فصل
قال: " وحرامٌ التدليسُ ... إلى آخره " (1) .
3196- التدليس محرَّمٌ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من كشنا فليس منا " (2) ومن التدليس في مقصودِنا أن يبيعَ شيئاً يعلمُ به عيباً، ولا يُطلع المشتري على عيبه، وإذا كان هذا من التدليس، فإذا جرَّد قصده وفعَل فعلاً يقتضي التلبيسَ، فهو ارتكاب محرّم، ثم البيع يصح مع ذلكَ. والشاهدُ فيه تصحيحُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعَ المصراة، مع ما فيه من التلبيس.
والضابطُ فيما يحرم من ذلك أن من علم سبباً يثبت الخيار، فأخفاه، أو سَعَى في تدليسٍ فيه، فقد فعل مُحرَّماً.
وإن لم يكن السببُ مثبتاً للخيار، فترْكُ التعرضِ له لا يكون من التدليس المحرم.
ومما لا يجب عليه التعرُّض له ذكرُ القيمة؛ فليس البائعُ متعبداً في الشرع بأن يبيع الشيءَ بثمن مثله. وهذا يبتني أيضاًً على ما ذكرناه من أمرِ الخيار؛ فإن الغبنَ بمجرَّدِه إذا اطّلعَ المشتري عليه لا يتضمّنُ خياراً.
فصل
قال: " وأكرهُ بيعَ العصير ممن يعصر الخمرَ ... إلى آخره " (3) .
3197- بيعُ ما يتخذ منه الخمرُ ممن يعلم أنه سيتخذ منه الخمرَ صحيح، ولكن البائعٍ متعرضٌ لارتكاب محرّم، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة.
__________
(1) ر. المختصر: 2/196.
(2) حديث " من غشنا ... " رواه مسلم: الإيمان، باب من غشنا، فليس منا، ح 101، 102، ورواه أبو داود: البيوع، باب في النهي عن الفحش، ح 3452. وانظر: التلخيص: (3 /51 ح 1192) .
(3) ر. المختصر: 2/197.(5/279)
وبالجملة الإعانةُ على المعصيَة محرَّمة.
وإن لم يظهر العلمُ، وظن البائعُ ذلكَ ظنّاً، كرهنا ما جاء به.
وبيعُ السلاحِ من قطّاعِ الطريق من المسلمين، وأهل العرامَة صحيحٌ، والقول في التحريم والكراهة كما ذكرناه.
وأطلق الأئمةُ أقوالَهم بأن بيع السلاح من أهلِ الحربِ لا ينعقد؛ لأنهم لا يَقتنونها إلا لمقاتلة المسلمين. هذا هو الظاهر.
ومن أصحابنا من جرى على القياس وصحّحه، على ما سأذكرهُ في كتاب السِّيَر، إن شاء الله عز وجل.
وبيع السلاح من أهل الذمةِ صحيح، وبيع الحديد من أهل الحرب صحيح؛ لأنه لا يتعيَّن للأسلحة، وقد تتخذ منها المساحِي وآلات المهنة.
فرع:
3198- إذا أتلف رجلٌ على رجلٍ ديكاً مِهراشاً، أو كبشاً نطاحاً، فقد تقدّرُ القيمةُ أكثرَ لمكانِ الهراش والنطح، ولكن لا مُعتبرَ بتلكَ الزيادَة؛ فإن السّعيَ في إيقاع الهراش والنطح معصية، والتهيؤ لها، لا قيمةَ له شَرعاً.
* * *(5/280)
بابُ بَيع البَرَاءةِ
قال الشافعي: "وإذا باع الرجل شيئاً من الحيوانِ بالبراءة، فالذي ذهبَ إليهِ قضاءُ عُثمانَ أنه بريءٌ من كل عيب لم يعلمه، ولا يبرأ من عيبٍ علمهُ ... إلى آخره" (1) .
3199- نذكر في الباب تفصيلَ القول في بيع الحيوان بشرط البراءة، ثم نذكر شرطَ البَراءةِ في غير الحيوانِ.
فأما شرط البراءةِ في الحيوان، فظاهرُ نصِّ الشافعي في صدر البابِ اتباعُ قضاءِ عثمانَ رضي الله عنه، وقد قضى بان البائع مبرَّأٌ من كل عيبٍ، لم يعلمه، ولا يبرأ من عيبٍ علمه، ولم يُطلِع المشتري عليه. وقالَ في آخر الباب (2) : "القياسُ لولا ما وصفناه -يعني قضاءَ عثمانَ- أنه لا يبرأ عن العيب الذي لم يره المشتري، أو يبرأ عن الجميع".
3200- وقد اختلف أصحابُنا على طريقين: فمنهم من قال: ما ذكرهُ الشافعيُ في أول الباب وآخرِه ترديد للأقوال، ففي المسألة ثلاثةُ أقوال: أحدها - أن البراءة باطلةٌ والمشتري على خياره، مهما اطلع [ولا فرقَ] (3) بين ما علمه البائعُ وكتمهُ، وبين ما لم يعلمه.
والقول الثاني - أن البراءةَ صحيحةٌ عن جميع العيوب، من غير تفصيل.
__________
(1) ر. المختصر: 2/198.
(2) نص عبارة الشافعي في المختصر، هكذا: "وإنّ أصح في القياس لولا ما وصفنا من افتراق الحيوان، وغيره أن لا يبرأ من عيوب تخفى له لم يرها، ولو سماها لاختلافها، أو يبرأ من كل عيب. والأول أصح" المختصر: 2/198، 199.
(3) في الأصل: والفرق.(5/281)
والقول الثالث - الفصلُ بين ما علمه، وبين ما لم يعلمه. فما علمه لم يصحّ البراءةُ فيه؛ لأنه بكتمانِه، وتركِ ذِكره منتسِبٌ إلى التدليس، والتدليسُ محرَّمٌ، فلا يستحق صاحبُه حطَّ الخيارِ عنه.
والتوجيه مستقصى في الخلاف. ونحن نذكرُ منه ما يتعلّقُ بترتيبِ المذهب.
فأما من قال: إنّ البراءة لا تصح، فمعتمده شيئان: أحدُهما - أن خيارَ الردّ بالعيب يثبت شرعاً في مقتضى العقد، فشرطُ نفيهِ تغييرٌ لموجَب الشرع، والثاني - أن العيوبَ الممكنةَ مجهولة، فلئن كانت البراءة من المرافق، فلتكن معلومةً كخيار الشرط، والأجَل، والرهن، والكفيل.
ومن قالَ بصحة البراءة على العموم، فوجهه أن الشرط يتضمن إسقاطَ حقٍّ، وفي إسقاطه استفادةُ لزومِ العقد.
ومن فصَّل، استدَلَّ بمذهب عثمانَ، أولاً، وأشار إلى ما ذكرناه من الانتساب إلى التدليس في صورة العلم.
ثم من يسلك طريقةَ الأقوال يستدل بأن الشافعي أشار إلى الأثر والقياس، ومذهبُه في القديم اتباعُ الأثرِ، وتركُ القياس له. وهذا يخالف رأيَه في الجديد.
فإن قال قائل: لم يبد [نكيراً] (1) على عثمانَ، فمذهبه في الجديدِ أنه لا يُنْسَب إلى ساكت قول.
ومن أصحابنا من قالَ: مذهب الشافعي هو التفصيل الموافق لمذهبِ عثمانَ، وقد صَرَّح بذلك في صدر الباب. وما ذكرهُ في آخر الباب إشارةٌ إلى وجهِ القياس، وليس مذهباً له.
__________
(1) في النسخ الثلاث (نكير) بالرفع. ولم أصل إلى العبارة محكية عن الإمام في مظانها من شرح المهذب، ولا في فتح العزيز، ولا في روضة الطالبين، مع طول بحثي.
ولأن النسخ الثلاث اتفقت على (نكير) بالرفع، حاولت أن أجد لها توجيهاً فلم يظهر لي شيء. ولكن الأقربَ، والأوفق للسياق، أن "نكيراً" مفعول به، والمعنى أن الشافعي لم يبدِ اعتراضاً على قضاء عثمان، وهذا معناه إقرار هذا الفضاء، واتخاذه مذهباً. فكيف ينسب إلى الشافعي قولٌ آخر!! وأجيب بأن الساكت لا ينسب إليه قول، فلا يلزم من سكوته أن ينسب إليه قولاً يوافق قضاء عثمان، والله أعلم بالصواب.(5/282)
والأشهرُ طريقة الأقوال. والأليقُ بكلام الشافعي القطعُ [بما] (1) ذكرناه.
3201- ثم إنا نُلحقُ بما تقدم شيئين: أحدُهما - أنا علَّلنا القَولَ بفساد الشرط بشيئين: أحدُهما - أن البراءة تغييرُ وضعِ الشرع. والثاني (2) - أنها تقتضي جهالةً.
3202- ثم الأصحاب فرضوا صورةً على هذا القول، وذكروا فيها اختلافاً مخرّجاً على المعنيين: وهي أنه لو شرط البراءةَ عن عيوبٍ معدودةٍ، وأعلم بالوصف أصنافَها، فإن علَّلنا شرطَ البراءةِ بتغييرِ مقتضى العقدِ، فالشرط فاسدٌ مع الإعلام، وإن علَّلنا فسادَ الشرط بالجهالة، فلا جهالةَ في الصورة التي ذكَرناها، فليصح الشرطُ.
وليس المعني بالإعلام أن يطّلع المشتري على العيوب، أو يرى من نفسه العلمَ بها، وإنما المراد البراءةُ من صفاتٍ لا يقطع الشارط بكونها، وإنما تقدَّرُ البراءة لو كانت، ولو حصل الاطلاع على العيب، فلا حاجة إلى شرطِ البراءة، فإن الخيار لا يثبت مع الاطلاع، وإن لم تجر البراءةُ.
ومن الاطلاع أن يقول البائع: هذه العيوب به فأبرئني منها، فاعتراف البائع بها بمثابة معاينةِ المشتري العيوبَ؛ فإن العقد مستند إلى قولِ العاقد، وعليه التعويلُ في الملكِ، وإن كان المشتَرى لحماً، فالاعتماد على قول البائع في كونهِ لحمَ ذكيّة.
فهذا أحد الأمرين.
والثاني - أن الأئمة في قول التفصيل قالوا: لا تصح البراءةُ عمَّا عَلِمه البائع وكتمه، وتصح البراءةُ عما لم يعلمه، وألحق أربابُ التحقيق بهذه العيوبَ الظاهرةَ والباطنةَ، فقالوا: البراءةُ في العيوب الظاهرة باطلة وإن لم يكن البائع مطلعاً عليها، وجَعلوا التمكنَ من الاطلاع مع ترك البحث بمثابة الاطلاع على الخفيّات مع الكتمانِ، وقال هؤلاء في الترتيب: البراءةُ عن العيوب الباطنة منقسمةٌ، فما علمه البائع، لم تصح البراءة عنه، وما جهِله، فتصح البراءةُ عنه.
ومن أصحابنا من قال: لا ننظر إلى الظاهر والباطن، وإنما ننظر إلى العلمِ مع
__________
(1) في الأصل: كما.
(2) في (هـ 2) ، (ص) : والآخر.(5/283)
الكتمان، وإلى الجهل؛ فإن المبطلَ للشرط انتسابُه إلى التدليس، وهذا المعنى لا يتحقق في العيوب الظاهرة التي لم يعلمها البائع.
وقد نجز الكلامُ في الحيوان.
3203- فأمّا ما عداه، فقد اختلف أصحابنا فيه على طريقين: منهم من قال: شرط البراءة فيما عدا الحيوان باطلٌ كيف فُرض، وإنما تصح البراءةُ في الحيوان للضرورة لأنه يغتدي بالصحة والسقَمِ، وهو عرضةُ التغايير. ولو قيل لا يخلو حيوان عن آفةٍ باطنةٍ، لم يكن هذا الكلام مجازفةً، فلو لم يصح بيعُ الحيوان بشرط البراءة، لما استقرَّ على حيوانٍ بيعٌ. وهذا لا يتحقق في غير الحيوان. هذا مسلك.
ومن أصحابنا من قال: يجري في غير الحيوان الأقوالُ الثلاثة، وقال قائلون: لا يجري في غير الحيوان الفرق (1) بين الظاهرِ والباطن؛ فإن ما سِوى الحيوانات عيوبُها ظاهرةٌ إن كانت، فجملةُ عيوبِها بمثابة العُيوب الظاهرة من الحيوان.
(2 وقد ذكرنا التفصيلَ في العيوب الظاهرة من الحيوان 2) .
فهذا هو التفصيل في شرط البراءة.
3204- فإذا جمع جامعٌ الحيوانَ إلى غيرهِ انتظم له أقوال: أحدها - الصحةُ في الجميع. والثاني - الفسادُ كذلك، والثالث - الفرق بين الحيوان وبين غيره. والرابع - الفرق بين ما علمه البائع وكتمه، وبين ما لم يعلمه.
وقد ذكرنا التعرضَ للظاهر والباطن، فقد يجري من خلاف الأصحاب فيه قولٌ خامس.
فإن حكمنا بصحَّة الشرط، فلا كلام، وإن حكمنا بفساده، فهل يصح العقدُ؟ فعلى قولين: أظهرهما - أنهُ يصح، ويلغو الشرط؛ لأنَّ [الشرط] (3) في وضعه ليس مخالفاًً لمقصود العقد ومقتضاه؛ من جهة أن الغرض من العقد النفوذ، والشرط في
__________
(1) في الأصل، (ص) : والفرق.
(2) ما بين القوسين سقط من (ص) .
(3) ساقطة من الأصل.(5/284)
نفي الفسخ يتضمن تأكيدَ لزومه، والظاهر السلامةُ أيضاًً.
والقول الثاني - أن العقد يفسد لفساد الشرط المتعرض لمقصوده، ولو صح ما تمسك به القائل الأول، لوجب القضاء بصحة الشرطِ؛ من جهة موافقةِ مقصود العقد، فإذا فسد الشرطُ، وجب الحكم بفسادِ العقد.
ثم جمع المرتِّبون صحَّةَ الشرط وفسادَه، وصحةَ العقد وفسادَه، وقالوا: في المسألة ثلاثة أقوال: أحدُها - أن الشرط والعقد يفسدان. والثاني - أنهما يصحان.
والثالث - أنه يصح العقد، ويفسد الشرط.
وهذا كاختلاف الأقوال في شرط نفي خيار المجلس والرؤية إذا جوّزنا بيعَ الغائب، وفيهما الأقوال الثلاثة، كما وصفناهَا، وخيار الرد بالعيب خيارٌ شرعي يتضمنه مطلقُ العقد كخيار المجلس وخيار الرؤية.
3205- وممّا يتفرع في الباب أنا إذا صحَّحنا شرطَ البراءةِ؛ فلو قال: أنا بَريء من (1 العيوب الكائنة، والعيوب التي ستحدث في يدي، فهل يصح شرط البراءةِ عما سيحدث، إذا ضَمَّ الشرطَ إلى ذِكر العيوب الكائنة 1) ؟ فعلى وجهين: أحدهما - أن ذلك لا يصح؛ فإن البراءة عن العيوب الكائنة في حكم إسقاط حق ثابت، وأما البراءة عما سيحدث، فتغيير لموجَب ضمان العقد وربط الشرط بما سيكون. وهذا يبعد احتماله.
والثاني - يصح تبعاً للعيوب الكائنة.
ولو خصّص الشرطَ بالبراءة عمّا سيحدث، ولم يتعرض للعيوب الكائنة، فالمذهب أن الشرط يبطل بخلاف ما ذكرناه في المسألة الأولى؛ فإن ما سيحدث ذُكر تابعاً للعيب الكائن القديم، فإن ثبتت البراءة، فسبيلها التبعيّةُ. وهذا لا يتحقق إذا أُفرد ما سيَحدث بالذكر والقصد.
وإذا ضممنا ما قدَّمناه تابعاً إلى ما أخّرناه مقصوداً، انتظمت أوجهٌ في العيوب التي ستحدث، على قولنا بصحةِ البراءةِ عن العيوب القديمة: أحدها - الصحةُ. والثاني -
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (هـ 2) .(5/285)
الفساد. والثالث- الفرق بين أن يذكر تابعاً أو مقصوداً.
فرع:
3206- إذا منعنا شرطَ البراءةِ، وقلنا: لابد من الاطلاع؛ فإن كان العيبُ مما لا يعايَن، فيكفي فيه اعترافُ البائع به، كاعتيادِ السرقة، والإباق، وغيرهما.
وإن كان مما يُعايَن كالبَرص وغيره، فإن اطلع المشتري عليهِ، كفى. وإن ذكرهُ البائع [لم يكفِ] (1) ؛ فإن المقصود يختلف بمقدار البرص وموضعه، فإن ذكر مقدارَه، ومحلّه، وصفتَهُ، كفى حينئذٍ.
* * *
__________
(1) ساقط من الأصل.(5/286)
باب الاستبراء في البيوع
3207- الاستبراءُ بأصولهِ وفصُولهِ يأتي بعد كتاب العدّةِ إن شاء الله عز وجل، فلا خَوْضَ فيه، بل نقتصرُ على غرض الشافعي من مضمون الباب، وهو مسألتان: إحداهما - أن المشتري لو وفَّر الثمنَ على البائع، فامتنع البائع من تَسليمِها (1) حتى يستبرىء، زاعماً أنه يحتاط بذلك لصون مائهِ، فليس له ذلك عندَنا. وقالَ مالكٌ (2) : له منعُها من المشتري، ثم يعدَّلُ على يدِ امرأةٍ مؤتمنةٍ. فهذا غَرضُه من هذهِ المسألة.
ثم الذي يتصل بهذا الباب في هذا الغرض اختلافُ الأصحاب في أن الجارية لو حاضت في يد البائع، فهل يعتدّ بذلكَ استبراءً أم نقول: ينبغي أن يجري الاستبراءُ بعدَ انتقال الضمان إلى المشتري؟ فمنهم من قال: يعتدّ بما جرى في يد البائع؛ فإنها وإن كانت من ضمان البائع، فهي في ملكِ المشتري.
ومنهم من قال: لا يعتدُّ بما جرى استبراءً؛ فإن الملك ضعيفٌ قبل القبض متعرّض للارتداد إلى البائع.
فهذا [أحدُ] (3) مقصودَي الباب.
3208-[والمقصود الثاني] (4) - أن من اشترى متاعاً من رجل غريبٍ، فليس لهُ
__________
(1) أي تسليم الجارية المشتراة، وعاد الضمير إليها، ولم يسبق لها ذكرٌ في الكلام؛ لأن المسألة في الاستبراء، ولا يكون ذلك إلا في بيع الجارية.
(2) ر. عيون المجالس للقاضي عبد الوهاب: 3/1477، القوانين الفقهية: 239.
(3) في الأصل: آخر.
(4) ساقط من الأصل.(5/287)
عندنا أن يطالبَه بمن يَعرفُه، (1 ويتحملُ عنه ضمانَ الدَّرَك. وقالَ مالكٌ (2) : له مطالبتُه بذلك. وعندنا لا يلزم ذلك إلا أن يشترط 1) الضمان في العقد، فيكون كاشتراط الرهن، كما سيأتي إن شاء الله عز وجل.
* * *
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ص) .
(2) لما نصل بعد إلى قول الإمام مالك فيما رجعنا إليه من مصادر السادة المالكية.(5/288)
بابُ المُرابحةِ
3209- صورة المرابحةِ أن يقول لمن يُخاطبُه: اشتريتُ هذا بكذا، وقد بعتكَهُ إياه بربح الواحد على كل عشرة، أو على العَشرة نصفُ درهم، على ما يقعُ الاتفاق عليه.
وحقيقةُ العقد بناؤه على العقد الأول، مع شرط مزيدِ الربح، أو حطيطةٍ مع التعويل على أمانةِ البائع، فإذا قال: بعتُك هذا بما اشتريتُ -وهو كذا- مرابحةً على كل عشرةٍ واحداً، أو اثنين، أو أقلَّ، أو أكثرَ على حسب التوافق، فالعقد يصح على هذا الوجه، ويثبتُ المزيد الذي أُثبتَ على صيغةِ الربح.
فإن ذكرا مبلغ الثمن والربح عليه، فالبيع صحيح.
وإن كان المشترِي جاهلاً بالمقدار، فقال البائع: بعتُك هذا العبدَ بما اشتريتُ، فالبيع فاسدٌ على الصحيح.
وحكى بعض الأئمة عن صاحب التقريب أنه قال: لو جرى هذا العقدُ، فلم يفترقا عن المجلس، حتى أعلم البائعُ المشتريَ مقدارَ الثمن، فالمذهب أن البيع فاسدٌ.
وفيه وجهٌ أن العقد ينقلب صحيحاً. وهذا ليس بشيءٍ؛ فإنَّ المجلسَ فرعُ انعقادِ البيع، فإذا لم ينعقد البيعُ، فلا مجلس له.
وأبو حنيفة (1) نفى خيار المجلس، وأثبتَ للمجلس أثراً في صحة العقد، بعد جريان الإيجاب والقبول على الفساد.
ومن أصحابنا من قال: يصح البيعُ في الأصل وإن كان المشتري جاهلاً برأس المال؛ فإن الإحاطةَ به ممكنة، والعقد الثاني مبنيٌّ على العقد الأول، وهو كالشفيع يطلب الشُّفعةَ قبل الإحاطة بمبلغِ الثمنِ. وليس هذا كما لو قال: بعتُك عبدي بما باع
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/406 مسألة 1125، إيثار الإنصاف: 311، الاختيار: 2/5.(5/289)
به فلانٌ عبدَه، وكانا جاهلين، أو أحدَهما بما وقع عليه بيعُ فلان، فالبيع باطلٌ؛ فإنه (1) لا تعلق لذلك الثمن بعقدِهما. وهذا ضعيفٌ، والأصح الحكم بالفسادِ.
ثم إذا حكمنا بصحة هذا العقدِ، فقد اختلف أصحابُنا في أنه هل يشترط إعلامُه في مجلس العقد؟ فمنهم من قال: لا يُشترط هذا؛ لأن العقدَ إذا انعقد على الصحةِ تعويلاً على إمكان الإعلام، فهذا الإمكان يَطَّرد، وإنما تمسُّ الحاجةُ إلى الإعلام عند المطالبة بالثمنِ.
ومن أصحابنا من قال: وإن حكمنا بصحة العقد، فلا بدّ من الإعلام في المجلسِ، حتى لا يتفرقا إلا على ثَبَتٍ، وهذا يناظر اشتراطَ التَّقابُضِ في عقود الربا.
ثم قال الأصحابُ: عقدُ المشتري مرابحة وإن ابتنى على عقدِ البائع، فلا حرج على البائع أن يزيد شيئاً من الثمن، ويقدّرَه من الأصلِ، ثم يذكرُ على صيغة المرابحة ما يقع التوافق عليه، وذلك بأن يقول: قد اشتريت هذا بعشرة وقد بعتكَه بعشرين، ورِبح ده يازده (2) ، فيصح العقد على هذا الوجه، وإن ضمَّ إلى رأس المال شيئاً، ثم قدّر الربحَ بعدهما.
وهذا عندي تكلُّفٌ، فإن ذلك المضمومَ مع المذكور ربحاً ربحٌ في المعنى، ولا نرى في الباب لما يثبت بصيغة الربح مزيّةً وخاصّية على ما يقدَّر أصلاً [مضموماً] (3) إلى رأس المال.
3210- ثم المرابحة تُفرض على وجهين: أحدهما - أن يقع البيعُ بما اشتراه البائع مع ربحٍ يذكرانه.
والآخر - أن يقع البيعُ بما قام على البائع مع مزيدِ ربحٍ.
__________
(1) في (هـ 2) ، (ص) : لأنه.
(2) في (ص) : درهم زايد. وده يازدة كلمة، بل مصطلح فارسي مكون من مقطعين: دِه = عشرة، يازده = أحد عشر، ومعناها كما هو مفهوم من سياق كلام إمام الحرمين (الآتي قريباًً آخر هذا الفصل) أنها عشر الأحد عشر (10/11) وانظر لمزيدٍ من التوضيح والتمثيل (فتح العزيز: 9/5، 6، والوجيز: 147) .
(3) ساقطة من الأصل.(5/290)
فإن قال: بعتُك بما اشتريت [به] (1) وهو كذا بربح كذا. فالأصل هو الثمن، ولا تحسب أجرة الدلالِ والكيالِ، وغيرِهما من مؤن العقد؛ فإن التعويل على موجَب لفظهِ. فإذا قال: بعتك بما اشتريت أبه، (2) ، فالذي به الشراءُ هو الثمن.
فأما إذا أراد العقدَ بلفظةٍ (3) تشتمل، فسبيله أن يَضُم مؤنةَ الدلالِ والكيالِ، والحمالِ، وأجرةَ البيت الذي جرى التربص فيهِ -إن كان البيت بكراءٍ- فيضُمُّ هذه المبالغَ (4) إلى الثمن، ويَقُول: بعتُك بما قامَ علَيَّ، وهو كذا، مُرابحة على كذا. فإذا وقع العقد على هذه الصيغة، فالمؤن التي تُعدُّ من توابع التجارة تدخُل تحت قول البائع "بما قام علَيَّ".
3211- ثم قال الأصحاب: إذا اشترى دابَّه، وعلفها مدَّة، ثم باعها بما قامت عليه، فمؤنةُ العلفِ، لا تدخل تحت اللفظ.
وهذا [محلُّ] (5) النظرِ؛ فإن العلفَ لاستبقاءِ الملكِ بعد ثبوته، والبيتُ الذي يحفظ فيه المتاع، في معنى العلف؛ فإنه ليس من توابع التجارةِ، بخلاف مؤنةِ الدلال وغيرهما، فمؤنةُ السكنى والنفقةُ متساويتان في تعلقهما بحاجة الاستبقاءِ والاستدامةِ إلى اتفاق البيع. ولكن (6) أجمع الأصحابُ على أن النفقةَ غيرُ معتبرة، وكراء البيتِ المكترى محسوبٌ من جملة المؤن الداخلة تحت قول البائع "بما قام عليَّ".
وفي الفرق نوع عُسْر على الناظر.
وقد قال بعض الحُذَّاق: لو اشترى دابة وزَادَ على علفِها المعتاد زيادة [يُبغى] (7)
__________
(1) زيادة لإيضاح الكلام. وفي (هـ 2) ، (ص) : اشتريته.
(2) زيادة لإيضاح الكلام. وفي (هـ 2) ، (ص) : اشتريته.
(3) في الأصل: وبلفظه. وفي الكلام إيجازٌ بالحذف، فالمعنى: إذا أراد العقد بلفظ يشتمل على جميع ما تكلفه في سبيل الشراء.
(4) في (هـ 2) ، (ص) : المنافع.
(5) في الأصل: مجمل.
(6) في (هـ 2) ، (ص) : لكن (بدون واو) .
(7) في الأصل، (ص) : تبقى.(5/291)
بمثلها السِّمَنُ، والازديادُ، فهذه الزيادة داخلة تحت لفظة القيام؛ فيرجع حاصلُ الجواب إلى [أن] (1) الداخل تحت الصيغةِ التي فيها الكلام ما يُعدُّ من مُؤن التجارة أو يُبغَى به الاستنماء لطلب الربح.
3212- والآن سبيلُ الكلام على الكراء أن نقول: هذا الباب مسائلُه غيرُ موضوعةٍ على أمرٍ فقهيّ، وإنما مقصودُه في اتِّباعِ اللفظ: فإذا قال: بعتُ بما اشتريتُ، اقتضى ذلك التعرُّضُ (2 للثمن؛ إذ به الشراءُ. وإذا قالَ: بعتُك بما قام عليَّ، فصيغة اللفظ شاملةٌ 2) للمؤن. وإذا كان كذلك، فالوجه اتباع اللفظ.
ثم العرفُ في المعاملات غالبٌ جداً، محكَّمٌ على العقودِ. والعباراتُ منزَّلةٌ عليه نزولَ عباراتِ الحالفين على عُرف المتفاوضين. ويمكن أن يقال: حفظُ المتاع في البيت تربُّصٌ، وهو ركن في التجاير وانتظار الأسعار. هذا حكم العُرف.
وأما العلف، فهو قوامُ البقاءِ، وليس هو للاتجار، وهذا مع التكلّفِ مشكلٌ، والقياسُ إدخال الكراء والعلف، لا [إخراجهما] (3) ، لكن المذهب نقل.
ولا خلاف أنه لو ضم النفقةَ إلى مبلغ الثمنِ والمؤنِ، فقال: بعتُكَ بما قام عليّ، وبما أنفقتُهُ، وهو كذا، صحّ.
ولو كالَ بنفسه، كما جرى في باب المكايلة، وحمل بنفسه، وأراد أن يَعُدَّ أجرة نفسه من المؤن، وقد جَرى العقدُ بصيغَةِ القيام، لم يكن له ذلك وفاقاً.
وكذلكَ لو كان البيتُ الذي يحفظ المتاع فيه ملكَه، فأراد حَسْبَ أجرته من المؤن، لم يكن له ذلكَ. نعم لو صرّح بذكر هذه المقالةِ، وقالَ: بعتُك بما اشتريتُ وبأجرتي كذا، وأجرة البيت، والمبلغ كذا، صحَّ.
فالكلام يدور إذاً على اللَّفظِ، ومُستندُ اللفظ العرفُ.
ولا يفهم من لفظِ القيام تقديرُ أُجرةِ البائع، وتقديرُ أجرةِ بيته المملوكِ.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) ساقط ما بين القوسين من (ص) .
(3) في الأصل: أو إدخالهما.(5/292)
فقد لاح الغرض، ولم يبق استكمالٌ فقهي.
والذي ذكرناه من الفرقِ بين العلف وكراء البيت إشكالٌ يؤول إلى مقتضى لفظٍ.
ومؤنةُ السائس فيها تردُّدٌ عندي، والأظهر إلحاقُها بالعلف، ولها شبهٌ بكراء البيت؛ فإن السياسةَ تؤثر في الحفظ أثرَ البيت [ولها] (1) اتصالٌ بالعلف؛ من جهة أن السائسَ، هو الذي يرتِّب العلف والسقي في مظانهما.
فرع:
3213- إذا اشترى شيئاً بعشرةٍ، وباعه بخمسةَ عشرَ، ثم اشتراه بعشرةٍ، ثم أراد أن يبيعه مرابحةً، فإن عقدَ العقدَ بقولهِ: بعت بما اشتريتُ، فالاعتبارُ بثمنِ العقدِ الأخير، بلا خلافٍ على المذهب؛ فإنَّ قوله " بما اشتريتُ " لا يُحمل على العقود السابقة، وإنما يُحمل على العقدِ الذي يلي المرابحةَ.
ولو أرادَ العقدَ بقوله: بما قامَت عليَّ، فهل يُحسب [ما] (2) استفاد قبل هذا العقدِ من ربحٍ؟ حتى يُقالَ: لما [اشترى] (3) أول مرة بعَشرةٍ، ثم باع بخمسةَ عشرَ؛ فقد استفاد خمسةً، فإذا اشترى بعشرةٍ، فالسلعةُ قامت عليه بخمسة؟
اختلف أصحابنا في المسألةِ، فذهب ابن سُريجٍ إلى أنه إذا أراد العقدَ بصيغةِ القيام، فلا ينبغي أن يذكر إلا خمسةً. وهذا مذهبُ أبي حنيفة (4) ، ووَجهُه أن أهل العُرفِ يقولون في مثل هذه الصورة: هذه السلعةُ قائمةٌ على فلانٍ بالخمسة.
والأصح أنه يعتبر بثمن العقد الأخير، وهو العشرة، ولا التفات إلى ما تقدَّمَ من عقدٍ، واستفادةِ ربح، وإنما تبتني (5) المرابحةُ على العقد الذي يليها، فإن عُقدت بصيغة القيام، فالمرادُ قيامُ السلعةِ بما بُذلَ في العقد الأخير. فأما الالتفاتُ على العقود السابقةِ، فمقتضاه تنزيلُ المرابحة على عقودٍ قبلَها. وهذا لا سبيل إليه.
ولو اشترى سلعةً بعشرةٍ، وباعها بخمسةٍ، ثم اشتراهَا بعشَرةٍ، فليس له أن يحسبَ
__________
(1) في الأصل: ولهذا.
(2) في الأصل: بما.
(3) في الأصل: اشتريت.
(4) ر. المبسوط: 13/82، بدائع الصنائع: 5/224.
(5) في (ص) : ينشىء.(5/293)
الخُسرانَ ويَضم مبلغَه إلى ثمن العقد الأخير، ويقُول: بعتُك السلعةَ مرابحة بخمسة عشرَ التي قامت السلعة (1) علىَّ بها.
هذا متَّفق عليه في الخُسران، فليكن الربحُ في معناه، وليقتصر على ما يجري في العقد الأخير من ثمنٍ ومؤنٍ، كما فصَّلناها.
فرع:
3214- يجوزُ بناءُ العقد الثاني (2) على الأوّل محاطَّةً، كما يجوز بناؤه عليه مرابحةً.
وذلك بأن يقول: بعتُكَ السلعةَ بما اشتريتُها به، وهو مائة محاطَةً [بوضيعة] (3) درهمٍ من كل عشرة، [ينعقدُ البيع] (4) ، ويُحَطّ على حسب ما اقتضاه اللفظُ.
ثم المحاطّة تعقد بالعبارتين المعهودتين في الباب: إحداهما أن يقول: بما اشتريتُ، والأخرى أن يقول: بما قامت علي.
ثم إن قال: بعتُكَ بما اشتَرَيْتُ، وهو مائةٌ بحطّ " دِهْ يَازْدِه "، فقد اختلف أصحابنا في المقدار المحطوط، فمنهم من قالَ: يُحط من كل عشرةٍ واحدٌ، كما يزاد في المرابحة بهذه اللفظة على كل عشرةٍ واحدٌ، لتكون المحاطَّةُ على مناقضةِ المرابحة، وهذا مذهب أبي حنيفة (5) ومحمدٍ.
ومنهم من قالَ: نَجعل [كلَّ] (6) عشرة أحدَ عشَرَ جزءاً، ثم نحطُّ من هذه الأجزاء جزءاً، وهذا هو الصحيح؛ فإنا إذا حطَطْنا عن كل عشرة واحداً، فليس في هذا اعتبارُ نسبةٍ (الده يازده) .
وذكر شيخي أبو محمد: أنا نحط من كل أحدَ عشرَ درهماً، درهماً. وهذا بيان الوجه الثاني.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في (ص) ، الأول على الثاني.
(3) في الأصل: وضيعة (بدون باء) .
(4) ساقط من الأصل.
(5) ر. المبسوط: 13/91.
(6) ساقطة من الأصل.(5/294)
والعبارة الأولى، والتي ذكرَها الشيخُ تؤدِّيان معنى واحداً. والغرض أن يكون كلُّ جزءٍ من المال مجزأً، بأحد عشر جزءاً، ثم يُحط منه جزءٌ من أحدَ عشر.
وهذا مذهبُ أبي يوسف وابنِ أبي ليلى.
وغَلِط العراقيون في تصوير المسألةِ، فوضعُوها في صُورةِ الوفاق، وحكَوْا الخلافَ فيها؛ فقالوا: إذا قالَ بعتُ منك هذا العبدَ بوضيعةِ درهم في كلِّ عشرة، فالمَوضُوعُ كم؟ فعلى وجهين. وهذا غلط؛ فإنّ الصيغَةَ مصرّحة بأنا نحط من كل عشرةٍ واحداً.
وإنما التردُّد في لفظ (ده يازده) ولست أرى في العربيّةِ صيغةً تنطبق على هذه اللفظة العجمية.
فصل
قال: " وإذا باع مرابحة على العشرة واحداً ... إلى آخره " (1) .
3215- إذا قال بعتُك بما اشتريتُ وهو مائة، أو بما قامت عليّ السّلعةُ به، وهو مائة مرابحةً على العشرة واحداً، فحَكَمنا بالانعقاد على الظاهر، ثم بان أنَّ رأس المالِ كانِ تسعين، فنذكر التفصيل فيه إذا خان، واعتمدَ الكذبَ، ثم نذكرُ التفصيل إذا غلط.
فأما إذا خان، فالذي قطع به الأئمةُ أن البيع منعقدٌ، والكلام وراء ذلك في الحط والخيارِ.
وذكر صاحب التقريب قولاً غريباً: أن البيع لا ينعقد، وهذا يبتني على أن الحطَّ مستحَقٌ لو قُدرت الصحّةُ. فيؤدِّي مجموعُ الكلام إلى ورود العقد على جهالةٍ.
وهذا بعيد، ما أراه معتداً به، فلا عودَ إليه.
فإذا ثبتَ انعقادُ العقد، فهل يُحطُّ عن المشتري ما زداه البائعُ وحصتُه من الربح؟ فعلى قولين: أحدُهما - أنه لا يُحط؛ فإنه جزم العقدَ بالمائة، وكذبَ في قولهِ اشتريتُ بها، وثمن هذا العقدِ ما عَقَد به.
__________
(1) ر. المختصر: 2/200.(5/295)
والقول الثاني - أنه يُحط؛ لأنه لم يقتصر على العقدِ بالمائةِ، بل ربطَه بثمنِ العقد الأول، أو بما قام الثوب به في العقد الأول. فإذا بان الخُلْف، لم يستقر العقد على المائة المذكورة.
فأحد القولين يعتمد المائةَ المذكورةَ. والقول الثاني يعتمد ذكرَ ما جرى في العقد الأول.
وذكر العراقيون في طريقهم أنا إذا فرَّعنا على الحَطّ، فمعناه أنه ينحط عن العقد، لا (1) أنه ينشأ حطُّه.
3216- وإذا قلنا: نحط، معناه نحكم بالانحطاط، فيرجع حاصل القولين إلى أنا في قولٍ نحكم بأن المائة تثبت والعقد ينعقد (2) عليها. وفي قولٍ نقول: لم ينعقد العقد إلا على تسعين، وليس هذا الحط بمثابة استرجاع أصل (3) أرش العيب القديم؛ فإنَّ الأرشَ المسترجَع، وإن كان جزءاً من الثمن، فاسترجاعه نقصٌ في جُزءٍ من الثمن.
والدليل عليه أن البيعَ إذا ورد على معيب، فموجَبُ العيب الردّ، ولا نجوِّز الرجوعَ إلى الأرش مع القدرة على الرد، فكأنَّ الأرشَ بدلٌ عن الرد، إذا تعذر.
ولا ينتظم عندنا إلا هذا؛ فإنّ حملَ الحط على إنشاءِ إسقاطٍ على حكمِ التخيّر، لا معنى له، وما استحق حطُّه محطوطٌ؛ إذ معتمدُ قولِ الحط حَمْلُ العقدِ الثاني على ثمنِ العقدِ الأول. فإن رأى طالبٌ لبعض الأصحاب لفظةً تُشعر بإنشاء الحطِّ، فمعناها الحكمُ بالانحطاط. وهو كقول الفقيهِ في البيع الباطل: "إذا اشتمل البيعُ على الشرط الفاسد، أبطلناه".
فإن قيل: فالعقدُ إذاً منعقدٌ على ثمنٍ مجهول؛ فإن المشتري غيرُ عَالم حالةَ العقد بما انعقد عليه العقدُ في حكم الله تعالى. قلنا: هذا كلام واقعٌ في موقعه. وعلى هذا منشأُ القول الذي حكاه صاحب التقريب في بطلان العقد.
__________
(1) ساقطة من (ص) .
(2) في (هـ 2) ، (ص) : انعقد.
(3) ساقطة من: (هـ 2) ، (ص) .(5/296)
وسبيل الجواب أن العقدَ عقد على ظن العلم بالثمن، فاكتفَى الانعقاد بذلك، فإذا أُخلف، فطريقُ الاستدراك بالخيار، لا الحكمُ بالفساد. وهذا يناظر قولَنا: لا يزوجُ السيد أمتَه من مجبوب على علمٍ، ولو فعل، لم يصحّ. ولو زوّجها على ظن (1) السلامة، انعقد العقدُ. وتخيَّرت الأمةُ.
3217- هذا منتهى النظرِ في ذلك التفريعِ على قولَي الحط، إن قلنا: لا يُحطّ عن المشتري شيء، فله الخيارُ؛ من جهة أنه خاض في العقد على شرط أنه ينزل على عوض العقد المتقدّم، فإذا لم يتفق ذلك، تخيَّر.
وإن قُلنا: يُحط الزيادةُ عنه، ففي ثبوت الخيار للمشتري مع انحطاطِ الزيادة قولان: أحدُهما - لا خيار له؛ فإن مقصوده قد حصل. والقول الثاني - له الخيار، وهو موجَّهٌ في ترتيب المذهب بمعنيين: أحدهما - أنه إذا خانه مرةً، لم نثق به، ولم نأمن أنه خانه في مقدارٍ آخر. وإن الثمن كان ثمنين، أو أقلَّ، فهذا وجه.
والوجه الثاني [أنه] (2) قد يُفرَضُ للمشتري غرضٌ في الابتياع بالمائة في تنفيذِ وصيَّة، أو وفاءٍ بنذر، أو تحلّةِ قسَمٍ. هذا إذا حكمنا بالانحطاط شرعاً. وإن قلنا: لا انحطاطَ والعقدُ ثابتٌ بالمائة، فقد ذكرنا أن المشتري يتخيّر؛ لمكان التلبيس. فلو قال البائع: لا تفسخ؛ فإني أحط عنك الزيادةَ، فإذا حطها هل يتخيّر المشتري؟ فعلَى وجهين.
وهذه الصورةُ في مقتضى الخيار أيضاًً تُضاهي التفريعَ على قولنا: إن الزيادة تنحط، غير أن الصورة الأخيرةَ أولى بالخيار؛ من جهة أن الخيارَ ثبت لصفةِ العقدِ؛ فإنه انعقد على التلبيس. فإذا أراد البائعُ الحطَّ، فهذا إبراءٌ، والعقد في وضعهِ انعقد على موجَب التلبيس. وإذا حكمنا بالانحطاطِ، فالعقد، لم ينعقد على موجَب التلبيس، ولكن بان كذب البائع.
وقد ذكر صاحب التقريب قولاً ثالثاً مخرَّجاً في خيار المشتري، وذلك أنه قال: من
__________
(1) في (ص) : شرط.
(2) ساقطة من الأصل.(5/297)
أصحابنا من قال: إن ظهرت الخيانةُ بإقرار البائع، فلا خيارَ للمشتري، وإن ظهرت الخيانةُ ببيّنةٍ، فله الخيار؛ فإن الإقرارَ يبيّن تندُّمَه على ما تقدَّم منه، ويثبت ثقة بقوله، بخلاف البيّنة.
وهذا لا حاصل له.
والفقهُ المطلوب في هذا أنَ توقع خيانةٍ أخرى يجري في الإقرار وقيام البيّنة.
ولكن [إن] (1) تحقق المشتري مبلغَ الثمن، وأمِنَ من تقدير خيانةٍ، وذلكَ بأن يتذكَّر بنفسه ما وقع ذلك العقدُ الأول عليه، وكان شهدهُ وشاهَدهُ، ثم نسيَهُ. فإن كان كذلكَ، فالخيارُ مع الحطِّ لا متعلَّق له إلا الأغراضُ البعيدة التي أشرنا إليها، في الأَيْمان والوصايا، ولا اختصاص لها بغرض العقد، ويتعذر إثبات الخيار لها، وإن لم يتيقن المشتري زوالَ إمكان خيانةٍ أخرى، فيتعلَّق الخيار بالمعنيين المذكورين.
3218- وتمامُ الكلام في ذلكَ أنا إن حططنا من المشتري، ولم نخيّره أو خيَّرناه، فما اختار الفسخَ، بل أجازَ العقدَ، فهل يثبت للبائع الخيارُ؛ من جهة أنه طمِعَ في المبلغ الذي سقاه ثمناً ثم أخلف ظنُّه؟ في المسألة وجهان: أحدُهما - أنهُ لا خيار له؛ لأنهُ لم يفُتْه حق مستحق بالعقد، ويبعد أن يصير تلبيسُه أو غلطُه سبباً لثبوت الخيار له.
والوجه الثاني - أنه يثبت الخيار له؛ لأن ذلك أمّلَه بأن يسقم له ما سمَّاه، ثم خاب ظنُّه. وهذا يقرب من الخيار الذي ذكرناه في بَيع الصُّبرة بالصُّبرةِ مُكايلة، حيث قال الشافعي: وللمنتقَص صُبرتُه الخيارُ؛ فإنه على ظنّه باستحقاق الصُبرة، ثم اقتضت المكايلةُ خروج بعضها عن الاستحقاق.
وهذا نجاز الكلام في الخيانة.
3219- فأمّا إذا باع الشيءَ مرابحةً، ثم بان أن ثمنَ العقدِ الأولِ كان أقلَّ، ولكن لم يعتمد البائعُ ذلك خائناً، بل أخطأ، فترتيبُ الكلامِ في قواعدِ الخلافِ والوفاقِ في الحطِّ والخيارِ كما تقدَّم في الخيانةِ، غيرَ أن الخَطأ قد يترتبُ على الخيانةِ، كما سنصفُ ذلك.
__________
(1) ساقطة من الأصل.(5/298)
ففي الحَط أولاً قولان كالقولين في الخيانَةِ، ولا فرق. فإن حَططنا، ففي ثبوتِ الخيارِ للمشتري قولان مرتبان على القولين في نظير ذلك في الخيانة. وهذه الصورة -يعني صورةَ الغلط- أولى بألا يثبتَ الخيار فيها.
وكيفيّةُ الترتيب أنا إن لم نثبت الخيارَ في الخيانةِ بعد الحط، فلأن لا يثبتَ في صورةِ الغلطِ أولى. وإن قُلنا: يثبتُ الخيارُ بالخيانةِ، ففي صورةِ الغَلط قولان مبنيان على المعنيين؛ فإن ربطنا الخيارَ في الخيانة بزوال الأمن وتوقُّعِ مثلِ ما وقعَ، فلا خيار في الغلط. وإن ربطنا الخيار ثَمَّ بالأغراض التي ذكرناها، فهذا يتحقق في الغَلط أيضاً.
ولا نص للشافعي في صورة الخيانة، فإنه فرضَ كلامَه في الخطأ، ونصَّ على القولين [في الحط] (1) . ثم ذكر النقَلةُ عنه قولين في ثبوت الخيار للمُشتري، فروى حرملَةُ أن الخيار لا يثبت. ورَوى المزني ثبوت الخيار، فذكر الأصحاب وجهين في الخيانة لمَّا لم يجدوا في تلك الصورةِ نصوص صاحب المذهب، واعتقدوا أن صورةَ الخيانة أولى بالخيار.
فإن قيل: كما يتوقع خيانةٌ بعد الخيانة الأولى، فكذلك يُتوقَّع غلطٌ بعد ظهور الغلط الأوّل، فما وجه البناء على المعنيين؟ قلنا: لا سواء، فالخيانةُ إذا ظهرت حطَّت الثقةَ، وسلبت الأمنَ، والغلط لا يُثبت مزيداً في توقع الغلط مرةً أخرى، بل توقُّعُه ثانياً على حسب توقعه أول مرَّة، وتوقُّع الخطأ أوّلَ مرةِ لا يُثبت الخيارَ.
وكلُّ ما ذكرناه فيه إذا فُرض كون الثمنِ المذكورِ في عقد المرابحة أقل مما كان في العقد الذي عليه البناءُ.
3220- فأما إذا قال البائع: قد غلطتُ إذ ذكرتُ المائةَ؛ فإني كنتُ اشتريتُ السلعةَ بمائةٍ وخمسين، فإن صدَّقه المشتري في ذلك، وثبت الغَلطُ بتوافُقِهما، فالذي ذكرهُ الجمهور من (2) الأصحاب أنا نتبيّنُ فسخَ العقد من أصله. قالوا: وهذا يخالف بيانَ
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في (ص) : من فقهاء الأصحاب.(5/299)
الغلط بالزيادة في الصورة المقدّمَة؛ فإن المذهب في تلك الصورة صحّةُ العقد، ولم يصر إلى فساده أحدٌ إلا صاحبُ التقريب؛ فإنه حكى قولاً غريبا كما مضى.
وكان شيخي يُنزل الغلطَ بالزيادةِ منزلةَ الغلط بالنقصان ويقول: [كما] (1) أنَّ المائةَ ليست عبارةً عن تسعين، فليست عبارةً عن مائةٍ وخمسين، فإن كان التعويل على المسمَّى، فليصح في الموضعين. وإن كان التعويلُ على ما وقع عليه العقدُ الأول، فلا فرقَ بين الزيادة والنقصان.
وهذا قياسٌ متَّجهٌ. ولكن الذي ذكرهُ الأصحاب واتفق النقل فيهِ ما قدّمته.
والذي يمكن أن يقال في الفرق: أن الحطَّ من الثمن قد يُستَحق في بعض العقود إذا حُط الأرش، ولا يُتصوّرُ استحقاق زيادةٍ ملتحقةٍ بالعقدِ لم يجر لها ذكرٌ. نعم قد تفسد الأعواض في العقود التي لا تفسد بفساد أعواضها، فنحيدُ عن المسمّى رأساً، ونُثبتُ مهرَ المثل، وقيمةَ المثل. ثم [قد] (2) يتفق ذلك زائداً أو ناقصاً.
وهذا فيه إذا اتفقا على الغلط بالنقصان.
3221- فأما إذا لم يعترف المشتري بما ادّعاه البائع، فقال البائع: قد كنت اشتريتُ بمائةٍ وخمسين، وغلطت بذكر المائة، فلا يُرجع إلى قول (3) البائع. ولو أراد إقامَةَ البيّنةِ، لم تُسمَع بينتُه؛ فإن سماعَ البينةِ يترتبُ على صحة الدعوى. وقد ذكرنا أن دعواه مناقضةٌ لدعواه، فلا سبيل إلى تصحيحها. وإذا لم تصح، فسماع البينةِ يترتَّبُ على سماع الدعوى. فلو قال للمشتري: أنت تعلمُ أني غلطتُ، ونقصتُ الثمن، فاحلف أنك لا تعلم، فهل يحلف [المشتري] (4) إذا استدعى ذلك البائعُ؟
ذكر صاحب التقريب وغيره وجهين مبنيّين على أصلٍ مشهورٍ في الدعاوى، وهو أن يمين الردِّ بمنزلةِ إقرار المدعى عليه، أو تنزل منزلةَ البيّنة المقامة. وفيه قولان مأخوذان من معاني كلام الشافعي سيأتي ذكرُهما في كتاب الدعاوى.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) في (هـ 2) ، (ص) : قوله.
(4) مزيدة من (هـ 2) ، (ص) .(5/300)
قال: فإن قلنا يمين الرد ينزل منزلةَ البينة، فلا يحلف المشتري في الصورة التي ذكرناها؛ فإن غرضَهُ لا يتضح في تحليفه إلا بتقدير نكوله مع رد اليمين على البائع المستحلِف، وإلا فلا فائدةَ في تحليفه، فعلى هذا لا يحلف؛ لأنا جعلنا يمين الرد كالبيّنة، وقد ذكرنا أن بينته لا تسمع، فلا تحليفَ إذن.
وإن قلنا: يمينُ الرد بمنزلةِ إقرار المدعى عليه، فاليمين معروضةٌ على المدعى عليه؛ فإن يمين الرد في عقباه كإقرار المدعَى عليه، ولو أقرّ المدعَى عليه، لثبت موجَبُ الغلط.
وذكر بعض (1) أصحابنا وجهاً ثالثاً فقال: إن باع بالمائة، ثم ادعى المائة والخمسين، وذكر الغلطَ مطلقاًً من غير ذكر سبب يقتضي الغلطَ، فدعواه مردودةٌ والمدعَى عليهِ لا يحلف. وإن ذكر سبباً لا يمتنع وقوعُ مثلهِ، مثل أن يقول: طالعتُ جريدتي، فغلطتُ من ثمنِ متاعٍ إلى ثمنِ آخر، وأخبرني من أثق به، فعوّلتُ على قوله، ثم تبينت خطأه، فما يقوله من هذه الأجناس ممكنٌ. وإن ذكر شيئاً منها، كان له تحليفَ المشتري، بخلاف ما إذا أطلقَ؛ فإن مطلقَ الدعوى مضادٌّ لصيغة البيع.
وإذا تَواردا على التضادّ، لم يُقبل أحدهما. وإذا ذكر عُذراً قَرُبَ قبولُ القولِ.
ثم لا خلاف أنا لا نقبل قول المدعي، بل فائدة ما ذكرناه تمكينُه من تحليف المشتري، وهذا الفصلُ اختيارُ أبي إسحاقَ المروزي.
وذكر صاحب التقريب أن من أصحابنا من قطع القول بجواز تحليفه المشتري إذا ذكر السبب، وردَّ الوجهين إلى الإطلاق.
وهذا الآنَ فيه مزيدُ نظرٍ؛ فإنا إذا قطعنا القولَ بالتحليف، لزم أن تُسمع بيّنةُ المدعِي، فإنّ القطعَ بالتحليف يُثبت يمينَ الردَّ، ولا تثبتُ يمينُ الرد -مقطوعاً بها من غير خلاف- إلا حيث تُسمع البينةُ. وحيث ذكرنا خلافاً بنيناه على أن يمينَ الرَّدِّ كالبيِّنةِ أم هي كالإقرار. وفيه الخلافُ المقدَّم. وهذا بيّنٌ لمن تأَمَّله.
__________
(1) ساقطة من (ص) .(5/301)
فصل
فيما يجبُ الإخبارُ به في بيع المرابحة وما لا يجب
3222- فنقول: إذا اشترى شيئاً وقبضه، ثم عاب في يدهِ عيباً يُثبتُ مثلُه الردَّ [فإذا] (1) أراد أن يبيع مرابحةً بالثمن، أو بما قام عليهِ، فيتعيَّن عليه ذكرُ ما تجدد في يدهِ من العيب، حتى لا يكون ملبّساً على مُعاملِه؛ فإن من خاصيّه هذه المعاملة تنزيلُ العقد الثاني على الأول، حالةَ ورود العقد، والمشتري يعتقد أنه حالّ محلَّ البائعِ في جميع الحقوق إلا في مزيد الربح، فوجب لذلك أن يذكر ما يجري من العيب، ولا فرق بين أن يطرأ العيبُ بآفةٍ سماويَّةٍ أو بجناية [جانٍ، أو بجنايةٍ] (2) من هذا البائع.
فأما ما لا يوجب تغيير المبيع في صفته: لا في عينه، ولا في ماليّته، فلا حاجة إلى ذكره. فلو اكتسب العبد أو أثمرت الشجرة المشتراةُ، فاز البائعُ بالزيادات المنفصلة، وكان له إجراءُ العقد بالثمن، أو بما قام عليه، من غير تعرضٍ لذكر الزوائد. ولو جنى العبد في يدهِ وفداه، ثم أراد بيعه مرابحةَ بما اشتراه أو بما قام عليه، فليس له أن يذكر مما فداه به -مطلقاًً [مع] (3) رأس المال- ذِكْرَه مؤنَ التجارة؛ فإنا ذكرنا فيما سبق أن ما لا يكون من مؤن التجارة، ولا يقتضي استنماءً واسترباحاً، فلا يجوز ضمه إلى رأس المال مطلقاًً، من غير تنصيصٍ عليه، وإذَا كنا لا نرى ضم مؤنة العلف إلى رأس المال على ظهورها، فالفداءُ الواقعُ نادراً أوْلى، وهو يناظر مؤن المعالجة إذا فُرِض مرضٌ، ولا شك أنها لا تُضم.
وما ذكرناه معناه إطلاق الضم من غير تنصيص على الجهة، فأمّا إذا قال: بعتك هذا العبد بما قام عليَّ وهو كذا، وبما فديتُه به لما جنى مُرابحةً على كذا وكذا، فهذا لا منعَ فيهِ، وهو مطَّردٌ فيما يريد البائعُ ضمَّه إلى رأس المال مع التصريح.
__________
(1) في الأصل: إذا (بدون فاء) .
(2) ساقط من الأصل.
(3) في الأصل: "من".(5/302)
3223- فأما إذا جُني على العبد وغرِمَ الجاني أرش جنايته، فسبيلُ ضبط المذهب أن أثر الجناية عيبٌ طارىء، فلا بدَّ من ذكره، فلو أراد ألا يذكر العيبَ ولا يَحطَّ الأرشَ الذي أخذهُ عن (1) الجاني، بل يذكرَ جميعَ الثمن، أو جميعَ ما قام عليه به، لم يكن له ذلك، وكان مدلّساً.
ولو جرت جناية وزال أثرُها بالكلية، ولكنا كنا نرى في وجهٍ تغريمَ الجاني شيئاً على مقابلة جنايته، فالظاهرُ في هذه الحالة أنه لا يجب عليه ذكرُ ما جرى، والمأخوذ من الجاني في حكم زيادةٍ مستفادةٍ من المبيع، والسبب فيه أن المبيعَ غيرُ مُنتقَصٍ.
ومن أصحابنا من أوجب ذكر ذلك، وهو بعيدٌ، لا أصل له.
وإذا جرينا على الأصح وقلنا: جراحُ العبدِ من قيمته، كجراح الحر من ديته، ثم جرت جناية مُوجَبها من طريق التقدير نصفُ القيمة، وما نقصت من الجنايةِ إلا ثُلثها.
فإذا باع العبدَ بما قام عليهِ، وحَط مقدارَ النقصان من القيمة، ولم يحط ما غرِمه الجاني له وراء النقصان، ففي المسألةِ وجهان، والأصح أن ذلك جائز؛ فإن الزائد على النقصان غرِمه الجاني لحقّ الدية، والمعتبر في المرابحة القضايا الماليّةُ.
ومن أصحابنا من اعتبر جملة الأرش الذي غرِمه الجاني وإن زاد على مقدار النقصان؛ طرداً للباب؛ ومصيراً إلى أن تقدير الشرع أولى بالاعتبار من تقويم المقوّمين في السوق؛ فنجعل كان الناقصَ النصفُ الذي حكم الشرعُ به.
وقد يرى الناظرُ في كتب العراق وجهين مطلقين في أنه هل يجب على البائع ذكرُ الجناية أصلاً.
وهذا غيرُ معقولٍ إلا في أرشٍ لا يقابِل تنقيصاً من القيمة، كما ذكرته [الآن] (2) في الصورتين: إحداهما - في أرش يقابل جنايةً لم يبقَ أثرُها، والأخرى - أن يكون الأرش وراء النقص مأخوذاً من تقدير الشرع (3) .
__________
(1) "عن" مرادفة لـ (مِن) .
(2) في الأصل: إلا.
(3) ساقطة من (هـ 2) .(5/303)
3224- ثم تمام البيان في ذلك أنه لا يختلف الأمر بأن يبيع بما اشترى، أو بما قام في العيوب الطارئة؛ فإنا وإن كنا نتبع المسمى [ثمناً] (1) ، فنشترطُ بقاءَ المثمَّن على ما كان عليه حالةَ العقد.
ثم حيث قلنا: يجب ذكرُ العيب الطارىء، فلو لم يذكره وأطلق العقدَ، فمقدار الأرش إذ لم يتعزض له، بمثابة ما لو زاد في الثمن، بأن كان اشترى بتسعين فذكر المائة.
هذا حكمُ تركِ ذكرِ العيب.
فيعود الكلام في الحط والخيار كما مضى حرفاً حرفاً.
ولو علم المشتري بطريانِ العيب، ثم اشترى بالثمن الأول. المذهبُ (2) أن العلمَ كافٍ، والبيعُ ينعقد بالثمن الأول المذكور.
ومن أصحابنا من قالَ: لا أثر للعلِم، والزيادةُ محطوطةٌ -وهي مقدار الأرش- في قولٍ، وليست محطوطةً في قول. نعم لا خيار للمشتري؛ لمكان علمه.
ولو قالَ: بعتُك بمائةٍ، وهي ما اشتريتُ به، فقبل المشتري على ما علم بكذبه، فالمذهب إجراءُ القولين في الحط، مع نفي الخيارِ. ولو قلنا: لا يُحط، فقال المشتري: خضتُ في العقد على تقدير أن يُحطَّ عني، فإن لم تحُطوا، فخيّروني، ففي الخيار خلافٌ، والمذهبُ أنه لا يثبت.
فلو اشترى عبداً وخصاه، فازدادت قيمتُه، فهذا مما يجب ذكرُه، فإنه من العيوب، وقد ذكرنا أن كل ما يُثبت الردَّ يجب ذِكرُه، فلو لم يذكُرْه، فلا حَطَّ؛ فإن الخِصاء لا يَنقُصُ شيئاً من المالية، ولكن لا أثر لما جرى إلاّ تَعْصيةُ البائع لانتسابه إلى التلبيس في معاملةٍ مبناها على الأمانة. ولا شك أن المشتري لهُ الخيار، لاطلاعهِ
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) هذا جواب (لو) بدون (الفاء) ، وهو سائغٌ، وقد أشرنا إلى وجهه في تعليق سابق. ويجوز هنا أن يكون الكلام مستأنفاً، والجواب مفهوم تقديره مثلاً: "فما الحكم"؟(5/304)
على عيبٍ بما اشتراه، فليس هذا من خاصيّة المرابحةِ.
ولو اشترى عبداً بثمنٍ غالٍ وغُبنَ في ثمنه، فقد ذكر طوائف من محققينا أنه يجب ذكرُ ذلك، فيكون المشتري على بصيرةٍ من أمره.
وقد قطع شيخي وصاحبُ التقريب أن ذلك لا يجب؛ فإنه باع ما اشترى كما اشترى، ومن باع شيئاً وغَبَن مشتريَه لم يكن مدلِّساً، ولو كتم عيباً يعلمه به، كان غاشّاً مدلِّساً.
ثم الذين قالوا لا بد من ذكر الغبن، بَنَوْا عليه أنه لو اشترى من ولده الطفلِ، فيجب عليه ذكرُ ذلك، وإن كان اشترى بثمنِ المثلِ من غير مزيدٍ؛ لأن شراءه من ولده يوهم نظرَه له وتركَ النظرِ لنفسه.
وهذا خَبْط عظيم، وهو بناءٌ على وجوب ذكرِ الغبن، وقد ذكرنا أن الأصح أنه لا يجب ذكرُه، حتى قال المفرّعون على ذكر الغبن: لو اشتراه من ابنه البالغ، أو أبيه، فهل يجب ذكر ذلك؟ فيه تردُّدٌ مبنيٌّ على أن الوكيلَ بالبيع مطلقاًً هل يبيع من أبيه أو ابنه بثمن المثل؟ وفيه تردُّدٌ. والمذهب القطعُ بجواز بيع الوكيل من ابنه وأبيه بثمن المثل. ووجهُ المنعِ بعيدٌ. وهو مذهبُ أبي حنيفة (1) . ثم نحن إن أبعدنا فمنعنا، حَمَلْنَا ذلكَ على تطرق التهمة، ومحاذرةِ الغبن الخفيّ. والعجبُ أن أبا حنيفة (2) جوّز البيعَ بالغبن الفاحش ومنع البيعَ من الابن (3) .
وبالجُملةِ هذه التفريعاتُ في المرابحة مائلةٌ عن سَنَنِ التحقيق عندنا. والوجهُ: القطع بحسم هذه المادّةِ وإسقاطُ وجوبِ ذكرِ الغَبْن.
3225- وممَّا أجراهُ المفرعون على ذكر الغَبْنِ أن من اشترى شيئاً بثمنٍ [آجلٍ] (4) ،
__________
(1) ر. المبسوط: 4/124، تبيين الحقائق: 4/270.
(2) ر. المبسوط: 4/124، إيثار الإنصاف: 316، تبيين الحقائق: 4/271.
(3) في (هـ 2) : الأب.
(4) في الأصل، (هـ 2) : حالّ. والمثبت تقديرٌ منا رعايةَ للسياق، فالحال هو النقد بعينه، وانظر فتح العزيز (بهامش المجموع: 9/11) حيث ذكر هذه الصورة، وصرح بأنه اشترى (بدَيْن) . وانظر الروضة: 3/531، وأما نسخة (ص) ، فقد قلبت الصورة هكذا: اشترى =(5/305)
ثم أراد بيعَه مرابحةً بنقدٍ. قيل: إن كان هذا البائع ملياً وفياً، فلا تفاوت، ولا (1) يجب ذكرُ كونِ الثمن ديناً، وإن كان هذا البائع مسوِّفاً مطوِّلاً (2) ، أو مُعسراً فبالحريّ أن لا (3) يقنع [منه] (4) بثمن المثل، فهو مغبون أو يمكن ذلك فيه، فلا بد من ذكر حقيقة الحالِ.
وكل ذلك خبطٌ. نعم، إذا اشترى بثمن مؤجل ثم أراد بيعَه بمثله حالاً، فهذا تلبيسٌ؛ فإن الماليّةَ تختلف بهذا.
فإن اشترى بثمن حال، فباع بمثله مؤجَّلاً، فلا بأس به؛ فإنه لم ينقُص المشتري شيئاً، بل زاده، ولا خُلفَ أيضاًً في صيغة لفظه.
ولو اشترى عبداً بعَرْض، فليذكر قيمته حالة العقد، حتى لو ارتفعت قيمةُ ذلك الجنس بعد البيع، فلا ينبغي أن يعوّل على تلك القيمة؛ فإن المعتبر ماليّةُ العبد حالةَ العقد.
ولو اشترى عبدين، وباع أحدَهما مرابحة بحصّته من الثمن على التقسيط العدل، فهو صحيح عندنا؟ خلافاً لأبي حنيفة (5) .
3226- فإذا انضبط ما يجبُ ذكره وما لا يجب، فالعبارةُ الجامعةُ على الطريقة المرضية عندنا أنه يجب ذكر ما طرأ مما ينقص القيمةَ أو العينَ. وقال آخرون: يجب ذلك، ويجب معه التعرض للغبن إن كان، وذكرُ ما يوهم الغبنَ.
__________
= بثمن حالٍ، ثم أراد بيعه مرابحة بعقد نسيئة، قيل: إن كان هذا البائع ملياً وفياً ... إلخ. وهذا فيما أقدر تصرفٌ من الناسخ، لا يتفق مع السياق، وفحوى الصورة.
(1) في (ص) : وإنما يجب.
(2) في (هـ 2) : مطَّالاً.
(3) في (ص) : أن يقنع.
(4) ساقطة من الأصل.
(5) ر. المبسوط: 13/81.(5/306)
فصل
معقود في التولية [والإشراك] (1) وبقية من حكم المرابحة.
3227- فإذا اشترى الرجل شيئاً وقبضهُ، ثم قال لإنسانٍ: ولَّيتُك بيعَه، فقال المخاطَبُ: قبلتُ، انعقد البيعُ بلفظةِ التوليةِ، وابتنى حكمُ العقدِ المنعقدِ بها على العقد الأول.
هذا قاعدةُ المذهب.
فإذا (2) حُطّ عن المشتري البائعِ المولِّي شيءٌ (3) من الثمن، فهو محطوط عن المشترِي (4) منه. ولو حُط عنه جميعُ الثمن، فهو محطوط عن المشتري منه. وحقيقةُ التولية إحلال المولَّى محل المولّي؛ حتى كان المولِّي مرفوعٌ من البين (5) .
هذا ما أطلقهُ الأئمةُ في طُرقهم.
وقالوا: لو اشترى شيئاً واستفاد منه زوائدَ منفصلةً، ثم ولّى عقدَ البيع بالتوليةِ، فتلك الزوائد تسلم للبائع المولِّي لا حق فيها للمشتري المولَّى. ولو كان المشترَى شقصاً، وفيه الشفعة، فأسقَط الشفيع حقَّه، ثم جرت التوليةُ، فالذي ذكره الأصحاب أن التوليةَ تقتضي تجديدَ الحق للشفيع (6) .
فحاصل المذهب أن التوليةَ تبتني على العقد السابق في حَط البعضِ والجميع، ولا ابتناء لَها في الزوائد المتخللة، وليست على حكم الاستمرار في حكم الشُفعةِ، حتى يقال: لا تقتضي شفعةً جديدة.
__________
(1) في الأصل: الاشتراك.
(2) بيان وتصوير لابتناءِ عقدِ التوليةِ على العقد الأول.
(3) في (هـ 2) : شيئاً.
(4) أي المولَّى (بفتح اللام) .
(5) البين: هذه اللفظة استخدمها الإمام أكثر من مرّة في النهاية. ووردت مرة في البرهان. وهي مفهومة في ضوء السياق. وإن لم نصل إلى حقيقة اشتقاقها ومعناها.
(6) عبر عن هذا العز بن عبد السلام في مختصره للنهاية قائلاً: " ... ويبنَى حكمُ العقد الثاني على الأول، في الحط دون الشفعةِ والزوائد".(5/307)
وقال القاضي: الوجه التردد في جميع ذلك، فكأنا نقول: في وجه (1) خلفَ المولَّى المولِّي، حتى كأن الملك مستمرٌ على الأخير، فعلى هذا يلحقه الحطُّ.
والزوائدُ التي جرت قبل التولية مصروفة إليه، ولا تتجدد الشفعةُ بها، فإنها على هذا الوجه بمثابة استمرار الملك.
والوجه الثاني - أن المولَّى لا يَخلفُ المولِّي في شيء مما ذكرناه، فالزوائد للبائع، وإذا حُطّ عن البائع شيءٌ لم يُحَط عن المشتري منه بلفظ التولية، والشفعةُ تتجدد بوقوع [التولية] (2) ، وهي في حكم بيع جديدٍ، إلا أن لفظ التولية يتضمن نزولَ العقد على ثمنِ العقد الأول، لا فائدة إلا هذا.
والذي ذكره -رحمهُ الله- من التردد في الحط منقاس حسن؛ فإنه لم يثبت عندنا توقيفٌ في إحلال الثاني محل الأول في الحط، وإنما يُتلقَّى ذلك من اللفظ، وليس في اللفظ ما يُشعرُ [بهذا] (3) تصريحاً.
ومِلك الشفيع مبني على مِلك المشتري، ثم الحط من المشتري لا يوجب الحطَّ من الشفيع عندنا. وهذا ابتناء شرعي، فإذا كنا لا نحط عن الشفيع ما حُط عن المشتري، فالمولَّي والمولَّى بهذا أولى.
وأما ما ذكرهُ من التردد في الزوائد فبعيدٌ لا يليق بمنصبه.
وكذلك يجب القطعُ بأن الشفعة تتجدد للضرورة إلى تقديرٍ يخالف الحقيقة (4) .
وبالجملة ليس الحط في معنى الزوائد، ولا في معنى تجدد الشفعة؛ فإنه يجوز أن يقال: معنى التولية أن المولِّي يقول للمولَّى: لا أطالبك إلا بما أُطلب به.
هذا على ما فيه من الإشكال معقول، فأما تمليكه الزوائد السابقة، فبعيد، وكذلك دفعُ حق الشفيع وقد تجدد التمليك بالمعاوضة غيرُ متخيّل.
__________
(1) في (هـ 2) ، (ص) : فكأنا في وجهٍ نقول ...
(2) ساقطة من الأصل.
(3) مزيدة من (هـ 2) ، (ص) .
(4) عبارة العز بن عبد السلام في مختصره: "ولا وجه لتردده (القاضي) في الزوائد.. ولا في الشفعة، لما في ذلك من التقدير المخالف للتحقيق".(5/308)
ومما يجب التنبه له أنا إذا جرينا على ظاهر المذهب، وحططنا عن المولَّى ما يُحط عن المولَي، فينقدح على [هذا] (1) ألا يطالِب البائعُ المولَي المشتري المولَّى، حتى يطالبَ البائعُ الأولُ البائعَ الثاني.
فلينظر الناظر في ذلك، وليت شعري هل يثبت للبائع الأول مُطالبة المولَّى المشتري الأخير بناءً على الاستمرار؟ ولا ينبغي أن يُظن أن مطالبة البائع الأول تنقطع عن البائع الثاني المولَّى، فهذا منتهى القول فيما أردناه.
3228- ومما فرعه الشيخ أبو علي على التولية أن قالَ: ليس للمشتري أن يبيع ما اشتراه قبل القبض من أجنبي، وقد اختلفَ أصحابنا في جواز بيع المبيع من البائع قبل القبض منه، فمنهم من منع، وهو القياس وظاهر المذهب. ومنهم من أجاز؛ فإن مقتضاه انقلابُ المبيع إلى من هو في يدهِ وضمانه، فإذا ثبت هذا، فلو ولى المشتري [البيع قبل قبض المبيع أجنبياً، ففي المسألة وجهان ذكرهما الشيخُ] (2) أحدهما - المنع وهو القياس. والثاني - الصحّة، ولا وجه له إلا حملُ الأمر على تقدير الاستمرار والبناء، وعلى هذا بنى القاضي عدمَ تجدد الشفعة، وأمرَ الزوائد.
ولو ولّى المشتري البائعَ البيعَ، فوجهان مرتبان على البيع منه من غير لفظ التولية، أو على التولية مع الأجنبيّ.
3229- وهذا منتهى الكلام في التولية.
وفي معناهَا الإشراك، غيرَ أن (3 الإشراك يتضمن 3) البناءَ على العقدِ الأول في بعض المبيع، فإن جرى التصريحُ بمقدارٍ فيه نزل البيع عليه، مثل أن يقول: أشركتك في ثلث ما اشتريت، أو نصفِه. وإن أطلق الإشراك، ففي المسألة وجهان: أحدُهما - أنه محمول على النصف. والثاني - أنه مجهول لا ينعقد البيعُ به، ثم لا بد من ذكر البيع، ولا يكفي أن يقول: " أشركتك " حتى يقول: أشركتك في عقدِ هذا.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) ما بين المعقفين سقط من الأصل ومن (هـ 2) .
(3) ما بين القوسين ساقط من (هـ 2) .(5/309)
ثم القدر الذي ينعقد البيع عليهِ بلفظ (1) الإشراك حكمه حكم التولية في كل تفصيل قدَّمناه.
فأمّا المرابحةُ إذا جرت، ثم حُط عن البائع المرابح شيء من الثمن بعد لزوم العقد، فالذي ذهب إليه الأصحابُ أنه لا يَحُط ما حُطّ عنه عن المشتري، بخلاف التولية [والإشراك، والسبب فيه أن التولية] (2) مقتضاها حلولُ المولَّى محل المولِّي، وهذا يُشعر بمشابهته إياه في موجَب الحط، وليس في البيع بالثمن أو بما قام إشعارٌ بهذا فيما يجري في المستقبل [من حط] (3) .
وذكر شيخي وجهاً آخر أن الحط يلحق المشتري مرابحة. وهذا بعيدٌ، ولست أذكره في مسموعاتي عنه، ولكني رأيتُه في تعليقة بخطه.
فإن قيل: إذا جرى الحطُّ قبل المرابحة، ثم جرت المعاملة، فما رأيكم؟ قلنا: التفريع على المذهب. والذي رأيته للشيخ لست أعتدُّ به. فليُنظر بعد ذلك إلى اللفظ، فإن قال: بعتُكَ بما اشتريتُ، فلا نظر إلى الحطِّ، والمرابحةُ تنزل على البيع الأول وثمنه، وإن قال بعد جريان الحطِّ: بعتك بما قام عليَّ، فالظاهر أن المحطوط لا يجوز ذكره.
وممّا يتعلق بهذا الفصل أنا إذا لم نحط عن المشتري مرابحةً ما حُط عن معامله بعد لزوم العقد، فهل نحط عنه ما كان حُط عنه في مجلس الخيارِ، أو في زمان الخيار؟
فعلى وجهين مشهورين، وهما يجريان في حق الشفيع مع المشتري.
وسيأتي ذلك في تفصيل إلحاق الزوائد بالعقود.
* * *
__________
(1) في (ص) : عند.
(2) ساقط من الأصل.
(3) ساقط من الأصل.(5/310)
باب الرَّجُل يَبيعُ الشَّيءَ بأجَلٍ ثم يَشْتَريهِ بأقلَّ مِنَ الثَّمَنِ
3230- إذا اشترى شيئاً وقبضه، ثم باعه من البائع بمثل ذلك الثمن، أو أقلَّ، أو أكثر، صح العقدُ عندنا، سواء جرى العقد الثاني بعد نقد الثمن الأوّل أو قبله.
وبالجُملة لا تعلُّق لأحد العقدين بالثاني خلافاً لأبي حنيفة (1) ، وتفصيلُه مذكورٌ في الخِلافِ.
والمسألة مبناها بعد أثر عائشة على الذريعة.
ونحن لا نرى عقداً ذريعةً إلى عقدٍ إذا تميَّز أحد العقدينِ عن الثاني. وقد يضطرب فيهِ إذا عم العُرف بشيءٍ، فهل نجعل عمومَ العرف في حكم الشرط؟ مثل أن يعمَّ العرف بإباحة منافع الرهن، فهل نجعل الرهنَ المطلقَ مع اقتران العُرف به بمثابة ما لو شرط في الرهن إباحةَ المنافع للمرتهن؟ هذا فيهِ تردُّد للأصحابِ. وقد ذكرتُه مفصلاً في باب الربا.
* * *
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/113 مسألة 1195، طريقة الخلاف: 312 مسألة 130، المبسوط: 13/125.(5/311)
بَابْ تَفْريق الصَّفقَة
3231- جمعَ المزني أقاويلَ الشافعيّ في تفريق الصفقة في الكبير (1) ، ثم طال عليه ذكرُها في المختصر، فقالَ لمن كان يُملي عليه: بيِّض موضعاً نكتب فيه شرحَ أَوْلى [قَوْليه] (2) في تفريق الصفقةِ، ثم لم يتفرغ إليه، فماتَ -رحمه اللهُ- وفي بعض النسخ ترك ورقة أو ورقتين على البياض.
وهذا الباب عظيم الوقعِ ومسائلُه كثيرةُ التولّج في الأصول. ونحن بعون الله تعالى نأتي بمسائلِ الباب على أبلغ وجه، وأقرب مسلك في الضبط، لا نغادر حكماً يتعلّقُ بالتفريق إلا نوفيه حقّه والله المستعان.
فنقول: القول في التفريق يتعلق بما يقعُ في الابتداء، وبما يقعُ في الانتهاء.
فأما تقسيم القول فيما يقع في الابتداء، فالصفقةُ لا تخلو: إما أن تشتمل على شيئين فصاعداً، يجوز تقديرُ صحةِ العقد في كل واحد.
وإما أن تشتمل على شيئين فصاعداً يجوز [تقديرُ] (3) صحةِ العقدِ في البعض منها دون البعضِ.
3232- فأما إذا اشتملت الصفقةُ على عدَد يجوز تقديرُ الصحةِ في آحادها عند إفرادها، فالذي يتعلق بغرض الباب منها اشتمالُ العقد على مختلفين يتباين أثرُ العقد فيهما فسخاً وإجازةً وقرباً من الغرر وبعداً منه، كالصفقة تشتمل منافع وعيناً يقابلان عوضاً أو عوضين فصاعداً، ففي صحَّة الصفقة قولان: أحدُهما - وهو الأصح أنها
__________
(1) "الكبير" جمع فيه المزني أقوال الشافعي بصورة مطوّلة، ويذكر بهذا الاسم في مقابلة المختصر المشهور.
(2) في الأصل: أوليه.
(3) ساقطة من الأصل.(5/312)
تصح؛ لأنها ما اشتملت على ما يمتنع إفرادُه بالعقدِ والصفقة متَحدة في نفسها، ولا حاجة إلى تقدير توزيع حتى يُفضي إلى جهالة، فأشبه ذلك ما لو اشترى عبداً وثوباً، وقد قدَّمنا في الربويات أن التوزيع ليس من مقتضى العقد، وإنما ينشأ للضرورة عند مسيس الحاجة.
والقول الثاني - أن الصفقةَ باطلة؛ لأن حكمَ الإجارة والبيعِ يختلف فيما يتعلّقُ بالفسخ ونقيضه (1) . أما المنافع، فلا تحويها اليدُ، وتثبتُ التصرفات فيها مع تعرض العقد للانفساخ عند تقدير التلف؛ فإن من استأجر داراً وقبضَها، تصرف فيها بسبب القبض، ولو تلفت الدار في يدي المستأجر، انفسخت الإجارةُ.
والغرض مما ذكرناه أن العقد إذا اختلف وقعُه وأثره بسبب اختلاف المعقودِ عليه، فالنفوس تتشَّوف لا محالة إلى تقدير التوزيع، وإيراد العقد على قصدهِ، وليس كذلك أجناس المبيعات؛ فإن آثار العقد لا تختلف فيها، فلا تتشوَّف إلى تقدير بقاء العقد في بعضِها وانفساخِه عن بعضها. فرجع ما ذكرناهُ [إلى] تنزيل (2) العقدِ على مقتضى التوزيع، وهذا يجُرّ جهالةً؛ فإن التوزيع اجتهادٌ بعد ورود العقدِ، فهذا سبيلُ التوجيه.
3233- ثم نذكر ما يتعلق بهذا القسم وما يخرج منه: فالجمع بين بيعِ عينٍ وسلمٍ من صُور القولين؛ فإنه يتطرق إلى السّلَم ما لا يتطرق إلى بيع العين في حكم الفسخ ونقيضه.
ولو جمع بين بيع عين وتزويجِ امرأة أو أمةٍ وقابلهما بعوضٍ ينقسم عليهما، ففي صحة البيع والصداق قولان، كما قدّمناهما، والنكاح صحيح لا شك فيه، فإن المحذور فيهِ جهالةُ العوض، وهذا غير مؤثر في النكاح، فإن أفسدنا الصفقة، لم يخف حكمُ فسادِ البيع وحكم فساد الصداق. وفي هذه الصورة الرجوعُ إلى مهر المثل، كما سيأتي شرحه في كتاب الصداق، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) في (ص) : ويقتضيه.
(2) في الأصل، (ص) من تنزيل.(5/313)
ومن صور القولين السلمُ في أجناسٍ إلى أجل واحد بعوض واحد، والسلم في جنس واحد إلى آجال. ووجهُ إلحاق هاتين الصورتين بصُوَر القولين أن الأجناس تختلف وجوداً وعدماً، ويختلف الحكم بحسب ذلك في بقاء العقد وانفساخه، فجرى القولان فيهما.
ومن أصحابنا من لم يُلحق هاتين الصورتين بصور القولين، وقطع القول فيهما بالصحة؛ لاتحاد العقد في حكمه وخفاءِ أثر الاختلاف، والأظهر (1) الطريقةُ الأولى.
ولو قال بعتك صاعاً من حنطةٍ ودرهماً بصاعٍ من شعيرٍ ودينارٍ، فهذا يلتحق بصور القولين لاشتمال الصفقة على التفاوت في شرط التقابض.
فإن قيل: كيف يختلف مضمون العقد فيما ذكرتم من التقابض والطعام بالطعام يُشترط فيهِ التقابض، وكذلك النقد بالنقد، ومضمون الصفقة من الجانبين طعامٌ ونقد؟ قلنا: وجه الاختلافِ أنّ الدرهم يقعُ في مقابلة شيءٍ من الطعام في الجانب الثاني، وكذلك الدينار يقع شيء منه في مقابلة شيءٍ من الطعام في الجانب الثاني، والتقابض ليس مشروطاً في بيع الطعام بالنقد؛ فمن هذا الوجه اختلف مضمونُ الصفقة في التقابض.
ولو باع ثوباً وديناراً بثوبٍ ودراهم، فالتحاقُ ذلك بصُور القولين بيّن. وإنما خُصَّ مسألةُ الطعام والنقد بالذكرِ للدقيقة التي نبهنا عليها.
فإن قيل: إذا اشتملت الصفقة على شقصٍ وسيفٍ، فحكم الصفقة مختلف؛ فإن الشفعة تتعلق بالشقص دون السيف، وهذا تباين بيّن في مورد العقدِ. قلنا: الصفقة صحيحة قولاً واحداً؛ فإن مقصود العقد في الشقص والسيف لا يختلف فيما يتعلق بالفسخ والتنفيذ، وصورة القولين تُتلقَّى من اختلافٍ يتعلق بالفسخ والإجازة، بسبب أنه، إذا قُدّر سبْقُ الفسخ إلى شيء، اعتاضَ ما يبقى في مقابلة الباقي، ورجع هذا الإشكال إلى وضع العقد. والشفيعُ إذا أخذ الشقص، فهو مقرر للعقد، وإن كان ينشأ بينه وبين المشتري توزيعٌ، فهذا لا ينعطف إلى العقد فسخاٌ في البعض وإبقاء في
__________
(1) في (هـ 2) ، (ص) : والأشهر.(5/314)
البعض. نعم من اشترى شقصاً مشفوعاً وسيفاً، ثم إن المشتري باعهُما، فهل يلتحق بصورة القولين؛ من جهة أن الشفيع يملك فسخ بيعهِ في الشقص ولا يملك ذلك في السيف؟ فقد اختلفت الصفقة فسخاً وإبقاءً، على الحد الذي ذكرناه، فاختلف القول.
هذا منتهى الكلام في نوع من تفريق الصفقة ابتداء.
3234- والقسم الثاني في الابتداء أن تشتمل الصفقةُ على عدد يجوز إفرادُ بعضها بالعقد، ولا يقبل بعضُها العقدَ على الوجه الذي أورده العاقد.
وهذا القسم ينقسم قسمين: أحدهما - أن يشتمل العقدُ على ما يقبل العقدَ وعلى ما لا يقبله، ولكنه يقبل التقوُّم تحقيقاً.
والقسم الثاني - ألا يكون ما يَفسد العقدُ فيه قابلاً للتقويم.
فأما إذا كان قابلاً للتقويم تحقيقاً، فهو كما لو باع الرجل عبداً مملوكاً له، وعبداً مغصوباً عنده، أو باع عبداً وأم ولد، أو عبداً ومكاتباً.
أما المغصوب، فلا شك في تقويمهِ، والمستولدةُ متقوَّمةٌ باليد والإتلاف، والمكَاتَبُ متَقوَّمٌ بالإتلاف. فإذا جرت الصفقةُ شاملةً لفظاً لما يصح ولما لا يصح، وجرى الحكم بالفساد فيما لا يصح؛ فهل تصح الصفقةُ فيما يصح إفرادُه بالعقدِ؟ فعلى قولين هما (1) من أمهات الباب: أحدُهما - أن البيع صحيحٌ؛ من جهة أن الصفقة اشتملت على ما يصح ويفسد، فمقتضى الإنصاف حذفُ الفساد وتقريرُ العقدِ في جهة الصحة. وهذا من طريق التمثيل يُضاهي قولَ القائل: قدم زيدٌ وعمرو، وكان قدم أحدُهما دون الثاني، فلا نقضي على القول بالخُلفِ فيهما ولا بالصِّدقِ، ولكنهُ خلفٌ في محل الخلف صدقٌ في محله.
والقول الثاني - أن البيع باطل لعلتين: إحداهما - أن ما يقابِل العبدَ المملوك من الثمن مجهول عند المتعاقدين حال العقد؛ فإنه إنما يعرفُ قسطُه من الثمن بتوزيعه على القيمتين، وهذا يستدعي ضبطَ القيمتين، ولا يُتوصل إليه إلا بالاجتهاد.
__________
(1) عبارة (ص) : فعلى قولين: أحدهما أن البيع من أمهات الباب من جهة ...(5/315)
ولو قال: بعتُك عبدي هذا بما يقابله من الألف، لو وزع عليهِ، وعلى عبد فلان، فالبيع باطل إجماعاً. ومآل الأمر في بيع العبدِ المملوك والمغصوب هذا. فليكن ما تبيّن آخراً بمثابة ما لو وَرَدَ (1) العقدُ كذلك أوّلاً.
فهذا أحد المعنيين.
والمعنى الثاني - أن العقد متَّحد في نفسه، فإذا تطرق الفساد إليه، وجب أن لا ينقسم إذا لم يبن على الغلبة والسريان، وكان مما يفسده الشرط، احترازاً من العتق والطلاق وما في معناهما؛ فإن العتق لا يرتدّ بالشرط الفاسد، بل ينفذ ويلغو الشرط، بخلاف البيع.
3235- فهذا أصلٌ.
ونحن نفرع عليه مسائلَ [في الباب] (2) فنقولَ: لو باع صاعين من حنطة متماثلين في الصفات، وكان أحدُهما مملوكاً، والثاني مغصوباً، أو باع عبداً نصفُه له ونصفه لغيره، ولم يأذن الشريك في البيع، ففي صحة البيع في المقدار المملوك للبائع قولان مرتبان على القولين في الصورة الأولى. فإن حكمنا بالصحَّة ثَمَّ، فلأن نحكم هاهُنا أوْلى. وإن حكمنا بالفسادِ ثَمّ، فهاهُنا قولان مبنيَّان على المعنيين الذين وجهنا بهما قولَ الفسادِ في الصورة الأولى. فإن قلنا: علةُ الفسادِ في تلك الصورة جهالةُ الثمن، فالبيع يصح فيما أخرناه؛ فإنه لا حاجةَ إلى تقدير التقويم وردِّ الأمر إلى الاجتهاد، بل إذا وزَّعنا، فالواجب نصفُ الثمن مثلاً على ما تقتضيه الجزئيَّة. وإن عللنا الفسادَ في تلك الصورة باتحاد الصفقةِ، وتطرق الفساد إليها، فنحكم بالفساد في العبدِ المشترك، أو الحِنطةِ المشتركةِ لتحقق الاتحاد، وتَطرُّق الفساد.
ومما يلتحق بهذه المرتبة الجمعُ بين مملوكٍ ومغصوبٍ في هبةٍ أو (3) رهنٍ. ووجهُ الالتحاقِ أنه لا عِوضَ في الهبةِ والرهن حتى يتخيلَ الفساد بجهةِ جهالة العوض.
__________
(1) في (هـ 2) ، (ص) : أورد.
(2) زيادة من (هـ 2) ، (ص) .
(3) في (هـ 2) ، (ص) : ورهن.(5/316)
وهذا فيه فضلُ نظر؛ فإن الدَّيْن وإن لم يكن عوضاً (1) عن الرهن، فرهن الشيء بالدَّينِ المجهول لا يصحّ على الأصح، كما سيأتي في كتاب الرهون. نعَم ما ذكرناه جارٍ في الهبَةِ، بل الهبَةُ تَقبلُ وجوهاً لا يقبلها البيع، كما سيأتي، إن شاء الله.
3236- فينبغي أن نتخيل مراتب: أَوْلاها بالفسادِ الجمعُ بين عبدين في البيع، وحيث تمس الحاجةُ في التوزيع إلى التقويم لتبيين العوض. ويلي ذلك [في] (2) الترتيب الظاهر الجمعُ بين عبدين أحدهما مغصوب في الرهن، والفرق ما نبهنا عليهِ من خروج الديْنِ عن كونه عوضاً. ويلي الرهنَ بيعُ العبد المشترك، وبيع الحنطَةِ المشتركة المتساوية الأجزاء في الصفات. ويلي هذه الصورةَ الهبةُ؛ من حيث إنها قد تقبلُ ما لا يقبله أصلُ البيع.
ومما يدنو من هذه المرتبة نكاحُ المسلمةِ والمجوسيّة في عقدة (3) واحدة، فإذا وقع القطع بفساد نكاح المجوسية، ففي نكاح المسلمةِ قولان: أصَحُّهما - الصِّحةُ. والقول الثاني - أن النكاح يفسد في المسلمة. ورتّب الأئمة هذا على القولين في بيع العبد المملوك والمغصوب، وسلكوا السبيل المقدَّم في البناء على المعنيين بعد الترتيب.
فإن قلنا: علةُ الفساد في بيع العبدين جهالةُ العوض، فهذا لا يضر في النكاحِ، فيجب القضاءُ بالصحة. وإن قلنا: علةُ الفساد الاتحادُ وتطرّقُ الفسادِ، فهذا قد يُعتَقَد في النكاح أيضاًً.
والذي أراه أن النكاح أولى بالصحة من جميع ما وقع في هذه المرتبة، والسببُ فيه أن الصورةَ التي ذكرناها في الهبَةِ والرهنِ والبيعِ في المشترك يفسدُ العقدُ فيها بالشرائطِ المفسدةِ، والنكاح لا يُفسده الشرطُ الفاسد إذا لم يتضمن الاعتراضَ على مقصوده، فانضمام المجوسية إلى المسلمة ينبغي ألا يزيد تأثيره على شرط نكاح المجوسيَّةِ في نكاحِ المسلمة. ولو جرى ذلك، لم يفسد النكاح.
__________
(1) ساقطة من (هـ 2) ، (ص) .
(2) في الأصل: مع.
(3) في (ص) : عقد واحد.(5/317)
فهذا هو المنتهى في غرضِ الصحة والفسادِ، في هذه المراتب، ولا نَعدُوها إلى القسم الآخر، حتى نذكر حكم العِوض فيها.
3237- فإذا باع الرجل عبداً مملوكاً، وعبداً مغصوباً، أو مملوكاً ومستولدة، فإن حكمنا بفساد العقد، فلا كلام. وإن حكمنا بالصحَّة فيما يقبل العقد، فالعقد يثبت فيه بجملة (1) الثمن المسمى، أم يُقَسَّط منه؟ فعلى قولين: أصحهما - أن العقد يثبت فيه بقسطٍ من الثمن، كما يقتضيه التوزيع؛ فإن صيغة العقد تقتضي مقابلةَ العبدين بالألف، فردُّ الألف إلى أحدهما مخالفةٌ لمعنى اللفظ. ويستحيل ثبوت الثمن على خلاف مقتضى اللفظ.
والقولُ الثاني - أن الثمن يثبت بكماله في مقابلة ما صح العقد فيه؛ لأن المضموم إليه ليس قابلاً للمقابلة، فليحذف من العقد، كأنه لم يذكر.
وهذا ضعيفٌ لا ثباتَ له عند القيَّاسين، ولكنه مشهور وسيظهر أثره في التفريع.
فإن قلنا: العقد يصح في المملوك بتمام الثمن، فلا شك أن المشتري بالخيارِ، فإنه بذل الألف على مقابلة عبدين ثم لم يسلّم له إلاَّ أحدهما، واستمر عليه بذلُ الألف.
وإن قلنا: لا يلزم في مقابلة العبد المملوك إلا قسطٌ من الثمن، فالخيار يثبت أيضاًً للمشتري، فإنه وإن كان لا يخسر في الماليَّة، فقد خاض في العقد على أن يسلَّم له العبدان فأخلف ظنُّه، فاقتضى ذلك ثبوتَ الخيارِ له. فإن أجاز المشتري العقدَ على مقتضاه، نُظر: فإن قلنا: إنه يجيزه بتمام الثمن، فلا خيار للبائع؟ فإنه رضي بألفٍ في مقابلة العبدين، فإذا سلَّم الألَف في مقابلة أحدهما، فلا معنى للخيار.
وإن قُلنا: يُجيز المشتري العقدَ في المملوك بقِسطه من الثمن، فهل يثبت للبائع الخيار؟ فعلى وجهين: أصحهما أنه لا خيار له؛ فإنه سُلّم له ثمنُ ما ملك عليه.
ومن أصحابنا من قال: له الخيار؛ من جهة أنه علّق استحقاقه بالألف الكامل؛ فلم يسلّم له.
__________
(1) في (هـ 2) : بجهله.(5/318)
وهذا رديء لا أصل له، وله التفات على بيع التجزي (1) إذا باع الرجل صُبرَةً بصُبرةٍ مكايلةً، حيث قال الشافعي: وللمشقَّصِ صُبرته الخيارُ.
وكل ما ذكرناهُ فيه إذا كان التوزيع يقتضي جهالةَ العوض، فأما إذا كان التوزيع لا يقتضي جهالة العوض، كالصُور المقدَّمةِ في العبد المشترك وغيره، فالمشتري بكم يجيزُ العقدَ؟ في المسألة طريقان: من أصحابنا من قال: نقطع القولَ بأنه يجيز بالقسط. وإنما القولان فيه إذا كان التوزيعُ يجرُّ جهالة.
ومن أصحابنا من قال: نطرد القولين في هذه الصُّورة أيضاًً.
والفرق بين المرتبتين أن التوزيع إذا كان يَجرُّ جهالة، فقد يمكن أن يقال: سببُ الإجازة بالجميع أنا لو قسّطنا، لاقتضى التوزيعُ جهالةً، والجهالةُ مفسدةٌ للعقد، وهذا لا يتحقق حيث لا يقتضي التوزيع جهالة.
وإذا ضممنا صُورة الجهالة إلى هذه الصُورة، انتظم في غرضِنا ثلاثةُ أقوال: أحدُها - أن الإجازةَ بالبعض في جميع هذه المسائل. وهذا لا يسوغ في القياس غيرُه.
والثاني - أن الإجازة بكل الثمن في جميع المسائل.
والثالث - أنا نفصّل بين صُورةٍ يجرّ التوزيعُ فيها جهالةً، فيثبت جميعُ الثمن، وبين صورة لا يقتضي التوزيعُ فيها جهالة، فيثبت فيها بعضُ الثمن على ما يقتضيه التوزيع.
3238- ومن تمام القول في ذلك أن من نكح مسلمةً ومجوسيّةً، فصححنا نكاح المسلمة، فالذي قطعَ به المحققون أنا لا نثبت جميعَ الصداق المسمّى في مقابلة نكاح المسلمة، ولا يُخرّج هذا القول. والسبب فيه أنا لو قلنا بهذا كنا مجحفين بالزوج على وجهٍ، لا نجد له دفعاً، من قِبلَ أنه لا يثبت للزوج حقُّ الخيار، وليس كذلك البيعُ؛ فإنا إن قُلنا: الإجازة تقعُ بجميع الثمن، فللمشتري دفعُ ذلك بأن يفسخ [العقدَ] (2) .
__________
(1) في (هـ 2) ، و (ص) : " التحري " بالمهملة.
(2) ساقطة من الأصل.(5/319)
وعلى هذا القياس نقول: إذا اكترى داراً سنةً، ومضت ستةُ أشهرِ من المدة وهو ينتفع فيها، ثم انهدمت الدار، وانفسخت الإجارة في بقيَّة المدَّة، وفرَّعنا على الأصح وهو أنهُ لا نجد سبيلاً إلى فسخِ الإجارة في المدّة المنقضية، عَلى ما سيأتي في القسم الآخر، إن شاء الله تعالى، وهو التفرق في أثناء العقد، فلا جرم لا نقول: جملةُ الأجرة تلزم في مقابلة ما انقضى من المدَّة؛ لأنا لو قلنا ذلك، كنا كلفناه تمامَ العِوض في مقابلة بعضِ المعوَّض، على وجهٍ لا نجد لدفعه سبيلاً.
وذكر الشيخ أبو علي في نكاح المسلمة والمجوسيّه [أو] (1) الحرة والأمَةِ في حق الناكح الحر القولين في أصل النكاحِ. ثم قال: إذا صح النكاح في محل الصحَّة، ففي المهر ثلاثةُ أقوال: أحدُها - أنه يبطل المهرُ المسمى، والرجوع إلى مهر المثل.
والثاني - أنه يجب للحرة قسطٌ من المهرِ المسمَّى، فيقسّط على مهر مثلها، ومهر مثل الأمة، أو على مهر مثل المسلمة ومهر مثل المجوسيّة.
والقول الثالث - أنه يجب للتي صح النكاحُ عليها تمامُ المسمى. وهذا لم أره إلا للشيخ أبي علي، وهو ضعيف جداً. أما الرجوع إلى مهر المثل، فله خروج، والتوزيع وإيجاب القسط ظاهر، وأما إثبات تمام المسمى، فبعيد.
ثم قال الشيخ: إذا قلنا جميعُ المهر المسمى يثبتُ في مقابلة الحُرة التي صح النكاح عليها، فلا شك أنا لا نقول: للزوج فَسْخُ النكاح، ولكن نقول: لهُ الخيار في ردَّ المسمى والرجوعِ إلى مَهْر المثل. وهذا الذي ذكرهُ لا يخلِّصُ مما ذكرناه؛ فإن مهر المثل قد يكون مثلَ المسمى، أو أكثرَ منه.
وقد نجز غرضُنا في قسم واحدِ من القسمين المتأخرين، حيث قلنا: المنضمُّ إلى ما يصح العقدُ فيه ينقسم (2) إلى ما يتقوَّم وإلى ما لا يُتقوَّمُ. وقد انتهَى القول فيما يُتقوّمُ.
3239- فأمّا إذا كان المضمومُ إلى ما يصح العقد فيه -لو أُفرد- غيرَ متقوَّم، فهذا
__________
(1) في الأصل: والحرة.
(2) في الأصل: وينقسم (بزيادة واو) .(5/320)
ينقسم إلى ما يقبل [تقديرَ] (1) القيمةِ حكماً، من غير تقدير تغيير صفةٍ في الخلقة، وإلى ما لا يقبل التقدير إلا بفرض تغييبر في الخلقة.
فأمَّا ما لا (2) يقبل التقويم تقديراً حكماً، فهو كالحر يضم إلى العبد، فالحرُّ لا يُتقوَّمُ شرعاً. ولكن تقديره رقيقاً، وتقويمه على حسب هذا ليسَ مستحيلاً. وقد يُقدَّر في الحكوماتِ الحُرّ رقيقاً، ويُبنَى عليه مبلغُ الحكومة.
فإذا باع الرجل حراً وعبداً، ففي صحة البيع في العبد طريقان: من أصحابنا من قال: قولان، كما لو جمع بين مملوكٍ له، ومغصوب.
ومنهم من قطع بالبطلان، من جهة أن قَرِين العبدِ خارجٌ عن جنس المبيعاتِ، فكان هذا مقتضياً مزيد فَسادٍ، ولو قلنا: في صحة البيع قولان مرتبان على ما إذا باع عبداً مملوكاً، وآخر مغصوباً، لأفاد ذلك ما ذكرنا من نقل الطريقين. وهكذا كل ترتيبٍ.
فهذا فيما يقبل تقدير القيمَةِ.
فأما ما لا يقبل تقدير القيمةِ إلا بتغيير الخلقة، فهو كالخمر والخنزير والميتَة، فإذا جُمع في عقدٍ بين الخمر والخل، وبين شاة وخنزير، وبين لحم المذكّى ولحم الميتة، فكيف الترتيب فيه؟ قال الأئمةُ: هذه الصورةُ أولى بالبطلان من مسألَةِ الحرّ والعبد؛ فإن تقدير القيمة غيرُ ممكنٍ في هذه المسائل. وإن فرضنا تغير صفاتها خلقةً لم يكن ما نُقَدِّر قيمتَه هو المذكور في العقد، فظهر الحكم بالفساد، والكلام بآخره.
3240- وهذه المسائل أصولها ملتفَّةٌ بفروعِها، حتى يجري في أثناء الكلام أخذُ الأصلِ من فرعهِ.
فنقول: أولاً من أصحابنا من يقدِّر الخمرَ خلاً، ولحم الميتة لحم مذكاة، والخنزيرَ نعجةً، أو ما يقرب على ما يقتضيه الحال.
وهذا ذكره طوائف من أصحابنا من أصحاب القفال. وهو بعيد، وإن كان ينقدح
__________
(1) في الأصل: تقديم.
(2) ساقطة من (هـ 2) ، (ص) .(5/321)
القياسُ على تقدير الرق في [الحر] (1) ، ثم يتطرق من طريق الاحتمال لو فُتح هذا الباب أمران: أحدهما - أن يُقدَّر الخمر عصيراً، فنكون اعتبرناه بحالة إذا كان عصيراً وكان الخمرية لم تطرأ، وهذا أمثل من تقديرها خلاً، وقد ذكرهُ بعض الأصحاب.
ومما يجري في ذلك تقدير قيمة الخمر خمراً عند من يرى للخمر قيمةً، وكذلك القولُ في الخنزير، وقد نصير إلى هذا الاعتبار في بعض مسائل الوصايا، على ما سيأتي إن شاء اللهُ عز وجل. وسنُجري مثل ذلك في فروع نكاح المشركات.
وكل ذلك خبطٌ، فإن قدَّرنا هذه التغاييرَ، فلا كلام. وإن لم نقدّرْها، فلا خروج للحكم بصحَة البيع فيما يصح إفرادُه به إلا على رأي من يُثبت العقدَ فيما يصح العقدُ فيه بتمام الثمن؛ فإن التوزيع قد يتعذّر (2) .
وهذا أوان تمام البيان فيما نحن فيه.
3241- وذهب المحققون إلى أن صحةَ البيع وفسادَه يُتلقى من أن العقدَ حيث يمكن التوزيع يجازُ في مورد صحيح (3) بتمام الثمن أو بقسطٍ منه. فإن رأينا الإجازة بالتمام، لم نبعد أن نصحح العقدَ في مسألة الخمر والخنزير والميتة، فإنا إذا كُنا لا نوزع، لم (4) يختلف الأمر بأن يكون التوزيعُ ممكناً أو غيرَ ممكن.
وإن رأينا إجازة العقد في مورده بقسطٍ من الثمنِ، فإذا تعذّرَ التقسيطُ، فلا وجه لتصحيح العقد.
وتمام القول في هذا بذكر مسألةٍ، وهي أن البائع إذا ضَمّ إلى المبيع القابلِ للعقد مجهولاً لا يُحاط به، فلا مطمع في تقدير التوزيع أصلاً، ولا خُروج للصحَّة في المعلوم إلا على إجازة العقد بتمام الثمن.
فليفهم الناظر المراتبَ.
__________
(1) في الأصل، (هـ 2) : الحرية. والمثبت من (ص) .
(2) في (هـ 2) ، (ص) : يقدّر.
(3) في (هـ 2) ، (ص) : في مورده الصحيح.
(4) ساقطة من (ص) .(5/322)
وهذه المراتب أولاها - فيما يتقوّم. وثانيتها - فيما يمكن تقدير القيمة فيهِ حكماً من غيرِ تغييرٍ. وثالثتُها - فيما لا يتأتى ذلك إلا بتقدير تغيير الخلقة. ورابعتُها - فيما لا يتأتى فيه التقويم أصلاً.
وهذا آخر القول في تفريق العقد من ابتدائهِ.
3242- فأمّا إذا جرى التفريق (1) في الأثناء، فالقول ينحصر فيما يتعلق بالانفساخ من غير اختيارٍ، وفيما يتعلق بالفسخ المختار بسبب يقتضيه.
فأما القول في الانفساخ، فنقول: إذا اشترى رجل عبدين، وتلف أحدُهما قبل قبض المشتري، فالعقد ينفسخ فيهِ، وهل ينفسخ في العبد القائم الباقي؟ لم يخلُ من أحوال: إما أن يكون العبد القائمُ بعدُ في يد البائع، وإما أن يقبضه المشتري، وهو باقٍ في يده. وإما أن يقبضه المشتري ويتلفَ في يده، ثم يتلف العبد الآخر في يد البائع.
فإن كان العبد الباقي في يد البائع بعدُ، فإذا انفسخ العقدُ في الذي تلف في يده، فهل ينفسخ في الثاني؟ فعلى قولين: أحدُهما - أنه لا ينفسخ لبقائه، وسببُ انفساخِ العقد في التالفِ تلفُه وهو في ضمان البائع. وهذا المعنَى مفقود في القائم.
والقول الثاني - أن العقدَ ينفسخ فيه، حتى لا تتبعَّضَ الصفقةُ، وهي مُتَّحدة.
قال المحققون: مأخذ التفريق في [البقاء] (2) والانفساخ آخراً، هو مأخذ التفريق في الابتداء صحَّةً وفساداً. ولكن الوجه ترتيبُ الآخِر على الأول.
فإن قلنا: إذا جَمَعت الصفقةُ ما يجوز بيعُه وما لا يجوز بيعُه، فالعقدُ صحيحٌ فيما يجوز، فلأن نحكم ببقاء العقدِ فيما بقي أولى.
وإن قُلنا: يفسُد العقد ابتداء فيما يصح إفراده بالعقد؛ نظراً إلى تطرُّق الفسادِ وتغليباً له، فهل نحكم بالانفساخ في العبدِ القائمِ، فعلى قولين.
والفرق أن الصفقةَ إذا انقسمَتْ في ابتداءِ عقدها، اختَلَّ لفظُها. وإذا صحت
__________
(1) في (هـ 2) ، (ص) : التفرّق.
(2) في الأصل: الباقي.(5/323)
الصفقةُ، فالوجه اتباعُ البقاء والهلاك، والحكمُ باستمرار العقد على ما بقي، وانفساخِهِ فيما تلف.
فإن قلنا: العقدُ ينفسخ في العبدِ الباقي، فلا كلام، والثمن مردود على المشتري، وإن قلنا: لا ينفسخ العقدُ في العبدِ الباقي، فللمشتري الخيارُ في فسخِ العقد، فإن فسخ، عاد الكلامُ إلى ما ذكرناه في قول الانفساخ. وإن أجاز العقدَ فيجيزه في الباقي بتمام الثمن أو بقسطهِ؟ فعلى قولين: أحدُهما - وهو الصحيح الذي لا ينساغ غيرُه أنه يجيز العقدَ فيه بقسطه. والثاني - أنه يجيز العقدَ في العبد الباقي بتمام الثمن. وهذا لا اتّجاه له ولو [لا] (1) اشتهارُه في النقل، لما ذكرناه.
3243- ثم قال الأئمة: القولان فيما ذكرناه في الآخِر مرتبان على القولين المذكورين في هذا الحكم في أول تفريق الصفقة.
فإن قُلنا: المشتري يجيز الصفقةَ فيما يصح العقدُ فيه ابتداء بقسطه من الثمن، فهذا في الانتهاء أَوْلى.
وإن قُلنا: المشتري يجيز العقد فيما يصح فيه ابتداء بتمام الثمن، ففي الدوامِ قولانِ.
والفرق أنا إن قلنا: يقف الثمن ابتداء فيما يقبل المقابلة بالثمن، فهذا فن من الكلام. فأما المصيرُ إلى أن الثمن الواقعَ في مقابلة العبدين ينصرفُ إلى مقابلة الباقي منهما، فهذا لا وجه له.
وكل ما ذكرناه فيه إذا تلف أحداً [العبدين] (2) والثاني قائم في يد البائع.
فأما إذا قبض المشتري أحدَ العبدين، وتلف الثاني في يد البائع [و] (3) انفسخ العقدُ في التالف، فهل ينفسخ في العبدِ المقبوضِ القائمِ في يد المشتري؟ فعلى قولين مرتبين على ما إذا كان العبدُ الباقي قائماً في يد البائع، وهذه الصورة الأخيرةُ أوْلى بألا ينفسخ
__________
(1) في الأصل: ولو ثبت اشتهاره.
(2) غير مقروءة بالأصل.
(3) في الأصل: انفسخ (بدون واو) .(5/324)
العقدُ فيها في العبد الباقي. والسبب فيه أن العقدَ تأكَّد في العبد المقبوض (1 بانتقال الضمانِ فيه إلى المشتري.
فأما إذا قبض المشتري أحدَهما، وتلف في يدهِ، ثم تلف العبدُ الآخرُ في يد البائع، وانفسخ العقد عليه، فهل ينفسخُ فيما قبَضَ المشتري وتلف في يده؟ فعلى قولين مبنيين على القولينِ فيه إذا كان العبد المقبوض 1) قائماً بعدُ في يد المشتري.
والفرق أن الفواتَ إذا لم يقتض انفساخاً، فإنه يبعد فيه تقديرُ الانفساخ بعده، فقد تأكَّد العقدُ بالقبض، والتلفُ في المقبوض. فاقتضى ذلكَ فيها ترتيباً.
وقالَ الأصحاب تخريجاً على هذه الصورة الأخيرة إذا اكترَى رجل داراً، وقبضها وانتفع بها ستة أشهر، ثم انهدمت الدار، فلا شك في انفساخ الإجارة في بقية المُدَّة، وهل تنفسخ في المدة الماضية؟ هذا يُخرّجُ على ما ذَكرناه في العبد المقبوض التالف في يدِ المشتري. فإن قلنا: ينفسخ العقدُ فيه، فتنفسخ الإجارةُ في المدة الماضية، وإن تلفت المنافع فيها في يد المستأجر. وإن منعنا الانفساخَ في المقبوض التالف فيمتنع الانفساخُ في المدةِ الماضية في الإجارة.
هذا تمامُ القول في التبعيض الواقع انتهاءً بطريق الانفساخ.
3244- فأما القول في التبعيضِ المتعلق بالفسخ الاختياري فإذا اشترى رجل عبدين وقبضهما، ثم وجد بأحدهما عيباً، فهل له أن يُفرد العبدَ المعيب بالرد ويستردَّ (2) قسطه من الثمن؟ فعلى قولين مشهورين: أحدهما - له ذلك. والثاني - لا سبيل له إلى التفريق. وهذا يقرب مما تقدم الآن.
فإن قُلنا: له ردُّ المعيب: فإذا ردَّ، استردَّ قسطاً من الثمن على ما يقتضيهِ التوزيع، لا خلاف فيه؛ إذ لو قُلنا: يسترد جميع الثمن والعبد الآخر باقٍ في يده، لكان ذلك محالاً، خارجاً عن الضبط، مفضياً إلى إثبات شيءٍ من المبيع في يد المشتري من غير أن يكون له مقابل.
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (هـ 2) .
(2) (ص) : ويشترط بقسطه.(5/325)
وإن قلنا: لا يرد العبدَ المعيبَ، فله ردُّهما جميعاً، لم يختلف العُلماءُ فيه؛ وذلكَ لاتحاد الصفقة.
3245- ومن تمام التفريع: أنا إذا جوزنا له ردَّ المعيب وحدَه، فلو قال: أردّهما: المعيبَ والسليمَ، فالمذهبُ أن له ذلك.
ومن أصحابنا من قال: ليس له أن يرد إلا المعيبَ منهُما على هذا القول.
وفرَّع الشيخ أبو علي، فقال: إذا قلنا: لا سبيل إلى التبعيض، فلَو قالَ المشتري: رددتُ المعيبَ، هل يكون هذا رداً لهُما؟ ذكر وجهين: أحدُهما - أنه ردٌّ لهما جميعاً. وهذا في نهايةِ الضعفِ. والثاني - وهو الذي لا يصح غيره أنه لا يكون ما جاء به رداً فيهما، ولكنه يلغو، فكأنه لم يردّ.
ومما فرَّعه حيث انتهى الكلامُ: أنا إذا منعنا التفريقَ، فلو رضي البائع بردِّ العبد وحده، وردّ قسطٍ من الثمن، فهل يصح ذلك مع رضاه؟ فعلى وجهين. وفيهما احتمالٌ على حال؛ فإن الرد على الجملةِ متعلقٌ بالاختيار (1 وليس كالانفساخ وكالحكم بفسادِ العقد ابتداءً؛ فإنه غير متعلق بالاختيار 1) ، فينفذ الحكم [المنعقد] (2) ولا يؤثر الرضى بعده.
ولو اشترى الرجل عبدين وقبضهما، وعَثَر منهما جميعاً على عيب، فأراد ردَّ أحدهما دون الثاني، ففي المسألة قولان. ومنْعُ التفريق هاهنا أولى؛ بسبب ثبوت العيب الموجب للخيار في كل واحدٍ منهما.
وكل ما ذكرناه فيهِ إذا قبض العبدين، فأراد ردَّ أحدهما مع قيام الثاني.
3246- فلو قبضهما، وتلف أحدُهما في يده، ووجد بالثاني عيباً، فهل له رده مفرداً؟ فعلى قولين مُرتَّبَيْن على القولين فيه إذا كان العبدان باقيين. وهذه الصورةُ الأخيرةُ أوْلى بجواز ردَّ أحد العبدين؛ فإن العبدين إذا كانا باقيين، أمكن ردُّهما وفسخُ
__________
(1) ما بين الفوسين سقط من (هـ 2) .
(2) في الأصل، (ص) : المعتقد.(5/326)
العقد من [غير] (1) تفريق، وإذا تلفَ أحدهما فيعسُر الرد في التالف ويعذَر المشتري بأفراد العبدِ الباقي بالرد.
فإن قلنا بردِّه، فلا كلام. وإن قلنا: لا يردُّه، فلو قال: أُخرج قيمةَ العبد التالفِ، وأضمُّها إلى العبد القائم وأردُّهما وأسترد جملةَ الثمن، فهل له ذلك؟ فعلى قولين: أحدُهما - له ذلك؛ فإن فيه استدراكُه للظُّلامةِ التي لحقته، وإقامةُ القيمةِ مقام الفائت في حق المردود عليه، مع ترك تفريق الصفقة.
والقول الثاني - ليس له ذلك؛ فإن القيمة ليست موردَ العقد، وسبيل الفسخ أن يَرِدَ على ما وردَ عليهِ العقد. ولا خلاف أن من اشترى عبداً، وقبضه وتلف في يدهِ، ثم اطلع على عيب بهِ، فأراد بذلَ قيمتِه وإيرادَ الفسخ عليها، لم يكن له ذلك، فليكن الأمر كذلك في أحد العبدين.
وقد تقدم في تفصيلِ المذهب في العيب الحادث في يد المشتري مع الاطلاع على العيب القديم أنه لو أراد ضمَّ أرش العيب الحادث إلى المبيع وردَّهما، فهل يجبر البائع على قبول ذلك وردِّ الثمن. وقد قال [الأئمة] (2) ردُّ قيمةِ أحدِ العبدين مع العبد القائم أبعدُ عن الجَوازِ؛ من جهة أن العبدَ التالفَ مبيعٌ مقصودٌ، وينفسخ العقد بتلفهِ في يد البائع، فردُّ قيمةِ (3) مقصود أبعدُ من ردَّ أرش نقصانٍ لا يتأصل.
ولا خلاف أن العبدَ إذا عابَ في يد البائع، لم يُقضَ بانفساخ العقد في شيء، وليس للمشتري إلا الخيارُ في الفسخ والإجازة، كما تقدَّم.
فإن قُلنا: للمشتري ردُّ العبدِ والقيمةِ، فلا كلام. وإن قلنا: ليس له ذلك، فيرجع بأرش العيب القديمِ.
ومن تمام تفريع هذا أنه لو طلب أرشَ العيب القديم، فقال البائع: اغرم لي قيمةَ العبد التالف وارددها مع العبد القائم، فهل يجبر المشتري على هذا الحكم إن أراد استدراك الظُّلامة؟ فعلى قولين.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) مزيدة من (هـ 2) ، (ص) .
(3) في (هـ 2) : قيمته مقصوداً.(5/327)
وقد أجرينا مثل هذا في أرش العيب الحادث، وذكرنا الخلاف في مُطالبة البائع المشتري، ومطالبةِ المشتري البائعَ.
وهذا آخر القول في أصول تفريق الصفقة، أتينا به على أكمل وجه وأشمله.
ونحن نرسم وراءها فروعاً.
فرع:
3247- إذا قال: بعتُك هذين الصاعين بدرهمٍ، فقال المخاطب: اشتريت أحدهما بنصف درهم، فالبيع مردود؛ فإن الصفقة متحدة؛ فلا سبيل إلى تبعيضِها في الجوابِ. وهذا متَّفَقٌ عليهِ، وإن حكمنا بأن الفسادَ في بعض مضمون العقد لا يتَداعَى إلى فساد باقيه وإن (1) كان يصح إفرادُه بالعقدِ.
ولو زوج الرجل أمتيه من عبدٍ، فقال العبد: قبلت نكاح إحداهما، فقد قطع الشيخ أبو علي بصحة النكاح، وفرق بين النكاح والبيع، وهذا محتمل. ولو قيل: يجب تخريج ذلك على ما قدمناه في أحكام التفريق من أن الرجل إذا نكح مسلمةً ومجوسيةً في عقد واحدٍ، فهل يخرج فسادُ نكاح المسلمة على تفريق الصفقة أم يقطع بصحة النكاح فيها؟ لكان حسناً. فإن أفسدنا النكاحَ في المسلمةِ بسبب التفريق، وجب القطع بأن تفريقَ القبولِ يمنع صحةَ النكاح. وإن صححنا النكاح في المسلمة، وفرقنا بين النكاح (2) وبين البيع في الترتيبات المقدمة، لم يبعد على ذلك الحكمُ بصحة النكاح في الصورة التي ذكرناها.
فرع:
3248- إذا اشترى عشرين درهماً بدينارٍ، وأقبض الدينارَ، وقبض من الدراهم تِسعةَ عشرَ، وتفرقا قبل قبض الدرهم، انفسخ العقد في الدرهم، وما يقابله من الدينار. وهل ينفسخ في الباقي؟ فعَلى قولين، كما تمهَّد في أصول التفريق. فإن قلنا: لا ينفسخ في الباقي، فهل يثبت الخيارُ للمشتري الذي (3) لم يقبض تمام حقه؟ فعلى أوجهٍ: أحدُها - له الخيار؛ طرداً لقاعدة الخيار عند تبغض مقصودِ [العقد] (4) .
__________
(1) في (هـ 2) : إن (بدون واو) .
(2) في الأصل: بين النكاح في البيع والترتيبات.
(3) في (ص) : إذا لم يقبض.
(4) ساقطة من الأصل.(5/328)
والثاني - لا خيار له؛ فإنه هو الذي سعى في هذا التبعيضِ. والمسألةُ مفروضة فيه إذا تفرقا عن اختيارٍ.
والوجه الثالث - أنهما إن علما أن العقد ينفسخ في الباقي، وتفرقا على قصدٍ، فلا خيار فيما [جرى] (1) التقابض فيه. وإن لم يعلما ذلكَ، ثبت الخيار للمشتري.
فرع:
3249- إذا نكح امرأتين وأصدقهما عبداً، وقُلنا يصح الصداقُ مُوزَّعاً على مهريهما، على ما سيأتي تمهيدُ هذا الأصل في الصداق. فلو بان فساد نكاحِ إحداهما، وارتد ما ثبت في العبد صداقاً [لها، وثبت قسط] (2) من العبد صداقاً للتي صحّ نكاحُها، قال الشيخُ (3) : للزوج الخيارُ في حق هذه التي صح نكاحُها في رَدّ المسمى صداقاً لها، والرجوعُ إلى مهر المثل. والسبب فيه أن العقدَ تبعّض عليه لمَّا بان فسادُ نكاح إحداهما. والتبعيض عيبٌ، فليتخير لذلك.
هكذا. قال: وقد عرضتُ (4) هذا على الشيخ يعني القفالَ، فرآه صواباً ورضيه.
وهذا مشكِل عندي، فإن التبعيض لم يأت من قِبل هذه التي صح نكاحها، فاسترجاع ما صح صداقاً لها بعيدٌ، ولا يبعد أن ينتسب الزوج في هذا إلى قلّة التحفظ، وتركِ البحث عن حال التي فسدَ نكاحها.
فرع:
3250- ذكرنا اختلافَ القول فيه إذا اشترى الرجل عبدين فأرادَ رَدّ أحدِهما بالعيب، فلو اشترى عبداً فوجد به عيباً، فأرادَ رَدَّ نصفه، فالذي قطع به الأصحاب امتناعُ ذلك؛ من جهة أن التبعيضَ عيبٌ، فلو أثبتنا له ردَّ نصفِه، لكان قابضاً بعيبٍ رادّاً بعيبين. وقال الشيخُ رأيت لبعض أصحابنا أن المسألة تخرج على قولين فيها. وقد رأيتُ هذا لصاحب التقريب.
وهو خطأ عندي غيرُ معتد به.
__________
(1) في الأصل: يجري.
(2) في الأصل: " ... لها وثبت قسطاً".
(3) الشيخ: يعني والده.
(4) قال: وقد عرضتُ ... إلخ القائل والده.(5/329)
والذي ذكره الأئمّةُ أنه لو اشترى عبداً، وباع نصفه، ثم اطلع على عيبٍ قديمٍ به، فأراد ردَّ النصفِ الثاني مع ضمه أرشَ عيب التبعيض، فهو يندرج تحت التفاصيل المقدَّمةِ في العيب القديم والعيب الحادث.
فرع:
3251- إذا باع عبداً وحُرّاً (1) من إنسانٍ، وكان المشتري جاهلاً بحقيقة الحال، فالمسألةُ على قولي تفريق الصفقة، ولا يتغيّر الأمر بعلم البائع.
ولو كانا عالمين بحقيقة الحَالِ، فقد كان شيخي الإمام يقول: الوجه: القطع بالبطلان، وتنزل المسألة (2) منزلة ما لو قال الرجل لمن يخاطبه: بعتُك عبدي هذا بما يخُصّه من ألفٍ لو وزع عليه وعلى قيمة فلان.
وهذا عندي غيرُ سديدٍ. والوجه طردُ القولين في الأصلِ. نعم، يجوز أن يتخيل في صورة العِلم اتجاه قولنا في [وقوع] (3) كل الثمن في مقابلة العبدِ، على أنه خيالٌ أيضاًً؛ فإن تيك المسائل بتفريعاتها مدار على مقتضى الألفاظ. نعم، إن كنا نقول: العقد يُجاز في العبدِ بقسطٍ من الثمن، فلا وجه لاثبات الخيارِ للمشتري؛ فإن العلم بحقيقة الحال ينافي ثبوتَ الخيار.
فرع:
3252- إذا قبض المشتري العبدين، وتلف أحدُهما، وجعلنا له أن يردَّ العبد القائم وقيمةَ التالف، فلو اختلف البائع والمشتري في مقدار قيمة العبد التالف، فالقولُ قولُ المشتري باتفاق الأصحاب؛ فإنه الغارم، وإذا تنازع الغارم والمغروم له، فالرجوعُ إلى [قول] (4) الغارم؛ لأن الأصل براءةُ ذمَّتهِ.
وكذلك لو باع رجل ثوباً بعبد وجرى التقابضُ، ثم تلف العبدُ في يد قابضهِ، ووجد قابضُ الثوب عيباً بما قبضَه، فإنه يردُّه، وإن كان عِوضه تالفاً؛ فإن الاعتبارَ بوجود المردود، ولو تلف أحدُ العوضين في يد قابضه ومقابلُه باقٍ، فأراد من تلف في
__________
(1) في (ص) : أو جزءاً.
(2) في (هـ 2) ، (ص) : وتنزيل العقد.
(3) في الأصل، (ص) : وقوف.
(4) ساقطة من الأصل.(5/330)
يده ما قبضه أن يغرَم قيمتَه ويردها بناء على وجود المقابل، لم يكن له ذلك، فالتعويل في ثبوت الرد ونفيه على وجود المردود وعدمه. فإذا كان موجوداً فيردّه. وإن كان مقابله تالفاً، فإنه يسترد قيمتَه.
ولو اختلفا في مقدار القيمة، فالقول قولُ غارمِ القيمة؛ بناء على الأصل الذي قدمناه.
ولو مات أحد العبدين في يدِ المشتري، وقلنا: له أن يردَّ العبدَ القائم من [غيرِ] (1) قيمة التالف ويستردَّ قسطاً من الثمن، وكان لا يتأتى الرجوعُ إلى قسطِ الثمنِ إلا بتوزيعهِ على قيمةِ القائم، وقيمةِ التالف، فاختلفا في قيمة التالف، فالقول قول من؟
فعلى قولين: أحدُهما - أن القول قولُ البائع؛ فإنه يسترد منه شيء من الثمن قد تقدَّم استحقاقه فيه، فعلى المشتري أن يبيّن استحقاقَ الاسترداد.
والقول الثاني - أن القول قولُ المشتري؛ فإن البائع يدَّعي استقرارَ ملكه على مقدار، فلا يقبل قولُه مع بدوّ العيب القديمِ. وهذا فيه احتمالٌ على حال. ولعل الأصح الرجوعُ إلى قول البائع ويمينه.
فإن قيل: أطلقتم القيمةَ ولم تذكرُوا تفصيلَها، وأنها تُعتبر بأي وقتٍ؛ قُلنا: هذا سَيُذكَر في باب التحالف. ولعلنا نذكر فيه ما يتعلق بأطراف هذا الفَصل إن شاء الله عز وجل.
* * *
__________
(1) ساقطة من الأصل، (ص) .(5/331)
بَابُ اخْتلاَفِ المُتَبايِعَيْنِ
قواعد الباب يجمعُها فصول، ونحن نذكرُها على ترتيبها، ثم نتعرض لما يشذُّ منها
الفصل الأول
في الاختلاف ومعناه
3253- فليعتقد المنتهي إلى الباب أن المتبايعين إذا اختلفا في صفةِ العقدِ على ما سنصف اختلافَهما، فإنهما يتحالفانِ، ثم يفسخ العقد بينهما أو ينفسخ.
والذي يقتضيه الترتيبُ وصفُ اختلافِهما، ثم وصفُ أيمانهما، ثم بيان الحكم إذا تحالفَا.
3254- فأمَّا الاختلاف؛ فإن اتفقا على المبيع، واختلفا في مقدار الثمن، فقالَ البائع: بعتُه بألف. وقال المشتري بل بخمسمائةٍ، أو اختلفا في جنس الثمن، فذكر أحدُهما الدراهم، وذكر الآخر الدنانير، فالاختلاف على هذه الوجوه يتضمن التحالف.
وكذلك لو اتفقا على المبيع، كما ذكرناه، واختلفا في عين الثمن، فقال البائع: بعتك داري هذه بهذا الثوب، وقال المشتري: بل بعتنيها بهذا العبد، فهذا يتضمن التحالف.
ولو قال البائع: بعتك داري هذه بعبدك هذا. و (1) قال صاحبه: بعتَني بستانَك هذا بثوبي [هذا] (2) ، فما اجتمعَا على ثمنٍ ولا مُثمّنٍ، فليسَ [هذا] (3) من مقصود
__________
(1) في (هـ 2) : أو.
(2) زيادة من (هـ 2) ، (ص) .
(3) مزيدة من (هـ 2) ، (ص) .(5/332)
الباب؛ فإن غرض الباب يستدعي اتحادَ العقد واختلافَهما في الصفة، حتى إذا فرض التحالف ابتنى عليهِ التفاسخ في العقد الواحد بينهما، وإذا ذَكر أحدُهما ثمناً ومثمناً مُعيَّنين، وذكر الآخر ثمناً ومثمناً آخرين، فقولاهما راجعان إلى عقدين، فالوجه فيهِ أن يدعي كل واحدٍ العقدَ الذي يذكرُه وصاحبُه إذا استمرَّ على نفيه، فالبينةُ على المدعي، واليمين على من أنكر.
وكذلك لو ادّعَى مالك الدار أنه باعها بألفٍ من زيد، فقال زيد: بل وهبتنيها، فليس هذا من الباب؛ فإنهما تَدَاعَيا عقدين، فكل واحد منهما منكر لما يدعي صاحبُه.
ولو اختلفا في عين المبيع واتفقا في عَين الثمن، وكان الثمن مُعَيّناً، فهذا موضع التخالف المقصود في الباب؛ فإنهما اتفقَا على أحد العوضين وارتبط العقد به، ورجع الاختلاف بعده إلى تفصيل العقد. وبمثله لو اختلفا في عين المبيع، وذكرا ثمناً في الذمة لم يختلفا فيه مقداراً وجنساً. مثل أن يقول أحدُهما: بعتُك عبدي هذا بألفٍ، ويقول المشتري: بل بعتني جاريتكَ هذه بألف. فكيف السبيل والاختلاف كذلك؟ ذكر العراقيون أن هذا من باب التَّداعِي في عقدين، فإن المبيع مختلَفٌ فيه، والثمن ليس بمتعيَّن حتى يعتقد مرتَبطاً للعقد.
فالطريق على مذهبهم فصلُ الخصومةِ عن الخصومةِ، فبينهما عقدان يتداعيانهما كما تقدَّم نظائر هذا.
وفي طُرق المراوزة ما يدل أن التحالف يجري في هذا؛ فإنَّ الألْفَ متفقٌ عليه.
والكلام في جهة ثبوته والعِوضُ الثابت ديناً مملوك، كالعوض المسمى عيناً.
وللعراقيين أن يقولوا: الألف الذي يدَّعيه أحدُهما غيرُ الألف الذي يعترف به الثاني، ويتصور التزام ألفين من جهتين، [فالتعيين] (1) لا يتحقق في الألف، وليس كالعين يتعين ملكاً.
وهذا الذي ذكَرُوه مع ما ذكرهُ المراوزة بلتفت على أصلٍ سيأتي في الدعاوى، وهو
__________
(1) في الأصل: " لتعيّن ".(5/333)
أن رجلاً لو اعترفَ بألف لإنسان عن جهةِ ضمان، وأنكر المقَرُّ لهُ الضمانَ، وادَّعى عليه ألفاً عن جهةٍ أخرى أنكرها (1) المقِر، ففي وجوب الألف على المقر خلافٌ مشهورٌ.
ولو اعترف رجل بالملكِ في عَينٍ لإنسانِ عن جهةِ، فأنكر المقَرّ له تلكَ الجهة، وادَّعى الملكَ بجهةٍ أخرى، فلا خلاف في وجوب تسليم العين إلى المقرّ له.
فهذا مضطرب للفريقين. والمسألةُ محتملةٌ، ويظهر فائدةُ ما ذكرناه في الفسخ.
فإن اعتقدنا الألف في حكم العين المتَّحدة، فإذا جرى التحالف، فسخنا العقدَ، وقد نقول ينفذ الفسخُ باطناً، كما سيأتي شرحه، إن شاء اللهُ. فيثبت ما بينهما. وإن لم نر هذا تَحالُفاً في مقصود الباب، فتُفصلُ الخصومتان بطريق فَصلِهما، ولا فسخ ولا انفساخَ، والمبطل منهما في علم الله مطالبٌ بما عليهِ، طرداً لقياس الخصومات.
3255- وممَّا يتعلق بصفة الاختلافِ أن الزوائد التي تثبت بالشرط (2) إذا فرض النزاع فيها، فالحكمُ التحالف عندنا، مثل أن يدعي البائع شرطَ الرَّهن أو الكفيل، أو شرط البراءة إذا رأينا صحتَه، أو يدعي المشتري شرطَ الأجل في الثمن، أو شرطَ الكتابة وغيرِها في العبد المشترى، فإذا جرى الدعوى والإنكار، فحكم الحال التحالف عندنا، ثم الفسخُ أو الانفساخ بمثابةِ الاختلاف في الثمن والمثمن.
وأبو حنيفة (3) لا يثبت التحالف إلا عند فرضِ الاختلاف في الثمن أو المثمن. فإذا صار إلى أن الأصل عدمُ الشرائط المدّعاة، فليكن القولُ قولَ نافيها مع يمينهِ. قلنا: لا ننكر أن هذا قياس جَليٌّ في وضعه، ولكن هذه الشرائط بمثابة مزيد الثمن إذا ادّعاه البائع على المشتري؛ فإن الأصل عدمُ التزامه وبَراءةُ ذمّةِ المشتري عنه، ثم جرى التحالفُ فيه مع قيام السلعة وفاقاً. فإن كان التعويل على الخبر، فذكر الاختلاف في الخبر مطلقٌ لا تعرض فيه للثمن والمثمن. وإن كنا نتكلف تقريب القول من جهةِ
__________
(1) في (هـ 2) ، (ص) : وأنكر.
(2) في (هـ 2) ، (ص) : بالشروط.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 82، تبيين الحقائق: 4/306.(5/334)
المعنى، فنقول: العقد متفق عليه، والمتعاقدان مختلفان في صفته، فكل واحدٍ منهما يدّعي صفةً وينكر صفةً، وهذا متحقق [والتداعي في الشرائط يحققه] (1) والتداعي في زيادةِ الثمن والمثمن.
3256- ومما خالف أبو حنيفة رحمه الله فيه الأجلُ، مع العلم بأن التداعي فيه تداعٍ في المالية؛ فإن الألف المؤجل دون الألف الحالّ.
ولو اختلف المتعاقدان، فادعى أحدُهما جريانَ شرطٍ مفسدٍ للعقد، وأنكر الثاني، فاختلف أصحابنا: فمنهم من قالَ: القول قول من ينفي الشرطَ؛ لأن الأصل عدمه، ومنهم من قال: القول قول من يثبته؛ فإن [في] (2) إثباته نفيَ العقدِ.
وبالجملة ليست هذه الصورة من صور التحالف لما ذكرنا الآن من أن التحالف يترتب على الاختلاف في صفةِ العقدِ، مع الاعتراف بأصلهِ، والنزاع في الصورة (3) التي نحن فيها راجع إلى أصل العقد؛ فإن أحدهما يدَّعيه، والثاني ينفيه.
وهذا الاختلاف قريبُ المأخذ من مسألة في الأقارير: وهي أن الرجل إذا أقرَّ بألفٍ من ثمن خمرٍ، فهل نلزمهُ الألف تعلُّقاً بصَدَرِ (4) الإقرار، أم نقول: الكلام بآخرِه، وليس في منتهاه ما يوجب ثبوتَ الألف.
3257- وذكر القاضي مسألةً، ونحن ننقل جوابَه فيها أولاً، ونذكر وجهَ الرأي: وهو أن البائع لو قال: بعتُك هذا العبدَ بهذَا الثوبِ، وثوبٍ آخر تلف في يدك. وقال المشتري بل اشتريتُه بهذا الثوب لا غير. قال القاضي: هذا يبتني على تفريق الصفقة في الانتهاء، وما يقابل القائمَ من الثمن. فإن قلنا: ينفسخ العقد في القائم أيضاً، فليس يدّعي البائع عقداً في الحال. وإن قلنا: جميع العِوَض يقف في مقابلةِ القائم، فلا معنى للتحالف أيضاً؛ لأن البائع يلزمُه تسليم العبد على هذا القول، فلا يستفيد
__________
(1) مزيدة من (هـ 2) ، (ص) . والضمير في قوله: "يحققه" يعود على العقد.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) في (هـ 2) ، (ص) : الصفة.
(4) " صَدَر ": أي صدور، كما أشرنا قبلاً، أكثر من مرة.(5/335)
بما ذكره شيئاً. وإن قلنا: القائم الباقي يقابله قسطٌ من الثمن، فهذا يُفضي إلى الخلاف في القدر المستحق من العبد، فيترتب عليه التحالف حينئذٍ؛ [فإنه] (1) تنازع في مقدار الثمن أوّلاً، مقتضاه دوام النزاع في مقدار البدل آخراً.
وهذا الذي ذكرهُ حسنٌ سديد في أطرافه. ولكن يتطرق الكلام إلى شيء منه: وهو أنا إذا قلنا: البدل في مقابلة الباقي القائم، فهذه الحالةُ لو جرت، تضمّنت خيار البائع، والمشتري ينكره، فقد أدَّى التنازعُ إلى تناكُرٍ في الخيار، وهو مستند إلى نزاع في المعقود عليه. وإذا ظهرت فائدة وقد استند النزاع إلى صفة العقد في الأصل، اتَّجه التحالفُ؛ فإنهما لو تنازعا في شرط الخيار، [تحالفا مع كون الخيار] (2) زائداً مائلاً عن مقصود العقد، فما الظن بخيار يقتضيه النزاع في أصل المقصودِ.
هذا منتهى نظرِنا الآن. والرأي بعد ذلك مشتركٌ بين الفقهاء.
وقد نجز بما ذكرناه القولُ في صفة الاختلاف الذي يبتني عليه التحالف.
ونحن نقول بعد ذلك:
3258- الاختلاف في العقود المشتملة على الأعواض يتضمن التحالف، فلا اختصاصَ لما ذكرنا بالبيع، فإذا تنازعَ المتكاريان تحالفا، وكذلك المتصالحان والمتكاتبان، وكذلك إذا اختلف الزوج والزوجة في الصداق، تحالفا، ثم يتأثر بتحالفهما الصداق، كما سيأتي في كتابه - إن شاء اللهُ.
وكذلك التحالف جارٍ في [المساقاة] (3) ، ومعاملة القراض. والجامع له أن التحالف يجري في كل عقد يشتمل على عوض.
ثم العقود تنقسم: فمنها ما يؤثِّر الفسخ في رفعها، ومنها ما لا يرتفع مقصودُها، ويرجع التأثر إلى العوض، [كالصداق] (4) ، والخلع، والمصالحة عن الدم، وعقد
__________
(1) في الأصل: فإنا.
(2) زيادة من (هـ) ، (ص) .
(3) في الأصل: المسافة.
(4) في الأصل: فالصداق.(5/336)
العتاقة. وليست الكتابة كذلك؛ فإن العتق لا يتأكد فيها إلا بعد وقوع العتق.
فإن قيل: أي معنىً للتحالف (1) في القِراض، وهو عقد جائز في (2) الجانبين يتمكن كل واحدٍ من المتعاقدَيْن من فسخه؟ قلنا: هذا غفلةٌ عن مقصود الباب؛ فإن التحالف لم يوضع في الباب للفسخ، ولكن الأَيْمان تُعرض على رجاء أن ينكفّ عنها الكاذب، ويستقل العقد بيمين الصادق. والتفاسخ أمرٌ ضروري رآه الشرع بعد جريان التحالف.
ولا شك في جريان التحالف في الكتابة، وإن كانت جائزة من جهةِ المكاتَب.
3259- ونقل بعض من يوثق به عن القاضِي أن التحالف في البيع لا يجري في زمان الخيارِ ومكانه؛ لأن كل واحدٍ منهما في الفسخ بالخيار، فلا حاجة بهما إلى التحالف في ثبوت الفسخ.
وهذا غير سديدٍ؛ [لما] (3) ذكرته من أن التحالف ليس موضوعاً للتفاسخ. وقد صرح القاضي بثبوت التحالف في القراض مع جوازه، ونصَّ الشافعي في الكتابة على التحالف، مع جواز العقد في جانب المكاتَب.
والذي يتأتى به توجيه كلام القاضي أن توجيه الطلب مع الجواز بعيدٌ، فلو طولب باليمين، وما فيه اليمينُ في أصله ليس [بلازمٍ] (4) ، لكان بعيداً. ولو جاز هذا، لجاز أن يقال: يطالب المشتري بالثمن في زمان الخيارِ، ويُحبس فيه، ويقال له: إن أردت الخلاص، فافسخ، وهذا لا قائل به. ويلزم على مساق كلام القاضي أن يقال: من ادعى على إنسانٍ بيعاً بشرط الخيارِ له، فلا يتوجه اليمينُ على المدعَى عليه توجُّهاً محققاً. ولا يلزم على هذا مطالبةُ السيّد مكاتَبَه بالنجم؛ فإنه يستفيد به فسخَ عقدِ الكتابة إذا امتنع المكاتَب، فعاقبةُ مطالبته رفعُ حقٌ واجبٍ.
__________
(1) في (هـ 2) ، (ص) : في التحالف.
(2) في (هـ 2) ، (ص) : من.
(3) في الأصل: بما.
(4) ساقطة من الأصل.(5/337)
والوجه عندي في زمان الخيار أن القاضي لا يلزمهما أن يتحالفا، لو ادَّعَيا ورأيا أن يتحالفا، عَرَض الأيمانَ عليهما، ونظرنا إلى ما يكون من أمرهما.
وهذا مشكل أيضاًً؛ فلا عهد لنا بيمين يتخيَّر المرءُ فيها. فهذا منتهى الأمر.
وقصاراهُ موافقةُ القاضي.
ولستُ أخلي هذا الكتابَ عن طريق المباحثة -مع التمكن من الاقتصار على نتيجة- حتى يتدرَّب الناظر في مسالك البحث.
ثم الذي يقتضيه مساق هذا الأمر أن تحالف [المتعاملَيْن] (1) في القِراض قبل الخوض في شيءٍ من العمل لا معنى له. ويعن فيه شيء آخر، هو أن نجعل نفس التناكر تفاسخاً. وستأتي نظائر ذلك؛ فإن الشافعي نص على أن دعوى الرجعة من الزوج في مدَّة الرجعة رجعة، وهذا كلام يطول. وسيأتي في موضعه، إن شاء الله.
نعم إذا عمل المقارض، فيعود النزاع إلى مقصود [الأخير في دفعه من أجرِ] (2) مثل أو ربح.
فهذا غايةُ القول في ذلك.
ثم نختتم الفصلَ ونقولُ: جريانُ التحالف في البيع لا يتوقف على قيام المبيع، بل يجري بعد تلفه، فإن معتمدَهُ العقد، والعقد لا يزول بتلف المبيع في يد المشتري، والخلاف مشهور مع أبي حنيفة (3) رحمه الله.
وكما لا يتوقف التحالف على بقاء المبيع، لا يتوقف على بقاء المتعاقدَيْن، فلو ماتا، أو مات أحدُهما، خلف الوارثُ المورُوثَ، وجرى التحالفُ. والتعويل على ما ذكرناه من بقاء العقد؛ فإنه باقي في حقوق الورثة.
__________
(1) في الأصل: للعاملين.
(2) في الأصل، و (هـ 2) : لا خير في دفعه من أجر ...
(3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/126، مسألة رقم 1203.(5/338)
الفصل الآخر
في كيفية التحالف
3260- والذي نرى تقديمَه أن تحالفَ المتعاقدَيْن لا يهتدي إليه القياسُ الجلي على الاستقلال في بعض الصور، وقد يجري بعضَ الجريان في بعضِها.
فإن كان المبيع متفقاً عليه، ومقدار الثمن متنازعاً فيه، فقد يظهر أن ملك المبيع لا نزاع فيه، وكذلك المُتَّفقُ من قدر الثمن، والزائد على ذلك يدّعيه البائع وينفيه المشتري، والأصل براءةُ ذمّته عنه. هذا وجه.
ومعتمد (1) الباب إما الخبر على ما قررناه في الخلافِ، وإما مصلحة ناجزة حاقَّة خصيصَةٌ بالباب، هي أولى بالاعتبارِ من الأمر الكلِّي، وهي أن المتعاقدَيْن يعم اختلافُهما، وكل واحدٍ منهما جالبٌ باذلٌ، فلو خصَصنا بالتصديق أحدهما، جرَّ ذلك عُسراً عظيماً، فرعاية مصلحة العقد أولى من النظر إلى عموم القول في براءة الذمَّة.
فإن فرضت بيّنة، فهي متبعة، وإن تعارضت بيّنتان، لم يخفَ حكمُ التَّهاتر (2) والاستعمال. وإن لم تكن بيّنةٌ، فلا وجه إلا التسوية بين المتعاقدَيْن فيما يعم وقوعه.
فهذا أصل الباب.
3261- ثم الكلام يتعلق بأمرين: أحدهما - فيمن يُبدأ به من المتعاقدين، والآخرُ في عدد اليمين وصيغتِها.
فأما الكلام في البداية، فظاهر نصوص الشافعي أن البدايةَ بالبائع، ومن ينزل منزلتَه في العقود، ونص في البيع نفسِه أن البداية بالبائع. وقالَ في السلم: البدايةُ بالمسلم إليه. وهو في مقام البائع.
ونص في الكتابة أن البداية بالسيِّد، وهو في التقدير في رتبة البائع.
ونصُّه في النكاح يخالف هذه النصوص؛ فإنه قال (3) : البدايةُ بالزوج. وهو في
__________
(1) في (ص) : وجه معتمد....
(2) التهاتُر: تساقط البينات وبطلانها. يقال: تهاترت البينات إذا تساقطت وبطلت (مصباح) .
(3) في الأصل: في البداية.(5/339)
التقدير في منزلة المشتري إذا أُضيف إلى المقصود بالعقد، وهو استحقاق حِل البُضعِ، فنظر الأصحاب في النصوص، فرأوها مخالفة لما نص عليه في النكاح، واختلفوا على طرقٍ، فذهب بعضهم إلى إجراء القولين، وضربَ النصوصَ بعضَها ببعض. فينتظم في كل مسألةٍ ذكرناها قولان: أحدُهما - أن البداية بالبائع؛ فإن قولَه يدور على مقصود العقد، وهو المبيع، والشرع يَعتَني بإثباتِ العقدِ إذا ثبت أصلُه، فهذا يقتضي تقديمَ من يتلقَّى مقصودَ العقد من جهتِه.
والقول الثاني - أن البداية بالمشتري وبمن يحل محلَّه؛ فإن القياس الكلي يقتضي تصديقَ المشتري؛ من جهة أن البائعَ معترفٌ له بالملك في المبيع، لكنَّه يدعي عليهِ مزيداً، وهو يُنكره، فالقياس أن القولَ قولُ المشتري؛ فإن الأصل بَراءةُ ذمّتِه عن المزيد الذي ادُّعي عليه، فلئن لم نكتف بقوله، فلا أقل من البداية به.
ثم ما طرَدْناه في البائع يجري في كل من يحل محلَّهُ وهو المسلَمُ إليه في السلم، والمكري في الإجارة، والسيد في الكتابة، والزوجة في النكاحِ. وما أطلقنَاهُ في المشتري يجري في كل من يحل محله في العقود التي ذكرناها.
3262- ومن أصحابنا من أجرى النصوص على حقائقها في محالّها؛ فقال: البدايةُ بالبائع والمسلَمِ إليه والمكري والسيّد في الكتابة، والبداية بالزوج، وإن كان في مقام المشتري إذا أضيف إلى مقصود النكاح.
والسبب في ذلك كُلِّه تقديمُ من يقوى جنبتُه في المسائل. والزوجُ في مقام الاختلاف أقوى؛ من جهة أن مقصودَ العقد يبقى عليه، وإن بلغ التحالف منتهاه؛ فإن النكاح لا ينفسخ، ولا يُفسخ، وهو مقصودُه، فكان جانبه أقوى لذلك. وجانب البائع ومن يحل محله (1 في المسائل أقوى؛ من جهة أن مقصود العقد ينقلب إليه في نهاية التحالف 1) [فكان جانبه أقوى، والمستحق على الزوجة لا ينقلب إليها في نهاية التحالف] (2) .
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ص) . كما أن فيها تكراراً لعدة أسطر بسبب رجع بصر الناسخ.
(2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.(5/340)
والوجه عندي في تقرير هذه الطريقَةِ أن النكاح في وضع الشرع في حكم المستثنى عن مضطرب الاختلاف، حتى كأنّ الصداقَ ليس في حكم الأعواض المقابلة، وإنما هو مُتعة معجلة للمرأة من جانب الزوج. وهذا المعنَى هو الذي أوجب للزوج [الحكمَ] (1) ببقاء النكاح في نهاية التحالف، فكأنَّ الاختلافَ منحصرٌ (2) في الصداق، فالزوج إذاً هو الذي يُتلقى ملكُ عين الصداق منه، كما أن البائعَ يتلقى ملك المبيع منه، فهذا هو الذي اقتضى البدايةَ بالزوج في الصداق.
3263- وذكر صاحبُ التقريب طريقين سوى ما ذكرناهما: إحداهما - أن القاضي يبدأ بمن شاء، فلا احتكام عليهِ، والأمر في ذلك مفوّض إليه. وهذا القائل يحمل نصوصَ الشافعيّ على حكم الوفاق في إجراء الكلام، فإنه إذا لم يكن من البداية بأحدِهما بُدُّ، فقد يتفق للخائضِ في الكلام أن يستفتحَ تقديرَ البداية بأحدهما، ثم لا ضَبط للوِفاقِ، فتارةً يَتّّفقُ ذكرُ جانبٍ، وتارة يتفق ذكر جانبٍ آخر.
والطريقة الثانيةُ - وهي تداني هذه في مأخذها، أن القاضي يُقرع بينهما إذا تنازعا البداية، كما يُقرع بين متساوقين إلى مجلسهِ، وكل يبغي أن يقدّم خصومَته.
والطريقتان صادرتان على قياس؛ فإن المتبايعين إذا كانا يتحالفان، ولا يقدم أحدهما بالتصديق مع اليمين، فلا فرقَ. وما يتكلّفه الفقهاء من تقوية جانبٍ على جانبٍ إذا كان لا يفيد التصديقَ، فلا معنى له. وإذا كان كذلك، فلا ينقدح إلا مسلكان: أحدهما - ردُّ الأَمْر إلى خِيَرةِ القاضي، والآخر - الإقراع.
فإن قيل: قطعتم بالإقراع بين المتساوقين إلى مجلس القاضي، ولم تردُّوا الأمرَ إلى اختيار القاضي، فما الفرق؟ قلنا: ذاك مفروض في خصومتين، وللمتقدّم غرضٌ ظاهر في تنجُّزِ مقصوده وانقلابه، والخصومةُ واحدةٌ في مسألتنا لا تنفصل بأحدِ الجانبين، فَذَكَرْنا الخِيَرَة في الاختلاف لهذا.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في الأصل: فكان الاختلافُ منحصراً.(5/341)
ونقل بعضُ من يوثقُ به طريقةً أخرى معزيّةً إلى طريقة القاضي، وهي أن القاضي يقدّم منهما من يؤدي اجتهادُهُ إلى تقديمه.
وهذا كلام في ظاهرهِ ركيك، من جهة أن القُضاة في الوقائع كلِّها يقضون باجتهادِهم وإنما الكلام كلّه في ذكر وجوه الاجتهادِ. فإذا تعدّينا تقديمَ جانب، فذكر اجتهاد القاضي لا معنى له. والظن أن المراد بهذا تخيّر القاضي، ولكن المعلِّق عنه لم يرَ التّخيُّرَ (1) في الوقائع، فحمل هذا على الاعتقاد في ردَّ الأمر إلى الاجتهادِ.
فهذا استقصاءُ أقوال الأصحاب في البداية.
3264- ووراء ذلك نظر وبحثٌ عندنا. فنقول: إذا تبايع رجلان عبداً بجاريةٍ، واشتمل العقدُ على عوضين من الجانبين، فلا ينبغي أن يظن ظانٌّ أن جانباً يقدَّم على جانبٍ، وقد تبادل المتبايعان عوضين، وآلَ النزاعُ إلى زيادةٍ يدَّعِيها كلُّ واحدٍ على صاحبه، والمدعَى عليه ينفيها، ويدعي زيادةً. وإنما الكلام في البداية. وموقعُ النصوص فيه إذا كان الثمنُ في الذمّة، وكان المبيع عيناً أو جنساً مقصوداً، كالمسلَم فيه؛ فإنّ منشأَ الكلامِ في البدايةِ ما (2) قدَّمناه في توجيهِ القولين على طريقةِ من يُجري النصوصَ على قولين.
وإذا فرض الكلام في مبيع مقابَلٍ بثمنٍ في الذمَّة، فميل النص إلى البدايةِ بالبائع.
والتسويةُ بين الجانبين - وإن كان منقاساً، فهو إضرابٌ عن النص بالكليّة، والتخريج على خلاف النص يبعد إلحاقُه بالمذهب، فما الظنُّ (3) بالإعراض عن النص بالكلية.
والذي أراه في ذلك أن التحكم بالتقديم بعيدٌ. وإذا كنا نقرعُ عند التَّساويَ، فالاستمساكُ بمتعلَّقٍ أولى من تحكيم القُرعة.
ثم نص الشافعي يشير إلى تثبيت مقصود العقد، كما قدمناه وهذا النص، ينطبق على ما سنَذكرُه في الفصل الثاني، وهو الاكتفاءُ بيمين واحدة تشتمل على النفي
__________
(1) في (هـ 2) ، (ص) : التخيير.
(2) في الأصل: وما قدّمناه.
(3) في الأصل: فما للظن.(5/342)
والإثبات. هذا نصُّ الشافعي على ما سنذكرُه.
ثم من نفى وأثبت ونَكل صاحبُه، قضينا للحالف. [فإن] (1) سبق إثباتُه في يمينهِ، تبيَّن نكولُ خصمِه عن يمين النفي.
وهذا يخالف قياسَ الخصومات، ولكنْ وَضعُ الشرعِ على الميل إلى إثبات العقدِ. ثم رأى الشافعي صدَرَ العقدِ من البائع، فبنى عليه البدايةَ.
هذا منتَهى النظر في ذلك.
والذي نجز، فهو أهون الفصلين الموعودين. ونحن الآن نتكلم في صفة اليمين واتحادها وتعَدُّدِها، وهو غمرة (2) الباب، وفيه [اختباطُ] (3) الأصحاب على ما سننبّه عليه، ونوضح الحقَّ، إن شاء الله عز وجل.
[فصل في صفة اليمين] (4)
3265- فنقول: كل واحدٍ من المتعاقدين مُثبتاً نافٍ، وهو متصوّر بصُورة مدّعٍ ومدعىً عليه، فالبائع يقول: بعتُ العبد بألفٍ، وما بعتُه بخمس مائةٍ. والمشتري يقول: اشتريتُه بخمس مائة وما اشتريتُه بألفٍ. وكل واحد في جهة الإثبات مدّعٍ، وفي جهة النفي مدَّعىً عليه.
وإذا كان كذلك، فلتقع البدايةُ بالقولِ في عدد اليمين واتحادِها.
ظاهر نص الشافعي رحمه الله: الاقتصارُ على يمينٍ واحدةٍ تشتمل على النفي
__________
(1) في الأصل: وإن.
(2) في (هـ 2) عمرة بدون نقط كدأبها، و (ص) عمدة. والغُمرةُ الشدة، والغمرةُ الزحمة وزناً ومعنى، (وكلا المعنيين يناسب هنا) وأما العَمرةُ، بالعين المهملة، فهي واسطة العقد، وهو معنى يناسب هنا أيضاًً (معجم، مصباح) .
(3) في الأصل: احتياط، و (هـ 2) بدون علامات إهمال وإعجام دائماً. والمثبت من (ص) ، وهو المعهود في أسلوب المصنف. رضي الله عنه.
(4) العنوان من عمل المحقق.(5/343)
والإثبات، كما سنصفها في التفريع. وخرج الأئمة قولاً آخر أن اليمينَ تتعدَّدُ، وزعمُوا أنّهم أخذوا هذا من اختلاف الرجلين في دارٍ تحت أيديهما، كل واحدٍ يدعي أن جميعها له، فالمنصوصُ أنه يتعرَّض كل واحدٍ ليمينين في محالهما؛ إذ يد كل واحدٍ منهما ثابتة على نصف الدارِ، وهو فيه مدعىً عليه، فالقول قولهُ فيه مع يمينه، على نفي دعوى المدَّعي، ولو فُرض نكول من أحدِهما عن اليمين على ما هو مدعىً عليه فيه، رُدّت اليمينُ على صاحبه، فيأتي بيمين الردِّ على صيغة الإثبات، فيدور في الخصومة إمكان يمينين؛ فقال المخرجون: اختلاف المتبايعين بمثابة اختلاف المختلفين في الدار الكائنةِ تحت اليدَينِ؛ من جهة اشتمال الخصومتين في الموضعين على التعرض لمقام المدعي والمدعَى عليهِ.
وهذا مُخرجٌ والنص ما قدَّمناه من الاكتفاء بيمين. ومسألة الدار لا خلاف فيها، وليس هذا مما ينقل فيه الجوابُ من كل جانب إلى الجانب الآخر، حتى نفرضَ جَريان القولين في الجانبين نقلاً وتخريجاً. لكنْ مسألةُ الدار متفق عليها. وخرَّج المخرجون منها قولاً في اختلاف المتعاقدَيْن.
3266- توجيه القولين: من قال بالقول المخرَّج اعتمد قياس الخصومات، ولا يكاد يخفى أن منصبَ المدعي يخالف منصبَ المدَّعَى عليه مخالفةً بينةً، والجمعُ بين مقامين مختلفين بعيدٌ ناءٍ عن القياس.
والذي نحققه أن الجمع بين الإثبات والنفي يتضمن تحليفَ المدعي ابتداءً في جهةِ دعواه من غير تقدّم نكولٍ من الخصم عن اليمين فيما هو مدعىً عليه. وهذا بعيدٌ جداً. وبيانه أن البائع إذا قال: ما بعتُ العبدَ بألفٍ، ولقد بعتُه بألفين، فقوله: بعتُ بألفَينِ إثباتُ ما يَدَّعيه، ونحن اعترفنا بخروج البداية بالمدعي في أيمان القسامة عن قياس الخصومات، مع ظهور اللوث والتأكّد بالعدد، ومسيس الحاجة إلى رفع غوائل المغتالين في خلواتٍ وأحيانٍ يَبعُد الإشهاد فيها. ولا ضرورة إلى الاقتصار على يمين واحدة هاهنا. هذا وجهُ هذا القول.
وأمَّا وجه القول المنصوص عليه أن البيع بين المتعاقدين في النفي والإثبات في حكم الخَصْلةِ الواحدة.(5/344)
هذا وضعُ الباب، وهو مضمون الأخبار، وهو اللائق بمصلحة هذا العقد، كما سبق تقريره في صدرِ الفصول؛ فإنَّ الاختلافَ بيْن المتبايعين عامُّ الوقوع، ولا حاجةَ لتخصيص جَانب عن جانبٍ، ولو فصلنا النفيَ عن الإثبات، وأقمنا خصومتين تنفصل إحداهما عن الأخرى، لما انتظمت حكمةُ الشريعة في التسوية بين المتعاقدين، ولما أفضى الأمرُ إلى الفسخ والانفساخ.
ولكنّا نقول: القول قولُ المشتري في نفي المزيد الذي يُدعى عليهِ في الثمن، والقول قول البائع في أنه لا يجب عليهِ تسليمُ المبيع لو كنا نؤاخذه بمطلق إقراره للمشتري بالمِلك في المبيع، ونراه مدَّعياً في الجهة التي نذكرُها؛ فإذاً وضعُ الباب على الاستواء، حتى كأنهما يتنازعان نفياً واحداً، وإثباتاً واحداً، ولكن لما اشتملت الخصومةُ على النفي والإثبات، اشتملَت اليمين الواحدةُ عليهما كما سنصفها، ولا يطلع الناظر على حقيقة التوجيه إلا بالتفريع عليهما.
التفريع على القولين:
3267- إن رأينا الاقتصارَ على يمين واحدةٍ، فاتفقت البدايةُ بالبائع مثلاً؛ فإنا نقول له: احلف بالله ما بعتُ العبد بألفٍ ولقد بعتُه بألفين. فإن حلف، عرضنا اليمينَ على المشتري، وقلنا له: احلف بالله ما اشتريت بالفين، ولقد اشتريت بألفٍ. فإن حلف كذلك، فقد تحالفَا.
ويقع الكلام وراء ذلك في الفسخ والانفساخ، كما سنصف القولَ فيه، إن شاء الله عز وجل - بعد نجاز صفة التحالف.
ولو حلف البائع وكنا بدأنا به، ونكل المشتري، قضَينا للبائع. وهذا خروج بيِّنٌ عن القياس الكُلِّي، وإن كان لائقاً بمصلحةِ الباب؛ فإنا قضينا له بالإثبات سابقاً على النكول من خصمه.
ولو عرضنا اليمين على البائع أولاً، فنكل، نعرضُ اليمينَ على المشتري، فإن حلف، قضينا له بالعقد على موجب قوله. وهذا منقاسٌ فإن القضاء جرى بعد تقدّم النكول.(5/345)
ولو حلف البائع على النفي والإثبات، فحلف المشتري على النفي، ولم يتعرض للإثبات، فالذي ذكرهُ الأئمة أنه يُقضى عليه، ويمضي العقدُ على موجب قول البائع.
وهذا في نهاية الإشكال؛ فإنا كنا نُبعد القضاء بالإثبات قبل النكول، وهذا قضاء بالإثبات مع تقدير اليمين على النفي.
وسبيلُ الجواب عنه أن صيغة اليمين على هذا القول التعرض للنفي والإثبات، واليمين تُعرض كذلك، فإذا لم يأت المشتري باليمين المعروضة عليه لا نحلّفُه على النفي، وإنما يتحقق النكول عن يمينِ تُعرض، فيأباها المعروض عليه.
3268- ومما يتعلق ببيان التفريع على هذا القول أن الأئمةَ قالوا: حق من نحلّفه من المتعاقدَيْن أن يذكر صيغة الإقسام باللهِ ويبتدىء بعد ذكر المقسم به بالنفي، ثم يُعْقِب النفيَ بالإثبات؛ فيقول: باللهِ ما بعتُه بألفٍ، ولقد بعتُه بألفين. والغرضُ من ذلك تأصيل اليمين على النفي وإتباع الإثبات إياه؟ من جهة أن القائل قائلان، فيقع الإثبات تابعاً، والتبعية تقتضي تأخير ذكر التابع، وتقديمَ المتبوع.
والذي رأيتُ طُرقَ الأصحاب متفقةً عليهِ أن هذا الترتيب مستحقٌّ، وليس ترتيباً مستحبّاً. ولو فُرض قلب ذلك، لم يُعتدّ باليمين.
وحكى العراقيون عن الإصطخري أنه قال: ينبغي أن يُقدَّمَ الإثباتُ، ورأى ذلك فيما نُقلَ عنه حتماً. واعتمدَ أن الإثبات هو المقصود وفيهِ يقعُ التناقض المحقق.
وهذا متروك عليه؛ فإنه خالفَ الفقهَ الذي ذكرناه من استتباع النفي الإثباتَ. ثم غلا فرأى استحقاقَ تقديم الأثبات. ولو قال: لا يُستحقُّ ترتيبٌ في المقصودين (1) إذا كنا نقضي بالنكول عند ترك أحدِهما، لكان هذا منسلكاً في الاحتمال بعضَ الانسلاك.
هذا كُلّه تفريع على الحكم باتحاد اليمين.
3269- فأما إذا فرَّعنا على القول الآخر، وهو أنا لا نجمع بين النفي والإثبات في يمينٍ واحدةٍ، فالتفريع على هذا القول مزِلّةٌ، وفيه الخبطُ الذي وعدناه، ونحن نأتي على ما يفصّل الأمر، إن شاء الله عز وجل.
__________
(1) في (ص) : المقصود بل.(5/346)
فنقول أولاً: إذا بدأنا بتحليف أحدهما، فلا نجمع في حقّهِ بين يمينين في العرض الأول، ولكنا نعرض على المبدوء به يمينَ النفي، ثم ننظر إلى ما يُفضي إليه الحال، فنقول للبائع: احلف بالله ما بعت بالألف، فإن حلف، عدنا إلى المشتري. والسبب فيهِ أن المحذورَ في هذا القول التحليفُ على الإثبات، قبل تبيّن النكول من الخصم عن يمين النفي. فإذا حلفَ من بدأنا به [أولاً] (1) على النفي، عرضنا اليمينَ على صاحبهِ.
وكانت اليمينُ المعروضةُ على النفي أيضاً. ثم ننظر فإن حلف المشتري على النفي أيضاً، فهذا [مبتدأ اختباط] (2) الطرق.
ونحن نبدأ بما كان يذكرُه شيخنا في دروسهِ، ونستتمّها، ثم نذكر ما ذكره بعضُ الأصحاب، ثم نحكم بما يحضرنا في التصحيح والتزييف.
قالَ شيخي: إذا حلف الأولُ على النفي، وحلف الثاني على النفي أيضاً، فقد تحالفا؛ فإنَّ يمينيهما تناقضا في المقصود، وليس أحدُهما أولى بالتصديق، فنكتفي بما جرى، ونقضي بالانفساخ، أو يَنْشَأُ الفسخ.
وإن حلف الأول يمين النفي، فعرضنا اليمينَ على الثاني، فنكل، ردَدنا اليمين إلى الأول الحالف، فإن حلف على الإثبات، قضَيْنا له بمُوجَب يمينهِ، وقطعنا الخصومةَ على هذا المقتضى. وقد حلفَ هذا البادىء أولاً وآخراً يمينين، أولاهما على النفي، والثانيةُ على الإثبات.
وإن عرضنا اليمين على الأول، فنكل، نعرض اليمين على الثاني، ونكتفي بيمينٍ واحدةٍ تجمع النفي والإثباتَ، ونقضي له بموجَب يمينه.
فخرج مما ذكرناه أنهما لو حلفا على النفي، كان ذلك كافياً، ولا نعرِض بعده يمين الإثبات.
وإن حلف الأول ونكل الثاني، رددنا اليمين على الحالِف أولاً، فيحلف على الإثبات المجرد؛ فإنه قد حلف على النفي من قبل، ولا يجتمع يمينانِ في حق أحدهما
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في الأصل: مسمى احتياط، (ص) : منتهى اختباط. والمثبت من (هـ 2) .(5/347)
إلا في هذه الصورة في طريقة شيخي؛ فإنهما لو حلفا على النفي ترادَّا، ولو نكل الثاني، حلف الأول، فيجتمع اليمينان. ولو نكل الأول، حلف الثاني يميناً واحدة على النفي والإثبات.
فهذا حاصِلُ الطريقةِ التي تلقيناها من شيخنا، ولم أجد لنكولهما عن اليمينين ذكراً. وإني سأذكره بعد نجاز الطرق، إن شاء الله تعالى.
3270- وذهبت طائفةٌ من أصحابنا إلى سلوك مسلكٍ آخر في التفريع على قول اليمينين، فنأتي به على وجههِ.
قالُوا: يحلف أحدُهما على النفي، ونعرض اليمينَ على الثاني، فإن حلف على النفي، لم يتم التحالف بهذا؛ فإنهما لم يتعرضا للإثبات بعدُ، وإنما يتمّ التحالفُ إذا تناقضا في يمينيهما في النفي والإثبات جميعاً، فيحلف بعدَ يميني النفي على الإثبات.
ونبدأ بمن بدأنا به أول مرة، فإن حلف على الإثبات، حلّفنا صاحبه، فإن حلف هو أيضاً على الإثبات، فقد تم التحالُف، وحان الحكم بانفساخه أو إنشاء الفسخ، وإن نكل الثاني عن يمين الإثبات، قضينا لمن بدأنا به بموجب يمين الإثبات، وقررنا العقد بينهما على ذلك الموجَب.
ومن تمام هذه الطريقة أن الأولَ إذا حلف على النفي، فلما عرضنا اليمينَ على الثاني نكل، فيحلف الأول على الإثبات، ونكتفي، ونقضي له بموجَب اليمينين.
ولو نكل الأول عن يمين النفي، عرضنا اليمين على الثاني، واكتفينا منه بيميني واحدةٍ، تجمع النفيَ والإثباتَ، ونزَّلنا العقدَ على موجَبها.
[وإنما] (1) اكتفينا بيمين واحدة، لأن المستحلَف في ترتيب الخصومات في مقام يمين الرد، فوقع الاكتفاءُ بيمين واحدة.
ولا ينبغي أن يعتقد الناظر في هذا الفصل الاطلاع على كل ما [انتهينا] (2) إليه؛ فإن تمام البيان في آخِره.
__________
(1) في الأصل: وإن.
(2) في الأصل، (هـ 2) : انتهى.(5/348)
وهذه الطريقةُ تُباين طريقةَ شيخنا مباينةً ظاهرةً في قاعدة التفريع؛ فإن شيخنا كان يحكم بالتحالف إذا حلَفَا يميني النفي، وهؤلاء لم يحكموا بالتحالف بجريان يميني النفي، بل عرضوا يمينَ الإثبات على الجانبين، فلا تحالف عندهم، إلا بيمينين من كل جانبٍ: إحداهما - على النفي، والأخرى على الإثبات. ولكنهما لا يُجمَعانِ في دفعةٍ بشخصٍ، بل يعرَضانِ في دفعتين، فإذا تَمّ يمينا النفي، أعيد يميناً الإثبات.
هذا وإن كان فيه بعضُ البعدِ فلا يَبعُد احتماله على حالٍ.
3271- وأما إشكال هذا الفصل في (1) شيء: وهو أن هؤلاء يقولون: إذا حلفا يميني النفي، وحلف الأول يمينَ الإثبات، ونكل الثاني عن يمين الإثبات، فقُضي للحالف على الإثبات بمُوجَب إثباته.
وهذا مشكل، فإنَّ الذي حلف على الإثبات يمينه معارِضة يمينَ الأول على النفي على المضادّة المحققة، فالقضاءُ بيمين الإثبات مع جَريان يمينٍ على نفي هذا الإثبات مشكل. ووضعُ الخصومة على أنا إنما نحكم باليمين المثبتة للمدعي إذا نكل خصمُه عن يمين النفي.
ومثلُ هذا التفريع لا يجري في طريقة شيخنا؛ فإنه يجعل التحالفَ على النفي تاماً في اقتضاء الفسخ، أو الانفساخ، فلا يتفرع بعد التحالف على النفي عرضُ يمينِ الإثبات.
فإن قيل: قد ذكرتم الطريقتين، فما الذي يصح على السَّبرِ منهما؟ قُلنا: الأصح طريقةُ شيخنا؛ فإنه لما فزَعَ على اليمينين، ردَّ الأمرَ إلى قياس الخصومات، واكتفى في إثبات التحالف بالتناقضِ والتحالفِ في النفي، فاستدَّ التفريع جارياً على القياس.
ولا يتطرق إلى طريقته إلا شيءٌ واحدٌ، وهو أنهُ قال: إذا نكل البادىء، حلف الثاني يميناً واحدة. وهذا حسنٌ منقاس؛ فإن الثاني واقفٌ في مقام من يحلف يمين الرد.
ولكني كنتُ أحب أن يقول: يقتصر هذا الثاني على الإثبات، ولا يتعرضُ للنفي
__________
(1) جواب (أما) بدون الفاء.(5/349)
جَرياً على قياس الخصومات؛ فإن من ادّعى شيئاً على إنسان، فأنكره، ثم انتهت الخصومةُ إلى ردَّ اليمين إلى المدّعي. فإنه لا يزيد على إثبات دعواه.
ولكن كان شيخُنا يقول: نجمع في يمين واحدة بين النفي والإثبات.
وأما أصحاب الطريقة الأخرى، فإنهم بنَوْا ما رتَّبوه على أن النفي والإثباتَ لا بدّ منهما، ولا يتتم الأمر دونهما، وزعموا أنا وإن قلنا بتردد اليمين، فلسنا نعدد الخصومةَ، ولكن نقول: التَنازعُ في قضيّةٍ واحدة مشتملةٍ على النفي والإثبات، فاليمين متعددةٌ، والخصومة [متّحدةٌ] (1) ، وقالوا على حسب ذلك: إذا حلفا على النفي، ثم عرضنا يمين الإثبات على البادىء، فحلف، فعرضناها على الثاني، فنكل، فنكوله عن يمين الإثبات آخراً رجوعٌ منه عن اليمين على النفي أولاً؛ فإن الخصومة متَّحدة، فيقع القضاءُ للحالف على الإثبات، بعد بطلان يمين الثاني في النفي والإثبات.
ومساقُ كلامهم أن تعدد اليمين كاتحاد اليمين على القول الأول، فلو نكل أحدُهما عن الإثبات، وحلف على النفي، كان نكولُه عن معنى الإثبات نكولاً عن معنى النفي. كذلك القولُ في النفي والإثبات المدرجين في اليمينين.
وهذا الذي ذكرناه لهؤلاء تكلّفٌ؛ فإن اليمينين مشعرتان بمقصودين. فهؤلاء المفرعون على قول اليمينين طَمِعُوا أن يستصحبوا سرَّ قولِ اتّحادِ [اليمين] (2) ، فإن ذلك القولَ في اتحاد اليمين مأخوذ من اتحاد الخصومة. فإذا فرضنا غرضينِ ويمينين ونكولاً عن النفي، ويميناً ممحَّضَةً للإثبات، فلا يستدُّ عليه إلا طريقةُ شيخنا.
وقد نجز القولان وتفريعهما، واختلافُ الطرق في مأخذ الكلام.
3272- فإن قيل: ذكرتم التفصيل فيه إذا تحالفا، وبينتم حلف أحدهما ونكولَ الثاني، فبيّنوا الحكم فيه إذا ارتفعا إلى مجلس القاضِي وتداعَيا على التناقض، وآل الأمرُ إلى اليمين، فنكلا جميعاً. كيف السبيل فيه؟ قلنا: لم يتعرض أئمة المذهب في
__________
(1) في الأصل: متجددة.
(2) في الأصل: اليمينين.(5/350)
مصنَّفاتهم للتنصيص على هذا. والقول في ذلك بَيْن احتمالين: يجوز أن يقال: نكولهما عن اليمينين بمثابة تحالفهما؛ فإنا نجعل نكولَ كل واحد منهما عن اليمين التي ترتد إليه بمثابة حَلِف صاحبه، وينتظم منه تنزيلُ الأمر منزلة ما لو حلفا. وهذا يعتضد بمعنى فقهي يختص بما نحن فيه، وهو أن سبب إنشاء الفسخ أو الانفساخ تعذُّرُ إمضاءِ العقد في استواء المتداعيين على التناقض. وظُهورُ ذلك في مجلس الحكم، وهذا يتحقق بنكولهما كما يتحقق بتحالفهما. وكان [لا] (1) يبعد أن يقال: إذا تحالفَا، وقفت الخصومةُ، وحُمِلا على الوقف إلى أن يتقارَّا، فإذْ (2) لم نقل هذا، دَلَّ على أنّا [لا] (3) نتركُ الخصومةَ ناشبة، ولا ندعهما على التخاصم.
وقد ذكر شيخي في طريقه صورةً تعضد ما ذكرناه، وهي أنه قال: لو حلف أحدُهما على النفي تفريعاً على قول تعدد اليمين، وعرضنا اليمين على الثاني، فنكل، فرددنا اليمينَ على البادىء ليحلف على الإثبات يمينَ الردّ، فنكل. قال: نجعل هذا بمثابةِ التحالف، فإن نكولَ البادىء عن اليمين بمثابة حَلِف صاحبه. وهذا أصل ممهَّد في الدعاوي عندنا، وهو أن نكول المردود عليه عن يمين الردّ بمثابة حَلِف الناكل أولاً.
فإذا كان ما ذكرنا في طريق شيخنا كالتحالف، فلا يبعد أن نجعل نكولهما كتحالفهما، ولا نعدَم أمثلةَ هذا على بُعدٍ. فالنكاح على قولٍ يرفعه الحكمان إذا أعضل فصلُ الخصومة. وإذا تداعى رجلان مولوداً يحتمل أن يكون من أحدهما أريناه القائف، ولو تناكراه، أريناه القائف كما لو تداعياه.
هذا وجه.
ويجوز أن يُقال: لا فسخ، ولا انفساخ إذا لم تجرِ يمينٌ فإن التعويل في الباب على ألفاظ الرسول عليه السلام، وجُملة ما نقله الرواة مقيَّدٌ بالتحالف، فإذا لم تجر يمين أصلاً، فكأنَّهما تركا الخصومةَ (4 ولم يُنهياها نهايتَها والفسخ منوط بنهايةِ الخصومة 4) . وقد رأيتُ ذلك في بعض تصانيف المتقدمين. والعلم عند الله.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في (هـ 2) ، (ص) : إذا.
(3) ساقطة من الأصل.
(4) ما بين القوسين ساقط من (ص) .(5/351)
فصل
كتاب البيع باب اختلاف المتبايعين
3273- إذا جرى التحالف على الوصف الذي ذكرناه، فالقول بعده فيما يصير العقد إليه.
فظاهر نص الشافعي أن العقد لا ينفسخ، ولكن يُنشأ فسخه، ووجه ذلك بيّن؛ فإنه لا يتحقق بالتحالف إلا تعَدُّرُ إمضاءِ العقد، لو أصرّا على اختلافهما. ولا بأس من أن يصدّق أحدُهما الثاني، فلا معنى للحكم بالانفساخ. ولكنا نقول لكل واحد منهما: إما أن توافق صاحبك وتصدُقَ إن كنتَ الكاذب. وإما أن تفسخ العقد.
وذكر بعض أصحابنا قولاً اَخر مخرّجاً: أن العقدَ ينفسخ. وهذا القول منسوبٌ إلى أبي بكرٍ الفارسي، وفقهُه عندي أن العقد إذا انتهى إلى التنازع في المعقود عليه، فنجعل كأن العقدَ فُرض إنشاؤه مع الاختلاف في المعقود عليه، ولو كان الأمر كذلك لما انعقد العقد. فإن أفضى الأمر إلى هذا وتأكد بالأيمان، قدَّرنا كأن صيغةَ العقد كانت على الاختلافِ، وصيغةُ هذا المذهب المنسوب إلى الفارسي تُشعر بأنّا نتبيّن أن لا عقد استناداً.
وهذا ضعيفٌ.
ولا خِلافَ أن الزوائد التي حدثت بعد العقدِ وقبل التحالف مقررةٌ على المشتري، وكذلك لا خلاف أن المشتري لو كان تصرف تصرفاً مزيلاً للملك، ثم فرض الاختلاف من بعدُ، فلا نتبيَّن فساد العقد وارتفاعَه.
وذكر الشيخ أبو علي في تفريع مذهب الفارسيّ أنا نتبين فسادَ التصرّفات التي جَرت قبل التحالف. وهذا وفاءٌ بحق التبيُّن والإسناد، ومَصيرٌ إلى أن نجعل كأَنَّ العقد لم يَجْرِ، وهذا يتضمن ارتدادَ الزوائد إلى البائع لا محالةَ. هكذا ذكر الشيخ أبو علي.
ولو قيل: التحالف يوجب الانفساخَ، لأمكن تقريرُ وجهٍ فيه، من غير ردَّ الأمر إلى تقدير وقوع العقد كذلك؛ فإنَّ استحقاق إنشاء الفسخ إن نيط بالتحالُفِ، فغيرُ بدع أن تناط به عين الانفساخ.(5/352)
وهذا على بعده أمثل مما ذكرناه.
التفريع:
3274- إن حكمنا بأن الفسخَ يُنشأ، فقد اختلف أصحابنا فيمن يتولاه: فمنهم من قال: يتولاه الحاكم أو من يفوِّض الحاكمُ إليه.
ومنهم من قال: يتولاه المتعاقدان. وهذا الوجه الأخيرُ أفقهُ؛ فإن التحالف تحقق جريانه، وهو المعتبر في إثبات حق الفسخ، ولا يبقى بعد جَريانه مضطرَبٌ لنظر الحاكم، فتعليق الفسخ [بإنشائه] (1) بعيدٌ في المعنى، وإن كان مشهوراً في الحكاية.
ثم حكى أئمتُنا أن البائع إذا كان يفسخ البيعَ بسبب إفلاس المشتري بالثمن ووجود (2) عين المبيع، فهو الذي يفسخ. قطعوا بهذا. وهذا حسن. وإفلاس المشتري إن كان مجتهداً فيه، فالحجر مطَّرِد عليه والتعذر متحقق. وإن لم نتحقق في علم الله الفَلَس.
وقال بعض الأصحاب: القاضي هو الذي يفسخ النكاح عند تحقق العُنَّة وجهاً واحداً، والزوجة تتعاطى الفسخ بالإعسارِ بالنفقة. ولستُ أرى بين العُنَّةِ والإعسار فرقاً؛ فإن الأمرين جميعاً متعلقان بالاجتهادِ، فليخرَّج الأمرُ فيهما على التردد الذي ذكرناه في التحالُفِ، والقياس في الجميع أن الفسخ لا يتوقف على إنشاءِ القاضي.
نعم، لا بد من حكمه بثبوت العُنّة والإعسار. ولا حاجةَ إلى حكمه بعد التحالف.
وأما فسخ البائع بسبب الفلسِ، ففيهِ مزيدُ (3) نظَرٍ، سنذكرهُ في كتاب الحجر، إن شاء الله عز وجل.
3275- ثم إذا ثبت ما ذكرناه في الفسخ والانفساخ، فالقول بعده في الظاهرِ والباطنِ. فإن حكمنا بالانفساخ، نفذ ذلك ظاهراً وباطناً عُقيبَ التحالف، ولا حاجةَ في هذا القولِ إلى عرض الأمر على المتعاقدَيْن بعد التحالُف.
وإن قُلنا بفسخ العقد، وهو المذهب، فالفسخ ينفذ ظاهراً وباطناً أم ينفذ ظاهراً
__________
(1) في الأصل: ما تشابه.
(2) في الأصل: ووجوده.
(3) ساقطة من (هـ 2) .(5/353)
والكاذب مؤاخذٌ بعُهدة العقد بينه وبين الله تعالى؟ قال الأئمة: إن كان المشتري كاذباً، وكان الثمن ألفين، وهو منكرٌ لألفٍ واحدٍ، فإن جرى الفسخُ، انفسخ العقد ظاهراً وباطناً، ونزل التعذُر المترتب [على التحالف، منزلةَ التعذّرِ المترتب] (1) على الفَلَس؛ فإنّ البائع يقدر على بعض من الثمن، لو رضي بالمضاربة والمخاصَمة، فجعل تخلّفَ بعضِ الثمن عنه مُسلِّطاً على الفسخ والرجوع إلى المبيع ظاهراً وباطناً.
وإن كان البائع كاذباً والتفريع على إنشاء الفسخ، فهل ينفسخ العقد باطناً؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - أنه ينفسخ باطِناً؛ لأن صورة التحالف تقتضي رفعَ العقد إذا أصرَّ المتعاقِدان المتحالفان.
والوجه الثاني - أن الفسخ لا يقع باطناً؛ فإن البائع هو الكاذب، والتعذُّر راجع إلى جهة المشتري، وليس لهذا النوع من التعذّر نظيرٌ يثبت حقَّ الفسخ، كما ذكرنا نظير الفلسِ في جانب المشتري.
وحق الناظر أن يحوي (2) هذه الفصول ويَعيها.
وتمامُ البيان في نجازها.
وذكر شيخي أبو محمد رحمه الله طريقةً أخرى فقال: إذا كان البائع كاذباً، فلا ينفسخ البيعُ باطناً وجهاً واحداً. وإن كان البائع صادقاً والمشتري كاذباً، ففي الانفساخ باطناً وجهَانِ.
والطريقةُ المشهورةُ ما قدَّمناها، والبيان بين أيدينا بعدُ.
3276- فنقولُ: في هذا الفصلِ مباحثةٌ جليَّةٌ أغفلها الأصحاب. ونحن نأتي عليها بعون الله تعالى فنقول:
أولاً - ذهب ذاهبون إلى أن القاضي هو الذي يتولى الفسخَ، كما تقدّمَ، وسببُه أنه مادام يرجو تصديقَ أحدهما الآخر، فإنه لا يفسخ، فدرْكُ ذلك الوقت إلى نظرهِ، فكان (3) هو المتعاطي للفسخ.
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) في (ص) : يجري.
(3) في (هـ 2) ، (ص) : وكان.(5/354)
فلو قالَ المتعاقدان: لا نريد أن نفسخ، ونحن على خصامِنا نتنازع، فالقاضي يفسخ.
وإن قالا: أعرضنا عن الخصومة، ولم يصدّق أحدُهما صاحبَه. ولكن زعم المشتري أنه تَركَ المبيع في يدِ البائع، وقالَ البائع لستُ أطالبُ المشتري بالمزيد الذي ادّعيته، فاتركنا ولا تفسخ العقدَ بيننا. فللأصحاب في هذا لفظٌ ننقله، ثم ننظر.
قالوا: "إذا جَرى التحالفُ، فإن رغب أحدُهما في الأخذ بقول صاحبهِ، فذاك، وإلاَّ فسخ بينهما للتعذر".
وظاهر هذا يدل على أن أحدهما إن صدَّق الآخر، اندفع الفسخ. وإن لم يجرِ من أحدهما تصديقُ الآخر، فالقاضي يفسخ.
ولكن في كلام الأصحاب ذكرُ التعذر، فإنهم قالوا: "فسخ للتعذر" والمسألةُ على الجملة محتملةٌ إذا أعرضا وقطعَا الطَّلِبة، فيجوز أن يقال: يقطع القاضي مادَّة الخصومة بالفسخ؛ فإنّه لا يأمن أن يعودا في مستقبل الزمان. وإنما تنقطع مادةُ الخصام بالتصادق على قولٍ أو بالفسخ.
ويجوز أن يقال: إذا أعرضا، فلا تعذُّرَ، وإنما التعذُّر إذا كانا على التآخذ والمطالبة، وقالا للقاضي: وفِّ حَقَّ كُلِّ واحدٍ منَّا على ما يليق بالحال، أو التَمسا الفسخَ، فيبعدُ (1) أن نحكم بوجوب الفسخ.
فهذا تردد واقع.
ثم نقول: إن كان الفاسخ هو القاضي، فالذي ذكرهُ الأصحابُ في الظاهرِ والباطنِ مفهوم.
وإن قلنا: الفسخ إلى المتعاقدَيْنِ، فإن توافقَا على الفسخ، فلا شك في انفساخ العقد باطناً، ولا يجوز أن نقدِّر في هذا خلافاً؛ فإنهما إذا تفاسخا، فقد جَرى الفسخُ من صَادقٍ محق، فيجب القضاءُ بتنفيذ فسخه، سواء كان ذلك المحق البائع أو المشتري. فإن كان المحق هو البائع، فهو مشبهُ بمسألة الفلس. وإن كان المحق هو
__________
(1) في الأصل: ويبعد.(5/355)
المشتري، فالمبيع لم يسلم له بالثمن الواقع في علمِ الله تعالى.
وإذا تعذَّر استيفاءُ المبيع على الجهة المستحقَّة في العقد، فثبوت الخيار للمشتري أَوْجَه؛ فإنّ من لم يُثبت الخيارَ للبائع بعذر الفلس، أثبت الخيار للمشتري بتعذّراتٍ تطرأ على المبيع.
3277- وتمام البيان في هذا أنا إذا قلنا: يثبت حق الفسخ لهما لا نشترط أن يتوافقا؛ فإنهما قد لا يتوافقان. وتبقى الخصومة ناشبة بينهما. ولكن من ابتدرَ إلى الفسخ منهما يحكم به [أولاً] (1) في ظاهرِ الأمرِ.
ولكن إن كان الفاسخ مُحقّاً فالوَجه تنفيذ الفسخ باطناً. وإن كان مبطلاً، فالوجه: القطع بأنه لا ينفذ الفسخ باطِناً. والوجهانِ يختصان بفسخ القاضي؛ فإنّ فسخه يرجع إلى مصلحة، فإن تخيلنا نفاذه باطناً، فمن هذه الجهة. وهذا لا يتحقق فيهِ إذا كان (2) أنشأ المبطِل الفسخ.
وتمام البيان أنا إذا قلنا: لا ينفذ الفسخ باطناً على وجه فيهِ إذا تولَّى القاضي الفسخَ، فهل يثبت للمحق من المتعاقدين أن يفسخ ويوافقَ القاضي؟
هذا فيه احتمال؛ من جهة أنا إذا فوَّضنا إلى القاضي، فلا يمتنع أن لا يثبت للمتعاقدَيْن فيه سلطنة. ولكن الظاهر أنه ينفذ فسخ المحق باطناً، وإن كان لا يستقلّ به في الظاهر. هكذا ذكره شيخي.
والدليل البات فيه أنا إذا لم نثبت هذا المسلكَ، لما كان في الحكم بالفسخ ظاهراً فائدة.
ولكن يُعنَى من الفسخ زجرُ القاضي إياهما عن التآخذ. هذا منتهى [البيان] (3) ولم نخالف الأئمَّةَ، ولكنهُم لم يبحثوا، ونحن بنينا البحث على ما تلقيناه منهم.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) ساقطة من (هـ 2) ، (ص) .
(3) في الأصل: الباب.(5/356)
فصل
3278- إذا اختلف المتبايعان والسلعةُ قائمة، لم يلحقها عيب، تحالفَا وتَرادَّا، على ما سَبق تفصيل الفسخ والانفساخ. وإن لحق السلعةَ عيب نقصَ من القيمة وفُسِخ [العقدُ] (1) ، استردَّ البائعُ السلعةَ، وغرِم المشتري أرشَ العيب.
والأصل المعتبرُ في هذا وأمثالِه أن السلعةَ لو كانت تالفة، فالفسخ يجري بسبب التحالُف بعد تلفها عندنا؛ فإن معتمدَ الفَسخ التنازُعُ في العقد، والتنازُع واقع والعقد دائم، فيترادّانِ، ويستردُّ البائعُ قيمةَ المبيع ويردُّ الثمنَ. فإذا [كان] (2) يغرم القيمةَ عند تقدير التلف، يغرم أرش العيب عند ثبوت العيب، وكل يدٍ تضمن القيمةَ عند الفوات، تضمن أرشَ النقصان عند النقصان. وهذا مطَّرد، ولا يجوز أن يُعتقدَ خلافُه. وهو منعكس؛ فإن المبيع إذا عابَ في يد البائع، لم يلتزم البائعُ للمشتري أرشَ العَيبِ؛ لأن المبيع لو تلف في يَده، لم يلتزم قيمتَه، بل الحكم بالانفساخ.
ولا يُمكننا أن نُثبتَ في العَيب الانفساخَ؛ فإن الفائت بسبب العيب جزءٌ ليس مقصوداً مفرداً على حيالهِ، فكان أقربُ الأمور تخييرَ المشتري في الفسخ.
3279- وذكر الشيخ أبو علي بعد تمهيد ما ذكرناه في الطرد والعكس مسألة، ظاهرها يخالف ما مفَدناه. وهي أن من عَجَّل شاةً عن الزكاة قبل وجوبها، ثم تلف مال المعجِّل قبل حلول الحول؛ فإنه يسترد على تفصيلٍ، سبق ذكره، فيسترد الشاةَ من المسكين، إن كانت قائمة، وإن كانت تالفة، رجع عليه بقيمتها، وإن كانت باقيةً ولكنها عابت في يد المسكين، قال الشافعي: يُخرج الإمامُ من المال العام أرشَ النقص، ويضمُّه إلى الشاة، ولا يكلف المسكين غُرمَ العيب. وهذا بظاهِرِه يخالف ما مهَّدناه من إتباع الأرش القيمةَ.
وذهب بعض أصحابنا إلى القول بظاهر النّص. وهذا خيالٌ لا أصل له. والوجْهُ
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في الأصل: فإذا لم يغرم ...(5/357)
حملُ نصِّ الشافعي على الاستحباب عند اتساع المالِ. ثم هذا يجري في القيمة لو تلفت الشاة.
فلو كانت الجارية المبيعةُ خليةً عن الزوج حالة العقدِ، فزَوّجها المشتري، ثم فرض التحالف والفسخُ، فالتزويج عيبٌ.
قال الشيخ أبو علي: لو اشترى عبداً، ثم أذن له فزَوَّجه (1) ، فتزويجُه عيبٌ؛ فإنه يشغل كسبَه وتنقص الرغبةُ فيه، وهذا بيّن.
ثم إن جرى التفاسُخُ والسلعةُ تالفةٌ، فالرجوع إلى القيمة.
3280- ثم اضطربَ الأصحاب في الوقت الذي يعتبر فيه قيمة السلعة، فذكر العراقيون قولين: أحدهما - أنا نعتبر قيمة التالف؛ فإن القيمة تخلُفُ العينَ ومورد الفسخ العينُ لو بقيت، فإذا فاتت، فنعتبر القيمةَ من وقت فواتِها.
والقول الثاني - أنا نعتبر أقصى قيمةٍ من يوم القبض إلى يوم التلف؛ فإن البائع يبغي العينَ، وكان تقدير الفسخ ممكناً في كل وقتٍ من القبض إلى التلف، فتعتبر أرفع قيمةٍ.
وذكر شيخي قولاً ثالثاً، وهو أنا نعتبر قيمةَ يوم القبض؛ فإنها أولُ دخول المبيع في ضمان المشتري، فلا ننظر إلى زيادةٍ بعد ذلك أو نقصان؛ فإن الزيادة إن كانت، فهي على ملك المشتري. والنقصان إن كان، فهو من ضمانه.
وذكر بعض الأثْباتِ (2) قولاً رابعاً: وهو أنا نعتبرُ أقل قيمةٍ من يومِ العقدِ إلى يوم القبض. فإن كانت قيمته يوم العقد أقل، فالزيادةُ على ملك المشتري، وإن كانت يوم القبض [أقلَّ] (3) ، فهي المعتبرة، فإنها قيمةُ يوم الضمان. وأما ما يكون بعد ذلك من زيادة ونقصان فهما غير مُعتبَرين كما قدَّمناه. وهذا أضعف الطرق؛ فإن إدخالَ يوم العقد في الاعتبار بعيدٌ في هذا المقام.
__________
(1) في (هـ 2) : فزوّج. وسقطت من (ص) .
(2) في (ص) : الأصحاب.
(3) سقطت من الأصل.(5/358)
وقد قدمنا في باب الخراج بالضمان اختلافاً في قيمته، وذلك الاختلافُ يباين ما نحن فيه. ولا نجد بداً من إعادة تصوير ما مضى، ليتبين الفرقُ بين المقامَيْن للناظر.
ذكرنا أن من اشترى عبدين، وتلف أحدُهما في يدهِ ووجد بالثاني عيباً، وفرَّعنا على أنه يُفرِد العبدَ الموجود بالردّ، ويستردّ قسطاً من الثمن، وسبيلُ التقسيط توزيعُ الثمن على قيمة التالف والباقي، ثم قيمةُ التالف في غرض التوزيع بأيّ يوم تعتبر؟ فيه أقوال: أحدها - أنا ننظر إلى قيمةِ يوم البيع؛ فإنا نحتاج إلى التوزيع ومعناه بيان ما وقع من المقابلةِ (1 والتقسيط ابتداء 1) .
والقول الثاني - أنا نعتبر حالة قبض المشتري؛ فإن المبيع عندها يدخل في ضمانهِ.
والقول الثالث - أنا نعتبر الأقلَّ من يوم البيع إلى القبض.
وقد وجَّهنا هذه الأقوالَ. وليست القيمةُ فيها على نسق القيمة التي يغرمها المشتري عند التحالف؛ فإن تلك القيمةَ لم نثبتها ليغرم، وإنما قدرناها ليطلع (2) بها على حقيقةِ التوزيع. وهذا يستدعي لا محالة نظراً إلى يوم العقد.
وقد يَظُن ظان أن الاعتبار بأول حالِ الضمانِ، فعنده قرار (3) الضمان. فأما اعتبار التلفِ، فلا يقتضيه هذا الأصل. والقيمة في مسألَتِنا مغرومة، فاعتبار العقد فيها بعيدٌ، واعتبار التلف قريب. فليفصِل الناظر بين البابين.
وإذا قلنا: لا يرد العبدَ القائمَ إلا مع قيمةِ التالف، فيضم القيمةَ إلى العبدِ القائم (4) ، ويسترد جملةَ الثمن، فقيمة العبد التالف مغرومة مبذولة، والتفصيل فيها كالتفصيل في السلعة التالفة، إذا كان المشتري يغرَم قيمتها بعد التحالف.
فهذا تمام ما أردناه في ذلك.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ص) .
(2) في (هـ 2) ، (ص) : حتى يطلع.
(3) في الأصل: قرر.
(4) في (هـ 2) ، (ص) : الباقي.(5/359)
3281- ولو اختلفَ المشتري الغارم في مسألة التحالف والبائعُ المغروم له في مقدار القيمة، فالقولُ قولُ الغارم. وهذا أصلٌ تمهّد، نبهنا عليه فيما تقدَّم.
ولو اشترى عبداً وقبضه وأَبِق من يده، ثم اختلفا وتحالفا، فالفسخ جارٍ؛ فإنه إذا كان لا يمتنع الفسخ بتلف المعقود عليه، فلا يمتنع بإباقه والعجزِ عن تسليمه. ثم إذا نفذ الفسخ، غرِم المشتري قيمةَ العبدِ؛ فإن كل من يغرِم عيناً لو تلفت بقيمتها، يغرِم قيمتَها عند وقوع الحيلولة فيها.
ثم العبد في إباقه ملك من؟ المذهب الأصح أنه ملك البائع، والفسخ نقضَ الملكَ فيه إلى البائع، والقيمةُ التي أوجبناها سببها الحيلولةُ. فعلى هذا إذا عادَ العبد تعين رَدُّه، ثم القيمةُ مسترَدَّةٌ وينْزل (1) إباق العبدِ فيما نحن فيه منزلةَ إباق العبد المغصوب؛ فإن الملك فيه للمغصوب منه، ولكن القيمةَ تلزم الغاصبَ؛ لمكان الحيلولة. وإذا عاد العبدُ ردّه الغاصبُ واستردّ القيمةَ. هذا وجه.
ومن أصحابنا من قال: الملك في العبد الآبق لا يرتد إلى البائع، والفسخ لا يَرِد على الآبق وإنما يرِد على القيمة كما يَرِد عليها إذا كان المبيع تالفاً؛ وذلك لأن الفسخ يستدعي مورداً ناجزاً، والذي تنجز فيه لا يغيّر، ولا يحال.
والأصح الوجه الأول.
ونحن نقول في الوجه الثاني إن الفسخ إذا ألزم المشتري القيمةَ، أبقى عليه ملك العبدِ الآبق.
ولو أعتق المشتري العبد المشترَى، أو كان اشترى جارية واستولدها، فالعتق والاستيلاد بمثابة التلف، وقد تقدم تلف المبيع. ولو كان اشترى عبداً، فرهنه وأقبضه أو كاتبه كتابةً صحيحة، ثم جرى التحالُف فالفسخ، فالمشتري مطالبٌ بالقيمة لا محالة، كما لو أبق العبد.
3282- ثم اختلفَ الأصحاب في أن الملك هل ينقلب في رقبةِ المرهون والمكاتب إلى البائعِ؟ فمنهم من قال: ينقلب إليه، ولكن على المشتري القيمةُ لمكانِ
__________
(1) في (هـ 2) ، (ص) : يتنزل.(5/360)
الحيلولة. والتفريع عليه كما تقدَّم في العبدِ الآبق.
ومنهم من قال: يَرِدُ الفسخُ على القيمة، ولا معدل عنها، ولا ينقلب الملك في الرقبة إلى البائع.
وكان شيخي يردد جوابه في الآبق على نحو ما سبق، ويقطع بأن الفسخ يَرِد على القيمةِ في المكاتب والمرهون؛ فإن المرهون خارجٌ عن قبول التصرف بجهة الردِّ، والمكاتَب كذلك. ونحن إنما نمنع بيعَ الآبق للعجز عن تسليمه لا لنقصٍ في ملكِ الرقبة. وكان يعضد ذلك، ويقول: إذا باع رجل عبداً وسلمه، ثم أفلسَ المشتري بالثمن والعبدُ آبقٌ، فللبائع الفسخُ، ويرجع إليهِ الملكُ في رقبةِ الآبق. ولو كان رهنه المشتري، أو كاتَبه، فليس للبائع ردُّ الملكِ في المكاتب والمرهون إلى نفسه.
وهذا عندنا حسن بالغ؛ فإن الرهن إذا كان لا ينفك، فيتعين أن يبقى مملوكاً للراهنِ، وكذلك القولُ في الكتابة. وإذا بقي مملوكاً له حالةَ نفوذ الفسخ، فيستحيل أن يتغير هذا بعد الفسخ.
3283- ولو اشترى عبداً وأجّره، ثم جرى التحالف. فإن قلنا: الإجارةُ لا تمنعُ صحَّة البيع، وَرَدَ الفسخُ على رقبة العبدِ. وإن قلنا: الإجارةُ تمنع صحةَ البيع، فهذا فيه احتمال عندي يجوز أن يقال: يُنْحى بالعبد المستأجَر نحو الآبق؛ فإن البيعَ يمتنع فيه، لا لحقِّ المستأجر في رقبته -[وموردُ] (1) البيعِ الرقبةُ- وإنما امتنعَ البيعُ ليد المستأجر، ومَنع الشرع من إزالتها، وليس كذلك المرهون؛ فإن للمرتهن حقّاً في مَاليَّه الرقبة، وكذلك (2) َ القول في المُكاتَب.
هذا وجهٌ من الاحتمال، وهو الأظهرُ.
ويجوز أن يقال: العبد المستأجَر كالمرهون والمُكاتب.
هذا بيان هذا الفن.
وعَبَّر الشيخ أبو علي عن هذا الغرض بعبارةٍ أُخرى، فقال: لو اختار البائع الفسخَ
__________
(1) في الأصل: وهو رد.
(2) في الأصل: وليس كذلك.(5/361)
والرجوعَ إلى القيمةِ، فله ذلك، ولو قال: أصبرُ حتى يفك الرهن، فله ذلك.
وهذا عندنا يخرّج على ما ذكرناه، فإن عجَّل الفسخ وأَرادَ القيمة، أُجيب إليها، ثم القول في أن المرهون عند انفكاكِ الرهن هل يعود إليه؟ على ما مضى. وإن لم يُرِد القيمةَ، وقال: أؤخر حقّي إلى انفكاكِ الرهن، فهذا نخرّجه على الخلافِ المقدَّم.
فإن قلنا: الملك في المرهون ينقلب إليه، فله أن يؤخر طلبَ القيمة.
وهذا يبنيه أصل، وهو أن كلَّ ما يجب بدلُه لمكان الحيلولة وكان زَوالُها ممكناً، فإن طلبه ذو الحق، لزم إسعافُه، وإن لم يطلبه، فأراد الضامن أن يجبره على قبوله، لم يكن له ذلك. وليس كما لو أراد من عليه دين مستقر أن يجبر مُستحِقّه على قبولهِ، فإن الأصح أنه يُجبرُ على القبول.
فنقول في مسألتنا: إن قلنا: أصلُ حق البائع القيمةُ، ولا مَعْدِل عنها، فيظهر إجباره على قبولها، على قولٍ؛ قياساً على الديون كلها. وإن قلنا: القيمة تثبت للحيلولة، فلا يُجبر البائع على قبولها.
3284- فرع لابن الحدَّاد بناه على صورة التحَالف، ولا اختصاص له بمقصود الباب. ونحن نذكر غرضه على الإيجاز [والاختصار] (1) ونتعدَّاه.
فإذا تحالف المتعاقدان، وفرَّعنا على أن العقدَ يُفسخ ولا ينفسخ، فلو قال البائع قبل إنشاء الفسخ: هذا العبد حرٌّ إن صدق المشتري. وقال المشتري: هذا العبد حرٌّ إن صدق البائع. فإذا جرَى هذا [منهما] (2) بعد التحالف، ثم أنشأ القاضي الفسخ، نفذ الفسخُ، وحكمنا بأن العبد حر على البائع في الظاهر. وسبب ذلك أن المشتري قال قولاً لو كان كاذباً فيه، لعتق العبد، والبائع ادّعى كذبه وحلف عليه، فيجتمع من تكذيب البائع إياه، ومن قول المشتري: هو حُرّ إن صدق البائع كونُ الحرّيةِ حاصلةً على موجَب قول البائع، وهو مؤاخذ بإقراره. فهذا إذن عتقٌ محكومٌ به، ونفوذه في الباطن موقوف على موجَب علم الله.
__________
(1) زيادة من (ص) .
(2) في الأصل: مبهماً.(5/362)
فإن كان المشتري كاذباً، فالعتق واقعٌ لا محالةَ، وإن كان صادقاً، لم يقع باطناً، ولكن حُكم به ظاهِراً، من قِبَل أن العبد ارتد إلى البائع، فكان مؤاخذاً بموجَب أقوالهِ السابقة فيه.
وهذا بمثابة لو قال رجل: أعتقَ فلان عبده، فلو اشتراه هذا القائل، نفَّذنا العقدَ، وحكمنا بنفوذ العتق عليه ظاهراً؛ فإنه لم يقبل قولُه في حق البائع؛ فهو مؤاخذ بحكم قول نفسه، وهذا واضح لا يُحتاج فيه إلى تكلّف بيان.
ثم ولاءُ هذا العبدِ مشكل، ليس يدَّعيه البائع لنفسه من قِبَل أنه يقول: عَتَقَ هذا العبدُ على المشتري، فالولاءُ له، والمشتري يأباه؛ فكان الولاءُ موقوفاً. ولهذا نظائر ستأتي في كتاب الولاءِ، إن شاء الله.
ولو لم يفسخ العقد، وقال المشتري بعد جريان التفاوض الذي ذكرناه بينه وبين البائع: قد صدق البائع. فنقول: العقد يقرَّر بينهما، والعتق ينفذ على المشتري تحقيقاً إن صدق في تصديق البائع، والولاء له في ظاهِر الحكم.
ولو قالَ البائع قبل إنشاءِ الفسخ: صدق المشتري فيما ادَّعاه، فالعقد يقرَّر على موجب قول المشتري ولا ينفذ العتق على المشتري، وقول البائع لا يوجب العتقَ في العبد المبيع، فإنه ملكُ المشتري. نعم لو عادَ هذا العبد يوماً إلى البائع، فنحكم إذ ذاك بأنه يعتِق عليه، كما تمهَّد.
ولو قال المشتري بعد ما جرى منهما من تعليق العَتاقة: قد صدق البائع، فينفذ العتقُ على موجَب قوله، وتلزمُه القيمةُ للبائع عند التفاسخ؛ فإنه أعتق العبدَ بتعليقه السابق، وتصديقه اللاحق.
وبالجملة لا إشكال في أطراف المسألة كيف رُدّدت.
فرع:
3285- إذا اشترى الرجل جارية وقبضها، واختلف المتبايعان، وترافَعا إلى مجلس الحكم، فهل يحل للمشتري وطؤُها بعد التنازع قبل التحالف؟ فعلى وجهين: أحدهما - يحل؛ فإن ملكه قائم بعدُ فيها.
والوجه الثاني - لا يحل له وطؤُها؛ فإن جهةَ الملكِ مختلفٌ فيها وإن كان أصل(5/363)
الملكِ متفقاً عليه؛ فالمشتري يزعم أنه استفاد ملكها بسبب عقدٍ ثمنُه مائة، والبائع يزعم أنه استفاد الملك بعقد ثمنه مائتان. والقولان معتبران.
وقد قال الشافعي: إذا اشترى الرجل زوجتَه على شرط الخيارِ، لم يملِك وطأها في زمان الخيارِ؛ فإنه لا يدري أيطأ زوجتَه أو مملوكتَه، والأصح تحليل الوطء.
ولو جَرى التحالفُ، فأراد الوطءَ قبل إنشاءِ الفسخ، فوجهانِ مرتَّبان على الأول.
وهذه الصورةُ أولى بالتحريم.
أما نصُّ الشافعي فيه إذا اشترى زوجتَه بشرط الخيار، فمشكلٌ جداً؛ فإنها مستحلة في كل حساب، فلا معنى للتحريم بسبب إشكال الجهةِ، إذا كان الحل يعم الجهتين.
ولو ملك الرجل جارية، وقطع بالملك فيها، وأشكل عليه، فلم يدرِ أنه اتهبها أو ورثها أو اشتراها، فالوطء حلالٌ بلا خلاف.
وسأذكر تأويل النص في كتاب الرهن إن شاء الله عز وجل.
والذي أراه في هذا الموضع أن أوجّه الوجهين بمسلكٍ آخر، فأقول: من أباح الوطءَ فوجهُ قوله بين، ومن حرَّمه فلا ينبغي أن يعتلّ بالاختلافِ في الجهة، ولكن ينبغي أن يقول: صارت الجارية مشرفةً على استحقاق الرد على البائع، فينبغي أن يمتنع على المشتري وطؤُها. وهذا بعدَ التحالف أظهر؛ من قِبلَ أنّه لم يبق إلا إنشاءُ الفسخ.
فهذا سبيل الكلام عندنا.
وسيأتي شرحُ النصّ، إن شاء الله عز وجل.
فصل
3286- إذا اختلف رجلان في عقدين مضافين إلى عينٍ واحدة، وذلك مثل أن يقول من في يده الجاريةُ: قد وهبتَها منّي وأقبضتنيها. وقال الآخرُ: بل بعتكها بكذا، فاختلافهما يتعلّق بعقدين: صاحب اليد يدّعي الهبةَ على صاحبه، وهو يُنكرها، فالقول قولُه مع يمينه في نفيها. وهو يدعي على صاحب اليد الشراءَ، وعهدتُه وثمنُه،(5/364)
وهو منكرٌ، فالقول قوله في نفيه. فإذا حلف كل واحد منهما على نفي العقدِ الذي ادُّعي عليه، انتفى العقدان، ولا حاجةَ إلى فسخٍ وقولٍ بانفساخ. هذا حكمُ الظاهر، والثابتُ باطناً ما هو صِدقٌ في علم الله من قوليهما.
ووراء ذلك نظر سيأتي في كتاب الأقارير، وهو أن صاحبَ اليدِ اعترفَ بأن الجارية كانت لصاحبه، وادَّعى انتقالَ الملك فيها إليه بطريق الهبةِ، فانتفت الهبَةُ في ظاهر الحكم بيمين منكرِها، وبقي إقرارُ منكرِ الهبة بالملكِ عن جهةِ البيع. وهذا أصل من أصول الأقارير سيأتي إن شاء اللهُ. والضبط فيه أن من أقرّ باستحقاقٍ، وعزاه إلى جهةٍ، فأنكر المقَرُّ له الجهةَ فهل يثبت له الملك في المقر به؟ وسيأتي هذا مفصلاً إن شاء اللهُ.
فصل
قال: " ولو لم يختلفا وقال كل واحدٍ منهما: لا أدفع حتى أقبض ... إلى آخره " (1) .
3287- إذا باع الرجلُ سلعة معينة [بثمن] (2) في ذمّة المشتري، ثم تنازع البائعُ والمشتري في البداية بالتسليم. فقال البائع: لا أسلّم المبيعَ حتى يتوفّر عليّ الثمنُ، وقال المشتري: لا أسلِّمُ الثمنَ حتى تسلّم إليَّ المبيعَ، فمن الذي يجاب منهما إلى ما يطلبه؟
هذا غرضُ الفصلِ. والشافعي عبَّر عنه، فقال: " ولو لم يختلفا، وقال كل واحدٍ منهما ". ومعلوم أن تنازع البائع والمشترِي في البدايةِ بالتسليم اختلافٌ. فقولُ الشافعي: " ولو لم يختلفا " معناه: لم يختلفا الاختلافَ الذي تقدَّم في مقدار الثمن وجنسهِ، بل اتفقا على صفةِ العقد، وافتتحا نزاعاً في البدايةِ، وقد حكى الشافعي أقوالاً مختلفة عن العُلماء في الكبير، فحكى عن بعضهم أنهم يجبران معاً، وحكى عن
__________
(1) ر. المختصر: 2/203.
(2) ساقطة من الأصل.(5/365)
بعضهم أنهم لا يجبران، ولكن من تبرع منهما بتسليم ما عليه أُجبر حينئذٍ صاحبُه على تسليم ما عنده. وحكى عن بعض العلماء أنه يُجبَر البائع.
والمزني لم ينقل هذه الأقاويل، ولم يصفها، واختلف أصحابُنا: فمنهم من جعل هذه المذاهب أقوالاً للشافعي.
ومنهم من خرَّج معها قولاً رابعاً، وهو أنه يُجبَر المشتري على التَّسليم ابتداء.
وهذا مخرَّج من نصّ الشافعي في الصداق؛ فإنه أجبر الزوجَ على البدايةِ بتسليم الصداق، وهو في مقام المشتري.
ومن الأئمة من قال: مذهب الشافعي أن البائعَ يجبر على البداية بالتسليم.
والشاهد له ما نقله المزني، حيث قال: الذي أحَبَّ الشافعي من أقاويلَ وصفَها، أن نأمر البائعَ [بدفع السلعةِ إليه] (1) ، ونجبر المشتري على دفع الثمن من ساعته.
ومن أصحابنا من قال: ميلُ الشافعي إلى أنهما يُجبران معاً؛ لأن المزني نقل في آخر الفصلِ عن الشافعي أنه قال: " لا ندع الناس يتمانعون الحقوق ونحن نقدر على أخذها منهم ".
3288- والطريقة المشهورة إجراءُ أربعة أقوال، وعدُّ جميعها من المذهب، ونحن نوجهها.
فمن قال: إنهما يجبران، احتج بأن كلَّ واحدٍ منهما طلب من صاحبه مقصوداً بعوضٍ يبذله له، والإنصاف التسويةُ بينهما، من غير تخصيص أحدٍ بمزيةٍ، ومقتضى ذلك إجبارهما. وهو كما لو كان له دينٌ على إنسانٍ، ولذلك الإنسان عنده عينٌ غصبها.
ومن قال: لا يجبران، احتج بأنهما أنشآ العقدَ على التراضي بينهما، فيجب أن يدوم هذا الحكم؛ فإن أحدهما لم يلتزم شيئاً إلا بعوض، ومراعاةُ التسوية حق، كما ذكرناه، فالوجه أن يقال: من تبرع بالبداية، فقد وفَّى ما عليه، فيصير ماله بعد هذا حقاً متجدداًَ.
__________
(1) في الأصل: " يدفع إليه السلعة ".(5/366)
ومن قال: يجبر البائعُ على البداية بالتسليم، احتجَّ بأن تصرّفَ البائع نافذٌ في الثمن، وتصرفَ المشترِي غيرُ نافذٍ في المبيع قبل القبض، فينبغي أن يملكَ المشتري إجبار البائع على تمكينه من التصرف، وإنما يحصل هذا بتسليم المبيع.
ومن قال بإجبار المشتري على البدايةِ، احتج بأن حقَّ المشتري متعيّن، وحق البائع مطلقٌ في الذمَّة، حتى كأنّهُ وعدٌ يجب الوفاء به، فله أن يجبر المشتري على تعيين حقَه. وقد يستدلُّ هذا القائلُ بأن الثمن في البيع على مضاهاة رأس المالِ في السلم. ثم يجبُ تقديم رأس المال.
وفيما قدمناه مقنع.
والأقوالُ الأربعةُ إنما تطّرد إذا كان المبيع عيناً، والثمن دَيناً.
فأما إذا باع عبداً بجاريةٍ، فالعوضان في شقي العقد عينان، ولا يجري في هذه الصورةِ إلا قولان: أحدهما - أنهما يُجبران. والثاني - أنهما لا يجبران.
وإذا كان التنازعُ في الصداق وتسليمهِ، وتسليمِ المرأةِ نفسَها، فلا يخرج إلا ثلاثة أقوالٍ: أحدها - أن الزوجَ يجبر على البداية. وهذا إذا رأينا إجبار المشتري على البداية.
والقول الثاني - أنهما يجبران معاً.
والثالث - أنهما لا يجبران، بل من بدأ بتسليم ما عليهِ أجبر صاحبه على تسليم مقابله من ساعته.
ولا يخرّج هاهنا قولٌ في إجبار المرأةِ على البداية؛ فإنها لو سلّمت نفسَها، لفاتَ الأمرُ في جانبها، وتلف منافعُ بُضعها على وجهٍ لا يتوقع لها مستدرك.
فهذا تأسيس الطرق (1) وتوجيه الأقوال.
والآن نفرعّ عليها، ونستعين الله.
3289- أما قولنا إنهما يجبران [معاً] (2) ، فمعناه أنهما محمولان على أن يأتيا
__________
(1) في (هـ 2) : الأقوال.
(2) ساقطة من الأصل.(5/367)
بعوضي العقد ناجزاً. فإن فعلا في مجلسٍ واحدٍ، انفصلَ الأمر، ويسلم المبيعُ إلى المشتري، والثمن إلى البائع. وقد يتأتى تحصيل الغرض بأن يأخذ الحاكم المبيعَ من البائع والثمنَ من المشتري، ويمسكه بنفسه، أو يضعُه على يد عدلٍ، حتى إذا اجتمعَ العِوضانِ في يدي العدل، أو في يد الحاكم، سلّم إلى كُلّ واحدٍ من المتعاقدَيْن حقَّه.
وإنما يجري ما ذكرناه إذا طلب كلُّ واحدٍ من صاحبه حقَّه، فأمَّا إذا أعرضا، فلا يتعرض لهما.
ولو طلب أحدهما حقه. والثاني معرضٌ، قلنا للمعرض منهما: أتؤدي ما عليك وتأخذ مالَكَ؟ فإذا قال: أجل، أجرينا الأمرَ في الجانبين على ما وصفناه.
وإن قال المعرض: أؤدي ما عليَّ، ولا أطلب في الحالِ مالي، فإن رضي صاحبُة بذلك، أجرينا الأمر على هذا النحو. وإن قال صاحبه: أجبروه على قبض حقه كما تأخذون حقي منه، فهذا يخرّج على أن من عليه الحقّ إذا وفَّاه، هل يُجبر صاحبُه على القبول.
وهذا يجري في الثمن، فأمَّا المبيع المعيَّنُ، فيجبر المشتري على قبوله إذا بذله البائع، وذلك أنه في ضمانِ البائع، والعقد بهذا السبب عرضة للانفساخ، فالوجه أن يخلص البائع عن غَرر الضمان.
ولو قال البائع للمشتري: دونك المبيعَ، فاقبضه، ولست أطالبُك بالثمن في الحال، فقال المشتري: لا أقبض المبيعَ حتى أتمكّن من توفية الثمن، فهو مجبر على قبض المبيع، لما ذكرناه من وجوب تخليص البائع عن عهدة العقد، إذا طلب الخلاصَ.
3290- وإذا قلنا: إنهما لا يُجبران، فمعنى ذلك أن الطلب لا يوجه على واحدٍ منهما ابتداءً، ولكن من بدأ فوفَّى حقَّت الطَّلِبةُ على صَاحبه بتسليم ما عليه.
فأمَّا إذا قلنا: يجبر البائع على التسليم، أو لم نَرَ إجبارَه، ولكنَه تبرع بالبداية، قال الشافعي مفرّعاً على هذا: إذا سلَّم البائعُ المبيعَ، فإن كان الثمن حاضراً في المجلسِ، أُجبر المشتري على التسليم من ساعته. وإن غاب، أَشهدَ على وقف ماله(5/368)
وعلى وقف السلعة، فإذا سلَّم ما عليه، انطلق عنه الوقف.
وهذا موقفٌ يتعين على الناظر التثبت في فهم الكلام.
أوَّلاً معناه الظاهر ضربُ الحَجْر على المشتري، هذا هو المراد بالوقف، فقد قال: أحجر عليه في سائر أمواله، وفي المبيع الذي سلّم إليه؛ حتى لا يتصرف في شيءٍ، ثم يدوم الحجر إلى أداء الثمن، فإذا أدّاه انطلق.
وهذا حجرٌ بدع لا عهدَ بمثله في القواعد.
وقد اضطرب الأصحاب؛ فذهب بعضهم إلى أن هذا الحجرَ على قياس الحجر على المفلس. ثم أصلُ المذهب فيه أن دَيْن المرء إذا زاد على ماله، وطلبَ مستحقُّ الدين الحجرَ على المديون، أجيب إلى ذلك.
وإن كان الدينُ أقلَّ من المال قليلاً، أو مثلَه، فاستدعى من يستحق الدينَ الحجرَ، ففي المسالةِ أوجهٌ ستأتي مفصلةً، إن شاء الله تعالى في كتاب الحجر.
فما ذكره الشافعيُّ من وقف مالِ المشتري وضَرْب الحجر عليهِ خارج على هذا القياس عند هذا القائل، حتى إن كان في مال المشتري وفاءٌ بالثمن أو أضعافُ الوفاء، فلا حجرَ، ولا وقف. هذا حكاه شيخي عن بعض الأصحابِ. وكان يبالغُ في تضعيف هذه الطَرِيقة ويزيفُها، وينسُب صاحبَها إلى الذهول عن فهم كلام الشافعي بالكليّة.
ونحن نصف وجهَ التزييف، ثم نفتتح معنى كلام الشافعيّ، ونبني عليه تمامَ مقصوده إن شاء اللهُ عز وجل.
3291- أولاً - ما ذكره هذا القائل يخالفُ صريحَ النص على ما يُنقل لفظُ (1) صاحبِ المذهب. قال رضي الله عنه: " ويجبر المشتري على دفع الثمن من ساعته، فإن غاب مالُه أَشهدَ على وقفِ مالهِ، وأَشهدَ على وقف السلعة. فإذا دفع أطلق عنه الوقفُ، وإن لم يكن له مالٌ، فهذا مفلس، والبائع أحق بسلعته ولا ندع الناس يتمانعون الحقوق ".
__________
(1) ساقطة من (ص) .(5/369)
هذه ألفاظ الشافعي. وقد ذكر الوقفَ أولاً مربوطاً بغيبةِ المال، ثم ذكر المفلسَ بعد نجازِ الغَرض من الوقف الذي أشهد عليه؛ فمن نزَّل ذلك الوقفَ على وقف مال المفلس، فقد خلطَ (1) ما فصله الشافعي، وأبطل التعليلَ بغَيْبة المال. فهذا بيّن.
وأما من طريق المعنى، فإذا رأينا إجبارَ البائع على تسليم المبيع، ولم يكن مالُ المشتري في المجلسِ، فلو سلمنا المبيعَ إليه، وتركناه ينطلق، لم نأمن غوائله، وكنا معرضين حقَّ البائع للضَّياع، ولا سبيلَ إلى حبسه، فالوجه أن يُحجر [عليه، حتى نمنع] (2) عليه التصرّفات في الأموال؛ إذْ لو كان مطلقَ التصرُّفِ، لخيفَ أن يهبَ أمواله، وما قبضه الآن من طفلٍ له، ويتسبَّب إلى إبطال حق البائع؛ (3 فالوجه الأقصدُ الذي يجمع تسليمَ المبيع من غير تعرض حق البائع 3) للضياع ما ذكره.
فهذا نوع من الحجر مختصٌّ بهذا المقام. ولا يمكن تخصيص الحجر بالبعض دون البعض من أمواله.
هذا مسلك المعنى، ويترتب عليه أمران لا بد من فهمهما: أحدهما - أنا لا نعتبر قياس الحجر على المفلس في النظر إلى الأقدار كما ذكرناه.
والآخر - أن الحجر على المفلس يسلّط البائعَ على فسخ البيع، والرجوعِ إلى عين المتاع. وهذا النوع من الحجر لا يقتضي ذلك، فإنا لم نضرب هذا الحجر بسبب ضيق المال، وإنما هو لمقصودٍ آخر. ولو ظن ظانّ أن هذا الحجر يسلط على الفسخ، لكان مُزْوَرّاً (4) عن فهم مقصود المسألة بالكلِّيَّة؛ فإن الغرض تقريرُ المبيع، وإيصالُ كل ذي حق إلى حقه. وإلا فأي معنىً للإجبار على التسليم، وضربِ الحجر، حتى يثبت حق الفسخ والاسترداد.
فإذا تمهَّد ما ذكرناه، حان الآن أن نفصّل المذهبَ بعون اللهِ وتوفيقه.
__________
(1) في (ص) : غلط.
(2) زيادة من (ص) .
(3) ما بين القوسين سقط من (ص) .
(4) مُزورّاً: بواو مفتوحة، وراءِ مثقلة: مائلاً.(5/370)
3292- فنقول: إذا سلّم البائعُ المبيعَ أولاً، قلنا للمشتري: عجّل الثمنَ، فإن كان حاضراً أدّاه. ولو قال المشتري مالي غائب، وسأحضره عما قريب، قال الشافعي وقفتُ ماله، كما مضى.
ثم ذكر العراقيون طريقةً نحن نطردُها، فقالوا: إن كان مال المشتري على مسافة القصر، وقد وقفنا ماله، فللبائع فسخُ العقد، والرجُوعُ إلى عين المبيع. وإن كان دون مسافة القصر ولكن كان غائباً عن البلد، فهل يثبت حق الفسخ؟ فعلى وجهين.
وإن كان المال في البلدِ، ولكن كان غائباً عن المجلس، فلا يثبتُ حقُّ الفسخِ في هذه الصورة.
هذا كلامهم.
وقال ابن سُرَيج: إن كان مالُه في البلد، ولكن كان غائباً عن مجلس التسليم، فيمهل المشتري إلى تحصيل الثمن، ويُحجر عليه، ولا يردّ المبيع إلى البائع، فأما إذا كان ماله غائباً عن البلدِ، فليرد المبيعَ إلى البائع إلى أن يتوفَّر عليه الثمن. ولا يثبت حقُّ فسخِ البيع عند ابن سريج أصلاً، بهذا الوقف الذي نص عليه الشافعي، وإنما يثبت الفسخُ إذا انتهى الأمرُ إلى الإعسار، أو إلى امتناع الوصول إلى الثمن بغيبةٍ شاسعة يُعَدّ مثلها امتناعاً.
وبين طريق ابن سُريج والعراقيين بَونٌ بينٌ. وحاصل كلام ابن سريج يؤول إلى أنا إذا عرفنا غيبة المالِ، لم نوجب على البائع البدايةَ بالتسليم؛ إذ لا فائدة في التسليم والاسترداد. ومن ربط من أصحابنا هذا الحجرَ بحد الفَلَس، أثبت للبائع الفسخَ.
فهذا بيان الطرق.
ثم الذين راعَوْا حدَّ الفَلَس، قالوا: إن كان يتأَتَّى تأديةُ الثمنِ من غير بيع المبيع، فَلا حجر، ولا وَقف. وإن كان يتأتى تأدية الثمن ببيع المبيع، أو بِبَيع بعضه ضماً إلى سائر مال المشتري، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا يحجر عليه؛ إذْ أداء الثمن ممكن. والثاني - يُحجر عليهِ؛ فإن بيعَ المبيع تفويتُ حق الحبس على البائع.
وهذا خبط؛ فإنه بناءٌ على حمل الوقف على حد الفَلَسِ، وليس الأمر كذلك.(5/371)
وقد نجز الفصلُ بما فيهِ.
فرع:
3293- إذا سلّم البائع المبيعَ، فامتنع المشتري عن تسلمه وقبضه، فقد ذكرنا في الفصل السابق ما يليق بأصل المذهب.
وقد ذكر صاحب التقريب في جواب ذلك وجوهاً، لم أر ذكرَها في قانون المذهب (1) ، فرسمتُ فرعاً حتى أستوفي ما ذكره.
قال: إذا امتنع المشتري عن القبض، فالوجه إجباره، فإن لم يقبضه، قبضه القاضي عنه، أو أناب نائباً ليقبض عنه، وذكرَ وجهاً غريباً أن القاضي يبرئه من ضمان المبيع فتصير يدُه يدَ أمانةٍ؛ حتى لو تلفَ في يده، لم ينفسخ البيعُ بتلفه، وكان من ضمان المشتري.
وهذا بعيدٌ جداً، وهو في التحقيق تغييرُ وضع الشرع في قطع الضمان، لا بالطريق الشرعي. هذا إذا وجدنا قاضياً.
فأما إذا لم نجد قاضياً، وامتنع المشتري عن القبض، فالوجه القطع بأن المبيع يبقى في ضمان البائع، ويأثم المشتري بإدامةِ الضمان عليه، بسبب الامتناع عن القبض.
قال صاحب التقريب: قال بعض أصحابنا: إن البائعَ يقبض بنفسه عن نفسه للضّرورة الداعية إليه.
وهذا كما أنا نقول: إذا ظفر بغير جنس حقِّه، أو بجنسه، وقد تعذَّر عليه استيفاء حقِّه من المستحَق عليه طوعاً، يأخذ ويكون قبضاً منه بحق نفسه، فهو القابض والمقبض، فكذلك البائع يقبض للمشتري، فيكون قابضاً مقبضاً.
وهذا بعيد جداً. وإذا كان على إنسان دين، فجاء به، فامتنع مستحِقُّه من قبضه، ففي المسألة قولان مشهوران. فإن قلنا: لا يجبر مستحِق الحق على قبضه، فالقاضي لا يبرئه عن أصل الدَّيْن، وليس الإبراء عن أصل الديْن بمثابة الإبراء عن ضمان العين؛ فإن إسقاطَ أصل الحق لا وجه له. ولو صحَّ ما ذكره صاحب التقريب من تقديره قابضاً
__________
(1) (ص) : الملك.(5/372)
مُقبضاً، لكان لا يمتنع أن يجعل بنفسه -حيث لا قاضيَ- قابضاً مقبضاً حتى يصيرَ ما جاء به في يده مقبوضاً لمستحقه، ويده فيه يدُ أمانةٍ. ولا أصل لما ذكره.
فصل
قال: " ولو كان الثمن عرْضاً أو ذَهباَّ بَعينهِ ... إلى آخِره " (1) .
3294- المبيع إذا أتلفَه الأجنبي، فالمذهَبُ أن البيعَ لا ينفسخ وعليهِ التفريع.
التفريع في هذا الفصل:
3295- فإذا فرَّعنا على أن المشتري هو الذي يبدأ بالتسليم، فللبائع حق حبس المبيع، فإذا أتلفه الأجنبي، فقد أفسدَ ملكَ المشتري، وحقُّ البائع في الحبس، فيثبت لكل واحد منهما مطالبته بالقيمة: أما المالك فلملكهِ. والبائعُ لحقه. وهذا يتفرع على أن البائع يحبس قيمةَ المبيع بالثمن، قياساً على قيمة المرهون إذا تلف.
ومن أصحابنا من يقول: ينقطع حقُّ حبس البائع بفوات عين المبيع. وقد قدّمنا هذا فيما سبق.
وإذا أتلف الأجنبيَّ العينَ المرهونةَ والتزمَ قيمتَها، توجَّهت عليه الطَّلِبةُ من الراهن لحق الملك، وتوجهت عليه الطَّلِبَةُ من المرتهن لحق الوثيقة؛ فإنّ القيمةَ إذا حصلت، كانت رهناً.
هذا متفق عليه في الرهن.
وإنما الخلاف في المبيع وحق الحبس.
وإذا أتلف البائعُ المبيعَ وقلنا: ينفسخ العقدُ، فلا كلام. وإن قلنا: لا ينفسخ، فهل يطالبه المشتري بالقيمة قبل توفير الثمن؟ هذا يخرَّجُ على أن البداية بالتسليم (2) على من؟ فإن قلنا ": البدايةُ على البائع، طالبه المشتري بالقيمة قبل توفير الثمن، ثم
__________
(1) ر. المختصر: 2/203.
(2) ساقطة من (ص) .(5/373)
ينقُد الثمنَ من ساعته، كما مضى. وإن قلنا: البداية على المشتري، فلا يطالبه بالقيمة، ما لم ينقد الثمن.
ولو سلَّم المشتري الثمنَ، والمبيعُ عبدٌ فأبِق العبدُ من يد البائع، ولم يتمكن من تسليمه، فالإباق يُثبت للمشتري حقَّ الخيارِ في فسخ البيع لا محالة. ولو لم يرد الفسخَ، وأبق العبدُ وما كان وفّر الثمن، فلا يلزمه توفيرُ الثمن.
وإن فرعنا على أن البدايةَ تجب على المشتري، فإذا وفّر الثمنَ، ثم أبق العبدُ، فهل يستردُّ الثمنَ بناءً على أنه كان لا يجب عليه التوفير بعد الإباق، فطريان الإباق هل يثبت حق الاسترداد؟
نقل القاضِي عن القفَّال أنه لا يملك استرداد الثمن. فإن أراد استرداده، فليفسخ العقدَ. وهذا محتمل. والأظهرُ ما ذكره القفال؛ فإن الاسترداد بالفسخ إذا أمكن، فهو أولى. وهذا كما أنا لا نُثبت للمشتري الرجوعَ بأرش العيب القديم مع القدرة على الرَّدِّ وفسخ العقد.
فصل
قال: " ولا أحب مبايعةَ مَن أكثرُ ماله حرام ... إلى آخره " (1) .
3296- لا يخفى حكمُ اليقين في الحل والحرمة، وإنما الكلام فيه إذا أشكل الأمرُ، وكان من يعامله المرءُ ممن يظن أنه لا يتحفظ، وقد يغلب ذلك بناء على معاملاته، مع قلّة التحفظ فيها.
أمّا الورع، فلا يخفى على من يُوفّق له، قال النبي عليه السلام: " الحلال بيَّن والحرام بين، وبينهُما أمور متشابهات فمن توقَّاهن، فقد استبرأ لدينه وعرضه "،
وفي روايةٍ: " فمن يدع ما تشابه عليه برىء له دينه، ألا إن لكل ملكٍ حمى، وحمى الله محارمُه فمن رتَع حول الحمى يوشك أن يقعَ فيهِ " (2) ، وقال عليه السلام:
__________
(1) ر. المختصر: 2/203.
(2) حديث: " الحلال بين ". متفق عليه من حديث النعمان بن بشير. مع اختلاف يسير في اللفظ =(5/374)
"دع ما يريبُك إلى ما لا يُريبك" (1) هذا طريق الورع.
فأما الجواز والحكم بالصحة، فمذهبنا أنه وإن غلب على الظن أن ما تحويه يدُ من يعامله حرام، فالشرع يقضي بتقريره على ملكه، ولذلك نجعل القولَ قولَه إذا ادُّعي عليه مع يمينه. فإن قيل: هلا خرّجتم ذلك على قولي غلبة الظن في النجاسة والطهارة؟ قلنا: لأنا صادفنا أصلاً مرجوعاً إليه في الأملاك، وهو اليد، فاعتمدناه، ولم نجد في النجاسة والطهارة أصلاً يعارِض غلبةَ الظنّ في النجاسة إلا استصحابَ الطهارة.
* * *
__________
= (ر. البخاري: الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، ح 52، وفي البيوع، باب الحلال بيّن والحرام بيّن، ح 2051، مسلم: المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، ح 1599، وانظر شرح السنة للبغوي: 8/12 ح 2031) .
(1) حديث: " دع ما يريبك ". إسناده صحيح، أخرجه النسائي: 8/327، 328 في الأشربة، باب الحث على ترك الشبهات، ح 5714، والترمذي: صفة القيامة، ح 2518، وأحمد: 1/200، وصححه ابن حبان: 512، والحاكم: 2/13، ووافقه الذهبي (ر. شرح السنة: 8/16، 17 ح 2032) .(5/375)
بَابُ الشَّرْطِ الَّذي يُفْسِدُ البَيعَ
3297- قال أئمة المذهب: الشرائط المذكورة في صُلب العقد قسمان: قسم يقتضيه إطلاق العقد، وقسم لا يقتضيه الإطلاق. فأما ما يقتضيه مطلقُ العقد، فكالملك ووجوب التسليم والتسلُّم، وجواز التصرُّف، فهذه الأشياءُ وما في معانيها مقتضياتُ العقد، فإذا وقع التعرُّضُ لها على وَفْقِ موضوع العقد، لم يضرّ.
والقسمُ الثاني - ما لا يقتضيه مطلقُ العقد، وهو ينقسم قسمين: أحدهما - لا يتعلق بمصلحة العقد. والثاني - يتعلق بها. فأما ما لا يتعلق بمصلحة العقد، ولم يرد بتسويغه الشرع، فهو ينقسم، فمنه ما يتعلّق بغرض العقدِ، (1 ومنه ما لا يتعلق به، فأما ما لا تَعلُّق له بغرض العقد 1) ، فهو مثلُ أن يقول: بعتُك هذا العبدَ بألفٍ، على ألا يلبسَ بعده إلا الحرير، أو ما ضاهى ذلك من الاقتراحاتِ التي لا تعلق لها بمقصود العقد، فهذا فاسد ملغى غيرُ مفسدٍ للعقد، وهو في حكم اللغو.
وأما ما يتعلّق بغرض العقد، فهو مثل أن يقول: بعتك العبد على ألا تبيعه، أو بعتُك الجارية على ألا تطأَها، أو ما أشبه ذلك. فهذه الشرائطُ فاسدةٌ، وإذا ذُكرت في صلبِ العقد أفسدَت العقد.
هذا ما ذكرهُ الأئمّةُ، ودلّت عليه النصوص.
وحكى صاحب التقريب قولاً غريباً أن الشرائط الفاسدةَ تلغو ويصحُّ العقدُ، وردّد هذا القولَ في مواضعَ من كتابه. وحكاه الشيخ أبو علي أيضاً، وزَعم بعض أصحابنا أن أبا ثور حكى هذا القولَ عن الشافعي في جميع هذه الشرائط الفاسدة التي نحن فيها.
فهذا حكيناه، ولا عَوْدَ إليه.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ص) .(5/376)
3298- فأما ما يتعلق بمصالح العقد، كالأجل والخيارِ، وشرط الكفيل والرهن، فهذه شرائط تصحُّ إذا وافقت الشرعَ، ولا يتأتى ضبطُها من طريق المعنى؛ فإن مصالح العقود في مقاصد الخلق كثيرة، وإنما يصح منها ما ورَد التوقيف به.
ثم هذه المقاصد إن شُرطت على مقتضى الشرع، صحت وثبتت، وإن شرطت مخالفةً لمقتضى الشرع، مثل أن يثبت الخيار زائداً على الثلاث، أو يُشْرَط على الجهالة، والأجلُ إذا أثبت مجهولاً، أو شرط في عقدٍ لا يقبله.
فسبيل التقسيم فيه أن نقول: ما يذكر على الفسادِ ينقسم: فمنه ما لا يقبل الإفرادَ ولا يثبت قط إلا مشروطاً، ومنه ما يفرد بعقدٍ من غير شرطٍ. فأما ما لا يفرد كالخيار والأجل، فإذا شُرط على الفَساد، فَسدَ وأفسد العقدَ.
وما يفردُ بعقدٍ كالرهنِ والكفيل، فإذا شرط على الفساد فسدَ الشَرط. وهل يفسد العقدُ؟ فعلى قولين سيأتي ذكرهما، إن شاء الله، مع التوجيه والتفريع في كتاب الرهون.
فهذا في حكم التراجم الكليّة لمسائل الباب.
فصل
3299- وإذا اشترى مملوكاً، وشرط عليه البائع أن يعتقه؛ فالمنصوص عليه للشافعي أن العقد لا يفسُد، والشرط يصح، وإن لم يكن موافقاً لمضمون العقد ومقصودِه. وليس من مصالح العقد أيضاً.
وخرَّج بعضُ أصحابنا قولاً أن البيعَ يفسد بشرط العتق، اعتباراً بسائر الشروط الفاسدة. وهذا مذهب أبي حنيفة (1) . وهو القياس.
والمعوّل في نصرة القول المنصوص عليه حديث بريرة، كما سنرويه في أثناء الفصل إن شاء الله.
وذكر بعضُ أصحابنا قولاً آخر: أن البيعَ يصح والشرط يلغو.
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/130 مسألة: 1209.(5/377)
وحكى العراقيون هذا القولَ عن أبي ثور عن الشافعي.
ونقل صاحب التقريب هذا عامّاً في جميع الشرائط الفاسدة، وحكاه هؤلاء في هذا على الخصوص.
فإن ألغينا الشرطَ، فلا كلام. وإن صححناه، فيجب الوفاء به.
ثم العتق المشروط حق الله تعالى أو حقُّ البائع؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - أنه حق الله، وهو كالعتق الملتَزَم بالنذرِ، فعلى هذا يتعين على المشتري أن يعتق، ولو عفا البائع عنه، وأسقط حقَّ العتق، لم يؤثر عفوهُ وإسقاطُه.
ولو أعتق المشتري العبد المشترَى عن كفارته، نفذ العتقُ، ولم ينصرف إلى كفارته؛ فإن من أصلنا أن العتق المستحقَّ في جهة لا ينصرف إلى جهة الكفارة، وعليه بنينا امتناعَ انصراف عتق المكاتب إلى كفّارَة العتق، إلى غيرِ ذلك من المسائل.
ومما نفرعه على هذا القول أن العتق إذا أثبتناه لله، فهل يملك البائع المطالبةَ به أم لا؟ فعلى وجهين: أصحهما - أنه يملك ذلك؛ فإن العتق وإن كان لله تعالى، فقد ثبت بشرط البائع، وقد يكون له غرضٌ في تحصيل العتق، وإن كان منسوباً إلى [حق] (1) الله تعالى.
وإن قلنا: العتق حق البائع، فإن وفَّى المشتري به، فلا كلام. وإن امتنع، فهل يجبر المشتري عليه؟ ذكر صاحب التقريب فيه قولين: أحدهما - أنه يُجبر عليه، ويؤمر به قهراً [قياساً] (2) على سائر الحقوق المستحقَّة.
و [القول] الثاني (3) - أنه لا يجبر عليه، ولكن إذا لم يَفِ المشتري، فللبائع خيار فسخ البيع، وهو كما لو شرط في البيع رهناً أو كفيلاً، فلم يف المشتري بما اشترطه، فلا يجبر عليه، ولكن للبائع حق فسخ البيع إذا لم يسلّم له المشروط.
ولم يطرد صاحبُ التقريب القولين في شرط الرهن والكفيل، وكان لا يبعد في
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) مزيدة من (هـ 2) ، (ص) .
(3) سقط من (هـ 2) ، (ص) كلمة (القول) وفي الأصل (الوجه) . وصوابُها: "والقول". إذ هي تفريع على كلام صاحب التقريب.(5/378)
القياس طردُ القولين. ولعل العتق اختص بالوجوب والإجبار عليه لتميزه عما سواه بمزيَّة القوة والنفاذ، ولذلك يسري إلى ملك الغير.
التفريع:
3300- إن حكمنا بأن المشتري يجبر على الإعتاق، فيتَّجه تخريج ذلك على قولين كالقولين في المُولي إذا لم [يفىء] (1) بعد انقضاء المدة. وثَم قولان: أحدهما - أنه يُحبس حتى يُطلِّق. والثاني - أن السلطانَ يطلَِّقُ عليه.
ويجوز أن يُقال: لا يتجه في الإجبار على العتق إلا الحبسُ، وإنما خُصَّ النكاح بتمليك السُّلطان الطلاقَ لما على المرأةِ من دوام الضِّرار. وقد يصابرُ الزوجُ طولَ الحبس نَكَداً (2) .
ولو عفا البائع عن حق العِتاق، فظاهرُ المذهب أنه يسقط، وكذلك إذا كان شرط في العقد رهناً أو كفيلاً، ثم أسقط عنه ما استحقه من ذلك بالشرط، يسقُط حقّه. حتى لو أراد الرجوع إلى الطلب، لم يمكنه.
وفي كلام شيخي رمزٌ إلى خلاف هذا؛ فإن هذه الحقوقَ لا تستقل بأنفسها، فلا وجه لتخصيصها بالإسقاط. وهذا كما أن الأجلَ حق المشتري وفُسْحَتُه (3) ، لا حقَّ للبائع فيه، ولو أسقط المشتري حق الأجل، لم يسقط.
فإذا جرينا على ظاهِر المذهب، وحكمنا بأن حقَّ البائع يَسقطُ بالإسقاطِ، والعتقُ حقُّه، فلو أعتق المشتري العبدَ عن كفارته، بعد إسقاطِ البائع حقَّه، فهل يقع العتق عن كفارته؟ فعلى وجهين مشهورين: أصحهما - أنه يقع عن كفارة المعتق؛ فإنه لم يبق للبائع حقٌ، والمشتري معتق على الاختيار.
والوجه الثاني - لا يقع عن كفارته؛ من جهة أن العقدَ على شرط العتاقة لا يخلو عن محاباةٍ في الثمن؛ فإن العتقَ في مقابلة تلك الحطيطة، والمشتري في حكم معتقٍ عبدَه بمالٍ عن كفارته.
__________
(1) في النسخ اللاث: لم يفِ.
(2) نكداً: أي معاسرةً، ومعاندة. (المعجم) .
(3) في (ص) : وفسخه.(5/379)
وهذا في نهاية الغثاثة، ولولا اشتهار [هذا] (1) الوجه في الطرق، لما حكيته.
3301- ومما يجب الاعتناءُ به أنا إذا جعلنا العتق لله تعالى، فإذا حققه المشتري، فلا شك أن الولاءَ له؛ فإن العتق صدرَ في ملكه، والأصل أن ولاءَ العتاقة لمن يقع العتق في ملكه.
وإن قلنا: العتق للبائع، فالولاء للمشتري، قطع به صاحب التقريب، وشيخي، والأئمةُ، والسبب فيه أن الولاءَ لو (2) كان للبائع، لاقتضى ذلك تقديرَ انقلاب الملك إليه، ونفوذَ العتق على ملكه؛ هذا لابد منه، ولو كان كذلك، لتجردَ الثمنُ عن مقابِلٍ في عقد المقابلة؛ وهذا محالٌ.
فلو شرط البائع العتقَ، وشرط لنفسه الولاء، ففي فساد العقد قولان: أحدهما - أنه يفسد (3) ؛ لأن مقتضاهُ ردَّ الملك في الرقبة إلى بائعها، مع دوام استحقاقه في الثمن.
والقولُ الثاني - أن البيع لا يفسد؛ لقصة بريرة لما جاءت إلى عائشةَ تستعين بها على أداء شيء من النجوم، فقالت: لو باعوكِ، لصببت لهم ثمنَك صبّاً، فأخبرت ساداتِها، قالوا: لا نفعل ذلك إلا بشرط أن يكون ولاؤك لنا، فأخبرت عائشةَ ما قالوه، فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " اشتري واشترطي لهم الولاء، ثم قام خطيباً، وقال: ما بال أقوامٍ يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله ... الحديث " (4) ، ووجه الدليل أن النبي عليه السلام إذ أمرها بأن تشتري وتشترط، فقد كان الشراء على هذه الصفةِ مأذوناً فيه من جهة الشارع، والمأذون فيه صحيح.
فإن قيل: ما معنى قوله في خطبته؟ وما وجه إنكارِه؟ قلنا: الممكن فيه أنه نهى
__________
(1) زيادة من المحقق اقتضاها السياق.
(2) عبارة ص: "أن الولاء كان للبائع، فافتضى ذلك..".
(3) في الأصل: لا يفسد.
(4) حديث بريرة متفق عليه: البخاري: كتاب البيوع، باب البيع والشراء مع النساء، ح 2155، وباب إذا اشترط شروطاً في البيع لا تحل، ح 2168، ومسلم: كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق، ح 1504.(5/380)
عن الإقدام على أمثال هذه الشرائط، واستحث على اتباع الكتاب والسنة. ولِمَا جرى حُكْمٌ بصحته؟ فإنه عليه السلام مبرأٌ عن التناقض، والأمرِ سرّاً في معرض التقرير، مع النهي عنه جهراً.
فإن قلنا: البيع فاسدٌ، فلا كلام. وإن حكمنا بصحة البيع، ففي الولاء المشروط نظر: ذهب بعضُ الأصحابِ إلى أن الوجهَ فيه إلغاءُ الشرط وتصحيحُ العقد. وهذا فاسد مع أمر النبي عليه السلام بالاشتراط، إذ قال: " اشتري واشترطي لهم الولاء " ومتعلق القول بصحة العقد قصةُ بريرة، فلا ينبغي أن يُعتبَرَ (1) أصلُها ويعطّلَ تفصيلُ القول فيها؛ فإذاً الوجهُ تصحيحُ الشرطِ إذا صححنا العقدَ؛ تعلّقاً بقصَّة بريرة. ويلزمُ من هذا أن يكون الولاءُ للبائع على حسب الشرط.
فإن قيل: يلزم منه انقلابُ الملك إليه.
قلنا: لا وجه في هذا المنتهى [إلا] (2) إثباتُ الولاء للبائع من غير تقدير نقلِ الملك، وقد ثبت الولاءُ بأسبابٍ، من غير تقدم ملك فيمن عليه الولاء، على ما سيأتي في موضعه، إن شاء الله تعالى. فمن أمثلة ذلك أن السيد إذا باع عبده من نفسه بمالٍ، فإذا اشترى نفسَه عَتَق، وسبيل العتق أنه ملك نفسَه، فاستحال أن يكون مملوكاً لنفسه ومالكاً. ثم إذا حصل العتق، فالولاء للسيّد.
وفي مأخذ الولاءِ على الجملة تعقيداتٌ لا يستقل هذا الفصل ببيانها.
فإن قلنا: إن الولاء للمشتري، فلا كلامَ. وإن قلنا: إنه للبائع، فلا نقدّرُ انقلابَ الملك إليه قطعاً؛ فإنّ الحكم بتقرير البيع على حقيقة المعاوضة يناقض الحكمَ بانقلاب الملكِ إلى البائع. وسببُ انفساخ البيع بتلفِ المبيع قبلَ القبض أن الملك ينقلبُ إلى البائع قبيل التلف، فامتنع مع هذا إمكان بقاء العقد.
فرع:
3302- إذا صححنا العقدَ عند شرط العتق على الأصح، فلو تلف هذا العبدُ الذي اشتراه في يدِ المشتري بهذا الشرط قبل الوفاء، فقد تعذر المشروط الذي صار مستحقاً.
__________
(1) عبارة (ص) : أن تغيير أصلها أو يعطل تفصيل القول.
(2) في الأصل: إلى.(5/381)
وفي المسألةِ أوجه ذكرها العراقيون: أحدها - أنه لا يجبُ على المشتري شيء بسبب فوات العتق؛ فإنه تعذَر الوفاء بالمشروط وليس ذلك المتعذِّر مما يتقوّمُ في نفسه، ولو قدَّرنا للمشروط الفائت بدلاً، لكان بدلُه جميعَ القيمةِ، ولو ألزمنا المشتري جميعَ القيمة، وألزمناه الثمن المسمى؛ لكان ذلك خارجاً بالكلية عن ضبطِ القياسِ؛ ولتضمن الجمعَ بين البدل وبين المبدل في حق البائع.
والوجه الثاني - أنا نلزم المشتري تفاوتاً بين القيمتين منسوباً إلى الثمن المسمى.
وبيان ذلك أن نقولَ: هذا العبد لو بيع مطلقاً من غير شرط، فما ثمن المثل؟ فيقال: مائة وخمسون ديناراً، فنقول: وكم قيمة مثله مع هذا الشرط؟ فيقال: مائة. فنعلم أن التفاوتَ بين الثمنين في الإطلاق والشرط بنسبة الثلث، فنعود بعد ضبط هذه النسبة، ونقول: الثمن المسمى تسعون، وقد بان أن ما فات بالنسبةِ إلى الجملة [ثلث الجملة] (1) فكأنه أخذ ثمنَ ثلثي العبد، فإذا كان ثمنُ ثُلثي العبدِ تسعين، فثمن الجملة مائةٌ وخمسة وثلاثون، فيغرم المشتري للبائع على مثل هذه النسبةِ خمسةً وأربعين.
وذكرَ الشيخ أبو علي هذا الوجهَ، وألزمَ المشتري قيمةَ الثُّلث، من غير نظرٍ إلى مبلغ الثمن؛ فإنَّا قدَّرنا القيمةَ في الإطلاق مائة وخمسين، فقيمةُ الثلث خمسون إذاً، فلا حاجة إلى النظر إلى مقدار الثمن المسمى؛ بل نُلزم المشتري قيمةَ ما فات في يده، والفائت الثلثُ تقديراً، وهو خمسون.
وحقيقةُ الجوابين يرجع إلى وجهين آخرين في بيان النسبة: أحدهما - أنا نلزم المشتري القيمةَ المحققةَ في مقابلة الثلث، ولا ننظر إلى المسمى، ولا نبالي بأن تكون هذه القيمةُ مثلَ المسمى، أو أكثر منه. وفي الوجه الثاني نقول: لما باع العبدَ بتسعين، وكان قيمتُه مع الشرط مائة، فقد نزّل العقد على المسامحة والمحاباة بالثمن، فلا نُلزم المشتري إلا على نسبة المحاباة.
هذا بيان الجوابين في ذلك.
وذكر أصحابنا وجهاً ثالثاً في أصل المسألة - وهو أنا نحكم بانفساخ العقد، لتعذّر
__________
(1) ساقط من الأصل.(5/382)
الإمضاء؛ إذْ لا وجه لإيجاب شيء من غير انتساب المشتري إلى إتلاف شيء، أو ضمان شيء بحكم اليد؛ فإنّ يده ما ثبتت إلا على ملكه؛ ولكن جرى العقدُ في وضعه مائلاً عن القياسِ فقدّر فيه وفاء بالشرط عند الوجود، ثم تعذر الوفاءُ بالموتِ، فلا حاجة (1) لإيجاب شيء على المشتري لم يلتزِمه، ولا وجه لتخليصه مجاناً؛ لأن البائع لم يرض بالقدرِ الذي سمَّاه من الثمن إلا لما شرطه من الحق، فعلى المشتري قيمةُ العبدِ، وَيسْترد الثمنَ المسمى.
هذا موجب الانفساخ.
ويُفتَرض وراء بيان الوجوه نظر في شيء، وهو أنا ذكرنا وجهين في أن العتقَ حقُّ الله تعالى أو حق البائع. فإذا فات الوفاءُ، فالأوجه الثلاثة [في الظاهر] (2) تتفرعُ على أن العتقَ حقُّ البائع، أم تتفرع على الوجهين؟ هذا فيه تدبر للناظر، ويجوز أن يقال: إنما يغرَمُ البائع إذا قدرنا الحقَّ له، ويظهر في القياس أن يطرد هذا على الوجهين؛ فإن البائع يقول: كأني لم أبع ثلث العبد، فإذا فات مشروطي فيه، فاغرَم لي في مقابلته ما يقتضيه التقسيط.
وسبب الإشكال في هذه التفريعات خروج الأصلِ عن قاعدة القياس.
فصل
3303- إذا فسدَ البيع بفساد الشرط في أحد العوضين، فالبيع الفاسد لا يفيد الملكَ عندنا، سواء اتصل به القبضُ، أو لم يتصل، خلافاً لأبي حنيفة (3) ؛ فإنه قال: إذا اتصل البيع الفاسد بالقبض، تضمن الملكَ للمشتري القابض على وجه الفساد.
ثم ما قبضه المشتري مضمونٌ عليه، ولو تلف في يده، لزمته قيمتُه للبائع؛ فإنّا إذا
__________
(1) في (هـ 2) : فلا وجه.
(2) ساقط من الأصل.
(3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/129 مسألة: 1208، رؤوس المسائل: 288 مسألة 176، المبسوط: 3/22.(5/383)
كنا نُضمِّن المستامَ لقبضه على حكم المعاوضةِ المنتظرة، فالقبض على ظن المعاوضَة الواقعة أولى باقتضاءِ الضمان.
ثم إذا ضمناه القيمةَ، فالاعتبارُ بأيّةِ قيمة؟ ذكر الأئمة في طرقهم ثلاثة أقوالٍ، قولان منها ذكرهما العراقيون، فنذكرهما على ما ذكروا: أحدهما - أن الضمانَ على القابض كالضمان على الغاصب، فيغرَم أقصى القيم، من يوم القبض إلى يوم الفواتِ، كما سنقرر ذلكَ في أحكام الغصوب.
والقول الثاني - أنا نعتبر قيمةَ يومِ التلف؛ فإن الأصل فيما يجب رَدّه ردُّ (1) العين، والتحول إلى القيمةِ سببه فواتُ ردَّ العين. وهذا إنما يتحقق بالتلف.
وذكر المراوزَةُ القولين، فوافقوا في ضمان الغصب، وقالوا في القول الثاني الاعتبارُ بقيمته يوم القبض. هكذا ذكره الشيخ والصيدلاني وغيرُهما.
فانتظم من الطرق ثلاثةُ أقوال: أحدها - قيمةُ الغصب. والثاني - قيمةُ يوم التلف.
والثالث - قيمةُ يوم القبض. والقولان أو الأقوال نجريها في كل ضامنٍ غيرِ معتدٍ، ولا متصرفٍ في غصب، فإذا ضَمَّنا المستامَ قيمةَ ما تلف في يدهِ، فالقول في القيمةِ المعتبرةِ كما ذكرناه. وهذا يطرد في اليد المضَمَّنة التي ليست غصباً.
3304- وفي المستعار فضلُ نظرٍ؛ فإن من استعارَ ثوباً وقبضه، فلو تلف في يَده، لزمه ضمانُه، فلو اعتبرنا أقصى القيم، لضمّناه الأجزاءَ التي أتلفها بالإبلاء، مع العلم بأنه أتلفها بإذن مالك الثوب. وكذلك لو اعتبرنا قيمةَ يوم القبض، ففيه هذا التعذّر، فما الوجه فيه؟ هذا يُبتنى على أن المستعيرَ هل يضمن الأجزاءَ التي أبلاها؟ فإن قضينا بأنه يضمنها، وهو أضعف الطرق، فيقع في عماية أخرى؛ فإن ما يفوت لا تعتبر قيمته بعد فواته. وفيه تتسلسل فروعٌ لابن الحداد في مسائل الغصوب، فلا معنى للخوض فيها الآن.
والوجه التفريعُ على الأصح، وهو أن الفائت بالبلى غيرُ مضمونٍ.
فالوجه أن نقول: إذا انسحق الثوبُ بعضَ الانسحاق، ثم تلف في يده، ففي قولٍ
__________
(1) في (هـ 2) : بدل العين.(5/384)
نقول: تجب قيمة ثوبٍ منسحقٍ بأقصى ما يقدَّر من يومِ القبضِ إلى يوم التلفِ.
وفي قولٍ تجب قيمتُه يومَ التلفِ. وهذا منطبق على الغرض.
وفي قول نقول: تجب قيمة ثوبٍ منسحق يوم القبض.
فهذا منتهى الغرض في القيمة المعتبرة.
3305- ثم ذكر الشافعي جملاً تتعلَّق بقضايا الضمان في تصرفات صاحب اليدِ المضمنة، وتلك الأحكام تأتي مفرقةً في محالّها، ولكنا نتَّبِع ترتيب " المختصر " فنذكر منها ما يليق بشرح [السواد] (1) .
فإذا قبض المشتري الجاريةَ المشتراةَ على الفسادِ ووطئها، فإن كان عالماً بالتحريم وفساد العقد، ففي الحدَّ نظر؛ من جهة خلافِ أبي حنيفة في مِلك المشترى، فيجوز أن يقال: لا حدَّ؛ لهذه الشبهة. ويجوز أن يقال: يلزم الحدَّ، لأن أبا حنيفة لا يبيح الوطء، فخلافه في الملك كخلاف العلماء في وجوب الحدّ وانتفائه، وليس هذا كما لو وطىء في نكاح المتعة، والنكاح بلا شهود وولي؛ فإن المخالف في هذه المسائل يبيح الوطء.
وتحقيق منازل الشبهات في كتاب الحدود.
وإن كان المشتري جاهلاً، فلا حد، ويلزمُ المهرُ إن كانت الأمةُ جاهلة. وإن كانت عالمةً، فينعكس هذا على الأصل، وهو أنَّ علم المشترى هل يُلحقُه بالزناة، أم لا؟ فإن لم يلحقه بالزناة، فلا أثر لعلمِها، وإن ألحقه علمه بالزناة، فإذا كانت عالمة، فهي بمثابة جاريةٍ مغصوبةٍ تطاوعُ الغاصبَ من غير استكراه ولو كان كذلك ففي ثبوت المهرِ وجهان، سيأتيان في كتاب الغصب، إن شاء الله تعالى.
فهذا قولنا في المهرِ والحدّ. فليقع الفرضُ في اطراد الجهل. ثم حكم المهر على ما ذكرناه.
__________
(1) في الأصل: السؤال. ورجحنا (السواد) على ما فيها من إبهام وجهالة، وغموض، لأنها تكررت مرات قبل ذلك، وفي (هـ 2) ، (ص) : السواد. (ليُعلم أن العمل في هذا الكتاب استغرق أكثر من عشرين عاماً، وكان هذا التعليق قبل أن ينكشف لنا الأمر بيقين جازم أن المراد بالسواد هو مختصر المزني، والله المستعان) .(5/385)
وإن علقت الجارية بمولودٍ، فالولد حرّ لا ولاءَ له (1) ؛ فإنه لم يمَسه رِق، ولم ينله عتقٌ، وعليه قيمةُ المولود يوم يسقط حيّاً. وسبب ذلك أن الرق اندفع عن المولود بظنه.
ولو انفصل الولد ميتاً، فلا ضمان بلا خلاف. وهذا جارٍ في الضمان الذي يتعلق بمحالّ الغرور.
ولو غصب الرجل جاريةً، فعلقت بمولود من سفاحٍ، وانفصل المولودُ ميتاً [فالمذهب] (2) أنّه لا ضمان. وفيه شيء بعيد، سنذكره في موضعه، إن شاء الله.
وكذلك ولد الصيد في حق المحرم.
والقياس المتبع في الضمانِ في كل جنين ينفصل ميتاً هذا. إلاّ أن ينفصل بجنايةِ جان، فعلى الجاني الضمانُ. ثم ثبوت الضمان في حقّه يثبت الضمانَ في حق صاحب اليد، وفي حق المغرور.
ولا وفاء ببيان هذه الأُصول؛ فإنها قواعدُ تأتي في محالّها إن شاء الله تعالى.
ثم مما يتصل بهذا الفصل أنّ المغرورَ إذا غرِم قيمةَ الولد يرجع على من غَرّه، وفي الرجوع بالمهرِ على الغارِ قولان. والمشتري على حكم الفساد يُنظر فيه: فإن كان البائع عالماً بالفسادِ، فهو في صورة الغارّ، فلا معنى لإثبات قيمةِ الولد له؛ فإنه لو غرمه لرجع على من غرَّه. والمغروم له في هذا التقدير هو الغارُّ بعينه.
وإن كان البائع لا يدري فسادَ العقد، ففي المسألة احتمالٌ ظاهر؛ من جهة أنه لم يعتمد تغريراً، حتى ينتهض ذلك سبباً لانقلاب الضمان عليه.
وقد رمز المحققون إلى هذا التردد. واستقصاؤه في باب الغرور، إن شاء الله تعالى.
3306- ومن أهم ما يجب الاعتناءُ به في هذه الفصول أن من ثبتت له يد مضمَّنة من غير فرض تصرّف في مغصوبٍ، فلو حدثت في يده زوائدُ منفصلةٌ وتلفت، فقد خرَّج
__________
(1) في (هـ 2) ، (ص) : عليه.
(2) ساقطة من الأصل.(5/386)
الأئمةُ ضمانها على القاعدةِ التي صدَّرنا الفصل بها، وهي أن العين تضمن ضمان الغصوب أم لا؟ فإن قضينا بأنها تضمن ضمان الغصوب، [فالزوائد مضمونة. وإن حكمنا بأنها لا تضمن ضمان الغصوب] (1) ، فالضمان لا يتعداها إلى الزوائد.
وظاهر نص الشافعي يُشعرُ بإثبات ضمان الغصوب في الأيدي المضمَّنة. وذلك أنه قال: " لو غصب جارية، وتلفت في يده، ضمن أكثر ما كانت قيمته من يوم الغصب إلى يوم التلف ". ثم قال: " وكذلك البيع الفاسدُ ". فكان هذا العطف ظاهراً فيما ذكرناه.
فإن قيل: إذا لم توجبوا ضمانَ الأولاد، فلم أوجبتم قيمة الولد إذا انفصل حياً على الحرية؟ قلنا: سببه أن المغرور في تقدير الشرع منتسبٌ إلى تفويت الرق، وهذا يلتحق بباب ضمان القيم على المتلِفين، ولكنا لا نضمنه إذا انفصل ميتاً؛ لأنه لم يخرج وله تقدير قيمة، وليس مفوتَ روحه، بخلاف الجاني الذي تصير جنايتُه سبباً لتفويت الروح أو منعها في الانسلاك.
ومما أجراه الأصحاب في أدراج هذه الأحكام المرسلة أن الجاريةَ لو علقت بالمولود، وماتت في الطَّلْق، وجب ضمانُ قيمتها وإن ماتت بعد الرَّدِّ؛ لأنه المتسبّب إلى الحمل المفضِي إلى الطلق.
ولو وطىء حُرّةً زانياً، واستكرهها وعلقت بمولود، ثم ماتت في الطلق، ففي ضمان الدِّية قولان: أحدهما - أنه يجب قياساً على نظيره في الجارية. والثاني - لا يجب؛ فإن اليدَ لا تثبت على الحرة. وإنما اعتضد الضمان في الأمة باتصالِ اليد المضمنة بها في ابتداءِ السبب.
ثم إذا علقت الجاريةُ بمولودٍ حرٍّ، لم تصر أمَّ ولد في الحال؛ فإن الوطء لم يصادف ملكَ الواطىء. ولو ملك الواطىء الجاريةَ يوماً، فهل تصير عند الملكِ مستولدةً له؟ فعلى [قولين سيأتي] (2) توجيههما في أمهات الأولاد، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) زيادة من (هـ 2) ، (ص) .(5/387)
فصل
قال: " ولو اشترى زرعاً، واشترط على البائع حصادَه ... إلى آخره " (1) .
3307- إذا اشترى زرعاً بدينارٍ، على أن يحصده البائع. هذه صورةُ المسألة. وعلى الناظر أن يعتني في مضمون هذا الفصل بصيغ ألفاظ العاقدين.
والذي نرى في ذلك أن نجدّد العهدَ بأصولٍ سبقت، ونرمز إلى بعض ما يأتي مما تَمَسُّ الحاجةُ إليه، ثم نخوضُ في تفصيل مسائل الفصل:
فممَّا مضى أن من جمع في صفقةٍ واحدةٍ بين إجارة وبيعٍ، فهل يُقضى بصحة العقد؟ وذلك إذا قال: بعتُك عبدي هذا وأجرتك داري بدينارٍ. هذا من قواعد تفريق الصفقة، وقد مضى. ومما سيأتي أن شرط عقدٍ في عقدٍ يُفسد العقدَ المشروطَ فيه، وذلك مثل أن يقول: بعتُك داري هذه بألفٍ على أن تبيعني عبدك. فبيعُ الدارِ يَفسُد بشرط بيع العبد فيه. وعليه حمل " نهيُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة " على ما سيأتي إن شاء الله.
وممَّا يتعين ذكره في مقدمة هذه المسائل أن الرجل إذا قال لعبده: كاتبتُك وبعتُك عبدِي هذا بكذا، فإذا قبل العبد، فقد وقع أحد سْقَّي العقد من العبد المخاطب، قبل انعقادِ الكتابةِ، والظاهرُ الحكمُ ببطلان البيع، لما أشرنا إليه.
فإذا تمهدت الأصول، خُضنا بعدها في المسائل.
3308- فإذا قال: اشتريت منك هذا الزرعَ، واستأجرتُك على حصاده بدينارٍ، فقد اختلف أصحابنا في ذلك على طريقين: فمنهم من قال: في فساد الإجارة والبيع قولان مأخوذان من الجمع بين الإجارة والبيع في صفقةٍ.
ومنهم من قال: الإجارةُ فاسدةٌ قولاً واحداً؛ لأن أحدَ شِقَّيها وقع قبل ملك الزرع، وإنما يصح الاستئجار على العملِ في مملوكٍ، فإن من استأجر إنساناً على حصاد زرعٍ لم يملكه، ثم استفاد ذلك الزرعَ، فذلك الاستئجار مردود. ثم إذا فسدت
__________
(1) ر. المختصر: 2/203.(5/388)
الإجارةُ في مسألتنا، ففي فساد البيع قولان ملحقانِ بالقولين في صفقةٍ تشتمل على شيئين، وتفسدُ في أحدهما، هل يُقضى بفسادها في الثاني؟ كالجمع بين عبدٍ مملوكٍ وعبدٍ مغصوبٍ؟
هذا تفصيل القول فيه إذا قال: اشتريت هذا الزرعَ، واستأجرتك على حصَادهِ.
فأما إذا قال: اشتريتُ منك هذا الزرعَ بدينارٍ على أن تحصده، فقد اختلف أصحابنا أولاً في قوله على أن تحصدَه، فمنهم من قال: هذا شرط عقدٍ في عقد؛ فتفسدُ الصفقةُ من أصلها، ولا يكون من فروع تفريق الصفقة. ومنهم من قال: قوله على أن تحصده وإن (1) كان على صيغة الشرط، فالملتمَس والمقصودُ من اللفظ تحصيلُ الزرع ومنفعةُ الحاصدِ بدينارٍ، فيكون كما لو قال: اشتريت الزرعَ واستأجرتُك بدينارٍ.
وقد فصلنا هذا على ما ينبغي. والألفاظ تُعنَى لمعانيها.
3309- ولو قال: اشتريتُ منك هذا الزرعَ بدينارٍ، واستأجرتُكَ على حصاده بدرهم، فقد فصل الإجارةَ عن البيع، وذكر لكل واحد من المقصودين عوضاً.
أما الإجارةُ ففي فسادِها وصحتها ما تقدَّم. وأما بيع الزرع، فصحيح قولاً واحداً، ولا يلتحق هذا بتفريق الصفقة؛ فإن التفريق إنما يجري إذا اتحد العوضُ، وجَمَعت الصفقةُ مقصودَين مختلفين. وسبب الاختلاف ما تقدم من مسيس الحاجةِ إلى توزيعِ العوض عند اختلاف المقصودَين فسخاً وإبقاءً.
ولو قال: اشتريتُ منك هذا الزرعَ بدينارٍ على أن تحصده بدرهمٍ، فبيع الزرع باطل، قولاً واحداً؛ فإنه لما أفرد الإجارةَ بعوضٍ، جعلها عقداً على حيالها، وشرطها في عقد البيع؛ فكان هذا تصريحاً بشرط عقدٍ في عقد.
3310- وجميعُ مقاصدِ الفصل تأتي في تفصيل هذه المسألةِ الواحدةِ. ولكنا نذكر أخرى للتوطئة والتمهيد.
__________
(1) في الأصل: فإن.(5/389)
فإذا قال: اشتريت منك هذا الصَّرْم (1) ، واستأجرتُك لخصفه على هذا الخف، فهذا يناظر ما لو قال: اشتريت منك هذا الزرع واستأجرتُك لحصاده. وإن قال: اشتريت منك هذا الصَّرْم بدرهمٍ على أن تخصفه على هذا الخف، فهو كما لو قال: اشتريت منك هذا الزرعَ على أن تحصده.
والجملة في نظائر هذه المسائل أنه يجري فيها إجارةٌ يقع شقُّها قبل الملك، ويجري فيها إقامةُ لفظ الشرط مقام الاستئجار، ويجري فيها قواعدُ تفريق الصفقة، ويجري أيضاً شرطُ عقدٍ في عقدٍ، على وفاق وعلى خلاف.
فلا يُشكِل بعد هذا الترتيب هذا الفنُّ على الفطن.
فصل
قال: " ولو قال: بعني هذه الصُّبرة كل إردبّ بدرهم ... إلى آخره " (2) .
3311- الإردب مكيال من مكاييل مِصرَ، واللفظ من لغة أهله، وقيل: إنه يسع أربعة وعشرين صاعاً، والقفيز عندهم على النصف من الإردب.
فإذا أشار الرجل إلى صبرةٍ معلومةِ الصّيعانِ أو مجهولةِ الصيعان، وقال: بعتك هذه الصُّبرةَ، كل صاع بدرهم. فالبيع صحيح، سواء كانت الصّبرةُ معلومةَ الصيعان، أو مجهولةَ الصيعان.
فإن قيل: كيف قطعتم بصحة العقد، ولو سئل المتعاقِدان على مبلغ الثمن، لم يُعربا عنه، ولم يعرفاه، وهلاَّ نزلتم هذا منزلة ما لو قال الرجل: بعتك داري هذه بما باع فلان عبده؟ قلنا: الصُّبرةُ مرتبطة بالعِيان، وهو أعلى جهات الإعلام، والثمن مرتبط بها، فالثمن إذن معلوم من نفس مقتضى العقد؛ من جهة إعلام المبيع. وليس ذلك كربط الإعلام بشيءٍ لا تعلّق له بالعقد. والكلام الظاهر فيه أن من اشترى ملء بيت من الحنطة على نسبة معلومةٍ من الثمن، فهو في العرف ليس مغروراً، والرجوع في
__________
(1) الصَّرْمُ: الجلد. والخصف في النعال، كالترقيع في الثياب. (المعجم) .
(2) ر. المختصر: 2/203.(5/390)
طريق الإعلام إلى العرف. وإذا قال: بعتُك بما باع به فلانٌ، فهو على غررٍ منه، وبين حالتين في القلّة والكثرة تسوءه إحداهما وتسرّه أخرى.
3312- ثم صور الشافعي صيغاً في العقد والاستثناءات، ونحن نتبع مسائله.
فمما ذكره أنه لو قال: بعني هذه الصُّبرةَ كل صاع بدرهم، على أن تزيدَني صاعاً، فأجابه صاحبُ الصُّبرة على حسب لفظه. فقوله على أن تزيدني لفظٌ فيه تردد، فإن زعم الشارطُ أنه أراد بقوله على أن تزيدني أن يهب منه صاعاً من غير هذه الصبرة، فهذا شرطُ هبةٍ في البيع، وهو مفسد للعقد لا محالة.
وإن قال عَنَيْت بقولي: " على أن تزيدني صاعاً " أن يعتبر صيعانَ الصبرة بالدراهم، وُيعري عن هذا الحساب صاعاً واحداً، ولم يقصد أن يكون ذلك الصاع موهوباً، ولكن رام إدراج جميع الصُّبرة في العقد، على الحساب الذي قدره (1) .
فالذي ذكره الأصحاب في ذلك أن صيعان الصُّبرة إن كانت معلومة، فالبيع صحيح، والتقديرُ فيه أن الصبرةَ إذا كانت عشرة آصُع مثلاً، وعلم المتعاقدان ذلك، فيرجع حاصل ما ذكره المشتري إلى بيع الصبرة كل صاع وتُسعٍ بدرهم. ولو صرح بهذا، صح. فإذا عناه بلفظه، وهو محتمل، صح.
وذكر صاحب التقريب وجهاً، ومال إليه: أن البيع لا يصح في هذه الصبرة؛ فإن ما ذكره من المعنى وهو بيع الصاعِ والتسع بالدرهم وإن كان صحيحاً، فالعبارةُ لا تنبىء عنه إلا على بُعدٍ في المحمل، يضاهي محامل اللُّغز، وينضم إليه أنه ذكرَ مقصودَه بصيغة الشرط. وقد قدمنا في الفصل السابق ما يبطل بصيغ الشروط، وعليه خرَّجنا فسادَ الصفقةِ في وجه إذا قال: اشتريت هذا الزرعَ منك على أن تحصده.
وإن كانت الصُّبرةُ مجهولةَ الصيعان عندهما، أو عند أحدهما، فالبيع باطل؛ فإن الصاع المستثنى يغيِّر مقابلةَ الصاع بالدرهم. ويرجع الأمر إلى مقابلة صاعٍ وشيء بدرهم، وليسا يَدرِيَان (2) أن الزوائد على كل صاعٍ ليقابله درهم كم تقع؛ فالمقصودُ إذاً
__________
(1) عبارة (ص) : الحساب الذي ذكره فالأصحاب في ذلك....
(2) في (هـ 2) : يدري أين.(5/391)
مجهول. ولو أراد أن يعبر عن سعر الحنطة في الصفقة، لم يجد إليهِ سبيلاً، وكأنهما (1) قالا: كلُّ صاع وشيء بدرهم. وهذا باطل.
فهذا بيان مسألةٍ.
3313- والمسألة الثانية: أن يقول: اشتريتُ هذه الصبرةَ كل صاعٍ بدرهمٍ، على أن أنقص صاعاً، فهذه اللفظةُ مترددةٌ، كما تقدَّم.
فإن عَنَى بذلك أن يهبَ منه صاعاً من الصبرة، ويبيعَ الباقي بحساب الدرهم، فهذا شرطُ هبةٍ في بيعٍ. وإن أراد تغيير الحساب، وقال: يكون الحساب بيننا والصبرة مبيعةٌ على هذا النحو، فهو كما لو قال: على أن تزيدني. وقد مضى التفصيل فيه والفرق بين أن تكون الصيعان معلومة أو مجهولة.
وقد نجز غرضُ الأصحاب.
3314- ولا يصفو الفصل عن الكدر إلا بالتنبيه لأمرٍ: قال الأئمة رضي الله عنهم: كل لفظ نيط به حكم، وهو مما ينفرد اللاَّفظ به، ولا يحتاج إلى جواب مخاطب، فهو قابل للصَّريح والكناية: كالطلاق والعتاق، والإبراء، والإقرار، وما في معانيها.
فهذه الأشياء يتطرّق إليها الصريح والكناية، ثم الكنايات مفتقرةٌ إلى نية اللاَّفظ، والرجوعُ فيها إليه، كما سيأتي تفصيله في كتاب الطلاق.
وأما ما لا يستقل فيه لفظُ شخصٍ واحدٍ، ويستدعي جواباً: كالعقودِ المفتقرةِ إلى الإيجاب والقبول، فلا شكّ في انعقادِها بالصريح (2) .
وأما تقديرُ عقدِها بالكنايات، فالعقود تنقسم إلى ما تفتقر إلى الإشهاد وإلى ما لا تفتقر إليه.
فأما المفتقر إلى الإشهاد: كالنكاح وكبيع الوكيل إذا شرط الموكِّلُ عليه الإشهاد على البيع، فلا ينعقد بالكناية؛ فإن الشهود لا يطلعون على القُصود، ومجردُ الألفاظ إذا كانت كنايات لا تكون عقوداً.
__________
(1) في (هـ 2) كلاهما قالا.
(2) في (هـ 2) : بالصرايح.(5/392)
فأما ما لا يفتقر إلى الإشهادِ، فينقسم إلى ما يتطرق إليه التعليق بالإغرار، وإلى ما لا يقبل ذلك: فأمَّا ما يكون مضمونه قابلاً للإغرار، فيصح العقد فيه بالكنايات مع النياتِ، كالخلع وعقود العتاقة، والصلح عن الدم. وقد قال الشافعي رحمة الله عليه: إذا قال لامرأته: أنت بائنٌ بألفٍ، فقالت: قبلتُ ونويا، وقع الطلاق مبيناً، وصح الخلع.
وأما العقود التي لا يقبل مقصودُها التعليقَ ولا يشتَرط فيها الإشهاد، ففي انعقادِها بالكنايات وجهان مشهوران: أحدهما - الانعقاد كالخلع وما في معناه، وكالألفاظ الفردةِ التي لا تفتقر إلى جواب.
والوجه الثاني - أنها لا تصح، فإن المخاطَبَ لا يدري بم خُوطب، ولا يتأتى التخاطب بالكناياتِ، كما لا يتأتى تحمّل الشهادة، حيث تُشرط الشهادة في الكنايات.
فهذا عقدُ هذه الجملة.
3315- والذي أراه فيها أن قرائن الأحوال لا معتبر بها عندنا في التحاق الكنايات بالصرائح. حتى إذا قال الرجل في حال مسألة الطلاق وظهور مخايل إرادة الطلاق: أنتِ بائن. وقال: لم أُردِ الطلاق، صُدِّق مع يمينه. خلافاً لأبي حنيفة (1) .
ومجرد القرائن لا تصلح للعقود، ولذلك لا نجعل المعاطاةَ بيعاً، كما سيأتي شرح ذلك، إن شاء الله عز وجل.
وإذا فرض في العقد المفتقر إلى الإيجاب والقبول كناياتٌ، وانضمَّت إليها قرائن الأحوال، وترتب عليها التفاهم، فيجب القطع بصحة العقد؛ تعويلاً على التفاهم.
ومَوضع خلاف الأصحابِ في انعدام قرائن الأحوال، والظاهر أن لا عقدَ إذا لم يحصل التفاهم.
فإن قيل: هلاّ انعقد النكاح بالكناية مع قرينة الحال إذا حضر الشهود؟ قلنا: ما يتعلق بالجحود لا ينفع فيها قرينة الحال عندنا، والغرض من حضور الشهود إثباتُ
__________
(1) ر. فتح القدير: 3/400، البحر الرائق: 3/322.(5/393)
مجحودِ. ثم مسألة النكاح لم تبن على هذه النكتة فحسب، وإنما مدارها على تعبُّدات رعاها الشافعيُّ (1) كما قرَّرناه في (الأساليب) .
فإن قيل: أطلق الشافعي ألفاظاً مجملةَ، وحكم بانعقاد العقد بها. وهذا يخالف ما رتّبتموه. قلنا: لم يقصد الشافعي الكلامَ على المجمل والمفصَّل، والصريح والكناية، وإنما تعرض لتفصيل المعاني التي تصح العقود عليها وتفسد. كما تفصّل الغرض فيه.
ويُمكن فرض الأمر في قرينة كما ذكرتها حتى يردَّ غرض الفصل إلى المعنى. فأما إذا ذكر اللفظ من غير قرينةٍ، وهو كناية، فلا بد من تخريج المسألة على القاعدة التي مهَّدناها في الصرائح والكنايات.
فليتخذ الناظر ما ذكرناه معتبره في نظائر هذه المسألة من الألفاظ المترددة من جهاتِ الاحتمالات.
فصل
قال: " ولو اشترط في بيع السمن أن يزنه بظروفه ... إلى آخره " (2) .
3316- الفصل يشتمل على مسائلَ مرسلة نذكرها، إن شاء الله: منها أنه إذا أشار إلى سمن في وعاء وقد عُهِد الوعاء من قبل، وعُرف غلظه ودِقته، أو كان شيئاً لا يتوقع فيه تفاوت به مبالاة، كالزِّق وما في معناه. فإذا قال والحالةُ هذه: بعتك هذا السمنَ بكذا، وكان وجهه بادياً وأجزاؤه متساوية، فالبيع صحيح لا شكَّ فيه.
ولو كان السمن في ظرف مختلفِ الأجزاء دقةً وغلظاً، وكان بحيث لا يستدل بما يبدو من طرفه على ما يغيب عن البصر من باطنه، وجوَّز المشتري أن يتفاوت الأمرُ تفاوتاً بيِّناً، فقد ذهب بعضُ المحققين إلى أن البيع يبطل في هذه الصورة.
__________
(1) كذا في النسخ الثلاث. ولعل الصواب: رعاها الشارع.
(2) ر. المختصر: 2/203.(5/394)
والسبب فيه أن التعويل على العِيان في هذا البيع، والعِيان ليس مفيداً إحاطة، فكان كَلاَ عِيان، والجهالة مفسدةٌ للعقد.
وقال شيخي أبو محمد: البيع في مثل هذا مخرَّج على قولي بيعِ الغائب، ولا وجه (1) للقطع بالفساد. وهذا الذي ذكره صحيح لا شك فيه.
ومن أفسد البيع من أصحابنا فرَّع قولَه على منع بيع الغائب. ولا يُظن بمن يرجع إلى تحقيقٍ يخرّج بيعَ الغائب فيه إذا قال البائع: بعتك الثوبَ الذي في كُمّي على قولين، مع القطع ببيع السمن في الظَّرف الذي يُظن اختلاف أجزائه.
والذي يبيّن الغرضَ في هذا الفصل أن العِيان إذا أفاد الإحاطةَ بالجوانب، ولم يُبن خلافَ ذلك، فهو إعلام، وإن كان العيان لا يفيد الإحاطةَ في الحال، كما ذكرناه في الظرف المشكل. فالوجهُ إلحاق ذلك ببيع الغائب.
وإن بني العقدُ على عيانٍ يثير غلبةَ الظن بالإحاطة، ثم يتبين أمر يخالف هذا: كالرجل يشتري صُبرةً، ويظنها على استواءٍ من الأرض، ثم يبينُ في خَلِلها دِكّة (2) ، أو كما اشترى فاكهةً متساويةَ الأجزاء في قرطالة (3) ، يحسبها ملءَ القِرطالة، فيبين في أسفلها حشوٌ، الصحيح الحكمُ بالصحة في هذه المسائل، مع إثبات الخيار للمشتري؛ فإن العيان أشعر بظنٍّ في الإعلام، فاعتمده العقدُ، ثم لما بان خلافُ المظنون، اقتضى ذلك الخيارَ.
وكان شيخي أبو محمد يُلحق هذا القسمَ ببيع الغائب أيضاً. ويقول: إن ظننا إفادَةَ العيانِ علماً، فقد تبيَّنا بالأَخَرة خلافَ ذلك، فليقع التعويل على المعلوم آخراً، لا على المظنون أولاً.
__________
(1) في (ص) : والأوجه القطع بالفساد.
(2) ساقطة من (هـ 2) .
(3) القِرطالة: عِدْل حمارٍ، والقِرْطل سلة من العنب. قيل معزبة عن اليونانية، وقيل عن الفارسية (معجم الألفاظ الفارسية المعرّبة) وعِدْل الحمار هو ما يوضع على ظهره لتوضع فيه البضائع والأمتعة، والعِدْل المثل والمساوي، وسمي ما يوضع على ظهر الحمار بذلك لأن له ظرفين متعادلين؛ حتى يستقر الحمل على ظهره، ولا يميل.(5/395)
ولو اشترى سمناً في بُستوقةٍ (1) وهو يرى الغِلَظَ والدقة من رأس البستوقة، والغالب على الظن أنها لا تتفاوت، فالذي يقعُ الحكمُ به ظاهراً الصحَّةُ، فإن بان تفاوتٌ في غلظ الداخل على خلاف الاعتياد، التحقت المسألةُ بالصُّبرة التي يبين تحتها دكة. وقد تفصل المذهب فيه.
3317- فإن قيل: إذا كان العيان لا يفيد إعلامَ المقدار، ولا تغليبَ الظن، فقد ألحقتم القولَ فيه ببيع الغائب، فبم تنكرون على من يقول: إذا كان المبيع متساوي الأجزاء، ولم يختلف ظاهره وباطنه، وإنما بان تفاوتٌ في المقدار، فالبيع صحيح، فإن صحَّةَ البيع تعتمد العلمَ بصفةِ المبيع، لا بمقدارِه؛ فإن المقدارَ إنما يراعى في عقود الربا؟
قلنا: القدر معني من المبيع، كما أن الصفة معنيّهٌ منه، ولعلّ القدرَ أوْلى بالرعايةِ؛ فإن المقدار من المبيع مبيعٌ، والصفةُ لا تستحق إلا تبعاً، وإنما صح بيع الصُّبرة على الاستواءِ من الأرض؛ من حيث إن العِيان يحصرها ويحيط بها.
فإن قيل: العيان لا يقدّر الصبرة إلا خرْصاً وحزْراً، وقد لا يعرف الحَزْر إلاَّ الخواصُّ من الناس، ثم صح البيع، دلَّ أن القدرَ ليس معنِياً، ولما كان القدر معنيّاً معتبراً في الربويات، لم يجز التعويلُ فيها على العيان. واعتقد مالكٌ (2) الاعتناءَ بمعرفة المقدار، فمنع بيع الصُّبرة جزافاً بالدراهم، ومنع بيع السلعة بكف من الدراهم جزافاً.
قلنا: أما الربويات، فالتعويل فيها على التعبد، وما تعبدنا فيه بالكيل لا نقنع فيه بالوزن، وإن كان أَحْصرَ. وأما ما ذكره السائل من الحزر، واختصاص بعض الناسِ به، فصحيح. ولكن العقد يبتنى على إحاطة العيان، لا على إحاطة المقدار؛ فالذي عاين الصُّبرة واشتراها، اعتقدَ أن الصبرةَ إلى استواء الأرض حنطةٌ، وربط العقدَ به، فهذا هو المعتبرُ لا الحزر.
__________
(1) البُستوقة: القلة من الفخار. تعريب (بستو) (معجم الألفاظ الفارسية) .
(2) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/573 مسألة 951.(5/396)
وعلى الجملة لِما بحث السائل عنه وَقْعٌ.
وقد ذهبَ بعض أصحابنا فيما حكاهُ الشيخ أبو علي في مذهبه الكبير (1) أن جهالةَ المقدارِ لا تُلحق البيعَ ببيع الغائب، ولكنه من تفرّداته. وإنما يُفتَى بما يأتي به في شرحه، فلذلك أخرتها. فهذه مسألة.
3318- ومن مسائل الفصل أنه لو باع السمنَ مع الظرف: كل منّ بكذا، وشَرَطَ طرحَ وزن الظرف، صح البيع. وإن قال بعتُك هذا السمنَ كلَّ مَن بكذا على أن أزنه بظرفه، ولا أحط وزنَ الظرف، فهذا باطل؛ لأنه وجه العقد على السمن، ثم شرط أن يتسلم ما ليس بسمن بدلاً عن السمن. وهذا قولٌ متناقض؛ فلا ينعقد البيع.
وإن قال: بعتُك السمن مع الظرف، كل من بكذا، فمقتضى لفظه لا تناقض فيه، ومقصوده وزن الظرف مع السمن، وبيعه بحسابه، فإن كان الظرف متقوّماً بحيث يصح إفراده بالبيع، فالبيع صحيح وإن اختلفَ جنس السمن والظرف. وقد تختلف القيمة، وهو كبيع الفواكه المختلطة على وزن واحدٍ في الجميع.
وقال بعض أصحابنا: لا يجوز البيع كذلك؛ لأنه لا يعرف قدر السمن والظرف، والمقاصد تختلف في ذلك. وقد قدمنا في الفواكه المختلطة كلاماً فيما مضى، فلو كانا عالمين بمقدار الظرف وجرى العقد كما ذكرناه، صح بلا خلافٍ.
فرع:
3319- إذا قال بعتك من هذا السمن كلَّ منّ بدرهم، أو بعتك من هذه الصُّبرة كلَّ صاع بدرهم، فلفظه ليس يتضمن استيعاب الجميع؛ فإن من مقتضاه التبعيضُ، فلا يصح العقد بهذا اللفظ في جميع السمن والصبرة. وهل يصح العقد في منّ أو صاع؟
ذكر صاحب التقريب فيه وجهين، وشبَّهها بمسألة في الإجارة: وهي إذا قال:
__________
(1) المذهب الكبير هو شرح الشيخ أبي علي مختصر المزني. ولم يعرف هذا الشرح بهذا الاسم، وربما لم يطلقه عليه إلا إمام الحرمين. يبدو هذا من عبارة السبكي في الطبقات، حيث يقول في ترجمة الشيخ أبي علي: "وصنف شرحَ المختصر، وهو الذي يسميه إمام الحرمين بالمذهب الكبير" (ر. الطبقات: 4/344) .(5/397)
آجرتك (1) هذا الحانوتَ، كل شهر بعشرةٍ، فليس للإجارة أمد [بحدود] (2) وإنما هي معقودةٌ على الأبدِ، والمعتمد تبيين حصَّةِ كل شهر، فالإجارةُ فاسدة فيما وراء الشهر الأول، وهل تصح في الشهر الأول بالقِسط [المذكور] (3) ؟ فعلى وجهين. قال صاحب التقريب: الصاع من الصبرة بمثابة الشهر في الصورة التي ذكرناها. وما ذكره قريبٌ. ولكن الأصح فساد الإجارة في الشهر الأول. والوجه المذكور فيه ساقط غير معتدِّ به.
فرع:
3320- إذا قال بعتك السمن مع ظرفهِ هذا، كل من بدرهمٍ، وكان الظرف غير متقوم؛ بحيث لو قدر إفراده بالبيع لم يصح. فقد قطع بعض أصحابنا بفساد البيع في السمن؛ من حيث اشتمل على اشتراط بذل مالٍ في مقابلةِ ما ليس بمال. والوجه عندنا تخريج هذا على تفريق الصفقة: فالزق مع السمن جُمعا في العقد، وقوبلا بالثمن، فكان ذلك كصفقة تجمع حُرّاً وعبداً، أو شاة وخنزيراً.
فصل
قال: " ولو اشترط الخيار في البيع أكثرَ من ثلاث ... إلى آخره " (4) .
3321- قد سبق القول في خيار المجلس وخيار الشرط على أبلغ وجهٍ في الاستقصاءِ، والغرض من ذكر هذا الفصل بيانُ ميل النص إلى وجهٍ ضعيف في القياس، ثم نذكر بعد التنبيه ما رأيناه للأصحاب. فإن كان زائداً على ما قدمناه في صدر الكتاب، فليضمَّه الناظرُ إلى ما تقدَّم، وإن [لم يكن] (5) زائداً، لم تضر الإعادة.
__________
(1) أَجَرْتُك الدارَ، من باب قتل، وفيها لغة ثانية من باب ضرب، والثالثة: آجرتُك (بالمد) وهي من أفعل لا من فاعَل. فآجرتُ: أفعلت فأنا مؤجر، ولا يقال: مؤاجر. (مصباح) .
(2) في الأصل: ممدود.
(3) في الأصل: الأول.
(4) ر. المختصر: 2/204.
(5) في الأصل: وإن كان.(5/398)
ظهر اختلاف الأصحاب في أن البيع إذا اشتمل على شرط خيار ثلاثة أيامٍ، فابتداء زمان الخيار يحسب من وقت العقد، أو من وقت التفرق؟ فيه وجهان ذكرناهما: أقيسهما - أنه من وقتِ العقد؛ فإن وقت التفرق مجهول، والمجلس قد يقصر وقد يطول، وإثبات المجهول لا يليق بعقد البيع. هذا هو القياس.
والوجه الثاني - أن ابتداء المدة محسوبٌ من وقت التفرق، وعليه يدلّ نص الشافعي، وقد ذكرنا توجيهَ هذا الوجه في موضعهِ. والغرضُ من إعادته ما ذكرنا من ميل النصّ إليه.
وإذا كان كذلك، فيتعين الاعتناءُ بالجواب عما ذكره صاحبُ الوجهِ الآخر من الجهالةِ، فنقول: لا جهالةَ في الخيارِ المشروط، وإنما الجهالةُ في أمدِ المجلس، وذلك محتمل بلا خلافٍ. والذي ذكره ناصرُ ذلك الوجهِ لا يفضي إلى جهالةٍ في الخيار المشروط، فإن جُهِلَ مبتدؤه، فهو بمثابة الجهل بمبتدأ لزوم الملك. وهذا بالِغٌ في دفع فصل الجهالةِ.
والذي يتوجَّه به النصُّ أن شرط الخيار يشعر بتخير مشروطٍ، لولا الشرطُ، لثبت نقيضُه. ولو أثبتنا خيار الشرط من ابتداء العقد، لما كان في الشرط معنى، والخيارُ ثابتٌ لحق المجلس، والأجلُ المطلق في العقد خارج على الخلاف أيضاً. ولكن الإمام (1) كان يرتّبه على خيار الشرط، ويقول: إن حكمنا بأن ابتداءَ الخيارِ محسوبٌ من وقتِ العقد، فالأجل (2) بذلك أولى. وإن قلنا: ابتداءُ خيار الشرط من وقت التفرق، ففي الأجل وجهان. والفرق أن الخيارَ يجانس الخيارَ، فيبعد اجتماعهما.
والأجل يخالف الخيارَ في مقصوده ووضعه، فلم يبعد أن يثبت في وقت ثبوت الخيار.
فإن قيل: هذا الفرق واضح جداً، فما وجه قول من يقول: الأجلُ يحسب ابتداؤه من وقت التفرق؟ قلنا: وجهه أن المقصود من الأجل تأخير الطلِبة بالثمن، وهذا المقصود يحصل بالخيار؛ فإن البائع لا يملك الطَّلِبةَ بالثمن في زمان الخيار، فالأجل
__________
(1) الإمام يعني به والده أبا محمد.
(2) في الأصل: والأجل.(5/399)
وإن لم يكن خياراً، فمقصودُه يضاهِي مقصودَ الخيارِ، ولذلك يمتنع شرط الأجل في البيع الذي يمتنع فيه شرط الخيار.
3322- ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك: أنا إذا رأينا حَسْبَ ابتداء الأجل من وقت التفرق، فلو اشتمل العقدُ على شرطِ الخيار ثلاثةَ أيام وأجل الثمن فيه، فابتداء الأجل على الوجه الذي انتهينا إليه يحسب من أي وقت؟ على وجهين: أحدهما - أنه يحسب من انقضاء الخيارِ المشروط حتى لا يجتمع الأجل والخيار، كما أنا لا (1) نجمع بين الأجل وخيارِ المجلسِ.
والثاني - أنه يحسب من وقت التفرق عن المجلس، وكأنَّ الثمنَ يلحقه نوعان من الأجل: أحدهما - يتضمن الخيار. والثاني - يتضمن الفُسحةَ والمهلة.
والوجه عندنا القطعُ بأن ابتداء الأجل من انقضاءِ الخيار المشروط على الوجهِ الذي عليه نفرع؛ فإن الأجل أحق بمجانسة خيارِ الشرط منه بمجانسة خيار المجلس، والمجانسة تؤثر في منع الجمع.
فإن قلنا: الخيار المشروط المطلق محسوبٌ من وقت التفرق، فلو صرح العاقدان بحَسْب ابتدائه من وقت العقد، ففي صحة العقد والشرط وجهان: أحدهما - أنهما إذا صرحا بذلك، وقع الأمر كما شرطاه، وإنما الكلام في الإطلاق.
ومن أصحابنا من قال: يفسد العقد والشرط.
وحقيقةُ هذا الخلاف ترجع إلى أن منع الجمع بين الخيارين من مقتضى اللفظ المطلق، أم هو حكم يجب اتباعه؟ وهذا مختلف فيه: فمن راعى من أصحابنا في صورةِ الإطلاق مقتضى اللفظ، وزعم أن شرط الخيار مشعر بثبوت تخيرٍ لولاه، لكان اللزوم [بدلَه] (2) ، فإذا وقع التصريح بجمع الخيارين، لم يمتنع عنده.
ومن اتبع الحكمَ ورأى اجتماعَ الخيارين بعيداً، واعتقد أن خيار الشرط لغوٌ مع
__________
(1) في (هـ 2) ، (ص) : لم.
(2) في الأصل: يدله. والمعنى: أنه لولا شرط الخيار لكان لزوم العقد بدلاً عنه.(5/400)
خيار المجلس، فالتصريحُ بالشرط يفسُد من طريق الحكم، ولا يبعد أن يؤثر في فسادِ العقد.
وهذا فيه نظر عندنا. وإن اتبعنا الحكمَ فَقُصارَاهُ أن يلغوَ خيار، وليس الخيارُ مقصوداً في البيع؛ حتى يؤثِّر كونُه لغواً في إفساد البيع، والشرط المفسد هو الذي يغير مقصوداً من العقد.
فالأظهر إذاً أَنَّ المتعاقدَيْن إذا صرَّحا باحتساب ابتداء الخيارِ من وقتِ العقدِ، جاز ذلك. وقد يتجه لمن يميل إلى الإفساد شيء وهو أن يقول: إذا كان يلغو خيار الشرط في زمان المجلس، فكأَنْ لا خيارَ من جهة الشرط في المجلس، وإنما يثبتُ منه ما يقع بعد التفرق ولا يدرَى كم قدرُه، فهو خيار مجهول المقدار.
وإذا فرعنا على أن خيار الشرط عند الإطلاق محسوب من ابتداء العقد، فلو صرّح المتعاقدان بشرط احتساب أول مدة الخيار من وقت التفرق، فالذي قطع به الأصحاب أن هذا مفسد للعقد على الوجه الذي نفرع عليه. ووجه ذلك ظاهر؛ فإن المعتمد عند هذا القائل ما في ذلك من الجهالةِ، وإذا وقع التصريح بها، فالوجه الحكم بالفساد.
وذكر صاحب التقريب وجهين على هذا الوجه، كالوجهين اللذين فرعناهما على الوجه الأول.
وهذا لا أصل له؛ فإن الوجهين المذكورين المفرَّعين على الوجه الأول مأخوذان من التردد في أن ذلك [الوجه] (1) مبنيٌّ على حكم متَّبع، أم هو متلقًّى من صيغة اللفظِ المطلق، ولا ينقدح في الوجه الثاني هذا؛ فإن المعتمد في الوجهِ الثاني اجتنابُ الجهالة. والتصريحُ بهذا يناقض المقصودَ.
3323- ومما فرعه الأصحاب في ذلك أن البيع إذا اشتمل على خيار الشرط، فإذا قلنا: ابتداؤه محتسب من وقت العقد، فلو قال المتعاقدان في المجلس: أبطلنا الخيارَ، فهذا يتضمن قطعَ الخيارين؛ فإن الإبطال صادفهما جميعاً. وإذا قلنا: ابتداءُ خيار الشرط محسوب من وقت التفرق، فإذا قالا في المجلس: أبطلنا الخيار،
__________
(1) ساقطة من الأصل.(5/401)
وأطلقا ذلك، فينقطع خيار المجلس، وفي بطلان خيار الشرط وجهان: أحدهما - أنه لا يبطل؛ فإن إبطالهما لم يصادفه، فوجب أن يقصر على خيار المجلس.
والثاني - أنه يبطل خيارُ الشرط؛ فإن إطلاقَ إبطالِ الخيار يتضمَّن قصد إلزام العقد؛ وهذا يقتضي قطعاً قطعَ [التأخير] (1) ودفعَ ما سيقع.
* * *
__________
(1) في الأصل، (ص) : قطع الناجِز، والمثبت عبارة (هـ 2) .(5/402)
بابُ (1) النهي عَن بيع الغُرورِ وثَمنِ عَسْبِ الفَحْلِ
3324- ذكر الشافعي (2) نَهْي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن عَسْبِ الفَحلِ، وذلك أن يستأجر فحلاً للضّرابِ بمال يبذله، فهو باطل، لأن المالَ إن بذل على مقابلة الماء، كان باطلاً؛ إذ لا قيمة له، وإن كان مبذولاً على مقابلة الضراب، فهو مجهول، وليس هو مما يقع على وجهٍ واحدٍ، وقد لا يقع، فكان في حكم ما يخرج عن مقدور تحصيله.
واستعارةُ الفحل للضراب مسوَّغةٌ، فإن الضراب والتسبب إليه ليس محرَّماً، والاستعارة لا تقتضي [اجتنابَ] (3) الجهالة.
فصل
3325- ذكر الشافعي نهي رسول الله عن بيع الغَرر، ثم عدَّ وجوهاً من الغَرر المفسدِ للبيع، ونحن نجري على ترتيبه فيها.
ومعنى الغَررِ ما ينطوي عن الإنسان عاقبتُه. ومنه أغرّ الثوب، فيقال: ردَّ الثوب إلى غَرِّه أي إلى طيّه الأول.
ثم لا يحرم كل غرر؛ إذ ما من عقدٍ إلا ويتطرَّق إليه نوع من الغرر وإن خفي.
وقد نص الشافعيُّ على الوجوه المؤثِّرة، فمما ذكره بيع الجمل الشارد، والعبد الآبق وهو باطل؛ فإن البيع يقتضي تسليمَ المعقود عليه، فينبغي أن يكون
__________
(1) من هنا بدأت المقابلة على نسخة أخرى هي نسخة (ت 2) الجزء التاسع. فصارت النسخ المعتمدة أربعاً.
(2) ر. المختصر: 2/204.
(3) في الأصل: اختيار.(5/403)
التسليم ممكناً، فإذا عُدَّ متعذّراً في العرف، قُضي ببطلان العقدِ، وهذا يختلف باختلاف الأحوال، وصفات العاقدين؛ فإذا أبقَ العبدُ وخفي مكانُه، فبيعه باطل، لما ذكرناه، ولا يشترط في الحكم بالبطلان اليأسُ من التسليم، بل يكتفَى بظهور التعذُر.
3326- وإذا باع عبداً مغصوباً، فهذا يختلف، فإن كان البائع يقدر على استرداده من الغاصب وتسليمه، صحّ البيعُ. وإن كان لا يقدر عليه لضعفه، واستظهار الغاصب بفضلِ قوته، فالبيع مردود.
ولو كان المشتري قادراً على أخذه من الغاصب، وكان البائع عاجزاً عنه، ففي صحَّة البيع خلاف بين الأصحاب: منهم من أفسده نظراً إلى عجز البائع؛ فإنه هو الذي يجب عليه التسليم، فإذا عجز عمَّا يجب عليه بحكم العقد، [لم يصح، ومنهم من قال: يصح العقدُ] (1) ، نظراً إلى قدرة المشتري على الوصول إلى حقه. وهذا هو الأصح.
ولكن إن علم المشتري حقيقةَ الحال، فلا خيارَ له، وإن جهل وظن أن المبيع في يد البائع، فله الخيار؛ فإن العقد لا يُلزمه تكلّفَ تحصيل المبيع.
ثم إذا شرع في العقد على علمٍ، وتوجَّه على البائع التسليمُ، فإذا عجز عنه، ولم يتمكن من تحصيله بنفسه، فيثبتُ الخيارُ أيضاً للمشتري، وإن شرع في العقد على علم. هذا هو الأصحّ.
فإن قيل: هذا يناقض ما ذكرتموه الآن من الفرق بين العلم والجهل؛ فإنكم أثبتم الخيار مع العلم أخيراً. قلنا: الفرق قائم؛ فإنه إذا كان جاهلاً، فعَلِم، تخيَّر، وإن لم يدخل وقتُ وجوبِ تسليم المبيع على التفصيل المقدم في أقوال البداية، وإذا شرع في العقد على علم، فلا خيارَ له ما لم يدخل وقتُ وجوب التسليم.
ويجوز تزويج الآبقة، وينفذ عتقُها؛ فإن التزويج والعتق لا يفتقران إلى تسليمٍ، حتى يُرعَى فيهما إمكان التسليم.
__________
(1) ساقط من الأصل.(5/404)
3327- ومما ذكره الشافعي من أنواع الغرر بيعُ الطائر في الهواء.
والتفصيل فيه أنه إذا لم يكن مملوكاً للبائع، فلا شكّ في فساد العقد، وإن كان مملوكاً للبائع، لكنه أفلت، وكان الوصول إليه متعذراً، فبيعُه فاسدٌ؛ لما قدمناه من فساد بيع ما لا يقدر على تسليمه.
وأما الحماماتُ التي تكون مملوكةً والتي تطير نهاراً وتأوِي إلى أوكارها ليلاً، فالمذهب صحة بيعها نهاراً؛ بناءً على عوْدِها الغالب، وهو كتصحيحنا بيعَ العبدِ الغائب الذي نرجو إيابه. وأبعد بعض أصحابنا، فمنع بيعها قبل أن تأوي؛ فإن عودها على حكم عادة والآفات كثيرةُ الطروق، ولا ثقة بما لا عقل له. والصحيح التصحيح.
ومما يذكر في ذلك، وبه تمام البيان أن الشيء الذي يتوصل إلى تسليمه، ولكن بعد تعذّرٍ وعُسرٍ ظاهرٍ، كالطَّائر في دار فيحاءَ متسعةِ الرقعة إذا لم يكن لها منفذ، فالوصول إليها مع تحمل العسر متصوّر، فإذا بيع ما وصفناه، ففي صحة البيع وجهان: أحدهما - لا يصح، لتحقق التعذّر حالة العقد. والثاني - أن البيع يصح لتحقق الإمكان، وإن كان مع عسرٍ بيّن، وهذا بمثابة تصحيح بيع العبد الآبق (1) الغائب الذي هو على مسافةٍ بعيدةٍ من المشتري.
فرجع حاصل القول إلى أن التعذر إذا تحقق حالةَ العقد، ولم يكن التمكن موثوقاً به، فالبيع فاسد قطعاً، وإن كان التسليم ممكناً مع أدنى عُسر محتمل في العادة، فالبيع صحيح. وإن تحقق التعذر، ولكن كان التمكن موثوقاً به مع معاناة عُسر، ففي المسألة وجهان.
ومما ذكره الأصحاب بيعُ البرجِ وفيه الحمامات المملوكة. أما القول في الحمامات، فعلى ما فصّلناه، وبيع البرج صحيح، والتسليم فيه التخليةُ، وهل يتم التسليم في الحمامات إذا أَوَتْ إلى البرج بالتخليةِ تبعاً للبرج، والتفريع على أن
__________
(1) ساقطة من (هـ 2) ، (ص) ، (ت 2) .(5/405)
لا يكفي في تسليم المنقولاتِ التخليةُ؟ في المسألة وجهانِ. وقد تقدَّم نظيرُهما في بيع الدار مع أقمشةٍ فيها.
وبيع النحل في الكُوَارَة (1) جائز. وإن كانت خارجةً من الكُوَارَة، ولكنها تَؤوبُ في العادة، فالقول فيها كالقول في الحمامات الهادية.
3328- ومما [يُذكر] (2) في ذلك بيعُ السمك في الماء. والتفصيل فيه كالتفصيل في الطير في الهواء. فإن لم يكن مملوكاً، فلا خفاءَ بفساد بيعه، ولو كان مملوكاً، فسبيل التفصيل ما مضى من كونه مقدوراً، أو غير مقدور.
وقد يتصل بذلك أن السمكة إن كانت مرئيةً تحت الماء الصافي، فتفصيل القول ما تقدَّم. وإن كانت غير مرئيَّةٍ، فينضم إلى ما ذكرناه القولُ في بيع ما لم يره المشتري.
وذكر أصحابنا طرقاً (3) من الكلام في أن السمكة كيف تملك، وما وجه ثبوت اليد عليها؟ والقول في ذلك يتعلق بكتاب الصيد، على ما سيأتي، إن شاء الله تعالى.
فرع:
3329- من اصطاد سمكةَّ فَخرج من بطنها دُرَّةٌ، فإن كانت مثقوبةً، فهي لُقطةٌ؛ لقَطْعِنا بأنه لا يثقب الدرّةَ إلا مالكٌ. وإن كانت غير مثقوبة، فهي للصياد؛ لأنها بمثابة أجزاء السمكة في أنها مصادَفةٌ موجودة (4) وليس عليها علامةُ ملك مالكٍ.
وإن قدِّر فيها ملكٌ، لم يبعُد تقدير الملك في السمكة أيضاً، بأن تفرض مُفلِتةً بعد القبض عليها.
ولو باع واحد تلك السمكة، وفي بطنها الدرَّة، لم يملك المشتري تلك الدرة؛ لأن حكم البيع أن يَرِدَ على أجزاءِ ما قُصدَ بالبيع، وليست الدرة من أجزائها، ولا فضلة [منفوضة] (5) منها بخلاف البيضة في جوف الدجاجة، واللبن في ضرع الشاة.
__________
(1) الكُوَارَة: بالضم والتخفيف بيتُ النحل وخليتها. هذا هو المعنى المراد هنا (المصباح) .
(2) في الأصل: نذكره.
(3) كذا في (ص) ، (هـ 2) ، وفي الأصل. وفي (ت 2) : طريقاً. ولعلّ الأليق: طرفاً.
(4) في (هـ 2) : مملوكة.
(5) في الأصل: منقوصة، ومثلها (ص) ، والمثبت من (هـ 2) ، (ت 2) .(5/406)
فصل
قال: "ومما يدخل في هذا المعنى أن يبيع الرجل عبداً لرجل ... إلى آخره" (1) .
3330- ألحق الشافعيُّ بيع الرجل مالَ غيرهِ بالغرر الذي يجب اجتنابه، وغرض الفصل الكلامُ في وقف العقود.
وهو ثلاثة أصنافٍ عندي: أحدها - أن يبيع الرجل مال غيره بغير إذنٍ منه ولا ولايةٍ. والمنصوص عليه للشافعي في الجديد أن البيع باطل. ونص في القديم على أنه منعقدٌ ونفوذه موقوف على إجازة المالك، وهو مذهبُ أبي حنيفة (2) .
ثم من مذهبه أن العقدَ إنما يقف إذا كان له مجيزٌ حالة الإنشاء، فلو باع الرجل مالَ طفل، فبلغ الطفل وأجازه، لم ينفذ العقدُ. نعم، يقف بيع مال الطفل على إجازة الوصي والولي والوالي العام، على حسب مراتبهم، والوقوف على إجازة من يملك الإنشاء منهم.
ولو باع الرجل مال غيره، ثم ملكه بعد ذلك العقد، لم ينفذ عند أبي حنيفة (3) ؛ فإنه لم يكن حالة العقدِ مالكاً للإجازة.
قال شيخي: إذا فرعنا على القديم، لم نخالف أبا حنيفة في هذه التفاصيل.
ومما نذكره تفريعاً على القديم أن أبا حنيفة (4) قال: من اشترى شيئاً وقصد به شخصاً، لم يقف الشراء على إجازته، بل ينفذ على الذي تعاطى الشراء، وزعم أن الشراء إذا أمكن تنفيذه على الذي قال: اشتريت، فلا حاجة إلى وقفه على إجازة غيرِه.
__________
(1) ر. المختصر: 2/204.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 83، فتح القدير: 6/188، الاختيار: 2/17.
(3) ر. فتح القدير: 6/193.
(4) ر. مختصر الطحاوي: 83.(5/407)
وذكر بعض المحققين من أصحابنا أنا إذا وقفنا بيعَ مال الغير على إجازته، فيقف الشراء أيضاً على إجازَةِ من قصده المشتري؛ فإن التوكيل يجري في شقي العقد. ومن قُصد بالشراء ممن يصح منه التوكيل في تلك الحالة، فلا فرقَ بين الشراء والبيع.
هذا فيه إذا اشترى في الذمّة شيئاً، فأما إذا اشترى شيئاً بمال غيره، فهو بيعُ مال الغير بغير إذنهِ، فلا نشكُّ أنه يُخرَّج على القولين.
وإن فرَّعنا على الجديد وأبطلنا بيعَ مال الغير، فمن اشترى شيئاً في الذمّةِ، وقصد به غيرَه، فلا شك في نفوذ العقد على الذي باشر الشراء.
وإن قال: اشتَريتُ هذا العبدَ لفلانٍ، والتفريع على الجديد، فلا شك أن الشراء لا يقف على إجازة ذلك المسمَّى. ولكن في نفوذه على هذا المشتري، وقد سمَّى غيرَه وجهان: أحدهما - أنه ينفذ عليه، وتلغو تسميتُه الغيرَ. والوجه الثاني - أنه يفسد العقد، ولا ينفذ على الذي تعاطى، ولا يقف على إجازة الذي سمى.
هذا الذي ذكرناه صنف واحد من الأصناف الثلاثة في الوقف.
والعراقيون لم يعرفوا القول القديم في هذا القسم، وقطعوا بالبطلان.
3331- فأما الصنف الثاني - فهو كبيع الرجل مالاً يحسبه لأبيه، ثم يَبين أن أباه قد مات وانتقل المال إليه ميراثاً، ففي صحة البيع ولزومِه قولان مشهوران نقلهما العراقيون، كما نقلهما المراوزةُ.
أما وجه قول التصحيح فلائح. وأما وجه قول الإفساد، فهو أن هذا العقدَ وإن كان منجَّزاً في صيغته فمحلّه التعليق، والتقدير فيه: إن مات أبي، فقد بعتك هذا العبدَ. وللشافعي في الجديد مرامزُ إلى القولين في هذا النوع.
3332- والصنف الثالث - من الوقف يداني الصنف الأول في وضعه، ولكن يمتاز عنه بما نصفه.
فإذا غصب الرجل أموالاً وباعها، وتصرَّف في أثمانها، وأوردَ العقودَ على العقود، وعَسُرَ المستدرَكُ، ولو نفذ المالكُ تلك العقود، لسلمت له تلك الأثمان بأرباحها. ولو كلّف نفسه تتبعَ تلك العقودِ، لشق عليه التدارك، ففي جواز تنفيذها(5/408)
قولان، نص عليهما في كتاب الغصوب، على ما سيأتي ذكرهما، إن شاء الله.
وإنما تمتاز هذه الحالة على القسم الأول بعسر التدارك، وطلبِ مصلحة المالك.
فهذا جوامع القول في الوقف.
3333- ثم وقف العقود يطّرد في كل عقد يقبل الاستنابة، كالبياعاتِ، والإجارات، والهبات، والعتق، والطلاق، والنكاح، وغيرها. والضابط ما ذكرناه من قبول الاستنابةِ. ثم إذا صحَّحنا العقدَ في القديم، نجَّزْنا صحّتَه، بَيْدَ أن الملك لا يحصل إلا عند الإجازة.
ولو وهب وأقبضَ، لم يحصل الملك، فإذا أجاز المالك، استعقبت الإجازةُ حصولَ الملك، ولم يتقدم الملك عليها تبيناً واستناداً.
هذا ما أراه وليس يخرج في هذا القول الغريب في أن الهبة إذا تأكّدت بالقبض، فيتبين أن الملك استند إلى حالة العقد. كما سيأتي في الهبات.
فصل
قال: " ولو اشترى مائةَ ذراع من دَارٍ لم يجز ... إلى آخره " (1) .
3334- مضمون الفصل مسائلُ، منها: أن يقول: بعتُك ذراعاً من هذه العَرْصة، فإن كانت معلومةً الدُّرعان، صح البيع، وكان الذراع بالإضافة إلى الدُّرعان بمثابة جزءٍ شائعٍ كالعُشرِ ونحوه، إلا أن يَعني بالذراع معيناً، لا على تأويل الإشاعَةِ، فلا يصح العقد حينئذٍ.
ولو اختلف البائع والمشتري، فقال المشتري: أردت جزءاً شائعاً فيها. وقال البائع: بل أردتَ ذراعاً معيناً، لا على مذهب الإشاعَة، بل نحوتَ بذكر الدار (2) نحو قول القائل: بعتُ شاةً من القطيع.
فهذا فيه احتمال عندنا: يجوز أن يقال: الظاهرُ حملُه على الإشاعة، ولا يقبل
__________
(1) ر. المختصر: 2/204.
(2) في (هـ 2) ، (ص) ، (ت 2) : الذراع.(5/409)
من البائع العدول عنه. ويجوز أن يقال: يقبلُ قولُه؛ فإن اللفظ الصريح في الإشاعة الجزءُ المنسوبُ إلى الكل، كالنصف والربع، وما في معناهما.
ولو كانت العرصة مجهولة الدُّرعان، فقال: بعتك منها ذرَاعاً، فالبيع مردود.
وليس كما لو قال: بعتك صاعاً من هذه الصُّبرة، وكانت الصبرة مجهولة الصيعان؛ فإن البيع صحيح على ظاهر المذهب. والفرق أن الصُّبرةَ متساوية الأجزاء، بخلاف ذرعان الأرض؛ فإنها متفاوتة الأجزاء.
3335- ولو وقف على طرفِ الأرض وقال: بعتك عشرةَ أذرع من موقف قدمي في جميع العرض (1) إلى حيث ينتهي في الطول. فهذا إعلامٌ. وقد اختلف أصحابنا في صحة البيع تعويلاً عليه: فذهب الأكثرون إلى الصحة، ووجهه بيّن. وقال قائلون: لا يصح البيع؛ فإنه لا يدرى منتهى القدر المبيع حتى يُذرعَ. وهذا ساقطٌ لا أصل له.
ولو وقف في وسط الأرض وقال: بعتك عشرةَ أذرع من موقفي في جميع العرض إلى حيث ينتهي في الطول، ولم يشر إلى الجهة التي يقع المبيع فيها، وكان موقفه محفوفاً بالأرضِ من قدامه، وورائه، فلا شك في فساد العقد.
ولو رسمَ في وسط الأرض مقداراً منها يحيط به خطوط هي أضلاع له. أَوْ رَسَم مقداراً على شكل التدوير، يحتوي عليه محيط الدائرة، وباعه، فإن كان قطرٌ منه ْيُتاخم الشارَع أو يتصل بملك المشتري، فالبيع صحيح.
وإن كان لا يتصل ذلك المقدار المعين بشارعٍ، ولا بملك المشتري نُظر: فإن قال: بعتك هذا المقدارَ بحقوقه، صح، وثبت للمشتري حقُّ الممرِّ. (2 وإن أطلق البيعَ، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن مطلقَ البيع يقتضي حقَّ الممرّ في 2) الذي لم يبعه. والثاني - لا يقتضي الإطلاقُ ذلك.
فإن حكمنا بأن الإطلاقَ يقتضي حقَّ الممر، فالبيع صحيح. وإن قلنا: لا يقتضيه، ففي البيع وجهان: أصحهما - البطلان؛ لأنه لا ينتفع ببقعةٍ لا ممرَّ لها.
__________
(1) في (هـ 2) : العرصة.
(2) سقط ما بين القوسين من (ت 2) .(5/410)
وكذلك اختلف أصحابنا فيه إذا باع الرجل بيتاً من داره، ولم يتعرض لإدخال حق الممر في العقد، ففي صحة البيع التفصيلُ الذي ذكرناه، بناءً على أن الإطلاق هل يقتضي حقَّ الممر.
ومما يتم به البيان أنه إذا عيّن مقداراً مشكَّلاً من وسط الأرض. وِقلنا: يثبت للمشتري حقُّ المرور، وكان الممرّ يُفرض من الجوانب؛ فالوجه إثباته من جميع الجوانب؛ إذ ليس جانب أولى من جانب. وحقيقة هذا يرجع إلى أنا نُثبت للمشتري في تلك القطعة ما كان ثابتاً للبائع قبل البيع، من حق الممر.
ولو قال بعتك هذه القطعةَ بحقوقها، فحق الممر من الجوانب يدخل في استحقاق المشتري، فكذلك المطلق عند هذا القائل محمول على ما يقتضيه إطلاق شرط الحقوق.
وإن كان الشكل المقدّر متاخماً للشارع، فالذي يقتضيه كلام الأصحاب أنه لا يثبت للمشتري حق طروق الملك بل ممرُّه إلى صوب الشارع؛ والسبب فيه تنزيل العقد على موجب العرف، وليس من موجبه أن يتردد المشتري فيما أبقاه البائع لنفسه إذا كان طرف من المبيع متصلاً بالشارع.
ولو كان يتصل طرف من المبيع بملكِ المشتري، فالظاهِر أنه لا يملك طروقَ ملك البائع، بل ينزل العقدُ على اكتفاء المشتري بأن يوسع بالمبيع رَبْعَه والممر من ملكه القديم إلى ما اشتراه الآن.
فلو قال البائع في هذه الصورة الأخيرة بعتك هذا المقدارَ بحقوقه، فالوجه أن يستحق المشتري طروقَ ملك البائع. وإذا كان مُطلقاً، فالظاهِر ما ذكرته. وفيه احتمال. والعلم عند الله تعالى.
ولو قال بعتك هذه القطعةَ، وكانت محفوفةً بما أبقاه لنفسه، وشرط في البيع ألا يكون له إلا ممرٌ واحد، فإن عيّنه، جاز. وإن أبهمه، فالوجه الحكم ببطلان العقد؛ فإن الجهالة في الحقوق مؤثرةٌ في العرف تأثيرَ الجهالة في المعقود عليه، فإنا لو لم نفعل هذا، وصححنا العقد، لكان بعده نزاعٌ في صوب الممر، وكنا لا ندري من المتبع. والعلم عند الله تعالى.
هذا تفصيل القول في أطرافِ هذا الفصل.(5/411)
فصل
3336- إذا أشارَ الرجل إلى قطعةٍ من الأرض وقال: بعتك هذه القطعةَ على أن تكسيرها مائةُ ذراع، فخرجت القطعةُ مائةً وخمسين، أو نقصت فخرجت خمسين، فإذا أخلف المقدار المشروط بالزيادة أو بالنقصان، ففي صحة البيع في الصورتين قولان: أحدهما - أنه يصح تعويلاً على الإشارة، وخُلف الشرط في المقدار يقرب عند هذا القائل من خُلف الشرط في الصفة. ولو قال: بعتك هذا العبدَ على أنه تركي، فإذا هو من جنسٍ آخر، فالبيع صحيح.
والقول الثاني - أن البيع باطل، نظراً إلى لفظ العقد. ومقتضاه أن المبيع مائة، فإذا كان زائداً، لم يكن المقدارُ الزائد معنياً بالبيع، فكأن الصفقة اشتملت -من جهة أن
الإشارة احتوت على جميع الأرض واللفظُ اختص بالبعض- على مبيع وغير مبيع.
3337- وهذه المسألة تلتفت إلى أصولٍ وتتردّد بين قواعدَ، ونحن ننبه عليها.
فمنها أن من أشار إلى شاة وقال: بعتك هذه البقرة، فاللفظ يتضمن جنساً مخالفاً للمشار إليه، والإشارة مغنيةٌ عن ذكر الجنس؛ فإنه لو قال: بعتك هذا كفى ذلك.
وقد ظهر خلاف الأصحاب في صحة البيع: فمن اعتمد على الإشارة، صحح.
ومن اعتمد العبارة أفسد.
ومن الأصول التي تستند هذه المسألة (1 إليه تفريق الصفقة، ولا يتحقق التحاقُ هذه المسألةِ 1) بقاعدة التفريق إلا بعد تمييزها عن الخُلف في الصفات المشروطة.
فإذا قال: بعتك هذا العبدَ على أنه كاتب، فالكتابة لا تجوز أن تعتقد مورداً للبيع.
والمقدار يجوز أن يفردَ بالبيع ويقدَّرَ مورداً له، كالعبدين أحدهما مملوك للبائع والثاني مغصوب. والصورة التي نحن فيها ممتازةٌ عن قاعدة التفريق؛ من جهة اشتمال الإشارة على استغراق القطعة المعيّنة بالبيع، وليس في صيغة البيع جمع بين موجود ومعدوم؛ فنشأ الخلافُ في صحة البيع من جهة التردد بين هذه الجهات.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2) .(5/412)
وإذا كنا نقول: الخُلف في الصفات في النكاح يوجب تخريج صحته على قولين؛ من جهة أن المقصود من النكاح على الجملة الصفاتُ، كما سيأتي، فالخُلف في المقدار في المبيع أَوْلى بالخلاف، والبيع أقبل للفساد بالشرط، والنكاح أبعد منه.
فالذي يقتضيه الترتيبُ بعد تمهيد ما ذكرناه ترتيبُ مسألتنا في الصحة والفساد على التفريق في الصفقة. وهذه المسألة أولى بالصحة.
وإن رتَّبناها على خُلف الصفاتِ في النكاح، فمسألتنا أولى بالفسادِ.
والذي به الفتوى صحةُّ البيع.
وذكر العراقيون هذه المسألةَ في الزيادة والنقصان، وحكموا بأن الساحة إذا نقصت عن المقدار المذكور، صح البيع قولاً واحداً. وإن زادت، ففي صحة البيع قولان.
ولا يكاد يظهر فرق بين النقصان والزيادة.
وطرد صَاحبُ التقريب وشيخي القولين في الصورتين.
وإذا ثبت أصلُ الكلام في الصّحة والفساد، فنحن نفرع صورة الزيادة، ثم نفرع صورة النقصان.
3338- فأما تفريع الزيادة: فإذا قال: بعتك هذه الأرضَ على أنها مائةُ ذراع، فخرجت عن المساحة مائةً وخمسين ذراعاً. فإن قلنا: بفسادِ العقد، فلا كلامَ. وإن قلنا: يصح العقدُ، لم يختلف الأصحاب في تخيّر البائع، ثم لا يخلو إما أن يفسخ، وإما أن يُجيز. فإن أجازَ العقدَ، فليس له مع الاختيارِ للإجازة مطالبةُ المشتري بشيء زائدٍ؛ فإنَّ قول التصحيح مأخوذ من اعتماد الإشارة والإشارة محيطةٌ بالأرض ولا سبيلَ إلى إلزام المشتري شيئاً لم يسمّ ثمناً. ولو أراد الفسخ، فله ذلك.
فلو قال المشتري: لا تفسخ العقدَ، حتى أزيدك ثمنَ الخمسين على نسبة الثمن المسمى. والمسألة مفروضة فيه إذا كانت الأرض لا تختلف قيمتها في تلك البقعة.
فلا سبيل إلى هذا. فإن ما يريدُ (1) إثباته ثمناً في حُكم ملحقٍ بالعقد، والزيادة لا تلحق العقد عندنا في الثمن والمثمن.
__________
(1) في (ت 2) : فإن لم يرد إثباته.(5/413)
ولو قال المشتري: لا تفسخ العقد، فإني أقنع من هذه الأرض بمقدار مائة ذراع، فقد ذكر صاحب التقريب قولين في المسألة: أحدهما - أن الخيار يبطل، وينزل العقدُ على ذلك، ويجاب المشتري إلى ما يقول. وهذا هو الذي قطع به شيخي. والقول الثاني - أن البائع يبقى على تخيّره.
ووجه القول الأول زوالُ الغَبينَةِ (1) عن البائع. ووجه القول الثاني أنه يقول: ثبوت حق المشتري على الشيوع يلحقَ ضرراً فيما يبقى لي. هذا ما ذكره صاحب التقريب.
والذي أراه أن تنزيلَ المبيع على مائةٍ شائعةٍ في المائة والخمسين لا وجه له، وهو مخالفٌ لموضوع العقد وصيغةِ اللفظ؛ فإن التعويل في التصحيح على الإشارة وموجبها (2) الاحتواء. فإذا رددنا العقدَ إلى شائعٍ، فهذا في التحقيق تغيير لموجب العقد. ولو ساغ هذا النوع، لساغ أن يزيد المشتري في الثمن على حسب ما ذكرناه قبلُ؛ فلا وجه إذاً لهذا التغيير، وإن فرض الرضا به.
والوجه إفساد العقد، أو تصحيحه وإثبات الخيار للبائع؛ فإن فسخ، فذاك. وإن أجاز سلَّم جميع الأرض.
فإن قيل: هلا حققتم تنزيل العقد على بعض الأرض للمصلحة، [والصفةُ] (3) بمثابة قسمةِ الأملاك المشتركة، مع العلم بأنه إذا أُفرزت حصة كل شريك، فليس ما يسلم [لآحاد] (4) الشركاءِ على قياس الملك الذي كان قبلُ؟ قلنا: لهذا قُدِّرت القسمةُ بيعاً على الأصح. وبالجملة ليس ما نحن فيه من ذاك بسبيل. نعم إن كان يناظر شيئاً، فهو قريبُ الشبه مما مهدناه من غرامات الأروش القديمة والحادثة. ولكن كان يجب أن يجوزَ بذل مزيدٍ من الثمن على مقابلةِ الزيادة، ولم أرَ أحداً من الأصحاب يسوّغ ذلك.
فهذا وجهُ التنبيه على مجاري الكلام في المسألة نقلاً واحتمالاً.
__________
(1) في (هـ 2) : الغلبة.
(2) في (ت 2) : وموجباً للاحتواء، فإذا ردده.
(3) في الأصل: والنصفة. والمثبت من (ص) ، (ت 2) والكلمة غير مقروءة في (هـ 2) .
(4) في الأصل: يسلّم الآحاد والشركاء، (ت 2) : إلى آحاد الشركاء.(5/414)
وهذا كله إذا زادت الأرض.
3339- فأما إذا نقصت الأرضُ عن المقدار المذكور، فإن حكمنا بفساد العقد، فلا كلامَ، وإن حكَمنا بصحته، فلا خيارَ للبائع، وللمشتري الخيارُ في فسخ البيع.
وتعليله بيّن. فلو قال البائع: لا تفسخ البيع، وأنا أحط عنك من الثمن مقدار النقصان، فلا يسقط خيار المشتري بهذا.
والدليل عليه أن الصفقة إذا جمعت عبداً مملوكاً وآخر مغصوباً، وحكمنا بالصحة، وأثبتنا الخيار للمشتري، فخياره ثابت، سواء قلنا: إنه يجيز العقد في المملوك منهما بقسط من الثمن. أو قلنا: إنه يجيز العقد في المملوك بتمام الثمن.
ثم المشتري لا يخلو: إما أن يجيز العقد وإما أن يفسخه. فإن فسخه، فلا كلام. وإن أجازه فبكم يجيزه؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه يجيزه بتمام الثمن.
والثاني - أنه يجيزه بقسط من الثمن. والقولان في هذا مرتبان على نظيرهما في تفريق الصفقة.
والأوْلى في التفريق الإجازةُ في المملوك بالبعض. وهذه الصورة أوْلى بالإجازة بجميع الثمن؛ من جهةِ احتواء الإشارة، واستناد صحة العقد إليها، كما تقدم. وحق الفرع أن يُلاحَظ أصلُه. وأيضاً يكاد المقدار على قولي التصحيح مع تغليب الإشارة يضاهي صفة المبيع.
فهذا مجموع القول في ذلك تأصيلاً وتفريعاً.
فصل
3340- إذا باع الرجل ذراعاً من كرباس، فهو كما لو باع ذراعاً من أرضٍ إن أرادَ الإشاعة، والتفصيل في عدد الذُّرعان إذا كانت مجهولة أو معلومة كما مضى في الأرض حرفاً حرفاً. وإن أراد ذراعاً لا على مذهب الإشاعة، فهو على الفساد، كما ذكرناه في الأرض.(5/415)
وغرض هذا الفصل أنه لو اشترى ذراعاً معيّناً من أحد طرفي الثوب على أن يقطعه ويَفْصله، فالأصل المرجوع إليه في ذلك أن القطعَ إن كان يُحدث نقصاً فيما يبقى للبائع يُحتَفل بمثله، فالذي ذكره الأصحاب بطلان البيع في هذه الصورة، ولم يُشبِّب أحد بالخلاف وإن رضي البائع بالتزام النقص. ثم ذكروا لذلك صوراً:
منها - أن يشتري نصفاً من فصل (1) على التعيين وشَرْطِ الفصلِ (2) . ومنها أن يشتريَ ذراعاً من ثوب نفيسٍ يَنقُصه التفصيل والقطع.
وإن كان القطع لا يَنْقُص نقصاً يعتبر مثله أو يؤثر، كالكرباس الصفيق، ففي صحة البيع وجهانِ: أحدهما - الصحة. والثاني - لا يصح؛ لأنه لا يخلو من تأثيرٍ، وتغييرٍ فيما ليس مبيعاً. وقيل: هذا اختيارُ صَاحب التلخيص.
وإذا باع جزءاً معيناً من خشبة على حكم التفصيل، فيختلف ذلك باختلافِ الصور. فإن كانت الخشبة تُعنى لطولها ولو قُطعت، ظهر نقصان القيمة، فهذا يلتحق بصور القطع بفساد البيع. وإن كانت لا تعنى لطولها ولا يظهر بسبب القطع نقصان قيمتها، فهذا يلتحق بصور الوجهين.
وفي القلب من القطع بفساد البيع في صورة التأثير البيّن شي. ولكن الممكن فيه، أنا لو صححنا العقد، وألزمنا البائع القطعَ، كان بعيداً؛ لأن هذا إلزامُ تنقيصٍ فيما ليس مبيعاً. وإن لم نُلزمه، فالحكم بصحة العقد -وليس على البائع الوفاءُ بالتسليم- محالٌ. فهذا تعليل الفساد على حسب الإمكان.
والصور التي لم أذكرها تخرّج على ما ذكرناها، وتنقسم انقسامها.
__________
(1) كذا في الأصل، (ص) ، (ت 2) وبها أثر تصويب في (هـ 2) جعلها غير مقروءة. وفي مختصر العز بن عبد السلام (الفضل) . والمعنى واضح من السياق على أية حال. ولعلها كانت لفظة من ألفاظ تجار الثياب أو غيرها وفي مختصر العز بن عبد السلام: " نصل " بالنون.
(2) أي يشتري نصفاً معيَّناً من ثوبٍ، ويشترط فَصْلَه.(5/416)
فصل
قال: " ولا يجوز بيع اللبن في الضرع، لأنه مجهول ... إلى آخره " (1)
3341- اتفق أئمتنا على منع بيع اللبن في الضرع، والعلّةُ السليمة أنّ اللبن يتزايد على ممر اللحظات، سيّما إذا أُخذ في احتلابه فلا يتأتى تسليم المبيع الكائن حالة العقد.
وتعرّض الشافعي لتعليل منع البيع بكونه مجهولاً، وهذا يهون تقريره؛ فإن الضروع مختلفةٌ: فمنها ضرع سمين مكتنزٌ ضيقُ المنافذ، يقل ما يحويه من اللبن.
ومنه ضرع متسع المنافذ، غير مكتنز، يكثر ما يحويه من اللبن، فَضِمْن (2) الضرع مجهول. والمس من ظاهره لا يفيد علماً بمقدار اللبن وهذا تقريره هيِّن (3) . ولكن يرد عليه أن يُخرَّج على بيع الغائب؛ فإنا على قول تجويزه نجوّز بيعَ الشيء في ظرفٍ مع الجهل بصفته وقدره، فالأولى أن تستعمل الجهالة في مقدار المبيع على معنى أنه لا يتأتى التسليم غير ممتزج، فاستعمال الجهالة على هذا منساغ؛ ولا يلزم تخريجُ المسألة على بيع الغائب.
وإن حلب قدراً من اللبن، فأبداه (4) نموذجاً، وقال للطالب: بعتك من هذا اللبن الذي في الضرع، فقد ذكر الأئمةُ وجهين في أن هذا هل يكون سبيلاً يتوصّل به إلى تصحيح البيع.
وهذا يحتاج إلى فضل نظرٍ: فإن باع مقداراً لا يتأتى حلبه إلا [ويتزايد] (5) اللبن مع
__________
(1) ر. المختصر: 2/204.
(2) ضمْن الضرع، بكسر فسكون، باطنه وما يحويه. (معجم) .
(3) " تقريره هين ": أي تصوير الجهالة باللبن في الضرع، ولكن يردِ عليه الاستشكال بجواز بيعٍ الغائب في قولٍ. ولكن إذا فسّرنا الجهالة على أنه لا يمكن تسليمه غيرَ ممتزج بما يتجدّد حالاً بعد حال، فعندها لا محلّ للاعتراض فلا يخرّج قول الجواز في بيع الغائب على هذا المعنى.
(4) في (ت 2) : فلو بدأه نموذجاً.
(5) ساقط من الأصل.(5/417)
حلبه، فلا ينفع إبداء النموذج؛ فإن المانع قائم. وذكْرُ الوجهين مطلقاً يشير إلى أن المحذور -حيث لا نموذج- عدمُ الرؤية أو عدمُ الإحاطة بالصفة. ومن سلك هذا المسلك يلزمه التخريج على بيع الغائب.
وكان شيخي يتأنق في التصوير، ويفرضُ بيعَ مقدارٍ إذا ابتدر حلبه واللبن على كمال دِرّته لم يظهر اختلاطُ شيء له قدرٌ به مبالاة. وإن فرض شيء على بُعدٍ، فمثله محتمل، كما إذا باع [جِزةً] (1) من قُرْط.
فإذا قلّ مقدارُ المبيع وتُصوّر بالصورة التي ذكرناها، وفرض إبداءُ النموذج، فينقدح ذكر خلافٍ هاهنا؛ فإن هذا المقدارَ يُمثل ببيع جِزَّةٍ من قُرطٍ يبتدر جزها. وإذا كثر المقدار، كان مشبَّهاً ببيع ما يتزايد على شرط التبقية؛ فإن الحلب وإن ابتُدر إذا كثر القدرُ، ظهر التزايد؛ فإنّ سبيل تزايد اللبن من منافذه كسبيل بيع الماء من عيون البئر.
والجَمةُ (2) إذا كملت لا تزيد، وإذا أخذ في نزحها، فارت (3) العيون.
ومن حقيقة هذا الفصل أن الخلاف إذا رد إلى تعليل المقدار، فلا حاجة إلى ذكر النموذج في التخريج على الخلاف.
وحاصل القول: أنه إذا ظهر الزائد والاختلاطُ، امتنع البيع قولاً واحداً. وامتاز (4) اللبن في الضرع في هذه الصورة عن قاعدة بيع الغائب بما ذكرناه من الاختلاط.
وإن قل المقدار وكان الاختلاط فيه غيرَ معتد به، فمن أصحابنا من يرى إلحاقَ هذا ببيع الغائب، وقد تقدم التفصيل فيه، والنموذج من أطرافِ تفريعه.
ومنهم من حسم الباب ورأى إلحاق القليل بالكثير؛ فإنه لا ضبط للقدر الذي يقال فيه: إنه مبيع (5) خالصٌ غيرُ مختلطٍ؛ فالوجه حسم الباب بالمنع.
هذا تحقيق المذهبِ.
__________
(1) في الأصل: جزءاً.
(2) في (ت 2) : والجهة، (هـ) : والجملة.
(3) في (ت 2) : زادت.
(4) في (ت 2) : وصار.
(5) في (هـ 2) : مبلغ.(5/418)
3342- وذكر بعض أصحابنا لمَّا جرى ذكرُ النموذج فصلاً فيه، لا اختصاص له باللبن. وهو أن من أبدى نموذجاً من لبنٍ، أو حنطة، أو غيرِهما وأراه الطالبَ، وقال: التزمت لك على هذه الصفة كذا رَطلاً (1) ، فقبله الطالبُ ونقدَ الثمنَ، فهل يكون هذا سلَماً صحيحاً؟ وهل يجري إبداء النموذج مجرى استقصاءِ الوصف؟ كان شيخي يقطع بأن هذا لا يصح، ويخرّجه على أن التعويلَ فيه على التعيين، والنموذج يُعرَّض [للضياع] (2) ، فقد يجرّ التعيينُ عليه خبالاً. وهذا ممتنع في السلم.
وقال طوائفُ من المحققين: لفظُ الأنموذج لا يكفي من غير تدبّر، وإن كان يُكتفَى باللحظ في بيع العِيان؛ فإن الملحوظ إذا كان هو المسلَم، لم يعد مجهولاً. وإن كان الملحوظُ عِبرةً لموصوفٍ في الذمةِ، ثم لم يتأمَّل، عُدَّ الثابتُ في الذمة مجهولاً. وإن تأمّل العاقدُ النموذجَ وضبط أوصافَه على وجهٍ لو فات، لاستقل بتلك الأوصاف.
قالوا: إن كان كذلك، انعقد، وكان ما جاء به وصفاً كافياً. وهذا حسن.
وامتنع شيخي منه، وقال: السلم يعتمد الأوصاف المذكورة، والإحاطةُ بالأوصاف لم يجر ذكرها.
فصل
3343- منع الأصحاب بيعَ الصوف على ظهر الغنم؛ لأن مطلقَ البيع يتناول الصوفَ إلى الأصل المتصل بظاهِر الجلد. وتسليمُه على هذا الوجه ممتنع؛ فإن فيه إن قصده القاصد تعذيبَ الحيوان، على أنه مع الإيلام غيرُ ممكنٍ، ولا عادةَ في بيعِ الصوفِ على الغنم، حتى ينزل ذلك على المعتادِ في مثله.
فإن قيل: في الجزّ عادةٌ فلُينزَّل عليها البيعُ. قلنا: ليس في الجزِّ عادةٌ مضبوطة، بل الأمر يتفاوت. ومن يجز غنم نفسه لا يبالي بتفاوته. فإذا رُدّ الأمرُ إلى البيع، أثار ذلك تنافياً.
__________
(1) بفتح الراء وكسرها. (معجم) .
(2) في النسخ الأربع: " الضياع "، والمثبت تقديرٌ منا على ضوء السياق.(5/419)
ولو أشار إلى كتلة من الصوف، وأعلم على موضعها، وباع ذلك المقدار، لم يمتنع بيعُها، وليس كالقصيل (1) والفث؛ فإن استيعابه ممكن بالقطع.
فصل
قال: " ولا يجوز بيعُ المسك في فأرة ... إلى آخره " (2) .
3344- الفأرة تنفصل عن الظبية خِلقةً، وحشوها المسك. وهذا مخصوصٌ بذلك الجنس، وهي على موضع السرة منها. والرب تعالى يربّي في كل سنة فأرةً وينميها، وتُلفَى ملتحمةً ثم تستشعر أطرافها قشفاً، ويُبْساً، واحتكاكاً فتحتك الظبيةُ بالصرار (3) ، والمواضع الخشنة، فتسقط الفارةُ وحشوها المسك. وقد يقطرُ في احتكاكِهَا المسك أيضاً كالدم العبيط، فَيتبَع ويُلْقَط. هذه صورة الفأرة. ولا يكون فيها فتق إلا أن يلحقها خَرق، وقد تُفْتَق الفأرةُ، ويخرج مسكها، ويعاد مع أمثاله ويخاطُ موضع الفتق.
فإن كانت الفأرة على الفطرة الأصلية، فهي في الصورة، كالجوزة وحشوُها اللّب المقصود. وإن فُتقت وأعيد المسك إليها بعد الإخراج منها، فالفأرةُ على صورة الظرف.
هذا بيان الصورة.
وأما الحكمُ، فنذكر المذهبَ في الفأرة التي لم تفتق، ثم نذكر التفصيل في المفتوق.
__________
(1) القصيل: فعيل بمعنى مفعول. من قصلته قصلاً من باب ضرب: قطعتُه فهو قصيل. والقصيل في ألفاظ الفقهاء: الشعير يجر أخضر لعلف الدواب.
والفث: نبت بري، له حب كالحمص يتخذ منه الخبز والسويق. عند شدة الحاجة من قحطٍ ونحوه (مصباح) .
(2) ر. المختصر: 2/204.
(3) في هامش (هـ 2) " الصرار غير معجمة الأماكن المرتفعة، لا يعلوها الماء " ا. هـ بنصه. ولم يُورِد هذا المعنى (في مادة: ص. ر. ر.) القاموس المحيط، ولا أساس البلاغة، ولا المصباح، ولا المعجم، ولا غريب ألفاظ الشافعي. ولا المختار، مع أنه موجودٌ في (اللسان) . وقد أحسن المرتضى الزبيدي عندما استدركه على صاحب القاموس.(5/420)
3345- فأمّا التي لم تفتق، فقد ذهب صاحب التقريب إلى أنها كالجوزة، فإذا بيعت مع قشرتها، نفذ البيع قولاً واحداً، نَفاذَ بيع الجوزة؛ فإن الفأرةَ صوانُ المسك، والحاجة إلى صوان المسك ماسة ظاهرة؛ فإن الهواء يخطَفُ ما يلقُط (1) منها ويغيّر رائحتَها. وليس الصوان المخلوقُ كالمفتوق والمخيط. فإن كان في حشو الفأرة جهالة، فهي محتملة عند الحاجة؛ إذ يُفرض مثل ذلك في لب الجوز والرانج (2) وغيرهما.
وقال طوائفُ من أئمتنا: الفأرة غيرُ المفتوقة ليست كالجوزة؛ فإن حشوَ الفأرة يختلف اختلافاً بيناً على نفاسته وعِظم خطره. وإذا أخرج المسكُ من فأرة، أمكن صونُه بالرد، أو بالظروف المصممة. وليس كاللبوب؛ فإنه لا يَسُدّ ظرفٌ في صونها مسدَّ قشورها. وإذا تبيَّن مفارقتُها للجوز وما في معناها. فقد قال بعض أصحابنا على هذه الطريقة: البيع [فاسد] (3) لاستتارِ (4) المبيع بما ليس من صلاحه.
والوجه عندنا تخريج البيع على بيع الغائب؛ فإن بيع المسك في فأرة مع فأرة لا يزيد على بيع الثوب في الكتم. فإن كان ما ذكره الأصحاب جواباً عن منع بيع الغائب، فصحيح. وإن كان قطعاً بفسادِ البيع والتزاماً للفرق بين هذا وبين بيع الغائب، فهذا لا سبيل إليه.
وهذا كله في الفأرة التي لم تفتق.
3346- وتمام بيان القول فيها يستدعي شرحَ شيءٍ آخر.
وهو أن الأكثرين من الأئمة ذهبوا إلى أن الفأرة طاهرة. وقال قائلون: إنها نجسة؛ فإنها بانت من حيٍّ، وما يبين من الحي، فهو ميت. وهذا وإن كان ظاهِراً، فلا حقيقة له لإطباق الخلق أولاً على خلاف ذلك. ثم ما ذكرناه من تصدير الفصل
__________
(1) في (ت 2) : بلطف.
(2) الرانج: الجوز الهندي (مصباح) .
(3) ساقطة من الأصل.
(4) في (ص) ، (ت 2) : لاستناد. وفي الأصل: واستتار.(5/421)
بالتصوير يبيِّن أن ما ينمو ويسقط يضاهي البيضةَ التي تنفصل من الدجاجة، فهي طاهرةُ العين، وإن كان نموها في الحيوان. وقد يقول من يحكم بنجاسة الفأرة: البيضةُ لا تتصل بالدجاجة قط اتصال التحام، إنما يخلقها الباري مودعة في البطن، والفأرة تكون ملتحمةً، ثم تسقط.
هذا سبب الخلاف.
فكأَنَّ ما يقطع من الحيوان أو يسقط على ندور يحكم بنجاسته. وما يُخلَق مودَعاً، وينفصلُ إذا تكامل خلقُه لا نحكم بنجاسته كالبيض. وما يخلق ملتحماً، وهو إلى السقوط، فليس عضواً أصلياً، فيتردَّدُ وجهُ الرأي فيه.
فإن حكمنا بطهارة الفأرة، فبيعها صحيح، كما يصح بيعُ البيضة.
واختلافُ الأصحاب في نجاسةِ ظاهر البيضة أخذاً من ملاقاتها الرطوبةَ النجسة في داخل المنفذ لا يؤثر في منع البيع؛ فإن المانع من البيع نجاسةُ الأعيان، لا النجاسات المجاورة لها.
فإن حكمنا بطهارة الفأرة، فالأمر في البيع كما مضى. وإن حكمنا بنجاستها، فالمسك في حشوها طاهرٌ وِفاقاً، وكان أحب الطيب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقالت عائشة: " طيبتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لحُرْمِه (1) حين أحرم، فرأيتُ وبيص (2) المسك في مفارقه بعد ثلاث ".
فإذا باع الفأرة والمسك الذي فيها، فينتظم إلى ما ذكرناه من خبطِ الأصحاب في الجهالة، أن الصفقة جمعت نجساً لا يجوز بيعه وطاهراً، فيتولّج في المسألة تفاريعُ تفريق الصفقة.
3347- فأما إذا فتقت الفأرة ورُدّ المسكُ إليها، فلا كلام في بيع المسك فيها دونها ومعها، كالإعلام في بيع السمن في البُسْتوقة. وقد مضى ذلك مستقصىً.
__________
(1) حديث " طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ". متفق عليه (وقد تقدم) . لحُرْمه: بضم الحاء وكسرها وسكون الراء أي لإحرامه. شرح النووي لصحيح مسلم: 8/99.
(2) وبيص: أي بريق ولمعان. وراجع اللؤلؤ: ح 739، 740، 741. ومسلم: ح 1189.(5/422)
وبيع اللبوب دون قشورها باطل وإن أجزنا بيع الغائب؛ فإنه لا يتوصل إلى تسليمها إلا بكسر القشور، وهو من باب تغيير عيْن المبيع لأجل تسليم المبيع. وقد ذكرنا تمهيد هذا الأصل في اقتضاء الفساد، وقد يخطر من طريق الاحتمال مع القطع في النقل أن صحة القشور ليست مطلوبة واللب للغير. ولكن الأمر على ما ذكرناه.
3348- وفي بيع بيض ما لا يؤكل لحمُه وجهان مخرجان على الطهارة والنجاسة.
والخلاف في طهارة بيض ما لا يؤكل لحمه يخرّج على الخلاف في منيّ الحيوان الطاهر العين، المحرَّمِ اللحم.
وفي بيع بِزْر دود القز وجهان؛ فإنه من الدود كالبيض من الطائر. و [في] (1) بيع القز وفي أدراجه الدودُ الميتةُ تفصيل. فإنْ بيع جزافاً، جاز؛ تعويلاً على الإشارة.
وإن بيع وزناً، لم يجز؛ فإنّ الدّودَ لا يقصد بالوزن، والقزُّ المقصودُ بالوزن يكون مجهولاً بسبب الدود.
فصل
في تملك الكافر المسلم
3349- وكفر الكافر لا ينافي ثبوتَ الملك له على العبد المسلم؛ فإنه لو ملك عبداً كافراً، فأسلم، لم ينقطع ملكه بإسلامه، بل هو مقَرٌّ على ملكه إلى أن يتفق بيعُه عليه. والكافر إذا كان في ملكه عبد مسلم على التقدير الذي ذكرناه، فإذا مات، ورثه وارثه الكافر، فلا يمتنع إذاً كونُ المسلمِ مملوكاً للكافر.
وإذا صادفنا ذلك، أمرناه بإزالةِ ملكه بهبةٍ أو ببيع أو عتقٍ، فإن أجاب، وإلا بعناه عليه بثمن المثل، فإن لم نجد راغباً يشتريه بثمنه في الحال، صبرنا إلى الوجود، وحُلنا بينه وبين السيد، ولا نبيعه بالغبن. ثم لا نعطّل منفعته في زمان التربص، بل نستكسبه. ونفقته واجبة على سيده الكافر.
ولو كاتبه كتابةً يصح مثلها، فهل يخرج عن عهدة المطالبة؟ فعلى وجهين:
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.(5/423)
أحدهما - أنه لا يخرج عن العهدة، لاستمرار ملكه على رقبة المكاتب، والمحذور دوامُ ملكه مع إمكان الإزالة، لا تسلطهُ بالاستخدام؛ إذْ لو كان المحذور ذلك، لأجبنا السيد الكافرَ إلى إبقاء ملكه عليه، مع إيقاع الحيلولة بينه وبينه.
والوجه الثاني - أنه يخرج بالكتابة عن عهدة المطالبة؛ لأن الكتابة تُثبت للعبد رتبة الاستقلال والانقطاعَ عن تحكم السيد. وهذا هو الغرض.
فإن اكتفينا بالكتابة، حكمنا بصحتها. وإن لم نكتف بالكتابة، فقد اختلف أصحابنا: فمنهم من أفسدها، وباع العبد، ومنهم من صححها وسلط الشرعَ على فسخها.
وكل ذلك إذا منعنا بيعَ المكاتَب. فإن جوزنا بيعَه كما سيأتي بيانُ ذلك، نفذنا الكتابة، وبعناه مكاتَباً. وتفصيل ذلك في الكتابة.
ولا خلاف أن الكافر لا يتخلص بالرهن والتزويج عن المطالبة.
هذا كلام في الملك الدائم للكافر على المسلم مع مطالبتهِ بإزالته.
3350- فأما إذا أراد الكافر أن يتملك عبداً مسلماً اختياراً بعقد يفيد الملك، مثل أن يشتري أو يتهب عبداً مسلماً، ففي صحة العقد وترتب ثبوت الملك عليه قولان مشهوران موجهان في الخلاف.
وإذا منعنا العقد وأفسدناه، فقد اختلف أصحابنا في مسائلَ نُرسلها، ثم ننظمها في ترتيب.
فإذا اشترى الكافرُ أباه المسلم أو ابنَه، والتفريع على فسادِ الابتياع، ففي ابتياع من يَعتِق عليه وجهان: أحدُهما - المنعُ، لاختيارِ (1) الشراء. والعتق واقع بعد حصول الملك لو صححنا الشراء؛ فالوجه المنع ليطرد امتناع اختيار التملّك.
والثاني - يجوز توصّلاً إلى العتق. ومن صحح ذلك، زعم أن هذا العقدَ عقدُ عتاقة، وليس عقداً ينبغي به التملك والإنشاء، فالملك إذن يثبت ذريعة إلى العتق، لا مقصوداً. والدليل عليه أنه يصح من المسلم ابتياع والده، وإن كان لا يحل له
__________
(1) في (ص) ، (ت 2) : لاختلاف.(5/424)
إذلالُه. والردتى أعلى درجات الإذلال. فإذاً جاز على الجملة أن يشتري الولدُ والدَه باعتبار أن الرق غيرُ مقصودٍ فيه.
ومما ذُكر من هذا الجنس أن الكافر إذا قال لمسلم: أعتق عبدك هذا عني، فأعتقه عنه بعوضِ أو بغير عوض، ففي نفوذ العتق عن الكافر المستدعي خلافٌ، على مَنْعنا الكافرَ من شراء العبد المسلم، ووجه التجويز ما ذكرناه من أن العتق عنه وإن كان يفتقر إلى تقدير الملكِ له قبيل نفوذ العتق، فليس ذلك ملكَ قرار، ويتضح أن يقال: الممنوع اختيار الملك. والملك في هذا العقد، وفي الذي تقدم غير مختار، وإنما المقصود المختارُ العتقُ، فلم يكن الملكُ الحاصل في حكم الملكِ الدائم. وقد ذكرنا أنه غير ممتنع مع الكفر.
ومما ذكره الأصحاب أن الكافر لو قال: العبد الذي في يد فلانٍ المسلمِ قد أعتقه، فلو أن الكافر اشترى هذا العبدَ، فلو قدّرنا الصحةَ، لكان يعتِق عليه بحكم الإقرار السابق. فذكر الأصحاب وجهين في تصحيح ابتياعه، كما تقدم.
فهذا بيان المسائل، التي أطلقها الأصحاب. والوجه أن نرتبها.
3351- فنقول: أما شراؤه أباه المسلم، فعلى وجهين، وفي استدعائه إعتاقَ عبدٍ مسلم عنه وجهان، مرتبان على شراء الأب، وهذا أولى بالنفوذ من شراء الأب؛ فإن الملك لا يجري فيه إلا ضمناً مقدراً، وشراء الأب بيعٌ على حقيقة البياعاتِ، يُبطله التعليق بالإغرار، ويفسد بفساد العوض، حتى إذا فسد، فلا عتقَ. وهذا يشعر بأن الملك مقصودٌ فيه والعتقُ بعده، واستدعاء العتق يقبل التعليق. ولو ذكر عِوضٌ فاسد، نفذ العتق، ورجع إلى بدلٍ آخر، على قياسِ فساد البدلِ في الخلع، فاقتضى ذلك ترتيباً.
وأما مسألة الإقرار وبناء الشراء، فالأوجه فيها المنع؛ فإنه بيعٌ. والعتق إن حكم به فهو ظاهر، وليس كعتق الأب؛ فإنه واقعٌ تحقيقاً.
فهذا بيان هذه المسائل.
3352- ومما نفرعه على منع اختيار التملّك أن الكافر إذا باع عبداً مسلماً كان أسلم في يده أو ورثه، بثَوْبٍ، فلا شك في صحته. ولو وجد بالثوب الذي أخذه بدلاً عن(5/425)
العبد المسلم عيباً قديماً، فهل له ردُّه واسترداد العبد المسلم؟ فعلى وجهين: أحدهما - له ذلك؛ فإن الرد يَرِد على العقد، وارتداد العبد يترتب على انفساخ العقد، وله في رد الثوب غرضٌ سوى اختيار تملّك العبد، فلا يتجرد القصد إلى تملكه.
ومن الدليل على ذلك أن الفسوخ وإن تضمنت ترادّاً في العوضين، فإنها لا تنزل منزلة إنشاء العقود، بدليل أنه لا يترتب على الفسوخ حقُّ الشفعة، ولا يلحق الفسخ فسخٌ؛ إذ المقصود من الفسخ ردُّ الأمرِ إلى ما كان قبل العقد.
ومن أصحابنا من منع ذلك؛ فإنه يقتضي تملك العبد المسلم على سبيل الاختيار، وذلك ممتنعٌ.
هذا إذا أراد الكافر ردَّ عوض العبد المسلم.
فأما إذا وجد مشتري العبدِ المسلمِ به عيباً قديماً، فأراد ردّه، واسترداد الثمن، فقد قطع بعض المحققين بنفوذ الرد في هذا الطرف؛ من جهة أنه لا اختيارَ للكافر فيه، والعبد يرتد عليه من غير قصده.
وكان شيخي يطرد الخلافَ في الطرفين؛ فإنا كما نمنع الكافر من اختيار تملك عبد مسلم نمنع المسلم من اختيار تمليك كافرِ عبداً مسلماً؛ فليمتنع الرد على المسلم. ثم إذا امتنع الرد، فليكن رجوعه إلى أرش العيب القديم.
وما ذكرناه من الاختلاف في الرد في هذا الحكم يبتني على اختلافٍ في نظير ذلك: وهو أن من اشترى بعضاً ممن يعتق عليه، سرى عتقه إلى الباقي إذا كان موسراً. فلو فرض رد عوض واسترداد بعض من يعتق عليه في مقابلته، وهذا يفرض في المواريث بأن يرث الرجل عوض نصف أبيه، ويجد به عيباً، فإذا رده وارتد إليه نصف أبيه وعتق عليهِ، هل يسري العتق؟ فيه خلاف. وسيأتي مشروحاً في موضعه، إن شاء الله تعالى.
3353- ومما نفرعه على قول منع الشراء أن الكافر لو وكَّل مسلماً حتى يشتري له عبداً مسلماً، أو توكل عن مسلم حتى يشتري له عبداً مسلماً. فكيف السبيل؟
أما إذا وكَّل مسلماً حتى يشتري عبداً مسلماً، فلا يقع الملك للموكِّل قطعاً عندنا؛(5/426)
فإن هذا مسلك لائح في قصد تملك العبد المسلم، وهو ممنوع منه، على القول الذي نفرع عليه. فالشراء ينفذ على الوكيل، ولا يتعداه إلى الموكِّل.
فأما إذا كان الكافرُ وكيلاً لمسلم في شراء عبد مسلم له، فإن سمى موكله، وصححنا البيع بصيغة السفارة، صح ذلك؛ فإن عُهدة العقد لا تتعلق بالسفير. فأما إذا أضاف العقدَ إلى نفسه، ونوى به موكِّلَه، ففي المسألة وجهان مبنيان على (1 أن عهدة العقد تتعلق بالوكيل أم لا؟ على ما سيأتي شرح ذلك في كتاب الوكالة.
3354- وإذا اشترى الكافر عبداً مرتداً، ففي صحة الشراء على قولنا بمنع شراء المسلم وجهان، مبنيان على 1) أن المرتد لو قتل ذمياً هل يُقتل به؟ وفيه خلاف سيأتي.
وأصل التردّدِ في ذلك مرتب على أن من الأصحاب من يرعى الكفر، ومنهم من يرعى تبقيةَ الإسلام في المرتد. وعليه يخرّج الخلاف في ولد المرتد من مرتدة، أو كافرة أصلية. فإن أثبتنا عُلقَةَ الإسلام في المرتد، حكمنا بإسلام ولده.
وسيأتي ذلك في أحكام المرتدين، إن شاء الله تعالى.
وإذا أسلمت أم ولد الكافر، فظاهر المذهب وهو المنصوص عليه أنه لا يجبر على إعتاقها، بل يحال بينه وبينها، وتستكسبُ، ويؤمر بالإنفاق عليها.
وذهب بعض أصحابنا إلى أنه يجبر على إعتاقها. وهذا بعيد، ووجهه على بعده أنها مستحقة للعتاقة، فإذا طرأ الإسلام، أُمر بتحقيقه.
3355- وإذا اشترى الكافر عبداً كافراً، فأسلم في يد البائع، فقد اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: ينفسخ البيع؛ لأن بطريان الإسلام يعسر القبض. وهذا بعيد؛ فإن الانفساخ يترتب على سبب لا يرجى زوالُه، كالتلف والضلال الذي لا يُرتقب بعده وجدان، وأُلحق به اختلاطُ المبيع بغير المبيع في قول، وزوال التعذر ممكن بفرض الإسلام من المشتري.
والوجه الثاني - أن البيع لا ينفسخ، ولكن اختلف أصحابنا على هذا الوجه.
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (هـ 2) .(5/427)
فقال بعضهم: يقبضه المشتري، ثم يباع عليه، أو يبيعه بنفسه.
وقال آخرون: لا يقبضه كما لا يشتريه؛ فإن القبض أمر اختياري يؤثر في تأكيد الملك؛ فينبغي أن يمتنع. فالوجه أن يأمر القاضي من يقبضُ المبيعَ عنه، ثم يبيعه عليه.
ولا يخفى على هذا الوجه أن يتخير في فسخ البيع؛ فإن ما جرى من التعذر طارئاً لا ينقص عن إباق العبد قبل القبض. فهذا ما ذكره الأصحاب.
والمسألة تستدعي مزيد تفصيل عندنا: فإن كان البائع مسلماً، فالأمر كما ذكرناه.
وإن كان كافراً، فلو حكمنا بانفساخ العقد، لقلبناه من كافر إلى كافر، فلا ينقدح وجهُ الانفساخ إلا على بعد. وهو أن الانفساخ يقع قهرياً، وقد ثبت للكافر ملكٌ قهري، على المسلم. وهذا كلامٌ مطلق؛ فإنا حيث نثبت الملك القهري على المسلم، فسببه ضروريٌّ؛ فإن العبد إذا أسلم في يد الكافر، فلا سبيل إلى تخيره، والقضاءِ بانبتات مِلكه. وكذلك إذا فرض إرث؛ فقَطْعُ التوريث مستحيل. فأمّا فيما نحن فيه، فالمطلوب من الانفساخ رعايةُ حرمة الإسلام. وهذا المعنى لا يزول بالانفساخ.
3356- ومما يفرع على قول المنعِ أن الكافر لو ألزم ذمة المسلم بطريق الاستئجار عملاً، جاز ذلك؛ فإن الاستحقاق لا يتعلق بعين المسلم، وله أن يحصله بغيره.
وهل يستأجر الكافر عينَ المسلم على منع الشراء؟ وجهان: أحدهما - لا يجوز ذلك، كما لا يشتري مسلماً. والثاني - يجوز؛ لأن الإجارة لا تفيد ملكاً في الرقبة، ولا يتحقق بها الذِّلة. ولو كان فيها ذلةٌ، لما جاز استئجارُ الحر (1) المسلم. ثم للإجارة منتهى محدود بخلاف الشراء.
فإن قلنا: تصح الإجارة، فهل يؤاجر عليه كما يباع عليه عبده المسلم؟ فعلى وجهين: وتوجيههما يقربان من توجيه الإجارة في الأصل.
وللمسلم أن يعير عبده المسلم من كافرٍ، وله أن يودعه عنده. وذكر الأئمة وجهين
__________
(1) ساقطة من الأصل. وفي (ت 2) : استئجار الحر العبد. وفي (ص) : استئجار العبد.(5/428)
في منع ارتهانِ الكافر عبداً مسلماً. وهما قريبان من الخلافِ في الاستئجار الوارد على العين.
3357- وأجرى الأئمة قولين في شراء الكافر المصحفَ والدفاترَ التي فيها أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فرأَوا ترتيبَ القولين على القولين في شراء العبد المسلم، وزعموا أن شراء المصحف والكتاب المحترم أولى بالفساد من شراء العبد المسلم؛ من قِبَل أن العبدَ لو أهانه مولاه، تمكن [من الاستعانة، ثم تمكُّنُه من هذا يزع مولاه] (1) من الإقدام على الاستهانةِ، والمصحف لو جوّزنا شرَاءه وقبضَه، فقد يستهين به المشتري، ولا يُطلع عليه.
فرع:
3358- إذا اشترى المسلم عبداً، فخرج كافراً، نُظر: فإن اشتراه في بلاد الإسلام، فله ردّه؛ فإن الكفر في العبيد نادرٌ في هذه الديار.
وإن اشترى عبداً في دار الحرب، فخرج كافراً، فالذي ذهب إليه الأكثرون أنه لا يرده؛ فإن الرد بالعيب يبنى على ظن البراءة منه فإذا أخلفَ الظنُّ، ثبت الخيارُ.
ولا يغلب على الظن إسلامُ العبد في دار الحرب.
وكان شيخي يقول: يثبت الخيار؛ لأن الكفر عيب، فمهما اتفق الاطلاع عليه ثبت الخيار.
فصل
3359- لو اشترى قطيعاً من الغنم مشار إليه كل رأسِ بدرهم، جاز وإن لم يكن عددُ الرؤوس معلوماً عنده حال العقد إذا أحاطت الإشارة بالقطيع. ومنع أبو حنيفة (2) ذلك.
ولو قال: بعتُك عشرة أرؤس من هذا القطيع، لا يجوز؛ فإنها مختلفة، وإيراد
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) ر. تبيين الحقائق: 4/6، الاختيار: 2/6.(5/429)
العقد على هذَا الوجه مجهول، وليس كما لو اشترى آصعاً من صُبرة، ففيها التفاصيل المقدمة ولا خفاء بالفرق.
فصل
3360- إذا وكَّل المسلم ذمياً بشراء خمر له، لم يصح، ولم تصر إذا اشتراها الذمي للمسلم بمثابة الخمرة المحترمة المتخذة لأجل الخل. وجوّز أبو حنيفة (1) ذلك. وإن منعنا شراء الغائب، فوكَّل إنسان وكيلاً حتى يشهد شيئاً ويشتريه بعد المعاينة، صح الشراء للموكل؛ فإنه استعانَ بمعاينة الموكَّل، وأحلَّها محلَّ معاينة نفسه، وأجرى التوكيل فيها، فصح ذلك كما يصح التوكيل بأصل الشراء. وليس ذلك كالتوكيل بشراء الخمر؛ فإن الخمر ليست مالاً في اعتقاد الموكّل. والله أعلم.
* * *
__________
(1) ر. تبيين الحقائق: 4/56، 254، حاشية ابن عابدين: 5/511.(5/430)
بَابُ بيع حَبل الحَبَلَةِ والملامسة والمنابذة
3361- صدر الشافعي رحمة الله عليهِ البابَ (1) بنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم " عن بيع حَبَل الحبَلة " (2) .
وللحديث تأويلان: أحدهما - أن يبيع الناقة بثمن مؤجل إلى نتاج نتاجها، ولا شك في فسادِ العقد، وسببه جهالة الأجلِ. والتأويل الثاني أن يبيع نتاجَ النتاج قبل أن يخلق. وهذا ممنوع، وهو المعتاد في العرب (3) ، وظاهر اللفظ أيضاً.
ومال الشافعي إلى التأويل الأول. واختار أبو عبيد (4) التأويل الثاني. وقيل: فسر الراوي الخبر بمَا ذكره الشافعي وتفسير الراوي عنده مقدم (5) .
وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الملاقيح والمضامين (6) . فالملاقيح جمع الملقاح، وهو ما في أرحام الأمهاتِ، والمضامين ما في أصلاب الفحول.
__________
(1) ر. المختصر: 2/204.
(2) وحديث النهي عن بيع حبل الحبلة: متفق عليه من حديث ابن عمر (ر. اللؤلؤ والمرجان: ح 968) . وحبَل الحَبلة بفتح الباء فيهما.
(3) في (ت 2) : العرف.
(4) في الأصل، (هـ 2) : أبو عبيدة. وغير واضحة في (ص) . والمثبت من (ت 2) . وهو الموجود فعلاً في كتاب (غريب الحديث لأبي عبيد) : 1/208. وأبو عبيدة صحيح أيضاً، فقد فسره كذلك. وأبو عبيد: هو القاسم بن سلاّم الهروي ت 224 هـ. (ر. مقدمة الجزء الأول من كتابه (غريب الحديث) .
وأما أبو عبيدة، فهو معمر بن المثنى اللغوي ت 209 هـ. وقد روى عنه هذا التفسير الحافظ في التلخيص: 3/25 ح 1146.
(5) تفسير ابن عمر مدرج في الحديث، وهو الذي مال إليه الشافعي.
(6) حديث النهي عن بيع الملاقيح والمضامين عند مالك في الموطأ: 2/653، 654 وفي زوائد البزار: 1/507 ح 877 (ر. التلخيص: 3/25 ح 1147) .(5/431)
3362- ومما ذكره الشافعي: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الملامسة والمنابذة " (1) فأما الملامسة، فلها تأويلان: أحدهما - أن يجعلا نفس اللمسِ بيعاً، فيقول صاحب الثوب لطالبه إذا لمست ثوبي، فهو مبيعٌ منك بكذا. هذا أحد التأويلين، ولا شك في فساد البيع عليه.
وقيل: الملامسة معناها أن يتبايعا سلعة في ظلمة الليل، وجعلا لمسها قاطعاً لخيار الرؤية، فيقيما اللمس مقامَ الرؤية. وهذا باطل؛ فإنا إن منعنا بيع مالم يره المشتري، فلا كلام. وإن صححنا بيع الغائب، فتعليق خيار الرؤية باللمسِ باطل. ويتطرق إلى هذا احتمال؛ من جهة أن من اشترى شيئاً على شرط قطع خيار الرؤية، ففي صحة العقد خلاف ذكرناه. فلا يمتنع تركُ هذا القول في الصورة التي ذكرناها.
3362/م- والمنابذة أن تنبذ الشيءَ إلى غيرك وينبذ الغيرُ إليك. ثم ينقدح لها التأويلان المذكوران في الملامسة. قال الأئمة: المنابذة في العوض والمعوّض مع القرينة الدالة على إرادة البيع هي المعاطاة بعينها.
فظاهر المذهب والنص أن المعاطاة لا تكون بيعاً، وإن اقترنت قرائن أحوال بها.
ولا بد من لفظٍ في العقد. وسأصف تفصيلاً في ألفاظ البيع في باب تجارة الوصي.
وقال أبو حنيفة (2) : المعاطاة بيع من غير لفظ في المستحقراتِ، وذكر ابنُ سريج قولين في أن المعاطاة مع القرائن في إرادة البيع هل تكون بيعاً، وخرجهما على القولين في أن من ساق هدياً، فعطب في الطريق، فغمس نعله في دمه، وضرب به صفحة سنامه، فمن رأى تلك العلامةَ، هل يحل له الأكل منه؟ فعلى قولين. ولعلنا نعقد في قرائن الأحوال وآثارِها ومواقع الخلاف والوفاق فصلاً جامعاً، في آخر كتاب البيع إن شاء الله تعالى.
__________
(1) حديث النهي عن الملامسة والمنابذة. متفق عليه من حديث أبي هريرة، وأبي سعيد. (اللؤلؤ والمرجان: ح 965-967) .
(2) ر. تبيين الحقائق: 4/4، الاختيار: 2/4.(5/432)
ومما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم " بيع الحصاة " (1) . وله تأويلان: أحدهما - أن يجعل رمي الحصاة بيعاً. وهذا فاسد. والآخر - أن يقول: بعتك ما يقع عليه حصاتك من هذه الأمتعة. وهذا فاسد. والثالث - أن يبيع من أرضٍ قدرَ ما يبلغه حصاة يرميها المشتري؛ فيكون المبيع من موقفه إلى منتهى الحصاة، وهذا فاسد أيضاً.
فصل
قال: " ولا يجوز شراء الأعمى ... إلى آخره " (2) .
3363- ما ذهب إليه جماهير الأصحابِ أن شراء الأعمى وبيعَه فاسدان.
وخرَّج بعضُ أصحابنا بيعه وشراءه على بيع ما لم يره البائع، وشراء ما لم يره المشتري. ثم من صحَّحه من الأعمى، فسبيل لزوم العقد عنده أن يوكّل من يرى له العينَ المشتراةَ، ثم إذا امتنع منه البيع والشراء، يجوز له أن يوكل في كل واحدٍ منهما بصيراً.
فإن كان بصيراً ورأى شيئاً، ثم كُفَّ بصره، فاشتراه، جاز ذلك إذا لم يتقادم الزمن، أو تقادم وكان الشيء ممّا يبعد تغيُّره، كالحديد والنحاس، وغيرهما.
وإذا اشترى شيئاً لم يره، ثم كُفَّ بصره قبل أن يراه. فمن أصحابنا من قال: ينفسخ البيع من قِبَل أنا أَيِسْنا من قرار العقد عند الرؤية.
وذكر الشيخ أبو علي ما هو أصلُ الفصل وبه يتبيّن مشكلُه، فقال: البصير إذا اشترى شيئاً لم يره، وصححنا العقد، فلو وكل وكيلاً وفوض الأمر إليه في الفسخ والإجازة عند الرؤية، قال: في صحة الوَكالة وجهان: أحدهما - يصح، كتفويض الأمر في خيار العيب والخُلف. والثاني - لا يصح؛ فإن الخيار ليس مربوطاً بغرضٍ،
__________
(1) حديث النهي عن بيع الحصاة: رواه مسلم: البيوع، باب بطلان بيع الحصاة، ح 1513.
(2) ر. المختصر: 2/204.(5/433)
وإنما هو إلى إرادة من له الخيار، ولا تعقلُ النيابةُ إذا انتفى الغرضُ. قال: وهذا كما إذا أسلم كافر على عشر نسوة، وأسلمن، فإنه يختار أربعاً منهن. ولو وكل في هذا الاختيار، لم يجز.
ثم قال: إن صححنا التوكيلَ في خيار الرؤية فيبتنى عليه قياسُ شراء الأعمى على شراء الغائب من البصير. وإن لم نصحح التوكيلَ في خيار الرؤية من البصير، قطعنا (1) بفساد شراء الأعمى؛ فإنه لو صح، لم يُفضِ إلى قرار.
وهذا الذي ذكره حسن. وفي التوكيل باختيار أربع نسوة أيضاً احتمال. ولكن حكى الوفاق.
وللأعمى أن يؤاجر نفسه، ويشتري نفسه من سيده للخلاص، كما له أن يقبل الكتابة إذا كاتبه مولاه.
3364- وأمّا عَقْدُ السلم، فقد استثناه الشافعي من شراء العين (2) ، وصححه من الأعمى التزاماً وإلزاماً.
قال المزني: ظني بلطف الشافعي أنه [إنما] (3) يصحِّح السلم ممن كان بصيراً، وعاين ما لا تدرك حقيقته إلا بالعِيان كالألوانِ، وما في معانيها. فإذا طرأ العمى صَدَرَ وصفه عن علم.
فأما الأكمه، فلا علم معه بحقائق الأوصاف وإن كان يذكرها.
واختلف أصحابنا في التفصيل الذي ذكره المزني، فمنهم من وافقه ونزَّل نصَّ الشافعي عليه.
ومنهم من لم يفصل بين الأكمه ومن كان بصيراً عاقلاً ثم عمي، وصحح السلم مع العمى التزاماً وإلزاماً؛ فإن الأوصاف إذا كانت تجري من الأكمه على حد الإعلام، والإعلام هو المقصود، فعدم إحاطته بنفسه وقد جرى مسلكٌ في الإعلام غير ضائر.
__________
(1) في (هـ 2) : وقطعنا.
(2) في (ت 2) ، (ص) : العبد.
(3) مزيدة من (هـ 2) ، (ص) .(5/434)
وهو بمثابة توكيل الأعمى بصيراً وإقامتِه مقام نفسه.
3365- ومما يتعلق بحكم الأعمى أنه إذا أسلم وصححنا منه السَّلَم، وحان وقتُ القبض، فهل يصح منه القبض؟ قال معظم أئمتنا: قبضُه بمثابة شرائه عيناً؛ من جهة أنه يتعلق بمعيَّن، وهو لا يحيط به. وقد ذكرنا في شراء الأعمى تفصيلَ الأصحَاب.
ومن أصحابنا من رأى قبضَه بالصحة أولى. وفي المسألة احتمال.
* * *(5/435)
بَابُ بَيعتين في بَيْعَة
3366- روى أبو هريرةَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نهى عن بيعتين في بيعة " (1) . وذكر الشافعي تأويلين: أحدُهما - أن يقول: بعتك هذا العبد بألف نقداً، أو بألفين إلى سنة، فأيهما شئت أنت، أو أنا، وجب البيع به. فهذا باطل بالنص والإجماع. ومعناه ظاهر.
والتأويل الثاني - أن يقول: بعتك عبدي هذا على أن تبيعني فرسَك، فالبيع باطل. يعني البيعَ الذي شرط فيه البيع. وهذا خارج على قياس الشرائط الفاسدة.
وأما البيع الثاني إن اتفق جريانه خلياً عن شرط، فهو صحيح.
3367- وجمع الشافعي في الباب مناهي عن الشارع، فترك كلَّ خبر على معناه.
فمنها: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النَجَش " (2) وهو ضرب من الخديعة. قال الشافعي: ليس من أخلاق أهل الدين، ومعناه أن يتقدم الرجل إلى سلعةٍ تباع فيمن يزيد، وربما عُرف بالحذاقة في التجاير، فيزيد في ثمنها وهو لا يريدها، ولكنه يبغي أن يغترّ الناس ويحرصوا على شرائها؛ فيعطوا أكثر ممَّا كانوا يعطون لولا تغريره. وهذا حرام منه. وهو اللَّبس المحظور.
ولكن إن جرى العقد على مبلغٍ من الثمن، صح، فإن التلبيس لا يمنع صحة العقد. والتفصيل في الخيار. فإن جرى ذلك من غير مواطأةٍ مع صاحب السلعة، يصح العقد، كما ذكرناه. ولا خيار، والحرج على الناجش.
وإن جرى النَّجَش في مواطأة صاحب السلعة، فالعقد صحيح وفي الخيار وجهان:
__________
(1) حديث: "نهى عن بيعتين" رواه الشافعي، وأحمد: 2/71، والترمذي: ح 1231، والنسائي: ح 4632، والموطأ: 2/663. وانظر التلخيص: (3/27 ح 1150) .
(2) حديث النهي عن النجش. متفق عليه من حديث أبي هريرة: (اللؤلؤ والمرجان: ح 970) .(5/436)
أحدهما - يثبت الخيار للتلبيس؛ اعتباراً بالتصرية، وما في معناها.
والوجه الثاني - لا خيار؛ فإن هذا الخداع غيرُ راجع إلى صفة المبيع. ولكنه متعلق بالعين. وليس في قَبيله خيارٌ. والنجش المنهي عنه معناه في اللغة الرفعُ، والناجش الرافع للسعر.
3368- ثم ذكر الشافعي نَهْيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ قال: " لا يبيعن أحدكم على بيع أخيه ولا يسومن على سوم أخيه " (1) .
وصورة البيع على البيع أن يجري العقد ويكون المتعاقدان في مجلس العقد مغتبطين غيرَ نادمين، فيتقدم واحد إلى المشتري ويعرض عليه سلعة خيراً من السلعة التي اشتراها بمثل ثمن سلعته، أو سلعة مثل سلعته بأقلَّ من ثمنها، ويرغّبه في فسخ البيع الأول بهذا السبب. هذا هو البيع على البيع، وهو محرم باتفاق الأصحاب، غيرَ أن البيع يصح؛ فإن التحريم لا يرجع إلى معنى في البيع، وإنما يرجع إلى معنى كلِّي في محاذرة الإضرار بالغير. وكل نهي جرى هذا المجرى، كان في معنى النهي عن البيع في وقت النداء حين يُخشى فواتُ الجمعة.
وأما السوم على السوم، فصورته أن يساوم سلعةَ غيره، ويتفقا على قدر الثمن ويهُما بالعقد، ويرجع أحدهما لإحضار الثمن، فإذا جاء إنسان وساومه السلعةَ بأكثرَ من ذلك الثمن، أو عرض على المشتري سلعة بأقلَّ من ذلك الثمن، وتسبب إلى دفع ما كاد يتفق، فهذا منهي عنه محرّم، وهو المعنى بالسوم.
ولو كانت السلعة معروضة فيمن يزيد، فإذا طلبها طالب بثمن، فللغير أن يطلبَها بأكثر؛ [إذ] (2) لم يتحقق توافقٌ على مقدارٍ. والسلعة إنما تعرض على من يزيد للتزايد. فكان الذي يجري ليس سوماً.
ثم قال أصحابنا لو خطب الرجل امرأة، فرُدَّ، فللغير أن يخطِبها، وإن أجيب،
__________
(1) حديث " لا يبع بعضكم على بيع أخيه، متفق عليه من حديث ابن عمر وأبي هريرة. (اللؤلؤ والمرجان: ح 969، 970) .
(2) في الأصل، (هـ 2) : إذا.(5/437)
فيحرم على الغير الخِطبة. ولو خطب إلى الأبِ ابنته، فسكت، ولم يجب، ولم يرد، فهل يحرم الخِطبة؟ فعلى قولين سيأتي ذكرهما، إن شاء الله تعالى - في النكاحِ.
ولو اتفق السكوت في السوم، فللغير أن يستام قولاً واحداً، عند المراوزة؛ فإن السكوت في باب النكاح قريبٌ من التصريح بالرضا في مقام الخطبة؛ فإن المخطوب يستحي في أول مجلس ولا يصرح.
وذَكر العراقيون في السوم طريقةً أخرى فقالوا: إن سكت من خُطب إليه أو من طلب منه متاع، ولم يقترن بالسكوت ما يدل على الرضا، فلا يحرم بهذا السكوت الخِطبةُ، ولا السوم، والسكوت يقدر على وجوه، وإنما يدل على الرضا بعضُها، ولو اقترن بالسكوت ما يدل على الرضا، ففي الخِطبة والسوم جميعاً قولان.
فلم يفرقوا بين السوم والخِطبة في الطريقة التي رتبوها.
وما ذكروه منقاسٌ. ولكن لا يمكن أن [نُنكر] (1) الفرقَ بين السوم والخِطبة.
فالوجه أن يقال: الدال على الرضا مع السكوت في الخطبة، ربما يخالف الدالَّ على الرضا في السوم، في مجاري العاداتِ، فيقع الفرق في أصناف القرائن. وإطلاق القول بأن السكوت دليل الرضا في الخطبة ليس كذلك.
فهذا تمام الغرض في هذا الفصل.
ثم قال الشافعي: صاحب البيع على البيع والسوم على السوم يَحْرَجُ إذا كان عالماً بالخبر، والناجش يعصِي وإن لم يبلغه الخبر المخصوص في النجش. وسبب ذلك أن تحريم البيع على البيع والسوم على السوم لا يدركه عامةُ الناس، وأما النجش، فخداعٌ، وقد استفاضَ في الناس وشاع تحريمُ الخداع. والقول فيه قريب.
* * *
__________
(1) في النسخ الأربع: (يذكر) . ولعل ما قدرناه يكون هو الصواب المناسب للمعنى والسياق، يساعدنا على ذلك الاستدراكُ الذي ذكره تعقيباً على قول العراقيين إنه لا فرق بين السوّم والخطبة.(5/438)
باب لا يبيع حَاضِرٌ لبَادٍ
3369- ذكر الشافعي رحمة الله عليه في صدر الباب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يبيع حاضر لبادٍ " (1) .
والحديث وارد في القرويّ أو البدوي يدخل البلد بسلَعٍ وأمتعة، وهو يبغي بيعَها بسعر اليوم خائفاً أن تعظم المؤنةُ عليه لو أقام. فإذا تقدم إليه حضريٌّ والتمس منه أن يترك أمتعته عنده حتى يبيعها على مر الزمن، وقد يتضيق بهذا السبب الأمرُ على أهل البلد. فهذا منهي عنه.
وإن كان البدوي عازماً على الإقامة والتربص بالأمتعة وبيعها على مر الأوقاتِ، فإذا أعانه حضريٌّ على عزمه، والتمس منه أن يفوّض الأمرَ إليه، لم يلحقه بذاك حَرجٌ، وكان ما جاء به من باب التعاون. وكذلك إذا طلب البدوي ذلك ابتداء من الحضري، فأسعفه، فلا بأس ولا حرج.
وكل ما ذكرناه إذا كان يظهر بسبب التربص ضيقٌ على المسلمين.
فإن لم يكن كذلك والأسعار رخيصة، وأمثال تلك السلعةِ موجودة، وكان لا يظهر بالتربص بها أثر محسوس، فهل يَحرَج من يحمل البدويَّ على التربص؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يحرَج بمطلق النهي. والثاني - لا يحرَج؛ لأنَّ معنى الضرار مقصود من النهي، فإذا لم يكن، فلا بأس.
ثم إذا باع حاضر لبادٍ، فلا شك في انعقاد العقد؛ فإن النهي ليس يتمكن من مقصود البيع.
__________
(1) حديث: " لا يبيع حاضر لبادِ ". متفق عليه من حديث ابن عباس. (اللؤلؤ والمرجان: ح 973) .(5/439)
3370- ثم ذكر الشافعي قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تتلقوا الركبان للبيع، فمن تلقاها، فصاحب السلعة بالخيار بعدَ أن يقدَم (1) السوق " (2) .
وصورة ذلك: أن يعلم إنسان بقدوم رُفقة تحمل سلعاً وأمتعة، فيستقبلَهم على قصد أن يشتريَ منهم، ويتقدم إليهم، ويَكْذِبَهم في سعر البلدِ، ويشتري منهم شيئاً من سلعهم أو جميعها بغبنٍ. هذا مورد الخبر.
ولا شك أن صنع هذا المتلقي حرام إذا كان عالماً بالحديث. والعقد ينعقد.
وللبائع الخيار لنص الحديثِ. هذا إذا كذب في السعر واسترخص، فأما إذا صدقَ في السعر، واشترى منهم بأقلَّ من ثمن المثل، أو بمثل الثمن، ففي الخيار وجهان: أحدهما - يثبت لظاهر الحديث؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم، أطلق إثباتَ الخيار، ولم يفصّل بين أن يكذبَ أو يصدق.
ومما يتعلق بذلك أنه لو لقي الركبَ وفاقاً، وما قصد تلقِّيَهم على نحو ما وصفناه، ولكن اتفق الالتقاء بهم، فإن صدق في ذكرِ السعر، واشترى، نفذ، ولا خيار. وإن كذب في السعر، ففي ثبوت الخيار وجهان: أحدهما - لا خيار؛ فإن الحديث وارد في تلقي الركبان وهذا ليس متلقِّياً والثاني - يثبت الخيار؛ لأن معنى الحديث النهي عن المخادعة، وهذا جار في هذه الصورة؛ فهي في معنى مورِد الحديث.
فصل
في بيع الجارية والبهيمة على شرط الحمل وفي بيعها مع استثناء الحمل
3371- فإذا باع جارية على أنها حُبلى، أو شاةً على أنها لَبون، أو جُبة وشرط حشوَها؛ ففي المسائل طرق:
من أصحابنا من قطع بفساد البيع في هذه المسائل؛ فإن البيع تضمن شرطَ مجهولٍ لا إحاطةَ به. ومنهم من قال: في جميعها قولان في صحة البيع. ومنهم من قال:
__________
(1) قدِم يقدَم: من باب تعب. (المعجم) .
(2) "لا تَلَقَوُا الركبان" جزء من حديث ابن عباس المتفق عليه السابق. أما الزيادة فعند مسلم من حديث أبي هريرة (ح 1519) .(5/440)
يصح البيع في مسألة الجبة وفي الباقيتين قولان.
وقطع بعضُ أصحابنا بصحة البيع في اشتراط كون الشاة لبوناً. وقال: هذا صفةٌ في الشاة، وليست تقتضى ثبوتَ لبني في الضرع، فأما إذا اشترط اللبن في ضرعها حالةَ البيع، فيكون ذلك كاشتراط كونها حاملاً.
فهذه طرق الأصحاب.
قال الشيخ أبو علي: لو قال: بعتك هذه الجاريةَ، وما في بطنها. أو بعتك هذه الشاةَ، وما في ضرعها. أو هذه الجُبةَ وما فيها من الحشو، فيبطل البيع في هذه الصور قولاً واحداً؛ فإنه تعرض لمجهولات وأثبتَها مبيعةً مقصودةً. وليس كما لو قال: بعتُها على أنها حامل؛ فإنه ما جعل الحمل مبيعاً مقصوداً، بل ذكره وصفاً.
والوصف قد يكون وقد لا يكون، فكان كما لو اشترى عبداً على أنه خبازٌ.
وهذا الذي ذكره حسن. وما ذكره الأصحاب -مع ما ذكر الشيخ أبو علي- يلتفتُ على أن المذكور على صيغة الشرط هل يكون كما يذكر على صيغة الضم إلى المبيع.
وقد ذكرنا أمثلة هذا فيه إذا قال: اشتريتُ منك الزرعَ على أن تحصده. فإن جعلنا المفهومَ من الشرط كالمضموم لفظاً، فيقرب الحكمُ بالبطلان.
والظاهر ما قاله الشيخ إلا أنه ضمَّ حشوَ الجبة إلى الحمل، وفيه بعضُ النظر: فلا يبعد أن يُجعل كبيع الغائب.
ثم يتطرق إلى ما قاله نوعٌ آخر من الاحتمال: وهو أن البيع إن بطَل في الحمل واللبن، فالوجه تخريج البيع في الجارية والشاة على قولين في تفريق الصفقة.
وقد تعرض الشيخُ (1) لهذا. ثم قال: الوجه: القطع بالبطلان؛ فإن المضموم مجهولٌ لا يتأتى توزيع الثمن عليه وعلى المبيع. والقياس ما ذكره. لكنَّا أجرينا قولَيْ تفريق الصفقة في صورةٍ لا يتأتى التوزيع فيها، كما في بيع شاةٍ وخنزير. وذلك يُخرّج على القولين في أن العقد إن أجيز بكم يجاز؟ فإن قلنا: يجاز العقدُ في الذي يصح فيه بتمام الثمن، فلا حاجة إلى التوزيع، ولا يضر تعذر التوزيع؛ إذْ لا حاجة إليه.
__________
(1) الشيخ المراد هنا: والده أبو محمد.(5/441)
3372- ومما يتعلق بتمام القول في هذا أن من اشترى جاريةً حاملاً، وأطلق العقدَ، فالبيع صحيح، والحمل مستحَق للمشتري، والخلاف في أنه هل يقابله قسط من الثمن. وسيجري تحقيق ذلك في كتاب الرهن، إن شاء الله تعالى.
ولو باع جاريةً إلا حملَها، ففي صحة الاستثناء والبيع وجهان: أحدهما - يصح، كما يصح استثناء الثمار قبل بدو الصلاح؛ فعلى هذا يبقى الحمل للبائع.
والوجه الثاني - يبطل الاستثناء؛ فإن الحمل بمثابة جزءٍ من الجارية في حكم البيع.
هذا في التصريح بالاستثناء.
فأما إذا باع جارية وهي حامل بولد حُر، فالأصح صحةُ العقد، وإن وقع الحمل مستثنىً عن البيع شرعاً.
وأبعد بعضُ أصحابنا؛ فذكر وجهاً في منع بيعها إلى أن تلد.
وكذلك إذا كان الحمل بالوصية لزيد. وكانت الجارية لعمرو. فإذا باع مالك الجارية، فهو كما لو فُرض البيع وهي حامل بولد حُر.
* * *(5/442)
باب النهي عن بيعٍ وسلفٍ جرّ منفعة
3373- صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نهى عن بيع وسلف " (1) ، وصورته أن يشترط في البيع أن يُقرضه مالاً. وهذا يلتحق بشرط عقدٍ في عقد.
ثم لو قال البائع: بعتك هذا العبدَ بألفٍ على أن أقرضك ألفاً، وقبل المشتري، فالبيع باطل.
وكذلك لو قال: بعتك هذا العبدَ بألفٍ على أن تقرضني ألفاً، فالبيع فاسد.
أما إذا اشترط على المشتري أن يقرضه، فهذا ضمُّ منفعةٍ إلى الثمن، واشتراط ارتفاق، ولا يثبت ما شَرَطَ، فيصير الثمن مجهولاً به. وكأن التقديرَ بعتك هذا العبدَ بألفٍ وارتفاقٍ بشيءٍ آخر غيره.
وإذا قال البائع: بعتك هذا العبدَ بألفٍ على أن أقرضك، فكأنه لم يقنع بأن يقابلَ العبدَ بالألف، فقابلَ العبدَ ورفقاً بألف، فلم يصح.
وما ذكره معتضدٌ بنص الرسول صلى الله عليه وسلم.
فصل
3374- تعرض الشافعي لإفساد القرضِ الذي يجر منفعة.
والوجه عندنا أن نذكر أصلَ القرض ووصفَه، وقواعد الأحكام فيه، ثم نذكر فساده إذا شرط فيه جرَّ منفعةٍ.
__________
(1) حديث النهي عن بيع وسلف: رواه أبو داود البيوع، باب في الرجل يبيع ما ليس عنده، ح 3504، والترمذي: البيوع، ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك، ح 1234، والنسائي: البيوع، بيع ما ليس عندك، ح 4611، وباب شرطان في بيع، ح4630، والحاكم: 2/17. وانظر التلخيص: (3/28 ح 1151) .(5/443)
فالقرض في نفسه متفق عليه. وليس عقداً تاماً على قياس المعاوضات؛ فإنه لو كان مردوداً إلى قياسها، لما صح اقتراضُ مالٍ من أموال الربا لشَرْطِ التقابض في بيع بعضه بالبعض.
ومعلوم أن من أقرض إنساناً دراهمَ فإنما يبذلُها ليأخذ منه مثلَها، وهذا على القطع مقابلةُ عوض بعوض. وقياسُ هذا يقتضي التقابضَ في مجلس العقد؛ فإن كل عوضين جمعتهما علةٌ واحدة في تحريم ربا الفضل إذا اشتمل العقد عليهما، وجب التقابُض فيهما. فليس القرضُ إذاً على قياس العقود، وليس خالياً عن [تقابل] (1) العوضين مقصوداً.
وامتنع الشافعي من إثبات الأجل في القرض؛ من قِبَل أن الأجل إنما يثبت في حقائق العقود المشتملةِ على حقيقة المعاوضة. فإذا لم يكن القرض كذلك، لم يكن في إثبات الأجل معنى، ووافق أبو حنيفةَ على هذا. وكان القرض معروفٌ أثبته الشارع رخصةً مستثنى من قياس المعاوضات، وما فيها من التعبدات؛ فإن القرض لو روعي فيه التقابض، لم يكن فيه معنى. وغرض الشارع بإثبات القرض استثناؤه عن تصنيفات المبيع، وإيصال المقترض إلى القرض من غير أن يُنجز له عوضاً.
وهذا لا خفاء به.
3375- وينشأ من هذا الأصل خلافٌ عظيمُ الوقع مع مالك (2) ، فإنه قال: ليس للمُقرض أن يسترد ما أقرضه على الفور، حتى يقضي المقترضُ وطراً، أو يمضي زمانٌ يسع ذلك. وزعم أنا لو ملكنا المقرضَ استرجاع القرض في الحال، لم يكن للقرض فائدةٌ. وبنى هذا على إثبات الأجل، ولزوم الوفاء به إذا ذُكر، وحمل [هذا] (3) على موافقة مقصودِ القرض.
وهذا الذي ذكره فيه تخييل إذا نظر الناظر إلى مقصود القرض. ولكن لا وجه لما
__________
(1) في الأصل، (ت 2) : تقابض.
(2) ر. جواهر الإكليل: 2/76، منح الجليل لعليش: 3/51.
(3) ساقطة من الأصل.(5/444)
قاله؛ من جهة أن منعه المقرضَ من مطالبة المقترض تحكّم منه عليه، لا عن أصل ثابت في الشرع. ثم ذِكْرُه قضاءَ الوطر عماية لا يهتدى إليها، وأمرٌ خارج عن الضبط.
والوجه إذا عقلنا غرضَ الشرع مائلاً عن قياس كلِّي (1) أن نقتصر عليه، ولا نُتبعُه هدمَ الأصول. ومقصود الشارع استثناءُ القرض عن التعبّد الثابت في التقابض المشروط. وهذا معترف به، فأما الحجر على المقرض، فلا. والأمر محمول فيه على أنه إن شاء وفَى بامتناعه، فإن لم يفِ، فهو المالك.
وقد طرد مالكٌ أصلَه في إلزام العواري إلى قضاء الأوطار.
وهذا عندي خَرق لما عليه علماءُ الأمة؛ فإنهم ما زالوا يعرفون من وضع الشرع في العواري تخيّر المعير، وأن له الرجوع متى شاء. وقد ثبت في وضع الشرع عقودٌ مقرونةٌ بشرط الرجوع. والواهب المملِّك بالإقباضِ عندنا وبنفسِ الهبةِ عند مالك رحمه الله يرجع فيما وهب. ولم يُنكِر أصلَ الرجوع في الهبة منكر.
فالذي يقتضيه الفقه أن يُعتقَدَ استثناءُ الشارع القرضَ كما ذكرناه، مع أن الأمر فيه مبني على أن المقرض يفي بالامتناع، ولا يخلف الموعدَ. وهذا ما اطّرد العرفُ فيه.
فإن أراد الاسترجاع، فلا مانع منه.
وأما الأجل، فقول مالكٍ في إثباته أَثْبتُ. وسبيل الكلام عليه ما قدّمناه، من أن الأجل من توابع العقود المحققة، ولو أثبتنا الأجل فيه، لألحقناه بالعقود، ولو التحق بها، لامتنع الأجل في مقابلة الدراهم بالدنانير؛ ففي إثباته في الربويات نفيُه.
3376- ثم إذا تمهد قولُنا في أصل القرض وتنزيله، فنتكلمُ وراء ذلك في شيئين: أحدهما - أنه يقتضي الملك للمقترض وكيف التفصيل فيه. والثاني - فيما يصح إقراضه وفيما لا يصح، ثم نذكر بعدهما القرضَ الذي يجرّ منفعةً.
فأما القول في وقت الملكِ، فقد ذكر أئمتنا قولين من معاني كلام الشافعي في ذلك: أحدهما - أن الملك يحصل بالإقباض. وهذا هو القياس؛ فإن المقترض يتصرف فيما اقترضه وقبضه تصرفاتٍ مفتقرة إلى الملك، كالبيع وغيره. وأيضاً؛ فإن
__________
(1) في (ص) ، (ت 2) : جلي.(5/445)
كل عقد مملِّكٍ على الصحة، إذا لم يقترن به مانِع من نقل الملك، فالملك لا يتأخر فيه عن القبض.
والقول الثاني - أن الملك لا يحصل ما لم يتصرف المقترض، كما سنصف تصرّفَه؛ فإن الاقتراضَ ما وقع للتمليك المحض، حتى لا (1) يقتني المقترضُ ما يقترضه. ولو كان المقصود منه ذلك، لرُدَّ إلى قياس العقود، فحكمُ القرض في وضعه يقتضي وقوفَ الملك إلى اتفاق التصرف.
التفريع على القولين:
3377- إن حكمنا بأن الملك يحصل في القرض بنفس القبض مع جريان لفظٍ مشعر باقتراض، فقد قال صاحبُ التقريب وأئمة العراق: لو أراد المُقرِضُ أن يسترد عينَ ما أقرضه، كان له ذلك. وهو ما قطع به القاضي. وسببه أنه إذا كان يملك تغريمه مثلَ حقه عند فواته، فينبغي أن يملك استردادَ عين ملكه. ولو أبى المقترض، كان حاملاً للقرض على مقصود الاقتناء. وقد أوضحنا خلاف ذلك.
وذكر الشيخ أبو علي في الشرح أن المقرض ليس له أن يسترد عينَ القرض إلا أن يرضى به المقترض، فلو أراد أن يأتي بمثل ما قبضه، فله ذلك.
وهذا الذي ذكره قياس حسن. ولكن جمهور الأصحاب ذهبوا إلى مَا قدمناه.
ولو أراد المقترض ردَّ عين القرض، فلا شك أنَ المقرض محمول على قبوله، وليس له أن يقول: إنما أقرضتك هذه الدراهم بعوضها، فلا أقبل عينها؛ وذلك أن القرض منتزعٌ عن حقائق المعاوضات. ولو باع رجل درهماً في الذمة بدرهم، ثم أقبض أحدُهما صاحبه درهماً، فردّه على صاحبه، وكان مثلاً له، جاز ذلك. فإذا لم يمتنع هذا في المعاوضات المحققة، فلا شك أن المقرض محمول على قبول عينِ حقه.
هذا إذا فرعنا على أن الملك يحصل بالقبض في القرض.
__________
(1) في (هـ 2) ، (ص) : حتى يقتني.(5/446)
3378- فأما إذا فرعنا على القول الآخر. وقلنا: لا يحصل الملك في القرض إلا بتصرفٍ من المقترض. فالكلام أولاً في نفس التصرف:
لا خلاف على هذا القول أنه لو استخدم العبدَ المقترَض أو أعاره، فلا يحصل الملك بهذا القبيل من التصرفات.
ولو باعه بيعَ بتات، أو وهبه وأقبضه، فيحكم بنفوذ تصرفه، ويستبين أن الملك انتقل إليه قُبَيْل التصرف الصادر منه، فإنا بالتصرف نعلم جريانَ المقترض في مقصود القرض. وإذا تبيَّنا ذلك، أسندنا تصرفاته إلى ملكٍ مقدَّرٍ قُبيلَها.
ولو آجر العبدَ المقترَضَ أو رهنه، فكيف القول في التصرف الذي لا يزيل الملك عن الرقبة، ويستدعي نفوذُه ملكَ المتصرف؟
في كلام أصحابنا خبطٌ في هذا. أمّا شيخي فكان يقول: كل تصرف لو صدر من المتّهب، انقطع به حق رجوع الواهبِ منه، ولولاه لرجع، فذلك التصرف يثبت ملكَ المقترض على حكم التبيّن. وكذلك كل تصرفٍ لو صدر من المشتري، ثم أفلس، لامتنع به حق رجوع البائع إلى عين ماله، فإذا صدر من المقترض، تضمّن حصولَ الملك له، فلا فرق بين هذا المعتبَرِ وبين ما ذكرناه في المتهب.
هذا مسلك شيخي.
ومن أئمتنا من قال: التصرف المعتبَر فيما نحن فيه هو الذي يزيل الملكَ عن رقبة المقترض؛ فإن الغرض من الإقراض إخراجُ المقترَض. وهذا القائل لا يجعل الرهن مما يكتفى به وإن تعلّق برقبة المقترَض.
وقال بعض أئمتنا: كل تصرف يتعلق بالمنفعةِ، فإنه لا يثبت حقَّ الملك في المقترَض، كالإجارة. وكل تصرف يتعلق بالرقبة على لزومٍ، فإنه يتضمن ملك المقترض، فالرهن عند هذا القائل يتضمن تحصيل الملك.
وقال بعض أئمتنا: كل تصرف يستدعي ملكاً، فهو من المقترض يتضمن تمليك القرض على مذهب التبيّن.(5/447)
وصاغ بعض أصحابنا عن هذا عبارةً أخرى، وقال: ما يستباح بالإباحة لا أثر له، وما لا يستفاد إلا بملكٍ، فهو الذي يُثبت الملك.
فهذا تمام طرق الأصحابِ في تفصيل التصرفات المعتبرة في تحصيل الملك في القرض.
ومن قال: لا يحصل الملك إلا بما يزيل الملك، فلا يمنع المقتَرِضَ من استخدام العبدِ المُقْتَرَضِ ويَحْمِلُ الإقراضَ على إباحة ذلك، وعلى تمهيد تحصيل الملك إن أراد المقترض تحصيلَ الملك. فأما الإجارة، فلا نصححها، فإنها تستدعي ملكاً، والملك عند هذا القائل لا يحصل بها.
ولسنا نحوم بعدُ على استقراض الجارية، فإنا سنذكر أمرها في الفصل الثاني، وهو ما يُستقرَض وما لا يستقرَض.
فرع:
3379-[إذا استقرض] (1) عيناً وباعها على شرط الخيار. فإن قلنا: البيع لا ينقل الملك، والتفريع على أنه لابد من تصرفٍ ناقل للملك، فلا يحصل الملك للمستقرض.
وإن فرعنا على أن المعتبر تصرفٌ يستدعي الملك، فالبيع يُملّك المستقرضَ؛ فإنه يستدعي ملكاً، وإن كان لا ينقل الملك ما لم يَلْزم.
وإن قلنا: البيع ينقل الملك، والتفريع على أنه لابد من ناقل للملك، فهذا نقل على الجواز، لا على اللّزوم. وفيه تردد للأصحاب. وهو محتمل جداً.
وكان شيخي يقول: لا خلاف أن الملك إذا حصل في زمان الخيار لمن اشترى زوجته، فالنكاح ينفسخ.
هذا منتهى التفريع على التصرفاتِ المعتبرة في قولنا: لا يملك المستقرض ما لم يتصرف.
وقد نجز الغرض فيما يملّك المستقرَض.
__________
(1) سقط من نسخة الأصل وحدها.(5/448)
3380- فأما القول فيما يصح إقراضه:
قال صاحب التلخيص: " ما يصح السلم فيه، يصح إقراضُه إلا الولائد ": أراد الجواري. فنقول أولاً:
مقتضى كلامه: أن ما يمتنع السلم فيه لأن الوصفَ لا يحيط به لا يصحّ إقراضُه.
وهذا ما ذهب إليه الجماهير المعتبرون من الأصحاب. ووجهه أن القرض مقتضاه إلزامُ ذمة المقترض عوضاً موصوفاً، فينبغي أن يكون الشيء قابلاً للصفة، وكأنَّ العينَ المقرضَة بصفاتها سبيلٌ في وصفِ ما يُلزمه ذمةَ المقترض. وهي نازلةٌ منزلةَ ذكر الأوصاف في السلم.
فيخرج إذاً مما ذكرناه أن اللؤلؤةَ لا يجوز إقراضُها، وكذلك النشابة والقوس، وكل ما يمتنع السلم فيه. وذكر الشيخ أبو علي هذا الوجهَ، ووجهاً آخر: وهو أن الإقراضَ يجوز في هذه الأشياء.
والقول في هذا ينبني على ما سأذكره في آخر الفصل، وأنبه على رد هذه المسألة إن شاء الله تعالى.
3381- ومما يتعلق بهذا الفصل الكلامُ في إقراض الجواري. وقد نص الشافعي على قولين فيه: أحدهما - تجويز ذلك قياساً على العبيد والعُرُوض، والنقود. والقول الثاني - لا يجوز إقراضهن.
وقد اتفق أصحابنا على أحد هذين القولين في أن الملك متى يحصل في القرض.
ثم ذهب الأكثرون إلى أنا إن قلنا: يحصل الملك بالقبض، فيصح إقراضُ الجارية، ويملكها المقترض بالقبض، كما يملكها بالاتهاب والقبض.
وإن قلنا: [لا يحصل الملكُ في القرض بالقبض، فلا يصح إقراضُ الجواري] (1) ؛ فإن في تصحيحه تسليمَهن إلى المقترض، فتثبت يدُه عليها من غير ملكٍ. وقد يُفضي ذلك إلى الإلمام، فالوجه حسم هذه الجملة بالكلية.
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.(5/449)
وذكر الشيخ أبو علي مسلكاً آخر في بناء إقراض الجواري على الملك، وهو عكس ما ذكره الأصحاب. فقال: إن قلنا: يحصل الملك في القرض بالقبض، فلا يصح إقراض الجارية؛ فإن المقترض لو ملكها، لاستحلها، ثم مَلكَ ردها في عينها، فيكون ذلك على صورة إعارة الجواري للوطء. وإذا قلنا: لا يملك القرضَ بالقبض، فيصح إقراضُ الجارية؛ فإن مستقرضَها إذا لم يملكها، لا يستحلها، ولا يقع ما صورناه من وطء الجارية وردّها في عينها.
هذا مسلكه. والذي ذكره الأصحاب قريبٌ. ولا بأس بما ذكره الشيخ أيضاً.
والقياسُ جواز الإقراض على القولين. ولكن صح عن السلفِ النهيُ عن إقراض الوَلائدِ. وكأن المسألة اتباعية.
وأجمع أئمتنا أن الجارية إن كانت من محارم المستقرِض بنسب أو رضاع، أو صهرٍ، فيجوزُ إقراضها منه. لم أرَ في هذا خلافاً. وهذا يُنبِّهُ (1) على أن المحذورَ الوطءُ واستحلاله، على التفصيل الذي ذكرناه.
3382- فإذا ثبت التفصيل فيما يجوزُ إقراضه، فالمقترَض لا يخلو إما أن يكون من ذوات الأمثالِ، وإما أن يكون من ذوات القيم؛ فإن كان من ذوات الأمثال، فلا شك أن المردود مثلُ المستقرَض.
وإن كانَ المُقرَضُ من ذوات القيم، فقد ظهر اختلاف الأصحاب فيه: فذكروا وجهين أشبههما (2) بظاهر الحديث أنه يرد مثل ما قبض. وإن لم يكن من ذواتِ الأمثالِ. وصح " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استقرض بكراً من أعرابي فتقاضى عليه وأغلظ عليه في القول ". قال أبو هريرة فهممنا به فقال عليه السلام " دعوه فإن لصاحبِ الحق يداً ولساناً. ثم أمر أبا رافع أن يقضيه، فلم يجد إلا بازلاً (3) ، فقال:
__________
(1) في (هـ 2) ، (ت 2) : تنبيه.
(2) في (هـ 2) : أظهرهما.
(3) البازل من الإبل من دخل في التاسعة، وهو تمام قوة الإبل. وهذا تصرف في الرواية: فليس هذا اللفظ في الحديث.(5/450)
" أعطوهُ إياه، خيركم أحسنكم قضاءً " (1) ويعتضد هذا الوجه أيضاً بأن القرض ليس فيه تعرض لذكر العوض، ولو كان الواجب ردَّ قيمة العين لوجب إعلامها، فوضح أن القرض ينزل على العين، وعلى ما يجانسه.
والوجه الثاني -وهو الأقيس- أن العين إذا كانت من ذوات القيم، فالواجب على المستقرض قيمتُها؛ فإنه لا مثل لها، ولو ضمنت بالمثلِ في القرض، لضمنت في الإتلافِ بالمثلِ. وهذا القائل يقول: القرضُ إذاً في التصرف والاستهلاك مضمَّن بالبدل الذي يثبت عند الإتلاف.
هذا تقديره.
وما قدّمناه من الوجهين في إقراض ما لا يصح السلم فيه مبنيان على هذا الذي ذكرناه الآن.
فإن قلنا: العين المُقرَضةُ مضمونة بالقيمة، إذا لم تكن من ذواتِ الأمثال، فإقراض الدُّرةِ جائز بناءً على قيمتها. وإن أوجبنا ردَّ المثل، لم يجز فيما لا يضبطه الوصف.
3383- وأمَّا إقراض الخبز وكل ما لا يجوز بيعُ بعضِه ببعضٍ ينبني (2) على أن ما ليس من ذوات الأمثالِ يَضمن المقترض مثلَه أو قيمتَه. فإن ألزمناه القيمةَ، والخبز [ليس من ذواتِ الأمثال، فيجوز إقراضه، فإنه ليس فيه مقابلة الخبز بالخبز. وإن قلنا: يضمن المقترض المثل، فهذا يؤدي إلى مقابلة الخبز بالخبز] (3) . وقد اختلف
__________
(1) حديث خيركم أحسنكم قضاءً. رواه البخاري: الاستقراض، باب هل يعطى أكبر من سنه، ح 2391، وباب استقراض الإبل، ح 2390، وفي الوكالة، باب الوكالة في قضاء الديون، ح 2306. ورواه مسلم: المساقاة، باب خيركم أحسنكم قضاءً، ح 1600، وهو من حديث أبي هريرة، وأبي رافع.
هذا، وليس في الحديث لفظ (بازل) وإنما "خياراً رباعياً" والرباعي بفتح الراء، ما له ست سنين. فالحديث مروي بمعناه. وراجع تلخيص الحبير: (3/79 ح 1234) . وسترى أن الحافظ تحامل على الإمام والغزالي.
(2) جواب (أما) . (بدون الفاء على مذهب الكوفيين. وتتكرر كثيراً في لغة إمام الحرمين) .
(3) ما بين المعقفين سقط من الأصل. ومكانه عبارة مضطربة مكررة متداخلة. لا معنى لها.(5/451)
أصحابنا فيه، فمنهم من منع الإقراض لأدائه إلى مقابلة الخبز بالخبز. ومنهم من جوز للحاجةِ الماسة، كما يجوز مقابلة الدراهم بالدراهم من غير تقابضٍ. وإلى هذا مال القاضي.
وقد نجز الكلامُ في أصول القرض.
3384- وحان أن نُفَصِّل القرضَ الذي يجر منفعة، فنقول: صح أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن قرضٍ جرَّ منفعة " (1) واتفق المسلمون على منع ذلك على الجملة، وإن كان مِنْ تردُّدٍ، ففي التفصيل. والمعنى المعتبر أن القرض معروفٌ أثبته الشارع لمسيس الحاجة. واستثناه عن تعبداتِ البياعاتِ، وإنما يتحقق معروفاً إذا لم يقصد المقرض جرَّ منفعة.
فإذا أقرض رجُل رجلاً دراهمَ مكسّرة وشرط أن يردها صحيحةً، فالقرض فاسد.
ومن هذه الجملة السفاتج (2) ، فإذا جرت مشروطة، فأقرض رجل رجلاً مالاً ببلدةٍ، وشرط أن يرده ببلدة أخرى، فهذا الشرط يفسد القرض؛ فإن المقرض يبغي به درْءَ خطر السفر عن ماله. وهو منفعة ظاهرة.
فإن قيل: أتجوزون القرض على شرط الرهن والكفيل؟ قلنا: هو جائز، لا خلاف فيه، وليس هو من القرض الذي يجر منفعة؛ فإن الرهن لا منفعة فيه إلا التوثيق. وكذلك الكفيل، وليس في استيثاقِ المقرض بالرهن جلبُ منفعة زائدة؛ فإنه كان بملكه أوثقَ منه بالرهن الآن.
ولو قال: أقرضتك هذه الدراهمَ الصحاح على أن تردها مكسّرة، فهذا حط من مقدار الحق، وليس جلبَ منفعة، ثم تفصيله أنه إن لم يكن هذا القرض (3) في معرِض
__________
(1) حديث: " نهى عن قرضٍ جرَّ منفعة ". لم يصح مرفوعاً، لكنه صح عن ابن عباس موقوفاً، وهو مروي بهذا اللفظ عن علي كما روي موقوفاً على ابن مسعود، وأبي، وعبد الله بن سلام. (ر. معرفة السنن والآثار: 4/391، والكبرى للبيهقي: 5/349، 350، وتلخيص الحبير: (3/79، 80 ح 1235، والإرواء: ح 1397) .
(2) السفاتج: جمع سفتجة، قيل بضم السين، وقيل بفتحها، وأما التاء فمفتوحة، فارسي معرب (المصباح) .
(3) كذا في النسخ الأربع. ولعلها: " اللفظ " (مكان القرض) .(5/452)
الشرط، بل ذكره متساهلاً واعداً، فالقرضُ صحيح. وهو بالخيار في الوفاء بالوعد.
وإن ذكر ذلك على صيغة الشرط، فقد اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من حمله على المحمل الأول، وصحح القرضَ. وهو الأصح؛ فإن الشرط في الحقيقة مكرمة، وإنما تشعر صيغةُ الشرط بحقيقة وضعه إذا كان يستجلب الشارط حظاً وغرضاً.
ومن أصحابنا من أفسد القرض بصيغة الشرط. وقد تمهد هذا فيما سبق.
قال الشيخ أبو علي: من أقرض رجلاً مائة درهم على أن يقرضه مائةً أخرى، ولم يتعرض المقترض لذلك، فالصحيح أن القرض لا يفسد بهذا؛ فإن ما ذكره المقرض ليس إلزاماً وإنما هو وعد. وهو بالخيار في الوفاء به. وفيه الوجه الضعيف تمسكاً بصيغة الشرط. ولا عود إليه بعد هذا.
وقال الشيخ: لو وهب رجل من رجلٍ شيئاً على أن يهب منه شيئاً آخر، لا تفسد الهبة، كما ذكرناه في القرض، وهذا في الهبة أظهر. كما سنصفه في آخر المسائل.
ولو قال: بعتك هذا العبدَ بألفٍ على أن أهب منك هذا الثوب، فالبيع باطل، والسبب فيه أن المبيع يقابِل عوضاً، فإذا ضمَّ إليه ما لا يلزم، خرج المبيع عن كونه مقابلاً على التجريد بعوضه؛ وهذا يتضمن جهالةَ العوض من غير فرق بين أن يكون الشرط للشارط أو عليه. والهبة لا عوض فيها، فلا حكم لما يأتي به الشارط، إذا كان يلتزم مزيداً ولا يُلزم.
وأما القرض، فهو ملحق بالهبة. وإن كان مقابلاً بالعوض؛ فإن حقائق الأعواض لا تراعى فيها، ولو روعيت، لكان يسمى.
ولو أقرض وشرط الأجل، فالوجه أن يقال: إن لم يكن للمقرِض غرض في الأجل، فالأجل لا يثبت، والقرض لا يفسد. كما ذكرناه. وإن قُدِّر للمقرض غرضٌ في ذكر الأجل بأن يفرض زمانُ نَهْبٍ والمقترضُ مليءٌ وفيٌّ، فالأحْزم إيقاع المال في ذمته؛ حتى لا يتعرض للضياع. فإن كان كذلك، فمن أصحابنا من جعل شرطَ الأجل جرَّ منفعة، وهو اختيار القاضي، ووجهه لائح. ومنهم من حسم الباب، وجعل الأجل حقَّ المقترض؛ فإنه تأخير المطالبة وإسقاط الطلب بالشيء كإسقاط المطلوب، فلا نظر إلى فرض التعرض للآفةِ.(5/453)
3385- ثم ما ذكرناه من أن القرض إذا اشتمل على شرط يجرّ منفعة، فهو فاسد، فهو فيه إذا كان المالُ المقترضُ من أموال الربا. فأما إذا لم يكن من أموال الربا، فالشرط الذي يجر المنفعة هل يفسده؟ فعلى وجهين ذكرهما صَاحب التقريب والعراقيون: أحدهما - أن القرضَ يفسد؛ لأنه إذا اشتمل على جرِّ المنفعة، كان المال خارجاً عن وضعه ومقصوده.
والوجه الثاني - أنه لا يفسد؛ فإن المحذور في مال الربا أن يُردَّ إلى قياسِ المعاوضة، ثم إذا رُدّ إليها، فسد من قِبَل ترك التقابض في المجلس. وإذا كان المال خارجاً عن الربا، لم يضرّ ردُّ القرض إلى قياس البيع.
وهذا فيه نظر من قِبَل أنه إذا رُدّ إلى قياس البيع، وجب فيه التزام شرائط البيع، من تسمية العوض ورعاية شقي العقد إيجاباً وقبولاً، ثم يكون هذا خارجاً عن الباب بالكلية، ويرجع بيعاً محضاً.
ومن جوز هذا من أصحابنا لم يشترط ردّه بيعاً محضاً. فليفهمه الناظر. وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم " أمر عمرو بنَ العاص حتى استسلف بعيراً ببعيرين إلى إبل الصدقة " (1) ثم مهما (2) حكمنا بفساد القرض لم يملك المستقرض ما أخذه على قولنا بحصول الملك بالقبض، ولم يملك التصرف فيه على القول الآخر.
فرع:
3386- إذا أقرض رجل رجلاً دراهمَ ببلدة، ثم رآه في بلدة أخرى، وأراد مطالبته بالقرض، نُظر في المال: فإن كان مثل النقود التي لا عسر في نقلها، ولا تتفاوت قيمتُها بتفاوت البقاع، فظاهرُ المذهب أن لمستحق الحق مطالبتَه. وإن
__________
(1) حديث: " أمر عمرو بن العاص حتى استسلف بعيراً ". ذكره الحافظ في التلخيص على أنه كان مع عبد الله بن عمرو، لا مع عمرو. والحديث رواه أبو داود: كتاب البيوع، باب في الرخصة، ح 3357. وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود. وانظر كلام الحافظ: التلخيص: 3/18 ح 1139، وما قاله الخطابي في المعالم. وقد أخرجه الدارقطني: 3/69، والبيهقي: 5/287.
(2) "مهما": بمعنى (إذا) .(5/454)
كان الشيء مما يعسر نقله، وتختلف قيمةُ جنسه باختلاف البلادِ، فلا يطالبه في غير بلد الإقراضِ.
وإن غصب عيناً، ثم ظفر المغصوب منه بالغاصبِ في غير محل العدوان والضّمانِ، ولم تكن العين معه، فأراد أن يغرمه مثلَ العين المغصوبة وهي من ذوات الأمثال، ففي المسألةِ وجهان: أحدهما - أنه لا يطالبه بها. ونقلها عسر وقيمتها متفاوتة، كما لا يطالَب المستقرِض.
والوجه الثاني - أنه يطالَب؛ تغليظاً عليه، بخلاف المقترض.
وسيكون لنا إلى هذا عَوْدٌ بأشفى بيانٍ، إن شاء الله تعالى - في كتاب الغصب.
ثم إن قلنا: لا يطالبه بمثل المغصوب، فيطالبه بقيمته اعتباراً ببلد الغصب، وهذا للحيلولة (1) . ثم إذا لقيه في بلد الغصب والعين المغصوبةُ قائمة، ردَّ القيمة واستردَّها. وإن كانت تالفةً، فهل يرد القيمة، ويسترد مثلَ المغصوب، وهو من ذوات الأمثال؟ فيه خلافٌ سيأتي إن شاء الله. وإن ظفر المقرض بالمستقرض، فقد ذكرنا أنه لا يلزمه مثل المال إذا كان يثقل نقلُه، ولكن يلزمه القيمة اعتباراً ببلد القرض؛ فإنا لو لم نقل بهذا، لاتخذ المقترضون التغرّبَ ذريعةً في إسقاط الطَّلِبة في الأموال التي وصفناها.
فرع:
3387- عماد الإقراض اللفظ والإقباض: ثم اللفظ أن يقول: أقرضتك أو لفظٌ هذا معناه. ومن الألفاظ أن يقول له: خذ هذا واصرفه في حوائجك بمثله مهما وجدت (2) .
وأمّا قبول المستقرض نطقاً، ففيه خلاف: فمن أصحابنا من لم يشترطه، وهو ظاهر المذهب؛ لأن الإقراض حاصله يرجع إلى الإذن في الإتلاف على شرط الضمان، وهذا لا يستدعي قبولاً.
ومن أصحابنا من قال: لا بد من القبول؛ فإن هذا التصرف لا يقصر عن الهبة،
__________
(1) كذا بدون ذكر متعلّق؛ لأنه مفهوم من السياق.
(2) أي إلى أن تجدَ.(5/455)
وهي مفتقرة إلى القبول، مع عروّها عن العوض؛ فالقرض المضمَّن بالعوض بذلك أولى.
وهذا الخلاف يقرب من القولين في أن القرض هل يتضمن تمليكاً إذا اتصل به القبض. ولا يكاد يخفى وجه الأخذ منه.
فصل
قال: " لو كان له على رجل حق حَالٌّ من بيع أو غيره، فأخّره به مدةً معلومة ... إلى آخره " (1) .
3388- لا خلاف بيننا وبين أبي حنيفة رحمه الله في أنه إذا أقرض شيئاً، ثم أراد أن يلحق به أجلاً، لم يلتحق؛ فإنه لو ذكر الأجل عند الإقراض لم يثبت. فأما إلحاق الأجل بالثمن بعد لزوم البيع، ففاسدٌ لاغٍ، والزوائد التي تلحق بالثمن أو المثمن بعد لزوم العقد، لا تلتحق. وهي ملغاة إذا ذكرت. خلافاً لأبي حنيفة (2) .
والحط من الثمن نافذ، ولكنه تبرع غيرُ ملتحق بالعقد عندنا. وأثر ذلك أن البائع لو أبرأ المشتري عن شيء من الثمن بعد لزوم العقد، لم يحط المحطوطُ عن المشتري عن الشفيع؛ فإنه يأخذ المبيع بما وقع العقدُ عليه، وهذا الإبراء غيرُ منعطفٍ على حكم العقد. وهو بمثابة ما لو قبض الثمن ثم وهبَ بعضَه من المشتري.
وهذا إذا كان الإلحاق بعدَ لزوم البيع.
3389- فأما إذا فرض إلحاق بالثمن أو بالمثمن في حال جواز العقد بدوام المجلس، أو بسبب خيار الشرط، ففي التحاق الزيادة وجهان مشهوران: أحدهما - أنها تلتحق وتصير كالمذكورة في العقد.
والثاني - أنها لا تلتحق.
__________
(1) ر. المختصر: 2/206.
(2) ر. إيثار الإنصاف: 302، طريقة الخلاف: 317 مسألة 132.(5/456)
وقد بنى الأصحابُ هذا الخلاف على أن البيع في زمان الخيار هل ينقل الملك؟ قالوا: فإن قلنا: إنه ينقله، فلا إلحاق. وإن حكمنا بأن البيع لا ينقل الملك، فذكر الزيادة على التوافق بمثابة ذكرها بين الإيجاب والقبول.
والصحيح عندنا أن الزيادة لا تلحق وإن حكمنا بأن البيع لا ينقل الملك؛ لأن البيع الأول إذا لم يُرفع ولم يشتمل لفظ العقد على هذه الزيادة، فلا معنى لتقدير إلحاق الزيادة من غير فسخ محقَّق وإعادة، فيمتنع لحوق الزيادة لفساد الصيغة.
ثم من رأى إلحاق الزيادة، قال: لو حُط بعض الثمن عن المشتري، فهو محطوط عن الشفيع. وقال: لو حُط جميع الثمن، فسد العقد، وكأنه خلا في أصله عن ذكر الثمن.
ولو توافقا على إلحاق شرط فاسد، فسد العقد به. ولو ألحق أحدهما شرطاً فاسداً، فسد العقد أيضاً، وإن لم يوافقه صاحبه.
ولو انفرد أحدهما بذكر زيادة صحيحةٍ، وامتنع من قبولها الثاني، لم تلحق الزيادة. ولكن إن تمادى الشارط، ولم يفسخ البيعَ، استمر العقد صحيحاً، ولغت الزيادة. وليس كما لو ذكر أحدهما بين الإيجاب والقبول شرطاً ولم يساعده الثاني، فإن العقد لا ينعقد؛ إذ صيغةُ العقد تستدعي توافقاً بين الموجب والقابل. وإذا اختلف القولان، خَرَجا عن مرتبة الجواب والخطاب.
ومن عليه الحق المؤجل إذا أسقط الأجل، لم يسقط الأجل في حق مستحِق الدين، حتى لو أتى به قبل حلول الأجل المذكور، لم يجبر مستحِق الدين على القبول، على القول الصحيح.
وهل يسقط الأجل في حق من عليه الدين المؤجل؟ حتى لو أراد مستحِق الدين مطالبتَه قبل حلول الأجل هل يكون له ذلك؟ فعلى وجهين: أحدهما - يسقط الأجل في حق من عليه الدين؛ لأنه أسقط حقَّه. والثاني - لا يسقط الأجل؛ لأنه صفة، والصفة لا استقلال لها.
وهذا بمثابة ما لو استحق الرجل دراهمَ صحيحةً، فقال: أسقطت حقي في صفة(5/457)
الصحة، وأنا راضٍ بالمكسّرة، فلا يسقط حقه إجماعاً. فكذلك الأجل.
ومن قال بالأول، انفصل عن الصحة والجودة، وقال: هي صفةُ حق لمستحِق، والأجل حقّ لمن عليه الدين. وليس الموصوف بالأجل حقُّه، فهو إذاً في حقه حقٌّ محض متأصل ليس صفةً.
* * *(5/458)
بابُ تِجارَة الوَصِيِّ بمَالِ اليتيم
قال: " وأحب أن يتجر الوصي بمال من يلي ... إلى آخره " (1) .
3390- أصول القول في الأوصياء يأتي في كتاب الوصايا، إن شاء الله تعالى - ونحن نذكر في هذا الباب ما يليق به وأطرافاً مما نعود إليهِ في كتاب الوصايا تمس الحاجة إليها في نظم مقصود الباب.
فنقول: وصيُّ الأب ومنصوبه يتصرف في مال الأطفال كما كان يتصرف الأب في حياته. والقول في الجد أب الأب ووصيه كالقول في الأب.
فأما وصي الأم، فلا يتصرف في مال أطفالها وأولادها المجانين في ظاهر المذهب؛ لأنها بنفسها لا تتصرف في أموالهم في حياتها، فكيف يتصرف نائبها بعد وفاتها؟
وذهب الإصطخري إلى أن الأم تملك التصرفَ في ولدها وماله، والنكاح مستثنى عن تصرفات النسوة. ثم قال الأصطخري: وصي الأم يلي أطفالها بعد وفاتها، كما أنها بنفسها تتصرف في حياتها.
ثم إن نصب السلطان قيِّماً في أمر الأطفال، فلفظ النصب مع لقب القوام لا يسلِّط المنصوبَ على التصرف في مال الطفل؛ فإنا نجوز أن يكون نصبُه إياه للحفظ فحسب.
فإن صرح بتفويض التصرف مَلَكَه على موجَب الشرع.
فأما الأب إذا قال: نصبتك وصياً على أطفالي أوْ في أموال أطفالي، فلا شك أن الوصي يحفظ عليهم أموالهم. وهل يملك التصرفَ تعويلاً على لفظ الإيصاء من غير تصريح بالإذن في التصرف؟ فعلى وجهين: أظهرهما - يملك ذلك، بخلاف نصب
__________
(1) ر. المختصر: 2/205.(5/459)
القاضي القيمَ. ومن أصحابنا من قال: لا يملك التصرفَ من غير تصريح، كنصب القيم من جهة السلطان.
فإن قيل: فما الفرق؟ قلنا: القُوَّام ينقسمون إلى حفظةٍ ومتصرّفين، وليس يغلب عرفٌ في التصرف، والأوصياء عمَّ العرفُ في تصرفهم، وانضم إليه قرينةُ مسيس الحاجة عند انقطاع نظر الموصي بالموت.
وظهر اختلاف الأصحاب في اجتماع وصي الأب وجدّ الطفل من قِبل الأب، فمن أصحابنا من قدّم الجدَّ ورآه أولى، ومنهم من قدم وصي الأب، وذلك يأتي على الاستقصاء، إن شاء الله عز وجل.
ومقصود البابِ تفصيل القول في تصرف الموصى، فنقول:
3391- لا شك أن المأخوذ على الوصي مراعاةُ النظر والغبطةِ والمبالغةِ في الاحتياط، حتى لا يبيع سلعةً له بعشرة، وثم من يطلبها بعشرة وحبة. وللوصي أن يبيع بالنسيئة إذا زاد القدر بسبب الأجل، وارتهن به رهناً وافياً. فإن أراد البيع نسيئةً من غير أخذ رهن، وكان من عليه تقدير الدين مليّاً وفياً، فالأصح الصحةُ.
ومن أصحابنا من منع دون الرهنِ، والكفيلُ لا يسد مسدَّ الاستيثاق بالرهن، فإن متضمن الضمان ضمّ ذمةٍ إلى ذمة، والذمم وإن تَضامَّت لا تسد مسدَّ الاستيثاق بالرهن.
وسنذكر أصلَ هذا الخلاف في سياق الفصل.
والوكيل المطلق والعامل لا يتبايعانِ بالنسيئة؛ فإنهما يتصرفان بالنيابة المحضةِ، والوصي وإن كان نائباً، فتصرفه تصرفُ الولاة؛ فإنه خلفَ الأبَ عند فواته، ثم الأب يبيع نسيئة، على شرط المصلحة.
3392- ومما يليق بتصرف الوصي الكلامُ في مسافرته بالمال في البر والبحر. أما إن كان في الطريق خوفٌ، فلا سبيل إلى المسافرة بمال الأطفال. وإن غلب الأمن في الطريق، بحيث تغلب السلامةُ، ويندر نقيضها، فهل يملك الوصي المسافرة بمال الأطفال؟(5/460)
أما السفر في البر، فقد ذكر الأصحابُ فيه وجهين وقالوا: أظهرهما - أنه يملك المسافرة، فإنه جهة في الاكتسابِ، وهو موكول إلى نظر الوصي.
والوجه الثاني - أنه لا يملكه، كما لا يملك المودعَ المسافرةَ بالوديعة. والأول يقول: لم يُجعل إلى المودعَ النظرُ لمالك الوديعةِ، وجُعل إلى الوصي النظر في استنماء مال الطفل. وهذا يُعذ من جهات الاستنماء.
وما ذكرناه من الخلاف في البيع نسيئة من غير رهن قريبُ المأخذ من المسافرة مع غلبة الأمن.
هذا قولنا في البر.
فأما المسافرة بمال اليتيم في البحر فإن كان معطبةَ، فلا سبيل إليه، وإن لم يكن كذلك، وكان يركبه التجار في تجايرهم، وقد يقال: الأمن غالبٌ فيه، فقد قطع معظم الأصحاب بالمنع عن المسافرة فيه بمال اليتيم. بخلاف البر؛ فإن غرر أسلمِ البحار لا ينقص عن خطر البر مع الخوف.
وذهب بعض الأئمة إلى أن هذا يخرّجُ على وجوب ركوب البحر للحج. فإن لم نوجبه، فلا يجوز المسافرةُ بمال الأطفال فيه. وإن أوجبنا ركوبَ البحر للحج، فقد نزلناه منزلة البر. وقد صح: "أن عائشة أبضعت بأموال بني (1) محمد بن أبي بكر في البحر" (2) .
ومن منع ذلك، تعب في تأويله، وأقربُ مسلك في ذلك أنها أمرت بذلك والممر على السَّاحل الذي لا يتوقع فيه غررٌ من جهة البحر، فإذا كان كذلك، فهو كالبر لا شك فيه. وقيل: لعلها فعلت ذلك بشرط الضمان، وهذا بعيد؛ فإن ما يضمن، فهو ممنوع.
والأولى أن يقال: رأت ذلك رأياً، والمسألة مظنونة.
3393- ومما يتعلق بغرض الباب أن أئمة العراقِ والقاضي ذهبوا إلى فرقٍ بين
__________
(1) ساقطة من (ص) ، (ت 2) .
(2) أثر عائشة رواه الشافعي. ر. مختصر المزني: 2/206.(5/461)
تصرف الأب وبين تصرف الوصيِّ، ونحن نسوقه على وجهه: قالوا: لا ينفذُ القاضي شيئاً من تصرفات الوصي إذا ارتفع إلى مجلسه من غير بينةِ تقوم على أنها موافقةٌ للغبطةِ، وينفّذ تصرفات الأب مطلقاً، وعلى من يدعي خلافَ الغبطةِ البيّنةُ.
ولو بلغ الصبي وادعى على الوصي مخالفةَ الغبطةِ، فالقول قوله، وعلى الوصي البيّنةُ. ولو ادعى على أبيه مخالفةَ الغبطة، فالقول قول الأب. والسبب فيه أنَّ تصرف الأب محمولٌ على فرط شفقته وانتفاءِ التهمة عنه، واستحثاث الأبوة إياه على طلب الغبطةِ. والوصي عدلٌ في ظاهر الأمر، وليس على شفقة تستحث على طلبِ الغبطة.
ولا يكفي في تصرف الأوصياء أن يعرَى عن الغبن.
ولو أنفق الأب شيئاً في مصلحة الصبي، فبلغ الصبي وأنكره، أو زعم: أنك تعديت قدرَ الحاجة، فالقول قولُ الأب. ولو ادعى مثلَ ذلك على الوصي، فهل يقبل قول الوصي؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يقبل، كما لا يقبل منه دعوى الغبطة في البياعاتِ. والثاني - يقبل؛ فإن تكليفه الإشهادَ على كل ما ينفق عليه عسر، والإشهادُ على البياعات من الممكنات.
فصل
قال: " وإذا كنا نأمر الوصيَّ أن يشتري بمال اليتيم عقاراً ... إلى آخره " (1) .
3394- المتصرِّفُ في مال الطفل بالوصاية والولاية إذا رأى من النظر أن يشتري له عقاراً يردّ عليه غلّةً يُقصد مثلُها ببذل ثمن العقار، فليفعل ذلك، والعقار المغلُّ خير من إعدادِ المالِ للتجارة؛ فإن التجاير على غرر من جهةِ الأسعار أوَّلاَ، وإن فرض مسافرة بها يعترضها فنون من الغرر، والعقارُ على إغلاله باقٍ في الأصل، ولو أراد أن يشتري عقاراً نفيساً من جهة القيمة، لا يُغل غَلّة بمبلغها احتفالٌ، بالإضافةِ إلى ما بذل في ثمن العقار، مثل أن يشتريَ داراً عظيمة لا حاجة بالصبي إليها، ولا يوجد من يكتريها،
__________
(1) ر. المختصر: 2/205.(5/462)
فهذا ليس من النظر. وما خالف النظر، فهو مردودٌ.
وإذا كنا نرى أن يشتري العقار للطفل على الترتيب الذي ذكرناه، فينبغي ألا يبتدر بيعَ العقار إلا على تثبتِ وتبتن ونظرٍ ظاهر.
3395- وحاصل القول أنه يبيعه لغبطةِ ظاهرة تقدَّم على شرفِ العقارِ وفضيلةِ ثبوته على سائر المال. وذلك بأن يكون للصبي شقصٌ من عقار، وكان يطلبُه الشريكُ بأكثرَ من ثمنه، وظهرت الزيادة على التقريب الذي ذكرناه، وكان الشريك يحتاج إليه لتخليص العقار لنفسه، أو لتسوية رَبْعه، فهذه غبطة.
ومن تمام تصويرها ألا يعجز الناظر للطفل من شراء عقار آخر للطفلِ أكثرَ قيمة وريعاً مما يبيعه، فهاهنا تظهر الغبطة.
ولو كان لا يقدر على تحصيلِ عقارٍ بالثمن الذي يأخذه، فذاك في غالب الحال لعلمِ الناسِ بشرف العقار ومزيته على الثمن الذي حصله؛ فإن الناس تتبع الغبطة، فإن كان لا يقدر على تحصيل العقار، فالغالب أن لا خير في بيع العقار.
فهذا تمهيد معنى الغبطة، وقد لاح أن لا يكتفى فيه بثمن المثل، ولا بزيادةٍ قريبةٍ يستهين بها أربابُ العقول بالإضافة إلى شرف العقار، وينضم إليه الاستمكانُ من تحصيل عقارٍ للطفلِ.
فإذا وقع التنبيه على الأصل، هان اتباعُ الصور. فهذا بيع العقار لأجل الغبطة.
3396- وأما بيعه لأجل الحاجة، فإن مست حاجة الطفلِ إلى النفقةِ ولم يتأت تحصيلها إلا من جهة العقارِ، فيبيعُ منه بقدر الحاجة؛ إن عجز عن تحصيل النفقةِ بجهة أخرى.
ثم القولُ في تصديق الولي في ادعاء الغبطةِ، أو الحاجة، وفي إجراء الوصي على خلافه، وإحواجه إلى إثبات الغبطة بالبيّنة - كما (1) ذكرناه.
__________
(1) في موضع (خبر) للمبتدأ: ثم (القول) .(5/463)
فصل
يحوي أحْكامَ ألفاظ الطفلِ في المعاملاتِ وغيرهَا
3397- أما حكمه في العباداتِ، فقد مضى. وأما إسلامه، فسيأتي ذلك في كتاب اللقيط.
وشهاداته مردودة، وفي روايته ولا عرامة (1) به خلافٌ، وفي وصيته -والتدبيرُ من الوصية- قولان.
وإذا انضم إلى قوله قرينة تتضمن تصديقَه، مثل أن يفتح البابَ ويخبر عن إذن صاحبها بالدخول، أو يخبر -في بعثه الهدايا والتحف- عن حقيقتها.
فإن انتفت العرامةُ، وجرى ما ذكرناه مرسلاً، ولا قرينة، فتصديقه فيما يخبر عنه محمولٌ على الخلاف في قبول روايته. وإن انضم قرينة مصدقة، نُظر: فإن بلغ الأمرُ إلى العلم، سقط أثر قوله، وإن لم تنته القرينة إلى العلم، فلأصحابنا طريقان: منهم من خرَّجه على الخلاف في روايته، ومنهم من قطع بالتعويل عليه، واستمسك بعاداتِ الأولين، في اعتماد مثل ذلك.
ولا تصلح عبارته لشيء من العقود خلاَ الوصيةَ والعبادة. فلا تستقل [ولا تصح] (2) عبارته بإذن من يليه. ولا فرق بين أن يكون من يليه عنده يراقبه، وبين أن تقدّر غيبته عنه، وهذا يؤخذ من سقوط عبارته في هذه القواعد عندنا. والخلاف مشهور مع أبي حنيفة (3) .
واختلف أصحابنا في بيع الاختبار، وذلك أنا قد نرى للولي أن يخبُرَ الصبي إذا ناهزَ
__________
(1) " العرامة ": من عَرَم فلان يعرُم (من بابي قتل وضرب) اشتدّ، وخَبُث وكان شريراً (المعجم والمصباح) .
(2) ساقط من الأصل.
(3) ر. رؤوس المسائل: 293 مسألة: 181، المبسوط: 25/21، طريقة الخلاف: 462 مسألة 185.(5/464)
الحلم؛ حتى يستبينَ رشدَه في الوجوه. فإن رأى أن يفوض إليه عقداً حتى يتعاطاه، وهو يراقبه ليستبين تهدِّيه وكَيْسه، فهل ينفذ ذلك؛ المذهب أنه لا ينفذ. واشتهر عن بعض الأصحاب تنفيذ هذا العقد وهذا لا وجه له. ولا أصل في قاعدة المذهب لهذا.
3398- والصبي ليس من أهل القبض فيما لا يكون من أهل العقد فيه؛ فإن القبض فيه من الخطر ما يزيد على العقد. وإذا كان القبض مملِّكاً في عقدٍ كالقبض في الهبة، فيدُ الصبي لا تصلح له، كما لا تصلح عبارتُه للفظ الذي يملِّك لو صدر من أهله.
وقال الأئمة: لو قال مالك الوديعة للمودَع: سلِّم الوديعةَ إلى هذا الصبي، فسلمها إليه، برىء؛ فإنه امتثل أمرَه، فيما هو خالصُ حقه.
ولو قال للمودعَ: ألقِ هذه الوديعةَ في النارِ، فألقاها، بَرِىء.
ولو قال مستحق الدين لمن عليه الدين: سلّم حقي عليك إلى هذا الصبي، فإذا فعل، لم يبرأ، حتى لو ضاع من يد الصبي، فحق مستحِق الدين باقٍ في ذمة المديون؛ فإن يد الصبي لا تصلح للقبض، ولم يتعين بعدُ حق ذي الحق حتى يكون قولُه هذا بمثابةِ الرضا بإتلاف حقه.
ولو قال لمن عليه الدين ألْقِ حقي في هذه النار، فإذا ألقى مقداره فيها، لم يبرأ؛ فإن ما يلقيه حقُّ (1) الملقي بعدُ إلى أن يتعيَّن بقبضٍ صحيح، هو المملِّكُ في العين.
وهذا ظاهر.
ثم إذا ضاع ما سلمه إلى الصبي فبقاءُ الحق على ما وصفناه، ولا ضمان على الصبي.
وقد قال الأئمة إذا أودع الرجل شيئاً من ملكه عند صبي، فضاع في يده بسبب ترك الحفظ، فلا ضمان والمضيعُ ربُّ الوديعة؛ إذْ وضعها عند من ليس أهلاً لها.
ولو أتلف الصبي الوديعة ففي وجوب الضمان عليه وجهان سيأتي ذكرهما في كتاب الودائع: أحدهما - لا يجب الضمان؛ فإن المودِع هو المسلِّط على الإتلاف.
__________
(1) أي مازال على ملك الملقي.(5/465)
ولا خلاف أنه لو باع منه شيئاً وسلمه إليه، فأتلفه، لم يضمن؛ فإن التسليم في البيع تسليط على وجوه التصرّف، بخلاف التسليم في الوديعة.
وقال المحققون: لو دفع الصبي ديناراً إلى صراف لينقده، فإذا أخذه منه، لم يجز أن يرده عليه، وهو مال الغير حصل في يده، فليردّه على مالكه، فإن رده على الصبي دخل في ضمانه، يعني في ضمان الصراف، حتى لو ضاع في يد الصبي، ضمنه الصرّاف.
ولو ظفر الصبي بدرهم، فاشترى به شيئاً فأكله، فما أكله لا ضمان عليه فيه، وما قُبض منه فقابضه مضمون عليه. أما الضمان فبيّن. وإهدار ما أكله معلل بتسليط المالك إياه على الإتلاف (1) .
* * *
__________
(1) إلى هنا انتهت نسخة الأصل (ت 1 رقم 319) وجاء في خاتمتها ما نصه:
نجز الجزء الخامس من نهاية المطلب في دراية المذهب بعون الله وحسن توفيقه، ويتلوه في السادس إن شاء الله تعالى باب مداينة العبد.
على يد الفقير إلى رحمة الله تعالى عزّ بن فضائل بن عثمان القرشي الحموي شاكراً لله على نعمه ومصلياً على سيدنا محمد النبي وآله، ومسلّماً تسليماً.
... والعشرون من شهر جمادى الآخرة سنة سبع وستمائة.
....... ودعا له بالمغفرة وللمسلمين والمؤمنين أجمعين.
... حسبنا ونعم الوكيل.(5/466)
باب مداينة العبد (1)
3399- نذكر في الباب قاعدتين: إحداهما - في العبد المأذون (2 في التجارة والثانية - في العبد الذي ليس مأذوناً له في التجارة 2) .
فأما المأذون، فالأولى تصدير حكمه بحقيقة أمره، فمذهبنا أن السيد إذا أذن لعبده في التجارة، فعقوده فيها واقعة للمولى، والعبدُ مستنابٌ فيها. فإن سَلّم إليه مالاً، وأمره بالتجارة، فالمعنى الذي ذكرناه ظاهر في هذه الصورة؛ فإنه لو سلم هذا المال إلى حرٍّ مطلق، وأمره بأن يتصرف فيه عنه، كان التصرف للآمر؛ من حيث أن ما يباع فهو مالُه، وإذا خرج عن ملكه، انقلب العوضُ إلى مخرج المعوَّض، فإذا كان هذا قولَنا والمأمور حر مطلق، فالعبد بذلك أولى.
وإن لم يسلّم إلى العبد شيئاً، وأمره بأن يشتري ويؤدي الثمنَ من كسبه، فكسبه ملك المولى، ولا يكتسب شيئاً إلا ويصير عينُ المكتسب عينَ مال السيد. ثم يقع تصرفه فيه بمثابة تصرفه في سائر أعيان مال المولى.
وقال أبو حنيفة (3) : المأذون له في التجارة يتصرف لنفسه، وهذا نظر زائلٌ عن منهاج الحق. وإنما حمله على هذا ظنٌّ له في أحكام العُهدة، ونحن نختتم بذكرها آخر مسائل المأذون.
__________
(1) ومن هنا عادت النسخ ثلاثاً. ((هـ 2) برقم 2222/285) ، ((ص) برقم (1500) ، ((ت 2) برقم 323) وسنتخذ (هـ 2) أصلاً بدءاً من هذا الباب. وهو يقع في منتصفها الوحة رقم 124/ش) . والله المستعان.
(2) ما بين القوسين سقط من (ص) .
(3) ر. المبسوط: 25/9، 13، تبيين الحقائق: 5/205، 207، الهداية مع تكملة فتح القدير: 8/212.(5/467)
3400- ونعود الآن فنقول: إذا ركب المأذونَ ديونٌ، فما ركبه من ديون التجارة على حسب الإذن، فهو متعلق بذمته وكسبه، أما معنى التعلّق بالذمة، فيظهر في أنه يطالب بالملتزَم إذا عَتَق، وأما التعلق بالكسب، فمعناه تعيّن الكسب لأداء ما التزمه.
والحقوق المالية ثلاثة أقسام: منها ما يلزم بغير رضا مستحق الحق كأروش الجنايات. ومتعلقها في الحال الرقبةُ، وفي تعلّقها بالذمة خلاف، جرى منا التنبيه عليه، واستقصاؤه في آخر كتاب الديات.
وأثر الخلاف في التعلق بالذمة أنا إن حكمنا بالتعلّق فلو عَتَقَ، اتّبع بالأرش بالغاً ما بلغ، وإن لم نحكم بالتعلّق، انحصر حقُّ المجني عليه في رقبته وماليَّته، فلا يتبع إذا عَتَق بشيء.
هذا بيان هذه الجملة على الإرسال.
والقسم [الثاني] (1) - ما يجب برضا ذي الحق، وبإذن المولى، فيتعلق بالذمةِ لا محالة، ويتعلق بالكسب، ولا يتعلق بالرقبة.
وما يثبت (2) برضا ذي الحق من غير إذن المولى، فهو الذي يتعلق بالذمة على الإطلاق دون الكسب. وعنده يقول الفقيه: لا يطالَب به مادام رقيقاً رعايةً لحق السيد، فيتبع إذا عَتَقَ.
وإن كوتب، فأوْجبت له الكتابةُ الاستقلال، فظاهر المذهب أنه لا يطالَب بديون الذمة، التي تثبت في حالة الرق؛ فإنه بعدُ مملوك، ولا يبعد أن ينقلب قِناً، ولهذا رُدت تبرعاتُه. وسيأتي هذا في الكتابة، إن شاء الله تعالى.
فهذا تقسيم أوّلي.
3401- والذي نبدأ به الآن تفصيلُ القول فيما يتعلق بالكسب [وهذا ينقسم قسمين: أحدُهما - ما يتعلق بالكسب مع التقييد بالتجارة. والثاني - ما يتعلَّق بالكسب مطلقاً.
__________
(1) في الأصل: الثالث.
(2) هذا هو القسم الثالث.(5/468)
فأما ما يتعلق بالكسب] (1) والإذنُ متقيد بالتجارة، فنقول فيه: ما يلتزمه من ديون المعاملة وهو مأذون في التجارة، يتعلق بما اكتسبه من رأس المال، وهو الأرباح، ويتعلق برأس المال نفسِه، لا خلاف فيه وإن لم يكن من كسبه؛ فإن الإذن في التجارة يعيّنُه متعلَّقاً لحقوق التجارة. وإذا كان الإذن المطلق في الضمان والشراء والنكاح يتضمن تأديةَ الملتزَم من الكسب، وإن لم يجر له ذكر، فتعيُّن رأس المال لتأدية ديون المعاملات أوْلى.
وإذا فرض للعبد كسب، لا من جهة التجارة: مثل أن يحتشَّ أو يحتطب، ففي تعلق ديون معاملاته المأذونة بما يكتسبه، لا من جهة التجارة وجهان: أحدهما - أنها تتعلق بها؛ فإنها لزمت بإذن المولى، فضاهت مهرَ النكاح ومؤنها الدارّة (2) .
والوجه الثاني - أن ديون المعاملة والإذن تتقيد بالتجارة لا تتعلق بهذه الاكساب؛ فإن تخصيصه جهةَ التجارة يتضمن حصرَ التأدية في أموال التجارة. وليس كما لو كان الإذن مطلقاً.
والأظهر تعلُّقُ الديون بجميع أكسابه؛ فإن الإذن في التجارة رضا من المولى في الالتزام، والرضا به مشعرٌ بالإذن في التأدية. وأقرب المجال الكسبُ.
وإذا أحاطت الديون بالعبد المأذون واطرد الحجر عليه باستدعاء الغرماء، وقُسم المال الحاصل على الديون، فما يفضل بعد قسمة تلك الأموال كيف السبيل فيه؟ فعلى وجهين، وهما الوجهان المقدمان. أصحهما - أن فضلات الديون يؤديها من الأكساب التي ستكون حالاً على حال. ولايزال الأمر كذلك إلى ألا يبقى من الديون شيء.
والوجه الثاني - أن الفاضل من أقدار تلك الأموال (3) ينقلب إلى الذمة المحضة.
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) أي أن الإذن في النكاح يتضمن الالتزام بالمهر، والالتزام بمؤن النكاح المتجددة. وعاد الضمير مؤنثاً على مذكبر وهو النكاح، وذلك سائغ بتأويل، وعليه شواهد، وله أدلة (ر. شواهد التوضيح: 143) وتأويله هنا على معنى النفقة، ويرشح هذا التأويل لفظ (الدارّة) فهو يأتي دائماً صفةً لنفقة الزوجة.
(3) أي من الديون بعد تلك الأموال.(5/469)
وهذا وإن كان يستدعي مزيد تفصيل، فهو الخلاف الأول، غير أنا فرضنا ذلك الخلافَ في مال التجارة، وأكسابٍ تحصل لا من جهتها، فجرى الوجهان. وهذه الصورة في معناها؛ فإنه إذا سلَّم طائفةً من المال إلى عبده وأذن له في التجارة وكان أحد القابلين (1) يعتقد الحصر في تلك الأموال، حتى إذا قسمت فلو فرض بعد ذلك كسب باحتطاب، فهو على الوجهين. وإن فرض تسليم مال آخر إليه للتجارة، فهو على الوجهين أيضاً؛ فإنه غير تلك الأموال، كما أن الحاصل بالاحتطاب غيرها.
التفريع على الوجهين:
3402- إن رددنا فاضل الديون إلى الذمة المحضة، فلا كلام.
وإن رددناه إلى الكسب، فلو باع سيد العبد العبدَ، فالتعلق بالكسب لا ينقطع، وقد صارت الأكساب على هذا الوجه مستحقة التعلق إلى تمام البراءة.
وإذا نكح العبد بإذن مولاه وتعلق المهر والنفقة بكسبه، فإذا باعه سيدُه، لم ينقطع التعلق. ثم لا شك أن المشتري (2) إذا اطلع على ذلك بعد الشراء، ثبت له الخيار في فسخ البيع، وإن رددنا فاضل الديون إلى الذمة، فلا خيار للمشتري؛ إذ لا ضرر عليه في تعلق دينٍ بذمته، إذا كان رقه وكسبه متخلصين له. وخالف أبو حنيفة (3) في هذا.
ولو عَتَقَ العبد قبل أن يتفق أداء فاضل الديون، فلا شك أنه يطالَب به؛ فإنه لا يتصور أن يتعلق دين بالكسب إلاَّ وهو متعلق بالذمة.
ثم إذا أدى ما عليه بعد العتق، فهل يرجع به على مولاه؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يرجع به؛ فإنه من آثار تصرف السيد في محلِّ ملكه، ولا تبعة على المتصرف في محل الملك، وما أدى الدينَ منه بعد الحرية بين أن يكون في حكم المستَحَق
__________
(1) القابلين بمعنى الدائنين. أخذاً من (القَبَالة) بفتح القاف.. اسم المكتوب لما يلتزمه الإنسان من دين وغيره. وتقول قبلت به أقبله من بابي ضرب وقتل: إذا كفلتَ (مصباح) .
(2) المشتري: أي مشتري العبد الذي تعلقت حقوق بأكسابه.
(3) ر. المبسوط: 25/75، تبيين الحقائق: 5/209، الهداية مع تكملة فتح القدير: 8/212.(5/470)
بالتصرف (1) السابق في حالة الرق، وبين أن يقال: ما يرجع إلى الذمة المحضة، فالعبد مختص بالالتزام فيه، فلا نجد مرجعاً لما اختصَّ بالتزامه.
والوجه الثاني - أنه يرجع؛ فإن تصرف السيد جرَّ على العبد هذا الغرم بعد العِتاق وانقطاع علائق استحقاق المولى، فكأنه ورَّطه في هذا الغرم، وهو لا يستحقه بحق ملك الرق.
وعبَّر الأئمة عن هذا النوع وقالوا: اختلف الأصحاب في أن المولى هل يتصرف في عبده تصرفاً يبقَى ضررُه بعد العتق، ويعدُّ ذلك من بقايا الاستحقاق بعد العتاق كالولاء؟ فمنهم من قال: لا يستحق السيد هذا، وإن وقع، فهو بشرط الضمان، وهذا القائل ينظر إلى حالة العَتاقة وانقطاع السلطان.
والثاني - يملك ذلك ويستحقه ولا مرجع. وهذا القائل ينظر إلى حالة الرق.
ومن هذا الأصل إذا أجر السيد عبده، ثم أعتقه في أثناءِ المدة، فإذا حصل الوفاء بالإجارة فهل يرجع بمثل أجرة نفسه في المدة الواقعة بعد العتق على سيده؛ فعلى الوجهين اللذين ذكرناهما في الإجارة. وفي ملك العبد فسخها إذا عَتَق تفصيل يأتي في كتاب الإجارة، إن شاء الله تعالى.
وإذا ضمن العبد عن مولاه دَيْناً كان عليه بإذنه، ثم أدَّاه بعد العتق، فهل يرجع به على المولى؟ فعلى ما ذكرناه من الوجهين.
3403- هذا قولنا في متعلق ديون العبد المأذون في التجارة، ويخرج مما قدمناه أولاً، وفصلناه آخراً أن ديون التجارة لا تتعلق برقبة العبد؛ فإنها ليست محل التجارة وليس ما يلتزمه على قياس أروش الجنايات؛ ولهذا قال أئمتنا: لا يؤاجر العبد المأذون نفسه؛ فإن رقبته ليست محل تصرفه. وهل يؤاجر الأموال التي يتجر فيها؟ على وجهين: أحدهما - أنه يؤاجرها؛ فإن السيد أذن له في استنمائها وتحصيل الفوائد منها بالجهات التي تعد استنماء.
والوجه الثاني - أنه لا يملك ذلك؛ فإن الإجارة لا تعد من أنواع التجارة، وفيها
__________
(1) في (ص) : فالتصرف.(5/471)
حجر في بعض المذاهب مانع من التجارة الحقيقية؛ فإن المكرَى لا يباع في قولٍ.
وفي المأذون وتصرفاته، وتصرفات المولى فيما في يده أحكام سيأتي ذكرها في كتاب النكاح، إن شاء الله تعالى، ولو جمعنا أحكام المأذون، لطال الباب، ولسنا نلتزم مثل هذا؛ فإنه يُحوج إلى الخروج عن التزام ترتيب السواد.
3404- فإن قيل: بيّنوا أحكام العُهدة بين السيد والعبد، وبين تعامل العبد وبين السيد.
قلنا: ظن أبو حنيفة (1) وأصحابُه أن عُهدة العقود التي يعقدها المأذون تنحصر عليه، ولا تتعداه إلى مولاه، وبنَوْا على ذلك مصيرهم إلى أن العبد متصرف لنفسه، ونحن نذكر ما ظنوه في معرض الأسئلة (2) والإلزامات، ثم نبيّن المذهبَ في معرض الأجوبة عن تلك الأسئلة.
قالوا: لو اشترى المأذون شيئاً لا يطالَب المولى بثمنه، بل العبد هو المطالب، وإذا اشترى الوكيل شيئاً لموكله، فللبائع مطالبة الموكِّل بالثمن. وقالوا: إذا غرم المأذون بعد العتق دينَ معاملة، لم يرجع على السيد، ولو غرِم الوكيل ثمن العقد (3) ، رجع على الموكل. وقالوا: إذا باع المأذون سلعة، وأخذ ثمنها واستُحِقَت السلعة، فالرجوع بالثمن على العبد دون المولى.
فهذه أسئلتُهم.
واعتقدوا أنها مسلمةٌ لهم.
3405- ونحن نقدِّم على الخوض في الجواب عنها أصلاً، فنقول: إذا دفع المولى ألفَ درهم إلى عبده ليتجر فيه، فاشترى به شيئاً، ثم تلف الألف في يده، نُظر: فإن
__________
(1) ر. المبسوط: 25/10، الهداية مع تكملة فتح القدير 8/212، 213، الاختيار: 2/102.
(2) الأسئلة والإلزامات: من مصطلحات الجدل والمناظرة (ر. الكافية في الجدل لإمام الحرمين: 76) . والمعنى مفهوم هنا -على الجملة- من السياق، فلا داعي للإطالة والإثقال بالنقل من الكتب المتاحة.
(3) في (ص) ، (ت 2) : العبد.(5/472)
عيّن الألفَ وتلف، انفسخ به (1) العقد، وارتد به المبيع إلى ملك البائع.
وإن كان قد اشترى في الذمة سلعةً بألف، وكان على صرفِ الألف إلى الثمن، فتلف في يده، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن العقد باقٍ، وعلى المولى إخراج ألفٍ آخر؛ فإن العقدَ وقع له، ولم يتعين الألف بالتعيّن، فعلى السيد الوفاء بعهدة العقد. هذا هو الصحيح.
والوجه الآخر أن السيد لا يلزمه إخراج ألف آخر.
ثم اختلف الأصحاب: فمنهم من قال: ينفسخ العقد بتلف الألف، كما لو كان معيَّناً في العقد؛ من جهة أن السيد حصر إذنه في التصرف في ذلك الألف، فإذا فات، فقد انقطع محل الإذن، ولم يلتزم السيد على الإطلاق الوفاءَ بعقده، والانفساخُ على هذا الوجه اختيار القاضي.
ومن أصحابنا من قال: للسيد أن يؤدي الألف من سائر ماله؛ فإن العقد صحّ له، فإن فعل، جرى العقدُ ونفذ، وإن أبى، فالبائع يفسخ العقدَ حنيئذٍ.
وكان شيخي يختار هذا الوجه، وهو أمثل من الوجه الأول. والوجهان في الأصل قبل التفريع ينبنيان على ما إذا دفع الرجل ألفاً إلى واحد قِراضاً، فاشترى به شيئاً من غير تعيين، ثم تلفط الألفُ قبل تسليمه، فهل يجب على المالك ألفٌ آخر؟ أم ينقلب العقد إلى المقارِض العامل؟ وسيأتي شرح ذلك، إن شاء الله تعالى.
فإن قلنا: في مسألة القراض: على ربّ المال توفيةُ الثمن، فعلى السيد ذلك أيضاً. وإن قلنا: العقد ينقلب إلى العامل، وينفذ عليه، فلا يجب على السيد تأديةُ ألف آخر، ثم يعود الكلام إلى الخلاف الذي قدمته في الانفساخ.
ثم إذا قلنا: على السيد أن يأتي بألف آخر، فقد ذكر أئمتنا وجهين في أن العامل هل يتصرّف فيه بحكم الإذن السابق؟ أم لا بدّ من إذن جديد فيه؟ وبنوا هذين الوجهين على ما إذا أوجبنا على مالك رأس المال في القراض أن يأتي بألف آخر، فرأسُ المال ألفٌ أم ألفان؟ فيه وجهان، سيأتي شرحهما، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) به: أي بالتلف.(5/473)
وإن غمض على الناظر أن يصير الألف الثاني من رأس المال، ولم يكن مذكوراً حالة العقد، قيل له: هو تابع للألف الأول، والعقد عليه، وإذا تبعه، كان ملحقاً به كما يلتحق حطُّ أرش العيب بالعقد حتى يُحَط من الشفيع، وإن كان يأخذ الشقصَ بالثمن المسمَّى في العقد.
ولسنا نلتزم الآن شرح هذه المسألة في أحكام القراض، ولكن لا بد من كشف ما ذكرناه في أحكام المأذون، وكيف تصوير الوجهين، والسيد هو الذي يخرج الألفَ، وإنما يطالبه بائع السلعة، لا العبدُ. فما معنى ترديد الكلام في تصرف العبد فيه؟ وليس للعبد أن يمد يده إلى الألف من مال السيد؟
فالوجه في ذلك أن نقول: إذا أدى الألفَ، ثم فُرض ارتفاع العقد بسببٍ، فالعبد هل يستقل بالتصرف في الألف الراجع؟ فيه الخلاف المقدم. وهو مأخوذ من التحاق الألف برأس المال في القِراض.
وينبني على تحقيق هذا أنا إذا قلنا: لا بد من إذنٍ جديد، فالعبد يصير محجوراً عليه بتلف الألف؛ فيرتدُّ العقد إلى تصرف السيد، حتى إن فُرض فيه فسخ، فهو الفاسخ، وهو المخاطب بأحكام العقد.
وإن ألحقناه برأس المال، فتصرُّفُ العبد قائم في العقد على حسب الغبطة.
ثم إن قلنا: تصرّف العبد باقٍ في العقد، فالمطالبةُ والتعلّق بالذمة على الاستمرار الذي كان. وإن قلنا: يرتدّ العقد إلى السيد، ففي بقاء التعلق بذمة العبد وكسبه تردد، فليتأمله الناظر.
3406- فهذا أصل قدمناه في الكلام على أحكام العُهدة، وعاد -بعده- بنا الكلامُ إلى الجواب عن أسئلتهم.
فإذا باع المأذون سلعةً، وقبض الثمنَ، واستُحِقَّت السلعةُ، وقد كان تلف الثمن في يد العبد، فالمذهب الصحيح أن المشتري يرجع إلى المولى بالعهدة؛ فإنّ يدَ العبد يدُه، فكأنه البائع والقابضُ للثمن. ولسنا نبرىء العبد عن الضمان؛ فإنه خائضٌ في العقد بإذن المولى.
هذا هو الأصح.(5/474)
ومن أصحابنا من قال: لا طَلِبةَ على العبد، وعبارته (1) مستعار في الوسط، ويده يدُ سيده. وهذا مزيف، لا أصل له؛ فإن يدَه يدُ ضمان في عقد مضمَّن، وقد جرى ما جرى بإذن المولى.
هذا إذا قلنا: السيد يطالب بما تلف في يد العبد.
ومن أصحابنا من قال: لا مطالبة على السيد. وهذا لا أصل له. ولولا أنَّ في التقريب رَمْزاً إلى هذا، وإلا كنتُ لا أذكره. ولا شك أنه إذا سلّم العبدُ الثمنَ إلى السيد، ثم ثبت الاستحقاق، فالعهدة متعلقة به.
هذا جوابنا عن الاستحقاق.
والحاصل المعتمد فيه أن السيد يطالَب والعبدُ في العهدةِ أيضاً. ثم العهدةُ في حق العبد تتعلق بذمته وكسبه.
وأما قولهم: لو عَتَقَ المأذونُ وغرِم دينَ المعاملة، لم يرجع، فقد تكلمنا على هذا الفصل فيما تقدم.
فإن قلنا: يرجع، فهو على قياس الوكيل. وإن قلنا: لا يرجع، فليس هو لوقوع العقد له وانحصارِه عليه؛ إذ لو وقع العقد له، لكان المبيع في يده، كما أن الثمن عليه. فإذا كان المبيع في يد السيد، دَلَّ أن تغريم العبد بعد العتق -من غير إثبات مرجع له- من أصل آخر، وهو أن السيد تصرّف في حالة الرِّق تصرفاً، لم ينقطع ضراره بالعتق. وقد مهدنا هذا الأصل.
وأما قولهم إذا اشترى المأذونُ شيئاً للتجارة، لم يطالَب السيد بالثمن في الحال.
وهذا فرضوه فيه إذا كان في العبد وفاءٌ، فقد ظهر الخلاف في هذه الصورة: فمن أصحابنا من قال وهم القيّاسون: يطالب السيد بالثمن، كما يطالب الموكَل بثمن العقد الذي عقده الوكيل؛ لأن العقد وقع له، ومِلْكُ الثمن عليه، كما مِلْكُ المثمن على البائع.
ومن أصحابنا من قال: لا يطالَب السيد إذا كانت مطالبة العبد ممكنة، وكان ما في
__________
(1) في (ص) : وتجارته.(5/475)
يده وافياً، وليس هذا لوقوع العقد للعبد، وإنما هو لتنزيل السيد عهدَ عقدِ عبدِه على ما سلمه إليه، فكان كل من يعامله يُنزِل أمره على هذا، ولهذا الفقه (1) تعلّق دينُ المعاملة بما في يده، ولولا ذلك، لما صار رأسُ المال مرتهناً بدين المعاملة.
ثم الدليل على أن سبب انقطاع المطالبة عن السيد هذا - أن العقد لو وقع للعبد، لما تعين له مالُ السيد. وقد ذكر أصحابنا في المقارِض والمقارَض هذا الخلاف بعينه. وإن كان عقد المقارِض لا يقع لنفسه، ولكن معاملة القِراض منزلةٌ على مال معيّن، فنشأ منه الخلاف الذي ذكرناه.
ولو سلم رجل إلى وكيل ألفاً وقال: اشترِ لي عبداً وأد هذا الألفَ في ثمنه، فإذا اشترى الوكيلُ، فلأصحابنا طريقان في مطالبة الموكل: منهم من خرجه على الخلاف المذكور في رب المال والعامل، ومنهم من قال: لا حكم لهذا التعيين مع الوكيل.
والقياسُ طردُ الخلاف في الوكيل.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كان ما في يد العبد المأذون وافياً فهل يطالَب السيد؟ فهو على ما تقدم.
3407- فأمَّا إذا قصر ما في يده عن الدَّيْنِ الذي ركبه، فيفرض هذا في تلف بعض ما في يده، وإذا تلف جميع ما في يده، فقد مضى الكلام في أنه هل يجب على السيد توفيةُ الثمن، من سائر ماله؟ فهذا ذاك بعينه.
وإذا ضممنا صورة الوفاء إلى الصورة التي لا وفاء فيها، انتظم في الصورتين ثلاثةُ أوجه. أحدها - أن السيد لا يطالَب فيهما. والثاني - أنه يطالب فيهما. والثالث - أنه لا يطالَب وفي المال وفاءٌ. ويطالب إذا لم يف ما في يد العبد بالمقدار المعقود (2) .
ثم لا خلاف أن العبد مطالب.
واختلف الأصحاب في أن الوكيل بالشراء هل يطالَب بالثمن إذا أضاف الشراء إلى نفسه، ولم يعقد العقد على صيغة السفارة؟ وفي عُهدةِ العقد في حق الوكيل والموكّل كلامُ سيأتي مشروحاً في الوكالة إن شاء الله تعالى.
__________
(1) في (ص) : العقد.
(2) في (ت 2) : المذكور.(5/476)
والقدر الذي نذكره الآن الفرق بين المأذون؛ فإنه مطالبٌ في حال الرق وبعد العتق وبين الوكيل وفيه عسر.
والممكن فيه أن السيد يستخدم عبده في أمره بالشراء، ويُلزمه أن يمتثل أمره.
وليس على الحر أمرٌ من جهة موكَله، فإذا التمس (1) منه التوكيلَ عنه والنيابة، تمحّض معنى النيابة، وعقد العبد يعتمد أكسابَه وهي مملوكة للمولى، ثم لا يتأتى تعلّق الطَّلِبة بأكسابه من غير فرض التعلق بالذمة. ولا يتحقق هذا في الوكيل.
فهذا هو الفرق بين الموقفين.
3408- ثم ذكر الأصحاب المسائل الخلافية بيننا وبين أبي حنيفة في أحكام المأذون، ونحن نذكر ما نطلب (2) بها بيان مذهبنا وتمييزَ أصلنا عن أصل أبي حنيفة:
فمما أجريناه أن ديون المعاملة لا تتعلق برقبة العبد المأذون، وتتعلق بالمال الذي في يده.
وقال أبو حنيفة (3) : تتعلَّق بذلك المال وبالرقبة.
ومن المسائل أن المأذون لا يؤاجر نفسه عندنا، وذكرنا الخلاف في إجارته ما يقبل الإجارة من الأموال التي تحت يده.
ومنها أن السيد إذا أذن لعبده في نوع من التجارة، لم يصر مأذوناً في غيره.
خلافاً لأبي حنيفة (4) .
وهذا مبني لنا على أن العبد يتصرف لمولاه.
ولو رأى السيد العبد يتصرف، فسكت، لم يكن سكوته إذناً في التصرف الذي عاينه، ولم يكن إذناً في التجارة.
__________
(1) إمام الحرمين هنا يستعمل فعل " التمس " في معناه المصطلحي الدقيق. فالطلب (الفعل الدالّ على الطلب) من الأعلى (السيد) للأدنى (العبد) أمر. ومن المساوي التماس.
(2) (ت2) : فنطلب.
(3) ر. حاشية ابن عابدين: 6/163، مجمع الأنهر: 2/449، الاختيار: 2/102. طريقة الخلاف للاسمندي: 463 مسألة 186.
(4) ر. رؤوس المسائل: 294 مسألة 182، المبسوط: 25/6، 9، مختصر الطحاوي: 419، تبيين الحقائق: 5/205، الهداية مع تكملة فتح القدير: 8/215.(5/477)
وأبو حنيفة (1) جعل السكوت إذناً في التجارة، ولم ينفذ به التصرف الذي اتفق السكوت عنده.
ومن المسائل أن المأذون إذا أبق، لم ينعزل بالإباق، ولم ينقطع الإذن.
وقال أبو حنيفة (2) : ينقطع، وتصرفه على حكم الإذن نافذ في الإباق إلاَّ أن يكون الإذن يقيد بالتصرف في البلدة التي بها السيد، فلا ينفذ في غيرها.
ومنها أن المأذون لا يأذن لعبده في التجارة، كما أن المقارِض لا يقارِض، وللمقارض أن يُوكِّل. والأصح أن المأذون يملك ذلك في آحاد التصرفات، وإنما يمتنع إقامته غيرَه مقام نفسه.
وأجاز أبو حنيفة (3) أن يأذن المأذون لعبده؛ بناءً على أنه يتصرف لنفسه.
ومنها أنه ليس له اتخاذ الدعوة وجمع المجهزين.
خلافاً لأبي حنيفة (4) .
ومنها أنه لو ركبته الديون لم يَزُل ملك السيد عن المال في يده.
وقال أبو حنيفة (5) : يزول ملكه عنه ولا يدخل في ملك الغرماء.
ومنها أن المأذون إذا احتطب أو اصطاد، لم ينضم ما حصله من هذه الجهات إلى رأس المال حتى يتصرف فيه تصرّفه في رأس المال. نعم، في تعلق ديون معاملاته بالمكتسب من هذه الجهات وجهان تقدم ذكرهما.
__________
(1) رؤوس المسائل: 94 مسألة 183، مختصر الطحاوي: 419، المبسوط: 25/11، تبيين الحقائق: 5/204، الهداية مع تكملة فتح القدير: 8/214.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 426، تبيين الحقائق: 5/211، الهداية مع تكملة فتح القدير: 8/227، الاختيار: 2/103.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 425، الاختيار: 2/102.
(4) ر. مختصر الطحاوي: 427، المبسوط: 26/28، تبيين الحقائق: 5/208، الاختيار:
(5) ر. تبيين الحقائق: 5/213، الهداية مع تكملة فتح القدير: 8/222، الاختيار: 2/103.(5/478)
وقال أبو حنيفة (1) : ينضم ما يحصّله إلى رأس المال في نفوذ التصرف.
ومنها أن المأذون لا يعامل سيده وإن ركبته الديون.
وقال أبو حنيفة (2) : له معاملته إذا ركبته الديون.
ومنها أنه لا يشتري أبَ سيدِه وابنَه بمطلق الإذن في التجارة؛ فإنّ ذلك لو صح، لألحق ضرراً بالسيد وخسره مالاً، وهو نقيض التجارة.
وقال أبو حنيفة (3) : يصح ذلك منه.
ومنها أن العبد إذا ادّعى أن سيده أذن له في التجارة، فليس لأحد معاملتُه ما لم يعلم إذنَ السيد من جهته، أو من بينة تقوم.
وقال أبو حنيفة (4) : تصح معاملته.
واختلف أصحابنا فيه إذا شاع الإذن في الناس، ولعل الأصحَّ الصحة؛ فإن إثبات الإذن على كلّ معامل بتسجيل القاضي شديد. ولو عامله إنسان ولم يدْرِ كَوْنَه عبداً، نفذت المعاملة، فليس علم من يعامِل بحقيقة الحال شرطاً.
ثم على من علمه عبداً رقيقاً أن يمتنع من الإقدام على معاملته من غير ثبت. ولو علم من يعامله كوْنه عبداً، فعامله، ثم تبين أنه كان مأذوناً، فهذا يقرب خروجه على قسم من وقف العقود. وهو إذا باع الرجل مالَ أَبيه على اعتقاد حياته، ثم استبان وقوعُ البيع بعد وفاته.
وكان شيخي أبو محمد يقول: لو باع الرجل مالَ أبيه وظنَّه مال نفسه غالطاً، ثم
__________
(1) ر. طريقة الخلاف للأسمندي: 463 مسألة 186.
(2) ر. الهداية مع تكملة فتح القدير: 8/231، الاختيار: 2/104.
(3) لم نصل إلى المسألة منصوصة في كتب الأحناف، لكنهم يقولون: إذا أذن المولى لعبده في التجارة إذناً عاماً جاز تصرفه في سائر التجارات، فيبيع ويشتري ما بدا له؛ لأن التجارة اسم جنس محلى بالألف واللام فكان عاماً يتناول جميع أنواع الأعيان. (ر. الهداية مع تكملة فتح القدير (نتائج الأفكار) ، والكفاية، وشرح العناية: 8/215) .
(4) ر. مختصر الطحاوي: 420، تبيين الحقائق: 5/218، الهداية مع تكملة فتح القدير: 8/238.(5/479)
تبين أنه كان مالَ أبيه وكان ميتاً حالة العقد. قال: هذا العقد يصح قولاً واحداً؛ فإنه لم يبنه على خلاف الشريعة. وهذا الذي ذكره على حسنه محتمل (1) .
ومنها أن العبد المأذون إذا زعم أن سيده حجر عليه، وقال السيد: لم أحجر عليه، لا تجوز معاملته في ظاهر المذهب؛ لأنه يزعم أن التصرّفَ معه غير صحيح، ومبنى التصرّف في ظاهر الأمر على قول العاقد.
ومن أصحابنا من صحح التصرف بناء على قول السيد. وهذا مذهب أبي حنيفة (2) .
ومنها أن السيد لو أذن للعبد المأذون أن يأذن للعبدِ الذي في يده للتجارة، صحّ ذلك. ثم لو حجر السيد على المأذون الأول، صح، واستمر الثاني مأذوناً. ولو أراد أن يحجر على العبد الثاني، صح.
وقال أبو حنيفة (3) : لا يصح الحجر على العبد الثاني ما لم يرده إلى يده.
ومنها أن إقرار المأذون نافذ بدين المعاملة، وهذا متفق عليه. ولو أقر بشيءٍ منه لأبيه أو (4) ابنه، صح.
وقال أبو حنيفة (5) : لا يصح.
ومنها أنه لو كان في يده عين مالٍ، فأقرَّ بأنه مغصوب أو وديعة، لا يصح إقراره؛ فإن إقراره يصح فيما يتعلق به الإذن في التجارة.
وقال أبو حنيفة (6) : يصح.
ومنها أنه لو علم رجل أنه مأذون، وعامله، ثم امتنع من التسليم إلى أن يقع الإشهادُ على الإذن، فله ذلك؛ فإنه لو سلم كان على غرر. وقد ينكر السيد أصل
__________
(1) فى (ت 2) : مجمل.
(2) ر. المبسوط: 25/73، تبيين الحقائق: 5/210.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 426، المبسوط: 25/36، 39.
(4) في (ص) ، (ت2) : وابنه.
(5) ر. المبسوط: 25/80، 118، تبيين الحقائق: 5/207.
(6) ر. مختصر الطحاوي: 424، تبيين الحقائق: 5/207، الاختيار: 2/101.(5/480)
الإذن. وهذا كما لو ادّعى رجل أن فلاناً وكَّلني بقبض حقه منك، فصدقه بذلك مَنْ عليه الحق، فله ألا يسلمَ إليه ما لم يُشْهِد على أنّه وكله. وهذا الأصل فيه تردد واحتمال سيأتي في كتاب الوكالة.
وقد اشتمل ما ذكرناه على معظم أحكام المأذون، لم يشِذ منه إلاَّ تصرّف السيد في المال الذي في يد المأذون قبل أن تركبه الديون، وبعد أن تركبه، وهذا ذكره الشافعي في مسائل النكاح، عند ذكره نكاحَ العبد، ومتعلّق المهر والنفقة.
3409- وقد نجز ما أردناه من تعلق ديون المأذون. وكنا ذكرنا قسمين: أحدهما - المأذون له في التجارة، وقد نجز.
والثاني - في المأذون له في تصرف يُلزِم الذمةَ عوضاً مطلقاً، من غير أن يتضمن الإذنُ حصراً للتصرف في مالٍ، وهذا بمثابة ما لو أذن السيد لعبده أن ينكح، فهذا إذْنٌ بالتزام المهر والنفقة، وكذلك لو أذن له في أن يشتري مطلقاً، أو أذن له في أن يضمن ديناً.
فهذه جهات في التزامٍ جَرَت عن إذن السيد، ولا تعلق لأدائها بأموالٍ خاصة، بخلاف ديون المعاملة في حق المأذون له في التجارة، فما يكون كذلك، فهو يتعلق بجميع جهات كسب العبد التي منها الاحتطاب والاحتشاش والاحتراف -إن كان محترفاً صَنَاعَ اليد- ثم جميع جهات الكسب بالإذن المطلق تصير مستغرقة بالديون التي تلزم من هذه الجهات؛ حتى لا يجوز للسيد أن يستغلَّها (1) قبل أداء الديون المتعلقة بها إلاَّ على شرط ضمان.
ولو استخدم عبده يوماً أو أياماً، ففيما يلزمه تفصيل مذكور في كتاب النكاح.
ولو التزم ديوناً مطلقةً كما وصفناها بالإذن المطلق، ثم كان مأذوناً له في التجارة في أموالٍ في يده، فالديون المطلقة تتعلق بما يستفيده بالتجارة، اتفق أصحابنا عليه.
وفي تعلق ديون التجارة بسائر جهات الكسب سوى التجارة خلافٌ قدمناه، واختلف
__________
(1) يستغلها: السين والتاء هنا بمعنى اعتقاد صفة الشيء مثل: استحسنت هذا. والمعنى: أنه لا يجوز للسيد أن يعتقد أكسابَ العبد هذه غلَّةَ له.(5/481)
أصحابنا في تعلق الديون المطلقة بعين رأس المال، ولم يختلفوا في تعلق دين التجارة بها.
فهذا نهاية التفصيل في متعلقات ديون العبد إذا ثبتت عن إذنٍ مطلق أو مقيد بالتجارة.
3410- وقد انتهينا إلى تفصيل ما يصدر من العبد المحجور من غير إذن السيد، فالوجه أن ننص على مواقع الإشكال، ولا نُطنب بالتقاسيم.
فكل تصرف يتعلق بالرقبة، فلا يملك العبد الانفراد به: من جملتها النكاح، وهو الذي يكاد يغمض تعليله، فلا ينكح العبد دون إذن مولاه، ولو صححنا نكاحه دونه، لزمنا أن نبيح له قضاءَ وطره، وذلك يوهي مِنهُ القُوى، ولا ضبط له، ولا منتهى، ويستحيل تصحيح النكاح ووقف التحليل على مراجعة السيد، فكان النكاحُ متعلقاً بالرقبة من الوجه الذي ذكرناه.
3411- وأما التصرفات المتعلقة بالذمة، ففيها الكلام، وهي المعنيّة، فإذا اشترى العبدُ المحجور عليه شيئاً بغير إذن سيده، ففي صحة شرائه وجهان ذكرهما العراقيون، والشيخ أبو علي: أحدهما - لا يصح، وهذا الذي قطع به [الإمام] (1) وصاحب التقريب.
والثاني - يصح شراؤه؛ فإنه يعتمد ذمته، والسيد لا يملك ذمةَ عبده.
وذهب هؤلاء إلى بناء الوجهين على قولين في أن المحجور عليه بالفلَس إذا اشترى شيئاً في زمان اطراد الحجر عليه، ففي صحة شرائه قولان سيأتي ذكرهما.
وزعم من ذكرناهم أن العبد محجور عليه لحق غيره كالمفلس، ولا حجر على الذمة، وهذا لا أصل له.
والفرق أن المفلس من أهل التملّك والعبد ليس من أهله، وعماد الشراء إمكان الملك للمشتري.
ثم من صحح الشراء، قال: إنما تترتب صحة الشراء على قولنا القديم في أن
__________
(1) في الأصل: الأئمة. والإمام هنا والده.(5/482)
العبد يُتصوّر أن يملك، وهذا مشكل على هذا القول أيضاً؛ فإن العبد إن صُوّر له ملك، لم يُصوّر إلا من جهة تمليك السيد إياه، فأما التمليك من جهة غيره، فلا مساغ له، ولا يمكننا أن نقول: المبيع يدخل في ملك السيد قهراً كما يحصله العبد من جهة الاحتطاب والاحتشاش وغيرهما؛ فإن تلك الجهات أفعال تقع لا مردَّ لها، والعقود يتطرق إليها الفساد، والصحة.
ثم الذي ذكره العراقيون في قول الصحة أن الملك في المبيع يقع للعبد، ثم السيد فيه بالخيار: إن شاء أقره عليه، وإن شاء انتزعه من يده؛ فإنه يستحيل أن يثبت للعبد ملكٌ مستقر لا يُزيله سيده.
ثم قال المفرعون على ذلك: إن لم يأخذ السيد المبيع من عبده، فالبائع بالخيار إن أراد فَسَخَ العقد واستردَّ المبيع، كما يفسخ البائع البيعَ عند إفلاس المشتري بالثمن، والتعذر أظهر في العبد؛ فإنه مع دوام الملك لا مضطرَب له في جهات الكسب؛ بخلاف المعسر.
ولا خلاف أن الثمن الذي يلتزمه يتعلق بذمته، لا يؤدي شيئاً منها (1) من كسبه، وإنما يطالب به إذا عَتَق.
هذا إذا لم ينتزع السيد المبيع من يد البائع، فلو نزعه من يده، وتملكه عليه، فأراد البائع أن يسترد من السيد، قالوا: ليس له ذلك؛ فإن سلطان الاسترداد يثبت مادام المبيع في يد العبد وملكه، فإذا زال نزل منزلة ما لو زال ملك المشتري الحرّ عما اشتراه، ثم أفلس بالثمن، فلا رجوع للبائع على من تملك على المفلس المبيع.
وهذا خبط عظيم، وقول مضطرِب، وكان لا يمتنع أن يقال: يَبيع البائعُ العينَ في يد السيد؛ فإنه مملوك بالثمن، فلا وجه لاستبداده به وإبطال حق البائع، وإحالته على الطَّلِبةِ بعد العتق.
ولكن الذي ذكره المفرعون ما نصصت عليه. والتفريع على الفاسد فاسد.
__________
(1) كذا. على تأويل "الأثمان" جمع "الثمن".(5/483)
3412- ولو استقرض العبد المحجور عليه شيئاً بغير إذن مولاه، فهو كما لو اشتراه في التفصيل الذي ذكرناه.
ولو ضمن شيئاً بغير إذن سيده، فهذا تصرف منه في الذمة، ولا شك أنه لا يؤدي ما ضمنه من كسبه. ولكن إذا عَتَق هل يطالب بما ضمنه؟
الصحيح أنه يطالب، وليس الالتزام من جهة الضمان كالالتزام من جهة الشراء والاستقراض؛ فإن الشراء والاقتراض يشتملان على تقدير الملك للمقترض وللمشتري، وتصوير ذلك عسرٌ في العبد القن، فظهر الحكم بالفساد، وإذا فسدت الجهة، انقطع اللزوم. والضمان التزام مطلق.
ومن أصحابنا من لم يصحح ضمان العبد، ولم يوجه الطَّلِبَة عليه بالمضمون [بعد العتق، وقال: التصرف في الذمة إنما يتصوّر ممن يُفرض منه إمكان الوفاء بالمضمون] (1) وحقيقة ضمان العبد يرجع إلى تعليق الضمان بما بعد العتق، وتعليق الضمان فاسد.
ولا خلاف أن العبد يخالع زوجته، فيصح ويثبت العوض، وذلك أنه مالكٌ للطلاق بالعوض وغيرِ العوض. غير أنه في حق المعوَّض كالمحتش والمحتطب. ولو احتش العبدُ أو اصطاد بغير إذن مولاه، دخل ما حصله تحت ملك المولى قهراً؛ فيقع الأمر كذلك في العوض المحصَّل. وهذا لا وجه غيرُه إذا قلنا: لا يملك العبد بالتمليك. وإن قلنا: يتصور له ملك، فلا يبعد أن نقول: يحصُل الملك في العوض له، تخريجاً على ما ذكرناه من شرائه شيئاً بغير إذن مولاه، ثم السيد يتسلط على انتزاع ذلك المال من يده وملكه.
وقد نجز غرضنا في تصرف العبد المحجور.
وأما أحكام الجنايات وأرشها، وما يتعلق بها من فداء السيد (2) ، فموضعه كتاب الجنايات.
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) (ت 2) : العبد، وهي أيضاً صحيحة.(5/484)
فصل
مشتمل على إقرار العبد وإقرار السيد على العبد
3413- فأما السيد إذا أقر على عبده، نظر فى إقراره: فإن أقر بما يوجب عقوبةً على العبد، لم يقبل إقراره لتمكن التهمة منه، غير أنه إن أقر عليه بما يوجب القصاص، والعبدُ منكر، فرددنا إقراره في العقوبة، فعفا المقَرّ له على مالٍ، ثبت المال؛ فإنّ إقرار السيد وإن رُدَّ فيما يتعلق بالعقوبة لما ذكرناه، فهو مقبول فيما يتعلق بالمال، ومتضمّن الإقرار بالقصاص ثبوتُ المال عند عفو المستحِق على مال، ولكن الأرش الذي يثبت بجناية العبد وفاقاً يتعلق -على المسلك الأصح- بذمته ورقبته، حتى إذا لم تف قيمةُ الرقبة بمبلغه، طولب الجاني إذا عَتَق بالفاضل من قدر القيمة.
وإذا أقر السيد على عبده بالجناية الموجبةِ للقصاص لو ثبتت، وأنكر العبدُ، ثم آل الأمر إلى مالٍ، فلا تعلق لهذا المال بالذمة، وإذا عَتَقَ العبدُ، لم يطالب بشيء منه؛ فإن السيد لا يملك إلزام ذمةِ العبد مالاً. ولم يختلف الأصحاب في أنه لو أجبره على ضمان شيء، لم يصح ذلك مع الإجبار، ولو قبل الضمان عليه.
وكذلك لو أجبر السيد عبده على أن يشتري له متاعاً، فلا يصح الشراء، وإن كان محلُّ الديون التي تلتزم بالإذن الكسبَ، والكسب ملك السيد، ولكن لا استقلال للأكساب في هذا الباب ما لم يتحقق تعلق الدين بأصل الذمة، فلا احتكام للسادة على ذمم العبيد.
ولو أقرَّ السيد بمالٍ تباع الرقبة فيه، فيقبل إقراره في [التعلّق] (1) بالرقبة، ولا يقبل في تقدير [التعلّق] بالذمة.
هذا في إقرار السيد.
3414- فأما إذا أقر العبد بشيء، فإن كان إقراره بمالٍ، فإقراره في رقِّه ورقبته مردود، وما يتعلق بالذمة منه فإقراره فيه مقبولٌ يُتبع به بعد العتق، صدّقه السيد أو كذّبه.
__________
(1) في الأصل: التعليق.(5/485)
فأما إذا أقر بما يوجب العقوبة، فالذي ذهب إليه الشافعي وأبو حنيفة ومعظمُ العلماء أن إقراره مقبول، وإن كان تنفيذ المقرّ به يوجب إبطال حق المولى من ماليَّته، فإذا اعترف بما يوجب القصاصَ في النفس، أو القطع في الطرف للآدمي أو لله تعالى، نفذ إقراره، ويحكم به.
وخالف في ذلك المزني، ولم يرَ قبولَ إقرارهِ؛ لاعتراضه على ملك مولاه. وهذا مذهب محمد وزفر وأحمد (1) وداود.
ومعتمد مذهبنا أن الإقرار حجةٌ من الحجج كالبيّنة، فالمقبول منه ما لا تهمةَ فيه، وإقرار العبد كذلك؛ فإن العاقل لا يعرّض نفسه للهلاك حتى يخسِّر غيرَه شيئاً نزراً من المال، والشاهد لذلك أن السيد على أنه المالك إذا أقر بما يوجب العقوبةَ، فإقراره مردود لما ذكرناه من التهمة، وإن كان لو أباح دمه صار هدراً. فالإقرار إذن في الرد والقبول يعتمد ثبوتَ التهمة وانتفاءها.
ولو قدر مقدر تهمةً على بُعدٍ في إقرار العبد، فالتهمة البعيدة غيرُ معمول بها.
3415- فإذا ثبت هذا، فلو أقر العبد بما يوجب القصاص، ونفذنا إقراره، فإن اقتص المقَرُّ له، فذاك، وإن عفا عن القصاص الثابت على مال، فالأحسن تنزيل ذلك على القولين في أن موجَبَ العمد ماذا؟ فإذا حكمنا بأن موجبه القَوَد المحضُ، فالمال يثبت إذا عفا المقَرُّ له على مالٍ؛ فإن هذا المال، لم يثبت بالإقرار نفسه، وإنما ثبت بالعفو عن العقوبة الثابتة بالإقرار. هذا إذا قلنا: موجَبُ العمد القَودُ.
فأما إذا قلنا: موجبه القود أو المال، أحدهما لا بعينه، فإن اقتصَّ المقَرّ له، نفذ الأمر. وإن أراد الرجوعَ إلى مالِ، فهذا يستدعي مقدمةَ:
وهي أن العبد إذا أقر بسرقةِ مالٍ، وزعم أنه أتلف ما سرق، فإقراره مقبولٌ في وجوب القطع لله تعالى، لما ذكرناه. وهل يقبل إقراره في تعلق قيمةِ ما اعترف بسرقته برقبته؛ فعلى قولين مشهورين: أحدهما - لا يتعلق؛ فإن ذلك إقرار بإبطال مالية السيد من الرقبة من غير واسطة.
__________
(1) ر. الكافي لابن قدامة: 4/570، الفروع: 6/611، كشاف القناع: 6/458.(5/486)
والقول الثاني - أن إقراره مقبول؛ فإن التهمة منتفية، ونفس العقوبة تبطل المالية، ولكن قُبل الإقرارُ بها لانتفاء التهمة. وهذا المعنى متحقق فيما ذكرناه. ولا استقلال للسرقة دون مال مسروق، ويستحيل ألا يثبت القول في المسروق ويثبت في السرقة المطلقة.
هذا إذا أقر بإتلاف المسروق، وتضمن إقراره تعلّقَ مبلغٍ برقبته.
فأما إذا أضاف سرقته إلى عينٍ قائمة، نظر: فإن كانت العين التي اعترف بسرقتها في يد مولاه، فإقراره مردود فيها. اتفق الأصحاب عليه؛ والسبب فيه أن ما نصادفه في يد السيد مُقرٌّ على حكم ملكه، فيبعد الحكم على ملكه بإقرار العبد، ولو (1) قدّرنا قبول هذا الإقرار أَوْشَك أن يستغرق العبد جميع ذخائر سيده، وهذا الآن تظهرُ التهمةُ فيه؛ فإن العبد الحنِق على سيده، قد يستهين بقطع يده، في مقابلة تخسير السيد أموالاً لا تنضبط، وليس هذا كما لو ادّعى تلف المسروق؛ فإن غاية ما يتعلّق بالسيد قدرُ قيمةِ الرقبة؛ فإن أروش الإتلافات لا تعدو الرقبة إلى سائر أموال السيد.
ولو أقر العبد بسرقة مال في يد أجنبي، فإقراره مردودٌ في حق ذلك الأجنبي، إذا أضاف إقراره إلى عينٍ قائمة في يده، فإذا رُدّ في حق الأجنبي، فليرد في حق السيد.
وقيل: إنّ أبا حنيفة (2) نَفَّذَ إقراره في الأعيان القائمة في يد السيد. وهذا خبالٌ عظيم.
ولو أقر العبد بسرقة عين وكانت العين في يد العبد، اختلف أصحابنا فيه على طريقين: فمنهم من خرّج قبولَ إقراره فيها على القولين، ومنهم من قطع القولَ بردِّ إقراره في العين الكائنة في يده. وهذا هو الظاهر؛ من جهة أن يده يدُ السيد، ولا استقلال له. ثم ما يتصوّر احتواء يده عليه في محل الإقرار لا ينضبط، كما تقدم وليس كالإقرار بالإتلاف؛ فإن غائلته تنحصر في مقدار قيمة الرقبة، كما تقدم.
وبنى بعضُ الفقهاء القولين في قبول إقراره بالمال عند ذكر الإتلاف على قولين في الحر لو أقر بسرقة مال، وقُبل إقراره.
__________
(1) في (ص) ، (ت 2) : وقدرنا.
(2) ر. الهداية مع تكملة فتح القدير: 8/228.(5/487)
فلو رجع عن الإقرار، قُبل رجوعُه، فيما يتعلق بالعقوبة، ولم تقطع يده. وفي قبول رجوعه عن ضمان المال قولان. وزعم هؤلاء أن وجه البناء أنا إذا قلنا: لا رجوع في المال، فكأنّا لم نبعّض حكمَ الرجوع. فنقول: على هذا لا نبعّض حكمَ إقرار العبد. فإذا قبلناه في وجوب القطع، قبلناه في تعلّق قيمة ما أقر بسرقته، ثم بإتلافه برقبته.
وإن قلنا: لا يقبل رجوعُ المقِرّ الحرِّ فيما يتعلق بالضمان، فقد بعّضنا حكمَ الرجوع آخراً، فلا يمتنع أن نبعّض حكمَ إقرار العبد أوّلاً، ونقولُ إقراره في العقوبة (1) [مقبول] (2) ، وفيما يتعلق بحق المولى مردود.
وعندي أن هذا البناءَ فاسد، وقد عول الباني فيه على اتباع العبارة. أما القول الذي يُقبل فيه الرجوع عن المال وغَرَمه في حق الحر المقِرُّ، فلست أدري له وجهاً أولاً. ثم لا مشابهة في المعنى بين المسألتين؛ فإن الذي حملنا على قبول إقرار العبد في المسروق انتفاءُ التهمة، لا ينقدح في توجيه القبول غيره.
(3 وهذا المعنى أنَّى يتحقق في الرجوع عن الإقرار؟ 3) .
3416- هذا تفصيل المذهب في إقرار العبد بالسرقة أتينا به مقدمةً لإقراره بما يوجب القصاصَ على قولنا: إن موجَبَ العمد القودُ أو المالُ أحدُهما لا بعينه. ثم يعفو المقَر له، وقد عاد بنا الكلام إلى بيان هذا:
وقد اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: في ثبوت المال في هذه الصورة تفريعاً على هذا القول قولان مرتبان على القولين في قبول إقرار العبد في إتلاف المسروق، فإن حكمنا بقبول إقراره ثَمَّ، فلأن نحكم بقبوله في المال في مسألتنا أولى.
وإن حكمنا بأن المال لا يثبت متعلِّقاً بالرقبة في الإقرار بالسرقة، ففي ثبوت المال حيث انتهينا إليه قولان. والفارق أن المقَرَّ به في مسألتنا شيءٌ واحد، وهو القتل، ثم
__________
(1) (ص) ، (ت 2) : العقود.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) ما بين القوسين مضروب عليه في (ص) .(5/488)
ينقسم القول في بدله. والمقَرُّ به في السرقة على حكم المتميز؛ فإنه اعترف بحق مالي وكبيرةٍ موجبةٍ للعقوبة. هذا مسلك.
ورأى بعضُ الأصحاب أن يرتب على العكس، ويجعلَ المال في مسألة السرقة أوْلى بالثبوت؛ من جهة أن المواطأة ممكنة في صورة القصاص مع المقَرّ له. ثم إذا فرض العفوُ، فلا عقوبةَ والسرقة إذا ثبتت موجبةً للقطع، تعين استيفاء القطع لله تعالى. فكأنَّ صورةَ السرقة أبعدُ عن التهمة، وإذا كنا نُدير [قبولَ] (1) الإقرار على انتفاء التهمة، فليقع الترجيح في منازِل (2) الترتيب بما هو معتمد الباب.
هذا تمام البيان في ذلك.
3417- وكان شيخي أبو محمد لا يُعرِي قولَنا موجَبُه القود المحضُ عن تصرّف، ويقول: إن قلنا: العفو المطلق على هذا القول لا يوجب المال، فلا يتجه إلا القطعُ بثبوت المال، وإن قلنا: العفو المطلق يثبت المال، فكأناْ لا نمحّض القودَ على هذا القول موجَباً، ونجعل للمال مدخلاً. وإذا كان كذلك، تطرق الاحتمال. والعلم عند الله تعالى.
هذا منتهى الكلام في إقرار العبد بالعقوبة.
3418- فأما إقراره بالمال، ففيما لو ثبت لتعلق بالرقبة، فمردود، لا شك فيه لاعتراضه على ملك المولى، واشتماله على التهمة.
ولو أقر بما لو ثبت، لأوجب مالاً في ذمته، نفذ الإقرار، ولا أثر له في الحال ما اطّرد الرق ولكن إذا عَتَق اتُّبِع، وليس إقراره في هذا كإقرار المبذّر؛ فإنه لو أقر في اطراد الحجر عليه، ورددنا إقراره، فلو انطلق الحجر عنه، لم يؤاخذ بإقراره السابق. والسبب فيه أن العبد محجور عليه لحق مولاه، فإذا أقرّ بممكنٍ، فإن لم ينفذه في الحال، طالبناه به إذا زال حقُّ الموْلى. والمبذّرُ رُدَّ إقراره رعاية لحقه،
__________
(1) في الأصل: قول.
(2) (ص) ، (ت 2) : مسائل الترتيب.(5/489)
وحقّه مرعيٌّ بعد انطلاق الحجر عنه. نعم، لو جدّد إقراراً بعد انطلاق الحجر، كان مؤاخذاً به.
وإنما يظهر أثر الفرقِ إذا أنكر العبدُ بعد إعتاقه ما أقرّ به، وأنكر المبذر بعد الرشد ما كان أقرّ به، فإذ ذاك يفرَّق بينهما، فيؤاخذُ العتيق، ولا يؤاخذ الرشيد بعد السفه.
وإن قيل: بينوا ما يلزم ذمةَ العبد. قلنا: كل ما يعترف به من ديون المعاملات ويدّعي فيه إذْنَ المولى، فهو متعلِّق بذمته.
فإن رددنا إقرار العبد في كسبه، فهو مقبول في التعلّق بالذمّة، وقد يقرّ بشيءٍ لا تعلّق له بالكسب أصلاً، وذلك إذا قال: اشتريت شيئاً بغير إذْن السيد، والتفريع على أنه لا يصح شراؤه، فالثمن لا يلزمه مع الحكم بفساد العقد. ولكنه لو قال: أتلفتُ ما اشتريته، فالقيمةُ المعترف بها لا تتعلق برقبته لو ثبت ما قال؛ فإن مالك المال سلّطه على إتلافه، وإنما يتعلق برقبة العبد ما يُتلفه من غير إذن المولى. وهذا من البيّنات التي لا تشكل على الفقيه.
* * *(5/490)
بَابُ بيع الكِلاب وغيرها
3419- صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحُلوَان الكاهن " (1) . أما مهر البغي، فأجرة الزانية، وحلوان الكاهن ما يأخذه الكاهن على تغريرهِ بالكَهانةِ؛ فمذهبنا أن الكلب ليسَ بمالٍ، ولا يجوز بيعه وليس على متلفه قيمة لصاحبه، ولا يُنكر اختصاص صاحبه به، كما سنفصله الآن.
والوصية بالكلاب جَائزة ومعناهَا تنزيل الموصَى لهُ في الاختصاصِ بالكلب منزلةَ الموصي، وعلى هذه القاعدة يخلُف الورثة [في الكلاب] (2) موروثَهم. وإذا لم يخلف إلا الكلابَ، ففي اعتبار خروج الوصيةِ والنظر إلى الثلث كلامٌ يأتي في كتابِ الوصايا إن شاء الله عز وجل.
وأما هبةُ الكلابِ، فقد ذَكر العراقيون والشيخ أبو علي وجهين فيها أحدهما - أنها تصح صحةَ الوصية. والثاني - لا تصح؛ فإن الهبة مقتضاها التمليك والكلبُ ليس ملكاً؛ وتصح الوصيةُ بالحمل وما سيكون، ولا تصح الهبة على هذا الوجه، واختار الأئمة فسادَ الهبة، وقضى القاضي بصحتها. وهذا زلل.
وإذا أبطلنا الهبة ألغيناها، والواهب على اختصاصه بالكلب.
3420- واختلف الأصحابُ في إجارة الكلبِ، فصححها بعضهم؛ تعويلاً على منافعها، ومنعها بعضهم؛ تحقيقاً للبعد من التعامل عليها، ولا يتجه عندنا بناء الوجهين على الخلاف في أن المعقود عليه المنفعةُ أم الأعيانُ، حتى نقول: إذا جعلنا المعقود عليه العينَ، منعنا الإجارة. وإن جعلنا المعقود عليه المنفعةَ، أجزناها؛ فإن
__________
(1) حديث النهي عن ثمن الكلب ... متفق عليه، من حديث أبي مسعود الأنصاري بهذا اللفظ عينه. (ر. اللؤلؤ والمرجان: 383 ح 1010) .
(2) ساقطة من الأصل: وفي (ص) : "يحلف الورثة أن الكلاب لمورثهم".(5/491)
هذا يبطل بإجارة (1) الحر. والمعنى فيه أن الممتنع تقدير الملك في عين الكلب. ومن يعتقد أن المعقود عليه في الإجارة العينُ لا يرى أن الملك ينتقل فيها.
ومن غصب كلباً يجوز اقتناؤه، استُرِد منه، ثم إن كان انتفع به، [فهل يلزمه أجرةُ المثل] (2) ؟ ذَكر الأصحاب وجهين في ذلك، وهذا ينطبق على الخلاف في إجارة الكلبِ.
والذي أراه تصحيحُ الإجارة. وإن لم نصححها، فالأوجه عندي إثبات أجرة المثل؛ فإنها منافع مقصودة تطلب بأموالٍ. فإن امتنعت الإجارة لتغليظٍ سببه المنع من التعامل على الكلاب، فلا وجه لتعطيلِ منفعته.
3421- ولو اصطاد الغاصب بالكلب المغصوب، ففي ذلك الصيد وجهان: أحدهما - أنه للغاصبِ الصائد، وهو الأَصح، كما لو غصب شبكة واصطاد بها.
والثاني - أنه لصاحب الكلب؛ فإنَّ الكلبَ له اختيارٌ، وهو كالعبدِ المغصوبِ يحتش أو يحتطب في يد الغاصبِ. وهذا ضعيف؛ فإنَّ التعويل في تحليلِ الصَّيد على اختيارِ المرسل، وإذا ظهر اختيارُ الكلب، حرم الصيد الذي يقتله.
ثم فرع الأئمة على الوجه الضعيف وقصدوا التنبيه على أصول.
فقالوا: إذا قلنا: الصّيد للمغصوب منه، فالغاصب يرد الصيد عليه، ويغرم له أجرةَ مثل الكلب على وجهٍ؛ فإن المنفعةَ وإن صرفها إلى تحصيل فائدة وهي للمغصوب منه، فالغاصب في المنفعة متصرفٌ بعُدوان. وضربوا لذلك مثالين: أحدهما - أن من غصب بذْراً وأرضاً، فزرع الأرض المغصوبة بالبذر المغصوب من صاحب الأرض، فالزرع للمالك؛ لأنه تولّد من عين ماله، وعلى الغاصب مثل ذلك البذر؛ فإن ما تعفن في الأرض كان في حكم الفاسد، وما نبت خلق جديد. ويجب عليه أيضاً أجر مثل الأرض؛ وإن صَرَف منفعتها إلى فائدة مالكها. والثاني - أن من غصب بيضة فأحضنها دجاجةً وخرج الفرخُ، فالفرخ للمالك. وعلى الغاصب قيمة البيضةِ؛ فإنها تفسد
__________
(1) في (ت 2) ، (ص) : إجارة.
(2) ساقط من الأصل.(5/492)
وتصير مذرة، والفرخ نشوء جديد. وسنستقصي ذلك في كتاب الغصب، إن شاء الله تعالى.
فصل
3422- قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من اقتنى كلباً إلا كلبَ مَاشِية أو ضَارياً، نقص من أجره كل يوم قيراطان " (1) وفي بعض الألفاظ " أو كلب زرع " فنهى الرسول عليه السلام عن الاقتناء، وأجمع الأصحاب على أنه نهي تحريم (2) ، واستثنى من النهي الكلبَ الضّاريَ وهو الصيود، وكلب الماشية وهي التي تحرس النَّعم، وكلبَ الزرع وهي التي تحرس المزارع في أيام الحصدِ والدياسة والتنقية؛ فمن اقتنى كلباً إعجابا بصورته، فهو مرتكبُ محرّمٍ، وإذا اقتناه وهو منتفع به بالجهات الثلاثة التي استثناها النبي صلى الله عليه وسلم، فلا بأس.
ولو اقتنى كلب الحراسة للدروب والدور، فقد ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنه لا يجوز ذلك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستثن إلا ما تقدم ذكره، فيجب الاقتصارُ عليه، وطَرْدُ الحظر فيما سواه. والثاني - يجوز؛ فإن الحراسة في معنى الحراسة، وهذا قريب ممّا يقال فيه: إنه في معنى الأصل.
ومن اقتنى جَرْوَ كلبٍ صَيُودٍ حتى إذا استقل صاد، ففي تحريم اقتنائه جرواً وجهان ذكرهما العراقيون أحدهما - يجوز؛ فإنه كلب صيدٍ، وإذا أبحنا اقتناء كلب الصيد، لم نشترط في الإباحةِ إدامةَ الاصطياد به.
ومن أصحابنا من قال: لا يحل اقتناء الجرو؛ فإنه ليس ضارياً في الحال، والاقتناء في فحوى الحديث مسوغ لحاجةٍ حاقَّةٍ، تقرب من الضرورة، فأما الاقتناء لتوقع منفعة، فبعيد.
__________
(1) حديث: "من اقتنى كلباً ... " متفق عليه من حديث ابن عمر بهذا اللفظ نفسه. (اللؤلؤ والمرجان: 384 ح 1012) .
(2) في (ت 2) ، (ص) : محرّم.(5/493)
ومن اقتنى كلب صيدٍ، وكان لا يعتاد الاصطياد، ففي تحريم الاقتناء وجهان أيضاً ذكروهما.
والتوجيه بين.
فإن قيل: الاختلاف في هذه الصورة مستند إلى احتمال، إلا ما ذكرتموه في الاقتناء لحراسة الدروب، والحراسة كالحراسة، فما وجه المنع؛ قلنا: وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم الكلاب، ولو جاز الاقتناء لحراسة الدروب، لعمّ جوازُ الاقتناء؛ فإن كل كلب نباح في موضعه، وهو معنى حراسة الدروب، وكلبُ الصيد والماشية والزرع يحرس في مضايع، ولا يستقل بهذا إلا كلبٌ له اختصاصٌ عن الكلاب. ويمكن أن يقال: لو اقتنيت في الدروب وكثرت أجراؤها، وأنست، خالطت وانبثت نجاساتُها، وليس كذلك كلاب الصحارى.
3423- فإن قيل: فما قولكم في قتل الكلاب؟ قلنا: أما ما ينتفع به منها، ولا ضرار من جهتها، فلا يجوز قتلها. وأما العقور؛ فإنه يقتل دفعاً لضراوته، وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتل الكلب العقور، وعدّه من الفواسق اللاتي يقتلن في الحل والحرم. وكل كلبٍ عقورٌ إذا اضطر إليه دفعاً عن نفسه. والذي عنيناه الذي يضرى بالشر طبعاً. وأما الكَلِب (1) ، فلا يتمهل في قتله؛ فإن شره عظيم.
والكلب الذي لا منفعة له، ولا ضرار منه لا يجوز قتله. وقد ذكرنا طرفاً من ذلك مقنعاً في باب الصيود من المناسِك عند ذكرنا الفواسق، وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب مرة، ثم صح أنه نهى عن قتلها، واستقر عليه على التفصيل الذي ذكرناه. وأمر بقتل الكلب الأسود البهيم. وهذا كان في الابتداء، وهو الآن منسوخ.
__________
(1) بدون ضبط في النسخ الثلاث. ولكن يفهم من السياق أنه الكَلِبُ: أي الذي أصابه داءُ الكَلَب.(5/494)
فصل
يَجْمع تفصيْل القَوْلِ فيمَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنَ الحَيَوانَاتِ
3424- أما الآدمي، فلا يخفى تقسيمه إلى الحر والرقيق.
وما عداه ينقسم إلى ما لا ينتفع به حياً وميتاً، وإلى ما ينتفع به حياً، وإلى ما لا ينتفع به حياً وينتفع ببعض أجزائه إذا مات أو قتل. وينبغي أن يستثنى منها الحيوان النجس العين، وهو الكلب والخنزير والمتولد منهما ومن أحدهما. فكل ما كان نجساً لا يجوز بيعه. والتقسيم وراء ذلك.
فما ينتفع به حيّاً كالفهد والهرّ، فيجوز بيعه وفاقاً، ومنها الطيور الضارية.
وأما ما لا ينتفع به حياً وميتاً، فلا يجوز بيعه. وأخذ المال في بيع شيء منها من أكل المال بالباطل. ومن هذه الجملة حشرات الأرض.
ودودُ القز منتفع به، وكذلك نحل العسل، وتردد القاضي في العَلَق، فألحقها في جوابٍ بالديدان، ومال في جواب إلى جواز بيعها، لما فيها من منفعة مص الدم عند مسيس الحاجة إليه في بعض الأطراف.
وتردد الأئمة في مثل حمار زمِنٍ لا حراك به ولا منفعة له، فحرم بعضهم البيع لسقوط المنفعة، وأجاز آخرون البيعَ نظراً إلى الجنس. وقيل أيضاً: يجوز بيعه لمكان جلده بعد الموت، وهذا المعنى فيه بعض الضعف؛ فإن المنفعة النّاجزة أولى بالاعتبار من توقع أمرٍ سيكون ولو بني [البيع] (1) على التوقع، لصح بيع جلد الميتة قبل الدباغ.
فأما الأسد والذئب والنمر، فلا انتفاع بها وهي حية، ولا نظر إلى اقتناء الملوك إياها لإقامة السياسة والهيبة، فليس ذاك منفعةً معتبرة، ولا تتأتى المقابلة بها، بخلاف الفِيَلة؛ فإنَّ ذلك ممكن، وهي مراكب، فالتحقت بما يُنتفع به. أما الأُسد والنمور والذئاب، فالمذهب أنه لا يجوز بيعُها. وذكر القاضي وجهاً آخر أنه يجوز بيعها، بناء
__________
(1) ساقطة من الأصل.(5/495)
على إمكان الانتفاع بجلودها، فهي طاهرة في [الحال] (1) ، والانتفاع متوقع ببعض الأجزاء.
ولا يجوز بيع الرَّخَمة، والحدأة، والغراب؛ فإنه لا منفعة فيها، فإن كان في أجنحة بعضها منفعة، التحقت بالأُسد والذئاب. والأصح منع البيع.
3425- ثم ألحق الأئمة مسائلَ بما ذكرناه في الحيوان: منها بيع المعازف وآلات الملاهي، فإن كانت بحيث لو كسرت الكسْر المأمور به، لم يكن رُضاضها متمولاً، فلا يصح بيعها. وإن كانت بحيث لو كسرت الكسرَ الواجبَ، لكان رُضاضها متمولاً، ففي إيراد البيع عليها قبل الرض وجهان: أحدهما - يبطل البيع؛ نظراً إلى صفاتها في تركبها، ويعتضد هذا بإطباق الناس على استنكار بيع البرابط والطنابير. والثاني - يصح بيعها؛ لأن جِرم الرضاض كائن فيها. وهذا وإن كان قياساً، فالعمل على الأول.
فأمّا إذا باع صوراً وأشباحاً كالأصنام وغيرها، وكانت متخذة من جواهر ذوات قيم، كالصُّفر (2) والنحاس وغيرها، فهي مكسّرة على أربابها، والأصح جواز بيعها قبل التكسير؛ فإن جواهرها مقصودة بخلاف رُضاض المعازف. وذكر القاضي وجهاً آخر في منع بيعها.
فصل
3426- الأعيان النجسة يمتنع بيعها، وإن كانت منتفعاً بها كالسِّرقين (3) والأخثاء (4) ، وأجاز أبو حنيفة (5) بيعها ومنع بيع العَذِرَة. وطرد الشافعي إفساد البيع في كل عين نجسة.
والثوبُ المضمخ بالنجاسة يجوز بيعه، والبيع يرد على جوهرِه الطاهر.
__________
(1) في الأصل: الحياة.
(2) الصفر: النحاس الأصفر. (معجم) .
(3) السرقين: الرجين، أعجمي معرّب، معناه الزبل (معجم) .
(4) الأخثاء جمع الخِثْيُ، والخثى. وهو ما يرمي به البقر أو الفيل من بطنه. (معجم ومصباح) .
(5) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/90 مسألة: 1169.(5/496)
والدهن إذا أصابته نجاسة، ففي جواز بيعه قولان مبنيان على إمكان غسله، وفي إمكان غسل الدهن قولان، سبق ذكرهما في كتاب الصلاة. فإن قلنا غسله ممكن، فبيعه جائز. وإن قلنا غسله غيرُ ممكن، ففي بيعه قولان مبنيان على جواز الاستصباح بالدهن النجس. والقولان في الاستصباح يجريان في ودَك الميتة، وإن كان لا يجوز بيعه. وإنما استعملنا الخلاف في الاستصباح في دهن طاهر الجوهر (1) لَحِقَتْه نجاسة، فإن ما كان نجس العين، فبيعه ممتنعٌ، وإن كان منتفعاً به. والبيع فيما هو طاهر الجوهر قد يتلقى من الانتفاع.
هذا تنزيل هذه المسائل على قواعدها.
3427- ثم أطلق الأئمة الخلاف في جواز الاستصباح. وهو مفصل عندي: فلو كان السراج الذي فيه الدهن النجس بعيداً، بحيث لا يَلقى دخانُه المستضيءَ بهِ؛ فلست أرى لتحريم هذا وجهاً؛ فإن الانتفاع بالنجاسات لا ينسدّ، وكيف يمتنع منه مع تجويز تزبيلِ الأرض وتَدْميلها (2) بالعَذِرة، ولعل الخلاف في جواز الاستصباح ناشىء من لحوق الدخان الثائر من ذلك الدهن، وفيه تفصيل نذكره.
[أمّا رماد الأعيان النجسة، فالمذهب أنه نجس، وفيه شيء قدمته في كتاب الصّلاة. و] (3) أمّا دخان الأعيان النجسة إذا احترقت -على قولنا بنجاسة الرماد- فما كان يقطع به شيخي أن الدخان رماد، وهو يتجمع بعد الانبثاث. وذكر القاضي وجهاً أنه طاهر وإن حكمنا بنجاسة الرماد؛ فإنه يُعد بخارَ النار. وهذا ركيك. ومما يعتنى به أن الدهن النجس في عينه في دخانه ما ذكرناه. وأمّا الدهن الذي وقعت فيه نجاسة، فدخانه أجزاء الدهن. وما وقع فيه ونجسه، قد لا (4) يكون مختلطاً، ويظهر في هذا الدخان الحكمُ بالطهارة؛ فإن الذي خالط الدهن يتخلف قطعاً، والذي ثار محضُ
__________
(1) في (ت 2) : العين.
(2) دمل الأرضَ أصلحها بالدمال. والدمال: السماد. (معجم) .
(3) ساقط من الأصل.
(4) في (ت 2) ، (ص) : فلا يكون فيه مختلطاً.(5/497)
أجزاء الدهن، والتردد في الاستصباح يجوز أن يكون مأخوذاً من نجاسة الدخان؛ فإنه يثبت في البيوت ويلحق الثياب، وقد لا يحسّ بأوائل لحوقه حتى يحترزَ منه.
ولا يمتنع على بعدٍ أن يطرد الخلاف في الاستصباح وإن بعد السراج، فإن هذا ممارسةُ نجاسة مع الاستغناء عنها، وليس كذلك التزبيل؛ فإنه لا يسد مسده شيء، فكان ذلك في حكم الضرورة، ويقرب من هذا جواز اقتناء الكلب الضّاري؛ فإن الحاجة ماسّة ولا يسد مسد الكلب في ظهور منفعته (1) وخفة مؤنته شيء.
فصل
3428- أكثر أئمتنا ذِكْرَ المالية وأجرَوْا في أثناء الكلام ما يتموّل وما لا يتمول، ورأَوْا ذلك قاعدةً متبعة في تصحيح البيع ونفيه. ونحن نفصل القول في هذا على إيجاز وبيانٍ، إن شاء الله تعالى.
فممّا يسميه الفقيه غيرَ متمول ما لا يقبل البيع في جنسهِ، وهو ينقسم إلى نجسٍ وإلى محترم: أما الأعيان النجسة قد (2) سبق القول فيها، وأمّا المحترم الذي لا يتمول كالحرّ وما يحرز بالشرع كبقعة الكعبة، أو حرز كالبقاع التي اتخذت مساجد.
ثم ما لا يتمول لجنسه، وهو الأعيان النجسة لا قيمة لها، ولا تضمن بالإتلافِ، وما لا يتمول لحرمته، فلها أبدال عند الإتلاف.
ومقصودنا من هذا الفصل شيء آخر. فإذا قلنا: هذا لا يتمول لقدره، فليقع الاعتناء به، وإن كان جنسه مالاً. والضّابط فيه أن كل ما ليس للانتفاع به على حياله وقع محسوس، فهو الذي يقال: إنه لا يتمول، كالحبة والحبتين فصاعداً. وليعتبر وقعه منسوباً إلى كل جهة؛ فإن حبات معدودة قد لا يكون لها وقع في الإنسان، وهي تقيم عصفورة، أو تسد منها مسداً.
فكل ما فيه نفع محسوس، فهو مال، وكل ما ليس فيه نفع محسوس، فهو غير
__________
(1) في (ت 1) ، (ص) : صفته.
(2) جواب (أما) بدون الفاء.(5/498)
متمولٍ. وكل منتفع به طاهرٌ غير محترم إذا تحقق الاحتواء عليهِ، فهو مال. وإن كان الناس لا يتمولونه لكثرته ورخاءِ السّعر.
فليكن التعويل في الفرق بين ما يتمول وما لا يتموّل على المنفعة في الأجناس الطاهرة غير المحترمة. فلو أجدَّ (1) الرجل صخرة، وكان فيها منفعة ظاهرة، فيجوز أن يبيعها بآلاف ممن يشتريها: وهم في شعاب جبال مفعمة بالصخور. وعليه يخرج تجويز بيع [هذِه] (2) في أمثال هذه البلاد.
فأما الحبة من الحنطة فلا، ولا يختلف هذا بسِنِي الأَزْم والمَجاعة ورخاء الأسعار. ولكن ما يقال فيه: إنّه لا يتمول لقلته فيه حق لصاحبهِ، فلا يجوز أخذ حبة من مال إنسان بناء على أنها لا تتمول. ومن أخذها لزمه ردُّها. قال شيخي: كان القفال يقول: إن تلفت لم يبعد أن أوجب مثلَها. وإنْ منعتُ بيعها. نعم لو كان كذلك القليل من جنس متقوم، فلا قيمة.
فهذا حَاصل القول في ضبط ما يتمول. وما لا يتمول.
فصل
مشْتمل عَلى بَيعْ المَاءِ وحُكمِهِ
نظمه الشيخ أبو علي في الشرح ونحن نأتي به على وجهه فلا مزيد عليه.
3429- فنقول:
من ينزح ماء من موضع مباع، فالمذهب المشهور أنه يملك ما أحرزه، كما يملك الحطب إذا احتطب، والصيدَ إذا اصطاد.
وفي المسألة وجه بعيد أنه لا يملك قط. ولكن محرزه أولى به، وهذا بعيد لا تفريع عليه.
وإنما التفريع على أن الماء يملكه محرزه.
__________
(1) أجدّ الشيء: قطعه. (معجم) .
(2) في الأصل، (ص) هرّة.(5/499)
فمن أحرز ماء في إداوة وسقايةٍ، فقد ملكه، ويجوز بيعه على شط الدجلة، بما يقع من التراضي عليه.
فأما إذا حفر بئراً أو قناةً، فاجتمع فيها ماء، فهل يملك ذلك الماء؟
هذا يستدعي أولاً تفصيلَ المذهب في أن الآبار كيف تملك، وهذا مما يأتي استقصاؤه في إحياء الموات، والقدر الذي تمس الحاجة إليه الآن أن من حفر بئراً في مواتٍ وقصد باحتفارها تملّكَها، فإذا ظهر مقصودُه، مَلَكَها، ومقصودهُ ظهور الماء، فكما (1) ظهر، مَلَك، ولا يتوقف الملك على أن يطويَ (2) البئر ويعمرَها. هذا ظاهرُ المذهب.
وقيل: ظهور الماء يجعل حافرَ البئر كالمتحجر، وهذا يأتي في الإحياء.
ولو كان يحتفر نهراً إلى نهر عظيم كالفرات، وقصده أخذ شيءٍ من ماء الفرات في نهرهِ، فإذا قصد باحتفار النهر تملكها، وانتهت فوهة النهر إلى النهر الكبير، وجرى فيه الماء، فهذا في ملك النهر نظير إنباط الماء في البئر. هذا إذا قصد التملك.
فأما إذا قصد احتفار البئر ليستقي ماءها لا أن يتملكها. فيكون أولى بماء البئر، فإذا تعداها وجاوزها، فالبئر بمائها مباح.
فإذا بان ذلك، فلو لم [يملك] (3) البئر، ولم يقصد تملكها، فالماء المجتمع فيها لا يكون مملوكاً باتفاق الأصحاب.
هكذا قال الشيخ.
فأمّا إذا ملك البئر، أو كان في ملكهِ الخالص بئرٌ كَدَارِه، فالماء المجتمع في تلك البئر هل يكون ملكاً على الحقيقة لمالك البئر؛ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - وهو اختيار أبي إسحاق أنه لا يملكه، وينزل الماء الحاصِل في ملكه منزلةَ ما لو عشش طائر في ملكه؛ فإنه لا يملكه. وقال ابن أبي هريرة: الماء ملك لصاحب البئر على
__________
(1) فكما: أي عندما.
(2) طوى البئر: بناها بالحجارة ونحوها، أو عَرَشَها. (معجم) .
(3) ساقطة من الأصل.(5/500)
الحقيقة، وهو نازل منزلة الثمرة التي تخرج من أشجاره من غير قصده.
3430- فإذا ثبت ذلك، فالكلام وراء ذلك في فصلين: أحدهما - إفراد الماء بالبيع.
والثاني - بيعه مع قرارِه.
فأما إفراد الماء بالبيع، فالماء الذي جمعه في إداوة أو حوض، أو أحرزه، فيجوز بيعه؛ فإنه غير متزايد.
فأمّا الماء المجتمع في البئر المملوكة، أو الماء الجاري في النهر المملوك، فإن قلنا: إنه غير مملوك، فإذا أفرده بالبيع، لم يصح؛ لأنه باع ما لم يملكه، فأشبه ما لو باع فرخَ طائر على عش في ملكه. ولم يأخذه بعدُ.
وإن قلنا: إنه مملوك، قال رضي الله عنه (1) : لا يصح إفراده بالبيع إذا قال: بعتك ماء هذا البئر؛ لأنه ممّا يتزايد تزايداً كثيراً، وليس كذلك بيع الجِزة من قُرطٍ، فإنه إذا ابتدرَ الجزَّ، لم يتزايد تزايداً محتفلاً به، والماء الجاري أولى بالفساد، فلا يصح إذا بيع الماء على الوجهين لعلّتين (2) .
ولو قال: بعتك مائة مَن من ماء هذه البئر، فإن قلنا: إنه مملوك، ففي المسألة وجهان: أحدهما - يصح. والثاني - لا يصح. وهما مبنيان على ما إذا أراه نموذجاً من لبن الضرع، فينبغي أن يكون المقدار المذكور من ماء البئر، ومن لبن الضرع بحيث يعتقد قلةُ التزايد فيه، كما قدمناه في لبن الضرع.
قال الشيخ: لو باع مقداراً من ماء نهرٍ جارٍ، فهو ممنوع؛ فإنه غير واقفٍ ولا يستمكن من تنزيل العقد على معاين فيه تَسلُّم.
وكل ما ذكرناه فيه إذا باع الماء وحده.
3431- فأما إذا باع ماء البئر مع البئر، فنذكر التفصيل في البئر أولاً، ثم نذكره في النهر.
__________
(1) القائل هو الشيخ أبو علي في الشرح.
(2) في (ص) ، (ت 2) : بعلتين. والعلتان واضحتان على الوجهين.(5/501)
فإذا باع البئرَ، فلا يخلو إما أن يشترط معه الماءَ الذي فيه أو لا يشترط: فإن شرط معه الماء الذي فيه، فإن قلنا: إنه غير مملوك، فلا يصح البيع فيه.
وهل يصح في البئر؟ فهو على قولي تفريق الصفقة. وهو كما لو باع ظبية مملوكة، وأخرى في الصحراء لم يصطدها.
فأما إذا قلنا: الماء في البئر مملوك، فإذا باع البئر مع مائه الذي فيهِ، صح؛ فإنه مشاهد. [وليس] (1) كما لو أفرد ماء البئر بالبيع؛ فإن الأصل في تلك الصورة مُبْقَى للبائع. وما نَبَع بعد تقدير البيع، فهو لمالكِ الأصل، فيؤدي إلى اختلاط المبيع، وأما هاهنا مَلَك (2) المشتري [المنابع] (3) ، فلا أثر للازدياد، ولا يضر أن يختلط ملكُ المشتري بملكه. هذا إذا شرط مع البئر ماءها.
فأفا إذا باع البئر ولم يتعرض للماء الذي فيه، فإن قلنا: إن الماء ليس بمملوك، فقد ملك المشتري البئر، وصار أحق بالماء، كما كان البائع أحقَّ به.
وإن قلنا: إنه مملوك، فالبئر صارت مملوكة للمشتري، والأصح أنه لا يتبعها الماء؛ فإنه [نماءٌ] (4) ظاهر، فأشبه الثمار الظاهرة المؤبرة لا تدخل في مطلق بيع الشجرة.
ومن أصحابنا من أتبع الماءَ البئرَ وجعله كالثمار التي لم تؤبَّر، ونزل الأمر في هذا على العرف. وهذا قدمته في أثناء مسائل البيع فيما أظنه.
فهذا في البئر.
3432- فأمّا في النهر، فإن باعه من غير تعرض للماء الذي فيه، فالبيع في النهر صحيح، والقول في إتباع الماء الموجود في النهر على ما تفضل. فأما إذا باع النهرَ مع الماء الجاري، فإن قلنا: إنه غير مملوك، فقد جمع بين مملوك وغيرِ مملوك
__________
(1) في الأصل: "وهو" كما لو أفرد ...
(2) جواب أما بدون (الفاء) .
(3) في النسخ الثلاث: "المنافع" وعجب اتفاقها جميعاً على هذا التصحيف.
(4) ساقطة من الأصل.(5/502)
مجهولٍ، لا سبيل إلى ضبطه. والأصح في مثل ذلك بطلان البيع في الجميع، ما قدمناه في تفريق الصفقة.
وإن قلنا: الماء مملوك وقد ذكره مع النهر، فهو مجهول لا يفرد بالبيع ضُمَّ إلى معلوم، فيخرج على التفريق.
ولو اجتمع في ملك الرجل شيء سوى الماء كالموميا (1) والملح، وكان يتزايد تزايد الماء، فقد قال الشيخ: حكمه مع قراره حكم الماء في كل تفصيل، إلا أنا ذكرنا في صدر الفصل وجهاً بعيداً أن الماء لا يملك أصلاً، وذلك لا يجري هاهنا.
ولماء الأودية والقنوات وموارد البيع منها تفاصيل كثيرة في إحياء الموات، إن شاء الله تعالى.
فصل
في الإقالة
3433- لا خلاف في جوازها، وارتداد عوضي العقد بها، وأنها تختص بالثمن الأول، ولا حاجة إلى ذكر الثمن والمثمن على التفصيل، بل الإطلاق ينصرف إليه، ولا تختص الإقالة بالمتعاقدين، بل لو ماتا، جرت الإقالة بين الورثة.
3434- ثم هي فسخ، أو ابتداء عقد؟ فعلى قولين: أحدهما - أنها عقد، وهو المنصوص عليه في القديم، لتضمنها تمليكَ مال بمالٍ على التراضي، وصيغةِ الإيجاب والقبول.
والمنصوص عليه في الجديد أنها فسخٌ، لاختصاصها بالثمن الأول، ولأن الغرض منها رفع ما كان، ورد الأمر إلى ما كان عليه قبل العقد. ولفظ الإقالة مشعر بهذا.
ومنه إقالة العثرات.
__________
(1) الموم: بالضم الشمع معرّب. والموميا لفظة يونانية، وهو دواء يستعمل شرباً ودهاناً، وضماداً. (المصباح) .(5/503)
ولم أر أحداً من الأصحاب يخرجُ الإقالةَ قبل قبض المبيع على أن الإقالة فسخ أو بيع. حتى إن قلنا: إنها فسخ، نفذت. وإن قلنا: إنها بيع خرجت على الخلاف في أن بيع المبيع من البائع قبل القبض هل يجوز.
وكذلك لم يردد أحد من أصحابنا القولَ في الإقالة في السلم، بل أطلقوا جوازها. وإن كان يمتنع بيع المسلم فيه قبل القبض.
وكان شيخي يقول: الإقالة بعد القبض على القولين، والإقالة قبل القبض تنفذ.
فإن جوزنا بيع المبيع من البائع قبل القبض، [خرجت المسألة على قولين في أن الاقالة فسخ أو بيع، وإن قلنا: لا يصح بيع المبيع من البائع قبل القبض] (1) ، فالإقالة نافذة، وهي فسخ قولاً واحداً.
وذكر شيخي في كتاب الخلع في أثناء كلامه فصلاً به تظهر حقيقةُ الإقالة، وهو أنه قال: اختلف أصحابنا في أن البيع هل يقبل الفسخ بالتراضي؟ فمنهم من قال بقطع القول بقبوله الفسخ بالتراضي. والقولان في لفظ الإقالة.
ومنهم من قال: كل ما فرض على التراخي سواء كان بلفظ الفسخ، أو بلفظ الإقالة، فهو خارج على القولين، ولا نظر إلى الألفاظ، فالفسخ لفظٌ ألفه الفقهاء، ومعناه ردَّ شيء واسترداد مقابله. فإن تعلّق متعلّق بلفظ الفسخ، فالإقالة من طريق اللسان صريحة في رفع ما تقدَّم، ورد الأمر إلى ما كان عليه قبل العقد.
فرجع حاصل القول إلى أن من أصحابنا من جعل الخلاف في تصور الفسخ بالتراضي من غير سبب يوجبه.
ثم هؤلاء يقولون: يتصور الفسخ بالتراضي قبل القبض؛ لأن العقد لم يُفض إلى نقل الضمان، فإذاً هو متصور قبل القبض. وفي تصويره بعد القبض الخلاف.
ومن أصحابنا من قطع بتصوّر الفسخ، ورد الخلاف إلى الإقالة ومعناها، ثم هؤلاء قالوا: هي محمولة قبل القبض على الفسخ، والخلافُ في عملها بعد القبض.
__________
(1) ساقط من الأصل.(5/504)
3435- ثم يتفرع على القولين في أن الإقالة فسخ أو عقدٌ أمور: منها - تجدد حق الشفعة للشفيع إذا كان قد عفا عنها في البيع: إن جعلناها فسخاً، لم يتجدد حق الشفعة بالإقالة. ضمان جعلناها عقداً، تجدد له حق الشفعة.
وإذا تلف المبيع في يد المشتري بعد الإقالة، فإن قلنا: هي عقد، انفسخت كما ينفسخ البيع بتلف المبيع قبل القبض، وعاد الأمر إلى ما كان عليه قبل الإقالة. وإن قلنا: هي فسخ، لم ترتفع الإقالة، وضمن المشتري قيمة التالفِ في يده.
ومما يتفرع على ذلك أنهما إذا تقايلا، فإن قلنا: الإقالة بيع؛ فلا يتصرف البائع في ملك العين مادامت في يد المشتري.
وإن قلنا: هي فسخ، نفذت تصرفاته كالمفسوخ بالعيب.
3436- وإذا تلف المبيع، ثم تقايلا، فإن جعلنا الإقالة عقداً، لم يصح؛ فإن البيع لا يرِدُ على تالفٍ. وإن جعلناه فسخاً، فوجهان: أحدهما - أنه ينفذ كالفسخ بالتحالفِ. والثاني - لا ينفذ؛ فإن الفسخ بالتحالف ليس مقصوداً في نفسه، وإذا أنشأ المتحالفان دعوتيهما، فليس غرضهما الفسخ. لكن كل واحدٍ يبغي أن ينكُل صاحبه ويحلف هو فإذا تحالفا، كان الفسخ ضروريّاً، والفسخُ بالإقالة معمودٌ مقصود، فلا ينفذ في التالف، كالفسخ بالعيب بتقدير ردَّ قيمة المعيب التالف واسترداد عوضه. فإذا اشترى عبدين، فتلف أحدهما، فأراد الإقالة في الآخر، إن جوزنا الإقالة، والمبيع تالفٌ بجملته. فهذا أولى بالجواز، فإن منعنا الإقالة عند تلف المبيع، وهو واحد، فهاهنا وجهان؛ إذ القائم يلاقيه الإقالة، ثم يستتبع التالفَ.
3437- ولو اشترى عبدين فتقايلا في أحدهما مع بقاء العبدين. فإن قلنا: الإقالة بيع، لم تصح الإقالة؛ فإنها لو صحت، لقابل العبدَ قسط من الثمن يبيّنه التقسيط.
وهذا مجهول. فلا يصح تقدير العقد، مع جهالة العوض.
وإن قلنا: الإقالة فسخ، جاز ذلك. ولو كان مكان العبدين قفيزان من الحنطة، فخُصت الإقالة بأحدهما، جاز على القولين. أما قول الفسخ، فلا يخفى. وأمّا قول العقد، فلا جهالة. والثمن يتقسط بالأجزاء.(5/505)
ولو اشترى عبداً وتقايلا على نصفه، فالإقالة صحيحة على القولين؛ إذ لا جهالة. والفسخ لا شك في نفوذه على قول الفسخ.
فإن قيل: هلا خرّجتم على تفريق الصفقة؛ قلنا: سبب منع التفريق على قولٍ في هذا المقام تنزيلُ العقد على جملةٍ مع تخلفه عن بعضها، فتارة يقول: ارتفع العقد، وتارة يقول: يتخير من تبعض الأمر عليه. وأما الإقالة فَصَدَرُها عن التراضي. والحق لا يعد وهماً. وإنما يمتنع رد أحد العبدين على أحد القولين قهراً. فلو فرض التراضي به، كان إقالة مسوغة. ومن جوز فسخاًً بعد لزوم العقد بلا سبب التراضي، [لم] (1) يغادر متعلقاً في التبعيض.
وذكر بعض المصنفين أنهما إذا تقايلا على أحد العبدين، وجعلنا الإقالة فسخاً، نفذت. وهل ينفسخ العقد في العبد الآخر؟ فعلى قولي تفريق الصفقة. وهذا خبال.
والأصل اتباع الرضا في الفسخ والإبقاء. ولو سلكنا هذا المسلك، لخرَّجنا قولاً في منع الإقالة في أحد العبدين. فإذا اجتمع الأصحابُ على خلافه، بطل هذا المسلك، وانتسب صاحبه إلى عدم الإحاطة بحقيقة الإقالة.
3438- ومما يتفرع على ذلك أنا إذا جعلنا الإقالة عقداً، فلو قالا: تفاسخنا، اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: هو عقد؛ تعويلاً على اشتراط التراضي، ومنهم من قال: هو فسخ. وهذا يستند إلى ما ذكرته من حقيقة الإقالة في صدر الفصل.
وقد نجز الغرض من الإقالة وتفريعها، وانتهت مسائل الأصول من كتاب البيع. ونحن نذكر فروعاً انسلت عن ضبطنا، فليلحقها الناظر بأصولها، وليرتبها على قواعدها.
فرع:
3439- إذا اشترى الرجل جارية ثم تبين أنها أخته من رضاع أو نسب، فلا خيار للمشتري. وإذا اشترى جارية فإذا هي معتدة من وطء شبهةٍ، فله الخيار.
أمّا نفي الخيار إذا بانت أخته، فسببه أن الأخوّة لم تقدح في المالية. وهي مقصود البيع، ولا التفات إلى ما يتخلف من الأعراض بعد وفور المالية.
__________
(1) ساقطة من الأصل.(5/506)
ولو اشترى رجل جارية وسعى في تحريمها على البائع بسبب طارىء في يده، ثم اطلع على عيب قديم بها، ردّها، ولم يكن للبائع أن يقول: بعتُها وهي محلٌّ لحلي، ورددتَها وهي محرّمة، فلا أقبلها؛ فإن التحريم والتحليل لا تعويل عليهما في عقد البيع.
وأمّا ما ذكرناه في المعتدة، فالسبب فيه أنها محرمة على الناس كافة، وهذا يرِّغب الطالبين عنها، وما كان كذلك أثر في المالية. وهو بمثابة ما لو اشترى داراً، ثم تبين أنها مستأجرة، والتفريع على صحة البيع يثبت الخيار.
وعلى هذا القياس لو اشترى جارية وقبضها، فوطئها واطىء بالشبهةِ، ثم اطلع على عيبٍ قديمٍ، كانت العدة بمثابة عيبٍ حادث طرأ في يد المشتري. وقد سبق التفصيل فيه. ثم ذكرنا في مسائلِ العيوب أن العيب الحادث إذا زال وقد كان تعذر الردُّ بسببه، فهل يملك المشتري الردَّ؟ فيه خلاف وتفصيل. والعدة وإن كانت في حكم عيب، فهي مرجوة الزوال.
فلو قال المشتري: أصبر حتى تنقضي العدة ثم أرد. فقال البائع: ضُمّ الأرشَ أو اقبل العيب القديم، وإلا فتأخيرك يبطل حقك من الرد، فكيف الحكم فيه؛ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يملك التأخير؛ فإن [العُذر] (1) لائح، ورجاء زوال العيب ظاهِر، وإنما يبطل حق الرد بالتأخير إذا لم يكن عذرٌ.
ومن أصحابنا من قال: إذا أخر يبطل حقه؛ فإنه يجد سبيلاً إلى التخلّص من الظلامة دون الرد، فليرض به.
فرع:
3440- إذا اشترى عبداً معيباً وقبضه، ثم جاء بعبد وقال: هذا العبد المبيع، وهو معيب، وهو الذي قبضتُه. وقال البائع: ليس هذا الذي قبضتَه مني واشتريتَه، وإنما هو عبد آخر، ولا بينة. قال الأصحاب: القول قول البائع مع يمينه؛ فإنه يستبقي العقدَ، والأصل بقاؤه. ولهذا صدقناه إذا ادعى حدوثَ العيب، وأنكر قدمه. فأما إذا أسلم في عبدٍ أو غيره من الموصوفات، وقبض ثم جاء وقال: هذا الذي قبضتُه ليس على الوصف الذي طلبتُه وذكرته في السَّلم، فقال المسلم إليه:
__________
(1) في (ت 2) ، (ص) : العقد.(5/507)
ليس هذا ذاك الذي قبضتَه مني، فالقول قول من؛ فعلى وجهين: أحدهما - القولُ قولُ المسلَم إليه؛ فإنه قد سبق قبض وفاقاً، والمسلِم يدَّعي بعد ذلك مرجعاً.
والوجه الثاني أن القول قول المسلِم؛ فإنهما اتفقا على اشتغال ذمة المسْلم إليه، والمسلَم إليه يدعي براءة ذمته، والأصل اشتغالها. وليس كذلك العبد المعيّن؛ فإنهما اتفقا على أن المشتري قبض ما اشتراه، ثم اختلفا في أن العقد هل يفسخ بعد ذلك أم لا. والأصل بقاء العقد.
وما ذكرناه من الوجهين في المسلم إليه يجريان في الثمن الواقع في الذمة.
وذكر ابن سريج في كل عوضٍ ثابت في الذمة ثمناً كان أو مثمناً ما ذكرناه من الوجهين في الحُكم الذي أردناه، وزاد وجهاً ثالثاً ذكره في الثمن. وهو أنه قال: لو قال البائع: الدراهم التي سلمتها أيّها المشتري مبهرجةٌ زيوفٌ، وليست وَرِقاً، فالقول قوله؛ فانه ينكر أصلَ القبض. وإن قال: هي معيبةٌ، فالقول قول المشتري حينئذٍ؛ فإن أصل القبض ثابت؛ بدليل أنه لو رضي القابض به [لعد] (1) ثمناً، وجرى عوضاً.
فرع:
3441- إذا أوصى إلى رجل أن يبيع عبداً معيباً من تركته، ويشتري بثمنه جاريةً، ويعتقها عنه، فباع الوصي العبد بألف، واشترى بالألف جارية، وأعتقها عن الموصي، ثم وجد مشتري العبد به عيباً ورده، فللوصي أن يبيع ذلك العبد المردود ويؤدي من ثمنه الألفَ الذي كان ثمناً، فإن وفَّى ثمنُ العبد لمَّا باعه بعد الرد، فلا كلام. وإن كان ثمنه تسع مائة، لمكان العيب الذي بدا، فذلك النقصان لا بد من جبره لرد جملة الثمن على المشتري. فذلك النقصان على من؟ اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: هو على الوصي؛ فإنَّ الموصي إنما أمره أن يشتري بثمنه جارية، وقد بان أخيراً أن ثمنه تسع مائة؛ فكان من حقه ألا يشتري الجارية إلا بهذا المبلغ؛ فهو بترك البحث مفرّط. ثم هو ضامن بسبب تفريطه.
ومن أصحابنا من قال: لا ضمان على الوصي في تلك الزيادة، ولكنها في ذمة الميت الموصي تؤدَّى من تركته؛ وذلك أن [الوصيّ] (2) بالحاكم والعدل [في
__________
(1) في الأصل، (ت 2) : يعدّ. و (ص) : " لفذ": والمثبت تقديرٌ منا.
(2) في الأصل، (ت 2) : الموصي.(5/508)
الرهن] (1) أشبه. وقد قال الشافعي: إذا باع الحاكم شيئاً، فلزمت فيه عُهدة، فلا تتعلق الغرامة بالحاكم، وكذلك من عُدّل الرهن على يده.
ولو باع الوصيُّ العبدَ المردودَ عليه، فزاد ثمنُه على الألف، فقد بان لنا فيه أنه فرط في بيعه لما باعه بالألف وكانت قيمته ألفان. والمسألة فيه إذا لم تكن الزيادة عن ارتفاع سِعرٍ، ولا عن قبول زبون، فقد جرى بيعه بغبن وكان باطلاً، ولا حاجة إلى الرد.
وشراءُ الجاريةِ إن كان واقعاً في الذمة، فينصرف إليه، والعتق واقعٌ عنه، وعليه الآن بتمام ثمن العبد جارية، فيعتقها عن الموصي. وإن كان قد اشترى الجارية بعين ما قبضه في ثمن العبدِ، فلا يصح العقد؛ فإن المشار إليه كان مستحقاً ولم ينفذ العتق.
ومما يليق ببقية المسألة أنا قطعنا القول بأن الوصي إذا رُدَّ العبدُ عليه، فله بيعه، لم يحك الشيخُ فيه خلافاً.
3442- فإن قيل: لو باع الوكيل عبداً فرُدَّ عليه بالعيبِ، فهل له أن يبيعه مرة أخرى؟ قلنا: اختلف أصحابنا في المسألة: فذهب بعضهم إلى أنه يبيعه؛ فإن الموكل قد أذن له في بيعٍ يلزم وينفذ، فإذا نُقض عليه، فله البيع ثانياً (2 والمذهب الصحيح الذي اختاره القفال أنه لا يصح منه البيع ثانياً 2) ؛ لأن المبيع رجع إلى ملك الموكَل رجوعاً جديداً، فلا يستفيد الوكيل التصرف في هذا الملك الجديد.
ولو أذن للوكيل في بيع عبده بشرط الخيار للمشتري، فباعه وشرط الخيارَ، ففسخ المشتري البيع، فهل يجوز للوكيل أن يبيعه ثانياً؛ فعلى وجهين مشهورين قرَّبهما القفال من القولين في أن البيع بشرط الخيار هل يوجب نقلَ الملك. فإن قلنا: انتقل الملك إلى المشتري، فالأشبه أن لا يبيع الوكيل مرة أخرى. وإن قلنا: الملك للموكل، فيجوز أن يبيعه الوكيل ثانياً؛ فإن هذا ذلك الملك بعينه، فلا يبعد أن يدوم الإذن إلى أن يتفق نقل الملك. والمسألة محتملة على القولينِ.
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) سقط ما بين القوسين من: (ص) ، (ت 2) .(5/509)
فرع:
3443- إذا اشترى الرجل عبداً، ثم بان له أنه ابنه، صح العقد، ونفذ العتقُ، ولا مردّ له.
وإذا عسر ردُّ العتق، فلو اطلع على عيب قديم به رجع بالأرش.
ولو قال ولا عيب به للبائع: أغرمك شيئاً إذْ خسَّرتني، لم يغرمه؛ فإن العبد لا نقصان به.
فرع:
3444- إذا باع سمسماً على أن يكون الدهن مبيعاً والكسب للبائع، أو باع قطناً على أن الحليج هو المبيع والحب للبائع، فالبيع باطل؛ فإن المبيع ليس متعيناً على التحقيق ولا جزءاً شائعاً.
فرع:
3445- إذا قال: بعتك هذا على أن لا ثمن لي عليك، فقال: اشتريتُ وقبضه، فالذي قطع به الأئمة فسادُ البيع. ثم قالوا: لو تلف المقبوض في يد المشتري، ففي وجوب الضمان وجهان: أحدهما - الوجوب؛ لأنه مقبوض على حكم بيع فاسد. والثاني - لا يجب الضمان؛ لأن البائع رضي بحطِّه، وبنى الأمر عليه، فصار القبض قبض وديعة.
وذكر القاضي قولين في أن ما جرى هل يكون هبة صحيحة مملكة: أحدهما - أنه هبة؛ نظراً إلى القصد، ولا اعتبار بالخطأ في اللفظ.
والثاني - أن هذا ليس بهبة؛ فإن البيع ينافي في وضعه معنى الهبة، و [العقود] (1) لا تنعقد بالمقاصد، وإنما تنعقد بالألفاظ.
ولو قال: بعتك هذا، ولم يتعرض لنفي الثمن وإثباتِه، فقال المخاطب: قبلتُه، فلا يكون هذا تمليكاً وفاقاً. والأصح أن القبض المترتب عليهِ قبض ضمان؛ فإنه ليس مشتملاً على نفي الضمان.
ومن أصحابنا من خرّج الضمان في هذه الصورة على الخلاف المقدم، وسنذكر أمثلة لهذا في كتابِ الخلع، إن شاء الله عز وجل.
* * *
__________
(1) في الأصل، (ت 2) : والعقد.(5/510)
نهاية المطلب
في دراية المذهب
لإمام الحرمين
عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني
رحمه الله تعالى
(419-478هـ)
حققه وصنع فهارسه
أ. د/ عبد العظيم محمود الدّيب
الجزء السادس
السلم - الرهن - التفليس
الحجر - الصلح - الحوالة
دار المنهاج(6/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
الطبعة الأولى
1428 هـ-2007م
جميع الحقوق محفوظة للناشر(6/2)
تنبيهان
أولاً:
هذا الكتاب بينك وبينه ألف عام تقريباً، فإذا رأيت من ظواهر اللغة والأساليب غير مالوفك ومعهودك، فلا تحاول أن تحمل لغته على لغتك، ولا تسارع بحمل ذلك على الخطأ وسهو المحقق وتقصيره، فهذه هي لغة عصرهم، وهذا أسلوبهم، وهو صحيح سليم، وإن لم يعد مألوفاً لدينا ومستعملاً عندنا ولا جارياً على ألسنتنا.
ثانياً:
إبراءً للذمة، وخروجاً عن العهدة ننبه:
أن برنامج الصف استحال عليه كتابة الهمزة المتطرفة المكسور ما قبلها على الياء، مثل: قارئ، تجزئ، فتنبه لذلك.(6/3)
والموقف الأعظم على العلماء استعمال ما يجمعونه في آحاد الوقائع إذا بلوا بها، وكان شيخي يشبه هذا بجمع الجامع العلوم المخصوصة بفن الطب، وهو هيِّنٌ على صاحب القريحة والجد، وإذا أراد استعمال ما جمعه في معالجة الأشخاص عظم الأمر عليه فيها.
الإمام
في نهاية المطلب(6/4)
كتاب السلم
بَابُ السَّلفِ والنهي عن بيع ما ليسَ عندك
3446- الأصل في السلم الكتابُ والسنة والإجماع. فأما الكتاب فآية المداينات: قال ابن عباس في تفسير الآية: أشهد بالله أن السلف (1) المضمون إلى أجلٍ مسمى أحلّه الله وأذن فيه، وتلا هذه الآية (2) . وروى ابنُ عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المدينة، فوجدهم يسلفون في التمر السنة، وربما قال السنتين، والثلاث. فقال عليه السلام: " من أسلف، فليسلف في كليلٍ معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم " (3) . والإجماع منعقد على صحة السلم.
والسلم والسلف اسمان للعقد الذي قُصد في هذا الكتاب بيان أحكامه. وذكر الأصحاب عبارتين مشعرتين بمقصود السلم: إحداهما- أنه عقد على موصوف في الذمة ببدل يعطَى عاجلاً. والثانية- أنه عقد يفتقر إلى بذل ما يُستَحَق تسليمه عاجلاً في مقابلة ما لا يستحق تسليمه عاجلاً. وقال أبو حنيفة (4) : بدل عاجل في آجل.
واللقب الخاص للعقد السلمُ. والسلف يستعمل فيه وفي القرض.
ثم قال الأئمة في توطئة الكتاب: السلم يستند إلى سبعة شرائط: شرطان في رأس المال. وخمسة في المسلم فيه: أحدها- أن يكون ديناً في الذمة. والثاني - أن يكون موصوفاً بالصفات التي تختلف بها الأثمان والأعواض. والثالث- أن يكون معلوم
__________
(1) ساقطة من (ص) ، (ت 2) .
(2) المراد آية الدين [البقرة: 282] وانظر الدر المنثور: 1/ 370.
(3) متفق عليه من حديث ابن عباس. (ر. اللؤلؤ والمرجان: 392 ح 1034) .
(4) ر. المبسوط: 12/ 124.(6/5)
القدر إن كان مما يقدّر. والرابع- أن يكون عامَّ الوجود عند المحل. والخامس- تعيين مكان التسليم على أحد القولين. وكل ما ذكرناه تراجم ستأتي مفصلة في مواضعها، إن شاء الله تعالى.
3447- ثم مما يجب الاعتناء به أن لفظ السلم له أثر في العقد، ومتضمنه أن يكون المطلوب ديناً؛ فإن العين لا تسمى سلماً. وأما استحقاق تسليم رأس المال في المجلس، فلا يتلقى من اللفظ، وإنما هو يعتدّ بمثابة التعبد برعاية التقابض في بدلي العقد في الصرف وما يلتحق به.
فلو قال الرجل: اشتريت منك طعاماً صفته كذا وكذا بهذا العبد، فقال: بعته منك بهذا. فهل يثبت حكم السَّلم؟ فعلى وجهين ذكرهما صَاحبُ التقريب وغيره: أحدهما - أنه يثبت حكم السلم من كل وجه، ويشترط فيه إقباض رأس المال في المجلس، ويمتنع الاعتياض عن المسلم فيه. والوجه الثاني - لا يثبت حكم السلم، ولا يجب تسليم الثمن المعيّن في المجلس. وعلى هذا الوجه في الاعتياض عن المسلم فيه تردّدٌ: فمن أصحابنا من خرّجه على قولين في جواز الاعتياض عن الثمن، وقد تقدم ذكرهما. ومنهم من قطع بمنع الاعتياض، وإن لم يُثبت للعقد حكم السلم؛ فإن الموصوف في الذمة مقصودُ الجنس، فكان كالمبيع المعيّن في كونه مقصودَ العين. والغالب على الأثمان قصدُ المالية لا قصدُ الجنسِ.
ومما يتعلق بالكلام على اللفظ أن الرجل إذا قال: أسلمت هذا الحمار أو هذا العبد في ثوبك هذا، وذكر لفظ السلم، ولم يف بحكمه وشرطه، فلا شك أن ما جاء به ليس بسلم. وهل ينعقد بيع العين بهذا اللفظ؟ فعلى قولين ذكرهما القاضي: أحدهما - لا ينعقد اعتباراً باللفظِ، والثاني - ينعقد نظراً إلى المعنى، وليس البيع إلا تمليك مال بمال يتواجب بين المتعاقدين. وهذا أصلٌ طرده القاضي. والمسألة التي ذكرناها في آخر البيع من حمل البيع المقيد بنفي الثمن على الهبة أبعد عما ذكرناه الآن.
وحاصل الأصل راجع إلى أن الاعتبار بما يفهمه المتعاقدان من اللفظ، أو بمعنى
اللفظ في وضعه.(6/6)
فصل
قال: " وقد أذن الله تعالى في الرهن والسلم ... إلى آخره " (1) .
3448- هذا وإن كان من كتاب الرهن، فلا بد من ذكره؛ إذ ذكره الشافعي- رحمة الله عليه- فالرهن بالمسلم فيه جائز، وإذا ثبت بتفسير ابن عباس أن الدين المذكور في آية المداينات هو السلم، وقد قرنه الله تعالى بالرُّهُن المقبوضة، فينبغي أن يتوثق مستحق السَّلم بالرهن [أو] (2) الحَميل. أمّا الرهن، فغرضه الأظهر الوثيقةُ، فإذا حل السلم وامتنع المسلم إليه، واستمكن المرتهن من إثبات حقه في مجلس القاضي، تولى القاضي بيع الرهن في حقّه.
وإن لم يتمكن من إثبات حقه، فلأصحابنا طريقان: منهم من قطع بتسليط المرتهن على بيع الرهن عند العجز عن التوصّل إلى ذلك بالحكم والقضاء. ومنهم من خرّج ذلك على ما إذا ظفر الإنسان بمال من عليه الحق. وفيه تفصيل سيأتي في موضعه، إن شاء الله تعالى. وإن كان بالمسْلم فيه (3) حَميلٌ (4) ، طالبه المسلِمُ [بحقه] (5) بالمحل، فإذا أدّاه وكان ضمن بالإذن، رجع على المضمون عنه. على تفصيلٍ يشتمل على خلافٍ ووفاقٍ في المسائل. وإذا ثبت له الرجوع، نُظر (6) في المضمون. فإن كان مثلياً، رجع بمثل ما ضمن، وإن كان من ذوات القيم، فيرجع بالقيمة أو بالمثل، فعلى وجهين كالوجهين في القرض؛ فإن الضامن في حكم المقرض للمضمون عنه ما يرجع به عليه، وهذا بيّن.
قال القاضي: ولو قال أحد من في السفينة لصاحبه: ألق متاعك في البحر، فإذا
__________
(1) ر. المختصر:2/206.
(2) في الأصل: والحميل.
(3) في (ص) ، (ت 2) : إليه.
(4) الحميل: الكفيل.
(5) ساقطة من الأصل.
(6) في (ص) ، (ت 2) : رجع.(6/7)
ألقاه وكان مثلياً، ضمن المستدعي مثلَه. على تفصيل يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
وإن كان من ذوات القيم، فيضمن له القيمة أو المثل، فعلى الخلاف المذكور في القرض. وهذا فيه احتمال؛ من جهة أنه ليس بإقراضٍ على الحقيقة. وإنما هو استدعاء إتلافٍ لمصلحة. وهو قريب من تعاطي المضطر أكل طعام الغير، فالغالب على الظن أن القاضي يسلم القطعَ في ذلك بالرجوع إلى القيمة إذا كان المتلفُ من ذوات القيم.
فصل
قال: " وإذا جاز السَّلف في التمر السنين ... إلى آخره " (1) .
3449- يجوز السلم في المنقطع حالة العقد عندنا إذا كان يغلب على الظن عمومُ وجوده عند المحل. وشرط أبو حنيفة (2) أن يكون الجنس المسلمُ فيه موجوداً حالة العقد، وشرط ألا يكون مما ينقطع بين العقد والمحل.
واحتج الشافعي عليه بما رواه ابن عباس: " أن أهل المدينة كانوا يسلفون في التمر السنة والسنتين ". ولا يكاد يخفى أن من أسلف في التمر سنتين، فالتمر ينقطع في الأثناء. ومعنى المذهب مذكور في (الأساليب) .
وإذا أسلم في شيءٍ ببلد، وكان لا يوجد مثله في ذلك البلد، ويوجد فيما عداه من البلاد والقرى، فإن كان البلد الذي يعم وجود المسلم فيه قريباً من بلد العقد، صحَّ. وإن كان بعيداً، لم يصح.
3450- ثم قال الأئمة: لا يعتبر فيما أطلقناه من القرب والبعد مسافةُ القصر والقصورُ عنها.
__________
(1) ر. المختصر:2/206.
(2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/ مسألة: 1075، طريقة الخلاف: 346 مسالة: 145، البدائع: 5/ 211.(6/8)
وهذا مما يجب الاعتناء فيه بتقريب مأخذ يخرجه عن عماية الإجمال؛ فإن القول في مثله ينتشر. ولا ضبطَ في قول القائل: إن كان بحيث يشق النقل لم يصح السلم، وإن كان بحيث لا يشق النقل يصح.
وقد يقرب في هذا أن يقول: إن جرت العادة بنقل ذلك الجنس إلى ذلك البلد، يجوز (1) ؛ فالمسلم فيه مقدور على تسليمه. وإن كان ذلك لا يعتاد، فهو ملتحق بما لا يقدر عليه. ولا اعتبار بما ينقله آحاد الناس للتحف. وإنما الاعتبار بما ينقل لأغراض المعاملة.
وهذا لا بأس به، وإن (2) قيل: المتبع هو الذي يلقى متحمِّلُ النقل مشقةً ظاهرة خارجة عن اعتياد النقل.
وقد أجرى الشافعي في هذا لفظاً، فليتأمله الناظر، فقال: " هو كما لو أسلم في رطب البصرة، وبلد المسلم من بلاد خُراسان ". وهذا سرف في تصوير التعذّر، وهو يحصل بدون هذا.
وبالجملة السلم عقد إرفاق من الجانبين، والمحكَّم فيما ينتشر من أحكامِ المعاملة العرفُ، فكل مشقة لا يبعد في غرض المعاملة أن تحتمل لاستعمال رأس المال، فتلك المشقة لا تقدح في صحة السَّلم، وكل مشقة لا تحتمل في أغراض التعامل، فلا يبتنى جواز العقد عليها. وليس للفقيه أن يصور غرضنا وراء المعاملة، مثل أن يتفق تضييق وإرهاق في مصادرة وحاجةٍ حاقة في الرضا بمقاساة الكُلف للتجارة من الضرورة الناجزة. فلا اعتبار بأمثال هذه الأحوال.
ويمكن أن يقال: سبيل الضبط أو القرب منه أنّ النقل إذا كان يُلحق المنقولَ بما لا يعم إمكان الوصول إليه، فهو من المتعذر الذي لا يجوز السلم فيه.
وهذه العبارات تُشير إلى تقريب واحد.
__________
(1) عبارة (ص) : بنقل ذلك الجنس في السلم يجوز، والمسلم فيه مقدور على تسليمه.
وعبارة (ت 2) : ينقل ذلك الجنس إلى ذلك البلد، فالمسلم فيه مقدور على تسليمه.
(2) جواب الشرط مفهوم من الكلام قبله.(6/9)
فصل
قال: " فإن نفد الرطب أو العنب حتى لا يبقى منه شيء ... إلى آخره " (1) .
3451- مقصود الفصل ذكر حكم انقطاع جنس المسلم فيه، والوجه أن نبدأ
بالحكم، ونُجري فيه ما يليق، ثم نذكر دقيقةً في معنى الانقطاع.
فإذا انقطع جنس المسلم فيه حالة المحل لآفةٍ أو جائحةٍ، فللشافعي قولان: أحدهما - أن العقد ينفسخ. والثاني - أنه لا ينفسخ. ولكن للمسلم حق الخيار في الفسخ، وله الانتظار إن أراد إلى زمان الإمكان.
3452- توجيه القولين: من قال بانفساخ العقد احتج بأن عقد السَّلم تناول ثمرةَ السنة المعينة، فإذا انقطعت، فقد فات المعقود عليه، وكان هذا بمثابة ما لو اشترى قفيزاً من صُبرة، ثم تلفت الصبرة، فالعقد ينفسخ.
ومن قال بالقول الثاني، احتج بأن المسلم فيه دين، والدين متعلق بالذمة، ولا اختصاص له بوقتٍ وزمان، وأما الآجال (2) لإثبات أوقات المطالبات. ولعل القياسَ هذا القول. ثم انقطاع الجنس في وقت المحل يضاهي إباق العبد المبيع عن يد البائع، فالبيع لا ينفسخ بإباقه، ولكن يثبت الخيار للمشتري، كذلك يثبت الخيار في مسألتنا للمسلم، فإن فسخ العقد، فذاك، وإن رأى إنظار المسلم إليه إلى قابل، فله ذلك.
ثم قال الأصحاب: إذا أنظرة، ثم بدا له أن يفسخ، فله ذلك. وقد وجدت الطرق متفقة في هذا.
وشبه الأصحاب هذا برضا المرأة بالمُقام تحت زوجها المُولي بعد انقضاء مدة
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 206. وعبارة المختصر الذي بأيدينا: " وإن فُقد الرطب أو العنب ... ".
(2) سقوط الفاء من جواب أما وارد في غير ضرورة الشعر، وهو مذهب الكوفيين. وله شواهد من
الحديث الشريف، (ر. شواهد التوضيح والتصحيح لابن مالك: 195، 196) .(6/10)
الإيلاء، فإذا هي رضيت بعد توجه المطالبة بالمُقام، ثم ندمت، وأرادت رفع زوجها إلى مجلس الحاكم، فلها ذلك. وهذا تشبيه مسألة بمسألةٍ.
والمعنى المعتمد أن الإنظار -في التحقيق- تأجيلٌ والأجل لا يلحق بعد لزوم العقد، وإذا لم يلحق الأجل، لغا الإنظار.
وكان شيخي يقول: حقه في الطلب يتجدد حالاً على حالٍ، ورضاه ينحصر على وقته. وهذا في قبيل إسقاط الحقوق يضاهى الإعارة في قبيل التسليط على الانتفاع.
وكان يقطع بهذا المسلك في الخيار الذي ثبت للمشتري عند إباق العبد.
فإن قيل: أليس الإباق من قبيل العيوب التي يثبت الرد بها، ومن رضي بالعيب، لم ينفعه الندم، ولم يملك الرجوع؟ قلنا: اعتياد الإباق عيب، واتفاق الإباق لا يُلحق بالعيوب. ثم غرضنا لا يختص بهذا. ولو غصب غاصبٌ ذلك العبد وعيّبه، فغرضنا يحصل فيه.
ومما يتعلق بهذا الفن أن المشتري في العبد الآبق: لو قال أبطلت حقي من الفسخ، فالمذهب أن حقه لا يبطل وإن صرح به. وكذلك القول في السَّلم إذا صرح بإبطال حقه من الفسخ. والتفريع على أن السلم لا ينفسخ.
وقد أبعد بعض أصحابنا؛ فقال عن عجز وخَوَر: " يبطل حق الفسخ؛ فإن مستحق الحق أبطله ". وإن كان يخرج هذا على أصلٍ، فأقرب الأمور إليه الإبراء عما سيكون وقد ثبت سبب وجوبه.
3453- فانتظم من مجموع ما ذكرناه أن هذا النوع من الفسخ لا يُبطله التأخير، ولا يُبطله بذلُ اللسان بالإنظار من غير تصريح بإبطال خيار الفسخ. وإن فرض التصريح، فهو على التردد الذي ذكرناه، فإن حكمنا بالانفساخ، أو فسخ المسلِم (1) على القول الصحيح ونفذ فسخه، نظرنا إلى رأس المال: فإن كان معيناً في ابتداء العقد وعينُه باقٍ، فيسترده الفاسخ. وإن كان تالفاً، يرجع إلى بدله، فإن كان مثلياً، فالمثل. وإن كان متقوماً، فالقيمة.
__________
(1) في (ت 2) : السلم.(6/11)
وليس هذا بمثابة إفلاس المشتري بالثمن والمبيع تالف؛ فإن البائع لا يملك فسخ البيع والرجوعَ بقيمة المبيع. كما سيأتي مفصلاً مشروحاً في كتاب التفليسِ إن شاء الله تعالى.
والسَّبب فيه أن غرض البائع الانفراد بالمبيع (1) ، والخروج عن جهة (2) المضاربة ولو فسخ البيع تقديراً ورجع (3) بالقيمة، لضارب بها (4) . وسيعود هذا في مواضعه. فليكتف الناظر بالمرامز إذا أحلناه.
3454- ولو كان رأس المال موصوفاً في الذمة أولاً، ثم عُجل في المجلسِ، فإذا
تسلمه المسلم إليه، وكان عينه باقياً في يده، فهل يُسترد؟ أم للمسلم إليهِ أن يأتي
ببدله؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يتعين استرداد ذلك المقبوض؛ فإنه لما عُين
بالإقباض آخراً، كان كالمعين أولاً. والثاني - لا يتعين؛ لأن العقد لم يتناول تلك
الأعيان.
وأصل هذا الخلاف أن المسلم لو ردّ المسلمَ فيه بعيب، وقال: ليس على
الوصف الذي أستحقه، فهل يجعل ذلك نقضاً (5) للملك من الأصل تبيناً، أو هو نقضٌ
في الحال؟ فيه اختلافٌ قدمناهُ، وعليه بنينا وجوبَ الاستبراء على المسلَم إليه إذا كان
المردود جارية.
فإن قلنا: ما يجري من ذلك في الموصوفات يتضمن رفع الملك من أصله، فعلى
المسلم إليه وقد فسخ السلم ردُّ عين ما قبضه. وإن قلنا: يتضمن نقض الملك في
الحال، فللمسلم إليه الإبدال. وهذا بيّنٌ للمتأمل.
__________
(1) في (ص) ، (ت 2) : البيع.
(2) في (ص) ، (ت 2) : رحمة.
(3) في (ص) : فرجع.
(4) أىِ " لضارب بها " مع الغرماء، بمعنى أنه يضارب بسهم يساوي القيمة، منسوبةً إلى مجموع ديون الغرماء، ثم إلى ما يساوي هذا السهم من أموال المفلس عند بيعها وفاءً لديون غرمائه.
(5) في النسخ الثلاث: نقصاً. (بالصاد المهملة) .(6/12)
3455- وإذا انتهى الكلام إلى هذا، فنذكر ما فيه من مزيد، فنقول: أجمع أئمتنا على أن المتعاقدين لو تبايعا الدراهم بالدنانير وصفاً، ثم عجلا في المجلس، وتفرقا عن تقابض، صح ذلك وإن اعتمد العقد في ابتدائه الذمة من الجانبين، وهل يصح العقد على هذا الوجه بعبارة السلم؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ أبو علي في الشرح. وهذا مأخوذ من خلاف للأصحاب سنذكره في أن السلم هل يصح في الدراهم والدنانير إذا كان رأس المال ثوباً، أو غيره؟
ولو اشتمل العقد على عوضين من أموال الربا يشترط التقابض فيهما، كالمطعومات يباع بعضها بالبعض، فلا بد من التقابض في المجلس.
فلو وصفا في الشقين، ثم عجلا، وجرى التقابض كما ذكرنا في الدراهم والدنانير، ففي صحة ذلك وجهان مشهوران: أحدهما - الصحة كالنقود، والثاني - لا يصح؛ فإن الوصف يطول في العروض، وتعيين الدراهم يقرب من وصفه، ولهذا يكتفى في النقود الغالبة بالإطلاق من غير وصف، والقياس أن لا فرق؛ فإن الوصف وإن كان يطول، فإذا ذكر، فهو كالوصف الذي يقرب ولا يطول.
ويتصل بهذا أنه لو استحق على رجل ديناً مستقراً، ثم اعتاض عنه دراهم معينة، صحَّ. ولو اعتاض دراهم موصوفةً، ثم عجلها في المجلس، صح. فإن لم يعجلها في المجلس نُظر: فإن كان الدين نقداً، لم يجز. وإن كان الدين عَرْضاً، ففي المسألة خلاف قدمناه في كتاب البيع.
وغرضنا الآن أنا حيث نشترط التعجيل في المجلس يجوز الاعتماد [في أصل العقد] (1) على الوصف في الدراهم، وهل يجوز الاعتماد على الوصف في العروض على أن تعجل في المجلس؟ فعلى وجهين. وهذا بعينه هو الذي قدمناه.
3456- ومما يتعلق بأطراف الكلام أن المسلم إذا فسخ السَّلم، فإن كان رأس المال قائماً، فيجوز الاستبدال عنه قبل القبض؛ لأنه وإن كان مضموناً، فليس هو ضمان مقابلة على التحقيق، وقد انفسخ العقد، والاستبدال عن الأعيان المضمونة بالقيم
__________
(1) زيادة من (ت 2) .(6/13)
جائز، كما مهدناه في البيع. ومنع أبو حنيفة (1) الاستبدال عمَّا في يد الغير على حكم العقد المفسوخ، وليس معه متعلق من طريق المعنى.
وكل ما ذكرناه فيه إذا تعذر الوصول إلى جميع المسلم فيه.
فأمَّا إذا فرض التعذر في بعضه، فالقول في الانفساخ وثبوت حق الفسخ في المقدار
المتعذر على ما تقدم، ثم يزداد في هذه الصورة تفريع تفريق الصفقة، وقد مضى في
موضعه مفصلاً. فليعرف الفقيه الفصلَ بين أن يقبض الميسور ثم يطرأ التعذر وبين أن
يطرأ التعذّر قبل قبض الميسور، وليتذكر الفرقَ إذا قبض الميسور بين أن يتلف وبين أن
يكون باقياً.
ولا مزيد على ما مهدناه في قواعد التفريق.
وقد نجز الغرض في هذا.
3457- وبقي علينا ما وعدناه من فضل النظر في بيان معيى الانقطاع، فممّا نستعين به في هذا ما قدمنا في الفصل السابق من تفصيل القول في أن من أسلم في جنس وهو ببلدة لا يوجد ذلك الجنس بها، فهل يكون هذا من السلم في المنقطع حالة الحلول؟
وهذا قد تمهد على قرب العهد.
ونعود الآن فنقول:
إن تحقق انقطاع الجنس بالكلية بأن يسلم في جنس لا يوجد إلا في بلده، ثم اتفق
انقطاع ذلك الجنس في تلك السنة، هذا هو الانقطاع المحقق، الذي يجري فيه
القولان في الفسخ والانفساخ.
فأمّا إذا انقطع الجنس في تلك البلدة، وكان النقل إليه ممكناً على حدٍّ لو فرض السَّلم في البلد، لعُد المسلم فيه بتقدير النقل من الممكنات، فهذا ليس بأنقطاع.
وإن كان النقل عسراً، بحيث يمتنع السلم، نُظر: فإن كان لا يتصوّر أصلاً، مثل أن يكون المسلم فيه جنساً لو نقل من مسافة شاسعة، لفسد، فهذا انقطاع أيضاً.
وإن كان النقل ممكناً على عسر، فالأصح القطع بأن السلم لا ينفسخ،
__________
(1) بدائع الصنائع: 5/ 233 وما بعدها.(6/14)
[فإن] (1) قول الانفساخ إنما يجري إذا جعل ثمن السنة مع إضافة المستحق إليها بمثابة صُبرة بيع صاع منها.
فأما إذا كان الإحضار ممكناً على عسر، فهو كإباق العبد إذا طرأ، فيثبت خيار الفسخ، وإن كان يمتنع إيراد العقد عليه.
ومن أصحابنا من يجعل التعذر الذي يمتنع بسببه السلم ابتداء إذا طرأ بمثابة الانقطاع
الحقيقي، حتى [يُخرّج] (2) قولَ الانفساخ. وهذا القائل يزعم أن التعذر في عقد الغرر
كالتلف الحقيقي، وبه يتوجه قول الانفساخ في أصله، مع أن المسلم فيه دينٌ.
3458- ومما يتعلق بتمام البيان في هذا الفصل أنه إذا أسلم في جنس يعم وجوده
غالباً عند المحل، فاتفق انقطاع الجنس قبل المحل على وجه يعلم أن الانقطاع يدوم
في السنة. قال القاضي: في المسألة قولان: أحدهما - أنه لا ينفسخ العقد في الحال
على قول الانفساخ، ولا يثبت الخيار على قول الخيار، حتى يحل الأجل. فإذا
حل، فإذ ذاك يجيء القولان. والقول الثاني - أنه يتنجز قبل المحل ما ثبت عند
الحلول. قال: وهذا يقرب من خلاف في الأيمان، وإن كان مأخذ الأيمان يبعد عن
مأخذ الأحكام. وذلك الأصل هو أن من حلف ليأكلن هذا الطعام غداً، فتلف الطعام قبل دخول الغد، فهل يحنث في الحال؟ أم يتأخر الحنث إلى مجيء الغد؟ فيه خلاف سيأتي ذكره، ووجه الشبه بيّن.
فصل
قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم حكيماً عن بيع ما ليس عنده، وأجاز السلف ... إلى آخره " (3) .
3459- غرض الشافعي رحمه الله- الكلام على حديث حكيم بن حزام، وعلى الأخبار الدالة على السلم، ولم يقصد نقلَ إجازة السَّلف، مع قول رسول الله صلى الله
__________
(1) في الأصل، (ص) : وإن.
(2) في الأصل: يجري.
(3) ر. المختصر: 2/206.(6/15)
عليه وسلم في متن حديث واحد، ثم لا يخفى وجه الكلام، فالذي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم حكيماً عنه في بيع الأعيان من غير تقدير وصفٍ والتزامٍ في الذمة، وفي حديث حكيم ما ينبه على هذا؛ فإنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الرجل ليأتيني فيساومني السلعة وليست عندي، فأبيعها منه، ثم أدخل السوق، فأشتريها وأسلمها إليه. فقال عليه السلام: " يا حكيم لا تبع ما ليس عندك " (1) .
فصل
قال: " وإذا أجازه صلى الله عليه وسلم بصفةٍ مضموناً إلى أجل، كان حالاً أجوزَ، ومن الغرر أَبْعَدَ ... إلى آخره " (2) .
3460- السلم يفرض على ثلاثة أقسام: مؤجل- وهو جائز بالاتفاق. وحالٌّ مقيد بالحلول- وهو جائز عند الشافعي إذا كان المسلمُ فيه عامَّ الوجود حالة العقد، خلافاً لأبي حنيفة (3) ، ومعتمد المذهب أن الحلول لا يجرّ إلى العقد غرراً وعسراً، وإن أثر في قطع مَرفِق (4) ، فمسوّغٌ تسويغ الرخص، معلقاً بغرر، فإذا وقع التراضي على حذفه لم يضر.
وأما التأجيل في الكتابة فمستَحق، واعتمد بعض الأصحاب فيه تحققَ عجز المكاتب عن الوفاء بحق الحلول، وهذا لست أرضاه؛ لما سأذكره في الكتابة إن
__________
(1) حديث: " لا تبع ما ليس عندك " رواه أحمد: 3/ 202، 434، وأبو داود: بيوع، باب في الرجل يبيع ما ليس عنده، ح 3503، والترمذي: بيوع، باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عنده، ح 1232، والنسائي: بيوع، باب بيع ما ليس عند البائع، ح 4613، وابن ماجه: التجارات، باب النهي عن بيع ما ليس عندك، ح 2187، وابن حبان: 7/ 228 ح 4962.
وانظر التلخيص: 3/ 9 ح 1127.
(2) ر. المختصر:2/206، 207.
(3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/ 6 مسألة 1069، والأصل: 5/ 2، ومختصر الطحاوي: 86، ورؤوس المسائل: 298 مسالة: 187.
(4) مرفق: بفتح الميم وكسرها. والمرفق ما يرتفق به وينتفع ويستعان. (معجم) ، والمراد هنا مَرْفِق التأجيل.(6/16)
شاء الله تعالى. والمعتمد أن الكتابة حائدة عن قوانين المعاملات، وحيْدُها محتملٌ لمكان رِفق، فإذا زال الرِّفق، فارق العقدُ موردَه الشرعي، والسلم موضوع على مصالح المتعاملين، وليس نائياً نأيَ الكتابة.
فأما القسم الثالث من السلم- فهو ما يفرض مطلقاً من غير تعرض لأجل أو حلولٍ، وقد اشتهر خلاف الأصحاب فيه، فذهب بعضهم إلى أن العقد لا يصح؛ فإن المطلق في العقود محمول على العادة، وللعادة وقعٌ عظيم في المعاملات، وقد عم العرف بتأجيل المسلم فيه، فالمطلق يحمل على الأجل، فإذا لم يبيّن، كان مجهولاً.
والأقيس الحكم بصحة السَّلم؛ فإن الإطلاق مشعر بالحلول في وضعه، فإنّه يتضمن الالتزام، وكل ملتزِم مطالَب، وعليه بنينا حملَ الأجرة على الحلول في الإجارة المطلقة.
فصل
قال المزني: " والذي اختاره الشافعي أن لا يسلف جزافاً من ثياب ولا غيرها ... إلى آخره " (1) .
3461- مقصود الفصل الكلامُ فيما يصح أن يكون رأس مالٍ، فنقول: إذا كان رأس المال مشاراً إليه، ولكن كان جزافاً، ففي صحة السلم قولان: أحدهما - وهو الأقيس الصحة، وهو اختيار المزني، ووجهه أن المعيّن المشار إليه معلوم في عقود [المعاوضات] (2) ، والإشارة مغنيةٌ عن القدر والوصف، إذا لم يكن علينا تعبد في رعاية المماثلة، ولم يكن على العاقد نظر في جهة الغبطة لطفل أو غيره ممن يليه، وهذا قياسٌ ظاهر.
والقول الثاني - أنه لا بد من معرفة القدر والوصف، كما في المسلم فيه، والسلم
__________
(1) ر. المختصر:2/207.
(2) في الأصل: المعاملات.(6/17)
عقد غرر، وقد يفرض فيه فسخ أو انفساخ، ثم تمس الحاجةُ إلى رجوع رأس المال، وينتظم منه نزاع يعسر فصله، والذي يليق بالحال أن العقد إذا كان مبناه على احتمالِ غررٍ لمكان غرض، فينبغي أن يُتوقَّى من الغرر الذي لا يقتضيه ذلك المرفق. ورأس المال إذا لم يقدّر بهذه المثابة.
قال المحققون: اختلاف القول في هذا يقرب من اختلاف القول في الجمع في صفقة واحدة بين سلمٍ وبيع، ووجه الشبه أنا نقدر تطرق الفسخ إلى أحدِ العقدين دون الثاني، ثم يفضي القول فيه إلى نزاع عند محاولة التوزيع في الفسخ والإبقاء، فينبغي أن يبعد السلم من هذا، ولا يكتفَى بحصول العلم والإحاطة في الحال.
ثم نحن في طرد القولين لا نفصل بين المكيل والموزون، وبين ما ليس كذلك. فلو جعل رأس المال ثوباً غيرَ معلوم الذُّرعان. اطرد القولان. وأبو حنيفة (1) يفصل بين المقدور وغيره، فيُبطل السلمَ إذا ترك تقدير ما يقبل التقدير، ولا يبالي بتطرق الجهالة إلى الثياب وغيرها إذا جعلت رأس مال.
وهذا تحكّم؛ فإن التقدير فيما يقبل التقدير إنما يطلب لما فيه من الإعلام المنافي للجهالة، والجهالة هي المحذورة في عاقبة السَّلم، فإذا تحققت في الثيابِ، كانت كما لو تحققت بترك المقدار فيما يقبل [التقدير] (2) .
ومما يتصل بهذا أَنَّ رأس المال إذا أحيط بصفاته بطريق العِيان، ولكن كان مجهول القيمة عند المتعاقدَيْن أو عند أحدهما، فالذي ذهب إليه الأكثرون القطعُ بصحة السلم. وقال آخرون: الجهل بالقيمة يتضمن تخريج المسألة على قولين؛ فإن التوزيع يقع باعتبارها. والتراجع يكون بحسبها.
3462- ولو كان العوض جزافاً في الإجارة، فلأصحابنا طريقان: منهم من أجراه مجرى رأس المال في السلم، حتى يخرّج على القولين. وليس عوضُ الإجارة عند
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/ 8 مسألة 1073.
(2) في الأصل، (ص) : المقدار.(6/18)
هذا القائل كعوض البيع؛ فإن الإجارة لا ثبات لها إلى انقضاء مدتها؛ فإن الدار إذا سلمت، لم ينقطع غررُ الإجارة؛ إذ هي عرضةُ الانفساخ إذا تلفت الدار في أثناء المدة، ولو عابت في يد المستأجر، تعرضت الإجارة لخيار الفسخ، فشابهت الإجارةُ السلمَ فيما ذكرناه؛ لكنها تفارقه في أن التسليم في عوضها ليس شرطاً.
ومن أصحابنا من قطع بأن الأجرة في الإجارة على قياس العوض في البيع. والإجارة لا تعد من عقود الغرر، وتقدير التعذر في مقصودها ليس كتقدير التعذر في السلم.
3463- ولو كان السلم حالاًّ، فمن أئمتنا من قطع بأن رأس المال لو كان جزافاً فيه، جاز، وإنما القولان في السلم المؤجل؛ فإنه المعرض للخطر، والسلم الحال تعامل على ناجز. وهذا اختيار القاضي.
ومن أئمتنا من قال: لا فرق بين السلم الحال والمؤجل في تخريج المسألة على قولين إذا كان رأسُ المال جزافاً.
3464- ولو كان رأس المال دُرّة لا يصح السلم فيها، فضبطها بالوصف غير ممكنٍ. وإذا انضم إلى ذلك كونها مجهولة القيمة. فهذا من صور القولين إذا كان السلم مؤجلاً، وإن كانت قيمتها معلومة، فيعتبر ضبط وصفها. فإن حَرَصا على ذكر الوصف، فالأصح صحة السلم. فإن قيل: لم يمتنع السلم فيها مع إمكان وصفها؟ قلنا: لعزة وجودها، وقد ذكرنا أن الشرط في المسلم فيه عموم الوجود، ولا معنى لاشتراط هذا في رأس المال.
وقال بعض أصحابنا: كل ما لا يصح السلم فيه لا يصح جعله رأس مالٍ على أحد القولين. ومثل هذا وإن ذكر في الكتب محمول عندي على ما إذا لم يطلع على وصفه أو قيمته، غير أن معظم الناس لا يعتنون بنهايات البيان، وإذا فصل مفصل، كان ظاهر تفصيله مخالفاً لإطلاق الأولين، ولا مخالفة.(6/19)
فصل
3465- قال: " والذي أحتج به في تجويز السلم في الحيوان ... إلى آخره" (1) . السلم في الحيوان جائز عند الشافعي، ولا يشك الفقيه أنه لا يجوز السلم في كل حيوان، فإنه ما من جنسٍ يطلق القول بجواز السلم فيه إلا وفيه ما يمتنع السلم فيه على ما سنصفه الآن.
والمرعي فيما يجوز السلم فيه أن يكون قابلاً للوصف المعتبر. عامَّ الوجود على الوصف المعتبر، والقول في الوصف المعتبر لم يعتنَ بضبطه على ما ينبغي، والذي أراه أن نذكر مسائل السَّلم على ترتيب السواد (2) ، ونورد في كل مسألة ما يليق بها. ثم نختم المسائل. ونعطفُ عليها ما يضبط القول في الوصف المعتبر.
ففي الحيوانات ما [تضبطه] (3) الأوصافُ المقصودة، مع بقاء عموم الوجود. ثم استدل الشافعي على جواز السلم في الحيوان بأخبار وردت في استقراض الحيوان، وعلم الشافعي أن المخالف في السلم في الحيوان يخالف في استقراضه. ومبنى مسائل السلم على ذكر ما يجوز السَّلم فيه وما لا يجوز على الجملة، حتى إذا انتجز الكلام في الجمل، انعطف الشافعي على ما أجمله، وذكر مجامع الوصف في كل فن.
وكنت أوثر أن أجمع مسائلها في تقاسيم ضابطة، ولكن الجريان على ترتيب السواد أولى.
__________
(1) ر. المختصر: 2/257.
(2) السواد: المراد به مختصر المزني، فلفظ السواد يعني هنا: الأصل، أو المتن. ويتردّد في كلام الأئمة الماضين وكتبهم بهذا المعنى كثيراً.
(3) في الأصل: تضبط.(6/20)
فصل
3466- أجمع الأئمة على أن الاعتياض عن المسلم فيه لا يجوز؛ فإنه وإن كان موصوفاً، فهو كالبيع في كونه مقصوداً، وإذا امتنع التصرف في المبيع قبل القبض مع فرض توفير الثمن، فالمسلم فيه وهو في الذمة لم يتحصل بعدُ، بذلك (1) أولى.
وذكرنا في الاعتياض عن الأثمان قولين في كتاب البيوع.
وغرض هذا الفصل أن النقد إن التحق به باءُ الثمنية، فهو ثمن، وفي الاعتياضِ
عنه القولان. وإن اتصل باءُ الثمنية بثوبٍ أو غيرِه، فقد ذكرنا في مسائل البيع خلافاً في
أنه هل يكون ثمناً. فلو قال: اشتريت منك عشرة دنانير -ووصفها- بهذا الثوب،
وقد اتصل باء الثمن بالثوب، وأقيم النقد على هذه الصيغة مقام المثمن. فإن قلنا: الدراهم ثمنٌ كيف أثبتت في العقد، فيجوز الاعتياض عنه على أحد القولين في هذه الصورة.
وإن قلنا: الثمن ما اتصل به باء التثمين، فالثوب ثمن. ولا يجوز الاعتياض عن الدراهم قولاً واحداً. وإذا منعنا الاعتياض على هذا الترتيب، فهل يجب تسليم الثوب في المجلس؟ فعلى وجهين، قدمنا أصلَهما. فإن اتبعنا المعنى، فالعقد سلمٌ، وإن اتبعنا اللفظ، فلم يجر لفظ السلم. فلا يجب التسليم في المجلس.
وممّا يتعلق بهذا الفصل أن الفلوس إذا جرت في بعض البلاد وراجت رواج النقود، فقد ذهب شرذمةٌ من الأصحاب إلى أنها تلتحق بالنقود في الأحكام. ومنهم من قال: ليس لها حكم النقود، وإنما هي كالأعواض الرائجة، وإن كسدت، فهي كالأعواض الكاسدة.
فإذا تبين هذا بنينا عليه أنه لو قال: اشتريت منك مائة فلس بهذا الثوب، فإن
قلنا: الفلوس من العُروض، فليس في الصفقة ما هو ثمن في جوهره. وإن قلنا:
الفلوس لها حكم النقود، فإذا قال: اشتريت منك مائة فلسٍ بهذا الثوب، فهو كما لو
__________
(1) في (ص) و (ت 2) : ذلك.(6/21)
قال: اشتريت منك مائة درهم بهذا الثوب. وقد سبق الكلام فيه.
وإذا كسدت الفلوس فنادى منادي السلطان بالنهي عن التعامل عليها، فتنقلب إذ ذاك عروضاً بلا خلاف.
ثم جعل أبو حنيفة (1) كساد الفلوس بمثابة تعذر تسليم المعقود عليه. واضطربوا وراء هذا، قال منهم قائلون: هو كتلف المعقود عليه. وقال آخرون: هو كإباق العبد. واضطربوا على وجوه في الفَلَس لسنا لها. ومأخذها ما ذكرناه. والمذهب أن الفلوس في جوهرها من العروض.
فصل
قال: " ولو لم يذكر أجلاً، فذكراه قبل أن يتفرقا، جاز ... إلى آخره " (2) .
3467- إذا عُقد السلم مطلقاً، وحكمنا بصحته حملاً على الحلول، وهو الأصح. فلو (3) أثبتا أجلاً في مجلس العقد، فظاهر النص أن الأجل يلحق، وهذا مشهور عند الأصحاب معدود من أصل المذهب.
وفي المسألة وجه آخر، أن الزوائد لا تلحق (4 في جواز العقد، كما لا تلحق 4) بعد لزومها. وهذا منقاس. وإن كان المشهور غيره.
وقد استقصينا القول في هذا في كتاب البيع.
3468- ولو ذكر المتعاقدان في السلم، أو في بيع الأعيان أجلاً مجهولاً في العوض الثابت في الذمة، ثم حذفا (5) تلك الجهالة في مجلس العقد، فالذي ذهب إليه الأصحاب أن الحذف لا ينفع، وفساد العقد مستمر. فإن أعاداه على الصحة، كان عقداً مبتدءاً.
__________
(1) ر. بدائع الصنائع: 5/ 237.
(2) ر. المختصر: 2/207.
(3) في (ص) ، (ت 2) : ولو.
(4) ما بين القوسين ساقط من (ص) ، (ت 2) .
(5) الحذف هنا بمعنى القطع، فمعنى " حذفا تلك الجهالة ": أي قطعا الجهالة بالتعيين.(6/22)
وذكر صاحب التقريب وجهاً غريباً حكاه، معظم الأصحاب عنه. وهو أنهما لو
حذفا الأجل المجهول في مجلس العقد، فهل ينحذف حتى يحكم بصحة العقد؟
واحتج عليه بأن [قال] (1) المتعاقدان في مجلس العقد بمثابتهما بين التواجب (2) ، فكأن
العقد لا قرار له ما لم يتفرقا.
وهذا الوجه مزيف لا يستقيم على قاعدة مذهب الشافعي؛ فإن المجلس إنما يتعلق به الحكم إذا صح العقد، وإذا ذكر في صيغته مفسدٌ، فلا عقد، وإذا لم يكن عقدٌ، فلا مجلس.
ثم تكلم أصحابنا على هذا الوجه الضعيف من وجهين: أحدهما - يتعلق بضبط القول في مجرى هذا الوجه وبيان الأحكام التي يجرى فيها هذا الوجه، والأحكام التي لا يجري فيها.
لا خلاف أن الثمن والمثمن لو أثبت أحدهما على الفساد، فلا ينفع إصلاحهما في مجلس العقد. وهذا الوجه جارٍ في الأصل كما ذكرناه.
واختلف أصحابنا في جريانه في الخيار الفاسد إذا شرط، والرهنِ والحَميل، وزوائدِ العقد: فمن أصحابنا من طرد هذا في جميع الزوائد التي تثبت على الفساد. والأصح تخصيص ما ذكرناه بالأجل؛ وسببه أن المتعاقدين في مجلس العقد على حكم الأجل في الثمن؛ من قِبَل أن البائع لا يملك مطالبة المشتري بالثمن في المجلس، وعاقبة المجلس مجهولة، فكان الأجل مجهولاً؛ فلم يبعد أن يصلح الأجل في مجلس الخيار، والكفيل والحميل ليسا في هذا المعنى، كالأجل. وأمّا شرط الخيار الزائد إذا حذف في المجلس، فهو أقرب إلى الأجل من الكفيل
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق. ومن عجب سقوطها من النسخ الثلاث. ويشهد لصحة تقديرنا اتفاق النسخ الثلاث على لفظ (المتعاقدان) بالألف بعد (أن) مما يشهد أنها بسكون النون، وليست (أن) المشددة. إلا إذا قلنا: إن الإمام جرى هنا على لغة من يلزم المثنى الألف في كل حال، وعلى هذا تكون زيادتنا لـ (قال) خطأ.
(2) يعني أنهما ما داما في مجلس العقد، فكأنهما ما زالا في مجال التخاوض والتفاوض، وإيجاب كل طرف على الآخر، ما يريده من العقد.(6/23)
والحميل؛ فإنه تأخيرٌ في لزوم العقد وليس كالأجل؛ فإنه يتصور رفعه على البت (1) .
والخيار يتصف به العقد. والأجل فُسحةٌ في عوض العقد.
والحاصل مما رتب في ذلك أن ما صار إليه الجمهور أن الفساد لا يصلح إلا باستئناف العقد.
وقال صاحب التقريب: فساد الأجل يصلح.
وقال غيره: نعم فساد الأجل يصلح، وكذلك فساد الرهن، والحَميل، والخيار.
وقال آخرون: لا يصلح إلاّ فسادُ الأجل والخيار.
فهذا ما تكلم الأصحاب فيه.
3469- ومما ذكروه تفريعاً على هذا الوجه البعيد أن العقد لو شرط فيه الخيار على الصحة، وأثبت فيه أجلٌ مجهول، وتفرق المتعاقدان، وزمان الخيار باقٍ. فهل يكون الإصلاح في زمان الخيار بعد التفرق بمثابة الإصلاح في المجلس؟ فعلى جوابين: قال قائلون: زمان الخيار بمثابة زمان المجلس في أن جهالة الأجل يصلح.
وهذا بعيد؛ فإن مجلس العقد في حكم الحريم للعقد، فلا يقاس به الخيار المستمر بعد التفرق.
وكل ذلك خبط، وخروج عن حد المذهب، وجريان على مجاري مذهب أبي حنيفة.
والذي صح عندي من قول صاحب التقريب: أنا إذا جعلنا (2) إطلاق السَّلم لا يجوز لتردده بين الحلول والتأجيل. فلو فرض إطلاقه، ثم تبين حلوله أو تأجيله في المجلس، فقد قال صاحب التقريب: لا يبعد أن يحتمل ذلك؛ فإن العقد لم يشتمل على جهالة محققة.
__________
(1) في (ص) ، (ت) : اللبث.
(2) في (ص) ، (ت 2) : قلنا.(6/24)
وهذا في هذا الطَّرف بعيد أيضاًً، فإنا إذا حملنا إطلاق اللفظ على التردد، لزم القضاء بالفساد، وإذا تحقق الفساد، فلا عقد ولا مجلس.
فصل
قال: " ولا يجوز في السلف حتى يدفع الثمن قبل أن يفارقه ... إلى آخره" (1) .
3470- ذكرنا أن من الشرائط في السلم تسليمَ رأس المال في المجلس. وهذا متفق عليه. ولو فرض التفرق قبل قبضه، فسد العقد، ولو جرى القبض في البعض دون الباقي وحصل التفرق، فسد العقد في القدر الذي لم يجر القبض فيه، ويسقط بنسبته من المسلم فيه، وهل يبطل في الباقي؟ كان شيخي يقول: إذا اشتملت الصفقة أولاً على حلالٍ وحرامٍ؛ ففي انعقاد الصفقة في الحلال قولان. وإذا انعقد العقد على عبدين مثلاً، ثم تلف أحدهما قبل القبض، وانفسخ العقد فيه، فهل ينفسخ في العبد الباقي؟ فعلى قولين مرتبين على التفرّق (2) في الابتداء والانتهاء. [والانتهاء] (3) أولى بقبول التفرّق (4) ؛ لأنه صح أولاً، ثم اختص الطارىء بالبعض.
فإذا وضح طرق الكلام، فالتفرق في قبض رأس المال بين الدرجتين، وهو أقرب إلى التفرق في الابتداء من مسألة العبدين؛ فإن قبض رأس المال ركن السلم، فالانفساخ فيه جرى بأن يشبه بالفساد.
فليتخيل الناظر ثلاث مراتب: إحداها- العقد. والثانية- ركن العقد. والثالثة- طريان الانفساخ على البعض بعد تمام العقد بشرائطه.
ولو سلم رأسَ المال في المجلس، وتفرقا، ثم وجد المسلَمُ إليه برأس المال عيباً، فله رده. وإذا رده، كان ذلك فسخاً في العقد بعد الصحة وتوفر الأركان. ولو
__________
(1) ر. المختصر: 2/207.
(2) في (ص) ، (ت 2) : التفريق.
(3) مزيدة لاستقامة النص.
(4) في (ت 2) : التفريق.(6/25)
تعذر ردُّ رأس المال بتلف حكمي أو حسِّي، فيثبت للمسلم إليه الرجوعُ بالأرش، حتى إذا كان العيب الذي حصل الاطلاع عليه مقدارَ عشر القيمة يسقط (1) في مقابلته عشرُ المسلم فيه، وهذا هو الأرش.
3471- ويجب وراء هذا التنبّهُ لدقيقتين: إحداهما- أن هذه الصورة لا تلتحق بتفريق الصفقة، حتى يقال: " ارتفع العقد في عشرٍ، فهل يرتفع في التسعة الأعشار؟ فعلى قولين "، بل لا يرتفع في التسعة الأعشار قولاً واحداً. والسبب فيه أن القبض قد جرى في رأس المال. وهذا المستدرك لم يتضمن تبعيض القبض في رأس المال، والدليل عليه أنه لو كان باقياً، أمكن الرّضا به. ولكن أثبت الشرع طريقاً في استدراك الظُّلامة، وجِهةُ (2) الاستدراك عند البقاء (3) الرد، وعند الفوات الأرشُ. والعقد لم يختل ركنه؛ فالعشر إذن محطوط. ولا يقال: انفسخ العقد فيه، بل حطه مستحق.
فهذا بيان ما ذكرناه.
ومما وجب التنبّه له أنه إذا سقط العشر مثلاً، فلا خيار لمن يحط العشر عن استحقاقه. ونحن نثُبت الخيار لخيالات تنحط عن هذا. ولكن الوجه أن هذا حقٌّ مستحَقّ شرعاً، فلا خِيَرَة مع حكم الشرع.
والدقيقة الثانية- أن الرد إذا تعذّر، ففي كلام الأصحاب تردد في أن الأرش يثبت من غير إثبات. أم لا بُدّ من إثباته؟ ظاهر كلام القاضي (4) أن الأرش يثبت من غير حاجة إلى إثباته، وإنما التردد والخِيَرة في حالة البقاء. فإن شاء ردّ. وإن شاء رضي به معيباً.
وسبب التردد أنا لو لم نقل به، لكان (5) بدوُّ العيب متضمناً انفساخ العقد. وهذا بعيد عن وضع العقد ومصلحته. فأما إذا فات الردّ، فالوجه ثبوت حق صاحب الحق مع بقاء العقد.
__________
(1) في (ص) ، (ت 2) : يقسط.
(2) في (ص) ، (ت 2) : ووجهه.
(3) في (ص) ، (ت 2) : انتفاء.
(4) في (ص) : الشافعي.
(5) في (ص) ، (ت 2) : فكان بدوّ العود.(6/26)
ومن أصحابنا من قال: لا يثبت الأرش بنفس الاطلاع على العيب مع تعذر الرد؛ فإنَّ الرضا بالعيب كان ثابتاً في البقاء، فليثبت إمكانه وحكمه بعدَ الفوات. فعلى هذا يثبت الأرش بالطلب الجازم.
وهذا قريب من التردد في أنّ ملك الشفيع متى يثبت في الشقص المشفوع، غير أنه يتجه في الشفعة جهاتٌ من القضاء، وتأدية الثمن والطلب، وهاهنا لا وجه إلا الربط بالطلب.
فصل
قال: " ويكون ما يسلف فيه موصوفاًً ... إلى آخره " (1) .
3472- قد ذكرنا أن أحد شرائط السَّلم كونُ المسلم فيه موصوفاً؛ فإن الإعلام لا بد منه. فإذا لم يكن عِيانٌ ومشاهدة، فلا بد من الوصفِ. ثم بعض الأوصاف المقصودة لا تكفي، ولا بد من استقصاء كل وصف مقصود.
ثم يكفي -عند القبض والتسليم- في كل وصف ما ينطلق عليه الاسم، ولا يطلب الأقصى؛ فالنهايات لا ضبط لها حتى لو أسلم في كاتب، فيكتفى بما ينطلق عليه اسم الكتابة، لا يشترطُ التبحر فيها. وكذلك القول في الصفات المشروطة في بيع الأعيان. فإذا شرط كون العبد المشترى كاتباً، اكتفي في الوفاء بالشرط بالاسم. كما ذكرناه.
ثم من الأوصاف ما يهتدي إليها الخواص والعوام، كأوصاف الحنطة والشعير، وما في معناهما، والثياب المتخذة من القطن، وما كان من هذا القبيل فأوصافها قليلة. ومنها ما لا يهتدي إلى معرفة أوصافها إلا أهل الصنعة كأنواع القطن والإبريسم والمماليك.
3473- وقد ذكر شيخي وصاحب التقريب في ذلك ترتيباً، ونحن نطرده على وجهه. قالا: إذا وقع السَّلم في موصوف أوصافه المقصودة معروفةٌ في الناس،
__________
(1) ر. المختصر: 2/207.(6/27)
فالسلم صحيح لا يأتيه خلل من قبيل الوصف. والأَوْلى إذا تعاقدا أن يُشهدا على الأوصاف؛ حتى لا يتنازعا، والإشهاد مستحب غير مستحَق، ولا يستحق الإشهاد إلا في النكاح.
وإن كان الجنس المطلوب مما يختص بمعرفة صفته المتعاقدان فيما زعما، فالسلم باطل؛ فإن المطلوب مجهول عند الناس. ولو تشاجر المتعاقدان لم يُدْرَ كيف تداعيهما، وعاد مقالهما تراطناً بينهما. وعقد السلم عقد غرر، فينبغي أن يُتوقَّى أمثالُ ذلك، ولو لم تُجتنب، لانضم إلى أصل الغرر في العقد وترتب منهما عَماية.
ولو كانت تلك الصفة بحيث يعرفها عدد الاستفاضة، فيصح العقد، ولا يشترط حضور أحد، بل يشترط ما ذكرناه، ليعرف عند النزاع تناكرهما (1) وتقارّهما (2) .
وإن عرف الصفة عدلان، فهل يعتمد العقد معرفتهما حتى يصح؟ أم لا بد من عدد الاستفاضة؟ فعلى وجهين.
وزعم الإمام أن هذا القياس يطرد في تعيين المكيال على ما سنعقد فيه فصلاً.
والذي نعجله منه أنهما لو ذكرا مكيالاً شائعاً، صح التقدير به إذا كان يعرفه أهل الاستفاضة. فإن ذكرا مكيالاً زعما أنهما يعرفانه، وكان لا يعرفه غيرهما، فالسلم باطل. وإن كان يعرف ذلك المكيالَ عدلان، فوجهان إذا لم يَشع العلمُ في عدد الاستفاضة.
وليس ما استشهدنا به في تعيين (3) المكيال إشارة إليه؛ فإن ذلك فن يأتي. وإنما هذا في ذكر مكيال معلوم أو مجهول، كما فصلنا.
وهذا الترتيب حسن.
[ولكن فيما وقع القطع بفساد السلم فيه احتمال. والأظهر الفساد.
__________
(1) ناكره: أي خادعه وداهاه. (معجم) .
(2) في (ص) ، (ت 2) : أو تفارقهما.
(3) في (ت 2) : تغيير.(6/28)
ليس هذا الذي خضنا فيه الفصلَ الموعودَ في] (1) ضبط الوصف (2) المعتبر.
وذلك يأتي في فصل، إن شاء الله.
فصل
قال: " قال الله عز وجل {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} [البقرة: 189] ... إلى آخره" (3) .
3474- الغرض من الفصل أن السلم إذا اشتمل على الأجل، فلا بد من إعلامه، فإذا أجل إلى شهر، صح، وحمل على الشهر العربي. والشهور العربية بالأهلة، ومعلوم أن الشهر ينقص ويكمل، وما يتوقع من كمالٍ ونقصانٍ محتمل بلا خلاف.
ويبعد تطبيق أول الأجل على أول الشهر، والغالب أن تردد الشهر يقع في الشهر الثاني والثالث. فإذا وقع التأجيل ثلاثة أشهر، فلينكسر الأول غالباً، وكل شهر انكسر في الآجال اكملناه ثلاثين يوماً، ولم ننظر إلى ذلك الشهر انتقص أم تكمّل، فإذاً الشهر الثاني والثالث بالهلال، والشهر الأول المنكسر على الكمال، فنستكمله من أيام الشهر الرابع. حتى لو وقع الأجل وقد بقي من الشهر لحظة، انكسر الشهر بها، ولزم من انكساره إكماله.
وبيان ذلك بالمثال أن ابتداء الأجل لو وقع وقد بقيت لحظة من شهر صفر، فنقص الربيعان، ونقص جُمادى، فأمّا الربيعان فشهران محسوبان بالأهلة، وأمّا جُمادى فإذا نقص، كملناه بيوم من جُمادى الآخر.
وكنت أود في هذه الصورة أن نكتفي بالأشهر الثلاثة؛ فإنها جرت عربية كَوامِل وإن نقصت عدة الأيام. وإنما يكمل إذا كان بقي من الشهر أيام بحيث لا يتمكن من احتساب شهر كاملٍ عربي، فيأخذ من أيام الشهر الثالث ما يكمل أيام شهر صفر ثلاثين.
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(2) في (ص) ، (ت 2) : وصف الفصل.
(3) ر. المختصر: 2/207.(6/29)
فأمّا إذا استمرت لنا أشهر عربية، فليقع الاكتفاء بهذا.
وعلى هذا أمر العدة المنوطةِ بالأشهر.
وإذا كان الأجل إلى انقضاء شهرٍ، أو انسلاخه، أو انقضاء السنة، جاز.
ان احتاج المتعاقدان إلى وقفة في درك ما بقي من السنة.
قال الأئمة: هذا في الألفاظ يناظر ربط إعلام المبيع بالعِيان في مثل قول القائل: بعتك من موقف قدمي إلى الشجرة.
ثم كما (1) انقضى الشهر أو السنة حكم بحلول الأجل.
3475- وذكر صاحب التقريب فصولاً في العبارات عن الأجل. ونحن نذكرها، ونتخذها أصولاً.
فمنها أنه لو أجل شيئاً إلى نَفْر الحجيج، فإن قيده بالنفر الأول في سنة مخصوصة، صح. وإن ذكر النفر مطلقاً، أو أضافه إلى السنة المعلومة، ففي المسألة وجهان.
هكذا ذكر صَاحب التقريب: أحدهما - يفسد الأجل لتردد محله بين النفرين. والثاني - يصح، ويحمل على النفر الأول؛ فإنه تحقق الاسم به. وهو كما لو قال: إلى يوم عاشوراء، فالأجل صحيح، وآخره محمول على أول جزء من اليوم، فإن الاسم يتحقق به، فحمل على الأول، ولم نلتفت إلى تمادي اليوم إلى غروب الشمس.
وألحق العراقيون بذلك ما لو أجّله بشهر ربيع أو جمادى من سنة معلومةٍ ولم يذكر الأول والآخر، وهذا قياسُ ما ذكره صاحب التقريب في النفر.
ثم يلتحق بهذا عندنا أصل نمهده أولاً، ثم نفرعه، وهو أن آخر الشهر اسمٌ ينطلق على ما يبقى بعد نصف الشهر إلى الانقضاء، وليس المراد بالآخر الجزء الأخير، فيقال: العشر الأواخر. وأواخر الشهر. والقول في الأول كالقول في الآخر، فهو اسم ينطلق على النصف، ولا يتخصص به الجزء الأول.
ثم أطلق أصحابنا وقالوا: إذا قال: إلى آخر الشهر أو إلى أول الشهر الفلاني،
__________
(1) "كما": بمعنى (عندما) .(6/30)
كان ذلك مجهولاً، حتى ينص على ما يعينه في الأول والآخر.
وهذا مشكل عندي.
وإذا كان الأصحاب يردّدون القول في الربيع المطلق والنَّفرِ، وحمله بعضهم على ما ينطلق عليه الاسم أول مرة، فهذا يتوجه في الأول والآخر من الشهر، حتى يقال: يحمل الأول على الجزء الأول، ويحمل الآخر على الجزء الأول من النصف الثاني.
وقد ينقدح للفَطن حمل الأخير على الجزء الأخير، وحمل الأول على الجزء الأوّل.
وإذا لم يكن لصاحب المذهب نص، ورجع الكلام إلى معاني الألفاظ، اتسع المقال، وارتفع الحرج.
ولست أرى مثل هذا مخالفةً في المذهب؛ فإن المحذور خلاف نص المذهب؛ كيف وقد نصوا على أن ذكر اليوم -من غير عبارة تقتضي الظرفَ- محمول على أوله وإن كان اسم اليوم يشمل (1) الجميع، فليكن الأول شاملاً لنصف، والآخر شاملاً لنصف شمول اسم اليوم لساعات.
فإذا قال: أجلتك إلى يوم الجمعة، حل الأجل بطلوع فجر يوم الجمعة. وإذا قال: أجلتك إلى شهر كذا، فكما (2) استهل تبين حلول الأجل معه.
ولو قال: تؤديه في يوم كذا، أو شهر كذا، لم يجز؛ لأنه جعل جميع أجزاء اليوم ظرفاً ومحلاً، فكأنه قال: محل الأجل وقتٌ من أوقات يوم كذا. وجوز أبو حنيفة هذا. وذكر صاحب التقريب ذلك وجهاً لبعض أصحابنا، لم أره لغيره.
وإذا جعل محل الأجل فعلاً يتقدم أو يتأخر، فهو مجهول. مثل أن يقول: إلى الحصاد أو إلى الدياس. وكذلك إذا قال: إلى العطاء، يعني خروج الأُعطية. ولو قال: إلى وقت العطاء وكان له وقت معلوم، جاز، ولو قال: إلى وقت الحصاد، لم يجز؛ لأنه ليس له وقت معلوم.
ولو قال إلى النيروز والمهرجان، فالمذهب الجواز؛ لأنه معلوم مفهوم عند
__________
(1) في (ت 2) : يحتمل.
(2) فكما: فعندما.(6/31)
الناس، ومنع بعض الأصحاب ذلك، وهو مشهور، ولست أرى له وجهاً إلا الحمل على مسير الشمس؛ فإن النيروز والمهرجان يطلقان على الوقتين اللذين تنتهي الشمس فيهما إلى أوائل برجي الحمل والميزان. وقد يتفق ذلك ليلاً، ثم ينخنس مسير الشمس كل سنة بمقدار ربع يوم وليلة وشيء، ومن اجتماع هذا التفاوت الكبايس في حساب الفلك.
ولو قال: إلى فِصْح النصارى وفطير اليهود، وكان لا يعرف ذلك، والرجوع فيه إلى النصارى واليهود، فهذا مجهول، ولا سبيل إلى اعتماد قول الكفار. هكذا قال الشافعي.
ولو أسلم منهم طائفةٌ، وأخلوا بالفصح والشعانين، وكانوا يعرفون، فمفهوم نص الشافعي في التعليل بالمنع عن الرجوع إليهم يدل على أن ذلك جائز في الذين أسلموا، وهم لا يحتاجون إلى المراجعة.
ومن أصحابنا من لم يجوز ذلك. ولا محمل له إلا اجتناب التأقيت بمواقيت الكفار. ويمكن أن يقرب من اختصاص المتعاقدين بمعرفةِ الأجل حتى ينزّل هذا على ما ذكرناه في الوصف النادر، والمكيال النادر.
فصل
قال: " وإن كان ما أسلف فيه مما يكال، أو يوزن سمياً مكيالاً معروفاً عند العامة ... إلى آخره " (1) .
3476- القول في هذا الفصل يتعلق بأمرين: أحدهما - ذكر المكيال مطلقاًً.
والثاني - تعيين المكيال بالإشارة. فأمّا ذكر المكيال مطلقاً، فقد تقدم بما ذكرنا العامُّ والمستفيضُ، وما لا يعرفه غير المتعاقدين، وما يعرفه عدلان سواهما.
وهذا كالوصف.
والغرض الآخر من الفصل التعيين.
__________
(1) ر. المختصر: 2/207.(6/32)
والقول في هذا ينقسم إلى ما يشار إليه (1 في بيع العين، وإلى ما يشار إليه 1) في السلم. فأما تفصيل القول فيما يشار إليه في السلم، فإن وقعت الإشارة إلى قصعةٍ ما جرى العرف في الكيل بها وبأمثالها، فقد اتفق الأئمة على بطلان السلم. والسبب فيه أن مِلأه (2) مجهول، والمسلم لا يدري أن ما أسلم فيه ما سعره؟ أرخيص هو أم غال؟ وينضم إلى ذلك أن القصعة عرضة التلف؛ فهذا غرر أُدخل على السلم من غير مَرْفق. ولو تلفت القصعة، لم يدر المتعاقدان إلى ماذا رجوعهما.
وإن أشار إلى مكيال ملؤه معلوم، وشرط أن يقع الكيل به دون غيره، ففي المسألة وجهان مشهوران: أحدهما - أن العقد يفسد، لإلزام ما لا يلزم، مع تعرض ذلك المعين للتلف، كما قدمناه. والوجه الثاني - أن السلم يصح، والمعقود عليه ملء ذلك الصاع، وتعيين ذلك فاسد، لا يتعلق بغرض العقد، وقد ذكرنا أن الشرائط التي لا تتعلق بغرض العقد ملغاة، لا حكم لها.
هذا قولنا في تعيين المكيال بالإشارة في السلم.
3477- فأما التعيين في بيع العين، فإذا قال: بعتك ملءَ هذه القصعة من هذه الصُّبرة، فالأصح الصحة. وفيه وجه أنه لا يصح؛ لجهالة المعقود عليه، والعِيان غيرُ محيط بالمبيع، وإنما إحاطته بطرفه. والأصح الوجه الأول، فإن التعويل الأظهر على ما ذكرناه من الغرر في السلم، ولا غرر هاهنا.
ولو عين مِكْيَالاً معتاداً في بيع العين، وشرط الكيلَ به، فبيعُ العين والسلم بمثابةٍ في هذه؛ فإن ملء الكيل معلوم في العقدين، والمكيال لا يتعين بالشرط فيهما.
وإنما الكلام في الحكم بشرط لا يلزم ولا يتعلق بغرض العقد. والسلم الحال بين بيع العين والسلمِ المؤجل. فمن أصحابنا من ألحقه بالقصعة والمكيال المعلوم بالبيع، ومنهم من ألحقه بالسلم المؤجل.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من: (ص) ، (ت 2) .
(2) كذا بتذكير الضمير على تأويلٍ بمعنى المكيال.(6/33)
فصل
قال: " ويكون المسلم فيه مأموناً في مَحِلِّه ... إلى آخره " (1) .
3478- أراد بذلك أنَّ المسلم فيه ينبغي أن يكون بحيث يغلب وجوده في العادة عند المحل المشروط. فلو كان معدوماً عند المحل، فالسلم باطل قولاً واحداً، وهو كما لو جعل محلَّ الرطب الشتاءَ أو الربيع، وكذلك لو كان نادر الوجود بحيث يتعذر تحصيله، وقد لا يصادَف، فلا يصح السلم. وهذا هو المعني بقول الفقهاء: لا يصح السلم فيما يعسر وجوده، ومثّل الأئمة هذا بالسلم في قدرٍ [صالح] (2) من تمرٍ في أول ما يدرك الجنس، وهو إن وجد، فقليلٌ يُتهادى باكورُه (3) ، وظهور التعسّر في التحصيل كالعدم، وهو بمثابة ما لو باع عبداً آبقاً وكان ردُّه عسراً، فالبيع باطل، وإن لم يكن مأيوساً.
وهذا فيه فضل نظر.
فإن كان المسلمُ فيه مما يغلب على القلب فقده، ولا يبعد -على ندورٍ- وجودُه، فالسلم باطل. وإن كان مما يغلب على القلب وجوده، ولكن كان لا يتوصل إلى تحصيله إلا بمشقة عظيمة، ينكف بمثلها الطالبون عن الطلب غالباً، فمن أئمتنا من قال: السلم باطل في هذه الصورة؛ لأنه عقد غررٍ، فلا يحتمل معاناة المشاق العظيمة. ومنهم من قال: إنه يصح. ولعله القياس.
والمسلم إليه إذا التزم أمراً وكان التحصيل فيه ممكناً غالباًً، فعليه الوفاء بما التزمه على يسر أو عسر. والشرط عند هذا القائل إمكان التحصيل في الوقت المشروط من غير استئخار فيه.
__________
(1) ر. المختصر: 2/207.
(2) في الأصل: صاع. والمراد "بقدرٍ صالح" هنا، أي مقدارٍ كبير غير معهودٍ أو متوقَّعٍ في بواكير الثمار.
(3) الباكور: أول ما يدرك من الثمر.(6/34)
فصل
3479- ذكر الشافعي من هذا الموضع إلى آخر الباب تفاصيلَ ما يجب ذكره من الأوصاف في الأجناس التي يصح السلم فيها، وعقدَ بعد نجاز غرضه باباً فيما يصح السلم فيه. ونحن نذكر الأجناسَ التي ذكرها على ترتيب السواد، ونورد في كل جنس ما ذكره الأصحاب. ثم نُعقب المسائلَ بما وعدناه من الضبط في الصفات، إن شاء الله تعالى.
قال: " فإن كان تمراً قال: صَيْحاني أو بَرْني " (1) فالمراد أنه إذا أسلم في تمر، فلا بد من ذكر نوعه ولونه، ولا بد من ذكر كونه حديثاً أو عتيقاً.
وقد ردد أصحابنا ذكرَ الحديث والعتيق في الأطعمة. وليس يطرد القول فيها على منهاجٍ واحد، فكل جنس يختلف الغرض والثمن فيه بأن يكون جديداً أو عتيقاً، كالتمر الذي نحن في بيانه، فلا بد من التعرض له. وكل جنس لا أثر للحدوث والعتق فيه، فلا حاجة إلى التعرض لذكره. فلو أسلم في الرطب، ذكر فيه ما ذكرناه في التمر، ولا يتعرض للحدوث والعتق.
وإن أسلم في حنطة، ذكر الأوصاف المقصودة فيها، وتعرض لنوعها، فذكر أنها شامية أو ميشانية (2) . وإن كان يختلف الغرض باختلاف البقاع، نسبها إلى الناحية المقصودة، ويصفها بالحدارة (3) والدقة. وذكر بعض أصحابنا أن التعرض للحدوث والعتق واجب فيها، كما ذكرناه في التمر.
وقال آخرون: لا يجب ذكرهما؛ فإن الغرض لا يختلف في الحنطة. فإن وقع التعرض لذلك، كان احتياطاً؛ فإن العتق المحذور فيها يُدنيها من التسويس، ومطلق العقد يقتضي سلامةَ المسلم فيه، فلا حاجة إلى ذكر ذلك.
__________
(1) ر. المختصر: 2/207.
(2) نسب إلى (ميشة) من قرى جرجان (ر. معجم البلدان) . والنسبة هنا على غير قياس.
(3) الحدارة: الغلظ (معجم) .(6/35)
ثم قال الشافعي: ويذكر حالاً أو مؤجلاً. وهذا تعلَّق به مَنْ شَرَطَ التعرض للحلول والتأجيل. ومن لم يشترط ذلك وحمل المطلق على الحال -وهو الصحيح- حمل ما ذكره الشافعي على الاحتياط.
ثم قال في الحنطة: يصف حصادَ عامٍ مسمّى. وهذا إن كان مقصوداً، فالأمر فيه يتوقف على أن ذلك هل يدرك، وإن أُدرك، فهل يشيع إدراكه؟ وقد مضى فيه قول بالغ.
فصل
قال: " ويكون الموضع معروفاً ... إلى آخره " (1) .
3480- من أصحابنا من قال: أراد الموضعَ الذي يرتفعُ (2) منه الطعام المسلم فيه، فيذكر أنه تمر ناحية كذا، وفُرض فيه إذا كان الغرض يختلف بهذا، أو كانت الناحية التي سماها لا يخلُف (3) رَيْعه غالباًً.
فإن كان موضعاً ضيقاً كقرية صغيرة، أو مَحِلة، أو بستان، فقد أطلق أصحابنا أن هذا النوع من التعيين يُبطل السلم.
وفي هذا نظر ومباحثة. فإن أشار إلى نخلة أو نخلات، أو بستان يحوي نخلات، فالسلم باطل. واختلف أصحابنا في تعليله: فمنهم من قال: سبب البطلان التعيينُ، وهو منافٍ للدَّيْنيّه المرسلة. وحق المسلم فيه أن يكون ديناً مرسلاً ينبسط الملتزِمُ (4) في تحصيله على يسر، فإذا عُينت نخلة أو نخلات، ضاق مجال التحصيل.
وكان المعيَّنُ عرضة للآفات، فيجتمع فيها ظهورُ توقّع الآفة، وضيق مجال التحصيل.
وهذا القائل يقول: المعتبر ما دللنا عليه بمنظوم الكلام ومفهومه، حتى لو عيّن
__________
(1) ر. المختصر: 2/207.
(2) يرتفع: ينتقل. (معجم) .
(3) في (ت 2) : يختلف. ويخلف معناها يتخلف، وينقطع.
(4) في (ص) ، (ت 2) : ينبسط المسلم الملتزم.(6/36)
ثمار ناحية متسعة يبعد أن يعمها آفة، ولايضيق مجال التحصيل فيها، فالسلم صحيح.
وسلك بعض أصحابنا مسلكاً آخر فقيهاً (1) فقال: كل تعيين يضيِّق المجال، يفسد السلم، وإن لم يضيِّق المجالَ، فالشرط أن يفيد التعيينُ نَوعيَّةً في المذكور، وهو بمثابة تمر البصرة، أو تمر ناحية أخرى، لو قيس به تمر ناحية أخرى. وإن جمعهما الصنف اشتمالاً لا يجمعهما النَّوعية، وهذا كالمعقلي البصري، يمتاز عن المعقلي البغدادي لا محالة. وهذا عام في فواكه النواحي. ولعله من الأهوية والتربة، في مطرد العرف.
فما كان كذلك، صح. ومالم يكن كذلك، فالتعيين فيه مفسد؛ فإنه تعيين لا غرض فيه. فخرج أن من أصحابنا من اعتبر في الجواز اتساعَ (2) المحل ومنهم من اعتبر ذلك، واعتبر معه غرضَ النوعية. ثم من لم يعتبر غرضَ النوعية، ففي قوله احتمال عندي، يجوز أن يتعين رَيْع القطر الذي عينه، ويجوز أن يقال: الغرض تحصيله أو تحصيل مثله، ويلغو ذكر التعيين، كما يلغو تعيين الصاع في وجه إذا كان له أمثال. ومن اعتبر النوعية، فإذا عينها وبنى العقدَ عليها، فلو فُرض تمر بغداد مساوياً لتمر البصرة من كل وجه، فهذا القائل يكتفي به لا محالة، ويقول: لم يكن الغرض بتعيين الناحية التعيين على الحقيقة، ولكن الغرض العبارة عن النوع. [والأوصاف] (3) قد لا تصاغ لها عباراتٌ فردة، وإنما تستبان بالإضافات.
هذا تفصيل القول في التعيين المصلح، والتعيين المفسد.
3481- ومن أصحابنا من حمل قول الشافعي: " ويكون الموضع معروفاً " على مكان التسليم. والنصوص مترددة في هذا، والأصحاب مختلفون فيه.
__________
(1) في (ص) ، (ت 2) : فقهياً.
(2) في (ص) : اتباع، (ت 2) : اتباع المحل.
(3) ساقطة من الأصل.(6/37)
والترتيب أن عقد السلم إن جرى في مكان لا يصلح للتسليم بأن كان في مفازة، فلا بد من تعيين مكان التسليم.
وإن وقع العقد في مكان يصلح لتسليم المعقود عليه فيه، فهذا موضع التردد.
من أصحابنا من قال: إن كان لحَمْل المسلم فيه مؤنة، وجب تعيين مكان التسليم ذِكراً، فإن لم يذكر، فسد العقد، وإن لم يكن لحمل المسلم فيه مؤنة، ففي المسألة قولان: أحدهما - يجب التعيين؛ فإن الأغراض تختلف باختلاف أماكن التسليم، وليست المؤنة كل الغرض. والثاني - لا يجب، ويحمل مطلق العقد على استحقاق التسليم في مكان العقد.
ولم يصر أحد إلى صحة العقد، وإرسال مكان التسليم، بل إما الفساد وإما تعيين مكان العقد.
وهذه الطريقة في الترتيب هي الصحيحة.
ومن أصحابنا من عكس، وقال: إن لم يكن للحمل مؤنة، لم يعتبر المكان، وتعيّن مكان العقد. وإن كانت، فقولان: أحدهما - الفساد. والثاني - الصحة.
ووجهه أن العرف يَحمل التسليمَ على مكان العقد.
وهذا لا يسلمه القائل الأول.
ومن أصحابنا من طرد القولين فيما فيه مؤنة، وفيما لا مؤنة فيه.
وطرد المحققون أصلاً على هذا في جميع الديون، فقالوا: إذا عجل من عليه الدين المؤجل ما عليه، فامتنع مستحق الدين، فإن كان له غرض من توقي نهب أو غارة، أو فساد يتسرع إلن ما يقتضيه، فله الامتناع. وإن لم يكن له غرض في الامتناع، نُظر: فإن كان للمعجِّل غرضٌ في التعجيل من فك الرهن أو غيره من الأغراض الصحيحة، فظاهر المذهب أن مستحق الدين مجبر على قبضه؛ إذ لا غرض له في الامتناع، وللمعجل غرض [في التعجيل. وإن لم يكن للمعجل] (1) غرض ظاهر ولا للممتنع غرض بيِّن، ففي المسألة قولان.
__________
(1) ساقط من الأصل.(6/38)
ومن أصحابنا من قال بطردِ القولين في الدين المؤجل، وإن كان للمعجل غرض.
ثم كيفما فرض الأمر، فمقصودنا من الفصل أنا إن أجبرنا على القبول، أو فرضنا في الدين الحال، وجرينا على الأصح من أنه يجبر المستحِق على القبول، فإنما يجري الإجبار إذا كان المسلم يُسلِّم ما عليه في المكان المتعين شرعاً أو ذكراً، فمن أراد التسليم في غيره، لم يجز، ولم يجبر صاحبه.
3482- ثم قال الشافعي: " ولا يستغنى في العسل ... إلى آخره " (1) .
إذا أسلم في العسل ذكر في أوصافه أنه جبلي، أو بلدي. والجبلي خير، وأنه خريفي أو ربيعي، والخريفي خير، ويصف اللون، ويختلف الغرض فيه. ولا يشترط أن يذكر كونَه مصفَّى من الشمع؛ لأن الإطلاق يقتضي ذلك، واسم العسل لا ينطلق على الشمع. ثم إن أتى به مصفى بالشمس أو بالنار اللَّينة القريبة من الشمس حتى لا تعقد أجزاء العسل، ولا تزيد على تمييز الشمع، فيقبل ذلك. وإن كانت النار أثّرت في التعقيد، لم يقبل.
ولا حاجة إلى ذكر هذه التفاصيل في العقد، فإن العسل المطلق هو النقي عن الشمع، من غير أن يلحقه عيب. والتعقيد في العسل عيبٌ؛ ولا حاجة في السلم إلى التعرض للبراءة من العيوب، لا مجملاً، ولا مفصلاً؛ فإن استحقاق السلامة مقتضى إطلاق العقد.
ولو جاء بعسل ذائب، فإن كان بحرارة الهواء، قُبل، وسيتماسك إذا اعتدل الهواء. وإن كان انمياعه بعيب، لم يقبل.
والسلم في الشّهد (2) جائز، وإن كان مركباً. وهذا النوع من التركيب له أثر في بيع العين. ولذلك لم نجوّز بيعَ الشهد بالشهد، وجوزنا بيع اللبن باللبن. والسبب فيه أن تعويل السلم على الوصف، لا على صورة التركيب والاتحاد، والوصف يحيط
__________
(1) ر. المختصر: 2/207.
(2) الشهد (بفتح وضم) : العسل في شمعه.(6/39)
بالشّهد، وليس كالمعجونات ذوات الأخلاط المقصودة؛ فإنا سنذكر بعد هذا أن السلم فيها باطل، ونوضح الفرق إذ ذاك.
3483- ثم قال: " ولو اشترط أطيب الطعام أو أردأه لم يجز ... إلى آخره " (1) .
أما لو ذكر الأجود، فإنه لا يجوز؛ فإنه لا جيد إلا ويُرتَقب فوقه أجود منه، فيؤدي ذكر الأجود إلى نزاع لا ينقطع. وأما ذكر الجيد، فليس كذلك؛ لأنة ينزل على أدنى درجات الجودة، وتنقطع الخصومة.
وأما السلم في الرديء شرطاً وذكراً ينظر فيه، فإن كان رداءة النوع، كالسلم في النوع الرديء من التمر، مثل مصران الفارة، والجُعْرور، فالسلم صحيح.
وإن لم يتعرض للنوع الرديء، ولكن ذَكَرَ لفظَ الرديء مع ذكر النوع، فالسلم باطل؛ فإن الرديء إذا لم يرد به النوع، جر نزاعاً لا ينقطع؛ فإن المسلَم يأتي برديء، فيقول المسلِم: هذا غاية في الرداءة، ولست أرضى به، ودون هذا رديء لا يبلغ هذا المبلغ في الرداءة.
ولو أسلم في نوعٍ وعيّنه، وذكر الأردأ، ففي المسألة قولان: أحدهما - أن العقد يبطل لذكر الرديء. والثاني - لا يبطل، فإن جاء المسْلَم إليه برديء، فقال المسلِم: أريد أردأ من هذا، لم يلتفت إليه، وعُد متعنتاً في طلب الأردأ. وإن طلب أمثل مما جيء به، لم يكن له ذلك، وقد ذكر الأردأ.
وقد ردد الشافعي شرط الجيد في كل صنف. وائفق الأئمة على أن ذكر الجيد ليس بشرط؛ فإن مطلق الجيد معناه السليم من العيب، وهذا يقتضيه العقد من غير ذكرٍ، فإن ذكر، فلا بأس، وكان احتياطاً.
3484- ثم قال: " وإن كان ما سلف فيه رَقيقاً ... إلى آخره " (2) .
ذكر في أوصاف العبيد ألفاظاً، نذكرها، ونذكر اختلاف الأصحاب في معناها، ولا اطلاع على المرعي من صفات العبيد والحيوانات إلا في الفصل الضابط.
__________
(1) ر. المختصر: 2/207.
(2) ر. المختصر: 2/207.(6/40)
قال الشافعي رحمة الله عليه- قال: "عبداً نوبياً خُماسياً أو سُداسياً، ووصف سنَّه " (1) .
فمن أصحابنا من قال: أراد بالخماسي والسداسي ذكر المولد، أي بذكر أنه خمس أو ست، وقوله: " ووصف سنَّه " أراد الأسنان المعروفة، أي يذكر أنه أفلج الأسنان أو أدراها، وغير ذلك من صفات الأسنان. قال الأصحاب: وهذا احتياط لشى بواجب.
ومنهم من قال: أراد بالخُماسي والسُّداسي القامةَ، أي يذكر أن طوله خمسةُ أشبار أو ستةُ أشبار. وهذا القائل يقول: قوله ووصف سنَّه أراد به المولد.
وقال الأئمة: لا بد من ذكر السن والنوع، فيذكر أنه تركي أو هندي، واللون: فيذكر أنه أسود، أو أبيض. ولا بد من ذكر الأنوثة والذكورة - ثم معرفة السن من المولودات فينا متيسرة. فأما الجليبة فقلَّما يُعرف سنُّها إلا أن تُفرضَ بالغاً، فيرجع إلى قولها.
3485- ثم قال: " ولا يشترط معها ولدها ... إلى آخره " (2) .
أراد به إذا وصف جارية وصفاً يضبطها، وشرط أن يكون معها ولدها الرقيق، فهذا باطل؛ لأنه يتصل بما يعزّ وجودُه.
والقول في ذلك يتفاوت، فالزنجية التي لا تكثر صفاتها لا يعزّ ولدُها معها. وإن كانت الجارية تُطلبُ (3) حَظِيةً وسُرِّية (4) ، فصفاتها تذكر؛ فتكثر، فإذا ضم إليها شرطُ ولدها، التحقت بما يعزّ. وقد ذكرنا التفصيل فيما يعز وجوده، وما يمتنع السلم فيه لأجل العزّة.
فإن أسلم في جاريتين، وتناهى في وصفهما، فجيء بهما وإحداهما أمٌّ والأخرى بنت، فلا بأس إذا كانتا على الصفات المطلوبة.
__________
(1) ر. المختصر: 2/207.
(2) ر. المختصر: 2/207.
(3) ساقطة من (ص) ، (ت 2) .
(4) في (ص) : أو.(6/41)
وإن أسلم في جارية وشرط كونَها حبلى، فإن جرَّ ذلك عِزَّةً، لم يصح السلم.
وإن كان لا يعز [ذلك] (1) بأن لا تكون الجارية مطلوبة للتسري، وإنما تُطلب للحضانة، فهذا الآن وإن كان يعم، يخرّج على القولين في أن من اشترى جارية معينة على أنها حبلى هل يصح ذلك؟
والقولان يقربأن في الجارية المعينة، فما استنبطه الأئمة من القولين من معاني كلام الشافعي في أن الحمل هل يقابله قسط من الثمن؟ [فإن قلنا: لا يقابله، فهو صفة، ولا يعد في ذكر الصفات الممكنة. وإن قلنا الحمل يقابله قسط من الثمن] (2) فإذا ذكر، فقد جُرِّدَ مقصوداً، وهو مجهول، فالسلم يخرج على هذا.
3486- ثم قال: " وإن كان في بعيرٍ، قال: من نَعَم بني فلان، ثَنِيّ غير مُودَن نقي من العيوب، سبط الخلق، أحمر مُجْفَر الجنبين " (3) .
والثنيُّ الذي استكمل خمس سنين، والمُودَن الناقص القصير، ومُجْفَرُ الجنبين عظيمهما.
قال الأصحاب: أمّا ذكر الثنيِّ، فلا بد منه، فيذكر أنه ابنة لبون أو بنت مخاض. أو ما يريده. والتعرض للذكورة والأنوثة محتوم.
قال: "ويذكر أنه من نَعَم بني فلان".
والغرض يختلف بهذا. والشرط أن تتسع نَعَمُ بني فلان، بحيث لا ينتهي الأمر إلى عزّة الوجود.
فأما قوله: "نقياً من العيوب"، فاحتياطٌ؛ فإن مطلق العقد من اقتضاء السلامة يغني عن هذا.
ثم ذكر السلم في الخيل. فلا بد من ذكر النوع، عربي أو تركي، وذِكرُ الألوانِ،
__________
(1) في الأصل: السلم.
(2) ساقط من الأصل.
(3) ر. المختصر: 2/207.(6/42)
والأسنان لا بد منه. وقال الأصحاب: الشياتُ (1) ذِكرُها احتياطٌ كالأغر، واللطيم (2) ، والمحجّل ونحوها. فلا يجب التعرض لذلك.
3487- ثم قال: " يصف الثيابَ ويذكر جنسها، وأنها من كتان أو قطن أو إبريسم، والصفاقة والرقة، واللين والخشونة، والطول والعرض، ونسجَ البلد: اسكندراني أو يماني أو هَرَوي أو مَرْوي " (3) .
قال الأصحاب: هذا إذ كان يختلف الغرض باختلاف نسج البلاد، فأما إذا كان نَسْجُ ذلك الثوب في البلاد على قريب من الاستواء، فلا معنى للذكر.
وذَكَر السلمَ في النحاس، فيذكر النوعَ واللونَ. والقَدْرُ لا بد منه.
والحديد يذكر أنه ذكر (4) أو أنثى (5) .
فأما الأواني المتخذة من هذه الجواهر، ففيها كلام يأتي في الباب المشتمل على ذكر ما لا يجوز السلم فيه.
3488- وذَكَر السلمَ في اللحم. وهو جائز، فيذكر الجنسَ والنوعَ: لحمَ بقر أو غنم ضأن أو ماعز، من رضيع أو فطيم. ويذكر المحل الذي منه يعطى، ويبيّن أنه لحم فخذ، أو كتف، أو جنب. ويذكر الذكورةَ والأنوثة. وإذا شرط الذكورة، ذكر أنه خصي أو غيرُه، ويذكر أنه لحم راعيةٍ أو معلوفة. ثم الاكتفاء في العلف بالمرة والمرات، حتى ينتهي إلى مبلغ يؤثر في اللحم، ولا يشترط أن يبيّن كونه منزوعاً عن
__________
(1) الشيات جمع شية، وهي العلامة، أو سواد في بياض، وبياض في سواد، وكل ما خالف اللون في جميع الجسد. (معجم) والمراد هنا العلامات تكون في الخيل.
(2) اللطيم من الخيل: الذي يأخذ البياض خدّيه. (مصباح) .
(3) ر. المختصر: 2/ 207، مع اختلاف في اللفظ.
(4) لما أصل إلى معنى لذكورة الحديد وأنوثته، ولم يذكره الأزهري في غريب ألفاظ الشافعي، مع أنه ذكر ألفاظاً أوضح من ذلك، ولعله كان معروفاً عندهم، فلم يحتج إلى بيانه، ويلوح لي أن الأمر يتعلق بالصلابة وقابلية الطرق، فالحديد منه: الزهر، والمطاوع، والصلب (المعجم) .
(5) ر. المختصر: الموضع السابق نفسه.(6/43)
العظم، بل يصح السلم مطلقاً ويجبر المسلِم على قبول العظم المعتاد، في العضو المذكور، وينزل العظم في اللحم منزلةَ النواة من التمر.
ثم قال: " وأكره اشتراط الأعجف والمشوي والمطبوخ " (1) .
وهذا كراهية تحريم؛ لأن الأعجف معيب، وشرط العيب مفسدٌ، وهو شرط الرديء الذي سبق الكلام فيه. فإن أراد بالأعجف الذي لم يسمّن، فلا بأس.
وأما المشوي والمطبوخ، فقد قال الأصحاب: لا يصح السلم فيهما، لخروج أثر النار عن الضبط.
هذا مقتضى النص وهو الذي أطلقه الأصحاب في الطرق.
قال الصيدلاني: إن كان الشي والطبخ بحيث يمكن ضبطه، فلا بأس، وهو كالسلم في الخبز، ولا خلاف في جواز السلم في الخبز. و [الطِّلَى] (2) والدِّبس، والسكر، والفانيذ.
وذكر بعض أصحابنا وجهاًً بعيداً في منع السلم في الدِّبْس والخبز، أخذاً من منع بيع الدبس بالدبس. والأصح الجوازُ. والفقيه من يُنزل كلَّ باب على معتاده، والمماثلة مرعية في بيع الأعيان الربوية المتجانسة، وذلك يختلف باختلافِ تأثير النار، كما قررناه في باب الربا، والمرعي في السلم قربُ الضبط. وهذا مع الواصف البالغ في الدبس والخبز قريبٌ.
3489- وذَكَر السلم في لحم الصيد (3) ، وسبيلُ الوصف فيه بيّن. وينبغي أن يكون بحيث لا يعزّ وجودُه.
وذكر السلمَ في السمن، فنقول سمن ماعز، أو ضأن، أو بقر. وإن كان يختلف بالبلاد ذكرها.
وذكر السلم في اللبن، وبين أوصافه على ما ينبغي. وذكر من جملتها
__________
(1) ر. المختصر: 2/207، 208.
(2) ما طبخ من عصير العنب. (معجم) . وهي ساقطة من الأصل.
(3) ر. المختصر: 2/208.(6/44)
الأوارك (1) ، وهي التي ترعى الأراك، والمعلوفة، والراعية. فإن كان الغرض يختلف بجميع ذلك، فهي مشروطة. وإن كان الأمر لا يختلف، فلا يشترط ذكر ما لا يختلف الغرض به. ولا يشترط أن يقول لبنَ حليب؛ فإن الإطلاق يقتضي انتفاء الحموضة؛ إذ الحموضة في اللبن عيبٌ؛ ولا يجوز السلم في المعيب.
قال: " ولا يسلم في المخيض؛ لأن فيه ماء " (2) .
فإن كان كذلك، فهو ملتحق بالمختلطات، وسنعقد فيها فصلاً الآن. وإن لم يكن فيه ماء، فالسلم في المخيض جائز.
فإن قيل: إنه حامض. قلنا: أدنى حموضة في المخيضِ مقصودة. والحموضة في اللبن عيب.
فصل
قال: " وكذلك كل مختلط ... إلى آخره " (3)
3490- منع الشافعي السلم في المختلطات، وقد رتبها العراقيون ترتيباً حسناً.
فقالوا: هي على أربعة أوجه: فمنها مختلط من جهة الخلقة، وهو في نفسه يعد موصوفاًً مضبوطاً، فالسلم فيه جائز كاللبن، والشّهد.
ومنها مختلط خليطهُ من مصلحته، وذلك الخليط في نفسه غير مقصود، وهو كالجبن تخالطه الإنفحَّة (4) ، ولكنها غير مقصودة في نفسها، وكأنها كالمستهلكة، والجبنُ على حكم الجنس الفرد، وكذلك الخبز فيه الملح والماء، ولكنهما غيرُ مقصودين.
والضرب الثالث- مختلط ذو أركان، وكل ركن منه مقصود، ولا ينضبط أقدارُ
__________
(1) أوركت الإبل رعت الأراك، فهي أوارك.
(2) ر. المختصر: 2/208.
(3) ر. المختصر: 2/208.
(4) بتثقيل الحاء، وتخفيفها. وفيها لغة بالميم المكسورة، بدل الهمزة المكسورة. (المعجم) .(6/45)
الأخلاط، فلا يصلح السلم فيه، كالغالية من العطر، والمعاجين والجُوَارِشْنات (1) ، وكالهرائس من المطبوخات، ومعظمِ المرق ذواتِ الأخلاط المقصودة.
والضرب الرابع- مختلط في الصورة ولكن يتأتى ضبط ذلك لكل قسم منه، وهو مثل الثياب التي نسجت من الغزل والإبريسم، والخزوز (2) بهذه الصفة. فإن لم يتأت الضبط، فالسلم باطل، كالسلم في المعاجين.
وإن أمكن الضبط، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن السلم يصح لإمكان الضبط. والثاني - لا يصح؛ فإن أحد القسمين لا يتميز في الحسّ عن الثاني في الثياب العتّابية (3) ونحوها. وهذا عندي قياسٌ.
ونقل بعض المعتمدين أن الشافعي نص على جواز السلم في الخزوز، فإن صح هذا، فالخزوز أنواع، فلعله جوّز السلم فيما يتحد جنسه، ومنه ما لا يكون كذلك.
ولو جوزنا السلم في الثياب المختلطة من غير أن يتميز في الحس قسم عن قسم، لوجب تجويز السلم في المعاجين تعويلاً على قول العاجن، وإذا لم يجز ذلك، فسبب المنع ما يتوقع من تنازع بين المسلِم والمسلَم إليه. ومثل هذا غير محتمل في السلم.
وعدّ المزني لما ذكر المختلطات من الأدوية، وفنون الطيب من جملة ما لا يجوز السلم فيه الأدهانَ المرببة (4) المطيّبةَ، كدهن البنفسج والورد، وما أشبههما. وأجمع الأصحاب على أن ما قاله غلط غيرُ راجع إلى مأخذ الأحكام، ولكنه أمرٌ تخيّله في التصوير، فظن أن هذه الأدهان خالطها أشياء ليست منها، وهذا خطأ؛ فإن أصول
__________
(1) الجوارشنات، يظهر من السياق أنها نوع من المخلوطات. وفي اللسان عن النهاية لابن الأثير: " أهدى رجل من أهل العراق إلى ابن عمر جُوارِشن، قال: هو نوع من الأدوية المركبة، يقوي المعدة، ويهضم الطعام "، قال: " وليستَ بعربية ". (اللسان: مادة: ج. ر. ش. ن) .
(2) الخزوز جمع خز، وهو ما ينسج من الثياب من صوفٍ وإبريسم.
(3) لعلها نسبة إلى محلة ببغداد بهذا الاسم (ر. الأنساب للسمعاني) . وهو نوع معروف من الثياب، كان سَداه من الغزل ولحمته من الحرير، وقد سبق الكلام عنه عند ذكر ما يحل وما يحرم من الثياب، وكان ذلك في صلاة الخوف. فراجعه، إن شئت.
(4) ر. المختصر: 2/208.(6/46)
هذه الأدهان الشيرج، ثم إن السمسم يمزج بالورد والبنفسج وغيرهما، حتى يتروّحَ بها عن مجاورة، ثم يعتصر السمسم؛ فإذاً هو شيرج محض، واكتساب الروائح بالمجاورات لا تمنع صحة السلم.
وعد العراقيون خل التمر والزبيب من المختلطات التي يجوز السلم فيها، وزعموا أن المقدار المعتبر من الزبيب يدرك بقوة الخل وضعفه، والمقصود من الخل حموضته ونفاذُه وحدّتُه، وهذا يقصد منه كما يقصد من الخل من العنب.
وزعموا أن مُدركَ العِيان يبيّن ما يعتبر من الإبريسم والغزل في العتَّابي؛ فإن لهذا الجنس رونق (1) إذا كان الإبريسم فيه على الحد المقصود، لا يخفى دركُه على أهل البصائر كما ذكروه.
وما أشار إليه العراقيون وإن كان كلاماً (2) ، فلا نقنع بمثله في التوقي من الغرر في أبواب السلم.
هذا ما أردناه في المختلطات.
3491- ثم ذكر السلم في اللِّبأ (3) والرائب. وهو شائع؛ فإنّ المسلمَ فيه مضبوط، وقد يُعرض اللِّبأ على النار عَرضةً خفيفة، ولا اعتبار بها، ولذلك صححنا السلم في الفانيذ والسكر، وإن تردد الأصحاب في جواز بيع السكر بالسكر، وذكرنا الميز بين البابين في المقصودين.
وذكر بعض المعتمدين تردداً في السلم في الدبس قدمنا ذكره.
ثم ذكر أن من أصحابنا من نزل السكر والفانيذ في باب السلم منزلتهما في بيع الأعيان.
وقد اختلف أصحابنا في بيع السكر بالسكر، والفانيذ بالفانيذ. فهذا القائل
__________
(1) كذا في النسخ الثلاث. والصواب النصب اسماً لإن.
(2) كذا. ولعل هنا إيجازاً بالحذف، تقديره: كلاماً مشهوراً.
(3) اللِّبَأ وزان عنب أول اللبن عند الولادة. (المصباح) .(6/47)
يقول: إن جوزنا بيع السكر بالسكر، يجوز السلم فيه، وإن منعنا بيع السكر بالسكر، يمنع السلم فيه أيضاًً. وهذا غير صحيح.
ويترتب عند هذا القائل في الدبس والسكر ثلاثة أوجه: أحدها- المنع فيهما.
والثاني - الجواز. والثالث- الفصل بين الدبس والسكر.
وردد صاحب التقريب جوابه في السلم في المَاوَرْد (1) ؛ من حيث إنه اعتقد اختلافَ تأثير النار فيما يتصعد ويقطر. وهذا في نهاية الضعف لم أره لغيره.
ثم ذكر الشافعي السلم في الصوف، وأشار إلى الصفات التي ترعى فيها، وشبهها بما قدمناه، فممّا ذكر أنها طوال أو قصار ليّنة أو خشنة، وذكر اللون. وقال: يكون نقياً مغسولاً (2) . أما النقاء، فيغني عنه شرط السلامة، وأما المغسول، فإن أراد الغَسل ليُنَقَّى من الغبش والقاذورات، فلا حاجة إلى هذا، فإن اشتراط الصوف المجرد يُغني عن قولٍ غيرِه، فإذن الغسل احتياط.
ثم ذكر الكرسفَ، والسلمُ فيه صحيح، والأوصاف المرعية فيه معلومة، من اللين والخشونة، وقد يختلف بالإضافة إلى البقاع.
والضابط ما تقدم.
والسلم في الجوزق (3) المتشقق (4) جائز على شرط التقدير بالوزن. ولا يجوز السلم فيما ليس بمتشقق؛ فإن المقصود منه مستتر بما ليس بمقصود، ولا يبقى فيه.
وإن ظن ظان أن بيعه من أطراف بيع الغائب، فلا مجال لهذا في السلم، فإن الجهالات لا تحتمل في السلم.
وذكر السلم من الإبريسم، وذكر مما يعتبر فيه الدقة والغلظ، والنوع، والناحية التي يجلب منها، إلى غير ذلك مما يتغير به الثمن والغرض.
__________
(1) " الماورد ": أي ماء الورد، وهو مشهور معروف، ولكن قد لا يعرفه بعض أبناء العصر.
(2) ر. المختصر: 2/208.
(3) في الأصل: " غير المتشقق ". "والجَوْزَق" هو القطن. (قاموس) ، وهي في (ص) " جورق " بالراء المهملة.
(4) في (ص) ، (ت 2) : المتشق.(6/48)
3492- ثم قال: " ولا بأس أن يسلم في الشيء كيلاً، وإن كان أصله الوزن " (1) .
وهو كما قال. [و] (2) قد ذكرنا في باب الربا أن ما كان موزوناً لا يجوز بيع بعضه ببعض كيلاً، وما كان مكيلاً في عصر الشارع لا يجوز بيع بعضه ببعض وزناً؛ فإن باب تحريم التفاضل في الربا مبناه على التعبد، وباب السلم مبناه على الإعلام واتباع العرف فيما يعد مضبوطاً. وإذا كان يجري الكيل والوزن في شيء، فإعلامه بكل واحدٍ منهما ممكن.
فهذا ما أطلقه الأصحاب.
وفيه فضل نظر عندي في الأشياء الخطيرة، فإن فتات المسك يحصره الكيل، ولست أرى الكيل فيه إعلاماً، وكذلك العنبر، وكل خطيرٍ. فلعل الوجه أن يقال: ما كان مكيلاً لا يجوز السلم فيه بالوزن، فإنه حاصر، وما يوزن عرفاً هل يصح السلم فيه كيلاً؟
هذا ينقسم، فمنه ما يُعدّ الكيلُ في مثله إعلاماً، وإن كان الوزن معتاداً، فليصح هذا، وما لا يُعتاد الكيل في مثلهِ ضابطاً، فلا يجوز السلم فيه كيلاً، وإن كانت صورة الكيل تجري فيه.
وإن كان التعويل على قاعدةٍ واحدة، فمسائل التردد ناشئةٌ من تلك القاعدة، ورأيُ النظار عندي مشترك.
وإن استدرك البعض على البعض، لم يرجع الخلاف إلى الفقه، وإنما يرجع إلى أمور حسّية، أو إلى أمور عُرفية.
ولو أسلم في شيء يكال ويوزن، وشرط الكيلَ والوزنَ جميعاً، فهذا ينتهي إلى التعذّر الذي يفسد السلمُ بمثله، وهو مثل أن يقول: أسلمت في مائةِ صاعٍ على أن يكون وزنها إذا رد إلى الوزن خَمسمائةِ منّ. فهذا حكمٌ (3) لا يتأتى الوفاء به، مع
__________
(1) ر. المختصر: 2/208.
(2) زيادة من المحقق.
(3) ساقطة من (ص) ، (ت 2) .(6/49)
العلم بأن الحنطة يتفاوت وزنها بسب اكتنازها، ورخاوتها وصلابتها.
3493- ولا يجوز السلم في شيءٍ عدداً، وإن كان مضبوطاً، فليقع السلم باعتبار الوزن، وهذا كالسلم في البطيخ والسفرجل، فاكتفاء الناس فيها بالعدد تسامح، والتعويل على العِيان؛ فإنها تتفاوت في القيم. نعم قد يتفق فيها ما لا يتفاوت قيمها، وإن كانت مختلفة الأقدار لتسامع أطبق الناس عليه. وهذا كالبيض والجوز، فلا يجوز التعويل في السلم على العدد، وذلك أن التسامح الذي حكيناه إنما يقع في مقدارٍ يسير كأعدادٍ قليلة من الجوز والبيض، وإذا كثر فالجوزات الكبار والبيضات الكبار، لو جمعت في موضع، وقيست بالصغار تفاوت الأمر، وصدقت الرغبة من الكبار، وظهر تفاوت في الثمن بيّن؛ فلا يجوز التعويل على العدد في شيء من المعدودات.
ويجوز السلم في البطيخ والسفرجل وزناً؛ فإن الوزن يحصر وإن لم يحصر العدد.
وذكر شيخي أن السلم يجوز في البيض وزناً، وكذلك في الجوز واللوز، وما في معناهما. وما ذكره في البيض سديد؛ فإن قشورها لا تختلف اختلافاً به مبالاة. وإن زاد وزنُ قشور الكبار منها، فتلك الزيادة على نسبةٍ غيرِ متفاوتة بالإضافة إلى ما يقصد من المحّ (1) والماح.
فأما قشور الجوز، فأراها تختلف، فمنها رقاق، ومنها غلاظ، ومنها ما ينفرك باليد للطافة القشور، ومنها ما يحتاج إلى معاناة في كسرها، فلست أرى السلمَ مسوَّغاً في الجوز وما في معناه. وإن ذَكر وزنها.
فإن أمكن ضبطُ نوعٍ منها بالوصف يُقرِّب قشورها، ثم اعتمد الوزن، ولم يُفض الأمرُ إلى عزة الوجود، فالجواب الجواز إن اقتضى الحال ذلك.
وقد ذكرت أن اختلاف طرق الأصحاب في هذا الكتاب لا يرجع إلى التردد في أساليب الفقه، وإنما رجوعه إلى مماراةٍ في الوقائع.
وذكر الأصحاب جوازَ السلم في اللَّبِن. والتعويل على الوزن، وقد يجمع إليه
__________
(1) المح: ما فىِ جوف البيضة من صفرة، أو من صفرة وبياض، والماح: ما فيها من صفرة، فالعطف هنا عطف خاص على عام. (معجم) .(6/50)
العدد، وهو المعتاد، ولا عسر في الجمع، فيسلم المسلم في مائة لبنة، ويقول: اللبنة الواحدة عشرة أمناء (1) . هذا لا بد منه وتحصيله لا عسر فيه. ثم إَن وقع تسامحٌ في التسليم، فلا بأس.
والسلم في الآجُر (2) مما اختلف الأصحاب فيهِ اختلافَهم في الدبس، والظاهر الجواز؛ فإن الوصف ممكن، وتحصيل الموصوف لا تعذر فيه.
ثم ذكر الشافعي السلم في لحم الطيور. والوصفُ يحيط به فليذكر النوع والعضو الذي يسلم منه، إن كان يسلم في المقطّع، وإن كان يسلم في الطير المذبوح غيرَ مقطع، فالوزن، والسِّمن، والصنف، وكل ما يختلف الغرض فيه. والطير لا سِنَّ له، فيوصف بالصغر والكبر، ويذكر أنه لحم فروج، أو ناهض.
وكذلك الحيتان.
3494- وأما الخشب فإن كانت تراد للحطب، فأوصافها قريبة فيذكر النوع، وأنها دقاق أو غلاظ جزلة. والوزن لا بد منه. وقال الأصحاب: لا حاجة للتعرض لليبوسة؛ فإن الرطوبة والنداوة عيبٌ، والإطلاق يقتضي اليابس. هكذا ذكره المحققون.
وإن كان السلم في الجذوع والعُمد، فالطول والعرض، والصنف، واللون، ويصح السلم إذا استوت الأجزاء، فإن اشترط فيها تخريط (3) ، وكان يختلف الأعالي والأسافل، فهذا مما يؤثر في منع السلم عند الشافعي؛ فإنه لا يدري أن الخشبة من أين تأخذ في الدقة، ولا ينضبط هذا مع تعلق القصد به. وإذا أسلم في جذعٍ، ذكر الطولَ والعرضَ، والاستدارةَ واللونَ. وفي ذكر الوزن تردد؛ فإن الوزن لا يقصد في العمد والاسطوانة.
__________
(1) أمناء جمع منا مثل سبب وأسباب. ويقال: منّ (بتشديد النون) وجمعه أمناء. والمنا أو المن رطلان بغداديان (معجم ومصباح) .
(2) ر. المختصر: 2/ 208، وفيه تفصيل مفيد، وبهامشه تعليق جيد لمصححه، مصحح الطبعة البولاقية رحمه الله، وجزاه عنا وعن العلم وأهله خير الجزاء.
(3) المراد بالتخريط تشكيل الخشب على هيئة شكل مخروطي، أي مُدَبَّبٍ مرقّق من الطرف.(6/51)
وكان شيخي يميل إلى اشتراط الوزن؛ صائراً إلى أن كلَّ خشبة تفرض، فلا يمتنع أن تصير حطباً، ويكون الوزن إذ ذاك مقصوداً. وهذا فيه نظر.
3495- والسلم في أحجار الرحى جائز، إذا ذكر الطولَ منها والعرضَ والسمكَ. واتفق (1) على اعتبار الوزن فيها؛ فإن ثقلها مقصود، وهي برَزَانتها تطحن، ويختلف هذا برخاوة الأحجار وصلابتها. ثم إذا ذكر الوزن، فهو ممكن. حتى انتهى الأصحاب إلى تصوير وزن الأرحية الكبار بالسفن وغوصها في الماء. ثم العادة جارية بذكر أمثال هذه الأعلام، ثم يقع التسامح حالة القبض.
ثم ذكر جواز السلم في أنواع العطر وأمتعة الصيادلة، كالمسك، والكافور، والعنبر، والأدوية، ولكل جنس أوصاف مقصودة لا يخفى دركها عند أهل البصيرة.
وقد يقصد في بعضها أن تكون قطعاً كباراً كالعنبر، فليكن التعرض لهذا.
3496- ثم قال: " لا يُسلم فيما خالطه لحوم الحيات " (2) .
والسبب فيه مع الاختلاط أن لحوم الحيات نجسة، وقد ذكرنا منع بيع النجس. والتداوي بالترياق جائز على حدّ تجويز أكل الميتة. وفيه كلام طويل سيأتي في الأطعمة، وعنده نذكر التداوي بالخمر. والحدّ المعتبر في التداوي من الحاجة والضرورة.
أما السموم القاتلة الطاهرة، فهل يجوز بيعها، قال الأصحاب: إن قتلت بكثرتها لغلبة الطبيعة والقليل منه يستعمل في الأدوية الحارة، فلا يمتنع بيعه. ومن هذه الجملة السقمونيا، والحنظل والخَرْبَق (3) ، وما في معانيها، ومنها الأفيون.
فأما السموم التي لا يستعمل جوهرها في دواء، وهي منافية للقوة الحيوانية بأنفسها
__________
(1) تعقب النووي إمام الحرمين في القول بالاتفاق على الوزن في الأَرْحية. وقال: " ليس الأمر كما ادعى ". (ر. الروضة: 4/ 27) .
(2) ر. المختصر: 2/208.
(3) الخَرْبَق وزان جعفر: نبات ورقه كلسان الحَمَل أبيض وأسود، يستخدم علاجاً، فهو ينفع
الصرع والجنون، والمفاصل، وغير ذلك. (القاموس) .(6/52)
من غير كيفية تُعْقَل. وهذا هو السم عند أهله، فقد قال قائلون: لا يجوز بيعها؛ فإنه لا خير فيها؛ إنما هي ضرر كله.
وكنا نقول للشيخ: إذا كانت طاهرةً، فلو أعدت لتستعمل في مكائدَ مع الكفار، فهذا وجهٌ في صلاح السياسة والإيالة، فرأيته يتردد في مواضع، وأراد أن ينزلها منزلة الأسلحة.
ومن قتل إنساناً بسم قتلناه به. فليتأمل الناظر في ذلك.
3497- ثم قال: " ولو أقاله بعضَ السلم " (1) .
قد ذكرنا تفصيل القول في الإقالة، وأنها فسخ أم لا. ثم قطعنا بأنها في السلم فسخ، ثم رتبنا كلاماً هو مقصود هذا الفصل. وقلنا: إذا انفسخ العقد في بعض المعقود عليه، ففي تعدي الفسخ إلى غيره ما فيه، كما مضى في تفريق الصفقة. وإن أراد [أحدُ المتعاقدين أن يفرد بالرد بعضَ المعقود عليه، ففيه تفاصيل مذكورة في صورة. وإذا أراد] (2) المتعاقدان الفسخ في البعض عن تراضٍ، وهو الإقالة، فقد صحَّحَ أئمتنا هذا على التراضي، ولم يخرّجوا على تفريق الصفقة. وقد ذكرت ما يليق بذلك فيما تقدم.
3498- ولا يجزىء في السلم التشريك ولا التَّوْلية، فإنهما بيعان، وبيعُ السلم قبل القبض لا يجوز. ومن جوَّز بيعَ المبيع من البائع قبل القبض، لم يجوز بيعَ المسلَم فيه من المسلَم إليه قبل القبض. وهذا رأيته متفقاً عليه. والفرق عسر. والوجه الاستدلال بموضع الوفاق على تزييف الوجه الضعيف في المبيع.
فهذا منتهى ما نقله المزني في الباب، وعلينا الآن الوفاء بما وعدناه من ضبط القول فيما يُرعى من الصفات.
__________
(1) ر. المختصر: 2/208.
(2) ساقط من الأصل.(6/53)
فصل
3499- قد كرر الأئمة في طرقهم أنه يجب ذكر الصفات التي تؤثر في القيمة والأغراض، وهذا مضبوط لا لبس فيه، ولا يتطرق إليه إلا شيئان: أحدهما - أن من الأشياء ما يهون وصفه، وليس إذا وصف عزّ، فيمتنع السلم فيه للعزة، ومنه ما ينتهي إلى صفة لا تُشيع معرفتَه، وفيه ترتيب تقدم ذكره، إذْ ذكرنا ما يعرفه أهلُ الاستفاضة، وما يعرفه عدلان، وما يختص بمعرفته المتعاقدان على زعمهما.
ومما يتعلق بالباب أن الأوصاف التي يمكن الاقتصار فيها على قدر الاسم معتبرة، ثم لا تعتبر غاياتها. وهذا جار في جميع الصفات. وهذا إذا كان الخروج عن الضبط في جهة النهاية. فأما إذا كان الخروج عن الضبط في جهة البداية، فقبيله يمنع السلم، وعليه بنى الأصحاب منعَ السلم في المعيب والرديء؛ فإن المسلِم سيقول: سلم إلي ما هو في المرتبة الأولى في العيب المذكور، والمسلَمُ إليه يزعم أن هذا كذلك، فلا ضبط، ولا يمكننا أن نُنزلهما على شيء. ومن ضم إلى ما ذكره الأصحاب من الصفات المؤثرة في الغرض والقيمة هذه الأحوال الثلاثة، استقل بالكلام في الأوصاف.
وكل هذا والمسلم فيه ليس بحيوان.
3500- فأما إذا كان المسلمُ فيه حيواناً، فنحن نذكر افتراق مسالك الأصحاب في الحيوانات، ونستخرج من بينها ضبطاً.
قال العراقيون: إذا أسلم في جارية، لم يشترط أن يقول في أوصافها دعجاء كحلاء، وكذلك قالوا: لا يشترط ذكر قدِّ الجارية والعبد. وكان الشيخ أبو محمد رحمه الله - يشترط التعرض لجميع ذلك ويقول: لكل صفة عبارة فما غادر الوصافون مقصوداً إلا صاغوا عنه [عبارات] (1) فلتذكر. ثم لنقتصر من كل صفة على أدنى
__________
(1) في الأصل: عبارتان.(6/54)
الدرجات. ومن حمل من أصحابنا الخُماسي والسداسي على القِدَيَيْن (1) الطول والقصر، اعتضد بالنص.
فكان شيخنا يقول: الكَحَل والدَّعج لا ينقصان عن الجعودة في الشعر والسبوطة.
وقد اعتبرهما الأصحاب.
وانتهى تساهلُ العراقيين في الصفات في الحيوانات إلى ما نذكره الآن. قالوا: إذا أسلم في بعير، فإنه يذكر سنه ويذكر أنه من نَعَم بني فلان إذا كانوا جمعاً كثيراً تكثر النَّعم فيهم. ثم قالوا: إن كان نعمهم لا تختلف، كفى ذلك، وإن كان نعمهم تختلف، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنا نكتفي بأقل الاسم على السن المذكور من نعم بني فلان، كما نكتفي بأدنى درجات الجودة. والقول الثاني - أنه لا بد من الوصف إذا اختلفت صفات نَعَم بني فلان.
وهذا الذي ذكروه انحلال عظيم وخروج بالكلية عن قياس الباب، ورضا بالعماية والجهالة، واعترافٌ بأن السلم في الحيوان مبناه على احتمال المجاهيل.
وشيخنا كان يتشوف إلى تنزيل السلم في الحيوان منزلة السلم في المكيلات والموزونات، وطلب نهايات الأوصاف. ومن أحاط باللفظ الذي نقلناه عنه تبين ذلك منه، إذ قال -رحمه الله-: الصفات المقصودة معلومة، وعن كل صفة عبارة، والقاعدة الاكتفاء بالأقل.
3501- فإذا بان المسلكان قلنا بعدهما: لا شك أنا لو رُدِدنا إلى القياس المحض، وأردنا أن ندرك من صحة السلم في المكيلات، والمثليات، والمتقوّمات، القليلةِ الأوصاف جوازَ السلم في الحيوان، سيّما في العبيد، الوصائف منهم، والمرموقين من الغلمان، والخيل العربيات، ما كنا نستدرك هذا.
والشافعي لم يعتمد معنى في السلم في الحيوان، وإنما اعتمد أخباراً وردت في إقراض الحيوان، وعلم أن السلم في معنى القرض.
فليعتقد المنصف أن السلم في الحيوان لا يتصوّر أن يلتزم فيه كلّ ما يؤثر في
__________
(1) الفِدَيَيْن: مثنى: القِدى: وهو القَدْر. يقال: هو مني قِدَى رمح. (معجم) .(6/55)
الثمن، أو يتعلق بغرض. وإن أمكن التقريب فيما يؤثر في القيمة، فَطَمَعُ ضبطِ الأعراض طمعٌ في غير مطمع. فالوجه أن نقول: معظم الأوصاف التي تضيق العبارة عنها نقائضها عيوب في الحيوانات، فإطلاق العقد يغني عنها. وهذا جنسٌ عظيم في الصفات.
3502- ومما نذكره أن الأغراض في الحيوان لا ضبط لها، والناس على اختلاف فيها، ولو ذكر كل ما يقصد في جميع الحيوان، انتهى الأمر إلى عزّة الوجود لا محالة. وإذا وضح هذا في الخَلْق، ثم ضمت الأخلاق إليها، صار المسلمُ فيه عنقاءَ مُغرب (1) .
فإذا تنبه المتنبه لما ذكرناه، قلنا بعده: كل فنٍّ يعتبر في غير الحيوان، فهو في الحيوان أولى بالاعتبار. الصنف: وهو يضاهي الأجناس والأنواع. واللون: وقد تمهد اعتباره. والسن: وهو يناظر الحداثة والعتق فيما تقدم ذكره. ولم يعتبر العراقيون القدّ. وهذا خطأ صريح (2) ؛ فإنا وجدنا لذلك نظراً في العُمُد والجذوع، ولكن الشَّبْرَ (3) بالأشبار لست أراه؛ فإن مما يتعين محاذرته الوقوعَ في العزّة، غيرَ أن أهل المعرفة يعرفون الطويلَ، والرَّبعَ (4) ، والقصيرَ، والتنزيل على أدنى الدرجات قانونُ الكتاب (5) . فهذه الأمور لا بد منها، والسلامة فيها غناء عظيم.
وبقي وراء هذا شيئان: أحدهما - أن ضبط كل عضو بما يليق به، وبما يقصد
__________
(1) العنقاء طائر معروف الاسم مجهول الجسم والوصف، أي خرافي متوهم لا وجود له، و"مُغرب" من أغرب إذا مشى متجهاً إلى جهة الغرب. وهذا اللفظ إشارة إلى المثل المأثور " حلّقت به عنقاءُ مُغرب " يضرب لما بلغ الياس من الحصول عليه غايته (مجمع الأمثال: 1/ 357) .
(2) تعقب الإمام النووي إمامنا في هذا النقل، وقال: " إن الموجود في كتب العراقيين القطع بوجوب ذكر القدّ (ر. الروضة: 4/ 18) وكذا تعقبه الرافعي قائلاً: إن كتبهم مشحونة بأنه يجب ذكر القدّ " (ر. الشرح الكبير: 9/ 289) .
(3) الشَّبر: القياس بالشِّبر. من شبر الثوب شبراً إذا قاسه بشبره (معجم) .
(4) الرَّبع: الوسيط القامة. (معجم) .
(5) يقصد قانون كتابه هذا ومنهجه.(6/56)
منه، لا سبيل إليه. وإن كانت القيم تختلف بهذا اختلافاً بيناً.
والكلام في صفاتٍ تداول أهل البصائر اللهج بها كالدَّعج والكَحَل، وكون الوجه مُكَلْثماً، أو أسيلاً. وهذا موضع النظر. فلم أر للعراقيين التعرضَ لهذا. واعتبرها شيخنا. فلو وصف في السلم عضواً أو أعضاء، ولم ينته إلى العزة، فلا بأس.
ولكن لا يشترط الخوض فيه؛ إذ لو شرط الخوض فيه، لاشترط استيعابه، وفي الاستيعاب العزة، وفي ذكر البعض قبل الانتهاء إلى العزة تحكم.
فإن قيل: ليصف إلى أن ينتهي إلى إمكان العزة. قلنا: من أي طرف يبتدىء؟
فإن قال قائل: فما قولكم في التعرض لكونها خميصةً، مثقلةَ الأرداف، ريانة السيقان، شَثنِةَ الأصابع. قلنا: هذا كالكَحَل والدعج. وقد مضى قول الأصحاب فيه.
3503- فقد تَنَخَّل من مجموع ما ذكرناه أنه يذكر في الحيوان ما يذكر في سائر الأجناس التي يُسلَم فيها، أو يذكر فيها ما يداني المذكورَ فيها، كما ذكرناه في الطول والقصر، فإنه يداني القدر في المقدَّرات، أو الطولَ في المذروعات.
ووصف كل عضو مع إمكانه لا يشترط. وكل صفة نقيضها عيب، فلا حاجة إلى ذكرها، وهي كثيرة، والأمور الجُمليّة التي تذكر في الترغيبات، وتوجيه الطلبات نحو الحيوانات كالكَحَل، والدعج، ودِقة الخصر، وثقل الأرداف، وتكلثُم الوجه، وما في معانيها في محل الخلاف، لم يشترطها العراقيون، وشرطها المراوزة.
وموضع زلل العراقيين قولهم: لا يشترط القدّ وذكره، وهذا خطأ؛ فإن أهل العراق (1) مطبقون على ذكره، والقيمةُ تختلف به، ولا يفضي الأمر إلى العزة، وهو على مضاهاة الأقدار في المقدَّرَات. ولا شكّ أن الحِرفَ، وإن كانت مقصودة، فلا يشترط التعرض لها.
__________
(1) المراد بأهل العراق هنا سكّانه وقاطنوه، وليس فقهاء المدرسة العراقية من الشافعية. وإلا كان الكلام متناقضاً. وقد أشرنا آنفا إلى تعقب النووي لإمام الحرمين. وتخطئته في هذا النقل عن العراقيين.(6/57)
وكنا نذكر للشيخ أبي محمد الملاحة، وكان ينقل عن شيخه القفال تردداً في اشتراطها: تارة كان يقول: ليست الملاحة معنىً، بل كل يشتهي فنّاً ويستملح صفة، وقد يستقبح غيرُه تلك الصفة. وهذا في تناصف (1) الخلق، وفي عُرْض (2) الاعتدال، من غير خروج إلى حد العيب.
وكان شيخنا يميل إلى اعتبار الملاحة، ويقول: هي صفة معلومة، لا ينكرها أهل المعرفة، ثم التنزيل على ما ينطلق عليه الاسم.
فهذا منتهى الإمكان في ذلك، ومبناه على اعتقاد خروج الحيوان عن قياس الباب وقد يتفق السلم في حيوان ينضبط بصفات معدودة من غير عُسرٍ، ولا عزة، فيجب التشوّفُ إلى الضبط فيه.
* * *
__________
(1) تناصف الخلق: استواؤه. يقال: تناصف وجهها حسناً: استوت محاسن أعضائه. (المعجم) .
(2) عُرْض الاعتدال: حدّ الاعتدال. أخذاً من عُرْض البحر أي وسطه (معجم) .(6/58)
بَابُ مَا لاَ يَجُوزُ فِيْهِ السَّلمُ
3504- ذكر الشافعي -رحمة الله عليه- في الباب الأول ما يجوز السلم فيه، وأراد الإيناس بذكر الأوصاف، فذكر أجناساً، وأشار في كل جنسٍ إلى ما يليق به، ومقصوده في هذا الباب أن يُبيّن ما لا يجوز السلم فيه، ويشير إلى وجوه امتناع الوصف، حتى يجتمع للناظر من الباب الأول وهذا الباب ما يفيد الامتناعَ، وما يفيد التجويز. وقد صدر الباب بالنَّبل فقال: " لا يجوز السلم في النَّبل " (1) .
والأمر على ما قال. وسبب المنع التركّب من أركانٍ: الخشبُ والعَقَب (2) ، والريش، والنصل في مكان الرَّعْظ (3) . وكل جنس من هذه الأجناس مقصود القدر في السهم، وهو مجهول، وفيه التخريط (4) ، والأخذ في الدقة عن غِلظ، وهو يتضمن جهالة، والغرض يختلف به اختلافاً بيّناً. هذا معلومٌ، لا يلزم عليه إلا أن يعارَض بالحيوان.
وقد ذكرنا أنه خارج عن قياس الباب، وقد انتهض بعض الأصحاب للانتصار فقال: " أفراد أركان الحيوان ليست مقصودة، وإنما المقصود البنية ". ولا شفاء في هذا ما لم يحط المرء بما ذكرناه.
ويجوز السلم في خشب النَّبل، وفي بيع السهم وعليه الريش، نظرٌ؛ لمعنىً في بيع العين؛ فان الريش المستعمل على النشاب نجس، على القول الظاهر. وقد يقع
__________
(1) ر. المختصر: 2/209.
(2) العَقَب: بفتحتين: العصب الذي تعمل منه الأوتار. (المعجم) .
(3) الرَّعْظ: يقال: رعظَ السهمَ رعظاً: جعل له رُعظاً. والرُّعظُ مدخلُ سِنْخ النصل، وفوقه لفائف العَقَب. (قاموس) .
(4) " التخريط ": التشكيل على هيئة مخروطية، مدببة الرأس، مأخوذ من الشكل المخروطي (معجم) .(6/59)
الكلام في تفريق الصفقة على تنجيس الريش، فالوجه بيع النشابة دون الريش، فيكون كبيع ثوب متضمخ بالنجاسة.
فصل
قال: " ولا في اللؤلؤ، ولا في الزبرجد ... إلى آخره " (1) .
3505- قال أصحابنا: يمتنع في النفائس من هذه الجواهر، وعلل بعضُهم بأن الضبط غيرُ ممكن، وليس الأمر كذلك؛ فإن الضبط غيرُ مقصودٍ على أقصى الوجوه، فيقال: ياقوتة وزنها كذا، وشكلها كذا، لحمية أو جمرية، أو وردية، أو رمانية.
ويقال: لؤلؤة مدحرجة، صافية اللون، براقة البياض. وزبرجد أخضر ريحاني، أو [سِلْقي] (2) .
فسبب المنع أن الأوصاف إن لم تذكر، كان السلم فيه مجهولاً، وإن ذكرت جَرَّت عزة.
والسلم في اللآلىء الصغار التي تباع وزنا ولا يُجرّدُ النظرُ إلى آحاد حباتها، جائزٌ.
وكان شيخي يقول: يجوز السلم في الدرّ التي يُتحلَّى بها، إذا لم تثقل، وكان في الحبة سدس مثلاً؛ فإن هذا لا يعز وجوده.
ومنع بعض الأصحاب ذلك، فإن اتفاق السدس من غير مزيد ولا نقصان، مع استجماع الصفات المرعية نادر. والمسألة محتملة.
فإذاً مدار الفصل (3) على الجهالة والإفضاء إلى العزة. وأن يكون المرء محيطاً بمسائلِ السلم؛ حتى يضع السلم في الحيوان [نبذة في فكره] (4) لا يقيس بها شيئاً،
__________
(1) ر. المختصر: 2/209.
(2) نسبة إلى السِّلق، بَقْلة له ورق طويل، غض طري. (معجم) والمراد خضرة الزبرجد تشبه خضرة الريحان، أو خضرة السِّلق. هذا. وفي الأصل. "شفقي".
(3) في (ص) ، (ت 2) : القصد.
(4) في الأصل جملة غير مقروءة بهذا الرسم ... في الحيوان "في يده في مكره لا يقيس ... " هكذا بدون نقط وفي (ص) "بيده في فكره" بهذا الرسم الواضح. =(6/60)
ولا نقيسها على شيء، ويجري في تفريعها جريان من لم يدرك أصله بقياسه. وإنما زعه على قدر الضرورة.
فصل
قال الشافعي: " وأرى الناس تركوا وزن الرؤوس ... إلى آخره " (1) .
3506- السلمُ في الرؤوس والأكارع قبل التنقية غير جائز، لما عليها من الصوف والشعر، والمقصود مستتر بها.
وفي السلم فيها بعد التنقية قولان: أحدهما - الجواز، كالسلم في لحم الفخذ وغيره من الأعضاء. والثاني - لا يجوز؛ لأنه يختلف اختلافا متبايناً في المشافر، والمناخر، وعظم اللحيين، وعظم الأسنان، واللسان، فقد يعظم منها ما لا يؤكل إلا على تكره، ويصغر منها ما يقصد، وهذا يختص بالرأس، والتجويز في الأكارع أقرب.
ثم من صحح السلم شرط الوزن.
3507- وذكر بعد هذا منعَ السلم في الجلود. يعني الجلودَ الطاهرة؛ فإنها لا تنضبط بتشكيل، وفيها انعطافات متباينة، والغرض من الأَدَم لا ينحصر على الوزن، فالسلم إذاً فيها كالسلم في ثوب من غير ذرعٍ.
ولو قطعت وشكلت أشكالاً تقبل المساحة، كالنعال السبتية (2) ، ففي السلم فيها وجهان: أحدهما - وهو الأصح الجواز. والثاني - المنع؛ لأن ثخانتها ودقتها خارجان عن الحصر، وأطراف الأدَم متفاوتة في ذلك، ولا يتأتى درك الجميع بسَبْر طرفٍ.
والأصح الصحة. والاعتمادُ على الوزن لا محالة. ولا التفات إلى الحيوان.
__________
= و (ت 2) "بيده في فكرة" بهذا النقط، والمثبت محاولة من المحقق لإقامة العبارة.
(1) ر. المختصر: 2/209.
(2) السبت كل جلد مدبوغ، ومنه النعال السبتية: أي الجلدية التي لا شعر عليها. (معجم ومصباح) .(6/61)
ولا يصح السلم في الخفاف والصنادل؛ لأنها مجهولة كالنشاشيب.
وإذا امتنع السلم في النشاب، فالقوس المركب، وهو قوس العجم أولى بالمنع.
والنَّبعة (1) التي يتخذ منها قوس العرب بأخذٍ في التخريط من الطرفين، فتتطرق إليه الجهالة.
والأواني المنطبعة إن كانت على شكل واحد، لا تفاوت فيها تضايقاً واتساعاً، جاز السلم فيها، والاعتماد على الوزن. وإن كانت تختلف أشكالُها تضايقاً واتساعاً، فالسلم يمتنع.
هذا مجموع ما ذكره رضي الله (2) عنه.
* * *
__________
(1) النبعة واحدة النبع: شجر ينبت في قُلّة الجبل، تتخذ منه القسي. (معجم) .
(2) يعني الإمام الشافعيَّ.(6/62)
بَابُ التَّسْعِير
وهل ينادي منادي الإمام في البلد، ويأمر بسعرٍ مقدرٍ في جنس حتى لا يتعدَّوْه؟
3508- فنقول: ليس للإمام هذا في رخاء الأسعار وسكون الأسواق؛ فإنه حجرٌ على الملاك، وهو ممتنع. فأما إذا غلت الأسعار، واضطر الناسُ، فهل يجوز للإمام أن يسعّر؟ فيه وجهان مشهوران: أحدهما - المنع طرداً للقياس الكلي. والثاني - الجواز، نظراً إلى مصلحة العامة. وقد روي: " أن عمرَ بن الخطاب -رضي الله عنه- مر بحاطب بن أبي بلتعة، وبين يديه غَرارتان فيهما زبيب، فسأله عن سعره، فَسَعَّر مُدَّين بدرهم فرآه عمرُ غالياً، وقال: " حُدّثتُ بعِيرٍ مقبلة من الطائف تحمل زبيباً، وهم يعتبرون بسعرك، فإما أن ترفع في السعر، وإمَا أن تدخل زبيبك البيتَ، فتبيعه كيف شئت " (1) . وأراد برفع السعر الزيادة في وزن الزبيب.
ومن منع التسعير احتج بما روي عن أنس أنه قال: غلت الأسعار بالمدينة، وقلنا: يا رسول الله لو سعرت لنا! فقال عليه السلام: " إن الله هوَ المسعر القابض الباسط الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله تعالى وليس لأحد منكم مظلمة في دم ولا مال " (2) وأما حديث عمر فقد روي أنه كان يحاسب نفسه كل ليلة بما جرى له في
__________
(1) حديث حاطب بهذا السياق، وبهذه الألفاظ رواه الشافعي: المختصر: 2/ 209. وروى مالك في الموطأ أن عمر رضي الله عنه مر بحاطب، وهو يبيع زبيباً له بالسوق، فقال له عمر: إما أن تزيد في السعر، وإما أن ترفع من سوقنا. الموطأ: كتاب البيوع، باب الحكرة والتربص، ح 57 ص 651.
(2) حديث أنس، رواه أحمد: 3/ 156، 286، أبو داود: الإجارة، باب التسعير، ح 3451،
والترمذي: البيوع، باب ما جاء في التسعير، ح 1314، وابن ماجة: الإجارات، باب من
كره أن يسعر، ح 2200، والدارمي: ح 2545، وأبو يعلى: ح 2774، 2861، 3830. =(6/63)
نهاره، فروي أنه فعل ذلك، فوجد فيما جرى له في يومه تسعيره على حاطب، فندم وأتاه في جوف الليل، وقال له: " إن الذي قلتُ ليس بعزيمة ولا قضاء، وإنما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد، فحيث شئت، فبع، وكليف شئت، فبع ".
فصل
3509- روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون " (1) وقال عليه السلام: " من احتكر طعاماً أربعين يوماً يقصد به الغلاء على الناس برئت منه ذمة الله " (2) .
والجالب هو الذي يجلب الطعام إلى البلد وقتَ الضيق والغلاء ليوسع على المسلمين، وهو على مضادة المحتكر؛ فإن المحتكر هو الذي يحبس الطعام حتى تزداد الأسعار غلاءً وارتفاعاً.
ثم قال الأصحاب: المحتكر الذي يلحقه اللعن والوعيد صاحب مال يشتري الطعامَ ويحبسه، ولا [يتركه] (3) حتى يشتريه المساكين والضعفاء.
فأما من يشتري الطعام في وقت الرخص وكساد الأسواق، ويحبسه ليبيعه إذا غلا، فلا بأس؛ فإن أصل احتكاره وتربّصه كان في رخاء الأسعار، حيث لا ضرار، وربما يكون ما ادخره قائماً مقام الذُّخر للناس، ولولا ادخاره، لكان يضيع، ويتفرق.
__________
= والحديث صححه ابن الملقن في البدر المنير: 6/508، وانظر التلخيص: (3/ 30 ح 1160) .
(1) حديث: "الجالب مرزوق" رواه ابن ماجة: التجارات، باب الحكرة والجلب، ح 2153، والحاكم: 2/ 11، والدارمي: ح 2544، وعبد بن حميد، وأبو يعلى، والعقيلي في الضعفاء من حديث عمر، قال الحافظ: بسند ضعيف. (ر. التلخيص: 3/29 ح 1158) .
(2) حديث: " من احتكر طعاماً ... " أحمد: 2/ 23، الحاكم: 2/ 11، 12، وابن أبي شيبة: 6/ 104، والبزار (كشف الأستار: ح 1311) ، وانظر: التلخيص: (3/ 30 ح 1159) .
(3) في الأصل و (ص) : ينزل.(6/64)
وكذلك من اتفقت له غَلة من ضيعته، فحبسها على أي قصد أراد، لم يتعرض للوعيد.
والقول في هذا الآن يتعلق بقطب عظيم، وهو أن الناس إذا كانوا يتهاوَوْن على الرَّديء، وقد أسرع فيهم المَوَتَانُ (1) العظيم الذريع، وانتهى كل واحدٍ إلى استحلال الميتة وطعام الغير، فالقول في هذا وفي كل ما يدّخره كل إنسان لنفسه ولعياله ليس بالهين.
وسأذكر فيه في باب المضطر أصلاً يرقى عن مجال الفقهاء، وننبه على قاعدة عظيمة، إن شاء الله عز وجل.
* * *
__________
(1) (ص) ، (ت 2) : الوبان. والمَوَتان: الموت والهلاك. (المعجم، والمصباح، وتهذيب الأسماء واللغات) .(6/65)
بَابُ امْتِنَاعِ ذِي الحق
3510- إذا أتى المسلَمُ إليه بما عليه على الصفات المطلوبة، فلا كلام. وإن أتى بجنسٍ آخر، فهو الاعتياض عن المسلم فيه، وهو باطل.
وإن كان أجودَ مما وُصف، جاز قبولُه. وإن قال: لا أقبله ولا أتقلّد المنة، فالأصح أنه يجبر على قبوله.
ومن أصحابنا من قال: لا يجبر؛ لمكان المنّة، وهي ثقيلة على ذوي المروءات.
ولو أتى بأردأ مما وصف، لم يلزم المسلِمَ القبولُ. وإن قبل محابياً، جاز. وإن أتى بنوعٍ آخر والجنسُ متحد، مثل أن يقع السلم في الزبيب الأبيض فيأتي بالزبيب الأسود أو الطائفي، ففي المسألة وجهان عند التراضي: أحدهما - يصح قبوله، ولا يكون اعتياضاً. والثاني - لا يجوز قبوله؛ فإن اختلاف النوع كاختلاف الجنس.
ولو أسلم في الحنطة النفيسة، فأتى بالخسيسة، فمن أئمتنا من جعل ذلك كاختلاف النوع، حتى يخرج على الخلاف. ومنهم من جعل النوع واحداً، وجعل هذا اختلافَ صفة، مع اتحاد النوع.
وإذا جاء بعبد هندي والمسلَمُ فيه تركي، فطريقان: منهم من جعله كاختلاف الجنس، ومنهم من جعله كاختلاف النوع، على ما مضى.
ولو أسلم في الحنطة، لم يُقبل التراب والتبن فيه، وقد ضبطت هذا في كتاب الربا وبيّنت القدرَ المحتمل منه.
وإذا أسلم في التمر، فأتى بالرطب من ذلك النوع، فطريقان: منهم من جعل الرطب مع التمر نوعين، ومنهم من جعلهما نوعاً واحداً.
وإذا أسلم في لحم الطير، لم يُقبل الرأس والرجل، يعني ما لا لحم عليه من الرجل.(6/66)
ولو أسلم في لحم السمك، لم يقبل الرأس والذنب؛ لأن مطلق اسم اللحم لا ينصرف إليه ولا يقتضيه، وليس كالعظم في أثناء اللحم؛ فإنه كالنوى في التمر، وقد جرى العرف بتنحية الرأس والذنب في السمك.
وفي هذا نظر عندي فأقول: إن أسلم في لحم السمك، فالأمر على ما قال الأصحاب، وإن أسلم في السمك، فلا يكلف تنحية الرأس والذنب، والعلم عند الله.
وأجنحة الطائر تُمَعَّط فيقع [التسليم] (1) بعد ذلك. ويجوز أن يقال: يزال ذنب السمك وجناحه؛ فإن الحيتان صحيحة الأوساط، وكأنها طيور الماء.
ثم ذكر الشافعي أنه إذا أسلم في مكيل وقبض وزناً، أو في موزونٍ وقبض كيلاً، فليس هذا قبضاً صحيحاً، وهو بمثابة القبض جزافاً، وقد قدمته في قبوض البيع على أكمل وجه.
فصل
قال: " ولو جاءه بحقه قبل مَحِلِّه ... إلى آخره " (2) .
3511- من عليه الحق إذا جاء به، فلا يخلو إما أن يكون الحق حالا أو مؤجلاً، فإن كان مؤجلاً، وأتى به قبل الحلول، نظر: فإن كان لصاحب الحق غرضٌ في التأخير. كأن كان حيواناً لا غنى به عن علف، أو كان في وقت نهب، وليس للمعطي غرض ظاهر إلاّ براءة الذمة، وخيفة هجوم الموت، فلا يجبر صاحب الحق على قبول حقه حيث انتهى التصوير إليه، قولاً واحداً؛ فإن غرضه في الامتناع عن القبول لائح.
ولو لم يكن لمستحق الحق غرض ظاهرٌ في الامتناع من القبول، وكان للمعجِّل غرض في التعجيل، كالمكاتب يستفيد بالتعجيل العتقَ، وكذلك من رهن بالدين المؤجل عليه رهناً، فهو يطلب بتعجيل الدين فك الرهن. ومن الأغراض الظاهرة أن يكون
__________
(1) في الأصل: السلم.
(2) ر. المختصر: 2/210.(6/67)
بالدين ضامن، وكان من عليه الدين يحاول تفريغ ذمته.
فإذا لم يكن لذي الحق غرض في الامتناع، وظهر غرضُ المعجل أُجبر صاحبُ الحق على القبول.
وإن لم يكن لواحدٍ منهما غرض: لا لذي الحق في الامتناع، ولا للمعجل، ففي المسألة قولان: أحدهما - أن ذا الحق لا يجبر، وله أن يبني الأمر على الوفاء بالأجل، ويجعل المعجِّلَ كالمتبرع المعطي مزيداً، وإذا كان كذلك، فله الامتناع من تقلّد هذه المنة.
والقول الثاني - أنه يجبر؛ فإن الأجل حق من عليه الدين، فإن أسقطه، لم يكن لمستحق الحق أن يمتنع. وإذا كان أصل الحق يسقط بإبراء مستحقه من غير شرط القبول على الأصح، فينبغي أن يسقط حق الأجل من غير حاجة إلى قبول من يستحق أصل الدين.
ولو كان لصاحب الحق غرض في الامتناع، وكان للمعجل غرض ظاهر في التعجيل، فالذي ذهب إليه الأكثرون أنا نرعى جانب مستحق الحق، ونقطع بأنه لا يجبر لعذره اللائح، ومن أصحابنا من جعل تقابل العذرين كسقوطهما، وخرَّج المسألة على القولين كما ذكرناه.
ولو لم يكن للمستحق غرض في الامتناع، وظهر غرضُ المؤدي، فقد قطع الأصحاب بالإجبار في هذه الصورة.
ولو كان الدين سلماً، فعمّ وجودُ المسلمِ فيهِ قبل الحلول، وكان يخاف المسلَمُ إليه من انقطاع الجنس قبل الحلول؛ فهل يعد ذلك عذراً في جانب المعجِّل؛ حتى يبنى عليه ما تقدم من التفصيل في أعذار المعجِّل؛ فعلى وجهين: أحدهما - أنه عذرٌ؛ فإنه قد يترتب على التأخير انفساخ العقد، أو حق فسخه. والثاني - أنه ليس بعذر؛ فإن العقد إن انفسخ، رد رأس المال، وسقط عنه الدين، في مقابلة ما يرد.
هذا كله في الدين المؤجل إذا عجَّله مَن عليه.
3512- فأما إذا كان الدين حالا، فجاء به من عليه، وامتنع المستحق من القبول،(6/68)
ففي المسألة طريقان: من أصحابنا من قال بإجبار ذي الحق. فيقال له: إما أن تقبل، وإما أن تبرىء ذمته من الدين.
ومن أصحابنا من ذكر في ذلك قولين أيضاً؛ فإن مستحق الدين يقول: الحق لي، وإليّ طلبه، فليس لمن عليه الحق أن يحتكم عليَّ في طلب الحق.
ومما يجب التَنبُّهُ له أنا في الدين المؤجل فصلنا بين المعذور وبين ما لا عذر له، وإذا حل الدين، فنقول: أما جانب مستحق الحق، فلا يختلف بأن يكون معذوراً، ووجه بيّن. وأما المعطي، فإن كان معذوراً، أُجبر صاحبه على القبولِ قولاً واحداً.
ولم يجر القولان؛ من قِبَل أن العذر يوجب قبول ما يَنْقُدُه من الدين المؤجل، فما الظن بالدين الحالّ؟
ثم إذا وجد العذر في الجانبين، والدّين حال، فصاحب الحق مجبر على القبول قولاً واحداً؛ فإنا قد أوضحنا أن عذر مستحق الدين لا اعتبار به إذا كان الدين حالاً.
ثم حيث يجبر على القبول، فإن لم يقبل، قبض القاضي عنه، أو أناب من يقبض.
وإذا جرى ذلك، فقد برئت ذمة المديون، وكان المال أمانةً لمستحق الحق في يد الحاكم، أو في يد من أنابه.
3513- وممّا يتصل بهذا أن من عليه الحق إذا ظفر بمستحق الحق في غير المكان المتعيّن شرعاً أو شرطاً، وأراد إجبار مستحق الحق على القبول، فالتفاوت في المكان كالتفاوت في الزمان: فإن كان على الناقل مؤونة، لم يجبر مستحق الحق على قبوله، وهو يناظر في الزمان ما إذا ظهر غرض بيّن في الامتناع قبل الحلول.
وإن لم يكن في نقل المستحق مؤونة، فهل يجبر مستحِق الحق على قبوله في غير المكان المستحق؛ فعلى القولين المقدمين فيه، إذا جاء بالحق قبل حلول الأجل؛ فالتفاوت المكاني في الحكم الذي أردناه كالتفاوت الزماني.
فرع:
3514- تردد الأئمة في السلم في الثوب الذي يصبغ بعد نسجه، فيما ذكره العراقيون: فأجازه بعضهم، وهو ما قطع به الإمام.
ولا خلاف في جواز السلم في الثوب الذي ينسج بعد الصبغ.(6/69)
ولا فرق؛ فإن عين الصبغ قائم في الثوبين.
ومن أئمتنا من منع السلم في الثوب المصبوغ بعد النسج، واحتج عليه بأن الصبغ عينٌ ضمت إلى الثوب، وهو مجهول المقدار. والغرض يتفاوت. وهذا إنما كان يتجه لو امتنع السلم في الذي صبغ غزلُه، ثم نسج. والأصح التجويز؛ فإن الصبغ صار صفة في الثوبِ لا يُطلب تمييزه وفصله.
فرع:
3515- حكى صاحب التقريب عن ابن سريج أنه قال في السّمك المملح: إن كان يظهر للملح وزن، فلا يصح السلم لجهالة مقدار المسلَم فيه.
وإن كان لا يظهر للملح وزن، لم يخل إما أن يكون له قيمة أو لا يكون، فإن لم تكن له قيمة، فلا أثر له؛ إذ لا قيمة ولا وزن، والسلم صحيح. وإن كان له قيمة، فهو كالثوب المصبوغ بعد النسج.
فإن قيل: أرأيتم لو كان للصبغ وزن في الثوب؟ قلنا: لا أثر لوزنه في الثوب؛ فإن الثوب لا يوزن.
فرع:
3516- إذا. قبض المسلِمُ المسلَم فيه، وتلف في يده، واطلع على عيب، فرده، فالاستبدال (1) منه غير ممكن بعد التلف. ولكن له الرجوع بالأرش، وهو قسط من رأس المال. وإذا حصل الرجوع، لم يكن هذا استرداداً، ولكنه في حكم فسخ العقد في ذلك المقدار المسترد. وذهب المزني إلى أن الرجوع بالأرش لا يثبت بعد تلف المقبوضِ.
* * *
__________
(1) في النسخ الثلاث: والاستبدال.(6/70)
كتاب الرهن
3517- الرهن توثيق الدين بعين مالٍ يسلمها الراهن إلى صاحب الدين، وحقيقةُ الرهن الإثبات، ومنه قيل: الحالة الراهنة، أي القائمة الثابتة.
والأصل في الرهن الكتاب، والسنة، والإجماع. فأما الكتاب، فقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] ، قوله تعالى {فَرِهَانٌ} مصدر أقيم جزاءً للشرط بحرف التعقيب، وهو الفاء، فقام مقامَ الأمرِ؛ فإن الشرط والجزاء لا يعتقبان إلا على الأفعال، فجرى ذلك مجرى الأمر، كقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] ، وقوله: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4] وقوله تعالى: {فَفِدْيَةٌ} [البقرة: 196] ، وقوله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] أي فحرروا، وافدوا، واضربوا، وصوموا.
و" رهن رسول الله صلى الله عليه وسلم درعه من أبي [الشحم] (1) اليهودي، بشعير استقرضه منه، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهون " (2) .
والرهن محثوث عليه، وليس حتماً، فإنه قال تعالى في سياق الآية {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] .
__________
(1) في الأصل: أبي شحمة. وهو تصحيفٌ، نصَّ عليه وبيّن أنه وقع من إمام الحرمين الحافظُ ابن حجر عند تخريج الحديث في التلخيص 3/ 81. وهو على الصواب في (ت 2) : " أبي الشحم " وفي (ص) " أبي شحمة " كالأصل، فهذا يعني أن التصحيف كان في بعض نسخ النهاية دون بعض.
وانظر تعليقاً آخر عن الموضوع ذاته قبل باب الرهن والحميل بنحو سبع صفحات (ص 218) .
(2) حديث: " توفي رسول الله صلى اله عليه وسلم، ودرعه مرهونة " متفق عليه من حديث عائشة: (اللؤلؤ والمرجان: 392 ح 1033) .(6/71)
وأصل الرهن مجمع عليه، وهو يشتمل على ركنين: مرهون، ومرهون به. أما المرهون، فلا يكون إلا عيناً، لأن الغرض من الرهن التوثيق، ولا يتوثق الدين بالدين، وهو مشبه بالهبة، من حيث إنه تبرع يفتقر إلى القبول. ثم الهبة تختص بالعين. ولو قال: وهبت منك ألف درهم ثم نقدها عن ذمته، وأقبض لم يصح، بخلاف ما لو باع ألفاً بألف، ثم نقدا وتقابضا قبل التفرق. هذا في المرهون.
وأما المرهون به، فلا يكون إلا ديناً؛ فإن الغرض استيفاء الدين من العين، عند فرض العسر. ولو كان المرهون به عيناً، فاستيفاؤها من المرهون محال، وهي متعينّة.
وفي ضمان الأعيان المضمونة كلام وتردد سنفرعه على قولي كفالة الأبدان من كتاب الضمان. وإذا جوزنا ضمان الأعيان المضمونة، فهو بتقدير ضمان قيمتها إذا تلفت، ولا يجوز الرهن بالعين على هذا التقدير في المذهب الظاهر؛ لأن الضامن لا ضرر عليه إذا امتد بقاء العين، فالذمة متسعة لالتزام الحقوق. ولو جاز الرهن على هذا التقدير، لجر ضرراً دائماً لا نهاية له؛ فإن العين التي يقدر الرهن بها ربما لا تتلف أبداً، فيبقى الرهن دائماً، ويطرد الحجر بدوامه.
فصل
قال الشافعي: " والدين حق، فيجوز الرهن به ... إلى آخره " (1) .
3518- قال الأصحاب: أراد حق لازم.
فنقول: قد تقدم أن المرهون به يشترط أن يكون ديناً. وغرضنا انحصار الرهن في قبيل الديون. وهذا الفصل يحوي تقاسيم الديون، فهي منقسمة ثلاثة أقسام: دينٌ لازم مستقر في الذمة، كالسلم، والقرض، والأروش، والأثمان، والمهور، والأجور، فيجوز الرهن بهذه الديون.
والقسم الثاني - دين لا يتصف باللزوم، ولا يُفضي إليه، وهو كنجوم الكتابة، فلا
__________
(1) ر. المختصر: 2/210.(6/72)
يجوز الرهن بها؛ فإنها لم تتأكد باللزوم، ولا يتصور أن تنتهي إليه في نفسه. فالتوثيق به لا معنى له. فان قيل: إذا أدى المكاتب النجم، فقد انتهى إلى التأكد. قلنا: نعم هو كذلك، ولا حاجة بعده إلى التوثيق.
والقسم الثالث - دين لا يتصف باللزوم في نفسه، ولكنه يفضي إلى اللزوم.
وهذا ينقسم قسمين: منه ما أصله اللزوم، والجواز دخيل فيه مرفق. ومنه ما أصله الجواز، ولكنه يفضي إلى اللزوم.
أما القسم الأول، فهو كالثمن في زمان الخيار، [فالرهن به جائز. وهذا يتطرق إليه خلافٌ، لا محالة، متلقى من اختلاف القول في أن البيع في زمان الخيار] (1) هل يتضمن نقل الملك في المبيع إلى المشتري، وفي الثمن إلى البائع؟ فإن حكمنا بأنه يقتضي النقلَ، فعليه قطع الأصحاب بصحة الرهن. وإن قلنا: إنه لا يقتضي النقلَ أصلاً، فالظاهر منعُ [الرهن] (2) ؛ إذ لا دين، فيقع الرهن لو وقع قبل ثبوت الدين.
هذا قسم من قسمين انقسم إليهما القسم الثالث.
والقسم الثاني - الجُعْل في الجعالة (3) ، فمبناه في وضع العقد على الجواز، ولكنه ينتهي إلى اللزوم عند تمام العمل، ففي جواز الرهن به وجهان: أحدهما - أنه جائز كالثمن في زمان الخيار. والثاني - لا يجوز؛ فإنه قبل اللزوم بعيد عن التوثيق؛ إذ لا يتصور من المتعاقدين في الجعالة أن يلزما الجُعل باختيارهما قبل العمل. ويتصور من المتبايعين إلزام الثمن باختيارهما.
ومن قال بالوجه الأول، انفصل عن هذا، وقال: لو كان ثبوت الرهن مأخوذاً من اختيار اللزوم، لكان الرهن بالثمن في زمان الخيار متضمناً إلزامَ العقد. وليس كذلك.
3519- وكل ما جاز الرهن به صح ضمانه، وكل ما صح ضمانه جاز الرهن به، إلا العهدة فإن ضمانها جائز على ظاهر المذهب -وهو ضمان الدَّرَك- ولا يجوز الرهن
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(2) في النسخ الثلاث: الدين. والمثبت تقدير منا رعاية للسياق.
(3) بكسر الجيم، وبعضهم يحكي تثليثها. (المصباح) .(6/73)
بعهدة المبيع. والفارق بينهما أن ضمان العهدة إنما جاز مصلحة في العقد، إذ قد لا يثق المشتري بغريب يبايعه، فينكف عن معاملته. ويلتحق بهذا السبب ضرار بالجانبين، فسوغ الشرع التوثيقَ بالضمان. ثم لا ضرر في ذلك الضمان؛ فإن الضامن لا طَلِبة عليه قبل بدوّ الاستحقاق. وإن جوزنا الرهن بالعهدة، لكان ذلك التزام حجرٍ (1) في المرهون لا نهاية له، وهو تنجيز ضرار لا نهاية له على مقابلة توقع ضرار.
وحكى شيخي عن شيخه القفال وجهاًً في جواز الرهن بالعهدة. والسبب فيه أن الثقة قد لا تحصل إلا به، والرهن منصوص عليهِ في آية المداينات في طلب الوثائق دون الضمان، وما قدر من الضرار غيرُ سديد؛ فإنه إنما يعظم وقع الضرار لما يلزم من غير اختيار، وكلامنا هذا في جواز الرهن إذا وقع الرضاً به، لا في وجوبه.
قال: " وكذلك كل حق لزم في حين الرهن وما تقدم الرهن ... إلى آخره " (2) .
3520- أشار الشافعي إلى أن الآية في دين مخصوص، ثم بين أن ما سواه من الديون اللازمة في معناه.
فنقول: إذا وجب الدين وأنشىء الرهنُ بعده، فهذا رهنٌ لا كلام فيه. ولو قدم الرهن بشقيه على وجوب الدين، لم يصح عند الشافعي.
فلو قال: رهنتك هذه العين بألف تقرضنيه، فقال المخاطب: ارتهنتُ، ولا إقراض بعدُ (3) ؛ فهذا مردود، وإن جرى القرضُ بعد ذلك؛ فإن الرهن توثيق الدين، ولا يعقل التوثيق قبل الدين، إلا على مذهب التعليق، وتعليق الرهن باطل.
والقول في الضمان قبل الوجوب كالقول في الرهن. ثم في المذهب تفصيل طويل
__________
(1) (ص) ، (ت 2) : جحد.
(2) ر. المختصر: 2/210.
(3) " الواو " واو الحال، والمعنى: أن الإيجاب والقبول بعقد الرهن قد تم والحال أنه لم يتم القرض الذي به الرهن.(6/74)
في ضمان ما لم يجب. سيأتي في أولِ كتاب الضمان، ونذكر ترتيبين في القديم والجديد.
ثم الرهن يجاري الضمان في محل الوفاق والخلاف، إلا في أمثال ضمان العهدة؛ فإن الرهن ينفصل في ظاهر المذهب عن الضمان، ويجري وجه مطرد للقفال في تنزيل الرهن منزلة الضمان.
هذا قولنا في طرفي الثبوت والنفي: ذكرنا تقدم الدين، وإنشاء الرهن بعده، ثم ذكرنا تقدم الرهن بشقيه وابتداء الوجوب بعده.
3521- ونحن نذكر الآن حكم الاقتران بين الرهن والدين، ونُجري فيه حكم التعاقب أيضاًً. ونرسم في غرضنا مسائل أرسالاً.
فلو تقدم شِقَّا الرهن على البيع، وذلك أن يتراهنا بالثمن، ثم لا يتفرقا حتى يتبايعا، فالمذهب المثبوت أن ذلك غيرُ جائز. وأبعد بعض الأصحاب، فجوّز ذلك إذا جمع المجلسُ الرهنَ والبيعَ، وجعل اتحادَ المجلس كالاقتران بالإيجاب والقبول، كما سنصفه الآن.
وهذا ليس بشيء؛ فإن المجلس إن ثبت له حكم، فهو بعد البيع، وعقد الرهن لا [مجلس] (1) له، ولا أثر لخيار المجلس فيه، كما قدمناه. ثم لو قدر له مجلس، فالبيع بعده ليس من لواحقه. ونحن إن رأينا إلحاق شيء بالعقد في مجلسه، فهو في توابع العقد الذي المجلس مضاف إليه. ولولا ذكرُ الأصحاب هذا، لأضربنا عنه.
هذا بيان اجتماع الاقتران بتقدير تقدم الرهن، وتعقب البيع.
فأما إن امتزج إيجاب الرهن واستيجابه بالتواجب في البيع، فالوجه أن نفصله.
فمن صور ذلك أن يتقدم ذكر الرهن، بأن يقول البائع: ارتهنت ثوبك هذا بألف، وبعتك هذه الدار به، فقال المشتري: رهنتُ واشتريت، أو قال: اشتريت ورهنت.
فإذا قدم المبتدىء ذكر الرهن، وعقبه في استكمال الكلام بذكر ما يليق به من شقي البيع، فظاهر المذهب أن هذا غير جائز.
__________
(1) في الأصل: مجيز.(6/75)
ويلتحق بهذه الصورة أن يقول البائع: بعت وارتهنت، ويقول المشتري رهنت واشتريت، فسواء وجد تقدم شقي الرهن على شقي البيع على صورة الاقتران، أو وجد من أحد الجانبين تقديم شق من الرهن، فالوجه منع صحة الرهن.
ويقرب أن يرتب هذا على تقدم الشقين من الرهن. ووقوع البيع بعدهما.
ولكن لا ينبغي أن يُعتقد ذلك الوجه الضعيف من أصل المذهب، حتى يُبتنى عليه أو يُرتَب عليه.
فلنبتدىء قائلين: الأصح أن الرهن يفسد في الصورة التي ذكرناها؛ لأنه قُدِّم شق منه أو شقاه على شقي البيع المثبت للثمن، وإذا كان الرهن يستدعي ثبوت الدين، فأحد شقيه يستدعي ذلك أيضاًً. ووضع الرهن استئخار أوله عن ثبوت الدين.
3522- ومن المسائل في الباب أن يتقدم مصراع البيع على مصراع الرهن، وذلك مثل أن يقول للبائع: بعت منك هذه الدار، وارتهنت هذا الثوب بالثمن. فقال المشتري: اشتريت ورهنت، فقدم كل واحد شقَّ البيع على شق الرهن، ووقع شقا الرهن ممتزجين بشقي البيع، على ما وصفناه، وميزنا هذا النوع في التصوير عما تقدم عليه بذكر كل واحد من المتخاطبين شق البيع أولاً، فإنه لو ذكر أحدهما شق الرهن، ثم شق البيع، اتصل بالفن المتقدم على هذا.
ومن صور هذا القسم أن المشتري لو قال: بعني هذه الدار ورهنت هذا الثوب، فقال البائع: بعت وارتهنت، وجعلنا الاستدعاء قبولاً كما سيأتي في موضعه.
هذا بيان الصور.
ونصُّ الشافعي ظاهر في تصحيح البيع في هذه الصور، واتفق على القول بالصحة فيها الأصحاب.
وذكر القاضي في طريقه تخريجاً من عند نفسه، لم ينقله؛ فقال: هذا مشكل؛ فإن أحد شقي الرهن يقع لا محالة قبل ثبوت الثمن بانعقاد البيع، ووضع الرهن يقتضي استئخار إنشاء الرهن عن ثبوت الدين، فقال يظهر أن يخرَّج هذا قولاً. ويقول: لا يصح الرهن ما لم يتقدم الدين بشقيه، ثم يُنشأ أولُ الرهن بعدهما.(6/76)
وهذا يظهر تخريجه من مسألة للشافعي في الكتابة؛ فإنه قال: إذا قال السيد لعبده: كاتبتك على ألف درهم، وبعت هذا العبد منك بألف، فقال العبد: قبلت الكتابة والبيع. قال الشافعي: لا يصح البيعُ؛ فإنه يستدعي ثبوت الكتابة أولاً، وقد جرى أحد شقي البيع قبل انعقاد الكتابة، ولا يصير العبد من أهل المعاملة مع مولاه ما لم تتم الكتابة، فيخرج منع الرهن على هذا خروجاً ظاهراً.
ثم قال: لو أردنا فصلاً بين الأصلين فقهياً، لم نجده إلا أن نتعلق بمصلحة العقد، فنقول: الرهن من مصلحة البيع، فإن نفذ مقترناً بالبيع، كان هذا لائقاً بالمصلحة؛ من جهة أن البائع ربما كان يطلب وقوع الاستيثاق بالرهن مع وقوع البيع، والوجه مزج العقد بالعقد كما ذكرناه. والبيع ليس من مصلحة الكتابة، فجرى فساد البيع على القياس الذي مهدناه.
وكان شيخنا أبو محمد لا يفرق بين أن يقول البائع: ارتهنت وبعت، أو يقول بعت وارتهنت. والأحسن أن نفصل بينهما كما ذكرناه.
فإن قيل: لمَ؟ وشق الرهن وقع قبل انعقاد البيع من الوجهين؟ فإذا كان كذلك فأي أثر لتقديم شق البيع أو شق الرهن؟ قلنا: قول القائل: بعت بألف، وارتهنت به، منتظم إلى أن يحكم بالصحة أو الفساد، وقوله: ارتهنت بألف وبعت، ليس له نظم صحيح؛ فإن الرهن يستدعي استئخاراً عن ذكر مرهونه، فيظهر الفرق في نظم العقد، وإن لم يظهر في الوجوب والثبوت.
فرع:
3523- لو قال: بعتك هذه الدار بألف درهم، بشرط أن ترهنني ثوبك بالألف. فقال: اشتريت ورهنت. والتفريع على النص في الحكم بصحة الرهن. قال الأصحاب: يتم الرهن بما جرى، لأنه وجد من البائع استدعاء الرهن، فكان ذلك بمثابة الارتهان والتلفظ به.
قال القاضي: الذي عندي أنه لا بد من لفظ الارتهانِ، أو القبول من البائع بعد قول المشتري: رهنت؛ لأن الذي وجد منه شرط الإيجاب، وليس باستيجاب. وهذا يبتني على أن الاستيجاب في البيع والرهن هل يكون بمثابة القبول؛ فإذا قال الرجل:(6/77)
بعني عبدك هذا بألف، فقال البائع: بعته منك بالألف، فما تقدم من الاستيجاب واستدعاء الإيجاب هل يكفي؟ وهل يحل محل التصريح بالاشتراء والقبول؟ فيه قولان وترتيبُ نصوص سنذكرها في موضعها. فإن قلنا: الاستيجاب لا يكفي، فلا كلام. وإن قلنا: الاستيجاب يكفي في البيع، فإنه كاف في الرهن أيضاً.
فعلى هذا إذا قال البائع: بعتك هذه الدار بألف درهم بشرط أن ترهنني ثوبك، فقال: اشتريت ورهنت. فقوله بشرط أن ترهنني هل ينزل منزلة قوله بعت منك بألف وارهنِّي ثوبَك؛ فيه تردُّدٌ. والأصح في القياس ما ذكره القاضي. وإن كان الأشهر غيره.
فصل
قال: " ولا معنى للرهن حتى يكون مقبوضاً ... إلى آخره " (1) .
3524- لا يلزم الرهن دون القبض، خلافاً لمالك (2) -رحمه الله- وهذا الخلاف مطرد معه في الهبة والعارية المؤقتة. والتأجيل في القرض واعتبار الرهن بالهبة قريب؛ من قِبل أن كل واحد منهما تبرع، والمتبرع قد يتعرض للندم، والمعاوضات تبعد عن إمكان الندم. ثم جعل الشارع لما ذكرناه من توقع الندم منتهى ومَردّاً، وهو القبض، ولسنا نتمسك بهذا المعنى تمسك من يقصد الاستقلال به، بل مقصودُنا تشبيه الرهن بالهبة، وهو ظاهر.
ثم المعتمد في الهبة حديمث لأبي بكر -رضي الله عنه- في ذلك، سنذكره في كتاب الهبات، إن شاء الله تعالى.
ثم قال الشافعي: " حتى يكون مقبوضاً من جائز الأمر حين رهَنَ، وحين أقبض ... إلى آخره " (3) .
__________
(1) ر. المختصر: 2/210.
(2) ر. الإشراف: 2/ 576 مسألة: 955، حاشية الدسوقي: 3/ 231.
(3) ر. المختصر: 2/210.(6/78)
3525- أما اشتراط الاستقلال والاتصاف بشرائطه عند العقد وعند القبض، فبيّن لا إشكال فيه، وإنما الكلام فيه إذا تخللت أحوال بين العقد وبين القبض، ثم فرض زوالها، فهل يُقضى بارتفاع العقد وانفساخه؟ أم كيف الكلام؟
الذي يقتضيه الترتيب أن نذكر موت الراهن، أو موت المرتهن بين العقد والقبض، نص الشافعي على أن الرهن يسلم إلى ورثة المرتهن، وهذا تصريح منه بأن الرهن لا يبطل بموت المرتهن قبل القبض.
وحكى بعض أصحابنا نصّاً أن الراهن لو مات قبل الإقباض، بطل الرهن. ثم اختلف الأئمة: فمنهم من جعل في موت الراهن والمرتهن قبل القبض قولين: أحدهما - أن الرهن يبطل بموت كل واحد منهما؛ فإنه على حقيقة الجواز قبل القبض، والعقود الجائزة تنفسخ بموت أحد المتعاقدين في أثناء الجواز، والذي يحقق ذلك أن القبض فيما يشترط القبض فيه يقع موقع أحد جوابي البيع وغيره؛ فإنه ركن في تحصيل مقصود العقد.
والقول الثاني - لا يبطل العقد بموت كل واحد منهما؛ فإن مصير العقد إلى اللزوم على الحد المعلوم، فكان الموت قبل القبض كموت أحد المتعاقدين في زمان الخيار.
ومن أصحابنا من قال: يبطل الرهن بموت الراهن قبل القبض، ولا يبطل بموت المرتهن. والفارق أن الراهن ربما يموت وعليه ديون مستغرقة، فإذا لم يلزم الرهن بالقبض، فالوجه انقطاع الرهن، وتقديم الحقوق اللازمة. وإن لم يكن ديون، فلا نظر إلى هذا، بل النظر إلى إمكانه.
قال الشيخ أبو محمد: السديد في ذلك أن نقول: إن مات الراهن وخلَّف ديوناً مستغرقة، فلأصحاب الديون المنعُ من تخصيص المرتهن بشيء. لا يجوز خلاف ذلك.
فأما إذا لم تكن ديون مستغرقة، أو كانت، ورضي الغرماء بالتخصيص وإنفاذ الرهن؛ فإذ ذاك يختلف الأصحاب.
3526- والمذهب الظاهر أن الرهن لا يبطل بموت المرتهن، ولا بموت الراهن، لما ذكرناه من أن العقد مصيره إلى اللزوم، والعقود الجائزة التي تنفسخ بالموت(6/79)
فمستندها أمر وقول لا لزوم له، فإذا مات القائل، انقطع أثر قوله، كالجِعالة (1) ، والوكالة. ولهذا قال المحققون: لا يشترط القبول في الجِعالة والوكالة، فإذا آل سبب الانفساخ إلى انقطاع قول القائل، تضمن الموتُ لا محالة الانفساخَ. والرهنُ عقدٌ تام يشير إلى مقصود يتوقف لزومه على القبض، فكان هذا يقتضي أن يبقى العقد على صفته بعد العاقدين. وبعد موت أحدهما.
التفريع:
3527- إن حكمنا أن الموت لا يُبطل الرهن، فلو فرض طريان الجنون، فهو أولى بأن لا يبطله. ثم إن جُن المرتهن، نصب القاضي قيماً يقبض الرهنَ إن ساعده عليه الراهن. وإن جُن الراهن، نظر القيم في صلاح الأمر، فإن رأى الأصلحَ له أن يقبض أقبض، وإن رأى الأصلح في الفسخ، فسخ.
وإن قلنا: طريان الموت يتضمن انفساخ الرهن، ففي طريان الجنون وجهان، وسنذكر تفصيل الجنون والإغماء، وما في معناهما، إن شاء الله عز وجل.
وإن طرأ السفه بين العقد والقبض، فاقتضى طريانه عود الحجر أو إعادته، فإذا طرأ (2) الحجرُ، ففي انفساخ الرهن خلافٌ مرتب على الجنون، وهذا أولى بأن لا ينفسخ الرهن فيه؛ لأنه بالسفه لم يخرج عن أن يكون من أهل العبارة لو أُذن له فيها، واستقصاء ذلك في كتاب الوكالة، إن شاء الله تعالى.
فرع:
3528- إذا باع الراهن الرهن قبل القبض، أو وهب، أو أصدق، أو أعتق، فكل ذلك يصح منه، ويكون رجوعاً في الرهن.
فأما إذا أجَّر المرهون قبل القبض، أو زوج الجارية: أما التزويج قبل القبض، فإنه لا يكون رجوعاً في الرهن؛ فإن التزويج لا يرِد على مورد الرد (3) ، ولا يمتنع رهنُ المزوَّجة ابتداء.
وأما الإجارة، فإن قلنا: لا يمتنع رهن المُكرَى وبيعُه، فهو كالتزويج. وإن
__________
(1) بكسر الجيم، وحُكي فيها التثليث. (المصباح) .
(2) في (ص) ، (ت 2) : طرد.
(3) كذا في النسخ الثلاث. ولعلها: "على مورد الرهن".(6/80)
قلنا: يمتنع رهنُ المكرَى، الأصح أن الإجارة تكون رجوعاً. ومن أصحابنا من لم يجعلها رجوعاًً على هذا القول. وهو بعيد.
ولو دبر العبدَ قبل القبض، فالمنصوص أن ذلك رجوع عن الرهن، وخرَّج الرّبيعُ قولاً آخر أنه لا يكون رجوعاًً، وهذا منقاس؛ إذ بيع المدبَّر جائز عندنا، وهذا كاختلاف القول في أن المدبر هل يجوز رهنه.
ولو دبر عبداً، ثم رهنه، ففيه كلام يأتي بعد هذا على قرب. وكل ذلك ينشأ من نصّ الشافعي: في أن من أصدق امرأته عبداً، فدبرته، فطلقها الزوج قبل المسيس، فهل يرجع في نصف المدبر؟ فيه كلام سيأتي، إن شاء الله عز وجل.
وسأجمع -بتوفيق الله- مراتب الكلام في الرجوع في كل فن يقبل الرجوع، في باب الرجوع عن الوصايا. وقد قدمت طرفاً منه في أول البيع.
فصل
قال: " وما جاز بيعه جاز رهنه ... إلى آخره " (1) .
3529- قال الأصحاب: الأشياء في البيع والرهنِ على أربعة أقسام: أحدها - ما لا يجوز بيعه، ولا يجوز رهنه ككل ما لا يُملَك، وكالموقوف، وأم الولد، والآبق، وما لا يتمول.
والقسم الثاني - ما لا يجوز رهنه، وفي بيعه تفصيل، ومنه الدين، فإنه لا يجوز رهنه وفي جواز بيعه خلاف، وقد يلتحق بهذا القسم المدبر والمعلق عتقُه بصفةٍ، فإن بيعهما نافذ، وفي رهنهما كلام سيأتي.
والقسم الثالث - ما يجوز رهنه على وجه، وفي بيعه خلاف، ومنه العقد على الأم دون الولد، وعلى الولد دون الأم. هذا جائز في الرهن، وفي البيع كلام.
والقسم الرابع - ما يجوز بيعه ورهنه، وهو معظم الأعيان المملوكة على الإطلاق.
وسنلحق بكل قسم ما يليق به في مسائل الكتاب، والذي ذكرناه الآن تراجم.
__________
(1) ر. المختصر: 2/210.(6/81)
وغرض الشافعي بما قال تجويز رهن المشاع، وهو مذهبنا، والخلاف فيه مع أبي حنيفة (1) مشهور. ثم إذا جرى الرهنُ في المشاع، فالقبض فيه يتأتى بتسليم كله، ثم يرتد إلى المالك النصفُ الذي لم يرهن على مهايأة ومناوبةِ، ولا يمتنع صحة الرهن. وإن كان القبض يتبعض بحكم الشيوع. ونحن قد نبعض القبض لتوفير المنافِع على الراهن، على ما سيأتي ذلك، إن شاء الله عز وجل.
فصل
قال: " ويجوز ارتهان الحاكم، وولي المحجور عليه، ورهنهما عليه في النظر له ... إلى آخره " (2) .
3530- صوّر الأئمة من ولي الطفل الارتهانَ للطفل، وصوروا منه أيضاًً رهن مال الطفل، واتفقوا على الجملةِ أن الرهن والارتهان منه متقيد بشرط الغبطة، ورعاية المصلحة.
اتفق العراقيون على أن الأب ليس له أن يبيع شيئاًً نسيئةً من مال الطفل، ولو باع بأضعاف الثمن من مليء وفي إلى أجلٍ قريب، ولم يرتهن شيئاً ولكن وثق بيسار المشتري وانتظام حاله، وزعموا أن هذا تغريرٌ بمال الطفل، ورفعٌ للملك واليد عنه لا في مقابلة عوض ناجز.
وهذا الذي ذكروه لم أر في طرقنا ما يخالفه على التصريح، ولكن في معاني طرقنا ما يجوِّز ذلك، وليس بيع ماله نسيئة من غير رهن بأكثر من الإبضاع بمال الطفل، وقد ذكرنا في تجارة الوصي في مال اليتيم أن ذلك جائز، ومعظم الأرباح ونماء التجاير يقع في النسايا (3) .
__________
(1) ر. رؤوس المسائل: 301، مسألة 189، ومختصر الطحاوي: 92، والمبسوط: 21/ 69، وطريقة الخلاف: 434، مسألة: 176.
(2) ر. المختصر: 2/210.
(3) (ت 2) : النسيئات.(6/82)
أما البيع نسيئة مع الارتهان، فجائز لا منع فيه على الجملة، على شرط رعاية الغبطة.
3531- وها نحن نفصلها بالمسائل. فنذكر الارتهان للطفل، ثم نذكر رهن مال الطفل، فأما الارتهان للطفل، فقد يفرض في بعضِ المواضع نظراً محضاً، فالوجه القطع بنفوذه، وذلك إذا أتلف رجل مالاً من أموال الطفل، والتزم قيمتَه، فإذا رهن بما لزمه للطفل مالاً، فلا شكّ في صحة الرهن؛ فإنه يقع محض فائدة (1) مجرّدة للصَّبي؛ فإنه يتوثق دينُه إلى اتفاق القضاء وليس عليه من الارتهان غرر ولا ضرر.
ومن صور الارتهان للطفل أن الولي إذا رأى أن يبيع شيئاًً. من ماله نسيئة على أن يرتهن، والبيع على شرط الغبطة، فالرهن صحيح. والعراقيون لما قطعوا بمنع البيع نسيئة، قيدوا القطع في المنع بما إذا لم يكن بالثمن رهن. فأمّا إذا كان به رهن واقترنت المصلحة بالمعاملة، فلا مانِع من الجواز.
وإذا كان الولي يخاف النهب والغارة فرأى إيقاع مال الطفل في ذمة مليء وفيّ على أن يرتهن له، كان ذلك جائزاً. ولو باع مالَه نسيئة بمثل ما يُشترى به نقداً وارتهن، فالبيع باطل، والارتهان فاسد؛ فإن ثبوت الرهن موقوف على ثبوت مرهون به، فإذا لم يثبت، لم يصح الرهن.
ثم إذا قبض الرهن على الفساد، فهو أمانة. هذا من الأصول المتفق عليها؛ فإن ما لا يقتضي ضماناً إذا صح، ففاسده لا يقتضي الضمان، على ما سيأتي ضبط أمثال ذلك.
وكذلك لو أقرض مال الطفل، لا في نهب ولا عند إرهاق حاجة، فالإقراض فاسد.
ثم إذا أفسدنا المعاملة على مال الطفل، فالعين مُتَّبعةٌ أينما صودفت، وإن تلفت في يد المشتري أو المستقرض، توجّه الضمانُ عليه، والضمان على كل حال متوجه على الولي لتفريطه، ورفعه اليدَ عن مال الطفل لا على جهة الغبطة.
فهذا تفصيل الصور التي يجرى فيها الارتهان للطفل.
__________
(1) في النسخ الثلاث: محض وفائدة.(6/83)
3532- فأما رهن مال الطفل، فهو إيقاع طائفة من ماله في حَجْر الرهن، ولا يجوز هذا إلا بغبطةٍ ظاهرة عريّة عن الغرر، أو حاجة ماسَّة على ما سنصف المسائل الآن.
فأمّا الحاجة: فإذا مست حاجة الطفل إلى ما يصرف إلى نفقته، وكان ماله عقاراً، فضن الولي بالعقارِ، ولم ير بيعه واستمكن من استقراض شيء يُتزجَّى (1) به، ولم يُبْعِد أن يتأدى ذلك الدين من رَيْع الضيعة، ولكن لا يتمكن من هذا إلا برهن ذلك العقار، فهذا جائز، وظهور المصلحة فيه بيّن.
هذا بيان الحاجة.
فأما الغبطة: فإذا رأى الولي شيئاً يباع بألفٍ نسيئة. وكان يساوي ألفين، ولكن كان لا يستمر الأمر إلا برهن شيء يساوي ألفاً من مال الطفل، فالولي يفعل ذلك؛ فإنه يتنجز فائدةَ الطفل، وليس عليه غرر؛ فإن الرهن لو تلف وأدى الولي ألفاً، لم يخسر الطفل شيئاً؛ فإن المشترَى يساوي ألفين. وبمثله لو كان لا يقنع في هذه المعاملة إلا برهنٍ يساوي ألفين، فلا غبطة؛ من جهة أن الحيلولة تقع ناجزة بين التصرف للطفلِ، وبين الرهن في الحال، ويجب بذل ألف في ثمن السلعةِ، فإذا بذل الألف وفُرض التلف في الرهن، فالثمن وقيمة المرهون ثلاثة آلاف، والحاصل للطفل من المعاملة ألفان.
فإن قيل: العين المرهونة كانت تتلف أيضاً لو بقيت في يد الطفلِ غير مرهون.
قلنا: نعم ولكن انتجز منعُ التصرف فيه، ولو كان التصرف سائغاً لكان ربما يسبق التصرف، فآل المنعُ إلى تنجيز الحجر وضم الثمن.
قال شيخي أبو محمد لو كان المرهون بحيث لا يتلف في مطّرد العادة كقراح من الأرض، فهذا فيه احتمال؛ من جهة أن الزيادة حاصلة في قيمة المبيع، وتحصيل الزيادة تنجيزُ ملك له على مقابلة حجر في الحال، والتسبب إلى رفعه بأداء الثمن
__________
(1) يتزجى به: يُكتفى به. (معجم) .(6/84)
قريب. وهذا الذي ذكره محتمل حسن؛ فإن الذي حقق الغرر تقدير تلفِ المرهون أمانة، كما سبق التصوير فيه.
والذي ذكره شيخنا وإن كان منقاساً، فهو على خلاف ظاهر المذهب.
هذا تفصيل القول في الارتهان للطفل، وفي الرهن من ماله.
3533- وذكر العراقيون وجهاًً بعيداً أخرته حتى لا ينتظم في ترتيب المذهب: وذلك أنهم قالوا: ذهب بعض أصحابنا إلى أن بيع مال الطفل نسيئةَ قط لا يجوز، وإن فرض التوثق بالرهن، والتشوف إلى الغبطة الظاهرة، وإنما يجوز التأجيل في بعض الثمن إذا نقد من الثمن قيمةَ السلعة، يعني القيمة التي تشترى بها نقداً، وذلك إذا كانت السلعة تساوي مائة نقداً، ومائة وعشرين نسيئة فباع الولي بمائة وعشرين، مائة منها نقداً وعشرون نسيئة وبالعشرين رهن. قال هذا القائل: لا تجوز النسيئة إلا كذلك في بعضٍ من الثمن.
وهذا بعيد لا أصل له، ولا ينتظر هذا عاقل. ثم اشتراط الرهن في الفاضل من القيمة المنقودة خارج عن قياس المعاملات؛ فإن تيك الزيادة لو لم تحصل، لم يضع بتعذرها شيء من مال الطفل، فلا أصل لهذا الوجه. والتعويل على ما رتبناه في الارتهان والرهن.
3534- ثم قال المعتبرون من أئمة المذهب: تصرف المكاتب في الرهن والبيع بنسيئة كتصرف الولي للطفل؛ فإن تصرف المكاتب -إذا لم يشتمل على تركِ النظر- مُطلق لهُ وأقصى النظر المرعي ما نأمر به الأولياء في حق الطفل.
وذكر العراقيون والشيخ أبو علي وجهاً آخر أن المكاتب لا يبيع نسيئة، على الاستقلال، وهو على كل حال في حقه معدود من التبرعات، سواء ارتهن أو لم يرتهن. والولي في مال الطفل أبسطُ يداً من المكاتب وعليه حجرُ الرق، فإذاً بيعه نسيئة على هذا الوجه ملحق بتبرعاته. فإن استقل، لم ينفذ، وإن استأذن السيد، فعلى قولين قياساً على سائر تبرعاته.
ولو رهن المكاتب حيث ينفذ رهن الولي [في مال الطفل، ففي رهنه من الكلام(6/85)
ما في بيعه نسيئة. فالذي ذهب إليه أهل التحقيق أنه ينفذ رهنه حيث ينفذ رهن الولي] (1) .
وفي المسألة وجه آخر حكَوْه: أن رهنه تبرع، ولا يخفى حكم تبرعه.
ثم إن قلنا: لا ينفذ الرهن من المكاتب، ففي نفوذه من العبد المأذون وجهان؛ من جهة أن الرهن في نفسه حجر، وليس من عقود التجارة. وهذا يقرب من الاختلاف الذي ذكرناه في أن العبد هل يملك إجارة الرقاب التي يتصرف فيها؟ ووجه التشبيه أن الإجارة والرهن ليس من عين التجارة، وهو مأذون له في التجارة.
فصل
قال: " ولو كان لابنه الطفل عليه حق ... إلى آخره " (2) .
3535- ما قدمناه من رهن مال الصبي على شرط الغبطة، ومن الارتهان له، يستوي فيه الأب، والقيم الأجنبي، والوصي، فلا خلاف في وجوه التصرّفات ووجوه النظر.
وإنما خالف الولي الوصيَّ فيما قدمناه في كتاب البيع من حمل ظاهر تصرف الولي على المصلحة، وعلى من يدعي خلافَها الحجةُ، والوصي يطالب بإقامة الحجة على رعاية المصلحة.
وهذا الفصل يختص مضمونه بالأب والجد، فإذا كان لابنه الطفل عليه دين، فارتهن مال نفسه لطفله بالدين الذي للطفل عليه، جاز هذا. ولو ارتهن مال الطفل من نفسه حيث يجوز له أن يرهنه من غيره، فيصح، ولا يأتي هذا في الوصي والقيّم والحاكم؛ فإن هؤلاء لا يتولَّوْن طرفي العقد.
ثم إذا باع الأب من نفسه مال طفله، أو باع من طفله مال نفسه، أو رهن منه أو ارتهن له، فهل عليهِ أن يأتي بشقي العقد الإيجاب والقبول؛ أم يكفيه الإتيان بأحد
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(2) ر. المختصر: 2/210.(6/86)
الشقين؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - لا بد من أن يقول: رهنت وارتهنت، وبعت واشتريت، أو بعت ورهنت، وقبلت؛ لأن العقد استقلاله بركنيه وبهما كان عقداً.
والثاني - يكتفى بأحد الشقين، والتعيين إلى اختيار الولي؛ فإن التواجب تخاطب، وهذا لا ينتظم من الشخص الواحد، فيكفي الإثبات بشق لرسم العقد، والتنصيص عليه. وإذا اكتُفي بعاقد واحد لم يبعد الاكتفاء بلفظ واحد.
وإذا باع الأب من طفله أو ابتاع من ماله، ففي ثبوت خيار المجلس خلاف: من أصحابنا من قال: لا يثبت؛ فإن المجلس منتهاه التفرق وهو بين شخصين.
ومنهم من أثبت خيار المجلس.
ثم اختلف هؤلاء، فقال بعضهم: ينقطع الخيار بمفارقة مجلس العقد. وقال آخرون: لا ينقطع الخيار إلا أن يختارَ إلزام العقد، ويقطعَ الخيارَ لفظاً؛ فإنه في مقام البائع والمشتري، فمفارقته المجلس كاصطحاب المتعاقدين ومفارقتهما المجلس.
وإذا رهن من طفله أو ارتهن من مال طفله، فهل يحتاج إلى إجراء قبض؟ الكلام فيه كالكلام فيما إذا رهن الوديعة عند المودعَ، وسيأتي ذلك في فصلٍ، فإذا استقصيناه، أعدنا القول في الأب.
فصل
قال: "وإذا قبض الرهنَ، لم يكن لصاحبه إخراجُه من الرهن ... إلى آخره" (1) .
3536- إذا رهن شيئاً وألزم الرهنَ بالإقباض، تأكدت الوثيقة، ولا فكاك إلا بسقوط الدين إما بالأداء وإما بالإبراء، أو بفسخ المرتهن الرهنَ؛ فإن الرهن جائز في حقه. أما الراهن، فلا يجد سبيلاً إلى الفِكاك ما بقي الدين، فلو أدى معظمَ الدين، لم ينفك من الرهن شيء، ما بقي من الدين حبة، أو أقل، ولا يتوزع الدينُ على قيمة
__________
(1) ر. المختصر: 2/210.(6/87)
المرهون؛ حتى يقال: إذا أدى بعضاً، فك من الرهن بقسطه.
وإذا أثبتنا حق الحبس للبائع، فلو أدى المشتري بعض الثمن، فالذي اختاره الأئمة أنه لا يستحق تسليمَ شيء من المبيع إليه ما لم يوفِّ الثمنَ بكماله، والمحبوس في هذا الحكم بالثمن كالمرهون المحبوس بالدين.
ولو كان لرجل على رجلين دين عن جهة واحدةٍ، أو جهتين، فرهنا بما عليهما عبداً مشتركاً عند مستحِق الدين، وأقبضاه إياه، فإذا أدى أحدُهما ما عليه من الدين، انفك الرهنُ في حصته؛ إذ لا تعلّق لرهنه نصيبَه برهن صاحبه.
ولو وكلا وكيلاً حتى رهن عبدهما المشترك من مستحِق الدين، فإن علم المرتهن صورةَ الحال، فالأمر على ما تقدم. ولا يختلف الأمر باتحاد الوكيل.
وقد ذكرنا تردد الأصحاب في اتحاد الوكيل وتعدده في البيع والشراء، وأن الاعتبار في تعدد الصفقة بالوكيل المباشر للعقد أم بالموكل، هذا ذكرناه على الاستقصاء في كتابِ البيع في الفصل المشتمل على شراء رجلين عبداً من رجل، أما الرهن، فلا أثر فيه للوكيل، والنظر إلى الموكل؛ إذ ليس الرهن عقد ضمان حتى ينظر فيه إلى من تولاه، بخلاف البيع.
ولو جرى الرهن والاقتراض من شخص واحد، ولم يشعر المقرِض المرتهن بكون المستقرض الراهن وكيلاً، ثم تبين أنه وكيل شخصين في الاقتراض والرهن، فالمذهب الأصح في هذه الصورة أن أحد الموكِّلين إذا أدى الدين، انفك الرهن في حصته.
ومن أصحابنا من قال: إذا جرى الرهن على ظن أن المتعاطي هو صاحب الأمر، لم يحصل الانفكاك في شيء ما بقي من الدين شيء.
وهذا غريب. ولكن حكاه صاحب التقريب قولاً وكرره، في مواضع. ومثل هذا القول يشوّش قاعدة [المذهب، فحق الناظِر أن يكتفي بمعرفته، ولا يعتده من أصل] (1) المذهب.
__________
(1) ساقط من الأصل. وكلمة (المذهب) الأولى ساقطة من (ص) ، (ت 2) .(6/88)
فرع:
3537- إذا رهن رجل عبداً من رجل بألف درهم، ومات الراهن، وخلف ابنين؛ فأدى أحدُهما حصته، وهو خَمسمائة، فهل ينفك الرهن في نصف العبد؟ ذكر صاحب التقريب قولين (1) : أحدهما - ينفك، كما لو كان الراهن في الابتداء اثنين.
وهذا ضعيف لا أصل له. والقول الثاني - أنه لا ينفك من الرهن شيء ما بقي من الدين شيء، وهذا ما قطع به الإمام والمحققون؛ فإن الرهن في الابتداء اقتضى وثيقةً على وجهٍ، فلتدم تلك الوثيقة.
وإنما ينقدح القولان في فك تعلّق التركة، فإذا مات رجل وعليه دين متعلق بتركته، فإذا أدّى أحد الوارثين لحصته، فانفكاك تعلق الدين بحصته لا يبعد أن يخرج على قولين مبنيين على أن أحدهما لو أقر بالدين، وأنكر الثاني، فهل يلزم المقر تأدية الدين من حصته من التركة؟ فيه قولان مشهوران، كما سنذكرهما في كتاب الأقارير.
فأما وثيقة أثبتها شخص واحد على قضية، فيبعد أن تزول تلك القضية بموته، وتعدد ورثته، ولهذا التفاتٌ على موت السّيد المكاتِب وتخليفه ورثة، وأداء المكاتَب حصةَ بعضهم. والقول في هذا طويل.
فصل
قال: " ولو أكرى الرهنَ من صاحبه أو أعاره أياماً، لم ينفسخ الرهن ... إلى آخره " (2) .
3538- اختلف الأصحاب في صورة المسألة: فمنهم من قال: صورة المسألة أن يكتري الراهن المرهونَ من المرتهن، لأن الإكراء إنما يصح منه؛ إذ هو المالك والمستحِق للتصرف في المنفعة، فعلى هذا يسمَّى المرتهن صاحبَ الرهن بماله من حق الحبس. وقصد الردَّ على أبي حنيفة (3) حيث قال: الرهن والكراء لا يجتمعان.
__________
(1) في (ص) : وجهين. وساقطة من (ت 2) .
(2) ر. المختصر: 2/210.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 93، المبسوط: 21/ 107، مختصر اختلاف العلماء: 4/ 297 مسألة: 2014.(6/89)
وإذا أجزنا، فآخرهما ينقضُ (1) أولهما.
ومن أصحابنا من قال: صورة المسألة أن يكري المرتهن المرهون من الراهن، ويُقبضه على اعتقاد الإجارة، فلا شكّ أن الإجارة فاسدة؛ فإنها ليست صادرة عن استحقاق، ولكن الغرض أَن المرهون وإن رجع إلى يد الراهن، فلا يُقضى بانفساخ الرهن، وإن كان العود إلى يده برضا مستحِق اليد، وهو المرتهن.
ومن أصحابنا من صور إجارةً تصح من المرتهن لينتظم كلامُ الشافعي، فقال: لو أكرى رجل عبداً من رجل، ثم إنه رهنه منه، فالعقدان ثابتان، والمرتهن يتصرف في المنافع؛ فإنه مستحقها بالإجارة السابقة. فإذا أجر ذلك العبدَ من الراهن ففي صحة الإجارة وجهان، سيأتي ذكرهما في كتاب الإجارة. وسبب الخلاف كون المستأجر مالكاً للرقبة، فهذه صورة الإجَارة الصحيحة على وجه. وغرضُ الفصل أن الرهن لا يبطل برجوع العين إلى يد الراهن.
فصل
قال: " ولو رهنه وديعةً له في يده ... إلى آخره " (2) .
3539- إذا أودع رجل عيناً عند رجل، ثم إن مالك العين رهنها من المودَع، فالذي نص عليه هاهنا أنه لا بد في القبض من إذنٍ، ونفسُ عقد الرهن مع ثبوت اليد للمرتهن، لا يكون متضمناً إذن في القبض.
ونص على أنه لو وهبَ شيئاً وهو في يد المتهب، صار مقبوضاً من غير إذنٍ جديد.
ونصه هذا يخالف نصَّه في الرهن، فاختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من جعل في المسألة قولين بالنقل والتخريج أحدهما - لا يشترط الإذن في القبض، لا في الرهن، ولا في الهبة؛ فنفس العقد إذا صادف اليدَ من المرتهن والمتهب، كان
__________
(1) في (ص) ، (ت 2) : يفسخ.
(2) ر. المختصر: 2/210.(6/90)
متضمنا إذناً في القبض. والقول الثاني - وهو القياس أنه لا بد من الإذن في القبض في المسألتين؛ فإنه لم يَجْر له تعرض، واليدُ السابقة كانت يدَ وديعة أو يداً عن جهة أخرى.
ومن أصحابنا من أقر النَّصين في الرهن والهبة قرارَهما، وشرط الإذن في القبض في الرهن، ولم يشترط ذلك في الهبة. وفرق بينهما بالقوة والضعف، فالهبة مملِّكة والرهن مقصوده إثباتُ اختصاص.
فإن قلنا: لا بد من الإذن، فالعقد قبل الإذن على الجواز، وهو رهن غير مقيدٍ بالقبض، وإذا جرى الإذن، لم يحصل القبض بمجرد الإذن أيضاً، حتى يمضي من الزمان ما يتأتى فيه القبض، وهو زمان يسع الرجوع إلى موضع الوديعة.
وعلة هذا أنا نريد أن نجعل دوام اليد كابتداء القبض بالإذن، ولا أقل من أن يجري زمنٌ يُتصوّر فيه ابتداء القبض لو أُريد ذلك.
وإن جعلنا نفسَ العقد إذناً في القبض، فلا بد وأن يمضي من وقت العقد زمان يسع إمكان الإقباض بتقدير الرجوع إلى المكان الذي به العين. وقد اتفقت الطرق على اعتبار الزمان.
قال الشافعي: " لو كان في المسجد والوديعةُ في البيت، لم يكن قبضاً حتى يصير إلى منزله الذي هو فيه " (1) .
فإذا ثبت اعتبارُ مضي الزمان، فهل يشترط حقيقةُ الرجوع من القابض، ومعاينة العين، فعلى وجهين: أحدهما - لا يشترط ذلك، بل يكتفى بمضي زمان إمكان الرجوع؛ فإن الأمر مبني على استدامة، لا على ابتداء فعل. والذي يليق ثَمَّ بالاستدامة الاكتفاء بزمان الرجوع.
والوجه الثاني - أنه لا بد من الرجوع حتى يصير الدوام مع الثقة بوجود العين بمثابة افتتاح إقباض. ونصُّ الشافعي دليل عليه؛ فإنه قال: " لو كان في المسجد والوديعةُ في البيت، لم يكن قبضاً حتى يصير إلى منزله ".
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 210. وعبارته: " ... حتى يصير إلى منزله وهي فيه ... إلى آخره".(6/91)
وذكر بعض أصحابنا وجهاًً ثالثاً، فقال: إن كانت العين مأمونةَ التلف، فلا حاجة إلى الرجوع والمعاينة، وإن كان لا يأمن تلفه، فلا بد من الرجوع والمعاينة.
ثم ما ذكرناه من الأمر يُكتفى فيه بغلبةِ الظن، ولا يشترط اليقين في ذلك.
قال العراقيون: هذا هو المذهب. عنَوْا مضيَّ الزمان وحَكَوْا عن حرملة من أصحابنا: أنا إذا لم نشترط إذناً، فلا نشترط مضيَّ مدة أيضاًً، ولكن يتم القبض بنفس العقد ولفظه حكماً. فظاهر ما نقلوه عن حرملة سقوطُ اعتبار الزمان على قولنا: أنا لا نشترط إذناً في القبض. ومقتضى نقلهم أنه يوافق الأصحابَ على قول اشتراط الإذن، ويعتبر مضي الزمان من وقت الإذن.
وقياس مذهبه إسقاط اعتبار الزمان بعد الإذن، كما يسقط اعتباره بعد العقد إذا لم يشترط الإذن.
3540- ومن تمام التفريع على المذهب المشهور أنا إذا اشترطنا الرجوعَ إلى مكان العين، فهل يشترط أن ننقلها من مكان إلى مكان، كما يقع مثله قبضاً وإقباضاً بين اثنين؛ فعلى وجهين: أحدهما - لا بد منه، لتثبت صورة القبض. وكأن هذا القائل ليس يقنع بدوام اليد. وهذا ضعيف؛ فإنه إن كان يشترط إجراء قبضٍ، فكيف يكون الشخص الواحد قابضاً مقبضاً؛ وقد ذكرنا ما فيه من مسائل القبض في كتاب البيع.
ثم استكمل التفريع الشيخ أبو علي (1) فقال: إذا ثبت أنه لا بد في القبض من انقضاء زمان بعد الإذن، ولا بد من الإذن، فابتداءُ المدة من وقت الإذن، فلو كان الكلام في مبيع، فهو قبل انقضاء المدة في ضمان البائع لو تلف، ولو تلف بعد المدة، فهو من ضمان المشتري.
وإذا شرطنا الإذن في القبض في الرهن والهبة؛ فيصح الرجوع عن الإذن قبل انقضاء المدة. ولو انقضت المدة، ولم نشترط الرجوع إلى عينه، لم يؤثر رجوعه عن الإذن.
وكل ذلك بيّن. ولكني أحببت نقلَه منصوصاً لإمام.
__________
(1) في (ت 2) : الشيخ أبو إسحاق.(6/92)
وتمام بيان الفصل في شيء: وهو أنا إذا جعلنا نفسَ العقد منهما إذناً في القبض، فهل يملك العاقد الرجوعَ قبل مضي الزمانِ؟ فعلى وجهين أشار إليهما صاحب التقريب، وصرح بهما شيخي: أحدهما - أن الرجوع ممكن؛ إذ لا قبض بعدُ. والثاني - لا؛ فإن القبض صار ضمناً للعقد.
ولعل حرملة قال ما قال عن هذا، حيث أسقط اعتبار الزمان على قول اشتراط الإذن.
هذا كشف الغطاء في الفصل.
3541- ولم نتعرض فيما أجريناه للبيع والقبض فيه، وهذا أوانُ ذكرِه. وقد قطع الأئمة [في] (1) الطرق أنه لا حاجة إلى إذنٍ في القبض في البيع، بل إذا باع مالك الوديعةِ الوديعةَ من الموح، ومضى زمان يحتمل الرجوعَ، فقد استقر العقد، وانتقل الضمان.
وفرّقوا بَيْن البيع، والهبة، والرهن، بأن قالوا: البيع مقتضاه وجوب الإقباض على الجملة، فإذا أورده المالك على يد المشتري فقد أوجب له القبضَ. والقبضُ لا يستحق قط على الراهن والواهب، بل وَضْعُ العقدين على وقوف القبض على اختياره. وهذا يتأكد بحصول الملك للمشتري، فإذا انضم ملكُه إلى دوام يده [و] (2) ورد عليه العقد، تم الأمرُ.
وعلى هذا ظهر خلاف بين الأصحاب في أن الزمان هل يعتبر بعد جريان العقد؟
فمنهم من قال: لا حاجة إلى الزمان مع تأكد الحال في اجتماع الملك واليد. ومنهم من قال: لا بد من اعتبار الزمان، كما ذكرناه في الرهن والهبة.
هذا هو المسلك المشهور للأصحاب.
وذكر الشيخ أبو علي في الشرح وجهاًً أن القبض لا يحصل، ولا يبطل حق البائع في حبس المبيع إذا أثبتنا له حقَّ الحبس، ما لم يأذن في القبض، أو يتوفر عليه الثمن
__________
(1) في الأصل: على.
(2) ساقطة من الأصل.(6/93)
من جهة المشتري. وهذا غريب. وإن كان قياسه على قبض الهبة والرهن واضحاً.
ثم لو وفر الثمن على هذا الوجه الضعيف أو أذن البائع في القبض، ففي اعتبار الزمان ما ذكرناه من الخلاف.
والذي ينقدح لنا في هذا: أنا إن لم نُحصل القبضَ حتى يتوفر الثمن، فينبغي أن تكون العين في يد المشتري بمثابة المبيع يقبضه قبل توفير الثمن، حتى لو فرض التلف، لجرى الأمر فيه كما أوضحناه في كتاب البيع. وهذا يلتفت على قبض الطعام المشترى مكايلة جزافاً.
هذا منتهى البيان في أطراف الفصل.
3542- وقد كنا وعدنا أن نذكر حكم قبض الأبِ إذا رهن من طفله، أو ارتهن من مال طفله.
[فنقول: إن ارتهن من مال طفله، فاليد في مال طفله له؛ فهو كالموح، ولكن الترتيب في المودَع يتعلق بإذن المالك، والمرعيّ هاهنا قصد الأب. ثم الكلام بعد قصده في الزمان كما مضى.
هذا إذا ارتهن من مال طفله] (1) .
فأما إذا رهن من الطفل فيرعى أن يقصد إقباضَه، وإقباضُه أن يقبض له.
ثم القول في المدة وما يتصل بها كما مضى.
ونجز الفصل على أبلغ وجه في البيان.
فصل
قال: " ولا يكون القبض إلا ما حضره المرتهن أو وكيله ... إلى آخره " (2) .
3543- قبض المرهون مما يتطرق النيابة إليه. فإن قبض المرتهن بنفسه عند إقباض الراهن إياه، أو عند إذنه له في القبض فذاك. وإن وكل وكيلاً حتى يقبضه له، صح.
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(2) ر. المختصر: 2/210.(6/94)
وليكن ذلك الوكيل ممن يصح قبضُه، ولا تكون يده يدَ الراهن. هذا عقدُ الفصل.
فلو وكل عبدَ الراهن، أو مدبَّره، أو أمَّ ولده، حتى يقبض، لم يحصل القبضُ بأيديهم؛ فإنها بمثابة يد المالك الراهن. ولو وكل مكاتَب الراهن، صح قبضُه، فإن يدَه مستقلة، وهو بمحل أن يعامل سيدَه.
ولو وكل عبدَ الراهن المأذونَ في التجارة، فقد ذكر الشيخ أبو علي ثلاثةَ أوجه:
أحدها - أن قبضه لا يصح. وهو الأصح؛ فإنه قِنٌّ لمالكه. والوجه الثاني - أنه يصح لانفراده بالتصرف والتزام العهد. والوجه الثالث - وهو اختيار الشيخ أنه إن لم يكن مديوناً، لم يصح قبضه للمرتهن. وإن كان مديوناً، صح ذلك؛ فإنه إذا أحاطت به الديون تُثبت له أحكاماً لا تثبت قبلها.
قال الشيخ: لو اشترى المأذون شقصاً وسيده شريك في الدار، فإن لم يكن عليه دين، فلا شفعة للسيد؛ فإن الشراء وقع له، فلا فائدة في الشفعة، وإن كان عليه دين، فهل تثبت الشفعة للسيد؛ فعلى وجهين.
وهذا بعيد عندي؛ من جهة أن الملك يقع له، ومن يمنعه من أداء الديون، وتخليص الشقص المشترَى لنفسه؟ ولعلِّي أعود إلى هذا في كتاب الشفعة.
ولو وكل المرتهن صبياً بقبضه، فقبضُ الصبي باطل، ولا يلزم الرهن به. وقد ذكرنا طرفاً صالحاً منه في كتاب البيع.
فرع:
3544- ذكر العراقيون نصّين عن الشافعي فيه إذا قال الراهن للمرتهن: قد أذنت لك في قبض الرهن، فلم يقبضه. وقال المرتهن: قد قبضتُه. قالوا: قال الشافعي في موضعٍ " القول قول المرتهن "، وقال في موضع: " القول قول الراهن ". ثم قالوا: ليست المسألة على قولين، ولكنها على حالين، فحيث قال: " القول قول المرتهن "، أراد إذا كان الرهن في يده. وحيث قال: " القول قول الراهن "، أراد إذا كانت يدُه ثابتة على العين المرهونة.
فرع:
3545- إذا رهن المودِع الوديعة عند المودع، وقلنا: لا بد من الرجوع إلى مكان الوديعة، فلو وكل وكيلاً حتى يرجع، ويشاهد، وينوب عنه، فهل يصح(6/95)
التوكيل في ذلك؟ أم لا بد من رجوع المرتهن بنفسه؟ فعلى وجهين: أحدهما - يصح التوكيل فيه، وهو الأصح، كالتوكيل في أصل القبض. والثاني - لا يصح؛ فإنه ليس قبضاً على الحقيقة، وإنما هو أمر حكمي، واليد للمودَع، فليكن الرجوع منه.
3546- فرع متصل بقبض الصّبيان، وما يتلف في أيديهم، نقله بعض الأثبات من أجوبة القاضي عن مسائلِ الوقائع: سئل عن تلاعب الصبيان بالجوز فقال: إنه قمار، ولا حرج على الصبيان لعدم التكليف، وما يتلف في يد الصبي من جوز صبي فضمانه ثابت في مال الصبي الذي تلف في يده.
فإن كان يلاعبهم بالغ، فما يتلف في يده من جوز الصبيان مضمون عليه، وما يتلف في أيدي الصبيان من جوزه، فلا ضمان؛ فإنه المفرِّط بتسليطهم على جوزه وإثبات أيديهم عليها.
وإذا حصل في يد صبي جوزات صبي، وعلم بها القيم، أو الأب، ومن يلي بنفسه أو بتوليةٍ، فإذا لم ينتزعها، وجب الضمان على القيّم، أو الولي للتفريط.
وإن علمت به أُمُّه، ولم تنتزعها، فالأصح أنه لا ضمان عليها؛ تخريجاً على أن الأم ليست وليّة، فسبيلها ولا نظر لها كسبيل الأجانب.
ولا إشكال في شيء ممّا ذكرناه، وإنما المستفاد منه التسبب إلى تخريج مسألة مبنية على أصول هي أقطاب المذهب.
فصل
قال: " والأقرار بقبض الرهن جائز ... إلى آخره " (1) .
3547- إذا أقر المالك بالرهن والإقباض، حكم عليه بموجب إقراره.
ولو قامت البينة على إقراره بالرهن والإقباض، فقال: قد أشهدت على إقراري [وما أقبضتُ] (2) نُظر: فإن ذكر سبباً لا يستنكر وقوع مثله، مثل أن يقول: ظننت أني
__________
(1) ر. المختصر: 2/210.
(2) في الأصل: " وما قبضت " والمثبت من (ت 2) ، (ص) .(6/96)
[أقبضتُ] (1) ، فأقررت على موجب ظني، ثم تبينت خلاف ذلك، أو قال: اعتمدت كتاب وكيلٍ لي، ثم تبينت أنه مزور، أو قال: ظننت أن الإقباض بالقول صحيح، فبنيت إقراري عليه، أو قدمت الإشهاد على الصك والعرف جابى بمثله. فهذه جهات غير منكرة. فإذا ادَّعى شيئاً منها، واقتصر على دعواه هذه، لم يلتفت إليه، وقد جرى القضاء بالإقرار.
وإن قال: حلّفوا المرتهن أنه قبض، فله تحليفه. ثم لا يخفى طريق فصل الخصومة عند عرض اليمين وفرض الحلف أو النكول. وإنما جوزنا تحليفه؛ لأن ما قاله ممكن، والمدعي يكتفي في ثبوت دعواه بإمكانها. وكيفما فُرض الأمر، فغايته أن يُسعَف بتحليف خصمه.
ولو أنه أقر بالإقباض، ثم قال: كذبتُ فيما قلت. ولم يذكر جهة يستند إليها صَدَرُ إقراره ودعواه التي يدعيها بعده، فالذي قطع به المراوزة أنه لا يقبل منه على هذه الصيغة، ولا يملك تحليفَ خصمه وهذه صيغة لفظه.
وذكر العراقيون هذه المسألة: وهي إذا كذّب نفسه صريحاً في إقراره السابق، وقالوا: ما صار إليه معظم الأصحاب أن له أن يحلِّف خصمه، ويحمل تكذيبه نفسَه على جهة من الجهات التي ذكرناها، لا على الكذبِ الصريح؛ فإن هذا ممكن. وقد ذكرنا أن الدعوى لا تعتمد إلا الإمكان. وهذا متحقق في التكذيب.
قالوا: قال أبو إسحاق المروزي: ليس له في هذه الصورة أن يُحلِّف، وهذا الذي قطع به المراوزة. وكان شيخي أبو محمد يحكي عن شيخه القفال أن ما ذكره من ملك الدعوى والتحليف فيه إذا ثبت الإقرار في مجلس القاضي بالبينة. فأما إذا ادعى الخصمُ الرهنَ والإقباضَ، فاعترف في مجلس القضاء، ثم أراد أن يذكر لإقراره محملاً ويحلّف خَصمه عند ذلك القاضي، لم يكن له ذلك.
وهذا تخييل عندي، فإنا إذا كنا نعتمد الإمكان، فينبغي أن يُكتفى به. نعم إن اتحد المجلس، فقد يتجه أن نجعل هذا بمثابة تكذيبه نفسَه، وإن قام من ذلك
__________
(1) في الأصل: " قبضت " والمثبت من (ت 2) ، (ص) .(6/97)
المجلس وعاد وأبدى عذراً، فيتجه تنزيل هذا منزلة ما لو أبدى عذراً في مخالفة الشهود.
وإن أقام الفقيه لما يجري في مجلس القضاء مزية، واعتضد فيه بأمر يتعلق بخرم أبهة القضاء والغض من مجالس القضاة، وذلك أن الرجل إذا أقر بين يدي القاضي، ثم قال على الفور: كذبت أو أخطأت، فحلّف خصمي، فهذا مما لا يعتمد مثله. ولو فرض، لم نشك أن القضاة الأولين كانوا لا يسعفون بالتحليف، بل [ربما] (1) كانوا يرون ذلك لو وقع من مظانّ التأديب والتعزير. وكل هذا والمذكور إقرار.
فأما إذا شهد عدلان على فعل الإقباض، فقال المشهود عليه للقاضي: حلّف خصمي، لم يجب إلى ذلك؛ فإنه كذبَ الشهودَ، وليس كذلك إذا شهدوا على الإقرار، فإنه في طلب التحليف ليس يكذِّب الشهود وإنما يجمع بين تقدير ذلك الإقرار وبين وجهٍ ممكن.
وهذا معترِض في هذا الباب، واستقصاء أصله وتفصيله في كتاب الدعاوى.
فصل
قال: " والقبض في العبد والثوب ... إلى آخره " (2) .
3548- أراد الشافعي أن يتكلم في طرف من كيفية القبض. وقد مضى استقصاء هذا في البيع، وبيّنا ثَمَّ ما يكون قبضاً في المنقول، وما يكون قبضاً في العقار.
والذي يقع الاكتفاء به هاهنا أن ما يكون قبضا ناقلاً للضمان في البيع، فهو قبض في الرهن؛ فإن صور القبوض لا تختلف باختلاف المقاصد.
قال القاضي: ذكرنا قولاً في كتاب البيع في أن التخلية في المنقولاتِ هل تكون قبضاً أم لا بدّ من النقل؟ وهذا لا يخرّج في الرهن والهبة؛ من جهة أن خروجه اتجه في البيع بكون القبض مستحقاً فيه، فإذا ارتفع حجر البائع -وهو مستحِق الحبس-
__________
(1) ساقطة من الأصل. وأثبتناها من (ت 2) ، (ص) .
(2) ر. المختصر: 2/210.(6/98)
بالتخلية، وانضم إليه ملك المشتري واستحقاقُه القبضَ، لم يبعد أن تكون التخليةُ كافيةً. وهذا المعنى لا يتحقق في الرهن والهبة؛ فإن القبض غيرُ مستَحق فيها.
وهذا الذي ذكره حسن. ولكن صرح الأصحاب بذكر قولِ التخلية في الهبة والرهن؛ مصيراً إلى أن القبوض صورٌ، فلا تختلف باختلاف المحال.
فصل
قال: " ولو كان في يد المرتهن بغصبٍ ... إلى آخره " (1) .
3549- مالك العين إذا صادفها مغصوبة، فرهنها عند الغاصب، فالرهن صحيح، والذي ذهب إليه معظم الأصحاب أن القول في حصول القبض بنفس الرهن كالقول فيه إذا رهن المودِع عند المودعَ بلا اختلاف.
وذهب بعض أصحابنا إلى أن القول الذي يخرّج في المودعَ: في أن نفس الرهن يتضمن الإقباض لا يخرّج هاهنا؛ فإن يد المودع صدرت عن حكم المالك، فإذا صادفها الرهن، كان دوامُ اليد بمثابة ابتدائها في قولٍ. وهذا لا يتحقق في يد الغاصب.
وهذا تخييل. والأصح ما عليه الجمهور.
ثم إذا حكمنا بتمام الرهن على التفاصيل المقدمة، أو صرح الراهن بالإذن في الإمساك عن جهة الرهن، فمذهب الشافعي أن ضمان الغصب لا يزول بهذا، فتكون العين مرهونةً في يد الغاصب مضمونة عليه بحكم الغصب، وبناء المذهب على أن الضمان يثبت بيد الغاصب، فلا يزول ما لم تزل يد الغاصب إلى المالك، أو يزول ملك المالك إلى الغاصب.
وقنع بعض أصحابنا بأن أطلقوا إمكان اجتماع الرهن والغصب إذا فرض طريان العدوان. وهذا غير سديد؛ فإنّ طريان العدوان سببه إحداث المرتهن ما لم يكن له أن يحدثه، وليس يشبه هذا إذنَ المالك للغاصب في الإمساك. ومن لا يستشعر
__________
(1) ر. المختصر: 2/210.(6/99)
غموضَ هذه المسألة فليس من [الفقه] (1) في شيء؛ فإن ضمان الغصب سببه عدوانُ الغاصب. وقد انقطع العدوان بالإذن في جهة غير مضمِّنة.
ولو أودع العينَ المغصوبة عند الغاصب، فقد ظهر اختلاف الأصحاب في انقطاع ضمان الغصب، فمنهم من قال: لا ينقطع ما لم تتبدَّلُ اليد. ومنهم من قال: يزول ضمان الغصب؛ فإن الائتمان مقصود في الإيداع، وليس الائتمان مقصوداً في الرهن، بل مقصوده التوثيق. ثم الأمانة من موجَبه ومقتضاه.
3550- ولو أجر المالك العين المغصوبة من الغاصب، والعين المستأجرة أمانة في يد المستأجر، فهل يُقضَى بأن المغصوب ينقلب أمانة في يد الغاصب بالإجارة؟ فعلى وجهين مرتبين على الوجهين في الإيداع. والإجارة أولى بأن لا تُسقط ضمان الغصب؛ لأن الائتمان ليس مقصوداً فيها.
ولو وكل المالكُ الغاصبَ بالبيع فإن استحفظه في الحال مودَعاً، ثم أذن له في البيع إذا وجد طالباً، فالاستحفاظ إيداع، وقد مضى الكلام فيه. وإن لم يجر استحفاظٌ، فالوكالة المطلقة في البيع نازلةٌ منزلة الإجارة؛ لأن الائتمان غيرُ مقصود فيها، بخلاف الإيداع؛ وكانت الوكالة من هذه الوجوه كالإجارة.
ويجوز أن يقال: الوكالة المطلقة أولى بأن لا تُبطل ضمان الغصب؛ من قِبل أن الإجارة في ضمنها تسليط القبض والإمساك، والتوكيل في البيع ليس كذلك، فيتجه ترتيب الوكالة المطلقة على الإجارة.
فإن قيل: اعتمدتم في ترتيب المذهب أن الأمانة ليس مقصوداً في الإجارة، وإن كانت الأمانة من حكمها، فهلاّ نزلتم الرهنَ منزلة الإجارة؛ فإن الرهن في وضعه لا يقتضي ضماناً كالإجارة؟
قلنا: نود لو كان كذلك، ولكن لم نطلع في هذا على خلافي للأصحاب معتبرٍ، والاعتبار بما يُجريه أئمةُ النظر في مسائل الخلاف، إذا كان لا يستند إلى أصل في المذهب من طريق النقل.
__________
(1) في الأصل: المسألة.(6/100)
والذي ينتظم في محاولة الفرق بين الرهن والإجارة أن بناء بقاء الضمان على أنه حكم ثابت باليد؛ فلا يزول مع دوام اليدِ والملكِ. والإيداعُ خرج على الخلاف، والظاهر أنه يقطع الضمان؛ لأن يد المودع مقصورةٌ على غرض المالك وحظه، فنزِّل الإيداع منزلة الرد.
ويد المستأجر (مستأجرة) (1) من يد المودع؛ من حيث إن الحظ فيها ليس للمالك على التمخض، ولكن الحظ مشترك، فحظّ المستأجِر استيفاءُ المنفعة، وحظ المالك تقرير عوض المنفعة، فاقتضى ذلك فرقاً ظاهراً بين يد المستأجر ويد المودع. فأما يد الرهن، فلا حظ فيها للمالك أصلاً، وإنما الحظ كله للمرتهن.
وإذا كان كذلك لم تنزل يدُ المرتهن منزلة الرد على المالك.
فإن قيل: إذا كان الحظ للمرتهن، فهلا جعلتم يده يد ضمان كيد المستعير؟ قلنا: إنما كان ذلك لأن المقصود من الرهن الوثيقةُ، والتعرضُ لغرر الضمان لا يطابق الوثيقة.
فإن قالوا: نفيُ (2) الضمان إذاً (3) مقتضى الرهن، فاجعلوا الأمر كذلك، فأسقطوا ضمان الغصب أو لا تصححوا (4) يدَ الراهن.
قلنا: ذلك لأنا لا نرى الأيدي الطارئة على الغصب منقسمة، ويدُ المرتهن لو لم يسبقها عدوان لا تقتضي ضماناً، ولكنها لا تقوى على إزالة ضمان. وهذا في نهاية الإشكال. وهو من فنون الاحتيال التي نكرهها من أصحاب أبي حنيفة في مدافعات الكليات الجلية.
والأصل الذي يبتدره الفقيه المنصف أن يزول الضمان عند انقطاع (5) العدوان.
__________
(1) (ص) ، (ت 2) : مستأجرة. وفي الأصل هكذا (مسأحره) بدون نقط. ولعلها مستأخرة (بالخاء) ، فالكلام في ترتيب المسألة.
(2) في (ت 2) : بقي.
(3) في (ص) : إذاً من مقضي.
(4) في (ت 2) ، (ص) : فصححوا.
(5) بعد أن قرر الإمام نص الشافعي، وأقام المذهب عليه، وأرسى قاعدته، عاد فأكد ما يراه قائلاً: إن الضمان يزول عند انقطاع العدوان.(6/101)
فهذا منتهى الإمكان. ومعتمد المذهب النقل.
3551- ومما يتعلق بأطراف المسألة أن المالك إذا قال للغاصب: أبرأتك عن ضمان الغصب، ففيه وجهان: أحدهما - أنه لا يبرأ. والثاني - أنه يبرأ؛ وتصير يدهُ يدَ أمانة، والوجهان مأخوذان من الأصل المشهور في أن ما لم يجب ووُجد سببُ وجوبه هل يصح الإبراء منه؟ وفيه قولان. وبيان ذلك أن القيمة إنما تجب على الغاضب، إذا فاتت العين، وامتنع ردها، والغصب سببٌ ناجز لاقتضاء هذا الضمان، عند تعذر الرد.
3551/م- ثم ذكر الشيخ أبو علي للرهن المغصوب ترتيباً، هو تتمة الكلام، فقال: إذا رهن المالك المغصوبَ من الغاصب، وأذن في القبض، وتم القبض كما فصلناه فيما تقدم، فقد انبرم الرهن، حتى لو أراد الراهن الفسخ، لم يجد إليه سبيلاً.
ولو أراد المرتهن أن يزول عنه ضمان الغصب، فليرد العين إلى الراهن، فيخرج عن ضمان الغصب، ولا ينقطع حقه من الوثيقة. ثم إنه كما رده على المالك يملك استردادَه. ويخرج من ذلك أن له أن يجبر الراهن على قبض الرهن؛ ليزول عنه الضمان، وليس للراهن أن يمتنع من ذلك. ثم ما قبضه يلزمه أن يردّه على المرتهن؛ لأن الرد لازم.
وجرى في أثناء كلام الشيخ ما يدل على أن للراهن أن يسترد العين المغصوبة، ثم يردها، حتى إذا امتنع المرتهن من ذلك أجبر على الرد، ثم يرد عليه.
هذا ما أجراه.
والقياس عندي أن الراهن لا يملك هذا؛ فإنه أثبت للمرتهن يداً لازمة، ونحن إنما جوزنا للمرتهن أن يجبر الراهن على استرداد العين، ليحصّل غرضَه في الخروج عن الضمان، وهذا لا يتحقق في جانب الراهن؛ فإنه لا غرض له في تبرئة ذمة المرتهن عن عهدة الضمان. وقد صرح القاضي بهذا في " الأسرار " (1) ، والمسألة ظاهرة.
__________
(1) اسم كتاب للقاضي. مخطوط طالعناه، وانتقينا منه.(6/102)
فرع:
3552- العارية مضمونة في يد المستعير، فلو رهن العينَ العاريَّةَ من المستعير، وأذن له في قبضه عن الرهن، فهل يزول ضمان العارية؛ فعلى وجهين: ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - لا يزول، كما لا يزول ضمان الغصب. والثاني - يزول؛ فإن ضمان العارية أخف من ضمان الغصب، وهذا الْتفاتٌ منه على الخلاف المشهور في أن العارية هل تضمن ضمان الغصوب؟
وأنا أقول: المرتهن مراعٍ حظَّ نفسه وعلةُ الضمان في حق المستعير أنه قابض لحظ نفسه من غير استحقاق. فلما ثبت الاستحقاق في حق المرتهن، وانطبق هذا على الإذن، ظهر فيه زوال الضمان، وليس كذلك ضمان الغصب.
ولست أذكر هذا عن اعتقاد؛ فإن مضادة الرهن للعدوان أوقع مما تكلفناه في الرهن والعارية.
فصل
قال: " ولو رهنه دارين، فقبض إحداهما ... إلى آخره " (1) .
3553- إذا رهن عبدين أو دارين بدَين، وأقبض إحداهما دون الأخرى، فالتي جرى القبض فيها مرهونة بجميع الدين عندنا، خلافاً لأبي حنيفة (2) .
ومعوّل المذهب أن الدين لا يتعلق بالمرهون تعلق التقسيط، بل كل جزء من الرهن مرهون بكل الدين، ولا خلاف أنه لو تلف أحدهما في يد الراهن، وأقبض الثاني، كان مرهوناً بالجميع.
وإذا باع الرجل عبدين بمبلغ من الثمن، ثم انفسخ البيع في أحدهما، لم يكن الباقي في مقابلة جميع الثمن؛ لأن انفساخ العقد في المعوض يوجب انفساخه في العوض الذي يقابله، ومساق هذا يتضمن سقوطَ مقدارٍ من الثمن، فكيف يُتخيل والحالة هذه أن يكون الباقي محبوساً بجميع الثمن، وقد تحقق سقوط قسط من
__________
(1) ر. المختصر: 2/210.
(2) ر. المبسوط: 21/ 69، 70، البدائع: 6/ 138.(6/103)
الثمن. وليس الدين عوضاً للرهن حتى يفرض بانفساخ الرهن في بعض المرهون سقوط بعض الدين.
وقد ذهب الأئمة المعتبرون إلى أن من باع مقداراً من المكيل بثمن معلوم، وتوفر عليه معظم الثمن، والتفريع على أن حق الحبس ثابت للبائع، فلا يلزم تسليم شيء ما بقي من الثمن شيء. فلما كان الثمن باقياً، جرى حبس المبيع على قياس حبس الرهن، وآل افتراق البابين إلى سقوط بعض العوض في البيع عند فوات بعض المبيع.
وهذا لا يتصور في الدين بالإضافة إلى الرهن.
وقد ذهب بعض أصحابنا إلى أن توفير بعض الثمن يوجب على البائع تسليمَ مقدارِه من المثمن، إذا كان المبيع قابلاً للقسمة. وهذا رديء غيرُ معتد به، والأصل ما قدمناه.
وهذا الوجه ليس بأبعد في القياس عن قول مشهور في الحكاية في تفريع تفريق الصفقة: وهو أن كل الثمن يبقى وإن انفسخ العقد في معظم الثمن، ورب وجه منقاس لا أعده من المذهب؛ إذ لم يشتهر نقله، وأعد قولاً أضعف منه لاشتهار النقل فيه.
3554- ثم ذكر الشافعي أن من ارتهن داراً وقبضها، وانهدمت في يده، فالرهن باقٍ على الساحة، والنقض المنهدم رهن؛ فإنَّ تغيّر صفة المرهون لا يخرجه عن كونه رهناً. وهذا مستبين.
فصل
قال: " ولو رهنه جارية ... إلى آخره " (1) .
3555- هذا الفصل يقتضي تأخير ما قدمه الشافعي، وتقديم ما أخره، فنبدأ باستقصاء القول في عتاق الراهن العبدَ المرهون، واستيلادِه الجاريةَ المرهونة، حتى إذا استوفينا أطراف الكلام، انعطفنا حينئذ على صدر الفصل.
فإذا رهن الرجل عبداً وسلمه، وانبرم الرهن فيه، ثم أعتقه من غير إذن المرتهن،
__________
(1) ر. المختصر: 2/211.(6/104)
ففي نفوذ عتقه أقوال: أحدها - أنه ينفذ لوروده على الملكِ الثابت للمعتِق، وكون المعتِق من أهل العتق، ومبنى العتق على النفوذ.
والقول الثاني - أنه لا ينفذ العتق؛ فإن الرهن يتضمن حجراً لازماً على الراهن، فلو سلطناه على الإعتاق، لكان مناقضاً للحجر المحكوم بلزومه.
والقول الثالث - أنا نَفْصِل بين كون الراهن موسراً، وبين أن يكون معسراً، فإن كان موسراً، نفذ عتقه، وغرِم قيمةَ العبد المرتهن ليكون رهناً. وإن كان معسراً لا ينفذ عتقه أصلاً.
وهذا القائل يشبه جريانَ العتق وسريانَه إلى حق المرتهن بمثابة سريان عتق أحد الشريكين إلى نصيب صاحبه من العبد المشترك. وقد تحقق أنا نفصل في عتق الشريك بين الموسر والعسر.
ثم قال العراقيون: إذا فرعنا على قول التفصيل، فلو كان الراهن موسراً وأعتق، فكيف الترتيب في نفوذ عتقه؟
قالوا: اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: يخرّج في وقت نفوذ عتقه ثلاثة أقوال: أحدها - أنه يتعجل نفوذ العتق، وبعده يتوجه الغرم، كما نفصله.
والثاني - نفوذ العتق يقع مع غرامة القيمة للمرتهن.
والثالث - أن الأمر موقوف.
وهذا القائل يُجري هذه الأقوال من الأقوال المشهورة في وقت نفوذ عتق الشريك سرياناً إلى نصيب الشريك. هذه طريقة.
قالوا: ومن أصحابنا من قطع بأن العتق ينفذ عاجلاً قولاً واحداً، وليس على قياس سريان العتق إلى ملك الشريك. والسبب فيه أن عتق الراهن صادف ملكَه، والعتق الذي نُسرِّيه في العبد المشترك ينفذ في ملك الغير، فيجوز أن يتوقف انتقالُ الملك فيه إلى المعتِق على تقرير ملك الشريك على العوض، وإنما يستقر الملك على عوض التلف إذا بُذل، وثبتت يدُ المتلَف عليه على ذلك العوض.
وهذا القائل يقول: لو كان عتق الراهن على قياس سريان العتق، لقطعنا بالفرق(6/105)
بين الموسر والمعسر. ولا قطعَ، بل الأصح أن لا فرق.
التفريع:
3556- إن حكمنا بأن العتق ينفذ، فعلى الراهن أن يغرَم القيمةَ للمرتهن، والاعتبار بقيمة ساعة الإعتاق؛ فإنها ساعةُ الإتلاف.
ثم إذا بذل القيمة وسلّمها، لم يشترط عقد رهن فيها، بل نفس التسليم إلى المرتهن على قصد الغُرم يجعل المسلَّم رهناً، ولا شك أنه لا يتم ذلك ما لم يقصد الراهن المعتِق التسليمَ عن جهة الغُرم. وهذا جار في كل مالٍ يلزم الذمةَ، ثم يسلّمه ملتزمُه. حتى لو سلَّم، ثم قال: قصدت الإيداعَ عندك، فالقول قوله، ويقع المقبوض وديعة.
3557- وإن قلنا: لا ينفذ العتق، فيبقى الرهن، فإن مست الحاجة إلى بيعه في الدين، بعناه. ثم إذا بيع، فلو عاد إلى الراهن المعتِق يوماً بعد زوال ملكه، فلا ينفد عتقه الآن، وإن زالت الموانع.
وإن انفك الرهن، ولم يزل ملك الراهن عنه بأن يفك المرتهن الرهن، أو بأن ينفك بأداءٍ أو إبراء، فهل ينفذ العتق الآن؟ فعلى وجهين: أقيسهما - أنه لا ينفذ؛ فإنه وجه على العبد منجزاً، فرأينا ردَّه، واللفظ إذا رُدّ وأُبطل حكمه، لم يبق له بعد بطلان أثره حكم.
وسيكون لنا إلى هذا الفصل عودة من وجه آخر، وعنده نفصل الأمر، ونبين الحقيقة المطلوبة.
3558- ولو علق الراهن عتقَ العبد المرهون، نُظر: فإن علق عتقه على انفكاك الرهن [فانفك الرهن، نفذ العتقُ المعلّق؛ لأن التعليق لا يزاحم حقَّ المرتهن.
وإذا نفذنا العتق بعد انفكاك الرهن،] (1) لم يكن نفوذ العتق وارداً على حق المرتهن.
وليس تعليق العتق على ما وصفناه بمثابة تقديم تعليق العتق على حصول الملك.
ولو علق عتق العبد المرهون بصفة قد توجد قبل انفكاك الرهن، فنقول: إن وجدت في استمرار الرهن، فالعتق مردود تفريعاً على رد تنجيز العتق؛ فإن التعليق
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.(6/106)
والصفة اجتمعا في دوام لزوم الرهن، وكانا كتنجيز العتق، ولو وُجدت تلك الصفة بعد انفكاك الرهن، ففي المسألة خلافٌ، والأصح النفوذ إذا كان لا يفضي الحكم بالنفوذ إلى إبطالِ حق المرتهن.
ومن أصحابنا من قال: لا يصح التعليق أصلاً، كما لا يصح التنجيز. وهذا يقرب من خلاف الأصحاب فيه إذا قال العبد لزوجته: إن دخلت الدار، فأنت طالق ثلاثاً. ثم عَتَقَ العبدُ، فدخلت الدار، ففي وقوع الطلقة الثالثة خلاف. وبين القاعدتين فرق؛ فإن العبد لو قال لزوجته: إن عَتَقتُ، فأنت طالق ثلاثاً، جرى الخلاف في هذه الصورة.
ولو قال الراهن: إذا انفك الرهن، فهذا العبد حر، نفذ العتق بعد انفكاكه.
والفارق أن الطلقة ليست مملوكة للعبد، ومحل العتق مملوك للراهن. وسبب امتناع العتق حق المرتهن؛ إذ لو أَذِن، نفذ العتق.
فهذا ما أردناه.
3559- ولو علق عتق عبده بصفة، ثم رهنه، فوجدت الصفة بعد لزوم الرهن، ففيه اختلاف مشهور. وللمسألة نظائر، يجمعها أن الاعتبار بحالة التعليق، أو بحالة وجود الصفة. وعليه يخرّج خلاف الأصحاب في أن الصحيح إذا علق عتق عبد بصفة، ثم مرض مرض الموت، ووجدت الصفة، فالعتق من رأس المال، أو هو محسوب من الثلث؟ فيه خلاف مشهور. وسيأتي أصل ذلك وفرعه في كتاب الوصايا، إن شاء الله تعالى.
3560- ومما يتفرع على العتق أن الرجل إذا رهن نصفاً من عبد مملوك له، واستبقى منه نصفاً، فالرهن صحيح. فلو أعتق النصفَ الذي لم يرهنه، نفذ العتق فيه. وفي سريان العتق إلى النصف المرهون على القول الذي نفرع عليه وجهان: أصحهما - النفوذ؛ فإن العتق إذا كان يسري من الملك إلى [ملك الغير] (1) ، فلأن يسري إلى محل حق (2) الغير أولى.
__________
(1) في الأصل و (ت 2) : إلى الملك. والمثبت من (ص) .
(2) (ص) : ... إلى ملكه أولى، (ت 2) : إلى محل الغير أولى.(6/107)
والوجه الثاني - أنه لا يسري؛ لأن العبد بجملته مملوك للراهن، فلا يحمل عتقُه على مذهب السريان، بل إن نفذ التنجز، فذاك. وإلا فلا نفوذ. وهذا يعتضد بأن الراهن هو الذي حجر على نفسه، فليس له التسبب إلى مناقضة الحجر. ولا يلزم عليه ما لو باع النصف من عبده؛ فإن ذاك ليس حجراً، إنما هو خروج منه في المبيع عن رتبة الملاّك. ولو نفذنا سريان عتقه على الأصح، فإنْ وجّه العتقَ على المرهون قصداً، وقال: أعتقت ما رهنت من هذا العبد، فالوجه القطع برد عتقه، إذا كان التفريع على الرد.
ثم قال المحققون: إذا رأينا تنفيذ سريان العتق في صورة الوجهين، فنقطع بالفصل بين الموسر والمعسر؛ فإن سبب نفوذ هذا قياسُ السراية، وقياس السراية في مذهب الشافعي يقتضي الفصْلَ بين الموسر والمعسر، كما سيأتي في كتاب العتق.
وأما إعتاق المشتري العبدَ في يد البائع على قولنا بثبوت حق الحبس، فقد مضى مفصلاً. ولا شك أن عتق المشتري أولى بالنفوذ من عتق الراهن؛ فإن حق الحبس في المبيع لم يثبت بعقدٍ مقصود في إثبات الحجر، والرهنُ عقد متضمنه حجر مقصودٌ على المالك.
هذا كله بيان القول في إعتاق الراهن.
3561- ونحن نبتدىء بعد ذلك التفصيل في استيلاده.
فنقول: إذا أقبض الجارية المرهونة -إن صححنا رهن الجواري، كما سيأتي، وهو الأصح- فإذا استولدها الراهن بعد انبرام الرهن: أما الولدُ فلا شك في انعقاده حراً؛ فإنه لا حق للمرتهن في ولد المرهونة رقيقاً فُرِض أو حراً، ولا يغرَم قيمة الولد؛ لما ذكرناه من انقطاع حق المرتهن عن الولد، والمهر لا ريب في أنه لا يلزم؛ فإنه عوض منافع البضع، ولا حق للمرتهن في المنافع.
والكلام وراء ذلك في ثبوت الاستيلاد.
3562- وقد خرّج الأئمة نفوذ الاستيلادِ على الأقوال المتقدمة في نفوذ العتق، ثم رأَوْا أن يرتبوا الاستيلادَ، ويجعلوه أولى بالنفوذ؛ من قِبَل أنه فِعْل، والأفعال بعيدة(6/108)
عن الرد، والأقوال عرضة الإفساد والتصحيح، والفسخ بعد النفوذ؛ ولذلك ينفذ الاستيلاد ممن هو محجور عليه في تصرفاته، كالسفيه والمجنون، واستيلاد المريض جاريتَه نافذٌ، والعتق يحسب من رأس المال، وهو بمثابة الاستهلاك الحسي.
فإن حكمنا بأن الاستيلاد ينفذ، فينفسخ الرهن، وعلى الراهن قيمةُ الجارية معتبرةً بوقت العلوق، ففيه حصل الاستيلاد، والخروج عن الرق المطلق. وقد مضى القول في القيمة.
3563- وإن قلنا: لا ينفذ الاستيلاد، فالجارية مرهونة كما كانت، فإن حل الحق وهي حامل، فالذي أطلقه الأئمة قطعُ القول بأنه يمتنع بيعها؛ لمكان اشتمال رحمها على الولد الحر، وزعموا أن مطلق البيع لا يقصر عن الولد، وتناوله للجنين الحرّ محالٌ.
وقد قدمت في هذا خلافاً في كتاب البيع، ونزّلته منزلة ما لو باع الرجل جاريةً حاملاً بولدٍ مملوك، واستثنى حملَها، ولا فرق بين أن يقع الاستثناء شرطاً، وبين أن يقع استثناؤه شرعاً. ولكن المذهب المنع كما ذكره الأصحاب، وإن كان تجويز البيع منقاساً.
ولو ولدت المرهونة وماتت في الطلق، فالذي صار إليه جماهير الأصحاب أن الراهن يلتزم قيمةَ الجارية للمرتهن، فيضعُها مرهونة، كما لو قتل الجارية المرهونة.
والسبب فيه أن الطلق مترتب على العلوق، وهو مترتب على وطء الراهن، والضمان يناط بالأسباب تارة، وبالمباشرات أخرى.
وفي بعض التصانيف أن ضمان القيمة لا يجب؛ من جهة أن إحالة التلف على العلوق فيه بعد، وقد تفرض أسباب جِبِلِّية، هي التي جرّت الطلق الشديد.
ولا خير في هذا الوجه، فلا تعتبروا به، والتفريع على وجوب الضمان، كما ذكرناه.
3564- فلو وطىء جاريةَ إنسان بشبهة، فولدت، فماتت في الطلق، التزم قيمتها، تفريعاً على الأصح.(6/109)
ولو وطىء حرة بشبهة، وأعلقها، فماتت من الطلق، ففي وجوب الدية وجهان: أحدهما - أنها تلزم اعتباراً بالأمة؛ فإن التسبب حاصل، كما تقدم. والثاني - لا تلزم الدية؛ فإن الأمةَ يتُصوّر الاستيلاء عليها، فيصير الوطء في حكم الاستيلاء (1) فيها أوّلاً، ثم العلوق أثرٌ باقٍ من الاستيلاء (2) السابق، كالسراية تستند إلى الجراحة، وكالصيد يُنفِّره المحرم، فيبقى نِفارُه إلى العشار، والموت، والحرة لا يتصور الاستيلاء عليها، أولاً، وليس الوطء في نفسه سبباً قويّاً.
وهذا وإن كان مشهوراً، وقد قطع به طوائف من أصحاب المذهب (3) ، فالقياس الأول؛ فإن طريق الضمان التسبب إلى الإتلاف. وهذا لا يختلف بالحرية والرق، بمثابة احتفارِ البئر في محل العدوان، وغيرِه من أسباب الضمان.
ولو زنا بامرأة فعلِقت منه، وطُلِقَت، وماتت، فالذي ذكره الأصحاب أن الضمان لا يجب (4) ، وإن فرض ذلك في الأمة. وكذلك إن قدرت [مضبوطة] (5) غيرَ ممكِّنة، والسبب فيه أن الطلقَ مترتب على العلوق، والولد المنتسب إلى الواطىء يُسبب الطلقَ، وولد الزنا لا انتساب له، وليس العلوق من هذا الشخص المعيّن معلوماً؛ حتى يحمل هذا على جناية متحققة. ولولا حكم الشرع بانتساب الأولاد إلى الآباء، لما وثقنا بكون ولد من رجل.
وإذا علقت امرأة الرجل منه، وماتت في الطلق، فلا ضمان من قِبَل أن العلوق
__________
(1) في (ص) ، (ت 2) : الاستيلاد.
(2) في (ت 2) : الاستيلاد.
(3) اقتصر النووي في الروضة على هذا الوجه، وجعله الأصح. ولم يشر إلى الآخر. (الروضة: 4/ 78، 79) .
(4) نقل الرافعي عن الشيخ أبي حامد " أن في المسألة قولين، هذا أصحهما ". ر. فتح العزيز بهامش المجموع: 10/ 104.
(5) في الأصل: (مصوطه) هكذا بدون نقط. وهي لا معنى لها على أي صورةٍ قدرت.
وفي (ت 2) : (مضموطه) . ولا معنى لها أيضاً. والمثبت من (ص) . من تضبطه إذا أخذه على حبسٍ وقهر. (المعجم. والقاموس) فالمعنى أنها مكرهة غير مُمَكِّنة. كما هي عبارة النووي في الروضة: 4/ 79.(6/110)
مترتب على سبب مستَحق للزوج، والمترتب على المستحقات غيرُ مضمون عندنا. ولذلك أهدرنا سراية القصاص.
3565- ثم إذا ألزمنا الرجلَ قيمةَ الجارية التي ماتت في الطلق، فأيةُ قيمةٍ تراعى في ذلك؛ للعراقيين ثلاثة أوجه: أحدها - أنه يجبُ أقصى القيم من يوم الإحبال إلى الموت، كما يجب على الغاصب أقصى القيمة، من يوم القبض إلى التلف، وكأن الجارية في يد الواطىء منذ علقت إلى أن ماتت.
والثاني - أنه يجب قيمةُ يوم الإحبال؛ فإنه [سبب] (1) الإتلافِ، والأمة وإن بقيت مملوكة، فهي مع سبب الردى هالكة. ولهذا نظائر ستأتي في كتاب الجراح إن شاء الله تعالى.
والثالث - وهو اختيار ابن أبي هريرة أنه يجب قيمة يوم الوضع؛ فإن التلف تحقق يومئذ، وما تقدم غير موثوقٍ به، ولا مُحاطٍ به. وهذا كاعتبار النهايات في أروش الجنايات على الأحرار.
3566- ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أن الراهن إذا وطىء الجارية وأعلقها، فولدت، ونَقَصها الولادةُ، وجب على الراهن أرشُ النقص، ووضعه رهناً، وهكذا سبيل أروش جناياته على المرهون، على ما ستأتي فصول الجنايات.
ولو وطىء الجارية المرهونة وكانت بكراً، وافتضها، فعليه أرش البكارة. وليس هذا بمثابة المهر في الثيب؛ فإن الافتضاض جنايةٌ على جزء من الجملة، والجملة بأجزائها مرهونة.
فإن قيل: لمَّا فرعتم على نفوذ الاستيلاد، قطعتم القولَ بأن الاعتبار بقيمة يوم العلوق، وردّدتم المذهب حيث انتهيتم في التفريع إليه؟ قلنا: إذا ثبت الاستيلاد، انفك الرهن، ولم يتوقف انفكاكه على الولادة، فتعين اعتبارُ ذلك اليوم، وما يفرض من نقصان أو زيادةٍ بعد الانفكاك، فلا تعلق له بحق المرتهن.
__________
(1) ساقطة من النسخ الثلاث، واقتضاها إيضاح السياق، كما في عبارة النووي. (الروضة: 4/ 79) .(6/111)
وإذا قلنا: لا ينفذ الاستيلاد، وأوجبنا القيمة بسبب الهلاك، وقد تقدم السبب المقتضي له، فتردُّدُ الأصحابِ بين السبب والتلف كما تقدم.
ومما يتفرع على قولنا: لا يثبت الاستيلاد لحق المرتهن، أنها تباع في الرهن إذا مست الحاجة إلى بيعها، ثم إذا بيعت، فلو عادت يوماً إلى المستولد، فهل تصير أم ولدٍ له؛ فعلى قولين مشهورين، ولا اختصاص لهما بهذه الصورة، بل كل جارية علقت بولد حر، من مستولد محترم، وامتنع نفوذ الاستيلاد، فإذا ثبت للمستولد الملكُ المطلقُ فيها، ففي نفوذ الاستيلاد القولان.
ومن صور القولين أن يطأ جارية الغير بالشبهة ويُعْلِقَها، ثم يشتريها. وقد ذكرنا في التفريع على ردّ عتق الراهن أن العبد المرهون الذي أعتقه الراهنُ إذا بيع في الدَّين، وعاد ملكاً إلى الراهن، فلا ينفذ العتق المردود، والفارق ظاهر؛ فإن اللفظ (1) إنما ينفذ حيث ينفذ بصيغته، وكان [صيغة] (2) إعتاق الراهن التنجيزَ، فإذا رُدّ، ارتد، وقد زال الملك الذي كان إعتاقه تصرفاً فيه.
والاستيلاد فعل، والأفعال قد تتوقف، وكأنا نقدّر إعلاق الجارية بولدٍ حُر تسبُّباً إلى حصول الحرية يوماً من الدهر، ومبنى الاستيلاد على هذا؛ فإنه لا يُنجِّز العتاقة.
3567- ولو انفك الرهن عن الجارية، وكنا رددنا استيلادَ الراهن، فلأصحابنا طريقان: فمنهم من قطع بنفوذ الاستيلاد في هذه الصورة لاستمرار الملك، وانقطاع المزاحم، ومنهم من خرَّجه على قولين، ورتبهما على القولين في صورة وطء الشبهة، وفيه إذا زال الملك عن المرهونة، ثم عاد. ولا يكاد يخفى وجه الترتيب، وطريق الفرق.
والأوجه عندي القطعُ بنفوذ الاستيلاد إذا انفك الرهن. والاستيلاد عندي على هذا القول مشبَّه بتعليق العتق على ما بعد الانفكاك. وقد قدمنا القطعَ بنفوذ التعليق على هذا الوجه.
__________
(1) في (ص) ، (ت 2) : اللفظ الظاهر.
(2) في الأصل: صفة.(6/112)
3568-[وإذا] (1) أعتق الراهنُ العبدَ المرهون، ورددنا عتقه، ثم انفك الرهن، فقد أشرنا إلى خلافٍ في ذلك. والسبب فيه استمرار الملك، وزوالُ الحجر. وهذا يقرب من اختلاف القول في أن المحجور عليه بالفلس إذا أعتق عبداً من جملة مالِه، فرددنا عتقه، ثم انفك الحجر عنه، ولم يتَّفق بيعُ ذلك العبدِ في ديونه، ففي نفوذ العتق عند إطلاق الحجر قولان، سيأتي ذكرهما في كتاب التفليس، إن شاء الله تعالى، ووجه التشبيه بيّن.
ولا خلاف أن العتق لا ينفذ في اطراد الحجر عليه؛ فإن فائدة الحجر منعُه من التصرف في ماله. وتفاصيل ذلك يأتي في موضعه. والراهن مطلقٌ، وقد أبقى ملكَ نفسه في الرقبة، فظن ظانون أنه مطلق صادف عتقُه ملكَه، وسرى إلى حق غيره.
ثم سنذكر في بيع المفلس مالَه -إذا انفك الحجر عنه، ولم يتفق صرفُ مبيعه في دينه- قولين.
3569- وأطلق الأصحاب القول بأن بيع الراهن في المرهون مردود، ولم يقفوه على انفكاك الحجر، ولا فرق عندي بين البابين، ولا محمل لتصحيح بيع المفلس مالَه على قولٍ إلا الحملُ على الوقف، ومحمل القولين لا يمتنع جريانه في الرهن.
وبالجملة لا فرق بين البابين إلا أن أحد الحجرين جرى من غير اختيار المحجور عليه في جميع ماله، والحجر الذي نحن فيه وهو الرهن جرى في مالٍ خاص باختيار مالكه، فالوجه التسويةُ بين البابين، وتنزيلُ البيع والعتقِ على ترتيب واحد، فالعتق أولى بالنفوذ، والبيع أبعدُ منه. وهذا فنّ من الوقف زائد على الأصناف التي ذكرناها في كتاب البيع، وتقريرُه في كتاب الحجر.
والفارق بين البيع والعتق أن تنفيذ التصرف بطريق الوقف ملتفت إلى مذهب التعليق، فكأن المفلس قال: إذا انفك الحجر، فهذا العبد حر، وهذا يتطرق إلى العتق، ويبعد عن البيع، والمحجور المبذّر عتقه مردودٌ في الحال، وإذا انفك الحجر عنه، وظهر الرشد، لم ينفذ من العتق ما رددناه.
__________
(1) في الأصل: فإذا.(6/113)
ولو قال في سفهه: إذا ظهر رشدي، فعبدي هذا حر، لم ينفذ عتقه إذا آنس رشدَه. وأما استيلاده، فنافذ في الحالِ؛ فإنه يجري على مذهب الاستهلاك، وهذا واضح.
وقد نجز غرضنا من تفصيل القول في إعتاق الراهن واستيلاده وما يتعلق بأطراف الكلام في ذلك.
3570- ثم قال الشافعي في أثناء الكلام تفريعاً على ثبوت الاستيلاد: " وتعتِق بموت السيد في قول من يعتقها " (1) .
وهذا ترديدُ قولٍ منه في بيع أمهات الأولاد. وهذا القول مشهور في القديم، وترديده القولَ فيما نقله المزني غريب. والاستيلاد على قوله القديم لا أثر له، وهو من ضروب الاستخدام، فكأن السيد إذا أودعها ماءه، ثم انفصل، فبقيت على رقها كالظرف يحتوي على شيء ثم يفرغ منه. وعلى هذا لا تعتق مستولدة، ولا يمتنع بيعُها. وهذا قولٌ لا عمل به، ولا فتوى. وقد كان فيه اختلاف في الصدر الأول، ثم أطبق العلماء بعدهم على المنع، فالتحق هذا بإجماع بعد خلاف. وهذا مستقصى في فن الأصول.
فإذا مهدنا هذا الأصل الكبير، فقد حان أن نرجع إلى صدر الفصل، فنقول:
إذا رهن الرجل جارية، فظهر بها حمل، وقال الراهن: هذا الولد مني، وقد كانت علقت به ولم أشعر، فرهنتها: فإن صدقه المرتهن، فلا كلام، فيثبت النسب والولد حرٌّ، لا ولاء عليه، والجارية أم ولد، والرهن باطل، وليس على الراهن قيمةٌ توضع رهناً؛ من قِبل أنه لم يجن (2) على رهنٍ لازم، بل تبيّنا أن لا رهن.
نعم لو كان هذا الرهن مشروطاً في بيعٍ، وقد تبين امتناعهم (3) بالسبب الذي ظهر، فيثبت الخيار للبائع؛ من قِبل تعذر الوفاء بالشرط المذكور في العقد. وسيأتي
__________
(1) ر. المختصر: 2/211.
(2) في (ص) ، (ت 2) : يجر.
(3) كذا في النسخ الثلاث. ولعلها: (امتناعه) أي الرهن.(6/114)
هذا في موضعه من الكتاب، إن شاء الله عز وجل.
هذا إذا صدقه المرتهن.
فإن كذبه المرتهن، وقال: ليس الولدُ منك، فإن كانت للراهن بينة أقامها، أو أقامتها الجارية، والشهادة على جريان الوطء من الراهن قبل العقد، أو بعد الرهن قبل الإقباض. والحكم ما قلناه في المسألة الأولى.
فإن قيل: يحتمل أن يثبت الوطء، ولا يثبت العلوق. قلنا: نعم، هو كذلك.
ولكن العلوق عيبٌ، ولا شيء يدار الإقرارُ والإنكار عليه إلا الوطء، ولهذا قلنا: إن السيد إذا اعترف بوطء مملوكته وأتت بولدٍ لزمانٍ يمكن أن يكون من الوطء، فالنسب لاحق على تفصيل يأتي في موضعه، إن شاء الله تعالى، وهذا يعتضد باستلحاقه النسبَ، فصار مجموع هذا مثبتاً للاستيلاد.
وإن كذبه المرتهن، ولا بينة، فنقول: أما نسبُ المولود، فثبت لاستلحاق الراهن، وتثبت حريةُ الولد. وأما الاستيلاد، فهل يحكم به حتى يبتني عليه تبين بطلان الرهن؛ فعلى ثلاثة أوجه: أحدها - لا يحكم به؛ لأنه أثبت للمرتهن حقاً، ثم ادعى ما يتضمن بطلانَه، فلا يقبل.
والوجه الثاني - أنه مقبول؛ من جهة انتفاء التهمة؛ إذ إقراره لو ثبت، فمتضمنه زوال الرق، وقد يقبل الإقرار في محل حق الغير، لانتفاء التهمة، وعليه بنينا قبول إقرار العبد بما يوجب سفك دمه، أو بما يوجب عقوبةً عليه.
والوجه الثالث - أنا نفصّل بين أن تأتي بالولد لستة أشهرٍ، فما دونها من وقت الإقباض، وبين أن تأتي بالولد لأكثر من ستة أشهر؛ فإن الأمر إذا كان كذلك، اتسع مسلك الإمكان، ولم يبعد أن يُفرض العلوقُ بعد تمام الرهن. وتحقيق الفرق أنا إذا أثبتنا العلوق حالة القبض، فإقرار الراهن يرد على غير محل الرهن، ولو كان موجوداً حالة القبض، فيقع ثبوت الاستيلاد تابعاً.
وهذا يلتفت إلى أصل سيأتي بعد هذا. وهو أن من رهن عبداً أو باعه، ثم زعم بعد ظهور اللزوم، أنه كان أعتقه، أو كان باعه. وهذا سيأتي في مسائل الرهن، إن شاء الله تعالى.(6/115)
فإن قيل: إن قبلتم إقراره، فلا سؤال. وإن لم تقبلوه، فهلا خرَّجتم هذا على الأقوال في أنه لو أنشأ الاستيلاد هل يثبت؛ حتى تقولوا: إن نفذنا منه الاستيلاد ابتداء، ينفذ إقراره، وإن لم ينفذ منه الاستيلاد ابتداء، فلا يقبل إقراره، تخريجاً على تنزيل الإقرار بالشيء منزلة إنشائه؛ فإن الوكيل بالبيع لو أقر بالبيع، نفذ إقراره كما ينفذ إنشاؤه البيع. ولو أظهر الموكِّل عزله، ثم ادعى الوكيلُ البيعَ، لم ينفذ قوله. وهذا يطرد لنا وينعكس.
قلنا: هذا جارٍ في التصرفاتِ التي يسلِّط الشرعُ على الإقدام عليها، فيجعل الإخبارَ عن الشيء بمثابة إنشائه، إذا كان إنشاؤه مملوكاً للمقر. والراهن على كل مذهب ممنوعٌ من الإقدام على استيلاد الجارية المرهونة. وهذا مما اختلف أصحابنا فيه، وتخريجه على أصلٍ سيأتي في كتابِ الحجر.
وهو أن المبذر لو أقر بالطلاق، نَفَذَ، اعتباراً بأنشائه، ولو أقر أنه أتلف مالاً، ففي قبول إقراره خلاف؛ فإن الإتلاف ليس ما يملكه شرعاً، ولكن يتصور وقوعه منه، وهل يقبل إخباره فيه؟ فعلى وجهين.
كذلك قلنا: لو وقع استيلاد الراهن، لنفذ، فإذا اعترف به، ففي نفوذه الخلاف الذي أشرنا إليه.
فصل
3571- كل تصرف يمتنع نفوذُه لحق المرتهن، فإذا أذن فيه، نفذ؛ فإن المانع حقُّه. وإذا أذن للرّاهن في بيع المرهون، أو في هبته، فباع أو وهب، نفذ. وإذا فرعنا على أن العتق لا ينفذ من الراهن، فإذا أذن فيه المرتهن، نفذ. وسنذكر أن الراهن لا يجوز له أن يطأ الجارية المرهونة إذا كانت بصدد أن تحبل، وفي التي لا تحبل كلام سيأتي، إن شاء الله تعالى.
وإذا أذن في الوطء، فوطىء الراهن بالإذن وترتب عليه العلوق، ثبت الاستيلاد، وإن وقع التفريع على أن الاستيلاد لا ينفذ لو انفرد الراهن.(6/116)
ثم الإذن المجرّد لا يرفع عقد الرهن، حتى يتصل بوقوع التصرف.
وللمرتهن أن يرجع قبل التصرف عن إذنه. وإذا أذن في الهبة والإقباض، فوهب الراهن، ورجع المرتهن عن الإذن، لم يملك الراهن الإقباضَ، ولو أذن في البيع من غير تعجيل حق ولا شرط جَعْل الثمن رهنا، فباع الراهن على شرط الخيار، فقال المرتهن رجعت عن الإذن؟
الذي ذهب إليه المحققون أن رجوعه لا ينفعه، وللراهن إلزام العقد، وقطع الخيار، كالهبة مع القبض، وذلك لأن القبض ركنُ العقد فيه (1) . وهو ينزل منزلة القبول من الإيجاب، وكأن الهبة عدلاً والوفاء بها الإقباض، والبيع مبناه على اللزوم والخيار دخيل فيه، فهو مفوّض إلى من له الخيار.
ولو أذن في الوطء فوطىء، ولم يتفق العلوق، فحق الرهن باق؛ فإن الوطء لا ينافي الرهن، وإنما ينافيه العلوق، وثبوت الاستيلاد. فلو لم يأذن إلا في وطأة، فلم تَعْلق، فلا يعود الراهن إلى الوطء. ولو كان أذن في جنس الوطء، ثم رجع عن إذنه، تعين على الراهن أن يمتنع.
3572- ثم فرض الشافعي والأصحابُ صوراً في اختلاف الراهن والمرتهن في الحكم الذي نحن فيه. ونحن نرسم مسائل تستوعب الغرض.
فمنها أن يختلفا في أصل الإذن، فيقول الراهن: أذنت في الوطء، وأنكر المرتهن، فالقول قول المرتهن مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الإذن.
ثم إذا كان أولدها وجرى الخلاف كما وصفناه، وحلف المرتهن، عاد التفريع إلى وقوع الاستيلاد. والأولى تفريع صور الخلاف على أن الاستيلاد لا يثبت على استبدادٍ. فإن نكل الراهن عن يمين الرد، فأرادت الجارية أن تحلف لمكان حقها من عُلقة الحرية، فهل لها ذلك؟ على وجهين ذكرهما العراقيون: قالوا: والأصح أنها لا تحلف؛ فإنها ليست بمتأصلة في الحق، وإنما يثبت أمرها تبعاً، والأيمان لا تعرض على الأتباع، ولذلك لا يحلف الوكيل، وسنذكر نظائر ذلك في كتاب
__________
(1) في (ص) ، (ت 2) : ففيه. (والضمير هنا يعود على البيع) .(6/117)
القسامة، ثم في كتاب الدعاوى، إن شاء الله - هذه مسألة في الاختلاف.
المسألة الثانية - أن يقع الوفاق على أصل الإذن، ويعودَ الخلاف إلى جريان الوطء، فقال الراهن: قد وطئتُ، وأنكر المرتهن ذلك. فيقول: ما وطئتَ، وليس الولد الذي جاءت به الجارية منك. هذا أصل التصوير.
ثم ذكر الأئمة صورتين: إحداهما - أن يبتدىء الراهن فيقول: أذنتَ لي في الوطء، فوطئتُ، وأعلقتُ. ثم يقول المرتهن: أذنت لك، وما وطئت، فالقول قول الراهن؛ فإن الإذن متفق عليه، والوطء المختلف فيه من فعل الراهن، فليكن الرجوع إليه في فعله.
هذا هو الأصح.
ومن أصحابنا من قال: الأصل عدمُ الوطء، وبقاء الرهن. وهذا يناظر ما لو قال الرجل لامرأته: إن زنيتِ، فأنت طالق، فإذا زعمت أنها زنت، فالقول قول الزوج في إنكار زناها؛ فإن الأصل عدم وقوع الطلاق، وعدم الزنا.
هذا أصل المذهب. وليس كما لو قال: إن حضت، فإنت طالق، فقالت: حضتُ، فالقول قولها؛ إذ لا يُطلع على حيضها إلا من جهتها، ويُطَّلع على سائر أفعالها من غير جهتها. ولا فرق بين ما يخفى في العادة وبين ما يظهر، كدخول الدّار ونحوه.
ومن أصحابنا من صدق المرأة فيما يخفى وتطرد العادة بكتمانه، كالزنا ونحوه.
وهذا مزيف لا أصل له. فإن قيل: لم كان ظاهر المذهب تصديقَ الراهن في الصورة التي ذكرتموها؟ وما الفرق؟ قلنا: إذا كان الوطء مأذوناً، فادّعاه من أُذن له، كان هذا ادعاءَ أمر يملك إنشاءه، وكل مأذون في شيء يدعي مع دوام الإذن إيقاعَ ما أُذن فيه، فقوله مقبولٌ، كالوكيل بالبيع إذا ادّعى البيعَ قبل أن يُعزل؛ فتصديق الراهن يؤخذ من هذا الأصل، وهو غير متحقق في تعليق الطلاق بالصفات؛ إذ ليس في التعليق تسليطٌ على أمرٍ وتولية في شيء، والطلاق يعلق تارةً بما يدخل تحت اختيار الزوجة، وتارة يعلّق بأمور ضرورية، لا اختيار فيها كغروب الشمس وطلوعها. هذا فيه إذا قال الراهنُ أولاً: أذنت لي، فوطئت. وقال المرتهن بعده: ما وطئتَ.(6/118)
فأما إذا قال المرتهن أولاً: أذنتُ لك في الوطء، فما وطئتَ، فقال الراهن بعده: أذنت لي فوطئتُ. ذكر الأئمة في هذه الصورة وجهين ورتبوهما على الخلاف في الصورة الأولى، وجعلوا هذه الصورة الأخيرة أولى أن يصدَّق المرتهن فيها، وعلّلوا بأن قول المرتهن إذا تقدَّم يتضمن عزل الراهن عن الإذن في الوطء، فيقع قول الراهن بعد انعزاله، وليس كالصورة الأولى إذا تقدم قول الراهن. وهذا ليس بشيء. وليس ما قاله المرتهن قطعاً للإذن، ولا عزلاً، وإنما هو خبر عن الإذن، واعتراف به، ثم ادعاءُ عدم الوطء؛ فلا عزل إذاً.
وحصل من الصورتين أوجه: أحدُها - أن القول قول المرتهن في الصورتين؛ فإن الأصل عدم الوطء. والثاني - أن القولَ قولُ الراهن في الصورتين كما استشهدنا به من ادعاء الوكيل البيع الذي وكل به. والوجه الثالث - أنه يفصل بين أن يتقدم قول الراهن وبين أن يتقدم قول المرتهن، فالمصدَّق من يقدَّم قوله. وهذا ما اختاره القاضي، وهو ضعيف؛ فإنه بناه على العزل، وزعم أن قول المرتهن يتضمن عزلَ الراهن، وهذا غيرُ مفهوم.
ثم قال لو قال الوكيل بالبيع لموكله: أذنتَ لي في البيع، فبعتُ، وأنكر الموكِّل بيعَه، واعترف بالإذن، فالقول قول الوكيل. ولو قال الموكل أولاً: أذنت لك في البيع، فلم تبع. وقال الوكيل: قد بعتُ. ذكرَ وجهين في هذه الصورة أخذاً مما تخيله من أن قول الآذن في ذلك رجوع عن الإذن. وهذا كلام عريٌّ عن التحصيل.
3573- ومن مسائل الاختلاف: أن يتفقا على الإذن، وجريان الوطء، ويقول المرتهن: هذا الولد الذي أتت الجارية به ليس منك، ولم تُعلقها أنت بوطئك، وإنما زنت، وأتت بولدٍ من غيرك، فالقول في هذه الصورة قول الراهن بلا خلاف؛ فإن أصل الإذن متفق عليه، وكذلك جريان الوطء، ولا يبقى بعد هذا في نفوذ الاستيلاد شيء إلا استلحاق المولود، والاستلحاق إلى الواطىء، وهو من الأمور المفوّضةِ إليه، فلا معنى لتقدير مزاحمته.
ثم وجدت الطرق متفقة على أن الراهن لا يحلَّف في الصورة الأخيرة، ويكفي استلحاقُه. وإذا جعلنا القولَ قولَ الراهن في ادعاء الوطء، فهل يحلّف؟(6/119)
ذكر الأصحاب وجهين. والأظهر عندي أن يحلّف. ووجهُ قول من لا يحلّفه أن حاصل كلامه يرجع إلى استلحاق المولود، وقد تقدم أنه لا استحلاف فيه.
ولو ادعى الوطء، ولم يتعرض لاستلحاق النسب، لم يثبت الاستيلاد. والوجهان في تحليف الراهن على الوطء ذكرهما صاحب التقريب على النسق الذي ذكرناه.
وإن رأينا تصديق المرتهن في نفي الوطء، فلا يُثبت يمينُه؛ فإن كل من أراد نفيَ فعل غيره، لم يزد في يمينه على نفي العلم به، وهذا لو صح الرجوع إلى قول المرتهن أصل لا مراء فيه. وبه يضعف أصلُ هذا الوجه؛ فإن المرتهن في الغالب لا يطلع على الوطء؛ ومهما حلف على نفي العلم بالوطء، برَّت يمينُه، فيؤدي هذا المسلكُ إلى أن لا يثبت حقُّ وطء الراهن قط إلا أن يطأ على رؤوس الأشهاد.
وهذا ينفصل عن تعليق الطلاق؛ فإن وقوع الطلاق ليس من حقها، وكذلك فعلُها الذي هو صفة في الطلاق، فإن كان لا يظهر وقوع الطلاق، فليس فيه تعطيل حق، والراهن يطأ بحق الملك؛ فإن الوطء لا يستباح بالإذن، ولكن الإذن يرفع المانع من اليمين.
وإذا كان هذا من حق الراهن، فينبغي له أن يمهّد له سبيلٌ إلى إثباته على يسر.
3574- ثم إن المزني ذكر المسألة الأخيرةَ، وحكى عقيبها عن الشافعي أنه قال: إن كان موسراً، فعليه القيمةُ، وإن كان معسراً، فلا شيء عليه. ذكر هذا في صورة الاعتراف بالإذن والوطء، ثم أخذ يعترض ويقول: وجب أن لا نلزم القيمة، لأن الوطء جرى بالإذن، فوجب بطلان حقه.
قلنا: الأمر على ما ذكرتَ، ولكن أخطأتَ ووهمت في النقل، والشافعي ذكر هذا في المسألة الأولى من مسائل الاختلاف: وهي إذا أنكر المرتهن أصلَ الإذن وحلف. وقد تتبّع الأثباتُ نصوصَ الشافعي في الكتب، فلم يجدوا ما ذكره المزني من الفرق بين الموسر والمعسر، إلا على أثر إنكار المرتهن أصلَ الإذن.
فرع:
3575- ذكر العراقيون في أثناء الكلام عند ذكرهم إذْنَ المرتهن مسألة في الإذن أحببت نقلها، وهي أنهم قالوا: لو قال السيد: اضرب عبدي، فضربه، وأتى(6/120)
الضرب عليه. قالوا: لا ضمان على الضارب. وقالوا: الزوج مأذون من جهة الشرع في ضرب زوجته، ولو ضربها وأتى الضرب عليها، ضمنها، وفرقوا بأن الإذن في ضرب الزوجة مقيد بتوقي القتل وإبقائها والإبقاء عليها. والإذنُ في الضرب مطلق في المسألة التي ذكرناها لا تقييد فيه.
وكأنهم رأوا الأمر بالضرب أمراً بجنسه بالغاً ما بلغ.
وهذا محتمل عندي؛ فإن الضرب يخالف القتل، فالأمر به أراه مُشعراً بالاقتصار عليه، ومن قتل إنساناً لا يقال: ضربه. ولو قال: أدِّب عبدي، فلا يجوز أن يُشكَّ في أنه لو قتله، ضمنه؛ فإن التأديب مصرِّحُ بإبقاء المؤدَّب.
فصل
قال: " ولو وطئها المرتهن ... إلى آخره " (1) .
قد ذكرنا فيما تقدم وطءَ الراهن بالإذن وغيرِ الإذن. وهذا الفصل مضمونه ذكرُ وطء المرتهن الجاريةَ المرهونة. ولذلك صورتان:
إحداهما - أن يقع الوطء من غير إذن الراهن. والأخرى - أن يقع الوطء بإذنه.
فأما إذا وطىء بغير إذن الراهن، فلا يخلو إما أن يكون عالماً بالتحريم، وإما أن يدعي الجهلَ به، فإن كان عالماً بالتحريم، فهو زان يلزمه الحد. فإن استكره الموطوءة، التزم مهرَها للراهن. وإن طاوعته، فهي زانية.
واختلف الأصحاب في وجوب المهر: منهم من قال: لا مهر، وإليه ميلُ المحققين. ومنهم من أوجب المهر.
3576- التوجيه: من قال: يجبُ المهر، احتج بأنَ مُطاوعتها إباحة منها، وإباحتها مهدرة في حق المولى، فأشبه ما لو أباحت قطع طرفها لجانٍ؛ فإن الضّمان لا يسقط بإباحتها.
ومن قال: يسقط، احتج بأن قال: هي بغيّ أوّلاً، وقد " نهى رسول الله صلى الله
__________
(1) ر. المختصر: 2/211.(6/121)
عليه وسلم عن مهر البغي " ومنافع البضع تقوّمت بالشرع إذا استهلكت وهي محترمة، ولا حرمة مع البغاء.
وفيه لطيفةٌ من جهة المعنى، وذلك أنها إذا طاوعت، فهي مشاركة في العمل، وليس الزاني منفرداً بإتلاف المنفعة، ولا تمييز ولا تشطير. والشرع لا يتقاضى إثباتَ البدل لحقٍّ حرمه، فلا شيء.
هذا إذا كان عالماً بالتحريم.
فأما إذا كان جاهلاً فيما زعم، بأن كان حديث العهد بالإسلام، وظن أن الارتهان يبيح المرهونة، فإذا ادعى الجهلَ ولم يبعُد ما قال، فلا حد. وإذا انتفى الحد، فالكلام بعده في المهر، والنسب، والحكم برق الولد وحريته.
الظاهر أن النسب يثبت؛ لمكان الشبهة الدارئة للعقوبة. وإذا اندفع الحد لشبهة، كان الوطء على حظ من الحرمة (1) ؛ فيثبت النسب.
ومن أصحابنا من قال: لا يثبت. ثم الطريقة الصحيحة تخريج رق المولود على الخلاف في النسب، فإن حكمنا بالنسب، فالولد حر، وإن نفينا النسب، فالولد رقيق.
وقال بعض أصحابنا: النسبُ يثبت وفاقاً. وفي ثبوت الحرية وجهان. وهذا القائل يزعم أن النسب أسرع إلى الثبوت.
وعكس بعض من ينتسب إلى التحقيق هذا، فقطع بإثبات الحرية، وردّد القول في النسب، وصار إلى أن الولد النسيب هو المنعقد من ماء محترم، والحرمة غير متكاملة.
وهذا كله خبط.
والوجه إجراء النسب والحرية مجرى واحداً. والمذهب ثبوتهما. وكان شيخي يعلل الوجه الآخر بضعف الشبهة، ويقول: الحدّ يندرىء بأدنى شبهة. والنسب يستدعي شبهة لها وقعٌ.
__________
(1) " الحرمة ": من " الاحترام "، وليس من "التحريم".(6/122)
وقرّر القاضي في هذا كلاماً، وقال: من لا يعلم حكم الإسلام تحريم هذا الوقاع فكأن لا شبهةَ ولا بصيرة. ثم قال: إذا زنى مجنون بعاقلة، فالقول في النسب يجب أن يخرّج على هذين الوجهين، فإن المجنون ليس ممن يدري، وليس ممن يتصف بنقيض الدراية، والشبهةُ إنما تثبت في حق من يعذر بظنٍّ وهو (بصدد) (1) الدراية، وعليه يخرّج عندي الخلاف في عمد المجنون في القتل؛ فإن إلحاقه برتبة المخطىء لا وجه له وإقدامُه معلوم حساً. وهذا لائح في المجنون. فأما إلحاق عاقل جهل التحريم -ومن الممكن أن يعرفه- بالمجنون، فبعيد. فأما المهر، ففيه تردد للأصحاب؛ من جهة ضعف الشبهة، وأنها لم تورِث حرمة، والأصح ثبوت المهر.
هذا كله إذا وطىء المرتهن من غير إذن الراهن.
3577- فأما إذا وطىء بإذن الراهن، فإذا كان عالماً بالتحريم، لزمه الحد في ظاهر المذهب.
وقيل: لا حدَّ عليه لشبهة الخلاف؛ فإن عطاء بن أبي رباح، كان يجوّز إعارة الجواري، وكان يبعث بجواريه إلى ضيفانه، فلينتهض مذهبُه شبهة في درء الحدّ.
وهذا ليس بشيء؛ فإن الحد لا يدرأ بالمذاهب، وإنما يدرأ بما يتمسك به أهل المذاهب من الأدلة، ولا نرى لفظاً في هذا متمسكاً، ولا أصل لهذا الوجه.
فإن قلنا: لا حد، فالكلام في النسب وحرية الولد على ما قدمناه في حق من وطىء من غير إذن وادّعى الجهل بالتحريم.
وإن أوجبنا الحد، فلا نسب، والولد رقيق.
وإن ادعى الجهل بالتحريم عند إذن الراهن، فالدعوى في هذه الصورة أظهر.
واتفق الأصحابُ على أنه يتعلق بها دفع الحد، وثبوت النسب، وحريةُ الولد.
ولا تصير الجارية أم ولد، وإذا ملكها يوماً من الدهر، ففيها القولان المشهوران. وأما المهر، فقد اختلف قولُ الشافعي في وجوبه، فقال في قول: لا يجب؛ لأن الإذن من
__________
(1) كذا في النسخ الثلاث، والمعنى أن الشبهة تكون عن ظن خاطىء ممن هو بصدد الدراية، أي من أهلها، والله أعلم.(6/123)
الحرّ المستوجب للمهر قد حصل، وإذا سلطه ذو الحق على إتلاف حقّهِ، فلا ضمان.
وقال في قول آخر: يجب المهر؛ فإن الإباحة لا وقع لها في الأبضاع، وليس الوطء زنا.
قال القاضي: هذا الاختلافُ قريب من اختلاف قول الشافعي في أن المفوضة هل تستحق المهر، وسيأتي ذلك مفصلاً في كتاب الصداق، إن شاء الله تعالى.
هذا قولنا في المهر.
فأما قيمة الولد وقد ثبتت حريته، ففيها طريقانِ: فالذي ذهب إليه معظم الأصحاب أنها تجب، ولا تسقط بسبب الإذن في الوطء؛ فإن العلوق لا صنع فيه للواطىء، فلا يكون الإذن في الوطء متعلِّقاً به.
هذا أحد الطريقين.
وقد ذكر صاحب التقريب طريقة أخرى في تخريج قيمة الولد على قولي المهر؛ فإن العلوق مترتب على الوطء المأذون فيه. والدليل عليه أنّ إذنَ المرتهن للراهن في الوطء يوجب تنفيذ الاستيلاد، وسقوطَ الغرامة، وإن كان الاستيلاد ترتب على العلوق.
وليس هو من صنع الواطىء. ولكن التسبب إلى الشيء بمثابة مباشرته.
فصل
قال: " ولو كان الرهن إلى أجلٍ، فأذن للراهن في بيع الرهن ... إلى آخره " (1) .
3578- إذا أذن المرتهن للراهن في العتق، فأعتق بإذنه، بطل حقُّه من الرهن، سواء كان الحق حالاًّ أو مؤجلاً؛ فإن الإعتاق إتلافٌ للمالية، لا إلى عوض؛ فإذا أذن المرتهن به، سقط حقه بالكلية من الوثيقة.
فأمَّا إذا أذن بالبيع، فلا يخلو: إما أن يكون حالاًَ، أو مؤجلاً.
فإن كان مؤجلاً، ففيه مسائل: أحدها - أن يُطلق المرتهن الإذن في البيع، ولا يقيده بشرط، فإذا باع الراهن بالإذن، انفك الرهن، ولا يلزم البائعَ جعلُ الثمن
__________
(1) ر. المختصر: 2/211.(6/124)
رهناً مكان ما باع، خلافاً لأبي حنيفة (1) . هذه مسألة.
3579- والمسألة الثانية - أن يأذن في البيع على شرط أن يعجل الدين من ثمنه، فهذا الشرط باطل؛ فإنه يتضمن إثبات حق غيرِ ثابت، وهو التعجيل. وإذا تبين فساد هذا الشرط، فالإذن يفسد بفساد الشرط ولا ينفذ بيع الراهن، وينزل ما جرى منزلة ما لو باع مستبداً من غير إذن، وهذا يعد من مشكلات المذهب.
وذهب المزني إلى أن البيع نافذ بالإذن. واحتج عليهِ بأن قال: الإذن في البيع لا فساد فيه، وإنما الفساد في الشرط المقرون به، فليفسد الشرط، وليصح البيع بالإذن، واستشهد عليه بالتوكيل بالبيع مع شرط فاسد، مثل أن يقول: بع عبدي هذا ولك عشرُ ثمنه، فالأجرة فاسدة؛ من جهة أن مبلغ الثمن مجهول، والجزء من المجهول مجهول. ولكن البيع من الوكيل نافذ، والرجوع إلى أجر المثل، فليكن الأمر كذلك فيما نحن فيه؛ حتى يصح البيع، ويفسدَ الشرط.
وهذا الذي ذكره المزني في ظاهره معنى كلي.
وقد قال العراقيون: حكي عن أبي إسحاق المروزي أنه ذكر قولاً مخرجاً موافقاً لمذهب المزني، فحكم بنفوذ البيع، وبفساد الشرط. هذا حكَوْه، ثم زيفوه.
وقالوا: التعويل فيما يُنقل عن أبي إسحاق على ما يوجد في شرحه (2) . وهذا غير موجود في شرحه، فالوجه القطع بما نص عليه الشافعي.
وما ذكره المزني نقول فيه: الإذن في البيعِ في مسألتنا مُعَارض باشتراط شيء لا يستحَق، فكأن المرتهن أَذِنَ، وقابَل (3) الإذن بشرط يجر به منفعة إلى نفسه، ولم يُثبت الشرع ذلك الشرط، ففسد، وإذا فسد مقابلُ الشيء، فسد ذلك الشيء. وهذا يمثَّل بفساد أحد العوضين في المعاملات؛ فإن من حكمه فسادُ مقابلِهِ. وليس كذلك التوكيل بالبيع؛ فإنَ أصل الإذن لا مقابِل له، وإنما المقابلة في عمل الوكيل وما شُرط
__________
(1) مختصر اختلاف العلماء: 4/ 303 مسألة: 2017، البدائع: 6/ 149، 153.
(2) المراد شرحه لمختصر المزني.
(3) (ت 2) : فكان المرتهن إذا قابل للإذن.(6/125)
له، والإذن في البيع خارج عنهما، فاستقل الإذن بالصحة، وتقابل العمل والشرط، فقيل لَحِقَهما الفسادُ. أما أثر الفساد في العمل، فهو أنه لا يستحق، وأثر الفساد في العوض لائح، فيخرج منه نفوذ البيع بحكم الإذن المطلق، والرجوع إلى أجر المثل على قياس المعاوضات الفاسدة.
ونفس الإذن في مسألتنا مقابَل بفسادٍ، وذلك الفساد عوض الإذن.
هذا منتهى الإمكان في هذا.
3580- والمسألة الثالثة - أن يأذن في البيع، ويشترطَ وضعَ ثمنه رهناً مكانه. وفي المسألة قولان: أحدهما - أن الشرط يفسد، ثم يفسد بفساده الإذن في البيع، كما قدمناه في المسألة الثانية.
والقول الثاني - أن الشرط صحيح، والإذن في البيع صحيح، فإذا بيع المرهون، لزم جعلُ ثمنه رهناً. وهذا في حكم نقل الرهن من العين إلى عوضه، فإذا كان يجري هذا وفاقاً؛ فإن المرهون إذا هلك تعلق حق الوثيقة بقيمته، وما يقع لا يمتنع شرطه.
وهذا يترتب على أصل سيأتي بيانه، إن شاء الله تعالى. وهو أن من رهن ما يتسارع الفساد إليه، فهل يصح الرهن فيه والدين مؤجل؟ فعلى قولين، أحدهما - لا يصح؛ فإن مقتضى الرهن الحبسُ إلى حلول الدين، والحبس يفسد الرهن.
والقول الثاني - يصح الرهن، ويباع ويوضع ثمنه رهناً، وسيأتي ذلك. فإن أفسدنا فيما يفسد من يومه، فذاك لمصيرنا إلى امتناع النقل، فلا يجوز إذاً شرط النقل.
وإن صححنا رهنَ ما يفسد، ونزلنا على نقل (1) الوثيقة من العين إلى ثمنها، فلا يمتنع شرطه.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كان الدين مؤجلاً (2 وجرى الإذن 2) من المرتهن في البيع قبل حلول الأجل مطلقاً أو مقيداً.
3580/م- وأما إذا كان الحق حالاًّ، فأذن المرتهن في البيع، نُظر: فإن كان الإذن
__________
(1) في (ص) ، (ت 2) : رهن.
(2) ما بين القوسين ساقط من (ص) ، (ت 2) .(6/126)
مطلقاًً، نفذ البيع، ولزم قضاء الحق من ثمنه؛ لأن هذا مستحق بحكم الرهن، فمطلق الإذن محمول عليه. فإنْ شَرَطَ قضاءَ الحق منه، فقد زاد تأكيداً، وصرح بما يقتضيه الإطلاق.
ولو أذن في البيع على شرط أن يوضع ثمنه رهناً، ففي المسألة قولان والحقُّ حالٌّ، كالقولين إذا كان مؤجلاً، فلا يختلف الترتيب في هذا الشرط في الحالّ والمؤجل، فإنَّ نقل الرهن غيرُ مستحق في الحالتين. هذا بيان المسألة.
3581- ثم ذكر الشافعي بعد هذا اختلافاً بين الراهن والمرتهن في كيفية الإذن، والقول مفروض في الدين المؤجل، فإذا باع الراهن الرهنَ بالإذن، ثم اختلف الراهن والمرتهن: فقال الراهن: أذنتَ في البيع المطلق، وقال المرتهن أذنتُ في البيع وشرطتُ أن يوضع ثمنُه رهناً، فظاهر المذهب أن القول قول المرتهن مع يمينه؛ فإن البائع يدعي الإذن على وجه ينقطع فيه تعلق المرتهن، والمرتهن يأبى ذلك، والأصل استمرار تعلقه بحق الوثيقة.
وذكر بعض أصحابنا وجهاً آخر في ذلك، ووجهوه بأن أصل الإذن متفق عليه، و [المرتهن] (1) يدعي ضم شيء إلى الإذن، والأصل عدمه. وهذا ليس بشيء، والمذهب الأول.
وهذا ذكره شيخي وأنا أحسبه هفوة، فلا يعتد به.
ثم أطنب المزني في التعلّق بمسألة الوكيل الذي شرط له الجعل الفاسد، وقد تكلمنا عليه بما فيه مقنع مذهباً وحجاجاً.
فرع:
3582- إذا أذن المرتهن في البيع مطلقاًً والدين مؤجل، ثم رجع عن الإذن قبل جريان البيع، صح رجوعه، ونفس الإذن في البيع لا يبطل حقَّ المرتهن، بل الأمر موقوفٌ على جريان البيع على حكم الإذن. فلو اختلف الراهن والمرتهن، وقد جرى الإذنُ في البيع والرجوعُ، فقال الراهن: بعتُ قبل رجوعك. وقال المرتهن: بل رجعتُ قبل بيعك، فالذي ذهب إليه الأكثرون أن القول قول المرتهن؛ فإنه تقابل
__________
(1) في الأصل: المدعي.(6/127)
هاهنا أصلان: أحدهما - أن الأصل عدم بيعه في الوقت الذي يدعيه، والأصل عدم رجوع المرتهن أيضاًً في ذلك الوقت، فيتقابلان ويبقى أصل الرهن على ما تقرر ابتداء.
ومن أصحابنا من قال: ينفذ البيع؛ فإن الأصل استمرار المرتهن على حكم الإذن الذي سبق منه.
وهذه المسألة تلتفت على اختلاف الزوجين في الرجعة وانقضاء العدة، وسيأتي تفصيل ذلك في موضعه، إن شاء الله عز وجل.
فصل
قال: " ولو رهنه أرضاً من أرض الخراج، فالرهن مفسوخ؛ لأنها غير مملوكة ... إلى آخره " (1) .
3583- أراد بأرض الخراج سوادَ العراق وكان غنمه المسلمون، واستولَوْا عليه عَنْوة، واقتسموا واشتغلوا بالحراثة وتعلقوا بأذناب البقر، وتقاعدوا عن الجهاد، فاستطاب أمير المؤمنين عمرُ -رضي الله عنه- قلوبَهم عنها، فاستردَّ [ها] (2) منهم بعوض وغير عوض، ثم حبّسها على المسلمين، وردَّها على سكان العراق ووظّف عليهم أجرة. هذا مذهب الشافعي، وسيأتي شرحه في موضعه، إن شاء الله عز وجل في كتاب السِّير والجزية، والغرض من ذكره الآن تفصيل القول في رهن تلك الأراضي.
وزعم ابنُ سريج أن عمر باع تلك الأراضي من أهل العراق، وما حبسها وجعل الثمن موظفاً عليهم. وهذا يخالف نصَّ الشافعي، فإن ابن سريج يزعم أن سواد العراق على التأويل الذي ذكره مملوك، فينفذ بيعه ورهنه. ونص الشافعي يصرح بأن تلك الأراضي محبَّسةٌ ممتنعٌ بيعها ورهنها.
قال العراقيون: سواد العراق من عَبَّادان إلى الموصل طولاً، ومن القادسية إلى حُلوان عرضاً، فلو فعل الإمام فينا مثلَ هذا، جاز. والقول فيه يطول، وليس هو من
__________
(1) ر. المختصر: 2/212.
(2) ساقطة من النسخ الثلاث.(6/128)
غرض الكتاب، وإنما المقصود الكلامُ في أن رهن سواد العراق غيرُ جائز على النص؛ فإنه محبس. وهو جائز على تخريج ابن سريج.
وأما بيع ما فيهِ من أبنية، فكل بناء كان من برّية العراق، فهو أيضاً غير مملوك، وما لم يكن من برّيته، فمملوك، والغراس لا شك أنه مستحدث، فإذا كان مملوكاً، فالرهن فيه جائز، وكذلك البيع.
ولو جمع بين رهن أرضٍ من السواد وغراس فيه مملوك، فهذا من باب تفريق الصفقة.
ثم مما وقع التعرض له في هذا الفصل أن بيع الأرض هل يستتبع الغراس؟ وهذا قد استقصيناه في كتاب البيع على أبلغ وجه، فلا معنى لإعادته، وشرط هذا الكتاب أن نضم فيه أطرافَ الكلام في المثنيات والمكررات.
3584- ثم قال الشافعي: " لو أدى عنه الخراج، فهو متطوِّع ... إلى آخره " (1) .
فالمراد أن من رهن بناء مملوكاً أو غراساً، فالخراج على الراهن، فلو أدى المرتهن الخراج نُظر: فإن أداه من غير إذن من عليه الخراج، فهو متطوع لا يجد إلى ما أداه مرجعاً. ولو أداه بإذن من عليه بشرط الرجوع، رجع، ولو أدّاه بإذنٍ، وما كان الإذن متقيداً بشرط الرجوع، ففي المسألة وجهان مشهوران.
ولا اختصاص لهذا بما نحن فيه. وكل من أدى ديناً على إنسان، فتفصيله في الرجوع على ما ذكرناه.
ونصُّ الشافعي يميل إلى الرجوع إذا كان الإذن مطلقاًً. قال الشافعي: لو فادى أسيراً دون إذنه، لم يرجع عليه، وإن فاداه بإذنه، رجع عليه، ولم يعتبر شرطَ الرجوع. ونصَّ أيضاًً على أن من اكترى داراً وقبضها وأكراها، فأدى المكتري الثاني الكراءَ عن الأول إلى المُكري بإذنه، رجع. وإن لم يكن بإذنه، لم يرجع، ولم يعتبر شرط الرجوع.
والمسائل كلها على الخلاف بين الأصحابِ.
__________
(1) ر. المختصر: 2/212(6/129)
فصل
قال: " ولو اشترى عبداً بالخيار ثلاثاً، فرهنه قبلها، فالرهن جائز، وهو قطع لخياره ... إلى آخره " (1) .
3585- إذا شرط الخيار لنفسه دون البائع، فالمذهب أن الملك للمشتري، وخرّج فيه قولان آخران، تقدم ذكرهما في أول البيع. والشافعي فرعّ على أن الملك للمشتري، وقال: " لو رهنه في زمان الخيار، صح الرهن، وانقطع الخيار، ولزم البيع ".
وهذا مما ذكرناه في كتاب البيع على أبلغ وجه في البيان، وأحسن مساق في التفصيل، والرهن في زمان الخيار بمثابة البيع. وحاصل المذهب ثلاثةُ أوجه: أحدها - أن الرهن فاسد والعقد على جوازه.
والثاني - أن الرهن فاسد، والخيار ينقطع. والثالث -وهو ظاهر النص- أن الرهن يصح، وينقطع الخيار به.
وذكر العراقيون، وصاحب التقريب في الوصية اختلافاً يناظر هذا، فإذا أوصى رجل بعبد لرجلٍ، ومات الموصي، فرهن الموصى له العبدَ الموصَى به بعد موت الموصي، وقبل القبول، ففي المسألة أوجه: أحدها - يصح الرهن، ويكون قبولاً للوصية. والثاني - لا يصح الرهن، ولا القبول. والثالث - يفسد الرهن، ولكن يقع قبولاً للوصية.
فصل
3586- ويجوز رهن العبد المرتد، وهذا معنى مستقصى في البيع، ثم ذكرنا المذهبَ في بيع العبد المرتد، وبيع العبد المحارب المستوجب للقتل؛ بسبب القتل والمحاربة، وأوضحنا أن من اشترى عبداً مرتداً، وقبضه، وقتل في يده بالردة، فهو من ضمان البائع أو من ضمان المشتري؟ ولا وجه لإعادة ما سبق.
__________
(1) ر. المختصر: 2/212.(6/130)
والقدرُ المتعلق بكتاب الرهن أن من ارتهن عبداً مرتداً، وصححنا الرهن، فقبضه، ثم قتل في يده بالردة، نظر: فإن لم يكن الرهنُ مشروطاً في بيعٍ، فلا أثر لما جرى، وقد ارتفع الرهن بفوات المرهون. وإن كان الرهن مشروطاً في بيع، فإذا قتل العبد في يد المرتهن، ففيه الخلاف المقدم ذكرُه في البيع: ففي وجهٍ يُجعل كما لو قتل في يد الراهن، ولو قتل في يده، لما كان وافياً بالرهن المشروط، ثم حُكمه أن يتخير البائع في فسخ البيع؛ فإن من شرط رهناً، فلم يتفق الوفاء به، ثبت له الخيار.
وسيأتي بيان هذا الأصل.
وإن قلنا: المرتد في يد المرتهن محسوبٌ عليه، فقد توفر عليه المشروط، فلا يثبت له حق فسخ البيع.
3587- ويتصل بهذا الفصل أن الرهن إذا كان مشروطاً، ثم اتفق ضياعه في يد المرتهن، ثم اطلع المرتهن على عيب بعد فوات الرهن، فهذا من غوامض الأحْكام في الرهن. وهو بين أيدينا. ولكن نُنْجز منه شيئاً.
فنقول: إن اطلع على عيب وأمكن الرد ورَدَّ، ففائدة ذلك أن يتخيّر في فسخ البيع.
وإن عسر الرد بالتلف، وقد فرض الاطلاع من بعدُ، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه قد فات الأمر؛ فإن الرد غير ممكن، والأرش لا وجه له؛ فإن الأرش استردادُ جزءٍ من الثمن.
والوجه الثاني - أنه يثبت للمرتهن حق فسخ البيع؛ لأن النقصان الذي اطلع عليه في حكم جزء لم يصل المرتهن إليه، ولم يتحقق الوفاء بالشرط فيه، فهو كما لو شرط رهن أشياءَ، فاتفق الوفاء برهن بعضها دون بعضٍ، فالخيار ثابت.
ونص الشافعي يميل إلى هذا.
فإذا ارتهن مرتداً، فقتل في يده، وفرعنا أنه محسوب عليه، فلو اطلع على الردة من بعدُ، فهذا ما ذكرناه من الاطلاع على العيب بعد فوات الرد.(6/131)
فصل
قال: " ولو أسلفه ألفاً برهنٍ ... إلى آخره " (1) .
3588- إذا رهن من عليه ألف عبداً بالألف، ثم أراد أن يرهن بذلك الألف عبداً آخر أو ما بدا له، فليفعل، ولا منع من هذا؛ والسببُ فيه أن الرهن هو المشغول بالدين، والدين غيرُ مشغولٍ بالرّهن؛ فإنه ليس عوضه، ولا موثقاً به، فالزيادة في الرهن لا منع منها.
فأما إذا أراد أن يزيد في الدين، ويرهن ذلك المرهون بدين آخر، ضما إلى الدين الأول، فإن فسخا الرهن الأول وأعاداه بالدينين، فلا شك في جوازه.
ولو قررا الرهن الأول، وأرادا ضم دين آخر إليه، ففي جواز ذلك قولان: أحدهما - يجوز، وهو القديم، واختيار المزني.
والثاني - لا يجوز. وهو الجديد. ومذهب أبي حنيفة (2) .
3589- توجيه القولين: من منع ذلك، احتج بأن قال: إذا أُقر الرهنُ الأولُ، وزيد في الدين بذلك الرهن، فهذا رهنُ مرهونٍ، ورهنُ المرهون لا يجوز، كما لو فرض رهنه من آخر.
ومن قال: إنه جائز، فلا وجه لقوله إلا اعتبارُ (3) الدين بالرهن. وقد قدمنا أن الزيادة في الرهن جائزة؛ فإذا لم يمتنع هذا في أحد الجانبين وحكمُ العقود التساوي، لم يمتنع في الجانب الآخر. ولمَّا منعنا الزيادةَ في الثمن بعد لزوم العقد، منعناها في المثمن.
ومن بدائع الأمور اختيار المزني جوازَ هذا الإلحاق، مع ميله إلى القياس في اختياراته، وأبدعُ من هذا منعُ أبي حنيفة لهذا الإلحاق، مع مصيره إلى أن الزيادة
__________
(1) ر. المختصر: 2/212.
(2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/ 294 مسألة: 2010.
(3) أي قياس الدين على الرهن، فكما جاز الزيادة في الرهن تجوز في الدين.(6/132)
تلحق الثمن والمثمن، بعد لزوم العقد.
3590- ومما يتعلق بالمسألة أن العبد المرهون لو جنى جنايةً، وتعلق الأرش برقبته، وسنذكر أنه يباع في الأرش، ولا يبالَى بحق المرتهن إذا لم يَفْدِه الراهن، فلو قال المرتهن: أنا أفديه، ويكون ما أفديه به ديناً على السيد، ويصير (1) العبد مرهوناً بما أُقرضُ الراهنَ في فدائه، ففي جواز ذلك قولان مرتبان على القولين في الأصل.
وهذه الصورة أولى بالجواز، من قِبل أن هذا الفداء من مصلحة الرهن، وهو سبب استبقائه، فكان ما قدرناه فيه أقربَ إلى الجواز.
وقرب الأئمة هذا من أصلٍ رمزنا إليه في كتاب البيع، وهو أن المشرف من الحقوق على الزوال إذا استدركت يُجعل استدراكها بمثابة زوالها وإعادتها أم يحمل الاستدراك على موجب الاستدامة فيها؛ فعلى قولين، مأخوذين من معاني كلام الشافعي. وعليه بنينا استثناء الثمار عن مطلق بيع الأشجار قبل بدوِّ الصلاح، حيث قلنا: إنها إن كانت كالزائلة العائدة، فلا بد من شرط القطع في استثنائها، وإن بنينا الأمر فيها على الاستدامة، وهو الصحيح، فلا معنى لشرط القطع.
فإذا جنى العبد المرهون، فقد أشرف الرهن على الزوال، بتقدير أنه يباع في أرش الجناية، فإذا فدى المرتهن بالإذن على الشرط الذي ذكرناه، فهل يجعل هذا كما لو انفك الرّهن ثم أعيد؟ ولو كان كذلك، لصحّ فيه الخلاف الذي ذكرناه.
فصل
قال: " ولو أشهد المرتهن أن هذا الرهن في يده بألفين ... إلى آخره " (2) .
3591- صورة المسألة إذا أقر الراهن أن العبد الذي في يد المرتهن مرهون عنده بألفين، ثم ادّعى بعد ذلك أنه رهنه أولاً بألفٍ، ثم ألحق به ألفاً آخر على ما ذكرناه في صورة القولين. فإن قلنا: الزيادة في الدين جائزة، فلا معنى لدعواه. وإن قلنا:
__________
(1) في الأصل: ولا يصير.
(2) ر. المختصر: 2/212.(6/133)
لا يجوز ذلك، فلو صدّقه المرتهن، فذاك، وإن كذّبه، فالقول قول المرتهن.
وللراهن أن يحلّفه؛ فإن ما يدعيه محتمل.
وقد مهدنا فيما سبق أن جواز التحليف يعتمد الإمكان، وإنما جعلنا القول قول المرتهن؛ لظهور الإقرار في ثبوت الرهن بألفين، وظهور الإقرار، واحتمال ما قال الراهن يبيح الرجوعَ إلى قول المرتهن مع يمينه.
ولو ادعى الراهن ما وصفناه، فقال المرتهن: فسخنا الرهن الأول بالألف، وأعدناه بالألفين، وأنكر الراهن الفسخ وادعى الإلحاق من غير فسخ وإعادة، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن القول قولُ المرتهن؛ فإنه معتضد بالإقرار المطلقِ الصادر من الراهن؛ إذ قال أولاً: العبد مرهون بالألفين.
والثاني - أن القول قول الراهن؛ فإن المرتهن ادعى فسخاً وإعادة، والأصل عدم ما ادعاه. وكل من ادعى عقداً جديداً، فهو في مقام المدعين.
3592- ومما يتصل بهذا الفصل أنا إذا منعنا إلحاق الزيادة بالدين مع اتحاد الرهن، فلو قال الراهن لشاهدين: كان هذا العبد رهناً بألفٍ، فجعلته رهناً بألفين، فشهد الشاهدان على لفظه، ونقلاه إلى مجلس القاضي، وكان القاضي يعتقد أن الزيادة لا تلحق، فمعلوم أن اللفظة التي نقلها الشاهدان محتملةٌ لفسخٍ وتجديدٍ، ومحتملة للإلحاق، ففي المسألة وجهان ذكرهما صاحبُ التقريب: أحدهما - لا يحكم الحاكم بكونه رهناً بالألف الثاني، حتى يتبين له تفصيل الحال. والثاني - أنه يلزمه الحكم بكونه رهناً؛ فإنه يجب على الحاكم حمل ما ينقله الشهود على الصحة.
والدليل عليه أنهم لو شهدوا على بيع مطلق، حمل على الصّحة في ظاهر المذهب.
مع اختلاف العلماء في الصحيح والفاسد من البيوع.
وهذا الذي ذكرناه فيه إذا لم يطلع الشاهدان على سر الحال، ولكن سمعا من الراهن لفظه المطلق: " إنِّي جعلت هذا رهناً بألفين ".
فأمَّا إذا علم الشاهدان أنهما ما جددا عقداً بعد فسخٍ، وإنما ألحقا، وكان الشاهدان يعتقدان أن ذلك لا يجوز، والزيادة لا تلحق، فلو أرادا أن يشهدا مطلقاًً(6/134)
وينقلا لفظ الراهن " إني جعلت هذا رهناً بألفين " فهل لهما أن يشهدا مطلقاًً؟ قال صاحبُ التقريب: هذا ينبني على أن القاضي هل يقبل ذلك؟ فإن قلنا: لا يقبله، فلا نظر إلى إطلاقهما. ثم إذا استفصل القاضي، فصَّلا ما عندهما. وإن قلنا: القاضي يقضي بالمطلق من شهادتهما من غير بحث، فعلى هذا هل يجوز لهما إطلاق الشهادة مع العلم بسر الحال؟ فعلى وجهين ذكرهما صاحبُ التقريب. قال: والأصح أنه لا يجوز الإطلاق.
والأمر على ما قال. وليس للوجه الثاني وجه.
فصل
قال: " ولو رهن عبداً قد صارت في عنقه جناية ... إلى آخره " (1) .
3593- قد تقدم في كتاب البيع اختلافُ القول في بيع العبد الجاني إذا تعلق برقبته أرشُ جنايته، فلو رهن المالك العبدَ الجاني وفي عنقه الأرش، فلأصحابنا طريقان: منهم من أجرى القولين في صحّة الرهن والقبض، كما تقدم في البيع.
ومنهم من قطع بأن الرهن مردود قولاً واحداً بخلاف البيع، واعتلَّ بأن المرهون لو جنى جناية مالية، وتعلق أرشها برقبته، وامتنع السيد من فدائه، عُرض على البيع، وبيع في أرش الجناية. وإذا كان طريان الأرش يتضمن قطعَ حق المرتهن وتقدّمَ حق الأرش على حقه، فينبغي أن يُمْنَع إيراد الرهن على العبد الذي في رقبته أرش. وإذا امتنع رهنُ المرهون، فالوجه امتناع رهن الجاني؛ فإن تعلق الأرش بالرقبة يوثق بها، والمتعلَّق الأظهر في الحال [لأرش] (2) الرقبة، والدين الذي به رهنٌ يتعلق أصله بالذمة، والتوثق في حكم تأكيد الأصل، فإذا امتنع رهن المرهون، وجب أن يمتنع رهن الجاني الذي في رقبته مالٌ.
ولو جنى العبد جناية توجب القصاص، ففي بيعه تصرفٌ للأصحاب، وخرّجوه
__________
(1) ر. المختصر: 2/212.
(2) في الأصل: للأرش.(6/135)
على أن موجب العمد ماذا؟ وقد مضى هذا مفصلاً في البيع. فإذا جوزنا البيع جواباً على أن موجب العمد القودُ المحض. (1 وجوّزنا الرهن في هذه الصورة على هذا القول 1) ، والجريان على أن تعلقَ الأرض يمنع الرهن، فلو فرض بعد انبرام الرهن بالقبض عفوُ المجني عليه، على مالٍ، أو من غير مالٍ، ورأينا العفو المطلق مقتضياً للمال، فقد اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: ثبوتُ المال طارئاً في الصورة التي انتهينا إليها بمثابة جنايةٍ تطرأ على الرّهن من العبد المرهون، ولو كان كذلك، لم نحكم ببطلان الرهن، ولكن يثبت حق بيعه في الجناية، فإن اتفق ذلك، انقطع الرهن. وإن لم يتفق بسببٍ، فالرهن باقٍ. كذلك إذا عفا المجني عليه عفواً يوجب المال.
ومن أصحابنا من قال -وهو اختيار شيخي- نتبين أنّ الرهن في أصله غيرُ منعقد.
ولا شك أن التفريع على منع رهن الجاني جناية مالية. ووجهُ الوجه الذي ذكرناه أن الرهن جرى مقترناً بسبب هو الذي أفضى إلى ثبوت المال في المآل، فتبين آخراً أن السبب المقترن كان مانعاً. ومن الأصول تنزيل الأسباب إذاً أفضت إلى مسبباتها منزلة تحقق المسببات. وليس كالجناية الطارئة التي لا استناد لها إلى سبب متقدّم.
التفريع:
3594- إن جرينا على الوجه الأول، وهو تنزيل ثبوت المالِ طارئاً منزلة طريان الجنايةِ، فلا كلام. وإن أسندنا (2) تبيّن فساد الرهن، فلو كان العبد احتفر بئراً في محل عدوان، فرُهن وأُقبض، وتردّى في البئر متردٍّ، فأرشه يتعلق برقبة العبد المرهون المتسبب بالحفر. ثم كيف السَّبيل فيه على هذا الوجه الذي ذكرناه في العفو عن جناية الرهن عمداً؟ وجهان في هذه الصورة: أحدها - أنا نتبين أن الرهن كان فاسداً، كما تبينا الفساد في العفو الطارىء. والوجه الثاني - أن هذا ليس بالعفو؛ فإن الجناية واقعة في تلك الصورة والعبد منعوت بكونه جانياً. وليس كذلك حفر البئر؛ فإنه ليس جناية واقعة. والفرق لائح.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من: (ص) ، (ت 2) .
(2) كذا. ولعلها من الإسناد (مصطلح أصولي سبق بيانه) والمعنى هنا: وإن قلنا يتبين فساد الرهن ... إلخ.(6/136)
فهذا منتهى قولنا في ذلك.
3595- ثم إن صححنا رهنه العبد الجاني جناية مالية، فنجعل السيد مختاراً للفداء، كما إذا باعه، وفرعنا على نفوذ بيعه، حتى قال الأئمة: هل يلزمه الفداء أم ننقض عليه بيعَه إذا امتنع؟ فعلى وجهين لا يخفى توجيههما. وعلى حالٍ (1) لا يبطل حق المجني عليه.
3596- ولو باع العبدَ الجاني، وكان معسراً ليس له وفاء بالفداء، فالمذهب الأصح الحكم بفساد البيع، وتخصيص القولين بما إذا كان السيد متمكناً من الفداء.
ومن أصحابنا من نفذ البيع من المعسر لحق ملكه، وأثبت للمجني عليه الخيارَ.
وما ذكرناه في البيع من ذلك كله جارٍ في الرهن. فإذا رهن وأقبض، كان كما لو باع، ومهما (2) اختلف الأصحاب في فساد البيع، فالرهن أحق بالفساد لما ذكرناه في أصل الفصلِ من اختلاف طريق الأصحاب في تصحيح رهن العبد الجاني.
وإذا جرى التفريع على الفساد، فلا فرق بين أن يكون أرشُ الجاني مستغرقاً لقيمته، وبين أن يكون أقلَّ منها، فإن المانع إذا منع التعلق، فهذا المعنى متحقق في القليل والكثير، وهو بمثابة الحكم بفساد بيع المرهون دون إذن المرتهن. ولا فرق بين أن يكون الدين في مقداره مثلَ القيمة، وبين أن يكون أقل منها.
فصل
قال: " ولو ارتهنه [فقبضه] (3) ثم أقر الراهن أنه جنى ... إلى آخره " (4) .
3597- إذا رهن مالك العبد العبدَ، وأقبض، ثم أقر بأنه كان جانياً، والأرش في رقبته، لمّا رهنه، وأنكر المرتهن ذلك، ورام استمرار الرهن له، نُظر: فإن لم يذكر
__________
(1) المراد: على أي حال.
(2) "مهما" بمعنى: (إذا) .
(3) زيادة من نص المختصر.
(4) ر. المختصر: 2/212.(6/137)
الراهن المجنيَّ عليه، بل أرسل الإقرار بالجناية، وتعلّقِ الأرش، فقوله مردود؛ فإنه رام إبطال حقٍّ التزمه بقوله، ولم يسنده إلى مستحِق، فلم يبطل الحق الذي ظهر التزامُه بقول مبهم بلا ثبت، وسيتضح هذا في أثناء الكلام، إن شاء الله.
وإن أسند الراهن إقراره إلى مجنيٍّ عليه في نفسه، أو ماله، فإن كذبه المقَرُّ له، بطل إقراره، واستمر حق [المرتهن] (1) . وإن صدقه المقَرّ له، فهذا موضع اختلاف النصوص واضطراب الأقوال.
3598- وحاصل ما نقل في المذهب في تأسيس الفصل ثلاثة أقوال: أحدها - أن إقرارَ الراهن مردود لمنافاته موجَبَ رهنه وإقباضِه. وأصل الشرع أن يؤاخذ الرجل بسابق قوله وفعله، فيما يتعلق بثبوت الحقوق وبطلانها. ولو نفذنا إقراره، لأبطلنا مقتضى تصرفه وإقباضه، وهذا القول أَقْيس الأقوال.
والقول الثاني - أن إقراره مقبول؛ من جهة أن ملكه مستمر في المرهون، والتهمة منتفية؛ من قبل أَنَّ العاقل لا يتسبب إلى التزام مَغرم في ملكه، لإبطال حق وثيقة لغيره. وبيان ذلك أن المعترَف به أصلُ الغرم، وحق المرتهن توثُّق وتعلُّق، فيبعد أن يلتزم أصلَ الغرم لقطع تعلُّقٍ. وهذا يناظر قبولَ إقرار العبد فيما يوجب عليه عقوبة.
والقول الثالث - أن المقر إن كان موسراً، نفذ إقراره، ويلزم أن يغرم للمرتهن قيمةَ المرهون، ليوضع رهناً؛ فإنه بقوله تسبب إلى بطلان حق المرتهن. وإن كان معسراً، لم يقبل إقراره؛ فإن في قبوله إبطالُ حق المرتهن، لا إلى بدلٍ.
واختلاف الأقوال في قبول الإقرار وردِّه قريب المأخذ من اختلاف الأقوال في تنفيذ عتق الراهن وردِّه. وقد ذكرنا فيه ثلاثة أقوالٍ: أحدها - الفرق بين الموسر والمعسر.
والعتقُ على رأي من نفذه يعتمد الملكَ. والإقرارُ عند من ينفِّذه يعتمد الملكَ أيضاً، وانتفاءَ التهمة.
ولهذا التفات على اختلاف القول في أن العبد إذا أقر بسرقة مالٍ، نفذ الإقرار في
__________
(1) في الأصل: المقرّ له.(6/138)
وجوب القطع. وهل ينفذ في ثبوت المال؛ فيه تردد أشرنا إليه. وسيأتي تقريره في كتاب السرقة، إن شاء الله تعالى.
وعبر الأئمة عن هذه الأصول بأن قالوا: الإقرار ممن هو صحيح العبارة إذا انتفت التهمة عنه بالكلية، وتعلق بما للمقِر فيه حق، فهو مقبول، وإن تضمن بطلانَ حق الغير، كما ذكرناه في ثبوت العقوبة بإقرار العبد.
وإذا اقترن بالإقرار شيء يتعلق الإقرار المقبول به، فهل يقبل الإقرار في قرينة العقوبة؛ فيه اختلاف قولٍ. وأصل الإقرار مقبول من السيد لا خلاف فيه، ولو انفك الرهن، كان مؤاخذاً به؛ فإن الأصل لا تهمة فيه، وهو مصادِف محلَّ حقه، وبطلان حق المرتهن قرينة مقترنة بإقرارٍ مقبول الأصل، وفي نفوذ الإقرار في القرينة التردد الذي ذكرناه.
3599- ولو أقرّ الراهن بأنه كان أعتق العبد قبل أن يرهنه، ففي إقراره الأقوال الثلاثة. وكذلك لو أقر بأنه كان مغصوباً عنده، وأنه رهنه متعدياً وكان غاصباً.
ولو باع عبداً وألزم العقد، ثم جرى بعد لزوم العقد إقرارٌ من البائع، لو قدر نفوذه، لبطل البيع، ولا تهمة على المقِر في ظاهر الأمر، فقد قطع الأصحاب برد هذا الإقرار في حق المشتري، وتقرِير البيع؛ والسبب فيه أن إقراره جرى وليس للمقِر ملك في ظاهر الحال، وإقرار الإنسان في ملك غيره مردود، وليس كإقرار الراهن؛ فإنه صادف محلَّ ملكه.
وقد ذكر بعض الأصحاب طردَ الأقوال في إقرار البائع فيما يتضمن بطلانَ البيع، ورمز إليه شيخي في بعض أجوبته، ثم رجع. وهذا فيما أراه هفوة لا يعتد بها.
وقد يعترض للناظر أن الراهن إذا أقر بكونه غاصباً، فليس إقراره في محل ملكه على زعمه. وفيه الأقوال.
وقد يقول هذا القائل: إقرار البائع له تعلق ببيعه الذي تعاطاه، وعهدته متعلقة به، وليس كقرارٍ مرسلٍ من أجنبي في ملك الغير. ولا اغترار بهذا، ولا وجه إلا القطعُ برد إقرار البائع بعد لزوم العقد، وتخصيص الاختلاف بالرهن.(6/139)
نعم. في معناه الإجارة: فلو أجر عبده، ثم اعترف بأنه كان جانياً، والتفريع على منع إجارة الجاني قبل الفداء، فالأقوال تخرج خروجها في المرهون؛ لأن الإقرار صدر عن مالك الرقبة، فانتظم الترتيب كما ذكرناه.
3600- ومما يتعلق بتمهيد أصل الأقوال في إقرار الراهن أنه لو أقر بتعلق أرش يقصر مقدارُه عن قيمة العبد ومبلغِ الدين، فالتهمة في ذلك المقدار تنتفي، والأقوال الثلاثة تخرج. ولو قبلنا. الإقرارَ، لأبطلنا الرهن في الزائد، والتهمةُ متمكنة فيه.
ولأصحابنا في ذلك الزائد طريقان: منهم من قطع برد الإقرار فيه لتمكن التهمة.
ومنهم من أجرى الأقوالَ الثلاثة في الجميع طرداً للباب.
وهذا ضعيف. وسيخرجُ عليه في أثناء الكلام تفريع، وعنده يبينُ حاصل القول في أصل الفصل الزائد.
وقد انتهى الغرض في تأصيل الأقوال. وحان التفريع عليها.
3601- فإن قلنا: لا نقبل إقرار الراهن، فلا بد من فرض دعوى من المقَر له، وبذلك ينتظم الكلام، والتفريع، فإذا أصر المقَرّ له على الدعوى، ورَدَدْنا على القول الذي نفرع عليه إقرارَ الراهن، راجعنا المرتهنَ، فإن صدق الراهن، فيباع العبد في أرش الجناية أو يفدى؛ فإنا رددنا إقرارَ الراهن استبقاءً لحق المرتهن، فلا يبقى مع تصديقه إلا تنفيذ حكم الجناية. ثم إذا بيع العبد في الأرش، وكان المرتهن شرط في البيع رهناً، فيثبت له في هذه الصورة فسخُ البيع إذا لم يتحقق الوفاء بمشروطه. هذا إذا وافق المرتهن.
فأمّا إذا أنكر وقد رددنا قول الراهن، فلا بد من تحليف المرتهن إذا طلب المدعي ذلك، ثم لا يخلو إما أن يحلف أو ينكُل (1) ، فإن حلف، استقر حقه في الرهن، وبقي الكلام بعد ذلك في أن المقَر له هل يغرَم له الراهن المقِر، بسبب أنه بالرهن والإقباض حال بين المجني عليه وبين حقه من رقبة الجاني. ثم باعترافه أقر بصنيعه.
في المسألة قولان سيأتي أصلهما في المغصوب.
__________
(1) نكل: من باب قعد.(6/140)
والذي ننجزه الآن بناؤهما على ما لو قال صاحب اليد في الدار غصبت هذه الدار من زيد، لا بل من عمرو، فالدار مسلَّمةٌ إلى المقَرّ له أولاً. والإقرار الثاني في حكم الرجوع عن الإقرار الأول، فتسلّم الدار إلى الأول. وهل يغرم المقِر للثاني قيمةَ الدار بسبب إيقاعه الحيلولةَ بينه وبين الدار بالإقرار الأول؟ في المسألة قولان.
3602- ثم نعود إلى ما ذكرناه في مسألتنا، فإن قلنا: لا يغرَم الراهن للمقَر له شيئاًً، فلا كلام. وإن قلنا: إنه يغرَم، ففي القدر الذي يغرَم له طريقان: من أصحابنا من قال: فيه قولان: أحدهما - أنه يغرَم أقلَّ الأمرين من الأرش والقيمة. والثاني - أنه يغرَم الأرش بالغاً ما بلغ، وإن زاد على القيمة. وهذا بعينه اختلاف القول في أن السيد إذا أراد أن يفدي عبده الجاني، فبكم يفتديه؟ وسيأتي تفصيل ذلك في آخر الديات إن شاء الله تعالى.
هذه طريقة.
ومن أصحابنا من قطع القولَ بأن الراهن لا يغرَم للمقر له إلا أقل الأمرين، كما لا يغرم سيدُ المستولدة في فدائها إلا الأقلَّ، والجامع أَنَّ فداء المستولدة ضروري، لا تعلق له بالاختيار، فكان بمثابة مَا لو جنى العبدُ وتعلق الأرش برقبته، فقتله مولاه، وكان الأرش زائداً على القيمة؛ فلا يغرَم المولى إلا القيمةَ؛ فإن إتلافه لا ينبغي أن يزيد غرمه على غرم إتلاف الأجنبي.
وإذا وضح هذا، فالغرم على الراهن بعد تقدم الرهن، مع الحكم برد إقراره غرمٌ ضروري، فاتجه القطع باعتبار الأقل.
هذا كله إذا حلَّفنا المرتهن، فحلف.
ثم لا يخفى أنه يحلف على عدم العلم بجناية العبد. وكل يمين يتعلق بنفي فعلِ الغير، فهي على نفي العلم.
3603- فأما إذا نكل المرتهن، فاليمين على من ترد؛ على قولين: أحدهما - أنها تُردّ على المجني عليه المقَر له؛ فإن الحق له، ولولا حقه، لقرّ الرهنُ، وانقطع الخصام، فليقع الرد عليه. والقول الثاني - أن اليمين ترد على الراهن المقِر؛ فإنه(6/141)
المالك، وكأنه ينفي حقَّ المرتهن من الرهن، فارتبطت الخصومة به من هذا الوجه.
التفريع على القولين:
3604- فإن رددنا اليمين على المجني عليه، نظر: فإن حلف، ثبت دعواه وانتُزع العبد من يد المرتهن، وبيع في حقه، وليس للمرتهن أن يفسخ البيع الذي شُرط الرهنُ فيه؛ لأن الراهن يقول: أنت أبطلت حقك بنكولك. فإن قال المرتهن: وأنت أقررت أيها الراهن بانتفاء الرهن. فالراهن يقول: لكنك لم تقبل إقراري، ولم يقبله الشرع، ولم يبطلُ الرهن إلا (1) بسبب نكولك، ولم يكن لقولي أثر. وهذا واضح.
وإن نكل المجني عليه المقَرّ له، لم يكن له أن يغرِّم الراهنَ شيئاًً، ويبقى العبد رهناً.
والسبب فيما ذكرناه أنه بنكوله أبطل حقَّ نفسه. ووضوح ذلك يغني عن بسطه.
هذا إن رأينا ردَّ اليمين بعد نكول المرتهن على المجني عليه.
فأما إذا قلنا: اليمين ترد على الراهن المقِرّ، فعلى هذا إن حلف، سُلّم العبد للبيع. في حق المجني عليه، وليس للمرتهن في هذه الصورة فسخ أيضاًً؛ فإنه بنكوله أبطل حق نفسه، فكانت الإحالة على نكوله. هذا إذا حلف الراهن.
وإن نكل الراهن عن يمين الرد، فهل للمجني عليه أن يحلف بعد نكول الراهن؟
قولان: أحدهما - له ذلك؛ لأن مصير الحق إليه، ويستحيل أن يَبطل حقُّه بنكول الراهن، كما لا يبطل حقه بسبب رجوعه عن الإقرار. والقول الثاني - لا ترد اليمين على المجني عليه؛ فإن اليمين في الخصومات ليس لها إلا مرد واحد، ومنتهاها مردُّها. فإذا ثبتت يمين الرد في جانب، لم تتحول عنها. فإن قلنا: لا يرد اليمين إلى المجني عليهِ، نجعل نكولَ الراهن بمثابة حلف المرتهن، ونقرر الرهنَ. ثم يعود
__________
(1) في الأصل، (ت 2) : "ولم يبطل الرهن [بزعمك] إلا بسبب نكولك". وأما (ص) : فقد ضرب على كلمهَ [بزعمك] وهذا ما رجحناه.(6/142)
القولان في أن الراهن المقِرَّ هل يغرَم للمقَر له؛ من جهة أنه حقق الحيلولةَ؟ وقد مضى هذا.
وإن قلنا: يرد اليمين على المجني عليه، فإن حلف، ثبت حقه وبيع العبد في الأرش، وليس للمرتهن خيار الفسخ؛ فإنه أبطل حقه بنكوله عن اليمين. وقد تمهد هذا.
وإن نكل المجني عليه عن اليمين، لم يكن له تغريم الراهن قولاً واحداً؛ فإنه كان مقتدراً على رفع الحيلولة، فلم يرفعها وأكدها، فإذا كانت الحيلولة محالاً عليه، لم يثبت له تغريم الراهن المقر.
وكل ما ذكرناه تفريع على أن إقرار الراهن غير مقبول، والقول قول المرتهن. ثم انشعب الكلام من تحليف المرتهن إلى صور.
3605- فأما إذا فرعنا على أن إقرار الراهن مقبول، فهل يقبل قوله من غير يمين، أم يحلَّف؟ في المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا يحلّف؛ من جهة أنه مقر على ملكه وسبب نفوذ إقراره مصادفته ملكَه مع انتفاء التهمة، وهذا المعنى يوجب أن لا يحلّف.
ومن أصحابنا من قال: لا بد من تحليفه لتعلق حق المرتهن بمحل إقراره، فالإقرار مقبول على قاعدته، واليمين معروضة لمكان حق المرتهن.
فإن قلنا: يقبل قوله دون اليمين، سلّم إلى البيع في حق المجني عليه. وإن قلنا: إنه يحلّف، لم يخل: إما أن يحلِف، أو ينكُل، فإن حلف، ثبت الإقرار، وبيع العبد في الجناية، وتخير المرتهن إن كان الرهن مشروطاً في بيع. وإن نكل عن اليمين، فالمرتهن يحلف؛ من قِبل أن الخصومة بينهما تدور، وإنما حلفناه لحق المرتهن، فإذا نكل، فالرد على صاحب الحق. ثم إن نكل المرتهن، كان نكوله بمثابة حلف الراهن، جرياً على القياس الممهد في حكم يمين الرد، ولا خيار له؛ فإنه بنكوله أبطل حق نفسه في هذا المكان؛ فلم يملك الفسخ. هذا إذا نكل عن يمين الرد.(6/143)
فأما إذا حلف المرتهن لما نكل الراهن -والتفريع على قبول قول الراهن مع يمينه- فإذا انتهى الأمر إلى ما ذكرناه، ففي المسألة قولان: أحدهما - أن العبد يَقِرُّ في يد المرتهن مرهوناً، وهذا فائدة حلفه. وظاهر القياس هذا. ولا يتجه غيرُه.
والقول الثاني - أن العبد يُنتزع من يده، ويباع في الجناية، ولا أثر لنكول الراهن وحلف المرتهن إلا أنه يُغرِّمه قيمةَ العبد المرهون ليوضع رهناً، وينسب في الامتناع عن اليمين إلى تفويت حق المرتهن، ولا فائدة على هذا القول لتصوير اليمين والرد، إلا بتثبيت قيمة العبد ووضعها رهناً مكان العبد.
3606- ومما يجب التنبيه له في هذا المنتهى أنا نتخيل الأقارير ثلاث مراتب: المرتبة العليا - إقرار من مُطلق فيما يعرف حقاً له، فهو مقبول؛ فإنه صادر من مُقِر (1) مُطلق فيما يقتضي الظاهر كونَه حقه، وليس يتضمن إقرارُه إبطالاً لحق غيره. هذه مرتبة وعليها خروج الأقارير الصحيحة.
والمرتبة الأخرى - إقرارٌ في محلٍّ هو في ظاهر الظن حق الغير، ولا ولاية للمقر.
فهذا الإقرار مردود؛ لأنه على الغير، لا في حقه، فإن اشتمل الإقرار على ما ينفي التهمة، فالإقرار قد يقبل في محل انتفاء التهمة، وهذا يظهر فيه إذا كان حق الغير يتلف بعقوبةٍ على المقِر، كالعبد يُقر بما يوجب عليه قصاصاً أو حداً. ولو كان لما وصفناه قرينة، ففي نفوذ الإقرار فيها القولان المقدمان، وهو كإقرار العبد بسرقة مالٍ.
فهذا بيان هذه المرتبة، مع ما يستثنى منها.
ومن مراتب الإقرار أن يصادف ملكاً فيه حقٌ لازم ظاهراً، والمقر مطلق في نفسه، ففي قبول أصل الإقرار خلاف. فإذا قبلناه، عدنا فترددنا في أنه يقبل من غير يمين أم مع اليمين؟ وسبب هذا التردد قيامُ حق المرتهن.
3607- ثم إن فرضنا حَلِفاً من المقر، نفذ الأمر، ولم يبق للمرتهن إلا الخيارُ في البيع. وإن فرضنا نكولَه عن اليمين، رددنا اليمين وترددنا؛ من جهة أن التفريع على
__________
(1) في (ص) : متعين، (ت 2) : معتر (بهذا الرسم) .(6/144)
قول قبول الإقرار. ويبعد في مسالك الأقارير أن يرد لمكان نكولٍ عن يمين، مع رد يمين، وبعُدَ علينا أن نعطِّل أثر اليمين بالكلية، فقلنا في قولٍ يستخرج العبد من يد المرتهن؛ فقول الراهن إذن ليس إقراراً، بل كأنه قولٌ مقبول ممن يظهر صدقُه، كقول المودعَ في الرد، وقول كل مدّعىً عليه، ومساق هذا يوجب تثبيت الرهن في يده إذا حَلف على خلاف قول الراهن.
وإن قلنا: العبد يستخرج من يد المرتهن، وإن [حلف] (1) ، فقولُ الراهن إقرارٌ في حقه. ولكنه لو حلف، لأبان بحلفه أن أصل الرهن لم يكن، فإذا لم يحلف وحلف المرتهن غرّمنا الراهن في حق المرتهن، كالمعتِق لما انجر إليه من التهمة لما نكل، فألزمناه القيمة لهذا التخيّل (2) . وهذا ضعيف، ولكن نقله الأئمة المحققون.
فإن قلنا: يبقى الرهن في يد المرتهن، فلا كلام، وإن قلنا: يغرم الراهن له القيمة، فهل يثبت له الخيار؟ فعلى وجهين: أصحهما - أنه يثبت؛ لأنه لم يسلم له الرهن في العبد الذي عينه. والوجه الثاني - أنه لاخيار له، كما لو سلّم العبد المشروط ثم أتلفه؛ فإنه يلتزم قيمته ولا خيار للمرتهن.
من قال بالأول انفصل عن الإتلاف بأَنْ قال: لما أقبضه، فقد وفاه حقَّه، وصار وافياً بشرطه، فانقطع الخيار لذلك. وقول الجاني فيما نحن فيه له انعكاس على أول الرهن؛ من قِبل أنه يُشعر بأن الرهن لم ينعقد.
فليتأمل الناظر تردد الفقهاء عند تركّب الموجَبات والمقتَضيات.
ثم إن قلنا: تقر العين المرهونة في يد المرتهن، فهل يغرم الراهن للمجني عليه؛ فعلى قولين مقدمين؛ من جهة أنه بنكوله حقَّقَ الحيلولةَ بين ذي الحق وبين محل حقه.
ولهذا نظائر ستأتي مشروحة في كتاب النكاح، إن شاء الله تعالى.
وكل ما ذكرناه تفريع على أن رهن العبد الجاني الذي في رقبته أرشٌ باطل.
__________
(1) في الأصل: "خلف". (وهذا عجيب من نسخة الأصل التي لا نقط فيها أصلاً، إلا أقل القليل، من الكلمات المشتبهات. فكيف نقطت هذه؟) .
(2) في (ص) : التخير، (ت 2) : التخيير.(6/145)
3608- فأما إذا صححنا رهن الجاني، والتفريع على أن إقرار الراهن مردودٌ فيما يتضمن بطلانَ حق المرتهن. فلو قال: قد رهنت وأقبضت، ثم أقررت إقراراً لا ينافي رهني وإقباضي، فاقبلوا قولي.
قلنا: اضطرب الأئمة في ذلك؛ والقول فيه محتمل جداً. وقد تردد الأئمةُ: فقال بعضهم: إقراره بتقدم الجناية مقبول على هذا القول؛ فإنه لا منافاة بين تصحيح الرهن والقبض وبين الجناية، وهو مُطلق أقر بأمرٍ ممكن في ماله. وليس كما إذا فرعنا على أن رهن الجاني مردود؛ فإنه إذا رهن، وأقبض، ثم أقر، فإقراره يتضمن مناقضة ما قدمه من عقده وإقباضه. فلم يقبل منه في قولٍ. كما سبق.
وذهب بعض الأصحاب إلى أنا إذا رأينا رد إقراره على قولنا بفساد رهن الجاني - فيُرد إقرارُه على القول بصحة رهن الجاني؛ فإن قبول إقراره يتضمن نقضَ يد المرتهن.
والرهن إذا انبرم بالقبض، فمقتضاه لزوم حق المرتهن، فالراهن المُقبض ملتزم إلزام حق المرتهن. فإذا أتى بما يناقض قولَه ومضمونَ فعله، رُدَّ على قولَ الرد، كما يرد إقرارُه على قول فساد رهن الجاني؛ من جهة أنه بلفظه في العقد وإقباضه التزم صحته له. فإذا أقر بما ينافي الصحّةَ، رُدّ إقرارُه في القول الذي عليه التفريع.
فرع:
3609- إذا رأينا قبول إقرار الراهن على قول فساد رهن الجاني، وانتهى الأمرُ إلى بيع العبد المرهون في أرش الجناية، فإذا بعناه، فلو فضل من ثمنه شيء، فقد اختلف أصحابنا في ذلك الفاضل، فمنهم من قال: هو خارج عن هذا الرهن، لا عُلْقة فيه للمرتهن.
ومنهم من قال: ذلك الفاضل مرهون؛ فإن إقرار الراهن إنما يقبل في مقدار الأرش.
وهذا يلتفت على ما أجريناه في أثناء الكلام، من أن الراهن لو أقر بأرش يقصر عن القيمة، ورأينا قبول إقراره، فهل نحكم بانفكاك الرَّهن في الجميع أم نقضي بانفكاكه في مقدار الأرش؟ فيه التردد الذي سبق. فالقول في الفاضل ملتفتٌ عليه.
ولكن على الناظر فضلُ تدبر. فإن حكمنا بأن الزائد على مقدار الأرش لا ينفك(6/146)
الرهن فيه، فلا وجه لبيعه حتى ينتهي الكلام إلى كونه رهناً أم لا. وإن قلنا: الرهن مردود في الجميع، فالمصير إلى أن الفاضل رهن بعيد. فما الوجه في تنزيل هذا الخلافِ في الفاضل؟ قال شيخي أبو محمد: نحن وإن قلنا: الجاني لا يصح رهنه، فإذا أقر وقبلنا إقراره، وفضل من الثمن شيء، فلسنا نقولُ: إنه بان لنا أن الرهن بطل بإقراره. ولكن كأَنَّا قدَّمنا حقَّ المقَر له بالأرش على حق المرتهن. ولم نجعل الإقرارَ مبطلاً. فإذا فضل شيء من حق المقَر له، فيبقى حق المرتهن فيه.
وهذا بعيد عندي عن النظم، والوجه القطع بأنّا نتبين بالإقرار فسادَ الرهن. فإن كان الأرش أقلَّ، نردُّ نظرنا إلى أن بيع ما يزيد على الأرش مرود أو غير مردود.
ولا مصير إلى تصحيح البيع ورد الخلاف إلى أن الفاضل رهن أم لا.
فصل
قال: "ولو جنى بعد الرهن، ثم برىء من الجناية بعفوٍ، أو صلحٍ ... إلى آخره" (1) .
3610- العبد المرهون إذا جنى في يد المرتهن جنايةً مالية، تعلق الأرش برقبته، ولم يتضمن ذلك بطلانَ الرهن؛ فإنه لو فرض عفو عن الأرش أو فداءٌ من المولى، فالرهن يبقى مستمراً. ولكن إن لم يجر مما أشرنا إليه شيءٌ، فيباع في الأرش إن كان مستغرِقاً لقيمته. وإذا بيع، تبين ارتفاع الرهن قبيل البيع، ولو كان الرهنُ مشروطاً في بيعٍ، ثم أفضى الأمر إلى الجناية والبيعِ فيها، فلا خيار للمرتهن في فسخ البيع؛ فإن الراهن قد وفّى بما شُرط عليه، ولا نُلزمه أن يعصم المرهون عن الجناية، كما لا نُلزمه عصمتَه من طوارق الحَدَثان.
فإن قيل: لم قدمتم حقَّ المجني عليه على حق المرتهن، وهلاّ قلتم: لا يتعلق الأرش برقبة المرتهن لكونها مشغولةً بوثيقة الرهن؟
قلنا: تكلف أصحابنا في هذا كلاماً، فنذكره أولاً. قالوا: حق المرتهن له
__________
(1) ر. المختصر: 2/213.(6/147)
محلاّن العين والذمة، فإن فاتت العين، استقل الحق بالذمة. وحق المجني عليه ناجزاً ينحصر في العين، فقُدم، كما قدم إزالةُ النجاسة على رفع الحدث إن كان الماء لا يفي إلا بأحدهما، فإن لطهر الحدث بدلاً. وقيل: حق المجني عليه يثبت بأصل الشرع، فكان أقوى من حق المرتهن الثابت بالعقد.
وهذا تكلُّفٌ عندي. وقد تتعارض الأقوال، ولا يعدَم الفقيه كلاماً في ترجيح وثيقة الرهن. ولو لم يثبت في ذلك إلا القطعُ بمنع بيع المرهون، مع التردد في بيع الجاني، لكان ذلك متنفساً. والوجه ألا نلتزم هذا الفنَّ أصلاً؛ فنقول: حقُّ المرتهن في رقبة المرهون لا يزيد على حق المالك. ثم الأرش يتعلق بمحل الملك، فليتعلق بمحل الرهن. فإن روجعنا في تعليل أصل التعليق، لم نخض فيه الآن.
فصل
قال: " ولو دبّره، ثم رهنه، كان الرهن مفسوخاً ... إلى آخره " (1) .
3611- مقصود الفصل الكلام في رهن المدبر. ونحن نقدم عليه القولَ في رهن المعلّق عتقُه بالصفة، فنقول: رهن العبد المعلق عتقه بالدين الحالّ جائز، ثم إن بيع قبل وجود الصفة، فذاك، وإن وجدت الصفة قبل البيع، فهذا يبتني على أن العبرة في التعليقات بحالة التعليق، أو حالة وجود الصفة. وقد ذكرنا طرفاً في ذلك كافياً في غرض هذا الكتاب. وسيأتي تفصيل هذا الأصل في الوصايا والعتق، إن شاء الله تعالى.
ولو رهن المعلّقَ عتقُه بدينٍ مؤجل، ففيه مسائل: أحدها - إن تيقن أن حلولَ الأجل يسبق وجودَ الصفة، فيجوز الرهن كما يجوز بالحالّ.
والمسألة الثانية - أن يتيقن أن الصفة توجد قبل حلول الأجل، ففي جواز الرهن والحالة هذه وجهان: أظهرهما - المنع. والثاني - أنه يجوز. والوجهان يقربان من
__________
(1) ر. المختصر: 2/213.(6/148)
قولين سيأتي ذكرهما في رهن الطعام الذي يسرعُ الفساد إليه، بدين مؤجَّل، يسبق فسادَ الرهن حلولُ أجله. وسيأتي ذلك في مسائل الكتاب، إن شاء الله تعالى.
ووجه الشبه لائح، فتقدير نفوذ العتق قبل الأجل كتقدير فساد المرهون. وهذا يحتاج إلى تأمل.
3612- وإنما يَسْتدُّ ما ذكرناه من البناء تفريعاً على أن العتق ينفذ عند وجود الصفة، فيقع النّظر في أن مقصود الوثيقة يزول بنفوذ العتق قبل الحلول.
فأمّا إذا قلنا: العتق المعلَّق قبل الرهن لا ينفد في حالة الرهن، فليس يتأتى والتفريع على هذا الوجه أخْذُ هذا من رهن ما يتسارع الفساد إليه؛ فإنا إذا قدرنا ثبوتَ الرهن، ورتبنا عليه منعَ نفوذ العتق قبل الأجل، فقد خرج بنا الكلام عما تقدّم.
فالوجه أن نقول: إن كنا ننفذ العتق، نأخذهُ من تسرع الفساد. وإن كنا نرى أن العتق لا ينفذ لو قدر الرهن، فالقول في صحة الرهن يخرّج على أصل آخر، وهو أن الراهن صار مدافعاً لعتقٍ صار كالمستحق (1) بالتعليق. فهل يصح الرهن؟ وهذا الآن يخرّج على الخلاف الذي سنذكره في رهن المدبَّر مع القطع بجواز بيعه، وثَمَّ يتبيّن حقيقة ما نقول إن شاء الله تعالى.
ومن مسائل التعليق أنه إذا رهن عبداً معلقَ العتق بصفةٍ يجوز وجودها قبل المَحِل، ويجوز استئخارها عن المَحِل، ففي جواز الرهن وجهان مرتبان على الوجهين فيه إذا استيقنا تقدّم الصفة على الأجل. وهذه الصورة أولى بالجواز.
ووجه الفرق بيّن.
فهذا تمام ما أردنا ذكرَه في رهن المعلّق عتقُه.
3613- فأما رهن المدبر، فنذكر فيه اختلاف طرق الأصحاب، ثم نرجع إلى النص: فمن أصحابنا من بنى رهن المدبر على القولين في أن التدبير وصية أو عتقٌ بصفة؟ قال: إن جعلناه عتقاً بصفةٍ، فهذه الصفة يجوز أن توجد قبل المحل، ويجوز
__________
(1) في (ص) ، (ت 2) : المستحق.(6/149)
أن توجد بعده. فجواز الرهن يخرّج على قولي رهن العبد المعلق عتقه بصفةٍ يجوز أن توجد قبل المحل، ويجوز أن تستأخر.
ومن أصحابنا من قال: يجوز رهن المدبر قولاً وَاحداً. وهذا هو القياس؛ لأن التدبير إن كان وصية، فالرهن جائز، وإن كان عتقاً بصفة، فهو محسوب من الثلث.
وحق المرتهن من رأس المال، فهو مقدَّم على ما يحسب من الثلث، غاية ما يُقدّر (1) أن يموت من عليه الدين، ولا يخلِّف إلا هذا العبدَ، ولو كان كذلك وكان الدين مستغرِقاً لقيمته، لصرفناه إلى الدين وأبطلنا العتق. وليس كذلك رهنُ المعلَّق عتقه بصفة توجد في حياة المعلِّق؛ فإن ذلك العتق لو نفذ في حياة المعلِّق، لكان مقدماً على الديون، فلا تأكّدَ للعتق في التعليق، وصار في حكم الاستحقاق، والرهن تصرفٌ ضعيف منحط عن البيع، اقتضى ذلك تجويزَ البيع، ومنع الرهن. والعتق الذي يقدر حصوله في المدبر ضعيف؛ من قبل انحصاره في الثلث، فيقدم الدين عليه.
وقال بعض أصحابنا: رهن المدبر باطل قولاً واحداً. وهذا هو الذي قطع به الشافعي؛ إذ قال: " رهنه مفسوخ " والمراد بالمفسوخ الباطل. وهذا يعتاده الشافعي كثيراً.
وهذا القائل يزعم أن التدبير ليس وصية محضة، فلا يلزم تصحيحَ الرهن على قول الوصية. وهذه الطريقة وإن كانت توافق النص، فليس ينقدح لي في توجيهها شيء.
وكأن الشافعي يعتقد أن التدبير على حال عقدُ عتاقةٍ شرعي، ولا يطابق هذا مذهبَه في جواز البيع، وجواز الرجوع عن التدبير على الأصح، والمدبر على الحقيقة عندنا عبدٌ قن، فإذا مات السيد، جعلنا عتقه محسوباً من محل الوصايا. وللشافعي في كتاب الصّداق كلام في أن المرأة إذا دبرت العبد المصْدقَ، ثم طلقها زوجهاً، فهل يرجع إلى نصف المدبر. فلعلنا نجد ثَمَّ بسطةً في الكلام.
وقد انتهى غرضنا الآن والله أعلم.
__________
(1) في (ص) ، (ت 2) : يتوقع.(6/150)
فصل
قال: " ولو رهنه عصيراً حلواً، كان جائزاً، فإن حال إلى أن يصير خلاً أو مزّاً ... إلى آخر الفصل " (1) .
تقرأ " مُزّاً " (2) وهو بين شدة الخمر وحموضة الخل، وليس بمسكر على حالٍ.
وتقرأ " مُرِّياً " (3) . وهذا بعيد؛ فإن الخمر لا يصير مُرِّياً.
3614- فنخوض في غرض الفصل، ونقول: رهن العصير جائز بالدين الحال.
فلو رهن العصير وأقبضه، فاستحال العصير خمراً في يد المرتهن، فلا نحكم بأن الخمرَ توصف بكونها رهناً أصلاً، واختلف الأصحاب في العبارة عنها. قال قائلون: بطل الرهن لمّا استحال العصير خمراً؛ فإن الخمر ليست مالاً، وما لا يكون مالاً لا يكون رهناً.
ثم إذا استحالت الخمر خلاً، فالخل مرهون، وهذا القائل يقول: عاد الرهن من غير إعادة، كما زال من غير إزالة، وليس كما لو فسخا الرهن؛ فإنه لا يعود ما لم يعيداه؛ من جهة أن الرهن زال عن قصد ورضا، فلا يعود إلا بمثل ما زال به.
ومن أصحابنا من قال: إذا استحال العصير خمراً، فالرهن موقوف لا يحكم ببطلانه، فإن عاد خلاً، بان أنه لم يبطل. وهذه الطريقة عريّةٌ عن التحصيل؛ من جهة أن لا توقف في أن الخمر ليست مالاً، والتبيّن إنما يحسن لو كنا نتبين أن الشدة لم تطرأ.
والطريقة الأولى قاصرة أيضاًً عن شفاء الغليل والكشف التام.
والوجه عندنا أن يقال: من اتخذ عصيراً، وقصد تركه إلى أن يصير خلاً، فإذا صار العصير خمراً، فالخمرة ليست مملوكة، ولكن لمالك العصير فيها حقُّ ملكٍ،
__________
(1) ر. المختصر: 2/213.
(2) المزّ: الحلو الحامض، فيكون طعمه بينهما، أو خليطاً منهما (معجم) .
(3) في (ص) : مرّاً. والأصل بغير نقط لا في هذه، ولا تلك. والمرِّي: إدامٌ كالكامخ يؤتدم به، كأنه نسبة إلى المرّ، ويسميه الناس (الكامَخ) ، وهو لفظ معرب اسم لما يؤتدم به، أو للمخلَّلات المشهية (المصباح، والمعجم) .(6/151)
وإن لم يكن حقيقةَ ملكٍ، فهو على حق الملك فيها، فإذا انقلبت خلاً، كان على حقيقة الملك الآن؛ من جهة أنه استفاد هذا المالَ عن اختصاصه بالخمر. كذلك المرتهن له حق اختصاص بالخمر، وليس ذلك الحق رهناً، فإذا انقلبت الخمر خلاً، عاد حقه في الرهن لترتبه على ما ذكرنا نظيره في الملك.
3615- ولو رهن شاة وسلمها، فماتت، فلا شك أن الرهن لا يبقى في الميتة، وإنما النظر في جلدها إذا دُبغت، فهل نحكم بأن الرهن يعود في ذلك الجلد من غير استئناف عقدٍ؟ فعلى وجهين: أحدهما - يعود الرهن كالخمر إذا عادت خلاً؛ فإنها تعود رهناً، كما تقدم.
والوجه الثاني - لا يعود الجلد إذا دبغ رهناً؛ فإنه ليس ينقلب بنفسه مدبوغاً، بل لا بد من إتيان فعل فيه. وإنما يستقيم العَوْدُ من غير اختيارٍ رهناً إذا كان الانقلاب على هذه الصفة.
ومن غصب خمراً أو جلداً غير مدبوغ، ثم استحالت الخمر خلاً، ودبغ الغاصبُ الجلدَ، فهل يجب عليه ردُّ الخل والجلدِ المدبوغ؟ هذا من القواعد العظيمة في الغصب، وهو شعبة من أصلٍ يحوي تقاسيم. والوجه تأخير جملته إلى كتاب الغصب. والعودُ إلى ما يتعلق بهذا الكتاب.
3616- فلو باع عصيراً وسلمه عصيراً، فقد تم العقد، وتحمل ما يفضي إليه من انتقال العهدة. فلو استحال في يد المشتري خمراً، فليس يتعلق بذلك من تبدل قضايا العقد شيء في غرضنا، وليس كالمرهون يستحيل خمراً؛ فإن مقصود الرهن منتظرٌ، وهو بيعُ الرهن في الدين عند مسيس الحاجة إليه، فوقع الاعتناءُ باستحالة العصير في يد المرتهن.
وشبه الأئمة بيع العصير واستحالتَه خمراً في يد البائع باستحالة العصير خمراً في يد المرتهن؛ فإن البيع لزم بانتفاء الخيار عنه، ولا يتوقف لزومُه على الإقباض. ولكن انتقال الضمان ونفوذ التصرف منتظر بعدُ، فقال الأئمة إذا استحال العصير خمراً في يد البائع، ثم استحالت الخمر خلاً، فالعقد قائم، والقول في انقطاعه وعَوْدِه، أو في(6/152)
وقوف الأمر فيه على نحو ما قررناه في المرهون بعد القبض، وقال القاضي: النص ما ذكرناه في الرهن والبيع وهو الأصل.
وكان لا يمتنع في القياس أن نقول: العصير المبيع إذا استحال خمراً، والخمر ليست بمالٍ، فالعقد قد عدم موردَه ومحلَّه، فإذا انقلبت الخمر خلاً، فالقياس أن نجعل هذا على قياس عَوْد الحِنْث فيه إذا علق الرجل طلاقاً أو عتاقاً، ثم بت النكاح، وأزال الملك عن الرقبة، فلو فرض عودٌ بعقدٍ، ففي حكم التعليق السابق في الملك والنكاح اللاحقين قولان مشهوران.
ووجه التشبيه أن العقد في استحالة العصير خمراً على حالةٍ، لو فرض ابتداءُ العقد، لم يثبت لانعدام المحل، لا لعجزٍ أو غيره من الموانع. والأمر على هذا الوجه في عود الحِنْث، فإن النكاح انبتَّ، وكذلك الملك، ولم يبق محلٌّ يفرض فيه نفوذ طلاق أو عتاق. ثم كان في العوْد ما ذكرناه.
فإن كانت الخمرة تستحيل بنفسها، واعتقد المعتقد ذلك فرقاً، فهذا لا يعارض الفقه الذي ذكره القاضي من تحقق انعدام المحل، ولكنه لم يذكر هذا إلا منبهاً على طريق المعنى. والمذهب ذاك الذي نقلناه (1) .
وكل هذا في استحالة العصير بعد القبض.
3617- فأما إذا استحال العصير خمراً قبل القبض، فإن جرى الإقباض على الشدة، فالقبض فاسد.
ولو استحالت خلاًّ، فلا عود للرهن؛ فإن الركن الأعظم جرى على الفساد. وهو كما لو رهن الخمرة المحترمة، ثم استحالت، فالعقدُ على الفساد، ولا ينقلب إلى الصحة بسبب انقلاب الخمر. ولو استحال العصير خمراً قبل القبض، وانقلب خلاً قبل القبض، فهل يفسد الرهن فساداً لا يعود بالانقلاب إلى الحموضة؟ فعلى وجهين: أحدهما - يفسد لانعدام المحل في حال جواز الرهن وضعفه؛ إذ هو غير منتهٍ إلى اللزوم بعدُ.
والثاني - يعود العقد، كما ذكرناه بعد القبض.
__________
(1) في (ص) ، (ت 2) : ذكرناه.(6/153)
وهذان الوجهان يقربان من الأصل الذي مهدناه في موت الراهن قبل القبض وجنونه.
3618- وألحق الشيخ أبو علي بهذا الأصلِ ما لو رهن الرجل عبداً، فجنى قبل القبض، وتعلق الأرش برقبته. وقلنا: رهن الجاني فاسد. وقد ثبت أن طريان الجناية بعد القبض لا يفسد الرهن، ولكن يُثبت حقَّ رفعه بالبيع في الجناية. فإذا فُرض ذلك بعد تأكد الرهن بالقبض، ففي ارتفاع الرهن وانفساخه وجهان.
وهذا الذي ذكره الشيخ أبعد من انقلاب العصير خمراً؛ فإن العبد وإن جنى، فهو قائم والملك فيه دائم.
وقد يلزم على هذا المساق تخريج وجهين فيه إذا أبق (1) العبد المرهون قبل القبض، وانتهى إلى حالة يمتنع ابتداء الرهن فيه. ويجوز أن يُتخيّلَ فرق من جهة أن الجناية بعد القبض تؤثر في الرهن، والإباقُ لا يؤثر بعد القبض.
وإذا كان أخذ هذه المسائل من طريان الجنون والموت، فليس الإباق بعيداً إذا فُرض طريانه قبل القبض عن التردد، وتقدير الخلاف.
وإذا بانَ ما ذكرناه في استحالة العصير خمراً قبل القبض، فإن قلنا: ينفسخ الرهن، ولا يعود، فإذا جرى الإقباضُ على الشدة، فالقبض فاسد، والرهن منفسخ، ولا توقع في العَوْد على الوجه الذي عليه نفرعّ، فاستحالة الخمر خلاً بعد ذلك لا أثر له. فإن أعادا عقداً بعد الحموضة، لم يخف حكمه.
وإن قلنا: لا ينفسخ الرهن انفساخاً لا يعود، فإذا جرى القبض على الشدة، فالقبض فاسد، فإذا استحالت الخمر خلاً، فعقد الرهن باقٍ، والذي جرى ليس بقبضٍ، فلا بد من قبضٍ بعد الحموضة. وإذا ورد العقد على يدٍ، ففي تضمن العقد الإقباض كلامٌ مضى. فأما إذا أردنا إثبات قبضٍ مجدد على يدٍ مستدامةٍ، فلا بُدَّ من إقباض من طريق الصورة. فلو قال: اقبضه لنفسك، ففيه خلافٌ، قدّمته في كتاب البيع. وهذا ذاك بعينه. ولو قال أمسكه لنفسك، لم يكن إقباضاً.
وإذا جوزنا له أن يقبض لنفسه بنفسه، فلا بد من صورة نجريها يقع مثلها قبضاً
__________
(1) أبق: من باب ضرب في الأكثر، وتأتي من بابي تعب وقتل. (المصباح والمعجم) .(6/154)
ابتداء، هكذا ذكره الأئمة وصرّحوا (1) .
وذكر صاحب التقريب أن الإذن في الإمساك، واليدُ دائمة يخرّج على أن العقد هل يتضمن إقباضاً؟ ثم رجّح، فقال: هذا أولى؛ فإنه يعرض لنفس القبض. فإذا كنا نجعل ضمن العقد إقباضاً، فلأن نجعل الإذن في الإمساك قبضاً أولى.
وهذا قياس لست أنكره. ولكن صرح الأئمة بخلافه.
هذا تمام البيان في هذا الفصل. ثم وصل الشافعي بهذا الفصل تخليل الخمر والمعالجةَ في استعجال الحموضة. وذكر الأصحاب هذا الفصل هاهنا فنتأسَّى بهم.
فصل
3619- الخمر تنقسم إلى خمرة غير محترمة، وإلى خمرة محترمة، فأما التي لا تحترم، فهي التي اتخذها المالك لتكون خمراً، فهذه الخمرة غيرُ محترمة؛ وتتعين الإراقة على أهلها، وإذا التمسوا أن يكتفى بإيقاع الحيلولة بينهم وبينها حتى تتخلل بأنفسها لم نُجبهم إلى هذا، وعجلنا إراقتها، وهذا مشعر باستحقاق الإراقةِ فيها؛ فإنا إن عولنا على محاذرة مخامرتهم لها، وعدم الأمن بهم فيها، فالحيلولة تحسم هذه المادة وتقطعها ولا اكتفاء بها، فوضح أنها مستحقة الإراقة.
فلو لم يتفق إراقتها حتى استحالت خلاًّ من غير علاج، ولا تسبب، فالخل مالٌ، ولا خلافَ أنه لا يراق على صاحبه.
فنقول: الخمر وإن كانت مستحقة الإراقة، فقد انعدمت الشدّة، وكأن تيك العين قد زالت، والخل رزق جديد. هذا متفق عليه.
3620- ولو خلل مخلل هذه الخمرة التي وصفناها بكونها مستحقة الإراقة، نُظر: فإن طرح فيها عيناً من ملح، أو خلٍ، أو غير ذلك، فانقلبت خلاً، فهو نجس محرّم. وعلل بعض أصحابنا ذلك بأن العين الواقعةَ في الخمر تنجست بملاقاتها، فإذا
__________
(1) كذا في النسخ الثلاث بدون ذكر متعلّق التصريح. وهو إيجاز بالحذف يجري أحياناً في أسلوب الإمام.(6/155)
انقلبت الخمر خلاً، نجسته تيك العين المتنجسة بملاقاة الخمر.
وهذا قول غيرُ صادر عن فكرٍ قويم؛ فإنه لا معنى لتنجيس العين إلا اتصال أجزاء الخمر بها، وجوهر تلك العين على الطهارة، فإذا انقلبت الخمر خلاً، فمن ضرورة ذلك أن تنقلب تلك الأجزاء التي لاقت العينَ الواردةَ على الخمر؛ فلا حاصل إذن لذلك، والتعويل في تحريم الخل على تحريم التخليل كما ذكرناه في (الأساليب) .
هذا قولنا في التخليل بطرح شيء في الخمر، والحكم متفق عليه، والتعويل على تحريم التخليل.
3620/ م- ولو لم يطرح في الخمرة المستحقة الإراقة شيئاًً، ولكن نقلت إلى ظل أو شمس، وكان ذلك سبباً في المعالجة، ومعاجلة تحصيل الحموضة، فإذا زالت الشدة، ففي المسألة وجهان بناهما بعض الأصحاب على التردد الذي ذكرناه في التعليل في المسألة الأولى. قالوا: إن عللنا بالنجاسة، فهذا المعنى مفقود هاهنا؛ لأنه لم يطرأ على الخمرة ما ينجسُ بها، وإن عوّلنا على التحريم، فالتخليل عبارة عن التسبّب إلى إكساب الخمر الحموضة. وهذا المعنى يحصل بالتشميس، والنقل. ولا حاجة إلى هذا البناء؛ فإن فصل (1) النجاسة باطل قطعاً. وإن اعتمده أبو يعقوب (2) وطائفة من أئمة الخلاف. ولكن توجيه الوجهين في التشميس والنقل يهون من غير بناءٍ، فأحد القائلين يتمسك بقصد التخليل وقد حرمه النبي عليه السلام في الخمرة المستحقة الإراقة، ولما قال أبو طلحة في خمور الأيتام: أخللها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا ". ولم يتعرض للتفصيل في التخليل (3) ، فهذا وجه.
__________
(1) المراد بفصل النجاسة: التعليل بنجاسة ما يطرح فيها عند ملاقاته عينَها، وليس الفصل الحسّي؛ فالمعنى أنه يجري في هذه الصورة وجهان من غير بناء على التعليل بالنجاسة.
(2) أبو يعقوب: هو أبو يعقوب الأبيوردي.
(3) حديث أبي طلحة: رواه أحمد: 3/ 119، 180، 260، وأبو داود: كتاب الأشربة، باب ما جاء في الخمر تخلل، ح3675، والترمذي: البيوع، باب ما جاء في بيع الخمر والنهي عن ذلك، ح 1293، وأصله في مسلم: الأشربة، باب تحريم تخليل الخمر، ح 1983، وانظر التلخيص: (3/ 82 ح 1240) .(6/156)
والوجه الثاني أن [الخل] (1) يحلّ اعتباراً بالإمساك (2) .
ثم لو فرض إمساك الخمر المستحقة الإراقة على قصد التخليل، فتخللت، ففي المسألة وجهان أيضاًً بالترتيب على الوجهين في النقل والتشميس، وهذه الصورة أولى بالحلّ (3) ؛ من جهة أنه لم يوجد فيها فعل، والقصد المجرد يبعد أن يحرم.
ولو اتفق لُبث من غير قصد إليه، فاستحالت الخمر في تلك المدة، فالخل حلال بلا خلاف؛ لما قدمناه في صدر الفصل.
فهذا بيان الخمرة التي ليست محترمة.
3621- فأمّا الخمرة المحترمة وهي خمرة الخل. وتصوير ذلك أن اتخاذ الخل جائز بلا خلاف، والعصير لا ينقلب من الحلاوة إلى الحموضة من غير توسط الشدة، فإذا انقلبت خمراً، فلا سبيل إلى إتلافها؛ إذ لو أُتلفت، لما تصوّر اتخاذُ الخل.
وهذى بعضُ الناس فقال: نُضرب عنها، فإن عثرنا عليها خمراً، أرقناها، ولم يصر إلى هذا أحد من أئمة المذهب، وإنما هو من ركوب أصحاب الخلات. ثم كان يستد (4) هذا في حق من يأمر بالمعروف، فمن يتخذ الخل في نفسه يعلم انقلاب العصير خمراً، ويفطن لدركِ رائحتها، وهو مقَرٌّ عليها، فلا اعتداد بأمثال هذا.
وذكر الشيخ أبو علي في الفصل كلاماً أؤخره عن ترتيب المذهب، ثم آتي عليه.
والقدر الذي فيه اكتفاء أن هذه الخمرةَ غيرُ مراقة على صاحبها، وإذا استحالت خلاً بالإمساك، فالخل طاهر محترم. وكذلك تكون الخلول.
ولو استعجل صاحب الخمر وخلل، نُظِر: فإن كان التخليلُ بإلقاء شيء من ملح أو غيره، فظاهر المذهب منعُ هذا، وإذا فعل، فالخل على موجَب المنع محرّم،
__________
(1) في الأصل: الخمر.
(2) في هامش (ت 2) حاشية: " وأوضح هذا التعليل في البسيط بأنه لم يتقبل فعله بعين الخمر، وبهذا لا يعد معالجة ".
(3) في (ص) : بالخل، (ت 2) : بالتخليل.
(4) في (ص) : يشتد. ومعنى يستد: يستقيم. وهذا اللفظ من مأثور الإمام ومفرداته التي يكثر من استعمالها.(6/157)
ويشهد له حديث أبي طلحة، فإنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خمور الأيتام، وما كانت اتخذت إلا واتخاذها جائز، ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تخليلها.
ومن أصحابنا من قال: يحل التخليل في الخمر المحترمة؛ فإنها ليست مستحقة الإراقة، وهذا القائل يجيب عن حديث أبي طلحة، ويقول: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم براقتها، والخمرة المحترمة لا تراق بالإجماع، فلعلَّ تلك الخمرةَ كانت اتخذت بعد التحريم، فإن العصير ينقلب في يوم في حر الحجاز خمراً، ولعل هذا كان والأمر على التشديد، كما يدّعيهِ أصحاب أبي حنيفة. وللنظر في هذا مجال على الجملة.
ولا مبالاة إن جوزنا التخليل بما ذكره أبو يعقوب من فصل النجاسة. هذا إذا كان التخليل بإلقاء شيء في الخمرة المحترمة.
فأما إذا كان التخليل بالنقل من شمس إلى ظل، أو من ظل إلى شمس، فالمذهب جواز ذلك، وإلحاقُه بالإمساك.
وذهب طائفة من أئمة المذهب إلى تحريم ذلك، وإلحاقِه بالتخليل المحرم.
وهذا رديء مخالف لما درج عليه الأولون فعلاً، ولم يُبْدَ عليهم نكير.
وكان شيخي أبو محمد يقول: إن طرح في العصير ملحٌ، وكان سبباً لتعجيل التخليل، ففيه تردد بين الأصحاب، وهو في معنى النقل. وهذا عندي بعيد؛ فإن المعالجة لم تصادف خمراً.
وسمعته مرة يقول: تلك الأعيان لا حاجة إليها فتنْجُس بالخمر، ثم لا يزول حكم النجاسة عنها، بخلاف نجاسة الظروف. وهذا تردد على طريقة أبي يعقوب، وهي في أصلها باطلة، والتفريع عليها باطل؛ فإنا لو التزمنا تمحيص العصير، لنقَّيناه من العناقيد، والثجير (1) ، والتزمنا تصفيته جهدنا عن الأقذاء، وهذا أمر طويل لا يستريب محصل في حَيْده عن سمت الشريعة.
__________
(1) الثجير: ثُفْلُ كل شيء يعصر، كالعنب وغيره (معجم) .(6/158)
نعم لو وقع شيء في الخمرة من غير قصد، فقد رأيت فيه تردداً لبعض الأصحاب إذا منعنا التخليل.
3622- وقد نجز التفصيل في التخليل، وحان أن نذكر ما وعدناه من كلامٍ [للأصحاب] (1) خارجٍ عن ضبط المذهب، وذلك في صورتين: إحداهما - أن العناقيد إذا استحالت أجوافها إلى الشدة، والحبات متصلة بالعساليج (2) ، فقد ذكر القاضي وطائفة من الأئمة وجهين في جواز بيعها، وطردوا هذا الخلافَ في بيع البيضة التي حال مُحُّها وماحُها دماً وهو إلى الانقلاب إلى تخليق الفرخ. ومن ذكر هذين الوجهين
لم يخصهما بحال من يقصد اتخاذَ الخل، حتى يحمل على الحرمة. نصّ عليه القاضي، ولم يفرض المسألةَ إلا فيمن يتخذ الخمر، ثم روجع في نجاسة أجوافها، فتوقف، وهذا عظيم؛ فإن متضمنها الخمر الشديدة. ولا يليق بقاعدتنا أن ننفي حكمَ النجاسة عما في بواطنها، ثم نقول: لو اعتصرت، صارت نجسةً، والانفصال لا يتضمن تثبيت النجاسة.
وهذا يوافق مذهب أبي حنيفة (3) ، إذ قال: الدماء في العروق في خلل اللحم ليست نجسة؛ فإذا سفح وزايل، اكتسب النجاسة، وزعم أنه تمسك في هذا بظاهر قوله تعالى: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145] وهذا مخصوص بالدم، فلا وجه لهذا إذنْ، ولا خروج للخلاف في البيع إلا على أمرٍ وهو أن البيضة ظاهرها طاهر، والنجاسة مستترة بالقيض (4) استتار خِلقة، والبيضة في نفسها صائرة إلى رتبة الفرخ، فكان ابتياع البيضة وحشوها الدم كابتياع العصفورة وحشوها النجاسة، فاعتمد البيعُ مقصودَ البيضة، وطهارة الظاهر. والعنقودُ طاهرٌ وحشوه نجاسة مستترةٌ، وهي إلى الحموضة.
فإن قيل: قد فرضتموها في حال من يقصد الخمرَ؟ قلنا: نعم ولكن العادة جاريةٌ بأن من يبغي الخمر يعتصر، ولا يصب في الدنان إلا العصير، فإن الثجير وعفوصتَه
__________
(1) في النسخ الثلاث: " من كلام الأصحاب خارج ". ولعل لها وجهاً في اللغة لا أعرفه.
(2) جمع عِسلاج وعُسلوج. وهو ما لان واخضرّ من قضبان الشجر والكرم. (معجم) .
(3) ر. أحكام القران للجصاص: 2/ 303، البحر الرائق: 1/ 241.
(4) القيض: القشرة العليا للبيضة.(6/159)
تفسد شدة الخمر، فإذا وجدنا العناقيد، لم نعول على قصد المتخذ إذا كان ما وجدناه مائلاً عن عادة من يقتني الخمور. وهذا القائل يقول: لا نجوز إتلافَ العناقيد على أربابها؛ إذ يستحيل الجمعُ بين جواز بيعها وبين جواز إفسادها. وليس كالمرتد يباع؛ فإنّ قتله غير مستحق، ولكنه مدعوّ قهراً إلى الإسلام، بالتعنيف. والقتلُ المستحق قد يمنع صحة البيع في العبد الذي استوجب القتلَ في المحاربة. وقد ذكر الأصحاب منعَ البيع في المرتد، كما قدمته.
فهذا تلخيص القول في ذلك.
فإن قيل: أليس اختلف الأصحاب في جواز الصلاة مع البيضة المذرة، فهلا فهمتم من هذا الاختلاف الترددَ في نجاسة حشو البيضة؟ قلنا: جواز الصلاة مأخوذ من الاستتار الخِلقي المشبه باستتار النجاسة بالحيوان. وقد طرد بعض الأصحاب الخلافَ في جواز الصلاة مع حمل قارورة مصممة حشوها نجاسة.
هذا بيان إحدى الصورتين.
3623- الصورة الأخرى في الخمرة المحترمة، كما سبق وصفها - قطع الأصحاب بأنها ليست مالاً، ولا تضمن إذا أُتلفت، وليس على متلفها إلا التوبيخ والتأديب، على ما يراه صاحب الأمر. وذكر الشيخ أبو علي تردداً في بيعها، وتردداً في طهارتها وهي خمرة مشتدّة محرّمة، وهذا خرم المذهب، ومصادمة القاعدة. وما ذكرناه من استحالة العصير خمراً، وارتفاع الرهن، وعوده إذا صارت الخمر خلاً، والفصل بين ما قبل القبض وبعده، يخالف جواز بيع الخمر، فلا وجه لهذا. وإنما التردد في مسألة العنقود. وفيها من الإشكال ما تقدّم.
والوجه القطع بمنع بيعها أيضاً، لنجاسة أجوافها، وليست هي حيوان، فإن الحيوان لاختصاصه بالحياة ممتاز عن النجاسات المجاورة له، والبيضة والعنقود وإن انتظمت ظواهرها وبواطنها خِلقة، فإذا بيعت بجملتها، فلا تمييز لبعضها عن البعض بالحياة والجمادية، فالبيع فيها ممتنع؛ وأيضاً فإن المقصود منها أجوافها وحشوها نجس، والمقصود من الحيوان نفسه.
فهذا تمام ما يحضرنا في بيان ذلك.(6/160)
فصل
ولو قال: " رهنتكه عصيراً، فصار في يدك خمراً ... إلى آخره " (1) .
3624- إذا اختلف الراهن. والمرتهن في عيبٍ ثابت، فقال الراهن: حدث العيب في يدك ولا خيار لك. وقال المرتهن: حدث العيب في يدك أيها الراهن، وقد اطلعتُ عليه الآن، فأرده وأفسخ البيع الذي شرطتُ هذا الرهنَ فيه، فالقول قول الراهن؛ قياساً على اختلاف البائع والمشتري في قدم العيب وحدَثِه؛ فإذا كنا نجعل القول قول البائع استدامةً للعقد، فلنجعل هاهنا القولَ قولَ الراهن استدامة للرهن والبيعِ الذي الرهنُ شرطٌ فيه. وهذا واضح.
ولو كان رهن عصيراً، فرأيناه خمراً في يد المرتهن، وقد اختلف الراهن والمرتهن، فقال الراهن: أقبضتك العصير، فانقلب خمراً في يدك. وأنا قد وفيت بالشرط، ووفيتك المشروط. وقال المرتهن: أقبضتني الخمر وكانت الاستحالة إلى الشدة في يدك، فالقول قول من؟ هذا يبتني على ما مهدناه من أن الإقباض على الشدة فاسد.
وقد اختلف الأصحاب في أن العصير إذا استحال خمراً في يد الراهن؛ هل ينفسخ الرهن؟ وقد مضى ذلك الآن. فالراهن يدّعي استقرار الرهن، والمرتهن يأبى ذلك.
ففي المسألة قولان: أحدهما - القول قول الراهن؛ لأنه ادّعى إقباضه عصيراً، والأصل بقاؤه على صفة الحلاوة. والقول الثاني - أن القول قول المرتهن؛ فإن الراهن يدّعي عليه أنه قبض قبضاً صحيحاً، وهو منكر للقبض، والأصل عدمه، ولا حكم للقبض الذي اعترف به، فإنه فاسد ليس قبضاً شرعياً، فكأن لا قبض. وقيل: القولان يقربان من اختلاف الأصحاب في حد المدعي والمدعَى عليه، كما سيأتي في الدعاوى.
ومن أصحابنا من قال: المدعي مَنْ يدعي أمراً خفياً، والمدّعى عليه من يذكر أمراً
__________
(1) ر. المختصر: 2/213.(6/161)
جلياً. ومنهم من قال: المدعي من لو سكت تُرِك والسكوت، والمدعى عليه من لا يترك وسكوته. ووجه التخريج أن المرتهن لو سكت تُرك، فهو المدعي إذاً، والقول قول الراهن؛ فإنه لو سكت لم يترك.
وإن قلنا: المدعي من يدعي أمراً خفياً، فالمدعي هو الراهن إذاً على هذا؛ فإنه يدعي القبض المبرم، والأصل عدمه. والمرتهن يدعي عدم القبض وهو الأصل.
ولو قال المرتهن: كنتُ شرطتُ الرهنَ، وقد رهنتني خمراً إذْ رهنتني. وقال الراهن: بل رهنتك عصيراً. وهذه المسألة مفروضة فيه إذا شرطا رهناً معيناً، وفرض الوفاء به، ثم قال المرتهن: العين التي شرطنا رهنها كانت خمراً. وقال الراهن: بل كانت عصيراً، فهذا يبتني على أن شرط الرهن الفاسد هل يُفسد البيعَ؟ وفيه قولان سيأتي ذكرهما.
فإن قلنا: إنه لا يوجب فساد البيع، فالتنازع في الوفاء بالشرط، وعدم الوفاء به يخرّج على القولين، والاختلافِ في حالة القبض. وهذا بيّن.
وإن قلنا: شرط الرهن الفاسد يفسد البيع، فالذي قالاه نزاع في فساد البيع وصحته، وقد ذكرنا اختلاف أصحابنا فيه إذا اختلف المتعاقدان في شرط مفسد، فادّعاه أحدهما ونفاه الثاني. وقد استقصينا القول فيه في باب اختلاف المتبايعين.
فرع:
3625- سئل عنه القاضي فقيل: إن (1) اشترى لبناً في قمقمة، فصبه البائع في قمقمةٍ للمشتري، فَعَلتْه فأرةٌ، فاختلفا، فقال المشتري: بعتني اللبن طاهراً (2) فوقعت فيه فأرة. وقال البائع، لا بل كانت الفأرة في قمقمك.
فكان من جوابه أن قال: هذا يخرّج على القولين في إقباض الخمر والعصير؛ فإن المشتري يقول: أقبضتنيه نجساً، والبائع يقول: بل أقبضتك طاهراً، وحصلت النجاسة في يدك من قمقمك.
ولو قال البائع: كانت هذه الفأرة في قمقمك. وقال المشتري: بل كان اللبن
__________
(1) في (ت 2) ، (ص) : "فقال: من".
(2) طاهراً: أي على شرط الطهارة.(6/162)
حالة العقد نجساً لكون الفأرة فيه. فهذا نزاع في أن العقد عقد على الفساد أم لا؟ وهو مناظر اختلاف المتبايعين في فساد العقد، كما ذكرناه.
هذا جوابه. وتفصيله:
فإن قيل: إذا قال المشتري في الصورة الأولى: تنجس اللبن في يدك، فهو ادّعاء انفساخ البيع. قلنا: نعم هو كذلك، والعصير إذا استحال خمراً، فهل نحكم بانفساخ الرهن.
فإن قيل: إذا كانت النجاسة في ظرف المشتري، فاللبن ينجس بملاقاة النجاسة، فليس ما ادعاه البائع إقباضاً على الصحة. قلنا: ليس كذلك؛ فإن اللبن إذا حصل في فضاء الظرف، ثبت له حكم القبض جزءاً جزءاً، قبل أن يلقى النجاسة. هذا بيان قوله.
فلينظر الناظر في ذلك.
فصل
قال: " ولا بأس أن يرهن الجارية ولها ولد صغير؛ لأن هذا ليس بتفرقة ... إلى آخره " (1) .
3626- التفرقة في البيع بين الأم وولدها الصغير حرام؛ قال النبي عليه السلام: " لا تُولَّه والدة بولدها " (2) . ثم إن بيعت الجارية دون الولد، أو بيع الولد دون الجارية، وارتكب المتعاقدان محظور التفرقة، ففي صحة البيع قولان، سيأتي ذكرهما في كتاب السير، إن شاء الله تعالى، وفيه نذكر حد الصغر المؤثر، والتفريقَ
__________
(1) ر. المختصر: 2/214.
(2) حديث: لا توله: أخرجه البيهقي في السنن: 8/ 5 من حديث أبي بكر بسند ضعيف، وأبو عبيد في غريب الحديث: 3/ 65. والتوليه أن تفارق الأم ولدها. من ولَّهَ الوالدةَ فرّق بينها وبين ولدها.
وقد صح في معنى هذا الحديث أحاديث أخرى (ر. التلخيص: 3/36، 37 ح 1170-1173) .(6/163)
المؤثر بين الوالد والولد، ثم بين جميع المحارم.
وقدرُ غرضنا الآن أن صحة البيع الواقع على حكم التفرقة فيها قولان: أحدهما - وهو الجديد أن البيع باطل. والثاني - وهو القديم أن البيع صحيح.
قال الشافعي: لو رهن الأمَّ دون ولدها أو على العكس، فالرهن صحيح؛ لأن ذلك ليس بتفرقة بينهما.
واختلف أصحابنا في معنى هذا اللفظ، فمنهم من قال: معناه أن الرهن لا يوجب التفرقة؛ فإن منافع الأم للراهن، فيجمع بين الأم وولدها، ويكلفها احتضانه وإرضاعه. ومنهم من قال: معنى قوله: إن ذلك ليس بتفرقة أن البيع منتظرٌ، [فإذا مست الحاجة إليهِ، لم يفرق بين الأم والولد، فإذا ثبت صحة الرهن] (1) فإذا مست الحاجة إلى البيع بأن حَلّ الدينُ، فهل يجوز إفراد الأم بالبيع - والتفريع على أن التفريق مفسد للعقد؟ على هذا القول وجهان: أحدهما - أن البيع يبطل إذا تضمن التفريقَ؛ طرداً للقياس. والثاني - لا يبطل؛ لأن هذا بيع قهري، ولا يمتنع التفريق قهراً لأمر شرعي، وهذا كما لو كان للجارية ولد صغير حُر، فبَيع الأم جائز، والحرية فرقت بين الأم والولد. كذلك اختصاص الرهن بالجارية يوجب تخصيصه بالبيع.
التفريع:
3627- إن قلنا: تباع الجارية والولد عند مَحِل الدين، وهو الذي نص عليه الشافعي، فلا حظ للمرتهن في الولد، وقد جرى البيع في الأم والولد، فإذا أردنا توزيع الثمن على الجارية والولد، فما وجه التوزيع؟
هذه المسألة تقتضي تقديم أخرى عليها، وهي بين أيدينا، ولكنا لا نجد بُدّاً من ذكرها الان في غرضٍ لنا.
فنقول: من رهن أرضا بيضاء، وكان فيها نوى، فقبض المرتهن الرهنَ، ثم أنبتت النوى أشجاراً، فلا سبيل إلى قلعها، ولكن إذا حل الحق وبعنا الأرض والغراس، فكيف يقبض الثمنَ المأخوذَ على الأرض والغراس؟ اختلف أئمتنا في ذلك، فقال بعضهم: تقُوّم الأرض بيضاء فإذا قيمتها مائة، ثم نقوّمها مع الغراس،
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.(6/164)
فإذا قيمتها مع الغراس مائة وعشرون، فقد زاد تقدير الضم على تقدير الانفراد في الأرض البيضاء بعشرين درهماً، والعشرون من المائة والعشرين سدسها، فنحفظ هذه النسبة، فإذا هي نسبة الأسداس، فإذا بعنا الأرضَ والغراس وزّعنا الثمنَ على النسبة التي معنا، فصرفنا خمسةَ أسداسه إلى المرتهن، وصرفنا سُدسه إلى الغرماء الباقين.
هذا وجه.
والوجه الثاني - أنا نقوّم الأرضَ بيضاء، فإذا قيمتها مائة، ونقوم الغراس في الأرض مفردة، فإذا قيمتها خمسون، فنضبط النسبة بأثلاث، فنوزع الثمن عليها، فنصرف ثلثي الثمن إلى المرتهن، وثلثه إلى الغرماء. فهذا بيان الاختلاف في مسألة الأرض والغراس.
3628- عدنا الآن إلى الجارية وولدها وقد بيعا. وقد يحسن فرض هذه المسألة إذا كانت الأم مفردة وليست ذات ولد، أو بيعت دون ولدها، وكان ثمنها أكثرَ لانفرادها، وإذا بيعت مشتغلة بحضانة الولد، فقيمتها أقل، وعند ذلك يظهر التردد والاختلاف، وقد اختلف أصحابنا في كيفية التوزيع، فقال بعضهم: التوزيع على الأم والولد كالتوزيع على الأرض والغراس، وفيه وجهان نعيدهما: أحدهما - أنا نقوم الأم وحدها فإذا قيمتها مائة. ونقوّمها مع الولد، فإذا قيمتها عند الضم مائة وعشرون. فقد زاد سدس، فليقع التوزيع على الأسداس. هذا وجه.
والوجه الثاني - أنا نقوم الأم وحدها، فإذا قيمتها مائة، ونقوم الولد وحده مضموماً إلى الأم، فإذا قيمته وحده مع الأم خمسون، فيظهر لنا نسبة الأثلاث. فليقع التوزيع كذلك. وهذا بعينه ما ذكرناه في الأرض والغراس في الوجهين.
هذه طريقة. وهي اختيار الشيخ أبي علي، والقاضي.
وذكر صاحب التقريب هذه الطريقة، وذكر معها طريقة أخرى واختارها، فقال: ينبغي أن تقوم الأم مع الولد وهي حاضنة، ويقوم الولد مع الأم، ولا يفرد واحد منهما بالتقويم على تقدير الانفراد، بخلاف مسألة الغراس، والفرق أن الجارية رهنت وهي ذات ولد، فاستحق المرتهن بيعها على نعت الضم، وليس الأرض كذلك؛ فإنها رهنت إذْ رهنت ولا غرس، ثم حدث الغراس من بعدُ، كما سنصوره على(6/165)
الاستقصاء، إن شاء الله تعالى. ونحن قدرنا الأرض بيضاء في الوجهين جميعاً، ورددنا الاختلاف إلى كيفية اعتبار قيمة الغراس، وهاهنا لا تعتبر قيمة الجارية وحدها لما نبهنا عليه. فليتأمله النّاظر؛ فإنه حسن.
قال صاحب التقريب: نظير مسألة الغراس من الجارية ما لو رهنت، ولم تك ذاتَ ولد، ثم علقت بمولود رقيق، وولدت فيطابق هذا على صورة الغراس؛ من حيث انعقد الرهن وتم والأم على نعت التفردِ، كالأرض البيضاء، فلا جرم [يجري] (1) في التوزيع عند بيعها الخلافُ الذي ذكرناه في الأرض والغراس.
3629- ومن تمام البيان في هذا الفصل: أن ما ذكرناه من المطابقة في التوزيع إنما يحسن وقعه وأثره إذا حُجر على الراهن، أو مات والديون محيطةٌ مستغرقة، واختلفت الأغراض في التوزيع، فالكلام على ما ذكرناه.
فأما إذا لم يفلس الراهن، ولم يضق مالُه، وبعنا الجارية والولد، فعلى الراهن توفيرُ الدين كَمَلاً (2) ، ولا يكاد يظهر فائدة المسألة. هكذا قال الشيخ أبو علي.
وهذا فيه فضل نظرٍ يُبيّنُه كلامٌ: وهو أن المرهون إذا بيع في دين المرتهن، فلو أراد الراهن أن يصرف طائفة من مالِه إلى دين المرتهن سوى الثمن المحصّل من بيع الرهن فهل يسوغ ذلك أوْ لا؟ والوجه القطع بجوازه، كما لو أدى الدين، وفك به الرهن، فتَعَلُّقُ حقِّه بثمن البيع، كَتَعَلُّق حقِّه بالمرهون قبل أن بيع.
ولو أراد أن يتصرف في ثمن الرهن قبل أن يؤدي حق المرتهن. لم يكن له ذلك.
وإذا أراد أن يتصرف فيما يقابل الولد المضمومَ، فله ذلك، وثَمَّ القدر الذي يقابل به الولد فيه الاختلاف المقدم.
ولاح بهذا أن أثر الخلاف قائم في حق المطلَق قيامَه في حق المحجور. والغرض أن نبيّن أن متعلَّق الرهن [والوثيقة] (3) من الثمن المحصل من الجارية والولد كم؟ فإذا
__________
(1) زيادة من المحقق، اقتضاها السياق.
(2) كملاً: كاملاً.
(3) في الأصل كلمة بهذا الرسم (السعه) وبدون نقط. ولم أدر لها معنى إن كان. والمثبت من (ت 2) ، (ص) .(6/166)
بانت الكمية، ظهر أمرُها عند الحجر في الفضّ (1) على الغرماء، وعلى المرتهن.
ويظهر أثرها حيث لا حجر في تصرف الراهن فيما يزيد على مقدار الرهن.
فصل
قال: " ولو ارتهن نخلاً مثمراً، قال ثمر خارج من الرهن ... إلى آخره " (2) .
3630- إذا رهن نخيلاً عليها الثمار، واقتصر على تسمية النخيل، ولم يسم الثمار نافياً ولا مُثبتاً، نُظر: فإن كانت الثمار مؤبّرة، فلا شك أنّها لا تدخل في مطلق تسمية النخل؛ فإنها لا تدخل في تسميتها في عقد البيع على قُوّته، فلأن لا تدخل في حكم الرهن تحت الأشجار أولى، وإن كانت النخيل مُطْلِعَةً، ولكن لم تكن مؤبرة، فقد ذكرنا في كتاب البيع أنها تدخل تحت تسمية النخيل في البيع المطلق، وهل تدخل في حكم الرهن تحت تسمية النخيل؟ ظاهر المذهب أنها لا تدخل.
والرهنُ في ذلك يخالف البيعَ، والفارق أن البيع يزيل الملك في الأصل، فلا يبعد أن يقوى على الاستتباع. والرهن لا يقطع ملك المالك عن الأصل؛ ولا يرفع سلطانه، وكأنه موعد في دوام الملك أوجب الشرع الوفاء به، فاختص وجوب الوفاء بمورده المسمى، ولذلك لا يتعدى الرهنُ إلى الزوائد التي ستحدث في مستقبل الزمان، والملك في البيع يُثبت للمشتري حق الملك فيما يتجدد.
وخرّج طوائف من الأئمة قولاً آخر في الرهن، وهو أن الثمار تتبع تسمية النخيل إذا لم تكن بارزة (3) ، قياساً على البيع، وذلك لأنا لم نتبِع الثمارَ النخيلَ في البيع لقوة البيع، ولكنا رأينا الثمار الكامنة جزءاً متصلاً كامناً، واعتقدنا اللفظ شاملاً. وهذا يستوي فيه القوي والضعيف.
وهذا القول منقاسٌ، وهو مأخوذ من أصلٍ مع القول الأول، وهو أن من باع
__________
(1) الفض: التوزيع والتقسيم.
(2) ر. المختصر: 2/214.
(3) في (ص) : مؤبرة.(6/167)
حاملاً، ثبت الحمل مستحقاً للمشتري، والتردد في أنه هل يقابله قسط من الثمن أم لا.
ولو رهن جارية حاملاً، ففي تعلق حق الوثيقة بالحمل الموجود حالة الرهن قولان. والرأي ترتيب الثمار غيرِ المؤبرة على الحمل، فإن قضينا بأن الرهن لا يتعلق بالحمل، فلأن لا يتعلق بالثمار أولى، وإن قلنا: يتعلق الرهن بالحمل، ففي تعلقه بالثمار قولان. والفرق أن الحمل لا يقبل التصرف على الانفراد، [فكان حريّا بالتبعية والثمار تقبل التصرف على الانفراد] (1) .
3631- ومسائل الحمل ستأتي إن شاء الله تعالى.
ولكنا نعجل منها شيئاًً، فنقول: إن قلنا: رهن الجارية الحامل لا يتناول الحملَ، فلو قال: رهنتها مع حملها، ففي هذا تردد للأصحاب، والظاهر أن رهن الجارية لا يتعلق بالحمل؛ فإنه إذا لم يمتنع، فتقدير الانفراد فيه بالذكرِ لا وجه له؛ إذ لو ساغ ذلك، لجاز إفراده بالرهن دون الأم.
وهذا الرمز الآن كافٍ. وسنعود إليه عند ذكرنا مسائل الحمل، إن شاء الله تعالى.
فصل
قال الشافعي بعد تقرير المذهب في أن الرهن أمانة: " وإذا رهنه ما يفسدُ من يومه ... إلى آخره " (2) .
3632- أما القول في أن الرهن أمانة، فسيأتي في باب معقود، إن شاء الله تعالى.
ونحن نذكر الآن تفصيلَ المذهب في رهن ما يتسارع إليه الفساد، فنقول: إذا رهن الفواكه الرطبة وغيرَها مما يتسارع إليه الفساد، نظر: فإن رهنها بدين حالٍّ، صح، ثم إن أدى الدين من موضع آخر، فذاك. وإن اتفق بيعُها في الدين، وصرف ثمنها إليه،
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(2) ر. المختصر: 2/214.(6/168)
فهو المراد. وإن لم يتفق الصرف إلى الدين، وأشرف المرهون على الهلاك، فلا خلاف أنه يباع، ويوضع الثمن رهناً مكانه؛ إذ لا طريق إلى استيفاء الحق إلا هذا الطريق، والرهن يتضمن توثيقاً، فإذا أشرف محلّ الوثيقة على الهلاك، ولو هلكت، لضاعت الوثيقة، فالوجه في تبقية الوثيقة البيعُ ووضع الثمن رهناً مكان المبيع.
3633- وإن رهن ما يتسارع إليه الفساد بدين مؤجل، نظر: فإن عرفنا أن حلول الأجل يتقدم على فساد المرهون، صح الرهن، وكان كما لو رهن بدين حالّ، وانتظم الترتيب على ما ذكرناه. وإن عرفنا أن الفساد يسبق حلولَ الأجل، فتنقسم المسألة أقساماً:
منها أن يرهن ويشترط البيع عند الإشراف على الفساد، فإن كان كذلك، صح الرهنُ، ولزم الوفاء بالشرط إذا مست الحاجة إليه، فإذا أشرف على الفساد، بيع ووضع الثمن رهناً.
ومن الأقسام أن يرهن ويُقرن (1) [الرهن] (2) بشرط أن لا يباع عند ظهور الفساد، فإن كان كذلك، فالرهن فاسد؛ فإنّ شرط تبقيته يتضمن فساده، وهو مناقض للتوثق، فجرى الشرط مخالفاً لوضع الرهن.
ومن أقسام المسألة أن يطلق الرهن من غير تعرض لشرط البيع أو نقيضه، فإذا كان كذلك، ففي المسألة قولان منصوصان: أحدهما - أن الرهن صحيح، ومطلقه محمول على البيع عند الحاجة ووضع الثمن رهناً. والقول الثاني - أن الرهن فاسد، ومطلقه محمول على تبقية الرهن، وإن كان يفسد، فهو كما لو قيَّد بأن لا يباع.
فإن قيل: أليس لو رهن ما يتسارع إليه الفساد بدين حال، كان صحيحاً قولاً واحداً. وإذا مست الحاجة إلى بيعه ووضع ثمنه رهناً، بيع، ولم يختلف في ذلك، والرهن مطلق في الموضعين، فما الفاصل؟ قلنا: إذا كان الدين مؤجّلاً، فحكم الرهن التبقية في حال سقوط المطالبة بالدين.
__________
(1) في (ص) كلمة غير مقروءة، رسمها هكذا (بعرفى) وفي (ت 2) : (يقرب) .
(2) زيادة من المحقق، رعاية لوضوح العبارة.(6/169)
هذا حكم الإطلاق في الرهن بالدين المؤجل. فكان تردد القول لذلك. وإذا كان الدين حالاً فالطلِبة حاقّة، لا تأخير فيها يُشعر بتبقية الرهن إلى ثبوت الطلبة.
ولو كان المرهون بالإضافة إلى الأجل بحيث لا يقطع بفساده قبل الحلول، وكان لا يقطع ببقائه أيضاًً، وتردد الاحتمال، ففي جواز الرهن المطلق من غير تقييد بالبيع عند الإشفاء على الهلاك قولان، مرتبان على القولين فيه إذا كان يهلك المرهون قبل الأجل لا محالة. وهذه الصورة أولى بالصحة من الأولى. ووجه الفرق بيّن.
وقد كنا بنينا رهن المعلّق عتقُه بصفة توجد قبل حلول الأجلِ على رهن ما يتسارع إليه الفساد قبل حلول الأجل، وخرّجنا صحة الرهن على قولين. قال صاحب التقريب: إذا فرعنا على قول صحة الرهن، فقربت الصفة، وكاد العتق أن يقع، بعناه بَيْعَنا الطعامَ المشرفَ على الفساد. وإذا كان الأصل كالأصل، فالتفصيل كالتفصيل.
وإذا رهن ما لا يتسارع إليه الفساد، فطرأ بعد لزوم الرهن سبمب يقرّبه من الهلاك قبل حلول الأجل، فطريان ذلك لا يوجب انفساخ الرهن وفاقاً.
وإن منعنا رهنَ ما هذه صفته ابتداء على أحد القولين، وتسرُّعُ (1) الفساد طارئاً ومقارناً -على منع الرهن ابتداء- يضاهي إباق العبد، فإذا اقترن، منَعَ، وإذا طرأ، لم يتضمن انفساخ العقد.
فرع:
3634- إذا صح الرهن، ولزم في عين ثابتة لا يخشى فسادها، فقال الراهن: نقلتُ حقك في الوثيقة من هذه الرقبة إلى هذا العبد، فقال المرتهن: رضيت. ذكر أصحابنا في ذلك وجهين:
أحدهما - أن هذا يلغو، والوثيقة لا تنتقل، ورضا المرتهن لا يتضمن فسخَ الرهن.
والوجه الثاني - أنها تنتقل وتقرُّ في العبد الثاني، وما جرى بينهما يتضمن فسخاً للرهن الأول، وإعادةً له في المحل الثاني.
__________
(1) كذا فىِ النسخ الثلاث: "وتسرع" بالواو، وعليه يكون جواب الشرط "وإن منعنا" قوله: " فإذا اقترن ... ".(6/170)
وأخذ العلماء هذا الخلافَ من رهن ما يفسد قبل الأجل. ووجه الأخذ منه أَنَّ الرهن فيما يفسد تضمن نقل الوثيقة إلى عوضِ المرهون بتقدير البيع. فقالوا: إذا كنا نجوز ذلك، فما يمنع من نقل الحق اختياراً من محل إلى محل وهذا غير سديد؛ فإن بيع ما يفسد مستحق شرعاً وإقامة الأثمان والقيم مقام الأصول قاعدة ممهدة في الشرع، فأما نقل حق مستقر من محل إلى محل، فليس له أصل من غير حاجة، ولا ضرورة، وليس النقل والرضا مشعراً بالفسخ والإعادة على التحقيق، وليس كما لو قال لمالكِ عبدٍ: أعتق عبدَك عني؛ فإن هذا من ضرورته تقديم نقل الملك، فكان ضمناً لاستدعاء العتق. وأما نقل الوثيقة، فمبنيٌّ على اعتقاد إبقاء الرهن الأولى، مع نقل موجبه، وعلى هذا يخرّج (1) انتقال الوثيقة من المثمن إلى الثمن، فالوجه إفساد الرهن من عين إلى عين.
فرع:
3635- إذا رهن ما لا يفسد، ثم طرأ عليه ما يقرّبه من الفساد قبل القبض، وقلنا: لا يصح رهن ما هذا وصفه، ففي انفساخ الرهن وجهان مبنيانِ على الوجهين في نظائر هذا، كطريان الجنون والموت، وطريان جناية المرهون. والتفريع على منع رهنه.
ولو قُتل العبد المرهون قبل القبض، ففي تعلق حق الوثيقة بقيمته الواجبة على المتلف الوجهان المذكوران؛ فإن القيمة تقع ديناً، والديون لا ترهن، ولكن إن جرى ذلك بعد تأكُّد الرهن بالقبض احتُمل على ارتقاب أن تستوفى القيمة وتعيّن.
ثم من يقول من أئمتنا إذا استحال العصير خمراً، زال الرهن ثم يعود إذا تجددت الحموضة، ما أراه يطلق القول بأن الرهن يزول بانقلاب المالية في عين الرهن ديناً؛ فإن حقيقة المالية باقية. والقول في هذا محال. هذا إذا كان بعد القبض.
فأما إذا جرى الإتلاف قبل القبض، ففي انفساخ الرهن ما ذكرناه.
ولو صادف الرهن عيناً ثابتة، فعرض لها بعد القبض عارض يدنيها من الفساد، فقد
__________
(1) في (ص) ، (ت 2) : يجري.(6/171)
تمهد أن الرهن لا ينفسخ، وقطع الأئمة بأنه يستحق بيعه ووضع ثمنه رهناً. وكان شيخنا يقول: إذا كان إتلاف المرهون يتضمن نقلَ حق المرتهن إلى القيمة، فيتبين أن حقه المستحَق غيرُ منحصر في العين، فعلى هذا يكون [الإشفاء] (1) على الهلاك بمثابة إتلاف المرهون من ضامن.
فصل
قال: " ولو رهنه أرضاً بلا نخل، فأخرجت نخلاً ... إلى آخره " (2) .
3636- إذا كان الراهن دفن أعداداً من النوى، ورهن الأرض البيضاء قبل أن تنبت النوى فنبتت، فليس للمرتهن القلعُ؛ فإن الرهن ورد على الأرض وفيها النوى.
ولكن إن كان عالماً بذلك، فليس له فسخ البيع الذي الرهنُ شرطٌ فيه. وإن كان جاهلاً، ثم تبين، فله فسخ البيع الذي الرهن شرط فيه، من قِبل أَنَّه حسب أن الساحة البيضاء [تَسْلَم] (3) لحق وثيقته، فإذا بأن أنها مشغولة، فذلك نقصٌ، فيترتب عليهِ ثبوت الفسخ في البيع. وسيأتي أصل ذلك بعد هذا، إن شاء الله تعالى.
3637- ولو غشَّى السيلُ الأرضَ المرهونة، وكان في جميعها نوى؛ فنبتت، فلو قال المرتهن: أقلعُه؛ فإنه لم يكن، وإنما حدث بعد لزوم الرهن، لم يكن له القلع قبل حلول الدين؛ إذ لا ضرر عليه في الحال، ولا حاجة إلى بيع الساحة. وإذا حل الحق، نُظر: فإن كان في قيمة العرصة لو بيعت مع النخيل وفاءٌ بالدين (4) ، بيعت العرصة، ولم يقلع النخيل، وإن لم يكن فيها وفاء، ولو قلعت دون النخيل، وفت بالدين، ولم يؤدّ الراهن الدينَ من جهة أخرى، فيقلع الغراس لحق المرتهن، وإن
__________
(1) في الأصل: الانتفاع.
(2) ر. المختصر: 2/214.
(3) في الأصل، (ت 2) : " سلم " والمثبت من (ص) .
(4) في النسخ الثلاث اضطراب في هذه العبارة، بتقديم وتأخير بعض الكلمات. صوابها ما أثبتناه.(6/172)
كان القلع مضرّاً بالراهن؛ من قبل نقصان الغراس بالقلع، فالسبب فيه أن الراهن التزم الوفاء بحق الوثيقة في الأرض البيضاء، فلزمه أن يفي بما التزمه.
هذا إذا لم يكن على الراهن دين يوجب اطراد الحجر عليه، فأما إذا ركبته الديون، واطرد عليه الحجر، والمسألة حيث انتهت، فلا سبيل إلى قلع الأشجار رعايةً لحق الغرماء.
فإن قيل: حق المرتهن سابق وفي تبقية الغراس تنقيصُ حقه السابق. قلنا: نعم ولكن [حق] (1) الغرماء صادفَ الأشجار، وتعلق بها، وليس للمرتهن إلا وثيقة، فلا ينبغي أن يُحبط حقوق الغرماء والمالك بالكلية.
والذي يقتضيه الإنصاف بيعُ الأرض مع الغراس، ثم في كيفية التوزيع على الأرض والغراس خلافٌ بين الأصحاب، ذكرناه في مسألة بيع الجارية وولدها.
3638- قال الأئمة: إذا رهن الرجل أرضاً بيضاء، وأقبضها، ثم أراد أن يغرسها ابتداء، فهل يمنع من ذلك والدين مؤجل؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يمنع، كما لا يقلع ما نبت من حميل السيل. والثاني - يمنع؛ فإن هذا إثبات تنقيصٍ في الحال على سبيل الاختيار. ثم إن لم نمنعه، فالكلام في القلع عند حلول الدين كما تفصَّل.
وإن كنّا نمنعه من الغراس، فلو غرس، ونبت فهل يقلع عليه قبل حلول الأجل؟ فيه اختلاف، توجيهه قريب من توجيه الوجهين في أصل المنع. فإن قلنا: إنه مقلوع، فلا شك أنه يقلع عند المحِل إذا لم يكن على الراهن حجر. وهل يقلع إذا كانت عليه ديون واطرد الحجر؟ فعلى وجهين. ولا يخفى الفرق بين هذا وبين ما لو نبتت النخلات من نوى في حميل السيل؛ فإن ذلك جرى ولا منع يقترن به، بخلاف ما فرعناه في ابتداء الغرس قصداً من الراهن.
__________
(1) ساقطة من الأصل.(6/173)
فصل
قال: " ولو رهنه أرضاً، ثم اختلفا، فقال: أحدثت فيها نخلاً ... إلى آخره " (1) .
3639- إذا صادفنا أرضاً مرهونة، وفيها نخيل، فقالى المرتهن للراهن: رهنتني الأرضَ والنخيل القائمةَ فيها يوم رهنتني. وقال الراهن: بل رهنتك الأرض بيضاء، وأحدثتَ هذه النخيل بعد الرهن، ولم تكن موجودة حالة الرهن. فإن كانت المشاهدة تكذب المرتهن؛ بأن تقدّم تاريخ الرهن وامتد سنين، والنخيل بعد فَسِيلٌ لا يخفى أنها نبات سنة، فالمرتهن مكذَّب، ولا حاجة إلى اليمين.
وإن كانت المشاهدة تكذِّب الراهن بأن كان النخيل باسقة، وتاريخ الرهن قريب، فالمشاهدة كذبت الراهنَ في دعواه عدمَ النخيل عند الرهن. ولكن لا تنفصل معه الخصومة بهذا؛ إذْ لم يثبت إلا وجود النخيل حالة الرهن، ولا يمتنع أن تكون موجودة، ولا تكون مرهونة، فتتوجه الدعوى عليه بالرهن، فإن أصر على قوله الأوَّل، لم يقبل منه، والمشاهدة تكذبه، ويجعل منكراً، وتعرض عليه اليمين، فإن تمادى في محاله (2) الأولى، جُعل ناكلاً، وفصلت الخصومة بطريقها. وإن اعترف بالوجود آخراً، وأراد أن ينكر الرهن، قُبل منه الإنكار، وكَذْبتُه الأولى لا تسدّ عليه إنكارَ الدعوى، ثم تُدَارُ الخصومة على نظمها.
وإن كانت النخيل بحيث يحتمل أنها كانت يوم الرهن، ويحتمل أنها حدثت بعده بأيام، فالقول قول الراهن في نفي الرهن.
ولو اقتصر على نفي وجود النخيل وكان انتفاؤها ممكناً، فالأظهر أنه يُكتفَى منه بإنكار الوجود؛ فإنّ في إنكار الوجود إنكارَ الرهن المدّعىَ. والمسألة مفروضة فيه إذا
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 214. وفي المختصر: " ولو رهنه أرضاً ونخلاً ... ".
(2) أي إصراره على المحال الذي ادعاه وكذبته المشاهدة.(6/174)
قال المرتهن: كانت موجودة، فرهنتَها مع الأرض. ولهذا نظائر فيها ترددٌ للأصحاب. ستأتي في كتاب الدعاوى.
ولو قال المرتهن: رهنتني هذه الأشجار، ولم يتعرض لوقت رهنها، ولم يذكر اقترانَها ولا تأخرها، فلا ينفع، والدعوى على هذه الصيغة تعرض الراهن لتقدم وجود النخيل وتأخرها؛ فإنه لا يمتنع رهنها، وإن تأخرت. والمرتهن إنما يدعي الرهن المطلق، وهذا بيِّن إذا لم يكن الرهن مشروطاً في بيع.
فأما إذا كان الرهن مشروطاًً في بيع وصيغة الدعوى كما تقدمت، قال المرتهن: رهنتها مع الأرض يوم رهنتني الأرض. وقال الراهن: لم تكن النخيل موجودة يوم رهن الأرض، وكانت المشاهدة لا تكذبه، وقد ربطا قوليهما ببيعٍ، فقال المرتهن: شرطتَ رهن الأرض والنخيل. فإذا قال الراهن: لم تكن النخيل، فقد ذهب المحققون إلى أن هذا الاختلاف ليس مما يوجب التحالف في البيع؛ فإن حاصله راجع إلى التنازع في وجود النخيل وعدمها. والتحالف إنما يترتب على تنازع في صفة عقدٍ، يتصور التصادق عليها.
وهذا حسن دقيق.
والظاهر عندي أنهما يتحالفان؛ فإنَّ المرتهن ادعى شرط رهن ممكن، وأنكر الراهن الشرط، وعلله بعلة، فالتنازع في صفة العقد قائم، فليجر التحالف.
وإن اتفقا على وجود النخيل، وقال المرتهن: شرطنا في البيع رهنَ الأرض والنخيل، وقال الراهن: لم نشترط إلا رهنَ الأرض، ولم يتعرضا لنفي وجود النخيل، بل توافقا عليه، فهذا اختلافٌ في صفة العقد لا محالة، فيتحالفان ويتفاسخان العقد.
ولو قال المرتهن: لِمَ نتحالف، وأنا معترف بأنك وفَّيت بالرهن المشروط في النخيل، فاختلافنا في الرهن؟ قيل له: هذا أمر تبنيه أنت (1) فرعاً على أصل، والراهن منكرٌ لأصل الشرط، فلا بُدّ من التحالف.
__________
(1) ساقطة من (ت 2) .(6/175)
فصل
قال: " ولو شرط للمرتهن إذا حل الحق، أن يبيعه، لم يجز أن يبيع بنفسه، إلا بأن يحضره ربّ الرهن ... إلى آخره " (1) .
3640- إذا حلّ الحق، فقال الراهن للمرتهن: بع لي واستوفِ ثمنَه لي، ثم استوفه لنفسك. فإذا باع، نفذ البيع بالإذن، ثم إذا استوفى الثمنَ، وقع الثمن للراهن، ويكون أمانة بعدُ في يد المرتهن، فإن أراد استيفاءَه لنفسه، فلا بد من وزنٍ جديد إن كان موزوناً [أو كيل جديد إن كان مكيلاً] (2) فإن وزنه ثانياً، فهل يصح الاستيفاء على هذا الترتيب؛ فعلى وجهين، تقدم ذكرهما في كتاب البيع، فإن صححنا الاستيفاء، دخل في ضمانه، وبرئت ذمة الراهن من الدين. وإن لم نصحح (3) الاستيفاء، فما قبضه على الفساد مضمون عليه، وإن لم يكن مقبوضاً على الصحة عن جهة حقه، فالدين باق في ذمة الراهن.
ومن تمام التفريع في ذلك أنا إذا صححنا الاستيفاء، فالذي ذكره الأصحاب أنه لا بد من إنشاء فعلٍ فيه، وليس كما لو رهن الوديعة عند المودَع، فإنا في قولٍ ظاهر نكتفي بدوام يده، كما تفصّل ذلك، وهاهنا لا بد من فعلٍ في الاستيفاء. وتعليله واضح؛ فإن الاستيفاء إنما يصح بناء على إذن الراهن، ولفظُه في الإذن "ثم استوف منه حقك" وهذا تصريح بإحداث أمر.
3641- ولو قال: "بعه لي واستوف الثمن لي، ثم أمسكه لنفسك"، فالظاهر أنه لا بد من فعلٍ في القبض، كما تقدم.
ومن أصحابنا من أقام الإمساك على قول صحة القبض مقام الاستيفاء إذا كان الاستيفاء مأذوناً فيه.
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 214. ولفظ المختصر: "أن يبيع لنفسه" وسيأتي -بعد قليل- في تأويل كلام الشافعي ما يرجح كونها (باللام) ، وانظر (ص 179) .
(2) زيادة من (ص) ، وانظر في هذه المسألة الروضة: 4/ 88، 89.
(3) في الأصل: وإن لم يصح.(6/176)
وإذا قلنا: الاستيفاء لا يصح، ثم جعلنا قبضه على الفساد مُدخلاً للثمن في ضمانه، فلو لم يوجد منه فعل، والمأذون فيه الاستيفاء، ولكن نوى أن يمسكه لنفسه، فهذا لا يدخله في ضمانه؛ فإن اليد يد أمانة، والأمانات لا تزول بمجرد النيات. ولو نوى المودَع تغييب الوديعة، ولم يُحدث أمراً، لم يضمن بمجرد النية.
ولو قال الراهن: بعه لي واستوفِ ثمنه لنفسك، صح البيع، ولم يصح الاستيفاء؛ فإن الغير يستحيل أن يستوفي حقه قبل ثبوت القبض الصحيح لمن يقع الاستيفاء من جهته، وقد مهدنا هذا في البيع.
وإن قال الراهن للمرتهن: " بعه لنفسك "، فباع، فظاهر النص وما ذكره العراقيون، واختاره القاضي أن البيع يفسد؛ لأنه لا يتصور أن يبيع الإنسان مال الغير لنفسه.
وذكر صاحبُ التقريب قولاً آخر ارتضاه لنفسه: أن البيع صحيح بناء على قوله: بعه، والفساد في قوله: لنفسك، فليستقل البيع بالإذن فيه.
وهذا وإن كان منقاساً، فالمذهب ما قدمته.
3642- ولو قال الراهن للمرتهن: "بعه". ولم يقل: بعه لي، ولا لنفسك. هذا موضع الاختلاف الظاهر بين الأصحاب -ولا عود إلى ما ذكره صاحب التقريب- فمن أصحابنا من قال: يجوز له أن يبيع كالأجنبي يقول له مالك العبد: بعه. ومن أصحابنا من قال: لا ينفذ بيع المرتهن. وهؤلاء عللوا امتناع البيع بعلتين: إحداهما - أن البيع مستحَقّ للمرتهن بعد حلول الحق، والمسألة مفروضة في هذا، والدليل على أن البيع مستحق للمرتهن أنه لو أذن المرتهن للراهن في البيع مُطلقاً، والحق حالّ، فالبيع يقع للمرتهن، حتى لو أراد الراهن صرفَ الثمن إلى جهة أخرى، لم يجد إليه سبيلاً. فإذا كان البيع مستحقاً للمرتهن، فالإذن المطلق إذا اقترن باستحقاق البيع في حق المرتهن، نازلٌ منزلة الإذن المقيد بالبيع في حق المرتهن، فإذا قال: "بعه"، فكأنه قال: بعه لنفسك. هذا إحدى العلتين.(6/177)
والعلة الأخرى أن المرتهن متهم في ترك النظر؛ فإنه يبغي الوصولَ إلى حق نفسه، فقد يستعجل ذلك، فلا يبالي بترك النظر للرّاهنِ، وليس كالوكيل المطلق؛ فإنه لا حقّ له في البيع، فيبيع لغرض الموكِّل طالباً مصلحته.
ولو قال من عليه الدين لمستحق الدين: "بع هذا الثوب"، ولم يكن مرهوناً، "وخذ حقك من ثمنه". أمّا البيع، فصحيح؛ فإن بيع ذلك الثوب [ليس] (1) مستحقاً له، فهو فيه كسائر الغرماء. وبيعه لا يقع إلا بحكم الوكالة.
ثم فَرَّع الأصحاب على العلتين المذكورتين في توجيه أحد الوجهين، فقالوا: إن كان الدين مؤجّلاً، فقال الراهن للمرتهن: " بعه "، فهذا يخرّج على المعنيين؛ فإن منعنا البيع عند حلول الحق لكون البيع مستحقاً على التحقيق الذي مضى، فهذا المعنى مفقود قبل حلول الأجل؛ فإن البيع غيرُ مستَحق للمرتهن، والدليل عليه أن المرتهن لو قال للراهن قبل حلول الأجل: " بعه "، نفذ البيع، وبطل حق المرتهن، كما مضى تفصيله. هذا إن عللنا بالاستحقاق.
وإن عللنا بكون المرتهن متَّهماً؛ من جهة استعجال الحق، فهذا المعنى قبل الحلول مفقود أيضاًً؛ فإنه إنما يبيعه بإذنٍ مُطلقٍ، (2 والبيع بماذنٍ مطلق 2) قبل حلول الأجل يفك الرهنَ.
وإن قال قبل حلول الأجل: "بعه واستوفِ حقك"، على التفاصيل المقدّمة، فتتحقق التهمة، ويخرج وجهان؛ فإن عللنا بالاستحقاق، فلا استحقاق. وإن عللناه بالتهمة، فهي قائمة.
وإن قدَّر الراهن ثمناً للمرتهن، فقال: " بعه بكذا "، فإذا باع بذلك المقدار، فقد زالت التهمة.
فإن عللنا فساد البيع بالتهمة، صح. وإن عللنا بالاستحقاق، لم يصح.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) ما بين القوسين ساقط من (ص) ، (ت 2) .(6/178)
فإن قيل: ما وجه التعلّق بالتهمة، وثمن المثل معلوم، فينبغي أن نقول على اعتبار التهمة: إن باع بثمن المثل، صح. وإن باع بأقل منه، لم ينفذ؟
قلنا: وراء ثمن المثل تهمة؛ فإن الشيء قد يطلب بأكثر من ثمن مثله، فيبيعه المتهم بثمن المثل. وسر هذا يأتي في كتاب الوكالة، إن شاء الله تعالى.
هذا بيان الوجهين وتفريعهما.
ثم لفظ الشافعي دليل على أن البيع بالإذن المُطلق باطل من المرتهن عند حلول الأجل؛ فإنه قال في صدر الفصل: "لو شرط المرتهن إن حل الحقُّ أن يبيعه، لم يجز أن يبيع بنفسه (1) "، فظاهر النص منعُ البيع عند إطلاق الإذن.
ومن قال بالوجه الثاني، وهو القياس، أوّل النص، وقال: قوله: " لم يجز أن يبيعه لنفسه " معناه لم يجز أن يبيعه من نفسه؛ فإنَّ تولِّي طرفي العقد لا يسوغ من الوكيل.
3643- ومما يتفرع على ما ذكرناه أن الراهن لو أذن للمرتهن في البيع مطلقاً عند حلول الحق، فباعه، والراهن حاضر، فمن راعى التهمة، نفذ العقدَ، ومن راعى الاستحقاق، لم يفصل بين البيع في الحضرة وبين البيع في المغيب؛ لجريان الاستحقاق في الموضعين. ولفظ الشافعي في صدر الفصل يدل على صحة البيع بحضرة الراهن؛ فإنه قال: " لم يجز أن يبيع بنفسه إلا بأن يحضره ربُّ الرهن ".
ومن منع البيع مع حضوره، وسلك مسلك الاستحقاق، أوّل النص، وقال: فيه إضمار كلامٍ، والتقدير: لم يجز أن يبيعه المرتهن إلا أن يحضره الراهن فيبيعه (2) .
__________
(1) اعتمد الإمام هنا وفي أول الفصل رواية (الباء) : " بنفسه "، وبها جاءت النسخ الثلاث. ثم عند حكاية الوجه القائل بتأويل نص الشافعي -في الأسطر التالية- اعتمد رواية (اللام) : " لنفسه " فهي التي ينساغ التأويل عليها.
وقد أشرنا في تعليقنا أول الفصل أن المختصر المطبوع بأيدينا اعتمد رواية (اللام) : (لنفسه) .
(2) أي فيبيعه الراهن.(6/179)
وهذا على التحقيق استثناء من غير الجنس كما يعرفه ذو الحظ من الأصول.
وبنى بعض أصحابنا الوجهين في الصحة والفساد حيث تتطرق التهمة على وجهين، سيأتي ذكرهما في الوكالة، إن شاء الله تعالى.
وذلك إذا وكل الرجل وكيلاً ببيع ماله، فباعه الوكيل من أبيه أو ابنه، ففي صحة بيعه وجهان، وسببهما تمكن التهمة من الوكيل في بيعه من أبيه أو ابنه.
هذا كله في إذن الراهن في البيع، وترديد القول في إطلاقه وتقييده.
3644- ومن بقية الكلام في الفصل أَنَّ الراهن عند حلول الحق لو أراد أن يستقلّ ببيع المرهون، وصرف ثمنه إلى المرتهن، لم يكن له ذلك أبداً، فإن طابقه المرتهن، فذاك، وإلا لا خلاص له إلا بأن يرفع الأمر إلى القاضي، ثم القاضي يقول للمرتهن: ائذن في بيعه، وخذ حقك، كما مضى، أو أبرئه عن حقك.
ولو سلطنا الراهن على الاستقلال بالبيع، لبطل أثر التوثق، وحبسُ المرتهن، ومنعُه من التصرف. ولو أراد المرتهن أن يبيع الرهن بنفسه، فإن أمكنه مراجعةَ الراهن، واستيفاءَ الحق منه، فليس له أن يستقل بالبيع. وإن غاب الراهن، أو جحد، ولا بينة، وتعذر استيفاء الحق منه، فقد قطع الأصحابُ بتنزيل المرهون، والحالة هذه منزلَة شيء يظفر به مستحِق الدين من مال من عليه الدين. وفيه تفصيلٌ واختلافُ قول سيأتي في كتاب الدعاوى، إن شاء الله تعالى. فإن قيل: فلا أثر للرهن إذاً، إذا كان لا يسلطه على البيع قولاً واحداً.
قلنا: أثره يبين في زحمة الديون وضيق المال؛ فإن ذلك إذا وقع قُدِّم المرتهن بالرهن، وإن لم يكن الرهن، وكان قد ظفر بشيء من ماله، وهو تحت يده، استرددناه منه، ورددناه في جملة الأمتعة، وتركناهم يتضاربون على أقدار الديون.
وقد نجز الفصل بما فيه.(6/180)
فصل
قال: " ولو كان الشرط للعَدْلِ، جاز بيعُه ما لم يفسخا، أو أحدهما وكالته ... إلى آخره " (1) .
3645- إذا حل الحق، فقال الراهن أحضر الرهنَ، وأنا أؤدي دينك من مالي، لم يلزم المرتهن أن يُحضره. ولو رفع الأمر إلى مجلس القاضي، والتمس منه أن يُلزم المرتهن إحضارَ الرّهن، حتى يقعَ قضاءُ الدين واستردادُ الرهن بمرأىً من القاضي، لم يُلزم القاضي المرتهن ذلك، وقال: حقه في الوثيقة قائم حتى يؤدَّى دينُه، ثم إن أدّاه فليس على المرتهن إحضارُ الرهن؛ فإن الرهن أمانة وليس على المؤتمن ردُّ الأمانة.
نعم، لا يُمنع صاحبُ الأمانة من أَخذها. ولو أراد الراهنُ بيعَ المرهون وأداءَ الدين من غير ثمنه، لم يكن له ذلك. كما تقدّم.
ولو قال للقاضي: أريد أن أؤدي حقَّه من ثمن الرهن، فليس للمرتهن أن يُلزم الراهن تحصيلَ الدين من جهةٍ أخرى، ولا فرق بين أن يكون قادراً على أداء الدين من جهةٍ أخرى وبين أن يكون عاجزاً، كما قدمناه من منع البيع فيه، إذا كان يزعم أنه يؤدي الدين من غير ثمن الرهن.
3646- ومما يليق بتمام البيان في ذلك: أن البيع لو كان لا يتأتى إلا بإحضار الرهن، فلا يكلّف المرتهنُ إحضارَه؛ إذ قد يكون عليه في ذلك كُلْفة أو مؤنة، وعلى الراهن إذا أراد قضاء الدين من ثمن الرهن أن يتكلف إحضارَه، ويبذل مُؤنة إن مست الحاجةُ إلى بذلها، ثم قد لا يثق المرتهن بيده، فلا يسلمه إليه، ولا تنفصل الخصومة إلا بالقاضي، فإنه يبعث من يعتمده، حتى يكون هو المُحضِر. وإن مست الحاجةُ إلى مؤنةٍ، بذلها الراهن.
3647- ثم نظم الشافعي فصولاً في تعديل الرهن على يد عدلٍ، ومزج بها جملاً من أحكام الوكالات، وقضايا الأمانات. ولو أُخرت إلى مواضعها، لتعطلت فصولُ
__________
(1) ر. المختصر: 2/214.(6/181)
الكتاب؛ فلا وجه إلا ذكرها بما يتعلق بها على الاستقصاء.
فإذا وقع التراضي على تعديل الرهن على يد عدلٍ، جاز ذلك، وكانت يدُ العدل نائبةً عن يد المرتهن، ولا شركة في اليد للراهن؛ فإن حق القبض للمرتهن.
ولكن لو أراد المرتهن أن يستردَّ الرهن من العدلِ؛ صائراً إلى أن الحق في القبض لي، لم يكن له ذلك؛ من جهة أن الراهن قد لا يثق بالمرتهن؛ وإنما يقع التعديل لهذه الحالة؛ فالراهن وإن لم يكن له حق في القبض، فله حق رعاية ملكه، وقد رأى التعديل وجهاًً في الرعاية.
ثم إن أذن الراهنُ للعدل في بيع الرهن عند محِل الحق، وصرفِه إلى المرتهن، لم ينفذ بيعُه دون إذن المرتهن؛ فإن بيع الراهن لا ينفذ إلا على التفصيل المقدّم. فكيف ينفذ بيع وكيله؟
ولو وكل الراهنُ العدلَ بالبيع ورضي بالبيع المرتهنُ، فينفذ بيعُه إذا داما على الرضا.
ولو عزله الراهن، ارتفعت الوكالة بالبيع، فإن أراد الراهن أن يبيع العدلُ، جدد توكيلاً.
وإن لم يعزله الراهن، ولكن قال المرتهن: "لا تبعه"، بعد أن رضي، لم يبع؛ فإن إذنه معتبر في البيع، وإذا اعتبر إذنه ابتداءً، اعتبر استمراره عليه. وإذا رجع، بطل إذنه.
ثم هل يقال: تبطل الوكالة أم لا؟ قال المحققون: الوكالة قائمة؛ فإن العدل في البيع وكيلُ الراهن، وليس وكيلُ الراهن وكيلَ المرتهن.
نعم. إذا رجع المرتهن عن الإذن، انخرم شرطٌ في نفوذ تصرف الوكيل، فإذا أعاد الإذنَ، فالوكالة الآن على شرطها، والتصرف نافذ.
وذهب بعض الضعفة إلى أن رجوع المرتهن عن الإذن، يوجب رفع الوكالة، فعلى هذا إذا عاد فأذن، فلا بد من توكيلٍ جديدٍ من الراهنِ. وهذا ضعيف غيرُ معتد به.(6/182)
3648- ومما يتعلق بهذا الفصل أن الراهن والمرتهن لو أذنا للعدل في بيع الرهن عند محلِ الحق، واستمرّا على الإذن، فهل يستبد العدل بالبيع، دون مراجعة الراهن والمرتهن؟ أم كيف السبيل فيه؟ ذكر العراقيون وجهين في تعيُّن مراجعة الراهن: أصحهما - أن المراجعة لا تجب. ووجهه بيّن. والثاني - أنها واجبةٌ؛ فقد يبدو له أن يستبقي الرهنَ، ويؤدي الدين من سائر ماله.
وهذا يعتضد بأمرٍ يتعلق بالتصرف، وهو أن الاستنابات قِبَل الحاجات تجري في العادات، ثم إذا حقت الحاجة، فالعادة مطردةٌ بالمراجعة، فحُمل المطلقُ على هذا.
وهذا ضعيف، والأصل الاستمرار على الإذن. فإن أراد الراهن رفعه، عزله.
ولا خلاف أن المرتهن لا يراجع؛ فإن غرضه توفيةُ الحق، وليس له في الرهن حق ملكٍ، أما الراهن، فقد يستبقي الملكَ، ويؤدي من موضعٍ آخر. وهذا ليس خالياً عن الاحتمال، إن صح ذلك الوجه البعيد.
فصل
قال: " ولو باع بما يتغابن الناسُ بمثله، فلم يفارقه حتى جاء من يزيده، قَبِلَ الزيادة ... إلى آخره " (1) .
3649- هذا من فصول الوكالة، فنفرضه في العَدْل (2 وهو مُطّردٌ في كل وكيل.
فإذا وكّل الراهنُ العدل 2) ببيع الرهن، ورضي المرتهن، والتوكيل مطلق، فالعدل مأخوذ في إطلاق التوكيل برعاية ثلاث خِلال: أحدها - ألا يبيع بغبن. وسيأتي تفصيل الغبن. والخصلةُ الأخرى - ألا يبيع إلا بنقد. والثالثة - ألا يبيع نسيئة.
فإن باع بثمن المثل، وكان مع المشتري في مجلس العقد، فأشرف عليهما من يزيد في الثمن. فنقول: أولاً إذا كانت السلعة تطلب بأكثر من ثمن مثلها، فليس للوكيل أن
__________
(1) ر. المختصر: 2/214.
(2) ما بين القوسين ساقط من (ص) ، (ت 2) .(6/183)
يبيعها ب ثمن المثل؛ وهذه غبينة (1) بين أرباب المعاملات.
3650- فإذا تمهد هذا، قلنا: إذا جاء من يزيده، فظاهر النص يشير إلى أنه يبيع تلك السلعة ممن يزيد في الثمن. فإذا قَبِلَ (2) الزائدَ، ترتَّب عليه تحصيلُ الزيادة، وانفساخُ البيع الأول. وهذا قد استقصيناه في أول كتاب البيع. ولا بد من تجديد العهد به. فنقول:
من باع سلعة، ثم باعها في زمان الخيار، أو مكان الخيار، ففي هذا البيع أوجه: أحدها - أنه ينفذ. ثم من ضرورة نفوذه انفساخ العقد الأول.
والثاني - أنه لا ينفذ، ولا ينفسخ به العقد الأول. والثالث - لا ينفذ، وينفسخ به العقد الأول. وقد ذكرنا الأوجه وفرعناها.
فإن وقع التفريع على نفوذ البيع الثاني، وانفساخ الأول، فالوجه أن يبيع؛ فإنه إن قبل من زاد، حصل الغرض، وإن أبى، فالبيع الأول قائم كما كان.
3651- وحق هذه المسألة أن تُرتَّب على الوجه الذي نصفه. فيقال: إن قلنا: البيع في زمان الخيار فاسد، ولا بد من جلب الزيادة الظاهرة من هذا الذي زاد، فالذي يقتضيه مساق الكلام أن فسخ العقد الأول مستحق. وإذا كان كذلك، فلا خِيَرة في إبقاء ذلك، ولا سبيل إلى أن نقول: يلزم الوكيلَ الفسخُ، فيتيعن من مجموع ما ذكرناه أن ذلك العقد ينفسخ، وهذا معنى استحقاق الفسخ، ثم سبب الفسخ تحصيل الزيادة.
فلو حكمنا بالفسخ لمّا ظهرت الزيادة، وأردنا البيع ممن زاد، فإن وافق، وابتاع بما كان يذكر، فذاك. وإن امتنع، ولم يُتم ما وعد، فقد اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: انقطع العقد [الأول] (3) ، فليبتدىء الوكيلُ بيعاً إن فوض إليه. وهذا أوجه. وقياسه بيّن.
__________
(1) في الأصل: نقطة على النون فقط، (ت 2) بهذا الرسم بدون أي نقط، و (ص) : بهذا الرسم مع نقطة على الغين، ونقطتين أسفل ما بعدها. وترك الباقي بدون نقط.
(2) في (ص) ، (ت 2) : قيل: الزائد يترتب ... إلخ.
(3) ساقطة من الأصل.(6/184)
ومن أصحابنا من قال: إذا أبى هذا الذي زاد، تبين أن الفسخ الذي حكمنا به غيرُ نافذ، فكأنه كان فسخاً موقوفاً على هذا الوجه، وكان سببه الطمع في تحصيل الزيادة، فإذا أيسنا من تحصيلها من هذه الجهة، فالعقد قائم كما كان. وضُرب لذلك مثل (1) ، وهو أن الابن إذا بذل الطاعة لأبيه في الحج، فلم يرشحه الأب لذلك، ثم رجع الابن قبل حج الحجيج في تلك السنة، فنتبين أن ما حسبناه استطاعةً، لم يكن استطاعة، ولا يستقر الحج في ذمته.
هذا إذا حكمنا بأن الفسخ مستحَق، وبيّنا وجه الاستحقاق فيه، ثم أنهينا التفريع منتهاه في هذا الطريق.
قال الشيخ أبو محمد: إذا كان فوض البيعَ عوداً على بدء إلى هذا الوكيل، فلما بدت الزيادة، أراد أن يحصِّلها بأن يبيع من الزائد، وفرعنا على صحة البيع، ونفوذ الفسخ به، فعلى هذه الطريقة لا نحكم بأنفساخ العقد، إذا كان الوكيل سلك المسلك المستصوب. فإن امتنع منه حينئذٍ، حكمنا بالانفساخ، وعاد التفريع إلى ما ذكرناه.
3652- فامَّا إذا قلنا: لا يصح هذا الطريق، ولا بد من تقدير ارتفاع العقد الأوَّل، فلا سبيل إلى الحكم بوجوب إنشاء الفسخ كما مضى، فرجع الكلام إلى أن البيع في مكان الخيار إن صححناه، وضمّنَّاه الفسخَ، فهو وجهٌ إن أنشأه الوكيل. وإن امتنع منه، أو قلنا: لا يصح البيع، تعين الحكم بالانفساخ، ثم هو نافذٌ، أو موقوف على ما ذكرناه.
وممّا لا بد من ذكره أن الوكيل بالبيع لو باع، ثم فسخ العقد، فهل له أن يبيع مرة أخرى؟ فيه تفصيل يأتي في كتاب الوكالة.
والقدر الذي نذكره هاهنا أن الأصحاب اختلفوا في ذلك، فمنهم من قال: ليس له أن يبيع إلا بتوكيل جديد؛ فإنه لم يوكل إلا ببيع واحد. ومنهم من قال: له البيع من
__________
(1) كذا في النسخ الثلاث. فبنينا الفعل (ضرب) للمجهول.(6/185)
غير توكيل جديد؛ فإنه وُكِّل ببيع يتم ويؤدي إلى الغرض، فإذا لم يتم، وفُسخ، فهو مأمور ببيعٍ يتم على موجَب التوكيل الأول.
وسنكشف هذا في كتاب الوكالة، إن شاء الله تعالى.
فصل
قال: " وإذا بيع فثمنه من الراهن حتى يقبضه المرتهن ... إلى آخره " (1) .
قوله: " من الراهن "، أي من ضمان الراهن.
3653- مقصود هذا الفصل ذكر طرفٍ من العُهدة على الوكيل، وبيانُ قرار الضّمان، وذكرُ سببه، فنقول: للعهدة ثلاثةُ أركان في قاعدة المذهب: أحدها - في توجيه الطلب. فنقول: من اشترى بالنيابة شيئاًً لموكِّله، فهل للبائع توجيه المطالبة بالثمن على الوكيل؟ نُظر: فإن عقد العقد بلفظ السفارة، ولم يضف الشراء إلى نفسه فقال: " اشتريت لفلان "، ولم يقل: " اشتريت " مطلقاًً، فلا مطالبة على السفير.
والنكاح لما كان لا يعقد إلا بالسفارة، لم تتوجه الطلِبة على السفير القابل للزوج.
فإن أضاف الوكيل الشراءَ إلى نفسه، فقال: اشتريتُ، فإن لم يعلم البائع كونَه وكيلاً، فلا شك أنه يطالبه. وإن علم أنه وكيل واعترف به، فله مطالبة الموكِّل، لم يختلف فيه أصحابنا. وإنما اختلفوا في مطالبة سيد العبد المأذون؛ لِما ذكرناه في مسائله. وهل يطالب الوكيل؟ اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: لا مطالبةَ؛ فإنه سفير في الحقيقة، ولم يصرح بالسفارة، فأشبه ما لو صرح بها. والوجه الثاني - أنه يطالبه بالثمن، وإن علم كونَه وكيلاً؛ فإن قوله: اشتريتُ التزام، فإذا كنا نُلزم من يقول: ضمنتُ الدينَ، فلا بُعْدَ لو ألزمنا من يقول: اشتريت أو قبلتُ.
هذا ركنٌ من أركان العُهدة.
ثم إذا غرم الوكيل، فلا شك أنه يرجع على الموكِّل، ولا تفصيل في ذلك.
__________
(1) ر. المختصر: 2/214.(6/186)
بخلاف ما لو قال من عليه الدين لرجل: " اضمن عني الدينَ ". فإذا ضمنه، وغرِمه، ففي رجوعه على المضمون عنه خلافٌ إذا لم يقيد المضمونُ عنه الإذنَ في الضمان بشرط الرجوع، وهاهنا لا حاجة إلى ذلك، بل نفس عهدة العقد تقتضي الرجوع بعد الغرم إن اتفق ذلك.
3654- الركن الثاني من العهدة - تصوير خروج المبيع مستحقاً بعد قبض الثمن. فإذا باع الوكيل وسلَّم المبيعَ وتسلم الثمن، ثم خرج المبيعُ مستحقاً، فإن كان عينُ الثمن باقياً، استردَّها المشتري، وردَّ المبيع على مستحقه.
ولو تلف ذلك الثمنُ، لم يخل إما أن يتلف في يد الوكيل، وإمّا أن يتلف في يد الموكِّل.
فإن تلف في يد الوكيل من غير تفريطه، فللمشتري الرجوع عليه، ووجهه بيّن، فإنَّ دراهمه تلفت في يده، ولم يكن مؤتمناً من جهته، ثم يثبت له الرجوع إلى الموكِّل، فإنه هو الذي ورَّطه فيما انتهى إليه الأمر، لمّا أمره بالبيع وأقامه وكيل نفسه، فيضمن هذا حق الرجوع عليه، وهذا متفق عليه في عُلقة العهدة، ولا محمل له إلا تعريضه إياه لما جرى، فهو من التغرير الذي يجرّ ضماناً لا محالة. وهو بمثابة ما لو أودع الغاصب العينَ المغصوبة عند إنسانٍ، والحال مشكل على المودَع، فالطّلِبة تتوجّه عليه، لثبوت اليد في الظّاهر. ثم إنه يرجع على الغاصب المودع؛ [من جهة أنه غره لمَّا أَوْدع عنده، وإن كان التلف حصل في يد المودَع، فالقرار على الغاصب المودِع] (1) .
هذا الذي اتفق الأصحاب عليه في الوكيل، الذي نصبه الموكل في البيع والقبض، ثم ثبت الاستحقاق، وقد تلف الثمنُ المقبوض في يد الوكيل، من غير تفريطه.
وقد ذكرنا أن للمشتري مطالبةَ الوكيل بقبضه ماله، ثم له الرجوع على موكِّله لتغريره
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.(6/187)
إياه، وينتظم منه أن قرار الضمان على الموكِّل؛ فإن أراد المشتري بذلك أن يطالب الموكِّل بالثمن، وما ثبتت يده عليهِ، فلست أرى له ذلك؛ من جهة أن يده ما وصلت إلى عين مالِ المشتري، وإن كان قرار الضمان عليه؛ من جهة الوكيل إذا غرِم، فلم يوجد منه في حق المشتري إلا أنه أمر وكيله بالمعاملة، ومن أمر غيره بغصب مالٍ، لم يصر بأمره غاصباً، فأقصى ما يتخيل في ذلك أنه غرّ وكيلَه، فغرّ وكيلُه المشتري، وهذا لا يوجب انتظام سبب المطالبة بين المشتري وبين الموكِّل، وهذا ما أراه.
وكذلك يجب أن يقال: إذا عُقد النكاح على حكم الغُرور، وألزمنا المغرور قيمةَ الولد لسيد الأمة، ثم أثبتنا للمغرور الرجوع على الغار، فقد جعلنا الغارَّ محلاً لقرار الضمان. وليس يتجه أن يقال: لسيد الأمة تغريمُ الغارّ ابتداءً، وإن كان الضمان يتوصّل إليه بطريق رجوع المغرور عليه.
وليس هذا كالغاصب إذا أودع؛ فإن للمغصوب منه مطالبة من شاء منهما؛ والسبب فيه أن يد كل واحد منهما اتصل بملك المغصوب منه، فكان مطالَباً لذلك، هذا ما أقدره.
ولستُ أنفي احتمالاً يراه ناظر في تثبيت مطالبة الموكِّل في مسألتنا، والغار في بابِ الغرور، من جهة أن استناد حرية الولد إلى التغرير، لا إلى الإيلاد والإعلاق. وكذلك القول في الوكيل والموكِّل.
فهذا بيان ما أردناه، والميل إلى الأول.
وقد صرح العراقيون بأن المبيع إذا خرج مستحقاً، وقد تلف الثمن في يد الوكيل، من غير تقصيرٍ منه، فلا يرجع المشتري على الوكيل أصلاً، وإنما يرجع على الموكِّل.
وهذا تصريح منهم بأن المشتري يطالِب المغرِّر. وألفاظ المراوزة تدل على أنه لا تتوجه المطالبة على الموكّل، وإنما يطالب الوكيل، ثم إذا غرِم الوكيل، رجع على الموكّل. ونفيُهم مطالبةَ الوكيل بعيدٌ عن قياس المراوزة.
والذي تحصل من ذلك أن الضمان متعلق بالموكِّل استقراراً. والذي يظهر القطع به أن الوكيل مطالَبٌ. وفيه وجه ضعيف حكيتُه عن العراقيين، وفي توجيه(6/188)
المطالبة على الموكِّل ابتداء (1 ترددٌ. والذي ظهر من كلام المراوزة أنه لا يطالب ابتداءً 1) والذي صرح به العراقيون: أنه يطالبه المشتري ابتداءً.
3655- وكل هذا إذا تلف الثمن في يد الوكيل، ولم ينته إلى يد الموكل. فأمّا إذا انتهى إلى يد الموكِّل، فتلف في يده، فلا شك أن المشتري يوجّه المطالبةَ على الموكِّل؛ فإن يده ثبتت على ماله، وإنما التردد المتقدم فيه إذا تلف الثمن في يد الوكيل، فإذا ثبت أن الموكِّل مطالَب من جهة المشتري ابتداءً، فهل له مطالبة الوكيل؟ نُظر فيه: فإن لم يمرّ الثمنُ بيد الوكيل، فلست أرى لمطالبة الوكيل وجهاًً إذا لم تثبت له يدٌ، والعقد لم يصح، حتى يتضمن عهدةً متعلقة بمن تولى العقد؛ إذ المبيع خرج مستحقاً. وإن مرَّ الثمن بيده، وانتهى إلى يد الموكِّل، ففي مطالبة الوكيل في هذه الصورة جوابان ظاهران في طريقة المراوزة؛ (2 من جهة أن الوكيل متوسط، وقد بلغ المال منتهاه، وتلف في يد الموكِّل، والوكيل مؤتمنٌ 2) ، من جهة موكِّله، والمشتري وإن لم يوكِّله، فإنه يسلم الثمنَ إليه، ليسلّمه إلى موكِّله، فكأنه من هذا الوجه مؤتمن -من جهة المشتري- مأذون (3) له في إيصال الثمن إلى موكله.
وقيل تتعلق الطَّلِبة به؛ لأن أخذ المال كان على حكم العُهدة.
وكل ما ذكرناه فيه إذا باع العدل بتوكيل الراهن، وأذن المرتهن، ثم جرى ما وصفناه.
3656- فأمّا إذا تولى الحاكم بنفسه بيعَ الرهن عند اتصال الخصومة بمجلسه، وقبض الثمن ليوصله إلى جهته، فتلف في يده، ثم خرج المبيع مستحقاً، فقد أجمع أصحابنا على أن الحاكم لا يتعلق به طَلِبةٌ، ولا ضمان، ولا يقال: يطالَب به، ثم يرجع؛ فإن الحكام لو تعلقت بهم العهدة في العقود التي يُنشِئونها لظاهر الاستصلاح،
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2) ، (ص) .
(2) وهذا أيضاً ساقط من (ت 2) ، (ص) .
(3) عبارة (ت 2) : "من جهة كون المشتري مأذون له ... " وفي (ص) : "من جهة أن المشتري
مأذون له ... ".(6/189)
لعظم الأمرُ وكثرت المشقة، فاتفق الأصحاب على إخراج الولاة في أمثال هذه العقود عن العهد، والطّلِبةِ، والتغريمِ، ابتداء وقراراً.
وإذا كان كذلك، فلا بد من إثبات الرجوع؛ فإن حق المشتري لا يضيع، والرجوع ابتداءً على الراهن لا خلاف فيه.
فإن قيل: ليس الراهن موكّلاً في عقدٍ يُتخيّل مرجوعاً عليه، وإنما الحاكم فعل ما فعل؛ فكان يجب أن يقال: لم يصدر من الراهن عقدٌ ولا توكيل في عقد، والحاكم لا يضمن، فلا يجد المشتري مرجعاً.
قلنا: هذا لا قائل به. وسبب تضمين الراهن أنه رهن ملكَ غيره، وكل من رهن شيئاًً، فقد عرَّضه للبيع على استحقاقٍ. وهذا أبلغ من وكالة تقبل العزل على الاختيار. فالحاكم بنى بيعه على حكم رهنِه، فقد صار بالرهن إذاً مغرِّراً، كما تقدم.
وهذا يعضد توجيهَ المطالبة على الموكِّل ابتداء في المسألة الأولى؛ [فإنا لما رفعنا الحاكم من البَيْن (1) ، ووجهنا المطالبة على الراهن، فهو (2) في هذه المسألة بمنزلة الموكِّل في المسألة الأولى] (3) ونص الشافعي فيمن مات وخلف تركة مستغرقة بالدين، فباع الحاكم تركته، وتلف الثمن في يده قبل أن يصرفه إلى الديون المحيطة بالتركة، ثم خرج المبيع مستحقاً، قال الشافعي: لا عهدة على الحاكم ولا طَلِبةَ، والعهدة على الميت، وتركتِه.
فإن قيل: إن كان الراهن في المسألة التي ذكرتموها الآن مغرراً، برهنه، من حيث كان مقتضى الرهن التعريضَ للبيع. فما سبب تعليق الضمان بذمة الميت في المسألة الأخيرةِ؟
قلنا: احتواؤه على المغصوب حتى يتعلق به الدين إذا مات تسبُّبٌ منه إلى تسليط الحاكم على البيع، والسبب المضمِّن قد يقرُب، وقد يبعد.
__________
(1) البين: من الألفاظ التي استعملها الإمام في (البرهان) ، وكررها في (النهاية) وهي مفهومة من السياق. وإن لم أصل لمعنى لها في (مادتها) المعجمية.
(2) في النسختين: وهو. (وهي ضمن الفقرة الساقطة من الأصل) .
(3) سقط ما بين المعقفين من الأصل.(6/190)
3657- فهذا إذا تولى الحاكم البيعَ، وأمّا إذا نصب أميناً، فباع الأمين الرهنَ، أو عيناً من التركة بإذن الحاكم، وتلف الثمن في يد الأمين، ثم تبين الاستحقاق؛ فلأصحابنا وجهان مشهوران: أحدهما - أنه لا تتعلق الطَّلِبة بالأمين؛ من جهة أنه منصوب من مجلس الحاكم، فكان كالحاكم. وهذا ظاهر نص الشافعي.
ومن أصحابنا من علق الطَّلِبةَ بالعَدْلِ، وإن كان منصوباً من جهة الحاكم. وهذا بعيد عن النص والقياس -وإن كان مشهوراً- فليس ينقدح الفرقُ بين الحاكم وبين منصوبه؛ فإن الحكام لا يتعاطون جملة العقود بأنفسهم، وما يفوضونه إلى الأمناء أكثر مما يتعاطَوْنه. ولو تعرض الأمناء من جهتهم لغرر العُهدة، لامتنعوا عن مباشرة الأمور، ويضيق بهذا السبب الأمرُ على القضاة. فإذا حططنا الطَّلِبةَ عن الحاكم؛ صيانةً لمنصبه، وجب طردُ ذلك في أمينه.
وقد قال أئمتنا: إذا ادّعى رجل محكوم عليه أن القاضي ظلمني، وتحيَّف عليَّ في حكمه، فلا تقبل دعواه على الحاكم نفسِه، فإنا لو فتحنا هذا البابَ، لانطلقت ألسنُ الخصوم على الولاة.
وفي هذا ترتيبٌ وتفصيل، سنذكره في أدب القضاة، إن شاء الله تعالى.
3658- فحصل من مجموع ما ذكرناه مراتب: إحداها - الوكيل الذي ينصبه الحاكم. وقد مضى القول في مطالبته ورجوعه، ومطالبة موكِّله.
والمرتبة الثانية - في تصرف الحكام بأنفسهم.
والثالثة - في تصرف الأمناء المنصوبين من جهة الحكام.
وقد نجز هذا الركن من أركان العهدة.
وليعلم الناظر أن ذلك ليس من عهدة العقد؛ إذ لا عقدَ مع الاستحقاق، ولكن القول في هذا دائر على التغرير والتسبب إليه، مع ثبوت الأيدي للمتوسّطين.
3659- والركن الثالث - من العهدة يتعلق بالرد بالعيب. وليس هذا موضعه.
وسنأتي به مبسوطاً في كتاب الوكالة، إن شاء الله عزّ وجل.(6/191)
ثم قال الشافعي: إذا بيع الرهن، وخرج مستحقاً، لم تتعلق عهدة الثمن بالمرتهن أصلاً؛ إذ لم تثبت يده عليه، فإن الرهن، وإن بيع في حقه، فلم يأت من جهته تغرير، ولم تثبت يده على مال المشتري، وعينُ الرهن قد قبضها مستحقها. وقال أبو حنيفة: يتعلق العهد بالمرتهن. وقد رمز الشافعي إلى الرد عليه فقال: " وليس الذي بيع له الرهن من العهدة بسبيل " (1) .
فصل
قال: " ولو باع العدلُ (2) ، وقبض الثمن، فقال: ضاع مني، فهو مصدق ... إلى آخره " (3) .
6360- العدْل إذا وكله الراهنُ بالبيع، ورضي المرتهن، فباع وقبض الثمن، ثم قال: ضاع الثمن في يدي من. غير تقصير، فهو أمين مصدَّق، وإن اتّهم حُلِّف. وهذا لا شك فيه.
فلو ادعى العدل أنه دفع الثمن إلى المرتهن، فإن صدقه المرتهن، فذاك، وإن كذبه نُظر: فإن كذبه الراهن أيضاًً، توجه الضّمان على العدل. أمّا المرتهن، فلا شك أنه لا يقبل قول العدل عليه والقول قوله إني لم أقبض حقي، وقول العدل غير مقبول على الراهن في هذا المقام؛ من جهة أنه وإن كان أميناً في حقه، فقد ادعى تسليم المال إلى من لم يأتمنه، وقصر إذا لم يُشهد مع إمكان الجحود.
ولو قال الراهن: صدقتَ فيما ادعيتَ، وأنا أعلم أنك سلمت إلى المرتهن ما قبضت، فهل يضمن العدل والحالة هذه؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - لا يضمن لتصديق الراهن إياه. والثاني - يضمن لتقصيره في ترك الإشهاد. ولهذا نظائر ستأتي، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) نص عبارة الشافعي في المختصر: 2/214.
(2) في النسخ الثلاث: (العبد) . والتصويب من المختصر.
(3) الموضع السابق.(6/192)
ولو صدقه الراهن في التسليم، واعترف بأنه كان أشهد، ولكن مات شهوده؛ فلا ضمان.
ولو ادعى العدل أني كنتُ أشهدتُ ولكن مات شهودي، أو غابوا، وأنكر الراهن إشهاده، واعترف بتسليمه إلى المرتهن، فإن قلنا: اعترافه بتسليم الثمن إلى المرتهن كافٍ لتبرئة العدل، فلا إشكال. وإن قلنا: يضمن العدل وإن صدقه الراهنُ لتقصيره، فهل يضمن إذا ادعى الإشهاد وأنكره الراهن؟ فعلى وجهين: ذكرهما صاحب التقريب. ومُدرَك توجيههما لائح.
ولا خلاف أن الراهن لو شرط على العدل أن يُشهد على تسليمه، واعترف العدل بأنه لم يشهد، واعترف الراهن بأنه سلم إلى المرتهن، فالضمان يجبُ في هذه الصورة وجهاً واحداً؛ من جهة أنه خالف شرطَ موكله. وإن لم يكن شرط، فالمسألة على التردد في أن الاحتياط هل يُلزم العدلَ الإشهادَ.
هذا مأخذ الكلام.
فصل
قال: " ولو قال أحدهما: بع بدنانير ... إلى آخره " (1) .
3661- إذا حل الحق، فقال الراهن للعدل: بع الرهن بالدنانير، وقال الآخر: بعْ بالدراهم، فلا يبيع بواحد منهما، فإن بيع العدل ينفذ إذا صدر عن توكيل الراهن، أو رضا المرتهن، فإذا تخالفا، لم يمتثل قول واحد منهما، بل يرفع القضية إلى مجلس الحكم، ثم الحاكم يبيع، أو يأذن لمن يبيع بنقد البلد، إن رأى المصلحة فيه.
وهذا بيّن لا خفاء به.
__________
(1) ر. المختصر: 2/214.(6/193)
فصل
قال: " وإن تغيرت حال العدل ... إلى آخره " (1)
3662- إذا توافق الراهن والمرتهن على تعديل الرهن على يد عدلٍ، فإن أرادا رفعَ الرهن من يده وردَّه إلى آخر، جاز ذلك، فالحق (2) لا يعدوهما. وإن أراد الراهن أن يتحكم بإزالة يد العدل، ويرد الرهن إلى يدِ آخر، لم يكن له ذلك؛ فإن حق القبض للمرتهن، فلا يجوز التصرف في اليد دون إذن المرتهن.
ولو أراد المرتهن أن يرفع الرهن من يد ذلك العدلِ دون إذن الراهن، لم يكن له ذلك، لا شك (3) فيه.
والعدل في نفسه لا يرد الرهن على الراهن دون المرتهن، ولا يرد على المرتهن دون الراهن، فإن فعل، صار ضامناً، فإن دفعه إلى المرتهن دون إذن الراهن، ففات في يده، ضمن القيمة للراهن. وإن دفعه إلى الراهن دون المرتهن، (4 ضمن للمرتهن 4) إذا فات الرهنُ في يد الراهن. ثم ينظر: فإن كان الحق حالاًّ، فيضمن للمرتهن أقلَّ الأمرين من دَيْنه أو قيمةِ الرهن. وإن كان مؤجلاً، فعليه كمالُ القيمة، ليكون رهناً عند المرتهن.
وهذا يلتفت على أصل، وهو أن من يستحق ديناً مؤجلاً قد لا يجبره من عليه الدين على قبول حقه قبل محِلِّه، وقد مضى تفصيل ذلك في مواضع.
3663- فالغرض إذا ينكشف بذكر صورتين: إحداهما - أن يساعد الراهنُ العدلَ، فيخرَّج الأمر على ترتيب تعجيل الدين المؤجل، وتوفير المعجّل (5) . ومساعدة الراهن
__________
(1) السابق نفسه.
(2) في النسخ الثلاث: والحق.
(3) في (ص) ، (ت) : بلا شك.
(4) ما بين القوسين سقط من (ص) ، (ت 2) .
(5) في (ص) ، (ت 2) : المؤجل.(6/194)
بأن يأذن للعدل في أداء الدين، أو يؤدي الدينَ بنفسه. ويكفينا الآن التصوير في إذنه للعدل بأن يؤدي الدين. فينتظم الفرق بين الحالّ والمؤجل.
فإن كان الدين حالاً، لم يلزمه إلا أقلُّ الأمرين، كما ذكرناه، تفريعاً على أن من أدى دينه المعجل، لم يكن له أن يمتنع عن قبوله. وإن فرض في الدين المؤجل، ففي الإجبار على القبول التفصيل المذكور. فإن قلنا: لا يجبر من له دين مؤجل على قبوله، تعيّن على العدل أن يضع قيمةَ الرهن رهناً إلى حلول الدين. وإن قلنا: يجبر على قبول الدين، فالكلامُ في الدين المؤجل كالكلام في الدين الحالّ. وهذا كله إذا أذن الراهن له في أداء الدين.
فأما إذا لم يصادِف الراهنَ حتى يستأذن منه، أو لم يأذن له الراهنُ في أداء الدين، فلا يجب على المرتهن أن يقبل الدين منه، مؤجلاً كان أو حالاً. بل يقول: لستَ مأذوناً من جهة من عليه الدين، ولا أقبل تبرعك بأداء الدين. وإذا كان كذلك نُظر: فإن كان الراهن حاضراً، قاله له العدل: رددتُ عليك الرهن، وأنت المالك، فخلِّصني [بالإذن] (1) في أداء الدين، أو بأداء الدين.
وإنما [تحسن] (2) هذه المسألة إذا كان الدين أقلَّ من قيمة الرهن، وقَبْل أن تتفق مفاوضة الراهن بما ذكرناه يغرَم (3) للمرتهن قيمة الرهن، وإن كانت ألفاً، والدين دينار (4) .
ثم إذا تمكن من الراهن، ففاوضه، فقال الراهن: لست آذن لك في أداء الدين، ولست أؤديه، وكان المرتهن لا يطالب أيضاً، فهذا يؤدي إلى تعطيل مال عظيم على العدل من غير فائدة، ولكن القيمة مرهونة، والراهن مأمورٌ بتخليصها إذا كان الدين
__________
(1) في الأصل: من الإذن.
(2) في الأصل بدون نقط. والحرف الأخير بين (النون) والألف المرسومة (ياء) . والمثبت من (ت 2) ، (ص) .
(3) في (ص) ، (ت 2) : بغرم الراهن. والمعنى: يغرم العدل للمرتهن قيمة الرهن بالغةً
ما بلغت.
(4) في (ص) ، (ت 2) : ديناً.(6/195)
حالاًّ، كما يؤمر المستعير بتخليص العبد (1) لمعيره، كما سنذكر؛ فإن تغريم القيمة لغير المالك، والعين مردودة على المالك يستحيل أن تبقى على التأبد بغير نهاية، فيتعطل مال بأن يتواطأ الراهن والمرتهن.
ولو كان عين الرهن قائمة، فهي مستردة من الراهن. وإن تلفت، فضمان القيمة لتوضع رهناً متوجه على الراهن.
ولو غرم العدل للمرتهن قيمةَ الرهن، وقد سلمه إلى الراهن، فله الرجوع بما غرم على المالك الراهن.
فإن (2) فاتت العين، فإنه يقول: إنما غرمت بسبب أخذك الرهن بغير حق، فأرجع عليك. ولو كان الرَّهن قائماً في يد الراهن، لوجب رده على حكم قبض المرتهن.
وهذا بيّن.
وما ذكرناه فيه إذا أعرض المرتهن عن مخاصمة الراهن. وتشبث بالعدل.
والتفصيل ما ذكرناه.
فصل
3664- ثم ذكر الشافعي تغير حال العدل عن العدالة، وبنى عليه أنه إذا فسق، فللراهن ألا يرضى بيده، وإن رضي الراهن، فللمرتهن ألا يرضى؛ فإن الحق ثابت لهما. أما الراهن، فله طلب الاسترداد والاستبدال به؛ محافظة على [ملكه، وللمرتهن مثل ذلك محافظةً على وثيقته] (3) ، وإذا جنى العدل عمداً على الرهن، فهو منه فسوق، ولو جنى خطأً، لم يفسق، ولزمه أرش جنايته، والرهن مُقَرٌّ تحت يده، ولو كان من عدّل الرهن عنده (4) فاسقاً في الابتداء وكانا عالمين بفسقه، فأراد أحدهما أن يرفع يده عن الرهن، لم يكن له ذلك.
__________
(1) في (ص) ، (ت 2) : "الرهن لغيره لا والمسألة إشارة إلى من استعار عبداً ليرهنه. وستأتي قريباً.
(2) في (ص) ، (ت 2) : إن.
(3) ما بين المعقَفين ساقط من الأصل.
(4) في (ص) ، (ت 2) : يختص عنده.(6/196)
فإن ازداد فسوقاً إلى فسوقه المتقدم، كان ذلك بمثابة فسوق العدل. وقد سبق التفصيل فيه.
ثم ذكر الشافعي بعد ذلك أن العدل لو أراد أن يودع الرهن الكائن تحت يده عند إنسان، فكيف حكمه؟ وهذا لا اختصاص له بالرهن، وسأذكره مستقصى في كتاب الوديعة، إن شاء الله تعالى.
فصل
قال: " ولو جنى المرهون على سيده ... إلى آخره " (1) .
3665- إذا رهن الرجل عبداً وسلمه إلى المرتهن، فجنى على السيد الراهن، فلا يخلو: إما أن يجني على طرفه وإما أن يجني على نفسه. فإن جنى على الطرف، لم يخل: إما أن يكون موجباً للقصاص أو للمال، فإن كان موجباً للقصاص، فللسيد الراهن أن يقتصّ منه؛ لأن عماد القصاص الزجرُ وشفاءُ الغيظ. والحاجةُ ماسة إلى زجر العبيد عن الجناية على السادة، وشفاءُ الغليل مما يحتاج السيد إليه، فله القصاص. وإن كان يؤدي إلى إبطال حق المرتهن من الوثيقة. ومهما (2) جرى من المرهون ما يوجب القصاص، لم يندفع القصاص بسبب حقِّ الغير في المالية. وإن كانت الجناية موجبة للمال في جنسها، أو كان موجباً للقصاص، فعفا السيدُ على مال، فلا يثبت المال أصلاً؛ لأن السيد لايستوجب في ذمة عبده مالاً على الابتداء قط.
وإذا لم يثبت له حق مال في رقبة عبده، ولم يثبت القصاص، أو ثبت وسقط، فيبقى العبد مرهوناً إلى الفكاك.
هذا ما أجمع عليه الأصحابُ، ولم يحكِ أحدٌ فيه خلافاً إلا صاحبُ التقريب، فإنّه ذكر وجهاً بعيداً فقال: ذهب ابن سُريج إلى أَنَّ للسَّيد أن يبيع من العبد الجاني بقدر
__________
(1) ر. المختصر: 2/214.
(2) "ومهما": بمعنى (وإذا) .(6/197)
أرش الجناية؛ حتى ينفك الرهن في ذلك المقدار، فيثبت له هذا الحق، وإن كان لا يثبت له دين على عبده.
وهذا ضعيف جداً، حكيناه ولا نعود إليه.
هذا إذا كان تعلُّق الجناية بالطرف.
3666- فأما إذا قتل العبد المرهونُ السيدَ الراهن، فإن أراد ورثتهُ الاقتصاصَ، كان لهم ذلك. وإن لم تكن الجناية جنايةَ قصاص، أو ثبت القصاص فأسقطوه بالعفو، فلا يثبت لهم عُلقة مالية؛ فإنا إن قلنا: الدية تجب للمقتول (1) ، ثم تنتقل منه إلى وارثه، فعلى هذا لو أثبتنا الدية للسيّد، لأثبتناها للمالك. وقد ذكرنا أن ذلك محال.
وإن فرَّعنا على أن الدية تثبت ابتداءً للورثة، فهم يملكون رقبة العبدِ الجاني، في الوقت الذي يملكون فيه الدَّيْن لو أمكن ملكهم فيه. وكما لا يطرأ ثبوت الدين للسيد على ملكه، وكذلك لا يقترنان؛ فإنهما على حكم التناقض يتجاريان، فكيف فرض الأمر لم يثبت للورثة حق مالي؛ فيبقى العبد مرهوناً، كما كان، على المذهب المقطوع به.
3667- ولو جنى العبد المرهون على ابن السيد الراهن، نُظر: فإن كانت الجناية على الطرف، فللابن القصاصُ، فإن استوفاه، فذاك. وإن عفا على مالٍ، أو كانت الجناية مالية، فالعبد يباع في الأرش، ويفك الرهن.
وإن لم يتفق من الابن تحصيلُ ذلك، والمطالبه به حتى مات، وورثه أبوه الراهن، لم يُخَلِّف (2) وارثاً غيرَه، فهذا موضع تردد الأصحاب.
منهم من قال: يثبت للأب حق فك الرهن على ما تقتضيه الجناية؛ فإن المال لم يثبت له ابتداءً حتى يحكم باستحالته.
ومن أصحابنا من قال: لا يثبت حق فك الرهن.
وبنى الأئمة هذا الاختلافَ على أصل، وهو أن من استحق دين على عبداً، ثم
__________
(1) في (ص) ، (ت 2) : الدية حيث تجب تجب للمقتول، ثم تنتقل منه ...
(2) الجملة حالية.(6/198)
ملكه، فالدين الثابت قبل الملك هل يسقط بطريان الملك؟ فيه خلافٌ مشهور. فإن حكمنا بأن الدين يسقط بالملك الطارىء، قال الأصحاب: فعلى هذا لا يثبت للأب إذا ورث ابنَه حقُّ فك الرهن، وسقط بما جرى الاستحقاقُ. وإن قلنا: الدينُ لا يسقط بالملك الطارىء، فقد قال الأصحاب للأب حقُّ فكِّ الرهن في مسألتنا.
هذا ما اشتملت عليه الطرق، واتفق الأصحاب عليه، كأنهم تواصَوْا فيه، وهو في نهاية الإشكال؛ من جهة أن الملكَ في العبد مستدامٌ، والإرث إن أثبت له ملكاً أثبته جديداً على مملوكه، فكيف يكون الاستحقاق الطارىء على الملك بمثابة الملك الطارىء على الاستحقاق؟
ولكن الأصحاب قالوا: إذا ثبت دينٌ، ففي سقوطه بالملك الطارىء خلاف. فإذا ثبت الدين لغير المالك، ثم انتقل إلى المالك، فيخرّج هذا على الخلاف؛ فإن أصلَ الدين ثبت (1) .
فهذا هو المنتهى في ذلك، نقلاً وتنبيهاً.
وكان القول فيه يتعلق بأن العبد له ذمة، ولا احتكام للسيد عليه فيها. وإنما منعْنا معاملةَ السيد عبدَه القن، من جهة أنا لا نرى للعبد استمكان الخروج عما نقدّره لازماً، والرق لا نهاية له. فإذا فرض للدين ثبوت في جهة، فكأنهم على وجهٍ لا يستبعدون (2 انتقاله إلى السيد بعد ارتباطه بالذمة، كما لا يستبعدون 2) بقاء الدين إذا طرأ الملك.
وكل ما ذكرناه فيه إذا جنى المرهون على طرف ابن الراهن ثم مات بسبب آخر.
3668- فأما إذا قتل المرهونُ ابنَ الراهن، فإن كان القتل موجباً للقصاص، فقد مضى القول في القصاص، ووضح أنه لا دفع له إذا أراده مستحقُّه، وإن كان القتل خطأً، رتب الأئمة القولَ في ذلك على اختلافٍ سيأتي في الديات، في أن الدية تجب
__________
(1) كذا في النسخ الثلاث. ولعلها (ثابت) . ومن المفيد مراجعة المسألة في فتح العزيز بهامش
المجموع: 10/ 152-154، وكذلك في روضة الطالبين: 4/104.
(2) ما بين القوسين ساقط من (ص) ، (ت 2) .(6/199)
للقتيل أولاً، ثم تنتقل إلى ورثته، أم تجب ابتداءً للورثة. قالوا: إن قلنا: تجب للورثة ابتداءً، فلو أثبتناها، لأثبتناها للسَّيد الوارث ابتداءً. وهذا لا سبيل إليه، فلا يثبت له حق فك الرهن.
وإن قلنا: الدية تثبت للمقتول، ثم تنتقل إلى ورثته، فهذا في الترتيب كأرش الطرف، إذا ثبت للابن، ثم مات بسبب آخر. وقد فصَّلنا هذا.
3669- ولو جنى العبد المرهون على عبد الراهن تُصوِّرت مسائل عند ذلك:
إحداها - ألا يكون ذلك العبدُ المجنيُّ عليه مرهوناً، فحكمه حكم ما لو جنى على نفس الراهن. أمَّا القصاص، فإلى المولى، وأما المال، فلا يثبت كما مضى.
ومن المسائل أن يجني العبد المرهون على عبد آخر للراهن مرهون عند إنسان آخر، أما القصاص، فكما مضى. وإن كانت الجناية مالية، أو آل الأمر إلى المال، فقد تحقق اعتراض على حق المرتهن الذي قُتل العبد المرهون عنده، فإن كانت قيمةُ العبد القاتل مثلَ قيمة المقتول، أو أقلّ منها، بعناه، ووضعنا ثمنه رهناً بدل العبد المقتول. وإن كانت قيمة الجاني أكثر، فنبيع منه قدرَ قيمة المقتول، ونضعه رهناً، وإن كان التشقيص يتضمن تعييباً، ففي بيع بعضه إبطالُ حق المالك، وفيه أيضاًً إبطال حق المرتهن الذي جنى العبد المرهون عنده. فإذا رضي المالك، ومرتهنُ الجاني ببيع كلِّه، بعناه، وصرفنا مقدار قيمة المقتول إلى مرتهن المقتول، وجعلناه رهناً عنده، وتركنا الباقي عند مرتهن الجاني.
وإن قال مرتهن الجاني: لست أرضى ببيع الفاضل منه عن قدر القيمة، وقال المالك: لست أرضى بتنقيص ملكي بسبب التشقيص. وقد يفرض هذا على العكس بأن يرضى المالك بالتشقيص، ولا يرضى المرتهن، فالذي يدل عليه كلام الأصحابِ أنّا نرعى المصلحةَ ولا نبالي بمن يحيد عنها؛ فإن المالية هي المقصودة، فإذا اجتمع اعتبار المالية، وحقُّ الاختصاص بالغير، فالمالية أولى بالرعاية، وإذا لم يكن بد من إجابة أحدهما واستحال الجمع، فلا فرق في تقديم جانب على جانب، إلا رعاية المصلحة.(6/200)
3670- ومن تمام البيان في ذلك أن قيمة الجاني لو كانت مثلَ قيمة المقتول، وكنا نفك الرهن بسبب مرتهن المقتول، فلو قال الراهن لمرتهن المقتول: لا غرض لك في بيع هذا العبد، فاكتف برقبته، حتى أفك رهن مرتهن الجاني، وأنقلَ حقك إلى رقبته، فإن رضي بذلك مرتهنُ المقتول، جاز وفسخ الرهن في حق مرتهن الجاني، ولا مجال له في المناقشة في هذا؛ فإن حقه إذا كان يرتفع، فتعلقه باستدعاء البيع فضول.
أما مرتهن المقتول إذا قال: لست أبغي هذا العبدَ، فبعه، وضع ثمنَه رهناً، فهل يجاب إلى ذلك؟ ذكر شيخي وصاحب التقريب وجهين في هذا: أحدهما - أنه لا يباع؛ فإن حقه عاد إلى المالية، والعبد الجاني قد تعلق الأرش برقبته، فهو أقرب من قيمته. والوجه الثاني - أنه يجاب فيباع؛ فإنه يقول: كان حقي في رقبة العبد الذي قتل، فإذا قتل، فحقي في قيمته، فلا أرضى إلا بها.
ولا خلاف أنه لو أتى بعبدٍ آخر، وأراد أن يُجبر المرتهنَ على قبوله رهناً، بدل العبد المقتول، لم يُجبَر المرتهنُ على قبوله؛ فإنه ليس قيمة، ولا متعلّق قيمة والعبد الجاني قد تعلق القيمةُ برقبته.
ولم نطوّل الفصلَ بذكر القتل الواقع عمداً، مع تصوير العفو مطلقاًً، أو على مال.
وتخريجه على اختلاف الأقوال، ولكنا نذكر قولاً وجيزاً، فنقول: إذا ثبت حق القصاص للراهن على العبد المرهون، وكان قتل عبداً آخر مرهوناً عند آخر، فإن أراد الاقتصاصَ، فلا منع، وإن أراد العفو على مالٍ، ثبت المال، وتعلق به حق مرتهن المقتول. وإن عفا على غير مال، فهو في العفو على غير مالٍ كالمفلس يعفو عن قصاصٍ، ثبت له على غير مالٍ، والديون محيطةٌ والحجر مطرد، وذلك لأن الراهن محجورٌ عليه حجرَ خصوصٍ في المرهون، كما أن المفلس محجور عليه. وتفصيل هذا يأتي في كتاب الجراح، إن شاء الله تعالى.
وكل ما ذكرناه فيه إذا قتل عبد مرهون عبداً آخر لذلك الراهن، وكان مرهوناً عند رجل آخر.(6/201)
3671- فأما إذا رهن رجل عبدين عند آخر، فقتل أحد العبدين الآخر، فإن كانا مرهونين بدين واحد، فقد فات العبدُ الذي مات، والعبدُ الباقي مرتهنٌ بجميع الدين، ولا حاجةَ إلى تكلف نقل، وكنا هكذا نقول لو مات أحدهما حتف أنفه.
فأمّا إذا رهن كلَّ واحد من العبدين بدينٍ مغاير للدين الآخر. فإذا قتل أحدُ العبدين الثاني، وقال المرتهن للراهن: قرِّر الدينَ المتعلقَ برقبة القاتل، وانقل إلى رقبته الدينَ الذي كان متعلقاً برقبة العبد الذي قُتل، فلسنا نجيبه إلى ذلك. اتفق الأصحاب عليه، فليقطع الناظر إمكان ذلك عن فكره؛ والسبب فيه أنه ما لم يفك عن الرهن المتعلِّق به، لا يتصور ربطُ دين آخر به.
هذا سبيل اعتراض الجنايات على المرهون. فإذا أردنا تقريرَ الرهن الأول، ونقلَ الدين الثاني، لم يكن ذلك على مقتضى تأثير الجناية في الرهن.
فإذا ثبت هذا، نظرنا بعده، وقلنا: إن كان [الدين] (1) المتعلق بالقاتل أكثر من الدين الذي كان متعلقاً بالمقتول، فلا فائدة في نقض (2) رهن القاتل، ونقل رهن المقتول إليه، وليقع الفرض فيه إذا استوى الدينان في التأجيل والتعجيل، كذلك إذا استوى مقدار الدينين مع ما ذكرناه. فلا غرض، فإذا استدعى المرتهن النقل، لم نسعفه واعتقدناه ملتمساً شيئاًً غير مفيد.
نعم لو قال: بيعوا هذا الجاني، وضعوا قيمته رهناً؛ فإني لا آمنه، وقد يبدر منه ما بدر، والقيمة أبعد عن قبول الآفات من العبد، فهل يجاب لهذا الغرض إلى ما يريد؟ اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: نجيبه إلى مهواه؛ فإنه ذكر غرضاً صحيحاً، وقد حدث ما يوجب تغييراً على الجملة. والثاني - أنا لا نجيبه كما لو ارتهن عبداً، فبدر منه هناةٌ قرَّبته من الهلاك، فقال: بيعوه أثق بثمنه (3) ، لم نجبه إلا أن يمرض مرضاً يخافُ موته، فيلحق التفصيل بالمطعوم الذي يُسرع الفساد إليه. وقد مضى.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في (ص) ، (ت 2) : نقل.
(3) في (ت 2) : وأَبق ثمنه. وأثق بثمنه: أي اتخذ ثمنَه وثيقةً.(6/202)
فإن قلنا: لا نجيب المرتهن في مسألة الجناية، فلا كلام.
وإن قلنا: نجيبه، فنضع ثمنه إذا بعناه رهناً بالدين الذي كان متعلقاً برقبة المقتول. هكذا يقع (1) الأمر، وإن كان الغرض لا يختلف في المقدار والحلول والتأجيل، حتى لو كان الدين المتعلق بالقاتل أكثر، لم نجعل ثمنه رهناً إلا بالدين الأقل؛ فإنّ بيع العبد بسبب الجناية، مع تبقية القيمة في ذلك الرهن بعينه محال.
ولو اختلف الجنس وكان أحدهما دنانيرَ والآخر دراهم، ولكنَّ المقدارين متساويان في المالية، وكانت الدراهم بحيث لو قومت بالدنانير، لبلغت قيمتُها مبلغَ الدنانير، التي هي أحد الدينين، فليس اختلاف الجنس من اختلاف الغرض. ولو كان الدينان متفاوتين بالحلول والتأجيل، فهذا من الأغراض، ولا فرق بين أن يكون دينُ المقتول مؤجلاً أو حالاً؛ [إذ] (2) في الحال غرض ليس في المؤجل، وفي المؤجل غرض ليس في الحال؛ فإن القاتل لو كان رهناً بالحال، نقلنا (3) إلى المؤجل ليتوثق، ويستوفى الحالُّ في الحال. وإن كان القاتل رهناً بالمؤجَّل، ننقله إلى الحالّ، فيبيعه فيه. وهذا غرض ظاهر.
ومبنى المسألة على اتباع الغرض. فإن لم يكن في النقل غرض، فلا نقلَ إلا في استدعاء جواز البيع؛ فإن فيه اختلافاً ذكرته.
وإنما ينتظم ذكر الأغراض إذا فرعنا على أنه لا يجاب إلى بيع القاتل إذا لم يلُح غرضٌ غيرُ البيع.
ثم ذكرَ الشافعي إقرارَ العبد المرهون بما يوجب القصاص، وبما يوجب المال، وقد تقدم القول فيهما، وذكرنا التفصيل فيه إذا أقر بما يوجب القصاص، وقبلنا إقرارَه في العقوبة، فعفا المقَرُّ له على مالٍ.
__________
(1) ساقطة من (ص) ، (ت 2) .
(2) ساقطة من الأصل.
(3) كذا بدون ذكر المفعول (أعني المنقول) . فهو مفهوم من الكلام.(6/203)
3672- ثم قال: " فإن كان السيد أمر العبد بالجناية ... إلى آخره " (1) .
إذا رهن عبداً وأقبضه، ثم أمره بالجناية، فإن كان مميَّزاً، ولم يصدر من السيد إكراهٌ، فلا أثر لأمره، فيما يتعلق بأحكام الجناية، وحكم الجناية الصادرةِ عن أمره كحكم الجناية التي يستبدّ بها. وإن كان غير مميز ولكن كان ألِفاً لاتِّباع أمر سيده إلفَ السبُع [لمن] (2) يقوم عليه، وكان يسترسل في الجناية عند الأمر طبعاً، استرسالَ السبع عند الإشلاء (3) والإغراء، فإذا أشار السيد إلى مثل هذا العبدِ، فانطلق، وقتل إنساناً، أما السيد فحكمه حكم المكرِه على القتل، وأمّا العبد، فلا شك أنه لا يتعرض لاستحقاق عقوبة ولا تمييز له، فالعقوبة على المكلّف، وفي تعلق الأرش برقبة مثل هذا العبد وجهان مشهوران: أحدهما - أنه يتعلق برقبته بصدور عين الفعل منه.
والثاني - لا يتعلق برقبته، فإنه كالآلة المردَّدة، وكالسبع يغريه القائم عليه، ثم لا يتعلق برقبة الفهد المغرَى شيء، كما لا يتعلق بالسيف والأسلحة.
ولو أكره السيد عبدَه المختارَ على الجناية، ففي المكرَه قولان، وتفاصيل طويلة ستأتي في كتاب الجراح، إن شاء الله تعالى.
وقدر غرضنا منها أنا إن جعلنا المكرَه كالآلة، ولم نعلِّق به غرضاً، ولا عقوبة، فلا يمتنع أن نخرّج المسألةَ فيه على وجهين، في أن الأرش هل يتعلق برقبته أم لا؟ كما ذكرناه في العبد الأعجمي (4) ، ولا يبعد أن يرتب، ويجعل المكرَه أولى بأن يتعلق برقبته من قِبَل أن التكليف ليس منقطعاً عنه، وإن كان مُكرهاً على القتل، فتأثيمه من أحكام ثبوت اختياره، وليس كالعبد الأعجمي.
وحقائق هذه الفصول تأتي في الجنايات، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) ر. المختصر: 2/215.
(2) في النسخ الثلاث: " لم " والمثبت تقدير منا لا يستقيم الكلام إلا به.
(3) الأشلاء: الإغراء، يقال: أشلى الكلبَ على الصيد: أغراه به، وأطلقه عليه (معجم) .
(4) المراد العبد الذي يألف سيده إلف السبع. والذي ذكره آنفاً.(6/204)
فصل
قال: " ولو أذن له، فرهنه، فجنى، فبيع في الجناية، فأشبهُ الأمرين أنه كير ضامنٍ، وليس كالمستعير الذي منفعته مشغولة ... إلى آخره " (1) .
3673- إذا استعار رجل عبداً من مالكه ليرهنه بدين عليه، فقد أطلق الأصحاب أنه إذا رهن العبد المستعار بإذن مولاه، فالرهن جائز. ثم قالوا في حقيقة هذا الرهنِ قولان؛ أحدهما - أنه يُنحى به نحو الضمان. والثاني - أنه يُنحى به نحو العاريّة، فنبيّن القولين، ثم نوجههما، ثم نفرعّ عليهما.
أما بيانهما: فمن قال: سبيله سبيلُ الضمان، فتقديره أنه إذا أذن للمستعير أن يُلزم رقبةَ العبد المستعار مالاً، وسيد العبد وإن كان بريئاً عن دين المستعير، فلو ضمنه، لصار ملتزماً ماله. فهذا في حكم ضمانٍ في عين العبد، ومالكُ العبد متبرع به، تبرّعَ الضامنين بإنشاء الضّمان.
ومن قال: يجري مجرى العارية، فمعناه أن المستعير ينتفع بمنافع المستعار، فكأنه جعل التوثق برقبته انتفاعاً به، فهذا معنى جريانه مجرى العواري.
3674- توجيه القولين: من نزله منزلة الضمان، فوجهه أن المالك بريء عن دين المستعير، وإذا ثبت الرهنُ وانبرم بالقبض، فموجبه اللزوم، ولا وجهَ للزوم الدين في حق البريء عنه إلا الضّمان، غيرَ أن المالك يتصرف في ذمته، ويتصرف في أعيان ملكه، ثم ملك أن يُلزم ذمته البريئة دينَ الغير بطريق الضّمانِ، فيملك أن يُلزم رقبةَ ماله دينَ الغير متبرعاً، وهو في الوجهين متصرِّفٌ في محل تمكنه ومِلكه، غيرَ أنه إن ضمن، فلا تعلق للمضمون بماله، وإذا علق الدينَ بماله، فلا تعلّق له بذمته.
ومن قال: يُنحى به نحو العارية، فوجهه أن الضمان محلُّه الذمة، فلا يتعلق الملتزَم بعينٍ قط، وهذا الحق يتعلق بالعين، وراهنه مستعيرٌ، فالرهن عاريةٌ في جهة مخصوصة.
__________
(1) ر. المختصر: 2/215.(6/205)
ونصُّ الشافعي مردَّدٌ بين القولين، فإنه قال: " فأشبه الأمرين "، فكان هذا ترديداً. ثم قال: " وليس هذا كالمستعير "، ففي نصه تردد، وصغوُه إلى قول الضمان.
أمّا التفريع، فقد اختلفت الطرق، وتباينت المسالك. والسبب فيه ميلُ هذا الأصل عن قياس القواعد، وبعده عن الأفهام، فلا يكاد يحيط بأطراف المسألة إلا فقيه موفق.
3675- فأول ما نصدّر الكلامَ به بعد ذلك أن العراقيين حَكَوْا عن ابن سريج أنه قال: إن جعلنا الرهن مشبهاً بالضّمان، فهو صحيح ثابت. وإن قلنا: يُنحَى به نحو العواري، فالرهن غير صحيح؛ فإن من حُكم الرهن أن يلزم بالقبض، والعارية لا تلزم. فلا وجه لجمع حكميهما النقيضين. ولكن كأن المعير وعد المستعير أن يرخص له في بيع المستعار، وصرفِ ثمنه إلى دينه، وليس بينهما إلا موعد ورجاء. فإن وفى فحسن، وإن أخلف، فله ذلك.
وهذا قريب في القياس بعيد في الحكاية. وسيكون لنا في أثناء الفصل إلى هذا عودةٌ مقرونة بتنبيه. فليقع التفريع على صحة الرهن. فالتفاريع نخرّجها على القولين، فنذكر من قضايا الفصل أحكاماً، ونفرعّ كل حكم على القولين، وإذا نجزت، تعدَّينا إلى حكمٍ آخر، حتى نأتي على أطراف المسألة.
3676- فالذي أرى تقديمه القولُ في لزوم هذا الرهن. فإن فرَّعنا على قول العارية، فالذي ذكره القاضي أن للمعير أن يرجع عن إذنه قبل جريان الرهن، وله أن يفسخ الرهن بعد جريانه، وقبل اتصاله بالقبض، فإذا اتصل بالقبض، لم يملك المعيرُ فسخَ الرهن، والرجوعَ في العارية؛ فإنه لو ملك ذلك، لم يكن لهذا الرهن معنى، ولم تحصل به الثقة.
ومن دقيق ما ينبغي أن يتأمله الناظر في هذه التفاريع الفرقُ بين المستعير وبين
المرتهن، فالعارية متمحضة على قول العارية، في حق المستعير، فأما المرتهن، فليس مستعيراً وإذا لم يكن مستعيراً، وجب أن تثبت له خاصية الرهن، وهي وثيقة،(6/206)
ولا وثيقة من غير ثقة، ولا ثقة مع إمكان الرجوع، ورب عارية تُفضي إلى اللزوم؛ فإن من استعار بقعةً ليدفن فيها ميتاً، فدفن، لم يجز نبشه، إلى غير ذلك من نظائرَ ستأتي إن شاء الله تعالى.
وقطع صاحب التقريب والشيخ أبو محمد، والأثبات من أصحاب القفال أن الرهن لا ينتهي إلى اللزوم على قول العارية؛ والمعير متى شاء رجع، واستردّ، وإن اتصل الرهن بالقبض.
وذكر صاحب التقريب وجهين في صورةٍ: وهي أنه لو كان الدين مؤجلاً، قال: يجوز له أن يرجع بعد حلول الأجل. وهل له أن يرجع قبل حلول الأجل؟ فيه وجهان: أحدهما - يجوز، كما لو كان حالاً، [إذ] (1) لم تلزم العارية.
والثاني - يجوز؛ لأنه أقَّت إذنه، ورُبط به شيء فصار كما لو أعار للغراس إلى مدة.
هذا بيان اختلاف الطرق على قول العارية.
3677- فأما إذا فرّعنا على قول الضمان، فإذا اتصل الرهنُ بالقبض، لزم على هذا القول؛ ولم يملك المعير الانفراد بالرجوع. وهذا على هذا القول متفق عليه بين الأصحاب.
ولو أراد المعير الرجوعَ بعد الرهن، وقبل القبض، مَلَك. فإن قيل: لم كان كذلك؟ وهلا ثبت الضمان لازماً في حق المعير بنفس عقد الرهن؟ قلنا: لا شك أن المستعير يتخير قبل الإقباض في فسخ الرهن، فإذا لم يلزم الرهن في حقه، وعليه الدين، فكيف يلزم في حق المعير. والتحقيق فيه أن الرهن إذا تم، حل محلَّ الضمان، ولا يتم إلا إذا اتصل بقبضٍ.
والذي يُظهر سرَّ هذا الفصل في هذا المقام أن الذين صاروا إلى أن الرهن لا ينتهي إلى اللزوم على قول العارية ما نراهم يُثبتون من الرهن إلا اسماً ولقباً. وعندي أن مذهبهم موافقٌ لما حكاه العراقيون عن ابن سريج؛ فإن الرهن إذا كان لا يلزم،
__________
(1) في الأصل: إذا.(6/207)
ولا يملك الراهنُ المستعيرُ بيعَ الرهن في دينه كما سنذكره، فلا أثر للحكم بصحة الرهن، ويؤول القول فيه إلى وعد مجرد.
3678- ومما نفرعه أنا إذا قلنا: هذا عارية، وحل الحق أو وَقع الرهن بدَيْنٍ حالٍّ أوّلاً، فلو أراد المستعير بيعَه وصرْفَ الثمن إلى دينه، من غير مراجعةِ مالك العين، لم يجد إليه سبيلاً، فلا يبيعه إلا بإذن مجدد، صرح بهذا معظم الأصحاب. ورمز به آخرون.
وإن فرعنا على قول الضمان، فلا يملك المستعير الانفراد بالبيع أيضاًً ما وجد اقتداراً على أداء الدين من ماله، فإن أفلس، ولم يجد ما يؤدي به دينَه، فيباع المرهون في دينه وإن سَخِط المعير.
فانتظم من هذا أنا إذا فرّعنا على قول العارية، فلا سبيل إلى البيع في اليسار والإعسار إلا بذن مجدد، ونفسُ الإذن في الرهن لا يكون إذناً في البيع. وإن فرَّعنا على قول الضمان، لم يجز البيع إلا عند العجز عن الأداء. فإذا تحقق، لم نرعَ رضا المالك المعير. وما ذكره من التفريع على قول العارية يؤكد تخريجَ ابن سريج، ويوهي الحكمَ بصحة الرهن، فليتنبه الناظر لما يمرّ به.
وقياسُ طريق القاضي إذا حكم بلزوم الرهن على قول العارية أن يجوز بيعُ الرهن عند الإعسار من غير مراجعة، كما يجوز ذلك على قول الضمان. هذا قياسه.
ولكن لم يتعرض له صريحاً.
3679- وممّا نفرعه القولُ في أن المعير هل يجبر المستعير على فك الرهن؟ أما من قال: لا يلزم الرهن على قول العارية، فلا فائدة لهذا، والمعيرُ مستبد (1) بالرجوع متى شاء.
وإن ألزمنا الرهن على قول الضمان، اتجه إجبار المعير المستعيرَ على فك الرهن.
[قال القاضي: إن كان الدين حالاًّ، ملك المعير إجبار المستعير على فك الرهن] (2) ،
__________
(1) في (ص) : مستند.
(2) ساقط من الأصل.(6/208)
سواء قلنا: إنه عارية، أو ضمان وليؤدِّ الدين من ماله. ولا شك أن هذا في حالة يساره. وإن كان الدين مؤجلاً، قال: خرج الإجبار على الفك على القولين: فإن قلنا: الرهن عارية، ملك إجبارَ المستعير على الفك، فأثر العاريةِ عند القاضي يظهر في الدين المؤجل، وكأنه جعل الإجبار على الفك من آثار العواري.
وإن قلنا: الرهن ضمان، فلا يملك إجبارَ المستعير على الفك، كما لو ضمن ديناً مؤجلاً؛ فإنه لم يملك إجبارَ الأصيل المضمون عنه على تبرئة ذمته بأداء ما عليه من الدين.
ولو كان الدين حالاًّ، فقد نقول: يملك الضامن بإذن المضمون له إجبارَ المضمون عنه على أداء ما عليه حتى يبرأ الضامن.
فإن قيل: أليس ذلك مختلَفاً فيه؟ قلنا: نعم اختلف الأصحاب في أن من ضمن ديناً بإذن من عليه الدين، فهل يملك إجبارَه على أداء ما عليه؟ فإن يل: هلاَّ خرجتم الرهن في قول الضمان على هذا الخلاف، حتى تحكموا بأن إجبارَ المستعير على فك الرهن والدين يخرج على وجهين؟ قلنا: بين المسألتين فرق؛ وذلك أن الضامن قبل أن يغرَم ليس عليه بأس إلا تعلق الدين بذمته، وليس كذلك ما نحن فيه؛ فإن العبد المستعار مشتغل بوثيقة الرهن، فكان هذا شبيهاً بأداء (1) الضامن ما ضمنه، ولو أداه يرجع به على المضمون عنه إذا كان الضمان مأذوناً فيه، وهذا مضمومٌ (2) إلى العلم بأن الرهن ليس ضماناًً محضاً، وهو مشوب نقصاً بالعارية (3 وكأن حقيقة الخلاف راجع إلى أن المغلّبَ حكم الضمان أو حكم العارية 3) ومن طلب من المشوبات مقتضى التمحّض، لم يكن على بصيرة.
3680- ومما نفرعه أن العبد المستعار المرهون لو مات في يد المرتهن، فحكم الضمان مفرّع على القولين: فإن أجرينا الرهن مجرى العارية، وجب ضمان القيمة على المستعير؛ فإن العارية مضمونة.
__________
(1) في (ص) : شبهاً بإذن الضامن، (ت 2) : سببها بإذن الضامن.
(2) في (ص) ، (ت 2) : مضمون.
(3) ما بين القوسين ساقط من (ت 2) .(6/209)
وإذا قلنا: سبيله سبيل الضمان، فلا ضمان. فإن قيل: هلا جعلتم تلف العبد على حكم المستعير، بمثابة تلف مالٍ في يد إنسانٍ قد أخذه ليصرفه إلى دينه؟ قلنا: ذلك اقتراض في الحقيقة، وما نحن فيه تعليق برقبة العبد، والأداء منه مرقوب، فإذا فرض التلف، فلا ضمان، قال القاضي: إذا ضَمَّنا المستعيرَ على قول العارية، فلا ضمان على المرتهن؛ فإنه ليس مستعيراً، وإنما المستعير هو الراهن، والمرتهن يمسكه رهناً، لا عارية. وهذا حسن منقاس.
وإذا فرع مفرع على قول ابن سريج، ففي تعليق الضمان بالمرتهن نفسِه تردّدٌ، والظاهر أن لا ضمان عليه.
3681- ومما نفرعه جنايةُ العبد المستعار، فإن حكمنا بأن الرهن ضمان، فلا يجب على المستعير ضمان أرش الجناية؛ فإن يد المستعير على هذا القول ليست يد ضمان، فما الظن على اليد المتفرعة على يده.
وإن قلنا: الرهن عارية، فيد المستعير يدُ ضمان، فهل يضمن أرشَ جناية العبد المستعار؟ فعلى وجهين مبنيّين على أن العارية تُضمن ضمان الغصوب أم لا؟ فإن قلنا: تضمن (1) ضمان الغصوب، فيضمَن أرشَ جناية العبد؛ قياساً على العبد المغصوب يجني في يد الغاصب. وإن قلنا: لا تضمن العاريةُ ضمان الغصوب، فلا يضمن المستعيرُ أرش الجناية، والأقيسُ الوجه الأول. وهذا موضع نص الشافعي في المسألة، فإنه قال: " لو أذن له، فرهنه، فجنى، فأشبه الأمرين أنه غيرُ ضامنٍ، وليس كالمستعير "، فالنص دليل على أن التفريع على قول الضمان. وفيه دليل على أن المستعير يضمن أرشَ جناية المستعار؛ فإنه قال: " وليس كالمستعير".
3682- ومما يتفرع على القولين أن العبد إذا بيع في دين المستعير إما بإذنٍ مجرّد، أو (2) بتصوير الاضطرار من المستعير فبماذا الرجوع؟ وكيف السبيل؟ لا شك أن
__________
(1) في (ت 2) : إنها لا تضمن.
(2) في (ص) ، (ت 2) : وبتصوّر الاضطرار.(6/210)
المستعير إذا صرف ثمنَ العبد إلى دينه، حيث يصح ذلك، فالسيد يرجع على المستعير، فإنْ بِيع بمقدار قيمته، فلا كلام.
وإن كانت قيمتُه ألفاً واتفق بيعه بألفٍ ومائةٍ، فمالك العبد بكم يرجع على المستعير إذا صرف الثمن كاملاً في دينه؟ هذا ينبني على القولين: فإن قلنا: الرهن ضمان، فالرجوع على المستعير بالثمن بالغاً ما بلغ، ووجهه بيّن. وإن فرعنا على قول العارية، فالرجوع على المستعير بكم؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يرجع عليه بالثمن أيضاًً، وهو قياس بيّن. والثاني - أن المعير يرجع على المستعير بالقيمة، ولا يجد مرجعاً بالمائة الزائدة عليها؛ فإن العارية سبيلُ ضمانها القيمةُ، فلا يرجع المعير إلا بها، ولا يرجع بالزائد عليها.
وهذا ضعيفٌ في القياسِ، ولا أصل لاستبداد المستعير بالزائد على القيمة، وهو من ثمن ملك المعير، ولم يجرِ ما يتضمن اختصاصَ المستعير به. وهذا الوجه على ضعفه لم يَحْكِ القاضي على قول العارية غيرَه.
وممّا يتفرع على القولين أن العبد المستعار لو كانت قيمتُه العدل مائة، فبيع بمائة إلا دينار (1) أو أكثر، ولم ينته النقصانُ إلى مبلغٍ يعد غبناً، بل كان مقداراً يتغابن الناسُ في مثله. فإذا جرى ذلك، وصرفه المستعير إلى دينه. فإن قلنا: الرهن ضمان، لم يرجع المعير على المستعير إلا بمقدار الثمن. وإن قلنا: الرهن عارية، رجع المعير بالقيمة الكاملة، وهي المائة، ولم يحط القدرَ الذي يتغابن في مثله.
3683- ومما نفرعه أنا إذا قلنا: الرهن عارية، فلا حاجة إلى إعلام القدر الذي سيقع الرهنُ به، ويكفي أن يستعير عبدَه مطلقاًً، ويستأذنَه أن يرهنه ولا يشترط أن يُبيِّن جنسَ ما يقع الرهن به، وقدرَه، ولا كونَه حالاً أو مؤجلاً.
وإن قلنا: الرهن ضمان، فلا بد من إعلام الجنس، والقدر، والتعرض لبيان
__________
(1) كذا في النسخ الثلاث (دينار) غير منصوبة، وقد سبق نظير لذلك، وأشرنا في تعليقنا إلا أنه لا وجه له إلا ما جاء بالرفع في روايةٍ للحديث الشريف: " كل أمتي معافىً إلا (المجاهرون) "..!؟(6/211)
الحلول والتأجيل، فإن الإعلام شرطٌ في صحة الضمان.
وإذا قلنا: إعلام هذه الأشياء ليس بشرط على قول العارية، فلو نصَّ المعير على شيء منها، لم يكن للمستعير أن يخالفَه، ويزيدَ، وإن كان يجوز إطلاق الإذن من غير إعلامٍ، وذلك لأنه إذا أمَرَ، وقدَّر، فيجب إيقاع أمره؛ فإنه المستند والمعتمد في الباب.
ومن ذلك أنا على قول العارية، لا نشترط أن يعيّن المعير من يرهن منه المستعار، بل يجوز إجراء الإذن فيه على الإطلاق، فلو عيّن المعيرُ شخصاً، فلا يجوز للمستعير أن يرهنه من غيره؛ لما ذكرناه من وجوب اتباع الأمر. ولو قال المستعير: [أرهنه] (1) من فلان، فكان التعيين من [جهته] (2) ، ولم يصدر من المعير اقتراحٌ فيه، ولكنه نزَّل الإذنَ على حسب التماس المستعير، فالذي يقتضيه الرأي أن من عيَّنه المستعير يتعيّن، وإن لم يعين المعيرُ بتعيينه ابتداءً؛ فإن كلام المعير مبنيّ على كلام المستعير منزّل عليه.
ولو فرعنا على قول الضمان، فعيَّن المعيرُ شخصاً، ولم يرضَ أن يرتهن غيرَه، فلا مَعْدل عنه. وإن أطلق، ولم يتعرض لتعيين المرتهن والتفريع على قول الضّمان، ووجوب الإعلام، فهل يصح الإذن على هذا الوجه مطلقاً من غير تعيين من يرتهن؟ فعلى وجهين ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - أنه لا يصح الإذنُ مع الإطلاق في ذكر المرتهن، حتى يُعيَّن. والثاني - لا حاجة إلى ذلك، والمستعير يرهنه ممن شاء.
وهذا الخلاف ينبني على تردد الأصحاب في أنا هل نشترط في صحة الضمان أن
يكون المضمون له معلوماً أمْ لا؟ ثم قال الأصحاب: لا يجوز للمستعير أن يخالف المعير فيما رسم له؛ فإن أصل أمره على اتباع الإذن، حتى لو أذن في الرهن بدراهم، لم يجز الرهن بالدنانير. [وكذلك القول في عكس هذا. ولو أذن في الرهن بالحال،
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في الأصل: جهة.(6/212)
لم يرهن بالمؤجل] (1) . وكذلك لو أذنَ في الرهن المؤجل، لم يرهن بالحال. والأغراض تختلف بالحلول والتأجيل، ولا يكاد يخفى تقريره؛ فيجب اتباع مراسم المعير المالك.
3684- ولو قال للمستعير: أذنت لك في أن ترهنه بمائةٍ، فلو رهنه بخمسين، جاز ذلك، ولا يعد النقصان في المقدار مخالفةً، بل إذا نقص، فقد زاد بالنقصان خيراً وحطَّ وبالاً وضُرّاً؛ فهو بمثابة ما لو قال مالك المتاع لوكيله: بعْ هذا العبدَ بألف، فلو باعه الوكيل بألفين، صح، ولا مرد لتلك الزيادة، والرجوع في أمثال هذا إلى العرف، ومعلوم أن هذا لا يعد مخالفة، بل يعد موافقةً. وسنذكر تحقيقَ هذا في كتاب الوكالة، إن شاء الله تعالى.
ولو قال المعير: ارهنه بألفٍ، فرهنه بألفين، فالزيادة مخالفة، ثم قال معظم الأصحاب: إذا خالف وزاد، لم يصح الرهن في مقدار الموافقة أيضاً؛ لأنه بنى صيغة العقد على مخالفة المالك، فلم يصح.
وخرّج صاحب التقريب قولاً آخر: أن الرهن يصح في المقدار الذي عينه المعير، ورضي به، والزيادة مردودة. وزعم صاحب التقريب أن هذا يُخرّج على اختلاف القولى في تفريق الصفقة؛ فإنه جمع بين ألفٍ لا إذن فيه، وبين ألفٍ مأذونٍ فيه، فإذا بطل العقد في الألف الزائد، ففي المزيد الخلافُ الذي ذكرناه.
وهذا لم يصححه المحققون، ورأَوْا القطعَ ببطلان الرهن.
ولا خلاف أن من وكل إنساناً ببيع عبد، واقتضى مطلقُ التوكيل البيعَ بثمن المثل، فلو باعه بغبنٍ، فالبيع مردود. ولا يقال: نصحح البيعَ في مقدارٍ من العبد يكون الثمن قيمة عدلٍ له، ونحذف جزءاً من العبد عن مقتضى العقد. وتقديرُ الزيادة في المبيع كتقدير الزيادة في الثمن إذا وقعت الزيادة على موجب المخالفة.
3685- ثم قال القاضي: لو جرى الرهن، واتصل بالقبض، ثم إنَّ المالك المعير
__________
(1) ساقط من الأصل.(6/213)
أعتق عبده، فنفوذ عتقه يخرّج على القولين، فإن قلنا: الرهن ضمان، فالعتق ينفذ، وإن قلنا: إنه عارية، فإعتاقه إياه بمثابة إعتاق الراهن المالك العبدَ المرهون، وفيه الأقوال المعروفة. وهذا خرّجه القاضي على طريقةٍ في الحكم بلزوم الرهن على قول العارية، ثم رأى الرهنَ على قول العارية رهناً محضاً في حق المرتهن لازماً، ورآه على قول الضمان غير متأكد في التعلق بالرقبة. ومعظم الأصحاب على مخالفته في ذلك؛ فإنهم ضعفوا الرهنَ وحكمَه على قول العارية، وألزموه وأكدوه على قول الضمان.
وما ذكره جارٍ على قياسه. ولكن في قطعه بنفوذ العتق على قولِ الضمان كلام.
والوجه عندنا تنزيلُ العبد على قول الضمان منزلة العبد الجاني الذي تعلق الأرش برقبته. وقد فصلنا القول في بيعه ورهنه.
3686- ومما يتم به بيان الفصلِ أن القاضي سئل في التفريع على قول الضمان، وقيل له: لو قال: مالك العبد: ضمنت ما لفلان عليك في رقبة عبدي هذا، فكيف حكم هذا؟ فقال: إذا فرعنا على قول الضمان، تعلّق الدين برقبة العبد، وكان بمثابة الرهن المستعار، فإن شئنا قلنا: رهن العبد المستعار ضمانٌ في رقبته، أو قلنا: الضمان في رقبته رهنٌ.
وهذا الذي ذكره حسن بالغ على الجملة، ولكن فيه تفصيل، فإذا قال مالك العبد لمستعيره: ارهنه بدينك، فقد أنابه مناب نفسه في الضمان في رقبة عبده، فاجتمع رضا المالك، وإنشاءُ الرهن، وقبولُ المرتهن. وإذا قال المالك: ضمنت ما لفلان عليك في رقبة هذا العبد، ولم يُوجَد قبولٌ من المضمون له ففي هذا تردُّدٌ.
وظاهرُ كلام القاضي أن ذلك يكفي، تفريعاً على أنه لا يشترط في الضمان رضا المضمون له.
ويجوز أن يقال: ذلك في الضمان المطلق الذي يرد على الذم، فأما ما يتعلق بالأعيان، فلا بُدّ من تقريبه من الرهون، وشرط صحتها القبولُ من المرتهن.
ويجوز أن يقال: إنما يفتقر إلى القبول إذا جرى على صيغة الرهن، فأمّا إذا وقع الضّمان مصرّحاً به، فلا حاجة إلى ذلك. وقد تختلف الشرائط باختلاف الألفاظ، وإن اتحد المقصود؛ فإن المذهب أن الإبراء لا يفتقر إلى القبول. ولو قال مستحق(6/214)
الدين لمن عليه الدين: وهبت منك الدين الذي لي عليك، فالأصح افتقارُ ذلك إلى القبول (1) .
وقد نجز الكلام في رهن المستعار على أبلغ وجه في البيان.
فصل
[قال: " والخصمُ فيما جُني على العبد سيدُه ... إلى آخره ".
3687- إذا جنى جانٍ على العبد المرهون، فقد] (2) قال الشافعي: " الخصمُ فيما جُني على العبد سيده، فإن أحب المرتهن، حصر خصومتَه، فإذا قُضي له بشيء، أخذه رهناً " (3) هذا لفظُ الشافعي. فنقول: إذا جُني على العبد المرهون جناية، نُظر فيها: فإن كان موجَبها مالٌ، فقد تضمنت الجنايةُ إتلاف مالية، وتضمنت فواتَ حق الوثيقة للمرتهن في ذلك الفائت، فافتتاحُ الخصومة للمالك؛ فإن الأصل هو الملك، وحق الرهن متفرع عليه، وإذا بدأ المالك الخصومة، لم يزاحمه المرتهن، فإذا ثبت حق الملك، ابتنى عليه حقُّ الرهن.
فإن قيل: لم لم تثبتوا للمرتهن حقَّ المخاصمة، وهو يخاصم المالك، وتدور بينهما الدعوى واليمين والرد؟ قلنا: هو كذلك، ولكن المالك في صورة الجناية أولى بالخصومة. وفي قيامه بها ثبوت حق المرتهن، فإذا كان حق المرتهن لا يتعطل، قدمنا المالك؛ حتى قال المحققون: لو امتنع المالك من الخصومة، انتهض المرتهن خصماً، وتوصل إلى ثبوت حقه، وليس هذا كما لو افترضه (4) السائل من مخاصمة المرتهن المالكَ؛ فإن تلك الخصومة لو تركها المرتهن، والراهن على إنكاره، لم يقم فيها غيرُ المرتهن مقامه، بخلاف ما نحن فيه. نعم لو ترك
__________
(1) يشير إلى أن الإبراء وقع بلفظ الهبة، فكان الأصح افتقاره إلى القبول رعاية للفظ الهبة.
(2) ما بين المعقوفين ساقط من الأصل.
(3) ر. المختصر: 2/215.
(4) في (ت 2) ، (ص) : " كما فرضه ".(6/215)
المالك الخصومة، فلا جرم نقول للمرتهن أن يخاصم حتى لا يتعطل حقه.
قال الشافعي: " ولو عفا المرتهن كان عفوه باطلاً ". وتفصيل القول في هذا أن المرتهن لو أبرأ الجاني عن أرش الجناية، فإبراؤه باطل؛ لأن الإبراء إنما يصح من مالكٍ مطلق التصرف، والمرتهن ليس مالكاً؛ فلم يصح إبراؤه.
3688- وتمام البيان في هذا الفصل ما نذكره، فنقول: أطلق المراوزة القولَ بأنّ أرش الجناية لا يتصف بكونه مرهوناً؛ فإنه دين، والديون لا تكون مرهونة، كما قدمنا ذلك في صدر الكتاب، وألحقوا مصير العين المرهونة بسبب الإتلاف ديناً في ذمة المتلِف بأنقلاب العصير خمراً، ثم رأَوْا تفصيلَ المذهب إذا قبض الدينَ، وتعيّن بالقبض، كتفصيله إذا انقلبت الخمر خلاً.
وذكر العراقيون عن بعض الأصحاب أن الدين وإن كان لا يجوز تقديره مرهوناً ابتداءً، فإذا استقر الرهن على عينٍ وجنى عليها جانٍ، فالدين اللازم بسبب الجناية على العين مرهون، وليس كالخمر؛ فإن الدين مملوكٌ، والخمر ليست مالاً، والدين مترتب على عين، حيث انتهى الكلام إليه، ومصيره إلى عين، إذا قُدِّر استيفاؤه.
هذا ما حَكوه في ذلك.
ثم قالوا: إذا قال المرتهن: عفوت عن حقي من الوثيقة، أو أسقطت حقي منها، والمسألة مفروضة فيه إذا أتلف الجاني المرهونَ، فقال المرتهن قبل استيفاء الحق من الجاني ما قال، فيسقط حقه، وإذا استوفى الدينَ (1) ، فلا حق له فيه. ولو قال المرتهن: أبرأتك عما عليك أيها الجاني، فإبراؤه لا يتضمن سقوطَ الدين، ولكن هل يتضمن سقوط حقه من الوثيقة إذا استوفى الأرش؟ ذكروا وجهين: أحدهما - أن حقه لا يسقط؛ فإنه لم يتعرض للتنصيص على إسقاطه، وإنما أسقط الدين، وليس له إسقاطه، فلو سقط حق الوثيقة، لكان مرتباً على سقوط الأصل، وإذا لم يسقط الأصل، لم يسقط ما يترتبُ عليه هذا طريقهم.
__________
(1) المعنى: إذا استوفى المالك الدينَ -ويعني به هنا الأرش الذي تعلق بذمة الجاني- من الجاني، فليس للمرتهن حق في الاستيثاق به؛ إذ أسقطه بقوله هذا.(6/216)
وكان شيخي يقول: إذا قال المرتهن: أسقطت حقي من الرهن أو أبطلت وثيقتي، وكان الرهن قائماً، فهذا فسخ منه للرهن، وللمرتهن أن يفسخ الرهن؛ فإن الرهن في جانبه جائزٌ، ولم يتعرض لصورة الدين. ونصُّ الشافعي دليل على أن المرتهن إذا أبرأ الجاني، فإبراؤه لغوٌ، وعفوه باطل، وهذا يتضمن بقاء حقه.
أما الراهن لو أبرأ الجاني عن الأرش، فقد قطع الأصحاب بإبطال إبرائه؛ لحق المرتهن؛ فإنا وإن لم نطلق القول بكون الأرش مرهوناً قبل الاستيفاء، فلسنا ننكر تأكُّد حق المرتهن فيه، فالإبراء في الدين (1) بمثابة الهبة في العين، ولو وهب الراهن العين المرهونة، لم يختلف المذهب في بُطلان هبته، وإنما تردُّدُ الأقوال في العتق والاستيلاد، كما تقدم.
ثم قال الأصحاب: لو كانت الجناية على العبد المرهون موجبةً للقَصاصِ، فللرّاهن حقُّ الاقتصاص، وقد تكرر هذا، فلو عفا الراهن على مالٍ، ثبت المال، وتعلق حق المرتهن به، وإن عفا على غير مالٍ، ترتب على موجب العمد، ونزل عفوه منزلة عفو المفلس المحجور عليه. وقد أشرنا إلى ذلك وأحلنا استقصاءه على كتاب الجراح.
فصل
قال: " وأكره أن يرهن المشركَ المصحفَ ... إلى آخره " (2)
3689- أراد بالكراهية التحريمَ. والقولُ في بيع المصحف والعبد المسلم من الكافر قد تقدّم استقصاؤه في كتاب البيع، وبينا المذهب فيه على أكمل بيان. والرهن على الجملة مرتَّب على البيع، وهو أولى بالجواز، وإذا منعنا بيع السلاح من الحربي، ففي رهنه منه وجهان، وبيعُ السلاح من الذمي ورهنُه جائز؛ مات رسول الله
__________
(1) يريد بالدين أرش الجناية، وهذا يؤكد صحة تفسيرنا في التعليق السابق.
(2) ر. المختصر: 2/215.(6/217)
صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهون عند [أبي الشحم] (1) اليهودي.
وقد نجز البابُ في (السواد) (2) وانسل عن ضبطنا في الأصول مسائلُ، ونحن نوردها فروعاً، ومنها ما أورده المشايخ، ولا اختصاص له بالرهن، ونحن نتأسى بهم.
فرع:
3690- إذا أقر المرتهن بأن العبد المرهون قد جنى، وكذبه الراهن، فالقول قول الراهن في نفي الجناية، فإذا بيع العبد في الرهن، وسُلِّم الثمن إلى المرتهن عن حقه، فجاء المقَرُّ له بالجناية، وقال للمرتهن قد أقررتَ لي بأرش الجناية، والآن قبضتَ الثمن، فسلمه لي. قال صاحب التقريب: ليس للمقَرّ له ذلك؛ فإنا إن جوزنا بيع الجاني، فهذا الثمن مسلم إلى المرتهن بحق، ولو ثبتت الجناية، لم يثبت للمجني عليه على قول جواز البيع إلا بيعُ العبد، فأمَّا التعلُّق بثمنه، فليس يثبت له، وليس كما لو قُتل العبدُ الجاني واستوفيت قيمته (3) ؛ فإن حق المجني عليه في قيمته، كحقه في رقبته، فإن القيمة تخلفُ العين؛ حتى كأنها خلافة خِلقة، ولا حاجة فيها إلى اختيار مقابلة وإثبات معاوضة، فأما ثمن البيع، فلا حظ للمجني عليه فيه إجماعاً. فإن فرض البيع بإذنه على قولنا: لا ينفذ البيع
__________
(1) في النسخ الثلاث: " أبي شحمة " وهو تصحيف صوابه ما أثبتناه من نص الحديث. وقد ورد هذا الاسم في أول كتاب الرهن مصحفاً في نسخة (هـ 2) ، (ص) ، وصواباً في نسخة (ت 2) ، وقد نبه الحافظ في التلخيص إلى هذا التصحيف، وهو قد أخذه عن ابن الملقن في البدر المنير: 6/629 حيث قال: " ووقع في نهاية إمام الحرمين في كتاب الرهن قُبيل باب الرهن والحميل بنحو ورقتين تسمية هذا اليهودي " بأبي شحمة " ا. هـ. وكان التصحيف في نسخة النهاية التي كانت بيد ابن الملقن كان في هذا الموضع دون الموضع الأول. وهذا هو السرّ في أنه أحال إلى هذا الوضع؛ فالتصحيف لم يكن في كل نسخ النهاية، ولم يكن في كل موضع.
(2) السواد. تكرر هذا اللفظ مراراً. وهو معهود في كلام الأئمة السابقين، يريدون به (الأصل) أو (المتن) . وهذا المراد هنا، فهو يعني مختصر المزني، الذي جعل هذا الكتاب بسطاً لألفاظ الشافعي وعباراته الواردة في هذا المختصر.
(3) صورته أن يرتكب العبد المرتهن جنايةً، ثم قبل أن يباع فيها يجني جانٍ على هذا العبد فيقتله، فيستوفي السيد قيمته من الجاني القاتل، فيتعلق حقُّ المجني عليه -الذي جنى عليه العبد قبل أن يُقتل- بقيمة العبد، بعد أن كان متعلقاً برقبته التي فاتت بقتله.(6/218)
دون إذنه، فهو بمثابة بيع الرهن بإذن المرتهن في حقه الحال.
هذا إن قدرنا جوازَ بيع الجاني.
وإن لم نجوز بيعَه، فالثمن الذي في يد المرتهن ملكُ مشتري العبد الجاني، ولا حظ للمجني عليه فيه، فينتظم منه أن المقَرَّ له بالجناية لا يرجع على المرتهن بسبب قبضه ثمن العبد الذي أقر المرتهن بجنايته. وهذا واضح.
فرع:
3691- ذكر صاحب التقريب في خلل الكلام مسألةً في الجنايات لا اختصاص لها بالرهن، فنسردُها على وجهها، ونقول: لو جنى رجل على بهيمة، وكانت ماخضاً (1) ، فأَجْهَضَتْ جنينَها، وكان الجنين حيَّاً لما انفصل متأثراً بالجناية، فمات على القرب. ذكر قولين فيما يلزم الجاني في هذه الصورة: أحدهما - أنه يلزمه قيمةُ الجنين حيَّاً، ولا يلزمه أكثرُ من ذلك.
القول الثاني - أنه يلزمه أكثرُ الأمرين من نقص الأم بالولادة والإجهاض، أو قيمةُ الجنين، فأيهما كان أكثر، فهو الواجب.
ثم قال صاحب التقريب: والقولان فيه إذا لم يظهر بالأم شَيْنٌ سوى الولادة، وكان للجنين لو بقي حيَّاً قيمةٌ، [فإذا مات] (2) ، فالنظر إلى الأكثر في أحد القولين.
والواجب قيمة الولد في القول الثاني.
وقد ذكر العراقيون هذين القولين على هذا الوجه.
والذي يجب الاعتناء به في المسألة فهمُ صورتها، وفيها يبينُ مثارُ القولين، فالبهيمة وهي ماخض تساوي مائة، وإذا ولدت صارت تساوي تسعين، ولم يظهر فيها نقص إلا أن الولد زايلها، فكانت مع الولد تساوي مقداراً ودونه تساوي أقلَّ منه، لمزايلة الولد، لا لعيب أحدثه الولادة، ثم انفصل الولد حياً، وعليه أثر الجناية،
__________
(1) مَخِضت المرأة، وكل حامل من باب تعب: دنت ولادتها، وأخذها الطلق، فهي ماخض (بغير هاءٍ) . (مصباح) .
(2) في الأصل: وإذا مات، وفي (ت 2) ، (ص) : " فأما إذا مات " والمثبت تصرف من المحقق.(6/219)
ومات. فلو أوجبنا قيمة الولد، وأوجبنا [ما انتقص] (1) من قيمة الماخض بسبب الولادة ومزايلة الولد، لكان ذلك تضعيفاً في الغرامة، والولد صار أصلاً بنفسه، فعسر الجمع بين الوجهين.
وتردّدَ القولُ، فقال الشافعي في قول: " أنظر إلى الولد؛ فإن تعطيله صعب، وأوجب قيمته " وقال في القول الثاني: " أُوجب الأكثرَ من نقص الأم بسبب مزايلة الولد وقيمة الولد، فأيهما كان أكثر أوجبته ". هذا بيان القولين.
3692- قال العراقيون: إذا كانت البهيمة مرهونة، وجرى ما وصفناه؛ فإن أوجبنا قيمة الولد، لم يكن ذلك رهناً، وإن أوجبناالأكثر، فقيمة الولد لم تكن رهناً أيضاًً، وإن أوجبنا ما نقص من قيمة الأم بسبب مزايلة الولد، كان ذلك رهناً.
وهذا فيه نظر، والوجه تخريجه على أَنَّ الحمل الموجود يومَ الرهن هل يدخل تحت الرهن؟ فإن قُلنا: إنه داخل، فيجب أن يكون المأخوذ من الجاني رهناً كيف كان؛ فإنا على هذا القول كنا نبيع الولدَ لو بقي في الرهن.
وإن قلنا: الرهن لا يتعلق بالجنين الموجود حالةَ الرهن، فإن أوجبنا قيمة الولد، لم يكن (2) رهناً، وإن أوجبنا نقصانَ الولادة، فالمسألة محتملة، ويظهر خلاف ما قالوه؛ فإن ذلك النقصان لم يكن إلا لمزايلة الولد، ولم تتغير صفتها، ويجوز أن يتخيل ما ذكروه بناء على أصلٍ، وهو أن الحمل لو بقي إلى البيع، لبعنا الأم حاملاً، ولصرفنا الثمن إلى الدين، إن لم يزد على مقداره، فمزايلة الولد تخرم هذا الوجه.
والأصح عندي أنه لا يكون رهناً؛ فإن المزايلة قد وقعت.
فرع:
3693- إذا دفع الراهن والمرتهن الرهن إلى عدلين وفوضا إليهما الحفظَ مطلقاًً، فلو أن أحدهما سلم الرهنَ إلى الثاني كَمَلاً، وفوض إليه الاستقلالَ بالحفظ، فهل يكون بذلك متعدياً؟
__________
(1) في الأصل: ما لا ينقص.
(2) في (ص) ، (ت 2) : كان رهناً.(6/220)
ذكر ابن سريج فيما حكاه العراقيون وجهين: أحدهما - أنه يكون متعدياً؛ فإنه لم يثبت لواحدٍ منهما الاستقلال بالحفظ، فإذا أثبت أحدُهما ذلك لصاحبه، كان على خلاف موجب الاستحفاظ.
والوجه الثاني - أنه لا يكون المسلِمُ إلى صاحبه متعدياً، وكذلك لا يكون المستقلّ متعدياً؛ فإن استحفاظهما يشعر في الظاهر بقيام كل وَاحد منهما بحق الحفظ، لو لم يكن صاحبه حاضراً؛ فإن اعتقاد اجتماعهما أبداً على الحفظ -وهو أمر دائم- بعيدٌ.
والألفاظ المطلقة تؤخذ من موجَب العرف، وليس كما لو فرضَ الوصايةَ إلى رجلين، فإن التصرفات لا يستقل بها أحدُهما دون الثاني؛ فإن الاجتماع على تصرف يقع في الأوقات ليس متعذراً، فحَمْل الأمرِ على اشتراكهما، وصدور التصرفِ عن رأيهما ليس بعيداً، بخلاف دوام الحفظ.
ثم إذا أثبتنا عند إطلاق الاستحفاظ لكل واحد منهما رتبةَ الاستقلال، فلو تنازعا،
فليس أحدُهما أولى من الثاني. فإن أمكن الاشتراك في إثبات اليد، فلا مَعْدَل عنه.
وإن عسر، وقد تنازعا، ورأى القاضي أن يقسم العين بينهما -وكانت قابلةً للقسمة- فله ذلك؛ فإنا إذا كنا نثبت لكل واحد منهما الاستقلالَ بالحفظ، فلا يمتنع بسبب النزاع أن ينفرد كل واحد منهما بحفظ البعض.
وإن قلنا: لا يثبت لكل واحد منهما رتبة الاستقلال -وهو المذهب عند المراوزة- فلا سبيل إلى قسمة العين بينهما؛ فإنا لو فعلنا ذلك، لكنا مخصصين كل واحد منهما بالانفراد في بعض العين، وهذا يخالف موجَبَ الاشتراك.
فرع:
3694- قال ابن سريج لو سلما الرهنَ إلى عدلٍ، ووكلاه ببيعه عند محِل الحق، وكانت العين من ذوات الأمثال، فأتلفه أجنبي، وغرم المثل. قال ابن سريج: يسلّم إلى العدل بحكم الاستحفاظ الأول، وإذا حل الحق، لم يبعه إلا بإذن جديد.
أما قوله: لا يبيعه إلا بإذن جديد، فصحيح. وأما قوله: يحفظه العدل من غير(6/221)
استحفاظٍ جديدٍ، فهذا لا وجهَ له أصلاً؛ فإن العين قد تبدلت، وتقييده بالمثل يشعر بأنه لا يقول ذلك في قيمة المتقومات.
وكل ذلك خبطٌ غيرُ معدودٍ من المذهب. ولعل ابنَ سريج تخيّل في الفرق بين الحفظ والبيع أمراً، وهو أن العدل إذا استحفظه الراهن والمرتهن، لم يكن لكل واحد منهما أن يعدل عنه، فكأن الحفظ صار في حكم المستحق المتعيّن في حق هذا العدل، فإذا فرض التلف والاستحقاق في الحفظ إذا تمَّ (1) ، لم يبعد أن يقوم البدل مقام التالف. والإذن في البيع ليس كذلك؛ فإن من صرفه من الراهن والمرتهن ينعزل، فليس البيع مستحقاً متعيناً في حق العدل. فهذا إن ثبت، فلا فرق فيه بين المتقوم والمثلي.
والظاهر عندي أنه لا بد من استحفاظ جديدٍ؛ لأن العين قد تبدّلت.
فرع:
3695- إذا استعار رجل عبداً من شريكين، فرهنه، ثم أدى نصف الدين على قصد أنه يفك به نصيب زيدٍ من الشريكين، فهل ينفك نصيبه؟ أم لا ينفك شيء من الرهن ما بقي من الدين شيء؟
ذكر العراقيونَ قولين، ولهذا أمثلةٌ ستأتي في الكتاب، إن شاء الله عز وجل.
فإن قلنا: لا ينفك، فلا كلام. وإن قلنا: ينفك حصته من الرهن، نُظِر: فإن كان المرتهن عالماً بحقيقة الحال، فلا خيارَ له. وإن كان جاهلاً، ولم يَدْرِ صدَرَ (2) الرهن في شركة، فهل له الخيار؟ ذكروا وجهين: أحدهما - له الخيار. وهو الذي قطع به الشيخ أبو محمد، ووجهه بيّن. والوجه الثاني - أنه لا خيار له؛ فإن الذي بدا ليس عيباً بالمرهون، والحال لا يطرد على نسق واحدٍ في الاتحاد، فلا خيار.
ولعل الأشبه في هذا أن المرتهن إن لم يعرف كونَ العين مستعاراً (3) ، تخيَّر، وإن علمه مستعاراً، فلا ضبط لمن يستعار منه.
__________
(1) في (ت 2) ، (ص) : " والاستحقاق في الحفظ دائم ".
(2) صَدَرَ: بثلاث فتحات بمعنى "صدور"، وتد تكررت إشارتنا إلى شيء من ذلك قبلاً.
(3) كذا "مستعاراً" بالتذكير. على تأويل "الرهن".(6/222)
ويجوز أن يقال: الغالبُ الاتحاد في السادة، ويبعد في الوقوع العبد المشترك إلا
في المواريث والتجاير بين الشركاء.
والوجه إثبات الخيار، كما قاله الإمام.
فرع:
3696- قال العراقيون: إذا رهن رجل جاريةً، فعلقت بمولود رقيقٍ من بعدُ، فجنى جانٍ عليها، فَأَجْهَضَت، ونقصت بسبب الإجهاض نقصاناً عائداً إلى صفتها، زائداً على مزايلة الولد، فإذا التزم الجاني بدلَ الجنين، لم يكن رهناً؛ فإن الولد طارىء، وليس للمرتهن بسبب نقصان الجارية شيء؛ فإن نقصانها يندرج تحت بدل الجنين، وبدل الجنين خارج عن الرهن، فنقصان الجارية في حق المرتهن بمثابة النقصان بآفة سماوية. وهذا حسن لطيف.
فرع:
3697- إذا قُتل العبد المرهون، فجاء إنسان، وقال: أنا قتلته. فإن صدقه الراهن والمرتهن غرّمناه القيمةَ، ووضعناها رهناً. وإن كذباه، لم يخفَ الحكم. فإن كذبه المرتهن وصدقه الراهن، غرِم القيمةَ، وفاز بها الراهن؛ فإن المرتهن أنكر حقه فيها.
وإن صدقه المرتهن، وكذبه الراهن، فتؤخذ القيمةُ وتجعل رهناً في يد المرتهن.
ثم إذا حلَّ الدينُ وقضى الراهنُ الدينَ من موضع، آخر، فترد تلك القيمة على المُقِرِّ بالجناية؛ فإن الراهن منكر لاستحقاقه.
وفي هذه المسألة وأمثالها خلافٌ، ولكنا جرينا على الأصح.
وقد نقول: نضع تلك القيمة عند الوالي، ويعتقدها مالاً ضائعاً.
فرع:
3698- قال صاحب التقريب: إذا خلّى الراهن بين المرتهن وبين الرهن المشروط في البيع، فامتنع من قبضه، فهل يجبره القاضي على قبضه؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يُجبر؛ حتى ينقطع خياره في فسخ البيع. وقد تتلف تلك العينُ المعينة قبل القبض وقد تعيب (1) .
__________
(1) عَابَ يعيب عيباً من باب سار. إذا صار ذا عيب. (المعجم والمصباح) .(6/223)
والوجه الثاني - أنه لا يجبر على القبض، ولكن، إن امتنع من القبض، أبطل القاضي خيارَه في فسخ البيع. اهـ (1) .
* * *
__________
(1) هنا انتهت نسخة (ت 2) (الجزء التاسع منها) وجاء في نهايته ما نصه: "تم الجزء العاشر بحمد الله وعونه، وحسن توفيقه، وصلى الله على محمد نبيه وعلى آله وصحبه وسلم، وشرف وكرم وعظم.
يتلوه في الجزء الحادي عشر - إن شاء الله: باب في الرهن، والحميل في البيع ".
هذا وقد أخطأ الناسخ في قوله: "تم الجزء العاشر" وإنما هو التاسع كما دُونَ على غلافه، وكما جاء على غلاف التالي أيضاًً أنه العاشر.(6/224)
باب (1) في الرَّهْن وَالحَمِيلِ (2) في البيع
ذكر الشافعي، رحمه الله في أول الباب أن الرهن أمانة، وتعلق بطرق من الحجاج، وسيأتي في ذلك باب، ثم قال: " فلو باع رجل شيئاًً على أن يرهنه به من ماله ... إلى آخره " (3) .
3699- شرط الرهن جائز في البيع، وإن كان مطلقُ العقد لا يقتضيه، ولكن لما كان من مصلحة العقد، عُدَّ شرطه (4) جائزاً، وكذلك شرط الضمان والإشهاد، فهذه الوثائق الثلاث يجوز شرطها في البيع، وذكر الشافعي لفظاً في صدر الفصل، نذكر ما فيه أولاً، ثم نخوض في مقصود الباب.
ظاهر لفظه يدل على أن البائع إذا قال: بعتك عبدي هذا بألفٍ على أن ترهنني دارَك هذه، فقال المشتري: اشتريت ورهنت، فالرهن ينعقد من غير قبول يصدر من البائع، ومقتضى كلامه دليل على إقامة شرط البائع في الرهن مقام قبوله، من غير احتياج إلى شيء آخر. وقد صار إلى هذا طوائف من أصحابنا.
والأصح الذي ارتضاه المحققون أن الرهن لا ينعقد مالم يذكر البائع بعد إيجاب المشتري الرهن قبولاً له، ولا يقع الاكتفاء بالشرط الذي يقدَّم؛ فإن الرهن عقد مفتقرٌ إلى الإيجاب والقبول، فلا بد منهما، وليس شرط الرهن بمثابة استدعائه؛ فإنا على قول صحيح نقيم استدعاءَ العقد من أحد الجانبين، مع الإيجاب من الجانب الثاني مقام
__________
(1) تستمر نسخة (ت 2) في جزئها العاشر. فتبقى النسخ ثلاثاً، كما سيظل الأصل هو نسخة (هـ2) .
(2) الحَمِيل: بفتح المهملة وكسر الميم: الكفيل (الزاهر) .
(3) ر. المختصر: 2/215.
(4) في (ت 2) : شرطاً.(6/225)
شقي العقد؛ وليس الشرط في معنى الاستدعاء؛ إذ صيغةُ الاستدعاء: أن يقول: ارهن مني دارَك هذه بألفٍ، فإذا قال: رهنتكها بالألف، كفى ذلك، على الصحيح.
ومن قال بظاهر النص، احتج بأن الرهن وإن كان عقداً قائماً، يتعلق (1) بالبيع من جهة الشرط، فيجوز أن يقوم الشرطُ فيه شِقّاً، بخلاف العقد الذي لا يكون مشروطاًً في عقد، وهذا ضعيف.
فإن قيل: كيف تُؤوّلون ظاهرَ النص؟ قلنا: ليس التعرض للإيجاب والقبول من مقاصد الفصل؛ فلم يفصله الشافعي؛ فالقبول مضمرٌ معنى، وإن لم يصرح به.
3700- ثم إنما يصح شرط الرهن إذا عُيِّن، ولا يسوغ اشتراطُ رهنٍ مطلقاًً وفاقاً، ولو شُرط رهنٌ على الجهالة، كان الشرط فاسداً. وعند ذلك يختلف القول في فساد البيع، كما سيأتي، إن شاء الله تعالى.
وكذلك إذا كان يشترط في العقد ضميناً بالثمن، فلا بد من تعيينه؛ فإن الأغراض تختلف بمراتب الضمناء.
وإذا شرط رهناً معيناً، فهل يشترط بيان من يوضع على يديه، فوجهان: أحدهما - لا بد من ذلك؛ فإن الغرض يختلف به. ومنهم من قال: لا يشترط، لأن الرهن هو الوثيقة، وهو متعين لا جهالة فيه، وظاهر النص مع الوجه الأول.
وإن فرعنا على الثاني، فإن اتفقا على يد عدلٍ أو على يد المرتهن، فذاك. وإن تنازعا، رفع الأمرُ إلى الحاكم؛ حتى يعيِّن عدلاً، ويقطع الخصومة بينهما. فإن عين رهناً، فلم يفِ المشتري برهنه، ثبت الخيار للبائع في فسخ البيع، وكذلك إذا كان عيّن كفيلا في شرطه، فامتنع ذلك الشخص من الكفالة، تخير البائع. ثم إذا ثبت الخيار في البيع، فإن فسخ فذاك، وإن أجاز، ورضي، لزم العقد، ولم يتخير المشتري. وقال مالك يتخير المشتري، وتعرَّض الشافعي للرد عليه بما لا نحتاج إلى ذكره.
__________
(1) جملة " يتعلق " في محل نصب صفة ثانية لـ" عقداً ".(6/226)
فصل
قال الشافعي: " ولو كانا جهلا الرهن والحميل، فالبيع فاسد ... إلى آخره" (1) .
3701- قد ذكرنا أن الوثائق ثلاث: الرهن، والكفيل، والشهادة، أما الرهن والكفيل، فلا بد من تعيينهما، وأما الشهادة، فلا يشترط تعيين من يتحمل الشهادة؛ وذلك أن الأغراض تختلف على الجملة باختلاف الرهون والضمناء، فأما الشهادة، فالغرض منها أن يتحمل عُدُولٌ العقدَ أو الإقرار به، وهذا لا يختلف باختلاف العدول، واتفق أصحابنا عليه، فلا يشترط إذن تعيين الشاهد.
ولكن لو عين العاقد شهوداً في شرطه، فهل يتعينون كالرهن والكفيل، فعلى وجهين: أحدهما - يتعينون كالرهن والكفيل، فإن لم يشهد المتعينُ، تخير الشارط.
والثاني - لا يتعينون، وإن عُينوا شرطاً؛ إذ لو تعينوا، لوجب شرطُ تعيينهم كالرهن والكفيل.
ثم قال الأئمة: إذا حكمنا بأنهم لا يتعينون، وألغينا شرط التعيين، فلا يفسد العقد بهذا؛ من جهة أنا أخرجنا تعيين الشهود من مقاصد العقود، وكل شرط لا يتعلق بمقصود العقد، ففساده لا يبطل العقد، كما لو قال: بعتك هذا العبد على أن يلبس الخز، وما في معناه من الشرائط اللاغية.
ثم إذا لم يتعين الشهود، فلا يبعد أن يقال: ينبغي أن يأتي المشروط عليه برجالٍ يقربون من المعينين في الصفات المقصودة في الشهادة، حتى لا يكتفي بإشهاد أقوام يظهر انحطاطهم عنهم. والعلم عند الله تعالى.
3702- ثم إذا شُرط في العقد رهن مجهول، أو كفيل من غير تعيين، فقد ذكرنا فساد الشرط. ثم إذا فسد الشرط، ففي فساد البيع قولان: أحدهما - يبطل كسائر الشروط الفاسدة. والثاني - لا يفسد البيع؛ لأن الرهن عقدٌ مبتدأ ينفصل عن البيع. وقد يتأخر
__________
(1) ر. المختصر: 2/215.(6/227)
عقدُ الرهن عن عقد البيع، فليس إذن هو صفة في البيع، فلا يفسد البيع بفساده. والصداق لما لم يتأصل ركناً في العقد، وتصور انفراد النكاح عنه، لا جرم لم يفسد النكاح بفساده.
فإن قيل: لم قطعتم بذلك في الصداق، وجعلتم المسألة على قولين في شرط الحَميل والرهن؟ قلنا: في الصداق قولٌ ضعيف أيضاًً سيأتي في موضعه، إن شاء الله تعالى؛ ثم الرَّهن إذا كان مجهولاً، صار الثمن مجهولاً؛ فإنه متعلَّق الثمن، وجهالة الثمن تُبطل العقد. وهل يرد على هذا شرط الرهن الصَّحيح؛ فإنه إذا انضم إلى الثمن، كان زيادة، وليست مضبوطة، فكأن العين مبيع بألفٍ وشيء. قلنا: إذا كان الرهن معلوماً، فليس يخفى وقعه، ثم هو كالأجل والخيارِ في أنه من مصالح العقد، فاحتمل شرطه، ولا ضرورة في شرط المجاهيل، كما ذكرناه في الأجل.
فصل
ولو قال: " رهنتك أحدَ عبديَّ ... إلى آخره " (1) .
قد ذكرنا أن هذا مجهول، وشرط الرهن المجهول فاسد.
ثم قال: " لو أصاب المرتهن بعد القبض بالرهن عيباً ... إلى آخره " (2) .
3753- إذا اختلف الراهن والمرتهن بعد قبض الرَّهن في عيبٍ كان بالرهن، فقال الراهنُ: حدث العيب في يدك، وقال المرتهن: بل كان قديماً في يدك، فالقول قول الراهن، كما قدمناه في اختلاف المتبايعين. وهذا إذا لم تكذِّب المشاهدةُ أحدهما، فلا يخفى حكمه إن كان كذلك. ثم إن كان الرهن مبتدأ غير مشروط، فلا أثر للعيب فيه؛ فإن المرتهن لو أراد أن يفسخ الرهن من غير عيب، كان له ذلك، وإنما مسائل عيوب الرهن فيه إذا كانت مشروطة في البيع، فإذا فُرض الرهن مشروطاًً في البيع، ثم اطلع المرتهن على عيبٍ قدبم به، كان له أن يفسح البيع، ولا يتأتى ذلك منه، ما لم
__________
(1) ر. المختصر: 2/215. وفيه: " أرهنك ".
(2) السابق نفسه.(6/228)
يردّ الرهنَ، ففائدة الاطلاع على عيب المرهون ردُّ البيع.
ولو قال: لست أفسخ البيع، ولكني أردّ الرهن. قيل له: لا فائدة في ردك إذاً (1) إلا فسخ الرهن، ولو لم تطلع على عيب، لكنتَ متمكناً من فسخ الرهن.
3704- ولو كان الرهن مشروطاًً في البيع، فقبضه المرتهن، وتلف في يده، ثم اطلع على عيب قديم به، فالرد بعد التلف غيرُ ممكن في المبيع والثمن، ولكن يثبت للمطلع على العيب الرجوع بأرشه عند تعذر رده. والأرش لا معنى له في الرهن؛ فإن معناه في البيع الرجوعُ بقسطٍ من العوض المقابل للمبيع الفائت، والمرهون لا عوض له حتى يُفرضَ الرجوعُ في قسطٍ منه، فإذا لم يكن الرجوع ممكناً، فهل يثبت للمطلع على العيب حقُّ فسخ البيع؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يثبت؛ فإن حق الفسخ مرتب على رد الرهن، فإذا عسر رده، ولم يمكنّا أن نثبت للعيب أرشاً، فلا وجه إلا سدُّ باب الرد وإلزامُ البيع.
والوجه الثاني - أنه يرد البيعَ ويفسخه ويقول: استحققت بالشرط رهناً سليماً، فلم يتفق الوفاء به، فكأنك لم ترهن عندي، ولو شرط (2) البائع رهنَ عبدين عيَّنَهما، فرهنَ المشتري أحدهما دون الثاني، فللبائع فسْخُ العقد بنقصان الصفة (3) ؛ من حيث إنه يؤثر في المقصود بمثابة نقصان العين.
والقائل الأول يقول: شُرط للبائع رهنٌ معين، فوفَّى المشتري به، فلم يوجد من جهته تأخير وتقصير يكون به غير موفٍ بالشرط، ثم تعذر الرَّدُّ، فَفَسْخُ عَقْده بعيد.
وليس كما لو شرط رهن عبدين، فلم يف بأحدهما. وهذا يتوجه عليه أن الرد ثبت إذا
__________
(1) في (ت 2) ، (ص) : للإذن.
(2) هذا استمرار لتوجيه الوجه الثاني القائل بأن له أن يفسخ البيع إذا اطلع على عيب قديمٍ بالمرهون، فهي ليست صورة مستقلة.
(3) في الكلام حذفٌ، والتقدير: ولو شرط البائع رهْن عبدين عيّنهما، فرهن المشتري أَحدَهما دون الثاني، فللبائع فسخ العقد، هذا لا خلاف فيه، فكذلك له فسخ العقد بنقصان الصفة عند اطلاعه على عيب قديم من حيث إنه يؤثر في المقصود تأثير نقصان العين عندما رهن أحد العبدين دون الثاني.(6/229)
كان المرهون باقياً، ولا يقال: قد وفى المشتري بما شُرِط عليه في معين.
هذا بيان الوجهين.
فصل
قال: " ولو اشترط أن يكون المبيع بعينه رهناً، فالبيع مفسوخ ... إلى آخره" (1) .
3705- إذا شرط البائع جعل المبيع رهناً بالثمن، نُفرِّع هذا على الأقوال في أن البداية في وجوب التسليم بمن؟ فإن حكمنا بأن البداية بالبائع، فشرطُ حبس المبيع بطريق الرهن يخالف هذا المقتضى، وإذا خالفه، فسد، وأفسد العقدَ. وكذلك إذا قلنا: هما يجبران على تسليم العوضين، أو قلنا: لا يجبران. ومن بدأ بتسليم العوض الذي التزمه، أجبر صاحبه على تسليم مقابله. فإذا وقع التفريع على هذين القولين، ثم جرى في العقد شرط رهن المبيع، فسد الشرط، وفسد البيع، من جهة أنه تضمَّن خروج البيع عن مقتضاه، فلا يحتمل هذا.
ومن الأصول المعتمدة في البياعات أن العقد إذا كان له مقتضى عند الإطلاق، فلا يجوز تغييره في مقتضى إطلاقه بما لا نفع فيه ولا مصلحة تتعلق بالعقد. فأما الشرط الذي يتعلق بمصلحة العقد، فلا يجوز الاسترسال في تجويزه، بل يُتَّبع فيه توقيفُ الشارع، كالخيار وما في معناه؛ فإن هذه الأشياء في المعاملات كالرخص في العبادَاتِ، فلئن ثبت الرهن بنص الكتاب والإجماع، فرهن المبيع من وجهٍ لا حاجة إليه، وهو على حالٍ مغيرٌ لمقتضى إطلاق العقد، ولا توقيف فيه، فلا سبيل إلى احتماله.
فإذا قلنا: البداية بالتسليم على المشتري، والمبيع بحق العقد محبوس بالثمن، فلو شرط البائع رهن المبيع عنده بالثمن، فهل يصح الشرط على هذا القول؟ فعلى وجهين: أحدهما - يصح؛ فإنه موافق لمقتضى العقد؛ إذ مقتضاه على هذا القول
__________
(1) ر. المختصر: 2/216.(6/230)
حبس المبيع بالثمن. والرهن يوافق هذا المعنى.
والوجه الثاني - لا يجوز الشرط، ويفسد العقد به؛ لأن المبيع إذا كان محبوساً بالثمن، فهو من ضمان البائع، والرهن لو قدر ثبوته، فمقتضاه أن يكون المرهون أمانة في يد المرتهن، فقد اختلف موجَب الحبسين، فشرطُ أحدهما مع الثاني طلب الجمع بين مختلفين.
ثم إن حكمنا بصحة الشرط ووفَّى المشتري به، فالمبيع يكون مرهوناً عند البائع مضموناً عليه بحكم العقد؛ فإن ضمان العقد لا يزول إلا بالقبض، ولا يتصور على مذهبنا مرهون يسقط الدين بتلفه إلا هذا، ولكن الثمن لا يسقط بسبب تلف الرهن من حيث كان رهناً. وإنما يسقط بتلف المبيع من حيث كان مضموناً على البائع.
3706- ثم قال الشافعي: " ولو قال للذي عليه الحق: أرهنك على أن تزيدني في الأجل ... إلى آخره " (1) . إذا قال المشتري والثمن مؤجل عليه للبائع: أزيدك رهناً، فزدني أجلاً. فنقول: الزيادة لا تلحق بالعقد؛ فلا مطمع في حصول هذا الغرض. ويُنظر إلى الرهن الذي يزيده المشتري، فإن أطلقه وما ذكر معه شرطاً، فالذي تقدم من الزيادة في الأجل لغوٌ، وهذا الرهن ثابت. وإن شرط في الرهن الزيادة في الأجل، فقد ضمّن الرهنَ شرطاً فاسداً، ففسد الرهن به.
فصل
قال: " ولو أقر أن الموضوع على يديه الرهنُ قبض الرهن ... إلى آخره ".
3707- إذا رهن الرجل عيناً، وكانا ذكراً عدلاً. ثم قال الراهن: سلّمت الرهن إلى العدل، وقبضه عن جهة الرهن، ثم استرددته منه بعد لزوم الرهن للانتفاع أو غيره من الأغراض. فقال العدل: ما قبضتُ، ثبت لزوم الرهن بقول الراهن؛ فإنه معترف على نفسه بلزوم الحق للمرتهن، فكان مؤاخذاً بإقراره. وقوله غير مقبول على
__________
(1) ر. المختصر: 2/216.(6/231)
العدل، حتى لو بيع ذلك الرهن [و] (1) خرج مستحقا، فليس لمستحقه مطالبة العدل، بناء على أن متاعه قد مر بيده؛ فإنا لم نصدق الراهن على العدل، وإنما حكمنا عليه بموجب إقراره ليثبت حق المرتهن، وهذا هين المُدرَك في أحكام الأقارير [وما] (2) يتصل يها من القضايا.
ولو قال لمن وكله بالبيع: قد بِعْتَ ما وكلتُك ببيعه من فلان، فإقراره محكوم به مقبول في حق المعيَّن للشراء، ولكن لا يُقبل إقرارُه على الوكيل إذا كان يتعلق بالوكيل ضمان أو عهدة، فلو أراد المشتري المقَرُّ له أن يطالب الوكيل بعهدة العقد بناء على إقرار البائع له بالبيع، لم يمكنه ذلك؛ لأن الوكيل لم يعترف بالبيع، وإقرار الموكل إنما يقبل على نفسه للمشتري، ولا يقبل على الوكيل حتى يلزمه عُهدة.
فصل
قال المزني: " وجملة قوله في اختلاف الراهن والمرتهن أن القول قول الراهن في الحق، والقول قول المرتهن في الرهن ... إلى آخره " (3) .
3708- أراد المزني أن يضبط الصور التي يُصَدَّقُ فيها الراهن، والمسائل التي يُصَدَّقُ فيها المرتهن، فأتى بقول مبهمٍ لا يفهم، وأجرى كلاماً ظاهره الفساد، ولا يجوز أن يشكل عليه وجه الحق فيه، فاجتمع أمران: أحدهما - أنه لم يُنتفَعْ بضبطه، والآخر- أنا نحتاج إلى تأويل اللفظ.
أما قوله: " القول قول الراهن في الحق "، فصحيح، ومعناه لو اختلفا في قدر الحق، فقال الراهن: رهنت بخمسمائة، وقال المرتهن: بألفٍ، أو اختلفا في الجنس، فقال الراهن: رهنت بالدنانير، وقال المرتهن: بل بالدراهم التي لي عليك، وكانت له عليه دراهم ودنانير. فالقول قول الراهن.
__________
(1) في الأصل: أو.
(2) في النسخ الثلاث: ومما.
(3) ر. المختصر: 2/216.(6/232)
وأما قوله: " القول قول المرتهن في الرهن "، فمشكل؛ فإن الراهن والمرتهن لو اختلفا في مقدار الرهن، أو في إقباضه، فنفى الراهنُ مقداراً عن الرهن، أو نفى الإقباضَ، فالقول في ذلك كله قول الراهن، فلا يستدّ مطلق قول المزني، ولا بد للفظه من تأويل، فنذكر وجهه، وهو على التحقيق مراده، وسياق كلامه دليل عليه: فمراده أن الرهن إذا كان مشروطاًً في البيع، فالمرتهن هو البائع والراهن المشتري، فإذا تنازعا في أصل الرهن، كان أو لم يكن، أو في قدره، أو جنسه، فهذا اختلاف المتبايعين في صفة العقد، والحكم فيه التحالف. ثم البداية على الأصح تقع بالبائع وهو المرتهن، فالمعني بقوله: " القول قول المرتهن " هذا.
ويمكن أن يُفرض نزاعٌ في بعض أحكام الرهن، والقول فيها (1) قول المرتهن: وذلك إذا اتفقا على الرهن والقبض، فقال الراهن: فسخنا الرهن. وقال المرتهن: لم نفسخه، فالقول قول المرتهن؛ لأن الأصل أن لا فسخ.
ثم قال: "فيما يشبه ولا يشبه": وهذا رد على مالكٍ؛ فإنه يقول: لو كان الدّين ألفاً، فقال المرتهن رهنتني هذا العبد، وقيمته ألف، فقال الراهن: بل رهنتك الآخر، وقيمته خمسمائة. قال مالك (2) : القول قول المرتهن؛ لأن الظاهر أنه لا يرضى أن يرتهن بالألف ما يساوي خمسمائة، وهذا الذي ذكره مالك لا عبرة به، ولا نظر إلى مقدار القيمة.
فصل
قال الشافعي: " ولو قال الرجل لرجلين: رهنتماني ... إلى آخره " (3) .
3709- إذا ادعى رجل على رجلين أنهما رهنا منه عبدهما بمائة، نُظر: فإن صدّقاه، ثبت الرهن، وإن كذباه، فالقول قولهما مع اليمين؛ لأن الأصل عدم الرهن. فإن صدقه أحدهما وكذبه الآخر، فنصيب المصدِّق وهو النصف رهنٌ
__________
(1) إلى هنا انتهت نسخة (ص) . وهي ناقصة من آخرها. ولذا خلت من الخاتمة.
(2) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/585 مسألة: 977.
(3) ر. المختصر: 2/216.(6/233)
بخمسين إذا كان الدين مائة، ونصيب المكذِّب خارج عن الرهن إن حلف على ما نفاه، فإن شهد المصدِّق على المكذِّب، فشهادته مقبولة؛ فإن شهادة الشريك على الشريك مقبولة، وإنما النظر في شهادة الشريك للشريك، كما سنذكره الآن، إن شاء الله عز وجل.
3710- ولو ادعى رجلان على رجل أنه رهن عِندهما ثوباً (1) له. فإن صدقهما، فذاك. وإن كذبهما، فالقول قوله مع يمينه. وإن صدق أحدهما دون صاحبه، فالنصف رهن من المصدَّق، فإن شهد هذا المصدَّق للمكذَّب، ففي قبول شهادته وجهان: أحدهما - أنها مقبولة؛ إذ لا جرَّ (2) في شهادته، ولا دفع. والوجه الثاني - لا تقبل شهادته له، وهذا الخلاف في الشهادة يبتني على أصل سنذكره في كتاب الأقارير وكتاب الدعاوى، إن شاء الله تعالى.
والذي لا بد من ذكره هاهنا أن رجلين إذا ادعيا اتِّهابهما [عبداً] (3) من رجلٍ، وأنه وهبه منهما وسلمه إليهما، فصدَّق المدعى عليهِ أحدهما، وكذب الثاني فَيَسْلم من تصديقه الهبةُ في النصف، ثم ذلك النصف هل يستبدُّ به المقَرُّ له؟ أم لصاحبه أن يقول: نحن فيما بيننا تصادقنا وتقارَرْنا على أن الهبة جرت مشتركة إيجاباً وقبولاً وتسليماً. وقد سلم النصف بإقراره، فليكن هذا مشتركاً؟ فيه وجهان: أحدهما - أن النصف يَسْلم للمقرّ له لا نزاع فيه. والثاني - أن صاحبه يشاركه في النصف الذي سَلِم. وهذا التردد يجري في كل ملكٍ وحقٍّ متلقّىً من عقدٍ على سبيل الشيوع.
ولو اعترف بأن هذه الدار ورثتها أنا وفلان من أبينا، وكانت مجحودة، فسلم لأحدهما بعضها، فيشركه فيها شريكُه في الميراث. وسيأتي هذا بأصله وتفريعه.
عُدنا إلى غرضنا: إذا ادعيا على رجل أنه رهن منهما، فأقر لأحدهما، فذلك
الحاصل بالإقرار إن قلنا: يختص به المصدَّق، فشهادته مقبولة للمُكذَّب، وإن
__________
(1) في (ت 2) : عبدهما يوماً له. وانظر الشرح الكبير: 10/72، ففيه المسألة نفسها بتصوير أنه رهنهما عبده هذا.
(2) أي لا تجرّ هذه الشهادة نفعا للشاهد، ولا تدفع عنه ضراً.
(3) في الأصل: عينا.(6/234)
قلنا: يَشْركُه فيه المكذَّب؛ فشهادته تتضمن دفعاً عن نفسه؛ فترد لذلك.
3710/ م- ولو ادعى رجلان على رجلين أنهما رهنا عبداً لهما منهما، فإن صدقاهما، ثبت الرهن، وإن كذباهُما، فالقول قولهما مع أَيْمانهما، والنزاع بينهم يتصور على وجوه، ولا يكاد يخفى مُدرك جميعها على متأملٍ.
ونحن نذكر أغمض الصور، فنقول: إذا ادعى بكر وخالد على زيد وعمرو أنهما رهنا منهما عبدَهما المشتركَ بينهما، فصدَّق زيد خالداً وكذَّب بكراً، وصدق عمرو بكراً، وكذب خالداً. وكلّ واحدٍ من زيدٍ وعمرٍو له نصفُ العبد، وقد جمع في نصفه بين إقرار وإنكار، فيضمن بكر من جهة المقر مُقِرّاً له بربع العبد، وهو نصف نصيب أحدهما، وكذلك الثاني. ولا غموض لهذا.
وإنما يهاب المبتدىء هذا لما نقل بعضُ الأئمة أن ابن سريج قال: ما (1) انتهيت إلى هذه المسألة إلا احتجت إلى إتقان (2) الفكر، حتى أثبتها على حاشية الكتاب.
فصل
قال: " وإن كان له على رجل ألفان ... إلى آخره " (3) .
3711- إذا استحق على رجل دينين من جهتين، ومبلغ كلِّ دين ألفٌ، فإن رهن بألفٍ في جهة مخصوصة عبداً، ثم إنَّ مَنْ عليه الدين أدى ألفاً، وتنازع الراهن والمرتهن، فقال المرتهن: أديت الألفَ الذي لم يكن موثقاً بالرهن، والرهن باقٍ بالألف الثاني. وقال المؤدي: بل أديتُ عن الرهن، وفككته.
فنقول: لا شك أن الاعتبار بقصد المؤدِّي، حتى لو فرض منه قصد في أداء دين مخصوص، ولم يُفرض من القابض قصدٌ في القبض؛ فإن المؤدَّى يقع في حُكم الله تعالى على نحو قصد المؤدي. فإذاً تبين هذا حكماً، حتى قال الأصحاب: لو ظن
__________
(1) في (ت 2) : لما.
(2) في (ت 2) : أضعاف. ولعلها: "إمعان".
(3) ر. المختصر: 2/216.(6/235)
القابض أن المؤدِّي يودعه الألفَ، وأنه مستحفظ فيه، وقصد المؤدِّي قضاءَ حقه، فالقبض يتم، وذمة المؤدي تبرأ.
وهذا فيه أدنى نظر عندي؛ فإن الإقباض شرطه التمليك، وكل من عليه الدين إذا أداه، فكأنه يُملّك القابضَ، ويثبت له في الأعيان ملكاً؛ فإن حقه لم يكن متعلِّقاً بعين، فإن وصل المُقبضُ فِعله بقولٍ، فذاك. وإن لم يصله بقول، فلا يبعد أن نقول: لا بد من مَخِيلة مُملِّكة مشعرة بتسليط القابض؛ فإن التمليك بالمبهمات غيرُ متجه.
3712- فإذا تبين ما ذكرناه، عاد بنا الكلامُ بعده إلى طريق فصل التنازع.
فنقول: إذا اختلف الراهن والمرتهن على ما ذكرناه، فالقول قول الراهن مع يمينه. ولو قال: أديتُ الألفَ، وقصدت أن يكون نصفُه عن جهة الرهن، ونصفه عن الألف المرسل، فهو مصدَّق، فإن نُوزع، يُحَلَّف.
وإن قال: لم يكن لي قصدٌ في تعيين جهةٍ، وإنما أديت الألف مرسلاً، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنا نقول له: الآن اصرف الألفَ إلى أي جهة شئت. فإن صرفه إلى الرهن، انفك. وإن صرفه إلى الآخر، بقي الرهن، وإن قسمه عليهما، انقسم. والوجه الثاني - أن الأداء المطلق محمول على التقسيم، فيقع عن كلّ دين قسطٌ من المؤدَّى. فإن [استويا] (1) في المقدار يقسط عليهما بالسوية، وإن اختلفا، يقسط عليهما على تفاوت القدرين.
ولهذا نظائر منها: أنه لو أقرض مشرك مشركا ألفاً بألفين، ثم قضاه أحد الألفين في الشرك، ثم أسلما، فقال المؤدي: أديتُ في الشرك ما أديتُ عن جهة الربح، فالألف قائم عليه، وهو مطالبٌ به في الإسلام. وإن زعم أن الذي أديتُه قصدتُ به تأدية رأس المال، فهو مصدّق، وإن اتهم، حُلِّف. وموجب تصديقه الحكمُ ببراءته؛ فإن أصل الدين قد تأدى؛ ولا ربحَ في الإسلام. وإن زعم أني أديت الألف ولم أقصد صرفَه إلى جهة مخصوصة، فوجهان: أحدهما - أن المؤدّى مُقسط على الربح ورأس المال. وحكم ذلك أن يطالبه في الحال بخمسمائة؛ فإنه قد أدَّى
__________
(1) في الأصل: استوفى.(6/236)
خمسمائة من الأصل، ولم يبق إلا خمسمائة، ولا ربح.
والوجه الثاني - أنه يقال له: اصرف ما أديته الآن إلى ما شئت، فإن صرفه إلى الربح، فعليه الألف التام عن جهة رأس المال. وإن صرفه إلى رأس المال، سقط الربح، وسقطت المطالبة. وإن بعَّض قصدَه تبعّض الأمرُ، ولم يختلف الحكم، كما قدمناه.
وكذلك لو ترابيا في الشرك درهماً بدرهمين، وأقبض الزائدُ المُفْضِلُ أحدَهما، ثم أسلماً، فالقول في القصد والاختلاف على حسب ما مضى. وهذه المسألة مفروضة في البيع، والأخرى التي قبلها مفروضة في القرض. ولا فرق.
ولو وكل الرجلان رجلاً ليقتضي دينين لهما على رجلٍ، وكل دين ألف مثلاً فدفع
من عليه الدينان ألفاً إلى الوكيل، فإن قال حال الدفع: خُذْه عن دين فلان، وعيّن أحدَ
موكِّلَيْه، وقع عن تلك الجهة. ولو قال بعد ذلك: قصدتُ خلافَ ما قلت، لم يقبل
منه. وهذا يطرد في جميع المسائلِ التي ذكرناها. ولو لم يقل شيئاًً، ثم راجعناه،
فقال: قصدت أحدَ الموكلَيْن، وقع المقبوض على حسب قصده. وإن قال: لم
أقصد تعيين واحد منهما، فيعود الوجهان، نقول في أحدهما: يتقسط ما أداه على
ديْنَي الموكِّلَيْن، ونقول في الثاني للمؤدي: اصرف الآن قصدَك إلى من شئت منهما أو
قسِّط عليهما.
3713- ولو قال من عليه الدين للوكيل من جهة المستحقَّيْن: خذ الألفَ وادفعه إلى فلان. فقد اختلف أصحابنا في هذه المسألة، فمنهم من قال: إذا جرى ذلك، انعزل الوكيل بالقبض عن حكم ذلك التوكيل، وصار وكيلا للمؤدِّي؛ فإنَّ حكم قوله: ادفعه أن يتوقف الأمر على وصوله إلى الموكِّل، وحكم البقاء على توكيله بالقبض أن يبرأ الدافع بالدفع إلى الوكيل، فلا يكون لقوله: ادفع إلى فلان معنى.
ومن أصحابنا من قال: لا ينعزل عن التوكيل بالقبض، وإن قبل التوكيل بالدفع على اللفظ الذي حكيناه؛ وذلك أن يدَ الوكيل ليست [تنتهي بالقبض] (1) ومعنى قبضه
__________
(1) في الأصل: منتهى القبض. ومطموسة في (ت 2) .(6/237)
أن يوصّلَه إلى موكِّله. فإذا قال من عليه الدين: ادفع هذا إلى موكِّلك، لم يكن ما قاله مضاداً للقبض، والمسألة محتملة لطيفة. والأفقه الوجه الأول.
3714- ثم مما يجب التنبه لهُ في تصوير المسألة أنا لا نشترط من الوكيل تصريحاً بالقبول لمّا قال من عليه الدين: ادفع إلى موكلك، بل مجرد قوله له: ادفع يتضمن أني لا أقنع بيدك على حسب ما وكلك صاحبك، ولكن آمرك ابتداءً بأن تسلمه إليه.
هذا ما نشأ منه التردد. وهو لا يفتقر إلى تصوير قبول. فليفهم الناظر.
وأثر ما ذكرناه أنا إذا قلنا: لا يقع قبضه على حكم توكيل موكِّله، فلو تلف في يده، فذمة من عليه الدين مشغولة. وإن قلنا: إنه يبقى على حكم التوكيل بالقبض، فلو تلف ما قبضه في يده، كان من ضمان موكِّله، وقد برىء المؤدِّي، فإن لم يكن منْ الوكيل تقصير، فلا ضمان أصلاً، وإن كان منه تقصير، فهو متعدٍّ في ملك غيره. وطرف الإنصاف والانتصاف بينهما بيِّن، والغرضُ ما اتضح من براءة المؤدِّي.
فصل
قال: " ولو قال: رهنته هذه الدارَ التي في يده بألفٍ ... إلى آخره " (1) .
3715- إذا اعترف الرَّجل بأنه رهن داره من إنسان، وصادفنا تلك الدار في يد المرتهن، ثم اختلفا، فقال الراهن: غصبته مني. وقال المرتهن: بل أقبضتنيه، فالقول قول الراهن في أصل المذهب " لأن الأصل عدم القبض والخيار إلى المقبض.
ولو قال الراهن: أعرتُه، أو أودعتُه، أو أكريتُه، أو أكريتُ الدار من فلانٍ، فأكراها منه أو أعارها منه، فحصلت تحت يده بهذه الجهة. وقال المرتهن: بل أقبضتنيه عن جهة الرَّهن، ففي المسألة وجهان: أحدهما - القولُ قول الراهن كالمسألة الأولى، وهي إذا ادعى الراهن الغصبَ وادعى المرتهن القبض المستحق. والوجه الثاني - القول قول المرتهن، لتقارِّهما على أن القبض لا عدوان [فيه] (2) وأن صدَرَه عن
__________
(1) ر. المختصر: 2/216.
(2) ساقطة من الأصل.(6/238)
الإذن، ثم ظاهرُ اليد يدل على حق ذي اليد، كما أن ظاهرها يدّل على ملك ذي اليد، إذا كان المتنازَعُ الملكَ. والظاهر بناء القبض على العقد المقتضي للقبض.
هذا الذي سردناه أصلُ المذهب. وقد أبعد بعض الأصحاب، فذكر وجهاًً ضعيفاً في أن القول قول المرتهن، وإن قال الراهن غصبتنيه، وهذا ضعيف غيرُ معتد به، وسنعيده مع تفريعاتٍ في كتاب العارية، إن شاء الله تعالى.
3716- فلو قال البائع: غصبتنيه، وقال المشتري: بل أقبضتنيه. والتفريع على أن المبيع محبوس بالثمن، وعلى المشتري البداية. فإذا تنازعا كما وصفناه. فإن كان قد وفر المشتري الثمنَ، أو كان الثمنُ مؤجَّلا، فلا معنى لهذا الاختلاف؛ فإن قبض المبيع مستحَق للمشتري. وإن كانَ الثمن حالاً، ولم يوفر المشتري [الثمن] (1) فالقول قول البائع؛ لأن الأصل عدمُ الإقباض. وإن قال البائع: أعرتكه أو أودعتكه، وقال المشتري: بل أقبضتنيه عن البيع، ففي المسألة وجهان: أظهرهما- الحكمُ بالقبض؛ لأن المبيع ملك المشتري، وحق البائع في الحبس ضعيف.
وهذا يصفو بشيء، وهو أن البائع لو أعار المشتري المبيعَ على أن ينتفع به ويردَّه محبوساً بالثمن، فالإعارة هل تُبطل حق حبسه؟ وجهان ذكرهما الشيخ، وصاحب التقريب، وطائفة من العراقيين. أحدهما - أن حق حبسه يبطل، فإنه لم يكن حقّاً (2) مقصوداَّ بَعقد، فإذا ثبتت يدُ المشتري وهو مالك، وكان زوال اليد عن رضاً، فلا عود إلى اليد.
والوجه الثاني - أن حق البائع لا يسقط، فإنه لم يسقطه، فيجب الوقوف على منتهى قصده.
ولو أودع البائع المبيع عند المشتري، ففي بطلان حق البائع من الحبس وجهان مرتبان على الوجهين في العارية، [و] (3) اختلف أصحابنا في كيفية الترتيب، فمنهم من جعل الإيداع أولى ببطلان حق البائع؛ من جهة أنه يبعد كل البعد أن يحفظ المالك
__________
(1) مزيد لإيضاح العبارة.
(2) في (ت 2) : حقه.
(3) في الأصل: فاختلف.(6/239)
ملكه لغيره، وفي الإعارة غرضٌ على حالٍ سوى الحفظ.
ومن أصحابنا من جعل الإيداع أولى بأن لا يُبطل حقَّ البائع؛ فإنه ليس فيه تسليط أصلاَّ، وفي الإعارة تسليط.
ولم يختلف أئمتنا في أن المرتهن لو رَدَّ الرهنَ إلى يد الراهن [بأية] (1) جهة فرضت مع استمراره على الرهن، فحقه قائم لا يبطل.
3717- عاد الآن بنا الكلامُ إلى ما كنا فيه من اختلاف البائع والمشتري. فإن قلنا: الإعارة، والإيداع يُبطل حقَّ البائع، فلا معنى للاختلاف؛ فإنه اعترف بمبطلِ حقه.
وإن قلنا: الإعارة والإيداع لا يبطلان حقَّه من الحبس، فإذا تنازعا، انتظم الخلاف الذي ذكرناه. والوجه الضعيف في ادعاء البائع للغصب، وادعاء المشتري الإقباض عائدٌ.
وبالجملة يد البائع ضعيفة. وآية ذلك أن المشتري إذا قتل (2) العبدَ المشترى، جعل ذلك قبضاً منه ناقلاً للضّمان، وإن كان على كُره من البائع، وكان من الممكن أن نقولَ يغرم قيمةَ المبيع، ويسلمَها لتُحبس على الثمن، كما نقول: يغرَم الراهن قيمةَ المرهون إذا قتله لتوضع رهناً إلى أداء الدين.
وذكر صاحب التقريب وجهاً في كتاب البيع: أن إتلاف المشتري لا يكون قبضاً، وأن القيمة تلزمه، فتجعلُ محبوسةً كما ذكرناه في الرهن.
وهذا بعيد جداً لم يتفق منا حكايتُه في كتاب البيع.
ومما يتعلق باختلاف المحابس لما نحن فيه أنه لو قال من عليه الدين لمستحقه: رهنتك هذا العبدَ بالألف الذي لك عليَّ. وقال صاحب الحق: بل بعتنيه بالألف، فالقول قول من عليه الحق، لا خلاف فيه؛ فإن صاحبه ادعى عليه إزالةَ الملك بطريق البيع، والأصل عدمه، وبقاءُ الملك؛ فينتفي البيعُ بنفيه، ولا نحكم بالرهن؛ لأن المستحِق ليس يدعيه.
__________
(1) في الأصل: فإنه. والمثبت من (ت 2) .
(2) في (ت 2) : قبل. وفي الأصل بدون نقط.(6/240)
ولو كان الخلاف على العكس، فقال من عليه الحق: بعتك هذا العبد بالألف الذي لك علي، وقال صاحب الحق: بل رهنتنيه، فالوجه أن يحلف كل واحد منهما على نفي العقد الذي يُدّعى عليه، فينتفي الرهن والبيع جميعا، فلا يبقى لصاحب اليد حق. أما الرهن فقد نفاه من عليه الحق وهو مصدّق، وأمّا البيع فقد نفاه هو في نفسه.
فرع:
3718- العدل إذا باع الرهن بإذنهما، ثم قال: قد سلمت الثمن إلى المرتهن، [و] (1) أنكر المرتهن، فالقول قوله، ولا يقبل قول العدل عليه؛ فإنه أمين المرتهن في تحفظ الرهن فحسب، ثم هو بالخيار إن شاء طالب الراهن بدينه، وإن شاء طالب العدلَ. فإن أراد مطالبة العدل، فله ذلك؛ فإنه يقول: قد أقررتَ بحصول عوض رهني في يدك، ورُدّ قولُك في التسليم، فله مطالبته إذن. ثم إذا غرِم العدلُ كما ذكرناه، فلا يجد العدل به مرجعاً على أحد؛ فإنه يعترف بأنه مظلوم من جهة المرتهن، ولا يرجع المظلوم إلا على من ظلمه.
فرع:
3719- حكى العراقيون عن الأصحاب أنهم قالوا: لو كان لرجل ألفُ درهم على رجلين، على كل واحد خمسمائة، ولهما عبد مشترك، فادعى أنكما رهنتماني العبدَ، فأنكر كل واحد رهنَ نصيبه، وزعم صاحبه رهنه وهو في نفسه لم (2) يرهن، ثم شهد كل واحد منهما على صاحبه، وحلف المدعي مع شهادة كل واحد منهما يميناً يميناً، فيثبت له الرهن عليهما جميعاً في جميع العبد. وتعليله بيّن، وهو موجَب القضاء بالشاهد واليمين.
قال الشيخ أبو حامد: في هذا نظر عندي، فينبغي أن لا تقبل شهادة واحد منهما؛ فإن المدَّعي يقول: قد كذب كل واحد منهما لما أنكر الرهن في حق نفسه، فإذا كان يكذِّب شاهدَه في شيء، فكيف تقبل شهادته في حقه.
وفيما قاله الشيخ أبو حامد نظر؛ فإن أقوالهما في إنكارهما مجمل لا يوجب
__________
(1) في الأصل: فأنكر.
(2) عبارة (ت 2) : ولم يرهن هو في نفسه.(6/241)
تفسيقهما؛ من تقدير غفلة أو ذهول. وبالجملة ليس من الرأي ابتدار التفسيق مع اتجاه احتمالاتٍ لا فسق فيها.
فرع:
3720- إذا رهن شيئاًً وسلمه إلى المرتهن، فمات المرتهن وقال: لا أرضى بيد الورثة، فكيف السبيل فيه؟ المذهب الأصح أن الأمر يرفع إلى القاضي، فينصب القاضي عدلاً، ويضع الرهن على يده. نقل العراقيون فيه نصَّ الشافعي، وخرّج منه أن للراهن إزالة يد الورثة، ولا فرق بين أن يكونوا عدولاً، وبين أن يكونوا دون مورثهم في الثقة والعدالة.
وقال بعض أئمتنا: لا يزيل القاضي أيدي الورثة؛ فإنهم استحقوها خلافة ووراثة. نعم، للقاضي أن يضم إلى أيديهم يداً إذا استدعاه الراهن، فأما إزالة حقوقهم، فلا سبيل إليه.
فرع:
3721- إذا أراد العدلُ أن يسلم الرهن إلى القاضي، والراهن والمرتهن جميعاً حاضران، فليس له ذلك قبل عرض الأمر عليهما، وليس للقاضي أن يقبله إذا أحاط بالحال، فلو [سلم] ، (1) من غير مراجعة، توجه الضمان على العدل.
فأما إذا غاب الراهن والمرتهن إلى مسافة القصر، فللعدل التسليم إلى الحاكم.
وإن كان دون مسافة القصر، فليس له الرفع إلى الحاكم حتى يستأذنَهما. ولا يمتنع عندنا اعتبار مسافة العدوى (2) في ذلك، حتى يقال: إن كانا على مسافة العدوى، فلا بد من مراجعتهما، وإن [كانا] (3) فوق مسافة العدوى، ففيه تردد.
ولو كانا حاضرين، فعرض عليهما، فامتنعا من الاسترداد، فيرفع الأمرَ إلى القاضي حينئذ، حتى يحملهما على الأخذ منه، ثم لا يخفى منتهى الكلام في ذلك.
* * *
__________
(1) في الأصل: سلّم.
(2) مسافة العدوى: قال ابن فارس: العدوى طلبك إلى والِ ليُعديَك على من ظلمك، أي ينتقم منه باعتدائه عليك. والفقهاء يقولون: " مسافة العدوى " وكأنهم استعاروها من هذه العدوى؛ لأن صاحبها يصل فيها الذهاب والعود بعدوٍ واحد، لما فيه من القوة والجلادة. (المصباح) .
(3) في الأصل: كان.(6/242)
بَابُ
الزيادةِ في الرّهنْ ومَا يحدثُ فيهِ
قال الشافعي: وقد روي عن أبي هريرة عن النبي عليه السلام أنه قال " الرهن محلوب ومركوب ... إلى آخره " (1) (2) .
3722- مقصود الباب الكلام في فوائد الرهن ومصارفها، وتفصيل القول فيها،
وهي آثارٌ وأعيانٌ في التقسيم الأول. والمعنيُّ بالآثار المنافع، وهي للراهن وتَتْبَع
ملكه، ولا تتعطّل. وأبو حنيفة في مذهبه المشهور يرى تعطيلها (3) . وذهب أحمد (4)
وإسحاق (5) إلى أنها للمرتهن. واعتمد الشافعي الخبر، ثم قد يقتضي إزالة يد المرتهن
للانتفاع بالرّهنِ؛ فإن الراهن إذا أراد استخدام العبد وركوب الدابة، فلا يتأتى له ذلك
إلا بإزالة يد المرتهن، ولأجل هذا عطل أبو حنيفة المنافع؛ إذ معتقده أن القبض وحق اليد الركن الأعظم في الرهن؛ ولهذا منع رهن المشاع، وجرى في المسألتين على تناقض؛ حيث منع رهن المشاع، وكان يمكنه أن يديم يد المرتهن على الشائع، وصحح رهن ما ينتفع به، وعطل المنافع. ولو طرد القياس، لمنع رهن ما ينتفع به؛ حتى لا تتعطل المنافع، وقد قررنا ذلك في (الأساليب) .
ثم لأصحابنا اضطراب في الجمع بين توفير المنافع على المالك، وبين رعاية حق المرتهن في القبض، ونحن نذكر مضطرب الأئمة في هذا.
__________
(1) ر. المختصر: 2/216.
(2) رواه الدارقطني: 3/34، والحاكم: 2/58. وانظر التلخيص: 3/83 ح 1242.
(3) ر. إيثار الإنصاف في مسائل الخلاف: 368، رؤوس المسائل: مسألة 193، وحاشية: الطحطاوي 4/236، وحاشية ابن عابدين: 5/310.
(4) ر. المغني (4/432) . وفيه تفصيل بين المرهون المركوب أو المحلوب وبين غيرهما.
فليراجع. وانظر الموسوعة الفقهية مادة (رهن) .
(5) إسحاق بن راهويه (ت 238 هـ) .(6/243)
أولا- اتفقوا على أن الراهن لو أراد المسافرة بالعبد لينتفع به في سفره، لم يمكّن من ذلك. والزوج يسافر بزوجته لتأكد حقه منها، ولا يبالي بما يتعطل من منافع الزوجة الحرة. والسيد يسافر بالأمة التي زوّجها، ولا يبالي بحق الزوج منها. وهذه الأصول في ظواهرها أدنى تفاوت.
ووجه الكلام على الإيجاز عليها أن النكاح في الحرة هو الأصل في بابه، وهو عقد العُمر، وبه قوام العالم، وبقاء النوع، فعظم قدره ويقل بالإضافة إليه منفعة بدن الحرّة، ونكاح الأمة دخيل في الباب، يُجرَى مجرى الرخص، والرهن عارض يعقد للتوثيق، وسيؤول على القرب إلى الفَكّ، أو إلى البيع. وليس في المنع من المسافرة تعطيل كلي.
ثم قال الأصحاب: إن وثِق المرتهن بالراهن سلم العبدَ إليه نهاراً ليستخدمه، ثم يرده ليلاً إليه أو إلى يد عدلٍ، وإن لم يكن الراهن موثوقاً به [كلفه المرتهن أن يُشهد في كل أخذ ورد؛ حتى يقوم الإشهاد في أدائه التوثيق مقامه. وإن كان الراهن موثوقاً به] (1) في الناس مشهوراً بالعدالة، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه يجب الاكتفاء بعدالته؛ إذ يشق تكليفه كل غداة أن يُشهد على نفسه، وإن لم يكن مشهوراً بالعدالة، فقد [أُتي] (2) من قِبَل نفسه. ومن أصحابنا من قال: إذا طلب المرتهن الإشهادَ، وجب الإسعافُ به.
وحكى صاحب التقريب من لفظ الشافعي [في الرهن] (3) الصغير من القديم قولاً: أن الراهن لا يزيل يدَ المرتهن قط، ولا يدَ العدل، ولكن يستكسب العبدَ في يد المرتهن، ويحصل أجرته، وإن كان يضيع معظم منافعه، فلا يبالَى به أصلاً؛ فإن إزالة يد المرتهن لا سبيل إليه. وليس كرهن المشاع؛ فإنه أُورد والإشاعة مقترنة به، وهي تقتضي قطع (4) اليد لا محالة، والوصول إلى المنفعة ممكن من غير إزالة اليد.
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(2) في الأصل: أوتي.
(3) في الأصل: رهن.
(4) في (ت 2) : تقطيع.(6/244)
فهذا اضطرابُ الأصحاب.
3723- فيتنخل منه أن المسافرة ممنوعة؛ فإنها حيلولةٌ عظيمة، ولم يسمح بها الأصحاب مع الإشهاد.
وأما إزالة اليد مع حضور المرتهن لينتفع به في وقت الانتفاع، ويردّ في وقت السكون والاستراحة، فهو ظاهر النص في الجديد، وإليه ميل معظم الأصحاب.
والكلام في أن الراهن هل يحسم الإشهاد؟ وقد فصلت المذهب فيه.
وفي القديم قول آخر أن يد المرتهن لا تُزال بسبب الانتفاع، كما لا تزال يد البائع عن المبيع المحبوس بالثمن بسبب الانتفاع. وسنصف هذا في أثناء الفصل، إن شاء الله تعالى.
ومن راعى الإشهادَ يقول: لو كان الراهن خائناً مشهوراً بالخيانة لا يسلم إليه وإن أشهد.
فإن قيل: ما قولكم في منافع المبيع المحبوس بالثمن على قولنا بإثبات حق الحبس؟ قلنا: اتفق الأصحاب على أن المشتري لا يزيل يده لينتفع، بخلاف ما ذكرناه في الراهن؛ فإن ملك المشتري غيرُ مستقر قبل القبض، وملك الراهن مستقر.
واختلف أصحابنا في أن المبيع هل يستكسب في يد البائع للمشتري، أم تتعطل منافعه؟ فقال بعضهم: لا سبيل إلى التعطيل، وهو مستكسب في يد البائع. وقال قائلون: منافعه تُعطل.
هذا قولنا في منافع الرهن.
3724- فأما القول في الفوائد التي تكون أعياناً، فهي منقسمة إلى الزوائد المتصلة، وإلى المنفصلة. فأما الزوائد المتصلة، فلا حكم لها، والرهن يتعلق [بالمزيد] (1) والزيادة، ولا أثر للزوائد المتصلة إلا في الصداق عند وقوع الطلاق قبل
__________
(1) في الأصل: بالزوائد والزيادة.(6/245)
المسيس، كما سيأتي في موضعه، إن شاء الله تعالى.
وأمّا الزوائد المنفصلة، فإنها تنقسم إلى ما كانت موجودة حالة الرهن على صفة االاتصال، وإلى ما يوجد بعد الرهن، ثم ينفصل: فأما ما لا يكون موجوداً حالة الرهن ويوجد من بعدُ، ثم ينفصل، كالحمل يطرأ وينفصل، وكذلك الثمار والألبان، فلا يتعلق الرهن بها، خلافاً لأبي حنيفة (1) ، ووافق أن الرهن لا يتعلق بالأكساب، ثم ألحق العُقر (2) وإن لم يكن عوض عينٍ بالأعيان، في خبطٍ له معروف.
3725- ونحن نجمع معاقد المذهب فيما يتعدى إلى الولد الطارىء، وفيما لا يتعدّى إليه، وعماد المذهب أن كل ما صار الملك مستغرَقاً به حتى يعدَّ الملك مستحَقاً في تلك الجهة، وبلغ تأكده مبلغاً يمتنع تقدير زواله، فما كان كذلك؛ فإنه يتعدّى إلى الولد، كالاستيلاد؛ فإن أولاد المستولدة من النكاح والسفاح بمثابة المستولدة في استحقاق العتاقة، وألحق الأئمة بذلك ولد الأضحية المعينة للتضحية، بقول المالك: جعلتها ضحية؛ فإن تعينها لجهة القربة لا يزول، كالاستيلاد، فالمالية مستهلكة فيها بجهة القربة، والرهن عارض على الملك التام، وكأنه عِدَةٌ موثوق بها، وهو عرضة الزوال.
واختلف قول الشافعي في ولد المدبرة، والمكاتبة؛ من جهة أن من يُدبِّر يبغي التأبيد (3) إلى العتاقة وإن ملَّكه الشرعُ الرجوعَ، وكذلك الكتابة، واختلف القول في أولادهما.
وولد الأمة التي نذر مولاها إعتاقَها على طريقين: أحدهما - أنه كولد المدبرة، والآخر أن الاستحقاق يتعدى إليه؛ فإن النذر لا رجوع عنه. ولكن من حيث إنه ربط العتق بالالتزام تردد الأصحاب. ومن نذر التضحية بشاةٍ، ولم يقل جعلتها ضحية، ففي ولدها طريقان أيضاًً على ما سيأتي في كتاب الضحايا، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) ر. حاشية ابن عابدين: 5/335، فتح القدير: 9/129.
(2) العُقر: مهر المرأة إذا وطئت بشبهة، والصداق عامة (القاموس والمعجم) .
(3) في (ت 2) : " من يُدبَّر يبقى للتأبيد ".(6/246)
وفي ولد العارية والمأخوذ سوماً وجهان: أحدهما - أنه مضمون كالأم. والثاني - أنه ليس مضموناً. وسبيله سبيل الثوب يلقيه الريح في دار إنسانٍ، وهذا الاختلاف ينشأ من أن الأيدي المضمَّنة الصادرة عن إذن السيد هل توجب ضمان الغصوب أم لا، وفيه خلافٌ، رمزنا إليه، وسنصفه من بعد، إن شاء الله تعالى.
ولو أودع رجل بهيمة عند رجل أو جارية، فولدت في يد المودَع، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه وديعة بمثابة الأم. والثاني - أنه ليس بوديعةٍ. وهذا القائل يقول: ليس مضموناً، بل هو كالثوب تهبُّ به الريح، فتلقيه في دار إنسانٍ. وأثر هذا الخلاف أنا إن لم نجعله وديعة، فلا بد فيه من إذن جديد. وإلا لا تجوز إدامة اليد عليه، كمسألة الثوب والريح، وإذا قلنا: هو وديعة استمر المودَع، ولم يستأذن، وسبيله سبيل الأم.
وهذا الخلاف في ولد الوديعة له التفاتٌ على خلاف الأصحابِ في أن الوديعة عقد أم لا؟ وفيه اختلاف بين الأصحاب. ومن أدنى آثار هذا الخلافِ أنه إذا أودع وشرط شرطاً فاسداً مثل أن يقول: أودعتك على أن يكون الإنفاق عليك، فهذا يخالف وضع الشرع. فمن جعل الوديعة عقداً، أفسدها بهذا الشرط، وما في معناه. فلا بد من ائتمانٍ جديدٍ، وإلا كان ما أخذه وديعة بمثابة الثوب والريح. وإن لم نجعل الوديعة عقداً، فالشرط لا يؤثر فيه أصلاً، بل يلغو الشرط الفاسد، ويبقى موجب الإيداع إلى الرد، أو إلى عدوان يصدر من المودَع.
ويقربُ من هذا المأخذ مسألةٌ نص الشافعي فيها على قولين وهي إذا أودع صبياً، فأتلفه، هل يجبُ الضمان على الصبي؟ فعلى قولين: أحدهما - لا ضمان؛ لأن المالك سلطه عليه بعقد، فهو المتسبب إلى إتلاف ماله. والثاني - يضمن؛ فإن الإيداع ليس بعقد حتى يُقضى على المالك بأنه عقد عقداً على الفساد. ولكن مهما (1) أتلف الصبي ضمن؛ فإنه أتلف مال غيره ولا عقد.
أما ولد المبيعة، فلا خلاف أنه لا يجوز حبسه لاستيفاء الثمن، يعني ولداً يحدث
__________
(1) "مهما": بمعنى "إذا".(6/247)
بعد لزوم العقد وقبل القبض. فإن قيل: ولد المغصوبة مضمونٌ بجهة ضمان الأم، فهلا كان ولد المبيعة مضموناً بجهة أمه؟ قلنا: المبيع يضمن بالعقد على مقابلة الثمن، والولد لم يقابل بالثمن. والغاصب يضمن بالعدوان وهو متعدِّ بإدامة اليد على الولد، كما أنه متعد بإدامتها على الأم.
فهذه جملٌ تجري مجرى التراجم والمجامع في الأحكام التي تتعدى إلى الأولاد [و] (1) التي لا تتعدى إليها. وما ذكرناه نشأ من كلامنا في الولد المتجدد بعد الرهن، والمنفصل قبل بيع الرهن في الدين.
3726- ونحن نذكر الآن تفصيل القول في الحمل الموجود حالة الرهن، ثم نتبعه نظائره، كان يقول شيخي أبو محمد: إذا كان الحمل موجوداً يوم الرهن على نعت الاجتنان في البطن ثم بقي مجتناً إلى البيع في الرهن، فلا حكم للحمل، ونعتقده صفة للجارية، [فكأنها] (2) بيعت على صفة كانت عليها حالة الرهن.
فأما إذا كان الجنين موجوداً ابتداءً، وانفصل قبل بيع الرهن، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنه يكون رهناً؛ لأنه كان موجوداً حالة العقد. والثاني - لا يكون رهناً كالمعدوم ما لم ينفصل، وقد كان الانفصال بعد الرهن، وبنى الأصحاب القولين على أن الحمل هل يعلم؟ فإن قلنا: إنه لا يعلم، فكأن لا حمل، ونعتقد الولادة فائدةً جديدة بعد العقد. وإن قلنا: الحمل يعلم، فقد تناول الرهن الأم، ولا مانع في الولد.
وكان شيخي يقول: إن قلنا: الحمل لا يعلم، فهو على ما ذكره الأصحاب: وإن قلنا: إنه معلوم، ففي تعلق الرهن به قولان؛ فإن الرهن ضعيف لا يقوى على الاستتباع، ولم يقع التعرض للولد. ولو وقع التعرض له، لكان فاسداً.
ولو علقت الجارية المرهونة بمولودٍ بتيقن بعد الرهن ولم ينفصل حتى حل الحق، ومست الحاجة إلى البيع، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنها تباع حاملاً؛ ويعتقد
__________
(1) مزيدة من (ت 2) .
(2) في الأصل: وكانت.(6/248)
الولد المجتن في البطن زيادة متَّصلة، فقد تعدّى الرهن إليه إذاً في هذه الصورة.
والقول الثاني - إن الرهن لا يتعدى إليه، ولا تباع ما دام الولد مجتناً، وإذا انفصل، لم يتعلق استيثاق الرهن به، وَبَيْعُ الأم دون الولد لا سبيل إليه على ظاهر المذهب، فقد تحصلت أحوال أربع: أحدها - أن لا يكون الحمل موجوداً في الطرفين لا عند العقد، ولا عند البيع، ولكن يحدث وينفصل، فهذا خارج عن الرهن قطعاً مِنّا.
والحالة الثانية - أن يكون موجوداً في الطرفين، فلا مبالاة به، وهو يجري مجرى الصفة.
الحالة الثالثة - أن يكون موجوداً حالة العقد، وينفصل قبل البيع، وفيها القولان.
والحالة الرابعة- أن يتجدد العلوق بعد الرهن، ولا ينفصل حتى يدخل وقت البيع وهو مجتن بعدُ، وفيه قولان.
3727- أمّا الثمار إذا لم تكن مؤبرة حالة العقد، فأُبّرت من بعدُ فطريقان: من أصحابنا من قال: هي كالحمل، وقد مضى التفصيل فيه. ومنهم من قال: لا يتعلق (1) الرهن به قولاً واحداً؛ لأنه لم يذكر، وهو ممَّا يفرد بالتصرف، والتبعية ضعيفة في الرهن.
وكان شيخي يقول: إذا كانت الثمرة غيرَ مؤبّرة حالة الرهن، وبقيت مستترة إلى وقت البيع، فالحمل على مثل هذه الصورة يتعلق الرهن به تعلقه بالصفات، وفي الثمار طريقان: من أصحابنا من أجراها مجرى الحمل، وقطع فيها بتعلق الرهن بها. ومنهم من خَرّج التعلق بها على قولين وإن وجد الاكتتام والاستتار في الطرفين، فهذا متجه فقيه.
3728- وممّا نتكلم فيه اللبن والصوف، فنقول: أمّا اللبن الذي يتجدد بعد الرهن [ويحلب] (2) فلا شكّ فيه، ولا تعلق للرهن به، وقد صرّح به النبي صلى الله عليه
__________
(1) في (ت 2) : "يتعلق" بدون (لا) النافية.
(2) مزيدة من (ت 2) .(6/249)
وسلم؛ إذ قال: "الرهن محلوب" ولا شك أنه أراد أن الراهن حالب البهيمة المرهونة، وراكبها، والمنفق عليها.
فأما اللبن الكائن في الضرّع حالة العقد، ففيه طريقان: منهم من قال: هو كالحمل. ومنهم من قطع بأن الرهن لا يتناوله؛ فإنه موجود مقطوع به، وقد قابل النبي صلى الله عليه وسلم لبنَ المصرّاة بعوض.
وأما الصوف الموجود حالة العقد، فالذي نقله الربيع أنه يدخل تحت العقدِ؛ فإنه متصل اتصال خلقة، وهو ظاهر بادٍ، فأشبه أغصان الأشجار. والصحيح أنه لا يدخل تحت العقد؛ فإنه وإن كان متصلاً معدودٌ في العرف منفصلاً. ومن أصحابنا من قال: إن كان الصوف مستجزًّا حالة العقد، فهو كالمجزوز، فلا يدخل في الرهن، وإن لم يكن مستجزًّا دخل في العقد، ثم تلك الجِزّة متعلق الرهن إذا جزت.
3729- وأمّا أغصان الأشجار فما لا يعتاد قطعها داخلة في الرَّهن، وما يعتاد قطعها ثم إنها تنبت أغصاناً من محل القطع كالخِلاف، وما أشبهه، فهذه الأغصان نزَّلها العلماء منزلة الصوفِ، من جهة أن الصوف، يستجز، فتجز، كما أن الأغصان تستغلظ، فتقطع.
وأمّا أوراق الأشجار فما يعتمد قطعها كأوراق الفِرصاد (1) ، فالقول فيها كالقول في الثمار. وقد ذكرنا أن الثمار لا تدخل، ثم هي تُخلق ظاهرة، فكانت كالثمار المؤبرة البارزة.
وأما الأوراق التي لا تقطع، ولكنها تنتثر أوان الخريف، فالرهن يتعلق على ظاهر المذهب بها، وإذا تجمع منها ما يُجمع، كان بمثابة ما ينتقض من الدار المرهونة.
ومن أصحابنا من قال: إذا انتثرت الأوراق أو نثرت، لم يتعلق استحقاق الرهن بها.
هذا بيان ما يتعلق بالزوائد الموجودة حالة العقد.
__________
(1) الفرصاد: شجر التوت، ومعنى "يعتمد قطعها": أي يُقْصد.(6/250)
3730- ثم كان شيخي يختم هذا الفصل، ويقول كل حُكمٍ علقناه بالاقتران بالعقد، فالعقد هو المعتبر لا غير، حتى لو وجد حالة القبض، ولم يكن موجوداً حالة العقد، فهو متجدد. وقد مضى تفصيل القول فيما يتجدد من الزوائد.
ومن أصحابنا من قال: العبرة في الاقتران بوقت القبض؛ فإنه الركن، وبه التمام، وكأن اللفظ جارٍ معه، وهو غير سديدٍ.
وقد نجز ما أردناه من الكلام في الزوائد العينية التي تقارن العقد، ثم تنفصل ثم تتجدد من بعدُ، وتنفصل أو تبقى إلى وقت البيع.
فصل
قال: " وكذلك سكنى الدار، وزرع الأرض، وغيرها ... إلى آخره " (1)
3731- المنافع قسمان: منفعةٌ لا يَنْقُصُ القيمةَ استيفاؤها، كالسكنى، والركوب، والاستخدام، فللراهن أن يستوفيها. وقد ذكرنا التردد في طريق استيفائها مع رعاية حق المرتهن في قبضه ويده.
ومنفعة ينقص القيمةَ استيفاؤُها، كالغرس والتزويج والوطء، وفي الزرع تفصيلٌ، على ما سنصفه.
فالقاعدة المعتبرة في هذا القسم أن المنافع، وإن لم تكن متعلَّقاً لوثيقة المرتهن، فالعين محل الوثيقة على الحقيقة، فكل انتفاع يؤدي إلى تنقيص القيمة، فهو ممنوع؛ من جهة أدائه إلى التأثير في محل الوثيقة، وقد سبق تصوير تأثير الغرس في نقصان الأرض، والتزويجُ لا شك أنه ينقص؛ فإذا رهن جارية لم يزوجها، والوطء في التي يخشى علوقها محرّم، وإن كانت الجارية بحيث لا يخشى علوقها لصغرها، أو كبرها، ففي حلّ الوطء وجهان: أشهرهما المنع، حسماً للباب، وقياساً على قاعدة العدة؛ فإن مبناها على استبراء الرحم، ثم الصغيرة الموطوءة تعتد كالبالغة. وكذلك تعتد الطاعنة في السن اعتداد الشابة.
__________
(1) ر. المختصر: 2/216.(6/251)
والزراعة إن كانت تَنْقُصُ قيمةَ الأرض لتأثيرها في الرقبة وتضعيفها تربتها كالدُّرة [فيما] (1) قيل، فهي ممنوعة إلا أن يأذن فيها المرتهن؛ لسبب أدائها إلى تنقيص القيمة.
أمّا زرع سائر الحبوب إذا كان لا يؤدي إلى تنقيصٍ معتبر، فالنظر فيه إلى مدة بقاء الرهن إلى الاستحصاد، فإن كان يحصد قبل حلول الأجل، فلا منع منه؛ فإن المنفعة تتوصل إلى الراهن ولا تؤدي إلى تنقيصٍ من القيمة، مع فراغ الأرض عند مسيس الحاجة إلى بيعها في الدَّيْن.
فإن كان أمد الزرع يتمادى حتى تبقى الأرض مزروعةً عند حلول الحق، فالمذهب منعُ الراهن من هذا النوع؛ فإن الأرض لا يُرغب فيها مزروعة كما يُرغب فيها وهي فارغة. وقال الربيع: للراهن أن يزرع، ثم ينظر إلى حالة الحلول، فإن وفى بيعُ الأرض دون الزرع بالدين، فذاك. وإن لم يف، قلعنا الزرع. ولا معنى [للمنع] (2) من إنشاء الزراعة قبل حلول الحق إذا كان الاستدراك ممكناً بتكليف القلع. وهذا تخريج الربيع. والظّاهرُ المنع من الزراعة ابتداءً. وقد ذكرنا مثل هذا الخلاف في إنشاء الغرس.
وأما إجارة المرهون، نُظر (3) فيها، إن كان حالاًّ، فغير جائز. وإن كان مؤجلاً، ومدة الإجارة تنقضي قبل حلول الحق أو معه، فالإجارة تنعقد. وإن كانت مدة الإجارة تدوم ولا تنقضي عند الحلول، فلا نحكم بانعقادها ابتداء، لأن مقتضاها التبعيض عند مسيس الحاجة، وتقليل الرغبة (4) ، ولا جواز لذلك. والربيع يوافق فيما ذكرناه، وإن خالف في الزرع من قِبل أن الزرع إن أمكن قلعه، فالإجارة لو ثبتت، للزمت، ولا سبيل إلى قطعها على المستأجر.
__________
(1) في الأصل: فيها.
(2) في الأصل كلمة غير مقروءة. والمثبت من (ت 2) .
(3) جواب (أما) بدون الفاء.
(4) أي الرغبة في شراء المرهون عند بيعه في الدين.(6/252)
ولو كان الرهن فحلاً، فأراد الراهن إنزاءَه على إناثٍ، فإن كان الإنزاء ينقص من القيمة، منعنا منه، وإن كان لا ينقص، فلا منع.
وإن كان الرهن أنثى، فأراد الإنزاء عليها، نُظر: فإن كان الحمل ينقصها، منعنا من الإنزاء عليها. وإن كان لا ينقصها، وفرعنا على أنها قد تباع حاملاً في الدين، فلا منع. وإن [أبينا] (1) بيعها حاملاً في الدين إذا كان الحمل متجدداً بعد الرهن، فإذا كان كذلك، فالإنزاء في أصله ممنوع. وهذا قياس بيّن في النفي والإثبات.
3732- وكل منفعة تضمَّن إستيفاؤها نقصاناً، فاستيفاؤها بإذن المرتهن جائز؛ فإنّ الحق له. ومن هذه الجملة الإذنُ في الوطء، وهذا غريب؛ فإن الوطء إذا كان ممنوعاً، لم يستبح بإذن آذن. ولكن حقيقة القول أن الوطء مباح في نفسه، والمنع ليس راجعاً إلى عينه، وإنما المرعي حق المرتهن، فإذا رضي، استمر الوطء على الحل.
3733- ثم قال: "وأكره رهن الأمة ... إلى آخره" (2) .
إن لم تكن الأمة مرغوباً فيها، لصغرها أو لخستها أو دمامة صورتها، فلا بأس برهنها وفاقاً. وإن كانت بمحل أن ترمق (3) ، فظاهر النص والمذهب يشعر بجواز رهنها، ثم لا تسلّم إلى المرتهن إن لم يكن مأمون الجانب؛ فإنه قد يستخلي بها، ويُلمُّ بها، وما حرمت الخلوة مع الأجانب في وضع الشرع إلا من الجهة التي أشرنا إليها. ولكن الوجه وضعُها على يدي امرأةٍ أو عدل لا يتطرق إليه إمكان إلمام بها.
وإن كان المرتهن محفوفاً بأهله وذويه وأقربته في دارٍ، وكانت الحشمة تَزَعُه من الإقدام على الإلمام بها بين أظهرهم، فهذا من الموانع، فليعتبر المعتبر ما جعلناه معتبرَ الفصل.
__________
(1) في الأصل: أثبتنا.
(2) ر. المختصر: 2/216. وفي الأصل: "وطء" مكان "رهن".
(3) أي تلفت النظر: يقال: رمقه ببصره: إذا أتبعه بصره، يتعهده، وينظر إليه ويرقبه (المعجم) . والمراد هنا أنها بحالةٍ أو صورة تجذب الانظار، وتثير الإعجاب. فالكلام على المجاز.(6/253)
وذكر الشيخ أبو علي في شرح التخليص قولاً أن رهن الجارية الحسناء ممنوعٌ أصلاً، إلا أن تكون مَحْرماً للمرتهن، فلا بأس حينئذ.
هذا تفصيل القول في المنافع وجهاتِ استيفائها.
3734- ثم قال الأئمة: لا يُمنع الراهن من تعهد الرهن بما يدفع عنه ضرراً، أو
يحصّل خيراً، فإذا دعت الحاجة إلى حجامةٍ أو فصدٍ، أو توديجٍ (1) في الدابة، أو بَزْغٍ (2) ، فلا يُمنع الراهن من هذه الأجناس؛ إذ لا خطر. والحاصل منها دفعٌ أو نفعٌ، ومن جملة ذلك الختان، وأبدى بعض الأصحاب خلافاً في الختان عند القرب من حلول الحق؛ من جهة أن البيع يفرض ورودُه والمختون أَلِمٌ (3) ، وهذا ينقص القيمةَ، والرغبةَ، وهذا باطل؛ فإن هذا القدر لا أثر له في النقصان أصلا، فلا منع منه، أمّا إذا أراد قطع سِلعةٍ يخاف سريانها إلى الروح، أو إلى العضو، فهذا ممنوع؛ تخريجا على القاعدة التي ذكرناها.
3735- وإذا نجز القول في انتفاع الراهن وما يمتنع منه وما يسوغ، فنقول: مؤنة الرهن فىِ القاعدة الكلية على الراهن المالكِ؛ فإن المؤونة تتبع الملكَ في أصل الشرع، ثم الذي نص عليه الأصحاب في الطرق أن المؤن الراتبة على الراهن. وإذا امتنع عن شيء منها أُجبر، ويشهد له حديث النبي صلى الله عليه وسلم، إذْ قال: "وعلى من يحلبه ويركبه نفقته" فجعل وجوب النفقة في مقابلة ملك الانتفاع، وأيضاً فإن الراهن ألزم نفسه الوفاء بتحقيق حق المرتهن من الوثيقة، ومِن ضرورة هذا الإنفاقُ على حسب مسيس الحاجة.
وذكر شيخي وطائفة من الأئمة أن الراهنَ إذا امتنع من الإنفاقِ، لم يجبر ولكن
__________
(1) التوديج للدابة كالفصد للإنسان (مصباح) .
(2) في (ت 2) : "نزع"، وغير منقوطة بالأصل. والبَزْغُ من قولك: بَزَغَ البيطار الدابة بَزْغاً، من باب قتل: إذا شر حافرَها، علاجاً (للرَّهْصَة) وهي نزول الماء في حافر الدابة. فالبَزغُ شرط الحافر لإخراج هذا الماء (ر. الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي: فقرة: 468، 469، وأيضاً المصباح) .
(3) في الأصل: آلم. وهي صحيحةٌ أيضاًً.(6/254)
القاضي يبيع جزءاً من المرهون، ويصرفه في جهة المؤنة على حسب الحاجة، وهذا فيه نظر؛ فإن قصاراه يؤدي إلى بيع الرهن شيئاًً شيئاًً في جهة المؤنة، وهو منافٍ لحقيقة الاستيثاق، والوجه تكليف الراهن الإنفاقَ.
وقد تحقق بعد البحث عن الطرق إطباق المراوزة على أن النفقة لا تجب على الراهن، وإن كان المرهون حيواناً، فليس إيجابُ النفقة لحق المرتهن وحفظ الرهن عليه، وإنما تجب لحرمة الروح، وليس للمرتهن فيه طَلِبة إلا من جهة الأمر بالمعروف، والمسلمون فيه شَرعٌ (1) سواء، وإن امتنع، فالقاضي يبيع شيئاًً من الحيوان على قدر مسيس الحاجة.
وإذا ثبت هذا من مذهبهم في النفقة على الحيوان، لم يخف قياسُهم في سائر المؤن. وحاصل طريق المراوزة أن الإنفاق على الرهن لا يجب لحق المرتهن.
وقطع العراقيون بأنه يجبُ على الراهن أن ينفق على المرهون إبقاءً لحق المرتهن، وإدامةً لوثيقته، واحتجوا عليه بأنا إن كنا نُنْفِق على الرهن من الرهن، والدينُ مؤجل، فهذا يُفضي إلى رفع الوثيقة، فالراهن إذا كان يحتاج إلى بذل مالٍ في الإنفاق على الرهن، فلا فرق عنده بين أن يأتي بطائفة من ماله وبين أن يباع جزء من الرهن. هذا كلامهم.
ونصُّ الشافعي في آخر "باب الرهن يجمع شيئين" موافقٌ للعراقيين، وأنا أنقل لفظه على وجهه قال رضي الله عنه: "وإذا رهنهُ ثمرةً، فعلى الراهن تنقيتها وإصلاحُها وجِدادُها، وتشميسُها كما يكون عليه نفقةُ العبد" (2) وسيأتي في كتاب الإجارة إن شاء الله تعالى، أنا نوجب على المكري عمارة الدار في يد المكتري، حتى يتمكن من استيفاء المنفعة.
والمراوزة فيما أظن يحملون كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً إذ قال: "وعلى من يحلبه ويركبه نفقته" على أن الراهن لا يرضى ببيع ملكه في نفقته، وهذا
__________
(1) شَرعٌ: بفتح الراء، وتسكن تخفيفاً، أي سواء.
(2) ر. المختصر: 2/218. وفيه: "سقيها وصلاحها" بدل "تنقيتها وإصلاحها".(6/255)
عليه الاعتياد الغالب، فالنفقة عليه لا على المرتهن، وفرض الامتناع عن النفقة ومسيس الحاجة إلى البيع ليس مما تعرض له الحديث ولا الشافعي.
3736- والمسألة محتملة جدّاً.
ويتصل بتمامها أنا إذا فرّعنا على طريق المراوزة، فيتشعب منه أن المرتهن إن علم أن النفقة ستأكل الرَّهن قبل الأجل، فحق هذا أن يلحق بما يفسد قبل حلول الأجل، حتى يسوغ للمرتهن طلبُ بيعه وردّه ناضّا يستقل بقاؤه دون مؤنة. وهذا طرفٌ لا بد من عرضه على الفكر.
ولو كان الإنفاق يأكل نصفَ الرهن مثلاً فينقدح أن يُملَّك المرتهنُ طلبَ البيع في جميعِه؛ دفعاً لتنقيص التشقيص أولاً. والآخر أن النفقة تبقى على ما يبقى ثم يتسلسل القول فيه.
فليفهم الناظر ذلك؛ فإنه لطيف.
وممَّا يتصل بالمؤن القول في أجرة البيت الذي يأوي الرهن إليه، فليلتحق بالمؤن، وقد تفصلت. وإنما أفردتها بالذكر؛ فإن الفَطِن قد يخطر له أن الحفظ حق المرتهن، فيختص بالتزام ما يتعلق بذلك. وليس الأمر كذلك بالإجماع.
* * *(6/256)
بابُ رَهْن الرَّجُلَيْنِ الشيء الواحد من الرجل الواحد
قال: " وإذا رهنا عبداً بمائة ... إلى آخره " (1) .
3737- إذا رهن رجلان عبداً مشتركاً بينهما بمائة درهم لإنسانٍ عليهما، وتم الرهن ولزم، فالمائة مقسطة على الراهنين على كل واحد منهما خمسون فيما نصوره، فإذا أدى أحدهما ما عليه من المائة، انفك الرهن عن حصّته في العبد، وبقي نصيب الثاني من العبد مرتهناً بما عليه من الدين. وتعليل ذلك بيّن؛ فإنَّ كل واحد من الراهنين رهن ملكه بما عليه، وقد أدّى تمام ما عليه. ويستحيل أن يبرأ الراهن من الدَّين، ويبقى ملكه مرهوناً، ولو بقي مرهوناً، لبقي مرهوناً بدين غيره، ويستحيل ذلك؛ فإنه ما رهن نصيبه بدين غيره، وقال أبو حنيفة (2) لا ينفك الرهن عن شيء من العبد ما بقي من دين واحد منهما شيء. وهذا ظاهر السقوط.
وإنما نذكر في الأحايين مذهباً يخالف مذهبنا حتى يكون ذلك تذكرة، ويتمهد الأصل به.
3738- ولو رهن رجل واحدٌ من رجلين عبداً بدينين لهما عليه، فَأَوْجَبَ الرهنَ بلفظه وقبلاه، فإذا أدّى ما لأحدهما عليه، انفك الرهن في حصته، وانطلق تصرفه فيه، وبقي الباقي مرهوناً بدين المرتهن الآخر، وتعليل ذلك أن أحد المرتهنين استوفى جميع حقه وبرىء الراهن من دينه، فيستحيل أن يبقى ما كان مرهوناً به على الراهن.
وأبو حنيفة يخالف في هذا الطرف أيضاً (3) ، ويقول: تمام العبد مرهونٌ عند كل واحد منهما، وإذا أدى الراهن نصيب أحدهما، لم ينفك من الرهن شيء، ثم ناقض
__________
(1) ر. المختصر: 2/217.
(2) ر. البدائع: 6/138، حاشية ابن عابدين: 5/320، 321.
(3) السابق نفسه.(6/257)
أصلَه، فقال أوَّلاً: جميع العبد مرهون عند كل واحد منهما، وبنى عليه أنَّ الرهن لا ينفك عن شيء من العبد بأداء أحد الدينين، ثم ناقض وقال: لو هلك العبد وقيمته ألف، وكل دين ألف، لم تسقط الألفان بسقوط الدين بتلف المرهون، ولكن يسقط من كل دين مقدار قيمة الحصة المرهونة عنده.
ولا فرق في مذهبنا إذا رهن الرجل من رجلين بين أن يثبت الدينان عليه من جهتين، وبين أن يثبتا من جهة واحدة، كإتلاف مقوم عليهما، أو كابتياع عبدٍ منهما، فالحكم ما ذكرناه.
وحكى صاحب التقريب وجهاًً [غريباً] ، (1) أن الدين إذا ثبت لهما من جهةٍ واحدة، فلا ينفك الرهن بأداء حصة أحدهما. وهذا غلط صريح؛ إذ لا يتحقق الشيوع في الدين. وكل واحد يطالِب بحقه من غير مزيد، فبقاء الرهن في تلك الصورة مع سقوط الدين محال. ولا يتصور أن يثبت دينان لرجلين إلا على حكم التعدد والتميز.
3739- ولو استعار رجلٌ من رجل عبداً ليرهنه بمائة، فرهن من شخصين بمائة، ثم قضى دينَ أحدهما، انفك الرهن في النصف، كما قدمناه.
ولو استعار من رجلين، ورهن من رجلين، ثم قضى دين أحدهما، انفكَّ الرهن في النصف، ويقع ذلك النصف للمعيرين لا محالة؛ فإن الرهن جرى في ملك مشترك، وحصتين شائعتين، فينزل الفك على حسب ذلك.
ولو استعار رجلان من واحد، ورهنا من واحدٍ، ثم قضى أحدهما ما عليه من الدين، انفك النصف من الرهن، وعاد إلى المعير. وكذلك لو رهنا من رجلين بدينين عليهما.
ولو استعار من شخصين، ورهن من واحدٍ [فالراهن] (2) واحد، وهو المستعير، والمرتهن واحد، فإذا [قضى] (3) الراهنُ المستعيرُ نصفَ الدين ليفتك نصفُ الرهن،
__________
(1) زيادة من (ت 2) .
(2) في الأصل، (ت 2) : والرهن. والمثبت تقدير منا بناء على السياق.
(3) في الأصل، (ت 2) : اقتضى. والمثبت تقدير من المحقق مراعاة للمعنى الذي سيظهر تماماً
في بسط المسألة الآتي قريباً.(6/258)
ففي المسألة قولان، نص عليهما في الرهن الصغير (1) : أحدهما - لا يفتك من الرهن شيء؛ لأن الدين واحد، ومستحقه واحد، وقد وقع الرهن من واحد بدين واحدٍ، وحكم الرهن أن يكون كله متعلقاً بكل جزء من الدين الواحد، وما ذكرناً من الصّور قبل هذا مضمونه تعدد الدين، إمَّا بتعدد من عليه، وإمّا بتعدد مستحق الدين، وإما بالتعدد من الجانبين، فجرت تلك التفاصيل بناء على تعدّد الدين، والدين متحد في مسألتنا، وإنما وجد التعدد في مالك الرهن. وسبب التمكن من تصوير العدد في الملك مع اتحاد الدّين والراهن والمرتهن التصويرُ في الرهن المستعار؛ فإن الملاك المتعددين لا دين عليهم، والراهن لا ملك له، فلما اجتمع عدد المالك حيث لا دين، واتحاد الراهن الذي عليه الدين، ولا ملك له، انتظم منه القولان.
وقد ذكرنا أحدهما.
والقول الثاني: أنه ينفك، لأن صَدَرَ (2) الرهن عن ملكين، فينبغي أن يكون ذلك كما لو صدر عن دينين.
3740- ولا يتم الغرض في هذا مالم نوضح التصوير ببيانٍ أظهرَ ممَّا ذكرناه.
فالمسألة فيه إذا استعار رجل عبداً من رجلين مشتركين فيه، ورهنه بألف درهم من رجل واحد، ثم أدى خمسمائة.
هذا أصل التصوير. وتمامه أنه [إن] (3) نوى بالخمسمائة فكَّ نصيب أحدهما،
وعين ذلك الشخصَ بقصده، فالمسألة تخرجُ على قولين: أحدهما - أنه لا ينفك شيء. والثاني - ينفك حصة من عينه (4) . وأما إذا قصدنا بخمسمائة أن تؤدّى على الشيوع، من غير تخصيص بحقه، فلا ينفك في هذه الصورة من الرهن شيء؛ فإنه إذا تحقق تقدير أداء البعض عن كل حصة، فتلك الحصّة بكمالها تبقى مرتهنة إلى تقدير أداء جميع ما يقابلها من الدين. هذا حكم الرهن، فتصوير محل القولين يفتقر إلى
__________
(1) ر. الأم: 3/171.
(2) صَدَر: بفتحتين أي صدور.
(3) مزيدة من المحقق مراعاة لاستقامة الكلام.
(4) هذا التصوير بعينه في (الأم) في الموضع المشار إليه آنفا.(6/259)
فرض قصد المؤدي في فك إحدى الحصتين.
ولو استعار عبدين من شخصين، ورهنهما من رجل واحد بدين عليه متحد، ثم قضى نصفَ [الحق] (1) وقصد فكَ الرهن في أحد العبدين، وكانت قيمة كل واحد منهما مائة، فقد اختلف أصحابنا في هذه المسألة على طريقين: فذهب جمعٌ من الأصحاب إلى أنه يفتك الرهن في العبد الذي عينه بقصده؛ ففرق هؤلاء بين العبدين والعبد الواحد؛ من جهة تعدد المحل وتميز أحد العبدين عن الثاني.
وذهب المحققون إلى طرد القولين في صورة العبدين إذا اتحد الدين باتحاد الراهن، فالتعويل على اتحاد الدين وتعدده والمرهون لا ينظر إلى تعدده واتحاده، ولا يشك الناظر أن مسألة العبدين فيه إذا انفرد كل مالكٍ بعبدٍ، فعند ذلك تخيل أقوام الفرقَ، فأمّا إذا كانا مشتركين بين سيدين، فلا يخفى أن المسألة من صور القولين.
ونقل بعضُ الأثباتِ عن الشافعي في الأم نصاً غريباً، وهو أنه قال: إن كان المرتهن عالماً بحقيقة الحال، وكونِ المرهون مستعاراً من شخصين، افتك الرهن في النصف؛ لمكان علمه بتعدد مالك الرهن، فإن لم يعلمه، لم يفتك. وهذا لا ندري له وجهاً؛ فإن عدم الانفكاك سببه اتحادُ الدَّين، وعدمُ النظر إلى تعدد المالك واتحاده. وهذا لا يختلف بعلم المرتهن وجهله.
نعم يؤثّر العلمُ والجهل في شيء آخر، وهو أن من رهن عبداً مستعاراً من مالكين عند رجلٍ واحدٍ بثمن مشروط بالرّهن، وفرعنا على أن أداء ما يقابل نصيب أحد المعيرين يوجب انفكاك الرهن في حصته، نظر في المرتهن: فإن كان جاهلاً بتعدد المالك وصفة الحال، ثبت له الخيار إذا تبين الأمر؛ فإنه بنى الأمر على رهن مطلق بدينٍ واحد، وموجبه أن لا ينفك منه شيء ما بقي من الدين شيء. وإن كان عالماً بحقيقة الحال دارياً بأن ذلك يُفضي إلى تبعيضٍ في الفك، فلا خيار له إذا حصل التبعيض في الفك.
ولو كان بين رجلين عبد مشترك، فأذن أحد الشريكين لصاحبه في أن يرهن نصيبه
__________
(1) في الأصل: الرهن.(6/260)
من المشتري مع نصيبه المملوك له، فرهن العبدَ، ونصفُه ملكُه، ونصفه مستعار من شريكه، بالدين الواحد الذي عليه، فلو قصد فك الرهن في نصيب نفسه وإبقائه في نصيب الشريك المعيرِ، أو على العكس، ففي المسألة القولان المقدمان؛ فإن المالك متعدد، وأحدهما المعير، والثاني الراهن، والدين متحد. وهذا منشأ الخلاف.
3741- ولو وكَّل رجلان رجلاً واحداً ليرهن عبداً لهما من واحد، بدين لذلك الواحد عليهما، فإذا قضى أحد الموكِّلين نصيبَه من الدين، فقد ذكر بعض أصحابنا أن هذا من صور القولين؛ لأن الراهن متحد، وكذلك المرتهن، والراهن المتحد هو الوكيل.
وهذا خطأ، ولا ننظر إلى اتحاد الراهن من طريق الصورة، وإنما يَفْهَم عَقْدَ هذا الباب من يدري أن قطبه ومداره على اتحاد الدين، وإذا كان لرجل على رجلين دين، فهو في التحقيق دينان، ولا يتصور اتحاد الدين مع تعدد المستحق أو تعدد المستحق عليه.
فصل
قال: " ولو كان الرهن ممَّا يكال، كان للذي افتك نصفه أن يقاسم المرتهن بإذن شريكه ... إلى آخره " (1) .
3742- إذا رهن رجلان شيئاًً من المكيلات مشتركاً، أو من الموزونات، فإذا قضى أحدُهما نصيبه من الدين، فقد افتك الرهنَ في نصيبه، بناء على ما مهدناه، من تعدد الدين. قال الشافعي: " للذي افتك نصيبه أن يقاسِم " وهذا الذي ذكره جواب (2) على قولنا: " القسمة إفراز حق ". فإن جعلناها بيعاً، لم يجز، لأنه يؤدي إلى بيع المرهون بغيره (3) ، وهذا أصل يجري على الاطراد فيما يمتنع البيع فيه، ففي إجراء
__________
(1) ر. المختصر: 2/217.
(2) كذا في النسختين، ولعلها: جارٍ.
(3) فنصيب الشريك الذي افتك لم يعد رهناً، وهو شائع مختلِطٌ بنصيب شريكه، فلو قلنا: القسمة =(6/261)
القسمة قولان مبنيان على أن القسمة إفرازٌ أو بيع، وقد يطرأ على قول البيع في بعض المواضع قول في جواز القسمة؛ وذلك لمكان الضرورة. وهذا كما سنذكره في قسمة الوقف؛ فإنه على التأبيد والشركة القائمة قد تجرّ عسراً عظيماً. فإذا لم تفرض ضرورة ظاهرة، انطبق جواز القسمة ومنعها على القولين في أن القسمة بيع أم ليست بيعاً.
ومسألتنا من صور القولين؛ فإن الرهن ينفك عما قليل، فلا يظهر الضّرر.
3743- ثم ذكر الشافعي لفظاً، فقال: " للذي افتك نصيبَه أن يقاسم المرتهن بإذن
الشريك ".
قلنا: المقاسمة الحقيقية تجري مع الشريك؛ فإن المقسوم هو الملك، وهو منسوب إلى المالكين، ولكن الشافعي توسع في الكلام؛ إذ قال: يقاسم من افتك نصيبَه المرتهنَ، وحقيقة الاقتسام يتعلق بالمالك، والمرتهنُ (1) ليس مالكاً، حتى إذا فرّعنا على إجراء القسمة، فقد اختلف أصحابنا في أن إذن المرتهن، هل يشترط؟ فمنهم من قال: لا يشترط إذنُه، ولا تعلق للقسمة به. ومنهم من قال: لا بد من مراجعته لمكان حقه، [وهذا كقولنا: لا يصح بيع الرهن دون مراجعة المرتهن، وإن زعم الراهن أنه يبيعه في حقه] (2) .
ثم القسمة في المكيلات والموزونات قسمةُ إجبارٍ، فمن دعا إليها أجابه الحاكم، وإن امتنع الشريك المالك؛ فلا أثر للمراجعة؛ فإن المستدعي مجابٌ. نعم، حق على الحاكم أن يراجع الشريك؛ فإن أطاع، كان هو المنشىء للقسمة، وإن أبى، فإذ ذاك يظهر إجبار الوالي، وعلى هذا التفسير في مراجعة المرتهن من الخلاف ما قدمناه. فافهموه.
ولا يختص ما ذكرناه بالمكيلات والموزونات، ولكن كل قسمة يَجري الإجبارُ عليها على الجملة، فإذا فرض الرهن في جنسه، فالكلام في القسمة فيه على ما مضى.
__________
= بيع يكون قد بيع شيء من الرهن بغيره، ليصير رهناً، والرهن محبوسٌ للمرتهن لا يجوز بيعه.
(1) في (ت 2) : "الراهن" وهو سبق قلم واضح.
(2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.(6/262)
3744- ولو رهن رجلان عبدين مشتركين بينهما بدين كان لرجلين عليهما، ثم قضى أحدُهما ما عليه من الدين، فافتك الرهنَ في نصفي العبدين، فلو قال لشريكه: العبدان متساويان في القيمة، فتعال نقتسمها، وينفرد كل واحد منا بعبدٍ، فهذه القسمة ليست قسمة جزئية؛ إذ لا يعبر عن الحصتين فيهما بجزأين، بل لو جرت، لانفرد كل واحد بشخصٍ، وهذا النوع يسمى قسمةَ التعديل، ومعناه أنها لا تعتمد إلا تعديلَ القيمة.
فالقِسَم (1) ثلاثٌ: منها ما يعتمد الجزئية المحضة، وهي في المثليات، ومنها ما يعتمد التعديل في القيمة والجزئية، وعليها بناء قسمة الأقرحة (2) والدور. والإجبار يجري في هذين القسمين. والقسم الثالث - يعتمد تعديل القيمة، ولا مجال للجزئية فيه، كتمييز عبدٍ من عبد، وكوضع القسمة على أن ينفرد شريك بدار، وينفرد الآخر بدارٍ أو بستانٍ، أو سلعة من المنقولات. وللشافعي في الإجبار على هذه القسم الأخير قولان سيأتي ذكرهما في باب القِسام، إن شاء الله تعالى.
فإن قلنا: يجري الإجبار على هذه القسمة، فمن أصحابنا من قال: هذا النوع بيعٌ قولاً واحداً. ومنهم من قال: هو خارجٌ على القولين. فإن قلنا: هي بيع قولاً واحداً، امتنع جريانُها في الرّهن. فإن قيل: أرأيت لو رضي المرتهن؛ قلنا: لا يصح مع رضاه أيضاً؛ فإن رضاه يعمل في فك الرّهن، فأما في بيع الرهن بما ليس برهن ليصير رهناً، فلا مساغ لهذا أصلاً. والأجوبة وإن اختلفت في جواز نقل الرهن من عين إلى عين على حكم التراضي، فلا اختلاف في أن التبادل بصيغة البيع لا يجوز.
وإن قلنا: القولان جاريان في هذا الضرب من القسمة، فإن قلنا: لا إجبار عليها، فصحة القسمة مبنية على القولين، كما ذكرناه. ولكنا ذكرنا اختلافاً في القسمين المقدمين في أن المرتهن هل يُراجع؟ فإن قلنا ثَمَّ: يراجع، فلأن يراجع ها هنا أولى. وإن قلنا ثَمّ: لا يراجع، فهاهنا وجهانِ ذكرهما القاضي.
__________
(1) جمع قسمة.
(2) الأقرحة: جمع قَراح، وزان كلام، المزارع التي لي فيها بناء، ولا شجر (مصباح) .(6/263)
والأصح عندي أنه لا بد من مراجعة المرتهن، فإن ضرورة الإجبار إن أوهبَ (1) حقُّ المرتهن فيما تقدم، فيبعد جداً في صورةٍ لا إجبار فيها أن يخرج عن حق المرتهن في معرض التراضي شيءٌ كان متعلقَ حقِّه.
فليفهم النّاظر ما يمر به من البدائع.
3745- ثم ذكر الشافعي بعضَ تفريعات رهن المستعار، وبين أن حق المستعير أن يذكر للمعير الدَّينَ الذي يرهن به. وهذا تفريع منه على أن رهن المستعار ينحى به نحو الضّمان.
وقد تقصينا بما فيه مقنع.
فصل
قال: "ولو رهن عبده رجلين، وأقر لكل واحد منهما بقبضه كله ... إلى
آخره" (2) .
3746- هذا الفصل فيه تعقد من جهة التصوير، لا من مأخذ الفقه، والتدرج إلى البيان فيه يستدعي الاعتناء بالتفصيل.
فنقدم أولاً على الخصوص في المقصود تجديدَ العهد بأمور سبق تمهيدها: أولاً - إذا أقر المالك بأنه رهن عبده من زيد، ثم بأن أنه رهنه من عمرو، وسلمه إليه، ولم يتعرض في الإقرار الأول للقبض، وإنما ذكر الرهن المطلق، فيسلم الرهن إلى المقر له الثاني؛ من قِبل أنه لم يعترف في حق الأول إلا بالرهن، ولو رهن من رجلٍ، ولم يُقبض، ثم رهن من الثاني وأقبض، فيرتفع الرهن الأول، ويتم الثاني. هذا إذا جرى الإقراران على هذا الترتيب.
ولو قال أولاً: رهنت من زيد عبدي هذا، وسلمه إليه، ثم أقرّ بعد ذلك أنه رهنه
__________
(1) أوهبَ: دام (المعجم) . فكأن المعنى: إن دام حق المرتهن مع القول بالإجبار، فيبعد -ضرورة- ألا يكون له الحق في صورة عدم الإجبار. والله أعلم.
(2) ر. المختصر: 2/217.(6/264)
أولاً من عمرو، وسلمه إليه، فكان إقراره الثاني مخالفاً للأول. أما الرهن، فهو في ظاهر الأمر مسلَّمٌ إلى المقر له أولاً، وهل يغرَم المقِر للمقر له ثانياً قيمة ذلك الرهن لتوضع رهناً؟ فهو على قولين مأخوذين من أصلٍ معروف في أن الحيلولة في الأموال بالأقارير [وبالشهادات هل توجب الغرامة على المتسبب إلى إيقاعها بالإقرار] (1) أو بالشهادة المتصلة بحكم الحاكم؟ هذا الأصل على قولين.
ومن صوره لو قال: غصبت هذه الدارَ من فلان، لا بل من فلان.
وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله عز وجل في كتاب الغصوب، وفيه يتبين تفاوت المراتب في مسائل الأصل، ويتسلسل الترتيب، وما ذكرناه من القولين في الرهن ليسا على كمال البيان.
وكمال بيانهما في أثناء الفصل، وإنما غرضنا التنبيه على ما يُفضي إليه الإقرار الثاني من أمر الغرم.
3747- ومما نقدمه أن المالك لو قال: رهنت عبدي فلاناً من زيدٍ وأقبضته، بعد أن كنتُ رهنته من عمرو وأقبضته، فصدقُ الإقرار يقتضي تقديمَ زيد. ومنتهى الكلام المنعطف على أوله يقتضي أن يكون المتقدم عمراً.
هذا تخريجٌ على القولين في أن الاعتبار في مثل ذلك بأول الإقرار، أو بآخر الكلام المتواصل. فإن قلنا: الاعتبار بآخر الكلام، فالمقَرُّ له بحق السبق هو المذكور آخراً.
وإن قلنا: الاعتبار بصدر الكلام، فالمقر له أولاً هو المذكور أولاً في صدر الكلام، وهذا مأخوذ من قول القائل: لفلان علي ألفُ درهم من ثمن خمرٍ، فإن بنينا الأمر على آخر الكلام، لم نُلزمه شيئاًً، وإن بنيناه على أوله، ألزمناه الألفَ المقرَّ به، المذكورَ صدراً في الكلام، وأحبطنا الآخر، وسيأتي بيان هذا في الأقارير إن شاء الله.
فإذا تبين الاختلاف في مسألة الرّهن في أن الأوّل في ظاهر الحكم مَنْ؟ فمن نقدره أولاً، فالرهن مسلم إليه، وهل يغرَم المقر لمن نقدِّره آخراً أم لا؟ فعلى ما قدمناه من القولين.
__________
(1) زيادة من (ت 2) .(6/265)
3748- عاد بنا الكلامُ إلى الهجوم على مقصود الفصل. فإذا ادعى رجلان على واحدٍ، كلُّ واحدِ منهما يدعي عليه أنه رهن عبده منه وسلمه إليه، وقال كل واحد منهما: إنه بعدما سلمه إليه رهناً مستحقاً، انتزعه من يده غصباً أو استعاره منه وسلمه إلى الثاني.
ونفرض المسألة فيه إذا لم يكن لواحد منهما بينة؛ فإن القول في البينات وتعارضها لا يبين إلا في كتاب الشهادات، فإذاً لا بينة، والدعوتان مطلقتان، لا تاريخ في واحد منهما، إلا أن كل واحد منهما يدعي السبقَ والتقديمَ بالقبض، فلا يخلو إما أن يكون العبد في يد المالك أو في أيديهما، أو في يد أحدهما:
3749- فإن كان في يدي المالك، أو يدي وكيله أو نائبه، فلا يخلو في التقسيمة الأولى إما أن يصدقهما، وإما أن يكذبهما، وإما أن يصدق أحدهما ويكذبَ الآخر، فإن كذبهما، فالقول قوله مع يمينه، فيحلف وينتفي العقدان.
وإن صدق أحدَهما وكذّب الثاني، حكم بالرهن في ترتيب الكلام للمصدَّق منهما. وهل للمكذَّب أن يستحلف المقِرَّ؟ هذا يبتني على أنه لو أقرّ له بعد أن أقر للأوَّل، فهل يغرم القيمة للثاني؟ فعلى قولين، نبهنا عليهما في صَدْر الفصل. فإن قلنا: لا يغرَم، فلا فائدة في تحليفه؛ فإن اليمين تعرض حتى يهابها المعروض عليه، ويقرّ. ولو أقر لم يكن لإقراره حكمٌ في حق الثاني: لا في نقض حق الأول من الرهن، ولا في إثبات العوض، فلا معنى لليمين إذاً.
وهاهنا تنبيه على خبطٍ لبعض الأصحاب، تردد في مواضع فإن قلنا: لا يحلف المقِرّ، فلا كلام. وإن قلنا: يحلف، فإن حلف، فلا كلام. وإن نكل، رُدّت اليمين على المدعي، فإن نكل كان نكولُه بمنزلة حلف صاحبه. وقد مضى حُكم حلفه. وإن حلف، فقد قال بعض أصحابنا: هذا ينبني على أن يمين الرد بمثابة إقرار المحلَّف الناكل، أو بمثابة بيِّنةٍ مقامة في الخصومة؟ فإن قلنا: هي بمثابة إقراره، فلا يثبت إلا الغرم، كما تفصل من قبل. وإن قلنا: يمين الرد كبينة، فقد قال بعض الضعفة: تُجعل يمين الرد كبينة في الواقعة، تزيل يدَ المقر له أولاً، ويسلم الرهن إلى الثاني، كما لو قامت بينة على حسب هذا.(6/266)
وهدا غلط صريح، صرّح الأصحاب بنقله، ونحن لا ننقل أمثاله إلا للتنبيه على كونه زللاً.
والوجه فيه أن يمين الرد لا يكون كبينة في حق غير المتخاصمين، واعتقاد هذا محالٌ؛ فإن قصاراه أن يصير نكولٌ من خصم، ويمين من آخر حجةً على غيرهما، ولا يصير إلى اعتقاد هذا ذو لبٍ، وإذا كان غلطاً، فلا معنى للاعتناء بالتفريع عليه على عادتنا في العرض. ولكن القدر الذي فرعه الأصحاب على هذا الوجه الضعيف أنا لو استرددنا الرَّهن من الأول، ورددناه إلى الثاني، فالأول هل يغرم القيمة، من حيث قصر فلم يحلف؟ فيه طريقان: منهم من قال: قولان، ومنهم من قطع بأنه لا غرم عليه للأوَّل؛ فإنه إن كان يلتزم بالإقرار الثاني بعد الإقرار الأول غرماً، فسببه أنه قال ما كان من حقه أن لا يقوله، وتقصيره في مسألة الحلف امتناعه من اليمين، ويبعد أن يوجب ذلك تغريماً.
ولا ينبغي أن نزيد على هذا الخبط في تفريع أصلٍ هو خطأ.
هذا كله فيه إذا كذبهما، أو كذّب أحدهما وصدق الثاني.
3750- فإن صدقهما، وقال: قد رهنت منك، وسلمته إليك، وقال للآخر: قد رهنته منك وسلمته إليك، وكنت في أحد الرهنين والتسليمين مبطلاً، ولست أدري من المحق منكما ومن المبطل، وكيف جرى تأريخ السبق والتقدّم، فإذا قال المالك ذلك، لم يخل المدعيان إما أن يدعيا علمه، فكلٌّ يقول: تعلم سبقي وتنكر علمك به، وإما ألا يدعيا علمه، فإن لم يدّعيا إحاطته بحقيقة الحال، فلا نزاع لهما معه، والخصومة بين المدعيين، فلكل واحد منهما أن يحلِّف صاحبه، فإن تحالفاً أو نكلا، عسر إمضاء الأمر بينهما، ولم يكن أحدهما أولى بحقه من الثاني.
قال الأصحاب: إذا انتهى الأمر إلى هذا المنتهى، انفسخ الرهن. قال الشيخ
أبو محمد: يمكن أن يجعل هذا بمثابة ما لو تحالف المتبايعان، وفيه خلاف في أن
العقد ينفسخ أو يُفسخ، ثم إن قلنا: ينشأ فسخُه، فالقاضي يفسخ أو المتعاقدان،
فليخرّج هذا على ذاك، فإن حكمنا بالانفساخ، أو نفذنا الفسخ كما سنذكره، فالقول(6/267)
في الظاهر والباطن يعود، وهذا اختلافٌ حقُّه الجريان في كل موضع ترتب الحكم بالفسخ فيه على الإشكال، وتعذُّرِ إمضاءِ العقد.
فإن قلنا بالانفساخ، وهو الذي أطلقه الأصحاب في هذه المسألة، فلا كلام.
وإن قلنا بأنشاء الفسخ، فليس ذلك إلى المدعيَين، ولكن يفسخ الحاكم. ويبعد أن يقال: يفسخ المالك؛ فإن الخصومة ما تعلقت به: فالوجه والله أعلم تفويض الأمرِ إلى الحاكم. فإن قيل: إذا استوى المتداعيان في الحلف، أو في النكول، فهلا قلتم يقسم الرهن بينهما؟ قلنا: تداعيا عقداً، والعقود لا تقبل التقسيط. وسيكون لنا إلى هذا الفصل عودة في أثناء الكلام، إن شاء الله تعالى.
وإن حلف أحدهما ونكل الآخر، قُضي للحالف. وكل ذلك فيه إذا لم يدعيا علمَ المالك.
3751- فإن ادّعيا علمَه، وكلٌّ يدعي علمه على وفق ما يدعيه ففي ذلك مسائل: إحداها - أن ينكل عن اليمين في حقهما جميعاً، فتعود الخصومة إليهما، كما لو لم يدعيا علمَه؛ فإنه بنكوله عن اليمين حسم باب العلم، وأبهم الأمرَ. وإذا عادت الخصومة إلى المتداعيين، فقد تفصل ذلك بما فيه مقنع.
ولو حلف المالك على نفي العلم في حق كل واحد منهما، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن هذا منتهى الخصومة، وقد تحقق تعذر الإمضاء، فيترتب على حلفه لهما على نفي العلم انفساخُ الرهنين. ثم الكلامُ في الانفساخ ما مضى.
والوجه الثاني - أنَّ فائدة حلفه لهما أن تنقطع الخصومة عنه من جهتهما، والخصومة قائمة بين المتداعيين ما بلغت منتهاها، وهذا الوجه الثاني ذكره صاحب التقريب وشيخي وهو حسن فقيه.
وذكر بعض أصحابنا وجهاً ثالثاً- أن الرهن بين المتداعيين نصفان؛ إذ هو مُقِرّ لهما، وقد أشكل المتقدم منهما، ولا يمكننا أن نجعل العين كلَّها رهناً من كل واحدٍ، ولا من واحدٍ على التعيين، فالتقسيط أعدل. وهذا [و] (1) إن كان مشهوراً، فليس
__________
(1) زيادة من المحقق.(6/268)
يستند إلى فقه مُبين، مع بقاء المتداعيَيْن على النزاع القائم.
نعم لو اعترفا بالالتباس كما حلف المالك عليه، فالمصير إلى التقسيط في مثل ذلك رأيٌ قد نقول به، في الأملاك المُشْكِلَةِ، المترددة بين طائفة من المدعين، على ما سيأتي بيان الأملاك المشكلة بين المتنازعين، ثم [حكمها] (1) إذا اعترفوا بالإشكال.
ثم قال القاضي إذا ذكرنا وجهاًً في أن الرهن بينهما، وقد حلف المالك، فهذا الوجه يخرج إذا نكل عن اليمين في حقهما جميعاً؛ إذ لا فرق.
هذا كله إذا التبس الأمر كما قدمناه.
3752- فأمّا إذا أقر لأحدهما، فإقراره له مقبول. وهل يحلف للثاني؟ فعلى وجهين، أو قولين: أحدهما - أنه يقبل إقراره للمقَر له بلا يمين؛ إذ الملك له، وإليه الرجوع. ولو رجع عن إقراره، لم ينفعه رجوعه.
والثاني - يحلف. وهذه الأصول الملتفة راجعة إلى قواعدَ مضبوطة. فتحليفه في حق الثاني مأخوذ مما تقدم، من أنه هل يغرم للثاني لو أقر له. وقد مضى هذا. وعليه بنينا مسألةً في الجنايات من كتاب الرهن، وهي أن الراهن لو أقر بعد جريان القبض في الرهن بجناية قبل الرهن، وقلنا: القول قول الراهن، فهل يصدق بلا يمين؟ أم لا بد من تحليفه؟ فيه قولان: فإن قلنا: إنه يحلف، فلو حلف، انقطعت الخصومة، واستمر الإقرار، وإن نكل عن اليمين، ونكل المدعي أيضاًً عن يمين الرّد، فهو كما لو حلف المقر المالك.
وإن حلف من رددنا عليه، فمن أصحابنا من قال: في المسألة وجهان: أحدهما - أنه ينفسخ الرهنان، والثاني - يقسم بينهما. وهذا القائل يزعم أن الاقرار السّابق حجة، ويمين الرد من المدعي الثاني حجة، وينزل ما تقدم مع ما تأخّر منزلةَ ما لو ادعى المرتهنان عليه، فحلف لا يعلم، وذلك أن حلفه في الصورة المتقدمة يُلبّس
__________
(1) في الأصل، (ت 2) : حكمهما. والمثبت تقدير من المحقق؛ إذ الضمير يعود إلى الأملاك المشكلة.(6/269)
الأمرَ ويُعمي الخصومة، ويوجب استواء المرتهنين. ثم ينشأ من استوائهما أوجهٌ، قدمناها. وجهان (1) منها: أن الرهن بينهما؛ إذ الرهنان ينفسخان، وقد تحقق الاستواء بالإقرار، ويمين الرد. وهذا مسلكٌ لبعض الأصحاب. وإذا قيل له: فلو أقرّ للثاني بعدما أقر للأول، لم يتضمن إقراره للثاني المترتب على الأول استواءً بين المرتهنين، حتى يقضى بأنفساخ الرهن أو انقسامه، قال مجيباً: الإقرار الثاني مردود إلا في حق الغرم، واليمين الصادرة من المدعي حجة انتظمت الخصومة بها، وأفضت إليها، فلم يكن كإقرار ثانٍ بعد الإقرار الأول.
وسلك بعضُ أصحابنا مسلكاً آخر، فقال: إن جعلنا يمين الرد بمثابة الإقرار، فلا يستفيد الحالف المردود عليه حيث انتهى التفريع إليه إلا الغرم، كما قدمناه. وإن جعلنا يمين الرد بمثابة بيّنة، فالرهن يسلم إلى الحالف الآن؛ ويبطل حكم الإقرار الأول. وهذه الطريقة ضعيفة.
والطريقة الصحيحة القطع بتقرير الرهن الأول على موجب الإقرار الأول، من غير أن يُتبع بشركةٍ أو نقض، أو انفساخ؛ فإن الانفساخ يعتمد الإشكال، وقد استقل الإقرار الأول في البيان. والشركة تعتمد الاستواء، ولا استواء مع التقدم والتأخر.
ونقض الرهن الأول، وتسليمه إلى الثاني نتيجة بيّنةٍ تقوم، وقد ذكرنا أن يمين الرد ليست بيّنة في حق غير الناكل والمردود عليه، فقد بطلت هذه المآخذ. ولم يبق إلا القطع بأن الرهن يسلم إلى الأول، والناكل يغرَم للحالف القيمة؛ فإذا تبيّنا جواز تحليفه على تقديم الغرم، لا ينقدح عندنا في القياس إلا هذه الطريقة.
3753- وكل ما ذكرناه فيه إذا كان الرهن في يدي الراهن أو في يدي نائبه، بتقدير نزعه الرهن ممن سلمه إليه.
وقد أجرينا المذهب بكماله في هذا الطرف. ولكنا نخشى أن يتخبط على الناظر، فاللائق بطلب البيان أن نترجم ما قدمناه إلى الآن، ثم نبتدىء القسم الثاني.
فنقول: إذا جرى رهنٌ وتسليمٌ من رجلين، وعسر درك السابق منهما، فإن ادعيا
__________
(1) كذا في النسختين، ووجهها أنها في محل (البدل) من (أوجه) .(6/270)
علماً على الراهن والرهن في يده، فإن حلف لا يعلم، فقد أشكل الأمر من جهته، ونشأ منه أوجه: أحدها - قسمة الرهن؛ أخذاً من استواء المدعيين. والثاني - انقسام الرهن، تلقياً من الاستواء. ولا تبعيض بينهما بالاتفاق. والثالث - وهو الأصح الأقيس أن المرتهنين لا بد وأن يختصما. فإن تحالفا، أو نكلا، اعترض عند ذلك الانفساخ -والفسخُ في معناه- أو القسمة، للاستواء. وإن حلف أحدهما، قُضي له؛ فإنه منتهى الخصومة.
هذا إذا ادّعى علمَ الراهن، فحلف. فأما إذا نكل، فلا تقف الخصومة على النكول، وجهاً واحداً؛ فإن القضاء بالنكول لا يلائم مذهبنا، ولكن تسترسل الخصومة على المدعيين. ثم قد ذكرنا منتهى خصومتهما.
هذا إذا ادعيا علمه.
[فإن] (1) لم يدعيا علمه، فلا يتركان والاختصام من غير مراجعة المالك. ولكن لو اعترفا بأنه لا يعلم، وهو معترف أيضاً، فيكون هذا بمثابة ما لو نكل عن اليمين الموجهة عليه في دعوى العلم. ثم منتهى خصومتهما إذا أفضى إلى استواءٍ في نكولٍ أو حلف، عاد الوجهان في الانفساخ والانقسام. وإن وقعت الخصومةُ على حلف من أحدهما، ونكولٍ من الثاني، جرى القضاء باليمين، لا محالة.
ولو قال الراهن: أنا على [علم] (2) ، وأقر لأحدهما، واليد له، نفذ إقراره. ولو أقر للثاني، فقولا الغرم، وإن لم يقر، ففي التحليف قولان مأخوذان من الغرم. فإن حلف، انتهت الخصومة، واستقر الرهن على موجب الإقرار. وإن نكل، ونكل المدعي، فهو كما لو حلف.
وإن حلف المدّعي، تحزب الأصحاب أحزاباً، وذكروا طرقاً ثلاثة، أتينا عليها في آخر التفصيل، وارتضينا الصحيحَ الجاري على القياس.
هذه ترجمة ما قدمناه.
__________
(1) في الأصل: وإن. والمثبت من (ت 2) .
(2) في الأصل: علمه.(6/271)
3754- ونحن نخوض الآن في القسم الأخير من مضمون أصل الباب. فنقول: كل ما ذكرناه فيه إذا كانت اليد فيه للراهن، فأما إذا كانت اليد لأحد المدعيين، أو كان الرهن في أيديهما جميعاً، فنقول في ذلك: لو كان في يد أحد المدعيين، نظر، فإن أقر المالكُ لصاحب اليد، حكم له بالرهن؛ فإنه حصلت له شهادة اليد، وإقرار المالك. وإن أقر المالك لصاحبه الذي لا يدَ له في الحال، وزعم أن هذا المرتهن الذي هو ذو اليد، أزال يده التي أثبتها له، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنا نرجّح الإقرار على اليد؛ فإن قول المالك هو المعتبر، وإليه الرجوع، واليد لا تدل على الرهن وإنما تدل على الملك. على تفاصيلَ ستأتي، وذو اليد ليس يدعي إلا حقّ الرهن.
والقول الثاني أن الترجيح لليد. وهذا ضعيف لما قدمناه. وإن كان مشهوراً.
وصاحبه يقول: إذا كنَّا نرجح اليد في دعوى الملك، فاعتبارها في دعوى الوثيقة ليس بعيداً، واليد أليق بالرهن منها بالملك، فإن القبض ركن الرهن، ولا يكاد يخفى فرض المسائل كلها في [تسليم] (1) جريان الرهن في صورته مع الرجلين، وإنما النزاع في السابق بالقبض.
3755- ولو كان الرهن في أيديهما، فأقر لأحدهما، [فإن] (2) قلنا: نرجح الإقرار على اليد، حُكم به للمقر له. وإن قلنا: نرجح اليدَ على الإقرار، فالرهن بينهما.
ثم من قضينا له بالإقرار، تمَّ أمرُه في استحقاق الرهن، وإن كنا نرجح [اليدَ] (3) ، فلا نقضي باليد المجردةِ، فيبقى النزاع معها، غير أن القول قول صاحب اليد مع يمينه، وهذا لا شك فيه، وهو الشاهد بأن الإقرار أولى من اليد.
واختار المزني أضعفَ القولين فقال: إذا أقر المالك بالرهن والقبض [لمن] (4) لا يد له، فالقول قول صاحب اليد. وهذا تقديم منه لليد على الإقرار، وليس له
__________
(1) في الأصل: تسلم.
(2) في الأصل: إن.
(3) في النسختين: الرهن. والمثبت تقدير منا رعاية للسياق. لعله الصواب.
(4) في الأصل: ولا يد له.(6/272)
أصل ولا نعرف الخلاف أن الإنسان إذا كان في يده ملكٌ لغيره، فادعى أنه رهنه منه المالك، وأنكر صاحب الملك أصلَ الرهن، فالقول قول المالك في نفيه، ولا حكم ليد مدّعي الرهن. وإنما القولان فيه إذا جرى الرهن، وآل النزاع إلى القبض. وإذا كان الرهن لا يلزم بنفسه، فأي أثر له والقبض متنازع فيه.
ثم فرع المزني، فقال: إذا صادفنا الرهن في يد أحدهما، فقال: لقد قبضت، وقبض صاحبي أيضاًً، ولكن كان قبضي أسبق من قبضه، فيقال له: لو كان قبضك أسبق من قبضه، كانت اليد لصاحبك الآن، فإنك أقررت له بصورة القبض أيضاًً، وادعيت أنك السابق، وهذا يقتضي أن تكون اليد لصاحبك، وقد تلقاها منك غصباً، أو استعارةً، فموجب ما قلت يتضمن إقراراً لصاحبك باليد، فسلِّم إليه الرهنَ، ثم أثبت سبقَك.
قال القفال: فيما قاله نظر، وتفصيل، فنقول: إن صرح بأنه لم يقبض إلا مرّة واحدة، وكذلك صاحبه، لم تتجدد يده. ثم قال: وأنا سابق، ولم تزل يدي، فلم يتكرر، فهذه مناقضة. والجوابُ ما قال المزني.
فأمّا إذا قال: كنت السابق بالقبض، فأخذ مني صاحبي غصباً، فانتزعته من يده، ففي هذه الصورة يبقى في يده.
وما ذكره المزني محتمل في الصورة التي ذكرها القفال آخراً، فإنه على الجملة اعترف له بيده قبل هذه اليد التي نشاهدها. وادعى: أنه كان مغتصباً فيها، فعليه إقامة البينة فيما يدعيه من الغصب، والأمر محتمل كما ترى.
* * *(6/273)
باَبُ الرّهنِ يَجْمَعُ شَيْئَينِ
قال الشافعي رحمة الله عليه: " إذا رهن أرضاً ... إلى آخره " (1) .
3756- الفصل يشتمل على شيئين: أحدهما - أن من رهن أرضاً فيها أشجار، ولم يتعرض للأشجار، ولا لاسم يشتمل على الأشجار، كالبستان ونحوه، بل ذكر الأرض مطلقا، فهل تدخل الأشجار تحت تسمية الأرض؟ فيه اختلاف نصوص، وكذلك في البيع مثل ذلك. وللأصحاب طرق سبقت مفصلة، فلا نعيده. هذا أحد المقصودين.
والثاني - أن يبيع شجرة في مغرسها، أو يرهنها من غير تعرض لذكر المغرس، فحاصل المذهب أقوالٌ، وربما كان يقول: أوجه، فإن النصوص في المقصود الأول وهو بيع الأرض من غير ذكر الشجر. وهذا من بيع الشجر من غير ذكر المغرِس.
فمن أصحابنا من قال: لا يدخل المغرس لا في البيع، ولا في الرهن؛ فإن الشجر بالإضافة إلى الأرض فرعٌ، ويبعد استتباع الفرع الأصل.
والثاني - أن المغرِس يدخل في الرهن والبيع جميعاً؛ فإن مطلق العقد على الشجرة القائمةِ التي لا يعتاد قلعها يُشعر بحق تقريرها، وذلك (2) يثبت الاستحقاق في المغرس.
والثالث - أن البيع يتضمن استتباع المغرس بخلاف الرهن. والفرق ما قدمناه مراراً من ضعف الرهن وقوة البيع، وعليه خرّجنا الخلاف في أن مطلق تسمية الشجرة هل يستتبع الثمارَ التي لم تؤبر في الرهن استتباعها إياه في البيع؟
هذا قولنا في المغارس.
__________
(1) ر. المختصر: 2/217.
(2) في (ت 2) : لا يثبت.(6/274)
فأما إذا كان بين النخيل قطع أراضٍ لا غراس فيها، نُظر: فإن كانت بحيث تفرد بالانتفاع بها دونَ النخيل، فلا شك أنها لا تدخل تحت مطلق تسمية النخيل.
وإن كانت تيك القطع لا يتأتى إفرادها بالانتفاع بها إلا على طريق التبعية للأشجار فقد ذَكر شيخي وصاحب التقريب وجيهن فيها: أحدهما - أنها بمثابة المغارس حتى تخرّج فيها الأوجه التي ذكرناها في طرق الأصحاب (1) . ومن أصحابنا من قطع بأنها لا تدخل تحت البيع والرهن جميعاً، وجهاًً واحداً؛ فإنها ليست مغارس. وإن كانت لا تستقل بأنفسها. وهذا هو الأصح فيها؛ فإن استتباع المغارس على حالٍ ضعيفٌ، لما ذكرناه من لزوم استتباع الفرع الأصل.
3757- وما ذكره (2) في الأشجار ومغارسها يجري في بيع الأبنية من غير تعرض لأساسها. فالمسألة وقد سميت الجدران والبنيان في استتباع الأساس تُخَرّج على الأوجه الثلاثة. فإن قضينا بأن الشجرة تستتبع مغرسها، والجدار يستتبع أُسَّه، فهذا استتباع ملك، وهو كاستتباع الأرض الغراسَ والبناءَ في الأقوال المقدمة.
ولو رتب مرتب استتباع الشجر والجدار المغرسَ والأساسَ على استتباع الأرض الغراسَ والبناء، كان متجهاً؛ فإن قلنا: لا تستتبع الأرضُ الغراسَ، فلأن لا يستتبع الغراسُ المغرس أولى. وإن قلنا: تستتبع الأرضُ الغراسَ، فهل يستتبع الغراسُ المغرسَ، والجدارُ الأسَّ؟ فعلى وجهين. والفرق لائح.
وإن قلنا: الشجرة لا تستتبع مغرسَها ملكاً، فليس لبائعها قلعُها مجّاناً. نعم؛ اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: حق عليه أن يبقيها ما أراد المشتري بقاءها، فإنه باعها، وهي ذات حق في الثبوت في المغرس، فليثبت للمشتري على وجه ثبوته للبائع اعتباراً بسائر الحقوق. والوجه الثاني - أن البائع لو أراد قلع الشجرة، لم يمنع من قلعها، ولكن يغرَم ما ينقصه القلع، كما يغرَمه المعير في مثل هذه الصورة؛ فإن من أعار أرضا لتغرس فغرست، فللمعير قلعُ الغراس على شرط الضمان فيما ينقصه القلع. وسيأتي تفصيل ذلك في كتاب العَواري، إن شاء الله عز وجل.
__________
(1) في (ت 2) : في الاستتباع.
(2) في (ت 2) : ذكرناه.(6/275)
فصل
قال: " ولو رهن ثمراً قد خرج من نخله ... إلى آخره " (1)
3758- يمتزج بمقصود هذا الفصل رهن ما يتسارع إليه الفساد، وقد فصلنا المذهب فيه، وفرقنا بين رهنه بالدين الحال، وبين رهنه بالمؤجل، وذكرنا ما يليق به من التفصيل. فإذا اعترض كلامٌ في أثناء الفصل يتعلق برهن ما يفسد، أحلنا البيان على ما تقدم.
ومقصود الفصل التفصيل في رهن الثمار على رؤوس الأشجار.
والقول فيها ينقسم: فنتكلم في رهنها وحدها دون الأشجار، [ثم نتكلم في رهنها مع الأشجار.
فأما رهنها دون الأشجار] (2) فنقول: لا يخلو إما أن تكون مُزهيةً قد بدا الصَّلاح فيها، وإما أن تكون غيرَ مزهية، فإن كانت مزهية، فهي ناجية من العاهة، وكلامنا وراء ذلك في الدين الحال والمؤجَّل: فإن كان الدين حالاًّ، صح رهنها على كل حالٍ؛ فإنها وإن كانت لا تدّخر، فرهنها بالحالّ مسوغّ.
وإن رُهنت بالمؤجل لم يخلُ صنف الثمر: فإن كان يُجدُّ ويجفف، فالرهن جائز، وليست الثمرة مما تُعد جارية إلى الفسادِ. وإن كان صنف الثمر بحيث لا يدّخر، يُنظر: فإن كان يفسد قبل حلول الأجل، فالرهن جائز، ولا غموض في الفصل. وكل ذلك إذا كانت الثمرة مُزهيةً.
3759- فأمَّا إذا كانت غير مزهيةٍ، فما بدا الصلاح فيها، فلا شك أن بيعها مطلقاًً وبشرط التَّبقية باطل عندنا.
والمعنى الذي ذكرناه حداً للمذهب تعرّضُ الثمار للعاهة قبل بدوّ الصلاح.
__________
(1) . المختصر: 2/217. وفي الأصل شجراً. والمثبت من نص المختصر، ومثله (ت 2)
(2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.(6/276)
فأما رهنها مطلقاًً، فكيف السَّبيل فيه؟ نرسم صوراً ونرتب بعضها على بعض.
فنبدأ برهن الثمار قبل بدو الصّلاح فيها، ونفرض رهنها بالدين الحال. فنقول: إذا رهنت بالدين الحال مطلقاًً من غير شرط القطع، ففي صحة الرهن قولان، ذكرهما صاحبُ التقريب وغيرُه: أحدهما - أن الرهن يفسد كما يفسد البيع على هذا الوجه، والرهن يتبع البيع في الصحة والفساد. والثاني - أنه لا يفسد لمعنيين: أحدهما - أن الحلول في الرهن قرينةٌ حالّة محل شرط القطع؛ فإنّ مبنى الرهن بالدين الحال أن الرهن إذا كان بحيث يتسارع الفساد إليه، فإنه يباع على فوره، ويصرف ثمنه إلى الدين، أو يوضع رهناً. فإذا كنا نصحح رهنَ ما يتسارع إليه الفساد بالدين الحال حملاً على ما ذكرناه، فرهن الثمار بالدين الحال قبل بدوُّ الصلاح أولى؛ فإن ما يتوقعه من تعرّضها للصّواعق وغيرها من الآفات أبعد من توقع الفساد، فهذا أحد المعنيين.
والثاني - أنا لا نشترط في الرهن من الاحتياط ما نشترطه في البيع؛ والسبب فيه أن حق المرتهن الأصلي دينه، ودينه لا يسقط بفوات الرهن؛ ومقصود البيع يضيع بتلف المعقود عليه. وهذا المعنى فيه ضعف، وإن ذكره الأئمة. والمعنى الأول كافٍ.
هذا إذا كان الرَّهن بدين حال.
3760- فأما إذا كان بدين مؤجل نُظر: فإن كان الصَّلاح لا يبدو قبل حلول الأجل، بل الأجل يحل أولا، فلو رهن الراهن هذه الثمارَ على شرط أن [لا] (1) تباع بشرط القطع، ففي صحة الرهن قولان مشهوران: أحدهما - لا يصح، كما لا يصح البيع في نظير هذا. ومن اشترى ثماراً لم يبد الصلاح فيها على شرط أن يقطعها بعد يوم، فالبيع يفسد لتضمنه شرط التبقية، ولو في زمن قريب، فليكن الرهن كذلك.
والثاني - أن الرهن يصح، ولم يوجه الأصحاب هذا القولَ إلا بالمعنى الثاني الضعيف، الذي ذكرناه في صورة الرهن بالدين الحالّ. فقالوا: البيع لو بني على الغرر، خيف سقوط العوض والمعوض بتقدير التلف، والرهن لو ضاع، لم يضع الدين به.
__________
(1) ساقطة من الأصل.(6/277)
وهذا لست أُوثره، بل أقول: ليست الثمار قبل بدوّ الصلاح مما يعد فاسداً من ساعته. ولو رُددنا إلى المعنى لما أفسدنا بيعها بشرط التبقية، والمعتمد في إفساد البيع الخبر، والخبر وارد في البيع، فهذا أولى في توجيه هذا القول مما قدمناه، مع مصيرنا إلى فساد الرهن فيما يتسارع إلى الفساد، على تفصيلٍ مضى.
ثم رتب أئمتنا القولين في رهن الثمار قبل بدوّ الصلاح في الصورة التي نصصنا عليها والدين مؤجل على القولين والدين حال. ولا شك أن الرهن بالفساد أولى إذا كان الدين مؤجلاً.
ولو رهن الثمار قبل بدو الصلاح بدين مؤجل، وكان الصلاح لا يبدو إلا بعد الأجل، ولم يجر تعرضٌ للقطع عند المحل، ففي الرهن قولان مرتبان على القولين فيه إذا تعرض الراهن لذكر القطع عند المحل، إما بأن يشترط قطعه أو يشترط بيعه بشرط القطع، والصورة المبهمة الأخيرة أولى بالفساد، والفرق لائح. وقد قطع شيخي بصحة رهن ما لم يبدُ الصلاَّح فيه بالدين الحالّ، ولا وجه عندي إلا ما ذكر؛ فإنه إذا جاز رهن ما يفسد من ساعته بالدين الحالّ، فما المانع من تصحيح الرهن فيما لم يبد الصَّلاح فيه؟ والذي ينقدح لمن يخرج القولين تعارض أصلين: أحدهما - أن ما يفسد يباع ويوضع رهناً. والأصل الثاني - أن العادة مطردةٌ بتبقية الثمار.
وقطع صاحب التقريب قوله بإبطال الرهن بالدين المؤجل إذا لم يقع تعرضٌ لذكر القطع عند المحل.
هذا بيان الطرق.
3761- وكل ما ذكرناه فيه إذا كان الصَّلاح لا يبدو إلا بعد الأجل.
3762- فأما إذا كانت الثمار حيث يبدو صلاحها قبل الحلول، فقد قال الشيخ أبو علي بدوّ الصلاح عند المحل كشرط القطع عند المحل إذا كان الصلاح لا يبدو، فتنزل هذه المسألة في ترتيب المذهب منزلة ذكر القطع عند المحل؛ فإن سقوط شرط القطع بالصلاح عند المحل كذكر شرط القطع قبل الصلاح.
هذا كله في رهن الثمار على الأشجار دون الأشجار.(6/278)
3763- فأما إذا رهن الثمار مع الأشجار، فالقول الوجيز فيها أن ما يتعلق بشرط القطع، فهو ساقط في هذه الصورة، اعتباراً بالبيع في مثلها. وإن كانت الثمار بحيث تفسد في حَبسها قبل حلول الأجل، فيتصل هذا برهن ما يتسارع إليه الفساد [بدين مؤجل، وتفصيله بيّن، فحيث يقتضي المذهب تصحيح الرهن في الثمار، لم نشك في تصحيحه في الأشجار، وحيث يقتضي المذهب فسادَ الرهن في الثمار، ففي فساد الرهن في الأشجار قولا تفريق الصفقة.
هذا عقد المذهب.
وألحق بعض أئمتنا رهن الثمار قبل بدوّ الصلاح برهن ما يتسارع إليه الفساد] (1) وإن كان توقّع الفساد لا يأتيها إلا من الجوائح، فعلى هذا إن قطعنا ببيع الأشجار وعليها الثمار، ففي رهن الأشجار وعليها الثمار كلام، ففي الثمار تفصيلها وفي الأشجار تفريق الصفقة. والسبب فيه أن الأشجار أصلٌ في حق المشتري، وليمست أصلا في حق المرتهن؛ فإنها تباع في حقه بيع الثمار.
فصل
قال: " وإن كان من الثمر شيء يخرج، فرهنه ... إلى آخره " (2) .
3764- المقصود ذكر الثمار المتلاحقة، وقد مضى التفصيل في تلاحقها قبل القبض في البيع، وذكرنا القولين في أن المبيع إذا اختلط بغير المبيع قبل القبض على وجه يتعذر التمييز، فهل ينفسخ البيع أم لا؟ فلو فرض هذا الاختلاطُ في الرهن بعد القبض، فالتفصيل في الرهن المقبوض كالتفصيل في البيع قبل القبض؛ وذلك أن المرتهن إنما يتوثق إذا قبض، فهو والرهن في يده كالبائع والمبيع محبوسٌ عنده. وقد ذكرنا أنّ الاختلاط في البيع بعد القبض لا يؤثر في فرع العقد وانفساخه على المذهب
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(2) ر. المختصر: 2/217.(6/279)
الأصح؛ فإن العلائق في هذه الصور تنقطع في البيع بانتقال الضمان إلى المشتري
وهذا في الرهن لا يتحقق.
ثم إذا قلنا: ينفسخ الرهن بالاختلاط بعد القبض، فلا كلام. وإن قلنا لا ينفسخ، فلو فرض الاختلاط [قبل] (1) القبض في الرهن، فالمذهب الانفساخ لا وجه غيره.
وأبدى بعض الأصحاب (2) وجهاً أنه لا ينفسخ، كما لو كان الرهن عصيراً، [فاستحال] (3) خمراً. وقد ذكرنا في ذلك وأمثالِه خلافاً. وهذا ليس بشيء؛ فإن الخمر يتوقع انقلابها خلاً، والمختلط لا يتوقع تميزه.
هذا منتهى القول في ذلك.
3765- ثم ذكر الشيخ أبو علي بعد الفراغ من الثمار رهنَ الزرع وهو بقل. ونحن نقول فيه: إن كان البقل متزايداً، وكان يُخْلِفُ على الركيب (4) إذا جُزَّ، فرهنهُ كرهن ما يختلط، وقد ذكرناه وإن فرض رهنه بمؤجل من غير شرط القطع، [فالرهن باطل قطعا؛ فإن المرهون يختلط بغير المرهون لا محالة، وإن شرط] (5) القطع، فالرهن صحيحٌ. ثم يقع بعد القبض في تفصيل ما يفسد، فإن البقل بعد الجزّ يفسد على القرب، وقد تفصل المذهب.
وإن رهن بدين حالٍّ، ففي صحة الرهن قولان كما ذكرناه في الثمرة قبل الصلاح.
هذا والركيب يخلُف بعد الجزّ، فأما إذا جرى العقدُ على زرع هو بقل، والركيب لا يُخْلِف، فقد اختلف أصحابنا فيما يزداد إلى الإدراك، فمنهم من جعله كما لا يزداد من البقل المخلف. وهذا اختيار الشيخ أبي علي، ومن أصحابنا من قال: لا حكم لهذه الزيادة، كما لا حُكم لكبر الثمرة. وهذا فقيه عندي.
__________
(1) في الأصل: في.
(2) عبارة الأصل: الأصحاب فذكر وجهاً.
(3) في الأصل: واستحال.
(4) كذا في النسختين. ولم أجدها في المعاجم العربية، وستتكرر في هذه المسائل، ومن السياق يظهر أن معناها أصول جذور البقل بعد الجز.
(5) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.(6/280)
وحقيقة المذهب فيه تتعلق بأن من ابتاع زرعاً لا يُخْلِفُ ركيبه، فهل يملك أصل الزرع المكتتم بالأرض؟ وفيه تردد. فإن قلنا: إنه يملك، فما يزداد يزداد على ملكه، وهو حقاً ككبر الثمرة، وإن قلنا: لا يملك مشتري الزرع الركيب المستتر، فيظهر إذن إلحاق الزيادة بما يزداد من البقل الذي يُجَزّ فيُخْلِف.
عدنا إلى الكلام في الرهن. وقلنا: الزيادات التي تكون كالبقول ليست محتملة، فإن ألحقنا زيادة الزرع بها، فالتفصيل كما مضى من اختلاط المرهون بغير المرهون.
وإن لم نبال بهذه الزيادة، بقي النظر في تعرض الزرع وهو بقل للآفات، والكلام في شرط القطع. وقد مضى ذلك على ما ينبغي.
3766- ثم قال الشافعي: " وإذا رهنه ثمرة (1) ، فعلى الراهن سقيها ... إلى آخره ".
هذا تعرض منه للكلام في المؤن، وقد استَقْناه فيما تقدم، وأشرنا إلى اختلاف الطرق في ذلك؛ فلا نعيده.
* * *
__________
(1) في النسختين: (أرضا) والمثبت من المختصر: 2/218.(6/281)
باب ما يُفسدُ الرَّهن مِنَ الشرْطِ
قال الشافعي: " إذا اشترط المرتهن من منافع الرهن شيئاًً ... إلى آخره " (1) .
3767- الشروط في الرهن تنقسم: فمنها ما يوافق موضوع العقد ويتضمن تصريحاً بما يقتضيه مطلق العقد، فما كان كذلك لم يكن شرطاً على الحقيقة، وإنما هو تكرير معنى العقد، وهو بمثابة قول الراهن رهنتك هذا على أن تتوثق به، أو على أن يباع في دينك عند الحاجة إلى البيع، أو تَقَدَّم (2) به عند ازدحام الغرماء، فلا أثر لذكر أمثال هذا. والذي يذكر فيه أن من سماه شرطاً مجازفٌ متجوّز؛ فإنَّ الشرط هو الذي يزيد على مقتضى العقد.
وأمَّا الشرط الذي لا يتضمنه إطلاق العقد، فإنه ينقسم قسمين: أحدهما - ما يقدح في مقصود الرهن، فلا شك أن الشرط يفسد، ويفسد الرهن بفساده، قولاً واحداً.
وهو مثل أن يقول الراهن: رهنتك هذا على أن لا تَقدَّم به في مزدحم الديون، أو على أن لا يباع في حقّك، فهذا الشرط في الرهن بمثابة قول البائع: بعتك هذا على أن لا تملكه. هذا قسم.
والثاني - ما لا يتعرض لإبطال حق المرتهن من مقصود الرهن ولكنه فاسد في نفسه، وقد يتضمن اشتراط مزيدٍ للمرتهن. وتصوير ذلك أن يقول الراهن رهنتك هذا على أن منافعه لك، أو رهنتك البستان، أو هذا القطيع، على أن الثمار والنتاج ملكُك. أما الشرط، فلا شك في فساده، وفي فساد الرهن به قولان: أحدهما - أنه يفسد؛ فإنه اشتمل على شرط فاسدٍ يتعلق بأغراض الناس، وأصحاب الرهون في
__________
(1) ر. المختصر: 2/218.
(2) تقدم: بحذف تاء المضارعة.(6/282)
العرف الغالب يطلبون الرهون لمنافعها، فالشرط إذاً على فساده متعلق بما هو معدود من مقصود العقد.
والقول الثاني - أن الرهن لا يفسد؛ فإن المقصود فيه للمرتهن، وحقه لم يتغير بالشرط، ولم يقع لمقصوده تغرّض، أما شرط تمليكه الزوائد، ففاسد مطَّرح، وليست الزيادات المشروطة على الفساد في البيع بهذه المثابة؛ فإنها إن تضمنت مزيداً في شق من غير تنقيص مقصود العقد في ذلك الشق، فإنها تتضمن تنقيصاً في الشق الآخر، والبيع معاوضة يتعلق مقصودها بالطرفين، ومقصود الرهن لا يتعلق إلا بجانب المرتهن.
هذا بيان القول في ذلك.
ولو قال: رهنتك هذه الشاة على أن يكون نتاجها رهناً عندك إذا وجدت (1) ، فقد اختلف القول في الشرط هل يصح؟ حتى يُقضى بأن الرهن يتعدى إلى النتاج بالشرط، فأحد القولين - أن الرهن لا يتعدى، وهو الأصح؛ فإن العقد لا يقتضي التعدّي إلى النتاج، والشرطُ تعلّق بنتاج مفقودٍ.
والقول الثاني - أن الرهن يتعدى إلى النتاج مع الشرط؛ فإن الذي حملنا على قصر الرهن على المحل المذكور ضعفُ الرهن، وحكمُ اللفظ؛ فإنه خُص على ضعفه بمحل، فاختص به، فإذا أثبت سارياً إلى النتاج، ثبت كما أثبت.
وكان شيخي يقول: إذا فرعنا على أن الرهن يتعدى بالشرط إلى النتاج، ففي تعديه بالشرط إلى الأكسابِ تردد، والأظهر أنه لا يتعدى إليها؛ فإنها ليست من أجزاء الأصل، وإنما يثبت الملك فيها ابتداءً لمالك العبد، بسبب أن مكتسبها مملوكُه.
وكان يلحق العُقرَ (2) بالأكساب، ولا يؤثر فيه مذهب أصحاب أبي حنيفة.
هذا تفصيل المذهب في فساد الرهن والشرط، وصحتهما وصحة الرهن وفساد الشرط.
__________
(1) كذا: " وُجدت " بتأنيث الفعل، على قصد (النتيجة) يقال: نتَجَ الرجل البهيمة نتجاً من باب (ضرب) ، فهو ناتج، والبهيمة منتوجة، والولد نتيجة.
(2) عبارة (ت 2) : " وكان يلحق العقد بالأَكْساب فهو يؤثر فيه مذهب أصحاب أبي حنيفة ".(6/283)
3768- والآن نذكر أحكام الرهن المشروط في البيع على النعوت التي ذكرناها، فإن فسد الرهن بشرط يؤثر في مقصود الرهن وقد شرط هذا الرهن في بيع، فهل يفسد البيع بفسادِ ذلك الرهن المشروط؟ فعلى قولين مشهورين تقدم ذكرهما، وتوجيههما.
ولو جرى ذكر تمليك المرتهن زوائدَ الرهن، وهذا الرّهنُ على هذا النعت مشروط في البيع، فالبيع يفسد قولاً واحداً، سواء رأينا فساد الرهن أو لم نره؛ لأن شرط زيادة ملكٍ على الفساد للبائع مقروناً بالثمن يُصيّر الثمنَ مجهولاً، ثم يفسد البيع لا محالة به، وليس كما لو شرط رهن خمرٍ أو مغصوب، أو شرط في الرهن ما ينقص حق المرتهن؛ فإن شيئاً من ذلك لا ينضم إلى الثمن، فلا يصير الثمن مجهولاً. والرهن عقد على حياله، فيتجه في قولٍ أن لا يفسد البيع.
وإن قلنا: مثل هذه الزيادة لا يفسد بها الرهن، فيفسد البيع لما ذكرناهُ من انضمامها إلى الثمن، ويخرج منه أن البيع إذا فسد يفسد الرهن أيضاًً، لسقوط الدين الذي يُطلب توثيقه. وانتظم منه أن القولين في أن الرهن هل يفسد أم لا؟ لا يجريان [إلا] (1) في رهن غير مشروط في بيع، إما بأن يفرض رهنٌ مبتدأ في قيمة متلف، أو يُقدَّرَ رهنٌ في قرض، أو ثمنُ مبيع بعد لزومهما (2) .
فصل
قال: " ولو كان له ألف، فقال زدني ألفاً ... إلى آخره " (3) .
3769- إذا استحق ألفاً على إنسان، فقال من عليه الدين: زدني ألفاً، تقرضنيه، على أن أرهنك بالألف القديم، والألف الجديد رهنا. فإذا جرى القرض مشروطاًً بهذا الشرط، كان القرض فاسداً؛ والسبب فيه أن القرض الجديد مشروط بالرهن في
__________
(1) زيادة من: (ت 2) .
(2) أي القرض والبيع، ولم يجر القولان إلا بعد اللزوم؛ حتى لا تشترط الزيادة للمقرض، فيكون القرض جرّ نفعاً مشترطاً، وكذا في البيع؛ فإنه إذا لزم، ثم فرض الرهن واشتراط الزيادة، فلا يكون الثمن مجهولاً حينئذٍ؛ فقد لزم البيع، ولا علاقة للزيادة بالثمن.
(3) ر. المختصر: (2/218) .(6/284)
الدين القديم، وهذا قرض جر منفعة، وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
وليس ذلك بمثابة ما لو شرط في نفس (1) الإقراض رهناً بذلك القرض بعينه؛ فإن الرهن في عين القرض لا يعد منفعة، وقد ذكرنا ذلك في باب القرض مفصلاً، وإنما ظهر جر المنفعة في هذه الصورة من قِبل شرط الرهن في غير القرض الجديد.
ومن دقيق الكلام في هذا الفن أن المقرض لو قال: أقرضتك ألفاً، على أن ترهنني به وبالألف القديم. فهذا على التحقيق شرطٌ فاسد، مفسد لهذا القرض.
ولو قال المستقرض: أقرضني ألفاً على أن أرهنك بالألف القديم، فجرى الشرط من المستقرض لا من المقرض، فهذا فيه تردد. والظاهر أن الشرط فاسد مفسد، كما لو صدر من المقرض.
وقال بعض الأصحاب: الشرط المفسد هو ما يصدر من المقرض؛ فإن اللفظ يُرعَى في جانبه، والشرط لفظ يتعلق بالشق الذي يعتبر فيه اللفظ. فهذا يبتني على ما تقدم ذكره، من أنا هل نعتبر لفظ القبول في جانب المستقرض؟ فإن اعتبرنا في جانبه لفظا كما تمهد في باب القرض، فالشرط الصادر منه كالشرط الصادر من المقرض.
وإن قلنا: لا يعتبر في جانب المستقرض لفظ، فالمسألة فيها احتمال، كما تقدّم، من قِبَل أن المستقرض إذا تلفّظ، ابتنى على لفظه لفظُ المقرض، ونزل شرط المستقرض منزلة شرط المقرض.
فإذا تبين فساد القرض في الصورة التي ذكرناها، فإذا سلم (2) المقرض ألفاً على الفساد إلى المستقرض، ثم رهن المستقرضُ شيئاًً بالألف القديم والألف الجديد، فنقول: إن كان الألف الجديد موجوداً بعدُ؛ فالرهن به فاسد؛ فإنها (3) أعيان مقرَّة على ملك المقرض، والرهن بالأعيان فاسد، فإذا جمع بين الألف القديم والجديد في الرهن، وأبطلنا الرهن في الألف الموجود، فهل يبطل في القديم؟ فعلى قولي تفريق
__________
(1) في (ت 2) : تعيين.
(2) في (ت 2) : أسلم.
(3) أي الألف.(6/285)
الصفقة. وكل صورة جرى فيها تفريق الصفقة في الرهن، فهي مرتبة على نظير منها في البيع، والرهن أولى بالصحة؛ إذ ليس فيه عوض يصير مجهولاً، ويفسد العقد بسبب جهالته، والمعنى المعتمد في إفسادِ الصفقة إذا افترقت جهالةُ العوض، وهذا مفقود في أصل الرهن.
ثم إذا أفسدنا الرهن في الألف القديم، فلا كلام. وإن صححنا الرهن فيه، فقد قال الأئمة: الرهن يتوثق بالألف القديم، ولا يوزّع الرهن على الألفين المذكورين، وقد تقدم في تفريق الصفقة في البيع أن الأصح إذا بطل البيع في بعض مضمون العقد أن يسقط قسطُه من الثمن، وهذا المعنى غير معتبر في الرهن، والدليل عليه أن الرهن لو صح بالألفين، ثم أدّى أحدَهما، فلا ينفك من الرهن شيء أصلاً، وكان الرهن على حقيقته في الألف الباقي، حتى كأنه لم يرهن ذلك الرهن إلا به.
وإذا كان كذلك، فلا معنى للتقسيط في موضوع الرهن. وهذا بيّن لا خفاء به لمن تأمل.
ولو أقرضه ألفاً على الفساد، فتلف الألف في يده، فقد صار ديناً الآن عليه، فيصح الرهن بالألفين جميعاً، ولا إشكال.
3770- ومما يتعلق بتحقيق الفصل أنه لو شرط الرهن في الألف القديم مع القرض (1 الجديد كما صورناه 1) ، وحكمنا بفساد الشرط، وأفسدنا بسبب فساده القرضَ، فلو رهن بالألف القديم، فقد قال القاضي: إن كان يعتقد أن الرهن به واجب، وأنه وافٍ بواجب [التزمه بالشرط] (2) ، فالرهن مع هذا الاعتقاد لا يصح. واحتج عليه بأنه اعتقده واجباً، ولم يكن كما اعتقده. ولو لزم الرهن، لوقع واجباً، على معنى أنه لا دفع له بعد انبرامه بالتسليم. وشبه هذا بما لو أدى ألفاً إلى إنسان على ظن أنه دين عليه، ثم تبين أنه لم يكن عليه دين، فالمؤدى مسترد، والأداء غير معتد به (3) .
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2) .
(2) في (ت 2) : الذمة الشرط، وفي الأصل: التزمه الشرط.
(3) ر. فتح العزيز: 10/53.(6/286)
وهذا الذي ذكره غير صحيح.
وقد صرح شيخي وغيره بتصحيح الرهن، إذا كان عرياً عند الإنشاء عن شرط يفسده.
3771- ولو شرط بيعاً في بيع، وأفسدنا البيع الناجز لمكان الشرط الفاسد، ثم أنشأ المشروطُ عليه ذلك البيعَ المشروطَ الموعودَ، على ظن أنه يجب عليه الوفاء بذلك البيع، فقياس ما قاله القاضي أن البيع على اعتقاد الوجوب فاسد مردود.
وكان شيخي يقطع بصحة البيع كيف فرض الاعتقاد، إذا كان خلياً عند الجريان عما يفسده. وهذا هو الذي لا يسوغ غيره.
وقد يخرّج عليه أنه لو باع شيئاًً ظنه خمراً فإذا هو خل، فقياسه في ذلك قد يغمض. وقياسُ شيخي الصّحة.
3772- ولو أسلفه ألفاً على أن يرهن عنده به رهن، وشرط المرتهن لنفسه منافع الرهن، فهذا جر منفعة على الحقيقة، والقرض يفسد بسببه. وإذا فسد القرض، فسد الرهن، لا محالة.
ولو شرط البائع رهناً بالثمن، وشرط أن تكون منافع الرهن له، فالرهن يفسد لمزيد المنفعة التي شرطها، والثمن يصير مجهولاً به لا محالة.
وقد حكى المزني هذه المسألة وحكى فيها أن البائع بالخيارِ، ثم أخذ يعترض ويقول: أصل الشافعي أن البيع إذا فسد، فلا معنى للخيار فيه (1) َ، وظن أن الشافعي يرى أن الشرط الفاسد لو حذف يصح العقد، وهذا ظن سوء (2) . والجواب المبتوت أن العقد فاسد، ولا معنى للخيار فيه بعد الحكم بالفساد على وجهٍ أصلاً. ولكن المزني غلط في النقلِ (3 ثم أخذ يعترض، وإنما الخلل في النقل 3) .
__________
(1) ر. المختصر: 2/218.
(2) ر. فتح العزيز: 10/45. لتجد أنه يقول: " والأصحاب خطّؤوا المزني في نقله وحسبانه " ونص عبارة المزني في المختصر: "قلت أنا: أصل قول الشافعي أن كل بيع فاسد بشرطٍ وغيره أنه لا يجوز وإن أجيز حتى يبتدأ بما يجوز" (2/ 218) .
(3) ما بين القوسين ساقط من (ت 2) .(6/287)
ثم أخل المزني بنظم الكلام من وجه آخر، فصوّر رهناً مشروطاًً في بيع، وقد شرط في الرهن أن يتعدى إلى الزوائد، وفرّع على أن ذلك فاسد، ثم قال: إذا وقع البيع على هذا الوجه، فرع الرهن، والبائع بالخيار. قال أصحابنا: إنما قال الشافعي في هذه المسألة: فُسخ البيع، أو البائع بالخيار، فردد قوله في فساد البيع، ووقع الفسخ عبارة عن الفساد؛ فذكر المزني فيما نقله: فَسْخَ الرهن والبائع بالخيار، وهذا كلام لا نظم له. وإنما أخل به المزني. ثم اختيار المزني مهما (1) فسد الرهن المشروط في البيع أن البيع لا يفسد. وهذا غريب من اختياره؛ فإن القياس فساد البيع إذا فسد الرهن المشروط.
وهذا منتهى الغرض في ذلك.
فصل
قال: " ولو دفع إليه حُقاً، وقال: رهنتكه بما فيه ... إلى آخره " (2) .
3773- مضمون الفصل يتضح بأربع مسائل: إحداها- أن الراهن لو قال: رهنتك ما في هذا الحُق، أو ما في هذه الخريطة، فإن كانا عالمين بما فيهما، وكانا قد رأياه، فلا شك في صحة الرهن. وإن لم تسبق رؤيةٌ فيهما، وقع الكلام في رهن ما لم يُر. فإن جهلا وصف ما فيهما، مع انتفاء الرؤية، فقد نرى القطع بفساد الرهن. وذلك مذكور على الاستقصاء في تفريع بيع الغائب، فلا حاجة إلى إعادته.
3774- المسألة الثانية: أن يقول: رهنتك الحُقَّ بما فيه، أو الخريطةَ بما فيها، فإن كان ما فيهما معلوماً مرئياً، صح الرهن في الحق والخريطة. (4 وإن كان الرهن لا يصح فيهما -كما تقدم-[فالنظر] (3) في الحق والخريطة 4) .
__________
(1) "مهما" بمعنى (إذا) .
(2) ر. المختصر: 2/218.
(3) في الأصل: ففي النظر، والمثبت تقدير منا. حيث جاءت فيما سقط من (ت 2) .
(4) ما بين القوسين ساقط من (ت 2) .(6/288)
فإن كانا نفيسين بحيث يجرّد القصد إلى شرائهما [أو] (1) رهنهما، فنقول: فسد الرهن [فيما] (2) فيهما، وفيهما [قولا] (3) تفريق الصفقة، وإن كان الحُقُّ بحيث يُقصد، ولم تكن الخريطة بحيث تقصد. أما الحق. ففيه قولا تفريق الصفقة. وأما الخريطة، ففيها طريقان: من أصحابنا من قطع بفساد الرهن فيها؛ فإنها بالإضافة إلى ما فيها غير مقصود؛ فإذا لم يصح الرهن في حشوها بسببٍ، لم يصح في الخريطة أيضاًً؛ فإنها ما قُصدت، وإنما قصد ما فيها، فإذا لم يصح العقد على ما فيها فكأن (4) لا مقصود. وهذا فقيه لطيف، وهو كثير الجريان في المعاملات. ومعناه تنزيل العقد على موجب العرف والاعتياد، من غير اتباع صيغة اللفظِ.
ومن أصحابنا من قال: إذا كانت الخريطة متمولة، فالرهن إن لم يصح في حشوها، فيصح فيها؛ لأن الرهن أضيف إلى الخريطة وما فيها. كما قدمناه في الحُق. وإن لم تكن الخريطة متمولة، فنقطع بفساد الرهن فيهما لا محالة.
3775- المسألة الثالثة: أن يقول: رهنتك الحُق دون ما فيه، فيصح الرهن فيه دون ما فيه؛ فإنه خصص عقد الرهن بالحُق، فلم يتعدّه إلى ما فيه. ولا فرق بين أن يكون الحُق حقيراً أو خطيراً إذا كان له أدنى قيمة، بحيث يتمول. وقد سبق تفصيل التمول في آخر كتاب البيع؛ فيصح الرهن كما ذكرناه.
3776- ولو أطلق رهنَ الحُق والخريطة، ولم يتعرض لذكر ما فيهما بنفي ولا إثبات، وهذه هي: المسألة الرابعة: فنقول:
إن كان الظرف بحيث يقصد في نفسه، فذكر الظرفِ مطلقاً يقتضي نزولَ الرهن عليه، دون ما في جوفه. وتعليله بيِّن. وإن كان ذلك الظرف حقيراً لا يقصد في نفسه مفرداً أصلاً، ولكنه مما يتمول، فإذا جرى ذكرُ الظرف الذي وصفناه، ولم يجر
__________
(1) في الأصل: ورهنهما.
(2) ساقطة من الأصل، والمثبت من (ت 2) .
(3) سقطت من الأصل.
(4) في (ت 2) : وكان.(6/289)
تعرض لما فيه نفياً وإثباتاً، فلأصحابنا فيه وجهان: أصحهما - أن الرهن ينزل على الظرف لا غير؛ فإنه قابل للعقد، واللفظ لا يشعر في وضعه إلا به، فأشبه ما لو كان خطيراً.
والوجه الثاني - أن العقد نازل على الخريطة بما فيها؛ فإنها إذا لم تكن مقصودة، فذكرها في العرف يُعنَى به الخريطةَ لما (1) فيها، من هذا الوجه، وهو من باب تنزيل العقد على موجب العرف، من غير احتفالٍ بصيغة، والعقد منزل على قرينة الحال، وموجب التفاهم العرفي.
وكل ما ذكرناه في الرهن، فلا شك أنه لو صوّر في البيع، لكان الجواب على نحو ما ذكرنا، حرفاً حرفاً. فلا إشكال في الفصل. وإنما المقصود منه تصوير ظرفِ مالٍ، ولكنه لا يقصد مع كونه مالاً، إذا كان في جوفه مقصود. وقد فصلنا الغرض في تفصيل المسائل على ما ينبغي.
* * *
__________
(1) في (ت 2) : بما.(6/290)
بَابُ الرَّهْن غَير مَضْمُوْنٍ
3777- ذكر الشافعي قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا يغلَق الرهنُ من صاحبه، له غنمه، وعليه غرمه " (1) واختلفوا في قوله " لا يغلَق الرهن " قيل: معناه لا يملكه المرتهن بدينه، ولا يتعلق (2) الملك على الراهن. وقيل: معناه لا يغلَق على الراهن الانتفاع به. وقيل: معناه لا يسقط الدين بهلاكه.
وقوله: " الرهن من صاحبه " أي من ضمان صاحبه.
مذهب الشافعي أن الرهن أمانة في يد المرتهن، فإذا تلف في يده أو في يد العدل، كان أمانة. والدين لا يسقط منه شيءٌ عنده.
وقال أبو حنيفة (3) : هو مضمون بالدين على تفصيل له معروف.
ولو شرط الراهن كون الرهن مضموناً على المرتهن، فالشرط فاسد؛ لأنه مخالف لمضمون الرهن، ثم يفسد الرهن بفساد الشرط، ولكنه مع فساده يكون أمانة في يد المرتهن. وهذا أصلٌ مطرد، فكل ما يكون أمانة في وضعه لو صح لا ينقلب مضموناً ولا يخرج عن كونه أمانةً بأن يفسد.
واستثنى بعض الأغبياء مسألة عن هذه القاعدة، وهي إذا رهن شيئاًً عنده بدين مؤجَّل، وشرط أنه إن لم يفك الرهن في شهر، فهو مبيع عند المرتهن وراء الشهر (4) ،
__________
(1) ر. المختصر: 2/119. والحديث رواه ابن حبان في صحيحه: 7/570، ح 5904، والدارقطني: 3/32، والحاكم في المستدرك: 2/51، والبيهقي في السنن الكبرى: 6/ 39 وانظر التلخيص (3/83 ح 1243) .
(2) كذا في النسختين، ولعلها: ولا يغلق.
(3) ر. مختصر اختلات العلماء 4/308 مسألة: 2024، رؤوس المسائل: 303 مسألة: 191، البدائع: 6/140.
(4) في (ت 2) : وراء الشرط.(6/291)
فهذا الشرط فاسد، ولكن إذا مضى الشهر، فيصير بعد مضي الشهر مضموناً، فهذا رهن انقلب مضموناًَ، بحكم شرط فاسد.
وهذا يحتاج إلى فضل بيان.
فنقول: إن تلف في يده قبل مضي الشهر، فلا شكَّ أنه يكون أمانة؛ فإنه لم يدخل أوانُ البيع بعدُ، وحكم الأمانة ثابت. فإذا دخل وقتُ البيع المشروط على الفساد، نظر: فإن كان يمسكه المرتهن على حكم البيع، فهو مضمون عليه، وهو خارج عن حقيقة الرهن، سواء قُدِّر على الصحة أو على الفساد.
وإن علم أن شرط البيع فاسد، فكان يُمسكه على موجَب الرهن، وقصد ذلك ونواه، فالمذهب أن الضمان يجب؛ فإن الرهن فاسداً (1) قُدّرَ أو صحيحاً [ممدودٌ] (2) إلى شهر، فلا رهن بعد انقضائه، ولا يد إلا عن جهة البيع الفاسد. وهذا ظاهرٌ، لا إشكال فيه.
وأبعد بعضُ الأصحاب، فنفى الضمان (3) إذا لم يقصد المرتهنُ إمساكه وراء الشهر عن جهة البيع، وقصر الضّمان فيه إذا كان يقصد الإمساك على اعتقاد البيع. وهذا رديء لا أصل له، لما ذكرناه.
ووجه الغلط في الاستثناء أن المرهون وراء الشهر [خارج] (4) عن كونه مرهوناً بحكم اللفظ، فما (5) استثنى هذا القائلُ مرهوناً إذن، فكان ما جاء به لغواً.
وقد نجزت مسائل الكتاب. ونحن نرسم الآن فروعاً تجري مجرى الأصول، وقد يقع فيها مسائل متبدّدة غير منتظمة، والغرض الإتيان بجميعها.
__________
(1) في (ت 2) : فاسد قدراً صحيحاً ممدودٌ.
(2) في الأصل ممدوداً. وهو وهم من الناسخ. فهي خبر فإن....
(3) في (ت 2) : فنفى الضمان ذلك إذا لم يقصد.
(4) في الأصل: خارجاً.
(5) " فما ": (ما) هنا (نافية) ، والمعنى: أن الذي استثناه هذا القائل لي رهناً، ولذا وصفه بالغلط حينما قال: إن الرهن غيرُ مضمون إلا في هذه الحالة.(6/292)
فرع:
3778- قال العراقيون المودَع إذا ادعى رد الوديعة، على مالكها، فالقول قوله مع يمينه. ولو استأجر الإنسان شيئاً، ثم استوفى حقه منه لما قبضه، فهو أمانة في يده، ولو ادّعى أنه رده على المالك المكري، وأنكر المالك، فالقول قول المالك، فإنه قبض المستأجر لحق نفسه، لا لغرض المالك، ولا يُصدّق في دعوى الرد، بخلاف المودَع.
قالوا: كذلك إذا ادّعى المرتهن ردّ العين المرهونة على الراهن، وأنكر الراهن، فالقول قول الراهن؛ لما ذكروه من أن المرتهن تثبت يده لغرضه، فلا يُقبل منه يمينه برد ما قبضه.
ولو ادعى الوكيل الذي كان قبض من موكله عيناً ليبيعها أنه ردها على الموكل، قالوا: إن كان الوكيل يتصرف من غير جُعلٍ، فقوله مقبول، كما يُقبل قولُ المودَع؛ فإنه لا غرض له في قبضهِ ويدِه.
وإن كان يتصرف بجُعلٍ، فادّعى ردَّ العين، ففي المسألة وجهان.
وكذلك إذا ادّعى المقارض ردّ شيء من مال القراض على المالك، ففي قبول قوله وجهان: أحدهما - لا يقبل قوله؛ لما له في المال الذي كان تحت يده من الغرض، فأشبه المستأجر، والمرتهن.
والوجه الثاني - يقبل قوله؛ لأنه لا غرض له في العين المقبوضة، وإنما غرضه في مالٍ قدر له بسبب العين التي في يده، وحق المستأجر والمرتهن في عين ما قبضه أولا ثم ادعى ردَّه.
هذا ترتيب أئمة العراق. وهو حسن بالغ.
وأما المراوزة، فإنهم قطعوا أقوالهم بأن كلَّ مؤتمن لو تلفت العين في يده من غير تقصيره، لم يلزمه الضّمان، فإذا ادعى رده على مالكه المطلق، فهو مصدق فيه مع يمينه، ولم يفصلوا بين الوديعة والرهن والإجارة. وهذا قياسٌ مُطَّرد، وهو [أوقع] (1) في طريق المعنى مما ذكره العراقيون. وما أشاروا إليه من كون يد المرتهن
__________
(1) الأصل: واقع.(6/293)
والمستأجر عائدة إلى منافعها، لا معتبر به؛ إذ لو جاز التعويل عليه، للزم أن يكون ما ذكروه سبباً في إيجاب الضمان في الأصل على المرتهن والمستأجر لو تلفت العين في أيديهما، كما يجب الضمان على المستعير والمستأجَر (1) ، فإذا لم يكن كذلك؛ فلا معوَّل على ما ذكروه وليت شعري ما قولهم لو ادّعى المرتهن والمستأجر تلف العين في أيديهما، هل يصدقان عندهم أم لا؟ والقياس أن ينزل دعوى التَّلف منزلة دعوى الرد في كل تفصيل.
فرع:
3779- إذا رهن الغاصب العينَ المغصوبة عند إنسانٍ، وكان المرتهن يحسَبه مالكاً لتلك العين. فإذا تلفت في يد المرتهن، وجاء المغصوب منه مطالباً، قالوا: هل له مطالبة المرتهن أم لا؟ على وجهين: أحدهما - لا يطالبه؛ فإن يده يدُ أمانةٍ على الجملة، ولم يوجد من جهته عدوان؛ فلا وجه لمطالبته.
والوجه الثاني - أنه يطالَبُ؛ لأن العين المغصوبة تلفت في يده، ولم يوجد من جهة مالكها ائتمان فيها. ثم فرعوا على الوجهين. قالوا: إن قلنا: لا يطالب المرتهن، فلا كلام. وإن قلنا: إنه مطالبٌ، فهل يستقر الضمان عليه؟ فعلى وجهين: أحدهما - يستقر؛ فإن التلف حصل في يده، فأشبه ما لو أتلفه بنفسه، والتلف والإتلاف في الأعيان المغصوبة بمثابة واحدة، فينبغي أن يصير التلف منتهى الضمان في يد من وجد التلف في يده، وهذا معنى القرار. ثم من أثر الحكمِ بالقرار أنه إذا غرَّم المالكُ المرتهنَ، لم (2) يرجع على الغاصب، فإذا غرَّم الغاصبَ رجع [هو] (3) على المرتهن.
وقد طردوا ما ذكروه من الترتيب في يد المستأجر من الغاصب، ويد المودَع من جهة الغاصب، وكل ذلك وهم (4) يحسبون أن الغاصب مالك العين (5) .
__________
(1) المراد الأجير المشترك، وتكون المستأجَر (بفتح الجيم) . (وانظر روضة الطالبين:
4/97) .
(2) في الأصل كما في (ت 2) : ولم. ولا محل للواو فيما قدرنا. والله أعلم.
(3) مزيدة من (ت 2) .
(4) الضمير يعود على المستأجر، والمودَع، والمرتهن.
(5) أما إذا علم أن هذا مغصوب، فاستأجره أو ارتهنه ... ، فهو ضامن ضمان الغصوب قطعاً.(6/294)
وطريق العراقيين مخالف لطريق المراوزة في هذه القاعدة؛ فإن المراوزة يقطعون بتوجيه المطالبة على المرتهن والمستأجر والمودَع من جهة الغاصب على جهلٍ بحقيقة الحال في هذه المنازل، ثم يقطعون بأن الضمان مستقر على هؤلاء أصلاً. هذا بيان الطرق فيما ذكرنا.
فرع:
3780- قد ذكرنا صحة رهن المشاع عندنا، فلو كانت دار مشتركة بين شريكين، فلو رهن أحدُهما نصيبه شائعاً من بيتٍ معين من الدار المشتركة، فقد ذكر العراقيون وجهين في صحة الرهن: أصحهما - الصحة، جرياناً على القاعدة الممهَّدة.
والثاني - لا يصح؛ فإنا لو قدرنا الاستقسام من الشريكِ، فربما يتفق وقوعُ هذا البيت كلِّه في نصيب الشريك، الذي لم يرهن، وهذا يُفضي -لو صح- إلى بطلان الرهن. وهذه مسألة لطيفة.
ثم لو صححنا الرهن على الأصح، ففي كيفية إجراء القسمة تردّدٌ - إن كنا نرى إجراءها في المرهون؛ فإنا وإن جوزنا القسمة في المرهون، فليس فيها إبطال حق المرتهن بالكلية، ولكن يتعين حقه بعد أن كان مشاعاً. ولو أجرينا القسمة في الصورة التي ذكرناها، فقد يؤدي إلى إخراج البيت بالكلية عن الرّهن، وفيه إبطال حق المرتهن، فليتأمل الناظر في القسمة إن وقعت وتضمنت خروج البيت عن ملك الراهن بالكلية، أيتجه أن يقال: يغرَم الراهن قيمة الشقص المرهون، ويضعها رهناً عند المرتهن؟ أم كيف السبيل فيه؟
ووجه التردد أنه لم يأت من قبل الراهن شيء، ولم يجز (1) الشريكُ المستقسم، فقد يحتمل أن يجعل هذا بمثابة تلف المرهون في يد المرتهن، ولكن قد اعتاض عنه الراهن؛ فإن ملكه إن زال عن قسطه من البيت، فقد وقع له في القسمة خلوص شيء آخر في قُطرٍ آخر، فالوجه إذن تغريمه القيمة.
__________
(1) كذا في الأصل، مع أن النقط فيها أندر من النادر، وفي (ت 2) بهذا الرسم أيضاًً وبدون نقط
مع أنها تلتزم النقط دائماً. ولعلها: "لم يَجُر" من الجور، أو "لم يَجْنِ"، فالمعنى المفهوم
من السياق: "أن خروج الرهن من يد المرتهن لم يأتِ بفعلٍ من الراهن، ولا بجناية من
الشريك المستقسم، فأشبه ما لو كان بآفة سماوية".(6/295)
فرع:
3781- إذا اشترى رجل عبداً بألف، فجاء إنسان وتبرع بأداء الدين، وكان ما أداه من جنس الثمن، فيصح، وتبرأ ذمة المشتري، ولا يرجع المتبرِّع عليه بما أداه، وإن أبرأ ذمته؛ فإنه لم يؤدِّ بإذنه، فلو خرج المبيع مستحقاً، وبان بطلان العقد، فالبائع يرد ما قبض على المتبرع، ولا يرده على المشتري؛ فإن المتبرع إنما أداه ثمناً، فإذا لم يكن (1) ، ردَّ عليه ما سلمه إليه.
ولو استمر العقد على الصحة، ولكن وجد المشتري بالمبيع عيباً، فرده على البائع، فالبائع يرد ثمنه. واختلف أئمتنا: فمنهم من قال: يرده على المشتري؛ فإن البيع لم يتبين بطلانُه، وبقي الثمن على حقيقته، فلا سبيل للمتبرع إلى الرجوع فيما تبرع به. وليس ذلك كصور الاستحقاق.
ومن أصحابنا من قال: يرد الثمن على المتبرع؛ فإنه ما جرى بينه وبين المشتري ما يتضمن تمليك المشتري من طريق التضمين. وإنما طلب المتبرع أن يبرىء ذمة المشتري من غير تقدير تمليك له، حتى يقال دخل المؤدَّى في ملك المشتري في ألطف زمان، ثم انتقل من ملكه، ودخل ملك البائع، فإذا لم يكن [ذلك] (2) ممكناً، فالرجوع إلى المشتري بعيد مع أنه لم يخرج من ملكه شيء، وإنما يعود إلى الملك ما يخرج منه.
ولو جاء المتبرع وأدّى إلى البائع عَرْضاً عوضاً عن الثمن الذي في ذمة المشتري، فالمذهب أن ذلك جائز، كما لو تبرع بأداء جنس الثمن.
ومن أصحابنا من منع ذلك من المتبرع؛ فإن بذلَ العوض يستدعي دخول المعوَّض في ملك باذل العوض، وهذا غير متصور في حق المتبرع.
والأصح الوجه الأول، لما ذكرناه من نزول تبرع المتبرع منزلة الفداء، وذلك يجري في الجنس وغير الجنس.
__________
(1) أي إذا لم يكن ما تبرع به ثمناً.
(2) مزيدة من (ت 2) .(6/296)
ولو نكح الرجل امرأة وأصدقها شيئاًً، فتبرع أجنبي وأدّى ذلك الصدّاقَ عن الزوج من غير إذنه، ثم الزوج طلقها قبل المسيس، فنصف ما أدّاه المتبرع يرجع إلى الزوج أم يرجع إلى المتبرع، فعلى الوجهين؟ المذكورين في صورة الرد بالعيب.
فرع:
3782- إذا استحفظ الرهنَ عدلان، فهل لأحدهما أن ينفرد بالحفظ؟ فعلى وجهين ذكرهما القاضي وغيره: أحدهما - أنه لا ينفرد؛ لأن ظاهر التفويض إلى شخصين يقتضي أن يشتركا فيه، ويجمعا نظريهما، كما نقول في الوصيين.
والثاني - يجوز لكل واحد أن ينفرد بالحفظ؛ فإن الاشتراك في عينٍ بحُكم العرف يقتضي تسليط كل واحدٍ على الحفظ. وقد ذكرت هذا فيما تقدم. ولكن رددت احتمالات، فقد وجدناها منصوصة للأئمة.
فإن كان الشيء مما ينقسم، وقد جوزنا الانفراد بالحفظ، فهل يجوز أن يقسم بينهما حتى ينفرد كل واحد بحفظ حصته؟ فعلى وجهين: أحدهما - أن ذلك جائز، كما يجوز على الوجه الذي نفرع عليه أن ينفرد كل واحد بحفظ الكل، إذا لم تكن منازعة.
والثاني - لا تجوز القسمة؛ فإن الانفراد قد تلقيناه من العرف، أما القسمة، فليس يشعر بها العرف، ولا يتضمنها الإذن.
فرع:
3783- إذا رهن رجل من رجل شيئاًً، ثم سلمه إليه، وقال: قصدت بالتسليم إليك إيداعه عندك ولم أقصد إتمام الرهن وإلزامه بالقبض، فهل يصدق الراهن؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يصدق؛ فإنه المسلَّم وإليه القصد والنية.
ولا خلاف أنه لو قال عند التسليم: خذه وديعة، ولست أقصد إلزام الرهن، فإنه يقع وديعة، والرهن على جوازه، وكذلك إذا نوى وقصد.
والوجه الثاني - أن القول قول المرتهن؛ فإن الغالب في العرف أن من رهن، فإنه لا يسلّم المرهون إلا من جهة الرهن، وإن هو لم يرد ذلك، فالغالب أنه يودع المرهونَ عند غير المرتهن، فصدقنا المرتهن لظاهر الحال. وللفرع التفاتٌ على أن اليد هل تدل على الرهن؟(6/297)
فرع:
3784- قد ذكرنا أن يد العدل تنوب عن يد الراهن من وجه، وعن يد المرتهن من وجهٍ، وليس للمرتهن أن يأخذ الرهن من يد العدل، فلو أنه اغتصبه وأخذه من يده، فقد صار متعدتاً، ضامناً بما جرى منه، فلو جاء ورده إلى العدل، فالذي ذهب إليه جماهيرُ الأصحاب أن المرتهن يبرأ بما فعل عن ضمان الغصب؛ لأن يد العدل يدُ المالك؛ فإذا رد ما أخذه إلى نائب المالك، حكمنا ببراءته عن الضمان.
ومن أصحابنا من قال: لا يبرأ عن الضمان ما لم يرد المأخوذ إلى المالك. ثم (1)
يأذن للعدل إذناً جديداً في قبض الرهن من المرتهن؛ وذلك أن يد العدل قد [زالت] (2) بطارىء العدوان، فإعادة اليد أمر جديد، فلا بد فيه من إذن جديدٍ، والأصح الأول.
وإن قلنا بالثاني، فليس للعدل أن يقبضه منه إذا جاء به؛ فإنا نزعم أن التعديل الأول قد انقطع وزال، فلا بد من تجديد.
وما ذكرناه في العدل، فلا شكّ في جريانه في المودَع، وسيأتي شرح ذلك، وتفصيلُ القول في أنَّ المودَع هل يخاصِم من غصب الوديعة حتى يستردها - في كتاب الوديعة، إن شاء الله عز وجل.
فرع:
3785- إذا رهن عند إنسانٍ أرضاً، وشرط للمرتهن أن يغرسها لنفسه بعد مضي شهر، فيدُه قبل انقضاء - تلك المدة يد أمانةٍ، وإذا انقضت المدة، وأخذ في الانتفاع، صارت يده يدَ عاريةٍ؛ من جهة أنه منتفع بالإذن، من غير استحقاقٍ. وهذا معنى المستعير. فلو أنه غرس قبل المدة المضروبة، فقد تعدى موجَب الإذن؛ وغراسه لهذا السَّبب مقلوع، ولو أنه غرس في أوان الإذن في الغراس، فهو مستعير غارس، فلا يُقلع غراسه مجاناً، كما سيأتي ذلك مشروحاً في كتاب العارية.
ولو قال الراهن: رهنتك الأرضَ فإذا مضى شهرٌ، فهي مبيعة منك. فإذا انقضى الشهر، فغرسه، فلا شك أن الأرض ليست (3) مبيعةً منه، فإذا غرسها نُظر: فإن كان
__________
(1) في (ت 2) : أو ما لم يأذن للعدل إذناً جديداً.
(2) في الأصل: تزال، و (ت 2) : زال. والمثبت تصرّفٌ من المحقق.
(3) في (ت 2) : غير مبيعة.(6/298)
يعتقد أنها مبيعة، وأن غرسه واقع في ملكه، فقد نقل أئمة المذهب عن الشافعي في هذه الصورة أنه قال: "هو في غراسه كالمستعير إذا غرس على وفق الإذن، فإنا لا نقلع غراسه مجاناً". وهذا حسن منقاس لا شكّ؛ فإن ما جرى [من] (1) صورة البيع، لا ينحط عن الإذن في الغراس.
فأما إذا كان عالماً بفساد البيع، وأقدم على الغراس، مع العلم بحقيقة الحال، فقد نُقل عن الشافعي أنه قال: "غراسه مقلوع".
فإن قيل: إن لم يصح البيع، فهلا قيل: ما صدر من الراهن إذنٌ في الغراس؟ قلنا: لم يتعرض الراهن لتفصيل التصرفات، وإنما ذكر بيعاً، فإن صح، حكم به، وإن فسد وجرى غرس على جهل، يعذر الغارس، وكان كالمستعير. وَإن غرس عن علم، فلا عذر.
وهذا على حاله غير خالٍ عن ضرب من الاحتمال.
فرع:
3786- من مات وخلف تركة والديون على قدرها، أو أكثر، أو أقل، فالذي أطلقه علماء الشريعة أن الديون تتعلق بأعيان التركة، وتصير التركة موثقة بها. ثم ذكر العراقيون قولين في أن تصرف الوارث هل ينفذ في التركة قبل أداء الدين: أحدهما - أنه لا ينفذ، وهو ظاهر ما اختاره المراوزة.
والقول الثاني - إنّ تصرفه نافذ، ونزلوا تعلق الدين بالتركة منزلة تعلق الأرش برقبة العبد الجاني، وقد مضى في بيع الجاني قولان، والتفريع عليهما في كتاب البيع، وإنما شبهوا هذا بتعلق الأرش؛ من قِبل أن الأرش يتعلق برقبة الجاني من غير قصدٍ من المالك، كذلك الدين يتعلق بالتركة من غير إيثار واختيارٍ من المتوفَّى ومن الورثة.
وهذا الذي ذكروه تشبيه حسن من طريق الظاهر.
ولكن الذي يقتضيه الأصل عندي أن تعلق الدين بالتركة يضاهي طريق تعلق الرهون، والدليل عليه أن هذا مما حكم الشارع به نظراً للمتوفَّى، ولأجل تحقيق ذلك الحكم بحلول الآجال، مع ما فيها من التفاوت في المالية. فإذا كان سبب تعلق الديون
__________
(1) في الأصل: في.(6/299)
بالتركة ما وصفناه، فلا يليق بهذه المصلحة تسليطُ الوارث على التصرف، وليس كالأرش؛ فإنه أمر جزئي في حالٍ نادر، والديون في التركات عامة الكَوْن والوقوع.
ثم فرع العراقيون، وقالوا: إن رددنا بيع الوارث، فلا كلام. وإن نفذناه، نظر: فإن أدّى الدينَ من ماله، جرى البيع على نفاذه، وإن امتنع، نقضنا بيعه والتفريع على الجملة يقع على حسب تفريع بيع السيد للعبد الجاني. فإن قلنا: لا ينفذ بيع الوارث، لمكان الدين، لم يفصل بين الدين المستغرق وبين الزائد وبين الناقص.
هذا ظاهر المذهب.
وذكر بعض أصحابنا وجهاًً أن الدين إن كان أقلَّ من التركة، لم يمتنع به التصرف
على الوارث، وينفذ التصرف إلى أن لا يبقى من التركة إلا كِفَاء الدين. [وسنعود إلى هذا] (1) في كتاب التفليس، إن شاء الله عز وجل على قياس الديون في الرهون.
3787- وإن لم يكن في التركة دين، وكان البائع باع عبداً واستوفى ثمنه وأتلفه، ثم مات، وخلف تركة، ولم يخلف ديناً، فتصرف الوارث في التركة بالبيع، ثم وجد مشتري العبد به عيباً، فردّه في التركة فيصير الثمن ديناً، وهل يتبع تصرف الورثة في التركة بالنقض، لمكان الدين المنعكس على التركة؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون، مفرَّعين على أن الدين الناجز في التركة يمنع التصرف: أحدهما - أنا نتبين فساد تصرفه في الأصل، ونجعل ما لحق من الدين بسبب الرد بمثابة ما يكون موجوداً حالة الإقدام على التصرف؛ فإن السبب الموجب لذلك كان مقارناً، كمَا لو كان الدين
مقارناً.
ثم إن قلنا: يتبين فساد التصرف، فلا كلام. وإن قلنا: لا يستند (2) ، والبيع قد انقضى على نعت اللزوم، فإن أدّى الوارث الثمن المنعكس على التركة، فذاك، وإن لم يؤده، فهل يفسخ تصرفه؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنا نفسخه؛ فإنا لو لم نفعل ذلك، أدى إلى أن لا يجد من رد بالعيب مرجعاً، ولا سبيل إلى تضييع حقه.
__________
(1) في الأصل: وسنعيد هذا.
(2) أي لا يبطل (بالاستناد) .(6/300)
والوجه الثاني - أنا لا نفسخ [ذلك] (1) التصرف؛ فإنه كان انتهى إلى صفة اللزوم، فلا وجه لمنع لزومه على الوجه الذي نفرع عليه، ولو كنا نُسند الأمر إلى ما سبق، لأسندنا تبيّن الفساد إلى التصرّف، فعلى هذا إذاً لا وجه إلا مطالبةُ المتصرف في التركة، كما يطالب بدينه المختص به. ورُبَّ دينٍ يلزم إنساناً، وإن لم يكن ملتزمَه في الابتداء، كما يلزم الضامن بسبب الضمان.
3788- ولو خلف تركة ولا دين، فاقتسم التركة الورثةُ وتصرفوا فيها، ثم تردَّى متردٍّ في بئر كان احتفرها المتوفَّى في محل عدوان، فاقتضى الحالُ انعكاسَ الضمان على التركة، فهل يُتبع ما تقدم من التصرفات بالنقض؟ في المسألة وجهان مرتبان على التي نجزت الآن. وهذه الأخيرة أولى بأن لا تنقض التصرفات فيها إسناداً؛ فإن من مات وكان باع عبداً، فعهدة العقد قائم، فكأنه ترك على الورثة ذلك العبدَ بعهدته، ولا شك أن هذا أقرب من فرض تردِّي بهيمة في بئر بعد سنين، ثم التفريع في هذه المسألة على حسب التفريع في مسألة الرد بالعيب. والله أعلم بالصواب. [وإليه المرجع والمآب. انتهى كتاب الرهن] (2) .
* * *
__________
(1) مزيدة من (ت 2) .
(2) زيادة من (ت 2) .(6/301)
كتاب التفليس
3789- التفليس والإفلاس في أصل اللسان، يعبر بهما عن الانتهاء إلى غاية الضُّر في المسكنة. وقول القائل: أفلس فلان، معناه انتهى بضرورته إلى فلوسه، ولم يبق له مال يُرمق. وقول القائل: أفلس، معناه وصل إلى الفلوس. وهو على مذهب العرب، إذا قالت: أسهل زيدٌ، وأحزن عمرو، إذا انتهيا إلى السهل والحَزْن.
والتفليس اكتساب المفلس نعتَ إفلاسه.
3790- والذي نصدِّر به الكتابَ أن من قلّ مالهُ، وكثرت ديونه، فللقاضي أن يحجر
عليه، لأجل غرمائه إذا استدعَوْا ذلك منه، ويستفيدون باستدعاء الحجر قصرَ يده عن التصرفات في ماله؛ حتى تُصرفَ أموالُه إلى جهات ديونه، والأصل في جواز ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه حجر على معاذ بن جبل رضي الله عنه، وباع عليه ماله في ديونه" (1) ، وعن عمر بن الخطاب أنه قال في أثناء الخطبة: "ألا إن الأُسَيْفعَ، أُسيْفِع جهينة، رضي من دِينه وأمانته بأن يقال: سبق الحاجَّ، فادّان معرضاً (2) ، فأصبح وقد [رين] (3) به، وإنّا بائعو ماله غداً، فمن كان له عليه حق فليحضر" (4) .
__________
(1) حديث الحجر على معاذ: قال في البدر المنير: " هذا الحديث صحيح " وأخرجه الدارقطني: 4/230، والحاكم: 2/58- 3/273، والبيهقي: 6/48، ورواه أبو داود في المراسيل، وانظر التلخيص: 3/86 ح 1244.
(2) مُعرضاً: أي متوسعاً في الدين، من أعرض في الشيء إذا توسع فيه.
(3) في الأصل: دين. ورين به (بالراء) : وقع فيما لا طاقة له به، ولا يستطيع الخروج منه (معجم) .
(4) حديث عمر في أُسيفع جهينة رواه مالك في الموطأ بسند منقطع: 2/770 الوصية، ووصله الدارقطني في العلل: 2/147، وانظر التلخيص: 3/91 ح 1250.(6/303)
ثم إذا زادت ديون المرء على ماله، واستدعى الغرماءُ الحجرَ عليه أسعفهم، وضرب عليه حجراً.
3791- فإن كانت ديونه على مقدار ماله من غير زيادة ولا نقصان، فهل يحجر عليه إذا استدعى [الغرماء] (1) الحجرَ؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - لا يحجر عليه؛ فإن ماله كفاءٌ لديونه، وفيه وفاءٌ بجملتها، وإنما فائدة الحجر تضارب الغرماء بحصصهم، ورجوع كلٍّ إلى ما يقتضيه بسبب حقه.
والوجه الثاني - أنه يحجر إذا استدعَوْا؛ فإن الديون إذا ساوت، فما أسرع ما تزيد، ولو لم يبتدر القاضي الحجْرَ، لجرَّ تركُ الحجر ضرراً على الغرماء، وهذا الوجه مختار عند الأئمة؛ فإنا إذا كنا نسعى في إيصال الغرماء إلى حصصٍ من ديونهم عند ضيق المال، فلنسْع في إيصالهم إلى كمال حقوقهم عند مساواة الديون المالَ.
3792- ولو كانت الديون أقل من مقدار المال واستدعى الغرماءُ الحجرَ عليه، فقد ذكر أصحابنا في إسعافهم وجهين مرتبين على الوجهين في مساواة الديون المال، والصورة الأخيرة أولى بأن لا يجابوا إلى ملتمسهم.
وأطلق الأئمة ذكرَ الخلاف في الديون القليلة، فلا بد من تفصيل ذلك؛ فإنا على قطعٍ نعلم أن من يرجع إلى ثروة طائلة؛ ونعمة ضخمة، وعليه دين قليل بالإضافة إلن يساره، فتجويز الحجر على من هذا وصفه محال، وقائله في حكم الخارق للإجماع، فالوجه في تقرير القول في ذلك ما ذكره صاحب التقريب، حيث قال: إذا انحط قدر الدين عن قدر المال، ولكنا كنا نرى الديون إلى ازدياد، والدّخل (2) إلى انحطاط، وظهر في ظننا إفضاءُ الأمر على قُربٍ إلى المساواة، ثم منها إلى الزيادة، فإذا كان كذلك، اتجه الخلاف في ضرب الحجر.
والأمر على ما ذكره، فلا يسوغ تخيلُ غيره.
3793- ثم ذكر أئمتنا في الدين القليل في التركة خلافاً أيضاً، في أنَّ الوارث هل
__________
(1) في الأصل: الورثة.
(2) (ت 2) : والرحل.(6/304)
يمتنع عليه التصرف في التركة بسبب الدين القليل؟ وقد قدمنا ذكرَ هذا في آخر كتاب الرهن. والنظر في هذا إذا كان الدين قليلاً على خلاف ما ذكرناه في حالة الحياة؛ فإن التركة متعلقة بالديون، كالرهون التي يتوثق الدين بها، وكرقاب الجناة. [و] (1) على أي وجه فرضنا الأمر، فلا فرق بين القليل والكثير. والحجر في حالة الحياة ابتداءُ امرٍ لدرء الضرار عن الغرماء، وليست أموال من عليه الديون متعلقة للديون قبل اطراد الحجر.
3794- ثم قال العلماء: لا يضرب القاضي الحجر إلا إذا. استدعى الغرماء، فإن
استدعى كلُّهم، أجبيوا على التفصيل المقدّم وإن استدعى بعضُهم، نُظر: فإن كان دين
المستدعي بحيث يجوز الحجر بمثله لو لم يكن معه دين آخر، فإنه يجاب، ثم
لا يختص الحجر به، بل يصير محجوراً عليه في حقوق الغرماء كافة.
ولو لم يوجد من الغرماء كلِّهم الاستدعاء، واستدعى مَن دينُه يقل عن مبلغ المال، والتفريع على أن الدين القليل لا يحجرُ القاضي به، فهل يحجر إذا استدعى بعضُ الغرماء؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يحجُر، وهو اختيار شيخنا أبي محمد. ومن أصحابنا من قال: لا يحجرُ ما لم يبلغ ديونُ المستدعين مبلغاً يجوز الحجر بمثله لو لم يكن مزيد. ووجهه بيِّن.
ولو لم يستدعِ الغرماء الحجرَ أصلا، فليس للقاضي أن يحجُر على المديون ابتداءً، نظراً منه إلى طلب المصلحة الكلّية. هذا لا خلاف فيه.
3795- ولو ارتفع بنفسه إلى مجلس القضاء واستدعى منه أن يحجُر عليه، ويفض (2) أمواله على غرمائه، فهل يجيبه أم لا؟ اختلف أصحابنا في المسألة: فذهب الأكثرون إلى أنه يجيبه. وقال آخرون: لا يجيبه مالم يستدع الحجر غريمٌ، أو غرماء.
وقد قال العلماء: ما كان حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم على معاذ بن جبل
__________
(1) مزيدة من (ت 2) .
(2) يفض: يقسم.(6/305)
من جهة استدعاء غرمائه، والأشبه أن ذلك جرى باستدعائه (1) .
3796- ثم إن الشافعي ذكر بعد تمهيد القول في الحجر: أن البائع يرجع بعين المبيع إذا أفلس المشتري بالثمن، واطَّرد الحجر عليه، والقول في هذه المسألة وأطرافِها معظمُ الكلام في التفليس.
3797- فنقول: من باع عيناً وسلمها وأفلس المشتري، فحجر القاضي عليه، فللبائع أن يرجع [بعين] (2) المبيع، ويفسخ البيع؛ حتى لا يحتاج إلى مضاربة الغرماء، و [محاصصتهم] (3) بالثمن والأصل في ذلك الحديثُ، وهو ما روي عن أبي هريرة أنه رأى رجلا قد أفلس، فقال: " هذا الذي قضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيمّا رجل مات أو أفلس، فصاحب المتاع أحق بمتاعه، إذا وجده بعينه " (4) وقوله: " هذا الذي " ظاهر معناه أنه لم يُرد أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى على ذلك الشخص المعيّن، وإنما أراد بتعيينه التعرض لقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في صنفٍ عينه.
وأبو حنيفة (5) خالف في المسألة، ومنع فرع البيع بعد تسليم المبيع.
ثم أجرى الفقهاء في الخلاف طرفاً من المعنى، ووجَّه الخصوم عليها أسئلة، فدفعها أئمة المذهب بأمور مستفادة مذهبية. ولا ينتظم ذكرها إلا في معرض الأسئلة والأجوبة.
__________
(1) ينكر ابن حجر أن يكون الحجر على معاذ كان بطلب منه، ويقول: "هذا شيء ادعاه إمام الحرمين في النهاية، وتبعه الغزالي، وهو خلاف ما صح من الروايات المشهورة" ثم أشار إلى ما رواه الدارقطني من أن معاذاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فكلمه ليكلم غرماءه ليرفقوا به، وبذلك تجتمع الروايات ا. هـ التلخيص: (3/88) ، سنن الدارقطني: (4/231) .
(2) في الأصل: في عين.
(3) من هامش (ت 2) ، وفي الأصل، كما في (ت 2) : مخاصمتهم.
(4) حديث أبي هريرة: أخرجه أبو داود: بيوع، باب في الرجل يفلس فيجد الرجل متاعه بعينه، ح 3523، ومسند الشافعي رقم (564) ، والمستدرك (2/50) ، وانظر التلخيص (3/ 87 ح 1246) .
(5) ر. حاشية ابن عابدين: (4/ 44) .(6/306)
3798- فالذي هو عماد المذهب في إثبات حق الفسخ أن الثمن أحد عوضي البيع، فليكن التعذر فيه بمثابة التعذر في المبيع؛ فإن البائع يستحق على المشتري تسليمَ الثمن كما يستحق المشتري على البائع تسليمَ المبيع، [والتعاوض تبادل] (1) في العوضين، فالذي يقتضيه العقد استواء الشقين. ثم اعتضد الأصحاب بالقياس على تعذر المُسْلَم فيه بسبب انقطاعه.
هذا متعلق المذهب على الجملة أوردناه [لنفضَّ] (2) عليه الأسئلة المذهبية.
3799- فإن قيل: لو كان الثمن كالمُسْلَم فيه، لما جاز الاستبدال عنه قبل قبضه كالمُسْلَم فيه. قلنا: في الاستبدال عن الثمن قولان منصوصان.
فإن قيل: هلا قلتم: انقطاع جنس الثمن يقتضي من الانفساخ، أو ثبوتِ حق الفسخ ما يقتضيه انقطاعُ المسْلم فيه؟ قلنا: هذا خارج على قولي الاستبدال، فإن ألحقنا الثمن بالمسلم فيه في الاستبدال عنه، فلو انقطع جنس الثمن، كان كما لو انقطع المسلم فيه.
فإن قيل: هلا أثبتم للبائع حقَّ الرجوع وإن تلف المبيع في يد المشتري؟ قلنا: سبب إثبات حق الفسخ الخلاص من زحمة المضاربة، وإنما يتأتى هذا بالرجوع إلى عيْنٍ لا يزاحَم الراجِع فيها.
فإن قيل: قدّموه بقيمة المبيع من غير مضاربة. قلنا: حقه في العين، فلا يقدَّم إذا فاتت.
3800- فإن قيل: الرهن قد يفوت، وتنتقل الوثيقةُ إلى بدله، فهلاَّ كان الأمر كذلك في البائع مع المفلس؟ قلنا: حق المرتهن لا يتأتى في وضع الرهن إلا من بدله، فلم يمتنع انتقال حقه إلى البدل، بخلاف البائع؛ فإنّ حقّه في العين. فإن قالوا: إنما يُثبتون للبائع حق الرجوع طلبا لفائدةٍ، وقد يستفيد بالمضاربة بالقيمة
__________
(1) في الأصل: والتعارض يتبادل. و (ت 2) : والتعارض تبادل. والمثبت تصرف من المحقق.
(2) في الأصل: بدون نقط. وفي (ت 2) : نقصّ. وما اخترناه هو اللفظ المعهود في لغة إمام الحرمين.(6/307)
أمراً، وذلك إذا كانت القيمة أكثرَ من الثمن المسمى، فإذا ضارَب بالقيمة، كانت حصته أكثر من حصته في المضاربة بالثمن. قلنا: الأمور (1) تحمل على اعتدال، والغالب أن القيمة كالثمن. وإن فرضت زيادتها تارة، لم يمتنع فرض نقصانها أخرى.
وقد قال بعض أئمتنا بالمضاربة بالقيمة إذا ظهرت الفائدة. وحكى الإمام ذلك، وحكاه غيرُه على ندور، واشتهر بين الخلافيين.
3801- فإن قيل: ينبغي ألا يفسخ إذا قدمه الغرماء بتمام الثمن، قلنا: له الفسخ وإن قدموه؛ لمعنيين: أحدهما - أنه ربما لا يرضى بتقلّدِ منةٍ منهم، ويأبى إلا ما أثبته الله تعالى له. والثاني - أنه لا يأمن ظهور غرماء لا يرضَوْن بتقديمه.
فإن قيل: قد استشهدتم بالانقطاع في المُسْلَم فيه، وذلك لما أَثْبتَ حقَّ الفسخ، لم يفرق فيه بين أن يكون رأسُ المال قائماً أو تالفاً. قلنا: السبب فيه أن المُسْلَم إليه إذا لم يكن مفلساً، فالرجوع إلى بدل رأس المال ممكن معه؛ إذ لا مضاربة حيث لا حجر.
فإن قالوا: لو أفلس المُسْلَمُ إليه وحُجر عليه وجنس المُسْلَم فيه غير منقطع، فماذا ترون؟
قلنا: يفسخ المسلِمُ، ويرجع إلى رأس المال رجوع البائع إلى المبيع. فلو كان رأس المال تالفاً في هذه الحالة، وجنس المسلَم فيه غير منقطع، فلا يثبت الفسخ بسبب فوات عين رأس المال، ومسيس الحاجة إلى المضاربة، كما قدمناه؛ فلا فرق بين الفلس بالمُسْلَم فيه، وبين الفلس بالثمن.
فإن قيل: لو اجتمع فَلَسُ المسلَم إليه، وانقطاعُ جنس المسلَم فيه، فماذا ترون؟ قلنا: اختلف أصحابنا في هذه المسألة، فمنهم من قال: لا يثبت الفسخ مع الفلس إذا لم يجد مَنْ يُقدَّرُ فاسخاً عيناً يُقدّم (2) بها؛ لأنه لو فرع، لاحتاج إلى المضاربة، والفسخ إنما أثبت للخلاص منها. وظاهر المذهب أنه ثبت حق الفسخ في هذه الصورة؛ لأنه يستفيد بالفسخ الوصولَ إلى بعض حقه عاجلاً، ولو لم يفسخ، لأنظره
__________
(1) في (ت 2) : (الأصول) .
(2) في الأصل: ويقدم بها.(6/308)
إلى وجود الجنس، فربما يوجد الجنس ولم يبق بيده شيء يؤدى منه حق المُسْلِم.
3802- ومما يجري في هذه المسألة أنهم يقولون: الفسخ لا يرد على العين المبيعة، فإنه سلمها إلى المشتري، وإيراد الفسخ على الثمن وهو دين محال، فإن الفسوخ تعتمد الأعيان، فتردها، ثم تقتضي استرداد أعواضها. قلنا: هذا ينقضه السَّلم؛ فإنَّ الفسخ ينشأُ من تعذر فيه، وهو دين، ثم الفسخ يرد على العقد إذا قام ما يوجب الفسخ، وعلى هذا بنينا إجراء التفاسخ إذا تحالف المتعاقدان بعد تلف المبيع.
فإن قيل: هل تجوزون أن يقول البائع: رددتُ الثمن أو فسخت العقد فيه؟ قلنا: امتنع من إطلاق ذلك بعضُ الأصحاب، وقالوا: حق الفسخ أن يضاف إلى العقد المرسل، ثم إذا انفسخ استعقب الفسخُ مقتضاه. وقال قائلون: تصح العبارة على الوجه الذي طلبه السائل، ولا يضر إضافة الفسخ إلى الثمن، وقولنا في ذلك، كقول الجميع في السلم.
3803- فإن قيل: إذا باع رجل عبداً بجاريةٍ، وتقابضا، فقبض المشتري العبدَ والبائع الجاريةَ، وتلف العبد في يد قابضه، وأفلس، ووجد قابضُ الجارية بها عيباً، فإنه يردّها، فهل يتقدم بقيمة العبد المستردّ على الغرماء؟ قال القاضي: هذا يحتمل وجهين: أحدهما - لا يتقدم بها؛ لأنّها دَيْنٌ والتقديم بالدّين محال. والثاني - يتقدم؛ لأن الغرماء، وإن قدمنا عليهم من ردّ الجارية، فذلك في مقابلة ما أدخلناه في حقوقهم، فإنا رددنا عليهم الجارية، وكان التقدم في هذه الصورة (1) بالقيمة يضاهي تقديم من يعامله بعد الحجر بأثمان المعاملات.
فهذا تمام ما أردنا أن نذكره من دقائق المذهب في أثناء الأسئلة والأجوبة.
3804- ومما نلحقه بقاعدة الفصل أنا إذا أثبتنا حقَّ الفسخ للبائع، فهو على الفور أم على التراخي؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه على الفور؛ لأنه خيار فسخٍ شرع لدَرْء الضرار، فينبغي أن يكون على الفور، كخيار الرّد بالعيب والخُلف. والثاني - أنه على
__________
(1) (ت 2) : الصورتين بالقيمتين.(6/309)
التراخي؛ لأنه خيار يتضمنه الرجوع في عينٍ سلمها، وأزال الملك عنها، فأشبه ذلك حقَ الرجوع في الهبة.
قال القاضي: لا يمتنع أن يتأقت هذا الخيار بثلاثة أيام؛ فإنا سنذكر قولاً كذلك في خيار المعتقة تحت زوجها القن، إن شاء الله تعالى.
3805- ومما يتعلق بتمام الكلام في ذلك أن المشتري لو لم يكن مفلساً، ولكنه امتنع عن أداء الثمن، وعسر تحصيله منه، فهل يثبت للبائع حقُّ الرجوع؟ فوجهان: أحدهما - يثبت للتعذر. والثاني - لا يثبت، وهو ظاهر المذهب؛ لأن حكم الممتنع في الشرع أن يستوفَى منه الحقُّ طوعاً أو كرهاً. فإن فرض ماردٌ (1) لم يُبْنَ الشرعُ عليه.
3806- وإن غاب المشتري، فإن كان للبائع بيّنة، وقد ترك المشتري في البلد ما يفي بالثمن، فلا يرجع في عين المبيع، وإن لم تكن له بينة، ولا له مال في البلد.
فهذا بمثابة الامتناع الذي حكينا تردّدَ (2) الأصحاب فيه.
ويثبت الرجوع إلى عين المبيع بعد وفاة المشتري، وفي حال حياته إذا أفلس وضُرب الحجر عليه، وأثبت مالك الرجوعَ [في حال الحياة، ولم يثبته بعد الوفاة] (3) . وتعرض الشافعي له بالمحاجة بأمورٍ لا حاجة بنا إليها.
__________
(1) (ت 2) : ما زاد. وهي في الأصل بهذا الضبط (ماردٌ) على خلو نسخة الأصل من النقط والضبط.
والمارد: الطاغية العاتي (معجم. ومصباح) .
وفي الروضة للنووي (4/149) : " ... نادرٌ لا عبرة به" وهذا أشبه بلغة الفقهاء.
(2) (ت 2) : حكيناه، وتردد الأصحاب فيه.
(3) في الأصل، وفي (ت 2) : " وأثبت مالك الرجوع بعد الوفاة، ولم يثبته في حال الحياة "، والذي سوغ لنا هذا التصويب، واعتباره سبق قلم من الناسخ أمران:
أ- أن هذا هو المنصوص في كتب المالكية، مثل: جواهر الإكليل شرح مختصر خليل (2/94) ، بُلغة السالك لأقرب المسالك (2/126) ، وبداية المجتهد (2/217) ، والموطأ: كتاب البيوع، ح 87. وهو ما حكاه عنهم الشوكاني أيضاًَ في نيل الأوطار (5/365) .
ب- والأمر الثاني الذي سوغ لنا هذا التصويب، محاجة الإمام الشافعي للإمام مالك، التي أشار إليها إمام الحرمين، فالشافعي يقول: " ويقال لمن قبل الحديث في الحياة دون =(6/310)
3807- ومما نثبته في أصل الكتاب توطئةً للقواعد أن أصحاب الديون الحالّة يتضاربون في مال المفلس، واختلف القول في الديون المؤجّلة، فأحد قولي الشافعي أنها تحل بالحجر، كما تحل الديون المؤجلة بالموت. والقول الثاني: إنها لا تحل.
فإن قضينا بحلولها، اضطربوا مع المضطربين، وإن حكمنا بأنها لا تحل، فالمال العتيد الموجود مصروف إلى أصحاب الديون الحالة، وأصحاب الدُّيون المؤجلة يؤخَّرون. ثم إذا حلت آجال ديونهم بعد فضّ المال على الديون الحالة، لم يملكوا أن يرجعوا بشيء مما تضارب أصحاب الديون الحالة.
وسيكون لنا إلى تفصيل القول في حلول الآجال عودة، إن شاء الله تعالى.
فصل
قال: " فإن تغيرت السلعة بنقصٍ في بدنها ... إلى آخره " (1) .
3808- إذا أفلس المشتري، فالمبيع لا يخلو إما أن يكون تالفاً أو قائماً: فإن كان تالفاً، لم يثبت للبائع حق فرع العقد، وليس له إلا مضاربة الغرماء بمقدار الثمن، كما قررناه فيما تقدم.
فأمّا إن كان قائماً، فلا يخلو إما أن يكون متغيراً في ذاته، أو غير متغير. فإن لم يكن متغيراً، لم يخل إما أن يكون خرج عن ملك المشتري، ثم عاد إليه، أو لم يكن خرج عن ملكه. فإن كان خرج عن ملكه، ثم عاد إليه، ثم أفلس، نُظر: فإن عاد بهبة، أو وصية، أو إرث، ففي المسألة وجهان: أحدهما - يرجع نظراً إلى قيام
__________
= الموت: قد حكم النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة على الحي، فحكمتم بها على ورثته، فكيف لم تحكموا في المفلس في موته على ورثته، كما حكمتم عليه في حياته؟ " مختصر المزني (2/219) .
فاستشهاد إمام الحرمين بكلام الشافعي هذا في الرد على مالك، يشهد بأن ما كان في النسختين عكس ما يريده المؤلف، مما سوّغ لنا هذا التصويب. والله أعلم.
(1) ر. المختصر: (2/219، 220) .(6/311)
السلعة في ذاتها. والثاني - أنه لا يرجعُ؛ فإن حق الفاسخ (1) أن ينقض بفرعه الملك الذي استقر (2) منه بالعقد من جهته. والملك الزائل العائد ليس كذلك. ولهذا نظائر، منها زوال ملك المتهب وعوده بإحدى هذه الجهات، فهل (3) للواهب الرجوع؟ فعلى ما ذكرناه من الوجهين.
وإذا زال ملك المرأة عن الصّداق، وعاد قبل الطلاق، فإذا طلقها زوجهاً قبل المسيس، فهل يرجع في نصف عين الصداق؟ فعلى ما ذكرناه من الخلاف.
وإذا باع عبداً بثوبٍ، فخرج العبد من ملك المشتري، ثم عاد إليه، وقد اطلع صاحبه على عيب بالعوض الذي قبضه، فله ردُّه، ولكنه هل يرجع بالعبد الذي زال وعاد؟ فعلى وجهين.
ومسلك الكلام في جميعها واحد.
3809- وكل ما ذكرناه فيه إذا كان زال ملك المشتري، وعاد بتبرع، أو بجهةٍ لا عوض فيها. فأما إذا زال ملك المشتري بجهةٍ من الجهات، أيةِ جهةٍ كانت، ثم عاد إليه ببيع، ثم أفلس، فقد تحقق إفلاسه بالثمن الأوّل في البيع الأوّل، وتحقق إفلاسه بالثمن الثاني، ففي المسألة أوجه: أحدها - أن حق الرجوع للثاني، وهو القياس، فيرجع في المبيع إن شاء (4) ؛ لأن تلقي الملك فيه من جهته الآن.
والوجه الثاني - حق الرجوع للأول؛ لأنه أسبق، فهو أولى بالتقديم. وهذا يتجه بالبناء على أن الرجوع يثبت في الملك الذي زال وعاد، كما ذكرناه، فكأن الملك لم يزل في حق الأول، وحقه مستدام فيه.
والوجه الثالث - أنهما يستويان فيه؛ لأن للأول حق السبق، وللثاني حق الدنوّ والقربِ، واطرادِ الملك من غير تقطع، وإذا تقابل المعنيان، أوجب ذلك أن يستويا،
__________
(1) (ت 2) : التفاسخ.
(2) (ت 2) : استعيد.
(3) (ت 2) : " فإن قلنا: للواهب ... .
(4) في الأصل: "إن شاء الله" ولا محل لها تبريكاً ولا تعليقاً.(6/312)
فيرجع كلٌّ بنصف الجارية (1) ويضارب بنصف الثمن.
3810- ثم نفرع فنقول:
إن عفا الأول، فالحق للثاني وجهاًً واحداً، وإن عفا الثاني، فهل للأول حق الرجوع؟ فعلى وجهين مبنيين على أنه لو زال ملكه بهبةٍ، ثم عاد بمثلها، أو بإرث، فهل يثبت للبائع حق الرجوع؟ فيه الخلافُ الذي تقدّم.
هذا كله إذا كان قد خرج عن ملك المشتري وعاد.
3811- فإن لم يخرج عن ملكه، بل اطرد ملكه، فلا يخلو: إما أن تعلّق به حق الغير، أو لم يتعلق: فإن تعلق به حق الغير، لم يخل إما أن يكون متعلقاً بعينه، أو لا بعينه: فإن كان متعلقاً بعينه، كحق المرتهن، والمجني عليه، والكتابة، فلا يملك البائع إبطال هذه الحقوق. ولكن لو صبر حتى فك عن الرهن، وبرىء عن الجناية، فإنه يرجع الآن. هكذا قال فقهاؤنا.
وقد ذكرت طرفاً من هذا في أحكام الرد بالعيب.
وأما إذا كان مكاتباً، فصبر حتى رَقَّ المكاتَب، وعجز عن أداء النجوم، قال بعض أصحابنا: هذا يخرّج على الوجهين؛ لأن الكتابة ألحقته في أحكام الاستقلال بالأحرار، فيجعل الاتصاف بها والعود إلى الرق المطلق، بمثابة زوال الملك في المبيع وعوده.
هذا إذا كان الحق متعلقاً بالعين.
3812- فأما إذا كان متعلقاً بالمنفعة كالإجارة والتزويج، فيثبت للبائع حقُّ الرجوع ناجزاً. ولكن المنافع تبقى مستحقة. أما منافع الإجارة، فإلى الاستيفاء، ومنافع الزوج لا تتأقت، فهي مستحقة ما دامت الزوجية.
3813- فأمّا إذا كان المبيع قائماً، لم يتبدل الملك فيه، ولم يتعلق فيه حق، فلا يخلو إما أن يكون على هيئته التي كان عليها، غير متغير، لا بزيادة، ولا بنقصان،
__________
(1) كذا. وصوابها: "العبد" كما بدأ التمثيل. والأمر قريب.(6/313)
[وإما أن يكون متغيراً: فإن كان غير متغير، فإنه يرجع فيه، كما قدمناه.
وإن كان متغيراً، لم يخل إما أن يتغير بزيادة أو نقصان] (1) : فإن تغير بزيادةٍ، لم تخل [الزيادة] (2) إما أن تكون متصلةً وإما أن تكون منفصلة: فإن كانت متصلة، رجع البائع فيها مع الزيادة، ولا مبالاة بالزيادة المتصلة في قواعد الشريعة، إلا في أصلٍ واحد، وهو إذا أصدق الرجل امرأته عيناً، فزادت في يدها زيادة متصلة، وطلقها الزوج قبل المسيس، والعين زائدة، فللمرأة أن تتمسك بعين الصداق، ويرجع الزوج عليها بنصف القيمة، ولا فرق بين أن تكون موسرة أو معسرة.
ولو أفلست والعين الزائدة في يدها، وإذا لم يرجع الزوج، لم يملك شيئاً إلا المضاربة، ففي هذه الصورة وجهان: أحدهما - أنه ليس له إلا القيمةُ، والمضاربة بها؛ فإن الزيادة قطعت حقه من العين.
والوجه الثاني - وهو اختيار أبي إسحاق المروزي أنه يرجع إلى نصف العين. وإن زادت لضرورة المضاربة، والإفلاسُ إذا كان يسلط على رفع أصل العقد، فلا يبعد أن يؤثر في قطع حقها من الاختصاص بالصّداق لمكان الزيادة. ثم عَسُرَ على الأصحاب الفرقُ بين الصداق، وبين سائر الأصول فيما يتعلق بالزيادة المتصلة.
ولعل المرضيَّ القريبَ أن الجهات التي يثبت فيها استردادُ العين تنقسم: فمنها الفسخ. والفسوخ تستأصل الأسباب من أصولها، فلا يبقى معها عُلقة لمن عليه الرجوع، ومنها ما يهجم على قطع الملك، كالرجوع [في] (3) الهبة، فهو في معنى الفسخ، والزوج بطلاقه ليس فاسخاً، ولا هاجماً على الرجوع، وإنما التشطير حكم من الشرع، لم ينشئه الزوج بسبب يقطع (4) أصلاً كالفسخ، ولم يتعمد قطع الملك، فقوي تعلُّقُها بعين الصداق.
فإن قيل: ما تقولون فيه إذا زاد الصّداق في يدها، ثم ارتدت قبل المسيس؟ قلنا:
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) في الأصل: بالهبة.
(4) (ت 2) : يقع.(6/314)
اختلف أصحابنا في ذلك: فقال قائلون: المرأة أولى بعين الصداق، قياساً على تشطير الصداق عند الطلاق. والصحيح أن الصداق يرتد إلى الزوج؛ فإن طريقه الفسخ، وقد ذكرنا أنَّ الفسوخ تستأصل الأسباب والعلائق.
هذا في الزوائد المتّصلة.
3814- فأما الزياداتُ المنفصلة، كالثمار، والأولاد، والألبان، وما في معانيها، فهي خالصة للمشتري مصروفةٌ إلى ديون الغرماء. والبائع يرجع في عين المبيع.
هذا كله إذا كان التغير بالزيادة.
3815- فأما إذا كان التغير بالنقصان، لم يخل إما أن يكون نقصان جزء أو نقصانَ صفة، فإن كان نقصان جزء، مثل أن يبيع عبدين، ويموتَ أحدُهما في يد المشتري، ويبقى الثاني وما كان قبض البائع من الثمن شيئاًً؛ فإنه يرجع في الباقي من المبيع، ويضارب الغرماء بقسطٍ من الثمن، وتفصيل التقسيط يأتي في أثناء الكتاب، إن شاء الله تعالى؛ فإن هذا الفصلَ في حكم التراجم، والمعاقد، وشرح ما نفصل بين أيدينا.
3816- فأما إذا كان النقصان راجعاً إلى الصفة، فلا يخلو إمَّا أن ينتقص المبيع بآفة، أو بجناية جانٍ: فإن انتقص بآفة سماويةٍ مثل: أن سلم إليه [العبد] (1) المبيع، فاعورّت عينُه في يده، أو شَلَّت [يده] (2) . فنقول للبائع: المبيعُ كما ترى، فإن رضيتَ به معيباً، فارجع فيه، ولا حظَّ لك في غيره. وإن أردت أن تكون أُسوة (3) الغرماء، فضاربهم بالثمن.
والعيب السماوي بالمبيع في يد المشتري في حق فسح البائع بمثابة العيب الحادث
في يد البائع بآفة سماوية في حق فرع المشتري. وقد ذكرنا في أحكام العيوب أن
__________
(1) زيادة من (ت 2) .
(2) فى الأصل: يد العبد.
(3) الأُسوة: المِثل (معجم) والمعنى أن تكون واحداً من الغرماء، وتضارب معهم.(6/315)
المشتري يتخيّر: إن شاء فسخ البيع بالعيب الحادث في يد البائع، وإن شاء أجازه بتمام الثمن.
هذا سبيل البائع مع المشتري فيما نحن فيه.
3817- ولو حدث النقصُ بجناية، لم يخل إمّا أن يكون الجاني أجنبياً، وإمّا أن يجني المشتري: فإن كان أجنبياً، فلا شكّ أنه يلتزمُ الأرشَ للمشتري. ثم الأصح أنه يلتزمه باعتبار النسبة إلى الجملة، فجراح العبد من قيمته كجراح الحرّ من ديته، فإن كان قطع يداً، أو عوَّر عيناً، فنصف القيمة واجبٌ على الجاني.
وإذا آل الأمر إلى البائع (1) ، قلنا له (2) : أرش [العيب] (3) على الجملة محطوط عنك؛ فإنَّا وجدنا للضمان فيه متعلَّقاً. فإذا لم يتعطل ذلك العيب في نفسه، لم يطوّق البائع أمره مجَّاناً، ولكن المعتبر في حق البائع نقصان القيمة، لا التقدير الشرعي المتعلق بنسبة الأعضاء إلى جملتها. وبيان ذلك أنَّ الجاني التزم للمشتري بقطع يده نصفَ القيمة، وكان انتقص (4) ثلث القيمة بالسوق، فيعتبر في حق البائع نقصانُ السوق، فنقول: كأنك ظفرت بثلثي المبيع، فارجع فيما وجدت، وضارب الغرماء بثلث الثمن، ويصير نقصان الصفة في هذه القسمة بمثابة نقصان الجزء.
فإن قيل: هلا اعتبرتم تقدير الشرع في حق البائع؟ قلنا: الأطرافُ تتقدرُ في الجناية، فأمَّا المعاوضاتُ، فالأعواض تتقسط على المعوَّضات باعتبار القيم، وأرش الجناية تقدير الشرع.
ولو التزمنا هذا، فربما يلقانا محالٌ لا سبيل إلى التزامه؛ فإن الجاني لو قطع يدي عبدٍ معا، فعليه كمالُ قيمته، فإذا أفلس مشتري ذلك العبد بالثمن، لم يمكنا أن نقول: ليس العبد الأقطع موجوداً، ويستحيل أن نثبت حقَّ الرجوع فيه، ثم نُثبت المطالبةَ بجملة الثمن، نظراً إلى ما وجب على الجاني.
__________
(1) آل استحقاق الأرش إلى البائع.
(2) قلنا له: أي للمشتري.
(3) في الأصل: العين.
(4) (ت 2) : النقص.(6/316)
هذا إذا كان الجاني هو الأجنبي.
3818- فأما إذا جنى المشتري على العبد، فالصحيح أن المشتري كالأجنبي في حكم الجناية، وتفاصيل الرجوع. وقد مضى ذلك مبيناً الآن.
ومن أصحابنا من قال: حكم جناية المشتري حكم جناية البائع على المبيع قبل
القبض، حتى نقول في قولٍ: إنها كجناية أجنبي، وقد مضى. وفي قولٍ نجعل أثر جنايته كآفة سماوية.
والجملة في ذلك أن المشتري والمبيعُ في يده كالبائع في المبيع قبل القبض.
فهذا مجامع القول في التغايير التي تلحق المبيع حكماً وحقيقة.
3819- فرع: إذا اشترى حنطة فبثها بذراً، فنبت الزرع وأحصد، ثم أفلس المشتري، فالحنطة الحاصلة من زرع ذلك البذر [لمن] (1) ؟ اختلف أصحابنا فيها: فمنهم من قال: نجعلها مبيعة، ونقدر كثرتها زيادة متصلة، كالعبد يشتريه طفلا، ثم يشب ويترعرع، والفسيل يشتريه ويغرسه، ثم يصير أشجاراً، فيثبت للبائع الرجوع إذاً، ولا حكم لتلك الكثرة.
ومن أصحابنا من لا يجعل الحبَّ الحاصل من الزرع بمثابة مبيع زائدٍ، ولكنا نجعلها أعيانا مستفادة في ذواتها، وليس للمشتري إلا المضاربة. ووجه ذلك أن البذر يعفَن (2) تحت التراب، ثم ينشأ الزرع منه بعد مصيره إلى حالة العفن، وفي هذه الحالة لا يُعدّ فيها مالاً. ثم الزرع نشءٌ جديد.
ومن هذا ما لو اشترى بيضة، وأحضنها دجاجة، فتفقأت عن فرخ: من أصحابنا من جعل الفرخ مبيعا، وقدّر ما لحقه من تغايير الخلقة بمثابة الزيادة المتصلة.
ومنهم من لم يقدره مبيعاً، ولم يُثبت للبائع حقَّ الرجوع.
ومن هذا القبيل ما لو اشترى عصيراً، فانقلب خمراً في يد المشتري، ثم انقلبت الخمر خلا، فالخل هل يكون مبيعاً أم لا؟ فيه التردد الذي ذكرناه. ولا خلاف أن
__________
(1) مزيدة من المحقق.
(2) يعَفن من باب تعب.(6/317)
الزرع مُلِك من البذر مِلْكِه، وكذلك القول في الفرخ والخل.
وسنذكر هذه المسائل في موقعها في كتاب الغصوب، إن شاء الله تعالى.
3820- وكذلك لو اشترى رجل أرضاً مزروعة وكان الزرع بقلا، لم يُسنبِل بعدُ، فإذا ظهرت السنابل، ثم أفركت، وديست، فهل نجعل الحب مبيعاً؟ ذكر العراقيون وجهين وبنَوْهما على المسائل التي تقدمت، ورأَوْا جعلَ الحب مبيعاً -وقد كان المشترَى زرعا- أوْلى؛ من جهة أن الزرع يشمل الأخضرَ والمسنبِل، فالسنبلة تعد من الزرع، فهي بالاندراج تحت ما كان مبيعا أولى من الفرخ، بالإضافة إلى البيض؛ فإنهما متباينان صفةً واسماً.
3821- وحاصل القول في ذلك أن التغايير التي لا تنتهي إلى قلب الجنس، وتغيير الاسم لا حكم لها، ويبقى ما كان مبيعاً على حكمه، حتى يثبت للبائع الرجوع.
ثم إن كان التغيير إلى زيادة متصلة، فهي للبائع إذا أراد الرجوع.
وما تغير إلى نقصانٍ فلا حكم له عند قصد الرجوع، والبائع على خِيَرته إن شاء ضارب بالثمن، وإن شاء قنع بالمبيع الناقص.
وكل تغييرٍ ينتهي إلى قلب الجنس والاسم، ولكن المتغير مترتب على ما كان مبيعاً، كالزرع والبذر، والفرخ والبيض، ففيه الخلاف. وما يغير الجنس ويبقى اشتمال الاسم معه، ففيه خلافٌ قريب.
3822- وزوائد الأصول إذا انفصلت، وإن حصلت من أصولها، فهي منقطعة عنها؛ فإن الأصول قائمة على صفاتها، وقد تجدّد منها ما تجدّد. وليس كالبذر ينقلب زرعاً؛ فإنّه في نفسه ما بقي على ما كان عليه. نعم، الملك ينتظم الأصلَ والزيادةَ؛ فإنا لا نجد للزيادة مصرفاً أولى من مالك الأصل. فإن قدرناها جزءاً من الأصل، فلا كلام، وإن لم نفصل (1) ،. وهو الرأي، فالوجه أن نجعلها كصيود تتعقل (2) بشبكات متهيئةٍ لها. وما ذكرته أصدق شاهدٍ في أن الزوائد المنفصلة ليست من عين الأصول؛
__________
(1) كذا في النسختين. ولعلها: وإن لم (نفعل) .
(2) (ت 2) تتعلق. وفي هامشها: "تتعقل" وإشارة أنها من نسخة أخرى.(6/318)
إذ لو كانت من أعيانها، لكانت كالحب الكثير ينبتها البذر اليسير، وكان يدرج في
قياس المسائل التي نظمناها.
فصل
قال: " ولو باع نخلاً فيه ثمر أو طلعٌ قد أُبّر، فاستثناها المشتري ... إلى آخره " (1) .
3823- قوله فاستثناها المشتري لنفسه معناه فاشترطها لنفسه، وهذا اللفظ يطلق في غالب الأمر في استثناء شيء من جملة، فاستعملها للمشتري (2) في معنى الاشتراط.
والمسألة مصورة فيه، إذا باع نخيلاً، عليها ثمار ظاهرةٌ مؤبرة، وأدخل الثمار في البيع، ثم قبض المشتري الشجر والثمر، واستهلك الثمرة، وأفلس بالثمن كله، فالبائع يرجع في الشجر، ولا يكتفي بها؛ فإنها بعضُ المبيع، بل يضارب بقسطٍ من الثمن يقابل الثمرة الفائتة.
هذا الأصل ثابت لا شك فيه.
ولكن لا يمكن الوصول إلى ما يرجع به من الثمن (3) إلا بمعرفة قيمة الثمار، وقيمة الأشجار، ثم إذا بانت القيمتان، قدَرَ (4) توزيعَ الثمن على المبْلَغَيْن، فما يقابل الثمر، ضارب به، وما يقابل الشجر، يكتفي فيه بالشجر، إن أراد الرجوع فيها؛ فيأخذ الشجر بقسطها، ويضارب الغرماء بقسط الثمرة من الثمن.
3824- والكلام وراء هذا في أن قيمة الثمرة متى تعتبر، وكذا قيمة الشجر، ولا يلقَى الناظرُ في الكتاب أمراً أولى بإنعام النظر فيه من هذا، فهو عمدة الكتاب وسرّ الباب.
__________
(1) ر. المختصر: (2/220) .
(2) (ت 2) : للشافعي.
(3) (ت 2) : الثمر.
(4) يقال: قَدَرَ الشيء بالشيء: قاسه به وجعله على مقداره (المعجم) فالمعنى: قاس توزيع الثمن
على الثمر والشجر، وأبان مبلغ كل واحدٍ منهما.(6/319)
3825- قال الشافعي فيما نقله المزني: تعتبر قيمة الثمرة بيوم القبض، لا بيوم العقد، ولا بيوم الجائحة (1) . هذا ما نقله. ونحن نستوعب ما يتعلق بالثمرة، ثم نذكر ما يتعلق بالشجر.
أما القول في الثمرة، فقد ذهب المحققون إلى مخالفة النص المنقول، وقالوا: نعتبر أقلَّ القيمتين من يوم العقد والقبض. فإن كانت قيمته يوم العقد أكثرَ، وقيمتُه يوم القبض أقلَّ، فالمشتري يقول: لا تحتسب عليَّ زيادة كانت في يد البائع، وإنما دخلت الثمرة في ضماني يوم قبضتُها. فليس للبائع أن يعتبر زيادةً قبل ضمان المشتري.
وإن كانت قيمته يوم العقد أقلَّ، وقيمته يوم القبض أكثر، فالمشتري يقول: ما كان من زيادةٍ بعد العقد، فهي لي وحدثت على ملكي، فليس للبائع أن يعتبرها في تقويم الثمن عليّ. ولا شك أن قيمة الثمرة إذا كثرت، كثر ما يرجع به من الثمن، فإذاً للمشتري أن يقول: لا تحتسب عليّ زيادةً، إن حسبتها، زاد مقدارُ ما ترجع به، والزيادة تثبت ملكاً لي.
3826- فإن قيل: الزيادة المتصلة ينبغي ألا تفرد بالاعتبار؛ فإنها كانت تكون للبائع لو بقيت الثمار، فالرجوع بحصتها من الثمن يجبُ أن (2) يكون باعتبار زيادتها معها. قلنا: هذا غير سديد؛ فإنَّا لا ننكر أن الزيادة المتصلةَ حصلت للمشتري في ملكه، ولكن إذا كانت العين قائمةً، ومست الحاجة إلى ردّها، تبعت الزيادةُ الأصلَ ضَرورةً، [وإذا فاتت العين بعدما طرأت عليها زيادةٌ متصلة في ملك المشتري، فأي ضرورة] (3) تحوج إلى عدّ (4) تلك الزيادة الحادثة في ملك المشتري في حق البائع، حتى
__________
(1) هذا معنى كلام الشافعي، وليس لفظه، بل ليس في كلام الشافعي ذكر للعقد، قال: " لو أكل الثمر، أو أصابته جائحة، ثم أفلس أو مات، فإنه يأخذ عينَ ماله -أي الشجر- ويكون أُسوة الغرماء في حصة الثمر يوم قبضه، لا يومَ أكله، ولا يوم أصابته الجائحة". (المختصر: 2/220) .
(2) (ت 2) : ألا يكون.
(3) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(4) (ت 2) : "ردّ"(6/320)
تكثر في التقويم، ليكثر ما يرجع به.
فيلتأمل الفطن أول هذا الكلام؛ فإنه منشأ غائلة الفصل، فقد حصل من وفاق المحققين أنا نعتبر أقل القيمتين للثمرة في يومي العقد والقبض.
3827- وحكى صاحب التقريب قولا مرسلا من بعض الأصحاب: أن الاعتبار بقيمة يوم القبض، ويزعم هذا القائل: أن القول مأخوذ من النص الذي نقله المزني.
فإن كانت قيمةُ يومِ القبض أقلَّ، فلا شك في اعتبارها، وإن كانت أكثرَ، فكأن هذا القائلَ يعتبر تلك القيمة؛ مصيراً منه إلى تقويم الزيادة المتصلة للبائع، بناء على أنها لو كانت باقية، لكان البائع يأخذها بزيادتها.
وهذا وهمٌ عظيم؛ من جهة أن البائع ليس يرجع عند تلفها إلى قيمتها، وإنما يرجع إلى قسطٍ من الثمن باعتبار (1) قيمتها، والقسط من الثمن إذا أُثبت، فهو في مأخذ الأحكام على مضادة الرجوع في العين، فنعتبر والحالة هذه بقسطٍ لا يحسب فيه حقّ المشتري عليه [للبائع] (2) .
هذا أقصى الإمكان في التعبير عن هذا الغرض. والفطن يبتدره، والبليد لا يزداد في هذا المقام بزيادة البيان إلا حَبَطاً (3) .
ولا عود إلى ما ذكره صاحب التقريب؛ فإنه ساقط غير معتد به.
3828- هذا قولنا في القيمة التي نعتبرها للثمرة، وهذه القيمة لا تستقل بإفادة غرضها دون الإحاطة بقيمة الشجر، وقد اضطرب المحصلون في قيمة الشجر، ونحن نأتي بما قالوه، ونضبط حاصلَ الفصل عند نجازه بما يُبيّن مسلكَ كلِّ فريق.
__________
(1) قال الرافعي: "وسبيل التوزيع، أن تُقوّم الأشجار، وعليها الثمار، فيقال: قيمتها مائة.
وتُقَوَّمُ وحدها، فيقال: قيمتها تسعون، فيضارب بعشر الثمن" (الشرح الكبير بهامش المجموع: 10/358) ومعنى ذلك، كما هو واضح، أن يرجع البائع بالأشجار، فهي ما زالت قائمة، ثم يضارب بعشر الثمن في مقابلة الثمار التي تلفت، سواء كان عشر الثمن أقل، أو أكثر من قيمتها. وانظر أيضاً: روضة الطالبين: (4/ 165، 166) .
(2) في الأصل بهذا الرسم: " الما ـع " بدون نقط.
(3) حبطاً: فساداً، وقد تكون خبطاً (بالخاء) أي عماية.(6/321)
3829- قال بعض الأثبات من أصحاب القفال: نعتبر في الشجر أكثرَ قيمةٍ، من يومي العقد والقبض. وهذا وإن كان في الظاهر يخالفُ ما ذكرناه في قيمة الثمرة، فهو موافق له في المقصود؛ فإن قيمة الشجر إذا كثرت، قلَّ ما يرجع به البائع من الثمر. وقيمةُ الثمر إذا قلَّت، قلَّ ما يرجع به البائع من ال ثمر، فإن الشجرة يأخذها البائع بقسطه، فإذا كثر، قل ما يبقى. وهذا الذي ذكرناه ضبط من طريق اللفظ، والتحقيق وراءه.
3830- وذهب القاضي إلى مسلكٍ آخر، فقال: إن كانت قيمة الشجر يوم العقد أقلَّ، وكانت يوم القبض أكثر، فالاعتبار بقيمة يوم العقد. واحتج عليه بأن قال: إذا كان البائع يأخذ الشجر، فالزيادة المتصلة مأخوذة له، فلا تحسب عليه، وكأنا نتبين بالأخرة أنها زادت له، فليقع الاختصَار على قيمة العقد. وليس ما نحن فيه بمثابة الثمرة؛ فإن الثمرة فائتةٌ، فليست زيادتها منقلبة إلى البائع، وليست مضمونةً له ضمان قيمة. وقد حدثت للمشتري وهلكت له، فلا تدخل في حساب التوزيع. فأما زيادة الشجرة؛ فإنها منقلبة إلى البائع، فلا تحسب عليه في حساب التوزيع.
وللقائل الأول أن يقول: حدوث هذه الزيادة على ملك المشتري لا شك فيه، فإن كنا نردها على البائع، وما حدثت في ملكه، فالذي يقتضيه الإنصافُ أن نقول: قدِّر هذه الزيادة أنها للبائع؛ كأنها كانت حالة العقد، وإذا قرن بها لأنها متصلة بالمبيع، فاعتبرها في قيمة المبيع، وليس من الإنصاف أن تفوز بها، وما حدثت في ملكك، ولا تحسبها من المبيع.
هذا بيان المسلكين وهما متجهان.
3831- وكأنَّ الكلامَ في الزيادة المتصلة في غرضنا يتعلق بثلاث مراتب: إحداها- أن
البائع إذا كان يرجع في المبيع الزائد زيادة متصلة، ولا حاجة إلى تقدير توزيع، فإن المبيع
بجملته باقٍ، فإذا كان كذلك، فلا نظر إلى الزيادة وهي تنقلب إلى البائع تبعاً للأصل.
[المرتبة الثانية] (1) - إن زاد شيء من المبيع وتلف، واحتجنا إلى تقويم ذلك التالف
__________
(1) زيادة من المحقق أخذا من تقسيم المؤلف نفسه.(6/322)
المرجوع بقسط من الثمن يقابله، فلا تعتبر الزيادة المتصلة بالحادثة في ملك المشتري بعد العقد؛ فإن تلك الزيادة ليست ترتد إلى البائع ولا قيمتُها، فأخرجنا اعتبارها من البَيْن، حتى كأنها زيادة متَّصلةٌ غيرُ معتد بها.
المرتبة الثالثة - في زيادة ترتدّ مع أصلها إلى البائع، ولكن تخلَّف الحكم في شيء لا يرجع إلى البائع باختلافها، فهل نعتبر تلك الزيادة بمقدارٍ من الثمن يتعلق بغير العين التي رجع فيها أم لا نعتبرها، كزيادة الأشجار المنقلبة إلى البائع؟ إن اعتبرناها، قلّ قسط الثمار، وإن لم نعتبرها، كثر قسطها. هذا موضع تردد المحققين على ما حكيناه عن القاضي وغيره.
وإذا تمهد أصل الفصل، نهذبه الآن بالصور، ثم ننعطفُ على الأصلِ، ونَرِمّ (1) ما نراه على إشكال في أطراف المسألة.
3832- فنصور كأن قيمة الشجرة كانت مائة، وقيمة الثمرة كانت خمسين، فإذا لم تفرض زيادة ولا نقصان في الشجر والثمر، وقد فاتت الثمر، فيرجع البائع في الشجر ويأخذها بثلثي الثمن، ويضارب بثلث الثمن في مقابلة الثمر.
ولو لم تختلف قيمة الشجر، واختلفت قيمة الثمر، فكانت يوم العقد تساوي خمسين، وصارت تساوي يوم القبض خمساً وعشرين، فالاعتبار بقيمة يوم القبض؛ فإنها أقل، وقيمة الشجر لم تختلف، فيأخذ البائع الشجر على نسبة الأخماس بأربعة أخماس، ويضارب الغرماء بخمس الثمن في مقابلة الثمر.
ولو كانت قيمة الثمر يوم العقد خمسين، فصارت يوم القبض تساوي مائة، فلا اعتبار بالزيادة؛ والتوزيع على نسبة الثلث والثلثين، كما تقدم هذا في تغيّر الثمر وبقاء الشجر.
3833- فأما إذا تغيرت قيمة الشجر (2) ، فنصور الشجر حالة العقد بحيث تساوي (3)
__________
(1) نرم: نصلح (معجم) .
(2) كذا يعبر عن الشجرة بـ (الشجر) مع أن التصوير للمسألة والسياق يؤكد أن الكلام في (الشجرة) واحدة (الشجر) .
(3) أي: القيمة.(6/323)
مائة، وكانت حالة القبض تساوي مائة وخمسين، وقيمة الثمرة كانت خمسين، وبقيت كذلك. أما من اعتبر في الشجر أكثرَ قيمةٍ، فيحسب زيادة القيمة على البائع إذا رجع، ويقول: الشجر مائة وخمسون والثمر خمسون، فيرجع البائع في الشجر بثلاثة أرباع الثمن، ويضارب الغرماء بربع الثمن في مقابلة الثمر.
والقاضي يقول: تلك الزيادة يفوز بها البائع غيرَ محسوبة عليه؛ فإنها زيادة متصلة فيأخذ [الشجر] (1) إذاً بثلثي الثمن، ويضارب بثلث الثمن.
ولو كانت الشجر تساوي مائة، فصارت يوم القبض تساوي مائتين. أمّا الأول، يقول: يأخذ البائع الشجر بأربعة أخماس الثمن ويضارب في مقابلة الثمر بخمس الثمن. والقاضي لا يحسب الزيادة على البائع ويقول: الحساب من المائة التي كانت قيمة الشجر.
هذا بيان المذهب بالصور. ثم ننعطف الآن على أمور قد تزل عن فهم الناظر فنقول:
3834- القاضي لم يحسب الزيادة في الشجر على البائع، ولكنه قال: لو كانت الشجر تساوي مائة حالة العقد، ثم نقصت، فصارت تساوي خمسين، فالنقصان محسوب على البائع؛ فإنه حدث من ضمانه.
فإذا كانت الشجر تساوي يوم العقد مائة، فصارت تساوي يوم القبض خمسين، فيأخذها البائع بحساب المائة وهي الثلثان، ويضارب بالثلث. أما القاضي فيقول: النقصان محسوب على البائع.
وأما من اعتبر الأكثر من قيمة الشجر، فأكثر القيمتين المائة، فيتفق المسلكان لا محالة، وإنما يختلفان في العلّة.
3835- ومما يتعلق بأطراف المسألة، أنا قلنا في الثمرة: يعتبر فيها أقل قيمتي العقد والقبض، ولم نتعرض لما بينهما.
وهذا مما يخطر للفقيه، فنفصله، ونقول:
__________
(1) في الأصل: الحوادث.(6/324)
إذا كان قيمة الثمرة خمسين يوم العقد، فرجعت إلى خمسٍ وعشرين في يد البائع، ثم عادت إلى خمسين، فما حكم ذلك النقصان إذا تخلل وزال؟ قلنا:
3836- نجدد العهد بأصلٍ قدمناه في أحكام العيوب من باب الخراج بالضمان.
وذلك أن من اشترى عبداً وقبضه، وعاب في يده عيباً حادثاً، واطلع على عيب قديم به، فالعيب الحادث يمنع الرد بالعيب القديم، فلو زال ذلك العيب الحادث، فهل يتمكن المشتري من الرد بالعيب القديم؟ فيه تردد للأصحاب معروفٌ.
ولو عاب المبيع في يد البائع، فيثبت للمشتري حق الرد به، فلو زال ذلك العيب، وعاد المبيع كما كان، فظاهر المذهب أنه يزول حق رد المشتري، وفيه خلافٌ أيضاًً.
فإذا تجدد العهد بما ذكرناه، فنقول:
3837- لو عاب المبيع قبل القبض، وصار ناقص القيمة بسبب العيب، ثم طرأت
زيادة خِلْقية، ردت قيمة المبيع إلى ما كان، وذلك [العيبُ] (1) باقٍ يثبت (2) حقُّ الرّد للمشتري.
وكذلك لو نقصت القيمة بالعيب، ثم صار المبيع يشترَى بالقيمة التامة لارتفاع سعر السوق، فهذه الزيادة لا حكم لها، والرد ثابت.
فإذا ثبتت هذه المقدمات، عدنا إلى غرضنا، فنقول:
3838- إذا طرأ نقصان على المبيع بالسوق، ثم زاد، وعاد إلى ما كان عليه، فلا حكم لذلك النقصان المتخلل، فإنا مع تشديد الشرع على الغاصب، لا نؤاخذه بما يطرأ من نقصان السوق، فما الظن بالبائع. وإن طرأ على الشجر في مسألتنا نقصان من جهة الآفة، ونقصت القيمة بها، ثم ارتفع السوق، وعادت القيمة بسبب السعر إلى ما كان، فالذي أراه في هذه الصورة اعتبار قيمة يوم العيب. وإن كان ذلك اليوم بعد العقد وقبل القبض، فإن النقصان قد تحقق من ضمان البائع، وما كان من ارتفاع بعد هذا، فهو في حق المشتري وملكه، فلا ينْجبر به ما وقع من النقصان.
__________
(1) في الأصل: "المبيع والمثبث من (ت 2) .
(2) جواب (لو) أي: "لو عاب المبيع ... يثبت حق الرد للمشتري".(6/325)
وإن نقصت الثمار بآفة وبقي النقص، ولكن حصلت زيادة خِلقية من جهةٍ أخرى، فالذي أراه أن تلك الزيادة لا تعتبر؛ فإن العيب قائم، ولا جبران على هذا الوجه.
فأما إذا طرأ النقصان بعيب، ثم زال بزوال ذلك العيب، فهذا يخرج على ما ذكرناه في مقدمة هذا، والظاهر أن هذا إذا جرى في يد البائع، فإذا زال، سقط حكمه.
هذا منتهى النظر في هذا.
3839- ومما يتعلق بأطرافِ المسألة أن الثمرة لو نقصت في يد المشتري بعد القبض، فكانت تساوي يوم العقد خمسين، ويوم القبض خمسين، فنقصت وصارت تساوي ثلاثين، ثم فاتت الثمرة، وحل وقت التوزيع عند الإفلاس، فنقول: ذلك النقصان محسوب على المشتري؛ فإنه حدث في يده؛ فَحُسِب عليه. وإن كنا نقول: لو بقيت معيبة، لم يكن للبائع -إن أراد الرجوع- إلا الرضا بها على عيبها، ولكن لا ننظر إلى هذا إذا كنا نعتبر قيمة الثمار لأجل التوزيع؛ فإن رضا البائع بعيب الثمرة لو بقيت في حكم الضرورة، إذا كان يرجع إلى العين، فالنقصان في يد المشتري محسوب عليه في مقام التوزيع، كما أن النقصان في يد البائع محسوب على البائع.
3840- ومن تمام البيان في هذا أن من اعتبر أكثر القيمتين في الشجرة إذا فرعنا على أصله، وقلنا: قيمةُ الشجرة يوم العقد مائة، ويوم القبض مائة وخمسون، ويوم رجوع البائع مائتان، فالوجه القطع باعتبار المائتين؛ فإنه يومئذ ياخذ، فيقع الحساب وقت قبضه، فإنا إذْ ذاك نقول: يأخذ ما يأخذ بكم؟ وعلى هذا المذهب لو كان يوم القبض مائة وخمسين، ويوم العقد مائة، ويوم أخذ البائع مائة، فيعتبر يوم أخذه؛ فإن ما طرأ من زيادة ثم زال لي هو ثابتاً يوم العقد، حتى نقول: إنه وقتُ مقابلة الثمن والمثمن، وليس وقتَ أخذ البائع حتى يحسب عليه، فلا وجه إلا ما ذكرناه.
وهذا منتهى الفكر [لم] (1) نغادر منه للناظر مثارَ إشكال، إن شاء الله تعالى.
3841- وذكر الأصحاب صورةً تداني ما مهدناه، وهي أن الرجل إذا باع عبدين،
__________
(1) في الأصل: ثم.(6/326)
قيمة أحدهما ألف، وقيمة الثاني خمسمائة، باعهما بألف، فإن أقبضهما من غير تغير، استحق الألف، وإن أقبض الذي قيمته خمسمائةٍ، فتلف الآخر في يد البائع، استحق البائع ثلث الألف، وسقط الثلثان؛ لأن المبيع تلف ثلثاه. ولو انحطّ الذي قيمته الألف إلى خمسمائة، ثم تلف في يد البائع، وأقبض الذي قيمته خمسمائة، يستحق أيضاً ثلث الألف كما بقيت لو بقيت قيمته ألفاً؛ فإن النقصان محسوب على البائع.
ولو أنه أقبضه الذي كانت قيمته ألفاً بعد أن تراجع إلى خمسمائة، ثم تلف الثاني في يده، استحق نصف الثمن لأنه يوم القبض كان نصف المبيع.
وهذا بيّن لمن تمهد عنده ما قدمناه من الأصول.
3842- ثم قال الشافعي: "وكذلك الزرع خرج أو لم يخرج".
منهم من قال: أراد به تسنبل الزرع، أو لم يتسنبل، وصورة المسألة أنه باع أرضاً مزروعة، فيرجع فيها مع الزرع، وإن كان تسنبل الزرع في ملك المشتري. وهذا يدل على أحد الوجهين المذكورين في فرع البذر والزرع، والبيضة والفرخ.
ومن أصحابنا من قال: " قوله: خرج أو لم يخرج " معناه نبت أو لم ينبت.
وصورة المسألة عند هذا القائل أنه باع أرضاً مبذورة، فأنبتت، ثم فرضنا الرجوع بعد الفَلَس. وهذا التأويل يخرّج على أصلين: أحدهما - صحة بيع الأرض المبذورة، وفيها قولان، تقدم ذكرهما. والثاني - في البذر إذا نبت، وقد ذكرنا الخلاف في ذلك في فرع البذر والزرع، والبيض والفرخ.
فصل
قال: "ولو باعه حائطاً لا ثمرة فيه، أو أرضاً لا زرع فيها ... إلى آخره" (1) .
3843- إذا باعه حائطاً لا ثمر على أشجاره، فأثمرت في يد المشتري وأُبّرت
__________
(1) ر. المختصر: (2/220) .(6/327)
الثمار. أو باع أرضاً لا زرع فيها، فزرعها المشتري، ثم أفلس، فالبائع يرجع في الحائط والأرض، ولا حق له في الثمر [والزرع] (1) وعليه أن يُبقي الثمارَ إلى أوان الجِداد، والزرعَ إلى وقت الحصاد؛ لأن الزراعة كانت بحق، وكذلك إمساك النخيل الذي جرى فيه بدوّ الثمار كان بحق، فلزم تقرير الزرع والثمار. والغاصبُ إذا زرع، قُلع زرعه لاعتدائه في ابتداء الزرع.
ثم البائع إذا ألزمناه تقرير الزرع، والثمر، فليس له أن يطلب أجرةً. أما الأشجار فلا أجرة لها اصلاً، وأما الأرض، فقد صادفت الزراعة فيها ملك المشتري، وقد دخل في العقد على أن المنفعة لا تكون مضمونة عليه؛ فإن منافع المبيع لا تكون مضمونة بعقد البيع، فلم تلزم الأجرة.
3844- ولو اكرى أرضا، فزرعها المكتري، وفُلِّس المكتري، فالمكري يرجع فيما بقي من مدة الإجارة، ونجعله في المنافع الباقية كالبائع يجد عين ماله، ثم إذا فسح الإجارة في بقية المدة، فلا يقلع زرعَ المكتري المفلس، ولكنه يغرِّمه أجرةَ المثل للمدة التي يبقى الزرع فيها، والفرق بين المشتري والمكتري أن المشتري لم يدخل في العقد على أن يضمن المنافع، والمكتري دخل في العقد (2) على أن يضمن المنافع، وإذا انقطعت الإجارة، ضمن أجرة المثل لمدة الزرع. وما ذكرناه أن البائع [والمكري] (3) لا يملكان القلع، عنينا به أنهما لا يملكان القلع لحق فسخ العقد، لما ذكرناه.
3845- ولكن وراء ذلك نظر في القلع والتبقية إلى الإدراك.
فإن رضي المفلس والغرماء بالتبقية إلى الإدراك، بقَّيْنا، وإن رضوا بالقلع، قلعنا، وإن قال المفلس: يبقى إلى أن يدرك، ويحصل منه وفاءُ الديون، أو مقدارٌ صالح. وقال الغرماء: يقلع ويباع بما يشترى، ولا نرضى بتأخير حقوقنا، بل نتعجل
__________
(1) في الأصل: والأرض.
(2) (ت 2) : الإجارة.
(3) في الأصل: المكتري.(6/328)
من حقوقنا ما نقدر عليه، فالغرماء يجابون إلى ما يبغون لما ذكروه.
ولو قال الغرماء: يبقى إلى أن يدرك، فقال المفلس: بل أقلع وأتعجل إنفاق مالي في الديون، حتى ينفك عني الحجر، فللمفلس ذلك.
وبالجملة كل من يدعو إلى التعجيل من المفلس والغرماء، فهو مجابٌ إلى ما يطلبه.
وهذا الذي ذكرناه فيه إذا كان للمقلوع قيمة، وإن قلّت. فأما إذا لم تكن له قيمة أصلا، فلا يجاب من يطلب القلع، من جهة أن ما يبغيه يؤدي إلى إبطال المالية، وتضييع الملك بالكلية. وقد نُهينا عن إضاعة المال.
3846- ولو قال بعض الغرماء: نقلع، وقال المفلس، وباقي الغرماء: نبُقي، فلا بدّ من اتباع رأي من يطلب القلع. ولكن قال القاضي: إذا طلب واحدٌ القلعَ، قلعنا الجميع، فإنا لا ندري كم نقلع بحصة المستدعي، فإذا لم يمكنّا أن نُقدِّر شيئاًً، فلا بد من قلع الجميع.
وهذا فيه نظر عندي، فإن الزرع قد يبلغ مبلغاً عظيماً، وأعداد الغرماء قد يكون مائةً فصاعداً، فكيف يحسن أن نقلعَ جميع الزرع بسبب دين درهم لرجل واحد؟ ونعطّلَ مائة ألف لمائة نفسٍ؟ وليس من الرأي أن نترك (1) أصلاً ظاهراً لا سبيل إلى تقدير مثله، بسبب جهالة نستشعرها، فلا وجه لإبطال حقوقٍ كثيرة، بسبب تعنتٍ من ذي حق حقير.
فإن قيل: كم تقلعون لحق من يستدعي؟ قلنا: إذا كان حقه عُشراً، لم يخف علينا أن مقدار الخمس لا يقلع بسببه، ونحن نستيقن استيفاء العشر إذا زدنا عليه قليلاً، فلم نجبه إلى استيعاب الزرع بالقلع. فإن كان من (2) نظرٍ، ففي المقدار الذي يتمارى فيه.
ثم يتجه احتمالٌ في القلع إلى درك اليقين أو في الاكتفاء بما نَحْزِرُ ونخمّن. ويجوز أن يخطر لذي نظر أنا لا نقلع ما نشك فيه مراعاة لحق الغرماء [الآخرين] (3) ؛ فيعود التردد
__________
(1) في (ت 2) : "ننزل".
(2) (ت 2) : ثَمَّ.
(3) في الأصل: الأخرون.(6/329)
إلى محل الإشكال، وفيه احتمال من الجهة التي ذكرتها، فأما استيعابُ الزرع بالقلع فلست أرى له وجهاًً.
3847- ولو قال الغرماء: نصبر، وقال المفلس: نعجل ونقلع؟ قد ذكرنا أن المفلس يجاب إلى القلع، فلو قال الغرماء: نبذل مؤنة الزرع من عند أنفسنا، ونسقي ونتعهد إلى الإدراك، ولا نقلع، فقد ذكر صاحب التقريب وجهين في ذلك: أحدهما - أنه يمنع من القلع إذا كان كذلك؛ فإنه لا غرض للمفلس. وقلعُه وهو مكفيٌّ المؤونةَ تعنت.
وهذا ضعيف؛ فإنه يقول: غرضي أن يتعجل انفكاك الحجر عني، وليس عليّ توفير حقوق الغرماء. وهذا لا يدرؤه قيامُ الغرماء بالمؤنة.
فإن قيل: لو قال الغرماء: لا نقلع، ونحن نفك الحجر عنك، فهذا كلام عريٌّ عن التحصيل؛ فإنه لو انفك الحجر عنه، كان له القلع بعلّة انطلاق الحجر. وإن استمر الحجر، كان له القلع باستعجال انفكاك الحجر، فلا حاصل إذاً لما قاله الغرماء.
3848- والذي نستتم به بيان الفصل أنه لو اجتمعت عليه ديون، وكانت أصنافٌ (1) من الأموال، وعلمنا أنه لا ينتجز بيعُها إلا في مدة شهرٍ مثلاً، وكان الزرع يدرك في هذه المدة، فالذي أراه أنه لا يقلع الزرع، وإن استدعاه المفلس؛ من جهة أنه لا يستفيد بقلعه انفكاك الحجر عنه، والحجر سيتمادى إلى منتهى مدة إدراك الزرع، ومال المحجور عليه في حكم المتعيِّن لحقوق الغرماء، فلا بد من رعاية غبطتهم فيه، إذا لم يظهر خلافَ جهة الغبطة غرضٌ ظاهر للمفلس.
هذا منتهى القول في ذلك.
3849- ومما ذكره الأصحاب في الفصل أنا قدمنا استيفاء الزرع والثمر، في الأرض والشجر، وأوضحنا أن البائع والمكري لا يجابان إلى تفريغ الشجر والأرض عن الثمر والزرع، فقد يكون البائع والمكري ذا دينين على المفلس، ويكونان من
__________
(1) (كان) تامة و (أصناف) فاعل.(6/330)
جملة غرمائه، ويثبت لهما طلب القلع على التفصيل المقدم في طلب الغرماء لحق استحقاق الدين، لا لحق الفسخ الثابت لهما في البيع والإجارة.
وهذا واضح لا خفاء به.
ولو اعتنى الفقيه بحل مشكلات الفقه، كان أولى من الاشتغال بتعقيداتٍ في الصورة.
فصل
قال: " وكذلك لو باع أمةً، فولدت ... إلى آخره " (1) .
3850- هذا الفصل يجمع صور الوفاق والخلاف فيما يبقى [للمفلس] (2) والغرماء من الحمل، والثمر، فنقول: الوجه تقديم الكلام في الحمل، ثم إتباعه بالثمرة.
فمن باع جارية، فعلقت بعد البيع بولد، وانفصل الولد قبل رجوع البائع في الجارية، فالولد للغرماء يتضاربون فيه، وليس للبائع فيه نصيب؛ فإنه لم يكن موجوداً في طرفي البيع والرجوع.
3851- وإن باع جاريةً حبلى، وأفلس المشتري، ورجع البائع في الجارية قبل الولادة، ارتد الحمل إليه في هذه الصورة وفاقاً؛ من جهة أنه كان موجوداً في الطرفين، وتحقيق الفقه فيه أن المشتري استحق الحمل الموجود تبعاً، ثم لم تتغير الجارية عن صفتها، فيرجع كما خرج.
3852- ولو باع جارية حاملاً، فولدت في ملك المشتري، ثم رجع البائع بعد انفصال الولد، ففي المسألة قولان مشهوران: أحدهما - أنه يرجع في الولد أيضاً؛ فإنه كان موجوداً حالة العقد، وسبيل كل ما ملك على البائع بالبيع أن يرجع إليه بالرجوع.
والقول الثاني - أنه لا يرجع الولد إليه؛ فإنه كان صفة حالة العقد غير موثوق بها،
__________
(1) ر. المختصر: (2/220) .
(2) في الأصل: للمجلس.(6/331)
وهو الآن عبدٌ مملوك مستقلٌّ بنفسه، [فقدرناه] (1) كأنه وجد جديداً بعدَ البيع. وبنى الأصحاب هذين القولين على القولين في أن الحمل هل يعرف؟ فقالوا: إن قلنا: إنه يعرف، فيرجع إلى البائع من حيث كان موجوداً حالة العقد. وإن قلنا: لا يعرف، فكأنه لم يكن حالة البيع، وإنما تجدد من بعد.
والأولى في ذلك ما ذكرته في التوجيه من كون الحمل صفةً، وكون المنفصل عبداً مستقلاً، ويجعل تجدد الاستقلال كتجدد الوجود. وهذا أوْلى في التوجيه على ضعفه من التعرض لكون الحمل مجهولاً؛ فإنا إن شككنا في الحمل حالة اجتنانه، فإذا انفصل لما دون ستة أشهر، لم نشك بعد انفصاله في كونه موجوداً عند العقد.
3853- ولو باع جارية حائلاً، ثم علقت بمولود بعد البيع، وأفلس المشتري وأراد البائع الرجوعَ، والجارية حامل، فظاهر النص أن الحمل يرجع إلى البائع، ويتبع الجارية، كما يتبعها حالة البيع، حتى يصير المشتري أولى بالتَّبع (2) .
وخرّج الأئمة قولاً آخر: أن الحمل لا يرجع إلى البائع (3) في هذه الصورة؛ فإنه إنما يرجع [إليه] (4) ما كان موجوداً حالة العقد، وليس الحمل كزيادة متصلة.
3854- ونصُّ الشافعي دليل على أن الحمل لا ينفرد باعتبارٍ، وليس له قسط من الثمن، وسبيله التبعية. فإن قلنا: يرجع الحمل إلى البائع كما يقتضيه النص، فلا كلام. وإن قلنا: يبقى للمشتري وغرمائه، فلا ينبغي أن يمتنع رجوع البائع بالجارية بسبب حملٍ لا يرجع إليه؛ فإنا وإن منعنا بيع جارية في بطنها حملٌ حرٌ -على تفصيل قدمناه- فلا يمتنع الرجوع لمكان الحمل.
والقول في هذا وفي كيفية الرجوع في الجارية دون الحمل، وفي معنى الرجوع فيها دون الولد المنفصل، على قولنا بمنع التفريق بين الأم وولدها كلامٌ لا يتصور
__________
(1) في الأصل: فيقدر تارة.
(2) التبع: أي الحمل.
(3) في الأصل: المشتري.
(4) زيادة من (ت 2) .(6/332)
الوفاء ببيانه إلا بعد تقديم فصل الغراس والبناء. وهو إذا اشترى الرجل أرضاً وغرسها، [أو] (1) بنى عليها، فأفلس وأراد بائع الأرض الرجوعَ بالأرض. وهذا الفصل يأتي مستقصىً، إن شاء الله بعد هذا، على القرب، ثم نعقبه بما ذكرناه من الحمل والولد المنفصل الذي يمتنع التفريق بينه وبين الأم.
هذا منتهى مرادنا الآن في الحمل.
3855- فأما إذا باع شجرة وعليها طلع لم يؤبر، فلأصحابنا في الثمار غيرِ المؤبرة، وفي تثبيه استتارها بالأكِمَّة باستتار الجنين بالأم، وتشبيه ظهورها بالتأبير بظهور الحمل بالولادة اضطراب (2) . ونحن نجمع جميع مرادهم تحت سياق الترتيب.
وقد ذكرنا أربع صور في الحمل، فنقابل كلَّ صورة منها بصورة في الطلع.
3856- فلو باع نخلة وعليها طلع لم يؤبر، فأفلس المشتري، وكان رجوع البائع قبل أن يؤبر، فهذا يناظر ما لو باع جارية حاملاً، فأفلس المشتري وهي حامل، وقد ذكرنا ثَمَّ أن البائع يرجع في الجارية الحامل، فتنقلب إليه، كما خرجت عن ملكه. ونحن نقول في الثمار: إنها ترجع مع النخلة إلى الباح، على اتفاق، ولا حاجة إلى ترجيح محل الإجماع على محل الإجماع. وإذا ذكرنا الترتيب في صور الخلاف بأن غرضنا.
3857- ومن صور الحمل ألا يوجد في طرفي البيع والرجوع، بل تَعْلقُ بعد البيع، وتلد قبل الرجوع، فلا حظ لبائع النخلة في الثمار؛ فإنها لم تكن موجودة حالة العقد، [ثم بدت وظهرت، وزايلت حدَّ التبعية قبل الرجوع.
3858- ومن صور الحمل أن يكون الحمل موجوداً حالة العقد] (3) ، ثم ينفصل قبل الرجوع، وفيه قولان، ونظيره من الثمار، ما لو باع نخلة عليها طلع لم يؤبر، ثم يؤبّر قبل الرجوع. وفي هذه الصورة قولان أيضاًً، مرتبأن على القولين [في] (4) نظير هذه
__________
(1) في الأصل: وبنى.
(2) "اضطراب" مبتدأ مؤخر، خبره المقدم: "فلأصحابنا في الثمار ... ".
(3) ساقط من الأصل.
(4) في الأصل: ونظير.(6/333)
الصورة من الحمل، والثمارُ أولى بأن يَرجع فيها البائع، والسبب فيه أنها وإن تبعت الشجرة في معظم تسميتها، فهي مقصودة في نفسها، ويسوغ في المذهب الظاهر إفرادها بالبيع، فكأنها جُعلت مقصودةً في العقد، فكانت بالرجوع أولى، والحمل كأنّه صفة، والولادة كأنه التجدد والحدوث، كما ذكرناه في توجيه القولين.
3859- ومن صور الحمل ألا يكون موجوداً حالة العقد، ويحدث العلوق به بعد العقد، ثم يتفق وقتُ الرجوع والحمل في البطن، فقد ذكرنا قولين في الحمل: أظهرهما - أنه يرجع في الحمل، والقول الثاني - أنه يبقى للمشتري، ونظير هذا من الثمر ما لو باع نخلة، لا طلع عليها، ثم أطلعت ولم تؤبر، وحان الرجوع، ففي الثمار قولان مرتبان على القولين في الحمل. فإن قلنا: لا يرجع البائع في الحمل،. فلأن لا يرجع في الثمرة التي لم تؤبر أولى. وإن قلنا: يرجع البائع في الحمل من حيث إنه غير مقصود، فهل يرجع البائع في الثمر أم لا؟ فعلى قولين. والفرق أن الثمر مقصود في نفسه، قابل للإفراد بالبيع، ولم يكن موجوداً حالة العقد، فرجوعٌ بشيء مقصود إليه لم يكن موجوداً حالة العقد بعيدٌ، بخلاف الحمل؛ فإن كونه مقصوداً مختلف فيه، فكان رجوعه إلى البائع أقربَ من الجهة التي اختلفت في كونه مقصوداً.
هذا بيان ترتيب المذهب في الثمار والحمل في الصور الأربع.
فصل
قال: " ولو قال البائع: اخترت عين حقي قبل الإبار، وأنكر المفلس ...
إلى آخره " (1) .
3860- فرَّع الشافعي رضي الله عنه هذا الفصل على القول المنصوص الظاهر، وهو أن من باع نخلة، فأطلعت بعد البيع، وأفلس المشتري قبل التأبير، وأراد الرجوع، فله أن يرجع في الثمار مع الأشجار. ولو أُبرت الثمار قبل الرجوع، لم يرجع البائع في الثمار وفاقاً. ومضمون الفصل مُدارٌ على هاتين الصورتين.
__________
(1) ر. المختصر: (2/220) .(6/334)
3861- فلو قال البائع: رجعتُ والثمار غيرُ مؤبرة، فهي لي، وقال المشتري: بل رجعتَ بعد التأبير، فالثمار لي تصرف إلى غرمائي، فالقول قول المشتري؛ لأن الأصل إبقاء ملكه في الثمار، والأصل عدم رجوعه أيضاًً.
فإن قيل: قد تقابلَ قولُنا: الأصل عدم الرجوع و [قولُنا] (1) : الأصلُ عدم التأبير، فتعارضا، وتقابلا، فليخرّج ذلك على تقابل الأصلين.
قلنا: تعارض القولان كما ذكره السائل، والأصل بقاء الملك للمشتري.
ثم إذا جعلنا القولَ قولَ المشتري، وأراد البائع تحليفه، فلا يتأتى منه تحليفه ما لم يدَّع عليه العلمَ بتقدّم رجوعه على وقوع التأبير، ولو كلفه أن يحلف أنه ما رجع قبل التأبير، كان مكلفاً إياه ما لا سبيل إليه.
ولو أقر البائِعُ بجهل المشتري بتاريخ الرجوع، فيكون مسلماً له الثمرة؛ إذ مبنى الأَيْمان المتعلقة بنفي فعل الغير على أن تتضمن نفي العلم بها؛ [إذ] (2) ليس في القوة البشرية درْكُ القطع بأنتفاء ما يمكن من فعل الغير، فإن لم يدع البائع العلمَ، بقيت الثمار للمشتري وغرمائه.
فإن ادعى علمَ المشتري بتقدم رجوعه على التأبير، فيحلف المشتري على ذلك، فإن حلف بالله أنه لا يعلم أنه رجع قبل التأبير، انفصلت الخصومة، واستقرت الثمرة للمشتري على ذلك.
وإن حلف المشتري على البت بالله أنه لم يرجع، فالخصومة تنفصل أيضاً بهذه اليمين، وإن كان المشتري يُعدُّ مجازفاً، ومحملُ يمينه البتُّ والقطعُ على أمور مظنونة.
ومعظم الناس لا يميزون بين العلم وغالب الظن، فاليمين الباتة [تفيد] (3) ما يفيده اليمين النافية للعلم. هذا إن حلف.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في الأصل: وليس.
(3) في الأصل: مفيد.(6/335)
3862- فإن نكل المشتري، فهاهنا وقفة؛ فإن البائع لو رددنا عليه اليمين، وحلف، لفاز بالثمار.
فلو قال الغرماء: لئن قصر المشتري ونكل، فالثمار لو ثبتت له، لكانت مصروفة إلينا، فلئن لم يحلف، فنحن نحلف، فلا تردُّوا اليمين على البائع، فنقدم على ذلك أصلاً قريباً منه ونقول:
3863- إذا مات الرجل وعليه ديون، فادعى ورثة المديون ديناً للميت، وأقاموا به شاهداً، ونكلوا عن اليمين معه، فهل للغرماء أن يحلفوا؟ فعلى قولين مشهورين.
ولو ادّعى المفلس ديناً له على إنسان، وأقام شاهداً واحداً، ثم لم يحلف معه، فقال الغرماء: نحن نحلف معه، حتى إذا ثبت الدين صُرف إلينا، ففي المسألة طريقان: أحدهما - تخرّج المسألة على قولين كما تقدم في ورثة المديون والغرماء، والطريقة الأخرى - القطع بأنهم لا يحلفون؛ فإن صاحب القصة -المتوفَّى في المسألة الأولى- وقد مات وأشكل أمره، فإذا حلف الغرماء لم يظهر نقيض الصدق في أيمانهم. والمفلس صاحب القصة في مسألتنا، فإذا امتنع عن اليمين، تمكنت التهمة من الغرماء إذا حلفوا.
فنعود بعد ذلك إلى اختلاف البائع والمشتري في الرجوع والتأبير، فنقول:
3864- إن لم يحلف المشتري، فهل يحلف الغرماء؟ فعلى الطريقين المذكورين فيه إذا أقام المفلس شاهداً على دينٍ، ولم يحلف معه، فأراد الغرماء أن يحلفوا، لا فرق بين المسألتين؛ فإن نكول المفلس فيهما جميعاً يجرّ تهمة إلى الغرماء، على أن الغرماء ليسوا مستحلفين من جهة المدعي، وإنما هم يقتحمون اليمين ويبغونها، والأصل المستحلَف ناكلٌ، وأيمانهم على صورة النيابة عن يمين المشتري، والنيابةُ لا تتطرق إلى الأيمان في وضعها.
ونذكر لاستكمال هذا الفن مسألة أخرى، ثم نرجع إلى ترتيب المسألة، فنقول:
3865- لو أقر المفلس لإنسانٍ بدَيْنٍ، فقد اختلف قول الشافعي في قبول إقراره في الحال، وسيأتي ذكر ذلك. فإن قبلنا إقراره، فلا كلام، وإن لم نقبل إقراره بسبب الغرماء، فهل للمقَر له أن يحلَّف الغرماء؟(6/336)
قال العراقيون: في المسألة طريقان، على العكس مما تقدم: فمن أصحابنا من قال: في المسألة قولان؛ لأن الغرماء ليسوا أصولاً في الخصومة، والخصومة وإن أمكنت النيابةُ فيها، فلا نيابة في الأيمان، والطريقة الأخرى - القطعُ بأنهم يحلفون؛ فإنهم ليسوا نائبين عن المفلس في أيمانهم، والخصومة موجهة عليهم، ولولا حقوقهم، لنفذ إقرارُ (1) المفلس، فإذا أرادوا أن يأخذوا أموالهم، ويحرموا المقرَّ له، فقد انتصبوا خصومه.
عدنا إلى ترتيب المسألة: إذا نكل المشتري عن اليمين.
3866- فإن قلنا: الغرماء يحلفون، فيحلفون على نفي العلم، كما كان المشتري يحلف لو رغب في اليمين، وإن قلنا: إنهم لا يحلفون، فترد اليمين على البائع. وكذلك إن قلنا: إنهم يحلفون، ونكلوا، فإن نكل البائع عن يمين الرد جُعل نكوله كحلف المشتري، وبقيت الثمار للمشتري يتضارب فيها غرماؤه.
وإن حلف المشتري فقد قال الأصحاب: هذا يخرّج الآن على الاختلاف في أن يمين الرد تنزل منزلة البينة المقامة للخصومة؟ أم تنزل منزلة إقرار المدعَى عليه؟ وفيه اختلاف معروف.
وهذا أوان تقريره.
فنذكر ما سرده الأصحاب على وجهه. قالوا:
3867- إن قلنا: يمين الرد كالبينة، قضينا بالثمرة للبائع، كما لو أقام بينة على تقذم رجوعه على التأبير، وإن قلنا: يمين الرد كإقرار المدعى عليه، فتخرج المسألة على قولين مبنيين على أن المفلس لو صدّق البائع، وأقر له بما يدعيه من الثمار، فهل يُقضى له بموجب إقراره على الغرماء؟ وفيه قولان [مرتبان] (2) : فإن رأينا قبول إقراره، فلا كلام، وينفذ القضاء بالثمرة للبائع، وإن رأينا ردَّ إقراره وقد نزلنا يمين البائع منزلة إقرار المشتري بحقوق الغرماء مقدمةً في الحال، فيتضاربون في الثمار تضاربهم في سائر أصناف الأموال.
__________
(1) (ت 2) : إقرارهم.
(2) ساقطة من الأصل.(6/337)
فإن قيل: فاليمين التي أقدم عليها البائع لاغيةٌ في عقباها، فلم حلّفتموه؟ قلنا: ليست لاغيةً؛ فإنّ تيك الثمار لو فصلت عن الديون، بأن وجدنا في السلع التي كنا نبيعها من يشتريها بأكثر من أثمانها، وفصلت الثمار، وانطلق الحجر، فهي مصروفة إلى البائع بيمينه.
3868- فإن قيل: نراكم تذكرون هذا الأصل تارة، وتزيفون البناء عليه، وأنتم الآن لم تظهروا تزييفة، فأظهروا آراءكم (1) فيه.
قلنا: نعم، إنما نزيف التلقي من هذا الأصل إذا كان يفرِّع المفرع عليه بما يُفضي إلى إزالة ملك الغير بعد ثبوته له، ولا تعلق للخصومة به، مثل أن يقرّ الراهن لأحد المتداعيين بالتقدم بالرهن والإقباض، وينفذ الحكم بإقرار المالك الراهن، فإذا ادعى الآخر على الراهن، وحلّفناه، فنكل، ورددنا اليمين على المدعي، فمن قال من أصحابنا: إنا إذا جعلنا يمين الرد بمثابة البينة؛ فإنا نسترد الرهن من المقر له [أولاً] (2) ، فهذا مزيف لا سبيل إلى اعتقاده؛ من قِبل أن الإقرار الأول قد نفذ، فنقضُه بسبب إنكار المقر ونكوله محال؛ فإنه لو صرح بالرجوع، لم يكن لتصريحه بالرجوع عن الإقرار حكم، وحَلْفُ (3) المردود عليه قولُ خصمه، والقضاء عليه بيمين خصمه -وكان معه في رتبة المدعين (4) - محال. هذا هو الذي يزيَّف ويُطَّرح.
3869- فأما إذا توجهت الدعوى على المفلس، فهو المخاطب بالخصومة، ولو ثبت له ملك، لكان له، ثَمَّ صَرْفُه إلى ديونه، قد يكون وقد لا يكون، وإن اتفق ذلك، فهو من مصلحته أيضاًً، ولا يمكننا أن نقول: للغرماء حق ثابت في هذا المتنازع فيه، لم يثبت بعدُ، فيجري التفريع على أن يمين الرد كالبينة، أو كالإقرار في مثل هذه الصورة، وذلك أنه لم يثبت بعدُ للغرماء حقٌ في الثمار، والمفلس ذُو عبارة صحيحة في الخصومة، فإذا انتظم من مخاصمته انتهاء الأمر إلى يمين الرد، فلا يمتنع
__________
(1) (ت 2) : فابدوا رأيكم.
(2) في الأصل: وإلا.
(3) بسكون اللام وكسرها. (مصباح) .
(4) في (ت 2) : " المدعيَيْن".(6/338)
القضاء به، ويكون ذلك منعاً للغرماء مما يرونه لأنفسهم، ولا يكون قطعاً لحقوقهم.
3870- فإن قيل: إذا كنتم تردون إقرار المفلس في الحال، فلا يمتنع عليه أن يواطىء كلَّ من يريد الإقرار له حتى يدعي عليه، فينكر، وينكل، فيرد اليمين عليه.
قلنا: هذا لو لم يكن لليمين بالله تعالى موقع في النفوس، وهي معظمة في دين الله تعالى، فمن أنكر أثرها، لم يبعد إنكار أثر الأَيْمان كلها. ومن ها هنا ينشأ التردد في أنه بينة، أم هي نازلة منزلة إقرار الخصم.
3871- ومما يتم به التفريع في هذا الطرف أنا إن قضينا بيمين البائع (1) في الحال، فلا كلام.
وإن أبَيْنا القضاء بيمينه، فحكم هذا أن يفوز الغرماء بالثمار، ويعود حق البائع إلى مطالبة المشتري بعد انفكاك الحجر عنه.
3872- فلو قال البائع للغرماء: احلفوا لي بالله لا تعلمون تقدّمَ رجوعي على التأبير، فهل له أن يحلّفهم؟ فعلى طريقين ذكرناهما الآن: إحداهما - القطع بأنهم يحلفون، لما سبق تقريره. فإن رأينا ذلك، وحلفوا، فذاك، وإن نكلوا ردّت اليمين على البائع مرة أخرى في الخصومة الجديدة، وكأن اليمين الأولى من البائع لم تكن، ثم إذا حلف بعد نكول الغرماء، قُضي له بالثمار، لا محالة.
فهذه صورة تنجَّز الكلام فيها.
3873- فلو صدّق المشتري البائع فيما ادعاه من استحقاق الثمرة، وكذبه الغرماء، فالمسألة تخرّج على القولين في أن إقرار المفلس هل يقبل في الحال؟ فإن قبلنا إقراره، فلا كلام. وإن رددناه، فالبائع المقر له هل يحلّف الغرماء؟ فعلى ما ذكرناه من اختلاف الطريقين.
3874- ولو ادعى البائع ما ادعاه، فكذبه المفلس، وصدقه جميع الغرماء، وانتجزت الخصومة بين البائع وبين المفلس، فإن حلف المفلس على ما أوضحنا كيفية
__________
(1) في (ت 2) : الرّد.(6/339)
حلفه، فلا يقبل تصديق الغرماء للبائع في وجوب تسليم [الثمرة] (1) إليه، غير أنهم لو أرادوا أن يطالبوا المشتري بتسليم تلك الثمار إليهم عن جهة ديونهم، لم يكن لهم ذلك من قِبل اعترافهم بأنهم لا يستحقونها، فتبقى الثمار في يدي المشتري، لا تسلم إلى البائع، ولا يتعلق بها الغرماء لإقرارهم السابق. ثم لا يملك المشتري التصرف فيها؛ لأنه محجور عليه على حالٍ، وقد يظهر له غرماء لسنا نعرفهم الآن.
ثم إن ضاق المال عن الديون، فالمفلس يلتمس من الحاكم أن يصرف إليهم تلك الثمار، فيما يصرفه إليهم. فإن قالوا: نحن نعلم أنها مغصوبة، فلِمَ يكلفنا أخذَها؟ قلنا: لا يقبل قولكم في حق المفلس، والحجر مطرد عليه، وغرضه ظاهر في حصول براءة ذمته عن ديونه، فخذوا الثمار عن حقوقكم، أو أبرئوه عن مقدارها من الديون، على نظرٍ في ذلك نستقصيه.
فإن أخذوها، حكمنا ببراءة المفلس عن أقدارها من الديون ثم كما (2) ثبتت أيديهم على الثمار، لزمهم الرد على البائع لاعترافهم السابق؛ فإن إقرارهم إن كان مردوداً على المفلس وما يتعلق بأمره، فهو مقبول عليهم. وهذا بيِّنٌ في قواعد الشريعة.
3875- ولو قالوا: لا تكلفونا قبض الثمار، ولا تصرفوا أثمانها إلينا، ونحن نرضى برفع الحجر عنه، فهل يجبرون على قبض ذلك؟ فعلى قولين. وهذا هو الأصل الذي تكرر مراراً، من قِبل أن الغرماء إذا كانوا لا يدّعون للمفلس مالاً، سوى ما في يد الحاكم، واعترفوا بأن الثمار ليست له، فالحجر ينفك، أو يفك، على تفصيل يأتي لا محالة، إن شاء الله. إلا أن يدّعوا له مالاً خفياً، وسيظهر أثر ذلك من بعد.
فكأن المشتري مديون أتى بمالٍ ليصرفه إلى مستحق الدين، فأبى عن قبوله، وزعم أنه غصبٌ، فقوله بأنه غصب مردود، وهل يجبر على قبوله؟ فعلى القولين المشهورين في أن من جاء بدين مؤجل عليه أو حالٍّ، فامتنع المستحِق عن قبوله، فهل يجبر عليه أم لا؟
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) كما: بمعنى عندما.(6/340)
هذا حاصل الكلام في ذلك.
3876- ولو جاء المكاتَب بالنجم، فقال السيد: إنه مغصوب، لم يقبل قول السيد، وأجبر على القبول؛ فإن للمكاتب غرضاً صحيحاً في قبول ما جاء به، وقول السيد مردود عليه.
نظير هذا من مسألتنا ما لو امتنع الغرماء من قبول الثمار، وأبَوْا أن يفكوا الحجر، وزعموا أن له مالاً سوى الثمار مغيّباً، وكانت الديون تتأدى بالثمار، فيجبر الغرماء حينئذ على القبول؛ لظهور غرض المفلس في استفادة انفكاك الحجر.
هذا فيه إذا كذب المفلس البائع، وصدقه الغرماء.
3877- فأما إذا كذب المفلس البائع، كما ذكرناه، وانقسم الغرماء، فصدّق بعضهم البائعَ، وكذبه آخرون، فالأولى أن يَرفُق الحاكمُ بالمصدقين، ويصرف الثمرة إلى المكذبين، ويصرفَ إلى المصدقين صنفاً آخر؛ فإنه لو لم يفعل ذلك، وصرف إلى المصدق شيئاًً من الثمرة، لكان ذلك خسراناً عليه (1) ، من جهة أنه يلزمه تسليمه إلى البائع المقَر له.
ثم يُبيّن المصدقَ والمكذبَ حكمٌ نصفه في صورة. فنقول: الثمرة خمسمائة، وللمفلس ألف سواها، وله غريمان لكل واحد منهما ألفٌ. فإذا صرفنا الخمسمائة إلى المكذّب منهما، وبقي الألف بين المصدق والمكذب، فلو قال المصدق: ضارب في الألفِ بخمسمائة؛ فإنها حقك بزعمك، فالألف بيننا أثلاثاً أضرب فيه بسهمين، وتضرب فيه بسهم، فكيف السبيل؟ اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: تقسم الألف ثُلثاً وثلثين بينهما، ويؤاخذ المكذب بإقراره. وقد قال: قبضت من حقي خمسمائة. هذا وجه ظاهر.
ومنهم من قال: يضارب المكذب المصدق في الألف الباقي على نسبة التشطير، ويقول: ألفي باقٍ على زعمك، وأنت مؤاخذ بإقرارك، وقد فرّطتَ وضيعتَ
__________
(1) أي على المصدق.(6/341)
مضطرَبَك؛ إذ صدقت البائع، فيرجع من الألف خمسمائة إلى المكذب، ويتوفر عليه حقُّه كملاً.
3878- وما ذكرناه من أمر الحاكم بتسليم الثمرة إلى المكذب كيف قولنا فيه؟ أهو حتمٌ؟ أم للحاكم أن يقسط الثمرة على المكذب والمصدّق؟ ذكر العراقيون في ذلك وجهين: أحدهما - أنه لا يجوز للحاكم صرفُ الثمرة إلى المصدّق إذا أمكنه صرفُها إلى المكذِّب لما فيه من [التخسير] (1) . والثاني - لا يجب على الحاكم رعاية هذا، وإنما يُمضي حكمَه وقضاءَه على قول مَنْ جعل الشرعُ القولَ قولَه، والأصح أنه يجب عليه رعايةُ هذا، فإنه ناظِرٌ للمسلمين، فلا يجوز أن يسعى في إيذائهم من غير غرض.
فصل
قال: " وإن وَجَدَ بعضَ ماله، كان له بحصته ... إلى آخره " (2) .
3879- وهذا مما سبق تقريره فيما مضى، ولكنا نعيده لغرضٍ لنا، فنقول إذا باع شيئين بثمن وسلمهما، فأفلس المشتري، وقد تلف في يده أحدُ الشيئين، فقاعدة المذهب أنه يرجع بالعين الباقية، ويأخذها بما يخصها من الثمن، ويضارب الغرماء بما يخص العين الفائتة من الثمن.
هذا هو الأصل.
3880- وذكر صاحب التقريب والعراقيون في هذه المسألة، وفي كل مسألة تضاهيها أن من أصحابنا من خرّج هذا على أصلٍ ذكرناه في تفريق الصفقة، وهو أن من اشترى عبدَيْن، فتلف أحدهما قبل القبض، وانفرع العقد فيه، وأجاز (3) المشتري البيع في الباقي، الخِيَرةُ بتمام الثمن (4) أو بقسطه؟
__________
(1) في الأصل: التنجيز.
(2) ر. المختصر: (2/220) .
(3) (ت 2) : "واختار".
(4) قال الإمام هناك -في باب تفريق الصفقة-: " إن القول بالإجازة بتمام الثمن لا اتجاه له، ولولا
اشتهاره في النقل، لما ذكرناه "(6/342)
فعلى قولين: فقال قائلون: ها هنا يخرّج هذان القولان أيضاًً، ففي قولٍ، نقول للبائع: خذ العين القائمة (1) بجميع الثمن، أو دَعْها، وضارب بجميع الثمن.
وفي قولٍ، نقول: يأخذ ما وجد بحصته ويضارب الغرماء بحصته من الثمن.
والقول المذكور في أن العقد يجاز في العبد الباقي بعد تلف العبد الآخر بتمام الثمن، في نهاية الضعف، والمصير إلى ذلك القياس في هذا المقام خرقٌ لنظم المذهب بالكلية.
3881- وطرد هذا القائل هذا المسلك في الشفعة، فقال: من باع سيفاً قيمته مائة، وشقصا قيمته عشرة، بمائة وعشرة، فجاء الشفيع يطلب الشقص؛ فنقول في قول: خذ الشقص بجميع الثمن، أو دع الشفعة، وفي قول نقول: خذ الشقصَ بنسبته. وهذا الآن عندي قريب من خرق الإجماع، فالوجه القطع بأن البائع يرجع فيما بقي ويأخذه بقسطه، ويضارب بقسط من الثمن.
فإن قيل: كيف نعتبر قيمة الفائت (2) والباقي؟ قلنا: نحن على قرب عهدٍ بهذا، فالفائت بمنزلة الثمار في المسألة العويصة في صدر الكتاب إذا (3) صوَّرنا فواتها، والعبد الباقي بمثابة الشجرة الباقية. وقد ذكرنا تفصيل المسألة على أحسن مساق.
فصل
قال: " ولو كانت داراً، فبنيت، أو أرضاً، فغرست ... إلى آخره " (4) .
هذا من فصول الكتاب، فليخصِّصْه الناظر بتثبُّت في الفكر.
3882- إذا باع الرجل أرضاً من إنسان، وسلّمها، فغرسها المشتري، أو بنى فيها، ثم أفلس. وما كان أدّى الثمن، والأرض مبنية و (5) مغروسة، فالوجه التنبيه
__________
(1) (ت 2) : الباقية.
(2) (ت 2) : التالف.
(3) كذا في النسختين، و (إذا) هنا بمعنى (إذ) وهو استعمال صحيح، نبه إليه إمام النحاة ابن مالك (ر. شواهد التوضيح والتصحيح: 63) .
(4) ر. المختصر: (2/220) .
(5) كذا. ولعلها: أو مغروسة.(6/343)
لمثار الإشكال في المسألة أولاً، ثم نخوض فيها بعون الله وتوفيقه.
3883- فنقول: المشتري بغرسه وبنائه متصرف في ملك نفسه، وليس أيضاًً على رتبة مستعير؛ فإن العاريّة عرضة الاسترداد، [و] (1) لما أفلس وقد تمهد في الشرع أن البائع يرجع إلى عين ماله، وعين ماله عتيدة، ولكنها مُغيَّرة. والجمع بين تفريغ الأرض له وبين رعاية حق المشتري والغرماء عَسِر، فكيف السبيل؟ فنقول أولاً: إن طمع البائع في أن يقلع البناء والغراس مجاناً وتحبَطَ (2) قيمة البناء والغراس، ويرد إلى النقض والحطب (3) ، فهذا طمع محال؛ فإن المشتري لم يكن غاصباً، وإنما يُنقض على هذا الوجه بناء الغاصب وغراسه.
فلو قال البائع: لست أرجع في عين الأرض إلا على هذا الوجه، قلنا: فلا مرجع لك إذاً، فضارب الغرماء بالثمن، واقنع بما يخصك.
وإن كان لا يبغي البائع هذا المحال (4) ، ولكن أراد أن يرجع إلى عين حقه،
ومعلوم أن الأرض البيضاءَ أكثرُ قيمة من الأرض المبنية والمغروسة، إذا كانت تباع دون الغراس والبناء، فلا بد وأن يتداخله نقص.
فإذا تنبه الفقيه لهذا، ولما ذكرناه، فعبارات الأصحاب فيها بعض الإيهام والخبط. وأنا بعون الله تعالى آتي بمقصود الطرق على أقرب صيغةٍ إن شاء الله تعالى.
فأقول:
3884- حاصل ما ذكره الأئمة في ذلك أقوال: أحدها - أنا نجعل البائع واجداً عين ماله، فليرجع فيها من غير أن يعتقد جواز القلع مجاناً، وله أحكامٌ (5) على هذا القول سأصفه في التفريع.
__________
(1) زيادة من (ت 2) .
(2) تحبط: تهلك. (من باب تعب) .
(3) النقض والحطب: أي مخلفات الهدم، وقلع الزرع. وفي (ت 2) : النقص والحبط.
(4) المحال: أي الرجوع في الأرض، وإتلاف البناء والغراس، على صاحبها.
(5) (ت 2) : احتكام.(6/344)
والقول الثاني - أنا نجعل بائع الأرض فاقداً عين ماله. فإن قيل: لم ذلك؟ وهو
يقول: أنا أقنع بالأرض ناقصةً، ولا أقلع الغراس والبناء؟ قلنا: قد جرى البناء بحق، وقيمته على مبلغ لو كانت الأرض معه، ولو رجع البائع بعين ماله، لنقص البناء وإن لم يقلع، فتضمن ذلك غضاً من قيمة البناء. وقد أُنشىء (1) بحق، وليس كما لو كان المبيع مجرداً، لا يؤدي الرجوعُ فيه إلى تنقيص حق المشتري. ويتم وجه هذا القول بأن الباني يغرَم في البناء أموالاً يجبرها قيمة البناء، فإذا قطعنا الأرض عن البناء، تضمن ذلك تخسيراً للمشتري ظاهراً، وهذا يضاهي الردَّ بالعيب القديم مع عيب حادث؛ فإنه لو تسامح (2) ، كان استدراك ظلامة في ضمن إلحاق ظلامة.
هذا بيان هذا القول.
3885- وذكر بعض أصحابنا قولاً ثالثاً، وهو أن البائع يرجع في عين الأرض، ولكن لا يمكن بيعها، فتباع الأرض مع البناء؛ حتى لا يؤدي إلى التخسير، ويجعل البائع الراجع شريكاً، بمثابة صاحب الثوب غير المصبوغ إذا صبغ المشتري ثوبَه، على تفاصيلَ ستأتي، إن شاء الله عزّ وجلّ، ثم الثوب المصبوغ يباع ويوزع الثمن على قيمة الثوب والصبغ، وهذا عدلٌ في رعاية الحقين؛ فلا صاحب البناء يبيع بناءه وحده، ولا صاحب الأرض، بل تباعان.
ومن سلك المسلك المقدم، استبعد الحجر على صاحب الأرض في بيعه أرضَه، وقال: ليس ذلك كالثوب والصبغ؛ فإن إفراد أحدهما بالبيع غير ممكن، فاضطررنا إلى بيع الثوب في الحقين.
3886- وحكى العراقيون قولاً آخر بعيداً، وقالوا: إن كانت قيمة البناء أكثر، فليس بائعُ الأرض واجداً عينَ ماله. وإن كانت قيمة الأرض أكثر، فصاحبُ الأرض واجدٌ لعين ماله. ولعل هذا القائل يذهب مذهب اتباع الأقل [و] (3) الأكثر، ولم
__________
(1) في النسختين: أنشأ.
(2) (ت 2) : ساغ.
(3) مزيدة من (ت 2) .(6/345)
يتعرضوا لاستواء القيمتين، وهذا يقل قدره عن إتعاب الفكر في تفريعه.
3887- والآن نفرع على الأقوال، فنقول: من قال: إنه فاقدٌ لعين ماله، فنجعل حقه في المضاربة بالثمن، ومن قال: إنه واجد وليس وجدانه على مذهب الشركة التي ثبتت في الثوب المصبوغ، فظاهرُ التفريع على هذا القول أنه إذا رجع في عين الأرض، ثبتت له سلطنة، وهي خِيَرةٌ بين ثلاث خلالٍ. فإن أراد بذَلَ قيمة البناء والغراس ثابتين، وإن أراد قلَعَهما، وضمن ما ينقصه القلع. وإن أراد بَقَّاهُما وألزم من يبقى البناء له أجر المثل له (1) في المستقبل.
والتعيين في كل خصلة من هذه الخصال إلى البائع الراجع، وكأنا أحبَبْنا (2) ردَّ الأرْض عليه كما خرجت عن ملكه، فصدّنا عنه امتناعُ إبطال البناء والغراس، فأثبتنا له رتبةَ سلطان المالكين، حتى كأن البناء صدر عن إذنه، وكأنه المعير. ومن أعار أرضاً حتى نبتت وغرست، فمآل الأمر يؤول إلى ما ذكرناه.
3888- ومن تمام البيان في ذلك أن الغرماء لو امتنعوا عن قبول هذه الأشياء، واختلفوا: فعيّن البائع خصلة وطلبَ الغرماءُ والمشتري خصلة، فكيف السبيل والحال هذه؟ اختلف أصحابنا في هذه المسألة: فمنهم من قال: إذا [استيقن] (3) منهم النكد (4) ، وظهرت المخالفة، قُلع الغراس والبناء مجاناً، كما يفعل ذلك بين المعير والمستعير؛ فإن المستعير إذا أبى قبول خصلة من الخصال التي ذكرناها، قُلع غراسه مجّاناً. وقد نزّلنا البائع على التقدير الذي ذكرناه منزلة المعير. هذا وجه.
والوجه الثاني - أنهم وإن خالفوا ولم يقبلوا، لم يُقلع بناؤهم مجاناً، ولكنا نقول للبائع: ماذا تريد؟ فإن أراد القلع، قلعنا، ولهم ما ينقصه القلع. وإن أراد تملك البناء والغراس بالقيمة، ملّكناه تلك الأعيان، وألزمناه قيمتها. وإن أراد أن يلزمهم الأجرة ما أبقَوْا البناء والشجر، ألزمناهم؛ فلا حاجة إلى تعطيل حقوقهم، وقلع بنائهم
__________
(1) عبارة (ت 2) : من يبقى له البناء أجر المثل في المستقبل.
(2) وكانا أجنبيين.
(3) (ت 2) : استقر.
(4) النكد: العناد، والمعاسرة. (معجم) .(6/346)
وغراسهم مجاناً، ونحن نتمكن من تحصيل ما يريده البائع في (1) الخِيَرَات الثلاث.
نعم، إذا عاند المستعير، ارتفع عذرُ المعير، وجاز له استرداد الأرض كما كانت من غير غرم، وسنستقصي ذلك في كتاب العاريّة. والمشتري لا يعتمد بناءه وغراسه إذنا متعرضاً للرجوع، ولكنه اعتمد ملكه الثابت، فلا حاجة لتعطيل تصرفه وتخسيره ماله.
3889- وإن فرعنا على أن بائع الأرض يرجع فيها رجوع بائع الثوب بعد صبغه، فمعنى ذلك أن الأرض والغراس أو البناء يباعان معاً، ويوزّع الثمن عليهما، فما خص الأرض كما سنصف التوزيع ينفرد البائع به، وما خص البناء، فهو للمشتري وغرمائه.
ومن امتنع من بيع ما أضفناه إليه، أُجبر على البيع؛ فإنا لو كلفنا واحداً أن ينفرد ببيع ملكه، لكان ذلك مضراً به مُخسراً إياه، وسبيل الأرض والبناء في هذه القاعدة -وهي الحَمْل على بيعهما- كسبيل الثوب والصبغ، على ما سنذكره.
هذا بيان هذا القول على الجملة. وتمام بيانه موقوف على بيان كيفية التوزيع.
3890- وقد اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: تقوَّم الأرض دون النخيل، والبناء، ثم مع النخيل، والبناء، فنقول: قيمتهما دونها مائة، ومعها مائة وخمسون، فيقسم الثمن أثلاثا بالغاً ما بلغ، ثلثاه لمالك الأرض. ومنهم من قال: تقوّم الأرض دون النخيل والبناء، فإذا قيمتها مائة، ثم يقوّم البناء والنخيل دون الأرض، فإذا قيمتهما مائة، فيقسم الثمن بينهما نصفين، وقد تقدّم نظير هذا الاختلاف في الأصول السابقة.
3891- ولو وهب رجل أرضاً بيضاء وسلمها، وكان يثبت له حق الرجوع في
الهبة، فلو بنى المتَّهب وغرس فيها فرَجْع (2) الواهب في الأرض بعد بناء المتهب وغراسه، كرجوع البائع في كل تفصيلٍ، بلا فرق في الأقوال، والتفريع عليها.
__________
(1) (ت 2) : والخيرات.
(2) في (ت 2) : "رجع " (بهذا الضبط) . ورَجْع وزان (فَعْل) بسكون العين مصدر رجع يرجع رَجْعا
ورجوعاً. (مصباح) .(6/347)
3892- فرع: إذا باع الرجل جاريةً، فولدت في يد المشتري وأفلس المشتري، وكان الولد بحيث لا يرجع فيه بائع الجارية، ومنعنا التفريق بين الأم وولدها، فكيف يرجع البائع، وليس الولد له؟
ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنه يقال له: إما أن تبذل قيمة الولد فتأخذه مع الجارية، وإما أن يباعا معاً، فتأخذ حصتك من الجارية، وتدفع إلى الغرماء ما يقابل الولد.
والوجه الثاني - أنه يقال: إما أن تبذل بدلَ الولد، وإما ألافجعلك واجداً لعين مالك، فتضارب الغرماء بثمن الجارية، ويبطل حقك من الرجوع، فإذا كان يرجع البائع في الجارية الحامل، ولا يرجع في حملها على قولٍ في صورةٍ، فلا وجه إلا المكث إلى انفصال الولد، وعند ذلك يتفرع ما ذكرناه في الجارية، وولدها من اختلاف الجوابين عن طريقة العراق (1) ، ولا يمكننا أن نقوّمها حاملاً، ونقوّمها حائلاً؛ فإن الحمل غير موثوق به قبل الانفصال، فلا ينتظم توزيع يُهتدى إليه. والأصحُّ، وظاهر النص أنه يرجع في الحمل كما تقدم.
فصل
قال: " ولو كانا عبدين بمائةٍ ... إلى آخره " (2) .
3893- صورة المسألة باع عبدين متفقي القيمة بمائةٍ، وقبض خمسين، فتلف أحدهما في يد المشتري وفُلِّس، فقد اجتمع في المسألة تبعيضٌ في الثمن، وتبعيض في المثمن، فإن البائع قبض نصف الثمن، وبقي في يد المشتري عبدٌ، وهو على نصف قيمة المثمن. فالذي نص عليه الشافعي أن البائع يرجع في العبد الباقي ببقيّة الثمن، فجميع المقبوض من الثمن في الهالك، والباقي في القائم، وصار في هذا إلى أن إحالة البائع على المفلس بشيء من الثمن مع أن الباقي من المثمن وافٍ بالباقي
__________
(1) كذا في النسختين، والمعنىُّ طريقة العراقيين.
(2) ر. المختصر: (2/220) .(6/348)
من الثمن لا وجه له، وكأن هذا القائل يجعل تعلق البائع بالمبيع في الثمن بمثابة تعلق المرتهن بالرّهنِ في مقابلة الدين.
وفي المسألة قول آخر، خرّجه الأصحاب من أجوبة الشافعي في الصداق والزكاة. وهو أن المقبوض من الثمن يتوزع على التالف والباقي؛ والباقي من الثمن يقابل التالف والباقي، وهذا يتضمن أن يرجع في نصف العبد القائم الذي في يد المشتري، ويضارب الغرماء بما يقابل نصف التالف، فيقع الرجوع في ربع الجملة، وهو نصف العبد القائم، وتقع المضاربة في ربع الثمن.
وهذا القول المترجم بالشيوع اختيار المزني. وهو القياس. والقول الأول يُشهر بقول الحصر (1) .
وسنذكر حقيقة الشيوع في كتاب الصداق، إن شاء الله تعالى.
فصل
قال: " ولو أكراه أرضاً، ففُلِّس، والزرع بقلٌ في أرضه ... إلى آخره " (2) .
3894- إذا اكراه أرضاً مدة، ولم يقبض الأجرة، وسلّم الأرض، ثم أفلس المكتري، فالمكري في بقية المدة بمثابة البائع الواجد لبعض المبيع بعينه، والمنافع في المدة الماضية مستوفاة فائتة، فلا يتوقع الرجوع فيها، والمنفعة الباقية بمثابة بعض المبيع؛ فللمكري أن يفسخ الإجارة في بقية المدة، ويرجع إلى قسطٍ من الأجرة، في مقابلة المنافع المستوفاة.
هذا هو المنصوص عليه، وهو الذي قطع به جماهير الأئمة.
3895- وحكى صاحب التقريب قولاً (3) غريباً أنه لا يثبت الرجوع بالمنافع، وليست كالأعيان؛ فإن الوجود لا يتحقق فيها، وإنما الرجوع في الأعيان القائمة، فلا
__________
(1) في (ت 2) : "يشهد لقول الحصر".
(2) ر. المختصر: (2/221) .
(3) (ت 2) : وجها.(6/349)
مرجع (1) للمكري إلا إلى المضاربة بالأجرة المسماة، ثم تلك المنافع في بقية المدة ينبغي ألا تضيع، ولكن تكرى الأرض في بقية المدة، وتصرف أجرتها إلى ديون المفلس.
وهذا القول وإن كان يتجه بعض الاتجاه، فليس معدوداً من متن المذهب.
فنعود إلى التفريع على النص ونقول:
3896- إذا أراد الرجوع إلى المنفعة في بقية المدة، فالوجه تقويمها فيما يبقى من الزمان، حتى إذا ثبت مقدار أجرتها، قيس بمقدار أجرة المثل للمنفعة الماضية، ثم يقع التوزيع على المبلغين، فيأخذ المنفعة الباقية بما يساويها من الأجرة المسماة، المنسوبة إلى أجرة المثل، ويضارب بما يقابل أجرة المنفعة الماضية من الأجرة المسمّاة. ولا تعويل على زمانٍ؛ فإن الأوقات ليست معقوداً عليها، وإنما المعقود عليه المنافع الواقعة فيها، فهي لها ظروف مقدرةٌ، كالآصع والمكاييل للمكيلات، ومبَالغ الأجر تتفاوت بكثرة الراغبين وقلتهم، فيعتبر ذلك، لا الزمانُ نفسه، وقد تقع المنافع في الزمان الماضي وفي المستقبل في مواسم الرغبات، فالمسكن في موسم الحج قد يكترى بالمائة، وأيام الموسم شهرٌ أو أقل، وذلك المسكن يكترى في طول السنة بعشرة، فلا بد من اعتبار هذا. وسنصفه إن شاء الله تعالى.
3897- ولو كان أكرى [أرضا] (2) وسلَّمها، فزرعها المكتري، وفُلِّس، واختار المكري الرجوعَ إلى المنفعة في بقية المدة، فليفعل ذلك، وليفسخ الإجارة، ولا سبيل إلى [قلع] (3) الزرع؛ فإنه زرع بحق الملك. ولا يجوز للمكري القلع بشرط ضمان النقصان، بخلاف ما ذكرناه في الغراس والبنيان. والسبب فيه أن الغراس والبنيان لا ينتهيان إلى أمدٍ في الزمان، فلم يبعد التسليط فيهما على القلع بشرط الضمان، والزرعُ له أمد معلوم.
__________
(1) (ت 2) : فلا يرجع المكري.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) في الأصل: بيع.(6/350)
وأقرب المسالك في استدارك الحقوق جُمَع تبقيةُ الزرع. ثم فائدة فرعه الإجارةَ أنه يرجع إلى أجرة المثل للمدة الباقية، لا يضارب بها، بل يُقدَّم بها، كما نُقدِّم مَنْ تعامل بعد الإفلاس معاملة تليق باستصلاح أموال المفلس، فيرجع بأجرة المثل فيما بقي من المدة مقدَّماً بها، ويضارب بأجرة مثل ما سبق من المنافع الغرماءَ.
3898- وقد كنا ذكرنا أن من باع أرضاً وسلمها؛ فزرعها المشتري ثم أفلس، ورجع البائع إلى عين الأرض، فالزرع يبقى إلى الحصاد، كما ذكرناه، ثم لا يرجع البائع بأجرة مثل الأرض في تلك المدة، وفرقنا بين الشراء والاكتراء، بأن المكتري خاض في العقد على ضمان المنافع، والمشتري لم يخض على ضمان المنفعة. هذا ما ذهب إليه جميع الأصحاب.
3899- وحكى صاحب التقريب قولاً مخرجاً عن ابن سريج في أن البائع إذا فسخ البيعَ، ورجع في المبيع (1) ، استحق أجرة المثل لبقية المدة؛ فإن الأرض انقلبت إلى ملكه، والمنافع المحتسبة بسبب إبقاء الزرع تالفة من حقه وملكه، فلتُضمن له.
وأقرب نظير في هذا أن المشتري لو بنى وغرس، فأراد البائع الراجع في المبيع أن يُبقي البناءَ والغراسَ، ويُلزم المفلسَ أجرة المثلِ مدة بقاء البناء، فله ذلك، وهذا أجرة منفعة في عاقبة بيعٍ فُسخ بالإفلاس، فلا فرق بين منافع الأرض في مدة الزرع وبين منافعها في آمادٍ من البناء، إلا أنَّ لإحدى المنفعتين أمداً محدداً.
وهذا منقاسٌ بالغ.
ولكن المذهب المشهور ما ذهب إليه الجمهور، من أن منفعة الأرض في مدة الزرع في صورة البيع لا تقابل بأجرة، وتعتقد كأنها تابعةٌ، ومدةُ مهلة في تفريغ المبيع.
3900- ثم ما ذكرناه من أن الزرع لا يقلع عَنَيْنا به أن المكري لا يملك القلع بحق الفسخ، فلو طلب الغرماء القلع ليتعجلوا ميسور حقوقهم، أجيبوا. ولو كان المكري
__________
(1) (ت 2) : البيع.(6/351)
من الغرماء بسبب المنفعة المستوفاة في الزمان الماضي، فله المطالبة بالقلع لحق تعجيل الدين، لا لحق الفسخ. وهذا مما سبق تقريره.
ولو اتفق الغرماء على التبقية، واحتيج إلى السقي، والتعهدِ إلى الإدراك؛ فإنْ تطوَّع الغرماءُ بهذا، فلا كلام، وإن أرادوا بذلَ المؤنةِ على أن يُقدَّموا بها، ورضي المفلس، واقتضت المصلحة ذلك، أجيبوا إلى هذا.
فلو فرضنا غريمين لا غيرَ، ثم قَدَّما المؤنة على نسبة حقَّيهما، فإن لم يَبْدُ غريمٌ غيرُهما وحقوقهما تزيد على مبلغ المال، فلا يظهرُ أثرُ تقديمنا للغريمين ما عجلاه من المؤنة؛ فإن المال كلَّه مصروف إلى حقوقهما. وإن فرض بُدُوُّ غريمٍ ثالث، فإذ ذاك يتبين أثر تقديمنا للغريمين بما عجلاه لمؤنة تبقية الزرع.
وهذا واضحٌ لا خفاء به.
فصل
قال: " وإن باعه زيتاً فخلطه بمثله ... إلى آخره " (1) .
3901- إذا اشترى زيتاً وخلطه بما عنده، لم يخل: إما أن يخلطه بجنسه، وإما أن يخلطه بما ليس جنساً له، فإن خلطه بجنسه: إما أن يخلطه بمثله، أو أردأ منه، أو أجود منه، فإن خلطه بزيتٍ مثله، أو أردأ منه، فظاهر النص أن بائع الزيت واجدٌ عينَ ماله، وسبيل رجوعه إلى عين ماله القسمةُ فإن كان الخلط بالمثل، وكان خلطه مكيلةً بمكيلةٍ، فالقسمة على السّوية.
وإن خلطه بأردَأ منه، فالقسمة على السوية أيضاًً.
ثم إذا رَدَدْنا من هذا المختلط مقدار المبيع إلى البائع، فلا شك أن حقه ناقص، ولكن ما لحقه من النقص ملحقٌ بعيب يفرض طريانه. وإذا عاب المبيع، ثم أفلس المشتري وأراد البائع الرجوع إلى عين المبيع، فيلزمه أن يقنع بالمبيع معيباً. ولا يرجع بأرش.
__________
(1) ر. المختصر: (2/221) .(6/352)
وهذا كلامٌ منّا مُبْهمٌ في صدر الفصل، ولا ينتجز الفصل إلا بعد انكشاف الغطاء، إن شاء الله تعالى.
هذا إذا كان الخلط بالمثل أو الأردأ.
3902- فأما إذا خلط المشتري الزيتَ بزيت -عنده- أجود (1) ، فهل يكون البائع واجداً عين ماله؟ تردد قولُ الشافعي فيه، فقال في أحد القولين: إنه واجد كما إذا وقع الخلط بالمثل أو الأردأ، وكما لو باع ثوباً فصبغه المشتري فبائع الثوب واجد (2) عينَ ماله، وإن اتصل به عينُ مال المشتري اتصالاً لا يقبل التمييز، على ما سنذكر هذا على الاتصال بهذا الفصل.
وقال في القول الثاني: البائع فاقدٌ -في الحكم- عينَ المبيع. قال الشافعي: لأن الذائب إِذا اختلط بالذائب، انقلب. وأشار إِلى أن عين المبيع لا يمتاز أصلاً، ولا يتأتى امتيازه حساً ودَرْكاً. وليس كالثوب يُصبغ، والسَّوِيقُ يُلتُّ بالسّمن؛ فإِنّ أحد الجوهرين ممتازٌ في الدرك.
ثم إِن أصحابنا لما رأَوْا الشافعي يتعلق بانقلاب الذائب، انعكسوا على الخلط بالمثل والأردأ، فرأى بعضهم أن يخرّج فيما مضى قولاً أن البائع فاقدٌ عين ماله؛ فإن المبيع لا يأتي تميُّزه فصلاً، ولا دَركُه على التعيين. وقد ذكرنا أن من اشترى حنطة، فانثالت عليها حنطة أخرى للبائع قبل التسليم إِلى المشتري، فهل يُقضى بأنفساخ العقد؟ فعلى قولين. وإِذا كنا نجعل الاختلاط في قولٍ بمثابة تلفِ المبيع، فلا يبعد أن يجعل الاختلاط بالمثل في يد المشتري بمثابة التلف.
ومن أصحابنا من أجرى الخلط بالمثل والأردأ على القطع، وخصص القولين بما إِذا كان الخلط بالأجود. وهذا ظاهر النص، ومقتضى نظم كلام الشافعي. ويبعد عن موافقة مراده أن نقول: ما فصَّله، ثم قطع جوابه في بعض التفاصيل، وردده في البعضِ لا فرق فيه.
وهذا إِن قيل به ردٌّ لكلام الشافعي، وإِبطالٌ لتقسيمه وتفصيله.
__________
(1) في (ت) : "أجود عنده".
(2) في الأصل: واجداً.(6/353)
3903- ونحن نذكر تنبيهاً على قواعدَ في الخلط، فنقول:
أما فرض الاختلاط في البيع قبل القبض، فإِنه جارٍ في ملكٍ غيرِ مُفضٍ إِلى القرار، وهو عرضةٌ للانقلاب إِلى البائع، فإِن تردد القول، وتمثل في انفساخ العقد عند اختلاط المبيع بمثله، [فسببه] (1) ما ذكرناه.
ولو كان للرجل ملكٌ مستقر في شيء دون شيء من ذوات الأمثال، [فاختلط] (2) به ملكٌ لغيره مثلٌ له، وليس بينهما عقد يُفسخ، فالوجه قسمة ذلك المختلط بينهما، لا طريق غيره. وليس في هذه الواقعة عقد يتوقع رفعه، بل الاختلاط في المثليات يصير بمثابة الشيوع في الملك، فلا فرق بين أن يرث رجلان صاعين من الحنطة في أن طريق التفاصل القسمة، وبين أن يختلط صاعٌ لأحدهما بصَاعٍ لآخر؛ ولهذا صحت الخلطة في المثليات عمدةً للشركة، كما سنصف ذلك في قاعدة الكتاب، إِن شاء الله تعالى.
وإِذا باع شيئاًً من ذوات الأمثال، فخلطه المشتري بجنسه، فهذا خلط في معقودٍ عليه، جرى بعد قرار الملك، ولكن طريان الإِفلاس يسلط البائعَ على الرجوع في المبيع، فكان على مخالفة المبيع قبل القبض، ولم يكن أيضاًً كاختلاط ملك بملكٍ من غير فرض عقد؛ فإِن البائع إِنما يرجع في المبيع لمكان البيع الذي جرى. وهذا يقتضي أن يرجع فيما كان مورداً للعقد. فألحق بعضُ الأئمة الخلطَ كيف فرض بالخلط قبل القبض، حتى يتردد القول في الخلط بالمثل والأجود والأرْدأ.
والوجه في المذهب ألا يُقضى بأن الخلط في عينه يؤثر، من قِبَل أنه جرى في ملكٍ مستقر، ولكن إِن أمكن فرض الرجوع من غير تعذر، لزم إِثباته، وتنزيلُ الأمر على التفاصل الذي يجري بين الملكين إِذَا اختلطا. وإِن فرض تعذرٌ في طريق الرجوع كما سنصفه في الخلطِ بالأجود، فينشأ منه تردُّدٌ في أن البائع هل يكون واجداً عين ماله؟ وسبب التردد تعذر تصوير الرجوع إِلى المقدار المبيع. وهذا إِنما يتبين بالتفريع.
فهذا بيان قاعدة الفصل، في الفرق بين الخلط بالمثل، والأردأ، والأجود.
__________
(1) في الأصل: سببه.
(2) في الأصل: فالخلط.(6/354)
3904- عُدنا إِلى التفريع على القولين في الخلط بالأجود، فنقول:
لو كان الزيت المشترى يساوي درهماً، وقد خلطه بمقدارٍ من الزيت الجيد مثلِ مقدار المبيع، ولكن كان قيمةُ الجيد درهمين. فإِن قلنا: لا يكون البائع واجداً عين ماله، ضارَب بالثمن، وكان أُسوة الغرماء. وإِن جعلناه واجداً عين ماله، ففي طريق إِيصالِه إِلى حقه من عين المبيع إِذا اختار فسخَ البيع قولان: أحدهما - أن الزيتين يباعان، ويوزع الثمن بالغاً ما بلغ على الثلث والثلثين. وهذه النسبة مأخوذة من تفاوت القيمتين. هذا قول.
والقول الثاني - أن الزيت المختلط يقسم بين البائع والمشتري على نسبة القيمة ثلثاً وثلثين، فإِن كان المقدار المختلط مكيلتين، قسمناها ثلثاً وثلثين، فرددنا إِلى البائع ثلثي مكيلةٍ، وبقَّينا على المشتري مكيلةً وثلثاً، يضطرب فيها غرماؤُه.
3905- فإِن قيل: هذا صورة الربا؛ فإِنه سلّم مكيلةً، وألزمتموه الاكتفاء بثلثي مكيلةٍ، قلنا: هذا القول يخرّج على أصلين: أحدهما - أن القسمة إِفراز حق؛ فإِنا لو قدرناها بيعاً، فلا مجاز لهذا؛ إِذ حقيقته مقابلة مكيلة ببعضها، ثم لا تخرج القسمة مع التفريع على أنها إِفراز حق إِلا على أصلٍ آخر، وهو أن القسمة التي تبنى على تعديل القيمة، لا على تسوية الأجزاء، هل يقع الإِجبار عليها؟ وهي كفرض قسمةٍ بين عبيدٍ ودورٍ وغيرها. بأن تُفصّلَ أقساماً معدَّلة القيم، فتُوقع العبيدَ مثلاً في قسم، والثيابَ في آخر، والدور في آخر، على ما يتفق من ضم بعض الأصناف إِلى البعض، فهذا الضرب من القسمة هل يجري الإِجبار فيها؟ فعلى قولين، سنذكرهما في كتاب القسمة.
فإِن رأينا الإِجبار على مثل هذه القسمة، واعتقدنا أن القسمة إِفرازٌ، انتظم منه قسمة الزيتين على تعديل القيمة، من غير نظر إِلى الجزئية. أما الربا، فلا يلزم القول به، لمصيرنا إِلى أن القسمة ليست بيعاً، وأما الإِجبار من غير جزئية تعويلاً على التعديل بالقيمة؛ فإِنه خارج على الأصل الآخر الذي ذكرناه.
3906- فإِن قيل: هلا قسمتم الزيت بين البائع والمشتري نصفين، وألحقتم ما ثبت من المزية بسبب الخلط بالأجود بالزيادات المتصلة، ولو باع الرجل عبداً صغيراً، فشبَّ ويَفَع في يد المشتري، وتضعَّفت قيمتُه، فالبائع يرجع في عينه؟ قلنا:(6/355)
لا سبيل إِلى ذلك؛ فإِن عين ملك المشتري اتصل بالمبيع، فإلحاقه بالزيادات المتصلة لا وجه له. وما كان المشتري معتدياً فيما فعل، فتخسيره وضم ماله إِلى مال الراجع محال. فلا وجه مع القول بكون البائع واجداً عينَ ماله إلا ما ذكرناه من القولين في كيفية الرجوع.
والأصح أنه يباع الزيتان، ويقسط الثمن على القيمتين؛ فإِن القسمة على مخالفة الجزئية تقع على صورة الربا، وإِن تكلفنا له تخريجاً على الأصلين، والشرع حرم مقابلة المطعوم بمثله، وبأكثر من مثله، لا لاسم البيع، فلتحرم المقابلة على نعت المفاضلة كيف فرضت.
3907- وذكر صاحب التقريب تصرفاً عن ابن سريج في خلط الزيتِ بالأردأ، وذلك أنه قال: إِذا كنا نرعى مقدارَ قيمتي الزيتين عند التفاضل في العين، أو عند البيع، وقد اتفق الخلط بالأجود، فيجب سلوك هذه الطريقة في الخلط بالأردأ، حتى يقال: إِذا كان [قيمة] (1) الزيت المبيع درهمين والزيت الذي خلطه المشتري به درهماً، فيتجه قولان: أحدهما - أنه يباع المختلط، ويصرف ثلثا الثمن إلى البائع. والثاني - أنه يقسم الزيتان على هذه النسبة، فيصرف ثلثاه إلى البائع، ويبقى ثُلُثُه للمشتري؛ فإنه إذا قسمنا الزيتين نصفين، واعتقدنا الرداءة التي لحقت الزيت المبيع عيباً سماوياً، لزمنا أن نعتقد الجودة التي لحقت في الخلط بالأجود زيادةً متصلة. هذا ما يقتضيه الإنصاف والنظر للجانبين.
3908- ومن صار إلى طريقة الجماهير، فصل بين الجانبين بأن المشتري تصرف بحق، ورجوع البائع إلى عين المبيع ليس ضربة لازب، فلا يجوز أن نعتبر جانبَ الرّاجع بجانب المشتري، بل لا يبعد أن يقال للبائع: إما أن تقنع، وإما ألا ترجع أصلاً، فأما أخذ عين من مال المشتري ليستمر للبائع رجوعه، وهو نقضٌ لبيعٍ لزم، فهذا لا سبيل إليه.
هذا منتهى القول في المسألة.
3909- وكل ما ذكرناه فيه إذا وقع الخلط بجنس المبيع، فأما إذا وقع المزجُ بما
__________
(1) ساقطة من الأصل.(6/356)
لا يجانس المبيعَ، فلا يخلو: إما أن يختلط اختلاطاً لا يبين [معه] (1) في الحس لمدرِكٍ، وإمّا أن يتميز المبيع في الحس للمدرِك، وإن عسر تمييزهُ فعلاً. فأما إذا تحقق الاختلاط، وعسر المَيْز والدرك، مثل أن يختلط الزيت بدهن البان، أو الشَّيْرج، فهذا اختلاط مع اختلاف الجنس وتعذُّر التمييز بالفعل والدرك. فقد ذهب جماهير الأصحابِ إلى القطع بأن البائع فاقدٌ لعين ماله، بخلاف ما إذا اتحد الجنس؛ فإن القسمة يمكن فرضُها مع اتحادِ الجنس، ولا يمكن تقديرها، والجنس مختلف.
وهذا ينقدح فيه احتمال ظاهر، مع تحقق وجود المبيع، وإمكان بيع المختلط، فالوجه أن نقول: إذا جعلنا سبيل إيصال البائع إلى حقه في الخلط بالأجود بيعَ المختلط، وفَضَّ الثمن، فهذا ممكن و (2) الخلطُ بغير الجنس.
3910- وإن قلنا الطريق في إيصال البائع إلى عين حقه القسمةُ، فالقسمة عسرة مع اختلاف الجنس، وقد ينقدح للفطن تخريجاً على قسمة التعديل؛ فإن هذا المنهج إذا احتمل مع التفاوت في المقدار نظراً إلى التعديل، لم يبعد ذلك مع اختلاف الجنس.
وهذا لعمري محل النظر؛ فإن قسمة التعديل في الأجناس المختلفة إنما تجري بسبب ثبوت الشيوع في كل جنس، فيقع التفاصل بالتعديل من جهة القيمة. ولم يكن للمشتري قبل الشراء في الزيت شِرْك (3) ، ولم يكن للبائع في البان شرْك، وهذا يعارضه زيادة المقدار، أمّا تخريجه على قول البيع وفضّ الثمن، فظاهرٌ لإدراكه.
والذي يعضد ذلك القسمُ الثاني، وهو إذا خلط المبيعَ بجنسٍ يخالفه، وكان متميزاً في الدَّرْك والإحساس. مثل أن يشتري صِبغاً ويصبغ به ثوباً عنده، أو يشتري ثوباً ويصبغه بصبغ عنده، فقد تحقق الاشتباك بين المبيع وغيره، وأجمع الأصحاب على أن البائع واجدٌ عين ماله. هذا متفق عليه.
ولا فقه في إمكان الرؤية (4) بعدما تحقق تعذر التمييز بين الثوب والصبغ المعقود.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) الواو هنا واو الحال.
(3) شِرْك: نصيب.
(4) في الأصل: إمكان الرؤية مع الرؤية.(6/357)
ثم سبيل إيصال البائع إلى حقه بيعُ الثوب المصبوغ، وقسمةُ الثمن على قيمة الثوب والصبغ، كما سنذكره بعد هذا في مسائل الكتاب، إن شاء الله تعالى.
ولو اشترى سويقاً ولتَّه بسمن عنده أو على العكس، والسمن بادٍ على السويق حسَّاً، فهو ملتحق بصبغ الثوب. وسيأتي إن شاء الله متصلاً بهذا.
وقد نجزت أطراف المسألة، ولم يبق فيها للناظر مضطرَب إلا فيما أصفه: فأقول:
3911- لو اشترى مائةَ منٍّ من الزيت، وخلطه بربع رطل عنده، أو أقل على شرط أن يكون متمولاً، والغرض بالتصوير أن يُفرض كونُ الأكبر غامراً للأقل، وكونُ الأقل مستهلكاً فيه حساً.
وهذا يحسن تصويره على قولنا: إن الاختلاط يُلحق المبيع بالمفقود والمعدوم.
فإذا كان المبيع كما وصفناه، كيف السبيل؟
قلنا: إن كان ذلك المقدار النزر بحيث لا يبين له أثر من طريق القدر، وذلك بأن يفرض وقوعُ مثله بين الكيلين والوزنين. فإن كان كذلك، فالوجه عندي القطع بكون البائع واجداً عين ماله، ولا يحبَط حق المشتري مع ذلك، فنرد عليه مقدار ما خلطه.
3912- فإن كان هذا المقدار النزرُ مبيعاً، وكان الأكثر للمشتري، فالظاهر عندي القطعُ بكون البائع فاقداً، ولا يبعد خلافُ ذلك.
أما وجه الظهور، فلأن مثلَ هذا المقدار لا يشيع في المقدار الكثير، ولا يثبت على الانبساط في الجميع، وليس كذلك إذا كان المبيع مقداراً بيِّناً يظهر اختلاطه؛ فإنه إذا رجع لا بد وأن يرجع إلى شيء من عين ماله. فلا يبعد أن يقال: هو واجد، ثم يسلم إليه مقدار المبيع من المختلط.
3913- فإن كان الخلط بالأجود، فعلى ما يقتضيه القولان، والتفريع عليهما. وإن كان المقدار النزر بحيث يبين من الكيلين والوزنين، ولكنه مغمورٌ بالمقدار الكبير، فيجوز أن يخرّج على التفاصيل المقدمة، حيث لا غمر، ويجوز أن يرتب على ما تقدم. وتجعل هذه الصورة أولى بأن يكون البائع واجداً إذا كان نصيبه كثيراً غامراً، ويجعل أولى بالفقدان إذا كان نصيبه مغموراً.
هذا منتهى الفصل، والله أعلم.(6/358)
فصل
قال: " وإن كان حنطة، فطحنها، ففيها قولان ... إلى آخره " (1) .
3914- هذا من الفصول المنعوتة في الكتاب فلْيخُض الناظر فيه على أناةٍ مستعيناً بالله تعالى. وسبيل بيان مضمونه أن نطرد ما ذكره الأصحاب مرتباً على أحسن مساق، ثم ننعطف عليه، ونتدارك مواقع الإشكال، فنكون جامعين بين النقل، وبين حلّ المُعْوصات، فليقع في ابتداء الفصل [طرفٌ] (2) من حكم الصبغ، ثم نبني عليه ما عداه، ثم نختم الفصل باستقصاء القول في الصبغ، فنسأل الله تعالى التأييد والتوفيق.
3915- فإذا اشترى الرجل ثوباًً وصبغه بصِبغ من عنده، فالصِّبغ عين مال المشتري ألحقه بالثوب المشترَى، فإن لم يبن مزيدٌ في قيمة الثوب، وانعقد الصبغ عليه، وعسر التمييز، فالصبغ ضائع. وذلك (3) إذا اشترى ثوباً بعشرة، وصبغه بصبغ يساوي درهماً، فإذا [كان] (4) الثوب مصبوغاً يساوي عشرة، فنقول: ضاع الصبغ للمشتري، ويرجع البائع إلى الثوب المصبوغ. اتفق الطرق عليه. والسبب [فيه] (5) أنه لو صبغ بشيء لا قيمة له، وليس مما يتمول، فلا يخفى أنه لا وقع، ولا أثر لما استعمله في الثوب، فكذلك إذا لم [يبق] (6) للصبغ قيمة؛ فإنه كان مالاً قبل الاستعمال، والآن صار في حكم الصفة للثوب، ولم يظهر له في الثوب قيمة؛ ولأنه صار بالاستعمال غيرَ متمول.
وإن ظهر مزيدٌ في قيمة الثوب، فصاحبُ الصِّبغ شريك في الثوب. وإذا بيع الثوب، قُسِّط الثمن كما سنوضح تفصيلَه. وليس الكلام في الصبغ من غرضنا الآن.
__________
(1) ر. المختصر: 2/221.
(2) في الأصل: طرفا.
(3) أي ومثال ذلك.
(4) مزيدة لاستقامة العبارة.
(5) ساقطة من الأصل.
(6) في الأصل: (يبقى) بدون حذف حرف العلّة. والمثبت من (ت 2) .(6/359)
وإنّما ذكرنا هذا المقدار ليبين للناظر كون الصبغ عيناً.
3916- ونحن نبني الآن عليه القِصارةَ (1) في الثوب وما في معناها.
فإذا اشترى رجل ثوباًً على البت (2) ، وقصره، ثم أراد البائع الرجوع في الثوب، فالذي. أطلقه الأئمة في صدر الفصل أن قالوا: القِصارة في الثوب، والطحن في الحنطة، وما في معنى هذين أثرٌ في الثوب أم عين؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه أثر. والثاني - أنه عين، هكذا عبر الأئمة عن القولين.
وقد ذكرنا أنا نسوق ترتيب الأصحاب، ثم ننعطف على مواقع الإشكال.
3917- والقدر الذي يلوح به القولان ويعلقان بالفهم إلى تمام البيان: أنا إن قلنا: هذه الصفات آثار، فلا حكم لها، ولا تعلق بها، ومن له الاستحقاق في العين على استحقاقه، لا يزاحم فيها.
وإذا قلنا: هذه الصفات أعيانٌ، أردنا أنها كالأعيان المشابكة للموصوفات بها، كالصبغ في الثوب، والسَّمن في السويق، وما في معناهما. ومن حُكم هذا القول أن يصير محصِّل هذه الصفة شريك في الثوب، كمالك الصبغ.
فإذا ظهرَ المراد من رسم القولين، فهذان القولان لا يجريان في جملة الصفات المتجددة؛ فإن السِّمن، وكبر الغلام وإرقال (3) الشجر زوائدُ متصلة، لا حكم لها؛ فقال الأئمة: القولان يجريان في كل صفةٍ تحدث في العين، يتسبب إلى تحصيلها بفعلٍ يجوز الاستئجار عليه، وتعدّ (4) الصفةُ من آثار الفعل، ثم لا بد من ظهور الصفة. فلو استأجر المشتري من يحفظ الدابة المشتراةَ، ويسوسها، فهذا فعل يجوز الاستئجار عليه، ولكن لا تظهر منه صفة في الدابة، فإن هي كبرت، فللترقي في السن، وإن سمنت، فمن العلف. والقصارة أثر يوقعه فعل القصّار في الثوب، وكذلك الطحن في الدّقيق.
__________
(1) القصارة: اسم للحرفة من قصرتُ الثوب قصراً: بيّضته. (المعجم) .
(2) على البتّ: أي على طبيعته وهيئته. فالبتُّ: كساء غليظ من صوف أو وبر. (المعجم) .
(3) إرقال الشجر: استطالته من أرقلت النخلةُ: طالت (معجم) . وفي (ت 2) : أوراق.
(4) (ت 2) : ونقدر.(6/360)
ويتصل بذلك ما يتعلق بالأخلاق كارتياض الدابة، وتعلّم العبد الحرف، فلتلتحق الأخلاق بالصفات التي تحسن.
هذا بيان محل القولين.
3918- ثم فرع الأصحاب في غير المفلس على القولين، ثم اندفعوا في تفريع أحكام المفلس. فمما فرعوه في غير المفلس أن القصارَ المستأجَر على القصارة، إذا قصر الثوبَ، أو طحن الطحان البُّرّ، فهل يثبت للصّابغ حبسُ محل صُنعه، حتى يحبس القصار الثوب، والطحان الدقيق إلى أن يتوفر عليه الأجرة، حَبْسَ البائع المبيع -إن رأينا له الحبس- إلى توفية الثمن؟ هذا يُخرّج على القولين في الأثر والعين.
فإن جعلنا هذه الصفات آثاراً، فلا يجوز للعَمَلة حبسُ محالّ العمل بسبب الأجرة.
وإن جعلناها أعياناً، فالعمَلةُ في حبس محال العمل كالبائع في حبس المبيع.
3919- ومما فرعوه أن العامل إذا وفَّى عملَه، وأثبت الصفةَ المطلوبةَ في محلّها، فلو تلف محلُّ العمل في يده قبل تسليمه إلى المالك، فهذا [يتفرعّ] (1) على الأثر والعين. فإن جعلنا القصارة أثراً، فللعملة أجورُهم، وهي (2) لا تسقط بسبب تلف المحالّ في أيديهِم. وإن قلنا: إنها أعيان، سقطت أجورهم، كما تسقط الأثمان بتلف الأشياء المبيعة في أيدي البائعين.
هذا ما فرعه الأصحاب على القولين في حق غير المفلس.
3920- ثم اندفعوا في تفريع حكم المفلس، فصوروا فيه صورتين: إحداهما - ألا يتعاطى القِصارةَ بنفسه، ويحصلها بعمل أجيرٍ، ويوفِّي أجرته قبل التفليس، ثم يُفلس، فهذه صورة. وسنذكر الأخرى إذا نجز الكلام في الأولى.
فإذا جاء بائع الثوب، فصادفه مقصوراً، فهذا يفسخّ على الأثر والعين. فإن جعلنا القِصارة أثراً، فإن البائعَ [أحق] (3) بالثوب، ولا حكم للقصارة، وهي نازلة منزلة
__________
(1) في الأصل: متفرّع.
(2) (ت 2) : فهي.
(3) مزيدة لرعاية السياق؛ حيث سقطت من النسختين.(6/361)
الزوائد المتصلة. هذا اختيار المزني. والتمسك بالزوائد المتصلة احتجاجُه.
3921- وإن حكمنا بأن القِصارة عين، فهي في معنى الصبغ، فنقول: إن كانت قيمة الثوب بعد القِصارة كقيمتها (1) وهي على البت، فلا شركة للمفلس في الثوب والقصارة مُنمحقة (2) . وقد ذكرنا ذلك في الصبغ المنعقد، وهو جِرمٌ على التحقيق.
فأما إذا زادت قيمة الثوب بسبب القصارة التي حصلها المفلس، فهو شريك بمقدار الزيادة: يُباع الثوب ويقسم الثمن على قيمة المِلْكين: الثوب والقِصارة، فلو كان الثوب يساوي على البت عشرة، وهو يساوي مقصوراً خمسة عشر، فالقِصارة قيمتها خمسة، فإذا بيع الثوب بخمسة عشر، فالعشرة مدفوعة إلى البائع، والخمسة إلى المشتري، يقتسمها الغرماء.
فلو لم يتفق بيعُ الثوب حتى ارتفعت القيمة إلى ثلاثين، فيضعّف حق البائع والمفلس، والقسمة على نسبة الثلث والثلثين: للبائع عشرون، وللمفلس عشرة بين غرمائه.
3922- ولو عهدنا الثوب بخمسة عشر على الترتيب الذي ذكرناه، الثوب عشرة، والقِصارة خمسة. ثم انحطت قيمةُ الثوب بالسوق إلى عشرة، فهي مقسومة بين البائع والمفلس ثلُثاً وثلثين. فينقص (3) حقُّ كل واحدٍ بانحطاط السوق.
وإنما يظهر التصوير بما نذكره، فنقول؛ كان الثوب على البت عشرة، والنقصان خمسة. والآن يوجد ثوبٌ على البت بستة دراهم وثلثي درهم، والقصارة في مثله لا يساوي إلا ثلاثة وثلثاً. فهذا معنى الانحطاط.
ولْيميز الناظر هذا عما قدمناه من أن القِصارة قد تنمحق في الثوب بألاّ يزيد في قيمته شيئاًً، وذلك بأن يكون الثوب على البت والثوب المقصور متساويين في القيمة.
والذي ذكرناه أخيراً فرضُ نقصانٍ في [قيمة] (4) جوهر الثوب، وصفة القصارة.
__________
(1) كذا: بضمير المؤنث.
(2) (ت 2) : متحققة
(3) (ت 2) : فينحط.
(4) زيادة من (ت 2) .(6/362)
3923- ولو ارتفعت قيمة الثوب دون القصارة، فالزيادة للبائع، ليس لصاحب القصارة فيها شيء. وبيان ذلك أن الثوب على البت كان عشرة ومع القصارة خمسة عشر. والآن صار الثوب على البت يشترى، بخمسة عشرَ، وهذا المقصور يشترَى بعشرين، فالقصارة ما ازدادت قيمتُها، وإنما الازدياد في جوهر الثوب. لا جرم نقول: يصرف إلى البائع من العشرين خمسةَ عشرَ، ويصرف إلى صاحب القِصارة خمسةٌ، بلا مزيد.
3924- ولو فرض الارتفاع في القِصارة، فالزيادة الحاصلة من أجلها مصروفة إلى صاحب القِصارة. وتصوير ذلك أن الثوب [المقصور] (1) كان يساوي خمسة عشر على الترتيب الذي ذكرناه، عشرة للثوب وخمسة للقِصارة، ثم صار هذا الثوب المقصور يساوي عشرين، ونحن نجد ثوباًً على البت مساوياً لهذا الثوب بعشرة، فنستبين أن الزيادة منحصرة في قيمة القصارة، لا جرم نصرفها إلى مستحق القصارة، ونبيع الثوب بالعشرين، فنصرف نصف الثمن إلى البائع، ونصفه إلى المفلس يتضارب فيه غرماؤه. ثم إذا تمهدت عندنا نسبة في قيمتي الثوب والقِصارة، فلو وجدنا زبوناً يشتري الثوب رغبةً (2) بأكثر من قيمته [بالقصارة] (3) ، فالمأخوذ منه مقسّط على النسبة التي تمهدت عندنا في القيمتين، فالثوب الذي جعلناه نصفين، وهو يساوي عشرين، لو اشتراه راغب بثلاثين، فللبائع من الثلاثين خمسةَ عشرَ، وللمشتري خمسةَ عشرَ، في الصورة الأخيرة.
ولا يخفى قياس الباب.
فلو قال قائل: إذا ارتفعت قيمة القِصارة، كما صورتم في الصورة الأخيرة، فهلاّ قلتم: يرجع من الزيادة شيء إلى بائع الثوب؛ فإن القصارة ما قامت إلا بثوبه، وهو حاملها؟ فهلاّ كانت القصارة كالبناء يَسْتَجِدُّه المشتري في الأرض المشتراة؟ قلنا: حقيقة هذه الصورة تحل هذا الإشكال، وتدفع هذا السؤال؛ فإنا في الأرض المبنية
__________
(1) في الأصل: المصبوغ.
(2) (ت 2) : برغبة.
(3) زيادة من (ت 2) .(6/363)
لا نزيد لمالك الأرض على قيمتها بيضاء، وقد تنقص، على اختلافٍ ذكرناه للأصحاب في كيفية التوزيع. وإذا نحن وفينا مالكَ الثوب قيمةَ ثوبه على ما باعه من غير قِصارة، فطمعه في الزيادة والمشتري قصر بحقٍّ طمعٌ في غير مطمع.
هذا الذي ذكرناه كلامٌ في إحدى الصورتين في المفلس.
3925- الصورة الأخرى: أن يشتري ثوباًً، ويستأجر من يقصره، فيقصره الأجير، ولا يتوفر عليه الأجرة، ويُفلس المشتري، فللأجير تعلُّقٌ بالقِصارة على قول العين، فيزدحم على الثوب القصارُ للقِصارة التي حصَّلها، وبائع الثوب. فنقول: إن حكمنا بأن القِصارةَ أثر، فلا أثر لها، ولا حكم، وبائع الثوب يرجع إلى الثوب المقصور، ولا يُزاحَم فيه، والأجير أُسوة الغرماء؛ يضاربهم بالأجرة، من غير تعلّق بالعين (1) .
وإن قلنا: القصارة عينٌ، فللأجير على الجملة تعلق، فإن لم [يزدد] (2) بالقصارة (3) أولاً شيء في قيمة الثوب، وكان الثوب مقصوراً يساوي عشرة، ولو فرض على البت، لكان يساوي عشرة، فالثوب مسلّم إلى البائع بلا زحمة، وقد انمحقت القِصارة، وصارت مستهلكة.
فأما إذا زاد بالقصارة شيءٌ، فنقول: أجرة القِصارة درهم وقيمة القصارة خمسةٌ، فالثوب على البت عشرة، وهو مع القصارة خمسة عشر، فإذَا بيع بخمسةَ عشرَ، فالعشرة لبائع الثوب، والدرهم للقصّار، يقدم به على الغرماء، لتعلقه بعين القصارة، وأربعة دراهم للمشتري يتضارب فيها غرماؤه. هكذا نص الشافعي.
ولو استأجر الأجيرَ بخمسة، والثوبُ على البت عشرة، وهو بعد القصارة أحدَ عشرَ، فإذا بعنا الثوب بأحدَ عشرَ، سلمنا عشرة إلى مالك الثوب، ودرهماً إلى القصّار -على قول العين- يقدم بها، ويضارب الغرماء ببقية أجرته، وهو أربعة.
هذا تفريع الشافعي، والأصحابِ على قولي الأثر والعين. وقد تخطينا مواقع الإشكال لإنهاء الترتيب نهايته.
__________
(1) (ت 2) : بالثوب.
(2) في الأصل: يزداد. والمثبت من (ت 2) .
(3) (ت 2) : أولاً بالقصارة.(6/364)
[و] (1) الآن ننعطف عليها بعد وقوع الإيناس، وتتبُّع مظنة كل إلباس (2) . ونبدأ بخاتمة الكتاب.
3926- فإن قيل: فرّع الشافعي على قول العين، فاقتضى ذلك أن يقال: ليس
للقصّار إلا القصارة، إذا أراد التعلق بها، ويلزم من مساق هذا أن نقول: إذا كانت قيمة القصارة خمسة، وأجرة القصارة درهماً (3) ، فأراد الرجوعَ في القِصارة، فينبغي أن يفوز بقيمة القِصارة، وهي الخمسة بتمامها، ولا نظر إلى أجرته، نقصت، أو زادت؛ فإن الأجرة كالثمن، والقصارة كالعين المبيعة. وقد قال الشافعي: إذا كانت الأجرة درهماً، فليس للقصّار إلا درهم، وهذا يناقض التفريع على قول العين.
ثم تمام السؤال أن الأجرة لو كانت خمسة، وقيمة القصارة درهم، فإذا آثر القصّار التعلق بالقصارة، وجب ألا تثبت له إلا القصارة، كالمبيع إذا قلت قيمته، وزاد مبلغُ الثمن عليها، فإذا أراد البائع الرجوعَ، لزمه الاكتفاء بالمبيع. وقد قال الشافعي: إذا كانت القصارة درهماً، والأجرة خمسة، أخذ القصار الدرهم، وضارب بالأربعة الباقية. وهذا أيضاً يخالف قياس قول العين.
3927- وقد اعتاص (4) على كثير من الأصحاب الخروج عن عهدة هذا السؤال، ولا يبيّن الغرضَ فيه إلا التصريحُ بحقيقة هذا القول، وكنا لا نقدر على البوح به قبل الإحاطة بمجامع المسألة، وتقاسيمها (5) . فالآن نقول: ليست القصارة على قول العين عيناً على الحقيقة، مملوكة، تباع وتشترى، ويتصرف فيها بالرجوع والاسترداد حسب ما يتصرف في الأعيان. هذا محال تخيُّلُه مع العلم بأن القصارة صفةٌ. والدليل عليه أن المشارك في الثوب بالقصارة ليس مالكَ عين، ولو كانت القصارة عيناً، للزم
__________
(1) مزيدة من (ت 2) .
(2) إلباس: من أَلْبَس الأمر إذا أشكل عليه واشتبه واختلط (المعجم) ، وهي في (ت 2) مصحفة إلى (الناس) .
(3) خبر كانت المفهومة من العطف.
(4) اعتاص: صعب وعسر.
(5) في (ت 2) : ونقائصها.(6/365)
أن يقال: من غصب ثوباً وقصره، وزادت قيمة الثوب بسبب القصارة؛ فيصير شريكاً في الثوب، كما لو صبغ الثوبَ بصِبغٍ من عنده. وقد اتفق العلماء على أنّ الغاصب يصير شريكاً في الثوب إذا صبغه بصِبغٍ من عنده، ولا يصير شريكاً إذا قصره.
فحاصل قولنا: "القصارة عين" أنها صفة مقصودة، يتعلق بها العامل المُوقعُ لها تعلق اختصاص كما يتعلق المرتهن بالرهن.
هذا قولنا في الأجير.
أمَّا إذا أضفناها إلى المشتري، فله فيها حقيقة الاستحقاق؛ لأنها وقعت في ملكه. وإذا تبين أن تعلق الأجير على النحو الذي ذكرناه، فإن كانت الأجرة درهماً، وقيمة القصارة خمسة، فلا يزاد الدين بزيادة قيمة الرهن. وإن كانت الأجرة خمسة ووالقصارة درهماً، فإذا صرفت القصارة إلى الأجرة، كان ذلك كصرف الرهن إلى الدين. وإذا نقص ثمنُ الرهن عن مبلغ الدين، فالفاضل من الدين يبقى لا محالة.
فتمهد مما ذكرناه أن القصارة ليست في حكم المملوكة للأجير، وإنما تكون في حكم المملوكة للمشتري.
3928- وههنا الآن غلطتان نذكرهما، لا ليلتحقا بالمذهب، ولكن ليتبين وجه الغلط: إحداهما - أن الأجرة إذا كانت درهماً، والقصارة خمسة، والثوب عشرة، فقد ذكرنا من نص الشافعي أن الثوب إذا بيع بخمسةَ عشرَ، فللبائع الراجع عشرةٌ، وللأجير درهم، وللمشتري أربعة. فلو زادت قيمة الثوب؛ فاشتري بثلاثين، قال شيخي في دروسٍ (1) : يتضاعف حق كل ذي حق، فلصاحب الثوب عشرون، وللأجير درهمان، وللغرماء ثمانية. أما تضعيف حق صاحب الثوب، وتضعيفُ حق الغرماء فبيّن؛ فإن الثوب ملكُ البائع الراجع، والقصارة مستحقة للمشتري، فارتفاع قيمة المستحق ليس بدعاً، فأما تضعيف الأجرة، فلا وجه له؛ فإنا ذكرنا أنّه ليس مستحقاً للقصارة؛ إذ لو كان مستحقاً، لفاز بجميعها فَوْزَ البائع بجميع المبيع، وإن ارتفعت قيمته. فالوجهُ القطع بأنه على [درهمه] (2) ولكنه مقدم به لتعلّقه بالعين كما يقدم
__________
(1) كذا. ولعلها في دروسه.
(2) في الأصل: درهمٍ. والمثبت من (ت 2) .(6/366)
المرتهن بالدين الموثق بالرهن، فذلك الدرهم إذاً للمشتري؛ فإنه من قيمة القصارة، وليس للبائع إلا ثلثاً الثمن، وما سلّم إلى القصّار من حساب القصارة. فهذه غلطة.
3929- الغلطة الأخرى (1) ، وهي شائعةٌ في ألفاظ الأصحاب، ولا يتجه فيها احتمال، وذلك أنهم قالوا في التفريع على قول العين: يفسخ القصّارُ العقدَ، ويرجع إلى القِصارة، ثم فصلوا المذهب. وهذا بعينه مصير إلى أن القصارة هلكت (2) من القصّار، وهي ترجع بالفسخ إليه. ولو كان كذلك، لاستحق القصارة بكمالها [بالغة] (3) ما بلغت قيمتها، وليس الأمر كذلك؛ فليس للقصار من القصارة إلا التوثّق المحض، ولا معنى مع هذا الذكر للفسخ. نعم لو أراد المضاربة، كان كالمرتهن يُبطل حق توثقه ويجعل نفسَه مع الغرماء مضارباً، ويسلم لهم محل تعلقه.
هذا تفصيل القول في ذلك، والتنبيه على محل الإشكال والانفصال، وإيضاح
عثراتِ العاثرين.
3930- فإن قيل: أليس ذكر الأصحابُ قبل الخوض في أحكام التفليس من هذا الفصل أن العامل يحبس الثوبَ المقصورَ حبس البائع المبيع؟ قلنا: ليس ذلك بدعاً، والمرتهن يحبس المرهون إلى توفير الدين عليه، وحبسُه آكد من حبس البائع.
فإن قيل: إن كان كذلك، فلا وجه لدفع قولهم: لو تلف الثوب في يد القصار، سقط حقُّه من الأجرة، كما يسقط الثمن بتلف المبيع قبل القبض، ولو كان تعلقُ حقه على قياس تعلق حق المرتهن، لما سقط حقه بتلف متعلَّقه، كما لا يسقط [الدين] (4) بتلف الرهن في يد المرتهن.
قلنا: هذا الآن يُحْوِجُنا إلى فن آخر من الكلام، فنقول: سبب سقوط أجرته أننا نقدر القصارة كأنها جزء من عمله، فإذا لم ينته إلى يد المستأجر، وكان عمله بعدُ في ضمانه، فإذا تلف الثوب، سقطت الأجرة لذلك، ولا تكون القصارة مملوكةً مبيعةً.
__________
(1) (ت 2) : الثانية.
(2) (ت 2) : ملكت.
(3) ساقطة من الأصل.
(4) زيادة من (ت 2) .(6/367)
هذا واضح. ولم يبق بعد هذا إشكال على ذي نظر.
3931- وحان أن نخوض في فصل الصِّبغ مشمرين مستعينين بالله تعالى، فنقول أولاً: إنما أخرنا طرف الصِّبغ، لأنّه يتعلق بما هو عين وفاقاً، وهو جِرمُ الصِّبغ، وإنما اختلف القول في أنه أثر أو عين فيما هو صنعة الصباغ المسمى الصَّبغ. فإذا تمهد القول في محل الأثر والعين، ينتظم بعد ذلك ما نحاول في هذا الفصل، إن شاء الله تعالى.
فنقول:
3932- من اشترى ثوباًً وصبغه بصبغ من عنده، فالصِّبغ القائم في الثوب عينٌ حسّاً، فلو ارتفعت قيمة الثوب والصّبغ أيضاً، مثل أن يكون الثوب غيرَ مصبوغ عشرةً (1) ، والصِّبغ درهم، والثوب المصبوغ خمسةَ عشرَ، فالزيادة على قيمة الثوب وجِرم الصِّبغ إنما حصلت بالصَّبغ وحسنِ الصنعة، وما يحصل من الصنعة، فهو على قولين في أنه أثر أو عين، كالقِصارة. فنبيّن غرضَنا بالصور نرسلها، ونأتي في كل واحدة بما يليق بها.
3933- فإذا ابتاع الثوب بعشرة، وقيمته عشرة، فصبغه بصبغ من عنده، يساوي خمسة، نُظر: فإن كان الثوب يساوي مصبوغاً عشرة، فقد ضاع الصِّبغ، والثوب المصبوغ للبائع الراجع، لا حق للمشتري والغرماءِ فيه، فصار الصبغ مستهلكاً. وقد قررنا ذلك مراراً.
ولو كان الثوب مصبوغاً يساوي ثلاثة عشر، فالنقص محسوبٌ على الصِّبغ دون الثوب؛ فنقول: يسلم إلى صاحب الثوب عشرة كاملة، وإلى المشتري والغرماء ثلاثة. ولو لم تزد قيمة الثوب والصبغ، ولم تنقص، وكان الثوب مصبوغاً يساوي خمسةَ عشرَ، والثوب وحده عشرة، والصبغ خمسة. فليس في هذه المسألة للصنعة أثر. فإن كان من نعتٍ، فضائعٌ غائصٌ في عين الثوب والصبغ. فإذا بعنا الثوب بخمسةَ عشرَ، فالثلث من الثوب مصروف إلى المشتري وغرمائه، والثلثان للبائع.
__________
(1) كذا في النسختين بإضمار فعل: "يساوي" أو نحوه.(6/368)
ولو كانت قيمة الثوب كما وصفنا عشرة، وقيمة الصّبغ خمسة، والثوب المصبوغ يساوي عشرين، فالزائد على خمسةَ عشرَ من آثار الصنعة، فتخرج المسألة على قولين، في أنها هل تكون في حكم الأثر، أم في حكم العين؟ فإن قلنا: هي أثر، فلا حكم لها، وكل زيادة حصلت أثراً (1) للصنعة، فهي مصروفة إلى بائع الثوب، يستبدّ بها، بلا مزاحمة. هكذا أورده الشيخ أبو علي في الشرح.
3934- وكنت أودّ أَنْ يُفَضَّ (2) أثرُ الصنعة على الثوب وجرم الصَّبغ، فيصرف إلى صاحب الثوب ثلثاه وإلى المشتري الذي هو مالكُ جِرم الصَّبغ ثلثه؛ فإن الصنعة اتصلت بالصَّبغ والثوب جميعاً، وهذا بيّن. ولكن لعله قال ما قال من حيث إن الموصوف هو (3) الثوب وإليه يرجع أثر الصنعة. فليقف المتأمّل إذا انتهى (4) إلى ذلك، ولينعم النّظر.
وإن قلنا: سبيله سبيل العين، فقد حدثت العين للمشتري، وقد فرضنا فيه إذا كان الصّبغ مملوكاً للمشتري، فالصَّبغ له، وأثر العمل له، فإذا بعنا الثوب بعشرين، صرفنا عشرة إلى صاحب الثوب، وعشرة إلى المشتري وغرمائه، خمسة في مقابلة الصِّبغ وخمسة في مقابلة أثر الصنعة. وإذا كان كذلك، فلو وجدنا راغباً يشتري الثوب بثلاثين، فقاعدة الحساب بيننا التنصيف في الثوب كما ذكرناه.
3935- صورة أخرى: إذا كان الثوب يساوي عشرة، والصِّبغ يساوي درهماً، فلما صبغ المفلسُ الثوبَ، صار يساوي خمسةَ عشرَ، فقد زادت أربعة دراهم بالصنعة. قال الشيخُ: إن قلنا: ما يحصل بالصنعة أثرٌ، لا حكم له، فالأربعة لبائع الثوب مع العشرة، وليس للمشتري إلا قيمة صِبغه، وهذا جوابه الأول. وعليه من السؤال ما تقدّم.
فأما إذا قلنا: أثرُ الصنعة عينٌ، فهي للمشتري، فله إذاً خمسة، وللبائع عشرة.
فلو كانت المسألة بحالها، ووجدنا راغباً اشترى الثوب بثلاثين، فإن جعلنا الزيادة
__________
(1) (ت 2) : من أثر الصنعة.
(2) (ت 2) : نقص.
(3) (ت 2) : وهو.
(4) (ت 2) : إذا نظر إلى ذلك.(6/369)
للمشتري، فثلث الثمن يصرف إليه، والثلثان للبائع. وإن قلنا: الزيادة للبائع، فثمن الأصل خمسةَ عشرَ. وإنما اتفق البيع بالثلاثين رغبة، فيوزع الثمن على خمسةَ عشرَ، فللبائع من أصل القيمة أربعةَ عشرَ، فنضعِّفها له، وللمشتري درهم، فنضعِّفه له.
فنقول للبائع ثمانية وعشرون، وللمشتري درهمان.
فإن قيل: هلاّ جعلتم هذه الزيادة للبائع؟ قلنا: ليست هذه زيادةَ صنعة، وإنما هي اتفاق ربح، فيقسط الربح عليهما على مقدار استحقاقهما في الأصل، وتضعّفُ قيمةِ الصبغ منقاسٌ، وإنما الغلط تضعيفُ أجرة الأجير في القصارة كما بيّنته من غلط بعض الأئمة.
3936- ثم ذكر الشيخ أبو علي قولي الشافعي في أن القِصارة أثر أم عين، وحكى عن صاحب التلخيص شيئاًً ممّا لا بد من ذكره، فقال: إذا باع ثوباًً قيمته عشرة، واستأجر المشتري مَنْ قَصره بدرهم، فإذا الثوب المقصور يساوي خمسةَ عشرَ، ففي المسألة قولان: أحدهما - أن القِصارة عينٌ. والثاني - أثرٌ.
فإن قلنا: إنها أثر، فهي للبائع. لكنا نقول للبائع: لك الثوب المقصور لا تُشارَك فيه، وعليك أجرة القصارة حتى كأنك استأجرته. وهذا غلط منه باتفاق أصحابنا.
فإنّا إذا قلنا: إن القصارة أثر، فللبائع الثوبُ، ولا شيء عليه من الأجرة.
والأجير يضاربُ الغرماء بأجرته. وذلك أنّا لم نجعل القِصارة عيناً، فيتعلق بها الأجير، وبائع الثوب لم يستأجره. فهذا غلط ظاهر لا شك فيه.
وقد نجز الفصل بأطرافه.
فصل
ذكره صاحب التلخيص، وغلط فيه من أوله إلى آخره.
3937- ونحن ننقل أجوبته، ونذكر وجه الصواب فيها.
قال: إذا اشترى رجل من العصير عشرة أرطالٍ بعشرة دراهم، ثم أغلاه بالنار حتى(6/370)
رجع إلى ثمانية أرطال، وصار رُبّاً (1) .
ذكر ثلاثة [أحوالٍ] (2) في المسألة، فقال: إذا كان العصير يساوي عشرة، ولما عاد إلى ثمانية أرطال، صار يساوي سبعة؛ فللبائع الرجوع في عين الرُّب، ومضاربة الغرماء بقدر نقصان القيمة. وقدرُ النقصان ثلاثةُ دراهم، فيضارب بها. وعلل بأن قال: ليس ما حدثَ مجرد نقصان صفة، بل انضم إليه نقصان العين. هذا جوابه وتعليله. وهو خطأ.
والصواب أن نقول: قد نقص بالنار خُمس المبيع، فهو كما لو نقص بانصبابٍ أو غيرهِ من أسباب الضياع، فيرجع في الرب إن شاء، ولا حظَّ له في مقابلة الدرهم الناقص من القيمة؛ فإن العين باقية في أربعة الأخماس وزناً وقدراً، فليرجع إن أراد في الأربعة الأخماس كما هي، ويضارب بخمس الثمن، وهو درهمان.
وإن لم يُرد الرجوع في المبيع ضرب مع الغرماء في جميع الثمن. والجملة في هذا أنا نجعل النقصان بسبب الغليان بمثابة التلف في ذلك القدر، ويجري في الباقي على قياس الأصول. فهذه حالة من الأحوال الثلاثة.
3938- أما الحالة الثانية - فهي أن تكون قيمةُ العصير عشرة، كما صورناه، فلما صار رُبّاً، رجع إلى ثمانية، ولكن كان يساوي عشرة مع نقصان وزنه. قال صاحب التلخيص: إن أراد الرجوع، فيرجع في الرُّب، ولا يضارب الغرماء بشيء؛ فإنه قد وصل إليه قدرُ المبيع قيمةً. وقد ساعده بعض الأصحاب في هذه الصورة.
وهو خطأ.
والسديد أن نقول: أما القدر الذي هو نقص، وهو خُمس المبيع، فله أن يضارب الغرماء في مقابلته بخمس الثمن، ويَبْقى الكلام في أربعة أخماس المبيع، وقد زَادت قيمته بالصّنعة. فإن قلنا: زيادة الصنعة للبائع، وهي أثر، فيرجع في الرُّب، ويفوز بالزيادة، ويضارب الغرماء بخمس الثمن، كما ذكرنا.
__________
(1) الرُّبُّ: بالضم: دبس الرطب إذا طبخ، وعصارة التمر المطبوخة. (مصباح ومعجم) .
(2) في الأصل: أقوال.(6/371)
وإن قلنا: زيادة الصنعة بمنزلة العين، وهي للمشتري، فقد قال القفال في هذه الصورة: إن هذه الزيادة على هذا القول للبائع أيضاً؛ فإنها بمنزلة السِّمَن وكِبر الغلام؛ فإن الغليان مما لا يجوز الاستئجار عليه، فلا يصح أن يُستأجر رجل ليرد عشرةَ أرطالٍ بالإغلاء إلى ثمانية؛ فإن هذا مما لا ينضبط. هذا طريق القفال.
وذهب بعض أصحابنا إلى أن الاستئجار عليه جائز، فالزيادة إذاً للمشتري، وقد ضارب البائع بخمس الثمن، وبقي أربعة أخماس المبيع، للبائع فيه ثمانية وللمشتري درهمان.
وقد سبق القول في مثله.
والجملة في ذلك أن هذه المسألة تنزل منزلة ما لو باع ثوبين، أحدهما يساوي درهمين، والثاني يساوي ثمانيةً، فتلف في يد المشتري الذي يساوي درهمين، وقَصَر المشتري الآخر (1) ، فصار يساوي عشرة.
3939- والحالة الثالثة - هي أن يكون العصير مساوياً عشرة، كما قدمنا، ورجع وزن الرُّب إلى ثمانية، ولكنه يساوي اثني عشر درهماً.
قال صاحب التلخيص: البائع بالخيار إن شاء لم يرجع في العين، وضارب الغرماء بالعشرة التي جعلت ثمناً ابتداءً. وإن أراد الرجوعَ إلى الرُّب، فله ذلك، ولكنه يغرَم الزيادة على القيمة الأولى، [فيرجع إلى الرّب ويغرَم للمشتري والغرماء درهمين] (2) وطرد قياسه الفاسد في الأحوال الثلاثة.
والصحيح أن نقول: أما خمس المبيع، فقد فات، فيضارب الغرماء بخمس الثمن، وأمّا أربعة الأخماس، فقد زادت. فإن قلنا: زيادة الصنعة أثر، فهي للبائع، فيرجع في الرُّب بكماله، ويستبدّ بالزيادة، ويضارب الغرماء بخمس الثمن.
وإن قلنا: الزيادة الحاصلة بالصنعة للمشتري، فعلى طريقة القفال هي للبائع في هذه الصورة. وعلى طريقة غيره هي للمشتري، وقد رجع البائع في خمس الثمن
__________
(1) (ت 2) : الثوب.
(2) عبارة الأصل: ويرجع إلى الرُّب، وبقي للمشتري والغرماء درهمين. (كذا) .(6/372)
بجهة المضاربة، وله في الأخماس الباقية ثمانية دراهم، وللمشتري أربعة دراهم.
وقد سبق التفصيل في مثله (1) .
3940- هذا بيان جوابه في الأحوال الثلاثة، ووجهُ الصواب في هذا. وقولُه في هذا الفصل غير [معدود] (2) من المذهب؛ فإنه هفوة. وقد ذكرنا أن هفوات الأئمة إذا لم يكن للظن فيها مضطرب لا يعتد بها.
3941- ومما ذكره صاحب التلخيص في أثناء كلامه أن من اشترى عبداً وعلمه
حرفة، أو علمه القرآن، فهذا بمثابة القصارة في الثوب. وهذا الذي ذكره صحيح.
وقد ذكرناه في فصل القصارة، وإنما أعدناه لأن الشيخ أبا علي حكى عن بعض الأصحاب وجهاًً أنّ الزيادة الحاصلة من هذه الجهة أثرٌ، قولاً واحداً، وإن جاز الاستئجارُ على تحصيله، لأنه لا يظهر على المبيع ظهوراً محسوساً، وإنما القولان في أثر يُحسّ كالقصارة في الثوب، والطحن في الحنطة، والحِرفُ ليست كذلك. وهذا مزيّفٌ مردود. والصحيحُ طرد القولين في كل صفةٍ يتوصل إلى تحصيلها بالاستئجار، سواء كانت مدركة بالحس أو لم تكن مدركة.
فصل
قال: "ولو تبايعا بالخيار ثلاثاً، فَفُلّسا أو أحدهما، فلكل واحد منهما إجازةُ البيع وردُّه دون الغرماء؛ لأنّهُ ليس ببيع مستحدث ... إلى آخره" (3) .
3942- من اشترى شيئاًً على شرط الخيار أو باع شيئاًً كذلك، فَفُلِّس، وجرى الحجر عليه، ففي إجازته وفرعه بحكم الخيار طريقان لأصحابنا: أحدهما - أن تصرفه ينفذ بالفسخ والإجازة من غير رعاية مصلحةٍ وغبطة، كما كان ينفذ وهو مطلق.
وما صدّرنا به الفصلَ من لفظ الشافعي دليل ظاهر على هذا. ووجه ذلك أن التصرف
__________
(1) (ت 2) : مسألة.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) ر. المختصر: 2/221.(6/373)
بحكم الخيار مستفاد بعقدٍ مضى في حالة الإطلاق، فهو مستند إليه، وما يجري منه
لا يحمل على تصرف مبتدأ.
والذي يوضح ذلك أن الحجر يطَّرد على الأملاك الثابتة؛ فإنها مهيأة للتصرف إلى ديون
الغرماء، والمعقود عليه على حكم الخيار ليس كذلك؛ فإنه لا يؤثر الحجرُ فيه، ومساق
ذلك يقتضي استثناءَه [عن] (1) حكم الحجر، وبقاءه على موجب الإطلاق. وليس المفلس
منظوراً له بخروجه عن الاستقلال، وإنما سبب الحجر عليه قَصْرُ تصرفه عما يجب صرفه
إلى الدَّين، وهذا إنما يتحقق في الأملاك اللاّزمة؛ فإذاً لا يفصل هذا القائل في تنفيذ
الفسخ والإجازة بين البائع والمشتري، ولا يخصص ما ينفذه بقولنا: لا يحصل الملك
في زمان الخيارِ للمشتري؛ بل يطرده على كل قول، في كل حالٍ.
هذا بيان هذه الطريقة.
ولو جن المشتري في زمن الخيار، وانتصب قوّامٌ عليه، فلا بدّ من رعاية مصلحته
في الفسخ والإجازة؛ لأنه منظور له، ولا وجه لتصرف وليه إلا طلب مصلحته.
3943- والطريق الثاني - يُبيّنُه تفصيلٌ، فنقول: من اشترى على شرط الخيار، ثم
فُلّس- في مدة الخيار، فرعنا ذلك على القولين في حصول الملك. فإن قلنا:
لا يحصل الملك في المبيع للمشتري، فإن فرع المشتري أو أجاز على وفق (2)
الغبطة، فلا شكّ في نفوذ ذلك. ولم يختلف (3) أصحابنا في تنفيذ الفسخ والإجازة
منه. وإن كان لا ينفذ بيعه في أمواله التي شملها الحجر، وإن وافق الغبطة. وفي
شرائه كلام سيأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وهذا يوضح أن التصرف بالفسخ والإجازة مستثنى على الجملة عن التصرفات.
فأمّا إن فرع أو أجاز على خلاف الغبطة، قلنا: أمَّا الفسخ على خلاف الغبطة،
فنافذ؛ فإنه ليس يُخرِجُ به عن ملكه شيئاًً، وإنما يمنع به عن جلب ملك، والتفريع
على أنه لا ملك له في زمان الخيار في المبيع والثمن قارٌّ على ملكه؛ فقد بقي بالفسخ
__________
(1) في الأصل: على.
(2) (ت 2) : وجه.
(3) (ت 2) : يحتل.(6/374)
على ملكه الثمن، ولم يحصل له الملك في المبيع. ورجع ترك نظره إلى عدم الكسب والجلب، وليس على المفلس أن يكسب وإن قدر عليه. هذا إذا فسخ.
وأمَّا إن أجاز العقد على خلاف الغبطة -والتفريع على أن لا ملك له في المبيع في زمان الخيار- فإجازته على خلاف الغبطة مردودة؛ من جهة أنه يُخرج بها الثمنَ عن ملكه، على خلاف المصلحة، وليس له أن يُخرج عن ملكه شيئاًً على خلاف الغبطة.
وإن قلنا: إن الملك في المبيع للمشتري في زمان الخيار، فإن فسخ أو أجاز، ولم يخالف الغبطة، نفذ ذلك.
والذي دل عليه كلام المشايخ في هذه الطريقة - أنه ينفذ الفسخُ والإجازةُ إذا استوى وجه الغبطة، ولم يترجح وجهٌ على وجهٍ. فأمَّا إذا فسخ والغبطة في الإجازة، ففسخه مردود؛ من جهة أنه بفسخه يُخرج المبيع عن ملكه، والغبطة في خلافه. وإن أجاز على هذا القول على خلاف الغبطة، نفذت إجازته؛ لأنه بالإجازة تاركٌ ردّ الثمن إلى ملكه، وإذا ملكناه المبيع في زمان الخيار، ملكنا البائع الثمن لا محالة؛ فهو بالإجازة تاركٌ جلبَ الملك في الثمن، وليس على المفلس الجلبُ والكسبُ، كما قدمناه.
فحاصل الطريقة إذاً راجع إلى أنا لا ننفذ منه على خلاف الغبطة إخراجَ شيء عن ملكه، ولا نكلّفه ردَّ شيء إلى ملكه.
هذا بيان الطريقتين.
3944- ونقل الأصحاب نصاً عن الشافعي متعلقاً بالرد بالعيب، قال رضي الله عنه: "إذا اشترى في الصحة عبداً، ثم مرض، واطلع على عيبٍ به في مرضه، لزمه الرد، وإن لم يَرُد، حُسب من ثُلثه؛ لأن العيب كفقد جزء".
كلامه المطلق يحتاج إلى التفصيل، فنقول: إن اشترى في الصحة عبداً بمائةٍ، وقيمته خمسون، لو كان سليماً، فالمحاباة محتملة (1) بسبب جريان العقد في الصحة.
فلو اطلع على عيب في مرض الموت ينقص عُشرَ قيمة (2) العبد، فإن رده، فذاك. وإن
__________
(1) "محتملة": بمعنى جائزة نافذة، من الاحتمال والإطاقة، وليست من الاحتمال بمعنى التوقُّع.
(2) (ت 2) : تنقص قيمته عشر العبد.(6/375)
أجاز العقدَ، كان متبرعاً بعشر الثمن، وهو عشرة، ولا نجعله متبرعاً بعشر قيمة العبد؛ لأنّ المسترد في مقابلته (1) الثمن، والأرش المقابل للعيب عشر الثمن لا عشر القيمة، فإجازته تتضمن ترك عشر الثمن، والمحاباة وراء ذلك جارية في الصحة، وليس على المريض أن يكسب للورثة باسترداد جميع الثمن.
3945- وفي الفصل غائلة ننبه عليها، وندرؤها بسؤالٍ وجواب. فإن قيل: قد
ذكرتم أن المريض ليس عليه الاكتساب، فليس عليه أن يقبل الهبة والوصية، ولا أن
يكتسب بجهة أخرى، والملك حاصل للبائع في جميع الثمن، واستردادُ الأرش نقصٌ
للملك في حق البائع، وجلبٌ من جهة المشتري، فلم كان تركه تبرعاً؟ قلنا: هذا
العقد يتضمن الاستحقاقَ، فإسقاطه إسقاط [حق] (2) مستحق تضمنه العقد، وقد ثبت
هذا في مرض الموت، وكان إسقاطه بمثابة إسقاط دين، والدين وإن سميناه ملكاً،
فليس شيئاً محصلاً، ولكنه استحقاق التوصل إلى تحصيل الملك في عين، ولذلك
يحط الأرش عن الشفيع، وإن كان مقتضى الشرع أن يأخذ الشّقصَ بثمن العقد، وليس هذا كما ردَّدْناه في خيار الشرط؛ فإن ذلك [تروٍّ] (3) محض، وليس الفسخ به والإجازة متضمنين إسقاط حق مستحق. فليفهم الناظر ذلك، فبه تمامُ الغرض.
3946- فإن قيل: الرد مستحق أيضاًً بالعيب، فأوجبوه. قلنا: لو أوجبناه، لألزمنا نقضَ المحاباة التي أمضيناها في صحته، وهذا لا سبيل إليه.
فإن قيل: لو كان الثمن جارية، وقد فرض الاطلاع على العيب، فهل تجوزون لقابض الجارية وطأها؟ قلنا: نعم؛ فإن الجارية في يده وإن تعرضت للاسترداد بمثابة الجارية في يد المتهب، مع استمكان الواهب من الرجوع في الهبة.
3947- فإن قيل: لو كانت المسألة مفروضة حيث نقلتم نص الشافعي في الصحة
__________
(1) (ت 2) : مقابلة.
(2) مزيدة من (ت 2) .
(3) (ت 2) : نزو. وفي الأصل بدون نقط. وكذا قدرناها. والمعنى أن الإجازة والفسخ في مرض الموت لمن له خيار الشرط، ليس فيها إسقاط حق، ولا تبرع، ولا تكسب، وإنما الخيار هنا للتروّي المحض. والله أعلم.(6/376)
والمرض، فإذا ترَوْن؟ قلنا: إن كان الثلث وافياً، فمجوز الوطء إلى أن يتفق ما يجري من بائع الجارية، وإن لم يكن الثلث وافياً، فالمحذور الرجوع إلى قسط من الجارية، ولو فرض ترك ذلك القسط على قابض الجارية؛ فهو في الحال تبرع.
ولكن لو تبرع المريض بجارية لا يملك غيرها، وأقبضها، تسلط المتهب على وطئها، بناءً على استمرار الحياة. ثم إذا مات المتبرع، نقضنا تبرّعه في ثلثيها تبيُّناً، وقد نلزمه ثلثي مهرها، كما سيأتي في الوصايا.
فخرج من مجموع ذلك أنا لا نحرم الوطءَ كيف فرض الأمر، وهذا تصريح بحقيق الملك. ومع ذلك نجعل ترك مقدار الأرش تبرعاً.
3948- وتمام القول فيه أنه لو مات هذا التارك للأرش المريض ولم يَفِ الثلث، فالزائد على الثلث -على قولنا: التبرعُ الزائد مردود- يُثبت للورثة ملكاً لهم، أم هم يثبتوه (1) ؟ الظاهر عندنا أنه يثبت لهم. ولا حاجة إلى إثباتهم لأنفسهم. وما قدمناه من التسليط على الوطء محمول على مذهب التبيّن بالأَخَرة والإسناد (2) .
فانتظم من هذا أنّه إذا مرض مرضَ موته، وفرض الاطلاعُ على العيب، وتَرْكُ الأرش، فقد تبيّن بالأَخرة رجوعُ شيء من الثمن إسناداً. فليفهم الناظر ذلك.
ويحتمل أن يقال: للورثة حق الرجوع في الأرش بعد الموت، وإذ ذاك يثبت ملكهم، والأظهر الأول.
3949- ونحن نذكر صورة أخرى في ذلك، فنقول: لو اشترى عبداً قيمته [مائة] (3) بخمسين، واطلع على عيب به ينقص عشرَ القيمة، فلو رد، كان الرد على خلاف الغبطة؛ فإن العبد مع العيب يساوي تسعين، فلو رده واسترد خمسين، كان متبرعاً بأربعين، فالرد إذاً تبرع -كما ذكرناه- لأن الغبطة في إمساكه، وهو ملكه الحاصل، ورده إخراجٌ له عن الملك، فإذا كان على خلاف الغبطة، كان متبرعاً. فلو قال:
__________
(1) (ت 2) : ملكاً أم لهم أن يثبتوه؟
(2) (ت 2) : والاستناد. وهما بمعنىً، والتبين والاستناد من طرق إثبات الأحكام، وقد ثبث بيانهما.
(3) في الأصل: تسعين.(6/377)
أرجع بالأرش، فقال بائع العبد: بل ردّه، فليس له مطالبة بالأرش؛ فإنا نبني الأمر على حياته. وإذا كان الرد ممكناً في الحياة، لم يجز التحكم بإلزام الأرش. ولو مات فأراد الورثة المطالبة بالأرش، لم يكن لهم ذلك أيضاًً؛ فإن المريض تبرّعُه (1) في الرد، فإذا لى يرد، فإنما راعى الغبطة في ترك الرد، ويستحيل أن يقع ترك الرد غبطة، وينضمُّ إليه الرجوعُ إلى الأرش.
ونظير هذا ما لو اشترى الولي للطفل عبداَّ بَخمسين، وقيمته مائة لو كان سليماً، فلو اطلع على عيب به ينقص عشرَ قيمته، فليس له الرد، وليس له أن يُطالبَ بائع العبد برد شيء من الثمن. هذا ما نراه، واللهُ أعلم.
وقد يخطر لمن لا يغوص أن الرد إذا امتنع، فالأرش جزءٌ مستحق الاسترداد.
وليس الأمر كذلك.
فصل
قال: "ولو أسلفه فضة بعينها في طعام، ثم فُلّس، كان أحقَّ بفضته ... إلى آخره" (2) .
3950- قد ذكرنا في غير المفلس أن من أسلم في جنس وانقطع جنسُ المسلَم فيه عند المَحِلِّ، ولا إفلاس، ولا حجر، ففي المسألة قولان: أحدهما - أن العقد ينفسخ. والثاني - أن المسلم يتخير: إن شاء فسخ، وإن شاء أنظر المسلَم إليه إلى وجود الجنس، ونحن نذكر في السلم بعد تجديد العهد بهذا الأصل صورتين في المفلس: إحداهما - أن يفلس المسلم إليهِ، والمسلَمُ (3) فيه عامّ الوجود. فإن كان رأس المال قائماً، فللمسلم فرع العقد، والرجوعُ إلى رأس المال. ولا فرق بين أن يعيّن رأس المال حالة العقد، وبين أن يطلق ذكر الدراهم حالة العقد، ثم يعينها في
__________
(1) خبر إن. والمعنى: أن تبرع المريض في ردّ العبد، لا في ترك الأرش.
(2) ر. المختصر: 2/221.
(3) (ت 2) : فيما المسلم فيه.(6/378)
المجلس بالإقباض. فإذا كان ما عين أولاً بالتسمية، أو عين بالإقباض في المجلس قائماً، فرع العقد، ورجع في تيك العين. وإن أراد المضاربة، فسنذكر في آخر الفصل كيفية المضاربة بالمسلَم فيه.
ولو كان رأس المال تالفاً، فهل للمسلم أن يفسخ العقد؟ فعلى وجهين: أصحهما - أنه لا يفسخ؛ لأنه لو فسخ، لضارب ببدل رأس المال؛ إذْ عيْنُه تالفة، وإنما يثبت الفسخ بعذر الفلس إذا كان الفاسخ يتخلص عن المضاربة. والوجه الثاني - أنه يثبت له الفسخ بتعذر الوصولِ إلى تمامِ المسلم فيه. وإذا كان التعذر بانقطاع الجنس يثبت حق الفسخ، فالتعذر بالفلس ينبغي أن يُثبت حق الفسخ. وهذا القائل لا يخرّج قول الانفساخ بسبب الفلس، بخلاف ما إذا انقطع الجنس. هذا بيان صورة واحدة.
3951- الصورة الثانية: مفروضة فيه إذا أفلس المسلم إليه، وانقطع المسلم فيه، فاجتمع الفلس والانقطاع؛ فإن كان رأس المال قائماً، فسخ العقد، ورجع فيه. وإن كان تالفاً، فهل يثبت للمسلم حق الفسخ؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يثبت؛ لأنه لا يتخلص عن مضاربة الغرماء.
والثاني - وهو الأصح- أنه يثبت له حق الفسخ؛ لأنه بالفسخ يصل إلى بعض حقه في الحال. ولو لم يفسخ، وصبر إلى عود جنس المسلم فيه فربما لا يجد في يده شيئاًً يأخذه بحقه؛ فترك الفسخ يلحق به ضرراً بيِّناً. وأيضاًً، فإن حق الفسخ إذا كان يثبت في حالة الإطلاق، فيستحيل أن لا يثبت في حالة الحجر، وكل سبب أثبت الفسخ في الإطلاق، لم يُبْن الأمرُ فيه على الغرض، فإن من اطلع على عيب المبيع الذي قبضه، فله رده على مفلس لا يجد ما بقي بالثمن.
وقد نعود في آخر الفصل إلى تحقيق هذا الوجه من هذه الصورة إن شاء الله تعالى.
3952- ونحن نذكر الآن كيفية المضاربة في المسلم فيه، فنقول: إذا كان المسلم فيه جنساً من الأجناس، فالمضاربة [به] (1) غير ممكنةٍ؛ لأن التضارب إنما ينتظم في النقود، فإذا لم يكن المسلم فيه نقداً، فلا وجه لتقدير المضاربة به. ولكنا نرده إلى
__________
(1) ساقطة من الأصل.(6/379)
القيمة تقديراً، ونُثبت المضاربة بها، ثم ننظر إلى مقدار ما يخصه في المضاربة، فإن كانت القيمة مائة، وقد خصه بالمضاربة عشرة، لم نترك (1) العشرة عليه؛ فإنا لو فعلنا ذلك، كنا معتاضين عن المسلم فيه، وأخذ البدل عن المسلم فيه باطل، غيرُ مباح، فالوجه أن يصرف ما يخصه من الدراهم والدنانير إلى جنس المسلم فيه وتسلمه إليه، فتكون المضاربة واقعةً في أحد النقدين، وملكُ المسلِم مستقرٌ آخراً في مقدارٍ من جنس المسلَم فيه.
والذي قطع به الأئمة أن ملك المسلم لا يثبت في الحصة التي تميزت له من الدراهم، وإنما يثبت ملكه في القدر الحاصل من المسلَم فيه. فلو ميزنا له باعتبار القيمة عشرة، وقدرناها عُشْرَ حقه مثلاً، فهاج رخصٌ وانخفض السعرُ قبل اتفاق صرف الدراهم إلى جنس المسلم فيه، ووجدنا بذلك القدر الذي أقررناه له قدرَ حقه من جنس المسلم فيه بكماله، قال الأصحاب: صرفنا الكلَّ إليه وأوصلنا إليه حقه كَمَلاً، وبرئت ذمة المسلم إليه.
وان وجدنا [به] (2) أكثر من حقه، فالزيادة مردودة على الغرماء.
3953- قال القاضي: هذا مشكل. والقياسُ أن نقول: إذا هاج الرِّخص، وصار ما كنّا نقدره بمائة يوجد (3) بعشرة، فنغير اعتبار القيمة، ونقول: إنه يضرب بعشرة، وننظر ما يخصه مع مزدحم الديون، ونبتدىء بتبيّن (4) مقدار حقه. وإنما كان كذلك، لأن الحصة المقررة له على حساب المائة لم تدخل في ملكه لما قدمناه من استحالة ملك عوض المسلم فيه، فإذا لم يثبت ملكه فيما ميزنا، بان أن الأمر موقوف على ما يتبين آخراً، وقد بان برخاء السعر، وظهور الرخص أن قيمة المسلم فيه عشرة، فدينه إذاً يقدر بهذا.
هذا ما قاله.
__________
(1) (ت 2) : ننزل.
(2) في الأصل: وجدناه.
(3) (ت 2) : نجده.
(4) (ت 2) : بتيقن.(6/380)
3954- والذي ذهب إليه الجماهير ما قدمناه أولاً.
فانتظم مما قالوه، وقاله القاضي وجهان: أحدهما - ما ذكره القاضي، ووجهه القياس البيّن الذي ذكره. والثاني - ما ذكره الأصحاب، ووجهه أنا وإن كنا لا نملِّك المسلِم العشرةَ الدراهم، فنجعله أولى بها؛ حتى كأنها مرتهنة بحقه، وكأنه مرتهن فيها. ولو كان كذلك، لكنا نقدمه بتمام حقه فيما هو مرهون عنده، فيجري إذاً قياس الرهن. ونقول: إن وفّى ما ميزناه بحقه أدينا منه حقه كاملاً. وإن زاد على مقدار حقه، أدينا منه قدرَ حقه، وصرفنا الفاضل إلى الغرماء، كدأبنا في المرهون إذا بعناه.
فإن قيل: لم فعلتم ذلك؟ قلنا: [إفراز] (1) الحاكم للحصص (2) تخصيصٌ منه لكل ذي حق بمقدار، فما (3) يتصور فيه التمليك حُمل تخصيصه على حقيقة الملك، وما امتنع التمليك فيهِ حُمل على ما يتصوَّر، وهو التخصيص بطريق الاستيثاق، فكأن حقوق الغرماء انقطعت عن العشرة بالقسمة التي جرت على التقدير الصحيح ابتداءً.
فهذا هو الممكن في توجيه ما قاله الأصحاب. وليس يخفى ظهور ما قاله القاضي في القياس.
3955- ثم إن كان المسلم فيه شيئاًً من ذوات الأمثال، وقد خص المسلِم عشرُ
قيمته، فإنا نصرفه إلى عشر المسلم فيه. وإن كان المسلم فيه ثوباًً واحداً، أو حيواناً، فالوجه صرف ما يخص المسلِم إلى جزء شائع من ثوب، أو حيوانٍ مستجمعٍ للصفات المذكورة لا (4) وجه غيره. هكذا ذكره صاحب التقريب وغيرُه. فإذا ضارب بمائة، فخصه من زحمة الديون عشرة، وصرفناها إلى جنس المسلَم فيه، فلو انطلق الحجر، وحدث له مال جديد وعاد الغرماء يضاربون، فللمسلم حق المضاربة في بقية حقه في المال الجديد، فتقوَّم السلعة مرة أخرى، فإن كانت مثل القيمة الأولى، فلا كلام. وإن كانت القيمة أعلى من هذا الوقت، فإنه يضارب بالقيمة العالية؛ فإنَّ المقصود
__________
(1) (ت 2) : إقرار. وفي الأصل بدون نقط. وقدرناها على ضوء المعنى.
(2) في (ت 2) : "المحصص".
(3) (ت 2) : فيما.
(4) (ت 2) : ولا وجه.(6/381)
إيصالُه إلى جنس المسلم فيه، والقيمة في البين واسطةٌ، اضطررنا إلى اعتبارها، فنعتبر إذاً قيمة المسلم فيه بالغة ما بلغت. وهذا سديد.
3956- فأمَّا إذا قومنا المسلم فيه آخراً في الصورة التي انتهينا إليها، فكانت قيمته أنقص في الكرّة الثانية، فقد ذكر صاحب التقريب وجهين في ذلك: أحدهما - أنه يضارب باعتبار القيمة الثانية، وهي قيمة الوقت. ووجهه بيّن.
والوجه الثاني - أنه يضارب بالقيمة الأولى المعتبرة في الحجر الأول. وهذا لا أدري له وجهاًً، مع قطعنا بأن القيمة ليست عينَ حقه.
ولو لم يتفق الحجر الثاني، ووفى ما في يد المسلم إليه بتمام حق المسلِم، وهاج الرخص، فليس على المسلم إليه إلا توفيةُ حقه.
وإذا رخص السعر، فإذا فرض حجرٌ ثانٍ وجب أن يضارب بالقيمة الناجزة، فإن القيم تقديرات، والغرض الوصول إلى المقوّم. ولولا أن صاحب التقريب كرّر هذا الوجه الثاني، وإلا كنت لا أذكره لضعفه.
فصل
قال: " ولو أكرى داراً منه سنة، ثم أفلس المكري ... إلى آخره " (1) .
3957- هذا الفصل يشتمل على بيان إفلاس المكري، وإفلاس المكتري والبداية بإفلاس المكري.
ولا تخلو الإجارة إما أن تكون واردة على العين، وإما أن تكون واردة على ذمة المكري، فإن كان الكراء [على] (2) العين بأن أكرى داره أو دابته، وعقد إجارةً على شرط الصحة، فإذا أفلس المكري قبل انقضاء الإجارة، وحصول الوفاء بها، فالإجارة لا تفسخ لمصلحة المفلس، حتى لو فرعنا على منع بيع المكرى؛ فإنا نمتنع عن بيع العين المكراة إلى انقضاء مدة الإجارة، وفاءً بما اقتضاه العقد. وإن قلنا: يجوز بيع
__________
(1) ر. المختصر: 2/221.
(2) في الأصل: في.(6/382)
المكرَى، فنبيعه في ديونه، ولو كانت قيمته تنقص لمكان الإجارة، لم نبال بنقصانها. فإذا اتفق بيعُ الدار المكراة، وصرْفُ ثمنها في حقوق غرماء المكري، وانفصل الأمر، وانطلق الحجر، والإجارة باقيةٌ، فلو انهدمت الدار في بقية المدة، وقضينا بأنفساخ الإجارة، وكان المكتري وفَّى الأجرة كاملة، فيثبت له حق الرجوع بقسط من الأجرة لانفساخ الإجارة في بقية المدة. وهذا الحق يثبت جديداً مترتباً على الانفساخ الواقع بالانهدام. فهل لهذا المكتري أن يزاحم الغرماء الأولين فيما اقتسموه بينهم، وتضاربوا به؟ فعلى وجهين: ذكرهما العراقيون أحدهما - أنه لا يزاحمهم؛ لأن دينه متجدد حادث بعد القسمة، وفضّ المال على الغرماء، فلا يثبت لأصحاب الديون الجديدة مزاحمةُ القدماء من الغرماء.
والوجه الثاني - أن المكتري يزاحمهم مزاحمةَ غريم يبدو [أخِراً] (1) ونتبين استحقاقَه لدَيْنه متأخراً بتاريخ سابق لاستحقاق الأولين ديونَهم حالة المزاحمة. ووجه ذلك أن الرجوع وإن ثبت الآن، فهو مستند إلى موجَب عقد سابق، وهو الإجارة. فإذا كان رجوع المكتري مستنداً إلى الإجارة السابقة، كان حقه بمثابة دين سابق يبدو.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت الإجارة واردة على العين وقد أفلس المكري.
3958- فأما إذا كانت الإجارة واردة على ذمة المكري، وما كانت ربطت بعين، وهذا كالتزام المكري نقلَ مقدار مبيّنٍ من طعامٍ أو غيره، من بقعة إلى بقعة، فهذا لازمٌ ذمةَ المكري، فإذا أفلس وفي ذمته ما وصفناه، لم يخلُ: إما إن كان سلّم دابةً إلى المكتري ليحمّلها الطعامَ المذكور. وإما إن لم يكن سلم إلى المكتري شيئاًً.
فإن لم يكن سلم إليه شيئاًً، فالذي في ذمته دينٌ من الديون. فإن كان عِوضُ الإجارة باقياً، وقد أفلس المكري، فللمكتري الرجوع إلى العوض الذي صادفه باقياً. وإن كان العوض تالفاً، ضارب المكتري الغرماءَ بأجر مثل ما استحق من المنفعة، على القياس الذي ذكرناه في رجوع المسلِم، إذا أفلس المسلم إليه.
__________
(1) الأخِر: الأخير. (معجم) وغير مقروءة في (ت 2) وفي الأصل: (أخر) بدون ألف التنوين.(6/383)
3959- ثم يعرِض في منتهى الكلام أمرٌ يجب إنعام النظرِ فيه. وهو أنا إذا أثبتنا للمكتري حقَّ المضاربة بأجرة المنفعة المستحقة، فإذا بأنت حصته في تقدير المضاربة، فصرْفُ ذلك المقدارِ إليه بمثابة صرفِ مقدارٍ من قيمة المسلم فيه إلى المسلِم. وهذا اعتياضٌ عن المسلم فيه.
3960- وقد اختلف أصحابنا في الإجارة الواردة على الذمة هل تنزل منزلة السلم حتى نرعى فيها ما يُرعى في السلم من وجوب تسليم الأجرة في مجلس العقد، أم كيف السبيل فيه؟ وسيأتي شرح ذلك في كتاب الإجارة، إن شاء الله تعالى.
فإن جعلنا الإجارةَ الواردة على الذمة بمثابة السَّلم، وهو الصحيح، فلا سبيل إلى ترك حصة المكتري -النازل منزلة المُسْلِم- عليه من القيمة (1) ؛ فإن ذلك اعتياضٌ عن المسلم فيه.
ثم إن كان المقصود أمراً لا يتبعض، مثل أن يقول: تحملني إلى بلدة عيّنها، فالحمل إلى بعض الطريق قد لا يفيد، أو، (2) ربما يكون الموضع المقدَّر مهلكة، فإذا تحقق التعذر، وامتنع الاعتياض، فلا وجه إلا تخيير المكتري في الفسخ، وإذا فسخ العقد، ضارب الغرماء بقيمة الأجرة التي كان بذلها، وقد يتجه عُسرٌ إذا كان المسلَم فيه ثوباًً؛ فإنه إذا خصّه عشرُ القيمة، فلا يجد به عشرَ ثوب، فإذا ظهر تعذرٌ يجر نقيصةً وخسراناً، ثبت الخيار، كما ذكرناه.
وإن كان ألزم ذمة المكري حملَ مائة منٍّ إلى بقعة، وكان حَمْلُ البعضِ مُفيداً على قدره، صرفنا القيمة التي (3) خصته إلى البعض.
والجملةُ أن التبعيض إن أمكن من غير تعذر، صرفنا حصة المضاربة إليه. وإن عسر، أو تضمن التبعيض نقصاً، ثبت الخيار، لا طريقَ غيرُه. ولا وجه لتمليك القيمة، والتفريع على أَنَّ الإجارة سلمٌ.
__________
(1) في الكلام تقديم وتأخير، فالمعنى: "لا سبيل إلى ترك حصة المكتري -من القيمة- عليه، فإنه نازلٌ منزلة المسْلِم، ولا يجوز الاعتياض عن المسلَم فيه".
(2) الواو زيادة من (ت 2) .
(3) (ت 2) : إلى حصته.(6/384)
3961- وإن حكمنا بأن الإجارة الواردة على الذمة لا تكون بمثابة السلم، فإذا ضارب المستحق الغرماء بأجرة المنفعة المستحقة، وبانت حصته منها، لم يمتنع أن يملك حصته من القيمة عوضاً؛ فإن الاعتياض عن الديون غيرُ ممتنع، إذا لم يكن مسلماً [فيها] (1) . وللنّظر فيها مضطرب، والعلم عند الله.
3962-[و] (2) كل ما ذكرناه في الإجارة الواردة على الذمة إذا لم يكن قد سلم المكري عيناً إلى المكتري. فإن كان ألزم ذمته حمل مائة منٍّ، فسلم إليه دابة، حتى يحمّلها المائة. ثم أفلس المكري، فظاهر المذهب أن تلك الدابة متعيّنة لاستحقاق المكتري، كما لو استأجرها في عينها وأورد الإجارة (3) عليها، فليستوف حقه من تلك الدابة وليحمّلها؛ فإنها سُلمت إليه قبل اطّراد الحجر، فتعينت كما تتعين الدراهم إذا سلمها من عليه الدراهم. والحقوق المتعلقة بالذمم تتعين بالتعيين والتسليم.
ومن أصحابنا من قال: لا تتعين تلك الدابة؛ فإنها ليست مورد الإجارة، والمنافع ليست أعياناً. ويشهد لهذا أن تلك الدابة لو عطبت لم تنفسخ الإجارة بعطبها، بخلاف ما لو وردت الإجارة على عينها. فإذا كان لا يثبت لها حُكم التعيين في انفساخ الإجارة عند تقدير تلفها، لم يثبت لها حكم التعيين في اختصاص المكتري بها؛ فعلى هذا إذا أفلس المكري، فلا حكم لتسليم تلك الدابة.
والأصح الأول.
3963- وهذا يخرّج على اختلافٍ للأصحاب، سيأتي مشروحاً في الإجارة. وهو أَنَّ من التزم حمْلَ إنسان إلى موضع، وسلم إليه دابةً، فهل له أن يبدلها بأخرى، من غير سببٍ؟ فيه اختلاف سيأتي موضحاً، إن شاء الله تعالى.
هذا كله إذا أفلس المكري.
3964- فأما إذا أفلس المكتري، فلا يخلو: إما أن تكون الإجارة على العين أو على الذمة. فإن كانت الإجارة على العين، بأن كان اكترى داراً معينة أو دابةً معينة،
__________
(1) في الأصل: فيه، والمثبت من (ت 2) .
(2) في الأصل: فكل.
(3) (ت 2) : العقد.(6/385)
وما سلم الأجرة، فأفلس، والإجارة باقية، فالمذهب الصحيح أنه يثبت للمكري الرجوعُ إلى المنافع في بقية المدة. فإن آثر ذلك، فلتفرع الإجارة في بقية المدة، ويضارب الغرماء بأجرة المنفعة الماضية. وقد تقدم شرح هذا.
3965- ثم قال العلماء: إن كان أجَّر أرضاً، فزرعها المستأجر، وأفلس، فللمكري الفسخ [و] (1) لا يقلع الزرع، بل يرجع بأجرة مثل بقية المدة، يقدم بها من غير مضاربة، كما تقدم.
ولو كان اكترى دابة وحمَّلها، وأفلس في خلال الطريق، فللمكري الفسخُ.
ولكن لا يضيّع متاع المفلس، بل يمكّنه من نقله إلى مأمن، وليس عليه أن يمكنه من نقله إلى مقصده؛ فإنّ المطلوب ألا يضيع حق المكتري، لا أن يحصِّل مقصودَه.
ولو لم يؤثر [المكري] (2) الفسخ (3) وأراد مضاربةَ الغرماء بالأجرة المسماة، فله ذلك، ولا تضيع المنفعة في بقية المدة على الغرماء؛ فإن كانت مشغولة بزراعة أو غيرها، فهو المراد. وإن لم تكن مشغولة، أكريت تلك العين، وصرفت أجرتها إلى حقوق الغرماء.
هذا إذا كانت الإجارة واردة على العين.
3966- فأمّا إذا كانت على الذمة، وأفلس المكتري، فإن كان المكري قد استوفى الأجرة قبل الحجر، فلا كلام، والمنفعة في ذمة المكري، حقٌّ من حقوق المكتري المفلس، تُصرف إلى ديونه كسائر أمواله.
وإن لم يكن المكري قبض الأجرة، وفرعنا على أن الإجارة الواردة على الذمة ليست سلماًً، ولا يجب تسليم الأجرة في المجلس، فإذا أفلس المكتري، فللمكري فسخُ الإجارة بسبب تعذر العوض؛ فإن آثر ذلك، برئت ذمته منه عما عليه من الحق، وانفسخت الإجارة.
__________
(1) في الأصل: ثم. والمثبت من (ت 2) .
(2) في الأصل، (ت 2) : المكتري.
(3) ساقطة من (ت 2) .(6/386)
فصل:
"ولو قسم الحاكلم ماله بين غرمائه، ثم قَدِم آخرون ... إلى آخره" (1) .
3967- إذا حجر القاضي على المفلس، وقسم ماله على غرمائه، ووزعها عليهم، فلا شك أن التوزيع يقع على أقدار الديون، لا على أعداد الرؤوس. فإذا كان له غريمان لأحدهما عليه أربعة آلافٍ، وللثاني ألفان، وجملةُ ماله ثلاثة آلافٍ، فيصرف ألفان إلى من له الأربعة ألف، وألف إلى من له ألفان.
ووضوح ذلك مغنٍ عن بسطهِ. فإذا قسمنا المال على مبالغِ الديون، فظهر للمفلس غرماء آخرون بعد القسمة وفَضِّ الأموال على الحصص، وتبين أن الذين ظهروا كانوا على استحقاقهم حالة الحجر، ولكن كانوا غُيَّباً، فهؤلاء يخاصمون الذين قسمنا المال عليهم، وينزلون معهم منزلة ما لو كانوا موجودين حالة القسمة، حتى إذا كان المال ثلاثةَ آلافٍ، والغريمان الأولان على أربعة آلافٍ وألفين، فظهر غريمٌ ثالث بأربعة آلافٍ؛ فإنه يسترد من الألفين الذين سلمناهما إلى صاحب الأربعة ثمانمائة، ويسترد من صاحب الألفين من الألف أربعمائة، فيخلص له ألف ومائتان، ويبقى لصاحب الأربعة آلاف ألفٌ ومائتانِ، ويبقى في يد صاحب الألفين ستمائةٍ، فتعتدل القسمة على [الاحتياط] (2) والحصص.
3968- ولو كان عند القسمة غريمان لكل واحد منهما ألف، والمال ألف، فقسمناه بينهما نصفين، فأتلف أحد الغريمين حصته وأعسر، وظهر غريم ثالث بألف ولم يجد مرجعاً على الغريم الذي أتلف ما خصَّه وأعسر، فصادف الخمسمائة في يد الآخر، فبكم يحاصّه؟ اختلف أصحابنا في المسألة، فذهب الأكثرون إلى أنه يشاطره فيها، ويقول: تلك الحصة قد فاتت وأنا وأنت سيّان فيما بقي، وتقدُّمُ صورة القسمة لا يخلّفني عنك، وقدْرُ دَيْني كمقدار دينك، فيشترك في هذا الباقي على استواءٍ.
__________
(1) ر. المختصر: 2/222.
(2) كذا في (ت 2) ، وفي الأصل بغير نقط. ولعلها: " على الاحتصاص ".(6/387)
وذهب بعض أصحابنا إلى أنه لا يأخذ من هذه الخمسمائة إلا ثلثها؛ فإن الحصة الأخرى لو كانت باقية، لكان يأخذ منها ثلثها أيضاً، فلئن فاتت تلك الحصة وأعسر صاحبها، فلا ينبغي أن يرجع بما فات من حقه بسبب تلك الحصة الفائتة على الحصة الباقية، وكان حقه في أيديهما، ففواته بسبب فوات ما في يد أحدهما لا يرد جميع حقه إلى ما في يد الثاني.
وهذا الخلاف قريبُ المأخذ من القولين في أن أحد الوارثَيْن لو أقر بدَيْنٍ وأنكر الثاني، فهل ينحصر جميعُ الدين في حصة المقر؟ أم لا يلزمه [منه] (1) إلا ما كان يطالَب به لو أقر صاحبه معه؟ وفيه قولان سيأتي ذكرهما في كتاب الأقارير، إن شاء الله تعالى.
3969- ومما أطلقه الأصحاب (2) في قاعدة هذا الفصل أن قالوا: إذا اقتسم الغرماء مالَ المحجور، ثم ظهر غريم بدين قديم، فالقسمة السَّابقة لا تنقض، ولكن الغريم الظاهر يُحاصن كلَّ واحد بمقدار حقه، واعتلّوا بأن قالوا: الغريم لا حق له في أعيان الأموال، وإنما تعلقه بالمالية، وإذا (3) كان يرجع على كلٍّ بحصته، فلا معنى لنقض القسمة مع وصوله إلى ما هو حقه، من غير تقدير تعويض وإبدالٍ.
وهذا يظهر جداً إذا ردت الأمتعة إلى النقود وفُضّت على أقدار الديون، ولم يكن لواحد من الغرماء في محل الكلام عين مال، وإنما حقوقهم ديون مرسلة.
3970- ولو اقتسم الورثة أعيان التركة، ثم بدا دينٌ، فالأصح المنصوص عليه أن القسمة لا تنقض ببَدْو (4) الدَّيْن، بل يرجع الغريم على كل وارث بحصته إلى استيعاب حقه؛ فإن حقه يتعلق بمالية التركة، لا بأعيانها. وأثر القسمة في إفراز الأعيان. وإلا فالتركة في أيدي الورثة.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) (ت 2) : بعض الأصحاب.
(3) (ت 2) : إذا (بدون واو) .
(4) (بَدْو) : مصدر بدا بَدْواً: أي ظهر. (قاموس) .(6/388)
ولو اقتسم الورثة أعيان التركة، ثم ظهر وارث آخر، فالقسمة منقوضة؛ فإن الوارث يتعلق استحقاقه بالأعيان، فتصحيح الإفراز مع شيوع شركته في التركة محال.
وللشافعي قول آخر: إنه إذا بدا دين، تبيّنا انتقاض القسمة من أصلها؛ لأن التركة مرتهنة بالدين، والتصرف في المرتهن مردود، وسنذكر هذا في موضعه، إن شاء الله تعالى.
3971- ولو أجرى مُجرٍ (1) هذا القول في بُدوّ غريم للمحجور عليه بعد اقتسام الغرماء الأوَّلين، لم يكن بعيداً؛ إذ لا فرق بين بُدوّ دَيْنٍ في التركة، وبين ظهور غريم للمحجور عليه.
3972- ومما يتعلق بهذا الفصل أن المحجور عليه لو استفاد مالاً جديداً، والحجر مطّردٌ عليه، بأن قبل هبةً، أو وصية، أو احتش، أو احتطب، أو اشترى وصححنا شراءه على الأصح، فهذه الأملاك الحادثة في اطراد الحجر هل يتعدى إليها مقتضى الحجر، حتى لا ينفذ فيها تصرف المحجور عليه؟ أم هي خارجة عن موجَب الحجر؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنها خارجةٌ عن موجب الحجر؛ فإن الحجر تعلق بالأموال العتيدة الموجودة لدى الحجر، وكان المقصود منه قصر يد المفلس عن التصرّف فيها، فلا سبيل إلى تعدية الحجر عن تلك الأموال. والحجر من القاضي في أموال المفلس، كحجر الراهن على نفسه في العين المرهونة، ثم الرهن لا يتعدى موردَه. هذا وجه.
والوجه الثاني - أن الحجر يتعلق بالأموال المستجدة؛ فإن السلطان لم يقصد بحجره تخصيصَ مالٍ، وإنما قصد التسبب إلى إيصال الحقوق إلى مستحقها، وهذا القصدُ لا اختصاص له بالمال الموجود، فليكن المحجور عليه تحت الحجر فيما كان موجوداً، وفيما استجدّه واستحدثه.
3973- ومن الأصول اللائقة بما نحن فيه أَنَّ الحجر إذا انطلق -كما سنوضح سبب انطلاقه في آخر الفصل- وكان الغرماء على بقايا من ديونه، فلو حدث للمديون مالٌ بعد
__________
(1) ساقطة من (ت 2) .(6/389)
انطلاق الحجر، لم يعد محجوراً عليه بنفس حدوث المال، ولكن لو استدعى الغرماء إعادةَ الحجر بسبب المال الحادث، وكانت بقايا الديون زائدةً على المال الحادث، أو مساوية له - على التفصيل المقدم في أول الكتاب - فالقاضي يجيب إلى ذلك.
فلو تجددت له ديون مع تجدد الأموال، لم يختص الغرماء الذين حدثت حقوقهم [بالمال الحادث، بل اشترك فيه القدماء من الغرماء الذين حدثت حقوقهم] (1) .
ولو بدا للمحجور عليه مال قديم، اختص بالتضارب فيه الغرماء القدماء، ولم يشاركهم فيه من حدث حقه.
3974- والضَّابط فيه أن المال الحادث يشترك فيه الغريم القديم والحادث، والمال القديم الذي كان في الحجر الأوَّل يختص به الأولون، ولا يشارك فيه من حدث حقه بعد انطلاق الحجر الأوّل. ولو انطلق الحجر الأول، (2 وحدث بعده مال، ولا حجر بعدُ 2) ، وحدث بعد حدوث المال دين، ثم ضرب الحجر ثانياً، اشترك القدماء، ومن حدث دينه، وليس للقدماء أن يقولوا: لا يشركنا في المال الحادث من حدث دينه بعد حدوث المال؛ فإن ذلك الدين إذا حدث قبل عَوْد الحجر، فلا نظر إلى تقدم المال عليه إذا اجتمع حدوث المال والدين في انطلاق الحجر. وهذا واضحٌ لا يخفى على الفقيه، ولا يضرّ التنصيص عليه.
3975- ومما يليق بمضمون الفصل أَنَّ الديون التي تتجدد في زمان الحجر تنقسم: فمنها ما يتجدد في المصلحة المتعلقة بمال المفلس كالمؤن التي تلزم: [من] (3) أجرة الدلال أو الكيّال أو غيرهما، فما كان كذلك، فهو متقدّم على حقوق الغرماء، من غير مضاربة؛ فإنا لو لم نقدم هذه الديون، لامتنع التصرف في مال المفلس على مقتضى الصَّلاح، ولرغب العمَلة عن العمل الذي لا بد منه.
وأما ما يتجدد من دَيْن في ماله، ولا تعلق له بصلاح الأمر، وحاجة الوقت، فلا
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(2) ما بين القوسين ساقط من (ت 2) .
(3) مزيدة من (ت 2) .(6/390)
تعلق لمستحق هذا النوع من الدين بمال المحجور عليه، فإن ذلك المال في حق الغرماء الذين جرى الحجر باستدعائهم بمثابة المرهون في حق المرتهن، فلو أتلف المفلس مالاً، تعلق بدلُه بذمتهِ، ولم يزاحم مستحقُّ الدين الغرماء في الأموال.
وكذلك القول في جملة الديون التي لا يتعلق لزومها بالمصلحة والحاجة.
فهذا تمامُ القول في ذلك.
فصل
قال: "وإن أراد الحاكم بيع متاعه أو رهنه، أحضره ... إلى آخره" (1) .
3976- إذا استمر الحجر، اشتغل الحاكم على القُرب بتنجيز الأمر حتى لا يطول أمد الحجر من غير حاجة، وذلك بأن يبتدر بيعَ الأمتعة ويَنْصِب في ذلك كافياً أميناً إن كان لا يتعاطاه بنفسه، ولا ينبغي أن يُفْرِط في العجلة، فتُشتَرَى الأمتعة ببخس، ولا يتأنَّى بعد حصول الاحتياط اللائق بالحال.
ثم قال: ينبغي أن يحضر المحجورُ عليه مكانَ البيع؛ فإن ذلك أنفى للتهمة، وقد يعرف صاحب المتاع مما يُروِّج به متاعَه ما لا يعرفه غيره، وهذا استحباب، وذكرٌ للأَوْلى.
ثم قال: ينبغي أن يبدأ ببيع الحيوانات؛ فإنها عرضةٌ للتلف، وفي إبقائها تكثيرُ المؤن. ثم يبيع ما يتسارع إليه الفساد، ويؤخر بيعَ العقار. ويبيعُ كل شيء في سوقه، فإن ذلك أرْوج لها، وأحرى بأن يَنْفَد (2) العَرْض (3) فيها.
3977- ثم إن رضي الغرماء، جَمْعَ أثمان السلع، حتى إذا انتجزت، فرقها حينئذ على أقدار الحقوق. وإن أبَوْا أن يصبروا، ورأَوْا أن يفرّق عليهم كلَّ مقدار ينتجز ويَحصُل، أجيبوا إلى ذلك. وإن رضوا بالجمع، جمع القاضي عند عدل. ولا يبعدُ
__________
(1) ر. المختصر: 2/222.
(2) (ت 2) : ينفذ (بالذال) وفي الأصل غير منقوطة. ثم، نَفِدَ من باب تعب (مصباح) .
(3) العَرْض: المتاع. والمعنى أن كل متاعٍ يباع في سوقه، فهو أروج له.(6/391)
في مسلك الرأي أن يُقرِضَ ما يتحصل مَليّاً وفيّاً؛ فإن أعيان الأموال قد تضيع، والدين في ذمة المليء الوفي أقربُ إلى الثبوت. وقد ذكرنا في تصرف القُوَّام أنهم لو شاؤوا (1) أن يُقرضوا مالَ الطفل على موجَب المصلحة، فلا معترضَ عليه.
3978- ثم قال صاحب التقريب: إذا أراد القاضي أن يبتدىء قسمةَ المال، لم يُحوج الغرماء أن يقيموا بيِّنةً على أنه لا غريمَ للمحجور غيرُنا. وقد نقول: لا يقسم الحاكم التركة بين ورثة المتوفَّى، حتى تقوم بينة من أقوام ذوي خبرة بباطن أمر المتوفى أنهم لا يعرفون [له] (2) على طول المخالطة والخبرة وارثاً سوى الحاضرين. وسيأتي ذلك في كتاب الدعاوى، إن شاء الله عز وجل.
قال صاحب التقريب: إذا حجر القاضي، وشَهَر حجرَه، وأشاعه في الناس، كفى ذلك في حصول الغلبة على الظن بأنه لا غريم له سوى هؤلاء؛ إذ لو كانوا لظهروا. ولما حجر عمر رضي الله عنه على الجهني، اكتفى بأن شَهَر الحجرَ بذكره إياه في أثناء الخطبة. وما ذكره صاحب التقريب حسن. ولكن لا فرق عندنا بين القسمة على الغرماء، والقسمة على الورثة، فحيث نقول: لا بد من إقامة الشهادة على أن لا وارث، فلا بد من مثله في القسمة على الغرماء.
3979- وممّا يتعلق بتمام الفصل أن القاضي إذا قسم ما وجد من ماله على غرمائه، واعترف الغرماء بأن لا مال له سوى المقسوم علينا، فهل يُحكَم بانطلاق الحجر عنه، أم لا بد أن يتولى القاضي إطلاقَه؟ فعلى وجهين في طريقة العراق: أحدهما - أنه لا حاجة إلى إطلاقه؛ فإن موجَب الحجر قد زال. والثاني - أنه لا بد من الإطلاق؛ فإن ذلك مجتهَدٌ فيه، وقد تمس الحاجة إلى مزيد بحث، فليتوقف الأمر على إطلاق القاضي، حسماً للمادّة، وقطعاً للتهمة، وكما لا يثبت الحجر ابتداء من غير ضرب، ينبغي ألا ينحلّ انتهاءً من غير رفعٍ، وليس كحجر الجنون والصبا، على ما سيأتي ذكرهما في كتاب الحجر، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) (ت 2) : رأوا.
(2) ساقطة من الأصل.(6/392)
3980- ثم المنصوبُ الذي يتولى بيع مال المفلس بإذن الحاكم ليس له أن يسلّم مبيعاً من ماله قبل توفير الثمن عليه. وقد ذكرنا في أن البداية في التسليم بالبائع أو المشتري أقوالاً في كتابِ البيع، ولا يجري منها في الذي يبيع مال المفلس إلا قولان: أحدهما - أن المشتري منه هو المجبر على تسليم الثمن. والقول الثاني - أنهما يجبران على تسليم المبيع والثمن [معاً] (1) ولا يخرج قولنا: إن البائع يجبر على البداية؛ من جهة أنه يجب على النائب رعاية حق من يتصرف له. هذا هو اللائق بمنصب النائب الأمين. ولا يخرج أيضاًً قولنا: لا يجبران؛ فإن الحاجة ماسة إلى تنجيز الأمر، حتى لا يطول أمد الحجر.
3981- وقد يقع الفرض في صورة لا يخرج فيها إلا قولٌ واحد. وهو أن يكون البائع نائباً كما ذكرناه، ويكون المشتري وكيلاً أيضاً، فلا يخرجُ في هذه الصورة [قولُ] (2) إجبار المشتري على البداية، وينحصر الجواب في أنهما يجبران معاً، حتى يتوفر الغرضان، ويعتدل الجانبان.
وما ذكرناه في [المتصرف] (3) في مال المحجور يجري في كُلّ وكيلٍ.
3982- ولو باع الوكيل سلعةَ مُوكِّله، ونَهَيْنا عن البداية بالتسليم، كما تقرر، فلو ابتدر وسلم المبيع، فقد تعدّى وأساء، ولو وُفّر (4) الثمن عليه، خرج عن حكم العهدة، إذا كان مأذوناً له في قبض الثمن، ولا نقول: تعدّيه في البداية يُديم عليه حكمَ العدوان في الثمن الذي توفر عليه.
ولو سلم المبيع، وعسُر قبض الثمن، وفات الأمر، فيضمن الوكيل. وفيما يضمنه وجهان ذكرهما صاحبُ التقريب: أحدهما - أنه يضمن الثمن؛ فإنه فوّت متعلّق الثمن، وكان كالشاهد الزور إذا أوقعت شهادته حيلولة، ثم رجع عن شهادته. وهذا
__________
(1) في الأصل: جميعاً.
(2) في الأصل: إلا قول. والمثبت من (ت 2) .
(3) في الأصل: المصرف.
(4) (ت 2) : توفر.(6/393)
القائل يعضد مذهبه بأن تغريم الوكيل قيمة المبيع للموكِّل بالبيع بعيد، والمبيع ليس ملكاَّ بَعدَ البيع للمُوكِّل بالبيع. وليس كالمرهون الذي يضمن متلفه قيمتَه للمرتهن؛ فإن حق الوثيقة يتعدى إلى القيمة.
والوجه الثاني: أنه يضمن قيمة المبيع، من جهة أنه التزام بالخوض في البيع ألا يسلمه، ولا يثبت حق موكله فيه إلا بشرط، فإذا لم يف بالشرط، لزمته القيمة؛ نظراً إلى ما قبل البيع. وإن كان المبيع عند التسليم خارجاً عن ملك الموكل.
3983- وهذا الضمان على الجملة بدعٌ خارج عن قانون الضمان؛ فإنه لم يلتزم الثمنَ بجهةٍ، ولما سلم المبيع، لم يجر عدوانُه في ملك الموكِّل، وحق الحبس لا يُضمن بالقيمة، فالقياس الكلّي نفيُ الضمان، والاقتصار على تأثيم الوكيل إن عمد؛ فإن المشتري إذا قبض المبيع، وأتلفه، فقد وقع القبض مستحقاً. ولكن اتفق الأصحاب على الضمان. وهو من آثار عهدة العقد، فالأوجه إذاً ألا يلزم الوكيلَ إلا الأقلُّ؛ فإن كان الثمن أقلَّ من القيمة، لم (1) يلزمه إلا الثمن. وإن كانت القيمة أقل، فقد يقول الوكيل: احسبوني غاصب عين ومتلفها.
وإلزامه الثمنَ، والقيمة أقل، له وجهٌ على بعد، وأما إلزامه القيمة والثمن أقلُّ، فلا وجه له.
فصل
قال: "وينبغي أن يُشهد أنه وقف مالَه ... إلى آخره" (2) .
3984- إذا حجر على المفلس الحاكمُ، فالأوْلى أن يُشهد على الحجر (3 وليس ذلك بواجب، ولكن الأولى ما ذكرناه. والغرض منه شَهْرُ الحجر 3) ، ونشر الأمر، والتأكيدُ بالإشهاد، حتى إذا ظهر ذلك، لم يعامَل المحجور اغتراراً بما عُهد له من مال.
3985- ثم ذكر الشافعي تفصيلَ القول فيما يمتنع من تصرفات المحجور.
__________
(1) عبارة (ت 2) : بَعُدَ أن يلزمه أكثر من الثمن.
(2) ر. المختصر: 2/222.
(3) ساقط من (ت 2) ما بين القوسين.(6/394)
والقول الجامع أن تصرفاته تنقسم إلى ما يتعلق بعين ماله، وإلى ما لا يتعلق (1 بها: فأما ما يتعلق 1) بعين ماله، فلا ينفذ في الحال انفرادُه بالتصرفات، وهذا أثر الحجر، ولو كان من ماله عبيدٌ، فأعتقهم، لم ينتجز نفوذُ العتق فيهم وفاقاً، وإذا مست الحاجةُ إلى بيعهم في الديون، بعناهم، وصرفنا أثمانهم إلى الغرماء. وإن جزم المفلسُ إعتاقَهم.
3986- ولو أعتق الراهن العبدَ المرهون، فقد اختلف القولُ في نفوذ عتقهِ، فقد نقول: في قولٍ: ينفذ عتقه، وإن كان معسراً. وهذا مما يجب التنبيه له، والوقوفُ عنده؛ فإنَّ الفقيه قد يرى الحجر بالرّهن المنبرم بالإقباض آكد. والتحقيق في هذا أن القاضي يحجر على تصرفه، وليس يرهن ماله، فأثر حجره منعه من التصرف. والرهن متضمنه تعليق وثيقة بعين، فتخيل قائلون أن ملك الراهن أقوى من حق وثيقة المرتهن.
ولكن إذا أعتق المفلس عبداً، واتفق تأدية الديون، بأن وجدنا راغبين اشتَرَوْا الأمتعةَ بأكثرَ من قيمتها، وفضَلَ ذلك العبدُ، فهل نحكمُ بنفوذ العتق فيه، وقد برئت الذمة؟ فعلى قولين، وتوجيههما: أن العتق من المفلس مردود أم موقوف؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه مردود؛ فإن الحجر تضمن إبطالَ عباراته في التصرفات المتعلّقة بالمال، فلغا ما قال.
والقول الثاني - العتق موقوف؛ فإن القاضي لم يلحق المحجور عليه المفلسَ بالناقص بصباه أو سفهه، وإنما راعى حق الغرماء، فالمفلس تامٌّ بصفته، والعتق قابل [للوقف] (2) ، فانتظم منه انتظار العاقبة. ثم إذا فضل ذلك العبدُ، تبيّنا نفوذَ العتق على هذا القول من وقت اللفظ. هذا في إعتاقه.
3987- ولو كاتب عبداً لم تنجّز الكتابة، حتى نقدرها مانعة من صرف هذا العبد إلى الدين. ولكن لو فضل هذا العبدُ عن الديون، كما صورناه في العتق، ففي نفوذ الكتابة على مذهب التبيّن القولان.
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ت 2) .
(2) في الأصل: التوقف.(6/395)
ولو باع شيئاً من أمواله، لم يكن بيعه مانعاً للقاضي من تصرفه (1) اللائق بالحال.
ولكن لو فضل ذلك المبيع، ففي نفوذ البيع على التبيّن قولان.
3988- وكان شيخي يرتب هذه المسائل، ويجعل العتق أولى بالنفوذ، من قِبَل قبوله التعليق بالأغرار (2) ، والوقفُ دون التصريح بالتعليق. والكتابة تلي العتقَ، وتستأخر عنه لما فيها من المعاوضة. والبيع يترتب على الكتابة، وهو أولى بأن لا ينفذ؛ لأنه معاوضة محضة عرية عن قبول التعليق بالأغرار، والهبة في هذا الترتيب في درجة البيع، فإنها لا تُعلّق، كما أن البيع لا يعلّق.
فهذا بيان ترتيب هذه المسائل.
3989- فإن رأينا إلغاء هذه التصرفات وإبطالَها في الحال والمآل، تصرفنا في المبيع، والمعتَق والمكاتَب تصرُّفَنَا في سائر الأموال. وإن رأينا إجراءها على الوقف، وأمكننا تأدية الديون دون التصرف في محال تصرفات المفلس، أخرنا محالَّ تصرفه، وإن انتهت الحاجةُ إليها، ابتدرنا ما وهبه، وقدمنا التصرف فيه على التصرف في المبيع؛ فإن البيع ألزم من الهبة، وأبعد من النقض، ثم نتصرف بعد الموهوب في المبيع، ثم في المكاتَب، ويؤخر المعتق. وهذا الذي نذكره على قول الوقف استحقاقٌ، وترتيبه واجب، وليس على مذهب الأوْلى والمستحب، وكل تصرف كان أقوى، فإنا نؤخر محلَّه جهدنا.
3990- ولو لم نجد زبوناً يشتري من أمتعة المحجور إلا العبد الذي أعتقه، والتفريع على قول الوقف، فقال الغرماء: حاجتنا ماسة في الحال إلى شيء، فلا
__________
(1) كأن بالعبارة نوعاً من الغموض. فالمعنى: أن بيع المفلس شيئاًً من ماله - يكون موقوفاً، ولا يمنع القاضي من تصرفه في أمواله بما يليق بحال مصلحة الغرماء.
(2) كذا في النسختين، وعند الرافعي حكاية هذا الكلام عن الشيخ أبي محمد بلفظ: " العتق أولى بالنفوذ لقبوله الوقف، وتعلقه بالإقرار، وتليه الكتابة.. إلخ " (ر. فتح العزيز: 10/205) .
وكأني بها مصحفة عند الرافعي، وعندنا هنا أقرب للصواب، فالمعنى أن العتق يقبل التعليق بالأغرار (أي ما ينتظر وَيُتَوقَّع) والوقف دون التعليق، فهو أكثر قبولاً، أي صحة.(6/396)
تؤخروا حقّنا، ونَجِّزوا بيعَ هذا العبد، فهذا فيه احتمالٌ ظاهر؛ فإن تأخير حقهم بعيدٌ، وإبطالُ الإعتاق لتوقفٍ (1) -مع الاشتغال والتشمير- فيه (2) بعيدٌ (3) أيضاًً؛ فلينظر الناظر.
وغالب الظن أن الغرماء يجابون في الصورة التي ذكرناها.
فهذا بيان تصرفات المفلس في أعيان أمواله.
3991- فأما تصرفه الذي لا يتعلق بعين ماله، فنذكر ما قد يخفى، ونترك ما لا خفاء به، كنفوذ طلاقه وخُلعه، وعفوه عن القصاص، واستلحاق النسب، ونفيه باللعان، فلا خفاء بنفوذ هذه الأشياء.
3992- والذي يُعتنى به أنه لو نكح امرأةً، صح. وإن كان النكاح يُلزمه النفقة، على ما سنعيد هذا في الفصل المشتمل على بيان النفقات، إن شاء الله تعالى.
3993- ولا شكّ أنه لو اتّهب، أو قبل الوصيّة، صح ذلك منه؛ فإنّ ما يأتي به من هذه الأجناس اكتساب أموالٍ، وليس تصرفاً في المال الذي اشتمل الحجرُ عليه.
3994- ولو اشترى المفلس، فالمذهب الأصح أن شراءه صحيحٌ، إذا كان الثمن وارداً على الذمة؛ فإنه ليس محجوراً عليه في لفظه وذمته. وذكر بعض أصحابنا قولاً في إبطال شرائه، توجيهه يظهر بالتفريع.
فإن قلنا: لا يصح الشراء، فلا كلام. وإن قلنا: يصح الشراء، فلا يؤدَّى الثمنُ
__________
(1) كذا. وحكى الرافعي عن الإمام هذه المسألة بصيغة أخرى ليس فيها هذا اللفظ، قال: " قال الإمام: فلو لم يوجد راغب في أموال المفلس إلا في العبد المعتق، وقال الغرماء: بيعوه، ونجزوا حقنا، ففيه احتمال، وغالب الظن أنهم يجابون " ا. هـ (ر. الشرح الكبير بهامش المجموع: 10/205) .
(2) فيه: أي الإعتاق. (ولعلها: المتوقف فيه) .
(3) في الأصل، كما في (ت 2) : بعدٌ. والمثبت تقدير منا. ومعنى العبارة -كما هو واضح من السياق- إن تأخير حقوقهم بعيد، وإبطال الإعتاق الموقوف -مع تشميرنا واجتهادنا في البحث عن المشترين- بعيدٌ أيضاً. والله أعلم. والعبارة على أي حال فيها نوع قلق.(6/397)
من المال الذي اشتمل الحجر عليه. ولكن هذا يخرّج عندنا على الخلاف المقدّم في أن المال الذي يحدث للمحجور هل يشتمل عليه الحجر؟ فإن قلنا: يشتمل الحجر على ما يستحدثه، فهذا القياس يقتضي أن يصرف ما اشتراه إلى ديونه، ويقال لمعامله والبائع منه: أسأْتَ إذ عاملته (1) ، فاكتف بذمته، وارتقب يُسره في ثاني الحال. هذا هو القياس، وفيه تحقيق (2) .
3995- وحاصل المذهب المأخوذ من مرامز كلام الأصحاب وجهان: أحدهما - ما ذكرناه، وهو أن الغرماء يتضاربون في المبيع، والبائع محالٌ على ذمة المفلس، يطالبه بالثمن إذا انطلق عنه الحجر. وتعليله ما ذكرناه.
والوجه الثاني - أن البائع لا يضارب الغرماء في الأموال التي انعقد الحجر عليها؛ فإن دينه جديد، ولكنه يضارب الغرماء في ثمن المبيع المستفاد منه؛ فإن فى دينه يثبت مع ثبوت الملك في المبيع، وهو عوض المبيع. فلا أقل من أن يشارك الغرماءَ في العين المبيعة.
3996- وممَّا يتعلق بتمام البيان في هذا الفصل القولُ في أن البائع لو أراد الرجوعَ في العين [المبيعة] (3) على الأصل الممهد في إثبات ذلك للبائع، إذا وجد عين ما باعه في يد المشتري. ونحن نقدم على ذلك مسألة، ذكرها الشيخ في شرح التلخيص: وهي أَنَّ العبد القِنَّ لو اشترى بغير إذن سيده شيئاًً، فالمذهب أن البيع فاسد، ومن أصحابنا من حكم بصحة البيع. وقد ذكرنا ذلك في كتاب البيع.
فإن فرعنا على صحة البيع، فلا شكّ أنه يتعذر على البائع استيفاء الثمن؛ فإن متعلقه الذمة على الإطلاق، وكل دين تعلق بالذمة، فالعبد لا يطالَب به في رقِّه، ولكن إذا عَتَق اتُّبع به.
فإذا علم البائع ذلك، وكان الثمن حالاًّ، ولم يكن عالماً بكونه عبداً حالة العقد،
__________
(1) (ت 2) : بايعته.
(2) (ت 2) : تحيف.
(3) في الأصل: المبيع.(6/398)
فله حق فسخ البيع، والرجوع إلى المبيع. قطع به الشيخ، وحكى فيه وفاق الأصحاب.
ولو كان عالماً بحقيقة رقِّه عند البيع، ففي ثبوت الخيار وجهان: أحدهما - أنه يثبت الخيار. وهو الذي حكاه الشيخ في الشرح. والثاني - أنه لا خيار له، حكاه غيره، ووجهه أنه أقدم على معاملته مع العلم بحقيقة صفته، فلا يثبت الخيار لمن يكون مطلعاً على سببه عند العقد.
فإذا ثبتت هذه المقدمة، عدنا إلى غرضنا، فنقول:
3997- إذا باع شيئاًً من المفلس المحجور عليه، وكان عالماً بحاله عند العقد، فظاهرُ المذهب أنه لا خيار له، بخلاف العبد؛ فإن انطلاق الحجر عنه مأمولٌ قريب، غيرُ بعيد، بخلاف العتق؛ فإن توقعه (1) بعيد، وظاهرُ الرق الاستمرار، فإذا انضم ذلك إلى علمه بفلسه، امتنع ثبوت الخيار.
وفي المسألة وجه آخر بعيد: أن الخيار يثبت كما ذكرناه في العبد إذا اشترى بغير إذن مولاه، ووجه الجمع بيّنٌ واضح.
ولو باع من المفلس ظانّاً أنه مطلق في تصرفه، فإذا تبيّن له فلسه، واطرادُ الحجر عليه، فالظاهر أنه يثبت له حق الفسخ؛ لاطلاعه على السّبب الذي تعذر به استيفاء الثمن.
ومن أصحابنا من لم يُثبت الخيارَ في هذه الصورة؛ إذ لا خلاف أنه لو باع من معسرٍ غيرِ محجور عليه، لم يكن له أن يفسخ، إذا اطلع على إعساره، حتى يُحجر عليه. والحجر الواقع في مسألتنا لم يضرب لأجل البائع، بل كان المحجور مطلقاً في حق البيع الذي جرى؛ فإنه استبد بنفسه فيه، فنفذناه دون مراجعة الوالي والغرماء، فكان بيعه مستثنى عن حكم الحجر، وهو بمثابة ما لو باع شيئاًً ممن ظنه موسراً، وسلمه إليه، ثم تبين أنه معسر؛ فإنه لا يفسخ البيع من غير حجر على المشتري.
3998- ومما يتعلق بتصرفات المفلس، أنه لو أقر في حال قيام الحجر بدين في
__________
(1) (ت 2) : موقعه.(6/399)
ذمته، فالمقَر له لا يضارب الغرماء الذين ثبتت ديونهم إذا لم يصدقوا المفلسَ. ولكن الدين يثبت في ذمة المفلس للمقر له، يطالبه به إذا انطلق الحجر عنه، واستفاد مالاً. وهذا متفق عليه؛ فإن الإقرار ليس عقداً أنشأه.
وإذا كنا نقول: الظاهر صحة شرائه لوروده على الذمة، وإن كان الشراء عقْدَ عهدة على الجملة، فالإقرار الذي هو إجبار محض يُلزم ذمتَه المقَرَّ به لا محالة. من غير تخيل خلاف، ولكن لا يضارب المقَرُّ له الغرماءَ في الأموال التي جرى الحجر فيها.
3999- ولو أقر المفلس بأن عيناً من الأعيان - التي اطرد الحجر عليها ظاهراً وكانت في يده مغصوبةٌ (1) ، وهي لفلان، فقد نص الشافعي في كتبه القديمة على قولين في إقراره بالعين: أحدهما - أنه لا ينفذ في الحال، وإن مسّت الحاجة إلى صرفها إلى ديونه، صرفت إليها. والثاني - أن إقراره ينفذ في العين، وهي مصروفة إلى المقر له بها؛ فإن عبارة المفلس صحيحة، ولا تهمة في قوله.
فقال الأئمة: يجب طرد القولين في الإقرار بالدَّين المرسل: أحدهما - أن المقر له لا يضارب الغرماء بالدين. والثاني - أنه يضارب تخريجاً على قبول إقراره بالعين ناجزاً. وهذا القول يتجه في القياس. وفي الجملة لا فرق بين الدين والعين.
والمريض وإن كان محجوراً عليه في الزائد على الثلث، فقراره بالدين المستغرِق مقبول. وكذلك لو أقر بعين مالٍ، قُبل إقراره.
4000- فإن قيل: قطعتم القول برد عتقه وبيعه في الحال، وذكرتم القولين في نفوذهما لو سلم محالهما عن الصرف إلى الديون على مذهب الوقف، وذكرتم قولاً في تنفيذ الإقرار بالعين والدين المرسل ناجزاً، وإن أضر ذلك بالغرماء. قلنا: هو كذلك؛ فإن الحجر مقصوده منع المحجور عليه من التصرف؛ فتنفيذ تصرفه فيما جرى الحجر عليه يناقض مقصود الحجر، والحجر لم يسلبه العبارة عن أمرٍ مضى، وليس هو إنشاء تصرف في الحال (2) ؛ فكان ذلك فرقاً واضحاً.
__________
(1) خبر (أن) في قوله: بأن عيناً.
(2) (ت 2) : المال.(6/400)
وإذا لم ينفذ إقراره بالعين في الحال، ولكن سَلِمت العين عن الصرف إلى الديون، وانطلق الحجر، فلا خلاف في مؤاخذة المحجور بإقراره في تلك العين بعد ارتفاع الحجر، ولا يخرّج على القولين المذكورين في البيع والعتق وغيرهما؛ فإنَّ مذهب الوقف في العقود على التردد مشهور، والإقرار يحتمل مثل ذلك، ولو قال إنسان: إن فلاناً أعتق، فرُدّ قولُه فيه، فلو اشتراه، كان مؤاخذاً بموجب قوله السابق.
فهذا منتهى المراد في تصرفات المفلس في غرض الفصل.
فصل
قال: " وذهب بعض المفتين إلى أن ديون المفلس تَحِلُّ بالحجر ... إلى آخره " (1) .
4001- لا خلاف أن من مات وعليه ديون مؤجلة، حلت الديونُ بموته، وهذا متفق عليه، وإن كان قد يظهر إضرار ذلك بالورثة؛ فإن الدين المؤجل إلى عشرين سنة لا يساوي شيئاًً به مبالاة؛ وإذا حل الدين، فقد تضاعفت المالية في حق مستحق الدين، ولكن الأمر على ما وصفناه.
4002- ولو جن من عليه ديون مؤجلة، ففي حلول الدين وقد استمر الجنون قولان: أصحهما - أنها لا تَحِلُّ؛ فإن حلولها على الميت غير منقاس. على أن الممكن أن الآجال مَهْلٌ وفَسْحٌ. والغرض منها طلبٌ لمحل الدين في مدة الأجل؛ وذلك مأيوسٌ منه في حق المتوفَّى؛ فإن الموت حسم إمكان العمل، واستأصل أصلَ الأجل؛ فلا يبعد أن يقطع مدّة الأجل، وهذا لا يتحقق في طريان الجنون؛ فإن الآمال مبسوطة، ما بقيت الحياة.
4003- وكان شيخي أبو محمد يذكر في طريان الجنون القولين، كما ذكرناهما.
__________
(1) ر. المختصر: 2/222.(6/401)
ثم كان يذكر في طريان الحجر بسبب الفلس قولين مرتبين على القولين في الجنون، ويجعل الجنون أولى بمضاهاة [الموتِ] (1) في اقتضاء الحلول من الحجر؛ من قِبل أن المجنون لا استقلال له، ولكن يخلفه قيِّمه ووليّه، كما يخلف الوارثُ الموروثَ، والمفلس ليس خارجاً عن الاستقلال في التصرفات المختصة به.
وهذا فيه نظر عندي؛ من قبل أن قيّم المجنون لو أراد أن يتصرف له تصرفاً مشتملاً على ثمن مؤجل، لم يمتنع ذلك ابتداءً؛ وإذا كان لا يمتنع ما ذكرناه ابتداء، فاقتضاؤه قطعَ الأجل محالٌ لا اتّجاه له. والوجه عندي تخصيص القولين بالمفلس المحجور، نظراً لمستحق الدين، والحجر مضروبٌ لمصلحة أصحاب الديون.
وبالجملة لا وجه للمصير إلى حلول الأجل في غير الموت. والمعتمد في الموت الاتباع كما ذكرناه. ولا يستدّ فيه معنى على السبر.
ونحن الآن نفرع على القولين في حلول الأجل وبقائه، فنقول:
4004- إن حكمنا بأن الأجل لا ينقطع، والدين لا يحل، فنتكلم في أمرين: أحدهما - المضاربة بالدين المؤجل. والثاني - فسخ البيع.
فأمَّا الكلام في فسخ البيع، فالمذهبُ الأصح أن من باع شيئاًً بثمن مؤجل، وفُلّس المشتري بسبب ديونٍ حالة، فليس للبائع، والثمن مؤجل أن يفسخ البيع، ويرجع إلى عين (2) المبيع؛ فإن الأجل يمنع حقَّ الطلب، والفسخُ مترتب على تعذر الثمن المطلوب.
وذكر العراقيون، وغيرُهم وجه آخر، وقالوا: نقرر المبيع، ولا نصرفه إلى الديون الحالّة، وننظر ما يكون، فإن حل الأجل والحجر قائم بعدُ، فللبائع حقُّ الفسخ، وإن كان الحجر قد انطلق، وأمكن استيفاء الثمن كاملاً، استوفاه البائع، وإن كان معسراً، فقد ثبت حقُّ الفسخ، كما سنصفه في التفريع.
وهذا القائل يحتج بأصل هذا الوجه بأن حق البائع متعلق بالمبيع، تعلقَ حق
__________
(1) في الأصل: الجنون.
(2) (ت 2) : نفس.(6/402)
المرتهن بالمرهون. ثم لو فرض دَيْنٌ مؤجَّل موثَّق برهن، ثم جرى الحجر، فاختصاصُ المرتهن بالرهن قائم مع استمرارِ الأجل، فليكن الأمر كذلك في الثمن المؤجل.
وهذا مزيف عند المحققين؛ فإن اختصاص المرتهن كان ثابتاً مقدَّماً على جريان الحجر، فدام ذلك الحق. ومن باع شيئاًً مؤجَّلاً، فمقتضى بيعِه تسليمُ المبيع، وتركُ التعلّق به، فإثبات الاختصاص بالمبيع مع دوام الأجل بعيد.
وهذا الوجه على بعده مشهور؛ فلا بد من تفصيله بالتفريع، فنقول:
إذا حل الأجل والحجر قائم، فحق الفسخ يثبت كما ذكرناه، وإن انطلق الحجر، وحل الأجل والمشتري معسر، فالظاهر على هذا الوجه أن يفسخ البيع من غير حاجةٍ إلى إعادة الحجر؛ فإنّ وَقْفَنا [المبيع] (1) وعزلَنا إياه على انتظار حلول الأجل من أحكام الحجر، فكأنّ حكمَ الحجر قائم باقٍ في حق المبيع.
ومن أئمتنا من قال: إذا حل الأجل والعسر دائم، أعدنا الحجرَ، ليفسخ البائع.
وهذا بعيد غيرُ سديد.
4005- ومما يتصل ببيان هذه القاعدة أنا إذا كنّا لا نحكم بحلول الأجل؛ جرياً
على الصحيح، فلو لم يكن على المشتري إلا أثمانٌ مؤجلة، ولم يكن عليه دين حال،
فلا يثبت لأصحاب الأثمان المؤجلة طلب الحجر عليه، وإن فرعنا على الوجه البعيد
في عزل المبيع للبائع بالثمن المؤجل؛ فإنَّ من لا يملك طلب الثمن كيف يملك طلب
الحجر؟ والتفريع على بقاء الأجل. وإن رأينا عزلَ المبيع [وانتظارَ] (2) حلول الأجل،
فسببه ألا يصرف المبيع إلى الديون الحالة، فيخيب البائع. وهذا واضح لا إشكال
فيه.
وما ذكرناه تمام الغرض في حكم فسخ البيع على الوجه الذي فرعنا عليه.
4006- فأما القول في المضاربة بالدين المؤجل، فقد قطع الأصحاب كافة بأن صاحب الدين المؤجل لا يعزل له مقدارُ دينه؛ فإن أصحاب الديون الحالة يختصون
__________
(1) في الأصل: البيع.
(2) في الأصل: غير مقروءة. وأثبتناها من (ت 2) .(6/403)
بالتضارب في الأموال العتيدة التي جرى الحجر فيها، واطرد عليها، والوجه الذي حكيناه في عزل المبيع سببه على بعده تشبيه (1) المبيع بالمرهون. وهذا المعنى لا ينقدح في مؤجل لا متعلق له بعين.
4007- وكل ما ذكرناه تفريع على أن الأجل لا يَحِلّ، فأمّا إذا قلنا: بحلول الأجلِ، فأصحابُ الديون المؤجَّلة يضاربون أصحاب الديون الحالة. وهذه فائدة الحلول.
ولا يشك فقيه في أن من مات، وكانت عليه ديون حالة، وأخرى مؤجلة، ووقع الحكم بالحلول بسبب الموت، استوى في التضارب من كان دينه مؤجلاً، ومن كان دينه حالاً.
ولو كان في يد المفلس مبيع، وقد وقع [الحكم] (2) بحلول الثمن، فالمذهب أن البائع يملك فسخ البيع بسبب حلول الثمن مع الحجر.
ومن أصحابنا من قال: وإن حكمنا بحلول الثمن، فلا يثبت حق الفسخ، والسَّبب فيه أن البيع مع الأجل مبناه على انقطاع حق البائع عن المبيع بالكلية، ولهذا لا يثبت للبائع حق حبس المبيع إذا كان الثمن مؤجلاً، فلا ينبغي أن يتغير البيع (3) عن وضعه، وينقلب البائع إلى التعلق بالمبيع، وهذا ضعيف لا أصل له؛ فإن الثمن إذا كان حالاًّ، فحق الحبس يبطل بتسليم المبيع إلى المشتري طوعاً قبل استيفاء الثمن، ثم يعود تعلّق البائع بالمبيع بسبب طريان الفلس؛ فالوجه إذاً القطع بأنه يثبت للبائع حق الحبس (4) إذا فرّعنا على اقتضاء الحجر حلولَ الثمن.
4008- وذكر بعض أصحابنا وجهاً بعيداً في التفريع على وجه الحلول، فقال: فائدة الحكم بالحلول ألا يخيب من كان حقه مؤجّلاً. وإذا كان كذلك، اكتفينا بأن
__________
(1) (ت 2) : تشبه.
(2) في الأصل تردّدَ الناسخ بين الحجر والحكم، وصوب واحدة منهما بالأخرى، فلم نعلم اختياره. والمثبت من (ت 2) . وهو أوفق للسياق.
(3) (ت 2) : المبيع.
(4) (ت 2) : الفسخ.(6/404)
نعزل حقَّ من كان دينه مؤجّلاً على ما يقتضي حسابُ التضارُب، ثم ننتظر حلول الأجل، فكأن الأجلَ باقٍ في حق المفلسِ، وإن سقط أثره في حقوق الغرماء، الذين هم أصحاب الديون الحالة.
وهذا مزيّف لا أعدُّه من المذهبِ، ولا يجب أن نعتقد جريان هذا الوجه الضعيف في حق الميت إذا حلت الديون عليه؛ فإنه ليس للانتظار وجهٌ في حقوق الورثة. وإنما ذكر الأصحاب هذا الوجهَ في حق المفلس الحي، وهو باطل حيث ذكروه.
4009- ومما يتعلق بتمام البيان في التفريع على حلول الديون في حق المفلس أنه إذا لم يكن على الإنسان دَيْنٌ حال، وإنما ديونه مؤجَّلة كلها، فهل يملك أصحابها المطالبةَ بالحجر حتى لا تضيع حقوقهم؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنهم يملكون ذلك؛ فإن ديونهم تحل بالحجر، فينبغي أن يملكوا طلبه.
والثاني - لا يملكون ذلك؛ فإن طلب الحجر يتبع طلب الدين، وليس ذلك ثابتاً لهم، فكيف يملكون الحجرَ وطلبَه، وهم لا يملكون طلبَ أصل الدّين، حتى إذا تعذر مطلوبُهم توصلوا إلى استدعاء الحجر، وهذا الوجه أصح وأقيس.
فرع:
4015- إذا قلنا: لا يحل الأجل بالحجر، فلو باع الإنسان شيئاًً بثمنٍ مؤجَّل، وحل الأجل، وحجر على المفلس، والمبيع قائم، فالمذهبُ أن البائع يملك فسخ البيع، طرداً للقياس في الباب.
وقال بعض أصحابنا: لا يملك الفسخ؛ لأن مبنى العقد على انقطاع علائق البائع عن المبيع بالكلية. وهذا غير سديد.
ولا خلاف أن أصحاب الديون المؤجَّلة إذا حلت حقوقُهم، ملكوا طلب الحجر، كما يملكه من كان أصل دينه حالاً.
فرع:
4011- إذا باع شيئاًً من عبدٍ بغير إذْن مولاه، وفرَّعنا على الوجه الضعيف في صحة البيع، فلو أراد البائع فسخَ البيع، قبل حلول الأجل، لم يملكه. قطع به الشيخ في الشرح.
وإذا حل الأجل، فأراد الفسخَ، فقد قطع أيضاًً بأنه لا يفسخ. وهذا محتمل أن(6/405)
يثبت له حق الفسخ، كما إذا كان الثمن حالاً، ولهذا قلنا: يثبت حقُّ الفسخ لمن كان الثمن في بيعه مؤجَّلاً، ثم يحل قبل الحجر، ثم يتفق الحجر.
وإذا فرعنا على أن الثمن لا يحل بالحجر، وجرينا على أنه لا يثبت للبائع حق الفسخ بأن يعزل المبيع له، وحكمنا بأن المبيع مستحق الصرف إلى الديون الحالة، فلو لم يتفق صرفُه إليها حتى حل الأجل في أثناء الأمر، فهل يثبت له الآن حق الفسخ؟ فيه احتمالٌ، وترددٌ، مترتب على ما مهدناه في نظائر ذلك.
فصل
قال: " ولو جُني عليه عمداً ... إلى آخره " (1) .
4012- مضمون الفصل ذِكْرُ الجناية على المفلس، وعلى عبده، وذكْرُ جناية المفلس وجناية عبده.
فأمَّا الجناية على المفلس، فإن كانت موجبة للقصاص، فله حق الاقتصاص، وليس
للغرماء أن يكلفوه العفوَ على مالٍ ليصرف إلى حقوقهم. وإن عَفا على مالٍ، صُرف إلى ديونه؛ تفريعاً على الأصح في أن ما يستفيده المفلس جديداً، فحكم الحجر جارٍ فيه.
وإن عفا المفلس على غير مال، فهذا يتفرع على أن موجب العمد ماذا؟ وسيأتي شرح هذا في كتاب الجراح، والفصلُ بين المفلس وبين المبذّر والسّفيه.
ولو كانت الجنايةُ موجبة للمال ابتداءً، فهو مصروف إلى الديون؛ جرياً على اطراد الحجر على المال المستحدث.
والجناية على عبد المفلس كالجناية على المفلس نفسه، فتنقسم إلى العمد وغيره.
وتفصيل القصاص والعفو عنه، كما سبقت الإشارة إليه، وإحالة الاستقصاء على كتاب الجراح.
4013- فأما إذا جنى المفلس، فلا يخفى تفصيل القصاص عليه. وإن جنى جناية موجَبُها المال، لم يشارك المجنيُّ عليه أصحابَ الديون في الأموال التي جرى الحجر
__________
(1) ر. المختصر: 2/222.(6/406)
فيها؛ فإن الأرش دينٌ جديد، وليس متعلقاً بمصلحة الحجر، فإن صدرت الجناية من عبد المفلس، فهو من جملة الأموال الموقوفة للغرماء، فلو أراد المفلس أن يفديه بعين من أعيان أمواله، فهذا تصرُّفٌ منه في أعيان الأموال، وقد سبق التفصيل في تصرفاته، فلا حاجة إلى إعادتها. والقاضي لو أراد الفداء، ورأى ذلك مصلحة وغبطة، نفذ ذلك منه. وحق المجني عليه إذا تعلق برقبة العبد مقدم على حقوق الغرماء، كما نُقدِّم حقَّ المجني عليه على حق المرتهن، إذا جنى العبد المرهون.
وهذا واضح. وليس كالجناية على المفلس نفسه. ووضوح ذلك يغني عن بسطه.
فصل
قال: " وليس على المفلس أن يُؤاجر نفسه ... إلى آخره " (1) .
4014- ليس على المديون عندنا، محجوراً كان، أو مطلقاً، أن يكتسب لأجل الدّين؛ وإن كان ممكناً منه. وقال أحمد (2) : عليه ذلك، وزعم أن القاضي يؤاجر المفلسَ، ويصرف أجرته إلى نفسه. ومعتمدنا أن الرّب تعالى قال في كتابه {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] أوجب الإنظار، ولم يُلزم الاكتساب. وفي إيجاب الاكتساب لأجل النفقة كلامٌ، سيأتي في كتاب النفقة، إن شاء الله تعالى.
فإن قيل: أليس روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم باع سُرَّقا (3) في دينه، وحُمل ذلك على أنه آجره؛ فإن الحر لا يباع؟ قلنا: يحتمل أنه كان عبداً، فباعه في أرشٍ كان تعلق برقبتهِ.
4015- ولو كان للمفلس أم ولد، فهل يؤاجرها القاضي ليصرف أجرتها إلى الديون؟ فعلى وجهين: أحدهما - يفعل ذلك؛ فإن منافعها مالٌ، فلئن تعذر بيعها،
__________
(1) ر. المختصر: 2/222.
(2) في المغني لابن قدامة روايتان لأحمد، الثانية منهما: " عليه أن يؤاجر نفسه "، والأولى كمذهب الشافعي ومالك (4/498) .
(3) الحديث رواه الدارقطني: 3/61. وسُرّق: بضم أوله، وتشديد الراء، بعدها قاف.
وضبطها العسكري بتخفيف الراء وزن عمر وغُدر. (ر. الإصابة: 2/20، 4/125) .(6/407)
فلا تعذر في صرف منافعها إلى الدين. والثاني - لا يفعل ذلك؛ فإنّ المنافع ليست أموالاً عتيدة موجودة، ولو كانت بمثابة الأموال الموجودة، لوجب إجارةُ المفلس من نفسه.
واختلف الأئمة فيه أيضاً إذا كان على المفلس وقفٌ، وأمكن إجارته (1) هل يجب ذلك، وصرفُ الأجرة إلى الديون؟ فيه الخلاف الذي ذكرناه في أم الولد. ثم إن لم نوجب الإجارةَ، فلا كلام، وإن أوجبناها، فالوجه أن نوالي بين المُدد في الإجارة إلى الوفاء بالديون؛ فإن المنافع لا نهاية لها، وليست كالأموال العتيدة التي تعنى بالصرف إلى الديون.
فإذا كان كذلك، فيلزم من قياس هذا أن يدوم الحجر إلى أداء الديون من جهة الإجارة. وهذا فيه بُعد لا يخفى مُدركه على الفقيه.
فصل
قال: " ويترك له من ماله ما لا غِنى به عنه ... إلى آخره " (2)
4016- الحاكم قبل تفرقة مال المفلس ينفق عليه، وعلى من تلزمه نفقته من زوجاته وأقاربه الذين يستحقون إنفاقه عليهم. فإن قيل: النفقة على المفلس بيّنة، فما سبب الإنفاق على غيره، والمال موقوفٌ بسبب الديون؟ قلنا: النفقة في ترتيب المعاملة مقدمة على أداء الديون في كل يوم، وأمواله بنفقاته أولى منه بديونه. والإشكال في نفقة الأقارب. وكان لا يمتنع أن يُلحق (3) في حقوقهم [بالفقير الذي لا مال له] (4) . ولكن
__________
(1) أي إجارة الوقف، ومنشأ الخلاف أن المنفعة ليست مالاً عتيداً، وإنما هو اكتساب، كما هو مفهوم، وصرح به الغزالي في الوجيز: 1/172.
(2) ر. المختصر: 2/222.
(3) أي يلحق المفلس بسبب حاله وإفلاسه بالفقير الذي لا مال له؛ أي لا يُنفق من ماله على أقربائه.
(4) في الأصل: بالفقر على الذي لا مال لهم. والمثبث من (ت 2) .(6/408)
أجمع الأصحاب على ما ذكرناه، فليثق الطالب (1) بما نقلناه.
4017- ولو كان عليه دينٌ، وقد رهن به مالاً لا يملك غيره، لا ينفق عليه، ولا على أهله وأولاده منه؛ فإن المرهون خارجٌ عن حكم تصرفه إلى الفكاك، والأموالُ باقية على حق المحجور، ولكنه بالحجر محمولٌ على أن يبتدر إلى صرفها إلى [ديونه] (2) ، ثم القاضي يجري فيها على ما كان يجري المديون لو لم يكن محجوراً عليه.
وفي القلب من نفقة الأقارب مخالجةٌ ظاهرة، ولكن المذهب نقلٌ. ونحن لا نذكر وجهاً إلا عن نقل صريح، أو أخذٍ من رمز وفحوى في كلام الأصحاب، ولم أر فيما حكيته شيئاًً.
ثم لا شكَّ أن نفقته نفقةُ المعسرين.
4018- وإذا فضّ القاضي أموالَه على ديونه، فلا شكّ أنه يُبقي له نفقةَ اليوم الذي يتفق التفريق فيه، قال الأصحاب: يُبقي أيضاً نفقة زوجاته وأقاربه في ذلك اليوم، كما تقدم، ولا مزيد على نفقة ذلك اليوم؛ فإنه لا ضبط بعده يقف عنده.
4019- ثم قال: " يُبقي له دستَ ثوبٍ من ماله ". والأمر على ما ذكره؛ فإنه لا سبيل إلى تركه عارياً، ولا خلاف أنا لا نكتفي بما يستر عورته، بل نرعَى ستراً لا يخرم مروءته، ويختلف ذلك باختلاف الدّرجات. فإن كان الرجل من العلماء، فقد قال كثير من الأئمة: يُبقي له دَسْتَ ثوب، ومن جملته طيلسان، وخُفّ. ولي في الخف والطيلسان نظرٌ؛ فإنهما معدودان وراء الاقتصاد، وليس في تركهما خرمٌ للمروءة، والمتبع أن لا تنخرم مروءته. ولا شك أنا لا نبقي له دستَ ثوب يليق بحاله في بسطته وثروته، ولكن ليكن ما نُبقيه لائقاً بحالته. وإن كان الرجل سوقياً نبُقي له دستَ ثوب يليق بحاله. وإن كان أتونياً (3) ، نبُقي له أطماراً لائقةً به. وإن كان في
__________
(1) (ت 2) : الناظر.
(2) في الأصل، كما في (ت 2) : ديون. والمثبت تصرف من المحقق.
(3) الأتون: الموقد الكبير كموقد الحمام والجَصَّاص، وتشدد التاء (معجم، ومصباح) والمراد =(6/409)
انبساطه تزيّدٌ (1) في التجمل على ما يليق برتبته، فنرده في إفلاسه إلى ما يليق بمنزلته (2) ، ولا يُعتبر مجاوزتُه حدَّ الاعتدال اللائق بحاله (3) . ولو كان في ثروته يلبس الخسيس من الثيابِ، وكان يُعدّ مقتراً على نفسه، فإن أفلس، رضينا له بما كان يرضى به في ثروته؛ فإنا لا نزيده في حالة الإفلاس على ما كان عليه قبله. نعم لا نقول بحطه عما كان يعتاده من الخسيس (4) بسبب إفلاسه، كما قد نفعل ذلك في حق المقتصد.
فليفهم الناظر ذلك.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ثلاث منجيات، وثلاث مهلكات، فالمنجيات القصدُ في الغنى والفقر، والعدل في الرضا والغضب، وذكر الله تعالى على كل حال. والمهلكات شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه " (5) .
ويعطيه في الصيف ما يليق به، وإن اتفق تفريق ماله في الشتاء، أعطيناه ما يليق بالشتاء، ولا يجمع له بين كسوتي فصلين.
4020- ولو مات المفلس، بدَأْنا بكفنه، ومؤنة دفنه، وفي القدر الذي يكفن به خلافٌ، ذكرناه في كتاب الجنائز. ونحن نرمز إليه لغرضٍ لنا في فقه هذا الفصل.
قال أبو إسحاق المروزي: إذا مات المفلس، اكتفينا بستر عورته بخرقة، وهذا مأخوذ عليه، واختلف أصحابنا في تزييف هذا المذهب على وجهين: أحدهما - أنه يكفن في ثوب واحد يواريه؛ فإن الغرض المواراة بالكفن، وقضاء دينه أهم من تكفينه في ثلاثة أثواب.
__________
= بالأتوني: الذي يعمل في إيقاد الأتون، ويقوم عليه.
(1) (ت 2) : مزيد.
(2) (ت 2) : برتبته بمنزلته.
(3) (ت 2) : بأمثاله.
(4) (ت 2) : الحسن.
(5) حديث حسن رواه الطبراني في الأوسط عن ابن عمر، وهو في صحيح الجامع برقم: 3045،
والصحيحة برقم: 1802.(6/410)
والوجه الثاني - أنه يكفن في ثلاثة أثواب إقامةً لشعار الدين في إكرام جثة المسلم.
والغرض ممّا ذكرناه أن الأصحاب فرقوا بين الكفن وبين ما نبقيه للمفلس من دست ثوب؛ إذ أجمعوا على أن الثوب الواحد لا يكتفى به في حق الحي، وفي الاكتفاء بالثوب الواحد (1) الساتر الخلافُ الذي ذكرناه. والفرق أن الحي يراعَى فيه ما يُبقي عليه رتبتَه ومروءتَه، والميت وإن شُرع إكرامُه، فإلى البلى مصيره، فليعرف الناظر قصدَ الأصحاب في الفرق بين الباب والباب.
ولو مات عبده أو قريبه الذي يمونه، فالكفن من المال العتيد، كالنفقات الدارّة.
والقول في تكفين هؤلاء كالقول في تكفين المفلس نفسه.
4021- ولو ماتت زوجةُ المطلِّق الموسر، ففي وجوب تكفينها على الزوج وجهان مشهوران ذكرناهما. وإن كان الزوج مفلساً، ففي وجوب التكفين الخلافُ الذي ذكرناه، ولا معنى لتخيل الترتيب؛ فإن كل مؤنة لا يشترط فيها اليسار مُخْرجة من مال المفلس بسبب الذين يمونُهم المفلس.
4022- وممّا يتعلق بتمام البيان في الفصل أن المفلس لو كان مخدوماً، وكان أَلِف غلاماً يخدمه، فالمنصوص عليه أنه يباع في الدين، ونص في الكفارة (2) على أن ذلك العبد غيرُ محسوب على من عليه الكفارة، ولا يلزمه [صرفه] (3) إليها، واختلف أصحابنا، فمنهم من جعل في المسألتين قولين، نقلاً وتخريجاً. والمذهب تقرير النصين. والفرق من وجهين: أحدهما - أن العتق في الكفارة حق الله تعالى، وحقوق الله تعالى مبناها على المسامحة، ومبنى حقوق الآدميين على الضيق.
والثاني - أن العتق له بدل في الكفارة ينتقل إليه، ولا بدل للدّين.
هذا قولنا في الخادم. ثم إن رأينا إبقاءه، فليكن قريبَ القيمة، لائقاً بأحوال المعسرين.
__________
(1) أي الثوب الواحد في الكفن، كما هو مفهوم من السياق.
(2) (ت 2) : الكفارات.
(3) في الأصل: صرفها.(6/411)
ولو لم يكن له خادم وكان ممن يُخدم، فهل نشتري له خادماً، كما نشتري له دستَ ثوب إن لم نصادفه؟ فعلى وجهين: والأصح أنا نشتريه إن فرّعنا على هذا الوجه الضعيف، فظاهر المذهب أنا لا نبقي له خادماً، بل نصرفه إلى الديون.
4023- فأما المسكن، فهو أحق من الخادم إذا كان لائقاً بالحال، ولم يكن رفيع القيمة، وإبقاءُ المسكن أولى من إبقاء الخادم، على كل حال، سيّما إذا كان الرجل ضعيفاً ذا عيلةٍ. وذِكْرُ الخلاف في إبقاء المسكن للمفلس أقربُ من ذكره في إبقاء الخادم، لما أشرنا إليه من الفرق بينهما في حكم الحاجة. وذكر الخلاف على طريق النقل في احتساب المسكن على من لزمته الكفارة المرتبة أبعدُ من تقدير النقل في الخادم.
4024- وإذا أردنا جمع مقتضى ما أشرنا إليه من الفرق بين الخادم والمسكن في حق المفلس، فالصيغة المشعرة بالمقصود أن نقول: في الخادم والمسكن في حق المفلس ثلاثةُ أوجهٍ: أحدها - أنهما لا يبقيان له. والثاني - أنهما يبقيان. والثالث - أنه يبقى المسكن دون الخادم. ومهما أبقينا له شيئاًً مما ذكرناه، اشترينا له إن لم نجده، كدأبنا في الثياب.
فصل
قال: "وإن أقام شاهداً واحداً على رجل بحق ولم يحلف مع شاهده ... إلى آخره" (1) .
4025- قد سبق منا تمهيد هذا الأصل، ولكنا نعيد تنبيهنا عليه للجريانِ على الترتيب، فالذي نص عليه الشافعي أن المفلس لو ادّعى ديناً على إنسان، وأقام شاهداً واحداً، وامتنع عن الحلف معه؛ فأراد الغرماء أن يحلفوا مع شاهده، لم يكن لهم ذلك.
وقال الشافعي: "لو أقام الوارث شاهداً واحداً على رجل بدين للميت، ولم
__________
(1) ر. المختصر: 2/222.(6/412)
يحلف معه، فأراد غرماء التركة أن يحلفوا، لم يكن لهم، كما ذكرناه في المفلس".
هذا نصه في الجديد. ونص في القديم على قولين في مسألة الوارث: أحدهما - أن الغرماء يحلفون. والثاني - أنهم لا يحلفون.
فمن أصحابنا من ذكر في غرماء المفلس قولاً بنقل الجواب عن غرماء التركة (1) أنهم (2) يحلفون إذا لم يحلف المفلس. والصحيح الفرقُ بين المسألتين، وقَطْعُ القول بأن غرماء المفلس لا يحلفون؛ فإن المفلس صاحبُ الواقعة، وقد ادّعى الدين لنفسه، فإذا امتنع عن اليمين من ادعى الحق لنفسه، بعُد تحليف غيره، والدين في مسألة الوارث يُدّعى للميت، فكان حَلِفُ الغريم أقربَ إذا فرض نكول الوارث.
4026- ومما يخرّج على ما ذكرناه أنه لو لم يُقم المفلسُ والوارث شاهداً، ولكنهما ادّعيا، فحلَّفنا المدعى عليه، فنكل عن اليمين، واقتضى الحال ردّ اليمين على المدعي، فنكل المدعي، فهل يحلف الغريم (3) يمين الرد؟ ترتيب المذهب فيه كترتيب المذهب في اليمين مع الشاهد.
ولو ادعى الراهن أنه استولد الجارية المرهونة بإذن المرتهن، والتفريع على أن الاستيلاد لا يثبت دون إذنه، فإذا أنكر المرتهن الإذنَ وحلّفناه، فنكل، فإن حلف الراهن، ثبت ما يبغيه، وإن نكل، فأرادت الجارية أن تحلف، كان لها ذلك، نصَّ عليه في الجديدِ والقديمِ قاطعاً جوابه. والفرق بينها وبين الغريم في المفلس والوارث ظاهر، وذلك أنها صاحبة حق في تأكد حق الحرية لها، (4 وهذا في حكم حق ثبت ناجزاً من غير تقدير توصل إليه 4) ، بخلاف الغريم؛ فإن الدين لو ثبت لم يكن حقاً له، ولكنه قد يصير إليه بطريقِ الصرف.
4027- وممّا يجب أن يُعتنى به أن الأصحاب وإن ذكروا خلافاً في حِلْف الغريم، قالوا: لو لم يدّع المفلس والوارث، لم يكن للغريم أن يدعي في المسألتين ابتداءً،
__________
(1) أي نقل ما قيل في غرماء التركة، من أن لهم أن يحلفوا إلى غرماء المفلس.
(2) أنهم أي غرماء المفلس.
(3) (ت 2) : المدعي.
(4) ما بين القوسين ساقط من (ت 2) .(6/413)
وإنما التردد فيه إذا سبقت الدعوى من الوارث والمفلس، وأفضى الأمرُ إلى الحلف، كما ذكرناه.
وكان شيخي [يصرح] (1) بنقل الخلاف في أن الغريم هل يبتدىء الدعوى؟ ويقول: الحلف تِلْوُ (2) الدعوى، فمن ملكه، لم يمتنع أن يملك الدعوى. وهذا وإن كان قريباً في المعنى، فلم أره إلا له.
وقطع الأصحاب القول بأن الدعوى ممتنعة، وإنما ذكروا الخلاف في الحلف إذا سبقت الدعوى من المفلس والوارث.
والمستولدة إذا ادعت عُلقةَ الاستيلاد، والرّقُ بعدُ مستمر عليها نُظر، فإن ادعته والمولى يبغي بيعها، فحاولت دفعَ ذلك، فالوجه قبول دعواها. وإن كان المولى لا يتعرض لبيعها، ففي قبول دعواها على الابتداء، والمولى صامتٌ غير متعرض تردّدٌ ظاهر، واحتمال بيّنٌ، مأخوذ من فحوى كلام الأئمة.
4028- ومما يتعلق بتتمة الكلام في الفصل أن رجلاً لو ادّعى على المفلس ديناً، فإن أقر به، ففي قبول إقراره وردّه الخلافُ الذي تقدم ذكره في تصرفات المفلس. وإن أنكر، كان إنكاره مقبولاً على معنى أنه يبتدىء عليه تحليفه. فإن حلف، انقطعت الخصومة إذا لم تكن بيّنة، وإن نكل، فهل تردّ اليمين على المدعي؟ قال الأئمة: هذا يخرّج على أن يمين الرد بمنزلة البينة في الخصومة، أو بمنزلة إقرار المدعى عليه. فإن قلنا: إنها كالبينة، حلّفنا المدعي يمين الرد، وقضينا بثبوت [الدعوى] (3) . وإن قلنا: إنها كالإقرار، ورأينا التفريع على ردّ إقرار المفلس، فلا تُثبت يمين الردِّ حقَّ المدعي حتى يثبت له مضاربةُ الغرماء.
وصورة يمين الرد تجري بلا خلاف. وإنما الكلام في تعلق حق المضاربة ناجزاً، فإنا وإن رددنا إقراره في حق الغرماء في الحالة الراهنة، لم نختلف في ثبوت موجَب
__________
(1) في الأصل: يصرف.
(2) تلو الدعوى: أي تابع لها.
(3) في الأصل: الإقرار.(6/414)
إقراره في حق المفلس نفسه، حتى يطالَب به إذا انطلق الحجر عنه. وإذا كان كذلك، فإجراء صورة يمين الرد تخرج على ما مهدناه من ثبوت حكم إقراره (1 على الجملة 1) .
فرع:
4029- نص الشافعي على أن الرَّجل لو كان وَهَب شيئاًً في حالة الإطلاق، ثم أفلس وحجر عليه، فأثابه المتهب ما هو أكبر قيمةً من الموهوب، لم يلزمه القبول في حالة الحجر، وإن أثابه ما (2) هو أقل قيمة من الموهوب، فله الرضا. وهذا يبتني على أصلٍ سنشرحه في الهبات، إن شاء الله تعالى.
والوجه في النص في الهبة المطلقة، والتفريعُ على أنها تقتضي الثواب. ثم إذا جرينا على هذا، ففي مقدار الثواب خلافٌ، وتفصيلٌ طويل، فإن قلنا: الهبة المطلقة تقتضي المثلَ في الثواب من جهة المالية والقيمة، فلا يجوز أن يرضى المفلس بما هو أقل من ذلك؛ فإن المثل عِوض مستحق. نعم، لا يلزمه قبول الزائد على مقدار المثل.
وإن قلنا: للمتهب أن يثيب بما شاء، وإن قل وانتقصَ عن المثل، فعلى هذا يخرّج نص الشافعي " فإن زاد الثوابُ على المثل، لم يلزمه القبول "؛ فإن الزيادة غير مستحقة، وليس على المفلس قبول الهبات والتبرعات. وإن كان الذي بذله أقلَّ من المثل؛ فإنه يقبله؛ إذ لا يجب على المتهب غيرُه، والرجوع فيما نثُبته ونَنْفيه إلى أصلين أحدهما أنه لا يجب على المفلس قبول التبرع، وليس له أن يُسقط مستحقاً.
***
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2) .
(2) (ت 2) : بما.(6/415)
بَابُ العُهْدةِ في مالِ المفلس
4030- ذكر الشافعي رضي الله عنه في صدر الباب فصلاً، قدمنا ذكره في تعلق الضّمان بالعدل في الرّهن، والوصي، والحاكم. ولا شكّ أن هؤلاء أمناء إذا تلفت أعيان الأموال في أيديهم من غير تقصير منهم. وغرض الشافعي التعرض لبيان المرجع في [عهدة] (1) العقود.
فإذا باع العدلُ (2) في الرهن بالإذن، وقبض الثمن، وضاع في يده الثمنُ الذي قبضه، ولم يكن وكيلاً من جهة المرتهن بالقبض، فالثمن من ضمان المبيع عليه (3) ، وهو الراهن. وكذلك القول في الوصي (4) ، إذا باع مالاً، فضاع الثمن من (5) يده، فهو من ضمان المبيع عليه. ولو فرض استحقاقٌ في المبيع، ففي تعلق الضمان بالعدل، والوصيّ، والقيم، والحاكم، التفصيلُ المقدم في كتاب الرهن؛ فلا حاجة إلى إعادته.
4031- والذي يختص بغرض الباب أنا إذا بعنا عيناً من أعيان مال المفلس، وقبضنا الثمن، وخرج المبيع مستحقاً، فإن كان عين الثمن باقيةً (6) قائمة، فلا شكّ أن المشتري يرجع فيها، وإن كنا سلمناه إلى الغريم، اتبعها المشتري، ولو تلفت في يده؛ فإنه يضمّن الغريم لا محالة، فإن عين ماله تلفت في عقد ضمان في يد إنسان، فله اتباعه بالتغريم.
__________
(1) في الأصل: عهد.
(2) (ت 2) : العبد.
(3) "عليه" الضمير يعود على الراهن، كما فسره بقوله: "وهو الراهن"، فالعدل يبيع (الرهن) عليه، أي من أجله، أو عنه. فلا ضمان على العدل؛ فإنه أمين، وإنما الضمان على الراهن.
(4) (ت 2) : لو أوصى.
(5) (ت 2) : في.
(6) ساقطة من (ت 2) .(6/416)
4032- ولو تلف الثمن في يد الحاكم، وقد تمهد أن الضّمان لا يتعلق بالحاكم، فللمشتري الرجوع، وظاهر النص أنه يقدّم بمبلغ الثمن، ولا يحمل على المضاربة.
ونقل الربيع وحرملة أنه أُسوة الغرماء، فيضاربهم. فمن أصحابنا من قال: في المسألة قولان: أحدهما - أنه لا يتقدّم في رجوعه، لأنه دين في ذمة المفلس كسائر الديون. ومن أصحابنا من قطع القولَ بأنه يقدم، لأنا لو لم نقدمه، لامتنع الناس عن معاملة المتصرفين في أموال المفاليس، وسبيل كل دين يتعلق بمصلحة المفلس حالةَ الحجر أن يقدم، ولذلك تُقدم أجرةُ الدَّلالين، والمتصرفين، على حسب الحاجة في الأموال العتيدة التي اطرد الحجر عليها. وكذلك القول في أعواض المؤن الثابتة في حالة الحجر، فلتكن عُهدة البيع المنشأ لمصلحة التصرف في مال المفلس مقدمةً أيضاًً.
والدليل عليه أنا لو راعينا قياس الديون في المضاربة، للزم أن نقول: لا يضارب الغرماء أيضاًً، فإن حقه متجدد بعد جريان الحجر، والذي يقتضيه قياس الباب أن الدين الحادث بعد الحجر لا يُقدّم [ولا] (1) يضارب به أصلاً.
فهذا منتهى القول في ذلك.
***
__________
(1) في الأصل: لا يقدم أو لا يضارب. وفي (ت 2) : يقدم ولا يضارب. والمثبت تقدير منا رعاية لسياق الباب.(6/417)
باب حبس المفلس
4033- مضمون هذا الباب ثلاثة فصول: أولها - في قاعدة الحبس.
والثاني - في إثبات الإعسار.
والثالث - في مسافرة من عليه الدين.
فأما: الفصل الأول، فنقول:
4033/ م- إذا ثبت الحق، وتعذر استيفاؤه، لم يخل إما أن يكون التعذر بسبب الإعسار والفلس، وإما أن يكون بسبب امتناع من عليه الحق من تأديته. فإن كان بسبب الفلس، فحكم الله تعالى إنظار المفلس، وإزالة التعرض عنه إلى ميسرة، قال الله تعالى {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] الآية.
وإن امتنع من عليه الحق من أداء ما عليه مع القدرة، فهو ظالم، مندرجٌ تحت قوله صلى الله عليه وسلم: "مطل الغني ظلمٌ" "ليُّ الواجد ظلم" (1) ثم القاضي إن وجد له مالاً، وقد تحقق امتناعَه؛ فإنه يملك بيعَه وصرفه إلى دينه، ولا حاجة إلى ضرب الحجر عليه، بل يبتدر البيع؛ فإن منصب الولاية يقتضي استيداءَ (2) الحقوق، وإيفاءها على مستحقيها، على ما يساعد الإمكان فيه.
__________
(1) الحديث بلفظ "لي الواجد" أخرجه من حديث عمرو بن الشًرِيد عن أبيه أبو داود في الأقضية ح 3628، والنسائي: بيوع، باب مطل الغني، ح 4689، وابن ماجة: صدقات، باب الحبس في الدين: 2/811 ح 2427، وابن حبان: 7/273 ح 5066، والحاكم: 4/102، وصححه، ووافقه الذهبي، وانظر التلخيص: 3/89 ح 1248، شرح السنة: 8/195.
وبلفظ "مطل الغني": أخرجه من حديث أبي هريرة البخاري: في أول الحوالة، ح 2287، ومسلم: المساقاة، باب تحريم مطل الغني، ح 1564.
(2) (ت 2) : استيفاء. والاستيداء: طلب الأداء، والمعنى: أن منصب الولاية يقتضي تحصيل الحقوق، وإعطاءَها لمستحقيها.(6/418)
4034- ومنع أبو حنيفة بيع العروض والسلع في الديون، وناقض، فجوّز بيعَها في بعض النفقات، وسوغ على العموم صرف الدراهم إلى الدنانير، وصرف الدنانير إلى الدراهم (1) . ولا فصل عندنا.
4035- ولو لم يظهر للممتنع مالٌ، وأشكل الأمرُ، فحكم الحال الحبس.
هذا ما درج عليه الأوّلون، ومضى عليه الحكام، والحبس في نفسه عقوبة.
ولكن قد يقع حيث لا يُستيقن استحقاقُ الممتنعِ العقوبةَ؛ من جهة أن الممتنع إذا لم يثبُت يسارُه، وادعى الإعسارَ؛ فإنا نجوّز صدقَه، ومع تجويز ذلك نحبسه، والسَّبب فيه أن إطلاقه تضييع لحق المدعي من غير ثَبَت، فلا وجه إلا حبسُه إلى البيان. وليس الحبس إيلاماً في الحال، فالمسلك القصد يقتضيه لا محالة.
4036- ولو تحقق القاضي ظلمَ من عليه الحق في امتناعه، وعلم أنه متمكن من تأدية ما عليه -وقد يظهر ذلك بقراره أو بجهةٍ أخرى، على ما سيأتي الشرح عليه، إن شاء الله تعالى- فالأمر وقد ظهر العناد مفوّضٌ إلى رأي القاضي، فإن أراد أن يعزّره حتى يُظهر المال، فله ذلك، ولا مزيد على الحبس مع اليسر، وإن ظهر العناد، فللقاضي أن يزيد على الحبس ويعزّر.
وقد نص الشافعي في نكاح المشركات على [أن] (2) من أسلم على أكثر من أربع، وأوجبنا عليه أن يختار أربعاً، وحبسناه لذلك، فإن تمادى على امتناعه، فللقاضي أن يعزره. وسببُ التعزير امتناعُه عن حقٍّ محتوم عليه مع الاقتدار عليه.
وإنَّما خصص الشافعي هذه الصورة بذكر التعزير، لظهور العناد فيه، وتبيّن الاقتدار على الاختيار، فمهما ظهر العنادُ في الحقوق المستحقةِ، كان الأمرُ على ما ذكره الشافعي في نكاح المشركات.
__________
(1) الذي ذكره إمامنا هو قول أبي حنيفة، حيث يرى أن استيفاء الديون تكون من جنسها، واستثنى من ذلك ما إذا كان للدائن دنانير والمديون يملك دراهم، أو العكس، فأجاز بيع هذه بتلك؛ لاتحادهما في الثمنية، وخالفه صاحباه، والفتوى بقولهما. (ر. مختصر الطحاوي: 95، 96، وحاشية ابن عابدين: 5/95، ورؤوس المسائل: 311 مسألة 198) .
(2) ساقطة من الأصل.(6/419)
ثم التعزير المتعلق بالنظر العام والاستصلاح، موكول إلى رأي الإمام، ولسنا نعني بذلك أنه يتخير فيه، بل يجتهد، ويرى رأيه، ويسلك المسلك الأقصَد. وقد يختلف ذلك باختلاف مراتب الخلق: فذو اللّدَدِ، والعناد، قد لا يكترث بتطويل (1) الحبس، وقد يعلم القاضي، أو يظن أن الغرض يحصل بالحبس المحض؛ فليجر على ما يقتضيه الحال.
4037- ثم التعزير لايبلغ مبلغ الحد، على ما سنصف المذهبَ فيه في كتاب الحدود.
وقد يقتضي الحال تعزيراتٍ في أوقاتٍ يبلغ مجموعها حداً، أو يزيد، فليفعل ما يراه. والاستمرارُ على الامتناع على ممرّ الأوقات في حكم أسبابٍ متجددة، يقتضي تجددَ التعزيرات. ولا يغفل فيما يأتيه من ذلك عن (2) ترك الموالاة وما في معناها.
فإذا بلغ التعزير مبلغاً، وكان أثره ظاهرَ البقاء، فليصبر إلى الاستقلال وظهور البُرْء.
ونحن قد نرعَى ذلك في إقامة حدود الله تعالى على شخصٍ واحد، فما الظن بتعزيرات موكولة إلى الاجتهاد لا يُقضى بتعيّنها (3) ؟
الفصل الثاني من الباب
4038- إذا ادّعى من عليه الحق الفلس والإعسار، لم يخل: إما أن يكون له بينةٌ، وإما ألا تكون. فإن وجد بينةً، أقامها، كما سنذكر الوجه فيها. وإذا قامت، وجرى البحثُ عن التعديل، فلا يسوغ عندنا إدامة الحبس بعد ذلك؛ فإنه على الجملة من قبيل العقوبات. وقد يرى الوالي التعزيرَ به وحده.
وقال أبو حنيفة: لا يُصغي القاضي إلى البيّنة على الإعسار، حتى يمضي أمدٌ (4) ،
__________
(1) (ت 2) : بطول.
(2) (ت 2) : على.
(3) (ت 2) : يفضي تبقيتها إلى الهلاك.
(4) عبارة الأصل: يمضي أمدٌ (فيه) . وفي (ت 2) : يمضي مدة.(6/420)
ثم اختلف قوله فيه، فقال مرة: لا بدَّ من مضي شهرين، وقال مرة: أربعين يوماً، أو خمسين، وقال مرة: أربعة أشهر (1) . ونحن لا نرعى شيئاًً من ذلك، ونُصغي إلى البينة، ونقضي بها من غير تأخير.
4039- ثم نتكلّم وراءَ ذلك فيما يتعلق بحق الشاهد وتحمّله، ونذكر بعده نظرَ القاضي في أحوال الشهود على الإعسار.
فأما الشاهد، فلا يحل له أن يشهد على الإعسار بظاهر الحال؛ فإن الأموال في وضع الجبلات تخفَى ولا تظهر، هذا حكم العادة الغالبة، فليبحث من يتحمل هذه الشهادةَ عن الباطن ولْيسبُر حالَ المشهود له، ولا يخفى طريق البحث في كل باب على الخبير.
هذا قولنا في الشاهد.
4040- فأمّا الكلام في نظر القاضي، فقد قال الشافعي: لا ينبغي له أن يقبل هذه الشهادة إلا من أهل الخبرة الباطنة؛ والسَّبب فيما افتتحناه من ذلك أن مستند الشهادة على الإعسار النفيُ، ولو جرينا على قياس الشهادات، لم نقبلها، فإن النافي لا يكون مثبتاً، ولا يستمكن من ادعاء العلم بالنفي. ولهذه الشهادة نظائر: منها الشهادة على أن لا وارث للمتوفَّى سوى من حضر، وهذه الشهادة متعلقة بالنفي، مقبولةٌ من أهل الخبرة الباطنة، ومنها الشهادة على تعديل الشهود؛ فإن متضمنها نفيُ الأسباب المخرجة عن العدالة، ويلزم قبول هذه الشهادات، ولا مستند لها إلى اليقين قطعاً، للضرورةِ، ومسيسِ الحاجة؛ فإن تخليد الحبس، وتأبيد وقف الميراث محال، والتعديلُ عماد القضاء، ولا يتصور فيه إلا المسلك الذي ذكرنا، فيلتحق عندنا بما ذكرناه الشهادةُ على الأملاك؛ فإنها لا تنتهي إلى يقين قطّ، وإنّما غايتها بناء الأمر على ظواهرَ يصفها العلماء، من اليد، والتصرف، وغيرهما. ولكن لا بد من الاكتفاء بما ذكرناه؛ إذ الحاجةُ ماسة، ومنتهى الإمكان ما أشرنا إليه، فكأنّا نشترط استنادَ الشهادة إلى اليقين فيما يمكن اليقين فيه، كالأقوال، والأفعال التي يتعلق بها الحواس.
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 96، والاختيار: 2/90.(6/421)
ولا مزيد على ما ذكرناه؛ فإن أسرار الشهادات مذكورة في كتابها.
4041- ومن لطيف الكلام في ذلك أن كل ما تستند الشهادةُ فيه إلى اليقين، فلو علمه القاضي بنفسه، اختلف القولُ في جواز قضائه بعلمه. ولو انتهى القاضي فيما لا علم فيه، إلى منتهى يشهد فيه، كالأصولِ التي ذكرناها، فلا يحل له القضاء. وإن كان يحلّ له أن يشهد بما أحاط به، وظهر عنده، فليتأمل الناظر هذا؛ فإنه من أسرار القضاء.
4042- وتمامُ البيان في الفصل يتعلق بتردد الأصحاب في أمرٍ نذكره: وهو أن القاضي إن علم أن الشاهد من أهل الخبرة الباطنة في الإعسارِ ونظائرِه، [قبل] (1) شهادته، وإن لم يتحقق ذلك عند القاضي، [ولكن] (2) ذكر الشاهدُ [أنه خبر باطنه، وهو عدل رضاً، كفى ذلك، فإنه قد يُعتمد في شهادته، كما يعتمد في ذكره أنه من أهل الخبرة الباطنة. وإن أطلق الشهادة على الإعسار، ولم يتبين للقاضي من جهة بحثه، ولا من جهة ذكر الشاهد] (3) أنه من أهل الخبرة، فيتوقف لا محالة. هكذا ذكره الأئمة.
والشهادة على الملك وإن كانت لا تستند إلى يقين مقبولةٌ على الإطلاق من العدل الموثوق به، وليس على القاضي بحثٌ عن أسباب تحمّل الشهادة، والسَّبب فيه أن تلك الأسباب ثابتةٌ، من اليد، والتصرف، ولا يُظَن بالشاهد إلا التثبتُ. والإعسارُ وانتفاءُ الوارث وعدمُ الأسباب المخرجة عن العدالة نفيٌ محققٌ، وعلى الناظر في هذا مزيد بحثٍ، سيأتي الشرح عليه في الشهاداتِ، إن شاء الله تعالى.
4043- وممَّا يليق بهذا أن الإعسار يثبت بشهادة شاهدين مع الاحتياط الذي ذكرناه. وذكر بعض المصنفين لفظاً مضمونه أنه لا بد من ثلاثة شهود، وهذا خُرقٌ (4) عظيم، وخروج عن الضبط، ولعله أراد أن القاضي إن بدا له أن يستظهر بالعدد، فعل، لما حققناه من إشكال الإعسار.
__________
(1) في الأصل: قبلت.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(4) خُرق: حمق (معجم) .(6/422)
وفي [استظهار القاضي] (1) بعدد الشهود كلام طويل لا نخوض فيه.
ثم قال الشافعي: إذا قامت البينة على الإعسار، حلّفنا الشهود بعساره مع البينة، وخالف أبو حنيفة (2) فيه.
واختلف أصحابنا في أن هذا التحليف هل يقف على استدعاء الخصم ومسألته؟ منهم من قال: إنه موقوف على الاستدعاء والمسألة، وهو من حق الخصم. ومنهم من قال: إنه من أدب القضاء، فيتحتم على القاضي التحليف، وإن لم يسأله الخصم، إلا أن يقنع الخصمُ، ويبدي الرضا بإطلاقه، فلا إشكال إذاً.
هذا كله إذا أقام بينة على الإعسار.
4044- فأمَّا إذا قال: أنا معسر، وليس يشهد على إعساري أحد، فكيف خلاصي من هذا الحبس؟ قال الأصحاب: إن عُرف له يسار سابق، فلا سبيل إلى إطلاقه، والحالة هذه، ما لم تقم بينة على زوال اليسار؛ فإنَّ الظاهر بقاؤه، والغالبُ استمكانه من إثبات زوال أسباب اليسار. فإذا لم يُقم بيّنةً، ظهر كذبه.
وإن لم يعرف له يسار سابق، فادّعى الإعسارَ، ففي قبول قوله مع يمينه أوجه:
أحدها - أنه يُقبل؛ إذ الأصلُ الفقر. والثاني - لا يقبل؛ لأن الظاهر من حال الحُرّ أن يملك شيئاًً، وإن قلّ، ويندرُ حُرٌّ لا ملك له. والثالث - أنه إن التزم الدينَ باختياره مثل مال الضَّمان، والصَّداقِ، فلا يُقبل قوله؛ لأن الظّاهر أنه لا يلتزم باختياره مالاً إلا مع التعويل على ملكٍ وافٍ به. وإن لزمه ضمانٌ من غير اختيار، قُبل قولُه في دعوى الإعسار.
هذه الأوجه [الثلاثة] (3) هي التي عليها التعويل.
4045- وذكر أصحابنا وجهاًً رابعاً، نسوقه على وجهه ونبيّن اختلاله، قالوا: من أصحابنا من قال: كل دين لزمه عوضاً عن مالٍ، فلا يقبل فيه دعوى الإعسار، وما لم
__________
(1) في الأصل: الاستظهار للقاضي.
(2) ر. الاختيار: 2/90.
(3) مزيدة من (ت 2) .(6/423)
يكن عوضاً عن مالٍ، يقبل فيه دعوى الإعسار، وهذا ليس وجهاً رابعاً؛ فإنا حكينا وفاق الأصحابِ في أنه لو ثبت له ملك، لم تقبل دعوى الإعسار منه بتقدير زوال اليسار، وإذا كان هذا متفقاً عليه، فكأن هذا القائل في تفصيله جمع بين صورة الإجماع وبين قبول قوله مطلقاً في غير محل الإجماع.
وقد يخطر للفقيه حملُ هذا الوجه الرابع على دين ثبت [عوضاً] (1) ، وكان ملتزمه يدعي أنه لم يقبض (2) المعوّضَ، فإن كان ذاكرُ (3) هذا الوجه منزّلَه على هذا التقدير، لا على الاعتراف بقبض المعوّض، وادعاء تلفه، فهذا على حالٍ وجهٌ ضعيف؛ فإنه إذا ثبت الملك في المعوّض، فالظّاهر قبضُه، ونحن إنما لا نقبل قول من سبق له يسارٌ، بتأويل ادعاء [زواله] (4) ؛ من جهة أن قولَه يظهر الخُلف فيه، وزوال اليسار ممكن، فعدم قبض المبيع بهذه المثابة. والعلم عند الله تعالى.
4046- ووراء هذه الأوجه نوعان من الكلام، يحصل بهما تمام الغرض.
أحدهما - أنا إذا قلنا: يُقبل قول المعسر مع يمينه، فلست أرى قبولَ قوله مع اليمين بداراً، فيظهر عندي مسلك أبي حنيفة (5 في التأني مع البحث الممكن عن أحواله، غير أن ما ذكره أبو حنيفة مع البينة 5) باطل عندنا؛ من جهة أنا نحمل كلام الشهود على صدوره عن بحث منهم، فإذا شهدوا، وجب الاكتفاء بشهادتهم. أما إذا لم تكن بينة، وكان الرجوع إلى قول المدَّعي ويمينه، فيظهر أن يبحث القاضي عن بواطن أمره، وليس ذلك بعيداً عن الإمكان. وهذا يقرب عندي من قول الشافعي في الفاسق: إذا تاب، استبرأتُه أشهُراً، (6 فإن التوبة مأخوذةٌ من قوله، فرأى الشافعي معه الاستبراء6) نعم، لست أنكر فرقاً بين الأصلين؛ فإن يمين المعسر بمثابة الجحد.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) (ت 2) : يقبل.
(3) (ت 2) : ذكر هذا الوجه، فنزله.
(4) في الأصل: يساره.
(5) ما بين القوسين ساقط من (ت 2) .
(6) سقط من (ت 2) ما بين القوسين.(6/424)
والذي ذكرته لست أعزيه إلى نقلٍ. وفي كلام الأصحاب ما يدل عليه، وظاهر النقل يُشعر بالبدار إلى قبول قوله مع يمينه، حيث يقبل قوله.
فهذا أحد النّوعين.
4047- والثاني - أنا إن قلنا: لا يقبل قوله، والمحبوس غريبٌ لا يتوصل إلى إثبات (1) إعساره ببيّنة، فتخليد [حبسه] (2) شديدٌ عندي. والذي أراه فيه أن السلطان يوكّل به من يبحث عن منشئه، ومولده، ومنقَلبه، ويتناهى في البحث جهده، ثم يُسوّغ المُفتون للباحثين أن يشهدوا، هذا لا أرى منه بداً، والعلم عند الله تعالى.
4048- وممّا يتعلق بهذا الفصل أنه لو أقام البينة على الإعسار، فأقام مستحق الدين بيّنة على أنه كان في يده مالٌ، فاعترف بكونه في يده، وقال: كان لفلان في يدي وديعة، فإن نسبه إلى حاضرٍ، قُبل قولُه بلا يمين، وإن كان غائباً، حُلِّف. وهذا من معَاصاتِ كتابِ الدعاوى.
فإذا ادّعى رجل على رجل مالاً في يده، فقال المدعى عليه: المال لفلانٍ، وليس لي ولا لك، فالقول في تقاسيم هذا الفصل وجوانبه غمرة كتاب الدعاوى وسنذكره إن شاء الله تعالى.
والقولُ الذي يليق بما نحن فيه ما أشرنا إليه، فإنْ تفرّق (3) فكرُ الناظرِ في جوانب الفصل، فلينظر شرحها، وليطلبه من موضعه.
4049- وإذا (4) ثبت الإفلاس وجب الإطلاق، فلا حبس على معسر، ثم لا يجوز التعرض له إلى (5) أن يُفيد مالاً، فإن صرفه إلى دينه، فذاك، وإن أبى، رفع إلى مجلس القضاء، وحُمل على تأدية الدّين من المال الذي أفاده، بالحبس وغيره، على ما تفصّل.
__________
(1) (ت 2) : ثبوت.
(2) في الأصل: إعساره.
(3) (ت 2) : تفريق.
(4) (ت 2) : فإذا.
(5) (ت 2) :إلا.(6/425)
4050- والمحجور عليه المفلس إذا صرف القاضي أموالَه الموجودةَ إلى غرمائه، فهل يرتفع الحجر عنه أو لا بد من أن يفكه الحاكم؟
في المسألة وجهان: أحدهما - لا بد من رفع الحاكم؛ فإن ذلك يتعلق بالنظر والبحث والاجتهادِ، فكما لا يثبت الحجر إلا بضربِ السلطان [كذلك] (1) لا ينفك إلا بفكه.
والوجه الثاني - أن الحجر [ينفك] (2) ؛ فإن سببه صرفُ ما كان له من مالٍ إلى ديونه، فإذا انتجز ذلك، لم يكن للحكم باستمرار الحجر -وقد زال سببه- معنىً.
4051- والسَّفيه إذا ظهر صلاحه في الدِّين، وإصلاحه المالَ (3) ، فلا ينطلق الحجر عنه إلا بطلاق القاضي، كما سنذكرُه في كتاب الحجر، إن شاء الله تعالى. والسبب فيه أن الحجر نظرٌ للسَّفيه، والحق فيه له، ونظر السلطان قائم، والأمر موقوف إلى إظهاره انطلاقَ الحجر عنه. وسيأتي هذا في كتاب الحجر، إن شاء الله تعالى.
4052- وأمّا المجنون إذا أفاق، فلا شك في ارتفاع الحجر عنه؛ فإن الجنون وارتفاعَه لا يتعلقان بالنظر والاجتهاد، وسنستقصي القول فيمن عدا المفلسَ من المحجورين في كتاب الحجر، إن شاء الله تعالى.
ومن تمام القول في ذلك أن الغرماء لو قالوا: رفعنا الحجر عنك، والحق لا يعدونا، ففي ارتفاع الحجر من غير رفع الأمر إلى القاضي ترددٌ للأصحاب، يدل عليه تلويحاتُهم، ومرامزُهم، فيجوزُ أن يقال: يرتفع الحجر لما ذكرناه من أن الحجر كان بسببهم، وهم مطلقون لا تولي عليهم، وهم في الأموال تحت الحجر كالمرتهن في العين المرهونة (4) .
ويجوز أن يقال: لا بد من الرفع إلى القاضي، فقد يظهر غريم غيرهم، والأمر فيه مربوط بنظر الوالي؛ فإنه النائب عن كل غائب.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في الأصل: يفك.
(3) (ت 2) : للمال.
(4) أي الأمر إلى المرتهن في الإذن ببيعها والتصرف فيها، وردّها إلى الراهن.(6/426)
4053- وذكر الشيخ في الشرح مسألةً تتعلق بما نحن فيه: وهو أَنَّه لو باع المفلس جميع ماله من غريمه، ولا نَعرف غريماً سواه. قال صاحب التلخيص: يصح بيعُه، قطع جوابَه به؛ فإن الحجر بسبب هذا الغريم. فإذا دار العقدُ بينهما، وصدر عن تراضيهما، فلا وجه إلا تصحيحه.
قال الشيخ أبو علي: كان يدور في خلدي إمكان خلافٍ في ذلك، حتى رأيت للشيخ أبي زيدٍ وجهاًً آخر في ذلك: أنه لا يصح البيع من الغريم من غير مرافعة القاضي، وما ذكرته من التردد في رفع الغريم الحجرَ (1) عن المحجور عليه من غير مراجعة القاضي، مأخوذ من هذه المسألة.
4054- ولما حكى الشيخ الترددَ في البيع من الغريم بالدين الذي له على المحجور، حكى بعده أن المحجورَ لو باع ماله من غريمٍ (2) بعينٍ آخر، ولم يبعه منه بالدين الذي له عليه، فلا يصح هذا، وإن صدر عن الرضا (3) .
وكذلك قال: لو باع المحجور بإذن الغريم مالَه من أجنبي، لم ينفذ. وإنما حكى عن صاحب التلخيص وأبي زيد المروزي الخلاف فيه إذا باع المحجورُ عليه مالَه من الغريم بالدين. والذي ذكره الشيخ من الوفاق لا يساعَد عليه، ونفوذ البيع بإذن الغريم على نهاية الظهور في الاحتِمال. ثم وجْهُ تخصيص الخلاف بالبيع بالدين، أن ذلك يتضمن سقوطَ الدين، وفي سقوطه انطلاقُ الحجر، وفي البيع بغير الدين اطّرادُ الحجر، وكذلك في البيع من الأجنبي. وما ذكرته من رفع الحجر ينطبق على البيع (4) بالدين لا محالة.
وقد نجز الفصل الثاني من الفصول الثلاثة.
__________
(1) ساقطة من (ت 2) .
(2) (ت 2) : غريمه.
(3) عبارة (ت 2) :.. عن الرضا بالدين الذي عليه.
(4) (ت 2) : المبيع.(6/427)
الفصل الثالث
قال: " وإذا أراد الذي عليه انحق إلى أجلٍ السفرَ ... إلى آخره" (1) .
4055- من عليه دينٌ حالّ، ولم يثبت إعساره، إذا هم بالسفر، استمكن مستحِق الدين (2) من منعه من المسافرة.
وحقيقةُ القول في ذلك أنه لا يمنعه عن السفر في عينه منع السيد عبدَه، والزوجِ زوجتَه، ولكنه يتمكن من شغله عن السفر، برفعه إلى مجلس الحُكم، والتشبثِ به إلى تَوْفية الحق.
4056- ولو كان الدين مؤجَّلاً، لم يمتنع على من عليه السفرُ؛ إذْ ليس (3) لمستحق الدّين التشبث به قبل حلول الأجل.
وهذا مُطّردٌ في الأسفار، خلا سفر الغزو؛ فإن أصحابنا اختلفوا فيه، فذهب بعضهم إلى أنه يجوز منعه؛ فإن مسيره ومصيره إلى مصرعه، وهو سببُ حلول الدين. وهذا بعيدٌ، لا أصل له.
والأصح أنه لا يمتنع على من عليه الدين المؤجل أن يسافر نحو الغزو، فإن النظر إلى الحالِّ.
4057- ولوْ همَّ من عليه الدين المؤجل بالسفر، فساوقه مستحق الدين، عازماً على أن يلزمه حيث يحل الدين، فلا يمنع من الخروج معه، إذا كان لا يؤذيه إيذاء المراقب، والجادّة (4) مَطْرق الخلق.
4058- ولو قال مستحق الدين المؤجل لمن عليه الدين: لا تسافر حتى تعطيني كفيلاً بالدين أو رهناًَ، لم يكن على من عليه الدين إسعافُه، خلافاً لمالك (5) .
__________
(1) ر. المختصر: 2/223.
(2) (ت 2) : الحق.
(3) (ت 2) : وليس.
(4) الجادّة: الطريق. ومَطْرق مكان الطريق، والطروق. (معجم) .
(5) ر. القوانين الفقهية لابن جزي: 314.(6/428)
ولو قال لمن عليه الدين: أشهد على ديني، فالذي قطع به الأصحابُ أنه لا يلزمه ذلك، وهو الذي اختاره صاحبُ التقريب أيضاً. وحكى وجهاًً غريباً أنه يلزمه إجابته إلى الإشهاد. وهذا لا أصل له، فلا أعده من المذهب.
فرع:
4059- إذا أراد الإنسان أن يدّعي ديناً مؤجلاً على إنسان ففي قبول دعواه قبل حلول الأجل وجهان: أحدهما - أنه لا يقبل؛ فإنه لا يملك المطالبة به، فكيف يملك الاستعداءَ والرفعَ إلى مجلس القضاء. ومن أصحابنا من قال: تُقبل الدعوى؛ فإنه يبغي به التسبب إلى إثباتِ ملكٍ له، فليملك ذلك، وإن كان لا يتوصل إليه في الحال.
فإن قلنا: الدّعوى بالدين المؤجل مقبولة، فلا كلام، وإن قلنا: إنها غيرُ مقبولة، فعلى من يدعي الدين الحال أن يصرح بذكر الحلول، أو يقول: لي عليك ألف يلزمك تسليمه إليّ. فإن قال ذلك، وكان الدّين مؤجَّلاً، فللمدعى عليه أن يقول: لا يلزمني تسليم ما ادّعيتَه.
4060- وكشف القول يستدعي مزيد بَيانٍ مأخوذٍ من الاختلاف في مسألة، وهي أن الرجل إذا أقرّ بألفٍ مؤجل، فهل يقبل قوله في الأجل أم يؤاخذ بالألف حالاًّ، والقول قول المقر له في نفي الأجل مع يمينه؟ فيه قولان سيأتي ذكرهما إن شاء الله تعالى، في كتاب الأقارير.
فإن قلنا: لا يقبل قوله في الأجل لو أقر بالدين المؤجل، فيكتفَى منه -والحالة هذه- أن يقول: لا يلزمني التسليم، ويحلف عليه.
وإن قلنا: لا يؤاخذ بالألف حالاًّ لو اعترف به مؤجلاً، فوراء ذلك نظرٌ، يجب التثبت فيه. وهو أنا إذا فرعنا على أنه لا يؤاخذ بالألف حالاً؛ فلو قال المقر له: حلفوني أحلف على نفي الأجل، قلنا: لا يكتفى منك بهذا؛ فإنا نفرع على أنه غير مؤاخذ بالألف، وما ذكرته موجب المؤاخذة؛ فإنه على قول المؤاخذة كان لا يعجز عن تحليفك، فكأنا نقول: لا يلزمه إلا ما اعترف به، والمعترَف به دين مؤجل.
فإذا ثبت هذا، عدنا إلى غرضنا قائلين.(6/429)
4061- إن حكمنا بأنه يؤاخذ بالألف حالاًّ، وقد ادعى المدعي الألف حالاًّ، ولو اعترف المدعى عليه بالألف المؤجل، لكان مؤاخذاً بالألف حالاًّ. وغاية مضطرَبه أن يحلف المقر له، فعلى هذا يكفيه أن يقول في جواب الدعوى: لا يلزمني تسليم ما ادّعيتَه، ولا يحلفُ إلا على هذا الوجه.
وإن قلنا: لو أقر بالدّين المؤجَّل، لم يؤاخذ بالألف حالاًّ، فهل يقنع منه بأن يقول: لا يلزمني تسليمه؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يُقنع منه بذاك؛ فإن مقصود الدعوى مطالبة المدعى عليه، فإذا أنكر وجوب التوفية، وحلف عليه، فقد تعرض لمضادة مقصود الدعوى.
ومن أصحابنا من قال: عليه أن يبوح. فإن لم يكن أصلٌ (1) للدين، فليصرح بنفيه في الإنكار، وإن (2) كان (3) الدين ولكنه مؤجل، فليقر به مؤجلاً.
4062- وممّا يتعلق ببيان ما نحن فيه: أن من اعترف إعسار إنسان، وأراد أن يدعي عليه ديناً ليثبته على توقع مطالبته به إذا أفاد مالاً، ففي سماع ذلك خلافٌ مضاهٍ لما ذكرناه من دعوى الدين المؤجل. وهذه الصورة أولى بأن لا تُقبل الدعوى فيها؛ فإنّ زوال العسر لا منتهى له بضبط. وليس كالأجل.
4063- وذكر الأئمة في الدعوى على العبد في دين متعلق بذمته تردداً (4) أيضاً.
4064- وقد اشتمل كلامنا على ثلاث مراتب: المرتبة الأولى في الدين المؤجل، والثانية - في الدعوى على المعسر مع الاعتراف بإعساره، والثالثة - وهي أبعدها، وأولاها بالرد الدّعوى على العبد بدَيْن متعلقٍ بذمته على ارتقاب العتق وزوال الرق.
***
__________
(1) (ت 2) : له أصل.
(2) (ت 2) : فإن.
(3) (كان) هنا تامة: والمعنى إن وجد الدين، ولكنه مؤجل.
(4) في النسختين: تردد.(6/430)
كتاب الحجر
4065- الحجر هو المنع، وكل تحريمٍ حجرٌ في الشرع. والحجر في اصطلاح الفقهاء ما يتضمن المنعَ من التصرف.
والأسبابُ المقتضية للحجر: الجنون، والصبا، والرق، والسفه، والفلس.
فأما المجنون، فلا استقلال له، وأمره مفوضٌ إلى القوّام عليه. والجنون يسلب حكمَ أقوال المجنون بجملتها. والصبا يضاهي الجنونَ في سلب الأقوال الملزمة، وعليه بنينا منعَ إسلام الصبي على المذهب الظاهر، والصلاة تنعقد منه؛ لأنها ليست لازمة. وفي إحرامه احتياط في المذهب بيَنَّاه في المناسك. والفرق بين الإسلام والإحرام عسر.
4066- وأمّا الحجر بالرق، فثابت. وقد أنكر بعضُ أصحابنا عدَّ الرقيق من المحجورين، وقال: إنه لا يملك شيئاًً، فلم يتصرف. وهذا لا أصل له. ووجه منعه بيّنٌ، والقول في ذلك لا يشير إلى فقهٍ.
وتصاريف أحوال العبيد تنقسم ثلاثة أقسام: قسمٌ - لا ينفذ منه، وإن أذن المولى فيه كالولايات والشهادات. وقسم - يستفيده دون إذن المولى كالعبادات، والتصرفاتِ في النكاح المأذون فيه. وقسم - يتوقف نفوذه على إذن السيد وهو كابتداء النكاح، والبيع والشراء، على الأصح وغيرهما.
4067- وأمَّا المحجور عليه بالفلس، فقد انقضى حكمه في كتابه، وأمَّا المحجور عليه بالسفه، فتفصيل القول في اطراد الحجر عليه، وفيما ينفذ منه وما لا ينفذ، سيأتي على الاتصالِ، إن شاء الله تعالى، وهو مقصود الكتاب.
4068- ثم ذكر الأصحاب في صدر الكتاب تفصيلَ القول في البلوغ وسببه.(6/431)
والغرض التعرض للسَّفَه والتبذير والرشد المناقض لهما، ولكنّ نظمَ الكلام يقتضي ذكرَ زوال الصبا، والنظرُ بعد زواله في الرشد والسفه. والصّبي في الإطلاق غيرُ مكلَّف، وكأن الشرعَ لم يُلزم الصبيَّ قضايا التكليف بسببين: أحدهما - أنه في مظنة الغباوة وضعف القصد، فلا يستقل بأعباء التكليف. والثاني - أنه عري عن البلية العظمى وهي الشهوة. ثم ربط الشرعُ التزام التكليف بأمدٍ، أو تركّب الشهوة، أمّا الأمد فيُشير إلى التهذب بالتجارب، وأما تركب الشهوة؛ فإنه تعرض للبلايا العظام، فرأى الشرع تثبيت التكليف معه زاجراً، وإن اتفق ذلك دون الأمد المعتبر في البلوغ.
4069- فأما الأمد، فمذهب الشافعي أن بلوغ الغلام والجارية يحصل باستكمال خمسَ عشرةَ سنة. هذا هو المذهب.
وذكر بعض أصحابنا وجهاً بعيداً في أن البلوغَ يحصل بالطعن في السنة الخامسة عشرة، من غير استكمال. وهذا لا أصلَ له. هذا قولنا فيما يتعلق بالزمان.
4070- فأمّا تركب الشهوةِ، فلا مُطَّلعَ عليه إلا من جهة العلامة، حتى نذكر العلامة في الغلام والجارية والخنثى.
فأمّا الغلام فعلامة تركّب الشهوة فيه انفصالُ المني، وقد وصفناه في كتاب الطّهارة. ثم اختلف أصحابنا في أقلّ السّن الذي يُفرض بلوغ الغلام بالاحتلام فيه، فقال قائلون: إنه يحتلم (1) إذا استكمل العاشرة. ولو فرض انفصال ما نراه على صفة المني في التاسعة، فهذا نادرٌ.
وقد مضى القول في كتاب الحيض فيما يُفرض ندورُه في الحيض، وأقلِّه وأكثرِه.
والمتبع في هذه الأبواب الوجودُ، واتباع الأولين، وقد أشبعنا القول في ذلك على أقصى الإمكان.
وإنما الذي نُجريه الآن ذكرُ كلام الأصحاب، خلافاً ووفاقاً، على ما تقرّر عندهم في حكم العادة. هذا قولنا في سبب بلوغ الغلام.
__________
(1) (ت 2) : يحتمل.(6/432)
4071- فأمّا سبب بلوغ الجارية، فاعتبار السن [فيها كاعتبار السن] (1) في الغلام.
وقد روى الدارقطني بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا استكمل المولود خمسَ عشرةَ سنةً، كتب ما له وما عليهِ وأقيمت عليه الحدود " (2) ولفظ المولود يعم الغلام والجارية، فلا فرق بينهما فيما يتعلق بالسن باتفاق الأصحاب.
وأمّا (3) الخارجُ الدال على البلوغ فيها، فالحيض لا شك أَنَّه يدل على البلوغ.
والقول في أقل سن الحيض استقصيناه في كتاب الحيض.
والمرأة إذا احتلمت وخرج منها ما يُعتقد أنه أصل فطرة المولود من جانبها، فقد ذكرنا في كتاب الطّهارة أن المرأة تغتسل إذا رأت ذلك، واستشهدنا عليه بحديث المرأة التي سألته صلى الله عليه وسلم وقالت: ما على المرأة إذا هي احتلمت؟ فقال صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: " إذا رأت ذلك، فلتغتسل "، فإذا رأت الصبية ما وصفناه، فهل يكون ذلك بلوغاً منها إذا رأت ذلك على سن إمكان البلوغ (4) ؟ فعلى وجهين ذكرهما الأصحاب: أحدهما - أنه يكون بلوغاً منها، بمثابة احتلام الغلام.
والثاني - لا يكون بلوغا؛ لأن ذلك نادر في جنسهن، وحق البلوغ أن يُناط بالعلامات الظّاهرة. وللنَّظر (5) وراء ذلك مضطرَبٌ.
فإذا قلنا: يحصل البلوغ، وهو الأصح، فلا إشكال. وإن قلنا: لا يحصل البلوغ، فالذي يتّجه عندي أن هذه لا يلزمها الغسل في هذا المقام؛ فإنا لو ألزمناها ذلك، لكان حكماً [بأن المنفصل منيٌّ] (6) والجمع بين الحكم بأنه منيٌّ يوجب خروجُه
__________
(1) ما بين المعقفين سقط من الأصل.
(2) حديث "إذا استكمل المولود ... " رواه البيهقي في السنن: 6/57، وقال: "إنه ضعيف"، كما رواه في الخلافيات أيضاً. وعقب الحافظ على قول إمامنا: "رواه الدراقطني" قائلاً: لعله في الأفراد أو غيرها، فإنه ليس في السنن (ر. التلخيص: 3/93 ح 1252) .
(3) (ت 2) : أصحابنا. فأما.
(4) (ت 2) : إمكان سن البلوغ.
(5) (ت 2) : والنظر.
(6) في الأصل: بأنه المني المنفصل. وفي (ت 2) : بأن مني المنفصل. والمثبت تصرّف من المحقق.(6/433)
الغسلَ وبين الحكم بأن البلوغ لا يحصل به، فيه تناقض. فعلى هذا يُقطع بوجوب الغسل بخروج المني من المرأة التي لا نشك في بلوغها. وإذا رأت الصبيةُ ذلك في مظنة البلوغ، ففي وجوب الغسل ما ذَكرته. هذا ما رأيته.
وظاهر كلام الأصحاب ثبوتُ الغسل وجهاً واحداً، والتردُّدُ في حصول البلوغ (1 من جهة ندور الشيء. وهذا غير سديد. وظاهر المذهب حصول البلوغ 1) ، فقد اجتمع للمرأة أسبابٌ ثلاثة إلى أن يلحق بها بعد ذلك ما ينبغي، فالأسباب الثلاثة: السن، والحيض، وانفصال ماء الفطرة.
4072- فأما الإنباتُ - يعني إنباتَ العانة - فإنه يعم الغلامَ والجارية، ولم يختلف الأصحاب في أنه تعلّقَ به الحكمُ بالبلوغ في حق أولاد الكفار، والشاهد له ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني قريظة، لما حكم سعدٌ بقتل مقاتلتهم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجالهم، فضربت أعناقهم، وكان يأمر بالكشف عن مؤتزر الغلام، فكل من أنبت منهم، كان يقدّم وتضربُ رقبته (2) .
4073- ثم الترتيب الجامع المرضي في ذلك، أن الأصحاب اختلفوا في أن الإنبات عينُ البلوغ، أو علامةُ البلوغ. هكذا قال الأصحاب. فإن جعلنا الإنبات عينَ البلوغ، وجب الحكمُ بالبلوغ عنده (3) في أولاد المسلمين، كما يجب ذلك في أولاد الكفار.
وإن قلنا: إنه علامةُ البلوغ، ففي أولاد المسلمين وجهان: أحدهما - يحكم بالبلوغ فيهم قياساً على أولاد الكفار.
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ت 2) .
(2) متفق عليه دون قصة الإنبات، من حديث أبي سعيد (اللؤلؤ والمرجان ح 1155) وأما قصة الإنبات، فهي عند أصحاب السنن: رواها أبو داود: الحدود باب في الغلام يصيب الحد، ح 4404، والترمذي: السير باب ما جاء في النزول على الحكم، ح 1584، والنسائي: الطلاق، متى يقع طلاق الصبي، ح3430، وعنده أيضاًَ في كتاب قطع السارق، باب حد البلوغ، ح 4981، وابن ماجة: الحدود باب من لا يجب عليه الحد، ح 2541، 2542، وانظر التلخيص: 3/94 - ح 1253، 1254.
(3) عنده: أي عند من يقول بأن الإنبات عين البلوغ.(6/434)
والثاني - لا يُحكم؛ فإنا نطلع على تواريخ ولادة أولاد المسلمين؛ فلا نتعلق بالأمر الخفي، وقد لا نطلع على التواريخ في أولاد المشركين، فنكتفي بهذه العلامة.
وهذا الذي ذكره الأصحاب فيه بعضُ النّظر، [فلا] (1) وجه عندنا للحكم بأن الإنبات عينُ البلوغ، ولا طريق إلا القطعُ بأنه علامةٌ. ثم ينتظم عليه مراد الأصحاب في القطع بأنه علامة في أولاد الكفار، والتردد في أولاد المسلمين.
والمعنيُّ بالإنبات ظهورُ الشعر الخشن الذي يتميز عن الزغب.
وحكى بعض الأثبات عن القاضي أنه نزَّل نبات اللحية، والشارب، والإبط، منزلة نبات العانة، وهذا حسن متّجه. وإنبات العانة يقع في مفتتح تحريك الطبيعة، في [تركب] (2) الشهوة.
ونباتُ اللحية، والشاربِ والإبط لا يتراخى في الغالب عن البلوغ، فكان أولى بالدلالة على البلوغ من إنبات شعر العانة.
فأمَّا انفراق الأرنبة (3) ، ونتوء غضروفة الحلقوم، وثقل الصوت، ونهودُ الثدي، فشيء منها لا يكون علامةً في البلوغ.
هذا منتهى ما أردناه في بلوغ الغلام والجارية، وما يختص به كل واحد منهما، وما يشتركان فيه.
4074- فأمّا الخنثى، فالسن في حقه كالسن في حق الجنسين، وأمَّا انفصال ما هو على نعت المني، وخروجُ ما هو على صفة الحيض، فهل يتعلق البلوغ به؟ ذكر الشيخ أبو علي، والعراقيون طريقةً، نحن طاردوها، ثم ننبه على وجه التحقيق.
قالوا: إذا انفصل [منه] (4) ما هو على صفة المني، فلا نحكم بالبلوغ، لجواز أن
__________
(1) في الأصل: ولا.
(2) في الأصل: تركيب.
(3) (الأرنبة) بمعنى: طرف الأنف. (المصباح - المعجم) ولكن ما معنى انفراقها؟ وكيف يكون انفراقها عند البلوغ؟
(4) ساقطة من الأصل.(6/435)
يعارضه خروجُ ما هو على صفة الحيض، وكذلك إذا سبق خروج المني (1) من فرج النساء، لم نحكم بالبلوغ لما ذكرناه من احتمال خروج الدم بعده. ولو خرج المني من الذكر، والدمُ من الفرج، ففي الحكم بالبلوغ وجهان: أحدهما - أنه يحكم به؛ فإنه إن (2) كان رجلاً، فقد أمنى، وإن كانت امرأةً، فقد حاضت.
والوجه الثاني - أنه لا يُحكم بالبلوغ لتعارض الخارجَيْن، وليس أحدهما بأن يحال عليه البلوغ أولى من الثاني.
قال الشيخ أبو علي: نصُّ الشافعي يدل على هذا الوجهِ الأخير، وهو أن البلوغ لا يحصل عند التعارض.
4075- وهذا الذي ذكروه كلام مختلط، لا يستند إلى تحصيل. وقد ذكر الأصحابُ في الطرق في علامات الذكورة والأنوثة، أن الخنثى إن كان يبول بمبالِ الرجل، فهو رجل، وإن كان يبول بمبال النساء، فهو امرأة، وإن كان يبول بهما، فالأمر مشكل (3) ، فيتعلق بخروج المني والحيض أوان البلوغ، فإن أمنى بفرج الرجال، فهو رجل، وإن حاض بفرج النساء، فهو امرأة، فإن كان خروج ما هو على نعت المني دالاًّ على الذكورة، فيجب القطع بكونه منيَّاً دالاًّ على البلوغ، وإن لم نحكم بالبلوغ، وجب ألا نحكم بالذكورة، وهذا لا شك فيه.
والقول في الحيض إذا انفرد، ولم يعارضه المني كالقول في المني إذا لم [يعارضه] (4) الحيض.
4076- وأنا أذكر مسلكين: أحدهما - الحق عندي. والثاني - يفيد تقريب كلام الأصحاب من وجهٍ، على بعده. فأمّا الحق الذي يجب اتباعُه، فهو أن نقول: المني إذا انفرد خروجه، كان بلوغاً. وكذلك القول في الحيض إذا انفرد. فإن قيل: إذا سبق المني، لم يبعد توقعُ الحيض بعده، فكيف يقع به الحكم بالبلوغ؟ قلنا: هذا
__________
(1) (ت 2) : الدم.
(2) (ت 2) : فإن كان.
(3) (ت 2) : ملتبس.
(4) في الأصل: يعرض.(6/436)
يتوجه في الحكم بالذكورة والأنوثة. وإن شبب مشبب بخلافٍ في الذكورة والأنوثة في الحيض والمني، أُلزم خروجَ البول من أحد المبالين؛ فإنه يبيّن الذكورة والأنوثة، وإن كنا لا نأمن خروجَه من المبال الثاني بعد خروجه من المبال الأوَّل. ثم لا خلاف أنا نعلق الحكم بالمبال إذاً سبق، فإن تأخّر عنه الخروج من المبال الثاني، نقضنا ما حكمنا به، فالوجه إذاً القطع بحصول الذكورة بالمني إذا انفرد، وحصول البلوغ. وكذلك القول في الحيض إذا انفرد.
وإن خرج المني والحيض، فلا شك أنا لا نحكم بالذكورة والأنوثة، لتعارض الأمرين. وهل [يُحكم] (1) بالبلوغ؟ هذا محتمل جدّاً. يجوز أن يقال: يحصل البلوغ؛ فإنه إن التبس الذكورة والأنوثة، فقد حصلت العلامتان المعتبرتان في البلوغ، فإن كانت امرأة، فقد حاضت، وإن كان رجلاً، فقد أمنى. ويجوز أن يقال: لا يحصل البلوغ بناء على أن الخارجَيْن ليسا منياً ولا حيضاً؛ فإن تعارضهما قد [يثير] (2) هذا الإشكال، فإنَّ الجبلّة التي تنشىء المني، لا تنشىء الحيض من مغيضه، والطبيعة التي تنشىء الحيض لا (3) تنشىء المني، فلا يمتنع ألاّ نحكم على الواحد من الخارجَيْن تحقيقه، وبهذا نوجه نصّ الشافعي -إن كان له نص (4) - فهذه الطريقة التي أرتضيها.
فأما تقريب قول الأصحاب، وحملُه على وجهٍ يقرب بعض القرب، فهو أن يقال: إن سبقَ المني، حكمنا حكماً ظاهراً بالبلوغ، وكذلك إن سبق الحيض؛ فإن سبق أحدُهما، ولحقه الثاني، فحُكْمنا بالبلوغ، ربطاً بالسابق منقوضٌ لا محالة. فهذا هو المعنيّ بقول الأصحاب: لا نحكم بالبلوغ. فإذا اعتقبا، فهل نحكم الآن، وقد نقضنا حكمنا الأول بالبلوغ؟ فعلى التردد. وهذا مع بذل الجهد فيه مُثبَّجٌ (5) .
__________
(1) في الأصل: يحتكم.
(2) في الأصل: يكثر.
(3) ساقطة من (ت 2) .
(4) في هامش (ت 2) : حاشية: " نصَّ الشافعي رضي الله عنه في الأم أن الخنثى إذا حاض وأمنى، لا نحكم ببلوغه ".
(5) مثبّج: معمَّى. (معجم) .(6/437)
فصل
4077- قد ذكرنا ما يحصل البلوغ به، ونحن نذكر الآن الرشدَ ومعناه، ونقيضه، وهو السفه؛ فإن الربَّ تعالى علق زوال الحجر في حق الصبي بالبلوغ، وإيناس الرشد، فقال تعالى: {فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6] فنذكر معنى الرشد، فنقول: الرشيد هو الصالح في دينه، المصلح لمالهِ، فلو بلغ الصبي مبذراً، وهو الذي يصرف ماله في جهةٍ لا يستفيد به أجراً في الآجل، ولا حمداً ممّن يُعتبر حمدُه في العاجل. هذا معنى التبذير.
4078- فإن بلغ الصبي فاسقاً، وكان يعدُّه أهل المعاملات مصلحاً لماله، مقتِّراً ضابطاً، فهو في معنى المبذر؛ والسَّبب فيه أن الفاسقَ قد يصرف أمواله إلى [اتخاذ] (1) الخمور، [وأجرة القَيْنات] (2) وأبناءُ جنسه يعدّونه مقتصداً في نوعه، وصرفُ المال إلى هذه الجهات تبذيرٌ في الشرع، وإفسادٌ للمال.
4079- ولو كان يتعدى طوره (3) في اتخاذ الأطعمة الفائقة الكثيرة القيمة والمؤنة، وكان لا يليق ما يفعله بمنصبه ومرتبته في اليسار، فهذا منه تبذير. ويختلف ما أشرنا إليه باختلاف المنازل والرتب.
4080- وذكر أئمتنا أنّ صرف المال في الخيرات وجهاً القربات ليس بتبذير.
ومن رشيق كلام المتقدمين قول بعضهم: لا خير في السَّرف، ولا سرف في الخير.
وكان شيخي يفصل ذلك تفصيلاً حسناً، ويقول: إذا بلغ الصبي، وكان يتشوف إلى صرف المال إلى الخيرات على سرفٍ، فهو تبذير منه، [وإن بلغ مصلحاً للمال مقتصداً، وزال الحجر، ثم طرأ السَّفه، فنذكر أنه يعود الحجرُ، فلو طرأ إفراطٌ في صرف المال إلى الخيرات، فلا نُعيد عليه الحجرَ بهذا. وعند ذلك يقع الفرق بين
__________
(1) مزيدة من (ت 2) .
(2) ما بين المعقفين أثبتناه من (ت 2) . مكان كلمة واحدة بالأصل تعذر قراءتها، صورتها هكذا: (واحساه) .
(3) في الأصل: في طوره.(6/438)
السرف في النفقات، وبين السرف في الخيراتِ] (1) وهذا على حسنه ممَّا انفرد به.
والأئمة لم يفرقوا بين حالة البلوغ، وبين ما يطرأ من ضراوةٍ بالخيرات، والمسألة في الإطلاق والتفصيل محتملة جدّاً.
4081- وإذا بلغ الصبي سفيهاً، اطرد الحجر عليه، ووليّه بعد بلوغه سفيهاً مَنْ كان وليّه في صباه؛ فإن السَّفه اتصل بالصبا، فكان ذلك بمثابة تمادي الصّبا.
4082- وإذا زال سفهُ السفيه وبان رشدُه، فالأصح أنه ينطلق الحجر عنه من غير حاجةٍ إلى رفع القاضي وإطلاقهِ؛ فإن استمرار الحجر لم يكن بضرب القاضي، [فلا] (2) يتوقف زواله على إطلاقه، وإزالته.
ومن أصحابنا من قال: لا ينطلق الحجر عنه، وإن ظهر رشدُه، ما لم يتصل الأمر بنظر القاضي وإطلاقه؛ فإنَّ زوال السَّفه مجتهدٌ فيه، فيجب ربط رفع الحجر بمن إليه النّظر العام. وهذا بعيد جداً.
4083- وممَّا يتصل بتمام القول في ذلك أن الصبيَّ لو بلغ، ولم يظهر منه ما يخالف الرشدَ، فالأصح أن الحجر يرتفع عنه، ولا حاجة إلى إطلاق القاضي.
وذكر بعض الأصحاب وجهاً بعيداً في هذا المقام أيضاًً في أن رفع الحجر يتصل بالحكم وإطلاق الحاكم. وهذا بعيد جدّاً، وهو أبعد ممَّا حكيناه فيه إذا بلغ سفيهاً، ثم زال السفه واستمر الرشد؛ فإنه قد يظن أن الحجر ثبت (3) بمجتهَدٍ فيه، وهو السفه، فيزيله المجتهد بنظره. وهذا يبعد كل البعد إذا لم يثبت سفَه متصل بزوال الصبا.
4084- فلو بلغ الصبيُّ رشيداً، وثبت كونُه مطلَقاً، فعاد سفيهاً، فلا بد من الحجر. والمذهبُ الأصح أنه لا يعود بنفسه محجوراً عليه، بل يتوقف الحجر على ضرب القاضي؛ فإنه ثبت استقلالُه، وانقطاع الولاية عنه؛ فلا سبيل إلى عَوْد الحجر
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، وأثبتناه من (ت 2) .
(2) في الأصل: ولا.
(3) (ت 2) : يثبت.(6/439)