بأمرٍ مجتهد فيه، من غير أن يصدرعن نظر المجتهد.
ومن أصحابنا من قال: يعود محجوراً عليه، كما (1) عاد السفه، ولا حاجة إلى نظر القاضي، بل عَوْدُ السفه، وطريانُه بمثابة طريان الجنون.
4085- ثم إذا كان الحجرُ يثبت بنفس السفه، أو بضرب القاضي، فلو طرأ الفسقُ مع استدامة الضبط في المال والضِّنةِ به، فهل يعاد الحجر عليه لمكان الفسق؟ المذهب أَنَّه لا يعاد؛ ولو حجر القضاةُ على الفسقة، لحُجر على معظم الخليقة. وكل ما يفعله الحُكّام نظراً، فهو محتوم. ونحن نعلم أن الأولين لم يَرَوْا الحجرَ على الفسقة، ولو رأَوْه، لأظهروه، ثم كان لا يخفى النقل فيه.
فخرج ممَّا ذكرناه أن طريان الفسق مع التبذير يتضمن الحجرَ، وطريان التبذير مع الصَّلاح في الدين يوجب الحجرَ أيضاً. فأمّا الفسق المجرَّد، ففيه من الخلاف ما ذكرناه.
4086- ولئن قال قائلون: طريان التبذير يوجب الحجرَ من غير ضربٍ من جهة القاضي، فلا ينبغي أن يُعتقدَ هذا الوجهُ في الفسق المجرّد مع الضِّنة بالمال، ويجب القطعُ بأن الحجر بالفسق المجرد -إن رأيناه - فلا مأخذ له إلا ضربُ القاضي واجتهادُه.
4087- ثم إن زال السفه الطارىء وظهر الرشدُ، فإن قلنا: الحجر موقوف على ضربٍ، فالانطلاق (2) عنه موقوف على قضاء القاضي. وإن قلنا: نثُبت الحجرَ من غير ضرب من جهة القاضي، ففي زوال الحجر عند زوال السَّفه الطارىء وجهان، كما تقدّم ذكرهما في زوال السّفه الذي كان متصلاً بالصبا.
4088- وتمام الغرض في ذلك أن الصبيّ إذا بلغ سفيهاً، وكان يليه في صباه أبوه، فوليّه في السفه وليُّه في الصبا بلا خلاف. وكذلك لو بلغ مجنوناً، واتصل الجنون بالبلوغ فيليه مجنوناً من كان يليه صبياً.
ولو بلغ عاقلاً رشيداً، ثم طرأ الجنون، فلا شك في كون المجنون محجوراً عليه،
__________
(1) كما: بمعنى عندما.
(2) (ت 2) : فانطلاق الحجر.(6/440)
واختلف أصحابنا في أن وليه القاضي، أو الأب. فمن أصحابنا من قال: وليّه الأبُ، كما كان يليه من قبل، فليَلِيَه الآن. ومن أصحابنا من قال: يليه القاضي.
ولو عاد التبذير، وقلنا: القاضي هو الضارب للحجر، فهو الولي، أو من ينصبه القاضي؟ وإن قلنا: يعود الحجر من غير ضربٍ للقاضي، ففي وليّه وجهان، مرتبان على الوجهين في الجنون الطارىء. وهذه الصورة أولى بأن يكون القاضي ولياً فيها؛ فإن التبذير وزواله مجتهَدٌ فيه بخلافِ الجنون.
فرع:
4089- إذا بلغ صبيٌّ في قُطرٍ شاغرٍ عن الولاة، وكان سفيهاً، ولم يكن له أبٌ ولا جدٌّ، فالذي ذهب إليه الأصحاب أنه محجور عليه، لا ينفذ تصرفه على ما سنذكر تصرفَ المحجور عليه، ونصفه. وحكى الشيخ أبو علي في شرح التلخيص وجهاً عن بعض الأصحاب أن تصرفه ينفذ إلا أن يلحقه نظرُ والٍ، فيضرب عليه حجراً حينئذ. والسفهُ المتصل عند هذا القائل بالبلوغ بمثابة السفه الطارىء على الرشد، وقد ذكرنا أن المذهب أن من طرأ عليه السفه لا يصير محجوراً عليه من غير ضرب القاضي ونظرِه. وهذا بعيدٌ.
والوجه القطع بما قدمناه من اطراد الحجر عليه، ووقوعُه نبذةً (1) من نظر الولاةِ وهو سفيه، كوقوعه كذلك وهو صبي.
فرع:
4090- إذا كان البالغ رشيداً في الوجوه (2) ، بَيْد أنه كان يغبن في بعض التصرفات على الخصوص، فهل للقاضي أن يضرب عليه حجراً خاصاً فيه؟ فعلى وجهين: أحدهما - ليس له ذلك؛ فإن الحجر والإطلاق يبعد اجتماعهما في حق شخصٍ واحدٍ.
والوجه الثاني - أنه يجوز ذلك اتباعاً للمعنى.
قال الشافعي رضي الله عنه في توجيه جواز ذلك: قولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) في الأصل: بدون نقط. ونبذةً: أي ناحية (المعجم) والمراد هنا ناحيةً بعيدة عن الحكام.
وفي (ت 2) : (بيده) وهو من تصحيفاتها العجيبة.
(2) كذا في النسختين. ولعلها في "كل الوجوه".(6/441)
لحَبّان، وكان يغبن في البياعات " إذا بعت، فقل لا خلابة " (1) يشبه أن يكون حجراً عليه، في إلزام البيع، وعقدِه من غير خيارٍ. وهذا قاله في سياق الاحتجاج على مالك (2) ؛ إذ قال: الغبن يُثبت حقَّ الفسخ، فقال الشافعي: لو كان الأمر كذلك، لما أمر حَبَّانَ بشرط الخيار، ثم بنى عليه ما ذكرناه من تبعيض الحجر.
فصل
4091- قد ذكرنا فيما تقدم السفه ومعناه، وثبوتَ الحجر وارتفاعَه، والتفصيلَ في اقتران السَّفه بالبلوغ، وطريانه بعد الرشد. ومقصود هذا الفصل تفصيلُ ما يصح منه، وما لا يصح.
قال الأئمة: يصح طلاقُه، وخلعُه وظهاره، وإقراره بالنسب استلحاقاً؛ فإن هذه الأشياء لا تدخل تحت الحجر، وليس المبذر كالصبي؛ فإن الصبي مسلوبُ العبارة بالكلية، ويصح أيضاً إقرارُه بما يوجب القصاصَ عليه.
فإن قيل: لم صححتم الخلع منه وهو تصرف مالي؟ قلنا: إذا كان يصح منه الطلاق بلا عوض، فلأن يصح منه الطلاق (3) بعوض -وإن قلّ- أوْلى.
وذهب الأكثرون إلى أنه يصح منه قبول الهبة، بخلاف الصبي؛ فإنه لا عبارة له، وسنذكر في وصيّة الصبي، وتدبيره عبدَه قولين في كتاب الوصايا. وفي المبذر في التدبير والوصية قولان، مرتبان على الصبي، وهما بالنفوذ أوْلى من المبذر؛ فإنه من أهل العبارة.
وأمَّا بيعُه وشراؤُه ونكاحُه، فلا يصح شيء منها، إذا استقل واستبد بذاته.
4092- ولو أذن له الولي في عقدٍ، وعيّنه له، فحاصل ما قاله الأصحاب أوجهٌ:
__________
(1) سبق تخريجه في باب الخيار في البيع.
(2) ر. البهجة في شرح التحفة: 2/106 - 108.
(3) (ت 2) : الخلع.(6/442)
أحدها - أنها (1) تصح إذا صدرت عن إذن الولي؛ فإنّ عبارته صحيحة، والمحذور استقلاله.
والوجه الثاني - أنها لا تصح؛ فإن عبارته مسلوبة في العقود الملزمة.
والوجه الثالث - أن النكاح يصح بعبارته عند الإذن، بخلاف البيع والإجارة.
وفي نكاح المحجور تفاصيلُ مشروحة في كتاب النكاح، فليطلب منه.
فرع:
4093 - إذا اشترى المحجور شيئاًً في ذمته، من غير إذن الولي، فالذي قطع به الأصحاب أن شراءه فاسد، لمكان الحجر.
وحكى بعض المصنفين وجهاًً في صحةِ شرائه، تخريجاً على الوجه الضعيف، الذي حكيناه في شراء العبد بغير إذن مولاه. وهذا ليس بشيء؛ فإن العبد من أهل النظر، إذا كان رشيداً، وإنما الحجر عليه بسبب المولى. فإذا كنا لا نعلِّق برقبة العبد وكسبه شيئاًً من عُهدة عقده، فلا يمتنع تصحيحُ عقده. والمبذر يُنظر له في الحجر، وحقه مرعيّ (2) في الحال والمآل. وقد نَسب (3 هذا الإنسان 3) هذا الوجه إلى الشيخ أبي حامد (4) ، وقد تتبعت كتب العراقيين، وتعليق أبي حامدٍ، فلم أجد ذلك، فالتفريع إذاً على أنه إذا اشترى المحجورُ المبذّر شيئاًً، لم يصح. فلو أقبضه البائع ما باعه، فتلف في يده؛ لم يلزمه الضمان. والبائع هو الذي ضيّع حقَّ نفسه.
4094- ثم قال الأئمة: لو صار السفيه رشيداً، وانطلق الحجر عنه، فلا يطالَب أيضاًً؛ والسبب فيه ما ذكرناه من أنّا رَاعَينا حقَّ المبذر. وحقُّه مرعيٌ في الحجر والإطلاق؛ وليس كالمفلس؛ فإنّا قد نردّ بعض تصرفاته في الحجر، ثم ننفذه إذا
__________
(1) بتأنيث الضمير على معنى الصيغة أو العبارة.
(2) (ت 2) : يُرعى.
(3) ما بين القوسين ساقط من (ت 2) .
وهذا الإنسان هو الذي عبر عنه (ببعض المصنفين) آنفاً. وقد تقدم أنه يقصد به (الفوراني) ، فهو كثير الحط عليه، وتضعيفه في نقله. كما قرر ذلك ابن السبكي.
(4) الشيخ أبو حامد الإسفراييني. شيخ العراقيين.(6/443)
انطلق الحجر عنه، والسبب فيه أن المرعي حقوقُ الغرماء، والحجر مضروب بسببهم. وقد زالت حقوقهم.
4095- وقال الأئمة: لو اشترى المبذر شيئاًً، وقبضه وأتلفه، كان كما لو تلف في يده، وإن كان لو أتلف مال أجنبي ابتداءً، تعلق الضّمان بماله، ولكن إذا ترتب الإتلاف على الشراء، فسببه تسليط البائع.
قال صاحب التقريب: " هو غير مطالب ظاهراً، ولكن إذا انطلق الحجر عنه، فهل نقول: إنه وإن لم يطالب ظاهراً، فالضمان واجبٌ عليه بينه وبين الله تعالى؟ فعلى وجهين ".
وهو عندي هفوة؛ فإنه لو ثبتت المطالبة باطناً، فلا مانع من توجيهها ظاهراً.
والذي ذكره فيه إذا أتلف، وما أراه يطرُد ما حكاه فيه إذا تلفت العين في يده من غير إتلافٍ. والعلم عند الله.
فرع:
4096- إذا أقر المبذر أنه أتلف مالاً لأجنبي، ففي قبول إقراره قولان:
أصحهما - الرد، كما لو أقر بدين مرسل، أو أقر بأن عيناً من أعيان أمواله مغصوبةٌ من فلان؛ فإن أقاريرَه مردودةٌ في هذه الجهات.
والقول الثاني - أن إقراره مقبول؛ فإن الإتلاف يتصوّر منه، ولو جرى، لأوجب، وكل ما يتصور، فالإقرار به صحيح، ممّن تصح عبارته.
والأصح الأول؛ فإن الإقرار تعبير (1) بإنشاء مسوّغٌ في الشرع، وإتلاف مال الغير غيرُ مسوَّغٍ. ثم كل إقرارٍ رَدَدْناه في حالة الحجر، فلا مؤاخذة به بعد الإطلاق، إلا أن يعيد بعده إقراراً جديداً.
فرع:
4097- ينبغي للولي أن يختبر الصبيَّ أوانَ البلوغ، ليعلم سفهَه ورشده، فإن كان على مرتبة السوقة والتجار، دفع إليه مالاً وأمره بالتصرف فيه بالبيع [والشراء] (2) . وإن لم يكن من هؤلاء، وكان منصبه لا يقتضي البيعَ والشراء،
__________
(1) في (ت 2) تعيين.
(2) مزيدة من (ت 2) .(6/444)
فاختباره بأن يدفع إليه مالاً، ويأمره بإنفاقه على الخدم، ويعلم اقتصادَه وغباوتَه.
والاختبار في كل جنسٍ على ما يليق بهم. ولا حاجة إلى التطويل بالتفصيل.
4098- ثم قال الأصحاب: ينبغي أن يقع الاختبار قُبَيْل البلوغ، حتى إذا ظهر الرشد، وقع البدار إلى تسليم المال، فإن كان الاختبار بعقد بيعٍ، فالأصح أنه يأمر الصبيّ حتى يساوم، ويطلب، ويماكِس، فإذا حان العقد ورآه الوليُّ صواباً، تولى بنفسه العقدَ؛ فإنَّ عقدَ الصبي باطلٌ. وأبعد بعضُ أصحابنا، فصحّح عقدَ الاختبار من الطفل، وتعلق بظاهر قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء: 6] ولا متعلَّق فيها؛ فإن الابتلاء مجملٌ، لا تعرض فيه للعقد وأسبابه.
فرع:
4099- السفيه إذا أحرم بالحج، انعقد إحرامُه، فإن كان الحج تطوعاً، فلا يسلّم إليه الولي [مالاً] (1) يتبلغ به. واختلف أصحابنا بعد ذلك، فمنهم من قال: حكمه حكمُ المحصر الذي له أن يتحلل، وقد مضى القول في الحصر. ومنهم من قال: ليس كالمحصر، ولا سبيل إلى تحليله، وحكمه حكم معسر، يُحرم، وعدمُ النفقةِ لا يكون إحصَاراً.
فرع:
4100- إذا كان السفيه مِطلاقاً، والحاجة ماسة، فالوجه أن يشتري الولي له جاريةً، فإنَّ عتقه لا ينفذ فيها. ومهما تبرم بها، باعَها الولي، واشترى غيرها (2) .
* * *
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) إلى هنا انتهت نسخة الأصل (هـ 2) وجاء في خاتمتها ما نصه: "تمت المجلدة، ولله الحمد والمنة. ويتلوه في المجلد الآخر إن شاء الله كتاب الصلح.
واتفق الفراغ منها في الرابع والعشرين من شهر شعبان سنة خمسٍ وستين وخمسمائة، غفر الله للقارىء والكاتب، والمصنف ولجميع المسلمين، ورحم [.....] آمين.(6/445)
كتاب الصلح
4101- صدّر الشافعي رضي الله عنه الكتاب تيمناً بقول عمر رضي الله عنه؛ إذ قال: " الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرَّم حلالاً " (2) .
فالمحلِّل للحرام هو الصلح المورَد على عوضٍ محرم، كالخمر والخنزير، والمغصوب، وغيرها.
والصلح المحرِّم للحلال هو المشتمل على شرط يتضمن المنعَ من تصرفٍ مباح شرعاً، كشرط المنع من المبيع والهبة في العوض المذكور في الصلح.
4102- والوجه أن يصدَّر الكتابُ بتقسيمٍ حاوٍ يجمع صحيح الصلح وفاسدَه، ومحلَّ الوفاق والخلاف جمعاً كلياً، فإن شذّ عن التقاسيم شيء، تداركناه بفرض المسائل، ورسم الفروع.
والصلح في البحث الأوّلي ينقسم إلى ما يجري بين المدعي والمدعى عليه. وإلى ما يجري بين أجنبي وبين المدّعي.
فأما الصلح الذي بين المدّعي والمدعى عليه قسمان (3) : صلح مع الإقرار، وصلح مع الإنكار. فأما الصلح مع الإقرار، فإمَّا أن يكون عن عين، وإما أن يكون عن دينٍ. فأمَّا الصلح الواقع عن عينٍ، فينقسم إلى صلح معاوضة، وإلى صلح حطيطة.
__________
(1) يبدأ من هنا اعتماد (ت 2) أصلاً، بل هي النسخة الوحيدة إلى آخر كتاب الحوالة.
(2) ر. المختصر: 2/224. والحديث رواه البيهقي في السنن (6/65) ، وفي المعرفة (4/467 رقم 3659) موقوفاً على عمر. وقد ورد مرفوعاً من حديث أبي هريرة، رواه أبو داود، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، (ر. أبو داود: الأقضية، باب في الصلح، ح 3594، ابن حبان: 5091، الحاكم: 2/50، التلخيص: 3/98 ح 1295)
(3) كدأبه بإسقاط الفاء في جواب أما.(6/447)
فأمّا صلح المعاوضة الذي يشتمل على عوض سوى العين المدعاة المعترف بها.
وذلك إذا ادّعى رجل على رجل داراً أو عبداً أو ثوباًً، فاعترف به، وصدق المدعي،
ثمِ قال للمدعي: صالحني عن هذه العين على هذا، وعين عوضاً، أو وصفه وصفاً
يُقنعُ به في المعاوضات. فإذا أسعفه المدعي، وقال: صالحتك من (1) ثوبي الذي في
يدك على كذا، فقال المدعى عليه: قبلتُ، صحت المعاملة. وهي بيعٌ على
الحقيقة، معقودة بلفظ الصلح.
وإذا قال الفقيه: حكمه حكم البيع، كانت عبارته مختلّة؛ فإنه بيعٌ بنفسه، ويتعلق به جميعُ أحكام البيع وقضايا الربا، إن اشتمل على الربويات. والعُهَدُ المألوفة في البيع، وأحكام الضّمان، والردود، ولا مزيد؛ فقد قطعنا بأنه بيع.
قال صاحبُ التلخيص: الصلح في المقام الذي نحن فيه بيع عُقد بلفظ الصلح.
4103- ويجوز عقد الصلح بلفظ البيع إلا في شيء واحد، وهو الصلح عن الجنايات؛ فإن الصلح جائز عن الإبل، وإن لم تكن على الصفات الضابطة في السلم، ولو فرض عقد تلك المعاملة بلفظ البيع، لم يصح.
4104- قال الشيخ أبو علي (2) : هذا الذي ذكره غير صحيح. والتفصيل فيه أن الأرش إن كان مجهولاً، كالحكومة التي لم تقدَّر، فلا يصح الصلح عنه، ولا يجوز تقدير بيعه، وإن كان الأرش معلوماً على التحقيق، كما إذا كان دراهم أو دنانير، صحَّ الصلح عنه، ويصح التصرف فيه بلفظ البيع. وإن كان الأرش مقدراً، ولكن كان من الإبل، والأوصافُ المرعية في الديات لا يقع الاكتفاء بها في السلم، ففي جواز الصلح عنها وجهان، اختار صاحبُ التلخيص أحدهما. فإن نحن صحَّحْنا الصلحَ، لم يمتنع تصحيح المعاملة بلفظ البيع أيضاًً، وإذا لم نصحح الصلح، فلا شك في امتناع البيع أيضاًً. ثم قال الشيخ: إذا قلنا: موجب العمدِ القودُ المحض، فالصلح من (3) القصاص جائز، ولا يجوز استعمال لفظ البيع فيه.
__________
(1) كذا، وهي صحيحة. فـ (من) تأتي مرادفة لـ (عن) .
(2) أي في شرح التلخيص، راداً على صاحبه.
(3) سبقت الإشارة أن (من) تأتي مرادفة لـ (عَن) .(6/448)
ثم هذا القسم الذي نحن فيه من الصلح يجوز أن يكون [العِوضُ] (1) فيه عيناً، ويجوز أن يكون ديناً إذا لم يكن الذي عنه الصلح مالَ رباً يقتضي العقد عليه التقابضَ في المجلس. ولا معنى للإطناب بعد البيان.
هذا صلح المعاوضة.
4105- فأما صلح الحطيطة في هذا القسم، [فتصويره] (2) أن يدعي رجلٌ على رجلٍ عيناً من الأعيان، فيعترف المدعى عليه بالملك للمدّعي، ثم يقول: صالحني منهُ على نصفه. فإذا قال: صالحتك، كان تقدير هذا راجعاً إلى هبة بعض العين من المدعى عليه، فإذا جرت المعاملة كذلك، فقال المدعي: صالحتك من ثوبي هذا على نصفه، وقال المدعى عليه: قبلت. ففي المسألة وجهان ذكرهما الشيخ في شرح التلخيص: أحدهما -وهو الظاهر الذي قطع به مَنْ سِواه - أن ذلك يصح، ويتضمن هبةَ النصف من المدعى عليه، ويثبت له أحكام الهبات في جملة المعاني، والقضايا.
والوجه الثاني - أن هذا باطل؛ فإن الصلح متضمنه المعاوضة، وبيع الرجل ملكه من عينٍ بنصف العين باطلٌ متناقض.
والقائل الأوَّل يقول: الصلح عبارة صالحة للمعاوضة في أوانها، وهو مشعر بالهبة في هذا المقام. والدليل عليه أَنَّ إطلاق هذا اللفظ شَائعٌ في الاستعمالِ، ولا معنى له إلا ما ذكرناه. والمطلوب من الألفاظ معانيها، وما يفهم من وضعها.
هذا كله فيه إذا كان الصلح دائراً بين المدعي والمدّعى عليه من عينٍ.
4106- فأمَّا إذا كان الصلح عن دين، فتصويره أن يدعي رجل على رجلٍ ديناً، فيعترف به، ثم يقع الصّلح فيه.
والصلح في هذا القسم ينقسم إلى صلح معاوضة، وإلى صلح حطيطة: فأمَّا صلح المعاوضة، فهو أن يذكر أعواضاً [عن] (3) الدين المعترف به. ثم إن كان ذلك
__________
(1) في الأصل: "العَرْضُ". وهو تصحيف ظاهر، والمثبت تصرّفٌ منا.
(2) في الأصل: وتصويره.
(3) في الأصل: "غير"، والمثبت من تصرف المحقق.(6/449)
العوض عيناً، وسُلّمت العين في مجلس المعاوضة، صح الصلح على شرط الشرع، ومتضمن الصلح مقابلة عينٍ بدين.
وإن لم يتفق تسليمُ العين في مجلس الصلح، فهل يبطل الصلح [بالتفرق] (1) ؟ فعلى وجهين مشهورين: أقيسهما أنه لا يبطل؛ لأنه لم يَجُرّ ما يتضمن الإقباض من أصل الربا. وليس الصلح الموصوف بيعَ دين بدين، حتى يدخل تحت نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن " بيع الكالىء بالكالىء ".
والوجه الثاني - أن الصلح يفسد بالتفرق قبل إقباض العين المجعولة عوضاً؛ [وكان] (2) ذلك نوعاً من الإنساء المضاهي للدينية.
وهذا الوجه وإن كان مشهوراً، فالأصح الأول.
ولو كان العوض المذكور عن الدين المعترف به ديناً، ثم فرضت المفارقة قبل الإقباض، فلا شك في بطلان الصلح؛ فإنه اشتمل على مقابلةِ الدين بالدين، وهو المنهي عنه نصّاً. ولو ذكر العِوض موصوفاً ديناً، ثم أُحضر في المجلس وسُلّم، جاز؛ فإن هذا لا يمتنع في عقد الصرف، فكيف يمتنع في غيره.
هذا كله في صلح المعاوضة عن الدينِ.
4107- فأمّا صلح الحطيطة في الدين، فصورته أن يقول المدّعى عليه المعترف بالألف للمدّعي: صالحني عن الألف الذي لك على خمسمائة، فإذا قال: صالحتك، وقبل المستدعي، أو جعلنا الاستدعاء كافياً، ففي المسألة وجهان: أظهرهما - أن ذلك يصحُّ، ومتضمنه الإبراء عن خمسمائة.
والوجه الثاني - حكاه الشيخ أبو علي أن ذلك باطل، والألف باقٍ بكماله؛ فإن صيغة اللفظ المعاوضة، وهي مناقضة لمعنى الإبراء.
4108- فإن فرعنا على الأصح، وهو أن ذلك إبراء، فلو ابتدأ المدعي، وقال: صالحتك من الألف على خمسمائة، فهل يكفي ذلك في حصول البراءة؟ أم لا بدّ من
__________
(1) في الأصل: "بالإقرار". والمثبت من عمل المحقق.
(2) في الأصل: "كان". [بدون واو] .(6/450)
القبول يقدّم عليه. إن الإبراء إذا استعمل لفظه، نفذ، ولا حاجة إلى قبول المبرأ عنه، على الأصح.
وفي المسألة وجه بعيد أنه لا بدّ من القبول.
فإن فرعنا على الأصحّ وهو أنه لا حاجة إلى القبول إذا استعمل لفظ الإبراء، فهل يشترط القبول إذا كان المستعمل لفظ الصلح؟ فعلى وجهين. وهذا يناظر ما لو قال مستحق الدين لمن عليه دين: وهبت مالي من الدين منك، فهذا إذا نفذ، معناهُ الإبراء. وفي اشتراط لفظ القبول وجهان: أحدهما - لا يشترط كلفظ الإبراء0
والثاني - يشترط؛ لأن اللفظ معناه التمليك، فيستدعي في وضعه القبول.
4109- وإذا كان المدعَى المعترف به عيناً، وفرضنا صلح الحطيطة فيه، بأن يقول المدّعي: صالحتك من ثوبي هذا على نصفه، فإذا صححنا ذلك على معنى الهبة، فلا شك في اشتراط القبول؛ فإن الهبة في معناها تفتقر إلى القبول، بخلاف الإبراء. وهذا واضح.
4110- ولو كان الصلح عن دين وهو ألف مثلاً، فأحضر المدعى عليه خمسمائة، فقال المدعي: صالحتك من الألف على هذه الخمسمائة. والتفريع على أنه لو قال: صالحتك عن الألف على خمسمائة من غير تعيين، كان إبراءً عن الخمسمائة، فعلى هذا إذا أشار إلى الخمسمائة المعينة، وقال: صالحتك من الألف الذي لي عليك على هذه الخمسمائة، فالأصح أن هذه المعاملة فاسدة؛ والألفُ باقٍ؛ فإن اللفظ الذي جاء به مع التعيين صريح في عرض المعاوضة، وبيعُ الألف بخمسمائة باطل.
وقيل: يجوز. والمقصود الإبراء عن خمسمائة، ثم تيك الخمسمائة المعينة لا تتعين عند هذا الإنسان إلا باتفاق تسليمها إليه؛ إذ لو تعينت، لكان عوضاً.
ولا خلاف أنه لو قال: بعتك الألفَ الذي لي عليك بهذه الخمسمائة، فالبيع باطل، والألف باقٍ بكماله.
وكل ما ذكرناه فيه في الصلح الواقع من المدير والمدعى عليه، مع الإقرار.(6/451)
4111- وأمَّا الصلح بينهما مع [إنكار] (1) المدّعى عليه، فلا يخلو إما أن يكون على عوضٍ غير المدعى، وإما أن يكون على بعض المدعى.
فإن كان الصلح بشيء غيرِ المدعى مع الإصرار على الإنكار، فالصلح باطل عندنا، خلافاً لأبي حنيفة (2) . ولا بد من تصوير محل الخلاف، والتنبيه على تمام البيان.
فإن قال المدعى عليه، والمدعَى ثوب، أو ألفُ درهم للمدعي: صالحني عن دعواك بكذا من الدراهم، أو بهذا الثوب، فهذا هو الصلح على الإنكار في حقيقته. وهو باطل عندنا.
ولو قال المدعى عليه بعد الإنكار: صالحني بكذا، أو بهذا، فقال المدعي: صالحتك، فهو باطل، وهو من صور الصلح على الإنكار.
ولو قال المدعى عليه بعد الإنكار السابق: (3) صالحني عن هذه الدار على كذا، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن هذا صلح على الإنكار، وهو باطل. والثاني - أنّه إذا أضاف الصلح إلى العين المدعاة، كان ذلك إقراراً منه بالملك فيها للمدّعي؛ فإن الصلح -حيث يصح - كالبيع، وإضافة البيع إلى تلك العين إقرار بها، فليكن إضافة الصلح إليها بهذه المثابة. والقائل الأول يقول: البيع صريح في اقتضاء إثبات الملك لمن هو في منزلة البائع، ولفظ الصلح قد يستعمل في اللَّبس والاختلاط، ومحاولة الخلاص.
وما ذكرناه فيه إذا جرى الصلح مع الإنكار على غير العين المدعاة.
4112- وأمَّا إذا جرى الصلح على بعض المدعى، مع تصوير الإمكان، فلا يخلو المدعَى إمّا أن يكون عيناً، وإما أن يكون ديناً، فإن كان عيناً، [كأن] (4) كان المدعى
__________
(1) في الأصل: الإنكار.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 98، اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى: 43، مختصر اختلاف العلماء: 4/195 مسألة: 1887.
(3) في الأصل خللٌ في هذه العبارة، بإقحام بعض الألفاظ. هكذا:.. بعد الانكار السابق، ولو قال صالحني عن هذه الدار.. (راجع المسألة في الروضة: 4/198) .
(4) في الأصل: بأن.(6/452)
ثوباً، فأنكر، ثم قال: صالحني على نصفه، ففي المسألة وجهان مشهوران:
أحدهما - لا يجوز ذلك ويلغو (1) ، والصلح صلحُ إنكار، فيُقضَى بفساده.
والوجه الثاني - يجوز، ويجعل كأنه وهب منه نصف المدّعى.
وفي الحقيقة إذا صالحه على النصف وسلمه إليه، فقد اتفقا على استحقاقه فيه، غير أنهما اختلفا في جهة الاستحقاق: فالمدعي يزعم أنه يستحقه بحكم الملك، والمدعى عليه يقول: بل بحكم الهبة.
4113- ولو كان المدعى ديناً، فأنكره المدعى عليه، ثم صالحه المدعي على خمسمائةٍ (2) ، نُظر: فإن صالح على خمسمائة في الذمة، لم يجز الصلح. وإن وقع تعيينُ الخمسمائة وإقباضُها؛ فإن المدعى عليه يزعم أنه وَهَب من (3) المدعي خمسمائةٍ، وإيراد الهبة على الذمة باطل. ولو قال رجل لآخر وهبتُ منك ألف درهم، ثم حصله وأقبضه إياه، لم يصح ذلك.
ولو أحضر المدعى عليه خمسمائة، فقال المدعي: صالحتك على هذه الخمسمائة، فهذا يترتب على ما قدمناه فيه إذا كان المدعى عيناً، فإن حكمنا ببطلان الصلح في العين، فلأن يبطل الصلح في الصورة التي انتهينا إليها أولى، وإن حكمنا بأن الصلح من العين على بعضها صحيح محمول على الهبة، فإذا جرى الصلح من ألف على خمسمائةٍ معينة، ففي هذا الصلح وجهان: أحدهما - أنه يصح، وهو محمول على هبة الخمسمائة الحاضرة، وما ذكرناه في تقدير هبة بعض العين إذا كان المدّعى عيناً والصلح على بعضها.
ومنهم من قال: لا يصح. والفرق أن الصلح من العين على بعضها ليس في معناه شَوْبُ معاوضة، والصلح من ألف في الذمة على خمسمائةٍ حاضرةٍ منقودةٍ فيه معنى المعاوضة، فكان حريّاً بالبطلان، مع قيام الإنكار، ومقابلة الألف بالخمسمائة.
__________
(1) أي يقع الكلام لغواً، لا أثر له.
(2) أي والمدعى ألف، كما هو مفهوم من السياق، والأمثلة قبلُ.
(3) أي وهب له، كما هو معروف من لغة الفقهاء.(6/453)
وكل ما ذكرناه في جريان الصلح بين المدعي والمدعى عليه مع الإقرار والإنكار.
4114- فأما إذا جرى الصلح بين المدّعي والأجنبي، لا يخلو (1) إمّا أن يكون مع إقرار المدعى عليه، وإمّا أن يكون مع إنكاره. فإن كان مع إقراره، لم يخل إما أن يكون المدعى ديناً، أو عيناً. فإن كان عيناً [كأن] (2) ادّعى عليه ثوباًً، فأقر به، فتقدم أجنبي إلى المدعي ليصالح، ففي ذلك مسائل: إحداها - أن يقول: وكلني المدعى عليه لأصالحك عنه له على كذا، فيجوز هذا، والأجنبي وكيل بالشراء.
والمسألة الثانية: أن يقول: أصالحك عنه لنفسي على كذا، فأجابه المدّعي، والأجنبي [كأنه] (3) يقصد [الشراء] (4) لنفسه. قال الأصحاب: ذلك صحيح، وقد اشترى عيناً من مالكها.
وكان شيخي يتردَّد في ذلك تردُّداً يؤول إلى اللفظ. ويقول: أولاً في غير صور المنازعة والدعوى، إذا تقدّم رجل إلى مالك عينٍ، وقال: صالحني عن ثوبك هذا بدينارٍ، فقال: صالحتك. فهل يكونُ ذلك شراءً صحيحاً؟ فعلى وجهين: أحدهما - يصح. والثاني - لا ينعقد البيع، فإنّ الصلح من غير تقدم منازعةٍ غيرُ مستعمل. ولو تقدمت دعوى في مفصل خصومة ترتب عليها إقرارٌ، فقال المدعى عليه: صالحني على كذا، صح، ولو قال أجنبي للمدعي: صالحني على كذا، وقصد أن يملك لنفسه، وقد ثبت ملك المدعي بإقرار المدَّعى عليه، ففي صحة ذلك وجهان مرتبان على ما لو جرى الصلح من غير نزاع أصلاً، وهذه الصورة أولى بالصحّة؛ فإن لفظ الصلح ترتب على صورة دعوى وجواب، وإن لم تتعلق الدعوى بالأجنبي (5) المصالح.
__________
(1) لا يخلو: بدون الفاء في جواب (أما) كدأب إمامنا.
(2) في الأصل: كأنه.
(3) في الأصل: كان.
(4) مزيدة لرعاية السياق.
(5) إلى هنا كلام الشيخ أبي محمد. وانظر: الشرح الكبير: 10/204 بهامش المجموع.(6/454)
4115- ولو تقدم الأجنبي إلى المدعي، وقال: أصالحك عن العين المدَّعى عليه بكذا، وما كان وكله المدعى عليه (1) المقر، فأجابه المدّعي، فلا يقع الملك للمدّعى عليه المقر، تفريعاً على المذهب الظّاهر في منع وقف العقود، كما فصلناه في كتاب البيع. وإذا لم يقع الملك للمقر المدّعَى عليه، فهل يقع (2) [للأجنبي؟ في وقوعه وجهان يجريان في كل من اشترى لغيره شيئاًً من غير توكيل، فلا يقع لغيره، وفي وقوعه للعاقد وجهان، هذا إذا صرح بالإضافة، فإن أضمرها، فلا خلاف في الوقوع للعاقد، ولو قبل النكاح لمن لم يوكله، لم يقع لواحد منهما اتفاقاً.
أما إذا قال: وكلني لأصالح له بثوبي أو عبدي، ففي وقوعه عن الموكل وجهان يجريان في التوكيل كذلك، من غير نزاع، فإن لم نوقعه للموكل، ففي وقوعه للوكيل الوجهان، وإن أوقعناه للموكل فنقول:] (3) هل الثوبُ موهوبٌ أو مقرض؟ فعلى الوجهين السابقين. والثاني - لا يقع للمدَّعى عليه، فعلى هذا لا يقع للأجنبي المُصالح أيضاًً، تفريعاً على بُطلان شراء الدين في ذمة الغير. وهذا بخلافِ العين؛ فإن شراء العين جائز. هذا منتهى الكلام في صلح الأجنبي، مع إقرار المدعى عليه، عيناً كان المدعى، أو ديناً.
4116- فأما الصلح من الأجنبي مع إنكار المدعى عليه، فينقسم إلى العين والدين، فإن كان في العين [كأن] (4) ادّعى عليه ثوباًً، وأنكر، فجاء أجنبي ليصالح، ففي ذلك مسائل: إحداها - أن يقول: أقر المدّعى عليه عندي، ووكلني لأصالحك عنه على مالٍ، فهذا جائز، لا امتناع فيه بوجهٍ.
__________
(1) وهذا ما يسمى شراء الفضولي. (الروضة: 4/200) .
(2) هنا خرم مقداره ورقة (لقطة) كاملة يمين وشمال، لم تصوّر من الأصل، وهي ظهر الورقة 182، ووجه الورقة 183. وللأسف العمل هنا عن نسخة وحيدة، لا مجال لتدارك خرومها.
والله المستعان. (هذا، وقد سعينا كلَّ السعي لدى الخزانة التي تملك أصل المخطوطة، لتصوير هذه الورقة، فجاءنا الردّ: إنها ساقطة من الأصل) .
وسنحاول أن نسدّ هذا الخرم من مختصر النهاية للعز بن عبد السلام.
(3) انتهى المنقول من مختصر النهاية.
(4) في الأصل: كأنه.(6/455)
وفي المسألة غائلة، لا بد من التنبيه لها، وهي أنا لو سمعنا المدعى عليه يُعيد الإنكار بعد ما ادّعى الأجنبي أنه وكيله، فعادة الإنكار منه عزلٌ له، فتنقطع الوكالة، ولو لم يُعِدْ إنكاراً بعد الإنكار الأول، فالأمرُ على ما ذكرناه حينئذ.
4117- ومن مسائل هذا القسم أن يقول الأجنبي: قد أقر المدّعى عليه عندي بعد إنكاره، وأنا أصالحك عنه لنفسي على كذا، فقد قال طوائف من أصحابنا: يصحّ هذا العقد. فإنَّا نبني صحة العقد على الصيغة الدائرة بين المتعاقدين، وهما متقارّان، وصورة العقد مبنيّة على التقارِّ. وهؤلاء يشترطون لا محالة أن يكون المشتري قادراً على انتزاع تلك العين من يد المدعى عليه. ولو قال الأجنبي: أنا قادر على الانتزاع من يده، بُني العقدُ على حكم قوله في الظاهر، وحُكم بصحته.
وكان شيخي أبو محمّد يطلق القول بأن الصلح في هذه الصورة لا يصح على هذا الوجه؛ فإن ظاهر الشرع قاضٍ بثبوت الملك للمدعى عليه، وابتياعُ ملكه المحكومُ به من غير إذنه لا يصح.
[والوجه التفصيلُ عندنا، بأن] (1) يقال: إن كان الأجنبي صادقاً بينه وبين الله تعالى، حُكم بصحة العقد باطناً قطعاً. ولكن. لو قيل: يُحكم (2) بصحة العقد ظاهراً، على معنى أن تزال يدُ المدعى عليه، من غير ثَبتٍ، فهذا لا وجه له، ولا سبيل إليه.
وإن قيل: هل يطالِب المدّعي الأجنبيَّ المصالحَ بالثمن الذي التزمه بناء على قوله والتزامه؟ فالوجه القطع بأنه يطالبه، ويؤاخذه بحكم قوله.
وإن كان المدّعي كاذباً في علم الله تعالى، فالعقد باطل باطناً، وفي مؤاخذة الأجنبي بالظاهر بناء على قوله والتزامه - الذي ذكرناه (3) .
وما ذكرهُ شيخي له اتجاهٌ؛ فإن انتزاع تلك العين من يَدِ المدّعى عليه ممنوع شرعاً،
__________
(1) في الأصل: والوجه في التفصيل عندنا أن.
(2) في الأصل: هل يحكم.
(3) أي الوجهان. كما صرح بنقله الرافعي، في الشرح الكبير: 10/305 بهامش المجموع.(6/456)
لا يعارضه إقرار الأجنبي بالاقتدار على (1) الانتزاع.
هذا منتهى الكلام.
والوجه مَا ذكرناه من التعرض للظاهر والباطن.
4118- ومن المسائل أن يقول الأجنبي: لم يُقرّ المدعى عليه عندي، لكني أعلم أنك محق، فأصالحك لنفسي، فهذا [بزعم] (2) هذا الأجنبي شراء المغصوب، والتفصيل فيه كالتفصيل، في المسألة المقدمة (3) .
4119- ومن المسائل أن يقول: لم يقر المدعى عليه، لكني أعلم أنك محق، فأصالحك للمدعى عليه لقطع الخصومة، وتخليص العين للمدّعى عليه، ففي المسألة وجهان مشهوران: أظهرهما - أن ذلك ممتنع؛ فإنه موقعٌ الصلحَ لمنكرٍ، والمدّعى عين من الأعيان.
والثاني - يصح العقد؛ لأن الأجنبي والمدعي متقاران بينهما (4) ، وهو يبغي تنزيه العين عن دعوى المدعي، فكان كما لو سعى في تبرئة ذمته عن دين، وهذا رديء جدّاً، ولكنه مشهورٌ في الحكاية.
4120- ومن المسائل أن يقول: أقر عندي وأنا الآن أصالحك له، وما وكلني، فلا يقع للمدعى عليه بلا خلاف؛ فإنه يزعم أنه أقر باطناً، فليس متمادياً على إنكاره، فلا بد من التوكيل من جهته، ولكن إذا لم يقع عن المدّعى عليه، فهل يقع عن الأجنبي فعلى الوجهين المذكورين في نظائر هذا.
ولو قال الأجنبي (5) : أعلمك مبطلاً، ولكني أصالح لقطع الخصومة، فهذا
__________
(1) بمعنى أن كون الانتزاع ممنوع منه شرعاً، يجعله كالعجز عنه حسّاً.
(2) في الأصل: (برغم) ومعنى العبارة: " فهذه الصورة حكمها حكمُ شراء العين المغصوبة، إذا اشتراها غير الغاصب " وانظر الشرح الكبير للرافعي: 10/305 بهامش المجموع.
(3) أي في قضية القدرة على الانتزاع.
(4) "والاعتبار في شرائط العقد بمن يباشر العقد". قاله الرافعي (ر. الشرح الكبير - بهامش المجموع-:10/305) .
(5) أي للمدّعي.(6/457)
باطل؛ فإن الصلح على هذه الصيغة مع المدعى عليه لا يصح؛ لأنه على الإنكار، [فكذلك] (1) لا يصح مع الأجنبي.
وكل ما ذكرناه والمدّعى عين.
4121- فأمَّا إذا كان المدعى ديناً، وقد أنكره المدعى عليه، فجاء أجنبي ليصالح، نُظر: فإن قال: أقر عندي، ووكلني لأصالح له، فجائز على نحو ما ذكرناه في العين، وقد تقدم.
وإن قال: أصالح لنفسي، فهو شراء الدين، وتفريعنا على الحكم ببطلانه.
وإن قال الأجنبي: أعلمك مبطلاً ولكني أصالحك لقطع الخصومة، فهذا باطل، وهو صلح على الإنكار.
وإن قال: لم يقر، وأعلمك محقاً، ولكني أصالح للمدعى عليه، فالأظهرُ أنه جائز؛ لأنه قضاء دين الغير دون إذنه، وقضاء الدين لا يقف على إذن المقضي عنه، بخلاف العين؛ لأن تملك العين بغير إذنه وقبوله غيرُ متجه، وقيل: لا يصح هذا في الدين، وهو بعيد.
4122- وفي هذا الفصل مزيد تفصيل يستدعي تقديم مقدّمةٍ، هي مقصودة في نفسها: وهي أن من عليه الدين إذا قال لإنسانٍ: أدِّ ديني، فإن أدى المأمور جنسَ الدين، جاز. وإن أدى [عِوضاً] (2) ، ففي المسألة وجهان: أظهرهما - أنه يجوز كما لو أعطى جنس الحق. والثاني - لا يجوز؛ لأنه يعطيه على سبيل العوض، ومبنى ما يعطيه المرء عوضاً أن يقابله [تملك] (3) شيء من جهة باذل العوض، وليس الأمر كذلك.
ولو ضمن رجل مالاً، فأعطى عوضاً إلى المضمون له، وقع الموقع وجهاًً واحداً؛ لأن الضّامن من التزم المال بالضمان، فصار أصلاً في الالتزام، فما يعطيه يعطيه
__________
(1) في الأصل: وكذلك.
(2) في الأصل: عَرْضاً.
(3) في الأصل: مملك.(6/458)
فيما عليه، ويُسلّم له في مقابلة براءته. فإن قلنا: بظاهر المذهب في جواز بذل العوض، أو وضعنا الكلام في الضّامن الذي يملك الرجوع على المضمون عنه، والتصوير في المأمور بأداء الدين فيه إذا كان يملك الرجوع، وإن كان العوض المبذول قيمته مثل الدين، رجع به. وإن كان أكثر من الدين، لم يرجع بالزائد. وإن كان أقلَّ من الدين، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه يرجعُ بقدر قيمته اعتباراً بما غرم.
والثاني - بقدر الدين؛ اعتباراً بما سقط، وسنقرر هذا الأصل في كتاب الضمان إن شاء الله تعالى.
4123- فإذا ثبتت هذه المقدمة، فإذا جاء الأجنبي في صورة الصلح، وقال للمدعي: أعلمك محقاً، وأريد أن أصالح المدعى عليه، وما أقر عندي، وما وكلني، فإن بذل الأجنبي جنس الدين، فالظاهر الصحة، وفيه الوجه الضعيف.
وإن بذل عوضاً، [والتفريع] (1) على أن بذل جنس الدين صحيح، ففي بذل العوض وصحته من الخلاف ما ذكرناه فيه إذا قال من عليهِ الدين: " أدّ ديني "، فبذل المأمور عوضاً.
فصل
يحوي مسائل من الصُّلح مع الإقرار، والمدَّعَى المَقَرُّ به دينٌ
4124- فلو استحق الرجل ألف درهم مؤجّلاً، وصالح على ألف حالٍّ، فهذا إسقاط الأجل عن الدين. ولا يسقط الأجل عن الدين. نعم، لو عجَّل من عليه الدينُ المُؤجَّلُ الدينَ، وقبله مستحق الدين، وقع الموقع. وإنّما الذي ذكرناه في أن هذا الصلح لفظٌ لا يوجب سقوط الأجل.
ولو كان الألفُ حالاًّ، فقال صالحتُ على ألفٍ مؤجَّل، فهذا ليس بشيء، وهو على الحقيقة إلحاق الأجل بالدين، والأجل لا يلتحق بالدين.
__________
(1) في الأصل: فالتفريع.(6/459)
فلو صالح من ألفٍ مؤجَّل على خمسمائة حالّ، لم يجز، لأنه طلب الحلول، ورأى المقدار الذي ذكره حالاًّ أولى عنده من الألف المؤجّل، فكان ذلك على حقيقة المعاوضة. ومقابلةُ الألف بالخمسمائة باطل.
ولو قال: صالحت من ألفٍ حالٍّ على خمسمائة مؤجلة، فمعنى الكلام الإبراء عن خمسمائة، وإلحاق الأجل بالخمسمائة الباقية. وليس في هذا الكلام معنى المعاوضة، وطلب مقصود يُطلب بالمعاوضة، فالوجْه أن نقول: الإبراء صحيح عن خمسمائةٍ، وخمسمائة ثابتةٌ على حلولها، وذِكْره الأجلَ وعدٌ بالتأخير، فلا يلزمه الوفاء بهِ.
4125- ولو صالحهُ من ألف صحاحٍ على ألفٍ مُكسّرة، فهذا وعد جميل، من جهة صاحب الحق، لا يجبُ الوفاء به. نعم، لو قبض المكسر مسامحاً، وقع الموقع.
ولو صالح من ألف مُكسَّرٍ على خمسمائة صحاحٍ، لم يصح الإبراء عن شيء؛ فإن ذلك صيغة المعاوضة؛ إذ الصحة صفة مقصودة في الخمسمائة، فكأنه قابل الألفَ المكسّرَ بالخمسمائة الصحاح، فيبطل العقد لا محالة.
ولو صالح من ألفٍ صحاح على خمسمائة مكسرة، فليس في هذا ثبوت المعاوضة، فالوجه تصحيح الإبراء في الخمسمائة، والخمسمائة الباقية على صحتها، وذكر المكسرة وعد جميل منه.
ولو استحق على رجلٍ ألفَ درهم وخمسين ديناراً، فصالحه منها على ألفي درهم، فقد قال معظم الأصحاب: يجوز، ونجعله في أحد الألفين مستوفياً الألف الذي له، والثاني في مقابلة الدنانير، وهذا متجه حسن.
قال القاضي: الصحيح عندي فساد هذه المعاملة، وحمل الأمر على بيع ألف درهم وخمسين ديناراً، بألفي درهم.
والأوجهُ عندي ما ذكر الأصحاب؛ فإن الألف في مقابلة الألف استيفاءً، ولا يجوز تقدير البيع فيه، ولو قال مستحق الألف: بعتك الألف الذي عليك بهذا(6/460)
الألف الحاضر، فالذي جاء به لي بيعاً، وإنما هو استيفاء. وإذا اتضح ذلك، فالوجه حمل أحد الألفين على استيفاء الألف الذي كان ديناً، فتتجرد المعاوضة في الألف الأخير والدنانير، وذاك لا امتناع فيه.
فصل
يحوي مسائل مقصودة في المذهب أَلزمَها أصحابُ أبي حنيفة
في تصحيح صلح الإنكار
منها:
4126- أن الرجل إذا طلق إحدى امرأتيه لا بعينها، ومات قبل التعيين، نوقف بينهما ميراثَ زوجة، فإن اصطلحتا على اقتسام الموقوف نصفين، أو على نسبةٍ، فقد أجاز الأصحابُ ذلك، فاستمسك أصحابُ أبي حنيفة بالمسألة (1) ، وقالوا: هما متناكرتان: كل واحدة تدعي أنها زوجته، وأن صاحبتها محرومة، فالذي جرى من الصلح صلح مع تقرير الإصرار على التناكر.
وهذا الذي ذكروه في الإلزام باطلٌ، واقتسام على التراضي صحيح. وما ذكروه من التناكر لا حقيقة له؛ فإنهما لو أنصفتا، لاعترفتا بالإشكال؛ إذ ليست إحداهما مختصة بنوع من البيان دون صاحبتها، فليس بينهما تناكر.
ولو فرضنا تناكراً، فلا محمل له إلا أن تدعي كل واحدة أنها اطلعت على بيانٍ في أنها الزوجة. فإن كان كذلك، فالصلح مع الإنكار على نعت الحطيطة. وقد ذكرنا أن صلح الحطيطة هل يحمل على الهبة أم لا؟ وفيه الخلاف المقدّم. وإن اعترفتا بالإشكال، فالقسمة على التراضي صحيحة.
__________
(1) ر. بدائع الصنائع: 6/40، مختصر الطحاوي: 98، اختلاف أبي حنيفة، وابن أبي ليلى:
43، رؤوس المسائل: 315 مسألة: 201، طريقة الخلاف: 428 مسألة: 26، إيثار
الإنصاف في آثار الخلاف: 372، وانظر أيضاً: الاصطلام: 4/336.(6/461)
فإن قيل: كيف صححتم المعاملة مع الجهل؟ قلنا: إذا انحسم البيان، وتعذر وقف المال إلى غير نهايةٍ، فالشرع يحتمل الجهالةَ في مثل هذه الصورة، ولا وجه إلا احتمالها.
4127- ولو صالحت إحداهما الأخرى على عينٍ أخرى سوى الموقوف بينهما، فقد قال الأصحابُ هذا باطل، مع الاعتراف بالإشكال، فإنه استبدال مالٍ هو ملك من يبذل، في مقابلة ما لا يعلم كونه ملكاً له. وليس كما لو اقتسما ذلك الموقوف؛ فإن كل واحدة تقول: إن كنت أنا الزوج، فالحاصل في يدي ملكٌ لي، والباقي أيضاًً ملكٌ لي، وإن لم أكن زوجة، فالحاصل في يدي موهوب مني من صاحبتي، وهذا لا يمكن اعتقاده، وقد بُذل عوضٌ آخر سوى الموقوف.
4128- ومما أَلزَموه ما إذا أسلم الرجل عن أكثر من أربع نسوة: فكنَّ خمساً، أو ستاً، ومات الزوج قبل البيان. فإنا نقف بينهن ميراثَ زوجة. ثم الكلام في الاصطلاح على حسب ما ذكرنا إلزاماً وجواباً.
4129- ولو ادعى رجلان داراً في يد إنسان، كل واحد يدعي تمامها لنفسه، فقال المدعى عليه: الدار لأحدكما، ولم يبيّن، ومات، وعسر تلقي البيان منه، فلو اصطلحا، واقتسما الدار، صح. وهذا فيه فضلُ نظر؛ فإنهما ما بنيا الأمرَ على الاعتراف بالإشكالِ، بل كل واحد ادعى الانفراد بالملك في جميع الدار، فكان هذا نظيراً لما إذا ادّعت المرأتان -وقد وقعت طلقةٌ مبهمةٌ بينهما - العلمَ بحقيقة الحال، فكانت كل واحدة تدعي: إني معينةٌ للزوجية. وقد ذكرنا أن الصلح في هذه الصورة، صلحُ حطيطة على الإنكار، فالقول في المدعيين يحل هذا المحل.(6/462)
فصل
قال: " فإن صالح رجل أخاه من موروثه ... إلى آخره " (1) .
4130- إذا صالح واحد من الورثة الباقين (2) عن حصةٍ من التركة، وهي أعيان، فهذا [منه] (3) بيعُ حصّته بعوض، فحكمُه حكمُ البيع في كل معنىً، فقد يدخل فيه أحكام الصَّرف، وتفريق الصفقة، والقطع بالبُطلان في المجهول، والعبد الآبق.
ولا حاجة إلى البيان في الواضحات.
4131- ولو كانت التركة بين اثنين مثلاً، وكانت عشرةَ دنانير، وأقمشةً، فصالح أحدهما صاحبَه على عشرة، نقل القاضي عن الأصحاب جوازَ ذلك، وحكى عنهم أن ذلك استيفاءُ حصته من الدنانير، واعتياضٌ فيما زاد على حصته من الدنانير عن حصته من الأقمشة.
ثم قال القاضي: والذي عندي أنه لا يجوز، فإنه مقابلة دنانير بدنانير.
وهذا الذي ذكروه (4) كلام مختلط. والوجهُ أن يقال: إن أحضر الدنانير سوى دنانير التركة، فالبيع باطل قطعاً، ولا يجوز تقدير خلافٍ في هذه الصُّورة من الأصحاب. وإن سُلمت الدنانيرُ التي في التركة إلى أحد الوارثَيْن، واكتفى بها، فالوجه القطع بجوازها؛ فإنه يكون مستوفياً لحقه من العشرة، وأخذ [باقي] (5) العشرة عوضاً عن حصته من الأقمشة، لا وجه غيرُ هذا.
والذي قدمناه منه (6) إذا كان على رجل ألفُ درهم دَيْناً وخمسون ديناراً وبذل ألفي
__________
(1) ر. المختصر: 2/224.
(2) "الباقين" مفعول الفعل "صالح".
(3) في الأصل: منع. وهو تصحيف عجيب، لا يتفق مع السياق.
(4) انظر المسألة في فتح العزيز: 10/300 بهامش المجموع.
(5) في الأصل: الباقي.
(6) يشير إلى ما ذكره في آخر الفصل قبل هذا بفصل.(6/463)
درهم عما عليه، فتقديرُ المنع من هذه الصورة فيه إخالة على البعدِ؛ من جهة أن الألفين المنقودين عينٌ، والذي في ذمة باذلهما دينٌ، أمّا العشرة هاهنا إذا قبضها، فقَدْرُ حقه يقع استيفاءً، فتجرد باقي العشرة في مقابلة الأقمشة.
فصل
قال: " ولو أشرع جناحاً على طريقٍ نافذةٍ ... إلى آخره " (1) .
4132- إشراع الجناح والساباط (2) فيه مسائل:
إحداها - أن يُشرِعَه في ملك الغير من غير إذنه، فهو ممتنع منقوضٌ على المُشْرع؛ فإن هواء الملك حق المالك، ولو أراد المصالحة عن ذلك الهواء بمالٍ يبذله، لم يجز ذلك؛ فإن العِوض مالٌ، فلا يجوز بذلُه إلا في مقابلة مال.
4133- والثانية - أن يُشرع في الشارع، وهو المسلكُ النافذ الذي يشترك فيه الطارقون، فالمرعي في المنع والجواز تضرر السالكين، وانتفاء ذلك، فإن كانوا يتضررون، امتنع الإشراع، وإن كانوا لا يتضررون لا يمتنع، ولا يتوقف على أمر مَنْ إليه الأمر، ولا مخاصمة لآحاد الناس فيه عندنا. وأبو حنيفة (3) يعتبر في المنع مخاصمةَ من يخاصم من آحاد المسملين.
فإذا ثبت أن أصل الضرر هو المعتبر عندنا، فلا يخصص الضرر بالمشاة المارين، بل لو كان [يتضرَّرُ] (4) الركبان بالجناح المشرَع، مُنع، حتى قال الأصحاب: ينبغي أن يكون الجناح بحيث لا يصطك به [كنيسة] (5) على بعير، ولا نظر إلى أن هذا قد
__________
(1) ر. المختصر: 2/224.
(2) الساباط: سقيفة تحتها ممرٌ نافذ. والجمع: سوابيط، وساباطات. (معجم) .
(3) ر. مختصر الطحاوي: 100، البدائع: 6/265، حاشية ابن عابدين: 5/380. هذا وقول الصاحبين موافق للشافعي، قال الطحاوي في مختصره: وبقولهما نأخذ.
(4) في الأصل: متضرر.
(5) في الأصل: كنيسته. والكنيسة هنا كالهودج: يغرز في المحمل، أو الرحل قضبانٌ، ويلقى عليه ثوب يستظل به الراكب، ويستتر به، والجمع: كنائس، وزان: كريمة وكرائم. (مصباح) .(6/464)
يندر؛ فإنه لا ضبط لأحوال المارة، واطراد الرفاق مع الحمولات، والكنائس، وغيرها، وقد يتفق ذلك ليلاً ونهاراً، فالوجه اعتبار الأقصى في الباب.
وحكى العراقيون وغيرهم عن بعض الأصحاب أن الجناح ينبغي أن يكون بحيث لا يناله رأسُ رمحٍ منصوب من رَاكب، وهذا عزاه العراقيون إلى أبي عبيد (1) بن حَرْبُوَيْه، ثم زيف الأصحاب ذلك، [وفيه زحف] (2) ، وعدُّوه سرفاً في تصوير الصور؛ فإن إضجاع الرمح يسيرٌ غيرُ عسير، فينبغي أن يكون ضبط الضرر بما يتعسر تغييره على الطارقين، لمكان الأجنحة، كالكنائس، والحمولات.
4134- وممَّا يتعلق بأحكام الشوارع في الفن الذي نحن فيه: أن طائفة من أصحابنا قالوا: لو بنى الإنسان دَكَّةً على باب داره، أو غرس أشجاراً، فإن كان يتضرر به المارة، مُنع منه، وإن كان لا يتضرر به المارة، فلا منع. ثم قال هؤلاء: لا يختص بناء الدَّكة، وغرسُ الأشجار بفِناء الملك، بل لو تباعد عن داره، [وبنى] (3) دَكة بقرب دار الغير، أو غرس أشجاراً لا يتضرر بها المارة، فلا يمتنع منه. هذا مسلكٌ لبعض أصحابنا، وإليه ميل القاضي فيما نقل الأثبات عنه.
وكان شيخي يقول: لا يسوغ غرس الأشجار في الشوارع؛ فإن مكانه مستحق للطروق، وفي شغله بالغراس منعٌ للطريق.
والدَّكةُ المرتفعة في معنى الغراس، ولا نظر إلى اتساع الطريق وتضايقها، مع ما حققناه؛ فإن الرفاق قد تصطدم، وقد يفرض طروقُ عسكرٍ، أو أسرابٍ من البهائم. والذين ذكروا في الأجنحة توقع اصطكاك الحمولات والكنائس، لم يفصلوا بين اتساع الطرق وتضايقها.
__________
(1) أبو عبيد بن حَربُوَيه: علي بن الحسين بن حرب، بن عيسى البغدادي، القاضي، ت 319 هـ ببغداد.
أحد أركان المذهب، تخرج بأبي ثور، سمع أحمد بن المقدام العجلي، والحسن بن
عرفة، والحسن بن محمد الزعفراني، وغيرهم، كان مهيباً، وافر الحرمة، ولي القضاء بمصر ثماني عشرة سنة (طبقات السبكي: 3/446، وتاريخ بغداد: 11/395) .
(2) ما بين المعقفين غير مفهوم المعنى. والعبارة مستقيمة على أية حال، بدون الوقوف عنده.
(3) في الأصل: وفنى.(6/465)
ومن أشخص دكاناً أو غرس أشجاراً، فقد جمع بين شغل بقعةٍ من الشارع، وبين شغل هواء الشارع، فكان البناء والغراس أولى بالمنع، [من] (1) الجناح المختص بشغل الهواء.
وإنما لم ينظر المحققون إلى اتساع الطرق؛ من جهة أن الرفاق قد تطرق ليلاً، ويعسر عليها مراقبةُ الأجنحة، وهذا يتحقق في الغراس والدَّكة.
4135- والذي يتحتم على من يسوّغ بناء الدَّكة وإثبات الغراس أن يفصل في الجناح بين اتساع الطريق وضيقها، وهذا لم نذكره إلزاماً (2) ، وإنما هو قولٌ لا بد منه في التفريع على هذا الوجه.
وفي البناء والغراس مزيدُ أمرٍ، وهو أنه قد يلتبس على طول الزمان محلُّ البناء والغراس بالأملاك، وينقطع أثر استحقاق الطروق، وقد لا يتحقق ذلك في الأجنحة، ولا يتحقق شفاء الغليل في هذا الفصل إلا بذكر ماهية الشرع في أصل الوضع (3) ، وسنصف ذلك في آخر الفصل، إن شاء الله تعالى.
وقد نجز القول في إشراع في ملك الغير، وفي الشارع المشترك بين الكافة.
4136- ونحن نذكر الآن التفصيل في إشراع الأجنحة في السكة [المنسدةِ] (4)
الأسفل، فإذا أراد واحدٌ من أهل السكة أن يشرع جناحاً، فاشتغل به هواء السكة، فقد قال الأصحاب: إن الذين دون أسفل من موضع الجناح إلى أسفل السّكة [لهم] (5) المنعُ من البناء، والنقضُ بعدَه؛ فإنهم في محاولة النفوذ من رأس السكة [يطرقون] (6) ما يسامت الجناح من عَرْصة السّكة، فأمّا الذين دارهم أعلى من مكان الجناح، فقد
__________
(1) في الأصل: والجناح.
(2) إلزاماً: أي يلزم من قولهم، نلزمهم به. والإلزام من مصطلحات علمي الجدل والمناظرة.
(3) ماهية الشرع في أصل الوضع: أي حقيقة جَعْل الشارع شارعاً.
(4) في الأصل: المفسدة.
(5) في الأصل: فلهم.
(6) في الأصل: يطوفون.(6/466)
اختلف أصحابنا فيهم: فذهب ذاهبُون إلى أنهم لا يعترضون؛ فإنّهم في النفوذ من السكة لا [يطرقون] (1) مكان الجناح، فلا اعتراض.
وقال آخرون: لهم الاعتراض؛ فإن السكة في حكم عرصة مشتركة بين سُكَّان السّكة، فيثبت حق الاعتراض للجميع، ولمن تعلو داره حقُّ الاعتراض في جميع السّكة. وغاية هذا الفصل تتبين بذكرنا حقيقة المذهبِ في آخر الفصل، إن شاء الله تعالى.
ولو صالح أهل السّكة مُشرع الجناح، لم يجز، لما قدمناه من امتناع المصالحة على الهواء المجرّد. فهذا الذي ذكرناه الطريقةُ المشهورة للأصحاب، وفاقاً وخلافاً.
4137- وقال العراقيون يجوز إشراع الجناح في السكة [المنسدة] (2) ، حيث يجوز إشراعُها في الشوارع، وإنما قال العراقيون ذلك فيمن له بابٌ نافذ في السكة، فأما من لا ممر له، وإنّما جداره على السّكة، فليس له أن يُشرع الجناحَ في السكة المنسدة.
وهذا نقلته من طرق معتمدة لهم على ثَبَت. فالمرعي عند هؤلاء الضرر وانتفاؤه، كما تقدّم في الشارع العام، وهذا لا تعرفه المراوزة أصلاً، ولعل العراقيين لم يثبتوا في عرصة السكة حقيقةَ الملك لأهل السكة، وإنما أثبتوا فيها حق الطروق، ولكنه مختص بسكان السكة. والطروقُ في الشارع العام لا اختصاص فيه.
4138- وممَّا يتعلق بهذه التصرفات فتح الأبواب و [الكَوَّاتِ] (3) والمنافذ، فأمّا فتح الأبواب في الشوارع العامة، فلا منع منه؛ فإن الذي يفتحها يتصرف في جدار نفسه بالرفع، وذلك إليه، وإذا رفع مقداراً منه، استحال منعُه. ثم حق الطروق بعد الفتح ثابت؛ فإنه حقٌ عام للناس كافة.
__________
(1) في الأصل: يطوفون.
(2) في الأصل: المفسدة، وقد تكرر ذلك بلا عدد. وهو وهم عجيب.
(3) الكَوات جمع كَوَّة: الثقبة في الحائط. وهي بفتح الكاف، فتجمع على كَوات، مثل: حية وحيات، وتكون بضم الكاف، فتجمع على كوًى، مثل: مُدية، ومدًى (مصباح) .(6/467)
فأما فتح باب جديد في السكة المنسدة، ففيه تردد يستدعي مزيد تثبت.
قال بعض المحققين: لو أراد من له باب في السكة المنسدة أن يفتح باباً آخر في
السكة على جداره المملوك، نُظر، فإن كان يفتحه دون باب دارِه، فللذين دورهم
أسفل المنعُ، وهل للذين دورهم أعلى من داره المنع؟ فعلى الوجهين المذكورين في الجناح. وإن كان يفتح الباب الجديد فوق بابه المعهود، فليس للذين دورهم أسفل المنعُ أصْلاً، وهل للذين دورهم أعلى من ذلك الباب المفتوح أو هم في مقابلة ذلك الباب المنع؟ فعلى وجهين. أما ذكر الوجهين في الذين بابهم أعلى من الباب المفتوح، فهو على القياس المقدّم في الجناح، وليس تفصيلاً محدثاً، وأمَّا القطع بأن الذين هم أسفل من بابه المعهود لا يعترضون وجهاًً واحداً، فهذا إحداث حكم لم نذكره في الجناح.
وكان شيخي يذكر في الذين هم أسفل وجهين إذا كان الفتح أعلى من الباب المعهود، كما ذكرنا وجهين في الذين هم فوق الجناح المشروع، ويقول: من أصحابنا من لا يخصص المنعَ ببعض السكان دون بعض، طرداً للقياس.
ثم الذي يتخيل في المنع من إحداثِ باب جديد ازدحامُ الناس عليه، أو وقوف
دابةٍ بالقربِ منه، وهذا في حق الأعلى والأسفل على وتيرة. فهذا ما قيل فيه.
4139- ووراء ذلك فكر لا بد من الإحاطة به، وهو أنه إن سد الباب القديم، وأحدث فوقه باباً مما يلي الدرب، فلا يتجه أصلاً حق المنع لمن هو أسفل، ولا لمن هو أعلى.
وإن فتح باباً جديداً، ولم يسد الباب القديم، فقد يتجه حق المنع للمتسفلين، فإن هذا إحداث فتحٍ، وهو مظنة [الشغل] (1) مع استدامة [الأول] (2) ، فالذين هم أعلى، فالأمر فيهم على التردد كما ذكرناه في السَّابَاطِ، والظاهر أن الذي يقابل الفتح الجديد يثبت له حق الاعتراض؛ لأن الضرر الذي أومأنا إليه يناله، وهذا مما يجب القطع به.
__________
(1) في الأصل: السفل.
(2) في الأصل: الأوْلى.(6/468)
ولو كان الباب المقابل بين بابي هذا الفاتح القديم والحديث، فلا وجه إلا القطعُ بثبوت الاعتراض؛ فإن ممرّه على الباب المستحدث، وليس بابُه أسفل من الباب القديم؛ حتى يقال: هذا البابُ الحديث في معنى البابِ القديم، بل هو في حقه إحداث ممرٍّ لم يكن له. والسر في هذا مبيَّنٌ في آخر الفصل.
4140- والذي نذكره الآن نقل مقالاتِ الأصحاب، مع التحقيق الذي يليق به:
فأمّا فتحُ الكوّاتِ والمنافذ لجلب الضوء من غير إشراعٍ في الهواء، فلا منع منه أصلاً.
ولو فتح باباً جديداً وزعم: إني أريد الاستضاءة، ولست أطرق منه، وطلب أن يقيمه مقام كوة يفتحها، فقد اضطرب أصحابنا في ذلك: فمنهم من قال: لا سبيل إلى منعه، وكذلك لو أراد رفع جميع جدارِه، لم يمنع.
ومنهم من قال: يمنع؛ فإن الباب شاهد على حق المرور من محل الفتح، فليمنع من هذا، وليس كالفتحة العالية، التي لا يتوقع النفوذ منها.
4141- ولو كان للإنسان دار بابُها لافظٌ في سكة منسدة، وكانت تلي الشارع، ففتح لها باباً في الشارع، جاز ذلك. ولو كان بابُها لافظاً في الشارع، وكان جدارٌ منها يلي سكة منسدةَ الأسفل، لم يجز له أن يفتح باباً في تلك السكة إلا برضا أهلها، فإذا رضُوا، كان ذلك إعارةً منهم [للمرور] (1) من السّكة، ومهما أرادوا الرجوع، رجعوا في العارية، ولا يلتزمون إذا رجعوا شيئاً، بخلاف ما إذا أعار مالك الأرض ممّن بنى عليها؛ فإن الرجوع وإن كان جائزاً، فقلْع البناء مجاناً لا يجوز، على ما سيأتي مشروحاً، إن شاء الله تعالى.
4142- ولو كانت له داران بابُ أحدهما لافظٌ في الشارع، وبابُ الثانية نافذٌ في سكة غيرِ نافذة، فأراد أن يفتح باباً من إحدى الدارين في الأخرى، ليصيرا واحدة، فهل لأهل السكة المنعُ؟ فعلى وجهين: أقيسهما - أنه لا يُمنع؛ لأن حق الاستطراق في السكة مُستحق له، ومنعه من فتح ملكه في ملكه لا وجه له.
__________
(1) في الأصل: للمرء.(6/469)
ومن أصحابنا من جوز لأهل السكة المنسدة أن يمنعوه، والسَّبب فيه عند هؤلاء أنه أثبت للدَّار التي تلي الشارع ممراً في هذه السّكة لم يكن، وربما يسد باب الشارع، فيرجع الممرُّ من تلك الدّار إلى هذه السّكةِ.
4143- ولو كانت له داران بينهما جدارٌ، وباب أحدهما لافظٌ في سكةٍ، وبابُ الثانية نافذٌ في أخرى، والسّكتان منسدتان، فأراد فتحَ بابٍ بين الدّارين، فهل لأهل السّكتين المنعُ؟ فعلى الوجهين المتقدمين.
فهذا منتهى القول في المسائل التي ذكرها الأصحابُ في هذا الصنف.
4144- ونحن نختم الفصلَ الآن بتحقيق القول في أصل الشارع العام، ثم نذكرُ الآن حقيقةَ القول في السكة المنسدة.
أما الشارع فالذي نبتدىء به: أنا إذا ألفينا جادَّة معبّدةً، ومسلكاً مشروعاً نافذاً، تبينا حكمَ استحقاق الاستطراق بظاهر الحال، ولم نلتفت إلى المبدأ الذي عليه ابتنى مصير تلك البقعة [شارعاً] (1) ، وهذا لا خفاء به. ثم حكم الشارع ما قدمناه في مسائل الفصل.
وفيه أحكام تتعلق بالمقاعد في الأسواق، يحويها بابٌ من كتاب إحياء الموات.
وغرضنا وراء ذلك أن من جعل ملكاً من الأملاك شارعاً، وصرفه إلى هذه الجهة، صار الملك سبيلاً مسبَّلاً (2) على السابلةِ (3) ، وكان ذلك جهةً في ثبوت الشارع.
4145- ولو أحيا جماعةٌ قريةً أو بلدة، وملكوا البقاع بطرق الإحياء، وفتحوا أبواب المساكن إلى صوب، وتركوا مسلكاً بين دورهم، ومساكنهم، وبساتينهم، نافذاً، فتصير تلك البقعة شارعاً؛ فإنهم لا يستغنون عن النفوذِ في مساكنهم إلى البقاع، وكذلك يحتاجون إلى نفوذ الناس إليهم.
__________
(1) في الأصل: شارعة.
(2) مسبَّلاً: أي مباحاً، متبرعاً به، من قولك: سبَّلتُ الثمرة: إذا جعلتها في سبل الخير، وأنواع البر. (مصباح) .
(3) السابلة: الجماعة المختلفة المتحركون في الطريق لقضاء حوائجهم. (مصباح، ومعجم) .(6/470)
وهذا من لطيف ما يتعين تأمله، فالموات لا ينتقل عن حُكمِ الإباحة من غير ظهور آثار حكم الإحياء فيه، وفي الآثار تفاصيل ستأتي في كتابها، إن شاء الله تعالى.
والشارع قد لا يحتاج فيه إلى إثباتِ أثر، ولكن احتفافَ الدور واصطفافَها، على شقي بقعةٍ من الموات، مع تهيئة المنافذ إليها يهيئها، وينزل منزلة التأثير في المواتِ باتخاذها مزارعَ، أو زرائبَ، أو دوراً، ولا حاجة في ذلك إلى لفظٍ ونطقٍ، ولا حاجة إلى تقدمٍ في المواتِ، ثم ردّه إلى جهة الاستطراق، وليس [الشارع] (1) من حقوق الأملاك؛ فإن الناس فيه شَرَعٌ (2) . فلم يلتحق بالحقوق المختصة كالدِّمَن (3) ، ومطارح التراب، وغيرها؛ فإذاً اتجه مصير المواتِ شارعاً بجهتين: إحداهما - صرفُ الملك إليه. والثاني - ما ذكرناه من تشكيل الأملاك على شكلٍ، يقتضي مصيرَ المواتِ شارعاً.
4146- وكل موات في علم الله تعالى - فهو شارعٌ للخلق، على أنه لا منع من الاستطراق، ولكن لا يمتنع إحياؤه، حتى لو لم يفرض ما قدمناه من تهيئة الشوارع.
وكان بعض الناس يطرقون الموات، فلا يُمنع إحياؤه، والتحويطُ عليه، وصرفُ الممرّ منه.
وكان شيخي يقول: " هذا إذا لم يصر موضعٌ من المواضع جادَّةً مَتْناً (4) ، يطرقها الرفاق، فإن ظهرت جادةٌ موصوفة [بهذه الصفة] (5) ، وإن لم تحتفّ بها أملاكٌ ذاتُ منافذ، فلا يجوز تغييره، وصرفُ الممر عنه". فإن (6) كان هذا يُعدّ إحياءً، فهو بدع لا نظير له، إذ ليس يُدرى فيه مبتدىء عن قصدٍ، وممهِّدٌ، ولا يتعين فيه قصدُ قاصد، ولكن إذا أُلفي، أُقرّ. فليفصل الفاصل بين الممر المعروف وبين مسلك
__________
(1) فِي الأصل: التنازع.
(2) شَرَعٌ: أي متساوون.
(3) الدّمن: جمع دمنة، والدمنةُ موضع الدمن: والدمن هو ما يتلبد من السرجين، وفضلات الدواب. (مصباح) .
(4) متناً: المتن من الأرض، ما ارتفع وصلُب. (معجم) . والمراد هنا أن يصير الموات شارعاً مُعبَّداً مهيَّاً يطرقه الناس ويعتادونه، فلا يجوز عندئذٍ صرف الناس عنه بحجة الرغبة في إحيائه.
(5) زيادة من المحقق، اقتضاها السياق.
(6) هذا تعليق الإمام على كلام شيخه. رضي الله عنهما.(6/471)
التعاسيف (1) . وكان يتردد (2) في بُنيّات (3) الطرق إذا لم تكن جادة (4) ، وكانت مسالك يعرفها الخواص في كل بقعة.
فهذا منتهى القول في الشارع العام.
4147- فأمّا السّكة المنسدة، فلا شك في اختصاص عَرصتها لأصحاب الدور التي لها أبواب إليها، ولو أراد أهلها أن يسدوا الدرب، حتى لا يدخلها داخل، كان لهم ذلك. وجواز دخول السّكة المنسدة إذا صودفت أبوابُها مفتّحةً، من قبيل الإباحاتِ المستفادة من قرائن الأحوالِ، على ما سيأتي تفصيل أصنافها، ومواضعها، إن شاء الله تعالى.
فأطلق الأئمةُ أقوالهم بأن عَرْصة السكة مملوكةٌ لأهلها، ولم يختلفوا في أنهم لو أرادوا أن يلحقوها بعَرصاتِ دورهم، ويوسِّعوا بها رِباعَهم، كان لهم ذلك. وكذلك لو رجعت الدور ملكاً لواحد، فله رفع السّكة وردها إلى رقعة الدور، ثم يفتح باباً أو أبواباً إلى الشارع العام.
وقال المشايخ: لو أراد من يسكن في أسفل السكة أن يُدخلوا ذلك القدر من السّكة في أملاكهم، فهل للذين يسكنون أعلى السكة حق الاعتراض؟ فعلى الوجهين المذكورين في الأجنحة وما في معانيها.
فتحصّل من كلام المشايخ أن السكة المنسدة مملوكة. وكان شيخي يطلق القولَ بجواز بيعها، وطريق تملكها على الاختصاص كطريق ثبوت الشارع العام، غير أنها أثبتت على هيئة الاختصاص، فمُلِّكت كذلك.
وقد نجز المقصود من تفصيل الفصل أولاً، وتأصيله آخراً.
__________
(1) التعاسيف: يراد بها هنا: الطرق غير الممهدة، غير المستقيمة، وهي عكس الجادّة، ومنه قولهم: يركب التعاسيف، واعتسف الطريق: إذا سار على غير هدى، في طرق غير مستقيمة، ولا واضحة. (معجم) .
(2) أي شيخه، الشيخ أبو محمد كان يتردد ولا يقطع الحكم في الطرق المتفرعة غير الممهدة.
(3) بنيات الطرق: أي الطرق الصغيرة التي تتفرع من الجادة (معجم) .
(4) أي لم تكن مرتفعة صلبة، والمراد كاملة التمهيد (معجم) .(6/472)
فصل
قال: "ولو أن رجلين ادعيا داراً في يد رجل، فقالا: ورثناها من أبينا ... إلى آخره" (1) .
4148- إذا ادّعى رجلان داراً في يد رجل. وقالا: ورثناها من أبينا، ولم يذكرا أنهما قبضا تلك الدار، فإذا أقر المدعى عليه لأحدهما بنصف الدّار، فقد نصَّ الشافعي رضي الله عنه على أن ذلك النصف مشترك بين المدعيين، فإنهما ادعيا من جهة الإرث، وحكم الإرث الشيوع، فإذا تخلص بسبب الإقرار نصفُ الدار عن يد المدعى عليه، فهو ميراث أبيهما بينهما بزعمهما.
ولو قالا: ورثناها، وكانت في أيدينا، فغصبها منا، فإذا أقر المدعى عليه لأحدهما بنصف الدار، فقد اختلف أصحابنا فيه: فذهب الأكثرون إلى أن ذلك النصف مشترك بين المدعيين في هذه الصورة، كما ذكرناه في الصورة المتقدمة، ولا أثر لادعاء تقدم اليد، ونسبةِ المدعى عليه [إلى] (2) الغصب.
وذكر صاحب التقريب والعراقيون، وجهاًً آخر أنه يختص بالنصف المقَرّ له، ولا يشاركه صاحبه؛ فإن الغصب الذي ادعياه، يُشعر بنوع اختصاصٍ، كأنّ كلَّ واحد منهما ادّعى أنه غُصب منه النصف، ومن صاحبه النصف الآخر، فإذا سلم لأحدهما [نِسْبته] (3) إلى نفسه، لم يشارَك فيه. وهذا بعيد؛ فإن دعوى الغصب لا تقدحُ في شيوع الإرث، ولا تتضمن اختصاصاً معقولاً.
هذا قولُنا إذا ادعيا الإرث.
4149- فلو ادّعيا الدار عن جهتين، فقال أحدهما: النصف لي اشتريتُه منك، وقال الآخر: النصف لي وهبتنيه، فإذا أقر لأحدهما بنصف الدار مُطلقاً، ولم يتعرض لتصديقه في الجهة التي ذكرناها، فالنصف الذي يثبت له بالإقرار، لا يشاركه فيه الآخر
__________
(1) ر. المختصر: 2/224.
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) في الأصل: نسبه.(6/473)
وفاقاً؛ فإن السبب متميز عن السَّبب، ولا يمتنع ثبوت أحدهما دون الآخر، ويمتنع ثبوتُ الإرث لأحد الاثنين دون الثاني.
هذا إذا [نسبا] (1) دعوتيهما إلى جهتين مختلفتين.
4150- فأمَّا إذا [نسباهما] (2) إلى جهةٍ واحدة، غيرِ الإرث: مثل أن يقولا: الدارُ لنا، اشتريناها، أو اتهبناها، فأقر المدعى عليه لأحدهما بالملك المطلق في النصف، فقد اختلف جوابُ أئمتنا: فقال بعضهم: هذا النصف مشترك بينهما كما لو ادّعياه إرثاً، وهو اختيار القاضي، وجماعة من المحققين.
وذهب بعضهم إلى أنه يختص بالنصف المقَر له به، بخلاف جهة الإرث. وقد ذكره شيخي، والصيدلاني، وبعض المصنفين.
ووجهه في القياس أن الشراء يتميز عن الشراء، وإن جمعهما اسم واحد، فكان الشراء في حقهما كجهتين. وقد [جلبتا] (3) الوفاق. والذي يحقق ذلك أنّه لو جرى شراؤهما في النصفين بدفعتين، وقعت الدعوى منهما كذلك، ولا يجوز أن يتخيل خلافٌ في هذه الصورة، بل الوجه القطع بأنه إذا أقر لأحدهما، لم يشاركه الآخر؛ فإن الشراء متميز عن الشراء تميُّز الشراء عن الهبة، والتميز هو المعتبر، لا صورة الاختلاف والتماثُل.
وإذا ثبت هذا فشراء رجلين في صفقة من رجل في ظاهر مذهبنا محمول على تفريق الصفقة وتعددها، وإذا ثبت ما ذكرناه، ترتب عليه أنهما إذا ادّعيا أنهما اشتريا معاً، فالأمر على الخلاف الذي ذكرناه، وإن ادّعى كل واحدٍ منهما انفراده بالعقد، في النصف الذي يدعيه، فلا مشاركة، إذا فرض إقرار لأحدهما.
وإذا ادّعيَا الشراء مطلقاًً، فهو متردد بين تعدد الشراء واتحاده، فإذا أقر لأحدهما
__________
(1) في الأصل: نسبنا.
(2) في الأصل: نسبنا.
(3) في الأصل: (حلـ ـ) بالحاء المهملة، وبدون نقط ما بعد اللام. وعسى تقديرنا يكون صواباً. (انظر صورتها) .(6/474)
روجع، فإن ادعى الانفراد بالشراء، انفرد بالمقر به. وإن ادعى وقوع الشراء معاً، فهو على الخلاف.
4151- ثم قال الشافعي إذا ادّعيا الدّار عن جهة الإرث، فأقر لأحدهما بالملك، وثبت أن صاحبه مشاركه في ذلك النّصف، فلو صالح المقر له من النصف المقر به، على مالٍ، فظاهر النص يشير إلى صحة الصلح، وكَوْنُ العوض ثابتاً على الاشتراك.
والوجه المبتوتُ في ترتيب المذهبِ أن يقال: إذا ثبت كونُ ذلك النصف مشترَكاً، فإن جرى الصلح بإذن الشريك، صح. وإن جرى من غير إذنه، فالصلح باطل في حصة شريكه، وهل يبطل في حصة المقَر له؟ فعلى قولي تفريق الصفقة.
هذا قياس المذهب.
4152- وذكر طوائف من أصحابنا وجهاً آخر في صحة الصلح، في جميع النصف، وهو ظاهر النص في (السواد) (1) ولست أعرف لهذا وجهاًً. وكل ما تُكلف ذكرُه في التصحيح يتضمن استبداد المقر له بالنصف وثمنه، وأقصى ما قيل فيه: إن كان يعرف حكم المسألة يعترف لصاحبه بحصته في النصف المقر به، وإن كان لا يعرفه، فهو كذلك. ومَنْ ظن ملكَ الغير ملكَ نفسه، لم ينفذ بهذا السَّبب بيعُه فيه.
فرع:
4153- قال صاحب التقريب: إذا باع اثنان عبداً مشتركاً بينهما، بثمن معلوم، فهل لأحدهما الانفرادُ بقبض حصته من الثمن؟ ولو قبض شيئاًً من الثمن، فهل يشاركه فيه صاحبه؟ فعلى وجهين: أحدهما - ليس له أن يشاركه، وله الانفراد بقبض حصته، ووجه ذلك في القياس بيّن. والوجه الثاني - أنه لا ينفرد، وما يجري القبض فيه مشترك، كما لو [كاتَبَا] (2) عبداً، فأراد أحدُهما الانفرادَ بقبض حصته من النجوم، لم يكن له ذلك، كما سنذكره في كتاب الكتابة، إن شاء الله تعالى.
والقائل الأول يقُول: ليست الكتابة كالبيع؛ إذ يتصور من أحد الشريكين بيع
__________
(1) السواد: المراد به مختصر المزني، كما تكرر ذلك. وانظر النص في: 2/224.
(2) في الأصل: كاتب.(6/475)
نصيبه، وإن لم يبع الثاني، وليس لأحد السيدين أن يكاتب نصيبه دون الثاني، كما سيأتي في الكتابة إن شاء الله تعالى - وثَمَّ (1) توضيح تعليل ما ذكرناه في الكتابة جُهدنا.
فرع:
4154- إذا ادّعى رجلان داراً في يد ثالثٍ على الشيوعِ وذكرا الملك المطلق، ولم ينسباه إلى سبب، فقد ألحق أصحابنا هذا بما لو نسبا دعوتيهما إلى الشراء أو غيره من الأسباب المتحدة الواقعة على موجب الشركة، وقد مضى التفصيل فيه.
فرع:
4155- إذا ادّعى رجلان داراً في يد [رجل] (2) ، وقال كل واحدٍ منهما: نصف هذه الدار لي، فأقر المدعى عليه بأن جميع الدار لأحدهما، وعيَّنه، نُظر: فإن لم [يَزِد] (3) المقر له ابتداءً على أن نصف الدار لي، ولم ينف عن نفسه النصف الآخر، فلا يمتنع الحكم بجميع الدّار له آخراً بسبب الإقرار؛ إذ لا منافاة بين ادعائه النصفَ، وبين ثبوت الكل؛ إذ مستحق الكل قد يدّعي نصفَه.
وإن ادّعى أن النصف له، والنصف لصاحبه المدعي معه، فإذا أقر المدعى عليه له بالجميع، فلا يثبت له إلا النصف؛ تعلقاً بقوله الأول.
ولو ادعى النصف لنفسه، ونفى الاستحقاق عن غيره، ولم يثبته لشريكه في الدعوى، وقد أقر له صاحب اليد بالجميع، ففيه ثلاثة أوجه: جمعها العراقيون: أحدها - أن ذلك النصف مُقَرٌّ في يد المقِر، فإنه أولى به لثبوت يده في الظاهر، والمقَر له ينفيه.
والثاني - أنه يسلم إلى القاضي، فيحفظه، كما يحفظ الأملاك التي لا يتعين ملاكها، ويُنتظر البيانُ فيها.
والثالث - أنه يسلم النصف إلى الشريك الثاني المدعي؛ فإن المدّعى عليه أقر بزوال الملك له، ونفاه المقَرّ له عن نفسه، وأولى من يصرف إليه هذا الذي يدعيه. وهذا
__________
(1) أي في باب الكتابة.
(2) في الأصل: رجلين. وهو مخالف للسياق.
(3) في الأصل: يرد.(6/476)
ضعيفٌ، لا أصل له، وهو على التحقيق إثبات الملك بالدعوى المجرَّدة.
4156- ولو ادّعى أولاً النصف، ونفى استحقاقَه عن غيره، ثم تخلل زمان يجوز أن يتجدّد في مثله له ملكٌ في النصف الباقي، ثم أقر له صاحب اليد بجميع الدّار، فصدّقه المقَر له، يثبت له الملك في جميع الدار؛ إذ لا منافاة بين الأوّل والثاني. وإن لم يتخلل زمان يفرض فيه تجدد الملك، فالإقرار في النصف الثاني مردود للمقر له (1) ، لقوله الأول، والمرء مؤاخذ بالقول الأول. فإن قيل: إذا قال أولاً: النصف لي، والنصف لصاحبي، فأقر صاحب اليد بالتمام له، فهل يؤثر إقراره أولاً لصاحبه بثبوت الملك له؟ قلنا: لا أثر لهذا الإقرار في هذا المعنى. والأمرُ على الأوجه الثلاثة التي ذكرناها.
4157- ولو قال رجل: هذا العبد لزيد، وكان في يد عمرو، وتحت تصرفه، فرد قوله، ثم أكذب نفسه في قوله الأول، واشترى ذلك العبد من صاحب اليد؛ فإنا نحكم بصحة البيع ظاهِراً لتقارّ المتعاقدين لذا العقد، ثم إذا حكمنا بالصحة بينهما، ألزمنا المشتري أن يرد العبد إلى من أقر له به أولاً؛ فإنه تمكن من ذلك الآن. وليس هذا كما إذا أقر أحد المدعيين للثاني بالنصف، ثم أقر صاحب اليد له بالجميع؛ فإن الإقرار له مردود في الشرع بقوله، فلا حكم له، وليس كالشراء. وهذا بيّن.
فصل
قال: "فإن تداعى رجلان جداراً بين داريهما ... إلى آخره" (2) .
4158- وصورة ثبوت الجدار أن يكون حائلاً بين عرصتي الداريْن، أو بين بيتَيْن من الدارين، أو بين بيت وعرصة.
فإذا تنازع مالكا الدارين في الجدار، لم يخلُ: إما أن يكون متصلاً ببناء كل واحدة منهما اتصال ترصيع، وإما أن يكون متصلاً ببناء أحدهما دون الآخر.
__________
(1) في العبارة تقديم وتأخير قد يصيبها بشيء من الغموض، فلو قلنا: "فالإقرار في الصف الثاني للمقر له مردود"، لكانت أوضحَ.
(2) ر. المختصر: 2/224.(6/477)
4159 - وأول ما نبدأ به بيان التصوير. واتصال البناء معناه أن يتداخل نصفٌ من الجدار المتنازع فيه، في الجدار المتفق عليه، ونصف من ذلك في هذا. وإنما يظهر ذلك في الزوايا، فإذا كان الجدار ممتداً بين الدارين كما قدمناه، واتصل أحد طرفيه بجدارٍ هو ملك لمالك إحدى الدارين، وانعطف أحد الجدارين على الثاني، وظهر في المنعطف زاوية، وكانت على هيئة التداخل والترصيع، فهذا هو الاتصال. ونقيضه أن يُرى انعطاف الجدار على الجدار، ولا ترصيع بينهما عند الملتقى في طرف الجدار، بل كان أحدهما ملصقاً بالثاني، إلصاق مجاورة. فهذا منفصل.
4160- فإذا تبين ذلك قلنا: إذا لم يتصل طرفٌ من الجدار الواقع بين الدارين بجدار دارِ واحدٍ منهما اتصال بنيان، فاليد في الجدار لهما جميعاً؛ والسَّبب فيه أن الجدار سورُ دار كل واحد منهما، أو سور بنيان داره، ولو لم تقدَّر الدارُ الأخرى، لكان جزءاً من هذه الدار قطعاً؛ فإذا وقع الجدار من دار كلٍّ منهما هذا الموقع، فقد تحقق استواؤهما فيما لو انفرد كل واحد منهما به، لكان اليد له. والاشتراك في هذه الصورة يتضمن الاشتراك في ظاهر الملك.
4161- فهذا إذا لم يتصل الطرفان اتصال بنيان، ولو اتصل الطرفان بالدارين اتصال بنيان، فالجوابُ كما مضى، وهما متساويان في اليد وظاهرِ الملك.
وإن اتصل أحد طرفي الجدار بجدارٍ خالص من دار أحدهما، عند المنعطف، اتصال بنيان، ولم يتصل الطرفُ الآخر من الجدار بدار الآخر، إلا اتصال جوارٍ، فاليد في الجدار لصاحب الاتصال، اتفق العلماء فيه؛ والسَّبب فيه أنا على تحقيق نعلم أن هذا الجدار بني مع الجدار الآخر بناءً واحداً، والوصف والترصيع شاهد فيه لا يدافَع، فلزم الحكم به؛ إذ يستحيل أن يُبنى جدار الغير مع جداره ترصيعاً، ثم لا يتصل بدار من يدعيه إلا جواراً.
ثم قال الأئمة: ما ذكرناه من الترصيع فيه، إذا كان الجداران على هذا النّعت من الأصل، والأمر (1) إلى الطرف الأعلى، حيث نتبين أنه لا يتصور إحداثه بعد البناء.
__________
(1) كذا، ولعلها: و (الأس) . فتكون عطف بيان للأصل.(6/478)
فأمَّا إذا وجد التداخل في جر ـن (1) من الجدارين، بحيث يظهر أنه بعد البناء، فلا تعلق به، وذلك مثل نزع طوبة وإدخال أخرى على التداخل.
4162- وإذا كان الجدار بين الدارين، وكان لأحد المالكين على الجدار جذوع، ولم يكن للثاني جذوع، فلا ترجيح لصاحب الجذوع، والجدارُ في أيديهما [ولا فرق بين الجذع الواحد والعدد] (2) . ومعتمد المذهب أن وضع الجذوع يقع بعد بناء الجدار، وقد ذكرنا أن كون الجدار بين الدارين مثبتٌ لمنصب اليدِ في حق كل واحد منهما، وكيف لا، وهو جزء من كل دارٍ، ووضع الجذوع يقل عن هذا، ويقصُر عنه، ويتجه حمله على الإعارة، والإجارة، وابتياع حق البناء، كما سنذكره بعد هذا، فاختصاص أحدهما بالجذوع اختصاصُ مزيد انتفاع، بعد الاستواء في اليد، فكان كما لو سكن رجلان داراً لأحدهما فيه أمتعةٌ وأقمشة، ولا قماش للثاني.
4163- ولو تنازع رجلان دابةً، أحدُهما راكبها، فالركوب يناظر وضعَ الجذوع، ولكن لم يثبت متعلَّق في اقتضاء اليد في الدابة [فتعَلَّقنا] (3) بالركوب. وقد أوضحنا ثبوتَ اليد في الجدار، ورددنا وضع الجذع إلى مزيد انتفاع بعد الاستواء في اليد.
ولو تنازعا دابة، وأحدهما راكبها والثاني متعلق بلجامها، أو تنازعا ثوباًً، وأحدُهما لابسه، والثاني متعلق به [يجاذبه] (4) ، فالمذهبُ أن اليد للراكب واللابس.
__________
(1) كذا: جيم ثم راء ثم (كأس) بدون إعجام، تصلح أن تكون ياءً مثناة، أو باء موحدة، أو ثاء مثلثة، ثم نون. ولم أصل إلى معناها على أي صورة تصوّرت، والمعنى واضح من السياق على كل حال، وعبارة الرافعي: "ولا يحصل الرجحان بأن يوجد الترصيف المذكور في مواضع معدودة من طرف الجدار، لإمكان إحداثه بعد بناء الجدار، بنزع طوبة وإدراج أخرى" فتح العزيز: 10/332 بهامش المجموع.
ولعلها (في جزأين) . أو (في جزء من) (انظر صورتها) .
(2) في الأصل: [وإن فرق بين الجدار الواحد والعدد] وهو تصحيف عجيب، ووهم غريب.
(3) في الأصل: متعلقاً. والمثبت تقدير منا رعاية للسياق.
(4) في الأصل: يحاذيه، ولكنها غير منقوطة الياء، ولم أر لها وجهاً على أية صورة إلا ما اخترناه (يجاذبه) . والله أعلم.(6/479)
وأبعد بعضُ الأصحاب، فأثبت اليد لهما (1) .
4164- وهذه الأحوال حقها أن تؤخذ من العاداتِ؛ إذ ليس فيها توقيفاتٌ شرعية، ولا يخفى أن الرّاكب هو الذي يعد مستولياً على الدابة، دون المتعلَّقِ باللجام، وكذلك القول في لابس الثوب [وجاذبه] (2) .
4165- ثم لما ذكر الشافعي معتبرهُ في الجدارِ، وأوضح أن الرجوع إلى اتصال البنيان كما وصفناه، قال: فإن لم يكن، فالجدار مقر على اليدين، واعتبار تقريره على اليدين أوْلى من كل ما يتخيل بعده، سوى اتصال الرّصف والترصيع، وعدَّه ممّا لا يعتبر، مما قد يُخيل.
وأشارَ إلى خلاف العلماء، قال: "لا أنظر إلى من إليه الخوارج والدواخل وأنصافُ اللَّبن ومعاقدِ القُمط" والقُمُط جمع القِماط، وهو الحبل.
وأراد بالدواخل والخوارج الكتابةَ بالجص والآجر، إذا كان على أحدِ وجهي الجدار كتابة، فلا تعويل عليها، وكذلك إذا كان على أحد وجهي الجدار تزويقاتٌ أو طبقات تزين الجدار، وأراد بأنصاف اللبن أن الجدار لو كان متخذاً من اللبناتِ المقطعة، وكان الوجوه إلى أحد الجانبين والجوانب المكسرة من الجانب الآخر، فلا احتفال بشيء من هذا. ومعاقد القمُط يظهر في الستر بين السطوح [والمتخذ من القصب والحُصر] (3) وغيرهما، فقد يشد عليها خشبة مستطيلة ومعترضة بالحبال، وقد يُظن أن [الباني] (4) لها [لا] (5) يجعل وجه العقد والخشب في جانب نفسه، ويجعل
__________
(1) وصف إمام الحرمين من أثبت اليد لهما، بالخَوَر والجهل بمآخذ المذهب، وذلك في كتابه (الدرّة المضية) .
(2) هنا رسمها بالحاء والدال المهملتين، والباء الموحدة. فلعل هذا يرجح اختيارنا، ولم نجد عند الرافعي في الفتح، ولا النووي في الروضة، ولا الغزالي في الوسيط، ولا في حواشي التحفة - لم نجد ما نرجح به لفظاً آخر غير ما اخترناه.
(3) في الأصل: "بين السطوح والحطر" وفيه تصحيف وسقط. وما أثبتناه اختيار منا على ضوء المعنى مع الاستعانة بكلام الرافعي في فتح العزيز: 10/333.
(4) في الأصل: الثاني.
(5) زيادة من المحقق، على ضوء السياق.(6/480)
الوجه المستوي إلى الجانب الذي يليه، ولا تعويل على ذلك، ولا ترجيح خلافاً لمالكٍ (1) .
4166- ولو كان لأحد المتنازعين في الجدار على الجدار أَزَجٌ (2) ، نظر: فإن [كان] (3) على منتهاه، فهو بمثابة وضع الجذوع بعد تمام البناء، وقد ذكرنا أنه لا تعلق بوضع الجذوع، ولو كان الجدار من أصله مقوساً من جهة أحدهما إلى منتهى الأَزَج، فإذا فرض النزاع والحالة هذه، فصاحبُ الأزَج صاحب الجدار؛ فإن الجدار جزء من الأَزَج، وليس الأزَج موضوعاً بعد بناء الجدار، ولا يعد مثل هذا سوراً في جانب جدارٍ من الأزج له، فإذا كان البيت المؤَزَّج لأحدهما وفاقاً، فالجدار الذي ذكرنا من غير الأَزَج. فهذا منتهى القول في ذلك.
4167- ثم ردد الشافعي قوله في أمر نحن [نوضِّحه] (4) ونستعين بالله تعالى فيهِ، فنقول: إذا كان بين رجلين جدار مشترك، فأراد أحدهما أن يضع عليه جذوعاً، لم يكن له أن ينفرد به دون إذن شريكه؛ فإن انفراد أحد الشركاء بالتصرف في الملك المشترك لا مساغ له.
وقال الشافعي رضي الله عنه في القديم: إن ثبتت حاجةُ الجار إلى الجذوع على الجدار، وجب إسعافه، ولا يختص هذا بالجدار المشترك؛ فإنه لو كان الجدار ملكاً خالصاً للجار، ومسَّت إليها حاجة الآخر -كما ذكرناه- لم يُمنع من وضع الجذوعِ على الجدار، واعتمد في القديم ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فلا يمنع جاره بأن
__________
(1) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/597 مسألة 1003، عيون المسائل: 4/1652 مسألة 1166.
(2) الأزج بفتحتين: البناء المستطيل المقوس السقف. والمراد هنا أن يكون لأحدهما قوسٌ بالبناء، يتكىء بأحد طرفيه على الجدار محل النزاع. (مصباح، ومعجم) .
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) في الأصل: نوضعه.(6/481)
يضع خشبة على جداره" (1) وقيل: كان الناس لا يعملون بهذا، فلما ولي أبو هريرة مكة أو المدينة قال: "ما لي أراكم معرضين عنها، والله لأرمين بها بين أكتافكم" واختلف في تفسير لفظه، فقيل: معناه لأكلفنكم ذلك، ولأضعن جذوع الجيران على أكتافكم، ضرباً للمثال، وقصداً إلى المبالغة في البيان. وقيل: أراد بقوله لأضعنها: أي لأضعن هذه السُّنة بين أكتافكم، ولأحملنكم العمل بها.
4168- فإن فرعنا على الجديد، فلا سبيل إلى الوضع على الملك الخالص، ولا على الملك المشترك، وإن مست الحاجة إليه. وهذا قانون الشرع، ومقتضى القياس الكلّي والجزئي، وحديث أبي هريرة محمول على التأكيد في الندب والاستحباب، وقد يرد أمثال هذا في الحث على المكرمات.
4169- وإن فرعنا على القول القديم، فلا بد من فرض حاجةٍ.
ثم قال الأصحابُ: هذا مشروط بشرطين: أحدهما - أن يضع ما لا يُثقل الجدار، ولا يؤدّي إلى هدمه، فأما أن يبني عليه ما يثقله، فهو ممنوع إلا بالرضا.
والثاني - أن تكون الجوانب الثلاثة من البيت لصاحب البيت، وهو يحتاج إلى جانب رابع. فأمّا إذا كان الكل للغير، فلا يضع الجذوع عليها قولاً واحداً.
ومن أصحابنا من لم يشترط هذا الشرط الأخير.
والحاجة التي أطلقناها لم نُرد بها ضرورةً، وإنما أردنا حاجة البناء، حتى لا يظن ظان أن المعنيَّ بالحاجة ضرورةٌ مرهقةٌ، وداعيةٌ مستقرة. ولكن لو بنى بناء لا يحتاج إليه، وكان البناء يحتاج إلى ما وصفناه من وضع الجذع، فله الوضع. وفي هذا أدنى نظر عندي.
ولا يمتنع تخصيص ما ذكره في القديم بحاجةٍ إلى أصل الوضع، وهذا التردد
__________
(1) حديث أبي هريرة متفق عليه، رواه البخاري في المظالم، الفتح: 5/131، ح 2463، ورواه مسلم: كتاب المساقاة، باب غرز الخشب في جدار الجار، ح 1609. وانظر: التلخيص 3/99 ح 1262.(6/482)
يضاهي ما ذكرناه في كتاب الطهارة من تضبيب الإناء بالفضة، [إذْ شرطنا] (1) الحاجة إلى التضبيب.
4170- وإذا فرعنا على القول الجديد، قلنا: إن رضي مالك الجدار بوضع الجذوع على جداره من غير عوض، كان ذلك إعارة، وسنصف في كتاب العارية أن من أعار أرضه، أو جداره للبناء عليه، أو للغراس، فإذا بنى المستعير، وغرس، فللمعير الرجوع في العارية، ولكن يضمن ما ينقُصه بالقلع في الغراس والبناء.
وسيأتي هذا على الاستقصاء في موضعه، إن شاء الله تعالى.
وغرضنا الآن: أن من استعار أرضاً وغرسها، أو بنى فيها، فللمعير الرجوع، على شرط ضمان النقصان.
ومن استعار جداراً ووضع عليه جذوعاً، فإذا أراد مالك الجدار الرجوعَ في العارية، رفعَ الجذوعَ والتزمَ غرامةَ النقصان.
وظاهر المذهب أن ذلك سائغ على قياس الباب.
وقال بعض أصحابنا فيما حكاه القاضي: لا يجوز الرجوع في هذه العارية؛ فإن ضرر القلع والرفع يتداعى إلى ما هو خاص ملك المستعير؛ فإن الجذوع إذا رفعت أطرافها من جدارٍ لم تستمسك على باقي [الجُدُر] (2) فإذا عظم الضرر، امتنع القلع.
فأثرُ رجوع المعير أن يُلزم المستعير أجر المثل في مستقبل الزمان، وتفصيل ذلك يأتي في موضعه، إن شاء الله تعالى.
4171- وممّا أجراه الأئمة من أحكام العارية إذا اتصل الكلام بها أن من استعار أرضاً وزرعها، لم يكن للمستعير قلعُ الزرع قبل إدراكه، بخلاف الغراس؛ فإن الزرع له أمدٌ معلوم. فلو كان غرس، فأثمرت الأشجار، فلا يجوز للمعير قلعها قبل جِدادِ الثمار؛ فإن الثمار لها أمدٌ كالزرع. وهذا منقاسٌ لا خفاء به. فإذا جُدَّت الثمار؛ فإذ ذاك يقلع المعيرُ إن أراد، على شرط الضمان.
__________
(1) في الأصل: إذا شركنا.
(2) في الأصل: الجدار.(6/483)
فرع:
4172 - إذا كان الجدار المتنازع. بين الدارين مبنياً على خشبةٍ طويلة، وكان طرفٌ من تلك الخشبة والِجاً في ملك أحدهما، ولم يكن شيء منها والِجاً في ملك [الثاني] (1) ، قال العراقيون: الخشبة تكون لمن يكون طرفها في ملكه، ثم قالوا: إذا ثبت أن الخشبة له، فالجدار المبني عليها تحت يده؛ فإن الظاهر أن جدار غيره لا ينبني على ملكه. هذا ما ذكروه، ولم أجده في طرقنا، وليست المسألة خاليةً عن احتمال في الخشبة والجدار.
فرع:
4173- قال العراقيون: إذا تنازع الجاران الجدارَ بينهما، وشهدت بيّنة لأحدهما بملك الجدار، ولزم القضاء بها، فيصير صاحبَ يدٍ في القاعدة التي عليها الجدار.
وكذلك إذا تنازع رجلان شجرة وشهدت البينة لأحدهما، فيصير مالك الشجرة صاحبَ يد في مغرس الشجرة. هكذا قالوا. وهو قياس طريقنا.
فإن قيل: الجدار على قاعدته، والشجرةُ على مغرسها بمثابة الجذع على الجدار، فكيف يدلُ على اليد وقاعدته؟ وكذلك السؤال في الشجرة ومغرسها؟ قلنا: نبهنا على هذا؛ إذ قلنا: الجدار بين الدارين في يدي مالكهما؛ من حيث إنه جزء من كل دارٍ، فكان هذا التمسك بالجزئية أولى من التعلق بوضع الجذع. وهذا لا يتحقق في قاعدة الجدار ومغرس الشجرة، فصار الجدار يداً في القاعدة، والشجرة يداً في المغرس.
ونظير ذلك أن الدار إذا كانت مشحونة بأمتعة إنسان، وكان لا يسكنها أحد، فالدار تحت يد صاحب الأمتعة. ولو كان يسكنها رجلان، ولأحدهما أمتعة، فلا نظر إلى الأمتعة مع شهود المتداعيين في الدار وسكونها (2) .
4174- ثم قال العراقيون: لو أقر إنسان بجدار لإنسان، أو بشجرة، فالإقرار لهما هل يكون إقراراً بقاعدة الجدار وبمغرس الشجرة؟ فعلى قولين مأخوذين من أن البيع فيهما هل يتناول أصلهما، وفيه قولان، قدمنا ذكرهما.
__________
(1) في الأصل: الباني.
(2) "سكونها": أي (سُكْناها) .(6/484)
وفي المسألة فضل نظر فيما نصفه سؤالاً وجواباً.
فإن قيل: إذا كان لفظ المقر مع اختصاصه بالجدار يتعدّى إلى أصله، حتى يجعل إقراراً به في أحد القولين، مع أن مبنى الإقرار على الحمل على الأقل. فإذا شهد عدلان لإنسان بملك جدار، فقولوا: لفظ الشهود يتضمن الملك في أصل الجدار على أحد القولين قياساً على الإقرار. قلنا (1) : هكذا نقول، ولا فرق، والعلم عند الله تعالى.
4175- وهذا يلتفت إلى أصلٍ، وهو أن الشاهد على البائع تقبل شهادته مطلقاًَ، من غير بحث عن شرائط صحة البيع، على المذهب الظاهر، ويحمل البيع المشهود به على الصحّة، على ما سيأتي ذلك في موضعه، إن شاء الله تعالى.
فصل
قال: "ولا أجعل لواحد منهما أن يفتح كوة فيه ... إلى آخره" (2) .
4176- الجدار المشترك بين شريكين لا يجوز لأحدهما أن يفتح كوة أو يثبت فيه وتداً يعلق فيه شيئاًً؛ فإن التصرف في [الجدار] (3) المشترك تصرفٌ في ملك الشريكِ، والتصرف في ملك الشريك من غير إذنه [غيرُ] (4) سائغ، ولا يمتنع على كل واحد من الشريكين أن يستند إلى الجدار المشترك، أو يسند إليه شيئاً من الأمتعة؛ فإن هذا النوع من المنفعة غيرُ معتدٍ به، ولا أثر له. ولو استند إنسان إلى جدارٍ خالص لغيره، لم يمتنع ذلك، ولو منع المالكُ منه، ففيه تردد للأئمة.
ويخرَّجُ عليه ما لو تمانع الشريكان في هذا النوع أيضاً؛ فإن الملك المشترك في حكم الملك الخالص.
__________
(1) في الأصل: فإن قلنا.
(2) ر. المختصر: 2/224.
(3) زيادة من المحقق.
(4) سقطت من الأصل. وأثبتناها رعاية للسياق.(6/485)
وأمّا الاستظلال بظل جدار للغير في الشارع، فلا أثر له، ولا يملك مالك الجدار المنعَ منه.
4177-[و] (1) كما يمتنع التصرف في الجدار المشترك بالفتح، يمتنع البناءُ عليه.
ولا يجوز للشريك في الدار أن يسكنها دون إذن الشركاء، وإذا تمانعوا، فالمهايأة (2) إذا رضوا بها، توفر عليهم حقوقهم من المنافع، وهي في الظاهر تناوبُ في المنافع، وفي الحقيقة بيعُ المنافع، فإذا تراضى شريكان بالمهايأة على أن يسكن أحدهما شهراً، فالمنفعة الحاصلة في كل نوبةٍ في أصل الوضع مشتركة، فكأنَّ كلَّ شريكٍ باع حصته من المنفعة في نوبة شريكه بما يتوفر عليه في نوبته من حق شريكه.
4178- والصحيح أن المهايأة لا تلزم، ولا يجب الوفاء [بها] (3) وإن وقع التراضي فيها.
فإن قيل: لو اكترى رجل داراً سنة بمنفعة عبد سنة، أو أكثر، أو أقل؛ فالإجارة صحيحة، ومقابلة المنفعة بالمنفعة سائغةٌَ عندنا، فهلا وقع القضاء بلزوم المهايأة الصَّادرة عن التراضي؟ قلنا: من ضرورة التناوب بالمهايأة على منافع العين الواحدة أن تنتجز نوبة وتتأخرَ الأخرى، والمنافع المضافة إلى المدة التي ستأتي، لا يجوز إيراد العقد عليها عندنا؛ فإن من استأجر داراً السنة القابلة، لم يصح، فلا تلزم المهايأة على هذا الأصل، وليست معاملةً تقتضي تمليكاً على الصحة. نعم، هي على صورة بيع فاسد، ولهذا قلنا: لا يصح الإجبار عليها؛ فإن الإجبار على البيع الصَّحيح ممتنع، فما الظن بالإجبار على ما هو على صورة البيع الفاسد.
فإن قيل: هلا جعلتم المهايأة قسمة بمعنى الإفراز؛ تخريجاًَ على أن القسمة إفراز حق؟ قلنا: ليست المهايأة على صورة القسمة الصحيحة أيضاًً؛ فإن القسمة ينتجز فيها الأقساط والحصص، ويفرض تعديلها وتنزيل الشركاء عليها، والمنافع توجد شيئاًً
__________
(1) في الأصل: كما (بدون واو) .
(2) المهايأة: المناوبة، وهي نوع من قسمة المنافع بين مستحمَيها. (ر. طِلبة الطلبة: 259) .
(3) سقطت من الأصل.(6/486)
فشيئاً، وليس من التعديل مقابلة واقع منتجز بمتوقع.
4179- وذهب بعض أصحابنا إلى الإجبار على المهايأة؛ لأن الضرورة ماسّةٌ إليها عند تنازع الشركاء، ولو لم يجبر عليها، لتعطلت المنافع. وهذا بعيد عن القياس، ولكن مبناه على الحاجة الحاقّة العامّة، وقد نميل عن مسلك القياس بمثل ما ذكرنا.
4180- فإن قلنا: لا إجبار على المهايأة، فلو تهايأ شريكان على التراضي واستوفى أحدهما المنفعة في النوبة التي قُدّرت، ثم أراد الرجوعَ فيما توافقا عليه ومَنع شريكِه من استيفاء المنفعة في نوبته، فله ذلك، ولكنه يغرَم لشريكه قيمةَ حصته من المنفعة في النوبة التي استوفاها.
وإن قلنا: بالإجبار على المهايأة، فإن استوفى أحدُهما النوبةَ الموظفةَ، لم يكن له الرجوع، بل تُوفَّر على الشريك مثلُ تلك النوبة. ثم تعتقب النوب الموضوعة، إلا أن يتراضى الشركاء على نقضها، فلابُدّ من اتباع رضاهم.
ثم النوب تطرد إلى غير نهاية، وهذا من الوجوه الظاهرة في الخروج عن القياس.
ثم إن قلنا بالإجبار على المهايأة، فلا كلام، وإن منعنا الإجبار عليها، واستمر الشركاء على التدافع، فهذا يؤدي إلى تعطيل المنافع، فهل يباع عليهم الملك عند الامتناع من المهايأة، وإدامةِ الطلب؟ فعلى وجهين حكاهما القاضي: أحدهما - أن العين تباع على الشركاء، لقيام النزاع، وإفضاءِ الأمر إلى تعطيل [المنافع] (1) وهذا وجهٌ ضعيف، لم أره في غير هذه الطريقة.
والأصح أنه لا إجبار على المهايأة، ولا على البيع، وتترك المنافع تتعطل إلى أن يتراضيا.
ولم يذكر أحد من الأصحاب الإجبارَ على الإجارة (2) ، ولعل السَّبب فيه أن الأمد
__________
(1) سقطت من الأصل.
(2) أي إجارة العين محل النزاع.(6/487)
في الإجارة لا متوقف له، ولا سبيل إلى التحكّم بهذه (1) ، والإجبارُ يقدر والشريكان متمانعان، والبيع يرد على مورد متعين. وكل ذلك خبط، والوجه نفي الإجبار في المهايأة والبيع.
فصل
قال: " وقسمته بينهما إن شاءا ... إلى آخره " (2) .
4181- الكلام في هذا الفصل يتعلق بأمرين: أحدهما - التفصيل في قسمة الجدار المشترك، إجباراً، واختياراً. والثاني - القول في قسمة أُس الجدار ومبناه، إذا كان قد انهدم الجدار وانهار.
4182- فأمّا الجدار المشترك، فقسمته تفرض على وجهين: أحدهما - قسمة جميع الطول في نصف العرض، فهذا النوع لا إجبار عليه لوجهين: أحدهما - أن قسمة الإجبار لو فرضت، لكان التعيين بالقرعة، ثم القرعة ربما تخرج على خلاف ما يقصد في جهة الانتفاع، بأن تخرج قرعة زيد على الشق الذي يلي دارَ صاحبه، ولا يتأتى -والحالة هذه- من واحدٍ منهما الانتفاع المقصود. هذا وجه.
والثاني - أن [الإفراز] (3) على الحقيقة لا يتصور؛ من قبل أنا وإن فصلنا شِقاً عن شق بخط نرسمه فاصلاً بين الشقين، فلو وضع أحدهما على شقه جذوعاً، أو بنى عليه أدّى ذلك [إلى تثقيل] (4) الشق الآخر والتحامل عليه. وهكذا يكون نعت الجدار "فلا تتأتى المفاصلة إذاً.
وذكر صاحب التقريب وجهاً بعيداً في الإجبار على هذا النوع من القسمة، إذا دعا إليها أحد من الشريكين. ثم قال: "نخصص كلَّ واحد منهما بالحصة التي تليه من غير قرعة". وهذا بعيد في الحكاية، وإن كان يتجه بعضَ الاتجاه، وما ذكرناه من أن
__________
(1) كذا، ولعل تمام العبارة: "ولا سبيل إلى التحكم بهذه الجهة" أو كلمة نحوها.
(2) ر. المختصر: 2/224.
(3) في الأصل: "الإقرار" والمثبت تقدير منا رعاية للسياق.
(4) في الأصل: تنقيل.(6/488)
المفاصلة لا تتحقق، فيه نظر؛ من قِبل اتفاق الأصحاب على تصحيح القسمة بالتراضي. ولو كانت المفاصلة لا تتحقق، لامتنعت القسمة أصلاً.
وما ذكرناه في قسمة الجدار في جميع الطول في نصف العرض.
4183- فأمّا قسمة الجدار في جميع العرض في [نصف] (1) الطول، فإنها صحيحة مع التراضي، وهل يجبر عليها الممتنع منهما إذا دعا إليها أحد الشريكين؟ فعلى وجهين مذكورين في الطرق، بناهما المرتِّبون على المعنيين اللذين ذكرناهما في الصورة الأولى. فإن اعتمدنا تعطل الانتفاع لأمرٍ يرجع إلى خروج القرعة، فهذا لا يتحقق في الصورة الأخيرة، فليقع الإجبار على القسمة.
وإن اعتمدنا على أن المفاصلة لا تتحقق، فهذا المعنى قد يجري في النوع الأخير من القسمة؛ فلا إجبار إذاً.
4184- ولو انهدم الجدار وبرز الأُس، فأراد قسمته، فالقسمة في جميع العرض في بعض (2) الطول يجري الإجبار عليها، لفقد المعنيين، فأمّا القسمة في جميع الطول في بعض العرض، فإن جرينا على تعيين حصة كل شريك فيما يليه من غير قرعةٍ، فالإجبار جائز، وإن قلنا: لا بُدّ إذا فرضت القسمة من إجراء القرعة، ففي الإجبار على [القسمة] (3) وجهان مبنيان على المعنيين المذكورين في قسمةِ الجدار نفسه على هذه الصورة.
فصل
4185- إذا انهدم الجدار فعمّراه، وأعاداه بالأعيان التي كانت في الجدار، من غير مزيدٍ، واستويا في العمل وفي الاستئجار عليه، واشترطا أن يكون الثلثان لواحد، والثلث لآخر، فهذا الشرط لغوٌ، والجدارُ نصفان كما كان. ومن رضي بالنقصان
__________
(1) في الأصل: "بعض" ثم هذا هو الوجه الثاني من وجهي القسمة.
(2) الصورة هي في حالة الجدار بين اثنين، فـ (البعض) هنا إما أن يراد به النصف، أو يقدّر أن بعض أجزاء الجدار تختلف عن بعض، هذا إذا لم تكن كلمة (بعض) مصحفة عن (نصف) في هذا الموضع وفي الذي يليه.
(3) في الأصل: القرعة. والمثبت من هامش الأصل.(6/489)
منهما واعدٌ هبةً، فإن وفَّى بها، فذاك، وإلا، فلا طَلِبَة عليه.
4186- ولو اختص أحدهما بالإعادة، وشرط أن يكون الثلثان من الجدار له، فتقدير ذلك مقابلة عمل العامل على الثلث الذي يقدّر بقاؤه، وللذي لم يعمل بالسدس من ملكه في الجدار، فالسدس إذاً أجرةُ العمل على الثلث. وهذا سائغٌ، على شرط تقدير ذلك من الأساس والنقض؛ حتى تكون الأجرة عتيدة.
ولو فرض ربط الأجرة بالسدس بعد البناء، لم يصح؛ فإن هذا تعليق في عين.
4187- وذلك إذا لم يجدّد العاملُ عيناً في الجدار من ملك نفسه، فلو جدد، ليقع الفرض فيه إذا أعاد الجدار بأعيانٍ من عند نفسه من غير أن يستعمل شيئاًً من النقض - فهذه المعاملةُ يتدبرها النّاظر تصوراً، ثم لا يخفى الحكم فيها. فالعامل كأنّه يبيع ثلثَ الأعيان التي أتى بها، ويضم إليها عملَه فيها، والعوض المقابل السدس من أس الجدار.
هذا تقدير المعاملة، وهي مشتملة على الجمع بين العين والمنفعة، وهو من صور تفريق الصفقة. والتنبيه كافٍ فيما ذكرناه.
ولا بد في الصورة الأخيرة من تعيين الأعيان، والإشارة إليها على سبيل الشيوع، أو ذكرِها وصفاً على سبيل السَّلم.
4188- ثم ذكر الشافعي في آخر الفصل أن الشريكين لو اصطلحا على وجه يصح، وشرطا أن يحمل أحدهما على الجدار ما شاء، فهذا الشرط مفسد (1) ؛ فإن الجدار لا يحتمل الوفاء بالشرط، والقدرُ المحتمل مجهول، فالشرط فاسد، وإذا فسد، أفسد ما يفرض من معاملة.
فهذا طرد المذهبِ على وجهه في التفصيل.
4189- وقد ذكر صاحب التقريب وجهاً بعيداً في الصورة الأولى، لا وجه له، فأخرته، وأنا الآن ذاكره. قال: لو استويا في الإعادة بالنقض القديم، ولم يتخصص
__________
(1) ر. المختصر: 2/225.(6/490)
أحدهما بمزيدٍ، فلا يمتنع أن ينقص نصيب أحدهما بالتراضي، وزعم أن المشتركَيْن في الدار على تقدير التشطير، لو قال أحدهما: بعت نصفي من الدار بثلث الدار من نصفك، فقال المخاطبُ: قبلت. قال: لا يمتنع أن يحصل بهذه المعاملة أحدهما على الثلثين، ويبقى للآخر الثلث.
وهذا عندي كلام ملتبسٌ، لا أصل له. والوجه القطع بفساد هذا النوع من المعاملة.
ولو قال أحد الشريكين لصاحبه مع استمرار الشيوع: بعت نصفي من الدار بنصفك، فلا يجوز أن يقدر هذا بيعاً (1) ، حتى يترتب عليه تقدير شفعةٍ، أو غيرها من أحكام البيوع؛ فإن وضع الشرع في البيع على إفادة التبادُل، ولا يتحقق مع اطراد الشيوع، فلا وجه لما قال إذاً.
فرع:
4190- إذا استعار رجل جداراً ووضع عليه جذوعاً، ثم انهدم الجدارُ، نُظر: فإن أُعيد الجدارُ بأعيانٍ جديدةٍ، لم يملك المستعيرُ ردَّ الجذوع على الإعارةِ الأولى، وإن أعيد الجدارُ بنقضه من غير مزيدٍ، واستعمالِ عين جديدة، فقد (2) ذكر العراقيون وغيرُهم وجهين في أن المستعير هل له ذلك من غير مراجعةٍ؛ بناءً على الإعارة الأولى؟ ففيه الخلاف الذي ذكرناه.
ولا ينبغي أن يُعتقد خلافٌ في أن صاحب الجدار، لو منع من الإعادة يبقى للمستعير خيار. ثم إذا منع، فلا يغرَم ما يغرَمه لو رفع الجذوع، ونقض بناء المستعير، مع بقاء الجدار، فعاد الخلافُ إذاً إلى الاستمرار على حكم [الإعارة] (3) الأولى. ثمَّ لو فرض إعادة الجذوع تفريعاً على جواز ذلك، فلا ينقض المستعير إلا مع ضمان أرش النقصان.
__________
(1) في الهامش ما نصه: حاشية: قد يتصور فائدةٌ خارجة عن البيع، بأن يكون قد حلف ليبيعنّ نصيبه.
(2) في الأصل: قد ذكر.
(3) في الأصل: الإعادة.(6/491)
فصل
قال: "وإن كان السفل في يد رجلٍ، والعلو في يد آخر، فتنازعا سقفه ... إلى آخره" (1) .
4191- إذا كان السفل في يد إنسانٍ، والعلو المسامتُ له في يد آخر، فتنازع صاحبُ العلو والسفل السقفَ الحائلَ بينهما، نُظر: فإن كان بناء سقف العلو قبل بناء سقف السفل ممكناً، بأن يفرض سقفٌ عالٍ، ثم يفرضَ سقف دونه، بأن تدرج رؤوس الجذوع في وسط الجدار، وينظم عليها السقف، فإذا كان هذا التصوير ممكناً، فالسَّقف الحائل بين العلو والسفل إذا تداعياه، فهو في أيديهما؛ فإنه في حكمِ الجزء للعلو أرضاً، وهو أيضاً في حكم الجزء للسفل سماءً وسقفاً، فصار توسط السقف بين العلو والسفل كتوسطِ الجدار بين دارين، الواقع سوراً لكل واحدٍ منهما.
هذا إذا كان إحداث سقفٍ للسفل ممكناً بعد تقدير سقف العلو.
4192- فأمّا إذا كان لا يمكن [إحداث] (2) سقف السفل على وسط الجدار بعد امتدادِه إلى منتهى العلو، وذلك كالأزَج، فإنه لا يمكن استحداثُه على وسط الجدارِ، فإذا كان كذلِك، علمنا أن السَّقف بُني أولاً، واستحدث بعده جدار العُلو وسقفُه، فالسقف في هذه الصورة في يد صاحبِ السُّفل.
4193- وممَّا يجبُ تأمله فيما قدمناه من تفصيلٍ القولُ في التنازع في الجدار الممتدّ بين الدارين: ذكرنا تفصيلاً في الأَزَج، وجعلنا الأَزَج المبني على الجدار المستوي بمثابة الجذوع التي توضع بعد تمام بناء الجدار، [والأزج] (3) الذي قوّس له الجدار من أسّه هو المعتبر، وهذا التفصيل لا وقع له فيما ذكرناه في السفل والعلو؛ فإن الجُدران المحيطةَ بفضاء السفلِ لا نزاع فيها، وهي مختصة بيد صاحبِ السفلِ، والأَزج هو
__________
(1) ر. المختصر: 2/225.
(2) زيادة من المحقق، رعاية للسياق.
(3) في الأصل: والجدار. وهو سبق قلم.(6/492)
الذي فيه الكلام، وقد تبين أنه [ما] (1) بُني أرضاً للعلو، وإنما تم بناء السفل بالأَزَج، ثم كان استحداث العلو بعده، فلم يكن الأَزَج مضافاً إلى العلو والسفلِ، على قضية الاستواء أرضاً وسماءً. وهذا بيّنٌ.
4194- فإن كان السقف كما ذكرناه في القسم الأوَّل، وحكمنا بأنه في أيديهما، فلا خلاف أن صاحب العلو يجلسُ عليه، ويضع عليه أثقاله على الاعتيادِ في مثله، وهذا انتفاعٌ بالمشتركِ، وقد تقدم امتناع الانتفاع بالمشترك، ولكن هذا منزَّل على الاعتياد في مثله.
واتفق الأصحابُ على أن صاحبَ السفل، لو أراد تعليق شيء من السَّقفِ، لم يمنع منه، والسَّبب فيه أن صاحب العلوّ انتفع بالسّقف، وملك تثقيله بنفسه وأمتعته، فملك صاحبُ السفلِ مساواتَه في تعليق الأثقال في السَّقف، وهما محمولان على حكم العادة في الباب.
هذا هو المذهب الظاهر.
ومن أصحابنا من لم يجوز لصاحب السفل تعليقَ ثقل في السّقف، ويُلزمه أن يكتفي بالاستظلال من السَّقف. ومن أصحابنا من قال: إن أمكن التعليق من غير إثبات وتدٍ في جرْم السّقف، جاز، مع اجتناب السَّرَف، ولزومِ الاقتصاد، فأما إثبات الوتد في جِرم السقف، فممتنع.
فتحصل ثلاثةُ أوجهٍ على ما ذكرناه.
4195- والذي يجب الاعتناء به صرفُ الفكر بين الجدارِ الممتد الواقع بين الدارين سوراً لهما، وبين السقف الفاصل بين العلوّ والسفلِ، فنقول:
أصل الفرق لابُدّ منه؛ فإن جلوس صاحب العلوّ، ووضعَه الأثقالَ على السّطح انتفاعٌ ظاهر مؤثر في السقف، وهو مسوَّغ بلا خلاف، ولا يجوز مثله في الجدار الممتد بين الدارين، والسبب فيه أنا لو منعنا صاحبَ العلو ممّا ذكرناه، لتعطل العلو، فكان هذا في حكم الضرورة، من وضع العلو والسفل، ثم ثار الاختلاف بين
__________
(1) في الأصل: لما.(6/493)
الأصحاب في صاحب السفلِ، ثم حاولوا أن يسوّوا بين صاحب السفل والعلوّ، فكان الظاهرُ تمليكَ صاحبِ السفل تعليق شيء في السقف، ليوازي صاحبَ العلو في تثقيل السقف. ومنع مانعون ذلك، صائرين إلى أن الاستظلال في حق صاحب السفلِ هو قدْرُ الضرورة، وفصَل فاصلون بين نصب الوتِد والتعليق وغير ذلك، كما قدمناه.
4196- وكان شيخي يقول: إذا منعنا صاحب السفلِ من نصبِ وتِد في الوجه الذي يليهِ من السقف، فنمنع صاحب العلو في العلو من [غرز] (1) الوتِد أيضاًً؛ إذ لا ضرورة فيه. وإن جوزنا لصاحب السفلِ نصبَ الوتِد في الوجه الذي يليه، فهل يجوز ذلك لصاحب العلو؟ فعلى وجهين؛ فإن صورة التعليق قد تُحوج إلى نصب وتِد، ولا يتحقق مثلُه على هذا النسق في حق صاحب العلو.
وما اختلف الأصحاب فيه من التعليق، فيما يُقدَّر له أثر، فأما ما لا أثر له كتعليق ثوب، أو غيره ممّا لا يؤثر على طول الدهر في السقف، فلا منع منه، ولا يُدرج في الخلاف الذي حكيناه؛ إذ هو بمثابة الاستناد إلى الجدار المشترك الممتد بين الدارين.
وقد يتعلق بهذا الفصل أحكام من عمارة الأملاك المشتركة.
فصل
4197- الأملاك المشتركة إذا استرمَّت (2) ، ومست الحاجة إلى العمارة، فإن توافق الشريكان على العمارة، أو على تركها، فلا كلام.
وإن امتنع أحدهما عن العمارة، ودعا الثاني [إليها] (3) ، ففي إجبار الممتنع عن العمارة قولان: أقيسهما وهو المنصوص عليه في الجديد - أنه لا يجبر الممتنع؛ فإن [الملك] (4) المشترك يشتمل على ملك الممتنع وعلى ملك غيره، ويبعد أن يجبر
__________
(1) في الأصل: غير. والمثبت تقدير منا على ضوء المعنى.
(2) استرمت: أي احتاجت إلى ترميم وإصلاح، وفي هامش الأصل: استهدمت والمعنى واحد، فاستهدمت أي آلت إلى الهدم، وأوشكت عليه.
(3) زيادة من المحقق.
(4) زيادة من المحقق.(6/494)
لملكه، كما لو انفرد بملك شيء، ويبعد أن يجبر لملك غيره.
والمنصوص عليه في القديم أن الممتنع يُجبر على العمارة، وهذا القول مبني على مصلحةٍ عامة لا سبيل إلى إنكارها، ولو لم يفرض الإجبارُ، لأفضى إلى ضرر بيّن، سيّما في القنوات، وما في معناها من الضِّياع وغيره. وإن كنا نجبره على القسمة لضرر المداخلة في المساهمة، فالضرر بترك العمارة أشد وأعظم.
التفريع على القولين:
4198- إن جرينا على الجديد وفرضنا الكلام في العلو والسُّفل ليقيس النّاظر على محل الكلام ما في معناه، قلنا: لو انهدم العلو، والسفل، وامتنع صاحب السفل من العمارة، لم نجبره، فإن قال صاحب العلو لصاحب السفل: أنت حامل ثِقْلي، فأعد الأمر إلى ما كان، واحمل ببناء السفل ثِقْل العلو، لم نجبه إلى مراده في إجبار صاحب السفل؛ فإن جدران السفل خالصُ ملكه، فلم يُجبر على إعادتها. وما ذكره صاحب العلو من حقه مردود عليه؛ فإن ذلك إنما يثبت إذا بُني السفل، فأمّا الإجبار على تحصيل السّفل لمكان العلوّ، فلا سبيل إليه على هذا القول.
4199- فلو قال صاحب العلو: أنا أبني السُّفل، وأعيد عليه علوي، فلا يمتنع عليه البناء، وإن كان ذلك تصرفاً في ملك صاحب السفل؛ فإنا إن كنا لا نلزم صاحب السفل شيئاًً، فإبطال حق صاحب العلوّ محال، ومنعه من التوصل إلى حقه في العلو ببناء السفل تعطيلٌ لصاحب العلو.
ثم لا يخلو إما أن يعيد السفلَ بالنقض القديم من غير مزيدٍ، وإمّا أن يُدخل فيه أعياناًَ من ملك نفسه، وأي الأمرين فعل لم يُمنع منه. أجمع الأصحاب عليه، لما ذكرناه؛ لأن المنع من ذلك تعطيل لحقه.
4200- ثم ينظر: فإن بنى بالنقض القديم، وكانت أعيان السقف الفاصل بين السفل والعلو عتيدة، فلصاحب السُفل أن يأوي إلى سفله، وينتفع به على حسب ما كان ينتفع به قبلُ [من] (1) المسكن والاستظلال.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.(6/495)
فلو قال صاحب العلو: اغرَم لي أجرة البانين، لم يُجب إلى ذلك. وإن قال: أمنعك من السكون (1) ، لم يجب إلى ذلك؛ فإنه أوى إلى ملك نفسه. وإن قال: إذا كان كذلك، فأنا أنقض بنائي، وأرُدُّ الأمرَ إلى ما كان، نُظر: إن لم يأت بعينٍ جديدة في البناء، فليس له نقضه؛ إذْ ليس له في الجدار إلا حقُّ الصنعة، وقد كان انفرد بها، ولا سبيل إلى استدراك الصنعة، فالصنعة (2) لا تستدرك.
وإن كان أعاد جدران السفل بأعيانٍ من عند نفسه، [فله نقضه] (3) ، وليس له منعُ صاحب السفل من السكنى إلى اتفاق النقض؛ لأنه يقول: أنا أدخل ملكي، فلا سبيل إلى منعه، ثم حيث نمنعه من النقض -وذلك إذا لم يحدث عيناً في البناء- فلو هدم، فالمذهب أنه يغرَم ما ينقصُه النقض؛ فإنه إذا بنى، فقد انقطع عمله، والبناء على صفته مملوك لصاحب السفل، فإذا هدمه، كان جانياً على ملك غيره. وسنمهد هذه القاعدة في كتاب الغصوب، ونذكر فيها ضبطاً لبعض الأصحابِ، إن شاء الله تعالى.
4201- ولو كان بنى السفل بأعيان ملكه، فالذي ذهب إليه الأصحاب أنه لا يمنع صاحب السفل من الانتفاع بالسفل سُكنى، وليس للباني إلا النقضُ، والرجوعُ إلى عين ماله.
وذكر صاحب التقريب وجهاً أن لصاحب العلو الباني [منع] (4) صاحب السفل فيقول له إما أن تبذل قيمة أعيان ملكي، وإما أن تنكف عن الانتفاع بها، وإذا دخلت السفل، فقد انتفعت بالسقف والجدران، وهي من أعيان ملكي، وقد بنيتُ ولي البناء.
وهذا وجهٌ غريبٌ غيرُ معتد به، والمذهب والقياسُ ما قدمناه، من أن الباني لا يملك إلا نقضَ البناء، فأما المنع من الانتفاع، فلا. والذي ذكره صاحب التقريب يشبه قياس المصالح، والمصلحة تقتضي الإجبارَ على العمارة. وتفريعنا على الجديد.
__________
(1) أي السكن.
(2) في الأصل: والصنعة.
(3) في الأصل: فلم يقضه.
(4) في الأصل: مع.(6/496)
4202- فأما إذا قلنا بالقول الثاني، وهو أن الممتنع مجبر على العمارة، فلسنا نعني بها عمارةً تجلبُ مزيداً، فإنا لو أجبرنا عليها، فقد لا نجد لها موقعاً، [سيما في] (1) ، وإنما الإجبار على العمارة التي لو تركت، لاختل الملك بتركها، ثم قد يتداعى الخلل.
فإن اتفق إجباره، فلا كلامَ، وإن لم يصادفه، فالقاضي يبيع عليه ماله إن وجده، وإن لم يجد له مالاً، فله أن يستدين عليه، وله أن يأذن للشريك في الإنفاق على شرط الرجوع على الشريك الغائب.
ثم الأولى أن يُشهد على ما يجري ليكون أقطعَ للخصومة. ولو لم يُشهد، وأنكر صاحبه، [إذْ ذاك] (2) يكون القول قول المنكر مع يمينه، فإن استبد الشريك، وأنفق بنفسه من غير مراجعة القاضي، فالذي قطع به معظم الأصحاب أنه لا يرجع على شريكه.
وذكر شيخي وصاحب التقريب وجهاًً آخر أن للشريك أن ينفرد بالعمارة، ويرجع، وهذا الوجه خرجوه على ظفر صاحب الحق بغير جنس حقه؛ فإنا في وجهٍ نجوّز له الانفرادَ ببيع ما ظفر به، واستيفاءِ الحق من ثمنه.
وقال قائلون: إن أمكنه مراجعة الحاكم، [فليس له] (3) أن يستبد إذ ذاك بالإنفاق.
وهذا أعدل الوجوه، وله التفات إلى هرب الجمَّال واستئجار صاحب المتاع جمَّالاً، وستأتي تلك المسألة، إن شاء الله تعالى.
4203- ثم قال الأئمة: كما اختلف القول في الإجبار على عمارة الملك المشترك، كذلك اختلف القول في أن صاحب السفل هل يُجبَر على العمارة، مع العلم بأن السُّفل خالصُ حقه. ولكن يتعلق [ببنائه] (4) حقُّ صاحب العلو، فجرى الإجبار
__________
(1) ما بين المعقفين إما أنه جزء من جملةٍ لم تتم، أو هو مقحم في الكلام، فالعبارة مستقيمة بدونه.
(2) في الأصل: إذا أن ذلك. والمثبت اختيار منا على ضوء السياق.
(3) في الأصل: فله أن يستبد. والمثبت تقديرٌ منا نرجو أن يكون هو الصواب. بل تأكد أنه الصواب، عندما اطلعنا على عبارة النووي في الروضة: 4/217.
(4) في الأصل: بنيانه.(6/497)
على القول القديم على العمارة؛ لمكان حق البناء لصاحب العلو.
وإذا فرعنا على القول القديم، فبنى صاحب العلو السفلَ بأعيان ملكه، فلو أراد نقضَه، فقال صاحب السفل: لا تنقضه، وأنا أغرَم لك قيمة أعيان ملكك، فأبى الباني إلا النقضَ، فقد أجمع الأئمة في الطرق على أنه يُمنع من النقض على القديم، ونسعف صاحب السفل فَنَقْنَع منه ببذل القيمة؛ فإنا نفرع على القول القديم، ومبناه على رعاية المصلحة، والمصلحة تقتضي ما ذكرناه.
فصل
4204- إذا ملك الرجل بيتاً، فجاء رجل واشترى منه حقَّ البناء على سطحه، فقد أجمع أصحابنا على جواز ذلك، ودلَّ عليه نص الشافعي. ثم الذي أطلقه الأصحاب أنَّ (1) هذا بيعٌ، واتفقوا على أنه لا يعتمد ملكَ عين، ولم يمتنعوا من تأبيد العقد، والقضاءِ بلزومه، وترددوا في جواز إنشاء هذا العقد بلفظ الإجارة، فجوز بعضهم ذلك، وامتنع آخرون مصيراً إلى أن الإجارة في وضع الشرع تستدعي إعلام المقصود (2) بطريق النهاية، وذلك يحصل بضرب المدّة تارة، وبذكر عملٍ متناهٍ أخرى: مثل الاستئجار على خياطة الثوب ونحوها.
فإن قيل: ما وجه تسمية هذه المعاملة بيعاً، ومقصودُها منفعة؟ قلنا: البيوع وإن كانت في الظاهر ترتبط بأعيانٍ تقضي بجريان الملك فيها، فنهاية المقصود ترجع إلى الانتفاع، وملكِ التصرف، وهو ضربٌ من الانتفاع، ولكن أضيفت المنافع إلى عينٍ هي متعلّقها، وُضع (3) عن جميع حقوق المنافع فيها بلفظ الملك.
4205- قال المحققون: هذا النوع الذي نحن فيه بيعُ حقوق الأملاك، وقد قال الشافعي رضي الله عنه: الإجارة صنفٌ من البيوع، وذهب المحققون إلى جواز عقد
__________
(1) في الأصل: في أن. بزيادة لفظ (في) .
(2) أي المقصود بالعقد.
(3) وضع: أي اصطلح، وتووضع، وعُبِّر.(6/498)
الإجارة بلفظ البيع، ومعتمد المذهب في ذلك مسيس الحاجة إليه، وهو مضنون به، يهون بَذْلُك العوضَ في مقابلته. ثم إنما ينتظم هذا النوعُ من الانتفاع بالتأبيد، كما أن مقصود النكاح ينتظم بالتأبيد، ولا ضرورة إلى تأبيد الاستئجار للسكون (1) وغيرِه من جهات الانتفاع، والأبنية (2) [وضْعُها] (3) التأبيد. ويجوز الوصية بالمنفعة أبداً؛ فإنا نحتمل في الوصية ما لا نحتمله في المعاملات. فهذا عقد المذهب.
4206- وذهب المزني إلى أن هذه المعاملة فاسدة، لخروجها عن قضية الإجارة والبيع جميعاً، وهذا معدود من مذهبه المختص (4) به، لم يخرِّجه للشافعي.
واحتج المزني بأن قال: لو أخرج الرجل جناحاً في ملك غيره بعوض، لم يصح ذلك، فليكن ما نحن فيه بهذه المثابة.
قلنا له: ما استشهدتَ به يعتمدُ الهواءَ المحضَ، وأمّا حق البناء، فإنه يتعلق بعينٍ، والدليل عليه أن المزني لا يمنع استئجار بقعةٍ مدةً معلومة للبناء عليها، ولا يجوز فرضُ مثل هذا في إشراع الجناح، فبان افتراق الأصلين، في باب جواز المعاملة، في جواز أحدهما ونفيه في الثاني، وآل الكلام بعد ذلك إلى أنا نجوز تأبيد المعاملة للحاجة الماسة، كما تقرر، ولا [نمنع] (5) أيضاً من تقرير هذه المعاملة إن وقع التوافق عليها.
4207- وينتظم للفقيه في ذلك مراتب: إحداها - البيعُ. والتأبيدُ مستحق فيه؛ فإنه يتضمن التمليك الحقيقي، واستئصالَ حق المتقدم (6) بالكلية.
__________
(1) السكون: السكن من وضع المصدر مكان اسم المصدر.
(2) المراد الأبنية موضوع المسألة، أي التي تبنى فوق سطحٍ يشترى لذلك.
(3) في الأصل: وصيغها. وهو تصحيف واضح.
(4) يميز إمام الحرمين بين شرح المزني لكلام الشافعي، والتخريج على نصوصه، وبين اختيارات المزني، وتخريجاته على غير نصوص الشافعي، ومعاني كلامه، ويسمى هذا مذهباً للمزني.
(5) في الأصل: يمتنع.
(6) كذا. والمعنى: "حق المالك المتقدم" فلعل لفظ (المالك) سقط من الناسخ.(6/499)
[و] (1) هذا يشعر على (2) بقاء الملك للمُكري (3) ، ودخول المستأجر على وجه الإلمام، والأصلُ لغيره.
ثم هذا ينقسم إلى ما يجب ضبطه بالنهاية؛ إذ لا حاجة إلى إثباته دون الضبط، وفي هذا القسم ضرورات الإجارات، ويقع في هذا ما يظهر فيه قصد التأبيد، كما نحن فيه، ولا يمتنع تأقيتُه أيضاًً.
ومن المراتب - ما يقصد فيه المنفعة، ولكن لا ينتظم أيضاً إثباته على نعت التأقيت
[كالنكاح] (4) ؛ فإن الغرض منه التواصل والتوصل (5) إلى النسل، وذلك ينافيه التأقيت.
[و] (6) لما كان النكاح يسوغ تأقيته في ابتداء الإسلام -لعله (7) - كان يشير إلى اكتفاء بعض الناس بقضاء الأوطار أياماً معدودة، ثم استقر الشرع على استحقاق التأبيد؛ ليقع النكاح على وضعه، ثم قدرة الزوج على الطلاق تُفيده الاستمكانَ من الخلاص إن أراد.
4208- ثم ما ذكرناه من المعاملة لا يختص بحق البناء؛ إذ لو أراد ابتياعَ حق الممر، أو حقِّ مجرى الماء، أو مسيله (8) في ملكه، ساغ ذلك كلُّه. والضابط أنها حقوق مقصودةٌ، تتعلق بأعيان الأملاك.
وهذا يَقُضُّ (9) من لا خبرة له بالحقائق، وزعم أن هذه المعاملات بيعٌ، والمبيع
__________
(1) زيادة من المحقق. والإشارة (هذا) إلى ما نحن فيه من بيع حق البناء على السطح.
(2) كذا. و (على) هنا بمعنى (الباء) أي: "يشعر ببقاء الملك للمكري".
(3) العبارة فيها نوع اضطراب، وسقط، فالمعنى: "وبيع حق البناء فوق السطح هذا يشبه الإجارة، فهي تشعر ببقاء الملك للمُكري، ودخول المستأجر على وجه الإلمام، والأصل لغيره" راجع هذا المعنى، والحكم بأن هذا يشبه الإجارة من جهة، والبيع من جهةٍ أخرى، عند الإمام النووي - الروضة: 4/219 وما بعدها. وانظر الأشباه والنظائر للسبكي؛ فقد نقَل هذا الكلام عن النهاية، ورتبه وفصله على نحو ما أشرنا. (ر. الأشباه والنظائر: 2/306، 307) .
(4) زيادة من المحقق.
(5) في الأصل: والتواصل.
(6) في الأصل: لما كان (بدون الواو) .
(7) الضمير في "لعله" يرجع إلى (التأقيت) .
(8) في الأصل: أو في مسبله.
(9) كذا. والمعنى واضح من السياق، على أية حال. مان كنا لم نصل إلى صاحب هذا القول، =(6/500)
منها الصفحةُ العليا من الموضع الذي يتعلق الحق به، وإنما أُتي هذا القائل من ضِيق العَطن (1) ، وبلادةِ الفِطن، والمصيرِ إلى [أن] (2) ما سماه الشرع (3) بيعاً يستدعي عيناً مملوكة (4) .
وقد مهدنا القول في هذا بما فيه أكمل مقنع.
4209- ثم إذا تمهدت المعاملة، فلا بد فيها -وإن تأبَّدت- من الإعلام اللائق بها، فإن كان مقصودها البناء على جدارٍ، فلا بد من إعلام المبني؛ فإن الغرض يختلف بذلك، فتُذكر الجدران طولاً وعرضاً، وتوصف بكونها مُطبقة أو رَصْفاً، وتوصف السقوف بما يثبتها، ولم يشترط معظم أصحابنا ذكرَ الوزن، وحكى شيخنا عن بعض الأصحاب اشتراط ذلك. وهذا غلوٌّ ومجاوزةٌ لحكم العادة في الإعلام.
4210- ومن اشترى من أرضٍ حقَّ البناء عليها، فلا حاجة [بعد] (5) تعيين الأرض وإعلام رقعتها إلى إعلام القدر المبني؛ فإن الأرض تحتمل كلَّ ثقل. وعلى هذا قال الأئمة: لا يجوز أن يقول الباني على العلو: أبني ما أشاء، ويجوز إيراد المعاملة على الأرض بهذه الصيغة.
4211- ومن لطيف ما يذكر في ذلك أن من اشترى البناء على علوّ، وصح له ما يبغيه، ثم انهدم السفل، فالقول في عمارة السُّفل والإجبار عليها، كما تقدم.
4212- والغرض الآن أن ما اشتراه إذا سُلّم إليه، وثبتت يده عليه، ثم فرض التلف، فلا يكون ذلك بمثابة انهدام الدار المكراة؛ فإن الإجارة تنفسخ، وقد تقدّم أن المقصود من المعاملة التي نحن فيها منفعةٌ مؤبدة، فلا انفساخ؛ إذ لا خلاف أن
__________
= الذي وصفه الإمام بهذه الصفات.
(1) ضيق العطن: قلةُ الحيلة، والعجزُ (معجم) .
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) في الأصل: ما سماه علماء الشرع. (وواضح أن لفظ (علماء) مقحمة في الكلام) .
(4) مملوكة، أي تملك بعقد البيع للمشتري.
(5) في الأصل: إلى تعيين. وهذا تقديرٌ منا.(6/501)
السفل لو أعيد، فحق البناء ثابتٌ لمستحقه، والدار لو أعيد بناؤها، لم تعد الإجارة التي حكمنا بأنفساخها.
فخرج مما ذكرناه أن التلف بعد التسليم لا يوجب الانفساخ، والعوض المأخوذ لا يرتد، ولكن من أتلف هذا الحق على إنسانٍ، ضمن له قيمتَه، فيقال له: [اغرَم] (1) قيمةَ حق البناء على هذا الموضع.
4213- ولو باع صاحب السفل حقَّ البناء، ثم إنه أتلف السُّفل بعد التسليم، وغرمناه القيمة كما ذكرناه، وقررنا العوضَ في يده، فلو أعاد البناء بعد سنةٍ مثلاً، فيعود حق البناء. ويسترد تلك القيمةَ، ويُقضى بأنها سلمت في مقابلة الحيلولة، كما يغرَمُ الغاصب قيمةَ العبد المغصوب إذا أبق، وإذا رجع استرد العوض المبذولَ على مقابلة الحيلولة.
4214- فإن قيل: فهل يغرَم متلفُ السفل لمستحق البناء على العلو أجرةَ البناء للمدة التي دامت الحيلولة فيها؟ قلنا: لا سبيل إلى ذلك؛ فإن هذا مما يبعد تبعيضه، ومن هدم على رجلٍ داره، غرِم أرشَ النقض، ولم يغرَم قيمة منفعة [الدار] ، (2) بعد هدمها، كذلك القول في إتلاف السفل، وتعطيل حق البناء.
ومن هذا الوجه يُشبّه المعقودُ عليه في هذه المعاملة بالعين المملوكة تتلفُ.
والذي يوضح المقصود: أن حق البناء إذا عاد، فقيمته -وهو مؤبّد- لا تنقص عن قيمته قبل هذا بسنين وهو مؤبد، فإن ما يقدّر لا يُحطُّ مما لا يتناهى.
وليس من حصافة الفقيه أن يقول: قد يستأجر الرجل علواً للبناء عليه عشر سنين، فلنوجب مثلَ ذلك العوض على من أوقع الحيلولةَ في تلك المدة؛ فإن مسألتنا مفروضةٌ فيه إذا عاد إليه الحق المؤبد، فليفهم الناظر، [ولْيتأنَّ] (3) في هذا المقام.
فرع:
4215- إذا كان للإنسان حق مجرى ماءٍ في ملك غيره واسترم (4) ذلك
__________
(1) في الأصل: كم.
(2) في الأصل: الدور.
(3) في الأصل: "وليتأتي".
(4) في هامش الأصل: "واستهدم" (نسخة أخرى) .(6/502)
[المجرى] (1) ، فلا يجب على صاحب [الحق] (2) المشاركة في العمارة "فإن تيك العمارة تتعلق بأعيان الملك، وليست الأعيان لمستحق المجرى.
ولو كان ذلك [الاختلال] (3) بسبب جريان الماء، فعمارةُ المجرى على مَنْ؟ هذا محتملٌ عندي، والظاهر أن العمارة لا تجب على مستحق الجري، ولعلنا نطلع [في] (4) ذلك على تصرفٍ لبعض الأصحاب فنلحقه بهذا المحل.
فصل
4216- إذا كان لرجل سُفل دارٍ، أو سفل خَانٍ (5) ، وما فيه من بيوت، وأروقة، وصُفَف (6) ، وكان علو الخان لآخر، وصاحب العلوّ كان يرقى من درجٍ في السفل إلى علوّه. فلو تنازعا في العرصة هي في يد من؟ فكيف التفصيل؟ قال علماؤنا: إن كان المرقى في آخر الخان، بحيث يخرق الماشي إليه العرصةَ، فالعرصةُ -والحالة هذه- في يد صاحب السفل والعلو جميعاً، فإنها محل انتفاعهما. أجمع الأصحاب على هذا في الطرق.
وفي القلب من هذا أدنى شيء؛ من جهة أنا لا نلقى لصاحب العلو في العرصة إلا حقَّ الممر، وقد قدمنا في الفصل السابق أن حق الممر يجوز أن يُشترَى على حياله، ووجدنا لصاحب السفل حقُّ الممرّ، والتبسطُ في العرصة، بالوضعِ فيها، والجلوس، وما شاء من ذلك، وكان لا يبعد في طريق المعنى ألا يثبت لصاحب العلو
__________
(1) في الأصل: الماء. (وهو سبق قلم) .
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) في الأصل: لاحتمالٍ.
(4) في الأصل: على.
(5) الخان: فارسيٌّ بحت، وهو الحانوت، وهو موجود في جميع اللغات الشرقية الدارجة، ويطلق على الدكان، والمخدع، والماخور. (هذا ما قاله أدّي شير. في معجمه: الألفاظ الفارسية المعرّبة) وفي المعجم الوسيط: فارسي معرّب، بمعنى: الفندق، والحانوت، والمتجر، والحاكم. قلتُ: والمراد هنا: المتجر.
(6) صفف: جمع صفة، وهي الظلة، والبهو الواسع العالي السقف. (معجم) .(6/503)
إلا حقُّ الممرّ، فأمّا الملكُ في رقبة العرصة، فلا.
ولم يصر إلى هذا أحدٌ من الأصحاب؛ فإنَّ المقصود الظّاهر من العرصات المرور؛ والذي يرقى إلى العلو لا يلزمه أن يستدّ (1) في مقابلة المرقى، ولو أراد أن يجلس ساعة، أو يقف، فلا منع. وكذلك جرى العُرف بأن صاحب العلو لا يُمنع من وضع شيء في عرصة الخان.
فهذا منتهى القول في ذلك.
4217- ولو كان المرقى في دهليز (2) الخان، فتنازعا في ذلك، فقد ظهر اختلاف الأصحاب في ذلك: فمنهم من قال: اليد فيها لصاحب السفل. ولعله الأصح، ووجهه بيِّن.
ومنهم من قال: هي في أيديهما، وهذا الخلافُ قرَّبَه الأصحابُ من التردد الذي ذكرناه في السكة المنسدّة (3) الأسفل (4) ، إذا أشرع بعض السكان جناحاً في أسفل السكة، فهل يثبت لمن أعلاها حقُّ الاعتراض، ولا ممرَّ له في أسفل السِّكة، وهذا التشبيه قريب.
ويمكن أن يقال: العلو محتفٌّ بالعرصة احتفافَ السفل، والهواء [محتوش] (5) بالسفلِ والعلو، فلا يبعدُ والحالة هذه أن تضاف العرصة إليهما؛ فإنه يقال: صحن الخان، وعرصة الخان، والعلو والسُفل من الخان. وهذا الذي ذكرناه ظاهر فيه إذا كان مالك العلو يحيط ملكه بالعلو كله.
وإن ملك بعضاً منه، وملك إنسان بعضاً من السُفل، فالاستحقاق من المستحق على قدر الاستحقاق في السفل والعلو، على التفصيل الذي ذكرناه.
__________
(1) يستد: يستقيم.
(2) الدهليز: المدخل بين الباب والدار. (معجم) .
(3) في الأصل: المفسدة. وهو تصحيف عجيب.
(4) في الأصل: الأسفل فيه إذا.
(5) في الأصل: مخصوص. والمثبت من نسخة أخرى (بالهامش) .(6/504)
4218- ولو كان المرقى على نصف العرصة لا في صدر الخان، فإن قلنا: اليد في العرصة لهما لو كان المرقى في الدهليز، فما الظن بهذه الصورة؟ وإن قلنا: يختص باليد على العرصة صاحب السفل، إذا كان المرقى في غير الدهليز، فاليد تثبت لصاحب العلوّ على ما يُسامت ممشاه من العرصة، وفيما وراء المرقى التردد الذي ذكرناه في أعلى السكة وأسفلها.
وهذه الصورة على حالٍ أولى بأن تثبت اليد فيها لصاحب العلو على ما لا ممشى له فيه من العرصة.
4219- ولو كان مرقى العلو خارجاً من خِطة الخان، فيبعد -والحالة هذه- أن يثبت لصاحب العلو يدٌ في العرصة، وليس كما لو كان المرقى في الدهليز؛ فإنَّ الدهليز من العرصة، فكان من العرصة كأعلى السكة من أسفلها.
هذا قولنا في العرصة وثبوت اليد فيها.
4220- فأمَّا الدرج والمرقى، فقد قال الأصحاب: إن لم يكن لصاحب السفل به انتفاع، ولم يكن تحته بيت مسكون، فاليد في المرقى لصاحب العلوّ فحسب. وإن كان ينتفع صاحب السفل بالدرج، بأن كان يصفف عليها الصفريّات (1) وغيرها، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن اليد لصاحب العلو، كما ذكرناه.
والثاني - أنهما مشتركان، فإنهما مشتركان في المنفعة.
والأصح الأول؛ فإن الدرج لا تبتنى لذلك، وإنما تبنى للرقي فيها.
ولو كان تحت المرقى بيت، وهو سقفه، فاليد لهما في الدرج؛ فإنها سقفُ أحدهما من جهة، وممرّ الآخر من أخرى، فصار كالسقف من السفل والعلو.
ولو كان لا ينتفع صاحب السُّفل إلا بوضع الجدار والكيزان (2) تحت الدرج مستظلاً
__________
(1) الصُّفر (بضم الصاد) : النحاس، وفي (اللسان) : قال الجوهري: الذي تُعمل منه الأواني.
ا. هـ والمقصود هنا الأواني النحاسية. (ولعلها كانت وسيلة لعَرْض البضائع وحفظاً) .
(2) الكيزان: لم أصل إلى معنى لوضع (الكيزان) تحت الدرج، والاستظلال بها. وعلى فرض أن الضمير يعود على الجدران ليكون الاستظلال بها، فما معنى اختصاص الكيزان وحدها =(6/505)
بها، فالظاهر أن ذلك لا يوجب له يداً في الدرج، وفيه شيء بعيد.
4221- وأصل الدرج في يد من الدرج في يده؛ فإن مغرس الشجر، وأسَّ الجدار في يد من له اليد في الشجرة والجدار.
وقد نجز الغرض من المسائل المقصودة في الصلح. وذكر المزني فصولاً معادة، قليلةَ الفائدة، سنجمعها في فصلٍ في آخر الكتاب.
فصل
قال: "وإن كان لرجلٍ شجرةٌ، أو نخلةٌ، فاستعلت أغصانُها ... إلى آخره" (1) .
4222- إذا غرس الرجل شجرة في ملكه، فعلت وانتشرت أغصانها في هواء ملك الغير، فله أن يمنعه من ذلك؛ فإن هواء ملكه حقُّه، وإن أمكن صرفُ الأغصان عن الهواء، بأن تضم إلى الشجرة، كفى ذلك، وإن كان لا يتأتى تفريغ الهواء إلا بقطع الأغصان، فلا بد من قطعها، إذا طلب صاحب الهواء تفريغه.
وانتشار العروق تحت الأرض، كانتشار الأغصان في الهواء، والأرض أولى بالتنقية؛ فإنها مملوكة، والهواء حق الملك، والشكاير (2) التي تنبت على العروق المنبثة لمالك العروق، وإن حدثت في ملك الغير، خلافاً لأبي حنيفة.
__________
= بالوضع تحت الدرج؟ ولعل في الكلام تصحيفاً. أو أن الكلمة (عامية) من ألفاظ التجار في ذلك العصر. هذا مع أننا لم نجدها في معاجم المعرب والدخيل (للشهاب الخفاجي، وأدّي شير، والجواليقي) .
وعبارة الرافعي: "وإن كان تحته (الدرج) موضع حب أو جرَّة، فوجهان ... والأصح أنه لصاحب العلو، لظهور بنائه لغرض صاحب العلو، وضعف منفعة صاحب السفل": فتح العزيز: (10/336 بهامش المجموع) .
(1) ر. المختصر: 2/225.
(2) الشكاير: جمع شكيرة، وهو ما ينبت حول الشجرة من أصولها. (معجم) .(6/506)
فصل يجمع المسائل التي ذكرها المزني
4223- ونحن نورد صورها، ونرمز إلى المُعاد، ونذكر ما يشتمل على فائدةٍ جديدة. فممَّا ذكره: أن (1) من صالح عن دراهمَ بدنانير، أو عن دنانير بدراهم، أو عن عين بدين، أو عن دين بعين، وكل هذا ممَّا تقدّم. وممَّا زاده أنه إذا جرى القبض في المجلس، فيتعلق القول بتفريق الصفقة (2) .
4224- وممَّا ذكره أن من ادعى داراً في يد إخوةٍ، وكانت تحت أيديهم على حكم الإرثِ في الظاهر، فقال المدعي: هذه الدار لي، كان غصبها أبوكم مني، فلو صدقه أحدُ الإخوة، وكذبه [الآخران] (3) . فيثبت الثلث بتصديق ذلك المصدق.
فلو صالحه الأخ المقِر على جميع الدار، فنقول: أما صلحه عما في أيدي إخوته، فسبيله كسبيل صلح الأجنبي عن العين المدعَى عليه مع إنكاره، وقد مضى، فإن صححناه، فذاك، وإن أبطلنا الصلح في حق الآخرين، فهل يصح في حقه؟ فعلى قولي تفريق الصفقة، وقد مضى هذا في تأصيل الكتاب.
فصل (4)
4225- إذا ادعى على رجلين داراً، فأقر له أحدُهما بنصيبه، وأنكر الثاني، فقد
ثبت النصف بحكم الإقرار للمدَّعي، فلو صالحه المقر عن النصف الذي أقر به على مالٍ، فالصلح صحيح بينهما. فلو قال الأخ المنكر: آخذ هذا النصف بالشفعة، نُظر: فإن كان سبب استحقاق كل واحد منهما مخالفاً لسبب استحقاق الثاني، فيثبت
__________
(1) لفظة (أنّ) لا موضع لها هنا، فالكلام بدونها مستقيم، والفقرة كلها فيها شيء.
(2) واضح أن هنا سقطاً في الكلام، فأي تفريق للصفقة إذا جرى القبض في المجلس؟ ولعلها: "فإن جرى القبض في المجلس في بعضٍ، وبقي بعضٌ، فيتعلق القول بتفريق الصفقة" والله أعلم.
(3) في الأصل: الآخر. والمثبت تقدير منا رعايةً للسياق.
(4) في هامش الأصل: فرع - في نسخة أخرى.(6/507)
للمنكر حقُّ الشفعة، كأن كان أحدهما اشترى نصيبه، والثاني ورثه من جهةٍ أخرى، أو اتّهبه. والسَّبب فيه أن السبب إذا اختلف، فليس في إنكار المنكر في نصيبه تكذيبُ المدعي في نصيب صاحبه، وإن كان ثبت حقهما ظاهراً من جهة واحدة لا تنقسم كالإرث مثلاً، فإذا ادّعى عليهما، فأقر أحدهما، وأنكر الثاني، ففي [ضمن] (1) إنكار المنكِر تكذيبُ المدّعي في جميع دعواه، فإذا جرى الصلحُ، وحكمنا بصحته بين المدّعي والمقر، فالمذهب الظاهرُ أنه لا يثبت حق الشفعة للمنكر، وأبعد بعض أصحابنا فأثبت له الشفعة، وهذا بعيد، لا أصل له؛ فإن الإنسان مؤاخذ بحكم قوله في حق نفسه.
4226- وممَّا ذكره المزني أن من ادعى داراً في يد إنسانٍ، فأقر المدعى عليه بها، ثم صالحه على أن يبني (2) على سطحها، [جاز] (3) ، وهذا كلام عري عن التحصيل، وحاصله أنه أقر بالدار، ثم طلب منه أن يُعير منه سقفها ليبني عليه، وليس هذا مما يورد في المختصرات.
4227- وممَّا ذكره المزني نقلاً عن كتاب أدب القاضي (4) أن الشافعي قال: "لو كان البيت علوُّه لواحد، وسفلُه لآخر، فأرادا أن يقتسماه على أن يصير العلوّ لصاحب السُّفل، والسفل لصاحب العلو، قال الشافعي: لا يجوز ذلك". وإنما نقل هذا تأكيداً لمذهبه في أن حق البناء لا يجوز بيعه، وهذا كلام مضطرب؛ فإنه يجوز بيع العلو بالسفل، وإنما أورد الشافعي هذا في سياق ما لا يجبر عليه من أنواع القَسْم، وعد منها ما نقله، ولم يُرد منعَ التبادل إذا صدر عن تراضٍ منهما، ثم أنَّى هذا من مراد المزني في
__________
(1) في الأصل: ضمان.
(2) أي المدعى عليه المقر، كما هو صريح لفظ النووي: الروضة: 4/221.
(3) سقطت من الأصل، وزدناها، حيث لا يتم الكلام بدونها. وهذا لفظ النووي في المرجع السابق نفسه. والمزني يمنع ذلك، بناءً على أصله في منع بيع حق البناء على السطح.
(مختصر المزني: 2/225) .
(4) ر. مختصر المزني: 2/226. ونص عبارته: "هذا عندي غيرُ منعه في كتاب أدب القاضي أن يقتسما داراً على أن يكون لأحدهما السفل، وللآخر العلو، حتى يكون السفل والعلو لواحدٍ".(6/508)
بيع حق البناء، والمسألة التي نقلها في بيع العلو بالسفل، والعلو مبني كالسفل.
4228- ومما نقله المزني مسألة معادة في شراء الزرع (1) ، ونحن نطردها بمزيد فائدة فيها، فنقولُ: إذا ادّعى رجل على رجل زرعاً في أرضٍ، فاعترف المدعى عليه، وصالح عن الزرع على شيء، فلا بُدّ من شرط القطع؛ فإن الصلح مع الإقرار بيعٌ. وإن لم يجر شرطُ القطعِ، والأرضُ لغيرِ المقر، لم يجز.
وإن كانت الأرض للمقر، ففي المسألة وجهان، تقدّم ذكرهما، في باب بيع الثمار، إذ ذكرنا أن من اشترى النخلة والثمرة جميعاً، فليس عليه شرط القطع، وإن اشترى الثمرة وحدها قبل بدوّ الصَّلاح، فلا بد من شرط القطع. وإن كانت الشجرة له والثمرة لغيره، فاشترى الثمرة، وضم ملكها إلى ملك الشجرة، ففي اشتراط القطع الخلاف الذي ذكرناه الآن في الزرع.
4229- فلو أقر المدعَى عليه بنصف الزرع، ثم أراد بيعَه، وهو أخضر، أو المصالحةَ عنه حيث يشترط القطع، فالبيع فاسد؛ فإنّ قطعَ النصف غيرُ ممكن، ولا يتوصل إليه إلا بقطع الجميع (2) .
قال الأصحاب: لا يتصور [شراء] (3) نصف الزرع بشرط القطع، إلا في صورة واحدةٍ، وهي إذا كانت الأرض والزرع مشتركين بين شخصين، فاصطلحا على أن يصير الزرع خالصاً لواحد، والأرض خالصة لآخر، بشرط القطع. قيل: يصح، ويلزم قطع النصف، بحكم شرط القطع فيه، وقطع النصف بحكم تفريغ المبيع (4) ، وهي الأرض، وهذا فيه نظر.
وقد منع طائفة من المحققين البيعَ في هذه الصورة أيضاً؛ فإن تفريغ الأرض من
__________
(1) ر. مختصر المزني: 2/226.
(2) لأن الإقرار بنص شائع في جميع الزرع، فلا يتأتى قطعه وحده.
(3) في الأصل: سوى. والمثبت تقدير منا رعاية للسياق.
(4) أي في هذه الحالة يصح شرط قطع النصف؛ لأن الزرع سيقطع كُلُّه، نصف بشرط القطع، ونصفه للآخر إخلاءً للمبيع.(6/509)
الزرع لا يجب بقطعه، وإذا شُرط، لم يجب الوفاء، فيبقى تعذّر استحقاق القطع. ثم الذين قالوا بالصحّة، بناءً على شرط تفريغ الأرض، فلست أدري ما قولهم في أن شرط التفريغ هل يجب الوفاء به؟ أم هو على الجواز؟ هذا محتمل؛ من جهة أن هذا ليس في المعقود عليه من الزرع، وإنما هو في بيع حصّةٍ من الأرض.
ولو باع رجلٌ أرضاً مزروعة، واستثنى الزرع لنفسه، وشرط قلع الزرع، وتفريغ
الأرض منه، ففي وجوب الوفاء تردد للأصحابِ، قدمت رمزاً إليه في بيع الثمار.
وهذا منزَّلٌ على ذلك.
فرع:
4230- إذا كان للرجل حقُّ مسيل ماءٍ في أرض الغير، فليس له أن يدخل الأرض من غير سبب وحاجةٍ. ولكن إن مسَّت الحاجة إلى تنقيته من الحَمْأة (1) ، وسدِّ البثق (2) ، وغيره، فله طروق الأرض، لهذا السَّبب. هكذا قال الأصحاب.
* * *
__________
(1) الحَمَأ: الطين الأسود المنتن، والحمأةُ القطعة منه. (معجم) وهو يترسب عادة في مجاري المياه، فيعوق سيرها.
(2) البثق: موضع انبثاق الماء من نهرٍ ونحوه (معجم) .(6/510)
كتاب الحوالة
4231- الأصل في الحوالة ما روى أبو هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَطل الغني ظلم وإذا أُتبع أحدُكم على مليءٍ فليَتْبع" (1) . وفي رواية "ليُّ الواجد ظلم، فإذا أحيل أحدكم على مليءٍ، فليَحْتل".
والحوالة مجمعٌ عليها، ونسُمِّيها من طريق المعنى الارتفاقَ الظاهر، وهي في مخالفتها قياسَ (2) البياعات، لما فيها من الحاجة الحاقّة - تشبهُ (3) القرضَ، والسلمَ، والإجارةَ، وكلَّ عقدٍ أثبته الشرعُ مُرفِقاً خارجاً عن قياس النظائر.
4232- وأصل الحوالة في اللغة من الإحالة والتحويل، وصورتها في محل الوفاق بيّنة، ومدارها على ثلاثة أشخاص: المحيل - وهو من عليه الحق، والمحتال - وهو صاحب الحق، والمحال عليه - وهو الذي يحال بالحق عليه، وعليه للمحيل مثلُ ما كان للمحتال على المحيل، ولا يخفى أن الحوالة متضمنها مقابلةُ دين في ذمةٍ بدين في ذمةٍ أخرى.
4233- وقد اختلفت عبارة الأئمة عن حقيقتها وماهيتها، فقال قائلون: الحوالة معاوضة؛ لأن المحتال يعتاض ما للمحيل في ذمة المحال عليه عمَّا له في ذمة المحيل، والمحيل يعوّضه ماله في ذمة المحال عليه عما عليه للمحتال.
4234- وقال قائلون من أئمتنا: الحوالةُ استيفاءٌ، ومن كان له دين، فاستوفاهُ،
__________
(1) حديث أبي هريرة متفق عليه. وقد سبق الكلام عنه، وعن الرواية الأخرى في أول باب حبس المفلس.
(2) في الأصل بالرفع (قياسُ) وهو من الأخطاء الكثيرة في هذه النسخة السقيمة.
(3) هذه الجملة الفعلية في محل رفع خبر لقوله: "وهي في مخالفتها ... ".(6/511)
فما قبضه ليس نفسَ الدين؛ فإن الدين لم يكن متعيناً، وليس ما عُيّن عوضاً عن الدين هو الدين أيضاً، بل هو الحق الموفَّى، كذلك الحوالة أقيمت استيفاءَ حقٍّ، حتى كأن المحتالَ استوفى ما في ذمته (1) عما كان له في ذمّته (2) ، وصار استحقاقه على المحال عليه، وحلوله محل المحيل نازلاً منزلة استيفاء عينٍ عن دين.
4235- وقال قائلون: تسمية الحوالة معاوضة محضة غير سديد، وتسميتها استيفاء محضاً غير سديد، والصحيح أنها متركبة من المعاوضة والاستيفاء، فهي معاوضةٌ ضمِّنت استيفاءً، واستيفاءٌ بطريق المعاوضة. وأقرب شيء شبهاً بها ما لو أخذ مستحق الدين عوضاً عمّا له في ذمة المديون، فهذه معاوضة تضمنت استيفاء الحق.
4236- وذكر شيخي بعد تزييف محض المعاوضة والاستيفاء قولين عن ابن سريج في حقيقة الحوالة: أحدهما - أنها معاوضة باستيفاء، والثاني - أنها ضمان بإبراء، فكان هو (3) عن حق المحيل.
أمّا القول الأوّل - فهو الصحيح. وحاصل الخلاف أن الغالب على الحوالة معنى المعاوضة ومعنى الاستيفاء، فأما تضمنها المعنيين، فلا خلاف فيه.
وأمّا القول الثاني - وهو أنّها ضمان بإبراء، فليس له معنىً في أصل الحوالة؛ فإن المحتال يملك ما في ذمة المحال عليه في مقابلة ما كان له على المحيل، وإنّما تحسن هذه العبارة إذا لم يكن على المحال عليه دين، كما سنصف ذلك بعد هذا، إن شاء الله تعالى.
4237- ثم الأصل في الحوالة الأشخاص الثلاثة الذين ذكرناهم. ورضا المحيل والمحتال (4) معتبرٌ، أمّا رضا المحيل؛ فإنما اعتبر؛ لأنه مالك الدين على المحال عليه، فلا يُسْتَحَقُّ عليه ماله على المحال عليه دون رضاه، وأمّا المحتال، فحقه ثابت
__________
(1) ما في ذمته: أي ما في ذمة المحال عليه.
(2) عما كان له في ذمته: أي ذمة المحيل. وعبارة الأصل: "عما كان له (ما) في ذمته" بزيادة لفظ (ما) ولعل في العبارة سقطاً أو خللاً.
(3) كذا. والمعنى: فكأن المحال عليه ضمن الحقَّ عن المحيل، وأبرأه المحتال.
(4) في الأصل: "والمحتال عليه" بزيادة كلمة (عليه) . وهو سبق قلم من الناسخ.(6/512)
على المحيل، فلا يتحول حقُّه دون رضاه. والعبارة الجامعة لهما أنهما على مرتبة المعاوضِيْن، فلا بد من رضاهما.
وأمّا المحال عليه، فالمذهب أنه لا يشترط رضاه؛ لأنه متصرَّفٌ فيه؛ ورضا محل التصرف لا يشترط في المعاملات، والمحيل والمحتال متصرفان. وقال أبو حنيفة (1) يعتبر رضا المحال عليه، وهو اختيار الاصطخري من أصحابنا. وهذا ضعيف لا اتجاه له.
4238- وممَّا نذكره في تأسيس الكتاب التفصيلُ فيما تجري الحوالة فيه. قال
الأئمة: يشترط فيما تجري الحوالة فيه أمران: أحدهما - التجانس بين الدَّيْنين.
والثاني - استقرار الدين، ولزومُه، على ما نصفه.
4239- فأمَّا القول في التجانس، فلا تصح إحالة الدراهم على الدنانير، وإحالة الدنانير على الدراهم، وكذلك لا يصح إحالة الصحاح على المكسر، وإحالة المكسرة على الصحاح؛ فإن الحوالة إذا اشتملت على ما ذكرناه، لم تخل عن عوضٍ للمحيل أو المحتال، يستفاد مثله في المعاوضات المحضة، وليس في الحوالة معاوضة محضة.
وكشْفُ ذلك أن الدين على المحيل إن كان صحاحاً، فيستحيل أن يزول الاستحقاق عن صفة الصحة من غير قبضٍ حسِّي؛ فإنه لو قال (2) : أبرأتك عن الصحة، لم يصح، وكذلك عكس هذا. [فوعد] (3) المحتال لا يتحقق قبل القبض الحسي.
4240- ولو كان ما على المحيل [حالاً، فالإحالة] (4) على مؤجل لم تجز؛ لما ذكرناه من الغرض المشعر بحقيقة المعاوضة، ولو حكمنا بالصحة، لكان معنى الكلام أن يلتزم المحتال تأخيراً لم يكن. ولو أحال مؤجّلاً على حالّ، المذهب أنه لا يصح؛ لغرض المحتال. ومن أصحابنا من قال: يجوز ذلك، إذا غلّبنا معنى الاستيفاء على الحوالة؛ فإن الدين المؤجَّلَ لا يمتنع تعجيل توفيته، فلتكن الإحالة على حالّ بمثابة تعجيل دين مؤجَّل. وهذا إن كان يخرّج، فعلى تغليب معنى الاستيفاء، ولكن يلزم
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 102، البدائع: 6/15، حاشية ابن عابدين: 4/289.
(2) قال: أي قال المحتال.
(3) في الأصل: "موعد في". والمثبت والحذف تقدير منا.
(4) في الأصل هكذا: "خلافاً لإحالة" والمثبت تقديرٌ منا على ضوء المعنى والسياق.(6/513)
منه تصحيحُ إحالة الصحاح على المكسرة، والمكسرة على الصحاح؛ فإن ذلك يجري في الاستيفاء أيضاًً مع الرضا، من غير احتياج إلى اعتياض.
وكان (1) شيخي ربما يذكر وجهاًً، ويقول: كلّ ما لا يؤخذ [في مقابلة الدين إلا معاوضة، فلا تجوز الحوالة عليه، وكل ما يؤخذ] (2) استيفاء من غير حاجةٍ إلى الرضا، فيجوز إحالةُ الدين عليه إذا كان ديناً، وكل ما يجوز استيفاؤه، ولكن يشترط فيه الرضا، ففي جواز الإحالة الخلافُ الذي ذكرناه. والظّاهر المنع.
وقال العراقيون: كل ما هو من ذواتِ الأمثالِ يجوز أن يحال الدين فيه على مثله، وما ليس من ذواتِ الأمثالِ إذا فرض دينان مع اتحاد الجنس والنوع، فهل تصح الإحالة فيه؟ فعلى وجهين. ويمكن تصوير ثبوت العروض والحيوانات في الذمة، في القرضِ على وجهٍ ظاهرٍ لا يحتاج إلى ردّ الأمر إلى الحوالة في السلَم.
هذا قولنا في أحد الوصفين المعتبرين، وهو التجانس.
4241- فأما الوصف الآخر وهو الاستقرار، قال الأئمة: لا تصح الحوالة على نجم الكتابة، ولا بنجم الكتابة، كما لا يصح ضمانه.
وحكى العراقيون وجهاً غريباً عن ابن سريج: أنه صحح ضمانَ النجم، والحوالةَ به، وعليه. وهذا يأتي مشروحاً في أول كتاب الضَّمان، إن شاء الله.
وقال العراقيون: الحوالة على نجم الكتابة فاسدةٌ على ظاهر المذهب (3) ، فأمَّا إذا أحال المكاتَبُ بالنجم على دينٍ ثابت، فهو صحيح؛ لأنَّ (4) الجائز لا يضر أن يكتسب
__________
(1) في الأصل: فكان.
(2) في الأصل خللٌ في العبارة والمثبت تصرف منا، نرجو أن يكون صواباً. كنا قد تصرفنا وأقمنا النص من عند أنفسنا وعند مراجعة تجارب الطباعة جاءني تلميذي وابني الحبيب علي الحمادي بالنص كاملاً، نقله التاج السبكي في الأشباه والنظائر، فأخذنا منه السقط الذي بين المعقفين.
(ر. الأشباه والنظائر: 1/311، 312) .
(3) لأن نجوم الكتابة غيرُ لازمة على المكاتَب، وله إسقاطها، متى شاء، فلا يمكن إلزامه الدفع إلى المحتال.
(4) التعليل -بقوله (لأن) - لجواز الحوالة بنجم الكتابة، فالمعنى: أنه تصح إحالة السيد بنجم الكتابة -على جوازه- لأن تحصيل الجائز واكتسابه، لا منع منه.(6/514)
نادراً. والذي ذكره القاضي منعُ الحوالة بالنجم وعلى النجم؛ فإن وضع النجوم على الجواز.
وتحصيل القول في هذا عندنا أن المكاتب يُحيل بالنجم الأخير الذي يحصل العتق به، وكذلك يحيل بجميع النجوم دفعة واحدة. فأما الإحالة على المكاتب بالنجم الأخير لا (1) يجوز؛ إذ لو قدر جوازُها، لما عَتَقَ المكاتَب؛ إذ عتقه يوجب براءَته، وإذا برىء، فما الذي يؤديه إلى المحتال؟ بخلافِ الحوالة بالنجم (2) ؛ فإن الدين يبقى في ذمة المحال عليه، ويعتِق.
4242- هذا ولم يذكر في شرط الحوالة ما لا خفاء به، وهو أن تتعلق بدينين، ولا يجوز فرضُ عَيْنٍ في أحد الشقين.
4243- ومما يتعلق بأصول الكتاب الحوالة على من لا دين عليه، وقد ذكر ابن سريج فيها وجهين: أحدهما - أنها لا تصح. والثاني - أنها تصح، وخرَّج هذا على تغليب المعاوضة أو (3) الاستيفاء، وقال: إن قلنا: إنها معاوضة، لم يصح؛ إذ لا عوض في أحد الشقين، وإن قلنا: استيفاءٌ، صح. وكأنَّ من لا دين عليه وفّى الدين على مستحقه، وذلك غير ممتنع.
وهذا كلام مختلط. والصحيح عندنا [أن] (4) يخرّجَ هذا على أصلٍ سيأتي في الضمان، وهو أن الأجنبي الذي لا دين عليه لو ضمن ديناً على إنسان، على شرط براءة المضمون عنه، ففي صحة ذلك وجهان سيأتي ذكرهما، والذي نحن فيه بهذه المثابة؛ فإن المحال عليه لا دين عليه، وإنما التزم على شرط أن يبرأ من أحال عليه، وليس ما نحن فيه مأخوذاً من ذلك، بل هو عينه.
4244- ثم إن قلنا: الحوالة على من لا دين عليه باطلةٌ، فلا كلام.
__________
(1) هكذا جواب أما بدون الفاء. كما تكررت الإشارة إليه مراراً.
(2) أي الأخير. كما هو ظاهر من السياق. ويبدو أن لفظ (الأخير) سقط من الناسخ.
(3) في الأصل: والاستيفاء (بالواو) .
(4) زيادة من المحقق.(6/515)
وإن قلنا: صحيحة، فقد ذكر العراقيون وجهين في أنها جائزة، أو لازمة:
أحدهما - أنها لازمة، ولا يكاد يخفى معناها. والثاني - أنها جائزة، وللمحال عليه الفسخ، ولا يتوجه عليه المطالبةُ، ولا يتم الأمر ما لم يُسلَّم الدينُ إلى المحال، فإذا سلِّم، لم يملك الاستردادَ.
ووجه الجواز عندي باطل ملغىً، لا أصل له؛ إذ لا أثر لقول القائل: الحوالة صحيحة، ولا مطالبةَ، وقولُ هذا القائل: إن الغرض يتم بالتوفية لا حاصل له، مع العلم بأن أجنبياً لو وفَّى دينَ إنسان، وقع الموقع.
4245- ومما يتفرع على ذلك أن المحالَ عليه إذا لم يكن عليه دين، وصححنا الحوالة، وألزمناها، فقد قطع العراقيون بأنه يملك مطالبة المُحيل بتحصيله، قبل أن يغرَم للمحتال.
قال الشيخ أبو علي: لم يذكر الأصحاب غيرَ ذلك، وقطعوا أقوالهم به إلا القفالَ؛ فإنه ذكر لذلك وجهين: أحدهما - ما ذكرناه. والثاني - ليس له مطالبةُ المحيل [بتحصيله] (1) ، ولكن إذا غرِم المحال عليه للمحتال، فنقول: إن تقبّلَ الحوالةَ على شرط الرجوع على المحيل، فإذا غرم، رجع عليه. وإذا لم يشترط الرجوعَ، فإذا غرِم، فهل يرجع؟ فعلى وجهين: سيأتي [نظيرهما] (2) في كتاب الضمان، إن شاء الله تعالى.
4246- وممّا ذكره العراقيون في تفريع ذلك أن المحال عليه الذي لا دين عليه، إذا أبرأه [المحتال] (3) عمّا التزمه. قالوا: لا يرجع على المحيل؛ لأنه لم يغرَم شيئاًً.
ولو غرِم للمحتال ما التزمه بطريق الحوالة، ثم إن المحتالَ وهب عين ما قبضه من المحال عليه، فهل يملك المحالُ عليه الرجوع على المحيل؟ فعلى قولين مأخوذين من أصلٍ [في] (4) كتاب الصداق.
__________
(1) في الأصل: بتخليصه. والمثبت تقدير منا على ضوء العبارة السابقة.
(2) في الأصل: نظرهما.
(3) في الأصل: المحيل. (وهو وهم عجيب، من أوهام هذه النسخة التي لا تحصى) .
(4) زيادة من المحقق.(6/516)
وهو أن المرأة لو وهبت صداقها من زوجها، ثم طلقها قبل المسيس، فهل يرجع عليها بنصف قيمةِ الصّداق، أو لا رجوع عليها؟ فعلى قولين مشهورين: قال شيخي: إذا أصدق امرأته دَيْناً، ثم إنها أبرأته، فطلقها قبل المسيس، وقلنا: لو وهبت الصداق قبل الطلاق، لم يملك الزوج الرجوع عند الطلاق بشَطر الصداق، فإبراؤها بذلك أولى. وإن قلنا: لو وهبت الصداق قبل الطلاق، ملك الزوج [الرجوعَ] (1) ، ففي الإبراء قولان. ثم قال: إبراء المحال عليه، الذي لا دين عليه كبراء المرأة زوجَها، ورجوعُ المحال عليه على المحيل كرجوع الزوج بنصفِ الصَّداق عند الطلاق.
4247- ومما يتعلق بأصولِ الحوالة أنها إذا تمت على شرطها، ثم طرأ على المحال عليه إفلاسٌ، أو جَحْدٌ للحق، ولم يصادف المحتال بيّنةً [يُقيمها] (2) ، فلا يرجع على المحيل أصلاً، وليس إفلاسُ المحال عليه كإفلاس المشتري بالثمن، وقد ذكرنا معتمدَ المذهب في القاعدتين في (الأساليب) .
4248- ولو أحيل على من ظنه غنياً، ثم تبين أنه كان عند الحوالة مفلساً، فهل يثبت له حق الفسخ والإفلاسُ مقترنٌ بالحوالة؟ فعلى أوجهٍ؛ جمعتها من الطرق: أحدها - أنه لا خيار؛ فإن الحوالة في وضعها إذا صحت، لم تحتمل الفسخ؛ إذ هي قاطعةٌ للعلائق بالكلية. والوجه الثاني - أنه يَفسخ تداركاً لما لحقه وما كان مطلعاً عليه، وليس كالإفلاس الطَّارىء؛ فإنا قد نجعل الحوالة في نفسها بمثابة قبض الحق، والطريانُ بعد القبض لا يُثبت الفسخ.
فأما إذا اطّلع القابض على عيب قديم، فالذي تمهد في الشرع ثبوت الفسخ. ومن أصحابنا (3) من قال: إذا كانت الحوالة مُطلقة، فلا خيار، وإن جرى فيها شرطُ مَلاءة المحال عليه، ثم اختلف الشرط، فيثبت الفسخ إذ ذاك؛ فإن الحوالة أُنشئت على اقتضاء [الدين] (4) ، فيجب الوفاءُ بموجبها، فإن قيل: هل صار إلى نفي الخيار مع
__________
(1) سقطت من الأصل.
(2) في الأصل: بقيمتها.
(3) هذا هو الوجه الثالث.
(4) في الأصل: المدّة. وهو تصحيف واضح.(6/517)
الشرط وإخلافه أحدٌ من الأصحاب؟ قلنا: نعم. ذهب إليه ذاهبون، فصاروا إلى حسم (1) الفسخ، وإلغاء الشرط. حكاه العراقيون.
4249- وتردُّدُ الأصحابِ في قبول الحوالة الفسخَ عند الاطلاع على فلس المحال عليه يقرب من ترددهم في أن الحوالة هل يلحقها خيار المجلس والشرط؟ وفيه خلافٌ قدمته في أول البيع. مبنيٌّ على أن حكم المعاوضة أغلبُ على الحوالة؟ أم حكم الاستيفاء، وفيه الخلاف الذي مهدناه الآن.
فرع:
4250- إذا كان الدين على المحيل مؤجَّلاً، وكذلك على المحال عليه، واستوى الأجلان في مقدارهما، صحت الحوالة. فلو مات المحيل، فلا يَحِل الدين بموته؛ فإنه قد تحول الدَّين عن ذمته، ولو مات المحال عليه، فيحل الدين حينئذ؛ س فإنه المديون الآن. ذكره العراقيُّون وغيرُهم. ولا خفاء به. ولكني أحببتُ نقله منصوصاً.
* * *
__________
(1) حسم: أي منع.(6/518)
بابٌ في مَسائِلَ
قال المزني: [تحريتُ فيها] (1) معنى قول الشافعي رضي الله عنه، "فمن ذلك: لو اشترى عبداً بألف درهم ... إلى آخره" (2) .
4251- صورة المسألة أنه إذا باع عبداً من رجل بألفِ درهم، وأحال المشتري البائعَ على رجلٍ بالثمن، ثم اطلع على عيبٍ قديم بالعبد، فرده، فالذي نص عليه المزني هاهنا (3) : أن الحوالة ترتد، وتبطل، ونص في المختصر الكبير (4) أنها لا تبطل. ومنصوصات المزني في مجال التحرِّي معدودةٌ من مَتْن المذهب، وهي عند المصنفين كنصوص الشافعي، فالذي ذهب إليه الجمهور تخريجُ المسألة على قولين مخرّجين مبنيين على أن الغلبةَ للمعاوضة أو للاستيفاء؟ فإن جعلناها معاوضة، لم نبطلها، كما لو اعتاض البائع عن الثمن ثوباًً اعتياضاً صحيحاً، ثم وجد المشتري بالعبد المشترَى عيباً، فردّه، فلا يرتد ما جرى من الاعتياض عن الثمن، فلتكن الحوالة كذلك، بل الحَوالة أولى، بألا تنفسِخ؛ فإنها بعيدةٌ عن قبولِ الفسخ.
وإن جعلنا الحوالة استيفاءً، بطلت؛ لأنها نوعُ رِفقٍ في الاستيفاء، فإذا بطل الأصلُ، بطل الرِّفْق الذي كان تبعاً له، كما لو باع بألفٍ مكسرٍ، فقضاه المشتري صِحاحاً، ثم رد المبيعَ بالعيب، فإنه يسترد الصحاح. وليس للبائع أن يقول: أغرَم
__________
(1) زيادة من نص المختصر.
(2) ر. المختصر: 2/227.
(3) ها هنا: أي في المختصر المعروف.
(4) المختصر الكبير هو للمزني أيضاًً، جمع فيه -كضَرِيبه المختصر المعروف- نصوص الشافعي، وقد يسمى (الكبير) بدون ذكر المختصر، وهو أقل شهرة وذكراً في الكتب وعلى لسان الأئمة من (الصغير) المشهور الذي يعرف بـ (المختصر) فقط بدون أي وصف. والكبير قد يسمّى (الجامع الكبير) كما سماه الرافعي في هذا الموضع. (ر. فتح العزيز: 10/346 بهامش المجموع) .(6/519)
المكسرَ، ليسلم لي ما سمحتَ به من الصحة؛ لما ذكرناه في (1) التبعية. ولو اشترى بالصحاح أولاً، ثم رضي البائع بالمكسر، فإذا ردّ المشتري بالعيبِ، فلا يرجع إلا بالمكسر.
4252- ومن أصحابنا من قال: إن جرى فسخُ البيع قبل قبض المبيع، ارتفعت الحوالة. فإن جرى الفسخ بعد القبض، لم ترتفع. وهذا القائل يفصل بين الحالتين بتعرض البيع لقبول الفسخ قبل القبض. وهذا مزيفٌ. والأصل إطلاق القولين قبل القبض وبعده.
4253- وكان شيخي يقول في التفريع على هذه القاعدة: ولو أحال المشتري البائعَ بالثمن على إنسانٍ في زمن الخيار الثابت في البيع، فالأصح صحةُ الحوالة، وإن كان العقد جائزاً، بخلاف الحوالة في تجويز الكتابة؛ فإن عقد البيع، وما فيه من عوضٍ، لا يلتحق بالأعواض الجائزة التي لا ثبات لها. والخيار طارىء [فيه] (2) ، فإذا أفضى في العاقبة إلى اللزوم، كان الحكم على موجب اللزوم.
4254- ومن أصحابنا من منع الحوالة في زمان الخيار، مَنْعَ (3) ضمان النجوم، ثم قال: إذا صححنا الحوالة في زمان الخيار، ففُسخ البيعُ بالخيار، ارتدّت الحوالة بلا خلاف؛ فإنها إنما صحت على تقدير إفضاء البيع إلى اللزوم، فإذا لم يُفضِ إليه، فلا سبيل إلى التزام الحوالة في الثمن، وقطع الخيار في المبيع.
التفريع على القولين في صورة الرد بالعيب:
4255- فإن قلنا: لا تبطل الحوالة، فالمشتري هل يرجع على البائع بما أحاله؟ نُظر: إن كان البائع قبضه، فلا شك أنه يرجع عليه، ولا يتعين عينُ ما قبضه، فإن أحبّ أتى ببدلٍ عنه، وتعليله بيّن.
وان لم يكن قبض البائع من المحال عليه، فهل يرجع المشتري على البائع؟ فعلى
__________
(1) "في" هنا مرادفة لـ (من) .
(2) في الأصل: فيها.
(3) في الأصل: "في منع" بزيادة (في) .(6/520)
وجهين: أقيسهما - أنه يرجع؛ لأن الحوالة أقيمت مقام الإقباض في وضعها، بل هي أقوى من الإقباض؛ فإن القبض قد يُنقض، والحوالةُ بعيدةٌ عن قبول النقض.
والثاني - لا يرجع عليه؛ لأن الاسترداد على حسب الإقباض، وهو لم يقبضه حساً، فكيف يسترد منه حساً، بل سبيل الاسترداد أن يقع إذا حصل القبض الحقيقي.
4256- ثم إن قلنا: الحوالة باقية، فلا شك أن البائع يطالب المحال عليه بتوفية مال الحوالة، فلو أبرأه على هذا، فيضمن حينئذ [للمشتري] (1) الثمنَ؛ فإنَّ إبراءه بمثابة استيفائه.
وممّا ينشأ من ذلك: أنا إذا قلنا: لا يرجع المشتري على البائع قبل قبض مال الحوالة، فهل يملك مُطالبتَه بمُطالبة المحال عليه أم لا؟ من أصحابنا من قال: يملك مُطالبتَه على النحو الذي ذكره؛ لأن البائع مالكٌ لمطالبة المحال عليه، فيبعد أن يمتلك البائع ذلك من جهة المشتري، ولا يثبت للمشتري أصلُ توجيهِ المطالبةِ. ومن أصحابنا من قال: لا يملك المشتري الرجوعَ بالثمن، ولا المطالبةَ بتحصيله. وهذا بعيدٌ جداً.
4257- وإن حكمنا بأن الحوالة تنتقض برد المبيع، فإنْ كان قبض المال قبل الرد، فهل نحكم بأنتقاض الحوالة الآن؟ وفائدةُ ذلك أن يتعين على البائع ردُّ عين ما قبضه؟ أم نحكم بأن الحوالة لا تقبل النقضَ بعد قبض المال من المحال عليه؟ فعلى وجهين، وفائدة قولنا: لا تنتقض، أن البائع لو أراد أن يأتي ببدَلٍ عما قبضه، ولا يردّ عينَه، كان له ذلك. ولو لم يقبض البائع المالَ من المحال عليه حتى حكمنا بارتفاع الحوالة، فلا شك أن المطالبة تنقطع عن البائع، وينقلب الدّينُ في ذمة المحال عليه، بعد الحكم بانفساخ الحوالة، فلا شك أنه لا يقع قبضُه لنفسه. ولكن هل يقع عن المشتري؟
فعلى وجهين ذكرهما شيخي: أحدهما - وهو الذي لا يتجه غيرُه - أنه لا يصح قبضُه للمشتري؛ فإن الحوالة لم تقع للمشتري، وإنما وقعت للبائع، فإذا انفسخت وزالت، لم يبق لها أثر، ويستحيل أن تنعكس الحوالة وكالةً بالاستيفاء.
والوجه الثاني - أن قبضه يصح عن المشتري؛ فإنه جرى الأمر بالقبض على جهةٍ،
__________
(1) في الأصل: "المشتري" والمثبت تصرف منا.(6/521)
فإن بطلت تلك الجهة، بقي الأمر المطلق. وهذا بعيد.
وكان شيخي أبو محمد يقرّب هذا الاختلاف من أصلٍ بعيد عن وضع المعاملاتِ، وهو أن من تحرّم بصلاة الظهر، قبل الزوال، وحكمنا بأن صلاته لم تنعقد فرضاً، فهل يُقضى بأنعقادها نفلاً؟ فعلى قولين، أجريناهما في هذه المسألة وفي نظائرَ لها.
4258- ولو أصدق الرجل امرأته ديناً، ثم أحالها زوجها بصداقها على إنسان، وطلقها قبل المسيس، فهذا في نصف الصداق يناظر ما لو أحال المشتري البائعَ بالثمن، فهل يُحكم ببُطلان الحوالة في نصف الصَّداق؟ اختلف أصحابنا على طريقين: منهم من أجراه على القولين المذكورين في البيع، ومنهم من قطع القول بأنّ الحوالة لا تبطل؛ وذاك لأن الطلاق ليس بفسخٍ في الحقيقة، بل هو تصرف في الملك، وليس كذلك الرد بالعيب، والصداق في الجملة أثبت من غيره. ولهذا قلنا: إن الصداق إذا زاد في يد الزوجة زيادةً متصلة، منعت تلك الزيادةُ ارتدادَ النصف عند الطلاق قبل المسيس، ولا تمنع الزيادةُ نفوذَ شيء من الفسوخ. ولو كان الصّداق يرتد إلى الزوج بسبب فسخ من الفسوخ، فالقول في الحوالة كالقول في العقد الذي يطرأ عليه الرد بالعيب، ولا فرق، وإنما التردد في الطلاق.
4259- ولو باع الرجل عبداً بألفٍ، ثم أحال البائع رجلاً له عليه [مثلُ] (1) الثمن، فأحاله على المشتري، ثم وجد المشتري بالعبد عيباً، فرده، فالأظهر في هذه الصورة أن الحوالة لا تنفسخ؛ لأنها تعلقت بثالثٍ؛ إذْ (2) تحقق تعلقُها بغير المتعاقدَيْن.
ومن أصحابنا من أعاد ذكرَ الخلاف في هذه الصورة، وجعل الحوالة على المشتري كإحالة المشتري البائع على إنسان، وعلل بأن الحوالة وإن تعلقت باستحقاق ثالثِ؛ فإنها تبعٌ للبيع والتبعية لا تزول (3) . وهذا وإن كان منقاساً، فهو غريب، حكاه العراقيون، والقاضي، وغيرُهم.
__________
(1) في الأصل: مِن.
(2) في الأصل: "وإذا تحقق تعلقها بغير المتعاقدين" والمثبت تصرفٌ منا.
(3) في الأصل: لا تزول في هذا ...(6/522)
وإذا وقع التفريع على الأصح، وهو أن الحوالة تبقى ولا تنفخس، فإذا فسخ المشتري العقدَ بالرد، وكان غرِم للمحتال، فلا شك أنه يرجع على البائع [وإن لم يكن غرِم] (1) فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يرجع عليه؛ فإنه لم يغرَم بعدُ شيئاًً. والثاني - أنه يرجع عليه، فإنَّ الاستحقاق قد تأكد عليه، وحسابه مع المحتال لا يتعلق به حكم العقد؛ إذ لو كان تتعلق الحوالة بالعقد، لارتفعت بارتفاع العقد.
فصل
قال المزني: "ولو أحال رجل على رجلٍ بألفِ درهم، وضمنها، ثم اختلفَا ... إلى آخره" (2) .
4260- إذا كان لرجل على رجلٍ دينٌ، وكان للمديون (3) دينٌ على آخر يماثل الدينَ الأول، فأمر المديونُ مستحقَّ الدين بقبض ذلك الدين. ثم اختلفا، فادّعى أحدهما أن الذي جرى حوالة وادّعى الآخر أنه لم يجر إلا وَكالة، نُظر: فإن قال الآمر: قد قلت لك: وكلتُك بقبض ما لي على فُلان، أو قلت: اقبض ما لي عليه، ونويتُ الوَكالة. وقال المأمور: لا بل قلتَ لي: أحلتك، أو قلت: اقبض ما عليه، ونويتَ الحوالة، فالقول قَولُ الآمر؛ لأن الأصلَ أنْ لا حوالة، وأنّ ملكَه باقٍ في ذمّة ذلك الثالث.
وإنما يثور هذا الخلاف إذا كان المحال عليه موسراً، وكان استيفاءُ الدين منه أيسر.
4261- فإن جرى النزاعُ كما ذكرناه، فالقولُ قول الآمر كما وصفناه، ثم إن صدقنا الآمر، فلا يخلو: إمّا إنْ قبض المأمور، أو لم يقبض. فإن لم يكن [قبض] (4) قبَّضه الآمر، وإن كان [قبض] (5) ، نُظر: فإن كان قائماً، استردّه من المأمور إن كان حقُّه مُؤجَّلاً، وإن كان حقُّ المأمور حالاً، فقد ظفر بجنس حقه، وإن عسر عليه استيفاء
__________
(1) زيادة من المحقق اقتضاها السياق.
(2) ر. المختصر: 2/227.
(3) في الأصل: "المديون عليه" بزيادة لفظ (عليه) .
(4) في الأصل مقبوضاً.
(5) في الأصل مقبوضاً.(6/523)
جنس حقه منَ الآمر، فازَ بما قبضه. وإن لم يعسر [ردّ] (1) عليه ما قبضه، وطالبه بحقه.
ولو كان قبض، وتلف في يده، فالآمر لا يُطالبُه بالضّمان؛ من قِبَل أنه اعترف بكونه وكيلاً قابضاً له على حكم الوكالة، ولم ينسبه إلى تفريطٍ مضمِّن. والتجاحُد جرى بعد التلف، فلا يتضمن عكس الضّمان على ما تقدم، والمأمور لا يطالب الآمرَ بحقه؛ فإنه اعترف بسقوط حقه بالحوالة، فتنقطع الطَّلبة من الجانبين بسببين.
4262- ولو اختلفا، وما كان قبض، فالقول قول الآمر في نفي الحوالة؛ كما ذكرناه، والمأمور لما ادّعى الحوالة، فقوله يتضمن الانعزالَ عن الوَكالة، والوكيل إذا ذكر ما يوجب عزلَه، لم يكن له أن يقبض.
فإذا تعذر على المأمور استيفاءُ حقه من المحال عليه لما ذكرناه، فهل له مُطالبة المحيل الآمر؟ فعلى وجهين في طريقة [العراقيين] (2) : أحدهما - ليس له ذلك؛ فإن المأمور يُقرّ بأن ذمة الآمِر قد برئت، وتحوّل دينُه. [والوجه] (3) الثاني - له المطالبة؛ فإنه تعذّر على المأمور حقُّه من جهة المحيل الآمِر؛ فهو الذي عسَّر عليه الحوالة، وهو معترفٌ.
ولو كان الاختلاف على العكس، فقال الآمر: أحلتك، وقال المأمور: بل وكلتني، فالقول في نفي الحوالة قولُ المأمورِ؛ فإنّ الآمرَ يبغي بما ذكره سُقوطَ [حقِّ] (4) المأمور عن ذمته، والأصل بقاءُ حقه. وهذا في الغَالب يتفق حيث يكون المحال [عليه] (5) معسراً، والآمر يطلب نفيَ الطَّلِبة عن نفسه.
4263- ثم إذا جعلنا القولَ قولَ المأمور، فلا يخلو: إمّا إن كان قبض، أو لم يكن قبض، فإن لم يكن قبض المأمورُ، فلا يقبضه؛ لأن قول الموكل: ما وكلتُك يتضمن عزْلَه لو كان وكيلاً. أو كان قبض، فإن كان قائماً في يده، فالآمرُ يزعم أن
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: العراق.
(3) في الأصل: والقول. والمثبت مراعاةً للسياق.
(4) في الأصل: حقه.
(5) زيادة لا يستقيم المعنى بدونها.(6/524)
المقبوضَ حقُّ المأمور وملكه، ولا حق له عليه. والمأمور يزعم أن المقبوضَ ملكُ الآمر، وحقُّه باقٍ في ذمته. وقد ذكرنا أن القول قولُ المأمور في بقاء حقِّه في ذمة الآمر. فإن عسر عليه استيفاءُ حقه، فالوجه أن يتملك [المقبوضَ] (1) ؛ لأنه جنس حقه. وإن تيسر استيفاء حقِّه منه، فقد اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: يطالِبُ الآمرَ بحقه، وما قبضه موقوفٌ، ومنهم من قال: ما قبضَه يكتفي به، ولا يطالِبُ.
والخلاف مخصوص به إذا لم يكن قبض، فإذا كان قبض، فاعترافُ الآمر بأنه [حقُّه] (2) كافٍ نازلٌ منزلة تمليكه إيَّاه الآن.
ولا خلافَ أن الآمرَ لو قال للمأمور: لمْ تصدقني وزعمتَ أن ما قبضتَه حقي، فقد وَفَّيْتُكَ إياه، فيجتمع [لك] (3) من قولي الأخير، وقولي الأول الملكُ في المقبوض، فقد تمس الحاجة إلى تصوير القبض كما قدمناه في كتاب البيع والرهن في إقباض الإنسان شيئاً لحقه، وهو في يده.
فهذا كله فيه إذا قبض، والعين قائمةٌ في يده.
4264- فأمّا إذا قبض، وتلف، فهل يكون التالف مضموناًً عليه؟ فعلى وجهين، ذكرهما الإمام (4) وصاحب التقريب: أحدهما - أنه يكون مضموناً على المأمور.
والثاني - لا يكون مضموناًً عليه.
توجيه الوجهين:
من قال: إنه لا يضمنه، قال: لأنا جعلنا القول قولَهُ في نفي الحوالة، فإذا انتفت الحوالة، ثبتت الوكالة، والمالك ليس يدعي إلا جهةَ الحوالة، فإذا انتفت، لم يبق على زعمه ما يقتضي الضّمان.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: حقك. والمثبت تقدير منا.
(3) في الأصل: ذلك. والمثبت تقدير منا.
(4) الإمام: يريد به شيخه، أي والده. كما حققنا ذلك من قبل.(6/525)
ومن قال: إنه يكون مضموناًً عليه، قال: إنا إنما نجعل القولَ قولَ المأمور؛ لأن الأصل بقاءُ طَلِبته على الآمر، وهو يدّعي انتفاءَه، فإذا آل الأمرُ إلى الغرامة، فالأصل أن ماله لا يكون أمانةً، إلا أن يُقرّ بها، ومن تلف في يده ملكُ غيره، فالأصل أن يكون مضموناًً عليه.
ولهذا نظائر، منها: أن المشتري والبائع إذا اختلفا في عيبٍ، فزعم المشتري أنه قديم، وزعم البائعُ أنه حادث، فالقول قول البائع، كما ذكرناه (1) في البيع. فإذا صدقناه، وحلفناه، وجرى القضاء به، ثم اختلف هو والمشتري في قدر الثمن، وتحالفا، وأوجب ذلك ترادّاً، فلو قال البائع: غرمُوا المشتري أرشَ العيب؛ فإنه ثبت بيميني أن العيب حادثٌ في يده، فلا يلزمه أرشُ العيب. وقد مهدنا ذلك في مواضِع.
وقد يتطرق إلى وجه إثباتِ الضّمان سؤالٌ: وهو أن الآمر معترف بأن ما قبضه المأمور ليس ملكاً للآمر، فلا يجري ما ذكرنا [في] (2) هذا الوجه، من أن الأصل أن ملك الغير مضمونٌ، ولكن يتجه أن نقول: قولُ الآمر يتضمن قبضاً على حُكم الضّمان، ولكنه ضمانُ مقابلةٍ، والتعويل على نفيه الأمانة (3) ، والأصل عدمُها.
4265- وكل ما ذكرناه فيه إذا لم يجر بين الآمر والمأمور لفظُ الحوالة، فأمّا إذا جرى بينهما لفظُ الحوالة، فقال الآمر: أحلتك بكذا على فلانٍ، ثم يُفرض الخلاف مع جريان لفظ الحوالة، من وجهين: أحدهما - أن يقول الآمر: ذكرتُ لفظَ الحوالة، ولكن أردتُ به الوكالة، وقال المأمور بل أردتَ الحوالة. فالذي يدل عليه ظاهر لفظ المزني في المسائل التي يُجريها أن القول قولُ الآمر؛ فإنه ذكر الإحالةَ والحوالةَ، ثم فرض الخلاف، ثم قضى بأن القولَ قولُ الآمر، ولو كان يختلف الأمر
__________
(1) في الأصل: ذكره.
(2) في الأصل: من.
(3) المعنى: أن التعويل على نفي الضمان هو نفي الأمانة.(6/526)
باللفظ، [لتعرض] (1) له؛ فإن التصوير لا يتم إلا باللّفظ إذا كان الحكم متعلقاً به؛ فإذاً ظاهرُ قوله إن (2) القول قولُ الآمر.
قال صاحب التقريب: قد ذكر ابنُ سريج في المسألة قولاً آخر: إن القول قول المأمور الذي يدّعي حقيقةَ الحوالة؛ فإن لفظ الحوالة موضوعٌ لمقصودٍ [وضعاً] (3) صريحاً، فمن أراد حملها على خلاف معناها، لم يقبل منه، كما إذا ذكر لفظاً من صرائح الطلاق، ثم حمله على خلاف ظاهره، فلا يقبل ذلك منه.
وحاصل القولين راجعٌ إلى أنَّا على قول المزني لا ننظر إلى لفظِ الحوالة، ولكن ننظر إلى قياس الاختلاف، وقياسه يقتضي أن المأمورَ إذا ادعى حوالةً، والآمر ينفيها، فالقول قول الآمر. وعلى القول الثاني يُعتبر صريحُ الحوالةِ، ولا يقبل قول من يحيدُ عن ظاهر معناها، مع الاتفاق على صدور لفظها من الآمر.
4266- وذكر بعض المحققين وجهاًً ثالثاً، فقال: إن قال: أحلتُك بالألف الذي لي على فلان، ولم يقل بالألف الذي لك عليَّ على الألف الذي لي على فلانٍ، فيجوزُ أن يقال: القول قولُ من يدعي الوَكالة؛ لأنه لم يقل بالألف الذي لك عليّ.
ولو قال: أحلتك بالألف الذي لك عليّ على الألف الذي لي على فلان، ثم ادّعى الآمرُ الوكالة، فلا يقبل ذلك منه.
وهذا التفصيل لا ينتهض عندي وجهاًً ثالثاً؛ إذ لا يجوز أن يقدّر خلافٌ فيه، إذا قال أحلتك بالألف الذي لك عليّ، على فلانٍ بالألف الذي لي عليه، فادعاء الوكالة بعد هذا الامتناع (4) لا وجه له، فالوجه أن نقول: إن صرح كما صورناه آخراً، فلا وجه إلا القطعُ بتصديق المأمور. وإن أطلق الحوالةَ، ولم يقيدها بهذه القيود الصريحة، فإذْ ذاك ينقدح ذكر القولين.
__________
(1) في الأصل: التعرض.
(2) جملة: " إن القول قول الآمر " في محل الخبر: (ظاهر) ، وليست مقول القول.
(3) زيادة اقتضاها ورود لفظ (صريحاً) هكذا بالنصب.
(4) كذا، وكأنها مقحمة، لا مكان لها في السياق.(6/527)
التفريع:
4267 - إن قلنا: القول قولُ المأمور في ثبوت الحوالة، فلا كلام. وإن قلنا: القولُ قول الآمر في نفي الحوالة، فإذا نفاها، فقد اختلف أصحابنا فيما رتبه صاحب التقريب: فمنهم من قال: إذا نفى الحوالةَ، انقطعت علائقها بالكلية. وهذا هو القياس على هذا القول. والوجه الثاني - أنه يكون بمثابة حوالة فاسدةٍ، فلا يُرفع حكم الحوالة من كل وجه؛ للفظ الحوالة. وهذا كما يثبتُ الضّمان في البيع الفاسدِ، ويثبت في الكتابة الفاسدة بعضُ أحكام الكتابة الصحيحة.
فإن قلنا: إن سبيله سبيلُ الحوالة الفاسدة، فإذا كان المحال عليه سلَّم المال إلى المحتال، فهل يبرأ بالتسليم إليه [ممّا عليه؟] (1) فعلى وجهين ذكرهما: أحدهما - أنه يبرأ بالدفع إليه، والآمر يُطالب المحتالَ. والثاني - لا يبرأ بالدفع إلى المحتال؛ فإنه لم يكن سبيلُه سبيلَ الوكالة المحضة، ولم تصح الحوالةُ أيضاًً؛ فعلى هذا يطالِبُ الآمرُ المحَالَ عليه بحقه، ثم المحالُ عليه يسترد من المحتال ما سلمه إليه.
وهذا عندي بُعدٌ بحقه. والوجه أن نقول: إذا نفينا الحوالةَ ثبتت قضية الوَكالةِ؛ فإن الأمر بقبض المال من المحال عليه متفق عليه، والنزاع في وجهه. وقد ذكر المتداعيان وجهين، فإذا انتفت الحوالة، وصدقنا الآمر، فالوَجْه ثبوتُ الوَكالةِ، وعلى هذا يبرأ المحالُ عليه بما دفعه إلى المأمور.
وما ذكرناه صورةٌ واحدةٌ في الاختلافِ، مع جريان لفظ الحَوالة.
4268- فلو كان النزاع على العكس، فقال الآمر: أردتُ لفظَ الحوالة، وقال المأمور: ما قبلتُ الحوالة، وإنما قبلت الوَكالة، قال الأصحاب: قياسُ المزني أن القول قولُ المأمور، فإنّ الأصل بقاءُ طَلِبته على الآمر. وعلى قياس ابن سريج القول [قولُ] (2) من يُثبت الحوالةَ كما ذكرناه، تمسكاً باللفظ. فإن قيل: قَصْدُ الآمر فيما زعم مُطابقٌ للفظه الصريح، فهلاَّ قطعتم بتصديقه؟ قلنا: الأمرُ كذلك. ولا تتم الحوالة إلا بقبول المحتال، وقد زعم أنه نوى قبولَ الوكالة، فعاد التردُّدُ في أن الاعتبارَ بالقصد، أوْ بظاهر اللفظ.
__________
(1) ما بين المعقفين غير مقروء في الأصل.
(2) زيادة من المحقق.(6/528)
فصل
4269- ذكر المزني صوراً ظاهرةً في الحوالة، نذكرها على وجهها. قاك: لو أحال زيدٌ عمراً على بكرٍ، بما له عليه من الحق، ثم أحال بكرٌ عمراً على خالدٍ، ثم أحاله خالدٌ على جعفرَ، فذلك جائز. ولو أحال زيدٌ عمراً على بكرٍ، ثم عمرو أحال خالداً على بكرٍ، ثم خالدٌ أحال عبدَ الله على بكرٍ، فهذا جائز. وقد تعدد المحتال في هذه الصورة والمحال عليه واحد، وفي الصورة الأولى تعدد المحال عليه، والمحتال واحد.
فرع:
4270- إذا جنى على إنسانٍ؛ والتزم الأرشَ، وجُني عليه، فاستحقَّ الأرشَ، فإن كان الأرشان دراهم أو دنانير، جازت الحوالة. وإن كان الأرشُ إبلاً من الجانبين، فهذا ينبني على ما قدمناه من أن الحوالة هل تجري في غير ذواتِ الأمثالِ؟ فإن قلنا: إنها تختص بذواتِ الأمثال، فالحوالة فاسدة في مسألتنا هذه. وإن قلنا:
إنها تجري في كل موصوفٍ مستقرٍّ في الذمة، فهل تجري في إبل الدية؟ فعلى وجهين مَبْنِيَّيْنِ على أن الاعتياض عن إبل الدية هل يجوز؟ وفيه قولان سبق ذكرهما.
وسيأتي استقصاؤهما في الديات، إن شاء الله تعالى.
فرع:
4271- إذا ضمن مالاً بإذن المضمون عنه، وأحال المضمونَ له بذلك المال الذي ضمنه على واحد، رجع على المضمون عنه، كما لو أدّاه. ولو ضمن رجلان ألفاً عن واحدٍ، كل واحد منهما ضمن نصفَه، ثم ضمن كل واحد من الضّامنين عن صاحبه، فلو أحال أحدهما المضمونَ له بالألفِ على واحدٍ، فإنه يرجع بخمسمائةٍ على المضمون عنه، وبخمسمائةٍ على صاحبه الضامن. وهذا لا إشكالَ فيه.
فرع:
4272- قال المزني: وإذا باع رجل عبداً من رجل بألف درهم، فأحال البائع رَجُلاً له عليه ألف على المشتري، ثم تصادق البائع والمشتري على أن المبيع كان حُرّاً، ينقطع العقد بينهما، ولا يُحكم ببطلان الحوالةِ في حق ذلك الثالث، إلا أن يصدِّقَهما، فإن لم يصدقْهما، فلا يُقبل قولُهما عليه (1) . وليس كما لو رد المشتري
__________
(1) ر. المختصر: 2/227.(6/529)
العبدَ بعيبٍ قديم؛ فإنا قد نقول في وجهٍ غريب: إن الحوالةَ ترتفع، والفرق أن الرد واقعٌ لا سبيل إلى إنكاره، وهو أمرٌ منشأ، والمتبايعان فيما نحن فيه أخبرا عن حرية المبيع، والخبر يتردَّد بين الصدق والكذبِ، فلو صدقهما المحتال، قطعنا ببطلان الحوالةِ، والمسألة في هذا الطرفِ تنفصل عن الرد بالعيب أيضاًً؛ فإن الأصح بقاء الحوالة وإن جرى الرد؛ فإنا نقدر الحوالة معاوضة برأسها، متعلقة بحق ثالث، فلا يمتنع تقدير بقائها، وإن ارتفع العقد؛ فإنَّا لا نتبين بالرّد أن [الثمن] (1) لم يكن قبل الرد. وإذا تصادقوا على حرية المبيع، تبينا أن أصل الثمن لم يثبت، فلا نتصور ثبوتَ الحَوالة؛ فإن بقاء الشيء فرْعٌ على ثبوتِ أصله، وهذا واضح.
فرع:
4273- قال صاحب التقريب: إذا أحال الرجل غريمَه على رجلٍ، ثم بان المحال عليه عبداً، فلا يخلو: إما أن يبين أنه عبد لأجنبي، أو يبين أنه عبد للمحيل، فإن بان أنّه عبد لأجنبي، وكان لهذا المحيل [على هذا العبد] (2) دينٌ في عنقه، يتبعه به إذا عَتَق. قال صاحبُ التقريب: الحوالة صحيحة، وهي بمثابة الحوالة على معسرٍ في ذمته دين، ثم المحتال يطالبُ العبدَ بعد عتقه.
فلو لم يعلم كونَه عبداً، ثم علم، فهذا يترتب على الفصل المقدم، في أن المحتال إذا اطلع على إعسار المحال عليه، وما كان عالماً بإعساره عند الحوالة، فإن قلنا: للمطّلع على إعسار المحال عليه الخيارُ، فلأن يثبت الخيار هاهنا أولى. وإن قلنا: لا خيار للمطلع على الإعسار، ففي هذه الصورة وجهان؛ إذ طريان العتق ليس ممَّا يُعدّ من ميسور الأمور، واليسار والإعسار متعاقبان.
وما ذكرناه فيه إذا كان العبدُ لأجنبي، فأمّا إذا كان العبد للمُحيل، قال صاحب التقريب: إن كان كسوباً، ينبغي أن يتعلق الدين بكسبه، وإن كان غير كسوبٍ، كان متعلِّقاً بذمتهِ.
4274- وهذا كلام مختلط لا أصل له. والوجه أن نقول: لا يتصوّر أن يكون للسيد على عبده دينٌ يتعلق بذمته، أو في كسبه، إلا في صورةٍ واحدةٍ، سنشير إليها
__________
(1) في الأصل: اليمين. وهو تصحيفٌ ظاهر.
(2) مطموس بالأصل، والمثبت تقدير منا.(6/530)
آخراً. وإذا كان كذلك، فحوالة [السيد على] (1) مملوكه باطلة، إلا أن تجوز الحوالة على من لا دين عليه، وقد ذكرنا أن تحقيق ذلك يرجع إلى [الضمان] (2) ، وكأن العبد ضمن عن سيده، وسيأتي شرح ذلك في كتاب الضمان، إن شاء الله.
ثم إذا صحَّ، نُظر: فإن كان الضمان بإذن السَّيد، تعلق بكسب العبد إن كان له كسب، وإن لم يكن، فبذمته، ومن ضرورة كل ما يتعلق بالكسب أن يتعلق بالذمة.
ويتصور للسيد على عبده دينٌ يتعلق بذمته على أحد الوجهين، وذلك أن من ثبت له دين على عبد الغير، ثم ملكه، ففي وجهٍ يقسط الدين عن ذمته بالملك الطَّارىء، وفي وجهٍ يبقى عليهِ يتبعه به إذا عَتَق، فعلى هذا يمكن تقدير حوالة السيد على عبده.
فرع:
4275 - إذا أحال رجلاً له عليه ألفُ درهم، على رجلين، على كل واحد منهما خمسمائة درهم، وشرط في الحوالة أن يكون كل واحد منهما كفيلاً ضامناً عن صاحبه.
قال ابن سريج: في صحة هذه الحوالة وجهان مبنيان على أن المعاوضة مغلّبة على الحوالة، أو معنى الاستِيفاء: فإن غلّبنا المعاوضة، لم يمتنع شرطُ الوثيقة فيها، وإن غلبنا الاستيفاء، امتنع ذلك، فإن [الضمان إنما] (3) يشترط في المعاوضات. وهذا التردّد يلتفت على أنه هل يثبت في الحوالة خيار المجلس والشرط (4) .
* * *
__________
(1) مطموس تماماً في الأصل.
(2) مطموسة في الأصل. وأثبتناها تقديراً منا.
(3) ما بين المعقفين مطموس في الأصل.
(4) " تم الجزء العاشر من نهاية المطلب بحمد الله تعالى وحسن توفيقه وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم وشرف وكرَّم وعَظّمَ يتلوه في الجزء الحادي عشر إن شاء الله تعالى كتاب الضّمان".(6/531)
وبلائي كله من شيئين:
أحدهما - أن بني الزمان ليس يأخذهم في طلب الغايات، لا بل في طلب حقيقة البدايات ما يأخذني، فلا يهتدون لما أبغيه من مداركها، بل أخاف أن يتبرموا بها ...
الإمام
في نهاية المطلب(7/4)
كتاب الضمان (1)
4276- يشترط في الضمان رضا الكفيل، ولا يشترط رضا الأصيل.
وفي المضمون له وجهان، والأكثرون على أنه لا يشترط، فإن شرط، ففي القبول وجهان، فإن شرط، فلا بد من أن يتصل بالضمان، كاتصال القبول بالإيجاب في سائر العقود، وإن شرط الرضا دون القبول، جاز أن يتقدم على الضمان تطويل الزمان، فإن تأخر عنه، فهو كالإجازة، إن جوّزنا وقف العقود.
وإن لم يشترط رضاه، ولا قبوله، فهل يشترط أن يعرف الضامن المضمون له، والمضمون عنه؟ فيه أوجه: أحدها - يشترط معرفتهما، والثاني - لا يشترط، والثالث - يشترط معرفة المضمون له وحده، واختاره في التقريب، والرابع - يشترط معرفة المضمون عنه وحده.
فصل
في رجوع من أدى دين إنسان بغير ضمان
4277- إذا أدى دين إنسان بغير إذنه برىء، ولا يرجع عليه اتفاقاً، وإن أداه بإذنه، فإن شرط الرجوع، رجع اتفاقاً، وإن لم يشترط، رجع، على الأصح.
وفي اقتضاء الهبة المطلقة للثواب أقوال: ثالثها - التفرقة بين أن يكون الواهب ممن يستثيب مثله من المتهب أو لا يكون، فرتَّب أبو محمد الرجوع بالدين على وجوب الثواب، وجعل الدين أولى بالرجوع، وقال: لا يمتنع تخريج وجه ثالث يفرق فيه بين
__________
(1) من كتاب الضمان إلى (فصلٌ في الشهادة بالإقرار من غير تعرّض لشروطه) من كتاب الإقرار لم يقدّر لنا الحصول عليه من النهاية، ولا من مختصر ابن أبي عصرون، فرتقنا هذا الفتق من مخطوط مختصر النهاية للعز بن عبد السلام.(7/5)
أن يكون المؤدي ممن يسترفد من الأمراء أو لا يكون.
ولو أَوْجر إنساناً طعاماً في غير المخمصة، لم يرجع.
فصل
في إجبار المضمون له على قبول الدين من الضامن
4278- إذا لم نشترط رضا المضمون له، فأدى الضامن الدين، فإن ضمن بغير إذن الأصيل، لم يجبر المضمون له على قبول الدين، بل هو بالخيار: إن شاء، [طالب] (1) ، وإن شاء، ترك، كما لو أدى دين غيره بغير إذنه؛ فإن رب الدين لا يجبر على القبول.
وإن ضمن بإذن الأصيل، فإن أثبتنا الرجوع، أجبر المضمون له على القبول، وإن لم نثبت الرجوع، ففي الإجبار على القبول وجهان، كالوجهين فيمن أمر بقضاء الدين من غير ضمان، وقلنا: لا رجوع. والأشهر الإجبار؛ لوقوع الأداء بإذن المدين.
ولو قال: أدّ ديني بشرط الرجوع، فلا خلاف في الإجبار على القبول.
فصل
في رجوع الكفيل على الأصيل
4279- للضمان والأداء أحوال: الأولى - أن يقعا بغير إذن الأصيل؛ فلا رجوع اتفاقاًً.
الثانية - أن يقعا بإذنه، فيرجع عليه اتفاقاً، سواء شرط الرجوع، أو لم يشترط، ويحتمل إذا لم يشترط الرجوع أن يخرج على الوجهين فيما إذا قال للأجنبي: "أدّ ديني"، ولم يشترط الرجوع، وقد رمز إليه في التقريب، ولم يصرح به أحد من الأصحاب.
__________
(1) في الأصل: "طلب" والمثبت من تصرف المحقق في ضوء عبارة الرافعي والنووي، ونصها: "إن ضمن بغير إذن المضمون عنه (الأصيل) ، فالمضمون له بالخيار: إن شاء طالب الضامن، وإن شاء تركه" (ر. الشرح الكبير -بهامش المجموع- 10/359، والروضة: 4/241) .(7/6)
الثالثة - أن يضمن بالإذن، ويؤدي بغير إذن، فثلاثة أوجه: الثالث (1) - إن أجبر على الأداء، ولم يقدر على مؤامرة الأصيل، رجع. وإلا، فلا، وهو الذي ذكره العراقيون، ومال إليه في التقريب، واختار الأمام (2) أنه يرجع في الحالين.
الرابعة - أن يضمن بغير إذن، ويؤدي بالإذن، فوجهان: رتّبهما الإمام على ما إذا أمر الأجنبي بأداء الدين، ولم يشترط الرجوع، والضامن أولى بألا يرجع.
فصل
في إشهاد الضامن على الأداء وتقصيره فيه
4280- إذا أشهد الضامن على الأداء عدلين، أو عدلاً وامرأتين، رجع، وفي المستورَيْن وجهان، وفي العدل الواحد ليحلف معه وجهان، ولا وجه للمنع؛ إذ لم يشترط أحد من الأصحاب إشهاد من يتفق العلماء على قبول شهادته.
فإذا أدى ولم يُشهد، فإن كذبه الأصيل وربُّ الدين، فلا رجوع، وإن صدقه الأصيل، وكذبه رب الدين، وحلف، فوجهان. وإن كذبه الأصيل، وصدقه المدين، سقط الدين (3) ، وفي الرجوع وجهان: فإن منعنا الرجوع إذا ترك الإشهاد، فادعى أنه أشهد عدلين وماتا، فإن صدقه الأصيل، رجع على الأصح، وإن كذبه، فوجهان.
وإن قال: أشهدت زيداً وعمراً، فكذباه، فهو كترك الإشهاد، على ما دلّ عليه كلام الأصحاب. وإن قالا: لا نُبْعد أنا شهدنا ونسينا، ففيه تردد، وهو أولى بالمنع مما إذا ادعى موت الشهود.
فرع:
4281- إذا منعنا الرجوع عند ترك الأشهاد، فأدى الدين مرّةً أخرى، وعلم الأصيل بذلك، فالأصح أنه يرجع. وهل يرجع بما غرمه أولاً، أو بما غرمه ثانياً؟ فيه وجهان، يظهر أثرهما عند اختلاف صفتهما.
__________
(1) الوجهان: الأول والثاني مفهومان من التفصيل في الثالث، وهما: يرجع بإطلاق، ولا يرجع بإطلاق.
(2) يعني به العزُّ بن عبد السلام: إمامَ الحرمين، فتنبه لما سيتكرر من ذلك.
(3) لأن تصديق المدين أقوى من البينة، قاله النووي (ر. الروضة: 4/272) .(7/7)
فصل
فيما يرجع به
4282- الضامن إذا أدى مثل دين الأصيل، رجع به، وإن أدى عنه عوضاً، كالثوب والعَرْض، برىء الأصيل، ورجع بقيمة العَرْض إن ساوت قيمة الدين، وإن زادت، لم يرجع بالزيادة اتفاقاً، وإن نقصت، برىء الأصيل من جميع الدين، وهل يرجع الكفيل بجميع الدين، أو بقيمة العَرْض؟ فيه وجهان: يتفرع عليهما ما إذا ضمن ذمي عن مسلم ديناً لذمي، فصالحه عنه بخمر، ففي صحة الصلح -لتعلقه بالمسلم- وجهان. فإن قلنا: يصح، فللمضمون له أن يطالب الضامن، وإلا فلا. فإن قلنا بالمطالبة، فهل للضامن الرجوع؟ فيه وجهان: إن قلنا: يرجع بالدين، رجع هاهنا
لتحصيله براءة الأصيل.
فرع:
4283- إذا أمر أجنبياً بقضاء دينه، فأدى عرضاً، برىء المدين، وفي
الرجوع أوجه: أصحها - الرجوع كالضامن، والثالث - إن قال: أدِّ ديني، رجع. وإن قال: أدِّ الدنانير التي عليَّ، لم يرجع.
فرع:
4284- إذا ادّعى على حاضر وغائب أنهما اشتريا عبده وقبضاه، ثم ضمن كل واحد منهما ما على الآخر، وأقام بينة بذلك، حكم عليهما بالثمن. فإن أداه الحاضر وأراد الرجوع على الغائب، نُظر، فإن لم ينكر، بل وكل عند الدعوى، أو سكت عن الجواب، فله أن يرجع، وإن صرح بالإنكار: فإن أصرّ عليه، فلا رجوع، وإن اعترف بعد ذلك، فلا رجوع على أقيس الوجهين. وإن سكت بعد قيام البينة، فلم يقر، ولم ينكر، ففيه تردُّدٌ لأبي محمد.
فرع:
4285- إذا ضمن الصداق، ودفعه إلى الزوجة، فارتدت قبل الدخول، رجع ما قبضته إلى ملك الزوج، ولم يكن لها إبداله، فإن رجع الضامن على الزوج، فله إبدال ما رجع إليه؛ لأن ثبوت ملك الزوجة فيه يتضمن ملك الزوج له بطريق القرض.(7/8)
فرع:
4286- إذا أثبتنا الرجوع قبل الأداء، فضمن عن زيد بشرط أن يضمن له عمرو ما يرجع به، ففي صحة الضمان وجهان: فإن قلنا: لا يصح، فلا شيء على الضامن. وإن قلنا: يصح، ثبت الشرط، فإن لم يف به، تخير الضامن في فسخ الضمان، كالبيع إذا شُرط فيه الضمان، وهذا بعيد؛ إذ الضمان لا يقبل الخيار، ولا نعرف خلافاً أن الضمان بشرط الخيار باطل.
فرع:
4287- إذا ضمن العبد دين سيده بإذنه، ثم أداه بعد العتق، ففي رجوعه به وجهان، كالوجهين في رجوعه بالأجرة إذا أعتقه وهو مأجور.
فصل
في رجوع الضامن قبل الأداء ومطالبته بالتخليص
4288- إذا أراد الضامن الرجوع قبل الأداء، أو عاوض الأصيل عما يرجع به، فهل له ذلك؟ فيه وجهان، وإن أبرأ (1) ، فوجهان. وقال الأمام: إن أثبتنا الرجوع قبل الأداء، صح الإبراء، وإلا، فقولان؛ إذ وُجد سبب الوجوب ولم يجب. وإن أدى الصحاح عن المكسر، لم يرجع بالصحاح اتفاقاً. وإن أدى المكسر عن الصحاح، لم يرجع إلا بالمكسر، بخلاف الرجوع بعوض للقرض الناقص؛ لأن هذا استيفاء، وليس بمعاوضة، ولو طولب الضامن بالدين، فله أن يطالب الأصيل بتخليصه، وأبعد من منع ذلك، وقال الإمام: إن أثبتنا الرجوع قبل الأداء، فله طلب التخليص، وإن لم نثبت الرجوع قبل الأداء، فالمذهب أنه يطالب بالتخليص إن طولب، وليس له ذلك قبل الطلب.
ولو حُبس الضامن، وأثبتنا له الرجوع قبل الأداء، فله أن يطلب حبس الأصيل، وأبعد من منع ذلك.
__________
(1) "وإن أبرأ": أي أبرأ الأصيل.(7/9)
فصل
في ضمان المجهول وما لم يجب
4289- إذا ضمن مجهولاً لم يجب، ولم يوجد سبب وجوبه، فإن لم يمكن الوصول إلى معرفته، لم يصح، مثل أن يقول: "ضمنت لك شيئاً"، وكذا لو قال للمدين: "ضمنت عنك شيئاًً".
وإن أمكن التوصل إلى معرفته، فقولان: القديم - أنه يصح، ولا يطالب إلا بعد الوجوب، وليس له الفسخ بعد الوجوب، وفيما قبله وجهان. فإذا قال: "ضمنت لك ثمن ما تبيعه من فلان"، صح، وإن لم يعين المبيع، ويصير بذلك ضامناً لجميع الأثمان. وإن قال: "إذا بعتَ من فلان، فأنا ضامن للثمن"، فإنه يختص بثمن العقد الأول.
وأما معرفة المضمون له، فإن شرطناها في الدين الثابت، فهاهنا أولى، وإن لم نشرطها ثَمَّ، ففيه هاهنا -لكثرة الغرر- وجهان، ثم تجري الأوجه الأربعة، واشتراط المعرفة هاهنا أولى؛ لما فيه من غرر الجهل، وعدم الوجوب.
ولو علق ضمان الدين الواجب بوقت معلوم، أو بقدوم إنسان، جاز على هذا القول.
وأما القول الجديد -وبه الفتوى- فيشترط في معرفة الدين ما يشترط في معرفة الأثمان، ويصح إن عرفه الضامن وجهله المضمون عنه، وإن جهله المضمون له، فوجهان مأخوذان من اشتراط قبوله ورضاه، ولو عرفه الأصيل، والمضمون له، وجهله الضمين، لم يصح الضمان.
ولو ضمن ما لم يجب، بطل، إن لم يوجد سبب وجوبه، وإن وجد، فقولان مشهوران، وذلك مثل أن يضمن نفقة الزوجة لمدّة معلومة، مما يستقبل من الزمان.
وإن ضمن الثمن في مدة الخيار، صح وجهاً واحداً، وفيه احتمال، لا سيّما إن بقَّينا الملك للبائع.(7/10)
وإن قال: "ضمنت من درهمٍ إلى عشرة"، وجوّز كون الدين درهماً، وكونه عشرة، ففي ضمان العشرة وجهان.
وفي ضمان الجُعل قبل العمل طريقان: إحداهما - المنع. والثانية - على القولين فيما وجد سبب وجوبه ولم يجب.
ولا يصح ضمان نجوم الكتابة؛ إذ لا تلزم بحال. وأبعد من خرجها على القولين فيما لم يجب، ووجد سبب وجوبه، وفي ضمانها على القديم وجهان.
فرع:
4290- إذا جوزنا للضامن تغريم المضمون عنه قبل أداء الدين، فضمن عن زيد بإذنه على أن يضمن عن زيد بهذا الضمان عمرو، ففي صحة الضمان بشرط الضمان وجهان: فإن قلنا: لا يصح، فسد الضمان، ولا شيء على الضامن. وإن قلنا: يصح، فإن وفَّى المضمون عنه، وأعطى الضامن، فذاك، وإن لم يف، تخير الضامن بين فسخ الضمان والبقاء عليه، كنظيره في الضمان المشروط في البيع. وهذا بعيد عن وضع الضمان؛ فإن البيع يقبل الخيار، والضمان لا يقبله. ولا خلاف أن شرط الضمان مفسد للضمان.
فصل
في ضمان الدَّرَك ويسمَّى ضمان العهدة
4291- ومقصوده التزام الثمن إن ظهر استحقاق المبيع، ويصح على القديم، وفي الجديد أقوال: ثالثها - لا يصح إلا بعد قبض الثمن، والمذهب الصحة على الإطلاق، والقولان الآخران مخرجان.
وإن ضمن سلامة الثمن عن الزيف، ففيه الأقوال، وكذلك ضمان نقصان صنجة (1) الثمن عند ابن سُريج على الأقوال. فإن جوزنا ضمان عهدة الاستحقاق،
__________
(1) صنجة الثمن: هي المعيار الذي يوزن به، وكانت تصنع من معدنٍ كالنحاس أو الحديد، وتوضع في كِفة الميزان مقابل الشيء الموزون في الكفة الأخرى، وذلك قبل ظهور الموازين الرقمية في أيامنا هذه.(7/11)
فصرح بالضمان إن فسد البيع بشرط مفسد، أو بفوات شرطٍ معتبر أو إن رد المبيع بالعيب، فوجهان. والفرق إمكان التحرز من المفسدات، وتعذره عن الاستحقاق.
فإن جوزنا ذلك، ففي اندراجه في مطلق ضمان العهدة وجهان. ولو خص الضمان بالاستحقاق، اختص به اتفاقاً، وكذلك إن خصه بغيره من المفسدات، إن جوزنا ذلك. ولا يعلّق ضمان العهدة بالإقالة إن جعلت بيعاً، وكذلك إن جعلت فسخاً، على الجديد؛ إذ لا استناد لها إلى العقد، بخلاف الرد بالعيب.
فرع:
4292- إذا استُحق بعض المبيع، أُخذ الضامن بما يقابل المستحق. وفي فساد البيع في الباقي قولان: فإن أفسدناه، ففي تعلق الضمان به الوجهان في عهدة المفسدات، وإن لم نبطله، فاختار الفسخ، ففيما يقابل المفسوخ وجهان، كالرد بالعيب.
فرع:
4293- إذا ضمن نقص الصنجة، فادعى البائع نقص الثمن، فالقول قوله، وليس له مطالبة الضامن إلا ببيّنةٍ أو اعتراف. هذا قياس الأصول. ولو كان الثمن عشرة، فادعى المشتري إقباضها، وقال البائع: إنما قبضت تسعة، فالقول قول البائع، وله مطالبة المشتري، وليس له أن يطالب الضامن، على أقيس الوجهين.
فصل
في ضمان الحال مؤجلاً، والمؤجل حالاً
4294- إذا ضمن المؤجل بما يساويه في الأجل، صح، وأيهما مات، حلّ ما عليه دون ما على صاحبه. فإن مات الأصيل، فأراد الكفيل إلزام رب الدين بقبضه من التركة، أو أن يُبرئه من الضمان، فله ذلك على أظهر الوجهين. وإذا حل المؤجل، أو كان أصل الدين حالاً، فضمنه مؤجلاً، لم يثبت الأجل اتفاقاً، ويفسد الضمان على أظهر الوجهين، ولو ضمن المؤجل حالاً، ففي صحة الضمان وجهان.
فإن قلنا: يصح، ففي ثبوت الأصل وجهان، مأخذهما أن الشرط الفاسد هل يفسد الضمان؟ فإن أثبتنا الأجل، فهل يثبت تبعاً، أو مقصوداً؟ فيه وجهان، يظهران عند موت الأصيل. فإن جعلنا الأجل تابعاً، حلّ الدين على الضامن، وإلا فلا.(7/12)
فرع:
4295- إذا ضمن الصداق ضماناً موجباً للرجوع، ودفعه إلى الزوجة، فارتدت قبل الدخول، فإن كانت العين باقية، رجعت إلى الزوج، وليس لها إبدالها، فإذا رجع الضامن على الزوج، لم يلزمه أن يرد عليه تلك العين.
ولو ضمن العبد عن سيده ديناًً بإذنه، فأداه بعد العتق، ففي رجوعه به على السيد وجهان، كالوجهين في رجوع العبد المأجور بأجرة مثله إذا عَتَق في أثناء المدة.
فرع:
4296- إذا جوزنا ضمان المؤجل حالاً، فأطلق الضمان، ودَيْن الأصيل مؤجل، فهل يثبت الضمان حالاً أو مؤجلاً؟ فيه وجهان: أظهرهما - ثبوت الأجل، وعلى هذا هل يشترط أن يعرف تأجُّل الأصل، ومقدار الأجل؟ فيه على الجديد وجهان.
فصل
في تعليق الإبراء والضمان
4297- إذا علق الضمان بمجيء زمنٍ معلوم، أو قدوم إنسانٍ، بطل على الجديد، ويجري الإبراء مجرى الضمان في صور الخلاف والوفاق، فالإبراء عما لم يجب باطل إن لم يوجد سببه، وإن وجد، فقولان، ولا يصح الإبراء من المجهول، وإن أبرأ من درهم إلى عشرة، ففيه الوجهان، ولا يجوز تعليقه على الجديد كالضمان.
وقال الإمام: إن لم يشترط فيه القبول، ففيه احتمال، وإن علقه، فقد أجازه الإمام على القديم.
فرع:
4298- إذا جوزنا تعليق الضمان، وجهالة المضمون، فقال: بع عبدك من فلان بعشرة، وأنا ضامن لها، أو قال: إذا بعته منه بعشرة، فأنا ضامن لها، فباعه منه بعشرين، لم يلزمه العشرة الزائدة، وفي لزوم العشرة الأخرى خلاف، يجري فيما إذا باعه بخمسة، ومذهب ابن سُريج أنها لا تلزمه لمخالفة البائع لشرطه.
__________
(1) سبق إيراد هاتين المسألتين المذكورتين في هذا الفرع في فرعين منفصلين.(7/13)
ولو قال: أقرضه عشرة على أني ضامن، فأقرضه خمسة عشر، لزمه ضمان العشرة اتفاقاًً؛ لأن أجزاء القرض لا يجمعها عقد رابط، بخلاف البيع؛ فإنه إذا باعه بخمسة عشر، فقد باع ثلثيه بعشرة، فلم يوجد الشرط، ولو أقرضه خمسة، فقد قطع ابن سُريج بلزومها، وهو خلاف قياسه.
فرع:
4299- يجوز ضمان إبل الدية، والإبراء عنها في الجديد والقديم، سواء ثبت للضامن الرجوع أم لم يثبت، وهل يرجع الضامن بالإبل، أو بقيمتها؟ يحتمل وجهين، كما في بدل القرض.
فصل
في الاختلاف في قبض الأصالة أو الكفالة
4300- إذا باع عبده من اثنين على أن يضمن كل واحد منهما ما على صاحبه من الثمن، بطل البيع. ولو كان له على اثنين خمسة خمسة، فضمن كل واحد منهما ما على الآخر، فله أن يطلب العشرة ممن شاء منهما، فإن أخذها من أحدهما رجع على الآخر بخمسة، إن كان الضمان موجباً للرجوع، وإن أخذ من كل واحد منهما خمسة الأصالة، برئا جميعاً، وإن أخذ من كل واحد خمسة الكفالة، ففي تراجعهما أقوال التقاصّ، فإن قال الدافع: إنما أقبضتك الخمسة الأصلية، وقال القابض: بل خمسة الكفالة، فقد برىء من الخمسة الأصلية، وهل للقابض أن يطالبه بخمسة الكفالة؟ فيه خلاف، من جهة أنه اعترف بقبضها، وقطع القفال بجواز المطالبة؛ لأنه بنى قوله الأول على ظن وتخمين - قال الإمام: إذا أمكن استناد الأقارير إلى اليقين، فرجع المقر، وقال: أخطأت، لم يقبل. وإن لم يمكن الاستناد إلى اليقين، فإن ابتدأ بالإقرار من غير خصومة، ثم رجع، لم يقبل رجوعه. وإن أقر في أثناء الخصومة، أو تقدم الإقرار، ثم وقعت الخصومة، ففيه الخلاف المتقدم.
ولو ادعى استحقاق المبيع، فقال المشتري: كان ملكاً للبائع إلى أن اشتريته منه، ثم ثبت الاستحقاق، فإنه يرجع بالثمن على البائع، وأبعد من منع الرجوع.(7/14)
فصل
فيمن يصح ضمانه ومن لا يصح
4301- ويصح الضمان من كل مكلف مطلق (1) ، ولا يصح من المبذر، وإن أذن الولي، ويصح من المرأة، وإن لم يأذن الزوج، وضمان المكاتب كتبرعه، والعبد إن لم يكن مأذوناً، فإن ضمن بإذن السيد، صح، وتعلق بكسبه على الأصح، وقيل: يتعلق بذمته. وإن ضمن بغير إذن، ففي الصحة وجهان: فإن صححناه، طولب بعد العتق، وإن كان مأذوناً، فإن لم يأذن السيد في الضمان، فهو كغير المأذون. وإن أذن فيه، فإن لم يكن عليه دين، فإن قيد الإذن بالأداء مما في يده، تعلق به اتفاقاً.
وإن أطلق، فالأصح أنه يتعلق بكسبه، وبما في يده، فإن علقناه بما في يده، أو أذن له في الأداء مما في يده، فإن كان محجوراً عليه بالفلس بالتماس الغرماء، فلا يتعلق الضمان بما في يده؛ لتعيُّنه لديون المعاملة.
وإن لم يكن عليه حجر، وكان بيده عشرون وعليه من المعاملة عشرة، والضمان عشرون، ففي تعلق الضمان بما في يده أقوال: أحدها - لا يتعلق؛ لأنه كالمرهون بدين المعاملة، فليس له التصرف فيه إلا بالمعاملة. والثاني - يتعلق تعلق دين المعاملة، فيوزع على قدر الدينين. والثالث - أنا نقدم دين المعاملة، ونصرف الفاضل إلى الضمان، فلو كان بيده عشرون، وعليه من المعاملة والضمان عشرون عشرون، صرفت العشرون إلى المعاملة، ولو أبرىء عن دين المعاملة، ففي صرف العشرين إلى الضمان قولان، هما الأول والأخير في الصورة السابقة.
فرع:
4302- إذا لزمته ديون معاملة ولا حجر، فحكم تبرع السيد بما في يده حكم الضمان المأذون فيه، فإن منعناه، فالإعتاق لما في يده من الرقيق كإعتاق الراهن على ما ذكره أبو محمد.
__________
(1) "مطلق": أي غير محجورٍ عليه.(7/15)
فرع:
4303- إذا لم نعلق العهدة بالسيد، ونفذنا تبرعه، فتبرعه (1) كالاسترداد، ولو استرد ما في يده بعد ثبوت دين المعاملة، لانقلبت عهدة الدين إليه.
فصل
في ضمان السيد عن عبده
4304- إذا ضمن الدين المعلق بذمة عبده، صح، مأذوناً كان أو غير مأذون، ولا يرجع إن ضمن بغير إذنه، وإن ضمن بإذنه بحيث يستحق الرجوع لو كان الأصيل حراً، فلا يرجع إلا بعد العتق.
وإن ضمن دين المعاملة، فإن أداه في الرق، فلا رجوع؛ لأنه استخلص بأدائه ما في يد العبد من ماله، وأبعد من أثبت له الرجوع، وبناه الإمام على الوجهين في المأذون إذا أدى دين المعاملة بعد العتق. فإن قلنا: يرجع على السيد، فلا رجوع للسيد هاهنا. وإن قلنا: يرجع ثَمَّ، ففي رجوع السيد هاهنا وجهان.
وأما المكاتب، فيصح ضمان ما عليه لغير السيد، ولا يصح ضمان نجومه على المذهب، وإن كان للسيد عليه دين معاملة، فضمنه أجنبي، فإن قلنا: لا يسقط إذا رق، صح الضمان، وإن قلنا: يسقط، فهو كالنجوم.
فصل
في كفالة الأبدان
4305- المقصود من كفالة البدن التزام إحضار المكفول به إن كان ممن يلزمه الحضور، وفي صحتها طريقان:
إحداهما - قولان، والثانية -وهي المذهب- القطع بالصحة، فيصح التكفل بإحضار من ثبت عليه الدين، ومن لم يثبت عليه إن لم يقر، ولم ينكر، وإن أنكر بعد الدعوى، فالأصح جواز الكفالة؛ لأنه يلزمه الحضور إلى انقضاء الخصومة،
__________
(1) "فتبرعه كالاسترداد": أي تبرع السيد بما في يد العبد كاسترداده من يده.(7/16)
ولا يصح التكفل إلا بمن يلزمه الحضور عند الاستعداء (1) ؛ إذ يستحيل أن يلزم الكفيل ما لا يلزم الأصيل. فلو تكفل رجل بالبصرة بإحضار رجل هو ببغداد، لم يصح، وإن قال: إذا قدم من بغداد، فقد كفلت ببدنه، وجوزنا التعليق، فابتداء لزوم الإحضار عند القدوم.
فرع:
4306- إذا ادعى زوجية امرأة، صحّ التكفّل بإحضارها؛ إذ يلزمها الحضور إذا دعيت.
فرع:
4307- إذا ضمن ردّ الآبق، لزمه السعي في ردّه، فإن مات، لم يلزمه شيء على المذهب، وأبعد من أوجب قيمته.
فرع:
4308- إذا تكفل برد المغصوب من يد الغاصب، صح، إذا جوّزنا كفالة البدن، وهو أولى، لأن الرد مقصودٌ ماليّ بخلاف إحضار من يلزمه الحضور؛ فإن فاتت العين، ففي وجوب قيمتها على الكفيل وجهان: فإن قلنا: تجب، فهل تجب قيمة يوم التلف، أو أقصى القيم الواجبة على الغاصب؟ فيه وجهان.
ويجوز ضمان الأعيان المضمونة، كالمستعار، والمأخوذ على وجه السَّوْم.
ولا يصح ضمان الودائع في أيدي الأمناء؛ إذ لا يلزمهم ردّها، وإنما يلزمهم التخلية بينها وبين مستحقيها، والمعنيّ بضمان الأعيان المضمونة القيام بمؤنة ردّها، ومقاساة ما فيه من مشقة وكلفة.
وإذا لزم البائع تسليم المبيع، جاز ضمانه، بمعنى وجوب القيام بتسليمه، فإن تلف في يد البائع، ففي تغريم الكفيل وجهان: فإن قلنا: يغرم، غرم الثمن على المذهب، وأبعد من قال: يضمن الأقل من القيمة أو الثمن.
__________
(1) "عند الاستعداء" أي عند طلب إحضاره، يقال: استعديت الأمير، أو القاضي على الظالم، فأعداني، أي طلبت منه النصرة، فنصرني، فالاستعداء طلبك التقوية والنصرة، والاسم منه "العدوى"، والفقهاء يقولون مسافة "العدوى" -وكأنهم استعاروها من هنا- وهي المسافة التي يصل فيها صاحبها الذهاب بالعودة في عَدْوٍ واحد (ر. المصباح) وبهذا يفهم الكلام الآتي عن عدم جواز كفالة إحضار رجل بالبصرة من هو في بغداد؛ فهو فوق مسافة (العدوى) ، وتقدر بمسافة القصر.(7/17)
فصل
فيما يلزم الكفيل
4309- يلزم الكفيل إحضار الأصيل إذا أمكن، وعليه مؤونة الإحضار، فإن امتنع، حُبس حَبْسَ الممتنع من أداء الحق، فإن تعذر الإحضار بغيبة الأصيل إلى مكان لا يُعْدى عليه فيه، أو مات، وعسر إحضاره، فإن لم يثبت عليه شيء، فلا طلبة على الكفيل اتفاقاً. وإن ثبت الحق، فهل يطالب الكفيل بالدين، أو بالأقل من الدين ودية الأصيل، أو لا يطالب بشيء؟ فيه أوجه: أقيسها، وأصحها آخرها، ولا غرم عليه مهما (1) تمكن من الإحضار.
ولا تصح كفالة البدن إلا برضا الأصيل، وأبعد من لم يشترطه، ولا يشترط رضا المكفول له، على الأصح، كضمان المال، ولو كفل برضا المكفول له، دون رضا الأصيل، فهل يملك إحضار الأصيل؟ فيه وجهان، من جهة أن الإذن في الكفالة كالتوكيل في الإحضار، ولو قال: كفلت ببدن فلان، حمل على الكفالة الشرعية، وكذلك الإقرار المطلق بسائر العقود، فإن طلب المكفول له الإحضار، فقال الكفيل: لم يأذن الأصيل في الكفالة، فهل يملك إحضاره؟ فيه وجهان؛ إذ المطالبة بالإحضار كالتوكيل.
فصل
في بيان الموضع الذي يحضر فيه الأصيل
4310- إذا لم يبين موضع الإحضار، صح التكفل قولاً واحداً، ولزم الإحضار في محل الضمان، وإن قيد الإحضار بمكان معين، لزم الإحضار فيه، ومهما أحضره الكفيل برىء من الضمان، إن تمكن منه المكفول له، وإن لم يتمكن منه لتعززه، وتمنعه، فالضمان بحاله.
__________
(1) "مهما" بمعنى (إذا) .(7/18)
وإن أحضره بالقرب من محل الإحضار المطلق أو المقيد، فإن كان في إحضاره إلى موضع الإحضار كلفة ومؤونة، لم يبرأ، وإن لم يكن، ففي البراءة وجهان.
والاعتبار في ذلك بالكُلفة والمؤونة، دون المسافة. ولو أحضره، فقال المكفول له: لا أقبله الآن، ولا أتسلمه، برىء اتفاقاًً.
فصل
في تعليق الكفالة
4311- إذا قال: إذا جاء رأس الشهر، فقد كفلت ببدن فلان، ففي صحة الكفالة وجهان.
وإن علّق بما يتقدم ويتأخر كالحصاد، فوجهان مرتبان، وأولى بالبطلان.
وإن علقها بمجهول قد يكون، وقد لا يكون، كقدوم إنسان، فوجهان مرتبان.
ولو نجز الكفالة، وعلق الإحضار على شهر، صح على المذهب، ولم يلزم الإحضار إلا بعد الشهر، فإن أحضره قبل الشهر، برىء عند المزني، وقال ابن سريج: لا يبرأ، إن كانت بيّنة المكفول له غائبة، أو كان دينه مؤجلاً بالشهر، وإن لم يكن شيء من ذلك، ففي إجباره على القبول وجهان، كما في الإجبار على قبض الدين المؤجل.
ولو نجز الكفالة، وعلق الإحضار بالحصاد، أو بقدوم زيد، ففيه خلاف مرتب على صور التعليق، وصور التنجيز، وأولى بالصحة من صور التعليق، وهذه الصور بأعيانها جارية في تعليق التوكيل.
فصل
في دعوى الكفيل براءة الأصيل
إذا ادعى الكفيل أن المكفول له قد أبرأ الأصيل، فالقول قول المكفول له. فإن نكل عن اليمين، فحلف الكفيل، برىء من الضمان، ولا يسقط دين الأصيل؛ إذ لا نيابة في اليمين. وإن حلف المكفول له، طالب الكفيل بإحضار الأصيل. فإن قال الأصيل: ليس لك إحضاري؛ لإقرارك ببراءتي، فعلى الخلاف المذكور في(7/19)
المؤاخذة بالإقرار الواقع في أثناء الخصام، إذا قامت البينة بخلافه، والوجه القطع بإيجاب الإحضار؛ إذ لو لم يثبت، لاتخذ الكفلاء ذلك ذريعة إلى إسقاط الضمان.
وإنما ينقدح الخلاف في الرجوع بعد الغرم إن كانت الكفالة بمال.
ولو قال الكفيل: تحققت أن كفالتي وقعت بعد الإبراء، ففي سماع دعواه للتحليف وجهان يجريان في كل عقد يُدّعى بعده ما يتضمن إبطاله.
فصل
في الكفالة بأهل الحدود، وبإحضار الموتى
4312- إذا تكفل بإحضار من لزمه حد، فثلاثة أوجه: ثالثها - تخصيص الصحة بحقوق الآدمي، كحد القذف، والقصاص. ولو مات المكفول به، ففي انقطاع الكفالة بموته وجهان؛ إذ جميع العقود والتصرفات مقيدة بحال الحياة.
وتصح الكفالة ببدن الميت، حيث يجب إحضاره مجلس الحكم؛ لإقامة الشهادة على عينه، وصورته، وكذلك تصح بإحضار الصبيان لإقامة بينة أو غير ذلك، ويعتبر فيه إذن القوّام.
فرع:
4313- إذا كفل ببدن إنسان، فمات المكفول له، ففي انقطاع الكفالة أوجه: أقيسها - أنها لا تنقطع بموته، بل تبقى لورثته، كما في ضمان الديون.
وثالثها -وهو ضعيف- إن كان في التركة وصي أو كان على الميت دين، استمرت الكفالة، وإلا فلا.
فصل
فيمن كفل به جماعة، وأحضره أحدهم
إذا كفل ثلاثة بإحضار زيد، فأحضره أحدهم، فقد برىء، وفي براءة صاحبيه قولان مخرجان، بخلاف أداء الدين في الضمان؛ فإنه المقصود الأقصى، وكفالة الأبدان وسيلة، لم يحصل مقصودها بمجرد الإحضار.
ولو كفل به ثلاثة، وكفل كل واحد بإحضار صاحبيه، صح، فإن أحضره أحدهم(7/20)
برىء، وبرىء الآخران عن ضمان المحضِر، وفي براءتهما عن أصل الضمان القولان. فإن قلنا: لا يبرآن، وهو القياس، فعلى المحضِر إحضار صاحبيه، والكفالة باقية عليهما، فلو حضر زيد بنفسه، ثم غاب، فينبغي ألا يبرأ الكفلاء بذلك، بخلاف تأدية الدين؛ إذ لا مقصود وراءه.
فصل
في ألفاظ الكفالة وما تضاف إليه
4314- إذا قال: كفلت ببدن فلان، أو عليَّ إحضاره، أو التزمت إحضاره، أو أنا بإحضاره كفيل، أو قبيل، أو قال: ضمنت، صح. وإن قال: أُحضره، لم يصح؛ لأنه وعد، وإن قال: كفلت ببدنه، أو وجهه، صح، ولعل الرأس في معنى الوجه.
وإن أضاف الكفالة إلى عضو آخر، كاليد والرجل، فأوجه: أحدها - يصح في كل عضو يضاف إليه الطلاق. والثاني - يختص بالوجه. والثالث - يبطل إلا أن يضاف إلى مالا يقوم البدن إلا به، كالرئة، والظهر، والكبد، والقلب، وهذا بخلاف الطلاق؛ فإنه قويٌّ سارٍ، ولذلك لو حصره في شهر، سرى إلى ما بعده، ولو حصر الكفالة في شهر، اختصت به اتفاقاًً.
فصل
في الشهادة على الضمان
4315- إذا ادعى عشرة، ولم يذكر سببها، فشهد بها شاهد، وشهد الآخر بخمسة، ثبتت الخمسة اتفاقاًً، ولو ادعى عشرة من ضمانٍ أو غيره، فشهد بها شاهدان، وقال أحدهما: قد قضى منها خمسة، فهل تثبت العشرة أو خمسة؟ فيه وجهان. فإن أثبتنا العشرة، فللمدين أن يحلف مع شاهد القضاء بشرط إعادة الشهادة بعد ادعاء القضاء، وأبعد من أجاز الحلف من غير إعادة الشهادة. فإن حلف، سقطت(7/21)
الخمسة، ولو ادعى ضمان عشرة، فشهد أحدهما بذلك، وشهد الآخر بضمان خمسة، فإن حلف، استحق العشرة، وإن لم يحلف، لم يستحقها. وهل يستحق خمسة؟ فيه وجهان.
ولو ادعى عشرة عن ضمان، فشهد أحدهما أنه ضمنها عن زيد بن خالد بن بكر، وقال الآخر: ضمنها عن رجل أعرف عينه دون نسبه، ثبتت العشرة. وأبعد من قال: لا تثبت.
ولو ادعى أنه ضمن له عن زيد بن خالد، فشهد اثنان أنه أقر بضمان العشرة، ولم يتعرضا لاسم الأصيل، فالمذهب ثبوت العشرة. وأبعد من طرد فيها الوجه المذكور في الصورة السابقة.
***(7/22)
كتاب الشركة
4316- لا يصح من الشِّرَك إلا شركة العِنان، وأبعد من أجاز شركة الأبدان، وهي الاشتراك في الصنائع والأعمال، وشركةُ الوجوه، كالقراض الفاسد، وهي أن يكون لأحدهما مال، وللآخر خبرة بالتجارة ووجهٌ عند التجار، فيشتركان على أن يكون المال من أحدهما والعمل من الآخر، ولا يسلم إليه المال.
وشركة المفاوضة أن يتشاركا في الغرم والغنم من غير خلط في المال.
وتجوز شركة العنان بالنقدين، وفي غيرهما من العروض وجهان، والفتوى بالصحة.
ولا خلاف أنها لا تتم إلا بخلط المال بشيوعٍ حكمي، أو خلط حسّي، لا يمكن معه التمييز في الحس والعِيان، فلا يتأتى ذلك بين الصحيح والمكسر، والعتيق والحادث، والمختلف النقوش والألوان، وإن تعذر التمييز لكثرة المخالط. فإن اختلف الجنس، فلا شركة، كالسمسم مع الكتان.
وإن اتحد الجنس واختلف النوع: كالبرّ الأصفر مع الأحمر، فوجهان: والأوجه المنع.
وإن استوى عرْضان في الوصف والقيمة، والْتبس أحدهما بالآخر التباساً مأيوس الزوال، فلا شركة (1) .
__________
(1) عبارة الرافعي والنووي عن هذه الصورة أكثر وضوحاً؛ حيث قالا: "ولو كان لهما ثوبان اشتبها، والتبسا عليهما، لم يكلف ذلك لعقد الشركة؛ فإن المالين متميزان، لكن أبهم الأمر بينهما". (ر. الشرح الكبير -بحاشية المجموع- 10/412، روضة الطالبين: 4/278) .(7/23)
فصل
فيما يشترط في شركة العنان
4317- حقيقة الشركة اختلاط المال، ويشترط الإذن في التصرف من الجانبين، أو من أحدهما، فإن كان الإذن من أحدهما، فللآخر أن يتصرف في نصيب نفسه، وهل يملكان التصرف بقولهما: "اشتركنا"؟ فيه وجهان. ولا يشترط التساوي في قدر المال، خلافاً للأنماطي، وفي اشتراط علمهما بقدر المالين وجهان. وشرط العلماء في الشركة أن تعقد بعد اختلاط المال، فإن تقدم العقد على الخلط، لم يصح إذا وقع الخلط بعده. وفيما قالوه نظر؛ لأن إذنهما توكيل من الطرفين، فإن علقاه على الخلط، خرج على تعليق التوكيل. وإن نجزاه، فالوجه القطع بصحته واستمراره إلى ما بعد الخلط، إلا أن يشترطا إفراد كل واحد من النصيبين بالتصرف.
فرع:
4318- إذا كان التصرف من الجانبين، لم يشترط انفراد أحدهما باليد، وإن كان من أحدهما، فوجهان، بناهما الإمام على الخلاف في شرط الزيادة (1) للمنفرد بالتصرف، فإن منعناه، لم يشترط انفراده باليد، وإن أجزناه، فإن لم يشترطاه، فلا يشترط الانفراد باليد، وإن شرطاه، ففي الانفراد باليد الوجهان.
فرع:
4319- إذا باع أحد الشريكين العبد بإذن شريكه، مع جهلهما بقدر ملكهما، ففي صحة البيع وجهان: فإن قلنا: يصح، تعدى الابهام إلى الثمن.
فصل
في توزيع الربح والخسارة على رؤوس الأموال
4320- وضع الشركة على توكيل بالتصرف مضافٍ إلى التصرف بالملك. ولا تتغير بها القواعد، فيجب توزيع الربح والخسارة على رؤوس الأموال، فإن شرطا تفاوتاً، فإن كان التفاوت في الخسران، بطل الشرط، كأن كان في الربح، فإن استويا في
__________
(1) أي الزيادة في الربح مقابل العمل.(7/24)
العمل، وقدر المال، بطل الشرط، وإن استويا في المال، وتفاوتا في العمل، فإن شرطت الزيادة لمن زاد عمله، ففي ثبوتها وجهان: أقيسهما - الثبوت؛ لمقابلتها بالعمل، فإن قلنا: لا تثبت، فانفرد أحدهما بالعمل، أو بزيادة فيه، فإن صرحا بالتوزيع على الأموال، فالعامل متبرع، وإن أطلقا الشركة على أن ينفرد أحدهما بالعمل، أو بزيادة فيه، فهل يلحق بمن استعمل إنساناً، ولم يُسمّ له أجرة؟ فيه وجهان والفرق جريان العادة بتسامح الشركاء في الأعمال.
فصل
في حكم الشرط الفاسد
4321- إذا فسد اشتراط التفاوت في الربح، ففي فساد الشركة وجهان. والمعظم على نفي الفساد؛ للاتفاق على تنفيذ التصرف وتوزيع الأرباح على رؤوس الأموال.
وقال أبو علي: يظهر أثر الفساد في حكمٍ واحد، وهو إذا استوى المال، وشرطت الزيادة لمن زاد عمله، ثم فسدت الشركة بسبب من الأسباب؛ فإنه يستحق أجرة المثل لما عمل على نصيب شريكه، ولا يستحق الزيادة المشروطة، ولو فسدت الشركة، وقد زاد عمل أحدهما، ولم يشترط له شيء، فالأصح أنه لا أجرة له، فإن أوجبناها، فقد ظهر الفرق بين الشركة الصحيحة والفاسدة. ولو استويا عملاً ومالاً، لم يظهر فائدة الفساد إلا على منع التقاصّ، ولا خلاف أن الشركة لو صحت، لم يطالب أحدهما بأجرة عمله، ولا بزيادة.
وتنتفي الشركة بانتفاء الخلط، لأنه حقيقتها، ولذلك أبطلنا شركة الأبدان.
ولو اشتركا في التصرف، وشرط انفراد أحدهما باليد، فالشرط فاسد، وفي فساد الشركة الوجهان.(7/25)
فصل
في فسخ الشركلة وانفساخها
الشركة عقد جائز، لأنها توكيل من الجانبين، أو من أحدهما، فأيهما مات أو جن، انفسخت، فإن أراد الوارث تجديدها، فليعقدها مع الشريك الباقي، وينعزلان بقول أحدهما: فسخت الشركة.
ولو عزل أحدهما الآخر، اختص العزل بالمعزول، وبقي العازل، واقتسامهما المال كاقتسام سائر الشركاء، فإن خلطا رديئاً من أموال الربا بجيد، كزيت رديء بجيد، قسم بينهما على ما ذكرناه في باب التفليس (1) ، ولو كان لهما دين على رجلين، فأراد أن ينفرد كل واحد منهما بما على أحد الرجلين، فإن جوزنا بيع الدين من غير المدين، فليشتر كل واحد منهما نصيب الآخر من الدين على أحد الرجلين بعين، فيصير مختصاً به.
فصل
في الشركة في المنافع
لا تصح الشركة بالمنافع لامتيازها، فلو كان لرجل بغل ولآخر راوية، فشاركهما من يسقي بالبغل والراوية على أن يكون الماء بينهم، لم تصح الشركة، فإذا استقى ماء مباحاً، فأصح الطريقين أنه إن نوى نفسه، اختص بالماء اتفاقاً، وعليه أجرة البغل والراوية، وكذلك يلزمه الأجرة إن استقى من ماءٍ يملكه.
وإن نوى نفسه وصاحبيه، فهل يشاركانه في الماء؟ فيه وجهان: فإن منعنا المشاركة، لزمته الأجرة، وإن أثبتنا المشاركة، فالماء بينهم أثلاثاً. وقيل:
__________
(1) والطريقةُ أن يباع الجميع، ويأخذ كل شريك قدر نصيبه وقيمته؛ لأن صاحب الأجود لو أخذ الكليل أو الوزن الذي شارك به بغير زيادة، يكون قد نقص نصيبه بدخول الأردأ فيه، وان أخذ زيادة يكون قد أربى.(7/26)
يشتركون فيه على قدر الأجور، فإن ثلَّثناه، فلا تراجع، وإن وزعناه على الأجور، فيرجع كل واحد على كل واحد من صاحبيه بثلث أجرة المثل لما بذل. والطريقة الثانية - فيه للشافعي ثلاثة نصوص-: أحدها - اختصاص الماء بالمستقي، والثاني - يتشاركون فيه، ويتراجعون بالأجور ثُلثاً ثُلثاً، والثالث - التقسيط على قدر الأجور.
وهذا تخليط لا يصح.
فرع:
4322- إذا استأجر رجل بغلاً وراوية ومُسقياً لاستقاء ماء مباح، فإن أفردت كل منفعة بإجارة، صح، ووقع الماء للمستأجر -وإن نوى الأجير نفسه- لاستحقاق منافعه بالإيجار، وكذلك الإيجار لإحياء الموات، وتملك المباحات.
وإن استؤجر الجميع في صفقة واحدة، ففي صحة الإجارة قولان: فإن قلنا: تصح، وزع المسمى على قدر الأجور. وإن قلنا: لا تصح، فالذي ذكره أبو علي: أن الماء للمستأجر -وإن نوى الأجير نفسه- لأن منافعه مضمونة بالأجرة، وقال الإمام: إذا نوى نفسه، فالوجه إيقاع الماء له، وسقوط أجرته، وعليه أجرة البغل والراوية.
ولو كان لأحدهم بغل، وللآخر بيت رحا، ولآخر حجرها، فشاركهم رابع على أن يعمل والحاصل بينهم، لم يصح. فإن استؤجر العامل لطحنٍ في الذمة، فطَحَنه، استحق المسمى، وعليه الأجرة لأصحابه، ولذلك لو غصب البيت والحجر والبغل، أو استأجر ذلك إجارة صحيحة أو فاسدة؛ فإنه يستحق المسمى، وعليه أجرة المثل، في الغصب والإجارة الفاسدة، والمسمى في الإجارة الصحيحة، وإن أوقع الإجارة على عين الطاحن والبيت والرحا، صح إن كان في عقودٍ، وإن كان في عقدٍ، فقولان. فلو ألزم ذمم الأربعة طحن حب معلوم، صح اتفاقاًً. فإن وقع الطحن بالأعيان التي اشتركوا عليها، استحقوا المسمى أرباعاً، ولكل واحد على أصحابه ثلاثة أرباع أجرة المثل.(7/27)
فصل
في الشركلة بالمنافع والأعيان
4323- ولو كان لأحدهم أرض، وللآخر بَذْر (1) ، وللثالث آلات الحرث، فشاركهم رابع على أن يزرع ويكون الزرع بينهم، لم يصح، والزرع لمالك البذر، وعليه لأصحابه كمال أجور الأمثال.
ولو كان لأحدهم ورق، وللآخر بزر القز (2) ، فشاركهما آخر، على أن يعمل ويكون الفَيْلَج (3) بينهم، لم يصح. ولو اشتركوا في البزر، أو باع أحدهم بعض الدود من صاحبيه، اشتركوا في الفَيْلَج، ولا نظر إلى التفاوت فيما يخرج من الدود، كما لا ينظر في البذر المشترك إلى التفاوت فيما يُنبت وما لا ينبت.
فرع:
4324- إذا استؤجر لتملكِ مباحٍ، كالاحتطاب والاحتشاش، جاز، وحصل الملك للمستأجر، وإن توكل في ذلك، فوجهان، خصهما الإمام بما إذا قصد بذلك موكله، وقطع بأنه إن قصد نفسه، ثبت الملك له، وفي احتطابه بغير إذنه تردّد، والظاهر حصوله للوكيل.
__________
(1) البَذْر: بفتح الباء وبالذال: المبذور، تسمية بالمصدر، أو فَعْل بمعنى مفعول، قيل: البذرُ للحبوب كالحنطة والشعير، والبزر: بفتح الباء وكسرها وبالزاي، للرياحين والبقول، وهذا هو المشهور في الاستعمال. ونقل عن الخليل: كل حب يبذر فهو بذر وبزر، أي التسوية بينهما. (ر. المصباح) .
(2) "بزر القز": بيض دودة القز، و"الورق": المراد به ورق التوت الذي هو طعام دود القز.
(3) الفيلج: وزان زينب، ما يتخذ منه القز، وهو معرب، والأصل: فيلق، كما قيل: كوسج، والأصل: كوسق، ومنهم من يورده على الأصل، ويقول: "الفيلق". (ر. المصباح) .(7/28)
فصل
في الاختلاف
4325- إذا أراد أحدهما ردّ المبيع بالعيب، وأراد الآخر إمساكه، ففي انفراده بالردّ قولان، وإن غبن أحدهما في الشراء، فإن كان الثمن في الذمة، فالعقد له، وإن كان بالعين، لم يصح في نصيب شريكه، وفي نصيبه قولان، ولو تنازعا عيناً في يد أحدهما، فادعى الخارج أنها للشركة، وقال ذو اليد: بل هي لي، فالقول قول ذي اليد، مع يمينه، فإن كان المال عشرين، وفي يد أحدهما عشرة، يدعي أنها حصلت له بالقسمة، وأنه سلم إلى الآخر عشرة، فالقول قول الخارج في نفي القسمة، وقول الداخل في الخمسة التي ادعى ردّها إليه من جملة العشرة، وتقسم العشرة التي في يده بينهما، بعد أن يحلف كل واحد منهما على نفي ما ادعى عليه.
فصل
في أمانة الشركاء
4326- الشركاء أمناء يقبل قولهم في دعوى الرد والتلف، ومن ادعى منهم خيانة مطلقة، لم تسمع، وإن فصَّل، فالقول قول المدعى عليه مع يمينه.
ولو باع أحدهما عيناً، فادعى المشتري أنه أقبضه الثمن، فصدقه الشريك الآخر، وأنكر البائع، فالقول قول الشريك البائع، فإن حلف، فله طلب حصته دون حصة شريكه؛ لاعتراف الشريك ببراءة المشتري، وليس للشريك أن يساهم البائع فيما يأخذه من الثمن، فإن شهد الشريك على البائع بالقبض، لم تُقبل شهادته فيما يخصه، وفيما يخص البائع قولا تبعيض الشهادة، وإن نكل البائع عن اليمين، عرضت على المشتري، فإن حلف، برىء، وإن نكل، فهو كحلف البائع، هذا إذا تنازع البائع والمشتري.
ولو تنازع البائع والشريك، فالقول قول البائع، فإن نكل، عرضت اليمين على(7/29)
الشريك، فإن نكل، كان كحلف البائع، وإن حلف، طلب حصته من البائع، وللبائع مطالبة المشتري بحصته من الثمن على قول الكافة، وقيل: لا يطالب؛ لأن نكوله مع اليمين كبينة أو إقرار، وأيهما كان، امتنع به الطلب والخصام، وهذا غريب منقاس، ومقتضاه أن الخصام لو وقع في الابتداء مع المشتري، فحلف المشتري يمين الرد بعد نكول البائع، فينبغي أن يطالب الشريك بحصته من الثمن؛ لأن يمين الرد كبيّنة أو إقرار.
ولو أذن أحدهما للآخر في البيع، وقبض الثمن، ولم يأذن الآخر في ذلك، فادعى المشتري دفع الثمن إلى الآذن، وصدقه المأذون، فالقول قول الآذن، وللمأذون طلب حصته من المشتري بكل حال؛ لأنه لم يأذن لشريكه في القبض، وليس له طلب نصيب الآذن، فإذا قبض المأذون نصيب نفسه، فلشريكه أن يساهمه فيه عند المزني، وقال ابن سُريْج: لا يساهمه؛ لأنه اعترف بانعزاله بالقبض، قال الشيخ (1) : وإن انعزل المأذون كما قال ابن سريج، فينبغي أن يخرج ذلك على ما إذا باعا شيئاًً صفقة واحدة، وقبض أحدهما نصيبه من الثمن، فهل يساهمه الآخر؟ فيه وجهان، ولو شهد البائع على الإذن بقبض جميع الثمن، قبلت شهادته؛ إذ لا جَرَّ فيها.
فصل
في بيع الجزء الشائع وغصبه والإقرار به
4327- إذا قال أحد الشريكين للمشتري: بعتك نصفي، أو حصتي من هذا العبد، صح، وانحصر البيع في نصيب البائع، وإن قال: بعتك نصف العبد، فهل ينحصر أو يشيع في النصفين؟ فيه وجهان: فإن أشعناه، بطل بيع ربع العبد، وفي الربع الآخر قولا تفريق الصفقة.
__________
(1) "الشيخ": هنا هو " الشيخ أبو علي" كما صرح بذلك الرافعي، وإذا قيل الشيخ أبو علي، فهو السِّنجي. (ر. الشرح الكبير -بهامش المجموع- 10/450) .(7/30)
وإن أطلق أحدهما الإقرار بالنصف، فإن أشعنا البيع، فالإقرار أولى، وإن حصرناه، شاع الإقرار في أصح الوجهين، وإن أطلق، فروجع، فحصر الإقرار في نصيب الشريك، قُبل عند أبي محمد، واستبعده الإمام.
وقد نص الشافعي، واتفق أصحابه على تصور غصب الجزء الشائع؛ إذ الغصب إزالة يد محقة، وإحداث يد عادية، فإذا أزال الغاصب يد الشريك، وأحل نفسه محله، ولم يتعرض لنصيب الآخر، فقد غصب النصف، فإن باعه، خرج على الوقف، وإن باع الجميع هو والشريك الآخر من شخص واحد، فقد قطعوا بالنفوذ في حصة الشريك البائع، لاتفاقهم على تعدد الصفقة بتعدد البائع، وقيل: لا يصح لاشتمال القبول على الصحيح والفاسد مع اتحاده، وهذه هفوة.
***(7/31)
كتاب الوكالة
4328- تصح الوكالة بإجماع العلماء، ولا تصح فيما لا تطرق للنيابة إليه، كعبادات الأبدان، إلا الحج، وركعتي الطواف، إذا أتى بهما الأجير على الحج، وفي الصوم خلاف، ويصح في كل ما تتطرق إليه النيابة، ويقع معظم نفعه للموكِّل، كالعقود، والفسوخ، والطلاق، والعتاق، والرجعة، والنكاح، والصلح، والسلم، والرهن، والحوالة، والقبوض المستحقة، والعواري، وقبول الهبات.
وفي تملك المباح وجهان.
ولا يجوز في الإيلاء؛ لأنه يمين، ولا نيابة في الأيمان، وفي الظهار جوابان، مأخذهما تغليب الطلاق أو الأَيْمان.
والوجه القطع بالتصحيح في الإيصاء والضمان.
ولا يجوز في الغصب، والعدوان، فإن غصب ما أذن له فيه، اختص بأحكام الغصب والضمان.
ويجوز في إثبات القصاص، وحد القذف اتفاقاً، وكذلك في استيفائهما إن حضر الموكِّل، وإن غاب، ففيه -لاختلاف النص- طريقان: إحداهما - المنع، قولاً واحداً، والثانية - فيه قولان.
والمذهب منع التوكيل في طلاق امرأة سينكحها.
وأصح الوجهين بطلان التوكيل في الإقرار، وبه قطع المراوزة. فإن قلنا: يصح، فقال: أقرّ عني لزيد بعشرة، لم يكن التوكيل إقراراً، وإن عزله، امتنع الإقرار.
وإن قلنا: لا يصح، فالأصح أن نفس التوكيل إقرار، فإن قال: أقر عني لفلان بشيء، فهو كقوله: "له علي شيء". ولو قال: أقرّ لزيد، واقتصر، فوجهان، وقطع العراقيون بأنه ليس بإقرار؛ إذ يحتمل أقر له بالفضل والإحسان.(7/33)
فصل
فيمن يجوز توكيله وتوكُّله
4329- كل من ملك مباشرة أمرٍ لنفسه، وهو مما يقبل النيابة، جاز أن يوكل فيه، وكل من باشر لنفسه أمراً يقبل النيابة، جاز أن يتوكل فيه، وهذا مطرد، واستثنى من عكسه مسائل، فالعبد والسفيه لا يتزوجان بغير إذن السيد والولي، ولو توكّلا فيه بغير إذنٍ، جاز، على المذهب. ولو توكلا في الإنكاح، لم يجز، على المذهب؛ إذ لا يملكانه بالإذن. وفي توكيل المرأة في طلاق غيرها وجهان. والمحجور بالفلس لا يتصرف في أمواله، وإن توكل فيما لا عهدة فيه، جاز، وكذلك فيما فيه العهدة، على المذهب.
فصل
في التوكيل في المخاصمة
4330- لا يشترط في التوكيل في الخصام رضا الخصم، رجلاً كان، أو امرأة، مخدَّرة أو غير مخدّرة، ويدخل تحت لفظ الخصومة إقامة البينة، وسماعُها وجرحُها، واستزكاؤها، فإن استثنى الموكل شيئاً من ذلك، لم يملكه الوكيل، ولا يملك المصالحة وإن جاز التوكيل في صلح المعاوضة والحطيطة. وليس له أن يقبض الحق إذا ثبت، على أصح الطريقين؛ إذ لا يعدّ من الخصام، وقيل: فيه وجهان. ولو توكل في قبض حق، فاحتاج إلى الخصام، فهل له ذلك؟ فيه وجهان.
وإن توكل بالمخاصمة من الجانبين، لم يجز، على الأصح، فإن أجزناه، فليفرغ من حجة أحدهما، ثم يشتغل بحجة الآخر.
وإن وكل اثنين بالمخاصمة، فهل لأحدهما الانفراد؟ فيه وجهان: فإن منعناه، لم يخاصم إلا بحضور صاحبه؛ إذ الغرض بذكرهما حضورهما للتشاور والتناصر، وكذلك الغرض من كل ما يفوض إلى اثنين على الإطلاق، كالوكالة والوصاية، وسائر التصرفات.(7/34)
ولو توكل في مجلس الحكم، فله أن يخاصم فيه، وفي غيره من المجالس في الاستقبال. وقال القاضي: يتخصص ذلك بمجلس التوكيل، على مصطلح القضاة، وليس الأمر كما قال.
وإن وكله في مخاصمة خصمائه، ولم يعين، صح في جميع الخصومات، وقيل: لا يصح؛ للجهالة.
وإن ادعى أنه وكيل زيد في مخاصمة عمرو، فإن صدقه عمرو، ثبتت بذلك الوكالة، واطرد الخصام، فإن كان عمرو مدعىً عليه، لم يملك الامتناع من المخاصمة إلى أن يحضر الموكل، وإن كان مدعياً، فله أن يخاصم وأن يؤخر، وإن كذبه عمرو، لزمه الإثبات، وتسمع بينته في حضور الخصم، وغيبته. وقال القاضي: لا بد أن ينصب القاضي من يسمع البينة في مسألة الغيبة؛ إذ لا بدّ من مقضي عليه بخلاف القضاء على الغائب؛ فإنه يتوجه إليه، بخلاف الوكالة؛ فإن إثباتها ليس قضاء على الغائب، ولا أصل لما قال.
فرع:
4331- إذا وكل في مجلس القضاء، فللوكيل أن يخاصم عنه ما دام حاضراً، وإن غاب، لم يخاصم، إلا أن يعرفه الحاكم بنسبه، ولا يجوز أن يعتمد على قوله في نسبه، فإن أقام بينة بالنسب، سُمعت، ووجب استزكاؤها. وقال القاضي: جرت عادة القضاة بترك الاستزكاء هاهنا؛ اعتماداً على ظاهر عدالة الشاهدين، وهذا مما تفرّد به؛ فلا تخرم به الأصول.
فصل
في قبول الوكالة
لا تفتقر الإباحة إلى قبول المباح له، ولا تبطل برده، وفي اشتراط قبول الوكالة طريقان: إحداهما - وجهان. والثانية - لا يشترط إن كانت بلفظ الأمر، وإن كانت بلفظ التوكيل، أو الإنابة أو التفويض، فوجهان، ولو عزل نفسه، انعزل اتفاقاًً.
فرع:
4332- إذا شرطنا القبول، فلا بدّ أن يتصل بالإيجاب، فإن كتب الغائب بالوكالة، نفذت على الأصح.(7/35)
فإن لم نشترط القبول، نفذ تصرف إلوكيل، وإن شرطناه، فليقبل إذا عرف مضمون الكتاب.
فصل
في تعليق الوكالة
4333- إذا علق الوكالة بصفةٍ أو وقت، فطريقان: أحسنهما - أنا إن شرطنا القبول، لم يجز، وإن لم نشترطه، جاز. والثانية - إن لم نشترطه، جاز، وإن شرطناه، فوجهان.
ولو عجل التوكيل، وعلّق التصرف، جاز، ولا يتصرف قبل وجود الشرط، ورمز العراقيون إلى تخريجه على الخلاف في التعليق، إذ لا معنى للوكالة مع منع التصرف.
فرع:
4334- إذا منعنا التعليق، فتصرف الوكيل بعد وجود الشرط، نفذ عند العراقيين، ويسقط المسمى، ويجب أَجْر المثل. ومنعه أبو محمد، وقال الإمام: إن وكل بصيغة التوكيل، لم ينفذ إن شرطنا القبول، وإن وكل بصيغة الأمر، نفذ إن لم نشترط القبول.
فرع:
4335- إذا لم نشترط القبول، ففي اشتراط علم الوكيل بالوكالة خلاف مرتب على العلم بالعزل، وأولى بالاشتراط، فإن شرطناه، فهل يشترط أن يقترن بالوكالة؟ فيه وجهان. فإن لم نشترط الاقتران، فتصرف قبل العلم، ففي نفوذ تصرفه قولان، كما لو باع مال أبيه على ظن حياته، فظهرت وفاته.
فصل
في العزل
4336- لا يقف العزل على القبول اتفاقاًً، ولا على علم الوكيل على الأصح، وفيه قول مخرّج. وإن مات الموكل أو جن، أو أَعْتَق العبد الذي وكَّل في بيعه، أو باعه بيعاً لازماً، ولم يشعر الوكيل، نفذ التصرف، وانعزل الوكيل.(7/36)
ولا ينعزل الحاكم قبل بلوغ الخبر؛ لما في ذلك من الضرر، وقيل: فيه القولان.
فرع:
4337- إذا لم نشترط العلم بالعزل، فتصرف الوكيل، فادعى الموكل أنه عزله قبل التصرف، لم يقبل إلا ببيّنة.
فرع:
4338- في تعليق العزل خلاف مرتب على تعليق الوكالة، والأصح الجواز.
فرع:
4339- إذا جوزنا التعليق، فقال: مهما عزلتك، فأنت وكيلي، ثم
عزله، عاد التوكيل، فإن عزله ثانياً، لم تعد الوكالة، إلا إذا قال: كلما عزلتك، فأنت وكيلي، فيتكرر التوكيل بتكرر العزل.
فإن عزله في غيبته، فإن شرطنا العلم بالعزل، فالوكالة بحالها، وإن لم نشترطه، فهل تعود الوكالة، أو تخرج على الخلاف في اشتراط علم الوكيل؟ فيه وجهان؛ لأن الوكيل قد أمن من اطراد العزل.
فرع:
4340- إذا حكمنا بعود التوكيل بعد العزل، فصادف التصرف وقت الانعزال، ففي نفوذه وجهان. وإن شككنا في ذلك، أو اختلفا فيه، فالأصل بقاء التوكيل.
فرع:
4341- إذا حكمنا بتكرر الوكالة إذا تكرر العزل، فالخلاص منها بأن يقول: كلما وكلتك، فأنت معزول.
فصل
في إقرار الوكيل على الموكل
4342- إذا توكل بالمخاصمة لمدعٍ، أو مدعىً عليه، لم يقبل إقراره عليه، ولو عدّل وكيل المدعى عليه ببينة المدعي، لم يقبل؛ لأنه يقطع الخصومة كالإقرار، وليس للوكيل أن يختار قطع الخصام.(7/37)
فصل
في التوكيل في الإبراء
4343- إذا قال: أبرأتك مما لي عليك، وهو عالم بقدره، صحّ، وإن لم يصرح بذكر المقدار، كما لو قال: بعتك بما باع به فلان، ويشترط في الإبراء معرفة الموكل لما يبرىء منه، دون الوكيل، فإذا قال: أبرأتك مما لموكلي عليك، صح، وإن جهله الوكيل، بخلاف البيع؛ فإن عهدته تتعلق بالوكيل.
فصل
في توكيل الوكيل
4344- إذا وكل إنساناً بتصرفاتٍ أو خصومة، فإن تيسّر عليه تعاطي ذلك، لم يملك التوكيل فيه اتفاقاًً، وإن عسر، فطرُقٌ: إحداهن - التجويز فيما يعسُر منه، وفي المتيسر وجهان. والثانية - المنع في المتيسر، وفي المتعسر وجهان. والثالثة - في الجميع وجهان: أحدهما - الجواز في الكل، وفيما شاء منه، والثاني - المنع في الكل، والجواز في البعض، والتعيين إليه، وهل يعتبر في العُسر عظم المشقة، أو عدم الإمكان؟ فيه وجهان.
فرع:
4345- توكيل العبد المأذون كتوكيل الوكيل، في الخلاف والوفاق، وللوصي، والمقارض، والولي المجبِر أن يوكّلوا وفي غير المجبر خلاف.
فصل
في التوكيل بإذن الموكل
4346- يجوز التوكيل بالوكالة، فإذا وكله بتصرف، وأذن له أن يوكل فيه، فله أحوال: الأولى - أن يقول: وكل عني فيما وكلتك فيه، فيكون الوكيل الثاني وكيلاً عن المالك، لا ينعزل بانعزال الأول بحال.(7/38)
الثانية - أن يقول: وكل عن نفسك، فهل يملك الأول عزل الثاني؟ فيه وجهان، يعبر عنهما بأنه وكيل عنه أو عن المالك، فإن جوزنا له عزله، انعزل بموته وجنونه، وإن منعناه من عزله، ففي انعزاله بموته وجنونه وجهان. ولو انعزل الأول بعزل المالك، ففي انعزال الثاني بذلك وجهان، اعتباراً بالموت والجنون. وإن عزل المالك الثاني، انعزل إن منعنا الأول من عزله. وإن أجزناه، فوجهان، فإن قلنا: لا ينفذ، فطريق الخلاص أن يعزل الأول، فينعزل الثاني بذلك.
الثالثة - أن يقول: وكلتك في التوكيل، ولا يزيد، فبأي الحالين يُلحق؟ فيه وجهان.
فرع:
4347- إذا جوزنا للوكيل المطلق أن يوكل، فإن أضاف إلى الموكل، فهو كالحال الأولى، وإن أضاف إلى نفسه، فهو كالحال الثالثة.
فصل
في دعوى الأمين الرد على المؤتمن
4348- كل أمين ادعى الرد على المؤتمن، فالقول قوله باتفاق الخراسانيين، وقال العراقيون: إن كان الغرض للأمين: كالمستأجر والمرتهن، فالقول قول المؤتمن.
وإن كان الغرض للمؤتمن كالوديعة والوكالة بغير جُعل، فالقول قول الأمين. وإن كان الغرض لهما كالوكيل بالجعل، فوجهان.
فرع:
4349- كل أمين تلفت العين عنده بغير تفريط منه، لم يضمن، وكل أمين ادعى التلف، فالقول قوله باتفاق الخراسانيين، وقياس العراقيين إلحاق دعوى التلف بدعوى الرد، ويحتمل أن يفرقوا بين الرد والتلف.(7/39)
فصل
في دعوى الرد على غير المؤتمن
4350- إذا ادعى الرد على غير المؤتمن، لم يقبل قوله إلا على وجه بعيد، كمن، التقط لقطة، أو أطارت إليه الريح ثوباً، فادعى الرد على المالك، لم يقبل، وكالقيم إذا ادعى الرد بعد البلوغ والرشد، فلا يقبل على الأصح، وإن ادعى النفقة في، الصغر، فإن ذكر سرفاً، ضمن، وإن ذكر اقتصاداً، قبل على الأصح.
فرع:
4351- من طولب بالدين، فله أن يمتنع من أدائه حتى يُشهد له بقبضه، وفي الوديعة وجهان. وقال العراقيون: لا يمتنع في الدين، إلا إذا كان به بينة.
فصل
في دعوى الرد على رسول المؤتمن
4352- إذا ادعى الأمين الدفع إلى الرسول، واعترف المالك بالإرسال، وكذب، الأمين في الدفع، فالقول قول الرسول في عدم القبض، وفي تغريم الأمين وجهان؛ إذ يد الرسول كيد المرسل، وقطع الإمام بالتغريم؛ لأنه ادعى الرد على غير المؤتمن، وإن كذبه الرسول، وصدقه المالك، فإن قلنا: لا يغرم إذا كذبه المالك، فهاهنا أوْلى، وإن قلنا: يغرم ثمَّ، فهاهنا وجهان مشهوران لتقصيره بترك الإشهاد.
فصل
في التنازع في إيقاع التصرفات
4353- إذا توكل بتصرف، أو أداء أمانة، أو دين، فادعى أنه فعل ذلك، وأنكره الموكل، ففي قبول قول الوكيل مع يمينه طريقان: إحداهما - ثلاثة أقوال: أحدها - لا يقبل في الجميع، لتعلقه بثالث، والثاني - يقبل حتى في أداء الديون والأمانات، والثالث - إن شابه لفظُ الدعوى لفظَ الإنشاء، قبل، وإلا فلا، فيقبل في العتق(7/40)
والطلاق، ولا يقبل في الاقتصاص. ولو قال: بعتُ، فالقياس أنه لا يقبل؛ إذ لا يستقل بالإنشاء من غير قبول.
والطريقة الثانية -وهي المشهورة- إن ادعى دفع دين أو أمانة، لم يقبل، على المذهب. وإن ادعى عقداً وهو باقٍ على الوكالة، قبل؛ لقدرته على الإنشاء.
فرع:
4354- إذا صدقه المالك على قضاء الدين، ولكنه، لم يُشهد، لزمه الضمان، إلا على قول بعيد. وقال العراقيون: إذا جحد القابض، فإن ترك الإشهاد في غيبة الموكل، ضمن، وإن تركه بحضرته، فوجهان. وإن دفع الوديعة بحضوره، لم يضمن، وفي الغيبة أوجه: ثالثها - التفرقة بين أن يدفعها في مكانٍ يتعذر فيه الإشهاد، أو يتيسر.
فصل
في التنازع في قبض الديون والأثمان
4355- إذا توكل في قبض دين، فادعى أنه قبضه، وأنه تلف في يده، فقال الموكل: لم تقبضه، فالقول قول الموكل؛ إذ لا غرم على الوكيل، ولا خصومة معه، وللموكل أن يطالب المدين بالدين، بخلاف ما لو اتفقا على الاستيفاء، ثم اختلفا في الرد أو التلف، فالقول قول الوكيل؛ فإنا لو كذبناه، لغرمناه.
ولو سلَّم المبيع بإذن الموكل، أو كان البيع بالمؤجل، فسلم المبيع، ثم ادعى أنه قبض الثمن، فالقول قول الموكل، فإن اتفقا على قبضه، ثم اختلفا في تلفه أو ردّه على الموكل، فالقول قول الوكيل؛ فإن البيع إذا كان مطلقاً أو مقيداً بالحلول، فسلّم المبيع قبل قبض الثمن، لزمه الأقل من قيمة المبيع أو الثمن، فإذا ادعى الموكل أنه سلمه، فأنكر، فالقول قول الوكيل؛ لأنا لو كذبناه، لغرمناه، وليس للموكل مطالبة المشتري بالثمن على الأصح؛ لتعلق الخصومة بالوكيل، بخلاف ما ذكرناه في الدين، فإن قلنا: لا يطالبه بالثمن، فرد المشتري المبيع بالعيب، فله طلب الثمن من المالك والوكيل، فإن غرّم الوكيل، لم يرجع على المالك؛ لأن يمينه صلحت للدفع دون الإثبات، فأشبه ما لو اختلف المتبايعان في عيب ممكن الحدوث، فحلف(7/41)
البائع، ثم انفسخ البيع بالتحالف، فليس له أن يغرّم المشتري أرش العيب الحادث اتفاقاًً، إلا أن في صورة الوكالة إشكالاً، من جهة أنا قد برّأنا المشتري من الثمن، وصدقنا الوكيل في قبضه وتلفه أو ردّه على المالك، وذلك يقتضي الرجوع على المالك، ولا يتجه منع الرجوع إلا إذا جوزنا مطالبة المشتري بالثمن.
فصل
فيمن طولب بأمانةٍ فأخّر ردها
4356- كل من طولب بأمانة، لم يجز له تأخير ردها إلا بعذر، فإن أخر بغير عذر، ضمن، وإن كان مشتغلاً بأكل، أو طهارة، أو حمّام، لم يلزمه القطع، فإن تلفت في هذه الحال، لم يضمن عند الأصحاب، وقال الإمام: إن تلفت بسببٍ تتلف به لو كانت عند المالك، لم يضمن، وإن تلفت بسبب التأخير، ضمن.
فرع:
4357- إذا ادعى المالك تأخيراً لا عذر فيه، أو اتفقا على التأخير، وادعى
المالك نفي العذر، فالقول قول الأمين.
فصل
فيمن جحد الأمانة، ثم ادعى ردّها أو تلفها
4358- إذا ادعى عليه بوديعة أو قَبْض ثمن توكل في قبضه، فأنكر، فله حالان: إحداهما - أن يقول: ما لك عندي شيء، أو لا يلزمني تسليم ما ادعيت، ثم تقوم عليه البينة بالاستيداع وقبض الثمن، فيدعي الرد أو التلف، فالقول قوله مع يمينه، فإن أضاف التلف إلى ما بعد الإنكار، لزمه الضمان.
الثانية - أن يقول: ما استودعتُ، ولا قبضتُ، فتقوم البينة عليه بذلك، فيدعي الرد أو التلف، فإن أضافهما إلى ما قبل الإنكار، لم يقبل قوله، فإن أقام بينة، لم تسمع على أظهر الوجهين؛ لأنه كذبها بالإنكار، وإن أضاف التلف إلى ما بعد الإنكار، قبل قوله، كالغاصب، وعليه الضمان. وإن أضاف الرد إلى ما بعد(7/42)
الإنكار، لم يقبل قوله، فإن أقام بيّنة، فقد سمعها الأصحاب، وخرجها الإمام على الخلاف لإكذابها بسابق الإنكار.
فصل
في مخالفة الوكيل ما يقتضيه اللفظ أو العرف
4359- إذا قال: اشتر بهذه الدراهم، وجب الشراء بعينها، فإن خالف، انصرف العقد إليه. وإن قال: اشتر في الذمة، وانقد فيه هذه الدراهم بعد اللزوم، فاشترى بعينها، لم ينعقد، على الأصح.
وليس للوكيل أن يبيع، ولا أن يشتري من نفسه اتفاقاً، وإن نص له على ذلك، فوجهان أجراهما ابن سريج في كل عقد مفتقر إلى الإيجاب والقبول، فإن أذنت المرأة لابن عمها أن يتزوجها متولياً للطرفين، أو توكل في جلد نفسه حدّاً، أو في قطع يده قصاصاً أو حداً، ففيه الوجهان، وهو بعيد في النكاح؛ لما فيه من التعبد، وفي الجلد، لما فيه من التهمة.
وإن كان عليه دين، فتوكل في قبضة من نفسه، فعلى الوجهين عند الإمام، وإن توكل في إبراء نفسه منه، صح، وفي طريقة العراق وجهان، ولا وجه للمنع إلا إذا شرطنا القبول في الإبراء.
وعلى الوكيل المطلق أن يبيع بثمن المثل حالاً من نقد البلد، فإن باع بنسيئة من مليء وفيٍّ، أو باع بالغبن أو بغير الغالب في البلد، لم يصح، والغبن هو النقص الظاهر الذي يعدّ به حاطّاً من ثمن المثل، وإن باع ما يساوي مائة بنقص درهم، صح؛ لأنه يعدّ ثمن المثل أيضاً.
وإن كان في البلد نقدان غالبان، فباع بهما أو بأحدهما، صح، وتردد بعضهم في البيع بهما، ولو باع أو اشترى بشرط الخيار، ففي الصحة طريقان: إحداهما - إن شرطه في البيع للمشتري، لم يصح، وإن شرطه لنفسه، فوجهان، وإن شرطه في الشراء لنفسه، جاز، وإن شرطه للبائع، فوجهان. والطريقة الثانية -وعليها الجمهور- فيه أوجه: ثالثها - إن اختص بالخيار، صح، وإلا، فلا.(7/43)
وإن أذن في البيع بأجلٍ ثمنُ المثل فيه مائة، فباع بالمائة حالاً، فوجهان. وإن باعه بتسعين حالاً، لم يجز، وإن قال: اشترِ بمائة حالة، فاشترى بمائة نسيئة، فلأيهما يقع؟ فيه وجهان، وإن اشتراه بمائة وعشرة مؤجلة، وقع للوكيل.
فصل
فيما يعد مخالفة وموافقة
4360- إذا باع بثمن المثل، أو أكثر، أو اشترى بثمن المثل، أو أقلّ، نفذ للموكل، وإن اشترى بأكثر من ثمن المثل، انصرف العقد إليه، وإن قال: بع بمائة، فباع بمائتين من جنس المأذون، صح اتفاقاً، وإن باع بجنس آخر، لم يصح، فإن أذن في البيع بمائة درهم، فباع بمائة ديناًر، لم يصح. وإن قال: بع بمائة، ولا تزد، أو قال: اشترِ بمائة، ولا تنقص، فزاد في البيع، أو نقص في الشراء، فوجهان. قال الإمام: إن نص على ذلك نصاً لا يحتمل التأويل، لم يصح، وإن احتمل تأويله بأني لا أكلفك مشقة في تحصيل الزيادة، ونحو ذلك، ففيه الوجهان. وإن قال: اشتر عشرة أعبد، فاشتراهم في عشرة عقود، أو في صفقة واحدة، صح. وإن اشتراهم دفعة واحدة من رجلين: لكل واحدٍ منهما خمسة، وقلنا: يصح هذا البيع، مع ما فيه من جهالة الثمن، وقع للموكل، وإن قال: اشترهم صفقة واحدة، فاشتراهم بعقود، لم ينفذ للموكل، وإن اشتراهم من اثنين بقبول واحد، فوجهان، وإن قال: اشتر عبداً بعشرة، فاشترى نصفه بأربعة، أو اشترى النصفين بثمانية في عقدين، لم ينفذ للموكل.
فصل
في اختلاف الوكيل والموكل في الثمن
4361- إذا اشترى جارية بعشرين، فقال الموكل: إنما أذنت في الشراء بعشرة، فقال الوكيل: بل بالعشرين، فالقول قول الموكل، وينصرف العقد إلى الوكيل إن وقع على الذمة، وإن وقع على العين، بطل. فإن لم يعترف البائع بالوكالة، وحلف على نفي العلم، أخذ العشرين التي تناولها العقد، وغرمها الوكيل للموكّل. وينبغي(7/44)
للحاكم (1) أن يقول للموكل: لا يضرك أن تقول للموكل: بعتك الجارية بعشرين، فإن أجاب، صح البيع، وحلت الجارية للوكيل، ولا يكون ذلك إقراراً من البائع، على النص، وللوقف في هذا العقد احتمال ظاهر. وإن امتنع من البيع، فهل يجوز للوكيل وطء الجارية؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها - لا تحل له إلا أن يضرب عن الخصام.
والثاني - يجوز؛ بناء على أن العقد يقع له، ثم ينصرف إلى الموكل، وهذا لا يصح في الثمن المعين، وإن كان في الذمة، لم يصح أيضاً إلا على قول أبي حنيفة.
والثالث - التخريج على الظفر بمال الظالم، فإن منعناه، لم يتصرف في الجارية، ويخرج على هذا وجه: أن الحاكم ينتزعها ليحفظها حِفْظ ما لا يعرف مالكه. وقال الإمام: إن كان الوكيل صادقاً في الباطن، خرج على الظفر بمال الظالم، وإن كان كاذباً، فلا تعلق له بالجارية، إذ لا حق له على مالكها.
فصل
فيمن يوكل في تزوج أو شراء، فيقبل غير ما أذن فيه
4362- صيغة النكاح بالتوكيل أن يقول الموجب: زوجت فلانة من فلان، فيقول الوكيل: قبلت نكاحها لفلان. وفي انعقاد البيع بمثل هذه الصيغة وجهان، وقطع الصيدلاني بالمنع، فإن أجزناه، لم تتعلق العهدة بالوكيل. وإن توكّل بقبول امرأة معينة، فقبل للموكل نكاح غيرها، لم يقع العقد للموكل، ولا للوكيل، وإن توكل بشراء جارية معينة، فاشترى غيرها، ونوى الموكل، فإن كان الثمن في الذمة، فإن منعنا وقف العقود، انصرف العقد إليه، وإن صرح بإضافته إلى الموكل، فهل يبطل، أو يقع للوكيل؟ فيه وجهان.
__________
(1) أصبحت الجارية في يد الوكيل بعقد باطل، لايصلح سبباً لنقل، وقد أخذ البائع ثمنها (العشرين) ، وغرم الوكيل (العشرين) للموكل، ومع ذلك لا تحل له الجارية؛ لأن ملكها لم ينتقل إليه، والمخرج من ذلك أن يقول الموكل للوكيل: بعتك الجارية بعشرين، فتحل للوكيل. والمسألة مبسوطة في الروضة: 4/338، 339.(7/45)
فصل
في دفع الحق إلى من يدّعي أنه وارث المستحق أو وكيله
4363- إذا كان بيده حق، فادعى عليه مدعٍ أنه وكيل في قبضه، فدفعه إليه، فتلف عنده، فأنكر المستحق الوكالة، وحلف، فله أن يغرّم القابض، والدافع، ولا يرجع واحد منهما على الآخر، إن تصادقا على التوكيل، وإن لم يتصادقا عليه، رجع الدافع على القابض، ولا يرجع القابض على الدافع، ولو وقع ذلك في الدين، فلا غرم للمالك إلا على الدافع، لأن الحق غير متعين، وغلط أبو إسحاق، فأجاز تغريم القابض.
فرع:
4364- إذا ادعى الوكالة في قبض الدين، وصدّقه المدين، لم يجبر على التسليم إليه، ما لم يثبت التوكيل، خلافا للمزني، وبعض الأصحاب.
ولو قال: لفلان عليَّ ألف -وقد مات- ولا وارث له سوى هذا، أجبر على التسليم على ظاهر المذهب، وإن قال: أحالني فلان بالألف الذي له عليك، فصدقه، ففي إجباره على إلتسليم وجهان.
فصل
في اختلافهما في البيع بالتأجيل
4365- إذا باع الوكيل بأجل، فقال الموكل: لم آذن في التأجيل، فالقول قول الموكل، فإن حلف، فللمشتري حالان: الأولى - أن ينكر الوكالة، فالقول قوله، فيحلف على نفي العلم، ويقرّ المبيع بيده، فإن نكل، فحلف الموكل، أخذ المبيع، وإن نكل الموكل، لم ينتزع المبيع، ولا يمنع نكوله من تحليفه الموكل أنه لم يأذن في التأجيل، فإن حلف، لزم الوكيل بدل المبيع. ثم لا يطالب الوكيل المشتري بالثمن إلا بعد الأجل، فإذا حلّ، فإن صدق الوكيل المالك على نفي الأجل، لم يطالب المشتري إلا بالأقل من الثمن أو قيمة المبيع، وإن أصر على تكذيب الموكل، فله أن(7/46)
يطالب بالثمن، فإن زاد على بدل المبيع، فهل يحفظ الزيادة، أو يدفعها إلى الحاكم ليحفظها، أو يتخير بين الأمرين؟ فيه ثلاثة أوجه، هذا إذا لم نجعل إنكار الوكالة عزلاً، فللوكيل أن يطلب بقدر ما غرم، ولا يخرج على الظفر بغير الجنس، لأن الموكل هاهنا لا يدّعيه.
الثانية - أن يقول: علمت أنك وكيل، فإن كان المبيع باقياً، ردّه، وإن كان تالفاً، فللموكل تغريم كل واحد منهما، وللمشتري في التصديق أحوال: الأولى - أن يقول: إنما اعتمدت على قولك في التأجيل، مع العلم بأنك وكيل، فإن غرّم الموكل المشتري قبل قبض الثمن، أو بعده، لم يرجع على الوكيل، وفيه قول أنه يرجع بما زاد على الثمن من قيمة المبيع لأجل التغرير، وإن غرّم الوكيل، لم يرجع بزيادة قيمة المبيع، والمطالبة بالثمن عند الأجل على ما تقدم. الحال الثانية - أن يقول: أعلمُ أنه أذن في التأجيل، فأيهما غَرِم، لم يرجع على الآخر، لعدم التغرير، وطلبُ الثمن على ما سبق. الثالثه - أن يقول: لم يأذن لك في التأجيل، فإن غرم الوكيل، رجع على المشتري، لأنهما كغاصبين مرّ المغصوب بيد أحدهما، وتلف عند الآخر.
فصل
فيمن توكل بشراء شاة، فاشترى شاتين
4366- إذا قال: اشتر بهذا الدينار شاة، فاشترى به شاتين تساويان ديناراً، لم يصح، ولو ساوت كل واحدة ثلث دينار، فقد أشاروا إلى القطع بالبطلان، لعدم حصول الغرض، وإن ساوت كل واحدة ديناراً، أو ساوت إحداهما ديناراً والأخرى نصف دينار، فإن اشتراهما بعين الدينار، صح الشراء على أصح القولين، كما لو قال: بع بمائة، فباع بمائتين. واتفقوا على تصحيح هذا القول، وإن اشتراهما في الذمة، ونوى الموكل، فهل يقع العقد له أو للموكل؟ فيه قولان: فإن أوقعناه للموكل، ففي تخيره في الإجازة قولان، فإن خيرناه، فله الإجازة في إحداهما بحسابها من الثمن، فإن ساوت كل واحدة ديناراً، رجع على الوكيل بنصف دينار، ونفذ العقد في الأخرى للوكيل بنصف دينار، ولا يخرج قول التخيير في الشراء بعين(7/47)
الدينار؛ لأنه قابل الشاتين بملك الموكل، فلم يجز التبعيض، وفيه نظر؛ لأن الصفقة متحدة في الصورتين.
فرع:
4367- إذا قال: بع هذا العبد بمائة، فباع نصفه بالمائة، صح. وإن باع النصف بعرْض يساوي المائة، لم يصح، وإن باع أحد النصفين بمائة، والنصف الآخر بعرْض، لم يصح إلا فيما قوبل بالمائة، وإن باع الكل بمائة، وعرْضٍ يساوي مائة، فإن أبطلنا شراء الشاتين، فهذا أولى لمخالفته للجنس المأذون، وإن نفذنا شراء الشاتين، فهاهنا قولان. فإن نفذناه، فهل ينفذ في الكل، أو في النصف المقابَل بالمائة؟ فيه قولان، وضابط هذا الفصل أنه إن لم يحصّل الغرض، لم يصح، وإن حصّله مع زيادة، ففيه الخلاف.
فصل
في ردّ الوكيل بالعيب
4368- إذا توكل بشراء عبد موصوف، أو معين بثمن مسمى، فوجده معيباً، فله حالان: إحداهما - أن يساوي الثمن المسمى مع العيب، فللمالك الرد، معيناً كان العبد أو موصوفاً، ولا يبطل الردّ بتأخير الوكيل، ولا بإسقاطه، اتفاقاًً. وإن أراد الوكيل الردّ، فإن كان العبد موصوفاً، جاز إلا على وجه غريب، وإن كان معيناً، فوجهان: فإن قلنا: يرد، فأبطل الرد، ففي البطلان وجهان: أصحهما -عند الإمام- البطلان؛ لأن تأخيره وإبطاله كعزله لنفسه.
الثانية - ألا يساوي الثمن المسمى، فلا ينعقد البيع للموكل على المذهب فإن عقد على العين، بطل، وإن عقد على الذمة، انعقد للوكيل، وفيه وجه أنه ينعقد للموكل، ويثبت له الخيار، كما لو زوّج وليّته من معيب، جاهلاً بعيبه، فإن النكاح ينعقد مثبتاً للخيار، ولو علم ذلك، لبطل النكاح.
فرع:
4369- إذا اشترى الموصوف مع العلم بالعيب، ففي انعقاده للموكل ثلاثة أوجه: أبعدها - أنه ينعقد له، بشرط ألا يمنع العيب من التكفير به، واستثني الكفر من(7/48)
جملة العيوب، فإن أوقعناه للموكل، فلا ردّ للوكيل، وللموكل أن يرد، وأبعد من منعه من الردّ؛ تنزيلاً لعلم الوكيل منزلة علمه، كما أن رؤيته كرؤيته.
فرع:
4370- إذا اطلعا على العيب، فرضي به الموكل، فلا ردّ للوكيل، اتفاقاً، بخلاف عامل القراض.
فرع:
4371- إذا اشترى الوكيل في الذمة، راضياً بالعيب، فردّه المالك (1) ، فهل ينفسخ العقد، أو ينقلب إلى الوكيل؟ فيه وجهان، مأخذهما التبين (2) والوقف.
فرع:
4372- إذا ردّ الوكيل، فأقام البائع البينة على رضا المالك، قبْل الرد، بطل الردّ. وإن لم يُقم البينة، ولم يمض زمان يتسع لاتصال الخبر بالموكل والعود برضاه، لم تسمع دعوى الرضا، وإن مضى ما يسع ذلك، حلف الوكيل أنه لا يعلم برضا [الموكل] (3) ، وردّ المبيع، وإنما حلف هاهنا لغرضه في البراءة من العهدة.
فصل
في عهدة الثمن
4373- إذا اشترى لموكله في الذمة، فإن لم يصدقه البائع على التوكيل، طالبه بالثمن في [الحال] (4) ، وإن صدقه البائع والموكل، فهل يطالب الوكيل أو الموكل، أو يطالبان؟ فيه أوجه: أعدلها - آخرها، وأيهما خصصناه بالمطالبة فأعسر لم يطالب
__________
(1) "المالك": أي الموكل.
(2) "التبين هو أن يظهر في الحال أن الحكم كان ثابتاً من قبل في الماضي" كشاف اصطلاحات الفنون: (3/647) والمراد هنا أن الوجه الذي ينفسخ العقد عليه مأخذه التبين، حيث تبيّنا أن العقد وقع غير صحيح، عندما اشترى الوكيل راضياً بالعيب، وهو يشتري للوكيل، مخالفاً إذنه؛ فمطلق الإذن يقتضي السلامة من العيوب.
أما الوقف فينبني عليه الوجه القائل بأن العقد ينقلب للوكيل، حيث وقع شراء المعيب صحيحاً موقوفاً على رضا الموكل، فإذا لم يرض به الموكل لا يرتد باطلاً، بل ينقلب إلى الوكيل.
(3) في الأصل: "البائع" وهو سبق قلم.
(4) في الأصل: "الحكم" والمثبت من اختيار المحقق، والمعنى: طالبه بالثمن في البيع الحالّ.(7/49)
صاحبه، فإن خصصنا الطلب بالوكيل، فغرم، فله الرجوع على الموكل، وإن لم نشرطه، وفي رجوعه قبل التغريم وجهان، كما في الضمان، وقيل في رجوعه إذا لم نشترط الرجوع وجهان، كما لو قال: أدّ ديني إلى فلان.
فرع:
4374- إذا دفع الموكل قدر الثمن إلى الوكيل، فقضى به الثمن، ثم ردّ المبيع بالعيب، لزم الوكيل أن يردّ عين الثمن على الموكل، إلا إذا خصصنا الوكيل بالطلب، فإن له أن يردّ بدله، ويمسكه، لأن بذل الموكل لذلك إقراضٌ للوكيل.
فصل
قبض الثمن وتسليم المبيع
4375- إذا برىء المشتري من الثمن، استبد بقبض المبيع، وعلى الوكيل تمكينه من ذلك.
والوكيل بالبيع هل يملك قبض الثمن؟ فيه وجهان، فإن شرط عليه ألا يسلم المبيع وإن قبض الثمن، بطل الشرط، وصح البيع، وفي بطلان الوكالة وجهان يظهران في سقوط المسمى، ولزوم أجرة المثل، وإن شرط عليه أن يشرط في البيع أن لا يسلم المبيع، فالتوكيل والبيع باطلان، سواء اقترن الشرط بالبيع، أو خلا عنه.
فصل
في عهدة الثمن إذا استُحِقَّ المبيع
4376- إذا باع الوكيل، وقبض الثمن، فتلف في يده، ثم بان استحقاق المبيع، فإن لم يعترف المشتري بالوكالة، طالب الوكيل، وإن تصادقوا على التوكيل، ففيمن يطالَب الأوجه الثلاثة، وأقيسها هاهنا اختصاص الطلب بالوكيل؛ لأنه كالمأذون في الغصب، فإن خصصنا أحدهما بالتغريم، لم يرجع على صاحبه، وإن قلنا: يطالبان، فغرم أحدهما، فلا تراجع من الجانبين، وأيهما رجع، فيه ثلاثة أوجه: أشهرها - أنه لا رجوع إلا للوكيل، لأنه مغرور، والثاني - لا رجوع إلا للموكل، لتلف العين عند الوكيل. والثالث - لا رجوع من الجانبين.(7/50)
فصل
في عهدة ما يشتريه الوكيل
4377- إذا قبض الوكيل العبد المشترى، فتلف عنده، قبل أن يقبضه الموكل، ثم استُحِق، فللمالك (1) مطالبة البائع اتفاقاًً، لاشتمال يده على المبيع، وهل يطالب معه الوكيل، أو الموكل، أو يطالبان؟ فيه الأوجه الثلاثة، ويبعد مطالبة الموكل هاهنا، إذ لا تغرير منه، ولم يقبض المبيع، ويقرب أن يقال: لا يطالَب إلا إذا عَيَّن العبد في التوكيل، والقياس أنه لا يغرم إذا تلف الثمن أو المبيع في يد الوكيل، لأنه كالإذن في الغصب، وإذا غرم أحدهما؛ فالرجوع على ما تقدم.
فرع:
4378- إذا أنكر البائع أو المشتري التوكيل، حلف على نفي العلم، وإن صدق البائع على التوكيل، وقال: لم تنو موكلك، فالقول قول الوكيل.
فصل
في الوكالة العامة
4379- إذا قال: وكلتك بكل قليل وكثير، لم تصح اتفاقاً، وإن ذكر ما يقبل النيابة مما يتعلق به، فإن فصل أجناسه، كالعتاق، والطلاق، صح، إلا في الشراء.
وإن قال: وكلتك بكل ما إليَّ مما يقبل التوكيل، فوجهان.
وإن وكله بشراء عبد، ولم يصفه بشيء، لم يصح؛ لأنه غررٌ؛ إذ لا تدعو الحاجة إليه، وفيه وجه أنه يجوز التوكيل في شراء عبد، وفي الإسلام في ثوب.
وإن وكله في شراء شيء، ففيه تردد ظاهرٌ على هذا الوجه، وإن ذكر الجنس: كالهندي والسندي، فإن قدر الثمن، صح. وإن لم يقدره، فوجهان، وشرط أبو محمد ذكر النوع، ولم يتعرض له الأصحاب.
__________
(1) المالك هنا هو المستحِق صاحب العبد، واشتمال يد البائع عليه غصب وعدوان.(7/51)
وإن قال: اشتر عبداً كما تشاء، فقد منعه الأكثر، وأجازه أبو محمد لتصريحه بالتفويض التام.
فصل
في شهادة الوكيل للموكل
4380- إذا شهد لموكله بما لو ثبت، لكان وكيلاً فيه، لم يقبل، والوكيل بالخصومة إن شهد بغير ما تتعلق به الخصومة، قُبل، إلا أن يصير عدواً للمشهود عليه، وإن شهد بما فيه الخصومة، لم يقبل مع قيام الخصام، وإن عزل، فطريقان: إحداهما - الرد إن خاصم. وإن لم يخاصم، فوجهان. والثانية - القبول إن لم يخاصم. وإن خاصم، فوجهان. وقال الإمام: إن قصُر الزمان بحيث تقع التهمة، ففيه الخلاف، وإن طال، فالأوجه القطع بالقبول، وفيه احتمال.
فرع:
4381- إذا ادعى الوكالة، فشهد بها شاهدان، إلا أن أحدهما شهد بالعزل، لم تثبت الوكالة، على المذهب، وأبعد من أثبتها. ولو شهدا بالتوكيل، ثم قال أحدهما: تحققت عزله بعد الشهادة، فوجهان: أظهرهما - المنع من إثبات الوكالة. ولو شهد أحدهما بأنه قال: وكلته، وشهد الآخر بأنه قال: أنبته، لم تثبت الوكالة. ولو شهد أحدهما أنه قال: وكلته، وشهد الآخر أنه أذن له، ثبتت الوكالة.
فصل
في التوكيل في الصلح عن الدم
4382- إذا وكل في الصلح عن الدم، لم يكن التوكيل عفواً، وله أن يقتصَّ قبل الصلح.
وإن أمره أن يصالح عن الدم على خمر، فإن امتثل، سقط القصاص، وإن صالح على خنزير، ففي السقوط وجهان: فإن أسقطناه، وجبت الدية.
ولو صالح على الدية، فإن أسقطنا القصاص، صح، ولو وقع هذا الاختلاف بين الإيجاب والقبول، لم يصح اتفاقاًً، لعدم الانتظام.(7/52)
فصل
في توكيل العبد في شراء نفسه
4383- إذا وكل العبدُ من يشتري له نفسه، فإن أضاف الشراء إلى العبد، صح، وعَتَق، وإن نوى العبد، ولم يصرح بذكره، انعقد للمشتري، ولزمه الثمن؛ لأن السيد لم يرض ببيعٍ يتضمن العتق قبل أداء الثمن.
ولو توكل العبد في شراء نفسه لزيد، فإن أضاف الشراء إلى زيد، وقع لزيد، وإن نوى زيداً، وقع العقد للعبد، وعَتَق؛ لأن قوله: اشتريت نفسي صريح في العتق، فلا يقبل إبطاله.
فصل
في انعزال العبد بالبيع والإعتاق
4384- إذا وكل عبده، ثم أعتقه، ففي انعزاله طريقان: إحداهما - فيه وجهان.
والثانية - ينعزل إن أمره بذلك استخداماً، وإن صرح بالتوكيل والتخيير، لم ينعزل، وإن أطلق، فوجهان.
فإن جعلنا قول السيد أمراً، فلا أثر لعزل العبد نفسه، وإن جعلناه توكيلاً، فله أن يعزل نفسه. وفي اشتراط القبول وجهان.
وإن باعه بعد أمرٍ أو توكيلٍ، فإن لم نعزله بالعتق، فالبيع أولى، وإن عزلناه بالعتق، ففي البيع وجهان: فإن قلنا: لا يبطل الأمر، فكان إنشاء التصرّف مما يفتقر إلى إذن السادة، فلا بد من إذن المشتري (1) في الامتثال، ويحتمل ألا يتوقف نفوذ التصرف على إذنه وإن شرطناه.
__________
(1) أي لا بد من إذن السيد الجديد (المشتري) لالتزام أمر سيده الأول (الذي باعه) .(7/53)
4385- فروع شتى:
الأول - إذا قال: بع من عبيدي من شئت، فباعهم إلا واحداً، صح، اتفاقاًً، وإن باع الجميع، لم ينفذ في الكل.
الثاني - إذا قال: خذ حقي من زيد، لم يأخذه من ورثته إذا مات.
وإن قال: خذ حقي، أخذه من الورثة.
الثالث - إذا وكل في السلم، وأذن لوكيله أن يؤدي رأس المال من عنده قرضاً، أو هبة، لم يصح على النص، لعدم القبض، وقال ابن سريج: يصح لحصول القبض ضمناً.
الرابع - إذا أسلم للموكل في شيء، ثم أبرأ المسلم إليه، فإن لم يعترف المسلم إليه بالتوكيل، نفذ الإبراء في الظاهر دون الباطن، ويضمن الوكيل بدل رأس المال للحيلولة، ولا يغرم مثل المسلم فيه، ولا قيمته؛ لأن ذلك اعتياضٌ، وخرّج الإمام تضمين الثمن على قولي الحيلولة الممكنة الزوال بالاعتراف، وأصحهما إيجاب الضمان.
الخامس - إذا مات أحد المصطرفين في المجلس قبل القبض، فإن لم نبطل الخيار، ثبت لوارثه القبض والإقباض، وإن أبطلناه، بطل الصرف. ويجوز التوكيل في قبض عوضي الصرف، فإن قبضه الوكيل قبل مفارقة الموكل للمجلس، صح، وإلا فلا.
فصل
فيما ينعزل به الوكيل
الوكالة جائزة، لا تلزم بحال، فتنفسخ بالموت، والجنون، ولا تنفسخ بردة الوكيل، وإن أزلنا بها الملك، فإن حجر على المرتد، فهو كحجر الفلس، والمذهب صحة وكالة المفلس، وفيه وجه بعيد؛ لأجل تعلّق العهدة، وهو جارٍ هاهنا.
ولا بالإغماء، والعدوان. وخالف أبو محمد في الإغماء، وأبعد من عزل بالعدوان.(7/54)
فرع:
4386- إذا قصر زمان الجنون، فقد تردّد فيه في التقريب وقطع أبو محمد بالانفساخ، وقال الإمام: هو كالإغماء إن امتد بحيث تتعطل المهمات، وتحتاج إلى قوَّام.
فرع:
4387- إذا جحد الموكل الوكالة، ثم اعترف، ففي كون جحوده عزلاً وجهان: أشهرهما - أنه عزل، والأقيس أنه ليس بعزل؛ لأن العزل إنشاء لا يدخله صدق ولا كذب، بخلاف الإقرار، ولا يبعد أن يجعل عزلاً إذا تعمد الكذب خاصة.
***(7/55)
كتاب الإقرار
باب الإقرار بالحقوق والمواهب والعارية
4388- الإقرار إخبار عن وجوب حق بسبب سابق، وهو حجةٌ بالإجماع، ويصح من كل حرٍّ بالغ رشيد، ولا ينفذ ممن لا يميز كالمجانين، والأطفال، ولا يصح من الصبي المميز بالعقوبات والأموال، وفي إقراره بالتدبير والوصية قولان (1) .
فصل
في إقرار العبيد
4389- ويصح إقرار العبد بالحدود والقصاص في النفس والأطراف وفي ثبوت المال المسروق تبعاًً للقطع قولان (2) ، يجريان في إقرار السفيه، والمفلس بالسرقة، إذا رددنا إقرارهما بالإتلاف من غير سرقة، فإن لم نوجب المال المسروق، فقد أطلقوا
__________
(1) توجيه القولين في إقرار الصبي المميز بالتدبير والوصية، أن ذلك لا يترتب عليه حقوق ناجزة، فالتدبير أن يقول لعبده: "إذا متُّ، فأنت حرّ"، فلا يترتب على ذلك تصرف ناجز، وكذلك الوصية، فهي تصرّفٌ مضاف لما بعد الموت، وهما عقدان غير لازمين، ومن هنا جاء قولٌ بصحة التدبير والوصية من الصبي المميز؛ لأنه إن عاش حتى بلغ رشيداً، فله الإمضاء والرجوع، وإن مات فلا يحتاج إلا الثواب وقد حصّله.
(2) إذا أقر العبد بسرقة مالٍ، نُظر: فإن كان المال تالفاً، فقولان: أحدهما - يقبل، ويتعلق الضمان برقبته، وأظهرهما - لا يقبل، إلا أن يصدقه السيد، فيقبل، ويتعلق الضمان بذمته، وإن كان المال باقياً، نظر: إن كان في يد السيد، لم ينتزع منه إلا بتصديقه، وإن كان في يد العبد، فطريقان: إحداهما - أن في انتزاعه القولين في التالف، فإن قلنا: لا ينتزع، ثبت بدله في ذمته، والطريق الثانية - لا ينتزع قطعاً؛ لأن يده كيد سيده. (ر. الروضة: 4/351) .(7/57)
وجوب القطع، ورأى الإمام تخريج القطع على الوجهين، فيما إذا أقرّ الحرّ بسرقة مالٍ من غائب، ولعلّ أصحهما أنه لا يقطع (1) .
ولو عُفي عن العبد في قصاص الجناية المقر بها، ففي وجوب الدية قولان مرتبان على قولي الغرم في السرقة، وأولى بالوجوب؛ لأنها ثبتت ضمناً للقتل، وسبب قطع السارق مميز عن وجوب الضمان؛ ولذلك يضمن في الحرز، ولا يقطع ما لم يخرج المال، وإن أوجبنا القود المحض، ففي الدية قولان مرتبان على إيجاب أحد الأمرين، وأوْلى بالإيجاب؛ لأنها وجبت بالعفو دون القتل، وإن أقر، أو قامت عليه البينة بدين معاملة لم يأذن فيها السيد، لم يتعلق إلا بذمته.
وإن أقر بجناية خطأ، أو إتلاف مالٍ، لم يتعلق برقبته إلا بالبينة، أو تصديق المالك (2) ، فإن ثبت ذلك، فداه المالك بأقل الأمرين على الأصح، فإن فضل شيء، تعلق بذمته، على الأصح. وإن كذبه السيد، ففي تعلق الأرش بذمته طريقان: إحداهما -وعليها الجمهور- يتعلق وجهاًً واحداً. والثانية - فيه الوجهان.
فصل
في إقرار السفيه
4390- وينفذ إقراره بأسباب العقوبات، ولا ينفذ بما يستبد به من المعاملات، فإن اشترى شيئاًً، وسلمه البائع إليه، فأتلفه، وقامت اليبنة بذلك، لم يطالب ببدله في الحال، ولا بعد الإطلاق (3) ، وإن ثبت عليه إتلافٌ من غير معاملة، وجب الضمان، وإن أقر به، فقولان، وإن ادُّعي عليه بإتلافٍ، فإن نفذنا إقراره، سمعت الدعوى، وعرضت اليمين، فإن حلف، انقطع الخصام، وإن نكل، عُرضت اليمين
_________
(1) من أقر بسرقة مال من غائب، المذهب أنه لا يقطع في الحال؛ لاحتمال أن يأتي صاحب المال، فيقر بأنه كان أباحه له. (ر. قليوبي وعميرة: 4/97) .
(2) المالك: أي السيد: مالك العبد.
(3) لأن البائع هو الذي سلّطه عليه، وقصّر ببيعه منه، وتسليمه إليه.(7/58)
على المدعي، فإن حلف، استحق، وإن أبطلنا إقراره، لم تسمع الدعوى إلا إذا جعلنا يمين الرد كبينة تقام.
وإن أقرت الرشيدة أو السفيهة بالنكاح، نفذ، على المذهب (1) . ولو أقر به سفيه، فينبغي ألا ينفذ، لعجزه عن الإنشاء، ولتعلق الحقوق المالية به.
فصل
في إقرار المفلس
4391- ويصح إقراره بالعقوبات.
وإن باع ما تعلق به الحجر، ففي وقوفه على الإطلاق قولان في الجديد، بخلاف بيع الفضولي، فإنه ممنوع في الجديد، إذ لم يصادف ملكَ البائع. وإن باع الراهن الرهن، بطل في الجديد، وإن كان ملكاًً له؛ لأنه أدخل الحجر على نفسه (2) ، بخلاف المفلس (3) .
وإن أقر بعينٍ تعلّق بها الحجر، فإن وقفنا البيع، فالإقرار أولى، وإن رددنا البيع، فالأصح وقف الإقرار.
ولو عامل بعد الحجر، فلا مضاربة (4) بدين المعاملة اتفاقاً. وإن أقر بمعاملة سابقة على الحجر، فقولان.
وإن ثبت عليه إتلافٌ بعد الحجر، ببينة، أو اتفاق منه ومن الغرماء، فلا مضاربة على المذهب، وفيه وجه. وإن أقر بذلك، فإن لم تثبت المضاربة عند قيام البينة، فهاهنا أوْلى، وإن أثبتناها ثَمَّ، فهاهنا قولان مرتبان على قولي إقرار السفيه بالإتلاف،
__________
(1) لأن إقرارها بالنكاح لا يُلزمها مالاً، بل تستحق بسببه مالاً.
(2) أدخل الحجر على نفسه: أي برهنه لملكه حُجر عليه في بيعه.
(3) بخلاف المفلس؛ فقد حُجر عليه لحق الغير، فاحتمل أن يوقف بيعُه على الإطلاق من الحجر، فإن استوفى الغرماء حقوقهم، وسلمت هذه العين، موضوع عقد البيع، مضى العقد.
(4) أي لا يضارب الدائن، صاحب دين المعاملة التي تمت بعد الحجر، مع الغرماء أصحاب الديون قبل الحجر.(7/59)
وإقرار المفلس أوْلى بالنفوذ؛ لأن السفه خبلٌ في العقل؛ فأشبه الصبا، بخلاف الإفلاس.
وإن أقر بإتلافٍ سابق على الحجر، فقولان. وإن أقر بسرقة أنشأها بعد الحجر، لم تثبت المضاربة، إلا إذا أثبتنا المضاربة عند ثبوت الإتلاف، ففي نفوذ إقراره للمضاربة قولان، مرتبان على القولين في الإقرار بمطلق الإتلاف، وصورة السرقة أولى بالنفوذ؛ لبُعد التهمة.
فصل
في الإقرار بالمبهات
4392- إذا ادعى بمجهولٍ، لم يُسمع إلا في الوصية (1) ، وخالف القاضي في الوصية، وإن أقرّ بمجهولٍ، صح، إجماعاً، ورجع إليه في البيان، فإن امتنع منه بعد الطلب، فثلاثة أوجه: أحدها -وعليه الجمهور- أنه يحبس إلى البيان، والثاني - لا يحبس، ويقال لخصمه: ادّع عليه بمعلوم، فإن أقر، أُخذ به، وإن أنكر، وأصر على الامتناع، حلف خصمه، وقضى له. والثالث - إن قال: غصبت منه شيئاًً، حُبس، إن امتنع من الرد والبيان، وإن أقر بدين، فحكمه ما ذكرناه في الوجه الثاني.
ومن أسلم على عشر نسوة، وامتنع من اختيار أربع، حبس اتفاقاًً؛ لقدرته على إنشاء الاختيار، بخلاف معرفة قدر المقرّ به؛ فإنه قد يجهله.
فصل
فيما يقبل في تفسير الشيء
4393- إذا قال له: علي شيء، قبل في تفسيره أقل ما يتموّل، فإن فسره بسمسمة أو حبة حنطة، قُبل، على النص؛ لأنها شيء يحرم أخذه، ويجب ردّه، وأبعد من قال: لا يُقبل، وإن ادعى بها، لم تسمع عند القاضي (2) ، وقطع الأمام بالسماع؛ إذ
__________
(1) لأن الوصية تصح بالمجهول كحملٍ وثمرة سيحدثان، على الأصح. (قليوبي وعميرة: 3/160) .
(2) المراد هنا القاضي حسين.(7/60)
لا يمتنع طلب ما يحرم أخذه، ويجب ردّه. وإن فسَّر بتمرة أو زبيبة، فإن كان في موضع يعزان فيه، قبل، وإن لم يعزا، كالتمرة بالبصرة، فإن لم نقبل التفسير بالسمسمة، ففي التمرة والزبيبة تردد، وقطع الإمام بالقبول.
وإن فسر بما لا يتمول جنسه، فإن لم يتعلق به اختصاص، كالخنزير والخمرة غير المحترمة، لم يقبل؛ لأن قوله: "عليّ" التزام، ولا حق في الخنزير والخمرة المراقة لأحد، وإن تعلق به الاختصاص، كخمر الخل، وكلب الصيد، والجلد القابل للدبغ، قُبل، على أَقْيس الوجهين، والأظهر أن الكلب القابل للتعليم، كالجلد القابل للدباغ، ويجوز أن يفارقه بأنه لا يصير إلى المالية بخلاف الجلد.
وفي التفسير بالخمرة المحترمة شيءٌ؛ من جهة أن من أظهر الخمر، وزعم أنها خمر خل، فقد ذهب طوائف إلى أنها تراق، ولا يقبل قوله، وإنما لا نتعرض باتفاق المحققين لما تطهر (1) ، فلو اطلعنا عليها مع مخايل شاهدة بالاحترام، لم نتعرض لها على المذهب، ولو أبرزها، ظهر التسارع إلى إراقتها.
وإن فسر بردّ سلام، أو حق عيادة، لم يقبل عند الأصحاب؛ لبعده عن فهم أهل الخطاب.
فصل
فيما يقبل في تفسير غصب الشيء
4394- قال الشافعي: "إذا قال: غصبته على شيء، ثم فسر بخمرٍ أو خنزير، قبلتُه، وأرقت الخمر، وقتلت الخنزير" (2) ولم يخالفه أحد من الأصحاب، وقالوا: لو قال: له عندي شيء، فهو كقوله: غصبته على شيء، وخالفهم أبومحمد والإمام؛ لأن اللام ظاهرة في، الملك، وإن فسر الغصب بما يتعلق به الاختصاص، ولا يتموّل، وجب القطع بالقبول.
__________
(1) في الأصل: لما لا تطهر.
(2) ر. الأم: 3/215.(7/61)
فرع للقاضي:
4395- إذا كان بيد المضطر ميتة، لم يكن أولى بها من مضطر آخر؛ إذ اليد لا تثبت على الميتة. والوجه خلاف ما قال؛ إذ الميتة بالنسبة للمضطر كالمباح بالنسبة إلى المختار.
فصل
في تكذيب المقر في التفسير
4396- إذا أقر بمبهم، ثم فسره بما يُقبل، فأكذبه المقَرُّ له، وقال: "أدعي عليك عشرة (مثلاً) ، وأنك أردتها بالإقرار، ثم فسرته بدرهم"، سُمعت الدعوى، وحلف المقِر على نفي الزيادة، وأنه لم يردها بالإقرار، وإن ادعى بالإرادة لا غير، أو ادعى على إنسان بإقرار، فالأصح أنها لا تسمع، وإن قال المقر: أردت العشرة بالإقرار، ولا تلزمني الزيادة، أو قال: العشرة لك، ولم أرد بالإقرار إلا الدرهم، لزمته العشرة، ولا تحليف.
فصل
فيما يقبل في تفسير المال
4397- إذا قال: له عليّ مال، ثم فسره بما لا يتموّل جنسه، كالخمرة المحترمة، أم بما لا يتمول لقلته، كالخردلة، لم يقبل، وفي التمرة والزبيبة حيث تكثران تردد، والظاهر القبول، وتردد أبو محمد في المستولدة (1) ومال إلى أنها مال، وإن فسر بأقل ما يتمول، قبل. وضابط أقل ما يتمول: "كل ما يظهر أثره -وإن قل- في جلب نفع أو دفع ضرار".
وإن قال: له عليّ مال عظيم أو كثير، لزمه أقل ما يتمول، على المذهب. وأبعد من قال: لا بد من زيادة وإن قلّت، ومن قال: لا بد من التفسير بما يزيد، ولو بعِظَم الجِرْم والذات، وكلاهما لا يصح؛ إذ العظيم والكثير قد يراد بهما الجلال، قال
__________
(1) سبب التردد في المستولدة أنها تصير إلى العتق.(7/62)
الشافعي: "أصل ما أبني عليه الإقرار اتباع اليقين، واطّراح الشك والغلبة، إذ الأصل براءة الذمة".
ولو قال: له عليّ أكثر من مال فلان، قبل فيه أقل ما يتموّل؛ لأن الكثير يطلق على الحلال، وعلى الدين الذي لا يتعرض للهلاك.
وإن قال: له علي أكثر من الدراهم التي بيد فلان، فكانت ثلاثة، واعترف أنه عرف عددها، لزمه ثلاثة، على المشهور وقول الجمهور، وقبل منه أبو محمد أقل من ذلك؛ إذ يجوز أن يقال: درهم خير من دراهم وأكثر بركة، وإن كان في يده عشرة، فقال: ظننتها ثلاثة، أو عرفت أنها عشرة، ونسيت عند الإقرار، فإن حلف على ذلك، لزمه ثلاثة على المشهور.
وإن قال: له علي مثل ما في يد فلان، لزمه مثل ما في يده؛ لتعدد الحمل على المرتبة والفضل.
وإن قال: له علي أكثر مما في يد فلان من الدراهم عدداً، ثم فسر [بجنس] (1) يزيد عدده على تلك الدراهم، قُبل؛ لأن التفضيل وقع في العدد دون الجنس.
وإن شهد اثنان على رجل بمالٍ، فقال: له علي أكثر مما شهدا به، لزمه أقل ما يتمول، لاحتمال أن يريد أنهما شهدا بزور، وأن قليل الحلال أكثر من كثير الحرام، فإن حكم بشهادتهما، فقال: له عليّ أكثر مما حكم به الحاكم، فوجهان.
فصل
في تمييز الأعداد وعطف المعلوم على المجهول
4398- إذا أقر بعدد مبهم، وعطف عليه معيناً، لزمه المعين، وأخذ بتفسير المبهم، سواء كان المعين مكيلاً، أو موزوناً، أو غير ذلك. وإن أقر بعدد مبهم، ثم جاء بعده بمفسَّر، فإن خلا العدد عن العطف، كان المبهم من جنس المفسر، بخلاف
__________
(1) في الأصل: بجوزٍ، وهو تصحيف واضح، وعبر النووي عن المسألة بعينها في الروضة قائلاً: "ولو قال: له علي أكثر مما في يد فلان من الدراهم، لم يلزمه التفسير بجنس الدراهم، لكن يلزم بذلك العدد من أي جنس فسّر، وزيادة أقل متموّل" (ر. الروضة: 4/376) .(7/63)
العطف على المبهم؛ فإن المعطوف إنما ذكر ليُثبت، والمفسر إنما ذكر ليُبيّن.
وإن اشتمل العدد على حرفٍ عاطف، فالجميع من جنس المفسر، خلافاًً للإصطخري. فإذا قال: ألف ودرهم، أو ألف وثوب، أو ألف وقفيز حنطة، لزمه ما عيّن، ورجع في الألف إليه.
وإن قال: عشرون درهماً، أو خمسة عشر درهماً، أو مائة درهم، أو ألف درهم، فالكل دراهم.
وإن قال: خمسة وعشرون درهماً، أو مائة وخمسة وعشرون درهماً، أو ألف وثلاثة دراهم، فالكل دراهم، وقال الإصطخري: يلزمه العدد الأخير دراهم، ويرجع فيما قبله إلى تفسيره.
وإن قال: درهم ونصف، فالأكثرون على أنه نصف درهم، وقيل: إنه (1) مبهم.
فصل
في الاستثناء
4399- يصح الاستثناء في كل معدود، بشرط أن يتصل، ولا يستغرق، سواء ساوى المستثنى منه، أو نقص عنه، أو زاد. فإذا قال: له علي عشرة إلا تسعة، لزمه درهم.
وإن أقر بشيء ثم كرر الاستثناءات بعده، فإن عطف بعضها على بعض، فحكمها واحد، وإن لم يعطف، كان الاستثناء من الإثبات نفياً، ومن النفي إثباتاً، فإذا قال: له علي عشرة إلا خمسة، وخمسة إلا أربعة، أو عشرة إلا خمسة، وإلا أربعة، لزمه درهم.
وإن قال: عشرة إلا تسعة إلا ثمانية، وكذلك إلى آخر العدد، لزمه خمسة، وطريقه أن تجمع أعداد الاستثناءات المثبتة بيمينك، والنافية بيسارك، ثم تسقط النفي من الإثبات، وتوجب ما بقي بعد الإسقاط، والإثبات فيما ذكرته ثلاثون، والنفي
__________
(1) إنه مبهم: أي النصف المعطوف.(7/64)
خمسة وعشرون، فنسقطها من الثلاثين، فتبقى خمسة.
وإن أردت تمييز النفي عن الإثبات، فانظر إلى العدد الأول، فإن كان شفعاً، فالأوتار نفي، وإن كان وتراً، فالأشفاع إثبات.
وإن قال: ليس علي شيء إلا درهماً، لزمه درهم، وإن قال: ليس له عليّ عشرة إلا خمسة، لم يلزمه شيء عند الأكثرين، ويلزمه خمسة عند بعض القيَّاسين. وإن قال: عشرة إلا عشرة، بطل الاستثناء، ولزمت العشرة، وإن قال: عشرة إلا عشرة إلا ثلاثة، فهل يبطل الاستثناءان، ويلزمه عشرة، أو يصحان، ويلزمه ثلاثة، أو يختص البطلان بالأول؛ فيلزمه سبعة؟ فيه ثلاثة أوجه تجري في نظائره.
وإن وقع العطف في المستثنى أو المستثنى منه، فهل يجمع أو يبقى على تفريقه؟ فيه وجهان. فإذا قال: له عليّ درهم ودرهم، ودرهم إلا درهماً، ففي صحة الاستثناء الوجهان، إن جمعنا، صح، وإلا، فلا. ولو قال: ثلاثة إلا واحداً، وواحداً، وواحداً، أو إلا اثنين وواحداً، فإن جمعنا، بطل الاستثناء، وإن لم نجمع، بطل آخر المعطوفات. وإن قال: ثلاثة إلا واحداً واثنين، فإن جمعنا، وجبت الثلاثة، وإن فرقنا، وجب درهمان.
وإن قال: عشرة إلا خمسة، وإلا خمسة، فإن جمعنا، لزمه عشرة، وإن فرقنا،
لزمه خمسة.
فصل
في الاستثناء من غيرالجنس
4400- يصح الاستثناء من غير الجنس في المكيل، والموزون، وغيرهما، ويجوز استثناء المعلوم من المجهول، والمجهول من المجهول، ومن المعلوم، فإن قال: له علي حمار إلا ديناراً، ثم فسر الحمار بما يزيد على الدينار، قُبل، وإن فسره بما يساويه، أو يزيد، لزمه الدينار؛ لاستغراق استثنائه، وقيل: لا يلزمه الدينار، ويؤخذ بالبيان.(7/65)
وإن قال: له عليّ مائة دينار إلا حماراً، ثم فسر الحمار بما ينقص عن المائة، قُبل.
وفيما [زاد] (1) أو ساوى الوجهان، وظاهر النص يشهد للوجه البعيد. وإن قال: له عليّ حمار إلا ثوباً، ثم فسرهما بما لا يستغرق، قُبل، وفي المستغرق الوجهان.
وإن اتفق اللفظان، فقال: له علي مال إلا مالاً، أو شيء، إلا شيئاًَ، ففي صحة الاستثناء وجهان ذكرهما القاضي، ولا وجه للخلاف؛ إذ لا يلزمه الزيادة على أقل ما ينطلق عليه الاسم.
فصل
في الإقرار بالظرف والمظروف
4401- إذا أقر بظرف أو مظروف، لم يكن إقراره بأحدهما إقراراً بالآخر، فإذا قال: علي تمر في جراب، أو فص في خاتم، أو سمن في بُستُوقة، أو دابة في إصطبل، لم تلزمه الظروف.
وإن قال: عمامة على عبد، أو سرج، أو إكاف على فرسٍ، لزمه العمامة، والسرج، والإكاف، دون الدابة والعبد.
ولو قال: دابة عليها سرج أو إكاف، أو عبد عليه عمامة، أو قميص، أو شيء من اللباس، لم يلزمه إلا الدابة والعبد.
وقال في التلخيص (2) : يلزمه لباس العبد، لأجل يده، فعده بعضهم وجهاًً، وغلطه الأكثرون، لأن العبد ولباسه في يد المقر (3) .
__________
(1) في الأصل: نقص. وهو سبق قلم.
(2) ر. التلخيص: 386.
(3) إذا أقر بفرس عليه سرج، أو بعبدٍ عليه عمامة، فالإقرار بالفرس والعبد دون السرج والعمامة، فلا يلزمه إلا الفرس والعبد. وخرّج صاحب التلخيص وجهاًً بلزوم العمامة مع العبد، والفرق بين الفرس والعبد، أن للعبد يداً على ثيابه، ثم هي بعد ذلك يد مولاه، فكل ما في يد العبد لسيده، فإذا أقرّ به، فإن العمامة يجب أن تكون في يد مولاه الذي أقرّ له به، فلا تسمع =(7/66)
وإن أقر بخاتم فيه فص، لزمه فصه، على أظهر الوجهين، لدخوله تحت اسمه، ومخالفته للخاتم، كمخالفة السقف للدار، وإن أشار إلى الفص، فقد قطع الأمام بلزوم الفص.
وإن أقر بحملٍ في بطن أَمةٍ، أو حيوان، لزمه الحمل، دون الأم.
وإن قال: علي جارية في بطنها حمل، ففي لزوم الحمل وجهان.
وإن قال: له هذه الجارية، ثم زعم أنه أرادها دون حملها، فوجهان. وإن قال: له هذه الجارية إلا حملها، لم يلزمه الحمل على ظاهر المذهب.
وإن أقر بشجرة، لزمته بعروقها وأغصانها، وفي طلعها وجهان، وتدخل الأشجار في اسم البستان.
والضابط أن ما يدخل تحت الاسم، فهو لازم، وما يتصل ولا يدخل في الاسم، فإن لم يندرج في البيع، لم يدخل في الإقرار، وإن اندرج فيه، كالحمل والطلع، فوجهان.
فصل
في الاستثناء من المعينات
4402- الاستثناء من المعين باطل على الأصح، وقال في التلخيص: الأصح صحته، فإذا قال: له هذه الدراهم إلا هذا، بطل الاستثناء، على الأصح، ولو قال: له هذا، وهذا إلا هذا، فلا خلاف في البطلان.
ولو قال: هذا الخاتم لفلان، وفصه لي، أو هذه الدار لفلان، وهذا البيت
__________
= دعوى المقر أن العمامة له إلا ببينة، وهذا بخلاف الفرس -كما أشرنا- لأن الفرس لا يد له، وإنما الذي عليه من السرج يكون في يد من هو في يده. هذا توجيه (الروياني) في (البحر) لكلام صاحب التلخيص، ثم قال: "ومن الأصحاب من خالفه في ذلك، وقال: هذا لا يصح على أصل الشافعي، وإنما يجب عليه تسليم العبد فقط، وتكون العمامة للمقِرّ كالسرج، وهو اختيار القفال وجماعة؛ لأن العبد -في الحقيقة- لا يد له على نفسه، ولا على ما هو لابسه وممسكه، ولهذا لا يقبل قوله: إني عبدٌ لغير من هو في يده" ثم قال الروياني: "وهو الصحيح عندي" (ر. بحر المذهب: 8/244، 245) .(7/67)
منها لي، أو هؤلاء العبيد لفلان، وهذا لي، فهذا عند صاحب التلخيص، كالاستثناء من الأعيان، وإن قال: له هؤلاء العبيد إلا واحداً، أخذ بالبيان، فإن ماتوا إلا واحداً، فزعم أنه المستثنى، فالمذهب أن القول قوله مع يمينه.
فرع:
4403- إذا قال: له علي ألفٌ في هذا الكيس، فلم يكن فيه شيء، لزمه ألف، وإن نقص ما فيه عن ألف، ففي وجوب الإكمال وجهان.
وإن قال: له علي الألف الذي في هذا الكيس، فنقص عن الألف، لم يجب الإكمال، إلا على وجه مزيف، وإن لم يكن فيه شيء، ففي وجوب الألف قولان.
فصل
فيما يقبل من التفسير لكذا وكذا
4404- إذا قال: له علي كذا، أو كذا كذا، فهو كقوله: علي شيء، وإن قال: كذا وكذا، لزمه شيئان، وإن قال: كذا درهماً، أو كذا كذا درهماً، لزمه فى رهم، وإن قال: كذا وكذا درهمٌ (بالرفع) ، لزمه درهم اتفاقاً. وإن نصب الدرهمَ، ففيه -لاختلاف النص- طريقان: أظهرهما - أنه يلزمه درهمان. والثانية -ثلاثة أقوال- أحدها - درهم. والثاني - درهم وشيء، والثالث - درهمان.
وقال أبو حنيفة (1) : إن قال: كذا درهماً، لزمه عشرون، لأنه أول اسم مفرد ينتصب بعده الدرهم، وإن قال: كذا كذا درهماً، لزمه أحد عشر، لأنها أول اسم مركب ينتصب بعده الدرهم، وإن قال: كذا وكذا درهماً، لزمه أحد وعشرون؛ لأنه أول عدد يعطف عليه، وينتصب بعده الدرهم.
وقال أبو إسحاق: يؤخذ الجاهل بما ذكره الشافعي، والعالم بالعربية بما قاله أبو حنيفة، وهذا لا يصح؛ لأن اللغة لا تقتضي تنزيل التمييز على المبهم، ولأن البصير بالعربية قد يخطىء. ولا نعرف خلافاًً أنه لو قال: له علي كذا درهمٍ صحيح، فلا يلزمه مائة، وإن كانت أول عدد ينخفض بعده الدرهم.
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/221 مسالة: 1925.(7/68)
فصل
في الجواب ببلى ونعم
4405- إذا قال: أليس لي عليك ألف، فأجاب بنعم، لم يلزمه، وإن أجاب ببلى، لزمه، خلافاًً لأبي محمد والإمام، فإنهما جعلاه مقرّاً في الصورتين، وعللا بأن اللفظين قد يستعملان في التصديق، وإن كان على خلاف الأفصح، والإقرار محمول على ما تبتدره الأفهام، دون دقائق اللغة.
قال أصحابنا: إذا قال: لي عليك ألف، فقال: نعم، لزمه، ولو قال: بعتك عبدي بألف، فقال: نعم، لم يصح القبول؛ لأنه إنشاء لا يدخله صدق ولا كذب، ونَعَم وعد أو تصديق يدخلها الصدق والكذب.
ولو قال الدلاّل للمالك، أو للولي: بعت متاعك من فلان، أو زوجت ابنتك منه، فقال: نعم، أو قال: بعتُ أو زوجتُ، لم يصح الإيجاب، ولو قال: بعته من هذا، فقال: بعته، لم يصح الإيجاب.
فصل
في إقرار المريض والوارث
4406- من أقر في صحته وفي مرض موته بديون، لم يقدم إقرار الصحة على إقرار المرض، وإن أقر المريض بدين وعين، فلم يترك غيرها، فإن سبق الإقرار بالعين، قدمت، وإن سبق الإقرار بالدين، فهل يقدم الإقرار بالعين، أو يستويان؟ فيه وجهان.
وإن أقر في الصحة أو المرض يدين، ثم أقر عليه الوارث بدين أسنده إلى الحياة، فهل يقدم إقرار الميت أو يستويان؟ فيه وجهان يقربان من القولين في إقرار المفلس.
فرع:
4407- إذا تعدّى بحفر بئر، فهلك بها حيوان بعد موته، فلا خلاف في تعلق القيمة بالتركة، وتقديمها على الميراث، فإن لزمه دين في الحياة، فهل يقدم(7/69)
على هذه القيمة، أو يتساويان؟ فيه وجهان. وإن مات وعليه دين، فأقر الوارث بتردِّي الحيوان، فهل يقدم دين الحياة أو يتساويان؟ فيه الوجهان.
وإن مات ولا دين عليه، فأقر الوارث عليه بدين، نفذ، وتعلق بالتركة، فإن أقر بدين آخر، فهل يزدحمان، أو يقدم الأول؟ فيه وجهان. والأكثرون على الازدحام.
ولو مات عن ألف، فادعى رجل أنه أوصى له بثلث المال، وادعى آخر أنه له عليه ألفاً. فإن بدأ الوارث بتصديق الموصى له، دفع إليه ثلث الألف، وصرف الباقي في الدين، وأشاروا إلى وجهٍ أنه يقدم الدين، مأخوذٍ من الوجه في تزاحم الدينين المتعاقبين، وهو متجه منقاس، وإن صدقهما معاً، قسم الألف بينهما أرباعاً؛ لأنه ازدحم عليه ألف وثلث، فعاد الثلث ربعاً بالعَوْل، وقياس الوجه الآخر سقوط الوصية، واختاره الصيدلاني، واستبعد القسمة بالأرباع، وقال: لو ادعى رجل أنه أوصى له بالثلث، وآخر أنه أوصى له بالجميع، فصدقهما الوارث، لاقتسما الألف أرباعاً، فكيف نجعل الدين مع الوصية كالوصية مع الوصية، وقد قدمه الله عليها.
فصل
في إقرار المريض للوارث
4408- إذا أقر لوارث في مرض الموت بدين، فطريقان: إحداهما -القطع بالقبول، وأشهرهما طرد قولين- أصحهما - القبول، هذا فيمن يرث عند الموت والإقرار، فإن كان وارثاً في إحدى الحالين دون الأخرى، فبأيهما نعتبر؟ فيه قولان، الجديد أن الاعتبار بحال الموت.
4409- إذا نفذنا الإقرار، فأقر في المرض أنه وهبه في الصحة هبة لازمة، وأنه أتلفها عليه في المرض، ففي البطلان لعجزه عن الإفشاء وجهان.(7/70)
فصل
في إقرار المريض بالاستيلاد
4410- إذا كان لأمته ابن، فقال: هذا ولدي منها، علقت به في ملكي، وولدته في ملكي، فالولد حر نسيب، لا ولاء عليه، وأمه أم ولد تعتِق من رأس المال؛ لأن إيلاد المريض كإيلاد الصحيح، إذ لا يحسب عليه ما صرفه في أغراضه من الثلث، وإن قال: هذا ولدي منها، ففي ثبوت الاستيلاد وجهان (1) ، وظاهر النص الثبوت.
وإن قال: هذا ولدي منها ولدته في ملكي، فوجهان (2) مرتبان، وأولى بالنفوذ، وإن كان عمر الولد سنة، فقال هذا ولدي منها، وملكي مستمر عليها من عشر سنين، ثبت الاستيلاد.
فصل
في الإقرار للحمل
4411- ويصح الإقرار [للحمل] (3) اتفاقاًً، ولو أقر لحمل، نفذ، إن أسنده إلى سبب صحيح، كالوصية، والميراث (4) ، وإن أطلق، فقولان: أوجههما - الصحة، وظاهر النص البطلان، وإن أسنده إلى جهة مستحيلة، كمعاملةٍ مع الجنين، فهل يبطل أو يخرج على قولي تبعيض الإقرار، إذا قال: له عليّ ألف من ثمن خمر؟ فيه طريقان.
والفرق أن بيع الخمر معتاد بخلاف معاملة الأجنة، فإن صححنا الإقرار، فانفصل ميتاً، فإن كان عن وصية، صرفت إلى ورثة الموصي، وإن كان عن إرث، صرف إلى
__________
(1) لاحتمال أنه أولدها في نكاحٍ، ثم ملكها. والفرق بين هذه الصورة والتي قبلها، أنه هناك عين أن الولادة كانت في ملكه.
(2) لأنه لم يعين أن العلوق كان في ملكه، وهذا هو الفرق بينها وبين الأولى.
(3) في الأصل: "بالحمل".
(4) كأن يقول: ورثه من أبيه، أو وصّى له به فلان.(7/71)
بقية الورثة، فإن وضعت حياً وميتاً، قدّر الميت كأنه لم يكن، وإن نفذنا الإقرار المطلق، أو المضاف إلى جهة مستحيلة، أُخذ المقر بالبيان، وفيه إشكال؛ إذ لا طالب له إلا السلطان.
ولو وضعته حياً لدون ستة أشهر من حين الإقرار، صُرف المال إليه، على ما تقتضيه الوصية، أو الميراث من التسوية، أو التفضيل، بين الذكور والإناث، فإن كانا اثنين، صرف إليهما ما يقتضيه التوريث، ودفع الباقي إلى سائر الورّاث (1) . وإن وضعته لأكثر من أربع سنين، بطل الإقرار، وصرف المال إلى ورثة الموصي، أو المورث، وإن وضعته لما بين الأربع [سنوات] (2) وستة الأشهر (3) ، فإن كانت فراشاً، بطل الإقرار (4) ، وإن لم تكن فراشاً، لم يبطل على أظهر القولين (5) .
__________
(1) كذا. وهو صحيح مطرد في جمع كل وصف على وزن (فاعل) كقارىء وقرّاء، وصانع وصناع.
(2) زيادة من المحقق.
(3) الأربع سنوات وستة الأشهر: هي أقصى مدة الحمل، وأقل مدته.
(4) كانت فراشاً، أي كانت تحت زوجٍ في زوجية قائمة، ويبطل الإقرار إذا وضعت الحمل المقرّ له ْبعد ستة أشهر؛ لاحتمال أن تكون علقت به بعد الإقرار، فيكون غير موجودٍ وقت الإقرار، فيبطل الإقرار لهذا الاحتمال؛ لأننا لم نتيقن وجوده عند الإقرار.
(5) وإن لم تكن فراشاً: أي لم تكن ذات زوج، بأن كانت متوفى عنها مثلاً، فقال المقرّ: عليَّ لهذا الحمل الذي في بطن فلانة ألف درهم، فلو أتت به لأقل من ستة أشهر، أو أكثر، إلى أربع سنوات، لم يبطل الإقرار؛ لاحتمال أن يستمر حملها لأقصى مدة الحمل (أربع سنوات) ، وهذا الاحتمال -على بعده وندرته- يجعلنا نصحح الإقرار.
تنبيه:
وهنا لا بدّ أن ننبه إلى عظمة أئمتنا، وعمق نظرتهم الإنسانية؛ حيث طلبوا أتم اليقين وغايته عندما تكون الحامل فراشاً، فقالوا: تأتي به لستة أشهر فأقل، حثى نصحح الإقرار، ولا نبطله.
أما في حالة ما إذا كانت الحامل غير فراشٍ، فقد صححوا الإقرار لأدنى احتمال، فلو جاءت به بعد ستة أشهر إلى أربع سنوات، فهناك احتمال أن تكون هذه الحالة من النوادر التي يبلغ فيها الحمل أقصى مدته.
وسرّ هذه التفرقة أننا في حالة ما إذا كانت فراشاً، لا نطمئن إلى أن نُؤكل الحمل المال الذي يرتبه له الإقرار إلا بيقين، وليس عندنا ما يدعونا لأن نؤكله هذا المال مع الاحتمال.
ْأما في حال ما إذا كانت غير فراش، فنحن في حاجة إلى إثبات نسب هذا الحمل، وفي =(7/72)
فرع:
4412- إذا فسر الإقرار المطلق بجهة الإرث، نزل الإرث على ما فسر، فإن فضل شيء، رُدّ على الورثة، وإن كان قد أقر بأن الجميع للحمل (1) ؛ إذ لا معرفة له بذلك، ولا تصح القسمة قبل الوضع، فيحمل إقراره على الإشاعة في جميع الميراث، ولا يمتنع أن يطلب الورثة القسمة (2) ؛ فينصب القاضي نائباً عن الحمل، ويأخذ بالأسوأ (3) في حقوق بقية الورثة.
فصل
ْفيمن أقر لواحد بعد واحد
4413- الحيلولة الفعلية موجبة للضمان، وكذا القولية فيما لا يُستدرك، كالطلاق والعتاق، وفيما يمكن تداركه بالتصادق قولان: أقيسهما - وجوب الضمان، فإذا رجع الشاهدان بعد الحكم، فإن كانت الشهادة بطلاق أو عتاق، ضمنا؛ إذ لا يستدركان، بالتصادق، وإن كانت في الأموال، فقولان يجريان فيما لو قال: هذه الدار لزيد، لا، بل لعمرو، أو غصبتها من زيد، لا بل من عمرو؛ فإنها تسلم إلى الأول، فإن سلمها الحاكم، ففي التغريم للثاني القولان، وإن سلمها المقر، فطريقان: إحداهما - التغريم، والثانية - فيه القولان.
__________
= حاجة إلى نفي تهمة الزنا عمن أتت به؛ فهان أمر المال بجانب هذا، فصححنا الإقرار، وأعطيناه المال لأدنى احتمال، إثباتاً للنسب، ونفياً للتهمة، تأمّل روعة هذا الفقه والفهم ومقايسة الأمور!! حينما تعلق الأمر بالمال واستحقاقه، طلبنا اليقين الكامل، وحينما تعلق الأمر بإثبات النسب ونفي التهمة، تعلقنا بأدنى احتمال، وهان أن يأكل المال تبعاً. رحم الله أئمتنا ورضي عنهم.
(1) صورة المسألة: أن يقول: عليّ لهذا الحمل عشرة آلاف، فهذا إقرار مطلق، فإذا طولب بتفسيره، ففسره بجهةٍ ممكنة كالإرث، صح الإقرار، فإذا فسره قائلاً: استحقه إرثاً عن أبيه، أو عن عمه، أو عن أخيه ... ، نزل الإرث على ما فسّره، بمعنى أن هذا الحمل -إن انفصل حياً- استحق بجهة الإرث المذكورة مع باقي الورثة.
(2) أي لا مانع من أن يطلب الورثة القسمة قبل وضع الحمل.
(3) بالأسوأ: أي من حيث حجب النقصان، وحجب الحرمان، وذكورة الحمل، وأنوثته، وتعدّده.(7/73)
ولو قال: العبد الذي خلفه أبي لفلان، لا بل لفلان، فقولان مرتبان على قوله: هذا العبد لزيد، لا بل لعمرو، وأولى بنفي الضمان، لأنه أضاف أول الإقرار، وآخره إلى غيره. وإن قال: غصبته من زيد، وملكه لعمرو، لزم التسليم إلى زيد، ولا يضمن لعمرو على المذهب؛ إذ لا منافاة بين أن تكون الدار لزيد، واليد لعمرو، بإجارة أو رهن، وقيل: في التغريم القولان.
ولو قال: هذه الدار لزيد، وقد غصبتها من عمرو، فالجمهور على أنها كالمسألة السابقة، فتسلم إلى عمرو، ولا غرم لزيد، على المذهب، وقيل: بل تسلم إلى زيد لتقديمه، وفي الغرم لعمرو القولان.
وإذا قال: غصبت من زيد، لزمه الرد اتفاقاًً، وإن جاز أن تكون يده عن إعارة أو إيداع؛ إذ يجب إعادة الأيدي إلى ما كانت عليه من الإبهام.
فصل
فيما يتعلق برقبة العبد وما لا يتعلق
4414- يتعلق برقبة العبد كل ما وجب بغير رضا المستحِق، كأبدال المتلفات، وكل ما لزم بغير رضا السيد، كبدل المبيع، والقرض إذا أتلفهما؛ فإنه يتعلق بذمته دون كسبه ورقبته.
ولو أتلف شيئاً بإذن السيد، لم يتعلق بكسبه، على الأصح، وما لزم برضا السيد والمستحِق، فإن لم يكن من التجارة: كالنكاح، والضمان، والشراء لغير التجارة، فلا خلاف في تعلقه بجميع الأكساب. وإن كان من التجارة، تعلق برأس المال وربحه، وفي سائر الأكساب خلاف، وهل يعد الاقتراض من التجارة؟ فيه احتمالان؛ لأن التاجر يحتاج إليه في بعض الأحوال.
وإذا أقر بإتلاف، فلم يصدقه السيد، لم يتعلق إلا بذمته، وعليه بدله بالغاً ما بلغ، وأَبْعد من أوجب الأقل من قيمة الرقبة أو الأرش.
وإن أقر بدين معاملة غير مأذونة، لم يتعلق إلا بالذمة، وإن أقر المأذون بدين معاملة، فإن كان الإذن باقياً، تعلق برأس المال والربح، وفي بقية الأكساب الخلاف.(7/74)
وإن حجر عليه، لم يقبل على الأصح، لعجزه عن الإنشاء؛ إذ كل من ملك الإنشاء، ملك الإقرار، ومن لا يملك الإنشاء لا يملك الإقرار إلا الإقرار بالرق، وإقرار المرأة بالنكاح.
4415- إذا أقر المأذون بدين مطلق، ثم فسره بدين معاملة، قُبل، وإن فسره ببدل إتلاف، لم يقبل، وإن مات قبل البيان، لم يحمل على دين المعاملة، على الأصح، لاحتمال أنه من إتلاف.
فصل
فيمن أقر بشيء ثم فسره بوديعة
4416- إذا قال: له علي عشرة، ثم أحضر عشرة، ذكر أنها وديعة، وفسر بها، ففيما يلزمه طريقان: أصحهما - أنه لا يلزمه إلا عشرة.
فإن انفصل تفسيره، ضمنها، فلم يقبل قوله في ردّها وتلفها، وإن اتصل تفسيره، ففي الضمان قولان، يقربان من قولي ذكر الأجل في الاتصال.
والطريقة الثانية - إن انفصل التفسير، لزمه العشرة المحضرة، ولا يلزمه عشرة
أخرى، في أصح القولين.
وإن اتصل التفسير، فقال: له علي عشرة وديعة، أو عشرة أودعنيها، فإن أوجبنا العشرين في الانفصال، ففي الاتصال قولان، والتفريع على الطريقة الأولى إذا قبلنا قوله في الانفصال، فقال: له في ذمتي عشرة، ثم جاء بوديعة، وفسره بها، فإن لم يتأول إقراره، لزمه عشرون، على المذهب، وإن تأوله بأنه اعتدى فيها، فلزمه ضمانها، ففي لزوم العشرين وجهان.
وإن قال: له علي عشرة ديناً، ثم فسر بالوديعة، فإن تأول كلامه، فعلى وجهين، وإن لم يتأوله، لزمه عشرون، وأبعد من ألحقه بما لو قال: له في ذمتي عشرة.
فرع:
4417- إذا قال: له علي عشرة، ثم ادعى أنها من ثمن خمرٍ، أو فسرها بوديعة، وزعم أن المالك شرط عليه ضمانها وأنه ظن وجوب الضمان، لم يقبل قوله(7/75)
في ذلك، وفي سماع دعواه للتحليف وجهان. هذا إذا فسر منفصلاً.
وإن وصل الإقرار بتفسير ينافيه، فإن لم يشعر بواقعة، كقوله: له علي عشرة إلا عشرة، لم يقبل، وتلزمه العشرة.
وإن أشعر بواقعة، فإن عُدَّ الكلام مع المفسر منتظماً، كقوله: علي ألفٌ وديعة، أو ألف من ثمن خمر، فقولان، وإن لم يعدّ الكلام منتظماً، كقوله: علي ألفٌ قضيتها، أو له في ذمتي ألفٌ وديعة، فالمذهب أنه لا يقبل، وأبعد من قال: فيه القولان.
4418- إذا قال: له عندي، أو معي، أو في يدي ألف، ثم فسر بالوديعة، قبل.
وإن قال: له عندي ألف درهم، ثم فسر بالعارية، لزمه الضمان، سواء صححنا إعارة الدراهم، أو منعناها؛ لأن ما يضمن إذا صح مضمون إذا فسد، وما لا يضمن صحيحه، لم يضمن فاسده.
فصل
فيمن قال: له في هذا العبد ألف
4419- الألفاظ ثلاثة: نص، وظاهر، [ومجمل] (1) ، فيعمل بموجب النص والظاهر، ويرجع في [المجمل] (1) إلى البيان.
فإذا قال: له في هذا العبد ألف درهم، سئل عن مراده، فإن فسره بأرش جناية، قُبل، وتخير بين أن يفديه أو يسلمه ليباع.
وإن فسر بأنه رهن بألف عليه، لزمه الألف، وفي قبول تفسيره وجهان: فإن قلنا: لا يقبل، فامتنع من التفسير، ففي حبسه (2) الأوجه الثلاثة (3) ، ولا يطالب بمجرد
__________
(1) في الأصل: "محتمل" والمثبت من تقسيم الإمام للألفاظ في البرهان، وهو الشائع في ألسنة الفقهاء. (ر. البرهان: 1/ فقرة: 236، والروضة: 4/371) .
(2) حَبْسه: أي حبسه حتى يفسِّر إقراره.
(3) والأوجه الثلاثة هي: "أولها -وهو أظهرها- أنا نحبسه حَبْسَنا إياه إذا امتنع من أداء الحق؛ لأن التفسير والبيان حقٌّ واجب. وثانيها - أنه لا يحبس، بل ينظر: إذا وقع الإقرار المبهم في جواب دعوى، وامتنع عن التفسير، جُعل ذلك إنكاراً منه، وتعرض عليه اليمين، فإن أصر، =(7/76)
التفسير، بل يدعي عليه بجهة ينبني عليها الطلب.
وإن فَسَّر بأنه وصَّى له من ثمنه بألف، بيع، وصرف إليه ألف، فإن فضل شيء، فهو للمقر، وإن بيع بالألف أو بدونه، صرف الثمن إلى المقر له، ولا حق للمقر في الثمن.
وإن فَسَّر بأنه وزن في ثمنه ألفاً، سئل عما وزن هو في الثمن، فإن قال: وزنت ألفاً، كان بينهما نصفين، وإن قال: وزنت ألفين، قضي له بالثلثين، سواء نقصت قيمة العبد أو زادت؛ لأنهما قد يَغْبنان ويُغبَنان.
فصل
في إضافة الإقرار إلى مال المقر
4420- إذا قال: له في مالي ألف درهم، لزمه.
وإن قال: من مالي، فهو وعد بالهبة، على النص فيهما، ولهم في النصين طريقان: إحداهما - أنه وعد بالهبة في الصورتين، والثانية - إن قال: من مالي، فهو واعد، وإن قال: في مالي، ففي كونه مقراً، قولان؛ لأن كلمة من للتبعيض، وكلمة في للظرف والمكان.
__________
= جعل ناكلاً عن اليمين، وحلف المدعي.
وإن أقر ابتداء، قلنا للمقر له: ادّع عليه حقك، فإذا ادعاه، وأقر بما ادعاه أو أنكر، فذاك، وأجرينا عليه الحكم، وإن قال: لا أدري، جعلناه منكراً، فإن أصر، جعلناه ناكلاً، وذلك أنه إن أمكن تحصيل الغرض من غير حبس لا يحبس.
والثالث - أنه: إن أقرّ بغصب، وامتنع من بيان المغصوب، حبس، وإن أقر بدين مبهم، فالحكم كما ذكرنا في الوجه الثاني" انتهى بتصرفٍ يسير جداً بألفاظ الرافعي حاكياً إياه عن إمام الحرمين (ر. الشرح الكبير -بهامش المجموع- 11/120، 121) .
وزاد النووي في الروضة وجهاً رابعاً هو - "إن قال: عليّ شيء، وامتنع من التفسير، لم يحبس، وإن قال: عليّ ثوب أو فضة، ولم يبين، حبس، قاله أبو عاصم العبادي، وأشار في شرح كلامه إلى أن الفرق مبني على قبول تفسير الشيء بالخمر ونحوه؛ فإنه لا يتوجه بذلك مطالبة وحبس". انتهى بنصه (ر. الروضة: 4/373) .(7/77)
وإن قال: له ألف في ميراث أبي، فقد أقر على أبيه بالدين، وإن قال: له في ميراثي من أبي، أو من ميراثي من أبي ألف، فهو وعد بالهبة، في الصورتين، وخرجه القاضي، وصاحب التقريب على الطريقين.
وإن قال: له في داري نصفها، لم يكن مقراً، وأجراه بعضهم على القولين، وغلطه الإمام؛ إذ لو قال: داري لفلان، لم يكن مقراً بلا خلاف.
وإنما يمكن تخريج تقدير الإقرار إذا قال: له في داري ألف درهم، وكذلك لو قال: له في عبدي، بخلاف ما لو قال: له في هذا العبد، فإنه لم يضفه إلى نفسه، فلذلك يؤخذ بالتفسير.
ولو أتى بكلمةِ (عليَّ) وأضاف المال أو الميراث إلى نفسه، أو إلى أبيه بكلمة (من) أو (في) ، لزمه ذلك؛ لإتيانه بصيغة الالتزام.
وإن قال: له عليّ في داري نصفها، لم يكن مقراً؛ إذ لا يصح التزام الأعيان.
قلت (1) : قد يصح التزامها بالنذر للمقر له، فينزّل الإقرار عليه؛ لإمكانه، أو يخرج على القولين في الإقرار المطلق للحمل.
فصل
في قبول الإقرار
4421- من التصرف ما يشترط فيه القبول، كعقود المعاوضة.
ومنه ما لا يشترط قبوله، ولكنه يبطل بالرد، فلا يعود إلا بإنشاء جديد، كالوكالة إذا لم نشترط قبولها، على الأصح.
ومنه ما لا يشترط قبوله، ولا يُبطله الرد على التأبيد، بل إن رجع فيه بعد الرد، لم يفتقر إلى إنشاء جديد، مثاله: لو أقر لرجل بثوب، فكذبه، ثم صدقه، وقال: تذكرت، فظهر لي صدقه، قُضي له بالثوب، وإن لم يجدد المقر الإقرار، وإن أصر على التكذيب، لم يحكم له بالملك في الحال، والمذهب أنه يترك في يد المقر، ليحفظه، وقيل: بل ينزعه الحاكم ليحفظه بنفسه، أو نائبه، أو يستحفظه المقر إن رآه أهلاً لذلك.
__________
(1) القائل هو العز بن عبد السلام.(7/78)
ولو أقر بأن بيده مالاً، لا يعرف مالكه، فالوجه القطع بالانتزاع، وأبعد من خرجه على الخلاف.
فرع:
4422- إذا أصر المقر له على التكذيب، فرجع المقِرُّ عن الإقرار، وزعم أن المقر به ملك له، وأنه اشتبه عليه، أو غلط في الإقرار، فإن أوجبنا الانتزاع، لم يقبل رجوعه، وكذلك إن لم نوجبه على المذهب، لأن المقر له لو رجع إلى التصديق، لقُبل اتفاقاًً.
وأبعد من نفذ رجوعه وتصرفه بشرط إصرار المقر له على الإنكار، وعلى هذا الوجه لو رجع المقر له إلى التصديق بعد تصرفٍ لازم، اتجه ألا ينقض لتعلقه بثالث.
فرع:
4423- إذا أقر بعبدٍ قد ثبت أنه يملكه، فإن صدقه المقر له، فأقر العبد لثالث، لم يقبل إقراره، لثبوت الملك عليه، وإن كذبه المقر له، ففي القضاء بحرية العبد وجهان؛ لأنه قد عاد إلى يد نفسه، فإن قلنا: يَعتِق، لم ينقض العتق برجوع المقر له إلى التصديق، وإن قلنا: لا يعتِق، ففي انتزاعه الوجهان.
فرع:
4424- إذا ثبتت اليد على إنسان، فادعى حرية أصلية، فالقول قوله، إذ الأصل حرية الإنسان، ولو كان بيده طفل يظهر أنه ملكه، ويتصرف فيه تصرف الملاك، فادعى بعد البلوغ حرية أصلية، فالقول قوله، على الأصح. وقد قال الفقهاء: الحزم للمالك أن يأخذ إقرار الرقيق بالرق، حذراً من الإنكار.
فصل
فيمن شهد بإعتاق عبد ثم اشتراه
4425- إذا شهد على رجل أنه أعتق عبده، فردت شهادته، بسببٍ من الأسباب، ثم اشتراه، صح الشراء، وعَتَق اتفاقاً، وولاؤه موقوف.
فإن مات عن كسبٍ، فله أن يأخذ منه قدر الثمن، على الأصبح، وأبعد من منع من أخذ الثمن للاختلاف في جهته.
وهذه المعاملة: شراء، أو فداء، أو بيع من جهة البائع، فداء من جانب(7/79)
المشتري؟ فيه ثلاثة أوجه: فإن جعلت فداء، فلا خيار لواحد منهما، وإن جعلت بيعاً من الجانبين، أو من أحدهما، فلا خيار للمشتري اتفاقاًً؛ إذ لا ملك له، وهل يثبت خيار المجلس للبائع؟ فيه وجهان، ولا يبعد أن يثبت له خيار الشرط، لأنه يقبل الإثبات من أحد الجانبين.
فرع:
4426- إذا اشترى لنفسه عبداً [ممن] (1) أقرّ بغصبه، صح عند الجمهور، ولزم دفعه إلى المغصوب منه، وقيل: لا يصح أن يشتري لغيره بمال نفسه، بخلاف ما ذكرناه في العتق، فإنه افتداء.
فصل
فيمن أقر بدراهم، ثم فسرها بناقصة أو مغشوشة
4427- الدرهم صريح في الخالص الذي زنة كل عشرة منه سبعة مثاقيل، فإذا أُطلق، حمل على الخالص الوازن، لأن لفظ الأقارير، والمعاملات صريح وكناية، فيحمل الصريح على ظاهره، ويرجع في الكناية إلى اللافظ، والصريح ما شاع تكرره في عرف الشرع، أو اللغة، فلفظ المال صريح في الأقل محتمل فيما زاد، فيرجع فيه إلى البيان.
فإن أطلق الإقرار بالدراهم، ثم فسرها بالنقص، فإن انفصل التفسير، وكانت دراهم بلد الإقرار وازنة، لم يقبل، وإن كانت ناقصة، قبل، على الأصح، وإن اتصل التفسير، فإن كانت أوزان البلد ناقصة، قبل، وكذا إن كانت وازنة على الأصح، وقيل: فيه قولان.
فإن حملنا الإقرار على الناقصة، فالمعاملة بذلك أولى، وإن حملناه على الوازنة، ففي المعاملة وجهان.
وإذا اختلفت الدراهم في طبعها، وسكتها، حملت المعاملة على أغلبها في موضع المعاملة، اتفاقاً، والفرق أن العرف لا يؤثر في تغيير الصريح، وإنما يؤثر في
__________
(1) زيادة من المحقق اقتضاها السياق.(7/80)
إزالة الإبهام؛ ولذلك لو عم العرف باستعمال لفظ الطلاق في الخلاص والانطلاق، ثم زعم الزوج أنه أراد ذلك بلفظه، لم يُقبل، ويعتبر في تعليق الطلاق، والخلع، والعتاق من الدراهم ما يعتبر في الإقرار.
فرع:
4428- التفسير بالمغشوشة كالتفسير بالناقصة؛ لأن الغش موجب
للنقصان.
ولو عمت الفلوس في ناحية، لم يحمل عليها مطلق الدراهم اتفاقاًً.
فرع:
4429- تصغير الدرهم لا يقتضي النقصان، فإذا قال: له عليّ دريهم، أو دريهمان، لزمه الوازن اتفاقاًً؛ لأن الصغر والكبر إضافيان، فالدرهم الصريح صغير بالنسبة إلى البغلي، كبير بالنسبة إلى الطبري.
فصل
في بيان العطف والتأكيد في الإقرار والطلاق
4430- إذا قال: له علي درهم في دينار، فهو كما لو قال: له في هذا العبد دينار في جميع الصور إلا في الجناية، وإن فسر بأنه درهم مع دينار، لزمه الدرهم والدينار، وإن قال: له علي درهم درهم، أو: درهم، بل درهم، لزمه درهم واحد. وإن قال: درهم بل درهمان، لزمه درهمان، وإن قال: له هذا الدرهم، بل هذان الدرهمان، لزمه الثلاثة.
وإن قال: درهم ودرهم، لزمه درهمان، وإن قال: درهم، ودرهم، ودرهم، أو قال: أنت طالق وطالق وطالق، فإن أراد باللفظ الأخير التحديد، لزمه ثلاثة دراهم، ووقع ثلاث طلقات، وإن أراد به التأكيد، لزمه درهمان، ووقع طلقتان، وإن أطلق، فقولان عند الأصحاب، وقال الإمام: يتجه تخصيصهما بالطلاق، وأن يُرجع في الإقرار إلى البيان. وإن أراد بالثالث تأكيد الأول، ففي القبول وجهان.
وأبعد من قبل ذلك في الإقرار دون الطلاق.
ولو قال: درهم ثم درهم، ثم درهم، فهو كقوله: درهم، ودرهم، ودرهم.(7/81)
ولو قال: درهم ثم درهم ودرهم، أو درهم ودرهم ثم درهم، لزمه ثلاثة؛ لاختلاف العاطف. وإن قال: درهم ثم درهم، لزمه درهمان. وإن قال: درهم فدرهم، فإن أراد العطف، لزمه درهمان، وإن أراد فدرهمٌ لازم إذاً، لزمه درهم، على النص، ويقع في نظيره من الطلاق طلقتان، وخرّج ابن خيران المسألتين على قولين، والفرق أصح؛ لأن الإقرار يقبل التكرار وإن طال الزمان، بخلاف الطلاق، ولذلك لو أتى بلفظ الإقرار في يومين، لزمه شيء واحد، ولو أتى بلفظ الطلاق في يومين، وقع طلقتان.
فصل
فيما يختلف فيه الطلاق والإقرار
4431- إذا قال: له علي درهم فوق درهم، أو فوقه درهم، أو تحت درهم، أو تحته درهم، أو مع درهم، أو معه درهم، فالنص لزوم درهم، ويقع في نظيره من الطلاق طلقتان، وأبعد من خرج ذلك في الإقرار، وأوجب درهمين؛ إذ يحتمل أن يريد بالفوقية والتحتية الجودة والرداءة، أو يريد فوق درهمٍ لي، أو تحت درهم لي، ولا ينتظم مثل هذا في الطلاق.
ولو قال: درهم قبل درهم، أو قبله درهم، أو بعد درهم، أو بعده درهم، فالنص وجوب درهمين، وعلى قولٍ مخرج يجب درهم، وقيل: إن قال: قَبْل درهم أو بعد درهم، وجب درهم، وإن قال: قبله أو بعده، وجب درهمان.
فصل
في الإضراب عن الإقرار
4432- إذا قال: له علي قفيز، لا بل قفيزان، لزم قفيزان. ولو قال: أنت طالق طلقة، بل طلقتين، فقد نحكم بوقوع الثلاث.
وإن قال: درهم، لا بل قفيزان، لزم درهم وقفيزان. وإن قال: عشرة، لا بل(7/82)
تسعة؛ وجبت العشرة، وإن قال: دينار وديناران، لا بل قفيز وقفيزان، لزم ثلاثة دنانير وثلاثة من القفزان، وإن قال: دينار فقفيز حنطة، لم يجب إلا الدينار، وإن قال: ما بين درهم إلى عشرة، لزم ثمانية اتفاقاًً. وإن قال: من درهم إلى عشرة، فالواجب ثمانية، أو تسعة، أو عشرة؟ فيه ثلاثة أوجه.
وإن قال: بعتك من الجدار إلى الجدار، لم يدخل الجداران، والفرق أن التحديد إنما يحسن فيما يتعلق به الحسّ والعيان.
فصل
في إعادة الإقرار
4433- إذا أقر بألفٍ في يومين، أو والى بين الإقرارين، فإن اتفق وصفهما وسببهما، أو أمكن اتفاقهما، لزم ألف واحد، وإن اختلفا أو أحدهما، وجب ألفان.
وإن اختلف قدر المقرّ به، واتفق سببه ووصفه، دخل الأقل في الأكثر، سواء تقدم الأكثر، أو تأخر، فإذا أقر يوم السبت بألف، ويوم الأحد بألفين، وجب ألفإن، وإن أقر يوم الأحد بألف، ويوم الجمعة بألف، أو بخمسمائة، لزمه ألف.
وإن أقر يوم السبت بألف صحاح، أو من ثمن مبيع، ويوم الأحد بألف مكسر، أو من قرض وجب ألفان، وإن أقر يوم السبت بألف مطلق، ويوم الأحد بألف صحيح أو مكسر، لزمه ما يقتضيه التقييد من الصحة أو التكسير، ولو لزمه ألف، فأثبت أن المستحِق أقر بقبض خمسمائة في شعبان، وبثلثمائة في رمضان، وبمائتين في شوال، فإن كانت هذه الأشهر تواريخ [للقبض] (1) ، لم يثبت القبض إلا في خمسمائة، وإن كانت تواريخ لما أقرّ به من القبوض، ثبت قبض الألف.
__________
(1) في الأصل: "للإقرار" والمثبت تصرّف من المحقق.(7/83)
فصل
فيمن أقر بوراثة، أو وصية، أو توكيل، ثم امتنع من التسليم
4434- إذا أقر للميت بدين، وحصر إرثه في معين، لزمه التسليم إليه، ولو صدق على التوكيل في قبض الدين، لم يلزم التسليم إلى الوكيل، ما لم يثبت التوكيل، على النص في الصورتين.
وللأصحاب في النصين ثلاث طرق: إحداهن - في الصورتين قولان بالنقل والتخريج. والثانية - القطع [بالتسليم] (1) . والثالثة - القطع بالتسليم في صورة الإرث، والتردد في صورة التوكيل، والفرق أَمْنه من التكذيب في صورة الإرث، وتوقعه في التوكيل. ولو ادعى أنه وصِيُ الميت على أولاده، فصدّقه من عليه الحق، فهو كالتصديق على التوكيل، إذ لا يأمن تكذيب الأطفال عند الاستقلال.
فصل
فيمن ادعى أنه تزوج أمة وادعى المالك أنه باعها منه
4435- إذا كان بيد رجل جارية، فقال لمالكها: زوّجتنيها، فقال: بل بعتكها (2) ، حلف كل واحد منهما على نفي ما يُدّعى عليه؛ لأنهما اختلفا في عقدين، بخلاف المتبايعين (3) .
__________
(1) في الأصل: "بالتقرير"، والمثبت تصرفٌ من المحقق، رعاية للسياق.
(2) من ادّعى البيع يطلب الثمن؛ لأنه سلّم المبيع، ومن ادعى الزواج يقرّ بالمهر، وينكر الثمن. فكل واحد منهما يدّعي الأفضل له، لأن الثمن أكبر من المهر، لا شك.
(3) فإن حلفا، سقطت دعوى الثمن، ودعوى النكاح، ولا مهر، سواء دخل بها صاحب اليد أم لم يدخل؛ لأنه وإن أقر بالمهر لمن ادعاه مالكاً مزوِّجاً، فهو منكر للتزويج مكذب للمقر بالمهر، وشرط صحة الإقرار عدم تكذيب المقرّ له، وتعود الجارية إلى المالك؛ لأن من له اليد عليها مقرّ له بملكها، وتوجيه عودتها سيأتي في كلام المؤلف قريباً. وانظر في بسط هذه المسألة (روضة الطالبين: 4/409، 410) .(7/84)
وقال في التقريب: إن جعلنا يمين الرد كالإقرار، فلا يمين على مدعي البيع، لإقراره بزوال ملكه، ومن أقر بزوال ملكه، لم يسمع إقراره بالزوجية (1) .
وقال الإمام: إن قبلنا رجوع المقر عن الإقرار (2) ، فالحكم ما ذكره الأصحاب، وإن لم نقبل رجوعه، فالحكم ما ذكره صاحب التقريب.
قلت (3) : الوجه ما ذكره الأصحاب؛ لأنا إنما رددنا الإقرار بالتزويج بعد زوال الملك لما فيه من الإضرار بالمالك، وهاهنا لا ضرر على مدعي الزوجية في تصديقه عليها، والحق لا يعدوهما.
والتفريع على ما ذكره الأصحاب، فإذا حلف كل منهما على نفي ما ادُّعي به عليه، فإن كان التنازع قبل الوطء، أو بعده وقبل الإحبال، فهل لمدعي البيع أن يفسخه، لتعذر الثمن، كما يفسخ في صورة الإفلاس، أو يخرّج على الظفر بغير الجنس؟ فيه وجهان، وهل ينتزع الحاكم المهر ليحفظه، أو يتركه بيد الواطىء؟ فيه وجهان.
وأيهما نكل عن اليمين، حلف الآخر يميناً للنفي، وأخرى للإثبات، وأبعد القاضي، فاكتفى بيمين تجمع النفي والإثبات.
وإن كان التنازع بعد الاستيلاد، فلا تعلق لمدعي البيع بالجارية، ويعتِق ولدُها، ويثبت لها حكم الاستيلاد، لاعتراف المالك بجميع ذلك، ولمدّعي التزويج أن يطأها في الباطن، وكذا في الظاهر على الأصح، وأبعد من أطلق وجهين، ولم يفرق بين الباطن والظاهر.
__________
(1) هناك خلاف -سيأتي تفصيله في كتاب الدعاوى والبينات- في عدّ يمين الرد بمنزلة البينة، أو بمنزلة الإقرار، وبكل منها تنقطع الخصومة.
فإذا اخترنا جَعْلَ يمين الرد إقراراً، فلا يمين على مدعي البيع؛ لأنه مقر بزوال ملكه، فعلى تقدير النكول، وفصل الخصومة بيمين الرد، نكون جعلناه قد أقرّ بتزويج أمةٍ لا يملكها، ومثل هذا الإقرار لا يسمع. هذا مأخذ كلام صاحب التقريب، وبيان مبناه ومعناه.
(2) علق الإمام (إمام الحرمين) قبول قول صاحب التقريب على حكمنا بأن رجوع المقر عن إقراره لا يقبل، أما إذا قبلنا رجوع المقر عن إقراره، فلا مانع من أن يحلف مدعي البيع - كما ذكره الأصحاب، وتكون يمين الردّ -إذا فصلت بها الخصومة- إقراراً آخر رجع به عن إقراره الأول.
(3) "قلت": القائل هو العز بن عبد السلام.(7/85)
وإنما غلط في ذلك من غلط، لظنهم أن الاختلاف في الجهة يمنع الحلّ، حتى قال كثير منهم: الاختلاف في الجهة لا يبيح إن كان في الأبضاع، وإن كان في الأموال، فوجهان.
وإنما نشأ هذا الغلط من نص الشافعي أن من اشترى زوجته بشرط الخيار، لم يجز؛ لأنه لا يدري أيطأ زوجته أو مملوكته، وقد تصرف الأصحاب في النص، فقالوا: إن بقَّيْنا ملك البائع، جاز الوطء؛ لأنها زوجته، وإن نقلنا الملك إلى المشتري، فحِلّ الوطء وتحريمه على ما تقدّم في البيع إذا كان الخيار لهما أو لأحدهما. وإن وقفنا الملك، فهذه مسألة النص: من جهة أن النكاح ينفسخ بالملك الضعيف الذي لا يُبيح الوطء، فلو وطئها، لكان وطؤه مردداً بين أن يقع في زوجة يجوز وطؤها، أو في مملوكة لا يجوز وطؤها.
فرع:
4436- نفقة الأولاد على المستولد عند الجمهور، كما لو قال لإنسان: بعتك أباك، فأنكر، فإنه يعتِق عليه، ويلزمه نفقته.
ونفقةُ المستولدة على المستولد إن أبحناها له، وإن حرّمناها، فلا نفقة عليه؛ لأن تحريمها كنشوزها، وهل تجب في كسبها، أو على مدعي البيع؟
فيه وجهان: أظهرهما - أنها عليه؛ لأنها كانت لازمة له، فلا تسقط عنه بدعواه، فإن أوجبناها في كسبها، فلم تكن وجبت في بيت المال، وإن ماتت في حياة المستولد، كانت مؤونة تجهيزها وتكفينها كنفقتها، فإن تركت كسباً، وُقف، فإن كان الثمن قد استوفي من المستولد، فله أن يأخذ من الكسب بقدره، وإن مات المستولد قبلها، عَتَقَت بموته، فإن ماتت بعده عن كسب، ورثه أقاربها، فإن لم يكن لها قريب، وقف كسبها، ويؤخذ منه قدر الثمن، إن كان قد ثبت بالبينة، وإن كان البائع لم يقبض الثمن، فله أخذه من الكسب؛ لأنه إن كُذِّب، فالكسب له، وإن صُدِّق، فقد ظفر بمال الظالم، وأبعد من منعه من الأخذ.(7/86)
فصل
في جواب الدعوى
4437- إذا ادعى عليه بمال، فقال: أنا مقر، لم يلزمه شيء، لاحتمال أن يريد: أنا مقر ببطلان ما ادعيت، وإن قال: صدق، أو بلى، أو نعم، أو أجَل، أو قال: أنا مقر بما ادعيت، أو أقر بما ادعيت، لزمه ذلك، لوجود صرائح الإقرار.
وخالف القاضي في قوله: أنا أقر بما ادعيت، لإمكان حمله على الوعد بالإقرار، وفرق بينه وبين لفظ الشهادة؛ فإنها لا تحمل على الوعد لقرائن الأحوال، وعرف الاستعمال، ولما في لفظها من التعبد، ولذلك لو قال الشاهد: أعلم وأتيقن، لم تقبل على الأصح، وهذا مما انفرد به، والقرائن أيضاً تصرف هذا اللفظ إلى الإقرار، وإن جاز حمله على الوعد، فالقياس أن الوعد بالإقرار إقرار، كما جعل الجمهور التوكيل بالإقرار إقراراً.
فصل
في نكول المدعى عليه
4438- إذا سكت بعد الدعوى، أو قال: لا أقر، ولا أنكر، كان ذلك كالتصريح بالإنكار، فإن أصر عليه، حكم بنكوله، وردت اليمين على خصمه، ولا يبادر الحاكم إلى ردّ اليمن حتى يغلب على ظنه النكول، ويأخذ في ذلك بقرائن الأحوال؛ لأن سكوته قد يكون عن دهشة أو تأنٍّ، أو هيبة، وقد يكون للنكول والامتناع، وحسنٌ أن يقول له: إن تماديت على السكوت، حكمت بنكولك، وحلَّفت خصمك، والأولى ألا يحكم بنكوله حتى يعرض اليمن عليه ثلاثاً، وتكفي (1) العرضة الواحدة.
__________
(1) لعلها: "وقيل: تكفى العرضة الواحدة".(7/87)
فإن قال: أنظرني حتى أفكر وأراجع الحساب، لم نمهله.
وإن صرح بالنكول، أو قال: لا أحلف، أو ظهر للحاكم أن سكوته نكول، ثم رغب في اليمين، فإن كان قبل الحكم بنكوله، أجبناه.
وإن كان بعد الحكم، منعناه، إلا أن يرضى المدعي بتحليفه، فلهما ذلك، اتفاقاًً.
وقيل يسقط يمينه بالتصريح بالامتناع، كما يسقط بالحكم بالنكول إذا سكت.
ولو أعرض الحاكم عنه، وأقبل على المدعي ليحلفه، كان كالحكم بنكوله، وقيل: لا يمتنع تحليفه ما لم يعرض اليمين على المدعي.
والحاصل أن يمين المدعى عليه لا تسقط إلا بإقراره، أو الحكم بنكوله، مع رغبة خصمه في يمين الرد.
فصل
في نكول المدعي
4439- إذا نكل المدعي عن اليمين المردودة، كان كحلف المدعى عليه في انقضاء الخصام، وإن سكت، أو قال: سأفكر وأراجع الحساب، فله أن يحلف متى أراد.
وقيل: إذا ظهر للحاكم نكوله، لم يمهله، وحكم بانقضاء الخصومة؛ اعتباراً بجانب المدعى عليه، بل أولى؛ لأن المدعى عليه قد تفجؤه الدعوى مع التباس الحال، والمدعي لا يُقْدم إلا عن بصيرة؛ لأنه مختار في الدعوى، فيبعد أن يتمكن من إحضار المدعى عليه للتحليف متى أراد.(7/88)
فصل
فيمن أقر بشيء، ثم تأول الإقرار
4440- إذا أقر بهبة وإقباض، أو رهن وإقباض، ثم قال: لم أقبضه حقيقة، بل ظننت أن القبض يحصل بالقول، أو اعتمدت على كتاب وكيل صدوق، ثم بان أنه مزور، فالنص سماع دعواه لتحليف خصمه، فإن حلف أنه أقبضه حقيقة، انقطع الخصام، وإن نكل، ردت اليمين عليه، فإن حلف، قضي له.
ولو أقر على نفسه أنه اقترض، أو باع وقبض الثمن، ثم ادعى أنه لم يقبض ذلك، وإنما قدم الإشهاد بالقبض على ما جرت به العادة، وطلب يمين الخصم، فالمذهب أنه لا يجاب، لأنه لم يتأول الإقرار، فلا نخالف الصريح لأجل الاعتياد، وفيه وجه أنه يجاب، فعلى هذا لو كان المشتري قد صالح عن الثمن، ففي كيفية يمينه وجهان: أحدهما - يكفيه أن يحلف أنه لا يلزمه تسليم الثمن، والثاني - يحلف على المصالحة، ولا يضره؛ لاعتضاده بالإقرار السابق، وبأن الصلح معتاد.
ولو أشهد على نفسه بإتلاف، ثم ادعى أنه ما أتلف، وإنما أشهد على نفسه بذلك لعزمه على الإتلاف، لم تسمع دعواه؛ إذ لا تأويل، ولا اعتياد.
فصل
فيمن باع عبده من نفسه أو أعتقه على عوض ناجز
4441- إذا قال لعبده: أنت حرٌّ على ألف، فقبل متصلاً، أو قال: إن ضمنت لي ألفاً، فأنت حر، فضمن متصلاً، عَتَقَ في الحال، ولزمه الألف، وثبت عليه الولاء. وإن قال: إن أعطيتني ألفاً، فأنت حرّ، اختص الإعطاء بالمجلس، فإن أعطاه ألفاً، كان اكتسبه، أو اغتصبه، وقع العتق، على الأظهر، وقيل: لا يقع حتى يعطيه ألفاً من كسبه يحدثه بعد التعليق؛ لأن الغرض من التعليق حثه على الاكتساب.
فعلى هذا إن تُصوّر أن يكتسبه في المجلس، ويدفعه إليه، عتق، وإلا فلا.(7/89)
وإن قال: بعتك نفسك، فقال: قبلت، فقولان: أحدهما - لا يصح، ولا يعتِق، والثاني - يصح، ويعتق، ونُلزمه الثمن، وثبت الولاء. وأبعد من نفى الولاء. ولا يثبت في هذه المعاملة خيار المجلس، ولا خيار الشرط.
ولو اشترى الرجل أباه، ففي ثبوت خيار المجلس للمشتري وجهان، فإن أثبتناه، ففي خيار الشرط وجهان، فإن أثبتنا الخيار للمشتري، فالبائع بذلك أولى، وإن منعناه، ففي ثبوته للبائع وجهان: والأظهر أنه لا يثبت لواحدٍ منهما؛ لأنه عقد إعتاق.
ولو اشترى من شهد بحريته، فلا خيار له اتفاقاًً.
فصل
فيمن ادعى شيئاًً، فاختلفت الشهادة له بالزيادة والنقصان
4442- إذا ادعى ألفين، فشهد بهما شاهد، وشهد آخر بألف، أو بخمسمائة، ثبت الألف، أو الخمسمائة، ولو ادعى ألفاً، فشهد به أحدهما، وشهد الآخر بألفين، ردت شهادته بالألف الزائد.
فإن كذبه المدعي فيه، ففي قبول شهادته في الألف المدعى به قولا تبعيض الشهادة.
وإن صدقه، فهل يصير مجروحاً في الألف الزائد على الخصوص؟ فيه وجهان يجريان في كل شهادة تقدمت الدعوى، والقياس أنه لا يصير مجروحاً بذلك، لضعف تهمة المبادرة، فإن أثبتنا الجرح، فلا يتعدى إلى غير تلك الواقعة من الشهادات، وفي تأبده وجهان: أحدهما - التأبد، كالفاسق إذا ردّت شهادته، فأعادها بعد التعديل. والثاني - يستمر الجرح إلى أن يستبرىء، وتزول عنه تهمة المبادرة.
وإن لم يثبت الجرح، ففي قبول شهادته في الألف المدعى به طريقان: إحداهما - التخريج على التبعيض، والثانية - القطع بالقبول؛ لأن تهمة المبادرة ضعيفة، فلا تمنع(7/90)
القبول في غير محلها كما لو أتى بلفظ الشهادة في غير مجلس الحكم.
فرع:
4443- لو ادعى بالألفين ثانياً، فأعاد الشهادة بهما، فإن لم نثبت الجرح، قبلت شهادته، وإن أثبتناه، ردت في الألف الزائد، وفي الآخر قولا التبعيض، فإن قلنا بالتبعيض، ثبت الألف، وإن منعنا التبعيض، فلا بد من إعادة الشهادة بالألف المدعى، ولا يشترط إعادة الدعوى على الأصح.
فصل
فيما يلفق من الشهادات وما لا يلفق
4444- إذا ادعى عليه بألف ثمناً، فأنكر، واعترف بألف قرضاً، ففي ثبوت ألفٍ وجهان، والأكثرون على الإثبات، ولو ادعى بألفٍ ثمناً، فشهد شاهد له، أو أحدهما بألف قرضاً، لم يثبت شيء، وإن شهد أحدهما بطلاق في شعبان، والآخر بطلاق في رمضان، لم تتلفق الشهادتان.
ولو شهد أحدهما أنه أقر في شعبان بغصب مكانٍ معين، وشهد الآخر أنه أقر في رمضان بغصب ذلك المكان، تلفقت الشهادتان، هذا هو النص، وعليه الجمهور، وخرج بعضهم مسألة الغصب والطلاق على قولين، ولا يتجه التخريج في الطلاق، وإن اتجه في الإقرار؛ لأن لفظ الإقرار لو أتى به في يومين، لم يتعدد الحق، ولو أتى بلفظ الطلاق في يومين، لتعدد الطلاق.
والذي نقله المعتبرون أن المشهود به إذا تعدد أو اختلف بالزمان، أو المكان، فإن كان إقراراً، واتحد المقرّ به، تلفقت الشهادتان، وإن كان إنشاء كالبيع والإتلاف والطلاق، فلا تلفيق، فلو شهد أحدهما أنه أقر بألف في شعبان، والآخر أنه أقر بألف في رمضان، أو شهد أحدهما أنه أقر بالعربية بألف، أو بقذف، وشهد الآخر أنه بالعجمية بألف، أو بقذف، ثبت الألف والقذف، وتلفقت الشهادتان.
ولو شهد أحدهما بألف ثمناً لبيع أنشأه في شعبان، وشهد الآخر بألف ثمناً لبيع أنشاه في رمضان، أو شهد أحدهما أنه قذف بالعربية، والآخر أنه قذف بالعجمية، أو(7/91)
شهد أحدهما بقذف يوم السبت، والآخر بقذفٍ يوم الأحد، أو شهد أحدهما بقذف بالشام، والآخر بقذف في العراق، لم تتلفق الشهادتان.
فروع:
4445- الأول - إذا شهد أحدهما على إقراره بقذفٍ عربيٍّ، والآخر على الإقرار بقذفٍ عجمي، ثبت القذف عند الأصحاب، وخالفهم القاضي، وأبو محمد؛ إذ المقر به مختلف (1) .
والثاني - لو شهد أحدهما أنه أقر بألف ثمناً، والآخر أنه أقر بألف قرضاً، فقد حكى القاضي ثبوت الألف، وهذه هفوة، قطع الإمام بخلافها لتعدد المقرّ به، ولذلك لو شهد على كل واحدة من هاتين الجهتين شاهدان، أو أقر بذلك عند الحاكم، للزمه ألفان.
الثالث - إذا ادعى بألف مطلق، فشهد به أحدهما، وشهد الآخر بألف من قرض، ففي ثبوت الألف خلاف، والأظهر الإثبات.
الرابع - إذا ادعى الملك، فشهد اثنان على إقرار المدعى عليه بالملك، ثبت الملك وإن لم يتعرض في الدعوى للإقرار. وأبعد من شرط دعوى الإقرار. وإن ادعى الملك، ولم يتعرض للإقرار، فأقر له به عند الحاكم، ثبت الملك اتفاقاًً، وإن ادعى أن حاكماً حكم له بالدار، أو أن عدلين شهدا له بها عند بعض الحكام، فإن أضاف إلى ذلك دعوى الملك، سمعت دعواه، وإلا، فلا، ولو ادعى الملك والإقرار، سمعت دعواه، وإن جرّد الدعوى بالإقرار، لم تسمع على الأظهر.
الخامس - إذا ادعى الملك، فشهد به أحدهما، وشهد الآخر على الإقرار به، فلا تلفيق على الأظهر، وأبعد من لفق؛ لاجتماعهما على المقصود.
__________
(1) المذهب ما اختاره القاضي وأبو محمد، فقد اتفق عليه الشيخان الرافعي والنووي (ر. الشرح الكبير -بهامش المجموع- 11/157، والروضة: 4/390) .(7/92)
فصل
في تبعيض الإقرار
4446- إذا أتى بلفظ ملزم بتقدير الاقتصار عليه، ثم عقبه بما ينافيه، فله حالان: إحداهما - أن يتضمن الإسقاط، وفيه صور:
الأولى - أن يستند إلى واقعة يخفى حكمها على بعض الناس، كقوله: له علي ألف من ثمن خمر، أو خنزير، أو ضمان بشرط الخيار، ففي لزوم الألف قولان، ويتجه أن نفرق بين العالم والجاهل (1) ، ولم يصر إليه أحد من الأصحاب.
الثانية - أن يستند إلى واقعة لا يخفى حكمها على أحد كقوله: علي ألف قضيته، فهل يلزمه أو يخرج على الخلاف؟ فيه طريقان.
الثالثة - أن يُعدّ مطلقُه هازلاً، كقوله: له علي ألف إلا ألفاً، أو له علي ألف لا شيء له علي، فيلزمه الألفء
الرابعة - أن يقول: لك علي ألف إن شاء الله، أو إن شئت، فلا يلزمه شيء عند الأصحاب، وخرج صاحب التقريب التعليق بمشيئة الله على القولين، وقال الإمام: التعليق بمشيئة العباد أولى بالخلاف؛ لأن التفويض إلى مشيئة الله معتاد بخلاف التفويض إلى مشيئة العباد.
فرع:
4447- إذا قال: بعتك إن شئت، فقال: قبلت، انعقد البيع على أحد الوجهين، وهو اختيار القاضي؛ إذ البيع مفوض إلى مشيئة القابل. ولو قال: اشتريت ثوبك بدرهم، فقال: بعتكه إن شئت، فإن لم يجدد القبول، لم ينعقد، وكذلك إن جدده على قياس القاضي؛ إذ يبعد حمل المشيئة على طلب القبول مع تقدمه، وإذا تعذر ذلك، صار تعليقاً للبيع.
الخامسة - أن يقول: لك هذه الدار عارية أو هبة عارية، فيحمل على العارية
__________
(1) "نفرق بين العالم والجاهل": بمعنى أن من كان عالماً بأن ثمن الخمر ونحوه لا يلزم، فلا يعذر، ويصح الإقرار، أما من كان جاهلاً بأن ثمن الخمر لا يلزم، فلا يصح إقراره.(7/93)
والهبة، على النص وقول الأكثرين، وخرجه في التقريب على القولين، فإن ادعى أنه لم يقبض الهبة، فالقول قوله في نفي القبض.
الحال الثانية - ألا يتضمن الإسقاط، وفيه صور:
الأولى - أن يعلقه على تسليم مبيع كقوله: له علي ألف من ثمن هذا العبد، أو من ثمن عبد، فإن سلم العبد، سلمت الألف، فهل يقبل أو يجري على القولين؟ فيه طريقان.
الثانية - أن يقر بمال، ويصفه بوصف، فيلزمه مع الوصف، كقوله: علي ألف مكسرة، فيلزمه المكسرة.
الثالثة - أن يقول: علي ألف مؤجل، فيلزمه الألف، وأما الأجل، فإن لم يذكر سبب الدين، أو ذكر سبباً يقبل الحلول والتأجيل، فهل يثبت الأجل، أو يخرج على القولين؟ فيه طريقان. وإن ذكر سبباً يقبل أحد الأمرين، فإن لم يقبل التأجيل كالقرض، سقط الأجل، وإن لم يقبل الحلول، كدية الخطأ، فإن صدّر الإقرار بالأجل، ثبت، وإن عقبه به،، فهل يثبت أو يخرّج على الطريقين في التأجيل؟ فيه خلاف. والمحققون على الإثبات.
ولو أطلق الإقرار، ثم فسره بالمؤجل، أو أضافه إلى الخمر - بعد طول الفصل لم يقبل.
فصل
في تعليق الإقرار، وفيمن أقر بغير لغته
4448- إذا علق الإقرار على شرط، لم يصح، فإذا قال: إذا جاء رأس الشهر، فلك علي ألف، لم يلزمه اتفاقاً؛ لأن هذا اللفظ، وإن تردد بين التعليق والوصية والتأجيل، فلا يجب شيء بالاحتمال، وإن فسر بأجل، أو وصية، أمر بدفعها عند رأس الشهر، قيل: وإن قال له: علي ألف إذا جاء رأس الشهر، فإن فسره بالتعليق، فعلى قولي تبعيض الإقرار، وإن فسره بالتأجيل، فعلى طريقي الوصف بالتأجيل.
وإن أقر عربي بالعجمية، أو عجمي بالعربية، صح. فإن قال: لقنت كلمة لا أفهمها، قُبل قوله إلا أن يكذبه، وكذلك حكم العقود والحلول والطلاق وأشباهها.(7/94)
فصل (1)
في الشهادة بالإقرار من غير تعرّض لشروطه
قال الشافعي رضي الله عنه بعد ذكر ضمان الدّرَك: "ولو شهدوا على إقراره، ولم يقولوا صحيح العقل.. إلى آخره" (2) .
4449- ذكر الشافعي ضمان العهدة والدّرك وقد مضى مفصّلاً في كتاب الضمان، ولستُ أرى لإعادته وجهاً، وذكر أيضاً أن العربي إذا أقر بلغة العجم، صحَّ، وكذلك عكس هذا، ولو أقر بغير لغته، ثم قال: لُقِّنتُ، ولم أفهم ما تلفظتُ به، فإن كانت الحالةُ تكذّبه، لم يقبل ذلك منه، وإن لم يبعد صدقه فيما ادعاه، قُبل ذلك منه، ولا اختصاص لهذا بالأقارير، بل هو جارٍ في العقود، والحلول، والطلاق. وما في معناها.
ومما يتعلق بالألفاظ وغرضِ الفصل التعرضُ لصيغة الشهادة على الأقارير.
فإذا شهد عدلان: أن فلاناً أقر لفلانٍ بألف، فظاهر النص أن الإقرار يثبت ملزماَّ، وإن لم يتعرض الشاهدان لذكر الشرائط المرعية في صفات المقر: من البلوغ، والعقل، والصحّه -إن كان الإقرار لوارث على أحد القولين- وكذلك الحريّة، والرشد، والطواعية وعدم الإكراه.
ومطلق الإقرار من (3) شهادة الشهود محمول على الإقرار الصحيح.
وذكر صاحب التقريب قولين في أن المقر لو كان مجهول الحريّة والرق، فهل يشترط تعرض الشهود لذكر حريته أمْ لا؟
__________
(1) نبدأ من هذا الفصل إلى صفحات من كتاب العارية، معتمدين على توفيق الله، وعلى نسخة وحيدة هي (ت 2) ج 12. وهي نسخة سقيمة كثيرة السقط، والخطأ، كما أوضحناه في موضعه من وصف النسخ. ونستعين في هذه المضايق بالشرح الكبير والروضة، وتكملة السبكي للمجموع، ومعها مخطوطة مختصر العز بن عبد السلام، ومخطوطة البسيط، حتى نصل إلى النسخة الأخرى المساعدة. وتوفيق الله من قبل ومن بعد، هو معولي، ومعتمدي.
(2) ر. المختصر: 3/7.
(3) "من" مُرادفة لـ (في) .(7/95)
قال: اختلف الأئمة في سائر الصفات المرعيّة: فمنهم من خرّجها على قولي الحريّة. ومنهم من لم يعتبرها، من جهة أنها لا تخفى ولا يُشكل على العامّة اشتراطُها.
والقياسُ التسوية.
فإن جرينا على ما ذكره الأصحاب، ففيه تفصيل لابُدّ من المعرض له: وهو أن الشاهد لو أطلق الشهادة على الإقرار، فللقاضي أن يسأله عن الصفات المعتبرة، فإن فصَّل، فذاك، وإن امتنع، فقال: لا يلزمني التعرض لذكر هذا، ولو كان لازماً، لبينتُ. قال القاضي: إن كان امتناعُه لا يورث القاضي رَيْباً، أمضى القضاءَ بشهادته، وإن ارتاب، توقف في شهادته. فيخرج من ذلك أنه لا ينحسم على القاضي مسلك الاستفصال.
وهذا يبينه شيءٌ: وهو أنّ الشاهد لو شهد مطلقاً؛ ومات، أو غاب، وتعذر الاستفصال، امتنع تنفيذُ القضاء بالشهادة المطلقة.
وإن شهد، واستفصل القاضي، فأبى الشاهد؛ صائراً إلى أنه لا تفصيل عليه، وعلم القاضي [أنه] (1) لا يشهد إلا على بصيرةٍ، فظاهر كلام الأصحاب أن الشاهد لا يلزمه أن يفصّل، كما لا يلزمه أن يذكر مكانَ الإقرار، وزمانَه. ومن القضاة من يرى البحثَ عن المكان والزمان، وغرضُه أن يستبين تثبتَ الشاهد وثقتَه بما يقول. فإن كان الشاهد خبيراً، لم يجب القاضي إلى ذكر المكان والزمان.
4450- ولا بد من قولٍ ضابطٍ في هذه الفصول، فنبدأ بإطلاق الإقرار [مع] (2) السّكوت عن الصّفات المشروطة المرعية. فالمذهبُ الظّاهر أن الشهادة على الإقرار المطلق مقبولة. وقد ذكرنا قولاً على طريقة صاحب التقريب أنه لا بد من التعرض لذكر الشرائط. فإن فرعنا على ظاهر المذهب، فللقاضي أن يستفصل، وله أن يترك الاسْتفصَال؛ إذ لو كان الاستفصال حقاً عليه، لأفضى إلى تكليف الشاهد ذكرَ الشرائط، وهذا هو القول البعيد الذي ذكره صاحب التقريب وليس
__________
(1) في الأصل: أن.
(2) في الأصل: من.(7/96)
[ما] (1) ذكرناه من جواز الاستفصال من القاضي مردوداً إلى خِيَرته، ولكنَّه ينظر إلى حال الشاهد، فإن رآه على عدالته خبيراً بشرائط الشهادة، فطناً، مستقلاً، فله ترك الاستفصال حتماً (2) . وإن تمارى في أمره، فلابد من الاستفصال.
وقد يقع حالة لا تجب المباحثة فيها حتماً، والاحتياطُ يقتضيها، وهذا من خفايا أحكام القضاء. وستأتي مستقضاة في موضعها.
ثم إذا استفصل القاضي، فهل يتعين على الشاهد التفصيلُ في أن [المسؤول] (3) عنه شرائط الإقرار؟ فعلى وجهين: أحدهما - يتعين عليه ذلك. والثاني - لا يتعين عليه.
ولا خلاف أنه لا يجب على الشاهد تفصيلُ المكان والزمان، وإن استفصل القاضي، والفرق أن الجهل بالمكان والزمان لا يقدح في الشهادة، والجهلُ بالشرائط يقدح. وإنما قبلنا الإقرار المطلقَ للعلم الظاهر باستقلال الشاهد بالإحاطة بالشرائط، والثقةِ بأن الإقرار لو كان عديم الشرط، لما استجاز الشاهدُ -مع العلم والعدالةِ- ذكرَ (4) الإقرار المطلق.
4451- ومما يتعلق بتمام البيان في هذا، أن الشاهد لو قيد الإقرار المشهودَ به بصحة العقل، فقال المشهود عليه: كنتُ مجنوناً، إذْ لفظت بالإقرار، فلا يقبلُ مجرّدُ قول المشهود عليه.
فإن أطلق الشاهد الشهادةَ على الإقرار، ولم يتعرض للعقل، وعسر الاستفصال، [لبعض] (5) الأسباب، فقال المشهودُ عليه: كنت مجنوناً لما لفظت بالإقرار، نُظر: فإن عُرف له حالة جنون فيما سبق، فالقول قوله مع يمينه، وإن كان ظاهرُ الشهادة مشتملٌ على تقدير اجتماع الشرائط، ومنها العقل. ولكن إذا لم يقع له تعرض،
__________
(1) في الأصل: مما.
(2) كذا. ولعل العبارة: فلا بد من ترك الاستفصال حتماً.
(3) في الأصل: للمسؤول.
(4) في الأصل: ذكرُ. (بالرفع) .
(5) في الأصل: فبعض.(7/97)
وادّعاه المشهود عليه، وعُهد له جنون، فهذا [أعرف] (1) بحال نفسه. ولو لم يعرف له جنون، والغالب أنه لو كان يُعرف (2) ، فهو مدّعٍ، والظّاهر مع المشهود له، فيحلف ويثبتُ غرضُه.
فلو قال المشهود عليه والشهادة مُطلقة، وقد عسر الاستفصال بموت الشاهد، أو غيبته: كنت مكرهاً على الإقرار، نُظر: فإن تبينت أماراتُ الإكراه، فإن كان في قهر المقَرِّ له وحَبْسه، فالقول قوله مع يمينه؛ لظهور الأمارة. وهو كما لو ادّعى الجنون، وكان عُهد منه ذلك في الزمان السابق. وإن لم تثبت أمارةٌ على الإكراه، فهو مُدّعٍ، فالقول قول المدّعَى عليه مع يمينه.
ولو كان في قيد زيدٍ وحَبْسه، والإقرار لعمرو، فهو مُدّعٍ، والقول قول عمرٍو، مع يمينه.
والجملة في ذلك أن الشهادة المطلقة، محمولةٌ على الصحّة، إلا أن يدعي المشهودُ عليه أمراً ظاهراً، فإذ ذاك يحلف. وإن ادّعى أمراً ممكناً، من غير ظهورٍ، فالقول قول المشهود له مع يمينه.
4452- ولو تعرض الشاهدُ لاستجماع الإقرار الشرائطَ المعتبرةَ، فلا يقبل قولُ المشهودِ عليه، وإن ظهرت أمارة على صدقه؛ فإنَّ الشهادة لا تعارضها الأمارات، وهي أبداً مقامةٌ على ضد الأمارات الظاهرة، وذلك يقع في [جَنْبة] (3) المدّعي، والظاهر مع المدعَى عليه.
وإن لم تكن أمارةٌ على الإكراه، فأقام المشهود عليه مُطلقاً بينةً أنه كان مُكرهاً حالة الإقرار، والشهادة على [الإجبار] (4) على (5) تاريخ واحدٍ، قال الأئمة: لا تقبل الشهادة على الإكراه مُطلقاً، حتى يفسر الشاهدان الإكراه، وذلك لاختلاف العلماء في قدرِه
__________
(1) في الأصل: عرف.
(2) كذا. ولعلها: لَعُرِف، فهي في جواب لو.
(3) في الأصل: جنبية. وقد تقرأ بالخاء المعجمة. وجَنْبة المدعي جانبه، وناحيته. (معجم) .
(4) في الأصل: الإخبار.
(5) "على" بمعنى "في"، والمعنى أن الشهادة على الإقرار والشهادة على الإجبار تعيّن تاريخاً واحداً.(7/98)
ومحله، فلابد من التعرض للبيان. وهذا بمثابة الشهادة القائمة على [جروحِ] (1) الشهود الذين ظاهرهم العدالة، فإنا لا نقبلها مُطلقة؛ لمكان اختلاف العلماء فيما يُوجب الجرح، وينفي العدالة؛ فقد يرى الشاهد الجرحَ بما لا يراه القاضي. وكذلك المذاهبُ تختلف فيما يقع الإكراه به، وهو على الجملة مُشكل الضّبط في محل الوفاق، لا يستقل بتقريب القول منه إلا الغواصون.
4453- فإن قيل: قبلتم الإقرار المطلق من الشاهد، ولم تقبلوا الشهادة المطلقة على الإكراه، فإذا شرطتم تفصيل الإكراه، فاشترطوا تفصيل الإقرار. قلنا: لنا متمسكٌ لا بأس به لمن يشترط تفصيل الإقرارِ، ثم الفرق أن الإقرار لا يذكره الشاهد إلا لتقوم به الحجة، والإكراه لفظٌ ملتبس، والفرقُ ليس باليسير.
وقد قال كثير من أصحابِ أبي حنيفة: الشهادة على الإكراهِ المطلق مقبولة.
وهكذا مذهبهم في الجرح أيضاً.
ولو لم يُقِم المشهودُ عليه بينةً على الإكراهِ، ولكن أقام بينة على أمارتهِ، استفاد بثبوتها ظهورَ صدقه، حتى يكتفى بيمينه.
ولو قال المشهود عليه: كنت صبياً إذ لفظتُ بالإقرارِ، والشهادة على الإقرار مُطلقة. وما قال محتملٌ، فقوله مقبول مع يمينه، كما لو ادعى الجنون، وقد عهد منه، كما سبق.
ولو أقام المشهودُ عليه بينة على الإكراه المفصَّلِ الموجبِ لرد الشهادة، وقد تقيدت الشهادة على الإقرار بكونه طائعاً، فقد ذهب أصحاب أبي حنيفة (2) إلى تقديم البينة في الإكراه.
وكان شيخنا أبو محمد يحكي في ذلك خلافاًً على وجهٍ سنصفه، فنقول: الظاهر تقديمُ البينة في الإكراه؛ لأنها تستند إلى علمٍ في الخفايا، ورب مهدَّدٍ متوعد في السر يبدي الطوعَ في تصرفه، وتستند شهادة الشاهد على الطواعية إلى ظاهر حاله، والمطلِعُ على سر الأخبار يعلم ما لم يُحط به الشاهد على الاختيار. وهذا ظاهر.
__________
(1) في الأصل: خروج.
(2) ر. اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى: 44.(7/99)
ومن أصحابنا من قال: تُعارض بينةُ الإكراه بينةَ الطواعية، و [تخرِم] (1) شهادةُ الإكراه شهادةَ الطواعية، فيبقى الطوعُ مشكلاً. وإذا ارتبنا في [اختلال] (2) شرطٍ، لم نقض بالشهادة. ولو جهل راجعان (3) إلى حاصلٍ واحد.
ولو قُيد الرَّجلُ، وحبس، وضيق عليه، وحمل في ظاهر الحال على الإقرار، وقال من [حسبناه] (4) مُكرهاً: لقد أقررتُ كاذباً، ولكن كنتُ أعلم لو لم أقر، لكانُوا يُطلقونني على القرب، فقد قال صاحب التقريب في هذه الصورة: لا يثبت الإقرار؛ فإن الإجبار قائم ظاهر، واعتقاد المقيَّد المحبوس أَنَّ الحبس والتضييق كان يزول، ولا يدوم ظنٌّ منه وحِسبانٌ (5) ، لا تعويل عليه. هذا كلامه. وقد قطع الجواب به.
وفيه احتمال ظاهر؛ فإنه أقر بأنه لم يكن مكرهاً، وقوله مقبول عليه، وهو مؤاخذ فيه.
فروع:
4454- إذا ادّعى الإنسان البلوغ، نظر: فإن ادعى أنه بلغ بالسن، لم يُقبل قوله؛ لأنا يمكننا أن نعرفَ بلوغَه بالسن من جهة غيره. وإن ادعى البلوغَ بالاحتلام في سن احتمال البلوغ، بأن كان ابنَ عشرٍ، أو ادعت الصبيةُ البلوغَ بالحيض، وهي ابنة تسع، فقولهما مقبول؛ فإنه لا يمكن معرفة ذلك إلا من جهتهما.
ثم قال الأصحاب: إن جرت الدعوى في خصومة، وحكمنا بقبول القول، فلا تحليف في زمان الإمكان، فإنا إن صدقنا من يدّعي هذا، فلا معنى للتحليف، مع التصديق. فإن قدّرنا تكذيباً، فمعناه اعتقاد الصبا، ولا سبيل إلى تحليف من يعتقد الصبا فيه. وهذه المسألة تكادُ تلتحق بالدوائر الفقهية، فإن في تحليفه تقديرُ الصبا.
وهذا التقديرُ يُحيل التحليفَ.
وفي هذا للنظر بقية من وجهين اثنين: أحدهما: أنه لو كان الشخص الذي فيه الكلام غريباً فينا، خاملَ الذكر، ولم نعرف لولادته تاريخاً حتى يتعرف منه أمرُ السّن،
__________
(1) في الأصل: وتحرم.
(2) في الأصل: "خلال".
(3) في العبارة خلل. ولكن السياق مفهوم على الجملة.
(4) غير مقروءة في الأصل.
(5) الحسبان بالكسر: الظن والتوقع، وبالضم: العدُّ، والتدبير الدقيق (معجم) .(7/100)
وادّعى البلوغَ بالسّن، ففي هذه الصورة احتمالٌ؛ من جهة أنا لا نتمكن من معرفة ذلك إلا من جهته، فيجوز أن يلتحق بادعاء الاحتلام، ويجوز أن يقال: لا يقبل؛ فإن هذا على الجملة ممَّا يمكن فرضُ الاطلاع عليه من غير جهته. وإذا تمهد هذا في أصلٍ، لم تُعتبر الصّورةُ النادرة، ولا يتبع الإنباتُ في مثل هذه الصّورَة؛ فإن سبب التعلق به في أولاد الكفار عُسرُ الرجوع إلى تواريخ ولادتهم، ولا يُتعلق بالإنبات في دعوى الاحتلام أصلاً.
ومما يتعلق النظر به أنا إذا قبلنا قولَه، وأمضيناه، ولم نر تحليفه لما ذكرناه، فلو ارتفع بالسن، وبلغ مبلغاً نستيقن بلوغَه فيه، فهل يجوز أن نحلفه الآن: أنه كان بالغاً حين ادعائه؟ الظّاهرُ أنا لا نحلّفه؛ فإنا أمضينا حكمَ قوله، ونُطنا به موجَبَه من غير توقف، وهذا يتضمن انفصالَ الخصومة، وانتهاءها نهايتَها. ويستحيل أن نعطف يميناً بعد تطاول الزمن على خصومةٍ منفصلة. هذا ما نراه. والعلم عند الله.
فروع:
4455- الإقرار بأعيان الأملاك مقبول. وإنَّما يقبل ممّن كان على ظاهر الملك، وكان متمكناً باليد، والمخايل المعتبرة الدالة على الملك. ويستحيل في وضع الإقرار تقديرُ امتدادِ ملك المقر إلى وقت الإقرار؛ فإنه لو كان كذلك، لكان كاذباً في إقراره لغيرهِ بالملك؛ من جهة أن الإقرار في نفسه لا يتضمن إزالة الملك، وإنما هو إخبار عن ثبوت الملك للمقَرّ له، وذلك يتضمن تقدم المخبَر على وقوع المخبِر لا محالة، فلو شهدت بينةٌ على أن فُلاناً أقر بأن الدّار التي في يده لفلانٍ، وكانت ملكَه إلى أن أقر بها، فهذه الشهادة باطلةٌ؛ فإنها متناقضةٌ. ولو صدر الإقرارُ على هذه الصيغة من المقر، نُظر: فإن قال: هذه الدارُ لفلانٍ، وكانت لي إلى إنشاء الإقرار، فإقراره بالملك نافذ، وقوله كانت لي إلى إنشاء الإقرار أمرٌ مُطّرحٌ. وهذا يلتحق بما لو قال: هذه الدار لفلان، وليست له.
ولو قال أولاً: هذه الدار لي، وهي في ملكي، وقد صارت الآن لفلان، فالإقرارُ في نفسِه باطِل، فإنه أنشأه على صيغة البُطلان.
وكذلك لو قال: داري هذه لفلان، أو ثوبي هذا المملوك لفلان، فهذا متناقض. وما ذكرناه في الإقرار بالأعيان.(7/101)
فأما إذا ثبتت ديونٌ لإنسان (1) ، وشهد بذلك ظاهرُ تصرف ومقتضى معاملة، فقال هذه الديون لفلان، نُظر: فإن أمكن وقوع ذلك الدين للمقَر له بتقدير المقر وكيلاً في المعاملة الملزمة، فالإقرار مقبول. وإن ثبت الدين في جهةٍ لا يتصور فيها تقدير النيابة، كالصّداق في حق المرأة، وبدل الخلع في حق الزوج، فلا يتصور الإقرار بثبوت أصل الحق، ليخبر به من ثبت له.
ولو فرض الإقرار في انتقال هذا النوع من الدين، أو في انتقال سائر الدّيون إلى إنسان، فلا محمل لذلك إلا تقدير بيع الدين، وفي صحته قولان، فالإقرارُ إذاً مخرّج عليهما (2) .
فرع:
4456- إذا ادّعى رجل على رجلٍ درهماً، فقال المدّعى عليه: زِنْ. فهذا ليس بإقرار؛ من جهة أنه غيرُ مصرِّحٍ بالالتزام، ولا يمنع حمله على الاستهزاء في مطرد العرف. ولو قال: زِنْه، فالذي ذهب إليه الأصحاب أنه بمثابة قوله: زِنْ.
وقال صاحب التلخيص: قولُه: "زِنْه" إقرارٌ، بخلاف قوله: زِنْ. وهذا الذي تخيله من الفرق بين قوله: زنه. وقوله: "زِنْ"، لا حاصل له؛ فالوجه القطع بأنه لا يكون مقراً باللفظين؛ فإنَّه ليس في واحد منهما ما يشعر بالالتزام.
وكذلك لو قال: خُذْ، أو خذه.
وممَّا أعُدُّه من الغلطات ما ذكره الشيخ أبو علي (3) عنه (4) في شرح كتابه: فيه: إذا قال المقر: لفلانٍ عليّ درهم أو دينار، قال: فيه وجهان: أحدهما - أنه يلزمه أحدُهما، ويطالب بالتفسير على نحو ما قدمنا سبيل المطالبة في الأقارير المبهمة، في أول الكتاب. والوجه الثاني - أنه لا يلزمه شيء؛ فإن قوله مُردَّدٌ، ليس فيه إقرار
__________
(1) في الأصل: ديون الإنسان.
(2) زاد العز بن عبد السلام صورةً أخرى يقطع فيها بصحة الإقرار في هذا الذي لا تجوز فيه النيابة، وذلك قوله: "قلت: ينبغي أن يحمل على الحوالة، فيصح قولاً واحداً" ا. هـ (ر. الغاية في اختصار النهاية: 2/390 مخطوط تحت الطبع) .
(3) المراد أبو علي السنجي.
(4) عنه: أي عن صاحب التلخيص، فأبو علي السنجي، هو شارح كتاب التلخيص.(7/102)
جازمٌ بشيء. وهذا ساقطٌ من الكلام، لا أصل له، ولا يعدّ مثلُه من المذهب. وإنما ذكرته لعُلو قدر الحاكي.
فرع:
4457- إذا قال: "لفلان علي درهم درهم"، لم يلزمه بلفظه إلا درهم، على مذهب التأكيد بتكرير اللفظ، من غير عطفٍ. ولو قال: "لفلان علي درهم، بل درهمٌ"، لم يلزمه إلا درهم. ولو قال: "علي درهم، بل درهمان"، يلزمه درهمان، بتقدير زيادة درهم آخر على الدرهم الأوّلِ، وضمها في صيغة التثنية.
ولو أشار إلى دراهم مُعينة، وقال: "لفلان هذه الدراهم بل هذان الدّرْهمان"، فأشار أولاً إلى درهم فرد، ثم إلى درهمين مجموعين، كان مقراً بالدراهم الثلاثة، لا شكّ فيه.
فرع:
4458- ولو أشار إلى العبد الذي في يده، وقال: إنّه لأحد هذين الرجلين، فهو مطالب بالبيان والتعيين، فإذا عين أحدَهما، تعيّن. وهل للثاني أن يُحلّفه؟ هذا يبتني على أنه لو أقر للثاني بعدما أقر للأوّل، فهل يغرَمُ له قيمةَ العبد؟ وفيه قولان تقدم ذكرهما، فإن قلنا: إنه يغرَم للثاني قيمة العبد، فله أن يحلّفه رجاء أن ينكل عن اليمين، فتردَّ اليمين على المدعي، وتنزل يمين الرد منزلة الإقرار.
وإن قلنا: إنّه لا يغرَمُ للثاني قيمة العبد، فالمذهبُ القطعُ بأنّه لا يحلف.
وأبعد بعضُ أصحابنا، فقال: إذا قلنا: يمين الرّد بمثابة البينة، فإنا نحلّفه، ولو نكل رددنا اليمين على الثاني، فإذا حلف، قضينا له بالعبد؛ لأن اليمين نازلة منزلة البينة القائمة.
وهذا زلل وغلط، قد ردده طوائف من الأصحاب في أمثال هذه المواضع.
ووجه الغلط أن يمين الردّ، وإن كانت بمثابة البينة، فإنها كذلك في حق النّاكل.
ويستحيل أن تكون البينة في حق ثالثٍ، لم يتعلق به خصومةُ الحالف.
ثم فرعّ الأصحاب على هذا الوجه الضعيف فرعاً بعيداً، فقالوا: إذَا استرددنا العبدَ
من المعيّن الأوّل، وسلّمناه إلى من حلف يمين الرد، فهل يغرَم الناكل للأوّل، من جهة تسببه بنكوله عن اليمين إلى إيقاع الحيلولة بين الأوّل وبين ملكه؟ فعلى طريقين:(7/103)
من أصحابنا من قطع بأنه لا يغرم؛ إذ لم يوجد منه إلا النّكول، فلم يتعلق بمجرّده حُكم، وإنّما تعلّق باليمين المردودة، وهي [المقامة] (1) في هذه الطريقة مقام البينة، ومن أصحابنا من قال: في ضمان النَّاكل للأول قولان خارجان على ما لو أقر بعينٍ لفلان، ثم أقر بها لآخر.
وهذا خبطٌ عظيم، وتخليط مجاوز للحدّ. وقد يقتضي قُصاراه إلى إستحالةٍ، وخلطِ قول بقول. وسبب هذا أنّه تفريعٌ على وجهٍ باطل قطعاً، وهو إحلال يمين الرد محلَّ البينة في حق ثالثٍ، لا تعلق للخصومة به. فإن قيل: أليس وقعَ ذلك الوجهُ الضعيفُ مفرعاً على أن الناكل لا يغرَم القيمة لخصمه، الذي رُدت اليمين عليه، فلا يتفرع على هذا تردّدٌ في الغرامة للأوَّل؟ قلنا: ذاك الوجه الضعيف يجريه صاحبه على قول التغريم أيضاً في استرداد العين. وبالجملة لا خير فيه. فالوجه قطع الكلام فيه.
ولو قال المقِر المبهِمُ، لما طولب بالتعيين: "لا أعلم المالك منهما". إن صدقاه، فذاك؛ والعبد موقوف لهما. وإن كذباه، وادّعى كل واحد منهما أنه يعلم أن العبد له، فالقول قولُه مع يمينه: يحلف لكل واحدٍ منهما: "لا يعلمه له".
ولو قال: أحد هذين العبدين لك، طولب بالتعيين، ثم لا يخفى قُصَارَى المُطالبةِ والخصومةِ، فلا معنى للتطويل بذكره.
ولو مات قبل التعيين، قام الوارث مقامه في التعيين، والتهدُّفِ في الخصومة.
وسنذكر تحقيقَ هذا الفنّ على غَاية الإمكان في البيان، من كتاب النكاح، إذا زوج المرأةَ وليّانِ من رجلين، والتبس الحال، إن شاء الله تعالى.
فرع:
4459- إذا أشار إلى عبد لرجلٍ، وقال: لهذا العبد عليَّ ألفُ درهم. قد جعل الأصحاب هذا إقراراً للسيد، وحملوا إضافة المقرِّ به إلى العبد على تأويل معاملته؛ فإنّه من أهل المعاملة.
ولو قال: لحمار فلان عليَّ ألفٌ، كان ذلك لغواً من الكلام مُطَّرحاً، لا يُلزم أمراً.
__________
(1) في الأصل: المقاملة.(7/104)
ولو قال: عليَّ بسبب هذا الحمارِ ألفٌ، كان إقراراً لمالكه، ويحمل على أنه استأجره، فلزمه بما ذكره [أجرُه] (1) .
وفي هذا للنّظر مجالٌ؛ من جهة أنه لم يعيّن المقرَّ له بالألف، وربَّما كان هذا الحمار ملكاً لغير مالكه الآن، وكان تقدير الاستئجار من ذلك الغير. وهذا ظاهرٌ، وإن حمله الأصحاب على الالتزام لمن هو مالكٌ في الحال.
فرع:
4460- لو قال: "لفلان علي مائة درهم عدداً"، كان ذلك إقراراً بمائةٍ من الصحاح وازنةً، ولا يحمل ذكر العدد على الاكتفاء به من غير رعاية وزن.
وكذلك لو جرى بيعٌ بهذه الصيغة، [ينصرف] (2) العقدُ على مائةٍ من الصحاح تزن مائةً. ثم قال المحققون: لا يلزمه مائةٌ، كل درهم منها [يزن] (3) درهماً، وإنما المأخوذ عليه أن يأتي بدراهمَ صحاح، تزن مائةً، ولا يضر أن يكون عددها ثمانين، أو خمسين.
وذكر الشيخ أبو علي وجهاًً في الشرح أنا نُلزمه مائةً عدداً، تزن مائةً. وهذا بعيد.
وكان شيخي على الوجه الأوّل الصحيح يتردد فيه، إذا أتى بدرهم واحدٍ، يزن مائةً، أو درهمين. فخالفَ الدراهمَ التي تسمى مائةً عدداً.
ولا شكّ أن البيع إذا عقد بهذه الصيغةِ يحمل على الصحاح الجارية (4) في العرف.
وإنما التردد الذي ذكرناه في الإقرار؛ فإنا قد لا نلتزم فيه العرفَ في كل مسلك.
ولو قال: عليّ مائةٌ عدداً من الدراهم، قُبل منه مائةٌ عدداً وإن لم تكن وازنة؛ فإن لفظه مصرِّح بهذا المعنى.
فرع:
4461- ولو قال؛ علي درهمٌ في عشرة: إن أراد الضرب الحسابي، لزمه عشرة، وإن أراد درهماً مع عشرة، لزمه أحدَ عشرَ درهماً. فإن أراد درهماً في عشرةٍ
__________
(1) في الأصل: آخرة.
(2) مزيدة لاستقامة العبارة.
(3) في الأصل: بزنة.
(4) في الأصل: المجارية في العدد.(7/105)
لي، لزمه درهمٌ واحد. وإن أطلق، فلفظه محمول على الواحد؛ فإنه الأقل، والخصومة جارية وراءه.
فرع:
4462- قال القاضي: لو قال رجل: لك عليَّ شيء، فقال المخاطب:
ليس [لي عليك] (1) شيء، وإنّما لي عليك ألفُ درهم، فدعواه الألف مردودة؛ لأنّه نفى أولاً أن يكون ألف درهم، فدعواه الألف مردودة، لأنه نفى أولاً أن يكون له عليه شيء، واسم الشيء يعم القليل، والكثير.
وبمثله لو قال المقِر: لك عليَّ درهمٌ، فقال المقَرّ له: ليس لي عليك درهم، ولا دانق، وإنما عليك ألفُ درهم، فتُقبل الدعوى. وإن كان قد نفى الواحدَ والألفُ آحاد مجموعة. ولكن جرت العادة بمثل هذا، فإن الإنسان ينفي الأقلَّ، وهو يبغي إثبات الأكثر، فكأنه يقول: ليس حقي على قدر درهم ودانقٍ، وإنّما حقي ألف درهم.
***
__________
(1) في الأصل: لك علي.(7/106)
باب إقرارِ الوَارثِ لِلوَارثِ
4463- مضمون الباب التعرض لإثبات، الأنساب، وما يتعلق بها. ومعظم القولِ في ذلك مذكورٌ في باب القافة، من كتاب الدعاوى، ولكنا نذكر خَاصيّة الباب. وقد [نُحْوَج] (1) إلى ذكر ما سيعودُ في كتاب الدّعاوى.
فنقول: النسب يثبت بالبينة تارةً، وبالإقرار أخرى، فأمَّا البينة، فإذا شهد رجلان عدلان في مجهول النسب بأنّه ابنُ هذا المدّعي، وكان يولد مثله لمثله، يثبت النسب، ولا يثبت برجلٍ وامرأتين.
فأمّا الإقرار، فنتكلم في إقرار الإنسان على نفسه، ثم نوضح إقراره على غيره.
فأمّا إذا أقر على نفسه فاستلحق نسباً وقال: هذا ابني، نُظر: فإن كان المستلحقُ معروفَ النسب لغير المستلحِق، لم يلحقه النسب بالدعوى المجردة. وكذلك إذا كان ذلك المستلحَق لا يولد مثله لمثل المستلحِق، فالاستلحاق باطل وإقرار المستلحِق مردود.
وإن استلحق نسبَ مجهولٍ يولد مثله لمثله، وقال: "هذا ابني"، لا يخلو إمَّا أن يكون صغيراً، أو بالغاً. فإن كان بالغاً، فوافق المستلحَقُ، ثبت النسب. وإن أنكر وقال: لستُ ابنَه، فالقول قوله مع يمينه.
وكذلك لو ادّعى رجل على رجلٍ، وقال: "أنت أبي"، فالقول قول المدعى عليه مع يمينه.
ولو كان المستلحَق صغيراً، قُبل قول المستلحِق، ونفذ الحكمُ به في الحال، حتى لو مات الصغير في صغرِه، ورثه المستلحِق، ولو مات المستلحِق، ورثه الصغير.
__________
(1) في الأصل: نخرج. والمثبت تصرف من المحقق على ضوء أسلوب الإمام، ومعهود لفظه.(7/107)
فإن بلغ وادّعى أنه ليس بابن له، ففي قبول قوله وجهان: أحدهما - لا يقبل (1) ، لنفوذ الحكم بالنسب في الصغر، فنستديم الحكمَ المتقدم. والثاني - يقبل؛ لأنه لم يكن وقت الاستلحاق ذا قولٍ، وقد صار من أهل القول الآن، فيجب قبولُ قوله (2) .
والذي يناظر ذلك أن من ادّعى على بالغٍ أنه رقيقُه، فالقول قول المدعى عليه مع يمينه؛ فإن كان صغيراً، حكم له بالملك فيه، فإذا بلغ هل يُقبل قوله: إني حر الأصل؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يقبل؛ لتقدم الحكم بالرّق، فيجب استدامة الحكم السابق، والثاني - يقبل قوله مع يمينه، لأنه صار من أهل القول (3) . وعلى الوجه الأول تُقبل دعواه، ولكن القول قولُ مولاه، مع يمينه.
وهذه المسائل تلتفت إلى أنّ اللقيط المحكومَ له بالإسلام بحكم الدّار إذا بلغ، وأعرب عن نفسه بالكفر، فنجعله مرتداً، أم يقدر كافراً أصلياً؟ قولان، سيأتي ذكرهما، وتوجيههما، وتفريعهما في كتاب اللقيط، إن شاء الله تعالى.
ولو مات صغيرٌ مجهولُ النسب، فاستلحقه إنسان، لحقه النسب، فإن طريق الاستلحاق لا يختلف بالحياة والموت، ولا التفات إلى قول من يقول: إنه متهم، وغرضه إحرازُ ميراثه؛ فإن مثل هذه التّهمة قد تتحقق في حال الحياة، إذا كان الصغير ذا ثروة ويسار، وكان مستلحقه فقيراً.
ولو كان الميت المجهول الحال بالغاً، فاستلحقه، ففي المسألة وجهان، ذكرهما العراقيون: أحدهما - أن النسب يلحق قياساً على الصغير الميت. والوجه الثاني - أنه لا يلحق نسبه، وهو الذي اختاره القاضي، ووجهه أنه يُنسب مستلحقه إلى أمرٍ ظاهرٍ يوجب رد قوله، وهو أن يقال له: "لَمْ تستلحقه حياً، مخافة أن ينكر، فيكونَ القولُ
__________
(1) في الهامش: حاشية: الأصح أنه لا يقبل.
(2) في هامش الأصل: حاشية: هذا الموضع يحتاج إلى تأمل في أنه هل يحتاج مع قوله إلى يمين.
(3) في هامش الأصل: حاشية: والأصح أنه لا يقبل قوله بعد البلوغ، وتسمع دعواه على قولهم، بخلاف الصغير المستلحق.... وقلنا: لا يسمع قوله، لا يسمع منه الدعوى قَبل المقر.
والفرق أن المقر المستلحق إذا امتنع من اليمين ... وادعى المستلحَق على ... لم تسمع منه.
وإذا كان كذلك، لم ... للدعو ... (هذا ما أمكن قراءته من هذه الحاشية) .(7/108)
قولَه، وأخرت الاستلحاق إلى ما بعد الممات، حتى ينفذ من غير مراده". وهذا المعنى لا يتحقق في استلحاق الصغير الميّت. وهذا وإن كان [مُخيلاً] (1) ، فمنتهاه التعلق بالتهمة. وحق هذه المسائل أن لا تُبنى تفاصيلها على التهم.
ولو استلحق نسبَ مجنون، وقال: إنه ابني. فإن بلغ مجنوناً بعد الاستلحاق، كان كاستلحاق الصغير، وإن بلغ عاقلاً، ثم جُن، فقد تَردد الأئمة في استلحاقه.
وهذا بعينه هو الاختلافُ الذي ذكرناه في استلحاق الميت البالغ؛ فإنه سبق له حالُ استقلال، كان يفرض فيه إنكارُه لو استلحِق، فطريان الجنون كطريان الموت.
ويتعلق بالاستلحاق أصول وقواعد سيأتي ذكرها، إن شاء الله تعالى. في موضعها. وإنما الذي ذكرناه التوطئةُ للتقسيم.
4464- والغرض القسم الثاني.
وهو إذا أقر الإنسان بنسبِ منسوب إلى غيره، وكان المقر وارثَ ذلك المنسوب إليه، وهو ميت، فلا يخلو المقِر إمّا أن يكون حائزاً لتركته، أو كان لا يحوزها كلَّها، فإن كان لا يحوز التركة: مثل أن يموت رجل ويخلف ابنين، فيقرَّ أحدُهما بابن ثالث للمتوفى، وأنكر الثاني وكذبه، أو خلف ثلاثةً من البنين في ظاهر الحال، فأقر اثنان وكذَّب الثالث. فمذهب الشافعي رضي الله عنه أن النسب لا يثبت بإقرار من لا يحوز التركة، ثم كما لا يثبت النسب، لا يثبت الإرث، فليس لذلك المقَر له أن يطالب المقر بشيء من التركة، ويقولَ: قد أقررتَ لي بالنسب واستحقاق الإرث، فأشركني فيما تثبت يدُك عليه من التركة؛ فإنك مؤاخذ في حق نفسك بإقرارك. هذا مذهبُ الشافعي.
وقال أبو حنيفة [في المسألة الثانية: إنه يثبت النسب ويرث لوجود الإقرار؛ إذ هو
شرطٌ عنده، وذهب في المسألة الأولى، وهو أن يُقِرَّ أحدُ الاثنين وينكر الثاني إلى أنه] (2) يثبت للمقَر له قسط من الميراث، يُطالب به المقِر. وذهب المتقدّمون من
__________
(1) في الأصل: مختلاً.
(2) ما بين المعقفين لحقٌ في هامش الأصل، بخط مغاير، وهو غير مقروء تماماً. وقد أقمنا عبارته =(7/109)
أصحاب أبي حنيفة إلى أن النسب لا يثبت، ويثبت استحقاق المال. وذهب المتأخرون إلى أن النسب يثبت في خبطٍ لهم، لست له الآن ذاكراً. وإنما أشرنا إلى مذهب أبي حنيفة لغرضٍ لنا سنجريه في أثناء الكلام، إن شاء الله عز وجلّ.
ثم الذي اعتمده أثمة المذهب في الذب عن المذهب: أن الميراث لا يستحق فيما نحن فيه إلا بالنسب، والنسب غير ثابت؛ فإن المعترف به ليس مستلحِقاً في حق نفسه، وإنما يُلحِق النسبَ بغيره، وليس حالاًّ محله على معنى حيازة ما خلفه، فإذا لم يثبت النسب وهو أصل الميراث، لم يثبت الفرع الذي لا يتخيل ثبوته دون ثبوت الأصل. هذا معتمد قدماء المذهب.
ثم نوجّه عليه أسئلةً من الخصم تتعلق بمسائل مذهبيةٍ. [و] (1) لم أذكر عمدة المذهب إلا [لأفض] (2) عليها الأسئلة، وأذكر المسائل مجموعة.
4465- فإن قيل: ما ذكره هؤلاء ينقضه ما لو قال المالك: بعت منك هذا الشقص، فأنكر الشراء، فللشفيع الشفعة، وأصل الشفعة الشراء؛ والشفعة في حكم الفرع له، ففيم ثبت الفرع دون ثبوت أصله؟ قلنا: هذا مختلف فيه، سنستقصيه في كتاب الشفعة.
فإن قيل: إذا قال الرجل: لفلان على فلان ألفُ درهم، وأنا به ضمين. فأنكر من قدّره أصيلاً أصلَ الدين، صدقه الشرع مع يمينه. فالمقر بالضّمان مطالَبٌ، وإن كان فرعاً لأصلٍ لم يثبت. وقد اختلف أصحابنا في هذه المسألة، فذهب بعضهم إلى أن الضّمان لا يثبت بناء على ما ذكرناه من انتفاء الفرع عند انتفاء الأصل. والأصح الذي ذهب إليه الجمهورُ ثبوتُ المالِ على المعترف بالضّمان. وسنذكر بعد إيرادِ المسائل ما فيه أدنى تخيل في إفادة الفصل بين مسائل الإلزام، وبين مسألة النسب والميراث.
__________
= على ضوء ما وجدناه في مصادر الأحناف. وانظر في هذه المسألة للحنفية: القُدوري: 1/233 مع الجوهرة، والبدائع: 7/229، 230، وتنوير الأبصار: 8/187.
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: "لأقص" (بالمثناة والمهملة) ، والمثبت تصرف منا على ضوء المعهود من ألفاظ الإمام، وأسلوبه.(7/110)
4466- ومما أُلزمناه على ما رأيناه عمدةَ المذهب تحريمُ المناكحة؛ فإن أحد الابْنين إذا اعترف بأن هذه بنت أبينا، وأنكر الثاني، فيحرم على المقِر مناكحةُ تلك المرأة. قال القاضي: إن كانت مجهولة النسب، ثبتت الحرمة، وإن كانت مشهورة النسب لغير هذا المتوفى الذي ينسبها المقِر إليه [ففي] (1) ثبوت الحرمة وجهان. وذكْر الخلاف في هذا عظيم، لا خلاص فيه مع تسليم الحرمة، في مجهولة النسب.
وإذا اعترف الزوج بأنه خالع امرأته على مالٍ، فأنكرت المرأة، وانتفى المال بيمينها، ثبتت البينونة بإقرار الزوج، وإن كانت فرعاً لثبوت المال.
وإذا خلف المتوفى مملوكاً في ظاهر الحال والظن، فاعترف أحد الابنين بكونه ابناً للمتوفى، ففي نفوذ العتق فيه بحُكم إقرار المقر وجهان، وسبب الخلاف سلطانُ العتق.
وإذا ادّعت المرأة أنها زوجةُ فلانٍ، فقال الرَّجل: ما نكحتُها قط، ففي حرمة النكاح عليها وجهان، حتى يجوزَ لها في وجه أن تنكح بسبب إنكار الزوج أصلَ النكاحِ.
وإذا قالت المرأة: أصابني زوجي قبل أن طلقني، وأنكر الزوج الإصابة، ففي وجوب العدة عليها وجهان.
فهذه مسائلُ مذهبيةٌ أرَدْنا نقلَ قول الأصحاب فيها. فإن أردنا دفعها على التسليم عن مسألة النّسب والميراث، فلا ينقدح إلاّ وجهان: أحدهما- أَنَّ مقصود الإقرار النسبُ في مسألة الخلاف، والميراثُ متفرعٌ وهو مسكوت عنه. والأحكام التي أثبتناها في المسائل مقصودة في أنفسها، كالمال على الضَّامن، وحرمة النكاح. والدليل عليه أن المقَر له بالنسب لو أنكر، لم يستحق الميراث. ولو أنكرت التي أقر بنسبها أحد الورثة، فالتحريم قائم، [و] (2) هذا مسلك ضعيف لا استقلال فيه. والثاني - أنّ النسب، وإن قُدّر ثبوته، فلا يجبُ القضاء باقتضائه الميراثَ؛ فإنا نجدُ أنساباً لا يتعلق بها استحقاق الميراث، [كنسب الرقيق إذا لم تكن مقتضيةً موالاة] (3) ، ونسب المخالفِ
__________
(1) في الأصل: "في" بدون فاء الجواب.
(2) مزيدة رعاية للسياق.
(3) في الأصل: تقديم وتأخيرٌ هكذا: "إذا لم تكن مقتضيةً موالاة، كنسب الرقيق".(7/111)
في الدين، فلا يمتنع أن يقال: الميراث إنما يثبت بنسب يثبت ظاهراً، ولا حكم لما يبطن منها.
وكل هذا تكَلُّفٌ. ومن لم يعترف بإشكال هذه المسألة، فليس من التحقيق على نصيبٍ.
وسنذكر بعد طرد ظاهر المذهب، وعَدّ ما يتعلق به من المسائل خلافاًً من بعض الأصحاب في أصل المسألة، إن شاء الله تعالى.
4467- فنعود إلى استتمام المسائل بناء على ما هو مذهبُ الشافعي.
فلو أقر أحد الابنين لامرأةٍ بأنها كانت زوجةً لأبيه، وأنكر الثاني، ففي المسألة وجهان: أظهرهما - أنها لا ترث؛ لأن إرثها فرعٌ لثبوت أصل الزوجيّة في الحياة، وذلك لم يثبت بقول أحد الابنين. والوجه الثاني - أنها ترث؛ لأن الإرث لا يثبت إلا بعد زوال الزوجيّة، إذ النكاح ينتهي بالموت، ثم يثبت الإرث.
وهذا كلام ركيك تَوافق نقلةُ المذهب على ذكره.
4468- ومن المسائل أنه إذا أقر أحد الابنين بثالثٍ، وأنكر الثاني، ثم مات المنكر المكذِّبُ، وخلف ابناً، فأقر ابنه بنسب ذلك المقَر به، وساعد عمه في الإقرار، فالذي ذهب إليه الأصحاب أن نسب ذلك الإنسان يثبت الآن؛ إذ قد اجتمع على الإقرار به من يستغرق الميراثَ. وقال القاضي: هذا يبتني على مسألةٍ، وهي أن من نفى نسباً، وفَرْضَ الثبوت (1) باللعان، ثم مات، فاستلحق ابنُه المستغرقُ لميراثه مع تقدير النفي [نسبَ] (2) ذلك المنفي، ففي لحوق النسب والحالة هذه وجهان: أحدهما - يلحق، ويكون استلحاق الوارث كاستلحاق الملاعن. والوجه الثاني - لا يثبت نسبُ ذلك المنفي، فإنّ في استلحاقه تكذيبَ الملاعن، وقد صدقه الشرع، إذ لاعن. فإذا ثبت هذا الخلاف، قال القاضي بعده: إذا اعترف أحد الابْنين، وكذّب الثّاني، ومات المكذّب على التكذيب، وخلف ابناً، فأقر كما أقر عمُّه، فهذا يجوز أن يخرّج
__________
(1) تقرأ هكذا بصعوبة.
(2) في الأصل: بسبب.(7/112)
على الخلاف الذي ذكرناه في استلحاق المنفي باللعان، بعد موت الملاعن؛ فإنّ تكذيب أحدِ الاثنين محكومٌ به، كما أن نفي النسب محكوم به. وهذا الذي ذكره حسنٌ (1) . وفيه احتمالٌ؛ من جهة أن من نفاه الأب باللعان، ففي إلحاقه بعد موته إلحاقُ عارٍ بنسبه. وهذا لا يتحقق في موت المكذب من الابنين.
4469- ومن المسائل إذا أقرّ أحد الابنين، وكذّب الثاني، ثم مات المكذّب، ولم يخلف إلا أخاه المقِر، فهل يحكم الآن بثبوت نسب ذلك المقر به بما سبق من الإقرار؟ في المسألة وجهان: أحدهما - يثبت؛ لأن المكذب خرج من البين (2) ، وصار المقر مستغرقاً.
والثاني - لا يثبت؛ لأن تكذيب المكذب، ثبت، فلا يبطل أثره. ثم هذا القائل لا يفصل بين أن يجدد الابن الباقي إقراراً، وبين ألاّ يجدّد؛ فإن التعويل على أن التكذيب الثابت لا يقطعُ أثره بعد ثبوته.
4470- ولو مات عن ابنين، فمات أحدهما، ثم أقر الآخر بابن لأبيه، قبل، وثبت النسبُ؛ لأنه لما أقر كان مُستغرقاً لميراثِ الأول والثاني، فهو خليفتهما، ولم يتقدم من الأخ الذي مات تكذيبٌ. ولو مات عن ابنين صغيرٍ وكبير، فأقر الكبير بنسبٍ، فقد أطلق بعض المحققين القول بأنا نحكم بثبوت النسب في الحال، ثم فرّع عليه. وقال: لو مات أحدُهما، ورثه الثاني، فلو بلغ ذلك الصبيُّ، ولم يكذب الكبيرَ، فذاك. وإن كذّبه، بان أنه لم يكن ثابتاً بإقراره. وهذا الكلام متناقضٌ؛ فإن ما يتعرض للوقف والتبيين، وللتبيين منتهىً منتظر، فلا معنى لإطلاق القول، [بنفوذ] (3) الحكم، بل الوجه أن نقول: إذا أقر الكبير، لا نحكم بثبوت النسب، بل ننتظر ما تقتضيه العاقبة. ونقول على ذلك: لو مات المقر، أو المقر له قبل بلوغ
__________
(1) في هامش الأصل: "حاشية: الأصح في المسألتين ثبوت النسب؛ لأنه كمل شروط الإقرار، والله أعلم.
وكذا في المسالة الثالثة، وهو كون المكذب لم يخلف غير المصدق".
(2) البين. هذه اللفظة من ألفاظ الإمام التي ذكرها مرات في هذا الكتاب، ويفهم معناها من السياق. وإن لم نجد لها تخريجاً في المعاجم.
(3) في الأصل: "ونفوذ". والمثبت تصرّفٌ من المحقق.(7/113)
الصبي، فلا توريث، بل نقف إلى التبيين (1) . ولا ننُفذ أمراً يقتضي النظرُ رفعَه، ولا يرد على هذا إلا تصرّف المريض في مرض موته؛ فإنه يتبرع بجميع ماله، والمتبرَّع عليه يتصرفُ فيه. ثم إذا مات المريض فقد نتتبّع [....] (2) تصرفَه بحكم النقص. وفي هذا نظر غامضٌ سيأتي في الوصايا، ولكنّا مع تقدير التسليط نفرق بين تصرف المريض، وبين ما نحن فيه، فنقول: المرض وإن اشتد، فحكم الحياة غالبٌ في الحال، وليس الموت أمراً يُنتظر لا محالة، بخلاف بلوغ الصبي؛ فإنه مما ينتظر، ويناط بانتظاره أحكام.
ولو أقرّ الكبير من الابنين، ومات الصغير قبل بلوغه، ولم يُخلّف وارثاً سوى الكبير، فيستقر حينئذ إقرارُ الكبير؛ من جهة أنا أَمِنّا مخالفةَ الذي مات، وصار الكبير مستغرقاً للميراثين، وليس كما لو أقر أحد الابنين وكذب الثاني، ثم مات المكذب [ولم يخلّف إلا المقر، فإنا على رأي لا نثبت نسباً ولا إرثاً؛ لأن التصديق مسبوق بتكذيبٍ، حُكم بموجبه] (3) .
4471- ولو مات الرجل، وخلف بنتاً فحسب، نظر: فإن كانت حائزةً للميراث، بأن ترث بالبنوة، النّصف، وبالولاء (4) الباقي، فإذا أقرت بنسبِ مولودٍ مجهولٍ، ثبت النسب بإقرارها (5) . وإن كانت لا ترث إلا بالبنوة، فأقرت بنسب مجهولٍ، لم يثبت بإقرارها النّسب؛ فإنها ليست مستغرِقةً، فإن النصف لها والباقي للمسلمين. فلو أقرت وساعدها الإمام النائب عن المسلمين، فهل يثبت النسب بإقرارهما؟ اختلف
__________
(1) كذا في الأصل، ولعلها: التبين.
(2) قدر كلمة مطموسة.
(3) ما بين المعقفين لحق من هامش الأصل، بخط مغاير. ويقرأ بصعوبة بالغة، فعسى أن نكون موفقين في ذلك.
(4) ذكر الولاء، لأن الشافعية لا يقولون بالرد، مادام بيت المال منتظماً.
(5) في هامش الأصل: "حاشية: والأصح أن المجهول النسب الثابت نسبه بإقرار البنت المستغرقة لا يرث؛ لأنه لو ورث، لحجب البنت عن الميراث بالولاء، وأخرجها عن الاستغراق [فتصير كبنت ومعتق أقرا بابن أبي المتوفى] والأصح أنه يثبت نسبه ولا يرث لما ذكرنا". (وانظر هذه المسألة: فتح العزيز: 11/205 بهامش المجموع) .(7/114)
أصحابنا، فذهب بعضهم إلى ثبوت النسب لمكان الإقرارين. وقال آخرون:
لا يثبت، فإن حقيقة الوراثة لا تثبت للمسلمين (1) . ونحن نرى استغراق الإرث بطريق خلافة الوراثة. وبنى الأصحاب هذا على أن الإمام لو أراد أن يقتصّ من قاتل من لم يخلّف وارثاً، فهل له ذلك؟ وفيه قولان. فإن أثبتنا الاقتصاص، لم يثبت ذلك إلا على حقيقة التوريث. وإن منعنا إجراء القصاص، احتمل أن نقول: ليست جهة الإسلام جهة توريث، ويتطرق إلى مسألة الإمام نظر، وهو أَنَّ قوله: ينبغي أن لا يُصوَّر حُكماً، فإن حكم الإمام نافذٌ لا مردّ له. ويتجه الغرضُ بأن (2) لا يجوز للإمام أن يقضي بعلمه.
4472- ومما يتعلق بقاعدة المذهب أن الأئمّة قضَوْا بأن إقرار كافة الورثة بالنسب ينزل منزلة إقرار الموروث به. هذا معتمدهم، وظاهر المذهب أنّه لو كان في الورثة زوج، أو زوجة، فلا بدَّ من اعتبار إقراره، فإنه من الورثة، وخصص بعضُ أصحابنا الأمرَ بإقرار أصحاب القرابة؛ فإنهم المشاركون في النسب والمقَرُّ به نسبٌ. وهذا بعيد. ومال جماهير الأصحاب [إلى اعتبار إقرار المولى، فإن الولاء لحمة كلحمة النسب، وفيه شيء عن بعض الأصحاب] (3) .
فأبعدُ سببٍ معتبرٍ في الاستغراق جهة الإسلام بنيابة الإمام، ويليها الزوجيّة، ويلي الزوجية، الولاء.
__________
(1) ر. فتح العزيز: 11/198 بهامش المجموع.
(2) هنا سقط ألحقه مطالعٌ للنسخة بخط مخالف بالهامش، وتعذرت قراءته، وخلاصة المسألة ننقلها هنا عن الرافعي في فتح العزيز، بنصها، ليفهم السياق عوضاً عن هذا السقط غير المقروء: "ولو خلف بنتاً واحدة، فإن كانت حائزة بان كانت معتِقةً يثبتُ النسب بإقرارها.
وإن لم تكن حائزة ووافقها الإمام، فوجهان، جاريان فيما إذا مات من لا وارث له، فألحق الإمام به مجهولاً، والخلاف مبني على أن الإمام له حكم الوارث أم لا؟ والذي أجاب به العراقيون أنه يثبت النسب بموافقة الإمام. ثم هذا الكلام (أي الخلاف) فيما إذا ذكر الإمام ذلك لا على وجه الحكم. أما إذا ذكر على وجه الحكم، فإن قلنا: إنه يقضي بعلم نفسه، ثبت النسب، وإلا فلا " فتح العزيز: 11/199 بهامش المجموع.
(3) ما بين المعقفين لحق أضافه بعض قراء النسخة بهامشها، بخط مخالف، يقرأ بكل عسر.(7/115)
ولو صرفنا طائفةً من مال كافر، إلى أهل الفيء، لم يعتبر إقرار الإمام عن أهل الفيء بنسب، بلا خلاف؛ فإن ذاك ليس وِراثةً قطعاً، والمرعيُّ خلافةُ الوراثة. [وأما من له قرابة من المتوفى] (1) ثم هو محجوبٌ بغيره من أهل النسب، فلا عبرة بإقراره، كالأخ مع الابن والأب، وكالعم مع الأخ، وكذلك المحجوب بالأوصاف، كالابن الكافر مع الابن المسلم، والمتوفى مسلم، أو بالعكس والمتوفى كافر.
كما يقبل إقرار الابن على أبيه بالنسب إذا كان مستغرقاً يقبل على جدّه، ولكنه على شرط الاستغراق، كما إذا أقر بعم ولم يخلّف جدُّه إلا أباه، وأبوهُ إلا إياه، أو قد خلف ثانياً سوى المقر ولكنه مات قبل موت أبيه، أو بعد موته.
وقد نجز تمهيد الكتاب.
4473- ونحن نلحق فروعاً بالأصل، منها:
أن من مات، وخلف ابناً، فأقر لمجهول بالنسب، فقال ذلك المقَر [له] (2)
بالنسب: أنا ابن الميت، وهذا الذي أقر بنسبي ليس ابنَه. فقد ذكر أصحابنا في المسألة وجهين: أحدهما - أن نسب المقَرّ له ثابت، ونسب المقِر -كما كان- ثابت، والإرث قائم، ولا أثر لإنكار هذا المجهول المقَر به (3) ، فإن هذه المسألة تُتصوّر إذا كان الابن المقر معروفَ النسب، فإذْ ذاك يُقر، ويبنى الأمر على إقراره، ويقضى بأنه على منصب الاستغراق لولا الإقرار، وإذا كان كذلك، فالنسب المشهور لا ينتفي بإنكار مجهول مقَر به.
وأبعد بعض أصحابنا، فقال: إذا أنكر المقَر له نسبَ المقِر، احتاج إلى أن يقيم البينةَ على نسب نفسه؛ لأنه معترف بنسب هذا المجهول، والمجهول منكر لنسبه، معترفٌ بنسب نفسه. وهذا من ركيك الكلام؛ لما قدمناه من أن المقر نسبُه مشهور.
وذكر بعض أصحابنا وجهاً ثالثاً وهو أنه لا يثبت نسب هذا المجهول المقر به؛ فإن
سبيل ثبوتِ نسبه إقرارُ الابن المشهور النّسب، لا طريق غيرُه. فإذا زعم أن المقر له
__________
(1) ما بين المعقفين لحق من الهامش.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) في هامش الأصل: "حاشية: هذا الوجه الأول الصحيحُ الذي عليه العمل".(7/116)
ليس نسيباً، فقد أنكر صحة إقراره؛ فإن من لا يناسب، ولا يرث، لا حكم لإقراره.
4474- ومما نفرعه أن من مات وخلف ابناً واحداً في ظاهر ما يظن، فأقر الابن المشهور النسب لمجهولَيْن بالبنوة، فكذب أحدُهما صاحبَه، ففي المسألة وجهان: أحدهما - يثبت نسبهما ولا عبرة بتكذيب أحدهما الآخر؛ لأن من كان على منصب حيازة التركة أقر بهما، فيثبت نسبهما، ولا أثر بعد الثبوت لتناكرهما.
والوجه الثاني - لا يثبت نسب واحد منهما؛ لأن المشهور مقر بكونهما وارثَيْن، فإذا تناكرا، فلا يجتمع لواحد منهما إقرارُ جميع الورثة.
فإن قيل: إذا أقر الابن الذي كنا لا نحسب غيره وارثاً بنسبِ مجهولٍ، فقد خرج المقِر عن كونه مستغرقاً، فإذا ثبت نسب الثاني، فهذا إذاً يناقضُ اعتبار كون المقر مستغرقاً. قلنا: المعنيُّ بكونه مستغرقاً أن يُقدرَ كذلك لو فرض عدم إقراره؛ فإن الإقرار يُغيِّر حكمَ الظّاهر الذي يستند إليه الإقرار؛ فإن صاحب اليد والتصرف إذا أقر بأن الدار التي في يده لفلان، قضينا لملك المقر له ظاهراً، وأقررنا يده على المقر به، وإن كان إقرار المقر تضمن إخراجه عن استحقاق اليد والتصرف. فأصل الإقرار المفيد أن يصدر عمّن له منصب الاستحقاقِ، ثم مقتضاه خروجه عن حقيقة الاستحقاق.
ثم إذا أقر ابن بابن مجهول، فهما المستغرقان، وقد ثبت في حق المجهولِ إقرارُ المعروف، وتصديق المجهول، فيجتمع له قول من يستغرق الميراث.
4475- وممّا فرعه الأصحاب أن قالوا: إذا مات رجل، وخلّف من يحكم بكونه وارثاً ظاهراً، فأقر بمن إذا ثبت كونه وارثاً، كان المقِر محجوباً به، مثل أن يخلف أخاً من أبٍ، ولم يعرف غيره، وإذا انفرد الأخ استغرق، فإذا أقرَّ بابنٍ مجهولٍ للمتوفى، فالابن يحجب الأخ.
قال بعض الأصحاب: يثبت نسب ذلك الابن، ولكنّه لا يرث؛ فإنّ في توريثه إسقاطَ توريثه؛ إذ لو ورثناه، لحجب الأخَ المقر، وإذا صار محجوباً، خرج عن أن يكون وارثاً، ومن لا يرث، [لا] (1) يقبل إقراره، وإذا لم يقبل إقراره، لم يثبت
__________
(1) في الأصل: لم.(7/117)
النسب. وهذا من الدوائر الحُكمية، وسأجمعها على أبلغ وجهٍ في البيان في كتاب النكاح، إن شاء الله تعالى.
4476- وأنا أذكر حظّ هذه المسألة من الأدوار: أما توريث المقر به، فلا سبيل إليه؛ لأنا لو قدرناه، كان مستندَ إقراره محجوبٌ.
ومن أصحابنا من قال: يرث الابنُ، ويسقط الاخ. وهذا الوجه ذكره صاحب التقريب، واختاره، وذكره العراقيون، وسقوط الأخ -وإن كان قوله حجة- كسقوط حق صاحب اليد إذا أقر بما في يده.
وأمّا نسبه، فالذي ذهب إليه الجمهور أن النسب يثبت؛ إذ لا منافاة بين ثبوته وبين تصحيح إقرار المقِر به، إذا كنَّا لا نُثبت التوريث، وكم من نسبٍ لا يناط التوريث به.
فكأن هؤلاء يُثبتونَ موجَب الإقرار إلى أن ينتهي الأمر إلى انعكاس الحكم وانتفائه، من جهة ثبوته. وهذا متحقق في الإرث وحده.
وذهب طائفة من المحققين إلى أن النسب لا يثبت، لأنَّ في إثباته إيجابَ التوريث، ثم تدور المسألة، فالوجه المصيرُ إلى أن إقرارَ من نقدره وارثاً بنسبِ حاجبهِ مردود أصلاً.
وسنكثر الدوائر الحكميّه في النكاح، ونجري فيها أمثالَ ما ذكرناه الآن، ونقسمها إلى لفظياتٍ تتلقى من صيغ الألفاظ.
وقد انتهى أصل مذهب الشافعيّ في الباب، وبيّنا تفرُّعَه، وصدور المسائل عنه.
4477- والآن كما (1) انتهينا إلى معضلات الباب وإشكاله، قد ذكرنا في صدر الباب لما حكينا تعليلَ المذهب مما نفرض من إشكالٍ، فإن أحد الابنين إذا أقر بثالث، وأنكر الثاني، فالمقر معترفٌ بأن هذا الثالث يستحق مما في يده شيئاًً، فترْكُ مؤاخذته بموجَب إقراره في خاصيّته بعيدٌ عن الأصول.
وقد ذكر صاحب التقريب مسلكين للأصحاب: أحدهما - أنه لا يثبت للثالث المقَر به مطالبة المقر بشيء ممَّا في يده ظاهراً، ولكن إن لم يكن المقِر على بصيرة في إقراره
__________
(1) بمعنى: عندما.(7/118)
فلا نُلزمه شيئاًً باطناً لذلك الثالث، كما لا يلزمه ظاهراً. وإن كان على بصيرةٍ في إقراره، وقد يستندُ إقرارُه على مشاهدة لا يُمكنُ التماري فيها، وذلك إذا ماتت امرأةٌ وخلّفت ابنين، وكان شاهَدَ أحدُهما ولداً ثالثاً انفصل منها. قال: إذا كان كذلك، فهل يلزمه أن يدفع ممَّا في يده شيئاًً إلى المقَر له؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يلزمه؛ إذ لو لزمه باطناً، للزمه ظاهراً؛ فإنه بإقراره أظهر ما قدرنا ثبوته باطناً، وهو من أهل الإقرار والإظهار.
والثاني - يلزمه في الباطن؛ لأن الطّلبة في الظاهِر تتعلق بثبوت النسب ولم يثبت ظاهراً، ولكنه ثابتٌ في علم الله تعالى، فإذا لم يجر ما يقتضي في الظاهر ثبوت النسب، فلا طلب ظاهراً. وإذا تحققه المرءُ باطناً، لزمه أن يشركه باطناً، لعلة الباطن، لا لقوله الظاهر. هذه طريقة.
والطريقة الثانية - أنه حكى خلافاًً ظاهراً في أنه هل يجب على المقر تشريك المقَر له ظاهراً؟ فعلى وجهين: أحدهما- وهو الذي يوافقُ النصَّ، أنه لا يجب. والثاني - يجب، وهو مذهبُ أبي حنيفة (1) ؛ يؤاخذ به ظاهراً وحكم الباطن منوطٌ بالتحقيق والثبوت في علم الله تعالى. وهذا قد يُعزَى إلى ابن سُريج، وهو مخالفٌ للنصّ.
فإن قلنا: لا يشارك المقَرّ له المقِر أصلاً، وهو ظاهر المذهب، فلا كلام. وإن قلنا: يشارك المقَر له المقِر، ففي مداره وجهان: ذكرناهما. والوجهان يوافقان مذهبين لإمامين: أحدُهما- ابنُ أبي ليلى والثاني أبو حنيفة. ونحن نذكر مذهب كل واحدٍ منهما في المقدار الذي يستحقُّه الثالث المقَر به مما في يد المقر، وإذا بان المذهبان، فهما الوجهان المنسوبان إلى أصحابنا.
4478- أما مذهبُ ابن أبي ليلى، فليقع الفرض في ابنين أقر أحدهما بابنٍ ثالثٍ، وأنكر الثاني، فيقول ابن أبي ليلى: يغرَم المقر للمقر له ما كان يغرمه، لو (2) أقر صاحبه بهِ. وبيان ذلك: أن الابنين لو أقرا بثالثٍ، وتصادقا، لكان ذلك الثالث مستحقَّ ثلثِ التركة، فتصور ابنين يقتسمان التركة ثم يبدو ابنٌ ثالثٌ، ويثبت نسبه ببينةٍ،
__________
(1) ر. البدائع: 7/230.
(2) في الأصل: ولو.(7/119)
أو بإقرارهما، فإنه يستردّ من كل واحدٍ منهما ثلث ما في يده، فيبقى لكل واحد ثلثُ التركة، ويحصل لهذا الثالث ثلثُ التركة.
وحرّر الفقهاء مذهبَ ابن أبي ليلى فذكروا فريضةً في الإنكار منهما، وفريضة في الإقرار منهما، فنقول: لو أنكر الاثنان نسب الثالث فالميراث بينهما نصفان، من سهمين. ولو أقرا بثالثٍ، فالميراث بينهم من ثلاثةِ أسهمٍ. فنضرب فريضة الإقرار في فريضة الإنكارِ، فيرد علينا ستةً، ونقول بعده: لو أنكرا والقسمة من الستة، فلكل واحدٍ منهما ثلاثةٌ، ولو أقرا والقسمة من هذا المبلغ فلكل واحدٍ سهمان. فإذا أقر أحدهما، وأنكر الثاني، فالمنكر يأخذ من فريضة الإنكار، ويفوز بها، والمقر يأخذ من الثلاثة من حسابِ فريضة إقرارهما بالثالث، وهو سهمان، ويُسلم سهماً إلى المقَر له، فيخلصُ له ما بين فريضة الإقرار والإنكار من حصّة المقر، وهذا بيّنٌ.
وأما أبو حنيفة، فإنه يقولُ: يقدر كأَنَّ [المنكِر] (1) وحصتَه مفقودان، ويقسم ما في يد المقِر والمقر له بينهما نصفين؛ فإن المقر له يقول إن ظلمني المنكِر، فأنت معترف، وأنا في كل درهم بمثابتك، فينبغي أن تستوفي ما في يدك.
هذا بيان المذهبين. والوجهان المنسوبان إلى الأصحاب، هما المذهبان اللذان ذكرناهما. وارتضى المحققون مذهب ابنِ أبي ليلى؛ من جهة [أن] (2) تنصيفَ ما في يد المقر قسمةٌ تخالف الإنكار والإقرار جميعاً، والمقر لهُ معترف باستحقاق المنكر من الاثنين.
4479- ثم قال صاحب التقريب: إذا اخترنا مذهبَ ابن أبي ليلى، فلابدَّ من تفصيلٍ به يتهذب الغرض، فنقول: مذهب ابن أبي ليلى أن المقر لا يغرَم للمقَر له إلا الزيادة التي حصلت في يده على زعمه بسبب الإنكار، ولا يغرَم له ما استبدَّ به صاحبهُ.
قال: وهذا مفروضٌ في صورةٍ مخصوصةٍ، وهي أن يقاسم المقر أعيان التركة قهراً،
__________
(1) في الأصل: المقرّ. وانظر حاشية ابن عابدين:4/466، والبدائع: 7/229، 230. وفتح العزيز: 11/203. بهامش المجموع.
(2) في الأصل: أنه.(7/120)
والمنكر (1) ممتنع عن القسمة، فإذا كان كذلك، فالجوابُ ما ذكرناه عن ابن أبي ليلى.
فأما إذا جرت القسمة بين المقر والمنكر طوعاً، فقد كانت يدهما ثابتة على الجميع ثبوتاً سائغاً، فلما اقتسما، فقد رفع المقر يده عن نصفِ حصّةِ الثالث، وسلمه، وترك المنكر على المقر مثلَ ذلك، وإذا انتسب المقر إلى تسليم نصف حصّة [الثالث] (2) إلى المنكر، كان معتدياً فيه، فيلزمه أن يغرَم ما حصل في يد صاحبه، كما يغرم ما حصل في يده من الزيادة. وهذا يظهر إذا جرت القسمةُ طوعاً، والمقر عَالمٌ بأن معهما ثالثاً مستحقاً، فيخرج من ذلك أنهما إذا كانا ابنين، فاقتسما التركة طوعاً نصفين، مع علم المقر، فيغرَم للمقَر له من حصّة نفسه. وحصةُ المقَرّ له الئلث، فيغرم له الثلثَ من نصفه، لتفريطه.
هذا إذا طاوع في القسمة، وكان عالماً باستحقاق الثالث.
فأما إذا قاسم أخاه طائعاً، ولكن لم يكن عالماً بعدُ بنسب الثالث، ثم بعد القسمة أحاط علمُه بذلك، قال صاحب التقريب: في المسألة وجهان في هذه الصورة: أحدهما - أنه يغرَم للمقر له ما كان يغرمه لو كان مجبراً على القسمة، لأنه لم يكن مقصراً عند إقدامه على القسمة، وكان حكم الله في ظاهر الحال ما أجراه. فكان كما لو جرت القسمة قهراً.
والوجه الثاني - أنه يلزمه في هذه الحالة ما كان يلزمه لو أقدم على القسمة مع العلم؛ فإنا لا نفصل بين العلم والجهل فيما يليق (3) بالغُرْم أصلاً. وإنما نفصل بينهما فيما يرجع إلى المأثم.
هذا منتهى نقل صاحب التقريب وتصرفه.
__________
(1) في هامش الأصل: والمقر.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) كذا: ولعلها: يتعلق.(7/121)
فصل
قال: "ولو قال في المرأة تقدم من أرض العدو، ومعها ولد ... إلى آخره" (1) .
4480- مضمون هذا الفصل ليس يتعلق بهذا الكتاب، فإنه تعرّضٌ للقول في لحوق الأنساب، وما يعتبر فيها من الاحتمال. وهذا يُذكر طرفٌ صالحٌ منه في اللعان، ثم يُستوعب في باب الدعوى والقائف، ولكنّا نذكر حاصل الفصل، للجريان على ترتيب السواد (2) ، فنقول:
النسب لا يلحق عندنا إلا مع ظهور الإمكان، ولا يشترط ظهور الإمكان، بل يكفي تصوُّره على بعدٍ، فإذا لم يكن إمكان، لم يلحق أصلاً، فإذا قدمت امرأةٌ من أرض الرُّوم مثلاً، ومعها ولدٌ لها، فادعى واحدٌ (3) من ديارنا أنه ولده، وكان بحيث يولد مثله لمثله، فإن كان غاب المدّعي عن بلده مدة تحتمل وصوله إليها قبلُ، لحقه النسب، وإن لم يخرج هو قط، فكان بمرأى منا مذ نشأ، وكنّا لا نبعد دخول تلك المرأة هذه الديار، على اجتهادٍ أو ظهور، فالاحتمال قائمٌ. وإن تحققنا أنها لم تدخل هذه الديار قط، والرجل لم يخرج عن هذه الديار، ولا احتمالَ، فالدعوى (4) باطلة. ولأبي حنيفة في هذا [خبطٌ] (5) لا حاجة إليه. ثم أجرى كلاماً يتعلق بمناظرة أبي حنيفة، ولا حاجة بنا إلى ذكرها، فإنا إنما نذكرُ ما يتعلق بتمهيدِ المذهبِ، أو ما ينشأ منه مسائل مذهبيَّة.
والقدر الذي ذكرناه من رعاية الإمكان بالاستقلال فيه، فإن هذا أحد ما يعتبر. وأصولُ اللحوق بالقرائن، والدعوى، تستقصى في الكتابين: كتاب اللعان، وكتاب الدعاوى.
__________
(1) ر. المختصر: 3/28. ونصُّ عبارته وتمامها: "وقال في المرأة تقدم من أرض الروم، ومعها ولد، فيدّعيه رجلٌ بأرض الإسلام: إنه ابنه، ولم يكن يعرف أنه خرج إلى أرض الروم: فإنه يلحق به".
(2) السواد: المراد به مختصر المزني.
(3) في الأصل: كل واحد.
(4) في الأصل: والدعوى.
(5) في الأصل: حط.(7/122)
فصل
قال: "وإذا كانت أمتان لا زوج لواحدٍ منهما ... إلى آخره" (1) .
4481- صورة المسألة: أن يملك الرجل أمتين لا زوج لواحدةٍ منهما، ولكل واحدةٍ ولدٌ، فقال المالكُ: أحد هذين ولدي، ثبت النسبُ لأحدهما، لا بعينه ويطالَب بالتعيين، فإذا عيّن أحدَهما، نحكم بعتقه؛ فإن الابن يعتق على الأب.
وأما أمّيّة الولد، فنقول: إن كان قال: قد استولدتُها في ملكي، وصرَّح تصريحاً لا يُبقي للتأويل مساغاً، فهي أم ولدٍ؛ فإنه خلق حراً.
وإن قال: هذا ابني، ولكن استولدتُ الجارية في النكاح، وكنت نكحتُها، ثم اشتريتُها، فهي قِنٌ، والولد خلق رقيقاً، وقد عَتَقَ الابن على أبيه، فعليه الولاء.
وإن قال: استولدتُها بشُبهةٍ، ثم ملكتها ففي [كونها] (2) أم ولد قولان، معروفان، ولا ولاء على الولد؛ فإن الولد الحاصل من وطء الشبهة حُرّ الأصل.
ولو لم يتعرض لهذه التفاصيل، واقتصر على قوله: هذا ولدي من هذه، وأشار إلى مملوكته، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن [الإقرار] (3) المطلَق محمول على الاستيلاد في الملك، ويُثبت أميّة الولد، والولد حر الأصل. والوجه الثاني - أن أمّيّة الولد لا تثبت بالإطلاق، ولا يثبت إلا النسبُ، وحريةُ الولد [بالمطلق] (4) . وهذا قدمناه في أوائل الإقرار واستقصيناها فيه.
فإذا عيّن السيد أحد الولدين، وقلنا: تثبت أمّيَّة الولد للجارية، والحرية الأصليّة للولد، فلو جاءت الثانيةُ، وقالت: إنَّ ولدي ابنكَ، عَلِق في الملك منكَ، وأنا أم ولدك، [فلو] (5) كان بلغ الابنُ، فجاء وادعى أنه الابنُ، فلا شكّ أن القول قول السيد
__________
(1) ر. المختصر: 3/28.
(2) زيادة من المحقق.
(3) سقطت من الأصل.
(4) في الأصل: "بالملك".
(5) في الأصل: لو.(7/123)
في الخصومتين. ولا يخفى حكم حلفه. فلو نكل، حلفت إن كانت هي المدَّعية، وحلف الولد إن كان هو المدّعي، فيثبت نسبُ الولد الأوّل [أو] (1) عتقه بالإقرار، ونسبُ الثاني وعتقُه بيمين الرد بعد النكول.
فإن مات قبل التعيين، فيقوم الوارث مقامه في التعيين، وتعيينه مقبول على التفصيل الذي ذكرناه في تعيين الموروث، وحكم الجارية والولد كما سبق.
فإن مات الموروث، وقال الوارث: لا أعلم، فقد تعذَّر طريق التعيين من الموروث والوارث، فإن أمكننا أن نُرِي الولدين القائفَ إن كان رأى الموروث، فعلنا، ثم نتّبع إلحاقَ (2) القائف على السداد، فإذا ألحق أحدَهما، فهو السَّببُ ويثبت العتق لا محالة في الولد.
ثم قال الأصحاب: لا نفصل معنىً في (3) كيفية الإعلاق. والأمر مشكلٌ، فنجعل [إلحاق] (4) نسب المولود في هذه الصورة بمثابة ما لو أطلق السيّد، وقال: هذا ولدي من هذه، ولم يتعرض لتفصيل وقت العلوق. فهذا أوْلى حالة يعتبر إلحاق القائف بها؛ من جهة أن إلحاق القائف كاستلحاق السيّد.
فإذا جرى اللحوق منها (5) ، فالأمرُ على ما فصّلناه.
فإن لم نجد قائفاً، قال الأصحاب: نقرع بين الولدين، فإذا خرجت القرعة لأحدهما، لم نثبت النسب بالقرعة؛ فإن القرعة خارجةٌ عن القياس، فلا نثبتها في غير محل النصّ، وإنما وردت القرعة المؤثرة في العتق (6) .
4482- وممَّا يتم به البيان أنه [إذا] (7) عرفنا أنه مات عن ابن حُر، والتبس علينا
__________
(1) في الأصل: في.
(2) في الأصل: اللحاق.
(3) كذا ولعل الأولى: لا نفصل معنى كيفية الإعلاق.
(4) في الأصل: اللحاق.
(5) يمكن أن تقرأ: بينها. والمراد جرى اللحوق بجهة القيافة.
(6) أي من خرجت له القرعة عَتق، وكفى، ولا نُثبت له النسب.
(7) زيادة لاستقامة العبارة.(7/124)
عينُه، فهل نقف بينهما ميراث ابنٍ؟ اختلف أصحابنا في المسالة، فذهب الأكثرون إلى أنا نقِف ميراثَ ابنٍ، لقطعنا بأن أحدهما مستلحقٌ، وقد أشكل عينُه، فكان ذلك كما لو طلّق الرجُل إحدى امرأتيه ولم يبيّن، ولم يعيّن، حتى مات؛ فإنا نقفُ لهما ميراث زوجةٍ؛ من جهة أنا عرفنا أن إحداهما زوجة، والجهل بالعين لا يمنع أصل الاستحقاق.
والوجه الثاني - أنا لا نقف لهما من الميراث شيئاًً، لاستبهام النسب، [واليأس من الوصول] (1) إلى البيان، والميراث لا يناطُ إلا بسببٍ ظاهرٍ، ولهذا قلنا في ظاهر المذهب: إذا اعترف أحد الابنين بابنٍ ثالثٍ، لم يلزمه أن يدفع إليه شيئاً من حصته إذا كان صاحبه منكراً.
وهذا تلبيسٌ؛ فإن أصل الاستلحاق قد ثبت في مسألة الابنين، وإذا أقر أحد الابنين بثالثٍ، وأنكر الثاني، لم يثبت أصل النسب؛ فإن إقرار أحد الابنين إقرار منه على الميّت، فلم نر قبوله إلا من أهل الاستغراق.
4483- والذي يجب ذكره تجديد العهد بجامع القَول في الفصل في معرض الضبط والترجمة، فنقول:
إذا قال السيّد: أحد هذين الولدين منّي، فالقولُ في أميّة الولد، والولاء على أحد الولدين، وربطُ هذين الحكمين بذكر السيّد تفصيلَ الإيلاد وإطلاقَه اللفظ لا شك فيه.
والغرض الآن إيضاح التعيين بعد الإبهام، فالبداية في طلبِ التعيين بالسيّد، فإن
مات قبل التعيين، فالرجوع إلى ورثته، فإن ماتوا، ولم يُعلموا، فإنا [بعد] (2) انسداد البيان من الجهتين نتعلق بالقائف. وإنما تقعُ البدايةُ بالقائفِ، إذا لم يكن في المسألة من يُعتمدُ قوله في التعيين حُكماً، فإن فرض نزاع، فصلت الخصومة بطريقها.
ومن محال القائف أن يتنازع رجلان في مولود، فادعى كل واحدٍ منهما [أنه ابنه] (3) فليس أحدهما أولى بالدعوى من الثاني، فنُري الولد القائف، وفي مسألتنا ما لم نعجز
__________
(1) في الأصل: والقياس من الأصول.
(2) في الأصل: نعُدّ.
(3) زيادة اقتضاها السياق.(7/125)
عن مراجعة السيّد وورثته، لا نتعلق بقول القائف. فإن لم نجد القائف، أو غلط، وعسر التعلق بقوله، فالرجوع إلى القرعة. وفائدتها الحكمُ بالعتق لا بالنسب، كما تقدم، ثم إذا تعيَّن أحدُ الولدين المعتق، فهل تحصل أميّة الولد بخروج القرعة على الولد؟ المذهب الصحيح أنه لا تحصل؛ فإن أميّة الولد تبع النسب، وقد ذكرنا إن النسب لا يثبت بالقرعة. فإذا لم يثبت، لم يثبت الاستيلادُ. ومن أصحابنا من حكم للأم التي تخرج القرعة على ولدها بأمية الولد، وتعلق بأن معنى الحكم بالاستيلاد تحصيلُ الحرمة للأم، وذلك حكمٌ بالعتاقة، ولا يمتنع حصول العتاقة تعييناً بالقرعة.
والمسألة مفروضة فيه إذا جرى الإقرار المبهم من السيد، بحيث يقتضي الاستيلاد، ثم من لم يحصّل الاستيلاد لأم الذي تعيّن للحريّة؛ فإنه يقول: بين الجاريتين كما بين الولدين عتقٌ. [ولكن لا قائل] (1) بتفرد الجاريتين بالقرعة. وإن كان يعسرُ إتباع أمرهما الولدين، فإنا لسنا ننكر حصول الحرية على التعيين بطريق القرعة.
4484- ومما يتم به الفصل أن الإقرار إذا جرى على وجهٍ يقتضي ثبوتَ النسب
للولد، ولا يقتضي أميّة الولد، ثم يثبت النسب، ويعيّن لأحدهما، فتثبت الحريّة له، إما مع ولاءٍ أو من غير ولاءٍ، ويستحق الإرثَ إذا جرى التعيين من المُبهِم، أو من الورثة.
ثم إذا حكمنا بانتفاء الاستيلاد، فالذي يرث يملك بالإرث قسطاً من [أمه] (2) ، فيعتق
__________
(1) ما بين المعقفين زيادة لمحاولة إقامة العبارة، التي لا تزال قلقة، وإن كانت المسألة مفهومة على الجملة، ونزيدها وضوحاً بذكر خلاصتها في الشرح الكبير للرافعي، جاء فيه: " ... فإن عجزنا عن الاستفادة من القائف، أقرعنا بينهما لنعرف الحرَّ منهما، ولا يُحكم لمن خرجت قرعته بالنسب والميراث، لأن القرعة على خلاف القياس؛ وإنما ورد الخبر بها في العتق، فلا تعمل في النسب والميراث، وهل تحصل أمِّة الولد في أم ذلك الذي خرج بالقرعة؟ حكى إمام الحرمين فيه وجهين. وقال: المذهب أنها لا تحصل؛ لأنها تتبع النسب؛ فإذا لم نجعله ولداً [أي لم نثبت نسبه] ، لم نجعلها أم ولد، والذي أورده الاكثرون أنها تحصل؛ لأن المقصود العتق، والقرعة عاملة فيه، فكما تفيد حريته، تفيد حرّيتها. ولا يقرع بينهما مرة أخرى؛ إذ لا يؤمن خروج القرعة على غير التي خرج لولدها" ا. هـ ملخصاً: الشرح الكبير (فتح العزيز: 1/193 بهامش المجموع) .
وهذا الذي ذكره الرافعي هو خلاصة كلام إمام الحرمين الذي أمامنا.
(2) في الأصل: "من أَمةٍ" بهذا الرسم والنقط والضبط.(7/126)
عليه ذلك القدر، بحكم الملك، ثم لا يسري العتق؛ فإن الملك الحاصل بالإرث قهري، وإذا ترتب العتق على ذلك [فهو] (1) قهري لا تسبب فيه، فلا سريان بذلك العتق، كما سيأتي مقرراً في كتاب العتق، إن شاء الله تعالى.
فصل
قال المُزني: سمعته يقول: "لو قال عند وفاته لثلاثة أولادٍ: أحد هؤلاء
ولدي ... إلى آخره" (2) .
4485- صورة هذه المسألة: أن الرجل إذا كانت له أمةٌ، ولها ثلاثة أولادٍ، وأنسابهم مجهولة، وليست ذاتَ زوج، ولم يثبت أن المولى يستفرشها، والأولاد على الملك لرق [الأمّ] (3) فلو قال السيّد: أحد هؤلاء الأولاد ولدي، فيطالب بالتعيين.
ولنفرض المسألةَ فيه إذا ذكر هذا الاستلحاق على صفة تقتضي أميّة الولد؛ فإن مقصود المسألة وراء ذلك، فنقول: الجارية أم ولد، والنظر بعد ذلك في تعيين الولد المستلحق، فنرجع إلى السيد ونطالبه بتعيين المستلحق، فإن عيّن الأصغر حكم بعتقه، والأكبر والأوسط رقيقان. وإن عيّن الأوسط، ثبت نسبه [و] (4) وقع الحُكم بعتقه، وثبت أن الجارية صارت فراشاً به، وجرى فيها الاستيلاد؛ فالولد الأصغر ولد مستولدة؛ فإن لم يدّع الاستبراء، عَتَق الأصغر أيضاً، وثبت نسبه.
وإن ادعى الاستبراء، ففي انتفاء نسب الأصغر تفصيلٌ يأتي مشروحاً، إن شاء الله تعالى - في آخر كتاب الاستبراء، عند ذكرنا أن الإقرار بوطء الجارية يتضمَّن استلحاقَ الولد الذي تأتي به على الجملة إذا لم [يجدد] (5) دعوى الاستبراء بعد الإقرار بالوطء.
__________
(1) مزيدة لاستقامة العبارة.
(2) ر. المختصر: 3/29.
(3) في الأصل: الأمر.
(4) مزيدة لإقامة العبارة.
(5) في الأصل: يجرد.(7/127)
والمسألةُ مختلفٌ فيها في المستولدة إذا ادّعى السيّد استبراءها، ثم أتت بولد لو [كان] (1) يحتمل أن يكون العلوق به بعد الاستبراء. وليس من الممكن الوفاء بشرح هذا.
فإن لم يثبت نسب الولد الصغير لدعوى الاستبراء بعد الأوسط، فهل يعتق هذا الولد الأصغر إذا عَتَقت الأم بموت المولى؛ من جهة أنه وإن كان عن سفاح، فهو ولد مستولدة. والأولاد الذين تأتي بهم المستولدة عن سفاح أو نكاح يثبت لهم من عُلقة الحرية، ما ثبت للأم، ويعتقون بما تعتق به الأم؟ فنقول:
4486- نقدم صورة مقصودة في نفسها يترتب عليها غرضنا فيما ذكرناه. فإذا رهن الرجل جاريته، وأولدها بعد ذلك، وقلنا: لا يثبت الاستيلاد، فبيعت في الرهن، وأتت بأولادٍ بعد زوال الملك، عن نكاحٍ أو سفاحٍ، فلو ملك الراهن تيك الجارية، فللأصحاب في حصول أميّة الولد لها عند ثبوت الملك عليها طريقان: منهم من خرَّج ذلك على ما إذا وطىء جارية الغيرِ بشبهةٍ وعلقت بولدٍ حرٍ، ثم اشتراها، ففي حصول الاستيلاد في الملك الطارىء قولان، فكذلك إذا ردَدنا الاستيلاد في المرهونة، وبيعت، وعادت ملكاًً للراهن، فالمسألة على قولين.
ومن أصحابنا من قطع بأنها مستولدة، بخلاف ما إذا وطىء الرجل جاريةَ الغير بشبةٍ وأولدها ثم ملكها. والفرق أن وطء الراهن صادف مملوكتَه، ولكن امتنع نفوذُ الاستيلاد، لحق المرتهن، وانبنى عليه (2) في حقه، فمهما (3) عادت، ثبت الاستيلاد في ملك الراهن (4) .
فإذا وقع التفريع على هذا -وهو الأصح- فلو ملكها الراهن، وملك أولادها الذين أتت بهم لمَّا زال الملك عنها، فهل يثبت للأولاد عُلقة الاستيلاد؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يثبت؛ فإنّها أتت بهم وهي مملوكة مطلقة، وإنما يثبت للأولاد حريّة الاستيلاد إذا وجد في الحال أميّة الولد للأُمّ. والثاني - يثبت لهم حريّة الاستيلاد، إذا
__________
(1) في الأصل: بان.
(2) أي على امتناع نفوذ الاستيلاد.
(3) مهما: بمعنى (إذا) وهذا الاستعمال وارد بكثرة في لسان إمام الحرمين وتلميذه الغزالي.
(4) انظر هذه المسألة عند الرافعي أيضاً: الشرح الكبير: 11/194، 195. بهامش المجموع.(7/128)
ملكهم كما (1) ملك الأمّ؛ فإنهم يتبعونها؛ فإذا ثبت لها الاستيلاد عند الملك الطارىء، وكانت مملوكةً قبلُ، لم يمتنع حصول الحرية لأولادها.
ولا شكَّ أن السيّد لو ملك أولادها، ولم يملكها، لم تثبت الحرية لهم؛ فإنهم يتبعون الأُم؛ فإذا كانت هي مملوكة مطْلَقة تحت أيدي المتصرّفين فيها، فيستحيل أن يثبت لأولادها الحريةُ، بطريق التبعيَّة، وهي مملوكة.
4487- فإذا ثبتت هذه المقدمة عُدنا إلى غرضنا من الكلام في الولد الصَّغير، وقد ثبتت أميّة الولد بالولد الأوسط، فمن الممكن أن يفرض كونها مرهونة، على الترتيب الذي نظمناه، ثم نصوّر إتيانها بالولد الصغير بعدما بيعت، فإن كنّا نرى أنه لو ملك الراهن الأمَّ، وهذا الولد الصغيرَ، تثبت الحرية للولد، فيلزم عند الحكم بأميّة الولد بالولد الأوسط الحكمُ بثبوت الحريّة للولد الأصغر.
وإن كنا نقول: لا تثبت الحرية للولد الذي أتت به ومِلْكُ الراهن زائلٌ عنها، فإن صرَّح السيد المقر بهذا التفصيل، فالولد الأصغر رقيق. وإن لم يتعرض لهذا التفصيل، ولكن أطلق استلحاقَ الولد الأوسط على وجهٍ يقتضي أميّة الولد للجارية، فما حكم إطلاق هذا الإقرار؟
فعلى وجهين: أحدهما - أن الحرية [تثبت للأصغر] (2) ؛ حملاً على ما يظهر جريانه من ثبوت الاستيلادِ تَنَجُّزاً بالولد الأوسط. وهذا القائل لا يحمل على الصورة النادرة المذكورة في المرهونة. والوجه الثاني - أنا لا نحكم بالعتق والحريّة في الولد الأصغر عند إطلاق الإقرار؛ فإنا نجد من طريق الإمكان جريانَ تلك الصورة المذكورة في الرهن، وإذا أمكن وجهٌ، فلا طريق إلا مراجعة السيد المقر.
هذا حاصل الكلام فيه. إذا عين الأوسط على وجهٍ تثبتُ أميّة الولد به.
فأمّا إذا عيَّن الولد الأكبر، فهو حر والجارية أم ولدٍ، وفي الولد الأوسط والأصغر
__________
(1) كما: بمعنى عندما.
(2) في الأصل: بقيت الأصغر.(7/129)
من الكلام ما ذكرناه في الولد الأصغر في الصورة المتقدمة.
4488- ومما أجراه الشافعي في المسألة إذا استلحق على الإبهام ولداً، وحكمنا بأميّة الولد، ثم مات قبل البيان، وعسر الرّجوع إلى الورثة أيضاً، قال: نقرع بين الأولاد كما قدمناه، فقال المزني: [الصغير] (1) منهم يجب أن يعتق بكل حساب؛ فإن الاستيلاد إن (2) كان به، فهو حر، وإن كان الاستيلاد بالأوسط أيضاً [عتق] (3) الأصغر؛ لأنه ولد أم ولد، وكذلك إن كان الاستيلاد بالأكبر. ثم قال: الأصغر يعتق بثلاث تقديرات ولا رابع لها في الإمكان: يعتق إذا فُرض الاستيلاد به، والمعنيّ بالعتق الحرية. هذه حالة.
والثانية - أن يقع الاستيلاد بالأوسط. والثالثة - أن يقع الاستيلاد بالأكبر.
وللأوسط (4) حالتا حرية، وحالةُ رقٍّ: إحدى الحالتين أن يحصل الاستيلاد به، والأخرى أن يحصل الاستيلاد بالأكبر. وحالة الرق أن يحصل الاستيلاد بالأصغر.
والأكبر له حالة حرية، وحالتا رق: فحالة الحريّة أن يحصل الاستيلاد به، وحالتا الرق إحداهما - أن يقع الاستيلاد بالأوسط (5) ، والأخرى أن يقع الاستيلاد بالأصغر.
وسياق كلامه أن الإقراع لا معنى له بين الأولاد الثلاثة. والصغير [حرٌّ] (6) من كل وجهٍ.
وهذا الذي ذكره يجيب عنه ما قدمناه من التقديرات والاحتمال.
4489- ثم قال قائلون: وإن وافقنا المزني في أن الأصغر يعتق، فلا بأس بإدخاله في القرعة مع الأكبر والأوسط، وليس أثر إدخاله أن يقدّر رقه، ولكن فائدة إدخاله أن قرعة العتق لو خرجت عليه [رَقَّ] (7) الأوسط والأكبر. ولهذا نظائر من أحكام القرعة ستأتي مستقصاةٌ في كتاب العتق، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) في الأصل: الصغيرة.
(2) في الأصل: وإن.
(3) مزيدة رعاية للسياق.
(4) في الأصل: والأوسط.
(5) في الأصل: الأوسط.
(6) في الأصل: جزء.
(7) في الأصل: في.(7/130)
فإذن نقول: يقرع بينهم على طريقة الأصحاب في موافقة المزني في عتق الأصغر، فإن خرجت القرعة على الأصغر، رَقَّ الأوسط والأكبر، وإن خرجت قرعة الحرية على الأكبر، عَتَق الأولاد الثلاثة، وإن خرجت قرعة الحريّة للأوسط، عَتَق، وعَتق الأصغر، ورَق الأكبر. وإن خرجت القرعة للأصغر، حكم بحريته ورَق الأكبر والأوسط.
ومن أصحابنا من قال: يخرج الأصغر من القرعة، ويقرع بين الأكبر والأوسط.
وهذا غير صحيح؛ فإنا إنما نقرع بين عدد نستيقن فيهم حراً. وإذا كنّا نجوز حصول الاستيلاد بالأصغر ونُرِق الأوسط والأكبر، فلا وجه للإقراع على هذا الوجه.
وهذا الفصل لا يحتمِلُ تحقيق القول في كيفيّة الإقراع، فالوجه أن نحيل استقصاءه على باب القرعة.
أما نصّ الشافعي، فإنه مصرحٌ بإدخال الثلاثة في القرعة، وظاهر النص أنا لا نعيّن الأصغر للحريّة أيضاً. وهذا هو الذي أحوج الأصحاب إلى فرض الصورة النادرة التي ذكرناها في المرهونة.
ومما يتعيَّن التنبيه له من كلام الشافعي والمزني؛ أن الشافعي لمَّا أقرع بينهم، قال: من خرجت له قرعةُ الحرية عَتَق، ولم يثبت نسبٌ ولا ميراثٌ، وفرض الشافعي مع هؤلاء الثلاثة ابناً معروف النسب للمتوفى، واقتضى كلامه صرفَ الميراث إليه، فقال المزني: يتعين أن نقف شيئاًً من الميراث للأولاد الثلاثة؛ فإن فيهم نسيباً بحكم إقرار المتوفَّى. وقد رأينا كلاماً للأصحاب في أنا هل نقفُ الميراث مع إشكال النسب، والأقيس أن نقف كما ذكرناه في إبهام طلقةٍ بين امرأتين، فنصُّ الشافعي لا يخرج إلا على هذا الوجه الضعيف في أنَّا لا نقف الميراث إذا استبهم النسب، وكان لا يتميز. وهذا مشكل كما ذكره المزني.
4490- ثم ذكر المزني الصحيح عنده ولم يبده مذهباً لنفسه، بل ألحقه بمذهب الشافعي، فإنه قال: قياس مذهب الشافعي كذا وكذا. وفيما أبداه المزني إشكال أيضاً، فإنه قال: الابن الصغير حر قطعاً، وحكم له بالميراث، ثم قال: يصرف ربع الميراث إلى الابن المعروف، وربعه إلى الأصغر من البنين الثلاثة، ونقف النصفَ بين الأكبر والأوسط، وبين المعروف والأصغر.(7/131)
أمّا تسليمه الربع إلى المعروف، فبيّن، وفي قطعه بتوريث الأصغر مجالٌ للنّظر، فإنه يجوز أن يقال: حصلت حريته بموت المستولِد تبعاًً للأم وإذا كان هذا من جهات الحرية، فما وجهُ القطع بتوريثه؟ فنقول: إنّما قال المزني ذلك على أصلٍ، وهو أن الاستيلاد إذا كان بالأصغر؛ فإنه يرث، وإن كان بالأكبر والأوسط، فنسب الأصغر يثبت أيضاً لثبوته بعد ثبوت الفراش. والقول مفروض فيه إذا لم يدَّع الاستبراء، [و] (1) قلنا: يلحق النسب مع دعوى الاستبراء، فإنّ في ذلك خلافاً مشهوراً في المستولدة. هذا مخرج كلام المزني.
وأمّا وقف النصف، فهو على قانون التوقف في مواريث الخناثى على ما سيأتي، إن شاء الله تعالى.
وقد نجز الفصل على نهاية البيان، مع الاعتراف بالإشكال في معنى النص؛ فإنّه اجتمع فيه إدخال الأصغر في إمكان الرق، وقطعُ الميراث، مع القطع بأن في الأولاد نسيباً. أمّا خروج الأصغر على الرق، وعن تعيّن العتق، فلا يخرّج إلا على وجه الصُّورة البديعة التي تكلفها الأصحاب في المرهونة، وأمّا ترك وقف الميراث بين البنين، فلا يخرّج إلا على وجهٍ ضعيفٍ أشرنا إليهِ.
فصل
قال: "ويجوز الشهادة أنهم لا يعرفون له وارثاً ... إلى آخره" (2) .
4491- إذا مات الإنسان، فجاء رجل وادّعى أنه وارثه، ولم يبين جهة استحقاق الميراث، لم تسمع دعواه. ولو أقام بينةً على هذه الصفة، فهي باطلة؛ لأن العلماء مختلفون في أعيان الورثة، وجهات التوريث، فلا بد من التنصيص والتعيين.
ولو جاء إنسان وقال: أنا ابن الميت، وأقام بينةً على ذلك، فلا يكفي هذا أيضاً، حتى يتعرض المدعي والشاهدان لكونه وارثاً؛ فإن الابن قد لا يرث
__________
(1) في الأصل: وقلنا.
(2) ر. المختصر: 3/31.(7/132)
بأسباب، والغرض إثبات استحقاقٍ، فليقع التعرضُ لهُ.
ثم إذا شهد عدلان على أن هذا ابنُ الميتِ ووارثُه، فلا بد من التعرض لنفي من عدا هذا المذكور، ليتبين أنه مستغرِق أو مشارك. فإذا شهد عدلان من أهل الخبرة الباطنة على أن هذا ابنهُ ووارثه، لا نعرف له وارثاً سواه؛ فإذا قامت البينة كذلك، سلم القاضي التركة إلى المشهود له.
وقال الأئمة: لا بد من الخبرة الباطنة في ثلاث شهاداتٍ: هذه إحداها، والثانية - الشهادة على العدالة، والثالثة - الشهادة على الإعدام (1) ، وإنما اشترطنا الخبرة الباطنة في هذه الأشياء؛ لأن مستند الشهادة فيها النفيُ على وجهٍ لا يستيقن، ولكن مست الحاجة إلى قبول البينة في هذه المنازل، والاكتفاءِ بغالب الظن، ولولا تجويز ما ذكرناه، لتعطَّل تعديل الشهود، وتسليمُ التركات إلى الورثة، ولتخلَّد الحبس على المعسر.
ثم أهل الخبرة الباطنة فيما نحن فيه مَن عاشر الميت حضراً وسفراً، أو سراً وعلناً، وكان [ممن] (2) يطلع على باطن حاله إذا نكح أو تسرى، فإذا كان كذلك حالُ الشاهد، فيبعد أن يعزب عنه وارثٌ سوى من علم. هذا ظاهر الحال.
4492- وممَّا يجب التنبيه له أن الشهود لو شهدوا على وارث، وقالوا: لا نعلم له وارثاً سواه، لم (3) يسلم القاضي التركةَ إلى من عيّنوه، حتى يتحقق له أنهم من أهل الخبرة الباطنة. وإنما يتحقق له هذا بأن يخبروه بأننا خبرنا بواطن حاله في عمره، ولا يشترط أن يذكروا ذلك في صيغة الشهادة. ولكن لو أخبروا بها قبل إقامة الشهادة [أو] (4) بعدها، كفى.
ولو اطلع القاضي على ذلك من أحوال الشهود، لا من جهتهم، ثبت الغرض بذلك.
__________
(1) الإعدام: أي الفقر المعدِم، وعدم الملك.
(2) في الأصل: من.
(3) في الأصل: ولم.
(4) في الأصل: وبعدها.(7/133)
4493- وممّا يدور في النفس من هذا أن الشهود إذا شهدوا أن هذا ابنُ الميت، لم يكن هذا بمثابة ما لو شهدوا على الإقرار من غير تعرض لذكر شرائطه، بل تثبت البنوة، ثم يبحث القاضي، فإذا لم يظهر وصفٌ حاجبٌ، ورث. وليس يبعد أن يقال: الشهادة بالبنوة تُورِّث عند ظهور الحرية والإسلام؛ فإن الصفات التي تسقط الميراث، اختلافُ الدين، والقتل، فإذا ظهرت الحرية والإسلام إذا كان المتوفى مسلماً، فلا معنى للبحث عن القتل، من غير دعوى فيه.
4494- ثم إذا شهد الشهود على وراثة شخص ونَفَوْا علمهم بوارث غيره، وهم (1) أهل الخبرة الباطنة، فالتركة تسلم من غير طلب كفيل؛ فإن الاحتياط الممكن قد حصل بشهادة الشهود، فإن ثبت وارثاً، ولم يثبت انتفاء من سواه، ولم يُقم شهادةً من أهل الخبرة، فسبيل القاضي في مثل هذا أن يبحث عن مواضعِ نهضات المتوفَّى، وجهاتِ أسفاره، ويكتبَ إلى ثقاتٍ من تلك الجهات يخبر بموت هذا الرّجل، ويأمر بإشاعة ذلك، حتى إن كان وارثٌ ظهر، فإذا مضى زمن يغلب على الظن -مع السبيل الذي ذكرناه- ظهورُ وارثٍ لو كان، فإذا لم يظهر، نُظر: فإن كان الوارث ممن لا يُحجب حجبَ حرمانٍ، فلا خلاف أنّه يسلم إليه التركة، إذا كان عصبة.
وهل يجب طلب كفيل منه؟ في المسألة وجهان: أحدهما - يجب [للاحتياط] (2) في مظنة الإشكال. والثاني - لا يجب، ويستحب؛ فإنّه إذا بحث، فقد قدّم الممكن في الاحتياط.
وإذا كان ذلك الشخص ممن يتصور أن يحجب حجب حرمانٍ، كالأخ، فهل يدفع القاضي إليه المالَ ولا بيّنة من أهل الخبرة، واحتاط كما رسمنا؟ في المسألة وجهان: أحدهما - لا نسلم إليه، لإمكان وارث يحجبه، وليحرص الأخ على إقامة البينة من أهل الخبرة. والوجه الثاني - أنه يسلم المال إليه، ثم في طلب الكفيل وجهان مرتبان على الوجهين في الابن. ولا شك أن هذه الصورة أولى بطلب كفيل.
__________
(1) في الأصل: ونفوا. وهو تصحيف عجيب.
(2) في الأصل: الاحتياط.(7/134)
4495- ولو كان للمتوفى أصحاب فرائض، وكانوا لا يحجبون، فيعطى صاحب الفرض سهمَه عائلاً على أقصى تقديرٍ في العول، ولا وقوف في هذا؛ فإنه مستيقن، فتعطى الأم سدس المال عائلاً من عشرة، إذا كان ذلك ممكناً. والقول في الزائد [عن] (1) السدس الذي يعول، أو الثلث الذي تستحقه الأم في بعض الأحوال، كالقول في التسليم إلى الأخ، مع تقدير كونه محجوباً. ثم ما نستيقنه لا نتوقف فيه ولا نطلب فيه كفيلاً. وهذا إنما يتصور في أصحاب الفرائض الذين لا يحجبون.
والعصبة، وإن كانوا لا يحجبون حجب الحرمان، فلا ضبط لأقل ما يصرف إلى الواحد، فيجري في ابتداء الأمر توقفٌ، وفي انتهائه خلافٌ في طلب الكفيل.
ولو شهد شهود من أهل الخبرة الباطنة على أن هذا هو الوارث، لا وارث للمتوفى غيره، فجزْمُهم القولَ مجازفة منهم. ولكن الشافعي نص على أنا لا نرد شهادتهم في ذلك، وتابعه الأصحابُ عليه، فإن الناس قد يطلقون هذا تعويلاً على غالب الظن عندهم، وإذا روجعوا فسروه بما ذكرناه.
وإذا قال أهل الخبرة: لا نعلم له وارثاً، كفى ذلك مع كونهم من أهل الخبرة؛ فإن عدم علمهم يغلب على الظن أن لا وارث سوى المعين.
***
__________
(1) في الأصل: إلى.(7/135)
كتاب العارية
4496- العارية من المبارّ التي استحث الشرعُ عليها، وحمل كثير من المفسرين قوله تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 7] على منع إعارة الفأس، والقدرة (1) والمسحاة، ونحوها. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المنحة (2) والعارية مضمونة والزعيم غارم" (3) . ولما استعار من صفوان أدرعاً وسلاحاً، فقال: أغصباً يا محمد؟ قال عليه السلام: "لا بل عاريّةً مضمونةً مؤدّاة" (4) وقيل: العارية في اللسان من قولهم: عار فلان يعيرُ إذا جاء وذهبَ، ومنه العير، وسمي العيَّار عيّاراً لجيئته وذهابه. والعارية إنّما سميت عارية لتحولها من يد المالك إلى يد المستعير، ثم من يد المستعير إلى يد المعير.
وهي في الشريعة عينُ مالِ الغير في يد الإنسان، لينتفع بها، بإذنٍ، ويردَّها، من غير استحقاق.
__________
(1) كذا بالتاء (القدرة) والوارد في اللغة: (القِدْرُ) بدون تاء. أم المراد آلة من آلات الزرع والغرس بدليل ذكرها بين الفأس والمسحاة.
(2) "المنحة" هذا لفظ أبي داود، وابن ماجة، وفي بعض الروايات "المنيحة".
(3) حديث: العارية مضمونة ... عن أبي أمامة، رواه أحمد: 5/267، وأبو داود: البيوع، باب في تضمين العارية، ح 3565، والترمذي: البيوع - باب ما جاء في أن العارية مؤداة، ح 1265، وابن ماجة: الصدقات، باب العارية، ح 2398. قال الحافظ: أكثر ألفاظهم: "العارية مؤداةٌ"، وأما (مضمونة) ، فهي في الحديث التالي. وانظر التلخيص: 3/105 ح 1265، 116 ح 1285.
(4) حديث صفوان ... رواه أبو داود: البيوع، في تضمين العارية، ح 3562، 3563، 3564، وأحمد: 3/401، والحاكم: 2/47، والبيهقي: 6/89. وانظر التلخيص: 3/116 ح 1286.(7/137)
ثم صدر الشافعيُ الكتاب ببيانِ مذهبه في أن العارية مضمونة على المستعير، خلافاًً لأبي حنيفة (1) .
وحكى الشيخ أبو علي في الشرح قولاً عن الشافعي في الإملاء أن العارية أمانة لا يضمنها المستعير ما لم يتعدَّ فيها. وهذا قول غريبٌ، لا تفريع عليه، ولا عودَ إليه.
4497- ثم إذا حكمنا بكون العارية مضمونة، لم نفصل بين الحيوان وغيره من الأعيان التي تستعار، واعتمد الأئمة في تثبيت الضّمان كونَ العارية مضمونةَ الرّد، وقالوا: مالٌ مضمون الرّد على المالك، فكان مضمون القيمة عند التلف، كالمأخوذ سوْماً.
وتحقيق ذلك أن الذي يجب ردّه، لو تلف تحت يد من يلزمه الرد، لم يلتزم بدلاً (2) ؛ لأنا قيدنا الكلام بالمال (3) ، وفقهه أن المال له بدل، فأمكن تضمين بدله، وهذا غير متصور فيما ليس مالاً. وما ألزموا والمال يستويان في إمكان الرد، فاستويا في مؤونة (4) الرد. وإن ألزمونا المستعيرَ من المستأجر يلزمه ردّ العارية، ولو تلفت في يده، لم يضمنها. قلنا: اختلف أصحابنا فيه. فقال بعضهم: على المستعير من المستأجر الضّمانُ. والصحيح أنه لا يضمن. وفي الطريقة احتراز عنه؛ فإنا قلنا: مال يجب رده على مالكه، والمستعير لا يلزمه الرد على المالك، ولا يتصور الضمان للمستأجر، فخرج على الفقه الذي ذكرناه، ثم يده متفرعة على يد أمانةٍ، فاستحال تقدير الضمان من غير عدوان. والعين المستأجرة إذا تلفت في يد المستأجر، لم تكن مضمونةً عليه، ولا محسوبة من ماله، والمال في يد مالكه إذا تلف، كان ذلك خسراناً حالاً محل ما يضمنه بالإخراج من ماله.
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/185 مسألة 1876، ومختصر الطحاوي: 116، وإيثار الإنصاف: 266، والبدائع: 6/215.
(2) حصلنا على نسخة (ي) بعد أن كنا قد انتهينا من العمل في هذه الأبواب، فأعدنا القراءة، والمقابلة، وغيّرنا المثبت في الصلب، فجعلنا (ي) هي الأصل حتى أوائل كتاب الغصب، حيث بقيت (د 2) أصلاً، وبمساعدة (ت 2) و (ي) .
(3) ساقطة من (ت 2) .
(4) في هامش الأصل: صورة. خ. (أي في نسخة أخرى: صورة) .(7/138)
4498- وأرسل الأصحاب مسائل في ضمان العواري نفياً وإثباتاً ونحن نرسلها كذلك.
فإذا قال: أعرتك حماري لتعيرني حمارك، كان إجارةً فاسدة؛ لاشتمال ما جرى على ذكر العوض، ولا ضمان في الإجارة الفاسدة.
ولو قال: أعرتك ثوبي هذا على أن تضمن لي عشرةً، إذا تلف في يدك، وكانت قيمته خمسة، فالخمسة الزائدة تشبه أن تكون عوضاًً، فلحق [ما] (1) ذكرناه بالإجارة الفاسدة. ويشبه أن يكون عاريَّةً مشتملة على شرط فاسدٍ، فذكر القاضي وجهين في المسألة، وهي محتملة جدّاً. ثم قال: أصل هذا أنه (2) إذا قال: وهبت منك هذا العبد بألفٍ، أنجعل ذلك بيعاً محضاً؟ أو هو على قضايا الهبات. وفيه قولان.
وهذه المسائل يجمعها أنا نعتبر اللفظ تارة في أمثال هذه المسائل، فعلى هذا اللفظُ للإعارة. وقد نعتبر المعنى دون اللفظ؛ فالمذكور من الزيادة عوضٌ.
ولو أشخص رجلٌ رجلاً إلى موضعٍ، لغرض المُشخِص، وأركبه دابةً، فليس ذلك عاريةً؛ فإن غرض المشخِص هو المعتبر، والعارية عينٌ يأخذها المستعير لمنفعة نفسه، لينتفع بها، ويردّها.
ولو جمحت دابة على مالكها، فأركبها إنساناً ليسيرها، ويحفظها، فلا ضمان، لما ذكرناه، وإن انتفع الراكب.
ولو وجد المسافر من قد أعيا وأعجزه الكلال، فأركبه دابةً من غير التماسه، فتَلِفت تحته، ضمنها؛ فإن ذلك عارية. ولو أردفه مركبه الذي هو راكبه، فتَلِف المركب تحتهما، ضمن الرديف نصف قيمة الدابة، لما ذكرناه.
وفي المسألتين عندنا نظر. من وجهين: أحدهما - أنه يقع في قبيل العواري ما يضاهي الصدقات بالإضافة إلى الهبات، والصدقاتُ ليست على حكم الهبات؛ فإن من تصدق لم يرجع في صدقته، والواهب قد يرجع في هبته، فلا يمتنع أن لا يضمن من تبرع المعير عليه محتسباً أجراً، وحائزاً ثواباً. هذا وجه.
__________
(1) مطموسة في الأصل، (ت 2) : بما.
(2) (ت 2) : أن قال.(7/139)
والثاني - يظهر في الرديف، فإن الدابة في يد مالكها، فإن نَفَقَتْ، أضيف تلفُها إلى يده، ولا تعويل على تأثير الرديف في الإهلاك، فإنَّ ضمان العواري لا يأتي من هذه الجهة، ولهذا لا يضمن المستعيرُ ما يُبليه من الثوب المستعار، على حسب الإذن، وسنقرر هذا متصلاً بما نحن فيه.
4499- واختلف أئمتنا في إعارة الدراهم والدنانير وإجارتهما: فذهب بعضهم إلى تصحيح إجارتهما وإعارتهما، وفصل آخرون، فمنعوا الإجارة، وصححوا الإعارة.
ومنشأ الخلاف يدور على ضعف منفعتها، فإن غاية المطلوب منها التزين والتجمل.
ومن يفصل بين الإجارة والإعارة يرى الإعارة مكتفية بأدنى منفعة، وليست إعارتها قرضاً عندنا خلافاًً لأبي حنيفة (1) ، فإن صححنا إعارتها، فهي مضمونة على المستعير. فإن قلنا: لا تصح إعارتُها، فهل يضمنها المستعير؟ فعلى وجهين: أحدهما - يضمنها، لأنها عارية فاسدة، وما اقتضى صحيحه الضمانَ، اقتضى فاسدُه الضّمانَ.
والوجه الثاني - وهو الأفقه، أن الضمان لا يجب؛ لأن العارية فسدت أو صحت تَعتمد منفعةً معتبرةً، فإن لم تكن، فلا عارية، فهذا من انعدام العارية، لا من فسادها.
ومن أقبض الغير مال نفسه لا لمنفعةٍ، كان أمانةً. وما ذكرناه في الدراهم يجري في استعارة الحنطة والشعير، وما في معناهما.
4500- ثم تردد الأئمةُ في ضمان الأجزاء التي تتلف باستعمال المستعار، على حسب إذن المالك. فالذي ذهب إليه المحققون القطعُ بأنّها لا تُضمن، من قِبل أنها تتلف بإتلاف المستعير، وإتلافهُ مأذون فيه من قِبل المالك. ولو قال المغصوب منه للغاصب: أحرق هذا الثوبَ الذي غصبته مني، فأحرقه، لم يضمن، وإن كانت يده يدَ ضمانٍ. هذا إذا [انسحقت] (2) أجزاء من الثوب وغيرِه، على حسب الإذن بسبب
__________
(1) ر. المبسوط: 11/145، البدائع: 6/215.
(2) في الأصل: استحقت.(7/140)
الاستعمال، فأما إذا امّحق الثوبُ بالاستعمالِ، فقد ذكر القاضي وجهين حينئذ:
أحدهما - أنه لا يجب الضّمان، وهو الأصح؛ لما قدمناه من ترتب الإتلاف على إذن المالك.
ومن أصحابنا من قال: يجب الضمان؛ فإن حقَّ العارية أن تُردّ، فإذا فات ردُّها، وجب الضمان. وكل مَرْفِقٍ فيها مشروط بالردّ. وهذا لا حاصل له.
ثم إن لم نوجب الضمان، فلا كلام، وإن أوجبناه، اندرج جميعُ الأجزاء تحت الضّمان؛ إذ لا ضبط، ولا موقف على وسط. وقد ذكر كثير من أئمتنا وجهين في ضمان الأجزاء وإن لم تتلف [العين] (1) مصيراً إلى أن العارية مؤدّاة. وإذا تلف بعضُها، فقد فات الرد فيما تلف، والإذنُ في اللُّبس إذن على التزام الرد في الجزء والكل.
وكل هذا خبْط، والأصح نفي الضمان، من غير تفصيل.
4501- ولو استعار دابةً ليركبها، فتلفت تحته، أو عابت بسبب الركوب مع اقتصاده، والدواب تهلك إذا حملت أثقالها، فإن هلكت بهذا السَّبب، كان هلاكُها بمثابة امّحاق الثوب، وإن عابت بهذا السبب، كان ذلك بمثابة انسحاق الثوب بالبلى، مع بقاء ما يُردّ منه. وإن تلفت الدابة أو عابت بآفةٍ سماويّةٍ، وجب الضمان حينئذٍ.
ولو استعار حماراً ليركبه إلى مكان، ويرجع، فإذا جاوز ذلك المكانَ، فهو غاصبٌ من وقت المجاوزة. ومن حكم الغاصب أن يضمن أجرةَ المثل. هذا سبيله من وقت مجاوزته. فإذا أقبل راجعاً، فهل يضمن أُجرة المثل لمدة الرجوع، أم نقول: يضمن أجرتها إلى أن يردها إلى المكان المعين؟ وهل يضمن أُجرتها من ذلك المكان، إلى أن يردها إلى مالكها؟ فعلى وجهين ذكرهما القاضي. والاحتمالُ فيهما بيّن. وقد بناهما على أصلٍ في القَسْم بين النساء، فقال: إذا سافر بإحدى نسائه بالقرعة، فلا يقضي إذا عاد للواتي خلفهن أيام السَّفر، وإن انفرد بالتي سافر بها. فلو نوى الإقامة في موضعٍ، وقضى به أياماً ثم انتقض عزمه، وبدا له أن يعود. أما أيامُ
__________
(1) ساقطة من الأصل.(7/141)
الإقامة، فإنه يقضيها للمخلفات. فأمّا الأيام التي مضت من وقت انتقاض عزمه، واتجاهه راجعاً إلى بلدته، فهل يقضيها؟ فعلى وجهين، سيأتي ذكرهما. ووجه التنبيه لائح.
4502- وممّا نلحقه بهذه المسائل الكلامُ في كيفية ضمان العواري، وللشافعي قولان فيه: أحدهما - أن العارية مضمونة ضمان الغصوب. والقول الثاني - أنها لا تضمن ضمانَها.
فإن قلنا: إنها تضمن ضمانَ الغصوب، فيجب فيها إذا فاتت أقصى القيم، من يوم القبض إلى يوم التلف. وحقيقة الضمان يحال على كتاب الغصب، وهو بين أيدينا.
وإن قلنا بالقول الثاني، فقد ذكر القاضي وغيره طريقين في معناه. فمن أصحابنا من قال: الاعتبار في قيمة العاريّة بقيمة يوم التلف. ومنهم من قال: الاعتبار بقيمة يوم القبض. والصحيح في العارية إذا قلنا: إنها لا تضمن ضمان الغصوب، أنها تضمن بقيمة يوم التلف، فإنا لو ضمناه يوم القبض، لضمّناه الأجزاءَ، وقد ذكرنا أنها ليست مضمونةً على الأصح.
ثم المنافع لا تضمن من المستعار بلا خلاف، وإن قلنا: إن العارية تضمن ضمان الغصوب (1) ، وهذا أصدق شاهد على أن الأجزاء لا تضمن، فإن المنافع لم يضمنها المستعير، من جهة أنَّه استوفاها بإذن مالك العين، والأجزاء بهذه المثابة.
والمأخوذ بالسوْم مضمونٌ، وفي ضمانه قولان في الأصل: أحدهما - أنه يضمن ضمانَ الغصوب. والثاني - أنه لا يضمن ضمان الغصوب. ثم الأصح فيه إذا لم يثبت ضمانُ الغصوب، أنه يضمن بقيمة يوم القبض. ومن أصحابنا من اعتبر يوم التلف.
وليس في المأخوذ بالسوم ما ذكرنا في العارية من استحالة اعتبار يوم القبض، لمكان الأجزاء، كما قررناه.
وإذا ولدت العارية في يد المستعير، فإن قلنا: إنه يضمن ضمانَ الغصوب، فولدها مضمونٌ، كولد المغصوبة. وإن قلنا: إنها لا تضمن ضمان الغصوب، فحكم الولد حكم ما لو ألقت الريحُ ثوباً في دار إنسانٍ. ثم سبيل المذهب فيه أنه إذا طالبه صاحبه
__________
(1) جواب الشرط مفهوم من الكلام قبله: "المنافع لا تضمن من المستعار".(7/142)
بالرّد، فلم يرد، دخل في ضمانه، وإن تلف في يده قبل أن يتمكن من ردّه على صاحبه، فلا ضمان. وإن لم يطالب صاحبه بالرد، وتمكن من حصل في يده من الرد، فلم يرد حتى تلف، ففي وجوب الضمان وجهان. هذا حكم الثوب يُلقيه الرّيح في دار إنسانٍ، وحكمُ ولدِ العارية إذا قلنا: إنها لا تضمن ضمان الغصوب.
4503- وممَّا نذكره متصلاً بذلك ما لو استعار إنسان شيئاًً من إنسانٍ، وحسِب المستعير المعيرَ مالكاً، فإذا تلفت العين في يد المستعير، فقرار الضمان عليه في قيمة العين، فأمّا إذا غرَّمه المالك أجرَ مثل المنفعة مدة استيلائه على العين، نظر: إن لم يكن قد استوفى منفعتَها، رجعَ بما غرِم على المعير؛ لأنه لم يدخل في الاستعارة على أن تتقوم عليه المنفعة، وكانت المنافع في حقه بمثابة العين المودَعة في حق المستودع من الغاصب. هذا إذا لم يستوفها.
وإن كان قد استوفى المنافع وغرَّمه المغصوب منه الأجرةَ، ففي رجوعه بما غرِم وجهان، مبنيان على أن الغاصب إذا قدَّم الطعام المغصوبَ إلى إنسانٍ، فأكله ذلك الإنسانُ، ثم غرَّمه المالك، فهل يرجع بما غرِمه على الغاصب الغارّ؟ فعلى قولين، سنذكرهما في الغصوب، إن شاء الله.
4504- ثم ذكر الأئمة مسائل متفرقة فيما يجوز استعارته، وفيما [لا] (1) يجوز ذلك فيه، فنقول: من استعار جاريةً للخدمة، نظر: فإن كانت مَحرماً له، جاز، وإن لم تكن محرماً، فإن كان يستخدمها من غير استخلاء بها، فلا تحريم، والكراهية ثابتة، فإن استخلى بها حرُم.
ولا يحل أن يستعير أباه للخدمة؛ فإن في استخدامه استذلالٌ وامتهانٌ، وسنذكر التفصيل في استئجار الإنسان أباه.
والمُحْرِم إذا أعار صيداً من الحلال كان مالكاً [له] (2) ، إذا أحرم، فإن قلنا: زال ملكه بالإحرام، لزمه الإرسال. وإذا أوقعه في يد المستعير، وتلف في يده، لزمه
__________
(1) سقطت من الأصل.
(2) مزيدة من (ت 2) .(7/143)
الجزاء. وإن قلنا: لم يزل ملكه، لم يلزمه الإرسال، وتصح منه إعارته. فإذا استعار المحرم صيداً من الحلال، فتلف في يده غرِم القيمةَ للمالك، والجزاء لله تعالى.
فرع:
4505- ليس للمستعير أن يؤاجر المستعارَ؛ فإنه ليس مالكاً للمنافِع، والإجارة تمليك، فلا يتأتى منه أن يملك ما لا يملك، والمنافع في حق المستعير مباحة لا يثبت له فيها ملكٌ.
وهل للمستعير أن يعير من غير إذن المالك؟ فعلى وجهين: أصحهما - أنه لا يجوز ذلك؛ فإن المالك خصصه بالاستباحة، فلم يكن له إحلالُ غيره محلَّ نفسه، كما إذا قدم الإنسان طعاماً إلى الضيف ليأكله، فليس له أن يُبيحه لغيره، حتى قال العلماء: لا يحل له أن يُلقي لقمةً إلى هرةٍ إلا أن تدل القرائن دلالةً ظاهرة أن صاحب الطعام سلط الضيف على جميع هذه الجهات.
وسيأتي شرح ذلك في باب الوليمة، إن شاء الله تعالى.
فصل
قال الشافعي: "ولو قال: أكريتُها إلى موضع كذا، بكذا ... إلى آخر الفصل" (1) .
4506- إذا أخذ الإنسان الدابة من مالكها ليركبَها، ثم اختلفا، فقال المالك: أكريتُك هذه الدابة بأجرة مسماةٍ، ذكرها، وقال الراكبُ: ما أكريتني، بل أعرتنيها، فلا تخلو الدابة إما أن تكون قائمةً، أو تالفةً: فإن كانت قائمة، فلا يخلو إما أن يقع النزاع على الاتصال بالعقد قبل مضي مدّةٍ لمثلها أجرة، وإمّا أن يتفق النزاع بعد مضي المدة التي ادعى المالك أنها مدة الإجارة، ولو انقضى بعض المدّة، لانتظم ما نحاوله في هذا القسم. ولكنا نفرض الكلام في انقضاء المدة بكمالها.
فإذا انقضت والنزاع كما ذكرناه، فقد تحقق باتفاق المالك والراكب أن انتفاع الراكب كان بإذن المالك، ولكنهما تنازعا، فادّعى الراكبُ أنه أباح له المالك المنفعة من غير عوضٍ، وادعى المالك عوضاً، فالقول قول من؟
__________
(1) ر. المختصر: 3/33.(7/144)
المنصوص عليهِ للشافعي هاهنا أن القول قول الراكب، ونص في كتاب المزارعة على أن مثل هذه الصورة لو جرت في أرضٍ، فزعم المنتفع بها أنه استعارها، وزعم مالكها أنه لم يُبح له منافعها، وإنما أجَّرها (1) . قال: "القول قول المالك"؛ فاختلف أصحابنا في المسألتين على طريقين، فمنهم من قال: في المسألتين قولان، نقلاً، وتخريجاً: أحدهما - أن القول قول المنتفع في المسألتين. والقول الثاني - القول قول المالك في المسألتين.
ومن أصحابنا من أقر النصَّين (2) ، وفرق بينهما بأن قال: استعارة الدابة معتادةٌ فقول (3) المنتفع ليس بعيداً عن الصدق، والأصل براءتُه عن الأجرة. وإعارة الأرض بديعة في العادة، غيرُ معتادةٍ، فالظاهر مع المالك في نفي الإعارة.
والصَّحيح طريقة القولين في المسألتين.
4507- توجيه القولين: من قال: القول قول المنتفع، احتج بأن قال: إن المنتفع يقول: وافقتني أيها المالك في الإذن بالانتفاع، وادّعيت عليَّ وراء ذلك مالاً، والأصل براءة ذمتي منه.
ومن قال: القول قول المالك، احتج بأنه يقول: الإذنُ في الانتفاع لا ينافي التزامَ العوض، وأنت أيها المنتفع تدعي وراء الإذن عليَّ إباحةً مُحبطةً لمالي، فلا يقبل قولُك، وقد أتلفت المنافعَ، وهي متقومة في الشرع. هذا بيان القولين.
التفريع عليهما:
4508- إن قلنا: القول قول المالك مع يمينه، فلا بد أن يتعرضَ في يمينه لنفي الإعارة؛ فإنه مدعًى عليه في العارية. ثم قال شيخي وطائفة من المحققين: لا يتعرض المالك لإثبات الإجارة، بل يقتصر على نفي الإعارة؛ فإنه إنما يحلف فيما يُدَّعى عليه، ولو حلف في إثبات الإجارة، لكان مدَّعياً حالفاً على إثبات دعواه، وهذا لا يسوغ إلا في القسامة.
__________
(1) في النسختين: أجر.
(2) (ت 2) : النصيبين.
(3) (ت 2) : فتقول.(7/145)
وذكر العراقيون والقاضي: أن المالك ينفي الإعارة، ويتعرض لإثبات الإجارة، وأجرتها المسماةِ، فيقول: بالله ما أَعَرْتُ (1) ، ولقد آجرت بكذا.
ووجه ما ذكرهُ شيخنا لائحٌ، لا حاجة إلى الإطناب فيهِ.
فأمّا من قال:. إنه يتعرض لإثبات الإجارة، قال: إنما كان (2) يُكتفى بنفي الإعارة لو كان ينكر أصل الإذن، وليس هو بمنكرٍ له، ولا يمكنه أن يتوصل إلى إثبات الماليّة بنفي الإذن، ونسبةِ المنتفع إلى الغصب، والاستبداد؛ فإن أصل الإذن متفق عليه.
وإنما يثبت المال مع اعترافه بالإذن بطريق الإجارة، فقد اضطررنا إلى تمليكه الحلف على إثبات الإجارة.
والقائل الأول يقول: إذا نفى الإباحة، ثبت له حق المالية في المنافع، وهذا إثباتٌ يعارض نفيَ الإباحة، مع تقدير الإذن، فليقع الاكتفاء بهذا.
وهذا أقيس، ولما ذكره العراقيون وجه، كما أشرنا إليه.
فإن قلنا: لا يتعرض المالك لإثبات الإجارة، فلا تثبت الأجرة المسماة، ولا نطلق القولَ بثبوت أجرة المثل أيضاً، ولا سبيل إلى إحباط حق المالك، فالوجه أن نقول: إذا حلف، استحق أقل الأمرين من أجرة المثل، والمسمّاة. فإن كانت أجرة المثل أقلَّ، لم يستحق غيرَها؛ فإنه لم يُقم حُجةً على إثبات الأجرة المسماة، (3 وإن كان المسمى أقلَّ من أجرة المثل، لم يطالب إلا بالأجرة المسماة 3) ؛ فإنّه معترف بأنه لا يستحق إلا هذا المقدار، فكان مؤاخذاً بإقراره.
هذا إذا قلنا: إنه لا يتعرض لذكر الإجارة، وما فيها من العوض المسمى.
4509- فأمّا إذا فرعنا على ما ذكره العراقيون: من أنه يتعرض في يمينه المعروضة عليه لإثبات الإجارة، وما فيها من الأجرة المسماة، فإذا حلف على نفي الإعارة، وإثبات الإجارة، فيستحق ماذا؟
فعلى وجهين: ذكرهما القاضي، وقال العراقيون: فيه قولان منصوصان
__________
(1) (ت 2) : أعرف.
(2) سقطت من (ت 2) .
(3) ما بين القوسين سقط من (ت 2) .(7/146)
للشافعي: أحدهما - أنه يستحق أقلَّ الأمرين من أجرة المثل، والأجرة المسمّاة، كما ذكرناه؛ وذلك أن إثبات ما يدعيه بيمينه المعروضة عليه ابتداءً بعيدٌ جداً، ولكنه ذكر الإجارة لينتظم كلامه، من حيث كان معترفاً بأصل الإذن، فلا يستفيد إذاً بذكر الإجارة إلا نظمَ الكلام، وتعليلُ الأقل ما قدمناه من مؤاخذته بالإقرار إذا كانت الأجرة المسماة أقل.
والقول الثاني - أنه يستحق الأجرة المسماة؛ فإنه إذا أُحوج في يمينه إلى ذكر الإجارة، وقد ذكرها بصفتها، فيثبت له العوض الذي سمّاه. وهذا وإن كان بدعاً في قياس الخصومات، فسببه أنّ الواقعة في نفسها بدْعٌ، كما نبهنا عليه؛ إذ قلنا: الإذن متفق عليه، فلا يأتي ضمان المنافع من استقلال بانتفاعٍ، وإنما يأتي من إذنٍ مقرون بالعوض، وحق المالك لا يُحبَط، فعسُر الأمر، وتركَّبت المسألة من أصلين متعارضين، كما نبهنا عليه.
4510- ومما يتعلق بتحقيق هذا الفصل: أنا إذا أثبتنا للمالك المسمى، فلا بد من ذكر الأجرة المسماة لا شك فيه، وإن قلنا إنه يستحق أقل الأمرين، فالظاهر عندنا أنه يكفيه ذكر الإجارة، لينبه بذكرها على الطريق؛ فإنّه إذا كان لا يستحق عوضاً (1) ، فلا حاجة إلى ذكر العوض، وهذا محتمل جداً. والعلم عند الله.
4511- ولو عرضنا اليمين على المالك، فنكل، فقد قال العراقيون: لا ترد اليمين على الرّاكب؛ فإنه لا يدعي إلا الإعارة، ولا حق على المستعير، ووضع يمين الرد أن يثبت للمردود عليه حقاً، وليس الأمر كذلك في هذه الصُّورة، فالحقُّ إذاً للمالك، فإن أثبتها باليمين، فذاك. وإن تركها، فلا معترض عليه.
وهذا الذي [ذكروه] (2) حسنٌ فقيه. ولكنه خارج عن قياس المذهب، مفضٍ إلى القضاء بالنكول، وإنما وقعت المسألة شاذّة، لأنها بصورتها مخالفة لصور الخصومات، فإنّا أقمنا المدّعي في منصب المدّعى عليه، لفقهٍ حمل على هذا، ودعا إليه، والخصم الراكب ليس يدعي لنفسه مالاً، فيحلف على ماذا؟
وفي كلام القاضي رمز ظاهرٌ إلى أن اليمين ترد على الراكب، وفائدتها الخلاص من
__________
(1) (ت 2) : عوضها.
(2) في الأصل، (ت 2) : "ذكره".(7/147)
الغُرم، وإن استبعد مستبعد هذا، عارضناه بتحليف من يدعي الإجارة، وبالقضاء بالنكول (1) ، وكلُّ خصومة تدار على قضية تليق بها.
والأظهر ما ذكره العراقيون. والعلم عند الله.
هذا كله تفريع على قولنا: القول قول المالك.
4512- فأما إذا قلنا: القول قول المنتفع، فيحلف بالله ما اكترى. فإن حلف على نفي ما يُدّعى عليه من الإجارة، كفاه ذلك، وبرىء عن الغُرمِ، وإن نكل عن اليمين، رُدّت اليمين على المالك، فيحلف على إثبات الإجارة، والأجرةِ المسماة.
وليس ذلك بدعاً؛ فإن يمين الرد تتضمن إثبات الحقوق للحالف. ثم الوجه القطع بأنّه يستحق الأجرةَ المسماةَ، بالغة ما بلغت؛ فإنه أثبتها بيمين الرّد، وادعاها أولاً.
وهذا قياس يَطّرد في الحقوق المدعاة، إذا انتهت الخصومة إلى يمين الرد فيها.
وذكر القاضي وجهين: هذا أحدهما. والوجه الثاني - أن المالك يستحق أجرة المثل؛ لأن المنتفِع ينفي أصل الكراء، وهو مدع للإذن في الانتفاع (2) ، وقد نكل عن اليمين على أصل الكراء، فيقع يمين الرد على إثبات أصل الكراء.
وهذا على نهاية السقوط، وإنما حكيته لعظم قدر القاضي. ثم في هذا الوجه الضعيف خللٌ آخر، وهو أنه أثبت أجرة المثل، والوجه أن يقال: إن كانت أجرة المثل أقلَّ، فله أجرةُ المثل، وإن كان المسمى أقلَّ، فليس له إلا الأقلَّ، كما قدمناه. ولا ينبغي أن نعد هذا الوجهَ من المذهب. والعراقيون في التفريع على تصديق المالك ذكروا القولين في المسمّى أو الأقل، وقطعوا القول في التفريع على تصديق المنتفع بأنه (3) إذا نكل وحلف المالك، استحق ما ادعاه.
وهذا كله فيه إذا جرى الخلاف كما وصفناه، والعين قائمة، وقد مضت المدة التي تقابلها الأجرة لو (4) صحت الإجارة.
__________
(1) (ت 2) : وبالنكول.
(2) (ت 2) : في أصل الانتفاع.
(3) (ت 2) : به.
(4) (ت 2) : ولو.(7/148)
4513- فأما إذا كانت العين باقيةً، ولم يمض من وقت التعامل، أو التقاول بين المالك وبين المنتفع، وأَخْذه العينَ زمانٌ به مبالاة، ولمثله أجرة، فقد قال العراقيون والقاضي: نقطع القول في هذه الصورة بأن (1) الراكب يحلف على نفي الإجارة، وتردّ الدابة، ولا ينقدح في هذه الصورة اختلافُ القول بأن المالك يدّعي إجارةً، والراكب ينفيها، ويذكر الإعارة، فالقول قوله في نفي الإجارة مع يمينه. فإن حلف ردّ العين؛ فإن إنكار المالك للإعارة نقضٌ لها إن كانت، فليس إلا ردّ العين.
وإن نكل المنتفع عن اليمين رَدَدْنا اليمين على المالك، فإن حلف يمين الرد، استحق الأجرة، وسلم الدابة إلى الراكب. فإن قيل: لِمَ لَمْ تجعلوا المسألة على قولين في هذه الصورة، في أن القول قول المالك أو قول الراكب، كما ذكرتموه في الصورة الأولى، وهي إذا مضت المدة؟ قلنا: إذا لم تمض المدة، فالمدعي على الحقيقة المالكُ، والمنتفع ليس يدعي لنفسه حقاً، فلا معنى لتخيل الخلاف في هذه الصورة. وسبب اختلاف القول في الصورة الأولى، أن المنافع تلِفت تحت يد الراكب، وعسر علينا إحباطها، فأعضلت الخصومة وجرّت تردداً، أما هاهنا، فلا المنتفع يدعي لنفسه حقاً، ولا المنافع تلفت على المالك.
والذي يُشْكِل في هذا الطرف أنا على طريقة العراقيين في صورة القولين، إذا جعلنا القول قولَ المالك، نحلِّفه ابتداء على إثبات الأجرة، ونقول في قول: إنه يستحق الأجرة المسماة: فكان لا يمتنع على هذه الطريقة أن يصدق المالك مع يمينه في إثبات الإجارة؛ تفريعاً على تصديق المالك.
وهذا ليس بشيء؛ فإن قول تصديق المالك، إنما جرّه ضرورةُ فوات المنفعة، فإذا لم يتفق هذا، فليس إلا الرجوع إلى القانون في أن المالك يدعي إجارةً، وراكب الدابة ينفيها. فالقول قول النافي مع يمينه، فإذاً لا وجه إلا القطعُ بما ذكره العراقيون والقاضي.
وكل ما ذكرناه تفريع فيه إذا كانت العين قائمة.
__________
(1) (ت 2) : فإن.(7/149)
4514- فإن تلِفت العينُ في يد المنتفع، فلا يخلو النزاع إما أن يقع قبل مضي المدة، وإما أن يقع بعد مضي المدة: فإن وقع النزاع قبل مضي المدّة، فصاحب اليد معترف بالقيمة للمالك؛ من جهة ضمان العارية، والمالك منكرٌ لوجوبها عليه، فلا نثبت له ما أقر به المنتفع، إلا أن يعود فيصدقه ثانياً، بعدما كذبه، فيثبت حينئذ موجَبُ العارية.
4515- وإن انقضت المدة، ثم تلفت العين، يُنظر: فإن كانت الأجرة أكثرَ من القيمة، فالمالك يدعي عِوضَ المنافع التي أُتلفت عليه، والمنتفع ينكرها فتخرج المسألة على (1) قولين، في أن القول قول من؟ وسبب خروج القولين أن تلك الزيادة يبعد إحباطها على مالك المنافع من غير ثَبَت.
وإن كانت الأجرة والقيمة سواء، فهما متنازعان في جهة الثبوت، متفقان على الأصل والمقدار. وفيه وجهان: أحدهما - أن التنازع في جهة الثبوت لا يمنع الأخذَ، فعلى هذا يُطرح الاختلاف، والتحليف، والرّد، ويُعطى الرجل مقدارَ ما يدعيه. هذا وجه.
والوجه الثاني - أن اختلاف الجهة يمنع الأخذ، فعلى هذا لا يأخذ المالك من المنتفع شيئاً مع التنازع في الجهة، أمّا القيمة، فليس يدّعيها، ولا يستحق أخذَها على الوجه الذي عليه نفرّع، بقي (2) ادّعاؤه للأجرة، وهو يدّعيها، والمنتفع ينفيها؛ فيعود القولان لا محالة.
وقد نجز القول في صورةٍ واحدةٍ من اختلاف المالك والمنتفع.
4516- ونحن نذكر صُورتين أخريين بعد هذه: إحداهما - عكس الصورة المتقدمة: فإذا قال المالك: أعرتكها، وقال المنتفع: بل أكريتنيها، فلا يخلو إما أن تكون العين قائمةً، أو تالفة: فإن كانت العين قائمة، لم يخل إما أن يكون النزاع متصلاً من غير تخلل زمانٍ معتبر، وإما أن يقع بعد التسليم زمانٌ معتبر.
__________
(1) هنا سقط في نسخة الأصل مقداره ورقة كاملة. وهو ما يوازي [ش 44، 45 كلها، ونصف ي 46] ، من نسخة (ت 2) .
(2) في الأصل: ففي.(7/150)
فإن وقع النزاع متصلاً، فالقول قول المالك: إنه ما أكراه؛ فإن الأصل عدمُ الإجارة، وهي مدّعاة على المالك في ملكه، فالقول قوله مع يمينه. فإن نكل، حلف المنتفع، واستحق دعواه.
فإن تنازعَا بعد مضي المدّةِ، فالمنتفع مقر للمالك بالأجرة، وهو ينكرها.
ولا يخفى حكم ذلك.
4517- وإن كانت العين تالفةً، فلا يخلو إما أن يتنازعا على الاتصال، أو يقع النزاع منفصلاً، بعد مضي المدّة، فإن تلفت على الاتصال، ثم تنازعا، فالمالك مدّعٍ للقيمة، والمنتفع يدعي أن العين كانت أمانةً بحُكم الإجارة. فالقول قول المالك مع يمينه "بالله ما أكراه". فإذا حلف كذلك، استحق القيمة؛ لأنهما اتفقا على أنه أخذ العين للانتفاع. والمالك نفى الإجارة، فتعينت الإعارة؛ إذ ليس بين الإجارة والإعارة مسلكٌ بين المتنازعين. فإذا بطل أحد المسلكين، نزلت القضية على الثاني.
فإذا انقضت المُدّة واعترف المنتفع بالأجرة، وتلفت العين، فالمالك مدّعٍ للقيمة، منكرٌ للأجرة. والمنتفع معترفٌ بالأجرة منكر للقيمة. فإذا كانت القيمة أكثرَ من الأجرة، فالقول قول المالك، مع يمينه في نفي الإجارة. وسبيل ثبوت القيمة بكمالها وإن زادت على مبلغ الأجرة، كثبوت أصل القيمة، والتنازع وتلف العين متصلانِ. فإذا كنّا نثبت القيمة على المنتفع بطريق إنكاره الإجارة، وإن كان المنتفع منكراً لأصلها، وكذلك القول في لزوم القيمة الزائدة بكمالها حتى يعترف المنتفع بالأجرة.
وإن استوى مبلغ القيمة والأجرة، فهذا تخريج على أن الاختلاف في الجهة، مع الاتفاق في المدّعى عليه جنساً وقدراً، كيف سبيله؟ فإن حكمنا بأن الاختلاف في الجهة لا أثر له، فقد انقطعت الخصومة بين المالك والمنتفع، وهو مطالب بالمبلغ الذي أقرّ به، فليسلمه إلى المالك، وليعتقده أجرةً أو قيمةً، وإن حكمنا بأن اختلاف الجهة يؤثر، فاعتراف المنتفع بمقدار الأجرة ساقط الأثر، والمالك مدع للقيمة بطريق الإجارة، فليحلف كما تقدم ويستحق القيمة.
وحظ الفقه من هذا الفصل أن يفهم الناظر تميزه عن الصورة التي أجرينا القولين(7/151)
فيها في الصورة الأولى من الاختلافِ، ومن (1) كان سباقاً إلى ذكر القولين وادّعائهما، فهو غير محيطٍ بأطراف المسألة. وإنما ينشأ القولان إذا فرض تلف المنافع في يد المنتفع، مع قيام الوفاق على الإذن، وفرض الاختلاف بعد ذلك في أنها إذا تلفت مع الإذن مضمونة، أو غير مضمونةٍ. وقد كررنا هذا مراراً، ونحن نطلبُ بتكريره أن يحيط الناظر به علماً.
4518- الصورة الأخيرة في اختلافهما أن يقول المالك لراكب الدابة: قد غصبتنيها، ويقولَ المنتفع: بل أعرتنيها، فلا يخلو إمّا أن يجري ذلك والعين قائمة، أو يجري والعين تالفة: فإن كانت قائمةً، ينقسم القول إلى فرض النزاع متصلاً بحيث لا يمضي زمان معتبر بين تسليم العين وبين إنشاء النزاع، وإلى تقديره بعد مضي زمانٍ من وقت قبض العين.
فإن اتصل النزاع، فلا معنى له، ولا أثر؛ فإنه لم يفت شيء من العين، والمنفعة بالعين مردودة على مالكها.
وإن مضت مدة، فالمالك يدعي أجرة مثل تلك المدة، والمنتفع ينكرها.
قال المزني: قال الشافعي: القول قول الراكب الذي يدعي الاستعارة، وقطع جوابه بهذا.
واختلف أصحابنا على طرقٍ: فذهب القياسون إلى القطع بتخطئته في النقل، ورد الأمر إلى تصديق المالك في نفي الإعارة مع يمينه. وإذا هو نفاها، استحق أجرة المنفعة التالفة تحت يد المنتفع، بها.
وليس ذلك كالاختلاف في الإجارة والإعارة؛ فإن هناك اتفقا على الإذن في الانتفاع، واختلفا وراء ذلك في جهة الإذن. قال (2) : القول قول المالك إلى ادعاء عقد، وهو الإجارة، وتعرضت المنافع على زعم المنتفع، وموجَبِ قوله للتعطيل.
فكان اختلاف القول لذلك، والمالك في هذه الصورة الأخيرة منكر لأصل الإذن.
__________
(1) في الأصل: وما كان سياقاً.
(2) القائل هو الشافعي، فالكلام في مسألة النزاع في الإعارة والإجارة.(7/152)
ومن أصحابنا من قال: ما حكاه المزني قولٌ، وفي المسألة قول آخر، فيحصل قولان في أن القول قول من؟ وهذا بعيد عن القياس.
ومن أصحابنا من قطع القول بما نقله المزني، واتبع نقله ووثق به، ثم لم يعتصم إلا بمسلكٍ مائل عن القياس، وهو أنه قال: الأصل نفيُ العدوان، والظنُّ بكل منتفع انتفاءُ اعتدائه. وكأن هذا القائل يقول: لا نحمل يد صاحب اليد على الغصب والعدوان، وقد أمرنا بتحسين الظن به، فعلى من ادّعى العدوان إثباتُه.
وهذا لا وقع له عند المحصلين وإن اضطر الأصحابُ إلى ذكره. هذا كله، والعين قائمة.
4519- فإن تلفت العين، انقسم الأمر، فلا يخلو: إما أن يقع التلف متصلاً، أو بعد مضي مدّةٍ، فإن اتصل التلف، ثم تنازعا، فللمالك القيمة، ولا أثر للخلاف؛ فإن العارية مضمونةٌ، والغصب مضمون، ولا يتصوَّر فرض تفاوت مع الاتصال.
ولا يخرج في هذه الصورة الخلاف المشهور للأصحاب باختلاف الجهة، حتى يقال: إحدى الجهتين غصبٌ والأخرى عارية، فإن العين متحدة، فلا وقع للاختلاف.
وإن وقع التلف بعد مضي مدة، فالمالك يدعي أجرة مثل المنفعةِ في ذلك الزمان، والقيمةَ، والمنتفع مقر بالقيمة، منكر للأجرة، فالكلام في الأجرة في هذه الصورة كالكلام فيها إذا كانت العين قائمةً، وقد ذكرنا نقل المزني واختلافَ الأصحاب وراء نقله. وما قدمناه يعود، يعني الطرق الثلاث. أما القيمة إن (1) قلنا: تضمن العارية ضمان الغصوب، فقد وقع الوفاق في قدر القيمةِ، فيستحقها المالك. وإن قلنا: العارية مضمونة بقيمتها يوم التلف، وكان قيمة يوم التلف أكثر، فتجب القيمة ولا أثر للنزاع والاختلاف.
وإن كان قيمة يوم التلف أقل، فلا نقل في هذه الصورة. والذي يقتضيه القياس أن القول قول المالك، لأنه جاحد لأصل الإذن، وقياس نقل المزني أن ننفي العدوان ونجعل القول في نفيها قول صاحب اليد. ثم ينتظم من ذلك الطرق التي قدمناها.
هذا نجاز القول ومنتهاه في اختلاف المالك والمنتفع.
__________
(1) نذكر بالتزام إمام الحرمين حذف الفاء في جواب (أما) (تقريباً) وهو مذهب الكوفيين.(7/153)
فصل
قال: "ومن تعدى في وديعةٍ، ثم ردّها ... إلى آخره" (1) .
4520- هذا الفصل غير لائق بمسائل العارية، وإنما هو من كتاب الوديعة.
ولكن إذا اعترض، فلا بد من الكلام عليه جرياً على الترتيب، فنقول: المودَع إذا تعدى في الوديعة، فاستعملها: بأن كانت ثوباً فلبسه، أو دابة فركبها، ثم ترك العدوان، وقطع الانتفاع، فالعين مضمونة، لا يزول ضمانُها بقطع العدوان، من طريق الصورة. خلافاًً لأبي حنيفة (2) .
فلو قال المالكُ بعد ثبوت الضّمان: استودعتك على الابتداء، وجرى هذا بعد العدوان، واليدُ مستمرة. ففيه الخلاف المشهور، المذكور في كتاب الرهون. ولو قال المالك: أبرأتُك من الضمان، ففيه وجهان قدّمتُ (3) ذكرَهما أيضاً. والخلاف عن أبي حنيفةَ مشهورٌ في المسألة.
4521- ولو فسق الأب المتصرف في مال الطفل، فهل ينعزل؟ فعلى وجهين، سيأتي نظيرهما في فسق الولي في النكاح، إن شاء الله- ثم إن حكمنا بانعزال الولي فلو عاد أميناً هل يعود تصرفُه بحكم الولاية؟ فعلى وجهين ذكرهما الأصحاب: أحدهما - وهو الذي يجب القطع به، أنه يعود بنفسه ولياً؛ فإنه كان ولياً شرعاً من غير توليةٍ، وقد زال المانع من ائتمانه، وهوآبَ (4) من أهل النظر، فيجب أن يلي.
والوجه الثاني - أنه لا يعود ولياً، ما لم ينظر الحاكم في أمره، فإن رآه أميناً، واستبرأه، أعاده (5) إلى حكم الولاية. وهذا القائل لا يشترط أن يقول للولي: نصّبتك (6) ولياً، ولكن الغرض عنده أن يُظهر الحاكم عودَه بحكمه له بالولاية،
__________
(1) ر. المختصر: 3/34.
(2) ر. رؤوس المسائل: 357 مسألة 236، وطريقة الخلاف في الفقه: 271 مسألة 113.
(3) (ت 2) : قد ذكرهما.
(4) (ت 2) : الآن. والمعنى أنه عاد -بعد الفسق- إلى الأمانة، وصار ثانية من أهل النظر والصلاح للولاية.
(5) (ت 2) : عاد.
(6) (ت 2) : نصيبك ولياً لي.(7/154)
لا بإنشاء (1) التولية. ثم قال هؤلاء: لو كان السلطان انتزع المال من يد الأب لما فسق، ثم لما حسنت حالتُه، واستبرأ، فردّ المال إليه، كفى ذلك.
وهذا صحيح؛ فإنا على هذا الوجه، لا نبغي تولية الأب إنشاءً، بل نشترط أن يُظهر الحاكمُ عودَه متصرفاً، وهذا يحصل بردّ المال إليه، ولا شك فيما ذكرناه.
فالخلاف راجعٌ إلى أنا هل نشترط أن يُظهر الحاكم عدالة الولي بعد فسقه؟ من أصحابنا من يشترط ذلك، ومنهم من لا يشترطه ويحكم بعَوْد سلطان الأب، وتصرفه، إذا عاد عدلاً (2) ، وإن لم نرفع أمره إلى الحاكم.
والوصي إذا فسق، فالظاهر أنه ينعزل، كما سنذكر في كتاب الوصايا، ثم إذا عاد أميناً، لم يعد تصرفه، إلا أن يأتمنه الحاكم ابتداءً. [ولا يكتفى] (3) في هذا بإظهار الحاكم، حتى ينشىء التولية. وهذا بيّنٌ.
4522- ثم من سلطان الأب والجد عند عدم الأب أنهما يملكان تولي طرفي العقود الواردة على الأموال، وقد تكرر ذكر هذا، فلو وكّل الأب أو الجد وكيلاً، وفوّض إليه أن يتولى طرفي العقد، فهل يصح من الوكيل ذلك؟ فعلى وجهين: أحدُهما - لا يصح؛ فإنه لا يتعاطى هذا غيرُ الأب والجدّ. والثاني - يصح من الوكيل ذلك؛ من جهة أن عبارته بمثابة عبارة الموكل، والتوكيل جائز في قبيل هذه التصرفات.
ومما يتصل بمضمون هذا الفصل، ما قدمناه في كتاب الوكالة من أن الوكيل إذا تعدّى في العين التي سلمها الموكِّل إليه لبيعها، فهل ينعزل بعدوانه في محل تصرفه عن التصرف الذي فوّض إليه؟ المذهبُ أنه لا ينعزل. وفيه وجهٌ بعيد، قدمتُ حكايته.
فصل
قال: "وإذا أعاره بقعة ليس فيها بناء ... إلى آخره" (4) .
4523- قال الأصحاب: مالك الأرض إذا أعارها مطلقاً من إنسانٍ، ولم يبيّن نوعاً
__________
(1) (ت 2) : "لا نشا".
(2) (ت 2) : عدولاً.
(3) في الأصل: يكفي.
(4) ر. المختصر: 3/34.(7/155)
من المنافع، لم تصح العارية، ولم يملك من تصدّى للاستعارة الانتفاعَ بوجهٍ من الوجوه، فلا بد إذاً من ذكر نوعٍ من المنفعة.
والسببُ فيه أن الإعارة معونةٌ شرعية، نزلت على قدر حاجة المستعير، فلتُفرض على حسب الحاجة، ولا حاجةَ تمس إلى الإعارة المرسلة، ولم يَجْرِ بها عرفٌ بين المستعير والمعير. هذا الذي ذكرناه هو الظاهر.
ومن أصحابنا (1) من قال: تصح الإعارة المرسلة، والمستعير ينتفع على أي وجه شاء.
ولو قال المالك: أعرتك هذه الأرضَ، فافعل بها ما بدا لك، ففي هذه الصُّورة وجهان عند من لا يصحح الإعارة المرسلة.
وإن بيّن نوعاً من المنفعة، ولم يفصله، صحت الإعارة في ظاهر المذهب، مثل أن يقول: أعرتكها لتزرع فيها، أو قال لتغرس، أو تبني، فظاهر المذهب صحّة الإعارة، وإن لم يفصل الزروع وعلمنا تفاوت آثارها.
ومن أصحابنا من لم يصحح الإعارة؛ للتفاوت الظاهر البين في النوع الواحد.
4524- وإن أذن له في نوع من الزرع وخصصه، لم يكن له أن يزرع زرعاً يزيد ضررُه على عين ما عيّن، مثل أن يعين المعيِّن زراعةَ الحنطة، فليس للمستعير أن يعيّن الذرة.
وكذلك لو عين الشعير، لم يزرع الحنطة؛ فإن ضرر الحنطة أظهرُ وأكثر من ضرر الشعير.
وهي فيما قيل تنتشر عروقها أكثر من انتشار عروق الشعير، وتجتذب قوة الأرض.
وإذا عين المعير زرعاً، فللمستعير أن يزرع ما هو أقل ضرراً (2) منه، والسبب فيه أن مقصود المعير بالتعيين المنعُ عما يزيد ضرره، فإذا كان الضرر فيما جاء به المستعير أقلَّ، عُدَّ في العرف موافقاً للمعير المالك. وهذا بمثابة ما لو قال لوكيله: اشتر لي هذا العبد بألف درهم، فلو اشتراه بخمسمائةٍ، كان موافقاً. ولو اشتراه بأكثرَ من ألفٍ، كان مخالفاً.
__________
(1) في هامش (ت 2) حاشية صعب الانتفاع بها، إذ انتقصت أطراف الكلمات بسبب تصوير المخطوطة.
(2) في هامش (ت 2) : حاشية: وله أن يزرع مثله، والله أعلم.(7/156)
ولو نصّ المعير على تعيين الحنطة مثلاً، وصرح بالمنع من زراعة الشعير، فظاهر المذهب أنه يتعين على المستعير اتباع ما ذكره المعير (1) .
فإن قيل: قد قلتم: ليس للمستعير أن يعير في ظاهر المذهب، وإن كان انتفاع غيره
بمثابة انتفاعه، فهلا قلتم: ليس له أن يبدل زرعاً بزرع، عند جريان التعيين جرياناً على الاتباع في الموضعين؟ قلنا: لا سواء؛ فإن اليد إذاً لم تتبدّل، فليس عين الزرع من حظ المعير، وإنما حقه الذي أباحه مقدارٌ من منفعة الأرض، فلا فرق بين أن يستوفيها بالزرع المذكور، وبين أن يستوفيها بغيره إذا لم يزد الضرر، فأمّا إذا أعار، فقد أزال يد نفسه ولإزالة اليد وقعٌ في النفوس لا ينكر.
ولو قال: أعرتك لتزرع ما شئت، زرع ما شاء.
ولو قال: لتزرع، لم يَبْنِ المستعيرُ، ولم يغرس. ولو قال: لتبني، أو لتغرس، فله أن يزرع؛ فإن ضرر الزرع دون ضرر البناء والغراس. ولو قال: لتبني. هل يغرس؟ أو قال: لتغرس. هل يبني؟ فعلى وجهين، ذكرهما العراقيون وصاحب التقريب: أحدهما - له ذلك. والثاني - وهو الأصح- أنه لا يفعل؛ فإن في كل واحدٍ من البناء والغراس نوعاً من الضرر لا يجانس النوعَ الذي في الآخر. وهذا يضاهي ما لو قال: بع عبدي بكذا درهماً، فلو باعه بدنانير، وإن وفت قيمتُها بمبلغ الدّراهم المعينة، لم يصح العقد؛ لتفاوت الغرض في الجنسين.
ثم إذا أعار للبناء والغراس، فلا يخلو إما أن يؤقت الإعارة، أو يطلقها: فإن أطلق، ولم يؤقّت، صحت الإعارة، وإن استرسلت بالإطلاق على أزمانٍ مجهولة؛ فإنَّ الإعارة معروفٌ لا تقابِل عوضاًً، فيتسامح في تجويز إطلاقه، ويحتمل ما فيه من الجهالة، قياساً على الوصايا؛ فإنها تصح مجهولة. وهذا ينعكس بالإجارة.
4525- ثم قال الأصحابُ: إن أغرس المستعير، أو بنى، لم ينقطع سلطانُ المعير في الرجوع في العاريّة متى شاء، ولكنه إذا أراد الرجوع، لم يكن له أن يضرّ بالمستعير، ومقصود الفصل تفصيل هذا الغرض.
__________
(1) (ت 2) : كالوكيل.(7/157)
فلو أراد المعير قلع بناءِ المستعير وغراسِه مجاناً، فليس له ذلك؛ فإن فيه إضراراً بيّناً (1) ، ولو أن المستعير بدا له أن يقلع بنفسه، فلا معترض عليه، وإذا قلع، فهل يلزمه (2) تسوية حفر الأرض؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يلزمه ذلك؛ فإنه هو الذي اختار القلعَ، وإيقاعَه، وأحدث بما أراده أخاديد في الأرض، فيلزمه أن يطمها، ويرد الأرض إلى ما كانت.
والوجه الثاني - لا يلزمه ذلك، فإنّ في ضمن الإعارة تسليط المستعير على الإبقاء إن أراد، والنزعِ إن شاء، وليس من موجَب الإعارة إلزامُ المستعير الإبقاء. فإذا تبين اقتضاءُ الإعارة ما ذكرناه، فالذي فعله المستعير، فهو مأذون فيه، فإن ترتب عليه حصول نقصٍ في الأرض، كان بمثابة ما ينسحق من الثوب بالبلى، مع الاقتصاد في اللُّبس.
نعم، لو حفر عند القلع حفائر، لا يحتاج إليها، لزمه تداركها.
4526- ولو أراد المعير أن يقلع على المستعير بناءه وغراسه، فله ذلك، ولكنه يغرَم ما ينقصه القلع، وهو تفاوت ما بين البناء والغراس قائماً ومقلوعاً. والسبب فيه أن الإعارة برٌّ ومكرمة، فلو كان عقباها تخسير المستعير، لكانت حائدةً عن وضعها، والمطلوبِ بها، ولكان المستعير مغرراً بماله، ولا سبيل إلى ذلك.
فإذا اختار المعير القلعَ وضمانَ الأرش (3) ، فالمستعير محمول على هذا، شاء أم أبى.
قال ابن سريج: للمعير الخيار بين ثلاثة أشياء: القلع وضمان الأرش، أو أخذ
البناء والغراس، بالقيمة، وحمل المستعير على بيعهما منه بثمنهما قائمين، أو تبقيتهما في الأرض وإلزام المستعير أجرةَ المثل في مستقبل الزمان. وأي الأشياء
__________
(1) في الأصل: إضرار بين.
(2) في هامش (ت 2) ما نصه: حاشية: صحح الإمام الرافعي في الشرح أنه يلزمه تسوية الأرض، ووافقه الشيخ محيي الدين النووي على تصحيحه، ونبه عليه. وصحح في المحرر أنه لا يلزمه تسوية الأرض. واستدركه النووي في مختصر المحرر. والله أعلم.
(3) (ت 2) : الأرض.(7/158)
اختار، فعلى المستعير الإجابةُ والرّضا.
وهذا موقف يتعين عنده التنبه لسرِّ المذهب.
4527- فالعاريّة في نفسها على الجواز، وحقها أن تبعد عن إحباط حق المستعير؛ فإنها لو أفضت إلى جواز إحباط حقه، لخرجت عن قياس المذهب، والمكرمات.
فالذي يقتضيه الرأي السديد الجمعُ بين تخيير المعير في الرجوع، وبين الاجتناب من إبطار حق المستعير. والتخيير بين هذه الخلال أُضيف إلى المالك؛ فإنه صاحب الأمر.
وما ذكرناه وإن نسبه الأئمة إلى ابن سريج، فهو مذهب كافة الأصحاب، فإن أراد المعير القلعَ، فامتنع المستعير، قلع عليه وله الأرش. وإن زعم أنه لا يريد الأرش، فهو حق ثبته الشرع له في هذا المقام، فإن لم يُردْه، فليسقطه.
وإن طلب المعير أن يبيع المستعير منه البناء والغراس، فقد قال الأصحاب: حق على المستعير أن يجيبه إن أراد ألا يُحبط حَقه، ولم يريدوا بهذا إلزامَه البيع؛ إذ لا خلاف أنه لو أراد أن يقلع البناء عند طلب المعير القلعَ، فله القلع. ولكن قال الأصحاب: إذا لم يجب المعير إلى ما طلب، أفضى ذلك إلى قلع البناء مجاناً.
ولو قال المستعير: هذا المعير يطلب مني البيع وأنا لا أريده، ولا أحبط حق المعير، بل أغرَم له أجرة مثل أرضه، في مستقبل الزمان، قيل له: ليس إليك تعيين الجهات؛ فإمّا الإسعافُ بما عينه، وإما تفريغ أرضه من غير طلب أرش.
ولو قال المعير: بقِّ ذاك بأجرة، فقال المستعير: لست أبغي (1) ذلك، ولكن اشتر مني بنائي، قلنا: يستحيل إجبارُ المعير على ذلك، ولكنه يقال للمستعير من وقت طلب الأجرة: استمر عليك الأجرة، فإنه رجع عن التبرع بالمنفعة، فإن لم ترد الأجرة، ففرغ أرضَه. ثم إذا فرغ، لم يكن له أن يُلزمه أرشَ النقص.
هذا حاصل كلام الأصحاب. وإذا أطلق المطلق القول بأن المعير إذا عين خَصلةً
من الخصال الثلاث، فامتنع المستعير، قُلع عليه بناؤه مجاناً، لم يُشعر هذا بتمام البيان، حتى نوضحَ ما يليق باختيار كل خَصْلة كما ذكرناه. وهذا يعد مما يغمض
__________
(1) (ت 2) : أُبقي له.(7/159)
تعليله، ولا غموض فيه بعد ما مهدناه في الأصل من اعتبار حق المستعير، مع تمليك المعيرِ الرجوعَ.
4528- فلو قال المعير: لست أرضى بشيء من هذه الخصالِ، ولكني أَبْغي (1) أن يُقلع البناءُ والغراس مجاناً، قلنا: ليس لك ذلك، إذا لم يرض المستعير به.
قال المزني: لو ارتفع إليّ المعير والمستعير، وكان المعير يبغي القلع من غير ضمانٍ، والمستعيرُ يأباه، لقلت: لا حكومة لكما عندي، فشأنكما حتى تعودا إلى ما يقتضيه الشرع. وهذا الذي ذكره صحيح (2) . ولكن في عبارته لَبسٌ؛ فإنها مشعرة بقيام خصومة بين شخصين، مع تعذر فصلهما (3) ، وليس الأمر كذلك؛ فإن المستعير ليس يطلب شيئاً، وإنما المعير يبغي أمراً يخالف وضعَ الشرع، فلا يجاب إليه. فإن ابتدر القلع، ضمن.
نعم، في هذا المقام نظر: وهو أن المعير إذا قال ما ذكرناه، فيحتمل (4) أن نقول: تأخذ أجرة المثل في الثبوت في مستقبل الزمان، من وقت بداية ما أبداه؛ فإن ما ذكره رجوع في الشرع في العارية.
ويجوز أن يقال: لا يثبت حتى يكون رجوعه على سمت الشريعة.
وفي هذا الفصل بقايا سنذكرها في آخر كتاب المزارعة، في شرح الفروع (5) ، إن شاء الله.
__________
(1) (ت 2) : أرضى.
(2) في هامش (ت 2) ما نصه: "حاشية: في هذه المسألة وجه آخر ذكره الرافعي، عن الأصحاب، أن الحاكم يبيع الأرض مع ما عليها، من بناء أو غراس، ويقسم الثمن عليهما، على ما يقتضيه التوزيع. والله أعلم.
وكيف يوزع؟ فيه وجهان: أحدهما - كما يوزع إذا بنى المرتهن، أو غرس في الأرض المرهونة. والثاني - يوزع على الأرض مشغولة بما فيها، وعلى ما فيها بمفرده، فما يقابل ما فيها يختص بالمستعير. والله أعلم".
(3) (ت 2) : قضاء.
(4) (ت 2) ت محتمل.
(5) يعني الفروع التي يفرعها على الأصول في آخر كل باب، وليس يعني كتاباً يسمى (شرح الفروع) .(7/160)
وحق الناظر في الفصل أن يضم تلك الفصول إلى هذا الموضع.
4529- ومما يتعلق بما نحن فيه أن المستعير لو قال: قيمة بنائي ألفٌ، وقيمة العرصة مائة، فبيعوا العرصة مني، ولا تكلفوني أن أبيع بنائي. قلنا: لا يجاب إلى ذلد؛ فإن العرصة وإن قلت قيمتها، لا تتبع البناء، بل البناء يتبع العرصة. ولا نظر إلى القيمة. هذا اتفاق الأصحاب.
ولو اتفقا على بيع العرصة والبناء، لساغ ذلك، ثم في كيفية تقسيط الثمن على العرصة والبناء القائم كلامٌ للأصحاب، قدمته في كتاب التفليس وغيره، فليطلبها الطالب، وحاصله أنا نبغي قسمة الثمن على قيمة العرصة مشغولةً، وعلى قيمة الأشجار قائمةً، وفي كيفية ذلك تفصيل قدمتُه واختلافٌ للأصحاب، وهو بمثابة ما لو اشترى الرجل عرصة، وبنى فيها، ثم أفلس بالثمن. والجامع أن حق الرجوع ثابتٌ ثَمَّ بالفلس، وهاهنا بمقتضى الإعارة، والإحباط مجتنبٌ في البابين.
ولو أراد المعير أن يمنع المستعير من دخول الدار التي بناها، فله ذلك، وللمعير أن يدخل تلك العرصة؛ فإنها ملكه، ولا يستند إلى الجدارات؛ فإنها ملك المستعير، ولا يتكىء عليها، ولا يمنع من الاستظلال بالسقوف.
فإن قيل: هذا يضاهي قلعَ بنائه مجاناً، قلنا: المحذور أن يُحبط ملكَ المستعير في رجوعه، فأما أن يمنعه من الانتفاع بالعرصة، وينتفع هو بالعرصة، فلا منع في ذلك.
ولو مست حاجة المستعير إلى دخول الدار لمرمّة الجدار، أو لاجتناء الثمار، ففي المسألة وجهان: أحدهما - ليس له ذلك؛ لأن العرصة ملك الغير. وهذا سرفٌ وفيه إرهاقٌ (1) إلى هدم البناء، وتعطيلِ الثمار. والصحيح أنه لا يُمنع من القدر الذي ذكرناه.
وللمعير بيع العرصة؛ لأنها مملوكةٌ له ملكاً مستقراً.
والمستعير لو أراد بيع البناء قائماً من غير المعير بغير إذنه، ففي صحة بيعه وجهان: أحدهما - أنه باطل؛ فإنه عرضة للنقض والقلع. والثاني - أنه صحيح؛ فإنه متصرف في حق نفسه، وتعرضُه للنقض لا يزيد على تعرض بيع المشتري للشقص
__________
(1) إرهاق: أي إكراه وإرغام (معجم) .(7/161)
المشفوع لنقض الشفيع. ثم البيع نافذ بحكم الملك، وللشفيع نقضه بحكم الشفعة.
4530- وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت العارية مطلقة، فأمّا إذا أقّت الإعارة بسنةٍ، أو سنتين، فلو أراد القلعَ قبل (1) انقضاء المدّة، فله ذلك على شرط الضمان، والقلع قبل تصرم المدّة في العارية المؤقتة كالقلعِ في العارية المطلقة متى شاء المعير. والكلام في ترتيب الخلال الثلاث، على ما مضى حرفاً حرفاً.
فإذا انقضت المدَّة، فلو أراد المعير القلعَ مجاناً، لم يكن له ذلك عند الشافعي رضي الله عنه. وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: له القلع مجاناً (2) . وزعم أن فائدة التأقيت للإعارة هذا.
والذي رآه الشافعي أن فائدة التأقيتِ للإعارة تأقيت التبرع بالمنفعة بهذا الوقت، والأمد المضروب (3) ، فإذا انقضت، فالمراد إلزامه الأجرة وإذا كان هذا ممكناً في قصد التأقيت، فلا يجوز الهجوم على إبطال ملك المستعير مع التردد. نعم، لو قال: أعرتك عرصتي سنة، فإذا مضت، قلعت بناءك مجاناً، فإذ ذاك له القلع مجّاناً؛ فإنه صرّح بما يُزيل الاحتمال. فالمسألة إذاً مأخوذة من قضية لفظية، لا من موجَب حُكمي.
4531- ومما يتصل ببيان ما نحن فيه أنه لو أعار أرضاً ليزرعها المستعير، فإذا زرعها، فأراد المعير قلعَ الزرع، فالذي صار إليه الأصحاب أنه ليس له ذلك، ويتعين عليه إبقاء الزرع إلى أوان الحصاد، بخلاف البناء والغراس، والسبب فيه أن المعير ممنوع عن إحباط ملك المستعير، ولكن البناء لا منتهى له، وكذلك الغراس. ويبعد إجبار مالك الأرض على استدامة شغل أرضه أبداً بملك غيره، فكان المسلكُ الأقربُ الأقصدُ إلى رعاية الحقوق من الجانبين ما نظمناه في بيان الخصال الثلاث. ومدة
__________
(1) (ت 2) : بعد.
(2) راجع هذا في كتب الحنفية: ابن عابدين: 4/505، ومختصر اختلاف العلماء: 4/188 مسألة 1877، الاختيار لتعليل المختار: 3/57، والبدائع: 6/217، ومختصر الطحاوي: 116. وفي كل هذه المظان لا يكاد يوجد هذا الحكم إلا رمزاً، وأصرحها عند ابن عابدين.
(3) (ت 2) : المصروف.(7/162)
الزرع منتهية، ولا بدّ من رعاية حق المستعير، وأقرب المسالك في رعاية حقه تبقيةُ زرعه. هذا ما ذهب إليه الجمهور.
وينضم إلى ما ذكرناه أن تغريم قيمة الزرع قبل الإدراك عسر لا يُهتدى إليه، فإن الزرع إذا كان بقلاً، فعاقبته مجهولة، فإن قومت بقلاً، فهذا إفساد وإحباط، وإن قومت بتقدير إدراكها، فلا مطّلع على هذا، وقيمة البناء والغراس بيّنةٌ في الحال.
ثم قال الأصحاب: ليس للمعير قلعُ الزرع، ولكن لو رجع عن العاريّة، فالمذهب الذي عليه التعويل أنه يستفيد بالرجوع إلزامَ المستعير الزارع أجرةَ المثل، من وقت الرجوع.
وأبعد بعض الأصحاب، فقال: لا يملك ذلك، والمنافعُ صارت في حكم المستوفاة، والمستعير إذا استوفى المنافع، لم يلتزم بعد استيفائها [أجرةً] (1) وهذا حكاه العراقيون، وهو بعيد.
ومن تمام القول في ذلك أنه لو ضرب في إعارة الأرض للزرع مدّة، فاتفق استئخار الزرع في الحصاد عن منتهاها بسبب اختلاف الهواء، فلا يُقلع الزرع وراء المدة أيضاً، للترتيب الذي قدمناه.
هذا مسلك أئمة المذهب.
4532- وذكر صاحب التقريب وراء ذلك تصرفاً حسناً، نحكيه على وجهه: فقال: من أقّت إعارة عرصة للبناء، فإذا بنى المستعير، فظاهر المذهب أن للمعير أن يرجع ويقلعَ قبل انقضاء المدة، ويغرمَ أرش النقص، كما مهدناه قبلُ. قال صاحب التقريب: لا يمتنع أن نقول ليس له أن يقلع كما ذكرناه في الزرع، والجامعُ بيِّن، ثم انعطف على الزرع، وقال: إذا قلنا: للمعير في العارية المؤقتة قَلْعُ البناء قبل انقضاء الوقت، فلا يمتنع أن نقول: له أيضاً قلعُ الزرع قبل الإدراك، فخرّج في كل واحدةٍ من المسألتين جواباً من أصل المذهب، من الأخرى (2) .
__________
(1) في الأصل: "حق" والمثبت من (ت 2) .
(2) (ت 2) : أخرى.(7/163)
وهذا من تصرفه وتخريجه. والصحيح ما ذهب إليه الأصحاب. والفرق بين التأقيت في البناء، والتأقيت في الزرع أن الزارِع يستفيد بترك زرعه إلى الحصاد التوصُّلَ إلى حقه المطلوب في الزرع، والثاني لا يستفيد بترك بنائه التوصلَ إلى حقه عند انقضاء المدة، إذا كان البناء مقلوعاًعليه بعد انقضاء المدة.
ثم لا حاجة في الزرع إلى ذكر مدةٍ؛ فإن إعارة الأرض للزرع تُشعر بشغل منفعة الأرض بالزرع، في الأمد المعتاد في الزرع.
وإذا قال صاحب التقريب: للمعير قَلْع الزرع (1) ، فإنه يغرّمه أرشَ النقص، ولا يقوّم الزرع بقلاً مقلوعاً، ولكنه يقومه بقلاً قائماً في حق من يبغي تبقيته، ويقول: ما قيمة هذا الزرع الآن في حق عازم على تبقيته.
4533- ومما يتعلق بهذا الفصل من قواعد المذهب تفصيلُ القول في إعارة رأس الجدار لوضع الجذوع. وأطلق المحققون: أنه إذا أعار رأسَ الجدار لوضع الجذوع، فله الرجوع عن العارية قبل اتفاق الوضع، وليس له القلع، ولا إلزامُ الأجرة، ولا تكليفُ الواضعِ بيعَ الجذوع منه. وما قدمناه من الخِيَرة في الخلال الثلاث الأخرى هاهنا.
ثم انتهى كلامهم إلى أن قالوا: لو انهدم الجدار، فأعاد مالكه بناءه، نُظر: فإن أعاده بطوب جديدٍ وحجارة مستحدثة، لم يكن لصاحب الجذوع أن يعيد جذوعه إلا بإعارة جديدةٍ.
وإن أعيد الجدار بأعيانِ ما كان فيه من طوبٍ وحجر، فهل للمستعير إعادةُ جذوعه من غير إعارةٍ مُجددةٍ، فعلى وجهين ذكرهما الأصحاب.
وهذا الفصل يحتاج إلى مباحثةٍ وأنا أقول والله المستعان.
إنما قطع الأصحاب خيرة المعير أولاً لمعنىً، وهو أنا لو ملّكناه القلع، لم يقتصر هدمُه على رفع رؤوس الجذوع من جداره، بل يؤدي الهدم إلى تغيير الجذوع عن
__________
(1) (ت 2) : زرعك.(7/164)
منابتها على ملك مالكها أيضاً. وإنما لم يملكوه (1) الحملَ على الابتياع؛ فإنه لا غرض في ابتياع (2) رؤوس الجذوع، ولا مطمع في ابتياع جملة الجذوع الخارجة عن مسامتة الجدار. ولم يملّكوه إلزامَ المستعير الأجرةَ؛ لأنه لا أجرة لرأس جدارٍ، وليس مما تقابل منفعتُه بأجرة تبذل، فلو صوّر المصوّر إعارة رأس الجدار على خلاف هذا الوجه، لاختلف الحكم، فنفرض رأسَ جدارٍ تُقابَل منفعتُه بأجرة، ونفرض بناءً منتصباً مستقلاً بالاعتماد عليه. فإن كان كذلك، فرأس الجدار كالعرصة في الخلال الثلاث. وهذا لا شك فيه.
فإن قيل: إذا كان الأمر على ما صوّره الأصحاب قبلُ، فهلاّ (3) مَلَك إجبارَ المستعير الواضعِ على أن يشتري منه حق البناء؟ قلنا: إن كان لحق البناء قيمة، فله أن يَجْبُر عليه، وهو بعينه يناظر أجرة المثل في العرصة.
فإذا انكشف أصل المذهب، وبان أن لا فرق، ولا اختلاف، وبقي الكلام فيما ذكره الأصحاب من الخلاف في أنه هل يعيد واضعُ الجذوع بعد إعادة البناء؟ فالذي أراه أن هذا الخلاف ليس في استحقاق الإعادة، وإنما هو كلام في أن الإعارة الأولى هل تُشعر بالتسليط على الإعادة، حتى لا يحتاجَ إلى مراجعةٍ، أم لا بد من فرض مراجعة؟ ولا يجوز أن يقال: لَوْ منع صاحبُ الجدارِ بعد إعادته من وضع الجذوع، فلصاحب الجذوع الإعادةُ قهراً؛ فهذا لا سبيل إليه.
وقد نجز تمام الغرض من هذا الفصل.
فرع:
4534- إذا استعار رجل أرضاً ليدفن فيها ميتاً، فللمعير الرجوع قبل اتفاق الدفن، وإذا اتفق الدفنُ، لم يملك الرجوعَ؛ فإن في الرجوع [هتكَ] (4) حرمة الميت بالنبش. ولا فرق بين أن يقرب العهد بالدفن، بحيث لو فرض النبشُ، لكان يُلفَى الميتُ متغيراً، وبين أن يبعد العهد؛ فإن في نبشه هتكَ الحرمة. ولذلك يحرم النبشُ
__________
(1) (ت 2) : يملكوها.
(2) (ت 2) : بيع.
(3) (ت 2) : فهل لايملك.
(4) في النسختين: ترك.(7/165)
من غير ضرورة. ثم منتهى العارية امّحاق أثر المدفون.
ولو كان للمعير في تلك البقعة أشجارٌ، فأراد سقيها، نُظر: فإن كان السقي يخرق موضع الدفن بحيث يُبدي (1) من المدفون شيئاً، منع. وإن كان لا يؤدي إلى هذا، لم يُمنع، ولا حكم لنقش القبور إذا زال.
فرع:
4535- إذا جاء السيل بنواةٍ من ملك إنسان، فنبتت في أرض آخر، وأنبتت شجرة، فلا شكّ أنها لمالك النَّواة، فلو أراد صاحب الأرض قلعها مجاناً من غير أن يغرَم ما ينقصُه القلع، فهل له ذلك؟ فعلى وجهين: أحدهما - له ذلك. وهو الصحيح؛ فإنها نبتت في أرضه من غير إعارته وإذنه، فليقلعها قلعَ شجرةِ الغاصب إذا غرس.
والوجه الثاني - أنها كشجرة المستعير؛ فإن صاحب النّواة لم يجن بإنباتها، فكان كالمستعير. والأصح الوجه الأول.
فرع:
4536- إذا أودع رجل ثوباً عند إنسانٍ، وائتمنه فيه، وقال: إن أردت أن تلبسه، فالبسه. قال الأصحاب: الثوب أمانة قبل أن يفتتح (2) اللُّبس، فلو تلف، لم يضمنه. وإن ابتدأ اللُّبسَ، صار عاريّة مضمونةً.
قال صاحب التقريب: لو قلت: إنها عارية مضمونة عليه قبل اللبس؛ لأنها مقبوضة على تقدير الانتفاع، لم يكن ذلك بعيداً، قياساً على العين المأخوذة على سبيل السوم؛ فإنها مضمونة؛ لأنها مقبوضة على توقع عقد ضمانٍ، وهو البيع.
قال صاحب التقريب: ولو قيل: لا ضمان في المأخوذ على سبيل السوم، لم يبعد، قياساً على الوديعة المقبوضة على قصد الانتفاع. وهذا الذي قاله قياسٌ، وليس مذهباً؛ فإنا لا نعرف في تضمين الأخذ على سبيل السّوم خلافاً.
__________
(1) (ت 2) : يندِّي.
(2) (ت 2) : يفسخ.(7/166)
فصل
يجمع مسائل عن استعمال الإنسان غيرَه من غير ذكر الأجرة
4537- فإذا قال رجل لغسّال: اغسل ثوبي هذا. فإن سمى له عِوضاً، صحيحاً، فإجارة. وإن قال: إن غسلت ثوبي ذلك عليّ درهم، فالمعاملة جُعالة، على ما سيأتي شرح الإجارة والجعالة، وخواصهما. وإن قال: اغسله وأنا أرضيك وأعطيك (1) حقَّك، فهذه إجارة فاسدة، فإذا غسل استحق أجرةَ المثل. وإن قال: اغسله مجاناً. فإذا غسل، لم يستحق شيئاً.
وإن أطلق (2 ولم يتعرض 2) لإثبات العوض ونفيه، ففي المسألة أوجه ثلاثة: أحدها - أنه لا يستحق شيئاً؛ لأنّه لم يجرِ ذكرُ العوض. والثاني - يستحق؛ فإنه، لم يجرِ ذكر نفي العوض. والثالث - أنه نفصل بين أن يكون معروفاً بذلك مشهوراً باستبدال العوض عليه، وبين ألا يكون كذلك. فإن كان معروفاً، استحق الأجرة، وإلا، فلا.
ويمكن أن يقال: إن لم يكن معروفاً، اختلف الأمر بالمرتبة، فإن كان مثله لا يطالِب على مثل هذا عوضاً، فلا عوض، وإلا فيجب. وهذا يناظر اختلاف المذاهب في الهبة المطلقة، واقتضائها الثوابَ، على ما سيأتي مشروحاً في كتاب الهبات، إن شاء الله تعالى.
وإذا جلس بين يدي الحلاق، ولم يسم له شيئاً، فحلق رأسه، ففي استحقاق الأجرة الخلافُ (3) الذي ذكرناه.
ولو دخل حماماً، والحمامي ساكت، فأراق الماء، وسكن في الحمام ما سكن، فعليه قيمةُ ما أتلف من الماء، وأجرةُ مدّة سكونه وكَوْنه فيه؛ فإنه أتلف الماء والمنافعَ. قال الأصحاب إن وفّر قيمة ما أتلف، فذاك، وإلا فما حبسه في ذمته،
__________
(1) (ت 2) : وأعطيت.
(2) ساقط من (ت 2) ما بين القوسين.
(3) (ت 2) : للحلاق.(7/167)
وهو مطالب به، إلا أن يسامحه صاحب الحمام. ولا يقاس ماء الحمام بما يتكلف المرء تسخينَه في بيته؛ فإن تسخين الماء في الحمام يسير، لمكان الآلات العتيدة فيه.
وأجرة الدّلاك (1) ومن يخدم بوُجوه (2) الخدمة، كأجرة الحلاق.
وهذه المسائل يشترك فيها أصلان: أحدهما - إقامة قرائن الأحوال مقام القول.
وهو أصل نستقصيه في باب الوليمة، حيث نذكر تقديم الطعام إلى الضيفان، ولَقْطَ ما ينثر وغيرَها. هذا أصل.
والثاني - ما ذكرناه من ترك ذكر الأجرة.
وذكر القاضي وجهين في أن المعاطاة هل تكون بيعاً؟ تخريجاً على هذا الأصل، وهو إقامة القرائن مقامَ اللفظ. وهذا يناظر خلافَ الأصحاب في أن إشارةَ الناطق في العقود والحلول هل تحل محلّ نطقه؟ ولهذا اتصال بعقد البيع بالكتابة (3) . وسنذكر مسائل الكتابة في كتاب النكاح، إن شاء الله تعالى.
***
__________
(1) (ت 2) : الدلال.
(2) (ت 2) : موجره.
(3) في (ت 2) : "الكِتْبة" وهي أيضاً مصدر (كتب يكتب) كتابةً وكِتْبَةً.(7/168)
كتاب الغصب
4538- الأصل في أحكام الغصوب الكتاب، والسنة، والإجماع، فأما الكتابُ، فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] اشتملت الآية على تحريم التسالب والتناهب، وإنما التجارة الصادرة عن تراضٍ. وقال النبي صلى الله عليه وسلم "على اليد ما أخذت حتى ترد" (1) وقال "من ظلم شبراً من الأرض طُوّقه من سبع أرَضين يوم القيامة" (2) . وأجمعوا على تحريم الغصب.
ومعظم قواعده في الضمان.
4539- والغصب هو: "الاستيلاء على ملك الغير بغير حق" (3) . وإنما يحصل الاستيلاء بإزالة يد المستحق، واستحداث يدِ الضمان، ولا حاجة إلى التقييد بالعدوان، فقد ثبت الغصب وحكمُه من غير انتسابٍ إلى عدوان؛ فإن من أودع ثوباً عند إنسانٍ، ثم جاء وأخذ ثوباً للمودَع على تقدير أنه الثوب الذي أودعه؛ فإنه يضمنه
__________
(1) حديث: "على اليد ما أخذت ... " رواه أحمد: 5/8، 12، 13، وأبو داود: البيوع، باب ما جاء في تضمين العارية، ح 3561، والترمذي: البيوع، باب ما جاء في أن العارية مؤداة، ح 1266، وابن ماجة: الصدقات، باب العارية، ح 2400، والحاكم: 2/47، وانظر التلخيص: 17/13 ح 1287.
(2) حديث: "من ظلم شبراً من الأرض ... " متفق عليه من حديث عائشة. البخاري: بدء الخلق، باب ما جاء في سبع أرضين، ح 3195، ومسلم: المساقاة، باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها، ح 1612، وانظر التلخيص: 3/118 ح 1291.
(3) في هامش (ت 2) : حاشية. قال النووي رحمه الله تعالى: الأصح في حد الغصب: إنه الاستيلاء على حق الغير بغير حق. ليدخل فيه من غَصَبَ الكلبَ وجلدَ الميتة، فإنه يطالب بالرد، وما استولى عليه ليس مال الغير، حق الغير.
(هذا ما أمكن فهمه من هذه الحاشية. وانظر: الروضة: 5/3) .(7/169)
ضمان الغَصبِ، والمودَع لو استعمل الثوبَ الموضوع عنده على تقدير أنه ثوبه المملوك، ضمنه ضمان الغصب،؛ فلا حاجة في تصوير الغصب إلى ذكر العدوان.
ولو حال بين المالك وبين ملكه، وكان ذلك سببَ ضياع ملكه، لم يلزمه الضمان. مثل إن كان رجل يسوق بهيمة له، فمنعه ظالم من اتباعها، وحبسه، فضاعت البهيمة، لم يلزمه الضمان. ولو أمر إنساناً بالغصب، فالغاصب ذلك المأمور-إذا استولى- دون الآمر ولو دلّ الظلمة والسرّاقَ على أموال خفيةٍ عنهم كانوا لا يهتدون إليها دون دَلالةِ مَنْ دلهم، فلا ضمان على الدال.
فتبين أن الغصب هو الاستيلاء على مال الغير بغير حقٍ.
فإن قيل: إذا صادف رجل عيناً مغصوبة في يد غاصبها، فانتزعها من يده ليردها على مالكها فما ترون في ذلك؟ قُلنا: فيه اختلافٌ مشهور بين الأصحاب، ذهب بعضهم إلى أنه لا يضمن؛ لأنه محتسب، وذهب آخرون إلى أنه يضمن؛ لأنه ليس له ولاية وتسليط على إزالة أيدي الغصاب، والتعرض لأمثال ذلك من شأن الولاة، ثم جواز الأخذ مبني على الضمان، فمن ضمَّنه، لم يُجِز له أن يأخذ، ومن لم يضمّنه سوّغ له أن يأخذ. والملتقط مثبت يدَه على مال الغير، ولكنه متسلط شرعاً على أخذه، كما سيأتي تفسير [اللقطة] (1) في كتابها، إن شاء الله تعالى.
وقد نص الشافعي على أن من صادف عين مال المسلم في يد حربي، فله أن ينتزعه، ولو تلف في يده، لم يضمن، فقال الأئمة: ما نص عليه مقطوع به، وليس على الخلاف الذي ذكرناه في إزالة يد الغاصب. والسبب فيه أن الحربي ليست يده يدَ ضمان، فالأخذ منه ليس مترتباً على يد ضامنةٍ، وليس كذلك الأخذ من الغصّاب.
ثم إن الشافعي ذكر في صدر الكتاب جملاً من أحكام الجنايات، فاعترض
المعترضون، وقالوا: كان الترتيب يقتضي أن يذكر صدراً من أحكام الغصب في أول الكتاب، فقيل لهم: الغصب سبب من أسباب الضمان، وليس هو في نفسه مضمناً، فأراد الشافعي أن يستفتح الكتاب بأحكام الجنايات والإتلافات، ثم رتب عليها اليدَ
__________
(1) في الأصل: اللفظ.(7/170)
الغاصبة المتسببة (1) إلى الضّمان.
4540- ثم الوجه أن نذكر تقسيماً يحوي قواعد الضّمان ويجري من الكتاب مجرى الجُمل الدالة على التفاصيل، فنقول: جملة المضمونات قسمان: مال، وغير مالٍ.
فغير المال الأحرارُ. وهم يضمنون بالجناية، وهي تنقسم إلى المباشرة، والتسبب. ومحلها النفس، والطرف. وضمان النفس بيّن، وبدله مقدّر، وأروش الأطراف تنقسم إلى ما يتقدّر، وإلى ما لا يتقدر. ومواضع استقصاء هذه الأصول الجراح والديات، ولا يتطرق إلى الأحرار سبيل الضمان باليد. ولا فرق بين أن يكون صغيراً أو كبيراً.
قال الشافعي: إذا غصب الرجل حراً صغيراً، وحمله إلى أرض مَسْبَعَة، فافترسه سبع، أو إلى أرض مَحْواة (2) ، فنهشته حيّة، فلا ضمان.
فإن قيل: هل يجب على من فعل هذا مؤونة (3) رده إلى موضعه؟ قلنا: القول في ذلك لا يجري على قاعدة رد الغصوب، ولكن كل من صادف (4) مثلَ هذا الشخص في مضيعة، واستمكن من رده، لزمه ذلك، ولا يختص وجوبُ ما ذكرناه بمن اعتدى بحمله إلى المضيعة، بل هو جار في حق كل متمكن من الإنقاذ. ثم يكفي أن يُرَدَّ إلى مأمن، وإن لم يكن موضعه الذي أخذ منه، وما يبذله الباذل في إنقاذه ينزل منزلة الطعام يوجَرُه المضطرَّ. وإذا أوجر رجلٌ مضطراً طعاماً، ففي ثبوت الرجوع على الموجَر بقيمة الطعام خلاف، سيأتي، إن شاء الله. ولا فرق في ذلك بين من اعتدى أولاً وبين [من] (5) ينتهى إليه، ويسعى في إنقاذه.
وهذا رمز إلى هذا القسم، ذكرناه لإقامة رسم التقسيم.
__________
(1) (ت 2) : المنتسبة.
(2) مَحْواة: كثيرة الحيات. (معجم) .
(3) في هامش (ت 2) ورقة 60: حاشية: قال في الروضة: قال المتولي: يجب عليه ردّ الحر الصغير والكبير إذا كان غرض في الرد إلى موضعهم، ومؤنة الرد على الناقل لتعديه، والله أعلم. (وانظر الروضة: 5/15) .
(4) (ت 2) : صادق.
(5) في الأصل: أن.(7/171)
4541- وأما المال، فإنه قسمان: حيوان، وغير حيوان. فالحيوان قسمان: آدمي، وغيرُ آدمي، فأما الآدمي، فإنه يضمن بالجناية، وباليد. والجناية تنقسم إلى المباشرة والسبب، ومحلها النفس والطرف.
فأما الجناية على النفس، فموجبها بعد تفصيل القصاص القيمةُ بالغةً ما بلغت.
وأما الطرف، فما لا يتقدر أرشه من الحر لا يتقدر أرشه من العبد، وما يتقدر أرشه من الحر ففي تقديره من العبد قولان: أحدهما - وهو المنصوص عليه في الجديد أن ما يتقدر من الحر يتقدر من العبد: قال الشافعي: "جراح العبد من قيمته كجراح الحر من ديته" ففي يد العبد نصف قيمته. وإن كان النقصان أقل من ذلك أو أكثر منه، فلا اعتبار بالنقصان، وإنما الواجب المقدر الذي ذكرناه.
والقول الثاني - نصّ عليه في القديم، وهو مذهب مالكٍ (1) أنه يجب في الجناية على أطراف العبد ما ينقُص من قيمته.
فلو قطع يدي عبدٍ قيمتُه ألف دينار، فعاد إلى مائةٍ، فجاء آخر، فقطع رجليه، وعاد إلى عشرة، فجاء آخر، وفقأ عينيه، فعاد إلى دينار، فجاء آخر فقتله. فعلى الجديد: على الأول ألف. وعلى الثاني مائة، وعلى الثالث عشرة.
وعلى القديم: على الأول تسعمائة، وعلى الثاني تسعون، وعلى الثالث تسعة، وعلى الرابع دينار.
والقول القديم موجَّه بتغليب المالية في ضمان العبد؛ ولذلك لا تتقدر قيمته، والرجوع في مبلغها إلى تقويم السوق.
والقول الجديد موجّه بالشبه البالغ عند الشافعي المبلغَ الأعلى، وذلك أن العبد في منافعه وأعضائه كالحر، وإنما يفترقان في حُكم الرق والحرية، فإذا كانت يد الحر بمثابة نصفِه، وغناءُ يدِ العبد من العبد كغناء يد الحر من الحر، كان بمثابة نصفه أيضاً.
واختار ابن سريج القولَ القديم، ثم قال: مفرعاً على الجديد يجب في يدي
__________
(1) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/821 مسالة: 1568، جواهر الإكليل: 2/153.(7/172)
العبد كمالُ قيمته؛ تفريعاً على الجديد، إلا في حكم واحد، وهو إذا اشترى الرّجل عبداً، ثم إنه قَطعَ يديه في يد البائع، فلا نجعله قابضاً للعبد، ويعتبر في التفريع على الجديد في هذا الحكم ما ينقصُ من القيمة؛ فإنا لو لم نقل ذلك، للزمنا أن نجعل المشتري قابضاً للعبد، والعبد المقطوع في يد البائع بعدُ.
وهذا مستحسن من تفريعات ابن سريج.
وذهب بعض أصحابنا إلى أنا نجعل المشتري قابضاً حكماً، لتمام العبد، ويسقط ضمان العقد في العبد الباقي في يد البائع. وهذا ضعيف جداً.
فهذا إشارة إلى أصول الضّمان في الجنايات على العبيد.
4542- والعبد يضمن باليد، كسائر الأموال.
وضمان اليد يجري عندنا في أم الولد، والمكاتب، فلو استولى غاصب على مكاتب، وأمّ ولد وماتا في يده، ضمنهما، فالعبيد في حكم اليد ملتحقون بأصناف الأموال.
ولو غصب غاصب عبداً، وقطع يده، ونقص من قيمته ثلثاها، فأما القديم، فلا يخفى التفريع عليه. وإن فرعنا على الجديد، ضمّناه نصفَ القيمة، لمكان الجناية وسدساً آخر، لمكان اليد العادية.
ولو غصب عبداً، فسقطت إحدى يديه بأَكَلة [و] (1) نقص من قيمته ثلثها فإذا فرعنا على القديم، لم يخف الحكم. وإذا فرعنا على الجديد، فالأصح أنا لا نوجب إلا الثلث؛ فإن اليد إنما تقابل بنصف القيمة في الجناية، وليست المسألة مفروضة في الجناية.
4543- ثم مما يلتحق بهذا القسم أن المملوك، يضمن عينه وأجزاؤه، ويضمن منفعته، واليد تثبت من منافع المملوك على كل منفعةٍ يجوز الاستئجار على قبيلها (2) .
ويجوز أن يقال: في تقسيم المنفعة: إنها تنقسم إلى منفعة الحر، وإلى منفعة
__________
(1) مزية من (ت 2) .
(2) (ت 2) : مثلها.(7/173)
العبد: فأمَّا منفعة الحر، فهي مضمونة بالإتلاف، لا خلاف على المذهب فيه. فلو قهر حراً، واستسخره، ضمن أجر مثل منافعه.
وإن حبسه في بيتٍ، وعطل منافعه، فوجهان: أحدهما: أنه يضمن أجر المثل.
والثاني - لا يضمن؛ لأن الحر لا تحتوي اليد عليه. ولو استأجر الرجل حراً، فجاء، ومكن المستأجر من استيفاء المنفعة، فمضى زمانٌ يسع إمكانَ الانتفاع المستَحق، ففي تقرير الأجرة الوجهان المذكوران في وجوب أجر المثل بحبس الحر. هكذا قال القاضي وغيرُه.
ثم قال القاضي: لو استأجر حراً، أو أراد أن يؤاجره، فالقول في تصحيح إجارته يخرّج (1) على ما ذكرناه: فإن جعلنا منفعة الحر في الحبس بالعدوان وفي تقرير الأجرة المسماة من عقد الإجارة كمنفعة العبد، فإجارة الحر المستأجَر كإجارة العبد المستأجر.
وإن قلنا: لا تثبت اليد على منافع الحر في الأصول التي ذكرناها، فلا تصح إجارة الحر المستأجَر؛ فإنّ منفعته لا تدخل في ضمان المستأجَر، إلا عند وجودها، وتسليمها الحقيقي، ولا يصح إيراد العقد على المنفعة التي لم نقدر حكماً دخولها في يد المستأجر وضمانه. هذا في منفعة الحر.
فأما منفعة المملوك، فإنها تضمن بالإتلاف واليد. فلو حبس عبداً، ضمن أجرة مثله في مدة الحبس.
ومنفعةُ البضع مستثناة من المعاقد التي نجمعها.
4544- فأما غير الآدمي من الحيوانات، فيُضمن بالجناية واليد. فإن أتلفت، فالقيمة. وإن جنى على أطرافها، فما نقَص من قيمتها. وسئل القفال عمَّن جنى على بهيمة، (2 وكانت قيمة مثلها يوم الجناية مائة، فسرت الجراحة، وأهلكتها، وقد انحطت القيمة بالسوق 2) ، فكانت قيمة مثلها، يوم الهلاك خمسين، فما المعتبر؟ فقال: يعتبر أقصى القيم من الجراح إلى يوم الهلاك؛ فإنا إذا كنا نعتبر الأقصى في اليد
__________
(1) (ت 2) : تخريج.
(2) ما بين القوسين ساقط من (ت 2) .(7/174)
وليست اليد سببَ الهلاك في المغصوب، فاعتبار الأكثر في [الجروح] (1) أوْلى.
فهذا ما أردناه في الحيوان.
4545- وأمّا غيرُ الحيوان ينقسم (2) إلى النقد، وإلى غيره، فأمّا ما ليس نقداً ينقسم إلى المثلي والمتقوم، فالمثلي يُضمن بالمثل في الجناية واليد إن كان المثلُ موجوداً (3) ، وإلا، فالقيمة، إن عدمنا المثل.
فالأصل على الغاصب ردُّ العين، فلو فاتت، وكانت من ذوات الأمثال، فالمثل أقرب ما دمنا نجده.
وإن لم تكن العين من ذوات الأمثال، فالواجب القيمة.
4546- ونحن الآن نذكر أصولاً ضابطة في ذوات الأمثال، ولتقع البداية بحدِّ ذوات الأمثال. قال القفال: ما كان مكيلاً، أو موزوناً، وصح السلم فيه، وجاز بيع بعضه بالبعض، فهو من ذوات الأمثال (4) . أمّا الكيل والوزن؛ فلأن غير المقدرات لا تتقارب أجزاؤه في القيمة والمنفعة، وأما اشتراط السلم؛ فلأن المسلم فيه يثبت في الذمة موصوفاً، فليكن المثل الواجب ممّا يصح وجوبه في الذمة. وأمّا اشتراط بيع البعض بالبعض، فسببه أن مايجوز بيع بعضه ببعضٍ داخل تحت ما يتقابل على التبادل، ونحن نريد في المثليات أن نُقيم المثل بدلاً عن المتلف.
وحذف بعض أصحابنا الشرطَ الأخير، وهو جواز بيع البعض بالبعض. وينشأ من إثبات ذلك وحذفه خلافٌ بين الأصحاب في أن الرطب والعنب وما في معناهما مما يتماثل أجزاؤه، ويمتنع بيع بعضه بالبعض. هل هو من ذوات الأمثال؟ حتى يجبَ على متلِف الرطب والعنب مثلُ ما يتلف؟
__________
(1) في النسختين: الخروج.
(2) نذكر بمذهب المؤلف في ترك الفاء في جواب (أما) .
(3) (ت 2) : مرجواً.
(4) في هامش (ت 2) : حاشية: قال النووي في الروضة: الأصح في حده أنه ما يحصره كيل أو وزن، ويجوز السلم فيه. والله أعلم. (ر. الروضة: 5/19) .(7/175)
قال القاضي: يرد على الحد الذي ذكره القفال القماقم الموزونة والملاعق والمغارِف؛ فإنها موزونة ويجوز السلم فيها، ولا يمتنع بيع بعضها بالبعض، وليست من ذوات الأمثال. والسبب فيها أنها مختلفة الأجزاء، ويندر اتفاق اثنين منها في الصفات.
والفقه المرعي عندنا في حدّ ذوات الأمثال أن تكون متساويةَ الأجزاء في المنفعة والقيمة، فهذا حقيقة التماثل. وإلى هذا مال العراقيون، ولم يتعرضوا للسلم، وقضَوْا بأن الرطب، والعنب، من ذوات الأمثال. وكذلك الدقيق وما في معناها.
فهذا مأخذ التماثل. ثم ما كان كذلك يحصره الكيل والوزن، ويصح السَّلم فيه؛ فإنه يكون مضبوطَ الوصف. وأمَّا إخراج الرطب والعنب عن المكيلات، فلا معنى له؛ فإنه إنما امتنع بيعُ بعضه بالبعضِ تعبّداً من الشارع، يشير إلى تفاوتٍ عند كمال الادخار. وما لهذا وما نحن فيه من التماثل ومقابلة الشيء بما يماثله في الصفات.
وذكر شيخي وجهاً أن المقدَّرات متماثلةٌ، وهي الموزونات والمكيلات. وهذا بعيد، ولكن للشافعي نصٌّ -قبل فصل صبغ الثوب- يدل على هذا.
4547- هذا قولنا فيما هو من ذوات الأمثال، ونقول بعده:
إذا أعوز المثل، فالرجوع إلى القيمة، والقول في ذلك ينبسط، ولنقلة المذهب فيه خبط خارج عن ضبط معظم علمائنا، وقد جمعت طرقَ الأصحاب على بحث وتثبت، ونحن نذكر الطرق: طريقة، طريقة، ثم نذكر مأخذ كل فريق، وما حملهم، على تشبث الرأي وافتراق المذاهب، ثم نذكر ما يخرج من جميع الطرق.
4548- ونبدأ بطريقة الشيخ أبي علي، فهو أحسن الأصحاب سياقةً لغرض هذا الفصل: فإذا غصب الرجل شيئاً من ذوات الأمثال، وأقام في يده ما أقام، ثم تلف والمثْلُ موجود، وتمادى الزمن، ثم أعوز المثل، وكان الرجوع إلى القيمة. فالقيمة بأية حالةٍ تعتبر؟(7/176)
ذكر الشيخ أبو علي ثلاثة أوجهٍ: أحدها (1) - أنا نوجب أعلى قيمة وأكثرها، من يوم الغصب إلى يوم إعواز المثل. وهذا منقاس حسن، ووجهه أن من غصب عيناً من ذوات القيم، وأقامت في يده، ثم تلفت، فإنا نوجب أقصى القيم من يوم الغصب إلى يوم التلف، كما سيأتي ذلك مشروحاً، إن شاء الله تعالى.
وسبب إيجاب الأقصى أنا نقول: ما من حالة تُفرضُ (2) فيها قيمة إلا والغاصب كان مخاطباً فيها برد العين المغصوبة، فإذا لم يردّ، فقد فوّت الرد؛ فلزمه بدلُه. وهذا المعنى يتحقق في وجود المثلي؛ فإنه كان الغاصب مخاطباً بالرد في كل حالٍ. ولما تلف المغصوب المثلي، وكان المثل موجوداً، كان مخاطباً [ببذل] (3) المثل في كل حالٍ فلما قصّر، اعتبرنا في حقه الأقصى من يوم الغصب، إلى يوم الإعواز. ولا نظر إلى تفاوت القيمة بعد الإعواز، كما لا نظر إلى ارتفاع القيمة بعد تلف العين المغصوبة. هذا وجه.
والوجه الثاني - أنا نقول: يعتبر أقصى القيم للمثلي من يوم الغصب، إلى تلف العين، ولا يعتبر ارتفاع القيم في زمان وجود المثل؛ فإنَّا إنما نعتبر قيمة المغصوب، والمغصوب هو العين التي تلفت في يد الغاصب، فلا معنى لاعتبار القيمة بعد تلفها.
وإن كان وجود المثل مطرداً.
والوجه الثالث - الذي ذكره الشيخ أنا نعتبر القيمة في وقت بقاء المثلي المغصوب في يد الغاصب، ولا نعتبر القيمة أيضاً بعد تلفه في وقت بقاء المثلي (4) ، وإنما نعتبر قيمة يوم المطالبة. أما عدم اعتبار القيمة يوم وجود المثلي المغصوب، فسببه أن المثلي يعتبر مثله ما وجد المثل، ولا تعتبر قيمته، وكذلك إذا اطرد وجود المثل، فلا معنى للنظر في القيمة، ولما أعوز المثل، فاعتبار القيمة بذلك الوقت (5) لا ينضبط؛ فإنا لا نتحقق الإعواز إلا عند الطلب، والبحث عن المطلوب الواجب؛ فقد انسد
__________
(1) في النسختين: أوّلاً أحدها.
(2) (ت 2) : تعرض.
(3) في النسختين: ببدل. بالدال المهملة.
(4) (ت 2) : وجود المثل.
(5) ساقطة من (ت 2) .(7/177)
اعتبار القيمة في وجود المغصوب، وفي اطراد المثل؛ لامتناع اعتبار القيمة مع المثل، ولم نعتبر أيضاً ما بعد الإعواز، لاستبهام الأمر، وردَدْنا النظر إلى اعتبار يوم الطلب، حتى قال رحمه الله في بيان ذلك: لو طلبَ يومَ السبت فلم ينتجز توفير حقه، فعاد بعد أيام، وقد اختلفت القيمة، فالاعتبار بقيمة الوقت الذي يتفق فيه توفيةُ الحق.
وهذا الوجه مضاد للوجهين المتقدمين عليه؛ فإن صاحب الوجه الأول يعتبر [القيمة] (1) حالَ بقاء المغصوب، وحال اطراد وجود المثل. ويجعل هاتين الحالتين بمثابة حالة بقاء العين المتقوّمة المغصوبة.
وصاحب الوجه الثاني يعتبر حالة بقاء المثلي (2) في يد الغاصب، ولا يعتبر ما بعد تلفه. وكل واحد من القائلين يعتبر بقاء شيء.
وصاحب الوجه الثالث يرى اعتبار القيمة مضاداً لوجود (3 المثلي ثم لوجود 3) المثل بعد تلفه، ويحيل تقدير القيمة مع وجود أحدهما، فيقع هذا ضد المسلكين. ولئن كان يبعد اعتبار القيمة لإمكان المثل، فلأن يبعد اعتبار القيمة مع وجود العين المتقومة أولى، وللمثل قيمة في السوق، كما للمتقوم قيمة، فلاح أن الوجه الثالث مزيف.
4549- وحكى الشيخ أبو علي (4) عن أبي الطيب بن سلمة عبارة عن الخلاف حسنة، نذكرها، ثم نستخرج ما فيها، قال أبو الطيب: إذا عدلنا إلى القيمة عند إعواز المثل، فهذا الواجب قيمةُ العين المغصوبة، أو قيمةُ مثلها بعد تلفها؟ فعلى وجهين: أحدهما - أن الواجب قيمة المغصوب، فعلى هذا نعتبر أقصى القيم من يوم الغصب إلى يوم تلف المغصوب. والوجه الثاني - أن الواجب قيمةُ المثل لا قيمةُ عين المغصوب؛ فإن المغصوب لما تلف، ثبت في الذمة وجوبُ مثله، ووقع التحول من العين إليه، فلما أعوز المثل، كان إيجاب القيمة بسبب إعواز المثل، فالواجب إذن
__________
(1) في النسختين: قيمة.
(2) (ت 2) : المثل.
(3) ما بين القوسين ساقط من (ت 2) .
(4) (ت 2) : الشيخ أبو علي، عن أبي علي، عن أبي الطيب بن سلمة. وفي الأصل ضربٌ واضح على (عن أبي علي) .(7/178)
قيمة المثل؛ فعلى هذا يعتبر أقصى القيم، من تلف المغصوب إلى انقطاع المثل وإعوازه.
وإذا نظرنا إلى هذين الوجهين المنسوبين إلى أبي الطيب وإلى الأوجه الثلاثة التي ذكرها الشيخ (1) وجدنا أحدهما مندرجاً تحت الوجوه الثلاثة، وهي إيجابُ أقصى القيم من يوم الغصب إلى يوم تلف المغصوب، ولم نجد للوجه الثاني ذكراً (2) ، وهو إيجاب أقصى القيم من يوم التلف إلى يوم الإعواز، فينضم هذا إلى تلك الأوجه، فتصير أربعة.
وزاد القاضي وجهاًً خامساً، فقال: الاعتبار بقيمته يوم انقطاع المثل. فلم يعتبر القيمة مع وجود المغصوب، ولا مع وجود مثله، واعتبر قيمة الانقطاع، ولم يحك اعتبارَ قيمةِ وقت المطالبة والتوفير، بل وافق هذا الوجه في ترك (3) اعتبار القيمة مع بقاء المغصوب، ومع وجود المثل بعد تلفه، غير أنّه اعتبر قيمة الانقطاع في هذا الوجه، بدلاً عما حكاه الشيخ من اعتبار قيمة وقت المطالبة، وهذا أوجه من اعتبار وقت المطالبة، وأصل الوجه ضعيف. وإذا ضممنا هذا إلى الأوجه الأربعة، انتظمت خمسةُ أوجه.
وذكر بعض الأصحاب وجهاًً سادساً: أنا نعتبر قيمةَ وقت تلف المغصوب. وهذا يناظر اعتبار قيمة الانقطاع، فكأن ذلك القائل اعتبر قيمة المثل عند انقطاعه. وهذا القائل يعتبر قيمة المغصوب عند تلفه، ولهذين الوجهين التفات إلى طريق أبي الطيب في أن المضمون المغصوبُ أو قيمةُ مثله؟ غير أن أبا الطيب قرب من القياس، فاعتبر أقصى القيم من يوم الغصب إلى التلف؛ إذ قال: المضمون قيمةُ المغصوب، أو أقصى القيمة من التلف إلى الانقطاع إذا كان المضمون قيمة المثل. وصاحب الوجه الخامس كان يعتبر قيمة المثل، ولكن يعتبرها عند طرف الانقطاع. وصاحب الوجه السادس يعتبر قيمة المغصوب، ولكن عند تلف المغصوب. فقد تحصلت ستة أوجه.
__________
(1) المراد: أبو علي السنجي.
(2) في النسختين: ذكر.
(3) ساقطة من (ت 2) .(7/179)
4555- وذكر شيخي أبو محمد ثلاثة أوجه على نسق آخر مخالفٍ للأوجه الستة التي حصَّلناها على أبلغ وجه في التثبت، فقال: في المسألة أوجه: أحدها - أنا نعتبر أقصى القيم من يوم انقطاع المثل إلى يوم الطلب، وهذا القائل يُبعِد تقدير القيمة مع بقاء المغصوب، ومع بقاء مثله. وهذا يناظر من هذا الوجه بعض الأوجه الستة.
والذي أحدثه اعتبار الأقصى بين انقطاع المثل والطلب. ونحن ذكرنا من قبل فيما يقاربه هذا وجهين: أحدهما - حكاه الشيخ أبو علي وهو اعتبار وقت الطلب.
والثاني - حكاه القاضي، وهو اعتبار وقت انقطاع المثل، فأما اعتبار الأقصى بين الانقطاع والطلب، فلم يجر له ذكر.
وهو عندي غلط؛ فإن اعتبار مزيد القيمة بعد تلف العين المغصوبة المتقوّمة محال، واعتبار الأقصى بعد الانقطاع في معنى اعتبار ارتفاع القيمة بعد تلف العين المغصوبة المتقوّمة. فإن صح محاذرة القيمة مع وجود المثل، فالذي يقرب اعتباره قيمةُ يوم الانقطاع. والذي اعتبره الشيخ أبو علي في هذا الوجه يوم الطلب، وحمله على ذلك استبهام الأمر في الانقطاع، ومصيره إلى أَنَّ الحكمَ بتفصيل يوم التوفية.
والوجه الثاني - الذي حكاه شيخي أنا نعتبر أقصى قيمة المثل، من وقت ما تلف المغصوب إلى الوقت الذي نُقدّر التغريم فيه. وهذا الوجه يجمع أحد مذهبي أبي الطيب؛ حيث اعتبر أقصى القيم من تلف المغصوب إلى إعواز المثل، إلى مزيدٍ لا يصير إليه أبو الطيب، وهو اعتبار الأقصى بعد انقطاع المثل، وهذا المزيد خطأ لا شك فيه.
والوجه الثالث - الذي حكاه شيخي: أنا نعتبر الأقصى من يوم الغصب إلى يوم التغريم، فهذا الوجه يجمع مضمون أصح الوجوه، وهو اعتبار الأقصى من الغصب إلى انقطاع المثل إلى مزيد، وهو اعتبار الأقصى بعد الانقطاع إلى التغريم، وهذا المزيد خطأ، ذكرناه في الوجه الثاني؛ فإذن لم يسلم وجهٌ من ذلك. أما الوجه الأول، فخطأ محضٌ، لا يشوبه صواب، وهو اعتبار الأقصى من الانقطاع إلى التغريم. والوجهان الباقيان يتضمنان ضَمَّ خطأ إلى مسلكٍ من الصواب، كما نبهنا عليه.(7/180)
4551- فإن قيل: فما الذي تصححون من هذه الوجوه كلها؟ قلنا: أصحها اعتبارُ أقصى القيم من الغصب إلى انقطاع المثل، وتنزيل هذه الأوقات منزلة أوقات بقاء العين المغصوبة المتقوّمة، ولم يذكر الصيدلاني إلا هذا الوجه، وأعرض عما سواه. ويلي هذا الوجه وجهاً أبي الطيب، وما عدا ذلك بعيد عن الصواب. ولكن لكل مسلكٍ وجهٌ إلا ما ذكره شيخي من اعتبار الأقصى بين الانقطاع والتغريم، فهذا لا وجه له أصلاً مفرداً أو مضموماً.
وقد نجز أقصى ما في الوسع في بيان ذلك، تثبتاً في النقل، وتصحيحاً لما يجب تصحيحه.
وما ذكرناه مفروض فيه إذا غصب مثلياً، وأقام في يده مدة، وتلف، ثم انقطع المثل بعده.
4552- فأما إذا أتلف شيئاًً من ذوات الأمثال على إنسان من غير فرض غصب واحتواء باليد، فقد ذكر القاضي وجهين في هذه الصورة: أحدهما - أنا نعتبر أكثر القيم من يوم التلف إلى يوم الانقطاع. والوجه الثاني - أنا نعتبر قيمة يوم الانقطاع.
وينقدح وجه ثالث ضعيف، وهو اعتبار قيمة يوم التغريم.
وليس يخفى تنزيل كل واحد على أصل من الأصول التي ذكرناها في حق الغاصب.
ولست أعتدّ باعتبار الأقصى بعد الانقطاع إلى التغريم؛ فإنه غلط عندي.
ومن غصب عبداً، وأبق من يده، فإنا نُلزمه القيمة للحيلولة، ولم يختلف المذهب في أنا نعتبر أقصى القيم من يوم الغصب إلى وقت المطالبة. وقيمة الحيلولة مع بقاء العين تناسب قيمةَ المثل عند فرض انقطاعه.
فليفهم الناظر ذلك؛ إذ لا خلاف أن المثل لو انقطع، ولم يتفق من صاحب الحق طلب حتى وُجد المثل، فحقه المثل إذا أراد الطلب الآن. وهو بمثابة ما لو استأخر الطلب من مالك العبد الآبق حتى رجع، فإن حقه في عين العبد.
4553- ولو انقطع المثل، وغرِم الغاصِب أو المتلِف القيمة، ثم وجد المثل، فهل لصاحب الحق أن يرد القيمة، ويطلب المثل؟ فعلى وجهين: أحدهما - له ذلك؛(7/181)
فإن حقه في المثل، وإنما جرى تغريم القيمة لتعذر المثل. والآن قد زال التعذر.
والوجه الثاني - ليس له أن يرد القيمة ويطالب بالمثل؛ فإنَّ الأمر قد انفصل ببذل القيمة، وإذا تم البدل، وقام مقام المبدل، وانقضى، فلا رجوع إلى المبدل، كما لو صام المعسر في الكفارة المرتّبة، ثم أيسر.
ويجوز أن يقال: لا مردَّ للبدل في الكفارة فلذلك (1) لا يرجع إلى المبدل. والردُّ والاسترداد ممكنٌ فيما نحن فيه.
ولا خلاف أن الغاصب إذا غرم القيمة لمالك العبد في إباقه، فلو رجع العبد، ردَّ العبدَ، واسترد القيمة. هذا مذهبنا. وأبو حنيفة (2) يزعم أن الغاصب يملك العبد في إباقه ببذل قيمته. والخلاف مشهور معه.
فليتخذ الناظر مسألة الإباق متعلقاً في هذا الفصل، فإنا إذا كنا نعتبر أقصى القيم في المثليات في الغصب، ففي التلف أولى.
4554- ومما يتعلق بأحكام المثل أن من أتلف شيئاً من ذوات الأمثال في بقعة، وفارقها، وظفر به صاحب الحق في غير مكان الإتلاف، فالذي أطلقه أئمة المذهب أنه لا يطالبه بالمثل مع وجوده، وإنما يطالبه بالقيمة.
وكان شيخي يقول: إذا لم يكن للمثل قيمة حيث ظفر بالمتلِف، فالوجه اعتبار القيمة [بالمكان الذي أتلف فيه] (3) وهذا كما إذا تلف الماء على إنسان في البادية، فظفر صاحب الماء بالمتلف في بغداد، فله أن يطلب منه قيمة البادية، ولا يقنع بالمثل؛ فإن المثل لا قيمة له في مواضع وجود الماء من البلاد والقرى، ولو ألزمناه الرضا بالمثل، لكان ذلك إحباطاً لحقه.
فأما إذا كان المثل متقوّماً مع اختلاف البقاع، ففي المسألة وجهان: أظهرهما - أنه
__________
(1) (ت 2) : فكذلك.
(2) ر. رؤوس المسائل: 347 مسألة 227، مختصر الطحاوي: 118، طريقة الخلاف في الفقه للأسمندي: 260 مسألة: 108، ومختصر اختلاف العلماء: 4/179 مسألة: 1869.
(3) ساقط من الأصل، وأثبتناه من (ت 2) .(7/182)
لا يطالِب بالمثل، وإنما يطلب القيمة. وأقيسهما أنه يطلب المثل واختلاف الأماكن كاختلاف الزمان.
ولم يختلف أصحابنا أن من أتلف على رجل حنطة في رخاء الأسعار، فله أن يطلب الحنطة في سنة الأَزْم، وإن غلت الأسعار. وكذلك عكس هذا، فاختلاف المكان كاختلاف الزمان.
ثم إذا قلنا: يطلب القيمة، فمن حكم هذا ألا يكلفَ المثل، ومن حكمه ألا يرضى بالمثل لو (1) غرم له.
4555- وإذا طلب القيمة في غير مكان الإتلاف؛ تفريعاً على الوجه الأوجه الأظهر، فبذلت له، ثم ظفر بالمتلِف في مكان الإتلاف، فهل له أن يرد القيمة، ويسترد المثل؟ فعلى الوجهين اللذين ذكرناهما فيه إذا غرِم المتلِف القيمةَ عند انقطاع المثل، ثم وجد المثل.
ثم لا يخفى على الفقيه أن الوجهين يجريان في الجانبين، فإن جوزنا لصاحب الحق أن يرد القيمة، جوزنا للغارم أن يسترد القيمة، ويبذل المثل. ولم يختلف الأصحاب أنهما لو تراضيا بما جرى، جاز. ولم يكن ذلك فيما أظن (2) تعاقداً.
والعلم عند الله.
ولو رجع العبد الآبق، فلا ينقدح الرضا بالقيمة إلا بتقدير بيعٍ ينشأ في العبد، وإنما ذلك لأن القيمة في العبد وجبت للحيلولة، وقيمة المثلي تدل على الحقيقة عند انقطاع المثل. فإذا كان المثل موجوداً، فالقيمة [لا تؤخذ] (3) إلا بمعاوضة، وإجراءِ اعتياضٍ عن المثل.
ثم إذا قلنا: تُطلب قيمة المتلَف (4) في غير مكان الإتلاف، فلا خلاف أنه تُطلب
__________
(1) (ت 2) : ولو.
(2) ساقطة من (ت 2) .
(3) في الأصل: لا توجد.
(4) (ت 2) : المثل.(7/183)
قيمةُ مكانِ الإتلاف. وهذا سببُ ردِّه إلى القيمة. ولو كنا نرعى قيمة مكان المطالبة، لكنّا نوجب المثل في مكان المطالبة، ولكان ذلك أقربَ من إيجاب القيمة. ثم في اعتبار قيمة مكان الإتلاف ما قدمناه من التفصيل.
4556- وذكر الشيخ أبو علي في اختلاف الأمكنة طريقةً في ذواتِ الأمثال، فقال:
ما ذكره الشافعي والأصحاب من أن المتلف عليه إذا ظفر بمتلِف المثل في غير مكان الإتلاف، لا يغرمه المثل، وإنما يغرمه قيمة مكان الإتلاف، [فذلك مفروض فيما إذا كانت قيمة مكان الإتلاف أكبر، فلنفرض] (1) فيه إذا كانت قيمة المكان الذي ظفر به صاحبُ الحق بالمتلِف فيه (2) أكثر من قيمة مكان الإتلاف، فعند ذلك قال الشافعي ما قال، فأما إذا استوت القيمتان، ولم يتفاوت السعر، أو كانت قيمة المثل في المكان الذي وقع الظفر فيه بالمتلِف أقل، فيلزمه المثل في هذه الصورة. وهذه الطريقة ادعاها الشيخ أبو علي للأصحاب، ولم يردد فيها قولاً.
والذي ذكره الأئمة في الطرق إطلاق القول بأن المثل لا يطلب في غير مكان الإتلاف من غير تعرض للتفصيل، ولو كان الحكم مفصلاً عندهم كما ذكر الشيخ، لفصلوه؛ فإن التفصيل في مثل ذلك ليس ممَّا يعزب عنه نظر الناظر على ظهوره.
وذلك التفصيل هو معتمد الفصل عند الشيخ.
فقد حصلنا على مسلكين، وثالثٍ بعدهما: المسلك الظاهر المنصوص عليه إطلاقُ القول بأن المثل لا يُطلب في غير مكان الإتلاف من غير نظر في التفاصيل.
والمسلك الثاني أنا نفصل كما ذكر الشيخ وقطع به.
ثم ما ذكره الشيخ لا يخلص من إشكال الزمان، وقد ذكرنا أن تفاوت القيمة إذا رجع إلى الزمان، لم يُعتبر وفاقاً، سواء تفاوتت القيمة أو استوت. وحكينا عن شيخنا إيجاب المثل مع اختلاف الأمكنة، من غير تفصيل. وهذا منقاسٌ، لكني لست أثق به؛ فإني لم أره في شيء من الطرق، وسبيلي فيما أنفرد بنقله إذا لم أجده في عين (3)
__________
(1) ما بين المعقفين زيادة من (ت 2) ألحقها أحد المطالعين بالهامش (لحقاً لا تعليقاً) .
(2) كذا في النسختين.
(3) (ت 2) : غير.(7/184)
طريقةٍ أن أتوقف، ولا أخلي الكتاب عن ذكره.
وقد ينقدح على الجملة (1) فرقٌ بين الزمان والمكان؛ فإن التغريم والإتلاف يقعان في زمانين لا محالة. فلو ذهبنا ننظر إلى تفاصيل (2) الأزمنة، لطال المراء في ذلك، وخرج عن الضبط، وجرّ نزاعاً، والغالبُ اطراد القيم في الأوقات، كما أن الغالب اختلافُها في الأمكنة.
فهذا منتهى القول في ذلك.
4557- ثم قال الشيخ أبو علي: لو كان لرجل على رجل دراهم أو دنانير، فظفر به في غير مكان الالتزام، طالبه بما عليه، واعتبر في ذلك معنىً، فقال: الدراهم لا يعسر نقلها ولا مؤنة في تحويلها من مكانٍ إلى مكان؛ فإنها [خفيفة] (3) المحمل، وليس كذلك ذوات الأمثال.
وهذا الكلام لا يكمل به الغرض. ولعل المعنى أن النقود في الغالب، لا تختلف قيمها -إن قدّرت لها قيم- باختلاف الأماكن، إلا أن يتكلف متكلف تصويراً (4) بعيداً عند إفراط البعد. وهي قيم الأشياء، فيبعد تقدير قيمتها، فهي في الأماكن كالمثليات في الأزمان. فأما ما ليس نقداً من المثليات، فيظهر التفاوت في قيمها، بأدنى تفاوت يفرض في الأماكن.
ولن يحيط بحقيقة هذا الفصل إلا من يعلم أن المضمون من المثلي المالية، وإيجاب المثل [تقريب] (5) من العين المتلفة، فيجب الالتفات على المالية. وعن هذا اختبط الأصحاب في اعتبار قيمة المثل عند فرض الإعواز والانقطاعِ.
4558- ثم ما ذكرناه من تفصيل القول في التزام المثل بالإتلاف يجري في جميع
__________
(1) (ت 2) : الجهة.
(2) (ت 2) : التفاصيل اللازمة.
(3) في الأصل: كما في (ت 2) : حقيقة.
(4) (ت 2) : تصوراً.
(5) في الأصل: غير مقروءة بسبب النقط، فصورتها هكذا: (ـهونت) وفي (ت 2) هكذا (ـقرب) . والمثبت اختيار منا.(7/185)
طرق الالتزام، فلو استقرض من رجلٍ بُرّاً، ثم رأى المقرضُ المستقرضَ في غير مكان الاستقراض، فلا يطالبه بالمثل، كما قدمناه في الإتلاف. وكذلك لو استحق عليه شيئاًً من ذوات الأمثال سَلَماً، فالحكم ما ذكرناه إذا التقى المسلِم والمسلَم إليه في غير مكان الاستحقاق.
قال صاحب التقريب: كما لايطالب المسلِم المسلَم إليه في غير مكان الاستحقاق، كذلك لا يطالبه بقيمته أيضاً؛ فإنه لو طالبه بالقيمة، كان ذلك اعتياضاً منه عن المسلم فيه، وكل ما كان فيه معنى الاعتياض عن السلم، فهو مردود.
وهذا الذي ذكره ظاهر القياس. ولكن فيه إشكالٌ يتعلق بأمر كلي، وذلك أن المسلم إليه لو اعتمد الانتقال إلى موضعٍ، وعليه أموال من جهة السلم، فهذا يؤدي إلى انقطاع الطّلبة عنه، فينقدح في ذلك عندنا وجهان، سوى ما ذكره صاحب التقريب:
أحدهما - أنه إذا فعل ذلك عُدَّ هذا تعذراً في المعقود عليه مُثبتاً حقَّ الفسخ، ثم يعود الطلب عند الفسخ إلى رأس المال، ويجري فيه قياس سائر جهات الضمان، ويقع النظر في كونه نقداً، أو مثليا ليس نقداً، أو متقوماً. هذا وجه.
والثاني - أنا إذا قلنا: مَنْ أخذ القيمةَ، ثم استمكن من طلب المثل، ردّها، واسترد المثل، فالقيمةُ على هذا الرأي ليست عوضاً، وإنما أثبتت للحيلولة، فلا يمتنع إثباتها إذا كنا لا نقدرها عوضاً. وهذا فيه مزيد نظر. والله أعلم.
4559- ومما ذكره الأصحاب في هذا الفصل أن من غصب حنطة ببلدة، ونقلها إلى بلدة أخرى، وأتلفها بها، فقد وجد منه العدوان في مكانين أحدهما - مكان الغصب، والثاني - مكان الإتلاف. فإذا ظفر صاحبُ الحق به في أحد المكانين، كان له مطالبته بالمثل؛ فإنه تحقق تعدّيه في البلدين، ولا ننظر إلى تفاوت الأسعار في الموضعين، لتعلق التعدي بهما. فلو ظفر مستحق الحق بالمتعدّي في موضع ثالث، طالب أقصى قيمة في البلدين. وهذا مستقيم على القياس. وبه انتجز الغرض في هذه الفصول.(7/186)
فصل
4560- قد مهدنا قواعد القول في ذوات الأمثال، ونحن نذكر الآن طرفاً من الكلام في النقود، والتبر، إلحاقاً بالمثليات، فنقول:
في هذا النوع ثلاث صور: إحداها - الكلام في الدراهِم والدنانير المطبوعة، والثانية- الكلام في التبر. والثالثة - الكلام في المصوغات من الأواني والحلي.
فأما الدراهم والدنانير المطبوعة، فهي معتبرة في المثليات، وإذا أتلفت، ضمنت بأمثالها، ولم تختلف بالأماكن والأزمان، كما قدمنا ذكره.
فأما التبر، فإنه من ذوات الأمثال، فيضمن بمثله، ويعتبر التساوي في المثل المضمون. والمتلف.
4561- وأما القول في المصوغات، فهو مقصود الفصل: فالمصوغ ينقسم إلى ما للصنعة فيه حرمة، وإلى ما لا حرمة للصنعة فيه، فأما ما لا حرمة لصنعته وصيغته، وكان يحرم إيجاده، كصور الأصنام والصلُب، والأواني المتخذة من التبرين على أحد الوجهين، فلا قيمة للصيغة والصنعة. وإذا أتلفت هذه الأشياء، وجب على متلفها التبرُ وزناً بوزن، ولم تجب الدراهم المطبوعة.
4562- فأمّا إذا كانت الصنعة محترمة، كالحلي المباح، وكالأواني على أحد الوجهين، فإنا نبتدىء الآن الكلام فيها، ونقول: أولاً إذا كان الرجل يتحلى بحلي تليق بالنساء، مثل أن كان يتختم بخاتم الذهب، أو يلبس السوار، فهذا الفعل محرم منه، والحلي في نفسه محترم الصنعة، لا يجوز إتلافه، وإفساد صنعته. وإن كنا قد نقول: تجب الزكاة قولاً واحداً على الرجل في الحلي الذي يستعمله، على وجه التحريم، وإن كان يحل استعماله للنساء؛ فإنّ أمر الزكاة مبني على قاعدة أخرى قررناها في باب زكاة الحلي، والمعتبر في هذا الباب أن تكون الصنعة في نفسها
محترمة ولا نظر، إلى [ما] (1) يستعمل على وجهٍ مباح أو على وجهٍ محظور.
__________
(1) في الأصل: من.(7/187)
فإذا أتلف الرَّجُل مصوغاً محترمَ الصنعة، من النُّقْرة، وزنه مائة، وقيمته بحسن الصنعة مائة وخمسون، ففيما يلتزمه المتلِف أوجه: أحدها - أنه يضمن الأصل، والصنعة، بغير الجنس. فإن كان من الذهب قوّم بالفضة مصنوعاً، وإن كان من الفضة قوم بالذهب. ونصُّ الشافعي دال على هذا في كتاب الصداق. وهذا القائل يعدل عن جنس المتلف حتى لا يقابل ما وزنه مائة بمائةٍ وزيادة. والتماثل واجبُ الاعتبار في الجنس الواحد من أموال الربا.
والوجه الثاني - أن المتلف يضمن الأصل بالجنس، والصنعة بنقد البلد، حتى إن كان من الذهب، والنقد في البلد الذهب يغرَم الأصلَ، وتقوم الصنعة بالذهب. فإن كان النقد الذهب، والمصنوع من الفضة، غرِم الأصلَ بالفضة، والصنعةَ بالذهب.
وهذا الوجه منقاسٌ حسن، والمعتبر فيه مقابلة الأصل بالمثل، فإنه من ذوات الأمثال، وتقوم الصنعة بنقد البلد.
وهذان قياسان لا سبيل إلى دفعهما؛ فإن من أتلف التبر، ضمن مثله، ومن أفسد الصنعة ولم يفوّت التبر غرِم أرش النقص من نقد البلد، فإذا اجتمع تفويت التبر وإفساد الصنعة، لزم اطّراد القياسين.
ثم إذا قيل لصاحب هذا الوجه: ما قلتَه يؤدي إلى صورة الربا؛ فإن زنة المصنوع مائة، وقد قوبل بمائةٍ وخمسين، إن كان النقد من جنس الأصل، وإن لم يكن من جنسه، فبيع مائةٍ بمائة، ودنانير. فكيف الخلاص والحالة هذه؟ كان من جواب هذا القائل: إن التماثل إنما يُرعى في البيع، وليس ما نحن فيه من البيع بسبيل، والصنعة والأصل متلفان، يقابل كل واحد منهما بالبدل الذي يقتضيه الشرع، وليس هذا (1 من التقابل في شيء؛ فإن غرامة البدلين بعد فوات الأصل، فلشى هذا 1) من التقابل الجاري في البيع، فإن التقابل إنما يتحقق بين موجودين. فإذا زالت صورة التقابل، زال التعبد برعاية التماثل.
والذي يحقق ذلك أنه لو أفسد الصنعة أولاً، وغرم الأرش من نقد البلد، فلو عاد
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2) .(7/188)
وأتلف الأصل، وجب القطع بتضمينه [مثلَ] (1) ما أتلف، ولا يجوز تخيل خلاف في هذا. فأي فرق بين وقوع الإتلافين معاً، وبين ترتب أحدهما على الثاني؟
والوجه الثالث - أنا نقابل الأصل بالجنس تمسكاً بقياس الضمان في إتلاف المثليات، ثم ننظر، فإن لم يكن نقد البلد من جنس الأصل، فهو المطلوب، فنوجب قيمة الصنعة بنقد البلد. وإن اتفق كون نقد البلد من جنس الأصل، أوجبنا في الأصل المثلَ، وملنا في قيمة الصنعة عن النقد الغالب، وأوجبنا جنساً آخر يخالف جنسَ الأصل. فإن كان الأصل من الفضة قابلناها بالفضة، وأثبتنا أرش الصنعة ذهباً، سواء كان نقد البلد ذهباً، أو لم يكن. فإن كان الأصل ذهباً، قابلناه بالذهب وأوجبنا قيمة الصنعة دراهم، سواء كان النقد دراهم أو لم يكن.
4563- وأنا أذكر حقيقة هذا القول في المباحثة التي أبتديها الآن. فكأن صاحب الوجه الأول الذي هو على ظاهر النص، يجتنب صورة الربا، ويقدر ما يقابل المصنوع ثمناً (2) له، فكل ما يجوز أن يكون ثمناً في البيع لذلك المطبوع، يجوز أن يكون بدلاً له في الإتلاف، وما لا يجوز تقديره ثمناً لا يجوز تقديره بدلاً في الإتلاف. ويخرج من هذا وجوب الحيد عن جنس المتلف في أصله وصنعته، ومضمون هذا الوجه ترك القياس في مقابلة المثليات بأمثالها. والحامل على ذلك اجتناب صورة الربا. وإذا قيل لهذا القائل: الصنعةُ متميزة عن المصنوع، لم يقبل ذلك، وجعل الصنعة بمثابة الجزء من المصنوع، ولم يرها مستقلة بنفسها؛ فإن الإتلاف جرى فيهما معاً.
وأما صاحب الوجه الثاني، فقاعدته طرد القياس كما مضى. وإذا ألزم حكم الربا، قال: ليست قيمة المتلف على قياس عوض البيع، كما سبق تقريره. ومعتمد هذا القائل اعتقاد تميز المصنوع عن الصنعة.
وصاحب الوجه الثالث لا يخفى عليه أن مقابلة ما يزن مائة درهم بمائةٍ ودنانيرَ على صورة الربا، لكنه يبغي (3) أن يفصل بين الصنعة، وبين الأصل. ثم قاعدته: أن الربا
__________
(1) في الأصل: لمثل.
(2) (ت 2) : بمثاله.
(3) (ت 2) : يتعجل.(7/189)
[لا يلزم قياساً] (1) في الإتلافات، والذي جاء به من المغايرة ورعاية المخالفة بين بدلي (2) الأصل والصنعة سببه أن نفصل أحدهما عن الثاني، ونقدرهما بمثابة متلفين.
هذا بيان الوجوه. وأصحها عندنا الوجه الثاني، ولا جواب عما أجريناه في توجيهه من فرض ترتب إتلاف الأصل على تفويت الصنعة.
4564- ومما يجب التنبّه له أنا إذا رأينا مقابلة الأصل بمثله في الوجه الثاني والثالث، فليس مثله دراهم ولا دنانير مسكوكة، وإنما مثله التبر؛ فإنه بعد ما كسر وأفسدت صنعته، فهو تبر متبر. وهذا ظاهر جداً في الوجه الثالث، وفيه نظر في الوجه الثاني؛ فإن صاحب الوجه الثاني إذا كان لا يتحاشى من صورة الربا، وقد وقع إتلاف المصنوع [والصنعة] (3) معاً؛ فإن أوجب قيمة الأصل من جنسه دراهم أو دنانير، لم يكن مستحيلاً عنده؛ فإن في ذلك رعايةَ المثلية، وما عهد المصنوع متبراً.
ثم الإتلاف بعد التكسير. وهذا فيه تكلف. والوجه عندنا في الوجهين مقابلة الأصل بالتبر. والعلم عند الله تعالى.
فصل
4565- ذكر الشافعي رحمه الله أحكام تغيير الأعيان المغصوبة، وصادف مسائل خالف أبو حنيفة فيها القواعدَ الكلية، فأخذ يرادّه فيها. ويجوز أن يقال: إنّما صدر كتاب الغصب بأحكامٍ في الجنايات؛ لأنه طلب أن يتوصل بذكر تغايير يحدثُها الغاصب في المغصوب إلى مسائل أبي حنيفة، كما سنشير إليها بعد تمهيد أصلنا، فنقول: الأصل في المغصوب وجوب رده إذا لم يتغير. فإن تغير، لم يخل تغيره، إمّا أن يكون بنقصان، أو بزيادةٍ. فأما التغير بالزيادة، فسنذكر حكمه في مساقِ فصلٍ على إثر هذا الفصل، إن شاء الله تعالى.
4566- وأمَّا التغير بالنقصان، فقاعدة مذهب الشافعي أن يغرَم الغاصب أرش
__________
(1) في الأصل: لا يلتزم قياسها.
(2) (ت 2) : يدي.
(3) زيادة اقتضاها السياق، حيث سقطت من النسختين.(7/190)
النقص، ويلزمه رد المغصوب ناقصاً مجبوراً [بالأرشِ] (1) المغروم، ولا فرق بين أن يتفاحش النقص، وبين أن يقل. وأبو حنيفة لم يرع هذا الأصل، وأعرض عنه في مسائل خلطَها، وتخبط فيها، ونحن نأتي بها، ونخرجها على أصلنا، ونبين مذهب أبي حنيفة فيها، وننبه على مأخذه. والغرضُ بذكر ذلك من مذهبه وضوحُ تميز أصلنا عن أصله.
فإذا غصب الرجل عبداً، وقطع يديه، وفرعنا على أن جراح العبد من قيمته كجراح الحر من ديته، وأوجبنا القيمة الكاملة، فيجب على الغاصب الجاني بذلُ القيمة، وردُّ العبد المجني عليه على مالكه. وأبو حنيفة (2) يزعم أنه إذا غرِم القيمةَ، ملك العبد المجني عليه، وطرد هذا الأصل في كل جنايةٍ أرْشُها كمال القيمة، وادّعى أن الواجب عند قطع اليدين قيمةُ العبد، لا أرشُ اليدين، ثم ادعى استحالةَ اجتماع القيمة والمقوّم المجني عليه في ملك المغصوب منه، ووافق أن الغاصب لو قطع إحدى اليدين، والتزم نصف القيمة، لم يملك من العبد شيئاًً.
ونحن نقول: الواجب في اليدين -وإن بلغ مقدارَ القيمة- أرشُ اليدين لا قيمةُ الرقبة. فهذا نوع من التغايير التي تلحق المغصوب.
ولو غصب رجل ثوباً، وخرَّقه خِرقاً، ومزقه مِزقاً، فأصلنا أنه يغرَم ما نقص، ويرد الخِرق، وإن صارت سلكاً سلكاً. وأبو حنيفة يقول في هذا النوع: إذا أحدث الغاصب تغيراً يبطل به معظمُ منفعة المغصوب؛ فإنّه يغرَم القيمة، ويملك ذلك المغصوب المغيّر (3) ، وبنى عليه مسائلَ، منها: أنه لو غصب عمامةً وشقها طولاً، فإنه يغرَم قيمتها صحيحة، ويملك المنديل المشقوق، ولو شقه عرضاً ردّه، وردَّ أرش النقص.
ولو غصب شاة، وذبحها، لم يملكها، ولو شوى اللحمَ، أو طبخه غرِم قيمةَ الشاة، وملك اللحم المشويَّ. وقال: لو غصب ثوباً، وصبغه بصبغٍ (4) يقتل صبغاً
__________
(1) في الأصل: بأرش المغروم.
(2) ر. رؤوس المسائل: 346 مسألة 226، إيثار الإنصاف؛ 256.
(3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/175 مسألة 1863، المبسوط: 11/86.
(4) عبارة (ت 2) : بصبغ يكفي أن يكون لثوب يقتل.(7/191)
آخر، لم يملكه، ولو صبغه أسود غرِم قيمته (1) ، وملكه، في فضائح ومخازي لا نعددها. ومعتبره في هذه التغايير يخالف معتبره في الجناية على العبد، فإنه راعى في الجناية وجوبَ تمام القيمة أرْشاً (2) ، وراعى في هذه التغايير سقوطَ معظم المنافع. ولست أدري كيف يجري هذا في صبغ الثوب أسود. والشافعي (3) متمسك في جميع هذه المسائل بما يقتضيه وضعُ الشرع، من رد ما بقي على المغصوب منه مجبوراً بأرش النقص.
4567- وجرى في مذهب الشافعي مسألةٌ واحدة تكاد تكون مستثناة من القاعدة التي مهدناها. ونحن نصورها، ونذكر المذهب فيها:
فإذا غصب رجل حنطة، وتركها في مكانٍ نَدِيّ، حتى استمكن العفن الساري منها، وغرضُنا أنها لو تركت، لتسرع الفساد الكلي إليها. قال الشافعي: المغصوب منه بالخيار بَيْن أن يترك هذه الحنطةَ العفنةَ على الغاصب، ويغرّمه (4 مثل حنطته، وبين أن يسترد منه الحنطة العفنة ويغرّمه 4) أرش عيبٍ سارٍ غيرِ متناهٍ (5) .
ثم أرشُ نقصان المثليات من نقد البلد، ولا تقابل صفات المثليات بذوات المثليات. وهذا الذي نقل عن الشافعي في الحنطة العفنة، مشكلٌ جداً مخالف لقانونه في وجوب رد الأعيان الناقصة مجبورةً بأرش النقص.
وقد ذكر الأئمة جواباً آخر من متن المذهب، جارياً على القياس اللائق بقاعدة الشافعي (6 وهو أنه يتعين ردّ الحنطة كما هي مع أرش العفن غير المتناهي 6) ، وفي ألفاظ الشافعي ما يشعر بهذا الجواب أيضاً. ثم من رأى التعلق بالجواب الثاني افترقوا فرقتين، فذهب بعضهم إلى حمل نص الشافعي في الجواب الأول على ما إذا انتهى
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/179 مسألة 1870، مختصر الطحاوي: 119، المبسوط: 11/86.
(2) (ت 2) : إن شاء.
(3) (ت 2) : وللشافعي مستمسك.
(4) ما بين القوسين ساقط من الأصل.
(5) في الأصل، كما في (ت 2) : ساري غير متناهي.
(6) ما بين القوسين ساقط من (ت 2) .(7/192)
ظهور العفن إلى سقوط قيمة الحنطة بالكلية، وهذا ترك لفحوى كلام الشافعي وإضرابٌ عن نصه؛ فإن قوله: "يتخير المغصوب منه، فإن شاء وإن شاء" - ناصٌّ على أن المالية قد بقيت منها بقية.
ومن أصحابنا من أقر نص الشافعي قراره، وذكر قولاً آخر معه، ووجه القول الثاني لائح، كما ذكرناه، ووجه النص عسر، والممكن فيه أن أرش العفن الساري لا يمكن ضبطه، ولا يمكن إلحاق الحنطة التي ظهر العفن فيها بالتالف بالكلية. فينتظم من ذلك تخير المالك بين أن يكفي نفسه مؤونة الاطلاع على الأرش، وبين أن يسترد عين ماله.
وهذا تكلف؛ فإن الحنطة العفنة إنما تكون على بقية من المالية إذا كان يتأتى استعمالها على حالٍ، وما كان كذلك ينبغي أن يجعل كطعام رطبٍ، قابل للتغايير على قرب الزمان، فليكن صاحبه أولى به على ما هو عليه، وليتعيّن مسلك الاسترداد.
وقد ذكر العراقيون في مسألة العفونة قولين للشافعي: أحدهما - أن المالك يغرّمه المثل ليس له غيرُ ذلك. والثاني - أنه يأخذ عينَ حنطته، كما وجدها، ويرجع عليه بأرش النقصان. وأما القول الثاني، فهو الجواب الثاني الذي حكيناه. وأما القول الأول، فهو مخالف للجوابين اللذين حكيناهما، وذلك أنهم قالوا: نغزمه المثلَ، ونحسبه تالفاً، ولم يثبتوا خِيرةً أصلاً. وهذا بعيد في النهاية، موافق لمذهب أبي حنيفة، فإذا أثبتنا الخيارَ أشارَ إثباتُه (1) إلى تعلق حق المالك بالعين إن أرادها.
وإذا كان الخِيرةُ إلى المالك، وكان ترك الحنطة العفنة مصلحةً له يراها، كان تحكمه على الغاصب لائقاً بالحال، كما قررناه على حسب الإمكان.
فهذا منتهى القول في ذلك.
4568- ثم ألحق الأئمة بالحنطة العفنة السارية العفونة ما لو غصب دقيقاً، وحلاوة، وسمناً، واتخذ منها حلاوة؛ فإن هذه الأجناس إذا جمعت، وأقيمت أركاناً لحلاوةٍ أمعن تأثير النار فيها، فالحلاوة المجموعة صائرة إلى الفساد، لو لم يبتدر استعمالها. فهذا ما ذكره الأصحاب في ذلك.
__________
(1) (ت 2) : غير مقروءة، صورتها هكذا: لـ ـاتهِ.(7/193)
4569- وفي النفس وراء قبول إشكال النص [فكرٌ] (1) في محاولة ضبط هذا التغيير، [فلا] (2) خلاف أن من غصب حنطة، فطحنها دقيقاً، فالدقيق يقرب من أمد فساده بالإضافة إلى الحنطة، ثم إذا اتخذ من الدقيق خبزاً، فالخبز أسرع إلى قبول الفساد من الدقيق، فليت شعري ما المرعي في التغيير المثبَت سبباً (3) سارياً مُفضياً إلى الفساد؟
فنقول: ربّ طعام على كماله يكون أمد بقائه أقصرَ من أمد بقاء الحنطة العفنة، التي صورناها، فلا نظر في ذلك إلى قرب الفساد.
ولكن الممكن عندنا فيه إضافةُ ما تغيّر إلى جنسه، بالطريق الذي نذكره. فالدقيق على حالٍ مما يعتد ويعد دقيقاً، كما أن الحنطة تدخر، والفساد يسبق إلى الحنطة على مر الزمان، كسبقه إلى الدقيق، وإن كان أمد أحدهما أقصرَ من الثاني. فأما الحنطة العفنة الظاهرة العفونة؛ فإنها خارجة عن صفة جنسها؛ فإنها لا تدخر، بل تبتدر، ولا يعد مثلها من المدخرات، وهي من جنسٍ يجري الادخار فيها على أنحاء لها ومناصب. وهذا يضاهي قولَنا: اللبن في حال كمالِ الادخار، مع العلم بأنه على القرب، يحول ويتغير، ولكنه في جنسه كاملٌ. والقدر الممكن من ادخاره ما يعد ادخاراً لائقاً به.
4570- وكان شيخي يتردد في العبد المغصوب إذا مرض مرضاً سارياً عَسِر العلاج، مثل أن يصير مسلولاً، أو مدقوقاً (4) ، أو مستسقياً، مأيوس البرء، فربما كان يلحق ما ذكرناه من الأمراض بالعفن، الذي وصفناه في الحنطة.
وهذا غير مرضي؛ فإن العفن شرطه أن يُفضي إلى التلف، والأمراض لا حكم عليها، ولا وصول إلى درك اليأس منها، وكم عُهد من المرضى (5) المحكوم عليه
__________
(1) في الأصل: فكرة.
(2) في الأصل، كما في (ت 2) : ولا.
(3) (ت 2) : شيئاً.
(4) أصابته حمى الدِّق، وهي حمى معاودة يومياً تصحب غالباً السل الحاد. (معجم) . ومما ينبغي الإشارة إليه أن المعجم أشار إلى أن هذه اللفظة من الألفاظ التي أقرها مجمع اللغة العربية، فهل كانت من ألفاظ اللهجات منذ عهد إمام الحرمين؟
(5) (ت 2) : المزمن.(7/194)
بالموت استقل (1) واستبلّ (2) عما به.
فهذا تمام القول في التغايير التي تلحق المغصوب من جهة النقصان، وسنعيدها على غرض لنا سوى ما ذكرناه في أثناء التقاسيم.
فصل
قال: "ولو غصب جاريةً تساوي مائة، فزادت في يده بتعليمٍ منه ... إلى آخره" (3) .
4571- نقول في مقدمة الفصل: من غصب عيناً، فعليه ردها على مالكها، فإذا أمسكها، كان في كل لحظةٍ على حكم من يبتدىء غصباً، ثم تلك العين لا تخلو: إما أن تتلف في يده، أو تبقى إلى أن يردَّها.
فإن تلفت، وكانت من ذوات القيم، غَرِمها بأكثر ما كانت من يوم الغصب إلى يوم التلف: فلو كانت تساوي يوم الغصب ألفاً، ثم كانت تساوي يوم التلف مائة، لانحطاط الأسعارِ، وركود الرغبات، فالواجب الألف. وكذلك لو كان الأمر على العكس.
ولو كان يوم الغصب تساوي مائة، ويوم التلف تساوي مائتين، واتفق في الأثناء هَيْجُ الأسعار، وكثرةُ الرغبات، فصارت العين تساوي ألفاً، فإنا نُوجب عليه الألفَ.
وما ذكرناه معلل بما صدرنا الفصل به من تقديره غاصباً في كل لحظةٍ؛ فإن الأمر بالرد إذا كان مستمراً، فالدوام والابتداء على وتيرة.
4572- وإن بقيت العين، فردها على المالك، فلا تخلو إما أن تكون على هيئتها، لم تتغير عنها، بزيادة ولا نقصانٍ، وإما أن تتغير عما كانت عليه.
فإن لم تتغير، وردها، فالكلام في نوعين: أحدهما - أنه لو فرض في أيام الغصب
__________
(1) استقل نهض، وقام.
(2) ت (2) : غير مقروءة، صورتها هكذا: واست ـل.
واستبلّ: أي شفي، وعوفي من مرضه، والهمزة والسين والتاء هنا للصيرورة، والتحول. وأصل المادة: بلّ: أي برىء من مرضه.
(3) ر. المختصر: 3/36.(7/195)
ارتفاع قيمه وانخفاضها، فلا مؤاخذة بالقيم، ولا نظر إليها إذا ردت العين في العاقبة؛ فإنها ردت كما أخذت.
وقال أبو ثور: إذا زادت القيمة، ثم انحطت، كان الغاصب مؤاخذاً بتلك الزيادة مع رد العين؛ من حيث إنه انتسب إلى تفويت تلك الزيادة، لإدامة اليد العادية. وهذا عده القياسون منقاساً.
والمعتمد عندنا أن العين إذا رُدَّت كما أخذت، فالقيم المتفاوتة محمولة على رغبات الراغبين، وانكفافهم، وليست هي من صفات العين، وليس كذلك إذا تلفت العين؛ فإنها قد فاتت، فحمل الأمر مع الغاصب على تقدير التفويت في أرفع الأسعار والقيم.
فهذا أحد النوعين.
وأما النوع الثاني - فالكلام فيه في المنفعة. فإن لم تكن العين مما ينتفع به مع بقاء العين، فلا منفعة إذن، ولا ضمان من هذه الجهة.
وإن كانت العين منتفعاً بها، فإن لم يمض في الغصب زمان للمنفعة في مثله قيمة، فلا كلام.
وإن مضى زمان للمنفعة في مثله قيمة غَرِم الغاصبُ مع رد العين أجرةَ المنفعة.
ولا فرق بين أن يستوفيها، وبين أن تضيع وتتلف تحت يده.
فلو كان العبد صنَاعَ اليد أوْجبنا أُجرةَ صنعته. وإن كان يُحسن صناعاتٍ، فلا سبيل إلى إيجاب أجر جميعها، فإن الاشتغال بعملين غيرُ ممكن. فإذا كان العبد يحسن صناعاتٍ، اعتبرنا أغلاها أجرةً، وأرفعَها عِوضاً، وأوجبنا الأجرة باعتبارها.
ولا خلاف أنا لا نوجب على الغاصب عوض منفعة بُضع الجارية المغصوبة إذا لم يطأها؛ فإن اليد لا تثبت على منافع البُضع، على ما قرره المقررون في الخلاف.
هذا إذا لم تتغير العين عن هيئتها.
4573- فأما إذا تغيرت، فلا تخلو: إمّا أن تتغير بالزيادة أو بالنقصان. فإن تغيرت بزيادة، ردَّها زائدةً، ولا حقَّ له في تلك الزيادة؛ لأنها نماء ملك الغير، والنماء يتبع الملك.
وإن تغيرت العين بالنقصان، فلا تخلو: إما أن ينقص أصل العين، أو صفة من(7/196)
صفاتها. فإن انتقصَ أصلُ العين، ضمن النقصان بأكثرَ ما كانت قيمُه من يوم الغصب إلى يوم النقصان. مثل أن يغصب ثوباً قيمته ديناران، فاحترق نصفه، ثم انخفض السوق، وارتفع، فعليه دينار ورد النصف الباقي.
4574- ويليق بهذا المنتهى كلام ابن الحدّاد، قال: إذا غصب ثوباً قيمته عشرة، فأبلاه، ونقص بالبلى، ورجع إلى خمسة. ثم ارتفع سعر السوق، فصار الثوب البالي يساوي عشرة، ولو كان غير بالٍ، لكان يساوي عشرين، قال ابن الحدّاد: يرد الغاصب الثوب ويلزم عشرة. وهذا مأخوذ عليه، ومُغلَّطٌ فيه، وجوابه معدودٌ من هفواته، لم يصححه محقق، وإنما تابعه ضعفةٌ من الأصحاب لا مبالاة بهم.
ووجه الغلط أن البلى نقصان عين، فإذا رجع الثوب بالبلى إلى خمسة والسعر مستقر، فقد تلف نصف الثوب؛ فما يفرض بعد ذلك من ارتفاع سعر السوق، لا يؤثر فيما بلي، وتلف.
ولا خلاف أن من غصب ثوباً ثمنه عشرة، فتلف في يده، والقيمة عشرة، ثم هاج
السعر (1) ، فصار مثل ذلك الثوب مساوياً عشرين، فلا يلزم الغاصب إلا عشرة.
كذلك إذا تلف بالبلى أجزاءُ من الثوب، وانسحق، ثم ارتفع السعر، فلا أثر للسعر المرتفع (2) فيما بلي قبل ارتفاع السعر، فالوجه في صورة مسألة ابن الحداد أن يرد الثوب البالي، ويغرم خمسة دراهم. ومن ساعد ابنَ الحدّاد فتمسكه أن ما ينسحق من الثوب بالبلى، لا ينزل منزلةَ جزء من الثوب على التحقيق. بل هو حالّ محلَّ الصفات. وهذا ساقط من الكلام لا أصل له؛ فإنَّ البلى يُزيل من جرم الثوب ما لا سبيل إلى إنكاره.
4575- ثم لو فرضنا الكلامَ في الصفات، وقلنا: عبد صانع يساوي مائة، فنسيَ الصنعةَ، ثم صار من يحسن مثل تلك الصنعة يساوي مائتين، فلا يلزم الغاصب بسبب ارتفاع السعر، بعد نسيان الصنعة مزيد.
وبيان ذلك أنه إذا كان يساوي مائةً، فنسي الصنعة في يد الغاصِب، وصار يساوي
__________
(1) (ت 2) : السوق.
(2) عبارة (ت 2) : إن لم يرتفع فيما بلي ارتفاع السعر.(7/197)
لأجل النسيان خمسين، ثم ارتفع السوق، فصار عند تعرف تلك الصنعة يساوي مائتين، فجوابنا أنه يرد العبد الناسي، ويغرَم خمسين درهماً. على القياس الذي ذكرناه في الثوب البالي.
وهذا ظاهرٌ إذا كان ارتفاع القيمة بعد نسيان الصنعة، ولأن (1) سببه الصناعة لا عين العبد، والله أعلم.
وذكر الشيخ أبو علي لصورة ابن الحدّاد عكساً، فقال: لو غصب ثوباً قيمته عشرة، فنقص بالسوق، ورجعت القيمة إلى خمسة، والثوب بحاله لم يتغير عن هيئته، ثم أبلاه، فرجع بالبلى إلى درهمين، فقد أتلف ثلاثة أخماس الثوب، فيلزمه قيمةُ ثلاثة أخماس الثوب بأقصى ما كان من يوم الغصب. ولقد كان عشرة، فثلاثة أخماسها ستة دراهم.
قال الشيخ: ذكر بعض من شرح الفروع (2) هذه المسألة، وتخبط في جوابها، فقال: إذا رجع الثوب بالسوق إلى خمسة، فأبلاه، فرجع إلى درهمين بالبلى، يلزمه ثلاثة دراهم؛ نظراً إلى حالة البلى. وهذا غلط لا يستراب فيه؛ فإنا نعتبر الأقصى من يوم الغصب إلى يوم التلف. ولقد كانت القيمة عشرة من قبل، فليكن الغرم بحساب العشرة؛ فإنَّه الأقصى.
ومسألة ابن الحدّاد مصورة فيه إذا بلي، ثم ارتفع السوق، وهاهنا كان السّوق مرتفعاً قبل البلى.
فهذا منتهى المراد في ذلك. وما ذكرناه فيه إذا انتقص عينُ (3) الثوب.
4576- وقد يتصل بهذا تغايير تلحق الصّفات بالزوال والعود، ونحن نستقصيها ونذكر ما فيها.
__________
(1) في (ت 2) : "وكان".
(2) الفروع: اسم كتاب لابن الحداد. عني بشرحه كثير من أئمة المذهب وأعلامه قبل السنجي المتوفى سنة 430 هـ وبعده نذكر منهم: القفال المروزي (ت 417 هـ) ، أبو إسحاق الإسفراييني (ت 418هـ) ، أبو بكر الصيدلاني (نحو 427 هـ) ، أبو الطيب الطبري (450 هـ) والقاضي حسين (465هـ)
(3) (ت 2) : عن.(7/198)
فمن الصفات: السّمن، والحسن، والصنعة، فإذا غصب جارية سمينة، فهزلت نقصت قيمتُها، ردّها هزيلة، وضمن النقصان. وكذلك إذا غصب عبداً صانعاً، فنسي الصنعة.
ولو غصب جارية هزيلة، فسمنت في يده، ثم هُزِلَت، وكانت ازدادت بالسمن الطارىء، ثم نقصت بالهزال، فيردها ويغرَم النقصانَ، ولا فرق بين السمن الطارىء، وبين السمن المقارن (1) للغصب.
وكذلك لو غصب عبداً، فتعلم صناعةً في يد الغاصب، ثم نسيها، ردّه مع أرش نقصان الصنعة.
ولو تكرر عَوْدُ السّمن، وتخلل الهزال بأن كانت سمينةً أولاً، ثم هزلت، ثم سمنت، فردها سمينةً كما كان غصبها، فهل يغرم نقصان الهزال المتخلل بين السمنين؟ أم يجبر السمن الهزالَ، وتقدر كأنها بقيت سمينة؟ ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن السمن لا يجبر الهزال (2) ، ويجب على الغاصب مع رد الجارية أرشُ نقصان الهزال. والسبب فيه أنّ كل سمن مغايرٌ للسمن السابق، فإذا زال السمن الأول، استقر أرش النقصان. والسمنُ الثاني زيادة جديدة. وكذلك القول لو تكرر السّمن مراراً، فيجب في كل هزال أرشُ نقصه.
والوجه الثاني - أن السمن الثاني يجبر الهزال؛ فإنه في عرف الناس يعد بدلاً عن السمن الزائل، حالاً محله، كأنه لم يزُل أول مرة. ومن سلك مسلك الجبران يقول: لو سمنت مراراً كثيرة، ثم عاد السّمن آخراً، وردّها سمينةً، لم يغرم شيئاً، وإن ردها هزيلة، لم يغرم نقصان الهزال إلا مرةً واحدةً، فإن ردّت سمينة، فلا أثر لما مضى، وإن ردّت هزيلة، فالضمان مرة.
والأصح مذهب التكرير: فلو غصب جارية هزيلة قيمتها مائة، فسمنت حتى بلغت قيمتها ألفاً، ثم هُزِلت، فعادت إلى مائة، ثم سمنت حتى بلغت ألفاً، ثم هُزِلت حتى
__________
(1) (ت 2) : المقارب.
(2) (ت 2) : "السمن" وهو سبق قلم.(7/199)
عادت إلى مائة، فردها هزيلة، فإنه يرد معها ألفاً وثمانمائةٍ، وإن تلفت غرِم ألفاً وتسعمائة.
ولو فرضنا مثلَ ما ذكرناه في الصنعة وطريان نسيانها وعَوْدها، فقد رتب الأئمة ذلك على عود السمن، وجعلوا عودَ الصنعة أولى بالجبران؛ فإن السمن زيادةٌ في الجسم محسوسة، فإذا تكررت كانت متعددة، والصنعة إذا نسيها العبد، ثم تذكرها عُدَّ ما تخلل كالغفلة، والنوم، والذهول، ولا يعُد أهلُ العرف تذكرَ الصنعة شيئاً متجدداً.
4577- ثم كل ما ذكرناه من العود والزوال جارٍ في اتحاد الجنس، فلو اختلف الجنس، لم يختلف المذهب في أنه لا جبران، وبيانه أنه لو كان سميناً، وقيمته لأجل السمن ألف، فهُزِل وصار يساوي مائة، فتعلم صنعةً بلَّغت قيمتَه ألفاً، ورده صانعاً هزيلاً؛ فإنه يغرم نقصان الهزال، وهو تسعمائة. وكذلك لو فرضنا صنعتين مختلفتين، فلا تجبر إحداهما الأخرى أصلاً.
4578- وذكر الأئمة في ذلك صوراً تهذب ما ذكرناه، فقالوا: لو غصب نُقرةً، فصاغ منها حلياً، ثم كسره وصاغه ثانياً، نُظر، فإن صاغه على هيئةٍ أخرى سوى الهيئة الأولى، فلا جبران. وإن أعاده إلى الهيئة الأولى، ففي الجبران وجهان: قال صاحبُ التلخيص: من غصب من جوهر الزجاج ما قيمته درهم، ثم إن الغاصب اتخذ منه قدحاً يساوي عشرة، ثم انكسر في يده، وكان مكسوراً يساوي درهماً، فيرد الزجاج مكسوراً، ويرد تسعةَ دراهم؛ فإن تلك الزيادة قد حدثت في يده، وتعلق الضمان بها، وإن حصلت بفعله. ولو أعاد (1) ذلك الزجاج المكسّر قدحاً، فإن كان على هيئة القدح الأوَّل، فهو على الوجهين، وإن أعاده إناء آخر، فلا جبران.
ومن أحكم هذه الأصول التي مهدناها، لم يخف عليه هذه التفاريع.
فرع:
4579- إذا غصب عصيراً، فاستحال في يده خمراً، فجاء المغصوب منه مطالباً (2) ، غرّمه مثلَ العصير؛ فإن الخمر التي صادفها ليست مالاً. ولو انقلبت الخمر في يد الغاصب خلاً، فقد ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنه يرد الخل على
__________
(1) (ت 2) : كان.
(2) (ت 2) : يطلب.(7/200)
المغصوب منه (1) ، ويغرم له مثلَ عصيره؛ فإنّ العصير تلف لما انقلب خمراً، فاستقر وجوب (2) مثله، ثم استحالت الخمر خلاً، فهو فرع أصلٍ للمالك، فصرف إليه، وعُد رزقاً جديداً. وهذا يتأيد بما مهدناه من بطلان الجبران عند اختلاف الصفات، فالخل على هذا لا يجبر العصيرَ. هذا أحد الوجهين.
والوجه الثاني - أنه يرد الخل، فإن كانت قيمتُه مثلَ قيمة العصير، فلا ضمان على الغاصب؛ إذ لا أرش، فلو غرّمناه لكنا نغرمه مثلَ العصير، كما قال القائل الأول، وهذا مجاوزة حد، وليس كما إذا بقي (3) الملك في المغصوب وتَعاوَرَتْه الصفات.
وسنذكر لذلك مثلاً في أثناء الكتاب عند مسيس الحاجة على مقتضى ترتيب الفصول، إن شاء الله تعالى.
ولم نذكر في هذا الفصل الجامع تفصيلَ المذهب في الزيادات المنفصلة؛ فإنا أحببنا حصر الكلام في التغايير التي تختص بالعين، ولا تعْدُوها. وسنذكر في الفصل الذي يلي هذا الفصلَ الزوائد المنفصلة، إن شاء الله تعالى.
فصل
قال: "وكذلك هذا في البيع الفاسد ... إلى آخره" (4) .
4580- أراد بالبيع الفاسد هاهنا بيعَ الغاصب المغصوبَ. والبيوع الفاسدة قسمان: فبيع من المالك يفسدُ بشرط فاسدٍ، وبإخلالٍ بشرط معتبر، فالمبيع (5) في مثل هذا البيع لا يدخل في ضمان المشتري إلا إذا أُقبض. ثم إذا أُقبض، فالمقبوض مضمون عليه ضمانَ العاريّة على المستعير، وقد فصلنا ذلك، غير أنه ينفصل عن المستعار بشيء، وهو أنا إذا حكمنا بأن العاريّة لا تضمن ضمان الغصوب، ففي
__________
(1) (ت 2) : له.
(2) ساقطة من (ت 2) .
(3) (ت 2) : أبقى.
(4) ر. المختصر: 3/37.
(5) (ت 2) : فالبيع في مثل البيع.(7/201)
الوقت المعتبر وجهان: أحدهما - أنه وقت القبض. وهذا مزيف عند المحصّلين في العارية. والثاني - أنه وقت التلف، وهو الصحيح؛ فإنّه في اعتبار وقت القبض إدخال الأجزاء التي تسحق بالبلى تحت الضمان، وإذا اعتبرنا يوم التلف، خرجت الأجزاء عن الاعتبار. ونخرّج في المقبوض على حكم البيع الفاسد الصادر من المالك قولاً في أنه يضمن ضمان الغصُوب، أو يضمن من غير تغليظٍ. فإن قلنا: لا يضمن ضمان الغصوب، فالأصح أنه يعتبر يوم القبض؛ إذ ليس في هذا ما أشرنا إليه في العاريّة من ضمان الأجزاء.
وذكر شيخي في المقبوض عن البيع الفاسد أنه يضمن بقيمته يومَ التلف. ولم أرَ هذا لغيره.
فهذا ما تفترق فيه العاريّة والمقبوض على حكم البيع الفاسد.
ثم لو فرض ولدٌ في يد القابض عن الفاسد، فضمان الولد خارج على القولين، كما ذكرناه في ولد العاريّة. وضمان المنفعة أيضاً يخرّج على القولين، يعني منفعة تلفت (1) تحت اليد. فإن استوفاها المشتري، ضمنها لا محالة. وليس كالمستعير؛ فإنه مأذون له في الانتفاع. والمأخوذ بالسوم في كيفية الضمان كالمأخوذ عن البيع الفاسد من غير تفاوت. فالعاريّة إذا باينت هذه النظائر على قولنا: لا يثبت ضمان الغصب في الوقت المعتبر في القيمة، فلا شكَّ أنها تباين النظائر في المنافع؛ فإن وضعها لإباحة المنافع.
هذا قسم أجريناه، وليس مقصودَ الفصل، ولكن اشتمل التقسيم عليه، فذكرناه.
4581- فأمَّا المشتري من الغاصب، فالقول فيه يستدعي تقديمَ أحكامٍ في الغاصب نفسه، فنقول: الغاصب إذا وطىء المغصوبة، فلا يخلو إمّا أن يكونا عالمين أو جاهلين، أو أحدهما عالم، والآخر جاهل: فإن كانا جاهلين، فلا حد عليهما للشبهة، وعلى الغاصب المهرُ للمالك: إن كانت ثيباً التزم مهر ثيب، وإن كانت بكراً، فلا شك أن الوطء يتضمن إزالة البكارة والبكارة لو أزيلت بخشبةٍ أو أصبع،
__________
(1) (ت 2) : تخلفت.(7/202)
فعلى المزيل الأرش. ثم لو فرض الوطء بعد ذلك، تعلق به مهر ثيب. فإن أزال الغاصبُ البكارة بالوطء، فقد جنى، ووطىء. فالتفصيل فيه أن يُنظر: فإن كان مهرُ بكرٍ لو ضبط مبلغه، ثم قيس به أرش بكارة ووطء تلك بعد الثيابة، لما اختلف المقدار، فلا فرق بين أن يقول القائل على الواطىء مثلُ مهر بكرٍ، وبين أن يقول: عليه أرش العُذرة ومهرُها بعد الثيابة؛ فالإجمال والتفصيل في هذا سواء. وما عندي أنه يتصور في هذا تفاوت.
فإن فرض فارض تفاوتاً، وكان إفراد المهر عن الأرش أكثر من مهر بكرٍ، فيجب على الغاصب التزامُ تلك الزيادةِ لا محالة. فإنّ باب ضمان الغاصب على التغليظ وإيجابِ الأقصى.
4582- وإن وطىء الجارية وأحبلها، والمسألة مفروضة في الجهالة، فالولد ينعقد حراً. ثم إن انفصل حياً، فعليه قيمةُ الولد وقت انفصاله، فنقدره رقيقاً ونوجب قيمتَه؛ فإنه باغتراره فوَّت الرق، فكان كما لو فوت الرقيق. هذا إذا انفصل حياً.
فأما إذا انفصل ميتاً، فلا يخلو: إمَّا أن ينفصل بنفسه ميتاً من غير جناية جانٍ، أو ينفصل بتقدم جناية يُحمل الانفصال عليها. فإن انفصل بلا جناية، فلا ضمان أصلاً؛ فإنه لم تتحقق جناية، ويجوز أن الروح لم تنسلك فيه. ولو كان رقيقاً، لكان لنا فيه تفصيل، كما سنذكره في ضمن التقاسيم. وعند ذلك نفصل بين الحر والرقيق إذا انفصل بجناية جانٍ، فيجب على الجاني والجنينُ حر مسلم غرَّةٌ: عبدٌ أو أمة، كما سيأتي في آخر الديات، إن شاء الله تعالى.
ثم يجب الضّمان على الغاصب؛ لأن الجنين انفصل مضموناً، فلم يكن كما إذا انفصل من غير جنايةٍ ميتاً. والعبارة عن غرضنا في ذلك: أن الجنين إن يقوّم له، يقوم عليه؛ فإن الأبدال تحل محل المبدلات، وتخلُفها عند عدمها، فكأن الجنين انفصل حياً إذا استعقب خروجه ضماناً، فإذا ثبت أصل الضمان، فالنظر بعد ذلك في المقدار الذي يضمنه الغاصب للمغصوب منه.
4583- وقد اختلفت الطرق في ذلك، ونحن نذكر طريقةً مرضية، ونتخذُها(7/203)
أصلاً، ونزيدُ فيها ما يخالفها من غيرها من الطرق، حتى ينتظم الكلام، مع استغراق مقصود الطرق، فنقول:
ننظر إلى قيمة الغرة، وننظر إلى عشر قيمة الأم؛ فإن الجنين الرقيق يضمن بعشر قيمة الأم، فإن كانا سواء، ضمن الغاصب عشر قيمة الأم.
وإن كانت قيمة الغرة (1 أكثر، ضمن عشر قيمة الأم، والفاضل من قيمة الغرة له 1) ؛ فإنه ثبت لحرية الولد المنتسب إليه، ولا حظ للمغصوب منه في الفضل الذي تقتضيه الحرية.
وإن كانت قيمة الغرة أقلّ (2) من عشر قيمة الأم، ففي المسألة وجهان: أصحهما - أنّ الغاصب لا يغرَم إلا مقدارَ قيمة الغرة؛ لأنا لو ألزمناه إكمال العشر، لكان الزائد إلى كمال العشر غير متقوّم للغاصب، وما لا يتقوم له، لا يتقوم عليه، فإذا كان سبب الغرم وجوب الغرم على الجاني؛ فإيجاب ما لم يغرمه الجاني بعيد.
والوجه الثاني - أنه يجب عشر قيمة الأم وإن زاد على قيمة الغرة؛ لأنا أحللنا انفصال الجنين ميتاً مضموناً محل انفصاله حياً، وقضينا بأن بدله حل محله، فليكن ما نحن فيه بمثابة ما لو انفصل حياً في أصل الضّمان. ثم لا يمكن تقدير الحياة في المنفصل ميتاً. هذا بيان الطريقة المرضية. ذكرها القاضي، والعراقيون.
وذكر شيخي أبو محمد هذه الطريقة، غير أنه لم يعتبر عشرَ قيمةِ الأم، بل قدر الحياة في الذي انفصل ميتاً، واعتبر قيمته مقدَّراً رقيقاً، ثم نظر في قيمة الغرة وهذه القيمة، ولم يعتبر عشر قيمة الأم. وهذا غير متجه؛ من جهة أن تقدير الحياة في الذي لم يعهد حياً، لا يلائم مذهب الشافعي. وأبو حنيفة هو الذي اعتبر ذلك في الجنين الرقيق.
وهذا الاختلاف في عشر قيمة الأم، واعتبار حياة الجنين مع تقدير رقّه يلتفت على أصلٍ، قدمناه، وسنعيده بعد ذلك. وهو أن ما يتلف في يد الغاصب من عضوِ (3) بآفةٍ
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2) .
(2) (ت 2) : أكثر.
(3) (ت 2) : غصوب.(7/204)
سماويةٍ، أو بجناية جانٍ غير الغاصب، فهل يعتبر في حق الغاصب البدلُ المقدر في حق الجاني؟ فعلى وجهين، سبق ذكرهما، وسيعود تحقيقهما في فصلٍ متصلٍ بهذا الفصل.
فإيجاب العشر من قيمة الأمّ إيجاب المقدار الواجب على الحياة، فهذا من هذا الوجه يشعر بخلافٍ. ولكن يعارضه، أن تقدير الحياة في الجنين لا ينتظم على مذهب الشافعي أصلاً. فهذا تمام الغرض.
وفي بعض التصانيف غلطة فاحشة، وهي أنه حكى أن بعض الأصحاب قال: يغرَم الغاصب للسيد أكثرَ الأمرين، من قيمة الولد، وقيمة الغرة. أما القول في قيمة الولد فقد ذكرناه، وأما إيجاب الأكثر، فخطأ لا نشك فيه، فإن معناه أن قيمة الغرة إن كانت زائدة على بدل الجنين المقدر رقيقاً، وجب تسليمها بكمالها إلى السيد، وهذا محال؛ فإن تلك الزيادة ثبتت بسبب الحرية، وما ثبت بسبب الحرية يستحيل أن يستحقه مالك الرق.
هذا منتهى الكلام في قاعدة الفصل.
4584- ثم المسألة مفروضة فيه إذا كانت الغرة مصروفةً إلى الغاصب؛ من جهة أنه أبُ (1) الجنين، ولم يكن معه وارث. فلو غصب الجارية وأحبلها، ومات، وخلف أباً، هو جد الجنين، فضرب ضارب بعد موت الأب الغاصب الجاريةَ، وأَجْهَضَتْ جنيناً ميتاً، فالغرة مصروفةٌ إلى الجدّ. قال القاضي: يجب عليه في ضمان الجنين للمالك ما كان يجب على الغاصب لو كان حياً. والسبب فيه أن ضمان الجنين للمالك، إنما يجب بسبب وجوب الغرة، فمن يملك الغرة، يلتزم الضمان. فكأن القدر المطلوب مستحق من الغرة للسيد المغصوبِ منه.
ثم قال القاضي: لو كان مع الأب الغاصب جدة وارثة، وهي أم الأم، ونفرضها حرة لترث، فالسدسُ من الغرة لها. قال: ننظر إلى خمسة أسداس الغرة، وإلى عشر قيمة الأم، ونجعل كأن السدس المصروف إلى الجدة غيرُ ثابت، والخمسة الأسداس نازلةً منزلة الغرة كلها. هذا كلامه.
__________
(1) يجوز في (أب) هذا الاستعمال -على ندور- ومشهورٌ ذائعٌ على الألسنة: "ومن يشابه أبه، فما ظلم".(7/205)
ولا شك أن إخراج السدس عن الاعتبار يقتضي قياسُه إخراجَ الجد (1) عن الضمان؛ من جهة أنه لم يغصب، ولم يصدر منه سبب يقتضي ضماناً. ومسألة الجد في جميع الغرة، والسدس في حق الجد [محتملان] (2) . يجوز أن يقال: لا ضمان على الجد، وقد فاز بالغرة إرثاً، ولا يتعلق الضمان بالسدس المصروف إلى الجدّة. ويجوز أن يقال: يتعلق الضمان بالغرة في مسألة الجد وسدس الغرة المصروف إلى الجدة؛ فيتبع الضّمانُ الغرةَ، وإذا رأينا أن لا يضمن الجد، فهل يحبط الضّمان، أو نعلقه بتركة الغاصب؟ هذا فيه احتمال. والظّاهر إتباع الضمان الغرةَ، وطرْد هذا القياس في السدس المصروف إلى الجدة.
وممَّا يتعلق بتمام البيان في ذلك أن الغرة إذا وجبت على الجاني، والأبُ الغاصب حي، ولا وارث معه، فلو عسر عليه استيفاء الغرة من الجاني، فهل يجب عليه تعجيل حق المغصوب منه، أو يتوقف على أن يستوفي الغرة؟ هذا محتمل، وهو قريب من الاختلاف الذي ذكرناه في أن قيمة الغرة لو كانت أقل من عشر قيمة الأم، فهل يجب على الغاصب التكميل؟ فإن أوجبنا التكميل، لم يبعد أن نوجب التعجيل، وإن لم نوجب التكميل، لم نوجب التعجيل.
والذي يقتضيه الرأي أن الأمر لا يتوقف على استيفاء الغرة، إذا كان استيفاؤها متيسراً، وإنما التردد فيه إذا تحقق عسر استيفائها.
وممَّا يجب أن لا يغفل عنه إيجاب ما تنقصه الولادة ضماً إلى المهر، وموجب الجنين إن أوجبناه. اتفق المحققون على ذلك في الطرق.
ولكن هذا فيه إذا كان الرجل جاهلاً وكانت الأمة جاهلة، وقد يتصور ثبوت اليد المضمنة ضمان الغصوب من غير علم.
4585- وإن كانا عالمين بالغصب والتحريم، فوطئها، نظر: إن كانت مستكرهة مضبوطة (3) ، وجب المهر على الغاصب المستكرِه، وإن كانت مطاوعة مع العلم
__________
(1) (ت 2) : إخراج السيد الجد.
(2) في الأصل: محتمل.
(3) مضبوطة: أي مقهورة. (معجم) .(7/206)
بالتحريم، فظاهر النص أنه لا يثبت المهر؛ فإنها مسافحة تلفت منفعة بُضعها على وجه السفاح منها، فكانت ساقطة الحرمة، مندرجة تحت نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن مهر البغي.
وذكر طوائف من أصحابنا وجهاًً آخر أن المهر يجب للسيد؛ فإن سبب سقوط مهر الحرة الزانية بذلُها بضعها، وبذلُ الأمة لا يحبط ملكَ السيد، كما لو أباحت قتلَ نفسها، أو أباحت طرفاً من أطرافها.
4586- ولو كانت جاهلةً وكان الواطىء عالماً بالتحريم، وجب المهر، كما لو كانت مستكرهةً. ثم إذا أولدها الغاصب العالم بالتحريم، فالولد لا ينتسب إليه؛ فإنه ولد زنا، وإن كان كذلك، لم ينعقد حراً؛ إذ لا حرمة لمائه، فالولد إذاً رقيق، فإن انفصل حياً، كان لمالك الأم، وهو داخل في ضمان الغاصب، يضمنه ضمان الأم، خلافاًً لأبي حنيفة (1) .
ولو انفصل ميتاً من غير جناية جانٍ، فظاهر المذهب أن الغاصب لا يضمن شيئاًً للمغصوب، كما لو انفصل الولد حراً ميتاً، فإنه لا ضمان، بخلاف ما إذا انفصل حياً.
وذهب بعض أصحابنا إلى إيجاب الضّمان في الولد الرقيق المنفصل ميتاً، وهذا القائل يطلب فرقاً بين انفصال الجنين الحر ميتاً، وبين انفصال الجنين الرقيق ميتاً، وغايته أنا لم نعلم حياة واحد من الجنينين، واختص الجنين الحر بأنّه لم تثبت اليد عليه، واليد تثبت على الجنين الرقيق تبعاًً للأم، وتعلق الضمان به صفةً وتبعاً، فلئن انفصل ميتاً، لم يبعد إيجابُ الضّمان.
والأصح عندنا أن لا ضمان؛ لأنا لم نتحقق سبب الضمان؛ إذ سببه فوات رقيق تحت يدي الغاصب. والذي لم يتحقق انسلاك (2) الروح فيه، لم يتحقق رقه؛ فإن الرقيق هو الحي.
فإن قلنا: لا ضمان، فلا كلام. وإن قلنا: يجب الضمان، فقد صرح شيخي بأنا نعتبر قيمة الجنين لو قدر حياً. وقد ذكرنا غائلة هذا الفصل؛ فإن إيجاب القيمة باعتبار
__________
(1) ر. المبسوط: 11/70، حاشية ابن عابدين: 5/130.
(2) في (ت 2) : انسلال.(7/207)
حياةٍ لم تعهد بعيد عن التحصيل. وما يقتضيه قياس طريق القاضي إذا أوجبنا الضمان، فنوجب عشر قيمة الأم؛ فإنّ تقدير الحياة عسر، فالغاصب على وجه الضمان نجعله كالجاني الذي يترتب على جنايته الإجهاض.
هذا تفصيل المذهب فيه إذا كانا عالمين بالتحريم، أو كان الغاصب الواطىء عالماً بالتحريم.
فأمّا إذا كان الغاصب جاهلاً بالتحريم، وكانت الأمة عالمةً بالتحريم، فهي زانية محدودة. وقد ذكرنا وجهين في أنه هل يجب مهر الأمة إذا كانت زانية. فأما إذا علقت بمولودٍ، فهو حر، نظراً إلى قيام الشبهة في حق الواطىء. ثم القول في انفصاله حياً وميتاً من غير جنايةٍ أو بجنايةٍ على التفصيل الذي ذكرناه الآن.
4587- ولو غصب بهيمةً، فحبلت، وانفصل ولدها حياً، فهو داخل في ضمان الغاصب. وإن انفصل ميتاً، ففي المسألة الخلاف الذي حكيناه؛ فإن لم نوجب الضمان، ولم تنتقص الأم، فلا كلام. وإن أوجبنا الضمان، فلا طريق إلا إيجابُ ما انتقص من قيمتها إذا كانت حاملاً. ويخرج من ذلك أن الخلاف لا يظهر أثره في البهيمة، فإنا إذا كنا نعتبر ما ينقص من قيمتها، [نظرنا] (1) : فإن كان ينقص من قيمتها وهي حامل شيء، فيجب القطع بإيجاب ما نقص. وإن كان لا يَنقُص وهي حامل شيء، فلا وجه لإيجاب شيء. و [إنما] (2) انتظم الخلاف في الأمة؛ من قِبل أنا على الطريقة المرضية اعتبرنا مقابلة الجنين بعشر قيمة الأم، ولم نلتفت إلى نقصان الجارية، ولا يتحقق مثل ذلك في جنين [البهيمة. فإن رأينا في جنين] (3) الأمة أن نقدره حياً، ونوجب قيمته بتقدير الحياة، فيتجه مثل هذا في جنين البهيمة، فنقدره حياً عقيب الانفصال. ونوجب قيمته اعتباراً بتلك اللحظة، وهذا بعيد كما ذكرناه.
ثم اعتمد أئمتنا في [اعتبار] (4) ضمان الغصب بولد المغصوبة إذا انفصل حياً حراً،
__________
(1) في الأصل: نُظر.
(2) في الأصل: وإن.
(3) ساقط من الأصل.
(4) في النسختين: اتصال. والمثبت من هامش الأصل.(7/208)
فقالوا: اليد [تُضَمِّن] (1) كالإتلاف، ثم التلف يقع على وجهين: أحدهما - المباشرة، والثاني - التسبب، فلتنقسم اليد هذا الانقسام، حتى يقال: التسبب إلى اليد بما يعدّ في العرف سبباً إذا أفضى إلى حصول الشيء تحت اليد، ينزل منزلة مباشرة اليد. ثم قالوا: من اقتنى قطيعاً عُد متسبباً إلى إثباتِ اليد على الأولاد، فاُلزِم الأصحاب ما إذا غصب بقرة، فتبعها الفحل، أو غصب هادي القطيع، فتبعه القطيع، فذكر الأئمة وجهين في أن هذا هل يكون تسبباً إلى إثبات اليد على الفحل والقطيع؛ حتى نقضي بأن حركتها في صوب الهادي كحركتها في الصوبِ الذي يريده من استاقها؟ وفي المسألة احتمال. [والوجه] (2) المنع إذا سلكنا هذه الطريقة. وقد ذكرنا في الأساليب (3) طريقةً معتمدة سوى التسبب إلى اليد. وتيك أمثلُ عندنا.
4588- هذا بيان أحكامٍ أردنا تقديمها في حق الغاصب، ونحن الآن نبني عليها مقصودَ الفصل، وهو الشراء من الغاصب، وما يتعلق به فنقول:
من غصب عبداً وباعه من إنسان، وأقبضه إياه، فلا يخلو المشتري من الغاصب إما أن يكون عالماً بحقيقة الحال، أو جاهلاً.
فإن كان عالماً، فحكمه إذا قبض من الغاصب عن هذه الجهة كحكم الغاصب من الغاصب، غيرَ أنه دفع الثمن إلى الغاصب، فيرجع فيه ويستردّه.
ثم من غصب من الغاصب، ضمن ما غصبه من يوم الاستيلاء إلى الفوات، إن قُدّر الفوات، فيضمنه بأقصى قيمته من يوم غصبه إلى أن تلف في يده، ولا يضمن ما تقدم على غصبه ممّا جرى في يد الغاصب الأول.
وبيان ذلك أن الأول لما غصب العبد، كان قوياً سليماً مساوياً ألفاً، لسلامته عن العيوب، ثم عاب في يد الأول، وعادت قيمته إلى خمسمائةٍ. وغصبه الثاني، فلا يطالب الثاني بالزيادة التي كانت في يد الغاصب الأول فعابت. ولو فرضت زيادة في يد الغاصب الثاني. فلا شك أنه مطالب بها.
__________
(1) في الأصل: (مضمن) .
(2) في الأصل: والأوجه.
(3) الأساليب: اسم كتاب لإمام الحرمين.(7/209)
ثم الغاصب الأول يطالب [بما يطالب] (1) به الغَاصب الثاني؛ فإنَّ غصبه طريقٌ إلى غصب الثاني. والغاصب الثاني لا يطالب بزيادةٍ كانت في يد الأول؛ فإن ضمان الغصب يستحيل أن يسبق الغصب منعطفاً على سابقٍ. ولو تلفت العين في يد الثاني، فقرار الضّمان في التالف عليه، وللمغصوب منه أن يضمن من شاء منهما: فإن ضمّن الثاني، استقر الضمان عليه، وإن ضمّن الأولَ ما دخل في ضمان الثاني، رجع به الأول على الثاني. وإن ضمن الأول ما اختص الأول بضمانه، ولم يدخل في ضمان الثاني، فلا شك أنه لا يجد مرجعاً به على الثاني.
هذا كله إذا كان المشتري من الغاصب عالماً بحقيقة الحال.
4589- فإن كان جاهلاً، وقد اشترى جاريةً مغصوبة، فإن وطىء، فلا حدّ، ووجب المهر، وإن علقت بولد، فهو حر. والتفصيل في وجوب الضّمان إذا انفصل حياً، ونفيِه إذا انفصل ميتاً من غير جنايةٍ، والعوْد إلى إثبات الضمان إذا انفصل ميتاً بجناية جانٍ، وما فيه من التفصيل، كما مضى حرفاً حرفاً، في الغاصب نفسه إذا جهل التحريم. ويعود تفصيل القول في الجارية ومطاوعتها، وجهلها، وجريان الاستكراه منها (2) .
ومما نذكره الآن أن المشتري إذا وطىء على الجهالة مراراً، لم يلزمه إلا مهرّ واحد، وكذلك من نكح امرأةً نكاحاً فاسداً، فوطئها مراراً، لم نُلزمه إلا مهراً واحداً، وكذلك إذا صادف على فراشه امرأةً وظنها زوجتَه، فوطئها. والسبب فيه أن المقتضي للمهر الشبهةُ وهي متحدة، ولو انكشفت الشبهة بعد جريان الوطء فيها، ثم عاد وجرى وطء آخر في الشبهة الثانية، فحينئذٍ يتعدد المهر، لتعدد الشبهة. ولو كان يطأ الغاصب المغصوبة على علم، وكانت مستكرهة، أو مطاوعةً، ورأينا أن نوجب المهر، فلو تعدد الوطء من غير شبهةٍ، فقد كان شيخي يتردد في تعدد المهر، ولا معنى للتردد عندنا، بل الوجه القطع بأن في كل وطأةٍ مهراً؛ فإن موجِب المهر
__________
(1) سقطت من الأصل.
(2) (ت 2) : فيها.(7/210)
إتلافُ منفعة البضع، لا شبهةٌ تطّرد. وهذا المعنى متعدد.
ثم ينشأ مما ذكرناه لطيفةٌ في المذهب يقضي الفقيه العجبَ منها، وهي أن الغاصب، أو المشتري من الغاصب إذا وطىء على شبهةٍ، و [ظنٍّ] (1) في التحليل، فيظهر تعدد المهر، إذا قلنا: المهر يتعدد مع العلم بالتحريم؛ فإن موجِب المهر الإتلافُ، ولا حاجة إلى إحالته على الشبهة، والإتلافُ متعدد. وإنما يظهر اعتماد اتحاد الشبهة، حيث لا يجب المهر لولا الشبهة. وهذا واضحٌ لا خفاء به.
4590- ثم إذا تلف العين المغصوبة في يد المشتري، استقر عليه الضّمان في قيمتها. والكلام يقع وراء ذلك فيما يرجع به المشتري -إذا ضمنه- على الغاصب البائع، وفيما لا يرجع به. وهذا مقصود فصل الشراء. فنقول:
أما العين إذا تلفت (2) في يد المشتري، وغرم قيمتها، فإنه لا يرجع بما غرِم على البائع، والسبب فيه [أنه] (3) قبض المبيع على اعتقاد أنه قابضه على حكم الضمان؛ فإن البيع عقد ضمانٍ.
وأمّا ما يلتزم من قيمة الولد الذي حصل العلوق به على الحرية، فإنه يرجع به على الغاصب باتفاق الأصحاب.
وإذا غرم المهر لما وطىء، فهل يرجع بالمهر الذي غرِمه على الغاصب، فعلى قولين، ونحن نرسل موضع الوفاق والخلاف، ثم ننعطف، فنحقق كل شيء على حسب ما يليق به.
وإذا غرم المشتري أجرة المنافع، نُظر: فإن غرمها لأجل اليد، وما كان استوفى المنفعة؛ فإنه يرجع بما يغرمه من الأجرة، وإن استوفى المنفعة وغرِم أجرتَها، ففي رجوعه على الغاصب القولان اللذان ذكرناهما في المهرِ.
فهذان بيان قواعد المذهب فيما يرجع به، وفيما لا يرجع به، وفاقاً وخلافاًً، من طريق النقل.
__________
(1) في الأصل: وطء.
(2) في النسختين: (تلف) والذي نعرفه وجوب تأنيث الفعل إذا كان الفاعل ضميراً.
(3) في الأصل: أن.(7/211)
4591- وبيان هذه المنازل من طريق التحقيق أن كل ما يقابل العوضَ المبذولَ في الشراء، فالضمان فيه يستقر على المشتري إذا تحقق الفوات، وما لا يقابله عوض الشراء ينقسم إلى ما يستوفيه المشتري، وإلى ما يفوت في يده من غير استيفائه، فأما ما يفوت من غير استيفاء، وليس مقابلاً بالعوض، فإذا غرِمه، رجع به. والسَّبب فيه أنه لم يتلف مضموناً بالعقد لو قُدِّر العقدُ صحيحاً؛ إذ المنافع ليست معقوداً عليها في شراء العين، وكل ما لا يقابله عوض العقد لا يدخل في ضمان العقد.
والذي يحقق ذلك أن من اشترى شيئاً شراء صحيحاً، وانتفع به زمناً، ثم اطلع على عيبٍ ورده؛ فإنه لا يرد لمكان فوات المنافع شيئاً. وكل قبض لا يترتب على جهة ضمانٍ، فلا يكون سبباً لقرار الضّمان؛ فإن الغاصب إذا أودع شيئاًً عند إنسانٍ، فقبله المودَع ظاناً أنه مالك الوديعة، وتلف في يده؛ فإنه إذا ضمن، لم يستقر الضمان عليه. بخلاف ما لو استعار من الغاصب على جهلٍ، أو أخذ منه عيناً على سبيل السوم كذلك؛ فإنه إذا تلف (1) في يده، والجهة جهة ضمانٍ في وضعها، فالضمان يستقر.
وكل ما لا يقابل عوضاًً في الشراء، ولكن أتلفه المشتري، واستوفاه، فتخرّج المسألة على قولين. والسَّبب فيه أن الإتلاف مستَقَر الضمان في وضع الشرع، ولكن البائع غرَّ المشتري، لما سلطه على الانتفاع، وإذا اجتمع الغرور، وإتلاف المغرور، فينتظم قولان: أحدهما - أن القرار على المتلِف، وهو القياس. والثاني - أن القرار على الغارّ. وسيأتي أصل ذلك فيه، إذا قدم الغاصب الطعام المغصوب إلى إنسان، وسلطه على أكله، فأكله ظاناً أنه ملك المقدِّم، فإذا غرِم قيمته للمالك، ففي رجوعه بما غرم على الغار قولان، سيأتي ذكرهما.
فإن قيل: هلا طردتم هذا الخلاف في قيمة الولد المنفصل حياً حراً؟ قلنا: [إنّ] (2) المغرور ليس ينتسب إلى حقيقة إتلافٍ في الولد، فيقوى وقعُ الغرور فيه؛ فإن سبب الحرية اغترار الواطىء الوالد، ولكن موقع هذا الاغترار الغار.
__________
(1) تلف: أي المأخوذ، أو الشيء. وإلا فالفعل واجب التأنيث إذا عاد الضمير على قوله (عيناً) .
(2) في الأصل: لأن.(7/212)
فهذا بيان القواعد.
4592- ثم ذكر صاحب التقريب أمراً بدعاً، لم أر ذكره على نسق المذهب، ولم أر الإخلال بما جاء به. قال: إذا اشترى عبداً بألفٍ، وقيمته ألف، وتلف في يده، فلا شك في إقرار الضمان عليه. ولو اشترى عبداً قيمته ألفان بألفٍ، وتلف في يده، وغرم ألفين، فلا يرجع بأحد الألفين، ويرجع بالثاني.
وهذا مما انفرد به من بين الأصحاب كافّة؛ فإن الأصحاب اعتبروا مقابلة العين بالثمن. فإذا تقرر ذلك، فلا نظر إلى قيمة العين بالغةً ما بلغت؛ فإن عُلقة الضّمان متعلقة بالعين.
وما ذكره صاحب التقريب على بعده يمكن أن يوجَّه بأن أحد الألفين في حكم المحاباة الخارجة عن حقيقة المعاوضة. ولهذا يعد تبرعاً في حق المريض، محسوباً من الثلث.
وإذا وهب الغاصب العينَ المغصوبة وسلمها، فتلفت في يد المتهب، ففي قرار الضمان على المتهب قولان، سنذكرهما بعد هذا، على نظم مسائل تقديم الطعام إلى المغرور.
وقال (1) : لو اشترى عبداً قيمته ألف بألفٍ، ثم زادت قيمته في يده، فصار يساوي ألفين وتلف في يده، وغرم أقصى القيم، فلا يستقر الضّمان إلا في مقدار الثَّمن من القيمة، ويرجع بالباقي. وهذا أبعد من الأول؛ فإن العقد عري عن انعقاده عن معنى المحاباة، وما جرى من زيادة لا تلحق العقد بالمحاباة التي ذكرناها. ولو اشترى رجل بهيمة، أو جارية من الغاصب، فولدت في يده ولداً جديداً، لم يكن موجوداً حالة العقد حملاً، ثم تلف في يد المشتري، فلا شك أنه يضمن قيمتَه، وإذا ضمنها، رجع بها؛ فإنّ هذا الولد لم يرد عليه العقد، ولم تشتمل عليه عهدتُه، ولهذا قلنا: ينفرد المشتري عن المالك على الصحّة به، ويردّ الأصل بالعيب.
4593- ومن تمام ما نحن فيه وهو من الطوام الكبار تفصيل القول فيه إذا عابَ
__________
(1) أي صاحب التقريب.(7/213)
المغصوب في يد المشتري بآفة، وغرِم أرش النقص للمغصوب منه، نظر: فإن عاب بفعل المشتري فإذا غرم أرشه، استقر الضّمان عليه، ولم يرجع به على الغاصب.
وقياس ذلك بيّن؛ فإنّ العين إذا كانت مضمونة عليه، فالأجزاء بمثابتها، فإذا كان يستقر الضمان في قيمة العين لو تلفت، فيستقر في النقصان اعتباراً للأجزاء بالجملة، وهذا ظاهرٌ في العيب الذي يحدثه المشتري.
فأما إذا حدث العيب بآفة سماوية، فقد قال الشافعي: إذا غرِم المشتري نقْصه، رجع به على البائع.
قال المزني: هذا خلاف أصله، لأنه قد قال: لو تلفت الجملة، فغرِم قيمتها، لم يرجع بها على الغاصب، والأجزاء حكمها حكم الجملة. وقد وافق المزني طوائفُ من الأصحاب. وإذا تصرف المزني على قياسِ مذهب الشافعي مخرِّجاً، كان تخريجه أولى بالقبول من تخريج غيره. فاتسق إذاً قولان: أحدهما - منصوص. والثاني - مخرّج، ووجه المخرّج لائح، كما ذكره المزني.
قال ابن سُريج: إن قلنا: يستقر الضّمان ولا يرجع، فالوجه ما ذكره المزني. وإن قلنا: يرجع ولا يستقر الضمان، وهو ظاهر النص، فوجهه أن العاقد يدخل في العقد على أنه يضمن الجملة دون الأجزاء؛ يدل عليه أنَّ المبيع إذا عاب في يد البائع، فليس للمشتري أن يغرّمه أرشَ العيب، بل له الخيار بين الفسخ وبين الرضا بالعيب، من غير استرداد شيء.
وكذلك لو باع رجل عبداً بثوب وأقبض العبدَ، وقبض الثوب، ثم اطلع على عيبٍ قديم بالثوب، والعبد قد عاب في يد من قبضه، فليس لصاحبِ الثوب أن يرد الثوب بالعيب ويسترد العبد، ويطلب أرش العيب الحادث، بل له الخيار بين أن يفسخ العقد بالعيب ويرضى به معيباً. وبين أن يرد الثوب ويرجع بقيمة العبد - هكذا نقله من يوثق به عن القاضي.
وليس الأمر كذلك عندنا، بل الوجه أن يرد الثوب، ويستردَّ العبد مع أرش النقص؛ فإن العبد في هذا المقام ليس مضموناً بالثمن، إنما هو مضمون بالقيمة.
ومعنى هذا الكلام أن العبد لو كان تالفاً، فصاحبُ الثوب يرد قيمة العبد. وإذ كان(7/214)
يستردّ جملة العبد سليمةً، وقيمتَها تالفة، فيسترد العبدَ معيباً، مع أرش العيب. وليس كالمبيع في يد البائع؛ فإنه مضمون بالثمن. (1 ولو تلف العبد، سقط الثمن بتلفه، ولا يقابل العيب منه بجزء من الثمن 1) بسبب أن رده واسترداد جملة الثمن ممكن.
والذي قاله القاضي ليس بعيداً عن الصواب، أيضاً؛ فإن الرجل إذا أصدق امرأته عبداً، فعاب في يدها، ثم طلقها زوجهاً قبل المسيس، واقتضى الطلاق تنصيفَ العبد، ورجوعَ نصفه إلى المطلِّق، فالزوج بالخيار بين أن يرجع في نصف قيمة العبد سليماً، وبين أن يرضى بنصف العبد معيباً، ولا يكلّفُها ضمَّ أرش النقص إلى نصف العين، فيجوز أن يقال: من يرد الثوب يجري على هذا المنهاج، في استرداد المعيب. وبين المبيع المسترد وبين الصداق فرقٌ، سنذكره في كتاب الصداق، إن شاء الله تعالى.
فإذاً أفاد ابن سريج مذهباً في مسألة الثوب والعبد، وبنى عليه تعليلَ نص الشافعي في المشتري من الغاصب، فإذا صح ما ذكره ابن سريج في مسألة الثوب والعبد، ابتنى عليه ما أراده من توجيه النصين. ثم قال ابن سريج مدلاً بما أورده: إن هذا معنى يلطف مدركه.
4594- ومما يتم به تفريع القول في التراجع: أن كل ما لو غرِمه المشتري، لرجع به على الغاصب، فإذا غرمه الغاصب، استقر الضمان عليه، وكل ما لو غرمه المشتري لم يرجع به على الغاصب، فلو وجه المالك الغرم فيه على الغاصب، كان له ذلك.
ثم إنه يرجع به على المشتري؛ فإنه لا يتصور قرار الضمان على شخصين على البدل.
4595- وممّا يختلج في الصدر أن الغاصب إن طولب بقيمة ما باع أو منفعته،
فقياسه بيّن. فأمّا مُطالبته بالمهر وليس منافع البضع مضمونةً بالغصب، وليس هو متلفاً لمنافع البضع، فإن الواطىء هو المشتري، فهل يطالَب الغاصب بالمهر؟ وكيف السبيل فيه؟ نقدّم عليه أن الجارية المغصوبة لو وطئها واطىء بالشبهة في يد الغاصب، ففي مطالبة الغاصب احتمالٌ، يجوز أن يقال: لا نطالبه لما نبهنا عليه. ويجوز أن
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2) .(7/215)
يقال: إنه يطالَب، لأن الأمر أفضى إلى الغرم، فيبعد فرض غرم في مغصوب لا تتعلق المطالبة فيه بالغاصب.
4596- فإذا تبين هذا، عدنا إلى غرضنا.
فإن قلنا: المشتري لا يرجع بالمهر على الغاصبِ، فمطالبة الغاصب بالمهر محتمل، وظاهر القياس أنْ لا يُطالب. فإن قلنا: المشتري يرجع على الغاصب بالمهر، إذا غرِمه، فتظهر مطالبة الغاصب حينئذ؛ من جهة أن مقر الضّمان عليه، وليس يبعد أن يقال: لا يطالبه المغصوب منه؛ فإن حكم الغصب لا يقتضي المطالبة بالمهر.
وهذا التردد في المهر ذكره صاحب التقريب على وجهه. وإنما الرجوع بسبب الغرور، وعُلقة الغرور مختصة بالمغرور، فليطالب المشتري الواطىء أولاً، ثم إنه يرجع بسبب الغرور على من غره.
4597- ومن تمام القول في ذلك أنَّ الغاصب لو أكرى العبدَ المغصوب من إنسان، [فاكتراه ذلك الإنسان] (1) على جهلٍ، فلو تلفت العينُ في يد المكتري، وغرَّمه المغصوب منه، رجع بالقيمة على الغاصب المكري، على طريقة المراوزة؛ من جهة أن العقد لم يتضمن ضماناً في العين المكراة؛ إذ معقود الإجارة [و] (2) مقصودُها المقابلُ بالعوض المنافعُ. وسنذكر للعراقيين في مسألة الإجارة كلاماً بعد هذا، إن شاء الله.
وإذا غرِم أجر مثل المنفعة، لم يرجع بما غرمه على الغَاصِب، سواء استوفاها، أو تلفت تحت يده؛ لأنه دخل في العقد على التزام العوض في مقابلة المنفعة.
فإن زوج الغاصب الجارية المغصوبة، وسلمها إلى الزوج، فلو تلفت تحت يد الزوج، فالقول في قيمتها، كالقول في قيمة العين المكراة.
وإن غرم أجر مثل المنافع، نُظر: فإن لم يستوفها، رجع بما غرم في مقابلتها على الغاصب؛ فإن عقد النكاح لا يرد على منافع البدن، فليست مقابلةً بالعوض. وإن
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) زيادة من (ت 2) .(7/216)
استوفاها، واستخدم الجارية، فما يغرمه في مقابلة ما استوفاه لا يرجع به على الغاصب قولاً واحداً. وليس كما لو اشترى الجارية المغصوبة، وانتفع بها؛ فإنَّ في الرجوع قولين مأخوذين من قاعدة الغرر. والفرق أن المشتري يتسلط على الانتفاع بالمبيع بتسليط البائع إياه؛ فإن عقد البائع إذا صح، اقتضى ذلك، وعقد النكاح إذا صح، لم يقتض تسليط الزوج على استخدام الزوجة.
وإذا غرِم المتزوجُ من الغاصب (1) المهرَ، لم يرجع به على الغاصب؛ لأنه دخل في العقد، على أن يقابل الوطء بالعوض، والمغرور بحرية زوجته وهي رقيقة إذا غرِم المهرَ، ففي رجوعه على الغار في النكاح الصحيح قولان. والفرق أنه مَلَكَ منافعَ البُضع، وَبذَل المهرَ على أن يتأبد له البضع، فإذا (2) بأن ما يوجب الفسخ، فلا يلزمه الرضا بالعيب، فمقتضى الفسخ استرجاع البدل، فثبت الرجوع على الغارّ على أحد القولين لذلك. والعقد في مسألة الغصب فاسد، لا يقتضي استحقاق البضع، حتى لو غرّ من لا يحل له نكاح الأمة بحرية زوجته، فوطئها، ثم بانت أمة، وبان فساد النكاح، فإنه يلتزم مهر المثل، ولا يرجع به المغرور على الغار لما ذكرناه.
وفي فساد النكاح في مسألة المغرور بحرية زوجته مزيد نظر، نذكره في كتاب النكاح إن شاء الله. وما ذكرناه في الغصب مستقيم لا مراء فيه.
وقد نجز تفصيل القول في الشراء من الغاصب.
فرع:
4598- قال العراقيون: إذا اشترى من الغاصب -على ظن أنه مالكٌ- جاريةً، وأولدها، وغرِم قيمة الولد للمغصوب منه، وغرم نقصَ الولادة؛ فإنه يرجع بقيمة الولد على الغاصب قولاً واحداً، ويرجع عليه أيضاً بنقص الولادة، وعللوا بأنّه مقتضى الولادةِ وأثرِها، فإذا رجع بقيمة الولد، رجع بأثر انفصاله.
وقطع المرَاوزة بخلاف هذا؛ فإن نقصان الولادة من نقصان العين، والعينُ مضمونة، فليلحق نقصان الولادة بكل نقص يقتضيه آفة سماوية.
__________
(1) أي الذي زوجه الغاصب.
(2) في الأصل: وإذا.(7/217)
وقد ذكرنا نص الشافعي في العيوب وتخريج المزني وكلام ابن سريج. والغرض من رسم هذا الفرع أن نبين أنه لا فرق بين نقصٍ اقتضته الولادة وبين غيره من النقائص.
فصل
يجمع أحكام الجناية في العبد المغصوب بأصولها وفروعها
4599- فنذكر التفصيل في جناية العبد المغصوب، ثم نذكر الجناية عليه.
فإن جنى العبد المغصوب، نُظر: فإن كانت جنايته قتلاً موجباً للقصاص، فإذا قُتل قصاصاً، غرِم الغاصب للمالك أقصى القيم من الغصب إلى يوم الاقتصاص.
وإن كانت الجناية على طرفٍ، وكانت موجبة للقصاص، فإذا قطعت يده قصاصاً، وكان قطع يداً، فنجعل ذلك بمثابة ما لو سقطت يده بآفةٍ سماوية. ولو كان كذلك، نظر: فإن كان ما نقص من قيمته نصفُ قيمته، فهو الواجب على الغاصب.
وإن كان أكثرَ من النصف، وجب ما نقص، وإن زاد على أرش اليد. وإن كان
النقصان دون نصف القيمة، فقد ذكرنا اختلاف الأصحاب فيه، والأظهر أنه لا يجب إلا ما نقص؛ فإن أرش الطرف إنما يتقدر على الجاني، والغاصب ليس جانياً.
ومن أصحابنا من ألزمه المقدَّر، وإن زاد على ما نقص من القيمة، وأحله محل الجاني.
ولو كانت جناية العبد موجبة للمال، فالأرش متعلق برقبته، ثم يجب على الغاصب تخليصه بالفداء. ثم ذكر الأئمة فيما يفديه الغاصب به القولين المشهورين: أحدهما - أنه يفديه بأقل الأمرين: من الأرش والقيمة. والثاني - أنه يفديه بالأرش بالغاً ما بلغ. والقولان يجريان في الغاصب جريانهما في المالك إذا أراد أن يفدي عبده الجاني.
فإن قيل: قول الأرش إنما يتجه في حق المالك؛ من جهة امتناعه عن بيع العبد، مع التمكن منه، وكنا نجوز أن يعرض على البيع، فيشترى بمبلغ الأرش، فكان المنع من البيع سبباً في التزام الأرش، والغاصب لا يتمكن من البيع، فكيف يقدر مانعاً؟ قلنا: هو بغصبه مانعٌ مولاه من بيعه، فصار ذلك سبباً في تضمينه، ونُزِّل لأجله منزلة(7/218)
المالك، ثم إذا ثبت وجوب الفداء عليه، ابتنى عليه توجه الطَّلِبة على الغاصب، من جهة المجني عليه، وسيزداد هذا وضوحاً في تفاصيل المسائل.
هذا بيان قاعدة الحكم في جناية العبد المغصوب.
4600- فأمّا الجناية عليه، فلا يخلو الجاني إما أن يكون هو الغاصب أو أجنبي، فإن كان هو الغاصب، نُظر: فإن قَتلَ العبدَ المغصوبَ فعليه القيمة، كما تقدم تفصيل قيمة المغصوب.
وإن جنى على طرفه، فقطع يده، والتفريع على أن أرش أطراف العبد تنتسب إلى قيمته، نسبة أروش أطراف الحر إلى ديته، فقد اجتمع موجِبان للضّمان: أحدهما: اليد. والثاني - الجناية؛ فينتظم من اجتماعهما أن نوجب أكثر الأمرين: من النقصان، والأرش المقدر. فإن كانت قيمة العبد ألفاً، وقد قطع الغاصب يده، نُظر، فإن نقص من قيمته أربعمائة، فيلتزم الغاصب خمسمائة، لكونه جانياً. وإن نقص خمسمائة، فقد وافق النقصانُ المقدَّر، فيلزمه خمسمائة. وإن نقص ستمائة، ألزمناه ستمائة، لمكان اليد. وهو ضامنٌ بسببين، فننظر إلى أكثر الموجَبين.
وإن كان الجاني أجنبياًَ، وكانت الجناية نفساً، فعليه القيمة، والمالك بالخيار إن شاء ضمّن الغاصب، وإن شاء ضمّن القاتل، فإن ضمّن القاتل، لم يرجع على الغاصب، واستقر الضمان عليه. وإن ضمن الغاصب، رجع بما ضمنه على الجاني؛ فإن منتهى الغرامات الإتلافُ، واليد سببٌ، فإحالة قرار الضمان على ما يحقق التفويت، وهو الإتلاف.
وإن جنى الأجنبي على طرف العبد، فقطع يده، نظر: فإن كان ما نقص مثلَ المقدَّر، فإن كانت قيمته ألفاً، فنقص بقطع إحدى اليدين خمسمائةٍ، وجبت خمسمائة، والمالك في التضمين بالخيار، كما قدمنا، وقرار الضمان على الجاني.
وإن كان ما نقص أقل، بأن كان أربعمائة، فإن اختار تضمين الجاني غرَّمه خمسمائةٍ، ولا مرجع [له] (1) على الغاصب. وإن أراد تضمين الغاصب، فقد قدمنا
__________
(1) زيادة من (ت 2) .(7/219)
أن يد العبد المغصوب، إذا سقطت بآفةٍ، أو قُطعت قصاصاً، أو في سرقة، وكان النقصان أقلَّ من المقدّر، ففي المسألة وجهان: أشهرهما - أنه لا يجب على الغاصب إلا النقصان. وفيه وجه آخر.
وقال المحققون في المسألة التي نحن فيها، وهي إذا جنى أجنبي على العبد،
فقطع يده، وغرّمناه نصفَ القيمة، خمسمائة: لو (1) أراد المالك تغريمَ الغاصب، غرّمه خمسمائةٍ؛ فإن اليد قُطعت بجهةٍ تُضمن فيها بخمسمائةٍ، وجرى هذا في يد الغاصب، فتوجَّه عليه خمسمائةٍ اعتباراً بما يلتزمه الجاني، وليس كذلك لو قطعت في حدِّ؛ فإنها لم تقابل بمالٍ، وكذلك إذا سقطت بآفةٍ سماوية، وهذا حسن فقيه.
ومن أصحابنا من خرّج وجهاًً مثلَ ما ذكرناه في قطع اليد في السرقة، وقال: ليس الغاصب جانياً حتى يتقدّر عليه الأرش. وإنما [ضمانه] (2) باليد الغاصبة. والأصل في ضمان اليد اعتبارُ النقصان: نَقَص من (3) المقدّر، أو زاد عليه. ولا خلاف أنه لو نقص من القيمة ستمائة، فالغاصب مطالبٌ بها، لمكان يده. ثم إن طالب المغصوبُ منه الغاصبَ، طالبه بستمائة، وهو يرجع على الجاني بخمسمائة، ويستقر الضّمان عليه في المائة الزائدة، فلا نجد بها مرجعاً. وإن طالب الجاني، لم يطالبه إلا بخمسمائةٍ، ويطالب الغاصب بالمائة الزائدة.
4651- ولو غصب عبداً، وسرق في يده، وقُطِع، غرِم الغاصب للمالك ما نقص في ظاهر المذهب.
وكذا لو سقطت يده بآفةٍ سماوية. وهذا تقدم ذكره. وقيل: يضمن الغاصب أكثر الأمرين من المقدّر وما نقص، تغليظاً للأمر عليه.
ولو غصب عبداً سارقاً، استوجب القطع بالسرقة قبل الغصب، فقُطع في يد الغاصب، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا يضمن شيئاًً؛ لأن القطع وقع بسببٍ
__________
(1) في النسختين: فلو. وقدرنا أنه لا مكان للفاء، فهذا أول مقول القول.
(2) في الأصل: ضمنه.
(3) كذا في النسختين: "من". وهي صحيحة؛ فمن معانيها أن تأتي مرادفة لـ (عن) .(7/220)
متقدم على الغصب، والثاني - يضمن؛ لأن القطع جرى في يده، فلا نظر إلى ما تقدم.
وهكذا لو غصب مرتداً، فقتل بالردة، وقد سبقت الغصب، ففي وجوب الضّمان وجهان. وهذا ينبني على نظائرِ ذلك في الشراء.
ولو اشترى [عبداً] (1) مرتداً أو سارقاً، فقتل في يده، أو قُطع، فما جرى محسوب على البائع، لتقدم سببه على قبض المشتري، أو هو محسوب على المشتري لوقوع الهلاك أو النقصان في يده؟ فيه الخلاف المشهور.
وهذا الذي ذكرناه قاعدة الجناية على العبد المغصوب.
4602- وقد ذكر ابنُ الحدّاد فروعاً، وراء تمهيد الأصول، ونحن نأتي بها فرعاً فرعاً، إن شاء الله تعالى.
فمنها: أن قال: إذا غصب الرجل عبداً، فجنى العبدُ في يد الغاصب جنايةً تستغرق قيمتَه، فيتعلق الأرش برقبته، كما قدمناه. فلو مات العبد في يد الغاصب بعد ذلك، فالمالك يطالبه بقيمة العبد، وهو ألف مثلاً، لا يطالبه بأكثرَ منه. ثم إذا أخذ الألفَ، فللمجني عليه أن يتعلق به، ويقول: كان حقي متعلقاً برقبة العبد، وقد مات مضموناً، فيتعلق بقيمته، كما كان متعلقاً برقبته. وهو بمثابة ما لو أتلف متلفٌ العينَ المرهونة، والتزم القيمة، فحق المرتهن يتعلق بها، كما كان متعلقاً بالعين المرهونة.
ثم إذا أخذ المجني عليه من المالك الألفَ، فالمالك يرجع على الغاصب، ويقول: لم تَسْلَم لي القيمة، وأُخذت مني بسبب جناية حدثت في يدك، فيغرَم له الغاصب القيمة مرة أخرى، وتخلص له القيمة هذه المرة.
ولو قال المالكُ للغاصب أولاً: اغرم لي قيمتين؛ فإن إحداهما مستحقة، فليس له ذلك أصلاً، ولكن يطالبه أولاً بقيمته، كما رتبناها، فإن أُخذت منه عن جهة الجناية، رجع على الغاصب بقيمةٍ أخرى. فلو أبرأه الجاني وأسقط حقه بالكلية، فلا مرجع له على الغاصب؛ إذ قد سلمت له القيمة التي أخذها.
__________
(1) ساقطة من الأصل.(7/221)
ولو كانت قيمة العبد ألفَ درهم، والجناية خمسمائةٍ، والمسألة بعد ذلك كما صورناها، فيغرم الغاصب ألفاً، ثم إذا أُخذت منه خمسمائة، رجع بخمسمائةٍ، وهو القَدْر الذي لم يسلم للمالك، وهذا بيّن.
ثم ظاهر كلام المشايخ أن المجني عليه لو لم يطالب المالكَ، وفي يده القيمة، وأراد مطالبة الغاصب بأرشِ الجناية، فله ذلك. وهو بالخيار إن شاء طالب الغاصب، ولم يتعرض للمالك، وإن شاء اتّبع القيمة التي أخذها المالكُ من الغاصب، ثم المالك يرجع على الغاصب، كما سبق التفصيل فيه.
وحكى الشيخ أبو علي وجهاً غريباً أن المجني عليه لا يطالِب المالكَ، وإن قبض
القيمة، فليطالب بحقه الغاصبَ، ولا يتبع القيمة التي أخذها المالك، حتى قال هذا القائل فيما حَكى: لو قبض المالك القيمةَ، وعسر على المجني عليه الرجوعُ على الغاصب لإعساره، أو بسبب آخر، لم يكن له أن يتعلق بالمالك، وإن أخذ القيمة.
وهذا بعيدٌ مزيف؛ فإن القيمة في كونها متعلقاً للأرش، تنزل منزلة العبد، كما لو بقي، كما ذكرناه في قيمة المرهون.
ولا نعرف خلافاًً أن العبد الذي يساوي ألفاً، لو جنى في يد الغاصب جناية أرشُها
ألف درهم، ثم لم يمت العبد واسترده مالكه، فالمجني عليه يتبع العبد إن أراد، ثم إذا رجع إلى حقه، فحينئذٍ يرجع المالك على الغاصب، على الترتيب الذي ذكرناه.
4603- ومما فرّعه (1) أنه إذا جنى عبدٌ في يد سيده جناية أرشُها ألف، وقيمة العبد ألف، فغصبه غاصب، ثم استرده المالك، فلا شيء على الغاصب بسبب الجناية، فإنها لم تجر في يده، وقد رد العبد كما أخذه.
فإذا جنى العبد في يد السيد، كما صورناه، فلما غصبه الغاصب جنى في يده [أيضاً] (2) جناية أرشُها ألف، ثم استرده المالك من الغاصب، وباعه في الجناية بألفٍ، فإنه يقسم هذا الألفَ بين المجني عليه الأول وبين الثاني نصفين: لكل واحد
__________
(1) أي ابن الحداد.
(2) مزيدة من (ت 2) .(7/222)
منهما خمسمائةٍ، ثم يقول للغاصب: قد سلمتُ إلى المجني عليه في يدك خمسمائة، فاغرمها لي فيغرم له خمسمائة، فإذا أخذها سلمها بكمالها إلى المجني عليه الأوّل، لا يساهم فيها المجني عليه الثاني، وقد انقطعت الطَّلِبَات، فلا طَلِبة للمجني عليه الثاني على أحد، ولا طَلِبة للسيد على الغاصب في هذه الكرّة؛ فإنه سلم هذه الخمسمائة الأخيرة إلى جهة الجناية الأولى، وقد اتفقت تلك الجناية في يده.
هذا ما صار إليه الأصحاب.
فإن قيل: لم خصَّصتم بالخمسمائة الثانية المجني عليه الأوّل، وقسمتم الألفَ الأولَ عليهما؟ وقد أجمع العلماء على أن [الألف] (1) الأوّل مقسومٌ على [الجنايتين] (2) : لا يختص الأول منهما بشيء دون الثاني، فهلا قسمتم الخمسمائة الثانية بينهما، كما قسمتم الألفَ؟
قلنا: لا سبيل إلى ذلك: أمّا الألف، فمقسومٌ بينهما؛ فإنه قيمةُ العبد، ولا فرق في القيمة بين المجني عليه الأوّل، وبين المجني عليهِ الثاني؛ فإن التقدم والتأخر لا يوجب تقديماً ولا تأخيراً في الازدحام على القيمة. وإنما اختص المجني عليه أولاً بالخمسمائة الثانية؛ لأن سببَ وجوب هذه الخمسمائة الغصبُ، وهو متقدم على الجناية الثانية، متأخرٌ عن الأولى. فإذا كان سببُ ضمان الخمسمائة بعد بذل القيمة الغصبَ المتقدّم على الجناية الثانية، كان ذلك بمثابة ما لو جنى عبدٌ قيمته ألفٌ جنايةً أرشُها ألفٌ، ثم قطعت يد العبد، ووجب أرشها، ثم جنى العبد، بعد ما قطعت يدُه جنايةً أخرى، أرشها ألف، فيتخصص المجني عليه الأوّل بأرش اليد التي قُطعت من العبد الجاني، فجعل الأصحاب تقدم الغصب على الجناية الثانية، بمثابة تقدم قطع اليد على الجناية الثانية.
هذا ما ذكره الأئمة.
4604- ونحن نوجّه عليه سؤالاً ونجيب عنه.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في الأصل: الجانيين.(7/223)
فإن قيل: ليس (1) الغصبُ المتخلل بين الجنايتين بمثابة قطع يد الجاني المتخلل بين الجنايتين؛ فإن العبد إذا جنى، فقطعت يده، فقد صادف القطعُ متعلَّق الجناية الأولى، ثم إنه بعد قطع يده أقدم على الجناية الثانية، فلم تصادف الجنايةُ الثانيةُ اليدَ من العبد الجاني، فيستحيل أن يكون لها تعلق بأرش اليد، وليس كذلك تخلل الغصب بين الجنايتين.
وربما عضد السائل السؤال بأن قال: جنى العبد الجناية الأولى، وقيمته ألفٌ، وجنى الجناية الثانية، وقيمته ألفٌ، ولا أثر للتقدم والتأخر في ازدحام الجنايات، ثم الألف المقسوم على الجنايتين لم يوفِّر حقَّ الجنايتين بكمالهما، فاختصاصُ المجني عليه الأول بالخمسمائة الأخيرة، كيف يتجه؟
وهذا السؤال فيه إشكال. والوجه الممكن في الانفصال عنه أن يقال: إن المجني عليه الأول يقول: كان حقي مستغرقاً لرقبة العبد، فلمّا غصبه الغاصب تعرض بغصبه لضمان حقي، وهو الألف، فلما جنى جنايةً في يد الغاصب وأُخذ الألفُ، وقُسّم بيننا، فالخمسمائة التي توجهت بها الطَّلِبة، إنما تثبت لأن المجني عليه الثاني أخذ من الألف الأول نصفه، فلم تسلم الألفُ الداخل في ضمان الغاصب، فإذا غرِم الخمسمائة، كانت تتمة الألف الداخل في ضمانه لما غصب، وذلك الألف مستحق للمجني عليه الأول، فليصرف إليه.
هذا منتهى الإمكان في الانفصال.
وفي الإشكال بقية، وذلك أنا نقول: لا مطمع في فضّ الخمسمائة عليهما؛ فإن هذا يجر محالاً لا يستأصل، ولا سبيل إلى قطعه، وذلك أنا لو قسمناها، لرجع المالك بما يخص المجني عليه في حالة الغصب، ثم كان يفضّ ذلك ثالثاً، ويقتضي رجوعاً، ويدور الأمر إلى غير منقطعٍ.
وربّما توجه الإشكال من وجهٍ آخر، وهو أن يقال للمجني عليه الأوّل: كنتَ على استحقاق ألفِ لو انفردتَ، فإذا جرت الجناية الثانية، فقد زوحمتَ في الألف، بناءً على أن المستأخر من الجناية كالمتقدم. وإذا [ازدحمتما] (2) في الألف، فالخمسمائة
__________
(2) في (ت 2) : "أليس" بزيادة همزة الاستفهام.
(2) في الأصل: ازدحمتا.(7/224)
إنما وجبت على الغاصب لمكان الجناية الثانية، الجارية في يد الغاصب، فاكتفيا بالألف، ولتسلم الخمسمائة للمالك.
وهذا له اتجاه من طريق الاحتمال من غير نقل.
والذي نقله الشيخ (1) عن وفاق الأصحاب ما قدمناه. ثم ذكر الشيخ وجهاً آخر هو في التحقيق عَضُدُ (2) المسلك الأول، على مبالغة، وذلك أنه قال: من أصحابنا من ذهب إلى أن الألف الذي يأخذه أول مرة يصرفه بكماله إلى المجني عليه الأول، لا مساهمةَ فيه للمجني عليه الثاني، ولا طلبة للمجني عليه الثاني على السيد، ولكنه يطالِب الغاصبَ بخمسمائة؛ تحقيقاً لما ذكرناه من أن الغاصب ضمن قيمة العبد بكمالها للمجني عليه الأول.
وهذا بعيد جداً. وقال الشيخ في إتمام حكاية هذا الوجه: لو جرت الجنايتان على الترتيب الذي ذكرناه، ولم يمت العبد، واسترده المالك، وباعه بألفٍ، صرف الألف إلى المجني عليه الأوّل، ولا تعلق للثاني إلا بالغاصب. وهذا لا يُشك في بطلانه؛ فإن رقبة العبد متعلَّقُ الجنايتين، فكيف يخص بثمنه الأولَ. هذا منتهى الكلام.
4605- صورة أخرى: لو جنى العبدُ في يد الغاصب أولاً، وما كان جنى قبل ذلك، والأرش ألفٌ، فاسترده السيد، وجنى ثانياً جناية أرشها ألف. قال الشيخ: يباع العبد بألفٍ، ويدفع إلى الذي جنى عليه في يد الغاصب خمسمائة، وإلى الثاني الذي جنى عليه في يد السيد بعد الاسترداد خمسمائة. ثم يرجع المالك بخمسمائةٍ على الغاصب؛ فإنه غرِمها بسبب الجناية التي صدرت في يده، ثم يسلم هذه الخمسمائة إلى المجني عليه في يد الغاصب؛ فإنه السابق في هذه الصُورة بالاستحقاق، ثم يقول للغاصب: قد أُخذت مني الخمسمائة الثانية بسبب الجناية التي حصلت في يدك، فيغرِّمه خمسمائة أخرى، ويستبد بهذه الخمسمائة، ولا طَلِبة عليه فيها. هذا ما حكاه.
__________
(1) الشيخ: المراد به هنا الشيخ أبو علي السنجي، كما هو مصطلح إمام الحرمين. وقد تأكد هنا بما صرح به الرافعي في فتح العزيز: 11/299، 300 بهامش المجموع.
(2) عضُدُ: معين ومقوّي.(7/225)
قال (1) : وراجعت القفال في هذه المسألة، فقال: إذا استرد العبدَ وباعه في الجنايتين، ودفع إلى كل واحد خمسمائة، فيغرَم الغاصب خمسمائة أخرى، ويستبد بها المالك من غير مشاركة، وقد انقطعت الطَّلِبات. وعلل بأن قال: لما غُصب العبدُ، فقد ثبت للسيد حق القيمة أولاً، ثم لما جنى العبد في يد الغاصب، ثبت له الأرش ثانياً، ثم لما جنى في يد السيد ثبت ذلك ثالثاً، فلما بعنا العبدَ، قسمنا الألف بين المجني عليهما، وما يغرَمه الغاصب ينفرد به المغصوبُ منه؛ لأن حقه أسبق.
قال الشيخ: حق المالك وإن كان أسبق، [فيقدم] (2) حقُّ المجني عليه على حقه، كما يقدم حق المجني عليه على ملك المالك في العبد.
ثم قال: ناظرت فيه القفال، فرجع إلى قولي.
والذي يحقق ما ذكره الشيخ، ويفصل بين هذه الصُّورة وهي إذا سبقت جنايةٌ في يد الغاصب، ولحقت جنايةٌ بعد الاسترداد في يد المالك، فنعلم علماً كلياً أن العبد لمّا غصبه، وكان بريئاً، فجرت جنايةٌ أرشها ألف في يد الغاصب، وطرأت الجنايةُ في يد الغاصب من عبد كان غصبه، ولا جناية في رقبته، فلا بد وأن يغرَم مع العبد ألفاً، ثم الكلام في مصرف الألف، كما فصله الشيخ، والغصب جرى في الصُّورة الأولى في عبد جانٍ مستحَق القيمة، فلا يلزم الغاصبَ بذلُ الألف، لتخلص الرقبة للمالك، والزحمة ثابتة في الجناية. ولا يستريب الناظر على الجملة أن الغاصب في المسألة الأخيرة لا يتخلص ما لم يغرَم ألفاً، ثم تفصيل القسمة وسلامة الخمسمائة كما تقدم.
والإشكال الدائر في المسألتين أن ازدحام الجنايتين يوجب حصرَ حقَّي الجنايتين في ألف واحد. وهذا هو الذي ذكره في المسألة الأولى، وأشار إليه القفال في المسألة الثانية، فإذا انحصر حقاهما في الألف، وجب من ذلك في المسألة الأولى استبدادُ المالك
__________
(1) القائل هو الشيخ أبو علي السنجي، كما صرح بذلك الرافعي في فتح العزيز: 11/300 بهامش المجموع، وكذا الروضة: 5/36. والقفال هو شيخه، فانظر -رعاك الله- إلى مجد أمتنا، وتأمّل بِدْعَ هذا العصر الرديء الذي تُعلَّم أمتنا فيه (فن الحوار) !!!
(2) في الأصل: "فيتقدّم".(7/226)
بالخمسمائة، ووجب في المسألة الثانية ألا يغرَم الغاصب إلا خمسمائة، كما قال القفال، ثم يستبد بها، ولا ننظر إلى سابق ولا حق في الجنايتين؛ فإنهما لو ازدحما على ملك واحد في صورة التقدم والتأخر، وأرش كل جناية قيمةٌ، فليس لهما إلا قيمةٌ واحدة، فطريان الغصبِ لا يكثِّر حقهما؛ بل إنما يرد الغصبَ على حق المالكِ (1) من الرقبة.
وهذا نهاية الكشف في ذلك، فليتأمل الناظر، والله الموفق.
4606- ومما فرعه (2) : أن قال: إذا غصب الرجلُ عبداً، فجاء عبدٌ لإنسان، وقتل ذلك العبدَ المغصُوبَ، قَتْلَ قِصاص، فللسيد طلبُ القصاص، فإذا اقتص من ذلك العبد القاتل، فقد سقطت الطَّلِبة عن الغاصب؛ فإن القصاص نازل منزلة استرداد العبد، ولا ننظر إلى قيمة العبد القاتل المقتصِّ منه، فلو كانت قيمته خمسمائة، وقيمة المغصوب المقتول ألف، فإذا استوفى القصاصَ، فليس له أن يقول للغاصب: قد استوفيتُ ما قيمته خمسمائة، فأرجع عليك بخمسمائةٍ؛ فإن القصاص لا يراعى فيه تفاوت الأبدال، ولذلك تقتل المرأة بالرّجل، ويحسم باب الطَّلبة مع تفاوت الدّيتين. وهذا سديدٌ لا يشك فيه.
قال الشيخ: فلو غصب عبداً قيمته ألف، فنقص في يده بعيب، ورجع إلى خمسمائة؛ فقتله العبد كما صورنا، واقتص منه السَّيد، فللسيد تغريم الغَاصِبِ الخمسمائة الناقصة بالعيب؛ فإن القصاص كاسترداد العبدِ، فلو استرد ذلك العبدَ المغصوبَ، وقد نَقَصه العيبُ، لكان يغرَم الغاصبُ أرش العيب، مع استرداد العبد.
نعم لو غصب عبداً قيمته ألف، فتراجعت قيمته بالسوق إلى خمسمائة من غير عيب، ثم طرأ القتلُ والاقتصاصُ، فلا تتوجه الغرامة على الغاصب، ويجعل الاقتصاص بمثابة ما لو غصب عبداً، فانحطت قيمته، ثم استرده المالك، فإنه لا يغرَم حطيطةَ السوق.
والجملة فيما ذكرناه تنزيلُ الاقتصاص منزلةَ استرداد العبد.
__________
(1) (ت 2) : الملك.
(2) الضمير يعود على ابن الحداد.(7/227)
4607- ولو غصب عبداً، فقتل العبدُ المغصوبُ حراً، واستوجب القصاصَ، ثم جاء عبد وقتل هذا العبدَ، ولزمه القصاص، فلسيد العبد الاقتصاصُ من قاتل عبده، وليس لأولياء الحر أن يقولوا: لا تقتص من قاتله، ليتعلق حقنا بالأرْش.
ثم إذا اقتص السيد، فقد بطل حقُّ أولياء الحر؛ فإن العبد الذي قَتَل قد فات، ولما قُتل وفات، تبعته المالية، لما اقتص السيد من قاتله، وكان الأرش متعلقاً برقبة قاتل الحر، وقد فات من غير تقصير من السيد، فيبرأ السيد، ويبرأ الغاصب أيضاً؛ لأن الاقتصاص بمثابة الاسترداد، كما قدمناه.
وهذا لا يتضح إلا بسؤال وجواب عنه. فإن قيل: قد قدمتم أن الغاصب في عهدة جناية العبد المغصوب، وذكرتم أنّ العبد إذا جنى في يد الغاصب، فللمجني عليه مطالبةُ الغاصب بفداء العبد في غيبة السيد، فيلزم من هذا المساق أن تقولوا: لما قتل العبد حراً قَتْل قصاص، فالقتل وإن كان موجباً للقصاص، فهو مضمّن بمالية، وتلك المالية تثبت بفوات محل القصاص. فإن قلنا: موجَبُ العمد القودُ المحض، فاجعلوا اقتصاص السَّيد من قاتل العبد القاتل بمثابة فوات محل القصاص، ثم علِّقوا عُهدة المال بالغاصِب؛ بناء على ما تقدم من تعلق عهدة الجناية به؟
قلنا: هذا لا يصفو إلا بتقديم صورة، فنقول: لو قَتل العبدُ في يد السّيد قَتْل قصاصٍ، ثم قُتل هذا العبد قتل قصاص، فاقتص السيد من قاتله، فلا حق لولي مقتول هذا العبد على السيد، والسبب فيه أن عهدة الجناية لا تتعلق بذمة السيد، بل تتعلق بذمة العبد ورقبته.
ثم للسيد تخليص الرقبة بالفداء، إذا كانت الجناية مالية، وليس للمجني عليه إلا التعلّق بالرقبة، وتعلّقه بالرقبة لا يزيد على تعلق حق المرتهن برقبة العبد المرهون، ولو قُتِل العبد المرهون قَتْل قصاص، فللراهن أن يقتص من [قاتله] (1) . وإذا اقتص، حبط حق المرتهن من التعلق. فاقتصاص السيد من العبد القاتل يُبطل حقَّ أولياء القتيل، وليس في ذمة السيد شيء.
__________
(1) في النسختين: راهنه، والمثبت من هامش (ت 2) ، وهو المناسب للسياق.(7/228)
فإذا ثبت هذا، عدنا إلى الجواب عن السؤال وقلنا: إذا قتل العبدُ المغصوب حراً قَتْل قصاصٍ، فلا يتصور طلب المال مع بقاء القصاص إلا من جهة فوات المحل، والمحلُّ إذا فات بالاقتصاص لم يُعقب تبعةً أصلاً، فانقطعت الطَّلِبة بالكلية من الغاصب، لما مهدناه.
4608- ولو أتلف العبدُ المغصوبُ مالاً، ثم قُتِل قَتْلَ قصاص، واقتص السيد من قاتله، فالجواب في ذلك يستدعي تقديم صورةٍ، تناظر هذه في المسائل (1) ، فنقول: إذا أتلف العبد في يد السيد مالاً، (2 وتعلق قيمتُه برقبته، ثم 2) قتل قتْل قصاص، فاقتص السيد من قاتله، فهل يضمن لصاحب المال المتلَف عليه ما كان تعلق برقبة العبد؟
التفصيل فيه أنه إن سبق من السيد منعٌ (3) ، ثم جرى بعد ذلك القتلُ، فيضمن للمنع السَّابق، وإن لم يجر منعٌ قبل قتل العبد، فلا ضمان، وقتله كموته، ثم القول في موته يتفصّل كما ذكرناه.
نعود بعد هذا إلى الغاصب وحكمه، فنقول: نفس الغصب منه يورّطه في العهدة، فإذا أتلف العبدُ المغصوب في يدهِ مالاً، ثم قُتل العبدُ قتْل قصاصٍ، فاقتص السيد من قاتله، أما السّيد، فلا طلبة عليه، وللمتلَف مالُه أن يطالب الغاصب، كما يطالَب السيدُ المانعُ قبل قتل العبد.
ثم نختتم هذا بأن العبد لو قَتَل في يد السيد قتلاً استوجب القصاص به، فطلب وليُّ القتيل القصاصَ، فامتنع السيد من الاقتصاص، ثم مات العبد، فلا تبعة على السيد، ولا طَلِبة؛ فإن القصاص ليس أمراً يُضمن، فلا جرم لو قُتِل العبدُ قتل قصاصٍ بعد استيجابه القصاصَ، وفرضِ الممانعةِ من السيد، فإذا اقتصّ، كان اقتصاصه كموت العبد نفسه بعد المدافعة في الاقتصاص.
__________
(1) (ت 2) : المالك.
(2) ما بين القوسين ساقط من (ت 2) .
(3) أي طولب السيد بالمال الذي تعلّق برقبة عبده، فمنعه، ثم حدث القتل.(7/229)
فنقول على هذا: نجعل الغاصب كأنه مماطل في القصاص، ولا حكم للمطل فيه، فلهذا افترق ما يوجب القصاص، وما يوجب المال.
وقد يخطر للفقيه وراء هذا كله أن السيد لو مطل، ولم يقتص، ونحن نقول: القصاص يتضمن المالية، فيكون بمطله ومدافعته ملتزماً لتبعة فوات المحل. وليس الأمر كذلك؛ فإن عُلقة المال لا تثبت مع طلب القصاص، وفي هذا المنتهى أدنى احتمالٍ، فإن ثبت، انعكس على تثبيت مطالبة الغاصب.
هذا منتهى النظر، والله المستعان.
وقد نجز غرضنا من جنايات العبد المغصوب والجنايات عليه.
فصل
قال: "فإن كان ثوباً، فأبلاه المشتري ... إلى آخره" (1) .
4609- إذا غصب الرجل ثوباً، ولم ينتقص في يده، وأمسكه مدة، فعليه أداء الثوب، وأجرُ مثل المنفعة، استعملَ أو لم يَستعمل؛ فإن المنافع مضمونة باليد العادِيَة (2) عندنا.
وإن انتقص الثوب بآفةٍ، لا بسبب الاستعمال، فعليه أرش ما نقص، وأجر مثل المنفعة، استعملَ أو لم يستعمِل.
وإن انتقص الثوبُ بالاستعمال، وبلي بعضَ البلى، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه يضمن أكثر الأمرين من أرش النقص، أو أجر مثل المنفعة؛ لأن النقصَ جاء من جهة الاستعمال، ووقع بسببه، فدخل الأقل من المضمونَيْن تحت الأكثر.
والوجه الثاني - وهو الأصح أنه يضمن أرش النقص على حياله، وأجر المنفعة على حياله؛ فإنه يضمن كل واحدٍ منهما عند الانفراد، فإذا ثبت الموجبان، ثبت الضمانان.
__________
(1) ر. المختصر: 3/38.
(2) العادية: من العدوان، أي اليد المعتدية.(7/230)
4610- ولو اشترى إنسان من الغاصب الثوبَ المغصوب على جهلٍ بحقيقة الحال، فاستعمله، وأبلاه بالاستعمال، فتوتجُهُ الطَّلِبة عليه من جهة المالك يُخرّج على الخلاف الذي ذكرناه في الغاصب نفسه: فإن فرعنا على الأصح، وهو أنه يُضمّنه أرش النقص على حياله وأجر مثل المنفعة على حياله
فنقول: أما الرجوع بأجر المنفعة، فيخرّج على قولي الغرور؛ فإنه استوفاها مغروراً، وأما أرش النقص، ففي الرجوع به ما ذكرناه في أرش العيوب الحادثة في يد المشتري من الغاصب. وفيها النص، وتخريجُ المزني، وكلام ابن سُريج.
4611- ثم ذكر الشافعي مسألة ضمان المنافع بالغصب، وقد ذكرناها فيما تقدّم، وأوضحنا أن المنافع تضمن باليد وتضمن بالإتلاف، وأبو حنيفة (1) لا يثبت ضمانها بواحد منهما، وإنما يثبت ضمانها بالعقد الفاسد، أو الصحيح. وقد ذكر الشافعي أن المستكرهة على الوطء يثبت مهرها على المستكرِه الزاني، رداً على أبي حنيفة، فمنفعةُ البضع تضمن بالإتلاف إذا كانت المرأة مستكرهة، ولم تكن بغيّة، ولا مهر للحرة البغية. وفي الأمة المطاوعة البغيةِ الخلافُ الذي ذكرناهُ. ولا تُضمن منافِع البضع باليد، وأبو حنيفة فيما زعم لا يضمّنها (2) إلا في عقدٍ صحيح، أو في شبهة عقد.
فصل
قال: "ولو غصب أرضاً، فغرسها ... إلى آخره" (3) .
4612- الغصب يتصور عندنا في العقار، فإذا ثبت تصوره، ابتنى الضّمانُ عليه.
وأبو حنيفة (4) منع تصور الغصب في العقار، وترددت الرواية عنه في الغُرف المغلقة،
__________
(1) ر. رؤوس المسائل: 351 مسألة 231، وطريقة الخلاف: 259 مسألة: 107، وإيثار الإنصاف: 258.
(2) لا يضمنها: أي المنافع.
(3) ر. مختصر المزني: 3/40.
(4) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/176 مسألة 1864، ومختصر الطحاوي: 118، رؤوس المسائل: 354 مسألة 234، وطريقة الخلاف: 257 مسألة: 106، وإيثار الإنصاف: 259.(7/231)
وهذا كتردده في منع بيعها قبل القبض من البائع، مع قطعه بجواز بيع العقار الثابت قبل القبض.
والذي يجب الاعتناء به في هذا الفصل التعرّض لصورٍ يتردد النظر في تصوير الغصب فيها، فنقول أولاً: حقيقةُ الغصب في المنقول والعقار جميعاً استيلاء الغاصب بيده، وإنما يُعرف استيلاؤه بموجب العرف. هذا هو الأصل، والصور تهذبه.
فنقول: من أزعج مالك الدار عنها لم يكن بنفس الإزعاج غاصباً، وكان ذلك كما لو أقطع (1) المالك عن حفظ ملكه، وحال بينه وبينه.
ولو أزعج المالك، ولم يصادفه في الدار، فدخل الدار بصبيته وأهله، وماله، واستولى استيلاء المنتفع، وأغلق الأبواب بأغلاقها، فهذا استيلاء محقق على الدار صورةً، من غير حاجةٍ إلى فرض قصد، وعليه نقول في الجندي (2) إذا نزل داراً كما صورناه وأزعج مالكها، فقد استولى غاصباً، وصارت الدار مضمونة، ثم لا ينقطع الضّمان بأن يرحل عنها إلا أن يعود المالك، ويرد الدار إلى يده، فيكون هذا بمثابة استرداد المغصوب.
ولو دخل داراً ناظراً إليها، لم يصر بذلك غاصباً، فإنه لا يعدّ مستولياً، وكذلك لو اجتاز بأرضٍ مملوكة لإنسانٍ، لم يصر ذا يدٍ في الأرض لاجتيازه؛ فإن ذلك لا يعد في العرف استيلاءً، وقد ذكرنا أن الاستيلاء هو المقصود المطلوب، والرجوع فيه إلى العرف.
ولو دخل داراً خالية، وزعم أنه قصد الاستيلاء، وكان ما ذكره ممكناً، فيصير بقصده غاصباً، ولو زعم أنه لم يقصد الغصبَ والاستيلاءَ، لم يصر غاصباً، فالأمر يختلف بالقصد في هذه الصورة.
4613- والضابط بعد الإيناس بالصور أنه قد يجري في الدور وما في معانيها أحوالٌ
__________
(1) أقطع: قطع. وقطع فلاناً عن حقه منعه منه. (معجم) .
(2) كي تعرف لماذا خص الجندي هنا، اقرأ ما كتبه المؤلف في (الغياثي) عن واجبات الإمام، وأن منها "كف عادية الجند". فيلوح لنا أن هذا كان أمراً شائعاً، يستولي الجند في طريقهم على الدور والأموال يرتفقون بها إلى أن يتفق رحيلهم.(7/232)
وأفعالٌ هي على صورها غصبٌ، كما ذكرنا في نقل الصبية ودخُول الدُّور. وقد يجري ما لا يكون استيلاءً، وإن زعم صاحب الواقعة أنه قصد استيلاء، وهو كدخول الضعيف دار القوي بنفسه، مع القطع بأنه لا يستمكن من الاستيلاء، وصاحب الدار في الدار، فهذا خارج عن قَبِيل الاستيلاء، غيرُ مختلف بالقصد.
وإذا دخل داراً، وكان لا يمتنع تصوّر الاستيلاء منه، فدخوله متردد بين النظر، وبين الاستيلاء، فيختلف الحكم باختلاف القصد.
فلا بد من تخيل هذه المراتب على وجوهها.
وقد يفرض في المنقول ما يناظر المرتبة الأخيرة، فإذا كان بين يدي الرجل كتابٌ مملوك له، فرفعه رافع، وقصد الغصب، فنجعله غاصباً، فإن قصد النظر فيه وردَّه، لم نجعله غاصباً، على المذهب الظّاهر. وسنضرب لذلك أمثلةً في مرور الدنانير المغصوبة بأيدي النقاد (1) . وإنما غرضنا التمهيد الآن.
وقد يعترض في انعقار أمرٌ، وهو أن من دخل داراً، فدخل بيتاً (2) ، فقد يختص استيلاؤه بذلك البيت، فيقدّر غاصباً له دون غيره، وهذا يتضح بألاّ يغلق بابَ الدار على نفسه، ويقطع العرصة عابراً.
على هذا الوجه يُفرض الغصب في بيتٍ من خانٍ (3) ، ويمكن أن يقال: إن ظهر الانتفاع بالدار، فهو استيلاء عليها، وإن لم يظهر، ولم يكن استيلاءٌ، فالدخول ليس استيلاء. وإن لم يظهر، وحصل الدخول وأمكن الاستيلاء، اختلف الأمر بالقصد.
والرجوع بعد ذلك كله إلى العرف، فإذا ثبت أهلية (4) [الاستيلاء] (5) ، ثبت الغصب
__________
(1) النقاد: أي الصيارف الذين يعملون في النقد.
(2) الدار تحوي عدة بيوت، فالبيت جزء من الدار.
(3) الخان: النُزل: الفندق، وهي لفظة فارسية معناها أصلاً: الحانوت، ثم صارت تطلق على ذلك المبنى الذي يقام لأيواء المسافرين الذين يمرون بالمدينة، أو ينزلونها لحاجتهم، ثم يعودون. وهو الفندق تماماً. إلا أنه كان مجاناً وتطوعاً.
(4) (ت 2) : أصلية.
(5) في الأصل: استيلاء.(7/233)
وحكمه. وإن نَفَوْه من كل وجهٍ، فلا غصب. وإن ترددوا، رجعنا إلى قصد صاحب الواقعة.
4614- ومما نذكره في ذلك أنا إذا قلنا: لا يثبت القبض في المنقولاتِ في أحكام العقود [إلا بنقلها] (1) فإذا فرض الاستيلاء على شيء منها اعتداءً، فظاهر المذهب أنه غصب، لما ذكرناه من تصور الاستيلاء.
وحكى شيخي وجهاًً آخر: أنه لا يثبت حكم الغصب، إلا بما يثبت به قبضُ الرّهن والهبة، والقبض الناقل للضمان في البيع. وهذا غير صحيح، وصورة المسألة أن يزعج رجلاً عن بساطه المملوك، ويجلس عليه، أو يركبَ دابته، ولا يسيرها.
وممّا نذكره في تصوير الاستيلاء: أن من دخل داراً، وفيها ربها، فلم يزعج المالك، ولكنه استولى مع استيلاء المالك، وصارا على صورة ساكِنَيْن للدار، فنجعل المعتدي غاصباً لنصف الدار. ولو دخل رجل ضعيف دار محتشم (2) في حال غيبته عنها، ووُجِد منه فيها صورةُ اليد في الظاهر، فالأصح أنا نجعله غاصباً، وإن كان يُخرَج ويُزعج على قرب؛ فإنه ليس من شرط الغصب انتهاءُ يد الغاصِب إلى حالة تعسر إزالتها.
وذهب بعض الضعفة من أصحابنا إلى أن هذا لا يكون غاصباً؛ فإنه لا يعد في العرف مستولياً، والذي جاء به لا يسمى استيلاءً، بل هو في حكم الهزء والعبث، في مطرد العادة.
وهذا غير سديد لما قدمناه من وجود صورة اليد. وليس كما لو دخل هذا الضّعيف الدارَ، وفيها ربها؛ فإنه لا تظهر له يد، مع استيلاء يد المالك، واستمكانه من إزعاجه بزجره، وأَخْذه، وصعقه (3) . والتعويل في الجملة والتفصيل على العرف وما يعلمه أهله في معنى اليد والاستيلاء.
هذا عقد المذهب في تصوير الغصب في العقار.
__________
(1) في الأصل: بألا ينقلها.
(2) محتشم: مهيب، وصاحب حشمٍ يغضبون له. (معجم) .
(3) (ت 2) : وصفعه.(7/234)
4615- ثم وصل الشافعي بتصوير غصب العقار ذكْرَ تصرفاتٍ من الغاصب ونحن نستوعبها ونأتي عليها واحداً واحداً، إن شاء الله تعالى.
فلو غصب الرّجُل أرضاً، واحتفر فيها بئراً، فهو معتدٍ بحفر البئر، ولو تردّى فيها متردٍ، وجب عليه الضّمان، كما لو احتفر بئراً في مضيقٍ من الشارع. فإذا ثبت ذلك، ابتنى عليه، أنه يجب عليه طمُّ البئر وكبسُها (1) ، ليخرج عن هذا الضرب من العدوان، فإذا استرد المغصوب منه الأرضَ، وأمر بكبس البئر، فقد تأكد ما ذكرناه من وجوب ذلك، وكان واجباً دون أمره؛ لعلةِ الخروج عن العدوان. وهو الآن واجب لعلتين: إحداهما - ما ذكرناه. والأخرى امتثال أمر المالك، على ما سنوضح في سياق الفصل تحقيقَ الفقه فيه.
ولو قال المالك: أمنعك من الكبس، لم يكن له ذلك؛ فإن في منعه إدامةُ سبب العدوان، وبقاءُ التعرض للضمان. ولو قال: رضيت بالبئر، فاتركها، فهل له أن يطمّ مع الرضا؟ فعلى وجهين مشهورين، ترجع حقيقتهما إلى أن رضا المالك بإدامة البئر هل تنزل منزلة رضاه بحفر البئر ابتداءً؟ ولا شك أن المالك لو رضي بحفر بئر في ملكه، وأذن فيه، أو أمر به، فلو تردّى متردٍّ فيها، لم يضمن المالكُ، ولا الذي تولى حفره. وهذا (2) مختلف فيه: فإن قضينا بأن الرضا بالدوام كالإذن ابتداءً بالحفر، فقد يمنع الغاصِب من الكبس. وإن قلنا: لا يكون الرضا بالدوام بمثابة الإذن بالحفر ابتداء، حتى لو قدر تردي متردٍّ، وجب الضمان، فعلى هذا يطم الغاصب البئر قطعاً لسبب العدوان، وخروجاً عن الضمان.
وهذه الصورة التي ذكرنا الخلاف فيها تمتاز عما قدمناه عليه من أن المالك لو منعه من الطمّ، لم يمتنع؛ فإن ذلك فيه إذا لم يتعرض للإذن، واحتفر على المنع. فأما إذا صرح بالرضا، فهو صورة الخلاف.
وذكر كثير من أئمتنا في الإذن الذي ذكرناه تقييداً، نحن نورده، فقالوا: لو رضي بالدوام، وأبرأه عن ضمان من يتردّى، ففي المسألة الوجهان. وذهب ذاهبون إلى
__________
(1) في هامش (ت 2) : الكبس: طمُّ الحفيرة بالتراب.
(2) أي حكم الضمان.(7/235)
اشتراط التعرض للإبراء عن ضمان العدوان، حتى تخرّجَ المسألة على الخلاف.
وهذا عندي زلل، فليس إلية الإبراء. [فإن] (1) كان الرضا بالدوام قاطعاً سبب الضمان، نازلاً منزلة الإذن في الابتداء، فذاك. وإن كان الرضا بالدوام لا يتضمن انقطاع سبب العدوان، فالإبراء عن الضمان لا معنى له؛ فإن الضمان قد يجب بسبب تردي من ليس من مالك الأرض بسبب، والإبراء عن حق الغير قبل ثبوته محال تخيله؛ فإنه بعد الثبوت لا ينفذ، فما الظن بتصحيح مطلَقه (2) قبل الوقوع.
وهذه المسألة لا تصفو عن شوائب الفكر إلا بذكر تمام الغرض فيه، فنقول: مهما قلنا: يكبس الغاصب، ويطم، فحق عليه أن يطم؛ فإن هذا إزالةُ سبب العدوان، ولا أثر فيه على هذا الوجه للرضا، ولا خِيرةَ في إزالة سبب العدوان. وإن بعد نظر الفقيه عن هذا، فسببه ضعفُ هذا الوجه؛ فإن الظاهر أن دوام الرضا من المالك ينزل منزلة الابتداء.
4616- ونحن نستتم الآن تفصيل القول في ذلك بذكر مقدمة مقصودة في الفصل، ثم نعود بعدها إلى إكمال البيان، فنقول: لو نقل الغاصب مقداراً من التراب، من الأرض المغصوبة، من غير فرض احتفارٍ، فالتراب مملوك. وإذا كان متشابه الأجزاء، فهو من ذوات الأمثال، فإن بقي عينه، فللمغصوب منه تكليفُه ردَّ عينه إلى المكان الذي أخذ منه.
ولو قال للغاصب الناقل: رضيت بأن تتركه، ولا تعيدَه، نظر: فإن كان الغاصب نقله إلى ملك نفسه، أو نقله إلى ملك غيره متعدياً، أو نقله إلى شارع المسلمين وضيق به على الطارقين، وقد يكون نصبه منضَّداً في الشارع سبباً لضمان من يتعثر به، ففي هذه المواضع ينقل التراب إلى الأرض المغصوبة؛ فإن له أغراضاً صحيحة في النقل، فإنه بين أن يفرّغ ملك نفسه، وبين أن يفرغ الشارع، أو يفرغ ملك غيره، وقد كان اعتدى بالنقل إليه.
__________
(1) في الأصل: وإن.
(2) أي مطلق الإبراء.(7/236)
فأمّا إذا كان نقل التراب إلى موات، أو إلى الشارع على وجهٍ لا يضر بالمارة، فإذا قال المغصوب منه: لا تنقله إلى الأرض، لم يكن له نقله؛ فإنه لا غرض له في النقل، ومالك التراب راضٍ بتبقيته في المكان الذي هو فيه.
ولا يخفى على الفقيه أنه لو كان نقله إلى الشارع على وجهٍ يفرض لأجله الضمان والعدوان، فإذْن المالك وإبراؤه عن الضّمان لا معنى له؛ فإنه ليس إليه هذا.
ولو أراد المالك [بتبقيته] (1) أن يضيق مسلك المارة، أو يأذن فيه، لكان ممنوعاً منه.
ومن تمام ذلك أنه إذا كان للغَاصب غرض، فلو ردَّ التراب إلى الأرض، وأراد أن يبسطه لتعود إلى هيئتها التي كانت عليها، ويعود التراب إلى المكان الذي أخذه منه، فقال المالك: اتركه على طرف الأرض، ولا تبسط، فحق عليه أن يترك البسط، ويقتصر على ما رسمه المالك؛ فإنه لا غرض له في البسط. والمسألة مفروضة فيه إذا لم يكن لنقل التراب حفيرة يفرض التردي فيها، فلا غرض إذن للغاصب في البسط، ولا معنى لمخالفة المالك.
وهذا الذي ذكرناه مشروط بشرط، وهو أن نقل التراب، ورفعَه عن وجه الأرض إن لم يكن أحدث في الأرض نقصاً -وقد انتهى الكلام إلى المنتهى الذي ذكرناه- فالأمر على ما وصفناه، وإن كان رفعُ التراب أحدث نقصاً في الأرض، فإن أبرأ المالكُ عن أرش النقص، ورسم ألا يبسط التراب، لزم امتثال أمره. وإن كان يطلب أرش النقص، ولو ردّ الغاصبُ التراب إلى المكان الذي أُخذ منه، لكان ذلك جبراً لما وقع، وردّاً للأرض إلى ما عهدت عليه، فإنه يبسط التراب لغرض إبراء الذمة عن ضمان النقصان؛ فإن هذا من الأغراض الظاهرة.
4617- وما ذكرناه استفتاح أصل آخر، وهو أن من أحدث نقصاً في أرض غيره، بسبب نقل التراب منه، واستمكن من إزالة ذلك النقص برد التراب؛ فإنه يفعل ذلك، ويتحتم عليه إن طلبه المالك. ويجوز له أن يفعله إن لم يطلبه المالك. وإن قال
__________
(1) في الأصل: بنفسه.(7/237)
المالك: دعه، فلست أطالبك بأرش النقص، لم يكن ذلك إبراء منه عن الضّمان، بل هو عِدةٌ، لا يجب الوفاء بها، فلا يثق الغاصب، ويرد التراب، ويسوي الحفائر.
وهذا يخالف ما لو شق ثوباً لإنسان وطلب أن يرفوَه؛ فإنه لا يجاب إلى ذلك، باتفاق الأصحاب. ولا فرق بين أن يحتاج في الرَّفْو إلى الإتيان بأجزاءَ لم تكن في الثوب، وبين أن يستمكن من الرَّفْو من غير الإتيان بشيء من غير الثوب. والسبب فيه أن الرَّفْو لا يرد الثوب إلى ما كان عليه قبل الشق، وإن تناهى الرافي في المهارة.
والأرض يمكن ردُّها إلى [ما كانت] (1) عليه قبلُ. فهذا هو الفرق.
4618- ومن تمام البيان في ذلك: أن عين التراب المنقول إن كان باقياً، فالجواب ما ذكرناه، وإن تلف ذلك التراب وانمحق في مدارج الرياح، أو جرفه سيل، غشيه وبدَّده، فقد نقول: التراب مضمون بالمثل، فلو أراد ردّ مثل ذلك التراب إلى المكان لتسوية الحَفِيرة (2) ، فقال المغصوب منه: لا أمكنك من رد مثل ذلك التراب إلى الحفر، وألزمك تركَ ما تضمنه على طرف من الأرض، وأطالبك بأرش النقص، الذي أحدثته في الأرض بسبب نقل التراب منها، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن للمالك ذلك، بخلاف ما لو كان عينُ التراب باقياً؛ فإنه إذا رده وسوى به الأرض، فقد رد ما أخذه كما أخذ، وإذا ابتغى ردَّ المثل، فليس معيداً لعين ما أخذه. والمسألة محتملة.
ولا خلاف أنه لو كان لا يتمكن من رد الأرض إلى ما كانت عليه إلا بزيادة تراب يأتي به، فلا يمكن من هذا.
4619- وممَّا يتصل ببيان الكشف، أنه لو كان نقل التراب، وما أحدث في الأرض نقصاً يوجب الضّمان، ولكن نقله إلى ملك نفسه، أو اعتدى بنقله إلى ملك غيره، أو إلى الشارع، على الوجه الذي وصفناه، فقد أوضحنا أنه يرد الترابَ إلى الأرض، فلو كان يستمكن من طرح ذلك الترابِ -الذي يُفرِّغ عنه ملكَه، أو ملكَ غيره، أو الشارع-
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) (ت 2) : تسوية الحفر به.(7/238)
في مواتٍ، هو في طريقه التي يقطعها في رد التراب، فقال المالك: اطرحه في الموات، فهو أهون عليك، ولست أبغي أن تشتغل به أرضي، وما أحدثت بنقلك نقصاً، وفعلُك في الطرح في ذلك الموات، كفعلك في الطرح على أرضي، لو رددتَ إليها، والأمر أهون عليك؛ من جهة قِصَر المسافة، فقد يعترض في ذلك أن الغاصب يبغي ردّ التراب إلى يد المغصوب منه؛ فإنه مضمونٌ في نفسه. فإن فرض للمغصوب منه ملكٌ في الطريق، فإذا نقل التراب إليه، كان عائداً إلى حكم يد المالك، فالذي نراه القطعُ بأن الغاصِب يلزمه أن يمتثل أمرَه؛ إذ لا ضرر عليه، ولا غرض له في النقل إلى المكان الذي أخذ التراب منه.
ولو قال المغصوب منه: انقل التراب إلى مواتٍ بالقرب منك، أو إلى ملكٍ لي بالقرب منك، وليس على صوْب مجيئه لو طلب الردّ إلى المكان الذي أخذ منه، ففي هذا تردد، يُشعر به كلام الأئمة، وقد يظهر أنه يلزمه موافقةُ المالك، إذا لم يكن عليه مزيدُ مشقة، على الشرائط التي قدمناها.
ويظهر أنه لا يفعل هذا؛ فإنه استخدامٌ، وليس كما لو طلب منه الطرحَ في الطريق؛ فإنه اختصار على بعض ما كان يفعله.
فانتظم ممَّا ذكرناه فصولٌ في ردِّ التراب، وملكِ الغاصب ذلك، وتفصيلِ القول في رد الأرض إلى ما كانت عليه، إذا حصل فيها نقص، وبان أن الغاصب قد يلزمه ذلك إذا طلبه المالك، وقال: رُد ترابي وسوِّ الحفر، وقد يكون له ذلك وإن لم يطلبه المالك، لأغراضٍ، من جملتها أن يكفي نفسَه ضمان النقصان، ولاح الفرق بين ذلك، وبين رفْو الثوب.
ومما يلتحق بالرفو معالجة العبد الذي جنى عليه الغاصب جنايةً تنقصه، فإنه لو قال: مكِّني من مداواته؛ فإني أعيده بها إلى حالة صحته، فلا يمكَّن من هذا.
والمنع من المداواة أظهرُ من المنع من الرَّفْو، والثقةُ بحصول الغرض بها أقلُّ.
4620- فإذا تمهدت هذه الأصول فيما على الغاصب وله؛ فنستتم بعدَ بيانِ ذلك القولَ في طم البئر، ونقول: إن لم نجعل الرضا بالدوام مسقطاً للضّمان، فله الطم، بل عليه ذلك. وإن جعلناه مسقطاً للضمان، اعترض فيه جواز رد التراب إلى موضعه(7/239)
أخذاً [من] (1) الفصول التي قدمناها، فليتنبه الفقيه للقواعد، ولْيبن الأمرَ على مقتضاها.
وممَّا نذكره أن الغاصب لو كان نقل تراباً من أرضٍ مُقلّبة مُكرَّبة (2) مثارةِ التراب، مهيأةٍ للغراس، فردُّ التراب إلى ما عهد سهلٌ. وإن كانت الأرض صلبة، ففُرِض نقلُ التراب، ثم طلب إعادته إلى موضعه، فعلى الراد أن يتكلف تنضيده، وهو سهل أيضاً. وإنما ذكرنا ذلك، فإن الأرض الصلبة قد تصلح للبناء عليها، فلو لم ينضد التراب المنقول، فلا يحصل الغرض الذي كان، وفي التنضيد تُردّ أجزاء التراب إلى مقارها الحقيقية. هذا منتهى ما أردناه في ذلك.
وقد يتعلق بالفصل ما إذا غصب أرضاً، وغرس فيها غراساً أو بنى بناءً، وهذا سنذكره في فصل الصبغ بعدُ، إن شاء الله عز وجل.
فصل
قال: "ولو غصب جارية، فهلكت ... إلى آخره" (3) .
4621- مضمون الفصل الكلامُ في طرفٍ من اختلاف الغاصب والمغصوب منه، وهو يتعلق بنوعين: أحدهما: الاختلاف في صفات المغصوب. والثاني: الاختلاف في قيمته بعد تلفه.
فأما الخلاف في صفات المغصوب، فإذا ادّعى المغصوب منه سلامة المغصوب عن العيوب، وطلب بذلك وفور القيمة، والعين فائتة. وقال الغاصب: بل كان مئوفاً (4) ، ووقع التعرض لعيبٍ مثلاً، نُظر فإن قال الغاصب: كان العبد المغصوب أَكْمه، أو كان عديم اليد في أصل الفطرة، وادّعى المالك أنّه كان بصيراً سليم اليد، فقد قال الأصحاب: القول قول الغاصب، وعلى المالك إقامة البينة؛ فإن الغاصب
__________
(1) في الأصل: بين.
(2) مكرَّبة: من كَرَبَ يكرُب من باب قتل: كربْتُ الأرض قلَبتُها للحرث (معجم ومصباح) وكرّب مضعف كرب للمبالغة.
(3) ر. المختصر: 3/41.
(4) مئوفاً: اسم مفعول، من آفت البلاد إذا أصابتها آفة. (معجم) والمراد هنا أن الغاصب يدعي أن المغصوب كان معيباً، أيّاً كان هذا المغصوب.(7/240)
أنكر وجودَ عضو، ولا يمتنع (1) أن يقال: الأصل عدمها (2) ، وينضم إلى ذلك أن الأصل براءة ذمته عن المقدار الزائد المدعى عليه.
وإن اعترف الغاصب بأن العبد كان كامل الخلقة، وادعى طريان العمى والقطع قبل الغصب، وزعم أن يده صادفته معيباً بالعيب الذي وصفه، ففي المسألة قولان: أحدهما - أن القول قول المالك؛ فإن الأصل دوام سلامة العبد عما ادعى الغاصب طريانَه عليه من قطعٍ، أو عمى.
والقول الثاني - أن القول قول الغاصب؛ فإن الأصل براءةُ ذمته عن المزيد المتنازع فيه، وهذا يلتحق بالأصل الذي يسميه الفقهاء: "تقابل الأصلين".
وذكر بعض أصحابنا أن الغاصب لو ادعى عيباً خِلْقياً، كما قدمنا وصفه، وكان ذلك العيب يفرض نادراً، في آحادٍ من الناس، كما ذكرناه من ادعائه كونَه أَكْمهَ، أو عديمَ اليد، ففيه خلاف؛ من جهة ادعائه نادراً، فقد يغلب على الظن كذبُه فيه، ومحاولتُه الغضَّ مما يلزمه من القيمة، والأصلُ (3) في الناس السلامة، وعليه ابتنى ثبوتُ حق الرد بالعيب؛ فإن المشتري يبني العقدَ المطلقَ على معهود السلامة، فينزل ذلك منزلةَ شرط السلامة.
ثم هذه الطبقة من الأصحاب ذكروا أوجهاًً: أحدها - أن المصدَّقَ المالكُ، بناء على السلامة. والثاني - أن المصدَّقَ الغاصبُ، لما سبق تمهيده قبلُ. والثالث - أنه يفصل بين العيوب النادرة، وبين ما لا يندر.
وكل هذا خبطٌ، لا أعده من المذهب (4) . والذي يجب القطع به، أن الغاصب إذا لم يعترف بأصل السلامة، فهو مصدَّق مع يمينه في ادعاء انعدام عضو أو صفةٍ في أصل الخلقة، وإنما محل الخلاف فيه إذا اعترف بأصل السلامة، ثم ادّعى طريان آفة، كما بيناه.
__________
(1) (ت 2) : يمكن.
(2) الضمير يعود على اليد، وليس الآفة، فالإمام يقطع بهذا، ولا يرى في المسألة غيرَه.
(3) (ت 2) : فإن الأصل.
(4) ما رآه الإمام (خبطاً) هو ما استقر عليه المذهب، يشهد بذلك قول النووي: "فلو قال: كان أكْمهَ أو وُلد أعرج، أو عديم اليد، فالمصدّق الغاصبُ على [الوجه] الصحيح؛ لأن الأصل العدم، ويمكن للمالك البينة، والثاني - يصدّق المالك نظراً إلى غلبة السلامة، والثالث - يفرق بين ما يندر من العيوب وغيره" (ر. الروضة: 5/28، 29) .(7/241)
4622- ومما يلتحق بذلك أن المالك لو ادّعى أن العبد المغصوب الفائت كان يحسن صناعةً من الصناعات، وأنكرها الغاصب، فالذي قطع به المراوزة أن القول قول الغاصب؛ فإن الأصل براءة ذمته، والأصل عدم الصناعة التي يدعيها المالك.
وذكر العراقيون وجهاًً غريباً: أن القول قولُ المالكِ، ووجهوه عندهم بأن صفات العبيد قد لايطلع عليها إلا السَّادة، ويعسر إثباتها من غير تصديقهم، فلو لم نصدقهم، لأدّى إلى تعطيل كثير من الصفات في محل النزاع. ونحن قد نصدق في إثبات شيء والأصل عدمُه إنساناً، إذ (1) كان لا يتلقى ثبوته إلا من جهته، ومنه تصديقنا المرأةَ في الحيض، إذا كان الزوج علّق طلاقَها على أن تحيض، وإن كان الأصل بقاءَ النكاح وعدمَ الطلاق.
وهذا تخليط غيرُ معدودٍ من المذهب، والوجه القطع ببناء الأمر على عدم الصناعات، وعلى من يدّعيها البيّنة.
هذا في اختلاف الغاصب والمغصوب منه في صفةِ المغصوب.
4623- فأما إذا وقع الاختلاف في مبلغ قيمة العبد مطلقاً، من غير تعرض لصفاته، فإذا قال المالك: كانت قيمة العبد ألفين، وقال الغاصب: كانت ألفاً، فالقول قول الغاصب مع يمينه، لا خلاف فيه؛ بناء على ما قدمناه من براءة ذمته عن المزيد المدَّعى.
ولو ادعى المالك بقاء العين المغصوبة في يد الغاصب، وادعى الغاصب تلفَها، والتزم ضمانَ قيمتها، فقد اختلف الأصحاب في ذلك، فالذي ذهب إليه المحققون، وهو اختيار القفال، فيما حكاه شيخي عنه أن القول قولُ الغاصب، فإنا لو لم نصدقه مع يمينه، لأوجب ذلك تضييقاً عليه، لا نجد عنه مخرجاً، وقد يخلّد حبسه فيه، والتلف يجري بحيث لا يشعر به غيرُ الغاصب، سيما في الجواهر والأعيان الخفية.
ومن أصحابنا من اكتفى بظاهر الحال، وقال: الأصل بقاء العين حتى تقوم البينة على تلفها. وهذا القائل يحلِّف المالك، والصحيح ما اختاره القفال، والثاني مزيف.
__________
(1) كذا في النسختين: "إذا" وهو صواب؛ فوضع (إذْ) مكان (إذا) سائغ كعكسه. (ر. شواهد التوضيح لمشكلات الجامع الصحيح: 62) .(7/242)
4624- ومما يتم به غرض الفصل: أن العبد المغصوب إذا مات فإن كان رآه المقومون، فلا شك أنهم يعتمدون عِيانهم في الشهادة على قيمته، وإن لم يره المقوّمون، فأراد مالك العبد أن يقيم شهوداً على صفاته، وحِلْيته، وصورته، ورام أن يعتمد المقومون تلك الصفات، ويبنوا التقويم عليها، فليس له ذلك، وليس للمقومين اعتمادُ الصفات التي يشهد بها العدول. والسبب فيه أن ما يعتمده التقويم لا يدخل تحت ضبط الواصفين؛ فإن المعتبر الأظهر الذي تختلف القيم به لا يدخل تحت الوصف؛ فإن القيمة تختلف بالملاحة، ولطف الشمائل، وغيرها، ممَّا يدِق مُدركُه.
فإن قيل: ألستم صححتم السلم في الحيوان اعتماداً على الوصف، ثم استقصاء الأوصاف مقصود في السلم؟ قلنا: قد ذكرنا في كتاب السلم أن الإسلام في الحيوان يضاهي أبواب الرخص، ولا يشترط فيه من استقصاء الصّفات، ما يشترط في سائر الأجناس. وقد مهدت في ذلك أصولاً في كتاب السلم، والقدر الذي يقع الاكتفاء به هاهنا أن مبنى السلم على تنزيل المسلم فيه على أقل مراتب الصفات، والاكتفاء بأول المنازل، ولا يتصور بناء التقويم على هذا؛ فإن المقوّم يحتاج إلى الاطلاع على النهايات ليبني ظنه عليها في التقويم. وهذا واضحٌ، لا خفاء به.
وحكى صاحب التقريب قولاً غريباً أن التقويم يقع بأوصافٍ، تنزيلاً على الأقل كالسلم. وهذا بعيدٌ غير معتدٍ به.
وإن ذكر الغاصب في إقراره بالغصب أوصافاً للمغصوب، وقال: كان المغصوب مورّدَ الخدين، أزجَّ الحاجبين، نجلاءَ العينين، أكحلهما، مستدقَّ الأنف، وارد الأَرْنبة (1) ، رقيق الشفتين، مديدَ القامة، حسن الهامة، مكلثمَ (2) الوجه، مستطيلَ الجيد (3) ، عريض الكتف، [مخصّر] (4) الوسط، نادر الرِّدْفِ (5) ،
__________
(1) وارد الأرنبة: يقال: فلان وارد الأرنبة: طويل الأنف. (معجم) .
(2) الكلثوم: الممتلىء لحم الخدين والوجه. وكَلْثم وجهه: اجتمع لحمه بلا جهومة (معجم) .
(3) في (ت 2) : الجسد.
(4) في الأصل: مختصر. والمراد دقيق الوسط.
(5) نادر الرِّدْف: من ندرَ الشيء خرج من غيره وبرز، يقال ندر العظم عن موضعه، برز وخرج،=(7/243)
[خديجَ] (1) الساقين، غائص الكعبين (2) إلى غير ذلك. فهذه الصفات لا يعتمدها التقويم، ولكنها تفيد من جهة أنه لو ادّعى قيمةً لا تليق بهذه الصفات، مثل أن يذكر شيئاًً نزراً دراهم معدودة، فلا يقبل منه ما ذكره؛ فإنا وإن كنا لا نعتمد الصفاتِ في التقويم، فنستفيد مناقضةَ ما ادّعاه من القيمة، لما اعترف به من الأوصاف. فإذا قال ذلك، قلنا: ارتَقِ، وزِدْ، فإن زاد زيادةً لا تليق أيضاً بالأوصاف، كلفناه الرقي، ولا يزال كذلك حتى ينتهي إلى مبلغٍ، قد يُظن أنه يليق بالأوصاف التي ذكرها.
ولو أقام المالك بينةً على الأوصاف، فقد ذكرنا أن القيمة لا تعتمدها، ولكن المالك يستفيد إبطالَ دعوى الغاصب مقداراً حقيراً، فلا فرق بين أن تثبت الأوصاف بقول الغاصب وبين أن تثبت بتحلية الشهود ووصفهم.
4625- وإن قال المالك: قيمة العبد ألف، وقال الغاصبُ: بل خمسمائةٍ، فأقام المالك بينة أن القيمة كانت أكثر من خمسمائةٍ، ولم تتعرض البينة لضبطٍ، فالذي ذهب إليه الأكثرون أن البينة تُسمع على هذا الوجه، وفائدة السماع أن يكلَّف الغاصبُ أن يزيد على الخمسمائة، ويرقَى، كما ذكرناه في الأوصاف، فإن زاد، فقالت البينة: كانت القيمة أكثر من هذا، فنكلفه الزيادة إلى أن ينتهي إلى موقف لا يقطع الشهود أقوالهم بالزيادة عليه.
وقال بعض أصحابنا: لا تقبل البينة على هذا الوجه. وهذا ساقط غيرُ معتد به، وذهولٌ عن الحقيقة؛ فإن الجهالة إنما تقدح إذا كنا نبغي معها إثباتَ مقدّرٍ (3) ؛ ولسنا نبغي في هذا المقام إثبات مقدَّرٍ، وإنما نطلب إبطالَ قول الغاصب، وذلك ممّا يمكن التوصل إليه على تحقيقٍ. والعلم بالمشهود به إنما يشترط إذا كان المطلوب معلوماً، فإذاً الغرض يحصل في تكذيب المدعى عليه بالجهة التي ذكرناها؛ فالوجه قبول البينة، مع الإبهام.
__________
= ونادرُ الجبل ما يخرج منه ويبرز. والرِّدف: العجز (معجم، ومصباح) .
(1) في النسختين حديج بالحاء المهملة. وخديج الساقين بالمعجمة: أي دقيق الساقين، من خدج الصلاة: نقصها. (معجم، ومصباح) .
(2) أي غير شديد البروز والنتوء للكعبين. والعرب تتمدّح بامتلاء موضع الخلخال.
(3) (ت 2) : مقدور.(7/244)
ولا يختص ما صورناه بالغصب. فلو ادّعى رجل على رجل ألف درهم، فاعترف المدعى عليه بخمسمائةٍ، فأقام المدعي بينةً على أن له عليه أكثرَ من خمسمائة، فالأمر فيه على التفصيل الذي ذكرناه.
فصل
قال: "ولو كان ثوباً، فصبغه ... إلى آخره" (1) .
4626- الغاصب إذا غير المغصوب نوعاً من التغيير، وأحدث فيه صِفةً، فلا يخلو إما أن يكون ما أحدثه أثراً، أو عيناً، فإن كان أثراً، مثل أنه كان غصب حِنطةً، فطحنها، أو دقيقاً، فعجنه، وخبزه، أو شاة، فذبحها، أو لحماً، فطبخه، أو قطناً، فغزله، أو غزلاً، فنسجه، أو نُقرةً، فطبعها، أو تراباً، فضربه لَبِناً، أو ثوباً، فقَصَره، فهذه، وما في معانيها آثارٌ؛ فإنها تثبت من غير مزيدِ عين، والقول في جميعها على نسق واحد.
فنقول: إن اقتضت هذه الآثار نقصاناً، فالحكم فيها أنه يجب ردُّ العين على ما هي عليها، مع أرش النقص.
وإن اقتضت الآثار زيادةً، فالعين مردودة على مالكها على ما هي عليها، ولا حق للغاصب في الزيادة التي حدثت بسبب فعله. ولا خلاف أن هذه المعاني لا تلتحق في حق الغصب بالأعيان الزائدة، وقد ذكرنا في كتاب التفليس قولين في أن القِصارة، وما في معناها إذا صدرت من المشتري، ثم أفلس بالثمن، فتيك الزيادة أثرٌ أوْ عين.
وقد مضى القولُ مفصلاً في كتاب التفليس.
وغرضنا الآن الإشارة إلى الفرق بين البابين. فنقول: المفلس أحدث ما أحدث بحقٍّ في محل ملكه وحقه، فيجوز ألا يضيع سعيُه في تحصيل تلك الزيادة. والغاصب المعتدي ظالم بما أحدثه، فلا نقيم لسعيه وزناً، ونخيّب عملَه وظنَّه.
وممَّا ذكرناه في التفليس أن المشتري لو استأجر قصاراً، فقَصَر الثوبَ المشترى،
__________
(1) ر. المختصر: 3/41.(7/245)
فقد نقول: إذا أفلس المشتري، فللقصار تعلُّقٌ بالثوب، لأجل ما حصّله من القِصارة، ولا سبيل إلى تخيّل مثل ذلك في الغصب، فالآثار التي تضمنت مزيداً انقلبت إلى المالك لا محالة، لا حظ فيها للغاصب، ولا تعلق بها للعامل.
ولو أحدث الغاصب أثراً، واقتضى زيادةً: مثل أن يغصب نُقرة فيطبعها دراهم، وازدادت قيمتُها لذلك، أو غصب تراباً، فضربه لَبِناً، فلو أراد المغصوب منه أن يكلفه ردَّ الدراهم تبراً بالإذابة والسبك، وردَّ اللبن تراباً بالدق، فالذي قطع به الأئمة أن له أن يكلفه ذلك، ولا نظر إلى تتبع (1) الأغراض؛ فإنها على الجملة ممكنة (2) . وإذا أمكن غرضٌ، لم تَجْرِ (3) مطالبة المالك بإظهاره. وهذا مقطوع به في الطرق. وفيه تنبيهٌ على أصلٍ، وهو أن من غصب شيئاً على صفةٍ وغير صفتها، فهو على حكم هذه القاعدة مطالبٌ بردّ صفتها إذا كان ردُّها ممكناً. وهذا غائص يتعيّن حفظه.
ويقرب منه ردُّ التراب إلى الحفائر، وتسويتُها به، وهو يستند إلى أصلٍ آخر، وهو رد المغصوب إلى المكان الذي غصبه منه. والذي ذكرناه الآن إعادةُ الصفات لأعيانها.
ولو هدم رجلٌ جدار إنسانٍ، فلا يكلف إعادتَه؛ فإنه لا يتأتى إعادتُه على النعت الذي كان عليه إلا أن يكون منضداً من غير ملاطٍ، (4 فتكليف تنضيد أحجارٍ من غير استعمال ملاط 4) يلتحق برد التراب المنقول إلى موضعه.
ولو رضي المغصوب منه بالدراهم، فقال الغاصب: أردها سبائك، لم يكن له ذلك؛ فإنّه لا غرض له في ذلك، ولا يتوصل إليه إلا بملابسة (5) ملكِ غيره، والتصرفِ فيه، فلا يجاب إلى هذا. وطم البئر إنما ساغ للغاصب على التفصيل المقدَّم بسبب ما فيه من تعرضه للضّمان والعدوان.
__________
(1) كذا في النسختين: "تتبع الأغراض" والمعنى المفهوم بوضوح من السياق: أنه لا نظر في أغراض الملاك، وتتبّعها؛ لنرى هل هي معقولة مقبولة، أو لا معنى لها، مثل دقِّ اللبِن وإعادته تراباً؛ فذلك لا اطلاع عليه، لأن الأغراض في الجملة ممكنة مهما بعد تصورها.
(2) ممكنة: بمعنى محتملة.
(3) في (ت 2) : "لم يجز".
(4) ما بين القوسين ساقط من (ت 2) .
(ت 2) : بملك يثبه ملك غيره.(7/246)
وعند هذا المنتهى سر، وهو أنا لا نجوّز لحافر البئر طمَّها ليبرأ عن الضّمان؛ إذ لو كان المعنى هذا، لما بالينا بتورطه في الضّمان، ولقلنا: أنت الذي ورطت نفسك في هذا الضمان، ولكن المعتبر أن قطع العدوان واجب، فليفهم الناظر ذلك؛ فإنه من لطيف الكلام.
ولو كان قَصَر الغاصب الثوبَ، فليس من الممكن أن يكلفه المغصوبُ منه رده إلى البت (1) ، فلا تكليف في هذا، وما يناظره.
4627- وذكر الأئمة في قسم الآثار (2) مسائلَ تستفاد ذكرنا بعضها فيما سبق، ونحن نجمعها الآن: لو غصب عصيراً، فانتهى في آخر أمره إلى حموضة الخل؛ فإنه يرد الخلَّ، وهل يضمن العصير؟ فيه وجهان: أحدهما - أنه لا يضمن؛ فإنه ردَّ عين ما غصب، ولكن صفته حائلة، فينظر في نقصان القيمة على التفصيل المقدم.
والثاني - يضمن العصير؛ فإن الذي رده خل، وقد صار العصير خمراً في يده، ثم صارت الخمر خلاً، ولما انقلب العصير خمراً، وجب إذ ذاك مثلُ العصير؛ فإنه باشتداده خرج من أن يكون مالاً، فما أوجبناه من المثل لا يزيله، والخل رزقٌ ساقه الله إلى المغصوب منه.
ومن هذا الجنس ما لو غصب بيضة فأحضنها دجاجة، ففرخت، فيجب ردّ الفرخ على مالك البيضة، وهل يجبُ على الغاصب قيمةُ البيضة؟ فعلى وجهين: أحدهما - يجب؛ لأنها تصير مَذِرَة (3) ، ثم تنقلب فرخاً، والمذِرة لا قيمة لها كالخمر.
والثاني - لا يجب ضمان البيضة، كما تقدّم في العصير.
ولو غصب بَذراً، فَزَرَعَه فنبت وتَسَنْبل، وأَدْرَك، فلا شك أن الزرع لمالك البذر، وهل يغرَم الغاصب مثلَ البذر للمغصوب منه؟ فعلى وجهين؛ لأن البذر يتعفن، ويخرج عن المالية، ثم يُنبت.
__________
(1) البتّ: كساءٌ غليظ من صوف أو وبر. (معجم) فالمعنى أن البتّ هو الثوب الخام الذي لم تدخله القصارة، وهي دق الثوب وتبييضه (المعجم) .
(2) قسم الآثار: أي الآثار التي يحدثها الغاصب فيما غصبه.
(3) مذرة: من مذرت البيضة إذا فسدت (مصباح) .(7/247)
4628- ومما يتعلق بما نحن فيه أنه لو غصب خمراً، فصارت في يده خلاً، أو غصب جلد ميتة، فدبغها، فهل يلزم رد المدبوغ والخل؟ حاصل ما ذكره الأصحاب أوجه: أحدها - أنه يجب الرد؛ فإن المملوك آخراً فرعُ المغصوب، وإن لم يكن مالاً لمَّا غُصب، فيجب رد الفرع إلى من كان مختصاً بالأصل. وهذا أصح الوجوه.
والثاني - أنه لا يرد ويفوز بالخل والجلد المدبوغ؛ لأن الملك حصل في يده، وما غصب ملكاًً، فاستبدّ بما جرى الملك فيه، ولو تلفت الخمر خمراً، والجلد قبل الدباغ، لما كان يضمن شيئاً؛ فهذا إذن فائدةٌ مستجدة، حصلت في يد الغاصب.
والوجه الثالث - أنه يمسك الخل، ويفوز به، ويردّ الجلدَ، والفرق أن الخمر لا يحل اقتناؤها لتُعالج، وجلود الميتات تُقتنى للمعالجة.
والأصح الوجه الأول.
ويمكن أن يقال: الخلاف في الخمر مفروض في الخمرة المحترمة حتى تناظرَ الجلدَ قبل الدِّباغ.
ولو أخذ خمراً مستحقة الإراقة، ولم يتفق منه إراقتُها حتى انقلبت في يده خلاً، فالظاهر عندنا القطع بأنه يفوز بالخل؛ فإن تيك الخمر، لم تكن مستحقة، ولم يكن فيها اختصاصٌ، بل كانت مضيّعة في حكم التالفة التي لا حق فيها ولا اختصاص، فمن استفاد منها خلاً، كان ذاك رزقاً مبتدأً في حقه.
وليس تخلو هذه الصورة عن احتمالٍ أيضاً.
وكل ما ذكرناه آثار مجرَّدة، ليس فيها إحداث عين.
4629- فأما إذا أحدث في العين المغصوبة عينَ مالٍ، مثل: إن غصب ثوباً، فصبغه.
في هذا الفصل (1) اضطراب في الطرق، وتباينٌ بيّن، ونحن نرى أن نسوق ترتيباً هو الأصل عندنا في المذهب، ونُلحق ما يليق به من الوجوه الغريبة، ثم إذا نجز، ذكرنا بعد نجازه ما نراه خارجاً عن قاعدة المذهب، مما نقله الأئمة، فنبتدىء ونقول:
إذا صبغ الغاصب الثوب بصِبغٍ، لم يخلُ إما أن يكون الصِّبغ للغاصب، وإما أن يكون
__________
(1) في (ت 2) : "وفي هذا الفصل".(7/248)
لمالك الثوب، وقد غصبه مع الثوب، وإما أن يكون لأجنبي، وقد كان غصبه منه.
فأمّا إذا كان الصِّبغ ملكَ الغاصب، فيتصور الثوب والصِّبغ على صور، ونحن نأتي عليها، ونذكر في كل صورة ما يليق بها.
ونقول: قد يزداد الثوب بسبب الصبغ، وقد ينقص، وقد يبقى على القيمة الأولى: من غير زيادةٍ ولا نقصانٍ. فإن لم يزدد، ولم ينتقص، وتصويره أن قيمة الثوب لو كانت عشرة، وقيمة الصبغ عشرة، وكان الثوب بعد الصبغ يساوي عشرين، فهذا هو الذي عنيناه. فالثوبُ على قيمته، والصبغ على قيمته.
والقول في ذلك ينقسم، فلا يخلو: إمَّا أن يكون الصبغ معقوداً لا يتأتى فصله، وإمّا أن يكون غير معقود، وكان فصله ممكناً. فإن كان الصبغ معقوداً، فالثوب المصبوغ مشترك بين مالك الثوب والغاصب، وليس ذلك كالقِصارة وما في معناها؛ فإن الصبغ عينٌ قائمة؛ فلا سبيل إلى إحباطها، وإبطالِ ملك مالكها فيها، ولا وجه لتمييز الصبغ عن الثوب؛ فإنا فرضنا الكلام في الصبغ المعقود، الذي لا يتميز (1) . ثم لا يملك صاحبُ الثوب إجبارَ الغاصب على البيع، والغاصب لا يُجبر صاحبَ الثوب على البيع، فإن اتفقا على البيع وباعا الثوب المصبوغَ بما يساوي، وهو عشرون، فالثمن مقسوم بينهما، وإن وجدا زبوناً، واشترى الثوب بثلاثين، فالمبلغ مقسوم نصفين بينهما.
وإنّما لم يُجبر أحدُهما على مساعدة صاحبه في البيع؛ تنزيلاً للثوب مع الصبغ منزلةَ ملكٍ مشترك بين شريكين، لا يقبل القسمة؛ فإن واحداً منهما لا يُجبر صاحبه على البيع، وإن كانت القسمة متعذرة، فلكل واحدٍ من الشريكين أن يبيع حصته من الملك المشترك.
وهل يملك كلُّ واحدٍ من صاحب الثوب والصبغ أن يبيع ملكه على حياله؟ القياس أنه يملك اعتباراً بالملك المشترك بين شريكين الذي لا يقبل القسمة.
ويجوز أن يقال: لا ينفذ البيع؛ فإنه لا يتأتى الانتفاع بالثوب وحده، ولا بالصبغ. والبيعُ فيما يعسر الانتفاع به قد يفسد. والملك المشترك يفرض التوصل إلى الانتفاع به بالمهايأة.
وهذا الذي ذكرناه يشبه بيعَ دارٍ لا ممر لها، وقد ذكرنا في صحة بيعها خلافاًً.
__________
(1) لا يتميز: أي لا ينفصل من الثوب.(7/249)
هذا تفصيل القول فيه إذا لم تزد قيمةُ الثوب والصبغ، ولم تنقص.
4635- فأمّا إذا كان الثوب يساوي عشرة، وكان الصبغ يساوي عشرة، فصبغَ الغاصب الثوبَ بصبغه، وعقده، فإذا الثوبُ المغصوب يساوي عشرة، فقد سقطت إحدى القيمتين، واتفق أئمتنا على أن النقصان محسوب من الصِّبغ، فلم يبق إلا قيمةُ الثوب، فالثوب المصبوغ مسلمٌ لصاحب الثوب، لا حظَّ فيه لصاحب الصِّبغ؛ فإن الأصل الثوبُ، والصبغ وإن كان عيناً فهو في حُكم الصفة للثوب، فكأن الصِّبغ قد انمحق، وما ذكرناه في الغاصب وصبغه، ليس بدعاً، إذ قد ذكرنا في كتاب التفليس أن من اشترى ثوباً قيمتُه عشرة، وصبغه بصبغٍ من عنده قيمتُه عشرة، فإذا الثوب المصبوغ يساوي عشرة، فإذا أفلس المشتري بالثمن، وحُجر عليه، فبائع الثوب يرجع في عين الثوب المصبوغ، ويستبدّ به، وإن كان فيه عينُ الصبغ، فإذا كنا نقول ذلك، وقد حصل استعمال الصبغ (1 من المشتري المالك، فالغاصب المعتدي باستعمال الصِّبغ 1) بأن يسقط حقه أولى.
وعلى حسب هذا نقول: إذا طيرت الريح ثوباً لإنسان وألقته في إجّانةِ صباغ، فانصبغ، وما ازدادت قيمةُ الثوب، وتعلق بالثوب من الصِّبغ ما قيمته خمسة، ولم ترتفع قيمةُ الثوب، وكان الصبغُ معقوداً، فقد حبط حق مالك الصِّبغ.
وإن قال قائل: لم يَعْتدِ مالكُ الصبغ، فلِمَ يحبط حقُّه؟ قلنا: لم يظهر للصِّبغ أثر في الثوب، فصار كما لو طيرت الريح جِرمَ الصِّبغ. ومن تعجب من ذلك، رددناه إلى مسألة المفلس؛ فإن المشتري المفلس تصرف في ملك نفسه، واستعمل في الثوب المملوكِ الصِّبغَ المملوكَ، ثم أحبطناه في الصورة التي نحن فيها.
هذا كله إذا سقط مقدار قيمةِ الصِّبغ بالكلية.
4631- فأمّا إذا لم تسقط، [ولكن نقصت] (2) فكان الثوب يساوي عشرة، والصِّبغ يساوي عشرة، وكان الثوب المصبوغ يساوي خمسةَ عشرَ، فالنقصان محسوبٌ من
__________
(1) سقط من (ت 2) ما بين القوسين.
(2) زيادة من (ت 2) .(7/250)
قيمة الصِّبغ، وقيمةُ الثوب نقدرها عشرة، كما كانت. وإذا بعنا الثوب برضاهما، فالثمن مقسوم بينهما أثلاثاً. ولو زادت قيمة الثوب المصبوغ على قيمة الثوب وحده، وعلى قيمة الصِّبغ وحده (1) ، فإذا وفت القيمتان، حسبنا الزيادة منسوبة إليهما على مقدارهما.
وبيان ذلك: أنا قدَّرنا الثوب عشرة والصبغ عشرة، ثم وجدنا الثوب المصبوغ يساوي ثلاثين، فالقيمتان متساويتان، والزيادة مفضوضةٌ عليهما بالسوِيَّة. فإذا بيع الثوب، فلمالك الثوب خمسة عشر، ولصاحب الصِّبغ خمسةَ عشرَ. فهذا قياس الباب.
والضابطُ فيه. من طريق الحساب أنا إذا لم نجد بعد الصِّبغ إلا مقدارَ قيمة الثوب غيرَ مصبوغ، فقد انمحق الصِّبغ، فالمصبوغ لصاحب الثوب. [وإن] (2) وجد الثوب المصبوغ ناقصاً عن القيمتين، احتسب الثوبُ على كمال قيمته قبل الصبغ، واحتسب النقصان كله من الصِّبغ. وإن وفت القيمتان، اعتبرناهما جميعاً. وإن زادت قيمة المصبوغ على قيمة الثوب والصبغ مفردين، فالزيادة على القيمتين مفضوضةٌ عليهما.
ولو وجدنا المصبوغ أقلَّ قيمةً من الثوب قبل الصبغ، فقد انتقص الثوب بذلك المقدار، فعلى الغاصب ردُّ الثوب، وأرشُ ما نقص. وهو كما لو كان الثوب وحده عشرة، والصِّبغ عشرة، والثوب المصبوغ ثمانية، فالغاصب يرد الثوب، ودرهمين.
وقد انمحق الصبغ.
وكل ما ذكرناه في الصبغ المعقود الذي لا يتأتى فصله أصلاً.
4632- فأمّا إذا كان فصل الصبغ ممكناً، فالذي ذهب إليه المراوزة أن للغاصب أن يفصل الصبغ؛ فإنه عين ماله، ثم لم يفرقوا بين أن يكون للصِّبغ المفصول قيمةً، وبين ألا يكون لها قيمة، وبين أن تكون قيمتها (3) نَزْرةً بالإضافة إلى ما كان الصِّبغ عليه قبل الاستعمال، واعتمدوا فيه أنه عينُ مال الغاصب، (4 فهو أولى به 4) من غير التفاتٍ إلى أصل القيمة ومقدارِها.
__________
(1) (ت 2) : بعده.
(2) في الأصل: فإن.
(3) كذا. فإن الصِّبغ يذكر ويؤنث. (معجم) .
(4) سقط من (ت 2) ما بين القوسين.(7/251)
ثم قالوا: لو لم يطلب الغاصبُ فصلَ الصِّبغ، فلصاحب الثوب أن يجبره على الفصل، مَصيراً إلى تفريغ الثوب عنه، ثم لا نظر إلى القيمة، كما ذكرناه.
ثم قالوا: إذا فصل الغاصب الصّبغ، بإرادته واختياره، أو فصله بإجبار مالك الثوب إياه، فإن كانت قيمة الثوب بعد فصل الصبغ كقيمته قبل استعمال الصِّبغ، فلا كلام، والثوب مردود على مالكه، وإن نقصت قيمة الثوب بعد فصل الصِّبغ، عن قيمته قبل استعمال الصبغ، فعلى الغاصب أرشُ النقصان؛ لانتسابه إلى العدوان في استعمال الصبغ ابتداءً. هذا والأمر مفروض في فصل الصبغ.
فإن تراضيا على بيع الثوب مصبوغاً، فالقول في الثمن والحالة هذه، كالقول فيه إذا كان الصبغ معقوداً.
هذا طريق المراوزة.
وقال العراقيون: إن أمكن فصلُ الصبغ من غير نقصانٍ في قيمة الصبغ، فللغاصب الفصل، ولمالك الثوب الإجبارُ عليه.
وإن كان الصبغ المنفصل لا يساوي شيئاًً، أو كان يساوي مقداراً نزراً، بالإضافة إلى قيمة الصبغ قبل الاستعمال، وكان الغاصب الذي هو صاحب الصبغ يبغي أن يُبقي الصبغ، ولا يزيله؛ حتى لا يحبطَ ملكُه، أو لا يخسر خسراناً مبيناً، وليقع التصوير فيه إذا كان الثوبُ المصبوغ يساوي عشرين، فصاعداً، والصبغ لو فصل، لما كانت له قيمة، أو كانت نزرة. فإذا أراد الغاصب ألا يفصل، وأراد صاحب الثوب أن يُلزمه الفصلَ، وإن كان الفصل يؤدي إلى تخسيره، قال العراقيون: في المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا يُجبَر الغاصبُ على إزالته، بل يُجبر مالكُ الثوب على تبقيته، ويكونان شريكين في الثوب. قالوا: وهذا اختيار ابن سريج، ووجهه أن صاحب الثوب متعنت، في تكليف الغاصب إزالة الصبغ؛ وليس يتعلق بهذا غرض صحيح.
والوجه الثاني - أنه يُجبر على الإزالة إذا طلب مالك الثوب. قالوا: وهذا اختيار أبي إسحاق المروزي، وابنِ خَيْران، وتعليلُه ما ذكرناه في طريق المراوزة.
هذا إذا طلب مالك الثوب فصلَ الصبغ، ولم يرض به الغاصب. فأما إذا رضي(7/252)
صاحب الثوب بتبقية الصبغ، وأبى الغاصب، وطلب أن يفصل صِبغه، فإن كان لا ينتقص الثوب بفصله، فهو مجابٌ إلى ما يريد من فصل الصبغ؛ فإنه عين ماله، ولا ضرر على صاحب الثوب بفصله، ثم لا نظر إلى قيمة الصبغ، سقطت أو نقصت.
فإن كان فصل الصبغ يؤدي إلى إلحاق نقصٍ بالثوب، بأن كان يرده إلى تسعةٍ، أو ثمانية، ولو ترك الصبغ، اشتري بالعشرين مثلاً، فيعود في هذه الصورة الخلاف الذي حكاه العراقيون: ففي وجهٍ لا يمكَّن الغاصبُ من فصل الصبغ؛ لأنه ليس له في فصله غرض صحيح، وفيه تنقيص الثوب في الحال، إلى أن نفرض جُبران النقصان بالضّمان، وفي وجهٍ يجاب الغاصب إلى ما يريده، ثم إن كان نقصٌ جَبَره. وهذا قياس المراوزة.
ولا يخفى على النّاظر في قياس القواعد أن الوجه ما قطع به المراوزة، وما عداه خبط وتخليط، لا ينضبط فيه رأي، وإنما هو استصلاحٌ محض، لا معوّل عندنا على مثله.
ثم قد أَدَرْنا في تفصيل الكلام تصويرَ نقصان الصبغ إذا فُصل، وتصوير سقوط قيمته على رأي العراقيين في تخريج الوجهين، فالذي يقتضيه فحوى كلامهم أن الخلاف يختص بسقوط قيمة الصبغ، أو سقوط معظمها عند تقدير الفصل. فالذي يقتضيه القياس مع التزام أصلهم أنه إذا كان الصبغ المفصول يسقط من قيمته ما لا يتغابن الناس في مثله بالإضافة والنسبة إلى ترك الصّبغ في الثوب، فيطّرد الخلاف، حتى لو كان الثوب المصبوغ يساوي عشرين، وحصة الصبغ منها عشرة، وكان الصبغ لو فصل يساوي تسعة، فالدرهم الناقص مما لا يتغابن الناس في مثله، فيظهر من فصل الصبغ تخسير معتبر، ويلزم منه طرد الخلاف الذي ذكروه.
4633- ونحن الآن نُلْحِق بطريق المراوزة وهي اختيار أبي إسحاق المروزي -فيما حكاه العراقيون- تفريعَ حكم آخر، فنقول: إذا كان مالك الثوب يملك إجبار الغاصب على فصل صبغه، وكان الغاصب يتعب بفصله مثلاً، فقد ذكرنا أنه مجبر عليه، فلو قال: تركت الصبغ على مالك الثوب نِحْلة وهبةً، فلا تطالبوني بتكليف فصله، فكيف السبيل في ذلك؟ ذكر الأئمة وجهين: أحدهما - أن صاحب الصبغ يجاب إلى(7/253)
ملتمسه، فيدخل الصبغ في ملك صاحب الثوب قهراً وإن لم يُرِدْه.
والوجه الثاني - أنّه لا يجاب صاحب الصبغ إلى ذلك، بل يجبر على فصل الصبغ وإن لاقاه من الكلفة ما لاقى (1) .
توجيه الوجهين: من قال لا يجاب الغاصب، فهو متمسك بالقياس الكلي؛ فإن (2) إجبارَ مالك الثوب على الملك في الصِّبغ خارج عن القانون، وتكليف الغاصب ما يتعبه محمولٌ على نتيجة عدوانه.
ومن قال: يجاب الغاصب، اعتقد الصِّبغ في حكم الصفة التابعة، وقال للمالك: إذا كنت لا تخسر شيئاًً، وقد صار الصبغ صفةَ ثوبك، فاحتمله.
وظاهرُ المذهب أن من اشترى فرساً وأنعله، لما قبضه، ثم اطلع على عيبٍ قديمٍ به، ولو كلفناه قلعَ النعل، لعاب الفرس عيباً حادثاً، ولامتنع ردُّه بالعيب القديم لمكان العيب الجديد الذي يحدثه قلعُ النعل، فللمشتري رد الفرس منعلاً، ثم النعل يدخل في ملك المردود عليه. هذا ظاهر المذهب، وقد فصلتُه في كتاب البيع، في فصول الرد بالعيب.
وهذا يفارق الخلاف الظّاهر الذي ذكرناه بين الغاصب والمغصوب منه في الصبغ، والفرق أن المشتري ليس متعدِّياً؛ فإنه أنعل الفرس الذي ملكه بالشراء، ثم فُرض الاطلاعُ على العيب، فلم يكن المشتري منتسباً إلى التقصير. وبناءُ أمر الغاصب على العدوان، فهو بألا يجاب إلى ملتمسه أوْلى.
هذا بيان قاعدة الكلام في ذكر الخلاف.
4634- ثم اختلف (3) أئمتنا في محل الوجهين المذكورين في الغاصب وصِبغه.
وحاصل ما فهمنا من نقل الأئمة وفحوى كلامهم ثلاثُ طرقٍ في محل الوجهين: إحداها للعراقيين، وهي: أنا لا ننظر إلى ضررٍ ينال الغاصب، ولكنّا نطلق
__________
(1) كذا. والمتبادر: ما لاقاه.
(2) (ت 2) : قال.
(3) (ت 2) : ذكر.(7/254)
الوجهين، مهما (1) أراد ترك الصبغ على مالك الثوب، والمتبع عندهم اتصال الصبغ بالثوب، وقيامُه فيه مقامَ الصفة، قالوا: سواء كان ينتقص الصبغ لو فصل، أو لا ينتقص، وسواء كان ينتقص الثوب، و [يُلزم] (2) انتقاصُه الغاصبَ الضّمانَ، أو كان لا ينتقص، فمهما ترك الغاصب الصبغ على مالك الثوب، فالوجهان جاريان، ومعتمد جريانهما الاتصال، وقيام الصبغ مقام الصفة. وطرد هؤلاء الوجهين في الصبغ المعقود الذي لا يفرض فصله، فقالوا: لو تركه الغاصب، وأراد أن يُملِّكه صاحبَ الثوب، فالوجهان يجريان.
وهذه طريقة بعيدة.
ومن (3) أصحابنا، من قال: إذا كان على الغاصب تعبٌ في فَصْل الصِّبغ، فإذ ذاك يجري الوجهان: إذا أراد تَرْكَ الصبغِ على مالك الثوب، وكذلك إذا كان لا ينتفع به لو فصله، أو كان يثبت له قيمةٌ نزرة، فيجري الوجهان في هذه الصورة.
فأمّا إذا تيسر الفصلُ وللصبغ المفصول قيمةٌ معتبرة، يطلب مثلُها، أو كان الصبغ معقوداً، فإذا سَمَح صاحب الصبغ في هذه المنازل، فأراد أن يتركه ملكاً على صاحب الثوب، فلا يجاب إلى ملتمسه، بل إذا كان معقوداً، فالشركة قائمة، وإن لم يكن معقوداً، أجبر على فصله إذا لم يكن تعبٌ ولا سقوطُ معظم القيمة. ولعل هذا القائل يقيس التعب بما يبقى من القيمة، فإن كان ما يبقى من القيمة لا يفي بالتعب الذي يلقاه المزيل، فهو من صور الوجهين. وإن كان يفي بالتعب ويزيد، فلا إجبار على التمليك. وإن كان يفي بالتعب، ولا يزيد، فلا فائدة إذاً ويجري الوجهان.
هذا بيان الطريقة الثانية في محل الوجهين.
ومن (4) أصحابنا من قال: الغاصب مجبر على إزالة الصِّبغ إذا كان لا يؤثر فصلُه في تنقيص قيمة الثوب، كيف فُرض الأمر في الصبغ، ولا نظر إلى التعب، ولا إلى
__________
(1) (مهما) : بمعنى (إذا) .
(2) في الأصل: ونلزمه.
(3) هذه هي الطريقة الثانية.
(4) هذه هي الطريقة الثالثة.(7/255)
سقوط قيمة الصبغ. وإن كان فصلُ الصبغ ينقُص قيمةَ الثوب، فأراد الغاصب ترك الصبغ؛ حتى لا يحتاج إلى غرامة أرش النقص الذي يلحق الثوبَ، فإذ ذاك يخرّج الوجهان في أنه هل يجاب إلى ملتمسه. وصاحب هذه الطريقة يقابل أرش النقص بقيمة الصِّبغ المفصول، فإن كانت قيمةُ الصبغ تفي بأرش النقص، أُجبر الغاصب على الفصل، وإن كانت قيمةُ الصبغ لا تفي بأرش النقص، فإذ ذاك نُجري الوجهين.
هذا بيان أصل الوجهين. وذُكر الاختلاف في محلها.
ولم يصر أحد من الأصحاب إلى إجابة الغاصب في الصبغ المعقود، إلا ما ذكرناه من طريقة العراقيين.
4635- ومما تتم به هذه التفاريع: أنا حيث لا (1) نوافق الغاصبَ، ولا نجيبه إلى ما يبغيه، فإذا أراد هبة الصبغ، فلا بد من رعاية شرائط الهبات: من فرض الهبةِ من صاحب الصِّبغ، وقبوله (2) من صاحب الثوب.
وحيث قلنا: يجاب الغاصبُ إلى ما يلتمسه، فلا حاجة إلى قبول صاحب الثوب، ولا بد من لفظ يصدر من صاحب الصِّبغ، ويجوز أن يقال: يكفي أن يقول: تركت الصبغ على صاحب الثوب، ولا حاجة إلى لفظ الهبة، وما يقوم مقامه؛ فإنا إذا كنا لا نشترط القبولَ، فمجرد لفظ الهبة لا معنى لاشتراطه، ولكن لابد من لفظة تشعر بقطع حق الغاصب، كقوله: أعرضت، أو تركت، أو أبرأت عن حقي، أو أسقطت، ولا شكّ أنه لا يقع الاكتفاء بلفظ متردد بين الإعراض وبين التَّوقف. ويجوز أن يقالَ: لا بد من لفظ يشعر بالتمليك والتبرع، وإن كنا لا نشترط القبول، فينزل لفظ التبرع مع سقوط القبول منزلةَ لفظ الأب إذا وهبَ من طفله شيئاًً، ولم نشترط القبول.
ثم إذا جرى لفظٌ نقنعُ به، والتفريع على أنه يجاب، فلو أراد أن يرجع، فهو رجوع في هبة تامةٍ. والكلامُ مفروض فيه إذا كان الثوب في يد مالكه.
فليتأمّل الناظر ما نلقيه من أعواص الكلام في هذه التفاصيل.
__________
(1) (ت 2) : نوافق (بدون لا النافية) .
(2) كذا: ولعلها مراعاة للفظ الصبغ.(7/256)
ومما يبقى علينا بعد هذا الإيضاح فروعٌ نرسمها نستدرك ما يُقَدَّر شذوذه عن ضبط الأصول.
فرع:
4636- إذا كان الصبغ معقوداً، وأثبتنا صاحبَ الثوب والغاصبَ شريكين، فلو قال صاحب الثوب: أنا آخذ الصِّبغ بقيمته، وهو معقود، أو كان الصبغ بحيث يتصوّر أن يزال على يسر أو عسرٍ، فإذا أراد أن يأخذ الصبغ بقيمته، لم يُجب إلى ذلك. وهكذا إذا غرس الغاصب في الأرض المغصوبة، فقال المالك: أنا آخذ الغراس بالقيمة، لم يكن له ذلك. هكذا ذكره القاضي. وليس كما لو أعار أرضاً، فغرسه (1) المستعير، ثم رجع المعير في العاريّة، وطلب أخذ الغراس بالقيمة، فقد يجاب إلى هذا في تفاصيلَ قدمنا ذكرها، والفرق بين القاعدتين أن المعير لا يتمكن من قلع ملك المستعير أو إجباره على القلع مجّاناً؛ فكان فيه حاجة إلى الأخذ بالقيمة في بعض مجاري الكلام. والمغصوب منهُ متمكن من إلزام الغاصب إزالة ملكه مجاناً، وهذا واضح لا شكّ فيه.
فرع (2) :
4637- إذا كان الثوب يساوي عشرة، وكان الصبغ يساوي عشرة، والثوب المصبوغ يساوي ثلاثين.
وقد ذكرنا أنهما إذا رضيا ببيع الثوب، فالثمن مقسوم بينهما نصفين. فلو كان الصبغ بحيث يمكن إزالته، فإن أراد الغاصبُ فصله، فله ذلك. ولكن إن بقي الثوب بعد فصله مساوياً خمسةَ عشرَ، فذاك. وإن نقص الثوب عن خمسةَ عشرَ، فعلى الغاصب ضمان النقصان. والظاهر أنه ينقص إذا فصل الصبغ، إلا [أن يفرض] (3) في الثوب تغيير سوى استعمالِ الصبغ. والغرض أن الخمسة عشر محسوبة على الغاصب إذا اختار فصلَ الصبغ.
__________
(1) كذا بضمير المذكر، في النسختين، وعود الضمير مذكراً على مؤنث، والعكس سائغٌ بتأويل.
(ر. شواهد التوضيح: 143) ويمكن تأويلها هنا (بالحقل) .
(2) يبدأ من هنا اعتماد نسخة 345 (د 2) أصلاً. ونسخة 325 (ت 2) نصاً مساعداً، ويضاف إليها أيضاً نسخة (ي) .
(3) في الأصل ألا يفرض، والمثبت من (ت 2) ، (ي) .(7/257)
فإن قيل: لم قلتم ذلك؟ وهلا اعتبرتم قيمةَ الثوب في الأصل وهي عشرة، فاعتبروا النقصان منها، ولا تحسبوا على الغاصب غيرها؟ قلنا: الخمسة الزائدة في قيمة الثوب زيادةٌ حصلت في الثوب في يد الغاصب -وإن كانت بفعله- فهي محسوبة عليه، ومحمولةٌ على الزيادة التي تحصل بالآثار التي ليست أعياناً، كالقِصارة وما في معناها، فشابهت الزيادةُ (1) التي ذكرناها ما لو غصب الرجل جوهرَ الزجاج، وقيمتُه درهم، ثم اتخذ منه قدحاً قيمتُه عشرة، فلو انكسر القدح، فكان الزجاج المنكسر يساوِي درهماً، فعلى الغاصب التسعةُ الناقصة بسبب الكسر.
هذا إذا أراد الغاصِب فصْل الصّبغ.
ولو لم يرده، ولكن أجبره مالك الثوب على فصله، فإن رجعت قيمةُ الثوب إلى عشرة، فلا يغرَم الغاصب بسبب نقصانِ الخمسة التي كانت زادت شيئاًً؛ فإن المالك أجبره على الإزالة. وإن نقص من العشرة شيء، فيلزم الغاصب حينئذ ما ينقص من العشرة؛ فإن هذا محمول على عدوان الغاصب باستعمال الصبغ ابتداء. وهذا بمثابة ما لو غصب نُقرةً قيمتها دينار، فصاغ منها حلياً قيمتُه دينار وسدس، فأجبره المغصوب منه على رد الحلي تبراً. فإن كان التبر يساوي ديناراً، فلا شيء على الغاصب. وإن نقص التبر عن الدينار، فعلى الغاصب ذلك النقصان المنسوب إلى الدينار. وهذا بيّنٌ لا إشكال فيه.
فرع:
4638- إذا كان الثوب المصبوغ يساوي ثلاثين كما صوّرناه، ثم انحط السعر، فصار ذلك الثوب يساوي عشرة، فهذه الحطيطة محمولةٌ على نقصان الثوب والصبغ جميعاً، فيقدر كأن سعر الثوب دون الصبغ خمسة، وقد كان عشرة، وسعر الصبغ دون الثوب خمسة، وقد كان عشرة، وإنما يحسن وقعُ هذا التصوير إذا وجدنا الأمر كذلك في الثوب والصبغ مفردين.
فلو رد الثوب، فهو شريكٌ فيه؛ فإن العين المغصوبة إذا لم تنتقص بآفة (2) ، فنقصان السوق غيرُ معتبر مع رده، وقد ردّ الثوبَ، فترتب عليه كونُ مالك الثوب
__________
(1) ت 2: الزيادةَ (بالنصب) .
(2) (ت 2) و (ي) : صفتها، فنقصان الثوب.(7/258)
ومالك الصبغ شريكين. [وإن] (1) كانت قيمتهما الآن مثلَ قيمة الثوب وحده لمّا غصب، فإن هذا التفاوت راجع إلى السوق، وقد أوضحنا أنَّ تفاوت السوق غيرُ معتبر مع رد العين.
فإذا تصورت المسألة على هذا الوجه، فلو نزع الغاصب الصبغ بإذن المالك (2) بعد أن عادت القيمة بالسوق إلى عشرة، فصار الثوب يساوي أربعاً، وقيمة ثوبٍ غيرِ مصبوغ الآن خمسة، فإذا انتقص خُمسُ قيمة الثوب، فلا نقول: يلزمه درهم، بل يلزمه النقصان بحساب العشرة؛ فإن ما ينتقص (3) في يد الغاصِب [يحسب] (4) عليه نقصانه من أكثر القيم، وكانت قيمة الثوب دون الصبغ عشرة، فليقع الاحتساب منها؛ فيلزمه خُمسُ العشرة وهو درهمان.
وقد انتهى غرضنا في ترتيب المذهب في قسمٍ واحدٍ من الأقسام الثلاثة التي صدّرنا بها أول فصل الصبغ، وهو إذا كان الصبغُ ملكَ الغاصب.
4639- والآن نلحق بعد نجاز ترتيب المذهب شيئاًً حكاه صاحب التقريب أخّرناه،
ولم نر ذكره في سياق الترتيب. وذلك أنه قال: إذا غصب ثوباً، وصبغه بصبغ من عنده، وكان الصبغ معقوداً لا يُزالُ، فللشّافعي قولان: أحدهما - وهو المنصوص عليه في الجديد أن الغاصب يكون شريكاً في الثّوب إذا كانت قيمة الثوب المصبوغ زائدة على قيمة الثوب من غير صبغ، وهذا هو الذي قطعنا به وبنينا عليه ترتيبَ الطرق.
والقول الثاني -حكاه عن القديم- أن الصبغ المعقود لصاحب الثوب، وهو بمثابة سمن العبد المغصوب في يد الغاصب، وهذا غريبٌ جداً، لم أره لغير صاحب التقريب.
وقال أيضاً: لو كان الصبغ بحيث يمكن فصله، ولكن لو فصل، لما كانت له قيمة، فالمنصوص عليه في الجديد أن ذلك الصبغ معتبر في حق الغاصب، ثم
__________
(1) في الأصل: فإن.
(2) (ت 2) ، (ي) : الصبغ بعد أن عادت ...
(3) عبارة (ت 2) مشوشة هكذا: فإن تم لم ينتقص الغرة في يد الغاصب.
(4) في الأصل: يجب.(7/259)
يُفصِّله (1) ما ذكره الأصحاب، إذ رتبوا المذهب كما قد بيّناه (2) .
والقول الثاني - وهو فيما زعم منصوص عليه في القديم: أن الصبغ بمثابة زيادة متصلة، كالسمن ونحوه، فهو ملك صاحب الثوب وهذا الذي ذكره في الصبغ الذي يمكن إزالته في نهاية البعد؛ فإنه إن تخيل متخيل مشابهة الصبغ المعقود السمن؛ من حيث لا يتعلق فصله بالاختيار (3) ، فهو فيما يمكن فصله بعيد؛ فإن صاحب العين أولى بها، وإن كانت ساقطةَ القيمة.
وكلّ هذا في قسمٍ واحدٍ.
4640- فأمَّا إذا كان الصبغ ملكَ مالك الثوب، وكان غَصَبَ الثوبَ والصبغَ من شخصٍ واحدٍ، ثم استعمل الصبغ في الثوب. فإن كان الثوب عشرة، والصبغ عشرة، فصار الثوب المصبوغ يساوي عشرين، فلا نقصان إذاً؛ فإن كان الصبغ معقوداً، فلا ضمان على الغاصب، وإن كان بحيث يمكن إزالته، فإن رضي المالكُ به، فلا كلام. وإن أراد أن يكلفه إزالة الصبغ، فله ذلك، كما له أن يكلفه إبطال (4) الصَّنعة المجردة التي أثبتها في العين المغصوبة، وهي إذا طبع من النُّقرة دراهمَ، ثم كلف الغاصب ردها نُقرة، فله ذلك.
فلو أزال الصبغ، فانمحق، أو نقصت قيمته، أو نقص الثوب، فلا يلتزم الغاصب بسبب النقصان شيئاً؛ فإنّ كل نقصان يثبت بسبب فك الصنعة بإذن المالك، فلا يكون مضموناً. وقد ذكرنا أن المغصوب منه إذا كلف الغاصبَ ردّ الدراهم نقرة، فابتنى عليه نقصانٌ لا بدّ منه، فلا ضمان على الغاصب.
4641- ويتعين في هذا المقام التنبيه لسرٍّ لطيف في المذهب، وهو أن الصّفات إذا فاتت في يد الغاصب لصنعة أحدثها، وقد ازدادت القيمةُ بالصنعة، ولكن خرج التبر عن كونه تبراً، فالمالك يجبر الغاصبَ إن أراد على إبطال صنعته. وليس الغرض من
__________
(1) (ت 2) : تفصيله.
(2) (ت 2) ، (ي) : قدمناه.
(3) (ت 2) : الإجبار.
(4) في (ت 2) : إزالة.(7/260)
ذلك اعتقاد استحقاق الصّفةِ التي كان التبرُ عليها قبل أن صِيغت (1) أو طبعت؛ إذ لو كنا نعتقد ذلك، لألزمنا الغاصبَ النقصان إذا سبك الدراهم نُقرةً بأمر المالك. ولكنَّا نثبت هذا الحق للمالك على الغاصبِ؛ من جهة أنا نبني الأمر على غرضٍ له في النقرة، فالمرعي في ذلك الأغراضُ، لا المالية. فليفهم الناظر ذلك. وهذا إذا لم يفسد صنعة متقومة.
فأمَّا إذا غصب حلياً لصنعته قيمةٌ، فاتخذ منه حلياً آخرَ، قيمةُ صنعته تضاهي قيمة صنعة الحلي المغصوب، فقد نقول: لا جبران (2) ؛ فإنه يكسر الحلي الأوّل ثم [يصوغه] (3) مرة أخرى، [فليلتزم] (4) بالكسر أرش النقص، ثم [الصيغة الجديدة] (5) التي يحدثها لا تجبر ما تقدم من النقصان. وقد مهدنا ذلك.
ولو غصب حلياً وكسره، واتخذ منه صنفاً آخر من الحليّ، فالمغصوب منه لا يكلفه رده إلى الصنعة الأولى؛ فإن ذلك لا يمكن الوفاء به (6) . وقد ذكرت ذلك فيما تقدم.
فإذا تجدد العهد بهذا، ابتنى عليه أن المغصوب منه لو كلف الغاصبَ إزالة الصبغ، فله ذلك، ولكن لو فرض نقصانٌ، لم يلزمه أرش النقصان.
ومما لا يخفى أنه لو غصب ثوباً قيمته عشرة، وغصب من مالك الثوب أيضاً صبغاً قيمته عشرة، ثم صبغ الثوب، فصار الثوب المصبوغ يساوي عشرة. فقد أتلف الغاصب الصبغَ، فيلزمه بدلُه: المثلُ إن كان من ذوات الأمثال، أو القيمةُ إن كان من ذوات القيم. وإن كان الثوب يساوي خمسةَ عشرَ، يلزمه ما يقابل النقصان، ويحتسب النقصانُ من الصبغ. هذا منتهى القول في هذا الأصل.
__________
(1) أي النقرة، أو العين المغصوبة عامة.
(2) أي لا تجبر الصنعة، والصياغة الجديدة أثرَ الكسر.
(3) في الأصل: يصوغ.
(4) في الأصل: ويلتزم.
(5) في الأصل: صيغة الجديد.
(6) أي لا يمكن الثقة بأنه سيعود إلى ما كان عليه في الصنعة الأولى، كرَفْو الثوب، وإعادة بناء الجدار إذا هدمه وكان مبنيا بالملاط.(7/261)
4642- فأمَّا إذا غصب ثوباً من زيدٍ، وغصب صبغاً من عمرو، فإن كان الصبغ معقوداً [ولم] (1) يفرض نقصان، فلا ضمان على الغاصب الصابغ، وقد صار مالك الثوب ومالك الصبغ شريكين.
فإن فرض نقصان والصبغ معقود، نظر: فإن انمحق الصبغ، وكان الثوب يساوي عشرةً، فالغاصب يغرَم بدل الصبغ للمغصوب منه (2) . وإن كان الثوب يساوي خمسة عشر، فصاحب الصبغ شريك، وحقه الثلث من الثوب المصبوغ، وملكه على الحقيقة عين الصبغ، ولكنه يقع ثلثاً مع الإضافة إلى الثوب، ويغرَم في هذه الحالة الغاصبُ نصفَ قيمة الصبغ إذا كان متقوماً. وكل ذلك إذا كان الصبغ معقوداً.
فأمّا إذا كان يمكن إزالته، فليقع الفرْض فيه إذا لم تتفق زيادة ولا نقصان في الثوب والصبغ. فإن رضيا، فهما شريكان، وإن أرادا أن يُكلفا الغاصِبَ استخراج الصبغ، وتمييزه عن الثوب، فلهما ذلك. ثم إذا فصل، وحدث نقص غرِم الغاصب أرش النقص لا محالة. وليس هذا من [باب] (3) فك الصنعة المجرّدة عند اتحاد المالك؛ فإن في هذه الصورة نوعاً من الاعتداء، وهو وصل ملك زيد بملك عمرو، فيلتزم النقصانَ.
وهذا يتضح بصورة: وهي أن الصبغ والثوبَ لو زادا، فصار الثوب يساوي ثلاثين، فإن [أزال] (4) الغاصبُ بنفسه، التزم نقصان الثوب من حساب خمسةَ عشر، والتزم نقصان الصبغ أيضاً من حساب خمسة عشر.
وفي القلب من هذا شيء؛ من جهة أن الملك لم يتحد، حتى يقال: حصلت هذه الزيادة بالصنعة في ملكٍ واحدٍ في يد الغاصب، ثم ترتب عليه نقصان، بل حصل ما حصل من الزيادة بسبب ضم ملك زيد إلى ملكِ عمروٍ، فكان لا يمتنع في القياس أن يقال: هذه الزيادة غير معتبرة ولا محسوبة على الغاصب. وهذا دقيق لطيف.
__________
(1) في الأصل: فلم.
(2) الصورة مفروضة فيما إذا كان الثوب يساوي عشرة، والصبغ يساوي عشرة.
(3) مزيدة من (ت 2) ، (ي) .
(4) في الأصل: زال.(7/262)
والأصل ما قدمناه للأصحاب، وهو المذهب.
ولو كلفناه الإزالة والثوب ثلاثون ففُرض نقصان، فالنقصان محسوب عليه من حساب العشرة في كل جانب؛ فإن الزيادة حصلت بالصنعة، وقد أفسدها بإذنهما.
وفيما ذكرناه أن الصنعة إذا أفسدها الغاصبُ بإذن المغصوب منه، لم يضمن نقصانها.
وإن أمره أحدهما بالفصل دون الثاني، فالذي يقتضيه قياس الأصحاب أن النقصان في حق الآمر محسوب من العشرة، وفي حق من لم يأمر من خمسة عشر.
ويظهر من هاهنا الاحتمال الذي ذكرناه (1) قبل هذا؛ فإن الغاصب يقول للذي لم يأمره (2) بالفصل: كيف أغرَم لك من حساب الخمسة عشر، وإنما تمت الصنعة في صبغك بأن وصلته بثوب غيرك وقد أجبرني مالك الثوب على فصله، ويقتضي (3) هذا حَسْبَ النقصان في حق من لم يأمر منهما من العشرة أيضاً.
هذا نجازُ القولِ في فصل الصبغ.
ولو غصب أرضاً وغرس فيها، أو بنى، فتفصيل القول في الغراس مع الأرض والبناء [عليها] (4) كتفصيل القول في صِبغٍ يستعمله الغاصب في ثوب مغصوب، والصبغ يمكن إزالته. وقد مضى ذلك مفصلاً مقسماً.
فصل
قال: "ولو كان زيتاً فخلطه بمثله ... إلى آخره" (5) .
4643- الرأي أن نذكر في صدر الفصل نص الشافعي رضي الله عنه على وجهه، ونبين معناه، ثم ننشىء بعده ترتيبَ المذهب. قال رضي الله عنه: إذا خلط الزيت المغصوب بزيت له، وزيته أجود من الزيت المغصوب، فالغاصب بالخيار بين أن
__________
(1) (ت 2) ، (ي) : أظهرناه.
(2) (ت 2) : الذي يأمر.
(3) (ت 2) : وهذا مقتضى هذا حسب.
(4) في الأصل: معها.
(5) ر. المختصر: 3/42.(7/263)
يعطيه من المخلوط مثلَ مكيلته، وبين أن يعطيه من موضع آخر مثل زيته.
وإن خلط الزيتَ المغصوب بمثله، فظاهرُ النص أنه يتخير أيضاً: إن شاء أعطاه من المخلوط مثلَ مكيلته، وإن شاء أعطاه من غيره.
وإن خلطه بزيتٍ أردأَ من زيته، فالمالك بالخيار، إن لم يرض بالمخلوط، فله ذلك، فيطلب من الغاصبِ مثلَ زيته، وإن رضي بذلك المخلوط،. فالغاصبُ بالخيارِ، إن شاء أعطاه من ذلك المخلوط مكيلة زيته، وإن شاء أعطاه من موضع آخر (1) .
هذا نص الشافعي رضي الله عنه. وهو مصرح بأن الخلط يتنزل منزلة عدم العين المغصوب؛ فإنه خيّر الغاصبَ في الأقسام الثلاثة بين أن يعطي حقَّ المغصوب منه من المخلوط، وبين أن يعطيه من موضع آخر، فإذا كان يتخيّر على هذا الوجه، فهذا يدل على أن حق المغصوب منه زائل في التعلق بعين ماله. وعلى الغاصب أن يوفيه حقه، فإن أتاه بمثل زيته من أي موضع شاء، قبِله المغصوبُ منه، وإن أتاه بمثل مكيلته من هذا المخلوط، فلا خيار للمغصوب منه؛ فإنه أعطاه أجود من حقه، ولكن الغاصب لا يتعين عليه البذلُ من هذا المخلوط.
وإن كان الخلط بالأردأ، فإن أعطاه مثل زيته من موضعٍ آخر، قبله. وإن أعطاه من المخلوط، فالخيار إلى المغصوب منه.
هذا معنى النص. ونحن نبتدىء بعد هذا تفصيل المذهبِ، فنقول:
4644- حاصل ما ذكره الأئمة في تأسيس المذهب ثلاث طرق: أشهرها، وأظهرها - إجراء القولين في الأحوال الثلاثة أحدهما - أن عين مال المالك في حكم المفقود. وقد قال الشافعي في التعبير عن هذا: "الذائب (2) : إذا اختلط بالذائب، انقلب". والقول الثاني - أن عين المال قائمةٌ، وهذا هو الحق في مسلك القياس؛ فإنا نقطع بقيامها حِساً، فبعُد إلحاقها بالمعدومات، مع تحقق وجودها.
__________
(1) ر. الأم: 3/226. وهو بتصرفٍ من الإمام في نصّ الشافعي.
(2) (ت 2) : الباب.(7/264)
فإذا طردنا الطرق بتفريعاتها، نبهنا بعدها على مشكلة عظيمةٍ، وغائلةٍ صعبة الموقع، فما ذكرناه من طرد القولين طريقة واحدة.
الطريقة الثانية: قطعُ القول بموجب النص، وهو أن الزيت إذا خلط بزيتٍ، كان كالمعدوم. [وقد] (1) أوضحنا شهادةَ النص على هذا.
والطريقة الثالثة: أن الخلط بالمثل لا يُلحق الزيت بالمعدوم، وفي الخلط بالأردأ والأجود القولان؛ فإن التسليم من المخلوط المتشابه الأجزاء ممكن، بلا مراجعة.
وفي التسليم من المخلوط المختلف رداءةً وجودة عسر، كما سنصفه في التفريع.
4645- هذا بيان الطرق الثلاث.
والرأي بعدها أن نختار طريقة القولين، ونجريهما في الأقسام الثلاثة، ونفرعُ عليهما. ثم في التفريع عليهما بيانُ المذهب في جميع الطرق.
فإن حكمنا بأن العين المغصوبة كالمفقود، فأصل المذهب أن يُلْحَق الخلط بإتلاف الزيت. ولو غصب زيتاً، فأتلفه، وكان يملك مثله، وأجود منه، وأردأ منه. فإن أعطى المالك مثل حقه، قبله لا محالة، ولا خِيَرة. وإن أعطاه أجود من حقه، تعيّن على المالك قبوله. ولم يكن له أن يقول أبغي مثل حقي ولا أتقلّد (2) منة البذل في مزية الجودة؛ فإن هذا محتمل في الصّفة بلا (3) خلاف، [فلا] (4) حكم للمنة فيها. ولو أتاه بأردأ من حقّه، فله أن يمتنع من قبوله؛ فإن قبله، وقع الموقع. فالمخلوط بالأجود ملك الغاصب، فإذا أعطى منه، كان ما جاء به أجود ممّا غصب، والمخلوط بالأردأ ملك الغاصب أيضاً، فإذا جاء به تخير المغصوب: إن شاء قبله، وإن شاء رده. هذا بيان هذا القول.
فأما إذا فرعنا على القول الآخر: وهو أن العين المغصوبة قائمةٌ حكماً، كما لو (5) أنها قائمة حساً، فينظر: فإن كان وقع خلط الزيت المغصوب بمثله، فحق (6) المالك
__________
(1) في الأصل: فقد.
(2) (ت 2) ، (ي) : أقبل.
(3) (ت 2) : فلا خلاف ولا حكم.
(4) في الأصل: ولا.
(5) (ت 2) ، (ي) : بدون (لو) .
(6) (ت 2) : لحق.(7/265)
مختص بهذا المخلوط، ولا يتعداه، وسبيل الوصول إليه أن يسلم إليه [مثل] (1) مكيلة زيته من هذا المخلوط. ثم نحن نعلم أن ما رجع إليه ليس خالصَ حقه، وفيه من ملك الغاصب. وفيما خلفناه على الغاصب ملكُ المغصوب منه. ولكن القسمة توجب التفاصل في الحقوق. وسنشرح هذا في آخر الفصل.
وإن وقع الخلط بالأجود، فليس للمغصوب منه أن يقول للغاصب: أعطني مثل مكيلتي من هذا المخلوط؛ فإنا لو كلفنا الغاصب ذلك، كنا مجحفين به. والذي ذكره الأصحاب أن الغاصب والمغصوب منه شريكان في المخلوط. والوجه أن يبيعاه ويقتسما الثمن على مقدار القيمتين. فإذا كان الزيت المغصوبُ يساوي درهماً، وزيت الغاصب يساوي درهمين، والمخلوط يساوي ثلاثة دراهم، فنبيع المخلوط ونقسم الثمن أثلاثاً بينهما.
ولو أرادا أن يقتسما عين الزيت المخلوط على نسبة الثلث والثلثين، على أن يكون للمغصوب (2) منه ثلثُ الجملة. والمسألة مفروضة فيه إذا كان مقدارُ المغصوب مثلَ مقدار زيت الغاصِب، فلو أراد المالك أن يأخذ ثلثي مكيلته، ويترك الباقي على الغاصب، بناء للقسمة على نسبة القيمتين، فقد قال الشافعي: لا يجوز هذا، فإنه ربا، وإجراءٌ للتفاضل، فيما تُعبدنا فيه بالتماثل. ونقل البويطي عن الشافعي جوازَ القسمة على هذا الوجه. وتكلف أصحابنا، فخرّجوا قوله على أن القسمة إفرازُ حق، وتفاصلٌ (3) فيه، وليس على أحكامِ البيوع، والتفاصُل في الحقوق محمول على القيم ورعاية القسط، في المالية في هذا القسم.
هذا بيان هذا القول في الخلط بالأجود.
وينقدح (4) عندنا مسلك ثالث في هذا، وفي كلام العراقيين رمز إليه، وهو أنا نكلف الغاصب أن يعطي المغصوب منه مثلَ مكيلته من هذا المخلوط؛ فإنا نقول له:
__________
(1) مزيدة من: (ت 2) ، (ي) .
(2) (ت 2) : الغاصب.
(3) (ت 2) : وتفاضل.
(4) (ت 2) : وقد ينقدح.(7/266)
إذا اختلط المالان، صارت الجودة في حكم صفة شائعةٍ في جميع الزيت، فكأنَّ المغصوب زاد زيادة متصلة في يد الغاصب، وهذا [متجه] (1) وإن لم يثبت عندنا فيه نقل صريح.
4646- فأمّا إذا وقع الخلط بالأردأ، فنقول للمغصوب منه: خذ مكيلتك من هذا المخلوط، وغرِّم الغاصبَ أرشَ النقص، هذا طريق وصولك إلى حقك. وقد ذكرنا في مسائل التفليس أن المشتري إذا خلط الزيت المشترى بأردأ منه، وجعلنا البائع واجداً عين ماله، فنقول له: إمَّا أن تقنع بمقدار حقك من هذا المخلوط، وليس لك أرش النقص، وإما أن تُضارب الغرماء بالثمن، والسببُ فيه أن العيوب في أمثال هذه المسائل من البيع لا تقابل بالأروش، والنقيصةُ مقابلةٌ بالأرش في الغصوب، ومسائل العدوان.
فلو قال المغصوبُ منه للغاصب: نحن مشتركان في هذا المخلوط، فنبيعه ونقسم الثمن على نسبة قيمتي الملكين، فإن رضيا بذلك، جاز، ونفذ.
وإن أرادا أن يقتسما الزيت متفاضلاً على نسبة القيمتين، فقد قال قائلون من أصحابنا: الترتيب في ذلك كالترتيب فيه إذا وقع الخلط بالأجود، حتى يخرّج فيه القولُ الذي حكاه البويطي. وهذا رديءٌ، لا أصل له؛ فإن الرجوع إلى مقدار الحق من هذا المخلوط ممكن، مع غرامة أرش النقص. وهذا أقرب؛ [فلا] (2) حاجة إلى التزام صورة التفاضل مع الاستغناء عنها.
ولمن يجري القولين أن يقول: إذا كان بناء قولي البويطي على أن القسمة ليست [بيعاً] (3) بل هي مفاصلة لا يلتزم فيها رعاية المماثلة، فلا نظر -والمعتبر هذا- إلى إمكان الرجوع إلى أرش النقص. ولو كنا نلتزم ذلك، لكان الأرش ومقدار المغصوب في مقابلة مثل المغصُوب، وهذا غير سائغ فيما ترعى المماثلة فيه؛ إذ لا يجوز مقابلة صاع ودرهم بصاعٍ.
__________
(1) في الأصل: يتجه.
(2) في الأصل: ولا.
(3) في الأصل، وفي (ت 2) : تبعاً، والمثبت من (ي) .(7/267)
هذا حاصل التفريع.
وقد طردنا تفصيل المذهب على ما نقله الأئمة.
4647- ونحن نذكر وراء ذلك إشكالاً عظيماً، فنقول:
ظاهر النص أن المغصوب المخلوط كالمعدوم، وهذا مشكل جداً، فإنه ليس حق المغصوب منه بأن يحكم عليه بالعدم لاختلاطه بملك الغاصب بأولى من عكس ذلك، حتى يقال: انعدم ملك الغاصب باختلاطه بملك المغصوب منه، والخلط متحقق من الجانبين جميعاً. ولا خلاف أن رجلين لو اجتمعا وخلط أحدهما [زيتاً له] (1) بزيت الآخر، فهما مشتركان. ومسائل الشركة مستندة إلى اختلاط مالي الشريكين.
4648- ولو انثالت حنطة لرجلٍ على حنطة لآخر من غير فرض قصد، فهما مشتركان، ثم يقع النظر في التفاصل، فإن تماثلت الأجزاء، سهل الأمر، وإن اختلفت جودة ورداءة، ففي وصولهما إلى حقهما التفصيل الذي ذكرناه في تفريع المذهب إذا عسر الفصل.
وما ذكرناه في الحنطة لو فرض في الذائب، كان كذلك. وممّا يعضد الإشكال وينهيه نهايته أن من غصب صبغاً، وصبغ به ثوباً لنفسه، أو ثوباً غصبه من الغيرِ، ولم ينمحق الصبغ، فصاحب الصبغ مع صاحب الثوب شريكان [إن] (2) كان الصبغ معقوداً يتعذر فصله؛ فإذاً لا يبقى على هذا التقدير لظاهر النص توجيهٌ عليه تعويل.
وأقصى الممكن فيه أن نقول: مسألة الخلط في الغصب مأخوذة من نظير لها في البيع: وهي إذا اختلط المبيع بغير المبيع قبل القبض، فإذا جرى ذلك، ففي انفساخ العقد قولان، ذكرناهما في كتاب البيع توجيهاً وتفريعاً.
وتحقيق الشبه [فيه] (3) أن من باع عيناً، التزم تسليمها مخلّصةً، فإذا عسر ذلك، ولم تكن القسمة -لو قدرت- تسليماً للعين التي اقتضى العقد تسليمها، فنقول: تعذّرُ ذلك كانعدام العين في قولٍ. كذلك الغاصب لما غصب الزيت، التزم رد عينه، فإذا
__________
(1) في الأصل: ماله بزيت الآخر.
(2) في الأصل: فإن.
(3) مزيدة من: (ت 2) ، (ي) .(7/268)
عسر ذلك بالخلط، ولم (1) تكن القسمة تسليماً للعين المغصوبة، كان هذا التعذر بمثابة انعدام العين.
وهذا غاية ما نتكلفه، وهو ركيك؛ فإن العقد عرضةُ الفسخ، والأملاك (2) يبعد نقضُها في غير العقود.
4649- ولنا أن نقول: إنما تعلقنا بانفساخ العقد، لا بخيار فسخه، وانفساخ العقد يتبع تلف العين. وهذا غير مرضي؛ إذ يجوز أن يقال: إنه يحصل عند اليأس من إمكان تسليم المعقود عليه على ما اقتضاه العقد. وأما مسألة الصبغ، فواقعة، وهي مناقضة لما ذكرناه. غير أن الذي ذكره الأصحاب أن الصبغ متميز عن الثوب عياناً وحساً، ولكنه ملتزق به إذا كان معقوداً التزاقاً يتعذر الفصل معه، ولأجل هذا الخيال (3) جرى القول القديم في أن الصبغ المعقود يصير بمثابة الزيادة المتصلة، على ما حكاه صاحب التقريب.
ومما يشكل [في] (4) ذلك أنّا نقول: من غصب عبداً، فأبق من يد الغاصب، وغرِم الغاصب للمغصوب منه قيمةَ العبد، فإنه لا يملك الغاصب رقبةَ العبد ببذل قيمته. وقد ملكنا الغاصب على ظاهر النص زيتَ المغصوب منه، وألزمناه البدل، فكان هذا مناقضاً لأصلنا.
وسبيل الجواب عن ذلك أن الإباق لا يتضمن للغاصب ملكاً في الآبق، بلا خلاف. ولكنه يغرَم القيمة لمكان الحيلولة. ثم رأى أبو حنيفةَ أن يملك الغاصب رقبة العبد، فكان هذا تمليكاً منه بعلة التضمين (5) .
ونحن نقول في مسألة الخلط: (6 نفس الخلط 6) يُملِّكُ الغاصب ما غصبه، ثم
__________
(1) (ت 2) : لم (بدون الواو) .
(2) (ت 2) ، (ي) : والأمر.
(3) (ت 2) : الخيار.
(4) (ت 2) : وذلك. وسقطت من الأصل. والمثبت تقدير منا. وصدقتنا (ي) .
(5) ر. رؤوس المسائل: 346 مسألة: 226، إيثار الإنصاف: 256.
(6) ما بين القوسين سقط من (ت 2) ، (ي) .(7/269)
جريان الملك للغاصب في المغصوب يُلزمه الضمان، فهذا تضمين بتمليك سابق
وما قاله أبو حنيفة تمليك بتضمين.
4650- ثم قال الشافعي: "وإن خلطه بشَيْرَج (1) ، أو صبه في بانٍ (2) ... إلى آخره".
قال أصحابنا: ما قدمناه من فصول الخلط فيه إذا خلط الشيء بجنسه، فأما إذا خلطه بما لايجانسه، مثل أن يخلط زيتاً ببانٍ أو بجنسٍ آخر من الأدهانِ، فالمغصوب يلتحق بالمنعدم المفقود. هذا ما أطلقه الأصحابُ.
[وخرّج] (3) القاضي فيه قولاً أن المغصوب (4) واجدٌ لعين ماله. وألحق ذلك بالخلط بالأرْدأ والأجود، مع اتحاد الجنس. وهذا تخريج منقدح لما نبهت عليه من وجوه الإمكان (5) .
ومن عجيب الأمر أن الأصحاب ألحقوا ما لو غصب زيتاً ولتَّه بالسويق بخلط الزيتِ بالبان، وقطعوا بأن الغاصب لا تعلق له بعين مال.
وهذا عندي على نهاية الفساد؛ فإن الزيت لا يخالط السويق مخالطة المائع المائعَ، بل هو مع السويق كالصبغ مع الثوب قطعاً، وقد مضى القول في الصبغ.
وغاية الأمر أن يجعل الزيت مع السويق كالصبغ المعقود بالثوب.
وممّا أجراه الشافعي من صور الخلط أنه لو غصب دقيقاً وخلطه بدقيقٍ. فإن قلنا: الدقيق يقبل القسمة، فهو كخلط الزيت بالزيت. وإن قلنا: إنه لا يقبل القسمة، فالوجه إن جعلنا المغصوب منه واجداً لعين ماله بيعُ الدقيق، وقسمةُ الثمن على أقدار القيمة.
__________
(1) في الأصل: بشيء منه، و (ت 2) ، (ي) : بشرٍّ منه.. والمثبت اختيار منا، على ضوء السياق، أكد صحته أن عبارة الأم: " ... وإن كان صب زيته في بانٍ، أو شيرق، أو دهن طيب، أو سمن، أو عسل، ضمن ... " 3/226. وأما قوله في الأم قبيل ذلك: "فإن كان صب ذلك المكيال في زيت شر من زيته، ضمن الغاصب ... إلخ"، فهذا هو الخلط بالأردأ، وقد تقدم، فلا محل لتكرار المؤلف له هنا. فرجح ما اخترناه. والله أعلم.
(2) المراد دهن البان. وهو يتخذ من الشجر المعروف بهذا الاسم (مصباح) .
(3) في الأصل: إذْ صرح القاضي.
(4) في (ت 2) ، (ي) : الغاصب.
(5) (ت 2) : الإشكال ومثلها (ي) .(7/270)
فرع:
4651- إذا غصب الرجل رطلاً من الماورد وصبّه في أرطالٍ من الماء، فإن انمحق، ولم يبق له أثر، ولا قيمة، فهذا على القطع نازلٌ منزلة هلاك المغصوب، ولا نظر إلى بقاء عين الماورد بعدما تحقق سقوط القيمة، وهو كبقاء جثة العبد إذا مات. وإن بقي للماورد أثرٌ، فهذا [من باب خلط] (1) الشيء بما لا يجانسه. وقد مضى القول فيه مفصلاً.
فرع:
4652- إذا خلط البر المغصوب بالشعير، فعليه أن يميزه، ولو بلقط الحبات؛ فإن التمييز ممكن على عسره وهو بمثابة ما لو غصب عبداً وأرسله إلى بلدة نائية، فعليه رده، وإن كان يحتاج في ردّه إلى بذل مؤن تزيد على قيمته.
وكذلك إذا خلط حنطةً حمراء بحنطة بيضاء.
هذا نجاز فصول الخلط. ثم ذكر الشافعي بعد هذا حكمَ الحنطة العفنة. وقد تقصيناه.
فصل
قال: "ولو أغلاه على النار ... إلى آخره" (2) .
4653- إذا غصب من الزيت دَوْرقين (3) ثم أغلاه، ففي المسألة أقسام: أحدها - ألا تنقص القيمة، ولا المكيلة، فيردّه، ولا حكم لما جرى. القسم الثاني - أن تنقص القيمة، ولا تنقص المكيلة؛ فإن النار قد تعيب؛ فيرد ما أخذ، ويغرَم أرش النقص.
ومن أقسام المسألة: أن تنتقص المكيلة ولا تنقص القيمة، (4 وذلك بأن يرجع الدورقان إلى دورق واحد، وقيمة ما بقي كقيمة دَوْرقين قبل الإغلاء 4) ، وذلك بأن
__________
(1) في الأصل: كخلط.
(2) ر. المختصر: 3/42.
(3) دورقين: مثنى دَوْرق: مكيال للشراب (معجم) .
(4) ما بين القوسين ساقط من (ت 2) . وفي الأصل: "كقيمة دورق" والمثبت من (ي) .(7/271)
تُحدث النارُ فيه صفةً مطلوبة وإن كان ينقص من عينه، قال الأصحاب: يردّ ما في يده، ويغرَم مثلَ ما نقص، فإن نقص دورق، غرِم له مثل زيته دورقاً؛ فإن نقصان العين في المثليات يقابل بالمثل، ونقصان الصفة مع بقاء العين يقابل بالقيمة.
ومن صور (1) المسألة أن تنتقص المكيلة، وتزداد القيمة وذلك بأن يغصب دورقين، فيرجع بالإغلاء إلى دورق، وكان قيمة كل دورق درهمين (2) قبل الإغلاء.
وهذا الدورق الآن يساوي أربعة دراهم (3) ، ففي المسألة وجهان: أحدهما - وهو الأصح - أنه يرد ما بقي، ويغرَم له دورقاً مثلَ زيته، والزيادة التي حدثت في الدورق المغلي زيادة صفةٍ متصلة بملك المغصوب منه.
والوجه الثاني - أنه يرد ما بقي، ولا غرم عليه؛ لأن ما بقي زاد بسبب النقصان، فإذا كان النقصان سببَ الزيادة، لم يكن سبباً للغرامة ومقتضى ذلك الجبران، وهذا ليس بشيء.
وقد ذكرت طرفاً من هذا من كلام صاحب التلخيص في مسائل التفليس.
4654- ومما يتعلق بما نحن فيه أن من غصب عصيراً ورده بالإغلاء إلى نصفه، حتى خثَر (4) ، وصار دبساً. وكانت قيمته مثلَ قيمة العصير التام. فقد قال قائلون من أصحابنا: هذا بمثابة إغلاء الزيت، فيخرّج على الخلاف الذي تقدم ذكره.
وذهب ابنُ سُريج إلى القطع بأن الباقي إذا كانت قيمته مثلَ قيمة العصير ردّه، ولم يجب جبر (5) النقصان فيه، بخلاف الزيت. والفرق أن الزيت لا يخثُر بالإغلاء، والذاهب هو الزيت، فيتحقق نقصانُ العين فيه، والذاهب من العصير مائية لا قيمةَ لها، والباقي هو الأجزاء الحلوة المطلوبة.
__________
(1) (ت 2) : أقسام.
(2) (ت 2) : درهماً.
(3) (ت 2) ، (ي) : درهمين.
(4) خثر: من باب نصر. ثخن وغلظ. (معجم) .
(5) (ت 2) : ردّ.(7/272)
فصل
قال: "وإن كان لوحاً فأدخله في سفينة ... إلى آخره" (1) .
4655- إذا غصب الرجل ساجَةً وأدرجها في بنائه، فالساجة منتزعة عندنا مردودة على مالكها، وإن أدّى انتزاعُها إلى انهدام قصرٍ، أنفق الغاصب عليه ألفاً، خلافاً لأبي حنيفة (2) .
وضبط المذهب أن أملاك الغاصب لا تحترم إذا انتسب (3) إلى بنائها على مغصوب.
وممّا نُجريه في هذا الفصل إدخال اللوح المغصوب في السفينة.
4656- وهذا يستدعي ذكرَ مقدمة مقصودة في نفسها، فنقول: إذا غصب الرجل خيطاً، وخاط به جرحاً -كان به- فالتحم الجرح، وكنا نخاف من انتزاع الخيط انتقاضَ الجرح، وإفضاء الأمر إلى خوف الهلاك، أو إلى الخوف من فساد عضو، فلا يُنزع الخيط والحالة هذه، بل يحرم انتزاعُه، ويجب رعاية حرمة الروح، ولو خفنا من انتزاع الخيط طولَ الضَّنا (4) ، أو بقاءَ الشَّيْن، فقد ذكرت تفصيل ذلك في كتاب الطهارة.
والقول الجامع فيه أن كل ما يجوز ترك استعمال الماء به، والتحولُ إلى التيمم من الجرح والمرض، فإذا تحقق في مسألتنا امتنع منه (5) نزعُ الخيط. وكل ما لا يجوز التحول به من الماء إلى التراب، فلا ينتصب عذراً فيما نحن فيه، وينتزع الخيط معه ويردّ على مالكه. ومواقع الخلاف في الماء والتراب يجري فيها الخلاف هاهنا.
ولو رتب مرتب، انقدح وجهان: أحدهما - أن ترك الخيط أولى لقيام قيمته
__________
(1) ر. المختصر: 3/42.
(2) ر. رؤوس المساثل: 349 مسألة رقم 229، وإيثار الإنصاف: 260.
(3) (ت 2) ، (ي) : إذا تسبب إلى ...
(4) ضني من باب تعب: اشتد مرضه حتى نحل جسمه (معجم) .
(5) (ت 2) : معه، وسقطت من (ي) .(7/273)
مقامه. والثاني - أن نزع الخيط أولى، لتعلقه بحق الآدمّي، وهو على الضيق.
والتحول من الماء إلى التراب رُخصة، والرخص لا تبنى على نهايات الضرورات.
وإذا مات المجروح، فهل ينزع الخيط بعد موته، فعلى وجهين: أحدهما - وهو الأصح أنا (1) ننزعه. والثاني - لا ننزعه؛ فإنا نحاذر المثلةَ بالميت. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كسر عظم الميت ككسر عظم الحي" (2) .
فإن قلنا: الخيط منزوع من الميت، فلا كلام. وإن قلنا: لا ينزع منه، فالوجه فيه اعتبار حالة الحياة، فإن كان الخيط مستحق النزع في الحياةِ، نزعناه بعد الموت.
وإن كان لا يجوز نزعُه في الحياة، وكان نزعه بعد الموت يُظهر مُثلةً (3) ، فإنا
لا ننزعه. وإن لم ننزعه في الحياة لخوف هلاكٍ، أو لبقاء شين ظاهر إن اعتبرناه، ولم يكن في نزعه بعد الموت مُثْلةٌ ظاهرة، فهذا محتمل على الوجه الذي نفرع عليه.
4657- وكل ما ذكرناه في خيط جرح الآدمي، فأما إذا خاط جرح حيوان آخر، فإن كان حيواناً محترماً، انقسم القول إلى ما يؤكل وإلى ما لا يؤكل؛ فأما ما يؤكل لحمه من الحيوانات، ففيه وجهان: أحدهما - أنه يجب ذبحه، ونزعُ الخيط منه؛ فإن الذبح مسوغ (4) ، فليكن طريقاً يتوصل به إلى رد المغصوب، ولا نظر إلى المالية التي تفوت بذبح بُختية (5) ، أو جواد الخيل. والثاني - أنه لا يلزمه ذبح الحيوان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن ذبح الحيوان لغير مأكلة" (6) وليس القصد من هذا الذبح -لو قلنا به- مأكلة.
__________
(1) (ت 2) ، (ي) : أنه ينزعه.
(2) حديث "كسر عظم الميت ... " رواه أحمد: 6/58، 100، 105، وأبو داود: الجنائز، ح 3207، وابن ماجة، ح 1616، والبيهقي في السنن الكبرى: 4/58، والدارقطني: 3/188 ومالك في الموطأ: 1/238. وانظر تلخيص الحبير: 3/121 ح 1293.
(3) مَثُلة، ومُثْلة بمعنى.
(4) (ت 2) : مشروع.
(5) البختي: الإبل الخراسانية. وهي من أجود الإبل، ومثله الجواد في الخيل.
(6) حديث النهي عن ذبح الحيوان لغير مأكلة ... أبو داود في المراسيل، ومالك في الموطأ: 2/358- الجهاد، ح 10، وانظر تلخيص الحبير: 3/121 ح 1294.(7/274)
فأما الحيوانات المحترمة التي لا تؤكل، فلا يحل نزع الخيط منها على التفصيل الذي ذكرناه في الآدمي.
وقد اعتبر بعض أصحابنا في الآدمي الشينَ، والتوقي منه، وهذا غير معتبر في البهيمة؛ فإنا لو اعتبرناه، لرجع الأمر فيه إلى المالية، وليست المالية مرعية في هذا المجال.
فأمَّا الحيوان الذي لا يحترم، فينقسم إلى ما يستحق قتله كالكلب العقور، والسبع الضاري (1) ، وإلى ما لا يستحق قتله: (2 فأما ما يستحق قتله، فينتزع الخيط منه، وأما ما لا يستحق قتله 2) ، ولكنه ليس محترماً، فقد عد الأصحاب في هذا القسم الكلبَ والخنزير، ثم قَضَوْا بأنّ الخيط منزوع منهما. أما الخنزير، فأراه كذلك؛ فإن الذَّكَر من جنسه أعظم ضرراً من السباع كلها. والأنثى من المؤذيات في المزارع وغيرها. وأما الكلبُ، فالصَّيود منه، وكلبُ الماشية، وكل ما تصح الوصيةُ به - لا يجوز نزع الخيط منه. والكلب الذي لا منفعة فيه لا يبعد أن يلحق بالمؤذيات، [حتى] (3) لا يحرم قتله، فينزع الخيط إذن.
وقد ذكر القاضي الكلبَ مطلقاً ولم يفصله، وأطلق جواز نزع الخيط منه. وهذا مفصل عندنا.
ولو جُرح مرتدٌ وخِيط جرحُه، والتحم، ففي نزع الخيط منه ترددٌ، والأَوْجَهُ المنع؛ لأن المثلة بالمرتد محرّمة، وليست كالمثلة بالميت؛ فإنا نتوقع للمرتدّ عوداً إلى الإسلام، [وإن أظله السيف، وإن مات، فات] (4) .
هذا تفصيل القول في نزع الخيط وينبني عليه أنا مهما (5) منعنا نزع الخيط، جوزنا
__________
(1) (ت 2) : العادي.
(2) ما بين القوسين ساقط من (ت 2) .
(3) مزيدة من (ت 2) ، (ي) .
(4) المعنى: وإن أظله السيف: أي نتوقع عوده إلى لحظة قتله بالسيف. وفي الأصل: فإن أظله السيف ومن مات فات.
(5) مهما: بمعنى إذا.(7/275)
أخذ الخيط قهراً لخياطة الجرح، إذا لم نجد غيرَه؛ فالدوام معتبر بالابتداء.
وإن كان عند المجروح خيوط، فغصب خيطاً، وخاط الجرح، والتحم، فقد أساء وظلم أولاً. ولكن لا ننزع الخيطَ لعدوانه الأول؛ فإنا لا نرعى محضَ حقّه.
وإنما نرعى ما لله من الحق في الأرواح.
4658- ونحن نعود بعد بيان ذلك إلى تفصيل المذهب في غصب الألواح وإدراجها في السفن.
فإذا غصب لوحاً وأدرجه في سفينة، نزعناه، إن كانت السفينة على اليبس، أو كانت مرساةً على الساحل، وأمكن التوصل إلى النزع من غير إتلافِ روحٍ [أو] (1) مالٍ على ما سنفصل، إن شاء الله.
وإن كانت السفينة في اللُّجة، ولو انتزع اللوح، لغرقت بما فيها، ومن فيها، فإن كان فيها آدميون أو ذوات أرواحٍ محترمةٍ، فلا سبيل إلى نزعه، وإن لم يكن فيه إلا الغاصب، لم ينزع أيضاً، لما مهدناه في الخيط ونزعه.
ولو لم يكن في السفينة ذو روح، وكانت مربوطةً إلى سفينة، وهي تجري بجريها، فإن كان فيها أموال، قال الأصحاب: لم ينتزع اللوح إن كانت الأموال لغير الغاصب. وإن كانت للغاصب، فوجهان: أحدهما - أنه ينتزع؛ فإنّ الأموال لا تحترم لأعيانها، والغاصب قد فرط فيها؛ إذ وضعها في مثل هذه السفينة، فصار كما لو زرع أرضاً مغصوبة، فزرعه مقلوعٌ، [وإن] (2) كان له مدى يرتقب انقضاؤه، فليكن مال الغاصب في السفينة كذلك. هذا هو الأصح.
والوجه الثاني - أنه لا يقلع، ويتأنَّى [إلى] (3) انتهاء السفينة إلى الساحل، بخلاف الزرع؛ فإن الزرع تَنْبَثُّ عروقه، ثم يظهر منه مزيدُ إفساد للأرض، بخلاف اللوح، حتى إن كان البحر يؤثر في اللوح في غالب الظن، ولو نزع، لم يتأثر، فيرتفع الخلاف
__________
(1) في الأصل: ومال.
(2) في الأصل: فإن.
(3) مزيدة من (ت 2) .(7/276)
عند بعض أصحابنا. ومنهم من علل منع نزع اللوح بأن إجراء السفينة إلى الشط يوصّل إلى رد اللوح، فهو أمثل من النزع، والتغريق.
ولو لم يكن في السفينة مالٌ للغاصب ولكن كانت بنفسها تغرق لو انتزع اللوح، فهو بمثابة مال الغاصب.
ولم يختلف الأئمة في أن مال الغير [يمنع من نزع اللوح، وقد يخطر للفقيه أن يُضمِّن الغاصب أموال الغير] (1) ويذكرَ وجهاً في نزع اللوح. ولكن لم يصر إليه أحد؛ فإن أصل النزع متردد في السفينة نفسها [و] (2) في مال الغاصِب، فإذا انضم إلى ذلك حرمةُ مال الغير، انتظم منه وفاق الأصحاب في وجوب الانتظار.
ولو زرع الرجل ببذر غيره أرضاً مغصوبة، فلا خلاف في قلع الزرع.
فليتأمل الناظر ما يلقى إليه في كل [معاصٍ] (3) .
فصل
قال: "ولو غصب طعاماً، فأطعمه من أكله ... الفصل إلى آخره" (4) .
4659- إذا قدم الغاصب الطعام المغصوب إلى إنسانٍ ليأكله، فإن كان الطاعم عالماً بكون الطعام مغصوباً، لم يخف استقرار الضمان عليه. وإن كان جاهلاً، وحسب الطعام ملكاًً للغاصب، فإذا أكله، ففي استقرار الضمان قولان: أحدهما - وهو الأقيسُ أنه يستقر على الطاعم؛ لأنه المتلف المختار، والأسباب إذا انتهت إلى حقيقة الإتلاف، فالاعتبار بالإتلاف.
والقولُ الثاني - أن قرار الضّمان على الغاصب المقدِّم؛ فإنه متمسك بأظهر أسباب التغرير، والضمان يستقر على الغارّ، ولذلك يرجع المغرور بحرية زوجته بقيمة الولد
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(2) زيادة من (ت 2) .
(3) في الأصل، (ت 2) : (مغاص) بالمعجمة. والمثبت من (ي) وهو المعهود في ألفاظ إمام الحرمين بالمهملة من عَوِصَ.
(4) ر. المختصر: 3/43.(7/277)
إذا غرِمها على الغارّ. وقد ذكرنا توجيه القولين، ومأخذَ الكلام في (الأساليب) . ثم إن قلنا: القرار على الغاصب، فالطاعم مطالَبٌ، ثم إذا غرم، رجع. وإن قلنا: القرار على الطاعم، فالغاصِب مطالبٌ، ثم (1) إذا غرِم رجع على من طعم.
ولو قدم الغاصب الطعام المغصوب إلى المغصوب منه، فأتلفه، فإن كان على علمٍ، كان مسترداً للمغصوب. وإن كان جاهلاً، ففي المسألة قولاًن: إن قلنا: إن قرار الضّمان على الأجنبي الطاعم، فالذي (2) جرى من المغصوب منه استرداد الطعام.
وإن قلنا: لا يستقر الضمان على الأجنبي، لم ينتقل الضمان إلى المالك. وقد رأى الأصحاب انتقالَ الضمان إلى المالك أولى من قرار الضمان على الأجنبي؛ فإنّ تصرف المالك إذا انضم إلى إتلافه، تضمّن قطعَ عُلقة الضمان من الغاصب، وسيظهر لهذا أثر في التفريع.
4660- وقد قدمنا قواعد للمراوزة في الأيدي التي تترتب على يد الغاصب.
وقد ذكرنا طريقةً للعراقيين تخالف طريقة المراوزة، ولا بد الآن من إعادتهما؛ فإنهما لائقان بمضمون الفصل.
قال المراوزة: كل يد ليست يدَ ضمانٍ، فإذا ترتبت على يدِ الغاصب، وفرض التلف من غير إتلافٍ، فصاحب اليد مطالبٌ، وقرار الضمان على الغاصب. وإن كانت اليد يدَ ضمانٍ، وحصل التلف، فقرارُ الضمان على صاحب اليد الضّامنة.
وبيان ذلك في الوجهين أن المودَع من الغاصب لا يستقر الضّمان عليه، إذا تلفت الوديعة في يده. وكذلك اليد الحاصلة عن الرهن، والاستئجار، والقِراض، وكذلك يد الوكيل، فهذه الأيدي تثبت على سبيل الأمانة. فإذا ترتبت على يد الغاصب، لم يحصل بها قرار الضّمان. والمطالبةُ تتوجه على أصحابها، ثم إنهم إذا غرِموا، رجعوا على الغاصب.
__________
(1) (ت 2) ، (ي) : ولكن.
(2) (ت 2) : فإن جرى.(7/278)
فأمّا الأيدي التي تقتضي الضمان إذا ترتبت على يد الغاصب، فإنها تتضمن قرار الضمان إذا ترتب التلف عليها كيد الشراء، والعاريّة، والسَّوم. هذا مسلك المراوزة.
فأمّا العراقيون، فإنهم أثبتوا قرار الضمان بالأيدي الضّامنة، كما أثبته المراوزة، وفصلوا أيدي الأمانة، وقسموها ثلاتة أقسام. وقد قدمت ذكرها فيما تقدم من كتب المعاملات. وأنا أعيدها الآن، لينتظم الكلام.
قالوا: كل يد ثبتت لمحض غرض المالك من أيدي الأمانة، فإذا ترتبت على يد الغاصب، لم تقتض قرارَ الضمان عند التلف، كيد الوديعة، وكل يدٍ تتعلق بمحض غرض صاحب (1) [اليد فإذا ترتبت على يد الغاصب، تعلق بها قرارُ الضمان، كيد الراهن. وألحقوا بيده يدَ المستأجر، والمقارض. وقد تصرفنا من قياسهم على يد المستأجر، والمقارض، والوكيل إذا قبض. قالوا: إن كان يتصرف من غير جُعلٍ، فيده كيد المودَع، وإن كان يتصرف بجُعلٍ، ففي المسألة وجهان. هذا كلامهم.
وهو يجانب طريق المراوزة بالكلية.
4661- وكان شيخي يتردد في يد واحدةٍ ليست يدَ ضمان، وهي يد المتهب، فإذا وهب الغاصبُ المغصوبَ من إنسانٍ، وأقبضه (2) إياه، فقبض على جهلٍ منه، وتلف في يده، كان يقول: هذه اليد، وإن لم تكن يدَ ضمانٍ، فهي يد تسليط على الإطلاق، فيمكن أن يقال: يخرّج قرار الضمان إذا فرض التلف من غير إتلافٍ على قولين؛ فإن حكم الهبة إذا تمت بالإقباض انقطاع علائق الواهبِ بالكلية، فإذا فرض القبض على الهبة، كان القابض عنها في حكم المبتدىء قبضاً على الكمال. وهذه الصورة تضاهي الغصب.
__________
(1) من هنا بدأ خرم في نسخة الأصل. مقداره نحو ورقة من المخطوط. ومن هنا سيكون المثبت نص نسخة (ت 2) بدءاً من الورقة 148 ي سطر 14 إلى 150 ش سطر 10. والله المستعان والهادي إلى الصواب.
(2) في الأصل: وقبضه، والمثبت من (ي) .(7/279)
وهذا الذي ذكره حسن، وكان يتردد فيه [إذا] (1) أودع الغاصب العين المغصوبة من مالكها، فلم يشعر المالك بملكه فيها، حتى تلفت في يده. [فيحتمل] (2) أن يقال: تلفت من ضمانه؛ فإن يد المالك إذا ثبتت، لم يقطع أثرَها الجهلُ والظنُّ.
والظاهرُ أنها تتلف من ضمان الغاصب، كما لو جرى الإيداع عند أجنبي.
4662- ولو غصب عبداً، ثم أمر إنساناً بقتله، فقتله معتقداً أن الآمرَ مالكٌ، فقد قيل: في قرار الضَّمان على القاتل قولان، كما ذكرناه في الإطعام. والصحيح أنه يستقر عليه الضّمان؛ فإن القتل ممَّا لا يستباح الإقدام عليه بالإباحة، ولا يتحقق التغرير فيه.
ولو قال غاصب العبد لمالكه: "أعتقه"، فتلفظ المالك بإعتاقه، وهو لا يشعر أنه مملوكه، بل بنى الأمر على أنه وكيلٌ في إعتاقه من جهة المالك، فقد قال بعض الأصحاب: لا ينفذ العتق؛ لأنه قدّره ملكَ الغير. وهذا غلطٌ غيرُ معتد به؛ فإن العتق لا يندفع بأمثال ذلك. ولهذا كان هزله جداً.
ولو واجه الإنسان عبد نفسه بالإعتاق ظاناً أنه عبد غيره وهو هازل بإعتاقه، نفذ العتق. وكذلك لو رآه في ظلمةٍ، فوجه العتق عليه، فإذا ثبت نفوذ العتق، فمن أصحابنا من خرّج انتقال الضمان إلى المالك، وانقطاعَه من الغاصب على قولي الإطعام. وهذا مزيفٌ لا أصل له. وإن اعتمده صاحب [القفال] (3) أبو سليمان.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق، ثم صدقتنا نسخة (ي) .
(2) في الأصل: يحتمل، ومثلها (ي) .
(3) ما بين المعقفين يقع في الورقة الساقطة من نسخة الأصل، وفي (ت 2) : صاحب القصار أبو سليمان، وفي (ي) مثلها إلا أن كلمة (القصار) غير واضحة، فالراء تقرأ بين التاء المربوطة والراء، والصاد غير واضحة، ووضع الناسخ فوقها علامة تضبيب تفيد شكه في قراءتها، فرسمها كما هي.
ولذا رجحنا ما أثبتناه من أنه صاحب القفال أبو سليمان، فأبو سليمان الخطابي أحد رفعاء المذهب، ينقل عنه شيوخ المذهب كثيراً مثل النووي في المجموع، ثم هو من تلاميذ القفال، فصح أن يطلق عليه الإمامُ: صاحب القفال. =(7/280)
والصحيح أن الغاصب يبرأ على الضمان، لأن وضع العتق أن لا ينفذ في ملك الغير.
والضيف يأكل طعام المقدّم إليه مستباحاً، وهو في ملك المقدِّم على ظاهر المذهب.
ولو زوج الغاصب الجارية المغصوبة من مالكها، على جهلٍ منه بها، ثم استولدها المالك، ثبت الاستيلاد لا خلاف فيه. ويبرأ الغاصب عن الضمان بثبوت يده على مستولدته. وشبب بعض الأصحاب بالخلاف في ذلك. والأصح ما ذكرناه.
4663- ولو أطعم البائع المشتري الطعام المشترَى على جهلٍ منه بأنّه يأكل [ما اشتراه] (1) ، فقد قال القاضي: يجب أن يخرّج على القولين المذكورين في إطعام الغاصب المغصوبَ منه الطعامَ المغصوب. فإن حكمنا بان الغاصب يبرأ، فإذا فرض هذا من المشتري، كان أكله قبضاً للطعام المشترى. وإن حكمنا بأن الغاصب لا يبرأ عن الضمان، فتَلفُ الطعام محسوب عليه. فكذلك نقول: هذا محسوب من ضمان البائع. ثم الوجه أن نجعل ذلك كما لو أتلف البائع المبيع قبل القبض. وحكمه مفصَّل في كتاب البيع.
فصل
قال: "ولو حل دابةً، أو فتح قفصاً عن طائرٍ ... إلى آخره" (2) .
4664- إذا فتح الإنسان باب قفص، أو حل الرِّباط عن طائر، فأطلقه عن الوثاق،
__________
= وهاك ترجمة موجزة له:
أبو سليمان حَمْد (بفتح الحاء وسكون الميم) بن محمد بن إبراهيم البُسْتي، المعروف بالخَطَّابي. صاحب معالم السنن في شرح سنن أبي داود. تفقه بأبي بكر الففال الشاشي، وأبي علي بن أبي هريرة ونظرائهما، وكان رأساً في الفقه واللغة والأدب. ولد سنة بضعَ عشرَةَ وثلاثمائة، وتوفي ببُسْت سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، وهو مذكور في الشرح الكبير للرافعي في عدة مواضع.
(ر. طبقات السبكي: 3/282- 290، طبقات الإسنوي: 1/476، طبقات ابن الصلاح: 1/467، طبقات ابن قاضي شهبة: 1/156، سير أعلام النبلاء: 17/23) .
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) ر. المختصر: 3/43.(7/281)
إن نفّره مع الحل، فطارَ، وجب الضّمان، لا خلاف فيه. وإن اختصر على حل الرباط وفَتْح باب القفص، فمذهبنا الظاهر أن الطيران إن اتصل بالحل، وجب الضّمان، وإن استأخر الطائر بعد الحل، وتخلل زمان يعدُّ فاصلاً بين الفتح والطيران، فلا ضمان.
وقال أبو حنيفة (1) : لا يجبُ الضّمان، وإن اتصل الطيران، إذا لم يظهر مع الفتح تنفير. وقال مالكٌ (2) : يجب الضّمان سواء اتصل الطيران بالفتح، أو انفصل عنه. وقد ذكر الأصحاب قولين مثل مذهب الإمامين مالك وأبي حنيفة رحمة الله عليهما. فحصل على هذا التقدير ثلاثة أقوال.
والمذهب المشهور منها الفصل كما قدمناه، وعصام المذهب أَنَّ الطيران فعلُ حيوانٍ ذي اختيارٍ، وهذا لا ننكره. وقياسه أنه إذا لم [يجرِ] (3) إرهاقٌ، وحمل على الفعل، ولم يوجد من الفاتح إتلافٌ، ولا إثباتُ يدٍ، فلا يجبُ الضمان. وإذا اتصل الطيران، فالأمر محمولٌ على اقتضاء الفتح تنفيراً، والتنفير فيما لا يعقِل ينزل منزلة الإكراه، والإلجاء [فيمن] (4) يعقل.
ومن حكم بوجوب الضّمان مع الاتصال والانفصال، ألحق ذلك بالأسباب المضمّنة كحفر البئرِ في محل العدوان ونحوه. ومن لم يوجب الضّمان في الاتصال والانفصال، أحال الضياع على فعل حيوانٍ [ذي] (5) اختيار، يعتمد الخلاص.
والمتردي في البئر لا يعتمد التردي فيها.
وسيكون لنا كلام ضابط في كتاب الديات في الأسباب وما يتعلق بها [من] (6) الضمان وما لا يتعلق، إن شاء الله عز وجل؛ فإن القول في ذلك منتشر على من لا يحيط بالمدارك.
__________
(1) رؤوس المسائل: 350 مسألة 230، البد ائع: 7/166.
(2) الإشر اف للقاضي عبد الوهاب: 2/630 مسألة 1084، جواهر الإكليل: 2/148
(3) في الأصل: يحز.
(4) في الأصل: ثم يعقل.
(5) في الأصل: ذو.
(6) زيادة اقتضاها السياق.(7/282)
4665- ولو فتح بابَ اصطبلٍ وخرجت بهيمةٌ، فضاعت، فالأمرُ كما ذكرناه.
وكان الشيخ أبو محمدٍ يشبب بالفصل بين حيوان نافرٍ بطبعه إذا حل رباطَه، وبين حيوان آنِسٍ لا نِفار فيه، ويقول: اتصال حركة البهيمة الإنسية، كانفصال حركة النافر من الطير والوحوش. وهذا منقاس. ولكني لم أره إلا له.
فإذا أطلق عبداً مجنوناً عن قيده، فهو في التفصيل] (1) كالبهيمة.
وإن فتح باب دارٍ، فخرج منه عبد مميز، فأبق، فلا ضمان، اتفق الأصحاب عليه. ولا فرق بين أن يتصل خروج العبدِ، أو ينفصل. واضطرب الأصحابُ في العبد المعروف بالإباق إذا اعتمد مالكه تقييدَه، أو إغلاقَ بابٍ عليه، فإذا حل إنسان قيدَه، أو فتح الباب، فالمذهب الذي عليه التعويل أنه لا يجب الضمان إذا كان العبد مميزاً؛ فإن التعويل على إحالة الضياع على فعلِ مختارٍ، وهذا يتحقق من المميز. وإن كان معروفاً بالإباق.
وأبعد بعض الأصحاب، فجعل حلّ القيد عنه، كحل الرباط عن طائرٍ أو بهيمة، ثم التزم تخريجه على قياس الطائر، ففصل بين أن يتصل الإباق أو ينفصل. وهذا ساقطٌ، لا اتجاه له.
وممّا نذكره أن الطائر لو كان في بيتٍ كبير، ففتح الفاتح القفص، فابتدأ الطائر الطيران، وتخلل زمانٌ إلى اتفاق انفصاله، وربما يستدير الطائر مراراً إلى أن يصادفَ موضع الفتح، فهذا يعد من الطيران المتّصل، وإن استأخر الضياع.
4666- ولو (2) حل الوكاءَ عن زقٍّ، وفيه مائعٌ، فإن كان الزق منبطحاً، فإن ما فيه يتدفق بحل الوكاء على هذه الهيئة؛ فلا خلاف في وجوب الضمان على من حل الوكاء. وإن كان الزق منتصباً، وكان حل وكائه على هيئة الانتصاب، لا يدفق ما فيه لو بقي منتصباً، نُظر: فإن سقط الزق متصلاً بالحل، واندفق (3) ما فيه، فإن كان
__________
(1) انتهى هنا الخرم الموجود في نسخة الأصل (د 1) .
(2) (ت 2) : أوحل.
(3) (ي) : واندفع.(7/283)
سقوطُه بسبب تحريك الوكاء وجذبه في صوب الحل، فيجب الضّمان؛ فإنّه حلَّ وأسقطَ الزقَّ.
ولو صادف زقاً منتصباً محلولاً، فأسقطهُ، وجب الضّمان؛ فإن هذا يعد من اعتماد الصب والتدفيق.
ولو حل الوكاء، وترك الزق منتصباً، فبقي كذلك، ثم هبت ريح، فأسقطته، فقد قطع الأصحاب بأن الضمان لا يجب؛ فإن السقوط كان محالاً على الريح، ولا تعويل عليها، ولا يدرى متى تهب. وإن هبَّت، فمتى تبلغ مبلغاً يُسقط الزق.
ولو حل الوكاء عن زق، وكان ما فيه جامداً، فشرقت الشمس، وأذابت مافيه، فاندفق، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن الضّمان لا يجب؛ لأن الشمس هي المؤثرة، وما جرى من الضياع والفوات محال عليها، كأنها على صورة من يباشر إتلافاً. والوجه الثاني - أنه يجب؛ من قِبل أن الشمس يتيقن شروقها، وليست كالرياح التي لا يدرى متى تهب، فمن عرّض جامداً للشمس، عُدّ ساعياً في تضييعه وتدفيقه.
4667- وذكر القاضي وجهين في صورةٍ تناظر ما ذكرناه، على تقديره -رحمه الله- وهي أن من أزال أوراق كَرْمٍ وجَرَد (1) العناقيدَ لحَمْي الشمس في الموضع الحار، فأفسدتها الشمس، فهل يجبُ الضمان، على مَنْ نجا (2) الأوراق؟ فعلى الوجهين الذين ذكرناهما في تعريض الجامد لشروق الشمس. وهذا يعسر تصويره في البلاد المعتدلة.
ولو حل الوكاء عن زقٍّ، فاتصل بحلّه سقوطُه، ولم يظهر لنا أن سقوطَه بسبب جذب الوكاء، فقد أطلق الأئمة أن السقوطَ إذا كان على الاتصال، وجب الضّمان، إذا كان ما في الزق مائعاً، فاندفع لما سقط. وليس هذا لأثر الاتصال، وإنما هو لعلمنا بأن الزق الذي يكون منتصباً إذا سقط متصلاً بفعلٍ، فسقوطه به؛ لأن السقوط لا يكون إلا بسببٍ. فإذا قال المصور: إذا اتصل السقوط، ولم يبن لنا أن السقوط
__________
(1) جَرَد الشيء قشره، وأزال ما عليه وعرّاه. (معجم) .
(2) ينجو نجاءً ونجاة: كشط، وقشر، ونجا الأوراق أي قطعها وأزالها (المعجم) .(7/284)
بفعل الحالّ. قيل له: هذا تلبيس؛ فإن السقوط إذا اتصل، لم يكن إلا لتأثير مؤثر.
وهذا لا خفاء به.
والغرض من هذا التنبيه ألا يؤخذ هذا من قياس الطيران وانفصاله؛ فإن ذلك يتعلّق (1) باختيار حيوان، أو بإزعاجه.
ولو حل الوكاء عن زق فيه مائع، وكان مملوءاً، والزق منتصب، فأخذ ما فيهِ يسيل قليلاً قليلاً، ويبتلّ لأجله أسفل الزق، حتى أفضى هذا إلى سقوط الزق، واندفاق ما فيه، فيجب الضمان في هذه الحالة؛ لانتسابِ الاندفاق إلى حل الوكاء.
4668- ولو فتح (2) المُحْرِم القفص عن صيدٍ مملوك، فطار على الاتصال، على قول التفصيل، وهو المذهب، وجب عليه الجزاءُ، لو هلك الطائر قبل أن يستقر؛ فإنا نجعل هذا تنفيراً. والمحرم إذا نفّر، واتصل التلف بالنّفار، التزم الضّمان، فيجب عليه الجزاءُ في الصورة التي ذكرناها لله تعالى، والقيمةُ للمالك.
وإذا استأخر الطيرانُ، فلا جزاء، ولا ضمان؛ فإن الأمر محالٌ على الطيران الذي اختاره الطائر، من غير تنفير.
وإذا فرعنا على قول مالكٍ، وجب الضمان للآدمي، ولم يجب الجزاء؛ فإن الضمان على قوله لا يتلقى من التنفير، والجزاء لا يثبت إلا بالتنفير.
فصل
قال: "ولو كصبه داراً، فقال الغاصبُ: هي بالكوفة ... إلى آخره" (3) .
4669- ليس في هذا الفصل أمرٌ (4 يتعلق بأحكام الغصوب، وما فيه 4) يتعلق بالدعوى والإقرار. وحاصل القول فيه أنّ من ادعى على رجل داراً ببلدة، فلا بد وأن
__________
(1) (ت 2) : يقع.
(2) (ت 2) : حلّ عن قفصٍ عن صيدٍ.
(3) ر. المختصر: 3/44.
(4) ما بين القوسين ساقط من (ت 2) .(7/285)
يتعرض في دعواه لتعيينها بالوصف، وذلك يحصل بذكر [المحِلّة] (1) التي فيها الدار، ثم قد لا يكفي ذلك، حتى يعين سكةً من المحلّة، ثم إن كان فيها دور، ميّز (2) الدار التي يدّعيها، بذكر الحدود المشتملة عليها.
ولو ادعى داراً مطلقة، كانت الدعوى مجهولةً، غيرَ مقبولة. وهذا [يُفَصَّل] (3) في كتابِ الدعاوى.
ثم صور المزني دعوى دارٍ بالمدينة، وصوّر إقرار المدعى عليه بدارٍ بالكوفة، فالذي جاء به ليس جواباً عن الدعوى، وإنما هو إقرار بغير (4) المدعى. فإن قال المدعي [هذه] (5) الدار التي أقررتَ بها فهي لي، [ثبتت] (6) تلك الدار، ويبقى المدعى عليه مطالَباً بجواب الدعوى.
وتفصيل أجوبة الدعاوى لا يمكن ذكره على التبعية. وما يتعلق بتفصيل الإقرار استقصيناه في [كتاب] (7) الأقارير.
فصل
قال: "ولو غصبه دابة، فضاعت من يده ... إلى آخره" (8) .
4670- إذا غصب عبداً، فأبق، أو دابةً فشردت، فحكم ضمان الغصب مستدام، وإن زالت يد الغاصب، ثم للمغصوب منه مطالبة الغاصب بقيمة الآبق والشارد، فإذا غرَّمه القيمة، لم يصر الغاصب مالكاً للآبق بسبب بذل القيمة، وموجِب القيمةِ عندنا
__________
(1) في الأصل: الحارة.
(2) (ت 2) : عين.
(3) في الأصل: الفصل.
(4) (ت 2) : بعين.
(5) في الأصل: هذا.
(6) في الأصل: فتثبت.
(7) زيادة من (ت 2) .
(8) ر. المختصر: 3/44.(7/286)
الحيلولةُ الواقعة بين المالك وملكه، بسبب الغصب، ثم المالك يتصرف في القيمة تصرفه في أملاكه، وإذا استمكن الغاصب من العبد؛ فإنه يرده ويسترد القيمةَ.
وكان شيخي يتردد في أن تلك القيمة لو كانت قائمةً في يد المغصوب منه، فإذا رد الغاصب العبدَ، فهل له أن يسترد أعيان تلك الدراهم ولا يرضى بغيرها؟ أم للمغصوب منه الخيار بين أن يردّها، وبين أن يرد أمثالها؟ وهذا التردد لا يوجب توقفاً في [تسلّط] (1) المغصوب منه على التصرف. ولكن القيمة في يدِه بمثابة القرض (2 في يد المستقرض، وقد ذكرنا اختلافَ قولٍ في أن ملك المستقرض متى يحصل 2) .
ثم قال القاضي: إذا غرِم الغاصب القيمة، ثم رجع العبد، فللغاصب أن يستمسك بالعبد، ولا يرده حتى تُردَّ القيمةُ عليه، وهذا نقله عن نص الشافعي رضي الله عنه في غير مسائل المختصر، ونص أيضاً على أن من اشترى شيئاًً شراءً فاسداً، وأدّى ثمنه، ثم تبين له الفساد، فإنه يتمسك بما قبضه على حكم الفساد، حتى يُرَدَّ الثمنُ عليه.
وهذا فيه فضل نظر؛ فإنا ذكرنا أقوالاً في أن المبيع هل يحبس في مقابلة الثمن، حتى يقال: البداية بالتسليم على المشتري؟ ولا ينبغي أن [يزيد] (3) العبد الآبق إذا آب على المبيع في مقابلة الثمن، فليخرّج الأمر على الاختلاف.
ويتجه جدّاً إيجابُ البداية بالتسليم على الغاصب؛ تغليظاً عليه؛ فإن يده هذه بقيةُ يد العدوان. والذي غرِمه لأجل الحيلولة، [بحقٍّ غرمه،] (4) والحيلولة قائمة إلى أن يرد، فيظهر إيجاب البداية عليه، لما نبهنا عليه.
هذا في العبد الآبق.
فأمّا إذا اشترى شيئاً شراءً فاسداً، ووفّر الثمن، وقبض المشترى، فالاستمساك به
__________
(1) في الأصل: مسألة. وفي (ت 2) : تسلّك. والمثبت تقدير منا على ضوء السياق.
والحمد لله صدقتنا (ي) .
(2) ما بين القوسين ساقط من (ت 2) . هذا، وفي الأصل بعد كلمة يحصل: "ولكن القيمة في يده بمثابة القرض" وهو تكرار لا محل له.
(3) في الأصل: يرتد.
(4) ما بين المعقوفين مكان كلمتين مطموستين في (ت 2) وغير مقروءتين في الأصل هكذا: [نحو غرمه] والمثبت من (ي) .(7/287)
أبعد من استمساك الغاصب بالعبد الآيب عن الإباق؛ من جهة أن للقيمة المبذولة في مقابلة العبد الآبق [بدلٌ] (1) مستحقٌّ شرعاً، والمشترى على الفساد لا يقابله عوض مستحق، فالأوجه فيه أن يطلب (2) ماله، ويرد ما في يده، من غير ترتيب أحدهما على الثاني.
4671- وممّا يتعلق بمضمون الفصل أن العبد إذا أبق، فعلى الغاصب أن يضمن للمغصوب أجرة مثل المنافع للأيام التي تمر، وهذا مقطوع به قبل اتفاق غرامة القيمة. فإذا غرِم للمغصوب [منه] (3) القيمةَ، فهل يجب عليه أجرُ المثلِ بعد ذلك إلى اتفاق الإياب والرد؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يلتزم الأجر؛ فإن القيمة التي بذلها، ومكن المالكَ من التصرف فيها في الحال، تنزل منزلة ردّ (4) المغصوب، فضمان أجر المنفعة مع ما ذكرناه يبعد.
والوجه الثاني: وهو الأصح أنه يلتزم الأجرَ، كما كان يلتزمه قبلُ؛ فإن حكم [الغصب] (5) قائم. وإنما وجبت القيمة على مقابلة الحيلولة الواقعة، فليجب الأجر على مقابلة ضياع المنفعة، والقيمة على مقابلة وقوع الحيلولة.
ولو ازداد العبد الآبق زيادة متصلة، أو ولدت الجارية الآبقة، ففي وجوب ضمان الزيادة وجهان، مأخوذان مما ذكرناه. فإن قلنا: لا يجب الأجر تنزيلاً لبذل القيمة منزلةَ ردّ المغصوب، فلا يجب ضمان الزوائد، وكأَنَّ المغصوب خارج عن عهدة الغاصب.
وإن قلنا: يلتزم الأجرَ استدامةً لحكم الغصب [فيثبت] (6) الضمان في الزوائد.
وهذا الخلاف الذي ذكرناه في الزوائد أبعد من الخلاف في الأجرة. والوجه القطع
__________
(1) في الأصل: بذل. (بالمعجمة) .
(2) (ت 2) : يأخذ الثمن.
(3) زيادة من المحقق، وفي (ت 2) : الغاصب، ومثلها: (ي) .
(4) ساقطة من (ت 2) ، (ي) .
(5) في الأصل: المغصوب.
(6) في الأصل: ويثبت.(7/288)
بضمان الزوائد؛ من جهة أنا إن قلنا: تمكُّنُ المغصوبِ منه من الانتفاع بالقيمة، [بالتصرف] (1) فيها يسد مسد ما يفوت من منفعة العين، فهذا على بعده قد يُتخيل، فأما المصير إلى انقطاع عُهدة الغصب، فبعيد.
ومما يخرّج على الخلاف أحكامُ جنايات العبد في إباقه، ففي وجهٍ نُعلِّق ضمانَها بالغاصب استدامةً لحكم الغصب، وفي وجهٍ نبرئه منها لبذله القيمة.
4672- ثم قال المحققون: لو غصب عبداً وغيّبه إلى مكانٍ بعيدٍ، ولما توجهت الطَّلِبةُ عليه بردّه، عسر عليه ردُّه، وغرِم قيمته. قالوا: يجب [عليه] (2) في هذه الصورة ضمانُ الأجر إلى الرد. وكذلك القولُ في ضمان الزوائد، والتزام عهدة الجنايات. وزعموا أن هذا محلُّ الوفاق، بخلاف ما قدمناه في حالة الإباق.
والفارق أن العبد المغصوب إذا كان خروجه وغَيْبتُه على حكم الغاصب وتصريفه إياه، فهو باقٍ في حقيقة يد الغاصبِ، فَقَطْعُ علائق الضّمان محالٌ بخلافِ الآبق. وهذا الفرق وإن كان له اتجاهٌ، فقد كان شيخي يطرد الخلاف في هذه الصُّورة؛ بناء على صورة بذل القيمة، ونزولها منزلة العين. والمسألة محتملة.
4673- وحكم الأجرة في اللوح المغصُوبِ المدرج في السفينة، يخرّج على الترتيب الذي ذكرناه، فإن لم يضمن الغاصب قيمة اللَّوح لمكان الحيلولة، فعليه أجر مثلها إلى التمكن من نزع اللوح ورده. وإن غرِم القيمة لوقوع الحيلولة، وتعذر الرد، فإذا كان الغاصب مع السفينة، فهذه الصورة تناظر ما لو صَرَفَ العبد إلى بعض الجهات وغيّبه. وفيه من التردد ما ذكرناه.
وحكم أجر المثل يجري في الخيط مادام جزءٌ منه باقياً في الجرح، فإذا تعفن وبلي، فقد تلف.
ومن آثار ما ذكرناه أنه إذا غرِم قيمة الآبق، وكانت ألفاً، ثم ازداد بالسُّوق، فصار مثله يساوي ألفين، فزيادة السوق في هذا المقام بمثابة زيادة الأعيانِ. فإن قطعنا
__________
(1) (ت 2) : فالتصرف. ولعلها: والتصرّف.
(2) زيادة من: (ت 2) .(7/289)
علائق الضّمان ببذل القيمة الأولى، فلا نظر إلى ما يتفق من بعدُ من ارتفاع السعر. وإن استدمنا حكمَ الضمان والتغليظَ على الغاصب، فلما ارتفع السوق، وجب بذلُ مزيدٍ في القيمة.
4674- ومن دقيق المذهب ما نختم الفصل به: وهو أن ضمان القيمة عند وقوع الحيلولة، وحصول التعذّر من الرد واجبٌ، كما ذكرناه في قاعدة الفصل. فلو جاء الغاصب بالقيمة للحيلولة، فللمغصوب منه أن يمتنع منها على ظاهر المذهب؛ من جهة أنها ليست حقاً مستحقاً ملتزَماً في الذمّة، يأتي الملتزم به، فيجبر المستحِق على قبوله أو الإبراءِ عنه.
ويتصل بذلك أنه لو أبرأ مالكُ العبد عن القيمة المعلّقة بالحيلولة، فلا معنى لإبرائه عنها؛ فإن الحيلولة تتجدد حالاً على حالٍ. وهذا يضاهي نظائرَه من إسقاط امرأة المولي حقها عن الطلبِ بعد انقضاء المدّة؛ فإنه لا حكم لإسقاطها؛ من جهة تجدد حقوقها على ممرّ الزمن في المستقبل.
ونزَّل بعضُ أصحابنا قيمة الحيلولة منزلةَ الحقوق المستقرة، حتى صحح الإبراء عنها، وألزم مالك العبد قبولَها. وهذا غفلة عن حقيقة الفصل، والتعويل على ما قدمناه.
فصل
قال: "ولو باعه عبداً، وقبضه المشتري ... إلى آخره" (1) .
4675- مقصود الفصل غيرُ متعلقٍ بأحكام الغصوب، وإنما هو مجمع من قضايا الأقارير والدعاوى. ولكنا نذكره جرياناً على ترتيب (السَّواد) (2) فنقول: من باع عبداً وأَلْزم في ظاهر الحالِ بيعه، ثم قال: كنتُ غصبته، فقوله مردود في انتزاع العين من يد المشتري، ولكنه هل يغرَم للمقَرّ له قيمةَ العبد؟ من أصحابنا من خرج ذلك
__________
(1) ر. المختصر: 3/45.
(2) السواد: المراد مختصر المزني، كما أشرنا من قبل.(7/290)
على القولين فيه إذا قال: غصبت هذه الدارَ من فلان، لا بل من فلان، فالدار مسلَّمةٌ إلى الأول، وفي وجوب ضمان القيمة للثاني قولان، تمهد ذكرهما.
ومن الأصحاب من قطع في مسألة الإقرار بعد البيع بوجوب ضمان القيمة للمقَرّ له. وفرق بأنه في مسألة الإقرار لم ينشىء أمراً، وإنما صدر منه إخبارٌ مجرّد. وفي مسألة البيع أنشأ البيع في ظاهره، وهو موجب لحكم الحيلولة. وهذا الفرق مما سبق ذكره.
ولو قال البائع ما قال، فصدقه المشتري، وجب عليه تسليم العبد إلى المقَرّ له، ويرجع بالثمن على البائع (1) .
وإن لم يقر البائع لكنّ المشتري أقرّ بأن هذا العبدَ الذي اشتريتُه مغصوب من فلان، غصبه البائع وباعه، فلا يرجع بالثمن على البائع.
وإن لم يوجد الإقرار منهما، ولكن جاء إنسانٌ [وادّعى] (2) أن العبد الذي باعه ملكُه، كان غصبه (3) منه، وباعه مغصوباً، فكذباه -أعني البائع والمشتري- فالقول قولهما. أما المشتري، فيحلف: "لا أسلم العبد إلى المدعي". ولا عليه لو قيّد يمينه -إن أراد- بكَوْن العبد ملكاً له، بناء على ظاهر الحال.
وأمّا البائع، فإنما يتجه تحليفُه إذا كنا نرى تضمينه القيمة. وينبغي أن يقع يمينه على نفي القيمة؛ فإنها المدعاة عليه في الحال. ولو تعرض لنفي الغصب للمدّعي، فلا بأس مع التعرض لنفي القيمة. ولو اقتصر في يمينه على نفي الغصب، ففيه وفي أمثاله خلافٌ يأتي في الدعاوى، إن شاء الله تعالى.
4676- وفرض الأصحاب صورة طوّلوا الفصل بذكرها، فقالوا: لو اشترى عبداً وقبضه، وأعتقه، فجاء المدعي وادّعى أن البائع كان غصبه، فإن كذبوه -يعني البائعَ والمشتري والعبدَ- والتفريع على الصحيح في حق البائع، فيحلف البائع: "لا تلزمه
__________
(1) ساقط من (ت 2) ، (ي) .
(2) في الأصل: فادعى.
(3) (ت 2) ، (ي) : عصب منه.(7/291)
القيمة" ويحلف المشتري: "لا يلزمه ردُّ العبد" (1) ، ولا نزاع مع العبد؛ فإنه قد أعتقه المشتري ظاهراً، ومضى حكم الشرع بنفوذ العتق فيه. وسنبين ما نبغيه في أثناء الفصل، إن شاء الله.
4677- فلو صدقه البائع، لم يقبل قوله في انتزاع العبد؛ فإنه يتضمن إبطالَ ثلاثة حقوق: حق المشتري، وحق العبد، وحق الله تعالى في العتق. وإن صدقه البائع والمشتري، لم يقبل في ردّ العتق لحق العبد، وحق الله تعالى. وعلى المشتري القيمةُ، [والطلبة] (2) بها؛ من جهة إعتاقه، فلو صدقه البائع، والمشتري، والعبد، لم يبطل العتق؛ لأن فيه حقَّ الله تعالى.
ولو [مات هذا العبد] (3) وكان كسب مالاً، ولم يكن له نسيبٌ وارث، فميراثه للمقَر له بالغصب (4) ؛ لأن البائع والمشتري أقرا له (5 بالملك، وليس 5) في [قبول] (6) إقرارهما في هذا المقام -وقد نفذ العتق- مُرادّةُ (7) حقٍّ. وهذا ظاهر؛ فإن [العتيق] (8) لا يرثه إلا مولى [العتاقة] (9) إذا لم يكن له من يحجب مولاه، ولا يمكن (1) أن يُقدَّر حرَّ الأصل؛ فإن الحرية الأصلية ليست ثابتة في حساب، ولا على موجب قولٍ من أقوال هؤلاء.
4678- وهذه المسألة فيها لطفٌ؛ من جهة أن قبول قول المشتري يوجب ارتداد
__________
(1) (ت 2) ، (ي) : العين.
(2) في الأصل: والطالبة.
(3) في الأصل: ولو فات هذا العتق. وفي (ي) : ولو مات هذا العتيق.
(4) أي يرثه بالولاء.
(5) ما بين القوسين سقط من (ت 2) .
(6) في الأصل: قبوله.
(7) اسم ليس مؤخر.
(8) في النسختين: (العتق) ، والمثبت تقدير منا. وقد صدقتنا نسخة (ي) وقد حصلنا عليها بعد الانتهاء من هذا الجزء.
(9) زيادة من المحقق للإيضاح.
(10) (ت 2) ، (ي) : ولا يمكننا أن نجعله، حرّ الأصل.(7/292)
العتق، لو أمكن الوفاء بذلك، فكيف انتهض مثبتاً (1 للميراث. ولكن الغرض من هذا أن الاختصاص الذي يمكن إثباته يثبت بقول المشتري 1) ، وإن لم يثبت، رُدَّ العتقُ. وليست المسألة خالية عن إمكانٍ واحتمال (2) . وتكاد أن تكون من دواير (3) الفقه؛ فإن في قبولِ إقرار المشتري ردَّ العتق، وفي رد العتق ردُّ التوريث، وما في يد هذا العتيق ربما حصّله من جهاتٍ لا يصح من العبيد التحصيلُ منها من غير إذن السَّادة.
وقد ينقدح في المسألة تفصيلٌ، فنقول: ما يصح من العبد اكتسابه من غير إذن المولى يجب أن يصرف إليه، فإنه بين أن يكون كسبَ عبده، أو ميراثَ عتيق ثبت أصل الملك له فيه [لزوماً] (4) ، وما ثبت في يده عن جهةٍ لا يصح استبداد العبد بها، فالوجه الحكم بأن المقر له لا يستحقه؛ فإنه ينكر الملك فيه، ويرد عتق المشتري. هذا [ما] (5) لا بد منه. وهو مستقر المسألة. والأئمة وإن لم يذكروا هذا التفصيل، فلا شك أنهم عنَوْه، ولو عرض عليهم، لم ينكروه.
فصل
قال: "ولو كسر لنصراني صليباً ... إلى آخره" (6) .
4679- آلات الملاهي تُكسَّر في أيدي المسلمين، فاختلف الأئمة في الحد الذي
ينتهي الكاسر إليه. فقال القائلون: إذا فصلها، كفى، وينبغي أن يُبقي انتفاعاً آخر به، إن أمكن الانتفاع، وهذا القائل يقول: إذا كان الكلام مفروضاً في الأوتار، فيكفي في الكسر رفعُ وجه البَرْبَط (7) ، وتركُه على شكل قصعه؛ فإنه بهذا القدر يخرج
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ت 2) .
(2) (ت 2) ، (ي) : إمكان احتمال.
(3) أي من مسائل الدّور.
(4) مزيدة من (ي) .
(5) زيادة من (ت 2) ، (ي) .
(6) ر. المختصر: 3/45.
(7) البَرْبط: العود. من آلات الموسيقى.(7/293)
عن اللهو (1) ، والاستعمال المحرّم.
ومن أئمتنا من رأى الزيادة على الحدّ الذي ذكرناه.
ثم الضبط فيما ينتهي إليه ألا يتأتى من [المنكسر] (2) اتخاذ آلةٍ كالتي كانت، أو اتخاذ آلة أخرى من المعازف. وحاصل الخلاف المذكور آيلٌ إلى أن المعتبر عند بعض الأصحاب إخراجُ الآلة عن إمكان استعمالها في الوجه المحرم. والاعتبار عند الآخرين بإخراجها عن إمكان الرد إلى الهيئة المحرّمة.
وذهب آخرون إلى مسلكٍ وسط، فقالوا: ليس من الشرط إنهاء الكسر إلى استحالة اتخاذ الآلة من الرُّضَاض (3) ؛ فإن الخُشب متهيئة لاتخاذ آلات منها، فإذا وجدنا أصولها في أيدي من يتعاطى صنعة الآلات لم نفسدها عليه.
فالمعتبر إذاً انتهاء الكسر إلى حالةٍ لو فرض محاولة صنعة الآلة من الرّضاض، لنال الصانع من التعب ما يناله في ابتداء الاتخاذ.
ولم يكتف أحد من أصحابنا بقطع الأوتار وترك الآلات. والسبب فيه أن الأوتار منفصلة عن الآلة، [وهي] (4) في حكم المجاورة لها، فلا يقع الاكتفاء بإزالتها؛ فإنَّ الآلات باقية.
ووراء ما ذكرناه [نظر] (5) ؛ فالذي يصنع هذه الآلات إذا وجدنا في يده صفائح لم تتم الصنعة فيها، فإن كانت على حدٍ لا يتجاوزها الكسر، (6 فلا نفسدها، وإن كانت على حدٍّ قد يتجاوزها الكسر 6) ففي كسرها تردُّدٌ عندي؛ فإن من يبالغ في الكسر بناء على ما عهد من الآلة المحظورة قد لا يرى هذه المبالغة في الابتداء، قبل أن تثبت الهيئة.
__________
(1) (ي) : يخرج من التهيؤ للاستعمال المحرّم.
(2) في الأصل: الكسر. والمثبت من (ت 2) ، (ي) .
(3) الرضاض: شظايا وبقايا أثر الكسر. (معجم) .
(4) في الأصل: وهو.
(5) في الأصل: مضض.
(6) ما بين القوسين ساقط من (ت 2) .(7/294)
ومن بالغ في الكسر ينبغي أن يتوقف في الصليب؛ فإن الصليب خشبة معرَّضة على خشبة، فإذا رفعت إحداهما عن الأخرى، فلا معنى للازدياد على هذا. وقد سقطت هيئة الصليب بالكلية، والعلم عند الله.
فصل
" فإن أراق له خمراً ... إلى آخره" (1) .
4680- تفصيل القول في إراقة الخمر على المسلمين بيّن، وغرض الفصل تفصيل القول في إراقة خمور أهل الذمة.
اتفق الأئمة على أنه لا يجوز أن يُتَّبعوا في مساكنهم، وتراق عليهم خمورهم. وإن كنا نعلم أنهم يتخذونها. وإذا ظهر لنا هذا من المسلم، اتّبعناه، وأرقنا عليه؛ وذلك أنا عقدنا الذمة على تقريرهم على مُوجب عقدهم (2) ، بمعنى المتاركة والإضراب، وليس اقتناؤهم للخمور بأكثر من استمرارهم على الكفر. ولا نشك أنهم إذا استخلوا بأنفسهم، أظهروا تكذيب نبينا؛ فإذا سوّغ الشرع تقريرهم على كفرهم، لم يبعد أن يسوغ تقريرهم على خمرهم. ثم هم ممنوعون من إظهار الخمور والتظاهر بشربها، بحيث يُطَّلع عليهم، وكذلك يُمنعون من إظهار المعازف، وإظهارُهم إياها استعمالُها، بحيث يسمعها من ليس في دورهم.
ثم إذا أريقت عليهم الخمورُ التي اقتنَوْها، فلا ضمان على مريقها، وإن كان ممنوعاً من اتباعهم، خلافاًً لأبي حنيفة (3) .
وأجرى الأصحابُ في أثناء المسألة مسألة مذهبية في الحد؛ فإنهم ألزمونا (4) سقوط الحد عن الذمي إذا شرب وارتفع إلينا راضياً بحكمنا، والذي قطع به المعتبرون
__________
(1) ر. المختصر: 3/46.
(2) أي: عقيدتهم.
(3) ر. رؤوس المسائل: 348 مسألة 228، ومختصر الطحاوي: 119.
(4) (ت 2) : ألزموا.(7/295)
من أئمة المذهب أنه لا يحد شاربهم، وإن رضي بحكمنا، إذا كانوا يعتقدون حل الخمر. وهذا وإن كان يغمض الجواب عنه في الخلاف، فهو المذهب.
وذكر أئمة الخلاف وجهاً في وجوب الحدّ وفي كلام الشيخ أبي علي رمز إليه.
وتوجيهه هيّن إن صح النقل، فإنا نستتبعهم في موجب عقدنا، ولا نتبعهم. وقد يعتضد هذا بنص الشافعي رضي الله عنه إذ قال: "لو شرب الحنفي النبيذ حددتُه، وقبلت شهادته" فإذا كان عقد الحنفي في استحلال النبيذ لا يعصمه من الحدّ، فعقد الذمي لا يمنعه من الحد، إذا رضي بحكمنا. وهذا موضع [الغَرَض] (1) ، والكلام.
4681- فإن قيل: ما المعتمد في المذهب الظاهر في الفصل بين إقامة الحدّ على الحنفي وبين الامتناع من إقامة الحد على الذمي؟ قلنا: لما رأى الشافعي المعنى الذي يجب الحد على شارب الخمر لأجله موجوداً في النبيذ، لم يعرّج مع وجود المقصودِ على مذهبِ ذي مذهبٍ؛ فإنا على اضطرار نعلم أن كل خبل (2) يجره شرب الخمر يقتضيه (3) شربُ النبيذ. وإذا كان هذا معتمدَ الحدّ، وهو مقطوع به، فلا وقع للخلاف وراءه. والحنفي مزجور بالحدّ زجرَ غيره. والذمي ليس مزجوراً بحد الشرب، مع العلم بأنه يشرب الخمر إذا [استخلى] (4) . وعماد الحد الزجرُ، ولا حاصل له في حق الذمي. وهذا حدٌّ واضح.
4682- ثم لما ذكر الشافعي هذا في النبيذ، اضطرب الأصحابُ في النكاح بلا ولي، ونكاح الشغار، وما سواهما من الأنكحة المختلف فيها.
فقال أبو بكر الصيرفي (5) : يجب الحد على من وطىء في النكاح بغير وليّ، قياساً على شرب النبيذ. وهذا مزيف لا أصل له. والمعنى الذي نبهنا عليه يُسقطه؛ فإن
__________
(1) في الأصل: الفرض.
(2) (ت 2) : تخيل.
(3) (ت 2) : فقاضيه.
(4) في الأصل: استحلّ.
(5) (ت 2) : الصيارفي.(7/296)
كل ما يُحذَر في الخمر، فهو موجود في النبيذ، والزنا من غير تعلقٍ بصورة العقد هو السِّفاح، ولا يضاهيه نكاحٌ بُني على رضاً وإشهادٍ، فليس يقتضي زاجرُ الزنا في الوطء في النكاح بلا وليّ ما يقتضيه الزاجرُ عن شرب الخمر في شرب النبيذ. ثم كان شيخي يحكي عن الصيرفي (1) ثبوتَ (2) الحد على الحنفي في النكاح بلا ولي طرداً لقياس النّص (3) في شرب النبيذ.
وحكى الشيخ أبو علي عن الصيرفي (1) مصيرَه إلى إيجاب الحد في حق من يعتقد تحريم النكاح بغير ولي، والقطع بأنه لا حد على من يعتقد تحليله.
هذا منتهى مسائل الغصب في نقل المزني. ونحن نرسم فروعاً بعدها.
فرع:
4683- سنذكر في بابٍ مخصوص بأحكام البهائم في ربع الجراح، إن شاء الله تعالى أن ما تفسده البهيمة، فالأمر في الضمان مبني على تفريط مالكها، فإذا كان المالك معها، فأتلفت شيئاً بخبْطها (4) أو عضِّها أو رَمْحها (5) ، فعلى المالك الضمان، ولا تعلق للمضمون برقبة البهيمةِ.
فإذا كان معه طائر، فالتقط لؤلؤة، فإن لم يكن مأكولَ اللحم، فعليه القيمة للمالك؛ إذ لا يحل ذبح الطائر الذي لا يؤكل لحمه، (6 إذا لم يكن من الفواسق. وإنما وجبت القيمة لمكان الحيلولة. ثم إن كان الطائر مأكول اللحم 6) ، ففيه الخلافُ الذي ذكرته في الذبح. وأنه هل يسوغ؟ وقد قدّمتُه في فصول الخيط. فإذا تمهد ما ذكرناه، بنينا عليه فرعاً (7) .
فإذا باع الرجل حماراً بشعير معين، فقضم الحمار الشعير، فإن كان الشعير مُسلَّماً
__________
(1) (ت 2) : الصيارفي.
(2) في الأصل: في ثبوت.
(3) (ت 2) : طرداً للقياس اقتضى في شرب الخمر.
(4) خبط البعير الأرض ضربها بيده. وفي (ت 2) : خلطها.
(5) رمح ذو الحافر رمحاً: ضرب برجله. (معجم) .
(6) ما بين القوسين سقط من (ت 2) .
(7) (ت 2) : فروعاً.(7/297)
إلى البائع، (1 لا ينفسخ العقد لدخوله في ضمان مستحقه، ثم الكلام في الضمان يترتب على تفصيلٍ: فإن كان سلّم الحمار إلى المشتري، وكان المشتري معه لما قضم، لزمه الضمان للبائع 1) ، ويغرَم له مثل شعيره.
وإن كان الشعير في يد المشتري بعدُ، والحمار في يد البائع، فإذا قضم الشعيرَ، نظر: فإن كان البائع مع الحمار، فما جرى يكون قبضاً للشعير المجعول ثمناً.
وهذا يوضحه أمر بيّن (2) وهو أن من ثبتت له يد، وإن لم يكن مالكاً، فهو مؤاخذ بحفظ ما تحت يده، فلو كان الحمار وديعة في يد إنسان، وكان يستاقه ليسقيه، فما يتلفه الحمار مضمون على المودَع، والبائع إذا كان ذا يدٍ للحمار (3) ، وإن كان ملكُه للمشتري، فما يتلفه محسوب على البائع، فكأنه أتلف الشعير بنفسه [و] (4) لو أتلفه، كان قابضاً له؛ فإن مستحق العوض إذا أتلفه، كان إتلافه له بمثابة قبضه إياه.
هذا مقصود الفرع.
فرع:
4684- الغاصب إذا أدخل فصيلاً في خوخة، فكبر بحيث لا يتأتى خروجه من المدخل (5) الذي أدخل فيه، وكان لا يمكنه ردُّه إلى مالكه إلا بهدم البيت، أو فتح باب كبير، فإنا نهدم على الغاصب على قدر الحاجة، ولا ضمان؛ لأجل أنه المتعدي.
ولو دخل الفصيل البيتَ، وصادف فيه ما يأكله ويشربه، فكَبِر، ثم انتهى إلى حالةٍ لو ترك فيه لهلك، فصاحب البيت ليس غاصباً في هذه الحالة، والنظر مردود إلى تفريط مالك البهيمة، فإذا كان مفرِّطاً بترك مراعاته، حتى دخل الموضع الذي دخله، فيهدم ما تمس الحاجة إلى هدمه في تخليص الحيوان، ولسنا نرعى فيه حرمةَ مالكه، وإنما نرعى حرمةَ الروح، ثم يغرَم المالك ما ينقصه الهدم؛ من جهة انتسابه إلى التفريط.
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ت 2) .
(2) ساقطة من (ت 2) .
(3) (ت 2) : في الحمار.
(4) في الأصل: فلو.
(5) (ت 2) : خروجه من الخوخة إلا بهدم البيت.(7/298)
فلو أمكن تصوير صورة لا يكون المالك مفرطاً فيها في إرسال بهيمته، فلا تفريط من مالك البهيمة، ولا من رب البيت، وقد (1) جرت الواقعة على الصورة التي ذكرناها؛ فعدم الغصب من صاحب البيت يوجب احترامَ ملكه؛ وعدم التفريط من صاحب البهيمة يوجب براءة ذمته، فكيف [الوجه] (2) والحالة هذه؟ قلنا: نهدم ما تمس الحاجة إلى هدمه، ثم لا ضمان؛ فإن الهدم مستحق لحرمة الرّوح ولا تفريط من أحد، فالوجه نفي الضمان.
وقد ينقدح فيه خلافٌ؛ تخريجاً على [أن] (3) من أوجر مضطراً طعاماً يلزمه قيمة الطعام لرجوع المنفعة إليه، فعلى رب البهيمة على هذا التقدير ما ينقصه النقض.
والعلم عند الله تعالى.
فرع:
4685- زوج خف يساوي عشرين أخذ الغاصب منه فرداً، وكان الفرد الذي أبقاه يساوي درهماًً، فما الذي يجب على الغاصب، إذا تلف ما غصبه في يده، أو أتلفه؟ حاصل ما ذكره الأصحابُ أوجه: أحدها - أنه يجب على الغاصب تسعةَ عشرَ؛ فإنّه تسبب بأخذ فرد وإتلافه إلى رد قيمة ما أبقاه إلى درهم، فيلزمه تمامُ ما انتقصه.
ومن أصحابنا من قال: لا يجب على الغاصب إلا درهم؛ فإنه قيمة الفرد، وهو لم يأخذ غيره. ومن أصحابنا من قال: يجبُ عليه نصفُ قيمة الزوج. وهذا معتدل بين طرفي التكثير والتقليل.
فرع:
4686- إذا غصب شاةً وانتفع بدرّها، ونسلها، وصوفها؛ فإنه يرد الشاة، ويغرَم ما ثبتت يدُه عليه [من الشاة. ثم منه ما هو من ذوات الأمثال، ومنه ما هو من ذوات القيم، كالنتاج. وللشافعي وقفةٌ في الصُوف، في أنه من ذوات الأمثال] (4) أو
__________
(1) (ت 2) : ولو جرت.
(2) (ت 2) : توجه.
(3) ساقطة من الأصل.
(4) ما بين المعقفين زيادة من (ت 2) ، (ي) . وعبارة الأصل هكذا: ويغرم ما ثبتت يده عليه، ثم الصوف هل هو من ذوات الأمثال، أو من ذوات القيم، والأمر محتمل ...(7/299)
من ذوات القيم. والأمر محتمل، من جهة أن الصوف من الشاة الواحدة لا يتماثل، فما الظن إذا تعددت المحال.
فرع:
4687- إذا أجج ناراً في داره، فطارت منها شرارة [إلى دار جاره] (1) أو إلى كُدْسه (2) ، فجرَّت حريقاً، فهذه المسألة، ونظائرها، معروضة على العادة. فإن عُد صاحب النار مقتصداً في إيقاده، فلا ضمان عليه، وإن حدث ما حدث بسببه؛ فإن التحفظ من مثل هذا غير ممكنٍ، فمجرى الحال محمول على القدر [المقدّر] (3) ولو لم نَقُل ذلك، لمنعنا الملاك من التصرف في أملاكهم. ولا يجري ما ذكرناه مجرى التعزيرات (4) المشروطة بسلامة العاقبة؛ فإن حسم تصرف الملاك عظيم، فلا يقاس بهلاك يقع نُدرةً، مع الاقتصاد في [التعزير] (5) .
وإن عُدّ صاحب النار مجاوزاً للغاية، توجه الضمان عليه.
قال الأصحاب: النار القريبةُ في اليوم [ذي] (6) الريح في العرائش، وبيوت القصب، كالنار العظيمة المجاوزة للحدّ. وفقه الفرع أنا إن تحققنا المجاوزة، أثبتنا الضمان. وإن تحققنا الاقتصادَ، نفيناه. وإن ترددنا، فلا ضمان مع التردد. والمعني بالتردد تساوي العقدين. فإن غلب على الظن مجاوزةُ الحد من غير قطع، أمكن تخريج هذا على غلبة الظن في النجاسات؛ فإن البابين مستويان في إمكان التعلق بالأماراتِ.
ولو كان الإنسان يسقي الزرع فانبثق بثقٌ من أرضه إلى دار جاره، وجرّ هدماً، وفساداً، فالقول فيه خارج على ما ذكرناه. وعلى الذي يسقي أرضه [أن] (7) يتعهد
__________
(1) في الأصل: شرارة في داره أو إلى كُدسه.
(2) الكدس، وزان قُفل، ما يجمع من الطعام في البيدر (مصباح) .
(3) في الأصل: المقدور.
(4) (ت 2) : التقديرات.
(5) في الأصل: التقدير، وفي (ي) : التقديرات.
(6) مزيدة من (ت 2) ، (ي) .
(7) في الأصل: أو.(7/300)
ما جرت العادة بتعهده. والنائم عن مثل هذا مقصّر، إذا لم (1) يقدم احتياطاً موثوقاً به. وقد يختلف الأمر باختلاف البقاع، وصفات الأراضي، في كونها صُلبة، أو خوارة (2) ، ويختلف أيضاً بأن تكون الأرض المسقيّة مستعليةً؛ فإن الماء يسرع انحداره من العلوّ.
فهذا منتهى الضبط في ذلك.
فرع:
4688- إذا اشترى الرجل أرضاً مغصوبة على جهلٍ بحقيقة الحال، [وبنى عليها، وغرِم على البناء مالاً، ثم تبين الاستحقاق، نُقض] (3) بناؤه، وألزم الأجر.
أما القول في المنافع وأنه هل يرجعُ بما [غرمه] (4) ، فقد مضى مفصلاً.
والذي نُحدثه الآن أنه إذا هُدم بناؤه، فهل يرجع بأرش النقصِ على البائع الذي غره؟ فيه اختلاف بين الأصحاب. ومال القاضي إلى أنه يرجع، وهذا استمساكٌ بمحض التغرير. ولا أحد يصير إلى أنه يرجع (5) بما بذله في البناء؛ فإن ذلك يختلف، وإنما الرجوع بما ينقصه النقض.
فرع:
4689- قد ذكرنا خلافاًً في أن المستعير، والقابضَ عن الشراء الفاسد، والمسْتام، يضمنون ضمانَ الغصوب أم لا؟ فإن نفينا ضمان الغصب، فقد خَرَّج الأصحابُ ضمان الزوائد المنفصلة والمتصلة على هذا القانون، واستقر جواب المحققين على أن الاعتبار -إذا نفينا تغليظ الغصبِ- بيوم القبض، فكلّ (6) ما يحدث بعده، لا (7) يقع مضموناً. قال صاحب التقريب: الذي أراهُ وأختاره، أن الزوائد
__________
(1) في (ت 2) : إلا أن يقدم، وفي (ي) : إلى أن يقدم.
(2) (ت 2) : رخوة.
(3) ما بين المعقفين سقط من الأصل، وأثبتناه من (ت 2) ، (ي) . وفيهما: "ونقض بناؤه".
(4) في الأصل: يغرمه.
(5) في الأصل: يرجع مال بما بذله.
(6) (ت 2) : فكان.
(7) (ت 2) : فلا.(7/301)
المتصلة مضمونة. وما ينفصل لا يضمن، كالولد، والثمار. وهذا غريب، وإن اتجه في الرأي.
فرع:
4690- إذا غصب الرجل عيناً وباعها، فأراد المالك إجازة البيع، فهو خارج على وقف العقود، وإن كثرت البياعات، وعسر تتبعها، وتفرق المتعلقون بها، فإذا فرعنا على الجديد في منع وقف العقود، ففي هذه الصورة تردد، لما في [التتبع] (1) من الضرر العظيم. وللشافعي في الجديد ترديد جوابٍ في هذا. وقد أدرجت هذا في تقاسيم الوقف في كتاب البيع.
فرع:
4691- إذا باع رجل، أو أجرى البيعَ إلى حالة الإلزام، ثم قال: كنت غصبته، فقد ذكرنا في وجوب الضمان عليه للمقَر له خلافاًً.
وقد زاد صاحب التقريب وجهاًً مفصلاً، فقال: إن قال: بعته وهو ملكي، ففيه التردد في الغرم، وإن أطلق البيع، ولم يدّع الملك، لم يضمن؛ فإنَّه قد يبيع الإنسان ما لا يملكه. وهذا لا أصل له؛ فإنه ببيعه أوقع الحيلولة، وإن لم يدع الملك لنفسه. ومعتمد الضمانِ في الباب الحيلولةُ وإيقاعُها، والله أعلم.
[انتهى كتاب الغصب بحمد الله] (2) .
***
__________
(1) في الأصل: التبيع.
(2) زيادة من (ت 2) .(7/302)
كتاب الشفعة (1)
4692- الأصل في الشفعة السنة والإجماع، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقت الحدود، فلا شفعة" (2) وقال عليه السلام: "الشفعة في كل شركٍ من رَبعْ أو حائط" (3) وأجمعوا على أصل الشفعة، وأَخْذُها من قولك شفعت شيئاً بشيء إذ جعلته شفعاً به.
ثم المبيعات في الشفعة على أقسام: قسمٌ يثبت فيه الشفعة سواء انفرد معقوداً عليه، أو اشتمل العقد عليه، وعلى غيره، مما لا شفعة فيه. وهو العقار. على ما سنفصل القول فيه.
وقسم لا تثبت الشفعةُ فيه، لا مفرداً، ولا مضموماً إلى غيره، وهو المنقولات.
وقسم تثبت الشفعة فيه تابعاً، ولا تثبت الشفعة متبوعاً مقصوداً، كالأشجار والأبنية. فإذا بيعت مع العرصاتِ، ثبتت الشفعة فيها ثبوتَها في الأراضي، وإذا أُفردت الأشجار بالبيع دون مغارسها، أو أفردت الأبنية بالبيع دون أساسها، فظاهر المذهب أنّه لا شفعة فيها.
وخرّجها بعض الأصحاب على تفصيل القول في القسمة. وقال: إن قلنا: لا تثبت الشفعة فيما لا ينقسم، فالأشجار والأبنية الشاخصة، والسقوفُ لا تقبل
__________
(1) من أول كتاب الشفعة بدأت نسخة (هـ 3) ، فصارت النسخ ثلاثاً، ثم حصلنا على (ي) ، فصارت أربعاً. وما زال الأصل هو (د 2) .
(2) حديث الشفعة فيما لم يقسم. الموطأ: 2/713، والسنن الكبرى: 6/102، 105. وانظر التلخيص: 3/124 ح 1301. وهو عند البخاري بلفظ: إنما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفعة فيما لم يفسم ... ح 2257، وعند مسلم ح 1608.
(3) مسلم بالرقم السابق.(7/303)
القسمة في معظم الأحوال، فلا شفعة فيها، إلا (1) إذا كانت تنقسم.
وإن قلنا: تثبت الشفعة فيما لا ينقسم من العقار، [ففيها الشفعة] (2) كما سنذكره الآن بهذا الفصل، إن شاء الله.
[فلو] (3) فرض جدار عريض قابل للقسمة، أو صُوِّر سقف قابل لها، ففي المسألة قولان: أحدهما - لا تثبت الشفعة فيها مفردة؛ فإنها محدثات ليس لها (4) حقيقة التأبّد، وهي إلى الزوال؛ فإن الأشجار ستُرقل (5) وتصير قَحاماً (6) ، والأبنية تنهدم على طول الدهر؛ ولقد كانت منقولةً، فأُثبتت في الأرض، ومصيرها إلى ما كانت عليه قبل التثبيت.
والقولُ الثاني - أنه تثبت الشفعة فيها؛ فإنها لا تعدّ من المنقولاتِ، وتثبت فيها الشفعة مع الأراضي؛ فلتثبت الشفعة فيها وحدها. هذه طريقة لبعض الأصحاب.
وكان شيخي أبو محمد رحمه الله يرددها في الدروس.
والطريقة المرضية التي قطع بها أئمة المذهب أنه لا تثبت الشفعة فيها مفردة متبوعة وإنما تتعلق الشفعة بها إذا كانت تابعة للأرض.
4693- ثم مذهب الشافعي أن الشفعة لا تثبت إلا للشريك في العقار، ولا شفعة بالجوار، ولا بالاشتراك في المسيل والممر وغيرهما من حقوق الأملاك، ومذهبه
__________
(1) (ت 2) : إذا كانت لا تنقسم.
(2) زيادة من المحقق اقتضاها السياق.
(3) في الأصل، (ت 2) ، (هـ 3) : أو، وفي (ي) : ولو، والمثبت تصرف من المحقق.
(4) (ت 2) : عليها.
(5) أي ستطول، وتنمو، وتبلغ عمرها. يقال: أرقلت النخلة: طالت (معجم، مصباح) .
(6) (ت 2) : فحاماً بالفاء. وفي الأصل، (ي) ، (هـ3) قحاماً بالقاف. والقحامة: بلوغ أرذل العمر، والقحم من بلغ أرذل العمر، والجمع قِحام. ونخلة قحمة إذا كبرت ودق أسفلها، وقل سعفها. والجمع قحام أيضاً. أما بالفاء (فِحام) فهي جمع فحم (معجم، مصباح) .
ورجحنا (قحاماً) بالقاف، لأنها من ألفاظ الفقهاء، فقد ذكرها الأزهري في الزاهر: 318 - فقرة 696.(7/304)
الظاهر أن الشفعة تختص بالشقص الشائع من العقار القابل نلقسمة. [فإن كان ممّا لا يقبل القسمة] (1) ، كالطواحين، والحمامات، والقَنَى (2) ، وما في معناها مما لا ينقسم، فلا شفعة فيها للشريك.
وذكر الأئمة عن ابن سريج قولاً مخرجاً أن الشفعة تثبت فيما لا ينقسم من العقار.
وذكر بعض الأصحاب وجهين على الإطلاق في أن الشفعة هل تثبت فيما لا ينقسم.
4694- فمن خصص الشفعة بما (3) يقبل القسمة -وهو ظاهر المذهب- علل ثبوتها بما (4) يتعرض الشريك له من مؤنة القسمة عند فرض الاستقسام وما تمس الحاجة إليه عند وقوع القسمة من إفراد الحصة المميزة بمرافق كانت ثابتة على الاشتراك قبلُ كالبئر، والمَبْرز والممر في بعض الأحوالِ، وغيرها من مرافق الدار.
فإن قيل: كان الاستقسام من الشريك متوقعاً (5) قبل البيع، ثم كان يترتب عَليْهِ ما ذكرتموه من مسيس الحاجة إلى إفراد الحصة المتميزة بالمرافق، فلم يتجدد بالشراء شيء. قلنا: نعم كان الأمرُ كذلك قبل البيع، ولكن الشريكين مستويان، ليس أحدهما أولى بطلب الاستخلاص، وطلب الخلاص (6) من الشركة من الثاني، فلم يكن قبل وقوع البيع لذلك مدفع، فإذا أراد أحد الشريكين أن يزيل الملك عن نصيبه وتمكن من إزالته إلى شريكه وتخليصه ممّا كان بصدده، فالذي يقتضيه حُسن العشرة أن يبيع منه، فيصل إلى مطلوبه من عوض ملكه ويخلُصُ (7) شريكُه عن الضرار. فإذا لم يفعل ذلك، وباعه من أجنبي، سلّط الشرعُ الشريكَ على صرف ذلك الملك إلى نفسه. هذه طريقة.
__________
(1) ما بين المعقفين سقط من الأصل، وفي مكانه: "وما لا يقبل القسمة".
(2) القَنَى: وِزان الحصى: جمع قناة: مجرى الماء، ضاق أو اتسع. وجمعها قنوات، وقنىً مثل حصاة تجمع حصوات وحصىً (معجم - مصباح) .
(3) (ت 2) : بما لا يقبل القسمة.
(4) (ت 2) ، (هـ3) : بما لا يتعرض.
(5) (هـ3) : متوفاً.
(6) سقط من (ت 2) ، (ي) : "وطلب الخلاص".
(7) (ي) : وتخليص.(7/305)
ومن أثبت الشفعة فيما لا يقبل القسمة من العقارات المشتركة، فالشفعة عنده معلّلة بالضرار الذي يتعرض الشريك له من تضييق المداخل، ولم يكن إلى دفع ذلك سبيل عند استمرار الشركة؛ فإذا أراد أحد الشريكين بيعَ نصيبه، فينبغي أن يخلِّص شريكه مما كان بصدده من تضييق المداخلة، فإذا لم يفعل ذلك، فباع من آخر، أثبت الشرعُ للشريك صرفَ ذلك إلى نفسه، ليتوفر على البائع حظُّه، ويندفعَ الضرار.
4695- فإن قيل: هلا قلتم: لا يعلل ثبوت الشفعة، والمتبع فيه الخبر؟ قلنا: اتفق القياسون على تعليلها، ثم الأصول المعللة لو تتبعت، لأُلفيت كذلك، ولو طُرّق إليها منعُ التعليل، لانحسمت مسالك النظر. و [بالجملة] (1) لسنا ندّعي أن ما يعلل من الأحكام تشهد العقول لعللها، ولكن يفهم الناظر عن علم تارة وبظن أخرى أن الشارع أثبت الحكم المعلوم بسبب، ثم إذا غلب ذلك على الظن، فلا يكون المعنى المظنون إلا مخصوصاً. وهذا يطرد في كل معنى اتفق القياسون عليه، فالشفعة معتمدها درءُ ضررٍ مخصوص.
ثم ما رآهُ الشافعي صحيح على السبر، وما اعتمده أبو حنيفة (2) في إثبات شفعة الجار معلوم في نفسه، لا يبعد في مأخذ الشرع تعليق الحكم بمثله. ولكنه باطل على السبر في نفسه، كما يذكره الخلافيون (3) .
فقد عاد عقد المذهب إلى مسلكين في تعليل الشفعة، وانتظم منه أن العلة ما أشرنا إليه، ومحلها البيع الجديد.
وحكى صاحب التقريب عن ابن سُريج أنه مال إلى القول بإثبات الشفعة بالجوار.
وهذا غريب، لم يحكه عن ابن سريج غير صاحب التقريب.
وذكر الشيخ أبو علي عن ابن سريج لفظاً، وحمله على محملٍ نذكره، فقال: إذا قضى حنفي بشفعة الجار، لشافعي، فلا معترض على الشافعي في ظاهر الحكم،
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 120، مختصر اختلاف الفقهاء:4/239 مسألة 1947، إيثار الإنصاف: 329، طريقة الخلاف: 358 مسألة: 150. وانظر أيضاً: الاصطلام: 4/161.
(3) (ت 2) : الحذاق.(7/306)
ولكن هل يحل له المقضيُّ به باطناً لاتصال الحكم بقضاء القاضي؟ فعلى وجهين.
وهذا يطّرد في نظائرِ ذلك. كالحكم بالتوريث بالرحم (1) ونحوه. وسنذكر هذا الأصل وسرَّه في كتاب الدعاوى، إن شاء الله، فحمل الشيخ أبو علي ما نقل عن ابن سريج من لفظه المبهم في شفعة الجوار على ما ذكرناه من اتصال الأمر بقضاء القاضي.
ولفظُ ابن سريج أنه قال: "لو قضى قاضٍ بشفعة الجوار نفذتُ قضاءه"، ثم قال: "وقضيت بشفعة الجوار". وظاهر كلامه يشعر بما ذكره الشيخ، كأنه قال: قضاء القاضي بالشفعة نافذ، وأنا أقضي بتنفيذ قضائه.
4696- فإن قلنا: تثبت الشفعة فيما لا ينقسم، فلا كلام، وإن خصصنا ثبوت الشفعة بما يقبل القسمة -وهو ظاهر المذهب- فالقول فيما ينقسم وما لا ينقسم يأتي مستقصىً في كتابٍ متعلق بالدعاوى والبينات، ولكنا نذكر هاهنا ما يقع الاستقلال (2) به فنقول:
المذهب الصحيح أن المعتبر فيما يقبل القسمة، وفيما لا يقبلها أن يبقى جنس المنفعة الثابتة حالة الاشتراك لكل حصةٍ، بعد المفاصلة، والإفراز. فإن كان الملك المشترك ينتفع به مسكناً، فلتكن كل حصة بحيث يتصور اتخاذها مسكناً. ثم هذا القائل لا يشترط بقاء ذلك الجنس على ذلك الوجه؛ فإن كل حصة، أضيق من جملة المسكن، فالنظر إلى أصل المنفعة لا إلى قدره (3) . والحمّام على هذا غير منقسم، فإنه لو فصل وقسم قسمة الدور، لم يكن كل قسم منتفعاً به الانتفاع الذي كان، فكذلك القول في الأَرْحية، وما في معانيها.
هذا هو الذي إليه الرجوع فيما يقبل القسمة وفيما لا يقبل.
وذكر الأصحاب وجهين بعيدين، لا معول عليهما سوى ما ذكرناه: أحدهما - أن شرط ما ينقسم ألا تؤدي القسمةُ إلى حطيطةٍ بيّنة في الحصصِ المفرزة، حتى إذا كانت
__________
(1) إشارة إلى أن الشافعية لا يورثون ذوي الأرحام، بل تؤول التركة إلى بيت المال، إذا لم يوجد للمتوفى عصبة نسبية، ولا سببية، في ترتيبٍ وتفصيل يطلب في موضعه من علم الفرائض.
(2) (ت 2) ، (هـ 3) ، (ي) : الاستقرار.
(3) كذا، بضمير المذكر. في جميع النسخ. وهو سائغ بتأويلٍ، فلنؤوله هنا (بالنصيب) أو (الجزء) أو (المسكن) .(7/307)
الدار تساوي مائةً، ولو قسمت، لكانت كل حصةٍ -وقد قسمت [نصفين] (1) - تساوي ثلاثين، فهذا عند هذا القائل مما لا ينقسم، لما في القسمة من البخس العظيم، والحطيطة البيّنة. وهذا الوجه ذكره العراقيون وزيفوه.
والوجه الآخر - أنه لا نظر إلى القيمة، ولا إلى الجنس الذي كان من المنفعة، ولكن إذا كان يبقى لكل حصّةٍ نوع من الانتفاع، فهو قابل للقسمة، فالحمام على هذا منقسم، إذ يمكن [فرض] (2) الانتفاع بكل حصة منه (3) سكوناً (4) . وإذا كان يسقط أصل الانتفاع، أو عسر تصوير القسمة عِياناً كما في أسراب (5) القَنَى وآبارها. هذا هو الذي لا ينقسم.
والوجهان مردودان، لا اعتداد بهما، ولا عَوْدَ إليهما، والتفريع على المسلك المشهور.
4697- وها نحن نذكر صورة تمس الحاجة إليها في حكم الشفعة، وهي أنه إذا كان بين رجلين حجرة مشتركة ضيقة الخِطة (6) وكان تسعة أعشارها لأحدهما والعشر للآخر، ولو قدر إفراز العشر، لم يكن مسكناً، فصاحب العشر لا ينتفع بالقسمة الانتفاعَ
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) زيادة من (ت 2) ، (ي) .
(3) المراد بالحمام هنا الحمام العام الذي يغشاه الناس كافة، كلّ من يريد منهم. وهو يقصد للتنظف والتطبيب، وليس ما يتبادر إلى الذهن الآن، من الحمامات داخل البيوت، بل يشبه مراكز علاج السمنة والبدانة الموجودة الآن بواسطة حمامات البخار، والتدريبات الرياضية، حتى يتصور أن يُتخذَ منه مسكنين.
(4) سكوناً: أي سكناً من وضع المصدر مكان الاسم، وقد صرح بهذا المعنى الرافعي، ولفظه: "أما إذا اعتبرنا بقاء منفعةٍ ما، كفى أن يصلح كل سهم من الحمام بعد القسمة للسكنى" فتح العزيز: 11/386 بهامش المجموع. وكذلك صرح بهذا المعنى الشرواني في حاشيته على تحفة المحتاج، قال: "ظاهره أنه لو انتفع به من غير ذلك الوجه، كأن أمكن جعل الحمام دارين ... " حواشي التحفة: 6/57 سطر 3. أما حجة الإسلام الغزالي، فقد أخذ لفظ شيخه إمام الحرمين، فقال: "وقيل المعنى أن يبقى فيه (أي الحمام) منفعة، ولو للسكون" الوسيط: 4/70.
(5) السَّرب -بفتحتين- بيتٌ في الأرض، لا منفذ له: فإن كان له منفذ، فهو النفق (مصباح) فالمراد هنا الخزانات التي تتجمع فيها مياه الصرف تحت الأرض لحين التخلص منها.
(6) الخِطة بالكسر: المكان المختط لعمارة، والجمع خِطط، مثل: سدرة وسِدر. والخطة بالضم: الحالة والخِصلة. والجمع: خُطط (معجم، ومصباح) .(7/308)
المرعي، وصاحب التسعة الأعشار ينتفع بحصّته ويتأتى منه اتخاذها مسكناً، فقال الأئمة: إن طلب صاحب العشر القسمة، لم يجب إليها قهراً؛ فإنّه لا يستفيد بالقسمة فائدة. وإن دعا صاحب التسعة الأعشار إلى القسمة، فهل يجبر صاحب العشر على إجابته؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يجبر؛ لما عليه من الضرار. والثاني - يجبر، فإنَّ طالب القسمة منتفع وإنما يلحق الضرر صاحب العشر لنقصان ملكه.
ثم بنى الأصحاب على هذا حكم الشفعة (1) ، فقالوا: إذا باع صاحب العشر نصيبه، فلا شفعة لصاحب التسعة الأعشار؛ لأنه يأمن من مشتري العشر الاستقسامَ والدعاءَ إلى القسمة قهراً. وإذا باع صاحب التسعة الأعشار نصيبه، فلصاحب العشر طلب الشفعة إن قلنا: يجبر صاحب التسعة الأعشار على القسمة. وإن قلنا: لا يجاب صاحب التسعة الأعشار إلى القسمة، فلا شفعة لصاحب العشر؛ فإن معتمد الشفعة إمكان الإجبار على القسمة، فإذا ارتفع ذلك من الجانبين، ارتفعت الشفعة، على المسلك المشهور.
هذا بيان قاعدة المذهب، فيما تثبت الشفعة فيه وفيما لا تثبت.
فصل
قال: "وللشفيع الشفعة بالثمن الذي وقع البيع به ... إلى آخره" (2) .
4698- قد قدَّمنا ما يؤخذ بالشفعة. ومضمون هذا الفصل الكلام فيما يبذله الشفيع في مقابلة ما يأخذه بالشفعة، فنقول:
إن كان الثمن من ذوات الأمثال، أخذ الشفيع الشقص بمثل المسمى في العقد، قدراً، ووصفاً. وإن كان [الثمن] (3) من ذوات القيم، كعبدٍ، أو ثوبٍ، وغيرهما، أخذ الشفيع الشقص بقيمة ذلك المتقوَّم.
__________
(1) (ت 2) : القسمة.
(2) ر. المختصر: 3/50.
(3) ساقطة من الأصل.(7/309)
ثم قال الأئمة: الاعتبار بيوم العقد في القيمة، وهذا ظاهرٌ لا حاجة إلى توجيههِ؛ فإن يوم العقد يومُ إثبات العوض، فيثبت تقدير العوض في حق الشفيع في الوقت الذي يثبت فيه العوضُ على المشتري.
4699- ثم فرض الأئمة صورةً، وفي ذكرها الاطلاعُ على حقيقة الفصل، وذلك أنهم قالوا: لو اشترى رجل شقصاً بمائة مَنٍّ حنطةً، فإذا أراد الشفيع أن يأخذ (1) بالشفعة، فماذا عليه؟ قال القفال: لا يبذلُ الشفيع مائةَ مَنٍّ؛ فإن الحنطة مكيلة، ولا يجوز أن تتقابل حنطتان وزناً بوزن؛ فإن المعتبر عندنا معيار الشريعة، ومعيارها في البر الكيل، ولكن الوجه أن نكيل المائة المن التي كانت ثمناً، ونضبط (2) مبلغها بالكيل، ثم الشفيع يبذل للمشتري من صنف الحنطة التي بذلها: جودةً، وصلابةً، أو استرخاءً.
وحاصل ذلك أنا نقدّرُ كأن الشفيع أتلف على المشتري الحنطةَ التي بذلها؛ من حيث [إنه] (3) فوّت عليه مقصودَ بذلها، ومن أتلف حنطةً، غرِم مثلَها كيلاً.
هذا كلام القفال. وهو الذي أطلقه أئمة المذهب.
ثم قالوا في سياق هذا: الحنطتان وإن لم يكونا عوضين متقابلين في بيعٍ، فهما متقابلتان في حكم بيعٍ، فيجب أن يرعى فيهما معيار الشرع، وحنطةُ المشتري قابلت شقصاً، فلم يؤاخذ (4) بمعيار الشرع، وحنطة الشفيع تقع في مقابلة حنطة المشتري، فلا بد من رعاية المعيار.
ثم قطعوا بأن من أقرض حنطة وزناً، لم يصح؛ فإن القرض، وإن لم يكن على حقائق المعاوضات، ففيه معنى التقابل؛ فإن من يقرض شيئاًً يطلب مثله، فلزم اعتبار المعيار الشرعي.
وقال القاضي يبذل الشفيع مائةَ مَن، ولا نظر إلى المعيار؛ فإنه ليس يبذل الحنطة في مقابلة الحنطة، وإنما يبذلها في مقابلة الشقص؛ فإنه على القطع يأخذ الشقص
__________
(1) (ت 2) ، (ي) : طلب الشفعة.
(2) (ت 2) : فتقسط، (هـ 3) : فنضبط.
(3) ساقطة من الأصل.
(4) (ت 2) ، (ي) ، (هـ 3) : فراع معيار الشرع.(7/310)
بعوض، وعوضه ما يبذله، وهو في التحقيق بمثابة المشتري من المشتري، ولكن أثبت الشرع هذا قهراً.
وهذا الذي ذكره بالغٌ حسن. والذي قدمناه في توجيه ما ذكره القفالُ وغيرُه تكلّفٌ.
ثم تكلم القاضي على القرض وقال: يجوز عندي إقراض الحنطة وزناً، فإن القرض مستخرج عن قياس المعاوضات، ولو راعينا فيه أحكام الربا، لم يصح إقراض الربويات؛ من جهة أَنَّ التقابض فيه غيرُ مرعي، وإذا لم يكن التقابض مرعياً، فاتباع معيار الشرع تفصيل نرعاه في تعبدات الربويات.
وهذا الذي ذكره حسن، وإن خالف معظمَ الأصحاب فيه. وما نحن فيه من الشفعة ليس شبيهاً بالقرض، فإن ما يأخذه المستقرض يقابله ما يرده، فإن روعي فيه مكيال الشرع، لم يبعد، وقد ذكرنا أن ما يبذله الشفيع ليس عوضاًً عن ثمن العقد، وإنما هو عوض عن الشقص المبيع، فليس القرض فيما نحن فيه بسبيل. وسنقرر هذا الفصل عند الكلام في أن الممهور (1) مأخوذ بالشفعة، [وسنوضح ثَمَّ تنزيل] (2) ما يبذله (3) [الشفيع] (4) ، تقديراً، وتحقيقاً.
4700- ومما وصله الأصحاب بهذا أن قالوا: إن كان الثمن معلوماً، فالشفعة ثابتة، والتعويل فيما يبذله (5) الشفيع على مبلغ الثمنِ (6) ، ثم القول ينقسم إلى الكلام في المثلي والمتقوم، كما قدمناه.
وإن اشترى المشتري الشقص بثمن مجهول المقدار، مشارٍ إليه، مثل أن يقول: اشتريت هذا الشقصَ بهذا الكف من الدنانير، أو بما في هذا الجُوَالق (7) من
__________
(1) الممهور: أي المبذول مهرا.
(2) في الأصل: ثم نوضح تنزيل.
(3) في (ت 2) ، (ي) ، (هـ 3) : يأخذه.
(4) في الأصل: الشرع.
(5) (ي) : يثبته.
(6) (ت 2) ، (ي) ، (هـ 3) : على الثمن ومبلغه.
(7) الجُوالق: وعاء من الخيش أصغر من الغِرارة، ويجمع الجُوالق على جَوالق، وجَواليقَ بفتح =(7/311)
الحنطة، فالبيع يصح، تعويلاً على الإشارة. فإذا [استمكن] (1) الشفيع من إعلام ما أُثبت ثمناً، فيأخذ الشقص (2) بما يعلمه. وإن أخرج البائع الثمن، أو أتلفه، أو تلف في يده، وعسر الاطلاع على مبلغه، فالمنصوص عليه للشافعي أن الشريك لا يستحق الشفعة؛ لأنه لا يدري بما يأخذ الشقص، ولا سبيل إلى أخذ الشقص من غير عوض. وهذا من الحيل في دفع الشفعة، وليست حيلة مستعملة؛ فإن المشتري والبائع يبعد أن يرضيا بالثمن المجهول، فلا يدري واحد منهما أنه مغبون، أو مغبوط، والحيلة هي التي تستعمل مع رعاية غرض العقد، وتندفع الشفعة بها.
وسنجمع طرفاً منها في آخر الكتاب، إن شاء الله عز وجل.
هذا نص الشافعي.
وحكى الأئمة عن ابن سُريْج أنه قال: الشفعة لا تبطل بهذا، ولكن يقال لطالب الشفعة: خمن في نفسك قدراً، وادَّع الشفعةَ به، فإذا تبيّنه، فقال المشتري: كان أكثرَ مما تقول، فالقول قول المشتري مع يمينه: يحلف بالله أنه اشترى بأكثر ممَّا سماه. ثم يقال للشفيع: زِدْ في مقدار الثمن، وأعد الدعوى، ونعرض اليمينَ على المشتري، فإن حلف، زاد الشفيع، فلا يزال كذلك، والمشتري يحلف، فإن نكل المشتري، حلف الشفيع على المقدار الذي استقرت عليه الدعوى آخراً، واستحق الشقص به.
4701- ولو قال المشتري لما توجهت (3) عليه الدعوى: لست أدري بكم اشتريتُ، وأصرّ على ذلك، كان هذا منه إنكاراً أولاً، مقتضاه عرض اليمين عليه، فإن أعاد قولَه، كان ما جاء به نُكولاً، واليمين تردُّ على المدّعي، فيحلف على المقدار الذي ذكره ويستحق.
وهذا الكلام حكاه من يوثق به عن القاضي، وهو كلامٌ مختلٌّ.
والوجه عندنا أن نقول: إن اعترف صاحب الشفعة والمشتري بأن الثمن كان
__________
= الجيم، وعلى جُوالقات بضمها، كالمفرد، وهو لفظ معرب (معجم) .
(1) في الأصل: استكمل.
(2) (ت 2) ، (ي) ، (هـ3) : السفعة.
(3) (ي) ، (هـ3) : استقرت.(7/312)
جزافاً، غيرَ مقدّر، فلا حاجة لذكر مقدارٍ معين في الدعوى، ولو فرض ذلك، وعُدّ ما يبديه المشتري من التردد إنكاراً ونكولاً، فكيف يستجيز الشفيع أن يحلف يميناً باتةً على المقدار الذي قدّره في دعواه؟ وتكليفه أن يربط دعواه (1) بمقدارٍ، مع اعترافه بأنْ لا مقدارَ، كلامٌ خارج عن الضبط، وحاصلُه تسويغ الكذب له أوّلاً، مع تجويز الحلف عليه على بتٍّ آخراً، ويبعد جريان مثل ذلك في مقتضى التكاليف.
فالوجه إذن القطعُ بتعذر طلب الشفعة، إذا اعترفا بكون الثمن مجهولاً، وتعذّر البحثُ عن ابتاعه (2) ، والاطلاعِ على مقداره.
4702- ولكن لو لم يقرّ الشفيعُ بوقوعِ العقد على مقدار مجهول، وادّعى أن العقد وقع على معلوم، وزعم المشتري أنه وقع على مجهول أوّلاً، أو كان معلوماً ولكنه نسيه في أثناء المعاملات، فليقع التصوير هاهنا أولاً.
ثم هذه الصورة تنقسم قسمين: أحدهما - أن يزعم الشفيع أنه عالم بالمقدار الذي وقع العقد به، وينسب المشتري إلى العلم به، ثم إلى المناكرة بادعاء الجهل. والآخر - أن يزعم الشفيع أن العقد وقع على معلوم، ولم يوُرَد (3) .. على كف، ولا على صُبْرة من حنطةٍ، ولكن كان غيرَ عالم بالمقدار الذي وقع العقد عليه.
ونحن نتكلم في القسمين: فأمّا إذا زعم الشفيع أن الثمن كان ألفاً، فهذا موقع النظر. فإذا قال المشتري: لست أدري، فقوله هذا يمكن أن يكون صدقاً، وليس الجهل والنسيان بدعاً، فنقول: من ادعى مالاً مقدّراً على إنسان عن إتلافٍ، أو اقتراضٍ، أو عن جهةٍ أخرى من الجهات الملزمة، فقال المدعى عليه: لست أدري، فهذا لا ينفعه، ولا يكتفى منه بالحلف على نفي العلم، ولكن إذا جزم المدعي الدعوى، وربطها بمقدارٍ، ولم يذكر المدعى عليه إلا ما وصفناه، فهو كالإنكار المضاد للدعوى، فنقول له: تحلف بالله لا يلزمك ما يدعيه خصمك، فإن لم يزدنا
__________
(1) (ت 2) ، (ي) : ذلك.
(2) كذا في النسخ الأربع. ولم أصل إلى معنى مناسب لها، في مادة: ب. ت. ع. ولا في مادة: ت. ب. ع ولعلها لفظة عامية بمعنى (أصله) مثلاً، ولعل في الكلام تصحيفاً أو سقطاً. ويكون صوابها: وتعذر البحث عنه، واتباعه، والاطلاع عليه.
(3) في غير الأصل: "ولم يورد هذا على كف، ولا ... " [انظر صورتها] .(7/313)
على قوله: "لا أدري" لمّا عرضنا (1) اليمين عليه، جعلناه ناكلاً، ورددنا اليمين على المدَّعي، وإن كنا نجوّز أن يكون صادقاً في دعوى الجهل، ولكن مبنى الدعاوى في الشرع على هذا. فمن ادعى حقاً مقدَّراً على إنسانٍ، وجزم دعواه فيه، لم يقنع من المدعى عليه بذكر الجهل، ولم يُجَب إلى (2) الاكتفاء بتحليفه على نفي العلم.
4703- ولو ادّعى الشفيع استحقاق الشفعة بمقدارٍ عيّنه، فقال المشتري: لست أدري مقدار الثمن، فهذا موضع النظر، من قِبَل أن المدعي ليس يدعي استحقاق ذلك المقدار عليه، وإنما يدعي استحقاق الشقص مترتباً على بيعٍ جرى، ومقدار الثمن فيه ما ذكر، فادعاء المشتري الجهلَ بذلك المقدار ليس يصادم ما يدعي الشفيعُ استحقاقَه، وإنما يتعلق بما التزمه المشتري لغير المدعي وذلك الملتزَم وإن كان يتعلق بالمشتري، فله تعلق بغيره أيضاً، وهو البائع؛ فإن لزوم الثمن يترتب على إيجاب البائع، وقبول المشتري، فإذا كان الأمر كذلك، فالذي يقتضيه النص (3) أن يُكتفَى من المشتري باليمين على نفي العلم، وإذا حلف توقفت الشفعةُ إلى أن تقوم بينة، أو يعترف المشتري.
وابنُ سُريج يقول: لا نقنع من المشتري بقوله: "لا أدري"، ونعرض عليه اليمين الثانية، كما لو ادعى مدّعٍ على رجلٍ ألفاً.
وهذا الذي قاله ابن سُريج في هذا المقام حسنٌ متجه. ووجهُ النص ظاهر، فينتظم قولٌ منصوصٌ عليهِ، وآخرُ مخرّج. وفيما قدمناه تنبيه على توجيههما.
فإن جرينا على النص، حلّفنا المشتري على نفي العلم. فإن حلف، وقفت الشفعةُ، وتوقفنا على بيانٍ، ولم نقطع ببطلانها. وإن نكل عن يمين العلم (4) ، رددنا اليمين الباتّة على الشفيع بالمقدار الذي عينه، فإن حلف، استحق الشفعة.
وإن فرعنا على ما خرجه ابن سريج، لم نقنع من المشتري بيمين العلم، وإذا امتنع
__________
(1) (ت 2) ، (هـ 3) : رددنا. وعبارة (ي) : وإن لم يزدنا على قوله: لا أدري، عرضنا اليمين عليه، وجعلناه ناكلاً ...
(2) عبارة (ي) : ولم يجب الاكتفاء بتحليفه.
(3) (ت 2) : النظر.
(4) أي اليمين على نفي العلم.(7/314)
عن اليمين الجازمة، جعلناه ناكلاً، ورددنا اليمين.
هذا في قسم من القسمين.
4754- والقسم الثاني - أن يقول الشفيع (1) : قد جرى البيع بمقدَّرٍ، ولكني لست أدريه، فالمنصوص عليه في هذه الصورة أن دعواه لا تقبل، ولا يقال له: قدّر، وادّعِ وهو يقول: لست أدري.
وحكى النقلة عن ابن سريج في هذه الصورة أنه قال: يَنُصّ المدعي على مقدارٍ، ويطالب المشتري بجزم اليمين، ولا يكتفى منه بيمين العلم، فإن نكل، استظهر الشفيع بنكوله، وكان له أن يستجيز الحلف بالمقدارِ الذي اتفق منه تعيينه، واليمين قد تستند إلى اليقين، وقد تستند إلى الظن، ونحن نقولُ: إذا رأى الوارث خط أبيه الموثوق به مشتملاً على مالٍ له، على زيد، فللوارث أن يعتمده، ويحلفَ به.
وإن حلف المشتري اليمينَ الباتة، قيل للشفيع: إن أردت الشفعة، فزد في الثمن، وأعد الدعوى، ثم يُعرض على المشتري اليمين الجازمة، وحكم حلفه ونكوله على ما ذكرناه في الدعوى الأولى. فإن حلف المشتري، زاد الشفيع، ولا يزال كذلك حتى يسأم المشتري وينكل، فيحلف المدعي مستظهراً بنكوله.
هذا على هذا الوجه منقولٌ عن ابن سريج. وهو مزيف عند الأصحاب في هذه الصورة. والقسمان جميعاً: -الأول، وهذا - خارجان عما ذكرناه في أول الكلام، وهو إذا اعترفا بأن العقد أورد على مجهولٍ، فإنهما إذا اعترفا بذلك، يجب القطع بوقوف الشفعة، وإن فرض اليأس من الإحاطة بالثمن المعيّن، بطلت الشفعة. هذا بيان الفصل.
4705- ولا خلاف أنه لو أقرض إنساناً كفاً من الدراهم، فالقرض فاسد؛ فإن المقْرَضَ لا يدري ماذا يرد. وهذا واضح، إذا وقع البناء على أن يستقرض كفاً، ويخرجَه على الجهالة، ولو أقرضه كفاً على أن يرى (2) مقدارَه ويردّ مثلَه، فهذا
__________
(1) (ت 2) ، (ي) ، (هـ 3) : المشتري. والمثبت هو الصواب، كما سبق تصوير المسألة في قسميها.
(2) (ت 2) ، (ي) ، (هـ 3) : يبين.(7/315)
مختلف فيه؛ من جهة ورود القرض ابتداء على مجهول، والأصح الصحةُ إذا كان بناء الأمر على أن يضبط ما اقترضه، ثم يخرجَه. والصورة الأولى تفرض فيه إذا أقرضه تمرات، فأكلها، أو كان تسليمه لها بأن يُوجرها المقترض.
ومما يتعلق بما نحن فيه، أَنَّ من اشترى شقصاً بمائة مَنّ حنطةٍ، وفرعنا على طريقة القفال، فالسبيل أن نكيل تلك المائة المنّ، ثم نقول للشفيع: ائت بهذا النوع، وكِل مثل ما كِلنا المائة، ولا نتعرض للوزن. ولو تلفت تلك المائةُ [المن] (1) المجعُولةُ ثمناً، قال القفال: يكيل مائة من مثلها، ثم يكلّف الشفيع ما قدمناه، وإن جهلنا نوع تلك الحنطة، وقعنا في جهالة الثمن. وقد مضى التفصيل فيه.
فصل
قال: "فإن علم وطلب مكانه، فهل له ... إلى آخره" (2) .
4706- مضمون الفصل القول في أن الشفعة تثبت على الفور أم على التراخي؟ والفصل من أقطاب الكتاب. و [القول في] (3) التفريعات في أطرافه ينتشر، ونحن - بعون الله- نأتي به مضبوطاً، إن شاء الله تعالى.
4707- فنبدأ بنقل النصوص.
ظاهر المذهب وما نص عليه في منقول المزني أنّ الشفعة على الفور، ونص في رواية حرملة على أن طلبها يتقدّر بثلاثة أيام، ونص في القديم على قولين: أحدهما - أَنَّ طلبها متابد، ولا يبطل إلا بصريح الإبطال، والثاني - أنه يتأبد، ويبطل بصريح الإبطالِ أو دلالة الإبطال، على ما سنفصل.
وسبيل الترتيب أن نقول: الشفعة على الفور أو على التراخي؟ فيه قولان: فإن قلنا: هي على التراخي، فهل تتابّد أو تتقدّر بأمدٍ؟ فيه قولان: فإن قلنا: تتأبد، فهل
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) ر. المختصر: 3/50.
(3) ساقط من الأصل.(7/316)
تبطل بدلالة الإبطال، أو لا تبطل إلا بصريح الإبطال؟ فيه قولان آخران. وإن قلنا: لا تتأبّد، وليست على الفور، فالصحيح أنه تتقدّر بثلاثة أيام، كنظائر في ذلك نَصِفُها في الفصل.
وذكر صاحب التقريب في هذا المنتهى قولاً آخر: أنا لا نقدّر بالثلاث، ولكن نبهم الأمرَ، ونرجع إلى مدّة التدبّر، وذلك يختلف باختلاف المطلوب، ومقدار ثمنه، فكل مدة يُعَدّ الشفيع فيها متدبراً لا يقضى ببطلان شفعته بالتأخير فيها، وكل مدة نقضي على المؤخر فيها بالإعراض (1) ، فنحكم ببطلان شفعته بالتأخير فيها، وهذا لم يحكه إلا صاحب التقريب.
ولستُ أعتد بهِ، فالوجْه التعلق بالأيام الثلاثة على هذا القول، لنظائرَ سنذكرها في الشرع، إن شاء الله تعالى، والتعلق بها أولى من الإحالةِ على الاستبهام. ولا خلاف أن حق الرد بالعيب على الفور، فاختلفت الأقوال في حق التي تَعتِق تحت عبدٍ في فسخ النكاح، فاجتمع فيها أقوال: أحدُها - الفورُ، والثاني - التقدير بثلاثة أيامٍ، والثالث - التأبيد، على ما ستأتي الأقوال في موضعها من النكاح، إن شاء الله تعالى.
وجرى قولان في الفور والتأقيت بثلاثة أيام، مع حذف قول التأبُّد في مسائلَ: منها استتابة المرتد، ففيها قولان: أحدهما - الفور بعد وضوح الحجة، والثاني - الإمهال ثلاثة أيام.
ومنها تارك الصلاة، ففيه قولان: أحدهما - أنا نتأنّى به ثلاثاً. والثاني - نقتله على الفور إذا امتنع من القضاء.
ومنها نفيُ الولد باللعانِ، وفيه قولان: أحدهما - الفور، والثاني - التأقيت بثلاثة أيام.
وألحق بعضُ الأئمة بذلك فسخَ النكاح بالإعسار براتب النفقة، فقال: فيه قولان بعد ثبوت الإعسار: أحدهما - الفور، والثاني - الإمهال ثلاثة أيامٍ.
وإذا انقضت مدّةُ الإيلاء، فهل يطلّق على المولي في الحال أم لا، حتى تمضي ثلاثةُ أيام؟ فعلى القولين.
وخيار الخُلف ملحق بخيار الرد بالعيب، وإنما قطعنا بالفور في الرد بالعيبِ،
__________
(1) (هـ 3) بالإبطال.(7/317)
والخُلفُ في معناه؛ لأن الاطلاع على العيب معلوم قطعاً، فلا مجال للتدبّر بعد الاطلاع، والعقد متسرع إلى اللزوم (1) في وضع الشرع إذا لم يفسخ.
4708- ونحن الآن نوجه أقوال الشفعة ونميزُها عن الرد بالعيب والخُلف، ونذكر الضبطَ في مسائل القولين، وسببَ انحذاف قول التأبد فيها: فوجه قولنا: تثبت الشفعة على الفور قوله عليه السلام "الشفعة كحل العقال" (2) ، ومعنى الحديث أنها على الفور، وإن لم تُبتدر، فاتت، كالبعير يحل عنه العقالُ، ولأنها حق ثبت في المبيع لدفع الضرر، فأشبه حق الرد بالعيب والخُلف.
ووجه قولنا: يتقدر بثلاثة أيام هو أنه لا بد فيه من تفكرٍ وتروٍّ، ليعرف صاحب الحق غبطتَه في الأخذ أو في الترك، والثلاث غايةُ القلة، وبداية الكثرة.
ووجه قولنا: إنه يتأبد أن الأخذ بالشفعة يملّك المبيع بالثمن، فكان كالشراء يبتدئه المختار، غير أنه ثابت على القهر.
فهذا رمزٌ إلى توجيه الأقوأل، وقد ميزنا العيبَ والخُلف عن الشفعة.
فأمّا الصُّور التي يجري فيها قولان فحسب، فالذي نحتاج إلى ذكره فيها سببُ انحذاف قول التأبد، والسبب فيه لائح؛ فإنَّ التأبد يجرّ استحالةً فيها؛ إذ إمهال المرتد أبداً محالٌ، وكذلك إمهال المولي بعد انقضاء المدة أبداً لا وجه له، وفيه إدامةُ الضّرر على المرأة، وهو في التحقيق إبطال حقها، ورفع حكم الإيلاء.
وكذلك ترك تارك الصلاة أبداً لا وجه له، وقد ثبت أن ما جاء به من موجبات القتل.
والذي فيه أدنى ترددٍ الفسخُ بالإعسار، وكان لا يبعد فيه أن يقال: سبيله كسبيل التي عتَقَت تحت عبد، وغالب ظني أنّه قال به قائلون، وليس الإعسار عيباً، وهو مجتهد فيه أيضاً، فإذا جرى في الفسخ بالعتق تحت العبد قول التأبد، فهو أحرى
__________
(1) (ت 2) ، (ي) : متسرع للزوم إذا لم يفسخ.
(2) حديث "الشفعة كَحَلِّ العقال" رواه ابن ماجة والبيهقي من حديث ابن عمر، والحديث ضعيف، بوّب له البيهقي بقوله: باب رواية ألفاظ منكرة يذكرها بعض الفقهاء في مسائل الشفعة، (ر. ابن ماجة: الشفعة، باب طلب الشفعة، ح 2500، 2501، السنن الكبرى للبيهقي: 6/108، تلخيص الحبير: 3/125 ح 1302، إرواء الغليل: حديث رقم 1542) .(7/318)
بالجريان في الفسخ بالإعسار. وإن رُدّ الأمر إلى استمهال الزوج، وقوله: [سأتطلب] (1) راتب النفقة، فلا ينقدح إلا قولان، وينحذف قولُ التأبّد، كما ذكرنا.
4709- فإذا تمهدت القواعدُ فرقاً وجمعاً، وتفصّلت في قضاياها، عُدْنا بعدها إلى التفريع على أقوال الشفعة.
فإن قلنا: إنها على التأبد، فأول ما نفرعه على ذلك أَنَّ الأصحاب قالوا: للمشتري على قول التأبد - أن يرفع الأمر إلى الحاكم ليكلّف الشفيع الأخذَ بالشفعة، أو الإبطالَ، والسَّبب أنه لا يثق بتصرفاته، وبنائه، وغراسه، وقد بذل في الشراء مالَه، ومبنى الشفعة على دفع الضرار، فيبعد أن يتضمن هذا الإضرارَ العظيمَ بالمشتري.
وذكر صاحب التقريب قولين في المسألة: أحدهما - ما ذكرناه. والثاني - أنه لا يُطالب الشفيع بإبطال حقّه، أو البدارِ إلى طلبها، بل الأمرُ إليه، وهذا حقيقة تأبيد الحق، والشفيع ينزل في حقه منزلة مستحِق القصاص في طلب حق القصاص. وهذا قولٌ حكاهُ ومال إلى اختياره في التفريعات.
4710- ومما يتفرع على قول التأبد أنا إن قلنا: لا يبطل حق الشفيع إلا بصريح الإبطال، فلا كلام، ولا أثر للعلامات الدالة على الرضا بترك الشفعة. وإن قلنا: إنها تبطل بالعلامات، فلا خلاف أن التأخيرَ [والإضرابَ] (2) ، وعدمَ المبالاة في أخذ الشقص ليس من العلامات المبطلة، بل هذا حقُّ التأخير، والوفاءُ بموجبه، وكذلك لو رأى المشتري يتصرّف بالبناء والغراس والبيع، فسكت، لم يبطل حقه بشيء من ذلك.
ولم يذكر الأئمة علامةً عليها تعويل، إلا المساومة، فإذا قال الشفيع للمشتري: بع مني هذا الشقصَ بكذا، أو قال: هب مني، فالذي ذهبَ إليه الأكثرون أن الشفعة تبطل على هذا القول بالمساومة، وطلب الهبةِ، إذا جرت مع العلم بثبوتِ حق الشفعة.
وحكى صاحب التقريب وجهين: أحدُهما- ما ذكرناهُ. والثاني - أن المساومة ليست مبطلة؛ فإنّ الشفيع قد يبغي بالشراء استرخاصاً، ووجهاً في الصلاح، حتى إن
__________
(1) في الأصل: سأطلب.
(2) في الأصل: "والإضرار"، والمثبت من (ت 2) ، (ي) ، (هـ 3) .(7/319)
انتظم له مرادُه، أغناه ذلك عن الشفعة، وإن لم ينتظم، فهو على أصل حقه، وهذا قد يبين في طلبِ (1) الهبة، وفي طلب الشراء بأقلَّ من الثمن الأول. فأما إذَا طلبَ الشراء بمثل ذلك الثمن، أو بأكثر منه، فلا يتجه ما ذكره صاحب التقريب من الاسترخاص.
ويتجه شيء آخر، وهو أنه رُبما يبغي استرضَاءهُ ويقدر أن يبيع راضياً، حتى يستغني عن طريق القهر، فإن أبى، عاد إلى حقه القهري. وإذا ردَّدنا القول في المساومة، وطلب الهبة، فقد يعوز [تصويرُ] (2) علامةٍ تبطل الشفعة، من غير تصريح بالإبطالِ.
وينبغي أن يقال: إذا قال الشفيع للمشتري: تبرع بهذا الشقص على من شئت، وهبه ممن بدا لك، فهذا عَلَم يبطل الشفعة من غير خلافٍ؛ فإنا إن حملنا المساومة على غرضٍ للشفيع، كما قدمناهُ، فلا غرض لهُ في أن يهب المشتري الشقصَ من غيره، فكذلك إذا قال: بعه ممن شئت، فهو إبْطالٌ للشفعة الثابتة في هذا العقد، ثم يتجدد الحق في الشراء، ويبعد مع القناعة بالعلامة أن يُحمل قولُه: بعه وهبه، على أنك إن وهبت أو بعت، نقضتُ تصرفَك. فإن تمسك متمسك بهذا بوجهٍ آخر سوى ما أشعرت به العلامة، كانَ طالباً للتصريح بالإبطال.
ولا خلاف أنا إذا حكمنا بتأبيد حق المعتقة تحت العبد، فلو مكنت زوجَها من الوطء، بطل حقُّها.
4711- وإن فرعنا على تأقت الشفعة بثلاثة أيام، فالأشبه عندنا أنها تسقط بالعلامات في الأيام الثلاثة. ولا يبعد أن يخرّج قولُ اشتراط التصريح بالإبطال في الأيام الثلاثة.
4712- فأمّا التفريع على قول الفور، فهو ظاهرُ المذهب وعليه تتفرع المسائل.
فنقول: أولاً الشفعة تبطل على قول الفور بالتقصير والتأخير، وكل ما ينافي الفورَ، والبدارَ. هذا أصل المذهب؛ فلا حاجة إلى علامةٍ ظاهرةٍ دالةٍ على إبطال الشفعة.
ثم إذا أردنا أن نحصّل القول في معنى الفور، أوضحنا أولاً ميلَ نص الشافعي
__________
(1) (ي) ، (هـ 3) : أصل الهبة.
(2) في الأصل: التصوير.(7/320)
إلى المبالغة في الفور والبدارِ، ومن ألفاظه في ذلك أنه قال: "إن عَلِم، فطلبَ مكانَه، فهي لهُ" (1) .
فأول ما نذكره بعد ذكر النص أن معظم أئمتنا صاروا إلى أن الرّجوع في تحقيق الفور إلى العرف، واكتفوا بأن لا يصدر من الشفيع ما يدل على التواني في الطلب، وبنَوْا عليه أنه لو كان ملابساً شغلاً، فبلغه ثبوت الشفعة [له] (2) ولم يكن في استكماله ما هو فيه من الشغل القريب ما يدل على التواني والتأخير، فلا يبطل حقه باستكمال ما هو فيه، وذلك مثل أن يكون في أثناء أكل الطعام، أو يكون في الحمام، أو متحرماً بصلاة نافلةٍ، فهذه الأشغال القريبة إذا أتمها، ثم استفتح، لم يكن مقصراً، وأبعد بعضُ أصحابنا، فقال: تحقيق الفور قطعُ ما هو فيه من هذه الأشغال، وقد أشار القاضي إلى هذا، وعضده بنص الشافعي في وجهٍ من الاحتمال، فإن الشافعي قال: "فطلبه على مكانه، فهي له". ونص في خيار المعتقة -تفريعاً على قول الفور- أنها لو تركت الفسخ ساعة من نهارٍ، بطل حقها، وقال: "لو أخرت أقل زمان بطل حقها". فقد حصلنا على اختلافٍ محقق في هذا.
ولا تبين حقيقة المراد إلا بأمرٍ، وهو أن علة الفور عندنا لا تتضح بما قدمناه، وحاصله أنا لو أثبتنا حق الشفعة -وهو لدفع الضّرار- من غير ربط بالفور، لَتوانَى الشفيعُ، وبقي المشتري غيرَ واثق بشيء من تصرفاته. ثم إن قيل: يُبطل (3) عليه، فسبيله أن يرفع إلى حاكمٍ، فربما يُغَيِّب وجهه، أو يمتنع. وفي العلماء من قال: إذا لم نقل بالفور، لم نبطل على الشفيع حقه. وهذا يُفضي إلى إلحاق ضررٍ بالمشتري يزيد على ما يدفعه الشفيع عن نفسه.
ثم إذا بطل التأبيد، فلا سبيل إلى التحكم بتأقيتٍ من غير توقيف، فلا يبقى إلا المصيرُ إلى الفور، فإن كان الذال على الفور ما ذكرناه، فالذي ذهب إليه الجمهور متجه حسن، وحاصله ألا يبدُوَ منه توانٍ. ومساق هذا لا ينافي استكمالَ الأشغال القريبة.
__________
(1) ر. المختصر: 3/50.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) يُبطل: أي يبطل المشتري على الشفيع حقه بالرفع إلى الحاكم.(7/321)
وذهب آخرون إلى أن الشرط أن يُبدي من نفسه البدار، ومساق هذا (1) يقتضي قطعَ الأشغال.
وهذا ضعيف؛ فإنا إذا أوضحنا أن المقصود من إثبات الفور ألا يتضرر المشتري بانتظار ما يكون، فلا ينتهي الأمر بتضرره باستكمال الأشغال التي ذكرناها.
ثم من لم ير قطعها، يمنع وصلَ الشغل بالشغل، مثل أن يستتم الأكل، ويبغي أن يستحم، فهذا لا يُرخِّص العرفُ فيه فيما يطلب فيه الفور، إلا أن يفرض إرهاق (2) ؛ فإذ ذاك يعذر.
هذا عقد الفصل.
4713- وممّا يتصل بذلك أنه إن أراد أن يوكِّل من يَطلب الحق له، جاز هذا؛ فإن الغرض حصول التسرع إلى الطلب، وهذا يحصل بالوكيل، ولو امتنع على الشفيع أن يطلب بنفسه لعارضٍ، ولم يتمكن من التوكيل أيضاً، عُذِر، ولم يسقط حقه على الجملة.
ولو عجز عن الطلب بنفسه، واستمكن من التوكيل بالطلب، فهل عليه الابتدارُ إلى التوكيل، فعلى وجهين، ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - أنه يلزمه ذلك إن أراد الشفعة؛ فإن هذا طريقٌ في الطلب، وهو متيسر عليه، والدليل عليه أنه إذا تمكن من الطّلب بنفسه، فله أن يقيم طلب الوكيل مقام طلب نفسه، فإذا قام طلبُ الوكيل مقام طلبه، فكأنه بمثابة طلبه، فإذا قدر عليه، وتوانى فيه، كان مقصراً.
ومن أصحابنا من قال: لا يجب ذلك؛ فإنه قد يحتاج إلى بذل أجرة الوكيل، وليس في طلب الشفعة إلزامُ الشفيع بذلَ مالٍ، وإن تبرع، احتاج إلى تقلّد المِنة، أما بذل الأجر، فيضاهي الاحتياجَ إلى بذل المال في سبيل الحج، وهو ينافي الاستطاعة، وتبرع الوكيل يضاهي تبرعَ أجنبي بالحج.
والصحيح عندنا في هذا أنه إن احتاج إلى بذل مال، لم يلزمه، وإن وجد متطوعاً، لم تثقل المنةُ بهذا الشغل القريب.
وممّا يتصل بما نحن فيه ما إذا كان الشفيع محبوساً، فقد فصّل بعض الفقهاء ذلك
__________
(1) (ت 2) ، (ي) ، (هـ 3) : وحاصله يقتضي قطع الأشغال.
(2) إرهاق: المراد هنا اضطرار أو حاجة شديدة.(7/322)
تفصيلاً ظاهراً، قد يشذ عنه فكر الفقيه، وذلك أنهم قالوا: إن كان محبوساً بباطلٍ من جهةِ ظالمٍ، فهو معذور، وإن كان محبوساً بحق كالمحبوس بالديْن، وهو قادرٌ على أداء ما عليه، غير أنه يماطل ويسوّف، فهذا الاحتباسُ لا يعذرُه.
4714- وما ذكرناه تفصيل القول في الحاضر، فلو كان الشفيع غائباً، فبلغه الخبر، فعليه أن يسير نحو الجهة التي فيها طلب الحق، وبها المشتري الذي منه الطلب، ثم لا نكلفه ركوب غرر، ولكنَّه يترصد رُفقةً وثيقة.
ولو وكل وكيلاً، فابتدر وكيله، جاز ذلك، وكفى؛ فإن الوكيل يحل محل الموكّل، وإذا أحللناه محله في الشهود والحضور، مع القدرة على أن يبرز بنفسه ويطلب، فهذا في حق المسافر أولى بالجواز.
وممّا يتصل بمساق هذا الفن: أن الغائب قبل أن يبرح لو وجد المشتري، وكان قد خرج وفاقاً إلى تلك الجهة، فليطلب حقَّه (1) على الفور، وليس له أن يؤخر بناء على أن يعود مع المشتري إلى الناحية التي بها هذا الشقص المبيع؛ فإن الطلب توجّه على المشتري وهو حاضر، فشهود الشقص وغيبته بمثابةٍ.
وتمام الكلام فيما نحن فيه أن المشتري في الحضور مع الشفيع مطالب من جهة الشفيع، فإن طالبه الشفيع خرج من التواني، وإن تركه، وابتدر إلى مجلس الحاكم، واستعدى على المشتري، فهذا من البدار، وهو فوق مطالبة المشتري؛ إذ المشتري لو طولبَ، ربما يتمادى ويقول قولاً محوجاً إلى الارتفاع إلى مجلس الحكم، فإذا وقعت البداية بالحاكم، كان استيثاقاً من المقصود، وتمسكاً بمصير الأمر ومآله.
4715- فإذا تمهد هذا الأصل، ذكرنا بعده فصلاً اختبط الأصحاب فيه، وهو القول في إشهاد الشفيع على أنه على الطلب، والكلام في ذلك يقع في صور، ونحن نأتي بها على ترتيبٍ نراه أقربَ إلى البيان.
فالمسافر إذا بلغه الخبر، ولم يستمكن من الخروج بنفسه، ولا من إخراج وكيلٍ، فظاهر المذهب أنه لا بد من الإشهاد على الطلب في مثل هذا المقام، والتعليل يأتي بعد طرد الصور.
__________
(1) (ت 2) ، (ي) ، (هـ 3) : منه.(7/323)
وذكر شيخي في هذه قولاً اختاره، وربما كان لا يذكر غيره: أن الإشهاد مستحب، فلو ترك الإشهاد، لم يُقضَ ببطلان حقه، فلتكن هذه الصورة مقدّمة في المرتبة. ويليها ما لو ابتدر الشفيع التوجهَ إلى صوب المشتري. فلو لم يُشهد، واكتفى بالبدار في نحو المشتري، ففي وجوب الإشهاد قولان نقلهما العراقيون: أحدهما - أنه يتعين، وتركُه يبطل الحق. والثاني - لا يتعين، ويكفي البدار في نحو الطلب. وإذا ثبت خلافٌ في الصورة الأولى، فهذه الصورة تترتب عليها والأخيرةُ أولى بألا يستحق الإشهاد فيها، ووجه الترتيب [لائح] (1) .
ولو كان الشفيع حاضراً مع المشتري، ولكن أقعده مرض، أو منعه عن الظهور للطلبِ خوفٌ واستشعار (2) ، فوجوب الإشهاد على الطلب في هذه الصُّورة يضاهي الإشهادَ في السفر، إذا استأخر الخروجَ لاستئخار الرفاق.
ولو كان حاضراً مع المشتري، وكان لا يمنعه من الطّلب مانع، وجرينا على أنه لا يقطع الأشغال القريبة التي هو ملابسها إذا بلغه خبر الشفعة، فهل يجب الإشهاد والحالة هذه؟ ظاهر كلام الأئمة أنه لا يجب، وأن وجوب الإشهاد عند من يراه يختص بالمعذور الذي يتعذر عليه مبادرة الطلب.
وذكر القاضي في هذا المقام وجهين في تعيين الإشهاد، واستنبطهما من نصّ الشافعي، حيث قال في الحاضر إذا بلغه موجب الشفعة: "إن طلب على مكانه، فهي له" ومعلوم أن الطلب في ذلك المكان من غير خروج إلى المشتري أو إلى مجلس الحاكم لا معنى له، ولا يكلف الإنسان أن يناطق نفسه بالطلب، فلا معنى للطلب الذي ذكره الشافعي مختصاً بمكان بلوغ الخبر، إلا أن يُشهد إذا قدَر على الإشهاد. وهذا استنباط حسن لائق باللفظ. والخلاف الذي أبداه يترتب على الإشهاد في السفر لا محالة.
4716- فإذ ذكرنا الصور في الإشهاد مرتبة، فنذكر بعدها معنىً كلياً يستند الإشهاد إليه، ثم لا يخفى على الفقيه استعماله في تفاصيل الصور، فمن بلغه الخبر،
__________
(1) في الأصل: لاغٍ.
(2) كذا في النسخ الأربع. ولعلها: خوفٌ، أو استشعار خوف.(7/324)
واستمكن من الإشهاد، ولم يشهد، أشعر سكوته بالتواني، فهذا المعنى هو الذي أوجب هذا الخبطَ والخلافَ، ومن لم يوجب الإشهاد كأنه يميل إلى الطريقة التي ذكرناها من أنا لا نشترط إظهارَ قصد (1) البدار، ولكن نشترط عدم التواني، ومن يشترط الإشهادَ كأنه يميل إلى إظهار أصل البدارِ.
ثم هذا المعنى مفضوضٌ على الصور، فإذا استأخر الإنسان عن الاشتغال بالطلب، فالإشهاد به أليق، وإن كان معذوراً.
وإذا أقبل على ما يصلح أن يكون اشتغالاً بالطلب، كان اشتراط الإشهاد أبعدَ، ووجه اشتراطه عند من يشترطه أن إقباله على أفعاله يمكن أن يُحمل على مقصودٍ آخر.
وأبعد الصور عن استحقاق الإشهاد صورةُ الحضور مع انتفاء العذر؛ فإن اتصال الاشتغال بالطلب مخيلةٌ ظاهرةٌ في حق الحاضر في طلب الشفعة، وهذا في حق المسافر أبعد.
فهذا منتهى القول في الإشهاد.
ولا شك أنه إذا عسر الإشهاد، فلا يكلف صاحب الحق أن يقول: أنا على الحق وطلبِه.
وإذا اطلع المشتري على عيب بما اشتراه، فهل يشترط أن يقول: فسخت العقدَ ورددتُ المبيع؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنا نشترط ذلك؛ فإن الفسخ يحصل بالقول، ولا حاجة إلى حضور المردود عليه. ومن أصحابنا من لم يشترط ذلك وسوّغ له التأخيرَ إلى أن يلتقي بالمردود عليه، مع بذل الجد في طلبه.
4717- ومما يتعلق بمضمون هذا الفصل القولُ في أحوالٍ تتعلق بالعلم بالبيع وصفته، والعفو عن الشفعة أو التواني فيها على ظن، ثم بدوّ خلاف ذلك المظنون، فنقول: إذا أخر الشفيع الطلب، ثم افتتح يطلب (2) ، سألناه عن سبب التأخير، فإن قال: لم أخبر بالبيع، فالقول قوله مع يمينه. وإن قال: لم أصدِّق الخبرَ، نظر: فإن أخبره جمعٌ يقع العلم بقولهم، لم يقبل قوله. وإن قال: أخبرني عدلان، لم يعذر في
__________
(1) (ت 2) ، (ي) ، (هـ 3) : عدم البدار.
(2) (ت 2) ، (ي) ، (هـ 3) : بالطلب.(7/325)
قوله: "لم أصدقهما". وإن كان أخبره صبي، أو كافر، أو فاسق، عُذر في ترك تصديق هؤلاء. وإن كان أخبره عدلٌ واحد، ففي المسألة وجهان، لا يخفى مُدرَك توجيههما.
وألحق بعض أصحابنا إخبارالعبد بإخبار الفاسق؛ من حيث إنه ليس من أهل الشهادة، ولست أرى الأمر كذلك، فإن أخذ هذا من الرواية أقرب، إذا لم يُشترط العدد، ولست أرى لاشتراط العدد معنى.
4718- ومما ينتظم في هذا الفصل أنه إذا قيل للشفيع: اشترى فلان الشقصَ بألف، فترك الشفعة، بأن توانى فيها، أو عفا عنها، ثم بان أنه اشتراه بخمسمائةٍ، فهو على حق الشفعة؛ فإنه وإن أطلق العفو، كان ذلك على تقدير وقوع البيع بالألف، وليس ذلك مما يكون المجهول فيه كالمعلوم، والهزل كالجدّ؛ فإنه مدار الغرض.
وهذا بيّن.
وكذلك لو قيل له: اشتراه بألفٍ صحيح، فتوانى، أو عفا، ثم بان أنه اشتراه بألفٍ مكسر، فله الشفعة، ولا حكم لما جرى.
ولو قيل: اشتراه زيدٌ بألفٍ، فعفا، أو توانى، ثم بان أنه كان اشتراه عمرو، فله الفسخ؛ لأن الغرض يختلف في ذلك، فربما يرضى بمداخلة زيد وشركته، ولا يرضى بشركة غيره.
وإذا قيل له: اشترى النصف بخمسمائةٍ، فعفا، ثم بان أنه قد اشترى الكل بها، فهوعلى شفعته.
وكذلك لو قيل: اشترى النصف بخمسين، فبان أنه اشترى الكل بمائةٍ.
وكذلك لو أُخبر أنه اشترى الكل بمائة، ثم بان أنه كان اشترى النصف بخمسين، فله حق الشفعة؛ لأنه قد يكون له غرض في القليل دون الكثير، وفي الكثير دون القليل، وبمثله لو قيل: اشتراه بمائةٍ، فعفا، ثم بان أنه اشتراه بمائتين، فلا شفعة له؛ فإنه لم يطلب الشفعة بالمائة، فأي غرض لهُ في طلبها بالمائتين.
وكذلك لو أخبر أنه اشتراه بمائةِ دينارٍ مكسرة، فعفا، [ثم بان أنه كان اشترى بالصحاح، فلا شفعة.(7/326)
4719- ومما ذكره القاضي: أنه لو قيل له: اشتراه بمائة دينارٍ، فعفا] (1) ثم بان أنه كان اشتراه بألف درهم، فقد حُكي عن القاضي أنه على شفعته؛ لأن الغرض يختلف باختلاف الجنس، وقال: وكذلك لو كان الأمرُ على العكس.
فأما الصورة الأولى، فلا شكّ فيها، فإنه عفا إذا أخبر بالثمن الكثير، والغالب أن الألف أقلُّ من مائة دينار. فأما إذا أخبر بألف درهم، ثم بان أن الثمن مائةُ دينار، وقد عفا أولاً، فإثبات الشفعة في هذه الصورة محالٌ؛ فإن عفا وقد بلغه أقلُّ الثمنين المذكورين، فطلب الشفعة بالأكثر لا يليق بالأغراض المرعيَّة. والتعويل في هذَا الباب على المالية؛ فإن الشفيع ليس يأخذ بعين الثمن، وإنما يأخذ ببدلٍ مشبهٍ بالثمن المذكور في العقد (2) .
فإذا كانت مائةُ دينارٍ تساوي ألفين فصاعداً، فلا يتحقق غرضٌ في ذلك.
وليس هذا كما لو قال لوكيله: بع عبدي هذا بألف درهم، فباعه بمائة دينار؛ فإن البيع يبطل؛ من جهة أن مبنى تصرف الوكيل على اتباع لفظ الآمر، وقد يغمض على الفقيه تعليل صحة البيع فيه إذا وكله بالبيع بألف درهم، فباعه بألفي درهم. ثم سبيل حل الإشكال ما قدمناه. فأمَّا إذا اختلف الجنس، فيظهر وقوع عقد الوكيل مخالفاً لقول الموكل.
نعم. لو أُخبر الشفيع بأن الثمن ألفا درهم فعفا، ثم بان أنه مائتا دينار، وكانت قيمة المائتين ألفين، فهذه المسألة فيها احتمال؛ من جهة أنه قد يعسر عليه تحصيل الدراهم، وقد يتجه فيه أن هذا ليس بعذر؛ فإن صرف الدنانير [إلى الدراهم سهل؛ فإن الدنانير ليست] (3) سلعة من السلع، حتى يفرض في بيعها ترصد وانتظار.
ولو قيل له: اشتراه بألف مؤجلٍ، فعفا، ثم بان أنه قد اشتراه بألفٍ حال، فلا شفعة له؛ إذ لا غرض في ترك الشفعة بالمؤجل والأخذ بالحال. ولو كان على العكس من هذا، فله الشفعة، لظهور الغرض في الترك بالحال، والأخذ بالمؤجل.
والجملة المعتبرة في هذه المسائل أنه إذا لم يظهر غرض بعد العفو، فالشفعة
__________
(1) ما بين المعقفين سقط من الأصل.
(2) (ت 2) ، (ي) ، (هـ 3) : مشبه بثمن العقد.
(3) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.(7/327)
ساقطة. وإن ظهر غرض على خلاف ما أخبر الشفيع به، فهو على شفعته.
وهذه المسائل نختمها بسرٍّ، وهو أن العفو عن الشفعة ليس عفواً عن حق متقرر، بل الأمر فيه أولاً وآخراً على التوقف، كما سنبينه من بعدُ. والعفو المطلق فيما هذا وصفه.، لا يقع مبتوتاً، بل يقع مقدراً على وجه، فإذا بان غيره، لم يتناوله العفو.
4720- ومما يتعلق بهذا الفن أن الشفيع قد يتلفظ بألفاظٍ لا تتعلق بطلب الشفعة عند الانتهاء إلى المشتري، وللأصحاب فيها كلام، فلو انتهى إلى المشتري وقال: السلام عليكم، ثم ابتدأ طلبَ الشفعة بعد ذلك، فقد قال العراقيون: لا تبطل شفعته بافتتاح الكلام بالسلام. وهذا الذي ذكروه ظاهرٌ، خارجٌ على ما ذهب إليه الجمهور، من أنا لا نشترط قطعَ الأشغال التي يكون الشفيع ملابساً لها عند بلوغ الخبر.
ومن غلا من أصحابنا وشرط قطعها، فلا يبعد أن يشترط الابتداءَ بطلب الشفعة.
ومما ذكروه أنه لو قال للمشتري: بارك الله لك في صفقة يمينك، وعَنَى ابتياعه الشقصَ، ثم قال بعد ذلك: أنا طالب الشفعة. قال العراقيون: له طلبها، وإن كان التفريع على قول الفور، وقياس طريق المراوزة يخالف هذا؛ فإن قوله: بارك الله لك يشعر بتقرير الشقص في يده. وتعقيب هذا الكلام بما يوجب إزالة يده يُلحق نظمَ الكلام بالاستهزاء.
وقال العراقيون: لو انتهى إلى المشتري، وقال: بكم اشتريت الشقص؟ قالوا: هذا يبطل حقّه، على نقيض ما ذكروه في اللفظ السابق. وقياس المراوزة في هذا أنه لا يبطل حقه؛ فإنه معذورٌ في البحث؛ من جهة أنه ربما يطلب الشفعة إذا كان الثمن مقداراً (1) عنده، ولا يطلبها إذا كان أكثر منه، ولا شك أن هذا يُفرض فيه إذا لم يكن عالماً بمقدار الثمن من جهةٍ أخرى.
ولا يمتنع أن يقال: لو كان عالماً (2) فيعذر في البحث، ويحمل الأمر فيه على أخذ إقرار المشتري.
__________
(1) في (ي) : "مقدراً".
(2) (ت 2) ، (ي) ، (هـ3) : وإن كان عالماً بمقدار الثمن يعذر.(7/328)
وإذا قلنا: الشفعة على التراخي؛ فالبحث والسلام، وما في معناهما لا يؤثر، نعم. لو قال: بارك الله لك في صفقة يمينك، فقياس المراوزة أن هذا من علامات الرضا بإسقاط الشفعة، إذا لم نشترط التصريح. والعراقيون، لم يسقطوا به الشفعة على قول الفور.
ولو أخر الشفيع، ثم طلب، قلنا له: أخرت وقصرت، فلو قال: نعم أخرتُ ولكن لم أدرِ أن التأخير يُبطل حق الشفعة، فإن كان يليق بحاله أن يجهل هذا، فالقولُ قوله مع يمينه، والشفعة باقيةٌ (1) إذا حلف؛ فإن صورة التأخير لا تُبطل الشفعة، وإنما تبطل الشفعة بما يدل التأخير عليه من توان، مع العلم بأن الحق على البدار، فكأن التأخيرَ من وجهٍ يلتحق بالعلامات، مع العلم بأن الأمر ينبني على البدار.
فليفهم الناظر ما ينتهي إليه من أمثال ذلك.
4721- ومما يتعلق بهذه الفصول القول في أن الشفيع متى يملك الشقص المشفوع؟ وما الذي يموجب تمليكه؟
أولاً - لا خلاف أنه لا حاجة في ثبوت الملك إلى عقد مجدد يُفرض إنشاؤه بين الشفيع وبين المشتري، والشفيع إذا ملك، يملك بالعقد الذي عقده المشتري، على سبيل البناء.
ثم اعترض فيما يطلبه أمور متعارضة: أحدها - أنّ الملك [مستحق] (2) على المشتري، ويُفرض انتقاله منه إلى الشفيع قهراً، من غير رضا يصدر منه، ولا تمليكٍ من جهته. هذا لا شك فيه. والملك لا يحصل للشفيع قهراً، بل الأمر مربوط بخِيرته (3) . ثم إذا اختار الشفيع حصولَ الملك في المشفوع، فلو قلنا: إنّه يملك الشقص، وينقلب الثمن إلى ذمته قبل توفيره على المشتري، لكان في ذلك إجحاف بيّن، ومبنى الباب على دفع الضرر، فلا ينبغي أن يتضمن إلحاقَ ضررٍ بالغير.
4722- فإذا حصل التنبيه على هذه الوجوه، فنحن نذكر ما يقتضي ثبوتَ الملك
__________
(1) (ت 2) ، (ي) ، (هـ 3) : ثابتة.
(2) في الأصل: يستحق.
(3) الخِيرة: بفتح الياء وسكونها: اسم من الاختيار.(7/329)
للشفيع وفاقاً، ثم نذكر صور التردد بعد وضوح محل الوفاق، فنقول: إذا سلم الشفيع العوضَ إلى المشتري، ملك الشقصَ قطعاً؛ فإن الذي كنّا نحاذره فيما شببنا به تخلفُ الثمن عن المشتري، مع الحكم بالملك للشفيع.
هذا متفق عليه.
وكذلك لو سلم المشتري الشفيعَ حقه، ورضي بأن يتخلف تأديةُ العوض عن جريان الملك في الشقص، فيحصل الملك على هذا الوجه أيضاً.
وليس هذا تمليكاً يفتقر إلى مملِّك (1) ، ولا إيجاباً يفتقر إلى قبول، وإنما هو رضاً من المشتري بأن يتأخر حقُّه، ويتعجل حق الشفيع في الشقص.
وإذا كان يحصُل الملك بهذه الجهة، فقد اختلف أصحابنا في أنَّه هل يتوقف حصول ملك الشفيع على قبضه، وتسلّمه للشقص، أو يكفي ما صورناه من الرضا على الوجه الذي أوضحناهُ؟ فالذي ذهب إليه الأكثرون أن جريان الملك لا يتوقف على الإقباض والتسليم؛ فإن هذا ملك حاصل بحكم البيع، والأملاك التي تحصل بجهة المعاوضة لا يتوقف حصولها على صور القبوض.
ومن أصحابنا من قال: لا يتم ما قاله المشتري- إذا لم يقبض الثمن- إلا بقبض الشفيع المثمّن. وقول المشتري في حكم وعدٍ، وإتمام موجَب الملك التسليمُ.
وهذا بعيد لا تعويل عليه، والاعتداد بما ذكرناه، من أن القبض ليس بشرط.
ولو ارتفع إلى مجلس القاضي، وأثبت حقُّه في الشفعة، وحَقّق طلبَه، فقضى [له] (2) القاضي بحق الشفعة، ولم يوجد بعدُ تسليمُ الثمن، ولا رضا من المشتري، كما صوَّرناه، ففي حصول الملك للشفيع في الشقص وجهان: أحدهما - وهو ما نقله صاحب التقريب أن الملك يحصل للشفيع في الشقص بثبوت حق الشفعة، وتأكُّد الطلب، وجريان القضاء. وحقيقة هذا الوجه أن الشرع نزّل الشفيع منزلة المشتري، حتى كأنّ العقد عُقد له، إذا تأكَّد حقُّه، وهذا يحصل بجريان القضاء به. وإذا كنا لا نشترط تمليكاً جديداً، وعقداً مبتدءاً، ويستحيل وقوف الملك على بذل العوض؛
__________
(1) (ت 2) ، (ي) ، (هـ 3) : تملك.
(2) ساقطة من الأصل.(7/330)
اعتباراً بجملة عقود المعاوضات، ولكن الشفيع متخير بين الأخذ والترك، فإذا جرد قصدَه وأكُد بالقضاء، وجب الحكم بالملك له.
ومن أصحابنا من قال: لا يحصل الملك دون بذل الثمن، أو رضا المشتري، كما قدمنا؛ فإن الشراء أوجب الملك للمشتري، وحق الشفيع ثابت إلى أن نتبيَّن طلبه أو إسقاطه، فلو كان الملك يحصل له، لحصل بنفس العقد على حكم تخير، ثم كان يسقط إن لم يُرِدْه، ويستقر إن أراده. ولا خلاف أن الأمر لا يكون كذلك.
هذا ذكر كلام الأصحاب على الإجمال، والبيان منتظر في سياق الكلام بعدُ.
4723- فإن قلنا: لا يحصل ملك الشفيع بجريان القضاء بثبوت حق شفعته، فلا كلام. وإن قلنا: يثبت ملك الشفيع في الشقص بنفوذ القضاء له، فلو أشهد الشفيع عدلين على طلبه، فهل يثبت له الملك بنفس الإشهاد؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يثبت؛ فإن الإشهاد دون القضاء، لا يستقل بالإفادة؛ إذ لا حكم أولاً لصورة الشهادة، ما لم تتصل بمجلس الحكم. وإنما الذي يجري من الشفيع تحميل الشهود [الشهادة] (1) حتى يندفع عنه الانتسابُ إلى التقصير، وإن ادعي عليه تقصير، أغنته شهادة الشهود عن الحلف.
والوجه الثاني - أنه يثبت الملك بالإشهاد، ذكره صاحب التقريب، وحكى عن الأصحاب أن الشفيع إذا أشهد، لم ينفذ بعد ذلك تصرّفُ المشتري في الشقص. ثم قال بانياً على هذا: إذا امتنع نفوذ تصرف المشتري، كان السبب فيه جريان ملك الشفيع في الشقص المشترى.
هذا تأسيس الكلام فيما يقتضي ثبوتَ الملك للشفيع في الشقص على الجملة.
4724- وها نحن الآن نتطلع إلى حقيقة الفصل، ونذكر ما عندنا فيه إن شاء الله عز وجل.
فنقول: إن وفر الثمن على المشتري، فلا خلافَ في ثبوت الملك، ثم لا يثبت
__________
(1) ساقطة من الأصل.(7/331)
للمشتري خيار المجلس في ذلك المكان الذي جرى التسليم فيه؛ فإنه مقهور فيما يجري، والجمع بين الاقتهار وإثبات الخيار محال (1) .
وهل يثبت للشفيع خيار المجلس، حتى يثبت له ردُّ الشقص، واسترداد الثمن؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - أنه لا خيار له؛ فإنَّ حكم خيار المجلس أن يتعلق بشخصين، فإذا انتفى الخيار عن المشتري، فيبعد أن يثبت للشفيع. والثاني - أنه يثبت؛ فإن هذا جريان ملك جديد، بحكم عقد بيعٍ، فلا يخلو عن خيار المجلس.
وهذا الخلاف يصدر عن قاعدة يتفرع منها مسائل في خيار المجلس، وهي أن خيار المجلس هل يتصور أن يثبت في أحد الشقين؟ أو هل يتصور أن يبقى في أحد الشقين، مع بطلانه في الشق الآخر؟ فيه تردّدٌ واختلافٌ بين الأصحاب، مضى استقصاؤه في أول كتاب البيع.
فإن قلنا: لا يثبت الخيار للشفيع، فلا كلام.
وإن قلنا: يثبت الخيار له، فالأمر موقوفٌ على مفارقته ذلك المكان. فلو فارقه المشتري، ففي انقطاع الخيار بمفارقته وجهان: أحدهما - أنه ينقطع بمفارقته؛ فإنه الذي ملك عليه، وإن لم يكن له خيار، فهو بمثابة ما لو ثبت خيار المجلس من المتبايعين، فأسقط أحدهما خيار نفسه، وبقي الخيار للثاني، ثم فارق الذي أبطل (2) خيار نفسه المجلسَ.
ومن أصحابنا من قال: لا يبطل خيار المجلس بمفارقة المشتري؛ فإنه لم يثبت له حظٌ في الخيار أصلاً، فلا معنى لاعتبار [فراقه] (3) . هذا إذا بذل المشتري الثمن.
ثم إذا قلنا: لا ملك في زمان الخيار، فيتفرع على هذا أن الملك لا يحصل ببذل الثمن، ما لم ينقطع خيار المجلس، وهذا لا يخفى دركه على من فهم مأخذَ الفقه، وإن حصل الملك في الشقص للشفيع برضا المشتري، فالأمر على ما وصفناه في خيار المجلس.
__________
(1) في غير نسخة الأصل: بين الاقتهار والاختيار.
(2) (ت 2) : أثبت.
(3) في الأصل: خياره.(7/332)
فأمّا إذا نفذ القضاء بثبوت حق الشفعة، وقلنا: إنه يتضمن الملك، أو (1) حكمنا بأنّ الإشهاد يتضمنه، فلو أخر الشفيع تأديةَ الثمن، مقصراً من غير عجز، فهل نحكم ببطلان ملكه بعد جريانه أم لا؟ اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: يبطل ملكه؛ فإنا لو لم نبطله، لوقع بالمشتري الضّرار الذي بنينا الفصل على محاذرته، وهو أن يملك عليه ما ملك قبل استمكانه من الثمن.
والوجه الثاني - أنه لا يبطل ملك الشفيع، ما لم يرفع الأمر إلى القاضي، ثم إذا رفع إليه، طالب الشفيعَ؛ فإن أبى، أبطل عليه حقه، وهذا هو الذي اختاره القاضي؛ فإن الامتناع عن التأدية أمر مظنونٌ، لا يتبين إلا بالرفع إلى مجلس القضاء.
وهذا يلتفت من صور الوفاق على اشتراط تعلق إثبات العُنة بمجلس الحكم، ومن صور الخلاف على القول بالإعسار بالنفقة.
4725- فخرج من مجموع ما ذكرناه أن حق الشفيع إذا ثبت من غير تأدية الثمن، ولا رضا المشتري، فهو عرضةُ البطلان بلا خلافٍ، وإنما التردد في أنه يبطل من غير قضاء، أو يتوقف على القضاء.
وهذا أوان التنبيه لطرفٍ من الحقيقة، فنقول:
قد تقدم في كتاب البيع أن البائع هل يملك حبس المبيع حتى يتوفر عليه الثمن؟ وفيه أقوال سبقت، والمشتري يملك حبسَ الشقص حتى يتوفر عليه الثمن بلا خلافٍ.
وإنما الخلاف في أثر منعه، فمن الأصحاب من يقول: أثر منعه امتناعُ الملك للشفيع. ومنهم من قال: لا يمتنع ملكُ الشفيع بمنعه، بل يجري بالقضاء أو الإشهاد، ولكن يثبت عُرضةً للبطلان إن مَطَل وسوّف. وهذا يناظر من البيع حكماً، وهو أنا إذا قلنا: على البائع البدايةُ بالتسليم، فلو سلم المبيعَ، ثم ظهر من المشتري الامتناعُ عن تسليم الثمن، فقد قال الشافعي: "أحجر على المشتري، وأنقض عليه الملك في المبيع". فإذا كان ثبت ذلك في البيع المملِّكٍ، فما الظن بملك
__________
(1) (ت 2) ، (ي) ، (هـ 3) : وحكمنا.(7/333)
الشفيع (1) !! والفرق بين البابين أن نقض ملك [المشتري] (2) فيه تردد، وخبطٌ في المذهب. ولا خلاف فيما نحن فيه.
ومن لطيف ما يجب التنبيه له أنا إذا لم نثبت للشفيع الملك بالقضاء والإشهاد، فإذا جرى القضاء والإشهاد، ثم أقبل الشفيع على تأدية الثمن، فالأصح أنه لا يُرعى من الفور في تأدية الثمن ما يرعى في أصل الطلب؛ فإنا قد نبطل الشفعة على قول الفور بتأخيرٍ في لحظة على ما تفصّل القولُ فيه. فأما إذا تأكد الطلب، فيشتغل الشفيع بتأدية الثمن اشتغال ما لا يعد منتسباً إلى التقصير فيه، مع الاتصال بالتمكن، فينبغي أن يرعى إقبال قادر على أداء الثمن.
ومن أسرار الفقه في ذلك أنّ خبر الشفعة قد يفجأ الشفيعَ، وليس الثمن عتيداً عنده، فلو قلنا بالتضييق عليه في التأدية، كان ذلك سعياً في إبطال معظم حقوق الشفعاء؛ فقلنا: عَجّل الطلبَ (3) ؛ [فإنك] (4) متمكن من إبداء الطلب، ثم أَقْبل (5) ، وعبر الأصحاب عن الفسحة التي أشرنا إليها في التأدية بأن قالوا: كل اشتغالٍ لا يوجب حبسَ من عليه الحق في الديون، فهو محتمل فيما نحن فيه، وكل اشتغالٍ يجر تطويلاً، يسوغ لصاحب الحق استدعاءَ حبسٍ معه، فهو غير محتمل فيما نحن فيه.
ووراء ذلك ما ذكرناه من خلاف الأصحاب في أن الحق يبطل، أو يُبطله القاضي.
4726- وقد انتهى الكلام الآن إلى بيانِ أصل من الأصول، وهو أن الشريك لو كان معسراً، لا وفاء معه بالثمن، والتفريع على قول الفور، فمن أصحابنا من قال: إذا اطّرد الإعسار، تبيّنا أنه لم تثبت له الشفعة أصلاً. ومنهم من قال: تثبت، ثم تسقط، وإنما أثبتناه (6) ؛ لأنه لو جرى العقد فرزق الشفيع معه مقدار الثمن، فلا خلاف أنه يأخذ الشقص إن أراد، فكأن الأمر عند بعض الأصحاب موقوف، والشفعة عند
__________
(1) (ت 2) : المشتري.
(2) في الأصل، (ي) : الشفيع. والمثبت من (ت 2) ، (هـ3) .
(3) (ت 2) ، (ي) ، (هـ 3) : الثمن.
(4) في الأصل: فإنه.
(5) أي أقبل على أداء الثمن.
(6) كذا بضمير المذكر على معنى (حق) الشفعة.(7/334)
بعضهم ثابتة، ثم يطرأ سقوطها باطِّراد العسر.
ولو قال الشفيع: أحصّل الثمنَ ببيع [عقارٍ لي، وأظهره] (1) للعرض، فإن كان عقاراً لا يطلب مثله، فلا تعلّق به. وإن كان يطلب مثله، ولكن تباطأ انتظام بيعه، فهذا ممّا لو فرض في الديون، [لاستحق] (2) صاحب الدين طلب الحبس إلى اتفاق البيع.
وهل يبطل حق الشفيع في مثل هذا المقام، والضِّياع (3) المعروض مرغوب فيه؟ فيه احتمالٌ عندنا، ولا يخفى على الفقيه أن كل ما نفرعه على قول الفور.
4727- وممَّا يتصل بأطراف الكلام أن الشفيع إذا ملك الشقص برضا المشتري، لا بتسليم الثمن، فلو قال المشتري: قد ملكتَ، ولكن لا أسلم الشقصَ إليك، حتى تسلم الثمن، فهذا (4) يخرّج على تفصيل الأقوال في أن البداية بالتسليم في البيع بمَن؟ والمشتري في رتبة البائع، والشفيع في رتبة المشتري منه.
ولو سلم الثمن، وملك بهذه الجهة، لا برضا المشتري، ثم خرج ما سلمه مستَحَقاً، فقد تبينا أن المشتري (5) لم يملك، ونحن نقول: لو بان أنّ ما أداه المكاتب مستحَقٌ في النجم الأخير، فالعتق الذي حكمنا به مردود تبيُّناً. وكذلك القول فيما نحن فيه.
ولو وجد المشتري بما قبضه عيباً، فردَّه، ففي المسألة احتمالٌ، يجوز أن يقال: تبيّن أنه لم يملك، كنظيره في الكتابة إذا رد السيد النجم بالعيب، والجامع أن المقصود حاصل في الموضعين بأداءِ موصوفٍ، وإذا لم يحصل أداء الموصوف، تبيّنا أن الغرض لم يحصل.
ويجوز أن يقال: يحصل الملك للشفيع، ثم يرتد؛ فإن الملك في المعاملات
__________
(1) في الأصل: عقاري، وأظهر.
(2) في الأصل: لا يستحق. والمثبت من النسخ الثلاث.
(3) الضِّياع: جمع ضَيعة. مثل: كَلْبة وكلاب. والضيعة العقار. (مصباح) .
(4) (ي) فهل.
(5) كذا في جميع النسخ: "المشتري"، والصواب "الشفيع"، كما سيظهر بعد أسطر، وعلى فرض أنها "المشتري" فالمراد: لم يملك الثمن، فقد خرج مستحقّاً، وليس المراد: لم يملك الشقص.(7/335)
يقبل الارتداد، والعتقُ لو حكمنا به، لم يقبل الانتقاض والارتداد، فكان الأمرُ في العتق مبنيّاًَ على التبين.
4728- ومن تمام البيان في هذا أنا إذا حكمنا بالملك للشفيع من غير تأدية الثمن، ولا رضا من المشتري، ولكنَّا حصَّلنا الملك بالقضاء أو الإشهاد، فهذا الملك عرضةُ النقض في حق (1) المشتري لو استأخر حقُّه، كما قدمناه.
والشفيع بنفسه (2 إن أراد أن ينقضه، فقد حكى شيخي أنه لا ينقضه 2) ، وذكره صاحب التقريب أيضاً.
والذي يدل عليه كلام الأصحاب أن الشفيع في نفسه بالخيار في الإعراض وترك الحق بعد الطلب، وإنما يتأكد حقُّه تأكداً لا يملك النقض، إذا أدى الثمن، أو رضي المشتري، فحصل منه القبول، ولسنا نعني القبولَ الذي يعارض الإيجاب؛ فإنا لا نشترط إيجاباً من المشتري، حتى يقابل بالقبول، ولكن يقابل الرضا بالرضا.
ولو بدت منه مخيلةُ الرضا في مقابلة رضا المشتري، كفى ذلك، فإذا لم يوجد هذا، ولا بذل الثمن، فالشفيع بالخيار بين الإضراب وبين التمادي على الحق.
وممَّا ذكره صاحب التقريب أن قال: إذا أشهد الشفيع على الطلب، لم ينفذ بعد ذلك بيعُ المشتري وتصرفُه، وادعى الوفاق فيه. وهذا فيه نظر، فالوجه أن نقول: إن حكمنا بحصول الملك للشفيع، لم ينفذ تصرف المشتري، وإن لم نحكم بحصول الملك، ففي نفوذ تصرف المشتري تردد، لمكان تأكد الشفعة بالطلب، فقد يبعد أن نأمر الشفيع بالإقبال على تحصيل (3) الثمن، ونُسلِّط المشتري على البيع. والأظهر نفوذ تصرف المشتري إذا لم يحصل الملك للشفيع، ثم للشفيع نقض تصرف المشتري.
وسيأتي بيان شافٍ في تصرف المشتري وتفصيل القول في نقضه.
وقد انتهى الكلام في ملك الشفيع، وما يوجبه على أبلغ وجه في البيان.
__________
(1) المعنى لحق المشتري.
(2) ما بين القوسين سقط من: (هـ3) .
(3) في (ت 2) ، (ي) ، (هـ3) : "على طلب الثمن".(7/336)
4729- وقد حان الآن أن نتكلم في حكم ملكه الحاصل، فنقول: إن قبض الشقص، وجرى ملكه فيه، فتصرفاته نافذة فيما قبضه.
وإن وفر الثمن، ولم يقبض الشقصَ من المشتري، ففي نفوذ تصرفه فيه قبل القبض وجهان، ذكرهما صاحب التقريب، وغيره من أئمة المذهب: أحدهما - أنه لا ينفذ فيه تصرفه. وهو مع المشتري كالمشتري مع البائع، فيما ينفذ ويُرد من التصرفات؛ والسبب فيه أن ملك الشفيع ترتب على ملك المشتري، كما ترتب ملك المشتري على ملك البائع.
والوجه الثاني - أنه ينفذ تصرف الشفيع؛ فإنا نثبت له الملك بناء قهراً، حتى كأن المشترَى ملكٌ له، ومساق هذا يقتضي تنفيذَ تصرفه، وهذا الخلاف فيه إذا حصل الملك بأداء الثمن.
فأمّا إذا قلنا: يحصل الملك بالقضاء أو الإشهاد، فلا يملك التصرفَ بلا خلافٍ فيه.
ولو حصل الملك برضا المشتري، فالظاهر عندي في ذلك امتناعُ تصرف الشفيع، إلى أن يتوفر عليه الثمن. وهذا إذا أثبتنا له حق الحبس.
وقد تبقّى علينا من الفصل بقية تتعلق بالعهدة الدائرة بين الشفيع والمشتري، وسيأتي الشرح عليه بعد ذلك، إن شاء الله عز وجل.
وهذا نجاز غرضنا من الفصل بما نحن فيه.
فصل
قال: "فإن اختلفا في الثمن، فالقول قول المشتري مع يمينه ... إلى آخره" (1) .
4730- نذكر وجوهاً من الاختلاف بين من يطلب الشفعة وبين المشتري، فنقول: إذا جاء طالباً للشفعة، فقال المشتري: لا ملك لك في الدار، ولا شِرْكَ، فإذا أنكر أصل الملك، فالقول قول المشتري، وعلى الشفيع البينة، ثم إن لم يجد الشفيع
__________
(1) ر. المختصر: 3/50.(7/337)
البينةَ، فكيف يحلف المشتري؟ قال الأصحاب: يحلف بالله لا يعلم له ملكاً، وقضَوْا بأنه لا يقع الاكتفاء بهذا، ونفيُ ملك الغير باليمين في هذا المقام ينزل منزلةَ نفي فعل الغير (1) ؛ من جهة أن المشتري ليس يدعي لنفسه ملكاًً في محل النزاع، وإنما يجزم المرءُ نفيَ ملك الغير إذا كان يدعيه لنفسه، مثل أن يدعي رجل أن الدار التي في يدك لي، فيحلفُ المدعى عليه على نفي ملك المدعي ويُسند يمينه إلى ثبوت الملك لنفسه. هذا وجهٌ من الاختلاف.
ولو أقر له بالملك، ولكنه أنكر الشراء، فقال: ما اشتريتُ الشقص الذي تبغيه، فالقول قوله مع يمينه الجازمة في نفي الشراء، وعلى الشفيع إقامة البينة إن وجدها على الشراء.
وإن أقر بالشرك، وأقر بالشراء، وادعى جهالة الثمن؛ فقد فصلنا القول في ذلك فيما سبق.
وإن اعترف بكل ما يدعيه الشفيع، وادعى عليه ما يُسقط الشفعة من تقصير في الطلب وغيره، فالقول قول الشفيع.
4731- وإن اختلف الشفيع والمشتري في مقدار الثمن، فادعى الشفيع أنه اشتراه بألفٍ، وقال المشتري: اشتريته بألفين، فإن كان لأحدهما بينة دون الثاني، حكم ببينته. وإن أقام كل واحد منهما بينةً على وفق قوله، فحكم البينتين إذا تعارضتا سيأتي في كتاب الشهادات. ولكن الوجه هاهنا التفريعُ على التَّهاترِ (2) ؛ فنجعل كأن البينتين لم تقوما، وسنذكر حكم ذلك في سياق الفصل، إن شاء الله تعالى.
وإن شهد البائع لأحدهما، فلا خلاف أنه لو شهد للمشتري، لم تقبل شهادته، سواء كان قبض الثمن، أو لم يقبضه؛ لأنه لو شهد، كانت شهادته متضمنة أمراً باشره، وصدر منه، مع من باشر ذلك الأمرَ معه. وهذا يناقض وضع الشهادة، ولا فرق بين أن يشهد قبل قبض الثمن أو بعده؛ فإن صيغة الشهادة خارجة عن القاعدة.
__________
(1) ومعلوم أنه لا يجوز الحلف على نفي فعل الغير، وإنما يحلف على عدم علمه به.
(2) التهاتُر: الشهادات التي يكذب بعضها بعضاً.(7/338)
ولو شهد البائع للشفيع، فمن أصحابنا من قال: لا تسمع شهادته؛ لأنه شهد على فعل نفسه. ومنهم من قال: إن شهد قبل قبض الثمن، تسمع؛ لأنه يقابل ما يطالِب به المشتري، ولا ينسب إلى التهمة. وإن شهد بعد قبض الثمن، لم تسمع؛ لأنه يقابل العهدةَ، وما يثبت للمشتري الرجوع به في تفاصيل [العهدة] (1) ، فتمكنت التهمة فيه.
وإن لم يُقم بينةً، فالقول قول المشتري مع يمينه. وليس الشفيع مع المشتري بمثابة المتبايعين يختلفان في مقدار الثمن، ويتحالفانِ، والفرق أن المتبايعين اعترفا [بثبوت] (3) الملك للمشتري، ثم تداعيا، فاشتمل كلام كل واحدٍ منهما على شيئين، هو في أحدهما مدعٍ، وفي الثاني مُدّعىً عليه، وليس أحدهما أولى من الآخر، وكل واحد منهم تولى أحد طرفي العقد، واستوى القولان في الاحتمال، فكان التحالف لذلك.
وفي مسألتنا لم يقع الوفاق على حصول الملك للشفيع، ولم يتول الشفيع أحد شقي العقد، وإنما تولاه المشتري، فجعلنا القول قوله؛ لأنه أعلم بما تولاّه، والشفيع يدّعي لنفسه حق تملكٍ بدون ما ذكره المشتري وأبداه، فكان القول قولَ المشتري، بخلاف ما ذكرناه في المتبايعين.
فصل
قال: "وإن اشتراها بسلعة ... إلى آخره" (4) .
4732- إذا كان الثمن سلعة، أخذ الشفيع الشقص بقيمة السلعة، فالاعتبار (5) بيوم العقد، كما تقدم.
__________
(1) في الأصل: العهد.
(2) (ت 2) ، (ي) ، (هـ 3) : منه.
(3) في الأصل: بوقوع.
(4) ر. المختصر: 3/50.
(5) كذا في جميع النسخ (بالفاء) ، ولا محل لها؛ فإن جواب الشرط هو: أخذ ... فالواو هنا أولى.(7/339)
وذهب ابن أبي ليلى إلى أن الشفيع يأخذ بقيمة الشقص، ووافق أن الثمن إذا كان مثلياً يؤخذ الشقصُ بالمثل.
وعماد المذهب أن الشفيع أحَلَّه الشرعُ محل المشتري إن أراد التملك فيما يتصور أن يحل فيه محله، فإن كان الثمن من النقود، أو من ذوات الأمثال، أخذ الشفيع الشقص بمثل الثمن المسمَّى، ولا يتصوّر منه أخذُه بعين المسمَّى؛ فإن الثمن المسمى في العقد خرج من ملك المشتري إلى البائع، فقدر الشرع في تملك الشفيع ثمناً يضاهي ثمنَ الشراء، وقَرَّبَ القول في التقدير والتمثيل على أقصى الإمكان. وهذا ينافي الأخذَ بقيمة الشقص؛ إذْ لو فرض الأخذ بها، لكان ذلك إضراباً عن إيقاع الملك بالشراء للشفيع. ولهذا قلنا: إذا وهب الشريك الشقص من إنسانٍ، فلا شفعة؛ إذ لا عوض، ولا سبيل إلى الأخذ بقيمة الشقص؛ فإنه لو اشترى المشتري بمتقوم، أخذ الشفيع بقيمة ذلك، لا بقيمة الشقص.
ثم الفقه الواقع فيه أن الشريك لا غرض له في البيع من أجنبي، ولو باعه من شريكه، لحصل مقصودُه من الثمن، [ولانْدفع] (1) عن الشريك الضرار، كما تقدم.
فإذا باعه من غيره -وقد ندبه الشرع إلى عَرْضه على شريكه- راغم الشرعُ مقصوده، وصرف البيع إلى الشريك.
وإذا وهب من إنسانٍ وقصد التقرب إليه والامتنان عليه، فربما لا يبغي أن يسلك هذا المسلك مع غيره؛ فإن الأغراض تختلف في المنح والهبات باختلاف الأشخاص، فأعظم داعيةٍ إلى الهبة صفةُ المتهب، وليس كذلك الشراء؛ فإن الداعية إليه تحصيل العوض، والغرض (2) في هذا لا يتفاوت.
وقد بان أنّ الشقص لا يؤخذ بقيمته، ولا سبيل إلى مخالفة الواهب بصرف هبته إلى غير قصده وجهته، واقتضى مجموع ذلك سقوط الشفعة في الموهوب.
__________
(1) في الأصل: ولا يدفع، (ت 2) ، (ي) ، هـ 3: ولا يندفع عن الشريك بالضرار.
(2) (ي) : العوض.(7/340)
فصل
قال: "أو تزوّج بها، فهي للشفيع بقيمة المهر ... إلى آخره" (1) .
4733- إذا أصدق امرأته شقصاً في مثله الشفعة، استحقه الشفيع عندنا بقيمة مقابله، وهو البضع، وقيمته مهرُ المثل، خلافاً لأبي حنيفة (2) ، ولو اختلعت المرأة نفسها بشقصٍ، أخذه الشفيع بقيمة البُضع. ولو وقعت مصالحة عن قصاصٍ بشقصٍ، أخذه الشفيع بالدِّية، والبدل المالي لذلك الدَّم، ولو أثبت الشقص أجرةً في الإجارة، أخذه الشفيع بقيمة المنافع، وهي أجرة المثل.
وأبو حنيفة لم يثبت الشفعة في هذه المسائل أصلاً، وتخيل في الصداق، وبدلِ الخلع، والصلح عن الدم أن الشقص لم يثبت في معاوضاتٍ حقيقية، وما ذكره في الإجارة بعيدٌ جداً عن قياس مذهبه؛ فإن الأجرة في الإجارة عِوضٌ على التحقيق، وامتنع عنده ثبوت العبد الموصوف (3) ، والوصيف المطلق أجرة، كما يمتنع ذلك في البياعات، بخلاف المسائل الثلاث، ووافق أنه لو أصدق امرأته دراهم، ثمَّ اعتاضت عنها شقصاً، فالشفيع يستحق الشقص بمثل الصداق إن كان مثلياً.
ثم إذا ثبت الشقصُ صداقاً، وتعلق حقُّ الشفيع به، فلو طلقها زوجها قبل المسيس، فالطلاق يتضمن تشطُّرَ الصّداق، فقال الأصحاب: لو طلق الزوج، وارتد إليه شطر الصّداق، ولم يكن إذ ذاك شفيع حاضر يطلب، فأخذ الزوج النصف، ثم جاء الشفيع طالباً؛ فإنه لا يتبع ما أخذه الزوج، وإنما يتعلق بما بقي في يد المرأة، فيأخذ بنصف مهر المثل.
ولو جاء الشفيع طالباً، وفُرض طلاق الزوج مع قيام طلب الشفيع، فهذا موضع تردد الأئمة. قال أبو إسحاق المروزي: الزوج أولى بنصف الصَّداق. وقال ابن
__________
(1) ر. المختصر: 3/50. وفيه: وإن تزوج بها.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 124، مختصر اختلاف العلماء: 4/244 مسألة: 1954، وانظر أيضاً: الاصطلام: 4/171.
(3) (ي) : الموهوب.(7/341)
الحداد في مسألة تناظر هذه، وهي إذا أفلس المشتري، فأراد البائع الرجوع في الشقص بعذر الفلس في الشقص وأراد الشفيع الأخذ بالشفعة، قال: الشفيع أولى؛ فمساق ما قاله ابن الحداد في مسألة الإفلاس أن الشفيع في مسألة الصداق أولى من الزوج، ومساق ما قاله المروزي أن البائع في مسألة الإفلاس أولى، فنقل الأصحابُ كل جواب من الإمامين إلى جوابِ الآخر، وخرّجوهما على وجهين: أحدهما - الشفيع أولى في مسألة الصداق والإفلاس؛ لأن حق الشفيع أسبق؛ فإنه ثبت قبل التطليق المشطِّر، وكذلك ثبت قبل طريان الفلس واطراد الحجر، هذا أحد الجوابين. والجوابُ الثاني - أن الزوج أولى بالشطر، والبائع أولى بالرجوع إلى عين المبيع؛ لأنهما يرجعان بسبب ملكٍ لهما سابق متقدمٍ، على حق الشفيع؛ فإن قلنا في مسألة الإفلاس: الشفيع أولى، فيأخذ الشقص، ويبذل الثمن.
ثم اختلف أصحابنا في ذلك الثمن: فمنهم من قال: هو مصروف إلى البائع يختص به من بين سائر الغرماء؛ فإنه ثمن المبيع الذي له فيه حق الرجوع لولا الشفيع.
ومن أصحابنا من قال: الثمن مصروف إلى الغرماء، والبائع أُسوتهم؛ فإنه إن لم يرجع في عين المبيع، فتخصيصه بالثمن محالٌ. وهذا اختيار ابن الحداد.
4734- ومما يتعلق بالقبيل الذي نحن فيه أن من اشترى شقصاً مشفوعاً، واطلع على عيبٍ به، فأراد رده، فقال الشفيع: لا ترده فإني رضيتُ به معيباً، ففي المسألة قولان: أحدهما - أن الشفيع أولى؛ فإن حق شفعته متأكّد متقدّم على اطّلاع المشتري على العيب، وهو أيضاً يُحصِّل غرضَ المشتري، فيرد عليه مثلَ ثمنه، أو قيمتَه، إن كان من ذوات القيم؛ فلا معنى لإبطال حق الشفيع.
والقول الثاني - أن الرد ينفذ، والمشتري أولى به من الشفيع بالأخذ؛ والسَّبب فيه أن حق الشفعة إنما يثبت لو سلِم العقدُ عن الرد، فإذا لم يستقر العقدُ، عاد الأمر إلى ما كان عليه قبل العقد، وجُعل كأنّ العقدَ لم يجرِ، وأيضاً ربّما يكون للمشتري غرض في استرداد عين ماله الذي جعله عوضاًً، وإذا منعناهُ من الرد؛ فاته هذا الغرض.
4735- ومما يتفرع في ذلك أن المشتري لو رد بالعيب في غيبة الشفيع، نفذنا الردّ(7/342)
في الحال، وإذا جاء الشفيع بعد جريان الرد، فهذا يتفرع على أنه لو اجتمع طلبُه، مع همّ المشتري، فمن المقدم منهما؟ فإن قلنا: المشتري مقدم، لحق الرد، فإذا نفذ الردّ، فلا مستدرك. وإن قلنا: حق الشفيع مقدم، فإذا جرى الرد، ثم جاء الشفيع، ففي المسألة وجهان: أحدهما - لا شفعة؛ فإنها فاتت بجريان الردّ وتقدمه. والوجه الثاني - له حق الشفعة. وهذا القائل يقول: الرد مردود، والشفعة تترتب على الملك السّابق، ويُجعل كأن الرد لم يجر.
وهذا فيه ضعف؛ من جهة أن الفسخ لا يفسخ.
وكان شيخي يقول: إذا أثبتنا حق الشفعة في هذه الحالة، تبيّنا بطلانَ الردّ؛ لأنه صادف حقاً مقدّماً عليه. ولا نقول: ينفذ الرَّد، ثم يُرد.
فرجع حاصل القول إلى وجهين في الأصل: أحدهما - أن الشفعة بطلت بالرّد، والثاني - أنها لم تبطل.
فإذا قلنا: إنها بطلت، فلا كلام. وإن حكمنا بأنها لم تبطل، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن الرد يُرد. والثاني - أنا نتبين فساد الرد من أصله، ويجعل كأنه لم يجر. وقد قدمنا أن الزوج إذا طلق زوجته قبل المسيس، وكان الصداق شقصاً، وجرى ذلك قبل طلب الشفيع الشفعة، وحكمنا بتشطير الصَّداق، فإذا جاء الشفيع يطلب، فقد قدَّمنا أن ما ارتد إلى الزوج لا ينتزع من يده.
وكان يقول رضي الله عنه: إذا رددنا الرّد على بعد [القول] (1) بفسخ الفسخ، فاسترجاع ما ارتد إلى الزوج أولى.
وبالجملة اختلف أئمتنا، فذهب ذاهبون منهم إلى تنزيل ما ارتد إلى الزوج من الصَّداق بالطلاق قبل المسيس، منزلة ما لو جرى الرد قبل طلب الشفيع؛ فيخرّج على وجهين: أحدهما - أن الشطر منتزع من يد الزوج، ورجوعُه إلى قيمة الصداق.
والثاني- أنه لا ينتزع من يده، ويأخذ الشفيع ما بقي في يد المرأة من الشقص، بحصته من مهر المثل. هذه طريقة.
ومن أئمتنا من قطع في الطلاق بأن ما رجع إلى الزوج لا يسترد منه، وجهاًً واحداً؛
__________
(1) في الأصل: القرن.(7/343)
لأن الطلاق هو الموجب للتشطر، والطلاق لا مردّ له، وشطر الصداق يرتد من غير اختيار، فبعد نقض حكم التشطير فيه.
والأصح عندنا التسويةُ بين طلب الشفعة بعد الطلاق، وبين طلبها بعد جريان الرد؛ فإن القول كما اختلف في اجتماع طلب الشفيع والقصد بالردّ كذلك اختلف القول فيه إذا انضم طلب الشفعة إلى تطليق الزوج قبل المسيس، فإذا اتفقا في الابتداء، فإن لم يكن للطلاق مرد، وجب أن يتفقا في طريان طلب الشفعة.
4736- وممَّا يتصل بذلك تفصيل الإقالة، فإذا اشترى شقصاً، ثم فرض جريان الإقالة، نظر: فإن لم يكن عفا الشفيع عن الشفعة، وجرت الإقالة، نُفرّع ما نقوله على القولين في أن الإقالة فسخٌ أو بيع؟ فإن جعلنا الإقالة بيعاً، فالشفعة لا تبطل، والشفيع بالخيار إن شاء نقض الإقالة؛ حتى يرتد الشقص إلى ملك المشتري، فيأخذه بالشفعة منه.
وإن قلنا: الإقالةُ فسخ، فهذا طلب شفعة ترتب على جريان فسخ، فيلتحق هذا بما ذكرناه في طلب الشفعة بعد جريان الردّ بالعيب. وما ذكرناه فيه إذا كان الشفيع على طلب شفعته، وما كان عفا.
فأما إذا عفا الشفيع عن الشفعة، ثم جرت الإقالة من بعدُ، فإن قلنا: الإقالة بيعٌ، فللشفيع أخذ الشفعة من البائع الأول؛ فإنه بالاستقالة (1) صار مشترياً. فإن قلنا: الإقالة فسخ، لم يتجدد حق الشفيع؛ فإن الفسخ لا يُثبت حقَّ الشفعة. وإن كان يشتمل على تراد في العوضين. وهذا مما اتفق عليه الأصحاب.
فصل
قال: "وإن اشتراها بثمنٍ إلى أجل ... إلى آخره" (2) .
4737- إذا اشترى الرجل شقصاً بثمن مؤجلٍ، فالذي نص عليه الشافعي في الجديد، وهو ظاهر المذهب، ولم يحك الصيدلاني وشيخي غيرَه أنّا نقول للشفيع:
__________
(1) في (ت 2) : "الإقالة".
(2) ر. المختصر: 3/51.(7/344)
إن شئت عجل الثمنَ للمشتري، وتعجل حقك من الشفعة. وإن شئت، فاضرب عن الطلب حتى يحل الأجل.
ونص الشافعي فيما رواه حرملةُ على أن للشفيع أن يأخذ الشقص بالثمن المؤجل، وحكم ذلك أن يأخذ المبيع من المشتري في الحال، ويكون الثمن للمشتري في ذمة الشفيع، كما أن الثمن للبائع في ذمة المشتري.
وحكى أبو العباس بن سُريج عن كتاب (الشروط) (1) أن الشفيعَ يأخذ الشقص بعَرْضٍ يساوي مقدارَ الثمن مؤجلاً بأجله.
وهذا في ظاهر الأمر فيه إنصاف؛ فإنا لو كلفناه ألفاً حالاً، كان ذلك تفاوتاً في المالية بيّناً. ولو قلنا: عجل بعضَ الثمن ونكتفي به، مصيراً منا إلى أن البعض الحال يقوم مقام الألف المؤجّل، كان ذلك مقابلةَ ألفٍ مؤجلٍ بستمائة حال، وهذا صورة الربا. فإذا قدرنا عرضاً قيمته الألف المؤجل، لم يؤد هذا التقدير إلى الربا، وكان رعايةَ الانتصاف في الحقوق المالية.
هذا بيان الأقوال.
وقال مالك (2) رحمه الله: إن كان الشفيع ملياً، ثقةً، سلمنا إليه الشقصَ بالثمن المؤجل، وإن لم يكن ملياً، وأعطانا كفيلاً ملياً، سلمنا إليه الشقص أيضاً بالثمن المؤجل، وإن لم يكن ملياً ولم يجد كفيلاً، لم نسلم إليه الشقص.
4738- ونحن الآن نوجه الأقوال، ثم نفرع عليها،: فأما وجه قوله الجديد، فعماده أن البائع إن رضي بذمة المشتري ووثق بأمانته، فالمشتري لا يلزمه أن يرضى
__________
(1) كتاب (الشروط) . لم يبين إمام الحرمين من هو صاحب كتاب الشروط، وتركنا نبحث عن كل من له كتاب في الشروط، من رجال المذهب السابقين لابن سريج، حتى ترجح لدينا أنه كتاب الشروط للمزني، ثم وجدنا الرافعي يقول: "عامة الأصحاب ذكروا أن ابن سريج نقله عن الشافعي رضي الله عنه من كتاب الشروط. والمفهوم من إيراده أنه نص عليه فيه. وقال الشيخ أبو علي: إن ابن سريج خرجه من قول الشافعي في كتاب الشروط: إنه يجوز بيع الدين، فقال: يقوّم الدين المؤجل بعرض، ويأخذه الشفيع به" ا. هـ بنصه من فتح العزيز: 11/450. قلتُ: فكأن ابن سريج نقله نصاً للشافعي، أو مخرجاً من معاني كلامه. عن كتاب الشروط للمزني.
(2) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/635 مسألة 1096، جواهر الإكليل: 2/58.(7/345)
بذمة الشفيع، وإن كلفناه أن يسلم الشقص، ويعوّل على ذمّة المشتري، فقد ألزمناه أمراً مخطراً؛ فنقول: إن رددت الشقص، فعجّل؛ فإن المؤجل يصح تعجيله، وإن لم ترُد الشقصَ، فانتظر حلول الأجل، فاجتمع إذن مراعاة حق المشتري واستدامة حق الشفيع.
ومن قال: نُسلِّم الشقصَ المبيع إلى الشفيع بالثمن المؤجل، احتج بأن الشفيع ينزل منزلة المشتري في تملك الشقص، ومقدارِ الثمن، وكل ما تتصور المساواة فيه تقريباً؛ فينبغي أن يحل محله في الأخذ عاجلاً بالثمن المؤجّل.
ومن نصر القول الثالث، فاحتجاجه ما ذكرناه في بيان القول (1) الأول، من اعتبار الإنصاف، واجتناب صور الربا. وإذا كنَّا نُقيم قيمةَ الثمن إذا كان سلعة مقام السلعة، فلا يبعد أن نقيم سلعة مقام الثمن، مع التقريب في الغرض المالي، إذا كان ينتظم ذلك في المقاصد.
هذا بيان توجيه الأقوال.
التفريع:
4739- من قال بالقول الجديد، وهو ظاهر المذهب، فوّض الأمرَ إلى الشفيع، كما مضى، وجوز له أن يعجل ويتعجل، وأن ينتظر (2) حلول الأجل، ويترك الشقص في يد المشتري.
ويتفرع على هذا القول ثلاثةُ أشياء: أحدها - أنا إذا فرعنا على قول الفور، فقد اختلف أئمتنا في أنا هل نوجب أن يُشعر الشفيعُ بأنه على الطلب، ثم يؤخر إن أراد التأخير؟ فمن أئمتنا من قال: لا يجب ذلك، ولا فائدة فيه، فإذا جوزنا له التأخير إلى حلول الأجل، جوزنا له السكوت عن الطلب إلى ذلك الوقت.
ومن أصحابنا من قال: لا بُدّ من الإشعار بالطلب، كما فرعنا على قول الفور.
ثم إذا أكّد الشفعة بالطلب، كان تأخير أداء الثمن إلى منتهى الأجل بمثابة تأخر أداء الثمن الحالّ (3) إلى أوقاتٍ [يتيسّر] (4) أداؤه فيها عادة، مع العلم بأن تأخير الطلب إلى تلك الأوقات مبطل لحق الشفعة.
__________
(1) (ت 2) ، (ي) : في بيان ذلك القول من اعتبار....
(2) في (ت 2) ، (ي) ، (هـ3) : "وينتظر" بدون (أن) .
(3) ساقطة من كل النسخ، عدا الأصل.
(4) في الأصل: "يتبين" وفي (ت 2) : يتأخر.(7/346)
فهذا أحد الأشياء الثلاثة.
والثاني - أن المشتري إذا مات، وحل الأجل عليه بموته، فالأمر موسع على الشفيع في تأخير أداء الثمن كما قدمناه في حالة الحياة، والسبب فيه أنه وإن كان يتلقى من جهة المشتري، فهو مُباين له في المرتبة. وقد ذكرنا أن من ضمن ديناً مؤجلاً على صفة التأجيل، ثم مات المضمون عنه، وقُضي بحلول الدين، وانقطاع الأجل، فلا يحل الدين على الضامن بسبب حلوله على المضمون عنه.
والأمر الثالث - أن الشفيع لو مات بنفسه، فوارثه يقوم مقامه في استحقاق الشفعة، ثم لا يقضى أنه يحل عليه الثمن؛ [إذ] (1) لم يكن عليه أجل حقيقي، ولم يكن الثمن ديناًً في ذمته حتى يفرض حلوله بموته، لكن كان ثبت له حق الشفعة على وجهٍ، فيثبت ذلك الحق على ذلك الوجه لوارثه. ذكره الصيدلاني وغيره من المحققين. وهو ممّا لا يشك فيه.
هذا تمام التفريع على القول الجديد.
4740- فأمّا التفريع على القول الذي رواه حرملة، فإنا نرى هذا قولاً قديماً، فإنه في الأصل يضاهي مذهب مالك، ثم اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: نعتبر ما اعتبره مالك من كون الشفيع ملياً موثوقاً به في ظاهر الحال؛ فإن لم يكن، اشترطنا أن يقيم كفيلاً ملياً وفياً، فإذ ذاك نوجب على المشتري تسليمَ الشقص، وتركَ الثمن في ذمة المشتري. وإن لم يتحقق ذلك في المشتري، ولم يأت بكفيلٍ، لم نسلم إليه الشقص. وهذا هو الذي حكاه الشيخ أبو علي في تفريع هذا القول في مذهبنا. فكأنَّه إذاً مذهبُ مالكٍ.
ومن أصحابنا من لم يشترط ملاءةَ الشفيع، ولا الإتيانَ بكفيل، وأحل الشفيع محل المشتري، وأوجب تسليم الشقص إليه عاجلاً؛ تنزيلاً له منزلة المشتري، من غير نظر إلى صفته، وهذا فيه بُعد وإجحاف بالمشترى. وإن كان يميل إلى طرفٍ من القياس بعض الميل. وقد حكاه موثوقٌ به عن القاضي.
__________
(1) في الأصل، و (ت 2) ، (هـ 3) : إذا.(7/347)
ثم يتفرع على هذا القول أن المشتري لو مات، وحل عليه الأجل، لم يحلّ على الشفيع، كما ذكرناه في الضامن والمضمون عنه. ولكن لو مات الشفيع، وجب القضاء بحلول الثمن عليه؛ فإن الأجل [تأصّل] (1) في حقه، بدليل استئخار الشقص، وأخذه عاجلاً. وإذا أخذ الشقص وملكه، استقر الثمن في ذمته.
فليتنبه المفرع لذلك، وليفصل بين ثبوت حقيقة الأجل على هذا القول، وبين ثبوت فسخه على القول الجديد. [و] (2) ليست من حقيقة الأجل في شيء، ولذلك لا يتعجل الشفيع على الجديد أخذَ الشقص، فلا جرم لم يكن للحكم بالحلول على الشفيع معنى إذا مات قبل حلول الأجل.
ولو فرض في ذلك القول أخذُ الشقص، لكان يتعين أن يعجل الثمن في حياته.
ومما نفرعه أنا إذا أحللنا الشفيعَ محل المشتري في الأجل على قول حرملة، وفرعنا على قول الفور، وجب على الشفيع البدار إلى الطلب؛ فإن الشقص معجل له، حتى إذا أخر، كان مقصراً، ويُقضى بسقوط حقه. وليس هذا كالتفريع على الجديد؛ فإن تلك الفسحة تثبت في أخذ الشقص، حتى كأنها أجل في الشقص. فليفهم الناظر ذلك.
4741- فأما (3) إذا فرعنا على القول (4) الثالث، [فتعيين] (5) العَرْض إلى الشفيع، وتعديل القيمة إلى من يعرفها، فنعتبر مبلغ الثمن مؤجلاً، ثم نقيس به ثمناً حالاً، ونراجع في المقدارين المقومين، ونقول: ما يساوي ألفاً إلى سنةٍ، بكم يُشترى نقداً؟ فيقال: بخمسمائة، فنكلف الشفيع أن يأتي بسلعة تساوي خمسمائة عاجلة، وهذا قد قدمناه في تصوير القول. فلو لم يتفق طلبُ الشفعة حتى حل الأجل، فالمشتري مطالب بالألفِ، والشفيع يجب أن لا يطالَب إلا بالسلعة المعدّلة التي ذكرناها؛ فإنّ لاعتبار في قيمة عوض الشراء، بحالة العقد، فكأن المشتري لما اشترى بألفٍ
__________
(1) في الأصل وحدها: تأجل.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) (ت 2) : فإنا.
(4) القول الثالث هو ما حكاه ابن سُريج عن كتاب الشروط، وهو أن يأخذ الشفيع الشقص بعرْضٍ يساوي مقدار الثمن مؤجلاً بأجله.
(5) في الأصل: فتعين.(7/348)
مؤجّل، اشترى بخمسمائةٍ حالةٍ، فالاعتبار إذاً بحالة العقد. ولهذا قلنا: إن ثمن العقد إذا كان متقوماً، فالاعتبار في مبلغ قيمته بحالة العقد. فإن قيل: إذا فرعتم على القول الجديد، فهل تنفذون تصرفات المشتري في مدة الأجل في الشقص؟ قلنا: نعم. ولا يملك الشفيع نقضَها مادام الأجل، إلا أن يعجل الثمن. ثم إذا تصرم الأجل، يتبع التصرفاتِ بالنقض.
فقد نجز ما أردناه في هذا الفصل.
فصل
قال: "ولو ورثه رجلان، فمات أحدهما، وله ابنان ... إلى آخره" (1) .
4742- الذي نراه أن نقدم على هذا الفصل أصلاً مقصوداً في كتاب الشفعة، وهو أنّه إذا ازدحم شفيعان فصاعداً على المبيع المشفوع، وكانا مختلفين في مقدار الملك في الشركة، فالشفعة مقسومة على الرؤوس بالسوية، أم هي مقسومة على مقدار الحصص في أملاك الشفعاء؟ فعلى قولين: أحدهما - وهو المنصوص عليه في الجديد أن القسمة على أقدارِ الحصص، وبيان ذلك بالتصوير أن الدار إذا كانت مشتركة بين ثلاثة، لواحد نصفها، ولآخر ثلثها، ولآخر سدسها، فإذا باع مالك النصف نصيبه، وهو النصف، فهو مقسوم على الجديد بين صاحب السدس والثلث أثلاثاً على الملكين.
والقول الثاني - وهو المنصوص عليه في القديم أن القسمة تقع على رؤوسهم بالسوية، فيأخذ كل واحد منهما نصفَ الشقص المبيع، وهو ربع الدار، وهذا مذهب أبي حنيفة (2) ، واختيار المزني، وتوجيه القولين قد استقصيناه في [كتاب] (3) الأساليب والغنية، وليس يتعلق بذكرهما ضبطٌ مذهبي، فنعيده.
ولو انفرد الشفيع، واستحق الشفعةَ، ومات من غير تفريطٍ قبل اتفاق أَخْذ
__________
(1) ر. المختصر: 3/51.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 121، مختصر اختلاف العلماء: 4/248 مسألة 1965.
(3) زيادة من (ت 2) . وهما كتابان للإمام في علم الخلاف.(7/349)
الشقص، وخلف ابناً وبنتاً، فحقُّ الشفعة موروث، كما سنذكره بعد ذلك.
ثم اختلف أصحابنا على طريقين، في تخريج القولين في قسمة الشفعة، فصار صائرون إلى أن القولين يخرجان في الابن والابنة، وإن تفاوتا في استحقاق نصيب الشفيع، وشِرْكه القديم. ففي قولٍ نسوي بينهما في الشقص المشفوع. وفي قولٍ يوزع على مقدار ملكيْهما في الشرك القديم.
ومن أصحابنا من قطع القولَ بأن الشفعة في حق الوارثين مقسومةٌ على اختلاف الملكين؛ فإنها موروثة، والإرث يقتضي التفاوت.
وحقيقة هذا الاختلاف للأصحاب ستأتي واضحة، إن شاء الله تعالى، في الفصل الذي نذكر فيه توريث الشفعة.
4743- فإذا وضح هذا الذي ذكرناه، عدنا بعده إلى بيان مضمون الفصل.
فإذا مات الرجل، وله دار، وخلف ابنين، ثم مات أحدهما عن ابنين، وانصرفت حصته من الدار إليهما، ثم باع أحد الحافدين نصيبه من الدار، فأخوه أولى بالشفعة، أو يشاركه العم فيه؟ فعلى قولين: أحدهما -وهو المنصوص عليه في القديم- أن الأخ أولى؛ لأنهما اختصا بوراثة أبيهما دون العم، وانحازا عنه بحيازة الميراث، فإذا تصرف أحدهما تعلق حكم تصرفه بأخيه، ولم يتعدَّه، كما اختص الإرث بهما دون العم. وهذا لست أرى له [وجهاًً] (1) أصلاً. ولست أصفه بالضعف، فأكون حاكماً باتجاهه على بعد، ولكن لا أصل له في القياس.
والقول الثاني -وهو المنصوص عليه في الجديد- أن العم يشارك في الشفعة؛ فإنه شريك، والشفعة نيطت بالشركة، وهو مساوٍ للأخ في الشركة الشائعة؛ فوجب أن يساويه في استحقاق الشفعة.
ثم قال الأصحاب: القولان لا يختصان بالوراثة، بل لو اشترى شخصان داراً، ثم باع أحدهما نصيبه من شخصين، أو وهبه منهما، واستقر ملكهما، ثم باع أحدهما نصيبه، فالشفعة تختص بمن كان شريكاً له في الدرجة الأولى، أو يشاركه الشريك
__________
(1) زيادة من: (ت 2) ، (ي) ، (هـ 3) .(7/350)
الأصلي في الدار، وهو شريك البائع؟ فعلى هذين القولين.
4744- ولو كانت الدار بين ثلاثة، فباع واحد منهم نصيبه من شخصٍ، أو وهبه منه، واستقر ملكه، ثم باع أحد الأصلين الباقيين نصيبه، فالشفعة تثبت للشريك الأصلي القديم أو يشاركه الشريك الحادث فيه، يعني المتهب، فعلى هذين القولين؛ فإن بين القديمين تواصلاً، واختصاصاً قديماً، ليس ذلك للحادث. فكما لا يتعدى تصرفُ المحدثين في الشركة إلى القدماء على القول القديم، فكذلك لا يتعدى تصرف القدماء إلى الحادثين، إذا كان في الجهة القديمة شريكان فصاعداً.
ثم إذا وقع التفريع على القديم، فلا شك أن الحافدين (1) في الصورة الأولى لو باعا جميعاً ما يملكان، فالشفعة تثبت للعم، وإنما يقدم أحد الأخوين على العم إذا باع أحد الحافدين، ووقع الكلام في تقديم الاخ، أو التشريك بينه وبين العم. وهذا واضح.
وكذلك إذا كان الشريك القديم واحداً، فباع ما يملكه، أو كان في المسألة شركاء متقدمون، فباعوا جميعاً حصصهم، فالشفعة تثبت للحادثين. وإنما الكلام فيه إذا باع بعض القدماء، وثبت شفيع قديم، وشريكٌ حادث؛ فإذ ذاك يجري القولان.
والذي يبين هذا الفصل أنا إذا فرضنا ابنين أولاً، ثم قدرنا موت أحدهما وتخليف ابنين. ثم باع أحد الأخوين الحافدين نصيبه، والتفريع على القديم، فالشفعة تثبت للأخ الذي لم يبع دون العم على القول القديم.
هذا حكم الحال.
فلو عفا ذلك الأخ عن الشفعة، فهل للعم أن يأخذ الشفعة؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا شفعة له؛ لأنه لو كان من أهل الشفعة، لما تقدم الأخ عليه؛ لأنه مساوٍ له في الشركة الشائعة، فلما تقدم الأخ عليه، عُلم أنه لا شفعة له؛ فإن التقديم والتأخير لا يثبت في قاعدة الشفعة. ولذلك استدل أصحابنا في إسقاط شفعة الجار بتقدم الشريك عليه، وقالوا: لما تُصوّر سقوط استحقاقه مع الشريك، دلَّ ذلك على أنه لا حق له أصلاً. هذا أحد الوجهين.
__________
(1) (ي) : الحادثين.(7/351)
والوجه الثاني - أن العم تثبت له الشفعة إذا عفا الأخ؛ لأنه شريك، ولكنا رأينا تقديم الأخ عليه؛ من جهة أنه أقرب، فإذا سقط حق الأقرب، وجب أن يستحق العم لوجود الملك، وأصلِ الشركة.
4745- وهذا يضاهي مذهب أبي حنيفة (1) في تقديم الشريك على الجار، وهو يناظر من صور الوفاق تقديمَ المرتهن على سائر الغرماء بالمرهون، فلو أسقط المرتهن حقه من الرهن، أو أبرأ عن الدين، صُرف المرهون إلى حقوق الغرماء، وكذلك إذا قتل رجل جماعة، وثبت القصاص عليه، فإذا كان قتلهم ترتيباً، فحق الاقتصاص لولي القتيل الأول، ولو عفا، فحق الاقتصاص لولي القتيل الثاني. وهكذا إلى انتهاء الأمر إلى ولي القتيل الأخير.
وحقيقة هذا الخلاف ترجع إلى أنا إذا قدمنا الأخ على العم، فهذا إسقاط للعم عن الاستحقاق أصلاً، أم ثبتت له الشفعة ولكنا نراه مزحوماً بالأخ؟ فيه الخلاف الذي ذكرناه.
وقد يجري مثل ما ذكرناه هاهنا في ازدحام الشفعاء إذا عفا بعضهم عن الشفعة؛ فإن الحق في ظاهر المذهب في جميع الشقص يثبت للباقين، وليس هذا حقاً متجدداً لهم، ولكن لكل واحد من الشفعاء حقُّ استحقاق جميع الشقص لو انفرد، فإذا كان مزحوماً بآخرين، لم يأخذ كل واحد إلا مقداراً، فمن عفا وخرج عن الاستحقاق، عاد الباقون إلى التقدير الذي ذكرناه. حتى لو عفا الجميع إلا واحداً، فهو يأخذ الشقص بأصل الاستحقاق، لا باستفادةٍ من جهة الشركاء. وسيأتي تقرير (2) ذلك في موضعه، إن شاء الله تعالى.
ثم ما ذكرناه في الأخوين والعم، وعفوِ الأخ يخرّج في كل صورة ذكرناها في قوله القديم، فإذا اشترى رجلان داراً، ثم وهب أحدهما نصيبه، من اثنين، ثم باع أحد المتهبين نصيبه، وفرعنا على أن صاحبه أولى بالشفعة من الشريك القديم، فعلى ما ذكرناه من خلاف الأصحاب.
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/239 مسألة: 1947، البدائع: 5/8.
(2) (ت 2) ، (ي) ، (هـ3) : تحقيق.(7/352)
4746- ومما فرعه ابن سريج على هذا الأصل أن من قال: لو مات رجل عن دارٍ وابنتين، وأختين، فللبنتين الثلثان، والباقي للأختين، وهو الثلث، فلو باعت إحدى البنتين نصيبها، والتفريع على القديم فالشفعة تثبت لمن؟ قال ابن سريج: يحتمل أن نقول: تختص بالشفعة البنت التي لم تبِع، ولا شفعة للأختين؛ من جهة أن البنتين كانتا مختصتين بجهة الإرث، ؤالحصة مضافة إليهما، فاقتضى ذلك اختصاصَ إحداهما بالشفعة إذا باعت إحداهما، وعدم تعلق الاستحقاق بالأختين، تفريعاً على القديم.
هذا احتمال أبداه ابن سريج في التفريع على القول القديم، ثم زيَّف هذا الوجهَ، وقال: يجب تشريك الأختين في الشفعة؛ لأن الوراثة تثبت لجميع الورثة دفعةً واحدة، والورثة مستوون، فلا معنى لتقديم بعض الجهات على البعض. وهذا الذي ذكره في بيع إحدى البنتين يجري في بيع إحدى الأختين، حتى يتردد الجواب تفريعاً على القديم في أن الشفعة تختص بالأخت أو تتعدى إلى البنتين. وهذا يجري في جملة أصناف الورثة، حتى إذا كان فيهم زوجاتٌ وبناتٌ، وأخوات، فباعت زوجة حصتها، ففي اختصاص الزوجات الكلامُ الذي ذكرناه.
والوجه تشريك جميع الورثة.
4747- ثم إذا وقع التفريع على القول الجديد، وهو المذهب المبتوت، وإن كنا نحكم بأن القديم مرجوع عنه، فهذا أوانه.
فإذا باع أحد الحافدين نصيبَه، وأثبتنا الشفعة لأخيه وعمّه، فللعم نصف الدار، وللأخ ربعها، والمبيع الربع، ففي كيفية القسمة على الأخ والعم كلامٌ يتعين التأنِّي فيه، في ترتيب المذهب. فإن جرينا على القياس، أرسلنا القولين في أن المبيع يقسم أثلاثاً بين العم والأخ، أو يقسم بالسوية بينهما. هذا طريق التفريع القياسي. وإن راعينا نظم المذهب، قطعنا بالقسمة على التفاوت، نظراً إلى الحصتين والشريكين؛ فإن القسمة على رؤوس الشفعاء في القول القديم. ونحن في القديم لا نثبت للعم الشفعةَ، وفي الجديد لا نرى القسمةَ على الرؤوس، فإذا فرعنا على تشريك العم في الشفعة، وهو الجديد، قطعنا النظر إلى الحصتين، وفاوتنا في المقدار أخذاً بالجديد، وأصحابنا يمنعون من بناء الجديد على القديم، والقديم على الجديد.(7/353)
وقد تقدم مراراً أن القول القديم لا ينبغي أن يعد من مذهب الشافعي؛ فإنه مرجوع عنه. فإن قيل: قد اختار المزني القولَ القديمَ، ورأى قسمةَ الشفعة على رؤوس الشفعاء، واحتج بقول الشافعي في مسألة العم، والأخ، ونقل فيه لفظَ الشافعي، فقال: قال الشافعي: "العم والأخ سواء في استحقاق الشفعة"، وفهم المزني من نص الشافعي القسمةَ على الرؤوس، وهذا تفريع القديم. وتشريك العم هو القول الجديد، قلنا: لا محمل لهذا في ترتيب المذهب إلا وجهان: أحدهما - أنه يحمل الاستواء على الاستواء في أصل الاستحقاق، لا على التساوي في المقدار. والثاني - أن نُقدر للشافعي قولاً في الجديد في أن الشفعة تقسم على الرؤوس لا على الأنصباء.
وهذا فيه نظر؛ فإنه لم يصح في الجديد القسمةُ على الرؤوس. ومهما (1) قطع الشافعي في الجديد فتواه، فالذي أراه موافقةُ المزني في أن ذلك رجوع منه عن ترديد القول.
فصل
قال: "ولورثة الشفيع أن يأخذوا ما كان يأخذ أبوهم ... إلى آخره" (2) .
4748- الشفعة موروثة عندنا على الجملة، فإذا مات الشفيع قبل اتفاق أخذ الشقص، ولم يقصّر، انتقلت الشفعةُ إلى الورثة.
وقال أبو حنيفة (3) : الشفعة لا تورث.
فنقول: إذا مات الشفيع وخلّف ابناً وبنتاً، وامرأة، وخلف الشقص الذي كان ملكه من الدار، وبه استحق الشفعة، فالشقص مقسوم بين الورثة، على أربعةٍ وعشرين للزوجة الثُّمن ثلاثة، والباقي بين الابن والبنت للذَّكر مثلُ حظ الأنثيين، فيخص البنتَ ثلث ما بقي، وهو سبعة، ويخص الابن أربعةَ عشرَ. وحق الشفعة ثابت لهم، ثم الشفعة تقسم على رؤوسهم، أو على حصصهم في الشِّرك القديم؟ فعلى
__________
(1) "مهما" بمعنى: (إذا) .
(2) ر. المختصر: 3/52.
(3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/248 مسألة: 1966، مختصر الطحاوي: 123.(7/354)
القولين والتفصيل المقدم. فمن أصحابنا من قطع بأن الشفعة مفضوضةٌ على نسب الحصص، ولم نر هذا من صور القولين، ومنهم من أجرى القولين. وحقيقةُ هذا الاختلاف تستند إلى حقيقة الفصل.
وقد اختلف الأئمة في أن الورثة يأخذون الشفعة لأنفسهم في الحقيقة، أم يأخذونها للموروث، ثم يخلفونه؟ وفي ذلك وجهان: فإن قلنا: إنهم يأخذونها لأنفسهم، جرى القولان في كيفية التقسيط. وإن قلنا: إنهم يأخذونها للميت تقديراً، ثم ينتقل المأخوذ إليهم إرثاً، فليس إلا القطع باعتبار الحصص.
4749- وممَّا نفرعه في هذا المنتهى أن واحداً من الورثة إذا عفا عن الشفعة،
فكيف يجري هذا التفريع؟ وهذا يستدعي رَمْزاً إلى أصلٍ سيأتي استقصاؤه، إن شاء الله. وهو أن من انفرد باستحقاق الشفعة إذا عفا عن بعض الشفعة، ففيه أوجه:
أحدها - أنه يبطل جميع حقه بالعفو عن البعض، كما لو عفا مستحق القصاص عن بعض حقه في القصاص؛ فإنه يسقط جميعُ القصاص، ولا يتصور بقاء شيء منه.
والثاني - لا يسقط بالعفو عن البعض شيء ويلغو العفوُ.
والثالث - أنه يسقط ما أسقط، ويَبقى ما أبقى.
وسيأتي ذلك على الاستقصاء، إن شاء الله تعالى.
فإذا عفا واحد من الورثة، نفرِع ذلك على الوجهين في أن الورثة يأخذون الشفعة لأنفسهم أم يأخذونها للميت؟
فإن قلنا: إنّهم يأخذون للميت، فإذا عفا واحدٌ منهم، سقط حق الباقين، ونزل منزلة ما لو عفا عن بعض حقه في حياته، ولو فعل ذلك، بطل حقه في الجميع، في ظاهر المذهب. وفيه خلاف، سنذكره في الفصل الذي يلي هذا الفصل.
وإن قلنا: إنّ الورثة يأخذون الشفعة، لأنفسهم، فإذا عفا واحد منهم، أخذ الباقون الشقصَ بكماله، وسقط حق العافي على ظاهر المذهب. وسنصف هذا بعد ذلك، إن شاء الله تعالى.
وغرضنا الآن أن نلحق عفوَ بعض الورثةِ في وجهٍ، بعفو الشفيع الواحد عن بعض(7/355)
حقه. ونلحقَ عفوَ بعض الورثة في وجهٍ بعفوِ واحدٍ من الشفعاء الذين استحقوا الشفعة لأنفسهم من غير وراثة. والتفصيل وراء ذلك بين أيدينا.
فصل
4750- إذا كان بين رجلين دارٌ مشتركة، لكل واحد نصفُها، فباع أحدهما عُشرَ نصيبه من إنسانٍ، ثم باع تسعة الأعشار بعد الصفقة الأولى من رجلٍ آخر، فقد قال أبو حنيفة (1) في هذه المسألة: للشريك الذي لم يبع أن يأخذ العشر الذي اشتملت عليه الصفقة الأولى، ثم الشريك القديم ومن اشترى العشر يشتركان في تسعة الأعشار؛ لأن بيع التسعة الأعشار جرى بعد ثبوت الملك في العشر لمشتريه، فاقتضى ذلك اشتراكهما في التسعة الأعشار. هذا مذهبُ أبي حنيفة.
فأما تفصيل مذهبنا، فحاصل ما ذكره الأئمة طريقان: منهم من قال: إن أراد الشريك القديم أخْذَ مضمون الصفقتين، كان له ذلك: العشر والتسعة الأعشار؛ فإن بيع المبلغين جرى وملك الشريك القديم سابق. وهؤلاء يخالفون مذهب أبي حنيفة، ويحتجون عليه بأن أخذ العشر المتلقى من الصفقة الأولى متفق عليه. وإذا أخذه الشريك القديم، استحال بعد زوال ملك المشتري أن يستحق الشفعة في التسعة الأعشار.
ولو عفا الشريك عن الشفعة في الصفقة الأولى وأراد أخذ التسعة الأعشار، فمشتري العشر قد استقر ملكه فيه، وجرى بيع التسعة بعد ملكه، فهل يزاحم الشريكَ القديم في العقد الثاني؟ فعلى وجهين: أصحهما - أنه يزاحمه؛ لأنّ ملكه في العشر قد تقرر، وكان متقدماً على الصفقة الثانية، وإذا كان صاحب العشر مع الشريك القديم شريكين عند العقد الثاني، وجب أن يشتركا في الشفعة.
والوجه الثاني - أن صاحب العشر لا يشارك الشريك القديم في العقد الثاني؛ لأن ملكه كان عرضة لأخذ الشريك القديم لما جرى البيع الثاني، ومستحق الشفعة الشريك
__________
(1) ر. طريقة الخلاف: 361 مسألة: 151، إيثار الإنصاف: 332.(7/356)
القديم، فإذا كان ملكه عرضة لأخذ الشريك القديم وقت جريان العقد الثاني، استحال أن يزاحم بذلك الملك الشريكَ الثاني. نعم: لو عفا الشريك القديم عن الشفعة في العُشر، ثم جرى البيع الثاني، فلا خلاف أنهما يزدحمان في التسعة الأعشار.
هذه طريقة.
4751- ومن أصحابنا من قال: إن عفا الشريك بعد جريان [العقد] (1) عن الشفعة في العُشر الذي اشتمل عليه العقد الأول، فصاحب العشر والشريك القديم يزدحمان في التسعة الأعشار وجهاً واحداً.
فإن أخذ الشريك القديمُ العشرَ بالشفعة، فهل للذي اشترى العشرَ أن يزاحم في التسعة الأعشار كما صار إليه أبو حنيفة؟ فعلى وجهين: أظهرهما - أنه لا يزاحم؛ لأن الشريك يأخذ العشر الذي اشتراه وفاقاً، فلا يبقى له مِلكٌ يزاحم به.
والوجه الثاني خرّجه القفال - أنه يزاحم في التسعة الأعشار، وإن أُخذ العشر الذي اشتراه؛ لأن ملكه كان ثابتاً لما جرى العقد الثاني، فاقتضى ثبوتَ حق الشفعة له، فلا يضر زوال ملكه بعد ذلك على قهر.
وكان القفّال يبني هذا التردد على أصلٍ، وهو أن بعض الشركاء في الدار إذا باع حصّته، ولم يُشعر شريكَه بذلك، ولم يعلم ثبوتَ حق الشفعة له، فباع ملك نفسه على جهلٍ منه باستحقاق الشفعة، ثم تبين له ثبوتُ حق الشفعة له، فهل نحكم بأن ما جرى من البيع في ملكه القديم عن جهلٍ وغِرّة يتضمن بطلان الشفعة؟ في المسألة قولان: أحدهما - أن حق الشفعة يبطل؛ فإن الغرض من الشفعة دفع الضرار عن المالك كما فصلناه، فإذا زال الملك، فلا حاجة إلى الدفع، فأشبه ما لو باع على علمٍ بثبوت الشفعة.
والقول الثاني - أن حق الشفعة ثابتٌ، لا ينقطع بما جرى من البيع على الجهل.
ومما يجب الإحاطة به أن الشفيع إذا باع ملكه بعد الإحاطة بالشفعة، فحقه من الشفعة يبطل، وإن قلنا الشفعة على التأبيد، وشرطنا التصريح بالإسقاط، فبيع الملك على عمدٍ وعلمٍ يتضمن إسقاط الشفعةِ، على اتفاق بين الأصحاب، لم أعثر فيه على خلافٍ.
__________
(1) في الأصل: العقدين.(7/357)
قال القفال: إذا أخذ العشرَ الذي اشتملت عليه الصفقةُ الأولى، فليس ذلك عن اختيارٍ من المشتري، فشابه ذلك ما لو باع الشريك ملكه على جهلٍ بثبوت الشفعة.
هذا حاصل القول في المسألة.
4752- فإن عفا الشريك القديم عن الشفعة في العشر، وجرينا على الأصح، وأثبتنا له المزاحمة في التسعة الأعشار، فكيف نقسمها بينهما؟ إن حكمنا بأن الشفعة تقسّم على الرؤوس، فتلك الشفعة تقسم بين الشريك القديم، وبين صاحب العشر نصفين، ولا حاجة إلى تصحيح ذلك بطريق الحساب. وإن أردنا التصحيحَ، لم يخف مُدركه.
وإن قلنا: الشفعة تقسم على الأنصباء وأردنا التصحيحَ والضبط، فالوجه أن نتخيل أصلَ المسألة، وهو عشرون لاشتمالها على نصف العشر؛ فإن الشريك الأول باع عُشراً من نصفه، وعشر النصف نصف العشر، فوضعنا المسألة من عشرين. النصف للشريك القديم: عَشَرة، وما سُلِّم (1) لمشتري العشر سهمٌ، فبين الشريك القديم، وبين صاحب العشر أحدَ عشرَ سهماً، فتقسم التسعة على أحد عشر سهماً، فلا تنقسم. وإذا انكسر عدد على عددٍ، فالوجه في التصحيح ضربُ العدد الذي عليه الكسر في أصل المسألة، فنضرب أحدَ عشرَ في عشرين، فتردّ علينا مائتين وعشرين، وهذا المبلغ أجزاء الدار، النصفُ القديم منها مائة وعشرة، والذي سلم في الصفقة الأولى أحدَ عشرَ، بقي تسعة وتسعون. لصاحب نصف العشر تسعة، وللشريك القديم تسعون، فيخلص للشريك القديم ملكاً أصلياً ومأخوذاً بالشفعة مائتان، ويخلص للمشتري نصف العشر من الصفقة الأولى ومن الثانية عشرون.
ثم إذا تبيّنا هذا من طريق البسط، تلقينا منه نسبةً بيّنة، فالدار بين القديم وبين المزاحم على أحدَ عشرَ جزءاً، عشرة منها للشريك القديم، وواحد للمزاحم.
وما ذكرناه من فرض يتعين (2) في العشر والتسعة الأعشار مع رجلين لو فُرِضا مع رجل
__________
(1) (ت 2) ، (ي) ، (هـ3) : يسلم.
(2) في (ت 2) : "معين".(7/358)
واحد على الترتيب، فالترتيب في الصفقة الأولى والثانية [في العفو، والأخذ، والمزاحمة، كالتفصيل في البيعين من شخصين في جميع ما ذكرناه. وهذا قد نعيده] (1) في آخر الكتاب عند جمعنا حيلاً في تعسير الشفعة على الشفيع، إن شاء الله تعالى.
فصل
يحوي قواعد من الشفعة، نحيل عليها تفريعات مسائل الكتابِ
4753- فنقول: إذا ثبت حق الشفعة لرجلٍ واحد، فعفا عن بعض حقه، ففي المسألة أوجه مشهورة مذكورة في الطرق: أحدها - أنه يسقط جميعُ حقّه؛ فإن الشفعة لا تتبعض، فإذا وجب القضاء بسقوط بعضها، تداعى ذلك إلى أصلها، وهي شبيهة عند اتحاد المستحق بحق القصاص، إذا ثبت لواحد؛ فإنه لو عفا عن بعضه، كان كما لو عفا عن جميعه.
والوجه الثاني - أنه لا يلغو العفو عن البعض، ولا أثر له، والشفعة ثابتة بكمالها؛ فإن التبعيض إذا تعذر -وليست الشفعة مما يُدرأ بالشبهة- فالوجه تغليب ثبوتها.
وهذه الأوجه إنما يتسق جريانها إذا لم نقل بأن الشفعة على الفور. وسنذكر ترتيب الأصحاب فيها على قول الفور، إن شاء الله تعالى.
والوجه الثالث - أنه إذا أسقط بعضَ حقه، سقط ما أسقطه، وبقي ما أبقاه؛ فإنه حق مالي ولا يبعد تطريق الانقسام إليه.
قال الشيخ أبو بكر: هذا الوجه إنما يخرّج -على ضعفه- إذا رضي المشتري بأن تبعّض عليه الصفقة، فأمّا إذا أبى ذلك، وقال للشفيع: إما أن تترك الجميع، أو تأخذ الجميع، فله ذلك. وهذا الذي قاله حسن، لا يسوغ في القياس غيرُه، فإن تبعيض الصفقة على المشتري إضرار بيّن، وتعييب لما يبقى في يده.
وإن فرّعنا على قول الفور، فقد اختلف أصحابنا على طريقين: منهم من أجرى الأوجه الثلاثة على قول الفور، وصور العفوَ عن البعض مع البدار إلى طلب الباقي.
__________
(1) ما بين المعقفين سقط من الأصل وحدها.(7/359)
ومنهم من قطع بأنا إذا فرعنا على قول الفور، فالعفو عن البعض يُسقط الجميع؛ فإن ابتناءه على الفور على هذا القول، يشعر بتسرع السقوط إليه، وكان حَريّاً بمشابهة القصاص، وقد ذكرنا أن العفو عن بعض القصاص يُسقط الجميع.
4754- ومن الأصول التي نذكرها في هذا الفصل: أنه إذا ثبت في شقص واحدٍ شفيعان، فلو عفا أحدهما عن حقه، فكيف السبيل فيه؟ ذكر الشيخ أبو علي في شرح الفروع أربعةَ أوجه: أحدها - وهو الأصح المشهور أن حق العافي يبطل من الشفعة، ويثبت الحق بكماله للثاني. فلو أراد أن يأخذ بعضَ الشقص، وهو القدر الذي كان يخصه مع شريكه لو لم يعف، فليس له الاقتصار عليه، وللمشتري أن يقول: إما أن تأخذ الكل، وإما أن تدع. وهذا هو الذي قطع به شيخنا أبو محمد، والصيدلاني، وكل معتبر من أثبات النقلة. وتعليل هذا الوجه أنه إذا عفا أحدهما، جُعلَ كأنه لم يكن، وأُخرج من البَيْن، وقدر الثاني منفرداً باستحقاق الشفعة. وهذا هو الأصل، والمذهب.
وقد ذكر الشيخ أبو علي سواه ثلاثةَ أوجه: أحدها - أَنَّ الذي عفا [قد] (1) سقط بعفوه نصف الشفعة، وثبت ذلك القدر للمشتري، ولو أراد الشفيع الثاني أن يأخذ جميع الشقص، لم يكن له ذلك، ولو أراد المشتري أن يُلزمه أخذ الجميع، لم يكن له ذلك. وهذا الوجه يوجّه بأن الحق ثبت لهما، وسقط [سهمهُ] (2) بإسقاطه، وحقوق الأموال تقبل الانقسام.
والوجه الآخر أن أحد الشفيعين إذا عفا، سقط نصيبهما جميعاً بعفوه، وانقطعت الشفعة أصلاً، كما إذا ثبت القصاص الواحد لرجلين، فعفا أحدهما.
وهذا ضعيف جداً.
والوجه الثالث - أنه لا يسقط حق من لم يعف، ولا يسقط حق من عفا أيضاًً؛ فإن الشفعة لا تقبل الانقسام، فإذا كان حق من لم يعف ثابتاً؛ من جهة تشميره في طلبه،
__________
(1) في الأصل، (ي) ، (هـ 3) : فقد. والمثبت من (ت 2) ، وتمام عبارتها: قد سقط حقه بعفوه نصف الشفعة.
(2) زيادة اقتضاها السياق.(7/360)
فحق صاحبه بمثابة حقه، فينبغي أن يغلّب [جانب] (1) الثبوت على [إخالة] (2) القول بالتبعيض، ويخرج من مجموع ذلك إلغاء عفو العافي.
فهذا الذي ذكره ثلاثة أوجه، وإذا ضممناها إلى ما هو المذهب، كان المجموع أربعة أوجه.
4755- وليقع التفريع بعد هذا على الوجه الأول، الذي هو المذهب.
قال الشيخ: هذا الذي ذكرناه فيه إذا ثبتت الشفعة لرجلين ابتداء، فأما إذا ثبتت الشفعة لرجل واحد، فمات، وخلّف وارثَيْن، فعفا أحدهما، قال: اختلف أئمتنا على طريقين: منهم من قال: هذه المسألة تجري مجرى المسألة الأولى، وهي إذا ثبتت الشفعة ابتداءً لرجلين، فعفا أحدهما.
ومن أصحابنا من قال: هذه المسألة تنزل منزلة ما لو ثبتت الشفعة لرجلٍ واحد، فعفا عن بعضها.
وحقيقة هذا الخلاف ترجع إلى ما قدمناه من أن الوارث يأخذ الشفعة لنفسه أو
يأخذها للمورث. فإن قلنا: يأخذها لنفسه، فالورثة بمثابة الشفعاء على الابتداء.
وإن قلنا: إنه يأخذها للمورث، فهو واحد، والتفصيل فيه كالتفصيل في تصرف الشفيع الواحد.
4756- ومما يتعلق بهذا الأصل أنه لو كانت الدار مشتركة بين ثلاثة، فباع أحد الشركاء نصيبه من أحد الشريكين، فللشريك الذي لم يشتر حقُّ الشفعة، ولكن هذا المشتري يقول: كما ثبتت الشفعة لك لشركتك، فكذلك ثبتت لي، فإني شريكٌ مثلك، فالذي اشتريته، فهو بيننا لحق الشفعة. قال الأصحاب: للمشتري ذلك.
وقال ابن سريج: لا شفعة للمشتري؛ فإن الشفعة في الشرع أثبتت جلباً للملك، ولو أثبتنا المشتري شفيعاً، لكان مستبقياً للملك بالشفعة، وهذا يخالف موضوعَ الشرعِ في قاعدة الشفعة، فعلى المشتري أن يسلم على رأي ابن سريج تمامَ الشقص الذي اشتراه للشريك الذي لم يشتر.
__________
(1) زيادة من: (ي) ، (هـ 3) .
(2) في الأصل، (ي) ، (هـ3) : "إحالة" والمثبت من (ت 2) .(7/361)
ولو باع بعضُ الشركاء بعض حصته، ثم لما طلب سائر الشركاء الشفعة قال البائع: قد بقي لي شِرْكٌ في الدار، فأنا أساهمهم فيما بعت لحق الشفعة، فليس له المساهمة عند الكافة. والفرقُ بين الشراء والبيع أن المشتري جالبٌ، والشفعة جلبٌ، فالمسلكان متوافقان والبيع إزالة، فلم يستقم أن يُقْدمَ على الإزالة، ويُلزمَها بطريق إلزامها، ثم يبغي الاسترجاع من عين ما أزال. وباع.
فإذا فرعنا في مسألة الشراء على الأصح، وقلنا: إن المشتري له حق الشفعة، فلو قال الشفيع: خذ جميع الشقص، فقد تركت حق الشفعة. فإما أن تأخذ أنت الشقص المشترَى بكماله، أو تدع، فظاهر المذهب أنه ليس للمشتري ذلك بخلاف ما لو ثبت في الصفقة شفيعان، وليس أحدهما مشترياً؛ فإنا على المذهب المعتبر نجوّز لأحدهما أن يترك الشفعة إلى صاحبه، ثم الحكم على المتروكِ عليه أن يأخذ الكل، أو يدع الكل.
والفرق بين الشفيع الذي ليس مشترياً وبين الشفيع في مسألتنا أن الشفيع الذي ليس مشترياً جالب على الحقيقة، فلا يتحتم عليه الطلب، والمشتري إنما جلب الملك بطريق الشراء، فليس له أن يكلف صاحبه استخراج الملك عن حكمه، وهو لو ترك، كان تاركاً ملكاًً لزم له بالشراء، فلذلك لم [يجز] (1) ، وكان شفيعه على أخذِ محض حقه.
وذكر الشيخ أبو علي وجهاًً عن بعض الأصحاب أن المشتري إذا ترك حقه من الشفعة في استبقاء ما اشترى، فيجوز ذلك، ثم يتوجه في ظاهر المذهب على الشفيع الذي ليس مشترياً أن يأخذ جميع الشقص أو يدع قياساً على الشفيعين اللذين ليس أحدهما مشترياً. وهذا بعيد. والوجه ما ذهب إليه عامة الأصحاب. هذا مقصود الفصل.
فرع:
4757- إذا وجد الشريك في الدار نصيب شريكه في يد أجنبي، وألفاه متصرفاً فيه، وزعم أنه اشتراه من شريكه، وكان ذلك الشريك غائباً، فهل يجوز
__________
(1) في الأصل، (ت 2) ، (ي) : يلزم. والمثبت من (هـ 3) .(7/362)
للشريك الحاضر أن يأخذ ما صادَفه في يده بحكم الشفعة، بناء على تصديقه فيما ادعاه من الشراء؟ فعلى وجهين: أحدهما - ليس له ذلك ما لم يتحقق عنده الشراء من جهةٍ أخرى.
والوجه الثاني - وهو الأظهر أن له أن يعوّل على قوله؛ فإن أحكام البياعات يعتمد معظمُها قولَ من يُتلقى الملك منه، فإذا قال هذا المتصرف: قد ملكت بالشراء، فبناء الشفعة على قوله بمثابة بناء الشراء على قوله. ولا خلاف أنه يجوز الشراء منه تعويلاً على قوله: اشتريت. ثم إذا رجع الغائب، فإن صدّق [صاحبُ الملك ما ادّعاه صاحبُ اليد] (1) من الشراء، نفذت الشفعة. وإن كذبه، فالقول قوله حينئذٍ في تكذيبه مع يمينه، فإذا انتهت الخصومة معه، رددنا الشفعة عوداً إلى قول الشريك الراجع المكذب.
فصل (2)
قال الشافعي: "فإن حضر أحد الشفعاء أخذ الكل بجميع الثمن ... إلى آخره" (3) .
4758- نصور المسألة فيه إذا كانت الدار بين أربعةٍ، فباع واحد منهم، فالثلاثة الباقون شفعاء، ثم لا يخلو إما أن يكونوا حضوراً، أو غُيَّباً، فإن كانوا حضوراً، أخذوا بالشفعة، ويقسم الربعُ المبيع بينهم بالسوية، والمسألة مفروضة في استوائهم في الحصص.
وإن تركوا الشفعة، جاز، وسلم للمشتري ما اشتراه.
وإن طلب بعضهم الشفعة وعفا البعض، فقد ذكرنا كلامَ الأصحاب في هذا الطرف، وأوضحنا أن المذهب الظاهر أن الذي لم يعفُ يأخذ الكل إن شاء، أو يدع.
__________
(1) في الأصل: فإن صدّقَ فيما ادعاه صاحب اليد. وفي (ي) : فإن صدق فيما ادعاه صاحب اليد. وفي (هـ 3) : فإن صاحب صدّق اليد فيما ادعاه صاحب اليد. والمثبت عبارة (ت 2) .
(2) في (ت 2) : (فرع) مكان (فصل) .
(3) ر. المختصر: 3/52.(7/363)
فإن قال: آخذ ما يخصني عند المزاحمة، لم يكن له ذلك. هذا ظاهر المذهب.
4759- ولو كان الشفعاء غُيّباً لمّا جرت الصفقةُ، فلو حضر واحد منهم، وطلب الشفعةَ، فله ذلك، وليقع البناء على ظاهر المذهب فيه إذا حضر، كما أعدنا المذهب فيه الآن، فنقول في هذا الآيب الراجع: خذ الشقص بتمامه، وابذل جميعَ الثمن للمشتري، ليس لك إلا هذا إن أردت الشفعة. فلو قال: آخذ ما يخصني عند المزاحمة وأترك نصيب صاحبيَّ الغائبين، لم يكن له ذلك. وللمشتري أن يقول: لا آمن ألا يحضر صاحباك أو يحضرا ولا يرغبا في الشفعة، فتتبعض الصفقة عليَّ.
هذا حكمنا في الأول إذا حضر. فلو أخذ تمام الشقص بتمام الثمن، ثم رجع الثاني، فله أن يقول للأول: "أنا وأنت بمثابة واحدةٍ في استحقاق الشفعة، وعودُ الثالث مغيّبٌ، قد يكون وقد لا يكون، فينبغي أن نستوي"، فهذا الكلام الذي أبداه حق، ولا بد من إجابته إلى ملتمسه، فعلى الأول إذن أن يشاطره، ثم الثاني يبذل نصف الثمن، ويسترد نصف الشقص.
فإذا عاد الثالث وهو على الطّلب، فإنَّه يأخذ من كل واحد من الأول والثاني ثلثَ ما في أيديهما، ويبذل مقدار ما يأخذ من الثمن.
هذا هو الترتيب في قاعدة المذهب.
فلو حضر الأول، وقال: أنا آخذ نصيبي، وأتوقف في نصيب صاحبيّ؛ فإني لو أخذتُ الجميع، لكان الظاهر أن ينقضا عليَّ. فإذا فرعنا على قول الفور، وجرينا على ظاهر المذهب الذي جعلناه قاعدة الفصل، فالمشتري لا يجيبه إلى ما يبغيه من قبض البعض؛ فإن هذا يفرّق الصفقة عليه في الحال. وهل يُجعل توقف هذا الراجع في أخذ الكل تقصيراً منه مبطلاً لحق شفعته رأساً؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنا نجعل هذا التوقف -على قول الفور- مبطلاً لحقه من الشفعة؛ فإنه يتمكن في الحال من أخذ الجميع، فتركه ما هو متمكن منه لتوقع أمرٍ - مبطلٌ لحقه.
هذا اختيار ابن أبي هريرة.
والوجه الثاني - لا يبطل حقه، وينتصب ما أبداه من توقع استرداد ما يأخذ منه عذراً
في التأخير. ثم محل عذره في حق صاحبيه ثلثا الشقص، والثلث منه يمتنع عليه أخذه(7/364)
بسبب امتناع المشتري من تبعيض الصفقة عليه، فانتظم في الجميع عذرٌ في التأخير.
هذا مذهب أبي إسحاق المروزي.
فإن قلنا: بطلت شفعته بهذا التأخير، فهذا جريانٌ على ظاهر المذهب، فنجعل تقصيره بمثابة تصريحه بالعفو، وقد ذكرنا في تصريح بعض الشفعاء بالعفو عن نصيبه الأربعةَ الأوجه. ونحن وإن كنا نجري مقصود كلّ فصلٍ على ظاهر المذهب، فنشير في الأثناء إلى ما سواه، حتى لا تنسل الوجوه البعيدة عن ذكر الناظر في الفصل وفكرِه. ونعود بعد التنبيه إلى [الفصل] (1) فنقول: إن قلنا: بطلت شفعته بهذا التأخير، فإذا حضر صاحباه أخذا جميع الشقص، واقتسماه نصفين، على المذهب، ويخرج الأول من البين.
وإن قلنا: لم يبطل حق الأول، فإذا حضر صاحباه، فإن طلبا الشفعة، فإنهم يقتسمون الشقص بينهم بالسويّة، وإن عفا في الحضور بعضُهم، فقد مضى فيه الأوجه الأربعة.
4760- ومما يتعلق بهذا الفصل أنه لو حضر الأول، وأخذ تمام الشقص، كما رسمناه، ثم حضر الثاني، وكان حقه أن يشاطر الأول، فلو قال: أنا أقنع بمقدار حقي، وهو ثلث الشقص، وأترك نصيب الغائب على الذي رجع أولاً؛ فإني لو أخذتُ النصف، لنقض عليَّ الثالثُ إذا عاد ثلث ما في يدي، فلست أرغبُ أن آخذ ما سيؤخذ مني، فإذا بقي على هذا التقدير الثلثان في يد الأول، وقبض الثلثَ، وبذل مقداره من الثمن، فإذا رجع الثالث، فقد قال ابن سريج: للثالث أن يقول للثاني: تركت ما تركت عافياً مُخلاً بحق نفسك، وجرى ذلك على الشيوع ولي مما في يدك الثلث، فيأخذ منه ثلث ما في يده، ثم يأتي إلى الأوّل ويقول: أضمُّ ما أخذتُه من الثاني إلى ما بقي في يدك، ونشترك فيه، ونقتسمه نصفين بيننا. هذا هو الذي رآه ابن سريج.
وإذا أردنا تصحيحَ هذا الحساب طلبنا عدداً له ثلث ولثلثه ثلث، ثم أقله تسعة،
__________
(1) في نسخة (د 2) وحدها: الأصل.(7/365)
فنصرف ستة منها إلى الأول، وثلاثة إلى الثاني ثم ينتزع الثالث من يد الثاني واحداً فيضمه إلى الستة في يد الأوّل، فتصير سبعة، ثم السبعة لا تنقسم على اثنين، فتضرب اثنين في أصل المسألة، وهو تسعة فتصير ثمانية عشر، وقد كان للثاني من التسعة اثنان، فنضربهما في المضروب في المسألة فيرد علينا أربعة، وهي حصة الثاني، فتبقى أربعة عشر، تقسمه بين الأول والثالث، فلكل واحد منهما سبعة. وإذا كان ربع الدار ثمانية عشر، فجملتها اثنان وسبعون، فهذا وجه القسمة عند ابن سريج.
قال القاضي: لما ترك الثاني على الأول سدساً، كان ذلك عفواً منه في بعض الحق، والشفيع إذا عفا عن بعض حقه، فإنا في ظاهر المذهب نُبطل جميع حقه، فيخرج منه أنه يسقط حق الثاني بالكلية. ويقسم الشقص نصفين بين الأوّل والثالث.
وهذا الذي قاله متجه في قياس الشيوع.
وابن سريج بنى مذهبه الذي قدّمناه على تقدير العفو، وعليه قال: للثالث أن يقول للثاني: إن أسقطت حقك، لم يسقط حقي ممَّا في يدك.
وحقيقة هذه المسألة عندنا تبتني على الوجهين المقدّمين في أن الأول لو رجع وقال: لا آخذ إلا نصيبي، وأتوقف في نصيب صاحبي، فقوله هذا هل يكون تقصيراً منه مبطلاً لحقه؟ فإن جعلنا هذا تقصيراً، اتجه ما قاله القاضي من سقوط حق الثاني.
وإن قلنا: نعذر الأول في توقفه، ولا نجعل ذلك عفواً منه، فإذا قال الثاني: تركت عليك نصيب الثالث، فيكون معذوراً، ولا يكون ما صدر منه عفواً. فعلى هذا لا يملك الثالث أن يحط نصيب الثاني من الثلث، ويرجع القول إلى اقتسامهم في آخر الأمر الشقص أثلاثاً بينهم (1) . وهذا متجه حسن.
فانتظم إذاً في المسألة ثلاثة أوجه في حق الثاني: أحدها - مذهب ابن سريج.
والثاني - مذهب القاضي، والثالث - اقتسام الثلاثة [آخراً] (2) بالسوية أثلاثاً.
4761- ومما فرعه العراقيون في أطراف المسألة أن الأول لو أخذ الكل كما رسمناه، ثم شاطره الثاني، ثم عاد الثالث، ولم يظفر إلا بأحدهما، فلو قال له:
__________
(1) في (ت 2) ، (ي) ، (هـ 3) : "ويرجع القول في اقتسامهم في آخر الأمر إلى أن الشقص أثلاث بينهم".
(2) في الأصل، (ت 2) : أجزاء.(7/366)
لست أظفر إلا بك، ولا [فرق] (1) بيني وبينك، فأشاطرك فيما في يدك ثم [ننظر] (2) ما يكون، فهل له ذلك؟ فعلى وجهين ذكروهما: أحدهما - له ذلك، وهو قياس أرشد إليه ما حكيناه من صيغة [قول الثالث] (3) ، فإن مبنى هذه المسألة على استواء الشفعاء آخراً، وبناء الأمر على ترك التبعيض على المشتري.
والوجه الثاني - أنه ليس له أن يأخذ ممّا ظفر به إلا الثلث؛ فإن باقي حقه في يد الآخر، فليس له مؤاخذة هذا الحاضر بما هو في يد غيره.
4762- ومما يتعلق بتمام البيان في الفصل أن الأول لما أخذ جميع الشقص، فلو انتفع بما أخذه، وأخذ من ثمرة الأشجار، وغَلة (4) الأرض ما أخذ، فإذا رجع الثاني وشاطره، فإنه يشاركه في المنفعة من وقت المشاطرة، ولا يسترد منه شيئاًً مما أخذه؛ إذ (5) كان منفرداً. والسبب أن الأوَّل لما أخذ الكل ملكه ملكاً محققاً، ولم نقل ملكه موقوف على [ما يبدو من عفو] (6) صاحبيه. وكيف [يستأخر] (7) وقد بذل جملة الثمن، وزال ملك المشتري (8) عن الشقص. ويستحيل أن يملك لصاحبيه من غير توكيلهما. فإذا تحقق زوال ملك المشتري، ولم يكن الأول وكيلاً لصاحبيه، فلا طريق إلا الحكمُ بثبوت الملك للأول، ثم هو عرضة النقض ابتداءً وافتتاحاً في نصيب صاحبيه، وهذا يقتضي صرفَ المنفعة إليه في زمان الانفراد؛ إذ هو في حقهما بمثابة المشتري في حق الشفيع.
ثم لو انتفع المشتري قبل أن يتفق أخذُ الشفيع، فذاك الذي يأخذه غيرُ مسترد منه، ثم إذا جاء الثاني وشاطر، فإنه يشارك في شطر المنفعة من وقت المشاطرة، ثم الثالث
__________
(1) في الأصل: قرب.
(2) في الأصل: انظر.
(3) في الأصل: والثالث.
(4) (هـ 3) : وغابة الأرض.
(5) في الأصل: إن، (ي) ، (هـ 3) : إذا.
(6) في الأصل: على تأييد وأثر من عود صاحبيه، وفى (ت 2) : على لما يبدو من عفو صاحبه والمثبت من (ي) ، (هـ 3) .
(7) في الأصل، (ت 2) ، (هـ 3) : نستجيز. والمثبت من (ي) وحدها.
(8) أي زال إلى الشفيع الأول.(7/367)
يشارك في ثلث المنفعة من وقت المثالثة.
هذا ترتيبٌ مجمع عليه، وهو يرشد إلى ثبوت الملك للأوّل في الجملة تحقيقاً، وكذلك القولُ في الثاني، ثم القرار على الأثلاث في آخر الأمر.
4763- وممّا يتعلق بما نحن فيه أن الأول بذل الثمن للمشتري فعهدته عليه، والثاني يبذل شطر الثمن للأول، فعهدته على الأول، والثالث يبذل الثمن للأول، والثاني، فعهدته عليهما، وسنعيد هذا الفصل بعينه (1) في فصل العهد إن شاء الله تعالى.
فصل
قال: "وكذلك لو أصابها هدم من السَّماء ... إلى آخره" (2) .
4764- نقل المزني عن الشافعي أن الدار إذا انهدمت بعد ثبوت حق الشفعة، فالشفيع يأخذ الكل بكل الثمن، ونقل الربيع أنه يأخذ الباقي بحصته من الثمن.
وقد اضطربت طرق الأصحاب، وأتى بها الباقون على خبطٍ لا يُجدي فائدة، ولا يوضح مقصوداً، والفصل يعترض فيه أمران: أحدهما - أن الدار إذا انهدمت، التحق النقض بالمنقولات، وأَخْذُ المنقول بالشفعة بعيد، ولكن جرى هذا بعد استحقاق الشفعة، فأثار تردّداً ويعترض في المسألة أيضاًً أن النقض إذا تلف، ولم نر أخْذَه، فالشفيع يأخذ العرصة، وما بقي من البناء بكل الثمن أو بقسطه؟ وهذا يُفضي إلى تردُّدٍ أيضاًً.
4765- والوجه الاقتصار على طريقةٍ تحوي الغرض، وتشتمل على وجه البيان في الأطراف، فنقول: إن ارتجت الدار وتزلزلت، ولم تنهدم ولكن ظهر فيها فطور، وتكسّر، فهذا تعيّبٌ في الشقص المشفوع، ولا نقض، فالشفيع بالخيارِ إذا جرى ذلك في يد المشتري بين التَّرْك والأخذ بكل الثمن. وهذا بمثابة ما لو تعيب المبيع في يد البائع، فالمشتري بالخيار بين إجازة العقد بجميع الثمن، وبين رد المبيع واسترداد جميع الثمن.
__________
(1) (ت 2) ، (ي) ، (هـ3) : عليهما.
(2) ر. المختصر: 3/52.(7/368)
وإن سقط السقف أو [بعض] (1) الجدران على الأرض فلا يخلو النقض إمّا أن يكون قائماً أو تالفاً، فإن تلف النقضُ، فهذا يبتني على أصلٍ، وهو أن أجزاء البناء تجري من الدار مجرى الصفات، (2 أو تجرى مجرى الأعيان؟ وفيه جوابان ظاهران ذكرهما القاضي والأئمة: أحدهما - أنها تجري من الدار مجرى الصّفات 2) ، وهي منها بمثابة الأطراف من العبد، ولو سقطت أطرافُ العبد في يد البائع، لم يُسقط من الثمن شيئاً، ولم يثبت للمشتري إلا الخِيَرةُ في الإجازة بالكل والفسخ، واسترداد الثمن. هذا أحد الوجهين. وهذا القائل يقول: إذا انهدمت الدار المبيعة، وتلف نقضها، أو بعضُ نقضها في يد البائع، فالمشتري بالخيار بين الرد والإجازة بجميع الثمن، كما ذكرناه في أطراف العبد، فعلى هذا نقول في مسألتنا: يأخذ الشفيع بكل الثمن إن شاء، فإن أحب أعرض.
والوجه الثاني - أن أجزاء البناء تجري مجرى الأعيان المقصودة حتى، إذا انهدمت الدار في يد البائع، وفات النقض، جعلنا فوات النقض بمثابة تلف أحد العبدين قبل القبض، إذا كان المشتري اشترى عبدين، فتلف أحدهما؛ فإنه يأخذ العرصة (3) بحصتها من المسمى في ظاهر المذهب، كما فصلنا ذلك في تفريع تفريق الصفقة، والغرض إلحاق أجزاء البناء بأحد العبدَيْن، والثوبين، كما ذكرناه. فعلى هذا يأخذ الشفيع العرصةَ بحصتها من الثمن، كما لو اشتملت الصَّفقةُ على شقص وسيف، فالشفيع يأخذ الشقص بقسط من الثمن.
هذا كله إذا كان النقض فائتاً.
4766- فأما إذا كان النقض قائماً، فهل للشفيع أخذ النقض؟ فعلى وجهين، أو قولين؛ أخذاً للتردد من النَّصيْن: أحدهما- لا يأخذ النقض؛ لأنه منقولٌ ولا يُستحق المنقول بالشفعة.
والثاني- أنه يأخذه؛ فإن ذلك جرى بعد تعلّق الشفعة، وتأكدها، فصار كما لو
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) ما بين القوسين ساقط من (هـ 3) .
(3) العرصة: أي الأرض التي أقيمت عليها الدار.(7/369)
أخذ الشقص بالشفعة، ثم فرض الانهدام، وليس هذا كالشقص والسيف إذا اشتمل العقد عليهما؛ فإن الشفعة لم تتعلق إلا بالشقص وحده.
التفريع:
4767- إن حكمنا بأن الشفيع يستحق النقضَ، رجع الكلام إلى التعيب بالانهدام، وقد فصلناه، فنقول للشفيع: إن أردتَ الأخذَ، فخذ العرصة والنقضَ بتمام الثمن، وإلا، فأعرض.
وإن قلنا: يخرج النقض عن الاستحقاق، فإن جعلنا أجزاء البناء بمثابة أحد العبديْن، أخذ الشفيع العرصة، وما بقي ثابتاً من البناء بقسطه من الثمن، وإن لم نجعل أجزاء البناء بمثابة أحد العبدين، بل جعلناها أوصافاً، فإذا قطعنا استحقاق الشفيع عن النقض، وبقَّيناه على ملك المشتري، فهل يأخذ الشفيع ما بقي بقسطه، أو يأخذ بالتمام؟ فعلى وجهين: أحدهما -وهو ظاهر القياس- أنه يأخذ بالتمام؛ فإنا نفرع على أن أجزاء البناء صفةٌ.
والثاني - أنه يأخذ بالقسط.
وإن فرعنا على أن البناء صفاتٌ، والسَّبب فيه أنا نُبقي النقضَ -وقد كان من الدار- ملكاًً للمشتري، فيبعد أن يبقى في يده ما هو مملوك، ويغرم الشفيع تمامَ الثمن.
ورب قولٍ يعسر طردُ قياسه لأمر يعترض. وهذا من ذاك، فليفهم الناظر، وليفرق بين بقاء النقض للمشتري وبين تلفه بآفة سماوية.
والقائل الأول يُلحق النقضَ وقد بقي للمشتري بالثمار، والزوائد التي يستفيدها المشتري قبل قبض الشفيع.
ولو تلف النقض بإتلاف أجنبي، فإن قلنا: النقضُ حق الشفيع غرِم المتلف قيمةَ النقض، وأخذ الشقصَ بتمام الثمن. وإن قلنا: للمشتري النقضُ، فقيمة النقض على المتلف للمشتري. وهل يأخذ الشفيع ما بقي بتمام الثمن، أو يأخذه بقسطه؟ فعلى التردد الذي ذكرناه في بقاء النقض، مع البناء على أصلين: أحدهما - أن الشفيع لا يستحق النقضَ، والثاني - أن الأجزاء صفاتٌ، وليست أعياناً في تقدير العقد.
ومن قال مع هذين الأصلين بالرجوع إلى التفصيل، فهذا يُناظر أصلاً ذكرناه لابن(7/370)
سريج، وذلك أنه قال: إذا رأينا مقابلةَ أطراف العبد بالمقدَّرات نضطر إلى نقض هذا الأصل فيه، إذا قطع المشتري يدي العبد؛ فإنا لو جعلناه قابضاً لجميع العبد، والعبد [بعدُ] (1) في يد البائع، لكان ذلك محالاً، فيرجع في هذا التفريع إلى قول اعتبار النقصان. كذلك يبعد أن يبقى النقضُ ملكاً للمشتري، ويغرَم له الشفيع تمام الثمن، فيرجع هذا القائل لهذه الاستحالة من قول الصفة إلى قول الجزء في هذه الصورة المخصوصة.
وهذا نجاز الفصل بجميع ما فيه.
فصل
قال: "ولو قاسم، وبنى، قيل للشفيع: إن شئت، فخذ بالثمن وقيمة
البناء ... إلى آخره" (2) .
4768- المشتري إذا بنى بعد جريان القسمة، أو غرس، ثم جاء الشفيع، وطلب الشفعة، فإنه لا ننقض غِراسه وبناءه مجاناً، خلافاً لأبي حنيفة (3) .
ومعتمد المذهب أن المشتري بنى وله البناء، وصادف تصرفُه ملكَه، فكان بناؤه محترماً، والبناء المحترم لا يُحبط على الباني. ثم تفصيل المذهب في البناء والغراس، كتفصيل المذهب فيهما إذا صدرا من المستعير في الأرض المستعارة، ثم للمعير أن يرجع في العاريّة.
وقد تقصَّينا هذا على أحسن مساقٍ في كتاب العواري، وأوضحنا أن مالك الأرض يتخير بين ثلاث خلال: إحداها - أن يقوّم عليه البناء والغراس. والثانية - أن يبقيها ويُلزمَ المستعيرَ أجر المثل في مستقبل الزمان. والثالثة - أن ينقضها ويغرَم ما ينقُصه النقضُ، فالشفيع مع المشتري في تفصيل هذه الخلال، بمثابة المعير مع المستعير.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) ر. المختصر: 3/52.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 123، ومختصر اختلاف العلماء: 4/247 مسألة: 1963.(7/371)
وقد ذكرنا أن المستعير لو زرع الأرض المستعارة بإذنٍ، لم يقلع زرعُه في أصْل المذهب، وأشرنا إلى تردُّدٍ في أنه إذا رجع عن العاريّة هل يغرَم المستعير أجر المثل في بقية المدة؟ والذي قطع به أئمتنا أن المشتري إذا زرع الأرض، ثم أخذ الشفيعُ الشقصَ، فلا شك أن زرعه لا يقلع، ولا يلزمه الأجرة؛ فإنه كان تصرف في ملكه، وليس كالمستعير مع المعير؛ فإن انتفاع المستعير كان يعتمد إباحةَ المعير، وقد انقطعت بالرجوع. وألحق الأئمةُ سقوطَ الأجر في الزرع عن المشتري بما لو باع الرجل أرضاً مزروعة، فإذا صححنا البيع، فليس على بائع الأرض أجرُ الأرض من وقت البيع إلى الحصد. وفي كلام صاحب التقريب ما يدل على إلحاق المشتري (1) بالمستعير في أجرة الأرض المزروعة. وهذا غير بعيد في القياس، وإن كان بعيداً في النقل؛ وذلك أن المشتري زرع الأرضَ، والشفعةُ متعلقة بها، بخلاف من زرع أرضه الخالصة، ثم باعها؛ فإنه لم يكن على بائع الأرض في وقت الزرع استحقاق. وهذا بيّن من هذا الوجه.
4769- ثم إن المزني لما نقل من نص الشافعي البناء والغراس، أخذ يعترض ويقول: هذه المسألة لا تتصور على مذهب الشافعي؛ لأن المشتري لو بنى قبل القسمة، فهو متعدٍّ غاصب، لأنه بنى في ملك الغير، فيقلع عليه مجاناً، وإن فرض البناء بعد القسمة، فالقسمة والمفاصلة تُبطل الشفعة، فكيف ينتظم بقاء الشفعة مع جريان البناء والغراس بعد القسمة (2) .
فقال الأصحاب: يمكن تصوير القسمةِ من وجوه، مع بقاء الشفعة، فمنها: إذا قيل للشفيع: اشترى فلانٌ الشقص بألف، فرغب الشريك عن طلب الشفعة، ورأى الثمنَ فوق المقدار الذي هو ثمن المثل، فلو قاسم المشتري، ثم بان أنه كان اشترى الشقصَ بخمسمائة، فللشفيع حقُّ الشفعة، وتلك القسمةُ لا تُبطل الشفعةَ؛ لأنه أقدم
__________
(1) المشتري: المراد به هنا مشتري الشقص.
(2) هذا معنى كلام المزني في المختصر: 3/53.(7/372)
عليها على تقدير زيادةٍ في الثمن، وقد بان الأمر بخلاف ما قدّر.
ومما ذكره الأصحاب في وجوه القسمة، أن الشريك إذا رأى الشقصَ في يد إنسان، فقال: اتَّهبتُه، وصدَّقه، وقاسمه، ثم بان أنه اشتراه، فالشفعة ثابتة، والقسمة صحيحةٌ.
ومن الوجوه ما لو غاب عن البلد، ووكّل من يقاسم شريكَه، ومن (1) يشتري من شريكه، فقاسم وكيلُه، صحت القسمةُ، وله الشفعة إذا رجع، والإذن في المقاسمة لو وقع بعد ثبوت الشفعة والعلم بها، لكان مبطلاً للشفعة، ولكن إذا تقدم التوكيل بالمقاسمة على جريان البيع، كان لتصحيح الوكالة وجه على رأي من يرى تعليقها.
والشفعة لا تسقط؛ فإن الإذن تقدَّم على ثبوتها.
ولو علق الشريك العفوَ عن الشفعة بوجود الشراء قبل وجوده، لم ينفذ العفو عند وجوده.
ومن الوجوه أن يرفع المشتري [العقدَ] (2) إلى مجلس الحاكم، ولا تبين حقيقة الحال، ويقول: هذه الدار مشتركة بيني وبين غائب، وأنا أريد القسمة، فعلى الحاكم أن ينصب قيّماً عن الغائب، ليقاسمه، وليس على القاضي طلبُ الشفعة له، لأنه استحداث تملك، فلا يليه على غائب.
ومما ذكره الأصحاب أن المشتري لو وكل البائع بالمقاسمة، ولم يشعر الشريك بحق الشفعة، فقاسمه البائع على تقدير أنه باقٍ على [حقيقة] (3) ملكه، ثم بان له حقيقة الحال ثبتت الشفعة.
فهذه وجوه صوّرها الأصحاب في القسمة، وقضَوْا بأن الشفعة تبقى معها.
وبحقٍّ تمارى (4) المزني في تصوير المسألة.
__________
(1) أي وكّل من يقاسم شريكه، والمشري الذي يشتري من شريكه، فبهذا يقع التوكيل بالمقاسمة قبل ثبوت الشفعة، فلا تبطلها.
(2) في الأصل: القصة.
(3) ساقطة من الأصل وحدها.
(4) (هـ 3) : تمادي.(7/373)
والذي نراه أن كلَّ قسمة تولاها الشريك، أو وكيلٌ من جهته، وبناها على عدم العلم بالشفعة، فتلك القسمة صحيحة، وعدم علم المالك بثبوت حقٍّ له لا يتضمن ردَّ تصرفٍ أنشأه على اختيارٍ، وهو نافذ التصرف، والإشكالُ في ثبوت الشفعة مع صحة المقاسمة، فإن المقاسمة قاطعةٌ لعلة الشفعة، وكل ما قطع مقتضى الشفعة قبل التملك بها يقطعها، ولهذا كانت الشفعة عرضةَ السقوط على قول الفور بتأخير لحظة.
ومعتمد الأصحاب في الشفعة مختلَفٌ فيه، فمنهم من اعتبر مؤنةَ المقاسمة وإفرازَ المرافق، وقد انفصل الأمر بوقوع القسمة، ومنهم من اعتبر المداخلة والتضييق، وقد زال هذا المعنى بصحة القسمة.
وإذا كانت الشفعة تسقط بالرضا بالضرر، فتسقط بانقطاع الضرر.
4770- والذي نحققه أن الشفيع يأخذ ملكاً مجاوراً أو شائعاً، فإن كان يأخذ ملكاًً مجاوراً، فهذا بعيد عن مذهب الشافعي، وإن كان يأخذ ملكاً مشاعاً، فلا قسمة إذاً، والبناء تبين وقوعُه في مشاع، فيجب منه سقوطُ حرمته، وليس كالمستعير؛ فإنه يغرس بإذن المالك على بصيرةٍ، وهاهنا لم يجر إذنٌ في البناء، وإنما جرت مقاسمة، فإن صحت، فلاَ شفعةَ بعدهَا، وإن بطلت، لم تقتض جوازَ البناء.
وأقصى الإمكان في ذلك أن نجعل جريان القسمة مع الحكم بالصحة، بمثابة زوال ملك الشفيع عن الشرك القديم، وهو غير عالم بثبوت الشفعة، وقد ذكرنا قولين في ذلك، ولعلنا نعود إليهما من بعدُ، والجملة في ذلك أن الشفعة عمادُها ملكُ الشفيع، والشيوعُ، ثم في بقاء الشفعة مع زوال الملك قولان، فيجب إجراء القولين في زوال الشركة.
وهذا بمثابة اختلاف القول في أن الأمَة إذا عتقت تحت زوجها العبد، ثم لم تشعر حتى عَتَق الزوجُ، ففي بقاء خيارها قولان.
ويلتحق بهذا الفن زوال العيب القديم في يد المشتري، قبل بطلان حقه من الرد.
ولو قلنا: القياس في هذه الأصول تغير الأحكام بهذه الطوارىء، لم يكن قولنا هذا(7/374)
بعيداً؛ فإن ما ينافي في أصل وضعه ثبوتَ شيءٍ ودوامَه على علمٍ، فوقوعه على الجهل كوقوعه على العلم.
هذا منتهى النظر في ذلك.
4771- وفي النفس بعدُ بقيةٌ، فلعل الشافعي يرى دوام الشفعة إذا انتهى الشيوع إلى الجوار على صفة الغرور، وقطعُه بهذا مع قطع الأصحاب بعد المزني يُشعر به، فإن كان هذا مذهباً، اعتقدناه، واتبعناه، وانتظم من أصلنا أن الشفعة تبقى مع زوال الشيوع، إذا كان زوالها على الوجوه التي ذكرناها، ويبقى معه أن الضابطين وأصحاب الاستثناء، لم يصرحوا بهذا وأبهموه، والرأي وراء ذلك مشترك؛ فإن سنح لأحد بعدنا أمرٌ، فليلحقه بالكتاب.
وما ذكره الأصحاب من قسمة القاضي، ففيها نظر عندنا، ولسنا نؤثر الخوض فيها الآن؛ فإنها من أحكام القضاة. ونحن نستوفق الله تعالى، وننتهي من أحكامهم إلى مبالغ لم نسبق إليها. وغرضُ الفصل يتم بما [سلّفناه] (1) من القسم في الأمثلة السابقة.
فصل
قال: "ولو كان الشقص في النخل فزادت ... إلى آخره" (2) .
4772- الزيادات الحادثة في يد المشتري تنقسم ثلاثة أقسام: أحدها - الزياداتُ المتصلة: ككبر الوديِّ (3) وسوق (4) النخيل، فلا أثر لها، والشفيع يأخذ الأصول معها، ولا يلتزم للمشتري بسببها مزيداً، وإن كانت الزيادات حاصلة بتنمية المشتري وتعهده.
والقسم الثاني - زيادة منفصلة تخلصُ للمشتري، وهي كالثمار تحدث في يد
__________
(1) في الأصل: سلمناه، والمثبت من: (ت 2) ، (ي) ، (هـ 3) . و"سلّفناه": أي قدمناه.
(معجم) .
(2) ر. مختصر المزني: 3/53.
(3) الوديّ: على فعيل: صغار الفسيل. الواحدة وديّة.
(4) سوق النخيل: جمع ساق.(7/375)
المشتري فيجُدُّها أو يؤبّرها، ثم يبتدىء الشفيع طلبَ الشفعة، فتيك الثمار تبقى للمشتري. وإن كانت موجودة حالة العقد، لم يتعلق بها استحاق الشفيع، إذا كانت بارزة مُؤبرة مُدْخلة في العقد بالتسمية؛ فإنها إذا كانت كذلك، التحقت بالمنقولات، ولو كانت غير مؤبرة حالةَ العقد، وقد دخلت تحت مطلق تسمية المبيع، ثم أبرت، انقطع عنها حقُّ الشفيع (1) ، إذا جرى التأبير قبل أخذه.
وفي هذا بقية سنوضحها آخر الفصل، إن شاء الله تعالى.
والقسم الثالث - زيادة اختلف القول فيها، وهي الثمرة قبل التأبير، فإذا ظهرت الثمرةُ في يد المشتري، ولم تؤبر، حتى أخذ الشفيع المشفوعَ، فالمنصوص عليه في الجديد أن الثمار للمشتري، لا حظ للشفيع فيها، كما إذا أبرت. وقال في القديم: هي للشفيع على سبيل التبع (2) .
وهذان القولان يجريان في المشتري إذا أفلس، وقد أطلعت النخيل المشتراة، ولم تؤبر، فالبائع هل يرجع في الثمرة أو تخلصُ للمشتري وغرمائِه؟ فعلى قولين.
ولو أطلعت النخيل الموهوبة، ولم يؤبر الطلع، وقد تلف الإطلاع في يد المتهب، فعلى [هذين القولين] (3) .
وإذا ردّ المشتري النخيل بعد أن أطلعت في يده، فهل يبقى الطلع للمشتري أو يرده مع الأصل؟ فعلى قولين.
4773- ومما يجب التنبه له أن الثمار لو كانت موجودة على النخيل حالة العقد، وبقيت غير مؤبرة، فأفلس المشتري، فالبائع يرجع في الثمار قولاً واحداً، رجوعَه في النخيل، وكذلك القول فيه إذا كانت الثمار موجودةً حالة الهبة، ودامت إلى وقت الرجوع، وكذلك لو فرضت موجودةً في البيع، ودامت إلى وقت الردّ.
ولو كانت الثمار موجودة حالة البيع، ودامت غيرَ مؤبرة، ففي أخذ الشفيع لها
__________
(1) في (ي) ، (هـ 3) : "المبيع".
(2) في (ت 2) ، (ي) : البيع.
(3) في الأصل: فعلى قولين.(7/376)
قولان، لا يختلف التفريع بأن تحدث بعد الشراء، أو توجد عند الشراء وحالة الأخذ.
وذلك أن الشفعة تنافي استحقاقَ المنقولات، وهذا لا يختلف بأن يكون موجوداً حالة العقد، أو حدث بعده. فإن التحقت الثمار (1) بالزوائد المتصلة، أخذها الشفيع (2 كيف فرضت، حادثةً أو مقارنةً للعقد، وإن لم نر إلحاقها بزوائد الشجرة المتصلة، فلا يأخذها الشفيع 2) ، ولا يختلف الأمر بأن تكون موجودة حالة العقد أو تحدث من بعد. ولهذا قلنا: الثمار إذا كانت موجودة مؤبرة حالة العقد كذلك، وأدرجت في البيع ذِكْراً، فالشفيع لا يأخذها.
4774- وقد يخطر للفقيه أنا إذا رأينا أخذ النقض بالشفعة، فيكون التأبير بعد العقد بمثابة انتقاض البناء، وهذا لا ينبني عليه حقائق الفقه؛ فإن الثمار إلى التابير تصير.
فإن لم يتفق أخْذ المشفوع حتى أُبّرت، فقد تبينا أنها، لم تستحق بالشفعة، وهذه قضية لا تخفى على الفقيه، ولا يضر التنبيه عليها، والثمار لو كانت هي المبيعة في الإفلاس، لثبت الرجوع فيها، فيختلف الترتيب بأن تكون موجودة حالة العقد، أو تحدث بعدها والثمار قبل التأبير تدخل تحت مُطلق تسمية الشجر، إذا ثبتت الأشجار مثمنات أو أعواضاً، فيستتبع الشجرُ الثمرَ قبل التأبير في البيع، والصداق، وإذا أثبتت أجرةً، وكذلك القول في الهبة وإن كانت عريّةً عن العوض.
4775- فإن قيل: قطعتم بالاستتباع في ابتداء هذه العقود، وردّدتم القولَ في الرجوع من البائع في حق المفلس، ومن الواهب، وكذلك في الردود، قلنا: لعل الفرق أن إنشاء التملّك بالتراضي اختيارُ قطع العلائق عن الأحوال، فقوي، واستتبع.
والفسوخ والردود أمورٌ تنشأ قهراً، والرهن لما ضعف عن إفادة الملك، كان في استتباع النخيل الثمارَ التي لم تؤبر اختلافُ قولٍ، كما تقدم، ولا نطنب في هذه التفاصيل، فقد وضحت في مواضعها، وإنما قدرُ غرضنا ذكر ما يتعلق بالشفعة، وقد بان على ما ينبغي.
__________
(1) (ت 2) ، (ي) : المنقولات.
(2) ما بين القوسين سقط من (ت 2) .(7/377)
فصل
قال: "ولا شفعة في بئرٍ لا بياض لها، لا تحتمل القسمة ... إلى آخره" (1) .
4776- تفصيل القول في بيع شقص من بئر: أنها إن كانت واسعةَ القعر فسيحة المقر، بحيث يمكن أن يتخذ منها بئران، وكان فيها عيون يتأتى وقوع قدرِ الكفاية في كل قسم، فإذا بيع شقصٌ من مثل هذه البئر، ثبتت الشفعة للشريك؛ من جهة احتمالها للقسمة.
وإن ضاقت البئر عن احتمال ما ذكرناه من القسمة، ولم يتأت اتخاذ بئرين منها، فإذا بيع شقص منها، فظاهر المذهب أن الشفعة لا تثبت للشريك. وفيه تخريج ابن سريج، وقد قدّمنا ذلك في صدر الكتاب.
فإن رأينا إثبات الشفعة فيما لا ينقسم، فلا كلام، وإن لم نر إثبات الشفعة فيما لا ينقسم، فقد قسّم الأصحاب القول في ذلك على وجهين: فقال قائلون: إن لم تكن للبئر حريم، وكانت غيرَ منقسمة، فلا شفعة إذا اشترطنا كونَ المشترك قابلاً للقسمة.
وإن كان للبئر حريم واسع، يقبل القسمة، فهل تثبت الشفعة في البئر تبعاًً للحريم؟ فوجهان: أحدهما - تثبت تبعاًً، كما تثبت الشفعة فى الأشجار؛ تبعاًً للمغارس والأرض.
والثاني - لا تثبت بخلاف الأشجار؛ فإنها متصلة بالشقص في محل الشفعة، بخلاف البئر؛ فإنها مباينة عن الحريم، إذ هي بقعة أخرى، فلم تتبع الحريم.
ولفظ الحريم أطلقه القاضي وغيرُه، وفيه استبهام عندي، فإن أريد به ما يتصل برأس البئر، مما يجب أن يصان لتبقى البئر مصونةً (2) كما [سأستقصي] (3) القول في حريم الأملاك في إحياء الموات، إن شاء الله عز وجل.
__________
(1) ر. المختصر: 3/53.
(2) (ي) : مضمونة.
(3) في الأصل: أستقضي.(7/378)
فالحريم لا يكاد يوصف بالملك إلا على تفصيلٍ، واتباع البئر الحريمَ، وإن كان مملوكاً بعيدٌ؛ فإن البئر هي الأصل، والحريم تبع، فليس في الحريم على هذا التفسير ما يقتضي استتباعَ البئر.
وصرح بعض أصحابنا بأمرٍ مفهوم في نفسه، فقالوا: إن كانت البئر تسقي مزراعَ، وكانت تيك المزارع قابلةً للقسمة، فإذا بيع قسطٌ منها مع جزء من البئر، ففي ثبوت الشفعة في البئر -على قولنا الصحيح، وهو اشتراط قبول الانقسام- وجهان: أحدهما - لا تثبت الشفعة؛ فإن البئر غيرُ منقسمة. والثاني - أنها تثبت تبعاًً للمزارع المنقسمة، وتوجيه الوجهين ما تقدم.
والذين أطلقوا الحريم أرادوا به ما صرح به هؤلاء، من ذكر المزارع، وإنما وقع كلام الشافعي على الآبار التي تسقي النواضحُ منها المزارعَ، ثم تيك المزارع تنسب إلى البئر، والبئر تنسب إليها، فإذاً ليس المراد بالحريم ما يتصل بحافات البئر، وإنما المراد ما تسقيه البئر.
4777- ثم اختلفت عبارة الأئمة فيما يحتمل القسمة، فقال الشيخ القفال، وطبقة من المحققين: المنقسم هو الذي يمكن الانتفاع [بأفراد] (1) الحصص المفروزة من الجنس الذي كان ينتفع [به] (2) قبل الإفراز: فإن كانت مزرعة أمكنت الزراعة في كل حصة، وإن كانت داراً مسكونة أمكنت السكنى، فيخرج مما ذكرناه الحمام الصغير الذي لو قسم، لم يتأت من كل قسم حمّام. وكذلك ما في معناه.
ومن أصحابنا من قال: إذا كانت الحصة المفرزة بحيث يمكن الانتفاع بها بوجهٍ من الوجوه، كفى ذلك في الحُكم بكون الملك المشترك قابلاً للقسمة، وإن لم يمكن الانتفاع بالحصة من جنس الانتفاع بالجملة المشتركة.
ومن أصحابنا من قال: إن كانت القيمة (3) تنتقص بالقسمة انتقاصاً متفاحشاً، فهو
__________
(1) في الأصل: "بإفراز" والمثبت من (ت 2) ، (ي) ، (هـ 3) .
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) (ت 2) ، (ي) : الحصة.(7/379)
غير محتملٍ للقسمة. وإن كان لا ينتقص انتقاصاً متفاحشاً، فهو محتمل للقسمة.
فأما الحمّام، فإن كان كبيراً يمكن أن يُتخذ منه حمامان، فهو محتمِل للقسمة على المذهبين الأولين. فإن كان لا يتفاحش نقصان القيمة، ارتفع الخلاف، وإن كان صغيراً لا يمكن اتخاذ حمامين منه، لكن لو [أفرز] (1) ، لصلح كل نصيب لمنفعة أخرى كالسكنى، واتخاذ المخازن، وغيرها، فهو على طريقة القفال غير قابلٍ للقسمة، وعلى طريقة الآخرين هو قابل للقسمة، ومن يرعى القيمة يتّبعها.
4778- ومما نذكره الطاحونة، فإن كان يمكن أن يتخذ فيه حَجَران دائران تثبت فيها الشفعة، وإلا فعلى الخلاف الذي ذكرناه، ولو لم يكن في الطاحونة الكبيرة إلا حجر واحد وأمكن نصب حجرين، فهو مما ينقسم على المذهب، ثم الكلام في دخول الحجر الأعلى والأسفل تحت مطلق البيع مما سبق في موضعه على الاستقصاء.
وإنما قصدتُ بذلك التنبيهَ على أن المعتبرَ إمكانُ نصب الحجرين، لا ثبوتهما.
والدار إذا قسمت، فقد تمس الحاجة، إلى إفراد كل حصة بمرافق تُستحدث لها، ثم مسيس الحاجة إلى ذلك لا يخرجها عن كونها قابلةً للقسمة.
فرع:
4779- إذا كان بين رجلين دار مشتركة، لكل واحدٍ منهما نصفها، فبنى أحدُهما على السقف حجرةً، بإذن شريكه وإعارته إياه، أو بأن يعقد عقداً يستحق به ذلك. قال الشيخ: تثبت الشفعة لشريكه في نصف الدار إذا بيع، ولا تثبت الشفعة في الحجرة؛ فإنه ليس لشريكه في الحجرة شرك أصلاً، بل البائع ينفرد بالحجرة ولا شفعة، فيها.
وكذلك إذا كان بين رجلين أرض مشتركة، ولأحدهما فيها أشجار انفرد بها، فإذا باع شقصَه من الأرض، وباع معه الأشجارَ، فلا شفعة في الأشجار، كما قدمناه.
قال الشيخ: هذا ما علقته عن القفال. ثم عُرِضت عليه المسألة، فقال (2) : ينبغي أن تثبت الشفعة في الحجرة والنخيل التي انفرد بها البائع، وإن لم يكن للشريك فيها
__________
(1) في الأصل: "أفرد".
(2) القائل الشيخ، وكأنه خالف ما علقه عن القفال. والشيخ إذا أطلق، فهو أبو علي السنجي.(7/380)
شرك؛ فإن الحجرة متصلة بالدار المشتركة اتصالاً لو بيعت الدار مطلقاً، لتبعها العلو، وكل ما ينسب إلى الدار. فإذا تحقق هذا الضرب من الاتصال، تثبت الشفعة؛ فإنه فوق اتصال الجوار.
وهذا ليس بشيء، والصحيح ما قدمناه أولاً؛ فإن الشفعة عند الشافعي رضي الله عنه لا تثبت إلا في مشترك.
فرع:
4780- أصول الأشجار تتبع الأراضي في الشفعة؛ لأنها ثوابت، فتبعت الأرض، وبمثله لو باع مبقلة وفي الأرض أصول البقل، وكانت تخلّف، وينبت منها ما ينبت، وتُجَز، ثم تعود فتخلّف، فقد قال الشيخ أبو علي: إنها بمثابة الأشجار في الاستحقاق بالشفعة.
وهذا فيه نظر، ولم أره إلا للشيخ رضي الله عنه.
فصل
قال: "فأما الطريق التي لا تُملك، فلا شفعة فيها ... إلى آخره" (1) .
4781- الممر الشائع (2) الذي لا اختصاص فيه لا حُكم للاشتراك فيه في اقتضاء الشفعة؛ فإن الشارع غيرُ مملوك؛ فلا يتصور ورود عقد عليه، فإذا بيع ملكٌ يُفضي إلى الشارع أو يُفضي الشارع إليه، فلا يثبت للمشارك في الممر شفعةٌ في الدّار المبيعة، التي بابها لافظٌ في الشارع. وهذا لا إشكال فيه.
والسكة المنفتحة في الأسفل شارعٌ، فأما السكة المنسدة، فَعَرْصَتُها، أو ساحتها ملك لسكان السكة، فإن فرض بيعُ دارٍ، فليس للمشتركين في عرصة السكة حق الشفعة في الدار التي بيعت؛ إذ لا شركة في الدار. وأما السكة في نفسها، فملكٌ من الأملاك، فالذي يقتضيه قياس الأصول أن يقال: إن كانت قابلةً للقسمة تثبت الشفعة فيها، وإن لم تكن قابلة للقسمة، فلا شفعة فيها، على ظاهر المذهب.
__________
(1) ر. المختصر: 3/54.
(2) (ت 2) ، (ي) : الشارع.(7/381)
ثم الصحيح في اعتبار ما يقبل القسمة ما ذكره القفال، فإذا قلنا: السكة قابلة للقسمة عنينا بذلك أنها لو أفرزت، كانت كلُّ حصة بحيث يتأتى اتخاذها ممراً، فهذا هو القابل للقسمة على الطريقة المشهورة.
وإذا ثبت هذا، فمعلوم أن من باع داراً دخل تحت مطلق بيعها ممرُّها من السكة، فلو أثبتنا للشركاء في عرصة السكة حقَّ أخذ حصة الدار المبيعة من عرصة السكة، فهذا يقتضي أن يستحقوا على المشتري الممر الثابت للدار المشتراة، وإذا كان كذلك، فكيف السبيل فيه؟
فصّل الأصحاب هذا أولاً، فقالوا: إن كان المشتري يتمكن من أن يتخذ للدار المشتراة ممراً من جانب آخر يدخل منه ملكَه، فالشفعة ثابتةٌ في الممر على قياس الأصول. وإن كان لا يتأتى للدار ممرٌّ إلا في هذه الجهة، [فلا] (1) .
4782- وقد عبر الأئمة من أوجه وراء ذلك عن المقصود، فقال قائلون: في ثبوت الشفعة أوجهٌ: أحدُها- أن الشفعة تثبت جرياً على الأصول، ثم يمتنع على المشتري الممرُّ، ولا مبالاة بهذا. [إذا] (2) أفضى القياس إليه؛ فإن المتبع الدليل.
والوجه الثاني - لا تثبت الشفعة؛ لأن في إثباتها إلحاق ضرر عظيم بمشتري الدار، وهو قطع ممرها، والشفعة أُثبتت في أصلها على دفع الضرر، فيستحيل أن تثبت على وجه يتضمن إلحاق الضرر بغير الشفيع؛ فإن الضرر لا يُزال بالضرر.
والوجه الثالث - أنه يقال للشفيع: إن كنت تُمكِّنُه من المرور، فلك الشفعة، وله حق المرور، وإن كنت تمنعه من المرور، فلا شفعة لك. وهذا الوجه مختل؛ فإن تخيير الشفيع في هذا غيرُ معقول، فإنا (3) إذا كنا نثبت له أخذ ما اندرج تحت البيع من عرصة السكة، فلا يخلو إما أن نوجب للمشتري حقَّ المرور من غير خِيَرة، أو لا نوجب ذلك، فإن كنا نوجب للمشتري حقَّ المرور، فلا يعبر عن هذا بما ذكره
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) ساقطة من الأصل. وفي (ت 2) : فإذا.
(3) (ت 2) ، (ي) : فأما.(7/382)
صاحب الوجه الثالث من رد الأمر إلى خيرة الشفيع. وإن كان لا يستحق المشتري المرورَ [فقول] (1) القائل للشفيع: إن منعت، وإن لم تمنع عبارةٌ مضطربة، والعبارة السديدة عن الغرض هي التي ذكرها صاحب التقريب، إذ قال: هل تثبت الشفعة أم لا؟ فعلى وجهين موجهين بما ذكرناه من قياس الأصول، وإلحاق الضرر، ثم قال: إن قلنا: تثبت الشفعة، فهل يستحق مشتري الدار حقَّ الممر في السكة، والملكُ فيها للشفيع؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يستحق، وهو القياس.
والثاني - يستحق، وقد يثبت للإنسان حقُّ الممر في ملك غيره.
ويمكن أن نعبر عن الطريقة، فيقال في المسألة أوجه: أحدها - أن الشفعة لا تثبت. والثاني - تثبت، وينحسم حق الممر. والثالث - تثبت ويبقى حق الممر مستحقاً للمشتري.
ومبنى هذه العبارات على تفصيل في [صدر] (2) المسألة بنينا الغرض عليه، وذلك [أنا] (3) قلنا: إن كان يتأتى للمشتري اتخاذُ ممر في غير هذه السكة، وجب عليه أن يستجد ممراً آخر وتؤخذ حصتُه من السكة بثمنها. وإن كان لا يتأتى منه اتخاذ الممر في جهةٍ أخرى، فإذ ذلك يختلف الأصحاب.
وكان شيخي يقول: إذا كان اتخاذ الممر ممكناً، ولكن لا يتوصل إليه إلا بمعاناة عُسر والتزام مؤنة، فهذا أيضاً داخل تحت الخلاف، وتصوير الضرر لا ينحصر في أن يسقط الإمكان في اتخاذ الممر. ومن الممكن على هذه الطريقة أن نقابل ما يأخذه تقديراً من ثمن الممر بما يلزمه من المؤنة في استحداث ممرًّ آخر. فإن تقابلا، فلا ضرر. وإن قل التفاوت، احتمل. وإن ظهر، خرج الخلاف. فإذاً صار هذا أصلاً مختلفاً فيه، في قاعدة الكلام، فليتأمل. وقد نجز الغرض.
__________
(1) في الأصل: فقال، (ت 2) : فيقول.
(2) في الأصل: في صورة.
(3) في الأصل: إن.(7/383)
فصل
قال: "ولولي اليتيم، وأب الصبي أن يأخذ بالشفعة ... إلى آخره" (1) .
4783- ولي الطفل إذا كان أباً أوجداً، أو وصياً من جهتهما، أو قيماً مطلقاً من جهة القاضي، إذا بيع شقصٌ، وللطفل فيه الشفعة، فعليه أن يأخذ الشقص المشفوع بالشفعة، إذا كان النظرُ، والغبطة للصبي في الأخذ.
وهذا يُضبط بأن يقال: إذا كان للولي أن يشتري العقارَ للطفل، فعليه في مثل تلك الحالة أن يأخذ له بالشفعة، فإن لم يأخذ، فله الأخذ بعد البلوغ، والاستقلال بالنفس.
وبيان ذلك [أنه] (2) إن كان يفوت للصبي غبطة ظاهرة، فيتعين أخذُ الشفعة له، ولا يجوز إبطالها عليه، وإن كان في أخذها له ما يخالف النظر والغبطة، ووجه الصلاح، فليس للولي أن يأخذه.
وقد يعارض ذلك أمرٌ بذكره يبين المقصود. وهو أنه إذا تمكن الولي من شراء شيء للطفل ابتداء وكان في الشراء غبطةٌ ظاهرة، فلا شك أن الأوْلى للولي أن يشتري.
ولكن تردد الأئمة في أن ذلك هل يجب على الولي؟ فقال الأكثرون: يجب، ووجه ذلك ما تمهد من وجوب رعاية المصلحة.
وقال آخرون: لا يجب؛ فإن الذي يؤاخذ الولي به ألا يفرط في مال الطفل، فأما أن يحصّل له مالاً عن جهةٍ أخرى، فلا يلزم ذلك. ولو ألزمناه، لأوجبنا أن يبذل كنه المجهود في سلوك طرق المكاسب والمتاجر، ويبعد أن نوجب ذلك.
ومما ذكره الأئمة أنه لو أراد الولي أن يشتري شيئاً بمال الطفل، وما كان للطفل فيه منفعة، فهذا في حكم العبث، الذي لا يفيد شيئاً، ولا يجدي، وليس هذا النوع مما يفيد مصلحةً، وتصرف الولي في مال الطفل يجب أن يتقيد بالمصلحة الناجزة، أو بتوقعها على ظنٍّ غالب، وكان شيخي يقطع بأن التصرف الذي لا خير، ولا شر فيه ممنوع. وهذا حسنٌ متجه.
__________
(1) ر. المختصر: 3/54.
(2) ساقطة من الأصل.(7/384)
4784- ونحن نعود بعده إلى القول في الشفعة، فنقول: إن كانت المصلحة في الأخذ بالشفعة، فلا يجوز للولي الترك وجهاً واحداً، وليس على التردد الذي ذكرناه في ابتياع ما فيه مصلحة ظاهرة؛ فإن الأخذَ بالشفعة يُعد من حقوق الطفل، ولا يجوز تضييع حقه، والشراءُ ابتداءً ليس مستنداً إلى حق الطفل، فليفهم الناظر ذلك.
ثم إن أخذ الولي، فذاك، وإن لم يأخذ، فحق الطفل المَوْليِّ عليه لا يبطل، بل إذا بلغ واستقل، فله طلب الشفعة والأخذُ بها، ولو لم يكن في أخذ الشفعة مصلحةٌ، بل كانت المصلحة في تركها، قالوا: لا يأخذ بها، ولو أخذ بها، كان أخذُه مردوداً؛ فإن التصرفات في مال الطفل تنحصر في رعاية المصلحة، فلو بلغ الطفل مستقلاً، وأراد أخْذَ الشفعة، ففي المسألة وجهان: أظهرهما- أنه لا يثبت له ذلك؛ فإن الولي قد تركه مصلحةً ونظراً، فنفذ تركُه نفوذاً لا يستدرك.
والوجه الثاني - أن الصبي يأخذ حق الشفعة إن أراد؛ فإن الولي إن لم يأخذ بها لانحصار تصرفه فيما يجلب منفعة، فلا منفعة للطفل في إبطال حق شفعته.
ومما يتعلق بحقيقة هذا الفصل أن الغبطة إذا كانت في الأخذ، فتأخير الولي وتقصيره لا يبطل شفعةَ الطفل، بل لو صرح بالعفو، لم يظهر لعفوه أثر، والتقصير لا يزيد على العفو الصريح.
ويتصل [بهذا] (1) أن القاضي لو اطّلع على ترك الولي الطلبَ بالشفعة مع أن الغبطةَ في الأخذ بها، فإنه يتعين عليه أن يأخذ للطفل ما يتركه الولي، ولا يمتنع أن يكون على خبرة من مطالعة القوّام والأوصياء، كما سنذكره في موضعه، إن شاء الله تعالى.
ولا يلزمه أن يكون على بحثٍ عن أحوال الآباء والأجداد، بل يكل الأمر إليهم، واثقاً بشفقتهم، وسنذكر تفصيل ذلك في كتاب الوصايا، إن شاء الله عز وجل.
__________
(1) في الأصل: به.(7/385)
فصل
قال: "وإن اشترى شقصاً على أنهما جميعاً بالخيار، فلا شفعة ... إلى آخره" (1) .
4785- غرض الفصل الكلامُ في أن الشفيع هل يأخذ بالشفعة في زمان الخيار؟ وقد قال الأصحاب: إن كان الخيار للمتعاقدَين، أو للبائع وحده، فلا يثبت للشفيع حقُّ الأخذ؛ فإنّ أخذ الشفيع موضوعٌ في الشرع لدفع الضرر، فلو قدرنا له حق الأخذ مع بطلان خيار البائع، كان محالاً، فإن حقه يتعلق بالمشتري، ويستحيل أن يتضمن إبطال حق على غير المشتري. وإن قلنا: يأخذ الشفيع، ويبقى حق البائع في الخيار، فليس هذا الأخذَ المشروعَ؛ فإن الضرار لا يندفع به، بل هو قائم كما كان، فمهما لم يكن أخذ الشفيع محسمةً للضرر، ومقطعة له، فلا سبيل إلى إثبات حق الأخذ له. وهذا ظاهر في مقصود الشفعة.
وإن كان الخيار للمشتري وحده، فأحسن ترتيبٍ في ذلك أن نقول: إن حكمنا بأن الملك للمشتري في زمان الخيار، ففي المسألة طريقان: أحدهما - أن أخذ الشفيع ينبني (2) على الخلاف الذي ذكرناه إذا أراد الشفيعُ الأخذ، وأراد المشتري ردَّ الشقص بالعيب القديم، وقد ذكرنا اختلاف القول في ذلك، فليكن الأخذ في زمان الخيار بهذه المثابة، حتى يخرّج على قولين: أحدهما - أنه لا يأخذ استبقاءً لخيار المشتري. والثاني - أنه يأخذ وينقطع بأخذه خيارُ المشتري، كما ينقطع حقُّ رده بالعيب، ولا أحد يصير إلى إثبات الأخذ للشفيع، مع بقاء الخيرة للمشتري.
هذه طريقة.
ومن أصحابنا من رأى القطعَ بأن الشفيع لا يأخذ في زمان الخيار، بخلاف الأخذ والمشتري يهم بالرد؛ وذلك لأن الأخذ بالشفعة يستدعي إفضاء العقد إلى استقرار الملك، وليس الأمر كذلك في زمان الخيار.
__________
(1) ر. المختصر: 3/54.
(2) (ت 2) ، (ي) ، (هـ3) : الشفعة يخرّج.(7/386)
والصحيح في ترتيب المذهب إجراء القولين، ثم إن قلنا: إنه لا يأخذ، فيصبر إلى انقضاء الخيار، وانقطاعه بإلزام المشتري العقد، فإن فسخ، انقطع العقد، وفاتت الشفعة، وإن أجاز، أو انقضى الخيار، ثبتت الشفعة حينئذ.
وإن قلنا: يأخذ الشفيع في زمان الخيار، فيلزم العقد بأخذه، ولا خيرة للمشتري، كما تقدم، ولا خيرة للشفيع أيضاًً.
فإن قيل: هلا أحللتم الشفيع من المشتري محل الوَارِثِ من الموروث، ثم أصلكُمْ أن الوارث يخلف الموروث في خيار الشرط، فاطردوا ذلك في حق الشفيع؟
قلنا: لا سواء؛ فإن الوارث يردُّ على من كان يردّ عليه الموروث، واقتضت خلافة الوارث حلولَ الوارث محل الموروث، فإذاً تبذل المتصرف، والحقُّ بحالِه، لم يتبذل، وهذا حقيقة الوراثة في كل ما يجري الإرث فيه، والشفيع لو أثبتنا له الخيار ليردّ على البائع، كان محالاً؛ فإنه ليس يتلقى (1) الملكَ منه. وإن أثبتنا له الخيار ليردّ على المشتري، لكان هذا خياراً جديداً، لم يتضمنه العقد، وهذا حسَنٌ لطيف.
فإن قيل: أليس يثبت للشفيع حقُّ الرد بالعيب على المشتري؟ قلنا: أجل. وسببه استدراك الظلامة، والرد بهذه الجهة أمر يثبت شرعاً، وهو يرد على من يتلقى منه، وهذا الآن ظاهرٌ، لا حاجة إلى المزيد عليه.
وكل ما ذكرناه تفريعٌ على قولنا: إن الملك في زمان الخيار للمشتري.
4786- فأما إذا فرعنا على أن الملك في زمان الخيار للبائع، وإن انفرد المشتري بالخيار، فهذا القول أوّلاً ضعيفٌ. (2 والأصح والنص أن الملك للمشتري إذا كان منفرداً بالخيار.
فإن فرعنا على القول الضعيف 2) فالأصح أن الشفيع لا يأخذ بالشفعة؛ فإن أخْذه مبني على ثبوت الملك للمشتري، وإذا كان الملك القديم باقياً، بَعُدَ الأخذُ؛ إذ الشفعة أثبتت شرعاً عند تجدد ملك وحدوثِه، لأجنبي، وهذا ظاهر.
__________
(1) في غير الأصل: " لم يتلق ".
(2) ما بين القوسين سقط من (هـ 3) .(7/387)
ومن أصحابنا من ذكر وجهين في أن الشفيع هل يأخذ؟ ذكرهما صاحب التقريب، وأشار إليهما القاضي: أحد الوجهين- أنه يأخذ؛ فإنه لم يبق للبائع سلطان؛ إذ لوْ أراد تداركَ الأمر -ولا خيار له- لم يملك ذلك، فالحق كله للمشتري، [ولهذا] (1) التحقيق ضعُف قولُ بقاء الملك للبائع، وصار إطلاق ذلك في حكم اللفظ الذي لا حاصل له، ثم إن فرّعنا على هذا الوجه على ضعفه، فإذا أخذَ الشفيع، ملكَ؛ فإنه لا يبقى الخيارُ مع أخذه. وإذا انقطع الخيارُ، ثبت الملكُ، ومن ضرورة ذلك تقديرُ الملك للمشتري متقدّماً، وترتّبُ ملك الشفيع على ملكه.
وهذا يناظر في التفريع ما إذا اشترى رجل شيئاًً، وانفرد بالخيار، فلو باعه، نفذ بيعُه على الأصح، وإن قلنا: لا ملك له في زمان الخيار؛ فإن بيعَه يتضمن قطعَ الخيار أوّلاً تقديراً، ثم ينبني عليه تصحيحُ التصرف، وما تَحصّل ضمناً من هذه الأحكام له قياسٌ بيّن في الشرع.
هذا منتهى الكلام، واستكماله بسؤال وجوابٍ عنه، ينعطف على ما تقدم. فإن استبعد مستبعد إثباتَنا حق الشفعة في زمان الخيار لما فيه من قطع خيار المشتري.
قلنا له: إذا كان لا يبعد أن يقطع الشفيع ملكَه اللازم قهراً، لم يبعد أن يقطع حقه.
فصل
قال: "ولو كان مع الشفعة عَرْضٌ بثمنٍ واحد ... إلى آخره" (2) .
4787- إذا اشترى الرجل شقصاً ومنقولاً، أخذ الشفيع الشقص بقسطه من الثمن، وتركَ المنقول على المشتري، وهذا ظاهر. وقصد الشافعي الرد على مالك (3) رحمه الله، في إثباته الشفعةَ في بعض المنقولات، وذلك أنه قال (4) : إن كان مع الشقص منقول يتعلق بمصلحته، فلا يأخذه الشفيع، وإن اشتراه المشتري مع
__________
(1) في الأصل: " وهذا " والمثبت من (ت 2) ، (ي) ، (هـ3) .
(2) ر. المختصر: 3/54.
(3) ر. الكافي لابن عبد البر: 442.
(4) القائل الشافعي.(7/388)
الشقص، وهذا كالغلمان الذين يعملون في العقار، وكالثيران في الضيعة وآلاتِ الحرث، فلا يأخذ [الشفيع] (1) شيئاًً منها.
هذا مقصود الفصل.
ثم الاعتبار في قيمة التوزيع بوقت العقد؛ إذْ فيه يتوزع الثمن على المثمن، لم يختلف الأصحاب في ذلك.
ويتعلق بهذا فائدتان: إحداهما - أن هذا يدل على أن التوزيع مقتضى العقد؛ فإنه لو حمل على الضرورة المُحْوِجَة، لأمكن أن يقال: الاعتبار بحال طلب الشفيع.
والأخرى- أن الأصحاب أطلقوا العقد، فإن حكمنا بأن الملك ينتقل إلى المشتري بنفس العقد، فهذا متجه، وإن كنا لا نرى أخْذ الشفعة في زمان الخيار؛ فإن المقابل يحصل بتقدير انتقال الملك، وإن لم يكن على اللزوم، وإن حكمنا بأن الملك لا ينتقل ما لم يَنْقَضِ الخيار، أو ينقطع، فالمسألة محتملة احتمالاً ظاهراً، يجوز أن يقال: الاعتبار بقيمة يوم الانتقال؛ إذ فيه يتحقق الملك الحديث، الذي بسببه الشفعة، ويجوز أن يقال: الاعتبار بيوم العقد، وهذا هو الذي أطلقه الأصحاب من غير تفصيل. ووجهه أن العقد يرسم تقدير المقابلة، وإن كنا نتمارى في نقل الملك، فالاعتبار بما رسمه العقد. وهذا [فقيه] (2) حسن.
فصل
قال: "وعهدة المشتري على البائع ... إلى آخره" (3) .
4788- هذا الفصل من أصول الكتاب، فينبغي أن يكون للناظر بفهمه وجميع ما فيه فضلُ اعتناء، فنقول في قاعدة الفصل: إن الشفيع يرجع في عهدة ما أخذه على المشتري، لأنه يتلقى الملك منه، ويبني ملكَه على ملكه، فهو في حق المشتري بمثابة المشتري في حق البائع.
__________
(1) في جميع النسخ: المشتري، والمثبت تقدير منا، رعاية للسياق والسباق.
(2) في الأصل: تقدير حسن.
(3) ر. المختصر: 3/54.(7/389)
هذا أصل المذهب.
ومن موجبات هذا الأصل أن الشفيع يدفع الثمن إلى المشتري في الأحوال كلها، سواء كان الشقصُ في يده، أو في يد البائع، وسواء كان قد أدى المشتري الثمنَ إلى البائع، أوْ لم يُؤدّه، فيدفع الثمنَ إلى المشتري، ويرجع بالعهدة عليه.
ولو قال الشفيع والتفريع على قول الفور، والمبيع [بعدُ] (1) في يد البائع: لستُ أنقدُ الثمنَ، حتى ينقده المشتري. قلنا: ليس لك ذلك، ولا تعلّق لك بما بين المشتري والبائع.
ولكن يعترض في هذا شيء، وهو أنه [إذا] (2) دفع الثمن إلى المشتري، ولم يدفعه المشتري إلى البائع، والتفريع على أنه يثبت للبائع حق الحبس، ولا يستعقب أداءُ الشفيع الثمنَ إلى المشتري قدرة المشتري على تسليم المبيع، فالوجه في ذلك عندنا، أن يقال: إذا كان البائع حاضراً وكان توفيرُ الثمن عليه، وإلزامُه تسليمَ المبيع ممكناً، فليبذل الشفيعُ الثمنَ للمشتري، ثم إنه يتوصل إلى تسليم المبيع إلى الشفيع بطريقه. ولو كان البائع حاضراً، والمبيع معه، ويعلم أنه لا يقدر المشتري على التوصل إلى تحصيل المبيع في الحال، فلا يجب على الشفيع توفيرُ الثمن، وإذا أخر توفية الثمن على المشتري للعذر الذي ذكرناه، لم يكن مقصراً، ولم ينزل منزلة الشفيع يعجل الطلب، ويماطل بالثمن، حتى ينتهي الأمرُ إلى تفصيلٍ قدمناه، في أن شفعته تبطل في وجهٍ، ويُبطلها القاضي إذا استدعى المشتري ذلك في وجهٍ.
هذا الذي ذكرناه أصلُ المذهب، وبه الاعتبار، وعليه التعويل.
4789- وذكر صاحب التقريب وجهاًً بعيداً عن ابن سريج في العهدة، وهو أنه قال: عهدة الشفيع على البائع، وعليه رجوعه، وبه تعلقه، وإذا طالب بالشفعة، وكان قبض البائعُ الثمن من المشتري، رد ما قبض على المشتري، وأخذ من الشفيع ما يبذله، وينزل الشفيع منزلة المشتري، وكأنه المشتري في الحقيقة، ومن كان
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) ساقط من الأصل.(7/390)
مشترياً مرفوعاً من البين، وزعم أن الشفيع لا يدفع الثمن إلى غير البائع.
وهذا بعيدٌ جداً، لم أر أحداً من أصحابنا حكاه كذلك سوى صاحب التقريب، وكيف يستقيم المصيرُ إلى هذا، ولا خلاف أن الملك يحصل للمشتري بالشراء، وسبب ثبوت الشفعة ملك المشتري، فإن كان هذا القائل يسلم أن ملك الشفيع يترتب على ملك المشتري، فيبعد مع هذا تقديرُ رفعه من البين.
وإن كان يزعم أنا نقدر ارتفاع المشتري من البين؛ فإن الملك يرتد إلى البائع، فإذا ارتد إليه، فأي حاجةٍ إلى الشفعة.
ويتطرق إلى هذا [خبالٌ] (1) آخر، لا استقلال به، وهو أن ثمن العقد إذا كان عبداً مثلاً، فإن كُلّف البائع ردّه إلى المشتري، وأُلزم أن يقبل قيمته من الشفيع، فهذا كلام ساقط ليس في أساليب الفقه، وقوانين الشريعة، وإن جوز له أن يستمسك بالعبد، فكيف يسلّم الشفيع الثمنَ إليه، فإذاً لا وجه لعدّ ما نقله ابنُ سريج من متن المذهب.
ولا شك أن قياسه على ما نقله صاحب التقريب، يقتضي ردَّ العبد إلى المشتري، وأخذَ قيمتِه من الشفيع، ومساقه يوجب أن يرد الشفيع الشقصَ بالعيب على البائع، ومن يسلك هذا المسلك الذي حكاه صاحب التقريب، يلتزم جميع ذلك.
ولا عَوْد إلى هذا الوجه بعد هذا، ولا اعتداد به.
4790- والمقدار الذي حكاه الأئمة من تعلّق الشفيع بالبائع مخصوص بصورةٍ، وهي إذا اعترف الرجل أنه باع الشقص المشفوع من زيد، وأنكر زيدٌ الشراء أصلاً، وقد اختلف أصحابنا في ذلك، فذهب طوائف إلى أن الشفعة تثبت على ما سنفصلها.
وهذا اختيار المزني، ومذهب أبي حنيفة (2) .
وذهب ابن سريج في بعض أجوبته إلى أن الشفعة لا تثبت.
4791- توجيه الوجهين: من قال: لا تثبت الشفعة احتج بأن الشفيع (3) في قاعدة
__________
(1) في الأصل: خيال.
(2) ر. بدائع الصنائع: 5/30.
(3) (ت 2) : احتج بأن الشفيع إنما تثبت له الشفعة، فرعاً على الشراء؛ فإذا ... ، (ي) :=(7/391)
المذهب فرع المشتري، فإذا لم يثبت الشراء، وهو الأصل، فكيف تثبت الشفعة، وهي الفرع؟ ومن قال: تثبت الشفعة، احتج بأنَ البائع اعترف بالبيع ومصير الملك في الشقص إلى الشفيع، فإذا اعترف الشريكُ بالبيع وادّعاه من إليه مصير الملك، لزم من موجب القولين. ثبوتُ الحق لمن يدعي استحقاقَه، وهو الشفيع.
التفريع على الوجهين:
4792- إن حكمنا بأن الشفعة لا تثبت، فغاية ما نذكره على هذا أن نتوقف إلى ثبوت الشراء، ولا نثبت في الحال للشفيع شيئاً، فإن لم تكن بينة، فالقول قول المشتري مع يمينه، وينقطع الخصام بحلفه. وإن نكل، لم يخفَ ردُّ اليمين والحكمُ بها.
وإن فرعنا على ثبوت الشفعة، كما ذهب إليه المزني، فالشفيع يسلّم الثمن إلى من؟ ظهر اختلاف الأصحاب في ذلك على هذا الوجه: فقال قائلون: يسلم الثمن إلى البائع، فإنه وإن كان لا يتلقى الملكَ منه، والقياس يقتضي أن يسلم الثمن إلى من يتلقى الملك منه، فإذا قضينا بثبوت حق الشفعة، ولا سبيل إلى أخذ الشقص من غير عوض، والبائع يزعم أنه ما قبض الثمن، والشفيع معترف بالتزام الثمن، فالضرورة تقتضي صرفَ الثمن إلى البائع، كأنّ الشفيع في هذا المقام، هو المشتري المؤدي للثمن. هذا وجهٌ.
والوجه الثاني- أنه لا يسلم الثمن إلى البائع، ولكن يرفع (1) الأمرَ إلى الحاكم، فينصب الحاكم منصوباً نائباً عن المشتري، ويسلم الشفيعُ الثمنَ إليه، ثم ذلك المنصوب يسلم ما قبضه إلى البائع.
وهذا ضعيفٌ، لا اتجاه لهُ؛ فإن نصب المنصوب عمن لا يدعي لنفسه حقاً، لا حاصل له، والقُضاةُ إنما ينصبون المستنابين عن أصحاب الحقوق، إذا لم يكن لهم استقلال بطلب حقوقهم، لغيبةٍ، أو سقوط عبارةٍ، بجنونٍ، أو صبا، أو موت، فلا وجه إذاً لهذا التقدير، ولا تحقيق له.
__________
=احتج بأن الشفيع فرع المشتري، فإذا ... ، (هـ 3) : احتج بأن الشفيع المذهب أنه فرع المشتري، فإذا ...
(1) في الأصل: لا يرفع.(7/392)
ومن هذا الوجه يتضح إسقاط الشفعة، وليس للشافعي نص في إثباتها في الصورة التي ذكرناها.
4793- ومما يتعلق بالتفريع على مذهب المزني أنّ البائع لو اعترف بالبيع، وأنكر المشتري، واعترف البائع بأنه قبض الثمن من المشتري، فهذا فيه مزيد إشكالِ؛ من جهة أن الشفيع ليس يدعي الشقص من غير ثمن يبذله ولا مُدّعيَ للثمن الذي هو معترف به، ففي المسألة ثلاثة أوجه: أحدها - أنه يدفع الثمن إلى القاضي ليحفظه للمشتري.
والثانن- أنه يأخذ الشقص، ويبقى الثمن في ذمته إلى أن يدّعيه المشتري. ومن الممكن أن يعترف المشتري باستحقاق الثمن بعد الإنكار، وقد سبق تقرير (1) هذا في كتاب الأقارير.
والوجه الثالث - أنه لا شفعة في هذه الحالة، وإن فرّعنا على مذهب المزني، فإنّ أخذها من غير عوض عَسِر، ولا مدعي للعوض، فلا وجه إلا التوقف في الشفعة إلى بيان الأمر.
فهذا قاعدة المذهب في أصل العهدة.
4794- ثم استتم الأصحاب التفريعَ على الأصل الذي عليه التعويل، وعادوا إلى فرض الكلام في إقرار المشتري بالشراء مع إقرار البائع بالبيع، وأجرَوْا تفريعاتٍ في تسليم الثمن، لا بد من ذكرها.
فقالوا: إنْ دفع الشفيع الثمنَ إلى البائع، نُظر: فإن دفعه بأمر المشتري، فهو كما لو دفعه إلى المشتري، وهذا فيه إذا قال: ادفع الثمن إليه؛ فإنّ قوله هذا يتضمن احتساب ما يؤديه له.
ولو قال له: اقض [ما عليّ للبائع] (2) ، فقد ذكرنا أن من عليه الدين إذا قال لأجنبي: اقض دَيْني، ولم يُقيّد الإذنَ بشرط الرجوع، فإذا أدّى المأمورُ الدينَ، فهل يملك الرجوعَ؟ فيه الخلاف المشهور. وإذا قال المشتري للشفيع: أدّ ما للبائع
__________
(1) في (ي) : تقدير.
(2) في الأصل: بما على البائع.(7/393)
عليّ، فيظهر في هذه الصورة الاعتداد بما يؤديه؛ فإن الحالة القائمة بينهما مصرِّحةٌ بما أشرنا إليه.
وقد أشار بعض الأصحاب إلى تخريج هذا على الخلاف المذكور في أمر الأجنبي بأداء الدين، وهذا بعيد.
ثم إذا سلم الشفيع الثمنَ إلى المشتري، فيتحتم عليه أن يسعى في قبض المبيع من البائع وتسليمه إلى الشفيع، وكذلك إذا أدى الثمنَ بإذنه إلى البائع، [فيكلف القبض من البائع، ويسلّمه إلى الشفيع فذلك حقٌّ على المشتري] (1) .
وكل ذلك من تحقيق تعلّق عهدة الشفيع به.
4795- ولو أدّى الشفيع الثمن إلى البائع، دون أمر المشتري، فهذا رجُلٌ قضى ديْنَ الغير، دون أمرِه، فسقط الثمنُ عن المشتري، ولا يستحق الشفيعُ الشقصَ، وإن نقد الثمن، فيسلّم البائعُ المبيعَ إلى المشتري، ثم المشتري لا يلزمه تسليمُ الشقص إلى الشفيع، حتى يؤدي الثمنَ إلى المشتري؛ لأن الذي قدّمه كان تبرعاً منه، ولا يرجع المتبرع بما يتبرع به.
ولو دفع الشفيع الثمن إلى البائع، وقال: خذ هذا لأتملكَ الشقصَ بالشفعة، فهذا إذا قيده بشرط التملّك، فله أن يرجع على البائع بما أدّى؛ لأنه لم يتبرع، بل شرط شرطاً، ولم يحصل له ذلك.
وإذا جوزنا -عند إنكار المشتري- للشفيع أن يدفع الثمن إلى البائع المقرّ، فإذا عاد المشتري، وأقر بالشراء، لم يكن له أن يغرِّم الشفيعَ الثمن؛ فإنا سلطنا الشفيع على تسليم الثمن إلى البائع، فلا نُثبت للمشتري عليه مرجعاً.
4796- ومما أجراه الأئمة من المسائل المتصلة بأحكام العهدة القولُ في ركنين هما عماد العهدة، ونحن نستقصيهما بعون الله تعالى:
أحد الركنين- يتعلق بالرد بالعيب. والثاني- يتعلق بظهور الاستحقاق.
__________
(1) عبارة الأصل: "فتكليف القبض من البائع، وتسليمه إلى الشفيع حق على المشثري" والمثبت من (ت 2) ، (ي) ، (هـ 3) .(7/394)
فأما القول في الرد بالعيب، فإنه ينقسم إلى ردّ الثمن، وإلى رد الشقص.
فأما رد الثمن، فينقسم إلى رد البائع ثمنَ العقد الذي أخذه من المشتري، إذا اطلع على عيبٍ. وإلى رد المشتري ما قبضه من الشفيع إذا رآه معيباً.
فأمّا التفصيل في ثمن الشراء، فالوجه أن نصوّر الثمن عيناً معيَّنةً (1) ، ونقول: إذا اشترى الشقصَ المشفوعَ بعبدٍ معيّن فسلّمه إلى البائع، وأخذ الشفيع الشقصَ بقيمة العبدِ، ثم إن البائع وجد بالعبد عيباً قديماً، فردّه على المشتري، فالذي ذهب إليه الأئمة أن المشتري يغرَم للبائع قيمةَ الشقص؛ إذ لا سبيل إلى ردّه بعدما زال الملك عنه إلى الشفيع، وهو بمثابة ما لو اشترى داراً بعبدٍ، وقبضها، وباعها، ثم اطلع بائع الدار على عيبٍ بالعبد، فإنه يرده ولا يصادف الدارَ في ملك المشتري، فَيُلْزِمُه قيمتَها.
وكأن المبيعَ تالفٌ في حق البائع، فهذا هو المسلك البين والسبيل الممهد في المذهب.
4797- وذكر صاحب التقريب (2) قولاً بعيداً في المسألة، وهو أن البائع إذا ردّ الثمن بالعيب، فالمشتري يسترد الشقص من الشفيع، ويردّ عليه ما أخذه منه، ويرد الشقص على البائع.
وهذا القائل يقول: ردُّ البائع يتضمن نقضَ ملك الشفيع؛ فإنه بمنزلة المشتري، وإنما أخذ الشقصَ بالعقد الذي جرى بين البائع وبين المشتري، ولم يتجدد عقدٌ بين المشتري والشفيع. وهذا بمثابة ما لو خرج الثمن المعين مستحقاً؛ فإنا نتبين فساد العقد الأول، ويتبين من فساده فسادُ أخْذ الشفيع. وهذا قولٌ ضعيف لا اتجاه لهُ؛ فإنَّ أخْذَ الشفيع وملكَه جديد، وإن لم يُحوِج الشرعُ فيه إلى إجراء عقدٍ، فيستحيل أن ينتقض بردٍّ جرى في العقد الأول.
ثم فرع صاحب التقريب على هذا القول الضعيف، فقال: لو وجد البائع المشتري، ردّ عليه الثمنَ على التفصيل الذي ذكرناه، ولو لم يجد المشتري، ووجد الشفيعَ، فما حكمه؟ قال صاحب التقريب: لا يردّ الثمن على الشفيع؛ فإنه لم يتملكه من جهة
__________
(1) (ت 2) : الثمن معيناً، (ي) ، (هـ 3) : عيناً معيبة.
(2) (ت 2) : صاحب التهذيب.(7/395)
الشفيع، وإنما تملكه من جهة المشتري، ولكن يرفع الأمرَ إلى القاضي، فيقبض القاضي الثمن وهو العبد، ثم إن القاضي يبيع ذلك العبد، ويرد على الشفيع ما بذله من الثمن، فإن وفى قيمةُ العبد بما بذله الشفيع، فلا كلام، وإن لم يفِ ثمنُ العبد بما بذله الشفيع، فيقول الحاكم للبائع: إن تبرعت بتكميل ما بذله الشفيع أسترِدُّ منه الشقصَ، وأرده عليك، وإن لم تتبرع بالتميل، لم أسترد الشقص.
وهذا الذي ذكره خبطٌ عظيم، وخروج عن سبيل الفقه.
فأما إذا قلنا بالصحيح: وهو أن الشقص لا يسترد من الشفيع، ولكن يغرَم المشتري قيمةَ الشقص، فإن كانت قيمةُ الشقص مثلَ ما بذله الشفيع من غير زيادة، ولا نقصان، فلا كلام. وإن كان ما بذله المشتري من قيمة الشقص أكثر مما بذله الشفيع، فالمذهب أنه لا يرجع على الشفيع بتلك الزيادة أصلاً.
وذكر صاحب التقريب في المسألة قولاً آخر: إن المشتري يرجع على الشفيع بتلك الزيادة التي بذلها، وذكر العراقيون هذا القول، وله على ضعفه وجهٌ؛ فإن المشتري يقول للشفيع: ينبغي أن تاخذ الشقص بما قام عليّ الشقصُ به، وقد قام عليّ بهذا المبلغ الذي بذلتُه آخراً.
هذا إذا كانت قيمةُ الشقص أكثر مما بذله الشفيع.
فأما إذا كانت قيمةُ الشقص أقلَّ مما بذله الشفيع، فقد ذكر العراقيون في هذا الطرف وجهين أيضاًً: أحدهما - أن الشفيع لا يجد بتلك الزيادة مرجعاً. والوجه الثاني - أنه يرجع بتلك الزيادة على المشتري، وتوجيه الوجهين في صورة النقصان كتوجيه القولين (1) في صورة الزيادة.
ثم قال العراقيون: إذا قلنا: المشتري يغرَم قيمةَ الشقص فغرِمها، ثم رجع الشقص إلى المشتري بوجهٍ من الوجوه إما بهبةٍ أو ابتياعٍ، أو إرث، فإن أراد أن يرد الشقصَ ويستردَّ القيمة، إذ تمكن من ردّه الآن؛ أو أراد البائع أن يجبره على رد الشقص، فليس يثبت ذلك من الجانبين.
__________
(1) (ت 2) : الوجهين.(7/396)
وبمثله لو غصب عبداً فأبق من يده، وغرِم قيمته [لمالكه] (1) ثم ظفر بالعبد، فيرد العبد ويسترد القيمةَ، والفرق أن ملك المالك لم يزُل بإباق العبد، فيُرَد عليه ملكُه إذا عاد، وقد زال ملك المشتري عن الشقص، ونفذ الردُّ على القيمة، فلا مرد لذلك الرد، ولا تغيير له.
هذا كله تفصيل القول في رد البائع ثمنَ [العبد] (2) على المشتري.
4798- فأما الركن الثاني فيما إذا بذل الشفيع العوضَ للمشتري، وأخذ الشقصَ، فخرج ما بذله مستَحقاً، فالمشتري يُطالب الشفيع بالثمن الآن، وقد تبين أنه لم يوفِّ الثمن الذي كان عليه، ولا يتصور ردٌّ ينقض الشفعة؛ فإن ما يلتزمه الشفيع أبداً يكون واقعاً في ذمته، والعوض الثابت في الذمة لا يطرأ عليه ردٌّ يفسخ الأصل، والاستحقاق فيه غير قادحٍ في أصل التملك. فإن قال المشتري: قد قصرتَ إذْ أديتَ ما لم يكن لك، فيبطل حقُّك بتقصيرك، وتأخيرِك أدَاءَ ما عليك، فلا يخلو: إما أن يقول الشفيع: لم أدر أن ما أديتُه مستحَق، وإما أن يعترف بأنه كان عالماً بكونه مستحقاً إذْ أداه، فإن قال: لم أكن عالماً؛ فالقول قوله مع يمينه، إن مست الحاجة إلى التحليف، ولا تبطل الشفعة.
ولكن إن كان يملك بجهةِ توفيةِ الثمن؟ فهل نقول الآن تبيُّناً: إنه لم يملك الشقص، فعليه إن أراد التملك أن يوفي الثمن؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنا نتبين أنه لم يملك؛ فإن عماد الملك من هذه الجهة التوفية وأداء الثمن، وقد بان أنه لم يؤد الثمن.
والوجه الثاني- أن ملكَه ثابت في الشقص، لجريان القبض حسّاً وصورة، والقبض
من جهات تملك الشقص المشفوع، فيبقى الشقص ملكاً للشفيع، وهو مُطالب بالثمن.
هذا إذا قال: لم أعلم أن ما أديتُه مستحَقاً.
فأما إذا اعترف بكونه مستحَقاً، وبعلمه ذلك حالة التسليم، فهل نقول: يبطل حقه من الشفعة، لما صدر من تقصيره وتأخيره؟ فعلى وجهين. وهذا الخلاف قد قدمتُه بعينه، إذ قلتُ: لو ماطل بعد طلب الشفعة فهل نحكم بأن حقه يبطل أم يتوقف بطلان حقّه على أن يُبطلَه القاضي؟ فإن قلنا: يبطل حقه من الشفعة، فلا كلام. وإن قلنا:
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في الأصل: العقد.(7/397)
لا يبطل حقه من الشفعة، فهل نحكم بأنه ملَك الشقصَ بقبضه أم لا نحكم له بالملك؟ فعلى وجهين، مرتبين على ما إذا كان جاهلاً بأن ما أدّاه مستحق. وهذه الصورة الأخيرة أولى بأن نقول فيها: لا يحصل الملك.
فهذا تحصيل القول.
وما ذكرناه فيه إذا خرج ما أدّاه مستحقاً، أو خرج زيوفاً.
4799- فلو لم يكن مستحَقاً، ولكن كان معيباً، وكان من الممكن أن يرضى المشتري به فإذا لم يرض، وردّ، أما الشفعة، فلا تبطل؛ فإنه إن كان جاهلاً، فهو معذور، وإن كان عالماً، لم يبعد أن يقدِّر أنه يُسامَح ويساهَل في قبول ما أدّاه. فإن أبى المشتري إلا الاستبدالَ، فليفعل. والأصح أن ملك الشفيع لا يزول عن الشقص في هذه الصورة.
وفيه وجه آخر ضعيف: أن ملكه يزول، ولعل هذا القائل لا يحكم بثبوت الملك، ثم بزواله، بل يقول: كان الملك موقوفاً على ما يبين (1) .
وذكر القاضي صورةً بديعة في سياق هذه المسائل، فقال: لو قال الشفيع حالة تسليم الثمن: تملكتُ الشقص بهذه الدنانير، ثم خرجت مستحَقة، أو رديئة الجنس، فرُدّت. قال: في المسألة وجهان: أحدهما - أنه تبطل شفعته؛ لأنه أعطى ما لا يملكه، وعلّق الاستحقاق به.
والثاني - لا تبطل.
وخصص الخلافَ بالتعيين، وأطلق القول بأن الشفيع إذا لم يقل: تملكتُ الشقصَ بهذه الدنانير، ولكن جرى الإقباضُ والقبضُ مطلقاً، لم ينتقض الملك، ولم تبطل الشفعة.
أمّا ذكر الوفاق عند الإطلاق، فإخلالٌ بذكر خلاف الأصحاب، ولكنه متجه في المعنى.
والتفصيل البالغ ما ذكرناه.
[وأمّا ما ذكره في صورة التعيين] (2) ، فوجه الخلاف لم يأخذه من اعتقاد تعيين
__________
(1) في (ي) : "على تبين".
(2) في الأصل: فأما ما ذكره أولاً، فوجه الخلاف لم يأخذه..(7/398)
الدنانير، وإنما أخذه من لفظ الشفيع؛ إذ قال: تملكتُ بهذه، والترتيب أنا إن قلنا: المطلق مع العلم يتضمن الملك، فإذا لفظ بربط الملك بما يسلمه (1) ، فالمسألة محتملة. ويظهر أن لا يملك، ووجه تمليكه أن تعيينه باطل، فإن التعيين لا أصل له، وإنما ملك الشقص بقبضه.
هذا منتهى الغرض في هذا الركن من العهدة.
4800- ويلتحق به بعد نجازه أن الشفيع لو لم يكن قبض الشقص بعدُ، واطلع البائع على عيب بالعبد المسمى ثمناً، فإن أراد البائع الردَّ ليسترد الشقصَ، وأراد الشفيع أن يأخذ الشقص، فقد ذكرنا فيما تقدم أن المشتري لو أرادَ ردّ الشقص بالعيب، وأراد الشفيع أخذه، وبذْلَ الثمن فمن الذي يجابُ منهما إلى ملتمسه؟ في المسألة قولان، قدمنا ذكرهما.
والرد في هذه الصورة التي ذكرناها الآن من جهة البائع. وحاصل المذهب في هذا يحصره طريقان: من أصحابنا من أجرى القولين في هذه الصورة إجراءهما فيه إذا كان المشتري هو الذي يرد الشقص.
وسبيل التسوية بينهما أن في كل صورة من الصورتين ردّاً يتضمن نقضَ العقد الذي هو محل الشفعة، والشفيع يبغي بقاء العقد، ليدوم حقُّه، فينتظم القولان، مهما تعارض غرض الراد، وغرض الشفيع. ثم المشتري مدعوٌّ إلى أن يسترد من الشفيع مثلَ ما بذله أو قيمتَه، إن كان من ذوات القيم، والمشتري يبغي أن يسترد عين ماله، والبائع إذا كان هو الراد مدعوٌّ إلى أن يقنع بقيمة الشقص، وهو يبغي أن يسترد عينَه، فلا فرق، والتسوية اختيار القاضي.
ومن أصحابنا من قال: إذا كان الرّاد هو البائع والشفيع لم يملك الشقص بعدُ، فرأْيُ البائع متبعٌ؛ فإنّ رده نافذ، ولا ملك للشفيع بعدُ في الشقص، فتقديم غرض البائع أولى، وليس كرد المشتري؛ فإنه ينشىء الرد في [عين] (2) محل الشفعة، والبائع ينشىء الرد في غير محل الشفعة، وهو العبد.
__________
(1) (ت 2) : فإذا اللفظ مرتبط بما يسلمه، (ي) ، (هـ 3) : فإذا لفظ، فربط بما يسلمه.
(2) في الأصل: غير.(7/399)
وفي المسألة احتمال ظاهر، والتسوية أقيس.
4801- ومما نرى إلحاقه بأعقاب هذا الفصل أن المشتري لو وجد بالشقص عيباً قديماً، وقد امتنع عليه الرد به لعيب حدث في يده، فرجع على البائع بأرش العيب القديم، فذلك القدر يُحط عن الشفيع بلا خلافٍ؛ فإنه وإن جرى بعدَ العقد، فهو مستحَق بالعقد، ولو تمكن المشتري من الرد بالعيب القديم، ولكن اتفق البائع والمشتري على الرجوع إلى الأرش والمصالحة عليه، ففي صحة ذلك وجهان مشهوران. فإن قلنا: لا يصح، فلا كلام. وإن قلنا: يصح، فهل يُحط في هذه الصورة عن الشفيع ما حُط عن المشتري؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ أبو علي: أحدهما - يُحط، كما لو امتنع الرّد؛ فإنه في مقابلة عيبٍ بالشقص. والثاني- لا يحط؛ فإن هذه مصالحة عن حق الرد، لا عن [عين] (1) العيب.
وممَّا ذكره صاحب التقريب أن من اشترى شقصاً بعبدٍ، وكان العبدُ معيباً، فلما رآه البائع، رضي بعيبه، ولم يردّه، فإذا أراد الشفيع الشفعة أخذها بقيمة العبد معيباً، وليس للمشتري أن يُلزمه قيمةَ العبد سليماً، ويقول: تبرع البائع عليَّ إذْ رضي بعيب العبد، وجوّزه تجويزَ السليم، فاغرم أنت أيها الشفيع قيمته سليماً، فيقال له: ليس على الشفيع إلا قيمةُ ما عيَّنته، إن كان سليماً، التزم قيمةَ السليم، وإن كان معيباً، التزم قيمةَ المعيب؛ فإنّ حكم الشَّرع أن يلتزم الشفيع قيمةَ المعيّن ثمناً على ما هو عليه من صفاته. وغلط بعضُ المصنفين، وصار إلى أن الشفيع يغرَم قيمة العبدِ سليماً.
وهذا غلط صريح لا يشك فيه ذو تحصيل.
فصل
ذكره الأئمة في أثناء فصول العهدة، فرأينا إفراده
4802- ومضمونه مسائلُ، منها: أن الشفيع لو ضمن العهدة للمشتري في الثمن، لو فرض دَرَك (2) ، قال الأئمة: هذا لا يمنعه من طلب الشفعة إذا استقر العقد.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) الدرك هو ضمان العهدة عند الشافعية، وعرفوه بأنه: ضمان الثمن للمشتري، إن ظهر المبيع=(7/400)
وكذلك قالوا: لو ضمن للمشتري سلامة المبيع، أو ضمن الثمنَ للبائع، فلا يبطل حقُّ طلبه بهذه الجهات.
فإن قيل: [ما ذكرتموه] (1) في هذه الوجُوه يُشعر بتقرير المشتري على ما اشتراه، فهلا كان هذا رِضاً منه بأن يبقى الملك للمشتري، ويسقط حقُّه؟ قلنا: يُحمل ما يأتي في ذلك على قصدِ تمهيد سبب استحقاق الشفعة، والسعي في تحصيله؛ فإن الشفعة لا تثبت ما لم يثبت البيع.
4803- ولو وكل أجنبيٌّ شريكاً في الدار حتى يشتري له نصيبَ صاحبه، فإذا توكَّل، واشترى لموكله، فهل تبطل شفعته؟ ذكر الأصحاب وجهين: أحدهما - لا تبطل، لما قدمناهُ من حَمْل ما صدر منه على تحصيل سبب الشفعة، فأشبه ما تقدم من ضمان العهدة، وضمان الثمن. والثاني - يبطل حقه من الشفعة؛ لأنه تعاطى بنفسه تحصيلَ الملك للمشتري، فكان ذلك رضاً منه بدوام الملك.
وكان شيخي في غالب ظني يطرد الخلاف في الصورة المقدّمة. وهي ضمان العهدة، وضمان الثمن، والفرق على حالٍ بيّن. ولكن احتمالَ الخلاف في تلك الأسباب غيرُ بعيد.
فإن طردنا خلافاًً، رتبنا تعاطي الشراء للموكِّل على الأسباب. والذي ذكرته إن كان ينقدح في ضمان العهدة، فليس له ظهور في ضمان الثمن؛ فإن الشفيع ضامنٌ للثمن، ملتزم غير أنه يؤديه إلى المشتري، فإذا أضافه إلى البائع، فقد يُخيل ذلك شيئاًً على بعد.
وهذه التفريعات على قول الفور.
4804- ولو قال أحد الشريكين لصاحبه: بع نصيبي من فلان، فباعه منه، ففي بطلان الشفعة الوجهان المذكوران فيه إذا كان وكيلاً لذلك الأجنبي، [في الشراء] (2) .
__________
=مستحقاً، أو معيباً، أو ناقصاً، بعد قبضى الثمن. (الموسوعة الفقهية: 28/237 مادة ضمان. فقرة: 30) .
(1) في الأصل: ما ذكره.
(2) ساقط من الأصل.(7/401)
ولو عرض الشريك نصيبه على شريكه تأسياً بأمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، والحديث وارد في العرض على الجار، فاستنبط الأصحاب استحباب العرض على الشريك، واستدل الشافعي بحديث العرض على الجار على أن الجار لا شفعة له، وأن العرض غليه من مكارم الأخلاق؛ إذ لو كان يستحق الشفعة، لما كان في البيع من الغير تفويت عليه. ثم إذا اتفق العرض [على الشريك] (1) ، فرغب عن الابتياع وأبدى زهداً فيه، فإذا اتفق البيع، فله الشفعة، لم يختلف الأصحاب فيه؛ بناءً على أن إسقاط الشفعة قبل ثبوتها باطلٌ، غيرُ مؤثر.
وليس ما ذكرناه بمثابة ما لو كان الشريك وكيلاً في البيع من الأجنبي، وفي الشراء له؛ فإن ذلك خوض منه في عين إزالة الملك إلى الأجنبي، فانتظم فيه الخلاف، وليس في العرض هذا المعنى.
فرع يتعلق بعلائق العهدة:
4805- إذا أخذ الشفيع الشقص وبنى فيه أو غرس، فاستُحق الشقصُ، وقلعَ المستحِقُّ غراسه وبناءه، فلا شك أن الشفيع يرجع بالثمن على المشتري إذا كان وفر الثمن عليه. ثم التفصيل فيما عدا الثمن كالتفصيل المقرر في المشتري من الغاصب، وقد أوضحنا مواضع الخلاف والوفاق فيما يرجع به على البائع الغاصب، فنزل الأئمةُ الشفيعَ من المشتري، منزلة المشتري من الغاصب البائع، في كل ما تقدم.
ومما أثبت القاضي للشفيع الرجوعَ به قاطعاً قولَه، التفاوتُ الواقع بين قيمة الغراس والبناء قائماً ومقلوعاً، وهذه طريقة في المشتري من الغاصب على جهل. وكان شيخي يفتي بهذا.
والوجه عندنا إلحاقُ هذا بأحكام الغرور؛ فإنه هو الذي تعاطى البناء والغراس، ولكن اتصل فعله بتغرير من جهة غيره، فخرج (2) على قولي تقديم الطعام المغصوب إلى الضيف.
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) (ت 2) ، (ي) ، (هـ 3) : فحمل.(7/402)
وكان شيخي يذكر الخلاف ويميل إلى إثبات الرجوع، رعايةً للمصلحة.
4806- والذي يدور في خلد الفقيه مما ذكرناه أن المشتري لم يعاقد الشفيع اختياراً، وإنما أخذ الشفيع الشقص قهراً، فالضمان الذي يتعلق بسبب الغرور، كيف يتعلق به، وهو ما غرّ أحداً. وهذا فيه إشكال لا ننكره، ولم يتعرض له أحد من الأصحاب، ويمكن أن يُفصَّلَ القولُ فيه، فيقال: إن قبض المشتري الثمن أو طالب به، أو لم يُبدِ كراهيةً، وجرى مع الشفيع على صفة المطاوعة، فقد يقال: هذا منه بمثابة البيع. فأما إذا وقع الفرض في أَخْذ الشقص منه، وهو ممتنع محمول على تسليم الشقص بالقهر، فلا يكون مغرّراً، ولكن الفقه فيما (1) ذكره الأصحاب: أنه في شرائه مختارٌ، وأخْذ الشفيع موجَبُ شرائه، فارتبط هذا بما يختاره وينشئه، وهذا متجه حسن.
فإن تعرض متعرض لفرض جهل المشتري بكون المشترَى مغصوباً، أشعر ذلك بعروه عن التحصيل؛ فإن أحكام الضمان في الغصوب لا تختلف بالعلم والجهل، وإنما يفارق العالمُ الجاهلَ في المأثم. نعم، شرط المغرور أن يكون جاهلاً؛ فإنه لو كان عالماً بحقيقة الحالة، لم يقع الغرور تصوُّراً، حتى يناط به حكم. فأما الواقف موقف من يغرِّر، فلا يختلف حكمه بعلمه وجهله، إذا اغتر المغرور بقوله أو بفعله.
فصل (2)
ثم إن المزني جمع مسائل [تحرَّى] (3) فيها مذهب الشافعي.
قال المزني: "وإذا تبرّأ البائع من عيوب الشفعة ... إلى آخره" (4) .
4807- جمع المزني مسائل قليلة النَّزَل (5) ، وأجراها على قواعد المذهب، ونحن
__________
(1) في غير الأصل: " ولكن الفقه الذي ذكره ... ".
(2) العنوان (فصل) انفردت به نسخة الأصل.
(3) في الأصل: " يُجري" والمثبت من (ي) ، (هـ 3) .
(4) ر. المختصر: 3/55.
(5) (ي) : النزر. والنَّزَل (بفتح النون مشدّدة، وفتح الزاي) العطاء، والفضل، والبركة (معجم) .(7/403)
نَجري على ترتيبه فيها، فمن ذلك هذه المسألة (1) ، واختلف الأصحاب في صورتها، فمنهم من قال: صورة المسألة: إذا اشترى بشرط البراءة من العيوب -وقد استقصينا القولَ في ذلك في بابٍ من كتاب البيع- ففي صحة الشراء خلاف، ثم إن صح، ففي صحة الشرط قولان، فإن صح الشرط، لم يملك المشتري الرد بالعيب؛ لأنه [يبرأ] (2) البائع بحكم الشرط عن الرد بالعيب.
ولكن هذا يختص به فإذا اطلع الشفيع على عيبٍ بالشقص المشفوع، ردّه على المشتري، ولم يكن للمشتري أن يقول: إنما أخذتُ الشفعة (3) بصفقةٍ متضمنُها البراءةُ من العيوب، فالتزمْها؛ فإن الشفيع مع المشتري بمثابة المشتري من المشتري، في هذه القضايا. والبراءة وإن صحت، فهي مختصة بالمشتري، ولا تتعدّاه.
وإذا أخذ الشفيع، لم يفرق بين أن يكون عالماً بسقوط حق المشتري، وبين أن يكون جاهلاً؛ فإن حقه في استدراك الظلامة لا يختلف بإسقاط المشتري حقَّ نفسه.
4808- ومن أصحابنا من قال: صورة المسألة أن يطّلع المشتري على عيبٍ (4) ، والمراد بحصول البراءة هذا؛ فإن المزني لو أراد فرض الكلام في شرط البراءة، لذكر الخلاف، وما قيل فيه رمزاً أو تصريحاً؛ فإنه يتسرع إلى ذكر مثل ذلك، وإلى إعادة اختياراته في صور الخلاف، فالمسألة مصورة في سقوط حق المشتري من الرّد بسبب اطلاعه على العيب. وهذا مُسقط لحق الرد وفاقاً.
ثم الترتيب فيه أن الشفيع إن اطلع كما اطلع المشتري، ثم أخذ الشفعة، لم يملك الرد، وإن لم يطلع المشتري، ولا الشفيع رد الشفيع على المشتري، ثم يرد المشتري على البائع على الترتيب البيّن فيه، إذا اشترى رجل شيئاًً من مشترٍ، ثم اطلع على عيبٍ.
ولو لم يطلع المشتري واطلع الشفيع، وأخذ، لم يملك الردّ على المشتري، والمشتري لا يرجع بأرش العيب على البائع منه؛ فإن الذي لحقه من النقصان قد روّجه
__________
(1) الإشارة إلى مسألة البراءة من العيب في رأس الفصل.
(2) في الأصل: لا يبرأ.
(3) "الشفعة": المراد (الشقص) محل الشفعة، وإلا فالمشتري ليس شفيعاً.
(4) أي ورضاه به؛ فيسقط حقه في الرد.(7/404)
على غيره. [وكل] (1) هذا مما سبق في البيع.
وإذا قلنا: الشفيع مع المشتري كالمشتري من المشتري في مضمون هذا الفصل، فما غادرنا من البيان شيئاً، إذا لم يكن في الفصل استثناء.
ثم ذكر المزني بعد هذا فصلاً في خروج الثمن الذي عينه المشتري مستحقاً، وقد أدرجنا هذا في فصول [العهدة] (2) مبيناً، فلا نعيده.
فصل
قال: "ولو حط البائع ... إلى آخره" (3) .
4809- مقصود الفصل يتعلق بشيئين: أحدهما - فيه إذا تبرع البائع، وحطّ عن المشتري شيئاًً من الثمن. والثاني- فيه إذا حط عن المشتري أرش العيب. وهذا الأخير أجريناه مستقصىً في فصل العهدة.
فأما إذا تبرعّ البائع بحط شيء من الثمن، فلا يخلو إمّا أن يتفق ذلك بعد لزوم العقد، وإما أن يجري والعقدُ جائز في مكان الخيار، أو زمان الخيار، فإن جرى الحط بعد اللزوم، فهو [منحة] (4) تختص بالمشتري، فلا تلحق الشفيع، وهذا فرع أصلٍ، قد أوضحناه في البيع، وهو أن الزوائد، والحط، والتغايير بعد اللزوم، لا تلحق العقد عندنا، خلافاً لأبي حنيفة (5) ، وقد خالف هاهنا في الحط، وصار إلى أن ما حُط عن المشتري محطوطٌ عن الشفيع، إذا بقي من الثمن شيء، ووافق أنه لو حُط عن المشتري تمامُ الثمن، لم يؤثر ذلك في حق الشفيع، وكان مُطالباً من جهة المشتري بتمام الثمن، ووافق أيضاًً أن البائع والمشتري لو ألحقا زيادة بالثمن، لزمت المشتري، ولم تلحق الشفيع.
__________
(1) في الأصل: روّجه على غيره، ورجّاه. ولكن.
(2) في الأصل: العهد.
(3) ر. المختصر: 3/55.
(4) في النسخ كلها: متجه. والمثبت تقدير منا. نرجو أن يكون هو مراد المؤلف.
(5) ر. حاشية ابن عابدين: 5/146.(7/405)
هذا في الحط بعد اللزوم.
4810- فأما إذا جرى الحط في زمان الخيار، لم يخل: إما أن يُحط البعضُ أو يُحط الكل.
فإن حُط البعضُ، فأحسن ترتيب فيه أن نقول: ينبغي أن يُبنى هذا على الأقوال في أن الخيار هل يمنع نقل الملك؟ فإن قلنا: إنه لا يمنع نقل الملك، فكما يملك المشتري المبيعَ، فكذلك يملك البائع الثمن، فإذا جرى الإبراء من البائع، فهو مصافٌ ملكَه؛ فإن الثمن ملكُه، فيصح الإبراء لمصادفته ملكَ البائع. هكذا ذكره الأئمة.
وفي صحة الإبراء عندي احتمال خارج على تردد الأصحاب في إعتاق المشتري: هل ينفذ في العبد المشترَى في زمان الخيار على قولنا: إن الملك للمشتري؟ فإذا ترددوا في العتق [مع] (1) سلطانه، لم يبعد التردد في الإبراء؛ فإن المبيع متعلَّق خيار البائع، فامتنع لذلك نفوذ تصرفات المشتري عند طوائفَ من الأصحاب. كذلك الثمن متعلق خيار المشتري، فلا يبعد أن يمتنع تصرفُ البائع فيه، سيّما إذا منعنا الإبراء عما لم يجب، وإن وجد سببُ وجُوبه.
فإن فرعنا على ما ذكره الأصحاب من نفوذ الإبراء، فلا شك أنه على معنى الوقف، حتى لو اختار المشتري الفسخ، وارتد المبيعُ، فلا أثر لما تقدم من الإبراء، إلا على قول ضعيفٍ في أن المرأة إذا أبرأت زوجها عن الصداق الواقع في ذمته، ثم إنه طلقها قبل المسيس، فالمذهب أنه لا يطالبها بنصف الصداق، وفيه قول غريب، وهو يخرّج على ما إذا وهبت عين الصداق من زوجها، ثم طلقها قبل المسيس. فإذا حكمنا بنفوذ الإبراء، فهل يلحق هذا الحطُّ المشتري على هذا القول الذي نفرع عليه؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يلحقه، بل لا يلحق العقد، وإنما هو تغيير بعد العقد، فشابه التغيير بعد اللزوم، ومعتمد المذهب في امتناع التحاق التغايير بالعقد أن العقد إذا عقد على صيغة، فلا حاصل للإلحاق بها، إلا أن ترفع تلك الصيغة، وتستفتحَ أخرى.
__________
(1) في الأصل: وسلطانه.(7/406)
والوجه الثاني- أن الحط يلحق العقد؛ فإن العقد في زمان الجواز يضاهي حالة تواجب المتعاقدين بالإيجاب والقبول، فيقبل من التغيير ما لا يقبله إذا لزم.
هذا كله إذا فرعنا على أن الخيار لا يمنع نقل الملك.
4811- فأما إذا قلنا: يمنع نقل الملك، فكما لا يملك المشتري المبيع، لا يملك البائع الثمن. فإذا أبرأ البائعُ عن بعض الثمن، فقد ذكر القاضي وجهين في صحة الحط: أحدهما - أنه لا يصح؛ لأنه تصرفٌ من البائع فيما ليس بمملوك له، فلغا.
والثاني - يصح، ويلحق أصلَ العقد، وهذا يعتضد بتعامل الخلق في الأعصار، المنقضية.
فإن قلنا: لا يصح الحط، فلا كلام. وإن حكمنا بصحة الحط، فالأصح أن الحط على هذا القول يلحق بالعقد؛ فإنه في حكم توطئة العقد وتقريره، وما يجري من ذلك قبل اللزوم وانتقال الملك، فهو بمثابة ما يجري بين المتساومَيْن، قبل التواجب.
ومن أصحابنا من قال: في لحوق هذا الحط العقدَ وجهان. وهذا وإن كان يبعدُ بعض البعد، فله خروج على ما قدمناه، من أن تغيير العقد برفعه وابتدائه، ولا يختلف في ذلك حُكم الجواز واللزوم.
هذا بيان التفصيل في الحط في زمان الخيار.
والقفال كان لا يزيد في دروسه على أن يقول: الصحيح نفوذ الحط ملتحقاً بالعقد. وما ذكرناه من التخريج على أقوال (1) الملك أورده العراقيون، وهو حسن لا بد منه.
ثم إن ألحقنا حط البعض بالعقد، أثبتنا الحط في حق الشفيع، وإن جعلناه طارئاً على العقد، غيرَ ملتحق، فهو بمثابة الحط بعد الانبرام، فحكمه الاختصاص بالمشتري.
4812- ولو حط البائع جملة الثمن، تفرع هذا على ما ذكرناه، فإن جعلنا حط البعض في زمان الخيار، كحطه بعد الانبرام، فحط الجميع بهذه المثابة، والشفيع
__________
(1) في (ت 2) : قول.(7/407)
مُطالب بتمام الثمن، وإن ألحقنا حطَّ البعض بالعقد، وجعلنا كان الثمن المسمى ما بقي بعد الحط، فحط الجميع يُفسد العقد لا محالة؛ من حيث يتضمن تعريتَه عن الثمن، غنَيْنا بالفساد أن البيع لا يثبت.
ووراء ذلك نظرٌ آخر، وهو أن الرجل إذا قال لإنسان: بعت منك عبدي هذا بلا ثمن، فلا شك أن ما أجراه ليس بيعاًً، ولكنه هبةٌ مملِّكةٌ صحيحة، أم ليست هبةً؟ في ذلك وجهان ذكرهما القاضي وغيره: أحدهما - أنه هبة؛ لإشعار اللفظ بالتمليك، مع التنصيص على نفي العوض، وهذا معنى الهبة.
والثاني - أنه ليس هبةً؛ فإن البيع في وضعه صريح في اقتضاء العوض، فإذا قرن بنفي العوض: كان جمعاً بين النقيضين. والعقود الصحيحة لا تنتظم من العبارات الفاسدة.
وعبر المحققون عن الوجهين بأن الاعتبار بمعنى اللفظ ومقصود اللافظ، أو بصيغة اللفظ، فإن اعتبرنا مقصود اللافظ، اقتضى ذلك تصحيحَ الهبة، وإن اعتبرنا صيغة اللفظ، فهي فاسدة، ومعتمد العقود الألفاظ.
التفريع على الوجهين:
4813- إن حكمنا بصحة الهبة، لم يخفَ حكمُها، وافتقارُها إلى القبض، وإن لم نصحح من هذا اللفظِ هبةً، فلا شك، أن ما يقبضه ملكُ البائع، ولكن اختلف أصحابنا في أنه أمانة في يده، أو مضمون: فمنهم من قال: هو مضمون؛ لأنه مقبوض عن بيع فاسدٍ. ومنهم من قال: هو أمانة؛ لأن علائق الضمان نتيجة ما في العقد الفاسد من اقتضاء العوض، وإن كان على الفساد، وإذا قال بعتك بلا ثمنٍ، فليس فيما جاء به ما يتضمن عُهدة، ولا عُلقة، من طريق العوض. وعن هذا قال الأصحاب: إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق على زق خمر، فقبلت، بانت، وعليها مهر المثل. ولو قال: أنت طالق على الريح، وقع الطلاق رجعياً، ولم يقبض عوضاًً.
هذا حقيقة القول في ذلك.
فإذا فرض الحط في الجميع، وألحقنا ذلك بالعقد، وأخرجناه عن كونه بيعاً، انتظم بعد ذلك تبيُّناً ما لو قال ابتداءً: بعت منك هذا بلا ثمن.(7/408)
فصل
4814- إذا ادعى على رجل أنه اشترى شقصاً له فيه شفعة، فأنكر المدعى عليه، فالقول في حكم الاختلاف على هذا الوجه قدمناه مستقصىً في أدراج الفصول، ولكن المزني ذكره في مسائل التحري، فنعيده على الإيجاز، فنقول: للإنكار صيغتان مقبولتان: إحداهما تعرِض لمضادة الدعوى لفظاً ومعنى، مثل أن يقول المدّعي: اشتريتَ شقصاً فيه شفعة، فيقول المدعى عليه: ما اشتريت.
والثانية تعرِض لمضادة مقصود الدعوى، ولا تناقضها لفظاً. مثل أن يقول في جواب المدعي -والدعوى على ما وصفناه- لا يلزمني تسليم هذا الشقص إليك، فهذا الإنكار يُكتفى به، وسبب الاكتفاء به أن الشفعة ربما كانت تثبت، ثم سقطت بتقصير من الشفيع، أوعفوٍ. ولو اعترف المدعى عليه بصورة الحال، لكان مؤاخذاً بالإقرار بالشفعة، مدّعياً سقوطها. والقول قول الشفيع في نفي ما يُدَّعَى عليهِ، فسوَّغَ الشرعُ للمدعى عليه أن يبهم الإنكار. وهذا من أسرار الخصومات، ولا يمكن التطفل ببسط القول في ذلك هاهنا، ولا اختصاص لهذه الصورة بهذا النوع من الإنكار، فليقع الاكتفاء بنقل الوفاق في صحة هذا الإنكار، ثم يحلف على حسب إنكاره.
فإن أتى بالصيغة المصرحة بنفي الشراء، ولما عرضنا اليمين أراد أن يحلف: لا يلزمه تسليم الشقص، فهل يُقبل اليمين كذلك؟ فعلى وجهين مشهورين جاريين في نظائر هذه الصورة، وموضع استقصائهما الدعاوى.
ولو أقام المدعي بينة على الشراء، لما أنكر المشتري، وحكمنا بالشفعة، فيأخذ الشقصَ، والمدَّعى عليه لا يخلو إما أن يعترف الآن، أو يصر على إنكاره، فإن اعترف، صرفنا الثمن إليه، وإن أصر على إنكاره، ففي المسألة الأوجه الثلاثة الجارية في أمثال هذه المسألة: أحدها - أنه يجبر المدعى عليه على القبول، أو الإبراء، حتى تبرأ ذمة الشفيع؛ فإن الإنكار والإقرار لا يبرئان الذمم. والوجه الثاني - أنه يترك الثمن في [ذمة] (1) الشفيع إلى أن يعترف به المدعى عليه. والوجه الثالث - أنه يؤخذ الثمن
__________
(1) في الأصل: يد.(7/409)
منه ويوضع حيث توضع الأموال المشكلة، ثم يرى السلطان رأيه فيها. وشفاء الغليل في ذلك يتعلق بالإيالة الكبيرة (1) ، ولكنا لا نخلي هذا المذهب (2) عن شفاء الغليل إذا رأينا الانتهاء إلى ذكره.
فصل
قال: "ولو أن رجلين باعا من رجلٍ شقصاً ... إلى آخره" (3) .
4815- إذا اشترى رجلان من واحدٍ شقصاً، فللشفيع أن يأخذ نصيب أحدهما، ويترك نصيب الثاني، لم يختلف أصحابنا فيه. فإن قيل: أليس حكيتم قولاً في كتاب البيع أن أحد المشتريين لا ينفرد برد ما اشتراه على البائع، وجعلتم اتحاد البائع مقتضياً اتحاد الصفقة، فهلا خرّجتم هذا القولَ في منع تبعيض الشفعة؟ قلنا: ذلك القول على ضعفه له خروج؛ من قبل أن المبيع خرج جملة واحدة، من ملك البائع، فلو رجع إليه بعضه، لتضرر لا محالة، فكان سببُ منع الرد في ذلك القولِ القديم هذا، والشفعة لا تؤخذ من مأخذ الرد؛ فإنّ الشفيع يأخذ من المشتري، فينبغي ألا يتبعض على من يأخذ منه، فقلنا: إذا اشترى رجلان من رجلٍ، فللشفيع أن يأخذ نصيب أحدهما، ويترك نصيب الآخر؛ إذ لا تعلق لأحد المشتريين بالثاني، فلا تبعيض على المأخوذ منه.
ولو اشترى رجل من رجلين شقصاً، قال المزني: للشفيع أن يأخذ نصيب أحد البائعين، وقاس ذلك على الرد بالعيب؛ فإنه لو اطلع على عيبٍ بما اشتراه، كان له أن يردّ على أحد البائعين، ويُمسك ما اشتراه من الثاني.
4816- وقد اختلف أصحابنا في ذلك، فذهب بعضهم إلى موافقة المزني، وهو القياس؛ فإن تعدد البائع يتضمن تعدد العقد والصفقة، ولو اشترى رجل واحدٌ من رجل واحدٍ شقصاً، في صفقتين، فللشفيع أن يأخذ مضمون إحدى الصفقتين، فليكن
__________
(1) الإيالة الكبيرة: أي أحكام الخلافة، وسياسة الأمة. وقد أفرد لها الإمام كتابه الماتع (الغياثي) .
(2) المذهب: المراد به هذا الكتاب؛ فقد سماه بذلك في مقدمته.
(3) ر. المختصر: 3/56.(7/410)
الأمر كذلك فيما نحن فيه؛ فإنهما إذا قالا: بعنا منك، فكل واحد من البائعين متميز (1) عن الثاني، والقبول وإن اتحد من حيث الصيغة، متعدد من حيث المعنى، والمعنى أولى بالاتباع.
ومن أصحابنا من خالف المزني، وقال: ليس للشفيع أن يأخذ بعضاً، ويترك بعضاً، لأن فيه تبعيضَ الشقص على المشتري. وقد ملَكه دفعة واحدة.
ولو اشترى واحدٌ شقصين من دارين من رجلٍ واحد، وكان (2) شفيعهما واحداً، فالصفقة متَّحدة إذا نظرنا إلى البائع والمشتري، وقد تمهد أن الصفقة لا تتعدد بتعدد المعقود عليهِ، إذا لم يكن في العقد عليهما اختلاف. فلو أراد الشفيع أخذ الشقصين من الدارين، فله ذلك. وإن أراد أخذ أحد الشقصين، وتَرْكَ الآخر، ففي المسألة وجهان مشهوران، وسبب الخلاف أنه ليس في أخذ أحدهما وترك الثاني تبعيضُ شقصٍ من دارٍ واحدة. وهذا بعينه هو الاختلاف المذكور في تفريق الصفقة بما يطرأ عليها آخراً، مثل أن يشتري الرجل عبدين، فيجد بهما أو بأحدهما عيباً، فأراد ردَّ واحد بالعيب، وإمساك الثاني بقسطٍ من الثمن، ففي ذلك قولان. ولا مأخذ لهما إلا تفريق الصفقة؛ إذْ لا ضرار من جهة التبعيض.
ولو اشترى عبداً، فوجده معيباًً، فأراد ردَّ بعضِه، لم يكن له ذلك، لما فيه من ضرار التبعيض، وهذا يناظر ما لو اشترى شقصاً في صفقة واحدةٍ، فأراد الشفيع أخْذ بعضه، وترك الباقي.
4817- ولو اشترى شخصان من شخصين شقصين من دارين، شفيعهما واحد، فهذه الصورة يلتف (3) فيها وجوه من التفريق، فانظر كيف تجري فيها، وقد أصبتَ (4) ، فالشفيع بالخيار بين أن يأخذ الشقصين، وبين أن يأخذ النصف من كل واحد منهما من واحدٍ (5) ، وبين أن يأخذ نصف أحد الشقصين من أحدهما، ومن
__________
(1) في الأصل: غير متميز.
(2) ت 2: كانت شفعتهما واحداً.
(3) في (ت 2) ، (ي) ، (هـ 3) : يلتفت.
(4) المراد أن كل صور التفريق تصح فيها.
(5) أي من واحدٍ من المشتريين.(7/411)
الثاني كلا النصفين، وبين أن يأخذ نصف شقصٍ من واحدٍ، ونصف الثاني من الآخر، إذا جوزنا تفريق الصفقة في الشفعة.
ثم ذكر المزني الاختلاف في مقدار الثمن وقد مضى.
وذكر ما لو كان الثمن [عبداً] (1) معيّناً فخرج مستحقاً، وهذا استقصيناه في أحكام العهدة.
وذكر بعده ما لو ثبت الشقص عِوضاً عن صلح على إنكارٍ، و [بان] (2) فساد الصلح، ثم قال: فلا شفعة إذاً.
ولا حاجة إلى ذكر شيء من هذا.
فصل
قال: "ولو أقام رَجُلان كلُّ واحدٍ منهما بينةً أنه اشترى من هذه الدار شقصاً ... إلى آخره" (3) .
4818- صورة المسألة: دارٌ في يد رجلين، اعترف كل واحدٍ منهما بأنه اشترى نصفَها، ولكنهما تنازعا في التاريخ، فادعى كل واحد منهما أنه اشترى نصيبه قبل صاحبه، وله الشفعة فيما اشتراه صاحبه، فإذا تنازعا كذلك ولا بينة لواحد منهما، فالذي جاءا به خصومتان: إحداهما متميزة عن الأخرى، وليس اختلافهما بمثابة التنازع من المتبايعين، في مقدار ثمن المبيع أو جنسه.
وإذا كان كذلك، فمن ابتدر منهما، وادّعى في مجلس الحكم، فالقاضي يفصل خصومتَه، وإن جاءا وادّعيا معاً، لم يُتركا كذلك، فإن تنازعا في البداية، أقرع بينهما، فمن خرجت قرعتُه، نصبناه مدعياً، وأجرينا خصومته بطريقها. فإذا قال من تقدم وفاقاً، أو قدمته القرعة: اشتريت نصيبي قبل صاحبي، فالقول قول صاحبه مع يمينه، لا ينبغي أن يحلف على البتِ أن صاحبه ما اشترى قبله، ولكن يحلف أنه
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في الأصل، (ت 2) ، (ي) : وأبان.
(3) المختصر: 3/57.(7/412)
ما اشترى بعده، لتتعلق يمينه برد الدعوى على هذه القضية، فإن نَفْيَ فعل الغير بيمين باتَّة لا وجه له في صيغ الأيْمان. فإذا حلف على هذا، انتجزت الخصومة وينتصب المدعى عليه مدعياً، فيدعي أنه اشترى نصيبه قبل نصيب صاحبه، والقول قول صاحبه مع يمينه، فإن حلف صاحبه، كما حلف هو، أقررنا الدار بينهما، ونفينا الشفعة، وكلٌّ على ما اشتراه.
وإن نكل الأول لما حلّفناه، حلف صاحبه، واستحق الشفعة، فلو أراد المدعى عليه بعدما نكل، ورُدّت اليمين أن يدعي دعواه، صائراً إلى أن هذه خصومة أخرى، لم نمكنه من ذلك؛ فإن نصيبه قد أخذ بالشفعة، وحلف صاحبه يمين الرد، على أبلغ وجه في التصريح، فكيف نحلفه مرة أخرى على الإبهام؛ فإن يمين المدعى عليه تقع على النفي، كما تقدم، وإذا أخذ الشقصَ بالشفعة، فقد انقطعت الخصومة.
وهذا من لطيف أحكام الخصومات؛ فإن الخصومة متعددة، ثم وقع الاكتفاء بانتهاء إحداهما نهايتها، وأغنت عن الأخرى، لمّا كان متعلّق الخصومتين متحداً، كما ذكرناه.
4819- هذا كله إذا لم يكن بينهما بيّنة. فأما إذا كان في الخصومة بينة، لم يخل إما أن يقيم أحدهما بينة، أو يقيم كل واحد منهما بينة، فإن انفرد أحدهما بالبيّنة، فشهدت على تقدم شرائه على شراء صاحبه، قضي له بالشفعة.
وإن أقاما بينتين، فقد تقومان من غير تناقضٍ، فلا فائدة فيهما، وهو أن تشهد كل بينة أن هذا اشترى يوم الجمعة، ولم يتعرضا لتعيين الوقت، فلا أثر للبيّنتين؛ إذ ليس فيما جاءا به بيانٌ.
وإن شهدت كل بينةٍ أن تملك من يقيمها سابق على تملك الثاني، فهذا تناقض في المقصود، والأصح في مثل ذلك التهاترُ والتساقطُ، حتى نجعل كأنْ لا بينة، ونعود إلى فصل الخصومة بينهما من غير بينةٍ.
وللشافعي قول في استعمال بينتين. ثم في كيفية الاستعمال أقوال: أحدها - القرعة، والثاني- الوقف، والثالث- القسمة.(7/413)
أما القسمة، فلا معنى لها؛ فإنا لو قسمنا كل شقص بينهما، عاد كلٌّ إلى النصف، وهو [حيث يجري قول ضعيف] (1) ، أما قول القرعة فجارٍ، وكذلك قول الوقف، وليس هذا وقفَ العقود، وإنما هو وقف حق التملك بالشفعة.
ونحن سنبين أن قول الوقف من أقوال الاستعمال قد لا يجريه بعض الأصحاب، إذا كان المدعى المتنازع بين الخصمين عقداً، بناء على أن العقود لا تحتمل الوقف.
وهذا فيه نظر.
ومما يطرأ علينا في تأليف الكلام اتصال أطرافه بأصول عظيمة، ومبنى الكتاب على طلب البيان، وهو غير ممكن في أطراف أصول (2) ، لم يجر لها ذكرٌ. فالوجه في مثل هذا الاقتصارُ على الإحالة على موضع الاستقصاء.
4820- ولو أقاما بينتين، فنصت كل بينة على وقت واحدٍ، وتبيّن وقوع الشراء منهما في ذلك الوقت، فليس هذا من تعارض البينتين، إنما يتعارضان إذا تعرضت كل واحدة لمقصود مقيمها، ومقصود كل واحدٍ من المدعيين في مسألتنا التقدم، وليس في البينة تعرض لذلك، فلا تهاتر (3) ، ولا تعارض، وإنما دقيقة الفصل في قبول البينتين، فقد (4) قال الأكثرون: نقبلهما، وتسقط الشفعة من الجانبين؛ فإنه ثبت وقوع الملكين معاً، وإذا كان كذلك، فلا شفعة لواحد منهما.
ومن أصحابنا من قال: لم تقم بينة على وفق مراد مقيمها، فسقطت البينتان، وعاد الأمر إلى الخصومة من غير بيّنة، كما تقدم في صدر الفصل.
ووجه ما ذكره الأكثرون أن كل بينةٍ تنص على وقتٍ ليست فائدتها مأيوساً منها، فإن الأخرى قد يتأخر تاريخها، فإذا لم يتأخر تاريخ الثانية، أفادت دَفْعاً (5) ، وإن لم تُفد شُفعة.
__________
(1) في الأصل: وهو حقه يجري قول خسيس.
(2) في (ت 2) ، (ي) ، (هـ 3) : " فصول ".
(3) (ت 2) ، (ي) : تهافت.
(4) (ت 2) ، (ي) : وقد.
(5) (ي) : وقفاً.(7/414)
4821- ثم ذكر المزني ما لو أقر البائع، وأنكر المشتري، وأخذ يفصل حكمَ الشفعة، وهذا مما مضى على الاستقصاء، فلا معنى لإعادته.
ثم قال: إذا كان في الشقص ثلاثة من الشفعاء، فشهد اثنان منهم أن الثالث عفا عن الشفعة، فإن عفَوَا عن الشفعة أوّلاً، وأظهرا عفوهما، ثم شهدا، قُبلت شهادتهما، وإن لم يقدما العفو، وشهدا على عفو الثالث، ردت شهادتهما؛ فإنّ مقتضى عفوِ الثالث لو ثبت، أن يأخذ نصيبه هذان اللذان شهدا، فهذه شهادة تضمنت جرّاً (1) صريحاً.
ولو شهدا قبل العفو، ثم رددنا شهادتهما، فعفَوَا، فالشهادة المردودة لا تنقلبُ مقبولة، بطريان العفو. ولو أعادا تلك الشهادة بعد العفو، لم نقبلها؛ فإنا قد رددناها للتهمة، فلا نقبلها بوجهٍ. وقد مضى هذا في نظائرَ له فيما تقدم.
وممَّا ذكره المزني أنه إذا رأى شقصاً في يد إنسان، فقال: قد اشتريتَه من شريكي الغائب، وأقام عليه بيّنة. قال: يثبت حق الشفعة، وأبو حنيفة (2) يقول بهذا، وإن منع القضاء على الغائب.
وذكر فصولاً تقدمت على الاستقصاء.
فصل
قال المزني: "ولو شجه مُوضحة عمداً ... إلى آخره" (3) .
4822- إذا شج رجل رجلاً شجة، لم يخل: إما أن تكون موجبةً للقود، وإما ألا تكون مُوجبة له، فإن كان لا توجب القود، وإنما توجب المال، فوقعت مصالحةٌ عن موجَب الشجة على شقصٍ، في مثله الشفعة، نظرنا في أرش الشجة، فإن كان أرشها من أحد النقدين والمقدار بيّنٌ، لا شك فيه، فالمصالحة صحيحة، وإذا صحت المصالحة، ترتب عليها استحقاق الشفعة، فيأخذ الشفيع الشقص بأرش الشجة.
__________
(1) (ت 2) : جزاء، (ي) : بإهمال الأول والثاني معاً.
(2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/251 مسألة 1973.
(3) ر. المختصر: 3/59.(7/415)
وإن كان أرش الشجة من الإبل، فجرت المصالحة على شقصٍ، فإن لم يكن المتصالحان عالمين بما يعتبر في أرش تلك الجناية، في أسنان الإبل وصفاتها المرعية، في التغليظ والتخفيف، فالصلح باطلٌ.
وإن كانا عالمين بما يقتضيه الشرع من السن والصفة والمقدار، ففي صحة الصلح وجهان مشهوران: أحدهما - أنه لا يصح؛ لأن المذكور في أروش الجناياتِ، وفي الديات الأسنانُ وطرف من رعاية نوع الإبل في كل قبيلة، ولا يقع الاكتفاء بهذا في إعلام الأعواض.
والثاني - يصح الصلح؛ فإن ما اقتضاه الشرع إعلامٌ على الجملة، وليس الأرش في حكم المصالحة واجبَ الاستيفاء، بل الغرض سقوطه إلى البدل المذكور على الإعلام المشروط، وقد تكرر هذا في مواضع.
فإن حكمنا بفساد الصلح، فلا شفعة، وإن حكمنا بصحة الصلح، ففي ثبوت الشفعة وجهان: أحدهما - أن الشفعة تثبت بناءً على صحة الصلح. والثاني - لا تثبت؛ فإن الأرش ساقط في الصلح مستوفىً من الشفيع، واستيفاء المجهول عسر، وقد ذكرنا أن الشفعة لا تثبت مع جهالة العوض في ظاهر المذهب؛ فإن أسقطنا الشفعة، فلا كلام، وأن أثبتناها، أخذ الشفيع الشقص بقيمة الإبل الثابتة أرشاً، ثم السبيل في قيمتها النزول على قيمة ما يجزىء في الدية، وليس يخفى على الفقيه ما يجزىء في الدية. وإلى هذه القيمة نصير عند إعواز الإبل.
فإن قيل: أليس ذكرتم قولاً أن البدل عند إعواز الإبل [مقدّر] (1) شرعاً، فهلا رجعتم إليه في حق الشفيع؟ قلنا: تقديرات الشرع في الديات، لا تتبع في أحكام المعاوضات، فليس إلا ما ذكرناه في اعتبار القيمة.
4823- وكل هذا إذا كانت الشجة أو غيرها من الجناية موجبة للمال، فأما إذا كانت موجبةً للقصاص، وأرش مثلها من الإبل إذا لم يثبت القصاص، فإذا جرت مصالحة، تفرع ذلك على القولين في موجب العمد: فإن قلنا: موجبه المال أو
__________
(1) في الأصل، (ت 2) ، (هـ 3) : يتقدر.(7/416)
القود، ففي صحة المصالحة الوجهان المذكوران في الجناية المالية؛ فإن الصلح بمحض المال، فيقع الصلح عن المال. ثم يعود الترتيب بسبب جهالة الإبل.
فأما إذا قلنا: موجب العمد القودُ (1) المحض، فعلى هذا القول قولان في أن مطلق العفو (2) هل يتضمن ثبوت المال، فإن قلنا: مطلَقه، يثبت المال، فالمصالحة تقع عن المال، ويخرج الوجهان كما تقدم. وإن قلنا: مطلق العفو لا يتضمن المالَ، فقد ذكر أصحابنا طريقين: منهم من قال: يقطع بصحة الصلح؛ فإن عوض الصلح القصاص، وهو معلوم، ومنهم من خرّج صحة الصلح على الوجهين، واحتج بفقةٍ لا يدفع، وهو أن الصلح على مالٍ عفوٌ عن القصاص على مال، [فلئن كان يظن ظان أن العفو المطلق لا يوجب المال، فالصلح على مالٍ عفوٌ على مال] (3) .
ويلزم في ترتيب المذهب ردُّ الأمر إلى الخلاف في صحة الصلح وفساده.
وهذا ينشأ عندي من أصلٍ، وهو أنا إذا قلنا: موجَب العمد القودُ المحضُ، فلو صالح عن القتل على مائتين من الإبل، فقد اختلف الأصحاب في صحة المصالحة، وحقيقة الاختلاف راجع إلى أن هذا بدلُ القصاص أو بدلُ المال الذي يتضمنه سقوطُ القصاص؟ فإن قلنا: إنه بدلُ القصاص، صح بالغاً ما بلغ، وإن قلنا: إنه بدلُ المال، فمقابلة مائةٍ من الإبل بمائتين مع التساوي في الصفة محالٌ.
فنقول: إن جعلنا القصاص بدلاً، فالوجه القطع بصحة المصالحة، وإن جعلنا البدل ما يتضمنه سقوط القصاص، فالصلح واقع على الأرش، فيخرّج على الخلاف.
وإن قلنا: موجب العمد أحدهما، فلا خلاف أن المرعي معنى المال، ثم وإن قطعنا بصحة الصلح، ففي الشفعة خلاف؛ من جهة أن الشفيع يأخذ الشقص، بالأرش لا محالة، وفي الأرش من الجهالة ما قدمناه.
__________
(1) من هنا بدأ خرم في نسخة (ت 2) مقداره ورقة واحدة.
(2) (ي) ، (هـ 3) : العقد.
(3) ما بين المعقفين سقط من الأصل، ومن (هـ 3) . والمثبت من (ي) أما (ت 2) فالورقة كلها مخرومة.(7/417)
[فصل] (1)
ثم قال المزني: "لو اشترى ذمي من ذمي شقصاً بخمرٍ ... إلى آخره" (2) .
4824- الشقص المشترى بالخمر لا يؤخذ بالشفعة؛ فإن الشراء فاسد، ولو فرض دوران العقد بين ذميين، وكان طالب الشفعة مسلماً، فلا شفعة له، ولو كان الطالب ذمياً، وارتفع إلى مجلسنا، ورضي بحكمنا، فلا نحكم له بالشفعة، بل نقضي بسقوطها؛ فإنا لا نحكم إلا بما يوافق الدين. وإن تبايعوا فيما بين أظهرهم، أعرضنا عنهم، وذلك متاركةً، وليس حكماً بتصحيح العقد، ولو جاءنا الذمي بدراهم ليوفيها في جزية أو معاملة جرت له، وذكر أن تيك الدراهم أخذها من ثمن خمرٍ أو خنزير، وربما يتحقق ذلك، ففي جواز أخذ تلك الدراهم (3) منه وجهان مشهوران: أحدهما - لا نأخذها؛ لأنها ثمن خمر، والثاني لا نبالي بما كان منه، وإنما ننظر إلى الدراهم الحاصلة في أيديهم.
وسيأتي جوامع أحكامهم في كتاب النكاح، إن شاء الله عز وجل.
4825- ثم قال المزني: "ولا فرق بين المسلم والذمي" أراد بذلك أن المسلم كالذمي في استحقاق الشفعة، إذا استجمع أوصافها، وفي استحقاق الشفعة عليه، وقصد بهذا، قَطْع الوهم، حتى لا يظن ظان أن استحقاق الشفعة يختص به المسلم؛ من حيث إنه ملك قهري، والذمي لا يكون من أهل ذلك، فقطع هذا [الخيال] (4) وأبان التسويةَ، ثم جرى رضي الله عنه على أن ما لا يقبل القسمة، لا تجري فيه الشفعة (5) ، وقدم عليه (6) أن الشفعة لا تثبت في بيع بعض العبدِ ورام بهذا أن يبيّن أن استحقاق الشفعة لا يتعلق بكل شائع.
وقد نجزت المسائل المنصوصة في الباب، ونحن نرسم بعدها مسائل وفروعاً.
__________
(1) عنوان [فصل] سقط من الأصل، وهو في (ي) ، (هـ 3) ، أما (ت 2) فيقع ضمن الورقة الساقطة.
(2) ر. المختصر: 3/59.
(3) هنا انتهى الخرم الموجود في (ت 2) .
(4) في الأصل: الخيار.
(5) (ت 2) ، (ي) ، (هـ 3) : لا تثبت الشفعة في بيع بعضه.
(6) عليه: أي على التقدير الذي نقدر. وأسقطت (ت 2) كلمة (عليه) ولعله أوفق.(7/418)
فرع:
4826- إذا باع المريض في مرض موته شقصاً مشفوعاً بألفٍ (1) ، وهو يساوي ألفين، والشفيع وارثُ المريض، فهذه المسألة ردد ابن سُريج فيها أجوبتَه، وحاصل ما ذكره أربعة أوجه، وزاد الأصحاب بعده وجهاًً خامساً، ونحن نذكرها على وجوهها بعد أن ننبه على الإشكال فيها.
لو أثبتنا الشفعة للوارث، لكان ذلك محاباة (2) في مرض الموت معه، ولا يُنجي من هذا المصيرُ إلى أن الوارث يتلقى الملك (3) من المشتري؛ فإنه إذا كان يتوصل إلى الأخذ قهراً، فبيع الموروث يُثبت له حقَّ التملك قطعاً، من غير أن يتعلق باختيار متوسط.
هذا وجه.
ولو لم نثبت الشفعةَ، لكان خروجاً عن قاعدة الشفعة، ومذهبنا الخاص، من أن الشفيع يترتب أمرُه على المشتري، فاضطرب الأصحاب لما نبهنا عليه.
وذكر ابن سريج أربعة أوجه نأتي بها وِلاءً: أحدها - أن الشفيع يأخذ نصف الشقص بتمام الثمن، لتنتفي المحاباة والوصيةُ للوارث. فإن أبعد مبعدٌ هذا؛ من جهة تغيير الثمن عن وضعه، قلنا: نحن نقدر أعواضاً نعتقد أن العقود (4) لا تقتضيها، ولذلك نثبت على الشفيع مهرَ مثل المنكوحة، إذا كان الشقص صداقاً، وبدَلَ الدم إذا كان الشقص عوضاًً عن المصالحة، وقيمةَ العبد المعيّن المسمى ثمناً، فليكن ما ذكرناه من هذا القبيل.
وهذا الوجه بعيدٌ؛ فإن مساقه أن نسلم للمشتري نصف الشقص من غير عوض، ولا محمل لهذا؛ فإن البيع بالمحاباة إن كان يشتمل على تبرع، فهو شائع، في العقد (5) ، وليس مضمونُ العقد بيعاًً وهبة.
والوجه الثاني - في الأصل- أن الشفيع إذا أراد الشفعة، فيصح البيع في نصف
الشقص بتمام الثمن، ويبطل البيع في النصف الثاني، ثم للمشتري الخيار لتبعض
__________
(1) (ت 2) : بثوب.
(2) (ت 2) : مجاناً على فرض الموت معه.
(3) (ت 2) : الكلام من المشتري فأما إذا كان ...
(4) (ي) ، (هـ 3) : أن العقود عليه لا تقتضيها.
(5) (ت 2) : في النصف.(7/419)
الصفقة عليه. فلو قال: أفسخ، وقال الشفيع: آخذ الشفعة، فأيهما أولى؟ فعلى وجهين ذكرنا نظيرهما في الرد بالعيب. ووجه هذا الوجه أن تقرير البيع على وجهه، غيرُ ممكنٍ لوصول المحاباة إلى الوارث، وتبقية شيء من المبيع موهوباً في يد المشتري بعيدٌ جداً، فلا وجه إلا التغيير الذي ذكرناه، وبناء التخيير عليه.
والوجه الثالث في أصل المسألة- أن البيع باطل، فإنا لو صححناه، لتقابل فيه أحكامٌ متضادة، لا سبيل إلى التزام شيء منها، فالوجه إبطال البيع، لتناقض مضمونه.
والوجه الرابع- أن البيع يصح، ويثبت، ولا شفعة؛ فإنا لو أثبتناها، لزم من إثباتها تصحيحُ الوصية لوارث، وإن غيرنا البيعَ عن مضمونه، كان تحكماً بما يخالف قياسَ الأصول، فأقرب الأمور قطعُ الشفعة.
هذه أجوبة ابن سريج.
والوجه الخامس بعدها- أن البيع يصح، ويأخذ الشفيع الشفعة، مع المحاباة، ولا يكون ذلك وصيةً لوارث؛ فإنه يتلقى الملكَ من المشتري، لا من البائع المحابي، فليأخذ الشقص بكماله بألفٍ.
وهذا قد يبتدره الكيّس، ويراه قياساً، ولكنه حسيكة في صدور الفقهاء، لما نبهنا عليه، من أن هذا إثباتُ محاباةٍ في حق الوارثِ، على قهرٍ، من غير أن يتعلق باختيار المتوسط في البين. وقول القائل: إنه يتلقَى من المشتري إنما يستقيم لو طلب خيارَ الشراء، وربط الأمر برضاه.
ومع هذا كلِّه أعدلُ الوجوه هذا الخامس، فليس (1) فيه خروج عن قانون إلا ما ذكرناه من وصول المحاباة إليهِ، وسبيل الجواب عنه أن المحاباة تثبت في حق المشتري ثبوتاً معقولاً، ثم ابتنى عليه أخذ الشفيع، فإن لم يكن بد من احتمال شيءٍ في هذه المسألة الحائدة، فما ذكرناهُ أقرب محتمل. والعلم عند الله.
فرع:
4827- إذا شهد البائعُ على عفو الشفيع عن الشفعة، قال الأصحاب: إن كان ذلك قبل قبض الثمن، فلا تقبل شهادته؛ فإنه إذا لم يقبض الثمن يبقى له عُلقه في
__________
(1) في الأصل، (ي) ، (هـ 3) : وليس.(7/420)
المبيع، وهو حق الرجوع عند تقدير الإفلاس.
ولو قبض الثمن، وشهد على العفو بعد ذلك، ففي المسألة وجهان: أحدهما - لا تقبل شهادته؛ فإنه يتوقع فيه تراد ورجوع إلى العين، بسببٍ من الأسباب. والوجه الثاني- أن شهادته مقبولة؛ فإن حكم العقد إذا انتهى إلى تقابل العوضين أنه بلغ غاية المقصود، فلا تعويل بعد ذلك على تقديراتٍ من طريق التوقع، وهذا التفصيل لصاحب التقريب.
فرع:
4828- إذا شهد شاهدان أن الشفيع أخذ الشقص بالشفعة، وكان الشقص في يد الشفيع، وشهد شاهدان أقامهما المشتري أن الشفيع عفا عن الشفعة، وأبطل حقه منها، فقد ذكر شيخي وجهين: أحدهما - أن بينة الشفيع أولى؛ لمطابقتها ظاهر اليد.
والوجه الثاني - أن بينة المشتري أولى؛ فإنها تُثبت العفوَ، ولم يعارضها في مقصودها شيء، ومعارضتها -لو قدرت- نفيٌ، ولا شهادةَ على النفي، وسبيل امتحان ذلك أن الأخَذ بظاهر الشفعة ممكن مع تقدّم (1) العفو سراً، بحيث اطلع عليهِ شاهدان.
وهذا الوجه، لا وجه غيره، وما سواه غير معتد به.
فرع:
4829- قال صاحب التقريب: إذا كان في يد العبد المأذونِ له في التجارة شقصٌ، فبيع الشقص الثاني، فأراد المأذون أخْذَه بالشفعة، وكانت التجارة تقتضي أخْذه، فله أن يأخذه، ولا حاجة إلى إذنٍ مجدد؛ إذ يعدُّ ذلك من التجارة.
ولو عفا السيد عن الشفعة، سقطت الشفعة؛ فإن الحق في الحقيقة له، وسواءٌ كان على العبد ديون، أو لم يكن؛ فإن الشفعة تسقط بإسقاط المولى.
وإنما قلنا ذلك؛ لأن الشفعة حق اعتياض، وللسيد منع عبده من الاعتياض في المستقبل؛ إذ لو نهاه عن التصرف، لصار محجوراً عليهِ، وإن كان عليه ديون، ولو أقدم على التصرف، لاستفاد ربحاً في غالب الظن، ولكن لا نظر إلى هذا.
__________
(1) (ت 2) : تقدير العفو.(7/421)
وليس كذلك لو أراد أن يتبرَّع بشيء ممّا في يد المأذون، وقد أحاطت به الديون؛ فإنه تبرعٌ بعين مالٍ تعلقت به ديون، والشفعة ليست عينَ مالٍ، وإنما هي حيث تثبت استحقاقُ اعتياض. وقد ذكرنا أن العبد لا يستحق ذلك أبداً، لا لنفسه ولا بسبب غرمائه.
فإن قيل: أليست الشفعة موروثة كحق الرد بالعيب، ثم المولى بعد إحاطة الديون بالعبد، لو أراد الرضا بالعيب، فقد لا يكون له ذلك على الإطلاق.
قلنا: أمّا جريان الإرث في الشفعة، فلا متعلق فيه مع إجرائنا الإرث في خيار الشرط، وغيره من حقوق العقد، وأما الرد بالعيب، فقد فصلنا القول فيه في عهدة المأذون، وبالجملة إن كان عفو السيد متضمناً احتمالَ حطيطةٍ وغبينة، فعفوه مردود، إذا كان لا يبذل للغرماء مثل ما يحط. وقد مضى في مسائل المأذون.
فرع:
4830- الشريك إذا وجد الشقص المشفوع الذي كان لشريكه في يد إنسان، فقال صاحب اليد: قد اشتريت هذا الشقص، من فلان الغائب، وسمى شريكه، فذكر صاحب التقريب فيه قولين عن ابن سريج: أحدهما - أن الشفيع يأخذ الشقص بالشفعة، بناء على إقرار صاحب اليد، ثم الغائب إذا رجع، فهو على حجته إن أنكر، وجحد.
والقول الثاني- أنه لا يأخذ الشقص من المُقر؛ فإنه أسند البيع إلى غائبٍ، ولكن القاضي يكتب إلى البلدة التي بها البائع، ويبحث عن إقراره، فإن أقر، وثبت ذلك عنده بطريق ثبوت الأقارير في مجالس القضاة، أثبت الشفعة، وإن لم يثبت، توقف، وقرر الشقص موقوفاً، إلى أن يبين الأمر.
وهذا التردد الذي ذكره ابنُ سريج خصصه بالشفعة، ولم يصر أصلاً إلى إزالة يد من يدعي الشراء، ولا يجوز أن يكون في هذا خلاف؛ فإن الأيدي نراها تتبدل، ولا نتعرض لها، ثم كما لا نتعرض لأصحاب الأيدي كذلك لا نتعرض لانتفاعهم بما في أيديهم. وهذا أصل لا نصادمه، وهو مجمع عليه، ولا هجوم على مواقع الإجماع.(7/422)
نعم، لو اعترف صاحب اليد بالشراء، ثم أراد أن يبيع ما ادعى شراءه، ففي بيعه، وهبته، ورهنه، وتصرفاته المستدعية حقيقة ملكه التردُّدُ الذي ذكره ابن سريج.
والوجه القطع بإثبات حق الشفعة بناء على ظاهر اليد في الحال، ورفعاً للخيال الذي أبداه.
ثم فرع الأصحاب على ما ذكره ابن سريج، فقالوا: إن قلنا: يأخذ الشفيع الشقص، قهراً، فلا كلام، وإن قلنا: لا يأخذه قهراً، فلو سلم صاحب اليد إلى الشفيع طوعاً، ففيه جوابان: أحدهما - وهو الذي قطع به صاحب التقريب أنا لا نتعرض لهذا إن جرى، وإنما ثبوت التردد في فرض الطلب القهري.
والثاني- وهو الذي قطع به العراقيون أنه لا يجوز للشفيع أخذه أصلاً، على هذا القول لابن سريج، وإن طاوعه صاحب اليد، ولم يمتنع عليه.
وبالجملة إن كان لهذا القول ثبات، فلا معنى للفصل بين الطوع وبين (1) القهر، فإن المرعي حق ذلك الغائب، وهذا لا يختلف، بأن يتطابق الشفيع والمشتري، أو يتمانعا.
فرع:
4831- قال صاحب التقريب: إذا اشترى الرجل شقصاً رآه، ولكن الشفيع لم يره، فيثبت حق الشفعة للشفيع، وإن منعنا بيعَ ما لم يره المشتري؛ فإن حق الشفعة يثبت قهراً. والحقوق القهرية لا تستدعي ما يستدعيه إنشاء العقد، كالإرث وغيره.
ثم إذا منعنا بيعَ الغائب، فالشفيع لا يأخذ الشقص حتى يراه. ولو بذل الثمن، لم يملكه؛ إذ هو مختار في التملك، وإنّما حظ القهر في أصل حق الشفعة، فقد ثبت حق الشفعة لما قدمناه، ولكن لا يجري الملك إلا على شرط العقد الذي ينشأ، وليس للمشتري أن يمنعه من الرؤية؛ فإنه قد ثبت له حق الشفعة.
__________
(1) هكذا بتكرير (بين) مع الاسم الظاهر، مع أن المشهور أنها لا تكرر إلا مع الضمير. ولكن هذا ما جرى عليه إمام الحرمين، والتزمه -تقريباً- وقد نبهنا إلى ذلك من قبل، وذكرنا أن له وجهاً في الصحة، ونعيد هذا هنا من باب التذكرة.(7/423)
هذا إذا قلنا: لا يصح بيع الغائب.
فأما إذا قلنا: يصح بيع الغائب، فإنه يملك الشقص ببذل الثمن، ثم يكون على خيار الرؤية، على هذا القول، أم كيف السبيل؟ خرّج أصحابنا هذا على الخلاف المقدم في خيار المكان، وهذا غير سديدٍ، والوجه القطع بثبوت خيار الرؤية للشفيع، إذا ملكناه قبل الرؤية؛ فإن المانع من إثبات خيار المجلس له عند بعض الأصحاب بُعْدُ ثبوتِ خيار المجلس من أحد الجانبين دون الثاني. وهذا المعنى غير مرعي في خيار الرؤية.
ويجوز أن يقال: يملك الشفيع الشقص قبل الرؤية، وإن منعنا بيع الغائب، حتى نقول: إذا بذل الثمنَ، ملك، قولاً واحداً؛ فإن ملكه يستند إلى قهرٍ، وليس فيه عقدٌ منشأ. وهذا يقرب من الخلاف في أن بيع الشفيع بعد بذل الثمن للشقص القائم في يد المشتري هل ينفذ أم يمتنع ذلك، امتناعَ بيع المبيع قبل القبض؟ وفي هذا اختلافٌ قدمناه.
ثم ذكر صاحب التقريب أن المشتري لو قال: لا أمكنك من قبض المبيع من غير رؤيةٍ، وإن جاز بيع الغائب؛ فإنك لو قبضته كنتَ على خيار الرؤية، ولم أكن واثقاً بالثمن الذي تبذله. قال: إنه يجاب إلى هذا، ويسوغ له أن يمتنع من إقباض الشفيع حتى يراه.
هكذا قال، وفيه احتمال ظاهر.
ولو فرض في الشقص عيب وكان المشتري يمنع من تسليمه حتى يطّلع الشفيع عليه، فلا معنى لهذا؛ فإن ذكر العيب كافٍ في ذلك، ولا يسد مسدَّ الرؤية المرعيّة ذكرٌ وإعلام.
فرع:
4832- إذا ثبتت الشفعة للشفيع، وعلم به، ثم إنه باع الشقص الذي به استحق الشفعة، قبل أن يستقر ملكه في الشقص المشفوع، فلا شك أن حقه يبطل من الشفعة.
وهذا يحسن تصويره على قولنا: ليس حق الشفعة على الفور، وهذا يناظر ما لو(7/424)
علمت الأمة بأنها عَتَقت تحت زوجها القِنّ، وعلمت ثبوتَ الخيار لها، وقلنا: إن حقها في الفسخ على التراخي، فأخرت حتى عَتَق الزوج، فلا خيار لها.
ولو باع الشفيع الشقص ولم يشعر بثبوت الشفعة، ثم علم أن الشفعةَ كانت ثابتةً وقت بيعه ملكَه، ففي ثبوت الشفعة قولان مشهوران.
وحيث قلنا: تبطل الشفعة لو باع جميع الشقص، فلو باع بعضه، فكيف حكمه؟ ذكر الشيخ أبو علي والعراقيون وجهين: أحدهما - أن الشفعة تبطل، وتكون كما لو عفا عن بعض الشفعة، وظاهر المذهب البطلان في الجميع لو فعل ذلك، فبيع البعض إذاً بمثابة العفو عن بعض الشفعة عند هذا القائل.
والثاني- لا تبطل شفعته أصلاً؛ فإنه قد بقي من ملكه القدرُ الذي لو لم يملك في الابتداء غيرَه [لاستحق] (1) الشقص بكمالهِ.
فرع:
4833- إذا وهب لعبده شقصاً من دارٍ، وقلنا: إن [العبد] (2) يملك بالتمليك، فإذا باع الشقص الثاني، قال شيخي: تثبت الشفعة على الجملة. وهذا فيه احتمال ظاهر؛ من قبل أن ملك العبد ضعيف، والشفعة لا تستحق بالملك الضعيف عند كثيرٍ من أصحابنا. ثم قال رضي الله عنه: إذا ثبتت الشفعة هل يحتاج العبد في أخذ الشفعة إلى إذن جديدٍ من جهة السيد؟ فعلى وجهين حكاهما: أحدهما - لا بد من إذن، وهو القياس؛ فإن العبد، وإن قلنا: إنه يملك، فإنه لا يستبد بالتصرف، فيما ملّكه مولاه.
فرع:
4834- قال شيخي رضي الله عنه: إذا شهد سيد المكاتب على شقصٍ فيه شفعة لمكاتَبه، تُقبل شهادته.
وهذا أراه هفوةً غيرَ معتد بها؛ فإن شهادة السيد لمكاتَبه لا تُقبل. ولكن لعله أراد إذا ادعى المشتري الشراء، فجُحد، فأقام سيدَ المكاتب شاهداً، والغرض إثبات
__________
(1) في جميع النسخ الأربع (لا يستحق) . وهو تصحيف عجيب، لا يستقيم مع السياق، والسباق.
(2) في الأصل: العقد.(7/425)
الشراء، وليس الشراء في المرتبة الأولى حق المكاتب، ففي ثبوت الشراء على هذا الوجه احتمال. ثم إن أثبتناه، لم يمتنع ترتب الشفعة عليه تبعاًً، ولا ينبغي أن يشك أنه أراد رحمة الله عليهِ غيرَ هذا.
ثم إن ثبتت الشفعة على طريق التبعية، كان ذلك شبيهاً بقضائنا بعيدِ شوَّال عند بعض الأصحاب، بناء على شهادة شاهدٍ واحدٍ على هلال رمضان -إذا رأينا قبول شهادة الشاهد الواحد- ثم استكملنا بعد ذلك العدة ثلاثين، فأصل الشراء يظهر فيه قبول شهادة السيد لمن يدعي الشراء. وفيه احتمال. وإن أثبتنا (1) ، فيظهر انتفاء الشفعة للمكاتب.
فأما إذا ادعى المكاتب شراءً في شقصٍ هو فيه شفيع، وغرضه إثبات الشفعة، فالسيد لا يشهد في مثل هذه الخصومة قط، وما ذكرناه في السيد والمكاتب، يجري في الوالد والولد، على الترتيب الذي طردناه.
فرع:
4835- المقارض إذا اشترى شقصاً بمال القراض، ولم يظهر بعدُ في المال ربحٌ، ولرب المال شقصٌ في تلك الدار، ليس من مال القراض. قال ابن سريج فيما نقله القفال عنه: لرب المال أخذ الشقص بالشفعة، قال القفال: هذا غلط؛ فإن الملك في المشترى لرب المال، وإذا وقع الشقص ملكاًً، فيستحيل، أن يأخذه بالشفعة لنفسه عن نفسه.
وهذا لم أره محكياً عن ابن سريج في التقريب وغيره من مبسوطات المذهب، وإنما كان يحكيه شيخي عن شيخه. ولعل الذي حمل ابنَ سريج على ما قاله أن مال القراض مستحَق البيع؛ إذ للمقارض أن ينضَّه بالبيع، على ما سيأتي تمهيد ذلك في كتاب القراض، إن شاء الله عز وجل. فرب المال يُثبت ملكَ (2) نفسه بحق الشفعة، ويقطع حق العامل في التسلط على البيع.
وهذا يضاهي ما لو اشترى أحدُ الشركاء نصيبَ شريكه، فللذي لم يشترِ حقٌّ
__________
(1) كذا. ولعلها: أثبتناه. أي الشراء.
(2) (ت 2) ، (ي) ، (هـ 3) : الملك لنفسه.(7/426)
الشفعة، ثم المشتري يقول له: أنا أُثبت بشرْكي القديم الملكَ في قسطٍ مما اشتريتُه، كما تأخذ أنت قسطاً منه. وإذا كانت الشفعة تقوى على جلب ملك؛ فإنه لا يبعد أن تقوى على إثباتِ الملك وتقريره.
وهذا تكلّف. والصحيح نفي الشفعة. ثم إذا نفيناها، كان الشقص كسائر أموال القراض.
فرع:
4836- إذا اشترى شقصاً من أرضٍ، فزرعها. وتصوير الزراعة كتصوير البناء، فإذا أراد الشفيع أخذ الشفعة، فله ذلك. قال صاحب التقريب: للشفيع تأخير الشفعة -وإن فرعنا على الفور- حتى يُحصدَ الزرع؛ فإنه لا ينتفع بالأرض مزروعة، ولا سبيل إلى قلع الزرع، فلو وفر الثمن، لكان باذلاً عوضاً في مقابلة ما لا ينتفع به.
فأمّا إذا كان بالشقص أشجار مثمرة، وكانت المسألة مصورة حيث لا يستحق الشفيع الثمار، فلو أخّر الأخذ بالشفعة إلى قطاف الثمار، فهل يبطل حقه على قولِ الفور؟ فعلى وجهين: أحدهما- لا يبطل حقه بالتأخير، كما تقدم في الأرض المزروعة. والثاني- يبطل حقه بالتأخير؛ لأن الثمار لا تحجزه من الانتفاع بخلاف الزرع، والقائل الأول يقول: صاحب الثمار يدخل البستان لتعهد الثمار، فيتبعض الانتفاع. هذا كلام صاحب التقريب.
والوجه في مسألة الزرع أن يعجِّل طلبَ الشفعة، ثم يُعذر في تأخير توفير الثمن.
هذا منقدح.
ويجوز أن يقال: يتعين تعجيل الطلب، وتوفير الثمن، وإن لم يفعل، بطل حقه.
كما فصلناه. ولا نظر إلى استئخار منفعته إذا كان يجري ملكه في رقبة الشقص.
والدليل عليه أن الشقص المشفوع لو فرض بيعه وسط الشتاء (1) ، حيث لا يفرض الانتفاع به، لفوات وقت الانتفاع، فلا يسوغ تأخير طلب الشفعة إلى أوان إمكان الانتفاع؛ فإن منع مانع هذا، على طريق صاحب التقريب، كان بعيداً.
__________
(1) المؤلف متأثر ببيئة خراسان التي يعيش فيها، حيث الشتاء القارص الذي لا يمكن معه الانتفاع بالأرض المزروعة.(7/427)
فرع:
4837- مشتري الشقص لو أراد بيعه، نفذ منه بيعُه، لا نعرف في ذلك خلافاًً بين الأصحاب.
ثم الذي ذهب إليه جمهور الأصحاب أن من اشترى شقصاً مشفوعاً وباعه، فالشفيع بالخيار إن أحب نقض بيع المشتري، وردّ الشقص إلى حكم البيع الأول، وأخذه بالثمن المسمى فيه.
هذا إذا لم يكن عفا عن حق الشفعة في العقد الأول. فإن كان عفا أو قصر، فبطل حقه، فيتجدد له حق الشفعة بسبب البيع الذي أنشأه المشتري.
هذا مذهب الجمهور.
وحكى طوائف عن أبي إسحاق المروزي أنه قال: لا سبيل إلى نقض بيع المشتري؛ فإن الأخذ بالشفعة ممكن بناءً على العقد الثاني، فلا معنى لإبطال تصرف المشتري، وجعل أبو إسحاق المنعَ من نقض بيعه بمثابة المنع من نقض بنائه مجاناً (1) .
وهذا مزيف غيرُ سديدٍ؛ فإن في إلزام بيعه إبطالَ حق الشفعة في العقد الأول، وقد يظهر الغرض في الأخذ بموجَب العقد الأول.
ولو وهب المشتري الشقص، وأقبض، أو وقفه وقفاً حَقُّ مثله أن يلزم، فالذي ذهب إليه الجمهور أن الشفيع له أن (2) يبطل هبته ووقفه، ليأخذ بموجب العقد الأول؛ فإن الهبة لا تُثبت حقَّ الشفعة، وكذلك الوقف (3) .
وإذا فرعنا على مذهب المروزي، فقد اختلف أصحابنا على قياس مذهبه على وجهين: فمنهم من قال: تبطل الشفعة بالهبة، ولا سبيل إلى نقضها، (4 فيصير هذا النوع من التصرف، قاطعاً لحق الشفعة 4) .
ومنهم من قال: للشفيع إبطال هذا النوع بخلاف البيع؛ فإن البيع ليس قطعاً
__________
(1) (ت 2) : محاباة.
(2) (ت 2) : أن الشفيع الآن يبطل....
(3) المعنى: أن الموهوب له، والموقوف عليه لا تثبت له الشفعة.
(4) ما بين القوسين سقط من (ت 2) ، (هـ 3) .(7/428)
للشفعة، فإذا أمكن الجمع بين تقرير التصرف وإثبات الشفعة، تعيّن [ذلك] (1) .
وليس كذلك الهبة، وما في معناها.
هذه هي الطريقة المشهورة التي رتبها الأئمة، في الطرق.
وذكر الشيخ أبو علي مسلكاً غريباً عن أبي إسحاق المروزي، لم أره لغيره، وهو أنه قال: إذا باع المشتري الشقص، نفذ البيع، وبطل حق الشفعة، ولا يتجدد للشفيع أخْذ الشفعة بالعقد الثاني.
وهذا لست أدري له وجهاً قريباً، ولا بعيداً؛ فإن البيع الثاني لو لم يجر غيرُه، لكان مثبتاً للشفعة، فلا معنى لإبطال الشفعة، والذي شبب به الشيخ أبو علي في توجيه ما نقله عن المروزي أن عقد المشتري إذا وجب تنفيذه وإلزامه، وامتنع نقضه، كان مبطلاً للشفعة، ويستحيل أن يثبت الشفعةَ ما يبطلها، وهذا كما أن من تحرم بالصلاة، ثم شك في صحة النيّة، فأتى بتكبيرةٍ تامةٍ مع النية، لم تنعقد الصلاة بها؛ لأن من ضرورة العقد الحل، وما يصلح للعقد لا يصلح للحل، ولا ثبات لمثل هذا الكلام، ولا تُتلقى حقوقُ الأملاك من أحكام النيات في العبادات.
فرع:
4838- إذا اشترى الرجل شقصاً، دونه (2) شفيعان، فقد قدمنا أن ظاهر المذهب أنه إذا عفا أحدهما، أخذ الشفيع الثاني تمامَ الشقص، فإذا تجدد العهد بهذا، قال ابن الحداد بعده: لو ادعى المشتري على الشفيعين عفوهما عن الشفعة، فإن حلفا على نفي العفو، فهما على حقهما، وإن نكلا، رددنا اليمين على المشتري.
وإن حلف أحدهما، ونكل الثاني، فلا يرد اليمين على المشتري، فإنه لا يستفيد بيمين الرد شيئاً؛ إذ لو صح عفوُ أحد الشفيعين، لأخذ الثاني تمام الشقص.
وهذا الذي ذكره لطيف حسن، وهو من لطائف أحكام الخصومات؛ فإن دعواه تعلق بشخصين، ثم يتوقف رد اليمين على نكول الثاني، والسبب فيه ما نبهنا عليه.
ولو ادعى على أحدهما العفوَ، وصاحبه غائب، فأنكر، وِنكل عن اليمين، ففي
__________
(1) زيادة من (ي) وحدها.
(2) في (ت 2) ، (ي) ، (هـ3) : "وفيه شفيعان".(7/429)
رد اليمين على المشتري في هذه الحالة ترددٌ للأصحاب. فمنهم من قال: لا ترد اليمين، كما لو كانا حاضرين؛ فإن الرد يتوقف على نكولهما جميعاً. وهذا هو القياس، ومنهم من قال: ترد اليمين؛ فيثبت بها عفو الحاضر، ثم لا يمتنع أن يلحق الخصومات تغاييرُ من جهاتٍ. وإنما امتنعنا من الرد بنكول أحدهما عند حضورهما للتمكن من اختصار الخصومة، والوصول إلى الغرض منها.
وإذا نكل أحدهما من اليمين، وحلّفنا الثاني، فلو أراد الحالف أن يستبد بالشقص، لم يكن له ذلك؛ فإن العفو لم يثبت من صاحبه. ولو أثبتناه، لكان ذلك قضاءً بالنكول المجرّد. نعم، بين الشفيعين خصومة، فإن لم يتخاصما، فهما مشتركان في طلب الحق، وقسمة الشقص.
وإن ادعى من حلف على الناكل العفوَ، فإنا نحلفه الآن، ونكوله مع المشتري لا يمنعه من الحلف مع الشفيع، فإن حلف، فذاك. وإن نكل، ردت اليمين على الشفيع المدعي، فإن حلف، استبد بحق الشفعة، وأخذ الشقص بتمامه.
وفي كلام ابن الحداد اختلال في اللفظ، حمله الأصحاب على الغلط في المعنى، ونحن ننقله على وجهه.
لمَّا فرض دعوى المشتري على الشفيعين، وصوَّر نكول أحدهما عن اليمين، وقال: لا يحلف المشتري، بل يحلف [الحاضر] (1) من الشفيعين، أن صاحبه عفا، ويأخذ جميع الشقص (2) ، وهذا في ظاهره يدل على أنه يملك أن يحلف من غير استفتاح دعوى وابتداء خصومة مع الناكل.
هذا ظاهر الكلام، وعليه حمل الأصحاب مذهب ابنِ الحداد، ثم غلطوه، وقالوا: كيف يحلف على العفو، وهو لم يدّع على صاحبه العفو، ولا يظن بابن الحداد أنه يثبت الحلف في حق الشفيع من غير دعوى واستئنافِ خصومة، وإنما أراد بتحليف الشفيع أن يحلف في أوان التحليف، ومن ضرورة ذلك أن يدعي ما ينبغي أن
__________
(1) في الأصل، (ت 2) : الحالف.
(2) جواب لمّا محذوف، ومفهوم مما تقدم: "حمله الأصحاب على الغلط".(7/430)
يحلف عليه، ثم لا يخفى حكم ابتداء الدعوى، وعرض اليمين مرة أخرى، كما ذكرناه.
ولست أشك أن ابن الحداد لم يُرد إلا ما قاله الأصحاب، ولكنه أوجز الكلام فيما لم يكن مقصوداً له. وقدْرُ غرضه ما ذكره من أن اليمين لا ترد على المشتري إذا نكل أحدهما، ثم جرى في كلامه أن الشفيع الثاني يأخذ، فقال: نعم، جميع الشقص إذا حلف. ولم يتعرض لتفصيل القول في وقت حلفه.
فرع:
4839- إذا مات رجل، وخلف داراً وابناً، وخلَّف من الدين مثلَ نصف قيمة الدار، فإذا بيع نصف الدار في الدَّيْن، فهل للابن أخْذ ما بيع بالملك الذي بقي في الدار؟ ترتيب المذهب فيه أن هذا يخرّج على أن الدَّيْن في التركة هل يمنع ثبوت الملك للوارث في عين التركة؟ فعلى قولين، سنذكرهما في الوصايا، إن شاء الله.
أصحهما -وهو الجديد- أن الملك يثبت للورثة، وإن كانت التركة مرتهنة بالدين. والمنصوص عليه في القديم أن الملك لا يثبت للورثة في جزءٍ من التركة، مع بقاء جزءٍ من الدين.
فإن قلنا: التركة ملك الورثة، فإذا بيع بعض الدار في الدين، فلا شفعة للابن الوارث. فإن الذي بيع من الدار كان ملكَه، ومَن بِيع جزءٌ من ملكه بحقٍّ، لم يملك استرجاعه بالشفعة. وإنما وضْعُ الشفعة على جلبِ ملك الغير.
وإن حكمنا بأن التركة ليست مملوكة للورثة مع الدين، وإنما هي مبقاة على ملك الميت، فالبيع يصادف ملك الميت. فهل تثبت الشفعة للوارث؟ هذا يترتب على أمرٍ، وهو أن الدين إذا كان ألفاً وقيمة الدار ألفان، فنقول: الباقي على ملك الميت مقدار الدين، أم جميع التركة، من غير نظر إلى مقدار الدين؟ وهذا مما اختلف الأصحاب فيه، وله أصل سيأتي إيضاحه، إن شاء الله في التركات، من كتاب الوصايا.
فإن قلنا: لا يملك الوارث شيئاًً من التركة؛ فلا شفعة في هذه الصورة أيضاً؛ فإن النصف الذي يبقى للورثة إنما يخلص له مع نفوذ البيع في النصف المبيع، وحق الشفعة إنما يستحق بملكٍ يتقدم على البيع الذي هو محل استحقاق الشفعة.(7/431)
وإن قلنا: يبقى (1) على ملك الميت من التركة مقدارُ الدين، ويثبت الإرث في الزائد عليه، فتثبت الشفعة للابن الوارث بسبب النصف الذي بقي له.
ولو كان للابن في هذه الدار شركٌ قديم، مثل أن كان الأب يملك فيها ثلثا، وكان للابن ثلثاها، وقيمة الثلثين ألفان، والدين ألف، فإذا فرض بيعُ بعض الدار في الدين، والتفريع على الجديد، فلا شفعة للوارث، فإن الذي بيع كان ملكاً للوارث على الجديد. وإن فرعنا على القديم، فيثبت حق الشفعة للابن بملكه القديم، من غير حاجة إلى تفصيل.
هذا هو المذهب.
وفي نقل الأصحاب كلامَ ابن الحداد خبطٌ وتخليط، لم أوثر ذكرَه؛ فإن الحق الذي لا محيد عنه ما ذكرناه، فما وافق ما قدمناه، فهو سديد، وما خالفه، فهو غلط غيرُ معتدٍّ به.
فرع:
4840- الوصي إذا باع شقصاً من دارٍ للطفل، وراعى شرطَ الغبطة، والمصلحةِ في بيع العقار، كما قدمناه في كتاب البيع. وكان للوصي شِرْكٌ في تلك الدار، فلو أراد أخْذَ ما باعه من ملك الطفل بحق الشفعة، قال الشيخ أبو علي: ليس للوصي ذلك. بإجماع الأصحاب، والسبب فيه أنه قد يتهم، فيقال: إنما باع ليأخذ، وهذا الباب محسوم، سواءٌ وافق الغبطة الظاهرة، أو لم يوافقها.
وإنما منعنا الوصي من بيع مال الطفل من نفسه، وتولِّي طرفي العقد؛ لأنه ليس متعلقاً بما يدل على الشفقة التامة، وتولي طرفي العقد يُشعر بالتهمة، فالمعنى الذي لأجله امتنع عليه بيعُ مال الطفل من نفسه، امتنع عليه أخذ ما يبيعه بالشفعة.
والأب لما تولى طرفي العقد، وملك أن يبيع مال الطفل من نفسه، فلا جرم لو باع الشقص من مال الطفل، وله شركٌ قديم، فله أخذه بالشفعة.
هذا ما حكاه الشيخ أبو علي. وقال: لو اشترى للطفل شقصاً من دارٍ، وكان له شرك قديم فيها، فله أخذ ما اشتراه بالشفعة، فإن هذا لا تهمة فيه؛ إذ هو المشتري
__________
(1) (ت 2) ، (ي) ، (هـ3) : يقرّ.(7/432)
له، وهو الآخذ، وكان يمكنه أن يشتري لنفسه، وكان لا يتمكن من بيع مال الطفل من نفسه.
وفي القلب شيء من إثبات الشفعة للوصيِّ في المسألة الأولى إذا تحققت الغبطة للطفل. وليس يكاد يخفى وجه الغبطة على أهل البصائر وامتناع تولّي طرفي العقد ليس مما يعلل.
وممَّا نقطع به أنه ليس معللاً في حق الأب بالشفقة فإن الوصي إذا نزل منزلة الأب في بيع أموال الطفل، فلا يبقى بعد ذلك مضطرب.
4841- ومما ذكره الشيخ أبو علي أن الرجل إذا وكل شريكه حتى باع شقصه من الدار، فهل لهذا الوكيل إذا نفذ البيع أن يأخذ بالشفعة ما باعه؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ أبو علي: أحدهما - ليس له أن يأخذه، كما ليس للوصي أخذ ما باعه من مال اليتيم.
والوجه الثاني- أن له أن يأخذه بملكه القديم؛ لأن الوصي هو الناظر في حق الطفل، ولا استقلال للطفل، فكان الوصي متهماً فيما يأخذه. والوكيل ليس ناظراً للموكل، وإنما يمتثل أمره، والموكل ينظر لنفسه، فلا موقع للتهمة هاهنا.
فرع:
4842- إذا ارتد أحد شركاء الدار، وقلنا الرّدّة تزيل ملكه حقيقة، ثم باع شريكه حصة نفسه في زمان ردته، فلا شفعة للمرتد؛ إذ لا ملك له، فلو عاد مسلماً، فلا شفعة له، وإن عاد ملكه؛ فإنه لم يكن له عند البيع ملك.
وبمثله لو ثبتت الشفعة للشريك أولاً، ثم ارتد، وقلنا: زال ملكه، فلو عاد هل تعود شفعته؟ قال الشيخ أبو علي: المسألة محتملة، والظاهر أن لا شفعة؛ فإنه لا يُعذر فيما جرى منه، من سبب زوال الملك. فالوجه انقطاع شفعته.
ووجه الاحتمال أنه لم يعتمد إزالة ملك نفسه، وإنما جرت عليهِ شقوتُه، فارتد.
وليس كالذي يزيل ملك نفسه بعد ثبوت الشفعة قصداً. والعلم عند الله تعالى.
فرع:
4843- لا يجوز أخذ العوض عن حق الشفعة في ظاهر المذهب. وقال الشيخ أبو إسحاق المروزي ثلاث مسائل أخالف فيها أصحابي: المصالحة عن حق(7/433)
الشفعة، وحدُّ القذف، ومقاعد الأسواق، منع أصحابي أخذَ العوض عن هذه الأشياء، وأنا أجوّز أخذ العوض عنها.
فإذا فرعنا على ظاهر المذهب وقلنا: لا يحل أخذ العوض عن حق الشفعة، فلو أخذه، ثم تبين لهْ، واستُرِدَّ العوض، وكان أخذه على ظن أنه يحل، فهل يبطل حقه من الشفعة؟ أم هو على حقه؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون، وليس يخفى نظائرهما وتوجيههما.
فرع:
4844-[إذا جاء] (1) الشفيع على قول الفور، وقال: لقد اشتريتَه رخيصاً، وأنا أطلب الشفعة، قال الأصحاب: يجب أن تبطل الشفعة على قول الفور؛ لأن الذي جاء به فصول (2) ، وهذا متجه. ولو قال: بكم اشتريتَ؟ قال الأصحاب: بطل حقه؛ لأنه لم يبادر الطلب.
قال القاضي: الذي عندي أنه لا يبطل حقه بالبحث عن مقدار الثمن؛ لأن الجهل به يمنعه من الأخذ، والبحث عن المقدار إزالة للجهل المانع من الأخذ. وقد ذكرت هذا التردد فيما تقدم، وإنما أعدته لمصير القاضي إليه.
فصل
4845- يجمع مسالك تُعسِّر الشفعةَ على الشفيع، وقد ذكر الأصحاب منها جملاً: أحدها - أن يبيع الشقصَ بأضعاف ثمنه دنانير مثلاً، ثم يأخذ عَرْضاً قيمته مثل ثمن الشقص، أو أقل عن الثمن المسمى، فلا يرغب الشفيع في الشفعة؛ لأنه لو رغب فيها، لأخذ الشقص بالثمن المسمى أوّلاً. وهذا وإن كان يعسّر الشفعة، ففيه تغرير؛ لأن البائع إذا التزم له المشتري الثمن ربما لا يرضى بالعَرْض الذي قيمته دون ذلك المبلغ.
__________
(1) عبارة الأصل: الشفيع -على قول الفور- إذا قال.
(2) في (ت 2) : " فضول ". والمعنى أن ما جاء به من العبارة يشهد بأنه تراخى في طلب الشفعة، حيث فصل بين العلم بالبيع والطلب بالسؤال والاستفصال عن السعر.(7/434)
ومن الحيل أن يقع بيع الشقص بأضعاف الثمن، ثم يحط البائع بعد لزوم العقد عن المشتري ما يزيد على ثمن المثل، فالشفيع لو أخذ بالثمن الأول؛ فإن الحط لا يلحق الشفيع. وفيه أيضاً تغرير؛ فإن المشتري إذا التزم للبائع الثمن العظيم، فربما لا يحط البائع بعد اللزوم.
ومن هذا القبيل أن يشتري عرْضاً قيمته مائة بمائتين، ثم يعطيه عن المائتين الشقص الذي قيمته مائة. وفيه غرر؛ لأنه ربما لا يرضى بالشقص بدلاً عن المائتين.
ومن الحيل أن يهب تسعة أعشار الشقص مثلاً من إنسان، ويبرم الهبة، ثم يبيع العشر بثمن الشقص، فلا يرغب الشفيع؛ لأن الموهوب لا شفعة فيه، والمبيع منه ثمنه مضعّف، ويشارك فيه المتهب، لتقدم ملكه في التسعة الأعشار، وليس يخلو هذا عن الغرر من الجانبين، مع أن الهبة مفصلة، كما سيأتي ذكرها، فمنها ما يقتضي الثواب، وهذا سهل المُدْرك، فإن تعريتها عن الثواب ممكن.
ومن أسباب التعسير اعتماد جعل الثمن مجهول المقدار، مشاراً إليه، وقد أوضحنا أن الأخذ بالشفعة مع جهالة الثمن غير ممكن، فهذا وما في معناه يتضمن تعقيد الأمر على الشفيع (1) .
***
__________
(1) آخر الجزء الثاني عشر من نسخة (ت 2) ومن هنا أصبح الاعتماد على نسخ ثلاث فقط. وفي خاتمة نسخة (ت 2) ما نصه: "تم الجزء الثاني عشر من نهاية المطلب بحمد الله وعونه وحسن توفيقه، وصلى الله على محمد نبيه وعلى آله وصحبه وسلم، وشرف وكرم وعظم. يتلوه في الجزء الثالث عشر إن شاء الله (كتاب القراض) ".(7/435)
كتاب القراض (1)
4846- القراض والمضاربة لفظان دالان على معاملةٍ على أحد النقدين، أو عليهما، بين مالكِ رأس المال، والعامل الذي لا يملك من رأس المال شيئاً، على أن يتَّجر العامل، وما يرزق الله من ربحٍ، فهو مقسوم بينه وبين المالك، على جزئيةٍ يتوافقان عليها شرطاً، وذلك بأن يقول للعامل: اتَّجر، وتصرف، وما يتفق من ربحٍ، فلك النصف، ولي النصف، أو على جزئيةٍ أخرى يتشارطانها.
ولفظ القراض شائع بالحجاز، شيوع لفظ المضاربة بالعراق، وإنما سميت المعاملة قراضاً ومقارضة، لاشتمالها على قطع الربح على نسبة بين المالك والعامل، فالقراض القطع، ومنه المقراض. وسميت مضاربة لتضارب المالك والعامل في الربح، فكلٌّ يضرب فيه بالجزء الذي شُرط له.
ثم المعاملة صحيحة، باتفاق العلماء على الجملة، وإن كان من خلافٍ ففي التفصيل.
4847- وتكلم الشافعي وراء ذلك في ماخذ الإجماع، وقال: الإجماع وإن كان حجة قاطعة سمعية، فلا يتحكم (2) أهل الإجماع بإجماعهم، وإنما يصدر الإجماع عن أصلٍ، فنبه رضي الله عنه على وجوب البحث عن أصل هذا الإجماع، على من يبغي النظرَ في مأخذ الشريعة، ثم رأى رضي الله عنه أن يُتَّخذ خبرُ المساقاة أصلَ الإجماع، على ما سأرويه في أول كتاب المساقاة إن شاء الله عز وجل، ولم يبالِ الشافعيُّ بخلاف من يخالف في المساقاة، لما وثق باتجاه الخبر، وانقطاع التأويل عنه، ولم يتكلف (3)
__________
(1) من هنا صارت النسخ ثلاثاً فقط (د 2، هـ 3، ي) وقد اتخذنا (د 2) أصلاً.
(2) (هـ 3) : يتكلم.
(3) في الأصل: "ولم يتكلف متكلف" بزيادة لفظ (متكلف) .(7/437)
إلا الجمعَ بين المعاملتين. وقد ذكرتُ في (الأساليب) (1) طريق الجمع، وحظُّ المذهب (2) منه: أنه يكثر في الناس ملاك النخيل الذين لا يحسنون العملَ عليها، [وإن أحسنوه، لم يريدوا تعاطيه، وفوائد النخيل تتعلق بعمل المتفقِّدين وتعهد القائمين عليها] (3) ولن يحرص العامل على توفية العمل، حتى يكون له حظٌّ من الثمار، وهذا المعنى يتحقق في الاتِّجار، فإنه يقلّ في الناس من يستقلّ بمعرفة التجايرِ (4) والكَيْس فيها، فكانت المقارضة مَرْفقاً بين مَنْ لا مال له، وبين من لا علم له بالتجارة.
وقال قائلون: مستند الإجماع في القراض حديثُ عبد الله وعبيد الله ابني عمر، قيل: رجعا من غزوةِ (نهاوند) فمرّا بالعراق، وعليها أبو موسى الأشعري، فقال: إني أريد أن أصلَكما بشيء، وليس في يدي ما أصلكما به، وإنما معي مائة ألف درهم من مالِ بيت المال، أدفعها إليكما، اشتريا بها سلعة، وتبيعانها بالمدينة وتردّان رأس المال على أمير المؤمنين، والربحُ لكما، فأخذاها، واشتريا بها من أمتعة العراق، فربحا عليها بالمدينة ربحاً كثيراً؛ فقال لهما عمر: أَوَ أسلف كلَّ الجيش مثلَ ما أسلفكما؟ فقالا: لا. فقال: أنْ كنتما ابني أمير المؤمنين، لا أراه فعل ذلك إلا لمكانكما مِنِّي! رُدَّا الربحَ في بيت المال، فسكت عبد الله بنُ عمر، وراجع عبيد الله أباه، وقال: يا أمير المؤمنين أليس لو تلف، لكان من ضماننا؟ فقال: بلى، فقال عبيد الله: الربحُ لنا إذاً، أشار إلى أن الخراج بالضمان، فسكت عمر، ثم قال مِثلَ قوله الأول، فراجعه عُبيد الله ثانياً، وأعاد قوله الأول، فقال عبدُ الرحمن بنُ عوف: لو جعلته قراضاً على النصف يا أمير المؤمنين، فأخذ منهما نصفَ الربح، وترك النصف في أيديهما (5) وتعلق العلماء بقول عبد الرحمن: لو جعلته قراضاً، وقالوا: التقريرُ على ذلك، والعملُ بحكمه يدل على أن القراض كان معلوماً فيهم. وليس في
__________
(1) من كتب إمام الحرمين في الخلاف، ولم نصل إلى خبر عنه للآن.
(2) المذهب: المراد به هنا: هو هذا الكتاب، فكأنه قال: وحظ هذا الكتاب.
(3) زيادة من: (ي) ، (هـ 3) .
(4) التجاير: جمع تجارة، وزن: رسالة ورسائل، وسُهِّلت الهمزة كما هو الشأن في لغة هذا الكتاب.
(5) حديث ابني عمر، رواه مالك في الموطأ: 2/687 - كتاب القراض، والدارقطني: 3/63، ورواه الشافعي عن مالك، انظر تلخيص الحبير: 3/127 ح 1303.(7/438)
هذا كثير تعلق عندنا، ولا يجوز أن يكون للإجماع مستندٌ يحتاج الناظر إلى الغوص عليه، وتدقيق النظر في دَرْكه إلى هذا الحد، ولا بدّ وأن يكون للإجماع صَدَرٌ عن أصلٍ، ويبعد في مطّرد العرف خفاؤه، فلا وجه فيه إلا القطعُ بأنهم ألفوا هذه المعاملة في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم شائعةً بين [المتعاملين] (1) وتحققوا التقرير عليها شرعاً، وكان شيوع ذلك في الخلق أظهرَ من أن يُحتاج فيه إلى نقل أقاصيص، فكان الإجماع عن مثل هذا. واستقصاءُ ذلك في الأصول.
4848- ثم تكلّم الفقهاءُ على القصة التي جرت، وتنزيلها على وجهها، فمنهم من قال: استقرضا المائة ألف استقراضاً صحيحاً، وللوالي أن يُقرض مالَ بيت المال إذا رأى المصلحةَ فيه، فكان الربح بكماله لهما غيرَ أن عمر استطاب أنفسَهما عن بعض الربح، فلم يخالفاه، وكان هذا بمثابة استطابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفسَ الغانمين عن سبايا هوازن لما أراد ردََّها عليهم، بعد قسمتها، وجريانِ ملك الغانمين فيها.
وقال بعض العلماء: ما جرى كان قراضاً فاسداً؛ فإن أبا موسى شرط عليهما ردَّ المال بالمدينة، فكان قرضاً جر منفعةً، وقد ذكرنا فسادَ السفاتج (2) في مثل ذلك.
ثم يجوز أن يقال: كانا اشتريا الأمتعة في الذمة، فوقع الملك فيها لهما، والربح على الأمتعة، غيرَ أنهما لما ارتفقا بمالِ بيت المال في تأدية أثمان الأمتعة رأى عمر رضي الله عنه استطابة أنفسهما عن بعض الربح.
وقيل: كان ما جرى قراضاً فاسداً بين أبي موسى وبينهما؛ فإنه شرط عليهما وراء التصرف النقلَ إلى المدينة، وسنذكر فسادَ القراض بمثل هذا، فكان الربح بكماله لبيت المال، ولكن رأى عمر نصف الربح موازياً لأُجور أمثالهما.
فهذا ما أردناه في رسم القراض، وتأصيله، ومستندِ الإجماع فيه، ونحن نذكر
__________
(1) في الأصل: المتبايعين، والمثبت من: (ي) ، (هـ 3) .
(2) السفاتج جمع سُفتَجة قل بضم السين، وقيل بفتحها، أما التاء فمفتوحة، والسفتجة: أن يعطي آخرَ مالاً، وللآخر مال في بلد المعطي، فيوفيه إياه هناك، فيستفيد أمن الطريق. وهو فارسي معرب (المعجم والمصباح) .(7/439)
بعد ذلك فصلاً جامعاً يحوي أركان القراض، والشرائطَ المرعيةَ في صحته، ونحرص على أن نستوعب في هذا الفصل معظمَ قواعد الكتاب.
حتى يُلفيها الناظر مجموعة في مكان واحد.
فصل
قال الشافعي: "ولا يجوز القراض إلا في الدنانير، أو الدراهم التي هي أثمانٌ للأشياء وقيمتها ... إلى آخره" (1) .
4849- فنقول: أركان القراض ستة [أشياء] (2) نأتي بها مفصلة مع مسائلها إن شاء الله عز وجل، ونبدأ بما صدّر الشافعي الكتابَ به، فنقول: عقْدُ القراض يختص بالدراهم والدنانير المطبوعتين من النُّقرة الخالصة [والتبر] (3) الجاريَيْن أثماناً وقيماً، وهذا لا نعهد فيه خلافاً.
وقد تردد الأصحاب في المعنى الذي اقتضى تخصيصَ القراض بالنقدين، فاكتفى بعضهم بما أشعر به ظاهرُ النص، وقال: هذه معاملة احتمل الشرعُ فيها جهالاتِ وأغراراً؛ إذْ لا تُضبط أقدار العمل فيها، وليس لها مدّةٌ في وضع الشرع، وغرضُ (4) العامل فيها تعلَّقَ بالغرر؛ فإن الربح قد يكون، وقد لا يكون، وسبب احتمال هذه الجهات والجهالات مسيسُ الحاجة إليها، ولمثل ذلك صحت الإجارة، ثم كان الغرض منها التوصل إلى تنمية المال، فاقتضى الشرعُ تخصيصَ المعاملة بالنقد الذي هو وسيلةٌ إلى تحصيل كل غرض في التجارة. ولو كان رأس المال عَرْضاً فربما يكسد سوقُه، ولا يخرج على (5) إرادة العامل، وتتفق متجرةٌ رابحة، ولو كان النقد عتيداً (6) ،
__________
(1) ر. المختصر: 3/60، 61.
(2) زيادة من: (ي) ، (هـ 3) .
(3) زيادة من (ي) ، (هـ 3) .
(4) في (ي) ، (هـ 3) ولخوض.
(5) (هـ3) : عن مراد.
(6) عتيداً: أي حاضراً مهيأً.(7/440)
لحصلت، فكان التخصيص بالنقد لتحصيل الغرض الذي احتُمل ما في هذه المعاملة من الجهالة لأجله. هذا تعليلٌ على الجملة. والأصول إذا حاولنا تعليلها، لم نعثر إلا على مصالحَ كلية، قد لا تُحرّر على مراسم [الحدود] (1) .
ومن أصحابنا من قال: المعنى فيه أنه لا بد من رد العروض إلى النقد عند المفاصلة على ما سيأتي، إن شاء الله في أثناء الكتاب.
4850- ثم شرْطُ هذه المعاملة أن لا يستبد رب المال بجميع الربح، وأن لا يأكل
العامل جزءاً من رأس المال. والقراض على غير النقد قد يؤدي إلى أحد هذين، وبيان ذلك أن رأس المال لو كان وِقراً من حنطة، واتفق القراضُ في غلاء السعر، فكانت قيمةُ [الوِقر] (2) عشرةَ دنانير، فلو باعه العامل في الحال مثلاً، فانخفض سوق الحنطة، وعاد قيمةُ كل وِقر إلى دينار، فسنقول: إذا تفاسخا، فالرجوع إلى جنس رأس المال، فيردُّ العاملُ على رب المال وِقراً من الحنطة يشتريه بدينار، والباقي بينهما، فيأخذُ العامل أربعةَ دنانيرَ ونصف من رأس المال، من غير كُلفة وتصرف.
ويُمكن فرض ذلك على العكس بأن يقال: قيمةُ الوِقر يوم العقد دينار، فباعه وتصرف فيه حتى بلغ عشرة دنانير، ثم ارتفع سوق الحنطة، فبلغ الوِقرُ قيمتُه عشرة دنانير، فإذا تفاسخا، فعلى العامل تحصيلُ رأس المال، وهو وِقرٌ من حنطة، ولا يمكنه ذلك، إلا بصرف جميع العشرة إلى الوِقر، فيستبد ربُّ المال بجميع الربح.
4851- فإن قيل: قد تتفاوت أسعار الدراهم والدنانير أيضاً؛ لأن الأسواق فيهما ترتفع وتنخفض. قلنا: يقل وقوع التفاوت في الدراهم والدنانير المطبوعة، مع خلوص النُّقرة، وقد يتمادى الزمان، ولا يعرض فيها تفاوتٌ. فإن قلّ، احتُمل.
نعم، الدراهم المغشوشة قد تتفاوت بالرواج والكساد، والقراض لا يصح إيرادُه إلا على المطبوع من النُّقرة الخالصة، فإن لم يمكن ذلك في الدراهم، فالدنانير المطبوعةُ من الذهب الإبريز عتيدةٌ، غيرُ مُعْوزةٍ، فلتقع المعاملة عليها.
__________
(1) في الأصل: الجدل، والمثبت من (ي) ، (هـ 3) .
(2) في الأصل: العَرْض، والمثبت من (ي) ، (هـ 3) .(7/441)
فإن قيل: ما المانع من إيراد المعاملة على الدراهم المغشوشة؟ قلنا: أما البيع بها إشارةً إليها أو إطلاقاً لذكرها، فقد فصَّلنا المذهبَ فيه في كتاب البيع، وفرقنا بين أن يكون مقدار النُّقرة مجهولاً، وبين أن يكون معلوماً.
فأما تفصيل القول فيها في القراض، فنقول: لا يمتنع بيع الدراهم المغشوشة إذا انضبط مقدارُ العيار، ولا يقع الاكتفاء بهذا في القراض؛ فإن مقدار النُّقرة، وإن كان مضبوطاً، فالنحاس المضمومُ إليه سلعةٌ، وإيرادُ القراض عليه بمثابة إيراده على نقدٍ وسلعة، وذلك ممتنع، فالوجه منعُ إيراد القراض على المغشوش.
قال القاضي: أبعد بعضُ أصحابنا، فجوز إيرادَ القراض على المغشوش إذا جرى نقداً؛ فإن المعنى المتبعَ ما ذكرناه من كون النقد وسيلةً إلى أغراض التجارات، فإذا جرى المغشوشُ، وعم جريانُه، تحقق ذلك.
ولم يسمح أحد من الأصحاب بإيراد القراض على الفلوس. وإن عمّ جريانُها في بعض الأقطار، وكذلك القول في الغِطْرِيفية (1) فيما وراء النهر، والسبب فيه أن الفلوس لا يعم جريانها في البلاد الكبيرة، وإنما يتواطأ عليها أهل ناحيةٍ، ثم تكون عرضةً للكساد، ولو كسدت وركدت أسواقها، لتفاوتت تفاوتاً عظيماً. والذي جوزه الأصحاب في الدراهم المغشوشة فيه إذا كانت قيمتُها قريبةً من مبلغ النقرة، وقيمة النحاس، ومؤن الطبّاعين. وأمثال هذه الدراهم لو فرض في جريانها ركودٌ، لقلّ المقدار الذي يفرض فواتُه، وإن كانت الدراهم المغشوشة جاريةً على مبلغٍ من القيمة لا يدنو مما فيه من النقرة، والغش، ومؤن العَمَلة، فهي على التحقيق جاريةٌ جريان الفلوس، فلا جواز لإيراد القراض عليها. على أن من جوّز إيراد القراض على الدراهم المغشوشة فهم الأقلون من المتأخرين، والمذهب المبتوت ما قدمناه.
__________
(1) الغِطْرِيفيّة: أي الدراهم الغطريفية، منسوبة إلى غِطْرِيف أمير خراسان أيام الرشيد، وقد كانت من أعزّ النقود ببخارى، وواضح من السياق أنها كانت مغشوشة لا يجوز القراض فيها، وهذا ما قاله ياقوت، فقد ذكر أنها كانت "من حديد وصُفر وآنُك وغير ذلك من جواهر مختلفة، وقد ركبت فلا تجوز هذه الدراهم إلا في بخارى ونواحيها وحدها" (ر. معجم البلدان: مادة بخارى، المبسوط للسرخسي: 2/194، التعريفات الفقهية للمفتي محمد عميم الإحسان البركتي - ضمن مجموع بعنوان: قواعد الفقه: ص 401) .(7/442)
وكان شيخي أبو محمد يقول: لا نلتزم ذكر علة [معتمدةٍ] (1) في اختصاص القراض بالنقدين، ونكتفي بانعقاد الإجماع. وهذا وإن كان يجري في مسالك الجدل، فلا سبيل إلى التعلق [بمثله، في مقام المباحثات، عن أصول المذهب.
4852- فإذا تبين اختصاص القراض بالنقدين] (2) ، فقد كان شيخي يقول: إذا وردت المعاملةُ على الدنانير في ناحيةٍ (3) ، لا تجري الدنانير فيها نقداً في العقود، فالمعاملة صحيحة، ولا معول على عدم جريان الدنانير؛ فإنها على حالٍ ليست كالسلع التي يُتربص بها، ويُفرضُ فيها تفاوتُ القيم وارتفاعُ الأسواق وانخفاضُها. ولو كنا لا نصحح القراض إلا على نقدٍ جارٍ، لامتنع القراض في كثيرٍ من البلاد؛ إذ لا يعم فيها إلا المغشوش، وقد أوضحنا امتناع ورود القراض على المغشوش.
ثم يتصل بتفصيل هذا الركن أن إيراد القراض على النقرة التي لم تطبع بَعْدُ غيرُ جائز؛ فإن النقرة لا تعد من النقود، بل تعد من السلع قبل جريان الطبع، ولا يحصل بها التوصل إلى الاسترباح. هذا بيان الركن الأول.
4853- والركن الثاني - في صحة القراض ألا يُشترطَ على العامل عملٌ، سوى التجارة، وما يتعلق من هذه الجهة بالاسترباح والاستنماء، فلو وُظّف عليه عملٌ لا يجانس ما ذكرناه، فسد القراض به، وهذا [تبيّنه] (4) .
مسائل
4854- منها أن الرجل إذا قارض رجلاً بمَرْو، وشرط عليه أن ينقل المال إلى نَيْسابور، ويشتري من أمتعتها، ثم ينقلها إلى مرو، أو يتركها بنيسابور، فهذا فاسدٌ؛ من جهة أن نقل المال من قُطر إلى قُطر عملٌ زائد على التجارة، وقد يُفرَضُ نقلٌ مجردٌ
__________
(1) في (هـ 3) ، (ي) : تعتمد.
(2) ما بين المعقفين سقط من الأصل.
(3) ناحية: أي جانب من البلاد، والأصقاع.
(4) في الأصل: فيه.(7/443)
من غير تجارة، فإذا ضُم شرطُ النقل إلى التجارة، كان عملاً ممتازاً عن التجارة، فيفسد القراض. وسنذكر أن رب المال لو أذن له في السفر، فلا بأس، ولكن هذا جرى رفعاً للحرج عنه، من غير اشتراط عملٍ سوى التجارة. هذا ما ذهب إليه جماهير الأصحاب.
وكان شيخي يحكي عن طوائفَ من المحققين، منهم الأستاذ أبو إسحاق: أنَّ شرط المسافرة في الثمار الثقيلة (1) والأموال التي لها قدر، ليس مما يؤثِّر في القراض، بل الباب الأعظم في التجارة المسافرة، وهذا حَسنٌ متجه إذا لم يُبْنَ الأمرُ على نقل المال مقصوداً إلى موضعٍ؛ فإن التجارة ليست بيعاً وشراءً فحسب، وقد يتصل بها أعمال من الطي والنشر [والحرز] (2) ونفض الثياب، والحفظ، وما في معانيها.
وهذه الأعمال يمكن [تقدير] (3) إفرادها من غير تجارة، ولكن إذا اتصلت بالتجارة، عُدّت من توابعها، فليكن المسافرةُ منها.
فتحصَّل مما ذكرناه اختلافٌ بين الأصحاب، فمنهم من أبى شرط السفر، واعتقده مُفسداً، وجوّز ذكرَ السفر في معرض رفع الحجر، ومنهم من جوز شرطَ السفر، كما ذكرناه، إذا كان السفر معدوداً من توابع التجارة.
4855- ومن المسائل أنه لو دفع إلى العامل ألفاً وقال: اشتر بها حنطةً، واطحنها، واخبزها، وبع الخبز، والربحُ بيننا، فلا يصح القراض؛ لأنه شرط عليه (4) عملاً وراء التصرف، والمطلوبُ من عقد القراض التصرفُ، وما يقع تابعاً له، كالحفظ والحَرْز وما في معناهما، والطحنُ والخَبزُ عملان مقصودان، وقد أوضحنا انحصار هذه المعاملة في ابتغاء الربح، بالحذاقة في التصرف والكَيْس في التجارة، فأما أن يعمل عملاً آخر يتعلق بالحِرف، فليس ذلك من مقاصد القراض.
وإذا اشترط في القراض أفسده، وهذا متفق عليه.
__________
(1) في (ي) ، (هـ 3) : التجاير النقلية.
(2) الحرز: الصيانة. وفي الأصل: والحزز، وفي (ي) : الحرن.
(3) زيادة من: (ي) ، (هـ 3) .
(4) عليه: أي على العامل.(7/444)
وكذلك لو دفع إليه ألفاً ليشتري به السِّمسمَ ويعصرَه ويبيعَه، لم يصح القراض كذلك.
4856- ثم أجرى الأصحاب في ذلك كلاماً نأتي به، ونذكر ما فيه. فقالوا: لو أورد القراض على النقد، ورأى العامل أن يشتري به حِنطةً، فلا امتناع فيما يفعل، فلو اشتراها، وطحنها، فقد قال القاضي: يخرج ذلك الدقيق عن كونه مالَ القراض، ولو لم يكن في يده غيرُه، لانفسخ القراض؛ فإنه بعمله أخرجه عن جنسه وصفته، ولو باعه، لم يقع بيعُه للدقيق على وجه بيع العامل للسلع التي يُتربص بها ويُبغى ارتفاعُ أثمانها، فإذا كان ما يُفرض من فائدةٍ لا يحال على البيع والشراء، وإنما يحال على التغيير الذي وقع بفعلٍ، لو شرط في القراض، لأفسده، فخرج ذلك المالُ بذلك الفعل عن المقصود المرعي في [معاملة] (1) القراض، فإذا اختبط الأمرُ فيه، وأمكن حمل فائدةٍ -إن كانت- على التجارة وعلى التغيير الذي أحدثه، فلا وجه إلا الحكمُ بارتفاع المعاملة. هذا ما ذكره القاضي، وطوائف من المحققين.
وقال بانياً عليه: إذا أقر ربُّ المال العاملَ بطحن حنطةِ القراض، صار بذلك فاسخاً للعقد؛ لأن الحنطة تخرج بالطحن عن المعنى الذي نبهنا عليه، وينقسم النظر في الفوائد، فيجوز أن تُحمل على التجارة، ويجوز أن تُحمل على التغيير الواقع.
وهذا متجه حسن، وفي القلب مثه شيء إذا لم يقع الطحن شرطاً في المعاملة، ولا يبعد عن وجه الرأي الحكمُ بأن ما يتفق (2) من هذه التغييرات لا يوجب انفساخ المعاملة؛ فإنا لا نعرف خلافاً أن من اشترى عبداً صغيراً فكبر، وشب، وباعه يافعاً، وكان اشتراه رضيعاً، فما يُفرض من فائدةٍ تحمل على التغيير الذي لحق المملوكَ، ثم لا يؤثر ذلك وفاقاً، ولا يجب القضاء بأن المملوك إذا تغيّر، خرج عن كونه مال قراض، فكذلك إذا جرى الطحن من غير شرط.
ويجوز أن يقال: التربص لا بد منه في التجارة، وهو يؤدي إلى تغايير تلحق الحيوان، فكان هذا في معنى الضرورة التي لا يتأتى دفعها، وليس كذلك التغيير الذي يلحق بفعل ينشأ. هذا ما أردنا التنبيه عليه.
__________
(1) في الأصل: مقابلة.
(2) (ي) (هـ 3) : يقع. والمعنى يتفق وقوعه من غير شرط، ومن غير تجريد القصد إليه وحده.(7/445)
4857- ومما يتصل بهذا الركن أنه لو كان له ألفُ درهمٍ على إنسان، فقال لآخر: قارضتك على مالي على فلان، فاقبضْه، وتصرفْ، فلا يصح القراض باتفاق الأصحاب على هذا الوجه؛ لأن النقد لم يكن عتيداً حالةَ العقد، واحتاج العامل إلى تحصيله، وتحصيلهُ ليس من أعمال التجارة. وقد ذكرنا أنه لا يجوز ضمُّ عملٍ إلى عمل التجارة في معاملة القراض.
ولا يصفو هذا حتى نبيّن معه أمراً آخر، فنقول: إذا أحضر ربُّ المالِ المالَ، وقال: إذا جاء رأسُ الشهر، فقد قارضتك على هذا المال، فالمعاملةُ فاسدةٌ، باتفاق الأصحاب، وإن كنا قد نجوّز تعليق الوكالة؛ فإن القراض ليس وكالة محضة، ولكنها معاملةٌ ضمنُها معاوضة، وقد احتمل الشرع فيها جهاتٍ من الجهالات على حسب الحاجات، فلا تحتمل ما لا حاجة إليه، والتعليقُ [منه] (1) .
ولو قال: قارضتك الآن على هذه الدراهم، ولكن افتتح التصرفَ بعد شهر، ففي صحة القراض وجهان ذكرهما القاضي: أحدهما - المنع؛ لأن حاصل هذا يؤول إلى تعليق القراض أيضاً إذا (2) كان لا ينتجز تسلُّط العامل على العمل في الحال.
فإذا ثبت هذا الذي ذكرناه، عُدنا إلى ما كنّا فيه من قوله: عاملتك على مالي على فلان، فاستوفِهْ، وتصرف، فهذه المعاملة ناجزةٌ، ولكن التصرف موقوف على الاستيفاء والقبض، فالمعاملة فاسدة، لم يختلف الأصحاب في فسادها، وإن اختلفوا فيه إذا كان النقد حاضراً، فقال: قارضتك الآن عليه، وتصرف بعد شهر، والسبب فيه أن معتمد القراض نقدٌ حاضر، والدَّيْن في الذمة، وإن كان مملوكاً، فهو أبعد عن إمكان التصرف من العروض.
4858- ولو كان لرجل على رجلٍ ألفُ درهم، فقال مستحق الدين لمن عليه الدين: قارضتك على ما لي عليك، فانقده، وتصرف، فلا تصح هذه المعاملة؛ فإنا إذا كنا نمنع صحتها، والدَّيْنُ على الغير، فلأن نمنع صحتَها في هذه الصورة أولى،
__________
(1) منه: أي مما لا حاجة إليه. وفي الأصل: فيه.
(2) في النسخ الثلاث: "إذا"، وهي هنا بمعنى (إذْ) ، وهو استعمالٌ سائغ كما أشرنا إلى ذلك من قبل، ومثلها (إذ) مكان (إذا) فهو سائغ أيضاً.(7/446)
والدليل عليه أن ما على الغير إذا كان استوفاه المأمور، فإنه يحصل في يد المستوفي ملكاً للآمر، وما على الإنسان إذا أحضره لا يصير ملكاً لمستحق الدين، فلا وجه لصحة المعاملة.
ويتصل بهذا أنه إذا قال: عاملتك على ما لي على فلان، فاقبضْه، وتصرف فيه، ولك من الربح كذا، فالمعاملة فاسدة، كما تقدم، ولكن إذا قبض ما على فلان، وافتتح التصرفَ فيه، نفذ تصرفُه لوقوعه على حسب الإذن، والقراض الفاسد أثرُ فساده في خروجه عن الوضع، وبطلانِ ما وقع التشارط عليه في تجزئة الربح، أما التصرف، فمعتمدُ نفوذِه الإذنُ من المالك، فلا فساد منه، ثم ما يحصل من ربح في المعاملة الفاسدة، فهو بجملته لمالك أصل المال، وللعامل أجرُ مثل عمله، كما سنذكر ذلك على أثر نجاز القولِ في الأركان، إن شاء الله عز وجل.
هذا فيه إذا قال: قارضتك على ما لي على فلان، فاقبضه وتصرف فيه، فأما إذا قال: عاملتك على ما لي عليك، فحصّله، وتصرف فيه، فما يحصّله ويحضره لا يدخل في ملك الآمر، ويبقى ملكاً له. فإذا تصرف فيه، [لزم] (1) تخريجُ ذلك على أصلٍ قدمناه.
4859- ونحن نذكر مزيدَ تفصيل فيه، ثم نعودُ إلى غرضنا من هذه المسألة التي انتهينا إليها.
فإذا قال الرجل لصاحبه: اشتر لي بثوبك هذا الحمارَ، وأشار إلى حمارٍ لإنسان، فإذا اشترى ذلك الحمارَ بذلك الثوب، فلا يخلو إما أن يسمي في العقد الآمرَ، وينسبَ الشراء إليه، أو ينويه ولا يسميه. فإن سماه، ففي وقوع الشراء له وجهان: أحدهما - يقع له؛ لأنه اشتراه له بأمره، فعلى هذا ما حكم الثوب الذي يتعين في العقد؟ وجهان: أحدهما - أنه هبة، فكأنه وهب منه الثوب، في ضمن هذا التصرف، وأقْبَضه، ثم توكّل عنه في شراء الحمارِ به. والثاني - أن يقدره قرضاً، فكأنه أقرضه، ثم التقدير بعده على ما ذكرناه، هذا أحد الوجهين. والوجه الثاني - في الأصل أن
__________
(1) سقطت من الأصل.(7/447)
العقد لا ينصرف إلى الآمر؛ لأن الثمن غيرُ مملوكٍ له، فعلى هذا في المسألة وجهان: أحدهما- أن العقد يبطل؛ لأنه لم ينصرف إلى من سماه، فأبطلناه. والوجه الثاني - أن العقد يقع لمالك الثوب، وتلغو التسمية.
هذا إذا سماه، فأما إذا لم يسمِّ الآمر، ولكنه نواه، ففي انصراف العقد إلى ذلك الآمر من الخلاف ما ذكرناه، ثم إذا حكمنا بانصرافه إليه، فالتفريع في الثوب المجعول ثمناً على ما قدمناه. وإن لم نقض بانصراف العقد إلى من نواه، فينصرف العقد إلى هذا المأمور العاقد، وجهاً واحداً؛ إذْ لم تجر تسميةٌ تخالف وضعَ الشرع.
4860- فإذا تمهّدَ هذا، عُدنا بعده إلى غرضنا، وقلنا: إذا قال: حصِّل الألفَ الذي عليك، وتصرف فيه، فإذا حصله، فهو ملكه بعدُ إلى أن يَقْبض عنه قابضٌ، وما يقع من تصرفٍ بعد هذا على نية الآمر، فهو خارج على ما مهدناه من التصرف للغير، بعين مالِ المتصرف، فليجر هذا ذلك المجرى؛ فإنه عينُ المسألة التي أوضحناها.
4861- ومما يتصل بتمام البيان في ذلك أن الرجل إذا قال للغير: اشتر لي الخبز بدرهمٍ من مالك، فإذا اشتراه في الذمة، وقع الشراء للموكّل، ولا يلزم هذا المأمور أن ينقد الدرهمَ من ماله، فإذا نقده من ماله، كان مأخذ هذا من أصلٍ آخر، وهو أن من أدى دين غيره بإذنه على شرط الرجوع عليه، فإنه يرجع عليه، وإن أذن له في الأداء مطلقاً، ولم يُقيِّد بشرط الرجوع، ففي الرجوع وجهان، تكرر ذكرهما، كذلك إذا اشترى الخبز بأمره، فقد وجب الثمن على الآمر، فإذا أداه من مال نفسه بإذنه، ففي الرجوع ما قدمناه.
ولو اشترى الخبز بدرهم عيَّنه من ماله، فهذه المسألة هي التي مضت؛ فإنه (1) اشترى للآمر شيئاً بعين مال نفسه.
فإذا تمهَّد ذلك، عدنا إلى مسألتنا عودةً أخرى، وقلنا: إذا قال: عاملتك على ما لي عليك، فحصِّله، وتصرف على سبيل القراض، فإن اشترى شيئاً في الذمة للآمر، ثم نقد الثمنَ، فهو بمثابة ما لو اشترى الخبز في الذمة، ونقدَ الثمن من عند
__________
(1) (ي) ، (هـ3) : فإنه إذاً اشترى.(7/448)
نفسه، وإن حصّل الدراهم واشترى بأعيانها شيئاً، فهو بمثابة ما لو اشترى للآمر مالاً بعين مال نفسه، [وقد تفصَّل] (1) القولُ في هذه المسائل.
4862- ولو قال: خذ هذه العين، وأشار إلى سلعة، فبعها، وقد قارضتك على ثمنها، فقد نص الشافعي على فساد القراض، والنص يعضد ما قدمناه.
ولو قال: قارضتك على ألف درهم، وذكر شرائطَ القراض، وأحضر الألفَ في المجلس، فقد قال القاضي رضي الله عنه: يصح ذلك، وتُحتمل غَيْبةُ الألف حالة العقد، إذا حصل التَّنْجيزُ في المجلس، ولو فارق المجلسَ، ثم حصّل الدراهم، لم يصح، ولا بد من تجديد عقدٍ بعد تحصيلها.
وما ذكره حقٌّ، لا دفع له، ولا يجوز أن يكون فيه خلاف؛ فإن من باع درهماً بدرهم، وأجرى ذكرهما على الإطلاق، ثم أُحضر الدرهمان، وجرى التقابض فيهما قبل التفرق، صح العقدُ. ولا يجوز بيعُ الدراهم بالدراهم ديناً بدين، ولكن إذا جرى التعيين في المجلس، فالحكم له. كذلك القول في إحضار الدراهم في المجلس في غرضنا من القراض. وقد تم بيان هذا الركن.
4863- الركن الثالث من أركان القراض: أنه يجب تسليم مال القراض إلى العامل
وتثبت اليد له فيه على التمحُّض من غير مشاركة. وهذا متفق عليه بين الأصحاب.
فلو قال رب المال: يكون الكيس في يدي، وأنت تتصرف وتشتري، وإذا احتجت إلى الثمن، جئتني فنقدتُه، فلا يصح القراض على هذا الوجه. والسببُ فيه أن مبنى هذه المعاملة على الاتساع في طرق تحصيل الربح، والشرعُ إنما احتمل ما في القراض من الجهالة لهذا السبب وإذا لم يكن المال في يد العامل، لم يحصل غرض الاستنماء على الاتساع المطلوب في بابه، والاستمكان المشروط في أسبابه؛ فإن السلعةَ قد تحضر فيتخيّل العامل فيها منفعة، ولو وقف صاحبها حتى يطلب المالَ، لفات المتجَرُ. وهذا ظاهرُ الوقوعِ، ولو انفرد العامل باليد، وكان المال حاضراً معه، لم تفته هذه الأسباب. والتجايرُ فُرَصٌ تمر مرّ السحاب.
__________
(1) في الأصل: هذا تفصيل.(7/449)
ولو قال المالك: أتصرف معك، كان هذا مفسداً للقراض؛ من جهة أن تصرف المالك يُضعفُ ويوهي يدَ العاملِ، ويخرجه عن الاستقلال ويحوجه إلى المراجعة.
وكل ذلك يَنْقُص من بسطته في التصرف.
4864- ومما يتصل بهذا الركن قول الشافعي: "ولو قارضه، وجعل معه غلامَه ... إلى آخره" (1) .
فنقول: إذا شرط ربُّ المال أن يعمل مع العامل، فهذا فاسدٌ لما ذكرناه، ولو شرط أن يعمل مع العامل غُلامُه؛ يعني غلامَ المالك، فالنص في القراض والمساقاة أن ذلك جائز، أما المساقاة فنتركها إلى موضعها. وأما القراض، فتفصيل القول فيه أنه إذا لم يشترط أن يكون المال في يد عبده، وأثبت للعامل منصبَ الاستقلال بالتصرف، ولم يشترط عليه مراجعةَ العبد، وأقام العبدَ مُعيناً له ليخدمه في الجهات التي يحتاج إلى خدمته فيها، فظاهر النص أن شرط ذلك لا يُفسد العقدَ؛ لأنه ليس مناقضاً لمقصود المعاملة، وفي تصوير المسألة تقرير ذلك.
ومن أصحابنا من قال: إذا شرط أن يكون عبده معه في تصرفاته، وإن كان لا يراجعه فيما يريد الاستقلال به، فالشرط فاسد مفسد؛ من قِبل أن يدَ العبد يدُ مولاه، فيكون العبدُ معه بمثابة كون السيد معه، ولو شرط أن يكون معه بنفسه، لفسدت المعاملة؛ لأن اليد يتطرق الانقسام إليها، فكذلك القول في العبد.
ومن أصحابنا من قال: لا يضرُّ كون العبد معه؛ فإنه مستخدَمُ المقارض، ومن استأجر عبداً، أو استعاره، فيدُ العبد المستخدَمِ بجهة الاستعارة، أو جهةِ الإجارة يدُ المستخدِم بالجهتين، لا يدُ مالكِ العبد، ولهذا تُجعل الدار المستأجرة والمستعارة حرزينِ للمستأجر والمستعير، في أحكام السرقة. ومحل الخلاف فيه إذا لم يكن على المقارض حجرٌ من جهة العبد ولم يُلزمْه مالكُ العبد مراجعةَ العبد في [حَرْز] (2) المال، ولا في التصرفات، فلو جرى حجر من هذه الفنون، لفسد القراض بسبب
__________
(1) ر. المختصر: 3/61.
(2) في الأصل، (هـ 3) : حزن.(7/450)
الحجر، كما سنصفه في الركن الذي يلي هذا الركن.
4865- الركن الرابع: في بيان التعرض للتصرف المقصود بالقراض، ووضع هذا العقد على الاتساع في الاسترباح والاستنماء، كما قررناه مراراً. والتصرف من قبيل التجارة لا غير؛ فإن سائر الجهات في المكاسب يتيسر تحصيلها بالاستئجار، بخلاف التجارة، فليكن مقصود القراض التجارة المتسعةَ المضطرب من غير حجرٍ يتضمن تضييقاً ظاهراً، ولسنا نشترط التفويض المطلق الذي لا احتكام فيه للمالك، فإنه لو قال: عاملتك على هذه الدنانير على ألا تتّجر إلا في الثياب، جاز؛ لأن فيها متسعاً رحباً، وكذلك قد يُعيّن صنفاً من الثياب يعم وجوده، ويظهر توقع الاسترباح فيه، فيجوز القراض.
ولو عيّن شيئاً يعزّ وجودُه، ولا يتسع المتجر فيه، لم تصح المعاملة. والتعويل في النفي والإثبات على ما نبهنا عليه.
ومما يجب التنبيه له الآن أن القراض يشتمل على معنى التوكيل في التصرف، وإن كان يؤول في منتهاه إلى الشركة عند ظهور الربح، كما سنصف ذلك.
وقد ذكرنا في كتاب الوكالة أن الوكالة الخاصة أولى بالصحة من الوكالة العامة، حتى لو أفرط العموم، فقد نقول: لا يصح التوكيل، والسبب في البابين أن الوكيل يقول ويعمل لموكِّله نائباً عنه، لا حظ له [في تصرفه] (1) ، والقياس أن يتصرف المرء لنفسه بنفسه، وإنما أقام الشرع الوكلاء مقام الموكِّلين لمسيس الحاجة إلى الاستنابة [في بعض الأمور، وهذا إنما يظهر في الأشغال الخاصة، والقراضُ لا ينبني على الاستنابة] (2) المحضة، وإنما هي معاملةٌ مالية يتعلق بها غرض رب المالِ والعاملِ، فحصولُ الغرضِ فيه يستدعي انطلاقاً في التصرف، وانبساطاً في جهات الاسترباح، وانتهى الأمر فيه إلى [تخصيص] (3) المعاملة في أول الوضع بما هو ذريعة إلى تحصيل المقاصدِ جُمَعٍ، من غير تربصٍ لارتفاع الأسواق.
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) ما بين المعقفين سقط من الأصل.
(3) في الأصل: التخصيص.(7/451)
وقال الأئمة في تمهيد هذا الأصل: لو قال رب المال لا تبع إلا من فلان، أو لا تشتر إلا من فلان، فهذا يفسد القراض؛ فإنه حَجْر بيّن، وإذا تبين ذلك المعيَّن أن الأمرَ مرْدودٌ إليه، احتكم بائعاً ومشترياً، وفسد نظام المعاملة.
وقالوا: [لو] (1) قال: لا تتصرف حتى تستشير فلاناً وتستضيء برأيه، فالمعاملة تفسُد؛ من جهة أنه قد لا يصادفه إذا حانت متجرةٌ وتعرضت للفوات، ولهذا شرطنا في صحة المعاملة انفرادَ العامل باليد، وكذلك لو قال: لا تنفرد بشيء من التصرف حتى تراجعني، فهذا مفسدٌ.
والقراض كما يقتضي انفرادَ العامل باليد يقتضي انفراده بالتصرف؛ فإن اليد لا تُعنى لعينها، وإنما شرطنا استقلاله بها، ليكون مادة لانبساطه، فكيف يسوغ الحجر عليه في عين (2) التصرف؟ فإن قيل: قد أطلق الأصحاب جواز مقارضة الرجل الواحد رجلين، وسيأتي ذلك في تفاصيل المسائل، إن شاء الله تعالى؟ قلنا: هذه المسألة فيها تفصيل، فإن قارض رجلين وشرط أن لا يستقل واحدٌ منهما بالتصرف دون صاحبه، فالذي يدل عليه ظاهرُ كلام الأصحاب أن ذلك فاسدٌ، وإذا كنا نفسد القراض بأن يشترط على العامل أن يراجع رجلاً بعينه، فلا شك أن هذا المعنى يتحقق فيه، إذا ارتبط التصرف برجلين لا ينفذ دون اجتماعهما.
ولو قارض رجلين وأثبت لكل واحد منهما الاستقلالَ بالتصرف، فهذا هو الذي جوزه الأصحاب، وفيه كلامٌ وإشكالٌ، ليس هذا موضعه. وسيأتي ذلك مفصلاً في أثناء الكتاب، إن شاء الله تعالى.
هذا قولنا في إطلاق تصرف العامل على الانبساط، مع منع الحجر عليه، بما يؤدي تضييق المجال في [طريق] (3) المتاجر (4) .
4866- الركن الخامس في القراض: في التعرض للإطلاق والتأقيت:
__________
(1) سقطت من الأصل.
(2) (ي) ، (هـ 3) : معنى.
(3) في الأصل: تضييق.
(4) في (ي) ، (هـ 3) : "المتَّجِر".(7/452)
لم يختلف الأئمة في أن إطلاقَ القراض، وتركَ التأقيت فيه موضوع المعاملة، وأول ما نذكره أن التأقيت ليس شرطاً في هذه المعاملة، بخلاف المساقاة، والسبب فيه أن المقصود من أعمال المساقاة تحويه المدة، فلا بد منها لحصول الإعلام، والمقصود من القراض تحصيل الربح، ولا ضبط له، وهو في غالب الأمر يتعلق باتفاقاتٍ، لا تنضبط، وتوقعات لا تنحصر. هذا قولنا في أن التأقيت ليس شرطاً في القراض.
ونحن نتكلم وراء ذلك، في أن التأقيت هل يبطل القراض؟ وقد اضطربت طرق الأصحاب، ونحن نأتي بترتيب يجمع ويحوي الغرض. قال العراقيون: إن أقّت ربُّ المال بيعَ المقارض للسلع، فالتأقيت فاسدٌ مفسد، مثل أن يقول: تبيعُ العروضَ وتردها إلى الناضّ في سنة، ولا تبعْ بعدها. هذا فاسدٌ؛ من جهة أنه قد لا يجد للعروض زبوناً في المدة المضروبة. فإذا فرض ارتفاع القراض بالتفاسخ، فيبقى العامل مطالباً ببيع العروض، وتنضيضها؛ إذ لا تتأتى المفاصلة إلا كذلك، فلا وجه إذاً للمنع من البيع، ولا لتأقيته.
وإن ذكر التأقيت في شراء الأمتعة، مثل أن يقول: تشتري من الأمتعة ما تراه في سنة، فإذا انقضت، لم تزد في الشراء وتفتتح البيعَ - من غير مدة، ففي ذلك وجهان ذكرهما العراقيون: أصحهما- أن القراض يصح على هذا الوجه؛ فإنه ليس في هذا التأقيت ما ينافي مقصودَ العقد، ولا حجراً، ينقص من البسطة المرعية.
والوجه الثاني- أن القراض يفسد بالتأقيت؛ فإن مبناه في وضع الشرع على الإطلاق، وهذا أسنده العراقيون إلى أبي الطيب بن سلمة.
ولو قال قارضتك [سنة] (1) ولم يتعرض لتأقيت البيع، ولا تأقيت الشراء، ولكن ذكر التأقيت مضافاً إلى القراض، ففي المسألة وجهان: من أصحابنا من جعل هذا كالتصريح بتأقيت البيع، حتى يفسد القراض. ومنهم من جعله كالتصريح بتأقيت الشراء حتى يُخرَّجَ على الوجهين المذكورين.
هذا هو الترتيب الجامع في الباب.
__________
(1) في الأصل: منه.(7/453)
4867- ومن تمام البيان في ذلك أنّا إذا صححنا تأقيت الشراء، فالشرط أن يذكر وقتاً يتأتى فيه الانبساط في الشراء على موافقة غرض الاسترباح، حتى لو قال: قارضتك على أن تشتري في ساعةٍ من نهار، لا يصح، فإن هذا المقدارَ من الزمان لا يسع من الشراء ما يوافق في غالب الأمر، ويُثبت متسعاً في التجارة.
ومما نُلحقه بهذا الركن أن المالك لو عيّن للعامل شراء ضربٍ من العروض يوجد غالباً في فصول السنة، فذاك. وإن عيّن ما يختص وجودُه ببعض فصول السنة، كالرطب والفواكه الرطبة، ففي الاتجار في هذا الضرب متسع لا ننكره، ولكن إذا انحصر وجوده في بعض الأزمنة فينحصر البيع فيها لا محالة، وذكرها مع هذا التنبيه يتضمن تأقيت البيع. وقد ذكرنا أن تأقيت البيع ينافي صحة القراض، فاختلف لذلك أصحابنا، فذهب بعضهم إلى منع القراض، لما أشرنا إليه، وذهب آخرون إلى صحة القراض؛ فإن بيع الرطب في أوانه يتنجَّزُ، وليس مما يُبنى الأمر فيه على تربص، حتى يُحملَ تأقيتُ البيع على تضييقٍ في التجارة، من حيث يخالف التربصَ المعتاد في السلع، فإذا كان الغالب انتجاز البيع، وإن فرض وقوفُه في بعض السنة، فهو غير مُكترَثٍ به في العادة، فلا حكم لتأقيت البيع، ولم يختلف أصحابنا أنه لو قال: اتَّجِرْ في البطيخ مادام، فإذا انقضى، ففي غيره، جاز ذلك، ولم يمتنع. وإن كان الرطب متأقتَ البيعِ على ما ذكرناه ولكن لم يحمل ذلك على تضييق، وصح لأجله القراض، وهذا يقتضي تصحيح القراض مع الاقتصار عليه.
4868- الركن السادس من أركان القراض: قسمةُ الربح على جُزئية صحيحة وحصر عِوض المقارض فيما يسمى له من الربح.
وبيان ذلك: أن رب المال والعامل ينبغي أن يتشارطا الربح بينهما على جزئيةٍ معلومة حالة المعاقدة، ويذكرا ذلك ذكْرَ العوض في مقابلة المعوَّضِ المطلوبِ من العامل، وهو عملُه، وعِوضُ عمله الجزءُ الذي يسمى له من الربح. فيقول رب المال: قارضتك، أو ضاربتك، أو عاملتك، على التصرف في هذا المال، ولك من ربحٍ يرزقه الله نصفه، ولي نصفه، أو لك ثلثه، ولي ثلثاه، على ما يتفقان عليه.(7/454)
فلو ذكر للمقارض أجراً معلوماً، لم يكن ما جاء به قراضاً، ولا إجارةً صحيحة؛ فإن شرط الاستئجار إعلامُ العمل، والعملُ في معاملة القراض لا ينضبط، ومحاولة تقديره يخالف مقصود العقد. كما أن طلب تأقيت النكاح يخالف موضوعَه، والإعلام حيث يشترط لا يُعنَى لعينه، وإنما يُطلب منه نفيُ الجهالة على وجه يليق بمقصود العقد.
ولو قال المالك: قارضتك على أن لي النصف من الربح، ولم يتعرض لإضافة النصف الآخر إليه، أو قال: على أن لك النصف من الربح، ولم يتعرض لإضافة النصف الآخر إلى نفسه. أما إذا أضاف إلى نفسه جزءاً، فظاهر ما نقله المزني أن ذلك غير صحيح؛ فإن الأصل أن الربح بكماله لمن الملك له في رأس المال، وإنما يثبت للمقارض جزءٌ منه، بأن ينسب إليه ولم يَجْر لنسبة جزءٍ إلى العامل ذكرٌ.
وذكر ابن سُريج قولاً مخرّجاً أن القراض يصح، ويقع الاكتفاء بإضافة جزءٍ إلى المالك؛ فإن هذا مع جريان المعاملة صريحٌ في إضافة الباقي إلى العامل من طريق الفحوى، والمعاني هي المقصودة، لا صيغُ الألفاظ.
هذا إذا أضاف إلى نفسه وسكت عن الإضافة إلى العامل، فأما إذا أضاف جزءاً من الربح إلى العامل، وسكت عن إضافة الباقي إلى نفسه فالذي قطع به الأئمة الحكمُ بصحة القراض، بخلاف الصورة المتقدمة؛ فإن المعاملة تقتضي ذكر عوضها والمعوّض من الربح ما يسمى للعامل، وما عداه لا يثبت للمالك بحكم الشرط. وإنما يثبت له بحكم ملك الأصل، فإذا اشتملت المعاملة على ذكر عوضها، يكفي ذلك في الحكم بتصحيحها، وليس كالصورة الأولى.
وذكر العراقيون وجهاً عن بعض الأصحاب أن العقد لا يصح حتى تجري الإضافة في الجزأين إلى الجانبين. ونظموا من تخصيص الإضافة بأحد الجانبين ثلاثةَ أوجه: أحدها- الصحة. والثاني- الفساد. والثالث- الفصل بين أن تقع الإضافة إلى العامل وبين أن تقع الإضافة إلى المالك. وليس لما ذكروه من الخلاف في الإضافة إلى العامل وجهٌ.
4869- ولو قال: قارضتك على أن لك الربحَ كلَّه، فلا يصح القراض على هذا الوجه؛ فإن هذه المعاملةَ إنما جوّزت لارتفاق ملاك الأموال بأعمال الذين لهم كَيْسٌ(7/455)
في التجارة. فأما إذا صُرف جميعُ الربح إلى العامل (1) ، سقط غرض المالك بالكلية،
وعاد النظر إلى أن هذا الذي صدر من المالك منحة، أو هبة متعلقة بالربح الذي سيكون.
فاذا ثبت ما ذكرناه، فمن أصحابنا من قال: هذا إقراضٌ، والعامل يملك رأس المال مِلْكَ [القرض] (2) ، وإذا اتفق ربحٌ، فهو له، وهذا ضعيف لا شيء؛ فإن المعاملة على الأصل (3) مصرَّحةٌ باستبقاء (4) الملك في رأس المال، وتحصيلُ الملك فيه للمستقرض لا وجه له.
ومن أصحابنا من قال: الذي جرى قراضٌ فاسد، وسنختم نجاز الأركان بحكم القراض الفاسد على الجملة.
4870- والذي ننجزه الآن أنّ تصرف العامل نافذٌ لصَدَره عن إذن المالك، وكمالُ الربح للمالك؛ فإن العامل إنما يستحق جزءاً منه بمعاملةٍ صحيحة، وهي فاسدة، فيما نحن فيه، وللعامل أجرُ مثل عمله، ربحَ أو خسر؛ فإنه خاض في العمل على أملٍ في العوض، فإذا لم يحصل ما أمّله، لم يحبَط عمله.
فلو قال: قارضتك على أن لي تمامَ الربح، فالقراض لا يصح على هذا الوجه، ولكن ينفد تصرفُ العامل، لصدوره عن إذن المالك. وهل يستحق أجرَ مثلِ عمله؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يستحقه، حملاً على أن القراض فسد، فرُدَّ الرّبحُ إلى أصله، وقوبل العمل بأجر مثله. والوجه الثاني - أنه لا يستحق شيئاً؛ لأنه خاض في العمل من غير أن تُشعر المعاملةُ بإثبات عِوضٍ له على مقابلة عمله.
والقائل الأول يُجيب عن هذا، ويقول: نفس جريان المعاملة يدل على أن لا يحبَط عملُ العامل، ومقصود المالك أن يخلص الربح له، وللعامل أجرُ عمله.
وهذا يمكن تقديرُه في نظْم الكلام، ولو أراد استخداماً مجرداً، لما ذكر المعاملة والقراض، وما في معناهما.
__________
(1) في (ي) : " إذا فرض جميع الربح للعامل " ومثلها (هـ 3) .
(2) في الأصل: المقبوض، وفي (هـ3) : المقرَض.
(3) (ي) ، (هـ3) : الأصح.
(4) (ي) : باستيفاء.(7/456)
4871- فإذا تمهد ما ذكرناه من نسبة الربح إلى جزئية إليهما، واتضح أن إثبات الربح بكماله لأحدهما منافٍ لمقصود العقد، فنقول بعد ذلك: لو شرط المالك لنفسه درهماً مثلاً، ثم قال: الربح بعده نصفان بيننا، فهذا مفسد للمعاملة؛ من جهة أنه قد لا يتفق الربح أكثر من درهم، فيؤول حاصل الأمر إلى اختصاص المالك بجميع الربح المتّفق، وكذلك لو وقع الشرط على أن يختص العامل بدرهم، ثم قسمةُ الربح بعده، فهذا مفسدٌ؛ لأن الربح قد لا يزيد على درهم، فيُفضي مقصودُ العقد إلى شرط تمام الربح للعامل.
ولو قال: لك درهم من عُرض المال، والربح إن اتفق نصفان بيننا، فهذا يُفسد لا من جهة الفساد الذي ذكرناه الآن، ولكن ذكر الأجرة للعامل من غير الربح مفسدٌ للعقد كما مهدناه.
وعلّل بعضُ الأصحاب الفسادَ فيه إذا قال المالك: لي درهم أختص به من الربح، والباقي مقسوم بيننا، بأن قال: الجمع بين التقدير وبين الجزئية يُفسد ضبط التجزئة؛ فلا ندري أن المشروط للمالك من الربح كم. ولا حاجة إلى هذا التعليل عندنا.
وفيما قدّمناه مَقْنع.
واستشهد القاضي في محاولة تحقيق هذه العلّة بمسألة في المذهب فيها نظرٌ عندنا، وهي أنه قال: لو قال مالك الصُّبْرة لمن يخاطبه: بعتك صاعاً من هذه الصُّبرة، ونصفُ الباقي منها بكذا، فالبيع باطلٌ لضمه التقديرَ إلى الجزئية، ولو قال: بعتك نصفَ هذه الصُّبرة، لصحَّ. هذا ما ذكروه. وفيه احتمالٌ؛ فإن الصاع معلومٌ، ونصف الباقي معلوم. فإن كانت الصبرة مجهولة الصِّيعان، فقد نقول: لا يصح بيع الصاع منها، فإن جرينا على الأصح، وصححنا بيعَ صاعٍ من الصُّبرة المجهولة المقدار، فذكْرُ نصفها بعد أخذ الصاع منها، كذكْر نصفِها من غير أخذ الصاع، فليتأمل الناظر، وليكتف في مسألة القراض بالمسلك الذي قدمناه.
4872- ولو قال: قارضتك على أن تتصرف في الثياب والحبوب، وما يتفق من
ربح على الثياب، فهو لي، فهذا فاسد؛ إذ قد لا يتفق الربحُ إلا على الثياب، فيؤدي(7/457)
حاصل الشرط إلى اختصاص المالك بجميع الربح. وكذلك إذا شرط للعامل ربح صنفٍ، فقد لا يتفق غيرُه فيُفضي الشرطُ إلى اختصاص العامل بجميع الربح. وعلى هذا لو دفع إلى العامل ألفاً، ثم دفع إليه بعد ذلك ألفاً، وشرط تمييز أحدِ الألفين عن الثاني، فيما يتصل به من المعاملات، وقال: ما يتفق من الربح على الألف الأول، فهو لي. هذا غير جائزٍ، لما ذكرناه، وكذلك لو فرض تخصيص العامل.
ولو دفع إليه الألفين معاً، ثم قال: ربح أحد الألفين بكماله لي وربح الثاني لك.
قال ابن سريج: لا يصح هذا. وقال القاضي: الوجه عندي القطعُ بتصحيحه؛ إذ لا تمييز بين الألفين، ولا فرق بين أن يقول: نصفُ الربح لك، وبين أن يقول: ربح الألف من الألفين لك. وهذا الذي ذكره متَّجه حسنٌ، ولا وجه لما ذكره ابنُ سريج إلا فسادُ اللفظ؛ فإن الذي يقتضيه موجَب العقد قسمةُ الربح على الشيوع بين المالك والعامل، من غير تعرض في اللفظ لربح جزءٍ من رأس المال، فإذا قال: نصف ربح الألفين لك، فهذا جارٍ على الإشاعة. وإذا قال ربح أحد الألفين لك، فهذا يتضمن تخصيصاً غيرَ مُفيدٍ، فيفسد اللفظُ، والمعول في العقود على الألفاظ.
4873- ولو قال: ثلث الربح لي، وثلثه لعبدي هذا، وثلثه لك، فقد أجمع الأصحاب على صحة العقد، وقَضَوْا بأن إضافة الثلث إلى العبد بمثابة إضافته إلى السيد، فكأنه قال: الثلثان من الربح لي والثلث لك. ولو قال: الثلث من الربح لي والثلث لزيد، وذكر شخصاً آخر، لا تعلق له بالمعاملة، فهذا الشرط فاسد؛ فإنه تضمَّن شرطَ الربح لمن ليس مالكاً لرأس المال، ولا عاملاً فيه. وكذلك لو شرط جزءاً من الربح، لمكاتبه، فهو فاسد أيضاً للمعنى الذي ذكرناه.
فإن قيل: إذا تبين ما يستحقه العامل، فقد وضح عِوضُ عمله، وحُكم الشرع صرفُ الباقي إلى المالك، فإن فرض فيما ليس عوضاً لعمل العامل فسادٌ، فليس لذلك الفساد تعلقٌ بمقصود العقد، فليرتفع ذلك الفساد، وليصح العقدُ.
قلنا: لو شرط العاملُ جزءاً من الربح لثالث، لم يخفَ على الفقيه كوْنُ ذلك فاسداً مفسداً إذا نشأ الشرط من جهة العامل، وإنما ينتفي الإشكالُ في هذا الطرف من جهة إمكان صدور الشرط عن غرضٍ للعامل، وإذا لاح هذا، ابتنى عليه التشارط من(7/458)
الجانبين؛ فإنّ في جريان التشارط ثبوت الشرط من جانب العامل لا محالة. فلو وجد شرطٌ من جانب المالك، وقبولٌ من العامل، فهو التشارط بعينه، فإن قبول الشرط من [العامل] (1) شرطٌ، وسرّ ذلك أن الربح في هذه المعاملة وإن كان مستنده رأسَ المال، فهو في حكم المحصَّل بعمل العامل، فإذا قُسم، فليقسم على وفق الشرع، وذلك بأن يُفرضَ بين المالك والعامل، فإن فرضت قسمةٌ، على خلاف هذه القضية، كانت مجانبةً لوضع الشرع، فالشرع إنما سوغّ هذه المعاملة للحاجة التي صدرنا الكتاب بها.
وكل ما ذكرناه فيه إذا أثبت الملك في مقدارٍ لثالث بحكم الشرط. فأما إذا قال: الثلث لك، والثلثان لي، وأنا أصرف أحد الثلثين إلى فلان، فهذا الآن شرطٌ منه وراء مقصود العقد، وهو في حكم وعدٍ منه، لم يتحكم به أحد عليه، فإن وفّى به كان جميلاً، وإن أبى، فهو على ملكه في القسط المشروط له.
4874- ومما يتعلق بتمام البيان في هذا الركن: أن المالك لو شرط لنفسه سوى الجزء المسمى من الربح انتفاعاً ببعض أصناف الأموال، مثل: أن يقول: أركب دابةً تشتريها، أو ما جرى هذا المجرى، فهذا فاسدٌ؛ من جهة أنه ضم إلى الربح ما ليس في معناه. وإذا لاح هذا في جانب المالك، فهو في جانب العامل أوضح؛ فإن استحقاقه عن جهة [عوض] (2) عمله، فإذا ضمَّ إلى الجزء المسمَّى له شيئاً، فسد العوض، فالمالك يستحق بأصل ملكه، فإذا فسد من المالك شرطُ مزيدٍ، فلأن يفسدَ هذا من جانب العامل أولى. وهذا الفصل يتضح عند ذكر تفصيل القول في أن المالك هل ينتفع بمال القراض انتفاعاً لا يضرُّ به. وسنأتي في ذلك بفصلٍ جامع، إن شاء الله عز وجل.
وقد نجزت الأركان التي أجريناها توطئةً للكتاب، وتمهيداً للقواعد، والمسائلُ بعدها نردُّها إلى ترتيب (السواد) (3) .
__________
(1) في الأصل: القائل.
(2) سقطت من الأصل.
(3) السواد: المراد به مختصر المزني. كما تكرر مراراً.(7/459)
فصل
قال: "وإذا سافر كان له أن يكتري من المال مَنْ يكفيه بعضَ المؤنة ... إلى آخره" (1) .
4875- إذا كان القراض مطلقاً ولم يجرِ من المالك إذنٌ في المسافرة، لم يكن للعامل المسافرةُ بمال القراض، اتفق الأصحاب عليه، وإن كانت التجارة قد تقتضي السفر إذا كسدت البضائع في موضع المعاملة؛ لأن الأسفار مظِنة الأخطار، فلا ينبغي أن يهجم عليها من يتصرف بالإذن، فالمقارض في هذا كالمودَع، فإن سافر دون الإذن، دخل المالُ في ضمانه، والعقد قائمٌ لا ينقطع، فلو سلمت البضائع، فباعها في بلدةٍ أخرى، لم يمتنع نفوذ البيع وإن لم يتفق في مكان (2) المعاملة.
فإن قيل: إن تقيدت المعاملة بمكانها، فليتقيد جوازُ البيع بالمكان. قلنا: الإذن عام، لا ينكر عمومه، ولولا أخطار الأسفار، لما منعنا منها، والبيع لا خطر فيه.
ثم قال العلماء: إن باع المال بمثل ثمن البلد الذي جرت المعاملة فيه أو أكثر، فجائزٌ، وإن باعه بأقلّ من ذلك الثمن، وظهرِ النقصان، وبلغ مبلغاً لا يتغابن الناس بمثله، كان هذا كما لو باع في مكان المعاملة بغبْنٍ.
ثم إذا صححنا البيعَ منه، وقد تعدى بالسفر، فالثمن الذي يقتضيه من ضمانه
أيضاًً، كالأصل.
ولو وكل وكيلاً في بيع ماله، فتعدّى فيه، دخل في ضمانه، فلو باعه، لم يكن الثمن من ضمانه؛ لأن عدوانه اختص بما تعدى فيه، ولم يوجد منه تعدٍّ في الثمن.
وسبب عدوان العامل في مسألتنا المسافرةُ، وهي حاصلة في الثمن حصولَها في الأصل.
فإن قيل: هذا يستقيم لو سافر بالثمن، وزايل مكانه، فأما إذا تلف الثمنُ في البلدة التي اتفق البيع بها بآفة سماوية، لا تعد من أخطار الأسفار، فما رأيكم فيها؟
__________
(1) ر. المختصر: 3/62.
(2) أي: وإن لم يتم في مكان العقد.(7/460)
قلنا: الضمان واجبٌ، لأنه في تلك البلدة مسافرٌ، وإذا ضمَّنا المسافر، لم يقف وجوب الضمان على حصول التلف بما يختص بأخطار السفر، وإن فَرض علينا من لا يهتدي إلى مأخذ الفقه إقامتَه بتلك البلدة، فالإقامةُ في غرضنا شرٌّ من السفر؛ فإنّ الذي عنيناه بالسفر المضمِّن مزايلةَ مكان المعاملة، وهذا المعنى حاصل نوى الإقامة، أو لم ينوها.
وكل ذلك فيه إذا لم يأذن له المالك في السفر.
4876- فأما إذا أذن له في المسافرة، فلا شك أنه يسافر بالإذن أميناً غيرَ ضامنٍ.
والكلام يقع وراء ذلك في مؤن السفر، فنقول أولاً: الأعمالُ في حق المقيم قسمان: أحدهما - ما يتولاه العامل بنفسه، وهو ما جرت به عادة التجار، كطي الثياب ونشرها، وردها إلى الأسفاط (1) ، وإخراجها منها. إذا كان من هذا القبيل، فلا يستأجر العامل عليه بأجرة يُخرجها من مال القراض. نعم. إن أراد أن يستأجر بأجرةٍ يبذلها من خاصِّ ماله، فله أن يفعل ذلك.
والقسم الثاني من الأعمال، ما لا يتولاه التاجر بنفسه غالباً، وقد جرت عادةُ التجار بالاستئجار عليه، وهو كالكيل والوزن، والنقل من مكانٍ إلى مكان، فالمقارض يستأجر على هذه الأعمال، ويؤدي الأجرةَ من مال القراض، ولو تولاه العامل بنفسه، وأراد أن يأخذ أجرةَ نفسه من مال القراض، لم يكن له ذلك، ونجعله متبرعاً بتلك الأعمال.
وأما نفقة العامل في الإقامة، فلا نحتسب شيئاًً منها من مال القراض. وكذلك أجرةُ المسكن الذي يسكنه العامل محسوب عليه من ماله.
وأجرة الحانوت الذي يتَّجر عليه مأخوذةٌ من مالِ القراض.
وإذا أراد السفر بالإذن فإنه يخرجُ من مال القراض مؤن الجمال وكذا الجَمّال، وما تمس إليه الحاجة في نقل المال وصيانته. فأما نفقة العامل في نفسه، فالذي نص
__________
(1) الأسفاط: جمع سَفط، وزان سبب وأسباب. والسقط: ما يخبأ فيه الطيب والثياب ونحوها (مصباح) .(7/461)
عليه هاهنا أن له النفقةَ بالمعروف، ونص في رواية البويطي على أنه لا يستحق النفقة في مال القراض، فاختلف أصحابنا على طريقين، فمنهم من قطع بأنه لا نفقة له في مال القراض، وحمل نص الشافعي على المؤن المتجددة الراجعةِ إلى المال، كمؤنة الجمال وكذا الجمّال.
ومن أصحابنا من جعل المسألة على قولين: أحدهما - أنه لا يستحق النفقة من مال القراض، قياساً لحالة السفر على حالة الحضر. والثاني - أنه يستحق، لأنه بسفره هذا، احتبس عن سائر مكاسب نفسه، فانحصرت حركاته وسكناته في غرض مال القراض، بخلاف حالة الإقامة.
التفريع:
4877- إن حكمنا بأنه لا يستحق النفقة، فلا كلام. وإن حكمنا بأنه يستحقها، ففي القدر قولان: أحدهما - أنه لا يستحق من النفقة إلا ما يزداد بسبب السفر؛ فإن هذا الزائد هو المتجدد بسبب السفر، وما سواه كان يطّرد في الحضر والسفر.
والقول الثاني- أنه يستحق جميعَ النفقة من مال القراض؛ فإنه سلم نفسه بالكلية إلى هذه الجهة، وقد ثبت أنها جهةُ استحقاق النفقة، فينبغي أن يستحق تمامَها، كالزوجة الحرة تُسلم نفسها إلى الزوج. ثم هذا القائل إنما يُثبت للعامل كمالَ النفقة، إذا كان سفره مقصوراً على مال القراض، فلو كان حمل مع نفسه مالاً لنفسه، أو لغيره، فالنفقة تقسط على مقدار المالين، فينفق من مال القراض قدر ما يخصّه، والباقي عليه في مال نفسه.
ثم اعتبر أئمتنا في هذا المنتهى مقدارَ المالين، ويجوز أن يعتبرَ مقدارُ العمل على المالين. وقد يكون المال المحمولُ مع مال القراض قليلَ المقدار من حيث القيمة، ولكنه ثقيلٌ كثير [التعب] (1) فيتجه التوزيع على أجرة المثل في العملين. والله أعلم.
فرع:
4878- إذا سافر بمال القراض إلى بلدة، فاتفق أن التقى العامل ورب المال
__________
(1) في الأصل: الشغب. وفي (هـ 3) : يقبل كثير التعسف. والمثبت من (ي) .(7/462)
في تلك البلدة، وتفاصلا وأخذ رب المال رأسَ المال وحصته من الربح، فلو قال العامل: لو بقيت المعاملة، وبقيت الأموال، أو أثمانها في يدي، لرجعت إلى وطني بها، ونفقتي فيها، والآن إذا تفاصلنا، فاغرَم لي ما يردّني إلى وطني، فهل له ذلك، تفريعاً على قول استحقاق النفقة؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون: أحدهما - له ذلك؛ فإن بقيةَ السفر عليه من أعمال القراض، التي كانت تقابَل بمزيدٍ على ما شُرط للعامل من الربح.
والوجه الثاني- أنه لا يستحق شيئاً من ذلك؛ فإن القراض قد انفصل، وخرج المال من يده، وإذا انكف، فليس مسافراً بمال القراض.
فرع:
4879- إذا رجع العامل من سفره، وكان قد بقي معه فضلُ زادٍ، كان أعده للسفر، أو بقيت آلات كان أعدها للسفر، كالمِطهرة، ونحوها، فقد ذكر شيخي وجهين: أحدهما - أنه يجب عليه ردُّ الآلاتِ، وفاضلِ الزاد إلى مال القراض؛ فإن السبب الذي كان يُستحق به قد زال، وهذا هو القياس الذي لا ينقدح غيره.
والوجه الثاني- أنه لا يرد؛ فإن هذا يعد مستوعباً بحاجة السفر، وكان يُقرِّب (1) هذا الخلافَ من تردد الأصحاب في أن جند الإسلام إذا انبسطوا في طعام المغنم، وعُذروا، لكونهم في ديار الحرب، لو انتهَوْا إلى دار الإسلام، ومعهم بقايا من تلك الأطعمة، فهل يلزمهم ردُّها إلى عُرض المغنم؟ فيه وجهان مشهوران.
وعندنا أن ذلك محمول على توسُّعٍ شهدت به الأخبار في السِّيَر، ولا يسوغ أن يتخذ أصلاً في أحكام المعاملات.
ثم إذا فرَّعنا على الوجه الضعيف هاهنا في فاضل الزاد، فلا بد من الانتهاء إلى ضبطٍ فيه، والوجه أن نقول: إن كان الفاضل بحيث لو ضُم إلى ما اتفق إخراجه (2) ، وقدِّر إخراجه، لما كان ذلك سرفاً، فهذا هو الذي أراه في محل الخلاف. وإن كان زائداً على هذا، فذلك الزائد بضاعةٌ.
__________
(1) أي الشيخ أبو محمد.
(2) أي اتفق إنفاقه من العامل.(7/463)
فصل
قال الشافعي: "ولو اشترى، فله الرد بالعيب ... إلى آخره" (1) .
4880- قد ذكرنا أن الوكيل إذا اشترى لموكِّله شيئاً، واطلع على عيب قديم به، فله أن يرده بالعيب، ولا يحتاج في تنفيذ الرد إلى مراجعة الموكِّل، وإن كان لو رضي الموكل بذلك العيب، لامتنع من الوكيل الرد بعد رضاه. والسبب في هذا أنه لو أخر الرد، وهو ينتظر رأي موكِّله، فقد يرى الموكل الرد، ولو أراد الوكيل بعد الاطلاع على ذلك أن يرد، لامتنع عليه الرد، ولصار متطوّقاً لما اشتراه، والذي عامله قد لا يصدّقه في أنه وكيل، فيخرج منه أنه يصير ملتزماً لحكم العيب، فأثبتنا له الابتدارَ إلى الرد، لما ذكرناه.
ولو قال المردود عليه: قد رضي موكلك، فالقول قول الوكيل مع يمينه، يحلف بالله: أنه لا يعلم رضاه. وهذا قد ذكرناه، وقدمناه في أحكام عهدة الوكيل.
ولو اشترى المقارض شيئاً، واطلع منه على عيبٍ قديم، فالأولى عندنا بناءُ الأمر على تقسيمٍ، فنقول: إذا خرج المشترَى معيباً، لم يخل: إما أن تكون الغبطة في الرد وكان الإمساك ينافيها، أو كانت الغبطة في الإمساك مع ظهور العيب، فنذكر ما يتعلق بالقسمين ثم نذكر استواء الأمرين، في الرد والإمساك في جهة الغبطة.
فأما إذا كانت الغبطة في الرد، فللعامل أن ينفرد بالرد، فإذا كنا نجوز للوكيل الانفرادَ بالرد، فهذا في حق المقارض أولى؛ من جهة أن للمقارض غرضاً يخصه في تحصيل جهات الغبطة، والتوقِّي عن نقيضها، ثم يَنْفصل المقارضُ في هذا المقام عن الوكيل من حيث إن الموكل لو رضي بالعيب، لم يملك الوكيل الردَّ، ولو رضي المالك بالعيب، فللمقارض الردُّ، وليس من حصافة الرأي أن يقول القائل: إذا كان المبيع لا يتمحّض حقاً للعامل، فينبغي أن يملك ربُّ المال إلزامَ العقد في بعضه؛ فإن هذا في هذا المقام غيرُ مبني على أقْدار (2) الحقوق، والنظر في التوزيع عليها. وقد
__________
(1) ر. المختصر: 3/62.
(2) في (ي) ، (هـ 3) : "إفراز".(7/464)
تقع هذه الواقعة، ولم يظهر بعدُ في المال ربحٌ، فالحكم على ما ذكرناه، فلسنا نُثبت للمقارض حقَّ الرد لملكٍ له في الرقبة ناجزٍ، حتى يقدَّرَ مع ملكه ملكٌ ونبني عليه ما قدرناه، ولكنَّ الحقَّ الذي أشرنا إليه أمرٌ يعم هذا المشتري في وجه الرأي من طريق التوقع، والأمور تنفصل في العاقبة.
ولو رضي هذا المقارض بما اشتراه، وأبى المالك، فلا ينصرف المشترَى إلى
جهةِ مال القراض. ومهما كانت الغبطة في الرد، فلا يتصور بقاء المبيع لجهة القراض
إلا بتراضيهما، وسنعود إلى ذلك في آخر هذا الفصل، إن شاء الله عز وجل.
4881- فأما إذا كانت الغبطة في الإمساك، وتصوير ذلك أن يشتري العامل عبداً يساوي -مع ما به من العيب- ألفاً بتسعمائة، فالغبطة في إمساكه، فلو أراد العامل أن يرد، لم يكن له ذلك؛ لأن تصرفه منوط بطلب الفوائد، وهو برده في هذا المقام مفوّتٌ حظّاً مالياً لا خفاء به. وكذلك لو أراد المالك الرد، لم يكن له ذلك، فالنظر إلى الغبطة من الجانبين.
وهذا الفصل لا يصفو عن شوائِب الإشكال، ما لم نذكر في هذا المنتهى حكمَ الوكيل، فنقول: إذا اشترى الوكيل لموكله عبداً بتسعمائة، ثم اطلع منه على عيبٍ، وكان يساوي العبد مع ذلك العيب ألفاً، فهل للوكيل -والحالة هذه- أن ينفرد برد العبد قبل مراجعة الموكل؟ اختلف أئمتنا في هذه المسألة: فذهب الأكثرون إلى أن للوكيل أن يرد، وإن كانت الغبطة في الإمساك، واعتقد هؤلاء الردَّ من حق الوكيل، وقالوا: لا سبيل إلى منعه منه، مادام هو متعرضاً لالتزامه وتطوّقه، كما صورناه في صدر الفصل، والإنسان له غرض في رد المعيب، وإن لم يتعلق به غرضٌ مالي؛ فإن من اشترى عبداً، واطّلع منه على عيبٍ قديم، وكان يساوي مع ذلك العيب أكثر من الثمن المسمى، فحق الرد ثابت إجماعاً، وإن لم يكن للراد غرضٌ مالي، فكذلك الوكيل إذا كان يتعرض لالتزام العيب، كما نبهنا عليه، فله أن يبتدره على خلاف الغبطة، فيردّه، هذا وجهٌ.
ومن أصحابنا من منع الوكيل من الرد في هذا المقام؛ فإن في الرد -لو ابتدره الوكيلُ- تخسيراً للموكِّل وإحباطَ جزءٍ من المالية عليه، وعيافةُ الوكيل عيبَ(7/465)
العبد بتقدير أنه قد يلزمه، لا يعارض ناجز ملكِ الموكل، وينبني عندنا على هذا الأصل أن الوكيل بشراء العبد لو اشترى عبداً معيباً، مع العلم بعيبه، ولكنه كان مغبوطاً غيرَ مغبون، وقد وكله موكله بشراء العبد مطلقاً، فهل يصح منه شراءُ هذا العبد لموكِّله؟ هذا يخرّج على الوجهين في النظر إلى العيب والغبطة، ففي وجهٍ يجوز، ثم للموكل حقُّ الرد إن أراد، وفي وجهٍ لا يقع العقد عن الموكِّل؛ لمكان العيب المعلوم. وكان شيخي يذكر وجهاً ثالثاً ويقول: إن كان يشتريه للتجارة، فينعقد البيع عن الموكل، وله الخيار، وإن كان يشتريه للقُنية والخدمة، فلا يقع العقد عن الموكل. وهذا حسن لا بأس به.
4882- ونحن نعود بعده إلى المقارض، فنقول: ما ذهب إليه معظم الأئمة في الطرق أن المقارض لا يملك الردَّ إذا كانت الغبطة في الإمساك؛ فإن تصرفاتِه مُدارةٌ على رعاية الأغراض المالية.
ومن أصحابنا من ألحق المقارض بالوكيل فيما ذكرناه من أنه هل يملك الرد؟ وهذا متِّجه؛ فإن حطّ رتبته عن الوكيل لا وجه له فيما رتبناه، ونظمناه، وإلى هذا مال جوابُ القاضي رضي الله عنه.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت الغبطة في الرد، أو كانت الغبطة في الإمساك.
4883- فأما إذا استوى الأمران، ولم يترجح أحدُهما على الثاني في غرضٍ ماليٍّ، فلا شك أن المقارض له أن يرد؛ فإنه مالكٌ للتصرف، فإذا كان يملك بيعَ هذا العبد بثمن مثله، فينبغي أن يملك ردّه واستردادَ الثمن المبذول.
4884- ومما يتعلق بتمام البيان في هذا الفصل: أن الغبطة إذا كانت في الإمساك، كما تقدم تصويره، فإذا قلنا: للمقارض الردُّ مع ذلك، وهو مسلكٌ بعيدٌ، لما فيه من التخسير، ولكن إذا فرعنا عليه، فيجب أن يملك ربُّ المال الردَّ أيضاًً؛ إذْ هو أولى بذلك، وهو مالك الأصل، غيرَ أن العامل إذا ردَّ، ارتد الملك وانتقض العقدُ، وإذا ردّ المالكُ، ولم يرض العامل بالردّ، نظر: فإن كان وقع العقد بعينٍ من أعيان مال القراض، فالرد يتضمن نقضَ العقد من المالك أيضاًً، وإن كان العقد وارداً على الذمة مصروفاً بالنية إلى جهةِ القراض، فردُّ المالك لا يتضمن نقضَ العقد،(7/466)
ولكنه يتضمن صرفه إلى المقارض، فعليه الثمن، وله المبيع.
فلو فرض مثل ذلك في الموكِّل والوكيل، فإن لم يعترف البائع بكون المشتري وكيلاً، فالأمر على ما ذكرنا في المقارض العامل، وإن اعترف بكونه وكيلاً، ولم يردّ الوكيلُ مقصراً، أو راضياً، ففي المسألة وجهان: أحدهما- أن العقد ينفسخ؛ فإنه لا [حظ] (1) للوكيل فيه. والثاني - أنه يرتد إلى الوكيل، وينقلب العقد إليه؛ فإن العقد ورد على ذمته، ثم لم يوجد منه ردُّه مع تمكّنه منه، ولم يجد نفاذاً على الموكل. وهذا الوجه يشير إلى أن الوكيل بالشراء الوارد على الذمة عرضةٌ لأن يكون هو المتملّك، وينقدح إذا حكمنا بأن العقد يرتد إلى الوكيل أن نقول: نتبين أن العقد وقع له إذا انعقد؛ فإنّ صَرْفَ الملك من الموكل بعد حصوله له إلى الوكيل من غير عقدٍ جديد بعيدٌ، وظاهر القياس أن الملك ينقلب إلى الوكيل على نعت التجدّد ولقد (2) كان واقعاً للموكل.
هذا حاصل الغرض فيما يتعلق برد العامل ورد المالك.
4885- ومما جرى الرسم بذكره أن المردودَ عليه لو قال للوكيل: قد رضي موكلك، فلا ترد، فلا يملك الوكيل الردَّ، ما لم يحلف على نفي العلم، كما أشرنا إليه، وهو مستقصىً في كتاب الوكالة.
ولو قال المردود عليه للعامل: لا ترد؛ فإن المالك قد رضي به، فقد قال
الأئمة: يردُّ المقارض من غير يمين؛ فإنه يملك الرد، وإن اعترف برضا المالك، وهذا متجه إذا كانت الغبطة في الرد، فأما إذا كانت الغبطة في الإمساك، فالتفصيل فيه ما قدمناه. فليتبع الناظرُ تأصيلَنا، وتفصيلنا في ذلك، يَرْشُد، إن شاء الله.
فصل
قال: "لو اشترى وباع بالدين، فضامنٌ إلا أن يأذن له ... إلى آخره" (3) .
4886- فأما بيعُ سلع القراض نسيئةً، فممتنعٌ، لا شك فيه، لما في النسيئة من
__________
(1) في الأصل: حق.
(2) في (ي) ، (هـ 3) : ولكن.
(3) ر. المختصر: 3/62.(7/467)
الغرر، ولسنا ننظر إلى غرض التجارة في ذلك، صائرين إلى أن البيع إذا كان من مليء، وفيٍّ، وحصل مع ذلك التوثّقُ برهنٍ، أو كفيلٍ، فهذا مما يعتاده التجار، من ضروب التجارة؛ فإن هذا تصرفٌ مستفادٌ بالإذن، فكان محمولاً على مطلق الإذن. وأمرُ الوكيل بالبيع والابتياع إذا جرى مطلقاً، نافى النسيئة، ونزل منزلة العقد لو فرض مطلقاًً، ولو كان البيعُ والشراء مطلقين، تضمَّنا حلولَ العوض.
وهذا فيه ضربٌ من التلفيق؛ فإن معتمدنا في بيع الوكيل العرفُ، ولأجل ذلك منعنا بيعَه بدون ثمن المثل، إذا كان موكلاً بالبيع مطلقاً، فكان لا يمتنع أن يتعلق متعلق بقرينة الحال في قصد التجارة: ويسوِّغُ من المقارض في استصلاح المال ما يجوز من أب الطفل، ولكنّ المانعَ منه أن الولاية تُثبت رتبةَ الاستقلال للولي، والشفقةُ المعتضدةُ بالعدالة والديانة تُؤَمَّنُ من [بوائقِه] (1) ؛ فقيل له: تصرف في مال طفلك تصرفَك في مال نفسك، إذا كنت ترعى الغبطةَ، وصلاحَ المال. والقراضُ دائرٌ بين مستقلّيْن، لا ينتظم التصرف بينهما إلا باللفظ، والأغراض تختلف اختلافاً بيناً؛ فلم يمكنا أن نترك اللفظ على عُرفٍ مطّردٍ؛ فمن التجار من لا يبيع نسيئةً أصلاً، ولا يشتري نسيئة ويُعدُّ صاحبَ النسيئة على مجازفةٍ وغرر. وهذا يغلب في معظم الأزمان. فإن لم يتّحد الغرض، ولا متعلّق إلا اللفظ، فمطلقه يقتضي الحلولَ في البيع، والشراء.
فإن قيل: إن ظهر تفاوتُ الأغراض في البيع نسيئةً؛ من جهة أنه يتضمن إزالةَ اليد عن الملك، وانتظارَ الثمن، والطوارقُ تطرق، والعوائق تطرأ فهذا متَّجهُ. أما الشراءُ بالنسيئة، فما المانع منه؟ قلنا: قد لا يؤْثر أصحابُ الديانات بقاءَ التبعات، واشتغال الذمم، وهذا غير مُنْكَرٍ في عادات كثير من الناس.
هذا منتهى القول.
ثم إذا أبطلنا البيعَ نسيئة، ولم يصر المقارض متعدياً بنفس البيع حتى يسلّمه، فإذا سلمه صار غَاصباً، والمشتري منه مشترٍ من الغاصب، وقد ذكرنا هذا الفصل مستقصىً في كتاب الغصب. فأما إذا اشترى شيئاًً مؤجلاً، فمن ضرورةِ التأجيل وقوعُ
__________
(1) في الأصل: يوافقه.(7/468)
الثمن في الذمة، فلا ينصرف ما اشتراه إلى جهة القراض، ولكنه ينفذُ عليه. وهذا واضح.
فصل
قال: "وهو مصدَّق في ذهاب المال، مع يمينه ... إلى آخره" (1) .
4887- لم يختلف علماؤنا في أن يد المقارض يدُ أمانة فيما يتلف في يده من غير تقصير، فلا ضمان عليه فيه. ولو ادّعى تلفاً، وكان ما ادعاه ممكناً، فأنكر رب المال، فالقول قول المقارض مع يمينه. ولا يشترط في تصديقه مع يمينه أن يغلب على القلب صدقه، بل يكفي إمكانُ صدقِه، وبيان ذلك: أنه لو ادَّعى احتراقَ شيء من المال، وكان حانوته، أو مسكنهُ في مَحِلَّةٍ وقع فيها حريقٌ ظاهر، فالظاهر صدقه، ولكنّا نحلّفه لو ادّعى ذهابَ المال بجهةٍ لم تظهر، كسرقةٍ ونحوِها، ولكن كانت الجهةُ ممكنة، فإنه يصدّق مع يمينه.
ولو نسب الضياعَ إلى جهةٍ يُعلم أنها (2) لم تكن، مثل أن يدعي احتراق ثياب نهاراً في حانوتٍ بارزٍ للناظرين، وذكَر وقتاً لو جرى فيه حريق، لم يخف وقوعُه، فقوله مردود؛ إذ لا إمكان على الوجه الذي قال.
ولو ادعى ضياعَ المال مطلقاً من غير أن يذكر جهة، صُدِّق مع يمينه، ولم يكلَّف ذكر جهةِ الضياع. والقول في المقارض في ذلك كالقول في المودَع.
4888- ولو ادعى المقارض ردَّ طائفةٍ من المال على رب المال، فالذي قطع به القفال أنه مصدّقٌ مع يمينه، ومذهب القفال طردُ ذلك في الأمناء كلَّهم.
4889- وقد قدمنا ترتيبَ العراقيين وتقسيمهم في الأمانات. ونحن نعيدُه لغرضٍ لنا.
قالوا: إن لم يكن للمؤتمن أرَبٌ في الأماناتِ، ولا منفعةٌ، وإنما كانت المنفعةُ كلُّها في الحفظ لرب المال، فإذا ادعى هذا المؤتمن ردَّ الأمانة صُدِّق مع يمينه.
__________
(1) ر. المختصر: 3/62.
(2) عبارة (ي) ، (هـ3) : إلى ما يعلم أنه لم يكن.(7/469)
وإن كان للأمين منفعةٌ فيما في يده كالمرتهن في العين المرهونة، فإذا ادّعى ردَّ الرهن، لم يصدَّق إلا أن يقيم بينةً، والقول قولُ الراهن مع يمينه، وطَردوا هذا في يد المستأجِر في العين المستأجَرة؛ فإنه قبضها لمنفعةِ نفسه.
وإن تردد الأمر، فكان [للمؤتمن] (1) غرضٌ فيما في يده، وكان للمالك غرضٌ أيضاًً، فإذا ادّعى مَنْ هذا وصفُه الردَّ، فقد ذكروا وجهين: أحدهما- أن القول قولُ المؤتمن الذي يدعي الردَّ؛ لأن المنفعة ليست خالصةً له.
والوجه الثاني- أن القول قول المردود عليه، وضربوا في هذا القسم مثالين: أحدهما - الوكيل إذا قبض شيئاًً لبيعه بأجرةٍ، ثم ادعى ردَّه، ففي المسألة وجهان.
والثاني - المقارض، إذا ادّعى الردَّ على رب المال.
ولم يختلفوا أن الأمناء بجملتهم لو ادّعَوْا تلفَ المال في أيديهم، صُدِّقوا مع أيمانهم. وإنما هذا التفصيل للعراقيين فيه، إذا ادعى المؤتَمنُ الردَّ على المالك. ثم بنَوْا على هذا، وقالوا إذا لم يصدقوا المؤتمن في دعوى الرد، فمؤنة الرد [عليه، وإن كنا نصدقه في دعوى الرد، فمؤنةُ الرد على المالك؛ فأتبعوا مؤنةَ الرد] (2) وجوبَ التصديق عند دعوى الرد، وطبقوا الوفاق على الوفاق في النفي والإثبات، والخلاف على الخلاف.
هكذا حكاه القاضي عن طريقهم، وهذا بعيد جداً، ولم يصح عندنا من طُرقهم إلا الترتيبُ الذي ذكرناه في (3) أن من ادّعى الرد هل يصدق؟ فأما إيجابُ الردّ ومؤنته، مع القطع بأن اليدَ يدُ أمانة، فبعيدٌ عن قانون المذهب، ويبعد كل البعد أن يجب على المرتهن والمستأجر مؤنةُ الرد.
4890- وأما القفال، فإنه قطع بتصديق كل مؤتمن في دعوى الرد إذا لم تكذبه المشاهدة. وأجرى المرتهن والمستأجِرَ والمقارضَ والوكيلَ مجرى المودَع، ونزَّل دعوى الرد في جميع هؤلاء منزلةَ دعوى التلف، وسلم العراقيون دعوى التلف،
__________
(1) في الأصل: المرتهن.
(2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(3) في (ي) ، (هـ3) : أنه لو ادعى الرد هل يصدق.(7/470)
والتصديقَ فيها مع اليمين، وإنما خالفوا في دعوى الرد، كما ذكرناه.
4891- فحاصل (1) المذهب أن طريقة المراوزة التسويةُ بين الأمناء وبين دعوى الرد والتلف، والقطعُ بأنه لا يجب على أمينٍ ردٌّ، وإنما عليه التخلية بين المالك وبين ملكه. وإذا كان هذا أصلَهم، فيستحيل عندهم إلزامُ مؤنة الرد على أمين.
والعراقيون وافقوا المراوزة في المودَع، ووافقوهم في دعوى التلف من سائر الأمناء، ورتبوا كلاماً في دعوى الرد، ولم ينقل أحدٌ عنهم التزامَ مؤنة الرد، إلا القاضي، كما تقدم.
والذي يدور في النفس من ترتيبهم شيئان: أحدهما - أن المستأجر ليس يتمحض انتفاعُه مع بَذْله العوض، وفي انتفاعه تقريرُ الأجرة، وكان لا يبعد عن أصلهم إلحاقُ ذلك بما لا يتمحض فيه انتفاع صاحب اليد، وعندي أني قدمت هذا فيما سبق.
والذي نجدَِّدُه الآن أن قياس طريق المراوزة أن المقارض لو قال: رددتُ على المقارض رأسَ المال، وحصتَه من الربح، وهذا الباقي في يدي حصتي أنه يصدق، وهذا فيه إشكال؛ من جهة أن الذي يبقى في يده عِوضُ عمله، ولا يسلّم له عوض عمله إلا بأن يثبت التسليمُ في رأسِ المال، وقسطِ الربح، فيؤول الخلاف في هذا إلى حكم المعاوضة، وهذا إن طُرد فيه قياسُ تصديق المقارض في نهاية الإشكال. نعم، لَوْ لم يتفق ربحٌ، وادّعى المقارض ردّ رأس المال بكماله، فتصديقه حكم الائتمان.
ولا شك أن المراوزة يطردون قياسهم في تصديق المقارض؛ فإن ما ذكرناه من التصاق (2) حكم المعاوضة بالأمانة لم يوجب إثبات حكم الضمان [بعلقة المعاوضة، وكأن المشروط للمقارض ليس له حقيقةُ المعاوضة. وقد قال] (3) العلماء: القراض في ابتدائه وَكالة، وفي انتهائه إذا ظهر الربح شركة. وسيأتي ذلك [مشروحاً في المسائل إن شاء الله] (4) .
__________
(1) في (ي) ، (هـ 3) : وأصل المذهب.
(2) (ي) ، (هـ 3) : التفاق.
(3) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، وأثبتناه من (ي) ، (هـ 3) .
(4) سقط من الأصل ما بين المعقفين.(7/471)
فصل
قال: "ولو اشترى من يعتق على رب المال بإذنه عَتَق ... إلى آخره" (1) .
4892- العامل إذا اشترى ابنَ ربِّ المال أو أباه، فلا يخلو: إما أن يشتريه بإذنه، أو دون إذنه، فإن اشتراه بغير إذنه، لم ينصرف الشراء إلى جهة القراض، ولم يخل إما أن يشتري بعين المال، أو يشتري مطلقاً في الذمة. فإن اشتراه بالعين، فالشراء باطل؛ لأنه مأذونٌ في التجارة المربحة، وهذه صفقة إن حكمنا بها خاسرة، فينبغي أن يكون المرعي في القراض [أعواض] (2) المال، لا غيرها.
ولو اشتراه في الذمة، صح الشراء، وانصرف إلى العامل.
وخرج من مجموع ذلك أن التسليط على التجارة، والإذنَ فيها، لا يملّك العامل شراء من يعتق على الآمر.
ولو أراد العامل أن يشتري جاريةً كانت زوجة رب المال، أو أراد أن يشتري زوجَ ربةِ المال، فهل يصح ذلك تلقياً من مطلق الإذن في التجارة؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يصح لما فيه من الإضرار، ونحن نعلم خروج ذلك عن إرادة الآمر وإذنه، من طريق المعنى؛ فإنه لو أراد ذلك، لنص عليه، ونبه عليه، والألفاظ العامة في هذه المسالك تُخصَّصُ بقضايا العرف، ولهذا قلنا: لا يبيع الوكيل بالإذن المطلق ما وُكّل ببيعه بالغبن الفاحش، وإن كان لفظ البيع شاملاً من طريق اللسان لكل بيع. وهذا القائل يستشهد أيضاًً بامتناع ابتياع من يعتِق على رب المال.
والوجه الثاني- أن الشراء صحيح، في الزوج والزوجة؛ فإنه يُفيد مقصودَ المالية فيهما حَسَب إفادته ذلك في سائر المماليك، والمرعيّ فيما ينصرف إلى جهة القراض، الغرضُ (3) الذي وُضع القراض له. وإذا كان ذلك (4) يحصل، فلا نظر
__________
(1) ر. المختصر: 3/62.
(2) ساقطة من الأصل. وفي (ي) ، (هـ 3) : أعراض.
(3) ساقطة من (ي) ، (هـ 3) .
(4) في (ي) ، (هـ 3) : اذا كان كذلك، فلا ...(7/472)
إلى (1) ضررٍ آخر يلحق من جهةٍ أخرى؛ لا مِن ماليةِ المعقود عليه ابتداءً وبقاءً؛ وبهذا ينفصل ما نحن فيه من (2) شراء الأب [وكل من يَعتِق] (3) على رب المال؛ فإن ذلك الملك لا يبقى، لو قدرنا حصولَه.
4893- فإذا تبين ما ذكرناه، فليقع الفرضُ بعده فيه إذا اشترى العامل من يعتِق على المالك بإذن المالك، فإذا جرى الشراء بإذنه، صحّ، ونفذ، ثم ينقسم القول وراء هذا؛ فلا يخلو: إما أن يكون في المال ربح، وإما أن لا يكون في المال ربح، فإن لم يكن في المال ربح، فلا يخلو: إما أن يشتريه بكل المال، أو ببعضه، فإن اشتراه بكل المال عَتَق عليه، وانتهى القراض، وكان كما لو استرد المال؛ إذْ الإتلاف أو التسبب إلى التلف الحُكمي محل الاسترداد، ثم إذا نفذ العتق في الجميع، فلا شيء للعامل؛ فإن القراض صحيح والعامل في القراض لا يستحق إلا الربح، إن كان، فإن لم يكن، واتفق استردادُ المال قبل ظهور الربح، فلا شيء للعامل. وسنذكر هذا في أثناء فصول الكتاب، إن شاء الله -نعم، لو كان القراض فاسداً، وكان (4) للعمل الذي جاء به العاملُ أجرُ مثلٍ، فله أجر مثل عمله، إذا استرد رأس المال قبل الربح، أو بعده، ولم نفصل فيما أجريناه بين أن يكون الشراء وقع بعين المال، وبين أن يقع في الذمة؛ فإن الشراء إذا كان على وَفْق الإذن، فإنه ينصرف إلى الجهة المنوية حسَب وروده عليها، لو فرض تعيين الأعيان عوضاًً، وهذا بيّن.
وما ذكرناه فيه إذا اشترى بكل المال، ولا ربح. فأما إذا اشتراه ببعض المال، ولا ربح، فيصح الشراء، وينفذ العتق، ويصير ذلك القدرُ مسترداً من رأس المال وسنذكره مفصلاً (5) ، إن شاء الله.
4894- فأما إن كان في المال ربح، فلا يخلو: إما أن يشتري بالكل أو بالبعض،
__________
(1) (ي) ، (هـ 3) : إلى أمر آخر من جهة أخرى.
(2) (من) مرادفة لـ (عَنْ) .
(3) في الأصل: ومن كان يعتق.
(4) في الأصل: أو كان.
(5) في الأصل: وسنذكره مفصلاً بهذا.(7/473)
فإن اشتراه بالكل، [و] (1) كان رأس المال ألفاً، فربح العامل ألفاً، ثم اشترى من يعتِق على المالك بالألفين، فلا شك في نفوذ العتق في مقدار رأس المال فيه (2) . وهو يقع نصفاً من العبد. وأما الربح إن كانا شَرَطَا وقوعَه شَطْرين، فيَعْتِقُ من الربح المقدارُ المشروط للمالك، ويحصُل من رأس المال ومن حصةِ الربحِ العتقُ في ثلاثة أرباع العبد، والربع الباقي يُنظر فيه، فإن كان المالك موسراً، ذا وفاءٍ عَتَق عليه من طريق السِّراية الربعُ الباقي، وغرِم للعامل مقدارَ حصته، وهو خمسمائةٍ في الصورة التي فرضناها، والتفريع على تعجيل السِّراية.
فإن قيل: لم تتعرضوا للقولين في أن العامل هل يصير مالكاً للربح المشروط له بالظهور، أم يتوقف جريان ملكه على المفاصلة؟ قلنا: لا حاجة في هذا المقام إلى هذا الأصل؛ فإنا وإن حكمنا بأن الملك للعامل، فالعتق يسري لا محالة، إذا كان من حصل العتق عليه موسراً.
فإن قيل: هلا خرّجتم حكماً آخر على هذين القولين، وقلتم: إذا صرنا إلى أن العامل لا يملك ما شرط له إلا عند المفاصلة، فالعتق يسري في الجميع، ولا شيء للعامل؟ قلنا: لا سبيل إلى ذلك؛ فإن نفوذ العتق في مقدار رأس المال ينزل منزلة المفاصلة باسترداد رأس المال، ولو استرد ربُّ المال رأسَ المال، وقد ظهر الربح، فيثبُت حصةُ العامل من الربح لا محالة، فإنا نُنزِل الإتلافَ والتسببَ إليه بمثابة استرداد رأس المال، واستردادُ رأس المال مفاصلةٌ، ومقاسمةٌ.
ولو كان رأس المال ألفاً، وما زاد قبل الإقدام على شراء من يعتق على المالك، ولكنه لما [اشتراه كان] (3) يساوي ألفين على [مكانته] (4) لو بقي رقيقاً، فهذا ربحٌ حصل بهذا العقد، فكان (5) التفريع فيه كالتفريع على ما لو حصل الربح قبل هذا العقد (6) .
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) (ي) ، وساقطة من (هـ 3) .
(3) في الأصل: اشترى وكان.
(4) في الأصل: مكانه.
(5) (ي) ، (هـ 3) : فإن.
(6) أي أنه يعتق عليه مستهلكاً الربح ورأس المال.(7/474)
وكل ما ذكرناه فيه إذا اشترى من يَعْتِق على المالك بما يساوي رأسَ المال والربحَ الحاصلَ.
4895- فأما إذا وقع الشراء ببعض مال القراض، وقد ظهر الربح [كأن] (1) كان رأس المال ألفاً، والربحُ الظاهر ألفٌ، وقد وقع الشراء بألفٍ، فالذي قطع به الأئمةُ أنه إذا عيّن هذا المقدار من مال القراض في العقد، أو كان اشترى في الذمة، ونقد الثمنَ، فالعتق ينفذ، ولا نحكم بانحصار ثمن العبد في جهة رأس المال، بل نقضي بأنه يقع شائعاً؛ فإن الربحَ شائعٌ في رأس المال، ورأسُ المال شائعٌ في الربح، والاسترداد يقع على الشيوع، فكأنه استرد نصفَ رأس المال، ونصفُ الربح على هذا الوجه يقع (2) . ثم لا يخفى تنفيذ العتق، ولا حاجة إلى تقديرِ السِّراية، [وتنزيلِ] (3) ما جرى منزلة استرداد نصفِ المال، مع اعتقاد الشيوع بين رأس المال والربح، وسنذكر على أثر هذا الفصل فصلاً جامعاً في الاسترداد، ووقوعِ المسترد على حكم الشيوع، إن شاء الله.
هذا هو المذهب الذي لا يجوز أن يُعتقدَ غيرُه.
وحكى القاضي عن العراقيين طريقةً أخرى، لم أطلع عليها من مسالكهم، على بحثي عنها، وذلك أنه قال: ذكر العراقيون أن العامل إذا اشترى من يعتِق على رب المال بإذنه، وقد ظهر الربح في المال، فإن اشتراه بقدر رأس المال عَتَق، وكأنّ (4) المالكَ استرد رأس المال، والباقي بينهما ربحٌ، يتقاسمانه على موجَب الشرط.
وإن اشتراه بأقلَّ من رأس المال، فالثمن محسوب من رأس المال، مُنحصرٌ فيه، لا يُحسب شيءٌ منه من الربح.
وإن اشتراه بأكثرَ من رأس المال، حَسَبْنا من رأس المال على كماله، ثم حَسَبْنا
__________
(1) مزيدة لاستقامة العبارة، حيث سقطت من النسخ الثلاث.
(2) أي يقع مستردّاً، وهي في (ي) ، (هـ 3) : "تبع"
(3) في الأصل: " ونزل ".
(4) (ي) ، (هـ 3) : وإن كان.(7/475)
الزائد من حصة المالك من الربح، ثم إن استوفى حصتَه، فالباقي للعامل، وإن أبقى من حصته شيئاً، فله البقية.
ثم لما حكى القاضي هذا قال: هذا الذي ذكروه غلطٌ، ولا شك أن ما حكاه غلطٌ، ولكن أخشى أن يكون الناقل غالطاً؛ فلا يستجيز المصير إلى ما حكاه عن العراقيين من أحاط بأطراف الكلام في أحكام هذه المعاملة.
هذا كله تفصيل القول فيه إذا اشترى العامل بإذن رب المال من يعتق عليه، وقد بان من سرّ الفصل أن مغزاه يرجع إلى استرداد طائفة من المال، وتفصيلُ الاسترداد، وتحقيق الشيوع فيه سنذكره متصلاً بهذا الفصل.
4896- والعبد المأذون له في التجارة إذا اشترى أبَ المولَى، فلا يخلو: إما أن يشتريَه بإذنه، أو دون إذنه، فإن اشتراه بإذنه، نُظر: إن لم يكن عليه ديْن، صحَّ شراؤُه، وعَتَق على المولى، وإن كان عليه دَيْن، ففي عتقه عليه قولان.
وقرّب الأصحاب ما في يد المأذون إذا ركبته الديون، قبل أن يحجر القاضي عليه، من المال المرهون، وذكروا قولين في أن السيد لو أعتق عبداً مما في يد عبده المأذون، وقد ركبته ديون، فيكون كما لو أعتق الراهن العبد المرهون، وكذلك العبد في التركة التي تعلق الدين بها، فإذا أعتق الوارث عبد التركة، فهو بمثابة الراهن، فإذا اشترى العبدُ بإذن المولى من يعتِق عليه، وعليه ديون، فإن جرى ذلك برضا الغرماء، صحّ، ونفذ العتق، وكذلك القول فيه إذا أعتق المولى عبداً بإذن الغرماء، والعبدِ المأذون، فالعتق ينفذ نفوذَه من الراهن في المرهون، عند إذن المرتهن. وقد ذكرت مجامع أحكام المأذون فيما تقدم، وأخرت جملاً من أحكامه إلى كتاب النكاح.
ولو اشترى العبد المأذون بغير إذن مولاه من يعتق عليه، فليقع الفرض فيه إذا لم يكن عليه دَيْن، ففي صحة الشراء قولان منصوصان للشافعي رضي الله عنه: أحدهما - لا يصح، وهو اختيار المزني، لأنه مأمور بالتجايرِ (1) المربحة، والذي اشتراه ليس
__________
(1) التجاير: أي التجارات، جمع تجارة، وزان رسالة ورسائل، وتركناها مسهّلة الهمزة كما وردت.(7/476)
ممّا يُتَّجرُ فيه، وقد يكون فيه استيعابُ المال، فشابه العبدُ المأذونُ في ذلك العاملَ في القراض، وقد قطع الأئمة بأن العامل في القراض لا يصح منه أن يشتري من يعتِق على رب المال، فليكن المأذون له في التجارة بهذه المثابة.
والقول الثاني- أن ابتياعه يصحّ، لأنه مستخدمُ السيد، ومأمورُه، وما يصدر منه في امتثال أمر المولى، يقع خدمةً مستحقة عليه، فيليق به أن يرعى في حقه مطلق الأمر، وقد أذن له في الشراء، والعامل (1) مَبْنَى أمره على التجارة؛ فإنّ عِوض عمله فيما يحصله من الربح، فكانت تلك المعاملة متقيدةً بالتجارة، ومعاملةُ العبد خدمةٌ، كما ذكرناها.
هذا ما قيل في توجيه القولين.
وفي هذا فضلُ نظرٍ عندي، فيجب أن يقال: إن قال لعبده: اتّجر في هذه الأموال، فإذا اشترى من يعتِق على المولى، لم يصح؛ لأن ما جاء به لا يسمى تجارة.
وإن أطلق له التصرف، ولم يتعرض لذكر التجارة، وما يدل عليها، فإذا اشترى من يعتِق على مولاه -والحالة كما وصفناها- فيحتمل قولين.
ولو قال للعامل: تصرف، ولم يقل له: اتّجر، فلا يصح من العامل أن يشتري من يعتِق على رب المال قولاً واحداً؛ لأن المعاملة وإن لم تتقيّد بالتجارة، فقرائن الأحوال، ومقتضى المعاملة، دالةٌ على قصد التجارة. هذا ما لا بد منه.
4897- ومما يتصل بما نحن فيه أن الرجل إذا وكل وكيلاً، حتى يشتري له عبداً، وذكر بعض صفاته، فلو اشترى له من يعتِق عليه، وتوكيله إياه ليس مقيداً بالتجارة، فقد اختلف أصحابنا: منهم من قال: يصح ذلك من الوكيل، ويعتِق على الموكِّل؛ من جهة أن التجارة غيرُ محققة، والتصرف مع الوكيل خاص.
ومن أصحابنا من قال: لا يصح ذلك من الوكيل؛ فإن قرينة الحال تدل على أنه يبغي منه عبد قِنْية، أو عبد تجارة، فإذا اشترى مَنْ يعتِق عليه، لم يكن ما جاء به من القبيلين، فبطل.
هذا إذا وقع شراؤه بعين مال الموكل، فأما إذا اشترى في الذمة، فإن صححناه عن
__________
(1) العامل: أي المقارض.(7/477)
الموكل، فلا كلام، وإلا فينفذ العقد على الوكيل، ثم لا يعتِق، فقد انتظم من مجموع ما ذكرناه القولُ في العامل، والعبدِ المأذون، والوكيل بالشراء.
فأما العامل، فلا يصح منه أن يشتري لرب المال من يعتق عليه من غير إذنٍ، لتمحّض قصد التجارة من المعاملة.
والعبد المأذون إذا اشترى بغير إذن مولاه من يعتق عليه، ففيه القولان المنصوصان، وسببُ تردد القول ما ذكرناه، من أن العبد ليس يعمل لنفسه، وإنما هو مأمور من جهة غيره.
والوكيل بشراء عبدٍ يتأخر في المرتبة عن المأذون له في التجارة، وشراؤه من يعتِق على موكله يُخرَّج على الخلاف الذي ذكرناه. وهو على حالٍ أولى بالنفوذ من شراء العبد المأذون.
ثم إذا لم يصح شراء العبد المأذون، فلا كلام، وإن صححناه، لم يخل: إما أن يكون عليه دين، وإما أن لا يكون عليه، فإن لم يكن [عليه] (1) دينٌ، ففي نفوذ العتق قولان، كما تقدم ذكرهما.
4898- فأما إذا اشترى العامل ابنَ نفسه، أو أبا نفسه، فلا يخلو إما أن يكون في المال ربحٌ، وإما أن لا يكون في المال ربحٌ، فإن لم يكن في المال ربحٌ، وكان اشترى بعين مال القراض من يعتِق عليه نفسِه، صح الابتياع، ووقع المشترى ملكاً لرب المال، ولم يعتِق.
وإن كان ظهر في المال ربح، وقلنا: إن العامل لا يملك الربح إلا عند المفاصلة، فيصح الشراء في هذه الصورة، ولا يعتِق على العامل.
فأما إذا قلنا: إن العامل يملك من الربح ما شُرط له قبل المقاسمة، فقد اشترى من
يعتق عليه بعين مال القراض، فهل يصح البيع في قدر حصته من الربح؟ فعلى قولين ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما- لا يصح؛ فإنا لو نفَّذنا في قدر حقه العتقَ، لكان ذلك خلافَ مقصود القراض؛ إذ المقصودُ منه الاستنماء والاسترباح، ولو لم نحكم
__________
(1) ساقط من الأصل.(7/478)
بالعتق، والحالة هذه، أدى ذلك إلى أن يدخل في ملكه بعضُ من يعتِق عليه، ولا يعتق؛ فحسمنا البابَ، وقلنا: لا يصح البيع في نصيبه.
والقول الثاني- أنه يصح؛ فإنه مطلقُ التصرف في ملكه، فلا يؤاخذ فيه بما ذكرناه.
التفريع:
4899- إن قلنا: لا يصح البيع في نصيبه، فهل يصح في نصيب المالك؟ فعلى قولي تفريق الصفقة. وإن قلنا: إن البيع يصح في حصّته، فهل يعتِق عليه؟ فعلى قولين، ذكرهما صاحب التقريب أيضاً: أحدهما- يعتق لثبوت ملكه.
والثاني- لا يعتق، لأنه وإن ثبت ملكُه، فهو ملكٌ ضعيف، غيرُ مستقر (1) ؛ إذ الربح (2) وقايةٌ لرأس المال، فيجب اعتباره (3) لهذه الجهة، إلى انفصال الأمر بالمقاسمة. والقولان يقربان من القولين في أنّ عتق الراهن هل ينفذ في المرهون؟ فإن قلنا: لا ينفذ العتق، فلا كلام. وإن قلنا: ينفذ فيه العتق، فيسري العتق إلى نصيب المالك، إن كان العامل موسراً.
هذا كله فيه إذا اشترى من يعتق عليه بعين مال القراض.
4900- فأما إذا اشتراه في الذمة، فلا يخلو: إما أن يشتريه مطلقاًً، أو ينوي نفسه، أو يصرفَه إلى جهة القراض. فإن نوى نفسه، أو أطلق، فينصرف إليه العقد، ويلزم الثمنُ ذمتَه، ويعتق عليه العبد، لا شك فيه، ولا تعلق له بالقراض.
وإن صرفه بالنية إلى القراض، خرّجنا ذلك على ما لو (4) اشتراه بعين مال القراض. فإن قلنا: لو عين مال القراض، صح العقدُ، فيصح العقد عن جهة القراض، (5 والتفصيل كما قدمناه. وإن قلنا: لو عين مالَ القراض، لم يصح، فإذا أورد العقدَ على الذمة، فلا يصح عن جهة القراض 5) ، ويقع عن المشتري، ويكون كما لو أطلق العقد، أو نوى نفسَه.
__________
(1) في (ي) ، (هـ 3) : " مستمر ".
(2) (ي) ، (هـ 3) : الملك.
(3) (ي) ، (هـ 3) : اعباده للجهة (بهذا الرسم) .
(4) ساقطة من (ي) ، (هـ 3) .
(5) ما بين القوسين سقط من (ي) .(7/479)
ومما ذكره صاحب التقريب في تمام الفصل: أنه لو اشترى العامل أباه مطلقاًً، ولم يصرح بصرفه إلى جهة القراض لفظاً، ثم قال: نويت به الصرف إلى جهة القراض، وقلنا: لو انصرف إلى القراض، لم يعتق منه شيء، فهل يُقبل منه ادعاؤه الصرفَ إلى القراض؟ فعلى قولين ذكرهما (1) : أحدهما - يُقبل قوله، وهو القياس؛ لأنه الناوي، وإليه الرجوع. والثاني - أنه لا يقبل قوله؛ فإن العقد الذي يُقدِمُ عليه عقدُ عتاقة؛ فإذا أراد حمله على ما ينفي العتقَ عنه، لم يُقبل ذلك منه.
4901- ومما يتعلق بتفريع القول في العامل أن رأس المال لو كان ألفاً، فاشترى به من يعتِق عليه، ولم يظهر ربحٌ في المال، فقد ذكرنا أنه لا يعتق عليه شيءٌ؛ فإنه لم يظهر في المال ربحٌ، فلو أمسك العبدَ المشترى، فارتفعت قيمته، فصار يساوي ألفين؛ فإن قلنا: لا يملك من الربح شيئاًً قبل المفاصلة، فلا كلام. وإن قلنا: إنه يملك ما شرط له، فهل يعتِق مقدار حصته، فعلى الخلاف الذي ذكرناه. فإن قلنا: إنه يعتق عليه، فهل يسري العتق إلى تمام العبد إذا كان العامل موسراً، فعلى وجهين: أحدهما - أنه يسري، كما لو اشترى والربح ظاهرٌ.
والثاني- لا يسري؛ فإنّ العتق حصل في الدوام، من غير اختيارٍ من جهته، وإذا حصل العتق بجهةٍ، لا تتعلق بالاختيار، فلا يتعلق بها السريان.
ولهذا قلنا: لو اشترى الرجل بعضَ من يعتِق عليه، عتق عليه ذلك القدر، وسرى العتق إلى تمام العبد. ولو ورث الرجل بعض من يعتِق عليه، وعتَق ما ورثه، لم يسر العتق إلى الباقي؛ لأن الوراثة تقتضي ملكاً قهرياً، والعتق المترتب على السبب القهري لا يسري. ومن قال بالوجه الأول، انفصل عن الإرث، وقال: لا اختيار فيه أصلاً، بخلاف ما نحن فيه، فإنه اختار الشراء أولاً، ثم كان له اختيار في الإمساك إلى ظهور الربح، فانتظم الخلاف مما ذكرناه.
__________
(1) أي صاحب التقريب.(7/480)
فصل
قال: "ومتى شاء ربُّه أخْذَ ماله ... إلى آخره" (1)
4902- مضمون هذا الفصل شيئان: أحدهما - قد نبهنا عليه في الأركان، وهو أن معاملةَ القراض جائزةٌ من الجانبين، فمهما أراد المالك فسْخَها، كان له فسخُها، وكذلك هي جائزة من جهة المقارض، فمهما (2) أراد الفسخَ، فلا معترض عليه، وهذا بيّنٌ.
والمقصودُ الآخر يتعلق باسترداد طائفةٍ من مال القراض، وهذا من أقطاب الكتاب، ولا بد من صرف العناية إلى دَرْكه، والاهتمامِ به؛ فإن معظم التعقيدات في المسائل ينشأ من هذا الأصل. ونحن نقول فيه.
4903- إذا عامل الرجل على مقدارٍ من المال، ثم استردّ بعضَه، لم يخلُ: إما أن يكون ذلك قبل ظهور الربح والخسران، وإما أن يستردّ بعد ظهور الخسران في رأس المال. فإن لم يكن ظهر ربحٌ، ولا خسرانٌ، حُطَّ ذلك المقدار المسترد من رأس المال، ولم يَخْفَ رجوع رأس المال إلى المقدار الباقي، فعليه يُبنى الربح والخسران، وكأن المعاملةَ وقعت على ذلك المقدار أول مرة.
وإن ظهر ربحٌ في المال، وفرض استرداد طائفةٍ، فغرض هذا الفصل يُبيّن شيئين: أحدُهما- اعتقادُ الشيوع في رأسِ المال والربحِ في حكم الاسترداد. والثاني - أنه إذا اتّفق ربحٌ، ثم اتّفق بعده خسران من غير تقدير استرداد، فالربح وقايةٌ، والخسران محسوب منه، لا خلاف فيه. فأما إذا أتى الخسرانُ على الربح، ولم يبق منه شيء، ثم فرض بعده نقصانٌ، فهو محسوب من رأس المال.
فإذا ظهر ما ذكرناه صوَّرْنا صورةً، وبيّنا فيها غرضنا، فنقول: لو كان رأس المال مائةً؛ فربح العامل عشرين، ثم استرد ربُّ المال عشرين، ثم
__________
(1) ر. المختصر: 3/63.
(2) فمهما: بمعنى: فإذا.(7/481)
خسر العامل عشرين، فليس لرب المال أن يقول: قد دفعت مائةً، وأخذتُ عشرين، وفي يدك الآن ثمانون، فلا لي، ولا عليّ، ولا حق لك أيها العامل، بل للعامل أن يقول: هذه العشرون التي هي خسرانٌ لا يلزمني جبرُها؛ فإن لي أن أنكف عن العمل، وأما العشرون التي أخذتَها، فقد كان السدس منها ربحاً وهو ثلاث دراهم وثلث، فقاسمني ذلك المقدارَ من الربح، فلي منه نصفه.
وهذا يُحقِّق أن المسترد يقع شائعاً على نسبة رأس المال والربح.
ولو كان الربح عشرين، ورأس المال مائة، فكل مقدارٍ يعرض أخذُه يقع على نسبة الربح ورأس المال، والعشرون من المائة والعشرين سدس الجملة، فإذا أخذ ربُّ المال عشرين، فسدُس ما أخذه ربحٌ، وخمسة أسداسِه من رأس المال.
4904- ولو كان رأس المال مائة فخسر أولاً عشرين، ورجع المال إلى ثمانين، ثم استرد ربُّ المال في حالة الخسران عشرين، ثم ربح العامل عشرين، فصار ما في يده ثمانين، فلو قال صاحب المال: دفعتُ مائة وأخذت عشرين وهذه ثمانون في يدك، فلا شيء لك. فللعامل أن يقول: العشرون التي أخذتَها كانت في الأصل خمسةً وعشرين، والخسران مفضوضٌ على جميع رأس المال، [وحصةُ كل عشرين منه خمسة، فلم يبق في يدي على هذا التقدير من رأس المال] (1) إلا خمسة وسبعون وأنا إنما أجبر خسران ما بقي في يدي فأما ما تستردُّه مني، فلا ألتزم جبران خُسرانه، فإذا بقي في يدي خمسة وسبعون، وإذا أنا حصَّلتُ خمسة وسبعين، فقد جبرتُ ما عليّ جبرُه، إذا كنت أتمادى على التصرف، وفي يدي الآن ثمانون، فخمسةٌ منها ربح لا تحسب في جُبران، فنقسمها بيْننا على الشرط.
وقد تحصّل مما ذكرناه شيوعُ الخسران في المال على حساب شيوع الربح فيه.
4905- ونحن نذكر صورةً أخرى في تمهيد ذلك ذكرها ابن الحداد، فنقول: إذا كان رأس المال مائة، فخسر العامل ورجع إلى تسعين، ثم استرد ربُّ المال من التسعين عشرة، فالقدر الذي يستردّه من المال يخصُّه قدرٌ من الخسران، وذلك
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.(7/482)
القدر لا ينجبر بما سيتفق من الربح بعدَ ذلك؛ فإنه لو استرد جميع المال، لانقطع أثر [الجبران] (1) بالكلية، فإذا استرد قدراً، فما قابل ذلك القدرَ من الخسران، لا يتقدّر (2) فيه الجبران، فنقول: لما خسر عشرة، قسَّطْنا العشرة على تسعين، فخص كلَّ عشرة منها تسعُ العشرة، وهو درهمٌ وتُسع، فلو ربح العامل بعد ذلك، وبلغ [المال] (3) مائة وخمسين، فكم يكون قدر رأس المال؟ معلوم أنه استرد عشرة في الوقت الذي كان في المال خُسران عشرة، وقد خص ما استرده تُسعُ العشرة، وهو مما لا ينجبر (4) ، فيحط من المئة أحدَ عشر وتسعُ درهم، فيبقى ثمانية وثمانون، وثمانية أتساع درهم، فهذا رأس المال من المائة والخمسين، والباقي ربح، يقتسمانه على الشرط بينهما.
ولو دفع إليه مائةً، وَرَبِحَ، فصار مائة وخمسين، ثم إن المالك استرد من الجملة خمسين، فالربح مقسطٌ على جميع المال، فإذا استردّ خمسين، فنقول: ثلث ما استرده ربح شائع مشترك بين المالك والعامل.
وبمثله لو استرد خمسين كما ذكرناه، ثم خسر العامل، فرجع ما في يده إلى الخمسين، فنقول: ثلثا الخمسين المستردّة تحسب من رأس المال، وثلثُها يحسب من الربح، فقد نقص من رأس المال ثلاثة، وثلاثون، وثلث، وعاد رأسُ المال إلى ستة وستين وثُلثيْن، والربح من المقبوض ستةَ عشرَ وثلثان، فإذا خسر العامل كما ذكرناه، وسلم هو مما قبضه من الربح نصفَه إلى العامل، إن كان الشرط كذلك، وهو ثمانية وثلث، فإنّ المسترد ربحاً لا يخرج عن كونه ربحاً بما يتفق من الخسران. وإنما يكون الربح وقايةً لو بقي في عُرض المال، وهذا كما أن ما يخص المسترد من الخسران لا يلحقُه الجبران بالربح الطارىء.
هذا حقيقة ما ذكره الأصحاب في شيوع الربح والخسران، وبيان موقعهما في المسترد.
__________
(1) في الأصل: الخسران.
(2) (ي) ، (هـ 3) : فما قابل ذلك من الخسران لا يتقرر فيه من الجبران.
(3) ساقطة من الأصل.
(4) (ي) ، (هـ 3) : يتخير.(7/483)
4906- ثم نعود بعد ذلك إلى أمرٍ متصل بفسخ القراض.
فإذا انعقدت المعاملة، ثم انفسخت بفسخٍ من رب المال، أو العامل، فإن كان قبل العمل والتصرف، أخذ رب المال رأس المال، ولا كلام. وإن كان بعد التصرف، نُظر: فإن كان المال ناضَّاً، وقد حصل ربحٌ، أخذ رب المال رأسَ المال، واقتسما الربح بينهما. وإن لم يكن ربح، أخذ ربُّ المال رأسَ المال، ولا إشكال. فلو قال العامل: أحبطتم سَعْيي، قلنا: إنك دخلت في العقد على أن تستحق جزءاً مما يحصل من الربح، ولم يحصل شيء، فلا مال لك. ولو قال: اتركوه في يدي حتى أتصرّف فيه لم نتركْه؛ إذ لا منتهى له، والمعاملة جائزة.
ولو جرى الفسخ والمال عُروض، لم يخلُ: إما أن يكون فيها ربح أو لم يكن، فإن لم يكن فيها ربح، فهل يجب على العامل تنضيضُ رأس المال ببيع العروض؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون: أحدهما- أنه يجبر على تنضيض العروض وردّها نقداً كما كان، وهذا مما قطع به شيخي والقاضي، وإليه إشارة الشيخ أبي علي. وكأَنَّ المحققين اعتقدوا أن العامل إذا صرف النقد إلى العروض، التزم ردَّ العروض إلى النقد، وبه يخرج عن المطالبة.
والوجه الثاني- لا يلزمه ذلك، وهو الذي قطع به بعض المصنفين؛ فإنه يقول: المعاملة جائزة، وقد انفسخت، ولا تبعةَ عليّ، نقصت قيمةُ العروض أو زادت، فإلزامي البيعَ والتنضيضَ لا معنى له.
فإن قلنا: لا يلزمه البيع، أو رضي المالك بترك العروض، فقال العامل: أبيعها، ولم يكن في ضمنها (1) ربح، فهل له بيعها على قهرٍ وكُرْهٍ من رب المال؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا؛ لأنه كفاه شغلاً، وأسقط عنه حقاً، وليس في المال ربح حتى يكون له فيه حق.
والوجه الثاني - له بيعها؛ لأنه ربما يتفق زبون فيشتريه بأكثرَ، فيحصل الربح.
وفي النفس من هذا شيء، فإذا قُوِّمت العروضُ، فأراد أن يبيع عرْضاً بما
__________
(1) (ي) ، (هـ 3) : قيمها.(7/484)
يساوي، فما عندي أنه يسوغ له ذلك على سُخطٍ من المالك؛ فإنَّا لو فرضنا البيع على هذا النسق في سائر العروض، لم يستفد العامل ببيعها شيئاً. نعم، إذا فسخ القراض، ووجد العامل زبوناً يشتري العروضَ بأكثرَ مما تساوي، فهذا محتمل؛ فإن هذا ليس ربحاً على الحقيقة، وإنما هو رزقٌ يساق إلى مالك العروض، ولا خلاف (1) أن هذا الجنسَ محسوبٌ من الربح في دوام القراض، فهذا السرّ لا بد من التنبه له.
4907- ومما يتفرع على هذا المنتهى أن القراض إذا فسخ، ووقع التراضي على ردّ العروض إلى رب المال، [إذا] (2) لم يكن ربح، فلو ارتفع السوق، وظهر الربح، فهل له أن يرجع فيه؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا رجوع له؛ لأنه أسقط حقّه بالتسليم، فلم يمكنه الرجوع.
والثاني- بلى؛ لأن حقه إنما يثبت في الربح بالظهور، وقد [ظهر] (3) الآن، فلم يُؤثِّر إسقاط الحق قبل الظهور.
هذا كله تفصيل القول فيه إذا تفاسخا، ولم يكن في المال ربح.
4908- فأما إذا كان في المال ربحٌ، [فنكلّفه] (4) تنضيض قدر رأس المال.
هذا متفق عليه في هذا المقام؛ فإنه إذا كان يبغي الربحَ، فعليه أن يُتمِّمَ العملَ، وتنضيضُ رأس المال من تمام العمل، وليس كالصورة التي تقدمت، وهي إذا لم يكن ربح.
ثم إذا حصل التنضيض في مقدار رأس المال، فالذي قطع به المحققون: أنه لا يجب تنضيض الباقي؛ بل هو مال مشترك بين رب المال والعامل، وسبيله سبيل عَرْضٍ مشترك بين شريكين.
ولو كان في المال ربح، كما صورنا، فقال العامل: تركتُ حقي من الربح على رب المال، فهذا يُبنَى أوّلاً على أن العامل يملك الربح بالظهور أو القسمة؟ فإن قلنا: إنه يملكه بالظهور، لم يسقط حقه بإسقاطه، حتى يجري فيه مسلكاً مُمَلِّكاً قياساً على كل
__________
(1) (ي) ، (هـ 3) : فلا شك.
(2) في الأصل: أو لم.
(3) في الأصل: ذكر.
(4) في الأصل: فتكليفه.(7/485)
شِرْك مملوك في مال مشترك. وإن قلنا: حق العامل يثبت في الربح عند المقاسمة، فهل يسقط حقُّه بالإسقاط من غير نظرٍ إلى رضا رب المال؟ فعلى وجهين: أحدهما - يسقط؛ لأنه حق ملكٍ، وليس بحقيقة ملك، فيسقط كما يسقط حق الغانم بالترك والإعراض قبل القسمة.
والثاني- لا يسقط؛ لأنه حق متاكد، وليس عقداً يُفسخ، وليس كالمغنم؛ فإن المغانمَ ليست مقصودَ الغُزاة، وإنما مقصودهم إعلاءُ كلمة الله، والذبُّ عن دِينه.
ثم لم يختلف أصحابنا أن حق العامل يسقط من الربح بما يقع من الخسران، كما سنفصله عند ذكرنا القولين في أن العامل متى يملك الربح، إن شاء الله.
فإن قلنا: لا يسقط حق العامل بالترك على رب المال، والإعراض، فالمطالبة لا تسقط عنه بتنضيض رأس المال.
ويخرج من ذلك أن القراض يُفضي في عاقبته إلى مقتضى اللزوم؛ فإن العامل إذا لم يجد سبيلاً إلى إسقاط حقه من الربح، ودامت عليه الطَّلبة لأجل ذلك بتنضيض رأس المال، فهذا عملٌ يجب على العامل إيفاؤه إذا تحقق ظهور الربح. وإن قلنا: يسقط حق العامل من الربح، فهل تبقى عليه الطَّلبة بتنضيض رأس المال؟ القولُ في هذا كالقول فيه إذا لم يظهر ربح، ولكنه صرف النقدَ إلى العروض فهل يجب عليه تنضيضها؟ فعلى ما تقدم من الخلاف والتردد.
4909-[ويتنخَّل] (1) من هذا أنه إذا لم يظهر ربح، ففي تكليفه التنضيض الكلامُ المقدم. وظاهر قول الأصحاب أنه يكلّفُ التنضيض، ولم يعرف شيخنا والقاضي غيرَه.
وإن ظهر الربح، وقلنا: لا يقدر العامل على إسقاطه، فإنه يكلف تنضيض رأس المال، وإن قلنا يملك العامل إسقاط حقه، فأسقطه، ففي تكليفه التنضيض خلاف.
والمراتب منقسمة: المرتبة الأولى- وفيها يتحقَّق (2) الجوازُ أن تنعقد المعاملة على النقد، فالعامل على خِيَرته إلى أن يصرفه إلى العروض، ولا تكليف عليه مهما انكفَّ،
__________
(1) في الأصل: وتتخذ، وفي (ي) ، (هـ3) : ويحل. والمثبت اختيارٌ منا على ضوء تعبير الإمام في مواطن سابقة بلفظ (يتنخل) .
(2) (ي) ، (هـ3) : تحقيق الجواب.(7/486)
فإذا صرفه إلى العروض، ترتّب الأمر إلى ظهور الربح وعدم ظهوره. وقد فصّلناه.
ولو قال العامل: قوّموا العروض، وأفرزوا مقدار رأس المال منها، وسلّموا إليّ من حساب الربح قسطاً من العروض، لم يُجَب إلى ذلك، ولم يكن له أن يأخذ من العروض سلكاً (1) ، وإن أَبَرَّت (2) الأرباحُ على قدر رأس المال؛ فخرج من هذا الاتفاقُ على منعه من أخذ جزءٍ من الربح، حتى يفي بالتنضيض، ولو حصل التنضيض في معظم رأس المال، لم يكن له أن يأخذ بقسطِ ما نضَّ من الربح، فأخْذُ أقلِّ القليل من الربح موقوفٌ على تنضيض جميع رأس المال.
ثم لا يجب التنضيض في غير رأس المال. وكأَنَّ العقد ألزمه أن يرد رأس المال كما أُخذ، إن أراد أن يأخذ الربح.
والسبب فيه أن هذه المعاملةَ مع ما فيها من الأغرار على رعاية مصلحةٍ [بيّنة] (3) ، ومن أعظم (4) أسبابها أن يلتزم العامل تنضيض العروض.
وما ذكرناه فيه إذا كان رب المال مطالِباً بالتنضيض.
فأما إذا رضي ربُّ المال بأن يُفرَزَ رأسُ المال من العُروض، ثم يقع اقتسام الربح وراء ذلك، فإن رضي به العامل أيضاً، جاز ما تراضيا عليه.
وإن رضي رب المال بأن لا تباع العروض، وأبى العامل إلا بيعها، فهل يجاب
العامل إلى مراده؟ فيه الخلاف الذي ذكرناه فيه إذا لم يظهر في المال ربحٌ، [وقال] (5) العامل: أبيع العروض، فهل يجاب العاملُ إلى مراده؟ فيه الخلاف الذي ذكرناه.
4910- فخرج من ذلك أنه إذا كان في المال ربحٌ؛ فلرب المال المطالبةُ بتنضيض رأس المال.
__________
(1) كذا في النسخ الثلاث، والسلك هنا المراد به (الخيط) ؛ فالمعنى لا يأخذ عامل القراض من العروض أيَّ شيء، مهما بلغت قلّة المأخوذ، ولو (خيطاً) . حتى لو زادت الأرباح على رأس المال، لا يأخذ من العروض لا نقيراً ولا قطميراً، حتى يقوم بتنضيض رأس المال.
(2) أَبَرَّت: زادت.
(3) ساقطة من الأصل.
(4) (ي) ، (هـ3) : معظم.
(5) في الأصل: "ولو قال".(7/487)
وإن رضي رب المال (1) ، فهل للعامل تنضيضُ رأس المال، فعلى الخلاف الذي ذكرناه.
ولو نضَّ رأسُ المال، فالذي ذهب إليه المحققون أنه لا مطالبة وراء رأس المال بتنضيضٍ، لا من جهة رب المال، ولا من جهة العامل، بل تبقى العروض مشتركة بعد تنضيض رأس المال، وسبيل الشركة فيها كسبيل الشركة في المواريث وغيرها من الجهات التي تُثبت الشركة.
وفي القلب من هذا أدنى بقية، أما إذا نضَّ رأسُ المال، فلا يبقى طَلِبةٌ لرب المال [بالتنضيض] (2) هذا لا سبيل إليه.
فأما العامل إذا قال: أبيع الكلَّ، فلعل حقي يزيد بالبيع عند وجدان زبون، فهذا فيه احتمال، والأظهر أنه لا يملك ذلك؛ فإنه إذا ظهر أن ربَّ المال لا يكلفه ذلك إذا امتنع، فحمْلُه ربّ المال على البيع -مع أن رب المال لا يقدر على حمله- بعيدٌ (3) ، والذي قطع به المحققون أنه لا طَلبةَ من الجانبين، بعد تنضيض رأس المال.
فصل
قال: "وإن مات رب المال صار لوارثه ... إلى آخره" (4) .
4911- القراض من العقود الجائزة. هذا وضعه، ولا نظر إلى ما يُفضي القراض إليه من تكليف التنضيض؛ فإن ذلك في حكم الخروج عن عُهدةٍ تثبُت على حسب [المصالحة] (5) ، وكلُّ عقدٍ جائزٍ من الجانبين كالشركة والوكالة، فحكمه أنه ينفسخ بموت أحد المتعاقدين.
4912- ونحن نذكر تفصيل المذهب في موت المقارِض، ثم نذكر التفصيلَ في
__________
(1) أي رضي رب المال بعدم تنضيض رأس المال.
(2) في الأصل: في التنضيض.
(3) بعيدٌ: خبر لقوله (فحمله) .
(4) ر. المختصر: 3/63.
(5) في الأصل: المصلحة.(7/488)
موت المقارَض، فإذا مات المقارِض، انفسخ القراضُ، ولم يكن للعامل الاستمرار على الاتّجار حَسَب ما كان يفعل في حياة ربّ المال، نعم، إن أوجبنا عليه التنضيضَ، مع فسخ العامل القراض، فذلك الأمرُ يبقى بعد موت المقارِض، وهذا هو الذي يدلُّ على أنه ليس تنضيض رأس المال [مقصود القراض] (1) ، وإنما عُهدةُ الشروع في القراض، فإذا كنا نرى تكليف المقارض [ذلك] (2) بعد انفساخ القراض، فالوارثُ إن كان مستقلاً يكلفه ذلك أيضاً، وإن انفسخ القراض. وإن كان الوارث طفلاً؛ فالوصي يطالب العامل، وإن لم يكن وصيٌّ، فالقيّم الذي ينصبه القاضي يطالِب بذلك، وإن أراد القاضي أن يكلّفه ذلك بنفسه ويقوم على ذلك الطفل، فهو حسنٌ.
وإن أراد الوارث المستقل استدامةَ القراض، من غير إعادة عقدٍ وتجديدٍ (3) ، فلا سبيل إلى ذلك؛ فإن القراض قد تحقق انفساخُه.
ولا يمتنع ابتداءُ القراضِ في مال الطفل على شرط المصلحة اللائقة بالحال، [وليكن] (4) العامل ممن يجوز إيداعُ مال الطفل عنده، أو إقراضُه منه.
ثم إن كان المال ناضّاً، وليس فيه ربحٌ ولا خسران؛ فيجوز ابتداءُ القراضِ [المفيد] (5) للطفل، والمتبع في قسمة الربح ما تعلق التشارط به على حسب المصلحة. وإن كان الوصي والمقارَضُ عالمين بالنسبة التي وقع القراض عليها ابتداء، فقالا: تعامُلُنا على ما كنا عليه، لم يمتنع ذلك، إذا كانا محيطين بمعنى اللفظ الذي أبهماه، والمصلحة في أثناء ذلك كلِّه مرعيةٌ.
4913- ثم لو قال الوصي، أو الوارثُ المستقل للعامل: قررتُك على موجَب
__________
(1) في الأصل: مقصوداً للقراض.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) (ي) ، (هـ 3) : وتجديده.
(4) في الأصل: ولكن.
(5) ساقطة من الأصل. والمثبت من (هـ 3) وفي (ي) المقيد.(7/489)
العقد الذي كان في [حال] (1) الحياة، وهما عالمان كما وصفناه، [فظاهر] (2) المذهب أن العقد ينعقد بلفظ التقرير، وإنا كان مشعراً بالاستدامةِ والاستصحاب؛ فإن المعنيَّ به [أن] (3) يثبت هذا العقدُ المجدَّدُ على موجب العقد المتقدم، وكما يعبّر بالتقرير عن الاستصحاب، يُعبّر به عن بناء العقد على العقد.
وكان يمنع شيخي تجديدَ العقد بعبارة التقرير، وهذا التردد يشبه تردُّدَ الأصحاب في الوصية الزائدة على الثلث، إذا قلنا: تنفيذها من الورثة ابتداءُ عطية، فهل تنفذ الزيادة بلفظ الإجازة؟ [ظاهر المذهب أنها تنفذ بلفظ الإجازة] (4) حملاً على أن هذا بناءٌ على سابقٍ وتأسٍّ به.
وكان شيخي يحكي وجهاً أنه لابد من لفظٍ يصلُح لابتداء التبرّع (5) ؛ من جهة الوارث، ثم كان يقول: إن استعمل الوارث الإجازة أخذاً من قول القائل: أجاز فلان فلاناً، إذا أعطاه جائزةً، فقد يجوز من هذا التأويل، فإن لم يرده، لم يجز. وإذا قال: أجزت وصية أبي، فهذا غير صالح للحمل على الجائزة، فيظهر فيه التردد.
ولو فسخ القراض في الحياة، فانفسخ، فاستعمال التقرير بناء على ما تقدم يُخرّج على ما ذكرناه؛ إذْ لا فرقَ بين أن يُفسخ القراض بالموت، وبين أن ينشأ فسخه في الحياة.
[ولو انفسخ البيع بين المتعاقدين، فأراد إعادتَه على الموجب الأول، فقال صاحب المتاع:] (6) قررتُ البيع على ما كان، وقال المخاطَب: بذلك قبلتُ، فهذا على ما ذكرته.
ولو ارتفع النكاح فقال الولي للخاطب: قررتُ النكاحَ على ما كان، فقال
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في الأصل: ظاهر.
(3) ساقطة من الأصل.
(4) ما بين المعقفين سقط من الأصل.
(5) في (ي) ، (هـ3) : التصريح.
(6) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.(7/490)
الخاطبُ: قبلتُ، فالذي [رأيته للأصحاب] (1) : أن ذلك لا يُحتمل في النكاح؛ فإنه مبنيٌّ على تعبدٍ في اللفظ ظاهرٍ، ولا تعويل فيه على اتباع المعنى، وليس يخلو النكاح من احتمالٍ إذا جرى لفظ النكاح مع التقرير.
4914- ثم نعود إلى القول في القراض، ونقول: إن كان المال ناضّاً، فتجديد القراض لا امتناع فيه على الشرط المقدّم.
وإن كان مالُ القراض عُروضاً، فأراد الوارث مع العامل أن يقرر العقد عليها، فقد ذكر العراقيون والقاضي في جواز ذلك وجهين: أما المنع، فبيِّنٌ؛ فإن هذا ابتداءُ القراض، وأما التجويز، فلست أرى له وجهاً، مع القطع بانفساخ القراض أولاً.
ومن يذكر الوجهين في هذا المقام يلزمه طردُهما فيه إذا فسخ القراض في الحياة، ثم طلب تجديده على موجب العقد الأول، وهذا بعيدٌ.
ومن أصحابنا من قطع القولَ بمنع [هذا] (2) إذا جرى الفسخُ والإعادة في الحياة، وخصص الوجهين بما يُبنى على الموت، والانفساخ الحاصل [به] (3) .
ولم يختلف الأصحاب أن القراض إذا انفسخ بطريان الموت، أو بإنشاء الفسخ، فينقطع حكم القراض الأول.
وبيانه أنا كنا (4) نرى الربحَ الحاصلَ وقايةً لما يتوقع من خسران، ونقصان، والآن إذا جُدّد العقدُ، فالعامل شريك في المال ولا يصير حقُّه من الربح وقاية [للمال وعرضةً] (5) لجبر الخسران، نعم، لو فرض ربحٌ جديد في العقد المجدّد، فهو الذي يكون وقاية لرأس المال في هذا العقد المستفتح؛ وذلك أنا لا نشك في ارتفاع العقد الأول، والاحتياج إلى تجديد عقدٍ آخر إن أرادا تجديده، وإنما تساهل الأصحابُ في لفظ التقرير. وتجويزُ التجديد، والمالُ عروض مجاوزةٌ للحد، وتركٌ لركن العقد.
__________
(1) في الأصل: رأيت الأصحاب.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) ساقطة أيضاً من الأصل.
(4) (ي) ، (هـ 3) : إذا كنا نرى.
(5) في الأصل: الحال، وعوضه.(7/491)
4915- مما يتعلق بما نحن فيه أن المقارض إذا مات، وكان قد [ظهر] (1) في المال ربح قبل الموت، فحق العامل في ذلك الربح مقدَّم على الديون والوصايا، وحقوقِ الورثة، سواء قلنا: إنه يملك ما شُرط له بالظهور، أو يملك عند المفاصلة؛ فإن حقه متعلق بالعين، لازمٌ، لا يصادمه دينٌ ولا وصية.
قال الأصحاب: إن جعلنا العاملَ مالكاً لما شُرط له، فلا كلام، وإن لم نجعله مالكاً في الحال (2) ؛ فحقه المتعلِّق بالعين آكدُ (3) من حق المرتهن المستوثِق بالرهن، ثم حق المرتهن مقدَّم، فحق من استحق التملكَ أولى بالتقدم.
4916- هذا كله فيه إذا مات رب المال، فأما إذا مات العامل، فلا شك في انفساخ القراض بموته، فلو أراد ربُّ المال أن يبتدىء عقداً مع وارث العامل، وكان المال ناضّاً، جاز ذلك.
وإن كان عُروضاً، فقد اتفق الأصحاب على منع إعادة العقد عليها في هذا الطرف. وهذا متَّجه.
وإنما المشكلُ ذكرُ الوجهين في الطرف الأول، وقد تكلف بعض الأصحاب فَرْقاً، فقال: المعقود عليه (4) من المقارِض رأسُ المال، وقد انتقل هو بعينه إلى الوارث، وخلَفه فيه، فلا يبعد مع هذا حكم البناء.
والمعقود عليه من جانب العامل العملُ، وقد انقطع العمل بموته، ولا خلافة فيه.
وهذا تكلف لا أصل له، مع القطع بأن العقد ينفسخ بموت رب المال، وإنما كان هذا فقهاً، لو ساغ المصير إلى الحكم بدوام العقد، فإذا لم يكن كذلك، فلا اتجاه للالتفات (5) إلى البناء، ولا بناء. وإنما القدرُ المحتمل ما يتعلق باللفظ، كإقامة
__________
(1) في الأصل: يظهر.
(2) (ي) ، (هـ 3) : المال.
(3) (ي) ، (هـ 3) : أقوى.
(4) (ي) ، (هـ 3) : المعقود عليه -إذا مات رب المال- رأسُ المال، وقد انتقل.
(5) (ي) ، (هـ 3) : فلا اتجاه إلا الالتفات على البناء، وإنما القدر ...(7/492)
التقرير مقام لفظ التجديد والابتداء، ومن تعدى ذلك إلى حكمٍ، فقد خرج عن قالَب الفقه.
4917- ومما يتعلق بهذا الفصل أن العامل إذا مات والمال ناض، ولا ربح، فتصوير ابتداء القراض مع الوارث هيّن.
وإن كان المال ناضاً، وفيه ربحٌ، فوارث العامل شريك في المال، فإذا فُرض ابتداء القراض معه، فقد صححه الأصحاب، وهذا على التحقيق إيراد القراض على مالٍ شائعٍ، ليس متعيناً في نفسه (1) ، وأطبق الأصحاب على جوازه.
وفي هذا فضل نظر عندنا، فإنا ذكرنا في كتاب الشركة أن الشريكين إذا كان بينهما دراهم على التنصيف ملكاها إرثاً مثلاً، فإذا عقدا عقد الشركة، فمقتضاها قسمة الربح على مقدار الملك في رأس المال، فلو فوض أحدُهما التصرفَ إلى الآخر، وشرط له مزيدَ ربحٍ بسبب انفراده بالعمل، فقد ذكرنا في ذلك تردداً في كتاب الشركة، وهذا أوانُ كشفِ القول فيه.
فالذي أراه أن أحد الشريكين إذا ترك العمل بالكليّة إلى شريكه، ورفع اليد عن ملك نفسه، وجرى مع الشريك على الشرائط المرعية في القراض، فيجب والحالة هذه القطعُ بإثبات حكم القراض، وكأن الشريك قارضه على نصيب نفسه من المال، وقد ذكرنا أن الشيوع لا يمنع صحةَ القراض، وسنذكر في ذلك أمثلةً بعد هذا، إن شاء الله.
وإذا كان كذلك، فمن ضرورة القراض أن ينفرد العاملُ بربحِ نصيبه، ويكون مقارضاً في نصيب شريكه، ومن حكم كونه مقارضاً أن يكون ربح ذلك [النصيب] (2) مقسوماً بينهما على جزئيةٍ، ونسبةٍ يتوافقان عليها، فلست أرى لذكر الخلاف وجهاً في هذه الصورة، إلا إن تشبث متشبث باشتراط كون رأس المال متميزاً غير شائع، ولم أر أحداً من الأصحاب يصير إليه، أو يتشبث به.
وأنا أقول: لو كان المال بينهما نصفين، وسُلِّم العمل على شرط القراض لأحدهما، على أن يكون الربح نصفين، فهذه معاملة فاسدة، وهي بمثابة ما لو شرط
__________
(1) هنا خرم في نسخة (ي) ، مقداره (لَقْطة) واحدة.
(2) في (هـ 3) : "النصف".(7/493)
رب المال على العامل أن يكون جميع الربح في رأس المال له. والذي أراه ما ذكره الأصحاب من الوجهين فيه إذا انفرد أحدهما بمزيد عمل، ولم ينفرد بكلِّه، ولم ترتفع يدُ الشريك عن نصيبه، فإذ ذاك يظهر تمحّضُ حكم الشركة.
ومن أصحابنا من احتمل فيه التفاوت في الربح؛ شرطاً لمصلحة تتعلق بالشركة على طريقة التبعية، من غير رعاية أركان القراض.
فعلى هذا يقوى المصير إلى رد الأمر إلى موجب الشركة، وإبطال اتباع الشرط.
هذا تمام البيان في موت رب المال والمقارَض، وعلينا بعدُ بقيةٌ في موت العامل سنذكره في غرض آخر بعد هذا، إن شاء الله وحده.
فصل
قال: "وإذا قارض العاملُ بالمال ... إلى آخره" (1) .
4918- إذا جرى قراض صحيح وتسلّم العاملُ المالَ، وأراد أن يقارض رجلاً آخر، نظر: فإن فعل ذلك بغير إذن رب المال، لم يكن له هذا، فإنّ إقامة العامل غيرَه مقامَ نفسه مستقلاً بذاته تتنزَّل منزلةَ نَصْب الوصي وصياً، على معنى إقامته غيرَه مقام نفسه في جميع ما هو منوطٌ به، وهذا يمتنع في الوصاية المطلقة، وكذلك يمتنع أن ينصب الوصي بعد موت نفسه وصياً، إذا لم يثبت له ذلك، والوكيل في الشغل الخاص لا ينصب وكيلاً؛ فالمقارَض إذا نصب مقارَضاً، بمثابة الوكيل في الشغل الخاص ينصب وكيلاً، ثم إذا أفسدنا ذلك من العامل، فليس قولنا فيه على قياس قولنا في فساد القراض الصادر من المالك، وسبب الفساد إخلالٌ بشرط، فإنا ننفذ تصرفَ العامل (2) بناء على إذن المالك، و [نرد] (3) أثر الفساد إلى غرض القراض، والعاملُ إذا نصب عاملاً من غير إذن المالك لم ينفذ (4) تصرف العامل الثاني؛ فإنه ليس مأذوناً من
__________
(1) ر. المختصر: 3/64.
(2) أي في القراض الفاسد الصادر من المالك.
(3) في الأصل: ومردّ.
(4) وهذا هو الفرق بين هذا الفساد وذاك.(7/494)
جهة المالك، وتصرُّفُه في مال القراض -ولا إذن من المالك- كتصرف الغاصب، وسنعود إلى ذلك الآن في أثناء الفصل، إن شاء الله.
4919- هذا إذا قارض العامل رجلاً من غير إذنٍ من المالك.
فأما إذا أذن المالك للمقارَض الأول أن يقارض رجلاً، فهذا ينقسم معناه: فإن أراد بهذا الإذن أن ينسلخ المقارَضُ عن حكم القراض، وينتهض وكيلاً في معاملة إنسان، فهذا جائز، والمقارَض الأول إذا أراد ذلك في حكم السفير عن المالك، وحكم القراض بين المالك والعامل الثاني، ولا يجوز والمسألةُ مفروضةٌ كذلك أن يشترط المقارَض الأولُ لنفسه شيئاًً من (1) الربح؛ إذا (2) لم يعمل؛ فإنَّ استحقاق الربح يترتب على ملك رأس المال، أو على عملٍ فيه، ولم يوجد من الأول ملْكٌ ولا عملٌ، فشرْطُ شيءٍ من الربح له بمثابة شرط جزء من الربح لأجنبي، وقد أوضحنا
فساد ذلك فيما تقدم، وإن كان يعتقد جوازَ شرْط شيء من الربح له؛ من حيث إنه يسعى في تحصيل العمل بنصب العامل، فهذا طمعٌ في غير مطمع؛ فإنّ ربح القراض لا يستحق إلا بعمل القراض، وليس نصبُ المقارَض من عمل القراض، وقد حققنا هذا في أركان القراض.
هذا وجهٌ في تصوير صدور الإذن من المالك في نصب عامل آخر، وقد يُتصور ذلك على وجهٍ آخر، وهو أن يعامل المالك رجلاً والربح بينهما نصفان، ثم يقول للعامل: إن أردت أن تشرك مع نفسك عاملاً، وتجعل ما شرطتُ لك من الربح بينك وبينه على ما تتوافقان عليه [فافعل] (3) ، فالذي أشار إليه اختيار الأئمة أن ذلك ممتنع؛ فإنه لو جاز ذلك، لكان العامل الثاني فرعَ الأوّل، والأولُ ليس مالكاً لشيءٍ من رأس المال، ونصيب العامل على ما سيثبُتُ من الربح ليس على موجَب الشرع، وهذه معاملة يضيق فيها مجال القياس، ووضْعُ القراض على أن يكون أحد المتعاقدين مالكاً لرأس المال لا عمل من جهته، والثاني صاحبُ عملٍ لا ملك من جهته.
__________
(1) إلى هنا انتهى الخرم في نسخة (ي) .
(2) كذا في النسخ الثلاث: "إذا" وهي بمعنى (إذْ) .
(3) ساقطة من الأصل.(7/495)
ومن أصحابنا من جوز القراض بإذن المالك على هذه الصورة (1) ، وقال: كأن المالك نصب مقارَضَيْن في ابتداء الأمر، ولو فعل ذلك، لم يمتنع، وربما نذكر ذلك [مشروحاً] (2) في الفروع، إن شاء الله تعالى.
ثم من جوّز هذا [يفرض] (3) الأمرَ في اشتراكهما في العمل؛ فأما أن يفوِّض أحدُهما العملَ بكلّيته إلى الثاني ويطمع في شيء من (4) الربح، فلا سبيل إليه أبداً؛ لما صورناه؛ فإن استحقاق الربح من غير ملك، ولا عمل محالٌ.
هذا قولٌ كُلِّيٌّ في تصوير الإذن من المالك في مقارضة العامل رجلاً آخر.
4920- ونحن نعود إلى مقصود الفصل، والمعنى الذي ساق الشافعيُّ الكلامَ له فنفرض فيه إذا عامل المقارَض ثانياً من غير إذنٍ من المالك، ونقول فيه أولاً: هذا عدوانٌ متضمنٌ للضمان، فإذا سلّم المالَ إلى العامل الثاني، ارتبط الضمان به، ثم لا يخلو هذا الثاني: إما إن يكون عالماً بحقيقة الحال، وإما أن يكون جاهلاً: فإن كان عالماً؛ فغاصبٌ على التحقيق ضماناً وغُرْماً، وإثماً، ثم لو تلف المال في يده على علمه؛ فالضمان مستقر عليه استقراره على الغاصب من الغاصب، ورب المال بالخيار إن شاء طالب الأول، وإن شاء طالب الثاني، فإن طالب الثاني، استقر الضمان، ولا مرجع للثاني على الأول. وإن طالب الأول، فله ذلك، ثم يرجع هو على الثاني؛ إذ عليه قرار الضمان.
وإن كان العامل الثاني جاهلاً بحقيقة الحال، معتقداً أن العامل الأول مالكٌ، فحكم الضمان، والتراجع، [والقرار] (5) على ما قررناه في كتاب الغصوب، في الأيدي المترتبة على يد الغاصب، مع اعتقاد كون الغاصب مالكاً. وقد أوضحنا من طريقة المراوزة أن كلَّ يدٍ لو ترتبت على يد المالك كانت يدَ أمانة، فإذا ترتبت على يد
__________
(1) (ي) ، (هـ 3) : الصيغة.
(2) في الأصل: مشروعاً.
(3) في الأصل: فيفرض.
(4) (ي) ، (هـ 3) : في ثبوت الربح.
(5) في الأصل: والمقدار.(7/496)
الغاصب، تعلّقت الطَّلِبة بها، ولكن ليست يدَ قرار الضمان. وذكرنا للعراقيين في ذلك اختلافاً وترتيباً.
فالمقارَض إذن على رأي المراوزة لا يستقر الضمان عليه فيما يتلف في يده؛ لأن يده يدُ أمانة. والعراقيون ذكروا في قرار الضمان عليه وعلى غيره خلافاً.
4921- وهذا الذي ذكرناه من فصل الضمان ليس مقصودَ الفصل، بل اعترض فرمزْنا (1) إليه، وأحلناه على ما بيّناه في الغصوب (2) . وإنما مقصود الفصل ما نبتديه الآن، ونذكر مقدمةً للمسألة قائمةً بنفسها. نقول (3) :
إذا غصب رجل دراهمَ، وتصرَّف فيها، وظهرت أرباحٌ في ظاهر الحال، أو تصرف المودَع على خلاف الإذن، وربح، فإذا فعل ذلك، فهو غاصب، فالمنصوص عليه للشافعي في الجدبد، وهو القياس الذي لا حَيْد فيه أن تيك التصرفات إن وردت على الأعيان المغصوبة، فهي منقوضة، وإن تعددت، وبلغت مبلغاً يعسر تتبعها، وإن كانت الأعيان المغصوبة قائمةً، فهي مستردّة، والبياعات الواردة عليها فاسدة، والأعيان [المأخوذة] (4) في مقابلتها مردودة على ملاكها.
هذا في التصرف الوارد على العين.
ولو اشترى الغاصب في ذمته شيئاً، وأدى الثمنَ من الدراهم التي غصبها، فبَيْعُ المتاعِ في الأصل واقع للغاصب؛ [إذْ] (5) ورد على الذمة؛ وتأديةُ الثمن من الدراهم المغصوبة عدوان، وتلك الأعيانُ متَّبعةٌ (6) مستردةٌ حيث تُلْفَى (7) ، على قاعدة الغصب.
وإذا ملك الغاصب ما اشتراه في الذمة، ثم ارتفع السعر، وباعه، فالربح له؛ فإنه
__________
(1) (ي) ، (هـ 3) : فنبرنا.
(2) (ي) : العقود، (هـ 3) : الفصول.
(3) في (ي) ، (هـ 3) : ونقول.
(4) في الأصل: الموجودة.
(5) في الأصل: إذا. والمثبت من (ي) ، (هـ 3) .
(6) (ي) ، (هـ 3) : متتبعه.
(7) أي حيثما وجدت، جرياً على قاعدة الغصب.(7/497)
ربح على ملكه الصحيح. وهذا هو القياس الذي لا يخفى مُدركه.
ونصَّ الشافعي في القديم على أن الغاصب إذا تصرف في الدراهم المغصوبة، واتفقت أرباحٌ بسبب تصرفه، فإنه (1) يُجيز تلك التصرفات، ويفوز بالأرباح، واعتمد في ذلك مصلحة كلّية؛ من جهة أن تتبُّعَ التصرفات الكثيرة في الأمتعة التي تداولتها الأيدي، وتشتتت في البلاد عَسِرٌ، وقد لا يُوصَل إليه، هذا وجه (2) . والآخر (3) : أنَّا لو لم نجوّز هذا، فقد يتّخذ الغضابُ ذلك ذريعةً إلى تحصيل الأرباح؛ فإن الشراء في الذمة، ونقْد الثمن من الدراهم المغصوبة متيسّرٌ لا عسر فيه.
4922- وهذا القول ينتشر تفريعه، ونحن نبذل المجهودَ في الجمع، فنقول أولاً: التصرف الذي أورده الغاصب على الذمة يُجيزه المالك إذا كان النقد من دراهمه، ويتوصّلُ إلى الأرباح؛ فإن المعتمد في هذا القول اتّخاذُ الدراهم المغصوبة ذريعةً إلى تحصيل الأرباح (4) ، وهذا ينطبق على إيقاع الشراء في الذمة قصداً، مع بناء الأمر على أداء الثمن من الدراهم المغصوبة، فقد اتّفق الأصحاب على جريان الإجازة في عقود الذمة على هذا القول، كما قالوا بجريانها لو أورد الغاصب التصرف على الأعيان المغصوبة.
وهذا في عقود الذمة على نهاية الإشكال؛ فإن عقد الذمة -إذا لم يصدر عن إذنٍ- منصرفٌ إلى العاقد، ويعظم تفريع الأصول الفاسدة الحائدة عن النسق.
واختصاص مذهب الشافعي بإمكان التفريع سببُه التزامه الجريانَ على الأصول، فإذا فرض حَيْدٌ اضطرب تفريع المذهب، ولم يحتمل مذهب الشافعي ما يحتمله غيره من المسالك المبنية على الميل عن الأصول.
4923- ثم يعترض الآن أمور نرسلها: منها أن معظم أقوال الأصحاب مصرَّحةٌ بأن المالك بالخيار في الإجازة. ومضمونُ هذا أنه إن لم يُجز العقودَ، لم تجز، وانقلب
__________
(1) فإنه: الضمير يعود على المالك، أي أن المالك يُجيز تلك التصرفات، ويأخذ الأرباح المترتبة عليها.
(2) هذا وجه: أي من وجوه ترجيح هذا القول القديم.
(3) أي الوجه الآخر من وجوه الترجيح، فليس المراد ما يتبادر من أن الوجه (الآخر) قسيم للوجه الأول، وعلى عكسه.
(4) أفاض الرافعي في الشرح الكبير في هذه المسألة: 12/42-48 (بهامش المجموع) .(7/498)
التفريع إلى قياس القول الجديد في اتباع العقود وأعيان الأموال على موجب الشرع (1) .
وذهب بعضُ (2) المحققين إلى أن هذه العقود نافذةٌ كذلك، غيرُ موقوفة لتعذّر (3) التتبع، وفي كلام القاضي إشارة إلى هذا. وهو بعيد، ووجهه على بعده أنا إن خرّجناه على الوقف، فكيف نقف عقود الذمة، ومعلوم أن عاقدها لم يقصده بها، وهذا وقف لا عهد به، فليتأمل الناظر ذلك، وليعلم أن هذا القول البعيد فيه إذا ظهرت أرباح، فإن لم يظهر، فلا مساغ لهذا القول، وليس إلا اتباع القياس.
واختلف جواب أئمتنا المفرعين على القول فيه إذا لم تكثر العقود، وسهل الوصول إلى تتبعها، فقال قائلون: القول القديم يجري، وإن (4) كان الأمر كذلك؛ فإن النظر إلى الكثرة والقلة وإمكان التتبّع عسيرٌ، لا يهتدى إليه، والأمر المتبع في الباب ظهورُ الربح.
وكان شيخي يحكي عن شيخه القفال أن العقود إذا كثرت، وعسر اتباعها، ووجدنا الأثمان عتيدة، ولا ربحَ، فهذا القول يجري، وإن تخللت عقودُ ذمة.
4924- فحصل من مجموع الكلام أن العقود إذا كثرت، وحصل ربحٌ، جرى القولُ القديم، والتردد بعده في وقوف الأمر على الإجازة، أو وقوع [العقود] (5) كذلك من غير حاجةٍ إلى إجازة. وإن أمكن تتبع العقود على يسر وقد حصل (6) ربحٌ، فوجهان، وإن كثرت العقود وعسر التتبع ولا ربح، فوجهان. وإن لم يكن ربحٌ، وأمكن التتبع، لم يجر القول القديم. هذا هو الترتيب الحاوي.
وفيه سر، وهو أنا ذكرنا قولاً للشافعي في وقف العقود موافقاً لمذهب أبي حنيفة،
__________
(1) عبارة (هـ3) ، (ي) : "على موجب الشرع على القياس".
(2) (ي) ، (هـ 3) : معظم.
(3) (ي) ، (هـ 3) : لبعد.
(4) (ي) ، (هـ 3) : فإن.
(5) في الأصل: العقد.
(6) (ي) ، (هـ 3) : تحقق.(7/499)
وذلك القول يجري على شرطه و [خاصية] (1) القول القديم في عقد الذمة إذا لم يقصد العاقد بها المغصوب منه.
4925- ومن تمام البيان في ذلك أن الغاصب لو قال: نويت بالشراء المغصوبَ منه، فقياس قول الوقف المعروف يجري هاهنا؛ فإن العقد عندنا يقف إذا فرعنا على الوقف في جانب الشراء، كما أنه يقف في جانب البيع. ولو قال مشتري السلعة: نويتُ بالعقد نفسي، أو أطلقتُه، فالمفرع على القول القديم، لا يبالي به؛ فإن معوَّلَه قطعُ الذريعة، وهذا إنما يتحقق إذا لم نبُالِ بقصده؛ فإنه ليس يعسر عليه أن يقصد (2) نفسه أو يطلق.
والذي أراه في هذا أنه لو اشترى شيئاً في ذمته، ولم يخطر له أن يؤدي الثمن من الدراهم المغصوبة، ثم سنح له هذا من بعدُ، فينبغي أن يخرج هذا من تفريع هذا القول، إن صدقه صاحب الدراهم، وإن لم يصدقه، فالذي يقتضيه القياس في التفريع على هذا القول أنَّ تصرفه يقع لصاحب الدراهم، كما قدمناه، وقد يعترض في ذلك فرضُ نزاعٍ بين المتصرف، وبين صاحب الدراهم بأن يقول المتصرف: قد عرفتَ أن ابتياعي لهذا لم يكن على قصد تأدية الثمن من دراهمك، ولا يكاد يخفى فصْلُ هذه الخصومة، وليس على مالك الدراهم إلا أن يحلف لا يعلم ذلك منه. وهذا قد يظهر في أداء [الثمن] (3) من الوديعة.
ولم يبق في تفريع هذا القول الفاسد شيء، والأصل مضطرب، والتفريعاتُ مختبطة.
4926- فإذا تمهد هذا عدنا إلى صورة القراض في غرض الفصل: فإذا سلَّم رجل إلى رجل ألفَ درهم قراضاً، فقد ذكرنا أنه ليس له أن يستبد بمقارضة إنسانٍ دون مراجعة المالك، فإذا فعل، وسلم المالَ إلى المقارَض الثاني، وعمل الثاني، وربح
__________
(1) في الأصل: وخاصيته.
(2) (ي) ، (هـ 3) : ينوي.
(3) في الأصل: الدين.(7/500)
على تقدير أن المالك هو المقارض الأول، فلا شك أن الأول ضامنٌ غاصب، وكذلك الثاني، والتصرفات التي جرت من العامل الثاني لا تقع عن المالك الأصلي على القول الجديد، فإن ما كان منها على عين المال مردود باطل، وما كان على الذمة، فلا ينصرف إلى المالك، ولكنه ينصرف إلى المقارَض الأول؛ فإنه هو الآمر الموكّل في حق الثاني، والثاني ينويه بتصرفات الذمة، ولا يكاد يخفى تفريع القول الجديد، وإنما الغرض تفريع القراض على القول القديم.
فالذي نقله المزني عن الشافعي في (السواد) (1) وهو الذي فهمه الأئمة من نقله:
أن المالك لو قارض الأول على [شطر] (2) الربح، ثم قارض الأولُ الثاني على شطر الربح، فإذا نفذنا عقود المقارَض الثاني، وتصرفاته، وخرّجناها على حكم الصحة، فالمالك يسترد رأسَ المال، ويأخذ نصفَ الربح لجهة القرض، ثم المقارَضُ الأول والثاني يقتسمان النصف الباقي نصفين.
هذا جواب الشافعي على القول القديم، وأصل هذا القول مشكلٌ، لا يستريب الفقيه في ميله عن القياس، وهذا التفريع مائل عن قياس القول القديم. ولا يتضح الغرض إلا بأسئلة وأجوبةٍ عنها.
4927- فإن قيل: قياس القول القديم تنفيذُ التصرفات الواقعة على خلاف الإذن للمالك، وصرف جميع الأرباح إليه، وقد أوضحنا أن المقارَض الثاني في حكم الغاصب، والغاصب إذا تصرف في المال المغصوب نفذت تصرفاتُه، وانصرفت أرباحها إلى المالك. هذا سؤالٌ متّجهٌ.
ولكن يجوز أن يقال: نحن إنما نصرف عقودَ الذمة إلى المالك من غير إذن منه على خلاف القياس قطعاً، لتذرعّ الغصاب إلى التصرف في الأموال المغصوبة بوسائط عقود الذمة، فإذا كنا نرعى حق المالك، ونخالف القياس في صرف عقود الذمة إليه، فإذا تقدم منه الرضا [بشطر] (3) الربح ابتداءً، لم نزد له على ما رضي، ولم نخالف
__________
(1) السواد: هو مختصر المزني، كما سبق ذلك مراراً وتكراراً. وهذا النقل من المختصر: 3/64.
(2) في الأصل: شرط.
(3) في الأصل: بشرط.(7/501)
القياسَ على خلاف رضاه، فهذا وجهُ دفع هذا السؤال.
فإن قيل: لم صرفتم شيئاً من الربح إلى المقارَض الأول، ولا ملك له في رأس المال، ولا عمل من جهته، والربح إنما يُستحق لجهتين: إحداهما - ملكُ رأس المال. والثانيةُ- العملُ على شرط الشرع؟ قلنا: معظم عقود القراض تقع على الذمة، والمقارَض الثاني تصرف على اعتقاد أن المقارَض الأول هو المالك، وكان ينويه بتصرفات الذمة، والقياسُ يقتضي وقوعها عنه، ثم الأرباح تتبع في منهاج القياس الملكَ في السلع، فاتجه صرف جميع الربح في عقود الذمة إلى العامل الأول، ولكنا في التفريع على القول القديم امتنعنا عن إجراء القياس مصلحةً للمالك الأصلي، وقطعاً للذريعة، كما تمهد، فلم يبعد إذاً صَرْفُ شيء من الربح إليه.
فإن قيل: إن صح هذا، فلا تصرفوا شيئاً من الربح إلى العامل الثاني، فإن حاله كحال المقارض مقارضة فاسدة. قلنا: إذا أشرنا إلى تأصُّل المقارض الأول؛ فقد جرت منه معاملةٌ مع الثاني، وإذا كنا نجيز التصرفات الفاسدة في القياس، احتمل هذا المسلكُ الوفاءَ للعامل الثاني.
فإن لجَّ السائلُ وقال: تَدْوارُكم على عقود الذمة، فيلزمكم أن تخالفوا هذا القياسَ في العقود الواردة على الأعيان. قلنا: مبنى هذا القول على التسوية بين تصرف العين والذمة، [ثم] (1) يقع من قياس انصراف عقود الذمة إلى المقارض الأول تصرفاتٌ على تلك الأعيان التي يقتضي القياس وقوعها له، ومبنى هذا القول على ترك البحث وإجراء الأمر على ظواهر الحال؛ إذْ لو كنا نبحث عنها، لما قلنا بالقول القديم أبداً؛ فأقصدُ الطرق إجراء الربح على ما قاله المزني تفريعاً على القديم. هذا مع علمنا بأن هذا القولَ فاسدٌ من أصله، وإنما نلتزم تقريبَ القول على قاعدة القول القديم (2) في الخروج عن هذه الإشكالات. والذي ذكرناه أفضى للإشكال.
__________
(1) في الأصل: لم.
(2) عبارة الأصل: القول القديم ثم في الخروج عن الإشكالات. (بزيادة "ثم") والمثبت عبارة (هـ 3) ، (ي) .(7/502)
4928- ثم نقول بعد ذلك: إذا انكشف السر، وظهر الأمرُ، وقد عمل المقارَض الثاني على أنَّ نصف جميع الربح له، ثم لم يسلم له إلا نصف النصف، فهل يرجع على العامل الأول؟ وكيف السبيل إلى قطع العلاقة والأمر على ما وصفناه؟
فالوجه أن نقول: أما نصف النصف، فيسلم له على القديم، وفي رجوعه على العامل الأول بنصف أجر مثل نفسه وجهان مشهوران: أحدهما - أنه يرجع عليه، لما نبهنا عليه من أن الوفاء بتمام النصف لم يُمكن، فقد تعطل شَطر عمله عن مقابل، فالوجه إثبات شطر أجر مثله على العامل الأول.
وهذا له التفاتٌ على قاعدة التغرير ونُزوعٌ إليه.
والوجه الثاني - أنه لا يستحق إلا ما سلّم له من الربح؛ فإن الجمع بين حكم الصحة والفساد متناقض، وصرفُ جزءٍ من الربح إلى العامل [من] (1) حكم الصحة، وإثبات أجر المثل حكم الفساد، فلا سبيل إلى الجمع. هذا بيانُ تردد الأصحاب.
وذهب ذاهبون منهم إلى الفصل بين عبارة وعبارة، وقالوا: إن كان قال المقارَض الأول للمقارَض الثاني: خذ هذا قراضاً على أن ما رزق الله من ربحٍ، فهو نصفان بيننا، فإن كان اللفظ كذلك، لم يرجع العامل الثاني على الأول؛ لأن الله تعالى لم يرزقهما من الربح أكثر مما خصَّهما بالمقاسمة.
وإن كان قال: على أن الربح بيننا نصفان، ففي ثبوت رجوع الثاني على الأول وجهان كما تقدم.
وكان شيخي لا يفصل بين العبارتين؛ فإن العامل الثاني يفهم منهما تشطّر جميع الربح، ولو لم يفهم [هذا] (2) ، وتردد، كان ذلك مضاربةً على جهالة بجزئية الربح.
هذا تمام الغرض من هذا الفصل، وهو حسيكةُ الكتاب؛ لما فيها من الحَيْد عن قانون القياس. وشرطُنا بلوغُ أقصى الإمكان في كل فصل.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) ساقط من الأصل.(7/503)
فصل
قال الشافعي رضي الله عنه: "وإن حال على سلعةٍ في القراض حوْلٌ، وفيها ربحٌ، ففيها قولان ... إلى آخره" (1) .
4929- مقصود الفصل الكلامُ في أن الملك في الجزء المشروط من الربح متى يحصل للعامل؟ وفيه قولان للشافعي: أحدهما - أنه إذا ظهر الربحُ، مَلكَ العاملُ القسطَ المشروطَ له من الربح، ولم يتوقف ثبوتُ ملكه على المفاصلة.
والقول الثاني: أن العامل لا يملك ما شرط له بمجرد الظهور، حتى تنتهي المعاملة على ما سنصف انتهاءَها. وهذا اختيار المزني.
توجيه القولين على قدر الحاجة: من قال: يحصل الملك للعامل بظهور الربح، احتج بأنه يستحق الجزءَ المشروط له بالشرط، فيجب أن يملكه على مقتضى الشرط، ومقتضاه أن يملك من الربح إذا تحقق الربح الجزءَ المشروط له، وقد تحقق ظهور الربح، فإن كان استحقاق الربح مأخوذاً من موجب الشرط، فهذا موجب الشرط، ولا نعرف له مأخذاً سوى ذلك، ثم لا يمتنع مع استحقاق ما سمي له أن يبقى عليه عملٌ بعد الاستحقاق.
ومن قال بالقول الثاني، اعتمد في نُصرته مسلكين: أحدهما - أن العامل لو ملك ما شرط له عند ظهور الربح، لصار شريكاً في المال، ثم يلزم من ذلك أن يقال: لو فُرض نقصان، لشاع في جميع المال. فإذا قيل: النقصان مُنحصرٌ في الربح، والربح وقايةُ رأسِ المال، دل ذلك على أن الملك غيرُ ثابتٍ للعامل، ولا يلزم عليه [حصة] (2) المالك، فإن زيادة ملكه (3) إن كانت وقاية لماله، لم يمنع ذلك، والمشروط للعامل ليس زيادةً في حقه، بل هو عوض كدّه وعمله، هذا مسلك في التوجيه.
__________
(1) ر. المختصر: 3/64.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) (ي) ، (هـ 3) : ماله.(7/504)
والمسلك الثاني - أن العمل في القراض غير مضبوط، وهو مذكور [في] (1) معاملة جائزة، فكان كالجُعالة، وحكمها أن لا يثبت استحقاق الجُعل فيها إلا عند نجاز العمل، وعمل المقارَض لا ينتجز بظهور الربح.
التفريع على القولين:
4930- إن قلنا: لا يملك العامل ما شرط له بالظهور، فرأس المال والربحُ بكماله ملكُ ربّ المال. وفرع الأئمةُ على هذا القول وجوبَ الزكاة عليه إذا كان المال زكاتياً، وانقضى (2) الحول. وقد استقصيتُ تفصيلَ القول في زكاة مالِ القراض على أحسن مساقٍ في بابٍ من كتاب الزكاة.
ثم إذا فرعنا على ذلك، لم يملك رب المال أن يبطل حق العامل من القسط المشروط له، ولا خلاف في ثبوت حق العامل، وإنما الكلام في أنه ملكٌ أو حقُّ ملك.
ومهما (3) ظهر الربح، فللمقارض أن ينكفَّ عن العمل، ويسعى في تنضيض مقدار رأس المال، حتى يأخذ حصته من الربح، هذا ثابت له، لا سبيل إلى إبطاله عليه.
ولو أتلف ربُّ المالِ المالَ كلَّه: الأصلَ، والربحَ، فيغرَم للعامل حصَّتَه من الربح وفاقاً، والسبب فيه أن الإتلاف في هذه المنازل بمثابة القبض المحسوس، وإذا استرد ربُّ المال رأسَ المال والربحَ، ملك العاملُ حصتَه من الربح، والإتلات بمثابة الاسترداد.
وكذلك نقول لو مات المقارَض بعد ظهور الربح وقبل التفاصل، فورثتُه في طلب المشروط من الربح ينزلون منزلة الموروث.
4931- ومما يتفرع على ذلك أن المال لو كان جارية، فلا يحل لرب المال وطؤها، وإن قلنا: إنه مالك الأصل والربح؛ فإنا لا ننكر مع ذلك ثبوتَ حق العامل في المقدار المشروط له.
__________
(1) في الأصل: " من ".
(2) عبارة (ي) ، (هـ 3) : وقد انقضى القول فيه، واستقصيت.
(3) ومهما: بمعنى: وإذا.(7/505)
وقد قال القاضي والمحققون: لو اشترى المقارضُ جارية برأس المال، ولم يظهر الربح بعدُ، فليس لرب المال أن يطأها، واعتلّوا [بأنا] (1) لا نتحقق انتفاء الربح في المتقوّمات وإنما الاطلاع على نفي الأرباح وإثباتها بأن تنض.
وهذا فيه فضل نظر.
ولعل الوجهَ أن يقال: إن كان الربح ممكناً فيها، فالتحريم كما ذكره الأئمة، وإن تحققنا أن لا ربح -وقد نستيقن ذلك عند انحطاط قيمتها بعد الشراء- فتحريم وطئها على مالكها بعيدٌ. ويمكن أن يخرّج على أن العاملَ لو طلب بيعَها، وربُّ المال يأبى، فهل يجب إسعاف العامل بما يطلبه؟ فيه خلافٌ قدّمناه: فإن أوجبنا إسعافه، فقد أثبتنا له عُلقةً مستحقةً فيها، فيحرم الوطء بها، وإن لم نُوجب إسعافَه، ولا ربح، والسيد مهما أراد، فَسَخ القراضَ، فلا يبعد تحليلُ الوطء والحالة هذه.
ثم رأيت [لشيخي] (2) تردداً في أنا إذا حرمنا الوطء، فلو وطىء ربُّ المال، فهل
يكون ذلك فسخاً منه للقراض؟ فعلى جوابين: الأظهر- أنه لا يكون فسخاً.
هذا مقدار غرضنا الآن في التفريع على أن العامل لا يملك ما شرط له من الربح بالظهور.
4932- فأما إذا قلنا: يملك العامل ما شُرط له، فلا يتسلط على أخذه استرداداً حتى يحصل تنضيضُ رأس المال، ولا يملك التصرفَ فيه، والسبب فيه أن المعاملة مادامت قائمةً، فالربح وقايةٌ لرأس المال، حتى لو فرض نقصانٌ أو خسرانٌ، انحصر ذلك في الربح، فلا ينتقص من رأس المال شيء ما دام بقي من الحصتين شيء -وإن قلّ- فالربح بجملته وقايةٌ لرأس المال، وهذا الحق راجع إلى رب المال.
فكأنا وإن (3) ملكنا العاملَ ما شرط له من الربح، فلسنا نقطع عن نصيبه حق الوقاية، وكمالُ الربح على القول الأول ملك رب المال، وللعامل في القدر المشروط
__________
(1) في الأصل: بأن.
(2) في الأصل للشافعي. وهو وهم من الناسخ، دلّ عليه السياق، وأكده تصريح الرافعي بأن التردّد من الشيخ أبي محمد. انظر فتح العزيز: 12/60.
(3) ساقطة من (ي) ، (هـ3) .(7/506)
له حق التملك. و [على القول الثاني] (1) ملَّكنا العامل عند الظهور الجزءَ المشروطَ له من الربح، ولرب المال فيه حقُّ الوقاية، فليس للعامل أن يستبد بالتصرف ويكون قاطعاً لحق رب المال.
ثم إذا نضَّ مقدارُ رأس المال، وانفسخ القراض، ورجع رأس المال إلى تصرف المالك، فهذا هو النهاية التي يستقر عندها ملك العامل على نصيبه من الربح.
ولو اتفق نُضوض المال، والعامل متمادٍ على العمل، ولم يطرأ ما يوجب انفساخَ القراض، فالكلام في ثبوت الملك للمقارَض في القدر المشروط له يُخرّج على القولين.
ولو انفسخ القراض والمال عروضٌ، فقد ذكرنا التفصيل في أن العامل هل يجبر على التنضيض؟ فإن حكمنا بأنه لا يجبر عليه، وقد ارتفع القراض، فهل يُقضى بثبوت الملك للعامل قولاً واحداً؟ وهل (2) يُقضَى باستقرار حقه؟ فعلى وجهين: أحدهما -[أنا] (3) لا نحكم بالاستقرار، ولا نقطع القول إلا بأحد أمرين: أحدهما - تنضيض رأس المال. والثاني - الاقتسام من غير تنضيض، فإذا بقيت العروض ولم يجر فيها اقتسام، فالقول في الربح كالقول فيه قبل انفساخ القراض. [والوجه الثاني- أنه يحكم باستقرار حكم العامل] (4) .
التفريع على هذين الوجهين:
4933- إن حكمنا بأن القول في الربح على ما كان، فالربح بكماله يُعدّ وقايةً لرأس المال، وإن حكمنا باستقرار حق العامل، فيخرج المشروط له عن كونه وقاية، ويشيع النقصان -إن وقع- في جميع المال (5) ، شيوعَه في الأملاك المشتركة، وقد زال الربح ووقايته وآل الكلام إلى ملكٍ مشترك. وهذا كله تفريع على أنه لا يُجبر العامل على التنضيض.
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) في (ي) ، (هـ 3) : " أم هل ".
(3) في الأصل: لأنا.
(4) ساقط من الأصل.
(5) (ي) ، (هـ3) : رأس المال.(7/507)
ولو نضت العروض، وانفسخ القراض ولم يجر اقتسامٌ، فالمذهب الأصحُّ القطعُ باستقرار ملك العامل، ثم موجب الحكم باستقرار ملكه خروجُه عن كونه وقاية، ورجوع الأمر إلى التصرف في الأملاك المشتركة.
ومن أصحابنا من اعتقد أن القسمة بعد التنضيض من تمام عمل المقارَض، وهذا ضعيف لا شيء.
فخرج من مجموع ما ذكرناه أن القراض ما دام باقياً، فالربح على القولين، وحق الوقاية ثابت، سواء كان المال ناضّاً، أو عُروضاً.
وإن انفسخ القراض والمال عروض، نُفرع على أن العامل هل يجبر على بيعها؟ فإن قلنا: هو مجبر على البيع، فظاهر المذهب جريان القولين في الربح، وعدم استقرار حق العامل. وفيه وجه ضعيف أن حقه يستقر؛ فإنّ عملَ القراض قد انتهى لما انفسخ، وهذا واقع وراء المنتهى، تبعةً للعقد، وعُلقةً له.
وإن قلنا: إنه لا يجبر على تنضيض العروض، ففي المسألة [الوجهان] (1) وإن نضت العروض، ولم يبق إلا القسمة، فالمذهب استقرار حق العامل. فإن حصلت القسمة، لم يبق خلافٌ. وكذلك لو حصل التنضيض في مقدار رأس المال، ورُدّ إلى المالك، فالباقي -وإن كان عُروضاً- ملك مشتركٌ خارج عن قياس الأرباح، ويستقر فيها حق [العامل] (2) .
فهذا تمام البيان في ملك الربح، وما يتعلق به. والقول في الزكاة تقصَّيتُه على أحسن وجهٍ في كتابها.
4934- قال المزني: "هذه مسائل أجبت فيها عن معنى قوله، وقياسه:
من ذلك لو دفع إليه ألفَ درهم وقال: خذها، فاشترِ بها (هَرَويّاً) ، أو (مَرْويّاً) بالنصف، كان فاسداً ".
هذا لفظ المزني (3) . وقد اختلف أصحابنا في صورة المسألة، وسببِ الفساد:
__________
(1) في الأصل: وجهان.
(2) في الأصل: المالك.
(3) ر. المختصر: 3/66.(7/508)
فمنهم من قال: ما ذكره المزني من ذكر (الهرَوي) و (المرْوي) تنويعٌ منه للكلام، وفرضٌ للصورتين، مع ترديد الحكم فيهما. وليس ذلك الترديد من كلام المتعاملين، والمعاملةُ مفروضة مع الجزم في (الهروي) أو (المروي) ، وإذا كان كذلك، فقد حكم المزني بفساد القراض، فَمَحْملُ (1) الفساد في (2) مراده عند بعض الأصحاب أنه لم يُضف النصفَ إلى مستحقه، بل أطلق، وقال بالنصف. وقد قدمنا في بعض أركان القراض، أن رب المال لو قال: قارضتك على أن لك النصف، فالظاهر صحة [هذا] (3) اللفظ. وإن قال: على أن لي النصف، ولم يتعرض لإضافة النصف الثاني إلى العامل، ففي المسألة وجهان. واختيار المزني أن القراض لا يصح.
فإذا قال: قارضتك على أن تشتري الثيابَ الهروية بالنصف من الربح، فليس فيه إضافة إلى العامل، ولا إلى المالك، فلم يصحح المزني المعاملةَ.
وإذا كنا نجري على هذا التأويل، فالأكثرون من الأصحاب يخالفونه في الفساد، ويذهبون إلى صحة المعاملة؛ فإن المذهب الصحيح أنه لا فصلَ بين أن يسمي الجزءَ لنفسه، أو للعامل، ولعل إطلاقَ نسبة النصف (4) أولى بالصحة من إضافة النصف إلى المالك. وإذا كانت الجملة بين شخصين، فبيان نصيب أحدهما بيانٌ لنصيب الثاني، قال تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُث} [النساء: 11] ، فكان في تعيين الثلث للأم تعينُ الباقي للأب.
4935- ومن أصحابنا من قال: ذكْر (الهروي) و (المرْوي) ترديدٌ في صيغة العقد، من جهة العاقد، فكأنه قال [له] (5) : تصرف في الهروي أو المروي: إن شئت في هذا، وإن شئت في ذلك، وإن اخترت التصرف في أحدهما، فلا تتصرف في الآخر. فقال الأصحاب: سببُ الفساد ترْكُ الجزم وترديد لفظ المعاملة على النوعين،
__________
(1) (ي) ، (هـ 3) : فيحمل.
(2) (ي) : على.
(3) زيادة من (ي) ، (هـ 3) .
(4) (ي) ، (هـ3) : التنصيف.
(5) مزيدة من: (ي) ، (هـ 3) .(7/509)
فلا هو أطلق تفويضاً إلى العامل، ولم يجزم أيضاً. وهذا كما قال الشافعي: لو ساقاه على أنه إن سُقي النخيلُ بماء السماء، فله الربع، وإن سقاه بالنضح، فله الثلث، لم تصح هذه المساقاة، للترديد.
قال القاضي: الحكم بالصحة محتمل مع هذا الترديد، فإنه لو عيّن أحدَ النوعين، وفيه متسع كما ذكرناه، لم يبعد الحكم بالصحة (1) ، فإذا ذكرهما على الترديد، فقد زاد العاملَ مزيد بسطة؛ إذ خيّره بينهما، وهذا أولى بالصحة من تعيين أحدهما، وهذا الذي ذكره حسنٌ متجه لا ينساغ عندنا غيره.
4936- ومن أصحابنا من قال: سببُ الفساد في هذه المسألة أنه أذن له في الشراء دون البيع، وقضية القراض أن يتسلط العامل على البيع إذا حصلت العروض في يده بالشراء، والذي يحقق هذا المحملَ في كلام المزني أنه قال: "كان فاسداً، لأنه لم يبين، فإن اشترى، فجائز، وله أجر مثله، وإن باع، فباطل؛ لأن البيع بغير أمره" (2) . وهذا ظاهرٌ من النص أن البيع غير مستفاد بحكم الإذن. وهذا وجهٌ من الفساد لا سبيل إلى إنكاره؛ فإن عماد عمل العامل على الشراء والبيع، وهما طرفا (3) التجارة وركناها.
ونحن نقول في ذلك: إن صرح [المالك] (4) بالأمر بالشراء والنهي عن البيع، فهذا مفسدٌ للقراض، ثم حكمه اختصاصُ المالك بالربح، وردُّ العامل إلى أجر مثل عمله.
ولو تعرض للتسليط على الشراء، ولم يذكر التسليطَ على البيع، لانفياً ولا إثباتاً، فهذه صورة المزني، والقول في ذلك ينقسم: فإن قال: تصرّف في هذه الدراهم، واشتر بها، ولم يذكر لفظة المضاربة والمقارضة، وأثبت الشراء، ولم يتعرض للبيع، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن إطلاق الأمر محمول على التسليط
__________
(1) (ي) ، (هـ 3) : بصحته.
(2) هذا نهاية كلام المزني بنصه. (المرجع السابق) .
(3) (ي) ، (هـ 3) : طريقاً.
(4) في الأصل: العامل.(7/510)
على البيع، وإنما لم يجرِ ذكْرُه؛ من جهة أنه لا بد منه، ووقع التعرضُ للشراء تنبيهاً على البيع بعده.
ومن أصحابنا من حمل السكوت [عن] (1) البيع على ترك التسليط عليه، فعلى هذا تفسد المعاملة ولا [يتسلّط على البيع] (2) ، كما ذكرناه.
4937- ولو قال: قارضتك، أو قال: ضاربتك، أو قال: خذ هذه الدراهم قراضاً أو مضاربة على أن تشتري، ولم يقع للبيع تعرضٌ، فظاهر المذهب وهو الذي قطع به القاضي وكلُّ محقِّقٍ أن المعاملة صحيحة؛ فإنه استعمل فيها اللفظَ الصريح الموضوعَ لها، فأغنى ذكرُه عن تفصيل حكمه، واقتضى إطلاقُه التسلّط الذي يوجبه العقد، وكان السكوت عن ذكر البيع محمولاً على الاكتفاء باقتضاء لفظ القراض له.
ومن أصحابنا من أجرى الوجهين في هذه الصورة أيضاً؛ لأن الأصل أن العامل لا يتصرّف إلا بالإذن، وقد جرى الإذنُ (3) في أحد النوعين، وهو الشراء، فبقي النوع الثاني على المنع والحظر.
هذا منتهى كلام الأئمة في تصوير ما ذكره المزني وقد جرت [في] (4) جهات خلافهم في التصوير مسائلُ مذهبية، أجريناها وذكرنا وجوهَ الخلاف فيها.
4938- ومما أراه متعلقاً بلفظ المزني أنه لم يتعرض للربح، ولا لرأس المال، ولكن ذكرَ النصفَ مرسلاً، فقال: على أن تشتري هروياً أو مرْوياً بالنصف، ولم يقل: بالنصف من الربح، وهذا يقتضي إشكالاً في لفظ العقد. ويجوز أن يقال: تفسد المعاملة بهذا الإشكال (5) ، ويجوز أن يحمل ذكْر النصف على الربح اتباعاً للمعروف المعهود في الباب.
وهذا منتهى الغرض في المسألة.
__________
(1) في الأصل: على.
(2) في الأصل: تسلّط على المبيع.
(3) (ي) ، (هـ 3) : وقد أذن في أحد ...
(4) سقطت من الأصل.
(5) (ي) ، (هـ 3) : بسبب هذا.(7/511)
قال: "إن قال: خذها قراضاً، أو مضاربةً على ما شرط فلان من الربح لفلان ... إلى آخره" (1) .
4939- إذا قال: قارضتك على هذه الدراهم، ولك من الربح ما شرطه فلان لفلان، فإن كانا عالمين بما شرطه فلان لفلان، فالمعاملة تصح وفاقاً، وإن لم يُجريا ذكرَ تلك النسبة؛ فإن التعويل على علمهما وعلى عبارة بيّنةٍ على ما علماه.
وإن جهلا المقدارَ الذي ذكره فلان لفلان، ولكن كان التوصل إلى الإحاطة به ممكناً، فالمعاملة فاسدة؛ فإنها لم تَعتمد حالة العقد جزئيةً معلومة. وهذا بعيْنه يجري في البياعات والمعاملات المشتملةِ على الأعواض. فإذا قال: بعتك عبدي هذا بما باع به فلانٌ دارَه أو فرسَه -وكانا عالمين بذلك المقدار- صحّ، وإن كانا جاهلين به، قادرين على الوصول إلى دَرْكه، فالبيع فاسد، وجهْلُ أحد المتعاقدين في ذلك كله كجهلهما.
وإذا قال المنتهي إلى الميقات: لبيك بإهلال كإهلال فلان، فعقدَ الإحرامَ على الإبهام، انعقد على الصحة، وهو من خصائص الحج؛ فإن الذي يقتضيه قياس التعيين في النيات افتقارُ الحج إلى التعيين، ثم انعقاد الإحرام مبهماً. والمحرم (2) لا يدري أحاجٌّ هو أم معتمر، أو هو محرمٌ بهما مشكلٌ في القياس جداً؛ ولكنا أعرضنا عن وجه القياس، وتعلقنا فيه بالخبر، وهو ما روي: "أن علياً رجع من اليمن عام حجة الوداع، وانتهى إلى [قَرْن] (3) ، وقد بلغه خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النسك، فأحرم، وأبهم وقال: لبيك بإهلال كإهلال رسول الله، ثم
__________
(1) ر. المختصر: 3/66.
(2) (ي) ، (هـ 3) : والمبهم.
(3) في الأصل: فنون، (ي) : قرين. والمثبت من (هـ 3) . وقرن ميقات أهل اليمن (فيما حكاه ياقوت عن بعضهم) فهل (يلملم) وهو ميقات أهل اليمن المعروف، كان يسمى ب (قرن) ؟؟ هذا وليس في حديث إحرام علي رضي الله عنه أي ذكرٍ للميقات الذي أحرم منه.(7/512)
ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم ينكر عليه " (1) .
أما المعاملات، فقد تُعبِّدنا فيها بالإعلام، ونُهينا عن العقد على الجهالة والإبهام، فاتّبعنا في كل بابٍ ما تعبدنا به.
4940- ثم قال المزني: "فإن قارضه بألفٍ على أن ثلث ربحها للعامل، وما بقي من الربح، فثلثه لرب المال وثلثاه للعامل، فجائز" (2) .
هذا كلام المزني. وغرض الفصل أن الربح إذا ذكر جزئيتَه، وانقسامَه على نسبةٍ معلومة، تهون الإحاطة بها، فلا شك في [صحة (3) العقد] .
وإن أجرى نسبةً معقَّدةً، معلومةً في الحساب، ولكن كان يختص بدَرْكها العلماءُ بالحساب، ويتوصل إلى درْكها من ليس حسوباً إذا تفكّر، أو أرشده مفسّر، وهذا مثل أن يقول للعامل: لك ثلثُ الربح، وخمسُ تُسع عُشر الباقي، فهذا معلوم في طريق الحساب. ولكن إخراجَه يُحوج إلى تصحيح المسألة، وبسط طرق الحساب فيها، فالوجه أنهما إن كانا عالمين بالحساب ومُدرَكِه، وكان اللفظ المذكور في العقد مُعْلِماً في حقهما للمقدار، فيصح العقد قطعاً؛ فإنا نقول: لو قال رب المال لصاحبه: عاملتك، ولك من الربح ما شرطه فلان لفلان، فالمعاملة صحيحة إذا كانا عالمين بما ذكره فلان لفلان؛ تعويلاً على علمهما، فكذلك تصح المعاملة مع اطّلاع المتعاملين على ما يقتضيه الحساب.
هذا إذا انتجز علمهما بذلك الجزء حالة العقد.
فإن لم ينتَجز علمُهما حالة العقد، أو كان أحدهما غيرَ مهتدٍ إلى الحساب، ففي المسألة وجهان ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - أن المعاملة فاسدة، لعروّها عن العلم المطلوب حالة العقد. وهذا يتنزل منزلة ما لو قال: لك من الربح ما شرطه فلان لفلان، وكانا جاهِلَيْن بما شرطه، أو كان أحدهما جاهلاً، فالمعاملة فاسدة، وإن أمكن التوصل إلى ما ذكره فلان لفلان، كذلك القول في اللفظة الحسابية.
__________
(1) الحديث متفق عليه. وقد مضى في الحج.
(2) ر. مختصر المزني: 3/66.
(3) في الأصل: في الصحة.(7/513)
ومن أصحابنا من قال: المعاملة صحيحة، لأن اللفظة المشتملة على الجزئية معلومة في صيغتها، فتعتمد صحةُ العقد تلك الصيغة. وقول القائل: لك ما شرط فلان لفلان مجهولٌ في نفسه، لا إعلام فيه.
ثم طريق إخراج الجزئيات لا يليق استقصاؤه بهذا الفصل، ولعلنا نذكر طرفاً صالحاً يُثبت الاستقلال في هذه الأبواب في كتاب الفرائض، إن شاء الله عز وجل، ثم في كتاب الوصايا.
ونذكر إخراج ما ذكره المزني: فإذا قال: لك ثلث الربح، والثلث مما بقي لي، والباقي لك. فنطلب عدداً له ثلث، ولثلثيه ثلث، وهو تسعة فنجعل الربحَ تسعة أجزاء، ونصرف منها ثلاثة إلى العامل أولاً، فيبقى ستة، فنصرف منه ثُلثَه إلى المالك، وهو سهمان من تسعة، ثم يُصرف الباقي، وهو أربعة من تسعة إلى العامل، فيحصل له من [التقديرين] (1) سبعةُ أتساع الربح، وللمالك تسعاه. هذا بيان ما ذكره المزني.
فصل
قال: "وإن قارضه على دنانير، فحصلت في يده دراهم ... إلى آخره" (2) .
4941- إذا كان رأس المال دنانير معلومة، فتصرّف فيها العامل، وصرفها في العروض، ثم نضت العروض، [ورجعت] (3) إلى الدراهم، فهذه الدراهم بمثابة العروض في حق هذا القراض، فيتعين على العامل -على القياس الذي مهدناه- ردُّ الدراهم إلى الدنانير، وكذلك لو كان الأمر على العكس.
وهذا يناظر من القواعد زكاةَ التجارة في العروض، فإنا نقوّم العروض في نهايات الأحوال ومُنقرض السنين بما كان رأسُ المال في ابتداء الحول، حتى لو [كان] (4) رأس المال دراهم، وقع التقويم بها لا غير، فلو صادفنا في آخر الحول دنانير، لم نوجب
__________
(1) في الأصل: التقدير.
(2) ر. المختصر: 3/66.
(3) في الأصل: ووجبت.
(4) في الأصل: قال.(7/514)
الزكاة فيها بحساب مقدارها، ولكنا نقومها بالدراهم، ونوجب الزكاة في قيمتها على هذه النسبة.
4942- ومما يتعلق بمضمون الفصل من حكم القراض، أن أموال القراض لو كانت عُروضاً، فقال رب المال: رضيتُ بأن آخذ مقدار رأس المال عروضاً، وقال العامل: بل أبيعُ؛ ففيه الخلاف المقدم، ولو كان رأس المال دنانيرَ، وقد آل الأمر إلى الدراهم، فلو قال رب المال: رضيت أن آخذ مقدار حقِّي من الدراهم، فالذي قطع به المحققون أن العامل لو أراد صرف الدراهم إلى الدنانير على خلاف مراد الآمر في قدر رأس المال، فليس له ذلك، بخلاف مسألة العروض. والفرقُ أن قيمة العروض لا تنضبط، وقد يتفق في أثمانها تفاوتٌ، والتعويل فيها على الرّغبات ونقيضها، فلا يمتنع إسعاف العامل ببيعها، فعساه يستفيد مزيداً، وأما الدراهم والدنانير فلا يفترض في أسعارهما تفاوت معتبر، وليس مما يُفرض فيه رغبةٌ من راغب، وزهدٌ من زاهد. فإذا قال العامل: [أصرف] (1) الدراهم إلى الدنانير، كان ذلك تعنتاً منه.
هذا ما ذهب إليه المحصلون.
وأبعد بعضُ أصحابنا فأجرى في الدراهم والدنانير من الخلاف ما ذكرناه في العروض، وردِّها إلى النقد.
ولو جرت المعاملة على الدنانير مثلاً، والنقد الغالب في التصرفات الدراهم، فالمذهب الذي عليه التعويل أن العامل يُكلّفُ رد العروض في مقدار رأس المال إلى الدنانير. فلو قال: أردّها إلى الغالب في البلد، ثم يأخذ منه رب المال بمقدار رأس المال، فلا يترك [و] (2) ذلك.
وذكر الشيخ أبو علي في شرح التلخيص وجهاً عن بعض الأصحاب: أن العامل إذا رد العروض إلى نقد البلد، كفاه، وهذا بعيد لا اتجاه له، وليفرق الفقيه فيما نثبته
__________
(1) في الأصل: تصرف.
(2) زيادة من (ي) ، (هـ 3) .(7/515)
وننفيه بين أن يرضى ربُّ المال بأخذ النقد الحاصل عن حساب رأس المال، وبين أن يبغي مطالبةَ العامل برده إلى نوع رأس المال، فإن رَضي ربُّ المال، فالوجه اتباعُ رضاه، والكلام في نقدين. فإن طالب ربُّ المال العاملَ برد النقد الحاضر إلى نوع رأس المال، فالمذهب أن له ذلك إذا كان في المال ربح، والوجه الذي ذكره الشيخ أبو علي ضعيف، في هذا الطرف، كما نبهنا عليه.
ولو كان رأس المال دراهم صحاحاً، فحصلت في يد العامل المكسرةُ من ذلك النوع، فعليه تحصيل الصحاح في رأس المال، فإن وَجد الصحاح بالمكسرة سواءً، فذاك، وإن لم يجد، ولا سبيل إلى المفاصلة، باع المكسرة بالدنانير، واشترى بالدنانير الصحاحَ من الدراهم.
ولو أراد أن يبيع المكسرة بعرْضٍ، ثم يبيعَ ذلك العرضَ بالصحاح المطلوبة، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن ذلك يجوز؛ فإنه إذا لم يكن من إدخال واسطةٍ بدٌّ، فلا فرق بين أن يكون عرْضاً، أو نقداً.
ومن أصحابنا من قال: لا يجوز صرف المكسرة إلى العروض، لتصرف العروض إلى الصحاح، فإنّ العروض قد تكسد، وتبقى إلى أن يطلبها طالب، (1 وقد يكون في عرضها فيمن يزيد بخسٌ ظاهر. وإذا صرف المكسرة إلى الدنانير، تيسر الأمر، فإن 1) الدنانير رابحةٌ أبداً لا حاجة إلى التربص بها.
فصل
قال: "وإن دفع مالاً قراضاً في مرضه ... إلى آخره" (2) .
4943- إذا دفع المريض في مرض موته دراهمَ، أو دنانيرَ إلى إنسان قراضاً، وشرط له جزءاً من الربح، فالمعاملة صحيحة، وإذا اتفق الربحُ فيها، فللعامل ما شرط له، ولا ينتهي الأمر إلى حكم التبرع، والاحتسابِ من الثلث، حتى لو كان
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ي) ، (هـ 3) .
(2) ر. المختصر: 3/67.(7/516)
الربح الحاصل بحيث لو [قيست] (1) حصة العامل فيه بأجر مثله لزادت عليه، فلا يجعل المريض في حكم المتبرع بتلك الزيادة.
فهذا اتفاق الأصحاب، والسبب فيه أن الربح لا معوّل عليه، فقد لا يحصل منه شيء فيخيب تعبُ العامل، وقد يحصل مقدارٌ نزرٌ يزيد أجر مثل العامل عليه، والربح أيضاً في حكم المعدوم قبل حصوله، فإذا حصل عُدّ حصولُه من آثار عمل المقارض.
يخرج عما ذكرناه (2) أن المشروط من الربح ليس من باب التبرعات أصلاً.
ونقول على حسب ذلك: لو كان العامل أحدَ الورثة، جازت المعاملة، ولم نقل: إنها تبرع على وارثه في المرض.
4944- ولو ساقى المريض رجلاً على نخيل، ثم كان ما شرط له من الثمار زائداً على أجر عمله، فقد اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من أجرى المساقاة مجرى القراض، وقد تمهد قياس القراض، والجامع أن المطلوب مفقودٌ في المعاملتين؛ إذ لا ربح ولا ثمرة فيهما، وحصول الثمار منسوب إلى عمل المساقى وإلى حسن قيامه على الأشجار، فلا فرق.
ومن أصحابنا من قال: إذا زاد حصةُ المساقى من الثمار على أجر مثله، فتلك الزيادة تبرع محسوب من الثلث، وإن كان المساقى وارثاً، فهو مردود. والفرق بين المعاملتين أن الثمار منتظرة في أوانٍ معلوم، وأما الأرباح، فلا وقت لها، ولا ضبط. والوجهان ذكرهما العراقيون.
فصل
قال: "وإن اشترى عبداً، فقال العامل: اشتريتُه بمالي لنفسي ... إلى آخره" (3) .
4945- كل شراء يقع [بعين] (4) مال القراض، فلا شك في انصرافه إلى جهة
__________
(1) في الأصل: قسط.
(2) في (ي) ، وفي (هـ 3) : فخرج عما ذكرناه.
(3) ر. المختصر: 3/67.
(4) في الأصل: بعض.(7/517)
القراض، ولا أثر لنية العامل فيه، ولو نوى نفسه، كانت نيته باطلة ساقطةَ الأثر، فأما العقود الواردة على الذمة، فالتعويل فيها على النية، فإن نوى العاملُ بها جهةَ القراض، وقعت عنها، إذا لم تكن مخالفةً لوضع التصرفات في القراض، ولو نوى بالشراء الذي ثمنه واقعٌ في الذمة نفسَه، انصرف إليه، وكذلك مطلقُ الشراء الذي وصفناه مُنصرفٌ إلى العامل، ولا يقع عن القراض، وهذا بيّن.
4946- والغرض بعده أن العامل إذا اشترى عبداً فقال: اشتريتُه لنفسي، وقال رب المال: بل اشتريتَه لجهة القراض. وهذا الخلاف في الغالب يجري إذا ظهر في العبد (1) غبطةٌ ظاهرة. ولو كان الخلاف على العكس، فقال العامل: اشتريتُه عن جهة القراض، وقال رب المال: [بل] (2) اشتريتَه مطلقاً، أو اشتريته لنفسك. وهذا الخلاف يُفرض فيه إذا كان ابتياع العبد بثمن مثله، ولكن اتفق انحطاطٌ في سوق العبيد.
فإذا جرى الخلافُ على الوجهين، فالقول فيهما قول العامل، والسبب فيه أن المعتمد في انصراف العقد إلى جهة القراض، أو وقوعِه عن العامل نيةُ العامل، ولا مُطّلع على نيته إلا من جهته، فلزم الرجوع إلى قوله. ثم لا نصدقه إلا باليمين.
ونظائر ذلك كثيرة.
فإن قال قائل: لم تحلّفونه، وهلا اكتفيتم بمجرد قوله؟ قلنا: الجواب عن هذا ظاهر في طريق الخصومة، فإن من ظهر صدقه، فلا يُكتفى منه بمجرد قوله، بل نكلفه إقامةَ الحجة عليه، والحجةُ في الباب اليمينُ.
ولو أنه قال: اشتريتُ هذا العبدَ لنفسي، ثم اعترف بأنه اشتراه للقراض، قُبل رجوعه على هذا الوجه، وإذا كان رجوعه مقبولاً؛ فإنا نأمل من عرض اليمين عليه أن ينكفَّ ويرجع، وسبب عرض الأيمان، الحملُ على الإقرار، فإذا كان الإقرار ممكناً، فاليمين لا بد منها، ثم إن حلف، فذاك، وإن نكل عن اليمين، ردت اليمين إلى رب
__________
(1) (ي) ، (هـ 3) : العقد.
(2) ساقطة من الأصل.(7/518)
المال، فيحلف على حسب ما يدّعيه، واليمين المردودة تقع باتّةً، وهي مشكلةٌ في هذا المقام؛ من جهة أنه لا مطّلع على النية إلا من جهة الناوي، ولكن [يمين] (1) الرد تستند في هذا المقام إلى قرائن ومخايل تظهر ولا يمتنع استناد الأيمان إلى أمثال ذلك، وسنقرر هذا على أبلغ وجه في أحكام القضاء، إن شاء الله عز وجل.
ومن المخايل في الباب أن رب المال لو كان سمعه يقر بأني اشتريت لجهة القراض، ثم جحد وأنكر، فللمدعي أن يعوّل على الإقرار الذي علمه، وهو أقوى من مخيلةٍ تخيلها، وقرينةٍ يرجم ظنه فيها.
7ا 49- ولوح رجلان ألمفين إلى رجل، وقال كل واحد منهما: اشتر لي بالألف عبداً، فإذا اشترى عبداً بألف لأحدهما، فادّعى كلُّ واحدٍ منهما أنه اشترى له هذا العبدَ، فإذا أقر الوكيل لأحدهما قُبل قوله؛ إذ الرجوع إليه، والاعتبار بنيته.
ثم إذا حكمنا بالعبد لأحدهما، بحكم إقراره، فلو ادعى عليه الثاني، فهذا يُبنى على أنه لو أقر للثاني بعد الإقرار الأول، فهل يغرم للمقر له ثانياً قيمةَ المقر به. وفي هذا وفي أمثاله قولان، قدمنا ذكرهما.
وهذه المسألة تمتاز عن نظائرها بشيء، وهو أن قيمة العبد لو كانت ألفاً، وسلّم إليه كل واحد منهما ألفاً، [فهو] (2) إذا زعم أنه اشترى العبد لأحدهما، فالألف الآخر قائم في يده للثاني، فقد لا يفيد قولنا: إنه يغرم للثاني على قولٍ إلا إذا فرضنا تفاوتاً في قيمة العبد وثمن العقد؛ فإذْ ذاك يختلف القول.
فلنفرض هذه المسألةَ فيه إذا لم تزد القيمة، ويخرج عليه أنه بسبب هذا الإقرار لا يغرَم شيئاًً، ولا يصح أيضاًً رجوعُه عن الإقرار الأول. فإذا انتفى إمكانُ الرجوع، وانتفى الغرم، فلو أراد الثاني أن يحلفه، لم يكن له ذلك؛ فإنّ اليمين فائدتها الحمل على الإقرار، ولو أقر للثاني، لما أفاد إقرارُه شيئاً.
فإن قيل: هلا حلَّفتموه حتى إذا نكل تردّون اليمين على الثاني؟ قلنا: هذا لا وجه له؛ فإنا إن جعلنا يمين الرد كالإقرار، فقد سقطت فائدة إقراره، فلا
__________
(1) في الأصل: ليس الردّ (وهو تصحيف عجيب) .
(2) في الأصل: وهو.(7/519)
[موقع] (1) ليمينه إن حلف. وإن قلنا: يمين الرد تنزل منزلة البيّنة، فقد يظنّ ضعفةُ الأصحاب أنها تتضمن استرداد العبد، كما لو قامت البينة. وهذا مزيفٌ، لا أصل له، وقد يبتدره، ويسبق إليه في أمثال هذه المسألة طوائفُ من الأصحاب. واعتقادُه في هذا الموضع على نهاية الضعف؛ فإن البينة لا يتصور قيامها على النية، وإنما يُفرضُ قيامُها على الإقرار، وقد ذكرنا سقوط أثر الإقرار، والحالف يمينَ الردّ ليس يُسند يمينَه إلى إقرار كان من هذا الشخص فيما سبق، وإنما يسندها إلى مخيلةٍ وظنٍّ، والبينةُ لا تكتفي بأمثال ذلك.
فصل
قال: " ولو قال العامل: اشتريت هذا العبدَ بجميع الألف ... إلى آخره" (2) .
4948- إذا دفع ألفاً إلى العامل، وقارضه عليه، فليس للعامل أن يشتري للقراض بأكثرَ من الألف، لأن رب المال لم يرض بأن العامل يشغل ذمتَه بأكثرَ من هذا المبلغ، فإن اشترى عبداً بالفٍ، ثم عبداً آخر بألف، قلنا: إن اشترى العبدَ الأول بعين الألف، أو اشتراه لجهة القراض، فهو واقعٌ عن جهة القراض، ولا يقع العبدُ الثاني عن جهة القراض أصلاً. ولكن إن اشتراه بعين الألف، فالشراء باطل، سواءٌ وقع الشراء الأول بعين الألف، أو لم يقع بالعين.
والسبب فيه أنه إن وقع العقد الأول بعين الألف، فقد تعين عوضاً مملوكاً في العقد الأول، فإذا عينه ثانياً في عقد آخر، لم يخف بطلان هذا العقد الثاني.
وإن لم يقع العقد الأول بعين الألف، فقد صار الألف مستغرقاً به مستحقاً، فامتنع تعيينه في العقد الثاني، [كما يمتنع تعيين مرهونٍ ثمناً في غير حق المرتهن، هذا إذا وقع العقد الثاني] (3) بعين الألف.
__________
(1) في الأصل: نتوقع.
(2) ر. المختصر: 3/67.
(3) ما بين المعقفين سقط من الأصل.(7/520)
ولو وقع [العقد] (1) الثاني بألفٍ في الذمة، ولكنّ العامل نوى به جهةَ القراض، فنيته مردودة، ولكن العقد لا يبطل، بل ينصرف إلى العامل، فيقع شراء العبد الثاني [له] (2) على هذا التأويل، فلو وقع العبد الأول عن القراض، ووقع العبدُ الثاني عن العامل، كما صورناه، فلو صرف الألفَ الذي هو رأس مال القراض إلى ثمن العبد الثاني، فقد أساء وظلم؛ فإنّ الألف الأول إن كان معيّناً، فهو مملوكُ بائعِ العبد الأول، وإن لم يكن معيناً بالعقد الأول، فهو مستغرقٌ باستحقاق تلك الجهة، وعلى أي وجهٍ فُرض، فالعقد (3) الثاني منصرفٌ إلى العامل، وليس للعامل أن يصرفَ إلى ما يشتريه لنفسه شيئاً من مال القراض، فإذا فعل، فالألف يُسترد إن كان باقياً، فإن فات وتلف، نظرنا إلى صفة العقد الأول، فإن كان وارداً على عين الألف -وقد فات الألف- نحكم بانفساخ ذلك العقد؛ فإن العوض المتعيّن في البيع إذا فات قبل التسليم، يترتب على فواته انفساخُ البيع، وإن لم يكن الألف متعيناً في العقد الأول، فلا يقضى بانفساخ ذلك العقد.
وفي هذا المقام يبين الفرق بين كون الألف مستحقاً ملكاً بطريق التعيين، وبين كونه مستغرقاً بحق البائع، فإذا انتهى الأمر إلى ذلك، فالعبد الأول ملكٌ لرب المال، ولرب المال على العامل ألفُ درهم؛ لأنه أوقعه (4) في جهة نفسه، وصرفه إلى العقد الواقع له، ولبائع العبد الأول مطالبةُ رب المال بألف.
والمسألة مفروضة حيث لا نزاع، ولكنهم معترفون بحقيقة الحال، فلو جاء العامل وأدى ثمن العقد الأول، نُظر: فإن فعل ذلك بإذن رب المال على شرط الرجوع عليه، صح، وبرئت ذمة رب المال عن حق البائع الأول، وثبت للعامل ألفٌ على رب المال، ولرب المال على العامل ألفٌ، فإذا جرينا على التقاصّ، حصل بما جرى براءةُ الذمم، وانقطاعُ التبعات.
__________
(1) سقطت من الأصل.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) (ي) ، (هـ 3) : فالعبد الثاني ينصرف.
(4) (ي) ، (هـ3) : أنفقه.(7/521)
وإن أدى العامل ثمن العقد الأول من غير مراجعة رب المال، فتبرأ ذمةُ رب المال عن مطالبة البائع الأول. ولكن لا يجد العامل بما بذله مرجعاً، ولرب المال عليه الألفُ الذي صرفه في حق نفسه، وقد حصلت براءة ذمة رب المال بما فعله العامل.
4949- ومما يتعلق بتمام المسألة أنا إذا صرفنا العبدَ الأول إلى جهة القراض، ثم تعدى المقارَض، وصرف الثمن إلى العبد الثاني، فذلك العبد الأول أمانةٌ في يد المقارض؛ فإنه لم يتعد فيه، وإنما تعدى في ثمنه، والتعدي في عوض الشيء لا يُثبت حكمَ العدوان ومُوجبَ الضمان في غير ما وقع التعدي فيه.
وهذا يناظر ما لو وكّل رجلٌ رجلاً يبيع عبدٍ، وسلمه إليه، فاستخدمه الوكيل، صار متعدياً لذلك، فلو تلف في يده قبل اتفاق بيعه، لكان ضامناً لقيمته، فلو (1) باعه وقبض ثمنه على حسب الإذن، فالثمن في يده أمانة.
4950- وذكر القاضي رضي الله عنه في أطراف هذه المسألة أن رب المال لو قال للعامل: خذ الألفَ قراضاً، واشتر بعينه، أو قال: اشتر ما تشتريه في الذمة، ثم أدّ الثمن من الألف، فهذا تضييق وحجرٌ، وقد ذكرنا أن هذا الضرب من التضييق يُفسد القراضَ؛ من جهة أنه يخالف موضوعَه ومقصودَه. وهذا الذي ذكره حسن [فقيه] (2) إذا شرط عليه أن يشتري بعين الألف؛ فإن هذا تضييق، وقد تتفق صفقةٌ لا (3) يحضره الألف فيها، ولو انتظر إحضارَه لتعيُّنه، لفاتت، فهذا منافٍ للانبساط الذي يقتضيه وضع القراض.
فأما إذا قال: لا تشتر إلا في الذمة، فلستُ أرى هذا حجراً، وفيه غرضٌ؛ فإنّ تعيين الأعواض يجر [رباً] (4) وخبلاً لو لم يكن العوض من حلّه (5) ، وإذا صادف العقدُ عوضاًً في الذمة، انقطع هذا الضرب من الشبهة، ورجع النظر إلى العوض الثاني، فإذا صحّ غرضٌ، ولم يتحقق تضييقٌ، لم يبعد الحكم بصحة القراض والشرط.
__________
(1) (ي) ، (هـ 3) : ولو.
(2) في الأصل: فيه.
(3) عبارة (ي) ، (هـ 3) : وقد يتفق أن لا يحضره الألف.
(4) في الأصل: يجرّ ريباً وخبلاً، وفي (ي) : يجر زبناً وخيالاً، وفي (هـ 3) : يجر عيباً، والمثبت تقدير منا.
(5) (حله) كذا في النسخ الثلاث.(7/522)
فصل
قال: "وإن نهى ربُّ المال العاملَ أن يشتري ويبيع ... إلى آخره" (1) .
4951- إذا فسخ القراض، ونهى ربُّ المال العاملَ عن الشراء، لم يكن له أن يشتري شيئاً بعد النهي، فإذا اشترى، نظر: فإن كان بعين مال القراض، فباطلٌ.
وإن كان في الذمة، وقع للعامل، وبطلت نيّتُه في جهة القراض.
هذا قولنا فيما يشتريه بعد النهي.
فأما البيعُ، فقد ذكرنا تفصيلاً في أن العامل بعد فسخ القراض هل يملك بيعَ العُروض إذا كان في المال ربح؟ وفصّلنا أطراف المذهب فيه إن لم يكن ربح. فإذا قلنا: له أن يبيع، فليس هذا البيع الذي كان يُقدم عليه قبل فسخ القراض، وإنما هذا بيعٌ لتنضيض السلعة، وردّ رأس المال، فلا أثر للنهي في هذا الضرب، ويتبيّن أثر هذا في شيء، وهو أن العامل لو كان مستمراً على تصرفه، وكان أذن له رب المال في بيع العرْض بالعرْض، فإنه يبيع العرض بالعرض، وإذا نهى، وفسخ القراض، فليس له أن يبيع العرض بالعرض، ولكنه يبيع العروض بالنقد بقصد التنضيض، كما تقدم.
فصل
قال: "ولو قال العامل: ربحت ألفاً، ثم قال: غلطتُ ... إلى آخره" (2) .
4952- إذا أقرّ: بأني ربحتُ ألفاً، ثم قال: كذبتُ متعمداً، أو غلطتُ، وقلتُ ما قلت غالطاً، فلما رجعتُ إلى الحساب، لم أصادف [ربحا] ً (3) ، أو ادّعى أنه كذب مخافة أن يُنتزع المال من يده، فرجوعه عن الإقرار الأول لا يقبل في هذه المسائل؛ بناء على أن المرء مؤاخذٌ بإقراره الأول. ولو قال: ربحتُ ألفاً، ثم قال بعده: تلف
__________
(1) ر. المختصر: 3/68.
(2) ر. المختصر: 3/68.
(3) ساقطة من الأصل.(7/523)
في يدي ألف، فإنا نصدقه مع يمينه؛ لأنه أمين، فهو يتوصل بدعوى التلف إلى طرح
ما أقر به أولاً، ولا منافاة بين ما ابتدأه (1) وبين ما ادعاه آخراً، وهو مصدق فيهما.
وظهور هذا يغني عن بسط القول في تقريره.
فصل
قال: "وإن اشترى العامل، أو باع بما لا يتغابن الناس بمثله، فباطلٌ ... إلى آخره" (2) .
4953- المقارض في هذا المعنى كالوكيل، وقد ذكرنا أن الوكيل بالبيع المطلق لو باع بالغبن، لم يصح ذلك منه، والوكيل بالشراء المطلق لو اشترى الشيء بأكثر مما يساوي، لم يقع الشراء عن الموكِّل. ولكن إن كان وارداً على الذمة، انصرف إلى الوكيل، وإن كان وارداً على عين مال الموكِّل، بطل.
والقول في المقارض على هذا النحو، فإن باع عيناً من أعيان مال القراض بغَبْن، لم يصح، وإن اشترى شيئاً بعينٍ من أعيان القراض مع الغبن، لم يصح، وإن اشترى في الذمة ونوى جهة القراض، انصرف العقد إلى العامل.
ثم مما أجراه الفقهاء في هذا المجال أن ثمن العرْض إذا كان مائة، وقد انتهى المقوّمون إلى هذا المبلغ، ولم يتعدَّوْه، فهذا قيمةُ المِثل. فلو باع رجل مثلَ هذا العرض بمائةٍ إلا درهماً أو بخمسةٍ وتسعين، فقد لا يُعدُّ البائع مغبوناً. وكذلك لو اشترى هذا العرْضَ بمائةٍ ودرهم أو دريهمات، لا يُعدّ مغبوناً.
وعبَّر الفقهاء عن هذا فقالوا في جانب النقصان: هذا ممَّا يتغابن الناس بمثله، وقالوا في جانب الزيادة كذلك. والقول في هذا يؤول إلى أن الحكم بالقيمة لي أمراً مبتوتاً، وإنما هو مظنون، والنقصان القليل لا يخرم الظن، وكذلك الزيادة القليلة.
وليس معنا في هذا ضبطٌ ننتهي إليه. نعم، سنذكر أن المسروق لو قُوّم، فقد يبلغ
__________
(1) (ي) ، (هـ3) : ما ابتدأ به.
(2) ر. المختصر: 3/68.(7/524)
نصاباً، وقد [يُفرض فيه خطأٌ] (1) قليل لا ينتهي إلى الغبن الظاهر، ويكون ذلك المقدار محتملاً، ولكن لو أخذنا به، لما وجب القطع؛ فإن نصاب السرقة توقيفي، وليس ثابتاً من طريق التقريب، فلا يوجب القطع إذن عند معظم المحققين؛ فإنّ إيجاب القطع [بقيمةٍ مظنونةٍ] (2) لا سبيل إليه. وسيأتي استقصاء ذلك في موضعه، إن شاء الله تعالى.
4954- وحظ هذا الفصل مما ذكرناه أن الوكيل أو المقارض لو باع ما قوّم بمائة بخمسٍِ وتسعين، وكان لا يعدُّ مغبوناً، فالبيع نافذ، ولو باعه بثمانين، فالبيع مردود.
فلو فاتت العين في يد المشتري، فالقيمة تلزم، ثم يقع النظر في تغريم الوكيل وفي تغريم المشتري الذي تلفت العين في يده. فإن أراد تغريم الوكيل، أو تغريم المقارَض، فهل يُحطُّ عنه القدر الذي يتغابن الناس بمثله، حتى لا نغرمه إلا خمسة وتسعين مثلاً؟ ففي المسألة قولان، نص عليهما الشافعي في (الرهن اللطيف) (3) أحدهما - أنه يغرمه القيمة التامة، وهذا ظاهر القياس عنده؛ فإنه قد اعتدى بما فعل.
وحكمُ المعتدي ضمان القيمة، والرجوعُ في مبلغها إلى المقوِّمين، وقد قوّموا السلعةَ بمائة.
والقول الثاني - أنه لا يغرّمه القدرَ الذي يتغابن الناس بمثله، فإنه لو باع ابتداء بمائة إلا دريهماتٍ، لصح البيع، ونفذ، وقُبل منه ذلك الثمن. فلا ينبغي أن يغرم آخراً أكثر من ذلك المقدار.
وهذا فيه بُعد. ولم يذكر أصحابنا خلافاً في أن الغاصب يغرَم القيمة البالغة.
وليس لقائل أن يقول: القدر الذي يتغابن الناس [بمثله] (4) ليس ملتحقاً بالقيمة تعيُّناً،
__________
(1) في الأصل: يعرض فيه حط.
(2) في الأصل: بقيمته مضمونة.
(3) الرهن اللطيف: جزء من كتاب الرهن في (كتاب الأم) . وهو في المطبوع يسمى (الرهن الصغير) .
(4) ساقطة من الأصل.(7/525)
وشغلُ ذمة الغاصب في هذا القدر المظنون لا وجه له، فإنا وإن كنا نغلظ على الغصاب، فلا نُلزم ذممهم إلا على بصيرة وتثبّتٍ (1) .
وإذا اختلف المالك والغاصب في مقدار القيمة، فالقول قول الغاصب، وكذلك المشتري من المقارَض -في مسألتنا- لو اختار ربُّ المال تغريمَه، لغرّمه مائةً كاملة.
وإذا كان كذلك، فلا يبقى للتردد في حق المقارَض والوكيل وجه؛ فإنه قد باع بيعاً فاسداً، وكان في اعتدائه كالمغتصب، فلا خروج لهذا القول في حقه.
4955- فإن قيل: قد ينتج مما ذكرتموه فنٌّ من الإشكال: فإن كان ما يتغابن الناس بمثله محطوطاً عن الوكيل، وسببه أن القيمة مظنونةٌ، فيجب على مساق هذا أن لا تُشغلَ ذمةُ ضامنٍ بذلك المقدار. وإن كان ذلك معدوداً من القيمة، فالتسامح به لا وجه له، وحق الوكيل أن يبيع بثمن المثل، وكذلك المقارَض، فما وجه التلفيق في هذا؟
قلنا: هذا مقامٌ يتعيّن التثبتُ فيه. والأصل الذي يجب تأسيسُه أن القيمة التامة هي المتبع في الغرامات، وأبواب الضمان، وإنما التوقف في اعتبارها في قطع السرقة، على ما رمزنا إليه، وأحلنا استقصاءه على موضعه.
فإن قيل: القيمة مظنونةٌ. قلنا: لتكن كذلك؛ فإن معظم متمسكات الفقه ظنون، فلا محاشاة (2) من هذا، فارتد النظر إذاً إلى بيع الوكيل بأقلَّ من المائة، ولا مساغ لهذا إلا من جهة الأخذ من العرف؛ فإنا لو رددنا الأمرَ إلى صيغة الأمر بالبيع، فاسمُ البيع ينطلق على البيع بالغبن، وإنما لم ينفذ بيع الوكيل بالغبن، لأن أهلَ العرف لا يرون الأمرَ بالبيع متناولاً لهذا، والعرف هو المقيِّد للأمر المطلق، فإذا رأينا أهل العرف يتغابنون بالمقدار النَّزْر، فقد زال التقيد العرفي، ولزم تصحيح العقد بحكم الأمر بالبيع. هذا مَخْرجُ الكلام في هذا.
ويجب على حسب ذلك تزييف القول المحكي في الحط عن الوكيل البائع بالغبن؛ فإنا إذا أبطلنا تصرّفَه وألحقناه بالمعتدين، لم يبق للحط وجهٌ، وأي فقهٍ في قول
__________
(1) انتهى هنا قول القائل المقدّر.
(2) (ي) ، (هـ 3) : يتحاشى.(7/526)
القائل: لو باع بنيّف وتسعين، لقبل منه، فإذا لم يبع واعتدى، وجب أن نقنع منه بذلك المقدار؟ ولكنّ هذا الخلافَ مشهورٌ، فإذا لم نرض تنزيله على الصورة التي ذكرناها، فهل ننزّله على موضعٍ أقربَ من هذا؟
قال صاحب التقريب: إذا باع الوكيل عبداً يساوي مائة بالمائة، ثم سلّمه قبل تسليم الثمن، فقد أساء، فلو عسر الثمن، فالموكِّل يطالب الوكيل بماذا؟ فيه خلافٌ بين الأصحاب: منهم من قال: يطالبه بالثمن؛ فإنه فوته بتسليم العبد. ومنهم من قال: يطالبه بقيمة العبد. فإن قلنا: يطالبه بالثمن، فيطالبه بالمائة. وإن قلنا: يطالبه بقيمة العبد، فهل يطالبه بالمائة الكاملة؟ أم يحط عنه ما يتغابن الناس بمثله؟ فعلى الخلاف الذي ذكرناه.
وهذا غير مرضيّ عندي أيضاً؛ فإنه إن طولب بالقيمة، فسببه اعتداؤه بتسليم العبد، وقيمةُ العدوان تامةٌ. وأقرب الصور أن نبيع العبد بما يتغابن الناس بمثله، [ثم] (1) يفرط فيسلّمُ العبدَ، فيظهر (2) الخلاف في أنه يقنع منه بالثمن، أم تلزم القيمة التامة؟ وهذا يخرّجُ على أن الوكيل إذا تعدى بالتسليم، فيغرَم الثمن أو يغرم القيمة؟ هذا تفصيل القول في ذلك، وتنزيل محل الخلاف والوفاق على منازلهما.
4956- ثم قال الأصحاب: كما لا يبيع المقارَض بالغبن الفاحش، فكذلك لا يبيع بالنسيئة، إلا أن يأذن له رب المال. ثم إذا أذن في الشراء أو البيع بالنسيئة، فلا بد من الإشهاد، فإن لم يُشهد وأدّى الأمرُ إلى جحْدِ المشتري الثمنَ، فيجب الضمانُ بترك الإشهاد؛ فإن هذا يعد تقصيراً أو تركاً للتحفظ، ولم أر في هذا الطرف خلافاً، وتخريجه على ما أشرنا إليه.
ونحن نقرره، فنقول: لو اعتدى المقارَض [في المال] (3) ، ضمن، ولو ترك الاحتياط في الحفظ، ضمن، وترْكُ الإشهاد في العُرف تركٌ للاحتياط والتحفظ، فإذا جرَّ ضياعاً، أوجب الضمان، وعلى هذا الأصل قلنا: يضمن الوكيلُ البائعُ بالنقد إذا
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) (ي) ، (هـ 3) : فيقع.
(3) ساقط من الأصل.(7/527)
سلّم المبيعَ قبل توفّر الثمن، هذا في البيع إذا (1) وقع نسيئة.
فأما إذا باع عيناً بثمن حالّ، وترك الإشهاد، لم ينسب إلى التقصير بترك الإشهاد لأمرين: أحدهما - أن العادة لم تجر بالإشهاد في البياعات الواقعة بالنقود، والمتبع في ذلك كله العرفُ. والآخر- أنه في بيع العين يستمسك بالعين حتى يتوفر الثمنُ عليه، فإن سلم العيْن وجحد المشتري الثمن، فهذا تفريط منه الآن؛ فيلزمه الضمان.
وقد اختلف أصحابنا في القدر الذي يضمنه، فقال بعضهم: يضمن الثمن، وقال آخرون: يضمن قيمة المبيع؛ لأنه برَفْع اليد عنه في حكم من يضيع حقَّ الوثيقة على المرتهن.
وقال القفال: يضمن أقل الأمرَيْن من القيمة أو الثمن؛ لأن القيمة إن كانت أقلَّ، فنقول: كأنه فوت العين، وإن كان الثمن أقلَّ في صورة التغابن، فحقُّه بعد العقد الثمنُ، بدليل أنه لو حَصَلَ الثمنُ، لم يكن عليه شيء بعده. فهذا ما قاله الأصحاب.
والأصح عندنا أنه يضمن الأقلَّ، كما قال القفال، وإن (2) كان الثمن أكثر، فتسليم العين لا يتضمن تفويتاً [للزيادة] (3) ، فليقع التعويل على هذا.
والذي أراه أن من ذكر خلافاً في أنه يضمن الثمن أو القيمة، سنح له طرَفا الكلام ولم يستكملهما. والاحتواءُ عليهما يقتضي ما قاله القفال؛ فلا مزيد عليه.
4957- ولو اشترى في القراض خمراً، أو خنزيراً، أو أم ولد، وسلّم الثمن، فلا شك في بطلان الشراء، وإنما الكلام في الضمان. فلو فعل المقارض ذلك على علمٍ، فهو ضامنٌ للمال الذي بذله، ثم لا تفصيل في شراء الخمر والخنزير بين المسلم والذمي. وإن كان الذمي قد لا يرى نفسه مُفرطاً في شراء الخمر، فلا معوّل على عَقده.
ولو كان المقارَض جاهلاً فيما زعم، بأن ظن الجارية قنّة، فإذا هي أمُّ ولد، لم
__________
(1) (ي) ، (هـ 3) : الذي وقع.
(2) (ي) ، (هـ 3) : فإن.
(3) في الأصل: في الزيادة.(7/528)
يضمن الثمنَ الذي بذله؛ فإنه معذور في جهله بحالها، لأن القِنّة لا تمتاز عن أم الولد بعلامة تقْبلُ الإحاطةَ بها.
ولو اشترى خمراً وبذل ثمنها، ثم زعم أنه حسبها عصيراً، فهل يضمن الثمن المبذول؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يضمن كمسألة المستولدة. والثاني - أنه يغرَم بسبب التقصير في ترك التأمل، والخمر تتميز عن العصير والخل بالرائحة الفائحة، فإذا التبست عليه، كان ذلك بسبب تقصيره.
ثم إذا خرجت الجاريةُ أمّ ولد، فأراد ردَّها على البائع، فأنكر البائع أصلَ البيع وقَبْضَ الثمن، وتعذّر الردُّ لذلك، لم يضمن المقارَض شيئاً لرب المال، بسبب تركه الإشهاد على شرائها، لما أوضحناه من أن ترك الإشهاد في شراء الأعيان وبيعها لا يُعدّ تقصيراً.
هذا منتهى المسائل المنصوصة، ونحن نرسم بعدها فروعاً مستفادة، وقد يجري فيها ما لا يختص بأحكام القراض صادفناها للأئمة في أثناء الكلام.
فرع:
4958- نص الشافعيُّ على أنه لو دفع إليه ألفاً قراضاً، ثم ألفاً آخر، فإذا خلط (1) أحدَ الألفين بالآخر إن لم يكن تصرّف في واحد منهما، جاز، وكأنه دفع الألفين دفعة واحدة. وإن كان قد تصرف، لم يجز الخلط؛ لأنه ربما يكون قد وقع خُسرانٌ في أحد المالين، فإذا خلطهما وصارا مالاً واحداً، فيختلط الأمر، فإنّ جبران الخسران في أحد المالين لا بدّ منه، ثم يلتبس الأمر، فلا يُدرَى الجابر والمجبور.
ونص على أنه لو اشترى عبداً للقراض، فقال رب المال: كنتُ قد نهيتك عن شراء هذا [العبد] (2) ، وأنكر العامل ذلك، فالقول قول العامل مع اليمين؛ لأنه أمين، والأصل إطلاق التصرف.
4959- ومما نص عليه الشافعي، وهو أصل في الباب أنه لو كان في [مال] (3)
__________
(1) (ي) ، (هـ 3) : وقال: اخلط.
(2) في الأصل: العقد.
(3) في الأصل: باب.(7/529)
القراض عبد، فلا ينفرد رب المال بكتابته، وكذلك العامل لا يكاتبه، وذلك لأن الكتابة بمنزلة الإتلاف، ولهذا يُحسب على المريض من ثلثه، وهذا بيّنٌ، والغرض وراءه.
فإن اتفقا على الكتابة صحت، ثم ينظر: فإن لم يكن في المال ربحٌ، وكاتباه على قدر القيمة، فهو مكاتَب رب المال، يعتِق بدفع النجوم (1) إليه، والولاء فيه له.
والذي ذكره المحققون: أن الكتابة إذا صدرت على التراضي (2) تتضمن في الصورة التي ذكرناها فسخَ القراض؛ فإن الكتابة في حكم الإعتاق، وما يستفاد من المكاتَب أمرٌ جديد وسنَنْعطف على هذا آخراً.
وإن كان في المال ربح: بأن كان رأس المال ألفاً وقيمةُ العبد ألفان، وقد يظهر الربح بالكتابة [بأن] (3) كانت قيمته ألفاً، وكاتباه على ألفين، فالمكاتب بينهما، والنجوم بينهما: لرب المال ثلاثةُ أرباعها، وللعامل ربعها، فإذا أُعتق فثلاثة أرباع الولاء لرب المال، وربعُه للعامل. وهذا -من كلام الأصحاب- دليلٌ على أن الكتابة لا توجب فسخ القراض على الإطلاق؛ فإنهم أجرَوْا التصرفَ في نجوم الكتابة للمقارَض، لمّا فرضوا ورود الكتابة بعد ظهور الربح، وزادوا [على هذا، وفرضوا الربح بعقد الكتابة. فكأنهم اعتقدوا الكتابة منجزة] (4) على هذا التقدير، ووجه التخريج أن الكتابة إن لم تكن مندرجةً تحت التجارة المطلقة، فإذا وقع التراضي بها عُدّت من المكاسب الملتحقة بالتجارات.
وهذا يناظر عندنا البيعَ بالنسيئة؛ فإن المقارَض لا يستفيده بإطلاق معاملة القراض، ولكن إذا وقع الرضا به، التحق بمعاملات القراض.
فليفهم الناظر ذلك، وليرجع من هذا المنتهى إلى أول المسألة: وهو إذا لم يظهر ربحٌ، وكان مالُ القراض عبداً، لا ربح (5) فيه، فوقعت كتابته بقيمته، فمن أصحابنا
__________
(1) النجوم: جمع نجم، وهو القِسْط، من نجم الدين: إذا دفعه أقساطاً. (معجم) .
(2) (ي) ، (هـ 3) : عن تراضٍ.
(3) في الأصل: " فإن ".
(4) ما بين المعقفين سقط من الأصل.
(5) (ي) ، (هـ 3) : عبداً ولا ربح، فوقعت.(7/530)
من يرى ذلك فسخاً للقراض، ومنهم من لا يراه فسخاً، ويربط القراض بالنجوم.
وهذا تنبيه تفصيل المراتب، فنقول: إن تأكد القراض بظهور الربح، فالكتابة لا تتضمن فسخاً. وإن تضمنت الكتابة في نفسها إظهارَ ربحٍ، فالجواب كذلك. فإن لم يكن ربحٌ، ولم تتضمن الكتابة ربحاً، ففي انفساخ القراض وجهان.
فرع:
4960- إذا دفع رجلان كلُّ واحد منهما ألفاً إلى رجل ليشتري له به جارية، فاشترى بالألفين جاريتين لهما، ثم اشتبهتا عليه، ووقع الاعتراف بالاشتباه، فقد نص الشافعي على قولين: أحدهما - أنه تُباع الجاريتان للمالكين، ويقسم الثمن بينهما، ولا نظر إلى تفاوت القيمتين (1) ؛ فإنّ التمييز قد تعذر، فإن حصل ربحٌ، فهو مقسوم بينهما.
والقول الثاني - أنا نترك الجاريتين على المشتري، ونلزمه قيمتَهما للمالكين، وكأنه أتلفهما عليهما بالنسيان [المؤدي] (2) إلى الاشتباه، فالتزم قيمتهما، والجاريتان له؛ لأنه أحق بهما إذا غرم بدلهما لمالكيهما.
التفريع على القولين:
4961- إن قلنا بالقول الأول، وقد فرضنا المسألة في الوكيل، فنعود ونفرضها في المقارض، وللشافعي رضي الله عنه نصٌ على القولين في الوكيل والمقارَض جميعاً.
فإذا اشترى جاريتين لمقارضين على حسب ما صورناه، والتبس الأمر، بعناهما، فإن كان الثمن مثلَ مالَيْهما من غير مزيدٍ، قسم عليهما. وإن كان في الثمن ربحٌ، قسم الربح بينهما بالسَّوِية إذا استويا في أصل المال، ثم يرجع المقارَض على كل واحد منهما بحصته من الربح المشروط له.
وإن اتّفق خسرانٌ، فعلى المقارَض الضمان. هكذا قال الأصحاب. وهو يحتاج (3) إلى فضل تدبر.
__________
(1) (ي) ، (هـ 3) : قيمتي الجاريتين.
(2) في الأصل: وأدى.
(3) (ي) ، (هـ 3) : يرجع.(7/531)
فإن كان النقصان من غير انحطاط السوق، فهو محمولٌ على التضييع، ولكن التبس الأمر، فلزمه الضمان، وإن انحط السوق، فعليه جبر ذلك النقصان.
وهذا فيه فضل نظر؛ [فإنا] (1) إذا بعنا الجاريتين، وقسمنا قيمتهما، فالقراض لا يرتفع، ولو أراد المقارَض أن يتمادى على التصرف، جاز ذلك، ما لم يفسخ القراض.
ثم إذا فرضنا خسراناً عن انحطاط السوق، فإطلاقُنا القولَ بأنه يجب جبره، معناه أنه يُجبر بالربح، الذي سيكون، وهذا لا يجب؛ فإن المقارَض لو أراد الانكفاف عن العملِ [والاسترباحِ] (2) ، كان له ذلك، والخسران في القراض لا يجبر إلا بالربح المستقبل. فإذا كان لا يجب الاسترباح، فكيف يجب جبرانُ الخسران؟ والوجه في ذلك أن قيمة الجاريتين إن انحطت على نسبة واحدة من غير تفاوت، وكانت القيمتان متساويتين، فإيجاب جبران الخسران بعيدٌ هاهنا. وإن انحطت قيمةُ واحدةٍ دون الأخرى، والتفريع على أنهما تباعان، فلا يمتنع وجوب الجبران هاهنا؛ فإن كل واحد من المالكين يقول: لعل الجارية التي لم تنقص هي لي، فيصير العامل جانياً جنايةً تقتضي الغرمَ بسبب النسيان. ثم هذا الجبران إن وجب، فهو من مال هذا العامل، لا من الربح الذي سيكون.
فهذا منتهى النظر في التفريع على هذا القول.
4962- وإن فرعنا على القول الثاني، فالجاريتان تنقلبان إلى ملك العامل إذا تحقق اللّبس، ثم اختلف جواب الأئمة، فقال بعضهم: يغرَم المقارَض لهما أموالَهما، ولا نظر إلى قيمة الجاريتين. وإليه إشارة العراقيين، وهذا يلحق بانقلاب البيع إلى الوكيل، وتنفيذه عليه. وقد مضى لذلك أمثلةٌ في كتاب الوكالة.
وذهب طوائف من المحققين إلى أنه يغرَم قيمة الجاريتين ويقسطها عليهما بالسَّويّة، وهذا إذا لم تنقص القيمتان عن مالَيْهما، وإن زادت القيمتان التزمهما وجُعل بالنسيان كأنه أتلف الجاريتين. وإن كانت القيمتان أقلَّ، فلا بد من جبر
__________
(1) في الأصل: فأما.
(2) في الأصل: بالاسترباح.(7/532)
النقصان؛ فإنّا لو لم نقل هذا، لضيعنا طائفةٌ من أموالهما.
ثم من اعتبر مالَيْهما، فيظهر أن يقول: تنقلب الجاريتان إليه قبل أن يغرَم لهما المالَين، ومن اعتبر القيمة، فالرأي في ذلك مترددٌ عندي، وفحوى كلام الأئمة على هذه الطريقة أنه كالمتلف، ومساق هذا أنه يملك، ويغرّم، ولا يترتب الملك على الغرامة، [ولا] (1) يمتنع أن نقول: يتوقف جريان ملكه في الجاريتين على بذله قيمتيهما، كما يقول أبو حنيفة في ملك المضمونات بالضمان، فكيفما قدرنا، لم نسلِّم الجاريتين إليه، يفعل بهما ما يشاء قبل الغُرْم، هذا بيان القولين.
والقياس عندنا مذهبٌ ثالث، وهو أن تبقى الجاريتان لهما على الإشكال إلى أن يصطلحا، وسيكون لنا كلامٌ بالغٌ -إن شاء الله عز وجل- في اختلاط المتقومات بالمتقومات، مع تعذر التمييز. والذي أراه في ذلك أن أذكر فصلاً في كتاب الصيود عند ذكرنا اختلاطَ حمامِ زيدٍ بحمام عمرو مع اليأس من التمييز.
وما ذكره الشافعي من ترديد القول سببُه نسبةُ الوكيل إلى التقصير، من حيث [إنه] (2) لم يتحفظ حتى نسي، فنشأ من هذا تنزيلُ النسيان منزلةَ الإتلاف في قولٍ. ولو خلط رجل حمامَ زيد بحمام عمرو قصداً، فلا يمتنع أن يخرّج فيه هذا القول؛ فإن الخلط أثبت عُسراً لا يزول وحيلولةً قائمةً لا ترتفع واعتماد الخلط أشبه بالإتلاف من طريان النسيان على الوكيل.
فصل
يشتمل على مسائل لفظية في جزئية الأرباح أو نسبة جملتها إلى أحد الجانبين، نراها شذت عن الضوابط المذكورة في أول الكتاب.
4963- فنقول: أولاً- إذا قال: قارضتك على هذه الدراهم، ولم يَجْر للربح ذكرٌ، فهذا قراضٌ فاسد، وحكمه أن الأرباح لرب المال، وللعامل أجرُ عمله.
__________
(1) في الأصل: فلا.
(2) ساقطة من الأصل.(7/533)
وليس هذا كما لو قال: قارضتك على أن جميع الربح لي، على ما [تقدم] (1) بيانه؛ وذلك أنه لم يتعرّض لإضافة الربح فيما ذكرناه الآن بنفي ولا إثبات.
فليفصل الفاصل بين الصورتين، وهما يناظران صورتين في البيع: إحداهما - أن يقول: بعتك عبدي هذا، ويقول [المخاطب] (2) : اشتريتُ، ولا يقع للثمن تَعرض بنفيٍ ولا إثبات، فهذا بيعٌ فاسد، ولا يحمل على الهبة، جواباً واحداً، والقبض المترتب عليه يتضمن الضمان. وهذا يناظر ذكرَ القراض مع السكوت عن جزئية الربح.
والصورة الثانية في البيع- أن يقول: بعتك عبدي هذا بلا ثمن، فللأصحاب تردد في أن هذا يحمل على الهبة. وإن لم يحمل على الهبة، فهل يتضمن ضماناً إذا اتصل القبض به؟ وقد يناظر هذا في بعض الوجوه ما لو صرَّح بإضافة الربح إلى العامل.
والغرض مما ذكرناه التنبيهُ على الفصل بين السكوت عن الربح، وبين إضافته بكماله إلى أحد الجانبين.
4964- ولو قال: قارضتك على هذه الدراهم على أن الربح بيننا، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن القراض فاسد لعروّه عن جزئيةٍ معلومةٍ في قسمة الربح. والوجه الثاني - أنه يصح، ويحمل قولُه: "والربح بيننا" على نسبة التنصيف والتشطير، وكل ما أضيف إلى جهتين، أو شخصين بهذه الصيغة فمقتضاه التنصيف؛ فإن من قال: هذه الدار لزيد وعمرو، حمل مُطلق قوله على الإقرار لكل واحد منهما بنصف الدار.
ولو قال: قارضتك على أن كل الربح لك، أو على أن كل الربح لي، فهذا مما تقدّم استقصاءُ القول فيه، فلا نُعيده.
وفي المساقاة لو قال: ساقيتُك على هذه النخيل على (3) أن الثمار لك، فهذه مساقاة فاسدة، ولا يتجه إلا هذا الوجه. وليس كما لو قال للمقارَض: كل الربح
__________
(1) في الأصل: تقرر.
(2) في الأصل: الخاطب.
(3) في الأصل: أو على أن الثمار.(7/534)
لك؛ فإنا في وجهٍ نجعل ذلك إقراضاً. وهذا لا يتأتى في المساقاة؛ فإن صرف جميع الثمار مع العلم بأنها متميزةٌ عن النخيل، لا يتضمن إقراض رقاب النخيل.
ولو قال: ساقيتُك على أن جميع الربح لي، فلا يبعد التسوية بينهما في هذا الطرف.
وقال بعض أصحابنا: إذا شرط جميع الثمار لنفسه في المساقاة، كانت مساقاة فاسدة وجهاً واحداً، ولا يجري فيه الاختلاف الذي ذكرناه فيه إذا قال في القراض: على أن جميع الربح لي. والفرقُ لا يظهر في هذا الطرف، وإنما يظهر في الطرف الآخر، كما تقدم.
ولو قال: خذ هذه الدراهم، وتصرف فيها على أن جميع الربح لك، فقد قال قائلون: هذا قرضٌ وجهاً واحداً، وإنما الوجهان فيه إذا قال: قارضتك على أن جميع الربح لك، ففيه التردد الذي مضى. والفارق عند هذا القائل، أنه لم يجر اللفظ المختص بالمعاملة، بل قال: خذ، وتصرّف.
وكان شيخي لا يُفرّق بين هذه الصورة، وبين ما إذا قال: قارضتك على أن كلَّ الربح لك.
4965- فإن قيل هل تُعيّنون في المعاملة التي نحن فيها ألفاظاً؟ قلنا: القراضُ، والمضاربة، والمعاملة، ألفاظٌ مختصة بهذا النوع.
وإن لم تجر هذه الألفاظ، بل جرت عبارات تُشعر بمقاصد المعاملة، كفت، والضابط فيه إذا وقع التصريح بالمقصود من التسليط على التصرف وقسمة الربح، كفى. وإذا جرت الألفاظ المشهورة، أغنى جريانُها عن ذكر التسليط على التجارة؛ لأنها صرائحُ شائعةٌ في مقاصد العقد.
وإن جرى لفظُ القراض مع ما يُناقض الموضوعَ، فقد نقول بالفساد، وقد نرى الحيدَ عن موضوع المعاملة، وذلك مثل أن يقول: على أن كل الربح لك، أو يقول: على أن كل الربح لي.
وإن لم يجر لفظ صريح، وجرى حيدٌ عن مقصود المعاملة، مثل أن يقول: خذ،(7/535)
وتصرف، ولك الربح كله. فمن أصحابنا من يقطع بأن هذا حائد عن القراض، لعروّه عن صريح لفظه، وعن مقصوده الشرعي. ومن أصحابنا من جعل هذا وقولَ القائل: قارضتك على أن كلّ الربح لك بمثابةٍ.
ومما ذكره القاضي أنه لو قال: قارضتك أو ضاربتك، فلا بد من القبول المتصل، على ما لا يكاد يخفى وجه اتصال الإيجاب بالقبول.
ولو قال: خذ هذه الدراهم، واتّجر فيها، ولك نصف الربح، فلا حاجة إلى القبول. قال القاضي: وهذا بمثابة ما لو قال لمن يخاطبه: بع عبدي، فلا حاجة إلى القبول.
4966- ولو قال: وكلتك ببيعه، فقد نقول: لا بد من القبول. أما الوكالة، فقد قدمنا ما فيها، وأما مصير هؤلاء إلى أن المعاملة إذا عريت عن لفظها الصريح، وفُرضت بمثل قول القائل: خذ هذا، وتصرف، فلا حاجة إلى القبول، فبعيدٌ، لا أصلَ له.
وقد قطع شيخي والطبقة العظمى من نقلة المذهب أنه لا بد من القبول، وكيف لا يكون كذلك، وهذه معاملة مختصة بمعيّنٍ، فيها استحقاق العوض والمعوّض، فكيف تثبت من غير قبول؟ وإن ظن ظانٌّ أن ذلك يلتحق بالجعالات، فقد أبعد؛ فإن وضع القراض يخالف وضع الجعالة؛ [إذ وضعُ الجعالة] (1) على إبهام العامل، مثل قول القائل: من رد عليّ عبدي الآبق، فله كذا، ومصلحة [تيك] (2) المعاملة تقتضي هذا. ثم شرط صحة الجعالة إعلامُ الجعل تقديراً، أو تعييناً، والقراض معاملةٌ برأسها بعيدةُ المأخذ من الجعالات.
ولا خلاف أن لفظ المقارضة يستدعي القبول، فإذا جرى ذكر مقصود المقارضة، وجب الافتقار [إلى] (3) القبول؛ فإن المقارضة لا [تُعْنى] (4) لصيغتها، وإنما هي لفظة
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) في الأصل: ملك.
(3) حرفت في الأصل: إن.
(4) في الأصل، (ي) : يغني. والمثبت من: (هـ3) .(7/536)
دالّةٌ على مقصود، وهذا إن احتمل في الوكالة من حيث إنه إذنٌ، لم يتجه مثلُه فيما يتضمن عوضاًً، ومعوضاً، وأحكاماً وأركاناً.
فرع:
4967- رأس مال القراض يجب أن يكون معلوم المقدار، ولا يكفي في الإعلام الإشارة؛ [فلو] (1) قال: قارضتك على هذه الدراهم، وأشار إلى صُرَّةٍ منها، مجهولةِ المقدار، فالمعاملة فاسدة جواباً (2) واحداً.
وقد اختلف قول الشافعي في أنا هل نشترط إعلام رأس المال في السّلم؟ والفرق بين الأصلين أن مال القراض يؤول إلى تنضيض رأس المال، وكيف يتصور المصير إلى هذا من غير إعلام رأس المال، وليس كذلك السَّلَم؛ فإن استبهام الأمر فيه بسبب جهالة رأس المال موهومٌ، وذلك بأن يُفرض انقطاعُ المسْلَم فيه، ومسيسُ الحاجة إلى الرجوع إلى رأس المال. وأمر القراض مبناه على تمييز رأس المال عن الربح.
فصل
4968- فيما يتّفق في مال القراض من الزوائد المنفصلة، كالثمار والنِّتاج، وما في معناهما، ويتصل بذلك القولُ في منافع مال القراض، وهذا أصلٌ لم يعتن الأصحاب بجمع قولٍ فيه، ونحن تكلفنا تلقِّي حقيقة المذهب من النص، وأقوال الأئمة في هذا الفصل، فنقول:
إذا اشترى العامل مواشيَ، وكان يتربص بها ليبيعها، فاتفق نتاجٌ في مدة التربّص، أو اشترى نخيلاً، فاتفقت ثمارٌ في مدة التربص، فالذي نحققه من مذهب الأئمة أن هذه الزوائد [تلحق بمال القراض، وتُعدّ منها، وكان من الممكن في طريق القياس أن يقال: هذه الزوائد] (3) فوائدُ عينية ليست مستفادةً من قبل التجارة، وإنما يشارك العامل ربَّ المال في الأرباح؛ فإن هذه المعاملة موضوعة لتحصيل الأرباح، ولكن لم يقل بهذا أحدٌ، والسبب فيه أن العامل إذا اشترى برأس المال نخيلاً أو مواشي،
__________
(1) في الأصل: ولو.
(2) (ي) ، (هـ 3) : جواب.
(3) ما بين المعقفين سقط من الأصل.(7/537)
فقد استبهم من هذا الوقت أمرُ الربح ورأس المال؛ فإن المتقوّمات لا ثقة بقيمتها حتى تنض. وإذا كان يثبت للعامل حقٌّ في الربح، بل يثبت له حق في العروض، وإن لم يبدُ ربحٌ، فما يتفق شراؤه يجب أن تشيع فوائده وزوائده.
وكان شيخي يقول: حصول الفوائد محمولٌ على تسبب العامل إلى شراء الأصل؛ إذ لولا شراؤه له، لما حصلت الزوائد. والأرباحُ إنما تحصل على تحصيله من هذه الجهة أيضاً، فيجب أن يعتقد التحاقُ الزوائد بمال القراض، ثم لا نحكم فيها بأنها أرباح أو زوائد، ولكن هي من مال القراض، وجملة مال القراض لا تميُّزَ فيها من طريق التعيين، ولكن رأس المال والربح شائعان، وإنما يتميز رأس المال عن الفوائد (1) الزائدة بالمفاصلة آخراً، كما ذكرناه.
4969- ومما يتعلق بتحقيق هذا الفصل حكمُ المنافع. أولاً: قال الأصحاب: لو كان في مال القراض جاريةٌ، فوطئها أجنبيٌّ بالشبهة، والتزم مهر المثل، فهو مأخوذٌ منه، مضموم إلى مال القراض، شائعٌ فيه؛ ولا نقول: إنه متجدد في نفسه، ويلحق (2) بالفوائد تعييناً وتخصيصاً، وإذا ذكروا ذلك في عوض منفعة البُضع، فأعواض سائر المنافع بذلك أولى؛ فإنها إلى المالية أقرب، وهي مضمونة بيد العدوان، كالأعيان، بخلاف منافع البُضع.
ويخرج من ذلك أن المقارض لو أراد ألا يعطل منافع الأعيان المنتفع بها، بأن يعقد في زمان [التربص] (3) بالبيع -على ما يرى- فيها إجارةً، فلا بأس. ثم ما يحصل ينضم إلى مال القراض.
وليس للعامل أن يزوج الجارية؛ لأن التزويج ينقص قيمة العين، بخلاف الإجارة.
وقد نص الشافعي على أن المالك لو أراد أن ينتفع ببعض أعيان القراض، لم يكن
__________
(1) (ي) ، (هـ 3) : عن الزوائد.
(2) (ي) ، (هـ 3) : فيلتحق بالزوائد.
(3) غير مقروءة بالأصل.(7/538)
له ذلك، حتى لو شرط ركوب دابة تتّفق، أو استخدام عبد يقع في مال القراض، كان الشرط فاسداً مفسداً.
وقد ذكر الأصحاب أن المأذون له في التجارة لا يكري، ولا يؤجر، وصرحوا بأن الإجارة ليست من التجارة.
وقد يبتدر الفقيه إلى أن المقارَض متجرٌ في المال، فينبغي ألا يزيد على التجارة.
وهذا فيه نظر؛ فإنا في المسلك الذي نُجريه نعتقد أن العامل من وجهٍ متجرٌ، ومن وجهٍ متصرّفٌ في ملك نفسه؛ من جهة أنه يملك جزءاً شائعاً، أو يملك أن يملكه، ولا نُطلق القولَ بنفي الربح، ولا بإثباته. والأمر مبهم [مشتبه] (1) . هذا وضع القراض.
ولو كان يتصور لرأس المال منفعة، ربما كان يغمض النظر فيها، ولكن لا منفعة للنقد، [و] (2) إذا صرفه إلى العروض، التبس الأمر، كما قررناه، ولذلك يستحق البيع، أو يجب عليه البيع، كما فصلنا القول في ذلك.
4970- ثم ذكر القاضي أمراً بدعاً لا يهجم على مثله [إلا صؤولٌ] (3) في الفقه (4) جوّالٌ في [معاصاته] (5) : وذلك أنه قال: لو وطىء رب المال جارية القراض، فنقول: هو بالوطء متلف منافع البضع، فنجعله كما لو أتلف عيناً من أعيان مال القراض، ولو فعل ذلك، لكان مسترداً لذلك القدر من مال القراض. ثم المسترد وفي المال ربحٌ يقع شائعاً من رأس المال والربح، كما قدمنا تفصيل ذلك، فيجعل رب المال بالوطء مسترداً لمقدارِ مَهْر المثل، وذلك بأن يقدر ثبوت مهر المثل أولاً منضمّاً إلى المال، ثم نقدرُ استرداده [وبمثل] (6) هذا لو وجب مهر المثل بوطء أجنبي، ثم فرض الاسترداد فيه.
وهذا قد يستبعده الناظر على البديهة، فإذا أحاط بما مهدناه قبلُ، ثابت إليه
__________
(1) في الأصل: مشتبك.
(2) [الواو] ساقطة من الأصل.
(3) في الأصل: أصول في الفقه.
(4) (ي) (هـ 3) : إلا صؤول في فقهه.
(5) في الأصل: مغاصاته.
(6) في الأصل: ولمثل.(7/539)
نفسُه، واستمر مريره (1) وعلم من خاصية القراض ما نبهنا عليه.
ومن بديع ما [نذكره] (2) : أنا لا نوجب على العامل أن يكري ويؤاجر، وكيف نوجب عليه ذلك، ولا نلزمه أن يتجر، ولو ضيّع متاجرَ رابحةً، وجهاتٍ في المكاسب لائحةً، لم يتعرض للضمان، ولكن يكفيه أن يخيب مع خَيْبة رأس المال.
ولو وطىء رب المال الجاريةَ الواقعة في مال القراض، وأولدها، صارت أمْ ولد له، ويصير مستردّاً لقيمتها، ثم حكم الاسترداد ما ذكرناه.
ولم يتعرض القاضي في هذه المسألة لثبوت المهر تقديراً، ثم لثبوت القيمة بعد المهر، والذي يقتضيه قياس مذهب الشافعي، تميز المهر عن القيمة، وثبوتهما جميعاً؛ ولهذا نقول: إذا استولد الأب جارية ابنه، التزم مهرها، وقيمتَها: المهرُ بالتغييب (3) والقيمةُ بحصول العلوق.
وهذا محتمل جداً في حق رب المال؛ فإنه إذا أفضى أمره إلى الاستيلاد، حُمل أول فعله وآخرُه على استرداد الجارية، وهذا لا يتحقق في جارية الابن مع الأب؛ فإنه فيها بمثابة المتلف، وهذا مشكل جداً، والقياس الجمع بين المهر والقيمة، ولم يتعرض القاضي لذكر المهر مع جريان الاستيلاد، وقرن به ذكرَ المهر إذا تجرد الوطء.
فليتأمل الناظر هذه [المعاصات] (4) .
فرع:
4971- من غصب دراهمَ، ثم إن مالكها قارض الغاصب عليها، فالقراض صحيحٌ. وفي براءة الغاصب عن ضمان الغصب، وجهان ذكرهما الأصحاب.
ولم يسمح أحدٌ بذكر خلافٍ في زوال ضمان الغصب بسبب رهن المغصوب من الغاصب، مع أن الرهن أمانةٌ كأموال القراض، والقراض والرهن لا يعقدان للائتمان المجرد، وهما متعلقان بغرض الغاصب، بل الغرض في القراض أظهر؛ فإنه حق تملك.
__________
(1) ساقطة من (هـ 3) ، وفي (ي) : مردّه. واستمرّ مريره: أي استحكم عزمه (معجم) .
(2) في الأصل: ذكرناه.
(3) كذا في النسخ الثلاث: بالتغييب، أي الوطء وتغييب الحشفة، وقد تكون (التعييب) بالمهملة، بمعنى إتلاف منفعة البضع.
(4) في النسخ الثلاث: المغاصات.(7/540)
وأقصى ما أقدر عليه في مثل ذلك [ذكر] (1) وجه الإشكال.
فإن قلنا: لا يزول ضمان الغصب بطريان القراض، فلو صرف تلك الدراهم المغصوبة إلى جهات التجارة، وقبض أعواضها، انقطع الضمان عنه في الدراهم؛ فإنه بتسليمها جرى على موجب الإذن فيها، وزالت يدُه عنها. ثم ما يقتضيه من أعواضها، فهو أمين فيها؛ فإنه لم يتقدم منه فيها سببُ ضمان، وهذا لائح.
فرع:
4972- إذا دفع إلى رجل ألفاً قراضاً على الشرط المرعي، فلو خلطه بمال نفسه، فقد أساء، وصار ضامناً؛ فإن من الأسباب المضمنة للأمناء أن يخلطوا الأمانة بغيرها.
ثم مع هذا قال الأصحاب: لا ينعزل من التصرف، بل ينفذ تصرفه في المال حتى إذا خلط ألفاً بألفٍ، وأخذ يتجر، فرأس مال القراض من الألفين ألفٌ، والألف الآخر للعامل، وما يتفق من ربحٍ يُنصّف بين الألفين، وللعامل النصف على مقابلة ألفه، والذي يخص ألفَ القراض يقسم بين المالك وبين العامل، على موجب التشارط.
وهذا إذا جرى من غير شرط، فحكمه ما ذكرناه.
ولو عامل [رجل] (2) رجلاً على ألفٍ، على أن يخلطه بألفٍ آخر لنفسه، فالشرط على هذا الوجه فاسدٌ مفسدٌ؛ فإنه مخالفٌ لوضع الشرع في تصوير القراض، وآيةُ ذلك أنه إذا وقع، صار ضامناً لمال القراض، وإن كان لا ينقطع التصرف به.
فرع:
4973- إذا اختلف العاملُ وربُّ المال في شرط الربح وجزئيته، فقال العامل: شرطت [لي] (3) النصف، وقال رب المال: بل الثلث، قال الأصحاب: يتحالفان، ثم حكم تحالفهما أن يرتدّ الربحُ بكماله إلى رب المال، ويثبت للعامل أجر مثله، وهذا في ظاهر الأمر قياسٌ. وفيه فضل نظر سنذكره على أثر هذا، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) في الأصل: تذكير، وفي (ي) ، (هـ 3) : بذكر. والمثبت من تصرف المحقق.
(2) سقطت من الأصل.
(3) في الأصل: إلى.(7/541)
ولو قال رب المال: رأس المال كان ألفاً، وقال العامل: بل كان خمسمائة، فالذي ذهب إليه المحققون أن هذا ليس من صور التحالف، بل القول فيه قول العامل؛ فإنه مؤتمن، وأدنى درجات الائتمان أن يصدَّق في مقدار المقبوض. وإذا لم يجر التحالف في هذه الصورة، حلّفنا العاملَ، وميزنا رأس المال أخذاً بقوله، وقسمنا الفاضل على موجب التشارط.
وذكر العراقيون وجهاًً في أن الاختلاف في رأس المال يوجب التحالف، ثم أثره ارتداد الربح بكماله إلى المالك، ورجوع العامل إلى أجر المثل، وهذا ضعيفٌ مزيف.
وليس ما ذكرناه كالاختلاف في جزئية الربح؛ فإن ذلك تنازعٌ في صفة العقد.
فصل
4974- قد ذكرنا القراض الفاسد، وهذا أوان بيان حكمه، فنقول: القراض الفاسد هو الذي يجري قراضاً، ويختل [شرط] (1) صحته. والحكم فيه انقطاع المسمى من الربح في مقابلة العمل، ومقتضى ذلك رجوع الربح بجملته إلى المالك، ثم لا يخيب العامل، فله قيمةُ عمله، وهو أجر المثل، وهذا جارٍ على قياس ترادّ الأعواض.
ثم إن حصل ربحٌ بالعمل -وإن قلّ- فالحكم ما ذكرناه. وإن لم يحصل شيء من الربح، وقد فسد القراض، فهل يستحق العامل أجر المثل؟ فعلى وجهين. ذكرهما شيخي: أحدهما - وهو الظاهر- أنه يستحق أجر مثل عمله، ولا نظر إلى الربح، حصل أو لم يحصل؛ فإنّ موجب القراض الفاسد تقويم عمل العامل.
والوجه الثاني - أنه لا يستحق أجر المثل إذا لم يكن ربحٌ؛ فإن القراض لو كان صحيحاً، لكان يتعطل في هذه الصورة حقُّ العامل، فمبناه إذاً على أنه لا يستحق شيئاً، إذا لم يكن ربحٌ.
وهذا ضعيفٌ لا اتّجاه له.
__________
(1) في الأصل: بشرط.(7/542)
وقد يجري في صور الفاسد حيْدٌ عن جهة القراض بالكلية، عند بعض الأصحاب، ولم (1) يقع تصرفهم فيه على حسب ذلك.
وهو إذا جعل الربحَ بكماله لنفسه، أو جعله بكماله للعامل، وقد قدمنا تصرف الأصحاب في ذلك، و [ذكرنا] (2) مصير بعضهم إلى أن هذا إقراضٌ في صورة، وإبضاع في أخرى.
والجملة في ذلك أن القراض إذا فسد والمقارَض فيه على طمعِ استحقاق جزء من الربح بموجب القراض، فهذا هو القراض الفاسد، الذي يقال فيه: للعامل أجر عمله، ولرب المال الربح. وإن لم يكن خوض العامل على قصد استحقاق جزء من الربح؛ فيختبط النظر حينئذ.
فصل
في مقارضة الرجل رجلين، وفي مقارضة رجلين رجلاً
فنقول: أطلق الأصحاب القول في تجويز ذلك كله. فإن قارض رجلان واحداً على مالٍ مختلط بينهما، على نسبة معلومة، وشرط أحدهما للعامل من نصيبه النصف، وشرط آخر له من نصيبه الثلث، فهذا جائز، وهو كما لو [أفرد] (3) هذا قراضاً معه على النصف وهذا قراضاً آخر على الثلث.
ولو شرطا نصف جميع الربح له من المالين، فجائزٌ حسن، فلو أنهما قالا للعامل: النصفُ. وقالا: ما بقي من الربح بعد نصيبه مقسومٌ بيننا، لا على ما يقتضيه مقدارُ المِلكين. فإن استويا في الملك، وشرطا أن يكون بقيةُ الربح أثلاثاً بينهما، فهذا فاسدٌ، مخالف لوضع الشرع، ثم قال الأصحاب: هو مفسدٌ للقراض، وقد يخطر للفقيه أن هذا تشارط وراء مقصود القراض، فيجب ألا يؤثر فيه، وليس الأمر كذلك.
__________
(1) (ي) ، (هـ 3) : ثم يقع.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) غير مقروءة بالأصل.(7/543)
والمسألة شبيهةٌ بما لو شُرط في القراض جزء من الربح لثالثِ، ليس عاملاً، ولا مالكاً، وقد ذكرنا ما يتعلق بذلك، فشرط مزيد الربح لأحد المالكين على خلاف ما يقتضيه قدرُ ملكه يضاهي شرطَ الربح لثالث، وهو لا يستحقه في وضع الشرع.
4975- ولو قارض رجل رجلين وشرط لأحدهما النصف، وللآخر الثلث، فجائز لتعدد المالك (1) ، وحكم التعدّد (2) تعددُ العقد.
ويعترض في هذا إشكالٌ، وهو أن مقارضة الرجل رجلين إن كان على أن يستبد كل واحد منهما بالتصرف، إذا اتفق متجرٌ من غير أن يحتاج إلى مراجعة صاحبه، فهذا على هذا الوجه انبساط في التصرف، فيُخيّل (3) انتفاء الحجر.
لكن فيه إشكال؛ من جهة أن أحدهما لا يثق بتصرف نفسه، ولا يأمن أن يكون تصرفه مسبوقاً بتصرف صاحبه.
وقد يتفرع عليه أنه إذا لم يتفق من أحدهما عمل أصلاً، وجرى العمل كله من الثاني، فيستحيل أن يستحق من لم يعمل شيئاً، ويجب أن يكون المشروط من الربح للعامل، وهذا فيه إشكال؛ فإنه لم يشترط الربحَ له وحده، ثم يلزمه منه إذا قبل بذلك أن يختلف الأمر (4) بمقدار العملين، وهذا أمر لا ينضبط.
هذا إذا جرى القراض على أن يستقل كل واحد منهما بالتصرف.
ولو كان القراض على ألا ينفرد أحدهما بالتصرف ما لم يطابقه الثاني، فهذا يجرُّ إشكالاً آخر؛ فإن ذلك يتضمن حجراً على كل واحد منهما، وقد قدمنا فيما سبق أن المالك لو شرط على المقارض ألا يمضي أمراً حتى يشاور رجلاً عيّنه، أو حتى يراجع ربَّ المال، فالقراض يفسد بذلك. هذا وجه الإشكال.
__________
(1) كذا في النسخ الثلاث، ولعلها (العامل) أو المراد: التعدد الحكمي، لتعاقده مع اثنين.
(2) (ي) ، (هـ3) : وحكم ذلك تعدد العقد. وعبارة الرافعي: "إذا فارض الواحد اثنين، وشرط لأحدهما ثلث الربح وللآخر ربعه.. جاز لأن عقد الواحد مع اثنين كعقدين". انظر: فتح العزيز (بهامش المجموع: 12/27) .
(3) (ي) (هـ3) : وتخيل.
(4) (ي) ، (هـ 3) : الربح.(7/544)
4976- ونحن نقول بعده: مقارضة رجلين على أن يستقل كل واحد منهما بالتصرف في جميع المال فاسدٌ، لا شك فيه؛ فإن هذا وإن كان يُخيل انبساط أمر (1) كل واحد منهما، فهو في التحقيق أعظم تضييق، وفيه سقوط ثقة كل واحد منهما بما [يكون] (2) عليه. ثم يجر من الخبل في التفريع ما ذكرناه من اتفاق انفراد أحدهما بالعمل، أو تفاضلهما فيه؛ فلتخرج هذه الصورة عن إرادة الأصحاب للحكم بالصحة.
فأما إذا قارض رجلين على ألا ينفرد واحد منهما بالتصرف، فهذا فيه ما أشرنا إليه من إشكال الحجر، ولكن يعارضه التعاون والتناصر، وهذا يزيد أثره على ما ينحسم بالحجر.
وينفصل رجوع أحد العاملين إلى الثاني عن مسألتين: إحداهما - اشتراط مراجعة ثالث، لا خوض له في القراض، والأخرى- اشتراط مراجعة المالك. أما اشتراط مراجعة ثالث، فتثير حجراً ظاهراً؛ فإنه ليس في ذلك الثالث ما يستحثه على تنفيذ التصرف، والاتساع في المتاجر، وإذا لم يكن له غرض، فقد يتبرّم بالمراجعة، ويبغي الإفلات منها، ثم يجرّ ذلك عسراً بيّناً. والعاملان إذا تناصرا فكل واحد منهما يستحثه ماله من الحظ على السعي في تحصيل المتاجر. هذا وجه بيّن.
وأما مراجعةُ المالك؛ فإنها تُحبط استقلال العامل بالكلية، ويتشوّف المتصرفون إلى المالك، وما يُسقط استقلال العامل ينافي وضعَ القراض، فهذا ما أردناه.
وقد يتجه في مقارضة الرجل رجلين أن يحمل على كون كل واحد من العاملين مقارضاً في قسطٍ من المال، وقد أوضحنا أن الشيوع غير ضائر، وكلام الأصحاب في التفريع يشير إلى ذلك؛ فإن مما ذكروه: أنه لو قارض رجلين، وجعل نصيب أحدهما من الربح أقلَّ جاز، وهذا إنما يفرض بأن يقدّرَ كلُّ واحدٍ منهما مقارضاً في قسط، وهو منفرد بمعاملة المالك فيه، ثم المالك إن أثبت في كل معاملة نسبةً أخرى، على حسب التوافق، فلا معترض.
ولو قدرنا القولَ بصحة مقارضة رجلين على التناصر، فهما كالعامل الواحد في
__________
(1) (ي) ، (هـ 3) : انبساط من كل.
(2) في الأصل: تقدم.(7/545)
جميع المال، فلا يبقى لرب المال مقامُ الاحتكام بتفضيل أحدهما على الآخر.
4977- فخرج من مجموع ما ذكرناه ثلاثة أقسام: أحدها - أن يقارض رجلين على أن يتصرف كل واحد منهما في جميع المال، وهذا باطل، لا شك فيه؛ فإن في استقلال كل واحد منهما عدمُ استقلال صاحبه، وهو في التحقيق شَغْلُ مال واحد بقراضين. هذا قسم.
والقسم الثاني - أن يتعاونا على العمل في الجميع، هذا محتملٌ، كما رددنا القول فيه. والأظهر البطلانُ لما ذكرنا آخراً من إضافةِ مالٍ واحدٍ إلى حقَّي عاملين، وهذا لا وجه له. وحق المقارَض عظيمُ الوقع في الشرع.
والقسم الثالث - أن يقع مقارضةُ الرجلين، على أن يكون كل واحد منهما عاملاً في شطر المال. وهذا جائزٌ لا يرده راد. وقد قال الشافعي: تعدد المقارض يتضمن تعددَ القراض، ولا محمل لهذا إلا ردَّ تصوير مقارضة الرجلين إلى ما ذكرناه آخراً؛ فإنا لو فرضنا متناصرين على العمل في جميع المال، لكانا كالعاقد الواحد.
فهذا منتهى الكلام في ذلك، وقد نبهنا في أول الكتاب على الإشكال، ولم نفصله.
4978- وقد بأن الآن ومما أُجريه في هذا المجموع -ولا شك في تبرم بني الزمان به- أني كثيراً ما أُجري المسائل على صيغة المباحثة، ثم هي تُفضي إلى مقر المذهب (1) آخراً، ويعلم المسترشد طريق الطلب، والنظر، وهذا من أشرف مقاصد الكتاب؛ فلست أخل به لجهل من لا يدريه.
فصل
في تلف مال القراض، أو تلف بعضه
4979- لا خلاف أنه إذا تلف جميع المال قبل التصرف، فقد انتهى العقد، وانقطعت علائقه.
__________
(1) (ي) ، (هـ 3) : المسألة.(7/546)
وإن تلف البعضُ بأن كان رأسُ المال ألفاً، فتلفت خمسمائة، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن القراض ينفسخ فيما تلف، ويبقى فيما بقي، وفائدة ذلك خروج التالف عن الحساب، والمصيرُ إلى أن رأس المال هو الذي بقي، حتى (1) نقول: إذا تصرف العامل فيما بقي وربح، فلا يلزم جبرانُ الخمسمائة التالفة.
والوجه الثاني - أن القراض لا ينفسخ فيما تلف، وإذا اندفع العامل في العمل، فرأسُ المال ألف، ويجب جبران الخمسمائة التالفة.
ووجه الوجه الأول واضح، ووجه الثاني أن العقد إذا بقي ببقاء بعض رأس المال، فما جرى من النقصان يُعدُّ في عُرف المعاملة من النقصانات التي تجبرها الزيادات إذا اتفقت، ولعل الأقيس الأول.
4980- ولو اشترى بالألف التي دفعها إليه عبداً، ثم تلف الألفُ قبل أن يوفره على البائع، [نظر: فإن كان اشترى العبد بعين الألف، انفسخ العقد بتلفه، وارتد العبد إلى البائع] (2) ، ولا ضمان على المقارَض، وانقطعت علائق القراض.
وإن كان اشترى العبدَ في الذمة، فالعقد قائم، ثم فيه وجهان: أحدهما - أنه ينقلب العقد إلى العامل، ويلزمه نقدُ الثمن من ماله؛ لأن رب المال لم يرض بأن يزيد تصرفُه على الألف المسلم إليه، ولا سبيل إلى الحكم بانفساخ العقد، فلا مسلك أقربُ من انقلاب (3) العقد إلى من تولاه.
والوجه الثاني - أن العقد لا ينصرف عن رب المال؛ فإنه وقع له، ودخل العبد في ملكه تحقيقاً، فعليه بذلُ ألفٍ آخر في ثمن العبد، والألف الذي تلف لا ضمان بسببه على العامل، لكونه مؤتمناً.
فإن حكمنا بأن العقد ينصرف إلى العامل، فقد انقطع القراض، ولا كلام فيه، وعلى العامل ثمن العبد.
__________
(1) في الأصل: حتى لا نقول. (وهو لا يتفق مع السياق) . والمثبت من (ي) ، (هـ 3) .
(2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(3) (ي) ، (هـ 3) : ردّ العقد.(7/547)
وإن حكمنا بأن العقد لا ينصرف إلى العامل، وعلى المالك (1) بذلُ ألفٍ آخر، فرأسُ المال ألفٌ أو ألفان؟ فعلى وجهين مرتبين على الوجهين فيه إذا تلف من الألف خمسمائة. فإن قلنا: رأسُ المال الخمسمائة الباقية، فرأس المال الألف الواحد، وهذا أولى؛ فإن الألف الأول تلف بالكلية؛ وفي المسألة الأولى بقي من رأس المال شيء.
وإن قلنا: في تلف بعض رأس المال: إن رأس المال الألفُ الكامل، فرأس المال في هذه المسألة ألفان، والباقي في المسألة الأولى هو [عُلقة] (2) العقد، ومنه ينشأ جبران النقصان، والباقي في المسألة الثانية علقة العقد، وبقاؤه على حكم القراض.
ولا يمتنع عندنا أن يقال: إذا تلف الألف، انفسخ القراض، وانقطع أثره، وخرج العقد عن موجب القراض بالكلية، ويبقى العبد مملوكاً لمن ملكه أولاً، فإن فرض ربحٌ، فهو المختص به.
ثم يتفرع على هذا المنتهى ترددٌ في أن العامل هل يتصرف في العبد بحكم الإذن الأول؟ والسبب فيه أن صيغة الإذن وإن كانت قائمة، فقد اختلفت الجهة، والوكالة لا تحتمل استرسال تصرفات الوكيل كذلك من غير ضبط.
وإن قلنا: ينفذ تصرفه؛ فإنه يستحق أجر مثل عمله، لا عن جهة فساد القراض، ولكن عن جهة توقعه العوض على مقابلة عمله.
فليفهم الناظر عن تأملٍ تام، فليس هذا مما تبتدره بوادر الأفهام.
4981- ولو اشترى المقارَض أولاً بالألف عبدين، وقبضهما، ثم تلف أحدهما في يده، إن قلنا: لو تلفت خمسمائة من الألف قبل التصرف، فرأس المال ألف، فهاهنا أولى؛ فإنه قد تأكد القراض بالتصرف والعمل، وإلا فوجهان.
وقال القاضي وطائفةٌ من المحققين: هذا في التصرف الأول، فأما إذا فرض تلفٌ
__________
(1) عبارة (ي) ، (هـ 3) : لا ينصرف عن المالك فعليه بذلُ ...
(2) ساقطة من الأصل.(7/548)
في الصرف الثاني، والثالث، إلى حيث ينتهي (1) ، فلا خلاف أن رأس المال لا ينقص بالتلف.
وقال شيخي، وطائفة من الأصحاب: التلف مهما وقع، تضمن خلافاً في أن رأس المال هل ينتقص، وإنما النقصان الذي لا ينقص رأس المال في الحساب هو [الخسران، وانحطاط الأسعار] (2) فأما تلف عيْن المال، فيخرّج على الخلاف.
ثم لا ينبغي أن يغفل هذا القائل عن تفصيلٍ: فإن فرض التلف قبل الربح، جرى الكلام ظاهراً، وإن فرض بعد ظهور الربح، فالتالف يقع على الوجه البعيد عن رأس المال والربح، وهذا خبطٌ وتخليط، والصحيح ما ذكره القاضي لا غير.
فإن قال مستبعدٌ: إذا ذَكَر (3) خلافاً في التصرف الأول، فما الفرق بينه وبين التصرف الثاني؟ قيل: الصحيح في التصرف الأول أن رأس المال لا ينتقص بالتلف.
والوجه الآخر (4) بعيد مشوّشٌ للقانون، ووجهه على بعده: أن العامل كانه يحصّل مالَ القراض بالتصرف الأول، والدراهمُ (5) رأس المال. و [العَرْض] (6) في التصرف [الأول] (7) مال القراض، فكان تصرف الكسب هو الثاني.
ولا يجوز أن يكون بين العلماء خلاف في أن عبد القراض لو عاب، فانتقصت قيمته، ثم زال العيب، فرأس المال كما كان، وإذا كنا نحتمل إلحاق النتاج والثمار بالأرباح، فالوجه أن يحتمل إلحاق التلف بالخسران.
ثم قال الأصحاب: لو أتلف متلفٌ بعضَ مال القراض، لم ينفسخ القراض، وكذلك لو أُتلف كله، فيؤخذ البدل من المتلف، ويستمر القراض عليه، والمقارَض يستقل بالمطالبة، فإنه في تصرفاته واستقلاله بها يضاهي تصرف الملاك.
__________
(1) (ي) (هـ 3) : حيث بلغ.
(2) في الأصل: وهو انحطاط الأسعار.
(3) ذكر: أي القاضي، فالفاعل ضمير يعود عليه.
(4) (ي) ، (هـ 3) : الثاني.
(5) في الأصل: فالدراهم.
(6) في الأصل، (هـ 3) : والغرض.
(7) ساقطة من الأصل.(7/549)
4982- ولو أتلف العامل شيئاً من مال القراض، نُظر: فإن لم يظهر ربحٌ، ضمن ما أتلفه للمالك، وانفساخُ القراض ثابت عندي.
وكذلك لو أتلف الكل، [حصل الانفساخ] (1) ؛ فإن ما يأتي به بعد الضمان لا يقع ملكاً (2) لرب المال، فكيف يبقى القراض والحالة هذه (3) ؟ فالوجه أن نقول:
إذا أتلف الكلَّ، ضمن، وزال القراضُ، وإن أتلف البعضَ، ضمن، والقراضُ ينقطع في القدر الذي أتلفه، وجهاً واحداً، ويكون إتلاف العامل ذلك القدرَ في انفساخ القراض بمثابة إتلاف رب المال قدراً من رأس المال.
وسيظهر تعليل هذا على الوضوح في أثناء الفصل.
وليس تلف البعض بإتلاف العامل كتلفه بآفةٍ سماوية.
(4 وإن ظهر الربح، فما يُتلفه منقسمٌ على رأس المال والربح، فلا يضمن نصيبه 4) من الربح في ذلك المتلف، والكلام فيما يقابل رأسَ المال كالكلام في التلف السماوي، ولكنه يضمن لرب المال ما أتلفه عليه.
ثم يعترض في هذا إشكالٌ، وهو أنه يزدحم نوعان من الجبران: أحدهما - الجبران بالضمان. والآخر- الجبران بالربح. وهذا محال؛ فيتجه القطع بانفساخ القراض في ذلك القدر من رأس المال، وإن وقع في أثناء التصرفات؛ فإن التفريع يقتضي ذلك؛ إذ ما يضمنه يقع خارجاً عن حساب القراض، وجبران المال بالربح مع الضمان محال، وليس كما لو فرض تلفٌ بآفة سماوية؛ فإن الجبران ثَمَّ محمولٌ على
__________
(1) ساقط من الأصل ما بين المعقفين.
(2) في الأصل: "ملكاً للمقارض" وإذا ضبطت بكسر الراء، فمعناها: " رب المال " أيضاً.
ولكنا آثرنا إثبات ما في (ي) ، (هـ 3) ؛ خروجاً من الاحتمال، والتزاماً بأسلوب (الإمام) حيث جرى على استعمال رب المال، والمقارَض (بفتح الراء) كطرفي عقد القراض.
(3) والمعنى هنا: أن العامل إذا أتى ببدل مال القراض، بعد أن أتلفه، وانفسخ الفراض بالإتلاف، فإن هذا البدل لا يدخل في ملك رب المال إلا بقبضٍ منه، وحيئذ يحتاج إلى عقدٍ جديد لاستئناف القراض.
(4) ما بين القوسين سقط من (ي) ، (هـ 3) .(7/550)
قياس الخسران؛ إذ لم يرجع إلى رب المال عوضٌ عن [التالف] (1) ، وهاهنا رجع العوض إليه خارجاً عن حكم القراض، فقد انفصل القراض فيه. وإذا تحقق الانفصال، فلا جبران.
ثم نقول: يغرَم للمالك حصته من الربح فيما أتلفه، وهذا أيضاً خارج بحكم التفاصل، فإتلاف العامل طائفةً من المال يخرجه من حكم القراض، كإتلاف رب المال، غيرَ أن إتلاف رب المال استرداد منه لمقدار من رأس المال، وتفاصلٌ في مقدار من الربح، وإتلافُ العامل يتضمن الإخراج عن القراض، ولكن بجهة الضمان، كما قررناه.
فرع:
4983- ذكر العراقيون مسألةً عن ابن سريج وهي أنه قال: لو قارض رجل رجلين على مال، وحصل في أيديهما ثلاثةُ آلاف، وقال رب المال: رأس المال ألفان والربح ألف وصدّقه أحد [العاملَيْن] (2) ، وكذبه الثاني، وقال: بل رأس المال ألف والربح [ألفان، والتفريع] (3) على الصحيح: وهو أن هذا الاختلاف لا يقتضي تحالفاً، فالطريق فيه أن الذي ادعى أن رأس المال ألفٌ، فالقول قوله مع يمينه، فإذا حلف، أخذ من المال خمسمائة على تقدير أن الربح ألفان، والمسألة مفروضة فيه إذا كان الشرط على أن يكون نصف الربح للمالك، والنصف الآخر بين العاملين، فيخص أحدهما خمسمائة إذا كان الربح ألفين، ثم إن المالك يقول للعامل الثاني: قد ظلَمَنا العاملُ المنكر بمائتين وخمسين درهماً، وأنت قد صدقتني أن الربح ألف، فالمائتان والخمسون التي ظَلَمَ بها تنزل منزلة الخسران بيننا، فتحسب من الربح دون رأس المال، والآن [بيننا] (4) خمسمائة من الربح، فنقتسم هذا القدر بيننا أثلاثاً؛ إذ لو اعترف العامل الآخر بأن الربح ألف، لكان الألف مقسوماً بيننا أرباعاً، الربع منه لكل واحد من العاملين، والنصف لي، ثم نسبة حصة كل عامل مع نصيبي تقع على وجه
__________
(1) في الأصل: التلف.
(2) في الأصل: القائلين.
(3) ساقط من الأصل.
(4) في الأصل: بينهما.(7/551)
التثليث، فإن الخمسمائة حصتي، والمائتان والخمسون حصةُ كلٍّ عامل، وإذا ضمت حصة [كل عامل] (1) إلى الخمسمائة، كانت ثلثَ الجملة، والآن لم يسلم من الربح بيني وبينك إلا خمسمائة، فنقسمها أثلاثاً على النسبة التي ذكرناها، ثلثاها لي وهي ثلثمائة وثلاثة وثلاثون وثلث، والباقي لك وهو مائة وستة وستون وثلثان.
هذا جواب ابن سريج. وهو حسنٌ بالغ، وفي تفريعه هذا أولاً: ما يدل على أن مقارضة رجلين على صفة التناصر والتعاون جائز؛ فإن التفريع الذي نظمه لا يستقيم إلا في الصورة التي ذكرناها؛ فإنه لو كان قارض كلَّ واحد على ألفٍ من الجملة على شرط التنصيف، فالمصدِّق يقول له: عاملتني على ألف، وقد ربحتُ خمسمائة، فاقسمها بيننا نصفين، وإذا جرت المُقارضةُ على أن يكون كل واحد من العاملين مقارضاً في جميع المال، ويكونان متعاونين على العمل، لا يستبد أحدُهما، فهما (2) كالشخص الواحد، فيتعلق ما يقع من خسرانِ بهما جميعاً، ويتَّسقُ عليه جوابُ ابن سريج.
وقد قدمنا تردُّداً من طريق الاحتمال في مقارضة المتعاونين، والآن شهد تفريعُ ابن
سريج على تصحيحها، مع ما فيها من الإشكال، وليس عندي نقلٌ في إفساد مقارضة المتعاونين، والذي قدمته من التفصيل والتقسيم جرى ترديداً لوجوه الاحتمال. وليس عندي أيضاً نقلٌ صريح بأن كل واحد من العاملين لو كان يستقل بالعمل من غير احتياج إلى مراجعة الثاني، فالقراض فاسد، وإنما قلتُه عن احتمالٍ، وفسادٍ في التفريع بيّن.
فهذا منتهى المراد في ذلك.
4984- وفيما ذكره ابنُ سريج سؤالٌ، وعنه انفصالٌ، وفيه تمام المقصود.
فلو قال العامل المصدق: قد سلمتُ أنَّ صاحبي مُحِقٌّ في مائتين وخمسين، وإنما ظلمَ بما زاد على ذلك، فقدِّر كان الزائد تلف وفات مستدركُه، فالربح سبعمائةٍ وخمسون، فأعطني ربع سبعمائة وخمسين، وهو أكثر من ثلث خمسمائة. وهذا تلبيسٌ، [فإنا إذا] (3) حسبنا المائتين والخمسين التي ظَلم بها خسراناً، فلا يخص
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) في الأصل: أحدهما بهما فهما.
(3) في الأصل: فإذا.(7/552)
المنكر بعد [حط] (1) ذلك مائتان وخمسون، بل يخصه مائةٌ ونيفٌ وثمانون، فهو على [هذا] (2) التقدير ظالمٌ ببعض المائتين والخمسين أيضاً، فلا وجه إلا أن تقسم الخمسمائة الحاصلة على نسبة الأثلاث. وهذا سديد.
فرع:
4985- السيد يعامل مكاتَبه، ورب المال لا يعامل المقارَض في مال القراض، والسيد لا يعامل العبدَ المأذون إذا لم يكن عليه ديْن.
وإن ركبه ديْن، فقد ذكر العراقيون وجهين في أن المولى هل يعامله على المال الذي في يده؟ وهذا لا أصل له، والوجه القطع بامتناع المعاملة؛ فإن ركوب الدين لا يتضمن إزالة ملك المولى عن الأعيان الكائنة في يد المأذون. والله أعلم بالصواب.
تم كتاب القراض بحمد الله ومنِّه.
***
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) زيادة من (ي) ، (هـ 1) .(7/553)
ومن أراد أخذ المذهب من حفظ الصور، اضطرب عليه في أمثال هذه الفصول، ومن تلقاه من معرفة الأصول، استهان بدرك هذه الفصول.
الإمام
في نهاية المطلب(8/4)
كتاب المساقاة
4986- المساقاة: أن يعامل مالكُ النخيل والكروم من يحسن العملَ فيها، ليقوم بسقيها، وتعهدها، ويشترط للعامل جزاء معلوماً مما يخرج من الثمر.
وهذه المعاملة جائزة عندنا، خلافاً لأبي حنيفة (1) ، ومعتمد الشافعي في جوازها ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح خيبر، واقتسم بساتينها بين الغانمين وأجلى أهلَ خيبر عنها، فجاؤوا مستأمنين، فقالوا: نحن أعرف بالنخيل منكم، فأعطونا، نكفكم، فساقاهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على شَطر ما يخرج منها من ثمر وزرع، وقال: " أقرّكم ما أقرّكم الله تعالى " (2) وإنما قال صلى الله عليه وسلم ذلك؛ لأن اليهود كانت لا ترى النسخ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أساس المعاملة على تجويزه، وأنبأهم أنه إن نُسخ، حَكَم بغير حكم المعاملة، ومثل هذا الشرط جائزٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الشرع كان عرضة [التغايير] (3) في زمنه، ومثل هذا التردد لا يسوغ منا. ثم لما أدركت الثمار، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة إليهم خارصاً، فلما نَذِرُوا (4) بقدومه، استقبلوه بحلي نسائهم، وأرادوا أن يخدعوه، فقال رضي الله عنه: هذا سحتٌ في ديننا، فلما أيسوا من هذه الجهة، أرادوا أن يستدرجوه بالكلام، فقالوا: أنت ابنُ أختنا، وإنما قالوا ذلك، لأن أمه كانت خيبرية، وقالوا: أنتَ أحب من قدم إلينا من هذه الجهة، فقال
__________
(1) المساقاة ومثلها المزارعة، لا يجيزها أبو حنيفة، وزفر، وأجازها أبو يوسف، ومحمد بن الحسن. ر. حاشية ابن عابدين: 5/181 وما بعدها، مختصر اختلاف العلماء: 4/21- مسألة: 1685- وما بعدها.
(2) حديث مساقاة أهل خيبر، متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر، رواه البخاري: المزارعة، باب المزارعة بالشرط ونحوه، ح 2328، ومسلم: المساقاة والمزارعة، باب المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع، ح 1551، وانظر التلخيص: 3/130 ح 1307، 1308.
(3) في الأصل: المغايير، وفي (ي) الغايير. والمثبت من (هـ 3) .
(4) نذروا: علموا، وزناً ومعنى. (المعجم) .(8/5)
رضي الله عنه: أما أنا فقد قدمت من عند رجلٍ هو أحب إليَّ من نفسي التي بين جنبي، على قومٍ هم أبغض إليَّ من القردة والخنازير، فقالوا: إذاً لا يمكنك أن تعدل بيننا، فقال: أما حبي إياه لا (1) يحملني على الميل إليه، وبُغضي إياكم لا يحملني على الحيف عليكم، فخرص عليهم مائة ألف وَسق، فقالوا: أجحفت بنا يا بن رواحة، فقال: إن شئتم، فلكم، وإن شئتم فلي، معناه: إن شئتم سلمتُ الجميع إليكم، وتضمنون نصيب المساكين، وإن شئتم سلمتم الجميع إليّ، وأضمن لكم نصيبكم، فقالوا: هذا هو العدل الذي قامت به السموات والأرض. قيل: لما رفعت تلك الثمار، لم ينتقص مما كان قال بعشرة أوسق.
ولأصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه أسئلة وعنها أجوبة مذكورة في الخلاف.
4987- وأول ما نرى تصديرَ الكتاب به ذكر أربعة عقودٍ متقاربة في الصور مختلفةٍ في الحكم، يصح من جملتها عقدان ويفسد عقدان: وهي المقارضة، والمساقاة، والمزارعة، والمخابرة، أما القراض، فقد وضح القول فيه، والمساقاة صحيحة، وقد عبرنا عن تصويرها، وسيأتي تفصيل أركانها، إن شاء الله عز وجل.
والمزارعة، والمخابرة عقدان فاسدان. أما المزارعة فهي أن يعامل مالك الأرض رجلاً على أن يزرعها ببذرٍ لرب الأرض، وللعامل بعض ما يخرج منها، وهي استئجار الزراع ببعض يخرج من الزرع، فالمعاملة فاسدة.
والمخابرة أن يدفع الأرض إليه ليزرعها ببذر نفسه على جزء من الزرع يشرطه المالك للأرض. والعبارة عن المخابرة إنها استئجار الأرض ببعض ما يخرج منها.
قال الشافعي رضي الله عنه: لم نردّ إحدى سنتيه بالأخرى. أشار إلى أن القياسَ التسويةُ بين المساقاة والمزارعة في الجواز والمنع، ولكن السنة فرقت بينهما ووردت بتجويز المساقاة وبالمنع من المخابرة. روي عن ابن عمر رضي الله عنه قال: كنا نخابر أربعين سنة لا نرى بذلك بأساً، حتى ورد علينا رافعُ بنُ خَديج فأخبرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة فتركناها بقول رافع (2) . واستدل بعض الفقهاء
__________
(1) جواب (أما) بدون الفاء.
(2) حديث رافع بن خديج في النهي عن المخابرة، رواه الشافعي (ترتيب مسند الشافعي) 2/136،=(8/6)
بهذا الحديث على أن الأمر لا يلزم المأمور قبل اتصال الأمر به.
فهذا صورة هذه العقود.
4988- ثم قال العلماء: المساقاة تنزع إلى عقود، وتشبهها في أحكام: هي شبيهة بالسَّلَم، من حيث إن العامل يلتزم العمل في الذمة، ولا تبطل بموت العامل، وتشبه بيعَ العين [الغائبة] (1) ؛ إذ لا يجب فيها تسليم العوض في المجلس، بل لا سبيل إلى ذلك؛ فإن عوض العمل جزء من الثمار التي سيخلقها الله تعالى، وهي شبيهة بالإجارات؛ إذ المقصود منها العمل، وهي على الجملة معاملةٌ مستقلة بنفسها، ذاتُ خاصية، كما سيأتي شرح أحكامها، إن شاء الله تعالى.
ثم الكلام في ذكرها، وتمهيد قضاياها الجُملية يتعلق بفصول: منها في ذكر محلها، ومنها في ذكر وقتها، ومنها في ذكر أركانها في نفسها.
4989- فأما محلها، فلا خلاف أنها تصح في النخيل والكروم، واختلف قول الشافعي في أنها هل تجري في غير النخيل والكروم من الأشجار؟ ففي المسالة قولان مشهوران: أحدهما- أنها تختص؛ فنها معاملة غيرُ مُنْقاسة، وقد ورد الشرع بها في النخيل، واتفق العلماء على أن الكروم في معنى النخيل، كما اتفقوا على أن الأَمَة في معنى العبد في قوله صلى الله عليه وسلم: " من أعتق شِركاً له من عبد قُوّم عليه ".
والقول الثاني- أنها تصح على جميع الأشجار المثمرة؛ فإن مبنى المعاملة على مسيس الحاجة؛ إذْ مُلاك الأشجار يعجزون عن القيام بتعهد الأشجار، فأثبت الشارع هذه المعاملة، وأثبت حقَّ العامل في جزء من الثمار، حتى يحرص ويبذل المجهودَ في التعهد، والتفقّد، كما ذكرناه في عامل القراض، وهذا المعنى يعم الأشجار.
__________
=ح 447، ومعناه متفق عليه من حديث جابر: البخاري: المساقاة، باب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط أو في نخل، ح 2381، ومسلم: البيوع، باب النهي عن المحاقلة ... ح 1536، الرقم الخاص 81، وأبو داود من حديث زيد بن ثابت: البيوع، باب في المخابرة، ح 3407، وانظر تلخيص الحبير: 3/130 ح 1309، 1310.
(1) ساقطة من الأصل.(8/7)
وقد رأى بعضُ أصحابنا [بناءَ] (1) القولين على أن الخرصَ هل يجري فيما عدا النخيل والكروم، وسنذكر الخرص وأثره في هذه المعاملة.
فإن فرعنا على قول الاختصاص، فقد ذكر الشيخ أبو علي وجهين في شجر المُقل (2) وسبب ذلك أنها شديدة الشبه بالنخيل، وثمرتها بارزة بروز العناقيد.
وإن قلنا بتصحيح المساقاة على سائر الأشجار المثمرة، فقد ذكر الشيخ أبو علي على هذا القول وجهين في شجر الخِلاف، وشجر الفرصاد (3) ، أما شجر الخلاف، [فرَيْعُها] (4) أغصانُها تُقطع، ثم تُخلف، وأما شجرُ الفرصاد، فالمقصود منها الأوراق، ووجه التردد أن الأشجار المثمرة على حالٍ يقرب من النخيل والكروم.
وما لا يثمر، وإن كان يستفاد منه الأغصان والأوراق، يبعد بعداً ظاهراً.
ولا خلاف في منع المعاملة على البقول التي تبقى أصولُها في الأرض فتخلف على تردد الجزّ، وليست الجَزَّاتُ منها كأغصان الخلاف، وأوراق الفرصاد.
هذا تفصيل القول فيما يصح إيرادُ هذه المعاملةِ عليه.
4990- فأما الكلام في الوقت الذي تُبْتدأ [فيه] (5) هذه المعاملة:
إذا جرت المساقاة قبل ظهور الثمر، صحت، وكانت مصادِفةً وقت الوفاق.
فلو خرجت الثمرةُ، ولكن لم يبدُ الصلاحُ فيها بعدُ، ففي صحة المساقاة بعد خروج الثمار قبل بدوّ الصلاح قولان: المنصوص عليه في الجديد أنها صحيحة، والمنصوص عليه في القديم أن المساقاة فاسدة.
التوجيه: من قال بالفساد، احتج بأن الثمار حدثت ملكاً لرب الأشجار، فإثبات
المعاملة يتضمن ربطَ استحقاق العامل بملكٍ [حاضر] (6) لرب الأشجار، وهذا يناقض
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) المُقل بضم الميم: حَمْلُ الدَّوْم وهو يشبه النخل. (المصباح والمعجم) .
(3) (ي) ، (هـ 3) : التوت. وهو الفرصاد بعينه، كما سيأتي في السطر التالي.
(4) في الأصل: من نفسها (وهو تحريف عجيب) .
(5) ساقطة من الأصل.
(6) في الأصل: خاص.(8/8)
موضوع المعاملة؛ فإن مبناها على تعليق استحقاق العامل بما سيكون، فالثمار في الأشجار بمثابة الربح في معاملة القراض.
ومن قال بالصحة، قال (1) : المقصود العمل على النخيل بما يُصلح ثمارها، وكُثْرُ العمل باقٍ إذا لم يبدُ الصلاح بعدُ، وقال الشافعي في الجديد: إذا صحت المساقاة قبل وجود الثمار، فهي بعد وجودها أَجْوَزُ، وعن الغرر أبعد.
وحقيقة القولين تؤول إلى أنا في قولٍ نشترط أن يكون حدوث الثمار على الحقَّيْن، وإنما يتحقق هذا إذا جرت المساقاة قبل حدوثها.
وفي القول الثاني لا يشترط هذا، وإنما يُنظر إلى بقاء وقت (2) العمل.
وما ذكرناه فيه إذا جرت المساقاة بعد وجود الثمار، قبل بُدوّ الصلاح، وأما إذا بدا الصلاح في الثمار، فيترتب ذلك على ما قبل بدوّ الصلاح؛ فإن منعنا المساقاة قبل بدو الصلاح، فلأن نمنعها بعد بدوّ الصلاح أولى.
وإن جوزناها قبل بدوّ الصلاح، ففي جواز إنشائها بعد [بدوّ] (3) الصلاح وجهان: أحدهما- أن المساقاة لا تصح؛ لأن معظم الأعمال على الأشجار تكون [فائتة] (4) في هذا الوقت.
ولا خلاف أن الثمار إذا دنا قطافُها، لم يجز ابتداء المساقاة.
4991- والمعنى المعتبر في الباب أنا على القول القديم نشترط أن يكون وجود الثمار بعد لزوم المعاملة، لتوجد وتحدث على الحقّيْن. وفي القول الجديد نعتبر العمل، ثم ذكرنا مرتبتين إحداهما قبل بدو الصلاح، والأخرى بعد بدوّ الصلاح، ثم جوزنا إنشاء المساقاة قبل بدو الصلاح، لبقاء معظم العمل، وذكرنا خلافاً على القول الجديد بعد بدوّ الصلاح، لفوات معظم الأعمال، والمرعي في القول الجديد العملُ وبقاءُ مدته. ثم يُشترط أن يبقى عملٌ له أثر في الثمار، فإن بقي إلى الإرطاب وأوان
__________
(1) (ي) ، (هـ 3) : تمسك بأن المقصود.
(2) (ي) ، (هـ 3) : تفاوت العمل.
(3) في الأصل: وجود الصلاح.
(4) في الأصل: فائدته.(8/9)
القطاف أيامٌ لكن [لو فرض] (1) عمل فيها لم تتأثر الثمار بها، فلا يصح ابتداء المساقاة، والحالة هذه.
ولا ينظر إلى انتفاع الأشجار وتأثيرها بتلك الأعمال، وإنما ينظر إلى تأثر الثمار.
فليفهم الناظر ذلك.
فإن قيل: لم تذكروا في المراتب التي نظمتموها التأبير في الثمار؟ قلنا: لا أثر للتأبير في الحكم الذي نبغيه، وإنما الأثر لبدوّ الصلاح وعدم بدوّه، وتأثيرُ التأبير في الخروج عن تبعية الأشجار في البيع المطلق.
هذا تمام البيان في الأوقات التي تُنشأ فيها المساقاة، مع ذكر الخلاف والوفاق في النفي والإثبات.
4992- فإذا نجز ذلك، فالقول بعده في أركان المساقاة، فنقول:
المساقاة مضاهية للقراض في المقصود، والتعلق [بالمفقود] (2) ، واحتمال الجهالة في العوض.
وبيان ذلك: أن القراض مقصودُه حملُ عاملٍ على الاسترباح؛ إذْ قد لا يحسنه ملاكُ الأموال ثم تعلّق القراض بالفائدة المنتظرة، كذلك مقصودُ المساقاة قيامُ من يحسن العملَ على الأشجار به؛ إذْ يغلب في النالس عدمُ الدراية بكيفية العمل على الأشجار، وجهة الاستثمار، ثم تعلق غرضُ العامل بالفائدة التي ستظهر، أو ستكمُل، كما مضى تفصيل ذلك، ثم يستحق العامل جزءاً من الثمار، وهي غيب أصلاً، وقدراً، كالأرباح في معاملة القراض. هذا وجه تشابه المعاملتين.
ثم المساقاة تمتاز عن المقارضة بأمرين متقاربين: أحدهما- أن التأقيت شرطٌ في المساقاة، كما سنفصله، ووضعُ القراض على الإطلاق، وقد يكون التأقيت مفسداً له، على التفصيل الذي مضى، هذا أحد الوجهين.
والوجه الثاني- أن المساقاة معاملةٌ لازمةٌ، إذا عُقدت، وتمت، لم يتخير
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) في الأصل: بالمعقود.(8/10)
المالك، ولا العامل في الانفراد بالفسخ. والمقارضةُ جائزةٌ، وسبب الفرق بينهما في التأقيت والإطلاق، أن الأعمالَ المقصودةَ المؤثرةَ في الثمار مضبوطةٌ في الأوقات، يعرفها الدهاقنة (1) ، وأهل الخبرة. وإذا كانت متأقتةً فتأقيتها في العقد إعلامٌ مطابق لمقصود العقد، فكان مرعيّاً.
والأمر في الأرباح على الضِّد من ذلك؛ فإنه ليس لتحصيل الأرباح وقتٌ يتخيّر (2) يُطلب إعلامه، فاقتضى ذلك الإطلاقَ في العقد.
ومن هذا المنشأ أخذنا افتراق المعاملتين في اللزوم والجواز؛ فإن القراض إذا استرسل على الزمان، فلو اتّصَف باللزوم، لكان عقداً مؤبداً، لا محيص عنه، وهذا غير محتملٍ في المعاملات، وإنما احتمله الشرع في النكاح؛ لأن مصالحه تتعلق باللزوم والدوام، ثم الشارعُ أثبت فيه حلاً (3) للملك متعلقاً بمقصود صاحب الحق، وهو الطلاق.
ولما تأقتت المساقاةُ، لاق بها الحكم باللزوم؛ فإنها إلى الانقضاء. هذا بيان وضع المساقاة.
4993- ثم نقول بعد ذلك: المساقاة تستدعي أركاناً: منها ضربُ المدة، ثم ذكر [الإمام] (4) في مدة المساقاة اختلافاً بين الأصحاب، فقال: منهم قال: ينبغي أن تكون مدة المساقاة كمدة الإجارة، فليقع تقديرها بالسنين والأشهر والأيام، كما تقدّر مُدد الإجارات، والآجال في البياعات، وهذا القائل لا يصحح المساقاة بذكر سنة إدراك الثمار؛ فإنّ الوقت في ذلك يتفاوت، فقد يستأخر إدراكُ الثمار لبرد الهواء، وكثرة [الأنداء] (5) ، وقد يتقدم إدراكها بنقيض ذلك، فالإحالة على مذة الإدراك إحالةٌ على مجهول.
__________
(1) الدهاقنة: جمع دُهقان (بالضم والكسر) : القوي القادر على التصرف مع شدة خبرة. (المعجم) .
(2) (ي) ، (هـ 3) : يتخيل ويطلب.
(3) (ي) ، (هـ 3) : حدّاً للمالك.
(4) في الأصل: الإتمام. (وهو من غرائب التصحيف) والإمام يعني به والدَه: أبا محمد الجويني.
(5) في الأصل: الأنواء.(8/11)
والوجه الثاني- أنه لا يشترط في المساقاة ضربُ مدة الإجارة، ولكن لو ضُربت فيها مدة الإدراك، كفى، وذلك بأن يقول: ساقيتك لتعمل إلى صرام النخيل، وذلك أنّ الغرض من المعاملة تحصيلُ هذا المقصود، والسعيُ في تتمته (1) ، وهذا يحصل بما ذكرناه. ثم هذا القائل لا يمنع تأقيت المساقاة بمدة الإجارة، ولكن يشترط ضربَ مدة يجري فيها إدراكُ الثمار لا محالة، إن لم تفسدها [الجوائح] (2) .
ثم إن شرطنا الإعلامَ بالسنة والشهور، كما في الإجارة والأجل، فلا كلام، وإن صححنا هذه المعاملة بناءً على إدراك الثمار، فلو قال رب الأشجار: ساقيتك سنةً، والتفريع على أن المعاملة تكتفي بسنة الإدراك. فالسنة المطلقةُ محمولةٌ على ماذا؟ فعلى وجهين: أحدهما- أنها محمولة على السنة العربية. والثاني- أنها محمولة على سنة الإدراك.
وسيكون لنا التفات على تفريع الوقت مرة أخرى، إذا خُضْنا في بيان الأعمال المطلوبة من العامل المساقَى.
هذا مقدار غرضنا الآن في ذكر المدة.
4994- ولو اختار مالكُ الأشجار طريقَ الاستئجار على الأعمال، جاز؛ إذا كانت الأعمالُ معلومةً، ويتعين إذ ذاك [الإعلامُ] (3) بمدة الإجارة، وليكن الأجرُ من غير الثمار إذا أنشئت المعاملةُ على صيغة الإجارة وحقيقتها. ولو قال: استأجرتُك، وذكر إعلاماً في المدة يصلح للبابَيْن، ولكنه أثبت للعامل جزءاً من الثمار، فالمذهب فساد الإجارة. ومن أصحابنا من قال: لا ننظر إلى اللفظ وننظر إلى المعنى، ولا يبعد استعمال لفظ الإجارة في معاملة المساقاة. وقد قدمنا لذلك نظائر. وسنعود إلى هذا، إن شاء الله.
وقد انقضى الآن ما نطلبه في هذا الركن، وهو التعرض لإعلام المدة.
__________
(1) (ي) ، (هـ 3) : تنميته.
(2) في الأصل: الحوائج.
(3) الأعمال.(8/12)
4995- ومن أركان المعاملة ربطُها بجزءٍ من الثمار، كما ذكرناه في المقارضة، فإن وقع التوافق على غير الثمار، بأن سمى له دراهمَ معلومةً، أوْ ما في معناها، فقد خرجت المعاملةُ عن وضعها، والنظرُ بعد ذلك في استجماع ما جرى لشرائط الاستئجار.
ولو أراد عقد الإجارة بلفظ المساقاة، ففيه التردد الذي ذكرناه في عقد المساقاة بلفظ الإجارة.
فإذا تبين أن المساقاة تتعلق بجزءٍ من الثمار، فلا بدّ من إعلامٍ بالجزئية، كما قدمناه في إعلام جزئية الربح في القراض، ويفسد إعلامُ الجزئية باستثناءٍ مُقَدَّرٍ منها، كما يفسد القراض بمثل ذلك، حتى لو قال رب الأشجار: صاعٌ من الثمار لي، والباقي منها مقسوم بيننا نصفين، أو ثلثاً وثلثين، أو على ما يتفقان عليه، فهذا باطل؛ (1 فإن الثمار مغيبةٌ 1) ، فربما لا يوجد أكثر من صاع، فيكون هذا بمثابة ما لو شرط أن يكون كلُّ الثمار له، وهذا ممتنع، كنظيره من القراض.
ولو شرط جملة الثمار للعامل، ولم يستبق لنفسه شيئاً، فالمعاملة فاسدةٌ أيضاً.
وتفترق المساقاة والقراض عند إضافة جملة الثمار إلى إحدى الجهتين على الوجه الذي ذكرناه في القراض.
فإن قيل: [إن] (2) كان لا يظهر في القراض غرض مالي في صرف جميع الربح إلى العامل، ويفسد القراض لأجله، فقد يقصد ربُّ الأشجار تنمية الأشجار، ويرى أن يجعل الثمار في المدة في مقابلة الأعمال المنمِّية للأشجار.
قلنا: لسنا ننكر كَوْنَ ذلك مقصوداً في مطرد العرف، ولكن الشرعَ وضع هذه المعاملةَ، واحتمل ما فيها من الجهالة لتحصيل الثمار، ولهذا تكون أعمالُ المساقَى مؤثرةً في تنمية الثمار، وليس عليه كلُّ عمل يفرض ويقدَّر في البستان، وإنما يمتاز عمله بما ذكرناه من تأثيره في الثمار، على ما سنصف ذلك من بعدُ، إن شاء الله.
وبالجملة كل معاملة تشتمل على جهالة، وقد ظهر احتمال الشرع لها، فهي
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ي) ، (هـ 3) .
(2) في الأصل: إنه.(8/13)
مخصوصة بمورد الشريعة لا تتعداه. وقد نجز بيان هذا الركن.
4996- ومما يتعلق بهذه المعاملةِ على مناظرة القراض، القولُ في انفراد العامل باليد، وامتناعِ مداخلة المالك، وهذا يأتي مستقصىً في أثناء الكتاب بما فيه من وفاقٍ وخلافٍ، و [عند] (1) ذلك نذكر ما لو شرط ربُّ الأشجار أن يعمل مع المساقَى غلامُ المالك.
4996/م- ولسنا نذكر ما يُشترط في المساقاة، وفي غيرها من المعاملات، كالإيجاب والقبول ونحوه. [وإنما] (2) نشير إلى جمل القول في خصائصها.
ومما يتعين ذكره في هذا المنتهى: أنه لو لم يذكر لفظَ المساقاة، وذكر مقصودَها، فلا بأس، مثل أن يقول: خذ هذه النخيل، واعمل فيها كذا وكذا، ولك الثلث من ثمارها، فالمعاملة تصح بهذه الصيغة، كما تصح (3) المقارضة بمثلها.
قال القاضي (4) : " قد ذكرنا أن مقصود القراض إذا ذكر على هذه الصيغة، فلا حاجة إلى قبول العامل لفظاً، وليس الأمر كذلك في المساقاة؛ فإن القبول لا بد منه هاهنا؛ إذ المساقاة [معاملة] (5) لازمة، فيبعد ثبوتُها على اللزوم من غير التزام بالقبول، وليس كذلك القراض؛ فإنه من المعاملات الجائزة، فناظر التوكيلَ بالبيع، والأمرَ به ".
وهذا الذي ذكره في المساقاة صحيح، لا كلام فيه، وما قدمه في القراض، فليس هو مساعداً عليه، وقد أوضحنا في ذلك ما يُقنع ويكفي.
فهذا آخر غرضنا من عقد الجُمل في وصف المعاملة، وذكر تراجم أركانها.
4997- والذي يليق بهذا المنتهى ذكرُ الخَرْص، وقد قدمنا في كتاب الزكاة جريانَ
__________
(1) في الأصل: وبعد.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) في الأصل: تصح هذه المقارضة.
(4) "قال القاضي" سقط من: (ي) ، (هـ 3) .
(5) ساقطة من الأصل.(8/14)
الخرص على الملاك لحقوق المساكين، وذكرنا اختلافَ القول في أن الخرص عبرةٌ فيها، أو تضمين، وفرَّعنا على كل قول ما يليق به. ولو [رام] (1) ربُّ الأشجار أن يخرص الثمارَ على العامل، فهل للخرص أثر في ذلك؟ اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: لا أثر له، وإنما وقع الحكم به في الزكاة توقيفاً، وإلا فهو تخمين، وحدسٌ، ورجمُ ظنٍّ.
ومن أصحابنا من قال: يثبت حكم الخرص هاهنا، كما يثبت في حقوق المساكين. وهذا القائل احتج بحديث عبد الله بن رواحة؛ فإنه خرص على أهل خيبر ثمار النخيل، ولا يمكن حملُ خَرصه على حقوق المساكين، فإنهم ما كانوا ملاك الثمار، والخرصُ في الزكاة على ملاك الثمار، لا على العاملين فيها.
ومن أصحابنا من قال: إنما جرى ذلك الخرص؛ لأن المعاملة كانت مع الكفار، ونحن قد نحتمل في المعاملة مع المشركين، ما لا نحتمله في المعاملة مع غيرهم.
وهذا غيرُ سديد، فإنا إنما نفرق بين المسلم وبين الكافر فيما يتعلق بالموادعة، والعهود، والمواثيق، فأما المعاملات الخاصة المتعلقة بالأموال، فلا ينبغي أن يقع فيها فرقٌ بين المسلم والمشرك.
ثم من أصحابنا من خرّج القولين في جواز المساقاة على ما عدا الكروم والنخيل من الأشجار على القولين في أن الخرص هل يجري في هذه المعاملة؟ وذلك لأن الخرص لا يتأتى فيما عدا النخيل والكروم، فإن ثمار النخيل والكروم عناقيدُ متدلّيةٌ بارزةٌ للناظرين، فيتأتى خرصُها، وما عداها من الثمار مستترٌ بالأوراق فيعسرُ الاطلاع عليها. وهذا البناءُ فيه نظر، لأنا وإن أثبتنا للخرص أثراً إذا جرى، فلا يُشترط إجراؤه في هذه المعاملة على ما سنعيد ذكره، إن شاء الله عز وجل- فلا معنى لأخذ اختلاف القول في جواز المساقاة من هذا المأخذ.
__________
(1) في الأصل: أزم.(8/15)
قال: " وإذا ساقى على نخلٍ، وكان فيه بياضٌ ... إلى آخره " (1) .
4998- قد ذكرنا فيما قدمنا فسادَ المزارعة، والمخابرة، إذا جُرّدَ القصدُ إليهما، وأُفردا، وهذا الفصلُ معقودٌ في الأراضي التي تكون في ظلّ النخيل، ويعتاد أربابُها زراعتَها، ثم سقيها مع النخيل.
فإذا كانت بحيث لا يتوصل إلى سقي النخيل إلا بسقيها؛ وإلى العمل على النخيل إلا بالعمل عليها، فيجوز على الجملة المزارعةُ عليها تبعاً للنخيل في المساقاة.
والأصل في ذلك ما روّيناه أن النبي صلى الله عليه وسلم " ساقى أهل خيبر على أن لهم نصفَ الثمر والزرع ". وهذا نص في هذا المقصود، والحاجة ماسة من طريق المعنى إلى تجويز هذه المزارعة، ولو منعناها، لتعطلت تلك الأرأضي إذا لم تزرع، وإن كان يزرعها المالك يتعطل عمل [المساقَى] (2) عليها، ويقع مجاناً؛ إذ لا يتوصل إلى العمل على النخيل إلا بالعمل عليها، وقد يجوز الشيء تبعاً، وإن كان يمتنع ثبوتُه مقصوداً متبوعاً، وهذا كالحمل في البطن يتعلق به استحقاقُ المشتري إذا أشترى الأصلَ، ولا يتأتى فرض تملكه على الابتداء، والثمرة قبل التَّأْبير تتبعُ الشجرةَ في مطلق البيع، وقد لا يجوز بيعُها وحدها، وكذلك تتبع الثمارُ الأشجارَ بعد الظهور قبل بدوّ الصلاح في أن لا يشترط القطع فيها إذا بيعت مع الأشجار، ولو بيعت وحدها قبل بُدوّ الصلاح، فلا بد من شرط القطع، ونظائرُ ذلك كثير.
فإذا تمهد هذا الأصلُ، ووضح (3) أن المزارعة إذا صححناها؛ فإنّا نصححها على طريق التبعية للنخيل، [فلو] (4) عامل المساقَى على النخيل، وعامل غيرَه على الأراضي التي في خللها، فالمزارعة على تيك الأراضي فاسدة؛ لأنها أثبتت مقصودة
__________
(1) ر. المختصر: 3/71.
(2) في الأصل: الساقي، (ي) ، (هـ 3) : المساقاة. والمثبت تقدير منا؛ فهو أقرب لفظ لصورة الأصل.
(3) (ي) ، (هـ3) : وصحّ.
(4) في الأصل: ولو.(8/16)
مع عامل منفرد، وفيه خبطٌ آخر؛ فإن من ينفرد بقبول المزارعة لو عمل على تلك الأراضي، لعمل على النخيل، والمساقَى لو عمل على النخيل، لعمل عليها، فلا يتأتى انفصال الأمر في ذلك.
ولو أدرج المزارعة والمساقاة تحت عبارةٍ، واتَّحد العاملُ، ولم يتفاوت المقدار المشروط من الزرع والثمرة، فهذا هو الذي يصح وفاقاً، وهو أن يقول: عاملتك على النخيل والأراضي التي في خللها على أن لك النصف من الثمر والزرع، فهذا جائز لما ذكرناه.
4999- فلو اتحد العامل والمالك، ولكنه أفرد المزارعة على الأراضي بعقد، وأفرد المساقاة على النخيل بعقد، فحاصل ما ذكره الأصحاب في ذلك ثلاثة أوجه:
أحدها- أن المزارعة فاسدة؛ لأنها أُفردت مقصودةً بالعقد وأُخرجت عن حقيقة التبعية، وهذا هو الأقيس.
والوجه الثاني- أنها تصح؛ فإن العامل إذا اتحد، ولم يؤد إلى اختلاط العمل، فالمقصود حاصل، ولا أثر للإفراد والجمع.
والوجه الثالث- وهو أعدل الوجوه- أن المساقاةَ إذا تقدمت، وثبتت المزارعةُ بعدها، فنحكم بصحتها؛ فإنها تدخل على المساقاة، وتلحقها لحوقَ التابع المتبوعَ.
فإذا تقدمت المزارعة، لم تصح؛ فإنها أُثبتت متبوعةً مقصودةً على سبيل الاستفتاح.
ويشهد لهذا أن من باع الأشجار وعليها ثمارٌ مؤبرة، فالثمار تبقى لبائع الأشجار، فلو باع الثمارَ بعد بَيعْ الأشجار من مشتري الأشجار، ففي اشتراط القطع خلاف ذكرناه في كتاب البيع. ولو باع منه الثمار أولاً، ولم يشترط القطعَ، وهي غيرُ مزهية، فلو باع الأشجار ممن اشترى تلك الثمار، فبيعُ الثمار مقر على حكم البطلان.
ثم من يرى تصحيح المزارعة وإن تقدمت، فيضطر فيها إلى تقدير (1) الوقف والتبيّن؛ فإنه لو فرض الاقتصارُ على المزارعة، فهي فاسدةٌ لا شك فيه، فكأن المساقاة بعدها تُبيِّن صحتها. وهذا فيه بُعد، ولكن أشار إليه الشيخ أبو علي.
__________
(1) (ي) ، (هـ3) : إلى أن يقدر هذا الوقف والتبين.(8/17)