؤه، وعلينا نفقته ". رواه مالك في الموطأ (2/738) ، والشافعي (ترتيب المسند برقم 456) . وزاد عبد الرزاق في مصنفه (9/14 رقم 16182) : " وعلينا نفقته من بيت المال ". وعلقه البخاري بمعناه=(8/502)
الشرائطَ المرعية في اللاقط أن يبتدره فيأخذه، ابتدارَه اللقطةَ التي يجدها، ويثبتُ له حقُّ حضانته، كما يثبت لواجد اللقطة حقُّ الاختصاص بها، ولا حاجةَ إلى مراجعة الوالي في ابتداء الأخذ، ولا في دوامه. هذا مجمع عليه فليعتقده الفقيه كذلك في صدر الباب.
6032- ثم افتتح الشافعي الباب، وصدّره بذكر الأموال التي يصادفها اللاقط مع اللقيط.
ونحن نذكر أولاً- أن اللقيط له يدٌ تثبت على المال كما للبالغ يدٌ؛ فإنا لا نشترط في اليد الاستمكانَ من التصرف، والاستقلالَ بالذات، بل نكتفي في اليد بظهور اختصاص ذي اليد بما تحت يده. ونحن نعلم أن القميص الذي على الطفل في ظهور اختصاصه به، كالقميص الذي على البالغ المتصرف. ومن خلّف أطفالاً وأموالاً، فهم أصحاب الأيدي فيها، ولو فرض ادعاءٌ، فلهم حكم اليد في الأصل المعتبر في الخصومة.
6033- ثم تكلم الأصحابُ وراء ذلك في يد الطفل، فقالوا: ما تحقق اتصاله به على ما يُعتاد في مثله، فهو تحت يده، ويدخل تحته لباسُه أوْ خِرقةٌ كان لُفَّ فيها، وما فُرش تحته وِطاءً، وما طرح عليه غطاءً، كل ذلك تحت يده، ويتصل بما ذكرناه الدُّرَيْهمات التي تُلفى في جيبه، أو مشدودةً على طرف ثوبه.
وكذلك لو صادفنا دُريْهماتٍ تحت الفراش، فهي حكم الفراش، وكذلك لو وجدنا دراهمَ مصبُوبةً على هذا الطفل من فوق، وكذلك لو وجدنا دابَّهً مشدودة بطرف ثوبه، فهي تحت يده.
فأما إذا وجدنا دَابّةً ترتع، ولم تكن متصلة به، ووجدنا على البعد منه ثياباً، أو دراهمَ، فهذه الأشياء خارجةٌ عن يده، والمحكّم في هذا كله العرفُ، والعادةُ.
__________
= (الشهادات، باب إذا زكى رجل رجلاً كفاه، 50/324 فتح) ر. تلخيص الحبير: (3/167، 169 ح 1382، 1384) .(8/503)
ومن نبد صبياً، فإنه قد يجمع إليه ثياباً، ونفقةً حتى يتخذها لاقطُه عُدةً في تربيته، ثم في ذلك عادة مضطربة (1) .
6034- والغرض من هذا الفصل يحصلُ بذكر مراتب:
المرتبة الأولى - في بيان ما يُعدّ تحت يد المنبود وفاقاً، وهي ما يتصل به لُبساً، أو شداً، أو افتراشاً، فالثياب الملفوفة عليه، أو المخيطة به لا يخفى أمرها، وكذلك الثياب التي هي موضوعةٌ عليه؛ فإنها ملتحقةٌ بالمفروشة، والوطاء الذي هو مفترشه بهذه المثابة.
وألحق الأصحاب بالفراش الدراهمَ الموضوعةَ تحت الفراش، والمصبوبةَ فوق الفراش، أو على الطفل. وأما الشدُّ، فبيّنٌ، ومن وجوهه شدُّ دابة به.
6035- فأما المرتبة الأخرى فنقول فيها: كل ما لا يتصل بالصبي من الوجوه التي ذكرناها، ونراه بعيداً منه، كالدابة تُشد بشجرةٍ أو غيرها، وموضعها بعيدٌ عن موضع الطفل، فليست في يده، وكذلك الثوب [المطروح] (2) بعيداً منه، والدابة المسيّبة وإن قرب مرتعُها منه، فإنها في حكم البعيدة؛ فإنا إنما نتوصل إلى إثبات اليد من الجهة التي ذكرناها في العرف؛ إذ قلنا: [يُنبد الطفل ومعه] (3) ما يظهر للعاثر عليه أنه ماله.
وهذا لا يتحقق فيما يبعد (4) .
6036- وأما إذا كان بالقرب منه دراهمُ أو ثيابٌ أو دابة مربوطة، فقد تحقق القرب والاتصال من الوجوه التي ذكرناها، ففي هذه الأشياء وجهان: أحدهما - أنها تحت يد اللقيط.
والثاني - أنها ليست تحت يده، وسبب الاختلاف اضطراب القول في العرف،
__________
(1) (د 1) ، (ت 3) : سقط لفظ (عادة) ووصفت بـ (مضبوطة) .
(2) في الأصل، (د 1) ، (ت 3) : المطرح.
(3) في الأصل: " تمهيد يد الطفل إذا كان معه ... ".
(4) هذه هي المرتبة الثالثة.(8/504)
وكل ما يُتلقى من العرف، فوفاقه من ظهور العرف مع انتفاء الريب. والوفاقُ في نفيه لانتفاء العرف من غير شك، والاختلاف سببه تطرّق الريب إلى العرف وإمكان تقابُل الظنون. وألحقنا الدابة المسيَّبة، وإن صادفناها قريبةً بالمرتبطة البعيدة؛ لأن الدابةَ إذا كانت مسيّبةً، فلا ضبط لها، ويستحيل أن [يُعوِّل] (1) من يبغي ضمَّها إلى الطفل على قربها، ثم يتركها مسيَّبةً.
6036/م- ولو صادفنا تحت الطفل دفيناً في الأرض، فهو بمثابة ما يبعد، وإن كانت مسافة العمق بحيث لو فرضت بين الطفل وبين الثوب المطّرح، لكانت قريبةً داخلةً في الوجهين.
والسبب فيما ذكرناه أن الدفن في قصد الضم إلى الطفل مما لا يُعتاد؛ إذ لا يعثر على الدفين لاقط المنبود إلا على وفاق.
واضطرب أصحابنا في صورةٍ، وهي أنا إذا وجدنا في أدراج ثوب الطفل رقعةً مضمونُها: أن تحت الطفل دفينٌ، وهو له، فليأخذه لاقطه، فهذا مما اختلف الأصحاب فيه: فمنهم من لم يبالِ بالرقعة، وأجرى القياس في الدفين على ما ذكرناه، ومنهم من ألحق الدفينَ بسبب الرقعة بما هو تحت يده؛ فإن مثل هذا غير منكر في العرف.
ثم من عوّل على الرقعة فيما ذكرناه، فليت شعري ما قوله فيه إذا أرشدت الرقعة إلى دفينٍ بعيدٍ، أو إلى دابةٍ ربيطةٍ بالبُعد، وهذا فيه تردّدٌ ظاهر؛ تخريجاً على ما ذكرناه من الخلاف في الدفين تحت الطفل، أو قطعاًً عن تلك الصورة، والعلم عند الله تعالى.
6037- وممَّا نختم به هذا الفصل أن من لقَطَ المنبوذَ، صارَ أولى به، وأحقَّ بحضانته، إذا كان من أهل الحضانة، ولا يسوغ لأحدٍ مزاحمتُه.
أما الأموال التي تكون تحت يده، ففيها وجهان: أحدهما - يكون أولى بحفظها.
والثاني - أنه يتعين عليه رفعها إلى القاضي.
__________
(1) في الأصل: يقول.(8/505)
ومن قال: يتعين رفعها، إلى القاضي، احتج بأن اليد لا تثبت على مال الطفل إلا بولايةٍ خاصة، أو عامّة، وهذا اللاقط لا ولاية له على العموم، ولا على الخصوص.
ومن تمسك بالوجه الثاني، احتج بأنه إذا صار أولى بحفظ المالك من السلطان، فلا يبعد أن يصير أولى بحفظ ملكه.
والقائل الأول يقول: قد ثبتت الحضانة حيث لا تثبت ولايةُ المال؛ فإن الأم لها حق الحضانة، وهي أولى بحضانة الطفل الذي لم يبلغ مبلغ التمييز من الأب، ثم لا ولاية لها في المال.
وهذا الذي ذكرناه في ثبوت حق اليد فحسب، فأما التصرف في مال اللقيط من غير مراجعة الوالي، فلا سبيل إليه، كما سنصفه بعد ذلك، إن شاء الله عز وجل.
6038- ومما حكاه بعضُ من يوثق به عن القاضي أنا لو صادفنا منبوذاً في دارٍ أو بيتٍ، فتلك البقعة تحت يد المنبوذ. وهذا حسنٌ فقيه. وإن كان يرتاع أولُ الفكر منه؛ فإنّ صورة يد الطفل كصورة يد البالغ، وإن كان البالغ قد يذبُّ عما في يده، والطفلُ لا يذب.
6039- ولا يبعد عندي أن تُرتَّب يدُ البالغ على المراتب الثلاث، إن فرض نزاعٌ، وأردنا أن نعلّق حكماً بيدٍ، حتى يطرد الوفاق نفياً وإثباتاً، والخلاف على ما رتبناه.
وقد جرى ذكر الدفين في الفصل، فذكرنا أمر الركاز وما يميّزه عن اللقطة.
وسأعقد فيه فصلاً في أثناء الكتاب، إن شاء الله تعالى.
فصل
قال: " وإن كان ملتَقِطه غيرَ ثقة، نزعه الحاكم منه ... إلى آخره " (1)
6040- الفاسق ليس من أهل الالتقاط للمنبوذ؛ فإنه أمانة محضةٌ صادرةٌ عن ائتمان الشرع، والشرع لا يأتمن الفاسق، سيّما في الأمور الخطيرة، وإن كان الملتقِط مما
__________
(1) ر. المختصر: 3/131.(8/506)
لا يظهر للناس منه إلا الخير، فهو من أهل الالتقاط ولا يتوقف ثبوت حقِّه في الحضانة إذا التقط، على ظهور عدالته ولكن حق السلطان أن يرعاه، ويبحث عن حاله، فإن اطّلع منه على خيانة خفية، انتزع اللقيط من يده، وإن ظهرت له عدالته، أقر المنبوذ تحت يده.
ولا يؤذيه بنصب رقيب عليه يخالطه، ويداخله، ولكن إن فعل هذا، فعل من حيث لا يتأذّى. ثم إذا وثق، انكفّ عنه.
6041- ونص الشافعي على وجوب الإشهاد على التقاط المنبوذ، وردّد نصه في وجوب الإشهاد على التقاط اللقطة.
أمّا القول في اللقطة، فقد تقدّم.
وأما الإشهاد على التقاط المنبوذ، فالترتيب الحاوي لما قيل فيه أنا إن أوجبنا الإشهاد على اللقطة؛ فاللقيط بذلك أولى؛ فإن الأمرَ فيه أخطر، والمحذور أعظم وأظهر؛ فإن الملتقط إذا لم يكن موثوقاًً به باطناً، وإن كان يُظهر العدالة- قد يُخفيه، وقد يدعي رِقَّه، وهذا أعظم من تلف الأموال.
وإن لم نوجب الإشهاد على اللقطة، ففي وجوب الإشهاد على لقْط المنبود أقوالٌ: أحدها - أنه لا يجب تعويلاً على ظن الخير، فإنه لو قُدّر غيرُه، لم يندفع بالإشهاد شيء، ولم تنحسم الغوائل.
والقول الثاني - أنه يجب الإشهاد؛ فإن الملتقط ليس متمسكاً بولاية عامةٍ، ولا بولاية خاصة، وإذا أراد الواجد أن يتصرف تصرُّفَ الولاة عند مسيس الحاجة، فينبغي أن يُسند ما هو فيه إلى الإشهاد، حتى يدنو حاله من حال الولاةِ، ولهذا نظائر مضت، وسيأتي على القرب شيء منها.
والقول الثالث - أن الملتقِط إن كان ظاهِر العدالة، لم نكلفه أن يُشهد، وإن كان مستورَ الحال، نكلفه أن يشهد، حتى يصبر الإشهاد قرينةً تُغلب على الظن الثقة كالعدالة إذا ظهرت.(8/507)
فصل
قال: " ويأمره بالإنفاق منه عليه بالمعروف ... إلى آخره " (1) .
6042- مضمون الفصل القول في نفقة اللقيطِ. واللقيطُ لا يخلو إما أن يكون معه مالٌ، أو لا يكون، فإن كان معه مالٌ، فالإنفاق عليه من ماله.
ولكن لا خلاف أن الملتقط لا يتولى ذلك بنفسه، مع القدرة على مراجعة الحاكم، بل يرفع الأمر إليه، ليرى فيه رأيه، فإن رأى أن ينزعه من يده، ويدفعه إلى أمين ينفق عليه، جاز، ولو أذن له في أن يصرف ما صادفه للطفل إلى نفقته، جاز ذلك؛ إذ لا فرق بين أن يكون المنصوب أجنبياً، وبين أن يكون المنصوب الملتقط.
وذكر العراقيون وجهاً بعيداً: أن القاضي لا يأذَن له في صرف مال الطفل إلى نفقته.
وهذا بعيدٌ لا أعرف له وجهاً، ولا آمن أن يكون غلطةً من ناسخ.
فإن دفع ماله إلى أمين لينفقه عليه، أنفق ذلك الأمين بالمعروف من غير سرفٍ، ولا تقتير، يجر ضرراً على الطفل.
6043- ولو أنفق الملتقط مال الطفل عليه، وفي البلد قاضٍ، ضمن إذا لم يراجعه والخلاف الذي ذكرناه في الفصل الأول في ثبوت حق الحفظ له في المال، فأما التصرف، فلا يملك الاستبدادَ به، مع القدرة على مراجعة الحاكم، وإنما له ولاية الحضانة.
وإن لم يكن في البلد حاكم، فتولى الملتقطُ الإنفاق بنفسه من مال الطفل، ففي المسألة أوجه: أحدها - أنه يفعل ذلك، ويملكه.
والثاني - لا يملكه.
والثالث - إنه يملكه إن أشهد على كل إنفاق، ولا يملكه إذا لم يشهد.
__________
(1) ر. المختصر: 3/131.(8/508)
وهذا الخلاف بمثابة الخلاف الذي ذكرناه فيه إذا هرب الجمّال، ومَسّت حاجةُ المستأجِر إلى الإنفاق على الجمال.
فإذا أنفق من مال نفسه، فهل يملك الرجوع على الجمّال؟ فعلى الخلاف الذي ذكرناه.
وذهب بعض الأئمة إلى ترتيب إنفاق الملتقط من مال اللقيط على إنفاق المستأجِر في مسألة هرب الجمّال، وجعل إنفاق الملتقط أولى بالجواز لسببين: أحدهما - أنه ذو حضانة وولاية في اللقيط، فلا يبعد أن يتصرف في ماله إذا عسُرت مراجعةُ الوالي.
والآخر - أنه إذا أنفق من ماله على الجمال، فإذا أراد الرجوع، فإنما يرجع بحق نفسه على غيره، فبعُد ذلك بعضَ البعد، وليس كذلك إنفاق الملتقط على اللقيط؛ فإن الذي يرتقبه في عاقبة الأمر أن يصدَّق، وإذا كان مؤتمناً في نفس اللقيط، لم يبعد أن يؤتمن في ماله إذا عسر الرجوع إلى الوالي.
هذا كله إذا كان للطفل مالٌ.
6044- فأما إذا لم يكن له مال، فنفقته في سهم المصالح. أجمع عليه علماء الصحابة رضي الله عنهم، كما حكيناه في أول الباب.
ومضمون هذا الكلام الآن يتصل بطرفٍ من الإيالة (1) ، وقلّما يخوضُ الفقهاء فيها، فيسلمون عن خبطٍ.
ونحن نذكر ما قيل في ذلك، ثم نوضح الحق:
6045- فإن لم يكن في بيت المال مالٌ، ولم يتمكن الإمام من الاستدانة، فنفقة المنبوذ على أهل اليسار والاقتدار من المسلمين، وهذا ركنٌ عظيم في الإيالة، فلا شك أن السلطان لا يقدر على فضّ نفقته على جملة الموسرين في الصُّقع والناحية، فضلاً عن أهل خِطةِ الإسلام، وليس هذا مما ينفصل الأمر فيه بقرعة؛ فإنها إنما تجري عند انحصار الجهات، أو الأشخاص. فقال العلماء: يضرب السلطان نفقته على من يراه من أهل البلدة، ويكون له رأي في ذلك، حتى لا يهجم من غير تعلق
__________
(1) الإيالة: السياسة.(8/509)
بوجهٍ من النظر، فإن استوت عنده جهات النظر، فليس إلا التخيّر.
6046- ثم اختلف الفقهاء في أن من أنفق على لقيطٍ لا مال له، أوعلى فقيرٍ مضطر بالغٍ بأمر الإمام، ولم يقصد التبرعَ بما يخرجه فهل يجد مرجعاً، أم لا؟ فذهب طائفة من المحققين، وإليه مَيْلُ القاضي: أنه لا يجد مرجعاً.
وذهب آخرون إلى أنه يرجع؛ فإن وجوب الإنفاق لا يُسقط حقَّ الرجوع بالقيمة؛ فإن من كان يملك طعاماً فاضلاً عن حاجته، وصادف مضطراً مشرفاً على الهلاك، فعليه تسليمُ الطعام إليه بالقيمة، فليكن الأمر فيما نحن فيه كذلك.
والوجْه في هذا عندنا أن المضطر الذي لا يملك الطعامَ، ولا يقدر على التوصّل إليه إذا كان له مالٌ، فصاحب الطعام يُطعمه بالقيمة، كما أطلقه الأصحاب، فأما من لا يملك شيئاً، وظهر افتقاره، واضطرارُه، فهو عيالٌ على المسلمين، ولكن مرجعه إلى بيت المال إن كان في بيت المال، مالٌ، فإن لم يكن في بيت المال مال، وحَكَمَ الإمامُ مجتهداً، أو على حكم [التخيّر] (1) على من يرى، فأنفق عليه، فلا مرجع للمنفِق على الفقير إذا أيْسر، ووجدَ وفاءً.
ولكن هل يثبت له الرجوع على بيت المال إذا وُجد فيه مال في الاستقبال؟ هذا مختلفٌ فيه، ولعلنا نقرر من ذلك طرفاً صالحاً عند ذكرنا أحكام القضاة والولاة، وما لهم وعليهم.
6047- ثم إذا دفع القاضي مالَ الطفل اللقيط إلى ملتقِطه لينفق عليه، فالقول قول المنفق فيما ادّعى إنفاقَه مع يمينه إن حلّفه اللقيطُ بعد بلوغه.
وهذا إذا ادّعى قصداً أو أمراً وسطاً معروفاً في الإنفاق. وإن ادعى مزيداً على المعروف، لم يحلَّف، وكان مُقرّاً على نفسه بالعُدوان، فيلتزم الضمان، ولا معنى لتحليفه إلا أن يقع النزاع في عينٍ من أعيان المال (2) ، فالقول قوله: إني أخرجتها، وإن كان يلتزم لأجل السَّرف ضمانَها.
__________
(1) في الأصل: (التخيير) والمثبت من (د 1) وحدها. وهو الصواب إن شاء الله.
(2) أي فيحلّف على أنه أخرج العين محل النزاع.(8/510)
وقد قال الشيخ أبو بكر القفال: إذا ادّعى الغاصبُ تلف العين المغصوبة، والتزم قيمتها، فقال المغصوب منه: عين مالي قائمةٌ غيبتَها، وأنت تبغي الاستبدادَ بها، وبذْلَ قيمتها، فالقول قول الغاصب. وهذا لا ريب فيه، ولكنه بدعٌ قد يغفل القيَّاسُ عنه؛ فإن الأصل بقاء العين، وليس الغاصبُ مؤتمناً، فيصدّق، وتغليظ الشرع عليه بيّن، ولكن لو لم نصدقه، وحلفنا المغصوب منه، فحكم ذلك أن يُحبَسَ الغاصبُ، ولو حُبس، فكيف خلاصه لو كان صادقاً؟ وهذا محالٌ، لا سبيل إلى إفضاء الحكم إليه.
6048- ولو قال الحاكم للملتقط: أنْفق عليه من مالك، لترجعَ به، فقد ذكر الأئمَّة في ذلك وجهين: أحدهما - أنه لا يجوز هذا، فإن في تجويزه تسليطُه على أن يتملك على الغير مالاً بنفسه لنفسه بمعاملة يستبد بها، من غير تمسكٍ بالشفقة العظمى. وهي شفقة الأبوّة.
وقد ذكرنا نظيرَ ذلك في هرب الجمال، إذا قال القاضي: أنفق وارجع.
وهذا الذي ذكره الأصحابُ هاهنا يستدعي مَزيد تفصيلٍ؛ فإن اللقيط إن انتهى إلى حالة الضرورة، فقد قررنا القولَ في أن الإنفاق عليه من بيت المال، وإن لم يكن في بيت المال مالٌ، فالإنفاق هل يُثبت رجوعاًً؟ وإن أثبت فعلى من؟
ولا ينبغي أن يكون ما ذكرناه من الاختلاف هاهنا موضوعاً فيما يسدُّ الضرروة، ولكن الإنفاق على اللقيط ينقسم، فمنه ما يقع سدّاً للضرورة، ومنه ما يقع وراء سدّ الضرورة، وإن كان لا يبلغ السَّرفَ، وذلك هو الذي يتعلق بنظر الوالي وإذنه، ويجوز أن يُفرض الرجوع فيه على اللقيط إذا بلغ، وعلى هذا يتفرع ما ذكرناه.
6049- ولو استقرض من الملتقط مالاً وقبضه ثم دفعه إليه، وأمره بالإنفاق على الطفل، فهذا جائز وجهاً واحداً، فيقع الاستقراض الأول من الحاكم على الطفل، ثم يصير ما قبضه مالاً للطفل، فيعود التفصيل إلى ائتمانه الملتقطَ على الإنفاق من مال الطفل.(8/511)
فصل
قال: " لو وجده رجلان؛ فتشاحّا فيه، أقرعتُ بينهما ... إلى آخره " (1) .
6050- تعرّض الشافعي لازدحام الملتقِطَيْن، وتنازعهما في حق الحضانة.
والقول في تحقيق ذلك يستدعي تقديم صفات من هو من أهل الالتقاط، ومن ليس أهلاً له، ونحن نوضح ذلك، ثم نبني عليه تقدير الاجتماع؛ حتى نبيّن أن من لا يكون من أهل الالتقاط، ليس من أهل الزحمة، وإنما تُفرض الزحمة بين شخصين كل واحد منهما من أهل الالتقاط.
فنقول: الحر الأمين المسلم من أهل الالتقاط. وذكْرُنا الحرَّ يُخرج العبدَ، والأمين يخرج الفاسق، والمسلم يخرج الكافر من الضبط الجامع.
والمبذرُ -وإن كان عدْلاً في دينه- ليس رشيداً، ولا يأتمن الشرعُ من لا يتصف بالرشد.
أما العبد، فليس من أهل الالتقاط؛ فإنه لا يتفرغ إلى حضانة اللقيط، ومنفعتُه مستغرقةٌ بحق مولاه، فإن أَذِن له السيد في التقاط منبوذٍ، فالسيد هو الملتقط، فيعود النظر إلى صفته.
وأما الفاسق، فليس من أهل الالتقاط، وإن التقط، وشعر الحاكم به، انتزع اللقيطَ من يده. فأما المستور، فقد قدّمنا فيه قولاً بالغاً، فلا حاجة إلى إعادته.
وأما ذكرنا المسلم، فنقول: إن كان اللقيط محكوماً بإسلامه على ما سنذكر تفصيل ذلك في الفصل الذي يلي هذا الفصل -إن شاء الله تعالى- فليس الكافر من أهل التقاطه، ولو التقطه انتزع من يده. وإن كان اللقيط كافراً، فالكافر من أهل التقاطه، والمسلم أيضاًً.
والمعسر من أهل الالتقاط؛ فإن الحضانة تتأتى منه، والإنفاق سبيله ما قدّمناه في الفصل المقدم.
6051- ومما نقدمه على الخوض في الازدحام أن نقول: من التقط لقيطاً في
__________
(1) ر. المختصر: 3/132.(8/512)
البلد، وأراد أن ينقله إلى البادية، لم يمكّن منه، لمعنيين: أحدهما - أن عيش أصحاب البوادي ضيّق، ويقلّ فيهم الاتساع في المعيشة، والرغد، وقد تمس حاجة الطفل إذا مرض إلى مراجعة الطبيب، وابتغاء دواءٍ وسعيٍ في استصلاحه، وليس ما أشرنا إليه من النوادر في الأحوال، وأسبابه [عَسِرةٌ] (1) في البادية.
ومنهم من علل منع نقله بخفاء النسب؛ فإنه لو ترك في البلد، لأوشك أن يظهر له أبٌ، أو أمّ، وإذا نُقل إلى البادية، فقد يتعذر ذلك. وهذا مَنَعَ الإبعادَ. فأما إذا كان الموضع الذي إليه الانتقال قريباً، فسأذكره في التفصيل، إن شاء الله تعالى.
ومن نقل لقيطاً من البلد الذي وجده فيه إلى بلدٍ آخر، ففي جواز ذلك وجهان مبنيان على المعنيين اللذين ذكرناهما، فمن راعى في المنع ضيقَ المعيشة في البادية، فهذا المعنى مفقود في النقل إلى بلدة أخرى، ومن راعى توقُّعَ ظهور النسب منع النقل إلى بلدة أخرى، فإنّ توقّع ظهور والدٍ مستلحِقٍ، أو والدةٍ يختص بالبلدة التي فيها العثور على اللقيط.
ومن وجد لقيطاً في باديةٍ، فإن كان في مضيعةٍ، ولو تركه، لهلك، فيأخذه، ثم لا ينقلب لأجله، ولكن يأخذ صوبَه وتلقاءَ قصده.
6052- فأما إذا صادفه، في أثناء قبيلة ضخمةٍ ولقطه، وأراد أن ينقله إلى بلده، فالذي قطع به شيخي، ومعظم الأصحاب أن ذلك جائز، وما يفرض من انقطاع توقع الظهور في النسب لا يعادل أمنَ البلد، وخَيْره، وأصحاب البوادي على أغرارٍ.
وذكر القاضي وجهين مبنيّين على المعنيين. وقال: إن راعينا النسب وعوّلنا عليه، ففي نقله إلى البلدة تضييعُ ما يتوقع من ظهور نسبه، وإن راعينا مصلحة اللقيط في نفسه وتهيؤ أسباب المعيشة، فيجوز النقل حينئذ.
6053- ولو وجد في البلد، ونقل إلى برّية قريبة، لا يتعذر نقل الحوائج من البلدة إليها، ولا يتحقق في الانتقال إليها ضيقٌ في المعيشة معتبر، فمن راعى هذا المعنى، لم يمنع من هذا الانتقال.
__________
(1) في الأصل: عشرة. وفي باقي النسخ: (عسر) .(8/513)
ومن راعى النسب، وجب أن يعتبر اختلاط أولئك المنتقلين بأهل البلدة، واختلاط أهل البلدة بهم، فإن كان الأمر كذلك، فلا يخفى النسب، وأهل البريّة في الصورة التي ذكرناها بمثابة محلّةٍ من بلدةٍ في المعنى الذي نطلبه من أمر النسب. وإن كانوا لا يكثرون الاختلاط بأهل البلدة، فيوشك أن يمنع من هذا الانتقال مَنْ يعتبر معنى النسب. والله أعلم.
6054- ولو وجد لقيطاً في البادية، فأراد أن ينقله إلى قطرٍ آخر من البادية، فللقبائل في البوادي سنّةٌ في [التعارف] (1) والاعتناء بالأنساب، ولا حاجز.
ومن راعى عسر المعيشة، فلا عسر، ومن راعى أمر النسب، فلا ضرار عليه.
وهذا إذا وقعت القبائل موقعاً لا ينقطع عن بعضها أخبار البعض.
فأما إذا نأت المسافاتُ وتقاذفت الديار، فالمسافة البعيدة حائلة، فيتحقق عند ثبوتها ما أشرنا إليه من أمر النسب.
فهذا تفصيل القول في النقل الجائز والنقل الممتنع.
فإذا ثبتت هذه المقدمات، عدنا بعدها إلى تفصيل القول في اجتماع الملتقطين على لقيطٍ واحد، فنقول:
6055- إذا اجتمع حرّ وعبد، فليس هذا من الازدحام في شيء؛ فإن العبد ليس من أهل الالتقاط. وهذا إذا انفرد دون إذن مولاه، فإن كان بإذنه، فالنظر في السيد، والملتقط الآخر.
وإذا اجتمع مسلم وكافر على لقيطٍ محكوم له بالإسلام، فليس هذا من الازدحام الذي نعنيه؛ فإن الكافر ليس من أهل التقاط المسلم.
وكذلك إذا اجتمع عدل وفاسق.
فإذا اجتمع فقير وموسر، فالموسر أولى إن كان يغلب على الظن ضيق معيشة الفقير واشتغاله [بجمع] (2) قوته عن القيام بحق الحضانة على كماله.
__________
(1) في الأصل: التقارب.
(2) في الأصل: بجميع.(8/514)
ولو كان موسراً متوسعاً في الغنى، ولم يكن الثاني من الفقراء، ولكن كان ضمه إلى المتوسع في يساره أنفع له، فهذا مما اختلف الأصحاب فيه: فمنهم من رأى ضمَّه إلى من الضم إليه أنفع، ومنهم من يقول: إذا استويا في انتفاء الافتقار، فلا نظر إلى الأنفع؛ فإن ذلك غير متناهٍ، ولا منضبط.
وإذا كان ظاهرُ أحدهم العدالة، وكان الثاني مستوراً غيرَ ظاهر العدالة، وقد أوضحنا أن المستور من أهل الالتقاط، فقد اختلف أصحابنا في ذلك:
فالذي كان يميل إليه شيخي القطع بأنه يضم إلى العدل الذي عدالته ظاهرة. وكان يُنزل ظهور العدالة بمنزلة الغنى وحال المستور منزلةَ الفقر.
ومن أصحابنا من ذكر في ذلك خلافاًً؛ من جهة أن المستور لا يُسلِّم لمن ظهرت عدالتُه اختصاصه بالعدالة، ويقول: التقصير ممن لم يبحث عن عدالتي، ولم يطلع على سيرتي، والحضانة حقي؛ فلا أسلمها.
وكأن شيخي (1 جعل التفاضل في العدالة كالتفاضل في اليسار والغنى، وقد سبق التفصيل فيه.
وكان يقول: البلدي والقروي إذا ازدحما، فالبلدي أولى، والبلدي والبدوي لا يزدحمان؛ فإن البدوي ممنوع عن نقل اللقيط الموجود في البلد إلى البادية، وإنما تظهر أحكام الازدحام إذا كان كل واحد بحيث لو انفرد، كان من أهل الالتقاط.
وكان شيخي 1) يقول: المكاتب ليس من أهل التقاط المنبوذ؛ فإنه تحت أسر الرق، واشتغاله بالحضانة يلهيه عن كسبه، ويعطِّل كثيراً من منافعه، فينزل ذلك منزلة التبرع، وحكم التبرع أنه إن انفرد به، لم يصح ذلك منه، وإن كان بإذن مولاه، ففيه اختلاف، ويتأيد ما قاله بالتحاق حق الحضانة بالولايات، والمكاتب ليس من أهلها، وإنما صححنا منه التقاط اللقطة على قولٍ ظاهر لما في التقاط اللقطة من غرض الكسب، والتقاط المنبوذ ائتمان محض من الشارع والشرع لا يأتمن المكاتبَ والعبدَ، فهذا منتهى المراد في هذا الفصل.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من جميع النسخ ما عدا الأصل.(8/515)
6056- ثم إن تحقق استواء المزدحمَيْن على اللقيط، فلا يضم إليهما جميعاً، فإنه لا يتصور قيامهما بحضانته على الاجتماع، ولو جعلنا حفظه مهايأةً بينهما، لظهر تضرر المولود، فإن للإلف وقعاً في النفوس لا ينكر، فلو ضُم الصبي إلى أحدهما، فقد يألفه، ويتخلق بأخلاقه، فإذا قطعناه عن هذا وضممناه إلى صاحبه، تضرر بالانقطاع عمّن ألفه، ثم يكون على نِفارٍ مع الثاني في ابتداء الأمر، فإذا أنس به، احتجنا إلى قطعه ورده إلى الأول؛ فلا يصير إذن صائر إلى ضم اللقيط إلى المتنازعين جميعاً، ولا بد من ضمه إلى أحدهما، ولا طريق إلا أن نقرع بينهما، فمن خرجت قرعته سلّم الطفل إليه.
6057- ولو سبق أحدهما إليه واحتضنه، فهو أولى.
ولو كان السابق المحتضن فقيراً وطلب الحضانة، أجيب إليها، فإذا احتضن، ثم ظهر موسرٌ لو شاركه عند العثور، لكنا نقدمه، فإذا جاء من بعدُ، فلا حق له في الحضانة؛ فإن الحق المستحَقَّ لا يُنقض بأمثال هذا.
6058- ولو ازدحم رجلان متساويان، وقلنا: إنه يُقرَع بينهما، فلو طلب أحدهما، وترك الثاني حقه بعد تقدُّم الازدحام، فهل نترك تاركَ حقه، حتى يخلص حقُّ الحضانة للثاني؟ فعلى وجهين: أحدهما - يسقط حقه، ويصير الثاني كالمنفرد بالاحتضان والوجدان أول [أمره] (1) . وهذا هو الصحيح، كما لو ازدحم شفيعان، ثم عفا أحدهما عن حقه؛ فإن حق الشفعة يخلص للثاني.
والوجه الثاني - أنه لا يخرج العافي من البَيْن (2) ، فإنه ثبت له حق ناب فيه عن المسلمين، فلا يتأتى إخراجه نفسه من البَيْن.
وهذان الوجهان ذكرهما العراقيون، ونقلهما القاضي، ووجه الأول بيّن.
__________
(1) في الأصل، (د 1) ، (ت 3) : مرة.
(2) البين: هذا اللفظ نجده عند إمام الحرمين في البرهان، وفي هذا الكتاب، ومعناه واضح من السياق. ولكنه غير منصوص في المعاجم التي وقعت لنا (المصباح، والوسيط، والقاموس المحيط، والأساس، واللسان، والزاهر، وكشاف اصطلاحات الفنون، وكليات أبي البقاء) .(8/516)
وأمّا الوجه الثاني، فلا ينقدح له وجه إلا على التقدير الذي أذكره فأقول: من التقط لقيطاً، واحتضنه، فهو في حكم الخائض في فرض الكفاية، ومن لابَس فرضاً من فروض الكفاية، وكان متمكناً من إتمامه، فأراد الإضراب عنه، فقد نقول: ليس له ذلك، ويصير فرضُ الكفاية بالملابسة متعيّناً.
وهذا فيه نظرٌ وتفصيلٌ، وسأذكره في أحكام فروض الكفايات من كتاب السّير، إن شاء الله تعالى.
6059- وعلى هذا التقدير لو انفرد الرجل بلقط المنبود واختص بحضانته، فلا شك أنه يحرم نبذه وردُّه إلى ما كان عليه أولاً، ولكن هل يجوز له أن يدفعه إلى القاضي حتى يسترده منه، [فيقيمَ] (1) غيرَه مقامه؟ فيه تردد مأخود من كلام الأصحاب والمسألة مفروضةٌ فيه إذا لم يكن به عجزٌ عن القيام بحق الحضانة.
6060- والسرّ في ذلك موقوف على المباحثة عن مراتب فروض الكفايات، وذكر ما يتعين منها بالملابسة وما لا يتعين، وما يضطرب الرأي فيه.
وهذا الذي نحن فيه مما اضطرب فيه علماؤنا، فإذا ثبت ذلك، بنينا عليه صورة الازدحام، وقلنا: إن رأينا على المنفرد بالالتقاط ألا يترك الحضانة ما وجد إليها سبيلاً، فإذا ازدحم رجلان، ثم أعرض أحدهما، ففي المُعرض وجهان: أحدهما - أنه لا يُترَك [و] (2) الإعراضَ، كما ذكرناه في المختص بالالتقاط. والثاني - له الإعراض؛ فإنه لم يثبت له حقٌّ خالص، بل كانت الحضانة متنازعةً بينه وبين مزاحمه.
وقد أوضحنا أنه لا يتصور ثبوت حق الحضانة لهما جميعاً على الاشتراك، فإذا ترك أحدهما حقه، لم يكن تاركاً حقّاً مستقراً.
ثم الذي يقتضيه القياس في التفريع على هذا الوجه أن القاضي يقول لهذا التارك: ليس لك إخراجُ نفسك من البين، ولكن يُقرَع بينكما، فإن خرجت القرعة في الحضانة لك، فالتزمها وتمّمها، كما لو كنت منفرداً باللّقْط، وإن خرجت القرعةُ لصاحبك،
__________
(1) في الأصل: أو يقيم.
(2) الواو للمعية. ثم هي ساقطة من نسخة الأصل وحدها.(8/517)
خرجت من البين. هذا وجه تفريع هذا الوجه.
وقال: بعضُ أصحابنا: إذا ترك أحدهما حقه، وقلنا: إنه لا يُخرج نفسَه من البين، فينصب القاضي أميناً، ويقيمه مقام هذا التارك، ويُقرع بين الباقي من المزدحمَيْن، وبين هذا الأمين الذي نصبه، فإن خرجت القرعة للأمين، سلّمه إليه.
وهذا كلام مضطرب، لا مستند له من أصلٍ، ولا طريقَ إلا ما ذكرناه.
6061- ومما كان يذكره شيخي أنه لو سبق إلى طفلٍ إنسانٌ ووقف عليه ولم يرفعه، فهل يكون وقوفه مثبتاً له حق الاختصاص؛ حتى إذا لحقه إنسان آخر يساويه في الصفات المرعية فيكون السبق له؟ كان يذكر في ذلك وجهين: أحدهما - أنه إنما يصير أولى بحق الحضانة إذا سبق إليه، فرفعه، أو أمر من يرفعه له؛ فإذ ذاك لو لحق لاحقٌ، لم يزاحمه، فأمّا إذا اتصل السابق بمكان اللقيط، واقتصر على الوقوف عليه، فلحقه الثاني، فهما مزدحمان. ففي المسألة احتمال.
6062- ولو انتهى إلى اللقيط رجل وامرأة، فالأنوثة لا تصيّر المرأة أولى، وإن كنا نقدّم الأم في الحضانة على الأب إذا لم يكن الصبي مميِّزاً، والفرق أن الأم تختصُّ بمزيد شفقة لا يُنكر ذلك منها، ويتأتى منها من [الاحتضان] (1) ما لا يتأتى من الأب نفسه، والأب لا يتمكن من تعاطي الحضانة بنفسه، ولو أقام امرأة أجنبيةً حاضنةً، لكانت حضانة الأم أولى من حضانة الأجنبية المتبرعة، أو المستأجَرة، وفي مسألتنا لو أناب الرجل أجنبية في الحضانة، لكان ذلك ممكناً. وإذا عاد النظر إلى حضانة أجنبيتين: إحداهما التي زاحمت الرجل، والأخرى التي يستنيبها الرجل، فلا يبقى فرقٌ.
6063- ومن تمام الكلام في ذلك أن الصبي إذا بلغ مبلغ التمييز يخيّر بين أبويه في حكم الحضانة كما سيأتي شرح ذلك إن شاء الله تعالى. فلو ازدحم على اللقيط رجل وامرأة، أو رجلان، ولم يتفق انفصال الأمر بينهما حتى ميّز الطفل، فهل نقول: إنه يخير بين المزدحمين، ويُضم إلى من يختاره؟
__________
(1) في الأصل: الاختصاص.(8/518)
هذا محتمل يجوز أن يقال: إنه يُخير، كما ذكرناه، ويجعل اختياره أولى من القرعة، ويجوز أن يقال: لا يخير؛ فإن اختيار المولود أحد الوالدين على سن التمييز محمول على ميله إلى أحدهما، ولا يبعد ذلك في الأبوين، فأما ميل الطفل اللقيط إلى أحد الملتقطَيْن، فليس له [معنى] (1) يعوّل عليه.
6064- ومما يتعلق بذلك أنا لو صادفنا صبياً بالغاً مبلغ التمييز، وكان في حكم اللقيط، على معنى أنه ليس يتبين له أب ولا أم، فهل يثبت له لمن يَبْتَدِرُه حقُّ الاحتضان، كما يثبت في اللقيط الذي لم يبلغ مبلغ التمييز؟ هذا فيه تردد عندي، واحتمالٌ: يجوز أن يقال: لا يثبت لآحاد الناس فيه حق الاحتضان، وهو مميّز، بل يتولى الحاكم أمره لا غيره، ويختص به منصوبُ القاضي.
ويجوز أن يقال: حكمه في الاحتضان حكم الصبي الذي لا يميز؛ فإن تمييزه لم سبت له حقَّ الاستقلال، فلا أثر له.
وإنما (2) ورد الشرع في التقاط منبوذ على صورة الضياع، والمميز له حق الاستقلال؛ من جهة تمييزه؛ إذ يمكن مراجعتُه على حالٍ، وهو يشبه من أحكام اللقطة ضالة الإبل.
هذا منتهى تفريع الفصل.
فصل
قال: " فإذا أعرب، فامتنع عن الإسلام، لم يبن لي أن أقتله، ولا أجبره على الإسلام ... إلى آخره " (3) .
6065- هذا الفصل من القواعد، ومضمونه بيان أحكام التبعية في الإسلام.
ونحن نجمع فيه ما يتعلق به، ونستوعب الأطراف مستعينين بالله تعالى.
6066- ونقدم أولاً بيان ما يحصل به الإسلام. ونقول: الناس في الإسلام
__________
(1) في الأصل: وجه.
(2) هذا الكلام عودٌ إلى نصرة الوجه الأول.
(3) ر. المختصر: 3/133.(8/519)
قسمان: مكلف، وغير مكلف، فالمكلف هو العاقل البالغ، حراً كان أو عبداً، ذكراً كان أو أنثى، فيصح إسلامه بنفسه، ولا يُتصوّر أن يَتْبَع في الإسلام غيرَه.
6067- وأما غير المكلف في الإسلام، فقسمان: الصبيان والمجانين.
أما المجانين، فلا شك أنه لا يتصور إسلامهم بأنفسهم؛ إذ لا عبارة لهم، ولا حكم لنطقهم.
وأما الصبيان، فإن لم يكونوا مميزين، فهم كالمجانين في أنه لا يصح الإسلام بعبارتهم.
وإن كانوا مميزين، فالمذهب المشهور الذي عليه التعويل أنه لا يصح منهم الإسلام بعبارتهم.
6068- وذكر أصحابنا مع ذلك وجهين أخرين: أحدهما - أن الإسلام يصح من الصبي المميز العاقل، كما يصح من البالغ، وهذا مذهب أبي حنيفة (1) .
والوجه الثاني - أن الإسلام الذي أعرب عنه في صباه موقوف؛ فإن بلغ وأعرب عن نفسه بالإسلام، أسندنا حكمَ إسلامه إلى وقت تلفظه به في صباه.
وإن أعرب عن نفسه بالكفر لما بلغ، تبيّنا أنه لا حكم للفظه السابق في صباه.
وهذان الوجهان غيرُ معدودين من متن المذهب، والمنصوص عليه لصاحب المذهب قديماً وجديداً أنه لا اعتبار بلفظ الصبي بالإسلام، ووجودُه وعدمُه بمثابةٍ.
6069- وقد قال الشافعي في بعض مجاري كلامه: " إنه إذا نطق صبي مميز من صبيان الكفار بالإسلام، وظهر لنا إضماره الإسلامَ، نحول بينه وبين الكفار ".
وهذا الذي ذكره الشافعي مما اختلف أصحابنا فيه تفريعاً على مذهبه الصحيح، فقال بعضهم: هذه الحيلولة محتومة فعلى هذا للفظه بالإسلام حكمٌ، وهو اقتضاء إيقاع الحيلولة.
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 260، المبسوط: 10/120، رؤوس المسائل: 359 مسألة 238 مختصر اختلاف العلماء: 3/490 مسألة: 1640، الاختيار 4/148.(8/520)
ومن أصحابنا من قال: هذا الذي ذكره الشافعي محمول على أنا نتوصل إلى ذلك برفق، ونستعطف فيه والدي الصبي، فإن أبيا، لم نحل بينه وبين والديه؛ فإن لَفْظَ الصبيّ في ذلك لا حكم له.
وكان شيخي يحكي عن الأستاد أبي إسحاق أنه قال: " من مات من صبيان الكفار، لم نقطع له بالفوز في الآخرة ".
وأمْرُ أطفال الكفار على تردّدٍ بيِّنٍ في الأخبار، وليس الخوض فيه من مناصب الفقه؛ فإن الفقه لا يتعدى أحكام الدنيا.
ثم كان يقول: " إذا عقل صبيّ وعلم الإسلام واعتقده، فهو من الفائزين لو مات على عقده هذا صبيّاً، وإن كان لا يتعلق بإسلامه أحكام الدنيا ".
وما عندي أن هذا الحبر يخالَف فيما صار إليه، ثم اتباعه يجر إشكالاً في المسألة عظيماً؛ فإن من يُحكم له بالفوز لإسلامه كيف لا يحكم بإسلامه.
هذا منتهى القول في حصول الإسلام بالتبعية؛ فإنه يتعلق بالصبيان، والمجانين.
6070- ونحن نبدأ بالصبيان أولاً، فنقول: التبعية في الإسلام تقع من ثلاثة أوجه: أحدها - تبعية الوالدين.
والثاني - استتباعُ السابي الطفل المسبيّ.
والجهة الثالثةُ - تبعية الدار. ونحن نذكر -إن شاء الله تعالى- في كل قسم ما يليق به.
فأما استتباع الأبوين الولد في الإسلام، فيحصل من وجهين: أحدهما - أن يُفرض إسلامهما أو إسلام أحدهما يوم العلوق، فإذا كانا مسلمين أو كان أحدهما مسلماً، فحصل العلوق، والحالةُ هذه- ثبت للطفل حكم الإسلام على التحقيق، من غير فرض توقفٍ، أو توقع نقضٍ، فينتجز له أحكام الإسلام في صباه.
وإذا بلغ، وأعرب عن نفسه بالكفر، كان مرتداً، لا خلاف فيه.
والسبب في ذلك أن أحد الأبوين إذا كان مسلماً حالة العلوق، فهو جزء من مسلم، فيتحقق له حكم الإسلام، هذا أحد وجهي التبعية.(8/521)
والوجه الثاني في التبعية- أن يحصل إسلام الأبوين، أو إسلام أحدهما بعد العلوق، ثم لا فرق بين أن يحصل بعد انفصال المولود على الكفر، وبين أن يحصل والمولود جنين، فإذا تأخر الإسلام عن العلوق، لم يفترق الأمر بين أن يكون بعد الانفصال، أو في حالة الاجتنان والاتصال، ثم الحكم أن الصبي يُقضى له بالإسلام تبعاً إذا أسلم أحد والديه، أو أسلما.
6071- ثم اتفق الأصحاب على أن هذه التبعية تحصل بإسلام الأم حصولَها بإسلام الأب، وإن لم تكن الأم من أهل الولاية على ظاهر المذهب.
ولو أسلم جدّ الصبي أو جدته، فالترتيب المرضي أن ذلك إن كان بعد موت الأبوين، يتضمن إسلام الطفل، وإن كان في حياة [الأبوين] (1) ، أو حياة أحدهما، ففي الحكم بإسلام الطفل وجهان، ثم لم يفرِّق الأئمةُ بين من يرث وبين من لا يرث من الأجداد، أو الجدات، والأصل في الباب تغليبُ الإسلام من أي جهة أتى، وإنما انتظم الوجهان في بقاء الأبوين، أو في بقاء أحدهما، من جهة أن الاستتباع من الأجداد، أو الجدات، قد يبعد مع بقاء من هو الأصل في الولادة.
وقد ذكرنا ترتيباً فيمن يرجع في الهبة من الأصول، وهذا لا يُنحى به ذلك النحو، لما ذكرناه من أن الأصل تغليبُ الإسلام. والقياسُ منعُ الرجوع في الهبة وإحالةُ ثبوته على قول الشارع.
وفي الأئمة من لا يثبت للأم الرجوعَ في الهبة، لاختصاص الخبر بالوالد.
6072- فإذا ثبت أن الصبي يتبع الأبوين في الإسلام وإن حصل العلوقُ به على الشرك، فترتيب المذهب في أحكام الطفل مضطرب في الطرق، ونحن نأتي إن شاء الله
عز وجل بأضبط ترتيبٍ، وأجمعه [لمضمون] (2) الطرق، فنقول أولاً:
نفرض لمن يثبت له حكم الإسلام بالتبعية بعد العلوق على الشرك ثلاثَ مراتب:
إحداها - في الصِّبا.
__________
(1) في الأصل: الابن.
(2) في الأصل: لمصير.(8/522)
والأخرى - بعد البلوغ، وقبل أن يُعرب عن نفسه بكفرٍ أو إسلام.
والثالثة - في إعرابه عن نفسه.
فأما القول في حال الصبا، فإنا نحكم له ناجزاً بحكم الإسلام من جميع الوجوه، فيُنفَق عليه من بيت المال إذا مست الحاجة إليه، ونقول: لو قتل في صباه، وكان قاتله مسلماً، وجب القصاص عليه، ويرثه المسلمون لو مات، ويرث هو بنفسه المسلم، وحكمه حكم من حصل علوقُه على إسلام أحد أبويه، وهذا حكمُ الحال.
ومن الأحكام أنه لو كان رقيقاً، فأعتقه مظاهرٌ عن كفارته (1) ، حكمنا ببراءة ذمته عن الكفارة، وجوّزنا له الإقدامَ على وطء التي ظاهر عنها.
ولو جرت هذه الأحكام، [ومات] (2) الطفل، فقد استقرت الأحكام.
هذا حكم هذه المرتبة.
6073- ومما يدور في النفس أنا إذا فرعنا على الوجه الضعيفِ نقلاً، القويِّ توجيهاً، وقلنا: يصح من الصبي الاستقلالُ بالإسلام، كما ذهب إليه أبو حنيفة.
فهل نقول لو أسلم أحد الأبوين والصبي بمحلّ أن يستقل على هذا الوجه: إنه يتبع المسلمَ من أبويه؟ هذا مما تردد فيه أحاب أبي حنيفة رضي الله عنه، وهو لعمري محل التردد؛ فإن الجمع بين إمكان الاستقلال، وبين إثبات التبعيّة بعيدٌ.
ثم قال أبو حنيفة (3) : يصح ردّة الصبي كما يصح إسلامه، ولا شك أنا نقول بذلك إذا فرعنا على هذا الوجه؛ نظراً إلى الاعتقاد ووقوعه. وقد ينقدح لذي نظر أن يصحح ما فيه صلاح الصبيّ ويُحبط نقيضَه، كما ذهب إليه بعض أصحاب أبي حنيفة (4) ، والعلم عند الله تعالى.
__________
(1) واضح من سياق الكلام أنه يشترط في الرقبة التي يكفر بها المظاهر أن تكون مؤمنة. وهذا من باب حمل المطلق على المقيد، الذي يقول به الشافعية هنا. بخلاف الأحناف الذين لا يشترطون الإيمان في رقبة كفارة الظهار؛ لأنهم لا يحملون المطلق على المقيد هنا.
(2) فى الأصل: وفات.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 260، المبسوط: 10/122، مختصر اختلاف العلماء: مسألة 1640، 3/490.
(4) الذي يعنيه الإمام هو " أبو يوسف " (ر. المراجع السابقة) .(8/523)
6074- وقد عدنا إلى ترتيب الكلام، فنقول: إذا بلغ من حَكَمْنا له بالإسلام في صباه للتبعية التي وصفناها، فكيف حكمه ما بين البلوغ إلى أن يُعرب عن نفسه بكفرٍ أو إسلام (1) ؟
فالرأي أن يقدَّم حكمُ إعرابه عن نفسه، فنقول: إن أعرب عن نفسه بالإسلام، فلا كلام، وقد استقرت الأحكام على موجب التبعية التي وقع القضاء بها.
وإن أعرب عن نفسه بالكفر، فللشافعي قولان: أحدهما - أن نجعله مرتداً.
والقول الثاني -وهو الذي يميل إليه ظاهر النص الذي ذكره المزني- أنا لا نحكم بكونه مرتداً.
توجيه القولين: من حكم بكونه مرتداً، احتج بأن هذا كفرٌ جرى ممّن تقدم له الحكم بالإسلام، فصار كما لو كان حصل العلوق على الإسلام.
ومن قال بالقول الثاني، احتج بأن الصبيّ خلق على الكفر، ثم جرى إسلامُ الوالدين بعد ذلك، فاقتضى تبعيّةً في الإسلام ممزوجةً بالتوقف، فإذا تبينا بإعرابه عن نفسه بالكفر أنه على الكفر الذي فطر عليه، فالنظر إلى إعرابه الآن أولى من النظر إلى تبعيةٍ سبقت، وليس كما لو فطر على الإسلام، فإنه جزءٌ من مسلم، كما قررناه مع قوة الإسلام في العلوق والغلبة.
التفريع على القولين:
6075- إن حكمنا بكونه مرتداً، لم يخف حكمه، ولم يُنْقَض بردته ما أمضيناه من أحكام إسلامه قبلُ.
وإن حكمنا بأنه كافر أصلي، فنقول أولاً: إن كان الكفر الأصلي بحيث يُقَرُّ عليه بالجزية، فإذا بدا ذلك من هذا الشخص، فإن قبل الجزية، أقررناه. وإن أبى، ألحقناه بدار الحرب، ولم نر اغتياله.
وإذا كان ذلك الكفر مما لا يُقَرُّ عليه بالجزية، لم نقره بها، وألحقناه بدار الحرب.
__________
(1) هذه هي المرتبة الثانية، والثالثة معاً.(8/524)
وإن كان أبواه على كفر ابتداء، وأعرب هو عن نفسه بكفرٍ آخر، مثل إن كانا يهوديين، فأبدى هذا تنصراً، أو على العكس، فالقول الوجيز فيه: أنا نجعله كمن ينتقل من ملة في الكفر إلى ملةٍ، وسيأتي تفصيل الأقوال في أن من فعل ذلك هل يُقر على الكفر الذي انتقل إليه، وموضع استقصائه كتاب النكاح، إن شاء الله تعالى.
6076- فإذا تبين هذا، قلنا بعده: الأحكام التي سبقت مترتبة على تبعية الإسلام هل تنتقض؟ وقد أعرب عن نفسه بالكفر؟ إن قلنا: إنه مرتد، فلا شك أنا لا ننقض شيئاً مما تقدم.
وإن قلنا: إنه كافر أصلي، فكل حكمٍ قررناه بعد البلوغ قبل الإعراب، فهو منقوض.
وكل حكم كُنّا أمضيناه في الصبا، فهل ننقضه الآن؟ فعلى وجهين: أقيسهما - أنا ننقضه، والمعنيّ بنقضه أنا نتبيّن انتقاضَه، فإن كان أعتقه مُكَفِّرٌ تبيناً بالأَخَرة أن ذمته لم تبرأ، وإن كنّا ورَّثناه من مسلم، تبيَّنا ارتداد ذلك الإرث. وإن كنا أنفقنا عليه من بيت المال، استرددناه. ولو حرمناه في صباه الإرث من كافرٍ، نتبين الآن عوْده إلى الاستحقاق.
وهذا كله قياس قولنا: إنه كافر أصلي؛ إذ لو كنّا نُبقي تلك الأحكام، لكان هذا الكفر بعد إسلام، والكفرُ بعد الإسلام ردة.
ومن أصحابنا من قال: لا ننقض شيئاً من أحكام الإسلام التي أمضيناها في حالة الصبا؛ فإنها جرت والتبعية قائمة، والاستقلالُ بالكفر والإسلامِ غيرُ ممكن [من الصبي] (1) ، فلا ننقض ما مضى الحكم به، وإنما تُرد الأحكام الواقبة بعد البلوغ.
وهذا وجهٌ ضعيف في القياس، مشهور في الحكاية.
وقال صاحب التقريب: إن نقضنا أحكام الصبا، وتتبعناها، لم ننقض النفقة، ولم نستردها؛ فإن السلطان لو صرف شيئاً إلى ذمي من المحاويج، لم يبعد ذلك عن وجه الصلاح.
__________
(1) ساقط من الأصل.(8/525)
فإن قيل: فمن يتوقع تبيّن انتقاض هذه الأحكام هلا توقف فيها، ولم يُمضها؟ قلت: أجمع الأصحاب على إمضائها لتأكد التبعيّة وسقوطِ استقلال الصبي. وهذا يناظر تبرعات المريض؛ فإنها تُنفد في الحال، ولا يُعترض على المتبرَّع عليه بل يتسلط على جميع جهات التصرفات. وإن كنا قد نتتبّعُها بالانتقاض تبيُّناً، إذا مات من مرضه الذي تبرع فيه.
هذا منتهى القول في تفريع حكم الكفر إذا بنينا على أنه كافر أصلي، وقد أعرب عن نفسه بالكفر.
6077- فأما إذا بلغ ولم يعرب بعدُ عن نفسه، فلو أعتقه معتق عن كفارته في هذه الحالة، فكيف السبيل؟ وكذلك كيف توريثه من المسلم والكافر؟ وكيف التوريث منه، وهل [نستديم] (1) الإنفاق عليه من بيت المال مع استمرار حاجته؟
ما كان يقطع به شيخي أبو محمد، وتابعه عليه صاحب التقريب: أنا نخرّج ذلك على القولين في أنه لو أعرب عن نفسه، فهو مرتد، أو كافر أصلي؟ فإن حكمنا بكونه مرتدّاً، فحكم الإسلام ثابتٌ قبل أن يُعرب عن نفسه بالكفر؛ فإنا نقول: إن أعرب بالإسلام، فقد استمر الإسلام وحكمه، وإن أعرب بالكفر، جعلنا الكفر قاطعاًً للإسلام من وقته، وهذا معنى وصفه بكونه ردّة. فعلى هذا كل ما يجري قبل إعرابه مُقَرٌّ على حكم الإسلام، فلو قُتل، وجب القصاص على قاتله، وإذا مات ورثه المسلم، ويرث هو من حميمه المسلم، ولو أُعتق أجزأ، ويُنفَق عليه من مال
المسلمين، ثم لا يُتبع شيء من هذه الأحكام بالنقض.
6078- وإن حكمنا بأنه لو أعرب عن نفسه بالكفر، لكان كافراً أصلياً، ففي حكمه بعد البلوغ، وقبل الإعراب تفصيلٌ نسوقه على أبلغ وجهٍ وأجمعه للمقصود، فنقول: ما أمكن الانعطاف عليه تبيُّناً، فإنا نتبيَّن ارتفاعه وانتقاضه، كإرثٍ قدّرناه لهذا الشخص من حميمٍ له مسلمٍ مات، وكالإعتاق عن الكفارة، فما كان كذلك، فإذا
__________
(1) في الأصل: نستثني.(8/526)
أعرب عن نفسه بالكفر تبيّن ارتفاع ما يقبل الانعطافَ عليه بالنقض، فالميراث مردود، والعتق غير مجزىء.
ولصاحب التقريب وقفةٌ في النفقة، واستردادها، تقدّمت الإشارة إليها.
وما يجري بعد البلوغ قبل الإعراب، ثم يفوتُ الإعراب بموتٍ أو قتلٍ، ففي الجميع وجهان، وهذا كما لو قُتل أو أُعتق عن كفارة، ثم مات قبل أن يعرب، أو يموت حميم له مسلم، ثم يموت قبل أن يعرب، ففي وجهٍ نقول: هذه الأحكام ممضاة على الإسلام الذي جرى الحكمُ به في الصبا، وفي وجدٍ لا نمضيها؛ فإن سبيل التبعية هو الصغر، وقد انقضى، والكفر الأصلي مرتقب، فإذا فات الإعراب بالكفر أو الإسلام وقد [انقطعت] (1) التبعية من أصلها، فالوجه ردُّ الأمر إلى كفر الفطرة، وينبني على هذا ما هو في الحقيقة عين ما ذكرناه. ولكنا نبدّل صيغةَ الكلام للتهذيب و [تدريب] (2) الناظر، فنقول: إذا مات له حميم مسلم، فنقف الميراث أو نسلمه إليه؟ وإذا أعتقه مظاهر، فَنُحِل قِربانَ التي ظاهر عنها (3) ، أو نتوقف؟ فعلى وجهين هذا تحقيق القول فيما [ذكروه] (4) .
6079- ولا بد بعد طول الكلام، وامتداد التفريعات من إعادة ترجمة تحوي ضوابطَ، ونعطف آخر الكلام على أوله فنقول: إن جعلنا إعرابه عن نفسه بالكفر ردةً، فما جرى في الصبا وبعد البلوِغ مُقرٌّ على حكم الإسلام من غير استثناء. وإن قلنا: إعرابه عن نفسه بالكفر يُبيّن كونه كافراً أصلياً، ففيما جرى في الصبا حكمان: أحدهما - التنفيد (5) في الحال، والآخر الانعطاف بالنقض. فأما التنفيذ، فهو ثابت في حالة (6 الصبا، وفي الانعطاف بالنقص وجهان لقيام سبب التبعية، وأما ما يجري بعد 6)
__________
(1) (د 1) ، (ت 3) : انقضت.
(2) في الأصل: تقريب، وفي باقي النسخ تدرّب. والمثبت اختيارٌ من المحقق.
(3) ظاهر عنها: لا أدري لماذا أجمعت النسخ الأربع على التعبير بلفظ: " ظاهر عنها " مع أن عبارة القرآن الكريم: {يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 2] . أقول هذا مع علمنا بما قاله النحاة من أن (عن) تأتي مرادفة لـ (مِن) !!
(4) في الأصل: ذكرناه.
(5) (د 1) ، (ت 3) : التقييد.
(6) ما بين القوسين سقط من جميع النسخ ما عدا الأصل.(8/527)
البلوغ وقبل الإعراب إن أمكن الانعطاف عليه، نُقض إذا جرى الإعراب بالكفر.
وإن فات الإعراب بالموت، ففي الانعطاف وجهان من غير أن يتحقق إعرابٌ بالكفر. وفي الحكم بالتنفيد وجهان.
هذا حاصل المذهب.
ولصاحب التقريب ميْلٌ إلى الفرق بين النفقة وغيرها.
وإن رأينا التنفيد حيث انتهى الكلام إليه، ولم نر النقضَ إذا فات الإعراب، ففي وجوب القصاص على [قاتله مع] (1) هذا ترددٌ. ونص الشافعي (2) يميلُ إلى سقوط القصاصِ، والسبب فيه تعرّض القصاص للاندفاع بالشبهة (3) .
ثم نقل المعتمدون أن الشافعي أسقط القصاص وأوجب دية مسلم. وهذا فصلٌْ عظُم (4) فيه اختباط (5) الأصحاب والذي ذكرناه مضبوط -إن شاء الله عز وجل- نقلناه على ثبت وتحقق.
6080- فإذا انتجز ما نحاوله؛ فإنا نذكر بعد ذلك هفوتين لا نعدّهما من المذهب، ولا نجدُ بداً من نقلهما. قال من يُعتمد نقله: قال القاضي: " إذا قُتل الصبيُّ التابع في الإسلام، وجب القصاص على قاتله. وهذا لا مراء فيه، ولو قتل بعد البلوغ، وقبل الإعراب، فلا قصاص على قاتله، ولو حكمنا بأنّه لو أعرب، كان مرتدّاً "، وأجرى نص الشافعي على القولين.
وهذا زلل لا يستريب فيه منصف. ونصُّ الشافعي جرى على القول الآخر. والذي نقله المزني عن الشافعي في المختصر: أنه لو أعرب عن نفسه بالكفر، لم نحكم بردّته، ولم يجبر على الإسلام، ثم استاق التفريع على هذا، وكيف ينتظم قول من
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) (د 1) ، (ت 3) : وميل النص.
(3) وجه الشبهة هنا أنه لم يعرب عن نفسه، " فسكوته يحتمل الكفر والجحود " على حدّ عبارة الرافعي.
(4) (د 1) ، (ت 3) ، (ت 2) : عظيم.
(5) في الأصل، (ت 3) : احتياط. وغير مقروءة في (د 1) ، والمثبت من (ت 2) .(8/528)
يقول: لو أعرب بالكفر، كان مرتداً، ولا يثبت له حكم الإسلام قبله.
6081- والهفوة الثانية أنه حُكي عن القاضي في المقام الذي نفى القصاص فيه أنه قال: لو مات في هذه الحالة قبل الإعراب، ورثه حميمه، ولو مات له حميمٌ مسلم، فإرثه عنه موقوف. أما التوريث منه، فخارج على أنه إذا أعرب هل يُنقض حكم الإسلام، وأما قوله: فإرثه عنه موقوف؛ فإنه إن عنى به أنه يقال له: أعرب عن نفسك بالإسلام، فهذا قريب؛ فإنا نستفيد به الخلاص من الخلاف، وقد فات ذلك إذا كان هو الميّت. وإن مات حميمه ثم مات هو قبل أن يعرب، فلا يجوز أن يُعْتَقَدَ فرق بين التوريث عنه وبين توريثه.
6082- ومما يتصل بهذا أنه لو مات صبيّاً، دفن في مقابر المسلمين، وأقيم في تجهيزه ودفنه والصلاة عليه شعار المسلمين.
ولو مات بعد البلوغ وقبل الإعراب، فهل يدفن في مقابر المسلمين؟ الذي يظهر عندي أنه يُتساهل في هذا، ويقام فيه شعار الإسلام، ولا يُضن عليه بمدفنٍ في مقابر المسلمين، والذي يقتضيه القياس الترتيبُ على التفصيل الذي ذكرناه.
هذا بيان القول في استتباع الأبوين المولودَ في الإسلام بعد العلوق على الشرك.
6083- فأما المجنون، فإن بلغ على الجنون، فهو كالصغير، وإن بلغ عاقلاً، ثم جن، فيبتني [أمرُه] (1) على ولاية المال.
فإن قلنا: تعود ولاية المال إلى الأب، فإذا أسلم يستتبعه في الإسلام، كما لو بلغ مجنوناً.
وإن قلنا: لا يليه الأب، ويليه السلطان، فإذا أسلم الأبُ، لم يستتبعه، والسلطان يلي الكافر والمسلم بالولاية العامة.
وإن قلنا: تعود الولاية إلى الأب، فلو أسلمت الأم، استتبعته أيضاًًً؛ لأنا مهْما (2) أثبتنا التبعية من جانب الأب؛ فإنا نثبتها من جانب الأم.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) "مهما": بمعنى (إذا) .(8/529)
وكل ما ذكرناه كلام في جهة واحدة في التبعية.
6084- فأما استتباع السابي المسبيَّ الطفلَ؛ فإنا نقول فيه:
إذا سبى المسلمُ طفلاً من أطفال الكفار منفرداً عن الأبوين، فالطفل يتبع السابي في الإسلام؛ لأنه صار من جملته وتحت قهره وولايته، فيتبعه في حكم الدين، وهذا يتم بأن يُعلَم أن السَّبْي يقلبه عما كان عليه قلباً كليّاً؛ فإنه كان محكوماً بحرّيته، متعلقاً بسبب الاستقلال إذا بلغ، والآن قد رُقّ بالسبي، حتى كأنه عُدِمَ عمّا كان عليه، واستُفتح له وجودٌ تحت ولاية السابي.
6085- ولو كان السّابي ذمّياً توطّن (1) بلاد الإسلام، فقد ذكر أصحابنا وجهين: أحدهما - أنه يحكم له بالإسلام؛ فإن السَّابي من أهل دار الإسلام.
وهذا كلام غث، لا أصل له؛ فإن كونه من أهل دار الإسلام لم يخرجه عن حقيقة الكفر، ولم يُخرج أولاده عن تبعيته في الكفر، فيستحيل أن يؤثر ذلك في إسلام مَسْبِيّه. وهذا هو الوجه الثاني الذي يجب القطع به.
فإذا فرعنا على الأصح، وهو أنا لا نحكم بإسلام المسبيّ، فلو أسلم السابي بعد السَّبي، فالإسلام الطارىء لا يُثبت للمسبيِّ حكمَ الإسلام وفاقاً؛ فإنا نعتبر حالة السّبي وعندها يتحقق تحول الحال.
6086- ولو باع الكافر الطفلَ الكافرَ من مسلم، لم يثبت له حكم الإسلام لثبوت ملك المسلم عليه؛ فإن هذا تجدّدُ المالك، والرق مستمر. وقد ذكرنا ما في ابتداء السبي من تحويل الحال، وكذلك يؤثر سبيُ الزوجين في ارتفاع النكاح عندنا، ولا يؤثر تجدّدُ الملك على الزوجين الرقيقين في ارتفاع النكاح.
6087- وما ذكرناه فيه إذا سبى المسلمُ الطفلَ مفرداً عن الأبوين، فأمَّا إذا سباه مع أبويه أو مع أحدهما، فلا يُحكم بإسلامه تبعاً للسابي، لم يختلف أصحابنا فيه؛ لأن الأبوين أولى بالاستتباع من السابي لمكان البعضيّة.
__________
(1) (د 1) ، (ت 3) : بقُطر.(8/530)
وهذا فيه بعضُ الغموض، من جهة أن الطفلَ إذا كان ذا أبوين، [ولم] (1) يكونا معه، ثم أتبعناه السَّابي، للرق الطارىء، وحكمنا بأنه في حكم المُقْتَطَع عما كان عليه، فكأنه ولد جديداً، فكان لا يبعد [ألا يبالَى] (2) بكون الأبوين معه. ولكن لم يختلف أصحابنا فيما ذكرناه، وكأن الأمر مبنيّ على ألا نبحث عن أبويه، وعن كفرهما، وبقائهما وموتهما.
ولو سُبي الطفلُ مع أبويه، أو مع أحدهما، وامتنعت التبعيّة (3) ، فلو مات الأبوان بعد السبي، فلا يُحكم بالإسلام؛ لأن السَّبي في أصله لم ينعقد مُستتبِعاً، فلا استتباع بعده.
فإذا ثبت ما ذكرناه، فحكم الطفل التابع للسَّابي حكم الطفل التابع لأبويه في الإسلام، في جميع ما ذكرناه، فلا معنى للإعادة إذا كان لا يفترق البابان.
6088- فأما الجهة الثالثة - وهي استتباع الدَّار، فإنا نقول: الدار قسمان: دار الإسلام ودار الشرك.
فأما دار الإسلام، فقد قسمها المرتّبون ثلاثة أقسام:
أحدها - دارٌ يقطنها المسلمون، وهي تحت قبضة الإسلام، فإذا وجد فيها لقيط، واستبهم نسبه، فإنا نحكم بإسلامه ظاهراً سواء كان الغلبة للمسلمين فيها أو للمشركين. والحكم بالإسلام أمرٌ أطلقناه، وتفريع الأحكام نفصله.
6089- وقسمٌ هو تحت قبضة الإسلام، ولكن كان لا يسكنها إلا المشركون، وهي دار افتتحها المسلمون، واستوْلَوْا عليها، وأقروا أهلَها فيها. فإن كان يساكنهم مسلمون، أو مسلم واحد، فحكم اللقيط الذي لا نسب له- الإسلامُ. وهذا بعينه القسمُ المُتقدِّم؛ فإنا قد ذكرنا أنه لا نظر إلى غلبة أهل الذمة وكثرتهم.
وإن كان لا يساكنهم مسلم أصلاً، فاللقيط المنبوذ منهم نحكم له بالكفر، لم يختلف فيه أئمتنا.
__________
(1) في جميع النسخ: وإن لم.
(2) (د 1) ، (ت 3) : أن يبالى.
(3) وامتنعت التبعية: أي للسابي.(8/531)
6090- والقسم الثالث - ما كان من ديار الإسلام تحت قبضة المسلمين، فانجلى عنها المسلمونَ واستولى عليها الكفار، فإن كان لا يساكنهم مسلم أصلاً، فالذي ذهب إليه جمهور الأصحاب أن اللقيط في تلك الدار كافر.
وذهب أبو إسحاق المروزي إلى أنا نحكم للّقيط بالإسلام، من جهة أن مثل هذه البلدة قد لا تخلو عن مسلمٍ، لم يَنْجل فيمن انجلى؛ لإلْف الوطن، وهو يُخفي إسلامه، ولقد كانت الدار منسوبةً إلى الإسلام قبلُ.
وهذا كلام غير منتظم؛ فإنه إذا فرض استيلاء الكفار، والقطعُ بانجلاء جميع المسلمين، فلا يتحقق ما ذكره، والدار بأن كانت. في الزمن الماضي للمسلمين لا تقتضي استتباعاً.
نعم، لو كان يساكنهم مسلمٌ، أو مسلمون، فهذا فيه تردد، يجوز أن يقال: يثبت للقيط حكم الإسلام، ويجوز أن تجري هذه الدار، وقد استولى عليها أهل الحرب مجرى دار الحرب، وسنصف القولَ في دار الحرب الآن، إن شاء الله تعالى.
6091- ومما يتعلق بتمام البيان فيما نحن فيه أن اللقيط الموجود في دار الإسلام لو استلحقه ذميّ، لحقه نسبه؛ فإن الذمي من أهل الدعوة والاستلحاق، ثم إذا لحقه نسب اللقيط، فيحكم له بالإسلام، أو الكفر؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنا نحكم له بالإسلام نظراً إلى الدار، وتغليباً للإسلام.
والثاني - أنا نحكم له بالكفر؛ فإن نسبه ثبت من الذمّي الذي استلحقه، والنسب أولى بالاستتباع من الدار، ولا خلاف أن أولاد أهل الذمة يتبعون أصولهم في الكفر؛ وإذا استلحق الذمي لقيطاً في دار الإسلام، ثم أكد استلحاقه، فأقام بيّنة على نسب اللقيط منه، فلا خلاف أنه يتبعه في الكفر، ولا يتبع الدار في الإسلام، فهذا هو الترتيب المرضي.
6092- فإذا تمهد ما ذكرناه فيبتني على ذلك غرضنا، ونقول:
إذا ثبت للمولود حكمُ الإسلام بتبعية الدار، فقد اختلف أصحابنا: فمنهم من(8/532)
قال: حكم من يتبع الدار في الإسلام حكم من يتبع أبويه، أو يتبع السابي، وقد مضى ذلك.
ومن أصحابنا من قال: هذا المحكوم له بالإسلام تبعاً للدار إذا بلغ وأعرب عن نفسه بالكفر، فهو كافر أصلي قولاً واحداً؛ فإن تبعيته الدارَ ضعيفة، وهؤلاء يقولون: لا يخرج في المسألة قول: إنه لو أعرب عن نفسه بالكفر بعد البلوغ نحكم بردته.
6093- ثم من سلك هذه الطريقة [اضطربوا] (1) في أحكامه (2) في الصبا، فقال قائلون: هي مُنفَّذة، وإنَّما التردّدُ فيما ذكرناه من الإعراب بعد البلوغ.
ومن أصحابنا من قال: لا يُقطع بتنفيد الأحكام، بل نتوقف إلى أن يبلغ، فيعربَ عن نفسه بالإسلام، فإن مات في صباه، لم نحكم له بشيءٍ من أحكام الإسلام.
وإلى هذا مال صاحب التقريب، وخرّج اختياره على أصلٍ سنذكرُه، بعد هذا، وهو أن اللقيط التابع للدار في ظاهر الإسلام لو قتله مسلمٌ، ففي توجّه القصاص عليه قولان. قال صاحب التقربب: إن أوجبنا القصاص، فهذا يخرّج على تنفيد أحكام الإسلام في حالة الصّبا، وإن لم نوجب القصاص، فهذا يخرج على أنا لا ننفد حكمَ الإسلام في الصبي.
6094- وقد قال بعض أصحابنا في توجيه نفي القصاص: إن علة سقوطه أنه لو ثبت، لاستحقه المسلمون، وفيهم الأطفال والمجانين، وبلوغ الأطفال وإفاقة المجانين من أولياء الدم منتظران عندنا.
وهذا غير مرضي عند صاحب التقريب؛ فإن الاستحقاق لا يعزى إلى أعيان المسلمين، وإنما يُعزى إلى جهة الإسلام. ولو كان الاستحقاق ينسب إلى أشخاص المسلمين، لما صح ممن ليس له وارث (3) خاص أن يوصي لطائفةٍ من المسلمين؛ فإن
__________
(1) في الأصل: اضطروا.
(2) في (د 1) ، (ت 3) : أحكام.
(3) (د 1) ، (ت 3) : ممن هو وارث خاص.(8/533)
ذلك على التقدير الذي ذكره هذا القائل وصيةٌ للوارث، فالقول إذاً موجَّهٌ بالتوقف الذي ذكرناه.
وسنعود إلى تقرير هذا في فصل القصاص، إن شاء الله تعالى.
وإذا انتهى الناظر إلى آخر هذا الفصل، استبان أن ما أطلقناه من الإسلام بتبعيّة الدار قد لا يطلقه بعض الأصحاب، بل يتوقف فيه؛ فإن التوقف في حكم الإسلام توقفٌ في الإسلام.
وقد نجز غرضنا من أحكام التبعية في الإسلام، ولم يبق إلا حكم دار الحرب.
6095- ونحن نقول: كل بلدة مختصة بأهل الحرب لا يساكنهم فيها مسلم، فاللقيط [فيها] (1) كافر، ولا خلاف أنه لا يُنظر إلى من يطرق عابراً من المسلمين إذا كان لا يساكنهم، فإن كان يساكنهم، تجارٌ من المسلمين، ففي اللقيط وجهان: أحدهما - أنه يحكم بإسلامه؛ نظراً إلى المسلمين المساكنين. والثاني - لا يحكم له بالإسلام نظراً إلى الدار، وغلبة الكفر فيها. ونحن لا نجتزىء بالإمكان المجرّد؛ إذ لو اكتفينا به، لحكمنا بالإسلام لطروق المجتازين من المسلمين، هذا والمساكنون تجار.
فأما إذا كان في تلك البلدة أسارى من المسلمين، ففي اللقيط وجهان مرتبان على الوجهين فيه إذا كان في البلدة تجار مساكنون، والأسرى أولى بألا يؤثر كونهم (2) ؛ لأنهم تحت الضبط، بخلاف التجار.
ومن يذكر في الأسارى خلافاً، فلعله يفرض في قوم ينتشرون، وهم ممنوعون من الخروج من البلدة ووراءهم العيون، فأمَّا المحبوسون في المطامير، فلا يتجه لكونهم أثر، وكونهم أخفى أثراً في إمكان الإعلاق من طروق التجار.
وهذا منتهى الفصل.
__________
(1) في الأصل: فيهم.
(2) كونهم: واضح أن (كان) تامة هنا بمعنى وجد.(8/534)
فصل
قال: " ولو أراد الذي التقطه الظَّعْن به ... إلى آخره " (1) .
6096- إذا أراد ملتقط المنبوذ أن يسافر به، قال الشافعي: إن كان أميناًً، وظهرت الثقة به، وعُرفت أمانته، مُكِّن منه، وإلا، فلا يُمكَّن؛ مخافةَ أن يسترقَّه.
فإن قيل: ألستم قدّمتم في أول الباب عند ذكركم من هو من أهل الالتقاط، ومن ليس من أهله، إن الفاسق، ومن لا يؤمَن ليس من أهل التقاط المنبوذ، وإذا كان كذلك، فلا معنى للتفضيل الذي ذكره آخراً، ويجب أن يقال: من كان من أهل الالتقاط، فهو من أهل المسافرة؛ فإنه لا يلتقط إلا أمين موثوقٌ به؟
قلنا: فيما قدمناه ما ينبه على الجواب عن هذا، فإنا قلنا: لا يمتنع الالتقاط ممن هو مستور الحال ظاهره الخير، ثم أوضحنا ما يليق بحال من هذا وصفه، فوقع كلامُ الشافعي في التقسيم دائراً بين من بانت عدالته ظاهراً، وخبرنا سريرته باطناً، وبين المستور.
والجواب فيهما أن من خبرنا سريرته، وعثرنا على حسن سيرته، لا نمنعه من المسافرة؛ ثقةً بما بيّناه من أمانته.
وإن كان مستور الحال، لم نتركه يسافر باللقيط حتى يصير مختبر السيرة والسريرة ظاهراً وباطناً؛ فإنَّا لا نأمن أن يسافر به، فيسترقّه، فهذا محمل كلام الشافعي.
6097- فإن قيل: هلاَّ حملتم كلامه على التفاصيل التي ذكرتموها في نقل اللقيط من العمران إلى البرية قلنا: ما يمتنع من ذلك، فهو ممتنع على العدل الرضا الذي تثبت عدالته سرّاً وعلناً؛ فإذا كان كذلك، فليس هذا مما يختلف بالأمانة وخفائها، فلا محمل لكلام الشافعي إلا ما ذكرناه.
__________
(1) ر. المختصر: 3/133.(8/535)
فصل
قال: " وجنايته خطأ على جميع المسلمين ... إلى آخره " (1) .
6098- مضمون هذا الفصل الكلامُ في جناية اللقيط على غيره، وجناية الغير عليه.
فأما إذا جنى، وهو طفل، فلا يخلو: إما أن يجني خطأً أو عمداً في [الحس] (2) .
6099- فإن جنى خطأً، فموجَب جنايته مضروب على بيت المال؛ إذ ليس له عاقلة على الخصوص، فأروش جناياته مضروب على الجهة التي يصرف إليها مالُه لو مات.
6100- وإن جنى عمداً في الصورة، فهذا يبتني على قولين سيأتي ذكرهما، في أن الصبيّ هل له عمد؟ فإن قلنا: لا عمد له في الحكم، فحكم جنايته، وهو عامد في الصورة، كحكم جنايته وهو مخطىء.
6101- وإن قلنا لعمده حكمٌ، فموجب جنايته مضروب على ماله إن كان له مال، وإن لم يكن، فهو متعلِّق بذمته إلى أن يجد مالاً، فإن وجده في صباه، أُخرج موجَب الجنايةِ عنه، وإن لم يجده حتى بلغ، تعلّقت الطَّلبة به إن كان له شيء.
فالغرض بيان انقطاع الطَّلبة عن بيت المال؛ فإن بيت المال إنما يتحمل أرش جناية يتحمل مثلَها العاقلةُ الخاصة لو كانوا.
6102- ولو أتلف مالاً، فلا يكاد يخفى أنه لا يُضرب بدلُ ما أتلف على بيت المال؛ فإن هذا الغرم غيرُ معقول ولا محمول.
6103- فأما الجناية عليه، فلا تخلو إما أن تكون خطأً، أو عمداً.
فإن كانت خطأ، فعلى عاقلة الجاني على تفاصيلَ سيأتي ذكرها في كتاب الديات، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) ر. المختصر: 3/133.
(2) في الأصل: الجنين، (ت 2) : الجنس، والمثبت من (د 1) ، (ت 3) .(8/536)
6104- وإن كانت عمداً يوجب مثلُه القصاصَ، فلا يخلو إمَّا أن يكون نفساً، أو طرفاً.
فإن كانت نفساً، فهل يجب القصاص على قاتله؟ وهل للإمام أن يقتص منه؟ الذي نقله المزني أن للإمام أن يقتص، ونقل البويطى عن الشافعي أنه ليس له أن يقتص؛ فنظم الأئمة قولين: أحدهما - ثبوت القصاص.
والثاني - انتفاؤه. ثم اختلفوا في توجيه القولين، ونحن نذكر ما ذكروه، ثم نُفرع على أصل القولين، ومأخذهما ما يتفرع عليهما.
6105- فقال قائلون: وجه قولنا: القصاصُ واجبٌ بناءُ الأمر على أنه محكوم بإسلامه مَعْصُوم الدم، وحق عصمة الدم إيجاب القصاص على القاتل عمداً.
ووجه القول الثاني أن القصاص لا يجب؛ لأنا لو قدرنا وجوبه، نسبنا استحقاقه إلى المسلمين كافة، وفيهم الأطفال والمجانين، فنزل منزلة من قُتل، وفي أوليائه أطفال؛ فإنه لا يجوز استيفاء القصاص دون بلوغهم، وكذلك القول في انتظار إفاقة المجانين. هذه طريقةٌ مشهورة في التوجيه.
ووجّه صاحب التقريب القولين بأن بناهما على أن المسلم بتبعية الدار هل تنفد له أحكام الإسلام أم أمره في الحكم بالإسلام موقوف؟
وقد تقدم هذا.
6106- وكان شيخي يفرّع على اختلاف الطريقين مسائلَ يعددها: إحداها - أن اللقيط لو كان بلغ وأعرب عن نفسه بالإسلام، وقُتل، فكيف سبيل القصاص؟ فمن أخذ القولين من اشتمال المسلمين على الصبية والمجانين، طرد القولين في هذه الصورة.
ومن أخذ القولين من التردد في إسلام اللقيط، قطع القول هاهنا بوجوب القصاص.
والمسألة الأخرى - أن يُقْتَل رجل نسيب، ولا يخفف وارثاً خاصاً، وكان ماله مصروفاً إلى المصالح، فأمره مخرَّجٌ على ما ذكرناه.
والمسألة الأخرى - أن يموت رجل، ويخلف حقَّ قصاصٍ، كان ثبت له في حياته(8/537)
لم يستوفه، ولا عفا عنه، وورثه المسلمون الآن، فالذي يقتضيه قياسُ كلام معظم الأصحاب تخريجُ ذلك على القولين.
والذي يقتضيه قياس صاحب التقريب أن للإمام أن يقتص في هذه الصورة قولاً واحداً.
6107- ثم إن لم نُثبت القصاصَ في الصورة (1 الأولى، أو في الصورة 1) المذكورة بعدها، فعلى القاتل الدّيةُ، والكفارة، فالديةُ مصروفةٌ إلى سهم المصالح من بيت المال.
فإن أوجبنا القصاص، فقد أجمع الأئمة في الطرق على أنه لا يتعين على الإمام أن يقتص، ولكن لو أراد الرجوع إلى المال، ورأى ذلك صلاحاً، فله ذلك، وهذا فيه بعض الميل عن القانون؛ فإن وضع القصاص عند الشافعي على أن الوالي لا يملك إسقاطه، غيرَ أن هذا القصاص ليس على قياس غيره؛ فإنه كما يمتنع عفوُ [الوالي] (2) يمتنع استيفاؤه، غيرَ أن الشرع فوّض هذا إلى رأي الإمام ونظرِه، وقد ذكرنا أن ما نضيفه إلى رأي الإمام لانريد به أن يتخيّر فيه، بل نريد به أنه يرى الأصلح والأولى، والأليق بالحال، ولوْ (3) لم يثبت له العفو إذا رآه، لخرج القصاص عن موضوعه، ولتحتم استيفاؤه، وهذا يُفضي إلى التحاقه بالحدود، التي لا محيد عنها، هذا منتهى القول فيه إذا قُتِل اللقيطُ عمداً وقتل من ليس له وارث خاص.
6108- فأما القول في القصاص في الأطراف، فإذا قطع جانٍ يدَ اللقيط، فالقصاص ثابت على الجملة.
أما على طريقة جماهير الأصحاب، [فعلة] (4) ثبوته أن مستحقّه اللقيطُ، وهو متعيَّن، بخلاف ما إذا قُتل؛ فإنّ القصاص لو ثبت، لاستحقه المسلمون، وفيهم الأطفال والمجانين.
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (د 1) ، (ت 3) .
(2) في الأصل: الولي.
(3) (د 1) ، (ت 3) : ولم.
(4) في الأصل: فعليه.(8/538)
وأما على طريقة صاحب التقريب، فالقول في القصاص يضاهي القولَ في الإسلام، فلو بلغ وأعرب عن نفسه بالإسلام، تبيّنا وجوبَ القصاص. ولو بلغ وأعرب عن نفسه بالكفر والجاني مسلم، تبينا على طريقته أن القصاص، لم يجب؛ فإن الإسلام أطلقناه معلقاً بتبعية الدار، وفي تبعية الدار من الضعف ما وصفناه. 6109- ثم إذا حكمنا بثبوت القصاص في الطرف، فلو أراد السلطان أن يقتص، لم يكن له ذلك؛ فإن استيفاء القصاص على مذهبنا لا يتعلق بتصرّف الولاة.
[وحكى الشيخ أبو بكر (1) عن القفال أنه ذكر وجهاً بعيداً في أن السلطان يستوفي القصاص الواجب في طرف المجنون، وهذا لم أره لأحد من الأصحاب، ولم يورده أحدٌ عن القفال غيرُه، وهو وإن كان يتجه إذا قلنا: يجوز إسقاط القصاص وأخذ الأرش، فهو غير معتدّ به. قال: ولا خلاف أن الأب لا يستوفي القصاص للمجنون، وإنما هذا الوجه في السلطان، ثم زيفه] (2) .
6110- ولو أراد السلطان أن يأخذ أرش الجناية، فهل له ذلك؟ الترتيب المرضي فيه ما ذكره صاحب التقريب.
قال: إن كان الصبي مميزاً غنياً، فليس للوالي أن يأخذ المال، بل يتوقف حتى يبلغ الطفل، ويقتص إن أراد.
والجاني يحبس، ولا يخلّى؛ فإن في تخليته إحباط القصاص. ولا مبالاة بما عليه من الأذى بسبب الحبس؛ فإنه يعارضه إمهاله في الحياة، وفي سلامة الأطراف.
ثم ليس مما ذكرناه بدٌّ، ونحن نحبس من عليه دين إلى أن يتبين إعساره، بأن كنا (3) نجوّز تبيينه. وفي حبسه تنجيز مُعاقَبةٍ.
__________
(1) الشيخ أبو بكر: المراد به أبو بكر الصيدلاني. كما نبهنا على ذلك من قبل.
(2) ما بين المعقفين سقط من الأصل وحده.
(3) (د 1) ، (ت 3) ، (ت 2) : ونحن نجوّز. والمعنى: أننا نحبس مدّعي الإعسار إذا كنا نتوقع أن له مالاً غيّبه، ونرجو أن يبينه ليخلص من الحبس. فإذا جاز هذا، فحبس من عليه القصاص إلى بلوغ المجني عليه أولى.(8/539)
ولو كان الصبي مجنوناً فقيراً، وتحقق مسيس الحاجة إلى المال، وبَعُد توقع الإفاقة من المجنون، فالإمام يأخذ الأرش عند اجتماع هذين المعنيين.
ولو كان الصبي مجنوناً غنيَّاً، أو كان فقيراً عاقلاً مميزاً، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه يأخذ الأرش نظراً إلى الحاجة الحاقّة في إحدى الصورتين، وإلى اليأس من الإفاقة في الأخرى.
والوجه الثاني - أنه لا يأخذ الأرش أصلاً وينتظر ما يكون. والذي ذكره الأئمة من انتظار البلوغ في الصبيّ المميز الفقير متجهٌ. فأما الانتظار إلى إفاقة المجنون، فعظيم، وهو يؤدي إلى تخليد الحبس على الجاني من غير انتظارٍ محقق. ولكن هذا لا بد منه مع التفريع على هذا الوجه، ولسنا نقطع بحصول اليأس من الإفاقة.
6111- ثم مهما (1) أخذ مَنْ إليه الأمرُ الأرشَ إما في صورة الوفاق، أو في صورة الوجهين، فأخذه الأرشَ هل يتضمن إسقاطَ القصاص والعفوَ عنه حتى لو بلغ الصبيّ مُفيقاً لا يرد الأرشَ ولا يستوفي القصاصَ أم له رد الأرش، وطلبُ القصاص؟ ذكر صاحب التقريب في ذلك وجهين، وعبر عنهما بأنّ أخذ الأرش عدولٌ إليه بالكلية وإسقاطٌ للقصاص أم هو ثابت بسبب الحيلولة؛ من جهة أن القصاص الواجب لا سبيل إلى استيفائه؟ فيه الخلاف الذي ذكرناه. وأخذ الأرش على وجهٍ نازلٌ منزلة أخذ المغصوب منه قيمة العبد الآبق من الغاصب، وهذا يتجه بعضَ الاتجاه، سيّما إذا أفضى الأمرُ إلى إدامة الحبس، ولكن ينخرم بصورةٍ لا خلاف فيها، وهي إذا كان الصبي عاقلاً غنياً؛ فإنا لا نثبت الرجوع إلى الأرش، للحيلولة في هذه الصورة أصلاً، ولعل الجواب عنه أنه إذا كان إلى البلوغ مصيرُه، فلا نجعل لهذه الحيلولة حكماً، غير أنه يلزم على مساق ذلك أن نقطع بامتناع الرجوع إلى الأرش إذا كان الصبي فقيراً مميزاً.
هذا منتهى الكلام في ذلك.
6112- ثم ما قدمناه في السلطان واللقيط يجري مطّرداً في الطفل الذي يليه أبوه،
__________
(1) "مهما": بمعنى (إذا) .(8/540)
والكلام في أنه يأخذ الأرش أم لا يأخذه على التفصيل المقدم.
وكان شيخي يقول: ليس للوصي في حق الطفل سلطانُ (1 أخذ الأرش، وإنما يثبت هذا لوالٍ، أوْ وَليّ 1) .
وهذا الذي ذكره حسن، إذا جعلنا أخذ الأرش إسقاطاً للقصاص، وإن حكمنا بأنه مأخود للحيلولة، فيظهر تنزيل الوصي منزلة الولي.
على أن المسألة فى أصلها ليست خاليةً عن الاحتمال؛ فإن القصاص ليس داخلاً تحت الولاية استيفاءً وإسقاطاًً حتى يقال: هذا النوع من التصرف من خصائص الولاة. والعلم عند الله تعالى.
فصل
قال الشافعي: " ولو قذفه قاذف ... إلى آخره " (2) .
6113- أما قذف اللقيط غيرَه في صباه وبعد بلوغه لا يخفى حكمه.
وأما إذا قذفه غيرُه، فمقصود الفصل دائر على التردد في حرّيته، فإنه إذا كان مشكل الحال، أمكن أن يقدّرَ رقيقاً، وسنصف بعد هذا تفصيل القول في حرّيته، وما يجري الحكم به، إن شاء الله تعالى.
ولكن المختص بمضمون هذا الفصل أن المقذوف إذا كان بالغاً مسلماً، متعففاً عن الزنا، وكانت حريته على ما أشرنا إليه، فقال القاذف: أنت رقيق، فلا حدّ عليّ، وقال المقذوف: بل أنا حُرّ، فالذي نصّ عليه هاهنا أن القول قولُ المقذوف مع يمينه، ونصّ في اللعان على أن القول قول القاذف، فحصل في المسألة قولان.
قال الأئمّة: هما من تقابل الأصلين؛ فإنّا إن نفينا الحدّ، بنينا على أصل براءة الذمة، وإن أوجبناه، بنينا على أن الأصل في الناس الحريّة، والرق عارض.
6114- ثم تخبط الأصحاب في مسائل أجرَوْها مجرىً واحداً، وبعضها ليس من
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (د 1) ، (ت 3) .
(2) ر. المختصر: 3/134.(8/541)
تقابل الأصلين عندنا. ونحن نذكر ما ذكره الأصحاب، ثم نوضّح ما يليق بهذا الفصل من المباحثة.
فممّا ذكروه إعتاق العبد الغائب الذي انقطع خبر حياته (1) ، قالوا: فيه قولان خارجان على تقابل الأصلين: أحدهما - أنا لا نحكم ببراءة الذمة؛ لأن الأصل اشتغالُها بالكفارة.
القولُ الثاني - أنا نحكم ببراءة الذمَّة بناءَ على أن الأصل بقاء العبد.
وقالوا أيضاً في العبد الآبق الذي انقطع خبره: هل يجب زكاة فطرِه على سيده؟ فعلى قولين مأخوذين من تقابل الأصلين: أحدهما - لا تجب بناءً على أصل براءة الذمة.
والثاني - تجب، بناء على بقاء العبد.
وخرّجوا ما نحن فيه من وجوب الحد على القاذف على هذا الأصل، وألحقوا بذلك اجتماعَ غلبة الظن في النجاسة مع أصلٍ مستصحبٍ في الطهارة، والاختلاف في ذلك مشهور على الجملة: فأحد القولين: يجوز الأخذ بالطهارة، بناء على استصحاب الطهارة. والقول الثاني - أن التعلّق بما يغلب على الظن.
ولهذا الأصل صور مذكورة في كتاب الطهارة.
6115- وأول ما نرى استفتاحه والتنبيه عليه أن مسائل القولين في الطهارة ليست من قبيل تقابل الأصلين؛ فإنا إذا رُمْنا طردَهما على التقابل، لم ينتظم الكلام؛ فإن العبارة على القولين في مسائل النجاسة: أنا في قولٍ نستصحب أصل الطهارة، فلا نوجب إزالةً.
وفي القول الثاني - نوجب الإزالة تعلقاً بغالب الظن، وتقديماً للاجتهاد على استصحاب الحال.
والوجه لو استند غالب الظن إلى اجتهادٍ ظاهرِ- طَرْحُ استصحاب الحال.
وما ذكره الأصحاب من أنا لا نترك اليقين بالشك مجازٌ؛ فإن اليقين غير معقول مع
__________
(1) إعتاق العبد الغائب: أي إعتاقه عن الكفارة.(8/542)
الشك، فضلاً عن ثبوت غلبة الظن على خلافه.
وقد ذكرنا في مراتب الأدلة في الأصول أن التعلق باستصحاب الحال باطل في معارضة الاجتهاد. وسبب اختلاف الأدلة في القول في النجاسات ضعفُ الاجتهاد؛ من قِبل أن علامة النجاسة خفية، فإذا فرض ظهورها، كانت مستيقنة. فهذا النوع إذاً من قبيل معارضة استصحاب الحال اجتهاداً ضعيفاً. وقد تجرّد الاستصحاب في الحدث والطهارة؛ إذ لا علامة فيهما أصلاً. وإذا عدمنا الاجتهاد بالكلية، استصحبنا ما كنا عليه.
فهذا مسلك الكلام في ذلك.
6116- والذي يلتحق بقاعدة تقابل الأصلين على التحقيق المسألتان المذكورتان في غيبة العبد: إحداهما - في أن إعتاقه هل يبرىء ذمة المعتق؟ والأخرى في أن فطرته هل تجب؟ ففي قولٍ يبنى الأمر على بقائه؛ فنوجب الفطرة ونبرىء الذمة عن الكفارة وفي قولٍ لا نبرىء الذمة، ولا نوجب الفطرة.
وبالجملة مستند القولين اجتهادان يَعسُر على غير المدقق ترجيحُ أحدهما على الثاني، فمن لا يبرىء الذمة يقول: الأمر بالكفارة ثابت تحقيقاً، فليكن الخروج عنها في الظهور بمثابة موجِب الكفارة، وهذا اجتهادٌ ونوعٌ من النظر. والقائل الثاني يقول: إذا أعتق، فلسنا نستيقن بقاء الأمر بالكفارة الآن؛ إذ لو تحققنا بقاء العبد، لتبينّا براءة الذمة عن الكفارة، وإذا تبيّن سقوطُ اليقين ببقاء الأمر، فليس إلا التعلّق بنوعٍ من النظر المغلِّب على الظن، والغالب على الظن بقاء العبد.
6117- ثم قد يظن كثير من الناس أنه لا يترجح في هذا الفن قول على قول، ولو كان كذلك، لانْحسم الفتوى وسقط مسلك الحكم في النفي والإثبات، واعتقاد ذلك محال. ونحن نتخد هذه المسألة معتبراً في طريق الفتوى، فنقول:
الظاهر عندنا أن ذمته لا تبرأ عن الكفارة؛ فإنه متعبَّد بعتقٍ ظاهر، وإذا غاب العبد وانقطعت الأخبار عنه مع طروق الطارقين، وتوافر الأخبار وبذل الجد في المباحثة، فهذا قد يدل على الفقد والموت، والأصل في الباب أن اليقين في حصول(8/543)
العتق ليس مطلوباً؛ إذ لا يستيقن ملكٌ في عبد، بل نجتزىء بإنشاء عتقٍ في ملك ظاهر، وإذا قامت الأدلة على الفقد، لم يظهر العتق، وإذا لم يكن إلى تحصيل اليقين سبيل، فلا بدّ من الظهور، والقولان فيه إذا عميت الأخبار عن الحياة لو كانت، مع اجتماع أسباب ظهورها، حتى لو كان انقطاع الأخبار محالاً على انقطاع الرفاق، واضطراب الطرق، فيجب القطع بحصول البراءة ظاهراً؛ فإن مما ثبت أن كل أصل تقرر، ولم ينتفِ، ولم تنتصب دلالة تُغلِّب على الظن انتفاءه، فهو مُقَر على حكم البقاء. وصورة القولين في انتصاب الأدلة على نقيض البقاء.
6118- وقد يتطرق إلى هذا سؤال، وهو أن يقال: كما يظهر البقاء مع البحث، فكذلك يظهر الموت، ولعل الدواعي إلى نقل الموت أميل منها إلى نقل الحياة؛ فإن الموت في حكم النادر في حق الحي، والنفوس مجبولة على نقل النّوادر، ولكن قد يُخفى على الإنسان ما يسوءه، وإن كان لا يُكذب له.
ثم مثل هذا إذا وقع، فالغالب ظهور خبر الموت وتبيّن الأمر على ما هو عليه،
فموقع القولين ما إذا انقطعت أخبار الحياة من غير مانع، ولم يظهر بعدُ الموتُ، فلو صوَّر مصوّرٌ استبهام الموت والحياة مع طول الزمان، كان ذلك على خلاف العادة، وإن شطت المسافة، أمكن حمل الانقطاع على بُعدها، ولا يجري القولان هاهنا.
6119- ومما يجب التنبّه له أنا إذا لم نحكم ببراءة الذمة عن الكفارة، فلا نحكم بصحة بيع العبد والحالة هذه.
وإن حكمنا ببراءة الذمة عن الكفارة ظاهراً، ففي نفود البيع احتمالٌ؛ فإن إعتاق الآبق مُجزىءٌ مع امتناع بيعه.
ومما يجب دركه أنا إذا منعنا البيع، فلو تبين بقاء العبد، فالظاهر عندي نفوذ البيع، وإن كان قد يلتفت هذا على الوقف. ولكن إذا بأن الأمر، وكان البيع مستنداً إلى الملك، والتمكن من التسليم، فظنُّ التعذر لا يبقى أثره، مع تبين خلافه.
وكأن هذا في المعاملات يضاهي صلاةَ الخائف من سوادٍ يحسبه عَدُوا، ثم تبين خلافه. ولا يخفى أنا إذا تبيّنا بقاء العبد، فنحكم باستناد براءة الذمة عن الكفارة إلى وقت الإعتاق.(8/544)
6120- فخرج مما ذكرناه أن تقابل الأصلين لقب أطلقه الفقهاء اصطلاحاً، وإلا فحاصل القولين فيما سماه الفقهاء تقابل الأصلين يرجع إلى تقابل الأمارات الظنية.
وعلى هذا يخرّج كلُّ مختلَف فيه من المظنونات.
فإن قيل: فما الظاهر في إيجاب الفطرة في مثل العبد الذي ذكرتموه؟ قلنا: هو يخرّج على ما ذكرناه.
وبين المسألتين دقيقةٌ، وهي أن الموت ترجّح في المسألة الأولى على الحياة، وخرج العتق عن الظهور، وثبت التعبد بعتقٍ ظاهر، والأمر باقٍ إلى الامتثال.
وفي مسألة الفطرة ثبت الملك أولاً، وظهر بالأمارة موتُ العبد، كما ذكرناه، والبقاء غير خارج عن طرق الظنون، ولم يثبت عندنا في وضع الشرع أن ما تحقق وجوده أولاً، ولم نستيقن انقطاعَه، فلا فطرة فيه.
وهذا تلويح في الظن، والأصل أن لا فرق بين المسألتين.
فقد تحصّل التنبيه على مسلك الأقوال في المواقع التي يسميها الفقهاء تقابل الأصول.
6121- وألحق العلماء بهذا ما نحن فيه من وجوب الحدّ على القاذف عند إنكار حرية المقذوف، وهو جارٍ على التقرير السابق. والظاهرُ في الحال انتفاء الحد، كما سنقرره بعدُ -إن شاء الله عز وجل- في فصل يحوي أحكامَ حرية اللقيط وتطرّقَ إمكان الرق إليه.
6122- ومما يتصل بما نحن فيه القصاص عند فرض الجناية على اللقيط. فإذا قال الجاني الحرّ للّقيط بعد بلوغه: أنت عبد. وقال المجني عليه: بل أنا حر، ففي وجوب القصاص طريقان: من أصحابنا من أجرى القصاص مجرى حد القذف، وخرّج وجوبه على القولين.
ومنهم من قطع [باستيفاء] (1) القصاص، واعتلّ بأنا لو نفيناه على تقدير الرق،
__________
(1) في النسخ الأربع: قطع بانتفاء. ولعل الصواب: " قطع باستيفاء " كما هو واضح من تعليل القطع.(8/545)
لانتقلنا إلى مشكوك فيه، وهو القيمة، والقصاص ظاهرٌ بناء على الحرية، وهذا يتضمن انتقالاً من ظاهرٍ إلى مشكوك فيه، وإذا (1) درأنا الحد عن القاذف، أوجبنا عليه التعزير، [والتعزير] (2) من طريق الحس بعضٌ من الحد، وهو مستيقن الثبوت، ففي إسقاط الحد، والرجوع إلى التعزير تركٌ للظّاهر، وتعلّق بالمستيقن.
وكان شيخي يقول: في القصاص طريقان: أحدهما - تخريج القولين، والآخر - القطع بالوجوب؛ فإن القصاص أبعد عن السقوط بالشبهة من حد القذف.
وهذا ضعيف لا مستند له على مذهب الشافعي؛ فإن حد القذف من حقوق الآدميين عنده.
ولا يصفو هذا الفصل عن شوائب الإشكال إلا بالفصل الذي نعقده في حرية اللقيط ورقّه، وتمام البيان في جناية اللقيط والجناية عليه موقوف على ذلك الفصل المنتظر.
6123- ثم إن المزني نقل جملاً من أحكام الدعوى، ولحوق النسب، والقيافة، وقد عقد فيها باباً على أثر كتاب الدعاوى، ونحن التزمنا الجريان على ترتيب مسائِل المختصر، فالوجه أن نبين ما أورده من مسائل الدعوى، ونحيل باقي المسائل على آخر الدعاوى.
6124- ومما نقله [أيضاًًً] (3) فصلٌ بيّن قصد به الرد على بعض العلماء، وذلك أنه قال: لا ولاء له كما لا أب له، وأراد بقوله: لا ولاء له أي لا ولاء عليه، وقصد بمضمون الفصل الرد على من زعم أن الملتقط يرث اللقيط، فقال رادّاً عليه: ليس بين الملتقط وبين اللقيط سبب مورِّث، ولا نسب، وتعرّض لبيان انتفاء الولاء فيما حاول نفيه. هذا مقصوده.
__________
(1) وإذا درأنا الحد: بيان للفرق بين حد القذف والقصاص.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) سقطت من الأصل.(8/546)
فصل
قال: " ولو ادعاه الذي وجده، ألحقته به ... إلى آخره " (1) .
6125- افتتح رضي الله عنه أحكاماً من الدّعوة (2) ، والذي ذكره أولاً له اختصاص باللقيط. ومذهبنا أن الملتقِط إذا استلحق اللقيط، وقال: إنه ولدي، لحقه النسب.
وهذا من الأصول في الشريعة، وهو في ظاهر وضعه مخالف لأبواب الدعاوى، فمن ادّعى نسب طفل مجهول النسب لحقه نسبه بمجرد الدِّعوة والدِّعوة على صورة الدعوى المجردة.
والنسب من الحقوق المطلوبة، ثم لا نقول: يثبت ما على صاحب الدِّعوة من الحقوق، ولا يثبت ما له، بل تثبت أحكام النسب من الجانبين، حتى لو مات الطفل، ورثه مستلحقه، كما يرثه الطفل، لو كان هو الميت.
6126- وهذا مع كونه مجمعاً عليه مستندٌ إلى طرفٍ من المعنى، وهو أن الإشهاد على النسب وسببه عسر، فلو لم يحصل بالدِّعْوة، لضاعت الأنساب. وإذا فرضنا ثبوت نسب ببينة، فالشهود لا يبنون شهادتهم على [عِيان] (3) ، وإنما يبنونه (4) على استلحاق الرجل طفلاً، وتصرفه فيه بوجوه الاستصلاح على حسب تصرف الآباء، ثم إنه يشيع من هذه الجهة حتى ينتهي إلى التسامع الذي هو مستند البينات.
6127- ثم إذا ثبت النسب بالدِّعْوة، وجرى الحكم به، فلو بلغ الطفل، وأنكر النسب، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن النسب لا ينتفي بإنكاره؛ فإنه جرى الحكمُ به في الصبا واستمر، فلا ينقض بعد ثبوته.
__________
(1) ر. المختصر: 3/134.
(2) الدعوة: بالكسرة: ادّعاء الولد الدعي.
(3) في الأصل: علم.
(4) كذا في النسخ الأربع (يبنونه) بضمير المذكر. نظراً للمشهود عليه: النسب، أي يبنون النسب. والله أعلم.(8/547)
والثاني - أنه ينتفي إذا أنكر بعد البلوغ وحلف، فإنه لو ادعى نسبَ بالغٍ، فأنكره، وحلف، لم يثبت النسب، فإذا انفرد المستلحِق بالدِّعوة في زمن الصبا، استحال أن يبطُل أثر الإنكار بعد البلوغ، وسنذكر في ذلك مثالاً في فصل الحرية والرق، إن شاء الله تعالى، ونبيّن قاعدة المذهب في مجموع هذه المسائل.
6128- والذي نذكره الآن بعد القول فىِ أصل الدِّعوة أن دِعوة الملتقط في اللقيط مقبولةٌ، كما تُقبل دِعوةُ غيرِه فيه.
وقال مالك (1) : إن اشتهر أن الملتقط لا يعيش له ولد، فدِعوته مسموعة؛ فإن النبد واللَّقْط محمول على عادةٍ في الناس، تتعلّق بالفأل: فإن من لا يعيش له ولد، ينبد ولدَه، ثم يلتقطه، ومن عَقْد العوام أنه إذا فعل ذلك، عاش المنبوذ. فأما [إذا لم يكن الملتقط] (2) ممن لا يعيش له ولد، فلا يُقبل استلحاقه للّقيط؛ من قبل أن الظاهر يكذبه؛ إذ الإنسان لا ينبد ولده هزلاً.
وهذا الذي ذكره لا أصل له، والقواعد لا تزول بأمثاله.
6129- ولو اجتمع على اللقيط الملتقِطُ وغيرُه، وتداعيا نسبه، فلا نرجح الملتقط على غيره لمكان يده، بل هو وصاحبه مستويان في الدِّعوة، وسنذكر في الفصل الذي يلي هذا الفصل اجتماعَ المتداعيين في النسب، وإنما لم نرجح جانب الملتقط؛ لأن يدَ الالتقاط لا تدل على مزية في النسب.
وقد قال أئمتنا: إذا صادفنا صبياً تحت تصرّف إنسان، وما عهدناه منبوذاً، فإن كان المتصرِّف فيه بجهات استصلاح الآباء ادّعى نسبه، وجرى له الحكم به، ثم جاء إنسان، وادعى نسبَه، فجانب صاحب اليد مرجح؛ فإن النسب ثبت معتضداً بظاهر اليد، فلا تزحمه دعوى مَنْ لا تصرّف له، ولا يد.
__________
(1) ر. منح الجليل لعليش: 8/248، التاج والإكليل للمواق - بهامش شرح الحطاب: 6/82.
(2) في الأصل: إذا كان الرجل. والمثبت من باقي النسخ.(8/548)
وإن كان تحت يده كما صورنا، ولم يصدر منه إسماعُ الناس استلحاقَه، فجاء إنسان، وادّعى نسبه، وقال صاحب اليد: هو ابني، فهذا مما تردّد الأئمة فيه، وهو في محل التردد، فمنهم من قال: صاحب اليد أولى إلا أن يقيم المدّعي الآخر بيّنةً.
ومن أصحابنا من قال: لا فرق، كما لا فرق بين الملتقِط وغيرِه، والجامع أن يد الملتقط ليست علامةَ نسب اللقيط، وقد دلّ النبد والالتقاط عند مالك على مناقضة الدِّعوة في النسب.
كذلك من تثبت يده على طفل، فالغالب أن يُشهر ويذكر نسبُه، إن كان ولدَه، فإذا لم يفعل، صارت يده كيد الملتقِط؛ من جهة أنها لا تدلّ على النسب، ويد الملتقط، وإن طال الزمن عليها لا تتضمن ترجيح جانبه؛ فإن مستندها الالتقاطُ الأول، وليس في الالتقاط ترجيحٌ فيما يتعلق بالنسب عند التداعي فيه.
6130- نعم، لو كان التنازع في الحضانة، فقال أحدهما: أنا الملتقط، وقال الثاني: بل أنا الملتقط، وصادفنا اللقيط في يد أحدهما، فالذي صادفنا اللقيط في يده مقدّمٌ على صاحبه.
فلو قال صاحبه: كان الصبي في يدي، فانتزعه مني، ولم يُقم واحدٌ منهما بيّنةً، فالقول قول من يصادَف اللقيط في يده في الحال مع يمينه.
والفرق بين النسب وبين الحضانة بيّن؛ فإن حق الحضانة يثبت بالالتقاط واليدُ دلالةٌ عليه، وحق النسب لا يثبت بالالتقاط.
فصل
قال: " ولو ادعى اللقيط رجلان ... إلى آخره " (1) .
6131- إذا تنازع رجلان نسب مولودٍ، وكان كل واحد منهما من أهل الدِّعوة حالة الانفراد، فإن أقام كل واحدٍ منهما بيّنة على أن الولد ولدُه، والنسب ثابت من جهته،
__________
(1) ر. المختصر: 3/134.(8/549)
فالبيّنتان تتهاتران، وتسقطان، ولا ينتظم استعمالهما (1) .
والسبب فيه أن في كيفية الاستعمال على القول بالاستعمال ثلاثة أقوال:
أحدها - القرعة.
والثاني - القسمة.
والثالث - التوقف.
والقسمة غيرُ ممكنة، والقرعة لا جريان لها في الأنساب، ولا معنى للتوقف؛ فإن فيه تعطيلَ النسب، وليس فيه زيادة حكم بحالٍ على البيّنتين، فلا يجري إذاً قولٌ من أقوال الاستعمال، ويتعين الحكم بسقوط البيّنتين.
6132- ثم لو لم يكن معهما بينة، فإنا نُري الولدَ القائفَ، فهذا هو السبيل لا غير، ثم إذا [ألحقه] (2) القائف بأحدهما، ونفاهُ عن الثاني، ألحقناه بالذي ألحقه القائف به.
وتفصيل القول في كيفية مراجعة القائف، وفي خطئه لو أخطأ مذكورٌ في كتاب الدعاوى. والقدْرُ الذي لا نخلي عنه هذا الباب أنا إذا أَرَيْنا الولدَ القائفَ مع أحد المتنازعيْن، فألحقه به، فلا نقتصر على هذا، بل نريه مع الآخر، فإن ألحقه به أيضاًً، تبين خطأ القائف، وسقط التمسك بقوله، وكان كما لو لم نجد قائفاً، إذا لم نجد غيره، ولا أثر لتقدم الإلحاق بالأول؛ فإنا نراجعه في حق الثاني، فإذا ألحق بالأول ونفاه عن الثاني؛ فإذ ذاك يحكم بقوله.
ولو رأى الولد مع المتنازعَيْن جميعاً، فلا بأس، [فإن ألحق بهما، أو نفى
عنهما، فلا قائف] (3) ، وإن ألحق بأحدهما، ونفى عن الثاني، ثبت النسب ممن ألحقه.
__________
(1) عبارة الأصل، (ت 2) هكذا: " ولا ينتظم استعمالهما، فإن فرعنا على أن البينتين المتعارضتين تستعملان، والسبب فيه أن في كيفية الاستعمال ... ".
(2) في جميع النسخ: الحق (بدون هاء الضمير) .
(3) ساقط من الأصل.(8/550)
وفي القائف صفات مرعية ليس هذا موضع ذكرها، وستأتي في كتاب الدعاوى، إن شاء الله تعالى.
6133- وإذا تعذر الرجوع إلى القائف، وقد تقدم أنه لا تعلّق بيد الالتقاط، فلا وجه إلا التوقف إلى أن يبلغ الغلام فينتسب إلى أحدهما، فإذا بلغ، لم يكن انتسابه إلى أحدهما صادراً عن التشهي والتمني، ولكنا نقول له: راجع جبلَّتك، وانظر، فإن وجدت نفسك أَمْيل إلى أحدهما رقةً وشفقة، فانتسب إليه. ولا ينبغي أن يبني انتسابه على غنى أحدهما، ورغد المعيشة في جنابه، بل حقٌّ عليه أن يتبع الشفقة والرقة الجبلِّيّة في القرابة.
6134- وهذا الذي نحن فيه يباين تخيير المولود بين الأبوين إذا تنازعا الحضانة من وجهين: أحدهما - أن الصبي كما (1) بلغ مبلغ التمييز خيرناه، ولا نكتفي بهذا السن في التخيير الراجع إلى النسب، والفرقُ أن التخيير في الحضانة ليس قولاً مُلزماً، فإن الصبي لو اختار في الحضانة أحدَ الأبوين، ثم بدا له، فاختار الثاني، اتّبعناه، وضممناه إلى الثاني. وانتسابه إلى أحدهما قول ملزم، والصبي ليس من أهل القول الملزم. فهذا أحد الوجهين في الفرق.
والوجه الثاني - أن الصبي المخيَّر لو اختار أحدَهما تشهِّياً، انبنى عليه الحكم ظاهراً وباطناًً، إلى أن يسأم ويؤثر الثاني، وكذلك لو مال إلى أغناهما، ورأى العيش معه أهنأ، فله أن يختاره (2) ، وقد ذكرنا أنه لا يجوز التعويل في الانتساب إلى أحدهما إلا على الشفقة والرّقة التي تثيرها القرابة.
6135- فلو بلغ وانتسب إلى أحدهما، ووجدنا قائفاً وقت انتسابه؛ فإن ألحقه بمن انتسب إليه، فلا كلام، وإن ألحقه بالثاني، فإلحاق القائف هو المتبع؛ فإنه حكم صادرٌ ممن هو حاكم في الباب.
وكذلك لو انتسب إلى أحدهما، فأقام الثاني بينةً، فالبينة مقدّمة.
__________
(1) كما: بمعنى عندما.
(2) كل هذا في جانب الحضانة.(8/551)
ولو اجتمعت بينة في أحد الجانبين، وإلحاق القائف في الثاني، فالبينة مقدّمةٌ، اتفق عليه الأصحاب؛ فإن مستند البينة أثبت، وقول القائف وإن كان مقبولاً؛ فإنه صادرٌ عن حدسٍ وتخمين، والبيّنة حجة عامة في الخصومات جُمَع.
6136- ولو كان التنازع في الحضانة لا في النسب، فالسابق في الالتقاط هو الحاضن، لا شك فيه.
فلو أقام كل واحد منهما بينةً أنه السابق، وصادفنا اللقيط في يد أحدهما، فبيّنته تُرجَّح ترجيح البينتين بين الداخل والخارج في خصومة الملك، على ما سيأتي في الدعاوى؛ فإن حقيقة الحضانة ترجع إلى اختصاصٍ بيد، فإذا كانت اليد تدلّ على الاختصاص بالملك، فلأن تدل على الاختصاص بالحضانة أولى.
وإذا كان المولود بينهما، وهما واقفان عليه، فأقام كل واحد منهما بينة، فإن حكمنا بتهاتر البينتين، فكأن لا بينة (1) . وإن حكمنا باستعمال البينتين عند التعارض، فلا يخرّج قول الوقف؛ فإن الحضانة لا تحتمل ذلك، ولا يخرّج قول القسمة.
ولو قال قائل ردّدوا اللقيط بينهما على حكم المهايأة، امتنعنا من ذلك، لما فيه من الضرار على الطفل، كما حققناه في الفصول الماضية.
فلا يجري على قول الاستعمال إلاّ قولُ القرعة، ولا امتناع في إجرائه في حق الحضانة؛ فإنا إذا كنا نجريه في الملك، فإجراؤه غير ممتنع في الحضانة، وليس كما لو كان المتنازع نسباً؛ فإن القرعة لا جريان لها في النسب، فتنحسم (2) أقوالُ الاستعمال في النسب.
6137- ومما تنفصل فيه الحضانة عن خصومات الأموال وعن النزاع في النسب أن المتنازعَيْن في الحضانة إذا أقام أحدُهما بينةً أنه التقط هذا الصبي أمس، وأقام الثاني بينة أنه التقطه اليوم، فالبينة الشاهدة بالسبق مقدمة.
__________
(1) في النسخ الثلاث -غير الأصل- فكأن لا تهاتر.
(2) فتنحسم: أي فتمتنع.(8/552)
ولو قامت بينتان من المتنازعَيْن في الملك وتقيّدت (1) إحداهما بالسبق، ففي تقديمها قولان سيأتي ذكرهما في الدعاوى، والفرق أن من يثبت له السبق في الحضانة، فلا سبيل إلى إبطال حقه، ويتصور في الملك أن يسبق أحدهما، ثم يزول الملك عنه إلى الثاني، وكذلك في النسب لو سبق أحدهما بالدِّعوة، ثم جاء آخر، ونازع وادّعى النسب، فسبْقُ السابق إلى الدِّعوة لا يُثبت له اختصاصاً في باب النسب، فإن الدِّعوة وإن كانت تقتضي النسب لو تجردت، فهي دَعوى محضة إذا فرضت الدعوى من رجلين.
6138- ولو قامت في النسب بينتان من الجانبين وتقيدت إحداهما بتصديق القائف، أو باختيار المولود، فلا ينبغي أن نقول: تترجح البينة، ولكن الوجه الحكم بتساقطهما، ثم الحكم بإلحاق القائف بعد اعتقاد سقوطهما، وكذلك القول في الاختيار.
فهذه القواعد لا بدّ من الإحاطة بها في النسب والحضانة.
فصل
قال: " ودِعوة المسلم والذميّ والعبد سواء ... إلى آخره " (2) .
ومقصود هذا الفصل الكلامُ في دِعوة العبد، ودِعوة الذمي.
6139- أما دِعوة العبد، فقد نص هاهنا على أن العبد من أهل الدِّعوة، كالحر.
ونص في الدعاوى على أن العبد ليس من أهل الدِّعوة، ولو استلحق نسباً، لم يلحقه، فحصل قولان:
توجيههما: من قال: إنه من أهل الدِّعوة -وهذا القول هو الأصح- احتج بأن الدِّعوة تعتمد إمكانَ العلوق، وتصوّرَ النسب، فإذا كان العبد في هذا كالحر، فليكن بمثابته في الاستلحاق، وليس هذا كما لو أراد حضانةَ طفلٍ؛ فإن السيد يمنعه؛ من
__________
(1) (د 1) ، (ت 3) : فتقدرت.
(2) ر. المختصر: 3/135.(8/553)
جهة كونه مستغرَق المنفعة باستحقاق سيده.
ومن قال: العبد ليس من أهل الدِّعوة، احتج بأن العبد لو استلحق نسباً ولحقه، لِتَقَدَّمَ النسبُ على حق الولاء (1) إذا أعتقه مولاه؛ فإنَ الإرث بالبنوة مقدّمٌ على الإرث بالولاء.
وهذا عندي في نهاية الضعف؛ فإن النسب ليس أمراً يُنشأ حتى يقدّر مبطلاً، وكيف يتجه ردُّ قولٍ ممكن ممن هو من أهل الإمكان، لأمرٍ سيكون بعد زوال الرق.
وكان شيخي أبو محمد يطرد هذين القولين بعد نفود العتق، ويقول: إذا استلحق المعتَق نسباً بعد ثبوت الولاء، ففيه قولان؛ بناءً على قطع حق الولاء.
وقد ذكر غيرُه هذا، وردُّ دِعوتِه بعد العتق في نهاية الضعف مع تمكينه من التزوج على سبيل الاستقلال، والتوصل إلى النسب.
6140- ومما يتعلّق بذلك أن الحر لو استلحق نسب عبدٍ، فلأصحابنا طريقان: منهم من قطع بثبوت النسب؛ فإن الحر من أهل الدِّعوة على الإطلاق ولا حجر عليه.
ومنهم من جعل استلحاق الحر العبدَ، كاستلحاق العبد الحرَّ؛ من جهة أن في استلحاق الحرّ قطعَ الإرث المتوهم بالولاء، كما تقدم.
فهذا قولنا في العبد.
6141- فأما الذمي، فإنه في الدِّعوة كالمسلم لا خلاف فيه، فإذا استلحق ذميٌّ نسبَ لقيط، ثبت النسب، وفي الإسلام الخلاف الذي ذكرناه.
وقد ذكر أصحابنا وجهين، ونقلهما شيخي والقاضي قولين؛ فإن الشافعي قال هاهنا: " أحببت أن أجعله مسلماًً "، وقال في كتاب الدعاوى: " جعلته مسلماًً "، فانتظم قولان.
6142- ثم إن حكمنا بالإسلام تبعاً للدار، حُلْنا بين الذميّ وبينه، مع الحكم بالنسب، وفوَّضنا الحضانة إلى غيره.
__________
(1) (د 1) ، (ت 3) : " في حق الولادة ". وهو خلل بيّن.(8/554)
وإن لم نحكم بإسلامه، فلا يخلو إما أن كان يصف الصبي الإسلامَ، أو كان لا يصفه، فإن كان لا يصفه، ضممناه إلى الذمي، وإن كان يصف الإسلام قبل سن التمييز، أحببنا ضمه إلى مسلم، ولم نوجبه، ولا بد من استرضاء الذمي؛ فإنا نثبت له حقَّ الحضانة، حيث انتهينا إليه، فلا سبيل إلى إبطاله عليه قهراً.
ولو وصف الصبيُّ الإسلامَ على سن التمييز، فقد جزم الشافعي قوله بأنه يُفرَّق بينهما، ويسلّم الصبي إلى مسلم؛ فإن الكافر قد يستزله ويمرّنه على الكفر.
ولم أر أحداً من الأصحاب يشير إلى جواز تركه تحت حضانة الكافر، بل صاروا إلى أنه يجب نزعه منه.
وإذا قلنا: لا حكم لإسلامه، ولا يتعلق بتلفظه بالإسلام حكم له أو عليه، فلا يبعد في القياس ألا ينزع من يد الكافر، ولكن يستحب نزعه مع استرضاء الأب الكافر؛ فإن في نزعه من يده إلزام أمرٍ، وإبطال حق.
ولكني لم أرَ هذا لأحد من الأصحاب.
فصل
قال: " ولا دِعوَة للمرأة إلا ببيّنة ... إلى آخره " (1) .
6143- المرأة إذا استلحقت مولوداً، وذكرت أنها ولدته، فإن أقامت بيّنةً، ثبت ما تدّعيه بالبينة، والولادة تثبت بشهادة أربع نسوة.
ثم إذا ثبتت الولادة، فلا فرق بين أن تكون ذاتَ زوج، وبين أن تكون خليّة، أمَّا الانتساب إليها بالولادة، فلا شك في ثبوته.
وأمَّا إلحاقه بالزوج إن كانت ذاتَ زوج، وكان العلوق منه ممكناً، فهو ثابت، ولا ينتفي النسب عن الزوج إلا باللعان.
6144- فأما إذا اقتصرت المرأة على الدِّعوة، ولم تقم بيّنةً، فحاصل ما ذكره الأصحاب أوجه:
__________
(1) ر. المختصر: 3/136.(8/555)
أحدها - أن الولادة لا تثبت بدِعوتها أصلاً، بخلاف الرجل. والفرق أن النسب في جانب الرجل مما لا يدرك موجِبه ومقتضيه؛ فمست الحاجة إلى إثباته بمجرد الدِّعوة، كما قررناه فيما تقدم، والمرأة قادرةٌ على إثبات الولادة بالبيّنة، فرُدَّت إلى قاعدة القياسِ، ولم يثبت الانتساب إليها بالولادة لمجرّد دِعوتها.
والوجه الثاني - أن المرأة في الدِّعوة كالرجل ووجه القياس بيّن، وقد تلد حيث لا يشهدها نسوة معتمدات من أهل قبول الشهادة.
والوجه الثالث - أنها إن كانت خليّةً عن الزوج، تثبت الولادةُ بدِعوتها، وإن كانت ذات زوج، لم تثبت الولادة بدِعوتها؛ فإنا لو أثبتناها، لزمنا أن نلحق الولادةَ بالفراش، وفي المصير إليه إلحاق نسب بالزوج مع إنكاره أصلَ الولادة.
6145- ومن قال من أصحابنا بقبول دِعوتها سواء كانت خليةً، أو ذاتَ زوج؛ فإنه يقول: إن كانت ذاتَ زوج، يلحقها الولد، ولا يلحق زوجها، فليس في الأصحاب من يستجيز إلحاق الولد بالزوج مع إنكاره ولادتَها.
وهذه المسألة منصوصةٌ في كتاب اللعان، فإن الشافعي قال: " إذا ذكرت المرأة أنها ولدت ولداً، وقال الزوج: استعرتيه (1) ، وما ولدتيه، فالقول قول الزوج مع يمينه ".
فمن فصل بين الخليّة وذاتِ الزوج، استبعد أن يلحقها الولدُ في فراش النكاح، مع امتناع إلحاقه بالزوج. ومن عمم قال في ذات الزوج: يختص الإلحاق بها، وكأنها
__________
(1) استعرتيه وما ولدتيه. هكذا بإثبات الياء في جميع النسخ، وقد يتبادر إلى الذهن أنها خطأ أو تحريف وتصحيف من الناسخ، لكن اتفاق النسخ الأربع ينفي هذا الاحتمال. وفعلاً بالبحث والتمحيص وجدنا هذا سائغاً صحيحاً عليه شواهد من النثر والشعر، قال سيبويه: وحدّثني الخليل أن أناساً يقولون: ضربتيه، فيلحقون الياء، وفي خزانة الأدب بتحقيق أستاذنا عبد السلام هارون 5/268، 269 الشاهد رقم 382:
رميتيهِ فأقصدتِ ... وما أخطاتِ الرَّمْيَهْ
بسهمين مليحينِ ... أعارتْكِيهما الظَّبْيَهْ
وانظر سيبويه: 4/200.(8/556)
أتت بالولد لزمانٍ لا يحتمل أن يكون العلوق به من الزوج، ثم لا شك أن الخصومة تقوم بين الزوج والزوجة كما ذكرناه فيه إذا قال: استعرتيه، وقالت: بل ولدتُه.
6146- فإذا فرعنا على أن المرأة من أهل الدِّعوة، إذا ادعت امرأتان ولادة مولود، فالولد نُريه القائفَ معهما، على ترتيبٍ، أو جمعٍ، كما سيأتي في باب القيافة من كتاب الدعاوى، إن شاء الله تعالى، فإن لم نجد قائفاً، وقفنا الأمر إلى أن يبلغ المولود على الترتيب الذي ذكرناه في الرجلين إذا تداعيا نسب مولود، ثم إذا كانتا تحت زوجين، أو كانت إحداهما ذات زوج، فبلغ المولود، وانتسب إلى إحداهما، فلا يلتحق النسب بالزوج، كما لا يلتحق بدِعْوتها المجردة إذا لم تُزاحَم في الدِّعوة؛ فإن قول المولود دَعوى كما أن قول المرأة دعوى.
ولو ألحق القائفُ الولد بذات الزوج، فقد اختلف أصحابنا في أن الولد هل يلحق الزوج؟
فمنهم (1) من قال: يلحقه؛ فإن قولَ القائف حجة أو حكم، وعلى أي وجه فرض، وجب الجري على موجَبه، فصار إلحاقه بمثابة ما لو أقامت المرأة بيّنةً على الولادة، ولو فعلت ذلك، التحق الولد بالزوج، ولا ينتفي عنه إلا باللعان.
والوجه الثاني - أن قولَ القائف لا يُلْحِق الولدَ بالزوج؛ فإن قوله يختص بمن يدّعى، بدليل أن القائف لو ألحق منبوذاً برجلٍ من عُرض الناس، لا يدّعي نسبَه، لم يُلحق به.
وسنستقصي ذلك في باب القيافة، إن شاء الله عز وجل.
فصل
قال: " ولو ادّعى رجلٌ على اللقيط أنه عبده ... إلى آخره " (2) .
6147- هذا الفصل يشتمل على تفصيل القول في حرية اللقيط ورقِّه، وبيان إقراره
__________
(1) " فمنهم من قال: يلحقه ". هذا هو الوجه الأول. وسيأتي الوجه الثاني بعد أسطر.
(2) ر. المختصر: 3/136.(8/557)
بالرق، وهو مما يجب الاهتمام بفهم مضمونه، وبه تتهذّب أحكامٌ أطلقناها. وهذا الفصل يُطلع الناظرَ على تفاصيلها -إن شاء الله- فنقول أولاً:
6148- أطلق الأئمة أقوالهم بأن الدار تقتضي للّقيط الحرية الظاهرة، كما أطلقوا القولَ بأنها تقتضي له الإسلام.
ووجه ما قالوه أنا حكمنا بظاهر الإسلام؛ لاستيلاء حكم الدار، ولقوّة الإسلام، حتى كأنا نقول: الأصل في هذه الدار الإسلام والمسلمون، والكفر في حكم العارض، والكفار في حكم الدخيل [الذي لا تُربط به] (1) الأحكام الجُملية، وينضم إليه ما تأسّس في الشرع من قوة الإسلام.
كذلك الرقُّ عارضٌ، والأرقاء مجلوبون، وليسوا من أهل الدار، والحرية غالبةٌ في بني آدم؛ فإنهم فطرُوا ليملِكوا ويتصرفوا، وسُخِّرت لهم الأشياء؛ فإن ثبت رقٌّ، فهو بالإضافة إلى الحرية كالنادر، فاقتضى ذلك الحكمَ بالحرية لظاهر الدار، كما ذكرناه في الإسلام.
6149- وقد ذكرتُ لصاحب التقريب وغيرِه تردُّداً في تبعية الدار، وحاصله: أنا لا نجزم القول بحصول الإسلام، وقد أجرى الأصحاب مثل هذا التردد في الحرية، ورأَوْا التردّدَ في الحرية أقربَ من التردد في الإسلام؛ لما ثبت من قوّة الإسلام، واقتضائه الاستتباع في المولود (2 والمسبيّ.
وبنى هؤلاء على ما ذكرناه تفاريعَ نصفها 2) ، فقالوا: إذا قُتل اللقيط قبل أن يبلغ خطأً، ففي الواجب بقتله وجهان: أحدهما - أن الواجب الدية بناءً على الحرية التي يقتضيها ظاهرُ الدار.
والثاني - أن الواجب أقلُّ الأمرين.
وليقع الفرضُ فيه إذا كانت القيمةُ أقلَّ، حتى ينتظم لنا تمهيد الغرض. وهذا
__________
(1) في الأصل: الذين لا نربط بهم.
(2) ما بين القوسين سقط من (د 1) ، (ت 3) .(8/558)
القائل يقول: ليست الحرية مستيقنةً، ولا معنى لشغل ذمة الجاني أو ذمة عاقلته بما ليس مستيقناً.
وهذا منقدحٌ حسنٌ خارجٌ على ما قدمناه في اختلاف القاذف والمقذوفِ (1) اللقيطِ إذا بلغ، وقد ذكرنا القولين في وجوب الحد على القاذف، أو نفيه عنه. وهذا ذاك بعينه، ومرجعه إلى التردد في جزم الحكم بالحرية، أو ترك الجزم بها.
فإن (2) قلنا: لا نوجب الدية، فلا نوجب القصاص وإذا كان القتل عمداً، وكان القاتل حراً.
وإن قلنا بإيجاب الدية، ففي وجوب القصاص وجهان. وسبب التردد فيه مع إيجاب الدية تعرضه للسقوط بالشبهة.
6150- وهذا موقفٌ للناظر نستبين فيه تفصيلَ [مهماتٍ] (3) سبق إطلاقُها، وذلك أنا أرسلنا قولين في أن من قتل اللقيط هل يستوجب القصاص؟ وحكينا عن معظم الأصحاب توجيه نفي القصاص بأن أولياء [المقتول] (4) لو ثبت - المسلمون، وفيهم الأطفالُ، والمجانين.
وقد نبهت على مأخذٍ آخر لهذا القول فيما تقدم، وأنا الآن أُنهي القول فيه نهايتَه، فأقول: في اللقيط إذا قُتل وقفتان: إحداهما - في دِينه، والأخرى - في حرّيته.
فمن لا يجزم الحكمَ بإسلامه، وحريته، لا يوجب القصاصَ على الحرّ المسلم إذا قتله.
ومن جزم الحكم بإسلامه وحريته يذكر قولين في وجوب القصاص على قاتله الحر المسلم، ويوجِّه نفيَ القصاص حينئد بما ذكره الأصحاب.
ولو كان قاتله على صفة العمد كافراً عبداً، فينحسم النظر في دينه وحريته،
__________
(1) في الأصل رسمت هكذا: والمقذو من اللقيط، وواضح أن (الفاء) حرفت إلى (من) .
(2) فإن قلنا: " لا نوجب الدية " هذا تفريع على الوجهين اللذين ذكرهما آنفاً في القتل الخطأ.
(3) في الأصل: ما سبق إطلاقها.
(4) في جميع النسخ: أولياءه. والمثبت من (ت 2) وحدها.(8/559)
ويرجع مأخذ القولين إلى ما ذكرناه من النظر في أطفال المسلمين ومجانينهم. فهذا هو التنبيه على الغرض في مأخذ الكلام في ذلك.
6151- وفي بعض التصانيف ما ذكرناه من الترتيب على إيجاز، وفيه أن اللقيط إذا جنى خطأً، تعلّق أرش جنايته ببيت المال وجهاً واحداً.
وهذا مما يجب إمعان النظر فيه؛ فإن مال بيت المال مضنون به، لا يبذل إلاّ على ثَبَتٍ. وإذا لم نجزم القولَ بالحرّية، وخرّجنا عليه المسائل التي ذكرناها، فلا سبيل إلى القطع -والحالة هذه- بضرب أروش جناياته على بيت المال، بل يجب التوقف.
ويمكن أن يقال: يقطع بضرب موجَب جنايته على بيت المال -وإن ترددنا فيما قدمنا- أخذاً من شيء، وهو أنه لو مات وخلّف مالاً، وكان الموت في حالة الصغر، فماله موضوعٌ في بيت المال من غير توقّفٍ، فلا يبعد أن يتحمل بيتُ المال من غير توقفٍ؛ نظراً إلى صرف ماله إلى بيت المال، وتشبيهاً للمغرم بالمغنم.
6152- ومما يجب التثبت فيه أنا نحكم للّقيط بالملك فيما نصادفه معه من غير توقف، وهذا من مقتضى حكمنا بحرّيته، فلا ينبغي للناظر أن يسترسل في مثل هذه المضايق، ويتعثر (1) بمشكلات تُقتحم فيها حُرم المذهب.
فنقول:
6153- منخولُ هذه الفصول: أنا نحكم للقيط بالحرّية ما لم ينته إلى إلزام الغير حكماً مبنياً على الحرية، فإذا انتهينا، تردّدنا إذا لم يعترف الملتزم بالحرية.
فإن قيل: إذا أتلف المتلف مال اللقيط، فما رأيكم؟
قلنا: يضمن؛ فإن الغرم واجبٌ. وإذا كان الغرم واجباً عليه، فلا أرَبَ له في أن يصرفه إلى الطفل، أو يتوقف فيه (2) .
__________
(1) (د 1) ، (ت 3) : ويتعين.
(2) عبارة الرافعي عن هذا المعنى الذي حكاه عن الإمام: وإذا أتلف ماله متلف، أخذنا الضمان، وصرفناه إليه، لأن المال المعصوم مضمون على المتلف، فليس أخذ الضمان بسبب الحرية حتى يأتي فيه التردد إذا أخذناه فلا غرض للمتلف في أن يصرفه إلى اللقيط أو لا يصرفه (فتح العزيز: 6/420) .(8/560)
6154- وقد ينتظم من مجموع ما ذكرناه تفريعٌ يُنبّه على مقصود المتوقف في الإسلام والحرية، وهو أن نقول: إذا قُتِل اللقيط أمكن أن يكون رقيقاً، وأمكن أن يكون حرّاً كافراً، ثم إذا كنا نبغي الأقل، تعين الحمل على التمجس، فإذا سئلنا - والتفريع على ابتغاء الأقل- عن الواجب بقتله، فالوجه أن نوجب الأقلَّ من دية مجوسي، أو قيمة عبدٍ.
وهذا تفريع لا تنتهي الفتوى إليه، ولا يرتضيه ذو فقه، ولكنه موجَب ما قدمناه.
فإذا تمهد هذا الفصل، قلنا بعده:
6155- ما صار إليه معظم الأصحاب أن من التقط اللقيط وادعى كونه رقيقاً له؛ فإنه لا تقبل دعواه إلا أن يقيم بيّنةً -على ما سنصفها في تفريع الفصل- لأن الظاهر الحرية، وهذه اليد ثبتت للملتقط حديثاً جديداً بالالتقاط. وهذا بيّن متّضح منطبق على مصلحة [الطفل] (1) .
وقد ذكرنا أن الذمي إذا استلحق نسب منبوذ في دار الإسلام، فالنسب يلحقه لا محالة، وهل يثبت للقيط حكم الكفر؟ فيه اختلافٌ قدمناه، وليس ما ذكرناه الآن من ادعاء الملتقط رقَّ المنبوذ من ذاك بسبيل، فإن نسب المنبوذ متعرِّض للاستلحاق؛ من جهة أن نسبه مجهول، فاستوى في استلحاقه الكافرُ والمسلم، ثم انبنى على الاستلحاق ما ذكرناه من حكم الدين.
فإن قيل: فاليد تدل على الملك وقد صار الملتقِط ذا يدٍ؟ قلنا: هذه اليد لا تدل على الملك، وقد أحدثها بمرأى منا.
هذا ما ذهب إليه الأصحاب.
6156- وذكر صاحب التقريب وجهاً بعيداً أنه تقبل دعوى الرق من الملتقط، ويثبت الرق بمجرد دعواه، إذا لم يمنع منه مانع.
__________
(1) في النسخ كلها الفصل. والمثبت من المحقق.(8/561)
وهذا الوجه لا شك أنه ينبني على أنا لا نحكم للّقيطِ بالحرية حكماً جازماً، واستشهد عليه -مع البناء على ما ذكرناه- بمسألة، وهي أن الرجل لو وجد ثوباً في قارعة الطريق، وقال كما (1) وجده: هذا ملكي، كان ضل مني، فيقبل منه ويحكم له بالملك، حتى يجوز ابتياعه منه، تعويلاً على هذه اليد.
وهذا الوجه البعيد منحرفٌ عن قاعدة المذهب بالكلية، ولست أرى [الاعتداد] (2) به، وليس كالثوب؛ فإنه مملوك، فإذا لقطه، وزعم أنه ملكه، فليس دعواه مغيراً صفة الثوب، وإنما [يتضمن] (3) تعيينه لكونه مالكاً له، فتبين أن الملتقط إذا ادّعى رق اللقيط، لم يقبل منه إلا أن يقيم بينةً. هذا هو الذي عليه التعويل.
6157- ولسنا ننكر دلالة ثبوت اليد على الرق على الجملة إذا لم تكن اليد مستحدثة بالالتقاط، فمن رأينا في يده صبياً، وهو يتصرف فيه تصرف المالك في ملكه، ولم تستند يدُه إلى الالتقاط، فإذا ادعى كونَه مملوكاً صدَِّق.
ولو ادّعى آخرُ رقَّه، فالقول قول صاحب اليد.
وإن استمرّ منه ادّعاء الرق، جرى الحكم به ظاهراً، فلو بلغ وأنكر الرق أصْلاً، وادّعى الحرية الأصلية، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنا نستديم الملك المحكوم به، ونجعل هذا الذي بلغ وادعى الحرية مدّعياً، فعليه البينة، فإن لم يجدها، حلف صاحبُ اليد، ثم لا يخفى نظر الخصومة إلى انتهائها.
والوجه الثاني - أن القول قول هذا الذي ادعى الحرية، وعلى من كان يدّعي الرق البينةُ.
وقد ذكرنا مثل هذين الوجهين في النسب في حق من استلحق نسب صبي، وجرى الحكم به، ثم بلغ، وأنكر النسب، فهل يرتدّ النسب بإنكاره؟ على الخلاف المقدم.
[وكل ذلك] (4) متلقىً من اختلاف القول في أن من حكمنا له بالإسلام تبعاً، ثم بلغ
__________
(1) كما: بمعنى: عندما.
(2) في الأصل: الاعتقاد.
(3) في الأصل: يتغير.
(4) في الأصل: ولو كان ذلك.(8/562)
وأعرب عن نفسه بالكفر فهو كافر أصليٌّ أو مرتد؟ فإن قضينا بكونه كافراً أصلياً، فقد عطفنا حكم الكفر تبيُّناً وإسناداً على ما مضى، وكأنا كنا نحكم بالإسلام ظاهراً، وننتظر بعد ذلك ما يكون من إعرابه عن نفسه إذا ملك لسانه، وهذا يجري في النسب، والرق، وهو مضمون الفصل.
وهذا إذا كان ثبوتُ اليد غيرَ مستندٍ إلى التقاط، فإن استند إلى الالتقاط، فلا يجوز بناء دعوى الملك عليه، على المذهب الذي عليه الجريان، ولا عود إلى ما ذكره صاحب التقريب.
6158- فإن أقام الملتقط بيّنةً، قُبلت منه على الجملة، والكلام في تفصيلها.
فالذي يدل عليه ظاهر النص أنه لو أقام بينة على كونه ملكاً له مطلقاً، لم تسمع منه البيّنة (1 على هذا الوجه 1) حتى يشهد الشهود على سبب الملك.
وذكر أصحابنا قولاً آخر: إن البينة تسمع على الإطلاق قياساً على البينات الشاهدة على الأملاك.
والأصح أنها لا تقبل مطلقة؛ فإنا لا نأمن أن تعتمد ظاهر اليد الثابتة للملتقط، وقد أوضحنا أن يد الملتقط لا يجوز أن تُعتقد دَلالة على ملكه، فلا بد من ذكر سببٍ حتى يزول توهّم إسناد الشهادة إلى يد الالتقاط.
التفريع:
6159- إن قبلنا الشهادة على الملك مطلقاًً، فلا كلام. وإن شرطنا تقييد الشهادة بسبب الملك، فلو قالت البينة: هذا ابن أمته أوْ ولدته مملوكتُه، فهل يقع الاكتفاء بهذا المقدار؟
في المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا يقع الاكتفاء بهذا القدر؛ فإنا إن كنا نطلب من التقييد بياناً، فلا بيان في هذا، فإن أمته قد تلد حراً إذا كانت مَوْطوءةً بالشبهة، وقد تلد حملاً مملوكاً للغير بأن كان حاصلاً قبل جريان الملك في الأم، ثم تجري الوصية بذلك الحمل لإنسان، وتجري الوصية بالأم لهذا الشخص؛ فإذاً لا بيان في قول الشاهد: هذا ولدته أمته.
__________
(1) ما بين القوسين سقط من جميع النسخ غير الأصل.(8/563)
ومن أصحابنا من اكتفى بهذا القدر، ووجهه: أن الشهادة على الملك مطلقاً مقبولة في غير مواضع النزاع، وإنما رددنا الإطلاق في اللقيط خشية أن يُسند الشاهد الشهادة على الملك إلى اليد الحاصلة بالالتقاط. فإذا جمع الشاهد إلى الشهادة بالملك أن أمته ولدته، فقد قطع الوهمَ الذي عليه بنينا ردّ الإطلاق، ثم ذِكْرُه الملكَ مع الولادة مصرحٌ بأنها ولدته ملكاً له.
التفريع على هذين الوجهين:
6160- إن اكتفينا بهذا التقييد، فلا كلام.
وإن لم نكتف به، فينبغي أن يقول: ولدته أمتُه مملوكاً له في ملكه، ولو قال: ولدته أمتُه في ملكه، لم يكفِ ذلك. والمطلوب عند هذا القائل التصريحُ بسبب الملك، على وجه لا يبقى للاحتمال مساغ.
قال صاحب التقريب: ما ذكره الأصحاب، ودلّ عليه ظاهرُ النص من أنه لا يقع الاكتفاء بالشهادة على الملك المطلق، ولا بد من ذكر الولادة على التقييدات التي ذكرناها- ليس تعييناً (1) منهم لهذا السبب؛ حتى [لا] (2) يسوغ غيره؛ فإن أسباب الملك شتى. ولكن اتفق التنصيص على هذا السبب، ثم أغرق الأصحاب في ذكر ما يحتمله هذا السبب من جهات الاحتمال، ورأَوْا قطعها وردّها إلى جهةٍ لا يتقابل فيها احتمالان ويتعين وجه حصول الملك.
فلو قال الشاهد؛ هذا رقيقه، ورثه من أبيه ملكاً، أو اشتراه، أو اتهبه من مالكه، فكفي ذكر سبب من هذه الأسباب؛ فإن المحذور في اشتراط التقييد ما كرَّرْناه من ظن الشاهد أن يد الملتقط يدُ ملكٍ، فمهما أسند الملك إلى جهة أخرى، فقد جانب المحذور، ودرأ الشبهة والتهمة.
وما عندي أن أحداً من الأصحاب يخالف صاحب التقريب فيما ذكر. ولكن من تأمّل صيغة النص، و [فحوى] (3) كلام الأئمة، فَهِمَ أنهم يشترطون إسناد الشهادة إلى
__________
(1) (د 1) ، (ت 3) : تغليباً.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) في الأصل: تحرى.(8/564)
الولادة على الملك، ولا تعويل على ذلك؛ فإن تصويرهم ليس عن اعتقاد اشتراط التعيين، ولكنه تصوير وفاقي، ثم تناهَوْا في شرحه، وهذا مقطوعٌ به، لا يجوز أن يُتمارى فيه.
6161- ومما يتصل بهذا أن المزني لما نقل في صدر الفصل عن الشافعي أنه شرط على الملتقِط تقييد البيّنة كما سبق، حكى بعد نجاز ذلك الكلام عنه نصَّاً آخر، واعتقد أنه مخالف للنص الذي نقله أوّلاً، وذلك أنه قال: إذا التقط الرجل منبوذاً، فجاء آخر، وقال: هذا [اللقيط] (1) ملكي، كان في يدي قبل ذلك، وأقام بينةً على أنه ملكُه، وأطلقت البيّنةُ شهادتَها على الملك، نقل عن الشافعي قبول الشهادة (2) ، ثم أخذ ينظم قولين ويختار أحدَهما.
وهو مأخود عليه؛ فإن النص الأول في ادعاء الملتقط الملك فيمن التقطه، وهذا النص الذي حكاه آخراً، فيه إذا ادعى الملكَ في اللقيط غيرُ الملتقط، وليس في حق المدعي يد [التقاط] (3) ، حتى نحْذَر [استناد] (4) الشهادةِ إليها، [فكانت] (5) الشهادة مقبولة على الملك مطلقاً، من غير تعرض للسبب، قياساً على البينات الشاهدة على الأملاك، في سائر الخصومات.
فقد بأن غلط المزني، وأنه عَدّ مسألتين مختلفتين مسألة واحدة، وقدر فيها اختلاف جوابٍ.
6162- وإذْ نجز الفصل على أحسن مساقٍ وترتيب، فأنا أذكر بعد نجازه طريقةً
__________
(1) في نسخة الأصل وحدها: " الملتقط ". وهي صحيحة بفتح القاف، ولكنا آثرنا المثبت، قطعاً للاحتمال، وتفادياً لما يحدث (أحياناً) من خلل في الضبط.
(2) ر. المختصر: 3/137. ونصُّ العبارة المشار إليها: " (وقال) في موضع آخر: إن أقام بينة أنه كان في يده قبل التقاط الملتقط، أرفقته له.
(قال المزني) : هذا خلاف قوله الأول، وأولى بالحق عندي من الأول " ا. هـ بنصه من المختصر، وبالتنسيق نفسه.
(3) في الأصل: التقاطه.
(4) في الأصل: استناده. والمثبت من باقي النسخ.
(5) في الأصل: لكانت. وفي باقي النسخ: وكانت. والمثبت تصرف من المحقق.(8/565)
لشيخي كان يقول: إذا ثبت الملك بإقرار المملوك -حيث يُقبل إقراره- فلا كلام.
والتداعي وراء ذلك في تعيين الملك، فلا حاجة -والحالة هذه- إلى تعيين السبب.
فأما إذا كان دعوى الملك في معارضة الحرية الأصلية، فلا بد من إسناد البينة شهادتها إلى الولادة على الملك.
وهذا الذي ذكره ليس بالبعيد، ويجوز أن يقال: هو معتضدٌ بالنص، وفحوى كلام الأصحاب، وهو مخالف لما ذكره صاحب التقريب.
ولكن يدخل عليه شيء، وهو أن ملك الأم الوالدة كيف يطلق، وهل على الشهود أن يقولوا [إنها] (1) أقرت بالملك أم يجب في الأم أيضاً إسناد ملكها إلى ولادة؟ وهذا أمرٌ طويل، ولهذا أخرت ما ذكره الشيخ، والتعويل على الكلام المقدم.
فصل
قال: " وإذا بلغ اللقيط، فاشترى، وباع ... إلى آخره " (2) .
6163- مضمون هذا الفصل مشتمل على بقيةٍ من أحكام الرق والحرية وهو بالإضافة إلى ما تقدم خفي منسوب [إلى جلي] (3) ، فليعتن (4) الناظر به، وليستعن بالله تعالى.
ونحن نستفتح الكلام بذكر ثلاث مراتب نترجمها، ثم ننعطف على بيانها: إحداها - أن يبلغ اللقيط ويقرَّ بالرق لإنسانٍ ابتداء، من غير أن يتقدم منه إقرارٌ بالحرية، أو يتقدم منه تصرّفٌ يقتضي الاستبدادُ به الحريةَ.
والمرتبة الثانية- أن يبلغ، فيقرَّ بالحرية، ثم يُقرّ بعده بالرق لإنسان.
المرتبة الثالثة - مضمونها أن يتصرف تصرفاتٍ لا يستبدّ بها إلا حرٌّ، ثم يُقرّ بعدها بالرق لإنسان.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) ر. المختصر: 3/137.
(3) في الأصل: الرجلين.
(4) (د 1) ، (ت 3) : فليعتبر.(8/566)
فهذه المراتب قواعدُ الفصل.
6164- ونحن نرجع إلى أولاها: فإذا بلغ، وأقرَّ بالرق ابتداء لإنسانٍ، من غير أن يتقدم على إقراره هذا دعوى حرية أو تصرف. فالمذكور المشهور في الطرق أن إقراره بالرق (1 مقبولٌ.
6165- وذكر صاحب التقريب قولاً آخر: إنه لا يُقبل إقراره بالرق على نفسه 1) ؛ فإن الدار حكمت له بالحرية، فلا يُنقض مقتضى الدار إلا ببيّنةٍ، وشبّه صاحب التقريب الحريةَ المحكومَ بها بظاهر الدار مع الإقرار بالرق بعدها، بالإسلام الحاصل بتبعيّة الدار، ثم اللقيط إذا بلغ وأعرب عن نفسه بالكفر، ففي أصحابنا من نقل قولاً: إنه يحكم بردّته، ولا يُنقض الأصل السابق تبيّناً، فكذلك وجب: ألا تُنقض الحريةُ.
غير أن المسلم يُتصور منه أن يرتدّ، والحرّ الأصلي لا يتصور منه أن يُرِقَّ نفسه.
6166- فإن قلنا: لا يُقبل إقراره بالرق في هذه المرتبة، فلا كلام.
وإن قلنا: يقبل إقراره بالرق -وهو الأصح الظاهر- فيتوصّل من هذا المنتهى إلى ذكر المرتبة الثانية-[وهي إذا] (2) زعم أولاً أنه حرٌّ بعد بلوغه، ثم أقرّ بالرق بعد ما سبق منه الاعتراف بالحرية.
فالذي قطع به العراقيون أن إقراره بالرق لا يقبل بعد ذلك قولاً واحداً، فإن الحكم الظاهر بحريته في صباه تأيّد، وتأكّد بإعرابه عن نفسه بعد بلوغه بالحرية، فإذا أراد أن يناقض ذلك، كان كما لو بلغ اللقيط، فأعرب عن نفسه بالإسلام، ثم أعرب بعده بالكفر، ولو فعل ذلك، كان مرتداً قولاً واحداً جانياً على الإسلام، والفرقُ بين البابين أن الجناية على الإسلام بالردة ممكنة، وخرمُ الحرية بعد ثبوتها وتأكدها (3) غيرُ ممكن.
وهذه الطريقة هي التي صححها القاضي، وذكر أنها المذهب.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 3) .
(2) في الأصل: فإذا زعم.
(3) في غير نسخة الأصل: وتمكنها.(8/567)
6167- وقطع الصيدلاني القول بقبول الإقرار بالرق بعد تقدم الاعتراف بالحرية، وشبه هذا بما لو ادّعى الزوج الرجعة وأنكرت المرأة مصادفتها العدة، على صيغةٍ تقتضي تصديقَها، كما سيأتي تفصيل ذلك في كتاب الرجعة -إن شاء الله تعالى- فإذا جعلنا القول قولَها، وحلفت، وانتجزت الخصومة، ثم عادت، فاعترفت بتصديق زوجها، فالرجعة ثبتت.
وهذا الوجه الضعيف ذكره القاضي وزيّفه، وزعم أن ناصره يقول: إقراره بالحرية، ثم إقراره بالرق بعدها، بمثابة ما لو أقر بكون الشيء ملكاًً له، وعزاه إلى نفسه وادّعاه، ثم أقر به لإنسانٍ من غير أن يتخلل بين الإقرارين ما يتضمن نقل الملك، فإقراره لذلك الإنسان مقبول.
وهذا الاستشهاد ضعيف؛ فإن الحرية إذا ثبتت، فلا سبيل إلى رفعها، ولله في استقرارها حقٌّ، وفي الإقرار بها تعرُّضٌ لالتزام حقوقٍ تقتضيها الحرية ُلله، وللعباد.
وأما ما استشهد به الصيدلاني، فلنا في تلك المسألة من الرجعة نظر أولاً [كما] (1) سيأتي، إن شاء الله تعالى.
ثم ليست الحرية بمثابتها؛ فإن اللقيط إذا بلغ، وأقر بالحرية، فقد وافق إقرارُه بها حريةً اقتضتها الدار، كما تقدم، فلا سبيل إلى نقضها بعد ثبوتها ظاهراً، وإقراراً.
هذا بيان الحكم في هاتين المرتبتين.
6168- فأمّا بيان المرتبة الثالثة - وهي ألا يصدر من بعد البلوغ إقرارٌ برقٌ، ولا حرية، ولكنه تصرّف تصرفاتٍ يقتضي نفوذُها الحريةَ، فنكح، وأصدق، وباعَ، واشترى، ثم إنه بعدها أقر بالرق، فكيف السبيل؟
الوجه في افتتاح الكلام أن نقول: إن رددنا إقراره في المرتبة الأولى، وصرنا إلى أن الرق لا يثبت أصلاً إلا ببينة، فلا حكم لإقراره بالرق، وهو كلام لاغٍ مطّرح، ولا يرد على هذا إلا مسألة وهي إذا نكح، ثم أقر بالرق فإقراره اعتراف منه بأن التي نكحها محرّمةٌ عليه، فيستحيل أن نحلّها له، وهو يزعم أنها محرمة، وصدقُه في
__________
(1) سقطت من الأصل.(8/568)
الإقرار بالرق ممكن، وهذا يضاهي ما لو أقرّ أحد الابنين الوارثين بنسب بنتٍ، فالمذهب الظاهر أن إقراره مردود ولا يثبت النسب، ولا الإرث ظاهراً وباطناًً، ولكن التي أقر لها بالأخوّة محرمةٌ عليه، وإن كان أصل إقراره مردوداً، فهذه المسألة فيما نحن فيه ملحقةٌ بتلك.
6169- وإن فرعنا على أنه لو أقرّ بالرق بعد البلوغ، قُبل إقراره -وهذا طريق الأصحاب، والمسلك المشهور- فعليه نخرِّج المرتبة الثالثة، ولا نعود إلى ما ذكره صاحب التقريب في المرتبة الأولى، فنقول:
6170- إذا أقر بالرق بعد تصرفاتٍ، فأصل إقراره بالرق مقبول، ولكن اختلف قول الشافعي في تفصيل القبول: فأحد القولين - أنه يقبل إقراره عموماً في الماضي، والحال، والمستقبل، وفيما له وعليه، وفيما يتضمن إلحاقَ ضررٍ بغيره.
والقول الثاني - أنه لا يقبل إقراره على العموم، بل يقال: هو مقبول فيما عليه.
ثم اختلفت الطرق، ففي بعضها أن إقراره يقبل في المستقبل عموماً فيما له وعليه، ويقبل إقراره فيما مضى، وسبق، فيما هو عليه، ولا يقبل إقراره فيما يتضمن إبطال حقٍّ لغيره.
ومن أصحابنا من طرد هذا القولَ على هذا التفصيل في المستقبل والماضي، وقال: لا يقبل إقراره فيما يتضمن إلحاق ضررٍ بغيره ويستوي فيه الماضي والمستقبل.
وإذا جمعنا الأقوال من غير التفاتٍ إلى ما ذكره صاحب التقريب، كان حاصلها ثلاثة أقوال:
6171- أحدها - أن إقراره بالرق مقبول عموماً، فيما له وعليه، وفيما يضر بالغير، وفيما لا يضر، من غير فرق بين السَّابق واللاحق، والماضي والمستقبل.
والقول الثاني - أن إقراره مقبول فيما عليه، ولا يقبل قوله في إبطال حق غيره، ويستوي فيه الماضي والمستقبل.
والقول الثالث - أنه يقبل إقراره عموماً في المستقبل فيما لهُ وعليه، ولا يقبل فيما(8/569)
سبق ومضى، إذا تضمن إضراراً بغيره، ويقبل إقراره فيما هو عليه إذا لم يضر بغيره فيما مضى.
هذا بيان الأقوال.
6172- توجيهها: من قال بقبول إقراره عموماً، احتج بأن أصل الرق قد ثبت، والمقر غيرُ متهم؛ فإن العاقل لا يورّط نفسه في أسر الرق وضبطه (1) المؤبّد، ليضرّ بغيره، وإذا انتفت التهمة، نفد الإقرارُ، وإن كان يؤدي نفوذُه إلى الإضرار بحق الغير، وهذا بمثابة ما لو أقر العبدُ بجنايةٍ، توجب القصاصَ عليه؛ فإن إقراره مقبول، والقصاصُ واجب.
وهذا القول الذي ننصره يضاهي ما لو أقر العبد بسرقة نصاب؛ فإن أصل إقراره مقبول، والقطع متوجه، وفي قبول إقراره بأخذ المال قولان.
ووجه قول من يبعّض حكم إقراره عموماً في الماضي والمستقبل أن التعرض لإبطال حق الغير لا وجه له، والعقوبات مستثناة عن هذه القاعدة؛ فإنه لا يهجم على التزامها لقصد الإضرار بالغير عاقل.
ومن فصل بين الماضي والمستقبل، قال: إذا قبلنا الإقرار بالرق، فيستحيل تبعيض حكمه في مستقبل الزمان، فأمَّا ما تقدم على الإقرار، فقد يتجه فيه التبعيض والتجزئة تخريجاً على ما مهدناه.
وهذه الأقاويل مجملة يفصّلها التفاريع، ونحن نأتي بها، ونفصلها مسألة مسألة، ونخرّج كل واحدة على الأقاويل، إن شاء الله تعالى.
فنقول:
6173- اللقيطة إذا بلغت، ونكحت بناء على الحرية، ثم اعترفت بأنها رقيقةُ فلانٍ، وصدقها المقرُّ له بالرق.
فهذا نخرّجه على الأقوال، فإن قلنا: يقبل إقراره عموماً من غير تبعيض، فنحكم برقها، ونتبين أنها نكحت من غير إذن مولاها، ونقضي بأن النكاح فاسد.
__________
(1) "وضبطه": بمعنى حبسه.(8/570)
فإن لم يكن دخل الزوج بها، فلا نصفَ مهرٍ، ولا متعة، و [إن] (1) كان دخل بها، فعليه مهر المثل للسيد المقَرُّ له بالرق.
وإن كانت ولدت منه أولاداً، فأولاده منها أحرارٌ؛ فإنها أتت بهم والزوج على اعتقاد الحرية فيها، ويلزمه قيمتُهم للسيّد حين سقطوا وانفصلوا.
وأما العدّة، فقد قال الأصحاب: لا يلزمها عدة، ولكنها تستبرىء بقُرء؛ لمكان الوطء.
قال القاضي: الصحيح أنها تؤمر بأن تعتد بقرأين؛ فإن عدة الأمة بعد ارتفاع النكاح الصحيح قرءان، ونكاح الشبهة في حُرماته بمثابة النكاح الصحيح، فلتعتدّ بقرأين.
وهذا التردد للأصحاب يجب اطراده في كل نكاح بشبهة على أمةٍ، ولكن الذي ذكره القاضي أن هذا من قول الأصحاب يختص بهذه الصورة، والاعتداد بالقرأين متفق عليه في غيرها من الأنكحة الفاسدة المعقودة على الأمة بالشبهة، ولا فرق عندنا.
وإن تخيل متخيل في هذه الصورة أن سبب الاكتفاء بالقرء الواحد أنا نقبل إقرارها عموماً، ونستأصل أثر الحرية بالكلية، ولا يبقى لتصرفها أثر، فيلزم على مساق ذلك ألا نحكم بحرية الأولاد، أو [نشبب] (2) بخلاف فيها، وقد أجمع الأصحاب على حرية الأولاد كما ذكرناه.
وكان شيخي لا يذكر هذا الاختلاف، ويقطع بأنّها تعتد بقرأين.
هذا تفريع على قولنا بقبول الإقرار عموماً.
6174- وإن قلنا: يُبعَّضُ الإقرار؛ فيقبل فيما عليها دون ما لَها؛ فنحكم على هذا
__________
(1) في الأصل: فإن.
(2) في الأصل حرّفت إلى: نشبت، وكذلك حرفت في (د 1) إلى نتشبت، و (ت 3) ،
(ت 2) : حرفت أيضاً إلى نحو ذلك. والمثبت تقدير منا على ضوء المعهود من ألفاظ الإمام في مثل هذا السياق.(8/571)
القول برقها (1) أولاً، ولا نحكم بانفساخ النكاح في المستقبل، ولا بفساده فيما مضى، وإن (2) فرقنا بين الماضي والمستقبل؛ فإنا إذا التزمنا إلزام النكاح فيما مضى فنلتزم الوفاء بحكم الصحة، ونجعل كأن النكاح في حكم المستوفى المقبوض فيما تقدم، ولهذا نظائر من النكاح لا تخفى على الفقيه، وعلى هذه القاعدة بنينا مذهبنا في أن الحرّ إذا وجد الطَّوْل بعد نكاح الأمة، لم نقض بارتفاع النكاح.
هذا حكمنا في أصل النكاح.
ثم الكلام بعد ذلك في المهر.
قال الأئمة: على الزوج أقلُّ الأمرين من المسمَّى ومهر المثل، فإن كان مهر المثل أقلَّ الأمرين، فالسيّد المقَرُّ له لا يدّعي غيره، وإن كان المسمى أقل، فإلزام الزوج أكثرَ منه إضرارٌ به، وقد ذكرنا أنا لا نضر بالغير للإقرار بالرق.
فإن قيل: حطّكم من مهر المثل إضرار بالسيّد المقر له، قلنا: هذا حكم الرق، وإنما نُثبت الرقَّ بالإقرار، ونحن نتوقى الإضرارَ بالغير.
فليتثبت الناظر في هذا المقام، فلا شك فيما ذكره الأصحاب. وما يفرض فيه من سؤالٍ (3) خيالٌ لا حاصل له.
6175- والأولاد الذين أتت بهم قبل الإقرار أحرار، وليس على الزوج قيمتهم للسيّد المقر له؛ فإنا لو ألزمناه ذلك، كنا مضرّين به لإقرارها.
ولكن لو استمر على النكاح، فالأولاد الذين تأتي بهم في المستقبل أرقاء [قطع] (4) الأصحاب بهذا أقوالَهم.
__________
(1) (د 1) ، (ت 3) : بإقرارها.
(2) قوله: " وإن فرقنا بين الماضي والمستقبل " معناه: سواء فرقنا بين الماضي والمستقبل، أو لم نفرق. وهو واضح بشيء من التأمل. وانظر المسألة بكل تفاصيلها عند الرافعي. (فتح العزيز: 6/431، 432) .
(3) سؤال: أي اعتراض كما هو واضح، فالسائل، ويسمى أيضاً المستدلّ، منصب من مناصب الجدل، وهو المعترض (راجع رسالة الآداب للشيخ محمد محيي الدين عبد الحميدص 63) .
(4) في الأصل: جمع.(8/572)
فإن قيل: هلا قلتم: إن الأولاد أحرار، إذا (1) فرعتم على اجتناب الإضرار في الماضي والمستقبل، كما أنكم بقَّيتم النكاح في المستقبل، فقولوا: يبقى النكاح له في المستقبل على حكمه فيما مضى، وإرقاقُ أولاده إضرار به؟
قلنا: ما ذكره الأصحاب ظاهرٌ إذا عممنا قبولَ الإقرار في المستقبل من غير تفصيل. فإن قلنا بالتفصيل في الماضي والمستقبل، والتزمنا اجتناب الإضرار، فالمسألة محتمِلةٌ (2) .
ظاهرُ كلام الأصحاب ما ذكرناه؛ لأن الأولاد الذين يحدثون في مستقبل الزمان متجددون، وأمرهم يشابه استفتاح تصرف بعد الإقرار بالرق؛ فلا ينتظم مع الحكم بالرق، وعِلْمِ الزوج بأن الرق محكوم به - القضاءُ بحريّة الأولاد، وليس الولد متضمَّن النكاح ولا معقودَه، وإن كان مقصوداً منه على الجملة، وليس هذا كحكمنا بدوام النكاح؛ فإن الحكم بدوامه هو الحكم بصحته أوّلاً، فمن الوفاء بالصحة الإدامةُ، وهي المقصودةُ، والأولاد في المستقبل بخلاف ذلك.
ولست أنكر اتجاه احتمالٍ في حرية الأولاد في المستقبل اتباعاً لحق الزوج ومصيراً إلى أن الأولاد من مقاصد النكاح، ولا أُبعد أن الأصحاب فرّعوا ما ذكروه من رق الأولاد في المستقبل، على تعميم قبول الإقرار في المستقبل، وردّ التفصيل إلى ما مضى.
وهذا منِّي تنبيه على كل وجه بعد أن ظهر لي من كلام الأصحاب القطعُ برق الأولاد في المستقبل، وقد ذكرت وجهه، والله المستعان.
6176- فإن أراد الزوج ألا يَرِقّ أولادُها، فليطلّقها، وإذا طلقها، اعتدت بثلاثة أقراء، وهذا يظهر إذا كان الطلاق رجعيّاً، فإنّ الرجعية منكوحة، فإدامة التربص في القرء الثالث من إدامة النكاح، وإن طلقها زوجها البتة، فبانت، فالذي قطع به
__________
(1) في جميع النسخ: " إذا ". وهي بمعنى (إذ) وهو واردٌ سائغٌ كعكسه، وقد سبق بيان ذلك.
(2) محتملة أي ذات احتمالين. أحدهما:- ظاهر كلام الأصحاب الذي ذكر.
والثاني - أيده الإمام بقوله الآتي قريباً: ولست أنكر اتجاه احتمالٍ في حرية الأولاد.(8/573)
الأصحاب أنها تعتد بثلاثة أقراء؛ فإنّ ذلك من توابع النكاح. وأمرُ العِدد لا يختلف بكون الطلاق رجعياً أو مُبيناً.
ولو مات الزوج، فقد قال الشافعي تفريعاً على القول الذي انتهينا إليه: تتربص شهرين، وخمسةَ أيام، ورأى عدة الوفاة، وراء انتهاء (1) النكاح نهايته، ولم يرها من حق الزوج، ومَحَّضها تعبداً بخلاف عدة الطلاق. وهي (2) رقيقةٌ، فلتعتد عدة الإماء عن وفاة زوجها.
وهذا حسنٌ.
ولم يصر أحد من الأصحاب إلى أنها تعتد عدة الحرائر أربعةَ أشهر وعشراً.
وثار (3) بعض الفقهاء في هذا المقام، فقال: لا يجب عدة الوفاة؛ فإن حظ الزوج قد انقضى، فلا التفات عليه، والرق ثابت، فلتعتد بالقرء (4) .
ثم ينقدح عندي في هذا أنه إن جرى وطءٌ، فالكلام في القرء الواحد والقرأين على ما مضى في أول هذا التفريع، وإن لم يجر وطء أصلاً، ففي المسألة احتمال: يجوز أن يقال: تستبرىء بقرء، كما إذا اشتُرِيت من امرأة، أو مجبوب. ويجوز أن يقال: لا استبراء؛ فإن السيد ينكر ما كان. وما ذكرناه من الحكم بصحة النكاح ظاهرٌ، وليس أمراً باطناً ولكنَّا [كنا] (5) نرعى حق الزوج في ظاهر الأمر، فإذا انقضى، وانقطعت حقوقه، فالسيّد يقول بعد ذلك: لم يكن نكاح قط، فلا استبراء.
فليتأمل الناظر هذه الفصول.
__________
(1) وراء انتهاء النكاح: أي أن عدة الوفاة ليست لحق الزوج الحرّ، وإنما تكون بعد وفاته، وهي ليست حقاً للزوج. ولذا تعتد هذه عدة الإماء.
(2) " وهي رقيقة ". الواو هنا للاستنئاف. فالمعنى: ثم هي رقيقة.
(3) ثار: أي انبعث، وأنشأ من هذا المقام. والتعبير المعهود هو: وعن هذا ثار رأيٌ بكذا، أو فلان بكذا.
(4) " فلتعتد بالقرء ": المراد هنا أنها تستبرىء لمكان الوطء؛ فهذه ليست عدة وفاة كما تقرر، وليست عدة طلاق أيضاً، وأصلاً هي تزعم بطلان النكاح بقرارها بالرق. (راجع فتح العزيز: 6/433) .
(5) ساقطة من الأصل.(8/574)
وأسدُّ الطرق وأقطعُها للشغب ما ذكره الشافعي رضي الله عنه في الشهرين والخمسة الأيام؛ فإن عدة الوفاة من حرمات النكاح، وإن كان لا يعتبر فيها شغل الرحم. فإذا جرى الحكم بالنكاح، لزم إثباتُ عدة الوفاة، ثم لم تثبت العدة الكاملة لما نبهنا عليه.
6177- ومما أجراه الشافعي أنه قال: يملك الزوج عليها ثلاث طلقات. وظاهر [هذا] (1) الكلام يشير إلى أن ذلك بسبب كونها حرة في حق الزوج.
ولا حاصل لهذا على مذهب الشافعي؛ فإن الاعتبار في عدد الطلاق بحرية الزوج ورقّه، والزوج الحر يملك على زوجته الأمة ثلاثَ طلقات، حتى قال الأصحاب: هذا تفريع من الشافعي على مذهب أبي حنيفة، وهذا غير منتظم؛ فإنّ الشافعي لا يفرع على مذهبٍ يُبطله، ولكن الذي ينقدح فيه أمران:
أحدهما - أنه غفل عن مذهبه في هذا، وأجرى القياس الذي كان [فيه] (2) .
والآخر - أنه أراد أن يبيّن مشكلات هذا الفصل [بالتقدير] (3) والتحقيق، حتى كأنه قال: لو كان الطلاق يتغيّر برقها وحريتها، لحكمنا بأن الزوج يملك عليها ثلاث طلقات تحقيقاً لثبوت النكاح، على تمام قضاياه.
6178- وممّا يتصل بهذا الفصل أنا إذا [أَدَمْنا] (4) النكاحَ في المستقبل كما ذكرناه، فنحكم بأنها تُسلَّم إلى الزوج تسليم الأمة المنكوحة، حتى يقال: يستخدمها السيد نهاراً، ويسلّمها إلى الزوج ليلاً، أم نقول: تسلم إلى زوجها تسليم الحرة، حتى لا نبالي بتعطل منافعها على السيد المقَرِّ له؟ ما يقتضيه قياس قول الأصحاب أنا نسلمها إليه تسليم الحرة، فإنا لو لم نفعل هذا، لعظم الضرر، وظهر النقص في عين مقصود النكاح، ومعقوده.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في الأصل: منه.
(3) في الأصل: التقرير.
(4) في الأصل: أثبتنا.(8/575)
وهذا ينفصل من هذا الوجه عن رقِّ الأولاد في المستقبل؛ فإن العلوق بالولد أمرٌ موهوم، لا يجوز أن يُبنى عليه ما ينتجز من الضرر، ولولا ذلك (1) ، لما جوّزنا للحر الفاقد للطَّوْل أن ينكح أمةً؛ فإن السعي في إرقاق الولد لا يجوز لشهوات النفوس، ولكن لما كان ذلك موهوماً، والحاجةُ ناجزةٌ، صححنا النكاح.
ويرد على ما ذكرناه أن الزوج يسافر بها الشرق والغرب، وهذا مما ترتاع منه نفسُ الفقيه مع الحكم بالرق وتسليط السيد على البيع وغيره من التصرفات، فليتأمل الناظر ذلك، فهو منتهى تفريع هذه المسألة.
ونحن نأخذ الآن في تفريع مسألة أخرى فنقول:
6179- اللقيط إذا نكح بعد البلوغ، ثم أقر بكونه رقيقاً، فإن قلنا: الإقرار بالرق مقبول عموماً فيما له وعليه، فالنكاح مردود من أصله.
فإن لم يكن دخل بها، فلا شيء لها، وإن كان قد دخل بها، فقد قيل: لها مهر المثل.
ثم يتعلق بذمة العبد، أو برقبته؟ فيه وجهان، كما لو نكح العبد المعروف بالرق من غير إذن مولاه نكاح شبهة، فوطىء ووجب المهر، ففي تعلّقه بالذمة، أو الرقبة خلاف، وسبب توهم التعلق بالرقبة تنزيلُ العُقر (2) منزلة أُروش الجنايات، وفي هذه المسألة وأمثالها بابٌ معقود في كتاب النكاح.
فلو كان المهر المسمّى أقلّ من مهر المثل، فقد يخطر للفقيه أنها لا تطلب إلا المسمى؛ لأنها قنعت به، وليس كما إذا جرى نكاح مشتمل على مسمى؛ ثم تبيّنا فسادَه قبل الدخول؛ فإن الرجوع إلى مهر المثل ثَمَّ.
والسبب فيه أنا تحققنا فساد النكاح ظاهراً وباطناًً، وهاهنا نحكم بفساد النكاح لأجل الإقرار حُكماً ظاهراً، فيجوز أن يقال: هي مؤاخذة بحكم رضاها بالمسمى.
ويجوز أن يقال: إنما تؤاخد برضاها بالمسمى لو بقي النكاح، والعلم عند الله تعالى.
__________
(1) ذلك إشارة إلى أن الولد موهوم. في مقابلة حاجة ناجزة محققة.
(2) العُقر: بضم المهملة: مهر المرأة إذا وطئت بشبهة.(8/576)
6180- فأما إذا فرّعنا على تبعيض الإقرار، فيقبل إقراره، فيما عليه دون ما لَه، ونحكم بانقطاع النكاح من وقت الإقرار، لا من أصله.
ثم إن لم يكن دخل بها، فعليه نصفُ المسمى كما لو طلقها. وإن كان دخل بها، فلها جميع المسمى، وليس لها إلا المسمّى، حتى لو كان مهرُ مثلها أكثرَ، فلا مطمع لها فيه، لأنا على هذا القول لا نُسند ارتفاع النكاح إلى ما مضى.
ثم هذا المسمى يتعلق بكسب العبد إن كان له كسب، ونجعل كأن عبداً نكح بإذن مولاه.
وإن لم يكن له كسب، فلا تعلق للمهر إلا بذمة العبد، كما لو نكح بإذن المولى، ولم يكن كسوباً، ولا يخفى أن القول القديم في دخول السيد في ضمان المهر والنفقة لا يخرّج هاهنا؛ فإن ذلك القول على ضعفه مبناه على صدور الإذن من السيد تحقيقاً، وهذا المعنى مفقود هاهنا.
6181- ومما نفرعه على ذلك: البيعُ والشراء فنقول: إذا بلغ اللقيط، وباع، واشترى، ثم أقر بالرق، فإن لم نبعض الإقرار، فالتصرفات كلُّها فاسدة، وأعيان الأموال مستردّة، وما صودف تحت يد اللقيط، فهو ملك المقَرّ له بالرق، وإن تلفت الأعيان في أيدي من قبضها، ضمن قيمتها، وإن حصلت في يده بالشراء أعيانُ أموالِ الناس رُدت على ملاكها، وإن تلف في يده شيء منها، فالضمان متعلق بذمته، فإن عهدة المعاملة الجارية بغير إذن المولى لا تتعلق إلا بذمّة العبد.
ولو قال من عامله: حسبته حراً، لم يختلف الحكم بحسبانه بعدما نفد الإقرار عموماً.
6182- وإن قلنا: يتبعض الإقرار، فلا ينقض شراؤه وبيعه، وما اشتراه يؤدّي ثمنه مما في يديه؛ نص الشافعي عليه، ولا نقول: ما في يده يسلّم إلى المقر له بالرق، وتتعلق الأثمان بذمته، ولكنا نجعله كعبد مأذونٍ له، يشتري وفي يده الأموال هذا هو الذي يقتضيه الإنصاف، فإن لم نصادف في يده شيئاً، فيتعلق الثمن بذمته حينئذ.(8/577)
6183- ومما نفرّعه أنه إذا جنى، ثم أقر بالرق، فإن كانت الجناية موجبةً للقود، فعليه القصاص، وإن كانت موجبة للمال، تعلق الأرش بالرقبة؛ فإن العبد المعروفَ بالرق إذا جنى هكذا حُكمُه.
وإن جُني عليه، فإن كان الجاني عبداً، فعليه القصاص إن كان عمداً، وإن كان حراً، سقط القصاص، والنظر في الأرش؛ فإن كان قطعَ يدَ اللقيط، ثم أقر بالرق، فإن كان نصفُ اليد ونصفُ القيمة سواء، فذاك، وإن كان نصف القيمة أقل من نصف الدية، فليس على الجاني إلا نصفُ القيمة؛ فإن السيد لا يطلب إلا هذا، وقد استقر الرق له.
وإن كان نصفُ الدية أقلَّ من نصف القيمة، فهذا يُبتنى على تبعيض الإقرار، فإن حكمنا بالإقرار عموماً، وجب على الجاني نصفُ القيمة، وإن زاد على نصف الدية.
وإن فرعنا على تبعيض الإقرار، ففي الأخذ بنصف القيمة إضرار بالجاني، وفي الأخذ بنصف الدية [نقصٌ من حق الرق، وفيه إضرار بالسيد المقر له] (1) ، فما الذي نعتبره؟ اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: يغلّظ على الجاني؛ فإن أرش الجناية يبين مقداره بالأَخَرة، وقد بأن أنه جانٍ على رقيق، وثبت الرق قطعاً.
ومن أصحابنا من قال: لا يجب على الجاني إلا نصفُ الدية، وهذا هو الأقيس والأصح؛ فإن الجناية جرت قبل ثبوت الرق، فيبعد أن نعطف من ثبوت الرق مزيد غُرم على الجاني قبل ظهور الرق.
فإن قال السيد: نقصتم من حقي؟ قلنا له: هذا بمثابة إدامَتِنا النكاحَ على اللقيطة إذا أقرت بالرق.
وقد نجز تمام المراد في التفريع على الأقوال. ونحن نرسم بعد ذلك فروعاً متعلقة بما مضى.
فرع:
6184- ما ذكرناه مفصلاً مفرّعاً فيه إذا أقر اللقيط بالرق لإنسان فصدّقه المقَرُّ له، أو ادّعى إنسان رقَّه، فاعترف.
__________
(1) عبارة الأصل وحدها: " إضرارٌ بحق السيد، ونقص من حق الرق فيه ".(8/578)
فأمّا إذا أقر بالرق لواحدٍ، فكذبه المقرّ له، فلو أقر بالرق لآخر، فهل يُقبل إقراره الثاني؟ قال الشافعي فيما حكاه العراقيون: لا يُقبل إقراره الثاني أصلاً؛ فإنّا حكمنا بعتقه لما رَدّ إقرارَه، وكأن العبد رجع إلى يد نفسه -لو قدرنا الرق- وحكمُ ذلك العتقُ، وليس هذا عتقاً على التحقيق يُعقب ولاء، وإنما هو تقديرٌ أطلقناه.
وقال ابن سريج يقبل إقراره للثاني، كما [لو] (1) أقرّ بثوبٍ لواحدٍ، فردّه، ثم أقر به لآخر.
وفيما استشهد به ابن سريج نظرٌ، وترددٌ للأصحاب، ذكرناه في كتاب الأقارير.
على أن الفرق ظاهرٌ؛ فإن الثوب لا يفرضُ إلا مملوكاً، وأما الحرية، فإنها الأصل في بني آدم، وفي حصولها حقٌّ لله تعالى؛ فإن حقوق الله تعالى تكثر على الأحرار، وفي ردّ الحرية ردُّها.
6185- ومما يتفرع على هذا المنتهى، أنا إذا ردَدْنا إقراره للثاني، فلو ادّعى مدَّعٍ عليه الرقَّ، [فلا] (2) تُقبل دعواه من غير بينة. [و] (3) هذا على نص الشافعي ظاهر، وليس للمدّعي أن يحلّفه؛ فإن الحلف يفرض لتوقع الإقرار، فإذا كان إقراره مردوداً، فلا معنى للحلف، ولو قدر نكوله، لكانت يمين الرد بمثابة الإقرار، فإذا كان الإقرار مردوداً، فلا معنى لهذا التقدير.
فإن ذهب ذاهب إلى أن يمين الرد بمثابة البيّنة، فقد يرى التحليف لتقدير النكول، حتى إذا فرض النكول، أثبتت عليه يمين الرّد. وهذا ضعيف، لما ذكرناه من تعلّق حق الله تعالى بالحرية. والله أعلم.
***
__________
(1) سقطت من الأصل.
(2) في الأصل وحدها: هل تقبل دعواه من غير بينة.
(3) ساقطة من الأصل وحدها.(8/579)
وقد بان الآن، ومما أجريه في هذا المجموع، ولا شك في تبرم بني الزمان به - أني كثيراً ما أجري المسائل على صيغة المباحثة، ثم هي تفضي إلى مقر المذهب آخراً، ويعلم المسترشد طريق الطلب والنظر. وهذا من أشرف مقاصد الكتاب، فلست أخل به لجهل من لا يدريه.
الإمام
في نهاية المطلب(9/4)
كتاب الفرائض (1)
6186- الأصل في الفرائض الكتاب، والسنّة، والإجماع، والعلم بها مما توافت الأخبار على الترغيب في طلبه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تعلموا الفرائض؛ فإنها من دينكم، وإنها نصف العلم، وإنها أول علم ينتزع من أمتي، وينسى " (2) . وقال صلى الله عليه وسلم: " تعلموا الفرائض، وعلموها الناس، فإنّي امرؤٌ مقبوض، وإن العلم سينزع حتى إن الرجلين من أمتي يختلفان في فريضة لا يجدان من يخبرهما بها " (3) . وقيل: سماها رسول الله
صلى الله عليه وسلم نصفَ العلم؛ لأن الخلق بين طوري الحياة والموت، والشرع ينقسم إلى أحكام الأحياء وأحكام الأموات.
__________
(1) يستمر العمل على نسخٍ أربع هي (د 2) وهي الأصل، ومعها (د ا) ، (ت 3) ، (ت 2) . والله المعين.
(2) حديث " تعلموا الفرائض، فإنها من دينكم ". رواه ابن ماجة: الفرائض، باب الحث على تعليم الفرائض، ح 2719، والدارقطني (4/67) ، والحاكم (4/332) ، والبيهقي (6/209) كلهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقد ضعفه الحافظ (ر. التلخيص: 3/172 ح 1387، وخلاصة البدر المنير: 2/128) .
(3) حديث: " تعلموا الفرائض، وعلموها الناس". رواه من حديث ابن مسعود، النسائي في الكبرى (4/63، 64، ح6305، 6306) ، والدارمي: ح 221 والدارقطني (4/81-82) والحاكم (4/333) ، والبيهقي في الكبرى (6/208) ، وفي السنن الصغير (3/353، ح 2277) ، وبنحوه مختصراً الترمذي: الفرائض، باب ما جاء في تعليم الفرائض، ح 2091. وقد ضعف الحافظ الحديث. ر. التلخيص: (3/171 ح 1386) .(9/5)
وعن عمر بن الخطاب أنه قال: " إذا تحدثتم، فتحدثوا بالفرائض وإذا لهوتم، فالهوا بالرمي " (1) .
وكان يجب على المحتضَر في ابتداء الإسلام الوصيةُ للوالدين والأقربين، كما أنبأ عنه قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: 180] أيْ فرض عليكم إذا حضر أحدَكم علاماتُ الموت إن ترك مالاً، قال الله تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8] معناه لحب المال لبخيل.
واختلفوا في المراد بالأقربين المذكورين مع الوالدين، فذهب بعضهم إلى أن الأولاد يندرجون تحت الأقربين.
وقال قائلون: كانت الوصية تجب للوالدين، ومن عدا الأولاد من الأقربين، وكان الأولاد يأخذون ما يفضل من الوصايا، ويشهد لذلك قوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا} [النساء: 9] معناه ليخْش الذين يحضرون المحتضَر من الشهود، ولْينصحوه إذا قصد أن يستغرق المال، ولا يُبقي للأولاد شيئاً، وليتقوا الله في نصيحته، وليقولوا قولاً معروفاً.
ثم هدّد الأوصياء وتوعّدَهم على التبديل، فقال تعالى (2) : {فمن بدله} من الأوصياء {بعد ما سمعه} من الموصي، {فإنما إثمه} ووباله على المبدّلين، فإن الله سميع بما قال الموصي، عليم بما يفعله.
ثم أطلق على الأوصياء التخويفَ إذا علموا من الموصين ميلاً في وصاياهم، فقال عزّ من قائل: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا} [البقرة: 182] : أي علم منه ميلاً، والخوف يأتي بمعنى العلم، {فلا إثم عليه} هو، في أن يُبدّله، وذلك مثل ألا يُبقي للأولاد شيئاً.
__________
(1) أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه: رواه البيهقي (6/209) ، والحاكم (4/333) وقال:= صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، وأعله الحافظ بالانقطاع. ر. التلخيص: (3/186ح 1409) .
(2) هذا معنى الآية الكريمة [البقرة: 181] ، حيث مزج التفسير بالألفاظ الكريمة.(9/6)
ثم استقرت الشريعةُ على الفرائض.
6187- وقال أبو العبّاس بنُ سُريج: كان يجب في ابتداء الإسلام على المحتضَر أن يوصي لكل أحد بما في علم الله من الفرائض، فكان من يوفَّق له مصيباً ومن يتعداه مخطئاً.
وهذا زلل من أبي العباس ولا يجوز أن يعتقَد ثبوتُ مثل ذلك في الشرائع؛ فإنه تكليفٌ على عماية، وكان ابن سُريج يقول: كُلّفوا ذلك حسبما كلفوا الاجتهاد في القبلة والأواني.
وهذا إن صح عنه مشعر بالخلو عن أركان الاجتهاد؛ فإن الاجتهاد لا بد وأن يتعلق بأدلّةٍ قطعيةٍ، أو علاماتٍ ظنية، وفرضُ ما ذكرناه غيرُ ممكن في الفرائض. وإن كان النظر إلى أقدار الحاجات، فهي تختلف، ولا تنضبط.
6188- ثم أبان الله سبحانه وتعالى الفرائض في قوله تعالى: {يوصيكم الله} وفي الآية التي تليها، وفي آية الكلالة في مختتم السورة (1) .
وقال صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى لم يكل قَسْم مواريثكم إلى مَلكٍ مقرَّب، ولا إلى نبي مرسلٍ، ولكن تولى قَسْمها، فقسمها أبْين قَسْم، ألا لا وصية لوارث " (2) .
__________
(1) يشير إلى آيات الفرائض، وهي الآية: 11، 12، من سورة النساء، ثم الآية الأخيرة من السورة الكريمة نفسها، وهي رقم: 176.
(2) حديث: " إن الله تعالى لم يكل قسْم مواريثكم إلى ملك مقرّب ... " لم نجده بهذا السياق الذي ساقه به الإمام، قال ابن الصلاح في مشكل الوسيط: الثابت في هذا المعنى: " أن الله أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث ". رواه الترمذي وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عمرو بن خارجة وقال: " هذا حديث حسن صحيح. وروي أيضاً من حديث أبي أمامة وأنس بن مالك رضي الله عنهم ". ا. هـ. المشكل:2/61أ، 61ب.
وروى أحمد والنسائي وابن ماجه والدارقطني والبيهقي من حديث عمرو بن خارجة =(9/7)
6189- وقيل كانوا يتوارثون في ابتداء الإسلام بالتحالف، والنُّصرة، وكان الواحد يقول لصاحبه: دمي دمُك، ومالي مالك، ترثني وأرثك، وهو بيّن في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآَتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] . ثم نسخ الله تعالى ذلك بالإسلام والهجرة، فقال عز وجل: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72] ، فكان المهاجر وغير المهاجر لا يتوارثان.
ثم نسخ الله تعالى ذلك بقوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] ،و [الأحزاب:6] وقيل: كان الرجال يُورَّثون دون النساء، وكان يقال: الرجال يتحملون المؤن ويُقْرون الضيف، ويلقَوْن الحروب، وكان ينفَق على المرأة من مال زوجها بعد موته سنة، وذلك حظُّها من الميراث. قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240] . ثم نسخ حكمَ هذه قولُه تعالى: {الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] . ثم لم تشتمل الآي الثلاث على جميع الوقائع.
6190- وانقلب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رضوانه واختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعظم اختلافهم فيما لم يلقَوْه منصوصاً، وسبب ذلك أنهم لم يجدوا قواعد الفرائض مبنيةً على معانٍ معقولة، فاضطربوا في التمسك بالأشباه والتقريبات، فأتوا فيها بالعجائب والآيات.
__________
= (واللفظ للنسائي) : " إن الله قد قسم لكل إنسان قسمةً من الميراث فلا تجوز لوارث وصية ". (ر. أحمد: 4/186، 187 و5/267، الترمذي: الوصايا، باب لا صدقة لوارث: 2121،2120، النسائي: الوصايا، باب إبطال الوصية للوارث:3671، 3672، 3673، ابن ماجة: الوصايا: باب لا صدقة لوارث:2712، 2713، 2714، الدارقطني: 4/152، البيهقي: 6/264، التلخيص: 3/197ح 1421) .(9/8)
وقال العلماء بالفرائض: تحزّب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثةَ أحزاب، فتكلم أربعةٌ منهم في جميع الفرائض: علي، وزيد بن ثابت، وابن مسعود، وابن عباس.
وتكلم قومٌ في معظم أصول الفرائض مثل: أبي بكر، وعمر، ومعاذ.
وتكلّم بعضُهم في مسائلَ نادرةٍ، كعثمان وغيره رضي الله عنهم أجمعين.
ثم من بدائع حكم الله تعالى أن الأربعة الذين تكلموا في الجميع لم يُجمِعوا في مسألة إلا أجمعت الأمة على مذهبهم، ولم يتفق في مسألة مصير اثنين منهم إلى مذهب، وذهاب اثنين إلى مذهب الآخر، ولكن إذا اختلفوا وقفوا آحاداً، وصار ثلاثةٌ إلى مذهب، وواحد إلى مذهب واحد.
6191- ثم نظر الشافعي إلى مواقع الخلاف، ولم يجد مضطرباً في المعنى، فاختار أن يتبع زيد بن ثابت، ولم يضع لأجل هذا كتاباً في الفرائض، لعلمه بعلم الناس بمذهب زيد، وإنما نصّ على مسائلَ متفرقة في الكتب، فجمعها المزني، وضم إليها مذهب زيد في المسائل. ولم يقل: تحرَّيْتُ [فيها] (1) مذهب الشافعي كقوله في أواخر الكتب التي مضت؛ فإن التحرّي اجتهاد، ولا اجتهاد في النقل. وقد تحقق عنده اتباع الشافعي زيداً.
وتردد قول الشافعي حيث ترددت الروايات عن زيد، واعتمده فيما رواه من ذلك ما رواه الأثبات عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: " أفرضكم زيد" (2) ، قال المحققون: لو رفعت واقعة إلى مجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفيها مذاهب لعلماء صحابته، فقال فيها:
__________
(1) ساقطة من الأصل فقط.
(2) حديث " أفرضكم زيد " رواه أحمد، والترمذي، والنسائي في الكبرى، وابن ماجة من حديث أنس (ر. أحمد: 3/184، الترمذي: المناقب، باب مناقب معاذ وزيد، ح 3791، النسائي في الكبرى: 8242، ابن ماجة: المقدمة باب فضائل أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ح 154، التلخيص: 3/172 ح 1389) .(9/9)
أفرضكم زيد، وزيد منهم وفيهم، لتعين اتباعُ مذهبه (1) .
فكذلك يجب هذا في جميع القواعد إذا قال: أفرضكم زيد.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " أقضاكم علي، وأعرفكم بالحلال والحرام معاذ "، فالقول في القضايا يتسع، ويتعلق بما لا يسوغ التقليد فيه، وكذلك الحرام والحلال.
وعندنا أن المذهب لا يستقل بهذا القدر؛ فإن زيداً ما انتحل مذهبه إلا عن أصلٍ يجول الرأي فيه، ولهذا خالفه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. والشافعي لم يُخلِ مسألةً عن احتجاج، وإنما اعتصم بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجيحاً، وهذا بيّن.
وإذا كان كذلك، فحقٌّ على الناظر أن يتبين مواقع الكلام في كل قاعدة حسبما يفعل ذلك في قواعد الشريعة.
6192- ثم الذي نراه بعد ذلك أن نذكر جُملاً في صدر الفرائض تتنزل منزلة المعاقد والضوابط، يطلع حافظها بها على الأصول، ثم نعود بعد الإيناس بها إلى ترتيب السواد، ونعتمد شرح مذهب زيد، ولا نخلي أصلاً عن ذكر المشاهير من مذاهب الصحابة رضي الله عنهم، ونشُمِّرُ للتلخيص والتقريب جهدنا، ثم نتعدى قليلاً حدود الفقهاء في تمهيد أصول الحساب، وتسهيل طرقها، وتقريب مأخذها، ثم المهارة فيها موكولة إلى الدُّربة.
__________
(1) كذا في جميع النسخ، ويلوح لي أن العبارة في أصلها هكذا: " قال المحققون: قد رفعت واقعة إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيها مذاهب لعلماء صحابته، فقال فيها: " أفرضكم زيد، وزيد منهم وفيهم؛ فتعين اتباع مذهبه " هذا مجرد ظن وتوقع ولم نره في أي مصدر.(9/10)
فصلٌ
في معاقد جُمْلية
نأتي بها توطئةً وإيناساً
6193- فنقول: استحقاق الإرث متعلق بالقرابة والسبب. والسبب ينقسم إلى خاص، وعام: والسبب العام التوريث بالإسلام. والسببُ الخاص النكاح والولاء، أما الولاء، فسبيل الإرث به التعصيب لا غير، والزوجية سبيل الإرث بها الفرض.
والأصول المورّثةُ بالقرابة الأبوة، والأمومة، والبنوّة، والأخوة، والجدودَة، والعمومة.
والورثة من القرابة ينقسمون على أنحاء، ونحن نردد تقاسيمهم في كل غرض، فنقول أولاً: هم ينقسمون إلى الأصول والفروع.
أما الأصول، فهم الذين ليس بينهم وبين الميت واسطة بها يُدلون، وهم أربعة: الأب، والأم، والابن، والبنت، وهؤلاء لا يحجبون بالأشخاص حجباً كلّياً.
والفروع من الورثة على أربعة أقسام: ذكرٌ يُدلي بذكرٍ، وهم بنو البنين، وبنو الأب، وهم الإخوة وبنوهم. وبنو الجد، وهم الأعمام وبنوهم.
وذكر يدلي بأنثى، ولا يُلفى الوارث من هذا القبيل إلا شخص واحد، وهو الأخ للأم؛ فإن إدلاءه إلى الميت بالأم.
وأنثى تدلي بذكر، وهو (1) ثلاث: بنت الابن، وبنت الأب: وهي الأخت من الأب، وأم الأب.
__________
(1) وهو: ضمير يعود على القسم.(9/11)
وأنثى تدلي بأنثى، وهو الأخت للأم، والجدة أم الأم.
والحجب بالأشخاص يتطرق إلى الفروع، كما سيأتي ذلك، إن شاء الله تعالى.
6194- ثم إنا نقسمهم تقسيماً آخر فنقول: كل ذكر يدلي بذكر من القرابة، فهو عصبة، وكل ذكر يُدلي بأنثى، فهو صاحب فرض. وكذلك الأنثى المدلية بالأنثى. فأما الإناث المدليات بالذكور، فلا يرثن بالتعصيب بأنفسهن. وقد ذكرنا أنهن ثلاث: بنت الابن، والأخت من الأب، وأم الأب. أما أم الأب، فلا ترث إلا بالفرض. وبنت الابن، والأخت يعصّبهما غيرهما، وإذا انفردتا عن معصِّب أخذتا بالفرض.
6195- ونقسم جملة الورثة تقسيماتً آخر، فنقول: منهم من يأخذ بالتعصيب لا غير، وهم البنون، وكل ذكرٍ يُدلي إلى الميت بذكر، والجدُّ مستثنىً من ذلك. والمستحق بالولاء.
ومنهم من يرث بالفرض المحض، وهم من القرابة: الأم، وكل مُدْلية بأنثى، والذكر المدْلي بأنثى، وهو الأخ من الأم، والزوج والزوجة.
ومنهم من يرث بالفرض والتعصيب، وهؤلاء قسمان: منهم من يرث بأحدهما، ولا يجتمع الوجهان له، ومنهم من يرث بالفرض المحض تارةً، وبالتعصيب أخرى، ويرث بالفرض والتعصيب جميعاَّ.
فأما من يرث بالفرض تارة، وبالتعصيب تارة، ولا يجتمعان له، فهم البنات، وبنات الابن، والأخوات من الأب والأم، والأخوات من الأب. وأما من يرث بالفرض وحده، و [بالتعصيب وحده، ويرث بهما جميعاً، فالأب يرث بالفرض مع الابن وابن الابن، ويرث] (1) بالتعصيب المحض إذا لم
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.(9/12)
يكن معه ولد، ولا ولد ابن، ويرث بالفرض والتعصيب جميعاً مع البنات، وبنات الابن، والجد في ذلك كلّه بمثابة الأب عند عدم الأب.
فهذه جمل عقدناها.
6196- ونحن نعقد جملة أخرى فنقول: الوارثون من الرجال على البسط خمسةَ عشرَ: الابن، وابن الابن، وإن سفل، ما أدلى بمحض الذكور، والأب، والجد: أيو الأب، ما لم يدل بأنثى، والأخ من الأب والأم، والأخ من الأب، والأخ من الأم، وابن الأخ من الأب والأم، وإن سفل ما أدلى بمحض الذكور، وابن الأخ من الأب وإن سفل، ما أدلى بمحض الذكور، والعم أخ الأب من أبيه وأمه، والعم أخ الأب من أبيه، وابن العم من الأب والأم، وإن سفل ما أدلى بمحض الذكور، وابن العم من الأب كذلك. وعم أب الميت بمثابة عم الميت، وكذلك عم جدّه الوارث، وبنوهم على قياس بني أعمام الميت، والزوج، والمولى المعتِق.
6197- والوارثات من النساء على البسط عشر: البنت، وبنت الابن، وإن سفلت ما أدلت بمحض الذكور، والأم، والجدة أم الأم، وإن علت ما أدلت بمحض الإناث، والجدة أم الأب وإن علت، ما لم تدل بذكرٍ مُدلٍ بأنثى، والأخت من الأب والأم، والأخت من الأب، والأخت من الأم، والزوجة، والمولاة المعتقة.
وليس في الورثة أنثى تستغرق الميراث إلا المعتِقة.
6198- وإن أوجزنا قلنا: الوارثون من الرجال: الابنُ، وابنُ الابن، والأبُ، والجد، والأخ، وابنُ الأخ من الأب، والعم من الأب، وابن العم من الأب، والزوجُ، والمولى المعتِق.
6199- والوارثات من النساء: البنتُ، وبنتُ الابن، والأم، والجدةُ(9/13)
المدلينَ بوارث، أو وارثة، والأخت، والزوجة والمولاة المعتقة.
6200- ومن الجمل التي نعقدها أن نقول: التوريث بالتعصيب والفرض: أما التعصيب فالوارث به يستغرق التركة إن لم يزاحم، ويأخذ الفاضل من الفرائض، وإذا استغرقت الفرائض أجزاء التركة، سقط، إلا في مسألة المشتركة على ما سيأتي، إن شاء الله تعالى.
6201- وأما الفرض، فأصله في اللسان القطع، وسميت الحزَّةُ التي تستقر فيها عروةُ الوتر فُرضة، ثم استعمل الفرض بمعنى التقدير، فإن المقدّرات مقتطعة عن الجمل، فالفرائِض هي المقدرات.
والمقدرات التي هي الأصول في المواريث ستة: النصف، والربع، والثمن، والثلثان، والثلث، والسدس.
وإن أحببت قلت: النصف ونصفه، ونصفُ نصفه، والثلثان، ونصف الثلثين، ونصف نصفه.
ويجمع هذه الستة أصلان: النصف والثلثان.
ثم يتشعب من النصف نصفه، وربعه، ويتشعب من الثلثين نصفه وربعه. وما ذكرناه أصول الفرائض، وإذا عالت المسائل، وزادت المقدّرات على أجزاء المال، فلا تتعدى هذه المقدّراتُ في الإطلاق، وإن كان السدس فيها سبعاً، وتسعاً، وعشراً.
6202- وقد نص الله سبحانه وتعالى على هذه الأجزاء الستة في ثلاثةَ عشر موضعاً في كتابه.
فذكر النصف في ثلاثة مواضع: ذكره للزوج إذا لم يكن للمرأة ولد، في قوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: 12] ، وللبنت الواحدة، في قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11] ،(9/14)
وللأخت الواحدة إذا كانت لأب وأم، أو لأب فقال تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] .
وذكر الربع في موضعين: للزوج إذا كان للزوجة ولد، وللزوجة إذا لم يكن للزوج ولد.
وذكر الثمن للمرأة إذا كان للزوج ولد، ومواضع الربع والثمن [بينة] (1) .
وأما الثلثان، فقد ذُكر في موضعين: ذكره للأختين، إذا كانتا لأب وأمٍ، أو لأبٍ، فقال تعالى: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ} [النساء: 176] وللبنات فقال تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11] ثم للبنتين الثلثان كما للأختين على ما سيأتي، إن شاء الله تعالى.
وشرط في الأختين أن يكون الميت كلالة، فمنهم من قال: الكلالة من لا ولد له ولا والد، وهو قول أكثر الصحابة رضي الله عنهم، وإحدى روايتي ابن عباس، ويعني بالوالد: الآباءَ، والأجدادَ، دون الأمهات، وبالولد الذكورَ والإناثَ، الوارثين منهم، قربُوا أو بعدوا.
ومنهم من قال: هو من لا ولد له، وإن كان له والد. وهو الرواية الثانية عن ابن عباس.
ثم اختلفوا، فقال بعضهم: الكلالة اسمٌ للميت، وقال بعضهم: الكلالة اسمٌ للورثة، وسنعطف على جميع ذلك في الشرح، إن شاء الله عز وجل.
فأما الثلث، فقد ذكره الله تعالى في موضعين: ذكره للأم إذا لم يكن هناك ولد ولا إخوة في قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] وذكره للاثنين من أولاد الأم، فقال تعالى: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] وهو يثبت للجدّ عند بعض منازله.
__________
(1) في الأصل: فيه، والمثبت من باقي النسخ الثلاث.(9/15)
وأما السدس، فقد ذكره في ثلاثة مواضع: ذكر للأبوين السدس في قوله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 11] ، وللأم إذا كان للميت ولد، أو اثنان من الإخوة، فصاعداً، وذكره للواحد من أولاد الأم، فقال تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 12] ، وللسدس مواضع ملحقة بالنص.
فهذا بيان الفرائض في نصوص الكتاب.
6203- ونحن نصوغ عن مستحقيها عبارةً جامعةً تشير إلى الكليات، فنعود، ونقول: النصف فرض خمسة:
فرضُ الزوج إذا لم يكن للزوجة ولد، ولا ولد ابن.
وفرضُ البنت الواحدة من الصلب، إذا لم يكن معها ابنٌ يعصّبها.
وفرضُ بنت الابن الواحدة، إذا لم يكن في الصلب ولد، ولم يكن معها غلام يعصّبها في درجتها.
وفرْضُ الأخت الواحدة من الأب والأم، إذا لم يكن معها في الفريضة من يعصبها.
وفرض الأخت الواحدة من الأب إذا لم يكن في الفريضة أحدٌ من الإخوة من الأب والأم، لا الذكر، ولا الأنثى، ولم يكن معها معصّبٌ، كما سيأتي -إن شاء الله تعالى- ذكرُ من يعصِّبُ الأخوات.
والربع فرض اثنين: فرض الزوج إذا كان للزوجة ولد، أو ولد ابن.
وفرض الزوجة إذا لم يكن للزوج ولد، ولا ولد ابن.
وكأن الزوجين يتوارثان على نسبة التعصيب بين الذكر والأنثى، حيث يقول: [للذكر] (1) مثل حظ الأنثيين، فللزوج ضعف نصيب الزوجة مع الولد،
__________
(1) ساقطة من الأصل.(9/16)
ودونه، فله النصف حيث يكون لها الربع، وله الربع حيث يكون لها الثمن.
ثم الزوجات كالزوجة الواحدة في الربع والثمن، ولولا ذلك، لاستغرقت أربع زوجات الميراثَ، بأربعةِ أرباع.
والثمن فرض صنف واحد: وهنَّ الزوجات إذا كان للزوج ولد، أو ولد ابن.
والثلثان فرض أربعة أصناف: ولا يثبت إلا بعددٍ:
فرض بنتي الصلب، فصاعداً، إذا لم يكن معهن ابنٌ يعصبهنّ.
وفرض بنتي الابن فصاعداً إذا لم يكن في الصلب ولد، ولم يكن في درجتهن غلام يعصّبهن.
وفرض الأختين من الأب والأم، فصاعداً، إذا لم يكن في الفريضة من يعصّبهن.
وفرض الأختين من الأب، فصاعداً إذا لم يكن في الفريضة أحدٌ من أولاد الأب والأم، ولم يكن معهن من يعصّبهن.
وأمّا الثلث ففرض الاثنين (1) ، فصاعداً من الإخوة والأخوات من الأم (2) .
وفرض الأم إذا لم يكن للميت ولد، ولا ولد ابن، ولا اثنان من الإخوة والأخوات فصاعداً، فإذا اجتمعت هذه الأوصاف، فلها الثلث.
إلا في فريضتين: إحداهما - زوج وأبوان، والأخرى - زوجة وأبوان. للزوج النصف وللأم ثلث ما تبقى، والباقي للأب، وهذا والسدس واحدٌ، ولكنا لا نطلق السدسَ، حذاراً من مخالفة لفظ الكتاب.
__________
(1) في غير نسخة الأصل: " صنفين " مكان الاثنين. وهو خطأ كما سيظهر من الشرح.
في غير نسخة الأصل زيادة بعد كلمة " من الأم " نصها: " يقسم بينهم بالسوية، لا يفضّل
ذكر على أنثى ".(9/17)
وللزوجة الربع من الفريضة الأخرى، وللأم ثلث ما تبقى، وهو ربعٌ في الحقيقة، ولكنا لا نطلقه.
(3 والثلث يثبت لاثنين فصاعداً من أولاد الأم مفضوضاً عليهم بالسوية لا يفضّل ذكر على أنثى 1) .
والثلث فرض الجدّ في بعض منازله، كما سيأتي في بابه مشروحاً، إن شاء الله تعالى.
والسدس فرض سبعةٍ:
فرض الأب إذا كان للميت ولد أو ولد ابنٍ.
وفرض الأم إذا كان للميت ولد أو ولد ابن، أو اثنان من الإخوة والأخوات، فصاعداً.
وفرض الجدات، فيشتركن فيه، إذا استوين في الدرجة، وتستحقه الواحدة إذا انفردت.
وفرض بنت الابن، أو بنات الابن إذا كان في الصّلب بنتٌ واحدة، ولم يكن معهن في درجتهن ذكر يعصّبهن.
وهذا السدس يسمى تكملة الثلثين ضمّاً إلى النصف الثابت لبنت الصلب.
وهو فرض الأخت الواحدة والأخوات من الأب إذا كان في الفريضة أخت واحدةٌ من الأب والأم، وليس في الفريضة من يعصّب الأخوات فللأخت من الأب والأم النصفُ، وللأخت أو الأخوات من الأب السّدس تكملة الثلثين.
وهو فرض الواحد من أولاد الأم ذكراً كان، أو أنثى.
وفرض الجد في بعض منازله.
فهذه معاقد كلية وقواعدُ جُملية، ذكرناها وأجريناها على مذهب زيدٍ،
__________
(1) ما بين القوسين سقط من جميع النسخ ما عدا الأصل. (وهو في مقابلة الزيادة السابقة) .(9/18)
ونحن نعود بعدها إلى ترتيب المختصر، ونستوعب تفاصيل القواعد، ونعوّل على استقصاء مذهب زيد، ولا نخلي ما نجريه عن حكاية مذاهب غير زيدٍ من الصحابة رضي الله عنهم.
***(9/19)
باب من لا يرث
6204- ذكر المزني في صدر هذا الباب أن ذوي الأرحام لا يرثون.
والترجمة (1) أوّلاً مأخوذةٌ عليه، فإن قال معترض: من يرث أحق بالضبط ممن لا يرث، فلم صدّر الكتاب بذكر من لا يرث؟
قلت: لعله رأى الكلامَ فيمن يرث باتفاق مضبوطاً قريباً، فرأى تصدير الكتاب بذكر محلّ الخلاف؛ فإنه أهمّ، وكل من عدا المذكورين من الوارثين والوارثات من المتصلين بالقرابة من الأرحام.
ومذهب زيد أنهم لا يرثون، وصار إلى توريثهم علي، وابنُ مسعود، وابنُ عباس، وغيرُهم. ولسنا نرى الخوض في ذكرهم الآن، وسنعقد في أمرهم باباً، إن شاء الله عز وجل.
وأصناف ذوي الأرحام على التقريب أحد عشر:
أولاد البنات، وبنات الإخوة، وأولاد الأخوات، وأولاد الإخوة للأم، وكل جدٍّ وقع بينه وبين الميت أنثى، وكل جدّة وقع بينها وبين الميت ذكر بين أنثيين، والعمة، والخالة، والخال، والعم للأم، وبنات الأعمام.
ومن لا يرث من هؤلاء فالمدلي به لا يرث، لأن المدلي لا يزيد على الذي به
__________
(1) ترجم المزني في أول (اختصار الفرائض) قائلاً: " باب من لا يرث " ثم ذكر تحت
الترجمة ذوي الأرحام. (ر. المختصر: 138) .(9/20)
الإدلاء، وسنفرد في ذوي الأرحام -إن شاء الله عز وجل- باباً نذكر ما يقع به الاستقلال.
فصل
قال فيمن لا يرث: " والكافرون ... إلى آخره " (1) .
6205- اختلاف الدين إسلاماً وكفراً، يمنع التوارث من الجانبين، فلا يرث الكافرُ المسلمَ، ولا المسلمُ الكافرَ، وهذا مذهب معظم العلماء.
وقال معاذ: المسلمُ يرث الكافرَ، والكافر لا يرثه، كما أن المسلمَ ينكح الكافرة، والكافر لا ينكح المسلمة.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يتوارث أهل ملّتين شتى " (2) .
والكفار يتوارثون وإن اختلفت مللهم، فاليهودي يرث النصراني والمجوسي والنصراني يرثهما.
وقال شريح (3) والأوزاعي: الكفار المختلفون في الدين لا يتوارثون،
__________
(1) ر. المختصر: 3/139.
(2) حديث " لا يتوارث أهل ملتين ... " حديث حسن، رواه أبو داود (واللفظ له) : الفرائض، باب هل يرث المسلم الكافر؟ ح 2911، وابن ماجة: أبواب الفرائض، باب ميراث أهل الإسلام من أهل الشرك، ح2731، والنسائي في الكبرى، ح 6383، 6384، وأحمد (2- 178، 195) ، والدارقطني (4- 75- 76) ، والبيهقي (6/218) كلهم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. ورواه الترمذي من حديث جابر: الفرائض، باب لا يتوارث أهل ملتين، ح 2108، ورواه الدارمي من حديث عمر، ح 2992، 2997، وانظر التلخيص (3/183 ح 1405) .
(3) شريح: شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم الكندي. من أشهر القضاة في الإسلام، وأخباره مستفيضة في أخبار القضاة لوكيع، يقال: له صحبة، ولم يصح، أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولاه عمر قضاء الكوفة، فقيل: أقام على قضائها ستين سنة، =(9/21)
واحتجا بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يتوارث أهل ملتين شتى ". والحديث محمولٌ على ملة الكفر والإسلام، والكفر في التوارث ملّة واحدة. قال الله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6] فجعل الكفار في حكم أهل دين واحدٍ.
والمرتد لا يرث عندنا، ولا يورث، وله باب مفرد يأتي في آخر الكتاب إن شاء الله تعالى.
فصل
قال: " والمملوكون ... إلى آخره " (1) .
6206- العبد لا يرث، ولا يورث، فإنه على الصحيح لا يملك، وإن ملّكناه على القديم، ولا يملك إلا من جهة تمليك السّيد إياه، ثم هو ملكٌ، لا قرار له. والمكاتب في معنى القن.
ومن نصفه حر ونصفه عبد لا يرث عندنا، وهل يرثه حميمُه؟ في المسألة قولان: أقيسهما - أنه لا يرثه؛ لأن من لا يرث لا يورث. هذا هو الأصل.
والثاني - يرثه لأنه ملك ملكاً تاماً بنصفه الحر، فهو فيه كالشخص الكامل الحرية.
فان قلنا: لا يورث، ففيما خلّفه وجهان: أحدهما - يعود إلى مالك الرق في نصفه.
__________
= كما قضى بالبصرة أيضاً، ولذا كان يقال له: قاضي المصرين. توفي سنة ثمانين من الهجرة (ر. سير أعلام النبلاء: 4/100- 106) ومصادر ترجمته وفيرة منها: طبقات ابن سعد: 6/131، طبقات خليفة بن خياط: 145، وأخبار القضاة لوكيع: 2/189- 202 وطبقات الشيرازي: 80، وتهذيب الأسماء واللغات: 1/243.
(1) ر. المختصر: 3/139.(9/22)
والثاني - يُصرف إلى بيت المال.
وإن قلنا: يرثه حميمُه، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه [يرث] (1) جميعَ ما يجمع بنصفه الحر.
والثاني - يرث نصفَ ذلك، ويعود النصف منه إلى السيّد، لأن سبب الإرث الموت، والموت حلّ جميعَ بدنه، وبدنُه ينقسم إلى الرق والحرية، فيجب انقسام ما يخلِّفه؛ فإن ذلك ليس ملكَ نصفه، وإنما هو ملك كله؛ إذ يستحيل أن يملك نصفُ شخصٍ شيئاً، وكأن النصفَ الحر يُثبت حكم الملك للجملة، والرق ينافي الملك إذا لم تَسْتتبعْه (2) الحرية.
وقال علي وابن مسعود: من نصفه حر ونصفه عبد يرث ويورث. وقيل هو مذهب المزني.
قال الشافعي: لو ورثناه من حميمه، لأدّى ذلك إلى توريث الأجانب بعضهم من بعض؛ لأن ما يملكه يقع مستحقاً بينه وبين مولاه، كما لو احتش أو احتطب، [أو اتّهب] (3) .
فصل
قال: " والقاتلون ... إلى آخره " (4)
6207- القتل قسمان: مضمون، وغير مضمون. فالمضمون يوجب الحرمان، سواء كان مضموناً بالقصاص، أو الدية، أو الكفارة. ولا فرق بين أن يكون عمداً أو خطأ، وبين أن يكون القاتل صبياً أو بالغاً، عاقلاً أو مجنوناً،
__________
(1) في جميع النسخ: يرثه.
(2) في غير نسخة الأصل: نستضعفه.
(3) ساقطة من الأصل.
(4) ر. المختصر: 3/139.(9/23)
ولا فرق بين أن يقع القتل بسببٍ (1) أو مباشرة، كل ذلك يوجب حرمان الميراث.
وقال عثمان البتِّي (2) : قتل الخطأ لا يوجب حرمان الميراث.
وقال مالك (3) : القاتل خطأ لا يرث من ديّة المقتول شيئاً؛ لأن الديّة حصلت بفعله، ويرث من سائر أمواله.
ومعتمدنا في الباب ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " ليس للقاتل من الميراث شيء " (4) .
وقال أبو حنيفة (5) : قَتْلُ الصبي والمجنون لا يتعلق به حرمان الميراث، وكذلك القتل بالسبب.
هذا في القتل المضمون.
6208- فأما إذا لم يكن القتل موجباً للضمان، فإنه ينقسم إلى قتلٍ مستحَق، وإلى قتلٍ لا يوصف بكونه مستحقاً.
__________
(1) (د ا) ، (ت 2) : محضاً، (ت 3) : بخطأ. (هكذا) وهو تحريف واضح.
(2) عثمان البتي: أبو عمرو، اسم أبيه مسلم، وقيل: أسلم، وقيل سلمان. فقيه البصرة، وأصله من الكوفة، والبتي نسبة إلى بيع البتوت، وهي الأكسية الغليظة. أو الأنسجة (الخام) قبل قصْرها. توفي سنة 143هـ (سير أعلام النبلاء: 6/148، وتهذيب التهذيب: 7/153-154) .
(3) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/1021، مسألة:2098، 2099، حاشية العدوي: 2/356، جواهر الإكليل: 2/338، الفواكه الدواني: 2/181.
(4) حديث: " ليس للقاتل من الميراث شيء ". رواه النسائي في الكبرى (6368) وابن ماجة: الديات، باب القاتل لا يرث، ح 2646، ومالك في الموطأ (2/867) ، والشافعي (ترتيب المسند، 2/ ح 366، وعبد الرزاق (17782، 17783) ، الدارقطني (4/72، 73، 96) ، والبيهقي (6/220،219) ، وانظر: (التلخيص 3/184 ح 1406) ، وخلاصة البدر المنير 2/136، والإرواء: ح 1671 (وقال: صحيح) .
(5) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/442 مسألة 2132، حاشية ابن عابدين: 5/489.(9/24)
والذي يوصف بكونه مستحقاً، فإنه ينقسم إلى الواجب الذي لا يسعُ تركه، وإلى ما يسعُ تركه.
فأما ما لا يسعُ تركه، فالحدّ، فإذا أقامه من إليه الإقامة، ففي المسألة ثلاثة أوجه: أحدها - أنه لا يوجب الحرمان؛ فإن الإمام لا يجد بداً من إقامته.
والثاني - يُحْرَمُ، لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: " ليس للقاتل من الميراث شيء " وإذا استبعد القائل الأول فَهْمَ [حرمان] (1) هذا القاتل من الخبر، لزمه [قَتْلُ] (2) المخطىء، فإنه ليس متهماً؛ فإن قيل: لا نأمن قصده سرّاً، وإبداءه الخطأ ظاهراً، قيل: لو لم يشعر أحد بقتله، فلم يحرم الميراث باطناً بينه وبين الله تعالى؟ وهو في علم الله تعالى مخطىء.
والوجه الثالث: أن الحدّ إن ثبت بالإقرار، لم يُحرم القاتل، وإن ثبت بالبينة، حُرم؛ فإن التهمة تتطرق، من جهة احتمال المواطأة في القتل المترتب على البينة.
هذا في القتل المستحَق الذي لا محيص عنه.
فأما القتل الذي يسع تركه، كالقصاص، فإذا اقتص الرجل من حميمه، فهل يحرم الميراث؟ فعلى وجهين مرتبين على الوجهين في الحد، وهو أولى بأن يتضمن الحرمان؛ لأن القاتل [متخيّر] (3) بين القتل والترك، والتركُ مندوبٌ إليه.
6209- فأمّا القتل الذي لا يوصف بكونه مستحَقاً، ولا يتضمن ضماناً، ولا يتصف بكونه محظوراً، فهو كقتل القاصد دفعاً، وفي تعلق الحرمان به
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في الأصل: مثل.
(3) ساقطة من الأصل.(9/25)
وجهان مرتبان على الوجهين في القصاص، وهو أولى بأن يتعلق الحرمان به؛ من جهة أنه لا يوصف بكونه مستحقاً، والتهمة تتطرق إلى القاتل الدافع؛ من حيث يُظن أنه زاد على قدر الحاجة.
6210- ويتصل بما نحن فيه قتلُ العادل الباغيَ، وقتل الباغي العادلَ. أما قتل العادل الباغيَ، فقريب من قتل المقصود القاصد دفعاً.
وأما قتل الباغي العادل، فيترتب على أنه هل يضمن أم لا؟ فإن قلنا: إنه يضمن، فيحرم الميراث. وإن قلنا: لا يضمن، ففي حرمان الميراث وجهان مرتبان على الوجهين في العادل، وفي المقصود إذا قتل القاصد دفعاً، والباغي أولى بالحرمان؛ لأن قتل العادل لا يوصف بكونه مباحاً.
6211- والمكره إذا قتل حميمه، وقلنا: إنه يضمن، فلا شك أنه يحرم. وإن قلنا: لا يضمن، فهل يحرم؟ المذهب أنه يحرم؛ لأنه آثم بالقتل منهي عنه.
وفيه وجهٌ بعيدٌ أنه لا يحرم. وهذا مرتب على الباغي، والمكره أولى بالحرمان؛ لأن الباغي على تأويل في قتل العادل.
فصل
قال: " ومن عمي موتُه ... إلى آخره " (1) .
6212- إذا مات اثنان معاً، لم يتوارثا، وإذا ماتا، ولم يُدْرَ أماتا معاً أم تقدم موتُ أحدهما على موت الثاني، فلا توارث بينهما، وذلك بأن يموتا في غريق، أو حريق، أو تحت هدم، أو يُقتلا في معركة، أو يموتا في بلادِ غُربة، ويستبهم الأمر في موتهما.
__________
(1) ر. المختصر: 3/139.(9/26)
وهذا فيه إذا أيسنا من درك حقيقة الحال، ولو علمنا تقدُّم موت أحدهما، ولكن أشكل علينا المتقدّم على وجهٍ لا يمكن فرضُ الإحاطة به، فالأمر كما وصفناه، في أنا لا نورّث ميتاً من ميت.
وقد ذكرنا فيه إذا تيقنا السبق، وأشكل علينا السابقُ في نكاحين على امرأة، وفي جُمعتين في بلدةٍ - قولين، ولا ينتظم في الميراث القولان.
والفرق أن فسخ النكاح ممكنٌ إذا تعذر إمضاؤه، وتعارضت الحجج في الخصومات، وأمر الناس بإقامة الظهر لا تعذر فيه، إذا صحت جُمعةٌ، لا بعينها.
وإذا أيسنا من درك السابق، وتميزه عن المسبوق في الميتين، فلا سبيل إلى وقف الميراث أبداً.
وكان شيخي يتردد في صورة في الموت، وهي إذا سبق أحد الموتين، وتعيّن السابق، ثم أشكل إشكالاً، لا يتوقع دركُه. وهذه صورة يُقْطَع فيها بصحة جمعة، وصحة نكاح.
والرأي أن اللَّبس مهما تحقق في الموتين أولاً وآخراً، فلا نورّث ميتاً من ميت، بل نقول في كل ميت: ننظر إلى من خلّفه من الأحياء، ونجعل كأن ذلك الميت الآخر، لم يكن أصلاً.
6213- وقال عمرُ، وابنُ مسعود، وبعضُ أهل الكوفة: نورث الموتى بعضهم من بعض.
ثم إذا عمي موتُ رجلين، فإنما يرث أحدهما من تليد مال صاحبه، دون الطريف، والمراد بالطريف الذي ورث هو منه (1) .
__________
(1) هذا على قول عمر وابن مسعود.(9/27)
مثاله: أن يغرق رجل مع زَوْجةٍ، وابنٍ لهما، وخلّف الرجل من الأحياء امرأةً أخرى، وبنتاً، وخلّفت أم الابن -وهي الزوجة- أخاً، وخلّف الابن ابناً.
فعلى قول زيد، نقول: مات الرجل عن:
بنت، وزوجة، وابن ابن:
فللبنت النصف، و [للزوجة] (1) الثمن، والباقي لابن الابن، والفريضة من ثمانية.
وماتت [المرأة] (2) عن:
أخٍ، وابنِ ابن.
فيسقط الأخ، والمال لابن الابن.
ومات الابن عن ابن
فماله له.
6214- وعلى قول عمر، وابن مسعود: مات الرجل الغريق عن:
امرأتين، وابنٍ، وبنت، وابن ابن.
فللمرأتين الثمن، والباقي بين الابن والبنت، للذكر مثل حظ الأنثيين، ويسقط ابن الابن. فينكسر سهمٌ بين المرأتين، وسبعة أسهم بين الابن والبنت، وهما في التقدير ثلاثة؛ فإن الذكر باثنين، ففي المسألة كسران: اثنان، وثلاثة: نضرب اثنين في ثلاثة فتصير ستة، ثم نضرب الستة في أصل المسألة، كما سيأتي ذلك، إن شاء الله تعالى في أبواب تصحيح الكسُور، فصار المبلغ ثمانية وأربعين، للمرأتين ستة، وللابن ثمانية وعشرون، وللبنت أربعة عشرَ.
__________
(1) في الأصل: وللمرأة.
(2) في الأصل: الأم.(9/28)
ثم يقسم نصيب [المرأة] (1) الغريقة، وهو ثلاثة على أحياء ورثتها، دون من غرق معها، ووارثها من الأحياء: ابنُ ابنها، ويسقط أخوها.
ونصيب الابن الغريق لابنه.
وأمَّا تليد مال الأم، فهو مقسوم بين ورثتها الأحياء والأموات. فنقول: ماتت عن:
زوج، وابن، وابن ابن، وأخ.
فيسقط ابن الابن، والأخ، فللزوج الربع، والباقي للابن.
والفريضة من أربعة، فيقسّم نصيب الأب (2) ، وهو سهم على الأحياء من ورثته، وهم:
زوجة، وبنت، وابن ابن.
وفريضته من ثمانية، ولا ينقسم سهم على ثمانية، فنقدِّر الثمانية كسراً، ونضربها في أصل فريضة الأم وهو أربعة فتصير اثنين وثلاثين، نصيب الأب وهو الزوج منها ثمانية، بين ورثته الأحياء والباقي نصيب الابن، فيصرف ذلك إلى وارثه الحي، وهو ابنه.
وأما تليد مال الابن، فبين ورثته الأموات والأحياء، فنقول: خلّف: أبوين، وابناً.
فللأبوين السدسان، والباقي للابن، فنصيب [لأب] (3) . وهو سهم بين ورثته الأحياء، وهم امرأة، وبنت، وابن ابن، وفريضته من ثمانية، ولا [ينقسم] (4) سهم بين ثمانية، فنضرب ثمانية في فريضة الابن، وهو ستة فتُرد
__________
(1) في الأصل: الأم. وهي ساقطة من جميع النسخ. والمثبت اختيار منا.
(2) في النسخ الثلاث غير الأصل: الابن.
(3) في الأصل: الابن.
(4) في الأصل: يستقيم.(9/29)
ثمانية وأربعين، نصيب الأب ثمانية بين ورثته الأحياء، ونصيب الأم لوارثها الحي، وهو ابن ابنها.
قال أصحابنا: توريث الميت من الميت يجرّ محالاً في بعض الصور. فإذا أعتق الرجل عبداً وأعتق رجلٌ آخر أخاً لذلك المعتَق، وعمي موتُ المعتَقَيْن الأخوين، وخلّف أحدهما ألف دينار، ولم يخلّف الثاني، فمن يورّث ميتاً من ميت يورّث الذي لا شيء له من أخيه جميعَ ماله، ثم يصير منه إلى معتقه، فيحصل في يدي من مات معتَقُه عن لا شيء ألفُ دينار (1) ، ولا يصل في يد من مات معتِقُه عن ألف دينار شيء.
والذي أراه أنه إذا تحقق وقوع الموتين معاً، فيبعد توريث أحدهما من الآخر؛ فإن الميت لا يرث، فلعل الخلاف فيه إذا سبق موتُ أحدهما، وأشكل الأمر. والعلم عند الله تعالى.
فصل
قال: " كل هؤلاء لا يرثون، ولا يحجبون ... إلى آخره " (2) .
6215- لما ذكر الشافعي الأسباب الثلاثة الحاجبة: اختلافَ الدين، والرقّ، والقتل، قال: من لا يرث بوصفٍ من هذه الأوصاف، لا يَحجُب، ولا أثر له أصلاً، لا في الحجب الكلّي، ولا في الحجب البعضي.
وعن ابن مسعود أنه لا يَحْجُبُ حجبَ الحرمان، ويحجب حجب النقصان: فإذا مات رجل عن ابنٍ كافر، وامرأةٍ مسلمة، وابن ابن مسلم، أو عن أبٍ مسلمٍ، فالابن الكافر لا يحجب ابن الابن، ولكن تُحجب المرأة عنده من الربع إلى الثمن. وقال: إنه لا يحجب الأب من العصوبة إلى الفرض.
__________
(1) وذلك عندما يرثه بالولاء، كما هو مفهوم.
(2) ر. المختصر: 3/139.(9/30)
واختلفت الرواية عنه في أنه هل يحجب أولاد الأم، والإخوةُ الكفار يحجبون الأم من الثلث إلى السدس.
فصل
قال الشافعي: " لا ترث الإخوة والأخوات من الأم، لا مع الأب، ولا مع الجد ... إلى آخره " (1) .
6216- افتتح الكلام في طرفٍ من الحجب بالأشخاص، على ترتيب الوارثين، والوارثات، على مذهب زيد، و [نصل] (2) به تقاسيمَ تُفيد الضبطَ، ثم نرجع إلى ترتيب (السَّواد) (3) . فنقول:
6217- الحجب ينقسم إلى الحجب بالأوصاف، وإلى الحجب بالأشخاص.
فأما الحجب بالأوصاف، فقد تقدم القول في الأوصاف الحاجبة وبان أنها ثلاثة: اختلاف الدين، إسلاماً وكفراً، والرق، والقتل.
6218- وأما الحجب بالأشخاص، فينقسم إلى حجب الحرمان، وإلى حجب النقصان.
فأما حجب النقصان، فمن فرضٍ إلى فرض، وهو في حق الأم: من الثلث إلى السّدس، وذلك يحصل بالولد، وولد الابن، وباثنين من الإخوة والأخوات، فصاعداً. ثم الإخوة يحجبونها من الثلث إلى السدس، وإن كانوا محجوبين بالأب.
__________
(1) ر. المختصر: 3/139.
(2) في الأصل: وفصَلَ.
(3) السواد: المراد به مختصر المزني، كما أشرنا مراراً.(9/31)
هذا مذهب زيد، فإذا كان في الفريضة:
أبوان، فللأم الثلث، والباقي للأب.
ولو كان فيها: أبوان، وأخوان.
فالأخوان محجوبان، وهما يردّان الأمَّ من الثلث إلى السدس، فلها السدس والباقي للأب.
ومن حَجْبِ النقصان ردُّ الزوج من النصف إلى الربع، وردُّ الزوجة من الربع إلى الثمن، وذلك يحصل بالولد، وولد الابن.
وقد يلتحق ردُّ الأب من العصوبة إلى الفرض بقسم النقصان.
6219- فأما حجب الحرمان، فنذكره على ترتيب الوارثين، والوارثات، فنقول: أما الابن، فلا يحجبه عن الميراث أحد.
وابن الابن لا يحجبه إلا الابنُ. والقريبُ من ذكور الأحفاد يحجب البعيدَ.
والأب لا يحجبه عن الميراث شخص.
والجد أب الأب لا يحجبه أحدٌ إلا الأبُ، وإذا ترتب الأجداد، فالقريب يحجب البعيد.
والأخ من الأب والأم يحجبه الابن، وابن الابن، وإن سفل، والأبُ.
والأخ من الأب يحجبه الابن، وابن الابن، والأب، والأخ من الأب والأم.
والأخ من الأم يحجبه الابن، وابن الابن، والبنت، وبنت الابن، والأب، والجد.
وابن الأخ من الأب والأم يحجبه: الابن، وابن الابن، والأب، والجد، والأخ من الأب والأم، والأخ من الأب.(9/32)
وابن الأخ من الأب يحجبه هؤلاء، وابنُ الأخ من الأب والأم.
والعم من الأب والأم يحجبه هؤلاء وابن الأخ من الأب.
والعم من الأب يحجبه هؤلاء والعم من الأب والأم.
وابن العم من الأب والأم يحجبه هؤلاء، والعم من الأب.
وابن العم من الأب يحجبه هؤلاء وابن العم من الأب والأم.
والزوج لا يحجبه عن أصل الميراث أحد.
والمولى المعتِق لا يرث مع عصبة نسب، ولا يرث إن [استغرقت] (1) الفرائض التركة. فإن لم تكن عصبة من نسب، ولا ذو فريضة، استغرق التركة. فإن أفضلت الفرائض، استحق الفاضل.
وسيأتي بابٌ في المولى والإرثِ بالولاء.
6220- فأما الوارثات، فالبنت لا تحجب عن أصل الميراث.
وبنت الابن يحجبها الابن، وبنتان في الصلب، إذا لم يكن معها في درجتها أو أسفل منها غلام يعصبها.
والأم لا يحجبها عن أصل الميراث شخص.
والجدة أم الأم لا يحجبها إلاّ الأم.
والجدّة أم الأب يحجبها الأم، والأب.
والقول في القربى والبعدى من الجدات يأتي، إن شاء الله تعالى.
والأخت من الأب والأم يحجبها الابن، وابن الابن، والأب.
والأخت من الأب يحجبها الابن، وابن الابن، والأب، والأخ من الأب
والأم، وأختان من الأب والأم، إذا لم يكن معها أخ [من الأب] (2) يعصبها.
__________
(1) في الأصل: استغرق.
(2) زيادة من غير نسخة الأصل.(9/33)
والأخت من الأم يحجبها من يحجب الأخ من الأم.
والزوجة لا تحجب عن أصل الميراث.
والمولاةُ المعتِقة كالمولى المعتِق.
فهذه جملٌ في الحجب على رأي زيد بن ثابت.
وفي بعض ما ذكرناه خلاف سنشرحه في مسائل الكتاب، إن شاء الله عز وجل.
6221- فنعود إلى ما ذكره الشافعي قال رضي الله عنه: " لا يرث الإخوة والأخوات من قبل الأم، مع الجد، وإن علا، ولا مع الأب ".
وقد قدمنا أن ولد الأم يحجبه الابنُ، وابنُ الابن، والبنتُ، وبنتُ الابن، والأبُ والجدّ.
وقال عبد الله بن عباس: أولاد الأم يرثون مع الأب والجد، وإنما يسقطون بالولد وولد الابن.
6222- وإنّما نشأ هذا الخلاف من الاختلاف في الكلالة، فإنه عز من قائل، قال: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 12] فما ذهب إليه زيدٌ وجماهير العلماء: أن الكلالة من لا ولد له ولا والد، وذهب ابن عباس أنّ الكلالة من لا ولد له، وإن كان له والد.
واختلف في اشتقاق الكلالة، وفي المسمى بها، فقيل: المسمى بها الميت، وقيل المسمّى بها الورثة.
وأمَّا الاشتقاق، فمنهم من قال: هو من قولهم: كَلَّ [سيف] (1) فلان، إذا ذهب طرفاه، وبقي الجوانب، والحواشي، وهذا يظهر إذا حملنا الكلالة على الميت، الذي لا أب له، ولا ولد.
__________
(1) في الأصل: نسب.(9/34)
وقيل الكلالة الورثةُ، سموا بذلك لأنهم كالإكليل للميت، والإكليل يحيط بجوانب الرأس وأعلاهُ مقوّر، فإذا كان الورثة كالإكليل، سمُّوا كلالة.
وتعلق ابن عباس بقوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ} [النساء: 176] فأوضح الله تعالى معنى الكلالة، وفسرها بمن لا ولد له.
وقد قال معظم الصحابة رضي الله عنهم: المراد بقوله تعالى {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 76] ، ليس له ولد ولا والد، فوقع الاقتصار على أحد الطرفين، والدليل عليه أنه تعالى أثبت للأخت النصف، والإجماع منعقدٌ على أن الأخت لا ترث النصف مع الأب. وكان عمر متوقفاً في تفسير الكلالة، ولما راجع رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسيرها قال صلى الله عليه وسلم: "يكفيك آية الصّيف"، أراد قولة تعالى: {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176] .
وهذه الآية نزلت في الصيف.
وقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً} [النساء: 12] نزلت في الشتاء. وكان عمر لا يتبين حتى قد قرأ هذه الآية، وفيها {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176] فقال عمر: هذا لمن بيَّنَتْ له، فأما عمر، فلم يتبين.
فصل
قال الشافعي:" لا يرث مع الأب أبواه، ولا مع الأم جدة ... إلى اَخره " (1) .
6223- أما قوله: لا يرث مع الأب أبواه، ولا مع الأم جدة، فالمراد أن أب الميت يحجب أب نفسه، وهو جد الميت، ويحجب أم نفسه وهي جدة الميت؛
__________
(1) ر. المختصر: 3/139.(9/35)
من جهة الأب. وإذا حجب الجدَّ الأدنى، حجب من فوقه، وكدلك القولُ في الجدات البعيدة المدليات به.
وقال ابن مسعود: أمُّ الأب ترث مع الأب، ووافق أن أب الأب لا يرث، وتعلق ابن مسعود بما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ورّث جدّة وابنها حي " وفي رواية " ورّث أمّ حسكة، وابنها حي " (1) وهي أول جدّة ورثت في الإسلام. وحمل علماؤنا ما رواه على العم. وقالوا: ورّث الجدة، وابنها الذي هو عم الميت حي. والله أعلم.
6224- وأمّا قول الشافعي، ولا مع الأم جدة، فالمراد أن الأم تحجب الجدة المدلية بها، والجدة المدلية بالأب.
وسنذكر هذا في فصول الجدات.
ولو كان في المسألة:
أم أب، وأم أم، وأب.
فلو لم يكن الأب، لكان السدس بين الجدتين، والأب حجب الجدة التي هي أمُّه، وفي الجدة التي هي أم الأم وجهان لأصحابنا: أحدهما - أنها تستحق السدس بكماله؛ فإنها منفردة بالاستحقاق.
والثاني - أنها لا تستحق إلا نصف السدس، والجدة من الأب وإن سقطت،
__________
(1) حديث توريث الجدة وابنها حي، وفي بعض الروايات أم حسكة، وأنها أول جدة ورثت في الإسلام أخرجه من عدة طرق سعيد بن منصور في سننه (حديث رقم 99، 102، 103، 104، 105-110) وابن أبي شيبة (حديث رقم 11351) وانظر المحلى (9/279 وما بعدها) ، حسكة هو: حسكة الحنظلي، صحابي، لم نجد له ترجمة إلا في الإصابة، قال الحافظ: " كان من عمال خالد بن الوليد على بعض نواحي الحيرة في خلافة أبي بكر، وتقدم غير مرة أنهم كانوا لا يؤمرون إذ ذاك إلا الصحابة " (ر. الإصابة 1/328) . أمّا أم حسكة فلم نصل لترجمتها في أي من المصادر التي رجعنا إليها.(9/36)
فبقي أثر مزاحمتها؛ فإنها لم تسقط بالجدة من قبل الأم. وهذا بمثابة حجب الإخوة المحجوبين بالأب الأمَّ من الثلث إلى السدس. وسيأتي مجموع ذلك في فصول الجدات، إن شاء الله تعالى.
***(9/37)
باب المورايث
6225- ذكر الشافعي في هذا الباب الفرائض الست، وأبان مستحِقَّ كل فريضة، ونحن ذكرنا فيما تقدم الجُمَل والمعاقد، والآن نتبع النصوص، وترتيب (السواد) (1) ، ونذكر ما فيها من مشاهير الخلاف.
وقد ذكر الشافعي في أول الباب فرضَ الزوجين، وليس فيهما خلاف،
ولا حاجة إلى مزيد بيان، مع نص القرآن.
فصل.
قال: " وللأم الثلث ... إلى آخره " (2) .
6226- فنقول: إن كان للميت ولدٌ أو ولد ابن، فللأم السدس، بلا خلاف، وكذلك إذا كان للميت ثلاثة من الإخوة، والأخوات، فللأم السدس.
وإن كان للميت اثنان من الإخوة والأخوات فمذهب زيد وجماهير الصحابة رضي الله عنهم أن للأم السدس. [وقال] (3) ابن عباس: لا ترجع الأم إلى السدس باثنين من الإخوة، وقيل: ناظَر ابنُ عباس عثمانَ، وتمسك بظاهر قوله
__________
(1) في الأصل: الشواذ. وهو تحريف عجيب مع أن الكلمة مرت آنفاً.
(2) المختصر: 3/140.
(3) في الأصل: فقال.(9/38)
تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] وقال محتجاً: ليس الأخوان إخوة في لسان قومك. فقال عثمان: " إن قومك حجبوها يا غلام " (1) ، وأشار بهذا إلى مخالفته ما كان العلماء عليه قبل إظهار مذهبه.
ثم مقتضى اللسان التساهل في إطلاق لفظ الجمع على الاثنين، وصحّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الاثنان فما فوقهما جماعة " (2) ، وتبيّن في أصول الفرائض نزول الاثنين منزلة الجماعة من ذلك الجنس، كالأخوات يستحققن الثلثين، وللأختين الثلثان أيضاً، ولثلاثة فصاعداً من أولاد الأم الثلث، ولاثنين منهم الثلث.
6227- ومما خالف فيه ابن عباس ما استثناه من الفريضتين، وهما:
زوج وأبوان.
وزوجة وأبوان.
قد ذكرنا أن للأم فيهما ثلث ما تبقى بعد فرض الزوج، وخالف ابن عباسٍ
__________
(1) أثر ابن عباس في مناظرة عثمان رضي الله عنهما، رواه البيهقي (6/227) ، والحاكم (4/335) وصححه، ووافقه الذهبي. قال الحافظ: " وفيه نظر، فإن فيه شعبة مولى ابن عباس، وقد ضعفه النسائي " ر. التلخيص (3/186ح 1410) . هذا وليس في الحديث العبارة التي ذكرها الإمام عن عثمان وإنما فيه قول عثمان رضي الله عنه: " لا أستطيع أن أرد ما كان قبلي ومضى في الأمصار وتوارث به الناس ".
(2) حديث: " الاثنان فما فوقهما جماعة " رواه ابن ماجة: كتاب الصلوات، باب الاثنان جماعة، ح 972، وابن أبي شيبة (2/531) ، والدارقطني (1/280) ، والحاكم (4/334) ، والبيهقي (3/69) كلهم من حديث أبي موسى الأشعري. وله طرق أخرى عن أنس وأبي أمامة والحكم بن عمير وعبد الله بن عمرو، وكلها ضعيفة كما في التلخيص وخلاصة البدر المنير والإرواء، لكن يشهد لمعناه حديث مالك بن الحويرث " فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما " الذي أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الأذان، باب اثنان فما فوقهما جماعة، ح 658، ر. التلخيصص: (3/177 ح 1395) ، الخلاصة: (2/131 ح1734) ، الإرواء: (2/248 ح 489) .(9/39)
فيهما، فأثبت للأم في الفريضتين الثلثَ الكاملَ.
ومعتمدُ المذهب أن أصل الفرائض أنه إذا اجتمع ذكرٌ وأنثى في درجةٍ واحدة، فالذكر يفضل الأنثى، وإدْلاءُ الأبوين جميعاً بالميت من جهة الأبوّة، وقد ثبت أنهما إذا اجتمعا، فللأم الثلث، والباقي للأب، وتبين ما اختص الأب به من البسطة والقوة في الميراث؛ فإنه يجتمع له الفرض والتعصيب في الفريضة الواحدة، ويثبت له حق الإرث بكل واحدةٍ من الجهتين، فلو قلنا في مسألة:
زوج وأبوين:
للأم ثلث جميع المال، لكانت آخذةً مثلَيْ ما يأخذ الأب. وهذا خلاف موضوع الفرائض.
وكذلك إذا ثبت أن الأب ينبغي أن يفضل الأمَّ، فيلزم منه أن يفضلها على النسبة التي ذكرناها، وذلك يحصل بقولنا: للأم بعد الربع ثلث ما تبقَّى، والباقي للأب، وإذا قلنا: للأم ثلث جميع المال، والباقي للأب، ففيه تفضيلٌ للأب، ولكن ليس التفضيل على النسبة المطلوبة.
وهذا الذي ذكرناه من تفضيل الذكر على الأنثى يدخل عليه تسويتُنا بين الذكر والأنثى في الأخ والأخت من الأم.
ويدخل عليه تسويتنا بين الأب والأم إذا كانا يأخذان بالفرض، حيث يكون في الفريضة معهما ابن، فإنا نقول: للأبوين السّدسان، والباقي للابن.
فهذا منتهى ما ذكر في ذلك.
6228- والأَوْلى في المسائل التي انفرد فيها ابن عباس بالخلاف التمسكُ بما ذكره عثمان في المسألة الأولى من هذا الفصل؛ فإن ابن عباس أظهر الخلاف بعد سبق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم إلى الاتفاق، ومفرداته مأخوذة من مسألةٍ في الأصول وهي أن الإجماع هل يشترط فيه انقراض أهل(9/40)
العصر، حتى يقال: لا يقع الحكم بالإجماع إذا نشأ في العصر مخالفٌ قبل انقراض أهله؟ وقد ذكرنا أن المختار ألا يشترط انقراض أهل العصر (1) .
فصل
قال: " وللابنة الو احدة النصف ... إلى آخره " (2) .
6229- نستفتح الكلامَ في ميراث الأولاد والبنين. ونحن نقول أولاً: انعقد الإجماع على أن الابن الواحد يحوز المال إذا انفرد، وليس لهذا ذكر في الكتاب والسنّة. وقال بعض أصحابنا: الإجماع انعقد عن شرع من قبلنا، وقد نقول (3) : إن شرع من قبلنا شرع لنا، إذا لم يرد في شرعنا ما يخالفه، ووجه التمسّك بشرع من قبلنا أن الله تعالى أخبر عنه، فقال: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النمل: 16] .
وهذا مدخولٌ من وجهين: أحدهما - أنا نقطع في مسالك الأصول بأنا لا نتمسك بشرع من قبلنا (4) ، والآخر أن قوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النمل: 16] كلام مستعار، والمراد به أنه قام مقامه في الملك، والنبوّة، ويشهد له قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ ... } الآيات [النمل: 16 وما بعدها] .
وتكلف بعض الأصحاب في هذا وجهاً آخر، فقالوا: قد ثبت أن الابن والبنت إذا اجتمعا، فالمال عند اجتماعهما مصروف إليهما على نسبة من التفاضل، فللابن ضعف ما للبنت حالة الاجتماع، فليكن للابن حالة الانفراد
__________
(1) راجع هذه المسألة في كتاب (البرهان في أصول الفقه لإمام الحرمين: فقرة 640، 641) .
(2) ر. المختصر: 3/140.
(3) (ت 2) : " وقد تقرر في الأصول أن شرع من قبلنا شرع لنا ". وراجع رأي الإمام في هذه القضية في كتابه (البرهان) الفقرات: 411-416.
(4) (ت 2) : أنا لا نقطع في مسالك الأصول بأنا نتمسك.(9/41)
ضعف ما للبنت [المفردة] (1) ثم للبنت المنفردة النصف، فليكن للابن المنفرد
الجميع.
وهذا تكلف مستغنىً عنه؛ فإن من القواعد [المستفيضة] (2) أن الأخذ بالتعصيب يستغرق المال إن لم يزاحَم. وعلى هذا القياس يجري العصبات أجمعون، والابن أقوى العصبات، فإذا انفرد ولم يكن ذو فرض، ولا وجه إلا أن يستغرق المال، فإن الابن الواحد يستغرق، والابنان يشتركان في الاستحقاق، وكذلك البنون.
فصل
قال: " وللبنت النصف، وللبنتين فصاعداً الثلثان ... إلى آخره " (3)
6230- أما الواحدة من البنات، فلها النصف بنصّ القرآن، قال الله تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11] .
وللبنتين فصاعداً الثلثان عندنا، وهو مذهب عامة الفقهاء، وادّعى بعض الفرضيين الإجماعَ فيه، وحكَوْا موافقةَ ابن عباس.
ورُوي عنه أنه كان يقول: للبنتين النصف، وللثلاث فصاعداً الثلثان، محتجاً بظاهر قوله تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11] .
ونحن نقول: قد حصل الوفاق على أن للأختين الثلثان، قال عزّ من قائل: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} [النساء: 176] فإذا ثبت ذلك في الأختين مع
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) ر. المختصر: 3/140.(9/42)
بُعد درجة الأخوات، فالبنات مع قرب الدرجات بذلك أولى، [ثم] (1) قد روي أن عثمان ابن مظعون (2) مات وخلف زوجةً، وبنتين، وأخاه قدامةَ بنَ مظعون، فرفع قدامةُ جميع المال، فجاءت المرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إن أخاك عثمان مات، وخلفني وبنتين، وأخاه قدامة، وإنه رفع جميعَ المال، فقال صلى الله عليه وسلم: " لك الثمن ولبنتيك الثلثان، والباقي للاخ " (3) .
فصل
قال: " فإذا استكمل البنات الثلثين ... إلى آخره " (4) .
6231- إذا خلّف الرجل بنتاً، وبنت ابن، فللبنت النصف ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين.
ولو كان في المسألة بنتٌ واحدة في الصلب، وجماعةٌ من بنات الابن، فللابنة النصف ولبنات الابن السّدس، يشتركن فيه إذا لم يكن في الفريضة معصِّب. وعن هزيل بن شرحبيل أنه قال: أتيت سليمان بن ربيعة، وأبا موسى الأشعري، وسألتهما عن:
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) المشهور والمروي فيما رأيناه من كتب السنة أن الواقعة كانت مع زوجة سعد بن الربيع وليس عثمان بن مظعون وفي رواية عند أبي داود أنها في ابنتي ثابت بن قيس، وقال أبو داود: وهو خطأ. (ر. أبو داود، ح 2891، التلخيص: ح 1399) .
(3) حديث: " لك الثمن ولبنتيك الثلثان والباقي للأخ " رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة والحاكم وهو في ابنتي سعد بن الربيع كما أشرنا آنفاً (ر. أبو داود: الفرائض باب ما جاء في ميراث الصلب ح 2891، الترمذي: الفرائض باب ما جاء في ميراث البنات، ح2092، ابن ماجة: الفرائض باب فرائض الصلب، ح2720، أحمد: 3/352، الحاكم: 4/332، 333، التلخيص: 3/181 ح1399) .
(4) ر. المختصر: 3/140.(9/43)
بنت، وبنت ابن، وأخت.
فقال: للبنت النصف، والباقي للأخت، ثم قال أبو موسى: ائت عبدَ الله بنَ مسعود، فاسأله؛ فإنه سيتابعُنا، فأتيته وسألته، وأخبرته بما قال أبو موسى، فقال عبد الله: قد ضللت إذاً، وما أنا من المهتدين، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " للبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين، والباقي للأخت " (1) . قال هزيل: فرجعت إليهما، فأخبرتهما بما قال ابنُ مسعود، فقال أبو موسى: لا تسألوني عن شيء، وهذا الحبر بين أظهركم.
وقد تمسك الأصحاب بهذه الصورة على ابن عباس فيه إذا كان في الفريضة بنتان، فقالوا: إذا كنا نصرف إلى بنت واحدة فى الصلب، وإلى بنت ابن واحدة الثلثين (2) ، فالبنتان في الصلب بالثلثين أولى.
ولو كان في المسألة:
بنت واحدة، في الصلب، وبنت ابن، أو بناتُ ابن، وغلامٌ من الأحفاد دونهن في الدرجة.
__________
(1) هزيل بن شرحبيل الأزدي الكوفي، مختلف في صحبته، ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من التابعين، وذكره ابن حجر في الإصابة في القسم الثالث، وذكره أبو موسى في الذيل (ر. الإصابة، تهذيب التهذيب) .
وحديثه رواه البخاري مختصراً: الفرائض، باب ميراث ابنة ابنٍ مع ابنةٍ، ح 6736، وأبو داود: الفرائض، باب ما جاء في ميراث الصلب، ح 2890، والترمذي: الفرائض، باب ما جاء في ميراث بنت الابن مع بنت الصلب، ح 2093، وابن ماجة: الفرائض، باب فرائض الصلب، ح 2721، والدارمي: ح2890، وأحمد (1/389، 440،428، 463) ، والبيهقي في الكبرى (6/229) ، وفي الصغير (2/363 ح 2293) . (ر. التلخيص: 3/181ح 1400) .
(2) المراد مجموع المصروف إليهما (بنت صلبية مع بنت ابن) . والمعنى أنهم يحتجون بهذه
الصورة على ابن عباس رضي الله عنه في قوله: إن للثنتين من البنات النصف.(9/44)
فللبنت النصف، ولبنات الابن السدس تكملة الثلثين، والباقي للغلام المستقل.
ثم قال: " فإذا استكمل البنات الثلثين ... إلى آخره " (1) .
6232- الوجهُ أن نذكر مذهب زيد ومذهب الجمهور مجموعاً في الأولاد وأولاد الابن، حتى ينتظم الكلام، ثم نذكر خلاف من يخالف في آحاد المسائل، فنقول:
أولاد الصلب إذا تمحّضوا، نُظر: فإن كانوا ذكوراً، أوْ لم يوجد منهم إلا ذكرٌ واحد، فسبيل الاستحقاق استغراق التركة.
وإن كانوا ذكوراً، وإناثاً فللذكر مثل حظ الأنثيين.
وإن لم يكن في المسألة ذكورٌ، وكان فيها بنات الصلب، فللبنت الواحدة النصف، وللبناتِ إذا زدن على اثنتين الثلثان، و (2 للبنتين الثلثان 2) أيضاً.
ولا يصح عن ابن عباس الخلاف في ذلك، وروى بعضُ الفرضيين عنه الخلافَ كما قدمناه.
هذا في أولاد الصلب إذا تمحضوا ذكوراً، أو إناثاً، أو اختلطوا ذكوراً وإناثاً.
6233- فإذا لم يكن في الفريضة أحدٌ من أولاد الصلب، وكان فيها أولاد الابن، فيفصّل القول فيهم كتفصيل القول في أولاد الصلب إذا تمحضوا في الأحوال الثلاثة: ذكوراً أو إناثاً، أو مختلطين، فإنّ ابنَ الابن كالابن، وابن الابن مع بنت الابن، كالابن مع البنت.
__________
(1) كرر هذا القول للشافعي هنا مع أنه صدر به الفصل، وذلك تجدّيداً للعهد به، حيث طال الحديث عن حالات البنت الواحدة في الصلب، مع بنات الابن.
(2) ما بين القوسين ساقط من (د ا) ، (ت 3) .(9/45)
وإذا انفردت بنت ابن واحدة، فهي كبنتٍ واحدة في الصلب، وبنتا الابن فصاعداً، لا ذكر معهن، كبنتي الصلب فصاعداً.
6234- وإذا اجتمع في الفريضة أولاد الصلب، وأولاد الابن، نظر: فإن كان في الصلب ذكر، فأولاد الابن محجوبون به.
وإن لم يكن في الصلب ذكر، نُظر: فإن كان في الصلب بنت واحدة، فلها النصف. ثم ينظر في أولاد الابن، فإن كانوا ذكوراً، أو كانوا ذكوراً وإناثاً، فالباقي بعد النصف لأولاد الابن.
وإن كان في الصلب بنتٌ واحدة، ومعها بنت ابن أو بنات ابن، لا ذكر معهن في درجتهن، فالسدس لبنت الابن، أو بنات الابن تكملة الثلثين.
ولو كان في الصلب بنتان فصاعداً، فلهن الثلثان، ثم ينظر في أولاد الابن، فإن لم يكن فيهن ذكر، سقطن بعد استغراق الثلثين. وإن كان أولاد الابن ذكوراً، فالباقي لهم، وإن كانوا ذكوراً وإناثاً، فالباقي [بينهم] (1) للذكر مثل حظ الأنثيين.
والذكر مع الأنثى في هذه المنزلة يسمى الأخَ المبارك؛ فإن بنت الابن، كانت تسقط لولاه. وإنما ورثت بسببه.
ثم قال الأئمة: إذا كان في المسألة بنتا صلبٍ، وبنت ابن، وابن ابن [ابن] (2) فللبنتين الثلثان، والباقي بين بنت الابن، [وابن] (3) ابن الابن المتسفِّل في الدرجة: للذكر مثل حظ الأنثيين، فالذكر في درجتها يعصبها، والذكر المتسفِّل عنها يعصبها.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) سقطت من الأصل.
(3) في الأصل: وبين.(9/46)
ولو كان في الفريضة بنت واحدة في الصلب، وبنت ابن، وابن ابن ابن، فلبنت الصلب النصف، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين، والباقي لابن ابن الابن.
ولو كان الغلام في درجة بنت الابن، فكان في الفريضة بنت وبنت ابنٍ وابن ابن، فللبنت النصف، والباقي بين بنت الابن وابن الابن للذكر مثل حظ الأنثيين.
6235- والضابط في ذلك لمذهب زيد والجمهور: أنه إذا كان في الفريضة بنتا صلب، واستغرقتا الثلثين، فبنات الابن يسقطن إذا لم يكن معهن ذكر، ولا يستحققن إذا انفردن شيئاً، وإذا كان غلام معصِّب، ورثن بسبب تعصيبه، فحيث يرثن، [يرثن] (1) بسبب الغلام، ولولاه لسقطن، فالغلام يعصبهن إذا كان في درجتهن، ويُثبت إرثَهن، وكذلك لو تسفّل عنهن، عصّبهن.
ولو كانت بنات الابن يرثن دون غلام -وإنما يكون ذلك إذا كان في الصلب بنت واحدة- فإن كان الغلام في درجتهن عصّبهن، وإن كان أسفل منهن، لم يعصبهن، وثبت لهن فرضُهن، وهو السدس، المكمِّل للثلثين. ثم الباقي للغلام المتسفل، والسبب في ذلك أن الغلام إذا كان سببَ توريث بنات الابن، عصّبهن، وهو في درجتهن، فإذا كان أسفل منهن، فلا يمكن إسقاط الغلام؛ فإنه عصبة ذكر، ثم إذا لم يسقط الغلام، كيف تسقط بنت الابن القريبة، وقد ثبت أن الغلام يشاركها إذا كان مساوياً لها في الدرجة، فيستحيل أن ينفرد بالإرث
إذا بعُدت درجتُه.
فأمَّا إذا كان لبنت الابن فرض السدس، فالغلام في درجتها يعصّبها، كما يعصب الابنُ البنتَ، فإذا تسفل درجة الغلام، رددنا الأمرَ إلى القياس، فلبنت
__________
(1) زيادة من المحقق. إخالها سقطت من جميع النسخ.(9/47)
الابن فرضُها، والفاضل من الفرض للغلام المتسفّل.
6236- وإذا لم يكن في المسألة أولاد الصلب، وكان فيها درجات من أولاد البنين، فالدرجة العليا منهم بالإضافة إلى الدرجة التي تليها كدرجة أولاد الصلب مع أولاد الابن في كل تفصيل:
فلو كان في المسألة بنتا ابن، وبنت ابن ابن، فلبنتي الابن الثلثان، وتسقط بنت ابن الابن، فإن الثلثين صار مستغرقاً في الدرجة الأولى. فإن كان مع المتسفلة، أو أسفل منها غلام، عصّبها حينئذ. ولو كان في المسألة بنتٌ وبنت ابن، وبنت ابن ابن، فلبنت الصلب النصف، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين، وتسقط المتسفلة عن هذه الدرجة، إذا لم يكن معها معصب؛ فإن الثلثين صار مستغرقاً بالنصف والسدس.
هذا بيان القواعد.
ومهما سفلت واحدة من أولاد البنين بعد الثلثين، فلو تقدم عليها بالدرجة ذكر أسقطها، لا محالة، ولو قاربها أو تسفل عنها عصبها.
6237- وقال عبد الله بن مسعود: " إذا استكملت بناتُ الصلب الثلثين، فلا شيء لبنات الابن " (1) ؛ فإن كان معهن ذكر في درجتهن، أو أسفل منهن، فالباقي مصروفٌ إلى الذكر، وليس لبنات الابن شيء. قال: لأنهن لا يستحققن دون الغلام، فالغلام لا يُثبت لهن ميراثاً.
وعبّر عن هذا فقال: " ليس لإناث أولاد البنين [بعد الثلثين] (2) شيء ".
وقال عبد الله أيضاً: إذا كان في الصلب بنت واحدة، فلها النصف، ولبنات الابن لو انفردن السدس، فلو كان معهن ذكر يعصبهن، فلهن [الأضرُّ من السدس
__________
(1) أثر عبد الله بن مسعود رواه ابن أبي شيبة: 11/286، 287 ح 11446.
(2) ساقط من الأصل.(9/48)
أو المقاسمة، فإن كان السدس أضرَّ بهن، فالسدس لهن] (1) والباقي لابن الابن، وإلا فالمقاسمة.
6238- وطريق (2) إيضاح مذهبه أن نقول: إن لم يكن في الفريضة صاحب فرضٍ غيرُ الأولاد والأحفاد، اطرد في معرفة الأضر مسلك واحد، وهو أن نقول: إن كان عدد الذكور والإناث سواء بالرؤوس، لا بتقدير ذكر أنثيين [عدداً] (3) ، فالسدس، والمقاسمة سواء، وإن كان عدد الإناث أكثر، فالسدسُ شِرْكُهن (4) وأضرٌّ بهن، وإن كان عدد الذكور أكثر، فالمقاسمة شِركُهن.
وبيانه: بنت صلب، وبنت ابن، وابن ابن، فالاستواء محقق، فيستوي السدس والمقاسمة. والمسألة في تقدير المقاسمة من اثنين: لبنت الصلب النصف سهم واحد من اثنين والباقي لهما وهو سهم منكسر على ثلاثة؛ فإنا نقسمه للذكر مثل حظ الأنثيين، فنضرب ثلاثة في اثنين، فتصير ستة: لبنت الصلب منها ثلاثة، ولبنت الابن مما بقي الثلث وهو سهم واحد من ستة، وهو السدس بعينه.
ولو كان في المسألة ابنا ابن وبنت ابن، فالسدس خير لها. بيانه: بنت صلب، وابنا ابن، وبنت ابن. المسألة من اثنين في المقاسمة، وينكسر سهمٌ على خمسة، فنضرب الخمسة في اثنين [فتصير عشرة] (5) ، للبنت من العشرة خمسة، ولبنت الابن سهم واحد، فقد خصها بالمقاسمة عشر المال.
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(2) " طريق إيضاح مذهبه ": بمعنى الضابط أو المعيار.
(3) مزيدة من غير الأصل.
(4) شِرْكهن: بكسر المعجمة في أوله، وإسكان ثانيه: النصيب.
(5) زيادة من المحقق، حيث سقطت من جميع النسخ، وسوَّغَها لنا أن في الكلام حذفاً يحتاج
إلى إيضاح، فقد يخفى على بعض الشداة (المبتدئين) من أين جاءت (العَشَرة) .(9/49)
وإن كان في المسألة مع بنت الصلب بنتا ابن، وابن ابن فالمسألة من اثنين، فينكسر بينهم على أربعة، فنضرب أربعة في اثنين فترد ثمانية. للبنت منها أربعة، ولبنتي الابن سهمان، فقد خصهما بالمقاسمة ربعُ جميع المال، فهو خير لهما من السدس (1) .
6239- وهذا الاعتبار (2) كافٍ إذا لم يكن في المسألة صاحبُ فرضٍ غيرُهن، فإن كان في المسألة صاحبُ فرض، فلا يستقيم هذا الاعتبار.
وبيان اضطرابه أنه لو كان في المسالة زوج، وبنت صلب، وابن ابن، وبنت ابن، فالمسألة من أربعة: للزوج الربع سهمٌ، ولبنت الصلب سهمان. يبقى سهمٌ واحد لا ينقسم عليهما، فنضرب ثلاثة في أربعة، فللزوج ثلاثة من اثني عشر، والبنتُ ستة، يبقى ثلاثة: لبنت الابن سهم واحد؛ فقد خصها بالمقاسمة نصف السدس، مع الاستواء في [العدد] (3) ، فينبغي أن نأخذ في اعتبارٍ آخر.
6240- وقد أكثر الفرضيون في ذلك.
ونحن نرتاد من جملة ما ذكروه طريقين: إحداهما - أن نقول: إذا أردت أن تعرف هل في المسألة خلاف مع عبد الله رضي الله عنه، فأعط بنتَ الصلب ومن معها من ذوي الفروض فروضَهم، ثم انظر: فإن كان الباقي من المال سدساً، أو أقلَّ، فلا خلاف ولا وجه إلا المقاسمة.
وإن كان الباقي أكثر من السدس، فاعزل منه السدس، وخذ نصف الباقي، وانسبه إلى السدس، وانسب عددَ بني الابن إلى عدد بنات الابن، فإن كانت نسبة
__________
(1) هنا أيضاً إيجازٌ في الكلام، بيانه أن يزاد هنا: " ولكن لهما الأضرُّ، ولذا لا يصرف لهما الربع الذي حصل بالمقاسمة، بل يردّان إلى السدس ".
(2) " هذا الاعتبار " إشارة إلى ضابط مذهب ابن مسعود الذي فرغ من شرحه توّاً. والذي بدأه بقوله آنفاً: " وطريق إيضاح مذهبه أن نقول ... ".
(3) في الأصل: " القدر ".(9/50)
عدد بني الابن بالرؤوس إلى عدد بنات الابن مثل نسبة نصف الباقي إلى السدس، أو أكثر فلا خلاف، ولا وجه إلا المقاسمة. وإن كانت نسبة الذكور إلى الإناث أقل من تلك النسبة، فهي مسألة الخلاف مع ابن مسعود، فإنه يثبت السدس للإناث، وغيرُه يثبتون المقاسمة.
ونُوضح الطريقةَ بثلانة أمثلة: المثال الأول - بنت، وابنا ابن، وبنتا ابن، وجدة. فللجدة السدس، وللبنت النصف، ويبقى من المال الثلث، فنعزل منه السدس، فيبقى منه السدس، فننسب نصفه إلى السدس، ثم ننسب عدد الذكور إلى الإناث باعتبار الرؤوس، فنرى الذكور مثل الإناث، فهذه النسبة أكثر من نسبة نصف السدس إلى السدس، فلا خلاف إذاً، والمقاسمة أضرُّ.
ولو فرضنا بنتاً وجدة، وابن ابن، وبنتي ابن، فنحط النصف والسدس، كما تقدم، فيبقى الثلث، ونعزل منه السدس، وننسب نصفَ ما بقي إلى السدس، فيقع نصفَه، ثم ننسب الذكر إلى الإناث، فيقعُ نصفَ الإناث، فقد استوت النسبتان، فلا خلاف.
وإن كان في المسألة ثلاثُ بنات ابن، وابن ابن، و [طردنا] (1) الطريقة، على النسق الذي ذكرناه، فتقع نسبة الذكر إلى الإناث أقلَّ من نسبة [نصف] (2) الباقي إلى السدس المعزول، فهو صورة الخلاف؛ فإن السدسَ أضرُّ بالإناث من المقاسمة.
والطريقة كما تجري مع الفرض تجري من غير فرض، غيرَ أنها من غير فرض تطّرد على استواء. ويختلف عدد الذكور والإناث، فإذا كان في المسألة بنت وابنا ابن وبنتا ابن فنعطي البنت نصفها، ونعزل من النصف الباقي السدس، ثم ننسب نصف ما بقي بعد السدس إلى السدس، والباقي بعد السدس ثلث ونصفه
__________
(1) في الأصل: واطرد.
(2) ساقطة من الأصل.(9/51)
سدس، فهو مثل السدس المعزول، ونسبة رؤوس الذكور إلى الإناث بالمثل أيضاً، فقد استوت النسبتان، فلا خلاف. ولا يعسر طرد الطريقة في الصور كلِّها مع فرضٍ، ومن غير فرضٍ.
6241- الطريقة الثانية في استخراج الأضرّ، والتنصيص على صورة الخلاف والوفاق - فنقول: إن كان في الصلب بنتان فصاعداً، واجتمع في أولاد الابن ذكورٌ وإناث، فهي مسألة خلاف، لا محالة. وكذلك إذا استُغرِق الثلثان بالنصف والسدس تكملة الثلثين، ووقع الكلام في درجة متسفِّلة، وفيها ذكور وإناث، فهي صورة الخلاف.
وإن كان في الصلب بنتٌ واحدة وفي الدرجة الأولى من أولاد الابن ذكور وإناث، فابن مسعودٍ يعتبر الأضرَّ، وسبيل طلبه سواء كان في المسألة صاحب فرض سوى الأولاد، أو لم يكن أن نقول: يُدفع إلى البنت وذوي الفروض فروضهم، إن كانوا، ثم [نضرب] (1) ما تبقى من سهام المسألة في عدد بنات الابن، ونحفظ مبلغه، ثم نضرب سدس جميع المال في عدد الإناث، وضعف عدد الذكور من أولاد الابن، فما بلغ نقابله بالمبلغ الأول، فإن كان مثله، فالقسمة والسدس سواء، وإن اختلفا، فانظر: فإن كان مضروب باقي السهام في عدد الإناث أقلَّ، فالقسمة أضرّ بهن، فلا خلاف في المسألة. وإن كان مضروب السدس في عدد الإناث، وضعف عدد الذكور أقلّ، فالسدس أضرُّ بهن، وفيها خلاف.
ومثاله: امرأة (2) ، وبنت، وأربعة بني ابن، وثمان بنات ابن. المسألة من أربعة وعشرين، للمرأة الثمن ثلاثة، وللبنت النصف اثنا عشر، والباقي تسعةُ أسهم، نضربها في عدد بنات الابن، وهم ثمان، فتبلغ اثنين وسبعين،
__________
(1) في الأصل: " يصرف " وهو تصحيف واضح.
(2) امرأة: أي زوجة.(9/52)
فنحفظها، ثم نضرب سدس أصل المسألة وهي أربعة في عدد الإناث، وضعف عدد الذكور وذلك ستة عشر، فيبلغ أربعة وستين، وهو أقل من اثنين وسبعين، فالسدس أضر، فالمسألة خلافية.
فعلى أصل الجمهور للمرأة الثمن، وللبنت النصف، والباقي بين أولاد الابن للذكر مثل حظ الأنثيين. وعلى أصل ابن مسعود للمرأة الثمن، وللبنت النصف، ولبنات الابن السدس تكملة الثلثين، والباقي لبني الابن.
ولو كان عدد بني الابن خمسة، فباقي المسألة على ما ذكرنا، فنضرب سدس المسألة، وهو أربعة في عدد الإناث، وضعف عدد الذكور، وذلك ثمانية عشر، فصار المبلغ اثنين وسبعين، مثل المبلغ الأول. واستوى السدس والقسمة، وزال موضع الخلاف.
ولو كان عدد بني الابن فيها ستة، وضربنا سدس أصل المسالة في عدد
الإناث، وضعف عدد الذكور، وذلك عشرون، صار المبلغ ثمانين، وهي أكثر من المبلغ الأول الذي هو اثنان وسبعون، فالقسمة أضر، وزال الخلاف.
6242- وذكر القفال طريقةً أخرى في استخراج الأضر، وبيان صور الوفاق والخلاف، وهي مطردة مع الفروض ومن غير فرض، فقال: نصحح الفريضة، ثم ننظر فيما يخص بنات الابن في المقاسمة، ونقرب ذلك في مخرج السدس، ثم نقابل بين ذلك المبلغ، وبين المبلغ الذي صحت الفريضة منه، فإن استوى المبلغان، استوت المقاسمة والسدس، وزال الخلاف، وإن كان مبلغُ الضرب في مخرج السدس أقلَّ من الفريضة المصححة، فالسدس خير، والقسمة أضرُّ، ولا خلاف.
وإن كان مبلغ الضرب في مخرج السدس أكثرَ من الفريضة المصححة، فالسدس شرٌّ لهن، ويقوم الخلاف.
والطريقة ممتحنة مُطردة.(9/53)
ونحن نضرب لها مثالاً، ونردّده، فنقول:
زوج، وبنت صلب، وبنت ابن، وابن ابن. فالمسألة من أربعة: للزوج الربع سهمٌ، ولبنت الصلب النصفُ سهمان. والباقي وهو سهم ينكسر على ثلاثة، فنضرب ثلاثة في أربعة [تصير] (1) اثني عشر. للبنت ستة، وللزوج ثلاثة. ومن الباقي للبنت سهم واحد فنضربه في مخرج السدس فتصير ستة، فنقابل بين هذا المبلغ وبين الفريضة المصححة، فإذاً الفريضة اثنا عشر فالمقاسمة شرٌّ من السدس، ولا خلاف.
ولا يعسر ترديد الصور بالزيادة في عدد الذكور والإناث.
فصل
6243- اعلم أن الناظر في علم الفرائض يحتاج إلى العلم بالفتاوى، والأحكام، وإلى العلم بالأنساب، وإلى المهارة في الحساب، وإلى اتباع ألفاظ الفرضيين.
أما الفتاوى؛ فهي الأصل، وأما الأنساب، فقد تشتبه في صور الوقائع ويجرّ الزلل فيها خبطاً عظيماً، وينشأ من الأنساب المتشابهة مسائلُ من المعاياة (2) .
وأما الحساب، فهو ركن لا ينكر مسيس الحاجة إليه في القسمة، وتصحيح المسائل. وأما الألفاظ، فلا بد منها، فإذا كان في الفريضة زوج [وعم] (3) فمن خُرْق المفتي أن يقول: للزوج النصف وللعم النصف -وإن كان هذا سديداً في
__________
(1) غير مقروءة في الأصل.
(2) المعاياة: مفاعلة من الجانبين، من عايا فلانٌ صاحبَه ألقى عليه كلاماً، لا يهتدي لوجهه (المعجم) والمعني الإلغاز بالمسائل، وتبادل مُعْوِصاتها، وشائع على ألسنة الفقهاء: " إياك، ومسائل المعاياة فإنها صعبة المعاناة ".
(3) في جميع النسخ: (عصبة) .(9/54)
المعنى- لأن العصبة لا يعبّر عن حصته بمقدارٍ، والسبب فيه أن السامع قد يعتقده مُقَدّراً كفرض الزوج. ثم ذاك لا ثبات له، وهو يتغير بتغير الصور، فالعصبة الذي يأخذ نصفاً، يأخذ في صورة أخرى ثلثاً، أو ثلثين على ما نفصل من الفرائض.
وقيل: سأل الحجاجُ الشعبيَّ عمّن خلّف بنتاً، وأباً، فقال الشعبي للبنت النصف والباقي للأب، فقال الحجاج: أصبت في المعنى وأخطأت في العبارة، هلا قلت: للأب السدس، والباقي له بالتعصيب.
والغرضُ من هذا أن الأنساب قد تشتبه في أولاد الابن، فلا بدّ من التعرّض لهُ.
6244- ونحن نذكر منشأ الاشتباه، وطريقَ التفصيل. وإن تعدينا حدّ الاختصار في مثل ذلك، فالعذر واضح. ومثل هذا المجموع لا يختص بالأذكياء، بل حقه أن يشترك فيه المبتدىء والمنتهي.
6245- فإن قيل: ثلاث بنات ابن بعضهن أسفل من بعض، فنقول: هن بنت ابن، وبنت ابن ابن، وبنت ابن ابن ابن. فالفتوى أن نقول: لبنت الابن النصف، ولبنت ابن الابن السدس تكملة الثلثين، ولا شيء لبنت ابن ابن الابن، إلا أن يكون معها في درجتها، أو أسفل منها غلام فيعصّبها. هذا مذهب الجمهور. والتصحيح بالحساب بيّن.
وأما النّسب، فنقول: يحتمل أن تكون العليا عمة الوسطى، ويحتمل أن تكون بنت عم أبيها. أمّا تصوير كونها عمة الوسطى، فنقول: كان لرجل ابن، ولابنه [ابن] (1) وبنت، ولابن ابنه بنت. فالعليا وهي بنت الابن أخت أب الوسطى؛ فتكون عمةٌ لها.
__________
(1) سقطت من الأصل.(9/55)
وأمّا قولنا: يحتمل أن تكون العليا ابنة عم أبيها، فتصوير ذلك أن يكون لرجل ابنان: زيد وعمرو، ولزيد بنتٌ، ولعمرو ابن، ولابنه بنت، فبنت زيد تكون بنت عم أبي الوسطى، لأن زيداً عمُّ أبيها، فهذه بنت عم أبيها.
والسبب الذي يوجب الاختلاف في القرابات بين الدرجات أنا قد نصوّر للميت ابناً واحداً، ونصوّر لذلك الابن أحفاداً، ونرتب منهم: عليا، ووسطى، وسفلى. والأبُ واحدٌ جامع، فيتضمن هذا الجنس الأول من القرابة.
ويتصوّر للميت [ابنان] (1) ، ثم لأحدهما بنتٌ هي العُليا، وللآخر ابن، وله بنت، وهي الوسطى، فتقع القرابة على وجهٍ آخر لا محالة.
6246- وإذا قيل لنا: ما القرابة بين السفلى، والوسطى؟ قلنا: يحتمل أن تكون عمة السفلى، بأن كان لرجل ابن ابن، وله بنت وابنٌ، ولذلك الابن ابنة، فبنت ابن الابن تكون أخت أبيه.
ويحتمل أن تكون ابنة عم أب السفلى: بأن كان [رجل يسمى زيداً] (2) ، وله بنت ابن ابن تسمى فاطمة، بنت خالد، بن بكر، بن زيد. ولزيد ابن آخر يسمى [عمراً] (3) ، ولعمرو بنت تسمى عائشة، فعائشة بنت ابنه، وفاطمة بنت ابن ابنه، فتكون عائشة بنت عم أب فاطمة؛ لأن عمراً عمُّ خالد، وهو أب فاطمة.
ويحتمل أن تكون الوسطى بنت ابن عم جد السفلى، بأن كان لرجل يسمى محمداً ابنٌ يسمى زيداً، وله بنت ابن ابن، تسمى فاطمة، بنت خالد، بن بكر، بن زيد، بن محمد. ولمحمد ابن آخر يسمى عمراً، ولعمرو بنت ابنٍ، تسمى عائشة، بنت جعفر، بن عمرو، بن محمد، فعائشة بنت ابن عم جد
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في الأصل، (ت 3) ، (د ا) : " لرجل ابن يسمى زيداً " والمثبت من (ت 2) . ولا فرق في المعنى، ولكن في هذه اختصار درجة لسهولة التصور.
(3) سقط من الأصل.(9/56)
فاطمة، لأن عمراً عم جدّها، وعائشة بنت ابن عمرو.
6247- وأما العليا من السفلى، يحتمل أن تكون عمة أب السفلى، وذلك بأن يكون لرجلٍ ابنٌ هو زيد، وله [ابن يقال له: بكر و] (1) بنت تسمى عائشة، ولابن ابنه بنتُ ابن تسمى فاطمة، بنت خالد، بن بكر، بن زيد، وعائشة أخت بكر، فتكون عمة خالد.
ويحتمل أن تكون العليا بنت عم جد السفلى، بأن كان للميت سوى ابنه زيد ابنٌ آخر يسمى جعفراً، ولجعفر بنتٌ هي العليا، فبنت جعفر تقع من السفلى التي صورناها من زيد بنت عم جدّها.
وهذا التفاوت سببه ما ذكرناه من تصوير ابنٍ واحد، وتشعيب أحفاده تارةً، ومن تصوير ابنين، وأخذ العليا من أحدهما، وتصوير الدرجة الأخرى من الآخر.
ومن تنبه لما ذكرناه، هان عليه الدَرْك بالفكر.
6248- وإذْ (2) قلنا: بنتا الابن في الدرجة العليا، فإن كانتا من ابن واحد للميت، [فهما أختان من أبٍ لا محالة] (3) ، فإن كانت أمُّهما واحدة، فأختان من أبٍ وأم، فإذا كان أحدهما غلاماً، فنقول: إنه يعصب أخته.
6249- ولو فرضنا بنتي ابنين للميت، فهما في الميراث كبنتي ابن واحد للميت، ويكون كل واحد منهما بنت عم الأخرى. فإذا كان أحد الحفيدين ذكراً، والدّرجة واحدة يقال: عصب بنت عمه.
وإذا فرضنا تعصيب الغلام المتسفّل لمن فوقه، فيتصوّر تعصيبٌ مع قرابة أبْعد
__________
(1) ما بين المعقفين سقط من الأصل.
(2) في باقي النسخ: وإذا.
(3) عبارة الأصل: فهما أختان وكانتا من أب لا محالة.(9/57)
مما ذكرنا، فإذا نظر الناظر إلى ما بين الغلام المعصّب، والجارية المعصَّبة، فقد يكون أحدهما من ذوات الأرحام إذا نسب إلى الآخر، ولكن التعصيب ليس يقع بما بينهما من القرابة، وإنما يقع بانتسابهما جميعاً إلى الميت بالبنوة، وهي شاملة لهما.
6250- وإذا قلنا: أخُ الميت يعصب أخته، فليس التعصيب لما بينهما من الأخوة، إنما يعصب أحدهما الآخر، لأنهما ولدا أب الميت، غيرَ أن الدرجة إذا انحطت فصورنا ابن أخٍ، وبنت أخ، فلا تعصيب؛ لأن بنت الاخ في نفسها من أرحام الميت، فلم ترثه، وإذا لم ترثه، لم تعصَّب، فإن قيل: ثلاث بنات ابن بعضهن أسفل من بعض، وثلاث بنات ابن [آخر] (1) بعضهن أسفل من بعض، فنقول: حصلت ابنتانِ في الدرجة العليا، ووسطيان، وسفليان، فللبنتين في الدرجة العليا الثلثان، ويسقط من دونهما، إلا أن نفرض غلاماً دون الدرجة العليا، فإن فرضناه في الدرجة الوسطى، فالباقي بعد الثلثين مصروف إلى أهل الدرجة الوسطى، للذكر مثل حظ الأنثيين، ويسقط من في الدرجة السفلى. وإن كان الغلام [في الدرجة السفلى] (2) ، فما بقي بعد الثلثين للوُسْطيَيْن، وللسفليَيْن، وللغلام: للذكر مثل حظ الأنثيين.
وأصل المسألة من ثلاثة، وتصح من ثمانية عشر.
وعلى هذا البابُ وقياسه.
6251- فإن قيل ثلاث بنات ابن بعضهن أسفل من بعض، مع كل واحدة أختُها، قلنا: إن كانت الأخت في الدرجة الأولى: لأب وأم، أو لأب، فهما بنتا ابنِ الميت، فنقول حصَل بنتا ابن، وكذلك القول في الوُسْطيين، والسفليين. وإن كانت الأخت للأم، فليست بوَارثة؛ لأنها ربيبة ابن الميت.
__________
(1) ساقطة من الأصل وحدها.
(2) في الأصل: " مع السفليين ". والمؤدى واحد.(9/58)
فإن قيل: بنت ابن معها بنت عمها، فنقول: إن كانت بنت عمها لأب وأم، أو لأبٍ، فهما بنتا ابن الميت، ولكن من ابنين.
وإن كانت بنت عمها لأم، فلا ترث، وتقع بنت [ربيب] (1) الميت لا محالة.
فإن قيل: ثلاث بنات ابن، بعضهن أسفل من بعض، مع كل واحدة منهن عمتها، فنقول: عمةُ العليا بنت الميت، وعمة الوسطى بنت ابن الميت، وكذلك القول فيمن بعدها. ولا معنى للتطويل.
والمراد بما ذكرناه العماتُ من قبل الأب.
ومن أحاط بالمسالك التي ذكرناها، وتدرّب في الفكر قليلاً، صار من المهرة في مضمون الفصل.
6252- وإن قيل: بنت ابن معها جدتها، فنستفسر، ونقول: هل هي أم الأب، أم هي أم الأم؟ فإن قالوا: أم الأم، فهي أمُّ زوجة ابن الميت. وإن قالوا: هي أم الأب استفسرنا، وقلنا: الميت رجل أو امرأة، فإن قالوا: رجل، فقد تكون زوجة الميت. وإن قالوا: امرأة، فلا تتصور هذه المسألة لأن الجدة هي الميتة بنفسها.
وفي القدر الذي ذكرناه مقنعٌ، ومزيد كشفٍ في التنبيه على المآخذ.
وطرقُ الأصحاب قد تحوي صوراً مرسلة من غير تنبيه على المآخذ.
6253- ولو قيل: ثلاث بنات ابن، بعضُهن أسفلُ من بعض، (2 وثلاث بنات ابن ابن، بعضهن أسفل من البعض، وثلاث بنات ابن ابن ابن، بعضهن أسفل من البعض 2) ، فنقول: هي بنت ابن، وبنتا ابن ابن، ثلاث بنات ابن ابن
__________
(1) في الأصل: (ابنت) بهذا الرسم. وهو تحريف واضح، حيث صارت (الراء) ألفاً.
(2) ما بين القوسين ساقط من جميع النسخ ما عدا الأصل.(9/59)
ابن [وبنتا ابن ابن ابن ابن، وبنت ابن ابن ابن ابن ابن، (1) ، بعضهن أسفل من البعض، فإنهن درجات مترتبات، وفي كل درجة بناتُ ابن مترتبات، فيقع في الدّرجة العليا واحدة، ويقع في الدرجة الأخرى الوسطى من العليا، والعليا من الوسطى، ويقع في الدرجة الأخرى السفلى من العليا والوسطى من الوسطى، والعليا من السفلى، ويقع في درجة أخرى السفلى [من الوسطى، والوسطى من السفلى، ويقع في درجة أخرى السفلى] (2) من السفلى.
ولا يخفى بيان المواريث والفتاوى فيها.
فصل
قال: " وبنو الإخوة لا يحجبون الأمَّ عن الثلث ... إلى آخره " (3) .
6254- بنُو الإخوة يفارقون الإخوة في أمور: منها - أن الإخوة يحجبون الأم من الثلث إلى السدس، وبنوهم لا يحجبونها.
ومنها - أن الإخوة يقاسمون الجدّ عند زيد ومعظم الصحابة، وبنوهم يسقطون بالجد.
والإخوة يعصبون أخواتهم إذا كانوا من أبٍ وأم، أو من أب. وبنُو الإخوة لا يعصبون أخواتهم؛ لأن بنات الأخ لا يرثن.
والإخوة للأب والأم مشاركون الإخوة من الأم في المشرّكة، كما سياتي [في باب المشتركة] (4) -إن شاء الله تعالى-. وبنو الإخوة لا يشاركون أولاد الأم.
ولا خفاء بشيء مما ذكرناه.
__________
(1) ما بين المعقفين سقط من الأصل.
(2) سقط من الأصل ما بين المعقفين.
(3) ر. المختصر: 3/142.
(3) ساقط من الأصل.(9/60)
ولكن لا بُدّ من إقامة مواسم الفرضيين، واتباع عباراتهم.
ثم قال (1) : " ولو أخذ الإخوة والأخوات من قبل الأم السدسَ، وهذا لا إشكال فيه، ولا خلاف، فللواحد من أولاد الأم السدس، ذكراً كان أو أنثى.
وللبنتين فصاعداً الثلث، يستوي فيه الذّكور والإناث ".
وهذا غريب في الفرائض فإنا كما نفضل الذكر على الأنثى في التعصيب، نفضل الذكر على الأنثى في الفرض، عند الاستواء في الجهة، وطريق الإدلاء، فالأب يَفْضُل الأم إذا كان عصبة، والزوج يفضل الزوجة، ولكن لا يتصور اجتماعهما، والأم والأب يستويان مع الابن. فإن كان معهما بنت استويا في الفرض، وانفرد الأب بالعصوبة بعد الفرض، والأخ والأخت من الأم يستويان أبداً.
فصل
قال: " فإذا استوفى الأخوات للأبِ والأم الثلثين ... إلى آخره " (2) .
6255- الأخوات من الأب والأم مع الأخوات للأب، بمثابة بنات الصلب مع بنات الابن، في التفاصيل التي قدمناها، فلو كان في المسألة أخ من أب وأم، وأختٌ من أبٍ، سقطت الأخت بالأخ، كما تسقط بنت الابن بالابن.
ولو كان في المسالة أختان من أب وأم، وأختٌ من أبٍ، فللأختين من الأب والأم الثلثان، وتسقط الأخت من الأب، إلا أن يكون معها أخ من أبٍ يعصبها، وهو منها بمثابة ابن الابن مع بنت الابن، وفي المسألة بنتان من الصلب.
ولو كان في المسالة أخت واحدة من الأب والأم، وأخت، أو أخواتٌ من
__________
(1) " ثم قال ": القائل هو الشافعي في المختصر. نفس الموضع السابق.
(2) ر. المختصر: 3/142.(9/61)
الأب، فللأخت من الأب والأم النصفُ، وللأخت أو الأخوات من الأب السدس، تكملةَ الثلثين، وهن ينزلن مع الأخت للأب والأم منزلة بنات الابن مع بنت الصلب.
ولو كان معهن أخٌ من أبٍ، فالباقي بعد نصيب الأخت من الأب والأم للذكر مثل حظ الأنثيين.
6256- ولا فرق بين هذا الباب وبين بنات الصلب وبنات الابن، إلا في أمرين يرجعان إلى الصورة، فبنات الابن وإن سفلن يرثن؛ فإنهن لا يخرجن عن حكم الأولاد، وقد ثبت توريثهن أحفاداً، ولا فرق بين مرتبة ومرتبة، والأخوات من الأب لا يتصوّر فرض تسفّلهن، ولو أردنا إقامة الأولاد (1) مقام الأصُولِ، كان ذلك ممتنعاً؛ فإنّ الأولاد ليسُوا إخوة، ففي فرض التسفل الخروجُ عن الجنس.
[والأمر] (2) الثاني: أنه لا يعصّب أولاد الأب إلا الأخ من أب، أو البنات (3) على تفاصيل ستأتي فيهن -إن شاء الله عز وجل- وأولاد البنين قد يجري فيهم تعصيب العمات وبنات الأعمام، وكل ذلك يجري على [افتراق] (4) البابين في التصوير. (5 وابن مسعود يخالف في أولاد الأب، في محالّ مخالفته في أولاد الابن، فيسقط أولاد الأب بعد استغراق الثلثين، ويعطيهنّ الأضرَّ. كما تقدم 5) .
__________
(1) المراد أولاد الإخوة.
(2) في الأصل: والوجه.
(3) سيأتي أن الأخوات الشقيقات أو لأب، يعصبهن الفرع الوارث المؤنث: البنت، بنت الابن.
(4) في الأصل: انفراق.
(5) ما بين القوسين سقط من جميع النسخ، ما عدا الأصل.(9/62)
ثم قال: " والإخوة والأخوات للأب بمنزلة الإخوة والأخوات للأب والأم ... إلى آخره " (1) .
6257- الإخوة والأخوات للأب إذا ورثوا، وخلت الفريضة من أولاد الأب والأم، بمنزلة أولاد الأب والأم؛ فإنهم يقاسمون الجدّ، ويردون الأم إلى السدس، ويحوز الذكر منهم جميعَ المال، وللأنثى النصف، وللأختين فصاعداً الثلثان، وإذا اجتمعوا، فللذكر مثل حظ الأنثيين، فهم بمثابة أولاد الابن إذا لم يكن في الفريضة أولاد الصلب.
والأخ من الأب يفارق الأخَ من الأب والأم، في مسألةِ المشتركة، فإن الأخ من الأب والأم يشارك أولاد الأم في فرضهم، لمشاركته إياهم في قرابتهم. والأخ من الأب لا يشاركهم؛ لأنه ليس يشاركهم في قرابتهم على ما سيأتي ذلك، إن شاء الله تعالى (2) .
فصل
قال: " وللأخوات مع البنات ما بقي ... إلى آخره " (3) .
6258- الأخوات من الأب والأم، والأخوات من الأب مع البنات، وبنات الابن عصبة، عند الجمهور، فتُنزل الأختَ من الأب والأم، والأختَ من الأب، مع البنت منزلة الأخ على قرابتها.
فإذا كان في الفريضة بنتان وأخت من أب وأم، فللبنتين الثلثان، والباقي للأخت.
__________
(1) ر. المختصر: 3/143.
(2) زادت هنا جميع النسخ -ما عدا الأصل- ما سبق أن سقط منها عن مذهب ابن مسعود، فقد استدركته هنا، وجعلته بنصه السابق ختام الفصل، (انظر التعليق الذي سبق آنفاً) .
(3) ر. المختصر: 3/143.(9/63)
وكذلك لو كانت أختاًَ من أب.
ولو كان مع البنت أخت من أب وأم، وأخت من أب، فللبنت النصف، والباقي للأخت من الأب والأم، وتسقط الأخت من الأب؛ فإنّ الأُخوّة إذا ورَّثت بالعصوبة لم يشارك صاحبُ الأخوّة الواحدة (1) صاحبَ التعلّق بالأخوّتين.
والأختان فيما ذكرناه كالأخوين (2) .
ثم الأخ من الأب والأم يُسقط الأخ من الأب، فكذلك تَسقُطُ الأختُ من الأب بعصوبة الأخت من الأب والأم.
ولو كان في الفريضة بنت، وأخوات على أخوّة (3) واحدة، فللبنت فرضُها، والباقي للأخوات على رؤوسهن، كما لو كن إخوة.
والسبب فيما ذكرناه أنّه إذا كان في الفريضة بنتان فصاعداً، أو بنتا ابن وأخذن الثلثين، فلو كان معهن أخت، أو أختان، فإن أعطينا الأخوات بالفرض، وأعَلْنا المسألة، كان ذلك مؤدياً إلى حطِّ نصيب البنتين بالأخوات، والأخوات يرثن ببنوّة الأب، فبعُد على الصحابة رضي الله عنهم أن يزحموا الأولادَ بأولاد الأب، ولم يمكنهم أن يُسقطوا الأخوات، فرأَوْا أن يثبتوهن عصبات؛ حتى يدخل النقص عليهن دون البنات. وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سئل: عمن مات، وخلف بنتاً، وبنت ابن، وأختاً، فقال صلى الله عليه وسلم: " للبنت النصف، ولبنت الابن السدس، والباقي للأخت " (4) .
6259- وقال عبد الله بن عباس: ليست الأخت مع البنت، وبنت الابن
__________
(1) صاحب الأخوّة الواحدة: المراد به الأخوة من الأب.
(2) والأختان فيما ذكرناه كالأخوين، أي صار لكل منهما حكم الأخ، فالأخت من الأب والأم صارت في حكم الأخ الشقيق. وكذلك الأخت لأب صارت في حكم الأخ لأب.
(3) أخوّة واحدة: المراد درجة واحدة، بمعنى كلهن شقيقات، أو كلهن لأب.
(4) ورد هذا في حديث هزيل بن شرحبيل، وقد سبق تخريجه.(9/64)
عصبة. ثم مذهبه أن الفاضل من الأولاد وأولاد الابن، يُصرف إلى العصبة، وتسقط الأخت. هكذا نقله الفرضيون، والشيغ أبو بكر، ولم أر أثبت منه في نقل كل ما ينقل سيّما في كتاب الفرائض. واحتج ابن عباس بقوله تعالى: {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ} [النساء: 176] ، قال: ورثها الله تعالى بشرط ألا يكون للميت ولد.
وهذا الذي ذكره غير سديد؛ فإنّ توريثها النصف مشروط بألا يكون في الفريضة ولدٌ، ونحن لا نورّثها النصف، وإنما نورثها بالعصوبة المقدارَ الذي يفضل من الفرائض. وإذا تطرق احتمالٌ إلى ظاهر القرآن، ووجدنا سنةً ناصة، تعيّن اتباعُها. وقد رُوِّينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في فريضة فيها بنت، وبنت ابن، وأخت: " الباقي للأخت " [رواه] (1) هزيل بن شرحبيل عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومما يتعيّن التنبيه له أن ابن عباسٍ لا يقول بالعول، [وَبَعُد] (2) عليه تعصيب الأخت، ولم يرَ إدخالَ النقص على البنات، فلم يتجه إلا إسقاط الأخت.
6260- ومما نذكره على مذهب الجمهور أنا إذا جعلنا الأخت عصبة، طردنا حكمَ تعصّبها، وأسقطنا الأخت للأب بالأخت الواحدة من الأب والأم، وهذا يتضمن تنزيلَها منزلة الأخ.
ثم نقول: لو كان في الفريضة
بنت، وأخ، وأخت، من أب وأم، أو من أب
فالفاضل عن الفرائض بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين، ولا نقول: هي مع [الأخ] (3) بمثابة الأخ؛ لمعنيين: أحدُهما - أن الأخ أولى بتعصيبها من البنت؛
__________
(1) في الأصل: رواية. وحديث هزيل سبق تخريجه (انظر ص 44) .
(2) في الأصل وحدها: تعسر.
(3) في الأصل: الأخت.(9/65)
فإنّ تعصيب البنت للأخت [أتى] (1) عن ضرورةٍ، لأنا لم نتمكن من حطِّ نصيب الأولاد بالإعالة بسبب فرض الأخت، وعسر إسقاطها، ولا حاجة، فجرى ذلك مجرى الاضطرار، وتعصيب الأخ الأخت أصلٌ لا يناقضُ فيه في باب التعصيب، فهذا معنى.
والمعنى الثاني - أنّا لم نثبت التعصيب بين الذّكر والأنثى إلا لنُفضل الذكورَ على الإناث، حتى اتخذنا هذا مسلكاً في الفرائض، وقلنا في مسألة: زوج، وأبوين، وزوجة، وأبوين: لا نفضل الأم على الأب، ولا نعطيها الثلث الكامل، وطلبنا أن يكون الأب -وإن كان عصبة في الفريضتين- مفضلاً عليها بالضِّعف.
وإذا كان كذلك، فلا بد من تفضيل الأخ على الأخت إذا كان في الفريضة بنت أو بنت ابن.
6261- ومما نطردُه في حقيقة تعصيب الأخت مع البنت: أن الفرائض لو عالت، وفيها: بنتٌ، وأخت، فالأخت تسقط سقوط الأخ، فنقول في فريضة فيها:
زوج، وأم، وبنتان، وأختٌ:
الأختُ ساقطة؛ لأنها بمثابة الأخ مع البنات.
والأخت تقع عصبة مع الجد، ثم تستغرق الفرائض في الأكدرية (2) ، والقياس يقتضي سقوطَ الأخت، ولا يسقطها زيد رضي الله عنه، وستأتي تلك المسألة في باب الجد، إن شاء الله عز وجل.
__________
(1) زيادة من (ت 2) وحدها.
(2) الأكدرية: هذه مسألة من المسائل الملقبات. وستأتي بعدُ.(9/66)
6262- ومما يُطلقه الفرضيون في الإخوة والأخوات عبارات يتداولونها، وينوطون بها أحكاماًً، ونحن نذكرها اتباعاً، ومعظم تعويل الكتاب. على الاتباع.
فإن قيل: ثلاث أخوات متفرقات، قلنا: هن
أخت لأب وأم، وأختٌ لأب، وأختٌ لأم.
فللأخت للأب والأم النصف، وللأخت للأب السدس، تكملة الثلثين، وللأخت للأم السدس. والباقي للعصبة.
وإن قيل: ثلاثة إخوة متفرقين، قلنا: هم:
أخ لأب وأم، وأخ لأب، وأخ لأم.
فللأخ لأم السدس، والباقي للأخ للأب والأم.
فإن قيل: ثلاثة إخوة متفرقين، وثلاث أخوات متفرقات، قلنا: هم أخ، وأخت لأب وأم، وأخ وأخت لأب، وأخ وأخت لأم.
فللأخ والأخت من الأم الثلث، بينهما بالسّوية، والباقي للأخ والأخت من الأب والأم للذكر مثل حظ الأنثيين.
المسألة من ثلاثة وتصح من ثمانية عشر.
فإن قيل: ثلاث أخوات متفرقات، مع كل واحدة أختها لأبيها وأمها. قلنا: هنّ
أختان لأب وأم، وأختان لأب، وأختان لأم بالنسبة إلى المتوفى الموروث.
فإن قيل: مع كل واحدة أختها لأبيها. قلنا: هن
أخت لأب وأمّ، وثلاث أخوات لأبٍ. واحدة هي الأصليّة في الذِّكْر الأول،
وواحدةٌ هي التي معها، وواحدة هي التي مع الأخت من الأب والأم، وأختٌ لأم.(9/67)
فأمّا أخت الأخت للأم من الأب، فليست بوارثةٍ؛ لأنها ربيبة [أبيها] (1) .
فإن قيل: ثلاث أخواتٍ متفرقاتٍ، مع كل واحدة أختها لأمها. قلنا: هن أخت لأب وأم، وثلاث أخوات لأم، وأخت لأب.
فأمّا أخت الأخت للأب من الأم، فليست بوارثة، لأنها ربيبة أبيها.
فإن قيل: ثلاث أخوات متفرقات مع كل واحدة ثلاث أخوات متفرقات قلنا: هنّ
أختان لأبٍ وأمٍّ، وأربع أخوات لأبٍ، وأربع أخواتٍ لأمّ.
وعددهن ثنتا عشرة، والوارثات منهن هذه العشر؛ لأن أخت الأخت للأم من الأب لا تكون وارثة، وكذلك أخت الأخت للأبِ من الأم، لا تكون وارثة من الميت.
ثم لا ترث العشر أيضاً؛ فإنّ أخوات الأب يسقطن لاستغراق أولاد الأبِ
والأم الثلثين. ولكن ذلك حجبٌ، والغرض أن العَشْرَ من قبيل الوارثات.
فإن قيل: أختان لأبٍ، مع كل واحدةٍ منهما أختٌ لأبٍ وأم، قلنا: هن أربع أخوات لأبٍ في حق الموروث.
فإن قيل: مع كل واحدة منهما أختان لأبٍ، وأختان لأبٍ وأم، قلنا: هن ست أخوات لأب.
وعلى هذا البابُ وقياسُه.
__________
(1) في الأصل: ربيبة أم المتوفى، (ت 2) : ربيبة أمها، والمثبت من (د 1) ، (ت 3) .
والمعاني الثلاثة صحيحة، يظهر ذلك عند التأمل.(9/68)
فصل
قال: " وللأب مع الابن وولد الابن السدس ... إلى آخره " (1) .
6263- الأب يستغرق التركة إذا انفرد.
ويأخذ بالتعصيب المحض إذا لم يكن في الفريضة ولد، أو ولد ابن.
فإن كان فيها ولد أو ولد ابن، وإن سفل، فإن كان ذكراً، فللأب السدس لا غير، وإن كان أنثى، فلها فرضها، وللأب السدس بالفرض، والباقي بالتعصيب.
6264- وقد يجمع الشخص الواحد بين الفرض والتعصيب لسببين، كالذي يعتق جاريةً، ثم ينكحها، فإذا ماتت، ورثها بالزوجية بالفرض، وبالولاء بالتعصيب.
وكذلك إذا أعتقت عبداً، ونكحته.
وكذلك ابنُ عمٍّ إذا كان أخاً لأمّ؛ فإنه يأخذ بالفرض والتعصيب على ما سنذكر ذلك في آخر باب العصبات، إن شاء الله تعالى.
6265- ولكن كل ما ذكرناهُ توريثٌ بسببين، وجهتين لا امتزاج بينهما. والأب يُجمع له بين الفرض والتعصيب بسببٍ واحدٍ، وهو الأبوّة. وهذا حكمٌ بِدْعٌ، صار الأب به متميزاً عن جميع الورثة.
6266- فأما الجدّ، فله السدس مع الابن، وابن الابن، كما ذكرناه في الأب، وهذا متفق عليه.
ولو كان مع الجدّ بنت، أو بنت ابن، فمن يرى تنزيلَ الجد منزلةَ الأب في
__________
(1) ر. المختصر: 3/143.(9/69)
إسقاطِ الإخوة، يطلق لهُ اجتماعَ الفرض والتعصيب، كما ذكرناه في حق الأب.
ومن لا يسقط الإخوة بالجد من علماء الفرائض اختلفوا في أنا هل نثبت للجد الفرضَ والتعصيب تنزيلاً له منزلة الأب، فذهب طوائف من أصحابنا إلى أنه كالأب فيما ذكرناهُ، وهو الذي كان يقطع به شيخي.
وذهب طوائف من حذّاق الفرضيين إلى أنا لا نطلق ذلك في حق الجدّ، إذا لم يرد فيه ثَبَثٌ، وهو شُهر بكونه خاصية الأب، والجدُّ قصُر عن الأب في أمور سنصفها في باب الجد -إن شاء الله عز وجل- فينبغي أن يقصر عنه في خاصيته.
وهذا القائل يقول: في بنت، وجد، للبنت النصف، والباقي للجد، وإن ضاقت الفرائض، فلا بدّ من رد الجدّ إلى السدس، وإن كان عائلاً، وذلك مثل:
زوج، وبنت، وأم، وجدة.
فالمسألة من اثني عشر، وهي عائلة بنصف سدسها إلى ثلاثة عشر، وسيأتي الجلي والخفي من أحكام الجد في بابه، إن شاء الله عز وجل.
فصل
قال: " وللجدة والجدتين السدس ... إلى آخره " (1) .
6267- الأصل في الجدات السنة والإجماع، وليس للجدات فرضٌ في كتاب الله عز وجل. وروي: أن أم الأم جاءت إلى أبي بكرٍ تطلب الميراث، فقال لها: لا أجدكِ في كتاب الله تعالى، ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أشاور الناس، فجمع الصحابة رضي الله عنهم، واستشارهم في أمرها، فقام المغيرةُ بن شعبة، فقال: " أشهدُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) ر. المختصر: 3/143.(9/70)
أطعم الجدّةَ السدس ". وفي روايةٍ: " ورّث الجدةَ السدس ". فقال له الصديق: ومن يشهد معك؟ فقام محمد بن مسلمة وقال: " أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك "، فورثها السدس (1) .
وهذا الاستشهاد جرى من أبي بكرٍ؛ لأنه رأى ذلك أصلاً في الشريعة برأسه، ولم ير له (2) أصلاً ليقدّر ما كان [يشتور فيه] (3) فرعه.
وقد روي أن أبا موسى الأشعري أتى بابَ عمرَ، واستأذن، فدخل حَاجبُه
يرفأ، واستأذن له، فلم يأذن لأنه كان مشغولاً بأمرٍ من أمور بيت المالِ، ثم استأذن ثانياً، فدخل (4) ، فلم يأذن له، ثم ثالثاً، فلم يأذن له، فانصرف، فلما فرغ ممّا كان فيه، طلبه، فقيل له: انصرف، فقال: عليَّ به، فرُدَّ عليه فقال: ما الذي حملك على الانصراف، فقال: سمعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: " الاستئذان ثلاثة، فإن أُذن لك، وإلا، فانصرف " فقال عمر: ائتني بمن يشهد لك، وإلا أوجعتُ ظهرك، فجعل أبو موسى الأشعري يطوف على الأنصار، ويطلب من يشهد له، فقالوا له: لا يشهد لك إلا أصغرنا، وإنما عَنَوْا به أبا سعيدٍ الخدريّ، فجاء إلى عمر، وشهد بذلك، فقال له عمر: " ألا
__________
(1) حديث قَبيصة بن ذؤيب في خبر الجدة مع أبي بكر رواه مالك في الموطأ (2/513) ، وأحمد (4/225، 226) ، وأبو داود: الفرائض، باب في الجدة، ح 2894، والترمذي: الفرائض، باب ما جاء في ميراث الجدة، ح 2100، والنسائي في الكبرى: الفرائض، باب ذكر الجدات، ح 6339-6345، وابن ماجة: الفرائض، باب ميراث الجدة، ح2724، وابن حبان (5999) ، والحاكم (4/338) ، والبيهقي (6/234) ، قال الحافظ: وإسناده صحيح لثقة رجاله، إلا أن صورته مرسل، فإن قبيصة لا يصح له سماع من الصديق (ر. التلخيص:3/178 ح 1396، الخلاصة: 2/132، والإرواء: 6/124، ح1680) .
(2) كذا. والمعنى أنه رأى ميراث الجدة أصلاً قائماً برأسه، ولم يجد له نصاً يعتمده، ولا رآه فرعاً عن أصلٍ فيه نص.
(3) في الأصل: فمستور منه.
(4) أي الحاجب. ففي الكلام حذف تقديره: فدخل (الحاجب واستأذن) ، فلم يأذن له.(9/71)
إني لم أتهمك فيما رويت، لكني خشيتُ أني كلما راجعتُ أحداً في شيء يروي لي خبراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " (1) .
6268- وروي أن أم الأب جاءت إلى عمر بعد ذلك، وطلبت الميراث، فقال لها عمر: " لا أجدك في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا في قضاء أبي بكرٍ [شيء] (2) 0 السدُس لكما إن اجتمعتما، ولإحداكما إذا انفردت " (3) .
ثم الكلام في الجدات يتعلق بستة فصول: أحدها - في صفة الجدّة الوارثة، وصفة الجدة الساقطة. والثاني - في تنزيل الجدّات وترتيبهنّ مع الساقطات. والثالث - في مقدار ميراثهن، وكمّيته. والرابع - في حجب الجدّات، بعضهن بالبعض. والخامس- في حجبهن بغيرهن. والسادس- في بيان توريثهن من الوُجوه المختلفة.
الفصل الأول
في بيان الجدة الوارثة
6269- ذهب علي، وزيدٌ إلى أن كل جدة يدخل في نسبها إلى الميت ذكر بين أنثيين، فهي ساقطة، وكل جدّة لا يدخل في نسبها ذكر بين أنثيين، فهي ممن يرث.
__________
(1) حديث استئذان أبي موسى الأشعري على عمر رواه مسلم (الآداب، باب الاستئذان، ح 2153، والترمذي: أبواب الاستئذان والآداب، باب ما جاء في الاستئذان ثلاثاً، ح 2690) .
ووجه إيراد الإمام لقصة أبي موسى مع عمر لائحٌ، فهو وما روي من طلب أبي بكر شاهداً من المغيرة من باب واحد، رضي الله عنهم أجمعين.
(2) في الأصل: هي.
(3) حديث الجدة أم الأب مع عمر، جزء من حديث قبيصة بن ذؤيب في خبر الجدة مع أبي بكرفي الصفحة السابقة.(9/72)
وذهب ابن عباس إلى توريث الجدّات كلِّهن بالفرض، ولم يجعل فيهن جدة ساقطة. هذا مذهبه المشهور. وقال مالك (1) : لا يرث إلا جدّتان، وهما: أم الأم، وأم الأب، وأمهاتهما.
واختلف قولُ الشافعي، فأصح قوليه ما حكيناه عن علي وزيد، وضبط هذا القول أنَّ كلَّ جدة أدْلت بوارث، فهي وارثة، والمدلية بها وارثة.
والقولُ الثاني للشافعي - مثل مذهب مالك، وضبط هذا القول أن كل جدة تدلي بمحض الإناث، فهي وارثة، وكل جدة تدلي بذكَر فهي ساقطة، إلا أمّ الأب.
فأما الفصل الثاني
في تنزيل الجدات الوارثات، وبيان ما بان أنهن من الساقطات،
وذِكْر عددهن في كُلّ مرتبة
6270- والتفريعُ على مذهب علي وزيد، وعلى القول الصحيح للشافعي: فإذا سئلنا عن عدد من الجدات، نزلناهن على أقرب الرتب، وعلى هذا يجري [ترتيب] (2) السؤال، فإذا قيل: جدتان متحاذيتان في درجة، فقل: هما أم الأم، وأم الأب.
وإذا سئلت عن عدد من الجدّاتِ أكثر من اثنتين كلّهن يشتركن في الميراث،
فخذ لفظ السائل، وتلفظ بعدد ما ذكر السائل إناثاً من جانب الأم. وقل: العليا منهن هي الجدة الأولى، ولا يتصور من جانب الأم إلا وارثة واحدة؛ فإن القربى من جهتها تحجب البعدى. ثم عُد وتلفظ بمثل ذلك العدد إناثاً من جانب الأب
__________
(1) ر. جواهر الإكليل: 2/330، حاشية العدوي: 2/357، الفتح الرباني: 3/45.
(2) في الأصل: تقدير.(9/73)
إلا الأب، ثم اجعل العليا الجدة الثانية، ثم أبدل كل أنثى بذكر، حتى تستوعب العدد المسئول عنه.
6271- وبيان ذلك أنك إذا سئلت عن خمس جدّات وارثاتٍ على قول علي وزيدٍ، على أقرب ما يمكن، فتقول: هي من جانب الأم: أم أم أم أم الأم.
ومن جانب الأب: أم أم أم أم الأب.
والثالثة - أم أم أم أب الأب.
والرابعة - أم أم أب أب الأب.
والخامسة - أم أب أب أب الأب.
وإذا أردت تصويرهن برقوم فاجعل كل أنثى دائرة وبدل كل ذكر خطاً مثلَ الألف بهذه الصورة.
5 5 5 5 5
5 5 5 5 1
5 5 5 1 1
5 5 1 1 1
5 1 1 1 1
وعلى هذا، فقس ما تسأل عنه. من أعدَادِ الجدات المحاذيات على المذهب الذي ذكرناه.
6272- فإذا عرفت الوارثاتِ، ثم أردت أن تعرف من بإزاء الوارثاتِ من الساقطات، فانظر، فإن وقع السؤال عن جدتين وارثتين، فليس بإزائهما ساقطة (1) .
__________
(1) انظر الشكل الموضّح رقم (2) في آخر المجلد لتتبيّن هذه الصور، وغيرها من قضايا هذا
الفصل.(9/74)
وإن وقع عن أكثر من جدتين، فخذ عددَ ما وقع السؤال عنهن من الوارثات، وألقِ من جملتهن اثنتين أبداً، وضعّف الاثنين بقدر ما بقي من عدد الجداتِ الوارثاتِ بعد [إسقاطِ] (1) الاثنين، فما بلغ بعد التضعيف، فهو عدد ما في تلك الدرجة من الجدات الساقطات والوارثات، فأسقط منهن عدد الوارثاتِ، فما بقي منهن، فهن ساقطات، بإزاء الوارثات. ثم نصف العدد يقع من جانب الأم، ونصفه من جانب الأب. والوارثة من جانب الأم واحدة، وما بقي من عدد الوارثاتِ، فهن من قبل الأب.
ومثال ذلك في الخمس جدّات اللاتي ذكرناهن: [أن نلقي] (2) اثنتين من هذا العدد ونُبقي ثلاثة، فنضعف الاثنين ثلاث مرّاتٍ فنقول أربعة، وهو تضعيف، ثم تقول ثمانية، ثم تقول ستة عشر، هذا معنى تعديد التضعيف.
فنقول: الدرجة التي فيها خمس وارثاتٍ تشمل ستَّ عشرةَ جدة: الوارثات خمس، وإحدى عشرة ساقطة.
ونَصِّف الستةَ عشرَ. فنقول: من جانب الأم ثمان جدات: الوارثة واحدة، وسبعٌ ساقطات.
ومن جانب الأب ثمانية: أربع وارثات، وأربع ساقطات.
وإذا سئلت عن ثلاث جدات وارثاتٍ، فاعزل من الثلاث اثثين، فتبقى واحدة، وضعّف الاثنتين مرة، وقل: الجدات المتحاذيات أربع: واحدة ساقطة وثلاث وارثات. والساقطة من جانب الأم.
وإذا سئلت عن جدتين وارثتين، علمت أن لا ساقطة؛ فإنك لو عزلت اثنتين، لم تُبق عدداً تضعّف الاثنين به، ولا تضعيف، ولا مزيد على المسؤول.
__________
(1) في نسخة الأصل وحدها: حذف.
(2) في الأصل: فنلقي.(9/75)
وإن أردت أن تعرف الوارثات اللائي وقع السؤال عنهن، في أية درجة يقعن من الجداتِ؟ فخذ العدد المسؤول عنه، وانقص منه واحداً، واقض بأنهنّ في الدرجة التي هي سمَّى العددُ الباقي.
فإذا قيل: خمس وارثات في أي درجة يقعن على أقرب ما يمكن؟ حططنا من الخمسة واحدة، فتبقى أربع، فالخمس الوارثات في الدرجة الرابعة وإذا سئلت عن وارثتين، فأسقط من العدد واحداً، وقل: هما في الدرجة الأولى.
فهذا بيان ما أردناهُ في هذا الفصل.
الفصل الثالث
في مقدار ميراث الجداتِ
6273- أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم على أن فرضَ الجدة السدس، وشهد الحديثُ الذي ذكرناه في أصل ميراث الجدّات بذلك. ثم اتفقوا على أن الجدّات يشتركن في السدس بالغاً ما بلغن.
وروي عن ابن عباسٍ في روايةٍ شاذة أنه قال: الجدة من قبل الأم إذا انفردت بالإرث، كانت كالأم: حتى تأخذ الثلث تارةً، والسدس أخرى، كالأم، وهذا لا يعتدّ به، والرواية عنه مرسلة رواه إسرائيل عن أبي إسحاق عن رجل عن ابن عباسٍ (1) .
__________
(1) رواية إسرائيل عن أبي إسحاق عن رجل مذهب ابن عباس في ميراث الجدات، رواها ابن عبد البر في التمهيد والرواية هذه شاذة كما ذكر ابن عبد البر (الترتيب الفقهي للتمهيد 12/590) ، وابن المنذر في الإجماع، والقاضي عبد الوهاب في عيون المجالس (4/1924) ، وابن قدامة في المغني (7/52) .(9/76)
الفصل الرابع
في بيان حجب الجدات بعضهن ببعض
6274- أجمعوا على أن الجدتين المتحاذيتين لا تحجب إحداهما الأخرى، بل السدس بينهما.
وأجمعوا على أن القربى تحجب البعدى إذا دخلت القريبة [في جهة إدلاء] (1) البعيدة، فالبعيدة تسقط بالقريبة؛ فإن إدلاءها بها.
فأما إذا اختلفن في الدرج (2) ، ولم يدخل بعضهن في طريق البعض، فقد اختلف علماء الصحابة، فذهب علي، وابن عباسٍ، إلى أن القريبة تحجب البعيدة، سواء كانت القريبة من قبل الأم والبعيدة من جهة [الأب] (3) أو كانت القريبة من قبل الأب، والبعيدة من جهة الأم (4) .
وكذلك روى الشعبي (5) بطريقه عن زيد بن ثابت.
وروى عطاء وقتادة عن زيد أنه قال: " القريبة من جهة الأم تحجب البعيدة من قبل الأب، والقريبة من قبل الأب لا تحجبُ البعيدة من جهة الأم " (6) وقيل: هذه الرواية أصحُّ عن زيد.
__________
(1) سقط من الأصل.
(2) كذا. وهي صحيحة.
(3) في الأصل: الأم.
(4) انظر الشكل رقم (3) في أخر هذا المجلد.
(5) رواية الشعبي عن زيد بن ثابت أخرجها سعيد بن منصور في سننه، ح 92، وعبد الرزاق في مصنفه، ح19090،19089، والبيهقي في الكبرى (6/237) .
رواية قتادة أخرجها البيهقي في الكبرى (6/237) ، وعبد الرزاق في مصنفه، ح
19087، وأخرج البيهقي (6/237) ، وعبد الرزاق (19086،19085) ، وسعيد بن
منصور، ح 93، الأثر من طريق خارجة بن زيد أيضاً، أما رواية عطاء فلم نجدها.(9/77)
وكان شيخي يذكر للشافعي قولين في ذلك.
ونقول في ضبط محل الخلاف والوفاق: القُربى من كل جهة تحجب البعدى من تلك الجهة، والقربى من جهة الأم تحجب البعدى من جهة الأب. والقربى من جهة الأب هل تحجب البعدى من جهة الأم؟ فعلى قولين.
الفصل الخامس
في بيان حجب الجدات بغيرهن
6275- اتفق العلماء على أن الأم تحجب جميع الجدات، سواء كن من قبلها أم من قبل الأب، وأجمعوا أيضاً على أن الأب لا يحجب جدَّةً من قبل الأم، واختلفوا في حجب الجدات اللائي هن من قبله.
فذهب علي، وزيد، وابن عباس، إلى أنه يحجبهن؛ فإن إدلاءهن به. وهذا مذهب الشافعي.
وعن عمر وابن مسعود أن الأب لا يحجب جدّةً بحال، وذهب إليه جماعةٌ من الفرضيين: سليمان بن يسار، وسعيد بن المسيب، والحسن، وابن سيرين، وأحمد بن حنبل، وغيرهم.
الفصل السادس
في توريث الجدة من وجوهٍ كثيرة
6276- اعلم أن الجدّة قد تكون جدّة من وجهين، ومن ثلاثة أوجهٍ، وأكثر منها، غير أنها لا تصير جدّة من وجهين إلا بعد حصُولها جدة قبل ذلك من وجه واحدٍ، [ولا يتصور حصولها] (1) جدّة من ثلاثة أوجه إلا بعد حصولها قبل ذلك
__________
(1) في الأصل: لا تصير جدة....(9/78)
جدّة من وجهين. وعلى هذا القياس تزيد الوجوه.
مثاله [امرأة] (1) تزوج ابنُ ابنها، بنتَ ولدها (2) ، فأولدها ولداً صارت المرأة جدة لذلك الولد من وجهين.
فإن تزوج هذا الولد سبطاً آخر لهذه الجدة، وأولدها ولداً، صارت الجدة العليا جدّة لهذا الولد الآخر من ثلاثة أوجُه. ثم هكذا تتعدد الوجوه.
وقد تكون بعض الوجوه أقربَ من بعض، وقد تكون بعض الوجوه مورّثاً وبعضه غير مورث.
فإذا خلّف الميت جدّةً تُنسب إليه من وجوه مورِّثة؛ فإن كانت منفردة، فالسدس لها ولا تزيد.
وإن كان معها جدَّةٌ أخرى من وجهٍ واحد، أو من وجوه، فإن حجبت إحداهما الأخرى ببعض الوجوه، فالسدس للحاجبة.
وإن صحت الوجوه، فمذهب الشافعي ومالك والثوري أنه لا نظر إلى الوجوه، والنظرُ إلى رؤوس الجدّات، والسدس يقسم على الجدّتين، وإن كانت إحداهما متعلقة بجهة واحدة، والأخرى متعلقة بجهات.
وعن ابن مسعود أن المدلية بجهتين مع المدلية بجهةٍ تأخذ حصة جدّتين، وكذلك إذا زادت الجهاتُ المورّثةُ، فالسدس يقسّم عنده على الجهات، لا على الرؤوس (3) . هذا بيان ما يتعلق بالجدّات، والله أعلم.
***
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في غير نسخة الأصل: بنت ابنةٍ لها.
(3) انظر الشكل رقم (4) في آخر هذا المجلد.(9/79)
باب العصبات
6277- الأصل في الباب ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض فلأولى عصبةٍ ذكر " (1) . قيل: أراد بالأولى الأقرب، وهو من الوَلْي، والوَلْيُ القربُ.
ومن يأخذ بالتعصيب ينقسم إلى من هو عصبة في نفسه وإلى من [يعصِّبه] (2) غيرُه.
فأما من يعصبه غيرُه، فالبنات، وبنات الابن، والأخوات من الأب والأم،
والأخوات من الأب.
ومقصود الباب بيانُ الغصبات الذين يرثون بالتعصيب بأنفسهم، وذكر الأقرب منهم، فالأقرب وبيان ترتيبهم.
6278- ثم ذكر المزني أن أَوْلى العصبات البنون.
__________
(1) حديث " ألحقوا الفرائض " متفق عليه من رواية ابن عباس بلفظ " ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجلٍ ذكَرٍ " (اللؤلؤ والمرجان 2/159 ح1041) .
وعلق ابن الصلاح على لفظ (عصبة) في رواية الإمام قائلاً: " فيها بُعد عن الصحة من حيث اللغة، فضلاً عن الرواية، فإن العصبة في اللغة اسم للجمع لا للواحد " وقال الحافظ في التلخيص نقلاً عن ابن الجوزي، والمنذري: " إن هذه اللفظة لا تحفظ " (ر. مشكل الوسيط لابن الصلاح بهامش الوسيط: 4/346، التلخيص: 3/177 ح1394) .
(2) في الأصل: يعصب.(9/80)
ومن الفرضيين من لا يسمي الابن عصبة، ويقولون: العصبات هم الذين يقعون على حاشية عمود النسب.
ولا معنى للتناقش في هذا. وغرضنا بذكر العصبات بيان من يستغرق التركة إذا انفرد، وله ما أبقت الفرائض، والابن بهذه المثابة، وهو كما قال المزني أَوْلَى العصبات؛ إذ لا يتصور معه عصبة، فإن فرض معه غيرُه من العصبات، فالابن يسقطه، ويحجبه، أو يردّه إلى الفرض.
فأمّا من يرده إلى الفرض، فالأب والجد، وأما من يحجبه، فباقي العصبات، فهو الأوْلى إذاً.
وبعده ابنُ الابن كيف تسفّلوا. والمقدّم الأقرب منهم، فالأقرب، ولا عصبة مع البنين، وذكور الأحفاد، وإن تسفلوا.
6279- ثم أولى العصبات بعدهم الأبُ، ولا يتصور معه عصبة بعد الذين ذكرناهم.
ثم الجدّ عصبة بعد الأبِ، إذا لم يكن معه إخوة، فإن كان مع الجدّ إخوة من أبٍ وأمٍ، أو أبٍ، قاسمهم، مادامت المقاسمة خيراً له من ثلث المال على مذهب زيد.
والقول في الجدّ والإخوة سيأتي على إثر هذا في بابٍ، إن شاء الله تعالى.
ثم الجد يُسقط بني الإخوة، لأنهم أبعد منه بدرجة؛ فإن الجد الأدنى أب الأب يدلي إلى الميت بواسطة الأب، وبين ابن الأخ وبين الميت [واسطتان] (1) ؛ فإنه ابن الأخ، والأخ ابن أب الميت.
ولو اجتمع أبُ الجدّ، وابن الأخ، فالمذهب الظاهر أنه يَسقُط ابنُ الأخ، كما يسقط بالجد الأدنى.
__________
(1) في الأصل: اثنان.(9/81)
ومن أصحابنا من قال: إن أبَ الجدِّ يقاسم ابنَ الأخ، كما يقاسم الأخُ الجدّ.
وهذا ضعيف مردود؛ فإن ابن الأخ بالنزول عن الأخ يخرج عن اسم الأخ، والجدّ بالعلوّ لا يخرج عن اسم الجدودة.
ومن أصول الباب تقديمُ النوع على النوع؛ فإنا لمّا قدمنا ابنَ الأخ على العم، لم نفرق بين القريب والبعيد؛ فإن ابن الأخ مقدّم على العم، وابن ابن ابن الأخ مقدم على العم أيضاً، فهذا هو الأصل في [أب] (1) الجد، وجدّ الجد، مع ابن الأخ. وما سواه غير معتد به.
فأما أبُ الجد مع الأخ إذا اجتمعا، فالأخ أقرب، وأبُ الجد أبعد، فالذي رأيته في ذلك، أن أبَ الجدِّ لا يسقط بالأخ، ولكن لا يقاسمه الأخُ، بل له السدس. والباقي للأخ، وهو مع الأخ بمثابة الجد مع ابن الميت.
وفي القلب من هذا شيء، ولا يمتنع أن نَعتبرَ الجدودة وقوتَها، وكونَها على عمود النسب، ثم نقول: أب الجد مع الأخ كالجد مع الأخ، على ما سيأتي تفصيل الجد مع الإخوة، إن شاء الله عز وجل.
6280- ثم إن لم يكن جد، فالأخ من الأب والأم، ثم الأخ للأب، ثم ابن الأخ للأب والأم، ثم ابن الأخ للأب.
وهاهنا موقفٌ هو مزِلّة الباب، فليتثبت النّاظر عنده. فلو اجتمع ابنُ ابن أخٍ من الأب والأم، وابنُ أخٍ من الأب، ففي أحدهما قوةُ القرابة، وفي الثاني قرب الإدلاء وقد يبتدر الفقيه، فيقدم ابن ابن الأخ من الأب والأم على ابن الأخ من الأب تعويلاً على قوة القرابة، كما نقدم ابن ابن الأخ على العمّ، وإن كان العم أقربَ من ابن الأخ المتسفِّل.
__________
(1) في الأصل: باب.(9/82)
وهذا خطأ، لم يصر إليه أحد من الأئمة، والمذهب المبتوت أن ابن الأخ من الأب مقدم على ابن ابن الأخ من الأب والأم لقربه.
وإذا اجتمع ابنا أخوين: أحدهما مُدْلٍ بالأخ من الأب والأم، والثاني مُدْلٍ بالأخ من الأب، فإن استويا في القرب، قدمنا صاحب القوة في القرابة، وهو ابن الأخ من الأب والأم، فإن اختلفا في القرب، نُظر: فإن كان الأقرب صاحب القوة، فلا شك في تقدّمه. وإن كان الأقرب ابنَ الأخ من الأب، قدمناهُ بقرب الدرجة على ابن ابن الأخ من الأب والأم، كما يقدم الأخ من الأب على ابن الأخ من الأب والأم. هكذا أورده الصيدلاني والقاضي، وهو منصوص عليه في آخر باب العصبة بيِّنٌ لمن يتأمله.
ثم ابن ابن الأخ للأب وإن تسفَّل، مقدّمٌ على العم للأب والأم.
6281- ثم العم من الأب والأم، ثم العمّ من الأب، ثم ابن العم للأب والأم، ثم ابن العم للأب.
والقول في بني الأعمام، كالقول في بني الإخوة، [فابن] (1) العم من الأب وإن تسفَّل مقدّم على عم الأب من الأب والأم.
والعم الذي أطلقناه أولاً هو عم الميت، وهذا عمُّ أبيه، وهو عصبة، غير أن بني عم الميت وإن بعُدُوا مقدّمون على عم أبيه. ثم الترتيب فيهم كما تقدم، فعم الأب من الأب والأم، ثم عمّه من الأب، ثم بنوهما، على الترتيب السابق. ثم عم الجد. وهكذا إلى حيث ننتهي.
6282- فإن لم نجد أحداً من عصبات النسب، فالمعتِق، ثم عصبات المعتِق، وترتيبُ عصبات المعتِق كترتيب عصبات الميت، إلا في مسائلَ نذكرها، فنقول أولاً:
__________
(1) في الأصل: ثم ابن العم.(9/83)
عصبات المعتِق هم الورثة إذا انتهى الترتيب إليهم، ولا يتصور أن يرث المعتَقَ المنعَمَ عليه أحدٌ من ذوي الفروض المتصلين بالمعتِق المنعِم، فالسبيل أن نقول: إن كان للمعتَق عصبةُ نسب، لم ينته الإرث إلى المعتِق، وكذلك إن كان له أصحاب فرائض يستغرقون ميراثه، فإن لم يكونوا، [أو أفضلت] (1) الفرائض شيئاً، فالمعتِق هو المستحِق، فإن لم يكن، فعصباته المتعلقون بالعصوبة بأنفسهم، لا بتعصيب معصِّب إياهم؛ فإن الذين يتعصّبون بغيرهم لا يرثون بالولاء إجماعاً؛ فابن المعتِق وبنتُ المعتِق إذا اجتمعا، فالميراث لابن المعتِق لا حظّ فيه للبنت. وإن كنا نقضي بكونها عصبة مع الابن. ولا ترثُ أنثى قط بالولاء إلا المعتِقةُ نفسُها، أومعتِقَةُ المعتِق.
ولو اجتمع ابن المعتِق وأبوه، فميراث المعتَق المنعم عليهِ لابن المعتِق، لا حظّ للأب فيه؛ فإن الأب صاحب فرض مع الابن، ولا حظ لأصحاب الفرائض في الميراث بالولاء.
ولو اجتمع جد المولى وأخُ المولى، ففي المسألة قولان: أحدهما - أن أخ
المولى أولى من الجد؛ لأنه يُدْلي بالبنوة، والعصُوبة المحضة، وهو يقول: أنا ابن أب المولى، والجد يقول: أنا أب أب المولى، والابن بالعصوبة أولى.
والقول الثاني أن الأخ والجدّ يرثان؛ لاستوائهما في القرب، ولكن الجد كأخٍ أبداً.
والقولان جميعاً يخالفان [قياسَ] (2) الأخ والجد في النسب، فإنا في القول الأول نحجب الجدَّ بالأخ، وفي القول الثاني نُثبت المقاسمة بينهما من غير أن نردّ الجد إلى الثلث، كما نردّه في النسب؛ فإن الفرض لا مطمع فيه في باب الولاء.
__________
(1) في الأصل: إذا فضلت.
(2) ساقطة من الأصل.(9/84)
ويتفرع على هذين القولين الجدُّ، وابنُ الأخ، فإن راعينا قوة البنوة [قدمنا] (1) ابن الأخ وإن بعد وتسفل.
وإن راعينا استواء الجدّ والأخ في القربِ والبعد، قدّمنا الجدّ على ابن الأخ؛ فإنه أقرب.
وفي أب الجدّ مع ابن الأخ ما في الجدّ والأخ من الخلاف؛ فإنهما مستويان في الدرجة، ولأحدهما قوة البنوة، كما ذكرناهُ في الجدّ والأخ.
6283- ثم ممَّا نذكره في هذا أن الأخ من الأب والأم مقدم على الأخ من الأب في الولاء، فأخُ المعتِق من أبيه وأمه مقدّمٌ على أخيه من أبيه، وإن كانت الأخؤة من الأم لا يثبت بها استحقاقٌ في الولاء، [إلا] (2) أنها تقوي العصوبة وتعضّدُها، وإن كانت لو [استقلت] (3) لم تُفد إرثاً.
هذا هو المذهبُ.
ومن أصحابنا من نزّل الأخ من الأب والأم مع الأخ من الأب في عصبات المولى بمثابة الأخ من الأب والأم مع الأخ من الأب في ولاية النكاح. وفيها قولان: أحدهما - أنهما يستويان؛ فإن الإدلاء بالأم لا أثر له في الولاية. والثاني - أن الأخ من الأب والأم أولى بولاية النكاح من الأخ من الأب.
والقولان مشهوران في النكاح، وذكرهما في التوريث بعصوبة المولى بعيدٌ في النقل غيرُ معتدٍّ به. والوجه القطعُ بتقديم أخ المعتِق من أبيه وأمّه. ثم ليحتج بهذا ناصر أحد القولين في ولاية النكاح.
ثم ترتيب عصباتِ المعتِق بعد ذلك على ما ذكرناهُ، في عصبات النسب.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في جميع النسخ: لأنها. والمثبت تقدير منا على ضوء المعنى.
(3) في الأصل: تسفلت.(9/85)
6284- فإن لم نجد أحداًَ منهم، فالميراث لمعتِق المعتِق. ثم إن لم نجد، فلعصباتِ معتِق المعتِق من النسب، فإن لم نجدهم، فلمعتِق معتِق المعتِق وهكذا إلى حيث نرقى.
فإن لم نجد أحداً من هؤلاء، أو كان الميت الأول [لا ولاء له عَلَيْهِ، أو كان المعتَق] (1) لا ولاء عليه.
فإذا عدمنا الفرض والتعصيب بالجهات الخاصة، فالميراث مصروف إلى الجهة العامة وهي جهة الإسلام، ثم مصرف التركة إلى المصالح العامة على ما سنُوضحُ التفصيلَ في السهام المرصدة للمصالح في كتاب القَسْم، إن شاء الله تعالى.
ولو لم نجد المعتِق وعصباته، (2 ومعتق المعتق 2) ، ووجدنا معتِقَ عصبةِ المعتق، فإنا لا نورث من المعتَق المنعم عليه إلا معتِق أب المعتِق؛ فإنه يرث.
وهذا الفصل يستدعي بيان استحقاق الولاء مباشرة وجرّاً. ومن جملة ارتباط الولاء ما ذكرناه من إعتاق الأب، والقول في هذا يطول، وهو كتاب برأسه نذكره في العتق، ويتعلق به طرفٌ غامض من أحكام المواريث، وفيه دَوْرُ الولاء، ولا سبيل إلى الخوض في شيء منه هاهنا. فالوجه أن نذكره ثَمّ.
فصل
6285- إذا مات الرجل وخلّف ابني عمّ، أحدهما أخ لأمّ، فللذي هو أخ لأم السدس بأخوة الأم، والباقي مقسوم بينهما بالعصوبة.
وقال ابن مسعود: ابن العم، الذي هو أخ لأم يتقدم على ابن العمّ الذي ليس أخاً لأم، كما يتقدم الأخ من الأب والأم على الأخ من الأب.
__________
(1) في الأصل مكان ما بين المعقفين: " صلبياً ولاء عليه، أو كان المعتق صلبياً ".
(2) ساقط من جميع النسخ ما عدا الأصل.(9/86)
ومذهب زيد والجمهور ما ذكرناه، من إفراد أخوة الأم بالفرض، ورد الباقي إليهما بالعصوبة.
ولو كان في المسألة ابنا عم: أحدهما - ابن العم من الأب والأم، والآخر ابن العم من الأب، ثم كان ابن العم من الأب أخاً لأم، فله السدس والباقي لابن العم من الأب والأم؛ فإنه يحجب ابنُ العم من الأب والأم ابنَ العمِ من الأب في العصوبة.
6286- ولو كان في المسألة: بنتٌ، وابنا عم، أحدهما أخ لأم.
قال ابن الحدّاد: المال نصفه للبنت، والباقي لابن العم الذي هو أخ لأمّ، ولا شيء للآخر؛ لأن الإدلاء بالأم ممّا يقع الترجيح به، ولا يمكن أن يناط به استحقاق فرضٍ في هذا المحل؛ فإن الأخ من الأم لا يرث مع البنت، فصارت الأخوة من الأم في هذا المقام كالأخوة من الأم في ترتيب عصبات الولاء. وقد ذكرنا أن الأخ من الأب والأم مقدم في الولاء على الأخ من الأب، لمّا سقط اعتبارُ أخوة الأم في الولاء، فاستعملناها ترجيحاَّ.
ولو اجتمع في الولاء ابنا عم: أحدهما أخ لأم، فليت شعري ما يقول ابنُ الحداد فيه، وقد سقطت أخوة الأم؟
وإن طرد قياسه، وقدّم الأخ من الأم على الآخر، فقد أبعد، وإن سلم هذا، فقد ناقض ما عوّل عليه.
وقد خالف معظمُ الأصحاب ابنَ الحدّاد فيما قال، وصاروا إلى أن الفريضة التي فيها بنتٌ وابنا عمّ أحدهما أخ لأمٍ، تسقط فيها أخوة الأم، والباقي بعد الفرض لابني العم.
وليس كما إذا كان في المسألة بنت وأخ من أب وأم وأخ لأب، فإن الأخ من الأب والأم يحجب الأخ من الأب، ولا نقول: البنت تحجب أخوة الأم، ويستوي الأخوان بعد سقوطها في أخذ الفاضل من الفرائض بالتعصيب؛ فإن(9/87)
الأخوة من الأم لا تُفرد عن الأخوة من الأبِ؛ إذ لو أفردت عنها، لقيل في أخوين أحدهما من أبٍ وأم، والآخر من أبٍ: للذي هو أخ من أبٍ وأمَّ السدس بأخوة الأم، والباقي بينهما بأخوة الأب.
كما تقول في ابني عم أحدهما أخٌ لأم، فللذي ينفرد منهما بأخوة الأم السدس، والباقي بينهما بالعصوبة، والسبب فيه أن القرابتين مختلفتان في ابن العم الذي هو أخ لأم؛ فلم تمتزجا على رأي زيد والجمهور، والأخوة من الأم تمتزج بالأخوة من الأب، فإن الولدين من أبوين لا يعدّان مختلفي القرابة.
هذا بيان القاعدة.
6287- وابن مسعود قدم ابن العم الذي هو أخ من أم على ابن العم الذي ليس أخاً لأم، كما تقدم.
ومن مذهبه أنه لو كان في المسألة ابنا عم: أحدهما ابنُ عم من أب، وهو أخٌ من أم. والثاني ابن عم من أبٍ وأمٍ، فالذي هو أخ لأمٍ مقدم على ابن العم من الأب والأم.
ومذهب زيد والجمهور أن للذي هو أخ لأم السدس، والباقي لابن العم من الأب والأم.
6288- ثم ذكر الفرضيون جملاً في تشابه القرابات، ونحن نذكر عيونها، وأصولها التي ترشد الفطن إلى ما عداها.
فمما يتعلق بما كنا فيه الآن: أنه إذا قيل: خلّف:
ابني عمّ، أحدهما أخٌ لأم، وأخوين لأمٍ أحدهما ابن عم.
فأهل الفرائض مختلفون في السؤالِ المطلق في مثل ذلك إذا كان يحتمل عددين أقلَّ وأكثر: فمنهم من يحمل السؤال المطلق على أقل العددين، ومنهم من قال: يُؤخذ بالأكثر: فمن قال: يُؤخذ بالأكثر يقول: العدد أربعة ابنا عمٍ(9/88)
أحدهما أخ لأم، وأخوان لأم أحدهما ابن عم، وفي هؤلاء الأربعة من طريق القرابة ثلاثةُ إخوة لأم، وثلاثة بني أعمامٍ، فللإخوة من الأم الثلث، والباقي لبني الأعمام، والمسألة في وضعها من ثلاثة، وهي تصح من تسعة، فيحصل لكل من هو ابن عم وأخ ثلاثة أسهم: سهم بأخوة الأم، وسهمان بالعصوبة، ويحصل للمنفرد بأخوة الأم سهم، وللمنفرد بالعصوبة سهمان.
هذا مسلك.
ومن يأخُذ بالعدد الأقل يقول: لما قال: ابنا عم أحدهما أخ لأمٍ، فهمنا شخصين، ولما قال: أخوان من أم: أحدهما ابن عم، جوزنا أنه زاد أخاً لأم، وأعاد أحد الشخصين المفهومين أولاً، وهو الأخ من الأم الذي كان ابن عم، فتحصَّل معنا ثلاثة أشخاص: أخوان لأم وابنا عم، فللأخوين من الأم الثلث، والباقي لابني العم، والمسألة من ثلاثة وتصح من ستة.
وهذا الذي ذكرناه ليس خلافاً على الحقيقة؛ فإن المستفتي لو أطلق لفظةً مبهمةً تتردد بين عدد كبير وقليل، فلا تحل الفتوى من غير استفصال، وإذا كان كذلك، فلا حاصل لما ذكرناه، إلا أن الفرضيين في تصانيفهم مختلفون في تصوير المسائل، ووضعها بالعبارات؛ فمنهم من يعتاد في وضع المسائل حمل العبارة على الأكثر، ومنهم من يعتاد حملها على الأقل.
6289- وعلى هذا النسق ترددوا في ذكر القرابة إذا ترددت بين القرب
والبعد، فمنهم من يحمل على أقرب الوجوه، ومنهم من لا يحمل عليه.
6290- ولو قيل: خلّف:
ثلاثة بني أعمام: أحدهم زوج، وآخر أخ لأم، وثلاثة إخوة متفرقين، [وأما] (1) .
__________
(1) في الأصل: "أم"(9/89)
فهذه مسألة المشركة تُلقَى كذلك أغلوطة، فاطّرح الأخ من الأب، وأعط الزوج النصف، والأم السدس، والأخوين للأم الثلث، ويشاركهما الأخ من الأب والأم، ولا شيء لأحد بأنه ابن عم.
6291- فإن قيل: ثلاث أخوات متفرقاتٍ، مع كل واحدةٍ عمّها لأب وأم، فعمّ الأخت من الأب والأم عمّ الميت لأب وأم، وعم الأخت للأب عمُّ الميت لأب وأمٍ لا محالة، وعم الأخت من الأم أجنبي من الميت، ففي المسألة ثلاث أخوَّاَت متفرقاتٍ، وعمَّان، فللأخت من الأب والأم النصف، وللأخت من الأب السدس، تكملة الثلثين، وللأخت للأم السدس، والباقي للعمّين.
والمسألة تصح من اثني عشر.
فإن قيل: ثلاث أخواتٍ متفرقاتٍ مع كل واحدة أمها، فالمسألة مستحيلة؛ لأن الأخت للأب والأم، والأخت للأم أمهما واحدة فلا يُتصوّر لهما أمّان. وأمّا الأخت من الأب، فأمها أجنبية، فقد ترك الميت أماً وثلاث أخواتٍ متفرقاتٍ.
فإن قيل: ثلاث أخوات متفرقاتٍ، مع كل واحدة ابن أخيها لأب وأمٍ، فإن لم يغالط السائل، ولم [يَعْنِ بالذي] (1) مع الأخت من الأب والأم ابنَ الميت وقال: أردت ابنَ أخٍ غيرِه، ولم أعْن الميت، فقرابة ابن أخ كل واحدة من الميت كقرابتها نفسها، من الميت. وكأنّه خلّف ثلاث أخواتٍ متفرقاتٍ، وثلاث بني إخوة متفرقين.
فإن زاد وقال: مع كل ابن أخ جدتاه من أقرب ما يكون، فاعلم أن جدات هؤلاء من جهة الأم أجنبيات من الميت، لأن كل واحدة منهن أم زوجة أخ الميت: فأمّا جدة ابن الأخ للأب من جهة الأب، فهي أجنبية من الميت، لأنها زوجة أبيه، فأما جدة الآخرَيْن، فهي واحدة، وهي أم الميت، والمسألة
__________
(1) في الأصل: ولم يعين، فالذي.(9/90)
مستحيلة من حيث إنه لا يتصور لكل واحدة جدة، بل جدتهما واحدة، فكأنه خلّف أمّاً وثلاث أخوات متفرقات، وابن أخ لأب وأمّ، وابن أخ لأب، وابن أخ لأم.
6292- فإن قيل: ثلاث بنات ابن بعضهن أسفلُ من بعض، مع كل واحدة أخوها. فإن أبهم، أمكن أن يريد الأخ من الأم، فيقع أجنبياً من الميت.
فإن قال السائل: مع كل واحدة أخوها لأب، أو لأب وأم، فقرابته من الميت كقرابتها، فكأنه خلف بنت ابن وابن ابن، فالمال بينهما، ويسقط الآخرون.
فإن قيل: مع كل واحدة أختها من أبيها، فقد ترك ابنتي ابن، وابنتي ابن ابن وابنتي ابن ابن ابن، ولا يخفى الحكم.
فإن قيل: مع كل واحدة ابن أخيها، فابن أخ العليا في درجة الوسطى، وابن أخ الوسطى في درجة السفلى، وابن أخ السفلى أسفل منها بدرجة.
فلبنت الابن النصف، والباقي بين الوسطى والغلام الذي في درجتها.
6293- فإن قيل: مع كل واحدةٍ أبُوها، فأبُو العليا ابن الميت، رجلاً كان الميت أو امرأة، وأب الوسطى ابن ابنهِ، وأب السفلى ابن ابن ابنه، فالمال للابن.
فإن قيل: مع كل واحدةٍ أمها، فهن أجنبيات من الميت.
فإن قيل: مع كل واحدةٍ عمُّها، فأمّا عم الوسطى والسفلى إن كان عماً لأم، فهو أجنبي من الميت. وإن كان عماً لأب وأم، أو لأب، فعمُّ الوسطى ابنُ ابنِ الميت، وعم السفلى ابن ابن ابن الميت، رجلاً كان الميت أو امرأة. وأمَّا عم العليا، فإن كان عماً (1 لأم، والميت رجل، أو كان عمّاً 1) لأبٍ والميت
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من غير الأصل.(9/91)
امرأة، فهو أجنبي من الميت، وإن كان عماً لأمٍّ، والميت امرأة، أو عمّاً لأبٍ، والميت رجل، أو عماً لأب وأم، والميت رجل أو امرأة، فهو ابن الميت.
والفرضيون يحملون المطلق على جهة الوراثة. وهذا كالتواضع بينهم.
فإن قيل: مع كل واحدة جدها أبو أبيها، فإن كان الميت رجُلاً، فالمسألة محال، لأن الميت جدّ العليا.
وإن كان امرأة، فالمسألة متصورة، فجد العليا ربما يكون زوج الميتة، فيبحث عن الزوجية، فالفرضيون يبحثون هاهنا؛ فإن الزوجية عارضة، فأمَّا جدُّ الوسطى، فهو ابن الميت بكل حالٍ، رجُلاً كان أو امرأة، وجدُّ السفلى هو ابن ابن الميت، فالمال للابن.
فإن قيل: مع كل واحدة جدتُها، فجدة السفلى والوسطى أجنبيتان من الميت، وأما جدة العليا فإن كان الميت امرأة، فالمسالة محال؛ لأنها جدة العليا، وإن كان الميتُ رجُلاً فالمسالة متصورة ولعلها زوجة الميت، فإن ذكر السائل [الزوجة، أجبنا] (1) . ولا تحمل على الجدّاتِ من قبل الأم؛ فإنهن ساقطاتٌ، أجنبيات من الميت.
6294- فإن قيل مع كل واحدةٍ عمتُها، أما عمة العليا، فهي بنت الميت إذا كانت لأبٍ وأمٍ، أو لأب، والميت رجُل، أو كانت عمة لأم، والميت امرأة، فإن كانت عمة لأم، والميت رجل، أو كانت لأبٍ والميت امرأة، فهي أجنبية من الميت. وأمّا عمة الوسطى، وعمّة السفلى للأم فأجنبيتان من الميت، كيف كان الميت. وأمّا عمتاهما لأبٍ وأم، أو لأبٍ، فلهما قرابة، فأمّا عمّة الوسطى ففي درجة العُليا، وأما عمة السفلى، ففي درجة الوسطى، فالميت خلّفَ بنتاً، وابنتي ابن، وابنتي ابن ابن.
__________
(1) في الأصل: الزوجية اختار.(9/92)
فإن زاد في السؤال فقال: مع كل عمة [ثلاث] (1) عمات متفرقات، فالمسألة فيه إذا كانت عمة ذات قرابة من الميت.
فأمّا عمات عمة العليا، [فهنّ] (2) ثلاث أخواتٍ متفرقات للميت إن كان رجلاً، وإن كان امرأةً فهنّ أجنبيات منها.
وأمّا عمات عمة الوسطى، فاثنتان منهن بنتان للميت، ثم ننظر: فإن كان الميت رجلاً، فبنتاه هي العمة للأب والأم، والعمة للأب، (3 فأما العمة للأم فهي 3) أجنبية. [وإن كان الميت امرأة، فابنتاها هما العمةُ للأب والأم والعمة للأم. فأمّا العمة للأب فأجنبية] (4) .
وأما عمات عمة السفلى، فاثنتان منهن ابنتا ابن الميت وهما العمة للأب والأم، والعمة للأب، فأما العمة للأم فأجنبية من الميت بكل حال، فقد خلف الميت ثلاثَ أخواتٍ متفرقاتٍ، وثلاث بناتٍ، وأربع بناتِ ابن، وابنتا ابن ابن وبنت ابن ابن ابن. فللبنات الثلثان، والباقي، للأخت من الأب والأم.
فهذه جُملٌ في تشابه القرابات، يمكن أن يقاس بها غيرها، وربما نذكر طرفاً منها في باب الأرحام، والمعنَّى (5) بطلب الفقه قد يتبرم بمثل هذا، ولكنا لا نجد بداً في هذا المجموع من ذكر ما يقع به الاستقلال في كل فن.
***
__________
(1) في الأصل: بنت.
(2) في جميع النسخ: فهي.
(3) ما بين القوسين سقط من (د 1) .
(4) ما بين المعقفين سقط من الأصل.
(5) في غير الأصل: والمعتني.(9/93)
باب ميراث الجد
قال الشافعي: " الجد لا يرث مع الأب ... إلى آخره " (1) .
6295- الأب يحجب أبا نفسه، وهو جد الميت (2) ، والجد القريب يحجب الجدَّ البعيد، وهذا متفق عليه، وإن حكينا خلافاً في أن الأب هل يحجب أمه، وهي جدة الميت، فمن خالف ثَمَّ من الصحابة رضي الله عنهم، لم يخالف هاهنا.
6296- فإن لم يكن في المسألة أب، فالجد أب الأب بمثابة الأب. واستثنى الأئمة أخذاً من معنى الشافعي، ومن نصِّه أربعَ مسائل: إحداها - أن الأب يحجب الإخوة، والجد لا يحجب الإخوة والأخوات من الأب والأم، ومن الأب، على رأي زيدٍ وغيره من جلَّة الصحابة رضي الله عنهم.
والثانية - أن الجد لا يُسقط أمهاتِ الأب، والأب يُسقط أمهات نفسه.
والمسألتان الباقيتان هما الفريضتان المعروفتان: زوج وأبوان وزوجة وأبوان. وقد ذكرنا أن للأم فيهما مع الأب ثلث ما يبقى والباقي للأب، فلو كان بدل الأب جدٌّ، فللأم ثلث المال كاملاً، على رأي معظم الصحابة.
وعن عمر أنه نزل الجد في الفريضتين منزلة الأب، وقضى بأن للأم ثلث ما يبقى بعد نصيب الزوج، والزوجة، والباقي للجد، كما ذكرناه في الأب.
__________
(1) ر. المختصر: 3/146.
(2) لم يبين الإمام الجد الصحيح الوارث، وهو: الجد الذي لا تتوسط بينه وبين الميت أنثى، وانظر الشكل رقم (5) في آخر هذا المجلد.(9/94)
وذهب ابن سيرين (1) إلى الفرق بين الفريضتين مع الأب، فقال في زوج وأبوين: للأم ثُلث ما يبقى، فإنا لو أعطيناها ثلث الجميع، بعد النصف، لكان ما أخذته أكثر ممّا يأخذه الأب.
وقال في زوجةٍ وأبوين: للأم ثلث جميع المال؛ فإنه ليس في إكمال الثلث لها تفضيلها على الأب.
وهذا مذهبٌ متروكٌ.
ومن قال من أصحابنا لا يأخذ الجد بالفرض والتعصيب، فيقع ذلك فرقاً بين الأب والجد أيضاً.
ثم ذكر الشافعي رضي الله عنه أن كل جدٍّ وإن علا، فكالجد الأدنى، إذا لم يكن دونه جدّ. وهذا ممّا قدمنا القولَ فيه، وذكرنا خلاف الأصحاب في أب الجدّ مع الأخ، وفي أب الجد، مع ابن الأخ.
فهذا ذكر جُمل من ميراث الجد.
6297- ومقصود الباب بيانُ ميراثه مع الإخوة من الأب والأم، والإخوة من الأب إذا لم يكن معهم صاحب فرض، وما اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في بابٍ اختلافَهم في هذا الباب، وروي أن عمر رضي الله عنه قضى في الجد بمائة قضيةٍ مختلفة (2) . ثم لما طعنه أبو لؤلؤة، وأشرف على الموت،
__________
(1) ابن سيرين: محمد بن سيرين البصري الأنصاري بالولاء ت 110 هـ.
(2) الرواية عن قضاء عمر في الجد مائة قضية مختلفة أخرجها ابن أبي شيبة وعبد الرزاق والبيهقي، وذكر الحافظ أن الخطابي رواها في الغريب بإسناد صحيح عن محمد بن سيرين، قال: سألت عبيدة عن الجد، فذكره، ثم قال الحافظ: " أنكر الخطابي هذا إنكاراً شديداً بما لا محصل له، وسبقه إلى ذلك ابن قتيبة في مقدمة مختلف الحديث، وما المانع أن يكون قول عبيدة مائة قضية على سبيل المبالغة ... " (ر. مصنف عبد الرزاق، ح 19043، البيهقي 6/245، التلخيص 3/189) .(9/95)
قال: " احفظوا عني ثلاثاً: لا أقول في الكلالةِ شيئاً، ولا أقول في الجدِّ شيئاً، ولا أستخلف عليكم أحداً " (1) . وعن علي أنه قال: " من سرّه أن يتقحّم جراثيمَ جهنّمَ بحُرّ وجهه، فليقْضِ في الجدّ والإخوة " (2) . وقال ابن مسعود: " سلوني عما شئتم من عَضْلكم ولا تسألوني عن الجد لا حياه الله ولا بيّاه " (3) . وعن عمر أنه قال: " أجرؤكم على مسائل الجد أجرؤكم على النّار " (4) وما رتب أحد من الفرضيين هذا الباب ترتيب الأستاذ أبي منصور البغدادي (5) (4 ونحن نتخذ ترتيبه أسوة في الباب، ثم نذكر فيه ما ينبغي، إن شاء الله 6) .
6298- فنقول: أولاً أمّا الإخوة من الأم، فلا شك في سقوطهم بالجد،
__________
(1) أثر عمر رضي الله عنه: " احفظوا عني ثلاثاً ... " أخرجه ابن سعد في الطبقات: 3/1، ح 256. قال الألباني: صحيح دون ذكر الجد (ر. الإرواء: 6/129 ح 1686، فيض القدير: 1/158) .
(2) أثر علي رضي الله عنه: "من سرّه أن يتقحم جراثيم جهنم " رواه ابن أبي شيبة، ح 11318،11314، وعبد الرزاق، ح19047، وسعيد بن منصور، ح 56، 57، والدارمي، ح 2902، والبهيقي (6/245) ، قال في إرواء الغليل: ضعيف (6/128 ح 1684) .
(3) أثر ابن مسعود " سلوني عما شئتم ": لم نصل إليه.
(4) أثر عمر رضي الله عنه: " أجرؤكم على مسائل الجد " رواه عبد الرزاق في مصنفه، ح 19047، ولفظه: " أجرؤكم على جراثيم جهنم أجرؤكم على الجد ". ورواه سعيد بن منصور في سننه عن سعيد بن المسيب مرسلاً، ح 55. وانظر إرواء الغليل 6/129، فيض القدير: 1/158.
(5) الأستاذ أبو منصور البغددي: عبد القاهر بن طاهر بن محمد التميمي البغدادي نشأة، ثم استقر في نيسابور. شيخ إمام الحرمين في الفرائض، علامة العالم في الحساب والمقدَّرات والكلام والفرائض والفقه وأصول الفقه، تكرر ذكره في الروضة في الوصايا وغيرها، وذكره في الوسيط أيضاً في الوصايا في أواخر الباب الثاني. وهو صاحب (الفَرق بين الفِرق) ت 429 هـ (تهذيب الأسماء واللغات:2/268، طبقات السبكي: 5/136، وأعلام الزركلي) .
(6) ما بين القوسين ساقط من غير الأصل.(9/96)
وأما الإخوة من الأب والأم، والإخوة من الأب، فقد اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم؛ فمنهم من نزّل الجدّ منزلة الأب وأسقط به جميعَ الإخوة والأخواتِ، كما يسقطهم الأب. وإليه ذهب أبو بكرٍ الصديق، ومعاذ بنُ جبل، وعبد الله بن عباس، وجابر، وعُبَادة بنُ الصامت. وأُبي بن كعب، وأبو الدرداء، وعبد الله بن الزبير، وأبو موسى الأشعري، وعمران بن حصين، وعائشة، وبه أخذ طائفة من العلماء: الحسن (1) ، وطاووس، والزهري، وعطاء، وأبو حنيفة، وأبو ثورٍ، والمزني في اختياره الظاهر، ونسَبَ هذا إلى ابن عباس ابنُ سريج، ومحمد بن (2) نصر المروزي من أئمة أصحاب الشافعي.
ومنهم من شرك بين الجدِّ والإخوة والأخوات من الأب والأم، ومن الأب. وهو مذهب علي، وزيد، وابن عباسٍ، وابن مسعود، وبه قال مالك، والشافعي، والأوزاعي، والثوري، وابنُ أبي ليلى، وأبو يوسف، ومحمد (3) .
واختلف الرواية في ذلك عن عمر وعثمان فروي عنهما القولان معاً.
ثم اختلف المشرّكون في تفصيل التشريك على مذاهبَ مختلفة، وأصولٍ متباينة، ونحن نذكر مذهب علي أولاً في جميع قواعد الباب، ثم نذكر [مذهب
__________
(1) الحسن، وطاووس، والزهري، وعطاء كلهم من فقهاء التابعين. والحسن هو الحسن البصري، فحيثما تجد الحسن مطلقاً، فهو الحسن بن يسار البصري الإمام في كل فن، توفي110هـ.
وطاووس هو طاووس بن كيسان توفي سنة 106 هـ.
والزهري هو محمد بن مسلم، المشهور بابن شهاب. توفي سنة 124 هـ.
وعطاء هو عطاء بن أبي رباح، وهو المعني في الفقه إذا أُطلق، توفي سنة115هـ على الأرجح.
(2) محمد بن نصر المروزي، من أصحاب الوجوه في المذهب، توفي 294 هـ (تهذيب الأسماء واللغات: 1/94 ترجمة رقم: 94) .
(3) لم يذكر مذهب الإمام أحمد بن حنبل، وهو ثالث المذاهب المتبوعة التي تقول بتشريك الجد مع الإخوة.(9/97)
زيد] (1) ثم نذكر مذهبَ ابن مسعود، ثم نذكر مذهبَ عمر على رواية التشريك، ثم نذكر مذهب عثمان، فإذا بانت مذاهبهم نفتتح فرضَ المسائل، ونذكر في كل مسألة مذاهب الصحابة رضي الله عنهم.
الفصل الأول
في بيان قول علي ومن تبعه
6299- قال رضي الله عنه: ننظر في الإخوة والأخوات، هل هم من جهةٍ واحدة، أو هم من جهتين؟ فإن كانوا من جهةٍ واحدة، مثل أن يكونوا جميعاً لأب وأم، أو لأب، نَظَر: فإن كانوا إخوة، أو إخوة وأخوات، فالجدُّ كواحد منهم، وقَسَّمَ المالَ بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين. والأمر كذلك مادامت القسمة خيراً له من السدس.
فإن كان نصيبه بالقسمة سدس المال أو أكثر، فالقسمة صحيحة.
وإن أصابه بالقسمة أقلُّ من السدس، فَرَض له السدس، والباقي للإخوة والأخوات.
وإن كن أخوات لا أخ معهن، فَرَضَ لهن: للواحدة النصف، وللاثنتين فما فوقهما الثلثان، والباقي للجد.
6300- وإن كانوا من جهتين: بعضهم لأبٍ وأم، وبعضهم لأبٍ، نَظَرَ: فإن كان [في] (2) الذين من قبل الأب والأم أخ، سقط الذين من قبل الأب، وكان المال مقسوماً بين الجد والذين من قبل الأب والأم، مع اعتبار السدس، كما تقدم.
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) ساقطة من الأصل.(9/98)
وإن لم يكن في الذين من قبل الأب والأم أخ، وكانت أختٌ أو أخواتٌ، فرض لهن للواحدة النصف، وللاثنتين فصاعداً الثلثان.
ثم نَظَرَ فيمن هو من جهة الأب، فإن كان فيهم أخ، [صار] (1) الجدّ كأخ لأبٍ، وقسم الباقي بين الجد والذين هم من قبل الأب، واعتبر خير الأمرين من القسمة والسدس.
وإن لم يكن في الذين هم من قبل الأب أخ، نظر: فإن كان في أولاد الأب والأم أخت واحدة، فلها النصف، وللأخت أو الأخوات من الأب السدس تكملة الثلثين، والباقي للجدِّ، وإن كان في أولاد الأب والأم أختان، فلهما الثلثان، والباقي للجدّ، وتسقط الأخوات من الأب.
6301- وهذا كله إذا لم يكن مع الجدّ والإخوة ذو فرض: مسمَّى سوى الأخوات، فإن كان معهم ذُو سهمٍ مفروضٍ، نَظر: فإن كانت بنت، أو بنت ابن (2) ، فرض لهما، وفرض للجدّ معهما السدس وإن زادت الفرائض، أعال المسألة، فإن بقي بعد الفروض شيء، كان للإخوة والأخوات على حسب استحقاقهم في سائر المسائل.
والأخوات على رأي علي عصبة مع البنات، وبنات الابن.
وإن كان معهم ذو فرض آخر سوى البنت، وبنت الابن، ولم يكن في المسألة بنت ولا بنت ابن، أعطى كلَّ ذي فرض فرضَه، ونَظَر: فإن كانوا أخوات لا أخ معهن، فرض لهنّ أيضاً، وكان الباقي للجدّ إن كان سدساً، أو
__________
(1) في الأصل: فقال.
(2) كانت بنت أو بنت ابن ... : كان هنا تامة بمعنى وجد، والمعنى إن كان في أصحاب الفروض مع الجد والإخوة بنات أو بنات ابن، وذلك ليرتب عليه قول علي بتعصيب الأخوات بالبنات، ثم ليستقيم الكلام عن زيادة الفروض وإعالة المسألة، وإلا فلو كان أصحاب الفروض بنت فقط أو بنت ابن، لا تعول المسالة.(9/99)
أكثر، وإن كان الباقي أقلَّ من السدس، أو لم يكن بقي من المال شيء، فرض للجد السدس، وأعال المسألة.
وإن كانوا إخوة أو إخوة وأخواتٍ، نَظَرَ: فإن كانوا من جهةٍ واحدةٍ، قسم الباقي بينهم وبين الجدّ، واعتبَرَ في حق الجد القسمةَ والسدسَ.
وإن كانوا من جهتين، نظر: فإن كان في الذين من جهة الأب والأم أخٌ، سقط أولاد الأب، والباقي مقسومٌ بين الجدّ والذين من قبل الأب والأم، مع اعتبار السدس. وإن لم يكن في أولاد الأب والأم ذكر، فرض لمن هن من قبل الأب والأم، وقسّم الباقي بين الجد والذين من قبل الأب، واعتبر السدس: فإن كان الباقي أقلَّ من السدس، أو لم يبقَ شيء، فرض للجدّ السدس، وأعال المسألة.
هذا إذا كان في أولاد الأب ذكر، فإن لم يكن في الذين من قبل الأبِ ذكر، فرض لهن [السُدس] (1) إن كان في أولاد الأب والأم أخت واحدة، وفرض للجد السدس إن كان الباقي من المال أقلّ من السدس، أو لم يبق منه شيء، وأعال المسألة.
فهذا مذهب علي في هذا الباب. وهو الرواية المشهورة عنه.
6302- ورويت عنه روايات شاذة، لا عمل بها، فروي عن سعيد (2) ابن المسيب عن علي أنه جعل الجدَّ أباً وأسقط به الإخوة والأخوات.
وروى الشعبي أن ابنَ عباسٍ كتب إلى علي في ستّة إخوة وجد، فكتب إليه
__________
(1) ساقطة من الأصل والسدس هنا المراد به تكملة الثلثين ضمّاً إلى النصف للأخت الواحدة من الأب والأم.
(2) رواية سعيد ابن المسيب أن علياً جعل الجد أباً لم نجدها، وروى عبد الرزاق، والبيهقي عن عطاء " أن علياً كان يجعل الجد أباً، فأنكر قولَ عطاء ذلك عن علي بعضُ أهل العراق " (ر. مصنف عبد الرزاق، حديث رقم 19057، البيهقي في الكبرى 6/246) .(9/100)
بقسمة المال بينهم بالسويّة، وأمره بأن يمحو كتابه (1) ولا تصح هذه الرّواية. فهذا مذهب علي رضي الله عنه.
[الفصل الثاني] (2)
في بيان مذهب زيدٍ
6303- والوجه أن نذكر مذهبه في الجد والإخوة من غير أن يكون معهم
صاحبُ فرض، ثم نذكر الجدّ والإخوة مع أصحاب الفروض.
فإن لم يكن معهم صاحب فرضٍ، فالجد يقاسم الإخوة والأخوات المنفردات، والإخوة والأخوات المجتمعين، ويكون الجدّ في جميع ذلك كأحد الإخوة، ثم إنه يقول: يقاسمهم مادامت المقاسمة ثلثاً أو أكثر من الثلث، فإن كان الثلث خيراً له من المقاسمة، فرض له الثلث.
وإذا أخذ الجد نصيبه، نظر في الإخوة والأخوات: فإن كانوا من جهةٍ واحدةٍ أخذوا حقوقهم، فإن كانوا ذكوراً وإناثاً، فالمال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين.
وإن كانوا ذكوراً متمحّضين أو إناثاً متمحّضات، فالمال بينهم بالسوية.
وإن كانوا من جهتين، نَظرَ في الذين من قبل الأب والأم، فإن كان فيهم ذكر، استرجع ما في يد ولد الأب، وإن لم يكن فيهم ذكر، استرجع ممّا في يد ولد الأب ما يكمل به فرض ولد الأب (3) والأم.
__________
(1) رواية الشعبي عن ابن عباس أن علياً قضى في جد وستة إخوة بالمقاسمة. أخرجها الدارمي: = الفرائض، باب قول علي في الجد، ح 2917، وابن أبي شيبة (11/293 ح 11269) والبيهقي في الكبرى (6/249) .
(2) في الأصل: الثالث. وهو سبق قلم واضح.
(3) معنى هذا أن التقسيم يشمل الإخوة من الجهتين جميعاً: لأب وأم ولأبٍ فقط، ثم بعد =(9/101)
وهذا كله إذا لم يكن معهم ذو سهم مفروض.
وأصل زيدٍ في المعادَّة لا يتأتى ذكره إلا في فصلٍ مفرد، سنذكره، إن شاء الله عز وجل.
6304- فإن كان معهم ذو فرض مثل، ابنة أو ابنة ابن، أو زوج، أو زوجة، أو أم، أو جدّة، أعطى كلَّ ذي فرض فرضَه، ونَظر: فإن بقي في المال سدس، فهو للجدّ خاصّة، وإن بقي أقل من السدس، أو لم يبق منه شيء، فَرَضَ له السدس، وأعال المسألة.
وإن بقي بعد الفرض أكثر من السدس، قُسّم بين الجد والأخوات، كيف كانوا، ولا يَعْتَبر مع القسمة ثلثَ جميع المال في حق الجدّ، ولكنه يقول: للجدّ الخير من أحد ثلاثة أشياء: إما السدس، وإمّا ثلث ما بقي، وإما القسمة، فأي هذه الثلاثة، كان خيراً للجد خُصّ به، وكان الباقي للإخوة والأخوات.
6305- وكان لا يفرض للأخت مع الجدّ إلا في مسألة واحدة تعرف بالأكدرية، وصورتها:
زوجٌ، وأم، وجد، وأخت لأب وأم، (أو أخت لأب) .
للزوج النصف، وللأم الثلث، فلم يبق إلا السدس.
قال زيدٌ: للأخت النصفُ، وللجدّ السدس، وأعال المسالة من ستة إلى تسعة، ثم جمع بين نصيب الأخت والجد، فكان أربعة، فقسمها بين الجدّ والأخت للذكر مثلُ حظ الأنثيين، وينكسر أربعة على ثلاثة، فنضرب ثلاثة في أصل المسألة بعولها، فتبلغ سبعة وعشرين. للزوج منها تسعة، وللأم ستة،
__________
= ذلك يسترجع الذكر من أولاد الأب والأم (إن وجد) نصيب أولاد الأب، لأنهم محجوبون أصلاً بأولاد الأب والأم. وسيأتي مزيد شرح وتفصيل في مسائل (المعادة) ، كما وعد الإمام.(9/102)
وللأخت تسعة، وللجد ثلاثة، ثم يجمع بين نصيب الجد والأخت فتقسم بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين: للجد ثمانية، وللأخت أربعة.
هذا أصل زيدٍ المشهور في مسائل الجدّ، وهذا مذهبُه المعرُوف في هذه المسألة الملقّبة بالأكدرية. وبه قال مالك والشافعي والأوزاعي والثوري وأبو يوسف ومحمد وأحمد بن حنبل.
6306- وعن زيد رواية شاذّة في الأكدرية، سئل قَبِيصةُ بنُ ذؤيب (1) عن قضاء زيد في الأكدرية، وذكر له الرواية المشهورة، فقال: والله ما فعل هذا زيد قط، ولكن قاس الفرضيون على قوله. ثم قال المحققون: إن صح ما قاله قَبِيصةُ، فالذي يقتضيه أصل زيد وقياسه في الأكدرية أن يقول: للزوج النصف، وللأم، الثلث، وللجدّ السُدس، وتسقط الأخت، لأنها عصبة مع الجدّ عند زيدٍ، كالأخ، ولو كان بدلها أخ في هذه المسألة، لسقط، فكذلك الأخت.
ولكن الرواية المشهورة ما تقدم، فلا تعويل على قول قَبِيصة (2) .
__________
(1) قبيصة بن ذؤيب: أبو سعيد، ويقال: أبو إسحاق قبيصة بن ذؤيب بن حَلْحَلة الخزاعي المدني. إمام من كبار فقهاء التابعين، كان أعلم الناس بقضاء زيد بن ثابت. ولد عام الفتح سنة ثمان، وتوفي في خلافة عبد الملك بن مروان سنه ست أو سبع وثمانين. (تهذيب الأسماء واللغات: 2/56، سير أعلام النبلاء: 4/282) .
(2) رواية قَبيصة بن ذؤيب في إنكار قضاء زيد في الأكدرية، لم نصل إلى هذه الرواية. وقد تبع الرافَعي إمام الحرمين في رواية أثر قبيصة هذا. وعلّق الحافظ في التلخيص على كلام الرافعي قائلاً: " بوّب عليه البيهقي وأورد أقوال الصحابة فيها ". وقد وجدنا البيهقي (6/251) بوّب قائلاً: " باب الاختلاف في مسألة الأكدرية " ولكن لم يورد فيه أثر قبيصة.
ثم وجدنا هذا الأثر عند ابن حزم في المحلى حيث قال: وروينا من طريق سفيان بن
عيينة فال: حدثوني عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال: حدثني راوية زيد بن
ثابت -يعني قَبيصةَ بنَ ذؤيب- أنه لم يقل في الاكدرية شيئاً- يعني زيد بن ثابت.
(ر. المحَلى: 9/290 مسألة رقم: 1732، والتلخيص: 3/191) .(9/103)
الفصل الثالث
في قول ابن مسعود
6307- اعلم أن ابن مسعود في هذا الباب وافق علياً في بعض مذهبه، ووافق زيداً في بعض أصله، وانفرد عنهما في بعض مسائل الباب.
فأما ما وافق فيه علياً، فشيئان: أحدهما - أنه فرض للأخوات مع الجد إذا لم يكن معهن أخ.
والثاني - أنه كان لا يجمع بين ولد الأب والأم، وولد الأب في مقاسمة الجد معادّة، كما سنذكر ذلك مشروحاً من مذهب زيد.
وأمّا ما وافق فيه زيداً فشيئان: أحدهما - أنه اعتبر في المقاسمة بين الجد والإخوة والأخوات خيرَ الأمرين من المقاسمة، وثلث المال، إذا لم يكن معهم ذو فرض.
وإن كان معهم ذو فرض اعتبر ما اعتبره زيد من الأشياء الثلاثة: القسمة، وثلث ما تبقى، وسدس جميع المال، كما ذكرناه عن زيد.
6308- وأما ما انفرد به في الباب فثلاثة أشياء: أحدها - أنه قال: متى ما كان في المسألة مع الجد أخت، أو أخوات من الأب والأم، وأخ من أب، كان للأخوات فرضهن، والباقي للجد، ويسقط الأخ من الأب.
فإن كان في المسألة أخت من أب، وأختٌ من أبٍ وأم، وأخ من أب، قال: للأخت من الأب والأم النصف، والباقي للجد، ويسقط الأخ من الأب، ويسقط بسببه الأخت من الأب.
ولو لم يكن أخ من الأب، لقيل للأخت من الأب والأم النصف، وللأخت من الأب السدس تكملة الثلثين، والباقي للجد، فإذا كان معها أخ، سقطت بسقوطه، وسمي الأخُ الأخَ المشؤوم.(9/104)
والثاني - أنه كان [لا] (1) يفضل أُمّاً على جدٍ، والخلاف يتبين في كل مسألة لا يكون فيها من يحجب الأم من الثلث إلى السدس، وإذا دفعنا إليها الثلث، كان الباقي للجد أقلّ من ذلك، فإذا كانت المسألة متصورة بهذه الصورة، فعنه روايتان: إحداهما - أن للأم ثلث ما بقي بعد الفرض، وهو في معنى السدس.
والباقي للجد. كذلك رواه الشعبي عنه، وهو الرواية المشهورة.
والرواية الثانية - أن الباقي بعد الفرض يكون بين الأم والجد نصفين، وعلى هذه الرواية تصير المسالة إحدى مربعاته، كما سنصفها، إن شاء الله تعالى.
والثالث - أنه كان يقول في بنت، وأخت، وجد: للبنت النصف، والباقي بين الأخت والجد نصفان، وهذه المسألة إحدى مربعاته.
هذا هو المشهور من أصل ابن مسعود.
وقد رويت عنه رواية شاذة في مسألة من الباب عن الأعمش والمغيرة: أنهما قالا في أم، وأخٍ، وجد: للأم السدس، والباقي بين الأخ، والجد: نصفان، في قول عبد الله. قال الفرضيون: هذا ساقط غيرُ معتمد، والإجماع منعقد على أن للأم الثلث، فلا نخرم الإجماع بالرواية الشاذّة.
الفصل الرابع
في بيان قول عمر
6309- اختلف الرواية عنه رضي الله عنه، فروي مثلُ قول زيد، إلا مذهبُه في الأكدرية، وكان لا (2) يفضل الأم على الجدّ.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في غير نسخة الأصل: "يفضل". وهو لا يتفق مع ما أجمعت عليه النسخ في آخر الفصل، وما رأيناه في مذهب زيد، وأكد ذلك ما رواه سعيد بن منصور: ح 69، والبيهقي (6/252) من طريق إبراهيم النخعي قال: " كان عمر وعبد الله لا يفضلان أماً على جد".(9/105)
وروي عنه مثلُ قول علي في النظر إلى السدس، والمقاسمة، إذا لم يكن مع الجدّ والإخوة أحدٌ من أصحاب الفرائض.
وروي عنه مثلُ قول أبي بكر في أن الجد كالأب.
وروي عنه التوقفُ في ذلك كله.
وروي عنه النظر إلى ثلث المال والمقاسمة، كما صار إليه زيد.
وروي عنه القول بالمعادّة أيضاً (1) .
وإنما أفردنا الثلث، والمعادّة بالذكر، لأنهما من خصائص مذهب زيدٍ.
وروي أنه خطب في الناس، وقال: هل منكم أحد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرُ الجدّ؟ فقام رجلٌ، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض له السدسَ، فقال عمر: " من كان معه من الورثة "؟ فقال: لا أدري، فقال: " لا دريت ".
ثم خطبهم مرة أخرى، فسألهم؛ فقال رجل: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه الثلث، فقال: من معه من الورثة؟ فقال: لا أدري. قال: " لا دَرَيْتَ " (2) .
ثم جعل عمر عند تلك الرواية للجدّ مع الإخوة المقاسمةَ أو الثلث.
وبالجملة الروايات عنه مختلفة، وأصحها عنه مُوافقة زيد في هذا الباب إلا في ثلاثة مواضع: أحدها - الأكدرية.
__________
(1) الروايات المختلفة عن عمر في الجد أخرجها البيهقي في الكبرى: (6/246) وما بعدها، وعبد الرزاق في مصنفه (10/265 وما بعدها) ، وسعيد بن منصور في سننه: باب قول عمر في الجد (1/47) .
(2) روى هذا الأثر عن عمر رضي الله عنه سعيد بن منصور وعبد الرزاق والبيهقي، وهو خطبة واحدة تعددت فيها إجابة سؤال عمر وأخرجه أبو داود مختصراً (ر. سنن سعيد بن منصور:= ح 39، مصنف عبد الرزاق: ح 19058، البيهقي في الكبرى6/248، والمعرفة 9/139-140، أبو داود: الفرائض باب ما جاء في ميراث الجد، ح 2896) .(9/106)
والثاني - أنه كان لا يفضّل الأم على الجدّ وقد يفضلها (1) زيد.
والثالث - أن عمر فرض للأخت مع الجدّ النصف، وروي ذلك عنه [نصاً] (2) في مسألة الخرقاء (3) ، وما فرض زيد للأخت مع الجدِّ قط إلا في الأكدرية، وذلك تقدير وليس بتحقيق.
الفصل الخامس
في بيان أصل عثمان، والروايات مختلفة عنه رضي الله عنه
6310- فروي عن طاووس أن عثمان جعل الجد أباً (4) .
وروي أن معاوية كتب إلى زيد بن ثابت يسأله عن الجدّ والأخ، فكتب إليه: حضرتُ الخليفتين عمرَ وعثمانَ يقضيان للجدِّ مع الأخ النصف، ومع الاثنين الثلث، وكانا لا ينقصان من الثلث شيئاً (5) .
وأصح الروايات عن عثمانَ، أنه قال: بمذهب زيد. إلا في مسألة
الخرقاء، وصورتها:
أم، وأخت، وجد.
__________
(1) فيما عدا الأصل: فضلها.
(2) في الأصل: أيضاً.
(3) الخرقاء من المسائل الملقبات في علم الفرائض، وصورتها:
أم جد أخت
وسميت (خرقاء) لكثرة أقوال الصحابة فيها. وستأتي في الفصول التالية.
(4) أثر أن عثمان جعل الجد أباً، رواه عبد الرزاق في مصنفه، عن الزهري (11/263 ح 19050) ، ورواه سعيد بن منصور عن عطاء: ح 46، أما رواية طاووس فقد أشار إليها العظيم أبادي في التعليق المغني على الدارقطني (4/92) ، وذكر أن يزيد بن هارون أخرجها من طريق ليث عن طاووس.
(5) رواه عبد الرزاق: ح 19062، وسعيد بن منصور: ح 63، والبيهقي (6/249) .(9/107)
6311- فإن عثمان قسم المال فيها بينهم بالسويّة، وسميَّت المسألة مثلثة عثمان.
وقال زيد: للأم الثلث، والباقي بين الجد والأخت للذكر مثل حظ الأنثيين، أصلها من ثلاثة، وتصح من تسعة.
وقال علي: للأم الثلث، وللأخت النصف، وللجد السدس.
وقال عمر: للأخت النصف، وللأم ثلث ما بقي، والباقي للجدِّ.
وهذه رواية عن ابن مسعود.
وروي عن ابن مسعود رواية أخرى، أنه قال: للأخت النصف، والباقي يقسم بين الأم والجدّ نصفين، ولذلك تصير المسألة من مربعاته.
ومن جعل الجدّ أباً يقول: للأم الثلث، والباقي للجدّ.
وسميت المسألة الخرقاء لتخرّق المذاهب فيها (1) .
هذا بيان مذاهب الأئمة على الجملة.
6312- ونحن نذكر بعد ذلك ما يقع الاستقلال به في تعليل المذهب على الإيجاز، ثم نخوضُ في المسائل، ونخرّجها على الأصول.
فأمَّا الكلام في أن الجد لا يُسقط الإخوة، أو يسقطهم، فمستقصىً مع أبي حنيفة في مسائل الخلاف.
وإنما نتعرّض للتفاصيل مع القول بأن الجد لا يحجب الإخوة.
6313- فأما القول في الثلث والسدس على مذهب علي وزيد. فأما السدس، فتعليله بيّن.
__________
(1) انظر الروايات في مسألة الخرقاء في مصنف عبد الرزاق (10/269، 270 ح 19069،
19070) ، وسنن سعيد بن منصور (ح 70-71) ، والبيهقي (6/252) ، (ر.
التلخيص 3/190) .(9/108)
والقياس أن يقاسم الجدُّ الإخوةَ أبداً، إلا أن علياً رضي الله عنه قال: إذا كان الجدّ يأخذ السدس مع الابن، فلأن يأخذه مع الإخوة -وهم بنو الأب- أولى.
وأما زيد، فمذهبه في اعتبار الثلث يعتضد بالحديث الذي رويناه في أثناء المذاهب في الفصل الذي ذكرنا فيه مذهب عمر، وروينا أنه وافقه عليه الخليفتان عمر وعثمان.
ثم لزيد أن يقول: إذا اقتسم الأبوان، فالقسمة تقع أثلاثاً بينهما: للأم الثلث، وللأب الثلثان، وهما في الدرجة الأولى. [والجدّ] (1) والجدة يقعان في الرتبة الثانية، ثم للجدة السدس، وهو نصف ما للأم، فوجب أيضاً ألا ينقص الجد مع الإخوة عن الثلث، الذي هو نصف ما للأب.
6314- وأما الكلام في الفرض للأخوات مع الجد، فتعليله بيِّن؛ فإنه لا معصِّب معهن، وليس في الفرائض ذكر يعصّب أنثى وهم من قرابتين مختلفتين.
ومن عصّب الأخت بالجد قال: أقمنا الجدَّ مقام أخٍ، فقلنا: في جد، وأخ، وأخت: المال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، فليكن الأمر كذلك. في جدٍّ وأخت؛ فإنه لم يحدث ما يردّ الجدّ إلى الفرض، وكان الجد عصبة معصِّباً.
وهذا ضعيف؛ فإن تعصيبه يمكن إبقاؤه مع فرض الأخت، بأن يقال: للأخت النصف، وللأختين الثلثان، والباقي للجد.
وقد يقول زيد: الجد مع الأخت والأخ يفضل الأخت: فإذا كان في المسألة: أختان، وجدّ، فينبغي أن يفضُلَ الجدُّ كلَّ واحدةٍ منهما. أو (2) إذا كان
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) (د 1) ، (ت 3) ، (ت 2) : وإذا كان.(9/109)
في المسألة أخت واحدة، فينبغي أن يفضلها، مع كونه عصبة، ولا طريق مع ذلك إلا إحلال الجد محل أخٍ.
وهذا مع ما ذكرناه مدخول؛ إلا أن يعضد بتقرير قوة الجد؛ فإنه عصبة من صلب النسب، ولأجل هذا ذهب شطر الأُمة إلى إسقاط الإخوة بالجدّ، فهذا منتهى الاضطراب في ذلك.
6315- فأمّا القول في الجد، والبنت، وبنت الابن، مع الإخوة، فمن يرى للجد السدس، يعتلّ بأن البنت وبنت الابن يردان الأبَ إلى السدس، فيجب ذلك في الجد، ثم إذا ثبت، فلا يُجمع له بين السدس ومزيدٍ؛ إذْ معه في الفريضة من يرث، وإنّما يأخذ الأب بالفرض والتعصيب إذا انفرد عن مزاحمٍ بعد البنت، وبنت الابن.
فأمّا زيد؛ فإنه يقول: في الجدّ قوة الأبوة، ولكنه لا يُسقط الأخَ والأختَ، فَقَصْرُه على السدس، وتفضيل الأخ والأخت عليه، لا سبيل إليه، ولو اقتصر حقُّه على السدس، لكانت البنت سبباً في تكثير نصيب الأخ، وتقليل نصيب الجد، وهذا بعيد.
وأمّا قول زيد في المعادّة عند تقديره القسمةَ بين الجد، والأخ من الأب والأم، والأخ من الأب، فمعلّلٌ بأن الأخ من الأب والأم يقول للجدّ: أنت لا تحجب الأخ من الأب، وإنما أنا الحاجب؛ فأعدّه عليك، لأزحمك، ثم أسترد منه، على ما سيأتي تفصيل ذلك.
وهذا كما أن الإخوة يحجبهم الأب، وهم يحجبون الأم من الثلث إلى السدس، وإن سقطوا بالأب، وهو على التحقيق بمثابة تلك المسالة، غيرَ أن ذلك حَجْبٌ من فرض إلى فرض، وهذا حَجْبٌ بالزحمة.
6316- هذا منتهى ما أردناه في تعليل المذاهب، ولولا شهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بالتقدّم في الفرائض وإلا لاقتضى الإنصاف اتباعَ عليٍّ في(9/110)
باب الجد؛ فإنه أنقى المذاهب وأضبطها، وليس فيه خرم أصل، ولا استحداث شيءٍ بدع.
ونحن بعد ذلك نستفتح المسائل، ونخرّجُها على المذاهب. ومسائل الباب أصناف، فالذي يقتضيه الترتيب إيرادها مفصلةً صنفاً صنفاً.
6317- قال الأستاذُ أبو منصور: مسائل الباب يحصرها ستة أقسام: القسمُ الأول- أن يكون فيها مع الجد عصبة من الإخوة والأخوات، ويكون الإخوة من صنف واحد، فإنهم إن كانوا أولاد أب وأم، وأولاد أبٍ، وقعت المسائل في المعادّة، ومسائلها تقع في القسم السادس. فإذاً هذا الصنف في جدٍ مع إخوة، أو إخوة وأخواتٍ من أب وأمٍ، أو من أب، وليس معهم ذو فرض.
فعليٌّ رضي الله عنه يقول: يقاسم الجدُّ إلاّ (1) أن يكون السدس خيراً له من المقاسمة، وزيد وابن مسعود يقولان يقاسمهم، إلا أن يكون الثلث خيراً من المقاسمة. ومسائله:
أخ وجد.
فالمال بينهما نصفان.
أخوان، وجد.
المال بينهما أثلاث.
ثلاثة إخوة، وجد.
في قول علي: المال بينهم أرباع.
وفي قول زيد وابن مسعود: للجد الثلث، والباقي للإخوة: أصلها من ثلاثة، وتصح من تسعة.
__________
(1) (د 1) ، (ت 3) ، (ت 2) : إلى أن.(9/111)
خمسة إخوة، وجد.
في قول علي: المال أسداس. وفي قول زيد، وابن مسعود: [للجدّ] (1) الثلث، والباقي [للإخوة] : أصلها من ثلاثة وتصح من خمسةَ عشرَ.
ستة إخوة، وجَد.
في قول علي: للجد السدس، والباقي للإخوة: أصلها من ستة، وتصح من ستة وثلاثين.
وفي قول زيد، وابن مسعود: [للجد] الثلث، والباقي [للإخوة] : أصلها من ثلاثة، وتصح من تسعة.
أخ، وأخت، وجدّ.
للذكر مثل حظ الأنثيين على خمسة في قولهم.
أخ وأختان وجدّ.
المال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين على ستة.
أخٌ، وثلاث أخوات، وجدّ.
في قول علي: المالُ بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين على سبعة.
وفي قول زيد وابن مسعود: للجد الثلث، والباقي بين الأخ والأخواتِ للذكر مثل حظ الأنثيين: أصلها من ثلاثة وتصح من خمسةَ عشرَ.
وعلى هذا البابُ وقياسه.
6318- القسم الثاني من مسائل هذا الباب - أن يكون مع الجد عصبة من الإخوة (2) مع اتحاد الصنف، وذو فرضٍ مسمّىً، فإن كان معهم من فرضُه
__________
(1) هذه الكلمة بين المعقفين، وثلاث بعدها حذفت اختصاراً، ورأينا إثباتها لمزيد الإيضاح. والله من وراء القصد.
(2) من الإخوة: أي ومعهم الأخوات، كما هو مفهوم، ثم مذكور صراحة في آخر المسألة.(9/112)
السدس، فالاعتبار بالمقاسمة في قول علي إلى عشرة أسهم، فإن زادت السهام على ذلك، فُرض له السدس، وكان الباقي للإخوة والأخواتِ.
وفي قول زيد وابن مسعود يكون الاعتبار بالمقاسمة إلى ستة، فإن زادت السهام على ذلك، فرض للجد ثلث الباقي بعد السدس، وتصير المسألة حينئذ من ثمانية عشر. وهي من ضرب ثلاثة في ستة.
وإن كان معهم من فرضه الربع، فالمقاسمة في قول علي إلى تسعة (1) ، فإن زادت على ذلك، فرض له السدس.
وفي قول زيد وابن مسعود إلى الستة، وإن زادت، فرض له ثلث الباقي بعد الربع، وصار أصلها من أربعة.
وإن كان معهم من فرضه النصف، فالاعتبار بالمقاسمة إلى ستة في مذهب الجميع، فإن زادت على الستة، جعل أصل المسألة من ستة.
وإن كان الفرض أكثر من النصف، فرض له السدس، وكان الباقي بعد الفروض للإخوة والأخوات.
مسائله:
جدّ، وجدة، وأخ، وأختان.
للجدة السدس، والباقي بين الجد والأخ والأختين على ستة أسهم للذكر مثل حظ الأنثيين، أصلها من ستة، وتصح من ستة وثلاثين.
جدّة، وجد، وأخوان، وأخت.
في قول علي: للجدة السدس، والباقي بين الأخوين، والأخت، والجد،
__________
(1) يتضح ذلك بفرض مسألة من: زوجة، وجد، وأخوين، وثلاث أخوات من أب. فالمسألة من أربعة، وتصح من اثني عشر، للزوجة ثلاثة. ويبقى تسعة للجد اثنان، وهذا ما يساوي السدس، الذي لا يقل الجد عنه في مذهب علي. فلو زادت السهام بعد (الربع) على تسعة، لا تصح المقاسمة لأنها ستعطي الجد أقل من السدس.(9/113)
على سبعة. أصلها من ستة وتصح من اثنين وأربعين.
وفي قول زيد وابن مسعود: للجدّة السدس، وللجد ثلث ما يبقى، والباقي للأخوين، والأخت على خمسة، أصلها من ثمانية عشر. ومنها تصح.
جدّة، وجد، وثلاث أخوات، وثلاثة إخوة.
في قول علي: للجدّة السدس، وللجد السدس، والباقي بين الإخوة، والأخوات، على تسعة: أصلها من ستة، وتصح من أربعة وخمسين.
وفي قول زيد وابن مسعود: للجدة السدس وللجد ثلث الباقي، والباقي بين الإخوة، والأخوات على تسعة. أصلها من ثمانية عشر، وتصح من مائة واثنين وستين.
زوجة، وجد، وأخ، وأخت.
للمرأة الربع، والباقي بين الجد والأخ والأخت على خمسة. أصلها من أربعة، وتصح من عشرين.
زوجة، وجد، وأخ، وأختان.
للمرأة الربع والباقي بين الجد، والأخ، والأختين على ستة. أصلها من أربعة وتصح من ثمانية.
امرأة، وجد، وأخوان، وثلاث أخوات.
في قول علي: للمرأة الربع، والباقي بين الجدّ والأخوين والأخوات على تسعة.
وفي قول زيدٍ وابن مسعود: للمرأة الربع، وللجد ثلث ما يبقى، والباقي بين الأخوين والأخوات، على سبعة. أصلها من أربعة، وتصح من ثمانية وعشرين.(9/114)
زوج، وأخت، وأخ، وجد.
للزوج النصف، والباقي بين الجد والأخ والأخت على خمسة. أصلها من اثنين وتصح من عشرة (1) .
زوج، وجد، وأخ، وأختان.
للزوج النصف، والباقي بين الجد، والأخ، والأختين، على ستة. أصلها من اثنين، وتصح من اثنا عشر (2) .
زوج، وجد، وأخوان، وأخت.
للزوج النصف، وللجد السدس، وهو مثل ثلث الباقي، والباقي بين الأخوين والأخت، على خمسة. أصلها من ستة، وتصح من ثلاثين (3) .
جد، وجدة، وزوج، وأخ.
للجدّة السدس، وللزوج النصف، والباقي بين الجدّ والأخ (4) .
جد، وجدّة، وزوج، وأخوان.
للجدة السدس، وللزوج النصف، وللجد السدس، والباقي للأخوين، أصلها من ستة، وتصح من اثني عشر.
6319- القسم الثالث - أن يكون مع الجد أخوات من صنفٍ واحد، فعلى قول علي وابن مسعود يفرض للأخوات، والباقي للجد، إلا أن يكون غيرهن صاحب فرض معهن. فإن كان الفاضل سدساً، فهو للجد، وإن كان أقلَّ، فرض له السدس، وعالت المسألة.
__________
(1) المقاسمة أحظُّ للجد هنا؛ فقد أعطته 2/10 وذلك أكثر من سدس الكل، وأكثر من ثلث الباقي بعد الزوج.
(2) هنا استوت المقاسمة وثلث الباقي وسدس الكل؛ حيث أعطته 2/12.
(3) فرض للجد السدس هنا؛ لأن المقاسمة -لوكانت- ستنقصه عن سدس الكل، وعن ثلث الباقي، حيث ستعطيه 2/14.
(4) أعطته المقاسمة سدس الكل، وأكثر من ثلث الباقي.(9/115)
وفي قول زيد يقسم المال بين الجدّ والأخوات إلى ستة للذكر مثل حظ الأنثيين، فإن زادت سهام القسمة على ستة، فرض له ثلث جميع المال.
وإن كان معهم ذو فرض، وزادت السهام، فرض له ثلث الباقي بعد الفروض إلا أن يكون السدس أكثر من ثلث ما بقي، ويكون الباقي للأخوات، ولا فرض للأخوات مع الجد إلا في الأكدرية.
مسائله:
جدّ، وأخت.
في قول علي، وعبد الله بن مسعود: للأخت النصف، والباقي للجد، وتصح من اثنين.
وفي قول زيد: المال بينهما: للذكر مثل حظ الأنثيين، على ثلاثة.
جد، وأختان.
في قول علي وعبد الله: للأختين الثلثان، والباقي للجد. من ثلاثة.
وفي قول زيد: المال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، على أربعة.
جدّ، وخمس أخوات.
في قول علي وعبد اللهِ: للأخوات الثلثان، والباقي للجدّ.
وفي قول زيدٍ: للجدّ الثلث، والباقي للأخوات. والقولان يرجعان إلى معنىً واحد، ويختلفان في التقدير.
جد، وجدة، وأخت.
في قول علي وعبد الله: للجدة السدس، وللأخت النصف، والباقي للجدّ.
وفي قول زيد: للجدة السدس، والباقى بين الجدّ والأخت على ثلاثة.
أصلها من ستة، وتصح من ثمانية عشر.(9/116)
جد، وجدة، وخمس أخوات.
في قول علي وعبد الله: الجدة السدس، وللأخوات الثلثان، والباقي للجد.
وفي قول زيد: للجدة السدس، وللجد ثلث الباقي، والباقي للأخوات.
أصلها من ثمانية عشر ومنها تصح.
امرأة، وجد، وأختان.
في قول علي وعبد الله: للمرأة الربع، وللأختين الثلثان، وللجد السدس.
أصلها من اثني عشر، وتعول إلى ثلاثة عشر.
وفي قول زيد: للمرأة الربع، والباقي بين الجد والأختين على أربعة. أصلها من أربعة وتصح من ستة عشر.
زوج، وأختان، وجد.
في قول علي وعبد الله: للزوج النصف وللأختين الثلثان، وللجد السدس. أصلها من ستة، وتعول إلى ثمانية.
وفي قول زيد: للزوج النصف، والباقي بين الجدّ والأختين، على أربعة.
أصلها من اثنين، وتصح من ثمانية.
القسم الرابع من مسائل الباب
6320- أن يكون مع الجدّ، والإخوة، والأخوات، بنت، أو بنت ابن.
كان علي يفرض للجدّ السدس، فلا يزيده عليه، ويجعل الباقي بعد الفروض للإخوة والأخوات [وبنت أو بنت ابن] (1) .
وكان زيد يقسم الباقي بعد الفرض، بين الجدّ والإخوة والأخوات إلا أن
__________
(1) ساقط من الأصل.(9/117)
تكون القسمة أقلّ من السدس، أو ثلث ما بقي. وكذلك كان يفعل ابن مسعود إلا في مسألةٍ واحدة، وهي:
بنت، وأخت، وجد.
فإنه قسّم الفاضل عن فرض البنت بين الأخت والجد نصفين.
مسائله:
بنت، وأخ، وجد.
في قول علي: للبنت النصف، وللجد السدس، والباقي للأخ.
وفي قول زيد وابن مسعود: للبنت النصف، والباقي بين الجد والأخ نصفين، وتصح من أربعة.
بنت، وأخوان، وجد.
في قول علي: للبنت النصف، وللجد السدس، والباقي بين الأخوين.
وفي قول زيد وابن مسعود: للبنت النصف والباقي بين الجد والأخوين أثلاثاً.
بنت، وثلاثة إخوة، وجد.
في قول الثلاثة علي وابن مسعود وزيد: للبنت النصف، وللجد السدس، وهو مثل ثلث الباقي، وما بقي للإخوة. أصلها من ستة، وتصح من ثمانية عشر.
بنت، وأخ، وأخت، وجد.
في قول علي: للبنت النصف، وللجد السدس، والباقي بين الأخ والأخت للذكر مثل حظ الأنثيين.
وفي قول زيد وابن مسعود: للبنت النصف، والباقي بين الجد والأخ، والأخت، على خمسة. أصلها من اثنين وتصح من عشرة.(9/118)
بنت، وأخت، وجد.
في قول علي: للبنت النصف، وللجد السدس، والباقي للأخت، وتصح من ستة.
وفي قول زيد: للبنت النصف والباقي بين الجدّ والأخت للذكر مثل حظ الأنثيين.
وفي قول ابن مسعود: للبنت النصف، والباقي بين الجد والأخت نصفين.
وهذه إحدى مربعاته.
وإنما وقع له هذا، لأنه لا يعصّب الأخت بالجد، ولا يمكنه أن يعطيها الفرض، لمكان البنت، فربَّع المسألة لذلك، وجعل الأخت أخاً؛ لأنها عصبة مع البنت، كما أن الجد عصبة.
بنت أو بنت ابن، وخمس أخوات، وجد.
في قول الثلاثة: للبنت النصف وللجد السدس، وهو مثل ثلث الباقي، والباقي للأخوات.
امرأة، وبنت، وأخ، وأخت، وجدّ.
في قول الثلاثة: للمرأة الثمن، وللبنت النصف، وللجد السدس، والباقي
بين الأخ والأخت، للذكر مثل حظ الأنثيين. فإن أسقطت الأخت منها، ففي قول علي: للمرأة الثمن، وللبنت النصف، وللجد السدس، والباقي للأخ.
وفي قول زيد، وابن مسعود: للمرأة الثمن وللبنت النصف، والباقي بين الأخ، والجد، نصفين، أصلها من ثمانية وتصح من ستة عشر.
جدّة، وبنتان، وجد، وأخ.
للجدة السدس، وللبنتين الثلثان، وللجد السدس، ويسقط الأخ في قول الجميع.(9/119)
زوج، وبنت، وأخت، وجد.
للزوج الربع، وللبنت النصف، وللجد السدس، والباقي للأخت في قول الثلاثة.
زوج، وأم، وبنتان، وأخت، وجد.
للزوج الربع، وللأم السدس، وللبنتين الثلثان، وللجد السدس، تعول المسألة من اثني عشر إلى خمسةَ عشرَ، وتسقط الأخت في قول الثلاثة.
زوجة، وأم، وبنتان، وأخت، وجد.
للزوجة الثمن، وللأم السدس، وللبنتين الثلثان، وللجد السدس، والمسألة تعول من أربعة وعشرين إلى سبعة وعشرين، وتسقط الأخت في قول الجميع.
القسم الخامس
في ميراث الأم مع الجد وبعض الإخوة
6321- كان عمر لا يفضل الأمَّ على الجد، ويُنزل الجدَّ منزلة الأب في الفريضة، ويقول:
زوج، وأم، وجد.
بمثابة زوج وأبوين.
وزوجة، وأم، وجد.
بمثابة زوجة وأبوين.
وهو رواية عن ابن مسعود.
وروي عن ابن مسعود التسويةُ بينهما.
ولا يخفى مذهب زيد في تفضيل الأم على الجد، وهو مذهب علي.(9/120)
مسائله:
زوج، وأم، وأخ، وجد.
في قول علي وزيد: للزوج النصف، وللأم الثلث، وللجد السدس، ويسقط الأخ.
وفي قول عمر وعبد الله: للزوج النصف، وللأم ثلث ما بقي وهو السدس، والباقي بين الأخ والجد نصفين.
زوج، وأم، وأخت وجد.
وهي مسألة الأكدرية.
في قول ابن مسعود: للزوج النصف، وللأم ثلث ما بقي، وهو السدس، وللأخت النصف، وللجد السدس، تعول من ستة إلى ثمانية.
وفي قول علي: للزوج النصف، وللأم الثلث، وللأخت النصف، وللجد السدس، تعول من ستة إلى تسعة. وهذا مذهب زيد في وضع المسألة، في الرواية المشهورة رواها خارجة (1) بن زيد إلا أنه يجمع بين نصيب الجد والأخت، فيقسم بينهما على ثلاثة، وتصبح من سبعة وعشرين.
وعلى رواية قَبيصة، للزوج النصف وللأم الثلث، وللجد السدس، وتسقط الأخت.
امرأة، وأم، وأخت، وجد.
في قول عمر وعبد الله: للمرأة الربع، وللأم السدس وللأخت النصف، وللجد السدس. تعول المسألة من اثني عشر إلى ثلاثةَ عشرَ.
في قول علي للمرأة الربع، وللأم الثلث، وللأخت النصف، وللجد السدس. تعول من اثني عشر إلى خمسةَ عشرَ.
__________
(1) خارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري- تابعي. أحد فقهاء المدينة السبعة ت 99 هـ.(9/121)
وفي قول زيد: للمرأة الربع، وللأم الثلث، والباقي بين الجد والأخت، للذكر مثل حظ الأنثيين. أصلها من اثني عشر، وتصح من ستة وثلاثين.
أم، وأخت، وجد.
هذه مسألة الخرقاء، وقد بيّنا الخلافَ فيها قبل هذا.
امرأة، وأم، وجد، وأخ.
في قول علي وزيد: للمرأة الربع، وللأم ثلث المال، والباقي بين الأخ والجد نصفين.
وفي قول عمر وعبد الله: للمرأة الربع، وللأم ثلث ما بقي، والباقي بين الجدّ والأخ نصفين، وهذه إحدى مربعات ابن مسعود، وله أربعُ مربعات نجمعها:
إحداها - مسألة الخرقاء، وصورتها:
أخت، وجدّ، وأمّ.
للأخت النصف، والباقي بين الأم والجد نصفين، فكانت الفريضة مربعة عنده.
والثانية:
زوج، وأخت، وجد.
فعند ابن مسعود: للزوج النصف، وللأخت الربع، وللجد الربع، فهذه مربعته الثانية.
والثالثة:
بنت، وأخت، وجد.
للبنت عنده النصف، وللأخت الرّبع، وللجد الربع.(9/122)
الرابعة:
زوج، وأم، وأخت، وجد.
فعند ابن مسعود: للزوجة الربع، وللأم ثلث ما تبقّى، وهو ربع المال، وللأخت الربع، وللجدّ الربع.
فهذه مربعاته.
ومذهبه مختلطٌ فيها.
القسم السادس - في المعادَّة
6322- جملة المعادة على أربعة أضرب.
الأول - أن يكون ولد الأب والأم عصبة وولد الأب عصبة، على قول علي وعبد الله: لا يكون بولد الأب اعتبار، وتكون القسمة بين الجدّ، وولد الأب والأم.
وفي قول زيد القسمة بين الجميع، مع اعتبار الثلث للجد، ثم يَرُدّ ولدُ الأب ما في يده على ولد الأب والأم. فإن كان معهم ذو فرض اعتبر بعد الفرض للجدّ القسمةُ، أو ثلثُ ما بقي، أو سدس المال، على ما تقدم أصله.
مسائله:
جدّ، وأخ من أبٍ وأم، وأخ من أب.
في قول علي وعبد الله: المال بين الأخ من الأب والأم، وبين الجد نصفين.
وفي قول زيد: المال بين الجدّ والأخ من الأب والأم، والأخ من الأب على ثلاثة، ثم يرُدّ الأخ من الأب ما في يده على الأخ من الأب والأم، فيصير للأخ من الأب والأم ثلثا المال، وللجد الثلث.(9/123)
جدٌّ، وأخٌ وأخت لأب وأم، وأخ لأبٍ.
في قول علي وعبد الله: المال بين الجد والأخ والأخت من الأب والأم على خمسة.
وفي قول زيد: للجدّ الثلث، والباقي بين الأخ والأخت من الأبوين على ثلاثة. أصلها من ثلاثة وتصح من تسعة.
زوجٌ، وجد، وأخ من أبٍ وأمٍ، وأخ من أب.
في قول علي وعبد الله: للزوج النصف، والباقي بين الجد والأخ من الأب والأم نصفين.
وفي قول زيد: للزوج النصف، والباقي بين الجد، والأخ من الأب والأم، والأخ من الأب، على ثلاثة، وتستوي فيها القسمة والسدس، وثلث الباقي، ثم يردُّ الأخُ من الأب سهمَه على الأخ من الأب والأم.
امرأة، وجد، وأخ من أبٍ وأم، وأخ من أب.
في قول علي وعبد الله: للمرأة الربع، والباقي بين الجد والأخ من الأب والأم. وفي قول زيد: للمرأة الربع، والباقي بين الجد والأخ من الأب والأم والأخ من الأب، على ثلاثة. ثم يردُّ الأخ من الأب ما في يده على الأخ من الأب والأم، فيكمل للأخ من الأب والأم نصف المال. وللجد الربع، وتصير من أربعة.
6323- والضرب الثاني: من مسائل المعادّة: أن يكون ولد الأب والأم عصبة، وولد الأب أخوات، فلا اعتبار بولد الأب في قول علي وعبد الله.
وفي قول زيد: يدخُلن في القسمة ثم يدفعن ما أصابهنّ إلى ولد الأب والأم.(9/124)
مسائله:
جدّ، وأخ لأبٍ وأمٍ، وأخت لأبٍ.
في قول علي وعبد الله: المال بين الجدّ والأخ نصفين.
وفي قول زيد: المال بين الجميع على خمسة، ثم تَردُّ الأختُ سهمَها على الأخ من الأب والأم، فيصير للجدّ سهمان، وللأخ ثلاثة.
جدّ، وأخ لأبٍ وأم، وأختان لأب.
في قول علي وعبد الله: المال بين الجد والأخ نصفين.
وفي قول زيد: المال بينهم على ستة، ثم تَردُّ الأختان سهمَهما على الأخ من الأب والأم، فيصير للجد سهمان، وللأخ أربعة.
جد، وأخ وأخت لأبٍ وأمٍ، وأخت لأبٍ.
في قول علي وعبد الله: المال بين الجد والأخ والأخت من الأب والأم، على خمسة.
وفي قول زيد: المال بين الجميع على ستة، ثم ترد الأخت من الأب سهمَها على الأخ من الأبِ والأم، بينهما على ثلاثة. أصلها من ستة وتصحُّ من ثمانيةَ عشرَ.
امرأة، وجد، وأخ من أبٍ وأمٍ، وأخت من أب.
في قول علي وعبد الله: للمرأة الربع، والباقي بين الجد والأخ من الأب والأم نصفين، أصلها من أربعة، وتصحّ من ثمانية.
وفي قول زيدٍ: للمرأة الربع، والباقي بين الجد، والأخ والأخت على خمسة أصلها من أربعة، وتصحّ من عشرين. ثم تَردّ الأختُ ما في يدها على الأخ من الأب والأم.(9/125)
6324- الضرب الثالث من مسائل المعادة: أن يكون ولد الأب والأم أخوات، وولد الأب عصبة.
على قول علي: نفرض لولد الأب والأم ونقسم الباقي بين ولد الأب والجد، [ونعتبر] (1) القسمةَ والسدس.
وفي قول عبد الله: يُفرض لولد الأب والأم، ويكون الباقي للجد، ويسقط
ولد الأب؛ فإن كان الباقي أقلَّ من السدس، فرض للجد السدس.
وفي قول زيد: يقسم المال بين الجميع: للذكر مثل حظ الأنثيين ما لم تجاوز القسمة ستة أسهم، وما حصل في يد ولد الأب ردّوا منه على ولد الأب والأم مقدارَ ما يكمل به فرضهن، أوْ جميع ما في أيديهم إلى تكملة الفرض.
مسائله:
جد، وأخت لأبٍ وأمٍ، وأخ لأب.
في قول علي: للأخت النصف، والباقي بين الجد والأخ نصفين.
وفي قول ابن مسعود: للأخت النصف، والباقي للجدّ.
وفي قول زيد: المال بين الجميع، على خمسة، ثم يرد الأخُ من الأب على الأخت تمامَ النصف، فتصحّ من عشرة، للجدّ من أول القسمة أربعة، وللأخ من الأب أربعة، وللأخت من الأب والأم سهمان، ثم يردُّ الأخ من الأب على الأخت من الأب والأم ثلاثة؛ تكملة النصف، فيفضل له سهمٌ واحد.
أخت لأبٍ وأم، وأخوان لأب، وجدّ.
في قول علي: للأخت النصف، والباقي بين الجد والأخوين على ثلاثة، وتصح من ستة.
وفي قول عبد الله: للأخت النصف، والباقي للجد.
__________
(1) في الأصل: فنعتبر.(9/126)
وفي قول زيد للجدّ الثلث، [ونجعل] (1) للأخت النصف، والباقي للأخوين، وتصح من اثني عشر.
أخت لأبٍ وأمٍ، وأخ، وأخت لأبٍ، وجد.
في قول علي: للأخت من الأب والأم النصف، والباقي بين الجد، والأخ، والأخت من الأب: على خمسة، وتصح من عشرة.
وفي قول عبد الله: للأخت من الأب والأم النصفُ، والباقي للجد، وصار الأخ مشؤوماً على الأخت من الأب.
وفي قول زيد: المال بينهم على ستة، ثم يرد ولد [الأب] (2) على الأختِ من الأبِ والأم تمامَ النصف، فيبقى مع ولد الأب سهمٌ بينهما: على ثلاثة. أصلها من ستة، وتصح من ثمانية عشر.
جدّ، وجدة، وأخت لأبٍ وأمٍ، وأخ لأب.
في قول علي: للجدة السدس، وللأخت من الأب والأم النصف، والباقي بين الجد والأخ نصفين.
وفي قول عبد الله: للجدة السدس، وللأخت من الأب والأم النصف، والباقي للجدّ خاصة.
وفي قول زيد: للجدة السدس، والباقي بين الجد، والأخ، والأخت على خمسة، ثم يردّ الأخُ من الأب على الأخت من الأبِ والأم ما في يده ليكمل لها النصف، وتصحّ من ستة.
أم، وجد، وأخت لأبٍ وأمٍ، وأخ، وأخت لأب.
في قول علي: للأم السدس، وللأخت النصف، وللجد السدس، والباقي
__________
(1) في الأصل: ويحصل.
(2) في الأصل: الابن.(9/127)
بين الأخ والأخت من الأب على ثلاثة، وتصح من ثمانية عشر.
وفي قول عبد الله: للأم السدس، وللأخت من الأبِ والأمِ النصف، والباقي للجد.
وفي قول زيدٍ: للأم السدس، والباقي بين الجد، والأخت من الأب والأم، والأخ والأخت من الأب على ستة، يستوي فيها القسمة، وثلثُ ما تبقّى، وهما خير من السدس، ويرد فيها ولدُ الأب على الأخت من الأب والأم تمام النصف، فيبقى في يد ولد الأب سهم، بينهما على ثلاثة، وتصح المسألة من أربعة وخمسين.
امرأة، وجد، وأخت من أبٍ وأمٍ، وأخ لأب.
في قول علي: للمرأة الربع، وللأخت النصف، وللجد السدس، والباقي للأخ.
وفي قول عبد الله: للمرأة الربع، وللأخت النصف، والباقي للجد.
وفي قول زيد: للمرأة الربع، والباقي بين الجد، والأخ، والأخت، على خمسة، ثم يردّ الأخ ما في يده على الأخت من الأبِ والأمِّ، وتصح من عشرين.
أختان لأبٍ وأم، وأخ لأب، وجد.
في قول علي: للأختين الثلثان، والباقي بين الجد والأخ [من الأب] (1) نصفين.
وفي قول عبد الله: للأختين الثلثان، والباقي للجد.
وفي قول زيد المال بينهم على ستة، ثم يرد الأخ من الأب جميعَ ما في يده على الأختين من الأبوين ليكْمَل لهما الثلثان.
__________
(1) زيادة من النسخ الثلاث غير الأصل.(9/128)
6325- الضرب الرابع من مسائل المعادّة: أن يكون ولد الأب والأم وولد الأب كلاهما أخوات، فعلى قول علي، وابن مسعود: يفرض لهن على القياس فيهن، ويكون الباقي للجد، إلا أن يكون أقل من السدس.
وفي قول زيد: يقسّم المال، أو الباقي منه بعد فرض ذوي الفروض، بين الجد والأخوات. إلا أن يكون السدسُ، أو ثلثُ الباقي خيراً له من القسمة. ثم يَردُّ ولدُ الأب على ولد الأب والأم ما يتم به فرضُهم، أو جميعَ ما في أيديهم إن لم يتم الفرض.
مسائله:
جد، وأخت لأب وأم، وأخت لأب.
في قول علي وعبد الله: للأخت من الأب والأم النصفُ، وللأخت من الأب السدس، والباقي للجد. وتصحّ من ستة.
وفي قول زيد: المال بين الجد والأختين على أربعة، ثم تردّ الأخت من الأب على الأخت من الأب والأم [ما في يدها] (1) لتكمل لها النصف، فيصير المال بين الجد والأخت من الأب والأم نصفين.
أختٌ لأبٍ وأمٍّ، وأختان لأبٍ، وجد.
في قول علي وعبد الله: للأخت من الأب والأم النصف، وللأختين من الأب السدس، والباقي للجد.
وفي قول زيد: المال بينهم: للذكر مثلُ حظ الأنثيين، على خمسة، ثم يرد الأختان من الأب، على الأخت من الأب والأم مقدارَ سهمٍ ونصفٍ ليكمل لها النصف، ويبقى للأختين [من الأب] (2) نصفُ سهم بينهما، فنضرب أربعةً في خمسة، فتردّ عشرين، فمنها تصح.
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) زيادة من غير الأصل.(9/129)
أخت لأبٍ وأمٍ، وأربع أخوات لأبٍ، وجد.
في قول علي وعبد الله: للأخت من الأبِ والأم النصف، وللأخوات من الأب السدس، والباقي للجد.
وفي قول زيد: للجدِّ الثلث، وللأخت من الأب والأمَّ النصف، والباقي للأخواتِ من الأبِ.
جد، وأختان لأبٍ وأم، وأخت لأب.
في قول علي وعبد الله: للأختين من الأب والأم الثلثان، والباقي للجد.
وفي قول زيد: المال بينهم على خمسة ثم ترد الأخت من الأب، ما في يدها على الأختين من الأب والأم.
جد، وأم، وأخت من أبٍ وأمٍّ، وثلاث أخوات لأب.
في قول علي وعبد الله: للأم السدس، وللأخت من الأب والأم النصف، وللأخوات من الأب السدس، والباقي للجد.
وفي قول زيدٍ: للأم السدس، والباقي بين الجد والأخوات على ستة، تستوي المقاسمة وثلث ما يبقى، وهما خيرٌ من السدس، ثم يرد ولد الأب على الأخت من الأب والأم تمامَ النصف.
جد وجدّة، وأخت لأب وأم، وأربع أخوات لأب.
في قول علي وعبد الله: للجدة السدس، وللأخت من الأب والأم النصف، وللأخوات من الأب السدس، والباقي للجد، وهو السدس.
وفي قول زيد: للجدة السدس، وللجد ثلث الباقي، وللأخت من الأب والأم النصف، والباقي للأخواتِ من الأب: أصلها من ثمانيةَ عشر، وتصح من اثنين وسبعين.(9/130)
زوج، وجد، وأخت لأبٍ وأمٍّ، وأخت لأب.
في قول علي وعبد الله: للزوج النصف، وللأخت من الأب والأم النصف، وللأخت من الأب السدس، وللجد السدس، وتعول المسألة من ستة إلى ثمانية.
وفي قول زيد: للزوج النصف، والباقي بين الجد والأختين على أربعة، ثم تردُّ الأختُ من الأب ما في يدها على الأخت من الأب والأم، فيكون الباقي بعد نصيب الزوج بين الجد والأخت من الأب والأم نصفين.
زوج، وأختان لأبٍ وأمً، وأختان لأبٍ، وجد.
في قول علي وعبد الله: للزوج النصف، وللأختين من الأب والأم الثلثان، وللجد السدس، وتعول من ستة إلى ثمانية.
وفي قول زيد: للزوج النصف، والباقي بين الجد والأخوات على ستة، ثم تردّ الأختان من الأب ما في أيديهما على الأختين من الأب والأم.
وعلى هذا فقِسْ جميعَ مسائل الباب. ولم نذكر في المسائل مذهبَ من يجعل الجد أباً لظهوره.
القول في العول وبيان المذاهب فيه
6326- ذكر الشافعي العول، ومصيرَ جمهور الصحابة رضي الله عنهم إليه، فنذكر أولاً الأصول التي تنشأ مسائل الفرائض منها، ثم نعطفُ عليها العولَ ومسائلَه.
فنقول: المسالة الواقعة في المواريث لا تخلو إمّا أن تشتمل على صاحب فرضٍ أو أكثر، وإما أن تخلو عن أصحاب الفروض. وتشتمل على العصبات.
6327- فإن تجرد فيها العصبات، فالعدد الذي تصحّ المسألة منه يؤخذ من(9/131)
أعدادِ الرؤوس: فإن تمحّضوا ذكوراً، فالمسألة تقام من عدد رؤوسهم، كما إذا قيل: مات رجل، وخلف عشرةً من البنين، فالمسألة من عشرة.
وإن كانوا ذكوراً وإناثاً، أخذنا عددَ رؤوس الإناث، وحسبنا كلَّ ذكرٍ برأسين؛ فإن حصةَ الذكر في التعصيب حصة الاثنين، ونقيم المسألة من عدد الإناث، وضعف عدد الذكور؛ فإن قيل: في المسألة سبع بنات، وسبعةٌ بنون، فنأخذ عدد الإناث ونضعِّف عددَ الذكور، فنقول: المسألة تصح من أحد وعشرين.
وهذا قياس لا خفاء به.
6328- فإن اشتملت المسألة على ذي فرضٍ مقدّر، فالأصول التي تنشأ منها مسائل الفرائض على قول المتقدمين سبعة:
اثنان، وثلاثة، وأربعة، وستة، وثمانية، واثنا عشر، وأربعة وعشرون.
وزاد المتأخرون على رأي زيد أصلين آخرين: ثمانيةَ عشرَ، وستةً وثلاثين. وهما ينشآن من مسائل الجد.
فأما الاثنان، فكل مسألة اشتملت على النصف، والنصف، وذلك أن يكون في المسألة زوج وأخت، [أو] (1) على النصف وما بقي.
والثلاثة أصل كل مسألة فيها، ثلث وثلثان، أو ثلث وما بقي، أو ثلثان وما بقي.
والصور:
(أم، وأخ) (بنتان، وعم) (أختان لأب وأم، أو لأب، واثنان من أولاد الأم) والأربعة أصل كل فريضة فيها ربع، وما بقي.
وهي: زوج، وابن. أو زوجة، وأخ.
__________
(1) في الأصل: " له " مكان " أو "، وهو تحريف واضح.(9/132)
أو: ربعٌ، ونصفٌ، وما بقي، وهي: زوج، وبنت، وأخ. أو: زوجة، وأخت، وابن أخ.
أو ربع، وثلث ما يبقى، وما يبقى وهي: زوجة، وأبوان. أو زوجة، وجد، وثلاثة إخوة.
والستة أصل كل فريضة فيها سدس، وما بقي، أو سدس، وثلث، وما بقي، أو: سدس، وثلثان، وما بقي. أو: نصفٌ، وثلث، وما بقي.
ولا يخفى وضع الصور على من انتهى إلى هذا المنتهى.
والثمانية أصل كل فريضة فيها ثمن، وما بقي، أو: ثمن، ونصفٌَ، وما بقي.
وليس في الفرائض ربعٌ وثمنٌ. ولو كانا لخرجا من ثمانية.
وأما اثنا عشر، فأصل كل فريضة فيها: ربع، وسدس، وما بقي. أو: ربع، وثلثٌ، وما بقي، أو: ربعٌ، وثلثان، وما بقي.
والأربعة والعشرون أصل كل فريضة فيها: ثمنٌ، وسدس، وما بقي، أو: ثمن وثلثان، وما بقي. ولا يتصور اجتماع الثمن والثلث في الفريضة، ولو تصور [لخرجا] (1) من أربعةٍ وعشرين.
6329- وأما ثمانية عشر على طريقة المتأخرين، أصل كل فريضة فيها: سدس، وثلث ما بقي، وما بقي، وصورتها (جدة، وجد، [وإخوة] (2)) أو: أم، وجد، وإخوة.
للجدة السدس ثلاثة، وللجد ثلث ما يبقى خمسة، والباقي بين الإخوة.
__________
(1) في الأصل: تخرجا.
(2) زيادة من المحقق لبيان صورة المسألتين اللتين أرادهما المؤلف.(9/133)
فأما الستة والثلاثون، أصل كل فريضة فيها ربع، وسدس، وثلث ما بقي، وما بقي.
وهي: زوجة، وأم، وجد، وإخوة.
للزوجة الربع: تسعة، وللأم، أو الجدة السدس: ستة، وللجد ثلث ما تبقى، وهو سبعة، والباقي للإخوة.
ولم يضع المتقدمون هذين الأصلين، وقالوا: إنما نضع الأصول التي تخرج منها الفرائض، المذكورة في الكتاب؛ فإن اعترض شيء لم نزد، ولم نتعدَّ، وصححنا ما يقع من المسائل بالضَّرْب. وهؤلاء يقولون: المسألة الأولى من ستة، ثم بالضرب تصير ثمانيةَ عشرَ: للجدة سهمٌ من ستة، فيبقى خمسة، ونحن نحتاج إلى ثلث ما تبقى، وليس للخمسة ثلثٌ صحيح، فنضرب مخرج الثلث، وهو ثلاثة في أصل المسألة، فتصير ثمانية عشرَ.
ووضعوا المسألة الثانيةَ على اثني عشر، ثم بالضرب تصير ستةً وثلاثين، وبيانه: للجدة السدس: سهمان من اثني عشر، وللزوجة الربع: ثلاثة. وللجد ثلث ما يبقى، وليس للسبعة (1) ثلثٌ صحيح، فنضرب مخرج الثلث في أصل المسألة فترد ستة وثلاثين.
وهذا الذي نذكره الآن مراسمُ.
وسنذكر قدراً صالحاً في الضرب والقسمة، ووضع الأعداد المشتملة على الأجزاء الصحيحة التي يعبّر عنها بالكسور، ووضع هذه الأصول قدمناه لمسيس الحاجة إليه ناجزاً في ذكر أصول العَوْل.
6330- والغرض من وضع الأصول تأسيسُ أعدادٍ تخرج منها مقدّرات الفرائض، ثم لا نلتزم ضبطَ أعداد المستحقين، فربما يكونوا (2) على عدّةٍ يصح
__________
(1) السبعة: أي الباقية بعد سهمي الجد، والزوجة (12-5) =7.
(2) " فربما يكونوا " هكذا في النسخ الأربع بحذف النون، نون الرفع، وهي لغة صحيحة =(9/134)
قسمةُ مواريثهم من أصل مسألتهم، وربما يكونُوا على عدّة لا تصح قسمةُ مواريثهم بسبب العدد، وما كان كذلك فطريقه تصحيحُ الكسور بالضرب، على ما سيأتي مشروحاً، إن شاء الله.
وإنا لم نلتزم وضعَ المسائل على الصحة؛ فإن الأعداد لا نهاية لها.
6331- والأصول التي ذكرناها تنقسم: فمنها ما يقوم (1) بأفراد الفرائض، ومنها ما لا يقوم إلا بتعدد الفرض، فأما ما يقوم بأفرادِ الفرائض فالاثنان، والثلاثة، والأربعة، والستة، والثمانية.
وأمّا ما لا يقوم إلا بتعدد الفرض، فالاثنا عشر، والأربعةُ والعشرون.
فأما ما يقوم بأفراد الفرائض، فإنه قد يشمل على فرضين، ولكن ليس الفرضان من ضرورة قيامه، والاثنا عشر والأربعة والعشرون من ضرورة قيامهما تعدُّدُ الفرض.
ثم طريق إقامتهما أن نقول: إذا احتجنا إلى الربع والثلث أخذنا مخرج الربع أربعة ومخرج الثلث ثلاثة، وضربنا أحد المخرجين في الثاني، وقلنا: العدد الذي له ثلث وربع صحيحان: اثنا عشر.
وإذا احتجنا إلى الربع، والسدس أخذنا مخرج الربع أربعة، ومخرج السدس ستة، ثم نجد بينهما موافقة بالنصف، فنضرب نصفَ أحدهما في كل الثاني.
وإذا احتجنا إلى الثمن والثلثين، أخذنا مخرج الثمن ثمانية، ومخرج
__________
= وعليها في حديث مسلم، عن أصحاب القليب، يوم بدر: " كيف يسمعوا، وأنى يجيبوا " قال النووي في شرح مسلم: " وهي لغة صحيحة، وإن كانت قليلة الاستعمال، وسبق بيانها مرات، ومنها الحديث السابق في كتاب الإيمان: " لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا " (رقم 54) (النووي على مسلم: 18/206: كتاب الجنة، باب عرض مقعد الميت من الجنة والنار عليه ح 2874) .
(1) يقوم: أي يكون ويوجد.(9/135)
الثلث، ثلاثة، وضربنا أحدهما في الثاني، فيبلغ أربعة وعشرين، وقلنا: أقل عدد يخرج منه الثمن والثلثان صحيحين أربعة وعشرون.
فإذا احتجنا إلى الثمن والسدس، أخذنا الثمانية، والستة، ثم نجد بينهما موافقةً بالنصف، فنضرب نصف أحدهما في كل الثاني فيرد أربعة وعشرون.
6332- ومسألتا باب الجد، وهما ثمانية عشر، وستة وثلاثون صحيحتان على قاعدة التركيب، ولكن لم يُفردها المتقدمون لأمرين: أحدهما - أن الأصول موضوعة على المقدّراتِ المنصوصة في الكتاب، وهي المجمع عليها، وثلث ما يبقى في المسألتين ليس منصوصاً، ولا متفقاً عليه، والأمر في ذلك قريب.
6333- ثم الأصول السبعة منقسمة إلى عائلةٍ، وغير عائلةٍ، فغيرُ العائلة منها: الاثنان، والثلاثة، والأربعة، والثمانية:
هذه الأصول لا يتطرق إليها العولُ، وهي منقسمة إلى عادلةٍ، وناقصة، فالعادلة: الاثنان، والثلاثة، ونعني بالعادلة أن سهامها التي تخرج عنها تستغرقها.
فإذا كان الاثنان عادلة، فهو إذا اجتمع نصفان.
والثلاثة إذا كانت عادلة، فهي إذا اجتمع الثلث والثلثان، فتستغرقان الثلاثة.
والناقصة: أربعة، وثمانية، والمعني بالناقصة أن سهام المسألة التي عليها وضع المسألة لا تستغرقها؛ فإن الذي يخرج من الأربعة: الربع، والنصف، وهما لا يستغرقان الأربعة.
والذي يخرج من الثمانية: الثمن، والنصف، وهما لا يستغرقان الثمانية.
6334- والعائلة من الأصول: الستةُ وضعفُها، وضعفُ ضعفها. فهذه الأصول هي التي يتطرق العول إليها على رأي الجمهور، لا غير.(9/136)
أما الستة، فإنها تعول بأفرادها (1) وأشفاعها، ومنتهى عولها عشرة.
ْفتعول بسدسها إلى سبعة، وبثلثها إلى ثمانية، وبنصفها إلى تسعة، وبثلثيها إلى عشرة. على ما سيأتي شرحها، إن شاء الله تعالى.
وأما الاثنا عشر، فتعول بالأوتار دون الأشفاع، تعول بنصف سدسها إلى
ثلاثة عشر، وبربعها إلى خمسة عشر، وبربعها وسدسها إلى سبعة عشر.
وأما الأربعة والعشرون فتعول عولةً واحدة بثمنها إلى سبعة وعشرين، لا غير. وهذا إذا كان في المسألة زوجة وبنتان وأبوان.
وهي الملقبة بالمنبرية، وقد قيل: سئل علي عنها وهو على المنبر، فقال على الارتجال: صار ثمنها تسعاً (2) .
فنذكر فصلين أحدهما في معنى العول، وبيان المذاهب فيه على الأصل.
والثاني في تفصيل مذهب القائلين بالعول، وضرب الأمثلة، وتصوير المسائل.
فأمّا
الفصل الأول
6335- فنقول: كلّ مسألة اجتمع فيها أهل السهام، وكان مجموع سهامهم زائداً على أصل الفريضة، فهي من مسائل العول. والذي ذهب إليه الجمهور، والجلّة: عمرُ، وعلي، وزيد، والعباس، ومعاذ بنُ جبل، وابنُ مسعود، وأكثر الصحابة رضي الله عنهم: قسمةُ المال بين أهل السهام، على مبلغ سهامهم، وإن زادت على الفريضة، فنجعل مبلغ السهام أخذاً من أجزاء أصل المسألة أصلَ القسمة، ونقسم التركة بها، وهذا مذهب مالك والشافعي
__________
(1) أفرادها وأشفاعها: أي تكون شفعاً، فتعول إلى ثمانية، وإلى عشرة، وتكون وتراً (فرداً) ، فتعول إلى سبعة وتسعة. وهي لغة صحيحة.
(2) خبر (المنبرية) رواه أبو عبيد، والبيهقي (6/253) قال الحافظ: " وليس عندهما أن ذلك كان على المنبر، وقد ذكره الطحاوي من رواية الحارث عن علي فذكر فيه المنبر ". (ر. التلخيص 3/192) .(9/137)