النهار، فهذه أسباب طرأت، لو [اقترنت] (1) بالوقاع، لتضمنت إسقاطَ الكفارة، وانتهضت معاذيرَ في الفطر و (2) منافيةً للصوم، كالجنون، والحيض، ففي سقوط الكفارة في هذه الصورة أقوالٌ ثلاثة: أحدها - أنها لا تسقط، فإنّ الجماع جرى مفسداً؛ فلا أثر لطريان ما طرأ بعده، وكأن هذه الأسباب كانت (3) تنتهض مقتضياتٍ للترخص بالفطر، لو دام الصوم، فإذا تقدم الجماعُ المفسد، فكأن المجامع كما (4) أفسد الصومَ سد على نفسه باب الترخص.
والقول الثاني - أن الكفارة تسقط [للشبهة] (5) وتوجيه ذلك لائح.
والقول الثالث - أنا نفصل بين طريان ما ينافي الصوم كالجنون والحيض، وما لا ينافي، بل يُثبت رخصةَ الفطر، كالمرض، فتسقط الكفارة بما ينافي؛ إذ تبينا أن الصوم كان لا يتصوّر تمامه، ووضح أنه بالجماع لم يعترض على صوم كان يتم، والمرض [من] (6) أسباب الرخص، وقد تختص [الرخصة] (7) بمن [لم] (8) يفسدها على نفسه.
2333- ولو أصبح مقيماً صائماً، [وجامع] (9) عاصياً، ثم سافر، لم يختلف قولنا في أن الكفارة لا تسقط؛ فإن طريان السفر لا يرخّص في الإفطار بخلاف، طريان المرض. ولم يجعل أئمتنا مذهبَ أحمد، والمزني -حيث صارا إلى جواز الإفطار في هذا الموضع- شبهةً (10) ، فإن ما صارا إليه في مناقضة أصلٍ متمهدٍ ظاهر، وهو
__________
(1) غير مقروء في الأصل. و (ك) : تقرنت.
(2) في (ط) : أو.
(3) ساقطة من (ط) .
(4) بمعنى: عندما.
(5) الأصل، (ك) : للتشبه.
(6) مزيدة من (ط) .
(7) زيادة من (ط) .
(8) في الأصل: لا.
(9) مزيدة من (ط) وحدها.
(10) مفعول: يجعل.(4/58)
تغليبُ حكم الحضر في العبادة، التي يشترك فيها السفر، والحضر.
وذكر صاحب التقريب: أن من أصحابنا من خرّج سقوط الكفارة، عند طريان السفر على قولين أيضاًً كالمرض، وهذا بعيد، ولكنه ذكره على ثبت. واختلفت الرواية [في السفر] (1) عن أبي حنيفة (2) وموجَب هذه الطريقة: أنه لو سافر، ثم جامع لم تلزمه الكفارة؛ بناء على درئها بمذهب من لا يوجب (3) الصوم، وهذا تخليط، والأصل القطع بأن طريان السفر لا يؤثر.
فصل
2334- إذا طبق الجنون أياماً من رمضانَ، ثم كانت الإفاقة في بقيةٍ من الشهر، فلا يجب عندنا قضاء الأيام التي مرت في زمن الجنون. وكذلك إذا مضت أيامٌ في الصبا، ثم طرأ البلوغ في أثناء الشهر، أو أسلم الكافر الأصلي. وإنما التردد في اليوم الذي تزول فيه هذه المعاني، كما تقدم ذكرنا له في الإمساك، والقضاء. ووافق أبو حنيفة (4) في الصِّبا والكفر، وخالف في الجنون.
وذكر العراقيون عن ابن سريج مثلَ مذهب أبي حنيفة [في الجنون] (5) ثم زيفوا هذا الذي حكَوْه، وقالوا: هو غلط عليه، ولعله لا يصح نقله عنه أصلاً.
__________
(1) زيادة من (ط) .
(2) قد كان إمام الحرمين في منتهى الدقة في عبارته عن الخلاف في هذه المسألة، فقد اختلفت الرواية فعلاً عن أبي حنيفة، فمع أن كافة كتب الأحناف لا تشير إلى خلاف، إلا أن الزمخشري روى هذا الخلاف في رؤوس المسائل الخلافية (ر. المبسوط: 3/75، 76، البدائع: 2/100، 101، مختصر اختلاف العلماء: 2/30 مسألة 514، البحر الرائق: 2/298، فتح القدير: 2/337، الاختيار: 1/131، رؤوس المسائل: 230 مسألة 126) .
(3) (ط) : يجيز.
(4) ر. الأصل: 2/183، 200، 201، 202، المبسوط: 3/80، 88، 93، مختصر الطحاوي: 55، البدائع: 2/87، 88، اللباب: 1/172، 173، مختصر اختلاف العلماء: 2/15 مسألة 498، 2/16 مسألة 499.
(5) ساقطة من الأصل وحدها.(4/59)
والإغماء إذا استمر أياماً أو طبق جميعَ الشهر، فيجب قضاء الصوم في الأيام المارّة فيه، وهو كالحيض في أنه لا يُسقط قضاءَ الصوم، ويسقط قضاء الصلاة.
فصل
قال الشافعي: " ولو كان عليه يومٌ من شهر رمضان ... إلى آخره " (1) .
2335- نجمع في هذا الفصل تفاصيلَ الفدية، ومواضعَها.
ونبدأ بما تعرض له الشافعي الآن، فنقول: من فاته صيام أيامٍ من رمضان، وتمكن من قضائها، فلا يجوز له أن يؤخر قضاءها إلى شهر رمضانَ في السنة القابلة، وليس ما نذكره استحباباً، بل يتحتم ذلك، مع القدرة، وزوال المعاذير.
ولو فرض تأخير القضاء إلى السنة القابلة، من غير عُذرٍ، فيجب مع القضاء لكل يوم مدٌّ من طعام، والمعتمد في أصل التأقيت، وفي الفدية عند الإخلال بالوقت الخبرُ، والأثر، وهما مذكوران في مسائلِ الخلاف، ولا نرى قضاء عبادة يتأقت على الاستحقاق إلا هذا.
ولو أخر القضاء سنتين أو سنين، ففي تضعيف الفدية وجهان: أحدهما - أنها لا تتضعّف، ولا يجب بالتأخير سنين إلا ما [وجب بالتأخير] (2) في السنة الواحدة. ثم يجوز أن يكون هذا قضاءً بالتداخل (3) ، كما مهدناه في كفارة الوقاع، على قولٍ.
والأصح تعدد الفدية، وتجدّدها، فيجب على مقابلة التأخير في كل سنة مدٌّ، فإن أخر سنتين، وجب مع قضاء كل يوم مدان. وهكذا زائداً، فصاعداً؛ فهذا مقامٌ في الفدية.
ومما يتعلق بذلك أن التأخير إن كان بعذر، فلا فدية أصلاً، مثل أن يدوم المرض طول السنة، أو يدوم السفر، وكل ما يجوز تأخير أداء الصوم به، يجوز تأخير القضاء به، ثم لا فديةَ.
__________
(1) ر. المختصر: 2/17.
(2) في الأصل: يجب في السنة.
(3) في (ط) : بالتواصل.(4/60)
ومن صُور الفدية أن الشيخ إذا بلغ الهَرَم، و (1) عجز عن الصوم لهَرَمه، لا لمرضٍ زائد عليه، فلا شك أنه لا يصوم، ويلزمه أن يُخرج بدلَ كلِّ يوم مُداً، إذا قدر عليه.
وظاهر المذهب: أنه واجبٌ.
وحكى العراقيون قولاً عن الشافعي أن الفدية ليست بواجبةٍ، ونسبوا القولَ إلى رواية البويطي، وحرملة، ووجه هذا في القياس بيّن؛ فإن الهَرِم معذور، وقد قال الأئمة بأجمعهم: لو مرض الرجل مرضاً يبيح له الفطر، ثم دام المرضُ حتى مات، لم تجب الفدية في تركته، ولا أعرف في ذلك خلافاً، فلا يبعد أن يعد الهَرَم عذراً دائماً (2) ، ولكن هذا القول، مع اتجاهه في القياس، لا يُعوّل (3) عليه في المذهب.
ومن صور الفدية إفطار الحامل، والمرضع، وقد تفصّل القول فيهما، فيما تقدم، وذكرنا اختلافَ الأصحاب في إيجاب الفدية على من يتعمد الإفطارَ بالأكل عاصياً.
2336- ومما يتصل بالفدية أن من مات وعليه قضاءُ أيامٍ من رمضان، وكان متمكناً من القضاء، ولا عذر، فالمنصوص عليه في الجديد أنه يُخرَج من تركته في مقابلة كل يوم مد، وهذا فيه إذا لزمه القضاء، وانتفى العذر، ومات في خلال السنة. فأما إذا أخّر القضاءَ مقصِّراً إلى شهر رمضان في القابل، والتزم [لذلك الفدية] (4) ، ثم مات قبل القضاء، وإخراجِ الفدية، فالذي ذهب إليه الجماهير إيجاب مُدَّيْن، في مقابلة كل يومٍ: مدٌّ في مقابلة الصوم نفسه، ومد في مقابلة التأخير.
وحكى العراقيون وجهاً عن ابن سريج أنه قال: يتداخل المدان، ويكتفى بواحد.
وهذا بعيدٌ جداً، لا ينقدح له وجه.
هذا تفريعنا على القول الجديد.
__________
(1) في (ط) : أو عجز.
(2) في (ط) : قائماً.
(3) في (ط) : معوّل.
(4) في الأصل، (ك) : الفدية كذلك.(4/61)
2337- وللشافعي قولٌ في القديم: أن من مات وعليه صومٌ، صام عنه وليُّه، وقيل نُقل في ذلك خبرٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، على هذه الصيغة (1) ، ولست أدري أن الشافعي ترك العمل بالخبر في الجديد؛ لأنه استبان ضعفَه أو ثبت عنده نسخٌ.
ثم التفريع في هذا مما لم يتعرض له الأصحاب، فلا سبيل إلى [التحكم] (2) به، والذي يصوم عن الميت الولي، كما ورد في الخبر، أو الوارث أو القريب من غير اعتبار وراثة، أو يناط ذلك بالعصوبة؟ لا نقل عندي في تفصيل هذا.
وقد وجدت الأصحاب مضطربين فيمن يرث حدَّ القذف، وذلك بعيد عما نحن فيه. وإن نزلنا هذا القولَ على لفظ الولي، فإنه المنقول، فليس معنا في معناه ثبت نعتمده، والميت في غالب الأمر لا يكون مَوْلياً عليه. وكان شيخي يقول: لا خلاف أنه لا يجب على الولي أن يصوم، وإنما الخلاف في أنه لو صام عن الميت، هل يعتد به. والعلم عند الله تعالى.
2338- وإذا أردنا جَمْعَ التراجم، قلنا: الفديةُ تتعلق بنفس الصوم تارةً، فتحل محلَّه، وقد تنضم إلى الصوم ولا تبدله، فأما ثبوتها بدلاً عن الصوم [ففي] (3) الشيخ الهِمّ، والذي مات وعليه صومٌ، كان قصر في تأخير قضائه. وأما الفدية [المنضمة] (4) إلى القضاء، فالمتفق عليه منها ما يجب بسبب تأخير القضاء من سنةٍ إلى سنة، والمختلف فيه الفدية في حق الحامل، والمرضع. وفي المتعمد العاصي بالإفطار الخلافُ المقدم.
2339- ثم جنس الأمداد جنسُ صدقةِ الفطر، والكفارات الواقعة بالإطعام. وكل
__________
(1) حديث صيام الولي عن الميت. متفق عليه من حديث عائشة (البخاري: الصوم، باب من مات وعليه صوم، ح 1952، مسلم: الصوم، باب قضاء الصيام عن الميت، ح 1147) .
(2) في (ط) ، (ك) : الحكم.
(3) الهِمّ بالكسر: الشيخ الفاني، والأنثى: همة (مصباح) . هذا وفي نسخة الأصل، (ط) : " في الشيخ الهم " وأثبتناها من (ك) ، فالعبارة بدونها لا تستقيم هنا.
(4) في الأصل، (ك) : المتضمنة.(4/62)
مدٍّ بمثابة كفارة تامّة، فلو أراد من لزمته أمدادٌ جَمْع عدد منها في مسكين واحد، جاز له ذلك؛ إذ لا يجب تفريق المدّ الواحد، وكل مدٍّ كفارة.
فصل
قال: " فإن بلع حصاةً، أو ما ليس بطعامٍ ... إلى آخره " (1) .
2340- نجمع في هذا الفصل مفسداتِ الصوم، وقد مضى صدرٌ منها، فنرسمها على هيئة الترجمة، ونستقصي ما لم يجرِ ذكره. ونبدأ به.
فنقول: وصول الواصل إلى باطن عضوٍ يعد مجوفاً مفطرٌ، على الاختيار والذكر، كما تفصل ذلك. وإذا جاوز شيءٌ الحلقومَ فطَّر، وكذلك ما يجاوز الخيشومَ في الاستعاط. والحقنةُ مفطرةٌ، وكذلك إيصال الشيء إلى المثانة.
والمذهب أن ما تجاوز ظاهر الإحليل يُفطر، وإن لم ينته إلى فضاء المثانة. وفيه وجهٌ بعيدٌ، لا أصل له.
ولو قطّر شيئاً في أذنه، فانتهى إلى داخل الأذن الباطن، فقد كان شيخي يقطع بأنه مفطر، والذي قطع به الشيخ أبو علي، وطوائفُ من علماء المذهب أنه لا يفطر.
وكان الشيخ يراعي الوصولَ إلى ما يُعدّ باطناً، والآخرون يرعَوْن أن يكون في الباطن الذي إليه الوصول قوةٌ تُحيل الواصلَ إليه غذاء، أو دواءً، وداخل الأذن ليس فيه ذلك، والتردد في داخل الإحليل، فوق المثانة، قريب من هذا التردد.
ولو [وجأ] (2) الإنسان نفسَه بسكين، فإن انتهى طرفُ السكين إلى باطنٍ كما وصفناه، حصل الفطر، وإن كان نصابُه (3) ظاهراً، وكذلك إذا بلع طرفاً من خيط، وطرفٌ منه بارزٌ، فالفطر يحصل بوصول الطرف [الواصل] (4) ، وخالف أبو حنيفة (5) في ذلك. ولو أوصل السكينَ إلى داخل لحم الساق، والفخذ، فلا فطر، فإن [ما
__________
(1) ر. المختصر: 2/17.
(2) في الأصل، (ك) : وجه.
(3) النصاب مقبض السكين (معجم) .
(4) مزيدة من (ط) .
(5) ر. بدائع الصنائع: 2/93، البحر الرائق: 2/300.(4/63)
وراء] (1) البشرة، وإن كان من الباطن، فليس جوفاً، وكذلك إن انتهى طرفُ السكين إلى مكان المخ، فلا فطر؛ إذ العضو لا يعد مجوفاً.
ولو أوصل الدواء [من شجة آمَّة (2) إلى ما وراء القِحْف (3) ، حصل الفطر، ولا يتوقف حصولُه على الوصول إلى ما وراء خريطة (4) الدماغ.
وإن أوصل الدواء] (5) إلى جرح نافذٍ إلى الباطن، فإن وصل إلى داخل البطن، حصل الفطرُ، وإن لم ينته إلى الأمعاء. ولو جاوز الدواءُ سطحَ البَشرة، ولم ينته إلى فضاء البطن، فالوجه القطع بأنه لا يفطِّر، فإن الوصول إلى هذا المكان لو كان يفطِّر، لفطَّر وصولُ السكين إليه في ابتداء الجرح، وفي بعض التصانيف غلطٌ ظاهر في الحكم [بالفطر] (6) بمجاوزة الدواء البشرة، وهذا محمول على [تثبّج (7) ] (8) العبارة، وسوء الإيراد، والمراد الوصول إلى الباطن كما وصفناه.
وقد ينفصل وصول اللبن إلى الباطن في حكم الرضاع، عما يحصل [الفطر] (9) به في بعض التفاصيل، حتى جرى في حصول الرضاع بحقنة اللبن قولان، إلى غير ذلك، على ما سيأتي شرحه في موضعه إن شاء الله تعالى.
2341- وداخل الفم والأنف إلى منتهى الخيشوم والغلصمة (10) في حكم الظاهر.
والريق السائل من داخل الفم، فالواصل إلى الجوف واصلٌ من ظاهرٍ إلى باطن،
__________
(1) في الأصل: فإن جاوز البشرة.
(2) أمّه: شجه، والاسم آمة بالمد اسم فاعل، والجمع: أَوَام، بفتح أوله وثانيه مثل دابة ودواب. وسميت هذه الشجة آمّة، لأنها تصل إلى أم الدماغ. (مصباح) .
(3) القِحفُ بالكسر أعلى الدماغ. (مصباح) .
(4) الخريطة في الأصل الوعاء، والمراد هنا التجويف العظمي (الجمجمة) التي تحوي المخ.
(5) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، (ك) .
(6) زيادة من (ط) وحدها.
(7) في الأصل، (ك) : تقبح. والمثبت من (ط) .
(8) ثبّج الرجلُ الكلام عمّاه، ولم يبينه، فالتثبّج مصدر تثبّج بالتشديد. (المعجم) .
(9) في الأصل، (ط) : الفطرة.
(10) الغلصمة: صفيحة غضروفية عند أصل اللسان، تنحدر إلى الخلف لتغطية فتحة الحنجرة لإقفالها عند البلع. (المعجم) .(4/64)
ولكن لما عسر التحرز منه، عُفي عنه. ولو انقلع شيء من أسنانه، فازدرده الصائم، أو سال من العُمور (1) دم، فتجرعه على قصدٍ، أفطر. ولو جمع الصائم ريقه، ولم يتركه يجري على الخلقة، ثم ازدرده جملةً، ففي حصول الفطر وجهان: أصحهما أنه لا يفطر، وإنما نشأ الوجهان من لفظ الشافعي، فإنه قال: وأكره العِلْك (2) ، فإنه يحلب الفم، فكأنه (3) حاذر اجتماع الريق على خلاف العادة.
وقال الأئمة: لو أخرج الصائم لسانه، وعلى طرفه ريقٌ، ثم ردّه، فلا بأس، وإن فارقت عذَبَة (4) اللسان الشفتين، فإن اللسان معتبر بداخل الفم، كيف تقلّب.
ولو أخرج شيئاً من ريقه، وتركه على طرف الشفة بارزاً، ثم ردّه إلى فيه، فهو بمثابة ما لو ألقاه على كفه، ثم رده، ثم الفطر يحصل به، وهو المذهب في البلل المتصل بالخيط المجرور، إذا رُدّ، فإن [القلة] (5) فيه (6) لا أثر لها في منع الفطر.
وما يقدّر وصوله بالمسام، فلا يتعلق الإفطار به، كالأدهان إذا تطلّى الصائم بها، أو صبها على رأسه.
وإدراك الذوق مع مجّ جِرْم (7) المذوق لا يؤثر في الصوم.
ولا يفطِّر الاكتحالُ والاحتجامُ، خلافاً لبعض السلف. ولا خلاف أن الافتصاد (8) لا يفطِّر.
وما يجري من النخامة من الدماغ إلى الحلقوم، فلا مؤاخذة به. هكذا كان يذكره شيخي، ولو تكلف صرفَه عن سَنَن الخلقة إلى فضاء الفم، ثم ازدرده، فهذا يفطّره.
__________
(1) العَمُر بفتح العين: لحم اللثة، والجمع عُمور. (المعجم) .
(2) العِلْك بكسر العين: ضربٌ من صمغ الشجر، كاللبان، يمضغ فلا يذوب. (معجم) .
(3) (ط) : كأنه، (ك) : فكأنهم.
(4) عَذَبةُ اللسان، بفتحتين: طرفه (المعجم) .
(5) في الأصل، (ك) : العلّة.
(6) ساقطة من (ط) وحدها.
(7) جرم بكسر الجيم: الجسد. (معجم) .
(8) افتصد المريضَ: أخرج جزءاً من دم وريده بقصد العلاج. (معجم) .(4/65)
وأنا أقول: إن كانت النخامة لا تظهر في الفم، وكان لها مَسْلك (1) متردد في الباطن، فلا شك أنه لا مؤاخذة بها. وليس الأمر كذلك؛ فإنها تظهر إذا برزت من الثقبة النافذة إلى الدماغ في أقصى الفم، ثم تجري إلى داخل الحلقوم.
فالوجه أن نقول: ما لا يَشعر الصائم به، فهو محطوط عنه، وما يجري منه، وهو على علم وخُبْر، فإن لم يقدر على رده، فلا فطر، وإن قدر على صرفه ومجِّه، ففيه خلافٌ بين الأصحاب: منهم من لم يؤاخِذ به، وحَسَم الباب، ما لم يتكلف صرفَه عن مجراه إلى الفم؛ فإنه إذا فعل ذلك، ثم ردّه، وازدرده، أفطر.
ومنهم من حكم بالفطر إذا تركه في مجراه، مع القدرة على مجِّه، وهذا يلتفت على المراتب التي ذكرناها في غبار الطريق وغيره.
ومما يلتحق بهذا الفن، القولُ في سبق الماء من المضمضة، والاستنشاق، وفيما قدمناه من البيان مقنع تامٌ فيه.
وكان شيخي يحكي عن الأصحاب أن من بلل خيطاً بريقه، وجرّه، ثم ردّه، وغلبه الريق، ولم يمجه بعد حصول ذلك، أفطر. وكان يقول: لست أرى الأمر كذلك؛ فإن ذلك القدر النزر أقلُّ مما يبقى من أجزاء الماء في داخل الفم، بعد المضمضة.
والاحتمال في هذا محال (2) .
فهذا بيان هذا النوع من المفطرات، تأصيلاً وتفصيلاً.
2342- ومن المفطرات الجماعُ، وقد فصلنا، وألحقنا الاستمناء في الإفساد والإفطارِ بالجماع؛ من حيث كان مقصودَ الجماع. والقيءُ على ما فصلناه. والردة تُفسد كلَّ عبادة، والحيض، والجنون، ينافيان العَقْدَ، ويقطعان الدوامَ. وفي الإغماء ما سبق (3) . فهذه جوامع المفسدات.
__________
(1) (ط) سلك.
(2) كذا في النسخ الثلاث، ولكن الأشبه بعبارات الإمام أن تكون: " وللاحتمال في هذا مجال "، فهذا التعبير يتكرر كثيراً في كلامه. وكما ترى المعنى ينعكس تماماً.
(3) عبارة الأصل، (ك) : " في الإغماء على ما سبق ".(4/66)
فصل
قال: " وإن اشتبهت الشهور على أسير، تحرَّى ... إلى آخره " (1) .
2343- الأسير المحبوس إذا اشتبه عليه شهر رمضان، تحرى، وراجع التواريخ المنسلكةَ في ظنه، وقرَّب نظرَه جُهدَه، وصام شهراً.
والمسألة مفروضة في استمكانه من معرفة الهلال، فإذا صام شهراً من الهلال إلى الهلال، فإن وافق شهرَ رمضان، فهو المُنى، وإن وافق شهراً بعده، وكانت أيامه قابلةً للصوم، وقع الاعتداد بما جاء به.
2344- واختلف الأئمة في أن صومه في ذلك الشهر قضاء أم أداء؟ فمن جعله قضاءً، لم يَخْفَ توجيهُ قوله، ومن جعله أداء، تمسك بإجزائه [بنية] (2) الأداء. ثم لا يمتنع أن يفارق حكمُ المضطر [حكمَ] (3) المختار.
وخرّج الأئمةُ على هذا الخلاف أن شهر رمضان في تلك السنة لو كان ثلاثين يوماً، وكان ما صامه تسعةً وعشرين، فهل يكفيه ما جاء به، أم نكلفه بعد التبين (4) قضاء يوم؟ فعلى ما ذكرناه من الخلاف في الأداء والقضاء: فإن [جعلنا صومَه أداء، فكان ذلك الشهر شهرَه، فلا نظر إلى غيره، وإن] (5) جعلناه قضاء، فقد صام تسعةً وعشرين، وبقي عليه يومٌ، فليقضه.
2345- ولو صادف الشهرُ الذي صامه شهراً متقدِّماً على شهر رمضان، فإن انجلى الإشكالُ وشهر رمضانَ بين يديه، لزمه صومُه، بلا خلاف.
وإن زال الإشكالُ بعد مضي شهر رمضان، ففي إجزاء صوم الشهر المتقدم قولان
__________
(1) ر. المختصر: 2/20.
(2) في الأصل، (ك) : بقية.
(3) مزيدة من (ط) .
(4) (ك) : الثلاثين.
(5) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.(4/67)
للشافعي: أحدهما - لا يجزىء، فإن العبادة البدنية إذا تقدمت على وقتها، لم يعتد بها. والثاني - أنها تجزئ للضرورة. وكان القفال يبني هذين القولن على أنه لو وافق صومُه شهراً بعد شهر رمضان، فصومه أداءٌ، أم قضاء؟ ووجه البناء أنا إن قدرناه قضاءً، فالقضاء لا يتقدم، وعبادة البدن لا تتقدم على وقتها، وإن قدرنا الصومَ في الشهر المتأخر أداء، بناء على ظنه فتخيُّلُ (1) ذلك في التقدم والتأخر على وتيرة واحدة.
فإن قيل: هل يناظر ما ذكرتموه من صور الخلاف والوفاق القولَ في خطأ الحجيج، فإنهم لو أخطئوا، فوقفوا يوم العاشر أجزأهم الوقوفُ، وإن اتفق غلطٌ في أهلّةٍ وترتب عليه الوقوف في الثامن، ففي إجزائه وجهان، وهذا يناظر تقدمَ شهر الأسير على شهر رمضان؟ قلنا: هذا تشبيهٌ من حيث الصورة؛ فإن الذي أوجبَ الفرقَ بين الثامن والعاشر عمومُ تصوّر الغلط في العاشر، وندور ذلك في الثامن، وأما غلط الأسير، فإنه على وتيرة واحدة في التقدم والتأخر، فلا ينبغي أن يُعتقد اتحاد مأخذ المسألتين.
2346- ولو انجلى الإشكال، وقد بقي بعضُ شهر رمضان، فيجب صوم البقية، وفي إجزاء ما مضى طريقان: منهم من خرّجه على القولن، وهو (2) الوجه، ومنهم من قطع بأنه يجب استدراكه إذا اتفق إدراك شيء من الشهر.
وكان شيخي أبو محمد يقول: الاجتهاد في وقت الصلاة، في حق المحبوس، على الترتيب الذي ذكرناه في الصوم، في صورة الخلاف والوفاق. فأما المجتهد القادر على أن يَصْبر حتى يستيقن، إذا تقدمت [صلاته، لم يعتد] (3) بها قولاً واحداً.
2347- ثم ذكر الشافعي: أن من فاته صوم أيامٍ من رمضان، لا يجب عليه رعاية الموالاة في القضاء، وقصد به الردّ على مالك (4) ؛ فإنه أوجب المتابعةَ في القضاء
__________
(1) (ط) : تتخيل.
(2) (ك) : وهذا.
(3) في الأصل: صلاة، لم يعيّد. (بهذا الضبط) .
(4) الذي رأيناه عند المالكية أن التتابع لا يجب، بل يستحب (ر. حاشية ابن حمدون: 2/520، الإشراف: 1/446 مسألة 680) .(4/68)
[ظاناً] (1) أن الأداء متتابع، وهذا غلط؛ فإن ما تخيله من التتابع في الأداء تواصل الأوقات، وليس تتابعاً راجعاً إلى صفة العبادة، بدليل أن من أفطر اليوم الأخير من رمضان، لم يلزمه قضاء ما تقدم عليه، بخلاف الصيام المتتابع في الكفارة شرعاً، أو الصوم الذي نذر الناذر التتابعَ [فيه] (2) .
فصل
قال: " وأحب للصائم أن ينزه صيامه ... إلى آخره " (3) .
2348- ظاهر التكليف في الصوم متعلق بالإمساك والنية، ولكن المقصود غضُّ الهوى حتى تقوى النفس على التقوى، ولو كُلِّف الخلق هذا المقصودَ تصريحاً، لما استقل به الأكثرون. وهذا من لطائف الشريعة، وكلّفوا ما يفضي إلى طرفٍ من التقوى في الغالب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الصوم جُنّة، وحصن حصين، فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث، ولا يفسق، وإن شاتمه رجل، فليقل: إني صائم " (4) ومعنى الحديث أن [يحدّث] (5) نفسه بصومه، حتى يزجره ذلك عن المشاتمة؛ إذ لا معنى لذكر الصوم لمن شاتمه.
__________
(1) بياض بالأصل.
(2) مزيدة من (ط) .
(3) ر. المختصر: 2/21.
(4) حديث: " الصوم جنة " جزء من حديث أبي هريرة المشهور والمتفق عليه " كل عمل ابن آدم له إلا الصيام ... " وله في الصحيحين طرق وألفاظ، ليس منها (حصن حصين) ، وبهذا اللفظ رواه أحمد في مسنده: 2/402، قال الهيثمي في المجمع: إسناده حسن: 3/180، وكذا حسنه المنذري في الترغيب والترهيب: 2/83، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 3881. (البخاري: الصوم، باب فضل الصوم، ح 1894، مسلم: الصيام، باب فضل الصيام، ح 1151 (163)) .
(5) في الأصل، (ك) : يجرّب.(4/69)
فصل
قال: " ولا أكره في الصوم السواكَ ... إلى آخره " (1) .
2349- استعمال السواك في النصف الأول من النهار إلى زوال الشمس حسنٌ، على شرط التحفّظ من تجرع حِلابه، وازدراد شَظِيِّه، فإذا زالت الشمس، لم نر استعمالَ السواك استبقاءً للخُلُوف (2) ، وفيه الحديث المشهور (3) . ولا فرق بين صوم التطوع والفرض.
***
__________
(1) ر. المختصر: 2/24.
(2) خلوف: وزان قعود.
(3) إشارة إلى حديث: " لخلوف فم الصائم ". وهو جزء من حديث أبي هريرة السابق: البخاري: الصوم، باب فضل الصوم، ح 1894، مسلم: الصيام، باب فضل الصيام، ح 1151 (163) .(4/70)
باب صيام التطوع
2350- لا يلزم صوم التطوع بالشروع عندنا، وكذلك الصلاة، وللشارع فيهما قطعُهما، ثم لا يلزم القضاء. وكان شيخي يقول: الإفطار بالعذر مسوّغ، ومن جملة المعاذير في ذلك أن يعز على من أضافه امتناعُه عن الطعام، فإن لم يكن عذر، فهل يكره قطع الصوم، والصلاة؟ فعلى وجهين كان يذكرهما، ولا بُعد في ذكرهما مع الخلاف في تحريم القطع.
***(4/71)
باب النهي عن الوصال
2351- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواصل في العشر الأخير، فواصل عمرُ وغيرُه، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: " وددت لو مُدّ لي الشهر مدّاً، ليدع المتعمقون تعمُّقَهم، يقوى أحدكم على ما أقوى عليه؟ إني أبيت يُطعمني ربي ويسقيني " (1) .
وغرض الباب أن الوصال كان قُربة في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو محرّم على أمته، والوصال يزول بقطرةٍ يتعاطاها كلَّ ليلة، ولا يكفي اعتقادُه أن من جَنَّ عليه الليلُ، فقد أفطر (2) .
***
__________
(1) حديث النهي عن الوصال، متفق عليه من حديث أنس (البخاري: التمني، باب ما يجوز من اللَّوْ، ح 7241، مسلم: الصيام، باب النهي عن الوصال في الصوم، ح 1104) .
(2) المعنى أن حقيقة الوصال تتحقق بعدم الأكل في الليل، فلو لم يأكل في الليل، سواء نوى الوصال أم لم ينوه، فهو مواصل. وإن كان دخول الليل، وانقضاء النهار، يعتبر منهياً للصوم. (ر. المجموع للنووي: 6/357 وما بعدها، ففيها بحث لطيف، وتفصيل بديع) .(4/72)
باب صيام يوم عرفة ويوم عاشوراء
2352- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صوم يوم عرفة كفارةُ السنة والسنة التي تليها، وصوم يوم عاشوراء كفارةُ السنة " (1) . فقوله السنة التي تليها يحتمل معنيين: أحدهما - السنة التي قبلها، فيكون إخباراً أنه كفارةُ سنتين ماضيتين، ولا يمتنع حملُها على السنة المستقبلة، وكل ما يرد في الأخبار من تكفير الذنوب، فهو عندي محمولٌ على الصغائر، دون الموبقات.
وقيل: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم التاسوعاء، والعاشوراء، فيحتمل أنه لم يؤثر إفرادَ يومٍ بالصوم، ويحتمل أنه احتاط لمصادفة العاشر.
ثم لا يستحب للحاج أن يصوم يوم عرفة، وما كان النبي صلى الله عليه وسلم صائماً فيه في حجة الوداع، وتبين ذلك لأصحابه، بتناوله لبناً في قدحٍ وقتَ العصر، ومناولته سَوْدة أم الفضل بنت الحارث (2) ، ولعل السبب فيه أن لا يعجز عن الدعاء عشية عرفة، فلا يَعدِلُه فيما نظن دعاءٌ وذكرٌ في غيره.
***
__________
(1) حديث صوم يوم عرفة، رواه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة والطبراني وابن حبان والبيهقي كلهم من حديث أبي قتادة الأنصاري (مسلم: الصيام، باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر وصوم يوم عرفة وعاشوراء، ح 1162، أبو داود: الصوم، باب ما جاء في صوم الدهر تطوعاً، ح 2425، الترمذي: الصوم، باب ما جاء في الحث على صوم يوم عاشوراء، ح 752، ابن ماجة: الصيام، باب صيام يوم عرفة، ح 1730، باب صيام عاشوراء، ح 1338، الطبراني في الكبير: 19/4، 5 ح 6، 8، ابن حبان: ح 3632، البيهقي: 4/283، 286) .
(2) حديث شرب النبي صلى الله عليه وسلم لبناً يوم عرفة متفق عليه من حديث أم الفضل بنت الحارث، ومن حديث ميمونة (اللؤلؤ والمرجان: 2/14 ح 686، 687) .(4/73)
باب الأيام التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامها
2353- أما العيدان، فلا يقبلان الصومَ، ويلغوا نذر صومهما.
2354- فأما أيام التشريق، فالمنصوص عليه في الجديد أنها لا تقبل صوماً؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها: " إنها أيام أكل وشرب وبِعَال " (1) .
وقال في القديم: للمتمتع أن [يوقع] (2) فيها صيامَ الأيام الثلاثة الثابتة في كفارة التمتع.
ثم اختلف أصحابنا في التفريع على القديم، فقال بعضهم: إنها لا تقبل غير صوم التمتع، لضرورةٍ تخصه، وقال آخرون: إنها كيوم الشك، على ما نصف حكمَه.
2355- أما يوم الشك، فقد سبق تصويره، [واعتماد] (3) صومه من غير سبب منهيٌ (4) عنه، وفي صحته وجهان، كالوجهين في إيقاع الصلوات التي لا أسباب لها في الأوقات المكروهة، ونَذْر صومه يخرج على ذلك، فإن لم نصحح فيه صوماً بلا سبب، لغا نذْر صومه، وإن صححنا صومه مع الكراهية، صح النذر.
__________
(1) حديث أيام التشريق أيام أكل وشرب، روي من طرق صحيحة بدون لفظ (بعال) ، (مسلم وأصحاب السنن وغيرهم، وأما بلفظ: بعال، فقد رواه الدارقطني والطبراني وابن ماجة وابن حبان وأبو يعلى وابن أبي شيبة والنسائي من طرق مختلفة وكلها ضعيفة كما قال الحافظ في التلخيص (ر. مسلم: الصيام، باب تحريم صوم أيام التشريق، ح 1141، الدارقطني: 2/212، ابن حبان: 5/245، المعجم الكبير للطبراني: 11/232 ح 11587، أبو يعلى: ح 5913، 6024، ابن أبي شيبة: (3/104) ، السنن الكبرى: 4/298، تلخيص الحبير: 2/375 ح 894، خلاصة البدر المنير: ح 1108) .
(2) في الأصل، (ك) : يرفع.
(3) في الأصل، (ك) : واعتماده.
(4) منهي: خبر لقوله: واعتمادُ، وليست نعتاً لـ" سبب ".(4/74)
وذكر القاضي حسين مسلكاً يفضي إلى تنزيل يوم العيد، منزلة يومِ الشك. وما نراه قاله عن عَقْدٍ، وإنما ذكره في تقدير كلامٍ تقديراً، لا تحقيقاً. وأصل المذهب لا يُزال بمثل هذا.
ولو أوقع في يوم الشك قضاءً، أو صوماً منذوراً، أو صادف وِرداً له، فلا بأس، ولا كراهية.
ولو أراد أن يصوم شعبان كله، فصام يومَ الشك على قصدِ استكمال شعبان، فلا بأس أيضاًً، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم شعبان كله " (1) والله أعلم.
***
__________
(1) حديث عائشة، متفق عليه (اللؤلؤ والمرجان: 2/20 ح 712) .(4/75)
باب الجود والإفضال في شهر رمضان
2356- قال ابن عباس: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الخلق، فإذا دخل شهر رمضان كان أجود بالخير من الريح المرسلة " (1) معناه في العموم، أو في التسرع (2) . وبالجملة شهر رمضان شهر البركات، والبدار إلى الخيرات، والحسناتُ فيه مضاعفة، فليبتدرها الموفقون. والله وليّ التوفيق.
***
__________
(1) حديث ابن عباس متفق عليه (البخاري: بدء الوحي، ح 6، مسلم: الفضائل، باب جوده صلى الله عليه وسلم، ح 2308) .
(2) في (ك) : الشرع.(4/76)
باب (1) الاعتكاف وليلة القدر
2357- صدّر الشافعي كتابَ الاعتكاف بالقول في ليلة القدر، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلتمسها في العشر الأواخر، ويعتكف فيها ليلاً، ونهاراً.
واختلف العلماءُ: هل كانت ليلة القدر في الأمم؟ والمختار عندنا أنها مختصة بهذه الأمة؛ لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكر رجلاً من بني إسرائيل لبس لأْمَتَه (2) ، وقاتل في سبيل الله ألف شهر، لا ينزِعها (3) ، فاستعظمت الصحابة، [ذلك] (4) وتمنَّوْا أن يكون لهم مثلُ هذا العمر، وهذه القوة؛ فأنزل الله سبحانه وتعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] إلى قوله تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3] ، فدل هذا على تخصيص هذه الأمة [بها] (5) .
2358- ثم اختلف الناس في وقتها: فذهب بعضُهم إلى أنها في السنة، وعندنا أنها في الشهر، ومذهب أبي حنيفة (6) أنها في الشهر، لا يختص بها عشر، وذهب الشافعي إلى أنها في العشر الأخير، وميله إلى أنها ليلةُ الحادي والعشرين، وفيه الحديث الصحيح، وهو ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أريت هذه الليلةَ، فخرجت لأخبركم، فتلاحا فلانٌ وفلان، فأُنسيتها، ولعله خيرٌ لكم، ورأيتني أسجد في صبيحتها إلى ماءٍ وطين " قال راوي الحديث، أبو سعيد الخدري:
__________
(1) في (ط) : كتاب.
(2) لأْمَته، بفتح فسكون: أداة الحرب كلُّها: من رمحٍ، وبيضة، ومِغْفَرة، وسيف، ودرع.
(المعجم) .
(3) ينزِع: من باب ضرب.
(4) مزيدة من (ط) .
(5) زيادة من المحقق؛ رعاية للسياق والسباق.
(6) ر. فتح القدير: 3/389.(4/77)
" أبصرت عيناي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وعلى جبهته وأنفه أثرُ الماء والطين، في صبيحة إحدى عشرين " (1) .
وفي الحديث: إن المسجد كان على عريش، وأمطرت السماء فوكف (2) .
وقال الشافعي -رحمه الله- في بعض المواضع: هي ليلةُ الحادي والعشرين، أو ليلةُ الثالث والعشرين.
وذهب طوائفُ من الناس إلى أنها ليلةُ السابع والعشرين، وإليها صَغْوُ (3) الناس، وهو مذهب ابن عباس. وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " اطلبوها في العشر الأواخر، واطلبوها في كل وتر " (4) وروي أنه قال: " اطلبوها لتسع بقين، أو لخمسٍ بقين، أو لثلاثٍ بقين، أو الليلةَ الأخيرة " (5) .
وذهب بعض العلماء إلى أنها رُفعت، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أبعد المذاهب.
2359- فإن قيل: فعلى ماذا التعويل؟ وما المعتبر في هذا؟ قلنا: للشافعي مذهبان: أحدهما - في انحصار ليلة القدر في العشر الأخير، والآخر: تعيينه الحاديَ والعشرين، والثالثَ والعشرين.
وبين مذهبيه فرقٌ، تبينه مسألة، وهي الكاشفة لغائلة الفصل.
[قال الشافعي] (6) : لو قال لامرأته: أنت طالق ليلة القدر، لم تطلق حتى ينفضي
__________
(1) حديث أبي سعيد في ليلة القدر متفق عليه (اللؤلؤ والمرجان: 2/25 ح 725) .
(2) وكف البيت بالمطر، من باب وعد: سال قليلاً قليلاً. (المصباح) .
(3) صغو: من باب عدا: مَيْلُ. (المختار) .
(4) حديث: " اطلبوها في العشر " جزء من حديث أبي سعيد الخدري السابق، وهو متفق عليه (اللؤلؤ والمرجان: 20/25 ح 725) .
(5) حديث: " اطلبوها لتسع بقين " رواه أحمد، والترمذي، وابن حبان، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي. (أحمد: 5/36، 39، الترمذي: الصوم، باب ما جاء في ليلة القدر، ح 794، ابن حبان: 3686، الحاكم: 1/438) . هذا وقد جاء في الحديث زيادة (، أو لسبع " بين التسع والخمس، وقد سقطت من سياقة الإمام للحديث.
(6) ساقط من الأصل، (ك) .(4/78)
العشر، ولو انقضت، طُلّقت، ولا نحكم بوقوع الطلاق بانقضاء الحادي والعشرين، ولا بانقضاء الثالثة (1) والعشرين؛ فمذهبه ثابتٌ في أنها في العَشر، وهو على تردد في التعيين من العشر، والحديث الذي يتكرر في متن كل مروي قوله: " التمسوها في العشر الأخير " وفي الحديث تأكيدُ الأمر بالألتماس في الأوتار، من غير إغفال الأشفاع.
فإن قيل: الانحصار في العشر مقطوعٌ به؟ قلنا: لا، ولكنه [مذهبٌ] (2) ثابت، والطلاق يناط وقوعه بالمذاهب المظنونة (3) .
وذكر صاحب التقريب في كتابه تردداً، في أنه يجوز أن تكون في النصف الأخير من رمضان. وهذا متروك عليه، ولا نعرف له متعلَّقاً.
وفي العلماء من قال: إنها تنتقل.
هذا نجاز القول في ذلك.
2360- ثم حق من يتأسّى برسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل المعتكَف قبل غروب الشمس يومَ العشرين، حتى تغرب عليه الشمس، وهو في معتكفه، ثم يستمر إلى استهلال هلال شوال، ولو أحيا ليلةَ العيد، تعرّض لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أحيا ليلتي العيد، لم يمت قلبُه يوم تموت القلوب " (4) .
__________
(1) كذا. على معنى الليلة، وفي (ك) : " الثالث ".
(2) مزيدة من (ط) وحدها.
(3) ر. المجموع للنووي: 6/453، وراجع موضوع ليلة القدر كاملاً من 446-474، ففيه كلام نفيس، وعلم غزير.
(4) حديث: " من أحيا ليلتي العيد ... " رواه ابن ماجه من حديث أبي أمامة مرفوعاًً وسنده ضعيف كما في الزوائد، ونقل الحافظ أن الدارقطني ذكره في العلل من حديث ثور عن مكحول عن أبي أمامة. وقال: والصحيح أنه موقوف على مكحول. وقد رواه الشافعي في الأم: (1/231) موقوفاً على أبي الدرداء - (ابن ماجة: الصيام، باب فيمن قام في ليلتي العيد، ح 1782، مجمع الزوائد: 2/198، التلخيص: 2/160 ح 676، السلسلة الضعيفة للألباني: ح 521) .(4/79)
والاعتكاف كان في الشرائع المتقدمة، قال الله تعالى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125] . وعن عائشة أنها قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف، فيدني إليّ رأسَه، فأرَجِّله " (1) .
فصل
قال: " والاعتكاف سنة حسنة، ويجوز بغير صوم ... إلى آخره " (2) .
2361- المنصوص عليه للشافعي في الجديد أن الاعتكاف يصح بغير صوم، ويصح في الليلة الفردة، والعيد وأيام التشريق.
وقال أبو حنيفة (3) : " لا اعتكافَ إلا بصوم "، ثم ناقض، وقال: لو اعتكف يوماً محتوشاً بليلتين، صح اعتكافه في اليوم والليلتين، وإن كانت الليلةُ لا تحتمل الصوم.
وحكى الأئمة قولاً للشافعي في القديم، في اشتراط الصوم في الاعتكاف. ثم قال الأئمة: إذا فرعنا على القول القديم، لم نصحح الاعتكاف في الليل، لا تبعاً، ولا مفرداً.
2362- فإن قلنا: الصومُ شرطُ الاعتكاف، لم نشترط الإتيانَ بصومٍ لأجل الاعتكاف، بل نصحح الاعتكافَ في رمضان، وإن كان صومُه مستحَقاً شرعاً، مقصوداً.
وإن قلنا: الصوم ليس بشرط في الاعتكاف، فلو نذر أن يعتكف صائماً، فهل يلزمه الجمع بين الصوم والاعتكاف، [أم يجوز له أن يعتكف بلا صوم، ويصومَ
__________
(1) حديث عائشة رضي الله عنها متفق عليه (البخاري: الاعتكاف، باب الحائض ترجل رأس المعتكف، ح 2028، مسلم: الحيض، باب جواز غسل الحائض رأس زوجها، ح 297) .
(2) ر. المختصر: 2/31.
(3) ر. الأصل: 2/230، 239، 254، مختصر الطحاوي: 57، المبسوط: 3/115، البدائع: 2/109، 110، 111، مختصر اختلاف العلماء: 2/47 مسألة 534، و2/50 مسألة 539 رؤوس المسائل: 237 مسألة 133.(4/80)
بلا اعتكاف] (1) ، فعلى وجهين، وربما كان يقول: على قولين: أحدهما - لا يجب الجمع؛ فإنهما عبادتان، كلُّ واحدة مقصودةٌ في نفسها، فلا يجب الجمع بينهما بالنذر، كما لو قال: لله عليّ أن أعتكف مصلياً؛ فإنه لا يلزمه الجمع بينهما.
والثاني - يلزمه الجمع، لاستواء العبادتين في المقصود؛ إذ الغرض من كل واحد منهما الإمساك، والانكفاف، وإذا تقاربتا، لم يبعد التزام جمعهما، كما لو نذر أن يُقرن بين الحج والعمرة.
وكان شيخي يقول: لو نذر أن يصوم معتكفاً، لم يلزمه الجمع بينهما، وجهاً واحداً. وهذا لا أرى له وجهاً، فلا فرق بين أن ينذر الاعتكاف صائماً، وبين أن ينذر الصوم معتكفاً، فالوجهان جاريان.
قال القفال: إذا قال: لله عليّ صلاةٌ، أقرأ فيها السورة الفلانية، فهل يجب عليه الوفاء بذلك جمعاً، حتى لو قرأ تلك السورة في غير الصلاة المنذورة، وأقام الصلاة دونها، يجوز؟ قال: هذا يخرّج على الخلاف في أنه هل يجب الجمع بين الاعتكاف والصوم بالنذر.
فصل
قال: " ومن أراد أن يعتكف العشرَ الأواخر ... إلى آخره " (2) .
2363- الأَوْلى فرض هذا الفصل في النذر. فإذا قال الرجل: لله عليّ أن أعتكف العشر الأواخر من الشهر، فإن ابتدأ الاعتكافَ مع (3) انقضاء العشرين من الشهر، ثم خرج الشهر ناقصاً، فقد خرج عن موجَب نذره؛ فإنه وإن نذر العشرَ في لفظه، فالمراد به (4) افتتاحُ الاعتكاف في الوقت الذي ذكرناه، إلى انقضاء الشهر، ثم الشهر قد يكمل، وقد ينقص، فلا حكمَ لذكر العشرِ مع تعيين الآخر من الشهر.
__________
(1) ساقط من الأصل، (ك) .
(2) ر. المختصر: 2/32، 33.
(3) (ط) : من.
(4) (ط) : فيه.(4/81)
ولو قال: لله عليّ أن أعتكف عشرةَ أيامٍ، ثم افتتح الاعتكاف، في الوقت الذي ذكرناه من الشهر، ثم نقص الشهر، لزمه اعتكافُ يومٍ آخر؛ فإنه اعتبر بالعشر، وجرَّد القصد إليه، فلا بد منه، ووضوح ذلك يغني عن الإطناب فيه.
فصل
2364- لا بد من ذكر الاعتكاف المتطوّع به، والمنذور، وتمييزِ أحد القسمين عن الثاني، على الجملة.
ثم المسائل الموضوعة في الباب تفصِّل ما نجمله [فيهما] (1) .
فالاعتكاف يقع تطوعاً، ومنذوراً، فأما التطوع، فعماده النيّة، وقد اختلف -أولاً- أئمتنا في أن حضور المسجد من غير مُكث: هل يكون اعتكافاً معتداً به؟ فمنهم من قال: لا بد من لُبث، وهو الاعتكاف.
ومنهم من قال: الحضور يقع قُربةً، معدودة من قبيل الاعتكاف، وإن لم يقع لُبث. فهذا (2) بمثابة حضور عرفة، فإنه يُغني ويَكفي في تحصيل الركن، وإن كان قد أُوجب باسم الوقوف، وهو مشعر بالمكث إشعار العكوف (3) .
التفريع:
2365- إن حكمنا بأن الحضور كافٍ، فحضور المسجد اعتكافٌ مع النية، حتى لو نوى من يدخل من بابٍ ويخرج من بابٍ الاعتكافَ، كان ما جاء به قُربةً، من قبيل الاعتكاف.
وإن قلنا: لا بد من لُبث، لم يكفِ فيه ما يكفي في الطمأنينة في الركوع؛ فإنا قد أوضحنا أنه يكفي في إقامة الفرض منها، انفصالُ آخرِ حركةِ الهُويّ عن أولِ حركة الرفع عن الركوع، وكأن الغرض تحصيلُ صورة الركوع، مع فصله عما قبله وبعده. وأما هذه القُربة، فشرط تصويرها عند هذا القائل المُكث، فليكن محسوساً.
__________
(1) في الأصل، (ك) : فيها.
(2) (ط) : وهذا.
(3) (ط) : الوقوف.(4/82)
ولو كان المعتكف متردّداً (1) في أرجاء المسجد، فهو معتكف، وقد يكون زمان تردد من يصح اعتكافه أقلَّ من زمان من يدخل من بابٍ، ويخرج من باب، والبابان متحاذيان.
2366- ثم إذا ثبت أن الاعتكافَ المتطوعَ به يعتمدُ النيةَ، فالنيةُ لا يخلو إما أن تثبت مرسلة، من غير ربط بأمدٍ معلوم، وإما أن تتعلق بمدة معلومة. فإن نوى من دخل المسجدَ الاعتكافَ، بقي معتكفاًً ما بقي في المسجد، طال الزمان، أو قصر.
وكان شيخي يتردد في مثل هذه الصورة، في (2) الصلاة ويقول: إذا نوى المتطوع الصلاةَ مطلقةً، ولم يربط قصدَه بأعدادٍ معلومة من الركعات، فالوجه تصحيحُ ركعةٍ؛ إن اقتصر عليها، أو ركعتين، أو أربع (3) ، فأما المزيد -ولم يرد فيه ثبتٌ على الاسترسال- ففيه نظر.
ووجدت لغيره القطعَ بأنه لو نوى الصلاةَ وأراد إقامةَ مائةِ ركعة في تسليمةٍ، فلا بأس. وهذا هو القياس.
ولا ينبغي للمحصل إذا هاب شيئاً أن يتخذ هيبته معوَّل نظره.
فإذا كان الاعتكاف كذلك، فمهما اتفق خروجٌ، انقطعَ، ولا بد في العَوْد من تجديد النية، ثم يكون اعتكافاً مبتدأً، والذي مضى اعتكافٌ تام [إن] (4) كان لُبثٌ، وإن لم يكن، فعلى ما قدمناه من الخلاف.
و (5) لا فرق بين أن يخرج لقضاء الحاجة، أو لغيرها فيما ذكرناه.
فلو ربط النيةَ بأمدٍ، ارتبطت به. قال شيخي: إذا خرج، وعاد، فإن قرب الزمان، لم يحتج إلى تجديد النية في المدة المعينة. وإن بعد الزمان، ففي البناء على
__________
(1) (ط) : يتردد.
(2) (ط) : وفي.
(3) في الأصل، (ط) : أربعة. وهو جائزٌ إذا تقدّم المعدود.
(4) ساقطة من الأصل، (ك) .
(5) الواو مزيدة من (ط) .(4/83)
النية المتقدمة، والاكتفاءِ [بها] (1) قولان مأخوذان من تفريق الطهارة، وما ذكرناه فيه إذا لم يكن الاعتكافُ منذوراً.
2367- قال الإمام: لو نذر اعتكافَ أيام، ولم يشترط التتابعَ، فدخل المعتكَف، ونوى إقامة الوفاء بالنذر، فإذا خرج، وعاد، وقرب الزمان، لم يحتج إلى تجديد النية. وإن بعد، فعلى القولين؛ فإن التتابعَ إذا لم يكن مستحَقاً، قامت النية في إقامة الوفاء بالنذر، مقام (2) النية في التطوع بأصل الاعتكاف، ولا يختلف النوعان بالاستحقاق، [والاستحباب] (3) ، وإنما المتبع النيةُ، وصفة التتابع غيرُ مرعية. ولم يفصل شيخي (4) ، لمّا قال: " إذا قرب الزمان، فلا حاجة إلى تجديد النية "، بين أن يكون الخروج لقضاء [الحاجة] (5) ، أو غيرها، وإنما اعتبر قربَ الزمان.
وفي (6) كلام أئمتنا في الطرق: إن الخروج إن (7) كان لقضاء الحاجة، فلا حاجة إلى تجديد النية عند العَوْد، وإن لم يكن لقضاء الحاجة، ففي التجديد عند العود خلافٌ، وإن قرب الزمان؛ لأن الخروج مناقضٌ للاعتكاف، وليس كالتفريق في الزمان اليسير، في الطهارة. وهذا محتملٌ.
2368- وفي بعض التصانيف أن مَنْ كان يعتاد دخولَ المسجد، لإقامة الجماعة، أو غيرها، وكان لا يظهر ما يخالف عادته في الدخول والخروج، فلو نوى كلما دخل الاعتكافَ، لم يكن اعتكافاً عند بعض الأصحاب، لأنه غيرُ مخالفٍ لعادته، في دخلاته وخرجاته. وهذا معدود من سقطات الكتاب (8) ؛ فإن المكث، والحضور،
__________
(1) مزيدة من (ط) .
(2) في الأصل، (ك) : ومقام.
(3) في الأصل، (ك) : والاستحثاث. وفي (ط) : فالاستحباب. والمثبت لفظ (ط) مع تغيير الواو بالفاء. مراعاة للسياق.
(4) هذا يؤكد أنه يعني شيخه بقوله: (الإمام) .
(5) في الأصل، (ك) : حاجة.
(6) (ط) : ومن.
(7) (ط) : إذا.
(8) المراد كتاب (أبي القاسم الفوراني) ، فإمام الحرمين كثير التتبع للفوراني، والحط عليه،=(4/84)
هو الذي تردّد الأئمة فيه، فأما إذا حصل المكثُ، وانضمّت النيةُ إليه، فليس يتجه إلا القطعُ بتصحيح الاعتكاف.
وحكى الشيخ أبو بكر في آخر الكتاب (1) : إن من أصحابنا من لم يصحح الاعتكافَ إلا يوماً، أو ما يدنو من يوم، وزعم هذا القائل أن النصف من اليوم، فما دونه، مما يغلب جريان المكث في مثله لعامة الناس، لحاجاتٍ تعنّ لهم في المساجد، ولا يثبت الاعتكاف إلا بمكثٍ يظهر في (2) مثله أن صاحبه معتكف في المسجد، [وهذا] (3) أبعد.
وما حكيناه من هذا التصنيف، وما قدمنا في ذلك التصنيف، وما حكاه الشيخ واحد. وإنما التردد في الصيغة.
هذا قولينا في التطوع بالاعتكاف.
2369- فأما الواجب، فهو المنذور، ولا يجب الاعتكاف شرعاً، وهذا يخرم ضبطاً لبعض الأصحاب، فيما يلزم بالنذر؛ فإن طائفةً منهم، صاروا إلى أنه لا يُلتزم بالنذر إلا ما يجب بأصل الشرع، والاعتكاف يَرِد على ذلك، ومحاولة الجواب عنه تكلّفٌ.
وسنذكر حقيقة ذلك وسرّه، في كتاب النذور.
ثم الاعتكاف المنذور ينقسم إلى: مقيد بالتتابع، وإلى مضافٍ إلى الزمان المعين، من غير تتابع، وإلى مضافٍ إلى زمان معين، مع التقييد بالتتابع.
فأما المنذور المطلق الذي لم يتقيد بزمانٍ، ولا تتابع، فقد ذكرنا فيه غرضَنَا في
__________
=وللفوراني كتابان مشهوران، هما: (الإبانة) ، و (العمد) . ولعل المقصود هنا (الإبانة) ، فهو الأكثر شهرة.
(1) واضحٌ أنه يعني (كتاب الاعتكاف) ، وإلا، فليس من المعقول أن يكون هذا الكلام عن الاعتكاف في ختام كتابه الذي يحوي الفقهَ كلَّه.
(2) في (ط) : (من) . وهي مرادفة لـ (في) .
(3) في الأصل: وهو.(4/85)
فرض الاشتغال بالوفاء به، عقداً ونيةً، وأوضحنا أن التتابعَ إذا لم يكن شرطاً، فالقول يؤول إلى النية في إنشاء الوفاء.
ثم الخروج من المعتكَف والعَوْد إليه يستدعي الكلامَ في الاحتياج إلى تجديد النية.
وقد ذكرنا تفصيلَ ذلك؛ فإذاً هذا خارجٌ عن غرضنا.
والقول وراء ذلك في الأقسام الثلاثة، التي ترجمناها، فنقول:
أمّا النذر المقيّد بالتتابع، من غير إضافةٍ إلى [الزمان، فالتتابع مرعيٌّ] (1) فيه وفاءً بالنذر، ولا يخفى أن من حكم التتابع إذا انقطع، بما يتضمّن قطعَه [كما سنصفه] (2) ، فأثرُ ذلك بطلان الاعتكاف، فيما مضى.
2370- ونحن نذكر معاقد المذهب فيما يؤثر في التتابع وفاقاً، وفي مواقع الخلاف، وفيما لا يؤثر، ولا نحوي جملةَ الغرض، بل نبيّن ما يظهر، ويجري مجرى تأسيس القواعد، ونحيل غيره عفى مسائل الكتاب؛ فإنها منصوصة.
فالخروج لقضاء الحاجة لا يقطع التتابعَ، وإن لم يجر له تعرّض؛ فإن هذا في حكم المذكور المستثنى بقرينة الحال، ثم إن قرب زمان الخروج والعَوْد، فلا أثر لما جرى. وإن كان منزله بعيداً وتطاول الفصل لذلك، فوجهان.
وكذلك لو كثرت الخرجات لعارضٍ اقتضى الخروج عن عادة الاعتدال، فهو على الوجهين: فمن أئمتنا من راعى جنس (3) الخروج لقضاء الحاجة، ولم يجعله مؤثراً، من غير تعريج على التفاصيل، ومنهم من خصص عدم التأثير [بقرب] (4) الزمان، وجريان الأمر على عادة الاعتدال.
وما ذكرناه من القرب والبعد، لا توقيف فيه، والرجوع (5) إلى العادة، فكل زمان
__________
(1) في الأصل، (ك) : زمانٍ مرعي.
(2) بياض بالأصل.
(3) ساقطة من (ط) .
(4) في الأصل، (ك) : بفوت.
(5) (ك) : فالرجوعُ.(4/86)
لا يُخرج المرءَ عن هيئة ملازمة المسجد، فهو قريب، وما يخرجه عن هيئة الملازمة، فهو البعيد الذي ذكرناه.
ولو كان له داران قريبة وبعيدة، ولم تكن البعيدة -بحيث لو لم يملك غيرها- لا يُقطع الاعتكافُ بالخروج إليها في وجهٍ [عند] (1) فرض الانفراد، فإذا تُصوّرت المسألة بهذه الصورة، ففي المسألة وجهان: أحدهما - يتعين الخروج إلى المنزل القريب؛ إذ لا حاجة إلى غيره. والثاني - لا بأس بالخروج إلى المنزل البعيد، إذا كان على الحد الذي وصفناه في الانفراد.
وظهر اختلاف أصحابنا في الخروج لأجل الوضوء، من غيرِ بولٍ وتغوّط، فذهب الأكثرون إلى أنه يؤثر؛ فإن الوضوء في المسجد ممكن، ولا شك أن هذا في الوضوء الواجب.
وكذلك اختلف أئمتنا في الخروج لأجل الأكل، والأظهر أنه يؤثر. ومتعلَّق من يقول: إنه لا يؤثر أن الأكل في المسجد قد يقدح في المروءة. ونهايةُ الضرورة ليست مرعية.
ولا خلاف أنا [لا] (2) نشترط غايةَ إرهاق الطبيعة في الحاجة.
2371- ومما يتعلق بما نبغيه في ذلك: أن المرأة إذا اعتكفت، وحاضت، [و] (3) خرجت عن معتكفها، نظر: فإن كانت نذرت الاعتكاف في زمان متطاول يغلب طريان الحيض عليه، فلا ينقطع التتابع بطريان الحيض؛ فإن ذلك مما لا يتأتى التحرزُ منه.
وكذلك القول في طريان الحيض على الصيام المتتابع في الزمان الممتد.
وإن نذرت الاعتكافَ المتتابعَ، في زمانٍ لا يبعد خلوه عن الحيض، ولكنها قربت افتتاحَ الوفاء من نوبتها، [أو] (4) اتفق تقدم الحيضة على [خلاف] (5) عادتها، ففي
__________
(1) في الأصل: عن.
(2) مزيدة من (ط) ، (ك) .
(3) مزيدة من (ط) .
(4) في الأصل، (ك) : و.
(5) مزيدة من (ط) .(4/87)
انقطاع التتابع في الصورتين وجهان: أحدهما - ينقطع لخروج الحيض عن القبيل الذي يغلب طريانه. والثاني - لا ينقطع؛ نظراً إلى جنس الحيض وتركاً للاشتغال بتفصيله، ونظائر ذلك كثيرة، وقد ذكرنا في هذا الفصل ما يقرب منه، وهو الخروج لقضاء الحاجة على بعد الزمان بسبب بعد المنزل، أو خروج الطبيعة عن عادة الاعتدال.
وسيأتي نظير هذا في صيام الثلاثة الأيام في كفارة اليمين، إذا فرض طريان الحيض عليها، على قولينا باشتراط التتابع.
فإن قيل: إن جرى الخلاف في تقدم الحيضة، فما وجهه إذا قصدت تقريب زمان افتتاح الوفاء من عادتها؟ قلنا: تأخّر الحيضةِ ممكن كما يمكن تقدمها، نعم: أصح الوجهين في هذه الصورة الانقطاعُ.
2372- ولو خرج المعتكف لعذر المرض المنتهي إلى مبلغٍ يقتضي الخروجَ عن المعتكَف، ففي انقطاع التتابع قولان، وكذلك إذا أفطر الملابس للصوم المتتابع.
فمن قال: لا ينقطع التتابعُ في الموضعين، فمتعلقه ثبوت الضرورة في الفِطر، والخروج من المعتكَف، ومن قال بالقول الثاني، فمتعلقه أن المرض ليس مما يعرض (1) ويطرأ لا محالة، بخلاف الحيض، وهذا تقرر في موضعه. وإن كان المرض بحيث يؤدي إلى تلويث المسجد لو فرض المكث [فيه] (2) كاسترخاء الأَسْر (3) ، والاستحاضة، فلأئمتنا طريقان: منهم من ألحقه بالحيض، ليقطع بأنه لا يقطع التتابعَ، ومنهم من أقره على القولين، وهو القياس.
فهذه جملٌ نبهنا عليها. وقد ترد مسائل في الكتاب تلتفت على هذه القواعد، وفاقاً وخلافاً، لم نذكرها الآن، حتى ننتهي إليها.
2373- فإذا تبين ما يقطع التتابع وما لا يقطعه، فإنا نذكر وراء ذلك التفصيلَ في أن الأزمنةَ التي تمضي في غير المعتكَف هل يعتد بها من الاعتكاف؟
__________
(1) (ط) : يفرض.
(2) مزيدة من (ط) .
(3) الأَسر بفتح وسكون شدة الخلق، والأسر بضمتين، أو بضم فسكون: احتباس البول. فالمراد هنا باسترخاء الأَسْر، ضعف القدرة على التحكم في البول (معجم ومصباح) .(4/88)
فنقول: أما الخروج لقضاء الحاجة، فقد ذكرنا: أنه لا يؤثر في قطع التتابع، ونقول الآن: إنه معتدٌّ به حتى إذا اعتكف الرجل أياماً، ولو جمعت أوقات خرجاته، لبلغت يوماًً أو بعض يوم، فلا نقول: يجب تداركها. اتفق الأصحاب عليه، حتى قال طوائف من المحققين: إن الخارج لقضاء الحاجة معتكف، وإن لم يكن في المسجد، واستدل هؤلاء بالاعتداد بهذا الزمان، وكان من الممكن أن لا يعتد بها، وإن كان يُحكم بأن التتابع لا ينقطع.
واحتج هؤلاء أيضاًً بأن الخارج لقضاء حاجته [لو] (1) جامع، فسد اعتكافه. وكان من الممكن أن يقال: لا يفسد، ويُعدّ الجماع الواقعُ منه بمثابة الجماع الواقع [منه] (2) ليلاً في الصوم المتتابع.
وقال قائلون: ليس الخارج معتكفاً، ولكن زمان خروجه مستثنىً، وكأن الناذر قال: لله عليّ اعتكاف عشرة أيام، إلا أوقاتَ خروجي لقضاء الحاجة، وأما الجماع، فقد حمله هؤلاء -في كونه مفسداً- على اشتغال الخارج بما لا يتعلق بحاجته، وقد نقول: لو عاد مريضاً، ينقطع تتابعُه. وإن كان خروجه لقضاء الحاجة على ما نفصله، حتى لو فرض الوقاع مع الاشتغال بقضاء الحاجة -على بعدٍ [في] (3) التصوير- لم يفسد الاعتكاف. وهذا بعيدٌ، والصحيح أنه يفسد الاعتكاف- وإن (4) فرعنا على أنه غير معتكف؛ فإنه (5) عظيمُ الوقع في الشريعة، وهو [وإن] (6) قرب زمانه أظهر أثراً من عيادة مريض.
وقد ذكر أئمتنا أن الخارج لقضاء حاجته إن عاد مريضاً في طريقه، فلم يحتج إلى
__________
(1) الأصل، (ك) : أو.
(2) مزيدة من (ط) .
(3) مزيدة من (ط) .
(4) (ط) : فإن.
(5) الضمير يعود على الجماع، كما صرح الرافعي في فتح العزيز: 6/533 حيث نقل نفس العبارة. والفاء متعلقة بـ (يفسد) تعليلاً.
(6) مزيدة من (ط) وعبارة الأصل، (ك) : وهو أنه قرب زمانه.(4/89)
الازورار (1) ، فلا بأس بذلك، ولو ازورّ، وعاد، انقطع التتابع، وإن قرب الزمان على وجهٍ كان يحتمل مثلُه في الأناة في المشي؛ فإن هذا يقدح في القصد المجرّد إلى قضاء الحاجة.
وذكر الأصحاب أن الخارج لقضاء الحاجة لو أكل لقماً، فلا بأس إذا لم يجرِ أكلٌ مقصودٌ، ولم يظهر طول زمان معتبرٍ، والجماع في مثل هذا الوقت مؤثر بلا خلاف، ومِنْ تَكلُّفِ تصويرهِ، [فرضُ جريانه مع الاشتغال] (2) بقضاء الحاجة.
هذا كلام الأئمة في الخروج لقضاء الحاجة.
فأما الخروج لعذر الحيض، أو عذر المرض، على أحد القولين، فغير معتد به، ولا بد من استدراكه، بخلاف زمان الخروج لقضاء الحاجة. وإن استوى جميع ذلك في أنها لا تقطع التتابع. وهذا ظاهرٌ في الحيض، والمرض، وإنما الغموض في الاعتداد بزمان الخروج لقضاء الحاجة.
ولو خرج والاعتكاف متتابع، لزيارةٍ، أو عيادةٍ، أو غرضٍ آخرَ صحيحٍ، من غير حاجة، فلا شك في انقطاع التتابع.
2374- ولو استثنى الخروج لأغراضٍ، فقال: لا أخرج عن معتكفي إلا لكذا، وكذا، فالأصح الذي قطع به معظم الأئمة صحةُ (3) الاستثناء، والمصيرُ إلى أن التتابع لا ينقطع بالخروج بالأغراض المستثناة.
وحكى صاحب التقريب والإمامُ قولاً للشافعي في القديم: أن الاستثناء باطلٌ، ويجب الوفاء بالتتابع، وهذا مهجور لا تفريع عليه.
فإذا خرج لما استثناه، وحكمنا بأنه لا ينقطع تتابعُ اعتكافه، فيعود ويبني، ولا يُعتد بزمان خروجه، كزمان المرض والحيض، بخلاف زمان الخروج لقضاء
__________
(1) الازورار: الميل، والمراد هنا الميل عن الطريق إلى طريق آخر بسبب عيادة المريض.
(2) في الأصل: فرضه مع جريانه مع الاشتغال وفي (ط) : فرضه في جريانه، وفي (ك) : فرضه جريانه.
(3) ساقطة من (ط) .(4/90)
الحاجة؛ فإنه إنما استثنى ما ذكره؛ حتى لا يؤثر في قطع التتابع، ولم يذكره حتى [لا] (1) يحط من زمان اعتكافه.
2375- وإذ نجز هذا، نعود بعده إلى تفصيل القول في تجديد النية، فنقول: أما إذا خرج لقضاء الحاجة، وعاد على ما ينبغي، فلا يحتاج إلى تجديد، وإن عاد بعد زمانِ المرض، أو زمان الغرض المستثنى، فقد ذكرنا أن التتابع لا ينقطع، وهل يحتاج إلى تجديد النية؟ ذكر الشيخ أبو علي وجهين: أحدهما - أنه لا يجب التجديد؛ فإن التتابع منتظمٌ والمتخلّلُ غيرُ معتد به. وفيه وجهٌ آخر: أنه لا بد من تجديد النية. وذكره شيخي.
وهذا الخلاف مبنيٌّ على نظير له في الطهارة، فإذا فرق المتوضئ وضؤَه، وقلنا: التفريق لا يبطل الوضوء، [فإذا] (2) عاد إلى البناء على بقية الطهارة، ففي اشتراط تجديد النية وجهان مشهوران.
وكل ما ذكرناه [من] (3) كلام في قسمٍ واحد من الأقسام الثلاثة، وهو إذا نذر اعتكافاً متتابعاً، ولم يعين زماناً.
2376- فأما إذا [نذر] (4) اعتكافاً وأضافه إلى زمانٍ حكمه التواصل، ولكنه لم يتعرض للتتابع، مثل أن يقول: لله عليّ أن أعتكف العشرَ الأواخر، من هذا الشهر، فاعتكافه -إذا وفَّى به- يقع متتابعاً، ولكن ذلك التتابع لتواصل الأوقات، لا لكونه مقصوداً في نفسه، ويظهر أثر ذلك [بفَرْضِ] (5) الكلام [في القضاء] (6) فلو (7) لم يف بإيقاع الاعتكاف في ذلك الوقت المعين، فلا شك أنا نُلزمه القضاءَ، ثم لا نوجب
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) الأصل، (ك) : وإذا.
(3) مزيدة من (ط) .
(4) في الأصل، (ك) : ذكر.
(5) في الأصل: بغرض، (ك) : بعرض.
(6) ساقط من الأصل، (ك) .
(7) في الأصل، (ك) : ولو.(4/91)
التتابعَ، كما لا نوجب التتابعَ في قضاء صيامٍ عن شهر رمضان.
ولو افتتح الوفاءَ، ثم خرج عن معتكفه لقضاء الحاجة، لم يؤثر خروجُه، ولم يلزمه استدراك زمان الخروج للحاجة، وإذا عاد، لم يلزمه تجديد النية، ولو خرج لا لحاجة -من غير استثناء-، فزمان خروجه لا يعتد به، ولا يبطل ما تقدم من الاعتكاف؛ فإن التتابع ليس مرعياً في هذا النوع، قصداً إليه، والاعتكاف في كل لحظة عبادةٌ على حيالها، فصار تخلل ما ذكرناه بمثابة تخلل الإفطار في أيام رمضان.
وكذلك لو فرض طريانُ مفسدٍ، وهو الجماع المفسد، [فلا] (1) يفسد ما مضى.
ثم كما لا يفسد ما مضى، لا يخرج باقي الزمان عن التهيؤ [لقبول] (2) الاعتكاف الواجب.
وإذا كان كذلك، فإذا فرض عودُه في الصورة التي انتهينا إليها، فالمذهب أنه لا بد من تجديد النية؛ فإن ما مضى عبادةٌ منفصلة، عما يستقبله الآن، وقد تخلل المفسدُ، أو الزمن الذي لا يعتد به. ولو رُددنا إلى القياس، لما اكتفينا بنية واحدةٍ، في أوقات، كما لا يكتفى بنية واحدة في أول شهر رمضان، ولكن تخصيص كل لحظة بنية عسرٌ، فلأجل ذلك انبسطت نيةٌ واحدة على الأوقات المتواصلة، فإذا تخلل ما يقطع التواصل، وجب الرجوعُ إلى الأصل المنقاس الذي مهدناه.
وذكر الشيخ أبو علي في هذه الصورة وجهاً آخر، عن بعض الأصحاب: أن النية الأولى شاملةٌ كافيةٌ، وقد نوى اعتكافَ العشر، فلئن طرأ ما لا يعتد به، فحكم النية باقٍ في البقية.
2377- ومما يتصل بهذا القسم أنه (3) لو عين الناذر أوقاتاً لاعتكافٍ (4) متواصلة، واستثنى أغراضاً، فإذا خرج لها، على حسب استثنائه، لم يجب عليه تداركها في هذا القسم؛ من جهة أن (5) معنى استثنائه لها يرجع إلى حط أوقاتها عن الأوقات
__________
(1) في الأصل، (ك) : ولا.
(2) في الأصل، (ك) : والقبول.
(3) ساقطة من (ك) .
(4) عبارة (ط) : أوقات الاعتكاف.
(5) (ك) : أنه.(4/92)
المعيّنة، فكأنه قال: لله تعالى عليَّ أن أعتكف هذه الأوقات، إلا أوقاتَ خروجي، وليس كما إذا نذر اعتكاف أيامٍ شائعةٍ متتابعة من غير تعيين زمان، ثم افتتح الوفاء، وقد كان استثنى الخروجَ لأغراضٍ، فإذا خرج لها، لم يعتد بزمان خروجه، وإن لم ينقطع التتابع؛ لأن استثناءه في القسم الأول محمول على أن لا ينقطع التتابع، وهو محمول في القسم الذي نحن فيه على الحط عن الزمان. وهذا واضح لا شك فيه.
ولو حاضت المرأة، [و] (1) كانت عينت زماناً في النذر، من غير تعرضٍ للتتابع، أو مرضَ الناذرُ كذلك، فخرج، فزمان الحيض والخروج، لا يعتد به، ويجب تلافيه، وليس كالأوقات التي تمضي في الأغراض المستثناة، والسبب فيه أن استثناءه مُصرِّح باقتضاء حطّ الأوقات، فأما زمان الحيض والمرض، فليس يتعلق به لفظٌ يتضمن الحطَّ، وقد يستوعب الزمانُ [جملةَ] (2) الوقتِ المعيّن، فصار زمان العوارض (3) في حكم ترك الملتزَم، وإن كان الترك بسبب العوارض مسوَّغاَّ.
ومن نذر صوم يوم، ثم تركه من غير عذرٍ، قضاه، ولو تركه لعذر، قضاه.
نعم، الخروجُ لقضاء الحاجة مستثنىً عن هذا القانون، في كل مسلكٍ، ولا يجب تداركُه، ولهذا ذهب ذاهبون إلى أن الخارج في ذلك الوقت معتكفٌ.
وقد نجز غرضُنا في هذا القسم.
2378- فأما القسم الثالث - وهو إذا جمع بين تعيين الزمان، وبين التعرض للتتابع، فقال: لله عليّ أن أعتكف العشرَ الأخير، من هذا الشهر، متتابعاً، فهل يثبت التتابع مقصوداً؟ حتى يقال: لو طرأ مفسد يبطل ما مضى؟ فعلى وجهين: أحدهما (4) أنه يثبت (5) حكم التتابع؛ فإنه تعرّض له، وجرّد القصد إليه، فلا منافاة بينه، وبين تعيين الزمان.
__________
(1) زيادة من (ط) .
(2) مزيدة من (ط) .
(3) إشارة إلى الحيض والمرض.
(4) (ط) : أصحهما.
(5) (ك) : لا يُثبت.(4/93)
والوجه الثاني - أن التتابع يُلغَى، والغلبة لما عينه من الوقت، وذكر التتابع محمول على تواصل (1) الزمان. ثم ما قدمناه من الأحكام، المتعلقة بالتتابع، وتعيين الوقت لا تخفى إعادته هاهنا.
فهذا منتهى غرضنا في جمل عقد (2) المذهب، في قواعد الاعتكاف.
2379- وقد قال صاحب التقريب: إذا وقع التفريع على الأصح في تصحيح الاستثناء عن التتابع، فلو قال الناذر: لله عليّ أن أتصدق بعشرة دراهم، إلا أن أحتاج قبل التَّصدُّق (3) ، فإذا احتاج، فهل يسقط واجب النذر إعمالاً للاستثناء؟ [قال:] (4) المسألة محتملة. وكذلك لو فُرض في نذر الصوم والصلاة وغيرهما من القرب الملتزمة بالنذر. وطرد هذا فيه، إذا قال: لله عليّ شيء من ذلك، إلا أن يبدوَ لي. زعم أن المسألة محتملة؛ إذا بدا له. ولم يُشر في مجاري كلامه إلى إفساد النذر، لمكان الشرط.
نعم ذكر شيخي أنه لو استثنى في هذه القربات ما يتعلق به غرض، كالافتقار في نذر الصدقة، وكما (5) يناظر هذا في كل قُربة، فالاحتمال لائح.
فأما إذا قال: إلا أن يبدو لي، فالأوجه إبطال هذا الاستثناء؛ فإنه غير متعلق بغرض. وقد يتجه عندنا إفساد النذر، في هذه الصورة؛ فإنه إذا علق بِخيَرة نفسه، فهو مضادٌّ لمعنى الإلتزام، وتعويل الوفاء على التصميم إذاً (6) ، والمصمم على التطوع يُمضيه.
2380- وألحق العراقيون شيئاً بهذا الفصل يدانيه من وجهٍ، [و] (7) الغرض منه
__________
(1) (ط) : تتابع.
(2) (ط) : في عقد جمل المذهب.
(3) (ط) : الصدقة.
(4) في الأصل، (ك) : فإن.
(5) (ط) : كما. (بدون الواو) .
(6) (ط) : أداءً.
(7) زيادة من (ط) .(4/94)
غيرُه، فقالوا: إذا كان نَذَر صوماً، ثم شرع فيه، وفاء بالنذر، وشرط أن يتحلل عنه، إن عنّ عارض عيّنه، مما يعد [عَرَضاً] (1) مؤثراً، وإن لم يكن في عينه مبيحاً للخروج، كالمرض التام المؤثر في إثبات رخصة الإفطار، قالوا ينعقد الصوم، ويثبت التحلل [عندنا، على] (2) شرط القضاء؛ لأجل الاستثناء.
ولو شرط التحلل عن الحج لعارض المرض، وهو -كيف قدر- لا يبيح التحلّلَ عندنا لعينه، فهل يثبت التحلل بالشرط؟ فعلى قولين، سيأتي ذكرهما في المناسك، -إن شاء الله تعالى- وسبب الفرق أن الحج مباينٌ لسائر العبادات، في مزيد [التأكيد] (3) .
هذا ترتيبهم.
وكان شيخي يقلب هذا الأمرَ، ويجعل التحلّلَ في الحج وفاءً بالشرط- أولى بالثبوت؛ لخبرٍ فيه ما سنرويه في موضعه؛ إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أهلِّي، واشترطي أن محلي حيث حبستني " (4) ويقول: لو فرض شرطٌ مثلُه في الصوم المنذور، فلا ينقدح إلا بطلان الشرط، [أو] (5) بطلان النية بالشرط، حتى لا ينعقد الصوم كذلك.
2381- ومن تمام القول في الاستثناء في الاعتكاف [أنا] (6) إذا صححناه، لم يزد على مقتضاه، حتى لو استثنى عيادة المرضى، لم يخرج لأمرٍ هو أهم منها. وقال الأصحاب: لو ذكر عيادةَ زيدٍ، لم يخرج لعيادة عمرو. ولو قال: أخرج لكل شُغل يعنّ لي، فهو صحيح، فليخرج إن أراد، لكل ما يُعد شغلاً، ديناً ودنيا، على شرط
__________
(1) في الأصل، ط: غرضاً.
(2) عبارة الأصل، (ك) : ويثبت التحلل عن شرط القضاء.
(3) الأصل، (ك) : الناذر.
(4) حديث: " أهلي واشترطي ... " متفق عليه من حديث عائشة في قصة ضُبَاعة بنت الزبير (اللؤلؤ والمرجان: 2/37 ح 754) .
(5) الأصل، (ك) : و.
(6) الأصل، (ك) : أما.(4/95)
أن يكون مستباحاً في الشرع. وليس من الأشغال الخروجُ للنظر إلى رُفقةٍ، [أو] (1) مجتمعٍ، فإن هذا يعد في العرف هَزلاً، غير محصل. وقد يمكن أن يضبط الشغل بمقصود (2) المسافر في مقصد سفره، على ما تفصّل في موضعه.
ولو قال: أخرج مهما أردتُ، فهذا ضد التتابع، فكأنه التزم التتابعَ، ثم نفاه، وفيه وجهان: أحدهما - أن التتابع يَبْطل التزامُه.
والثاني - أنه يلزمه، ويبطل الاستثناء.
وقد يلتفت هذا على شرائط فاسدة، تُقرَن بالوقوف والحُبُس، فإنا (3) في مسلكٍ لنا نُبطل الشرطَ وننفذ الوقف، وفي مسلكٍ آخر نُبطل الوقفَ، لاقترانه بالشرط المفسد.
2382- هذا تمام البيان في ذلك.
فصل
قال: " واعتكافه في المسجد الجامع أحب إليّ ... إلى آخره " (4) .
2383- هذا الفصل يستدعي تقديمَ القول في تعيين المساجد في الاعتكاف.
فنقول: أولاً - إذا عين مسجداً في نذرِ صلاةٍ، فقال: لله عليّ أن أصلي في هذا المسجد، فإن كان غيرَ المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، ومسجد المدينة، ومسجد القدس، لم يتعين المسجد للصلاة، وله أن يقيمها في غير ذلك المسجد، ولا حرج عليه في إقامتها في غير المساجد.
ولو عين مسجد القدس، ومسجد المدينة، ففي وجوب الوفاء قولان، فإن عين المسجدَ الحرامَ للصلاة في سياق نذرها، ففي المسألة طريقان: قال قائلون: يجب
__________
(1) في الأصل، (ك) : ومجتمع.
(2) في الأصل، (ك) : لمقصود.
(3) (ط) : فأما.
(4) ر. المختصر: 2/33.(4/96)
الوفاء، قولاً واحداً. وخرّج آخرون المسألة على قولين في المسجدين: مسجد المدينة، ومسجد إيليا (1) .
وتفصيل ذلك والتفريع عليه يُستقصى في كتاب النذور -إن شاء الله تعالى-.
فأما إذا عين مسجداً غير المساجد الثلاثة في سياق نذر الاعتكاف، ففي تعيين المسجد وجهان: أحدهما - أنه لا يتعين، كما لا يتعين للصلاة. والثاني - أنه يتعين، وهو ظاهر النص، والسبب فيه أن الاعتكاف في الحقيقة انكفافٌ عن الانتشار في سائر الأماكن والتقلب فيها، كما أن الصوم انكفاف عن [أشياء زمناً] (2) مخصوصاً، فنسبة الاعتكاف إلى المكان، كنسبة الصوم إلى الزمان.
ولو عين الناذر يوماً بعينه [لنذر] (3) صومه، تعين اليوم، على المذهب الأصح، فليتعيّن المسجد بالتعيين أيضاًً، ثم إذا تعين ما سوى المساجد الثلاثة (4) ، فتعيّنها أولى. وإن لم يتعين ما سواها، ففي تعيينها القولان المذكوران في الصلاة، وينبغي أن يكون صَغْو الفقيه إلى [كون] (5) التعيين أليق بالاعتكاف منه بالصلاة.
وهذا يقتضي ترتيباً في محل الخلاف: فإذا ثبت ذلك، قلنا بعده: لو عين مسجداً لنذره، فليلتزمه، وإن أقام الاعتكاف في غيره، لم يُعتدّ به. وإن قلنا [إنه] (6) لا يتعين، فلو [خاض] (7) في الاعتكاف في مسجدٍ كان عينه، ثم خرج لقضاء حاجةٍ، وعاد إلى مسجدٍ آخرَ، على مثل مسافة ذلك المسجد، أو أقرب [منه] (8) ثم اعتاد ذلك مثلاً في كل خرجة، فقد اختلف أئمتنا: فقال بعضهم: يجوز، وهو القياس؛ فإنه آتٍ بالاعتكاف، ولا تعيُّنَ، والخرجات لقضاء الحاجات مقتصدةٌ على الضبط
__________
(1) إيليا: اسم مدينة بيت المقدس؛ قيل: معناه: بيت الله. (معجم البلدان) .
(2) في الأصل، (ك) : انتشارٍ ما.
(3) في الأصل، (ط) : كنذر.
(4) في الأصل، (ك) : الثلاث. وهو جائز حيث تقدّم المعدود.
(5) مزيدة من (ط) .
(6) مزيدة من (ط) .
(7) في الأصل، (ك) : فاض.
(8) مزيدة من (ط) .(4/97)
المقدّم. وجَبُن (1) بعض الأصحاب، فمنع هذا، صائراً إلى أن [الخوض في] (2) الاعتكاف في مسجدٍ يوجب إتمامه فيه، وإنما الكلام فيما قبل الشروع. وهذا ساقطٌ، لا أصل له، فينبغي ألا يعتد به.
2384- عاد بنا الكلامُ إلى ما ذكره الشافعي، إذ قال: " الاعتكاف في المسجد الجامع أحب إليّ "، وإنما قال ذلك، لكثرة الجماعة في المسجد الجامع، وقد يزيد أمد اعتكافه المتتابع على أسبوع، فإذا كان في الجامع، لم يحتج إلى الخروج عن معتكَفه. وقد بنى الشافعي قولَه هذا على تعيّن المسجد؛ فإنه عوّل في تعويل الاستحباب، على أنه لا يحتاج إلى الخروج من معتكفه للجمعة، وإذا قلنا: لا يتعين المسجدُ، فلا يمتنع فرضُ خروجٍ لقضاء [الحاجة] (3) مع العود إلى الجامع، كما مهدنا في المقدمة صورَ الوفاق والخلاف.
ثم يتصل بهذا الفصل أنه [إن] (4) عيّن غير الجامع، وزاد أمد اعتكافه على الأسبوع، فيلزمه الخروج إلى الجمعة، فإذا عيّنَّا المسجدَ بالنذر، ثم أوجبنا الخروج، فهل ينقطع (5) التتابع؟ فيه اختلاف [قولٍ] (6) وله نظائر، سأذكرها مجموعةً في فصلٍ، بعد ذلك.
والذي [ننجزه] (7) هاهنا: أن نذره لا ينتهض عذراً في جواز ترك الجمعة؛ فإنه هو الذي أدخل على نفسه هذا التضييق، والعسر (8) ، فليتأمل الناظر ذلك.
وإن لم يعين المسجدَ، فلو خرج لحاجةٍ، ثم عاد على قُربٍ، من الزمان
__________
(1) وصف عجيب، ينبئ عن حدّةٍ في طبع إمامنا الجليل، وعن إيمانه بالقواعد والمعاقد التي يضعها، للالتزام بها، والتفريع عليها.
(2) زيادة من (ط) .
(3) في الأصل، (ك) : حاجة.
(4) مزيدة من (ط) .
(5) (ط) : يتقاطع.
(6) في الأصل، (ك) : قوله.
(7) في الأصل، (ك) : ننحوه.
(8) (ط) : والعَنْس. (وفيها معنى الاحتباس) . (المعجم والمصباح) .(4/98)
والمكان إلى الجامع، فالمذهب أن تتابعه لا ينقطع، ولو خرج إلى الجامع من غير توسط الخروج لقضاء الحاجة، فهذا خروجٌ إلى واجب، ففيه الخلاف المقدّم الذي رمزنا إليه، ووعدنا تقريره مع نظائره.
فصل
قال: " ولا بأس أن يسأل عن المريض ... إلى آخره " (1)
2385- وقد ذكرنا أن الحائض في الاعتكاف المتتابع، إذا لم تستثن شيئاً، لم تخرج إلا لقضاء الحاجة، وألحقنا بها في التفصيل ما مضى.
فلو خرج لعيادة مريض قصداً، بطل تتابعه، وبطل ببطلانه اعتكافُه، ولو رأى مريضاً على طريقه، في ممره إلى قضاء حاجته، فعاده، ولم يُطل، فلا بأس؛ فإن هذا لا يعد قصداً إلى العيادة، ولو مال عن الطريق، فعاد مريضاًً يبطل التتابع؛ فإنه تجديد قصدٍ، ولو سأل عن المريض غيرَه، ممن يصادفه، على [طريقه] (2) فلا بأس، وإذا لم تؤثر عيادته مريضاً على ممرّه، فلا شك أن السؤال عنه على الممر لا يؤثر، ولو دخل منزلَه، فجلس جلسة حتى يُهيَّأ له موضعُ الحاجة، احتُمل ذلك، وعُدّ اشتغالاً بقضاء الحاجة، فلو أنه في هذه الحالة تعاطى لقماً، فأكلها، فلا بأس، ولو قضى حاجته، ثم خرج وأكل لقماً، ولم يأت بأكلٍ مقصود في نفسه، فهذا القدر لا يؤثر أيضاًً -وإن وقع بعد الفراغ- على الأصح من المذهب، وفيه شيء على بعد.
وقد ذكرت في الانتقال إلى المنزل للوضوء من غير قضاء حاجةِ البلوى خلافاً، ولا خلاف أن من قضى حاجته واستنجى، لم نكلفه نقلَ الوضوء إلى المسجد، فإن هذا يقع تابعاً، وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسأل عن المريض، إلا مارّاً في اعتكافه، لا يعرج على شيء " (3) .
__________
(1) ر. المختصر: 2/33.
(2) في الأصل، (ك) : طريق.
(3) حديث عائشة رواه أبو داود، وقد ضعَّف الحافظ إسناده، ثم قال: " والصحيح عن عائشة من=(4/99)
وقد أجمع أصحابنا على أن الوقفة القريبة لا تؤثر إذا لم تصر (1) العيادة مقصودة، ولو ازورّ مسرعاً، وعاد مريضاً، وعاد في زمن يحتمل مثله، بين الرَّيْت والعجل، فالذي جاء به يقطع التتابع لمكان القَصْد، والعيادة (2) على الطريق يعتبر [فيها] (3) طول الزمان وقصره.
ثم الذي إليه الرجوع أن يزيد الأمدُ زيادةً تزيد [على وصف الاقتصاد، بحيث تزيد على الاتئاد] (4) ، بحيث يُحسّ به (5) المنتظر المراقب.
وما ذكرناه في الأكل جريانٌ على الأصح في أنه لو خرج للأكل، لم يجز.
فصل
قال: " ولا بأس أن يشتري، ويبيعَ ... إلى آخره " (6) .
2386- إذا اشتغل في معتكفه بالبيع والشراء، لم يبطل اعتكافُه، وكذلك (7) إذا كان يَخيط، أو يحترف بحرفة أخرى، ولا فرق بين أن يقع ذلك، وهو صنعةُ الرجل يتبلغ بها، وبين ألا تكون صنعتَه.
وعن مالك (8) : أنه إذا كان يقيم صنعةً يكتسب بها في المسجد، لم يصح
__________
=فعلها وكذلك أخرجه مسلم وغيره، ا. هـ (ر. أبو داود: الصوم، باب المعتكف يعود المريض، ح 2472، مسلم: الحيض، باب جواز غسل الحائض رأس زوجها، ح 297، التلخيص: 2/419 ح 952) .
(1) (ط) : تغير.
(2) (ط) : فالعيادة.
(3) مزيدة من (ط) .
(4) زيادة من (ط) وعبارة الأصل، (ك) : تزيد على الارتياد على وصف الاقتصاد.
(5) (ط) : بحيث تجزئه المنتظر.
(6) ر. المختصر: 2/34.
(7) (ط) : فكذلك.
(8) ر. تهذيب المدونة: 1/389، حاشية العدوي: 1/413.(4/100)
اعتكافه، وهذا باطلٌ [عندنا] (1) ؛ فإن انحصاره في المسجد هو الاعتكاف، إذا اقترنت به النية.
وفي بعض التصانيف (2) إضافة مذهب مالك إلى الشافعي على البت (3) ، وهذا غلطٌ صريح، ولو جاز أن نعول على ما ذكره مالك، لامتنع الاعتكافُ رأساً، فإن صاحبه اتخذ المسجد بيتَه، ومسكنه، فلا حاصل لهذا، لا نقلاً، ولا تعليلاً.
2387- ثم قال الشافعي: ولا يُفسده سباب، ولا جدال، والأمر على ما قال.
لا يَفسدُ الاعتكافُ بهذا، كما لا يفسد الصوم بمثله.
قال الصيدلاني: ولكن يذهبُ أجرُه بذلك، وتفوته الفضيلة، وليس الكلامُ في الأجر والفضيلة من شأن الفقهاء، فلا حاصل لما ذكره، والثواب غَيْب لا مطَّلع عليه.
وإن ورد خبر في أن [الغِيبة] (4) تُحبط الأجرَ، فهو تهديد مؤوَّل، وقد يرد مثله في الترغيب.
ثم ذكر الشافعي في أثناء الكلام: أن صاحب الاعتكاف المتتابع لا يخرج لشهود الجِنازة، فإن أدخلت الجنازة رحبةَ المسجد، وهي من المسجد، فلا كلام، وإن خرج لقضاء حاجته، فصادف جنازةً على الطريق، فصلى عليها، فلا بأس؛ فإن الزمان قريب.
فليتخذ الفقيه هذا معتبرَه، وليثق بما ذكرناه في الوقوف للعيادة، ولا يزْوَرُّ (5) للصلاة على الجنازة.
__________
(1) في الأصل، (ك) : عندي.
(2) يتأكد هنا أن المراد ببعض التصانيف كتب أبي القاسم الفوراني، حيث يرفض إمامنا إضافته مذهب مالك إلى الشافعي وحكايته على أنه مذهب الشافعي مروي عنه، وقد أكد السبكي أن حملة إمام الحرمين على الفوراني، إنما هي من جهة تضعيفه في النقل (ر. الطبقات: 5/110) .
(3) (ك) : اللبث.
(4) الأصل، (ك) : الفتنة.
(5) ط: يرون، ويزورّ: أي يميل عن طريقه.(4/101)
فصل
قال: " ولا بأس إذا كان مؤذِّئاً أن يصعد المئذنة، فإن كانت خارجةً ... إلى آخره " (1) .
2388- إذا شرع المؤذن في اعتكافٍ، متتابعٍ، ثم كان يصعد المئذنة، ويؤذن، فإن كانت المئذنة من المسجد، فلا إشكال في دوام الاعتكاف؛ فإن المئذنة بمثابةِ بيتٍ في المسجد.
وإن كانت المئذنة خارجةً عن سمت المسجد، متصلةً به، وكان بابُها لافظاً في المسجد نفسِه، فقد قطع الأئمة بأن التتابع لا ينقطع بالخروج إليها، والرقيّ فيها.
2389- وإذا كانت لا تُعد من المسجد، ولو نذر (2) الاعتكافَ فيها، لم يصح؛ فإنّ حريم المسجد، لا يثبت له حكم المسجد في جواز الاعتكاف فيه، وتحريمِ المكث على الجُنب، والمرورِ على الحائض، ولكن النص قاطع بما ذكرناه. ولم أعثر بعد على خلافٍ [للأصحاب] (3) فيه، مع الاحتمال الظاهر في القياس؛ فإن الخارج إلى هذه المئذنة خارجٌ إلى بقعةٍ غيرِ صالحةٍ للاعتكاف.
ولو كان بابُ المئذنة إلى الشارع، أو إلى الحريم، وكان المؤذّن يخرج إلى موضع الباب، ويرقى، ففي انقطاع تتابعه وجهان مشهوران: أحدهما - الانقطاع وقياسه بيّن، والثاني -[أنه لا ينقطع لمعنيين: أحدهما - كون المئذنة على الحريم، والحريمُ من حقوق المسجد، والثاني] (4) - أن خرجاته للأذان مستثنىً في ظاهر حاله، كخرجات الرجل لقضاء حاجته.
وهذا في المؤذن الراتب، فأما غيره إذا خرج، فإن قلنا: ينقطع تتابع المؤذنِ
__________
(1) ر. المختصر: 2/34.
(2) (ط) : قدّر.
(3) في الأصل، (ك) : الأصحاب.
(4) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، (ك) .(4/102)
الراتب، فلأن ينقطع تتابع هذا أولى، وإلا، فوجهان، على المعنيين، فمن اعتمد استثناء المذهب (1) [لخرجاته] (2) حكم ببطلان تتابع من ليس راتباً، ومن عوّل على الحريم، لم (3) يُبطل اعتكافَ غير الراتب أيضاًً.
فهذا غاية النقل، مع التنبيه على الاحتمال، والإشكال.
2390- والقول الحاصل: أن الباب إذا كان لافظاً في المسجد، وانضم إليه الرقيّ للأذان من الراتب، فلا خلاف من طريق النقل، وفي الاحتمال ما ذكرناه.
فإن كان في الحريم، والباب خارجٌ، فالخروج للأذان من الراتب على وجهين، ومن غير الراتب للأذان على خلافٍ مرتبٍ، والخروج من الراتب وغيرِه لغير الأذان -والباب خارج- يقطع التتابعَ.
والرقيّ في المئذنة اللافظ بابها في المسجد، لغير الأذان [لا] (4) نقل فيه عندنا، والظاهر الانقطاع؛ فإن المئذنة، وإن كانت لافظةَ الباب في المسجد، فإنها ليست معدودةً من المسجد؛ إذ لا يجوز الاعتكاف فيها.
فهذا تمام المراد في ذلك.
2391- وفي النفس شيء، يتعلق تمام البيان فيه، بذكر معنى الحريم، وسنجمع (5) قولاً بالغاً في كتاب الصلح -إن شاء الله تعالى- وفيه نبيّن حريمَ المسجد، والمِلْك.
ولا شك أن المؤذن لو دخل حجرةً مُهيَّأة للسكنى بابها لافظ في المسجد، يبطل اعتكافه، وإنما قيل ما قيل في المئذنة، لأنها مبنيةٌ لإقامة شعار المسجد.
__________
(1) (ط) : العادة.
(2) في الأصل، (ك) : بخرجاته.
(3) (ط) : لا.
(4) الأصل، (ك) : فلا.
(5) (ط) : نجمع.(4/103)
2392- ثم قال الشافعي: " وأكره الأذان بالصلاة للولاة " (1) . فمن أئمتنا من قال: ليس هذا من مسائل الاعتكاف، بل هو كلام معترض فيها، والمراد أنا نكره للمؤذن أن يأتيَ بابَ الوالي وغيره، فيؤذنَ على بابه، أو (2) يأتي ببعض كلمات الأذان، كالحيعلتين؛ فإن الأذان الراتبَ دعوةٌ عامة، فليكتفِ بها (3) آحاد (4) الناس.
ولو حضر المنبِّه أبوابَ الأعيان ونادى بالصلاة، ولم يذكر شيئاً من كلم (5) الأذان، فقد اختلف أئمتنا في ذلك (6) : فمنهم من قال: إنه لا يكره، وهو اختيار القفال، ويشهد له: أن بلالاً كان يأتي بابَ حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا قرب قيامُ الصلاة، وينادي: " الصلاةَ الصلاةَ " (7) .
والشاهد في كراهية الأذان، ما روي: " أن المؤذن أتى بابَ عمر، بعد ما أذن للعامة، فأذن له (8) ، فأنكر عليه، وقال: أما يكفيني أذان العامة " (9) .
فهذا ما يتعلق بالكراهية في ذلك، نفياً وإثباتاً.
__________
(1) ر. المختصر: 2/34.
(2) (ط) : ويأتي.
(3) (ط) : بهذا.
(4) كذا في النسخ الثلاث، ولعلها: كآحاد الناس.
(5) (ط) : كلام.
(6) (ط) : اختُلِفَ فيه.
(7) خبر نداء بلال ... لم نجده بهذا السياق، وإنما جاء في كنز العمال من حديث ابن عمر: " جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم يؤذنه الصلاة، صلاة الصبح، فقال: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، الصلاة يرحمك الله! قالها مرتين أو ثلاثاً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد أغفى، فجاء بلال فقال: الصلاة خير من النوم ... " (ر. الكنز: 8/357 ح 23253 وعزاه لأبي الشيخ، وللضياء المقدسي في المختارة) .
(8) (ط) : به.
(9) خبر الأذان بباب عمر لم نجده بهذا اللفظ، وإنما روى الضياء المقدسي في المختارة أن عمر قدم مكة، فأتاه أبو محذورة، فقال: " الصلاة يا أمير المؤمنين، حي على الصلاة حي على الفلاح. فقال له عمر: حي على الصلاة حي على الفلاح! أما كان في دعائك الذي دعوتنا ما نأتيك، تأتنا ثانياً؟! (ر. كنز العمال: 8/341 ح 23168) .(4/104)
وحمل بعضُ الأصحاب هذا على مسائل الاعتكاف، وزعم أن المراد أن المؤذن لا يخرج من معتكفه ليقف على الأبواب، وينادي، ولو فعل ذلك، انقطع تتابع اعتكافه، وهذا يخالف خروجَه للأذان على حريم المسجد، كما سبق (1) التفصيل [فيه] (2) .
فصل
قال: " وإن كانت عليه شهادةٌ ... إلى آخره " (3) .
2393- نذكر في هذا الفصل خرجاتٍ، ضروريةٍ، طارئةٍ، على الاعتكاف المتتابع. وأصل جميعها أن المرض إذا ثقل، وعسر احتمالُه في المسجد، فإذا خرج المعتكف لأجله، ففي انقطاع التتابع القولان المقدَّمان.
ويقع في مرتبته ما إذا [أخرج] (4) الإنسان عن معتكفه قَهْراً (5) ، والجامع بينهما أن كل واحد منهما عارضٌ ضروري، لا يحكم عليه بغلبة الوقوع، قبل [اتفاقه] (6) ، فالمعتكف (7) غير منتسب فيه إلى تفريطٍ سابق.
ومما يتعين التنبه له [أن] (8) الصائم لو أُوجر الطعامَ، لم يفطر وفاقاً، ولو أكره حتى [طعم] (9) ، ففي الفطر قولان.
والخروج من المعتكَف، لا فرق فيه بين أن يُكرَه حتى يخرج بنفسه، وبين أن يُحمل، بل نفسُ مفارقةِ المسجد، إذا تحقق، نيط به من الحكم ما يقتضيه الحال.
والذي أراه أن المعتكِف، لو خرج من معتكَفه ناسياً، فيظهر الحكمُ بانقطاع
__________
(1) (ط) : تبين.
(2) ساقط من الأصل، (ك) .
(3) ر. المختصر: 2/34.
(4) في الأصل، (ك) : خرج.
(5) (ط) : فهذا.
(6) في الأصل، (ك) : إيقاعه.
(7) (ط) والمعتكف.
(8) زيادة من (ط) .
(9) في الأصل، (ك) : يطعم.(4/105)
تتابعه، بناء على هذا الأصل، الذي مهدناه، والغاية فيه أن يُلحق النسيانُ بالمعاذير، حتى يتردد القولُ، وليس كالأكل على حكم النسيان في الصوم.
2394- ولو تحمل الرجل شهادة، ثم اعتكف اعتكافاً متتابعاً، وطُلب منه أداء الشهادة؛ فإن لم يتعين عليه أداؤها، فليس له أن يخرج، وإن خرج، انقطع تتابعه.
وإن تعين عليه الخروجُ -وتفصيله (1) في كتاب الشهادة- ففي انقطاع تتابعه قولان، مرتبان على القولين فيه إذا خرج لمرض أو أخرجه مخرج. وهذه الصورة الأخيرة أولى بانقطاع التتابع؛ من جهة أن التحملَ المتقدم على الاعتكاف تسبُّبٌ منه إلى الخروج من المعتكف، ولئن لم تلحقه التهمة (2) في تحمله، فقد كان متمكناً من الاستثناء، فإذا أغفله، وضح من هذه الجهة تقصيرُه.
وقد تردد بعضُ المحققين في أن استئناءَ إخراج السلطان إياه من المسجد، هل ينفع على قولينا: إنه يقطع التتابع؟ فقال بعضهم: ينفع. وقال آخرون: لا أثر للاستثناء (3 فيما يتعلق بالغير، وإنما يؤثر الاستثناء 3) المرء، وهذا لطيفٌ. وهو تفريع على إعمال الاستثناء.
2395- ولو التزم الرجل حداً، ثم شرع في اعتكافٍ متتابعٍ، فأخرجه السلطان، لإقامة الحد عليه، فقد ذكر الشيخ أبو علي قولين، في انقطاع التتابع، ولا بد من ترتيبها على تقدم تحمل الشهادة، وهذه الصورة الأخيرة أولى بانقطاع التتابع؛ من جهة الانتساب إلى المعصية، الموجبة للحد، والحكمُ ببقاء التتابع، من فن التخفيف، وهو غير لائقٍ بالمتسبب على حكم المعصية.
2396- ولو اعتكفت المرأةُ اعتكافاً منذوراً، متتابعاً، فمات عنها زوجُها، في أثناء الاعتكاف، أو طلقها، فالغرض من هذا ينبني على تصوير الإذن فيه وعدمه من الزوج.
__________
(1) أي تفصيل التعين.
(2) (ط) : لائمة.
(3) ما بين القوسين ساقط من (ط) .(4/106)
فإن نذرت بإذنه، ودخلت المعتكَف، بإذنه، لم يملك الزوج إخراجها، وإن وُجد أحدهما بإذنه، دون الثاني، ففيه خلافٌ، وموضع استقصائه كتاب النذور والأيمان.
وإن كان الزوج يملك إخراجها من المعتكَف، لو دام النكاح، فمات عنها، أو طلقها، فيلزمها الخروج عن المعتكَف، والعَود إلى مسكن النكاح، للاعتداد، فإذا خرجت، ففي انقطاع التتابع الخلافُ المقدَّم. وهذا يلتحق بالمرتبة الأخيرة، إن عصت بدخول المعتكَف، وإن لم تعصِ، ولكنا كنا جوزنا للزوج الرجوعَ عن الإذن، على أحد الوجهين فيه إذا جرى أحد السببين بإذنه، والآخر بغير إذنه، فهذا يلتحق بمرتبةِ تحمّل الشهادة.
ولو كان الزوج لا يملك إخراجها لو دام النكاح، فإذا طلقها، أو مات عنها، فهل لها أن تُتم اعتكافها للإذن السابق؟ فعلى وجهين، سنذكر أصلهما في كتاب العِدد.
فإن قلنا: لا تخرج، فلو خرجت، بطل اعتكافها. وإن قلنا: يلزمها الخروجُ بطريان العدة، ففي انقطاع التتابع قولان، كما قدّمنا ذكرهما، قبيل هذا في أمر العدة.
فهذا بيان ابتناء هذه الخرجات الواجبة، على الخروج لأجل المرض مع ترتيب المراتب.
فصل
2397- نجمع في هذا الفصل مفسداتِ الاعتكاف، في قَرَنٍ (1) : فمنها الجماع، فكل جماعٍ يُفسد الصومَ مفسدٌ (2) للاعتكاف، منافٍ له.
2398- فأما المباشرةُ دون الجماع، فقد اضطربت النصوص فيها، فقال في كتاب الصيام: لا يباشر المعتكف، فإن فعل، فسد اعتكافه، وقال في موضع آخر:
__________
(1) القَرَن بفتحتين: الحبل يجمع به البعيران، والمعنى نجمع مفسدات الاعتكاف هنا في سياق واحد متتابعةً.
(2) في الأصل، (ك) : فهو مفسد.(4/107)
لا يفسد الاعتكاف إلا بالوطء الذي يوجب الحد.
واضطربت الأئمة في ترتيب المذهب. ونحن نفرض مباشرةً وهي التقاء البشرتين، من غير إنزالٍ، ثم نفرضها مع الإنزال.
فإن لم يتفق الإنزال، فمن أصحابنا من خرّج قولين في أنها هل تُفسد الاعتكاف؟ أحدهما - لا تفسده، كما لا تفسد الصومَ.
والثاني - تفسده، لظاهر قوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] . والغالب على الظن أن المراد المباشرةُ، دون الإنزال، والجماع، فإنهما لا يقعان (1) ، ولا يخفى على العامة اجتنابُهما، فتخصيص المباشرة بالنهي عنها في الاعتكاف، يشعر بالمباشرةِ العريّه عن الإنزال، فقد عُدّت خصّيصة (2) بمحظورات الاعتكاف، ثم هي محظورة في الحج، وإن لم تكن مفسدةً له.
فأما المباشرة إذا اتصل بها الإنزال، فالذي يليق بالتحقيق القطعُ بأنها تُفسدُ الاعتكاف، كما تُفسد الصوم، وهي بإفساد الاعتكاف أولى، فإنا قد نُحوَجُ (3) إلى تكلّفٍ في تعليل إفساد الصوم بالإنزال، فإنه ليس جِماعاً، ولا دخول داخلٍ إلى الجوف، وتعليل إفساد الإنزال للاعتكاف لائحٌ، من جهة أن المنزل مُجنب، ويحرم على الجنب المكثُ في المسجد، والاعتكاف مكثٌ في المسجد، ويستحيل أن يكون المكثُ محرماً منهيّاً عنه [نهياً] (4) مقصوداً، ثم يقع قُربة، مأموراً بها، وليس ذلك من قبيل الصلاة في الدار المغصوبة؛ فإن النهي لا يتجرد إلى الصلاة قصداً، كما قررناه في فن الأصول (5) .
وذكر بعض أصحابنا قولين في المباشرة مع الإنزال، وزعموا أن الإفساد يختص
__________
(1) كان المعنى لا يقع فيهما -أعني الإنزال والجماع- المعتكف، ويتحاشاهما، لظهور حكمهما، كما هو واضح من السياق.
(2) الخصّيص: الأخص من الخاص (معجم) .
(3) (ط) : نخرج.
(4) مزيدة من (ط) .
(5) ر. البرهان في أصول الفقه: 1/فقرة 208-212.(4/108)
بالجماع، وهذا مشهورٌ في الحكاية، [و] (1) لا اتجاه له أصلاً عندنا، لما نبهنا عليه من خروج الجنب، عن أن يكون أهلاً للكَوْن في المسجد.
ثم [من] (2) خصص الإفساد بالجماع، فيظهر عندنا أنه يَعتبر فيه الجماعَ المفسدَ للصوم، من غير تعريجٍ على إيجاب الكفارة. وفي نص الشافعي ما يدل على اعتبار الجماع التام؛ فإنه قال، فيما نص عليه، في بعض المواضع: " ولا يَفسُد اعتكافه إلا بوطءٍ يوجب الحدَّ "، ومقتضى هذا أن إتيان البهيمة إذا لم يوجب [الحد] (3) ، لم يتعلق به إفساد الاعتكاف (4) ، والظاهر اعتبارُ (5) فساد الاعتكاف، بفساد الصوم، وقد قدمنا أن الصوم يَفسُد بكل جماع، يوجب الغُسل.
وإذا قلنا: المباشرةُ تفسد الاعتكاف من غير إنزال، فالضبط فيه: أن كل ما يوجب من هذا النوع الفديةَ على المحرم، يُفسد الاعتكاف. وضبط [البابين] (6) جميعاً: ما ينقض الوضوء [نفياً] (7) وإثباتاً، وفاقاً وخلافاً.
__________
(1) مزيدة رعاية للسياق، واستئناساً بما حكاه النووي في المجموع عن إمام الحرمين (المجموع: 6/525) .
(2) مزيدة من (ط) .
(3) مزيدة من (ط) .
(4) قال الإمام النووي تعليقاً على هذا الكلام: " وهذا الذي قاله الإمام عجب، فإن المذهب المشهور أن الاعتكاف يفسد بكل وطء ... ومن أظرف العجائب قول إمام الحرمين هذا، مع علو مرتبته وتفذذه في العلوم مطلقاً رحمه الله تعالى ". ا. هـ (المجموع: 6/525) .
ومع شهادة النووي لإمامنا بعلوّ المرتبة، والتفذذ في العلوم مطلقاً، فنحن نرى في كلامه شيئاً من التحامل، فإمام الحرمين لم يأت بهذا من عند نفسه، بل رآه مدلولاً ومأخوذاً من نص الشافعي، ثم لم يقف عند هذا (العجب) الذي حكاه النووي، بل عقب قائلاً: " والظاهر اعتبار فساد الاعتكاف بفساد الصوم، وقد قدمنا أن الصوم يفسد بكل جماع يوجب الغسل " وهذا النص واضحٌ بين يديك في أعلى الصفحة. وهو لا يختلف عن كلام النووي الذي علق به على قول الشافعي، فإمام الحرمين جعله (الظاهر) والنووي جعله (المذهب المشهور) .
وكأني بالفرق قريب. والله أعلم.
(5) اعتبار: أي قياس، كما هو مفهوم.
(6) في الأصل، (ك) : الناس.
(7) في الأصل، (ك) : جميعاً.(4/109)
2399- ولم يختلف العلماء في أن الحيض ينافي الاعتكافَ؛ من جهة أن الحائض ليست من أهل المسجد أصلاً.
2400- فأما الجنابة، فينبغي أن يتأنَّى الناظرُ فيها: أما القياس، فيقتضي لا محالةَ الحكمَ بمنافاتها الاعتكاف، ولكن قد نقل بعضُ الأئمة أن المباشرة إذا اتصلت بالإنزال، لم يفسد الاعتكاف، ومن ضرورة الإنزال الإجناب، فالوجه عندنا في تخريج ما قيل، على طريق أن نقول: للجنب حضور المسجد [مجتازاً] (1) ، بخلاف الحائض، وقد ذكرنا أن من أصحابنا من جعل حضور المسجد اعتكافاً، من غير مُكث، فإن جرينا عليه، وفرضنا إنزالاً، واشتغالاً على أثره بالاغتسال من عينٍ في المسجد، فالجنابة لا تحرّم هذا الكَوْن، واللحظة الواحدة قُربةٌ، فلا يخرج الكَوْن فيها عن وضع الاعتكاف، فأما فرض المُكث في المسجد، مع الجنابة، فلم أرَ محققاً يستجيز الحكمَ بكونه اعتكافاً صحيحاً.
على أنا فيما ذكرناه على تكلُّفٍ فإن عبور الجنب في حكم المسوَّغَات (2) ، ولا يجوز أن يقع في رتبة القُربات.
والذي يجب القطع به أن من اعتمد الإنزال وإن تأتى منه الاغتسالُ في المسجد، فيحرم منه، ما جاء به. [وللاحتمال فيه مجال] (3) .
ولا وصول إلى ما تكلفناه على [صفوه] (4) ؛ فإن الاشتغال بالاغتسال ليس من الخروج (5) ، ويرد عليه أن دخول [المسجد] (6) جائزٌ للجنب، على قصد الإطراق.
__________
(1) في الأصل: مختاراً.
(2) المسوّغات: أي المسموحات المترخص بها.
(3) هذه عبارة (ط) أما الأصل، (ك) : " والاحتمال فيه مُحالٌ ". وهو عكس المعنى تماماً، ولكن عبارة (ط) هي المعهودة في لسان إمام الحرمين، وقد سبق مثل هذا آنفاً.
(4) في الأصل، وك: صغره. والمثبت من (ط) ولعل المعنى: على صفو المسألة ووضوحها لا وصول إلى القطع فيها. والله أعلم.
(5) أي يعكر على القول بوقوع الاعتكاف من الجنب أن هذا (الكَوْنَ) منه في المسجد، لا يجوز إلا في حالة مروره مجتازاً للمسجد، والاشتغال بالغسل من الجنابة ليس خروجاً.
(6) بياض بالأصل.(4/110)
فليقف الناظر عند معاصات (1) الكلام.
2401- واستتمام هذا بما نصفه [قائلين] (2) : إذا أجنب الرجل في المسجد، وكان بالقرب منه (3) ماءٌ يتيسر منه الانغماس فيه، على قربٍ من الزمان، ولو حاول الانفصالَ من المسجد، وقطْعَ عرصته الفيحاء (4) ، لزاد زمان القطع على زمان الغُسل، فالذي ذهب إليه المحققون أنه يتعين عليه إيثارُ الخروج، ولا نظر إلى الزمان، طال (5) أو قصر.
وأبعد بعض الأصحاب، فقال: يجوز الاغتسال على الصورة التي ذكرناها.
وهذا ساقط، من وجهين: أحدهما - أن الاغتسال على حالٍ حطٌّ للجنابة، واتخاذ المسجد محلاً لمثل هذا غضٌّ من أُبَّهَتِه، وأيضاًً، فإباحة العبور ليست معقولةَ المعنى، وإنما كان يتطرق المعنى إلى ذلك لو خُصّ جواز العبور بالاضطرار، فإذ [ذاك] (6) كنا نقدر الحركاتِ على قصد الانفصال في حكم الخروج (7) من الأرض المغصوبة، وليس الأمر كذلك؛ فإن للجنب دخول المسجد على قصد الاطّراق، وإن وجد مسلكاً غيرَه، فالتعويل على ظاهر لفظ الكتاب العزيز (8) . فكل ما لا يعد من قبيل العبور، بل يعد تعريجاً على أمرٍ، فهو نقيض العبور، والاشتغال بالاغتسال من ذلك.
ولم أر أحداً من الأصحاب يوجب إيثار الاغتسال نظراً إلى قرب الزمان.
و [حظُّ] (9) الاعتكاف من هذا الفصل، أنه قد ينقدح للناظر توجيه الاشتغال
__________
(1) عاص الكلامُ يعوص: خفي معناه، وصعب فهمه، فهو عويص، ومعاص اسم مكان من عاص. (المعجم) .
(2) مزيدة من (ط) .
(3) (ط) : منها.
(4) عرصته الفيحاء: أي ساحته الواسعة. وفاحت الدار: اتسعت، فهي فيحاء. (المعجم) .
(5) في الأصل، (ك) : وإن طال.. (بزيادة وإن) .
(6) الأصل، (ك) : ذلك.
(7) ساقطة من (ط) .
(8) يشير إلى قوله تعالى: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43] .
(9) في الأصل: حفظ.(4/111)
بالاغتسال، في حق الجنب المعتكف؛ حتى لا يحتاج إلى الخروج، وهذا ساقط؛ فإن الخروجَ إذا أمر به، فهو في معنى الخروج لقضاء الحاجة.
والذي يتنخلّ (1) عندنا من تنزيل هذا القول الذي شُهر، أن يقال: الإنزال إذا جرى من غير قصد، فالخروج من المسجد محمول على الخروج لقضاء الحاجة، ثم نفس الخروج مع [مباينته للمسجد] (2) غيرُ مؤثر، فليكن الخروج لأجل الإنزال بهذه المثابة.
وقد طال الكلام بعض الطول وسببه ما في هذا القول من الإشكال.
2402- ومما نلحقه بمفسدات الاعتكاف شيئان، اختلف النص فيهما، ونحن ننقل النصَّين في موضعهما، ونذكر ترتيب المذهب في كل واحدٍ.
نص الشافعي على أن الردَّة لا تفسد الاعتكافَ، ونص على أن السكر يفسد الاعتكاف.
فأما الردة، فلأصحابنا فيها ثلاث طرق، قال بعضهم: هي مفسدةٌ للاعتكاف؛ فإنها محبطةٌ للأعمال المقترنة بها، فلا يتصور اعتداد بعبادةٍ تساوقها الردة. وهذا القائل يقول: نصُّ الشافعي محمول على اعتكافٍ غيرِ متتابع طرأت الردةُ في خلله، وقوله: " لا تُفسدُ الاعتكاف " معناه لا تُفسد ما مضى، ردّاً على أبي حنيفة (3) ، حيث قال: الردة تحبط سوابق الأعمال، وإن اتفقت الموافاة (4) على الإسلام.
وفي هذا التأويل بعضُ البعد؛ فإن الشافعي قال في طارئ الردة: إنها لا تُفسد، ويبني إذا عاد إلى الإسلام، وهذا مشعرٌ بفرض الأمر في اعتكافٍ متتابع، [بفرض] (5) انقطاعه وانتظامه، فهذه طريقة.
__________
(1) (ك) : ينتجل.
(2) زيادة من (ط) وعبارة الأصل، (ك) : مع أنه غير مؤثر.
(3) ر. المبسوط: 3/125، البدائع: 2/116.
(4) أي موافاة الأعمال لحالة الإسلام.
(5) في الأصل، (ك) : لغرض.(4/112)
ومن [أصحابنا مَنْ] (1) قال: الردةُ لا تفسد الاعتكافَ أصلاً؛ جرياً على النّص، وسنشير إلى ما قيل في توجيهه.
ومن أصحابنا من قال: إذا قصر الزمان، وعاد على قربٍ، انتظم الاعتكافُ المتتابع، وإن طال الزمان، انقطع التتابع. وسنبين حقيقة هذا الوجه أيضاًً.
فهذا نقل مقالات الأصحاب، لم نوجه منها إلا القولَ الأول [الظاهر] (2) .
فأما السكر، فظاهر النص فيه، أنه يناقض ويُفسد، ولأصحابنا ثلاثُ طرق: منهم من قطع بأنه لا يفسد، كالنوم، واستمرار الغفلة.
ومنهم من قطع بالإفساد، قَلّ زمان السكر أو كثر.
ومنهم من قال: إن قلّ الزمانُ، فلا مبالاة به، وإن كثر، انقطع التتابع.
2403- فإذاً في الردة والسكر في كل واحد منهما ثلاثُ طرق، غير أن القياسَ يخالف النصَّ في الموضعين، فالقياس [من الطرق الثلاث في الردة، الفسادُ، والمنافاة، والقياس] (3) من الطرق الثلاث في السكر، أن لا منافاة، ولا فساد.
وتكلف بعض أصحابنا، فذكر ما هو طريقة رابعة، والتزم الجريان على النصين، وقال: الردة لا تنافي؛ [فإن] (4) المرتد من أهل المسجد (5) ، وخاصية الاعتكاف اختصاص بالمسجد. وأما السكران (6 فليس من أهل المسجد 6) ، فإنه لا يبقى فيه.
وهذا تكلّف، لا أصل له.
ثم من قال: الردة لا تُفسد الاعتكاف، فليت شعري ماذا يقول فيه إذا أنشأ
__________
(1) ساقط من الأصل، (ك) .
(2) ساقط من الأصل، (ك) .
(3) مزيدة من (ط) .
(4) مزيدة من (ط) .
(5) من أهل المسجد على معنى أن المسجد من المنافع العامة، وسيأتي بيان هذا الحكم في كتاب السير، حيث ذكر هناك وجهاً أن الذمي له أن يدخل المسجد ولا يمنع من الكَوْن فيه باعتباره ملكاً عامّاً.
(6) ما بين القوسين ساقط من (ك) .(4/113)
الاعتكاف مرتدّاً؟ فإن قال: يصح اعتكافه، فهو أمر عظيم، وإن سلّم الفسادَ عند اقتران (1) الردة، فالفرق بين المقارن والطارئ عسِر، ولم يختلف أصحابنا في أن من ارتد في أثناء الوضوء، وغسل عضواً من أعضائه، في زمن ردته، لم يعتد بما أتى به في زمن الردة، والمكث الذي يقارن الردةَ الطارئة، كان يعتد به لولا الردة، فكيف الاعتداد به مع كَوْن (2) الردة.
فإن روجعنا [في الصحيح] (3) من ذلك، فالوجه الحكمُ بكون الردة مفسدةً، واحتمال بُعدٍ في التأويل للنص.
وأما السُّكْر، فإذا طال، فليس يبعد احتمالٌ في فساد الاعتكاف. على أن القياس أن لا يفسد مع تقدم النية. فإذاً يحمل النص على الإخراج من المسجد لإقامة الحدّ، وتكون فائدة التصوير أنه إذا كان منتسباً إلى التزام الحد، كان إخراجه على القهر، بمثابة خروجه من معتكفَه اختياراً.
وأما من قال بالفصل بين الزمان اليسير والكثير في الردة، فليس له وجه، به مبالاة.
ولكن إن لم يكن من المصير إلى ظاهر النص بُدّ، فقد ينتظم الاستنباط من قول الأصحاب في هذا [فصل] (4) وهو أن من خرج عن معتكفه مختاراً من غير عذر، انقطع تتابعه، وإن قرب الزمان. وإن بقي في معتكفه وطرأ مفسد، كالردة -إذا اعتقدناها مفسدة- فإذا قرب الزمان، فالأصحاب مترددون في انقطاع التتابع، كما نبهنا عليه، ولا وجه أصلاً للاعتداد بالزمان الذي كان مرتداً فيه.
فهذا منتهى الحِيَل (5) بعد النقل، في تنزيل كل قول، على الممكن فيه.
وقد نجز تمام المراد في جميع مفسدات الاعتكاف.
__________
(1) (ط) : اعتقاد.
(2) أي وجودها.
(3) في الأصل، (ك) : فالصحيح.
(4) في الأصل، (ك) : قصد. هذا والمراد بقوله (فصلٌ) أي كلامٌ يسوقه ملخصاً جامعاً مرتَّباً.
(5) الحِيَل: جمع حيلة، وهي الحذق وجودة النظر، والقدرة على دقة التصرف في الأمور.
(المعجم) .(4/114)
فصل
قال: "وإن جعل على نفسه اعتكاف شهر ولم يقل متتابعاً، أحببته متتابعاً ... إلى آخره " (1) .
2404- من نذر اعتكاف شهر أو اعتكاف أيامٍ، ولم يتعرض للتتابع، ذِكراً، وعقداً، ولم يلفظ به، ولم يَنْوه، فلا يلزمه رعايةُ التتابع.
وكذلك القول في نذر صوم شهر، وصوم أيامٍ.
وقال: أبو حنيفة (2) في الصوم ما قلناه، وذهب إلى أن التتابع يجب في الشهر والأيام في الاعتكاف.
وحكى صاحب التقريب عن ابن سريج، أنه صار إلى مذهب أبي حنيفة في الاعتكاف، وهذا بعيد، ولست أدري ماذا يقول ابن سريج في الصوم؟ أيفصل بينه وبين الاعتكاف، كمذهب أبي حنيفة، أو يطرد مذهبه في البابين؟ ولا تفريع على هذا، ولا عودَ.
2405- ولو قيد نذره بالتتابع، لزم. ولو نوى التتابع بقلبه، فمضمون الطرق أنه يلزم؛ فإن مطلق اللفظ يحتمله، وهذا كتنزيل النيات مع الكنايات منزلة الصريح.
فإذا قال: لله عليّ أن أعتكف يوماًً، والتفريع على ما هو المذهب، من أن التتابع لا يلزم، من غير لفظٍ، أو عقدٍ، فإذا قال: أعتكف يوماً، وأراد أن يعتكف نصفي يومين، أو [أثلاث] (3) ثلاثة أيام، ففي إجزاء ذلك وجهان (4) مشهوران: أحدهما - يجزىء؛ فإن التتابع لم يقع له تعرض، فكانت الساعات بالإضافة إلى اليوم، كالأيام
__________
(1) ر. المختصر: 2/37.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 58، مختصر اختلاف العلماء: 2/54 مسألة 543، المبسوط: 3/119، البدائع: 2/111.
(3) مزيدة من (ط) .
(4) (ط) : قولان.(4/115)
المتفرقة بالإضافة إلى الشهر. والوجه الثاني - لا يجزئه؛ فإن الأيام المتفرقةَ، تسمى عشرةَ أيام، وتسمى عند تقدير الضم، والتلفيق، شهراً. والساعات المتفرقة، لا تسمى يوماً، فاسم اليوم إذاً ينطلق على ساعات متواصلةٍ من طلوع فجر إلى غروب شمس ذلك اليوم.
التفريع على الوجهين:
2406- إن قلنا: يجزئه تفريق الساعات، فينبغي ألاّ يلزمه إلا ساعات أقصر الأيام؛ فإنه لو اعتكف في أقصر الأيام، كفاه.
وإن قلنا: لا يجزيه تفريقُ ساعاتِ اليوم، فلو بدا الاعتكافَ من وقت الزوال، فلما غربت الشمس، خرج ثم عاد مع الفجر، فاعتكف إلى مثل ذلك الزمان الذي أنشأ الاعتكافَ فيه في نفسه، فلا يجزئه، على منع التفريق. وإن لم يخرج من معتكفه ليلاً، حتى انتهى [إلى] (1) زمان ابتداء أمسه، فالذي ذهب إليه معظمُ الأصحاب جواز ذلك، وإن فرعنا على منع التفريق؛ لأن الأوقات لها حكم التواصل، لمّا لم يخرج من معتكفه.
وحكى العراقيون عن أبي إسحاق المروزي وجهاً آخر، اختاره لنفسه، وهو أن ذلك لا يجزيه، فإنه لم يأت بيومٍ متواصلِ الساعات من الطلوع إلى الغروب، واعتكاف تلك الليلةِ، لا مبالاة به، وهو غير محسوب، سواء مكث في المسجد، أو خرج منه فتخلله يجب أن يكون مُفرِّقاً قاطعاً، لما نبغيه، من تواصل ساعات اليوم الواحد.
وهذا الذي ذكره منقاسٌ متّجه.
وعُرض عليه نص الشافعي في تجويز ذلك، مع مصيره إلى أن تفريق الساعات غيرُ مجزىء، فقال: نصه محمول على ما إذا قال: لله عليّ أن أعتكف يوماًً من وقتي هذا، فإذا قال ذلك، فلا وجه إلا المصير، إلى وقتٍ مثله من الغد.
__________
(1) مزيدة من (ط) .(4/116)
2407- ومن تمام البيان شيء يدور (1) في النفس، وهو أن الأصحاب قالوا تفريعاً على جواز التفريق: يكفيه ساعات أقصر (2) النهار وتفرقها.
ثم يتجه في النظر أن يعتبر جزءُ كلِّ يوم منسوباً إليه، حتى إن فرّق الساعات على أيامٍ هي أقصر الأيام في السنين، فالأمر كذلك (3) .
وإن كان يعتكف في أيامٍ متباينة في الطول والقصر، فينبغي أن ينسب اعتكافه في كل يوم بالجزئية إليه؛ إن كان ثلثاً: فقد خرج عن ثلث ما عليه، وهكذا، إلى النجاز، والذي يحقق ذلك، أنه لو نذَر اعتكاف يومٍ، ثم اعتكف تسعَ ساعاتٍ، [ونصفاً] (4) من أطول الأيام، فلا يكون خارجاً عما عليه قطعاً؛ فدل على أن النظر إلى اليوم الذي يوقع الاعتكافَ فيه. فيتجه وينقدح جوابٌ عن هذا، بأن يقال: إذا كان يواصلُ، فليأت بيومٍ كاملٍ.
ومن نذر اعتكافَ يوم، فاعتكف أطول الأيام، فكل ما جاء به فرضٌ. ولو اعتكف في أقصر النهار، فالذي جاء به كافٍ.
2408- ومما يتعلق بهذا الفصل القولُ في أن الليالي إذا لم يَتعرض لها الناذرُ، وذكر في نذره الأيام، فهل تندرج تحت مطلق تسمية الأيام؟ قال أصحابنا: إذا نذر اعتكافَ يومٍ، لم يلزمه ضمُّ الليلةِ إليه، وفاقاً، إلا أن ينويها، ثم اتفقوا على أنه إذا نواها، يلزم الاعتكافُ فيها، وإن لم يجر لها ذكرٌ، والنية المجردة لا تلزم.
والوجه فيه أن اليومَ قد يطلق، والمراد به اليوم بليلته. هذا سائغٌ على الجملة، وإن لم يكن ظاهراً، [فعملت] (5) النيةُ لذلك (6) .
__________
(1) (ط) : يدوّن.
(2) (ط) : أكثر.
(3) (ط) : ذلك.
(4) مزيدة من: ط.
(5) في الأصل، (ك) : فعلمت.
(6) والمعنى أن نية اعتكاف الأيام تشمل لياليها إذا قصدها، وإن لم (يجرّد) لها نية خاصة، فاليوم إذا أطلق قد يُراد به اليوم والليلة، ولذا (عملت) نية اعتكاف اليوم وشملت الليل، وكفت في ذلك.(4/117)
ولو نذر اعتكافَ شهرٍ، فلا خلاف أنه يلزمه الليالي مع الأيام؛ فإن اسم الشهر يشمل الجميع.
وإن قال: اعتكاف ثلاثة أيام؛ فصاعداً، ففي استحقاق الاعتكاف بالليالي على عدة الأيام وجهان مشهوران في الطرق: أحدهما - أنه يجب الاعتكاف بالليالي على عِدة الأيام. والثاني - لا يجب ما لم ينوها.
وقطع أصحابنا المراوزة بأن اليومين في التفصيل، كاليوم الواحد. فإذا أُطلقا، لم يجب الاعتكاف إلا في اليومين. وجعل العراقيون، في بعض طرقهم اليومين كالأيام الثلاثة فصاعداً.
والقول في هذا مبهم عندنا [بعدُ] (1) .
2409- أما (2) اليومُ، فلا شك أنه لا يستدعي الليلةَ بوجهٍ إلاّ على بُعدٍ، كما تقدم. وما قيل في الشهر، لا شك فيه. وأما الكلامُ في اليومين، فإن لم يثبت فيهما استحقاقُ التتابع، فلا وجه إلا القطعُ بأنه لو اعتكف في يومين متفرقين، ولم يعتكف ليلةً، فقد خرج عما عليه.
فأما إذا نذر اعتكاف يومين، ونوى التتابعَ، أو ذكره، فقد قال العراقيون: ينبغي أن يبتدئ الاعتكافَ مع الفجر في يومٍ، أو قُبَيله، استظهاراً، ثم يعتكف إذا غربت الشمس (3) ، ويدومُ في معتكفه إلى غروب الشمس من اليوم الثاني. قالوا: لو خرج من معتكفه ليلاً، كان [ذلك] (4) قطعاً للتتابع.
وكان شيخي يقطع بأن الخروج من المعتكف ليلاً، مع العود مقترناً بالفجر من اليوم الثاني، لا يقطع التتابع؛ فإن الاعتكاف إذا لم يكن مستحقاً ليلاً، فلا معنى لإلزام
__________
(1) في الأصل، (ط) : بعيد.
(2) ساقطة من (ط) .
(3) كذا في النسخ الثلاث، وليس المعنى أنه يقطع الاعتكاف ثم يستأنفه إذا غربت الشمس، بل المعنى أنه يبدأ اعتكافه قبيل الفجر ثم يتابع إلى غروب الشمس، ثم يدوم إلى غروب الشمس من اليوم الثاني، فيتحقق بذلك الوفاء باليومين.
(4) مزيدة من (ط) .(4/118)
الناذر لزوم المعتكَف في الليل. والليلُ إذا لم يلزم اعتكافه، فتخلله كتخلل الليالي، بين الصوم المتتابع، وما ذكره منقاسٌ حسن.
2410- ومما ينكشف به الإبهام: أن الأصحاب ذكروا وجهين، في الأيام إذا ذكرت: أن (1) الليالي هل يُستَحق الاعتكافُ فيها؟ وهذا إنما أخذه، مَن أخذه، من ظن الناس أن الأيام إذا أطلقت في التواريخ، على صيغة الجمع، أريد بها الأيام بلياليها، وهذا غير منتظم؛ فإن الإنسان إذا قال: أقمتُ عند فلانٍ أياماًً، وكان يفارقه بالليالي، فما قاله صدقٌ، منتظمٌ، لا تلبيس فيه. نعم إنما يتوقع طلبُ توَلُّج الليل إذا جرى في الكلام إشعارٌ بالتتابع، بحيث يُفهم تواصلُ أزمانِ الإقامة. وإذا كان كذلك، فتتخلَّلُ ليالٍ (2) .
ولكن إذا افتتح الإقامة مع أول نهارٍ، وخرج مع غروب الشمس يومَ الثالث، فهو مقيمٌ [ثلاثة] (3) أيام متواصلة، ويكفي في الوفاء بالتواصل ليلتان، فلا وجه لاشتراط الليالي على عدد الأيام، وكذلك يكفي في العشر (4) تسعُ ليالٍ، على نحو ما صورناه؛ فينقص عدد الليالي، التي بها تواصل الأيام، عن عدد الأيام المذكورة بواحدة. هذا لا بد منه، إن كان الرجوع إلى التواريخ.
ئم إذا قال: أعتكف ثلاثةَ أيامٍ، فقد حمل بعض الأصحاب ذلك على التواصل، واعتقد الظهور فيه، وموجَبُ التواصل تولّجُ الليالي، وعلى هذا يظهر تخريجُ ابنِ سريج في أن إطلاق نذرِ اعتكاف الأيام يقتضي التتابعَ.
والأظهر أنه لا يلزم التواصل، لتردد الكلام فيه، وإذا تردد، ولم يكن نصَّاً صريحاً، ولا منوياً، فالإلزام مع التردد، محال.
وإن صور مصور ما يقتضي التواصل، فهو مضطرٌّ إلى تصوير قرينةِ حالٍ في أمرٍ
__________
(1) (ط) : وأن.
(2) فاعل (فتتخلل) .
(3) في الأصل، (ك) : تلزمه. (وهو تصحيف واضح) .
(4) المعدود مذكر (الأيام) ولكن جاز في لفظ (العشر) التذكير على اعتبار تقدم المعدود، كما هو معروف.(4/119)
يذكره، ثم تخيُّلُ التواصل -إذا نُزّل الكلامُ عليه- ممكنٌ في اليومين، إمكانه في الثلاثة، فصاعداً. ويعود في الأيام -إذا لم نوجب الاعتكافَ في لياليها- أنه لو نذر التتابعَ فيها، فهل يجوز الخروج عن المعتكف في الليالي؟ فيه من خلاف المراوزة والعراقيين، ما ذكرناه في اليومين.
فصل
2411- المرأة إذا اعتكفت في مسجد بيتها، وهو معتزَلٌ في البيت، مهيأٌ للصلاة، وليس مسجداً على الحقيقة، فالمنصوص عليه في الجديد أن ذلك ليس باعتكاف؛ فإن الاعتكاف مخصوص بالمساجد، وليس ذلك الموضع مسجداً، فلا تتعلق به أحكام المساجد.
ونصَّ الشافعي في القديم على أنها لو اعتكفت في ذلك الموضع، أجزأها؛ فإن التحرز (1) أحرى بها، فأفضل بقاعها قَعْر بيتها. ثم في القديم خصص ما قاله بمسجد البيت، فإن لم يكن لهذا القول مستند، من خبرٍ أو أثر، فلا متعلَّق له في المعنى. ثم ذكر أئمتنا في الرجل إذا اعتكف في مسجد بيته قولين، مرتّبين [على المرأة] (2) واعتكافه أولى بالفساد، بل، لا وجهَ لصحته أصلاً.
فصل
قال: " إذا قال: لله عليّ أن أعتكف اليومَ الذي يقدَم فيه فلان ... إلى آخره " (3) .
2412- أما إذا قال لله عليّ أن أصوم اليوم الذي يقدَم فيه فلان، فقدِم نصفَ النهار، فقد فات الصوم في هذا اليوم، وفي وجوب قضاء يومٍ قولان، سنذكرهما في
__________
(1) (ط) التخدر.
(2) زيادة من (ط) .
(3) ر. المختصر: 2/37.(4/120)
النذور -إن شاء الله تعالى- وهما مأخوذان من أصلٍ، وهو أنا هل نتبين بقدومه في اليوم أن الصوم كان مستحقاً من أوله؟ أم ننظر إلى ما يستعقبه القدوم، ولا نلتفت إلى سابقٍ في تقدير الوجوب؟ فإن بنينا الأمرَ على التبيُّن، فيلزمه قضاء يوم، وإن نظرنا إلى ما يستعقبه القدوم، فصومُ يومٍ بعد القدوم [محال] (1) ، فكان كما لو قدِم ليلاً. وليس من غرضنا تفصيل هذا.
2413- ولكن. لو قال: لله عليّ أن أعتكف يوم يقدَم (2) فلان، فقدِم نصفَ النهار، فيجب على الناذر اعتكافُ بقية النهار وفاقاً، وهل يجب عليه اعتكافُ نصفِ يومٍ لينضم إلى ما جاء به، فيكمل يوماًً؟ هذا خارج على القولين في وجوب القضاء في الصوم، فإن أوجبنا القضاء ثَمَّ، أوجبنا هاهنا تكملةَ البقيةِ من يوم آخر، وإن لم نوجب القضاء ثَمَّ، اكتفينا بالاعتكاف في بقية النهار، الذي قدم فيه.
ثم إن المزني قال: وأحب أن يستأنف اعتكافَ يومٍ، حتى يكون اعتكافه متصلاً. وقد قال أئمتنا: هذا غلط؛ فإن الاعتدادَ بما جاء به لا بد منه، وإذا اعتُدَّ به، فلا معنى لأمره باعتكافِ يومٍ كاملٍ، بسبب ما قدّمه من لفظه، لا على الاستحباب، ولا على الإيجاب.
وذكر شيخي في دروسٍ: أن من أصحابنا من لم يوجب الاعتكافَ، في بقية النهار أيضاًً؛ تخريجاً على أن النهار لا يتبعض، بتقدير تفريق الساعات، وهو قد ذكرَ اليوم، واعتكافُ يومٍ بعد قدومه غيرُ ممكن، إلاّ على نعت التقطيع.
والفكر لا نهاية له. ولكن الفقيه يقتصر منه على مسلك الحق، ويطّرح ما عداه.
2414- ثم قال الشافعي: " ولا بأس أن يلبس المعتكف والمعتكفة " (3) ولا خفاء بما ذكره، وغرضه أن الاعتكاف لا يحرم ما يحرمه الإحرام، وعلى هذا لا بأس أن ينكح، ويُنكح.
__________
(1) زيادة من (ط) .
(2) بفتح الدال: من باب تعب.
(3) ر. المختصر: 2/38.(4/121)
2415- قال: " ولا بأس أن توضع المائدة في المسجد، ولا بأس بغسل الأيدي في الطسوس " (1) توقيةً للمسجد من البلل؛ فعساه يمنع مصلياً.
2416- قال: " والمرأة والعبد، والمسافر يعتكفون " والأمر على ما قال، فالاعتكاف يصح من كل من تصح منه النية، وفي بعض التصانيف ذكر وجهين في أن المكاتَب هل يعتكف؛ وهذا خُرق، وخروج عن الحد، ولا خلاف أنه (2) لو سكن في بيته، ولم يكتسب اليومَ واليومين، فلا معترض عليه، قبل مَحِل النجم (3) .
فرع:
2417- تعيين الزمان للاعتكاف، كتعيين الزمان للصوم، والأصح أن الزمان يتعين للصوم في نذره، حتى لا يجوز التقديمُ عليه، ولا التأخير.
وفي المسألة وجه بعيدٌ -نذكره في النذور- أن الزمان لا يتعين للصوم، كما لا يتعين لنذر الصلاة والصدقة، وذلك الوجه يجري في الاعتكاف، ولا تفريع عليه.
وما ذكرناه من نذر الأيام مفرّعٌ على الأصح؛ فإنه لو نذر اعتكافَ يومٍ، لم يجزه إقامةُ ساعات الليل، مقامَ ساعات النهار. وكذلك لو عيّن الليلَ، لم يجزئه ساعاتُ النهار.
فرع:
2418- إذا كان نذرَ اعتكافَ أيامٍ، ومات، ولم يف بنذره، مع القدرة، فقد ذكر شيخي قولين: أحدهما - أنا نقابل كلَّ يوم بمدٍّ من طعام، نخرجه من تركته، كدأبنا في الصوم.
والقول الثاني - أنه يَعتكف عنه وليُّه. وذكر أن القولين منصوصان للشافعي.
وهذا عندي مشكلٌ من طريق الاحتمال، فإنَّا (4) تبعنا الأثرَ في مقابلة صوم يوم بمُدٍّ، وليس ينقدح قياس الاعتكاف في ذلك على الصوم، ثم اعتكاف لحظةٍ عبادةٌ
__________
(1) في المختصر: الطشت: 2/39.
(2) أي المكاتب.
(3) أي موعد القسط.
(4) (ط) : فإذا.(4/122)
تامة، ثم ليت شعري ماذا يقول في اليوم مع الليلة؟ وقد (1) ذكر رحمه الله صريحاً أن اليوم بليلةٍ يقابِلان مُدّاً، وإذا كان يقول ذلك، فما القول في اليوم الفرد؟ وهو على الجملة مختبطٌ.
وأقصى ما علينا التنبيهُ على الاحتمال، مع الوفاء بما بلغنا من طريق النقل. والله أعلم بالصواب.
***
__________
(1) (ط) : قد (بدون واو) .(4/123)
كِتَابُ الحَجِّ
باب بيان فرض الحج
قال الشافعي: "فرض الله تعالى الحجَّ على كل حرٍّ بالغٍ، استطاع إليه سبيلاً ... إلى آخره" (1) .
2419- قيل: " أول من حج البيت آدم عليه السلام ". وقيل: " ما من نبي إلا وقد حج هذا البيت ". وعن محمدِ بنِ إسحاق، أنه قال: " ما من نبي هلك قومُه، إلا انتقل بعدهم إلى مكة، يعبد الله سبحانه وتعالى، عند البيت، إلى أن أتاه أجله " (2) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مرّ موسى بالروحاء في سبعين نبياً، عليهم العباء، يؤمُّون البيت العتيق، يلبون، وصفائح الروحاء تجاوبهم " (3) .
__________
(1) ر. المختصر: 2/39.
(2) لم نجد هذا الحديث عن محمد بن إسحاق مع طول البحث على قدر طاقتنا، وإنما رواه الأزرقي في تاريخ مكة من طريق عطاء بن السائب عن محمد بن سابط، وذكره القرطبي في تفسيره عن محمد بن سابط أيضاً، أما السيوطي في الدر المنثور، فقد عزاه إلى الجَنَدي (في تاريخ مكة) من طريق عطاء عن محمد بن سابط، وعزاه أيضاً إلى الأزرقي، والجندي من طريق عطاء عن عبد الرحمن بن سابط. هذا ولم نصل في كتب الرجال وطبقات الحفاظ إلى من اسمه محمد بن سابط، وإنما المعروف والمذكور هو عبد الرحمن بن سابط، فلعل محمد بن إسحاق الواردة عند الإمام تصحيف عن محمد بن سابط، ومحمد بن سابط تصحيف عن عبد الرحمن بن سابط، والله أعلم.
(3) حديث: مرّ موسى عليه السلام بالروحاء..، رواه الطبراني والعقيلي عن أبي موسى مرفوعاً بسند ضعيف، ولابن ماجة وأحمد عن ابن عباس بألفاظ أخرى، وفي إسنادهما مقال. انتهى ملخصاً من كلام الحافظ. وقال أحمد شاكر: ونقله ابن كثير في تاريخه: (1/138) وقال: إسناده حسن (ر. مسند أحمد: 3/340 ح 2067 (شاكر) ، ابن ماجة: المناسك، باب=(4/125)
2420- ثم الحج لا يجب في الشرع إلاّ مرة واحدة؛ لحديث الأقرع بن حابس، قال: " يا رسول الله أحجتنا لعامنا أم للأبد "؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " للأبد، ولو قلتُ لعامنا هذا، لوجب، ولو وجب، لم تطيقوا " (1) .
2421- وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحج قبل الهجرة [كل سنة، واختلف أصحابنا هل كان الحج واجباً قبل الهجرة؟ منهم من قال: كان نزل وجوبه قبل الهجرة] (2) .
ومنهم من قال: بل بعد الهجرة، ويتصل بذلك حديث ضِمام (3) بن ثعلبة، وكان ورد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وافداً لقومه، فلما دخل المسجد قال: أيكم ابن عبد المطلب، فقالوا ذلك الأبيض المترفّق -وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً على مرفقيه- فأتاه حتى وقف عليه، وقال: أنت ابن عبد المطلب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وجدتَه. فقال: إني سائلك، ومغلظٌ عليك، فلا تَجِدْ عليّ، ثم قال: أنشدك الله: آلله أرسلك رسولاً؟ قال: اللهم نعم. قال: أنشدك الله آلله أمرك أن تأمرنا أن نصلي خمس صلوات في اليوم والليلة؟ قال: اللهم نعم. قال أنشدك الله: آلله أمرك أن تأمرنا أن نؤدي الزكاة، من أموالنا؟ قال: اللهم نعم. قال: أنشدك الله: آلله أمرك أن تأمرنا أن نحج البيت إن استطعنا إليه سبيلاً؟
__________
=دخول الحرم، ح 2939، الضعفاء الكبير للعقيلي: 1/36، التلخيص: 2/463 ح 1009) . هذا، والروحاء (بفتح الأول، وبالحاء المهملة ممدودة) قرية على بُعد ليلتين من المدينة المنوّرة، قاله البكري (ر. معجم ما استعجم: 2/681) .
(1) حديث الأقرع بن حابس رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة والدارمي والدارقطني والحاكم من حديث ابن عباس رضي الله عنه (أحمد: 1/290، 255، 352، 370، أبو داود: المناسك، باب فرض الحج، ح 1721، النسائي: مناسك الحج، باب وجوب الحج، ح 2620، 2621، ابن ماجة: المناسك، باب فرض الحج، ح 2886، الدارمي: ح 1788، الدارقطني: 2/279، الحاكم: 1/441) ولمسلم من حديث أبي هريرة -دون ذكر الأقرع بن حابس- الحج، باب فرض الحج مرة في العمر، ح 1337.
(2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، (ك) .
(3) ضمام: بكسر ضاد، وخفة ميم.(4/126)
قال: اللهم نعم. قال: أنشدك الله: آلله أمرك أن تأمرنا أن نصوم شهر رمضان؟ قال: اللهم نعم " (1) . ثم أسلم، وحسن إسلامه، وروي أن هذا كان سنة خمسٍ من الهجرة (2) .
فصل
2422- الصفات المرعية في صحة الحج، ووقوعه عن فرض الإسلام، واستقرار فرضيته في الذمة: الإسلامُ، والعقل، والحرية، والبلوغ، والاستطاعة.
فأما شرط تصوّر الحج، فالإسلام المحض؛ فإن الصبي غيرَ المميز، يحج عنه وليه، كما سيأتي. وإن أردنا تصوير الحج من الشخص بأن يتعاطى الإحرامَ، فنضمُّ إلى الإسلام العقلَ، وهو الذي يسميه الفقهاء التمييزَ، في حق الصبي، ثم في استبداده (3) ، واشتراط صَدَر (4) إحرامه عن إذن وليّه كلام سيأتي، إن شاء الله، عز وجل.
وأما الحرية والبلوغ، فمضمومان إلى ما قدمناه، في وقوع الحج، عن فرض الإسلام؛ فإن حج الصبي، والعبد، وإن صح، فلا يقع عن حجة الإسلام.
__________
(1) قصة ضمام بن ثعلبة رواها البخاري من حديث أنس: العلم، باب القراءة والعرض على المحدّث، ح 63، ومن حديث أنس أيضاً رواها النسائي: الصيام، باب وجوب الصيام، ح 2093، 2094، وابن ماجة: الصلاة، باب ما جاء في فرض الصلوات الخمس، ح 1402، والدارمي: ح 650، وأحمد: 3/168، والبيهقي: 4/325، ورواها أحمد: (2/250، 264) ، والدارمي: ح 652 من حديث ابن عباس.
(2) في هامش (ك) ما نصه: يعني فرض الحج، لا قصة إسلام ضمام. وهذا القول صححه الفاضي حسين، وبعده الرافعي.
وقيل: بل ذلك كان في سنة ست، وصححه الرافعي والنواوي في السير.
وقيل: بل سنة ثمانٍ. قاله الماوردي. وقيل: سنة تسع، وصححه عياض.
(3) استبداده: أي انفراده بإرادة الإحرام، من غير إذن وليه.
(4) (ك) صدور. وأظنه من تصرّف الناسخ. فإمام الحرمين دائماً يستخدم هذا الوزن لمصدر الفعل (صَدَر) كما يستخدم (حَدَث) مكان حدوث.(4/127)
وأما الاستطاعة، فهي مضمومةٌ إلى الشرائط المتقدمة، في الحكم باستقرار فرائض (1) الإسلام في الذمة.
2423- ومقصود الفصل تفصيل القول في الاستطاعة، وهي تنقسم إلى الاستطاعة في تولّي الحج، وتعاطيه بالنفس، وإلى الاستنابة.
فأما الاستطاعة (2) في تعاطي الحج، فهي معتبرةٌ أولاً، بدليل الكتاب، والسنة، والإجماع: أما الكتاب، فقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير الاستطاعة: " زادٌ وراحلة " (3) . ولا خلاف في اشتراط الاستطاعة.
ثم المتبع عندنا تفسيرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس على الأيّد (4) ، القادرِ على المشي أن يحج ماشياً، إذا بعدت المسافة، ولا نعتمد في ذلك مسلكاً معنوياً؛ فإن الضرر الذي يلحق القويَّ في المشي من خمسين فرسخاً، قد يقلّ، ويقصر عن الضرر الذي ينال الراكب الضعيف، بسبب الركوب، في المسافة الطويلة؛ فلْيقع (5) التعويل على تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستطاعةَ بالزاد والراحلة، في محاولة الرد على مالك في قوله: يجب المشيُ على القادر عليه (6) .
وهذا مقامٌ لابد من التنبه له، في وضع (7) الشرع؛ فإنا لا نستريب في
__________
(1) (ط) : فرض.
(2) (ط) : استطاعة تعاطي.
(3) حديث تفسير الاستطاعة رواه الشافعي، والترمذي، وابن ماجه، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي من حديث أنس وابن عمر وابن عباس وغيرهم، وفي طرقه ضعفٌ أشار إليه الحافظ في التلخيص، وابن الصلاح في مشكل الوسيط. (ر. الأم: 2/116، الترمذي: الحج، باب ما جاء في إيجاب الحج بالزاد والراحلة، ح 813، ابن ماجه: المناسك، باب ما يوجب الحج، ح 2896، الدارقطني: 2/216- 218، الحاكم: 1/442، البيهقي: 4/330، مشكل الوسيط (بهامش الوسيط) : 2/582، التلخيص: 2/442 ح 955) .
(4) الأيّد: القوي الشديد.
(5) (ط) ولْنقل.
(6) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/457 مسألة 706.
(7) (ك) : موضع.(4/128)
[أن] (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما ذكر الزاد والراحلة، أراد بما ذكره ألا يُجَشّم الناسَ المشيَ، لما فيه من المشقة.
وهذا لا سبيل إلى إنكاره، ولكن لا استقلال (2) بتقريره في [مسالك] (3) الأقيسة، وإن تخيلناه على الجملة. ونظائر ذلك كثيرة. ولسنا لها الآن.
ويغلب في هذا الفن البناءُ على قاعدة الحسم (4) ؛ فإن المشي على الجملة ظاهرُ الضرار، ولا التفات إلى ما يندر ويشذ، بخلاف ضرر الركوب.
قال الأئمة: الزاد نفقةُ السفر في الذهاب، والإياب، فأهبة الذاهب، وأهبة المنقلِب زادُه، ولفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم مطلق في ذكر الزاد، فإن كان للرجل أهل، شرطنا في الاستطاعة نفقةَ الذهاب، والإياب. وأهلُ الرجل: زوجةُ الرجل وأولادُه.
قال الصيدلاني: الأقارب من الأهل، المحارمُ منهم وغيرُ المحارم. وليس في الطرق ما يخالف قولَه والمرعي فيه، أنه يعظُم على الإنسان [مفارقة ذويه وقراباته، كما يعظم عليه] (5) مفارقةُ زوجته، فاشتراط نفقة الإياب لذلك.
وإن لم يكن له أهل، على ما فسرناه، ففي اشتراط نفقة الإياب وجهان: أحدهما - أنها لا تشترط؛ فإن البلاد متساويةٌ، في حق من لا أهل له. والثاني - أنّا نشترط نفقة الإياب؛ لما في النفوس من الحنين إلى الأوطان. ولم يتعرض أحدٌ من الأصحاب، للمعارف والأصدقاء، كانوا، أو لم يكونوا؛ فإن الاستبدال عن الصديق ممكن، بخلاف الأهل؛ فإن الاستبدال فيه قد يعسر، ولا يفرض في القرابات إلاّ على بُعد.
__________
(1) في الأصل، (ك) : قول.
(2) (ك) : استقرار.
(3) الأصل، (ك) : مسائل.
(4) (ط) : الجسم.
(5) ساقط من (ك) .(4/129)
2424- ثم لم يختلف الأئمة في أن قضاء الديون مقدَّمٌ على ما ذكرناه، من النفقة.
والقول [في الفصل] (1) بين المؤجل والمعجل، سيأتي إن شاء الله تعالى.
وحسن الترتيب يقتضي استقصاء كل ما يتعلق بالفصل، ولكنَّا ملتزمون الجريَ على ترتيب السواد (2) ، فنكتفي بعقد التراجم، في بعض الأشياء [المؤخرة] (3) ، ونستقصي ما يتعلق بالترتيب استقصاؤه.
2425- ومما يتعلق بالمقصود، وهو [مؤخر] (4) القول في صفة الطرق، في الأمن والخوف، والرخص والغلاء، والبر والبحر وكل ذلك يأتي مفصلاً في باب بعد ذلك.
2426- ولو كان لا يستمسك على الراحلة، ويستمسك في المحمل، فيشترط أن يجد مؤنة المحمل، ولو لم يجد شِقَّ مَحمِلٍ (5) ، بأن عَدِم من يشاركه، فلا استطاعة، وإن وجد مشاركاً، ثبتت الاستطاعة، ولو اتسعت ذاتُ يده لمحملٍ تام، ولكن يكتفى بشق محمل، فالزيادة من باب المؤنة المجحفة. وسنذكر شرح القول فيها، في الرخص والغلاء.
ولو كان استمساكه على الراحلة ممكناً، ولكنه كان يلقى ضرراً بيّناً، فإذا كان لا يجد إلا مؤنة راحلة، فكيف الوجه، فيما صورناه؟ كان شيخي يقول: إن كان بين تقدير ركوب الراحلة والمحمل من الضرر، ما بين أصل الركوب والمشي، فلا نجعله مستطيعاً، ما لم يجد مؤنةَ محمل. وذكر غيرُه -فيما بلغنا- ظهورَ خوف المرض، من تقدير ركوب الراحلة، والأمران قريبان، لا يؤديان إلى خلافٍ، فيما أظن.
__________
(1) زيادة من (ط) .
(2) " السواد ": يريد به مختصر المزني، وقد سبق أن أشرنا إلى ذلك من قبل. وكما ترى ألزم الإمام نفسَه بالجري على ترتيبه، فاكتفى (بتراجم) المسائل، أي عناوينها، وترك استقصاءها، إلى حين مكانها في (السواد) .
(3) في الأصل، (ك) : الموجزة.
(4) في الأصل، (ك) : موجز.
(5) المحمل: وزان مجلس، ما يوضع على البعير، ويكون ذا شِقَّين يركب فيه اثنان كل واحد في شِق، فهما عديلان (القاموس) .(4/130)
2427- ثم ذكر العراقيون: أن مسكن الرجل غيرُ محسوب عليه، في استطاعته، والزاد مقدر بعد المسكن، وكذلك القول في العبد، يملكه الرجل، وهو محتاج إلى خدمته، كما سنذكره في الكفارات، ونزّلوا المسكنَ، والمملوكَ، الذي تمس الحاجةُ إلى خدمته، في الباب، منزلتهما في الكفارات المرتّبة، وسنذكر [فيها] (1) إن شاء الله تعالى أن الخادمَ والمسكنَ غيرُ محسوبين، ولا ذكر لهذا في طرق المراوزة، ولكنه قياسهم.
ثم إذا فرض للرجل مسكنٌ، وقد تركناه عليه، فالوجه القطعُ في هذه الصورة، باشتراط نفقةِ الإياب، وتخصيص الوجهين بما إذا لم يكن له مسكنٌ مملوك. وإنما يجوز (2) تقدير الحنين إلى البلد الذي هو وطنه، وفيما ذكرناه احتمال على بعد؛ فإن بيع الدار، وتقدير ابتياع مثلها، في بلدة أخرى ممكنٌ، والقول في ذلك يتعلق بالحنين إلى الوطن، هذا محتمل. والأظهر ما قدمناه.
2428- ومما ذكره العراقيون في هذا الفن أن الرجل إذا كان يتصرف في رأس المال، وكان جهةُ اكتسابه التجارةَ، فقد قالوا: نكلفه صرفَ رأس المال، إلى ديونه المحيطة به، ولا نخلّفه عليه، وحكَوْا عن ابن سُريج أنه قال: يُخَلّف عليه رأس ماله، الذي بالتجارة فيه يَتَبلّغ، ويَتَوصل إلى تحصيل قوته، في مستقبل الزمان، إذا كان لا يُحسن الاكتسابَ، إلاّ من هذه الجهة، كما نخلّف له دَسْت ثوبٍ يليق بمنصبه. ثم غلطوه وزيفوا مذهبَه، والأمر على ما ذكروه (3) .
وبَنَوْا عليه أن رأس المال مصروفٌ في أهبة الحج، على المذهب [الظاهر، وليس كالمسكن، والخادم، وحكَوْا فيه خلافَ ابن سريج. ولا شك، أن من يُخلِّف رأسَ المال عن ديون الآدميين، يخلِّفه عن أهبة الحج] (4) ، ولا خلاف أن المسكنَ والعبدَ مصروفان إلى الديون، وإن لم يصرفا إلى أهبة الحج.
__________
(1) في الأصل، (ك) : فيهما.
(2) ط: تجرد.
(3) هذا في الديون عندما تحيط به، ويطلبه الدائنون، ويُضرب الحجر عليه.
(4) ما بين المعقفين ساقط من: الأصل، (ك) .(4/131)
وفيما حكَوْه عن ابن سريج في الحج، من تخليف رأس المال احتمالٌ ظاهر؛ فإن تكليف الرجل الانسلاخَ، عن ذات يده، والألتحاقَ بالمساكين، فيه عُسر. على أن الظاهر أنه مصروف إلى الحج.
ثم القول في اعتبار رأس المال في الكفارات المرتبة، كالقول في الحج، بل الأمر في الكفارات أظهر؛ من جهة أن المبدل فيها إذا لم يتفق، فالبدل القائم مقامه لا يعطل الكفارة.
2429- وقال العراقيون: إن فضل شيء، ولكن كان الرجل يخاف العنت [لو] (1) لم يتزوج، وكان على حالةٍ قد نبيح فيها للحر التزوج بالأمة، عند فقد طَوْل (2) الحرة، فلا يلزمه أن يحج، بل نُسوِّغ له صرفَ ما يملكه إلى مؤونة التزويج؛ وذلك، لأنا إذا سوَّغنا إيثار تزوج الأمة، مع ما فيه من التسبب إلى إرقاق الولد، أشعر ذلك بأن محاذرة العنت (3) مهم، والكاشف له أنه في حكم ضرورة ناجزةٍ، والحج وإن تحقق وجوبه، فهو على التراخي، وحكم ما يتنجز التقديمُ على ما يتراخى، فإذاً لا استطاعةَ، ولا وجوب.
وهذا الذي ذكروه قاطعين به قياسُ طرقنا، وإن لم نجده منصوصاً فيها.
2430- ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أنا لم نوجب المشيَ في المسافة الطويلة، وقد اعتبر الأئمة في الطُّول مسافة القصر، وقَضَوْا بأن ما ينحط عنها من المسافة يجب المشي فيها على القادر القوي، وإن كان على الماشي في المسافة القصيرة ضررٌ
__________
(1) في الأصل، (ك) : أو.
(2) إشارة إلى الآية الكريمة: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 25] والطول: الغنى واليسار، ومؤنة النكاح، والأصل أن يعدى بـ (إلى) فيقال: وجدَ طَوْلاً إلى الحرّة، ولكن الفقهاء أضافوه تخفيفاً. (المصباح) .
(3) العنت في اللغة: المشقة الشديدة، قال المبرد: العنت هاهنا: الهلاك: أي يخاف أن تحمله الشهوة على مواقعة الزنا، فيكون الحد في الدنيا، والإثم العظيم في الآخرة. وقيل: معناه: أن يعشق الأمَةَ، وليس في الآية ذكر العشق، ولكن ذا العشق يلقى عنتاً. وقال الفراء: هو الفجور هاهنا. (ر. الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي: 311/فقرة: 682) .(4/132)
ظاهر، فالقول فيه كالقول في الراحلة والمَحْمِل، على ما تفصل.
ولو كان لا يتأتى المشي، ولكن قد نفرض الزحف في زمانٍ ممتد، فلا نوجب الزحفَ أصلاً. وهذا خارج على تحقق الضرر.
فهذا منتهى مقصودنا في أحد قسمي الاستطاعة، وهو استطاعة تعاطي الحج، وتولّيه.
2431- وأما القسم الثاني من الاستطاعة، فهو تحصيل الحج بطريق الاستنابة، فنقول- على الجملة: أولاً- العاجز عن التعاطي -كما سنصف العجز- إذا قدر على الاستنابة، لزمه تحصيل الحج بها، كما يلزم القادرَ على التعاطي تولِّي الحج، خلافاً لأبي حنيفة (1) .
ثم شرطُ الاستنابة: صحةً (2) ، ثم وجوباً - أن يعجِز الرجل بزمانته (3) ، وعضَبه (4) ، عن تعاطي الحج بنفسه. فلو استناب قادرٌ على التعاطي، لم تصح الاستنابة، ولتكن الزمانة بحيث لا يرجى بظاهر الظن زوالُها.
ولم يجوّز مالكٌ (5) الاستنابةَ في حالة الحياة؛ فإن أخبار الاستنابة، صادفها بعد الموت، [واعتبر] (6) الشافعيُّ تحقُّقَ العجز في الحياة، بالعجز المترتب (7) على
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 51، المبسوط: 4/153، البدائع: 3/121، 124، حاشية ابن عابدين: 2/238، رؤوس المسائل: 243 مسألة 137.
(2) أي شروط صحة الاستنا بة، وشروط وجوبها.
(3) الزمانة: كل داءٍ ملازمٍ، يُزمن الإنسان، ويدوم به، وزمن من باب تعب. (الزاهر، والمعجم، والمصباح) .
(4) عضبه عضباً: من باب ضرب: قطعه، ومنه السيف العضب أي القاطع، والمعضوب زمن، لا حراك به، كأن الزمانة عضبته أي قطعته ومنعته عن الحركة. (مصباح) وفي الزاهر: المعضوب: من عضبته أعضبه: إذا قطعته. والعضب شبيهٌ بالخَبْل (بمعجمة مفتوحة، وباء ساكنة) والخبل: قطع الأيدي والأرجل. (فقرة 339) .
(5) ر. تهذيب المدونة: 1/584، حاشية الدسوقي: 2/17، شرح الحطاب: 3/2.
(6) في الأصل، (ك) : اختار. و" اعتبر " هنا بمعنى "قاس".
(7) (ط) : المرتب.(4/133)
الموت، وهذا إلى فقهٍ (1) ؛ فإن الحيّ هو المخاطب، والنيابة بعد موته في العبادة أبعدُ من النيابة في حياته، والخطابُ مستمر عليه.
ثم المعتبر في الاستنابةِ أحدُ شيئين: إما المالُ يبذله لمن يستأجره، وإما فرضُ بذل الطاعة من الغير، من غير مالٍ.
ونحن نذكر في كل قسمٍ ما يليق به:
2432- فأما الاستئجار، فإذا ملك أجرةَ أجيرٍ يحج عنه، وفضل ذلك عن ديونه، وعما نخلّفه له، لزم بذلُه، ولا نظر إلى إياب الأجير، وإنما المعتمد أجرتُه. وهذا لا خفاء به.
ولو وجد أجرة أجيرٍ ماشٍ، ولم يجد أجرة أجيرٍ راكب، ففي وجوب استئجار الماشي وجهان: أحدهما - أنه يجب؛ فإن الفرق بين المشي والركوب إنما يتجه في حق الرجل نفسه؛ من جهة أنه لا يكلّف المشي، فأما الأجير إذا تَكَلَّفَه، والتزم تحصيلَ الحج، فاعتبار ضراره في حق مستأجِره بعيد. وهذا ظاهر المذهب.
والوجه الثاني - أنه لا يجب استئجاره، من جهة أن الماشي على غررٍ ظاهرٍ، وبذل المال في أجرته تغريرٌ بالمال، من غير ثقةٍ ظاهرة بتحصيل المقصود.
2433- ويتصل بهذا الموضوع سرٌّ في المذهب، يتضح به حقيقةُ الفصل، فإن قيل: لو كانت الأجرة مملوكةً، ولكن لو بذلها، كان فقيراً بعد بذلها، لا يجد ما ينفقه، فكيف الوجه في ذلك؟ قلنا: إن جرينا على ما حكاه العراقيون عن ابن سُريج، في تخليف رأس (2) المال في قسم استطاعة مباشرة الحج، فلا شك أنا نرعى أن تكون الأجرةُ المبذولة زائدةً على ما يخلِّفه من بلاغ.
وإن قلنا: لا يُشترط ذلك في حق المباشرة، فلا شك أن نفقة المباشرة ذاهباً وآيباً، وما يتركه على أهله بلاغٌ له في الحال، فإن فرض انقطاعٌ، فهو بعد حصول الحج، فكأنا نقول: لا مبالاة بمسكنته بعد حصول الحج، وهذا الذي نقدره من المسكنة
__________
(1) كذا في النسخ الثلاث، والمعنى: وهذا يُشير إلى الفقه، أو وهذا هو الفقه.
(2) ساقطة من (ط) .(4/134)
لا تحقيق له، فإن أبواب الرزق ليست منحسمة، والأموال تغدو وتروح، [وقد] (1) تحقق في قسم المباشرة أن (2) البلاع ناجزٌ، والمسكنةُ بعد حصول الحج ليست واقعةً لا محالة.
وإذا فرضنا القولَ في بذل الأجرة، فيتنجز ببذلها الفقرُ الناجز، وحصولُ الحج مرقوبٌ، فالحاجة متنجزةٌ، وحصول الحج غيبٌ، فكيف الوجه فيه، والحال كذلك؟
أما نفقة اليوم لابد (3) منها، له ولأهله، فإنا نقدم هذا على ديون الغرماء، يوم صرف المال إليهم، وأما الزائد على نفقة اليوم، فظاهر الاحتمال.
وفيما نقله الصيدلاني، ما يدل على أنا لا نشترط أن يبقى له بلاغٌ، بعد بذل الأجرة. وفي لفظه تردُّدٌ؛ فإنه قال: إنه (4) لا يشترط أن يكون له نفقته، ونفقةُ أهله إلى إياب الأجير، فيحتمل أنه يريد التعرض للنفقة في زمان تقدير انقلاب الأجير، ويحتمل أنه ليس يرعى النفقة أصلاً ما عدا نفقةَ اليوم، [و] (5) المعتبر في الفطرة ما يفضل عن نفقة اليوم، [و] (6) هذا هو المرعي في الكفارات المرتّبة، إن لم يشترط فيها تخليف رأس المال، كما قدمناه، وليست الفطرة والكفارة مشابهةً لما نحن فيه؛ فإن الفطرة تتأدى [و] (7) الكفارة كذلك، والمالُ فيما انتهينا إليه مبذولٌ، والحج مرتقب (8) ، ولكن وجوب البذل على الجملة، هو الذي يجر الإشكال [و] (9) هو كوجوب إخراج الفطرة.
__________
(1) في الأصل، (ك) : فقد.
(2) في الأصل، (ك) : وأن.
(3) بدون الفاء في جواب (أما) : على مذهب الكوفيين.
(4) ساقطة من (ط) .
(5) مزيدة من (ط) .
(6) مزيدة من (ط) .
(7) في الأصل، (ك) : في.
(8) (ط) : مترتب.
(9) مزيدة من (ط) .(4/135)
فانتظم من مجموع ما ذكرناه -بعد النزول عن [رأي] (1) ابن سريج- أنّ ما يحصِّل الغرضَ لا يعتبر فيه إلا نفقةُ اليوم، وما [لا] (2) يحصل الغرض ناجزاً، ولكنه في أصل الشرع واجبٌ، فهو على التردد الظاهر (3) .
ثم إن ملنا إلى تخليف نفقةٍ، فهي إلى حصول الحج، ولا شك أنا لا نزيد على هذا المنتهى.
وهذا في إحدى جهتي الاستنابة.
2434- فأما بذل الطاعة، فالولدُ إذا بذل الطاعةَ لأبيه المعضوب، لزمه استنابته؛ إذا كان ذا زادٍ وراحلة. وإن بذل الطاعة لأبيه على أن يمشي حاجاً عنه، ولم يملك الراحلة، ففي وجوب الاستنابة، والحالة هذه- وجهان: قدمنا نظيره في الأجير الماشي. وكان شيخي يرتب الخلاف في الابن على ما تقدم في الأجير، ويجعل هذه الصورةَ أولى بأن لا تجب الاستنابةُ فيها؛ فإنه قد يعظم على الأب مشيُ ولدِه، ولا يعز عليه مشيُ الأجير.
ولو (4) أوجبنا الاستنابة، والابن ماشٍ، فهو فيه إذا كان يملك الزاد (5) ، فإن عوّل على كسبٍ في الطريق متيسر، فالخلاف قائم، مع ترتب، فإن المكاسب قد تنحسم في الأسفار.
وإن لم يكن ذا مالٍ ولا كسوباً، وعوّل على السؤال، فالخلاف قائم، مع الترتب.
وإن كان يحتاج إلى أن يركب مفازةً، لا ينفع في مثلها السؤال، ولا الكسب، فلا
__________
(1) في الأصل، (ك) : رأس مال ابن سريج. ثم نقول: المراد برأي ابن سُريج أنه قال: يترك عليه رأس مال تجارته، الذي به قوام عيشه.
(2) مزيدة من (ط) .
(3) يوجز الإمام هنا العبارة عن المسألة والخلاف فيها، فيقول: إن ما يحقق الغرض ناجزاً كالفطرة والكفارة، فيعتبر فيه نففة اليوم، أما ما لا يحصل الغرض ناجزاً، كالحج؛ فإنه يبذل الأجرة الآن، ولكن الحج يتحقق بعد زمانِ، فهذا موضع التردّد فيما نُخلِّف بعد بذل الأجرة.
(4) في الأصل، (ك) : وأجب.
(5) أي وجوب الاستنابة ماشياً، تكون عند ملكه للزاد.(4/136)
خلاف أنه لا يجب عليه الاستنابة، والحالة هذه؛ فإنه يحرم التغرير بالنفس على الابن، وإذا حرم عليه هذا، استحال وجوب استنابته، والحالة هذه.
2435- ولو بذل الابن للأب [المعضوب] (1) مالاً يستأجر به، ففي وجوب قبول المال، وصرفه إلى تحصيل الحج وجهان مشهوران: أحدهما - يجب القبول، كما يجب قبول الطاعة من الابن نفسه، إذا كان يباشر الحجَّ عن أبيه. والثاني - لا يجب؛ فإن المنَة تثقل وتتجنب (2) ، في الأموال، وطاعة [البدن] (3) في حكم الخدمة، ولا يثقل على الأب استخدام الابن.
وكان شيخي يتردد في بذل الابن [ثمن الماء] (4) لأبيه، ويذكر من الخلاف في وجوب القبول، ما قدمناه، ولا فرق كما قال بينهما.
ولو بذل الأجنبي للمعضوب مالاً يستأجر به، فلا خلاف أنه لا يلزمه قبولُه، ولو بذل له الطاعةَ في الحج عنه بنفسه، ففي وجوب استنابته وجهان مشهوران، لا يخفى توجيههما، كما لا يخفى الفصل في الترتيب بين الأجنبي والولد.
وكان شيخي يقول: الأب إذا بذل الطاعة لولده، فهو كالأجنبي يبذل الطاعة للمعضوب؛ فإن خدمة الأب تثقل على الابن، فأما إذا بذل [المالَ] (5) لولده، ففيه ترددٌ. يجوز أن يكون (6 كبذل الأجنبي المال، ويجوز أن يكون كبذل 6) الابن المالَ لأبيه، ولعل الأظهر هذا.
فهذا معاقد المذهب في الاستطاعة بالنفس، والاستنابة. وقد شذ عنها نوعان: أحدهما أخرناه لترتيب المختصر (7) ، والثاني نضبطه برسم فروع.
__________
(1) مزيدة من (ط) .
(2) في (ط) وتخفّ.
(3) في الأصل، (ك) : البذل.
(4) في الأصل، (ك) : ثم المال.
(5) زيادة من (ط) .
(6) ما بين القوسين ساقط من (ط) .
(7) المراد مختصر المزني، فقد وعد إمامنا بأنه " سيجري على ترتيب المختصر جهده ".(4/137)
فرع:
2436- قد ذكرنا أن الاستنابة لا تصح إلاّ من معضوبٍ موصوف بزمانة، لا يُرجى زوالُها، في غالب الظن، فلو استأجر والحالة هذه، ثم استمر العضبُ حتى مات، وقع الحج موقعه.
ولو حج الأجير في قيامِ العضب، ثم اتفق زوالُ العضب -على ندورٍ-[و] (1) الاستمكانُ من المباشرة، ففي المسألة قولان: أصحهما - أنا نتبين أن الحج غيرُ منصرفٍ إلى المستأجر. والثاني - أن الحج منصرفٌ إليه، على (2) غالب الظن، في لزوم العَضْب. وشبه الأئمةُ القولين فيما ذكرناه، بالقولين فيما لو رأى الرجل سواداً مقبلاً، حسبه عدواً، لا طاقة له به؛ فصلى صلاة الخوف، ثم تبين أن الذي حسبه، لم يكن، ففي صحة الصلاة قولان.
فإن قيل: كيف وجهُ التشبيه، والعضب هاهنا متحَقَّقٌ، غيرُ مظنون؟ قلنا: العضب المعتبر، هو الدائم إلى الموت، وصحةُ الحج بطريق الاستنابة، لا تعتمد تنجّز العضب في الحال، وإنما يعتمد جواز الاستنابة غلبةَ الظن، بدوام العضب.
فلو لم تكن الزمانة بحيث لا يُرجى زوالها، فقد ذكرنا أن جواز الاستنابة لا يعتمد، [مثل] (3) هذه الزمانة.
فلو استأجر أجيراً، وهو على رجاءٍ ظاهرٍ من زوال الزمانة، فاستمرت الزمانةُ إلى الموت، فقد ذكر الأئمة في ذلك قولين أيضاًً، وخرجوا الاختلاف في الصورتين على أنا نعتبر الحال [أو] (4) نعتبر ما يُفضي إليه الأمر في المآل.
2437- وتمام الكلام في الفرع: أنا إذا حكمنا بأن الحج ينصرف إلى المستأجِر، فلا شك أن الأجرة مستحَقّةٌ للأجير، وإن حكمنا بأن الحجة غيرَ منصرفةٍ إلى المستأجِر، فقد ذكر شيخي عن شيخه القفال، أن من أئمتنا من يقول: لا يقع الحج
__________
(1) مزيدة من (ط) .
(2) " على " هنا بمعنى لام التعليل، وهو منصوصٌ عليه عند أهل اللغة. والمعنى: ينصرف الحج إليه بسبب غلبة الظن في لزوم العضب، وعدم زواله.
(3) في الأصل، (ك) : قبل.
(4) في الأصل، (ك) : ونعتبر.(4/138)
عن فرض المستأجِر، ولكنها تقع عنه تطوعاً.
وهذا بعيدٌ؛ فإن تطوع الحج لا يسبق فرضَه، غيرَ أن هذا القائل يجعل العَضْب الناجزَ، بمثابة الرق، والعبدُ إذا حجَّ، ئم عَتَق، فما سبق من الحج -في الرق- تطوّعٌ، [متقدمٌ] (1) على فرض الإسلام.
وهذا بعيدٌ، لا أصل له، فإن حكمنا بأن الحج يقع عن المستأجر تطوعاً، فالأجير يستحق الأجرةَ، وإن قلنا: لا ينصرف الحج إلى المستأجر أصلاً، فهل يستحق الأجير الأجرة، فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - أنه لا يستحقها؛ فإنه كان مستأجَراً على تحصيل الحج لمستأجِره، ثم تبين أنه لم يحصل له.
والوجه الثاني - أنه يستحق الأجرةَ، لأنه عمل في الظاهر ما التمس منه، ولم يقصر فيه.
والأصح استرداد الأجرة؛ من جهة أن الحجَّ وقع عن الأجير، ويبعد أن يقع الحج له، ويستحق الأجرة على غيره، على مقابلة الحج الواقع عنه، وهو في التقدير بمثابة ما لو قال: استأجرتك للحج عن نفسك، ولا فصل إلا العلم والجهل، وجهاتُ الاستحقاق لا تختلف بالجهل، والعلم.
فإن قلنا: لا يستحق الأجرة، فلا كلام. وإن قلنا: إنه يستحقها، فقد اختلف أصحابنا على ذلك، فقال بعضهنم: يستحق الأجرة المسماة.
وقال آخرون: يستحق أجرة المثل.
وينبني، على هذين الوجهين القولُ في أنا هل نتبين فساد الإجارة؟ فإن أثبتنا المسمّى، فالاستئجار صحيح، وإن أثبتنا أجرةَ المثل، فقد قضينا بتبيّنِ فساد الاستئجار.
وقال شيخي: إذا حكمنا بأن الحَجةَ تقع تطوعاً عن المستأجر، فلا يمتنع (2) تخريج الخلاف في أجرة المثل، والمسمى؛ فإن الواقع ليس هو الذي وقع الاستئجار عليه،
__________
(1) في الأصل، (ك) : يتقدّم.
(2) (ط) : يتسع.(4/139)
غيرَ أن ثبوت المسمَّى في التفريع على هذا الوجه أولى.
2438- وألحق الأئمة بما نحن فيه صورةً من صور الإجارة، فقالوا: إذا صح الاستئجار، وانعقد الحج عن المستأجر، ثم إن الأجير، كما (1) أحرم، بدا له أن يصرفَ الحجَّ إلى نفسه، فظن أن ذلك ممكن، فإذا أنهى الحجَّ، فهل يستحق الأجرة؛ فيه اختلاف مشهورٌ: من أصحابنا من قال: إنه لا (2) يستحق الأجرة؛ نظراً إلى قصده في صرف الحج إلى نفسه.
وإذا ضممنا هذا إلى ما قدمناه، انتظم من المجموع أن من أئمتنا من اعتبر في استحقاق الأجرة حصولَ الحج للمستأجر، وهؤلاء يقولون: إذا [تبينا] (3) أن الحج غيرُ منصرف إليه، في صورة زوال العَضْب، فلا أجرة، وإذا صرف الأجير الحج إلى نفسه بعد الإحرام، استحق الأجرة (4) .
ومنهم من اعتبر قصد الأجير، وإقدامه على صورةِ ما التُمس منه، وهؤلاء يقولون: إذا صرف الأجير الحج إلى نفسه، لم يستحق الأجرةَ، وإن لم ينصرف إليه. وإذا زال العَضْب، وقلنا: لا ينصرف الحجُّ إلى المستأجر، فللأجير أجرتُه؛ اعتباراً بقصده.
ومسائل، الإجارة وغوامضُها كثيرة. وإنما نذكر الآن ما يليق بغرضنا؛ فإن باب الإجارة بمسائله بين أيدينا.
فرع:
2439- الابن إذا بذل الطاعةَ لوالده، فقد ذكرنا أنه يجب عليه استنابته، ولا استئجار؛ إذ لا أجرةَ، فلو رجع الابن عن طاعته، فهل له ذلك؟ أم يلزمه الوفاء بما بذل من الطاعة، [وإتمام ما وعده] (5) ذكر العراقيون في ذلك وجهين: أحدهما - أنه لا يلزمه الوفاء، وهو الأصح؛ إذ لا عَقْد، ولا استئجار. والثاني - يلزم الوفاءُ،
__________
(1) أي: عندما أحرم.
(2) سقطت من (ط) .
(3) في الأصل، (ك) " أثبتنا ". واعتمدنا مكانها (ط) .
(4) لأن صرف الحج إلى نفسه بعد إحرامه عن المستأجر غير ممكن.
(5) في الأصل، (ك) : وإتمامها.(4/140)
وبذل الطاعة فيه بمثابة الضمان، والضمان يُلزم الضامنَ الوفاء بقوله. والأصح الأولُ.
فرع:
2440- المباشر للحج إذا لم يجد مالاً عتيداً يتخذه زاداً، ولكنه كان كسوباً، وقد ادّخر لأهله ما يكفيهم، فهل يلزمه أن يخرج حاجّاً، معوِّلاً على كسبه؟ قال العراقيون: إن كان السفر طويلاً، لم يلزم التعويلُ على الكسب، وشرطُ وجوب الحج اعتبارُ الزاد؛ فإن الكسب قد يتخلف. وينضم إليه أن مقاساةَ أحوال السفر، إذا انضمت إلى تعب الكسب، عظمت المشقة.
وإن قصرت المسافة، فقد ذكرنا أن الواجب المشيُ على المقتدر عليه، على التفصيل المقدّم. وهل نوجب الخروج، مع قصر المسافة، تعويلاً على الكسب؟ قالوا: إن كان كسبه في يومٍ يكفيه لأيامٍ، فعليه الخروج، وإن كان كسبه في يومٍ لا يفضُل عن اليوم، فلا يلزمه الحج؛ فإنه في أيام الحج ينقطع عن كسبه، فيتضرر به.
هذا ما ذكروه. ولا ذكر له في طريقتنا. وفيه احتمال على حالٍ؛ فإن القدرة على الكسب في يوم الفطرة، لم تُجعل كحصول الصاع في الملك، ولا يبعد أن يقال: الكسب وإن أمكن، فهو كالمشي، وقد ألزمناه في السفر القصير، وإن كنا لا نلزمه في السفر الطويل.
فصل
2441- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيّما صبيّ حج، ولو عشرَ حِجَج، فإذا بلغ، فعليه حَجة الإسلام، وأيما عبد حج، ولو عشر حجج، فإذا عَتَق، فعليه حَجة الأسلام، وأيما أعرابي حج، ولو عشر حجج، فإذا هاجر فعليه حَجَّة الإسلام " (1) ، (2) . قيل: هذا حين كانت الولايةُ منقطعةً، بين المهاجر وغير
__________
(1) حديث: أيما صبي حج ... رواه ابن أبي شيبة في مصنفه: ح 15081، وابن خزيمة في صحيحه: 4/249 ح 3050. والإسماعيلي في مسند الأعمش، والحاكم: 1/481، والبيهقي: 4/325، مع اختلافِ اللفظ (ر. التلخيص: 2/421 ح 954) .
(2) في هامش (ك) ما يمكن أن نقرأ منه ما يلي: هذا الحديث بهذا اللفظ لم أجده، وإنما روى الإمام الشافعي، والبخاري موقوفاً على ابن عباس: " أيما مملوك حج به أهله، فمات قبل أن=(4/141)
المهاجر، بالتوارث وغيره من الأحكام، فكانت حَجة الأعرابي، الذي لم يهاجر، إذ ذاك نَفْلاً.
وقيل: أراد بالأعرابي الكافر، فأبان أن من وجد منه الحج، على صورته في الكفر، فلا اعتداد به، وعبر عن الكافر بالأعرابي الذي لم يهاجر، لأنهم إذ ذاك، كانوا إذا أسلموا، هاجروا.
ومقصود الفصل: أن الصبا، والرّقَّ [لا] (1) ينافيان صحةَ الحج، ولكنهما ينافيان وجوبَه، وإجزاءه عن الواجب، لو وقع.
والفقير الذي لم نُثبته مستطيعاً، لو تكلف المشقة، وحج، وقع حجه عن فرض (2) الإسلام.
فالفقر كالصبا والرق في منافاة وجوب الحج، وليس بمثابتهما في منافاة إجزاء الحج.
وليس الحج فيما وصفناه كالجمعة؛ فالعبد والمريض المعذور مستويان، في أنه لا يجب على واحدٍ منهما حضور الجامع، وإذا حضراه، وصلَّيَا أجزأت الصلاةُ عنهما، عن فرض الوقت، ويفترقان في أن المريضَ إذا حضر تَقَيَّد، ولزمه إقامة الجمعة؛ فإنّ عذره كان يَحُط عنه تكلّفَ الحضور، وقد حضر، فكأنه ليس معذوراً الآن. وللعبد أن ينصرف بعد الحضور؛ فإن رقه قائم. وهذا ظاهر.
__________
=يعتق، فقد قضى حجه، وإن عتق قبل أن يموت، فليحج، وأيما غلام حج به أهله، فمات قبل أن يدرك، فقد قضت عنه حجته، وإن بلغ، فليحج "، لكن قد رواه محمد بن المنهال الضرير عن يزيد بن زُرَيْع عن شعبة عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباسٍ مرفوعاً وزاد فيه، وأيما أعرابي حج، فمات قبل أن يهاجر، أجزأت عنه، فإن هاجر، فعليه الحج.
قلت: وهذه الرواية غريبة جداً. وقد رواه بعدها أيضاً (كلمة غير مقروءة) من حديث محمد بن كعب القُرظي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً. والله أعلم ا. هـ بنصه إلا كلمة أو كلمتان.
وهذا الذي ذكره في الهامش انظره في الأم: 2/95، والسنن الكبرى: 5/179.
(1) زيادة من (ط) .
(2) (ط) : فقر. (وهو سبق قلم) .(4/142)
2442- ثم ذكر الشافعي أن حَجة الإسلام إذا وقعت على شرطها، فهي للعمر، وقد تقدم هذا. وغرضه بالإعادة الردُّ على أبي حنيفةَ في مسألةٍ، فمذهبنا أن من حج، ثم ارتد، ثم عاد إلى الإسلام، لم يلزمه إعادةُ الحج. وقال أبو حنيفة (1) يلزمه إعادته، مصيراً إلى أن الردة تُحبط ما سبق، والمسألة مشهورة.
فصل
قال الشافعي: " سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول: لبيك عن فلانٍ ... إلى آخره " (2) .
2443- مذهبنا أن حَجةَ الإسلام في حق من يُتصور منه وقوعُها، مقدمةٌ على سائر أنواع الحَج. والحج يقع ركناً، وقضاء واجباً، عن حج لم يكن ركناً لو تم، ومنذوراً، وتطوعاً، والحجة الأولى مصروفةٌ إلى جهة الركن، وفرضِ الإسلام، [و] (3) لا يجب تعيينُ النيةِ في ذلك، فلو تلبس بالحج مطلقاً، من يصح منه حجةُ الإسلام، فمُطلَقُ حجه مصروفٌ (4) إلى ما عليه من فرض الإسلام. وكذلك لو نوى الحجة المنذورةَ، أو حج القضاء، انصرف ما جاء به إلى حجةِ فرض الإسلام.
والقضاء إنما يفرض في حق من كان عبداً، وشرع في الحج، وأفسده، ثم عَتَق، فعليه حجةُ قضاءٍ، لما أفسده، وهذا القضاء لا يكون حجةَ الإسلام؛ فإن القضاء يحكي الأداءَ، فكل أداءٍ لو تم، لم يتأدّ به فرضُ الإسلام، فقضاؤه بمثابته.
ولو فرغ عن حجة الإسلام وعليه حجةٌ منذورة، فلتقع البداية بها، فلو نوى التطوع، [لغا قصدُ التطوع و] (5) انصرف الحج إلى جهة النذر.
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 261، رؤوس المسائل: 240 مسألة: 138، مختصر اختلاف العلماء: 2/238 مسألة: 707.
(2) ر. المختصر: 2/42.
(3) زيادة من (ط) .
(4) (ط) فتطلق حجةً مصروفةً.
(5) زيادة من (ط) .(4/143)
ولو كان عليه قضاءٌ، كما صورناه وحجةٌ منذورة، فقد كان شيخي يقول: يجب تقديمُ القضاء؛ فإنه واجب شرعاً على المنذور، واستمر على هذا في دروسه، ولم يتعرض لهذا الترتيب غيرُه. وفي المسألة احتمالٌ ظاهر؛ فإن هذا القضاءَ فرعُ حجٍّ، لم يكن واجباً، كما أن الإقدام (1) على النذر، لم يكن واجباً.
وبالجملة تعليلُ سقوط أثر التعيين في النية، عسرٌ (2) مشكلٌ في قاعدة المذهب، ولكن الممكن فيه أن قصد التطوع لا يُفسد العقد، ووجوب تقديم حج الإسلام ثابت.
2444- فينتظم من ذلك صحةُ الحج، على الترتيب المستحق. وكان يمكن أن نقضي بفساد النية، وإنما عِظم وقع الإشكال، لانضمام مشكلٍ إلى مشكلٍ: أحدهما - ما ذكرناه من التعيين. والثاني - استحقاقُ الترتيب، وهذا عوض من الأول (3) ، سيما على أصلنا، في أن الحج على التراخي.
ثم في (4) مذهبنا أن المستأجَر على الحج، ينبغي أن يكون بريء الذمة، من حجة الإسلام، فلو كان عليه فرضُ الإسلام، ينصرف حجُّه إلى فرض إسلامه، وإن قصد مستأجِرَه، خلافاً لأبي حنيفة (5) .
ومعتمد المذهب في ذلك الحديث الذي رواه الشافعي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما سمع رجلاً يقول: " لبيك عن شُبرمة فقال له: أحججت عن نفسك، فقال: لا. فقال: هذه عنك، ثم حُج عن شبرمة " (6) وهذا متعلَّق بالغٌ في
__________
(1) (ط) : الإحرام.
(2) (ط) : غير.
(3) (ط) : الأصل.
(4) (ط) : ثم مذهبنا (بدون في) .
(5) ر. المبسوط: 4/151، مختصر اختلاف العلماء: 2/94 مسألة: 570، رؤوس المسائل: 248 مسألة: 142، الاختيار: 1/171، حاشية ابن عابدين 2/241.
(6) حديث " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة ... " رواه الشافعي موقوفاً على ابن عباس، قال ابن الصلاح: " بإسناد جيد ". ورواه مرفوعاً أبو داود وابن ماجه والدارقطني والبيهقي (ر. الأم: 2/105، أبو داود: المناسك، باب الرجل=(4/144)
المسألة، وإذا ثبت مضمون الحديث، في الأجير الصرورة (1) ، أمكن بناءُ استحقاق الترتيب في حق الشخص على ذلك.
فنقول: كما يتعين على [الأجير] (2) تقديمُ فرض نفسه على ما استؤجر له، فكذلك يتعين عليه في نفسه، أن يقدّم فرض إسلامه، على ما يتطوّع به؛ فيتسق [على] (3) ذلك استحقاقُ الترتيب، بناء على مسألة الأجير.
2445- والأجير إذا صح استئجاره، وعيّن له المستأجر سنةً، فإذا انتهى إلى الميقات، ونوى التطوعَ عن نفسه، فقد قال شيخي: ينصرف ما جاء به إلى جهة الإجارة، فإن الحجةَ في هذه السنة مستحقةٌ عليه، والمستحق مقدمٌ في وضع الحج، على المتطوّع به.
وأجمع أصحابنا على خلافه في هذا، فإن استحقاق الحج عليه ليس من حكم وجوبٍ يؤول إلى الحج، وإنما يتقدم واجبُ الحج على تطوّعه إذا رجع الوجوب إلى الحج، فإذا تطوّع الأجيرُ، فقد أساء، والوجه الحكمُ بوقوعِ الحج تطوعاً عنه، ثم الأجرةُ مردودةٌ، والإجارة منفسخة، كما سيأتي شرح أحكام الإجارة.
ولو استأجر الرجل صرورةً، لم يحج عن نفسه، وعين له السنة القابلة، فالإجارةُ فاسدةٌ، لما ذكرناه. وإن ألزم الحجَّ ذمّتَه، ولم يعين الإتيان به سنةً، فالإجارة صحيحةٌ، ثم وجه الوفاء بها أن يحج عن نفسه أولاً، في سنته، ثم يحج عن مستأجِره.
***
__________
=يحج عن غيره، ح 1811، ابن ماجه: المناسك، باب الحج عن الميت، ح 2903، الدارقطني: 2/267، البيهقي: 4/336، مشكل الوسيط لابن الصلاح، بهامش الوسيط: 2/589) .
(1) الصرورة: الرجل الذي لم يحج.
(2) ساقطة من الأصل، (ك) .
(3) في الأصل، (ك) : فعلى.(4/145)
باب إمكان الحج وأنه من رأس المال
قال الشافعي: " وإن استطاع الرجل، فأمكنه مسيرَ الناس ... إلى آخره " (1) .
2446- إذا ثبتت الاستطاعة على الشرائط المقدمة، ودامت حتى انقضت سنة، والمعنيّ بها انقضاءُ وقتٍ يسع المسير إلى الحرم، وإقامة الحج، فإذا دامت الاستطاعة (2) في المدة التي وصفناها، استقر الحج في الذمة، ومعنى استقراره أنه إذا مات، لزم الإحجاجُ عنه من رأس المال، كما سنذكره.
ولو ثبتت الاستطاعة في جهة المباشرة، أو جهة الاستنابة، ثم زالت قبل مضي الزمن الذي يسع الحجَّ، فلا أثر لما كان، ولا يستقر الحج في الذمة، وإذا مات، لم يكن الإحجاج عنه دَيْناً.
ولو تمكن من مباشرة الحج خُروجَ (3) الناس، فلم يخرج، فلما حجوا، مات ذلك المتخلِّف، قبل انقضاء زمان الرجوع، فالحج مستقر في الذمة؛ فإنه لو خرج، وحج، لكان يموت على هذا التقدير، ويغنيه موتُه عن تكلّف الرجوع؛ فقد جرى إذاً في عمره زمان إمكان الحج، على التصوير والتقدير (4) الذي ذكرناه.
ولو بقي حياً في هذه الصورة، ولكن تلف ماله قبل زمان رجوعهم، حيث يشترط في الاستطاعة نفقةُ الذهاب والإياب، فإذا مات على فقره هذا، فلا يكون الحج مستقراً، مخرَجاً إخراجَ الديون؛ والسبب فيه أنا تبينا (5) عجزَه
__________
(1) ر. المختصر: 2/42.
(2) (ط) : الأسباب.
(3) (ط) وخرج.
(4) في الأصل، (ك) : التقرير.
(5) (ط) أنا إذاً تبينا.(4/146)
[بالأَخَرة] (1) عن أهبة الإياب، حيث نشترط نفقة الإياب، كما نشترط نفقةَ الذهاب، ذكره الصيدلاني وهو حسن.
وفيه أدنى احتمال، من جهة أنه كان مالكاً في ابتداء السنة، لنفقة الذهاب والإياب، ولو خرج، لأدَّى الحجَّ، فطريان جائحةٍ على نفقة إيابه -والصورة هذه- ليست بمثابة ما لو لم يملك في الابتداء نفقةَ [الإياب] (2) . والظاهر ما ذكره الشيخ أبو بكر (3) .
2447- ومما نُلحقه بهذا الفصل أن قول الشافعي اختلَف في جواز الاستئجار، على [حج] (4) التطوع. وسيأتي ذكر القولين، وتفريعهما، في باب الاستئجار.
فلو مات -ولكن كان حج حجة الإسلام- فأراد وارثه أن يستأجر عنه من يحج عنه تطوعاً، ففيه القولان.
ولو استمر عمرَه على انتفاء الاستطاعة، ولم يستقر الحجُّ في ذمته، فأراد الوارث أن يُحِج أجيراً عنه، ففي جواز ذلك طريقان: أحدهما - القطع بالجواز؛ فإنه لو قُدّر صحتُه، لكان حجةَ الإسلام. والثاني - يخرج جواز الإحجاج عنه على القولين المذكورين في حج التطوع. ولا فرق (5) بين حج التطوع والحج [الذي] (6) يفرض (7) غير مستقر في الذمة، فإن كلَّ واحد منهما لو قدرت الوصية به، فهو من الثلث؛ فإنهما مستويان في [انتفاء] (8) الدَّيْنية (9) عنهما.
ولو شرع الرجل في حج التطوع، وأفسده، ثم قضاه، فلقضائه من الحكم ما لأدائه.
__________
(1) في الأصل، (ك) : فالأجرة. والأَخَرَة بفتحتين: أي أخيراً.
(2) في الأصل، (ك) : ابتداء.
(3) أبو بكر هنا= الصيدلاني.
(4) مزيدة من (ط) .
(5) في (ط) : يفرق.
(6) مزيدة من (ط) .
(7) في الأصل: يعرض. و (ك) : بغرضٍ.
(8) في الأصل، (ك) : استواء.
(9) في (ط) الذنبية. والدّينية: أي عدم استقرارهما في الذمة ديناً.(4/147)
ولو تكلف غيرُ المستطيع وحضر المشاهدَ، وشرع في الحج، فأفسده، فقضاؤه يقع عن فرض الإسلام؛ فإن الأداء لو تم، لكان فرضَ الإسلام.
فليتأمل الناظرُ المنازلَ، في التطوع، وما لم يستقر في الذمة، مما لو وقع، لكان فرضاً.
فصل
قال: "ولو كان يُجَن ويُفيق ... إلى آخره" (1) .
2448- الجنون ينافي توجّه الخطاب بالحج، فإن الاستنابةَ وإن كانت ممكنةً في الحج، فهو عبَادةٌ بدنية، والغرض منه التعبد بأدائه، أو توجيه الخطاب عنه (2) بالاستنابة فيه، فإذا لم يكن المجنون ممن يؤدي بنفسه، ولم يتأت توجّه الخطاب عنه بالاستنابة، فيسقط فرض الحج عنه- بخلاف الزكاة؛ فإن الغرض الأظهر منها الإرفاق.
فلو كان الرجل يجن ويُفيق، فأفاق وامتدت إفاقته مدةً تسعُ الحجَّ، فقد استقر الحج في ذمته، وقد مضى استقرار الحج.
ولو لم تبلغ مدةُ إفاقته مدةً تسع الحجَّ، فليس لوليه أن يحج به من ماله، فلو فعل، فالنفقة الزائدة لأجل السفر مضمونةٌ على الوليّ، ولو خرج الوليّ به، وكان يُجن أياماً، ويُفيق أياماًً، فاتفق أنه أفاق في أيام الحج، وتم منه الحج على الصحة، فما بذله الوليّ من ماله محسوبٌ، غيرُ مضمون؛ فإنه تأدى بسبب بذله فرضُ الإسلام. وإنما يجب الضمان، إذا لم يكن الحج الحاصلُ واقعاً عن فرض الإسلام.
2449- ومما يتعلق بما نحن فيه، أن المبذر محجورٌ عليه، في ماله، كالمجنون، والصبي، ولكن ليس لولي الصبي والمجنون بذلُ مالهما، في تحصيل الحج لهما، ووليّ المبذّر يبذل مالَه ليحج، ويخرج معه بنفسه، ويُنفق عليه
__________
(1) ر. الأم: 2/94. ولم أصل إليها في المختصر.
(2) ساقطة من (ط) .(4/148)
بالمعروف، والاقتصاد، أو يُخرج معه من يراقبه وينفق عليه، فإن [نفس] (1) التبذير لا ينافي وجوبَ الحج، ووقوعَه موقع الاعتداد إذا صح.
فصل
قال: " فإن كان عامَ جدب، أو عطش ... إلى آخره " (2) .
2450- إذا كان الطعام، والعلف، والماء، موجوداً، في الطريق، وكانت البُلْغةُ (3) وافيةً، فالاستطاعة حاصلةٌ، ولا فرق بين أن تكون الأسعار راخيةً، أو غاليةً، إذا كان في المال وفاءٌ.
وقد ذكرنا أن الماء إذا كان يعرض على البيع بثمن غالٍ بالإضافة إلى القُرى ومحال الريف، ولكن كان الثمن في ذلك المكان والزمان، لائقاً بالماء، فيجب ابتياعه للطهارة، وإنما يسقط وجوبُ [ابتياعه] (4) ، إذا كان لا يُباع إلا بغبن، [بأن كان] (5) الماء في ذلك المكان يساوي مقداراً، وكان صاحبه يطلب في ثمنه أكثر منه، فلا يجب ابتياعه.
ونظير هذا من الحج ما يُستأدى من الحجيج في المراصد (6) [بباطل] (7) ، فإذا كان لا يتأتى دفعُه، ولا يَجد المرءُ مسلكاً، لا راصد عليه، فلا يجب عليه الحج، وإن قلّ قدرُ ذلك المطلوب، كما ذكرناه في الغبن، في ثمن الماء.
وحاصل المقصود أن المؤن، وإن ثقلت بغلاء الكراء، والأسعار، لم يسقط
__________
(1) في الأصل، (ك) نقص، (ط) : نقض. بالضاد. والمثبت تقديرٌ منا رعاية للسياق.
(2) ر. المختصر: 2/43.
(3) البُلغة: ما يكفي لسد الحاجة، ولا يفضل عنها.
(4) في الأصل، (ك.) : إيقاعه.
(5) في الأصل، (ك) : فإن الماء.
(6) الرَّصَد هو الذي يقعد على الطريق، ينتظر الناس، ليأخذ شيئاً من أموالهم ظلماً وعدواناً.
والمراصد جمع مرصد، مكان الرصَد. (مصباح) .
(7) في الأصل، (ك) : باطل.(4/149)
وجوب الحج، إذا كان في المال وفاء بها. وإذا كان يُطلب مالٌ بغير حق، فيسقط وجوب الحج.
2451- ولو كان يحتاج المسافر إلى من يُبَذْرِقُه (1) ، وإذا استأجره، أمن الغوائل، في غالب الظن، فهل يجب الحج، والحالة هذه؟ اختلف أئمتنا في المسألة، فقال قائلون: يجب، وهو المختار، فإن بذل الأجرة بذلُ مالٍ بحق والمبذرِقُ أهبةٌ، من الأهب، كالدابة، وغيرها.
وقال قائلون: لا يجب ذلك، فإن الاحتياج إليه سببُه خوفُ الطرق، وخروجها عن الاعتدال. وقد ثبت في وضع الشرع، سقوط الحج عند خوف الطارقين، في غالب الأمر، ولو أوجبنا استئجار مبذرِق، لزم أن نوجب استئجار عسكرٍ، عند وفاء المال، وعِظَم الغائلة. وهذا بعيدٌ عما فهمه الأولون، من اشتراط أمن الطريق. ثم ليس الأمن الذي نذكره قطعاً (2) ، " فالمسافر ومتاعه على قَلَت (3) إلا ما وقى الله "، وإنما الحكم على غالب الظن، والنفس لا تثق بالخلاص عن الحوادث.
فالذي يجب التفطن له، أنا لا نشترط في السفر [الأمن] (4) الذي يغلب في الحضر، فإن ذلك إنما يحصل لو صار السفر في حكم الحضر، بأن تصير الطرق آهلة، [و] (5) لا سبيل إلى شرط ذلك، فالأمن في كل مكانٍ، على حسب ما يليق به.
__________
(1) يبذرقه: يحرسه. قيل: معرّبة، وقيل: مولّدة. وقيل بالذال، وقيل بالمهملة، وقيل: بهما جميعاً. (المعجم والمصباح) .
(2) أي لا قطع، ولا يقين في أمن المسافر.
(3) قَلَت: هلاك. (النهاية في غريب الحديث) .
ومما يذكر أن إمام الحرمين لم يروه هنا حديثاً، كما صنع في البرهان. وهو ليس بحديث كما قاله الجوهري في الصحاح، وكما قاله أيضاً النووي في تهذيب الأسماء واللغات، حيث قال: إنه من كلام بعض السلف، قيل: إنه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذكر ابن السكيت والجوهري وابن منظور أنه لأعرابي (ا. هـ بتصرف) وانظر كشف الخفا ح 781، وانظر ما قاله الحافظ في التلخيص: 3/211 ح 1458.
(4) زيادة من (ط) .
(5) الأصل، (ك) : فلا.(4/150)
فصل
قال: " ولا يبين لي أن أوجب عليه ركوبَ البحر ... إلى آخره " (1) .
2452- اختلف نص الشافعي في وجوب ركوب البحر لأجل الحج، فقال هاهنا: ولا يبين لي أن أوجبه، وقال في موضع آخر: لا أوجبه إلا أن يكون أكثر عيشِه في البحر، [و] (2) عندي أنه نصَّ في بعض المواضع على وجوب ركوب البحر، إذا كان يعتاد ركوبَه.
فقال بعض أصحابنا: في المسألة قولان: أحدهما - أنه لا يجب ركوبه؛ فإنه مهلكة والخارج منه يُعدّ ناجياً، وهو المعنيّ بقوله تعالى: {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65] .
والقول الثاني: إنه يجب؛ فإنه مطروق العقلاء، ويُبعدُ الآفةَ عن سفينة صحيحة شِحْنتُها (3) على قَدْر (4) ، وإجراؤها في وقت متَخيَّر، فلا يبقى إلا مهَابةُ النفوس، فلا تعويل عليها.
ثم القولان فيما يعتاد ركوبه، ولا يُنسب صاحبُه إلى اقتحام العَطَب. فإن كان البحر بحيث لا يركبه إلا هجّام، مغرِّر بنفسه، فلا يجب ركوبُه، بل قد نقول: لا يحل ركوبُه. وكذلك إن اغتلم (5) بحرٌ، يُعتاد ركوبه في بعض الأوقات، فالكلام في ذلك الوقت، كالكلام في البحر المغرِق.
ومن أصحابنا من [نزل] (6) المسألةَ على جرأة الراكب، واستشعاره. وفي نص
__________
(1) ر. المختصر: 2/43.
(2) مزيدة من (ط) .
(3) الشِّحنة: ما تُملأ به السفينة. وشحن يشحن من باب تعب. (معجم) .
(4) قَدْر بفتح وسكون: المقدار المساوي من غير زيادة، ولا نقصان. (معجم) .
(5) اغتلم البحر: هاج واضطربت أمواجه. (معجم) .
(6) الأصل، (ك) : ترك.(4/151)
الشافعي إشعارٌ به، وسبب التنزيل على [هذا] (1) أن الاستشعار إذا عظم، ظهر أثره، وعظم ضرره، وقد يخلع قلب المستشعر. وإذا وقع التنزيل على ذلك، فمنهم من قال: [المستشعر لا يلزمه الركوب، وفي غير المستشعر قولان، ومنهم من قال:] (2) غير المستشعر يركب، وفي المستشعر قولان.
ومنهم من نزل النصين على الحالين، على قطعٍ، من غير ترديد قول، وقال: المستشعر لا يلزمه الركوب، وغيره يركب. وكل ذلك والبحر مركوب لا يعد مُغْرِقاً (3) .
وقال بعض أصحابنا: لا يجب ركوبُ البحر قط، وما ذكره الشافعي غيرُ مصرح به، ولا يمتنع حمله على ما إذا [ركب] (4) البحر وفاقاً، وقرب من الشط الذي يتاخم (5) مكة، فيجب عليه التمادي، ولا محيص، وإلى المقصود أقرب.
2453- وإذا لم نوجب ركوبَ [البحر] (6) وقد توسطه المرء، واستوى في ظنه ما بين يديه، وما خلفه، فهل يجب التمادي في صوب مكة؟ فعلى وجهين، كالوجهين في المحصر إذا أحاط به العدوّ من الجوانب. وإن قلّ ما في صوب مكة، وكثر البحر في غيره من الجوانب، وجب التمادي. وإن كثر ما في صوب مكة، جاز الرجوع، وإنما الوجهان [في] (7) ظن الاستواء، وهو كالوجهين في المحصر يحيط به العدوّ من جوانبه. على ما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وكل ما ذكرناه تفريعٌ على أنه لا يجب ركوبُ البحر، وصورة الوجهين في الاستواء مخصوصةٌ بما إذا كان يجد في المنصَرَف طريقاً غير البحر، أما إذا كان يضطر في الانصراف إلى ركوب البحر، فالانصراف من شط (8) البحر أقربُ من قطع البحر إلى
__________
(1) مزيدة من (ط) .
(2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، (ك) .
(3) ط (مغرقة) .
(4) ساقط من الأصل.
(5) تاخَم الموضع الموضعَ: جاوره، ولاصقه. (المعجم) .
(6) ساقط من الأصل، (ك) .
(7) ساقطة من الأصل، (ك) .
(8) واضح أن المراد جانب البحر القريب من الشط، لا اليابس نفسه.(4/152)
مكة، مع الاضطرار إلى قطع كله في الانصراف.
ثم قال الأئمة: النسوة أولى بأن لا يجب عليهن ركوبُ البحر، لأنهن عوراتٌ، والبحر هتّاك للأستار؛ فإن جعلنا المسألة على قولين في الرجال، ففي النسوة قولان مرتبان، والفرق ما ذكرناه.
وإن لم نوجب ركوبَ البحر، ولم يكن البحر معروفاً بالإهلاك، فلا يُنكر الأمر بركوبه استحباباً، ولا نرى الأمر ينتهي إلى دفع ذلك.
ولو كان مُخْطِراً (1) ، فإن غلب [على] (2) الظن الهلاكُ، حرم الركوب، وفاقاً، وتأسياً بقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] .
وإن استوى الأمران، ولم يقض العقل بتغليب الهلاك، أو السلامة، فقد كان شيخي يقطع بتحريم الركوب أيضاًً. وفيه نظر. وللأصحاب مرامز إلى نفي التحريم في مثل ذلك. أما الكراهيةُ فكائنةٌ، لا شك فيها.
واضطرب الأئمة في ركوب البحر المُخطِر، والمقصودُ الجهاد، فمنهم من استمر على التحريم؛ فإن الخطر المحتمل في الجهاد ما يَلقى الغزاة من جهة القتال.
وقال قائلون: لا يحرم الركوب في جهة الغزو؛ فإن التواصل (3) إلى المقصود يناسبه، فإذا كان المقصود على الغرر، لم يبعد احتماله في التسبب.
فصل
2454- والمرأة كالرجل في التزام الحج عند ثبوت الاستطاعة، وما ذكرناه في الرجل من الزاد، والراحلة، وغيرهما، فجملته معتبرةٌ في المرأة، وفيها مزيدٌ؛ فإنها عورةٌ. فإن ساعدها زوج [أو ذو رحم، فذاك، وكذلك المحرم، وإن لم يكن ذا رحم، كالأخ من الرضاع.
__________
(1) مُخْطِراً: من أخطره المرض: جعله بين السلامة والهلاك. ويقال بادية مُخطرة. (معجم) .
(2) ساقطة من الأصل، (ك) .
(3) (ط) : التوصل.(4/153)
وإن لم تجد محرماً، ولم يساعدها زوج] (1) ، واتفق جمعٌ من النسوة الثقات، يصطحبن، فذلك يبعدهن من تقدير الطمع فيهن، فمن أصحابنا من أوجب عليهن الخروجَ في رفقةٍ مأمونة. ومنهم من لم يوجب ذلك، حتى يكون مع واحدةٍ فيهن محرم. وهذا اختيار القفال، فإنهن قد ينوبهن أمرٌ، فيستعنّ بالتي لها محرم، ويستظهرن به.
ولم يشترط أحد من أصحابنا أن يكون مع كل واحدة منهن محرم.
وما اختاره القفال حسن بالغ، يعضده حكم الخلوة؛ فإنه كما يحرم على الرجل أن يخلو بامرأة واحدةٍ، فكذلك يحرم عليه أن يخلو بنسوة، ولو خلا رجل بنسوة، كان محرمَ واحدةٍ منهن، فلا بأس.
وكذلك إذا خلت امرأة برجالٍ، واحدهم محرمٌ لها، جاز. ولو خلا عشرون رجلاً
بعشرين امرأةٍ، وإحداهن محرم لأحدهم، أو زوجةٌ، كفى ذلك.
وقد نص الشافعي على أنه لا يجوز للرجل أن يؤم بنساء منفردات، فيصلي بهن، إلا أن تكون إحداهن محرماً له.
2455- ثم من لطيف القول في هذا الفصل: أنها إذا عدِمت محرماً، أو زوجاً، وباقي الصفات في الاستطاعة ثابتةٌ، فالقول في المنع من الخروج ما ذكرناه، ويبتني عليه أَنْ لا استطاعةَ قطعاً، ولو تمادى الأمر كذلك إلى الموت، فلا نقضي باستقرار الحج في ذمتها. وقال بعض أصحاب أبي حنيفة (2) : يستقر الحج، وإن كان يمتنع الخروجُ. وهذا متناقضٌ لا أصل له.
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، (ك) .
(2) يختلف الأحناف هل المحرم أو الزوج شرط وجوب أم شرط أداء؟ ومقتضى كونه شرط وجوب أن الحج لا يستقر في ذمتها، ومقتضى كونه شرط أداء أن الحج يستقر في ذمتها. والقائل من الأحناف أنه شرط أداء هو القاضي أبو خازم، أما الإمام أبو حنيفة فيقول: إنه شرط وجوب.
ولا يفوتنا التنبيه إلى دقة عبارة إمامنا حيث نسب القول باستقرار الحج في ذمة المرأة إلى بعض أصحاب أبي حنيفة وليس إلى أبي حنيفة، ولا إلى كل أصحابه (ر. البدائع: 2/123، 124، البحر الرائق: 2/339، 340، وحاشية ابن عابدين: 2/339، تبيين الحقائق: 2/4، 6، فتح القدير: 2/329، 332) .(4/154)
وإذا تمكنت من استئجار محرم، فالقول في هذا، كالقول في استئجار المُبَذْرِق، والأظهر هاهنا وجوبُ الاستئجار؛ فإن زيادة المؤنة في حقها بمثابة زيادة المؤنة، في حق من يحتاج إلى المحمل، ولا يكتفي بالراحلة. ومن لم يوجب، قال: استئجارُ المحرم ليس من المؤن الغالبة، التي تقع، والنادر لا يلتزَم. والأصح الإلتزام.
فصل
قال الشافعي: " فإن مات قضي عنه ... إلى آخره " (1) .
2456- من استطاع في حياته، واستقر الحج في ذمته ومات، كان الحج ديناً مأخوذاً من رأس التركة مقدماً، على الوصايا، وحقوق الورثة.
هذا هو المنصوص عليه، في معظم الكتب، وهو ظاهرُ المذهب، وذكر هذا القولَ في الحج الكبير (2) ، ثم قال (3) : قد قيل ذلك، وقيل: إن لم يوصِ به، فلا يُحَج عنه، وإن أوصى به، حُجّ من الثلث من ميقاته.
فحصل قولان: أصحهما - الأول، والثاني مذهب أبي حنيفة (4) ، وهو جارٍ في جملة الحقوق التي تثبت لله تعالى.
وفي القول الموافق لمذهب أبي حنيفةَ إشكالُ ظاهر، وهو أن معتمد ذلك القول أن العباداتِ مفتقرةٌ إلى النية، ولا يتطرق إليها استقلالُ الغير بالأداء، من غير توكيلٍ ممن عليه؛ [فإن] (5) من أدى عن غيره مقدار زكاته من غير إذنه، لم يعتد بما أخرجه،
__________
(1) ر. المختصر: 2/42.
(2) الحج الكبير: المراد به كتاب الحج من الأم، وسماه الكبير في مقابلة (كتاب الحج) من
مختصر المزني.
(3) القائل هو الشافعي رضي الله عنه. (ر. الأم: 2/107 باب من أين نفقة من مات ولم يحج؟) .
(4) ر. مختصر الطحاوي: 59، البدائع: 2/221، 222، رؤوس المسائل: 247 مسألة 141، حاشية ابن عابدين: 2/242، 243 مختصر اختلاف العلماء: 2/91 مسألة: 569.
(5) ساقطة من الأصل، (ك) .(4/155)
وليس كما لو أدى عنه دَيْنَه، وإذا مات، ولم يوصِ بما وجب لله تعالى قُربةً، فلا يقع المخرَج متعلَّقاً بإذنه، وتختل النيةُ بذلك، وهذا على بعده كلامٌ على [حال] (1) .
ولكن القياس يقتضي أن يقال: إذا مات، ولم يوصِ، فهو مرتهَنٌ بما وجب عليه، ولكن تعذّر طريقُ التأدية، فبقي الوبال على المتوفَّى، والله حسيبه، فإذا أوصى، فقد زال هذا المعنى، واقتضى القياسُ إذا تيسر طريقُ الأداء أن يكون دَيْناً من رأس المال. هذا هو القياس، ولكن لم يذكره أحد من الأَصحاب، تصريحاً، ولا رمزاً، وإنما نقلوا ذلك القول على وفق مذهب أبي حنيفة، في الحَسْب من الثلث عند الوصية.
ولا عود الآن إلى هذا القول.
والتفريع على الأصح الأظهر.
2457- فإذا مات، واستقر الحج عليه، فالقدر المستحق، المحكوم بكونه دَيْناً حَجَّةٌ من الميقات، المنسوب إلى صوب جهته، وذلك يمكن تحصيله بمبلغٍ قريب، ولا يجب إحجاج أجير قاصدٍ عنه من بلده (2) ، وذلك لو طُلِب قام بمالٍ له قدرٌ، وعلةُ المذهب أن الغرض تحصيلُ الحج، ومبتدأ الحج من الإهلال، وهو من الميقات، والرجل لو حج بنفسه في حياته، لاحتاج إلى [مؤنةٍ] (3) لسفره من بلده، ولكن لا تتأتى المباشرةُ إلا كذلك، والمقصود ما ينشئه من ميقاته، ويتأتى تحصيل الحج بطريق الاستئجار من الميقات، ثم اعتبر ميقاتُ صوبه، والغرضُ يختلف بذلك، فإن المواقيت متباينةٌ، كما سيأتي وصفها في بابٍ.
[ولا خلاف] (4) أنا لا نعتبر الميقات بعينه، وإنما نعتبر مسافةَ ميقات صوبه، وهذا من باب المواقيت.
__________
(1) مزيدة من (ط) وعبارة الأصل، (ك) : كلامٌ عليٌّ.
(2) أي أن الأجرة التي يحكم بكونها ديناً، تكون عن المسافة من الميقات إلى المشاعر، ولا تعتبر من البلد، وإن كان الأجير قاصداً أي متوسطاً في الأجرة غير مغالٍ فيها.
(3) في الأصل، (ك) : قوته.
(4) في الأصل: فلا اختلاف.(4/156)
ثم سبيلُ تحصيل حجة ميقاتية (1) أن يلتمس من المارّين إلى مكة، أن يستأجروا ثَمَّ أجيراً من الميقات، فإن لم يجد من يتطوّع بذلك، فاستئجار بعض الواصلين على الاستئجار تَقرُب أجرتُه (2) .
2458- ولو أوصى بأن يستأجر عنه من الميقات أجيراً من ثلثه، والتفريع على الأصح، ففائدة إضافة الحجة التي هي دينٌ إلى الثلث مزاحمةُ الوصايا بها، فإن كانت تحصل مع (3) المضاربة، فذاك وإلا فرضنا المضاربةَ، ونظرنا إلى حصة الحج، ثم أكملنا الحَجة الميقاتية من رأس المال، [ونُحْوَج] (4) في مثل ذلك إلى الحساب الدوري (5) ، وكل صوره يشترك فيها حسابُ رأس المال والثلث، ومن ضرورة الأخذ من رأس المال تقليلُ الثلث بعده، فالغرض الحسابي يصفو بالدور، ولعلنا نوفَّق [لجمع] (6) ضوابط حسابية [سيّالة] (7) ، وجيزة القدر -إن شاء الله تعالى- في كتاب الوصايا (8) .
ولو أوصى بأن يُحج عنه من ميقاته، حجةُ الإسلام، ولم يتعرض للثلث، والتفريع على القول الأظهر، فقد ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنه لا معنى لذكره الأمر بالإحجاج عنه إلا التذكيرُ والاستحثاث على إبراء ذمته. والثاني - أن ذلك يحمل
__________
(1) (ط) : ميقاته.
(2) المعنى أن دَفْعَ أجرة لبعض من يصل إلى الميقات كي يستأجر له أجيراً يبدأ حجه من الميقات أمر سهل قريب، أي مثل هذه الأجرة تكون زهيدة ميسورة.
(3) ط: من.
(4) في النسخ الثلاث: " نخرج " والمثبت تقدير منا؛ رعايةً للسياق.
(5) الدوري: نسبة إلى الدور، وهو توقف كلٍّ من شيئين على الآخر. وهنا يتوقف معرفة ما تتم به، الحجة على معرفة ثلث الباقي، لتعرف حصة الواجب منه، ويتوقف معرفة ثلث الباقي على معرفة ما تتم به الحجة، ولاستخراجه طرق، منها الجبر والمقابلة. (راجع شرحاً وتمثيلاً لذلك: حاشية قليوبي وعميرة: 3/174) .
(6) في الأصل، (ك) بجميع.
(7) في الأصل، (ك) : مسئلة.
(8) وفى الإمام بما وعد، ووفِّق كما ترجَّى، فقد أفاض وأفاد في شرح النماذج الحسابية في كتاب الوصايا مما استغرق مئات الصفحات، وهي بين أيدينا.(4/157)
على مزاحمة الوصايا، ليُفيد لفظُه وذكره (1) ، وهذا بعيد.
والوجهان يجريان في الأمر بقضاء ديون الآدميين، وكل ما [يخرج] (2) من رأس التركة من غير ذكر (3) .
ولست أدري أيخصون هذا الخلافَ بذكر الوصية في لفظها، أم يطردونه في الأمر المطلق؟ ولو خصصوه بذكر الوصية، لكان أقرب، مع اشتهار لفظ الوصية بالتبرعات المنحصرة في الثلث.
وإن قال: يحج عنّي من بلدي، ولم يقل من الثلث، والتفريع على أن مجرد الوصية من غير إضافةٍ إلى الثلث في الحجة الميقاتية لا يتضمن مزاحمةَ الوصايا، فإذا قال: أحجوا عني من (4) بلدي، فقدرُ الحج من الميقات مأخوذٌ من رأس المال، كما لو لم تكن وصية، ثم تقعُ (5) المزاحمة بما بين البلد والميقات للوصايا، فإن وفت الحصةُ، فذاك، وإن لم تف، فما يحصل يضم إلى ما أخذناه من رأس المال، ويُحج عنه، من حيث بلغ.
وقد ذكرنا قولين في الوصية بحَجّة التطوع، ونحن نفرّع على تصحيحها. فلا شك أنها محسوبةٌ من الثلث.
2459- ولو نذر حجةً في مرض موته، أو نذر صدقة، أو أقدم على ما يوجب كفارة، فهذه الحقوق محسوبةٌ من الثلث [وفاقاً] (6) ؛ فإن أسبابها جرت في المرض، ولو جرى النذرُ في الصحة، أو جرت أسبابُ الكفارات في الصحة (7) ، ففي محل هذه الحقوق وجهان: أحدهما - أنها من الثلث. والثاني - أنها من رأس المال.
__________
(1) أي حتى لا يكون كلامه لغواً.
(2) في الأصل، (ك) : يجري.
(3) (ط) : عذر.
(4) مكانها بياض في (ط) .
(5) ساقطة من (ط) .
(6) مزيدة من (ط) .
(7) هنا اضطراب وخرمٌ في (ك) فعبارتها هكذا: " في صحتهم، ولا يطلبون بها، ما بقوا، فإذا ماتوا سقطت حقوق الورثة، وليست كتبرعات البتات ".(4/158)
[فمن قال، إنها من رأس المال] (1) ، فوجه ذلك أنها استقرت حقوقاً في حال كمال التصرف، ومن قال: إنها من الثلث، فوجه قوله أنها لو احتسبت من رأس المال، لاتخذ الناس ذلك ذريعةً في إسقاط حقوق الورثة (2 بأن يأتوا بأسباب الكفارات في صحتهم، ولا يطالبون بها ما بقوا، فإذا ماتوا، سقطت حقوق الورثة 2) وليست كتبرعات البتات في الصحة؛ فإنه لا تهمةَ فيها، مع امتداد الحياة والصحة، وإذا بُتَّت (3) في مرضه، أو صحته، وقلنا بالاحتساب من الثلث، فلا حاجة إلى الوصية بها، تفريعاً على القول الأظهر، في أن الوصيةَ لا حاجة إليها، في أمثال هذه الحقوق؛ فإن جريان النذور بمثابةِ الوصية، وهذا لائحٌ.
2460- ومما ذكره الأئمة في آخر هذا [الباب] (4) أن الأصحاب اختلفوا في أن الوصية بحج التطوع، والوصيةَ بالعتق هل يقدمان على ما سواهما من الوصايا؟ فيهما قولان مشهوران.
ثم قال صاحب التقريب: إذا قدمنا الحجَّ والعتق على سائر الوصايا، ففي الوصية بالحج، مع العتق المحسوب من الثلث قولان: أحدهما - (5 العتق مقدم على الحج، والثاني 5) الحج مقدّم على العتق. هكذا حكاه.
ويتجه الحكم بأستوائهما، لتقابلهما باختصاص كل واحد منهما بمزية في الفقه.
والأصح أنا لا نقدم الوصيةَ بالعتق، والحج، على سائر الوصايا، ولا حاصل للتقديم، مع الانحصار في الثلث، إلا أن يوصى بتقديم (6 بعضها على بعض 6) .
فعلى هذا إذا أوصى بحجة التطوع، وحكمنا بمزاحمتها الوصايا، فإن كانت حصة
__________
(1) ساقط من الأصل. وهو ضمن الخرم المشار إليه من (ك) .
(2) ما بين القوسين ساقط من (ط) .
(3) ط، (ك) : ثبت.
(4) الأصل، (ك) : الكتاب.
(5) ساقط ما بين القوسين من (ط) .
(6) ما بين القوسين ساقط من (ط) .(4/159)
حجة التطوع وافيةً بحجةٍ من الميقات، فذاك وإن لم (1) يصب الحج ما يكفي لحجٍّ من الميقات، فتبطل وصية الحج؛ فإنه لا يتبعض، بخلاف الوصية بالعتق، فإن تحصيل بعضه ممكن، على ما سنذكره في الوصايا والعتق. إن شاء الله تعالى.
***
__________
(1) ساقطة من (ط) .(4/160)
باب تأخير الحج
قال الشافعي: " أنزلت فريضةُ الحج بعد الهجرة ... إلى آخره " (1) .
2461- مذهب الشافعي أن وجوب الحج ليس على الفور، وليس على المستطيع البدارُ إليه وعمره فسحته، ومدته؛ فإن الحج عبادةُ العمر، فكان موقعه من العمر، كموقع صلاة الظهر، من زوال الشمس إلى مصير كل شيء مثله. ولو استشعر من نفسه العَضْب، فمن أصحابنا من أوجب عليه البدارَ لهذا الاستشعار، ومنهم من لم يوجبه.
2462- ثم إذا استطاع، فأخر، فمات، فالمذهب أنه يموت عاصياً؛ فإنا لو لم نعصِّه، لأخرجنا الحجَّ عن حقيقة الوجوب.
وأبعد بعض الفقهاء فقال: لا يموت عاصياً، لأنه أخر، والتأخير مسوَّغ له، وإنما يعصي، من فعل ما ليس له فعله.
وهذا قولٌ عريٌّ عن الإحاطة بأصول الشريعة؛ فإن التأخير إنما يسوغ على خطرٍ (2) يلابسه، في عاقبة أمره، وقد ذكرتُ في فن الأصول (3) في ذلك سرّاً، فقلت: وجه وجوب الحج أن مؤخره متعرض للغرر، وهو مما يؤلم القلب، ولولا هذا، لما تحقق الوجوب. وظهر اختلاف أئمتنا في أن من أخر الصلاة [المؤقتة] (4) إلى وسط الوقت، فاخترمته المنية، فهل نقضي بأنه يلقى الله عاصياً؟ فقال قائلون: إنه يعصي كما يعصي المستطيع إذا مات، ولم يحج، وقال آخرون: لا يعصي؛ فإن التأخير،
__________
(1) ر. المختصر: 2/44.
(2) (ك) : على غير خطر.
(3) ر. البرهان في أصول الفقه: 1/168- 178 فقرة 143-161.
(4) مزيدة من (ط) .(4/161)
كان مربوطاً بوقتٍ مضبوطٍ، ومنتهى العمر لا ضبط له.
وهذا وإن ارتضاه طوائفُ من أئمة الفقه، فهو غيرُ صحيحٍ على قاعدة الأصول، ويلزم القائلَ به أن يُخرج الصلاةَ عن حقيقةِ الوجوب في أول الوقت، فالوقت للصلاة، كالعمر للحج، فإذاً ثبت أن من أخر الحج حتى مات، يلقى الله عاصياً. وما حكيناه من نفي التعصية غلطٌ غير معتد به، وقد ذكره شيخي، وبعضُ المصنفين.
[وقد] (1) قال قائلون: إنه يعصي معصيةً منسوبة إلى آخر سنةٍ من سني الإمكان.
وقال قائلون: يعصي معصيةً منبسطةً على جميع وقت الإمكان، والوجهان عندنا [لا حاصل] (2) لهما، فلا تقبض (3) المعصية، ولا تنبسط، والوجه القطع بأنه مات عاصياً، ولقي الله تعالى، على صفة العصيان. ولا معنى لأضافة العصيان إلى زمانٍ، وهذا هو الذي اختاره الصيدلاني في كتابه.
2463- ومما يجب التنبيه له أن التأخير إلى زمان العَضْب يحقق المعصيةَ في الحياة، وإن كان تحصيل الحج بطريق الاستنابة ممكناً؛ إذ لو قلنا: لا يعصي بالتأخير إلى العَضْب، لوجب أن نقول: لا يعصي بالتأخير إلى الموت، لإمكان تحصيل الحج بعده.
ومن أراد أن يتكلف توجيهاً (4) لنفي المعصية، فليكن صغوُه إلى ما نبهنا عليه (6 من إمكان تحصيل الحج بالموت (5) ، ولا ينبغي أن يغتر الفقيه بهذا؛ فإن الاستنابة في حكم بدلٍ والمباشرة 6) في حكم الأصل، ولا يجوز ترك الأصل مع القدرة عليه.
2464- ومما يتعلق بذلك، أن من أخر الحجَّ إلى العَضْب، وعصَّيناه، فعليه وقد باء بالمعصية، أن يبادر إلى الاستنابة، ولا يؤخرها، وإن كان لا يخرج عما باء به من المعصية.
__________
(1) في الأصل، (ط) : فقد.
(2) في الأصل، (ك) : تفاصيل.
(3) (ط) : تقتصر.
(4) في الأصل، (ك) : توجيههما.
(5) أي إمكان أن يُحجَّ عنه من تركته بعد موته.
(6) ما بين القوسين ساقط من (ط) .(4/162)
وفي بعض التصانيف ما يدل على أنه لا يتضيق وقت الاستنابة، حتى يقال: إذا أخرها، انضمت معصيته إلى المعصية التي باء بها بتأخير المباشرة إلى العضب، [فقد] (1) حصلنا إذاً في ذلك على وجهين.
ولا ينبغي أن يقدرَ خلافٌ فيه، إذا لم تجر قدرةٌ على المباشرة، وكان المرء في وقت استجماعه شرائط التكليف معضوباً. والوجه في حق من هذا وصفه أن يقال: الاستنابة في حقه كالمباشرة في حق القادر عليها.
وفي بعض التصانيف أن من طرأت عليه الزمانة، وأخّر الاستنابة، فهل للقاضي أن يجبره عليها، فعلى وجهين.
ثم قال صاحب التقريب (2) : الأصح أن يجبره.
وهذا خُرق (3) ؛ فإنا وإن حكمنا بتضييق وقت الاستنابة، فليس هذا مما يتعلق بتصرّف (4) الولاة، ويجوز أن يقال: الامتناع عما يتضيق في ذلك، بمثابة الامتناع عن أداء الصلاة، من غير عذر، ثم عن قضائها. وإذا جرى ذلك، فالسلطان يجبر على القضاء، فإن امتنع ضرب رقبتَه، ويجوز أن يفصل بين الصلاة والحج، فيقال: يتعلق بترك الصلاة حدٌّ، والحدود إلى الأئمة، بخلاف الحج. والله أعلم.
***
__________
(1) في الأصل، (ك) : وقد.
(2) في (ط) : التصنيف.
(3) خرق: أي جهلٌ وحمق. (المعجم) .
(4) (ط) : بتطرّق.(4/163)
باب وقت الحج والعمرة
قال الشافعي: " قال الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] ... إلى آخره " (1) .
2465- الإحرام بالحج يتأقت عندنا بشهرين: شوال، وذي القعدة، وتسعٍ من ذي الحجة.
واختلف الأئمة في أن من أنشأ الإحرام بالحج ليلةَ العيد، فهل يصح ذلك؟ فمنهم من قال: يصح؛ فإنه وقت الوقوف، وهذا هو الأصح؛ فوقت الإحرام إذاً: شهران، وتسعة أيام [وليلة] (2) .
[ومن أصحابنا] (3) من لم يصحح الإحرام ليلةَ [العيد] (4) ابتداء، وإن جعل المحرمَ قبل غروب الشمس مدركاً للحج، إذا أدرك الوقوف ليلاً، فعلى هذا: الوقتُ شهران، وتسعةُ أيامٍ، بلياليها، من ذي الحجة.
2466- ولو أحرم بالحج قبل أشهر الحج، لم ينعقد إحرامه بالحج، ولكن يصير محرماً، واختلف النص، فيما هو فيه: فقال الشافعي في موضعٍ: " انعقد إحرامه عمرةً "، وبه أجاب هاهنا. وقال في موضعٍ: " يتحلل بعمل عمرة ".
فمن أصحابنا من قال: في المسألة قولان: أحدهما - أن إحرامه يقع عمرة صحيحة، حتى لو كانت عليه عمرةُ الإسلام، سقطت عنه، إذا طاف وسعى. والثاني
__________
(1) ر. المختصر: 2/46.
(2) في الأصل، (ك) : ولياليها من ذي الحجة.
(3) ساقط من الأصل، (ك) .
(4) ساقطة من الأصل، (ك) .(4/164)
- أنه ليس بعمرة، وليس إحراماً بحج، فلا يتصف ما هو [فيه] (1) بواحد من النسكين، ولكن يلزمه إتيان مكة، لما التزمه، وتسبب (2) الإحرام به، لتأكده ولزوم حكمه.
وأقرب شيء يُشبَّه حالُه به، حالُ من أحرم بالحج، ثم فاته الوقوف. [على أنه قد يقال: من فاته الوقوف] (3) ، فهو في إحرامٍ بحجٍّ فائت، ولا يسوغ إطلاق هذا فيما نحن فيه.
وبنى بعض أصحابنا القولين على ما إذا تحرم الرجلُ بصلاة الظهر، قبل الزوال، فلا شك أن صلاته لا تنعقد ظهراً، وفي انعقادها نفلاً قولان.
وهذا القائل يزعم أن الإحرام المطلق، إذا نُزّل على أقل المراتب، فهو عمرة، فتنزيل الصلاة على النفل، كتنزيل الإحرام المرسل، على العمرة. فلو نوى الرجل الصلاةَ، ولم يتعرض لتطوعٍ، ولا فرضٍ، انعقدت صلاته نفلاً. ولو أحرم مطلقاً، في وقت إمكان الحج، فإحرامه مبهم، وله تفسيره بالحج، وتنزيله على العمرة، فإن الإحرام بالنسك، يقبل الاستبهام، وهذا غيرُ ممكن في الصلاة.
هذا منتهى الطريقة.
2467- ومن أصحابنا من قطع بأن الإحرام بالحج، قبل أشهر الحج لا ينعقد عمرة، ونصُّ الشافعي حيث [قال] (4) : " إنه محمول على العمرة "، يحمل على إطلاق الإحرام، وهذه هي الطريقة السديدة؛ فإن ذكر الخلاف في صلاة الظهر قبل الوقت، متلقًى من اعتقاد كون صلاة الظهر صلاة موصوفة، فإذا سقطت صفتها، بقيت الصلاة المطلقة. وهذا المعنى يبعد تخيله، فيما نحن فيه؛ فإن الإحرام بالحج ليس كذلك، إذ ليس عمرةً موصوفة، بصفة زائدةٍ. [و] (5) لمن سلك طريقة القولين أن يقول: إذا جاز تنزيل الإحرام المطلق على العمرة، فالذي جاء به المحرم بالحج
__________
(1) ساقط من الأصل، (ك) .
(2) (ط) وتشبث.
(3) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، (ك) .
(4) ساقط من الأصل، (ك) .
(5) زيادة من (ط) .(4/165)
إحرامٌ، وصرفٌ إلى جهةٍ، فإذا بطلت الجهة المعيّنة، بقي الإحرام.
وفي بعض التصانيف أن من أصحابنا من يقول: المحرم بالحج قبل أشهر الحج بالخيار: إن شاء صرفه إلى العمرة، جرياً على ما ذكرناه في الإحرام المعقود على الإبهام، فإنْ صرفه إلى العمرة، كانت عمرةً صحيحة، وإن لم يصرفه إليها، تحلل بعمل عُمرة. وهذا فيه بعض البعد؛ فإن الإبهام إنما يحسن عند تحقق التردد بين النسكين، ومثار هذا الإشكال من إحرامٍ ليس حجاً، ولا عمرة.
وبالجملة: لا بأس بهذا الوجه الذي حكيناه.
وهذا منتهى قولنا في وقت الحج.
2468- فأما العمرة، فلا وقت للإحرام بها، وجميع أوقات السنة صالحٌ للإحرام بها. وهي من وجهٍ كالتطوعات التي ينشط المرء لها.
ولكن في اليوم والليلة ساعات يكره إقامة التطوعات فيها، وليس في السنة وقتٌ يكره الإحرام بالعمرة فيه عندنا. فكلُّ (1) [متخلٍّ] (2) عن النسك، يبتدئ الإحرام بالعمرة، إلا الحاج العاكف بمنى، فالمعرّج على الرمي، والمبيت، فإنه يتحلل عن الحج التحللين. والأصحاب مجمعون على أنه لو أحرم بالعمرة في وقته هذا لم ينعقد إحرامه بها، فإن ما يأتي به بعد التحللين من مناسك الحج، فامتنع من الاشتغال بها الإحرامُ (3) بالعمرة، وكان من حق تلك المناسك ألا تقع إلا في زمن التحلل، وأيام التطيب، والبعال، والتحلِّي (4) مستحق في إقامتها، كما يمتنع الصوم فيها، على الأصح.
***
__________
(1) (ط) : فهل.
(2) في الأصل، (ك) : متحلل. والمعنى واحد: أي خالٍ عن الإحرام بالنسك.
(3) فاعل " امتنع "، والمعنى أن المقيم بمنى، وإن كان خالياً من علائق الإحرام بالتحللين، إلا أنه مقيم على نُسك، مشتغلٌ بإتمامه، وهو الرمي والمبيت، وهما من تمام الحج؛ فلا تنعقد عمرته ما لم يكمل حجه (قاله أبو محمد في كتابه (الفروق) ونقله عنه النووي في المجموع: 7/148) .
(4) (ط) : والتخلي.(4/166)
باب وجوب العمرة
2469- المنصوص عليه في الجديد أنه يجب على المرء عمرةٌ واحدةٌ في عمره، كما يجب عليه حَجَّةٌ في عمره. وعلق الشافعي القولَ في وجوب العمرة في القديم؛ فقال في أحد القولين: إنها سنة مستحبة. وهذا قول أبي حنيفة (1) . وتوجيه القولين في الأخبار، وقد ذكرناها في مسائل الخلاف (2) .
ومن لطيف القول في الباب: أنا إذا أوجبنا العمرةَ [لم تقم حجة مقامها، وإن اشتملت على أعمال العمرة] (3) وزادت. ونقيم الغسل مقام الوضوء.
وهذا من أصدق الأدلة -إذا أردتها- على تغاير الحج والعمرة.
***
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 59، مختصر اختلاف العلماء: 2/98 مسألة: 572، رؤوس المسائل: 251 مسألة: 144، بدائع الصنائع: 1/226، حاشية ابن عابدين: 2/151.
(2) لم يذكره في الدرّة المضية - فهو يشير إلى كتاب من كتبه الأخرى في الخلاف.
(3) ساقط من الأصل، (ك) .(4/167)
باب ما يجزئ من العمرة إذا جُمعت إلى غيرها
قال الشافعي: " ويجزئه أن يَقرُنَ (1) العمرةَ مع الحج ... إلى آخره " (2) .
2470- الحج والعمرةُ يؤدَّيان على ثلاث جهات: الإفراد، والتمتع، والقِران. فأما الأفراد، فصورته الجارية على الاعتياد في حق الغريب، أن ينتهيَ في أشهر الحج إلى ميقات جهته، فيحرمَ بالحج، ويجريَ فيه إلى انتهائه، ثم يعودَ إلى مكة بعد التحلل، ويخرج إلى أدنى الحل، ويحرم بالعمرة. هذه صورة الإفراد. وسنلحق بالإفراد صوراً، في فصل التمتع [ينخرم] (3) فيها شرائط التمتع، على ما سيأتي مشروحاً -إن شاء الله تعالى-
ولا يتأتى شرح هذه الأقسام بدفعة، فإنما يحصل شفاء الصدر من أغراضها عند نجازها، فليعتن الناظرُ بفهم ما ينتهي إليه، واثقاً بأن ما يدور في خلده بين يديه (4) .
2471- فأما التمتع، فله شرائط.
[الشرط الأول] (5)
منها أن تقع العمرة في أشهر الحج، فلو انتهى الغريب إلى ميقات بلده في رمضان، وأحرم بالعمرة، وتحلل منها، قبل هلال شوال، ثم أحرم بالحج من جوف مكة، مع أهلها؛ فإنه ليس متمتعاً، وفاقاً.
__________
(1) قرن من باب قتل، وفي لغة من باب ضرب. (مصباح) .
(2) ر. المختصر: 2/49، 50.
(3) في الأصل، (ك) : يتحرم.
(4) أي أمامه، وهذا من منهج إمام الحرمين: أن يبين في أول الباب خطته وطريقته.
(5) زيادة من عمل المحقق.(4/168)
ومما يتعين الاعتناء بفهمه في صور أحكام التمتع: أن المعتبر فيه أمران: أحدهما - وقوع العمرة في أشهر الحج، وكان ذلك في مرتبة المستنكرات؛ إذ كان الناس يَرَوْن أن أشهر الحج لا تُشغل إلا بالحج، ولا يُزحم الحج بالعمرة، في وقت إمكان الحج، فورد التمتعُ في حكم الرخصة، وجُوِّز للناس إيقاعُ العمرة في أشهر الحج، وكأن السبب في الرخصة أن الغريب كان يرد مكة، قبل عرفةَ بأيام، وكان يعسُر عليه استدامةُ الإحرام بالحج، ولا (1) يجد سبيلاً إلى مجاوزة الميقات، الذي ينتهي إليه في جهته، فجوز له أن يحرم بالعمرة، ويتحلل عنها، على شرط الشرع، ويبقى بمكة متحللاً، ثم يُحرم بالحج، من جوف مكة. هذا أحد الأمرين.
والثاني - أن الغريب لو أحرم بالحج، من ميقاته الذي انتهى إليه، لكان يحرم بالعمرة، بعد نجاز الحج من ميقات العمرة، وهو أَدْنى الحل. وإذا أحرم بالعمرة متمتعاًً، فقد ربح أحدَ الميقاتين في أحد النسكين.
فينبغي أن يكون هذان الأمران على ذُكرٍ من الناظر في هذه المسائل.
فإذا أوقع العمرة بتمامها في شهر رمضان، لم يكن متمتعاًً.
ولو أحرم بها في شهر رمضان، وأوقع جميع أفعالها في شوال، فهل يكون متمتعاًً؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - لا يكون متمتعاًً، لأنه لم يزحَم الحجَّ بإحرامه، والأصل الإحرام، والأعمالُ وفاءٌ به، فكان كما لو أوقع العمرة في شهر رمضان.
والثاني - أنه يكون متمتعاًً؛ لأن المقصود من العمرة أفعالُها، والإحرام رابطةٌ لها، وقد وقعت الأفعال في أشهر الحج.
وحكى الأئمةُ وجهاً ثالثاً، عن ابن سريج: أنه قال: إن عاد، فمرّ على الميقات محرماً، بعد هلال شوال، أو كان مقيماً به، حتى دخل شوال، فهو متمتعٌ؛ نظراً إلى حصوله بالميقات محرماً، في أشهر الحج. وإن كان جاوز الميقات محرماً، في رمضان، واستمر، ولم يعد، لم يكن متمتعاً.
__________
(1) (ط) : ولم.(4/169)
وهذا الخلاف والأفعالُ واقعةٌ في أشهر الحج.
فأما إذا أوقع شيئاً منها في رمضان، فإن قلنا: وقوع الإحرام في رمضان يخرجه عن كونه متمتعاًً، فهذه الصورة أولى بذلك، وإن قلنا: وقوع الإحرام في شهر رمضان (1) لا يخرجه عن التمتع، ففي [هذه] (2) الصورة وجهان: أحدهما - أنه ليس متمتعاًً؛ لأنه جمع بين الإحرام، وهو القصد، وبين إيقاع المقصود، فأوقعهما في رمضان. وهذا القائل يقول: لو أوقع بعضاً من أشواط الطواف في رمضان، لم يكن متمتعاًً.
والوجه الثاني - أنه متمتع؛ لأنه صادف الأشهر، وهو محرم بالعمرة؛ فحصلت المزاحمة، التي أشرنا إليها. وهذا القائل يقول: لو أوقع في الأشهر [وهو محرم] (3) الحلقَ على قولينا: إنه نسك، كفى ذلك، في كونه متمتعاًً.
فهذا بيان هذا الشرط.
2472- وفي إتمام القول فيه شيءٌ، لا يطلع على حقيقة [الفصل] (4) من لم يعرفه، فنقول: إذا أوقع العمرة بتمامها في رمضان، وقلنا: إنه ليس متمتعاًً، فلا شك أنا نجعله مفرداً، ولا يلزمه دم التمتع؛ إذ لا تمتع، وهل يلزمه دم الإساءة؟ اضطرب الأئمة فيه، فكان شيخي يقطع بوجوب دم الإساءة من جهة أن الغريب ربح ميقاتاً، على ما سبق التنبيه عليه، ودم الإساءة يجب بسبب الإخلال بالميقات.
وذهب المحققون إلى أنه لا يلزم دمُ الإساءة؛ فإن المسيء من ينتهي إلى ميقاتٍ، وهو على قصد النسك، فيجاوزه، وهو غير محرم، وهذا لم يتحقق ممن جاوز الميقات، محرماً بالعمرة، وأما الحج، فقد أتى به من ميقاتٍ انتهى إليه، وهو مكة، فإيجاب دم الإساءة بعيد.
والذي يحقق ذلك أن المسيء منهيٌّ عن صورة فعله، ثم إذا فعله، ففعله مقابل
__________
(1) (ط) في أشهر الحج. (وهو وهمٌ مخالف للسياق) .
(2) مزيدة من (ط) .
(3) زيادة من (ط) .
(4) في الأصل، (ك) : القصد.(4/170)
بكفارة، ومن تحرم بالعمرة في رمضان، ليس مرتكباً نهياً، ولا مخالفاً أمراً، فتقديره مسيئاً، لا وجه له. والمتمتع إذا تجمعت له الشرائط، ليس مسيئاً، ولكنه مُزاحِمٌ للحج، ورابحٌ ميقاتاً، فكان السببان مقتضيين للدم، مع الترخيص في الإقدام على موجِب الدم.
ومن هذا ينشأ اختلاف العلماء في أن دم التمتع دمُ جبران، أو دمُ نسك، فرآه الشافعي دمَ جبران، ومعتمده في تصوير النقصان المحوِج إلى الجبران المزاحمةُ ورِبح ميقات.
وقال أبو حنيفة (1) : إنه دم نسك، وإنما حمله على ذلك، أنه لم ير في أعمال التمتع نقصاناً، يقتضي جُبراناً. فليفهم الناظر وقع الكلام. هذا قولينا في شرط واحد من شرائط التمتع.
[الشرط الثاني] (2)
2473- والثاني أن يقع الحج والعمرة في سنةٍ واحدة، فلو اعتمر الغريب من ميقاته، ولم يحج في تلك السنة أصلاً، وأقام بمكة، وحج في السنة القابلة؛ فإنه ليس متمتعاًً، ولكل سنة حكمُها، وما أجريناه في أثناء الكلام من مزاحمة الحج بالعمرة، فهو مشروط باتفاق الجج في تلك السنة. وهذا كما أن المسيء من يمرّ على الميقات ناوياً نسكاً، مع ترك حق الميقات، فإذا جمعت السَّنةُ العمرةَ والحجَّ، وتقدمت العمرة، كان ذلك خلاف النظم المألوف، في النسكين.
ثم الغريب إذا دخل مكة معتمراً، وحج في السنة القابلة، فهو مفردٌ [غير] (3) مسيء بلا خلاف. ولو أقام بمكة، سنين، وكان يحج كل سنةٍ، من مكة، فلا إساءة، ولا دم؛ فإنه ينشئ الحج، كل سنة، من ميقاتٍ، هو عاكف عليه. وهذا لا خفاء به.
__________
(1) ر. بدائع الصنائع: 2/174، البحر الرائق: 2/387، حاشية ابن عابدين: 2/193.
(2) زيادة من عمل المحقق.
(3) مزيدة من (ط) .(4/171)
ولكن لا ينبغي، أن [يُتَبَرَّمَ] (1) بذكر الجليات في المناسك، فإنها قُربٌ غيرُ مألوفة، لمعظم الناس، وتركُ الجليّ فيها يَجرّ عَماية.
وحكى العراقيون عن ابن خَيْران (2) أنه كان يشترط أن تقع العمرةُ والحج في شهر واحد، وهذا مزيَّف لا أصل له، من جهة التوقيف، ولا من جهة المعنى.
[الشرط الثالث] (3)
2474- والثالث من الشرائط: أن لا يكون المتمتع من حاضري المسجد الحرام، ولما ذكر الله تعالى التمتع وحكمَه، قال: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] ثم اضطرب العلماء في معنى الحاضر، فقال مالك (4) : هو ساكنُ مكة، أو الحرم، وإن لم يكن عمران مكة متصلاً به.
وقال أبو حنيفة (5) : الحاضر، من هو على ميقاتٍ من المواقيت، فجعل المقيمَ بذي الحُلَيفةَ من حاضري المسجد الحرام، وبينه وبينه تسعون فرسخاً ونيِّف.
واعتبر الشافعي في ذلك مسافةَ القصر، فقال: من كان على مسافة القصر [من مكةَ، فليس من الحاضرين، ويتأتى منه التمتع، ويلزمه دمُه، ومن كان منزله من مكة على مسافةٍ، تقصر عن مسافة القصر] (6) ، فهو من الحاضرين؛ فلا يلزمه دمُ التمتع، إذا أحرم بالعمرة، من مسكنه، ثم أحرم بالحج، من جوف مكة. ثم لا خلاف أنا كما لا (7) نلزمه دمَ التمتع، لا نُلزِمه دماً آخر.
فإن قيل: قد وُجدت منه المزاحمة، وتقديم العمرة. قلنا: كأنا نعتبر في إلزام دم
__________
(1) في الأصل، (ك) : يلتزم.
(2) سبقت ترجمة ابن خيران في كتاب الطهارة، فقرة 99.
(3) زيادة من المحقق.
(4) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/465 مسألة 725.
(5) ر. مختصر الطحاوي: 60، بدائع الصنائع: 2/169.
(6) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، (ك) .
(7) سقطت من (ط) .(4/172)
التمتع أن يشغلَ ميقاتاً، بالغاً مسافة القصر، بإحرامِ العمرة، فإذا كان منزله على مسافةٍ قريبةٍ -وحدّ القرب ما ذكرناه- فهو كالمكّي، والمكي إذا قدّم العمرةَ على الحج، ثم أحرم بالحج، من جوف مكة، فالذي جاء به على صورةِ التمتع، ولا يلزمه شيء (1 أصلاً، فكذلك من قربت مسافته، إذا أحرم بالعمرة من وطنه، ثم أحرم بالحج من جوف مكة، فلا يلزمه شيء 1) .
2475- وقد يرد على من يعتمد مسلك المعنى سؤال، فيقال (2) : من كان مسكنه دون ميقاتٍ، وكان من حاضري المسجد الحرام، كما وصفناه، فلو قصد مكةَ ناوياً نسكاً، وجاوز مسكنَه وقريته، غيرَ محرم، فهو مسيء ملتزم دمَ الإساءة، وفاقاً. ولو لم تكن المسافة محتفلاً بها، لقيل: هو من أهل مكة، فلا يلزمه شيء إذا أحرم من مكة. والسبيل في الجواب، أن يقال: مسلك المعنى لا يكاد [يتجرد] (3) في هذه القاعدة، والتعويل على التنزيل، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم ما وجدنا إليهما سبيلاً، وقد قال تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] فرأى الشافعي من قربت المسافة بين وطنه وبين مكة، معدوداً من المتصلين بالحرم، وأدرجه في اسم الحاضرين.
وبالجملة لا يشهد لوجوب دم التمتع معنىً مستقلٌّ صحيحٌ على [السَّبْر] (4) ، وقد أحيا كل ميقات بنسك، ولكن ثبت دم التمتع نصَّاً، فاتبعناه، وتكلفنا على بعدٍ معناه، فإذا عدمنا ما تخيلناه من الشرائط، فلا غموض في نفي وجوب الدم.
وأما من يدخل مكة مُحلاً، وهو على قصد النسك [فهذا] (5) تركٌ منه لحق وطنه، وحق الحرم.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ك) .
(2) في الأصل، (ك) : فيقال له (بزيادة " له ") ولا معنى لها، فهو سائل: أي يقال على لسانه، ولا يقال له.
(3) في الأصل، (ك) : يتجرى.
(4) في الأصل، (ك) : السنن.
(5) ساقطة من الأصل، (ك) .(4/173)
فهذا منتهى القول في ذلك. وإذا بلغ [طلبُ] (1) الفقيه في فصلٍ منتهاه، لم يكن من مخايل رشده طلب شيء سواه.
فرع:
2476- الغريب الآفاقي (2) إذا انتهى إلى ميقات فجاوزه، وكان لا يبغي إذ ذاك الإحرام، ودخول الحرم، فلما تعدّاه، وقرب من مكةَ، بدا له أن يحرم بالعمرة، ثم يحرمَ بعدها بالحج، من جوف مكة، على صورة التمتع، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه يلزمه دم التمتع؛ [لأنه غريب أتى بصورة التمتع] (3) والثاني - لا يلزمه؛ فإنه لم يلتزم الإحرام، وهو على مسافة بعيدة، وإذ خطر له أن يحرم، كان على مسافة أهل تلك البقعة، إذا كان بها ناس يعدون من حاضري المسجد.
والذي يجب إمالة (4) الفتوى إليه إيجاب الدم، فإنه يسمى متمتعاًً، ولا يسمى من حاضري المسجد الحرام. وأسعد المذاهب في هذه المراتب، ما يعتضد بقول الشارع.
فرع:
2477- إذا كان لرجل مسكنان، أحدهما على مسافة القصر، والثاني دونها، فإن كان أكثر سكناه في القريب، فهو من الحاضرين، وإن كان أكثر سكناه في المسكن البعيد، فهو غريبٌ متمتع.
وإن كان يسكنهما على استواء، وكان أهله بأحدهما، فهو منسوب إليه، وإن استويا في كل وجه، فقد قال صاحب التقريب، وغيره: ينظر إلى الموضع الذي يُحرم منه، ويثبت له حكم ذلك الموضع، قريباً كان، أو بعيداً.
ولعلنا نعود إلى هذه الصورة في باب المواقيت، ونستقصي فيه تمامَ البيان.
__________
(1) مزيدة من (ط) .
(2) الآفاقي: نسبة إلى الجمع على غير قياس. قال النووي في تهذيبه: " وأما قول الغزالي، وغيره في كتاب الحج: الحاج الآفاقي، فمنكر؛ فإن الجمع إذا لم يسم به لا ينسب إليه، وإنما ينسب إلى واحده " ا. هـ.
ومن الطريف أن مجمع اللغة العربية في عصرنا هذا (منذ نحو ثلاثين سنة) أجاز النسبة إلور الجمع، فيقال: صحفي، ومراكبي.
(3) ساقطة من الأصل، (ك) .
(4) (ط) : إحالة.(4/174)
[الشرط الرابع] (1)
2478- الشرط الرابع في التمتع أن يحرم الغريب بالحج من جوف مكة، فلو رجع إلى ميقاته، وأحرم بالحج منه، فليس متمتعاًً، ولا يلزمه شيء، وكذلك لو رجع إلى مسافة ميقاته؛ فإن أعيان المواقيت ليست مقصودة، وإنما المقصود منها مسافاتها (2) ، التي تُقطع على صفة الإحرام.
ثم كما لا يلزم دم التمتع، لا يلزم دم الإساءة، لا شك فيه. ومجرد تقديم العمرة في أشهر الحج على الحج، لا يوجب دماً.
ولو أحرم الغريب بالحج، من جوف مكةَ، بعد الفراغ من العمرة، ثم رجع إلى ميقات بلده محرماً، ومرّ عليه عابراً إلى الحرم، ففي سقوط دم الإساءة قولان معروفان، سيأتي توجيههما، وتفريعهما، إن شاء الله تعالى.
ولو كان ميقات الغريب القادمِ بعمرةٍ الجُحفةَ، وهي على خمسين فرسخاً من مكة، فلما تحلل عن العمرة، عادَ إلى ذات عرق، أو إلى مرحلتين في جهةٍ، لا ميقات فيها، وأحرم بالحج من تلك المسافة، فقد اختلف الأئمة في هذه المسألة، فذهب بعضهم إلى أن دمَ التمتع لا يسقط عنه بهذا؛ فإنه لم يعد إلى ميقاته، ولا إلى مسافة ميقاته، وكان يُحرم بالحج من الجُحفة، لو أفرد، فليعد إلى مسافتها.
والوجه الثاني - وهو اختيار القفال، فيما حكاه الصيدلاني: أنه يسقط عنه دم التمتع؛ من جهة أنه أحرم من موضعٍ، لا يكون ساكنوه من حاضري المسجد الحرام.
وهذا [يتجه] (3) بأن يجدد الإنسان عهدَه بخروج دم التمتع عن قاعدة القياس؛ فإن إلزام الدم، وقد أحيا الغريبُ كل ميقات بنسكٍ، فيه بُعدٌ، من جهة المعنى. فإذا أحرم بالحج من مسافة القصر، فلا نظر إلى الميقات الطويل الذي أحرم منه معتمراً،
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) (ط) : مسافة.
(3) في الأصل، (ك) : متجه.(4/175)
وإنما النظر إلى خروجه (1) عن صفة المتمتعين.
فرع (2) :
2479- الغريب إذا دخل مكة معتمراً على صورة المتمتع [ثم] (3) نوى [في تلك السنة] (4) أن يستوطن مكة، وأحرم من جوف مكة، فلا يسقط دم التمتع عنه وفاقاً، وإن (5) صار في هذه السنة من سكان مكة؛ لأنه لما جاوز ميقات بلده غيرَ محرم بالحج، فقد التزم أحد الأمرين في هذه السنة، إما أن يعود، فيحرم بالحج، وإما أن يلتزم دمَ التمتع، فإذا نوى الاستيطان، لم يسقط ما جرى في هذه السنة التزامُه. ولو استمر، ولم يتفق خروجُه من مكة، لفقدان الرفاق، فأحرم بالحج من جوف مكة، مع أهلها، فلا يلزمه في السنة الثانية شيء؛ فإنه [لم] (6) يمرّ فيها على ميقاتٍ غير مكة.
فهذا وجه [الكشف] (7) في ذلك.
وقد انتهى ما يعوّل عليه من شرائط التمتع.
[الشرط الخامس] (8)
[غيرُ مُسلَّم]
2480- وذكر الخِضري شرطاً خامساً، عن بعض الأصحاب، فقال: ينبغي أن يقع النسكان عن شخصٍ واحد، حتى [لو] (9) كان أجيراً، استأجره شخص على العمرة،
__________
(1) (ط) : الخروج.
(2) في الأصل، (ك) : فصلٌ (مكان فرع) ورجحنا (فرع) لأن موضوع الفصل لم يتم بعد.
(3) مزيدة من (ط) .
(4) زيادة عن (ط) .
(5) (ط) : وإذا.
(6) زيادة من (ط) .
(7) في الأصل، (ك) : الكسب.
(8) زيادة من المحقق.
(9) مزيدة من (ط) .(4/176)
فاعتمر عن مستأجِرِه من ميقات جهته، ثم أحرم بالحج من جوف مكة عن نفسه، فلا يكون متمتعاًً.
وهذا خيال فاسد، مشعرٌ بخلوّ صاحبه عن مدار الباب، وحقيقتِه، فحق مسائل الباب أن تُتلقى مما قدمنا ذكره، من مزاحمة الحج بالعمرة، في الميقات الذي إليه الانتهاء، مع ربح أحد الميقاتين، كما قررناه. ولا أثر [بعد] (1) هذا لوقوع النسكين عن شخصٍ، أو شخصين.
ثم إذا جرينا على الأصح، فهو متمتع.
2481- وإن لم نجعله متمتعاً، فهل نجعله مسيئاً، حتى نُلزمه دم الإساءة؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه مسيءٌ، ملتزمٌ؛ فإنه مُخلّ بالترتيب، مُخْلٍ ميقاتَه البعيد، عن نسك الحج، مع إمكانه. والثاني - إنه ليس بمسيء؛ فإنه لم يُخْلِ ميقاتاً عن نسك، وقد ذكرنا قريباً من هذا: الخلافَ فيه إذا أوقع العمرة في رمضانَ، ثم أحرم بالحج من جوف مكة، فليس هو متمتعاًً. وهل يلزمه دم الإساءة؟ فعلى خلافٍ قدمناه.
والأصح في الصورة المتقدمة أن لا يلزم الدم؛ فإنه قد أحيا الميقات بعمرة، حين لم يكن الحج والإحرام به ممكناً، فلم ينتسب إلى تقصير. وفي المسألة الأخيرة قد أتى بالعمرة في وقت إمكان الحج، ثم أخل بشرائط التمتع، [فإذا لم يجب دم التمتع] (2) فيبعد أن لا يجب شيء آخر. فإن لم نجعله مسيئاً، فلا كلام، ولا ينقدح من ترك الشرط إلاّ فواتُ فضيلة التمتع، إن جعلناه أفضل -في قول- من الإفراد. وإن جعلناه مسيئاً، فلا يلزمه إلاّ دمٌ.
ويبقى فرقان: أحدهما - أنا لا نلزم المتمتع الرجوعَ إلى الميقات، ونلزم المسيء ذلك؛ فإن لم يفعل جَبَر ما تركه بدم. والآخر- أنه تاركٌ فضيلةَ التمتع، على ما ذكرناه.
وتمام البيان في ذلك: أنه إذا عاد إلى الميقات -على قولينا: إنه مسيء- ففي
__________
(1) في الأصل، (ك) : مع.
(2) زيادة من (ك) .(4/177)
سقوط [دم] (1) الإساءة عنه قولان؛ [فإن المسيء إذا تعلق بالحرم، ثم عاد، وأحرم، ففي سقوط الدم عنه قولان] (2) ، والمتمتع يسقط عنه دم التمتع، قولاً واحداً، إذا عاد إلى الميقات، كما تقدم ذكره. وإنما ألزمنا هذا الخبطَ، من تفريعنا على وجهٍ ضعيفٍ، لا أصل له، وهو ما حكاه الخِضْري.
[الشرط السادس] (3)
[غير مُسلَّم]
2482- وذكر بعض الأصحاب شرطاً سادساً فقال من شرائط التمتع والاعتداد به على الصحة النيةُ.
وهذا مع اشتهاره مردود عند كافة المحققين، ولا يصير إليه إلاّ عريٌّ عن تحصيل مقصود الباب؛ فإن مبنى الباب على ما قدمناه من المزاحمة، وربح أحد السَّفْرتين، وعلى اتباع قول الشارع، ولا أثر لنية التمتع، فيما ذكرناه. وسيزداد هذا الوجه ضعفاً، إذا فرعناه، وإنما التفت من اشترط النية إلى الجمع بين الصلاتين؛ فإن النية شرطٌ في جمع التقديم، على ظاهر المذهب. وليس يشبه ما نحن فيه الجمعُ؛ فإن من يقدم صلاة العصر على وقتها، فإنه مغيّر لوضعه المألوف في الشرع، وتقديم العبادات البدنية على أوقاتها بعيدٌ عن قياس موضوع الشرع، وليس يتحقق مثل ذلك في النُّسُكَين.
2483- فإن لم نشترط النية، فلا كلام وإن شرطناها، فقد ذكر العراقيون، وغيرُهم ثلاثةَ أوجه في وقت النية: أحدها - أن وقتها عند الشروع في العمرة، كوقت نية الجمع من صلاة الظهر، في حق من يجمع بينها وبين صلاة العصر.
والثاني - أن ذلك وقتها، ثم يمتد إلى التحلل، من العمرة. ولهذا نظيرٌ في نية
__________
(1) مزيدة من (ط) .
(2) ساقط من الأصل (وحدها) .
(3) زيادة من المحقق.(4/178)
الجمع. الثالث - أن ما قدمناه [وقتها] (1) ويمتد إلى [ما] (2) قبل الشروع في الحج. وهذا يناظر مذهبَ المزني في وقت نية الجمع بين الصلاتين، فإنه قال: ينوي الجامع ما بين الفراغ من الأولى، والشروع في الثانية. و (3 تفريع هذا الخلاف في وقت النية، يُبيّن نهايةَ ضعف الأصل.
نعم، لو 3) قال قائل: لو لم يكن المنتهي إلى الميقات على قصد الحج، أو كان خطر له أن يقتصر في هذه السنة على العمرة، ثم اتفق منه الحج، فلا دم عليه، قياساً على من تجاوز ميقاتَه، وهو لا يقصد النسك.
وإن كان على قصد الحج، فأتى بالعمرة، فقد قدّم أدنى النسكين، وأتى به من أطول الميقاتين، فيلتزم دماً لقصده، فكان هذا قريباً من مأخذ المناسك.
ثم هذا يقتضي القطعَ باعتبار وقت الخوض في العمرة، وليس هو نية قُربة، وإنما هو قصدٌ مخصوص، يناط به حكمٌ، وذِكْر الأصحاب الأوجُهَ في وقت النية، يدل على إضرابهم عما نبهنا عليه.
ثم إن فرعنا على مسلك الأصحاب في النية، فلو ترك النيةَ، فقد قيل: إنه مسيء بتركه شرطَ التمتع، وقد ذكرنا أمثال هذا.
2484- وإن قال بما ذكرناه قائل: في أن القصد هو المرعي، فالوجه أن نقول: إن قصد التمتعَ، التزم دمَ التمتع، وإن لم يقصد، فلا شيء عليه، فإن قيل: هذا يؤدي إلى إثبات ذريعة في إسقاط دم التمتع، قلنا: [هذا خُرق من قائله] (4) ؛ فإن القصود لا تلبيس فيها، وإنما [يبدي] (5) المرء خلاف ما يضمره، فأما قصوده، فلا قدرة على تغييرها.
__________
(1) في النسخ الثلاث: وقت. والمثبت تقديرٌ منا. رعاية للسياق.
(2) مزيدة من (ط) .
(3) ما بين القوسين ساقط من (ك) .
(4) ساقط من الأصل.
(5) في الأصل: يدري.(4/179)
فرع:
2485- الغريب إذا تمتع بالعمرة إلى الحج، على الشرائط التي ذكرناها، فإنه يُحرم بالحج من جوف مكة.
ثم اختلف الأئمة في المكان الذي يستحب له الإحرام منه، فذهب بعضهم إلى أن [الأولى أن] (1) يبتدئ الإحرام من الموضع الذي هو نازله، ثم يدخل المسجدَ محرماً.
ومنهم من قال: الأولى أن يغتسل ويتأهب، ويدخل المسجد، ويحرم، عند البيت.
وقد نُعيد هذا في باب المواقيت.
فلو جاوز مكةَ والحرمَ، ثم أحرم بالحج، فهو متمتع مسيء، فيلزمه دمُ التمتع، لاستجماعه شرائطَه، ويلزمه دم الإساءة لمجاوزته ميقاتَ حجه، قطع بذلك العراقيون.
وتعليلُه تعدُّد السبب الموجب للدم. ولا وجه إلا ما ذكروه.
وهو بمثابة ما لو جاوز ميقات بلده غير محرم، ثم يحرم بالعمرة، ويتمادى على صفة التمتع، فيلزمه دم التمتع، ودم الإساءة جميعاً.
فإن قيل: دمُ التمتع دمُ جبران، والنقصان آيل إلى الميقات، فهلا وقع الاكتفاءُ به؟ قلنا: ما قدمنا ذكره من النقصان، ليس من قبيل الإساءة، ووجوه النقصان في النسك شتَّى، والذي يُحقِّق ما ذكرناه أن دم التمتع، وما يتعلق به من بدل، قد يخالف دمَ الإساءة، فوضح تباينهما.
وقد نجز غرضنا في تصوير التمتع، والإفراد.
2486- فأما الجهة الثالثة في أداء النسكين، فالقِران.
ولتصويره وجهان: أحدهما - أن يحرم الرجل بهما جميعاً.
ْوالثاني - أن يدخل أحد النسكين في الآخر.
__________
(1) ساقط من الأصل.(4/180)
فإن أحرم بالعمرة أولاً، ثم أحرم بالحج، نُظر: فإن كان الإحرام بالحج قبل أن يأتي بشيء من أعمال العمرة، صار قارناً، ولا حاجة إلى نية القِران وفاقاً، وهذا يؤكد فسادَ قول من يقول: لابد من النية في التمتع.
وإن اشتغل بشيء من أعمال العمرة [مثل] (1) أن يخوض في الطواف، فقد انسد (2) إمكان القِران، فلو أحرم والحالة هذه بالحج، لم ينعقد إحرامه، ولغا عقده.
فأما إذا أحرم بالحج أولاً، ثم أحرم بالعمرة، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنه لا يصح إحرامه بالعمرة، والثاني - يصح.
من قال بالصحة، احتج بإدخال الحج على العمرة، ومن منع (3) ، استدل بأن العمرة مستغرَقة في الحج، من جهة الأعمال، فلا يتجدد على الحاج عمل، بتقدير إدخال العمرة، وليس كإدخال الحج على العمرة.
وهذا (4) يرد عليه الإحرام بالنسكين معاً.
فإن جرينا على الأصح، وهو جواز إدخال العمرة على الحج، فإلى متى يجوزِ ذلك؟ فعلى أوجهٍ: أحدها -[أنه] (5) يجوز ما لم ينقرض زمان الوقوف؛ فإن إدراكَ الحج، وفواتَه، منوطان بالوقوف، وهو حالٌّ محلّ المعظم. وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: " الحج عرفة " (6) .
__________
(1) في الأصل: " قبل "، والمثبت من (ط) ، (ك) .
(2) (ط) : أفسد.
(3) ساقطة من: (ط) .
(4) (ط) : فهذا.
(5) مزيدة من (ط) .
(6) حديث الحج عرفة رواه أحمد وأصحاب السنن وابن حبان والحاكم والدارقطني والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن يعمر (أبو داود: المناسك، باب من لم يدرك عرفة، ح 1949، الترمذي: الحج، باب ما جاء فيمن أدرك الإمام بجَمْع فقد أدرك الحج، ح 889، النسائي: مناسك الحج، باب فيمن لم يُدرك صلاة الصبح مع الإمام بمزدلفة، ح 3044، ابن ماجة: المناسك، باب من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع، ح 3015، التلخيص 2/487 ح 1048) .(4/181)
ومن أصحابنا من يقول: إذا مضى من الحج ركنٌ، امتنع الإحرام بعده بالعمرة، فإذا دخل الحاج مكة، قبل يوم عرفة، وطاف طواف القدوم، وسعى، فالسعي يقع ركناً، فلو أحرم بالعمرة، لم ينعقد، [وان لم يأت بركن أصلاً] (1) ، ينعقد إحرامه بالعمرة، ويصير قارناً؛ فعلى هذا لو طاف [طواف] (2) القدوم، وأحرم بالعمرة، قبل الاشتغال بالسعي، صح، وصار قارناً؛ فإن طواف القدوم ليس من الأركان.
ومن أصحابنا من قال: يصح الإحرام بالعمرة، ما لم يأت الحاج، بعملٍ من أعمال الحج، سوى الإحرام، فإن طاف طواف القدوم، ثم أحرم بالعمرة على هذا الوجه، لم ينعقد إحرامه بها. وهذا القائل لا يَعُدّ التلبيةَ من الأعمال المؤثرة.
ومن أصحابنا من قال: ينعقد الإحرام بالعمرة، ما لم يشتغل بشيء من أسباب التحلل، على ما سيأتي شرحها، إن شاء الله تعالى.
2487- فإن قيل: [قطعتم] (3) القول بأن الإحرام بالحج لا ينعقد، مع الخوض في شيء من أعمال العمرة، وردَّدتُم المذهبَ في إدخال العمرة على الحج.
قلنا: السبب فيه: أن جميع أعمال المعتمر أسبابُ التحلل، ولهذا يتحلل من فاته الحج، بأعمال المعتمر. وكذلك من أحرم بالحج في غير أشهر الحج، وقلنا: إنه ليس معتمراً، فإنه يلقى البيتَ بعملِ معتمرٍ.
2488- وتمام البيان فيما نحن فيه: [أنا] (4) على الوجه الأخير إذا اعتبرنا التحلّلَ، نقول: إذا اشتغل الحاج صبيحة يوم النحر برمي جمرةِ العقبة، فإذا رمى حصاةً، امتنع الإحرام بالعمرة، وإن كان التحلل الأول لا يحصل برمي حصاةٍ واحدة، ولكن الاشتغال بالتحلل في حكم استفتاح قطع العبادة، فكفى في منع الإحرام افتتاحُ القطع، وإن لم يتم بعدُ، ولهذا قلنا: لا يدخل الحجة على العمرة، إذا اشتغل المعتمر بالطواف، وإن لم يفرغ منه.
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) مزيدة من (ط) ، (ك) .
(3) في الأصل: معظم.
(4) في الأصل: أما.(4/182)
فهذا بيان تصوير القِران.
2489- وعلى القارن دمٌ، صفتهُ وصفة بدله، كصفة دم التمتع، كما سنذكره.
ثم إنما يلتزم القارن الدمَ إذا كان غريباً.
فأما إذا قرن المكي، فلا يلزمه شيء، كما لا يلزمه بصورة التمتع شيء، وهذا متفق عليه. والسبب فيه أن المكي إذا أتى بصورة التمتع، فإنه يحرم بالعمرة من أدنى الحل، ويحرم بالحج من جوف مكة، فقد أتى بالنسكين من ميقاتهما، فقيل: لا دَم عليه. وإذا قرن، فالذي لم يأت به في ظاهر الحال العمرةُ من الحل، وهذا لا مبالاة به؛ فإنه سيخرج من الحرم، وينتهي إلى الحل، فيصير جامعاً بين الحل والحرم.
ومن ظن سبب وجوب الدم على القارن الغريب أنه يقتصر (1) على طواف واحد وسعْيٍ واحد، فقد أبعد، فإنا لو قلنا ذلك، لكنا قائلين بأن سقوط الأركان مقابل بجبران، وهذا محالٌ.
فإن قيل: الغريب أيضاًً يجمع بين الحل والحرم، فأسقطوا عنه الدمَ. قلنا: ميقاته الأصلي الحلُّ، ولا أثر للحرم في حقه في حكم الميقات، فقد تعدد نسكه، واتحد ميقاته.
ولو دخل الغريب (2) القارنُ مكةَ، قبل يوم عرفة، ثم عاد إلى ميقاته لأجل الحج، فهل يكون عوده، وهو قارن بمثابة عود الغريب المتمتع؟ قلنا: نذكر صورة في المتمتع، ثم نعود إلى ذلك.
فإذا تحلل الغريب المتمتع من عمرته، وأحرم بالحج من جوف مكة، ثم عاد محرماً إلى ميقاته، ففي سقوط دم التمتع عنه وجهان، مبنيان على الوجهين فيه إذا جاوز من يريد النسك ميقاتَه، وأحرم مجاوزاً، وعاد إلى الميقات محرماً، ففي سقوط دم الإساءة خلافٌ سيأتي في موضعه، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) (ط) : مقتصر.
(2) ساقطة من (ك) .(4/183)
2490- رجعنا (1) إلى القارن في [الصورة] (2) التي ذكرناها، وهي إذا عاد القارن إلى ميقاته، فإن قلنا: المتمتع إذا عاد بعد الإحرام من مكة، لا يسقط الدم عنه، فالقارن العائد (3) بذلك أولى، وإن قلنا: يسقط الدم عن المتمتع في الصورة التي ذكرناها، ففي سقوط الدم عن القارن، إذا عاد وجهان، ذكرهما الصيدلاني وغيرُه: أحدهما - أنه يسقط دم القران، وهو قياسٌ بيّن. والثاني - لا يسقط؛ فإن القارن في حكم متمسك بنسك [واحد] (4) ، فلا وقع لعوده، واسم القِران باقٍ لا يزول، والتمتع يزول بالعَوْد إلى الميقات، وهذا كان يحسن وقعُه لو أوجبنا الكفارة على المكّي إذا قرن، وفرقنا بين صورة التمتع منه، وبين صورة القِران، وليس الأمر كذلك؛ فإن انتفاء الكفارة عن المكي في القِران متفق عليه.
وقد قال الشافعي في أثناء كلامه، في هذه المسائل: " والقارن أخف حالاً من المتمتع " واختلف الأئمة في تفسير لفظه: فقيل: أراد به الردَّ على مالك (5) ؛ فإنه أوجب على القارن بدنة، وعلى المتمتع شاة، فقال ردّاً عليه: الغريب القارن أتى بنسكيه (6) من ميقات بلده، والمتمتع يأتي بالحج من ميقات غيره، فالقارن أخف حالاً فيما يتعلق بأمر الميقات، فلا ينبغي أن تزيد كفارته على كفارة المتمتع.
وقيل: أراد الشافعي الردّ على داود (7) ؛ فإنه قال: لا شيء على القارن، وإنما الكفارة على المتمتع. فقال رداً عليه: القارن أخف حالاً، فإنه لا يتعدد ميقات نسكيه، والمتمتع يتعدد ميقاته، ويتفصَّل (8) ، فيجوز أن يؤاخذ القارن الذي أتى
__________
(1) (ط) : رجعٌ.
(2) في الأصل: العودة.
(3) (ط) : العامد.
(4) ساقطة من الأصل.
(5) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/470 مسألة 737.
(6) عبارة (ط) : " الغريب القارن إذاً أتى بنسكيه ... ".
(7) ر. المحلى: 7/167.
(8) (ط) : ينفصل.(4/184)
بميقاتٍ واحد، بما لا يؤاخذ به من أتى بميقاتين.
فهذا تمام ما أردناه، في تصوير الجهات الثلاث، في أداء النسكين.
2491- وإذا انتجز التصوير، فالقول في بيان الأفضل من هذه الجهات، ثم في تفصيل الكفارة، وقد أورد الشافعي لذلك باباً، فنجري على ترتيب السواد (1) .
فصل
قال: " ولو أفرد الحجَّ، فأراد العمرةَ بعد الحج ... إلى آخره " (2) .
2492- المفرد إذا فرغ من الحج، فإنه يأتي بالعمرة بعد الفراغ من الحج، وسبيله أن يخرج إلى الحل، وُيحرم بالعمرة منه، ويعود، ويأتي بأعمال عمرته.
ثم يكفي أن يخرج إلى أي طرفٍ شاء، فإذا لابس الحلَّ، أحرم، وعاد. وأقربُ المسافات إلى الحل، ما في جهة مسجد عائشة رضي الله عنها، وذلك الموضع هو الذي يسمى التنعيم، ولو كان الحرمُ ينتهي في قطرٍ أقرب من انتهائه في الجهة التي ْذكرناها، لاكتفينا بتلك الجهة. والمرعي على الجملة الانفصالُ من الحرم.
ولو أحرم الرجل بالعمرة في الحرم، وطاف، وسعى، وحلق، فهل يعتد بطوافه، وسعيه؟ في المسألة قولان: أحدهما - يُعتدّ بهما؛ لأن الإحرام قد انعقد، وأتى بصورة الأعمال على شرطها، وأقصى ما نقدر بعد ذلك، أنه أخل بميقات
__________
(1) مرة ثانية يستخدم لفظ (السواد) ، فهل يعني به -كما قدرنا- عامة الأصحاب، رجال المذهب؟ أم يعني به مختصر المزني؛ إذ قال في المقدمة: وسأجري على أبواب المختصر جهدي، فما العلاقة بين لفظ السواد ولفظ المختصر؟
قلتُ (عبد العظيم) : كنت كتبت هذا أولاً منذ أعوام، ثم تحقق لدينا أنه يعني بلفظ (السواد) المختصر، فلفظ (السواد) يستعمل بمعنى المتن، والأصل، وهذا المعنى غير موجود بالمعاجم، أفادنا بهذا العِلْم شيخُنا الجليل الشيخ محمود محمد شاكر، برّد الله مضجعه، وقدس روحه، ونور ضريحه.
(2) ر. المختصر: 2/50.(4/185)
العمرة، والإخلال بالميقات لا يمنع الاعتداد بالأعمال.
والقول الثاني - أنه لا يكتفى بتلك الأعمال، ووجّه الصيدلاني هذا القولَ، بأن قال: الجمعُ بين الحل والحرم ركنٌ في الحج، فليكن ركناً في العمرة، غيرَ أن الكون في الحل للوقوف مؤقت يفوت، والخروج إلى الحل في العمرة ليس بمؤقت، فلا يفوت، فإذا أراد المحرم بالعمرة من جوف مكة، أن (1 يعتد بأفعاله، فليخرج 1) إلى الحل، وليعد، ثم ليطف، وليسع، فإن طواف الزيارة هو الركن في الحج، وهو مرتب على الوقوف بعرفة، فينبغي أن يترتب طواف العمرة، على الجمع بين الحرم والحل.
التفريع:
2493- إذا قلنا: نعتد بالطواف والسعي، فنجعله بترك الخروج إلى الحل مسيئاً، ملتزماً دمَ الإساءة؛ من جهة تركه الميقاتَ المشروع للعمرة.
وإن قلنا: لا يعتد بما جاء به؛ فإحرامه منعقدٌ، لا خلاف فيه. ولكن إن أراد الاعتداد بأعماله، فليخرج إلى الحل، ثم يعود، ويأتي بالطواف، والسعي، فإذا فعل ذلك، فهل نقول: حكمه حكم من جاوز الميقات مسيئاً، وأحرم، ثم عاد إلى الميقات، حتى يخرج سقوطُ الدم على الخلاف؟
اختلف الأئمة في ذلك، فقال بعضهم: لا دم عليه في مسألتنا وجهاً واحداً، وهو من طريق التمثيل بمثابة من يُحرم قبل الميقات، ثم يمر عليه؛ فإن المسيء هو الذي ينتهي إلى ميقاتٍ، ناوياً نسكاً، ثم يجاوزه، ولم يتحقق هذا فيمن أحرم من جوف مكة، ثم خرج إلى الحل.
ومن أصحابنا من خرّج ذلك على الخلاف المذكور في عَوْد المسيء.
والمسألة محتملة جداً.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ك) .(4/186)
فصل
قال: " وأحب إليّ أن يعتمر من الجعْرَانة ... إلى آخره " (1) .
2494- لما ذكر الشافعي أن أدنى الحل ميقاتُ العمرة، كما تقدم، ذكر في هذا الفصل أفضلَ البقاع من أطراف الحل، وقال: أفضلها الجِعْرَانة (2) ، وبعدها التنعيم [وبعدها الحُدَيبية، والسبب فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، اعتمر من الجِعْرَانة، لما عاد] (3) لقضاء العمرة التي صُدّ عنها، عن مكة، عام الحديبية، فدل اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك البقعة، على تفضيلها، ولما التمست عائشةُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُعمرَها، أمر أخاها عبد الرحمن، حتى أعمرها من التنعيم، فقدّم الشافعيُّ ما دل عليه فعلُه، صائراً إلى أنه لا يختار لنفسه إلا الأفضل، ثم أتبع ذلك ما أمر به في قصة عائشةَ، ثم جعل ما همّ به، ولم يتفق [منه] (4) إتمامه آخراً، وهو الحديبية.
2495- فإن قيل: كيف قدم هاهنا فعلَه على همّه؟ وفي تحويل الرداء في الاستسقاء قدّم ما همّ به على ما فعل؟ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أراد أن يقلب رداءه، فيجعل أسفله أعلاه، فلما ثَقُل عليه قلبه من اليمين إلى الشمال، ولم يجعل الأسفل أعلى، والأفضلُ أن يفعل الإمام وغيرُه ما همّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قيل: لأن ما همّ به مشتمَلٌ في باب التحويل على ما هو فعله؛ فإن الغرض التفاؤل
__________
(1) ر. المختصر: 2/51.
(2) الجِعْرَانة، بسكون العين والتخفيف. على الأصح، قاله الفيومي في المصباح. وقال البكري في معجمه: هي عند العراقيين بكسر الجيم والعين وتشديد الراء (الجعِرَّانة) ، والحجازيون يخففون، فيقولون (الجعْرَانة) وقال الأصمعي: هي الجعَرانة، بالتخفيف. (ر. معجم ما استعجم: 1/384) .
(3) ساقط من الأصل.
(4) مزيدة من (ط) ، (ك) .(4/187)
بتحويل الرداء [لتحويل الحال] (1) ، وكان حصل بالقلب من اليمين إلى الشمال ذلك، فعسر إتمام ما همّ به من التحويل، فكان صلى الله عليه وسلم مبتدئاً أمراً تعذر عليه إتمامه، والعمرة عن الحديبية لا تشتمل على العمرة عن الجِعْرانة.
والأمر في ذلك قريب.
وإلا كان لقائلٍ أن يقول: ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرةَ الحديبية عن اختيارٍ، وإنما صُدّ اضطراراً، فتقديمُ ما أمر به على ما كان خاض فيه، ولم (2) يتم له، عن اضطرارٍ فيه (3) بعضُ النظر.
ولكن توجيه ما ذكره الشافعي، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإعمار عائشةَ من التنعيم، وكان متمكناً من إعمارها من الحديبية، فاقتضى ذلك تقديمَ ما أمر به.
2496- وقد ذكر الفقهاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بعمرة الجِعْرانة عامَ القضاء، ولم أر لهذا التاريخ ذكراً في كتب الحديث (4) ، وفيه إشكالٌ؛ من جهة أن ذا
__________
(1) في الأصل:.. الرداء التحويل وكان....
(2) (ط) لم (بدون واو) .
(3) في محل خبر (فتقديمُ) .
(4) هذا التعليق من إمام الحرمين على ما قاله الفقهاء، وردّه لقولهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بعمرة الجعرانة عام الفضاء. وتغليطه الفقهاء في ذلك، ورده عليهم بالمنقول والمعقول حيث قال: لم أر لهذا التاريخ ذكراً في كتب الحديث.
كما علل ردَّه لكلام الفقهاء بأن هذا غير معقول، فكيف يجاوز رسول الله صلى الله عليه وسلم ذا الحليفة مع نية النسك، ثم يصل إلى طريق الطائف مجاوزاً مكة، ليحرم من الجعرانة؟
هذا التعليق يوحي لنا بعدة أمور:
أولاً- إن إمام الحرمين ليس كما أكثروا القول عنه بأنه كان قليل المراجعة لكتب الحديث وقليل العلم بالحديث؛ فها هو يردّ كلام الفقهاء وينص صراحة على أنه راجع كتب الحديث فلم يجد ذكراً لهذا الكلام.
ومعلوم أن الحكم بعدم الوجود لا يقال إلا عن تثبت واستقراء وسعة اطلاع، فمن هو (قليل المراجعة لكتب الحديث) يستحيل أن يرد كلام الأئمة مستنداً إلى عدم الوجود فيها، فذاك يحتاج كما ألمعنا آنفاً إلى إحاطة شاملة واستقراء كامل.
ثانياً- إن الحافظ ابن حجر -رحمه الله- ردّ كلام الفقهاء هذا في تلخيصه الحبير بنفس ألفاظ=(4/188)
الحُلَيفة، كان على ممر الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان قصدُه مكةَ للعمرة، فيبعد منه صلى الله عليه وسلم مجاوزةُ الميقات، مع نية النسك، والأظهر أنه كان أحرم من ذي الحليفة، لتلك العمرة، وعمرة الجِعْرانة، كانت عمرةً أخرى، برز لها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحرم، واختار من الحل تلك البقعة. والله أعلم بالصواب.
***
__________
=إمام الحرمين تقريباً، ولسنا نزعم بهذه الملاحظة أنه تبع في هذا الرد كلام إمام الحرمين واعتمد عليه، حاشا لله أن نقول ذلك، فابن حجر إمام الحديث لابدّ أنه راجع كتب الحديث قبل أن يقول ذلك. وإن كنا نؤكد أن ابن حجر قرأ النهاية لإمام الحرمين. (ر. تلخيص الحبير: 2/439) .
ثالثاً - لاحظنا كثيراً أن الحافظ ابن حجر كان إذا نقل عبارة عن الرافعي فيها شيء من الأوهام الحديثية يتخطى الرافعي (غالباً) وينحي باللائمة على إمام الحرمين قائلاً: إن الرافعي تبع الغزالي، والغزالي تبع فيه إمام الحرمين.
ألا يحق لنا أن نتساءل: لماذا لم يقل الحافظ: وقد ردَّ هذا القول (عمرة الجعرانة عام القضاء) إمامُ الحرمين في النهاية. ويَتعجب من الرافعي الذي لم يتبع إمام الحرمين في الرد والتصحيح، جرياً على منهجه الذي يُحمّل فيه إمام الحرمين الأوهام الحديثية في كلام الرافعي.
فهل كان الحافظ على غير ذكرٍ من كلام الإمام في النهاية؟ للاحتمال مجال، والله أعلم.
رابعاً - من موقف الحافظ، من هذه المسألة وغيرها ترجح عندنا أن الحافظ عنده نوع تحامل على إمام الحرمين، لمَّا نعرف له تفسيراً بعد، وإن كان يلوح لنا أنه تبع فيه ابن الصلاح رحمه الله ورضي عنه. ونسأل الله أن يلهمنا الصواب.(4/189)
باب الاختيار في إفراد الحج
قال: " وأحب إليّ أن يُفرد ... إلى آخره " (1) .
2497- قد ذكرنا إجزاء الجهات الثلاث في النسكين، وقد قيل: الإفراد مأخوذ من قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] ، والقِران من قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] ، والتمتع مصرَّحٌ به في قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196] .
ثم قال الأئمة: القِران مؤخَّرٌ عن الإفراد والتمتع. وفي الإفراد والتمتع قولان: أظهرهما - أن الإفراد مقدّمٌ على التمتع. نصَّ عليه في مختصر الحج (2) . والقول الثاني - أن التمتع أفضل. نص عليه في اختلاف الأحاديث (3) .
2498- توجيه القولين: من قال التمتع أفضل، احتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم، قال، لطوائف من أصحابه، عامَ الوداع: " لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ما سقت الهديَ، ولجعلتها عمرة " (4) ؛ فدل أن تقديم العمرة أفضل.
وشهد له تمنّي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإنما قال رسول الله صلى الله عليه
__________
(1) ر. المختصر: 2/53.
(2) ر. الأم: 2/173.
(3) هذا النص في آخر باب كتاب اختلاف الحديث (باب المختلفات التي عليها دلالة- بهامش الأم: 7/404) .
(4) حديث: " لو استقبلت من أمري " متفق عليه من حديث جابر (ر. البخاري: الحج، باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف، ح 1785، مسلم: الحج، باب بيان وجوه الإحرام، ح 1216) .(4/190)
وسلم ذلك لما نزل عليه القضاء (1) وهو بين الصفا والمروة، أن كل من معه هدي، فليحج (2) ، ومن لا هدي معه، فليطف، وليسع، ثم [ليحل] (3) .
وكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطلحةَ رضي الله عنه الهديُ، ولم يكن مع غيرهما، فلما خالفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلاً، حيث أمرهم بالعمرة ليتمتعوا، وأقام على حجه، قال (4) ما قال، وكانوا يعتقدون من قبلُ أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، وأكبر الكبائر، فشق عليهم ذلك، وقالوا: نروح إلى منى ومذاكيرنا تقطر منيّاً، معناه على قرب عهدنا بالجماع، ويمكن أن يكون ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تمهيداً لعذرهم، وتسكيناً لقلوبهم (5) .
2499- ثم عندنا من ساق الهديَ، ومن لم يسق سواءٌ في الجهات الثلاث، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم -على هذا- محمولٌ على أني " سقتُ الهديَ لأتطوَّع "، وهو الهدي في إطلاق الشرع، فلو تمتع، لصار ما ساقه كفارة، ويخرج عن كونه هدياً، متطوَّعاً به، فلم يُرد النبي صلى الله عليه وسلم أن يُبطل قصده في تحقيق التطوع.
__________
(1) يشير إلى ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم، أحرم مطلقاً: أي لم يعين حجاً، ولا عمرة، ينتظر القضاء من السماء، فنزل عليه جبريل، والخلاف فيما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، معروف مشهور: قيل: أهل بالحج، ولما دخل مكة بعد الطواف والسعي، فسخه إلى العمرة، وقيل: بل أهل بحج، وعمرة، وقيل أهلّ مطلقاً ينتظر القضاء، فنزل عليه القضاء، وهو فيما بين الصفا والمروة.
وحديث الإحرام مطلقاً، رواه الشافعي مرسلاً عن طاووس، وكذا البيهقي، ورُوي أيضاً عن جابر، وعن ابن عمر، وعائشة، رواها الشافعي، وحديث جابر، وعائشة عند مسلم (ر. مختصر المزني: 2/54، ومسلم: الحج، باب 17 (بيان وجوه الإحرام ... ) ح 129، باب 19 (حجة النبي صلى الله عليه وسلم) ح 147، وراجع الدرّة المضية مسألة: 191، وراجع المجموع للنووي: 7/166 خاصة. والفصل كله) .
(2) في (ط) : فليجمع.
(3) في الأصل، ك: ليحج، وفي (ط) : ليحجج. والمثبت من لفظ الحديث.
(4) جواب لما.
(5) (ط) : لقولهم.(4/191)
وأبو حنيفة (1) يجعل (2) سوق الهدي إحراماً بالحج، ويتمسك (3) بالحديث.
2500- ومن قال الإفراد أفضل، تعلق بما صح عند الشافعي، من إفراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج، في روايةٍ عن جابر، وحمل ما قدمناه من إظهار التمني، على تمهيد معاذير الصحابة، رضي الله عنهم. والمعنى: إني لو لم أسق، لآثرت موافقتَكم على الإفراد؛ فإن الموافقة أجلب للقلوب، وهي أولى من تحصيل فضيلةٍ، ولهذا يؤثر للمتطوع بالصوم، أن يفطر لمن يبغي منه أن يفطر.
فهذا بيان القولين.
وقد أجمع أصحابنا قاطبة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان مفرداً عام الوداع، وقال ابن سُريج: إنه كان متمتعاًً. وهذا مما انفرد به ابن سُريج، فإن من نصر تفضيل التمتع، سلّم وقوعَ الإفراد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعلّق بتمنيه، كما روينا.
فهذا ما أردناه في تفضيل الجهات، بعضها على بعض.
وفي بعض التصانيف أن الإفراد مقدَّمٌ على التمتعِ والقران، قولاً واحداً، وإنما اختلف القولُ في أن التمتعَ أفضلُ من القِران، أم القِرانُ أفضلُ من التمتع؟ فعلى قولين. وهذا -إن لم يكن سقطةً من ناسخٍ- غيرُ سديد. وإنما المسلك المشهور في التفضيل ما قدمناه.
2501- ومما يجب التفطنُ له أن الشافعي اعتمد فيما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم، روايةَ جابر بن عبد الله، قال: إنه أحسن الرواة سياقة للحديث، وفي روايته: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبهم الإحرام أولاً، ينتظر الوحي، فنزل عليه جبريل: أن اجعله حَجة.
__________
(1) ر. بدائع الصنائع: 2/161، مختصر اختلاف العلماء: 2/79 مسألة: 561، حاشية ابن عابدين: 2/160، البحر الرائق: 3/347.
(2) (ط) : بجعل.
(3) (ط) : يتمسك.(4/192)
فقال بعض أئمة العراق: الأفضل أن يُبهم الرجلُ إحرامه تأسِّياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لا وَحيَ بعده، ولكن كل إنسان يتفكر بعد إحرامه، ويعلم ما هو الأرفق به والأوفق له، فإن لم يمنع مانعٌ من الإفراد، ابتدره ورآه أفضلَ من غيره.
وهذا عندي هفوةٌ ظاهرةٌ؛ فإن إبهام رسول الله صلى الله عليه وسلم، محمولٌ
على انتظاره الوحي قطعاً، فلا مساغ للاقتداء به في هذه الجهة.
***(4/193)
باب صوم التمتع بالعمرة إلى الحج
2502- على المتمتع دمُ شاةٍ، وهو المعنيُّ بقوله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] ، ثم الدمُ يبدله الصوم، وهذه الكفارة مرتَّبة بدليل نص القران، والإجماع.
ونحن نبدأ بما يتعلق بالدم حتى إذا نجز، خضنا في بيان الصوم.
فنقول: إذا تحلل المتمتع من العمرة، وأحرم بالحج، فقد وجب عليه دمُ شاةٍ، إن وجدها؛ فإن وجوبَ الدم منوطٌ في الكتاب بالتمتع بالعمرة إلى الحج، وإنما يتحقق هذا إذا شرع في الحج، ثم إذا وجب الدمُ، فلا وقتَ له على الخصوص، بعد الوجوب، فله أن يُريق الدمَ قبل العيد، قياساً على سائر دماء الجبرانات.
وخالف أبو حنيفة (1) في ذلك، وقضى بأنه يتأقّت بأيام النحر، وبنى ذلك على مذهبه، في أن دمَ التمتع دمُ نسك، فيتأقت بما يتأقت به القرابين والهدايا.
فإن تحلَّلَ من العمرة، فاراد إراقة الدم، وتفرقةَ اللحم، قبل الشروع في الحج، ففي إجزاء ذلك قولان ذكرهما الأئمة: أحد القولين - أنه يجزىء؛ فإن الكفارة متعلقةٌ بالعمرة والحج، وكل كفارة ماليةٍ نيطت بسببين، فيجوز تقديمُها على السبب الثاني، إذا تقدم الأول، قياساً على كفارة اليمين، فإنها إذا كانت مالية، جاز تقديمها على الحِنث.
والقول الثاني - لا يجزىء، بخلاف كفارة اليمين؛ فإن تلك الكفارة منسوبةٌ في لسان الشرع إلى اليمين، والدم الذي نتكلم فيه ليس متعلقاً بالعمرة، وإنما تعلّقه
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/223 مسألة: 694، رؤوس المسائل: 256 مسألة: 147، البحر: 2/386، حاشية ابن عابدين: 1/250.(4/194)
بالتمتع من العمرة إلى الحج، [و] (1) هذه خصلة واحدةٌ، لا انقسام فيها، ولا حصول لها، إلا بالشروع في الحج.
التفريع على القولين:
2503- إن قلنا: لا يجوز تقديم الإراقة على الشروع في الحج، (2 فلا كلام.
وإن قلنا: يجوز التقديم على الشروع في الحج 2) ، فلو لابس العمرةَ، وأراد الإراقةَ قبل التحلل منها، ففي جواز ذلك وجهان: أحدهما - لا يجوز؛ فإن العمرة على القول الذي نفرع عليه أحدُ السببين، فينبغي أن يتم، ثم يقع التقديمُ على السبب الثاني، بعد تمام الأول. والدليل عليه: أن من وكل وكيلاً حتى يعتق عن كفارة يمينه عبداً، ورسم له أن يعتقه إذا اشتغل هو بلفظ [اليمين] (3) فإذا ابتدأ الموكِّل الحلف، فأعتق الوكيل العبدَ، قبل أن يتم لفظ الحلف، فالعتق لا يقع الموقعَ، وِفاقاً، فكذلك يجب أن تكون ملابسة العمرة، بهذه المثابة.
والوجه الثاني - أن إراقة الدم مجزئةٌ، في خلال العمرة، والفرق أن انعقاد العمرة حكمٌ واقعٌ، وأمرٌ شرعيٌّ ثابتٌ، والإتيان ببعض لفظ اليمين ليس [بشيء] (4) ، فإذا خاض في العمرة، فقد تحقق السببُ، ولا نظر إلى الأعداد (5) ، فإن الإنسان قد يحنث بأفعالٍ جمّة، ويجوز تقديم الكفارة على جميعها، بعد ثبوت اليمين.
هذا قولينا في دم التمتع.
وقد مهدنا في المذهب أنه دمُ جبران، فينبني عليه أنه يحرم على المتمتع الأكل منه كما يحرم، الأكل من سائر دماء الجبرانات.
__________
(1) مزيدة من (ط) ، (ك) .
(2) ساقط ما بين القوسين من (ك) .
(3) ساقطة من الأصل.
(4) في الأصل: كشيء.
(5) أي أعداد الأسباب، كما يفهم مما بعده.(4/195)
2504- وقد حان الآن أن نتكلم في بدل الدم، وهو الصوم؛ فنقول: الصوم في بدل التمتع مقدّم في نص القرآن، قال الله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] .
والكلام في الصوم يتعلق في التقسيم الأول، بذكر الأيام الثلاثة، ثم نتكلم بعدها في الأيام السبعة، ثم ننظر فيما يقتضيه نظمُ الكلام:
فأمّا الأيام الثلاثة، فإن حقها أن تقع في الحج، كما قال الله تعالى: {ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] .
ثم قال الإمام وغيره: لا يجوز تقديمُ هذه الأيام على الشروع في الحج؛ [فإنها عبادة بدنية، وهي لا تجب قبل الشروع في الحج] (1) والعبادات البدنية لا يجوز تقديمها على وقت وجوبها. ونحن لما جوزنا تقديمَ كفارة اليمين، إذا كانت بالمال على الحنْث، لم نجوّز تقديم الصيام على الحنْث، والمعنى في ذلك ظاهر.
والعجب أن أبا حنيفة (2) جوز للمتمتع أن يصوم الأيامَ الثلاثة، قبل الشروع في الحج، والدمُ لا يقدمه على الحج، فإنه هدي، والهدي يتقيد بيوم النحر، وأيامِ التشريق.
والحج يتقدم لا محالةَ عقدُه على يوم العيد، ثم إذا شرع في الحج، دخلَ وقتُ صيام الثلاثة، ولو طالت مدة إحرامه [المتقدمة] (3) على يوم عرفة، فليصم الثلاثةَ متى شاء، وليقدّمها على العيد، والأوْلى أن يقدمها على عرفة؛ فإن صومه، وإن كان صحيحاً من الحاج، فالأوْلى فيه الفطر، كما مضى ذكره، في كتاب الصيام.
ثم قال الأئمة: إذا اتسع الوقت قبل العيد، فهو بالخيار: إن شاء صام الأيامَ الثلاثة متتابعة، وإن شاء، صامها متفرقةً، فالتتابع غيرُ مشروطٍ فيها.
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) ر. البدائع: 2/173، البحر الرائق: 2/391، حاشية ابن عابدين: 2/196.
(3) ساقطة من الأصل.(4/196)
2505- ولو لم يتفق صومُ الثلاثة قبل العيد، فالذي نص عليه في الجديد أن أيام التشريق لا تقبلُ الصيام أصلاً، كيوم العيد، ونص في القديم على أن المتمتع إذا لم يصم قبل النحر، فله أن يوقع صيامَ الأيام الثلاثة، في أيام التشريق.
ثم إذا جوزنا له ذلك، تفريعاً على القديم، فلو أراد غيرُ المتمتع أن يصوم أيامَ التشريق، فهل يصح صومُه، فعلى وجهين - أحدهما - يصح، فإنها إذا قَبِلت صوماً على الاختيار، قبلت كلّ صومٍ. والثاني - أن قبولها يختص بصوم المتمتع رخصةً له، وفُسحة، ثم إذا لم يتفق صومُ الثلاثة في الحج، ولا في أيام التشريق، على القديم.
وبقي على الحاج طوافُ الزيارة، فإنه من جهة الآخر لا يتأقت، فهو في بقية الحج لا محالة، وكيف لا؟ وقد بقي عليه ركنٌ من الحج.
ثم قال الصيدلاني: لو أراد أن يوقع صيامَ الأيام الثلاثة بعد أيام التشريق، وقبل طواف الزيارة، فالذي يأتي به لا يكون أداء، بل يكون قضاء، إن قلنا: الصيامُ في الثلاثة مقضيٌّ، وهو ظاهر المذهب (1) ، كما سيأتي الآن شرحُه.
فإن قيل: من عليه الطوافُ في الحج بعدُ، فهلا قلنا: صوم الثلاثة مؤدّى، ما دام عليه طوافُ الزيارة؟ قلنا: الحج المذكور في قوله تعالى {ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] ، [هو الحج التام] (2) والأيام الثلاثة واقعةٌ في صلبه. هذا ما ذكره الصيدلاني، وعلى هذا القياس إذا قلنا: للمتمتع أن يصوم أيام التشريق على القديم، فالصوم مؤدَّى، وإن وقع بعد التحللين؛ فإن المفهومَ من القرآن تقييد صوم الثلاثة، بأيام الحج (3) ، وهي مضبوطةٌ، وأيام التشريق ملحقةٌ بأيام الحج، على بُعد (4) .
فأما النظر إلى البقاء في الإحرام. لامتداد زمان طواف الزيارة، فليس مرادَ الكتاب؛ فإن تأخير الطواف عن أيام التشريق يبعد وقوعه، فليفهم الناظر حقيقةَ ذلك؛
__________
(1) ساقطة من (ط) .
(2) ساقط من الأصل.
(3) أيام الحج سبق تحديدها، وأنها تنتهي بنهاية التاسع من ذي الحجة على قولٍ، ويدخل فيها ليلة العاشر على قولٍ. وأما أيام التشريق فليست منها، وإنما هي ملحقة بها -على بُعدٍ- كما قال.
(4) (ك) : على بعدٍ ما.(4/197)
فإني لم أقله رأياً واستنباطاً، وإنما نقلته من فحوى كلام الأئمة.
والذي يوضح ذلك أن الشافعي لما نص في القديم على تخصيص المتمتع بصيام أيام التشريق، عد ذلك رُخصةً في حقه، ولو كان الصيام مقضياً، لما كان لذلك معنَى؛ فإن أيام القضاء لا نهاية لها.
هذا تمام ما أردناه في أداء صيام الأيام الثلاثة، المقيدة في نص القرآن بالحج.
2506- فأما صومُ الأيام السبعة، فإنه مقيد في القرآن بالرجوع، قال عز من قائل: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] . وقد اختلف العلماء في معنى الرجوع، ونحن نذكر ما جرى من تلك المذاهب: قولاً لصاحب المذهب، أو وجهاً لبعض أئمة المذهب.
قال الشافعي في قولٍ: " الرجوع هو الفراغ من الحج ". وقال في قولٍ: " الرجوع هو الرجوع إلى الوطن "، وفي بعض التصانيف قول ثالث: " إنه الرجوع إلى مكة "، وهذا لا أصل له في مذهب الشافعي. وهو قولُ بعض السلف.
فإن قلنا: الرجوعُ معناه الفراغ من الحج، فلا شك أنه لو أوقع صيامَ السبعة مع الثلاثة في صلب الحج، في اتساع المدة، لم يُعتد بالسبعة؛ فإنها مقدَّمةٌ على وقتها، ولا يجوز تقديمُ العبادة البدنية على وقتها.
وكان يقول شيخي: إذا قلنا: أيامُ التشريق تقبلُ كلّ صوم، فلو أوقع فيها ثلاثةَ أيامٍ من السبعة، والتفريع على أن الرجوع هو الفراغ، فلا يجزئه صومُه؛ فإن العاكفَ بمنى، وإن لم يكن في حج، فهو في أشغال الحج. ولذلك لا يصح منه الإحرام بالعمرة، مادام عاكفاً على مناسك مِنى.
وإذا قلنا: الرجوع معناه الوصول إلى الوطن، فلو فرغ من الحج، واستقبل صوبَ الوطن، فأراد أن يصومَ الأيامَ السبعة، في طريقه، فقد ذكر الصيدلاني وجهين في ذلك: أحدهما - أنه لا يجزئه؛ فإن صيام السبعة مقيَّدٌ بالرجوع مؤَقَّتٌ به.
والثاني - يجوز؛ فإن إمهاله الوصولَ إلى الوطن رخصةٌ، والتأقيتُ الحقيقي بالفراغ من الحج.
وهذا الوجه عندي هو بعينه تفسير الرجوع بالفراغ، ولكن يرجع الخلاف إلى(4/198)
تفسير القرآن، ولا خلاف في حقيقة المطلب والمذهب من جهة الفقه.
فإذا ثبت ما أردناه في أداء (1) صيام الأيام الثلاثة، وفي [أداء] (2) صيام الأيام السبعة.
فنتكلم بعد هذا في فوات صيام الأيام الثلاثة، بانقضاء الحج، خالياً عنه، ثم نرتب عليه ما ينبغي.
2507- فنقول: إذا لم يصم المتمتع الأيامَ الثلاثةَ، حتى انقضى الحج، فقد قال أبو حنيفة (3) ، فات صيامُ الثلاثة، ولا تقضى.
وظاهر مذهب الشافعي أنه [تُقْضَى] (4) قياساً على كل صوم مؤقت [بوقتٍ] (5) يفوت.
ونسب صاحبُ التقريب -في تصرفاتٍ حكاها عن ابن سُرَيج- قولاً إلى الشافعي، مثلَ مذهب أبي حنيفة، في أنه لا يقضي الصوم في الأيام الثلاثة، ووجهه على بعده أنه في حكم رخصةٍ عُلِّقت بالسفر، وحقه في السفر، فإذا فاتت، لم تُقض. وهذا في نهاية البعد، وهو غيرُ معدودٍ من المذهب.
ومما يتعلق بما نحن فيه أن الحاج المتمتع لو مات في الحج، بعد التمكن من الصيام، ونحن نقول: الصيامُ بعد الفراغ من الحج مقضي، فإذا تَقدَّر الموتُ في الحج، فللشافعي قولان حكاهما طوائف من الأئمة: أحد القولين - أن الصوم يسقط، لا إلى بدل. والثاني - أنه لا يسقط.
التوجيهُ: من قال لا يسقط، احتج بأن الصوم قد وجب، بالشروع في الحج، فلا يصقط من غير تقدير بدلٍ.
__________
(1) ساقطة مَن (ط) .
(2) في الأصل: فوات الأيام.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 66، بدائع الصنائع: 2/173، حاشية ابن عابدين: 2/193، الاختيار: 2/158، البحر الرائق: 2/388.
(4) في الأصل، (ك) : مقضي.
(5) ساقطة من الأصل.(4/199)
ومن قال: إنه يسقط، احتج بأن قال: هو كفارةٌ في مقابلة تمتع، وإنما ينتفع المتمتع إذا تم له النسكان على رفاهيةٍ، وربْحِ سفرٍ، فإذا مات، لم يتحقق ذلك.
وهذا بعيدٌ، والأصح الأول.
ثم هذان القولان يجريان في الدم، إذا كان واجداً له، ولكنه مات قبل انقضاء الحج، ففي قولٍ: نُخرجُ الشاة من تركته. وفي قولٍ: نتبين أنها لم (1) تجب؛ إذ لم يتم الانتفاع بالتمتع. وإذا قلنا: يسقط الصوم، فمعناه أنه تبين عدمُ وجوبه.
2508- فأما (2) صوم الأيام السبعة، فلا يتصور فواتُه في الحياة؛ فإنه إذا دخل وقتُ أدائه، فالعمر وقتُ الأداء، ولكن قد [نفرض] (3) فواته بالموت، ونقدر فواته أيضاًً تفريعاً على قولٍ بعيدٍ في الحياة، ونحن إن شاء الله تعالى، نأتي بتمام التفريع في حالة الحياة، ثم نذكر التفصيل في الموت.
فإن فات صيام الأيام الثلاثة في الحج، فظاهر المذهب أنه يقضي، وقال أبو حنيفة: لا يقضي، وقد عُزي هذا إلى الشافعي قولاً.
فإن قلنا: إنه لا يقضي، فالوجه ما قال أبو حنيفة، وهو أنه [يرجع] (4) إلى الدم فإن وجده (5 أخرجه، وإن لم يجده، بقي في ذمته، إلى أن يجد، ثم إذا تحقق الرجوع إلى الدم، يسقط صيام الأيام السبعة 5) ؛ [فإنه يستحيل تقدير الدَّم، وهو الأصل مع شيء من البدل، ويتفرع على ذلك أن إمكان] (6) صيامِ الأيام السبعة موقوفٌ، على جريان صيام الأيام الثلاثة في الحج.
ومما يجب التنبه له: أنا لا نوجب على المتمتع أن يصوم في الحج؛ فإنه مسافر،
__________
(1) (ط) : لا.
(2) (ك) : وأما.
(3) في الأصل: يعرض.
(4) ساقط من الأصل.
(5) ما بين القوسين ساقط من (ط) .
(6) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.(4/200)
ونحن نُسقط أداء صوم رمضانَ، وهو ركن الإسلام بالسفر، فما الظن بصوم الكفارة.
وحاصل القول فيه، يرجع إلى أن [الأصل] (1) الدمُ، على هذا القول. فإن لم يجده، ورام إسقاطه بالكلية عن ذمته، فليصم ثلاثةً في الحج، وإن لم يصم، فلا يقضي، ولكن يستقر الدَّمُ في ذمته على العسر واليسر.
هذا حقيقةُ هذا القول، وهو غير معدودٍ من متن المذهب.
فأما إذا قلنا: صوم الأيام الثلاثة مقضي، فإذا تصرّم الحجُّ ورجع، مثلاً إلى وطنه؛ فعليه قضاءُ الأيام الثلاثة، وأداء الصيام في الأيام السبعة.
2509- وقد اختلف الأئمة في أنه هل يجب التفريق بين الثلاثة، والسبعة؟ فمنهم من قال: لا يجب التفريق، وإذا كان يقعُ تفريقٌ في تصوير أداء الصيام في الحج، فذاك لحق الوقت، وكل ما يقع لحق الوقت، فلا يجب رعايته في القضاء، والدليل عليه أن الصيام في أيام رمضان متتابعة، من جهة الوقت، ولكن ليس التتابع معيّناً فيها، فلا جرم لا يجب التتابع في القضاء (2) .
وإذا كان هذا قولَنا في التتابع، وقد ثبت التعبد برعاية نوع التتابع، وفيه نَصَبٌ بيّن، فالتفريق الواقع في الوقت أولى بأن لا يُعتَقد مستحَقّاً في القضاء. هذا وجهٌ منقاس. فعلى هذا لو صام عشرة أيامٍ وِلاءً أو مفرقة كما شاء، فلا بأس.
ومِن أصحابنا من قال: التفريق يجب مراعاتُه، في القضاء، بين الثلاثة والسبعة. وهذا وإن كان مشهوراً في الحكاية، فلا وجه [له] (3) .
والتفريع عليه يستدعي تجديدَ العهد بوقت الأداء، في النوعين من الصيام، وهذا يختلف بقولينا: تقبل أيام التشريق الصيام، وبالتفصيل في معنى الرجوع، وقد مضى ذلك موضحاً.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) أي: أيام قضاء رمضان.
(3) ساقطة من الأصل.(4/201)
فنعود، ونقول: من ذهب إلى إيجاب التفريق، اختلفوا: فمنهم من قال: [يكفي] (1) أصل التفريق، ولا نلتزم مضاهاة التفريق الذي يقع بين الصومين، في الأداء؛ فعلى هذا يصومُ ثلاثة متتابعة أو متفرقة، ثم يفطر بعد نجاز الثلاثة يوماً، ويصوم السبعةَ. وإن زاد على يوم، فذاك إليه.
والغرض أن ينفصل اليوم الأخير عن اليوم الأول من السبعة بفطرٍ. هذا وجهٌ.
ومن أصحابنا من لم يكتفِ بإيقاع [أصل] (2) التفريق، واشترط أن يكون التفريق مضاهياً لما كان يقع في أداء الصومين. وهذا الوجه أمثل، وإن كان الأصل الذي عليه التفريعُ ضعيفاً، بالغاً في الضعف، وذلك أنا إذا التزمنا التفريقَ في القضاء، لأجل التفريق في الأداء، فينبغي أن نجعل التداركَ في هذا محاكياً للأداء، فعلى هذا يختلف المذهب في المقدار المرعي. فإن قلنا: أيام التشريق لا تقبل الصيامَ، ومعنى الرجوع الفراغُ من الحج، فقد كان يتعين تخلل أربعة أيامٍ بين آخر الثلاثة، وأولِ السبعة. هذا هو الأقل الذي لا بد منه؛ فإنه يضم إلى يوم العيد الأيام الثلاثة بعده،
فالجميع أربعة أيام.
وإن فرعنا على أن أيام التشريق لا تقبل الصيام، والرجوعُ معناه الوصول إلى الوطن، فليقع التفريق في القضاء بأربعة أيامٍ، كما ذكرناها، ومدةِ الرجوع إلى الوطن، على الاقتصاد في السفر.
وإن قلنا: أيام التشريق كانت تقبل الصيام، والرجوعُ هو الوصول إلى الوطن، فليقع التفريق بمدة الرجوع فحسب، فإننا ننزل التفريق المستحَق على أقل الإمكان، فإن زاد، لم يضرّ.
وإن قلنا: أيام التشريق تقبل الصيامَ، والرجوعُ هو الفراغُ، فكان لا يقع التفريق بين النوعين في تصوير الأداء، فعلى هذا ذكر الشيخ أبو علي وجهين: أحدهما - أنه لا يجب التفريق، نظراً إلى الأداء. والثاني - يجب التفريق، فإن الثلاثة كانت تنفصل
__________
(1) في الأصل: يلغى.
(2) زيادة من المحقق، مراعاة للسياق.(4/202)
عن السبعة، بحالتين متغايرتين، إذ أحدُ النوعين في الحج، والثاني بعد الفراغ منه، فينبغي أن نُقيم مقامَ ذلك [تفريقاً] (1) بين النوعين بفطرٍ في يومٍ.
وهذا في نهاية الضعف.
2510- ومن بديع الأمر ضراوة الأئمة بتعديد هذه الوجوه الضعيفة، وأصلها استحقاقُ التفريق، ولا مساغ له من جهة المعنى، وليس مع القائل به فرقٌ بين التتابع في قضاء رمضان، وبين التفريق فيما نحن فيه.
ولكن حق هذا المجموع أن يحوي الوجوه المشهورة، والبعيدة، مع التنبيه على حقيقة كل مسلك.
فرع:
2511- إذا قلنا: التفريق مستحق، فلو صام عشرةَ أيامٍ وِلاء، فالمذهب أنه يجب صومُ يومٍ آخر، إذا اكتفينا بأصل التفريق، ولا يقع الاعتداد باليوم الرابع.
ومن أصحابنا من قال: لا يعتد بشيء من الأيام السبعة، بعد الثلاثة، ذكره بعضُ المصنفين، وأورده صاحبُ التقريب، ولولا إيراده لما حكيته، وكأن هذا القائل يعتقد أن التفريق إذا لم يقع بفطرٍ، لم يعتد بشيء من السبعة. وهذا باطل قطعاً؛ فإنه إن نوى يومَ الرابع التطوعَ، أو قضاءً كان عليه، كفى ذلك في التفريق وِفاقاً، فما لنا نشتغل بما لا خفاء ببطلانه.
وقد نجز تفصيل القول في حال الحياة.
2512- ونحن الآن نبتدئ القول فيه إذا لم يصم في الحياة حتى مات.
فنقول: إذا انتهى إلى وطنه، ومات، فلا يلزمه شيء، والحالة هذه، وإن حكمنا بأن الرجوع هو الفراغ من الحج، والسبب فيه أن السفر من الأعذار التي يجوز ترك صوم رمضان لأجله، فلو دام السفر إلى الموت، وقد اتفق تركُ صومِ رمضانَ فيه، فلا شيء على الذي مات، ودوام السفر بمثابةِ دوام المرض، وقد مضى تقرير ذلك في موضعه، من كتاب الصوم.
__________
(1) في الأصل: تفريعاً.(4/203)
فصيام الأيام الثلاثة [في الحج] (1) وإن كان ثابتاً على الغرباء، فلا يَزيد تأكّدُه على تأكّد صوم رمضان، أداءً، واستدراكاً.
وإن أقام صاحب الواقعة أياماً، تسع صيام العشرة، على التفصيل المقدّم، والتفريعُ على ظاهر المذهب، في إيجاب قضاء الأيام الثلاثة، فإذا لم يتفق استدراكُها، وصومُ السبعة، حتى مات، فالشافعي نص على أنه لا يجب شيء: لا الفدية، ولا نيابة الوليّ. حكاه صاحب التقريب، وهو مذكورٌ في بعض التصانيف.
والمذهب المشهور أنه يجب شيء إذا جرى الموت، كما وصفناه. ووجه المذهب بيّن، وهو قياسُ كلِّ صومٍ واجبٍ، اتفق تأخيره، من غير عذرٍ مستمر.
ووجه النص الغريب أن الفدية إنما تثبت في صوم رمضان، كما أن الكفارة إنما وجبت بسبب إفساد الصوم فيه، والفدية هي الكفارة الصغرى، فلا يعدّى بها موضعها، اعتباراً بالكفارة العظمى.
وأما سقوط نيابة الوليّ، فتعليله هيّن.
التفريع:
2513- إذا لم نوجب شيئاً، فلا كلام، ولا عود إلى هذا القول.
وإن أوجبنا، ففي الواجب أقوالٌ جمعتها من الطرق- أحدها - أن وليّه يصوم عنه، وهذا قولٌ حكيته وأجريته، في صوم رمضان، وهو ضعيفٌ.
والقول الثاني - أنا نقابل الصوم في كل يومٍ بمدٍّ من الطعام، كدأبنا في صيام رمضانَ، على القول الجديد. والقول الثالث - حكاه صاحب التقريب وغيرُه: أنا نرجع إلى الدم، فنوجب دمَ شاةٍ، من تركته، فإنه أولى، وأقرب في هذا الصوم، من الأمداد، فيجب في مقابلة الأيام العشرة دمُ شاةٍ.
وذكر العراقيون قولاً هو راجع إلى هذا، فقالوا: للشافعي قولٌ: " إنه يجب في يومٍ ثلث شاة، وفي يومين ثلثا شاة، وفي ثلاثةٍ فصاعداً إلى تمام العشرة شاة "،
__________
(1) ساقط من الأصل، (ك) .(4/204)
والأيام تنزل منزلةَ الشعرات التي يأخذها المحرم من نفسه، وكذلك أعداد من الأظفار، وأعدادٌ من الجمرات. وستأتي هذه الأصول موضَّحة في مواضعها -إن شاء الله تعالى-.
ثم لما ذكروا هذا القولَ، ذكروا معه أن كل يوم مقابَلٌ بمد في قولٍ، أو بدرهمٍ في قولٍ، إلى الثلاثة، ثم فيها إلى تمام العشرة دمٌ. وهذه الأقوال تجري في الشعرة (1 والشعرتين ونظائرِها، وهي منشأة من اعتقاد الرجوع إلى الدم إذا 1) فرض ترك ثلاثة أيام، فصاعداً، والتردد فيما دون الثلاثة.
فهذا بيان ما قيل، فيما يلزم المتمتعَ، إذا مات بعد الوصول إلى الوطن، وجريان أيامٍ بعد الوصول، يمكن تقدير الصوم فيها، من غير عذر، وقد انتهى بذكرها أقصى الغرض في أحكام التمتع.
ثم ذكر المزني في آخر الباب طرفاً من القول في طواف الوداع، فلم أرَ ذكره؛ فإن ذكر طواف [الوداع] (2) ، قبل بيان أركان الحج بعيدٌ عن الترتيب المطلوب.
***
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ك) .
(2) ساقطة من الأصل.(4/205)
باب مواقيت الحج
2514- المواقيت أمكنةٌ، وظف الشارع على كل من يأتي واحداً منها، يؤمُّ بيتَ الله، ناوياً نسكاً، أن يُحرم منه، ولا يتجاوزه، ثم على ممرّ (1) كل قومٍ يأتون من صوبهم ميقاتٌ.
ونحن نذكر المواقيتَ التي أثبتها الشارع نصاً، أولاً:
فميقات أهل المدينة بنص الشارع، ذو الحليفة، وهو من المدينة على مسيرة فرسخين قريبين.
وميقات أهلِ الشام، وطائفةٍ من [الغرب] (2) الجُحفة، وهي من مكة على خمسين فرسخاً، ومن يأتي مكةَ من جهة المدينة، فإنه يطرقها (3) محرماً. وميقات أهل اليمن يلملم، وهو على مرحلتين من مكة.
وميقات نجدِ اليمن، ونجدِ الحجاز قَرْن، وهو أيضاًً على مرحلتين.
ولم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم توظيفُ ميقاتٍ لأهل الشرق حَسَب صحة سائر المواقيت، وروى محمدُ بن علي بن عبد الله، عن جدِّه عبد الله بن عباس: " أن النبي صلى الله عليه وسلم، وقت لأهل المشرق العقيق " (4) ، وهذا مرسل؛ فإن محمداً لم يلق جدَّه.
__________
(1) ساقطة من (ط) .
(2) في الأصل، (ك) : العرب. (بالمهملة) .
(3) الضمير يعود على الجحفة.
(4) حديث: وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المشرق العقيق رواه أبو داود، والترمذي، وأحمد، والبيهقي من طريق يزيد بن أبي زياد عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، والأمر فيه كما قال إمام الحرمين، فهو مرسل؛ لأن محمداً لم يلق جده.
وأكّد ذلك الحافظ في التلخيص، وردّ النووي تحسين الترمذي قائلاً: " يزيد ضعيف باتفاق المحدثين " فالحديث كما قال الإمام غير صالح للاحتجاج به. وهذا أحد الشواهد على علم الإمام بالحديث. (ر. أبو داود: المناسك، باب في المواقيت، ح 1740، الترمذي: =(4/206)
والصحيح أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وضع لأهل المشرق ذاتَ عرق قياساً على قَرْن، ويَلملم (1) . وقد روي عن عطاء، عن أبيه، أنه قال: " لم يبين النبي صلى الله عليه وسلم لأهل المشرق ميقاتاً، إذ لم يكن يومئذ مشرق " (2) والمراد به أنه لم يكن في صوب المشرق مؤمنون.
فالذي عليه التعويل أن ميقات أهل المشرق -باجتهاد عمر- ذاتُ عرق، وهي على مرحلتين [من مكة] (3) ، فإذا نفذ حكمه من غير نكير، التحق بسائر المواقيت.
والعقيق وادٍ ينتهي المشرق إليه، قبل الانتهاء إلى ذات عرق، وبينهما شوطٌ قريب.
والشافعي قد يرى في بعض نصوصه، أن يُحرم المشرقي من العقيق، احتياطاً؛ للخبر المرسل، الذي رويناه، ولا يرى ذلك حتماً.
فهذا بيان المواقيت.
2515- ثم قال الشافعي: " المواقيت لأهلها، ولكل من مرّ بها " (4) . والمراد أن الاعتبار في المواقيت باتفاقٍ المرورُ بها، ولا نظر إلى وطن الرجل، وانتسابه إلى بعض الأقطار، فلو ازورّ مشرقي إلى صوب المدينة، آمّاً مكةَ، فإذا انتهى إلى ذي
__________
=الحج، باب ما جاء في مواقيت الإحرام لأهل الآفاق، ح 832، أحمد: (1/344) ، البيهقي: 5/21، التلخيص: 2/437 ح 972) .
(1) أثر توقيت عمر رضي الله عنه ذات عرق، لأهل المشرق رواه البخاري في صحيحه عن ابن عمر قال: " لما فُتح هذان المصران أتَوْا عمر فقالوا: يا أمير المؤمنين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حد لأهل نجد قرناً، وهو جَوْرٌ عن طريقنا وإنا إذا أردنا قَرْناً شقّ علينا، قال: فانظروا حَذْوها من طريقكم، فحدَّ لهم ذات عرق ". والمصران: البصوة والكوفة. (البخاري: الحج، باب ذات عرق لأهل العراق، ح 1531) وقد رواه الشافعي في الأم: 2/138، والبيهقي في الكبرى: 5/27) .
(2) حديث عطاء رواه الشافعي في الأم: 2/138، والبيهقي في الكبرى: 5/28، وانظر التلخيص: 2/436 ح 969.
(3) ساقط من الأصل، (ك) .
(4) ر. المختصر: 2/60.(4/207)
الحليفة، تعيّن عليه أن يُحرم، إذا كان يقصد مكةَ على نسك. ولو مال المدني وفاقاً إلى جهة المشرق، فميقاته في صوبه، وهو يؤم مكة، ذاتُ عرق.
والغرض أن ميقات المدني يقصر بطروقه صوبَ المشرق، وميقاتُ المشرقي يطول باطّراقه صوب المدينة.
وإذا كان المكي قد خرج، وتغرّب، ثم عاد من مسافةٍ بعيدةٍ، فلا يجوز له أن يجاوز الميقات؛ ظاناً أن ميقاته مكةُ.
وحاصل الكلام أن المواقيت، لا اختصاص لها، وإنما ميقات كل امرئ ما يمر به، ويصادفه، قصدُ الإحرام، وهو عليه.
2516- ثم من أمرناه بالإحرام، لو جاوز الميقات، غيرَ محرمٍ، وهو ناوٍ للنسك، عازمٌ عليه، فهذا إساءةٌ منه، ويلزمه بسببها دمٌ، كما سيأتي وصفه.
فلو جاوز، ثم عاد إلى الميقات، فلا يخلو إما أن يُحرم بعد المجاوزة، ويعودَ محرماً، أو لا يحرم، ولكن يعود وينشئ الإحرامَ من الميقات (1 فإن لم يحرم، وعاد، وأنشأ الإحرام من الميقات 1) ، نُظر: فإن لم يبلغ المسافة من الميقات، إلى الموضع الذي انتهى إليه مجاوزاً، ثم انقلب منه، مسافةَ القصر، فإذا عاد، وأنشأ الإحرام من الميقات، فيسقط دمُ الإساءة عنه، في هذه الصورة، وفاقاً.
وإن بلغت المسافةُ مسافةَ القصر، وقد جاوز غيرَ محرمٍ [ثم عاد غير محرم] (2) وأنشأ الإحرام من الميقات، ففي سقوط دم الإساءة وجهان- أحدُهما- أنه لا يسقط، فإنه تمادى على الإساءة في مسافةٍ لها حكم البعد، فانقطع أثره من الميقات، وتأكدت الإساءة تأكداً لا يقبل التدارك.
وهذا فيه نظر (3) إذا لم يتعلّق بمكة، فإن دخلها مسيئاً، غيرَ محرمٍ، ثم عاود الميقات، لم يسقط عنه دمُ الإساءة، قولاً واحداً، فإن المحذور، في جميع
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ط) .
(2) ساقط من الأصل.
(3) ساقطة من (ط) .(4/208)
ما ذكرناه، أن يدخل مكةَ، غيرَ محرمٍ، مع انطواء عقده، على قصد النسك، وقد حصل ذلك.
وهذا [كله] (1) كلام فيه إذا جاوزَ الميقات ناوياً نسكاً، ولم يحرم، ثم عاد وأحرم من الميقات.
2517- فأما إذا جاوز، وأحرم، ثم عاد إلى الميقات محرماً، فإن قصرت المسافة، ففي سقوط دم الإساءة وجهان، أو قولان. فإن بعدت المسافة، وأحرم ثم عاد، فقولان مرتبان. وهذه الصورة أولى بأن لا يسقط دمُ اِلإساءة فيها.
والمؤثر فيما نجريه قربُ المسافة، والنظرُ إلى موضع الإحرام (2) ، فإن اجتمع البعد، والإحرام من غير الميقات، تأكد دمُ الإساءة، وضعف القولُ بسقوطه، عند العود. وإن قربت المسافة، ولم يجر الإحرام إلاّ بعد العود، فالذي رأيته للأئمة القطعُ بسقوط دم الإساءة.
وإن بعدت [المسافة] (3) ولا إحرامَ (4) إلاّ بعد العود، أو قربت، وجرى الإحرام قبل العود، فالمسألتان قريبتان في الترتيب.
والمتعلق [بمكة لا] (5) ينفعه العود إلى الميقات، سواء أحرم، ثم عاد، أو لم يحرم.
2518- والمتمتع إذا عاد إلى ميقاته للإحرام بالحج فلا شيء عليه، وإن كان ذلك يجري بعد دخول مكة؛ لأنه ليس مسيئاً؛ إذ قد أحيا الميقاتَ الذي انتهى إليه بإحرامِ العمرة، فبايَن بذلك رتبة المسيء وإنما كنا نلزمه دمَ التمتع لربح أحد السفرين، فإذا عاد، فقد سقط هذا المعنى.
__________
(1) مزيدة من (ط) .
(2) ساقطة من (ط) .
(3) في الأصل: الإساءة.
(4) (ط) : والإحرام.
(5) ساقط من الأصل.(4/209)
2519- ومما يتعلق بذلك، أن من انتهى إلى ميقاتٍ، فجاوزه، وكان لا ينوي نسكاً، ثم بدا له أن يقصد النسك، فلا نكلفه العودَ إلى الميقات، الذي مر عليه؛ فإن حكم الميقات إنما يثبت في حق من ينوي النسك، فإذا جاوزه، ثم بدا له أن ينسك، فميقاته الموضعُ الذي انتهى إليه. فإن أحرم منه، لم يلزمه شيء، وقد وفَّى ما عليه، وإن جاوز، فقد أساء الآن. وتفصيله كتفصيل من يجاوز الميقات الموظّف، ناوياً نسكاً. ثم إذا جاوز موضع قصده، وعاد، فالاعتبار بالعود إلى مكانِ نيّته، فهو ميقاتُه، فيعود التفصيل المقدّم في العود إلى الميقات، بعد مجاوزته، على نية النسك.
2520- ولو كان مسكن الرجل بين ميقاتٍ، وبين مكة، وكان على مرحلةٍ، أو أقلَّ، فميقاته مسكنه، فلا جاوزَنَّه، وهو ينوي نسكاً، فإن جاوز، فالعود، على ما تفصل قبلُ.
وإذا كان يأتي مكة من المدينة، فسيمرّ على ميقاتين، وليس له أن يجاوز ذا الحليفة، ليحرم من الجحفة، وهذا متفق عليه، لا أعرف فيه خلافاً.
2521- ولو كان يأتي مكة على صوبٍ من التعاسيف (1) ، ولم يركب مسلكاً، إلى ميقاتٍ من المواقيت المعيّنة، فقد قال الأئمة: إذا كان مارّاً إلى مكة، ناوياً نسكاً، في برٍّ أو بحرٍ، فمهما (2) حاذى ميقاتاً من المواقيت، لزمه أن يُحرم، ولو جاوز محاذاةَ الميقات، كان كما لو جاوز ميقاتاً انتهى إليه، على ما سبق التفصيل فيه.
2522- ثم صور الفقهاء صوراً في محاذاة المواقيت ما (3) قد يبعد الوفاء بتصويرها في المواقيت الموظفة، ولا مزيد عليها.
__________
(1) التعاسيف: يقال: يركب التعاسيف: أي يسير على غير هدى، واعتسف، وعسف: سار على غير هدى (معجم) .
(2) " مهما ": بمعنى إذا.
(3) في (ط) : قد يبعد (بدون ما) ، (ك) : فلا يبعد.(4/210)
ولكنا نأتي بمسالكهم، ولا [نعرّج على المشاحة] (1) في التصوير.
فنقول: أولاً - لو حاذى المتعسف ميقاتاً بعيداً، وبين يديه ميقاتٌ آخر، وسيحاذيه في ممره، فليس له أن يؤخر الإحرامَ، عن محاذاة الميقات الأول؛ منتظراً محاذاةَ الميقات الثاني. كما ليس للذي يأتي من صوب المدينةِ، أن يجاوز ذا الحليفة، ليحرم من الجحفة.
وإن توسط في ممره، ووجهته إلى مكة ميقاتين، ووقع أحدهما منه على اليمين، والثاني على اليسار، فإن أمكن ذلك، فليحرم من مكانه؛ فإنه لو حاذى من أحد قُطريه (2) ميقاتاً، لأحرم، وقد حاذى الآن ميقاتين. ولو جاوز مكانه، فهو مسيء.
وإذا أطلقنا المحاذاة في هذه المسائل، فلا شك أنا نعني بها المسامتة (3) ، من اليمين، أو الشمال؛ فإن المحاذاة بالظهر، صفةُ المجاوزين، والمحاذاة بالوجه صفة من لم ينته بعدُ إلى الميقات، وهو مارّ إليه.
2523- ثم قال الأئمة: إذا توسط ميقاتين، وكان أحدُهما أقربَ إلى مكة، من الثاني لو فرض اطّراقهما، فإن كان المتوسِّط أقربَ إلى أحد الميقاتين منه إلى الثاني، فهو يُحرم من مكانه، ولكنه منسوبٌ إلى الميقات القريب منه.
وإن استوت المسافةُ بينه، وبين كل واحدٍ من الميقاتين، قالوا: في المسألة وجهان: أحدهما - أنه منسوب إلى أبعدهما (4) . والثاني - أنه يجوز أن يُنسب إلى أقربهما من مكة.
وهذا فيه فضلُ نظر، فإنا كيف قدّرنا الأمر، فهو مأمور بالإحرام من مكانه الذي حاذى فيه الميقاتين؛ وذلك المكانُ ميقاتُه على الحقيقة، فأي معنى لنسبته إلى أحد الميقاتين، وميقاته الحقيقي مكانُه، ينشئ الإحرام منه. ولو فُرضت مجاوزتُه، لكان
__________
(1) في الأصل: نفرح عن الإباحة، (ك) : المساحة.
(2) قطريه: مثنى قطر، وقُطر الرجل: جانبه.
(3) المسامتة: الموازاة، من اليمين أو الشمال.
(4) (ط) : أحدهما.(4/211)
العودُ إليه، فهو المعتبر إذاً في تصوير قضاء حق الميقات، وتصويرِ الإساءة بالمجاوزة.
فالوجه بعد التنبيه على ما ذكرناه، أن نفرض متعسفاً، يمر ناوياً نُسكاً، بين ميقاتين، ولا يشعر بما يجري، (1 ثم ينتهي إلى موضع يُفضي إليه طريقُ الميقات القريب، وطريق الميقات البعيد، ثم يشعر بما جرى 1) و [يعسر] (2) عليه الرجوع على أدراجه إلى مكان المحاذاة، ويتيسر عليه الرجوع إلى كل واحدٍ من الميقاتين، فعليه العود إلى ميقاتٍ، إذا كنا نُخْرجه بالعود عن كونه مسيئاً؛ فان دمَ الجبران نتيجةُ [ترك] (3) مأمورٍ به، أو ارتكاب محظور منهي عنه، فإذا كلفناه العودَ، فيظهر الآن أثرُ النسبة، فإن نسبناه إلى الميقات البعيد، ألزمناه العودَ إليه، وإن نسبناه إلى القريب، كفاه أن يعود [إليه] (4) ، ومسلكه (5) في التعاسيف لا يمكن العود إليه.
فإن فرض إمكان العود (6) ، من حيث جاء، إلى مكان المحاذاة، فالذي أراه أن يكون المعتبر تلك المسافة، في نفسها، قَرُبَت، أو بعدت؛ فإن كل من جاوز ميقاتاً في عينه، كفاه في العود الرجوعُ إلى مسافته، ولا يلزمه العود إليه في نفسه. وقد تمهد ذلك فيما سبق.
وشرط تصوير الإفادة في النسبة إلى الميقات، أن يفرض مجاوزة (7) مكان المحاذاة، والإفضاء إلى مجتمع الطريقين، في الميقاتين، مع عسر الانقلاب، إلى صوب التعسف، ومع الجهل بمسافة تلك الجهة، وقد وجب الرجوع إلى أحد الميقاتين.
فهذا أقصى الإمكان.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من: (ك) .
(2) في الأصل: يعتبر.
(3) ساقطة من الأصل، (ك) .
(4) ساقطة من الأصل.
(5) عبارة (ط) : هذا. ومسلكه....
(6) عبارة (ك) : إمكان عود حيث ...
(7) (ط) : بمجاوزة.(4/212)
2524- ولو أتى الغريبُ مكةَ من جهةٍ، لا ميقات فيها، وكان لا يحاذي أيضاًً ميقاتاً في ممره، فالوجه أن يُحرمَ إذا لم يبق بينه وبين مكة، إلا مرحلتان، نزولاً على قضاء عمر في تأقيت ذات عرق، لأهل المشرق، والتفاتاً إلى حد المذهب، في حاضري المسجد الحرام، فإن من يكون مسكنه على [ما] (1) دون مسافة القصر، فهو كأهل مكة فيما قدمناه.
فهذا منتهى ما أردناه في ذلك.
2525- ثم نقول: المكي يُحرم من مكة. واختلف القول في الأفضل: قال الشافعي في قولٍ: " ينبغي أن يحرم من داره، ويأتي المسجد محرماً ". وقال في قول: " الأفضل أن يتزيى، ويحرم من المسجد الحرام، من موضعٍ قريب من البيت ".
والغريب إذا كان يحرم من مكة، متمتعاً، أو اتفق لُبثه بها سنة، فأراد الإحرام، فسبيله سبيل المكيِّ، فيما ذكرناه.
ومن كان ميقاتُ حجه مكةَ، فلا ينبغي أن يجاوز خِطتَها (2) غيرَ مُحرم، فلو جاوز الخِطة، ولم يجاوز الحرمَ، وأحرم، فهل نجعله مسيئاً؟ فعلى قولين: أحدهما - إنه مسيء، كالذي يجاوز خِطة قريةٍ، هي ميقاتٌ. والثاني - إنه ليس بمسيء، [فإن] (3) الحرمَ أغلبُ، واعتباره فيما يتعلق بالمناسك أوْلى من اعتبار خِطة العمارة.
2526- وقد ذكرنا فيما مضى أن العود إلى الميقات في حق الغريب لا ينفع بعد التعلق بمكة، فالاعتبار في ذلك بدخول الحرم، أو بملابسته الخِطة، خِطة مكة؟ فعلى الخلاف الذي ذكرناه الآن.
__________
(1) زيادة من (ط) .
(2) الخطة بكسر الخاء: المكان المختط لعمارةٍ، والجمع خِطط. والمراد بالخِطة هنا مساحة مكة وحدودها، والخُطة بالضم: الحالة، والخصلة (مصباح) .
(3) في الأصل: فإذ.(4/213)
والدليل [على] (1) اعتبار الحرم، دون خطةِ مكة، في هذا النوع، أن المكي إذا أراد العمرة، لم نكلفه مجاوزةَ خِطة مكة. بل ينبغي أن يتعلق بالحل، كما تقدم القول فيه.
ثم من كان ميقاته قرية، فمجاوزته لها مأخوذةٌ من ثبوت حكم السفر لمن يفارق البقعة، وقد أوضحنا ذلك بما فيه أشفى بيان في كتاب الصلاة.
2527- وقد اختلف قول الشافعي في أن تقديم الإحرام على الميقات هل يستحب؟ فقال في أحد القولين: " إنه يستحب " لأخبار صحيحة فيه، منها ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أفضل الأعمال حجةُ الرجل من دويرة أهله، يؤم هذا البيت العتيق " (2) .
والقول الثاني - " لا يستحب " تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، فإنهم أحرموا عند الميقات.
وفي تقديم الإحرام تعرض لأغرارٍ، لا استقلال بها، ثم هذا القائل يزعم أن الأوْلى تأخير الإحرام إلى الميقات، وأطلق بعض الأصحاب الكراهيةَ في التقديم.
ولست أرى ذلك.
ومن أصحابنا من قطع بأستحباب التقديم، (3 وحمل نصَّ الشافعي، حيث نهى 3) على النهي عن شيء يعتاده الشيعة، وهو التزيّي بزيّ المحرمين من غير إحرام قبل الميقات.
__________
(1) في الأصل: غلبة.
(2) حديث إحرام الرجل من دويرة أهله، روي مرفوعاًً وموقوفاً، أما المرفوع فقد رواه البيهقي من حديث أبي هريرة، وقال: فيه نظر، وأما الموقوف فعلى علي، رواه البيهقي: (5/30) والحاكم: (2/276) ، وصححه ووافقه الذهبي، قال الحافظ: وإسناده قوي، قال ابن الصلاح في مشكل الوسيط: " هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم مروي بإسناد ضعيف، وإنما هو عن عمر وعلي من قوله، رواه الشافعي وغيره عنهما " ا. هـ (ر. التلخيص: 2/435 ح 967، مشكل الوسيط بهامش الوسيط: 2/611) .
(3) ما بين القوسين ساقط من (ط) .(4/214)
فصل
قال: " وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يُهل، حتى تنبعث به راحلته ... إلى آخره " (1) .
2528- اختلف القول في أن المرء متى يُؤثَر له أن يحرم، فقال في القديم: إذا صلى ركعتي الإحرام، كما سيأتي، وتحلل (2) ، أحرم في مصلاه قاعداً. وهذا مذهب أبي حنيفة (3) .
وقال في الجديد: يحرم إذا توجهت به راحلتهُ إلى مكةَ. وإن كان ماشياً، فيخرج عن موضعه، ويتوجه إلى مكة، ويُحرم.
ودليل القول الجديد الحديثُ الذي رواه في صدر الفصل، وقد روى ابنُ عباسٍ أنه صلى الله عليه وسلم أحرم من مصلاه (4) ، وروي عن ابن عمر أنه لم يكن ليهل حتى تنبعث به راحلته (5) [وروي أنه لما استوت راحلته] (6) على البيداء أهلَّ، والقول في ذلك قريب.
__________
(1) ر. المختصر: 2/61.
(2) تحلل: أي من ركعتي الإحرام.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 62، بدائع الصنائع: 2/145، حاشية ابن عابدين: 2/158، البخر الرائق: 2/346، الاختيار: 2/143.
(4) حديث ابن عباس رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وأحمد، والحاكم، والبيهقي (ر. أبو داود: المناسك، باب في وقت الإحرام، ح 1770، الترمذي: الحج، باب ما جاء متى أحرم النبي صلى الله عليه وسلم، ح 819، النسائي: مناسك الحج، باب العمل في الإهلال، ح 2754، أحمد: 4/105، 106 ح 2358 (شاكر) وقال: حديث صحيح، الحاكم: 1/451، البيهقي: 5/37) .
(5) حديث ابن عمر متفق عليه (ر. اللؤلؤ والمرجان: 2/30 ح 738) .
(6) حديث: " أنه لما استوت راحلته على البيداء أهل " رواه البخاري عن أنس: الحج، باب من بات بذي الحليفة حتى أصبح، ح 1546، وباب التحميد والتسبيح والتكبير قبل الإهلال عند الركوب على الدابة، ح 1551، ورواه مسلم من حديث جابر الطويل في الحج، ح 1218، ورواه أبو داود عن سعد: المناسك، باب في وقت الإحرام، ح 1775، ورواه الحاكم عن سعد أيضاًً وعن ابن عباس: 1/451، 452) .(4/215)
وذهب بعض الأئمة إلى أخبار (1) الإحرام عند الفراغ من الصلاة، وحمل اختلاف الرواية على إعادة التلبية، وهي مأمور بها في [التغايير] (2) ، كما سنشرحها، فلعله أحرم صلى الله عليه وسلم لما سلّم، ثم لبّى لما انبعثت به الراحلة، أي ثارت، ثم لبىّ لما استوت ناقته على البيداء.
ومن رأى ما قدمناه اختلافاً، فمعنى انبعاث الراحلة أن يستوي في صوب مكة، وهذا معنى استواء الراحلة على البيداء، فأما ثورانها وهي تردَّدُ (3) بعدُ على [الرحل] (4) ، فلا، والعبرة بتوجهها إلى جهة المقصد، ثم الإحرام مع التوجه.
***
__________
(1) (ط) ، (ك) : اختيار.
(2) في الأصل، ك: التعايين، وفي (ط) : " التغاير ". والمثبت تصرف منا رعاية للمأنوس المألوف من ألفاظ الإمام. هذا. والتغايير: أي التغايير في الطريق، إذا أصعد، أو انحدر، أو مال شرقاً أو غرباً ... هذا معنى التغايير، التي يسن رفع الصوت بالتلبية عندها.
(3) " تُرَدَّدُ " ضبطت في (ك) بضم التاء وفتح الراء على البناء للمفعول، وظني أنها تَرَدَّدُ: أي تتردّد (بحذف تاء المضارعة) والمعنى: أن اختيار لحظة " ثوران " الناقة، أي حركتها عندما تضطرب برَحْلها وراكبها عند انبعاثها قائمة، والقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم عندها -عندما ثارت به راحلته- غيرُ مقبول.
(4) في الأصل: " الرجل " بالجيم المعجمة، والمثبت من (ط) ، (ك) ، و (على) هنا بمعنى (مع) . والمعنى واضح، أشرنا إليه في التعليق السابق.(4/216)
باب الإحرام والتلبية
2529- إذا دخل وقتُ الهمّ بالإحرام، فالمسنون أن يغتسل. وذكر الأئمة أنا نستحب الغُسل للنفساء، والحائض، وإن كانتا لا تطهران. وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أسماء بنت عُميس، وكانت نُفست بولادة محمد بن أبي بكر، " فأمرها عليه السلام بالغسل لدخول مكة " (1) ، فطرد الأئمة ذلك، في غُسل الإحرام.
ثم إذا اغتسل من يريد الإحرام، فاستعمال الطيب محثوث عليه قالت عائشة: " طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديّ هاتين لإحرامه، قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت " (2) وفي بعض الأخبار (3) أنها قالت: " طيبتُه بأطيب الطيب، وهو المسك "، وعنها، أنها قالت: " رأيت وبيص (4) المسك في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم " (5) .
2530- ثم التطيب يقع قبل الإحرام، فإن كان في البدن، وليس للطيب عينٌ تشاهد بعد الاستعمال، فلا منع، وإن طيب بدنَه بطيب يبقى عينُه على البدن محسوساً، فلا بأس عندنا به، خلافاً لأبي حنيفة (6) . وشاهد مذهبنا حديثُ عائشةَ في المسك، مع
__________
(1) حديث غسل أسماء بنت عميس رواه مسلم من حديث عائشة، ومن حديث جابر الطويل في الحج (ر. مسلم: الحج، باب إحرام النفساء، ح 1209، التلخيص: 2/450 ح 994) .
(2) حديث عائشة رواه الشيخان بأكثر من لفظ (ر. البخاري: الحج، باب الطيب عند الإحرام، ح 1539، مُسلم: الحج، باب الطيب للمحرم عند الإحرام، ح 1189) .
(3) " وفي بعض الأخبار ": المراد روايات الحديث السابق (حديث عائشة) .
(4) الوبيص: مثل البريق، وزْناً، ومعنى.
(5) حديث " رأيت وبيص المسك ... " رواه مسلم: الحج، باب الطيب للمحرم عند الإحرام، ح1190.
(6) الذي وصلنا إليه عند الأحناف أنهم لا يرون به بأساً كالشافعية، وهذا عند أبي حنيفة وأبي=(4/217)
ذكرها رؤيةَ وبيص المسك بعد الإحرام.
2531- ولو استعمل طيباً مجسماً، ثم أحرم وعرِق، وتنحى الطيب عن محله، فهل يؤاخذ بذلك؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يؤاخذ به، فإن الجزء الذي انتقل الطيب إليه بعد الإحرام جزءٌ صادفه طيبٌ، بعد تحريم الطيب بسبب الإحرام. ثم هذا القائل يقول: يلزم أن يبتدره المحرم، ويزيلَه ويكون ما جرى بمثابة طيب يصيب بدنَ المحرم، من غير قصد منه، فالذي عليه فيه أن يبتدر إزالته، فإذا فعل ذلك، لم يلزمه شيء.
والوجه الثاني - أنه غير مؤاخذ بما يجري؛ فإن التطيب جرى سائغاً، فلا حكم للانتقال بعده، والطيب كالمستهلَك في حق الإحرام إذا تقدم استعماله عليه، ويشهد لذلك استعمال رسول الله صلى الله عليه وسلم المسكَ، في مفارقه صلى الله عليه وسلم. والظاهر في الحجاز تنقل الطيب، وسيلان العرق به.
2532- ولو طيب المحرم قبل الإحرام إزاره، أو رداءه، وتوشّح أو اتزر، ثم أحرم، فحاصل ما قيل فيه ثلاثة أوجه: أحدها - أن ذلك يسوغ، كما يسوغ تطييب البدن. والثاني - لا يجوز؛ فإن الطيب يبقى على الثوب، ويمّحق على البدن.
والثالث - أنه إن لم يكن عينٌ، فلا بأس به، وإن كان الطيب عيناً، لم يجز، وكان ذلك بمثابة ما لو شدّ مسكاً على طرف إزاره، وكان يستديمه، فهذا ممتنعٌ، وفاقاً.
والأصح أنه لا يمتنع تطييب الثوب، ولا خلافَ أنه لو كان يقصد تطييب بدنه، فتعطر ثوبه تبعاً، فلا حرج.
ولو عطر ثوبه، وجوزنا ذلك على الأصح، ثم نزعه ومحاه، ثم عاد إليه ولبسه، وهو بعدُ عَطِرٌ، ففي المسألة وجهان- أحدهما - المنع؛ فإن اللبس الجديد بعد (1) الإحرام في حكم إنشاء تطيب. والثاني - لا بأس، فإنه استعمل الطيب قبل الإحرام، فصار كالمستهلك، فلا مبالاة به، كيف فرض الأمر. ومحل الوجهين فيه إذا طيب
__________
=يوسف، وكره محمد ذلك، قال الطحاوي في مختصره: " وفول محمدٍ عندنا أجود، وبه نأخذ " (ر. مختصر الطحاوي: 62، البدائع: 2/44) .
(1) (ط) : بهذا الإحرام.(4/218)
الثوب، فلبسه وأحرم وهو عليه، فأما إذا طيب رداء، وأحرم، وقصد [به تطييب الرداء] (1) للإحرام، فإذا توشح به بعد الإحرام، لم يجز، ولزمه الفداء؛ لأنه استعمل الطيب جديداً بعد الإحرام. والوجهان في تجديد لبس الثوب، يقربان من سيلان الطيب، بعد الإحرام. ووجه التقريب [واضحٌ] (2) .
2533- وتمام البيان في هذا الفصل أن التطيّب عند الإحرام في مرتبة المندوبات، لا في مرتبة المباحات، ويشهد له الخبر، والأثر.
ولعل السبب فيه أنه يلقى شَعَثاً (3) وتَفَلاً (4) ، وقد ينتهي إلى التأذي، فكان التطيب تقليلاً من آثار الشعَث، وهو قريب من استحباب السواك قبل أوان الخُلوف، وقد صح في الشرع الندب إلى استعمال الطيب يوم الجمعة. ومما يؤكد ذلك الأمرُ بالغسل، والغرض منه التنزه، ولهذا أُمرت الحائض به، وإن كانت لا تتطهر.
2534- ثم إذا كان يغتسل فلا نرى للنية في غسله هذا أئراً، وشاهده أمرُ الحائض بالغسل. وفيه أدنى نظر؛ فإن النية مرعيّة في غسل الجمعة، والغرض منه قطع الروائح الكريهة. وبالجملة من قصد إقامة شعار الدين كان مأجوراً على قصده.
ثم يتّزر ويرتدي ويحسِر رأسه، ويصلي ركعتين. ثم مضى القول في أوان إحرامه.
فصل
قال: " ويكفيه أن ينوي حجاً، أو عمرة ... إلى آخره " (5) .
2535- مذهبنا الصحيحُ أن انعقاد الإحرام يعتمد النيةَ، فإذا نوى المرء الشروع في الحج، أو العمرة، أو فيهما قِراناً، أو نوى الإحرام المطلق، صار محرماً، بمجرد النيةِ، من غير تلبية.
__________
(1) عبارة الأصل: وقصد بتطييب الرداء الإحرام.
(2) في الأصل: أوضح.
(3) شعث من باب تعب: والشعث تفرق الشعر، وتلبده، وتغيره، والوسخ أيضاً (مصباح) .
(4) من تفلت المرأة تفلاً: من باب تعب: إذا أنتن ريحها. (مصباح) .
(5) ر. المختصر: 2/61.(4/219)
وقال أبو حنيفة (1) : لا يثبت الإحرام بمجرد النية، من غير قرينة، والقرينةُ الظاهرةُ التلبية. ثم أقام أبو حنيفة سَوْقَ الهَدْي، وإشعاره، وتقليده، مقام التلبية.
وذكر بعض أصحابنا قولاً قديماً للشافعي: " أن الإحرام لا ينعقد بمجرد النية "، وهذا اختيار أبي علي بن أبي هريرة، وأبي علي بن خيران، والشاهد لذلك اتفاقُ الناس، مُذ كانوا على الاعتناء بشعار التلبية، حالة العقد.
وكان شيخي يتردد في التفريع على القديم، في إقامة الإشعار، والتقليد، مقام التلبية. وسبب التردد أن ابن عباس كان يجعل نفسَ الإشعار والتقليدِ إحراماً.
والظاهر تعيين التلبية.
والمذهب الاكتفاء بالنية المجردة. ومن شَرَط التلبيةَ، لم يشترط التنصيص على ما جرى في النية من التعرض للحج أو العمرة، وهذا متفق عليه؛ فتكفي التلبيةُ المطلقة شعاراً، ثم التعويل فيما ينعقد مفصَّلاً، أو مجملاً على النية. وذكر الصيدلاني قولين في أنا هل نكره [ذكر] (2) ما انعقد في التلبية: أحدهما - أنا نكره ذلك، نص عليه، وقال في موضع آخر: لا بأس بذكر ما أحرم به.
2536- ومما يتم به غرض الفصل: أنه لو لبى بلسانه، ولم ينو بقلبه، فقد نقل المزني أنه يلغو ما صدر منه، ونقل الربيع أن إحرامه ينعقد مجملاً، ثم إنه يصرفه إلى أحد النسكين، أو إليهما.
وقد كثر خبط الأصحاب، ونحن نذكر المقصود.
فنقول: من ذكر التلبيةَ حاكياً، أو معلم، وقصد غرضاً سوى الإحرام، لم يصر محرماًً، خلافا لداود. وكذلك إذا جرى اللسان بالتلبية، فلا حكم له.
فأما إذا جرد قَصْده إلى النطق بالتلبية، ولم يخطر بباله قصدُ الشروع [في الإحرام] (3) ، فهذا موضع التردد. وللأصحاب طريقان: منهم من قال: في المسألة
__________
(1) ر. بدائع الصنائع: 2/161، مختصر اختلاف العلماء: 2/79 مسألة 561، البحر الرائق: 2/347، 391، حاشية ابن عابدين: 2/160.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) عبارة الأصل: قصد الشروع للإحرام.(4/220)
قولان: أحدهما - وهو الذي نقله المزني: أنه لا يصير محرماًً، وهو ظاهر مستغنٍ عن التوجيه. والثاني - أنه يصير محرماً، وهو ما نقله الربيع. ولست أعرف له وجهاً.
وإن تكلف متكلف، وقال: من ضرورة تجريد القصد إلى التلبية، مع انتفاء سائر المقاصد سوى الإحرام، أن يجري في الضمير قصد الإحرام. وهذا (1) ليس بشيء، فإن الأمر إن كان كذلك، فهو إحرامٌ بنيةٍ، ولا خلاف إذا ثبتت النية، في انعقاد الإحرام.
فصل
قال الشافعي: " وإن لبى بحج يريد عمرة ... إلى آخره " (2) .
2537- قد ذكرنا أن التعويل في عقد الإحرام على النية، فإن نوى الرجل بقلبه الشروعَ في الحج، ولبى بعمرةٍ لفظاً، فلا حكم للفظ، والتعويل على عقده. ولو نوى إحراماً مطلقا، وعيّن في التلبية، فلا حكم لتعيين اللسان. ثم إذا نوى إحراماً مطلقاً، صار محرماً، وله الخيار، فإن صرفه بعقده إلى حج أو عمرةٍ، انصرف إلى ما قصد. ولا شك أن هذا فيه إذا أبهم الإحرام في وقتٍ يصلح للحج، والعمرة.
ولو صرف إحرامه المبهم إلى الحج والعمرة قِراناً، صار قارناً، وإمكان صرف الإحرام المبهم إلى كل واحدٍ من النسكين أو إليهما جميعاً، دليل ظاهر على مشابهة العمرة الحج.
ولو أحرم إحراماً مبهما في غير أشهر الحج، ثم فسره بالحج، لما دخل شوال، فالذي ذهب إليه معظم الأئمة أن ذلك غيرُ جائز، ولا يثبت الحج؛ فإن الإحرام جرى
__________
(1) كذا في النسخ الثلاث " وهذا " بدون الفاء، والمعروف المشهور وجوب الفاء هنا في جواب الشرط.
ولكن رأينا ابن هشام في المغني يحكي عن الأخفش أن حذف فاء الجواب في هذه الصورة واردٌ، وليس خاصا بضرورة الشعر، وحمل عليه قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] .
(2) ر. المختصر: 2/62.(4/221)
في وقتٍ، لا يتأتى فيه الحج، [لو] (1) عينه بدل الإبهام، والتعيين آخراً بمثابة التعيين أولاً.
وذكر الشيخ أبو علي وجهين: أحدهما - ما ذكرناه. والثاني - أنه ينصرف إحرامه المبهم إلى الحج. وهذا ضعيفٌ في القياس.
ووجهُه على ضعفه أن العبد إذا أحرم بالحج في رقه، ثم عَتَق قبل الوقوف، ووقف حراً، فقد قال الشافعي: يقع الحجُّ عن فرض الإسلام. وهذا ضمُّ إشكالٍ إلى إشكالٍ، وسنذكر أن ما أوردناه في طريان العتق مشكلٌ في طريق القياس، فإن جرينا على الأصح، وهو أن تفسير الإحرام الجاري في غير أشهر الحج بالحج في أشهر الحج غير جائز، فلو أحرم المرء بعمرة في غير أشهر الحج، ولم يشتغل بأعمالها حتى دخل أشهرُ الحج، ثم أراد أن يُدخل حجّه على تلك العمرة، فقد ذكر الشيخ أبو علي في ذلك وجهين: أحدهما - أنها تدخل، ويصير قارناً؛ فإنه ابتدأ الإحرام بالحج في وقته، وقد مضى أن الحج يدخل في العمرة.
والوجه الثاني - أنه لا ينعقد إحرامه بالحج، فإنه لو انعقد، لصار قارناً. ومن مذهب الشافعي أن القارن في حكم ملابسٍ إحراماً واحداً، ولهذا لا يجب عليه فديتان عنده إذا أقدم على محظور [الإحرامين] (2) ، وإذا كان كذلك، فلو قضينا بانعقاد الحج، والإحرامُ سابقٌ على أشهرِ الحج، لكان هذا في حكم الإحرام بالحج قبل أشهره. والأقيس الوجه الأول.
2538- ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك: أنه لو أبهم الإحرام، قبل أشهر الحج، ثم فسره بالعمرة، صح، وكان معتمراً، وإن فسره بالحج قبل وقته، كان كما لو أحرم بالحج. وقد مضى تفصيل المذهب فيه.
وإذا قلنا: المحرم بالحج معتمر، والتفسير بالحج غيرُ ممكن، فإحرامه المبهم قبل أشهر الحج إحرامٌ بالعمرة، ولا حقيقة للإبهام في الإحرام، وهذا بيّن، لا شك فيه.
__________
(1) في الأصل: أو.
(2) في الأصل: الإحرام.(4/222)
2539- ولو قال في نفسه: أحرمت كإحرام فلانٍ، فهذا أولاً سائغٌ، وقد روي أن علياً قال عند منصرفه من اليمن، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم خارجاً إلى مكة، عام الوداع، فقال عليّ رضي الله عنه: " لبيك بإهلالٍ كلإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم " (1) ثم إذا أحرم بإحرام [كإحرام] (2) زيد، لزمه ما هو فيه، فإن كان معتمراً، فإحرامه عمرة، وإن كان حجاً، فإحرامه حج، وإن كان قارناً، فإحرامه قرانٌ.
وإحالة الإحرام على إحرام الغير، مع الجهل بحقيقة الحال أبعد عن القياس، من جواز صرف الإحرام المبهم إلى ما يريده المحرم؛ فإن الإبهام والتعيين وقعا جميعاً، متعلِّقين بقصده، وإذا أحال على إحرام الغير، فلم يجر منه قصدٌ في التعيين، أولاً وآخراً، ولكن ذلك محتمل، متفق عليه، معتضِد بما رويناه.
وأصل الإبهام منقولٌ على الصحة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإحالة الإحرام منقولٌ عن عليٍّ، ثم ذكر علي رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما جرى منه، فلم ينكر عليه.
فإذا أحرم كإحرام فلان، ثم تبين أن فلاناً ما كان محرماًً، فيصير من أبهم إحرامَه محرماًً إحراماً مبهماً، فليفسره بما بدا له؛ فإن الإحرام لا خلاص منه.
2540- ولو أحرم بما أحرم به فلان، وهو عالم بأنه غيرُ محرم، فهذا أولاً لا يمكن دعوى العلم فيه، فإنّ معوّل الإحرام على النية، ولا يطلع عليها غيرُ الله سبحانه وتعالى.
ولو قال: أحرمت بإحرامٍ كإحرامٍ فلان، وكان من ذكره ميتاً، وهو عالم بموته، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا يصير محرماً؛ فإن الذي أتى به ليس جزماً
__________
(1) حديث إهلال علي رضي الله عنه متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه (ر. البخاري: المغازي، باب بعث علي وخالد إلى اليمن، ح 4353، 4354، مسلم: الحج، باب إهلال النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، ح 1250) وللبخاري أيضاً من حديث جابر (الحج، باب من أهل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، ح 1557) .
(2) ساقطة من الأصل.(4/223)
للإحرام، وليس هو أيضاً على تردُّدٍ؛ فإن فلاناً غير محرم. والثاني - أنه يصير محرماً على الإبهام؛ فإن [الإحرام] (1) إذا جرى، لم يُدفع.
2541- ولو أحرم كإحرام فلانٍ، وكان ذلك المعيَّن محرماً على الإبهام، فيثبت للذي أحال عليه إحرامٌ مبهم، ثم لو فسر ذلك المعيَّن إحرامَه المبهمَ، بأحد النسكين، أو بهما، فلا يلتزم من أحال عليه ذلك، ولكنه بالخيار في تفسير إحرامه، ومنتهى ما يلتزمه بإحالته أن يكون كالمحال عليه، في حالته، ولقد كان المحال عليه في إحرام مُبهمٍ، لمّا قال هذا: لبيك بإحرام كإحرام فلانَ، فما يحدث بعد ذلك، من تعيين (2) وتفسير، فلا يلتزمُه المحيل؛ باتفاق الأصحاب.
ولو كان ذلك المعيَّن قد أحرم بالعمرة أولاً، ثم أدخل عليها حجة، وصار قارناً، ذكر الشيخُ أبو علي في ذلك وجهين: أحدهما - أنه يصير قارناً؛ [فإنه] (3) لما أنشأ ربط إحرامه بإحرام ذلك الشخص، كان إذ ذاك قارناً، ولم يجر القِران بعد إحرامِ هذا المبهم. والوجه الثاني - أن إحرامه عمرة؛ نظراً إلى ما كان عليه أولاً، قبل إدخال الحجة، فإن إحالته واقعةٌ على إحرامه الأول.
وهذا الذي ذكره يستدعي نوعَ كشفٍ، فإن خطر (4) للذي أبهم الإحرامَ، التزامَ ما فيه ذلك المعيّن الآن، فلا خلاف أنه يلزمه القِران، إن صار قارناً، كما صورناه.
وإن خصص بعقده حالةَ الإحرام، فلا خلاف أنه لا يلتزم إلا العمرة. ولو جرى ذلك مبهماً، من غير تعرّضٍ للأول، والدوام، ففيه الخلافُ الذي ذكرناه.
ولو أحرم بما أحرم به فلان، وقد أشكل ما أحرم به فلان، وعسر الوصول إلى دركه، فهذا عند المحققين بمثابة ما لو أحرم، ثم نسي ما أحرم به.
وهذا فصل قد انتهينا إليه الآن، ونحن نخوض فيه مستعينين بالله، وهو خير معين.
__________
(1) في الأصل: الإبهام.
(2) (ط) : تغيير.
(3) ساقطة من الأصل.
(4) (ط) : خص الذي.(4/224)
فصل
قال الشافعي: " فإن لبىّ بأحدهما، فنسيه، فهو قارن ... إلى آخره " (1) .
2542- إذا أحرم في وقت إمكان الحج، ثم نسي ما أحرم به، قال الشافعي: " فهو قارنٌ ". واتفق الأئمة على أنه ليس بقارنٍ في الحال حكماً، ولكنه مأمور بأن يُصيِّر نفسه قارناً، كما سنصفه.
فأول ما نذكره: أنه إذا أشكل عليه ما أحرم به، فالمذهب المشهور أنه يلزمه أن يسعى في تحصيل القطع، [كما نصفه] (2) ، ولا يكفيه بناء الأمر على غالب الظن.
وللشافعي قولٌ في القديم، حكاه العراقيون، وغيرُهم: " إنه يجتهد، ويتحرى، فإن غلب على ظنه أمرٌ بنى عليه، ولا يلزمه طلب القطع ".
ثم سبيل التفصيل أن نقول: إن نسي ما أحرم به، لم يخلُ إما أن يطرأ ذلك قبل الإتيان بشيء من أعمال النسك، وإما أن يطرأ الإشكال بعد جريان عمل من الأعمال.
فأما إذا لم يأت بعمل، ولكنه أحرم، ثم نسي ما أحرم به، فالمنصوص عليه، -وهو ظاهر المذهب- أنه يجب السعي في درك اليقين، ووجهه أنه لابَس الإحرامَ قطعاً، فليخرج منه قطعاً. ونظائر [وجوب] (3) استصحاب اليقين كثيرة في الشريعة.
والذي حكاه الأئمة عن القديم، جوازُ بناء الأمر على التحرّي، فليجتهد من أشكل عليه الحال، ويعمل بموجَب ظنه. ووجهُهُ تنزيلُ الظن منزلة العلم، فكيف ومتعلَّق المستصحب ظن أيضاًً، وقد جرى منا في المسائل المتقدمة تنبيهٌ على حقيقة القول في ذلك.
2543- فإن قلنا: يجب التوصل إلى درك اليقين، فوجهه أن يحرم صاحب الواقعة بحجٍّ، وعمرة، وعبّر الشافعي عن هذا الغرض، بأن قال: " إذا نسي ما أحرم به،
__________
(1) ر. المختصر: 2/62.
(2) ساقط من الأصل.
(3) ساقطة من الأصل.(4/225)
فهو قارن "، ولم يُرد أنه قارنٌ [حقا] (1) ، ولكن أراد أن الوجه أن يُصيِّر نفسه قارناً، ثم إن كان إحرامه أولاً قِراناً، فلا يضر إعادة العقد، وإن كان إحرامه أولاً بعمرة، فيصير الآن قارناً، مُدخلاً للحج على العمرة، وإن كان محرماً بالحج أولاً، فيصير الآن مدخلاً عمرةً على الحج، وقد مضى اختلاف القول في أن العمرة هل تدخل على الحج، ثم يجري في عمل الحج، فإذا انتهى، فقد تحلّل عن الإحرام، قطعاً، وبرئت ذمته، عن حجة الإسلام؛ فإن حجه يصح على كل قولٍ، في كل تقدير.
وأما العمرة، فإن حكمنا بأنها تدخل على الحج فتبرأ ذمته عن عمرة الإسلام أيضاً - إذا أوجبناها- وإن حكمنا بأنها لا تدخل على الحج، فلا تبرَأ ذمتُه عن العمرة، لجواز أنه كان أحرم أولا بحجة مفردة، فلما نسي ولبى بالقِران، فالعمرة لا تلج على الحج.
2544- وأما دم القِران، فإن حكمنا بدخول العمرة على الحج، فهو قارن في كل تقدير، فيلزمه دمُ القران.
وإن فرّعنا على أن العمرة لا تدخل على الحج، فلا يمتنع كونه غير قارن، والأصل براءة ذمته عن كفارة القِران، فلا يلزمه الدم إذاً، بناءً على أصل البراءة؛ فإن مبنى هذا القول على استصحاب الأصل في [كل] (2) حكم.
والحاصل إذن أنه إذا أحرم بالقِران بعد النسيان، فالتحلل يحصل، والذمة تبرأ عن الحجة، وفي براءتها عن العمرة الخلاف المقدم، المبني على أن العمرة هل تدخل على الحج، وأمر الدم متلقى من هذا، فإن حكمنا ببراءة الذمة من العمرة، فذلك مفرع على دخول العمرة على الحج؛ فالقران إذاً مقطوع به؛ فيلزمه دم القِران، وإن لم تبرأ ذمتُه من العمرة، لم نقطع بحصول القِران، فلا نوجب الدمَ على تردُّدٍ؛ فإن مبنى المسألة على بناء الأمر على الأصل في جميع أطراف الحكم.
2545- ومما يتم به الغرض: أنه لو أحرم بالحج، ولم يأت بصورة القِران بعد النسيان، بل اقتصر على إحرام الحج بعد النسيان، فإذا أنهى عملَ الحج، فقد تحلل
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) ساقطة من الأصل.(4/226)
عما هو عليه قطعاً، وقد برئت ذمته عن الحج؛ فلم يذكر الشافعي القِران على معنى أنه لابد منه، ولكنه ذكره ليستفيد الآتي به التحللَ القطعي، وتبرأ ذمتُه عن النسكين.
ولو نسي ما أحرم به، ثم لم يجدد إحراماً بالحج أيضاًً، ولكنه أتى بأعمال الحج؛ فإنه يخرج أيضاً عن إحرامه، ويتحلل، غيرَ أنه لا تبرأ ذمتُه، في ظاهر الحكم عن واحدٍ من النسكين.
هذا كله تفريع على الجديد.
2546- فأما إذا قلنا: إنه يجتهد، فإن أداه اجتهاده إلى أنه حاجٌّ، تمادى فيه، وبنى على ظنه فيه، ولم يُكلَّف إنشاءَ إحرامه، وإن ظن أنه قارِن، فهو كذلك، وإن ظن أنه معتمر، وأراد الاقتصارَ على العمرة، طاف، وسعى، وحلق، وخرج عما عليه.
ثم الصحيح في التفريع على هذا القول: أنه يحكم. بموجَب الظن، فيما له وعليه، حتى إن ظن القِران، وجرى على موجَب ظنه فيه، خرج عن النسكين، وتحلل، ولزمه الدمُ.
وذكر الشيخ أبو علي: أن من أصحابنا من قال في التفريع على اتباع الاجتهاد: إن فائدة الحكم به القضاءُ بالتحلل، والخلاصُ من الإحرام، فأما أن يحكم ببراءة الذمة عن النسكين إذا ظن القِران، فلا. وكذلك لا يلزمُ الدمُ بالظن.
وهذا بعيدٌ؛ فإن الظن إن اتبع في وجهٍ، وجب اتباعُه في كل حكم.
2547- ومما فرعه العراقيون على هذا القول: أنه لو [كان] (1) قال: لبيك بإحرام كإحرام فلان، ثم أشكل ما أحرم به فلان؛ قالوا: في المسألة وجهان:. أحدهما - أنه يأخذ بما يظنه، كما لو كان إشكاله في إحرام نفسه. والثاني - أنه لا يأخذ بالظن في حق من شبَّه (2) إحرامَ نفسه بإحرامه؛ فإن الاجتهاد لا مساغ له في حق الغير، ولا مطّلع
__________
(1) ساقطة من الأصل، (ك) .
(2) عبارة الأصل:.. مَنْ إحرام نفسه كإحرامه.(4/227)
على نيته، فلا يتحقق غلبة الظن فيما يتعلق بالغير، وقد يثبت الظن فيما يتعلق بنفس الإنسان.
ولو جوزنا له أن يبني الأمر على الظن، فلم يترجح في فكره أمرٌ، ولم يحصل له ظن، فالوجه على ذلك أن يتمسك بمُدرك القطع، كما فرعناه على ظاهر المذهب، فيلتقي القولان في هذه الحالة.
ومما حكاه الشيخ في التفريع على طلب اليقين أنا إذا قلنا: إنه يَقرُن، وحكمنا بأن العمرة لا تدخل على الحج، فقد ذكرنا أنه لا تبرأ ذمتُه عن العمرة. فهذا هو المذهب المقرر.
وقال أبو إسحاق المروزي: يعتد بالعمرة، وتبرأ الذمة منها، [وإن] (1) وقع التفريع على أن العمرة لا تدخل على الحج، وذهب إلى أن السبب الإشكالُ وطريانُ النسيان، وقد يُجرى (2) في حال الإشكال، ما لا يُجرى في غيرها؛ فإن من صلى الظهر خمس ركعات ناسياً، صحت صلاته، ولو زاد ركعةً خامسةً على عمد، بطلت صلاته.
وهذا كلام باطلٌ غيرُ مُعتد به، ولا ينبغي أن يعتقد تشوّش الأصول بأمثال هذه الوجوه.
وكل (3) ما ذكرناه فيه إذا نسي ما أحرم به، وطرد (4) الشك، قبل أن يعمل شيئاً من أعمال النسك.
__________
(1) في الأصل: فإن.
(2) " يُجرى " بضم ياء المضارعة في الموضعين؛ فإن المراد أن حال الإشكال يجري فيها الفقيه أحكاماً لا يجريها في غيرها. والأمر قريب على أية حال.
ثم إن في نسخة الأصل: " وقد يخرّج في حال الإشكال ما لا يُجرى في غيرها " وآثرنا (ط) ، (ك) للمشاكلة بين الموضعين.
(3) هذا أحد القسمين اللذين قسمَ موضوعَ النسيان إليهما في أول الموضوع.
(4) (ك) : وطرأ. هذا، ومعنى " طرد الشك " أي اطَّرد واستمرّ، واستحضره قبل أن يعمل شيئاً من أعمال النسك.(4/228)
2548- فأما إذا أحرم، فطاف، ثم تردّد، فلم يدر أنه محرم بماذا؟ فهذا موضع تفريع ابن الحداد، فنذكر جوابه، ثم نصل به تمام الشرح.
قال ابن الحداد: لو قصد القِرانَ إنشاءً، كما صورناه في القسم الأول، لم ينتفع به؛ فإنه يجوز أنه كان معتمراً، والمعتمر إذا طاف، ثم أراد إدخال الحج على عمرته، لم يمكنه، فإن أراد أن يحسب له حج، فالوجه أن يسعى، ويحلق، ثم يبتدئ إحراماً بالحج؛ والسبب فيه أنه إن كان معتمراً، فما ذكرناه يحلله عن العمرة، ثم يقع حجه على الصحة، بعد تحلله. وإن كان إحرامه في علم الله حجاً، فلا يضرّ ما جرى، وغايته أن ينتسب (1) إلى الحلق في غير زمانه.
وكذلك لو قُدِّر قارناً، [فالحج] (2) يعتد به، والدم واجب بسبب إيقاع الحلق في غير أوانه.
وما ذكره ابن الحداد حسنٌ، لا وجه غيره (3) ، ولكن ظاهر كلامه مشعرٌ، بأنه [مأمور بأن] (4) يحلق. وهذا نَقَمَه (5) كافة الأصحاب عليه، فإنه قد يكون حاجاً، فأمره بالحلق من غير بصيرة [ليس] (6) جارياً على اتباع موجَب القطع.
وقال الأئمة: لا يؤمر صاحب الواقعة بالحلق، بل ينهى عنه، لجواز أن يصادِف الحلق إحراماً مستمراً، ولكن إن حلق بعد الطواف، والسعي، ثم راجع المفتي، أجاب بالأمر بالإحرام بالحج، وإلزامِه الدمَ، كما سنصفه -إن شاء الله تعالى-، وضربوا لذلك الدجاجةَ والدُّرّة مثلاً، فقالوا: إذا بلعت دجاجةُ زيدٍ درة ثمينةً لعمرو، فلا نسلط صاحب الدرة على ذبح دجاجة الغير من غير إذنه، ولكن لو ابتدر ذلك، صل إلى درته، والتزم لصاحب الدجاجة ما ينقصه الذبح.
__________
(1) (ك) . يتسبب.
(2) في الأصل: بالحج.
(3) (ط) : له.
(4) ساقط من الأصل.
(5) نَقَم: من باب ضرب.
(6) ساقط من الأصل.(4/229)
وحكى الشيخ أبو علي عن بعض الأصحاب أن من نسي ما أحرم به، وقد طاف، فنأمره بأن يسعى، ويحلقَ، فإنه مضطر إلى هذا، وإذا كان من به أذىً من رأسه يؤذن له في الحلق للأذى، فما تورط فيه صاحب النسيان أولى بأن نسلطه على الحلق.
وهذا وإن كان يوجه على بُعْدٍ، فالمذهب ما قدمناه.
ثم المعنيّ بالأمر بالحلق الندبُ، والإباحة، ورفعُ الحرج: ووجه الندب أنه يُتوصل إلى إبراء ذمة نفسه، عن الحج، وإذا لم يفعل ما ذكرناه، تأخر حجُّه، ووقع في غَررِ العاقبةِ.
2549- فإن قيل: إذا نهيتم عن الحلق، وجريتم على ظاهر المذهب، وهو ما اختاره ابن الحداد، في بيان طريق الخروج عن العهدة، مع استفادة براءة الذمة عن الحج، فإذا جاء صاحب الواقعة التي فرض فيها ابن الحداد كلامَه، واستفتى فبماذا تُفتون؟ قلنا: أما الحلق، فننهى عنه، ونأمره بأن يعمل عمل حاجٍّ، ليتحلل عما هو فيه، ثم لا نحكم له ببراءة ذمته عن واحد من النسكين، وإن حصل أحدهما، هذا مسلك الفتوى.
وطريقُ الخلاص، مع تحصيل الغرض من الحج ما ذكره ابن الحداد فهذا ما أردناه.
2550- والآن حان أن نتكلم فيما يلزمه من الدم:
إذا فعل ما ذكره ابنُ الحدَّاد، فنقول: إن كان صاحب الواقعة غريباً، بحيث يلتزم بصورة التمتع الدمَ، فإذا جرى [على] (1) مراسم ابن الحداد، فيلزمه دمٌ، لا محالة؛ فإنه إن كان متمتعاً، فعليه دم، وإن كان محرماً بالحج أوّلاً، فالحلق في غير أوانه يلزمه الدم، فالدمُ لازم في كل تقدير، ثم لا يضره أن يجهلَ، ولا يعرفَ السببَ المقتضي لوجوب الدم؛ فإن قياس مذهبنا في الكفارات، أنه لا يجب فيها تعيين النية، على ما سنذكره في الظهار.
وإن لم يجد دماً، وصام عشرة أيامٍ، خرج عما عليه؛ فإن الصيام في التمتع على
__________
(1) ساقط من الأصل.(4/230)
الشرط [المقدم] (1) قد أتى به، ويكفي في كفارة الحلق، صيام ثلاثة أيامٍ، وفي صيامِ
العشرة خروجٌ عما عليه.
فإن أطعم، لم يخرج عما عليه؛ لجواز أن يكون الواجبُ كفارةَ التمتع، وليس في كفارة التمتع إطعام.
قال الشيخ: إذا وجبت الكفارة بيقين، فينبغي أن يكون الخروج منها بيقين.
وقد يعترض في ذلك أن قائلاً لو قال: إذا صام ثلاثةَ أيام، فصيام السبعة بعدها مشكوك في وجوبه، فينبغي ألا تشغل الذمة إلاّ على يقين، وكذلك إذا أطعم.
وهذا فيه احتمال ظاهر، وله التفات على تقابل الأصلين، وعلى مسألةٍ تقدمت في الطهارة، وهي أن من شك في الخارج، فلم يدر أمنيٌّ هو أو وَدي، ففي أصحابنا من اكتفى بوضوء (2) منكس، وإن كان ذلك منساغاً عند بعض الأصحاب، لفرط التشوف إلى الأخذ بالأقل، مع العلم بأن الوضوء المنكس ليس موجَب الحدث، ولا موجَبَ الجنابة. فلأن يخرج بصيام الثلاثة عما عليه أولى؛ فإن لإجزائه وجهاً، وهو أن يقدَّر مُفرداً، حالقاً في غير أوانه، بل ما ذكرناه شبيهٌ بالاقتصار على الوضوء؛ من جهة أن الحدث مانع، ثم اكتفى بالوضوء، ونحن لا نقطع بأنه رافعٌ للحدث الواقع.
فهذا ما أردناه نقلاً، واحتمالاً.
والمنقول عن الشيخ ما تقدم، من أنا لا نكتفي بصيام ثلاثة أيامٍ، وقياسُ الاحتمال بيّن.
وكل ذلك فيه إذا كان صاحب الواقعة غريباً، يلتزم بصورة التمتع الدمَ.
2551- فأما المكي إذا وقعت له هذه الواقعة، فأمرناه بما ذكرناه، فلا نُلزمه دماً، لجواز أن يكون محرمًا بالعمرة، وقد تحلل على الصحة، فلم يكن الحلق موجباً للكفارة، ولا صورة التمتع، فلا سبيل إلى شغل الذمة من غير تحقق.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) المراد أنه هنا في حالة الشك بأحد الأمرين، فإن رجح كونه ودْياً، توضاً. ولا بد في الوضوء من الترتيب عندنا، لكن بعض الأصحاب اكتفى في هذا الوضوء (لأنه وجب على الشك) بغير الترتيب.(4/231)
ومبنى الكلام في أطراف المسألة على اشتراط اليقين في التحلل، واشتراطِه في شغل الذمة، واشتراطِه في براءة الذمة عما سبق القطع بوجوبه، ولذلك جرى التردد في صيام الأيام الثلاثة؛ فإن اشتغال الذمة بالكفارة معلوم قطعاً، وحصول البراءة بصيام الثلاثة مشكوك فيه.
فهذا تمام ما أردناه في ذلك. والقول الضعيف في اتباع الظن والاجتهاد قائمٌ في صورة مسألةِ ابن الحداد، لم نُعده، واقتصرنا على التفريع على القول الصحيح.
فرع:
2552- إذا وُجد من الغريب صورةُ التمتع، ثم لما انقضى عملُ النسكين، تذكر أنه كان محدثاً في طواف العمرة، وتعيّن له ذلك، فنقول: بان أن طوافَ العمرة لم يصح؛ ولم يصح السعي، لأن صحتَه تستدعي تقديمَ طوافٍ صحيح، فقد أحرم بالحج قبل مضي شيء معتد به، من أعمال العمرة، فيكون [قارنا] (1) ويُعتدّ بنسكيه، ويلزمه (2 دم، صفته صفة دم التمتع، ويلزمه 2) أيضاً دَمُ الحلق الواقعِ في غير أوانه؛ فإن المسألةَ مصورةٌ فيه إذا حلق، وابتدأ الإحرام بالحج.
وبمثله لو تذكر أنه كان محدثاً في طواف الحج، فالخطب يسير، فنقول له؛ توضأْ، وأعد الطوافَ، والسعيَ، وهذا أقصى ما عليك.
2552/م- وإن تذكر أنه كان محدثاً في أحد الطوافين، ولم يتعين له ذكر واحدٍ منهما، وهذه صورة مسألة ابن الحداد، فنقول: يحصل له النسكان جميعاً، لو توضأ، وطاف، وسعى مرة أخرى، فإنه بين أن يكون متمتعاً، قد طاف في حجه محدثاً، فإن كان كذلك، فقد أعاد الطواف، وبين أن يكون قارِناً، لم يعتد بطوافه في عمرته؛ لأنه كان محدثاً، وقد دخلت الحجة على العمرة، فالواجب إذاً أن يتوضأ، ويطوف، ويسعى، وقد حصل له النسكان، ولا يلزمه في هذه الصورة إلا دمٌ واحد؛ فإنه بين أن يكون قارناً، أو متمتعاً. ولا يلزمه دم الحِلاق؛ لجواز أن يكون حدثه في طواف حجه.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) ما بين القوسين ساقط من (ط) .(4/232)
2553- وقد ذكر الشيخ فرعاً متصلا بما ذكرناه، وذلك أنه قال: المفرد في الحج إذا مضت منه الأفعال، وجامع، ولكنه لم يدر أن جماعه جرى قبل التحلل الأول، فتضمن فسادَ حجه، أو جرى بعد التحلل الأول، فلم يفسد حجُّه، على المذهب، كما سيأتي.
قال: في المسألة وجهان: أحدهما - أن الحج يُحكم بفساده؛ فإن الأصل أنه لم يتحلل عنه حتى جرى المفسد. والثاني - لا يثبت الفساد؛ فإن الأصل براءةُ الذمة عن وجوب القضاء، والحكمُ بالصحة وانتفاءُ المفسد.
فرع:
2554- إذا أتى الغريبُ بصورة التمتع، وجامع بعد الفراغ من أعمال العمرة، وقبل الإحرام بالحج، [ثم أحرم بالحج] (1) وأنهى أعماله نهايته، ثم تذكر أنه كان محدثاً في أحد الطوافين، ولم يتعين له الطوافُ الذي كان محدثاً فيه.
فنقول أولاً في مقدمة المسألة: من شرع في العمرة، وأفسدها بجماع [على] (2) عمد، ثم أحرم بالحج قبل التحلل عن العمرة الفاسدة، فللأصحاب ثلاثة أوجه، حكاها الشيخ: أحدها - أن الإحرام بالحج لا ينعقد أصلاً، لا على الصحة، ولا على الفساد؛ لأنه لو اشتغل في العمرة الصحيحة بأعمالها، ثم أحرم بالحج، لم ينعقد لاشتغاله بأسباب التحلل، [والفساد أقوى في هذا] (3) المعنى، [من] (4) افتتاح أسباب التحلل، فليمتنع انعقاد الحج.
والوجه الثاني - أنه ينعقد الإحرام بالحج؛ فإن الإحرام بالعمرة تامٌّ، على نعت الفساد، لم يتحلل من شيء منه.
ثم إذا حكمنا بانعقاد الإحرام بالحج، فقد ذكر وجهين: أحدهما - أنه ينعقد على الصحة، ويبقى صحيحاً، ويجري صاحب الواقعة في عمرةٍ فاسدة، وحج صحيح.
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) مزيدة من (ط) ، (ك) .
(3) عبارة الأصل: والفساد إذا نوى من هذا المعنى، وعبارة (ك) : لا ينعقد أصلاً، لا على الصحة، ولا على الفساد في هذا المعنى ...
(4) في الأصل: في.(4/233)
وهذا بعيد جداً؛ فإن قياس مذهب الشافعي أن الإحرام واحد في حق القارن، ومضمونه نسكان، كالبيع الواحد، يشتمل على مبيعين؛ وإذا (1) أجرينا البيع في ذلك مثلاً، فقد ينقدح تخريجُ هذا الوجه على تفريق الصفقة، في البيع المشتمل على الفساد والصحة، وهو بعيد؛ فإن إيراد الحج على العمرة الفاسدة، اعتمادٌ لملابسة الفساد، في نفس الإحرام بالحج. فهذا أحد الوجهين. والوجه الثاني - أن الفساد يلحق الحجَّ وينعقد الإحرام به، [ثم] (2) في تقدير فساده وجهان: أحدهما - أنه ينعقد على الصحة، ثم يفسد. والثاني - أنه ينعقد فاسداً. وقد ذكرنا نظير الوجهين فيه، إذا أصبح المرء مجامعاً، فطلع الفجر، واستدام الوقاع.
والأظهر عندنا من هذه الوجوه (3) كلِّها الحكمُ بانعقاد الحج على الفساد، من غير تقدير فسادٍ طارئ على صحةٍ في الحج مُقدَّرَة.
وليست هذه المسألة كمسألة الصوم (4) ؛ فإن من تخيل ثَمّ فساداً بعد انعقادٍ، فسببه أنه لو اشتغل بالنزع، لصح صومُه، ومثل ذلك غيرُ متخيّل فيما نحن فيه؛ فإنه أحرم بالحج مُقْدِماً على إدخاله على عمرة فاسدة.
هذا كله فيه إذا أفسد العمرة، ثم أحرم بالحج.
2555- ومما ظهر فيه الخلاف أنا إذا حكمنا بانعقاد حجه على (5) الفساد، فالرجل قارِنٌ يلتزم بدنةً لإفساد العمرة، وظاهرُ المذهب أنه يلتزم بدنةً أخرى لإفساده حجَّه بإدخاله إياه في عمرة فاسدة.
ومن أصحابنا من قال: لا يلتزم إلا بدنةً واحدة [كما لو قرن على الصحة، ثم
__________
(1) (ط) : وإذ.
(2) ساقطة من الأصل وحدها.
(3) لم يذكر من الوجوه الثلاثة التي كان وعد بها إلا اثنين، إذ دخل الثالث في تفريع الثاني، الذي فرعه إلى عدة وجوه، بعضها عن بعض.
(4) هنا خلل آخر في ترتيب صفحات (ك) حيث قفزت من آخر 231 عائدةً إلى أول 103، والله المعين.
(5) ساقطة من (ك) .(4/234)
جامع، وأفسد نسكه؛ فإنه لا يلزمه إلاّ بدنة واحدة] (1) وإن أفسد النسكين، نظراً إلى اتحاد الجماع.
والقائل الأول يقول: قد ترتب [الفساد] (2) في الصورة التي نحن فيها، فحصل الإفساد بدفعتين.
ومن أصحابنا من أوجب بدنةً، لإفساد العمرة، وشاةً لما جرى آخراً، ونزل هذا منزلة ما لو جامع الرجل، فأفسد نسكه، ثم جامع مرة ثانية، على الفساد، فإنا في وجهٍ نُلزمه بالسبب الثاني دمَ شاةٍ، وبالإفساد بدنة، وستأتي هذه التفاصيل في موضعها.
2556- فإذا وضح ما أردناه في هذه المقدمة، عدنا بعدها إلى تفصيل المذهب في صورة مسألة ابن الحداد:
فإذا (3) أتى بصورة العمرة، وتحلّل، وجامع، ثم أحرم بالحج من جوف مكة، وقضى أفعال [الحج] (4) ، ثم قال: تذكرت أني كنت محدثاً في أحد الطوافين: طوافِ العمرة، أو طوافِ الحج، وليس (5) يتعين لي الطوافُ الذي كنت محدثاً فيه.
فنقول: اختلف قول [الشافعي] (6) في أن الجماع إذا صدر من الناسي في النسك، فكيف حكمه؟ أحد القولين - أنه لا أثر له، وحكمه محطوط بالكلية. والثاني - أنه يناط به ما يناط بجماع العامد، إلا المأثم، وسيأتي ذكر ذلك.
فإذا ظن أنه تحلل من العمرة، وجامع، فلو كان محدثاً في طواف عمرته، فجماعه صادفَ عمرته، وقد اختلف أصحابنا في حكمه، لو كان كذلك: فمنهم من نزّله منزلة الناسي لنسكه، إذا جامع؛ حتى نخرج المسألة على القولين اللذين ذكرناهما
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(2) في الأصل: الإفساد.
(3) (ك) : فإنه.
(4) ساقطة من الأصل.
(5) (ط) : ليس (بدون واو) .
(6) في الأصل: أئمتنا.(4/235)
الآن. وهذا هو الذي اختاره الشيخ.
ومنهم من لم يجعله كالناسي، وقد ذكرنا قريباً من ذلك فيه إذا أصبح مخالطاً أهله، ظاناً أنه في بقية من الليل، ثم تبين أنه كان مواقعاً، وكان الصبح في وقت وقاعه طالعا، فمن أصحابنا من قطع بفساد الصوم. وهذا مذهب الأكثرين. ومنهم من لم يحكم بالفساد، كما لو صدر ذلك من الناسي، وكان هذا غريباً عندنا، في كتاب الصوم.
وقد صرح الشيخ به في المسألة التي انتهينا [إليها] (1) من الحج.
والعبارة القويمة عما نحن فيه، أن الغالط هل ينزل منزلة الناسي؟ فعلى وجهين، وبيانه ما قدمناه، فإن من جامع على ظن أنه في بقيةٍ من الليل، فهو ذاكرٌ لصومه، ولكنه غالطٌ في فعله. وكذلك إذا ظن أن عمرته قد تمت، فجامع، فهو ذاكرٌ غيرُ ناسٍ، ولكنه غالطٌ، وسنُجري في مسائل إفساد الحج خلافاً في أن القارن إذا أفسد ما هو فيه، وألزمناه موجَب الإفساد، فهل يلزمه مع موجب الإفساد دمُ القران؟ فعلى وجهين: وهما يجريان في أثناء هذه المسألة، إذا (2) اقتضى الحال الحكمَ بفساد القران، وسنستقصي حقيقة الوجهين، عند ذكرنا بيانَ ما يفسد الحج، وما يستوجبه المفسد.
2557- وإذا وضح ما ذكرناه، عاد بعده بنا الكلام إلى ذكر صورة مسألة ابن الحد اد:
فإذا جرى الجماع بعد صورة الفراغ من أعمال العمرة، ثم أحرم بالحج، واستمر، وذكر أنه كان محدثاً في أحد الطوافين، ولم يَبِن له عينُ الطواف، الذي كان محدثاً فيه، فالوجهُ -بعد تمهيد ما تقدم- أن نقول:
أما ما يتعلق ببراءة الذمة عن النسكين، فالأخذ فيه بالأسوأ، فنقدر كأنه كان محدثاً في طواف العمرة، لتفسدَ، ويفسدَ الحجُّ على ظاهر المذهب؛ فتبقى ذمتُه مشغولةٌ
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) (ط) : إذ.(4/236)
بالنسكين، إذا كانا عليه من قبل.
وأما ما يتعلق بلزوم الدم، فلا يلزم منه مشكوكاً فيه، فإن الأصل براءة الذمة، فإذاً لا نوجب بسبب الإفساد شيئاً. ونوجب دمَ التمتع، فلا أقل منه، ونوجب لتحقيق التحلل، أن يتوضأ في آخر حجه، ويطوفَ ويسعى، فإن التحلل لابد من طلب اليقين فيه.
فهذا نجاز القول في هذه الفصول. وقد ذكر الشيخ في الشرح مسائلَ، تتعلق بإفساد الحج والعمرة، وسنذكرها -إن شاء الله تعالى- في موضعها.
فصل
قال الشافعي: " ويرفع صوتَه بالتلبية ... إلى آخره " (1) .
2558- فنقول: أفضل صيغ التلبية ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما رواه أبو هريرةَ، قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد، والنعمة، لك، والملك، لا شريك لك " (2) ، ويستقيم إن وأن بالكسر والفتح، فمن فتح، فعلى تقدير الاتصال بما تقدم، ومن كسر فعلى تقدير الابتداء.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال على أثر التلبية: " إن العيش عيشُ الآخرة " (3) قال الشافعي: " قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم، في أسَرِّ حالة،
__________
(1) ر. المختصر: 2/62.
(2) حديث التلبية الذي يشير إليه لم نجده لأبي هريرة، وإنما هو متفق عليه من حديث ابن عمر (البخاري: الحج، باب التلبية، ح 1549، مسلم: الحج، باب التلبية، ح 1184) .
أما حديث أبي هريرة في التلبية فلفظه (لبيك إله الحق لبيك) رواه الشافعي في الأم: 2/155، وأحمد: 2/341، 476، والنسائي: المناسك، باب كيف التلبية، ح 2753، وابن ماجه: المناسك، باب الإحرام، ح 2920، والدارقطني: 2/255 وقال في التعليق المغني: الحديث رواته كلهم ثقات، ابن حبان: ح 3800، الحاكم: 1/449، وصححه، ووافقه الذهبي، والبيهقي: 5/45.
(3) حديث "إن العيش عيش الآخرة" روي مرفوعاً، ومرسلاً، أما المرفوع فرواه ابن خزيمة،=(4/237)
وفي أشد حالة " (1) ، أما أسر حالةٍ، فلما وقف بعرفةَ، عامَ الوداع، ورأى جمعَ المسلمين، فسرّه ذلك المنظر، استبشر، ثم استرجع، وقال: " لبيك إن العيش عيشُ الآخرة ". وقال أنس (2) : أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بذي الحليفة، وهو على ناقةٍ عليها قطيفة، لا تساوي درهمين، ورأى أصحابَه حوله ينتظرون، أمره ونهيه، فتضاءل حتى توارى برحله، تواضعاً لربه، ثم قال. على أثر تلبيته: لبيك، " إن العيش عيشُ الآخرة ".
وأما ما ذكره كذلك في أشد حالة، فهو ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابهَ رضي الله عنهم، كانوا يحفرون الخندق، وقد نُهِكت (3) أبدانهم، واصفرت ألوانهم، من وباء يثرب وعلى [أَوْساطهم] (4) الأحجارُ تقيم أصلابَهم من شدة الجوع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتجزاً:
"اللَّهُمَّ إنَّ العيش عَيشُ الآخره ... فارحم الأنصارَ والمهاجِرَه
فأجابوه:
نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقِينا أبدا " (5)
__________
=والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، والطبراني في الأوسط، وحسنه الهيثمي في المجمع، والبيهقي، كلهم من حديث عكرمة عن ابن عباس. وأما المرسل فرواه الشافعي عن مجاهد، قال النووي في المجموع: (7/256) ، " بإسناد صحيح ". وقال ابن الصلاح في مشكل الوسيط (2/37 ب - هامش الوسيط 2/637) " هذا مرسل يصلح لأن يعتمد في باب فضائل مثل هذا الذكر ". ورواه البيهقي في السنن والمعرفة: (ر. الأم: 2/156، الحاكم: 4/465، مجمع الزوائد: 3/223، البيهقي في الكبرى: 5/45، 7/48، والمعرفة: 4/5، التلخيص: 2/459) . (1) يبدو أن هذا الكلام مشهور عن الإمام الشافعي، لكنا لم نصل إليه، وقد أورده البيهقي في
الكبرى: (7/48) ولم ينسبه.
(2) حديث أنس رواه الإمام أحمد في المسند بلفظ مقارب: (3/216 ح 13281) .
(3) نهك: من باب تعب، ونفع، ونُهك وزان عُني، بضم فكسر، دنف، وضني، فهو منهوك. (قاموس، مصباح، ومعجم، ومختار) .
(4) في الأصل: أصلابهم.
(5) حديث حفر الخندق متفق عليه من حديث أنس، وسهل بن سعد (ر. البخاري: الجهاد،=(4/238)
فالغرض أن الأوْلى الاقتصارُ على الكلم المقدّمة، في الملبية، وتكريرُها أولى من الاشتغال بذكرٍ أخر، وصيغةٍ أخرى في التلبية، سوى تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروي أن سعدَ بنَ أبي وقاص سمع رجلاً يقول: " لبيك يا ذا المعارج "، فقال: " يا بن أخي. إنه ذو المعارج، ولكن ما هكذا كنا نلبي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم " (1) .
2559-[ثم ذكر الأصحاب] (2) أنه إذا لبى، فحسنٌ أن يستغفر في نفسه، ويستعيذ به من النار، ولا يرفع صوتَه بذلك، رفعه بالتلبية.
وذكر العراقيون استحسانَ الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك بصوتٍ خفيضِ، بحيث يتميز عن التلبية.
2560- والتلبيةُ محبوبةٌ في دوام الإحرام، وتمامه، إلى بدء أسباب التحلل، كما سنذكرُهَا، ويتأكد استحباب التلبية، في التغايير التي تطرأ، عند الاستواء على كل نشز وصعودٍ، وعند كل هبوط، وعند اصطدامِ الرفاق.
ثم ليقتصر كلٌّ في رفع الصوت على ما يطيقه ويستديمه ولا ينبهر (3) به.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نزل عليّ جبريلُ فأمرني أن آمر أصحابي ومن معي، بأن يرفعوا أصواتهم بالتلبية " (4) قالوا، فرفعنا أصواتنا، فما بلغنا
__________
=باب التحريض على القتال، ح 2834، والرقاق، باب الصحة والفراغ ولا عيش إلا عيش الآخرة، ح 6414، مسلم: الجهاد، باب غزوة الأحزاب، ح 1804، 1805) .
(1) أثر سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه رواه الشافعي، والبيهقي في سننه الكبرى (ترتيب مسند الشافعي: 1/305 ح 793، السنن الكبرى: 5/45) .
(2) ساقط من الأصل.
(3) ينبهر به: أي يجهده، ويقطعه عن الاستمرار، من بهره: إذا أجهده حتى يتتابع نَفَسُه. (معجم) .
(4) حديث أمر جبريل بالتلبية رواه مالك، والشافعي، وأحمد، وأصحاب السنن، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي من حديث خلاد بن السائب عن أبيه (مسند الشافعي: ح 571، أبو داود: المناسك، باب كيف التلبية، ح 1814، الترمذي: الحج، باب ما جاء في رفع الصوت بالتلبية، ح 829، النسائي: مناسك الحج، باب رفع الصوت بالإهلال، ح 2753،=(4/239)
الروحاء (1) ، حتى بحت حلوقنا (2) . فقال صلى الله عليه وسلم: [أَرْبِعوا] (3) على أنفسكم؛ فإنكم لا تنادون أصمَّ ولا غائباً " (4) .
2561- واختلف قول الشافعي في أنا هل نستحب رفع الصوت بالتلبية في المساجد؟ فقال في أحد القولين: يستحب ذلك، تعميماً للأماكن والأزمنة، وأيضاًً؛ فإنها أفضل البقاع، فهي أولى بشعار الإسلام. وقال في قول: لا يؤثر ذلك؛ لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: " جَنّبوا مساجدَكم رفعَ أصواتكم " (5) . وهو الذي يليق بتعظيم المساجد.
فإن قلنا: لا يؤثر رفع الصوت في المساجد، فهل نرى الرفعَ في المساجد التي
__________
=ابن ماجة: المناسك، باب رفع الصوت بالتلبية، ح 2922، ابن حبان: 3791، الحاكم: 1/450، البيهقي: 5/42، التلخيص: 2/456 ح 1003) .
(1) الروحاء: موضع بين مكة والمدينة، على ثلاثين، أو أربعين ميلاً، من المدينة (القاموس المحيط) .
(2) هذا معنى حديث رواه البيهقي عن عائشة رضي الله عنها، قالت: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فما بلغنا الروحاء حتى سمعت عامة الناس قد بُحت أصواتهم من التلبية" وقد ضعفه البيهقي، ثم ذكر طريقاً آخر للحديث عن أنس رضي الله عنه، وضعفه أيضاًً، ومن طريق أنس رواه الطبراني في الأوسط: (2/224) (ر. السنن الكبرى: 2/184) . هذا ولم يأت هذا الحديث في سياق يربطه بحديث خلاد بن السائب السابق على نحو ما صنع الإمام.
(3) في النسخ الثلاث " ارفقوا " والمثبت لفظ الحديث.
(4) حديث " أربعوا على أنفسكم.. " متفق عليه من حديث أبي موسى الأشعري في غزوة خيبر (ر. البخاري: الجهاد، باب ما يكره من رفع الصوت في التكبير، ح 2992، مسلم: الذكر، باب استحباب خفض الصوت بالذكر، ح 2704) .
وقد ربط الإمام بين هذا الحديث وما قبله وجعل سببه ما أصاب حلوقهم من التلبية، ولكنا لم نصل إليه بهذا السياق. وإنما المعروف أنه جاء في قصة غزوة خيبر. وقد تكون القصة قد تكررت ولكننا لم نصل إليها.
(5) حديث: " جنبوا مساجدكم رفع أصواتكم ". رواه ابن ماجه عن واثلة بن الأسقع (المساجد والجماعات، باب ما يكره في المساجد، ح 750) . قال في الزوائد: إسناده ضعيف (ر. التلخيص: 4/346 ح 2582، خلاصة البدر المنير 2/429 ح 2856، إرواء الغليل: 7/361) .(4/240)
يتعلق بها المناسك، وهي المسجد الحرام، و (1) مسجد الخيف؟ فعلى هذا القول وجهان: أحدهما - لا يؤثر ذلك، كسائر المساجد. والثاني - أنا نستحب رفع الصوت فيهما؛ لاختصاصهما بجريان شعار المناسك (2) فيهما.
2562- واختلف قول الشافعي في أنا هل نستحب التلبيةَ في طواف القدوم، والسعي الواقع على أثره؟ فقال في أحد القولين: يستحب ذلك؛ فإن أحرى الأذكار بالتكرار، على اختلاف الأحوال التلبيةُ، وقال في القول الثاني: لا تستحب التلبيةُ فيهما؛ فإنه قد وردت أذكارٌ في الطواف، والسعي، تستوعب معظم الأوقات فيهما، فالاشتغال بتلك الأذكار أوْلى.
واختلاف القول في ذلك يقرب [من] (3) اختلاف القول في أنا هل نستحب للمصلي أن يجيب المؤذنَ في صلاته.
2563- ثم المرأة كالرجل في التلبية، غيرَ أنا ننهى المرأة عن رفع الصوت، فتلبي في نفسها، ورعايةُ الستر في حقها أولى الأشياء، ولهذا نهيناها عن الأذان.
فصل
2564- ذكر الشافعي آخر الباب، ما يجب على الرجل كشفُه في الإحرام، وما يجب على المرأة.
فأما الرجل، فيجب عليه كشف الرأس، ولا يجب عليه كشف الوجه، وعبر الفقهاء عن ذلك بأن قالوا: إحرام الرجل في رأسه، وإحرام المرأة في وجهها، ويجب على المرأة كشف وجهها، على ما نفصل القول فيه.
فأما الرجل، فلو ستر رأسه بما يُعد ستراً، كان مرتكباً محظوراً، فإن لم يكن
__________
(1) في الأصل: أو.
(2) (ط) : الإسلام.
(3) ساقطة من الأصل.(4/241)
معذوراً، عصى، وافتدى. وإن كان معذوراً، لم يعصِ، [وافتدى] (1) ، ولو توسد عمامةً مكورةً، ولم تحتو على رأسه، فلا بأس، ولا فدية، ولو ستر ذلك القُطر (2) ، بوضع العمامة عليه، افتدى.
فالتعويل على العادة، فالمتوسد حاسر الرأس، عرفاً، بخلاف الواضع عمامته على رأسه، ولو استظلّ المحرم [بمَحْمِلٍ] (3) [مُظَلَّل] (4) أو بظُلَّة يعتادها الكبراء، فلا بأس، ولا فدية. وكذلك [لو استظل] (5) ببناءٍ.
ومنع مالك (6) الاستظلالَ بظِلال المخيمات، والظُّلل، ولم يمنع الاستظلال بالبناء.
ولو وضع المحرم على رأسه حِملاً، أو زَبيلاً (7) ، ففي المسألة قولان: أصحهما - أنه لا فدية، لأنه يعد في العادة حاسراً.
وللشافعي قولٌ آخر: " إن الفدية تلزم ". أخذه الأصحاب من نقل الشافعي، عن مذهب عطاء: إن الفدية تلزم بذلك، ثم لم يَردّ الشافعي عليه، ودأبه أن يردّ على كل مذهب، لا يرتضيه؛ فحصل في المسألة قولان.
2565- وحقيقة هذا الفصل ترجع إلى أمرٍ لابد من العلم به، وهو أن المرعي في كشف الرأس في الإحرام عند الشافعي الخروجُ عن عادة الستر، والتغطيةِ، وليس الغرضُ تكليف المحرم مشقةً من التحسّر، وكشفِ الرأس.
هذا مذهبُ الشافعي، ولذلك لم يمنعه من الاستظلال بمظلة المحمل. وتخيل مالكٌ وطوائفُ من العلماء، أن الغرض من كونه حاسر الرأس أن يفارق الدّعة،
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) " القُطر ": الناحية والجانب.
(3) ساقطة من الأصل.
(4) في الأصل: بظلّ.
(5) ساقط من الأصل.
(6) ر. حاشية الدسوقي: 2/56، 57، حاشية العدوي: 1/489، شرح الحطاب: 3/143، 144.
(7) الزبيل: مثال كريم: وعاء من خوص النخيل، والزنبيل مثال قنديل لغة فيه. (مصباح) .(4/242)
والاسترواحَ، ولذلك منعه من الاستظلال، على تفصيلٍ له.
فإذاً حاصل مذهبنا منزَّلٌ على [أن] (1) كل ما يعد ستراً للرأسَ أو لبعضه، فهو محظور للإحرام. ثم لا يرعى في الستر، الموجِب للفدية العادةُ المعتادة في الستر، فلا نقول: تجب الفدية بسترٍ يُعتاد مثله، بل نقول: تجب الفديةُ بما يُعد ستراً للرأس. والسبب فيه أن سترَ الرأس لا ينضبط، بشيء من طبقات الخلق: فمن ساترٍ بعمامة، ومن ساترٍ بقلنسوة، ومن ساترٍ بخرقة، والمطلوب من الإحرام الخروج عن قبيل السترِ، بالكلية.
2566- ثم وجوب الفدية التامة لا يختص باستيعاب الرأس بالستر، كما لا تختص فديةُ الحلق باستيعابه، بل يجب السترُ في بعض الرأس.
قال الأئمة: لو شد على رأسه خيطاً، لم يلزمه الفدية، ولو شدّ عِصابة ذاتَ عرضٍ، افتدى، وليس معنا في ذلك توقيفٌ، نتّبعه. وإذا قلنا: المتبع فيه ما يعد في العرف ستراً للرأس، أو لبعضٍ منه، فهو سديد؛ فإن الأصلَ، والتفصيلَ فيما ورد مطلقاً من غير توقيفٍ متلقيان مما يفهمه أهل العرف؛ ولذلك يقع الاقتصار على الإطلاق، إحالةً على ما تبتدره أفهام الفاهمين، في عادات التخاطب.
2567- ونحن نتكلف في أمثال ذلك تقريباً، على حسب الإمكان، ينتفع به المبتدي، ويستغني به المنتهي عن إطالة الفكر في التنصيص على الوقائع، إذا اضطر إليها في الفتاوى، وهذا مما ينبغي أن تصرفَ العنايةُ إلى مثله، ولا يحل للمراجَع أن يحيلَ الجوابَ في مثل ذلك على المستفتي، ويردَّه إلى حكم العادة.
ولو قال قائل: ما يلوح ساتراً لبعض الرأس، على البعد، للناظر السليم، فهو ساترٌ، كان قريباً، ولا يحصل به منتهى الغرض، في التقريب.
ولعل الأقرب أن نقول: كل مقدارٍ يُنتحَى بالستر في وجهٍ، فستره (2) يوجب الفدية، وإن لم يكن ذلك الستر في نوعه ووقته معتاداً.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) هنا بدأ خللٌ جديد في نسخة (ك) . حيث انقطع السياق في آخر ص106 ثم انتقل إلى ص 144.(4/243)
2568- هذا قولينا في المقدار، فأما الكلامُ فيما يقع الستر به، فالضبط فيه: أن كل ما ينافي دوامَ اسم [الكشف] (1) ، فهو سترٌ، وإن لم يكن معتاداً، فلو ألصق الإنسان خرقة، على جانبٍ من رأسه، فهذا في نفسه لا [يُعتاد] (2) ، ولكنه ينافي اسمَ التكشف، وكل ما يبقى معه اسم التكشف، على التحقيق، فلا بأس به، كالتوسّدِ (3) ، ومن جملته الانغماس في الماء؛ فإن المنغمسَ في الماء يسمى حاسر الرأس.
وذهب مالك (4) إلى أن المنغمس في حكم الساتر رأسَه، وهذا زلل، وذهول عما يجب أن يُرعى.
وإذا وضع المحرم زبيلاً على رأسه، فالأمر متردّد في اسم الكشف، فردّد الشافعي قولَه لذلك. واسم الكشف دائمٌ على التحقيق في حق من شد خيطاً على رأسه، وهذا يؤخذ مما قدمناه، من أن ما يأخذه الخيطُ، يبعد أن يُقصدَ بسترٍ.
ومما يليق بذلك أن المحرم، لو طلى رأسه بطينٍ، فهذا فيه تردّدٌ عندنا. وقد قال الأصحاب: طَلْيُ (5) العورة ستر لها، في إقامة الستر الواجب، ويمكن أن يقال: المرعي في ستر العورة إقامةُ حائل بين الناظر، وبين بشرة الوجه، وهذا يحصل بالطَّلْي، ولو لبس من يحاول السترَ ثوباً، يبدو لونُ البشرة من ورائه، لم يكن ذلك ستراً، ومثله في الرأس سترٌ. لكن طلْي الرأس سترٌ له فيما نظن، والمسألة محتملة، ولا بُعد في إلحاقها (6 بوضع الزبيل، والأوجه عندي أنه سَتْرٌ، موجبُ الفدية؛ فإن الزبيل في حكم عارضٍ يزول، والرأس حامله 6) وهو يلقَى الرأسَ من جهة كونه
__________
(1) في الأصل: التكشف.
(2) في الأصل: يعتبر.
(3) ساقطة من (ط) ، (ك) .
(4) لما نصل إلى هذه المسألة عند المالكية، وإنما رأينا ذكر كراهية الانغماس في الماء خوف قتل قملٍ ونحوه (ر. حاشية الدسوقي: 2/59-60، شرح الحطاب: 3/147-155، جواهر الإكليل: 1/188) .
(5) طَلْي: من باب رمى.
(6) ما بين القوسين ساقط من (ط) .(4/244)
محمولاً، [لا] (1) من جهة كونه ساتراً، وما يطلى على الرأس خِصِّيصٌ به في الستر، ثم لست أرى الطَّلْي في معنى الماء الذي يعلو رأس المنغمس في الماء.
وينتظم فيه عبارة أراها واقعة: فرأس المنغمس يسمى حاسراً تحت الماء بخلاف [رأس] (2) من على رأسه طلاء؛ فإنه لا يسمى حاسراً تحت الطلاء. فهذا ما يحضرنا في ضبط ذلك.
فصل
قال: " وأحب أن تختضبَ للإحرام ... إلى آخره " (3) .
2569- المرأة يؤثر لها الاختضابُ بالحناء في حالاتها، وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة على مضمون قوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَك} [الممتحنة: 12] ، فقال لها: " يد رجلٍ، أو يد امرأة؟ فقالت: يد امرأة. فقال صلى الله عليه وسلم: " أين الحناء " (4) . والاستحباب يتأكد في الإحرام؛ فإنا قد نأمرها بنوعٍ من الكشف في اليدين، فإذا كانت اختضبت، ضاهى لونُ الحناء ساتراً، وإن لم يكنه.
ثم لا ينبغي أن تختضب اختضابَ تطريف وتزيين، بل تغمر يديها بالخضاب.
2570- وردد الشافعي قوله في الرجل إذا خضب لحيته، في أن الفدية هل تلزمه؟ وللأصحاب في سبب التردّد طرقٌ: منهم من أخذه من كون الحناء طيباً، وجعل الأمر متردَّداً فيه، فعلى هذا إذا استعمل المحرم الحناءَ على أي وجه فرض، دخل تحت التردد الذي ذكرناه.
وهذا بعيد؛ فإن الحناء لا يعدّ من قبيل الطيب.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) ر. المختصر: 2/65.
(4) حديث: أين الحناء. رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي عن عائشة رضي الله عنها (أحمد: 6/262، أبو داود: الترجل، باب في الخضاب للنساء، ح 4166، النسائي: الزينة، باب الخضاب للنساء، ح 5089) .(4/245)
(1 ومن أصحابنا من أخذ ذلك من تخيّل الترجُّل، وسنذكر أن ترجيل الرأس بالدهن ينزل منزلة الطيب 1) في إيجاب الفدية، فتردد الشافعي في أن (2) استعمال الحناء في اللحية هل (3) يكون بمثابة ترجيلها، فعلى هذا يختص التردد ببعض الشعور، كما سنصف مواقع الترجيل، ولا حكم للحناء على البشرة.
ومن أئمتنا من أخذ ذلك من مأخذٍ آخر، وهو أن من يختضب يتّخذ لموضع الخضاب غلافاً يحيط به، فهل يعد ذلك من استعمال المخيط؛ إذ (4) المخيط فيه تردد فى كما يأتي بيانه في ذكر الملابس.
ثم المرأة إذا اختضبت بعد الإحرام، فلا يجري في يديها جهةُ الترجيل، ويطرد تخيل الطيب، وتشبيه ما تَلُفُّ على يديها، إذا هي اختضبت بالقفازين.
والوجه عندي إبطالُ كلِّ ما ذكر في ذلك، إلاّ خيالَ الترجيل، ولم يذكر الصيدلاني غيره وهو أيضاً بعيد. والله أعلم بالصواب ***
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ط) .
(2) ساقطة من (ط) .
(3) (ط) : فلا.
(4) (ط) : أو.(4/246)
باب ما يجتنب المحرم من الطيب والثياب
2571- الرجل المحرم ممنوعٌ عن لُبس الثوب المخيط، الذي [يحيط بسبب الخياطة، إحاطةً مقصودة] (1) . وكذلك إذا كان الثوب [مُحيطاً] (2) مسروداً، كالدرِع، ونحوِه، فلُبسه من المحظورات، في حق الرجل، فلا ينبغي أن يلبسَ (3) قميصاً، ولا قَباءً، ولا مفرَّجاً، ولا سراويلَ ولا خُفاً، وقد مضى في ستر الرأس كلامٌ بالغ، وسنعيده في هذا الفصل، في غرض آخر.
ثم القول في [الملابس] (4) يتعلق بأمرين: أحدهما - الكلام فيما يُلبس. والثاني - الكلام في كيفية اللُّبس، والمتبع فيما يُلبس اجتناب ما يحيط بالخياطة، أو لسبب آخر، والتوشحُ والالتفاقُ (5) غيرُ ضائر، فالمتّزر ملتف بإزاره، والمرتدي متوشح بردائه، والقميص في نوعه مخيط، وكذلك السراويل والقَبَاءُ، والمُفرَّجات.
ولو ارتدى المحرم بقميص أو سراويلَ، فلا بأس عليه؛ فإن الكشف فيما عدا عضو الإحرام -وهو الرأس من الرجل، والوجه من المرأة- غيرُ واجبٍ في المتجرد، وإنما المطلوب من المحرم أن يخرج من عادته في جهة التستر، لا في أصله، وإذا توشح بقميصه، لم يكن على العادة في استعمال القميص، وكذلك إذا ارتدى به، أو اتزر، ولو التحف في اضطجاعه بجُبَّةٍ، فلا بأس، ولو لبس القَباءَ، ولم يُدخل يديه، في كمه، فالذي جاء به محظورٌ، وموجِبٌ للفدية، وإن لم يشدّ القَبَاء، ولم يُدخل يديه في الكمين؛ فإنه قد يُلَبس كذلك.
__________
(1) عبارة الأصل: يخيط لسبب الحياطة، إخاطة مقصودة.
(2) في الأصل: مخيطاً.
(3) من باب تعب.
(4) في الأصل: الملابيس.
(5) في (ط) : " والالتفات "، وفي (ك) : الالتفاف. والالتفاق: ضم إحدى شقتي الثوب إلى الأخرى.(4/247)
ولو ألقى على نفسه قباءً، أو فَرَجِيًّا، وهو مضطجعٌ، ففي ذلك فضل نظر: فإن أخذ من بدنه ما إذا قام عُدَّ لابساً، فهو محظور، موجِبٌ للفدية. وإن كان ما أخذه من بدنه على قدر ما يأخذ اللحاف، ولو قام، أو قعد، لم يستمسك عليه، إلا بمزيد أمرٍ، فليس ما جرى لُبساً محظوراً.
ولو ارتدى المحرم برداء، وعقد أحد طرفيه بالآخر، فلا بأس؛ فإن هذا مخالفٌ للتستر المعتاد، والعقد الذي جرى استيثاقٌ في التوشح، وهو بمثابة عقد الإزار، وكذلك لو عقد طرف ردائه بإزاره، فلا منع لما ذكرناه.
قال العراقيون: لو اتخذ إزاراً ذا حُجْزَة وجرّ فيها تِكة، والإزار لم يزايله اسمُه، فلا بأس، وليس هذا لُبسَ مخيطٍ، أو محيط، وإنما هو مزيد استيثاق من الشد.
2572- فإذا تمهد القولُ في الملبوس، وما يرعى في كيفية اللُّبس، المحظور، والمباح، فإنا نعقد بعد ذلك قولاً جامعاً فنقول (1) : على المحرم أن يتوقى أصلَ الستر في عضوِ الإحرام، وعضو الإحرام في الرجل الرأس، وفي المرأة الوجهُ؛ فيجب على المرأة المحرمة أن ترعى في كشف وجهها، ما يرعاه الرجل في كشف رأسه. وقد نص الأئمة على أن المرأة لو أسدلت (2) على وجهها (3) ثوباً، متجافياً، عن وجهها، بأن تُخرج من رأسها شيئاً، وتسدُل (4) منه ثوباً، فلا بأس بذلك. ولم تزل النسوة يعتدن هذا في المواسم. ولهن أن يستترن بالظُّلَل من غير نكير. وهذا ردٌّ ظاهرٌ على مالك (5) رحمه الله، ومعتبرٌ (6) في القاعدة المرعيّة في كشف عضو الإحرام.
فإذا ثبت أن المطلوب الكشف في عضو الإحرام، فإن (7) جرى سترٌ بماءٍ، أو
__________
(1) في الأصل، (ك) : ونقول، (ط) : نقول. والمثبت تقديرٌ منا.
(2) قال في المصباح: سدَلتُه، ولا يقال: أسدلته. ولكن المعجم مثل له ولم يمنعه (مصباح، ومعجم) . (3) ساقط من (ط) ، (ك) .
(4) سدل: من باب قتل.
(5) سبقت الإشارة إلى هذه المسألة، وموضعها عند المالكية.
(6) في (ط) : معتبر (بدون واو) .
(7) (ط) : بأن.(4/248)
غيره، فالرجوع إلى دوام اسم الكشف.
وأصلُ الستر غيرُ مرعي فيما عدا عُضو الإحرام، وإنما حجر الشرع في هيئة مخصوصة، في اللُّبس، وقد يتعلق بملبوسٍ مخصوص، وقد وصفنا الملبوس، واللِّبسة المعتبرة في الحظر والإباحة.
2573- والنسوة لا حجر عليهن فيما يتعلق بالهيئة، والكيفية، في الستر، ولا عليهن لو لبسن القميص، والسراويلات، والخِفاف؛ فإن ذلك أستر لهن، ولا يُحمل استعمالُهن ذلك في غير الإحرام على الزينة، وإيثارِ هيئةٍ مخصوصة في الزي، وإنما يحمل على رعاية الستر.
وما ذكرناه في الرجال محمول على اختيار الزي، والهيئة.
ثم إحرامهن في وجوههن، لا في رؤوسهن، ولعل الشرع خصص ذلك بوجوههن؛ لأنها ليست عورةً منهن في الصلاة.
واختلف قول الشافعي في أن المرأة هل تلبس القفازين؟ ولعل الأظهرَ جواز اللُّبس؛ إذْ لا خلافَ أن اليدَ منهن لا تنزل منزلة الوجه. وللمرأة أن تستر يديها بكميها، ولست أدري لترديد القول في لُبس القفازين وجهاً، إلا ورود الخبر مطلقاً (1) في [نهي] (2) المحرم عن لبس القفازين.
ولو ألحق الملحِق اليدَ منها بالوجه؛ من جهة أن كفيها ليستا بعورةٍ في الصلاة، كالوجه، فلا جريان لهذا، مع جواز ستر الكفين بأطراف الأكمام. وحد الوجه منها مضبوط بما يجب غسله في الوضوء. وحدّ الرأس بيّن.
فرع:
2574- إذا اتخذ لردائه شرَجاً وعُرىً، وكان يربط الشرَج بالعُرى، ويحتوي الرداءَ بها على البدن، فقد ذكر العراقيون أن هذا محظور بمثابةِ الإحاطة التي تُحصلها الخياطة.
وكان شيخي يتردد في هذا. ولا شك أنه لو فرض على طرفٍ من الرداء، ولم
__________
(1) في (ط) : المطلق.
(2) ساقطة من الأصل.(4/249)
ينتظم انتظاماً قريباً من الخياطة، فلا بأس به، والرجوع في ذلك إلى العَقْد والخياطة، فما حل محل العقد، فلا بأس به، وما ضاهى الخياطة، ففيه التردد، والظاهر المنع.
فرع:
2575- لو شق إزاره من ورائه، وجعل له ذيلين، وعقد طرفي كل ذيل بأحد الساقين ملفوفاً به. قال العراقيون: لا يجوز ذلك؛ فإنه في صورة سراويل.
وهذا فيه نظر إذا لم يكن خياطة، وشرَجٌ، وعُرى تضاهي الخياطة، واللف والعقد ما أراه مانعاً، وسبب الاحتمال فيما صوروه من الإزار مضاهاة السراويل، فهو كمضاهاة الشرَج للخياطة، واللفُّ على أي وجهٍ فرض على البدن غيرُ محظور إذا لم يكن خياطة [أو] (1) إحاطة بسبب يضاهي الخياطة.
فصل من ذلك
2576- قد ذكرنا أن المحرم ممنوع عن لُبس الخف، والسراويل، فلو لم يجد إزاراً، وأمكنه فتقُ السراويل وردُّه (2) إلى هيئة إزار، فليفعل. فإن كان لا يتأتى منه ذلك، بأن كان لا [تتسق] (3) مفتوقة إزاراً سابغاً، أو لم يجد وقتاً يتسع لذلك كله، فله لبس السراويل، واعتمد الأئمة فيه الحديث الصحيح؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من لم يجد إزاراً، فليلبس السراويل، ومن لم يجد نعلين، فليقطع الخفين أسفلَ من الكعبين " (4) .
ثم تشوّف الأصحاب إلى طرفٍ من المعنى، في السراويلِ، فقالوا: لُبسه عند فقد الإزار تديّنٌ، لا ترخُّصٌ، وليس محمولاً على الزينة، والهيئة.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) كذا، بضمير المذكر على معنى المفرد.
(3) في الأصل، و (ك) : ينشق مفتوقه.
(4) حديث: " من لم يجد إزاراً " متفق عليه من حديث ابن عباس (ر. البخاري: جزاء الصيد، باب إذا لم يجد الإزار فليلبس السراويل، ح 1843، مسلم: الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة، ح 1178) .(4/250)
والأولى الاقتصار على اتباع الخبر؛ فإن هذا المعنى إنما كان يصح سليماً عن الاعتراض، لو حلَّ ما تحت سرة الرجل، محل بدن المرأة، على عموم الأحوال، حتى يجوز للرجل في عورته لُبس المخيط من غير حَجْرٍ، كما يجوز للمرأة [ذلك] (1) في بدنها. وكذلك ما تحت الركبة ليس بعورة، ونحن لا نكلف المحرم أن يرد ساق السراويل، إلى حد الركبة، كما يقطع الخفّ أسفل من الكعبين؛ فالمتبع الخبر إذاً، ومعنى التعبد، والتديّن فيه نظر.
وفي عقد السراويل فوقَ السرة، إذا زاد على الاستيثاق في حق من [لم] (2) يجد، إزاراً نظرٌ، و [تدبّر] (3) . ويظهر عندي تكليف رد عقده إلى حدّ السرة.
2577- وأما لبس الخف، فالمحرم ممنوعٌ منه، إذا وجد نعلين، فإن لم يجدهما، فليقطع خُفيه أسفل من الكعبين. هكذا ورد الحديث.
أما النعل، فملبوسُ المحرمِ، وإن كان يحتوي شراكه على ظهر القدم، فلا منعَ فيما يسمى نعلاً، وإن عُرّض الشِّسع، والشراك. وقد تمس الحاجة إلى تعريضه في السير المتمادي.
وأما الشُّمُشْك (4) وهو على صورة خف مقطوعٍ أسفل الكعبين، فالذي ذهب إليه معظم [الأصحاب] (5) أنه لا يلبسه من يجد النعلين، وفي بعض التصانيف تجويز لُبسه، وتنزيله منزلة النعل، ووجْه هذا على بعده: أن ما يحتوي من الشُّمُشْك على ظهر القدم، ويحيط بالجوانب، فقد يظن أنه للاستمساك في القدم، لا لستر بعضٍ، إذ ليس البعض (6) أولى برعاية الستر من البعض؛ فاحتمل أن (7) يكون المحتوِي منه
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) في الأصل: وتديّن.
(4) الشُّمُشْك. بشين مضمومة فميم مضمومة أو مكسورة، فشين ساكنة. كذا ضبطها مجمع البحرين (في فقه الإمامية) للطريحي: 5/277.
(5) في الأصل: الأئمة.
(6) في الأصل: بعض.
(7) في الأصل: ألا يكون.(4/251)
على ظهر القدم مشبّهاً بالشراك من النعل.
وأما الخف، فلا شك أنه يتخذ للستر، وهو محُيطٌ.
والظاهر من المذهب نقلاً اختصاصُ [جواز] (1) لُبس الشّمُشْك بفقدان النعل.
وفيه معنىً [يجب التنبه له، وهو أنه إن ظهر في السراويل معنى] (2) التعبد، والتحق الرجل حالة فقدان الإزار في محل السراويل، بالمرأة في بدنها، فهذا غيرُ متحقق في الشُّمُشْك، ثم لا فدية في لُبسه عند فقد النعل، ولم نحمل هذا على لُبسٍ تدعو إليه الحاجة. ومن لبس قميصاً لضرورة، افتدى.
فليتنبه الفقيه لما أشرنا إليه من تنزيل هذه المسائل.
فرع:
2578- المحرم ممنوع عن لبس القفازين، فإنه ملبوسٌ مقصود مُحيط بالعضو، وإنما تردد القول في المرأة.
ولو اتخذ الرجل لساعده أو لعضوٍ آخر شيئاً مَخيطاً، فقد تردد جواب شيخي فيه، وهو لعمري محتمل؛ فإن الكشف ليس واجباً في غير عضو الإحرام، وإنما (3) القاعدة المعتبرة اجتناب زيٍّ مخصوصٍ، وذاك يختص بالملابس المعتادة، والقفاز ملبوس معتاد، في بعض الأحوال، فأما اتخاذ شيء على هيئة خريطةٍ (4) وسترِ عُضوٍ به، فليس ستراً، على زيٍّ مخصوص، وليس ملبوساً مقصوداً.
والتردد في هذا يستند إلى ما أشرنا إليه من قول بعض الأصحاب في اختضاب اللحية.
والذي أرى القطعَ به أن ذلك التردد في خريطةٍ تُغلّف اللحيةُ بها، وأما اللف، فلا منع منه.
هذا نجاز القول في الملابس وفيما يراعى فيه اجتنابُ الستر كعضو الإحرام، وفيما يراعى فيه اجتناب سترٍ مخصوص.
__________
(1) زيادة من (ط) .
(2) ساقط من الأصل.
(3) (ط) ، (ك) : وأما.
(4) الخريطة: شبه كيسٍ من أديم وخرق. (مصباح) .(4/252)
فصل
يحوي ترتيب المذهب في تكرر المحظورات، على التواصل، والتقطع
2579- فنقول:
محظورات الحج تنقسم إلى استمتاعٍ، واستهلاكٍ، فأما الاستمتاع، فهو استعمالُ الطيب ولُبس المخيط، وتغطيةُ عضو الإحرام، ونحن نقضي وطرَنا، من القول في تكرر هذه الأشياء، ثم نذكر الاستهلاك، في هذا الغرض، ثم نمزج الاستهلاك بالاستمتاع.
فأما الاستمتاع، فإنه مختلف النوع أوّلاً، فالطيب مخالف اللبس، والستر، واللُّبس وستر عضو الإحرام نوعٌ واحدُ، وإن اختلف وقعهُما، كما مضى، لأن اللُّبس شملهما، فلتقع البدايةُ بما يتعلق بالستر المحظور، فنقول:
2580- إذا لبس الرجل قميصاً وسراويلَ وعمامةً في مكانٍ واحد، في أزمنةٍ متواصلةٍ، فلا يلزمه إلا فديةٌ واحدة؛ فإن ذلك يُعد في حكم الخُطة (1) الواحدة، والزي الواحد يأخذه المرء، وقد يطول الزمان في محاولة مضاعفة القميص (2) ، واستعمالِ الخف، وتكويرِ العمامة، فلا نظر إليه مع التواصل، وهذا معتبر بالرضعة الواحدة؛ فإن لها حكم الاتحاد، وإن طالت.
وإن تعدد اللُّبس، وتعدد المكان. أو اتحد المكان، وتقطع الزمان، وطرأت فترات، ينقطع بأمثالها التواصلُ المألوف في اتخاذ الزي الواحد من اللابس (3) ، فلا يخلو: إما أن يتولّج في خللها تكفيرٌ، وإما ألا يتفقَ ذلك. فإن لم يتّفق، ففي تعدد الفدية قولان: أحدهما - التعدد، وهو الأحرى على القياس، فإن كل لُبس ممّا
__________
(1) في (ط) ، (ك) : " الحطة " بالحاء المهملة. هذا والخطة بضم الخاء المعجمة هي الحالة والأمر، فالمعنى: أن ذلك يعد حالة واحدة وأمراً واحداً، أي خطأ واحداً.
(2) (ط) : القمص.
(3) (ط) : الملابس.(4/253)
فرضناه لو قدر على حياله، لأوجب الفديةَ.
وسبب القضاء بالاتحاد عند اتحاد المكان، وتواصل الزمان قضاءُ العرف بعدّ ذلك أمراً واحداً، فإذا زال هذا بالتقطع الزماني، أو التعدد المكاني، فالوجه ردُّ الأمر إلى قياس التعدد.
ومن أوجب كفارة واحدة قال: إنها تجب لله تعالى، ويفرّق في موجِبها بين الناسي والعامد، فيتجه الحكم بتطرّق المساهلة إليها، فلتنزل أعدادها من غير تخلل تكفيرٍ، منزلة تعدد الزنيات والسرقات، هذا والإحرامُ المعترض عليه واحد.
وبهذا ينفصل ما نحن فيه عن وقاعين في يومين من رمضان، فإن كل صوم عبادةٌ متميزة عن الصوم في اليوم الآخر، فرأينا القطع بتعدد الكفارة خلافاً لأبي حنيفة (1) .
2581- ولو جرى تكفيرٌ، مع التقطع في الزمان، أو المكان، حيث نقطع القضاءَ بالتعدد في اللبس، إذا رددنا الأمر إلى العادة، فإذا انضم إلى ذلك تخلل التكفير، فلبس قميصاً، وكفر، ثم طال الزمان، أو تبدّل المكان، ولبس عمامةً، فإن لم يربط نية الكفارة، بما سيفعله في الاستقبال، فلا خلاف أن الكفارة تجب باللبس الثاني؛ فإن المعتبر الأقصى في القضاء بالتداخل الحدودُ، ومن زنى، فحدّ، ثم زنى مرة أخرى [حدّ] (2) ، فإذا تجدد الحدُّ، وهو عقوبةٌ محضة لله تعالى، فالتجدد في الكفارات (3) -وهي قرباتٌ، ووضعها التعبد على أنها إرفاق- أولى.
فأما إذا لبس وكفّر، ونوى بما أخرجه من الكفارة أن يوقعه عما مضى، وعما سيكون من لُبسه في المستقبل، فهذا يبتني على أن تقديمَ الكفارة على المحظور في الإحرام هل يجوز؟ على قياس تقديم كفارة اليمين على الحِنْث فيها؟ وهذا فيه اختلافٌ سنذكره في كفارة اليمين.
فإن منعنا تقديم الكفارة فيما نحن فيه، فلا أثر لربط النية بما سيكون، ويتجدد
__________
(1) ر. الأصل: 2/177، المبسوط: 3/74، البدائع: 2/101، البحر: 2/198، مختضر اختلاف العلماء: 2/30 مسألة 513، رؤوس المسائل: 232 مسألة 128.
(2) في النسخ الثلاث: فحد. والمثبت تقديرٌ منا رعاية للمعنى.
(3) في الأصل: الكفارة أولى وهي....(4/254)
وجوب الكفارة، بتجدد اللبس، بعد إخراج الكفارة.
وإن قلنا: يجوز إخراجُ الكفارة عما سيكون، فإذا [نوى] (1) ربطها بالكائن (2) ، وما سيكون، ففي تجدد الكفارة قولان، لمكان التعدد، كما سبق.
ولو اتحد المكان في اللبس والزمان، ولكنه خلَّل (3) في أثناء اللبس المتواصل تكفيراً، فهل يجب بما يقع بعد إخراج الكفارة كفارةٌ؟ فيه اختلافٌ للأصحاب، من جهة أن تخلل الموجب يؤثر في التعدد اعتباراً بالحد.
وكل ما ذكرناه فيه، إذا اتحد النوع، في الاستمتاع.
2582- فأما إذا اختلف النوع، فلبس وتطيب، وفُرض في (4) ذلك اتحادُ المكان، وتواصل الزمان، ففي تعدد الكفارة وجهان: أحدهما - التعدد؛ والسبب فيه تباين الفعلين، بجهة الاختلاف. وصَغْوُ الأئمة إلى أن التعدد بهذه الجهة أولى باقتضاء تعدد الكفارة من التعدد بجهة اختلاف المكان، وانقطاع الزمان. وهذا لعمري كذلك، وهو بيِّن للمتدبر.
فقد أشرنا في هذا القسم الأول إلى محل الوفاق في النفي والإثبات، وأوضحنا أنه إذا اتحد النوع، والمكان، وتواصل الزمان، ولم يتخلل التكفير، فالكفارة متحدةٌ وفاقاً.
وإذا تخلل التكفيرُ من غير فرض ربط النية بالاستقبال، وانضم إلى تخلله ما يوجب التعدد، من جهة الزمان، [أو] (5) المكان، أو النوع، فهذا مقطوعٌ به في نفي التداخل، ولا قطع إلا في هاتين الصورتين.
ووجدنا لاختلاف المكان أثراً في التعديد، على اختلافٍ، وكذلك تقطُّعُ
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في (ط) : المكان.
(3) (ط) : تخلل.
(4) ساقطة من (ط) ، (ك) .
(5) في الأصل: لهذا المكان.(4/255)
الزمان. واختلافُ المكان، إذا قيس بتقطع الزمان، [اعتدل] (1) ، واختلافُ النوع أوقعُ منهما، فلا يترتب في نظم المذهب تقطّع الزمان، مع اتحاد المكان، على اختلاف المكان مع تقارب الزمان، وكل صورةٍ جرى فيها معنى واحد [مما] (2) يوجب تعدد الفعل، فهو في تأسيس المذهب على قولين.
فإن فرضت مسألة مشتملةٌ على معنيين، مما يوجب التعدد، ولم تنته إلى صورة القطع، فهي على قولين، مرتبين، على التي هي ذاتُ معنى واحد، وهكذا الترتيب في ازدياد المعاني إلى الإفضاء إلى [طرف] (3) القطع.
2583- وألحق بعض أصحابنا وقوع الاستمتاع بعذرٍ بما يقتضي الاتحادَ على الاختلاف، حتى نرتب (4) المعذور في صورة (5) الخلاف على غير المعذور، ونجعل (6) المعذور أولى باتحاد الكفارة، من غير المعذور.
وهذا لا أراه كذلك؛ فإن العذر يؤثر في جواز الإقدام، لا في نفي الكفارة، وإن لم يكن من القول بذلك بدّ، فلا شك أن الذين قالوا به أرادوا عذراً واحداً، يشمل أعداداً من اللُّبس، أو الطيب، فنجعل الشامل منها بمنزلة ما يوقعها على نعت الاتحاد. وهذا -مع ما ذكرناه- خيالٌ.
وقد نجز القول في تكرر الاستمتاع، مع اتحاد النوع، واختلافه.
2584- فأما القول في الاستهلاك، فهو ينقسم في غرض الفصل، إلى ما لا يتعلق (7 ببدن المحرم، وإلى ما يتعلق 7) ببدنه.
فأما ما لا يتعلق ببدنه كقتل الصيود، والجناية عليها، ولايتوقع تداخلٌ فيها، فإن
__________
(1) في الأصل: اعتدال. هذا، و" اعتدل " جواب (إذا) قيس بتقطع الزمان.
(2) ساقط من الأصل.
(3) في الأصل: طرق.
(4) في (ط) : يترتب.
(5) في (ط) : صور.
(6) في (ط) : جعل.
(7) ساقط من (ط) ما بين القوسين.(4/256)
الكفارات في الصيود، تحل محل قيم المتلفات، فعلى أي وجه فرضت، فالنظر إلى أقدار المتلفات.
فأما ما يتعلق ببدن المحرم، فكالحلق والقَلْم، فنقول: من حلق ثلاث شعرات، فقد كملت عليه الفدية، وإن استوعب الرأس بالحلق، لم يلتزم إلاّ فديةً واحدة، إذا اتحد المكان، وتواصل الزمان. وهذا متفق عليه.
ْولو حلق غير شعر رأسه مع حلق شعر رأسه، على صورة التواصل، فالذي ذهب إليه الأئمة اتحادُ الكفارة.
وذهب أبو القاسم الأنماطي إلى أنه تجب كفارتان: إحداهما في مقابلة الرأس، والأخرى في مقابلة ما عداه من شعر البدن، وهذا متروكٌ عليه، ولا وجه له.
ولو حلق شعر رأسه في أمكنة [أو] (1) أزمنة، ففي التداخل قولان مرتبان على القولين في تعدد اللبس باختلاف (2) المكان، والكفارة أولى بالتعدد، في الحلق؛ لأنه استهلاك والقياس في قبيل الاستهلاك تعدُّد الكفارة.
ثم يجري في الحلق فرض اجتماع المعاني، واتحادها، والصور كلها على الخلاف إلا الصور التي استثنيناها فيما تقدم.
وإذا تعارضت مسائل الإتلاف، ومسائلُ الاستمتاع، ترتبت كل صورةٍ في الإتلاف على نظيرتها في الاستمتاع، كما نبهنا عليه.
وإذا اشتملت مسألة في الاستمتاع على معينين، واشتملت مسألة الإتلاف على واحدٍ، فقد يعتقد الفقيه اعتدالهما، والقول في ذلك قريب، بعد ظهور الغرض.
وقد انتهى الكلام في الاستهلاك، والاستمتاع، إذا فرض كل واحد منهما وحده.
2585- ومن صور القطع في قسم الاستهلاك، أن النوع إذا اختلف، تعددت الكفارة، وفاقاً، وذلك بأن يحلق، ويقْلِم، وبهذا يستبين أن اختلاف النوع في الاستمتاع مؤثرٌ، كما تقدم.
__________
(1) في الأصل: و.
(2) في الأصل: في اختلاف.(4/257)
ومما يتصل بالاستهلاك أن من حلق ثلاث شعرات في أمكنةٍ [أو] (1) أزمنة على صفةِ التفرق، فإن كنا نرى أن في كل شعراتٍ ثُلُثَ دم، فلا [تُفيد] (2) هذه المسألة؛ فإن مفرّقها ومجموعها سواء في ذلك، تفريعاً على هذا الوجه.
وإن قلنا: يجب في الشعرة مدٌّ، وفي الشعرتين مدان، وفي الثلاث دم، فلو فرضنا أخذ ثلاث شعرات، على صفة التفرق، فهذا خارجٌ على الأصل الممهد.
فإن قلنا: من حلق رأسه ثلاث دفعات، تعددت الفدية، حملاً للأفعال على التجدد، والاستقلال؛ فإن -على قياس ذلك- كلَّ شعرة منقطعةٌ عن غيرها، ولا يضم بعضها، [إلى البعض] (3) فيجب في كل شعرة مُدّ.
ومن قضى باتحاد الكفارة في حلق الرأس بدفعات، مَصيراً إلى أنها كالحلق الواحد، قال على قياس ذلك، أخذُ الشعرات مجموعٌ، ولو أخذ ثلاث شعرات، وجب فيها دم.
فهذا تمام القول في الاستمتاع، والاستهلاك.
2586- وإذا اجتمع استمتاع واستهلاك، قطعنا بتعدد الكفارة، لاختلاف الجنس والنوع.
واختلف أصحابنا في صورة واحدةٍ، وهي إذا اجتمع استمتاعٌ واستهلاكٌ بسبب واحد، مثل أن يصيب رأسَ المحرم شَجّةٌ، وتمس الحاجة إلى حلق الرأس من جوانبها، ووضع ضمادٍ عليها، فيه طيبٌ، فهذا إذا تم، حلقٌ وسترٌ واستعمالُ طيبٍ، ولكن السبب المقتضي لها واحد.
فالذي ذهب إليه الأكثرون تعدد الكفارة، للاختلاف.
وذهب بعض الأصحاب إلى الاتحاد في هذه الصورة.
__________
(1) في الأصل: و.
(2) في الأصل: " نُقيِّد " بهذا الضبط. والمثبت من (ط) ، (ك) . ولعل المعنى: لا تفيد هذه المسألة في التمثيل والترتيب عليها؛ " لأن مفرّقها ومجموعها سواء ".
(3) ساقط من الأصل.(4/258)
وهذا يوضح ما نبهنا عليه، في تحقيق معنى العذر، في فصل الاستمتاع.
وأما الوطء، فقد اختلف القول في أنه استمتاعٌ، أو استهلاك، على ما سيأتي: فإن جعلناه استمتاعاً، فهو ملحقٌ في الترتيب، بالاستمتاعات. ولو جعلناه استهلاكاً، فهو ملحق بقسم الاستهلاكات المتعلقة [بالبدن] (1) .
والذي يجب التفطن له، أن مَن حلق رأسه بثلاث دفعات، على تقطع، فالفقيه يتخيل ذلك مقصوداً واحداً مقطعاً، ولولا هذا، لما كان لذكر الخلاف في اتحاد الكفارة وجهٌ.
والوطء بعد الوطء بخلاف هذا، فكل وطء في حكم مقصودٍ تام، وهذا يوجب التعديد، ولكنه بالاستمتاع أشبه، فإذا قيس عدد الوطء بالحلق المتقطع، اعتدلت المرتبتان.
ولست أستريب في أن الحلق بعد الحلق، مع تحلل (2) النيات، يعدد الكفارة.
وقد نجز الغرض في هذه الفصول.
فصل
قال: " وما شُمَّ من نبات الأرض ... إلى آخره " (3) .
2587- استعمال الطيب من محظورات الإحرام بالإجماع، والحاجّ أشعثُ أغبرُ تَفِلٌ (4) ، على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) في الأصل: بالبذل.
(2) كذا في الأصل بالحاء المهملة، لا احتمال فيها؛ فقد رَسَمَتْ (حاءً) صغيرة تحتها علامةً على الإهمال، وفي (ك) بدون نقط، ولكن احتمال كونها معجمة وارد، ليس هناك ما يمنع منه، وفي (ط) يوجد ظلٌّ باهتٌ لنقطة فوق الحاء. وأياً كانت معجمة أو مهملة فتوجيهها ممكن، لا يحتاج إلى بيان.
(3) ر. المختصر: 2/68.
(4) تفل: من باب تعب، فهو تِفل (بفتح وكسر) : إذا تغير ريحه، بسبب ترك التطيب والادّهان (مصباح)(4/259)
والكلام في الفصل يتعلق بثلاثة أشياء: أحدها - فيما يكون طيباًً. والثاني - في كيفية استعمال الطيب. والثالث - في العامد، والناسي، والجاهل.
2588- فأما القول فيما يكون طيباً، فالمعتبر فيه ما يكون المقصود الأظهرُ منه التطيب، فما كان كذلك، فهو طيبٌ، ولا نظر إلى الرائحة المستطابة.
وما يكون المقصود الأظهر منه الأكل تفكّهاً أو تداوياً، فليس طيباً في غرضنا، فالتفاح، والسفرجل والأُتْرُجّ، والنارَنج، ليست طيباًً، وكذلك القَرَنْفُل والدارصيني، ويستعملان دواء. وهذا هو المقصود الظاهر منهما، والوردُ طيبٌ.
واختلف نصُّ الشافعي في الضَّيْمران (1) ، وهو الريحان الفارسي. والظاهر أنه طِيبٌ؛ فإنه المقصود منه، ونصُّ الشافعي في الوجه الآخر لست أرى له وجهاً، إلا بناءَ الشافعي الأمرَ على الظن في قُطرٍ لم يُعهد فيه هذا النوعُ، وفي نصه ما يدل عليه؛ فإنه قال: المقصود من الضَّيْمَران تزيينُ المجالسِ، والدَّسَاتجُ (2) قد تُحَفُّ بالخُضَر تزييناً، والوردُ -في وسطها- الطِّيبُ.
وهذا ظنٌّ منه، فيما لم يَعْهدْه، والمَيْلُ (3) في مثله لا [يخرم] (4) قاعدة المذهب؛ لأن الشافعي لو استبان من الضيمران، ما عرفناه، لما ردّدَ قولَه.
وهذا عندي بمثابة نصٍّ له يخالف نصَّ الرسول صلى الله عليه وسلم، وما كان بلغه الخبرُ، فلا شك أنه لو بلغه، لقبله، وقد قال في مواضعَ: " إذا صح عندكم خبرٌ يخالف مذهبي، فاتبعوه، واعلموا أنه مذهبي ".
وتردد نصُّه في البَنَفْسَج.
وذكر العراقيون فيه وفي دهن البَنَفْسَج ثلاثَ طرق: إحداها - طردُ القولين فيهما،
__________
(1) في (ط) : الضّميران. وعند النووي: الضمران. (المجموع: 7/276) .
(2) جمع دَسْتَجة بمعنى الحُزْمَة (معجم الألفاظ الفارسية) والمراد هنا حُزمة الورد، أي باقة الورد، فهي كما وصفها (تُحفّ بالخضر والورد في وسطها) .
(3) في الأصل: والمثل. والمثبث من (ط) ، (ك) ولعل الصواب غير هذا وذاك، وهو (والظن) .
(4) في الأصل، (ك) : يحزم. والمثبت من (ط) .(4/260)
والأخرى - القطعُ بأنهما طيب، وهؤلاء حملوا نص الشافعيِّ على البَنَفْسَج المُرَبَّى (1) الذي سقطت رائحته، على ما سنفصل القول في الطيب الذي تسقط رائحته، ويبقى لونُه. والطريقة الثالثة - الفرقُ بين البَنَفْسَج ودهنه، والبَنَفْسَج طيبٌ، ودهنه ليس بطيب؛ فإن البَنَفْسَج يستعمل طيباً، ودهنُه لا يستعمل طيباًً، والوجه عندنا القطع بأن
البَنَفْسَجَ، ودُهنَه طيباًن؛ فإن التفت [الفقيه] (2) إلى ظهور غرض التداوي بالبَنَفْسَجِ، ودُهنِه، دخل عليه الورد.
وكان شيخي يحكي تردُّداً في دهن البَنَفْسَجِ، والقطعَ بأن دهنَ الورد طيبٌ.
ولست أرى لهذا وجهاً؛ فلا فرق بين الدهنين؛ فإن الغالبَ أنهما لا يستعملان لغرض التطيب، ولكن الظاهر وجوب الفدية؛ لاتصال عين الطيب بهما، كما سأمهّد ذلك في الفصل الثاني عند ذكر أكل المحرم الخبيصَ المُزَعْفَر.
2589- وذكر العراقيون أن الدهن الذي فيه الكلام [هو] (3) الذي يُغلى فيه جِرْمُ البَنَفْسَجِ، والوردِ. فأما إذا ذُرّ البَنَفْسَجُ على السمسم، ثم اعتُصر السمسم، فذلك الدهن ليس طيباً وفاقاً.
هكذا قالوه.
وكان الشيخ أبو محمد يقول: هو (4) الدهن الذي فيه الكلام، وهو أشرف من الدهن الذي يُغلى فيه البَنَفْسَج.
وهذا يتجه من العلم بأن السمسم يتشرب من مائية البنفسج، وهي الطِّيبَة، فيرجع الأمر إلى امتزاج ما طاب من البنفسج، بالسمسم، وليس اكتسابُ السمسم للطيب، من جهة المجاورةِ المحضة.
والزعفرانُ طيبٌ، وإن تُخيّل تجردُ القصد إليه في التداوي، والصبغ.
__________
(1) المربَّى أي المربب بالسكر، كما في المجموع للنووي: 7/274.
(2) مزيدة من (ط) .
(3) في الأصل: والذي.
(4) هو: ضمير يعود على دهن البنفسج الذي اعتصر مع السمسم. وكأن الشيخ أبا محمد يخالف ما قالوه من أنه ليس طيباً وفاقاً.(4/261)
وكذلك القول في الورس، وهو من أشهر الطيب، في بلاد اليمن.
2590- وقد لاح لي في أثناء المسائل، أن القصدَ في الطيب إذا ظهر، كفى، وإن عارضه قصد آخرُ صحيح، ولذلك ينتظم إلحاق الزعفران بالطيب.
وفي النفس من الأُترج والنارَنج شيء؛ فإنَّ قصدَ الأكل، والتداوي ليس بأغلبَ من قصد التطيب، ولكن ما وجدتُه في الطرق إلحاقُهما بالفواكه، وقد يتجه معنى تزيين المجالس بهما. والعلم عند الله.
واتفق الأئمة (1) على أن الشِّيحَ، والقَيْصُومَ، والأزهارَ الطيبة، في البراري، التي لا تُستنبت، ليس طيباً، وإن كان يُعتاد شمُّها، ولا يظهر فيها مقصودٌ آخر.
والقول في ذلك ينقسم، فيغلب في أكثرها معنى التداوي، حتى يلتحقَ بالقَرَنْفُل، والسنبلِ (2) وإن لم يظهر (3) ، فيضعف تصوير الطيب به، ولو كان ذلك مقصوداً فيه، لاتخذ قصداً اتخاذَ الورد وغيرِه مما يستنبت.
ونصَّ الشافعيُّ على [أن] (4) دُهن الْبانِ، والْبانَ نفسَه ليسا بطيبين، والأمر على ما قال، فإن قيل: ذُهن البان من أركان الغوالي (5) . قلنا: إنما يراد منه سيلان الغالية، ثم تُخيِّر دُهن لا ريح له أصلاً، وهو أبعد الأدهان عن التغير (6) .
فهذا قولينا فيما يكون طيباً.
__________
(1) حكى هذا الاتفاق أيضاً النووي في المجموع: 7/278.
(2) السنبل: معطوف على القرنفل، كما يفهم من عبارة النووي في المجموع: 7/277. ولم يفسّر النووي معنى السنبل، واكتفى بأن عدّده ضمن ما يطلب للتداوي غالباً، وفي المعجم الوسيط: السنبل: الناردين، وهو نباتٌ يستخرج من جذور بعض أنواعه عطرٌ مشهور.
(وانظر القاموس) .
(3) المعنى: وإن لم يظهر معنى التداوي، أو (وإن لم يظهر الإلحاق) .
(4) سقطت من الأصل.
(5) الغوالي: جمع غالية، نوع من أجود الطيب، الذي يصنع من أكثر من صنف.
(6) المعنى: أن دهن البان هو المادّة التي تمزج فيها أنواع الطيب التي تُصنع منها (الغالية) واختير لذلك لأمرين: أنه لا ريح له أصلاً؛ فلا يؤثر على الأنواع الأخرى، ثم لأنه أبعد الأدهان عن الفساد والتزنُّخ.(4/262)
2591- وقد ذكر بعض المصنفين أن من أصحابنا من يعتبر عادات أهل كل ناحية، فيما يُتَّخذُ طيباً، وهذا فاسدٌ يشوش القاعدة.
ولا خلاف أن ما يُطعم في قطر ملتحق بالمطعومات في الربا.
2592- وأما الكلام في جهةِ استعمال الطيب (1) ، فإنا نسوق فيه ترتيباً جامعاً، فنقول: إذا عَبِقَ (2) عينُ الطيب ببدن المحرم، أو ثوبه، فهذا استعمال طيبٍ، سواء كان معتاداً أو لم يكن معتاداً، فلو وطيء المحرم طيباً رطباً، بعقبه، على عمدٍ، استوجب الفدية، وعليه يُخَرّج إيجاب الفدية على المحرم، إذا أكل خبيصاً مزعفراً؛ فإن عينَ الطيب يعبق، بيده. وتعليل ذلك أن عين الطيب إذا اتصلت، وعبقت على أية جهةٍ فُرضت، فيجب على المحرم إزالتُها، كما يجب إزالة النجاسة، على من يحاول الصلاة، وكل اتصال يجب إزالته فاعتماده يوجب الفدية.
فأما إذا انتهت رائحة الطيب إلى المحرم، فيتعين في ذلك اعتبار غلبة الاعتياد، فإذا [تبخّر] (3) المحرم واحتوى بثيابه على المجمرة، فهذا تطيب معتادٌ، موجب للفدية، ولو جلس عند الكعبة وهي تُجَمّر؛ فناله من الريح الطيب، ما ينال معتمد التبخير، فلا فدية؛ فإنه لا يسمى متطيباً، وكذلك لو جلس عند عطار، فعَبِقت به الروائح.
وألحق الأئمة بما ذكرناه أن يُجَمَّرَ بيت فيه قوم، فهم من وجه مقصودون بالعطر، ولكن إذا لم يحتوِ واحد على المجمرة، فلا يُعد متطيباً، ويعد هذا تطييبَ البيت؛ حتى يستروح إليه ساكنوه.
ْوالسر الجامع في ذلك: أن المحرم فيما نظن لم يُمنع من الطيب اضطراراً له إلى احتمال التَّفَل والأذى، ولذلك لم يمنع من الاغتسال وإزالة الوسخ، وإنما المقصود من منعه من الطيب - قطعُ اعتياد التطيب، المُلهي عما يعنيه، ولا يبعد حمل المنع
__________
(1) هذا هو المقصود الثاني من الفصل.
(2) عبق: من باب تعب: علق، وفاحت رائحته. (معجم) .
(3) في الأصل، و (ك) تنجز، والمثبت من (ط) .(4/263)
[من] (1) الاصطياد على ذلك، فإذا لم نجد اعتمادَ التطيب على اعتيادٍ في ذلك، لم يلزمه الفدية.
2593- ولو مس المحرم طيباً يابساً، نُظر: فإن لم تعبَق الرائحة ببدنه (2) ، وثوبه، لم تلزمه الفدية، فإن لم تتصل العين به، ولا الرائحةُ، [فلا] (3) يعد (4) ما جاء به اعتماد تطيب.
ولو عبقت الرائحة به بسبب مسه الطيبَ اليابس، ففي وجوب الفدية قولان: أحدهما - لا تجب؛ لأن ذلك ليس استعمال طيب على [الاعتياد] (5) . والثاني - تجب؛ فإن تعلق الريح، مع المسيس، كتعلق العين؛ فإن الطيب يُعنَى لريحه.
2594- فانتظم مما ذكرناه ثلاثةُ أقسام: أحدها - تعلق العين، وهو على كل حال يقتضي الفدية، ولا نظر إلى العادة. والثاني - اتصالُ الريح، من غير اتصالٍ بعين الطيب، فهذا يشترط فيه غلبةُ الاعتياد، كما تفصّل. والثالث - الاتصال بعين الطيب، والعابقُ ريحه لا عينُه، فإن انضم إليه اعتيادٌ غالبٌ، فلا شك أنه من موجبات الفدية؛ فإنه فوق التسبب إلى الريح المحضة.
وإن لم يثبت اعتيادٌ، وعبقت الرائحة، فعلى قولين. وإن لم تكن رائحةٌ، فلا بأس. ولو احتفَّ بالمحرم أجرَام الطيب، وكان قصدَ جمعَها استرواحاً إلى روائحها، ولا (6) مسيس، فلا فدية، وليس كالتبخر؛ فإنه يكاد أن يكون اتصالاً بعين الطيب، فإن بخار البخور عينُه.
فليفهم الفاهم هذه المراتب.
فرع:
2595- قال الأصحاب: إذا شدَّ المحرم مسكاً، على طرف ثوبه، فهذا
__________
(1) في الأصل: على. والمثبت من (ط) ، (ك) .
(2) (ط) : بيديه.
(3) في النسخ الثلاث: ولا.
(4) (ك) : يعتد.
(5) في الأصل: الاعتماد.
(6) في الأصل: فلا مسيس، ولا فدية.(4/264)
مسُّ طيب بالثوب، يعبَق منه الريح، وهو معتاد، فتجب الفدية، لاجتماع هذه الأسباب.
ولو شد عوداً، فهذا غيرُ معتاد، فإن كان يعبَق ريحه بالثوب، فهذا على القولين؛ إذ لا [اعتياد] (1) ، والريح عابقةٌ.
ولو حمل المحرم [قارورة مسك مصمّمَ (2) الرأس، فلا فدية. ولو حمل] (3) فأرةَ (4) مسك، لم تشق، ففيه تردُّد للأصحاب: منهم من قال: هو كحمل القارورة، فإن جِرْم الفأرة ليس بطيب، وإنما الطيب المسك. وقال قائلون: حملُه استعمال طيب.
وفي المسألة احتمال، والأغلب أن لا فدية، إذا لم يكن في الفأرة شق، وقطع الصيدلاني بوجوب الفدية.
فرع:
2596- إذا كان على الثوب عينُ طيبٍ، قد زالت رائحته، فإن كانت بحيث لو رشت بالماء، عادت الرائحة، فهي طيبٌ، ولا نظر إلى ركود الريح في الحال.
وإن كانت الريح لا تعود، فقد ذكر الأئمة وجهين، في أن بقاء لون الطيب مع سقوط الرائحة والطعم هل يُبقي حكمَ الطيب؟ وهذا تلقَّوْه من تردّدِ (5) النص في شيء يدل على اعتبار اللون.
والذي أراه القطعُ [بأنه] (6) غير معتبر، فإن صح للشافعي في ذلك نصّ، فلعله استدل ببقاء اللون، على كمون الرائحة، وتوقّع ثورانها، إذا رش بالماء. والطعم المجرد لم يعتبره أحد.
وقال العراقيون: " إذا بقي الطعم، واللون، نقطع بكونه طيباً، وإن سقطت الرائحةُ ". وليس الأمر كذلك عندنا. والطعم مع اللون، كاللون المجرد.
__________
(1) في الأصل: اعتبار.
(2) الصمام: السداد.
(3) ساقط من الأصل ومن (ك) .
(4) فأرة المسك: كيسها الذي يتكون فيه المسك، وهو غدة في بعض أنواع الغزلان.
(5) في (ط) : ترديد.
(6) في الأصل: فإنه.(4/265)
2597- وتمام البيان في ذلك: أن المقدار القليل من الطيب، لو غمره مقدارٌ كثير، مما ليس طيباً، فاستعمل المحرم منه، ما يستيقن أنه يشتمل على جِرم الطيب، فللأصحاب في هذا تردُّدٌ: فاعتبر بعضهم استيقان اتصال الطيب، وهو محقَّقٌ، والرائحةُ غير زائلةٍ، ولكنها مغمورة، والمغمورُ كالكائن الظاهر؛ ولهذا قال الأصحاب: إذا تغيرت رائحة الماء الكثير بالنجاسة، وحكم بنجاسته لذلك، فلو طُرح في الماء كافور، فغمر رائحة النجاسة، فالماءُ محكوم بنجاسته.
وقال بعضهم: لا يثبت حكم التطيب؛ إذ لا رائحة.
والمسألة فيه إذا كانت [الرائحة] (1) لا تثور بعلاجٍ، لقوّة الغَمر، ثم إن هؤلاء قالوا: لو انغمرت الرائحة وبقي الطعم [أو] (2) اللون، فالأمر محتملٌ.
الظاهرُ (3) أن استعماله تطيب، ولهذا قال الشافعي: إن كان الخبيص بحيث يصبغ اللسانَ، تعلّق وجوبُ الفدية بتعاطيه، وإن زالت رائحة الزعفران.
وقال بعض الأصحاب: الرائحة هي المعنية، وحقٌّ على الناظر، أن يميز بين ما يجري بسبب الانغمار، وبين أن يمّحق ريح الطيب مع بقاء جِرمه.
ولم أر أحداً من الأصحاب يفصّل بين القليل من الطيب والكثير، فَصْلَهم في النجاسات، ولعمري لا فَصْلَ؛ فإن المعتمدَ في النجاسات تعذُّر الاحتراز، وتيسره، ولا جريان له في الطيب. وليت شعري ماذا نقول فيما لا يدركه الطرف من الطيب؟ والعلم عند الله تعالى فيه.
2598- فأما المقصود الثالث - وهو الكلام في العمد، والنسيان: فإذا تطيب المحرم ناسياً إحرامَه، لم يلتزم الفديةَ عندنا، قياساً على أكل الصائم ناسياً، وكلام المصلّي كذلك، خلافاً لأبي حنيفة (4) .
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في الأصل: " و ".
(3) كذا. وهو استعمالٌ صحيح (بدون واو) .
(4) ر. بدائع الصنائع: 2/192، حاشية ابن عابدين: 2/200، مختصر اختلاف العلماء: 2/198 مسألة: 661.(4/266)
وهذا يطرد في كل ما هو استمتاعٌ من المحظورات.
فأما قتل الصيد، والحلق، والقَلْم، فظاهر المذهب أن صَدَرَ (1) هذه الأشياء من الناسي في إيجاب الفدية كصدَرِها من العامد؛ نظراً إلى الإتلافات. ونصَّ الشافعيُّ في المغمى عليه إذا حلق شعره [أنه] (2) لا تتعلق الفدية بما جرى في حالة الإغماء، وإن كان الحلق ملتحقاً بالإتلافات، فأثبت أصحابنا قولاً في المسألة، في الاستهلاكات.
وحكى شيخي أبو محمد قولين في الصيد أيضاًً.
وخرج من الترتيب أن الاستمتاع المحض يفصّل بين الناسي والعامد، وفي الاستهلاكات قولان: أظهرهما - أن لا فرقَ، وكنت أودّ لو فصل فاصل بين قتل الصيد، وبين الحلق، والقَلْم، فإنا وإن عددنا الحلق، والقَلْم، من الإتلافات، ففرض الاستمتاع فيهما غالب. وأمَّا موجَبُ الصيد قيمةُ (3) متلَف، والذي يؤلف بينهما، أن تلك القيمة شرعية، وإلا فالصيد المباح لا قيمةَ له.
فهذا قولينا في الناسي.
2599- فأما الجاهل، فأهم ما فيه تصويره، فمن جهل كونَ استعمال الطيب محرماً في الشرع، فهو كالناسي في حكمه، وهذا قولينا في الصوم، والصلاة. ومن علم تحريم الاستعمال، وجهل وجوبَ الفدية، أعلمناه أن الفديةَ تجب عليه، ومن علم تحريمَ الطيب، وجهل كون الشيء طيباً، فقد اختلف أصحابنا: فمنهم من لم يوجب الفدية، ومنهم من أوجبها. ولو علم أن الممسوس طيبٌ، ولكنه حسبه يابساً، لا تعبَق منه رائحة، فإذا هو رطب، فالأصح وجوب الفدية.
فرع:
2600- إذا اتصلت عينُ الطيب، ببدن المحرم، على وجهٍ لا يلزمه بذلك الاتصال فدية، فيتعين عليه السعي في إزالتها، وقد لا يتأتى له السعي دون ممارسة
__________
(1) سبق التنبيه أكثر من مرة إلى أنها بمعنى (صُدور) . وهو استعمال مألوف في كتب الأقدمين، من الفقهاء وغيرهم، فأنت تراه عند الإمام عبد القاهر الجرجاني في (دلائل الإعجاز) ، كما تراه عند السرخسي، في (المبسوط) ، وعند ابن هُبَيْرة في (الإفصاح) . وغيرهم كثير.
(2) في الأصل: أن لا.
(3) كذا في جواب أما بدون الفاء، وهي لغة الكوفيين، وعليها جرى إمام الحرمين كثيراً.(4/267)
الطيب، فليفعل ذلك؛ فإنه في حكم المزيل التارك، وليقتصر على قدر الحاجة، في الممارسة.
ولو كان محدثاً، ومعه من الماء، ما يكفيه لوضوئه، وعليه طيبٌ، يتعين عليه إزالته، ولو استعمل الماء فيه، لم يبق ما يتوضأ به، فإن أمكنه رفْعُ الطيب من غير غَسْل، فليفعل، وليتوضأ. فإن لم يتمكن من إزالة الطيب، إلا بجهة الغَسل، فغسلُ الطيب مقدم على الوضوء، كما نقدم غسل [النجاسة] (1) عليه؛ لأن الوضوء ذو بدل، وإزالة الطيب لا بدل لها، وكذلك إزالة النجاسة، لا بدل لها.
وإن كان يتأتى منه الوضوء، وجَمْعُ الغُسالة في موضعٍ، فإنه يستعملها في إزالة الطيب، فقد ذكر العراقيون أن هذا هو الوجه. وللفقيه فضلُ نظر في تأخير إزالة الطيب؛ فإن ابتدار إزالته حتمٌ، ولكن قد نظن أن هذا التأخيرَ محتملٌ لتحصيل رفع الحدث.
فرع:
2601- إذا طيب الرجل فِراشه، وجلس عليه، فلقيه بدنُه، أو ثوبه، فهذا من استعمال الطيب، وهو معتاد للمترفهين في الغِطاء، والوِطاء. وإن فرش فوقَ الفراش المطيّب ثوباً صفيقاً، يحول بينه وبين الريح، جاز، ولا يكون مستعملاً للطيب. ولو كان الثوب رقيقاً لا يحجز رائحة الطيب، قال العراقيون: لا فدية، ويكرَه له ذلك. وما ذكروه ظاهر، وفي وجوب الفدية احتمال بعيد.
فصل
2602- المحرم ممنوعٌ من ترجيل شعر الرأس واللحية بالدُّهن؛ فإن الترجيل يضادّ الشّعَث، وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الشعث والتَّفَل في نعت المحرم، في قَرَن؛ إذ قال: " الحاج أشعثُ أغبر تفِل " (2) والتَفَل ضد العطر.
فإن قيل: ذكر الأغبرَ، ولا حرج على المحرم في إزالة الغبار، والأوضار. قلنا:
__________
(1) في الأصل: الجنابة.
(2) حديث: " الحاج أشعث أغبر " رواه الترمذي، وابن ماجة، والبيهقي عن ابن عمر (الترمذي: تفسير القرآن، باب (4) ح 2998، ابن ماجة: المناسك، باب ما يوجب الحج، ح 2896، البيهقي: 4/33، 5/58) .(4/268)
الغبر، والشعث، من نعت الشعر، والماء لا يزيل -فيما قيل- شعث الشعر وغبرَه، بل قد يزيده في ذلك.
واستعمال الدُّهن في غير شعر اللحية والرأس لا بأس به، إلا أن يكون مطيّباً، فيدخل استعماله في استعمال الطيب إذاً.
وذكر العراقيون: أنه لا يمتنع غسل شعر الرأس واللحية، بالسِّدْر والخِطميّ (1) ، وكل غاسول يستعمل في الشعر، وما ذكروه قياساً.
والترجيل المحرَّم الموجب للفدية يختص بالدهن، ولعلّ تزيين الشعر، وتنميتَه بالدهن، في الاعتقاد، واستعمالُ ما عداه من الغاسولات - طردٌ (2) للأوساخ، فكان كاستعمال ما يطرد الصّنان، والأنتان، والترجيلُ كاستعمال الطيب.
ولو دهن رأسه وهو أقرع لا يتوقع له نبات شعر، فلا بأس. فأما إذا كان (3) محلوق الرأس، فاستعمل الدّهن، ففي المسألة وجهان: أظهرهما في القياس- أنه لا يلزمه الفدية؛ فإنه لم يستعمل الدهن في شعر. والثاني - يلزمه الفدية؛ فإنه تنمية للشعور، ومنابتها.
فصل
قال: " وإن حلق شعره، فعليه فديةٌ ... الفصل إلى آخره " (4) .
2603- حَلْقُ الشعر قبل أوان التحلل من محظورات النسك، والفديةُ الكاملة.
تتعلق بالأخذ من ثلاث شعرات؛ فإن لفظ الشارع ورد بحلق الشعر، وهو جمع، والواحد منه شعرة. ثم لو زاد عليها، فاستوعب شعرَ الرأس، أو شعرَ (5) البدن، فقد مضى التفصيل فيه.
__________
(1) الخطمي: بكسر الخاء والياء مشدّدة، ويجوز فتح الخاء (مصباح) .
(2) طردٌ: خبر استعمال.
(3) هنا خلل آخر في ترتيب صفحات نسخة (ك) ، إذ تقفز عائدة من هنا (آخر ص 155) إلى أول ص (107) .
(4) ر. المختصر: 2/70.
(5) (ط) : وشعر.(4/269)
وفي بعض التصانيف: في الأخذ من ثلاثة مواضعَ مختلفةٍ، على البدن= وجهان، مع اتحاد المكان، وتواصل الزمان. وهذا بعيد. والوجه القطع بأن الشعرات المأخوذة من عضو واحد [و] (1) من أعضاءَ على وتيرة واحدة، إذا لم يتعدد المكان، ولم يتقطع الزمان.
وإذا أخذ شعرةً واحدةً، ففي الواجب ثلاثةُ أقوال مشهورة: أقيسها - أن الواجب فيها ثُلثُ الدم، وفي الشعرتين الثلثان، وفي الثلاث، فصاعداً دمٌ كاملٌ.
والقول الثاني - أنه يتعلق بالشعرة مدٌّ. وبالشعرتين مدان، وهذا معتضدٌ بآثار السلف، وهو مرجوعٌ إليه، في مواضعَ من الشريعة؛ فإن اليوم الواحد من صوم رمضان مقابَلٌ بمُد، كما تقدم.
والقول الثالث - أنه يجب في الشعرة درهمٌ، وفي الشعرتين درهمان. وحكاه الشافعي عن عطاء مستأنساً بمذهبه. ولست أرى له وجهاً، إلا تحسينَ الاعتقاد في عطاء، وأنه لا يقول مثلَ ذلك إلاّ [عن] (2) ثَبَت، وهو أجل علماء التابعين.
وذكر صاحب التقريب في كتابه قولاً غريباً: إنه يجب في الشعرة دمٌ كامل، وهذا وإن كان ينقدح توجيهه، فلست أعدّه من المذهب.
والقول في الأظفار كالقول في الشعور.
وما ذكرناه من الأقوال قد يجري في الحصاة من الجمرات، والليلةِ تُترك من المبيت، ولكن يقع في تلك الفنون ضروبٌ من الكلام، ستأتي في مواضعها.
والحلق بمثابة القص. والتقصيرُ، والنتفُ، بمثابتهما. وكذلك الإحراق.
فرع:
2604- إذا نبتت شعرةٌ أو شعراتٌ من داخل الجَفن، وظهر التأذي بها، أو انكسر ظُفرٌ، وكان يتضرر المحرم به، فالذي ذكره الأئمة، أنه لا ضمان على المحرم بأخذها؛ فإنها مؤذيةٌ في عينها، فكانت كالصيد يصول على المحرم.
__________
(1) سافطة من الأصل وحدها.
(2) ساقطة من الأصل.(4/270)
وذكر الشيخ أبو علي في شرح التلخيص طريقين: أحدهما - ما [ذكرناه] (1) ، والأخرى: تخريج الضمان على وجهين مبنيين على أن الجراد إذا عمّ المسالك، ولم (2) يجد المحرمون خلاصاً من وطئها بالأقدام، فهل يضمنون ما يَتلف منها؟ في المسألة قولان. [و] (3) هذا على قربه في المأخذ، بعيدٌ في الحكاية.
فإن قيل: إذا تأذى المحرم بشعر رأسه، وكثرة الهوام، فالتأذي متعلّق بالشعر، ويجب الضمان، وقد روي أن كعبَ بنَ عُجرة، كان يطبخ شيئاً، والهوائمُّ تنتثر من رأسه، فمرّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال، أتؤذيك هوامُّ رأسك؟ فقال: نعم، فقال: " فاحلق وانسُك بدم، أو صم ثلاثةَ أيام، أو تصدق بفَرَقٍ من الطعام، على ستة مساكين " (4) .
قلنا: التأذي بالوسخ، لا بالشعر، بخلاف ما نحن فيه.
فليفهم الناظر ثلاثَ مراتب، فيما نحاول إحداها - أن يصول الصيد، فيقتله المحرم، دفعاً، فلا ضمان؛ فإن السبب المسلِّط على القتل صدَر من الصيد.
المرتبة الثانية - في ركوب الجراد قوارعَ الطريق، فلا محيص من إهلاكها، وليس ركوبُها الطريق كصيال الصيد؛ فاختلف القول في ذلك. وفي التحاق الشعرة النابتة من داخل الجفن، والظُّفرة المنكسرة ما قدمناه.
والمرتبة الثالثة - في التأذي بالوسخ، والهوام، والشعرُ من أسبابها، فالفدية تجب بأخذ الشعر، بدليل الخبر، والإجماع.
ولا يخفى انفصال هذه المرتبة عما تقدم.
__________
(1) في الأصل: ذكره.
(2) (ط) : لم (بدون واو) .
(3) ساقطة من الأصل.
(4) حديث كعب بن عجرة متفق عليه (ر. البخاري: المحصر، باب قول الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] ح 1814، مسلم: الحج، باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى، ح 1201) .(4/271)
فصلٌ من ذلك
2605- كفارةُ الحلق، والقَلْم مخيّرةٌ مقدّرةٌ، فيجب على من التزم الفديةَ الكاملةَ دمُ شاةٍ، أو صومُ ثلاثةِ أيام، أو التصدق بفَرَق من طعام، على ستةِ من المساكين، والفرَقُ ثلاثة آصع، فيصرف إلى كل مسكين نصف صاع، وهذا عديم [النظير] (1) في تعديل الكفارات، ومقابلة الصيام بالإطعام؛ فإن اليوم الواحد مقابَلٌ بمد، والمتبع في التقديرات التوقيفُ.
ولما ثبتت هذه الخصال على التخيير، كانت كلُّ خَصْلة مستقلةٍ بنفسها، لا تقدّر مقابلتها بالأخرى، كخلال كفارة اليمين.
ثم صوم الثلاثة الأيام في كفارة اليمين لا يناسب الإطعام؛ من حيث إنها ليست مختصة بمناسبة الطعام.
ثم الكفارة على التخيير عندنا، سواء كان الحالق معذوراً، في حلقه، أو عاصياً.
وأبو حنيفة (2) يرتب الكفارة على العاصي بالحلق، فيقدم الدمَ، ويرتب عليه الإطعام، ويؤخر الصيام. والغرض من هذا أن الصوم لا يناسب الطعام في مذهبٍ من المذاهب.
فصل
2606- المحرم إذا حلق شعر الحلال، فلا بأس عليه، وأَخْذُه من شعر الحلال، بمثابة أخذه من شعر البهائم.
وأبو حنيفة (3) قدّر شعر الحلال كالصيد، وحكم بأنه يَحْرمُ على المحرم تعاطي
__________
(1) في الأصل: النظر. وقد فسر انعدام النظير بأن اليوم الواحد يقابلُ بمُدٍّ، وهنا مقابل بصاع، والصاع أربعة أمداد عند أهل الحجاز، ومدّان وثلثاً مُد عند أهل العراق. (المصباح) .
(2) ر. المبسوط: 4/73، البدائع: 2/187، 192، حاشية ابن عابدين: 2/210، مختصر الطحاوي: 69.
(3) ر. الأصل: 2/361، المبسوط: 4/72، مختصر الطحاوي: 70، البدائع: 2/193، مختصر اختلاف العلماء: 2/200 مسألة 164.(4/272)
جنسَ الشعر، ثم لم يطرد هذا المذهبَ الفاسدَ، فلم يوجب فديةً كاملة، واكتفى بإيجاب صدقةٍ.
2607- فأما الحلال إذا حلق شعر الحرام، فإن كان بأمرٍ منه، فالضمان وجوباً، وقراراً على المحرم، المحلوقِ، ولا شك أن الحلال يعصي بالإقدام على حلقه، ولا يقصُر فعله عن الإعانة على معصية.
ولو حلق الحلال رأسَ المحرم، والمحرم مكرَهٌ، أو نائمٌ، أو مجنون، فالفدية تجب.
وقد اضطربت مسالك الأئمة، ونحن نذكر ترتيباً يجمعها، فنقول: في المسألة قولان: أحدهما - أنها تجب على الحلال، ولا يلقى الوجوبُ المحرِمَ. والقول الثاني - أن الوجوب يلقى المحرمَ، وعلى الحلال التحمّلُ عنه.
ولم تختلف الأئمة في إيجاب الفدية، وإن لم يكن الحالق محرماً. وأقربُ مسلكٍ في هذا تشبيهُ شعر المحرم في حق الحلال بصيدِ الحرم، وشجره.
ثم إن قلنا: الوجوب لا يلقى المحرم، وإنما ابتداؤه، وقراره، على المُحل، فقد وجدتُ الطرق متفقةً على هذا القول في أن المحرمَ يطالِب المحلَّ بإخراج الفدية، وهذا مشكلٌ في المعنى، والتعويلُ على النقل.
وإن قلنا: الوجوب على الحلال، فيصوم أو يطعم، أو ينسك بالدم، والخِيَرةُ إليه.
وإن قلنا: يتحمل، فلا يتصور أن يصوم، فإن الصوم لا يدخله التحمل.
ثم في ذلك وقفةٌ عندي؛ فإنه لا يمكننا أن نلزم المحرمَ أن يصوم، والكفارة على التخيير، ويبعد أن يعيّن الدمُ، والطعام، في حق الحلال. والوجه أن نقول: إن صام المحرم برئ الحلال عن العهدة، وإن أطعم، رجع به على الحلال.
وما ذكرناه من الملاقاة، والتحمل في ذلك، ليس على قياس ما ذكرناه في كفارة الوقاع في رمضان؛ فإن ذلك تقديرٌ محض، ولا تراجع، والأمر هاهنا بخلاف ذلك؛ فإن الحالق الحلال ليس خائضاً في إحرام.(4/273)
2608- ولو حلق الحلال شعر الحرام، وهو ساكتٌ، لا ينهى، ولا يأمر، مع القدرة، ففي المسألة وجهان - أحدهما - أن التفصيل فيه كالتفصيل في الآذن في الحلاق. والوجه الثاني - أن هذه الصورة ملحقةٌ بصورة المكرَه، والنائم.
فرع:
2609- لو قطع المحرم من نفسه عضواً عليه شعر، فلا يلتزم الفدية وفاقاً؛ لأنه لم يتعرض للشعر مقصوداً، وكذلك لو قشط جلدة الرأس، وإن قربت من الشعر، فالجواب كما ذكرناه.
فرع:
2610- إذا امتشط المحرم، فسقطت منه شعرات، فإن علم أنه ناتِفُها، فدَى، وإن علم أنها كانت انتتفت، وانسلّت، فلا ضمان، وإن أشكل عليه الأمر، فقد ذكر شيخي قولين في المسألة: أحدهما - وهو القياس، أنه لا ضمان؛ فإنه لم يستيقن موجَب الفدية. والثاني - يلزمه الفدية، ويضاف الانتتاف إلى الفعل الذي صدر منه، وهو الامتشاط؛ فإن من ضرب بطن امرأة فَأَجْهَضَتْ جنيناً، وجب الضمان، على الجاني، وإن كنا نجوز كون الاجهاض من سبب آخر.
فرع:
2611- كان شيخي يقول: الأولى للمحرم ألا يفلي رأسه، ولا ينحِّي هوامَّها استدامةً للشعث. وهذا لم يذكره غيرُه، ولكنه اعتضد بنصّ الشافعي، وذلك أنه قال: " لو نحاها، تصدّق بشيء "، ثم قال: " ولا أدري من أين قلتُ ما قلتُ ".
وهذا محسوب على الشافعي في مضاهاة استحسان أبي حنيفة.
وحكى شيخي وجهين في أن التصدق هل يجب؟ ولا يُظن بالشافعي إيجاب الصدقة، وإنما الذي ذكره استحبابٌ، على بعدٍ، مع اعترافه بأنه لا أصل له.
ولست أرى ذلك متهيئاً أيضاًً، فليس في النص منعٌ [من] (1) ذلك.
فرع:
2612- قال شيخي: اختلف نصّ الشافعي في أنه [هل] (2) يكره للمحرم الاغتسال؟ فالذي نص عليه في الجديد أنه لا يكره، لما رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لعائشة: " اغتسلي، وامتشطي، وافعلي ما يفعل الحاج، غيرَ أن
__________
(1) في الأصل: مع.
(2) ساقطة من الأصل.(4/274)
لا تطوفي بالبيت " (1) وروي أن ابن عباس والمِشوَرَ بنَ مَخْرَمة، اختلفا في جواز الاغتسال للمحرم، فبعثا إلى أبي أيوبٍ الأنصاري، رضي الله عنهم فوجده الرسول وهو يغتسل محرماً، فأدّى الرسالة، فطأطأ أبو أيوب الثوب الذي هو يتستر به، ثم قال الذي يصب الماء: صبّه، فصبه، فقال: هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يغتسل، وهو محرم " (2) ودخل ابنُ عباسٍ حمامَ الجحفة، وقال: " ما يعبأ الله بأوساخكم شيئاً " (3) .
وقال (4) : نص في القديم أن ذلك يُكره إلا عند حاجةٍ ماسة.
2613- ثم قال الشافعي: " ولا بأس بالكحل، ما لم يكن فيه طيبٌ " (5) . والأمر على ما ذكر، فلا مانع منه.
2614- وذكرَ امتناعَ النكاح، والإنكاح على المحرم، وسيأتي ذلك في كتاب النكاح.
2615- ثم قال: " ويلبس المحرم المِنْطقةَ والهِمْيانَ " (6) ، والأمر على ما قال، فليست المنطقةُ ملبوساً مخيطاً، ولا ملتحقاً بالملابس المخيطة.
***
__________
(1) حديث: " اغتسلي ... " متفق عليه من حديث عائشة، وله ألفاظ. ومن حديث جابر. (ر. البخاري: الحيض، باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، ح 305 وله أطراف كثيرة، مسلم: الحج، باب بيان وجوه الإحرام، ح 1211) .
(2) أثر اختلاف ابن عباس، والمِسْوَر بن مخرمة متفق عليه من حديث أبي أيوب الأنصاري (اللؤلؤ والمرجان: 2/36 ص 752) .
(3) أثر ابن عباس، رواه الشافعي في الأم: (2/205) والمختصر: 2/73، والبيهقي: (5/63) ، وانظر التلخيص: 2/538.
(4) القائل شيخه الذي يحكي الفرع كله عنه.
(5) ر. المختصر: 2/71
(6) ر. مختصر المزني: 2/73، والمِنطقة والهِمْيان، المنطقة: سيرٌ يشد على الوسط، كالحزام، ونحوه. والهميان: كيس تجعل فيه النفقة، ويشد على الوسط، فارسي معرّب (مصباح) .(4/275)
باب دخول مكة
قال الشافعي: " وأحب للمحرم أن يغتسل من ذي طِوى ... إلى آخره " (1)
2616- صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، اغتسل لدخول مكة، [وثبت أنه اغتسل] (2) بذي طِوى، وأمر الناس بالغسل. وعنده أمر أسماء بالاغتسال، وكانت حائضاً.
ثم دخل مكة من ثَنِيَّة كَداء (3) بفتح الكاف، وهي ثَنِيّةٌ في أعلى مكة، وخرج من ثنية كُديّ (4) ، بضم الكاف، وهي ثنيةٌ في أسفل مكة، وكان ذلك عامَ الوداع.
ثم دخل صلى الله عليه وسلم المسجد، من باب بني شيبة، وهو في جهة باب الكعبة، في زاوية المسجد، فقال الأصحاب: أما الدخول من باب بني شيبة، فمستحب، لكل قادم؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل منه، وتابعه أصحابه، ولم يكن ذلك البابُ على صوب المدينة، ونحوها، فعُلم من عدول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه = قصدُه تخيّرَ ذلك الباب. ولعل السبب فيه أنه من جهة باب الكعبة والركن الأسود.
ثم قال الأئمة: الدخول من ثنية كَدَاء لا نرى فيه نُسكاً، وذكر الصيدلاني أنها على طريق المدينة، فيحمل الدخول منها على ترتيب الممر، وقد قال شيخي: يستحب الدخول من هذه الثنية، فإن كانت على ممر العادة، فذاك، والأحسنُ الميل إليها
__________
(1) ر. المختصر: 2/73.
(2) ساقط من الأصل.
(3) كداء: بالمدّ، وفتح الكاف، الثنية العليا، بأعلى مكة، وتسمّى المَعْلَى (بفتح الميم) (مصباح) .
(4) كُديّ: بالتصغير.(4/276)
تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال (1) : هذه الثَّنِيَّة ليست على طريق المدينة، بل هي على طريق المَعْلى، وهو في أعلى مكة، والمرور فيه يُفضي إلى باب (2) بني شيبة، ورأس الرَّدْم (3) ، وطريق المدينة يفضي إلى باب إبراهيم، وهما متقابلان (4) قريبان من التسامت في المقابلة. والحقُّ ما ذكره الشيخ.
ولكن الوجه عندي ألا نرى الدخول من هذه الثنية نسكاً؛ فإن الممر، والمسلك، قبل الانتهاء إلى المسجد، لا يتضح تعلُّقُ النسك به، ويمكن أن يحمل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، على غرضٍ، أو على سبب يتعلق بالعبادة، لم يعتن الرواة بنقله، والشاهد فيه توفر الدواعي على اختيار الدخول من باب بني شيبة من الحجيج كافة، ولا يتعرض لهذه (5) الثنية أحد. فما قال شيخي في وضع الثنية صحيح، وقول الصيدلاني خطأ فيه، وما ذكره الإمام (6) من تعلّق النّسك بالدخول من هذه الثنية لا أرى له وجهاً.
2617- ثم إذا دخل الرجل مكة من أعلاها، فأول ما يقع بصرُه على الكعبة من موضعٍ يقال له رأس الردم، فيؤثر أن يقف عنده، ويقول: " اللهم زد هذا البيت تشريفاً، وتعظيماً، وتكريماً (7 ومهابة، وزد من شرفه، أو عظّمه، ممن حجه أو اعتمره، تشريفاً، وتعظيماً، وتكريماً 7) وبِرّاً " (8) هكذا الرواية.
__________
(1) (ط) : فقال.
(2) (ط) : ديار.
(3) الردم المراد هنا هو موضع بمكة يقال له (ردم بني جُمح) (معجم البلدان: 3/40، ومعجم ما اسثعجم للبكري: 2/649) ورأس الردم طرفه، فليس هناك موضع اسمه رأس الردم في الكتابين.
(4) (ط) : متعارضان.
(5) خلل آخر في ترتيب نسخة (ك) حيث قفزت من هنا (ص 110) إلى أول (ص 126) .
(6) يقصد والده، وهو الذي عبر عنه (شيخي) آنفاً.
(7) ساقطة من (ك) ما بين القوسين.
(8) خبر الدعاء عند رؤية البيت، رواه الشافعي عن ابن جريح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو معضل، وذكر له البيهقي شاهداً مرسلاً، وقد أعلّه الحافظ، ورواه الطبراني في الكبير، وسعيد بن منصور، ولم يخل حديثهما من علة أيضاً (ر. الأم: 2/169، البيهقي: =(4/277)
والمزني ذكر مكان البر المهابة (1) ، والمهابة، في الحديث في ذكر البيت، لا في ذكر زائريه، فما ذكره المزني مأخوذٌ عليه. قال سعيد بنُ المسيب: " سمعت من عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه كلمةً، يقولها لما رأى البيت، لم يسمعها غيري، وذلك أنه قال: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، فَحَيِّنا ربَّنا بالسلام " (2) .
ثم يدعوا بما عنّ له من مآرب الدّين والدنيا، في رضا الله تعالى، وأهمها سؤالُ المغفرة. ثم يدخل من باب بني شيبة، ويؤم البيت، والركن الأسود منه، ويبتدىء الطواف.
ونحن نرى أن نعقد فصلاً جامعاً، في الطوافِ، وشرائطِه، وسننِه، وما يتعلق به من آدابه.
فصل
2618- الطواف بالبيت ركن، من الحج، والعمرة، والوجه أن نصفه على الجملة، ثم نفصّل القول في شرائطه، وما يقع منه موقع الركن، ثم نذكر طرفاً كافياً في آدابه.
فيدخل المحرم من باب بني شيبة كما ذكرنا، ويدنو من الحجر الأسود، وهذا الركن والباب، في صوب المشرق، فليعلمه من لم يره، فيتقدم إلى الَركن الأسود، ويستلمه، كما سنصفه -إن شاء الله تعالى- ويجعل البيت على يساره، فيمر بعد محاذاة الركن الأسود بالباب، ثم ينتهي إلى الحِجْر، وهو محوط على صورة نصف دائرة، فلا يتخطاه، ولا يدخله، ويحوط مستديراً عليه دائراً، حتى ينتهي إلى ركن الحجر الأسود، الذي منه بدأ، وهذا يسمى شوطاً واحداً. ثم يُتبع الشوطَ الشوطَ، حتى يستكمل سبعة أشواط [للطواف] (3) .
__________
=5/73، الطبراني: 3/181 ح 3053، التلخيص: 2/461) .
(1) ر. المختصر: 2/74.
(2) أثر سعيد بن المسيب. رواه البيهقي: (5/73) وقد رواه الشافعي عن سعيد من قوله (الأم: 2/169) . وانظر التلخيص: 2/462.
(3) ساقط من الأصل.(4/278)
2619- ثم للطواف شرائط، ونحن نصفها شرطاًً، شرطاً، فمنها: طهارةُ الحدث، فلا يصح الطواف، ولا يعتد به إذا كان الطائف محدثاً، خلافاً لأبي حنيفة (1) ، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: " الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله تعالى أباح فيه الكلام " (2) .
ثم كما نشترط الطهارةَ عن الحدث، نشترط طهارةَ البدن، والثياب. والمدارُ الذي يدور عليه في المطاف، فالطواف في الطهارتين يحل محل الصلاة، باتفاق الأصحاب.
والستر مشروط فيه حسب ما يشترط في الصلاة.
واستقبال القبلة عند التمكن شرطُ الصلاة، والقرب من البيت في الطواف على الهيئة التي سنوضحها يحل محل الاستقبال في الصلاة.
هذا قولينا في الشرائط
2620- وذكر الأئمة أحكاماً سمَّوها أركان الطواف، ولا معاب على من يسميها شرائطَ، ولكنها من حيث تعلقت بكيفياتٍ في [الطواف] (3) ، وقع التعبير عنها بأركان الطواف. ونحن نعدُّها فنقول:
مما يرعى في الطواف، والاعتداد به الترتيبُ، وهذا ينطوى على معنيين: أحدهما - أن البيت يجب أن يكون على يسار الطائف، فلو أوقعه على يمينه في طوافه يسمى
__________
(1) الذي عند الأحناف أنه يصح؛ لكن عليه دم (ر. المبسوط: 4/37، البدائع: 2/129، مفتقى الأبحر: 1/294، اللباب: 1/207) .
(2) حديث: الطواف بالبيت صلاة، روي عن ابن عباس مرفوعاً وموقوفاً. قال ابن الصلاح: " والموقوف أصح "، وقد أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه ووافقه الذهبي، وبمعناه الترمذي والنسائي (ر. مستدرك الحاكم: 1/459، الترمذي: الحج، باب ما جاء في الكلام في الطواف، ح 960، النسائي: مناسك الحج، باب إباحة الكلام في الطواف، ح 2922، 2923، مشكل الوسيط لابن الصلاح (بهامش الوسيط) : 2/642) .
(3) في الأصل: الصلاة.(4/279)
الطواف منكساً، ولا يُعتد به أصلاً. هذا أحد معنيي الترتيب. والمعنى الآخر - أن البداية تكون بالحجر الأسود، حتى لو وقعت البداية بمكانٍ آخر من البيت، لم يعتد بشيء مما جرى، حتى ينتهي الطائف إلى محاذاة الحجر الأسود، فذاك أول طوافه.
وهو كالمتوضئ يقدِّم غسل رجليه، فلا يعتد به، فإذا غسل وجهه، قيل: هذا أول وضوئه.
ومما يتعلق بهذا الفن أن يكون الطائف خارج البيت، ويكون تَدْوارُه وراء منقطع البيت من الأقطار (1) .
2621- ولا نجد الآن بداً من كلامٍ وجيز في هيئة البيت، وما جرى من هدمه، وإعادته، حتى يتضح الحِجْرُ وأمرُه، وشاذروان الكعبة بين الركن اليماني، وركن الحَجَر، فإذا نحن وصفنا ذلك، بنينا عليه غرضَنا في أمر الطواف.
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: " لولا حِدْثانُ (2) قومك بالشرك، لهدمت البيت، ولبنيتُه على قواعدِ إبراهيم، وألصقته بالأرض، وجعلت له بابين: باباً شرقياً، يدخل الناس فيه، وباباً غربياً، يخرج الناس منه. فقالت: وما دعاهم إلى إخراج بعض البيت إلى الحِجْر، فقال: قصّرت بهم النفقة. قالت: فلِمَ رفعوا الكعبةَ عن الأرض؟ قال: ليأذنوا لمن شاؤوا، ويمنعوا من شاءوا " (3) وقوله صلى الله عليه وسلم: قصّرت بهم النفقة، ليس أن مالَ قريش، لم يتسع لبناء البيت، أو بخلوا به، ولكن [كان] (4) للكعبة أموالٌ طيبة من النذور، والهدايا، فقالوا: لا ننفق على البيت من أموالنا، التي جرى فيها الربا، وإنما نُنْفق مالَ البيت، فقصّر ذلك المال.
__________
(1) الأقطار: الجوانب.
(2) حِدْثان: بكسرٍ، فسكون، ابتداء الأمر، وأوله، ويقال: حِدْثان الثباب (معجم) والمعنى قربُ عهدهم بالشرك.
(3) حديث: بناء البيت متفق عليه من حديث عائشة، وله عندهما ألفاظ كثيرة متنوعة (ر. البخاري: الحج، باب فضل مكة وبنيانها ح 1583، مسلم: الحج، باب نقض الكعبة وبنائها، ح 1333، التلخيص: 2/465 ح 1014) .
(4) ساقطة من الأصل.(4/280)
وكان جرى هدمُ البيت، قبل المبعث بعشر سنين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ابنُ ثلاثين سنة، فلما بنَوْه، تنازع بنو عبد منافٍ، وبنو هاشم، وبنو المطلب، وبنو عبد شمس، وقال كل واحد: " نحن نضع الحجر في موضعه " فكاد شرٌّ يهيج، فتواضعوا على أن يرضَوْا بحكم أولِ من يدخل، من باب بني شيبة، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا في الجاهلية يسمونه محمداً الأمين. قالوا: محمدٌ الأمين!! أتاكم من لا يميل؛ فحكموه، فحكم بأن يَبْسط رداءه، ويوضَعُ الحجَرُ عليه، ثم يأخذ سيد كل رهط بطرف منه، حتى يحملوه إلى موضعه، فبسط رداءه، ووضع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحَجَرَ بيده، فلما وصلوا إلى البيت، أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضعه موضعه بيده.
وكان بناؤهم البيت على الصورة التي هي عليها اليوم، وقبل ذلك كان لاصقاً بالأرض، ذا بابين شرقي وغربي.
فلما خرج ابن الزبير إلى مكة، هدمَ البيت، وبناه كما كان قديماً، فلما ظهر عليه الحجاج، وقتله، هدم البيت بالمنجنيق، وبناه هذه البِنْيَة التي هو اليوم عليها (1) .
__________
(1) هذه العبارة عن هدم البيت وبنائه -زاده الله تعظيماً وتشريفاً- غيرُ دقيقة، وفيها من الخلل التاريخي ما فيها:
أولاً - ما حاجةُ الحجاج إلى هدم البيت بالمنجنيق، بعد أن " ظهرَ على ابن الزبير وقَتَلَه "، وصار مسيطراً على مكة؟؟ ما حاجته إلى المنجنيق؟ ألا تكفي المعاول والفؤوس.
ثانياً - إن ابن الزبير لم يهدم البيت ليبنيه على نحو ما همَّ به الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما بناه ابنُ الزبير بعدما انهدم.
ثالثاً - هناك خلاف في سبب انهدام البيت، فقال بعض الرواة من أشياع ابن الزبير وأعداء بني أمية -وهم طوائف كثر- إن انهدام البيت كان بسبب ضرب الحجاج إياه بالمنجنيق عند حصار ابن الزبير وقتاله إياه، ولي بعد قتل ابن الزبير والقضاء على عصيانه، كما وهم إمام الحرمين، أو سبق قلمه.
رابعاً - لم يهدم الحجاج البيت كاملاً، وإنما هدم جانب الحِجْر، لردّ الزيادة والتغيير الذي أحدثه ابن الزبير.
والقول الذي نرتضيه، وعليه المحققون أن البيت انهدم بسبب حريقٍ كان نتيجة لشرارة طارت من أبي قَيْس -أحد رجال ابن الزبير- فلما تداعى البيت، ووهت جُدرانه، هدمه ابنُ الزبير، وأعاد بناءه على نحو ما تمنى رسول الله صلى الله عليه وسلم. (قلتُ: رواية الحريق =(4/281)
ثم لما ضافَ بهم النفقة أخرجوا من جانب الحِجْر ستةَ أذرع من عَرْصة البيت، وضيقوا عَرْض [الجدار] (1) بين الركن اليماني والحَجَر الأسود، وأخرجوا من أساس الجدار على هيئةِ دُكّانٍ (2) لا عرضَ له، وهو الذي يسمى الشَّاذرْوان وهو بيّنٌ للناظر، ولكنه لا أثر له عند الحَجَر، فلعله امّحق، أو رأوا رفعه لتهوين الاستلام، وتيسيره، وسمى المزني الشاذَرْوان [تأزيز] (3) البيث، ومعناه التأسيس، ومنهم من قرأ تأزير البيت، تشبيهاً بالإزار.
2622- فإذا ثبت ما ذكرناه، عُدنا إلى غرضنا من ذلك في حكم الطواف: فليس للطائف أن يدخل الحِجر، ويتخطى الستةَ الأذرع المتصلة بالبيت، فإنه لو فعل ذلك، لكان والجاً في البيت، والطواف تردُّدٌ بعد تخليف البيت، وكذلك لو صعد إلى جدار الحِجْر -وحوله جدارٌ إلى حيال الصدر- ولو خلّف مقدار الستة الأذرع، واستظهر، ثم
__________
=هذه هي الصحيحة، فلم يذكر السهيلي غيرها، واعتمدها الزركشي في " إعلام الساجد "، ونفى غيرها أشد النفي ابنُ تيمية في " منهاج السنة ") .
أما هدْمُ الحجاج، فقد كان بعد القضاء على ابن الزبير، حيث أراد أن يعيد البناء إلى ما كان عليه موروثاً من عصر الرسول والراشدين. المهم لم يكن هناك منجنيق، وقصدٌ للبيت بالإهانة والأذى، فهذا لم يكن من مسلم ولن يكون.
(1) ساقطة من الأصل.
(2) الدكان: الدكة يجلس عليها، والحانوتُ، والأول هو المراد هنا. ومعنى " لا عرض له " أنه وإن كان كالدكان لا يعدو في عرضه بضعة أصابع، فلا جلوس، ولا دكان، ولكن: (هيئة) فقط. ثم هو لفظ معرّب (المصباح) .
(3) لم أصل إلى أزّز بمعنى أسس، فيما رأيت من معاجم اللغة ولكن ذكره الرافعي في شرحه الكبير، فقال: وقد يقال؛ التأزيز بمعجمتين، وهو التأسيس. ونقله عنه النووي في تهذيب الأسماء واللغات، وهذا لا يغني شيئاً؛ فإن اللائح أن الرافعي أخذها عن إمام الحرمين، ونحن نبحث عن مصدرها اللغوي الذي أخذها منه إمام الحرمين، والمذكور في مختصر المزني الذي بأيدينا: 2/78: (تأزير) بالراء، وفي المصباح: أزّر الجدار تأزيراً، جعل له من أسفله كالإزار (ر. المصباح، والمعجم، والقاموس، والزاهر، والأساس) . وفي الأصل، (ك) : " تأزير " بالمهملة. هذا. وإنما أثبتنا (تأزيز) لما اتضح لنا أنه مراد الإمام، بدليل قوله: " ومنهم من قرأ: تأزير ".(4/282)
اقتحم الجدار وراء ذلك، وتخطى الحِجْر، على هذا السمت، اعتدّ بطوافه (1) ، وإن كان ما جاءبه مكروهاً.
ولو انتهى الطائف إلى موضع الشَّاذَرْوان، وأقر قدميه عليه، وألصق بدنَه بالجدار في هذه الجهة، فهو في البيت، ولا اعتداد بما يأتي به.
ولو كان يمر وراء الشَّاذَرْوان، وهو يمس الجدار بيده، في ممرّه، فقد اختلف أصحابنا في ذلك، فذهب الأكئرون إلى أنه لا يُعتد بهذا من الطواف؛ فإن الشرط أن يكون جميعُ بدنه منفصلاً عن البيت، وليس الأمر كذلك، فيما صورناه. وذكر بعضُ أصحابنا وجهاً آخر بعيداً، أنه يُعتد بمَمرّه، نظراً إلى جملته، ولا مبالاة بطرفٍ من عضوٍ يلج، أو يخرج، والتعويل في هذا الفن على التسمية المطلقة، وهو يسمى طائفاً بالبيت خارجاً منه.
والأصح الأول.
2623- ومما يدنو من ذلك، ويقرب منه، أنا ذكرنا أن ابتداء الطواف مستفتح من (2) حيال الحجر الأسود، فإن حاذاه ببدنه في أول (3) الطواف، صح، وإن حاذاه ببعض بدنه، فالأصح أن افتتاح الطوافِ باطلٌ، فإذا لم يصح الافتتاح، لم يصح الشوطُ كلُّه، جرياً على ما مهدناه، من اشتراط الترتيب وبيانه.
ومن أصحابنا من قال: يكفي محاذاة الحَجَر ببعض البدن، وخرّج هذا على خلافٍ في أن المصلي إذا وقف على ركنٍ من أركان البيت، وهو محاذي ببعض بدنه الركنَ، وبعضٌ منه خارجٌ عن مسامتة الكعبة، ففي صحة الصلاة إذا أقيمت كذلك وجهان.
__________
(1) لأن الحِجْر المحوط الآن أكثر من ستة أذرع، ونص الحديث أنهم تركوا ستة أذرع، فلو علا الجدار وقفز طائفاً في آخر الحِجر بعيداً عن الكعبة بستة أذرع، فهو طائف خارج البيت آتياً بالشرط المطلوب، ولكنه تكلّفٌ مكروه.
(2) في (ط) : في.
(3) في (ط) : أصل.(4/283)
والذي يتم به البيان: أن البدَن الذي أطلقناه إنما [هو] (1) شِقّ الطائف من جهة يساره ولا نعني غيرَه، والمعنيّ بالمحاذاة أن يقع كلُّ هذا الشق، في محاذاة الحَجَر، حتى لو خلّف من الحجر -مثلاً- شيئاً، وهو إلى الباب ما هو، وحاذى بعضَ الحَجَر ببعضٍ من شقه، والبعضُ الآخر [في] (2) محاذاة الكعبةِ والجزءِ المنحدر من الحَجَر إلى الباب، فهذا صورة الخلاف.
2624- وكان شيخي يتردد في أمرٍ نَصِفُه، فيقول: إذا حاذى من يبتدئ الطوافَ بشقه الحَجَر، ولكنه خلف شيئاً منه، في جهة الركن اليماني، فترك بعضاً منه مثلاً أمامه، وحاذى بشقه وسطه، فكان يقول: يحتمل أن نُصحح افتتاحَ طوافه؛ فإنه حاذى بتمام شقه الحجرَ، ويُحتمل أن نقول: ينبغي أن يحاذي في أولِ الطواف تمامَ الحَجَر [بتمام] (3) الشِّق، وذلك بأن يبتدئ من أول الحَجر فيما يلي الركنَ اليمانيَّ، ويمر عليه على المسامتة.
والأمر كما قال محتمل.
2625- ثم إذا تخطّى الحَجَر، أو خَطَا على الشاذَرْوان، وقلنا: لا يعتد بممره، فإذا استوى (4) بعد ذلك، فكل ما يأتي به غيرُ محسوب، حتى ينتهي إلى مثل ذلك المكان، الذي تعدى منه، وحاد عما رسمناه له.
فعلى هذا إذا انتهى من ركن الحجَر، إلى الركن [العراقي] (5) فمال إلى الحِجْر، ودخله من فتحةٍ تلي الركنَ، وخرقه إلى الفتحة الأخرى التي تلي الركن الشامي، فحركاته [على هذا الصنع] (6) ، غيرُ محسوبة، وإذا [تقدّمَها] (7) ، فتدواره إلى الركن
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) مزيدة من (ط) ، (ك) .
(3) ساقطة من: ك.
(4) (ط) : اشتدّ.
(5) ساقطة من الأصل.
(6) في الأصل: على الضلع. والمثبت من: (ك) ، أما (ط) فقد سقط منها ما بين لفظتي الركنين العراقي واليماني، وهو نحو سطرين.
(7) في الأصل، وفي (ك) : تقدمتها. والمثبت تقدير منا، والمعنى: فإذا استمرّ متقدماً من =(4/284)
اليماني، ثم إلى الركن الأسود، ثم إلى مكانه من الركن العراقي، كل ذلك غير محسوب؛ [وفاءً] (1) بالترتيب المكاني.
فهذا تمام ما أردناه فيما يُعدّ من الأركان.
2626- وكان شيخنا يقول: لو استقبل القبلة بصدره، وكان يستدير على الجهة المرسومة، عرضاً، فالقفال كان يتردد فيه: ربما كان يقول: (2 لا يحسب 2) له طواف؛ فإن المطلوب منه أن يولّي الكعبةَ شقّه الأيسر. وربما كان يقول: إذا دار على الصَّوْب مقابلةً، أو مدابرةً، أو على شق، حُسب طوافه، [وكره] (3) .
والأصح عندنا الأوّل (4) ؛ فإن المصلي لما أمر بأن يولي القبلةَ وجهه، وصدرَه، فلو أولاها شقه، لم يعتد بصلاته، ولا وجه لغير هذا عندي.
2627- ومما يتعلق بهذه الفنون - القول في الموالاة: ووضع الأشواط في الشرع على التوالي، فلو فرقها الطائفُ، ففي بطلان الطواف قولان، مبنيان على القول في الطهارة. وربما كان شيخي يجعل الطواف أولى بالموالاة، وليس يتبين فرقٌ به مبالاة. والتفريق اليسير غير ضائر.
وفي التفريق بالعذر طريقان: من أصحابنا من قطع بأنه لا يضر، ومنهم من جعل المسألة على قولين، وقد ذكرتُ حقيقةَ القول في هذا في كتاب الطهارة. والذي يُرجَع إليه في التفريق اليسير والكثير، ما يغلب على الظن في الإضراب عن الطواف، وترك الإضراب عنه، فكل زمان يشعر تخلله بظنٍّ في ترك الطائف طوافَه، أو إنهائه نهايته، فهو المعتبر في التفريق، ولا مبالاة بما دونه.
2628- والطائف في أثناء الطواف إذا سبقه الحدث، فأمره مرتَّبٌ عند الأئمة على سَبْق الحدث في الصلاة، فإن قلنا: سَبْق الحدث فيها لا يبطلها، فالطَّواف بذلك
__________
=هذه الحركات بانياً عليها، فكل ما يأتي بعدها غيرُ محسوب، حتى يعود إلى موضع انحرافه.
(1) في الأصل: وفاقا.
(2) ما بين القوسين سقط من (ك) .
(3) غير واضحة بالأصل.
(4) أي عدم الاعتداد بالطواف على هذه الهيئة.(4/285)
أولى. وإن قلنا: سبق الحدث يُبطل الصلاة، ففي الطواف قولان. والفارق أن الصلاة في حكم الخَصلة الواحدة، لا يتخللها الكلامُ والأفعالُ الكثيرة، بخلاف الطواف.
وإذا قلنا: ببطلان الطواف، تطهّر الطائف، وابتدأ الطواف من أوله.
وإن قلنا: سَبْق الحدث لا ينقضه؛ فإنه يخرج، ويتطهر، ويعود، ويبني كدأبه في الصلاة.
وهذا النوع من التفريق -ونحن نفرع على القول الذي انتهينا إليه- غيرُ معتبر، وإن [قلنا] (1) في تفريق المعذور قولان، فإنا نسلك في سبق الحدث مسلك البناء على الصلاة، وتفصيل القول في سبق الحدث في الصلاة متلقى من الخبر.
ولو تعمد الطائف الحدث، فإن قلنا: سبقُه ينقضُ الطوافَ، فعمده أولى. وإن قلنا: سبقه لا يبطل الطوافَ، ففي عمده وجهان: أحدهما - أنه يُبطل الطواف، كما يُبطل الصلاة؛ فإنهما مستويان في الافتقار إلى الطهارة. والثاني - أنا لا نقطع القولَ ببطلان ما سبق، بناءً على أن التفريقَ لا يبطل الطوافَ، والطوافُ يتخلله ما ليس منه، فلا يعتد بالمقدار الذي كان محدثاً فيه، ويجعله كأن لم يكن، فيعود البناء إلى التفريق.
ثم إن طال الزمان، فهو تفريقٌ، وإن قصر الزمان، فوجهان: أحدهما - أن الزمان القصير مع الحدث، كالزمان الطويل من غير حدث، فهذا يضاهي تخلُّلَ الرّدة في أثناء الطهارة، مع قصر الزمان؛ فإن من أصحابنا من ألحق ذلك بالتفريق الطويل، ومنهم من قطع رباط الطهارة بها، ومنهم من ألحقها بالتفريق اليسير.
فهذا منتهى القول، فيما يجري من الطواف مجرى الأركان.
2629- ثم المطاف بيّن، ولو بعُد الطائف من [المطاف] (2) المعتاد، اعتد بطوافه، ما دام في المسجد، حتى لو كان مداره في أخريات الأروقة، أو على مكانها من السطوح، فالطواف صحيحٌ.
__________
(1) في الأصل: كان.
(2) في الأصل: الطواف.(4/286)
فأما إذا خرج من المسجد، فلا. ولو وُسّعت خِطةُ المسجد، اتسع المطاف، والأمر كذلك في المسجد الحرام، بالإضافة إلى ما كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن العباسيةَ وسّعوا خِطته، وقيل: كثر الحجيج عامَ حجَّ الرشيدُ، حتى امتلأت الأروقة، بالطائفين ورقُوا إلى السطوح، وانتهَوْا إلى الجدران.
وقد نجز القول فيما لابد من مراعاته في الطواف.
2635- فأما ما يتعلق بالسنن والهيئات، فإذا افتتح الطائفُ الطوافَ من الحَجَر، كما رسمناه، فيما لابد منه، فيستحب له الاستلام، وهو من السَّلام، أو السِّلام (1) ، وهو الحجر، فإن زُحِم، ولم يتمكن من تقبيله (2) مسَّه بيده، ثم قَبّل يده، فإن لم يمكنه، أشار بيده.
ولا يستلم الركنَ اليماني، ولكن يمسه، تيمناً، وتبركاً، وقيل: إنه على قواعد إبراهيم. لم يغيره ما لحق البيتَ، من الهدم والبناء، ثم ذكر الأصحاب وجهين في كيفية ذلك: أحدهما - أن يُقبل المحرمُ يده، ويمَس الركن كالذي ينقل خدمة (3) إليه والثاني - أن يمس الركنَ، ثم يقبل يده، كالذي ينقل تيمناً إلى نفسه، وينقدح هذان الوجهان في الحجر، في حق المزحوم عن الاستلام، ولست أرى هذا اختلافاً، وإنما هو في حكم [تخير] (4) .
__________
(1) الاستلام: قال الأزهري: يجوز أن يكون " افتعالاً " من السلام، وهو التحية، فأن المستلم اقترأ منه السلام ... ونقل عن القتيبي أنه كان يذهب به إلى (السِّلام) : وهي الحجارة، واحدثها (سَلمة) بفتح فكسر. أو سِلْمة، بكسرٍ فسكون، وعلى هذا يكون استلمت الحجر أي لمسته، كما يقال: اكتحلت إذا أخذت من الكحل. (راجع/الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي: فقرة 346، والمجموع للنووي: 8/31) .
(2) يفهم من عبارة الإمام أن الاستلام هو التقبيل للحجر (وقد تابعه على ذلك الغزالي) ، وليس كذلك، فالاستلام: هو المس باليد. (ر. مجموع النووي: 8/31) .
(3) كذا في النسخ الثلاث " خدمة " وهي أيضاًً عند الرافعي في شرح العزيز، حاكياً لها عن إمام الحرمين (فتح العزيز: 7/320) ولعلها مصحفة عن (قُبلة) ففي عبارة النووي: " يقبل يده، ويستلمه، كأنه ينقل القُبلة إليه " وهو ينقل هذا عن (الفوراني) الذي كان معاصراً لإمام الحرمين (ر. المجموع: 8/35)
(4) ساقطة من الأصل.(4/287)
ولما انتهى عمر إلى الحجر، قال: أما إني أعلم أنك حَجَرٌ، لا تضر، ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك، ما قبلتك "، فقام أبيّ ابن كعب، فقال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الحجر الأسود يأتي يوم القيامة، وله لسان ذَلِقُ، يشهد لمن قبّله " (1) .
2631- وطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت راكباً، وكان يشير إلى الحجر بمِحجنٍ في يده (2) ، وهذا الحديث يدلّ على أن الطوافَ من الراكب مجزيء، ولا نقصان فيه؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يؤثر لنفسه الأفضلَ، سيّما عامَ الوداع.
وفي القلب من إدخال البهيمةِ المسجدَ، ولا يؤمن تلويثُها [شيء] (3) ، فإن أمكن الاستيثاق من هذه الجهة، فذاك، وإن لم يمكن، فإدخال البهائم المسجد مكروه.
2632- ثم إذا دنا من الحَجَر، قال: في ابتداء الطواف: " بسم الله، والله أكبر، اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك ووفاء بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك، عليه السلام " (4) وقد روي ذلك مرفوعاً. وكان شيخي يذكر دعواتٍ في تَرْدَاد الطواف،
__________
(1) حديث عمر عن الحجر الأسود متفق عليه بدون مراجعة أحد لعمر (البخاري: الحج، باب ما ذكر في الحجر الأسود، ح 1597، مسلم: الحج، باب استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف، ح 1270) . أما المراجعة لعمر فلم نجدها عن أبي بن كعب وإنما عن علي رضي الله عنه، أخرجه الحاكم في المستدرك وسكت عنه، وضعفه الذهبي (المستدرك: 1/457) وأورده المتقي الهندي في كنز العمال: (ح 12521) وعزاه للهندي في فضائل مكة، وأبي الحسن القطان في الطوالات، والحاكم، وعبد الرزاق.
(2) حديث طوافه صلى الله عليه وسلم راكباً. رواه مسلم وأبو داود من حديث أبي الطفيل (ر. مسلم: الحج، باب جواز الطواف على بعير وغيره، ح 1275، أبو داود: المناسك، باب استلام الأركان، ح 1879، التلخيص: 2/471 ح 1026) .
(3) في الأصل: " بشيء " والمثبت من (ط) ، (ك) .
(4) حديث الدعاء عند بدء الطواف، قال عنه الحافظ: " لم أجده هكذا ". والموجود ما رواه الشافعي في الأم عن ابن جريج عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله، كيف نقول إذا استلمنا الحجر؟ قال: قولوا: " باسم الله، والله أكبر إيماناً بالله وتصديقاً بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ". ورواه البيهقي والطبراني في الأوسط من ح 5482، التلخيص: 2/472) .(4/288)
ويخص كلّ موضعٍ بدعوة، ولم أرَ لها ذكراً، فلم أوردها، وعندي أن الأذكار [فوضى] (1) بعد ابتداء الطواف.
2633- ومن الهيئات الرمَل، فنؤثر للطائف الرملان في ثلاثة أشواط، من أول الطواف، ونؤثر له السكينة، والمشي على الهِيْنَة (2) في أربعة أشواط، وهي الأشواط الأخيرة، وقال بعض أئمتنا: الرمل فوق سجية المشي، ودون العدْو.
وقال الشيخ أبو بكر: هو شِرعةٌ (3) في المشي، دون الخبب.
وهذا عندي زلل؛ فإن الرمل في فعل الناس كافة ضربٌ من الخبب، يسير (4) إلى قفزان. والرملانُ هذا معناه في اللسان، وكل ما تضطرب الحركات فيه، فمصدره الفَعَلان في غالب الأمر، كالقَفَزان، والنَزَوَان، والضَّرَبان، وعَسَلان الرُّمح (5) .
والمشيُ السريع ليس من الرملان في شيء.
ثم يتَّسع (6) القول الآن في الرملان، فأول ما نذكره التفصيل في الطواف الذي يشرع الرمل فيه: [لا شك أنه لا يشرع في كل طواف، واختلف القول في الطواف الذي يُشرع الرمل فيه] (7) فأحد القولين أنه يختص بطواف القدوم؛ فإنه أول العهد بالبيت، فيليق به نشطةٌ واهتزازٌ، والقول الثاني - أنه مشروع في الطواف الذي يستعقب سعياً؛ من جهة أنه يشير إلى تواصل الحركات، وإلى السعي بين الجبلين، ثم القادم قد يسعى على أثر طواف القدوم، وقد يؤخر السعي حتي يأتي به على أثر طواف الزيارة بعد الوقوف، فإن كان يسعى بعد طواف القدوم، فإنه يرمل في الطواف قولاً واحداً،
__________
(1) في الأصل فرض. والأذكار فوضى: أي شائعة، غير مرتبة، ولا يختص شوط منها بذكرٍ دون شوط. (معجم) .
(2) الهينة: بكسر فسكون، ففتح. (معجم، ومصباح) .
(3) شِرعة: طريقة. وفي (ط) ، (ك) : سُرعة.
(4) (ط) ، (ك) : يشير.
(5) عَسَل الرمحُ: اهتز، واضطرب لِلِينه، وعَسَل الفرسُ: عدا، واهتز في عدوه (معجم)
(6) (ط) : نُشيع.
(7) ما بين المعقفين ساقطٌ من الأصل، (ك) ، ومثبت من (ط) وحدها، ما عدا لفظ (لا) في قوله: لا يشرع، فهي من المحقق.(4/289)
لاجتماع المعنيين. وإن كان يؤخر السعي إلى بعد طواف الإفاضة، فيجري القولان: فمن راعى القدوم، شرع الرمل في الطواف الأوّل، ومن راعى استعقاب السعي شرعه في طواف الزيارة.
ثم قال أئمة العراق: لا يجتمع الرمل في الطوافين على كل طريق، والأمر على ما قالوه؛ فإن أحداً لم يعلق الرمل بالمعنيين جميعاً.
ويخرج على ما ذكرناه الرمل في طواف العمرة. قال الأئمة: ليس طواف المعتمر طوافَ قدوم؛ فإنه يقع ركناً، وهذا يوُهي ما أشرنا إليه من ابتداء العهد بالبيت، وكان يمكن أن يقال: فيه معنى القدوم. فإن قلنا: الطواف الذي يستعقب السعي يشرع الرمل فيه، شرع الرمل في طواف المعتمر.
[هذا] (1) تفصيل القول في الطواف الذي يشرع الرمل فيه.
2634- ومما يتعلق بذلك الكلامُ في مكان الرمل: فالأصح أن الطائف في أشواط الرمل، يرمُل في جميع تدواره على [أركان] (2) البيت.
وذكر الأصحاب قولاً آخر: إنه يترك الرمل بين الركن اليماني والحجر الأسود، واستدل هؤلاء بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الأصل في إثبات الرمل، وذلك أنه كان واعدَ أهل مكة عامَ الصدِّ، أن يعود لقضاء عمرته في قابل، فعاد، وكان شرط على الكفار أن ينجلوا عن بطحاء مكة، ويلوذوا (3) بقُلل الجبال، فوفَوْا ورقُوا إلى قُعَيْقِعان، وهو جبل في جهة الحِجْر والميزاب، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَكَتْهم حمى يثرب، فرأى الكفار ذلك منهم؛ فهمّوا بالغدر، فنزل جبريل، وأعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بما أضمروه، فاضطبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، واضطبعوا، ورمل، ورملوا، فقال الكفار: إن هؤلاء كالغزلان، وكان ذلك سببا في رد كيدهم (4) .
__________
(1) في الأصل: هل.
(2) في الأصل: أرجاء.
(3) (ط) ويعوذوا.
(4) أصل حديث الرمل متفق عليه بنحو هذه السيافة، مع اختلاف في بعض الألفاظ، من حديث =(4/290)
فهذا أصل الرمل، ثم في بعض الروايات: أنه صلى الله عليه وسلم وأصحابَه رضي الله عنهم، كانوا إذا انتهوا إلى ما بين الركنين اليماني والحَجَر [اتّأدوا] (1) ؛ فإن الكعبة كانت تحول بينهم وبين الكفار. فقال هذا القائل: الرسول صلى الله عليه وسلم هو الأسوة في الرمل، وُيتْرَكُ الرمل حيث كان يتركه، وهو أقوى (2) ، لو تجرد نقلُه، وقد نُقل: أنه كان يرمل من الحَجَر إلى الحَجَر، ولا يبعد أنهم كانوا يسكنون قليلاً، من غير مفارقة سجية الرمل.
وروي أن عمر قال: " فيم الرمل، والتكشف، وقد أطّأ (3) الله الإسلام، ونفى الشرك وأهله، ألا إني لا أحب أن أدع شيئاً، كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم " (4) فإن قيل: لم دام الرمَل مع ظهور سببه أولاً، وزواله آخراً؟ قلنا: ما لا يُعقل معناه على التثبت لا يحكّم المعنى (5) فيه.
وقد قيل: إن سبب السعي ما كان من هاجَر أمّ إسماعيل، وابنه (6) ، كما سنصفه، ثم أُثبت ركناً في الدين.
__________
=ابن عباس. (ر. البخاري: الحج، باب كيف كان بدء الرمل، ح 1602، وطرفه في 4256، وعند مسلم: الحج، باب استحباب الرمل، ح 1264، وهو عند أبي داود: المناسك، باب في الرمل، ح 1889، وأحمد: 1/290-295، ومتفق عليه من حديث ابن عمر أيضاً، وعند مسلم من حديث جابر، وانظر التلخيص: 2/474 ح 1029 إلى 1033) .
(1) في الأصل: تاذوا، وهي محرّفة عن (تباذوا) بالباء الموحدة، والزاي المعجمة وهي في رواية من روايات الحديث، يقال: تبازى في مشيته إذا حرّك عجيزته (ر. تلخيص الحبير: 2/476 ح 1033، والمعجم) . هذا والمثبت من (ط) ، (ك) .
(2) (ط) ، (ك) : وهذا قوي.
(3) أطأ: ثبت، من وطأ، والهمزة أوله بدل الواو. (النهاية في غريب الحديب، وهامش ابن ماجة، وسنن البيهقي) .
(4) حديث عمر، رواه ابن ماجة: المناسك، باب الرمل، ح 2952، والحاكم: 1/454، والبيهقي: 5/79، وانظر التلخيص: 2/475 ح 1030) .
(5) (ك) لا يحمل المفتي.
(6) كذا في النسخ الثلاث، ولعل الصواب: " وابنها ". وربما كانت وأبيه لما سيأتي في قصة الذبح وتشريع الرجم، فمعنى الجملة: إن ما كان من أم إسماعيل بحثاً عن الماء، وما كان من أبيه زجراً للشيطان أثبت ركناً في الدين. والله أعلم.(4/291)
وقيل: استعصى الذبح على إبراهيم فذلَّلهُ الله بالأحجار على الجمرات، فصار ذلك شعاراً متبعاً، ومبنى الشرع على التيمّن والتأسي بشعار الصالحين، من غير تتبع المعاني.
2635- ومِما يتعلق بالرمل: أنا نؤثر الجمعَ بين الدنوّ من الكعبة وبين الرمل، ولا ننظر إلى كثرة الخُطى فيمن يبعد من الكعبة، وهذا متفق عليه.
فإن عسر الرمل في زحمة الناس، في القرب، ولو بَعُدَ إلى الحاشية، لا ستمكن من الرمل، فالرمل في البعد أولى، فإن القرب لا يبلغ مبلغ شعار مستقل.
نعم لو كان يقع في صف النساء، فتركُ الرمل أجدر به؛ فإن الأمر يعظُم في هذا، وينسب الرجل إلى ترك شعارٍ في الدّين كلِّي، ولا يقع منه الشعار الجزئي موقعاً.
2636- ولو ترك الرمل في الأشواط الأُوَل، فأراد أن يتدارك في الأشواط الباقية، لم يكن له ذلك؛ فإن سجّية المشي في الأشواط الأربعة مسنونة، كالرمل في الأشواط الثلاثة، فلو تدارك الرمل، لكان تاركاً سنةً ناجزة، في تدارك شعارٍ فائت، وليس هذا كإعادة سورة الجمعة في الركعة الثانية على ما سبق ذكرها في الصلاة؛ فإن الجمع بين الجمعة، وسورة المنافقين ممكن، والجمع بين الرمل وسجية المشي غير ممكن.
قال الشافعي: لو زُحم من لم يتمكن من الرمل أصلاً، فحسنٌ لو [أتى] (1) بمحاولة الرمل متشبهاً بالرامل، وهذا أصل ستأتي أمثلتُه في أمرنا مَنْ لا شعر على رأسه بالحلق متشبهاً بالحالق، إلى غير ذلك.
2637- ومن الشعار المرعي الاضطباع: وهو أن يجعل وسط الرداء تحت إبطه الأيمن، ويعري كتفه الأيمن منه، ويجمع طرفيه على عاتقه الأيسر، كدأب ذوي الشطارة (2) . هكذا
__________
(1) في الأصل: ايتى (بهذا الرسم. ولعلها يأتي، وفي (ط) : أشار. وهذا معنى كلام الشافعي وليس لفظه، وإلا، لصححناه منه. (ر. المختصر: 2/77، والأم: 2/149) .
(2) الشطارة الاسم من شطر (المعجم) . وظني أن المراد بذوي الشطارة هم الفتيان الذين كانوا يخرجون على قبائلهم في الجاهلية، ويرفضون قيود المجتمع، ويتمردون عليه، ويرتبون جماعاتٍ وفرقاً للإغارة والهجوم على من يتهمونهم بالظلم والطغيان.(4/292)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم [لا اضطباع] (1) في طوافٍ، لا رمل فيه، ولا يكلف المضطبع أن يغير زيّ الاضطباع إذا ترك الرمل في الأشواط الأربعة. وإلى متى يستديمه؟ ذكر الشافعي لفظةً، واختلف الأصحاب في قراءتها. قال: " ويديم الاضطباع حتى يكمل سعيه " (2) [منهم من قرأ كذلك وزاد في الخط ياء بعد العين، و] (3) منهم من رأى أنه سبعة، فإذا قلنا: حتى يكمل سبعة، معناه حتى يكمل الأشواط السبعة، وإذا قلنا: حتى يكمل سعيَه معناه استدامة الاضطباع حتى يكمل سعيه بعد الطواف.
فهذا فيما أظن حاوٍ لشعار الطواف، وما يتعلق بالركن منه، وما يتعلق بالسنة والهيئة.
2638- وذكر الشيخُ أبو بكر من جملة ما كنا نحفظه من الأذكار بعد الذكر الذي قدمناه في ابتداء الطواف، أنه كلما حاذى الحجر الأسود كبّر، وقال في رمله: " اللهم اجعله حجاً مبروراً، وذنباً مغفوراً، وسعياً مشكوراً " وقيد هذا الذكر بالرمل عن قصد، وقرنه باستحباب ذكر في حالة السعي، فإنا نؤثر للساعي أن يقول: " اللهم اغفر وارحم، واعف عما تعلم، إنك أنت الأعز الأكرم، اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار " والأمر في ذلك قريب.
ثم كل ما ألحقناه [بالهيئآت] (4) ، فلو تركه الطائف عامداً، اعتدّ بطوافه، ولم يلزمه فدية، وسنجمع بعد هذا قولاً ضابطاً فيما يوجب الفدية قطعاً، وفيما يختلف فيه.
__________
(1) في الأصل: الاضطباع.
(2) وهذا هو ما في المختصر المطبوع بين أيدينا: 2/76.
(3) سقط ما بين المعفقين من الأصل.
(4) ساقطة من الأصل.(4/293)
فصل
قال: " إذا فرغ صلى ركعتين، خلف المقام ... إلى آخره " (1) .
2639- الطائف إذا فرغ من أشواط طوافه أمرناه، بأن يصلي ركعتين، فإذا كان الطواف مفروضاً، فللشافعي قولان في وجوب ركعتي الطواف: أحدهما - أنهما لا تجبان، لحديث الأعرابي؛ إذ قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذكر الخَمْس: " هل عليّ غيرها "؟ قال: لا ".
والقول الثاني - أنهما تجبان وجوبَ الأشواط، وقد يستدل الشافعي على وجوب الشيء بإطباق الناس على العمل، وما يكون مُتطوَّعاً (2) به فالعادة تقتضي تردُّدَ الناس في الإتيان به، ثم إن كان الطواف فرضاً، فالقول مختلف كما ذكرناه، وإن لم يكن فرضاًً، فالأصح أنه لا يستحق على أثره ركعتا الطواف.
ونقل الأصحاب عن ابن الحداد: أنه أوجب ركعتي الطواف على أثر نجاز الأشواط، وهذا بعيدٌ، ردّه أئمة المذهب.
ثم ما أُراه يصيرُ إلى إيجابهما على التحقيق، ولكنه رأى ركعتي الطواف جزءاً من الطواف، ولم ير الحكم بالاعتداد بالطواف المقطوع به دونهما، وقد قال في توجيه ما رآه: لا يبعد أن يشترط في النفل ما يشترط، في الفرض، كالطهارة، وغيرها، وكالركوع، والسجود، من قبيل الأركان.
2640- وقد تحقق من معاني كلام الأصحاب الاختلافُ في أن ركعتي الطواف معدودتان من الطواف، أو لهما حكم الانفصال عنه.
ومن آثار الاختلاف في ذلك أنا إذا حكمنا بوجوب ركعتي الطواف الواجب، فلو أراد المتيمم أن يجمع بتيممه بين الطواف وبين الركعتين؟ في جواز ذلك وجهان مبنيان
__________
(1) ر. المختصر: 2/79.
(2) (ط) مقطوعاً.(4/294)
على ما ذكرناه: فمن عد الركعتين من الطواف أحلهما محل شوط، وجوّز الجمع.
ومن فصلهما عن الطواف، لم يجوّز الجمعَ بين الطواف، وبينهما بتيمم واحد.
فمأخذ كلام ابن الحداد هذا، ولا ينقدح غيرُه.
ثم لا يمتنع انفصال ركعتي الطواف عنه بزمانٍ متطاول، وهذا يوضّح انفرادهما عن الطواف، ولا يتعين لإقامتهما المسجدُ والحَرَمُ، وصرح الأئمة بأنهما لو أقيمتا بعد الرجوع إلى الوطن، وتخلل مدة، وقعتا الموقع، ولا ينتهيان إلى القضاء، والفوات. وسنذكر أن ما يجب في الحج ولا يكون ركناً؛ فإنه مجبور بالدم، ولم يتعرض الأئمة لجبران ركعتي الطواف، وإن اختلف القول في وجوبهما، والسبب فيه أنهما لا تفوتان، والجبران إنما يثبت عند تقدير الفوات، ثم إن قُدِّر فواتهما بالموت، فلا يمتنع وجوب جبرانهما بالدم، قياساً على سائر المجبورات.
2641- ومما يتعين التنبه له أنا وإن حكمنا بوجوب الركعتين، وفرعنا على أنهما معدودتان من الطواف، فلا ينتهي الأمر إلى تنزيلهما منزلة شوط من أشواطه؛ (1 فإن تقدير ذلك يتضمن القضاء بكونهما من الركن، في الطواف الواقع ركناً، ولم يصر إلى هذا صائر، وبهذا يضعف عدهما من الطواف 1) .
2642- ومما يذكر [بدعاً] (2) غريباً في أحكام الصلاة تطرق النيابة إلى ركعتي الطواف، من جهة المستأجَر على النسك، وليس في الشرع صلاةٌ تجري النيابةُ فيها غيرُ هذه.
ثم إن حكمنا بوجوب الركعتين، لم تقم صلاة أخرى مقامهما، وإن قضينا بأنهما لا تجبان، فقد قال الصيدلاني: لو صلى الفارغ من الطواف فريضةَ الوقت، أو قضى فائتةً، وقع الاكتفاءُ بما جاء به، اعتباراً بتحية المسجد. وهذا مما انفرد به.
والأصحاب على مخالفته، فإن الطواف يقتضي صلاة مخصوصة، والمسجد حقُّه ألا يجلس الداخل فيه حتى يصلي.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ك) .
(2) في الأصل: يدعى.(4/295)
فصل
في أحكام الطواف
2643- الطواف في الحج ينقسم ثلاثةَ أقسام: أحدها - الطواف الواقع ركناً، وهو يقع بعد الوقوف، وهو المسمى طواف الإفاضة، والزيارة، ولا سبيل إلى تقدير إيقاعه قبل الوقوف، وسنفصل أول وقته، عند ذكر أسباب التحلل. ثم إذا حكمنا بكونه ركناً، فلا يسد مسدَّه شيء، ولا يتطرق إليه جبران.
2644- والقسم الثاني طوافٌ يقع بعد التحللين، وبعد الفراغ من [مناسك] (1) منى: رمياً، ومبيتاً، وهو طواف الوداع. وفي وجوبه قو لان: أحدهما - أنه يجب، وعلى تاركه الدم، وإليه ميْل النصوص في الجديد. والقول الثاني - أنه لا يجب، ولا جبران على تاركه، ولكنه سُنّةٌ مؤكدة.
[ثم] (2) حق هذا الطواف أن لا يعرج الراجع إلى مكة بعده على أمرٍ، فإن عرّج على شغل، فسد ما جاء به عن الجهة المطلوبة، وتعيّن الإتيان بطواف الوداع مرةً، أخرى.
والمرأة إذا هي حاضت بعدما أفاضت، وطافت طوافَ الإفاضة، فلتنفر بلا وداع؛ وقد روي أن صفيةَ حاضت في وقت المنصَرَف، فأُخبر رسول الله صلى الله عليه وسملم، فقال " عَقْرَى (3) حلْقَى حابِستنا هي؟ فقيل: إنها قد أفاضت قبل أن حاضت، فقال: فلتنفر بلا وداع " (4) .
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في الأصل: لكن.
(3) عقرى، حلقى: بالألف المقصورة: وفي معني اللفظين كلام كثير، خلاصته أنه دعاءٌ عليها، ولكن لا تراد حقيقتُه، على عادة العرب في قولهم: تربت يداك، وقولهم: قاتله الله.
ما أشجعه، وما أشعره، ونحوه (ر. صحيح مسلم: 1/878) .
(4) حديث صفية: بمعناه عن عائشة في الصحيحين، وله عندهما طرقٌ وألفاظٌ. (ر. البخاري: الحج، باب إذا حاضت المرأة بعد أن أفاضت، ح 1757، ومسلم: الحج، باب وجوب طواف الوداع، ح 1211، وانظر تلخيص الحبير: 2/507 ح 1076) .(4/296)
[ثم إذا نفرت بلا وداع] (1) ، وتمادى الحيضُ حتى انتهت إلى مسافة القصر، استمرت ذاهبةً، ولا جبران.
وإذا خرج الرجل بلا وداع، وجرينا على قولِ الجبران، وانتهى إلى مسافة القصر، استقر الجبران. ولو آثر العوْدَ، لتداركِ الوَداع، لم يسقط الجبران؛ فإنّ دخول مكة من مثل هذه المسافة في حكم زَوْرة مستفتحةٍ، تقتضي إحراماً جديداً على أحد القولين.
ولو حاضت المرأة، وخرجت، ثم انقطع حيضها، وهي بعدُ في خِطة مكة، رجعت، وطافت. وإن جاوزت الخِطة، وما انتهت إلى مسافة القصر، فالذي نص عليه الشافعي: أنه لا رجوع عليها، ونصَّ أن الرجلَ إذا فارق مكة، ولم ينته إلى مسافة القصر، وأراد الرجوعَ، يسوغُ له ذلك، ويقع الاستدراك بالطواف، ويسقط الجبران.
واختلف أصحابنا في النصين: فمنهم من جعلها على قولين: أحد القولين - أن انقطاع الحيض دون مسافةِ القصر يوجب الرجوعَ، فإن لم ترجع، التزمت الدمَ على قول. والرجوعُ في حق الرجل، والمرأةِ التي لم تكن حائضاً يثبُت لاستدراك صورة الطواف. هذا قولٌ. والمعتبر فيه مسافةُ القصر.
2645- وذكر الشيخُ أبو علي، وغيرُه قولاً آخر: إنه لو عاد من مسافة القصر، أمكنه أن يتدارك الوَدَاع، فهذا القائل لا يوجب العود، ولكنه يجوّزه، ويحكم بحصول التدارك.
ثم إذا وقع التفريع على هذا القول الغريب؛ فإنه يدخل مكة محرماًً بنسك، فإذا تحلل وودَّع، وخرج يكفيه الودَاع الذي جاء به عن النسك الذي أحدثه الآن، عن التدارك الذي رجع لأجله.
وذكر صاحب التقريب وجهاً آخر: أنه يطوف طوافين: أحدهما - يستدرك به
__________
(1) ساقط من الأصل.(4/297)
ما فاته، والثاني - يأتي به لأجل [النسك] (1) الذي جدده، وهذا ضعيف، ينبغي أن يكون الطواف الأول عن جهة التدارك، والثاني عن جهة هذا النسك. ثم يخرج ولا يحدث أمراً.
2646- والقول الثاني - أن أمر الوَدَاع يَنْقطع بمفارقة خِطة مكة، ثم يختلف الحكم في الحائض تطهر، والرجل يفارق: فحكم طهرها بعد مفارقة الخِطة أن لا يلزمها العود، ولا الجبران. وحكم الانقطاع في حق غيرها استقرارُ الجبران، وزوالُ إمكان التدارك. ووجه هذا القول أن الوداع متعلق بمكة، فإذا تحققت مفارقتها، فلا معنى لاعتبار مسافةٍ بعد مفارقتها.
2647- ومن أئمتنا من أقر النصين قرارهما، وفرّق، وقال: المرعيُّ في حق المرأة، مفارقةُ الخِطة، فإذا طهرت عن الحيض، بعد المفارقة، لم يلزمها عودٌ، ولا جبران. والرجل إذا فارق الخِطة، ولم ينته إلى مسافة القصر، أمكنه العود، وذلك لأن الحائض ليست من أهل الوداع شرعاً، فإذا طهرت بعد مفارقة الخِطة، فلا التفات إلى ما مضى من أمرها. والرجل كان من أهل الوداع شرعاً، فلا يبعد بقاءُ المستدرك، إذا لم ينته إلى موضع يقتضي دخولَ الحرم (2) منه.
وكأن المرعيّ في الجانبين التخفيفُ. أما المرأة إذا طهرت بعد المفارقة، فلا وَداع عليها، والرجل لا ينحسم عليه المستدرك.
ثم إذا اعتبرنا مفارقةَ الخِطة. فيعود الوجهان المذكوران في باب المواقيت، في أن مفارقة العمران هي المرعية، أم مفارقة الحرم، وقد تقدم ذكرُ الوجهين، وهما جاريان هاهنا.
ولا خلاف أن المكي إذا خرج مسافراً لم تتوقف استباحةُ الرخص على مجاوزة الحرم [بل المرعيُّ مفارقةُ الخِطة؛ فإن استباحة الرخص لا أثر لها في الحرم] (3)
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) المعنى إذا لم يصل في خروجه إلى الحلّ ومجاوزة الحرم.
(3) ساقط من الأصل.(4/298)
والحل، وكانت مكة فيها بمثابة سائر البلاد.
فهذا منتهى القولِ في طواف الوداع.
2648- ولا شك أن الوداع على الغرباء؛ فإن من يؤوب إلى مكةَ قاطناً، لا يعتبر الوداع في حقه. ولو عنّ للمكي أن يسافرَ مع الغرباء، فلا وَداع أيضاً؛ فإن حكم السفر يثبت في حقه إذا خرج.
ولا تعويل على ما يعتاده المكيون في ذلك؛ فإنهم يحرصون على الوداع أكثر من حرص الغرباء.
وفي بعض الطرق رمزٌ إلى أنهم يودّعون إذا نفروا، وخرجوا مع الغرباء.
ولا خلاف أنه إذا عنّ لهم هذا بعد العود إلى مكة، فلا وداع.
والغريب إذا كان بعد قضاء المناسك مزمعاً على أن يعرّج أياماً بمكة، ثم يخرج، فإذا خرج، ودّع على حسب ما ذكرناه، وإن قصد الإقامة، انقطع أثر الوداع، فإذا أراد السفر، ونقض عزيمةَ الإقامة، فلا وداع.
وبالجملة الوداع من مناسك الحج، وإن وقع بعدها. وليس على الخارج من مكةَ وداعٌ بخروجه منها، وليس الخروج في اقتضاء الوداع، كدخول الغرباء مكة في اقتضاء الإحرام.
وقد نجز القول في هذا القسم.
2649- القسم الثالث: طواف القدوم: وهو من الحج في حق من يرد مكة قبلَ عرفة، فيطوف طواف القدوم؛ كما (1) قدم. والذي ذهب إليه الأئمة أنه سُنّةٌ، لا يجب جبرانُه بالدم، بخلاف طواف الوَدَاع.
وأشار صاحب التقريب إلى احتمالٍ فيه، فرأى أن يلحقه بطواف الوداع. وهذا بعيدٌ.
__________
(1) " كما ": بمعنى عندما.(4/299)
ثم قال الأئمة: ينبغي ألا يعرج القادمُ على أمرٍ حتى يطوفَ طواف القدوم، (1 فلو أخر طواف القدوم 1) ، ففي قول الأئمة تردُّدٌ، وقد قطعوا بأن التعريج بعد طواف الوداع يفسده.
وذكر أبو يعقوب الأبيوَرْدي (2) وجهاً في أنه يصح طواف الوداع من غير طهارة، ثم قال: يُجبر بدم.
وإنما قال هذا، من حيث إنه أُلزم: وقيل: لو جاز جبر [طواف الوداع بالدم، لجاز جبر] الطهارة فيه بالدم، فارتكبه (3) ؛ وقال تُجبر. وهذا غلط، لأنه إذا وجب الدم، فهذا جبرُ الطواف؛ لا جبرُ الطهارة.
فهذا آخر قواعد المذهب في الطواف.
وقد شذ عن أصول المذهب مسائلُ قريبة ونحن نرسمها فروعاً.
فرع:
2650- الصبيّ إذا انعقد عليه الإحرام، فطاف به طائف، فإن لم يكن ذلك الطائف في نسك، أو كان ناسكاً، ولكن طاف عن نفسه أوّلاً، ثم احتمل الصبيَّ، وطاف به، فالطواف يقع عن الصبي في الصورتين، بلا شك.
ولو لم يكن طاف عن نفسه، فإن نوى بالطواف نفسَه، وقع عنه، ولم يحصل الطوافُ للصبي وفاقاً، وإن حصلت فيه صورة التردد.
والسبب فيه أن هذه الحركات الصادرة من الحامل، لا يجوز تقدير صرفها إلى مصرفين؛ فإذا وقعت عن شخصٍ، لم تقع عن غيره؛ وأئمة المذهب مجمعون على هذا؛ فلا نظر مع وفاقهم في وجه الرأي والاحتمال.
__________
(1) ساقط من (ك) ما بين القوسين.
(2) أبو يعقوب: يوسف بن محمد الأبيوَرْدي. أحد الأئمة، من أقران القفال، ومن مشايخ الشيخ أبي محمد الجويني. منسوب إلى (أبيوَرْد) . له كتاب المسائل في الفقه، تفزع إليها الفقهاء.
توفي في حدود الأربعمائة، أو بعدها بقليل. (طبقات السبكي: 5/362) .
(3) ارتكبه: هذا مصطلح من مصطلحات المناظرة والجدل، ولم أصل إلى من عرّفه في المؤلفات الخاصة بهذه المصطلحات، ولكن رأيته أكثر من مرة في كلام إمامنا، كما هو واضح من السياق.
هذا وقد سبق محاولةُ بيانه في بعض التعليقات السابقة. ومعناه هنا واضح من السياق،
وهو أن يُلزَم المناظر أمراً، فلا يعرف الخروج منه، فيسلم بما أُلزمه، وهو خطأ بيّن.(4/300)
ومن ركب دابة، وطاف عليها، فحركات الدابة مضافةٌ إلى الراكب، ولو ركب دابَّةً رجلان، أو أكثر، حصل الطوافُ لجميعهم بتردُّدِ الدابَّة سبعاً.
وكذلك إذا احتمل غيرُ الناسك صبيين، أو أكثر، فهو بمثابة المركب في التفصيل.
ولو حمل الصبيَّ، ونواه بالطواف، وما كان طاف، فهذا يستدعي مقدمةً، وهي: أن الطائف لا يلزمه تجديدُ النية للطواف، لأنه ركنٌ من أركان الحج، والنية التي هي عقد الحج مشتملةٌ على الأركان، ولكن لو أتى الطائف بنيةٍ تتضمن الصرف عن جهة النسك، وأتى بصورة الطواف، ففي وقوع الطواف موقعَ الإجزاء وجهان: أحدهما - لا يقع الموقع، ولعله الأصح. وربما كان يقطع به شيخي، ووجهه أنا إن لم نشترط [النية] (1) ، فوجهه الاكتفاء بالنية العاقدة الشاملة، فأما صرف الطوافِ عن جهة العبادة قصداً، [فمراغمة] (2) لحكم النية المتقدمة، وقد ذكرنا لذلك نظيراً في باب النية في الطهارة، عند ذكرنا عزوبَ النية، والقصد إلى التبرد، أو التنظف ببقية الطهارة.
فإذا ثبت ما ذكرناه، فإن نوى الحامل -وعليه الطواف- بالطواف الصبيَّ المحمولَ، فالطريقة المرضية تخريجُ ذلك على ما ذكرناه الآن. فإن قلنا: صرف الطواف بالنية يوجب انصرافَه، فلا يقع الطواف عن الطائف، ويقع عن المحمول، وإن قلنا: صرف الطواف بالنية لا يوجب انصرافَه، فيقعُ عن الطائف، فإذا وقع عنه، لم يقع عن الصبي.
وكان شيخي يقول: إذا نوى الصبيَّ، فلا يقع عن الصبيّ.
وهل (3) يقع عن الطائف؟ فعلى قولين.
وهذا فيه خبطٌ. والذي ذكره العراقيون، وغيرُهم ما تقدم.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) في (ط) ، (ك) العبارة هكذا: "فلا يقع عن الصبي، وعلى الطائف طوافه، وهل يقع عن الطائف؟ ".(4/301)
ولو نوى الطائف بالطواف نفسَه والصبّي المحمولَ، وقع الطواف عن الطائف، ولم يقع عن الصبي.
فصل
قال الشافعي: " ثم يعود إلى الركن، فيستلم ... إلى آخره " (1) .
2651- مضمون الفصل القولُ في السعي بين الصفا والمروة، وهو ركنٌ في الحج والعمرة عندنا، لا يجبر بالدم، خلافاً لأبي حنيفة (2) .
ثم قال الشافعي: إذا فرغ الطائف من الطواف، واستتم الأشواط السبعة، فإنا نستحب له أن يعود إلى الحَجَر، ويستلمَه، ليكون آخر عهده [الاستلام] (3) ، وأول طوافه مفتتحاً بالاستلام ". ثم قال: إن تمكن الطائف من الاستلام في كل شوط، فحسن، وإلا فليعتن به في كل وتر (4) ، ثم يصلي ركعتي الطواف، ويؤم بابَ الصفا، وهو في محاذاة الضلع الذي بين الركن اليماني وركن الحَجَر، ويخرج من ذلك الباب، فينتهي إلى الصفا، ويلقى درجاً في حضيضة، ويرقى فيها بقدر قامة. هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والرقي ليس مقصوداً في الحج، ولكن لا يأمن المنتهي، لو لم يرقَ أن يكون ما انتهى إليه من الدرج المستحدثة، وإلا فالانتهاء إلى أصل الجبل كافٍ وفاقاً.
__________
(1) ر. المختصر: 2/79.
(2) ر. مختصر اختلاف العلماء 2/145 مسألة: 607، بدائع الصنائع: 2/133، حاشية ابن عابدين: 2/148.
(3) ساقطة من الأصل، وفي (ط) و (ك) : " بالاستلام "، والمثبت تصرف من المحقق.
هذا. ولم نصل إلى هذا النص للشافعي، في " المختصر "، وفي " الأم " كلامٌ بمعناه.
قال: " وأحب الاستلام حين أبتدئ بالطواف بكل حال، وأحب أن يستلم الرجل إذا لم يُؤذِ، ولم يؤذَ بالزحام، ويدع إذا أوذي أوآذى بالزحام، ولا أحب الزحام إلا في بدء الطواف، وإن زاحم، ففي الآخرة " الأم: (2/146) .
(4) في الأم بلفظ: " أحب الاستلام في كل وتر أكثر مما أستحب في كل شفع، فإذا لم يكن زحام أحببت الاستلام في كل طواف " (ر. الأم: 2/146) .(4/302)
2652- ونحن نرسم الآن القول في شرط السعي، وفيما يقع منه موقع الركن، ثم نذكر ما يتعلق بهيئاته، كدأبنا في الطواف:
فأما الشرطُ، فلابد من تقدم طوافٍ معتدٍّ به، ولا يجوز الإتيان بالسعي من غير سبق طواف.
ثم لا يمتنع أن يكون الطواف المتقدمُ نفلاً، والسعي لا يقع إلا ركناً، ولا يتأقت بطواف الإفاضة، بل إذا طاف القادمُ طوافَ القدوم، وسعى، وقع السعي ركناً، ولا يعيده إذا طاف طواف الزيارة، بل لا يؤثر أن يعيدَه، وكان شيخي يقول: تكره إعادته، والأمر على ما ذكر، وليس كالطواف؛ فإن غيرَ الناسك يأتي بما شاء من الطواف؛ فإنه قُربة في نفسه، والسعي تابعٌ، فيقتصر منه على الركن.
ثم إذا تقدم الطوافُ المحسوب، لم نشترط في السعي ما شرطناه في الطواف: من الطهارة والستر، ولا نشترط الموالاة، بين السعي والطواف، بل نقول: إذا تقدم الطوافُ معتداً به، وتخلل بين انقضائه وبين ابتداء السعي فصل طويل، فلا بأس.
قال الشيخ أبو علي: قلت للقفال: ما ترى فيه؟ فقال: لو أتى بالسعي بعد سنةٍ أجزأ، فلا أعرف فيه حداً.
ثم قال الشيخ: ولو طاف طوافَ القدوم، ولم يسْعَ على أثره، ووقف بعرفةَ ثم أراد أن يسعى؛ وصْلاً للسعي بما تقدَّم من طواف القدوم، لم يجُز، وما تخلل من الوقوف فاصلٌ حاجزٌ، وإن كنا لا نشترط الموالاة، فليطف عند الإفاضة، وليسْع.
هكذا قال.
فإن قيل: لو أوقع السعيَ على أثر طواف الوداع، فما قولكم فيه؟ قلنا: هذا مغالطة؛ فإن طواف الوداع، لا يقع إلا بعد الفراغ عن المناسك كلها، فلا اعتداد بطواف الوداع، وعلى الناسك سعيُه. فإذا طاف المُفيض، ولم يسع، وعادَ إلى منى ليرمي، ويبيت على ما سيأتي مناسك منى - فيعتد بتلك المناسك، وإن كان عليه السعي، وقد يؤخر الطوافَ الركنَ إلى انقضاء أيام منى، فلا بأس.
ويخرج منه أنا لا نبعد وقوع تلك المناسك، ممن هو في بقيةٍ من إحرامه.
هكذا ذكره شيخي. وفي قلبي منه شيء والعلم عند الله.(4/303)
2653- فأما القول فيما هو أصل السعي، والنازل منه منزلةَ الركن، فالأصل التردد بين الصفا والمروة. ثم أجمع الأصحاب على أنه إذا صدر من الصفا إلى المروة حُسب ذلك مرة في السبع، ثم ينتهي من المروة إلى الصفا، فيحسب ثانيةً، وهكذا إلى تمام السبعة، فيكون الابتداء من الصفا، والختم بالمروة.
وذهب ابن جرير إلى أن الساعي إذا عاد إلى الصفا بعد الانفصال منه، عُد ذلك مرةً واحدة، ثم يفعل كذلك سبعاً، فيتردد بين الميلين أربع عشرة مرة، وذهب إلى هذا أبو بكر الصيرفي (1) من أصحابنا، وعرض تصنيفاً له، فيه ما ذكرناه على أبي إسحاق المروزي، فخطَّ (2) عليه، فرد التصنيفَ إلى أبي بكر، فأعاده (3) ، واستقرّ على مذهبه هذا، ولا يعتد به أصلاً.
ومكان السعي معروفٌ [لا] (4) يتعدى.
ومما يجب اعتباره الترتيبُ، فلو بدأ بالمروة، وصار إلى الصفا، فلا يحسب، وابتدأ سعيه في انفصاله عن الصفا.
فهذا ما يتعلق بالشروط، وما يجري مجرى الركن.
2654- فأما الهيئات، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رَقِيَ الصفا بقدر قامة، حتى بدت له الكعبة، ولا يمتنع أنه قصد ذلك الرقي، ثم قال: " الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده " (5) . فهذا ما صح عنه.
وحسنٌ لو دعا الإنسان بما بدا له، ثم ينزل ماشياً على هِينَتِه، حتى يبقى بينه وبين ميلٍ يراه معلّقاً على ركن المسجد، مقدارَ ستة أذرع، فيبتدئ السعيَ. وكان ذلك الميل
__________
(1) أبو بكر الصيرفي: محمد بن عبد الله. الإمام الجليل أحد أصحاب الوجوه، تفقه على ابن سريج، ومن كتبه شرح الرسالة، توفي 330 هـ (طبقات السبكي: 3/186) .
(2) خط عليه أي ألغاه، وبلُغتنا " شَطَبه ".
(3) أي هذا الكلام الذي خَط عليه المروزي، و (شطبه) .
(4) ساقطة من الأصل.
(5) حديث دعاء السعي، ورد في حديث جابر الطويل عند مسلم (الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، ح 1218) .(4/304)
موضوعاً على المكان الذي منه ابتداء السعي، فكان السيل يهدمه، ويحطمه، فرفعوه إلى أعلى ركن المسجد، ولم يجدوا على السَّنَن أقرب من ذلك الركن، فوقع متأخراً عن مبتدأ السعي سِتةَ أذرع. ثم يأخذ في السعي ويتمادى عليه، حتى يتوسط ميلين أخضرين أحدهما متصلٌ بفناء المسجد، عن يسار الساعي، والثاني متصل بخانٍ، تعرفه العامة بدار العباس، فإذا توسطهما، عاد إلى سجية المشي.
ثم الصحيح من رسول الله صلى الله عليه وسلم شدّةُ السعي " قالت حبيبةُ بنت أبي تجراه (1) : " تطلعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع نسوةٍ من قريش، لأنظر كيف يسعى، [فرأيته يسعى] (2) ، وساقه تدور بإزاره، من شدة السعي، ويقول: أيها الناس: إن الله كتب عليهم السعي، فاسعَوْا " (3) .
وذكر بعض أئمتنا لفظ الخبب، وليس ذلك مما يعتد به.
ولكن لا ينبغي أن يبلغ السعي مبلغاً ينبهر به، فإذا كان كذلك، فمن ضرورته طرف من الاقتصاد.
والرقي في المروةِ محبوبٌ كالرقي في الصفا. وكانت الكعبة تبدو في عصر رسول الله عليه وسلم من تلك الجهة أيضاً، ثم أحدث الناس الأبنية، فحالت بين الكعبة وبين الراقين في المروة بالمقدار المشروع، وصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في سعيه: " اللهم اغفر وارحم، واعف عما تعلم، وأنت الأعز الأكرم، اللهم آتنا في الدنيا حسنة. وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار " (4) .
__________
(1) حبيبة بنت أبي تجراه العبدرية، ثم الشيبية، قيل بفتح الأول، وقيل بالتصغير، وتجراه بفتح التاء المثناة من فوق، وفي مسند أحمد (تجزئة) بدل تجراه. وقيل في اسمها حبيّبة.
بالتصغير مع التشديد، روى حديثها هذا. الشافعي، وأحمد، والطحاوي (ر. الإصابة، والاستيعاب، وتجريد أسماء الصحابة) .
(2) ساقط من الأصل.
(3) حديث: أيها الناس: إن الله كتب عليكم السعي. رواه أحمد في مسنده: 6/421، 422، ورواه ابن حجر في ترجمة حبيبة في الإصابة، وكذلك ابن عبد البر في الاستيعاب.
(4) دعاء اللهم اغفر وارحم ... رواه الطبراني في الدعاء، وفي الأوسط بعضه من حديث ابن مسعود، ورواه البيهقي: 5/95، وانظر التلخيص: 2/479.(4/305)
فصل
قال: "وإن كان معتمراً، وكان معه هديٌ، نحر، وحلق ... إلى آخره" (1) .
2655- لم يرع المزني ترتيب مسائل الحج، كما ينبغي، بل أتى بها إتياناً يُشعر بقصد التشويش. ولكنا التزمنا الجريان على ترتيب (المختصر) ، والآن ذكر فصلاً طويلاً في الحلق الذي لا يقع محظوراً: وهو من المعتمر يقع بعد السعي، ومن الحاج يوم النحر، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى.
2656- وقد اختلف قول الشافعي في أن الحلق في أوانه الذي وصفناه نسكٌ، أو محظورُ نسكٍ أبيح؟ فقال في أحد القولين: " هو محظور أبيح، اعتباراً بالقَلْم واللُّبس، وما عداهما " والقول الثاني: " إنه نسك " ويشهد له ظاهر الكتاب، واستحبابُ الرسول صلى الله عليه وسلم، وإطباق الناس على التشوّف إليه، حتى لا يخلو منقطَعُ نسك عنه.
فإن قلنا: إنه نسك، فلا يحصل التحلل إلاّ به في العمرة، وهو من أسباب التحلل في الحج.
وموضع الحلق الرأس، ولا يتعلق النسك بغيره، كالفدية عند فرض التعرض للشعر قبل التحلل، فإنها تتعلق بكل شعر (2) ، وإذا لم يكن على الرأس شعر استحببنا إمرار الموسى عليه؛ تشبيهاً بالحلق، ولا يجب ذلك.
ونقل الصيدلاني عن الشافعي -مع استحباب ما ذكرنا- استحبابَ- الأخذ من الشارب، أو اللحية. ولست أرى لهذا وجهاً، إلا أن يكون أسنده إلى أثرٍ.
ثم لا نقول على قولينا الحِلاق نسك: يتعين أن يصبر حتى ينبت شعرُه ثم يحلقه، بل إذا لم يكن في أوان الحلق شعرٌ، سقط الحلق، والإمرار تشبهٌ مندوب إليه.
__________
(1) ر. المختصر: 2/80.
(2) بكل شعرٍ: أي بكل شعر من شعور الجسد.(4/306)
2657- ثم الحلق للرجال أفضل، والأصل فيه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر أصحابه بالتحلل، عامَ الحديبية، وتَوانَوا في التحلل والحِلاق، وأمرهم ثانية وثالثة، فلم يفعلوا، فدخل على أم سلمة، فقال: أما تَرَيْن قومك، أمرتهم بالتحلل، فلم يفعلوا!! فقالت: اخرج، ولا تُحدث أمراً، حتى تدعوَ بحالقك، فيحلقَ شعرك، وبجازرك فينحرَ هديك، فخرج، وفعل، فابتدر الناس إلى الحِلاق، والنحر، حتى كادوا يقتتلون، فمنهم من حلق، ومنهم من قصر " (1) . وقيل ما أشارت امرأة بالصواب، إلا أم سلمة في هذا الأمر.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رحم الله المحلقين ". قيل: يا رسول الله، والمقصرين. قال: " رحم الله المحلقين ". قيل: يا رسول الله، والمقصرين، قال: رحم الله المحلّقين، قيل: يا رسول الله، والمقصرين. قال: والمقصرين " (2) .
2658- ثم قال الأئمة: إذا ثبت أن الحلق أفضل، فلو نذر الحلقَ في أوانه، لزمه الوفاء بالنذر، ولم يُغن التقصير، فحكموا بأنه يلتزمه بعينه بالنذر، وقد نص الشافعي عليه أيضاً.
ولو لبّد المحرم رأسه، وعقصه، فهذا لا يفعله إلا العازم على الحلق، فهل ينزل هذا منزلةَ نذر الحلق؟ فعلى قولين. ونظير ذلك في المناسك التقليدُ والإشعار؛ فإن القول اختلف في أنه هل ينزل ذلك منزلة قول القائل: جعلت هذا ضحية؟ ومما يداني ذلك أن من رأى بهيمةً مذبوحة مشعَرة، قد غُمِس مَنْسِمها (3) في دمها، وضُرب به
__________
(1) حديث مشورة أم سلمة يوم الحديبية رواه البخاري من حديث المِسْوَر بن مَخْرَمةَ، ومروان بن الحكم الطويل في قصة الحديبية (الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب، ح 2731، 2732) .
(2) حديث رحم الله المحلقين: متفق عليه من حديث ابن عمر: البخاري: الحج، باب الحلق، ح 1727، ومسلم: الحج، باب تفضيل الحلق، ح 1302، ومن حديث أبي هريرة، نفس الموضع عند البخاري ومسلم، ورواه مسلم من حديث أم حصين، في الموضع نفسه، وأحمد عن أبي سعيد، المسند: 3/20، 89، وانظر التلخيص: 2/499 ح 1062.
(3) المَنسم: بفتح الميم وكسر السين. طرف خف البعير.(4/307)
صفحتها، فهل له أن يأكل منها، اكتفاء بما رأى من العلامات؟ فيه قولان. وسيأتي كل أصلٍ في موضعه مستقصى إن شاء الله تعالى.
فإن نذر الحلقَ، وألزمناه الوفاء، فقد ذكرنا أن التقصير لا يكفيه، ومعنى التقصير الأخذ من الشعر، مع إبقاء شيء ممّا أخذ، فلو استأصل الشعر بالمقص، فهذا (1) لا يسمى حلقاً، وفيه احتمال؛ من جهة الاستئصال وكذلك لو نتف أو [أحرق] (2) .
ولو لم يجر نذرٌ، سقط الفرض -على قول النسك- بالنتف.
ولو نذر الحلقَ، ثم أمرّ الموسى، ولم يستأصل، فالظاهر أنه لا يسقط الفرض؛ فإن هذا من التقصير. ويكفي ما يسمى حلقاً، ولا يشترط الإمعان في الاستئصال، ويقرب الرجوع إلى اعتبار رؤية الشعر.
2659- والنسوة لا حلق عليهن، بل يقتصرن على التقصير، ولا يلزمهن الحلق بالنذر؛ فإن الحلق ليس قُربة في حقهن.
2660- ثم الأقل المجزئ نسكاً، هو الذي تكمل [الفدية] (3) فيه إذا جرى محظوراً، وهو ثلاث شعرات. وقد ذكرنا شيئاً بعيداً في الشعرة الواحدة، وأن الفدية هل تكمل بها؟ وهو عائدٌ فيما يقع نسكاً، ولكنه مزيف، غيرُ معدود من المذهب.
وكان شيخي يقول: لو نذر استيعابَ الرأس بالحلق، ففي وجوب الوفاء به تردد للقفال، وهو مظنة الإشكال. ولا اطلاع على حقيقته قبل كتاب النذور.
وحلقُ شعراتٍ في دفعات مقيسٌ بحلقها على الحظر، فإن أكملنا الفدية مع التفرق، [حكمنا] (4) بكمال النسك [بها في أوان النسك] (5) . وإن لم نكمل الفدية، لم يسقط حق النسك.
__________
(1) سقطت من (ك) .
(2) في الأصل: حلق.
(3) في الأصل: القربة.
(4) في الأصل: حكماً.
(5) ساقط من الأصل.(4/308)
ولو أخذ المحرم شيئاً من شعرةٍ، ثم عاد إليها بعد زمانٍ وأخذ شيئاً آخر منها، ثم كذلك ثالثة، وكل ذلك في شعرة واحدة، فإن كان الزمان متواصلاً، لم نكمل الفدية، ولم يسقط النسك، وإن تقطّع الزمان، ففي المسألتين خلاف، ووجه الاحتمال بيّن.
2661- ثم إذا حكمنا بكون الحلق نسكاً، فهو ركنٌ، وليس كالرمي والمبيت، فاعلم ذلك؛ فإنه متفق عليه، وآيته أنه مع الحكم بوجوبه لا يقوم الفداء مقامه، حتى لو فرض اعتلال في الرأس يعسر معه التعرض للشعر، ولكنه كائنٌ، فلابد من التريّث إلى إمكان الحلق، ولا تقوم الفديةُ مقامه. نعم، إذا لم يكن شعرٌ، فلا حلقَ؛ لأن الحلق للنسك (1) هو حلق شعرٍ (2 اشتمل الإحرام عليه، فإذا لم يكن على الرأس شعر 2) في وقت الحلق، لم يتحقق ما ذكرناه.
2662- ثم وقت الحلق في العمرة يدخل بالفراغ من السعي، ووقت الحلق في الحج يأتي مستقصىً، بعد هذا إن شاء الله تعالى.
فصل
قال الشافعي: " ويخطب الإمام يوم السابع ... إلى آخره " (3) .
2663- ينبغي للمقدَّم الذي يحج بالناس، أن يخطب أربع خطب، ولا ينبغي للإمام إذا لم يحضر بنفسه أن يُخلي جمعَ الحجيج عن مقدَّمٍ يحِلّ محل الأمير عليهم، والسبب فيه أن الحج يجمع صنوفاً من الخلق، ويُتوقع من ازدحامهم أمور لابد في دفعها من التعلّق برأيٍ مطاع؛ ولهذا يستحب أن يحضر الجامعَ [سلطانٌ] (4) . وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميراً على الحج، في السنة التاسعة من
__________
(1) (ط) : النسك.
(2) ساقط من (ط) .
(3) ر. المختصر: 2/81.
(4) ساقطة من الأصل.(4/309)
الهجرة (1) ، وبعث علياً وراءه، حتى يقرأ على الكفار سورة براءة.
ثم الخطبة الأولى تكون في يوم السابع، يحمد الله تعالى فيها، ويصلي على نبيه، ويعلّم الناس ما بين أيديهم من المناسك، ويستحثهم على النُّقْلة يوم التروية، كما سنصفها.
والخطبة الأخرى تقع يوم عرفة [بعرفة] (2) .
والثالثة تقع يوم النحر، والرابعة يوم النَّفر الأول.
والخطب كلها أفرادٌ واقعةٌ بعد الفراغ من صلاة الظهر، إلا خطبة يوم عرفة، فإن الإمام يخطب خطبتين، قبل فعل الصلاة، بعد الزوال، وتكون الخطبة الثانيةُ قصيرةً، لا تزيد على مقدار الأذان، والإقامة. فيبتدئ الخطبةَ الثانية ويبتدىء المؤذن الأذان، ويُتبعه الإقامة، ويقرب نجاز الخطبة من فراغ المؤذن من الإقامة. هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت خطبته في مسجد إبراهيم، على ما سنذكر مكانه من عرفة، ومقصود كل خطبةٍ تعليمُ الناس ما هم فيه، وما بين أيديهم من المناسك.
2664- ثم ذكر (3) بعد ذلك الوقوفَ بعرفة، وهو الركن الأعظم، وبه يتعلق الإدراك، والفوات.
فأول ما نذكره مكانُ الوقوف، وزمانُه، فأما المكان، فمعروف، والذي نحتاج إلى ذكره أن على منقطع عرفة مما يلي منى، وصوب مكة وادٍ، يقال له: وادي عُرَنَة (4) ، وليس ذلك الوادي من عرفة. وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجيج بالترقي منه.
ومسجد إبراهيم بعضُه في الوادي وأخرياتُه في عرفة، فمن وقف في صدر
__________
(1) حديث بعث أبي بكر أميراً على الحج، متفق عليه، من حديث أبي هريرة (البخاري: الحج، باب لا يطوف بالبيت عريان، ح 1622، ومسلم: الحج، باب لا يحج البيت مشرك، ح 1347) .
(2) ساقطة من الأصل.
(3) ذكر: أي المزني في المختصر.
(4) عُرَنة: وزان رطبة.(4/310)
المسجد، فليس واقفاً بعرفة، ويتميز مكانُ [المسجد] (1) من عرفة بصخرات كبار، فرشت في ذلك الموضع.
ويُطيف بعرجَات عرفة جبالٌ، ووجوهها المقبلةُ من عرفة، وفي وسطها جبل يسمى جبلَ الرحمة، ولا نسك في الرقيّ فيه، وإن كان يعتاده الناس، وموقف رسول الله صلى الله عليه وسلم معروفٌ، وعنده يقف الخطيب.
فهذا ما يتعلق بالمكان.
2665- فأما الزمان، فيدخل أول (2) وقت الوقوف بزوال الشمس يومَ عرفة، ويمتد إلى طلوع الفجر من يوم النحر؛ فلو لم ينته إلى عرفةَ إلاّ بعد غروب الشمس، ولكنه أدرك الوقوف ليلاً، فقد أدرك الحج.
وفي بعض التصانيف قولان في الإدراك، وهذا غير سديد. والوجه القطع بالإدراك. وكان شيخي يذكر الخلاف فيه، إذا أنشأ الإحرام ليلة النحر، ويصحح الإدراكَ، ويزيف غيره.
ولم تختلف الأئمة [في] (3) أن من أدرك الوقوف نهاراً، وأفاض، ففارق عرفة قبل غروب الشمس، فهو مدرك للحج، وإن لم يجمع بين الليل والنهار، في وقوفه.
وقال مالك (4) : " من وقف ليلة النحر، فقد أدرك الحج، وإن وقف نهاراً، ولم تغرب عليه الشمس وهو بعرفة، لم يكن مدركاً للحج "؛ وصار إلى أن الوقت الأطول ليلة النحر، فالاعتبار به.
ثم إذا جعلناه مدركاً للحج، وقد أفاض قبل الغروب، ففي لزوم الدم قولان:
أحدهما - أنه يلزمه، إلا أن يعود إلى عرفة قبل غروب الشمس، ويصبر حتى تغرب، فلا دم حينئذ. والقول الثاني - لا يلزم الدم أصلاً، عاد، أو لم يعد. وإذا اختلف القولان في وجوب الدم، تبيّن من اختلافهما الاختلافُ في وجوب الكون بعرفة.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) ساقط من (ك) .
(3) ساقطة من الأصل.
(4) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/482 مسألة 772.(4/311)
2666- والحج يشتمل على ثلاثة أصناف: الأركان - وبها الاعتداد، وإذا فرض الإخلال بها، لم يقم جابر مقامها.
والثاني - الأبعاض وهي تنقسم إلى متفق عليه، وإلى مختلفٍ فيه، على ما سنجمعها بعد ذلك. فكلُّ ما نُوجِبُ الدمَ فيها قطعاً، فهو واجب، وإن لم يكن ركناً، وما تردد القول في وجوب الدم فيه، فالقول مختلف في وجوبه أيضاً. فإن قلنا: يجب الدم إذا أفاض قبل الغروب، فلو عاد بعد الغروب، فهل يسقط الدم بهذا العود؟ فعلى وجهين: أحدهما - يسقط؛ لأنه جمع بين الليل والنهار. والثاني - لا يسقط؛ فإن المطلوب أن يتصل آخر النهار بأول الليل، وهو كائن بعرفة (1) .
فهذا تفصيل المذهب في (2 زمان الوقوف 2) .
2667- ثم نذكر بعد ذلك فصولاً، منها: إن الحصول بعرفة كاف، وإن لم يتفق لبثٌ، حتى لو عبر بطرفٍ من عرفة، كفاه ذلك، ولا يشترط أن يكون حضوره إياها على علمٍ منه بها، ولو لم يعرف حصوله بعرفة، وقد كان حضر (3) بها، كفاه ذلك.
ومما يجب التنبه له أنا إذا ذكرنا خلافاً في الذي يصرف طوافه عن جهة النسك، إلى جهةٍ أخرى، وليس في الطرق تعرُّضٌ لتصوير مثل ذلك في عرفة، فظاهر الطرق يشير إلى القطع بأنه لو صرف حصولَه بعرفة، إلى جهةٍ أخرى، حصل له الوقوف، مثل: أن يتبع غريماً له، أو دابة نادّة (4) .
ولعل السبب فيه، أن الوقوف في نفسه، لا يُتَخَيّل قُربة، والطواف قُربة على حياله، والذي يدل على ما ذكرناه أن الأئمة قالوا: لو حضر بطرفٍ من أطراف (5) عرفة [نائماً] (6) ، كفاه ذلك.
__________
(1) لم يصرح بالثالث من الأصناف التي يشتمل عليها الحج، وهو السنن التي لا يجب فيها دم.
(2) ما بين القوسين سقط من (ك) .
(3) (ط) : خطر بها.
(4) ندّ البعير: نفر وشرد. (المعجم) .
(5) (ك) أطرافه.
(6) في الأصل، و (ك) : فأنما.(4/312)
ولا يبعد أن يقال: لو اتفق مثلُ هذا من راكب في أشواط [الطواف] (1) ، والنوم على هيئة لا تنقض الطهر، فهذا يقرب من الخلاف في صرف الطواف إلى غير جهة النسك؛ فإنه لم يوجد منه فعلٌ أصلاً، وهذا محتمل في الطواف، ويجوز أن يقال: يقطع بوقوع الطواف من النائم، الذي صورناه موقعه؛ من حيث (2) لم يصرف الطوافَ عن النسك، وإن لم يكن ذاكراً له.
وهذا يلتفت على أصلٍ، ذكرتُه في كتاب الطهارة، وهو أن من نوى الطهارة، ولم يصدر منه فعل في الغُسل، لا من جهة الإقدام عليه، ولا من جهة المُكث في الماء، فهل نقضي بصحة الوضوء، والحالة هذه؟ ففي المسألة وجهان، ذكرتهما عن شيخنا أبي علي.
ولا يمتنع طرد الخلاف في [الوقوف] (3) إذا [صرف قصداً] (4) عن جهة النسك.
فهذا بيان القول فيما يسقط الفرض به من الوقوف، وفيما يحصل به التمام، وفي محل الدم، على الاختلاف.
2668- ومما نذكره في فصول عرفة: الجمعُ بين صلاة الظهر والعصر، وهو مندوب إليه في هذا اليوم؛ حتى يتفرغ الحجيج إلى الدعاء، ويتسع لهم وقت الإفاضة، ثم القول في الجمع مذكور في كتاب الصلاة، ولكن نعيد ما يختص بالنسك: فالغريب يجمع مقدِّماً، على ما يعتاده الحجيج، ولو أخر، فلا عليه؛ فإنه مسافر، يجمع مقدماً، ومؤخراً، ولا شك أن الأوْلى التقديم.
وقد ذكرنا في الصلاة أن إقامة الصلوات في المواقيت أولى من الجمع، إلا في حق الحاج؛ فإن إيثار الفراغ شيةَ عرفة أهم، وأولى من كل شيء، ولهذا اتفق العلماء على أنا لا نؤثر للحاج صومَ يوم عرفة؛ حتى يتمكن من الدعاء عشية عرفة. وصح أن
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) سقطت من (ك) .
(3) في الأصل: الوقت.
(4) ساقط من الأصل.(4/313)
رسول الله صلى الله عليه وسلم، (1 لم يكن صائما يومئذ.
2669- ومن فصول عرفة أنا نؤثر إكثار التهليل عشية عرفة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم 1) " إن أفضل ما دعوتُ ودعا الأنبياء قبلي عشية عرفة: لا إله إلا الله " (2) ومما نؤثر للحجيج في عرفات التلبيةُ، ورفعُ الصوت بها، على الحدّ الذي ذكرناه.
2670- وقد ذكرنا خلافاً في أن المسافر سفراً قصيراً، هل يجمع؛ واختلف أصحابنا على طريقين في المكي، فقطع بعضهم بأنه يجمع، وإن قَصُر سفره، لمكان النسك. وهؤلاء يرون الجمع من آثار النسك. ومن أصحابنا من خرّج جمع المكي على القولين في جمع المسافر سفراً قصيراً.
والعَرَفيّ (3) إذا أنشأ الإحرام من عرفة، فهل يجمع؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يجمع وإن جمع المكي، فإنه جمعٌ في الإقامة من غير مطر. والثاني - يجمع، لمكان النسك.
وقد نجز المقصود في الوقوف.
فرع:
2671- إذا وقع غلطٌ في الهلال، فوقف الناس يوم العاشر، ثم تبيّنوا الغلطَ، وقع وقوفهم الموقع وفاقاً، والسبب فيه أنهم لو كلّفوا القضاء، لم يأمنوا وقوعَ مثله في القضاء، ثم إن أقاموا، لاقَوْا عسراً، وإن انقلبوا وآبوا، تضاعفت المشقات. وليس في الشرع تكليفُ مثل هذا.
واختلف الأئمة في أنهم لو وقفوا في اليوم الثامن، وهذا يتصور بفرض شهادات زور، على الهلال.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ك) .
(2) دعاء عرفة بهذا السياق، رواه العقيلي في الضعفاء الكبير من حديث نافع عن ابن عمر: 3/462 ترجمة فرج بن فضالة، وله روايات أخرى بألفاظ متقاربة، منها مالك في الموطأ: 1/422، 423، والبيهقي: 4/284، 5/117، وانظر تلخيص الحبير: 2/484 ح 1044.
(3) أي الذي من أهل عرفة.(4/314)
فمن أصحابنا من قال: يقع الوقوف الموقع، كالغلط إلى العاشر، ومنهم من قال: إنه لا يقع الموقعَ؛ فإن هذا النوع من الغلط بديعٌ نادر الوقوع، ووضع الشرع يقتضي الفرق بينهما. ولا شك أن هذا الذي ذكرناه فيه إذا لم يتنبهوا (1) ، حتى انقضى التاسع.
2672- ثم الحجيج إذا رأَوْا الشمس مُتَضَيِّفَةً للغروب، انقلبوا عن الموقف، فيوافون الانفصال - من طرف عرفةَ بعد غروب الشمس، ويوافون مزدلفة، ويؤخرون المغرب إلى العشاء، ويجمعون بينهما بمزدلفة، وتمدّ المطايا أعناقها، حتى إذا وَافَوْا مزدلفةَ باتوا بها، فإذا انتصف الليل، أخذوا في التأهب للرحيل، ثم إذا استقلّت بهم المطايا، وانتهَوْا إلى المشعر الحرام، وهو آخر مزدلفة، وقفوا، ودَعَوْا، ووقوفهم هذا سنةٌ، غيرُ مجبورة بالدم لو تركت.
ويلقاهم بعد مجاوزة المشعر [الحرام] (2) وادي مُحسِّر (3) ، وكانت العرب تقف به، وقد أُمرنا بمخالفتهم، فلا وقوف.
وقد نؤثر تحريك الدابة قليلاً، وكان عمر إذا انتهى إلى وادي محسِّر يحرّك دابته، ويقول:
تعدو إليك قَلِقاً وَضينُها ... معترضاً في بطنها جنينُها
مخالفاً دينَ النصارى دينُها (4)
__________
(1) (ك) : يتبينوا.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) وهو بين مزدلفة ومنى كما هو واضح من السياق، وسمي بذلك لأن فيل أبرهة كلّ فيه وأعياه (فحسّر) أصحابه بفعله، وأوقعهم في الحسرات (المصباح) .
(4) الأبيات في اللسان وعند البيهقي بتغيير في الشطر الأول هكذا: إليك تعدو قلقاً وضينها.
تعدو أي المطايا. قلقاً وضينها: كناية عن السرعة والخفة، لأن الوضين هنا بمعنى
الحزام، الذي يشد به الرحل، وقلق الحزام دليل ضمور بطن المطايا وخفتها، واستعدادها للسير. وأراد دينه لأن الناقة لا دين لها.
وفي اللسان أن الذي أنشدها هو ابن عمر، لا عمر. رضي الله عنهما، أخرجه الهروي والزمخشري. وأما الطبراني، فقد أخرجها عن سالم عن أبيه أن النبي صلى اله عليه وسلم،=(4/315)
وإذا وقعت الرحلة من مزدلفة في السُّحْرةِ العليا، فإنهم يوافون أطراف منى، وقد
أسفروا وينتهون إلى الجمرات، فيتعدَّوْن الجمرة الأولى التي ينتهون إليها، والجمرةَ الثانية، وهما على قارعة الطريق، ثم يمرون حتى ينتهوا إلى جمرة العقبة، وتلك الجمرة في حضيض الجبل، مترقية عن الجادّة على يمين السائر إلى مكة، ثم إذا انتهَوْا إلى هذا المنتهى، وابتدَوْا (1) رمي هذه الجمرة، تركوا التلبية وأبدلوها بالتكبير.
وكان شيخي يذكر عن شيخه القفال أنهم إذا رحلوا (2) من مزدلفةَ، مزجوا التلبيةَ بالتكبير، في ممرهم، فإذا انتهَوْا إلى الجمرة، وافتتحوا الرمي، محّضوا التكبير، ولم أرَ ذكرَ المزج إلى الرمي لغيره.
2673- ثم نبتدئ من هذا الموضع القولَ في التحلل.
فنقول: للحج تحللان، وهما متعلقان بأسباب ثلاثة، على قولٍ، وبسببين على الآخر. فإن حكمنا بأن الحلقَ في أوانه نسك، فأسباب التحلل ثلاثة: الحلق، وطواف الزيارة، ورمي جمرة العقبة.
وإن قلنا: الحلق محظورُ نسكٍ يباح إباحة القَلْم، فلا يباح به تحلل، وسبب التحللين طواف الإفاضة، ورمي جمرة العقبة.
ثم إن قلنا: للتحلل سببان، فالإتيان بأحدهما يوجب أحد التحللين.
وإن قلنا: الحلقُ نسك، فأسباب التحلل ثلاثة، والإتيان بالاثنين منها يثبت أحد التحللين، ولا تعيين، وكأنا نبغي التنصيف، ولكن الثلاثة ليس لها نصفٌ صحيح، فاقتضى ذلك تنزيلَ الأمر على اثنين، وهذا كقولينا: بتمليك العبد طلقتين، على محاولة تشطير الثلاث.
ثم عند ذلك قال الشافعي: " لا ترتيب في هذه الأسباب "، فليقدم منها ما شاء،
__________
=هو الذي ثمثل بها، والبيهقي هو الذي أخرجها عن عمر (ر. اللسان، تلخيص الحبير: 2/494، والبيهقي: 5/126) .
(1) بتسهيل الهمزة.
(2) (ط) : دخلوا مزدلفة.(4/316)
وليؤخر ما شاء، وما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر عن شيء قدِّم من ذلك أو أُخر، إلا قال: " افعل ولا حرج " (1) .
2674- ومما تمس الحاجة إلى ذكره في رمي جمرة العقبة: أن وقته يدخل بدخول وقت الطواف، [ووقت الحلق] (2) على قول النسك.
ثم مذهبنا أنه كما (3) انتصفت ليلة المبيت بمزدلفة، دخل وقت هذه الأشياء الثلاثة، حتى لو بادر مكة، وأخل بالمبيت، وانتهى إلى مكة قبل طلوع الفجر، وطاف، اعتُدّ بطوافه، ولو انتهى إلى الجمرة، فرمى، وقَع الموقع، وكذلك لو حلق على قول النسك.
غير أن الأولى أن لا يرمي إلاّ بعد طلوع الشمس، والدليل على جواز الإيقاع بالليل، ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قدّم ضعفة أهله من المزدلفة بليل، وقال: " رُوَيْدَك بالقوارير يا أنجشة "، وذكر لهم أن يوافوه راجعين إلى منى " (4) .
وكان صلى الله عليه وسلم وافى الرمي قبل الطلوع، فلا يتأتى موافاته في وقت وصوله إلا بإيقاع الطواف ليلاً، فإن من منى إلى مكة فرسخين.
ثم وقت رمي العقبة يمتد إلى غروب الشمس يوم النحر، وهل يمتد إلى طلوع الفجر في الليلة المستَقبلة يوم القَرّ (5) ؛ فعلى وجهين: ذكرهما الإمام وصاحب التقريب: أظهرهما أنه لا يمتد، ومن قال: يمتد، اعتبره بالوقوف بعرفة، لمّا تعلّق بالنهار، وبالليلة المستقبِلة.
__________
(1) حديث " افعل ولا حرج " متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص (اللؤلؤ والمرجان: 2/65 ح 822) .
(2) ساقط من الأصل.
(3) كما: بمعنى عندما.
(4) حديث تقديم الضعفة من المزدلفة، أصله متفق عليه، من حديث ابن عباس (البخاري: الحج، باب من قدم ضعفة أهله بليل، ح 1678، ومسلم: الحج، استحباب تقديم دفع الضعفة، ح 1293) .
(5) يوم القرّ: الأول من أيام التشريق، لأن الناس يقرّون فيه بمنى.(4/317)
فإن فات الرمي على ما سنصف فواته بعد هذا، ولم يثبت قضاؤه، أو ثبت [وانقضى] (1) بانقضاء أيام التشريق، وجب الدم على ما سيأتي.
ثم اختلف أصحابنا في أن التحلل هل يتوقف على الإتيان ببدل الرمي؟ منهم من قال: لا. ومنهم من قال: يتوقف على البدل، توقفه على المبدل. ومنهم من فصّل بين أن يكون البدل دماً، وبين أن يكون صوماً: قال: إن كان دماً توقف التحلل عليه، وإن كان صوماً، لم يتوقف عليه، لطول الزمان.
2675- وأما طواف الإفاضة، فإنه ركن وإن كان من أسباب التحلل، وإن كان أخَّر السعي، فالطواف والسعيُ يعدان شيئاً واحداً من أسباب التحلل.
[فهذا بيان التحللين بأسبابهما] (2) .
وقال صاحب التقريب: إذا لم نجعل الحِلاقَ نسكاً، فمن أصحابنا من قال: [كما] (3) طلع الفجر يومَ النحر، حصل أحدُ التحللين، من غير إقدام على شيء، واعتبر طلوع الفجر، نظراً إلى الدخول في اليوم.
2676- فإِذا وضح ما ذكرناه، فنذكر بعده الأحكامَ المتعلقةَ بالتحللين، وأحدِهما.
فأما إذا حصل أحد التحللين، فلا خلاف في استباحة لُبسِ المخيط، وسترِ الرأس، وقَلْمِ الظفر، والحلقِ إن لم نجعله نسكاً.
ولا خلاف أن الوطء لا يستباح، بتحلل واحدٍ.
فأما التلذذُ دون الجماع، مع الإنزال ودونه، والاصطيادُ، وعقدُ النكاح، ففي هذه الخصال الثلاث قولان: أحدهما - أنها تستفاد بتحلل واحد كما قدمناه، والثاني لا تستفاد كالجماع. أما المباشرة فشبيهةٌ به، والعقد توصلٌ إليه، والصيد عظيم
__________
(1) في الأصل: وانتفى.
(2) عبارة الأصل مضطربة هكذا: ولو كان التحللين، وأسبابهما.
(3) في الأصل: كلما. و" كما " هنا بمعنى: (عندما) .(4/318)
الوقع؛ من حيث إنه إتلافٌ [محرّم] (1) ، فشابه الوقاع، لعظم وقعه.
واختلف أصحابنا على طريقين في استعمال الطيب، فمنهم من قطع بإلحاقه باللُّبس، والقَلْم فأباحه، ومنهم من خرّجه على قولين، كالمباشرة، وغيرها.
والأولى وإن قلنا: لا ترتيب، أن يرمي الجمرةَ، ثم يحلق، ثم يطوف، فأما الرمي، فالرأي تقديمه حذاراً من الخلاف، ثم الحلق يقدّم، ليأتي البيت لابساً [متزيناً] (2) .
فصل
2677- أعمال الحج تقع على وجهين، ولكل واحد ترتيب، نذكره حتى يفهم المبتدئ ترتيب الأعمال.
فإذا أحرم الغريب بالحج، من ميقاته، ووجد متَّسعاً في الزمان، فإنه يدخل مكةَ قادماً، ويطوف طواف القدوم، كما سبق وصفه، ثم هو بالخيار: إن شاء سعى على أثر طواف القدوم، ووقع السعي ركناً، وإن شاء أخر السعي إلى ما بعد طواف الإفاضة.
ثم أهل مكةَ يرحلون يوم التروية، ويسمونه يومَ النُّقْلَة ويمتدّون إلى مِنى، ويبيتون به ليلةَ عرفة، وهذا مبيت منزل، لا مبيتُ نسك أصلاً، ولا يتعلق به غرض نسكي.
ثم يصبحون، ويتوجهون إلى عرفة، فيوافونها قبيل الزوال، على أناتِهم، فإذا قَضَوْا حقّ المكان، أفاضوا -كما وصفناه- إلى مزدلفة، وباتوا بها، وهذا المبيت نسك، على ما سنصفه، ثم يصبحون إلى منى، ويرمون، ويحلقون، كما سبق وصفه، ثم يُفيضون إلى مكة، ويطوفون. وهذا الطواف -هو الركن- يسمى طواف الإفاضة، وطوافَ الزيارة، وطواف الصَّدَر، وقد قيل: طوافُ الصَّدَر طوافُ الوداع. ثم إن كان سعى قبلُ، فلا يسعى. وإن لم يكن سعى، فيسعى الآن.
__________
(1) في الأصل: محترم. وفي (ك) : إحرام محترم.
(2) ساقطة من الأصل.(4/319)
ثم ينقلب إلى منى للمبيت والرمي في أيام التشريق، حتى إذا وَفَّى ما عليه، فإن شاء نفر في النفر الأول، وإن شاء نفر في النفر الثاني، ثم يرجع إلى مكة ويطوف طوافَ الوداع، كما سبق وصفه.
فهذا ترتيب أعمال الحج، في حق من يدخل مكة، قبل يوم عرفة. فأما إذا انتهى الحاج في ضيق الوقت إلى عرفة، فيقفُ، ويجري الترتيبُ الذي رسمناه، وليس في حقه طوافُ قدوم، وباقي الترتيب كما مضى.
فصلٌ
جامعٌ في أحكام الرمي
2678- الرمي من الأبعاض وفاقاً، وهو مجبور بالدم قولاً واحداً، وهو صنفان: أحدهما - رميُ جمرة العقبة، وقد سبق القول في وقته، وكونِه من أسباب التحلل، وهو رمي سبع حصيات إلى الجمرة الأخيرة، المسمّاة جمرةَ العقبة، تلي مكة، وتقع على يمين من يؤمها من جهة منى.
والثاني - الرمي في أيام التشريق، وهي ثلاثة أيامٍ بعد النحر، يسمى الأولُ منها يومُ القَرّ؛ لأن الحجيج يقرّون فيه بمنى، ويسمى الثاني النفرَ الأول، فإن الحجيج لهم أن ينفروا بعد الرمي، متعجلين. واليوم الثالث يسمى النفرَ الثاني.
ويشرع في كل يوم يقيم فيه الحجيج [الرميُ] (1) إلى الجمرات الثلاث، ويجب البداية بالجمرة الأولى، وهي تلي مسجد الخَيْف، من جهة عرفة، وليست حائدة عن الجادّة، فيرمي إليها الناسك سبعَ حصيات، وبعدها جمرة أخرى في صوب مكة، على سَنَن الجادّة، كما وصفناها (2) ، والرمي سبع، كما ذكرناه، وبعدها جمرةُ العقبة، وقد سبق وصفُها، وهي حائدة عن الطريق، مترقيةٌ في الحضيض قليلاً، ولهذا تسمى جمرةَ العقبة.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) هنا خلل آخر في ترتيب نسخة (ك) . إذ انتقلت من آخر ص 143 إلى 232.(4/320)
ففي كل يوم من أيام منى، على الكائن بها الرميُ بأحدٍ وعشرين حصاة، ومجموعها إذا لم يتعجل الناسك في النفر الأول ثلاث وستون حصاة، وإذا ضمت حصياتُ العقبة، يومَ العيد إليها، كانت سبعين حصاة.
والحجيج يعتادون أخذ ما يحتاجون إليه من الحصى، من جبال مزدلفة؛ فإنهم يصادفون فيها أحجاراً رِخوة، لم يرد في التزوّد منها ثَبَتٌ وتوقيفٌ في الشرع.
2679- ثم الكلام في مقاصدَ منها: القول فيما يُرمى: ما جنسه؟ فيجب أن يكون من الأحجار لا يجزئ غيرُها؛ فإنها غيرُ معقولة المعنى، فيلزم الاتباع فيها، وأما ما لا يسمى حجراً، فلا يجزئ الرميُ به، كما يستخرج من المعادن: من الزرنيخ، والإثمد، والجواهر المنطبعة، كالتبرين، وما في معناهما.
وتردد جواب الأئمة كلصاحب التقريب وغيرِه في الجواهر التي تتخذ فصوصاً، مثل: الفيروزج، والعقيق، والياقوت بأصنافه: ما يشف منها، وما لا يشف.
والظاهر أنه لا يجزئ الرميُ بها.
والأحجار التي يستخرج منها جواهر كان يقسمها شيخي، ويقول: منها ما يسمى حجراً مطلقاً، وليس [يبين] (1) المستخرج منه على ظهورٍ، [فما] (2) كان كذلك، فهو حجر، والرمي به مجزىء، وهو كالأحجار البيض الصغار، في رَضْراض (3) الأودية، فإنها حجر الميناء (4) ، لكن لا يبين ذلك عليها على ظهور، ولا يعرفها إلا خواصُّ الصَنْعَوِيّين، وحجر النُّورة قبل أن يطبخ أحجارٌ على الحقيقة، وهي كل حجر تشوبه خطوط بيضٌ، فإذا طبخت خرجت عن أن تكون أحجاراً، فلا يجزئ الرمي بها، وهي نُوْرة. ويجزئ الرمي بحجر النُّورة.
وهذا كالخزف بالإضافة إلى التراب في حق المتيمم، فالتيمم بالتراب جائز، ولا يجزئ إقامته بالخزف، يعني سحاقته.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في الأصل، (ك) : ما.
(3) الرضراض: الحصى الصغار في مجاري الماء (المعجم) .
(4) الميناء: مادة الزجاج، وطلاءٌ تغشى به المعادن وغيرها (المعجم) .(4/321)
وأما أحجار الحديد، فقد كان شيخي يتردد فيها، ولا يبعد أن تُلحق بالإثمد.
والمعتبر في هذا أمر قريب عندي، وهو أن الإثمد جوهرٌ متّحدٌ، وليس كامناً في حجره، وإنما الذي يشار إليه إثمدٌ كله، وليس كذلك [حجر] (1) الحديد، فإنه حجرٌ فيه حديد كامنٌ، وليس الإثمد كحجر النُّورة، فإن الأحجار كلَّها -إلا ما شاء الله منها- حجرُ (2) النورة. والإثمد جوهر كله من غير أن يحرق ويشوى، وهو كالمغنيسيا (3) ، والمرقشيثا (4) ، والطَّلْق (5) .
فهذا هو القول فيما يُرمَى.
2680- ويتصل بذلك القول في الحجر الذي رُمي به مرة، فأريد استعمالُه في رميٍ آخر، فإنْ تعدَّدَ الشخصُ، أو الجمرة، أو الوقت، لم يمتنع وفاقاً. فإذا رمى شخصٌ حصاةً إلى جمرتين، فرماها إلى جمرةٍ، ثم أخذها ورماها إلى الأخرى، أو رماها شخص إلى جمرةٍ، فأخذها شخص آخر من تلك الجمرة، ورماها إلى تلك الجمرة بعينها، في ذلك اليوم، أجزأ ذلك.
وكذلك إذا تعدد الزمان، واتحد الشخص والجمرة، بأن رمى إلى جمرةٍ حصاةً في يوم، ثم رماها في اليوم الثاني إلى تلك الجمرة ذلك الشخص، كل ذلك يجزىء. وإن اتحد اليوم، والجمرةُ، والرامي، ففي المسألة وجهان: أظهرهما المنع؛ لاتحاد الأسباب، والعدد مطلوبٌ معنيّ. وقال قائلون من الأصحاب: يجزىء ذلك، كصور الوفاق؛ فإن الرمي قد تعدد، فلا اعتبار بَعْده باتحادٍ وتعددٍ.
هذا أحد المقاصد في الفصل.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) مزيدة من (ط) ، (ك) .
(3) المغنيسيا: حجر يستخدم في الصناعات بما يحويه من المعادن، وهو ألوان وأصناف كثيرة (الجامع لابن البيطار) .
(4) المرقشيثا: صنف من الحجارة، يستخرج منه النحاس (الجامع لابن البيطار) .
(5) الطّلق: حجر برّاق شفاف ذو أطباق، يُطحن فيكون مسحوقاً يذر على الجسد، فيكسبه برداً ونعومة (معرّب) ، (المعجم) .(4/322)
2681- ومنها القول في أوقات الرمي كل يوم. ويتعلق به الكلام في الفوات والقضاء وما يتصل به، فنقول:
أول وقت الرمي في كل يوم من أيام منى يدخل بزوال الشمس، ويدوم إلى غروبها، وهل يمتد في الليلة المستقبلة؟ فعلى وجهين ذكرناها في رمي جمرة العقبة: أصحهما أنه لا يمتد إلى ساعات الليلة المتقبلة، بل ينقضي وقت [إقامة] (1) الرمي -أداءً على الاختيار- بغيبوبة الشمس، فإذاً أواخر أوقات الرمي في أيام التشريق تضاهي آخر وقت الرمي لجمرة العقبة، ولكنها تفارقها في الوقت الأول؛ فأول وقت رمي العقبة يدخل بانتصاف ليلة النحر، وأول وقت الرمي في كل يوم من أيام التشريق يدخل بزوال الشمس.
ولا خلاف أن وقت الرمي في النفر الثاني ينقضي بغروب الشمس؛ إذ لا نسك بعد ذلك.
2682- ثم إنا بعد ذلك نتكلم في الفوات، والقضاء، فإذا انقضى يومَ القَرِّ وقتُ الرمي على ما فصلناه، فهل يُتدارك في اليوم الثاني، والثالث؟ فعلى قولين: أحدهما - لا يتدارك، كما لا يتدارك [إذا انقضت] (2) أيام التشريق؛ إذ الغالب فيها التعبد، فكما لا يُعدل عن الجنس المرمي، فكذلك يجب ألا يعدلَ عن الوقت.
والقول الثاني - إنه يُتدارك، اعتباراً بمعظم العبادات المؤقتة.
ثم إن قلنا: لا يتدارك الفائت، فالرجوع إلى الدم، وسنفرده مقصوداً.
وإن قلنا: إنه يُتدارك، فالواقع من الرمي في اليوم الثاني قضاءٌ على الحقيقة، أم أداء تأخَّرَ عن وقت الاختيار؟ اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: هو أداء، وجملة أيام منى في حكم الوقت الواحد للرمي، ولكن تخيَّر الشرعُ لكل قدرٍ منها وقتاً، فهو كالأوقات المختارة في الصلوات.
وبنى الأئمة على هذا الاختلاف جوازَ تقديم رمي يومٍ إلى يومٍ، وقالوا: إن قلنا: رمي اليوم الأول مقضيٌّ في الثاني، فلا يجوز التقديم، وإن قلنا: إنه مؤدّى وإن أُخّر، فلا يمتنع التقديم أيضاً.
__________
(1) في الأصل: إفاضة.
(2) ساقط من الأصل.(4/323)
2683- ومما تردد فيه الأئمة أن قالوا: إذا حكمنا بأن رمي اليوم الأول مقضيٌّ في الثاني، فهل يجوز إيقاعه في النصف الأول من النهار، وقبل الزوال؟ فعلى وجهين: أحدهما - الجواز؛ فإن المقضيَّ لا وقت له على التعيين. والثاني - المنع؛ فإن القضاء قد يتأقت بعضَ التأقت، وما قبل الزوال لم يشرع فيه رمي، لا قضاءً، ولا أداء، فكانت تلك الساعات بمثابة ساعات الليل في تصوير الصوم. والوجهان يجريان في تدارك الرمي ليلاً إذا جرينا على الأصح في أن الوقت لا ينبسط على الليلة.
2684- هذا إذا قلنا: التدارك قضاء، فإن جعلناه أداءً، ففيما قبل الزوال والليل (1) من التفصيل ما ذكرناه، فيجري الخلاف على بُعدٍ، والوجه القطع بالمنع؛ فإن تعيين الأوقات بحكم الأداء أليق.
2685- ومما يتعلق بذلك أنا إذا أوجبنا التدارك، فهو حتم، ولا يجوز الانتقال إلى الدم، مع إمكان التدارك. وإن منعناه، تعيّن الدمُ حينئذ.
2686- ثم إذا جوزنا التدارك، فالكلام في رعاية الترتيب، فنقول: أما رعاية ترتيب المكان في الأداء والتدارك، فحتم، لا خلاف فيه، فلو بدأ الرمي في أيام منى بجمرة العقبة، ثم ارتفع إلى الثانية، ثم إلى الجمرة الأولى، قلنا: (2 رميك إلى الجمرة الأولى 2) هو المحسوب، وما أتيت به قبله غيرُ معتد به. وترتيب المكان أمر مطّرد في المناسك المتعلّقة بالأمكنة، كالطواف والسعي.
وأما رعاية ترتيب الزمان، ففيها قولان: أحدهما - أنها لا تجب. والثاني - تجب. فمن [أوجب] (3) ، قاس الزمان على المكان. ومن لم يوجب، اعتبر بالصلوات الفائتة، مع المؤداة في أوقاتها؛ إذ لا ترتيب يُستَحقُّ عندنا، بين الأداء والقضاء. وهذا أظهر (4) .
__________
(1) ساقطة من (ط) .
(2) ما بين القوسين ساقط من (ط) .
(3) ساقطة من الأصل.
(4) ساقطة من (ط) .(4/324)
2687- وما أطلقناه من القولين يظهر أثرهما في وجهين: أحدهما - أنا إذا أوجبنا ترتيب الزمان، قلنا: ينبغي أن تبرأ الذمة عن رمي أمس، ثم يقع الاشتغال بوظيفة اليوم، فلو رمى أربعَ عشرةَ حصاة، إلى الجمرة الأولى، ثم كذلك إلى كل جمرة، فهو على الخلاف الذي ذكرناه.
[فإن] (1) لم نوجب الترتيب الزماني، حكمنا بإجزاء ذلك، وإن أوجبناه، لم يحتسب من وظيفة اليوم حصاةٌ، ما بقيت حصاةٌ من رمي أمسه. هذا أثرٌ بيّن في تخريج القولين.
2688- والأثر الآخر يستند إلى القول في أن النيةَ هل تؤثر فيما نحن فيه، وفيه اختلاف قد بينَّاه (2) في الطواف والسعي، فلو رمى الناسك إلى الجمرةِ، وهو يبغي رمي شخصٍ، أو دابة، فقد صرف رميَه عن جهة النسك، فهل يُعتد بما يأتي به؟ فعلى الخلاف الذي قدمناه، فإن قلنا: يعتد به، ولا أثر للنية، فنقول بحسبه: لو رمى إلى الجمرات الثلاث على قصد يومه، وقع ذلك عن تدارك أمسه، ولا حكم لقصده.
وإن قلنا: تؤثِّر النية فيما ذكرناه، فإذا نوى بالرمي إلى الجمرات وظيفةَ يومه، فيخرج على وجوب رعاية الترتيب في الزمان، فإن لم نوجبها أجزأ عن يومه، وإن أوجبناها، لم يُعتد بما جاء به، لا عن يومه، ولا عن أمسه؛ لفساد نيته، مع الحكم بتأثير النية.
وذكر صاحب التقريب وغيرُه أن القول في استحقاق الترتيب يدنو من قولنا: إن التدارك أداء أم قضاء، فإن جعلناه قضاء، فيبعد استحقاق الترتيب، كما ذكرناه في الصلوات المقضية والمؤداة، وكل ما ذكرناه في جمرات أيام التشريق.
فأما رمي جمرة العقبة ففي إجزَاء التدارك فيه عند الفوات طريقان: أحدهما - التخريج على القولين كما مضى. والأخرى - القطع بأنه لا يُتدارك؛ فإنه يخالف رميَ
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) (ط) ، (ك) : قدّمناه.(4/325)
أيام التشريق في أوّلية الوقت، وفي تفرده في يومه عن الجمرتين الأخريين، وفي تعلق التحلل به.
2689- ومن المقاصد الكلامُ في الرمي نفسِه، ومعناه، فإذا وقف الواقف وراء الجمرة، ورمى إليها، وأوقع الحصاة فيها برميه، فهو الرمي المطلوب، ولو وضع الحجر بيده على الجمرة، فالمذهب أنه لا يجزئه، ولا يُعتد به؛ فإنه ليس برمي.
وذكر صاحب التقريب فيه وجهاً بعيداً في التحصيل، وهو مزيف.
وإن أصاب الحجر الذي رماه محمِلاً، فارتد منه بقوة الصدمة، وأصاب الجمرة، أجزأ ذلك؛ فإن الارتداد كان من آثار الرمي.
ولو أصاب الحجر إنساناً، فقرّ عليه، أو أصاب ثوبَه، فاستقر، فنفضه ذلك الإنسان، وأصاب الحجرُ الجمرةَ بنفضه، فلا يعتد بهذا الرمي؛ فإن رميه انتهى أثره باستقرار الحجر، وكان النفض أمراً جديداً بعده.
ولو انتهى الحجر إلى محمل، ولم يبق فيه أثر من قوة الرمي، غير أنه تدحرج، وانسل إلى الجمرة، ففي إجزاء هذا الرمي وجهان، ذكرهما صاحب التقريب، والصورة مترددة بين صورة الصدمة، وصورة النفضة، فجرى الاختلاف فيها.
ولو وقف الرامي في الجمرة، ورمى إلى الجمرة، فلا بأس، وقد حصل الرمي، ومصادفة الحصاة.
ولو احتوى على حجرين فصاعداً، ورماهما دفعة واحدة، فإن وقعا معاً، لم يعتد إلا بحصاة واحدة؛ فإن الرمي متحد، ولو تفاوتت مساقطهما، فالمذهب أنها رميةٌ واحدة؛ نظراً إلى اتحاد الفعل، ومن أصحابنا من اعتبر ترتب الأحجار في الوقوع.
وهذا ليس بشيء.
وإن أتبع الحجرَ الحجرَ فإن ترتبا في الوقوع، حَسَب ترتبهما في الرمي، فهما رميان محسوبان. وإن وقعا معاً فوجهان: أحدهما - أن الاعتبار بالاجتماع في الوقوع. والثاني - وهو الأصح أن الاعتبار بتعدد الرمي، ولا نظر إلى تفاوت الوقوع واجتماعه. وكذلك القول فيه إذا أصاب الحجرُ الثاني، والأول بعد في الهواء، فمن(4/326)
نظر إلى الرمي، احتسب رميين، ومن نظر إلى الوقوع، فهو متعدد أيضاًً، ولكن السابق بالرمي مسبوق بالوقوع، ففيه الخلاف. والأصح النظر إلى الرمي، وما عداه خَبْط.
2690- ومن المقاصد أن الناسك لو عجز عن الرمي بنفسه، فله أن ينيب غيرَه مناب نفسه؛ فإن الاستنابة إذا جرت في أصل الحج، فجريانها في أبعاض المناسك غيرُ ممتنع. ثم قد ذكرنا أن الاستنابةَ إنما تجوز للمعضوب عضباً لا يُرجى زواله. وهذا المعنى معتبر هاهنا، غير أنا نعتبر رجاء الزوال في مدة الرمي، ولا ينفع زواله بعدها.
قال العراقيون: العاجز عن الرمي إذا استناب غيرَه، وصحَّحْنا الاستنابة، فأغمي على المستنيب، قالوا: الاستنابة دائمة، وإن كان حكم الإغماء الطارئ على الآذن انقطاعُ إذنه إذا كان الإذن جائزاً في وضعه، كالوكالة، ولكن الغرض في الاستنابة هاهنا، إقامةُ المستناب مقام العاجز. وهذا الذي ذكروه محتملٌ جداً. ولا يمتنع خلافه.
وقد قالوا: لو استناب المعضوب في حياته في الحج ومات، لم تنقطع الاستنابة.
وهذا ذكره (1 شيخي والأصحاب 1) في الإذن المجرد، وهو بعيدٌ، لعمري، ولو (2) فرض في الإجارة، فالإجارة تبقى، ولا تنقطع؛ فإن الاستئجار بعد الموت -عن الميت- ممكن، فلا منافاة، وقد استحقت منفعة الأجير. والذي ذكروه في إذنٍ جائز، وهو محتمل في (3) الإغماء، بعيدٌ في الموت.
ومن أئمتنا من لم يحكم بانعزال الوكيل بإغماء الموكل؛ من جهة أن الإغماء كالنوم، في أنه لا يثبت ولايةً على المغمى عليه.
2691- ومن المقاصد: الكلامُ في الفدية الواجبة عند ترك الرمي، وفوات المستدرك.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ط) ، (ك) .
(2) (ط) ، (ك) : لو (بدون واو) .
(3) ساقطة من الأصل.(4/327)
فأول ما نراه أن نذكر القول فيما يجب بترك الرمي ليوم واحد، من أيام منى:
لا خلاف أنه إلاّ دمٌ واحد، وإن ترك الرميَ إلى الجمرات الثلاث، ولا مزيد على دمٍ.
ثم الطرق مختلفة في ترك بعض الرمي في اليوم الواحد: والطريقة المشهورة، أن الدم يكمل بترك ثلاث حصيات، قياساً على ثلاث شعرات (1 ثمّ لا يزداد 1) وإن ترك جميع رمي اليوم، كما إذا استوعب الرأس بالحلق.
وفي الحصاة الواحدة على هذه الطريقة أقوال: أحدها - فيها درهم. والثاني فيها مدّ [من الطعام] (2) والثالث - فيها ثلث دم. هذا كالأقوال المشهورة في الشعرة الواحدة والشعرتين.
ومن أصحابنا من قال: الدم إنما يكمل في وظيفة جمرة، وهي سبع حصيات، ثم لا يزيد إلى [تمام] (3) وظيفة اليوم. وفي الحصاة [الواحدة] (4) أقوال: أحدها - فيها مدّ. والثاني - فيها درهم. والثالث - فيها سُبُعُ دم.
وذكر صاحب التقريب طريقة ثالثة، وهي أن الجمرات في اليوم كالشعرات الثلاث، ففي وظيفة اليوم دمٌ، وفي [ترك] (5) وظيفةِ جمرةٍ واحدةٍ الأقوالُ الثلاثة: أحدها - مدّ. والثاني - درهم. والثالث - ثلث دم. فعلى هذا لو ترك حصاة من سبعة، من جمرة، قال: يحتمل أن يقال: يجب فيها في قولٍ مدٌّ كامل، أو درهم، ولا نقصان منه. ويحتمل أن يقال: سبع مدّ، أو سبع درهم. فأما إذا أوجبنا جزءاً من الدم، ففي حصاةٍ جزءٌ من أحدٍ وعشرين جزءاً من دم؛ فإن تبعيض ذلك على ما يقتضيه الحساب، وإنما التردد في تبعيض المد، والدرهم.
فهذا بيان الطرق.
__________
(1) ساقط، ما بين القوسين من (ط) ، (ك) .
(2) ساقط من الأصل.
(3) مزيدة من (ط) .
(4) ساقط من الأصل، (ك) .
(5) زيادة من (ط) ، (ك) .(4/328)
ولا خلاف أن الدم يكمل في جمرة العقبة؛ فإنها وظيفة يوم.
2692- ومما يتعلق بتفصيل القول في الفدية أن من ترك الرمي كلّه، و [انحسم التدارك، وكان التزم] (1) رمي النفر الثاني، إذ لم يتعجل في النفر الأول، ففيما يجب عليه أقوال: أحدها - أنه يكفي في الكلِّ دمٌ واحد؛ فإن الرمي جنسٌ واحد.
والثاني - يلزم أربعةُ دماء، في مقابلة وظيفة أربعة أيام.
والثالث - يلزم دمان: دمٌ في مقابلة جمرة العقبة، ودم في مقابلة الأيام الثلاثة.
ثم مَنْ (2) لم يوجب في الأربعة الأيام إلا دماً واحداً، يُكمل الدمَ في وظيفة اليوم.
وهل يكمله بثلاث حصيات، أم لا إكمال إلا بسبع؟ فيه الخلاف المقدم، في فرض الكلام في وظيفة يومٍ. ويجري في مجاري الكلام وجهٌ غريب: إن الدم يُكمَّل بحصاة واحدة. وقد ذكرنا لهذا نظيراً في الشعرة الواحدة، وسنجريه في الليلة الواحدة من المبيت.
وما ذكرناه في الحصاة الواحدة فيه إذا تركها من الجمرة الأخيرة. فأما إذا تركها من الجمرة الأولى، فلا يعتد بالجمرة الثانية، والثالثة، لما قدمناه، من اشتراط الترتيب في المكان، فيكون تاركاً (3) حصاةً من الجمرة الأولى وتاركاً للجمرتين الأخيرتين.
وقد مضى التفصيل في ترك جمرة، وجمرتين.
2693- ومن بقية القول في ذلك: أنا إذا جوّزنا تدارك الرمي، بعد [انقضاء] (4) الوقت الموظَّف له، فإذا تداركه كما رسمناه، فالمذهب أنه لا يجب مع القضاء فدية.
وحكى صاحب التقريب وجهاً غريباً من تخريجات ابن سريج: أنه يجب مع الدم القضاء، كما يجب على من يؤخر قضاء ما فاته من صوم رمضان، إلى الشهر الآتي في السنة القابلة، القضاءُ والفدية.
__________
(1) عبارة الأصل صحفت هكذا: " وانحتم التدارك، فكان اليوم ".
(2) (ط) : إن لم.
(3) عبارة (ط) : " فيكون تارك حصاةٍ من الجمرة الأولى تاركاً للجمرتين ... ".
(4) في الأصل: انفصال.(4/329)
وهذا غريب. وقيل: إنه مذهب أبي حنيفة (1) . ومما أجراه صاحب التقريب رمزاً في أثناء كلامه أن قال: إذا جعلنا المستدرَك من الرمي مُقاماً في وقته أداء، ولم نجعله قضاء، وقلنا بحسب ذلك: يجوز التقديم، ويجزىء، فيلزم من ذلك جواز التأخير أيضاًً، حتى لا ينتسب المؤخِّر من غير علة إلى مأثم.
وهذا بعيدٌ؛ فإن جواز ذلك مما خص به أهلُ سقاية العباس، ورعاة الإبل، كما سنعقد فيهم فصلاً، فلئن كان يلزم ما قال قياساً، فالوجه أن يستدل بهذا على فساد المصير إلى أن الرمي المقامَ بعد انقضاء وقته مؤدى.
فصل
في النفر وحكمه
2694- للناسك إذا رمى في اليوم الثاني [من أيام التشريق] (2) أن ينفر متعجلاً، وإذا فعل ذلك، سقط عنه المبيت في الليلة التي بين يديه، وسقط عنه الرمي في النفر الثاني.
ولو نفر في يوم النفر الأول، ولم يرمِ، فلا يخلو: إما أن يعود، أو لا يعود، فإن لم يعد، استقرت الفديةُ عليه في الرمي الذي تركه في النفر الأول.
وإن عاد، لم يخل: إما أن يعود بعد غروب الشمس، وإما أن يعود قبلها.
فإن عاد بعد غروب الشمس، فقد فات الرمي، فلا استدارك، وانقطع أثره من منى، ولا حكم لمبيته. وإن رمى في النفر الثاني، لم يكن رميه معتداً به، فإنه بنفره تقلّع عن منى ومناسكه، واستقرت الفدية عليه، وكان ذلك بمثابة انقضاء أيام التشريق.
ولو عاد قبل غروب الشمس، فأجمع طريقةٍ في ذلك، ما ذكره صاحب التقريب:
__________
(1) ر. بدائع الصنائع: 2/138، مختصر اختلاف العلماء: 2/156، 158 مسألة: 616، 618.
(2) ساقط من الأصل، (ك) .(4/330)
إذ قال: حاصل الاختلاف فيه أربعة أقوال: أحدها - أنه إذا نفر، فقد انقطع الرمي، ولا ينفعه العود.
والقول الثاني - يجب عليه أن يعود ويرمي حسبما عليه، ما لم تغرب الشمس، فإذا غربت، تعيّن الدمُ.
والقول الثالث - أنه بالخيار: إن أراد الرجوع والرميَ، فله ذلك، وإذا فعل، سقط عنه الفرض، وإذا أراد ألا يرجع، ويريق الدمَ، جاز له ذلك، ويسقط عنه الفرض بأحدهما. وهذه الأقوال الثلاثة تجري في النفر الأول، والثاني.
وذكر قولاً رابعاً عن ابن سريج: وذلك أنه فصل في تخريجٍ له بين أن يتفق خروجه في النفر الأول، أو في النفر الثاني، فإن خرج في النفر الأول، ثم عاد قبل غروب الشمس ورمى، لم يقع رميه موقعَه. ولو خرج في النفر الثاني، ولم يرم، ثم عاد، ورمى قبل غروب الشمس، وقع الرميُ موقعَه.
والفرق أن الخروج في النفر الثاني لا حكم له؛ فإنه منتهى الوقت. نفرَ أو لم ينفر، فكان خروجه وعدمُ خروجه بمثابةٍ. وللخروج في النفر الأول حكمٌ؛ فإنه لو لم يخرج فيه، بقي إلى النفر الثاني، فيؤثّر خروجُه في قطع علائق منى، وإذا انقطعت العلائق، لم تَعُد. ولا خلاف أن من خرج يوم القَرّ، ثم عاد قبل الغروب، رمى؛ إذ لا حكم للنفر في يوم القرّ. وإن عاد بعد الغروب، فهذا رجلٌ فاته الرمي، وفيه الكلام المقدّم في التدارك.
2695- وبالجملة لا أثر للخروج في يوم القرّ.
وأما يوم النحر، فالأمر فيه أظهر؛ فإن الناسك يفارق منى مُفيضاً، وقد ذكرنا أنه لا ترتيب في أسباب التحلل في ذلك اليوم، ولو أراد تقديمَ طواف الإفاضة على رمي جمرة العقبة، فلا بأس عليه. ويخرج من ذلك أن الخروج لا أثر له في يوم النحر، ويوم القَرّ، وإنما النظرُ إلى مضيّ الوقتِ وفواتِه. وإنما يؤثر الخروج في التفريق كما قدمنا التفصيلَ فيه.
ثم إذا قلنا: من خرج في النفر الأول، من غير رمي، وعاد قبل غروب الشمس، يرمي. فإذا رمى، وغربت الشمسُ تقيّد، ولزمه المبيت، والرمي من الغد.(4/331)
وإن قلنا: لا يرمي إذا عاد قبل غروب الشمس، فلا يلزمه المبيت، ولو بات، لم يكن لمبيته حكمٌ.
والسبب فيه أن في هذا الوجه حكمنا بانقطاع علائق منى بخروجه، ثم لم نحكم بعودها لما عاد.
ولو خرج الناسك في النفر الأول قبل زوال الشمس، ثم عاد، وزالت عليه الشمس، وهو بمنى، فالوجه القطع بأن خروجه لا حكم له؛ فإنه لم يخرج في وقت الرمي وإمكانه. ولو خرج في الوقت الذي ذكرناه، ثم لم يعد حتى غابت الشمس، فقد انقطعت العلائق -وإن كان خروجه قبل دخول وقت الرمي- لأن استدامة الخروج إلى غيبوبة الشمس، حلّت محل إنشاء الخروج بعد زوال الشمس.
ولو خرج قبل الزوال وعاد، قبل الغروب، فظاهر المذهب أنه يرمي ويُعتد برميه، بخلاف ما لو خرج بعد الزوال.
ومن أصحابنا من نزل هذه الصورة منزلةَ صورةِ الأقوال؛ فإنه لو خرج قبل الزوال، ولم يعد حتى غابت الشمس، كان كما لوخرج بعد الزوال، ولم يعد حتى غابت الشمس. فإذا تشابها في ذلك، فليتشابها في العود قبيل الغروب.
2696- ومن تمام البيان في حكم النفر أن الناسك إذا لم ينفر في النفر الأول حتى غربت الشمس، تقيّد، ولا نفرَ، فليبت وليلتزم الرميَ في النفر الثاني (1 ولا يتوقف تقيده لأجل الرمي 1) على طلوع فجر ذلك اليوم. وهذا متفق عليه.
فصل
في المبيت
2697- قد ذكرنا أن مبيت المنتقلين من مكة إلى منى ليلة عرفة مبيتَ منزل، وليس مبيت نسك، والمبيتُ بمزدلفة ليلةَ النحر نسكٌ، لا شك فيه، وكذلك المبيتُ ليلة [القَرِّ، وليلة النفر الأول. والمبيت ليلة] (2) النفر الثاني، موقوف على ما ذكرناه.
__________
(1) ساقط من (ط) .
(2) ساقط من الأصل.(4/332)
فإن رمى الناسك، ونفر قبل غروب الشمس، سقط عنه ما بين يديه، من المبيت والرمي في اليوم الأخير، وإن لم يفارق خِطةَ منى، حتى غابت الشمس، ثبت المبيت عليه؛ فاذاً المبيت النسك في ثلاث ليالٍ في حق من نفر في النفر الأول، وهو في أربع ليال في حق من مكث حتى غربت عليه الشمس.
2698- ثم كل ليلة أثبتنا المبيت فيها، فما الحد المعتبر في القدر الذي يجب المبيت فيه؟ ذكر شيخي، وصاحب التقريب قولين، مرسلين: أحدهما - أنا نشترط أن يكون معظمُ الليلة بموضع البيتوتة، لا يفارق منى. والقول الثاني - أنا نشترط أن يطلع عليه الفجر، وهو في موضع البيتوتة، حتى لو غاب معظمَ الليل، ثم حضر قُبيل طلوع الفجر، فطلع الفجر عليه، فقد أدى حقَّ المبيت. والأظهر القول الأول، عند الأصحاب.
وهذا كلام ملتبس، والذي يجب القطع به أن طرد هذين القولين على هذا النسق في ليلةِ مزدلفة محالٌ. والذي يجب أن يقال فيها: إن قول المعظم باطل، في تلك الليلة، مع ما مهدناه في جواز الخروج بعد منتصف الليل، والمُفيض لا ينتهي إلى مزدلفة إلاّ بعد غيبوبة الشفق، وقد يصل بعد هزيع من الليل، ولا يخرج في هذه الليلة أيضاًً اعتبارُ طلوع الفجر، فلا يتجه في تلك الليلة إلا اعتبارُ الكَوْن بمزدلفة في الوقت الذي ينتصف الليل فيه.
هذا هو الذي يجب مراعاته، ويتعين ردُّ القولين المحكِيَّين إلى المبيت ليلةَ القرّ، وليلةَ النفر الأول، وليلةَ النفر الثاني، إن تقيّد الناسك، ولم يتعجل، فيتجه اعتبارُ المعظم؛ فإنه مبيتٌ لا تغليس (1) فيه، فيحسن الأمر بالمبيت في المعظم، ولا مؤاخذةَ، لو اتفقت خَرْجةٌ من منى في بعضٍ من الليل، بعد أن كان المعظم على ما وصفناه.
ومن اعتبر طلوع الفجر، فإنه يجعل المبيت تعريجاً على شعار اليوم الذي بين [يدي] (2) الناسك. فهذا وجه اعتبار طلوع الفجر في محل المبيت.
__________
(1) غلس القوم تغليساً ساروا بغلسٍ، والغلس ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح.
(معجم) والمراد: مبيت منى لا تغليس فيه مثل مبيت المزدلفة.
(2) مزيدة من (ط) ، (ك) .(4/333)
2699- وإذا ثبت ما ذكرناه، فالكلام بعده في أن المبيت الواقع نسكاً لو تركه الناسك هل يلزمه أن يفديه أم لا؟ وفيه قولان للشافعي: أحدهما [أنه يلزم، كما يلزم الدم بترك الرمي، والمبيتُ شعار ظاهر معتبر في] (1) الشرع كالرمي، فإذا وجبت الفديةُ في ترك الرمي، فلتجب في ترك المبيت. والقول الثاني - لا يجب الدمُ؛ فإن المبيت رَيْثٌ، ولُبْث لانتظار شعار الرمي، فليس مقصوداً في نفسه. وهذا المعنى يجري أيضاً في المبيت بمزدلفة؛ فإن أوقاتَ المناسك المنتظرة يدخل بانتصاف الليل، فُشرع مبيتٌ إلى ذلك الوقت.
وإذا اختلف القول في أن المبيت هل يجبر بالدم، فيترتب عليه لا محالةَ اختلاف القول في أنه هل يجب في نفسه، وهل يجب على الناسك تحصيله، حتى يُقضَى بأن يعصي بتركه؟
2700- فإذا أردنا أن نجمع محل الوفاق والخلاف في ذلك، قلنا: الفدية تجب بترك الرمي قولاً واحداً، لا خلاف في أصلها، وإنما التردد في التفصيل، وكذلك من ترك حق الميقات، فجاوزه غيرَ محرم، التزم الدم، ولا خلاف في الأصل وهو الدم المسمى دمَ الإساءة، فهذان ثابتان وفاقاً.
واختلف [القول] (2) في ثلاثة مناسك (3) : [أحدها - الجمع بين الليل والنهار في الوقوف، والآخر - المبيتُ المحكومُ بكونه نسكاً، والثالث - طوافُ الوداع، فهذه المناسك الثلاثة، فيها قولان، في وجوب الجبران، والمذهب أن طواف القدوم لا يجب جبرانه، وفيه شيء بعيدٌ حكيناه، وذلك في حق من يتسع وقته، فأما من ينتهي إلى المُعَرَّف (4) ، فلا قدوم عليه.
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) مزيدة من (ط) ، (ك) .
(3) بدأ من هنا خرمٌ في نسخة الأصل، نحو ورقة، أو يزيد قليلاً، وسننبه عليه عند انتهائه.
(4) عرّف القوم إذا وقفوا بعرفات. والمعنى هنا: أن من يصل مع وقت التّعريف، أي يصل في زمان التعريف ومكانه، فلا قدوم عليه.(4/334)
2701- ومما يتعلق بذلك: أن الغريب إذا انتهى إلى عرفةَ ليلةَ النحر، وبقي في شغل الوقوف، حتى فاته المبيت بمزدلفة، فلا خلاف أنه لا يلزمه في مقابلة فوات المبيت شيء، واشتغالُه بالوقوف حطَّ عنه عهدةَ المبيت. وإنما يثبت الخطاب بالمبيت على من يتفرغ إليه. ولما ذكر صاحب التقريب ذلك، على ما وصفناه، قال بانياً عليه: لو وقف بعرفةَ نهاراً مع الواقفين، ولما غابت الشمس أفاض، وانحدر إلى مكةَ ممتداً (1) ، واشتغل بطواف الإفاضة بعد نصف الليل، ففاته المبيت لأجل ذلك، فلا يلزمه شيء إذا كان مشتغلاً بالطواف المفروض، وهو بمنزلة اشتغاله بالوقوف ليلاً.
وذكر الإمام هذا على هذا (2) الوجه، وحكاه عن القفال.
وهذا محتمل عندنا؛ من جهة أن من لم ينته إلى عرفةَ إلا ليلاً، فهو مضطر إلى التخلف عن المبيت، والذي يمتد إلى مكة ليطوف ليلاً، لا ضرورة به، فليبت، وليصبح مع الناس.
2702- ثم إذا قلنا: المبيت النسك مضمون بالدم، فلو ترك المبيت في جميع الليالي التي أمرناه بالمبيت فيها، ففي الواجب عليه قولان في ظاهر المذهب: أحدهما - أنه يلزمه في مقابلة الجميع دمٌ واحد. والثاني - يلزمه دمان: أحدهما في مقابلة ليلة مزدلفة، والثاني في مقابلة ليالي منى؛ فإن ليلةَ مزدلفة مباينةٌ لغيرها من ليالي المبيت، لما نبهنا عليه، فلتفرد بحكمها. وإنما يحسن طرد القولين في حق من يتقيد ليلةَ النفر الثاني؛ بأن تغرب عليه الشمس، وهو بمنى، حتى تتم ليالي منى ثلاثاً، ثم يخرج في الليلة الأخيرة بعد التقيّد.
فأما إذا نفر في النفر الأول، فقد عاد المبيت إلى ليلتين، فإذا تركهما، وترك
المبيتَ ليلة مزدلفة، فإن قلنا في ترك الجميع دم، فلا كلام. وإن قلنا: يفرد المبيت ليلةَ مزدلفة بدمٍ كامل، ففي ليلتي منى وجهان: أحدهما - أنه يكمل (3) فيها
__________
(1) في (ك) : مبتدأً، وفي الأصل خرمٌ هنا. والمثبت من (ط) .
(2) عبارة (ك) : هذا في الوجه.
(3) في (ط) ، (ك) : " لم يكمل ". وهو مخالف للسياق، وهذا التصرّف تقديرٌ منا، ونسخة الأصل مخرومة هنا. كما نبهنا قريباً.(4/335)
دم، وإن لم يتقيد، فإن المبيت بمنى جنس كالمبيت بمزدلفة، وقد ترك أصل المبيت بمنى، فلا يقصر جنس المبيت بمنى عن المبيت ليلة واحدة بمزدلفة. وهذا ظاهرٌ منقاسٌ.
وقال بعض أصحابنا: يجب في ليلة مزدلفة دمٌ. ويجب في (1) حق من لم يتقيد، وتعجل في الليلتين مدَّان، أو درهمان، أو ثلثا دم، وهذا اكتفاءٌ بالظاهر، والفقه الوجه الأول (2) .
وذكر صاحب التقريب قولاً يضاهي قولاً غريباً فيما تقدّم، ولكنه ارتضاه هاهنا، وإن زيفه فيما سبق: وذلك أنه قال: للشافعي قول أنه يجب في كل ليلة دم؛ لأن كلَّ ليلة تُنسب (3) إلى يومها، وإذا كان الدم يكمل في وظيفة كلِّ يوم، فليكمل في مبيت ليلةٍ، وهذا يتجه هاهنا اتجاهاً بيناً.
فصل
في أهل سقاية العباس ورعاة الإبل
2703- رعاة الإبل، وأهل سقاية العباس، يبيتون بمزدلفة مع الناس، ويرمون جمرةَ العقبة، ثم ينزلون، ويتركون المبيت ليلةَ القرّ، وليلة النفر الأول، ويتركون رميَ يوم القَرّ، ثم (4) يعودون في النفر الأول، ويقضون رميَ يومِ القرّ وذلك يسوغ لهم بلا خلاف، وإن اختلف القول في حق غيرهم، في قضاء الرمي. وما تركوه من المبيت ليلة القَرّ، وليلة النفر الأول محطوط عنهم، بلا فدية.
وهذه الرخصة ثابتةٌ لهذين الصنفين: الرعاة، وأهل سقاية العباس، أما رعاة الإبل، فيُخرِجون الإبل إلى المراعي، ويفارقون خِطة منى؛ إذ الحاجة تَمسهم إلى
__________
(1) (ط) : من.
(2) ساقطة من (ك) .
(3) (ك) : ليست تنسب. (وهو خلل ظاهر) .
(4) ساقطة من (ك) .(4/336)
ذلك، وإذا بعدوا، لم يمكنهم أن يرجعوا ليلاً، فلا يَرُدُّون الإبل إلا يوم النفر الأول؛ فإن عامةَ الخلق يتعجلون، حتى يقل من يلبث (1) ، وأما أهل سقاية العباس (2) ، فإنهم كانوا يقومون بتهيئة السقاية، وإعداد الماء، وما يتيسر من الشراب للمُفيضين، فكان ذلك شغلاً شاغلاً قديماً، يُجَوِّز (3) لهم ما جَوَّز لرعاة الإبل.
والمتبع في هذه الرخصة الخبرُ والوفاق، فلو فرض فارض عُذراً مرهقاً، كقيام الإنسان بتعهد منزولٍ [به] (4) قد حضرته الوفاة، أو غيرَ ذلك من الأعذار، فهل يجوز أن ينزَّلوا في الرخصة التي ذكرناها منزلةَ رعاة الإبل؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون: أحدهما - تثبت الرخصة لكل معذور (5) يبلغ عُذرُه مبلغَ عذر الرعاة. والثاني - وهو الذي قطع به الأئمة [أن] (6) الرخصة تخص، ولا يُعدّى بها موضعها، كما لا يثبت في حق المريض رخصةُ المسافر.
وأما أهل السقاية، فمذهب الشافعي أنه لو قام بذلك الأمر غيرُ بني العباس، فلهم الرخصةُ. هذا ظاهر المذهب. وذكر العراقيون في ذلك وجهاً آخر: وهو أن الرخصة تختص بأهل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم بنو هاشم ورَوَوْا في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أرخص لأهل السقاية من أهل بيته، فدل ذلك على اختصاصهم (7) . وهذا بعيد.
__________
(1) (ك) يبيت.
(2) آخر الخرم الموجود في نسخة الأصل. ثم هي في نسخة (ك) : " يبيت ".
(3) (ط) فجوّز.
(4) ساقطة من الأصل.
(5) (ك) من.
(6) ساقطة من الأصل.
(7) يشير " إلى ما ورد أن العباس استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يبيت بمكة ليالي منى لأجل سقايته، فأذن له " وهو متفق عليه من حديث ابن عمر (البخاري: الحج، باب هل يبيت أصحاب السقاية وغيرهم بمكة، ح 1743-1745، ومسلم: الحج، باب وجوب المبيت بمنى، ح 1315 (وليس فيه لأهل بيته)) .(4/337)
قال: " ويُفعل بالصبي في كل أمره، ما يَفعل الكبير ... إلى آخره " (1) .
2704- الصبي إذا كان يعقل، عَقْلَ مثلِه، فيصحُّ إحرامه بالحج، وهل يفتقر انعقادُه إلى إذن الولي؟ فعلى وجهين: أصحهما - أنه يفتقر إلى إذنه؛ لأن العقدَ يشتمل على أمور خطرة، وعُهَدٍ مالية، فلا يصح استقلال الصبي به. والثاني - يصح دون الإذن، كما يصح منه عَقْدُ الصلاة.
وإن كان طفلاً لا يميز، فيُحرِم عنه الوليّ.
واختلف الأئمة في أن من يتصرف في مال الطفل، بكونه قيِّماً هل يُحرم عن الطفل؟ والأصح أنه لا (2) يُحرم عنه، وإنما يحرم عنه الأب، أو الجد أبُ الأب.
وأما الأم، فهل تحرم عنه؟ اختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من خرَّج إحرامها عن ولدها على وجهين مبنيين على أنها هل تلي مالَ ولدها؟ ومنهم من قطع بأن إحرامها عن ولدها صحيح؛ للحديث المشهور فيه، وهو ما روي أن امرأة رفعت صبيّاً من مَحَفَّتِها، وقالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألهذا حج؟ قال: " نعم. ولك أجر " (3) . والظاهر [يدل] (4) على أنها كانت تحرم عنه.
وإذا كان الصبي مميزاً، وقلنا: إنه يُحرم بنفسه، فلا يُحرم عنه وليه. وإذا قلنا: لا يُحرم دونَ إذن وليه، فهل ينعقد [إحرام الوليّ عنه؟ فعلى وجهين: أحدهما -
__________
(1) ر. المختصر: 2/92، 93.
(2) ساقطة من (ط) .
(3) حديث: " ألهذا حج؟ ". رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي من حديث ابن عباس، ورواه الترمذي من حديث جابر (ر. مسلم: الحج، باب صحة حجة الصبي وأجر من حج به، ح 1336، أبو داود: الحج، باب في الصبي يحج، ح 1736، النسائي: مناسك الحج، باب الحج للصغير، ح 2648، 2649، الترمذي: الحج، باب ما جاء في حج الصبي، ح 924) .
(4) ساقطة من الأصل.(4/338)
لا ينعقد، فإن الإحرام إذا كان] (1) ينعقد بعبارته، فلا ينعقد بعبارة غيره. والثاني - ينعقد الإحرام بعبارة الوليّ من غير مراجعة. وهو ظاهر المذهب، فإن الولاية مطردةٌ عليه بدليل أنه لا يستقل، وهو لصباه مولًّى عليه، فيدوم استقلال الوليّ بالتصرف فيما تفيده الولاية.
ثم إذا انعقد الإحرام في حق الصبي، فكل ما يتأتى منه [يُحمل عليه، وكل ما لا يتأتى منه] (2) ينوب الوليّ فيه عنه، كالرمي وغيره، ويُطاف به محمولاً، ويُسعى به كذلك.
2705- ولو بلغ الصبي في أثناء الحج، نُظر: فإن كان ذلك بعد فوات الوقوف، استمر الحج مسنوناً، ولم يقع عن حجة الإسلام. وإن بلغ قبل الوقوف، ووقف وهو بالغ، فالحج يقع عن فرض الإسلام، باتفاق الأصحاب.
وإذا لم يتفق منه رجوعٌ إلى الميقات بعد البلوغ، فهل يجب دم الإساءة؟ فيه قولان مشهوران: أحدهما - يجب، لأن الإحرام الذي جرى من الميقات كان ناقصاًً، وحجُّ الإسلام يستدعي إحراما كاملاً من الميقات. والقول الثاني - لا يجب دمُ الإساءة؛ فإنه لم يسىء، وفَعَل ما في وسعه.
وكان القفال يقول: القولان مبنيان على أن الكمال إذا طرأ على ما صورناه، ووقع الحج عن فرض الإسلام، فنقول: إن الإحرام انعقد نفلاً أوَّلاً، ثم من وقت الكمال انقلب فرضاًً. قال: يجوز أن يقال: الأمر كذلك، وعليه يبتنى وجوبُ دم الإساءة. ويجوز أن يقال: وقع الإحرام على الوَقْف، فلما طرأ الكمال، تبين لنا أن الإحرام في أصله انعقد فرضاًً، ولو طرأ الكمال بعد الوقوف، لبان أن الإحرام وقع نفلاً، وبقي نفلاً.
ثم إن لم نوجب دمَ الإساءة، فلا كلام. وإن أوجبناه، فلو عاد الصبي بعد بلوغه إلى الميقات، ومرّ عليه، فالمذهب أنه لا يلزمه دمُ الإساءة؛ فإنه فعل ما في وسعه أولاً، ثم استفرغ جهده بالعود آخراً. وذكر القفال هذا، وارتضاه. وحكى وجهاً
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(2) ساقط من الأصل.(4/339)
آخر: أن الدم لا يسقط، وهذا (1) بعيد، لا اتجاه له.
2706- ومما يتعلق بذلك أن الصبيّ لو أحرم، وقَدِم وطاف طواف القدوم، وسعى، ثم بلغ، ووقف بعرفة بالغاً، فالحج يقع عن فرض الإسلام، وإن تقدم ركنٌ، ولكن [هل] (2) يعتد بذلك السعي؟ أم يجب إعادة السعي بعد طواف الزيارة؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا تجب إعادته، والنظر إلى الوقوف. وتقدّمُ السعي في الصبا كتقدُّم الإحرام فيه.
والوجه الثاني - أنه يجب إعادة السعي؛ فإن ذلك ممكن، وإعادة الإحرام لا معنى له، فأقمنا دوام الإحرام بعد البلوغ، مقام ابتداء الإحرام على صفة الكمال، والسعيُ إذا [نقص] (3) ، فلا معنى للاستدامة فيه، فالاكتفاء به، وقد جرى في حالة النقص بعيدٌ مع إمكان إعادته.
فرع:
2707- ذكرنا أن الصبيَّ إذا كان لا يقدر على الرمي بنفسه، فالوليُّ يرمي عنه، وكذلك إذا مرض الكاملُ، وعجز عن الرمي، فينيب غيرَه مَناب نفسه، فلو رمى نائبُ المريض عنه، فَبَرَأ (4) المريض ووقتُ الرمي باق، فهل يلزمه إعادة الرمي؟ فعلى وجهين مبنيين على أن المعضوب إذا استناب نائباً فحج عنه، ثم زال العَضْب على ندور، فهل نقول: تبيَّنَّا (5) أن الحج لم يقع الموقع، إذا زال العضب (6) ؟ فعلى قولين. والعُمْر في الحج كزمان الرمي في الرمي.
2708- ومما يتم به القولُ في الصبيّ: ذِكْرُ إقدامه على المحظورات، بعد انعقاد الإحرام.
فلتقع البداية بوطئه: اختلف القول في أنه إذا وطيء، هل يتعلق بوطئه إفسادُ
__________
(1) (ط) وحكى.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) في النسخ الثلاث: انقضى. والمثبت تقدير منا. رعاية للسياق.
(4) برأ: من باب نفع، (وتعب أيضاًً) .
(5) (ط) : يتبين، (ك) تبين.
(6) ساقطة من الأصل.(4/340)
الحج؟ وبنى الأئمةُ القولين أولاً على أن الصبي هل له عمدٌ على الحقيقة؟ وفيه قولان: ذكرناهما في أحكام الجنايات، ثم إذا حكمنا بأن له عمداً، فيفسد حجّه، وإن حكمنا بأن لا عمد له، ففي فساد الحج قولان، مبنيان على أن البالغ المكلفَ إذا وطيء ناسياً هل يفسدُ حجُّه؟ فعلى قولين، سنذكرهما إن شاء الله تعالى. والقولان مبنيان على أن الوطء استمتاعٌ [أو] (1) استهلاك.
والأصح عند المحققين القطعُ بأن جماعه يفسد الحج؛ فإنّ عمد الصبي فيما يتعلق بالعبادات، كعمد البالغ، ولهذا يفسد صومه إذا تعمد الأكل، وتفسد صلاته إذا تعمد الكلام.
ثم إن قلنا: يفسد حجه، ففي وجوب القضاء وجهان: أحدهما لا يجب؛ لأنه ليس ممن يُتعبد على الوجوب، بالعبادة البدنية.
فإن قلنا: لا يجب القضاء، فليس إلا المضيُّ في الفاسد والتحلل، ولا تبعة.
وإن قلنا: يجب القضاء، فهل يصح منه القضاء في صباه؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يصح؛ فإن في تصحيحه الحكمَ بوقوع واجبٍ من الصبي ابتداءً. وهذا يُفضي إلى تنزيله منزلةَ المكلف في الواجبات التي يتعلق الخطاب بها بالمتعبد فيها.
فإن قضى في صباه، فلا كلام. وإن أخر القضاء قصداً [أو] (2) قلنا: لابد من تأخيره، فما يأتي به بعد البلوغ من القضاء هل يقع موقع فرضِ الإسلام؟ نُظر: إن كان ذلك الحج الذي أفسده بحيث لو تم، لوقع عن حج الإسلام، فقضاؤه يُسقط فرضَ الإسلام؛ وذلك بأن يبلغ قبل الوقوف.
وإن [كان] (3) الحج بحيث لو تم (4) ، لم يقع عن فرض الإسلام (5 فقضاؤه لا يقع عن فرض الإسلام، ثم الحجة الأولى بعد الكمال تقع عن فرض الإسلام 5) ويبقى
__________
(1) في الأصل: و.
(2) في الأصل، (ك) : و.
(3) من الأصل: وإن حكمنا بأن الحج.
(4) عبارة (ك) : بحيث لم يتم، لم يقع.
(5) ما بين القوسين ساقط كله من (ط) ، والجملة الأولى منه ساقطة من الأصل.(4/341)
القضاء في الذمة، ثم يقيمه في عمره.
وإن حكمنا بأن [حج] (1) الصبي يفسد، ولا يلزم القضاء، ففي وجوب الكفارة وجهان: أصحهما - الوجوب. وإن قلنا: يجب القضاء، فتجب الكفارة، ثم حيث أوجبنا الكفارة، فهي في مال الصبي، [أو في مال الوليّ؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - أنها في مال الصبي] (2) ككفارة القتل إذا لزمت الصبيَّ بالقتل الصادر منه.
والوجه الثاني - أنها في مال الولي؛ فإنه هو الذي ورّطه في الإحرام، وجرّ إليه سببَ لزوم الكفارة، وليس ككفارة القتل؛ فإنه لا سبب فيها من الولي.
2709- وإذا تطيب الصبي أو لبس المخيط، ففي لزوم الكفارة قولان عند الأصحاب مأخوذان من حكم عَمْد الصبي، وقد ذكرنا أن الأخذ من هذا غيرُ صحيح.
نعم، قد يتأتى التوجيه من غير هذا، فوجه وجوب الكفارة ثبوت سببها، والصبي من أهل التزام الكفارة. ووجه نفي الكفارة أن صحة الإحرام من الصبي محمول على صحة الصلاة والصوم [منه] (3) .
فأما تنزيله منزلة المكلف في العُهَد والغرامات بسبب إحرامٍ، هو منشئه أو أنشأه الولي عنه، فهو بعيدٌ.
ثم حيث تثبت الكفارة فهي في ماله، أو في مال الوليّ؟ فعلى الوجهين المقدمين.
ولو طيب الوليُّ الصبيَّ، فقد قال الأصحاب: يُنظر فيه، فإن كان يقصد مداواةَ الوليّ، واستصلاحَه، فقد اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قطع بأن الفديةَ على الوليّ، ومنهم من جعل ذلك كتطيّب الصبي بنفسه، وفيه التفصيل المقدم.
وقد ذكر الشافعي لفظةً اختلف الفقهاء في تأديتها، فقال: " وتجب الفدية على المداوَي " فقرأ بعضهم بكسر الواو؛ حملاً على الولي، وقرأ بعضهم بفتح الواو؛ حملاً على الصبي؛ وعلل بأن فائدة المداواة رجعت إليه، فكان كما لو تداوى بنفسه،
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) ساقط من الأصل.
(3) ساقطة من الأصل.(4/342)
ثم النص على هذا يدل على أن الفدية حيث تجب بتطيّب الصبي، تختص بماله، ولا تجب على وليّه.
ولو طيّب الوليُّ الصبيَّ من غير منفعةٍ للصبي، تحصل بذلك، فقد ذكر الأئمة أن الفدية تجب (1 على الوليّ 1) ، وهذا فيه ضرب من الإشكال.
ولو قيل لنا: [ما] (2) قولكم في المُحِل يطيّب المحرمَ المكلّفَ؟ لَلَزِم أن نوجب الفدية. وهذا غامضٌ من طريق المعنى، ولكن مأخذه حلق المُحل شعرَ المحرم، والمحرم نائم، أو مكرَه، وقد يُتخيّل في ذلك أن شعر المحرم محترمٌ، وإتلافه محرّمٌ على المُحل والمحرم، كشجر الحرم، وتقدير هذا في استدامة فعل المحرم بعيد.
ولكن الذي رأيناه في المذهب (3) ما نقلناه، وسيعيد الشافعي بعض أحكام الصبيان، في باب معقودٍ، يشتمل على إحرام الصبي، وعلى إحرام المماليك، فرأينا أن نؤخر بعضَ الأحكام، ونذكر في ذلك البابِ حكمَ العبد يُحرم، وحكمَ الكافر يُحرم ثم يسلم.
فصل
قال: " وإذا أصاب المحرمُ امرأتَه المحرمةَ ... إلى آخره " (4) .
2710- الوطء من المحرم المكلفِ إذا صادف إحراماً تاماً، فهو مفسدٌ للإحرام، ولا فرق إذا فُرض في الحج، بين أن يكون الوطء قبل الوقوف، وبين أن يكون بعده إذا لم يثبت تحلّل (5) ، خلافاً لأبي (6) حنيفة.
__________
(1) ساقط من (ك) .
(2) في الأصل: مع.
(3) عبارة الأصل: في هذا المذهب.
(4) ر. المختصر: 2/93.
(5) في الأصل: " تحلُّلاً " بالنصب.
(6) ر. مختصر الطحاوي: 67، بدائع الصنائع: 2/217، مختصر اختلاف العلماء: 2/203 مسألة: 667، حاشية ابن عابدين: 2/211، 212.(4/343)
ثم حكم الحج إذا فسد وجوبُ المضي فيه إلى تمامه، ثم وجوب القضاء إذا كان الحج تطوعاً، وفيه يظهرُ أثر وجوب القضاء، وتجب الكفارة العظمى، كما سنصفها.
والمرأة إذا مكَّنت، فسد إحرامُها، كما يفسد إحرامه، ثم القول في الكفارة عليها، كالقول في كفارة الوقاع في رمضان، وقد تفصّل القولان توجيهاً وتفريعاً.
فإن أوجبنا الكفارة على الزوج، ولم نوجبها عليها، فهل على الزوج أن يحصّل الحج [لها بمؤنةٍ] (1) من ماله؟ قال الشافعي فيمن يفسد حجه: " قضى وكفّر، وحج من قابل بامرأته ".
واختلف الأئمة في ذلك: فقال بعضهم: هذا واجب عليه وجوبَ الكفارة، وثمنِ ماء الغسل.
وقال آخرون: لا تجب المؤنة عليه. وعليها أن تتكلف ذلك من مالها، فإنها كانت مختارة في تمكينها، والكفارة خارجة عن القياس، مستندة إلى حديث الأعرابي، فلا ينبغي أن تُتَّخذَ أصلاً في كل ما لا نصّ فيه.
ثم قال الشافعي في القديم: " إذا بلغا في القضاء الموضع الذي أفسدا فيه الحجَّ، فُرِّق بينهما " وظاهر هذا يدل على استحقاق ذلك. والذي ذهب إليه الأكثرون أنه استحباب، وهو الذي قطع به الصيدلاني. ومن أصحابنا من رأى ذلك حَتماً، وظن أن الشافعي قال ما قال [عن أثرٍ عنده] (2) اتبعه.
ومما يتعلق بموجب (3) الإفساد أنه إذا كان قد أحرم من مسافة بعيدةٍ، وراء الميقات الكائن في صوبه، ثم أفسد الحج، فيلزمه أن يقضي من المسافة التي كان أحرم من مثلها ابتداءَ [الأداء] (4) ، وخالف أبو حنيفة (5) في ذلك.
__________
(1) بياض بالأصل.
(2) ساقط من الأصل.
(3) (ط) بوجوب الإفساد.
(4) في الأصل، (ط) : أداء.
(5) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/68 مسألة 555، والمسألة ذكرها إمام الحرمين في الدرة المضية: مسألة 296.(4/344)
ثم إذا أفسد الحج، فالإحرام دائم على الفساد، وليس كالصوم يفسد، مع أمرنا بوجوب الإمساك عن المفطرات؛ فإن الصوم يرتفع بالكلّية، والأمر [بالإمساك] (1) تشديد وتغليظ.
2711- ثم من جامع وأفسد، ثم جامع مرة أخرى، فهل يلزمه بالجماع الثاني شيء أم لا؟ فعلى قولين: أحدهما - لا يجب؛ لأنه وقاع عديم التأثير في الإفساد؛ إذ لا أثر له فيه، فلا يتعلق به كفارة. والأصح وجوب الفدية؛ لأنه في إحرامٍ وإن كان فاسداً.
ثم إن قلنا: تجب الكفارة ففي الواجب وجهان: أحدهما - أنها بدنة. والثاني - أنها دم شاة. وهذا الخلاف أقربُ؛ من جهة أن الوقاع الثاني مباشرةٌ لم تفسد الحج، فأشبهت المباشرة دون الوقاع.
2712- ولو وقع الوطء بين التحللين، فالأصح أن الحج لا يفسد؛ لأنه لم يصادف إحراماً تاماً. ومن أصحابنا من قال: يفسد الحج لمصادفة الوطء للإحرام.
فإن قلنا: لا يفسد الحج، فواجب الوطء بين التحللين ماذا؟ فيه وجهان: أحدهما - أن واجبه البدنة. والثاني - أن واجبه دم شاة. وهذا يقرب من الخلاف في واجب الوطء الثاني. فإن قلنا: إنه يفسد الحج، فواجبه بدنة؛ فإن الإفساد ووجوب القضاء أشد وأغلظ مما بين الشاة والبدنة، ويخرج وجهٌ آخر: أنا إذا قلنا: الوطء لا يفسد الحج إنه (2) لا يتعلق به شيء أصلاً. وهذا بعيد؛ فإن الوطء يجب ألا يقصر عن مباشرة لا وقاع فيها.
وسنذكر الآن أن المباشرة من موجبات الفدية، ويتجه أن نَنْفصل (3) عن هذا،
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) كذا في النسخ الثلاث: إنه (بدون فاء) ، وقد سبق في بعض تعليقاتنا، أن هذا سائغٌ، وخرّجوا عليه قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180] .
(3) " ننفصل عن هذا " أي: نخرج عنه، ونردّه، ونُجيب عليه، فالانفصال هنا من مصطلحات المناظرة، ومعنى العبارة: أن وجه الانفصال والخروج عن هذا الاعتراض القائل: إن الوطء لا يصح أن يقلّ في إيجاب الفدية عن مباشرةٍ لا وقاع فيها، فالجواب أو الانفصال بأن يقال: المباشرة إنما توجب الفدية إذا صادفت إحراماً تاماًً.(4/345)
فيقال: المباشرة إنما توجب الفدية إذا صادفت إحراماً تاماًً.
وكان شيخي أبو محمد يقطع القول بأن الحج إذا فسد بالجماع، فلو فرض من المحرم الذي فسد حجه تطيّبٌ، أو لُبسٌ أو ستر، فتجب الفدية في هذه المحظورات. وبهذا يتبين أنه في إحرام، وليس كالجماع، بعد الجماع؛ لأنه في حكم التابع للجماع الماضي، فجعل كحركات المجامع.
وذكر بعض أصحابنا وجهاً بعيداً في أن المحظورات بعد الوقاع لا توجب الفديةَ، إذا قلنا: إن الجماع الثاني لا يوجب شيئاً. وهذا بعيد جداً.
2713- ونحن نذكر بعد هذا تفصيل كفارة الجماع التام المفسد، فنقول: الواجب بدنة، فإن لم يجد، فبقرة، فإن لم يجد فسبعٌ من الغنم؛ فإن لم يكن قوّمت البدنة دراهمَ، والدراهم طعاماً بسعر مكة، فإن لم يكن، صام عن كل مدّ يوماً، ونصفُ المد كالمد في مقابلته بصومِ يوم؛ فإن الصوم لا يتبعض.
ثم اختلف الأئمة في [أن هذه] (1) الكفارة مرتبة، أو مخيرة: فمنهم من جعل في المسألة قولين: أحدهما - أنها مرتبة. والثاني أنها مخيّرة، في جميع ما ذكرناه.
قالوا: والقولان مبنيان على أن الوطء استمتاع أو استهلاك. فإن جعلناه استهلاكاً، فهذا (2) على التخيير، كفدية الحلق، والقَلْم، وقتل الصيد. وإن جعلناه استمتاعاً، فهو على الترتيب كفدية الطّيب، واللّباس؛ فإنها مرتبة كما سنصفها.
فإن قلنا: هي مخيرة، فلا كلام. وإن قلنا: هي مرتبة، فالبدنة، والبقرة، والسبع من الغنم، على الترتيب، أو على التخيير، فعلى وجهين: أحدهما - أنها مرتبة، كالدم، والصوم، والإطعام. ومنهم من قال: هذه الأشياء مخيّرة (3) وإنما الترتيب في الدم، والصوم، والإطعام؛ وذلك لأن هذه الأشياءَ على مرتبة واحدة، في الضحايا والهدايا، فلا معنى لترتيب بعضها على بعض.
__________
(1) مزيدة من (ط) .
(2) (ط) ، (ك) فهو.
(3) (ط) : مرتبة.(4/346)
2714- وتمام البيان في المسألة أن من جامع مراراً، وكفَّر عن الجماع الأول، ففي الجماع الثاني من التفصيل ما ذكرناه.
فأما إذا لم يتخلل التكفيرُ، فهذا يندرج تحت الفصل الجامع الذي ذكرناه، في تكرر موجبات الكفارة، وتداخل الكفارات عند التواصل، وعند الانقطاع، وقد مضى ذلك، مع أمثاله في فصلٍ جامع.
ولو جامع مراراً في مكان واحد، وهو يقضي من كل جماع وطره، فقد سبق منا رمزٌ إلى ذلك، في الفصل المشتمل على تداخل الكفارات، وقد ذكر صاحب التقريب في ذلك جوابين: أحدهما - أن المواقعات، وإن تواصلت أزمنتها، فهي بمثابة ما لو تفرقت. وهذا متّجه في المعنى ظاهرٌ. والوجه الثاني - أنها تلحق بأعدادٍ من اللُّبس مع اتحاد المكان والزمان، حتى يقطع باتحاد الموجب.
ولا خلاف أنه لو كان ينزع ويعود، والأفعال متواصلة، وقضاء الوطر حصل آخراً، فالكل وقاع واحد.
فرع (1) :
2715- متصل بما نحن فيه.
المباشرة بين المحرِم والمرأة إذا تحقق فيها التقاء البشرتين، فلا نقضي بفساد الحج بها، أنزل أو لم ينزل، خلافا لمالك (2) ؛ فإنه قال: إذا اتصل الإنزال بها أفسدت الحج.
ثم الفدية تجب بالمباشرة، وهي دمُ شاة، ولا فرقَ بين أن يتصل الإنزال بها أو لا يتصل. نصَّ عليه الأصحاب في طرقهم، وضبطوا المباشرة الموجبةَ للفدية، بما يوجب نقض الطهارة، ثم مسائل الملامسة في الطهارة تنقسم إلى وفاق وخلاف، والأمر في الحج ينطبق على قياسها، وفاقاَّ وخلافاً، وأما الصوم، فالمباشرة المحضة لا تؤثر فيه.
فهذه مراتب المباشرة وحكمها. وانتقاضُ الطهارة، ووجوب الفدية في الحج
__________
(1) في الأصل فصلٌ. ولكن الكلام متصل، فرجحنا (فرع) اتباعاً كما في (ط) ، (ك) .
(2) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/487 مسألة 788، تهذيب المدونة: 1/595.(4/347)
يتجاريان بلا افتراق، والمرعي في الصوم الإنزال، وكأن الغرض من الصوم الانكفافُ عن قضاء الوطر، بالأكل أو الاستمتاع، وهذا لا يحصل بالمباشرة المجردة.
والقياس يقتضي أن يكون الاعتكاف ملحقاً بالصوم في المباشرة، التي لا إنزال معها، ولكن فيها تردد، ذكرناه في الاعتكاف، وذكرنا سببه.
2716- وأما الاستمناء، فإنه يفسد الصوم، وهل تتعلق به الفدية؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون: أحدهما - يتعلق به ما يتعلق بالمباشرة. والثاني - لا شيء فيه؛ فإن الحج ليس في معنى الصوم، في مسالك محظوراته.
فرع:
2717- الحاج المتطوّع إذا أفسد حجه بالجماع، فقد ذكرنا أن القضاء يلزمه.
ثم ذكر العراقيون [في] (1) أن القضاء على الفور أم على التراخي وجهين: أحدهما - أنه على التراخي، اعتباراً بصفة الوجوب في فرض الإسلام. والثاني - أنه على الفور، لانتساب المفسد إلى التفريط في الإفساد.
وكان القفال يقول: كل كفارة وجبت من غير عدوان ممن لزمته الكفارة، فهي على التراخي، وكل كفارة وجبت بعدوان من الملتزم، ففي ثبوتها على الفور والتراخي تردد.
وهذا يناظر ما ذكره العراقيون في قضاء الحج على المفسد؛ فإن وضع الشرع في واجب الحج [على] (2) التراخي، كما أن الكفارات في وضعها على التراخي.
ومن اعتدى بترك صلاةٍ، لزمه قضاؤها على الفور، بلا خلاف على المذهب.
والسبب فيه أن المصمم على ترك القضاء مقتولٌ عندنا، ولا يتحقق هذا إلا مع توجّه الخطاب بمبادرة القضاء، وأبعد بعض الأصحاب، فقال: إنما يقتل تارك الصلاة إذا لم [يعزم على القضاء] (3) ومثل هذا لا يُعدّ من المذهب.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) عبارة الأصل، (ك) : إذا لم يعد القضاء.(4/348)
ومن اعتدى بترك صوم شهر رمضان، ففي جواز التأخير في القضاء مع الاعتداء في الابتداء وجهان؛ إذ لا يتوجه على التارك المصرّ على الترك في الصيام قتل.
فرع:
2718- الجماع إذا طرأ على العمرة، أفسدها ويتعلق به من الكفارة ما يتعلق بالجماع المفسد للحج، ولو طاف المعتمر، ولم يَسْع، وجامع، فسدت العمرة، ووجبت الكفارة العظمى. وإن كان الطواف في العمرة من أسباب التحلل، فاتفق الأئمة على أن التحلل من العمرة لا تدريج فيه، ولا تعدد (1) ، وليس كالتحلل عن الحج؛ فإنه ينقسم، ويختلف الحكم فيما يقع قبل التحللين، وفيما يقع بينهما.
وقال الأئمة: لو طاف المعتمر، وسعى، ولم يحلق، وقلنا: الحِلاق نسك، فلو جامع قبل الحِلاق، فسدت العمرة، ولزمت الكفارة العظمى، على ما قدمناه.
فرع:
2719- القارن إذا جامع وأفسد إحرامه، لزمه قضاء النسكين، ولزمته الكفارة العظمى.
وهل يلزمه دمُ القِران؟ فعلى وجهين: أحدهما - يلزمه، ضماً إلى كفارة الجماع.
والثاني - لا يلزمه؛ فإنه لم يتمتع بقِرانه؛ إذ فسد عليه، وذاق وبال الإفساد، فليقع الاكتفاء بموجبه.
ومما يتعلق بذلك أن القارن لو لم يجر منه صورة الطواف، و [السعي] (2) قبل
الوقوف، فوقف، ورمى جمرةَ العقبة، وحلق. فلو جامع، فالأصح أن الحج لا يفسد، كما تقدم. ثم إذا لم يفسد الحج، لم تفسد العمرة، وإن لم يجر بعدُ من أعمالها شيء، فلا خلاف بين الأصحاب أن العمرة تتبع الحج في الفساد في حق القارن.
ولو فات الوقوف، وفات حج القارن بقرانه، ففي فوات العمرة وجهان: أحدهما - أنها تفوت بفوات الحج؛ فإن العمرة في جهة القِران لا تفرد بعمل، ولا حكمٍ، وأيضاًً فإنها تَبِعَتْ الحجَّ في الفساد في حق القارن، فلتتبعه في الفوات.
__________
(1) (ك) : لا يندرج فيه، ولا تعبد.
(2) مزيدة من (ط) ، (ك) .(4/349)
والوجه الثاني - أن العمرة لا تفوت؛ فإن من فاته الحج يلقى البيتَ بعملِ معتمر، فإذا كان يعمل عمل معتمر وإحرام العمرة لا يفوت؛ فلا معنى للقضاء بفوات العمرة.
فصل
قال الشافعي: "وهكذا كل واجب عليه، فقس به ما لم يأت فيه نص ... إلى آخره" (1) .
2720- مضمون الفصل القول في معاقد المذهب في الدماء وأبدالها.
وكان شيخي أبو محمد يقسم الدماء على أقصى وجه في التطويل، طالباً بكلامه الاحتواء على الجمل والتفاصيل، وكان يجري مقصودُ الضبط خفيّاً في أدراج الكلام إلاّ على المنتهين.
والذي أراه أن أذكر الضوابط لفظاً ومعنى، وأحيلَ التفصيل الخارج عن مقصود الضبط إلى ما جرى وسيجري مفصلاً، وأُنبّهَ على ما يعدَم (2) الطالب مثلَه في المجموعات (3) .
2721- فأقول: ذكر المراوزة مسلكاً وأنا طارده على وجهه، حتى إذا تم، ذكرت طريقةً أخرى للعراقيين من (4) أول الضبط إلى آخره. ثم أحكم بين الطريقين بما أتخيله.
وأقول في افتتاح طريق المراوزة: الدماء المنصوصة في كتاب الله تعالى أربعة: أحدها - جزاء الصيد، وهو مُعَدَّل في كتاب الله مخيّر (5) ، قال عز من قائل: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95] ، فكفارة الصيد مخيرة في نص
__________
(1) ر. المختصر: 2/94.
(2) عدم: من باب تعب.
(3) المجموعات: المؤلفات. وهذا معهودٌ في لفظ إمام الحرمين، يسمي المؤلّف (مجموعاً) .
(4) (ط) : في.
(5) ساقطة من (ط) .(4/350)
القرآن معدّلة، ومعنى كونها مخيرة، تخير الملتزم بين الدم، والصوم، والإطعام، ومعنى [التعديل] (1) أن نقدر المثل الواجب مقوماً بالدراهم، ثم نصرف الدراهم إلى الطعام المخرَج في الكفارة، ونقدرها أمداداً، ثم نقابل كلَّ مُدٍ بصوم يوم. فهذا معنى التعديل، واللّقب مأخوذٌ من قوله تعالى {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95] ، والاعتبار بالأسعار المقدرة بمكةَ، حرسها الله تعالى، وتفاصيل جزاء الصيد فيه بابٌ، والغرض وصف كل كفارة بالتخيير، والترتيب، والتعديل، والتقدير. فهذا أحد الدماء المنصوصة.
والثاني - دم الحلق، قال الله تعالى {أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] ، وقد وصفنا هذه الكفارة، وبيّنا أنها مخيّرة، مقدّرة، أما التخيير، فمنصوص في الكتاب، والتقدير متلقى من بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث كعب بن عُجرة.
والثالث - دم المتعة، وقد سبق شرحها، فهي مُرَتَّبةٌ مقدرة.
والرابع - دم الإحصار (2 وهو دم شاةٍ، وفي بدله، ثم في صفة بدله كلامٌ يأتي في باب الإحصار، إن شاء الله تعالى. فأما دم الإحصار 2) ، فلسنا نبغي أن نلحق يه فرعاً، وإنما الإلحاق بالدماء الثلاثة فنقول:
2722- جملة الدماء على طريق المراوزة غيرِ المنصوص عليها معدّلةٌ طرداً، وإنما الكلام في الترتيب والتخيير، فكل دمٍ وجب لترك نسك كترك الرمي، والمبيت، والجَمْع في الوقوف بين الليل والنهار، وترك طواف الوداع، وترك حق الميقات، وهو الذي يسمى دمَ الاساءة، فلا يختلف القول أنه مرتبٌ: الشاةُ، ثم الطعامُ، ثم الصوم.
وأما ما يكون استمتاعاً، كاستعمال الطيب، واللباس، وما في معناهما، أما التعديل، فلا شك فيه في موجَب هذه الطريقة، وأما الترتيب فقولان: أحدهما - أنها
__________
(1) في الأصل: التقدير.
(2) ما بين القوسين سقط من (ط) .(4/351)
مرتبةٌ: الدماء، ثم الطعام، ثم الصوم، على التعديل.
والثاني - نص عليه في الإملاء، والمناسك الأوسط - أنها على التخيير، واحتج عليه بقوله تعالى، في فدية الأذى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] ، الآية، ووجه الدليل أن الآية ليست ناصَّة على الحلق، وإنما هي مشتملة على دفع الأذى، وقد يقع برأس المحرم شَجَّةٌ، فيحتاج في دفع أذاها إلى الستر، والحلق، واستعمال دواء فيه طيب، فليثبت التخيير، غيرَ أنه على التعديل، كما سنصفه في آخر الفصل.
فهذه الدماء على هذا القول ملحقة بجزاء الصيد في الضبط اللفظي. و (1) على القول الأول هي في الترتيب ملحقة بدم التمتع، وفي الكيفية هي ملحقة بجزاء الصيد، ولا حاجة إلى تكلفٍ في إلحاق القَلْم بالحلق، فإنه في معناه، ودم الوقاع ملتحق في التعديل قولاً واحداً، وفي اختلاف القول في الترتيب بدماء الاستمتاعات.
فهذا منتهى الضبط المقصود على طريقة المراوزة.
2723- (2 فأما العراقيون، فإنهم ذكروا في الدماء ترتيباً يخالف طريق المراوزة 2) من أوجه. ونحن نسرد ما ذكروه على وجهه، فنقول:
الدماء المنصوص عليها أربعة: دم التمتع والقِران، ودم الإحصار، وفدية الأذى، وجزاء الصيد، فكل دم وجب عن ترك نسك كدم الإساءة، ودم الرمي، والمبيت، والوداع، ودمِ الفوات. فكلها كدم التمتع في كل وجه؛ فإن التمتع فيه تركُ الإحرام من الميقات.
وكل دمٍ وجب بسبب ترفُّه: كالطيب، واللبس، والمباشرة دون الفرج، فجميع ذلك كدم الحلق، من كل وجه؛ لأن الترفه يجمعها، إلى دم الحلق، فيجب دم مخيّر، مقدّر، شاةٌ، أو صوم ثلاثة أيام، أو إطعام مقدرٌ معروف في فدية الأذى.
ثم قالوا: دم الإحصار أصلٌ منصوص، لا فرعَ له، يُلحق به.
__________
(1) (ط) على القول (بدون واو) .
(2) ما بين القوسين ساقط من (ك) .(4/352)
ودم الجماع فرعٌ غيرُ منصوصٍ، ولا أصل له في نص الكتاب، وطردوا دمَ الجماع على ما ذكرناه مفصَّلاً في فصل الجماع.
وقد وجدت هذا بعينه مذهب مالك (1) حرفاً حرفاً وليس يكاد يخفى تباين الطريقين.
والآن حان أن نذكر مسلكي الفريقين.
2724- أما العراقيون، فإنهم راعَوْا شبَها في الترفّه، والنسك، ثم حكموا بهذا المقدار من الشبه بالتقديرات التي لا تتلقّى إلاّ من توقيف، والشبه البعيد لا يقتضيه.
وأما المراوزة، فإنهم رأَوْا التعديل منقاساً، إذا عُدم التوقيف، وقد وجدوا للتعديل ثَبَتاً في النص وطردوا التعديل بمسلكٍ معنوي في كل ما ليس منصوصاً [عليه] (2) على التفصيل، وترددوا في الترتيب، فهان عليهم تحكيم الشبه فيه، وغلب عندهم [الشبه] (3) فيما يتعلق بالنسك في الترتيب، وترددوا فيما يتعلق بالاستمتاع.
2725- ولا يكاد يخفى على من جرى في (4) مساقنا، وأخذ الفقه على مذاقنا، أن ما ذكره المراوزة أفقه وأغوص، ثم هذا على حسنه يعتضد بنصّ الشافعي، فإنه ذكر دمَ الجماع معدَّلاً، كما مضى، ثم قال: " وهكذا كل واجبٍ عليه فقس به "، فكان هذا تصريحاً منه بتعميم التعديل، في كل ما ليس منصوصاً عليه على التفصيل. وقد وفّينا بذكر الطريقين، والحكم بينهما بعد نجازهما.
فصل
2726- الدماء الواجبة على المحرم من غير نذر كلها [دماء الجبرانات عندنا] (5) ومن جملتها دم التمتع والقِران.
__________
(1) ر. القوانين الففهية 136 وما بعدها.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) ساقطة من الأصل.
(4) (ط) على.
(5) ساقط من الأصل.(4/353)
ثم قاعدة المذهب أن جميعَها يتقيد بالجرم، أما لحومها فمفرقة على من يصادف مكة من المستحقين: قاطنين كانوا أو غرباء، وإنما المطلوب أن تقع التفرقة بالحرم.
وأما إراقة الدماء، فالمذهب أنه يتعين إراقتها بالحرم، أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى موضع النحر من منى، وقال: "هذا المنحر، وكل فجاج مكة منحر" (1) . وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرمَ بذكر مكة، ولا شك أن خِطتها غيرُ معتبرة، وإنما المرعي الحرم (2) نفسه، ومنى ليس من خِطة مكة، ولكنه من الحرم، والحرم متمادٍ إلى قرب عرفة.
ومن أصحابنا من قال: لو وقع الذبحُ والنحر في طرف الحل، ونقل اللحم غضاً طرياً إلى الحرم، جاز، وأجزأ؛ مَصيراً إلى أن المقصود تفريقُ اللحم الغض بالحرم.
وهذا ضعيفٌ؛ فإن الإراقة نسكٌ، ولهذا لا يجزئ اللحم إذا اشتراه [ملتزمُ] (3) الدم وأراد تفريقه.
2727- هذا أصل المذهب، لا يستثنى منه إلا دمُ الإحصار؛ فإن محِلّه محل الحصر، وسيأتي في باب الإحصار مع طرفٍ من أحكام (4) الدماء التي وجبت قبل الإحصار.
وإذا خالف [ملتزم] (5) الدم فيما رأيناه واجباً، لم يعتد بما جاء به.
والمحل الأفضل في حق الحاج، منى وكذلك القول في هداياه: إن ساقها.
ومحل الإراقة في حق المعتمر المروةُ؛ فإنها محل التحلل عن العمرة. كما أن منى محل التحلل عن الحج.
__________
(1) حديث: كل فجاج مكة منحر، رواه مسلم بمعناه عن جابر، وأتم منه: كتاب الحج، باب ما جاء أن عرفة كلها موقف، ح 1218، ورواه أبو داود بنحو هذا اللفظ: المناسك، باب صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم، ح 1907، وانظر تلخيص الحبير: 2/554 ح 1118.
(2) (ط) : بالحرم.
(3) في الأصل: فيلزم الدم.
(4) (ط) : الأحكام.
(5) في الأصل: فيلزم.(4/354)
وذكر شيخي وجهاً غريباً في أن من حلق قبل الانتهاء إلى الحرم، فله أن يفرّق اللحم حيث حلق، واستدل بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كعب بن عُجرة، وكان حلقه في محلٍّ بعيدٍ عن مكة، ودل ظاهر كلامه صلى الله عليه وسلم على التسليط على إراقة الدماء، وتفرقة اللحم.
وهذا بعيدٌ؛ فإن ما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم محمول على إعلامه كعباً ما يجب عليه بسبب الحلق، فأما التعرض [لتنجيز] (1) الإراقة وتعجيل تفرقة اللحم، فلم يتعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2728- وذكر صاحب التقريب وجهاً غريباً على نسق آخر، فقال: كل ما أقدم عليه المحرم من موجبات الدم، وكان مسوَّغاً له بعذرٍ، أو غيره، فله أن يريق الدم حيث شاء، وكذلك يفرّق اللحنمَ. وكل سبب يحرُم الإقدام عليه، فإذا فرض صَدَره (2) من المحرم، فإراقة الدم الواجب، وتفرقةُ اللحم يتقيدان بالحرم.
وهذا نقله وزيفه. وليس من الرأي تشويش أصل المذهب بمثل هذا، والوجه القطع بأن كل دم وجب على المحرم بسبب يسوغ: كالتمتع، والقِران، والحلق مع الأذى، واللُّبس مع الحاجة. أو بسبب غير مسوغ كالمحظورات، مع انتفاء الأعذار، فتفرقة (3) اللحم في جميعها مقيدةٌ بالحرم. والمذهب تقيّد الإراقة به أيضاً، وفيه الوجه البعيد.
ثم لا فرق بين ما يقع في نفس الإحرام، وبين ما يقع بعد التحللين، أو بينهما؛ فإن الرمي وإن وقع بعدَ (4) التحللين، فهو من توابع الإحرام، فالْتحق به، وكذلك كل ما في معناه.
وأما القول في الزمان، فلا يتقيد شيء (5) من دماء الجبرانات بالزمان، وجميع
__________
(1) في الأصل، (ك) : لتخيير
(2) صَدَرُه: صدوره. وقد تكرر هذا مراراً.
(3) (ط) : فانتفاء.
(4) (ط) : بين.
(5) (ط) : بشيء.(4/355)
الأوقات صالحةٌ لها، وإنما يتقيد بأيام النحر: الهدايا، والضحايا: المتطوّعُ منها، والمنذور.
فصل
يجمع ما يُفسد الحجَّ والعمرة، وما يَقْطع إحرامهما
2729- فأما القول فيما يفسد، فلا خلاف أن الوطء مفسد للنسكين، وقد تفصل القول فيه، وفي موجَبه.
ومما يلتحق بذلك الردة إذا طرأت، فالذي ذهب إليه الأكثرون أن الردة كما (1) طرأت، قطعت الإحرام قَطْع الإفساد.
ثم اختلف الأئمة أن المرتد هل يخاطب بالمضي في فاسد الحج أم لا؟ ويظهر تصوير ذلك فيه إذا ارتد، فوقع الحكم بالفساد عند الارتداد، ثم عاد إلى الإسلام، فمن أصحابنا من قال: [إنه] (2) يمضي في الفاسد مضيّ من أفسد الحج بالجماع.
ومنهم من قال: لا مضيّ على من فسدت حجته بالردة؛ فإن طريق إفسادها القطع، والاستئصال، وإحباط الأعمال، وهذا يقتضي أن لا [يقع] (3) الخطاب بعد الردة بفعل.
وذكر بعض (4) أصحابنا وجهاً آخر [أن الردة] (5) لا تفسد الحج أصلاً، طالت مدتها، أو قصرت. ولكن لا يعتد بما يأتي به في زمن الردة. وقد ذكرنا خلافاً للأصحاب في طريان الردة في أثناء الغُسل والوضوء. وهذا وإن حكاه طوائف من الأئمة، مزيّف غير صحيح.
__________
(1) "كما" بمعنى (عندما) .
(2) ساقطة من الأصل.
(3) في الأصل: يقطع.
(4) ساقطة من (ط) .
(5) عبارة الأصل: أنها.(4/356)
فصل
قال: " ومن فاته ذلك، فقد فاته الحج ... إلى آخره " (1) .
2730-[مضمون الفصل القول في فوات الحج] (2) ، فنستقصي ما فيه، وإذا انتهينا إلى بابه، أحلناه. فنقول:
أولاً - العمرةُ المفردة لا يتصّور فواتُها، وإنما يفرض انقطاع إحرامها قبل تأدية أركانها بالإحصار، كما سيأتي، وهل تفوت العمرة في حق القارن، إذا فات الحج؟ فعلى الخلاف المقدم.
2731- وأما الحج، فإنه يفوت بفوات الوقوف، وعلى هذا يحمل قوله صلى الله عليه وسلم: " الحج عرفة، فمن وقف بعرفة، من ليل أو نهار، فقد تم حجه " (3) والمعنيُّ بالتمام الأمن من الفوات.
ثم المتطوّع بالحج إذا أحصر، وتحلل، لم يلزمه القضاء، وسيأتي [ذلك] (4) في باب الإحصار. وإذا فاته الوقوف، لزمه القضاء، كما يلزمه القضاء إذا أفسد الإحرام. ولعل السبب فيه انتسابه إلى التقصير، أو إلى ما يدنو منه.
وإذا فرض الفوات مترتباً على سبب الإحصار، ففي وجوب القضاء قولان.
وتصويره أن يؤم مكة محرماًً، من طريق قريبة، فيصدّه العدّو من ممره في الطريق القاصد، فينحرف إلى مسلكٍ فيه بعضُ الطول، وقد قرب الزمان، فإذا فعل ذلك،
__________
(1) ر. المختصر: 2/96.
(2) ساقط من الأصل.
(3) حديث " الحج عرفة ... " بمعناه أحمد: 4/309، 310، وأبو داود: كتاب المناسك، باب من لم يدرك عرفة، ح 1949، والترمذي: الحج، باب فيمن أدرك الإمام بجمع، ح 889، والنسائي: مناسك، باب من أتى عرفة، ح 3044، وابن ماجة: المناسك، باب من أتى عرفة، ح 3015، وابن حبان: ح 3881، والحاكم: 2/278، والدارقطني: 2/240، والبيهقي: 5/116، 173. وانظر التلخيص: 2/487 ح 1048.
(4) ساقطة من الأصل.(4/357)
ففاته الحج المتطوع به، فهذا فواتٌ سببه الإحصار والصدّ، فهل يجب القضاء؟ فعلى قولين: أحدهما - يجب لأجل الفوات. والثاني - لا يجب لترتب الفوات على الصدّ، وكذلك لو صُدّ وحبس، ثم انجلى الحصر، فاندفع، ففاته الحج لضيق الوقت، والأمر على ما ذكرناه من الخلاف.
2732- ثم إذا ثبت وجوبُ القضاء على من فاته الحج، فيجب مع القضاء دمٌ وفاقاً. ولا خلاف أن صفته صفةُ دم التمتع، اتفقت الطرق عليه.
وإنما لم ندرجه في تقاسيم الدماء، لنفرد ذكره، والسبب (1) فيما ذكرناه ظهور الشبه، وبلوغُه مبلغ الوضوح؛ فإن المتمتع يتحلل من نسك، ويتحرم بآخر، ومن فاته الحج يفعل ذلك، ولكن القضاء يقع لا محالة في السنة الثانية.
2733- ثم نذكر قبل تفصيل الدم وبدلِه أصلاً آخر في الفوات، فنقول: من فاته الوقوف، فلا بد وأن يلقى البيت، ثم اختلف نص الشافعي، فقال في موضعٍ: " يطوف ويسعى " وقال في موضع: " يطوف ". واختلف أئمتنا، فمنهم من قال في المسألة قولان: أحدهما - أنه يأتي بعمل معتمرٍ، فيطوف، ويسعى، ويحلق، إن جعلنا الحِلاق نسكاً.
والقول الثاني - أنه يقتصر على الطواف؛ فإن الغرض لُقيان البيت، وإلا فما يأتي به غيرُ محسوبٍ عن حج، ولا عمرة. ومن الدليل على ذلك أنه لا يأتي بالمناسك التابعةِ كالرمي، والمبيت، فليقع السعي في معناها.
ومن أئمتنا من قطع بأنه يطوف ويسعى، وحمل نص الشافعي عند ذكره الطواف، على اقتصاره على بعض ما عليه موجِزاً، وذلك معتاد في الكلام.
ثم من جعل المسألة على قولين، أوجب مع الطواف الحلقَ، إذا جعلنا الحلق نسكاً. هكذا ذكره الصيدلاني وغيرُه، وذلك لأنه مختص باقتضاء التحلل إذا قدرناه نسكاً، وسيظهر أثره في باب الصدّ إن شاء الله تعالى.
__________
(1) (ط) : والتسبب.(4/358)
2734- فإذا ثبت ما ذكرناه، عادَ بنا الكلام بعده إلى تفصيل دم الفوات:
هو دم شاة إن وجده المرء، فإن لم يجده، صام ثلاثة أيامٍ، وسبعةً، على ترتيب صيام العشرة في حق المتمتع.
ثم اضطربت طرق الأئمة (1) فيما يقع صيام الثلاثة فيه، فذكر المراوزة مسلكين: وقد جمعهما العراقيون، وذكروا قولين، ونحن نقتصر على ما ذكروه؛ فإنه يجمع الطرقَ، قالوا: في المسألة قولان في وقت إخراج الدم: أحدهما - أنه يخرجه في الحج الفائت، كما لو أفسد حجَّه، فإنه يخرج دمَ الفساد في ذلك العام.
والثاني: أنه يخرج الدم في الحجة المقضية؛ فإن الحجة المقضية تناظر الحجة من نسكي المتمتع، ودم التمتع إنما يجب بالخوض في الإحرام بالحج، فليكن الأمر كذلك في الفوات والقضاء.
وحقيقة القولين ترجع إلى أن الدم متى يجب؟ قالوا: إن قلنا يخرجه في سنة الفوات، فقد بان أن الوجوب ثابت، وأن الفوات أوجب شيئين: الدمَ، والقضاء.
فله تعجيل أحد الواجبين، وتأخير الثاني إلى وقت الإمكان.
وإن قلنا: يخرج الدم في حجة القضاء، فالوجوب في أي سنة؟ قالوا في المسألة وجهان: أحدهما - أن الوجوب عند التحريم بالقضاء، قياساً على التمتع. والثاني - أن الوجوب بالفوات، ولكنه لا يخرج الدمَ، لنقصان الحج الفائت.
وهذا الذي ذكروه في الدم فيه بعض الخبط؛ فإنا إن قلنا: وجوب الدم بالخوض في القضاء، فالقول في تقديم إراقة الدم على الخوض في القضاء يخرج على الخلاف المذكور في أن المتمتع لو أخرج الدم بعد الفراغ من العمرة، قبل الشروع في الحج، فهل يعتد بما أخرجه؟ والقياس الاعتداد به، اعتباراً بتقديم الكفارة المالية على الحِنث. وإذا أخرج الدم وهو ملابس للعمرة، لم يتخلل منها، ففي الإجزاء خلاف قدمته.
فإذا كان الأمر كذلك حيث نقول: لم يجب الدم بعدُ، فكيف ينقدح المصير إلى أن
__________
(1) (ط) ، (ك) : الأصحاب.(4/359)
الفوات يوجب الدم، ثم يتوقف جواز إخراجه في وجهٍ على القضاء المنتظر؟ وإنما يستقيم هذا التردد في الصوم، ونحن ذاكروه الآن.
2735- فإن قلنا: وجوب الكفارة موقوف على الخوض في القضاء، فصيام الأيام الثلاثة يقع في القضاء لا محالة، فإن الكفارة البدنية لا تقدّم على وقت وجوبها، من غير ثَبَتٍ وترخيصٍ من الشارع، فيصوم في القضاء ثلاثة أيامٍ وسبعةً إذا رجع، على ما مضى تفسير الرجوع.
وإن قلنا: الكفارة تجب بالفوات، فهل يصوم الأيام الثلاثة، وهو ملابس للحجة الفائتة؟ فعلى وجهين: أحدهما أنه يصوم؛ لأن الفوات هو الموجب، وقد تحقق.
والوجه الثاني - لا يصوم؛ فإنه في إحرامٍ ناقص.
وإنما اضطرب الأصحاب في ذلك بسببين: أحدهما - أن الفوات رأوْه موجباً للكفارة، ثم انضم (1) إليه أن من فاتته الحجة في نسك ناقصٍ، وصيامُ الأيام الثلاثة يقع في حج كامل، والجمع بين القضاء والكفارة، وأصل الحج متطوَّع به مشكلٌ في القياس. والأَوْجَه، وهو الذي قطع به الصيدلاني إثبات الصوم في القضاء.
فهذا بيان ما قيل.
2736- ثم ذكر صاحب التقريب وراء ذلك قولاً بعيداً مخرّجاً فقال: ذهب بعض الأصحاب إلى أن من فاته الحج، يلزمه دمان: أحدهما - في مقابلة الفوات، والثاني - لأنه في قضائه يضاهي المتمتع؛ لأنه تحلل عن الأول، ثم شرع في الثاني، وقد تخلل بين التحلل والشروعِ في القضاء التمكنُ من الاستمتاع، وتحلله لم يكن عن حج، [وإن كان شروعه في حج] (2) .
2737- وقد تردد الأئمة في أن من أحرم بالحج قبل أشهر الحج، فهل يكون إحرامه عمرة؟ ولم يترددوا في أن ما يأتي به من فاتته الحجة ليس بعمرة. وإن قلنا: إنه يطوف ويسعى.
__________
(1) هذا هو السبب الثاني من سببي الاضطراب في كلام الأصحاب.
(2) ساقط من الأصل.(4/360)
وذكر الشيخ أبو علي في شرح التلخيص وجهاً أن أعمال من فاته الحج عمرةٌ على الحقيقة، ولا شك أن هذا يخرج على قولنا: إنه يطوف ويسعى، وغالب ظني أنه قرع مسامعي وجهٌ ضعيف، حكاه [شيخي] (1) في انصراف فعل من فاته الحج إلى عمرة، ولست واثقاً بهذا، فالتعويل على ما قدمته.
فصل
قال: " ولا يدخل مكة إلا بإحرام ... إلى آخره " (2)
2738- اختلف قول الشافعي في أن الغريب إذا دخل مكة لشغلٍ له، فهل يلزمه أن يدخلها محرماًً؟ قال في أحد القولين: يلزمه ذلك، لإطباق الخلق عليه، والاتفاق العملي [يُعبِّر] (3) عن السُّنن في حكم العادة.
والقول الثاني - إنه لا يجب؛ فإن سبيله سبيل تحية البقعة، والتحية لا أصل لوجوبها.
ثم كل من يدخل مكة من الحل، سواءٌ كان مُنشئاً سفره من ميقاتٍ، أو من مكان دون الميقات، ففيه القولان: إذا لم يكن متردداً إلى مكة في شغلٍ يتعلق بمصالح أهلها، كتردد الحطّابين وأصحاب الروايا (4) ومن في معانيهم.
فأما المترددون على ما وصفناهم، ففيهم طريقان:
من أئمتنا من قطع بأنه لا يلزمهم الإحرام؛ فإن ذلك يشق عليهم، وقد تتداعى ضرورةٌ إلى أهل مكة لانقطاع منافع المترددين عنهم، وإلى هذا ذهب المعظم.
وصار آخرون إلى طرد القولين في الحطّابين. وهذا وإن كان يتجه في المعنى،
__________
(1) في الأصل: الشيخ. وفي هامشها: " أعني شيخي ".
(2) ر. المختصر: 2/97.
(3) في الأصل: " يعتد " وفي (ط) ، (ك) بعيد، ولا شك في تصحيفها، ومصادمتها للمعنى المفهوم من السياق. ولم نصل إلى هذا اللفظ في (الأم) وانما الموجود كلام بمعناه: 2/120، 121. والمثبت بين المعقفين تصرف منّا رعايةً للسياق.
(4) الروايا: جمع راوية: الدواب التي يستقى عليها الماءَ.(4/361)
حملاً على طرد القياس، فظاهر المذهب القطعُ.
ثم إذا أوجبنا الإحرام على من يدخل مكة، فإن دخلها بنسك مفروضٍ عليه، سقط عنه حق الحرم، كما تسقط تحية المسجد عمن يدخله ويقيم فريضةً فيه.
2739- ولو دخل مكة محلاً على قولنا بوجوب الإحرام، ففي وجوب القضاء، على هذا القول قولان: أحدهما - لا يجب القضاء؛ فإن القضاء غير ممكن؛ إذ لو خرج ليقضي، فعوده يقتضي إحراماً جديداً، فلا يمكنه تأدية القضاء كذلك.
والقول الثاني - يجب القضاء؛ فإنه ترك إحراماً محتوماً، فيلزمه التدارك.
فإن قلنا: لا يلزمه القضاء، اقتصرنا على التأثيم والتعصية، وإن قلنا: يلزم القضاء، فالذي ذهب إليه المحققون أن سبيل القضاء أن يخرج ويعود بإحرام، فإن قيل: عوده يقتضي إحراماً، [قلنا: قد ذكرنا أن دخول مكة لا يقتضي إحراماً] (1) مقصوداً، ولا يمتنع أن يقع الإحرام عن جهة، ويتأدى به حقُّ الدخول، فليقع إحرامه في العود قضاء، ثم يتأدى به حق هذه الدخلة.
وذهب بعضُ الأصحاب إلى أنا إذا أوجبنا القضاء، فالوجه في الوفاء به أن يتصف بصفة المترددين؛ حتى يصير من الذين لا يلزمهم الإحرام لدخول مكة، فيقع القضاء من داخلٍ لا يلزمه لدخوله الإحرام. وهؤلاء ألزموه ذلك، وهو في نهاية البعد. وقد نسب هذا إلى صاحب التلخيص، وهو في الحقيقة ذهاب عن حقيقة الفصل.
نعم من الأسرار أنا إذا أوجبنا القضاء، فلو خرج، وعاد بعمرة منذورة، لم يقع هذا موقع القضاء، فليقع القضاء مقصوداً، وإن كان ابتداء الدخول لا يقتضي إحراماً مقصوداً. هكذا ذكره شيخي. وهو حسن؛ فإن الدخول من غير إحرام ألزمه إحراماً، كما يُلزم النذر الناذرَ.
2740- وذكر صاحب التلخيص أن العبيد لا يلزمهم الإحرام لدخول مكة؛ فإنهم مستغرقون بحقوق السادة، ثم لا فرق بين أن يأذن لهم مولاهم في دخولهم مكة، وبين
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.(4/362)
أن يدخلوها من غير إذن. فإن الإذن في الدخول لا يتضمن إذناً في الإحرام. اتفق الأصحاب عليه.
وإن أذن السيد للعبد في أن يدخل مكة محرماً، فقد اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من ألزمه الإحرام على القول الذي يُلزم الحرّ. ومنهم من لم يلزمه، وهو الأقيس، من جهة أن الإذن لا يطلقه عن أسر الرق، والدليل عليه أن العبد لا يلزمه حضور الجمعة، سواء أذن له السيد في حضورها أو لم يأذن.
وحكى صاحب التقريب وجهاً غريباً في الحطّابين أنه يجب عليهم أن يدخلوا مكة في السنة مرة واحدة محرمين. وهذا لا أصل له. وإذا (1) حكى هو مثلَ هذا بالغ في تزييفه.
***
__________
(1) كذا في النسخ الثلاث (إذا) . وهي بمعنى (إذْ) ، وهو استعمالٌ صحيح. قاله ابن مالك في شواهد التوضيح.(4/363)
باب الصبي يبلغ والمملوك يعتق
2741- ذكرنا معظم أحكام إحرام الصبيان، وكنا أخرنا إلى هذا الباب مسائلَ، حتى لا نخليه عن غرضٍ.
فإذا خرج الوليّ بالصبي محرماًً، فالنفقة الزائدة بسبب سفرة الحج على من تجب؟ ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنها تجب في مال الوليّ؛ فإنه ورّط الصبيَّ فيها، مع الاستغناء عنها.
والوجه الثاني - أنها تجب من مال الطفل؛ فإن هذا لا ينحطّ عن بعض المصالح القريبة، التي لا تبلغ مبلغ ما لا بد منه، ولو أنْفق الوليّ في تعليم الطفل شيئاً غير محتوم، ساغ له ذلك، فليكن الحج بهذه المثابة.
ومما نذكره في هذا الباب أن الصبي إذا بلغ قبل فوات الوقوف، ووقف بعد البلوغ، فقد ذكرنا أن حجه يقع عن فرض الإسلام، ولو أفاض وهو صبي، وبلغ بمزدلفة، وانقلب إلى عرفةَ، ووقف بها بعد البلوغ، فالجواب كما قدمناه. فالحجة تقع عن فرض الإسلام.
ولو بلغ بمزدلفة، وتمادى، ولم يرجع إلى الموقف، فالمذهب أن حجه لم يقع عن حجة الإسلام.
وحكى العراقيون عن ابن سريج وجهاً: أنه قال: إذا بلغ في وقت الوقوف، (1 وإن لم يعد للوقوف بعد البلوغ، واقتصر على ما سبق منه من الوقوف 1) في صباه، فالحج يقع عن فرض الإسلام. خرّجه على ما ذكرناه من أن الصبيّ إذا سعى في صباه قبل الوقوف، ثم بلغ ووقف، فهل يلزمه إعادة السعي، أم يكتفى بما صدر منه في الصبا؟ وفيه الخلاف المقدم.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ك) .(4/364)
ولا خلاف أنه لو بلغ يوم النحر، فلا يقع الحج عن فرض الإسلام؛ لأنه لم يدرك نفسَ الوقوف، ولا وقتَه في البلوغ.
فهذه مسائلُ كنا أخرناها إلى هذا الباب.
2742- فأما العبد البالغ، فإحرامه ينعقد بعبارته، ولا ينعقد إحرام المولى عنه، والقول في العبد البالغ العاقل. ولو أحرم العبد بإذن السيد، انعقد إحرامه ولزم، ولا يملك السيد تحليله، إذا كان الإحرام صادراً عن إذنه.
وإن أحرم بغير إذنه، انعقد إحرامه وللسيد تحليله.
2743- وفي الزوجة إذا أحرمت بالإذن وغيرِ الإذن وفي كيفية تحليل العبد تفصيلٌ.
والذي أراه تأخير هذه الفصول إلى آخر باب الحصر، فإنها متعلقةٌ بأحكام الصدّ، ولو رُمنا بيانها، لاحتجنا إلى ذكر طرفٍ صالح من أحكام الحصر. والله أعلم
***(4/365)
باب من أهل بحجتين أو بعمرتين
2744- من أهلّ بحجتين، انعقد إحرامه بإحداهما، ولغا الثاني. وقال أبو حنيفة (1) : ينعقد الإحرام بهما، ثم إذا اشتغل بأعمال النسك ارتفض ما سوى الحجة الواحدة، ثم يتعلق بالذمة بعد الارتفاض تعلق المنذورات، فيجب إبراء الذمة عنها.
ومما ذكره بعض الحذاق أنا إذا قلنا: الإحرام بالحج في غير أشهر الحج عمرة، فلا يمتنع أن نجعل المحرم بحجتين محرماً بحجة وعمرة، حتى يصير قارناً، وهذا بعيدٌ، وإن كان يتجه بعض الاتجاه.
وإدخال الحجة على الحجة، والعمرة على العمرة لاغٍ، لا يتضمن إلزاماً ولا عقداً كالجمع في ابتداء الإهلال.
***
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/165 مسألة: 628، بدائع الصنائع: 2/170، ملتقى الأبحر: 1/304.(4/366)
باب الإجارة على الحج
2745- الاستئجار على الحج جائز عندنا، ولأصحاب أبي حنيفة (1) خبط في ذلك، لا حاجة بنا إلى ذكره.
ثم الاستئجار إنما يصح عن العاجز عن مباشرة الحج بنفسه، وقد مضى تفصيلُ القول في العجز عن المباشرة في أول الكتاب، عند ذكرنا تفصيل الاستطاعة، فليقع الاعتناء بتفصيل الإجارة، مع الاكتفاء بما تقدم في بيان محلها.
ثم الاستئجار يفرض على وجهين: أحدهما - أن يتعلق بعين الأجير. والثاني: أن يتعلق بذمته إلزاماً، والغرض تحصيله، والملتزِم إن شاء حصله بنفسه، وإن شاء حصله بغيره.
فأما الاستئجار المتعلق بعين الأجير، فصورته أن يقول المستأجر: استأجرتك لتحج عني السنةَ، فهذه إجارة صحيحة، إذا كان خروج الأجير ممكناً. ثم يشتغل الأجير بالتأهب للخروج، فإن أمكنت رفقة، فتوانى عن الخروج معها منتظراً أخرى، أُلزم الخروج، وإن كانت الرفقة في التأهب، لم يكلف الأجير أن يسبقها منفرداً، والرجوعُ في مثل ذلك إلى العادة.
والمُلتَمَسُ من الأجير أن يخرج مبتدراً (2) ، مع الاقتصاد بالجريان على موجَب الاعتياد في التشمير، وترك التقصير.
ومما يمتزج بما نحن فيه، وبقواعد الإجارة بعد ذلك: أن طيّ المسافة إلى الميقات ليس مقصوداً في نفسه، وإنما المقصود الحجُّ، ولكن لا وصول إلى تيك المشاعر إلا بقطع الطريق، فهو من عمل الأجير، والتعبُ عليه فيه كالنَّصَب في إقامة
__________
(1) ر. المبسوط: 4/158، حاشية ابن عابدين: 2/240، اللباب: 2/100.
(2) عبارة (ط) ، (ك) : خروج مبتدر.(4/367)
الحج، ولكن غرض المستأجر الحجُّ الواقعُ بعد قطع المسافة، فليكن الفقيه على فهمٍ وبصيرة فيما ألقي إليه، وسيكثر انتساب مسائل الإجارة إلى ما نبهنا عليه.
فإذا استأجر أجيراً في بقية السنة لحَجَّة السَّنَة، والزمان يضيق عن إمكان طيّ المسافة، فالإجارة فاسدة، ولو كان الزمان على قدر الإمكان، فالإجارة صحيحة.
وإن كان الزمان بحيث لو قيس بالمسافة، واعتبر الإمكان المقتصد لزاد (1) الزمان، فالاستئجار على حجة السنة جائزٌ، والحالة هذه. اتفق الأصحاب عليه، وهذا يعدّ من التوسع في الإمكان على مهَلٍ بلا عسر، وهذا بيّن في العادة.
2746- ولو استاجر معيّناً لحجة السنة، والخروج في الحال متعذِّرٌ، فقد ألحق العراقيون هذا بالاستئجار المقترن بالعسر، وذلك فاسد، كاستئجار الدار المغصوبة، ولا نظر إلى ارتقاب زوال العسر توقعاً لا ضبط له.
وقال شيخي: الاستئجار على الخروج في هجمة الشتاء، وازدحام الأنداء (2) ، جائز إذا كان الوصول ظاهرَ الإمكان، عند زوال هذه الموانع؛ فإن توقع زوالها مضبوطٌ، وقد رأيت الإشارة إلى منع ذلك في الإجارة الواردة على العين، وفيها تدبُّر الكلام. والسبب فيه أن الاشتغال بالعمل عسر في الحال، وليس كانتظار رفقة ستنشأ على قرب.
فهذا ما أردناه في الإجارة الواردة على العين، مع التقييد بحَجَّة السنة.
2747- فإن استأجر معيّناً على أن يحج السنةَ القابلة، والحجةُ ممكنة في السنة القريبة، سنةِ الإجارة، فالإجارة فاسدة عند الأئمة، نازلةً منزلة استئجار الدار الشهرَ القابل. وهذا قياسٌ بيّن في إجارة الأعيان عندنا، [فحقها] (3) أن تستعقب الاستحقاقَ من غير استئخار.
ولو كان الاستئجار من مسافةٍ شاسعة، لا يتوقع قطعُها في سنةٍ، فمن ضرورة
__________
(1) ساقطة من (ط) .
(2) الأنداء: جمع ندى، وهو من أسماء المطر، وهو المراد هنا. (المعجم) .
(3) في الأصل: فحقاً.(4/368)
تقدير الإجارة من مثل هذه المسافة أن يمر بالأجير زمانُ حجٍّ، وهو في الطريق، فلا منع والإجارة سائغةٌ، وذلك الحج القريب، إذا لم يكن ممكن الحصول، فلا حكم له، والنظر إلى تواصل السير، وهو من عمل الأجير، وإن لم يكن مقصود المستأجِر.
ولو استأجر رجلاً بعينه ليحج عنه، وأطلق الإجارة الواردة على العين، وكان الزمان الباقي من السنة بحيث يسع الحجَّ على يسر، فالإجارة المطلقة صحيحة، وهي محمولةٌ على الإجارة المقيّدة بحجة هذه السنة، فإن اتفق إيقاع الحج، فذاك، وإن أخرها الأجير، ولم يخرج، انفسخت الإجارة، كما لو تقيدت بحجة (1) هذه السنة، فالمطْلَقةُ مُنَزَّلةٌ على حكم المقيدة، وإذا حكمنا بالانفساخ، لم يخْف أن الأجير لو أتى بالحجة في السنة الثانية، لم تقع عن المستأجر.
فهذا تفصيل القول في تصوير الإجارة الواردة على العين.
2748- فأما الإجارة الواردةُ على الذمة، فتصويرها هيّن، وذلك أن يقول المستأجر لمن يخاطبه: ألزمتُ ذمتك حجةً تُحَصِّلها بكذا، فهذا جائز، وهو مطّردٌ في جملة الأعمال المنتحاة المقصودة بالإجارة.
ثم هذا القسم ينقسم إلى مقيد بالتأخير، وإلى مقيّدٍ بالتعجيل، وإلى مطلق.
فأما المقيد بالتعجيل، فهو سائغ؛ فإنه لا يمتنع ثبوتُ الشيء على حكم الدَّين حالاًّ، والدَّين ينقسم إلى الحالّ، والمؤجل.
ثم إذا كان الأمر كذلك، فإن اتفق الوفاء بتحصيل الحج في الأمد المضروب، فهو المراد.
وإن لم يحصِّل الملتزم ما التزمه في ذلك الوقت المعين، فقد ذكر الأئمة طريقين: أما العراقيون، فقد قطعوا القول بأن الإجارة لا تنفسخ، ولكن المعضوب المستأجِر يتخير في فسخ الإجارة؛ من حيث تعذر حصول مقصوده في الوقت المضروب،
__________
(1) (ط) : حجة.(4/369)
ولا تنفسخ الإجارة بنفسها، فإن الدَّين إذا تعذر في الوقت (1) المضروب، لم يُقْضَ بانقطاعه.
وقال شيخي وغيرهُ من أئمة المراوزة: في المسألة قولان مأخوذان من القولين في السّلَم إذا حل وجنس المسلَم فيه مُنقطعٌ 2) في أوان المَحِلّ، ففي ذلك قولان: أحدهما - أن السلم ينفسخ، والثاني - لا ينفسخ، وللمسلم الخيار: إن شاء فسخَ وإن شاء أَنْظَر إلى وجود الجنس المطلوب في مستقبل الزمان.
فقد حصلنا على طريقين. والمسألة محتملة التشبيه (3) بصورة القولين في السلم، ولا يبعدُ اعتقاد قطعها عن السلم كما ذكره العراقيون؛ فإن الحج كان ممكناً في تلك السنة، ولم يعم العسرُ أصلَه، حتى يُلحَقَ بانقطاع جنس المسلم فيه.
هذا كله في الإجارة الواردة على الذمة، إذا قيدت بالتعجيل (4) .
فأما إذا قيّدت بالتأخير، فقال المستأجر ألزمت ذمتك تحصيل الحجة في السنة الآتية الثانية، فهذا جائز وفاقاً.
والإجارة المطلقة الواردة على الذمة بمثابة المقيدة بالتعجيل، وقد سبق القول فيها.
2749- وذكر (5 الصيدلاني في صورة إجارة الذمة أن المستأجرَ إذا قال: ألزمت ذمتك أن تُحَصِّل لي حَجَّة بنفسك فالإجارة صحيحة، ومتضمّنها أن 5) يكون هو الحاج، ولا ينيبَ غيرَه مَناب نفسه، وهي من قسم إجارة الذمة، ثم مقتضاها أنها لو قيّدت بالحجة المنتظرة في السنة الثانية، صحت الإجارةُ كذلك؛ فإن الدَّيْن يقبل هذا.
وهذا زلل عظيم؛ فإن ربط الشيء بمعيّن، حتى لا يقوم غيره مَقامه، مع اعتقاد
__________
(1) (ط) : المحل.
(2) (ط) ، (ك) : ينقطع.
(3) (ط) ، (ك) : للتشبيه.
(4) ساقطة من (ك) .
(5) ما بين القوسين بياض في (ك) .(4/370)
التحاق ذلك بالديون، متناقضٌ، والإجارة الواردة على الذمة قسمٌ من أقسام السّلم، والسّلَم في ثمرة شجرة معينةٍ باطلٌ، لما بين التعيين والدَّيْنيّة من التناقض، و [هذا] (1) الذي ذكرناه منصوص الطرق في هذه المسائل (2) . ولكن ما ذكره الشيخ أبو بكر هو الذي حكيناه، وصار في تعليله إلى أن الناس لهم مقاصدُ في أعيان من يحج، فثبت الأمر على التعيين لذلك. فنقول: عافاك الله، فلنثبت هذا المقصودَ إجارةً واردة على العين؛ إذ لا امتناع في ورود الإجارة على العين. وكل من استؤجر عينُه، فحق عليه الوفاءُ بما التزمه، ففي كل إجارةٍ معنى الإلتزام.
فرع:
2750- قال العراقيون: إذا وردت الإجارة على الذمة، وتقيدت بالتعجيل، ثم لم يف الملتزم في ذلك الوقت، فالمستأجِر بالخيار في فسخ الإجارة، كما تقدم.
هذا إذا كان المحجوج عنه حياً معضوباً.
فأما إذا كان ميتاً، فقد قال العراقيون: لا خيار في فسخ الإجارة، وفرقوا بأن الحيّ إذا استأجر، ثم تعذر (3) الوفاء بالمطلوب، استفاد المستأجِر بالفسخ استرداد الأجرة، والتبسط فيها، وهذا لا يتحقق في حق الميت، فإن أجرة الأجير مستحقَّةٌ لتحصيل الحج، فلا انتفاع باستردادها.
وهذا الذي ذكروه فيه نظر، ولا يمتنع أن يثبت الخيار للورثة؛ نظراً للميت، ثم يستفيدون باسترداد الأجرة صرفَها إلى جهة هي أحرى بتحصيل المقصود.
فهذا منتهى القول في تصوير الإجارة. فإذا تصوّرت يقع الكلام بعد ذلك في فصول.
__________
(1) في الأصل: وهو.
(2) (ط) : المسألة.
(3) (ط) : تعدد.(4/371)
الفصل الأول
في الإعلام وتوقي الجهالة
2751- أما الحج، فلا حاجة إلى الإعلام [فيه] (1) ، فإن أعماله معلومة، فإن جهلها أحد المتعاقدين، أثر ذلك في إفساد الإجارة؛ إذ كون الشيء معلوماً، لغير العاقدين غيرُ كافٍ في تصحيح العقد، ولكن الغالب أن أعمال الحج لا تخفى، فجرت المسألة للشافعي بناء على الغالب.
واختلف نص الشافعي في أنه هل يشترط في صحة الإجارة إعلام الميقات الذي يُحرم الأجير منه؟ واختلف الأصحاب: فقال بعضهم: في وجوب إعلام الميقات قولان: أحدهما - يجب الإعلام؛ فإن المواقيت مختلفة [في] (2) المسافات، والأغراضُ تختلف بذلك، وكلُّ ما يختلفُ ويختلف الغرض باختلافه، فالتعرض له واجبٌ في العقد الذي يجب الإعلام فيه. والقول الثاني - أنه لا يجب إعلام المواقيت؛ فإنه لا وقع لاختلافها في الشرع، والإحرام من الميقات القريب، كالإحرام من أبعد المواقيت.
ومن أصحابنا من نزّل النصين على اختلاف حالين، وقال: إن لم يكن على الصَّوْب الذي يؤمّه الأجيرُ إلا ميقات واحد، فلا حاجة إلى التعرض له. وإن كان الطريق في ممره يتشعب ويزْوَرُّ، ثم تُفضي شُعْبة (3 إلى ميقاتٍ بعيدٍ وتفضي الأخرى 3) إلى ميقات قريب، فلا بد والحالةُ هذه من التعرض للإعلام.
وموجَب هذه الطريقة في تنزيل النصين على الحالين، يقتضي أن يقال: إذا اتحد الميقات في جهةِ ممر الأجير، فليس له أن يميل عنه، إلى جهة أخرى، ميقاتها أقرب من ميقات الممر المعتاد.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في الأصل، (ك) : والمسافات.
(3) ما بين القوسين ساقط من (ك) .(4/372)
وذكر العراقيون تنزيلاً آخر للنصين، فقالوا: إن كان الاستئجار من حيٍّ، فلا بدّ من التعرض لتعيين الميقات؛ فإن أغراض الأحياء تتفاوت وتختلف، وإن كان الاستئجار عن (1) ميت، فلا حاجة إلى تعيين الميقات؛ فإن الغرض تحصيل الحج للميت.
وهذا غير سديد، ولا يستدّ إلا تخريج المسألة على قولين؛ من جهة أنه اشترك فيها تفاوتُ تعب الأجير بطول المواقيت وقصرها، مع قضاء الشرع باتحاد الحكم في جميعها، فتضمن تعارضُ هذين المعنيين اختلافَ القول. فهذا ما أردناه في فصل الإعلام.
الفصل الثاني
في ارتكاب الأجير شيئاً من المحظورات في الحج، من غير إفساد
2752- فنذكر منها ما يتعلق بالإساءة في الميقات، ثم يَقيس الناظر ما عداه عليه.
فإذا انتهى الأجير إلى الميقات، فجاوزه مسيئاً، ثم أحرم، ولم يعد إلى الميقات، فيلزمه دم الإساءة، وينصرف الحج إلى المستأجِر، وهل نحط عن أجرة الأجير شيئاً، لتركه بعضَ العمل المستحَق عليه بالإجارة؟ فعلى قولين: أحدهما - أنا نحط قسماً من الأجرة، وهو المنصوص عليه هاهنا، وتعليله تركُه بعضَ العمل، والجبرانُ الذي يخرجه ليس عملاً مقابَلاً بالأجرة، وإنما المقابَل بالأجرة صورة (2) الأعمال، والفديةُ، لزمت الأجيرَ حقاً لله تعالى، لتركه حرمةَ الميقات، فلا تعلّق لما يجب لله بما يتعلق بحق الآدمي.
والقول الثاني - أنا لا نحط شيئاً من أَجْرِه على تفصيلٍ، سنذكره. ووجه ذلك أن المجاوزة إن كانت، نقصاناً، فالفدية جبران في الشرع، فإذا ثبت الجبران، فكأَنْ لا نقصان.
__________
(1) (ط) : من.
(2) (ط) : متصور.(4/373)
التفريع على القولين:
2753- إن قلنا: لا نحط لمكان الجبران الحاصل في مقابلة النقصان، فهل ننظر إلى قدر قيمة الدم، حتى نقيسَه بقدر الأجر في مقابلة العمل المتروك؟ اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: لا نعتبر ذلك، وهو الأقيس على هذا القول؛ لأن التعويل على حصول الجبران، فإذا قضى الشرع به من غير نظر إلى قدر القيمة، فلا ينبغي أن يكون بالقيمة اعتبار: زادت، أو تماثلت، أو نقصت.
ومن أصحابنا من اعتبر المقابلة، بين قيمة الدم وبين أجرة العمل المتروك.
ووجهُ هذا على غرض قائله لائح؛ فلا نتكلفه. فعلى هذا إن تماثلت قيمةُ الدم، أو زادت، فلا حط، وإن نقصت قيمة الدم عن أجر المتروك، جَبَرْنا مقدار القيمة، وحططنا الزائدَ من الأجر.
هذا إذا فرعنا على النظر إلى الجبران.
2754- وإن قلنا: أجر العمل المتروك محطوط، ولا التفات إلى ما جرى من جبران، فما المعتبر في كيفية التوزيع؟ واختلف أصحابنا في المسألة.
ولا يتأتى الوقوف على حقيقة الاختلاف إلا بتقديم أصلٍ مقصودٍ في نفسه، ومنه يبين الغرضُ، فنقول: إذا استأجر رجلٌ أجيراً ليحج عنه والخَرْجَة من نَيْسابور مثلاً، فإذا انطلق الأجير، وانتهى إلى الميقات المطلوب منه حجُّه عن مستأجِره، فلو أحرم بالعمرة عن نفسه، ودخل مكةَ، وطاف، وسعى، وحلق، ثم حج عن مستأجِره من جوف مكة، فالحجة تنصرف إلى المستأجِر، وفيما يستحقه الأجير قولان: أحدهما - توزع الأجرة المسماة على حجة تُفرض من الميقات، وعلى أخرى تُفرض من جوف مكة، فإذا قيل لنا: حجةٌ من الميقات تساوي عشرة، ومن جوف مكة تساوي تسعة، فقد تبينا أن بين التقديرين العُشرْ، وكان المطلوب من الأجير أن يحج من الميقات، فإذا حج من مكة، فقد ترك عُشر العمل، فنحطُّ عشرَ الأجرة المسماةِ على هذه النسبة، ووجه هذا القول أن المطلوب من الأجير الحجُّ، وابتداؤه من الإحرام، فليقع التوزيعُ من هذا المبتدأ.(4/374)
والقول الثاني - أنا نُدخل المسافةَ التي قطعها من البلدة التي خرج منها في الاعتبار، ونقول: حجةٌ منشأ سفرها من نيسابور، وإحرامها من ذاتِ عِرْق كم أجرُها؟ فيقال: عشرون. ثم نعود فنقول: حجة منشؤها من مكة، من غير فرض قطع مسافة إليها، كم أجرها؟ فقد يقال: ديناران، فبين التقديرين التسعة الأعشار.
فنقول: إذا صرف الأجير المسافة إلى عمرته، ولو أراد من غير فرض إجارة أن يعتمر عن نفسه، لكان سبيله أن يخرج على هذا الوجه، وإذا أدخلنا المسافة في الاعتبار، ثم صرفناها إلى جهة العمرة، فلا يبقى إلا مقدارُ العُشر على التقدير الذي ذكرناه، فله إذاً من المسمى عُشْرُه. وهذا الاختلاف ينشأ من أصلين: أحدهما - إدخال المسافة قبل الإحرام في الاعتبار، والآخر تقدير صرف السَّفْرة إلى العمرة.
هذا موجب أحد القولين.
وموجَب القول الآخر إخراج السَّفرة من الاعتبار، وردُّ النظر إلى الميقات ومكة.
2755- ومما يتفرع على هذا الأصل أنه لو اعتمر من الميقات، كما ذكرنا، ثم (1) لما قضى عمرته عاد، وأحرم بالحج عن مستأجره من الميقات، وهذه صورة يسقط فيها دم التمتع. ووجه تخريجها على القولين (2) المقدّمين أنا [إن] (3) اعتبرنا ما بين الميقات إلى انتهاء الحج، فيستحق تمام الأجرة لوفائه بتمام الحجة، وإن أدخلنا السَّفرة في الاعتبار، قلنا: حجة تجرد القصد إليها من نيسابور، وإحرامُها من ذات عِرق كم أجرتها؟ فيقال: عشرون. ثم نقول: حجة أنشئت من ذات عِرق، من غير قطع مسافةٍ إليها، كم أجرتها؟ فقد يقال: خمسة؛ فللأجير ربعُ الأجرة المسماة، ونُسقط ثلاثةَ أرباعها.
__________
(1) ساقطة من (ط) .
(2) (ط) : الوجهين.
(3) مزيدة من (ط) .(4/375)
2756-فإذا تمهد ما ذكرناه، عاد بنا الكلامُ إلى صورة الإساءة من الأجير.
فإذا انتهى إلى الميقات، وجاوزه، ثم أحرم من مكة مثلاً، فكيف التوزيع؟ وما المعتبر فيه، لبيان المحطوط من الأجرة؟ اختلف أصحابنا في المسألة، والاختلاف فيها متلقى مما قدمناه، ولكن لا ينطبق الخلاف على الخلاف؛ من جهة أنا تخيلنا في المسألة المقدّمة صرفَ السَّفرة إلى العمرة، وهذا المعنى لا يتحقق هاهنا؛ فإنه بإساءته، لم تخرج سفرته عن كونها ذريعة إلى حجته، ولكن أخل ببعض العمل المطلوب، فرجع منشأ الوجهين إلى إدخال السفرة في الاعتبار وإخراجها، فإذا في المسألة وجهان: أحدهما - أن نقول (1) : حجةٌ من الميقات إحرامُها، كم أجرتها؟ فيقال: (2 خمسة، فنقول: حجة من مكة إحرامُها، كم أجرتها؟ فيقال 2) : ديناران، فبينهما التفاوت بثلاثة أخماس (3 فيسقط من الأجرة المسماة ثلاثة أخماسها (3) . هذا أحد الوجهين، ومبناه على إخراج السفرة من الاعتبار.
والوجه الثاني - أن نقول: حجة قُصدت من نيسابور، والإحرام بها من ذات عرق (4) ، كم أجرتها؟ فيقال: عشرون. فنقول: حَجة قصدت من نيسابور، واتفق الإحرام بها من مكة، كم أجرتها، فيقال: تسعةَ عشرَ، والمسافة مندرجة في التقديرين، فبين الإحرام من الميقات، والإحرام من مكة دينارٌ من عشرين، وهو نصف العشر، فيسقط من الأجرة المسماة نصفُ عشرها.
ومما لا يخفى دركه على الفقيه، ولكن يحسن التنبيه عليه: أنا في الأصل المقدّم إذا أدخلنا السّفرة في الاعتبار، عظم مبلغ المحطوط؛ من جهة أن السفرة المعتبرةَ صرفَها الأجير إلى عمرة نفسه. وإذا [أدخلناها] (5) في هذه المسألة التي نحن فيها قلّ المحطوط؛ فإن السفرة محسوبةٌ له.
__________
(1) عبارة الأصل: أنّ من يقول.
(2) ما بين القوسين ساقط من (ط) .
(3) ما بين القوسين ساقط من (ط) .
(4) (ط) من مكة.
(5) في النسخ الثلاث: أدخلنا. والمثبت منّا؛ زيادة في الإيضاح.(4/376)
2757- ومما يتم الفصل به أن المستأجِر لو شرط على الأجير أن يُحرم من الكوفة، فإن وفى بها، فلا كلام، وإن جاوزها، فهل يلتزم دمَ الإساءة؟ (1 اختلف أئمتنا فيه، فذهب بعضهم إلى أنه لا يجب دم الإساءة 1) ؛ إذ الدمُ منوطٌ بميقات محترَمٍ شرعاً، وهو الميقات الموضوع المشروع، وليست الكوفة من المواقيت المشروعة.
وقال بعض أئمتنا: يجب على الأجير دمُ الإساءة، إذا جاوز الميقاتَ الذي عيّنه المستأجِر. وإلى هذا الوجه ميلُ طوائفَ، منهم الصيدلاني، ووجهه أن الميقات صار مستحَقاً، ومستندُ كل استحقاقٍ في العبادة يؤول إلى حكم الله تعالى، وقد قال أئمتنا: لو قال الناذرُ: لله علي أن أحج ماشياً، فحج راكباً، لزم دمٌ، وإن لم يكن (2) المشي مشروعاً قصداً إليه.
التفريع على الوجهين:
2758- إن حكمنا أنه بمجاوزة الكوفة لا يلتزم دماً، فننقص من أجرته وجهاً واحداً؛ إذ لا جُبران، وقد تحقق نقصان العمل المطلوب.
وإن قلنا: يلتزم الأجير دماً بالمجاوزة، فيعود الكلام إلى ما قدمناه من الاختلاف في الحط، والالتفات إلى الجبران، وقد مضى هذا.
2759- وتمام الفصل أن ما يلتزم به الأجير دماً ينقسم إلى ارتكاب محظور، أو ترك مأمور، فأما ما كان من ارتكاب المحظور، فلا ينتقص بسببه من أجره شيء، من جهة أنه لم ينقص من العمل، وإنما جنى جنايةً موجَبها الكفارة.
فأما إن ترك مأموراً به، مثل أن يجاوز الميقات، أو يترك الرمي، أو ما أشبه ذلك، فالتزم الدمَ، فهل يحط عن أجره شيء؟ فيه الخلاف المقدم.
وقد نجز ضبط المقصود من هذا الفصل.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ك) .
(2) (ط) : يلزم.(4/377)
الفصل الثالث
في موت الأجير في الحج وقبله
2760- الكلام في هذا الفصل يستدعي تقديمَ القول في أصل مقصود، وهو أن الإنسان إذا كان يحج عن نفسه، فمات أثناء الحج، فهل يُتَصَوَّر البناء على حجه؟ حتى يفرضَ استنابةُ نائب يقوم مقامه في بقية الأعمال؟ في المسألة قولان: أحد القولين - أن ذلك لا يسوغ؛ فإن العبادة واحدةٌ، فتعلّقها بشخصين محالٌ، وسيتضح عُسر ذلك في التفريع.
والقول الثاني: إنه جائز؛ فإنه إذا أمكن إنابة شخص في كل العبادة، مَناب شخص، لم يبعد ذلك في البعض.
التفريع على القولين:
2761- إن قلنا: لا سبيل إلى البناء، فكما (1) مات الخائض في الحج، انقطع العمل، وحَبِط ما قدمه، ويجب تحصيل حجة تامة، من تركته إذا كان قد استقرت الحجة في ذمته.
وإن قلنا: إن البناء مُسوَّغ، فنذكر صورتين: إحداهما - أن يموت قبل الوقوف.
[والثانية - أن يموت بعده.
فإن مات قبل الوقوف] (2) فسبيل الإنابة عنه أن يستأجر من يُحرم ابتداءً، ويقفُ ويتمادى إلى آخر الحج، على ترتيبه، ثم قد يقع هذا الإحرام من قُرب المعرَّف (3) ، ولا بأس؛ فإن من ينصرف هذا إليه قد كان أحرم من الميقات قبل الممات، وذلك معتد به.
__________
(1) " كما " بمعنى عندما.
(2) ساقط من الأصل
(3) اسم مكان من (عرَّف) إذا أقام بعرفة، وأدى نسكها.(4/378)
2762- فأما إذا مات بعد الوقوف بعرفة، فليتأمل الناظر عند ذلك ما يُلْقَى إليه؛ فإنه مظنة إشكال، وقد اضطربت الطرق لأجله: قال العراقيون: المستناب لا بد وأن يُحرم؛ فإن بقية الأعمال لا تتأتى إلاّ من محرم، والإحرامُ بالحج -وقد انقضى أشهر الحج بطلوع فجر يوم النحر- محالٌ، على مذهب الشافعي.
قالوا: فالوجه أن يحرم المستناب بعمرة، ويطوفَ، ويسعى، وكان بقي على الذي مات الطوافُ والسعي ركنين، فيقع طوافُ المستناب المعتمِر وسعيُه سادّاً مسد الطوافِ والسعي، اللذين كانا بقيا على الميت مع حجه، والمستناب ينويه بالعمرة.
وهذا فيه إشكال ظاهر؛ من جهة أن العمرة يبعد أن تسد مسد الحج.
وذكر المراوزة مسلكاً آخر، فقالوا: المستناب يُحرم بالحج إحراماً ناقصاً، وزعموا أن تجويز الاستنابة لا يطَّرد إلاّ على تجويز ذلك، ثم هؤلاء قالوا: الإحرام بالحج إنما يمتنع في غير أشهر الحج إذا كان إحراماً تامّاً، فأما الإحرام الناقص، فلا امتناع فيه. وهذا كما أن الإحرام الناقص يبقى دائماً مع [انقضاء] (1) أشهر الحج، فتقدير الابتداء على النقصان كتقدير الدوام.
ْثم من سلك مسلك العراقيين، ذهب إلى أن المستناب المعتمرَ، لا يبيت ولا يرمي، ولا يأتي بشيء من مناسك منى؛ فإنها أتباعُ انتهاء الحج. والعمرة لا تقتضي شيئاً من ذلك.
ومن قال من المراوزة: إن المستناب يُحرم إحراماً ناقصاًً ببقية الحج، فالمستناب يأتي بمناسك منى؛ فإنه في الحج. وذكر هؤلاء أنه لو مات الحاج بعد أن تحلل أحدَ التحللين، فالمستناب يأتي بإحرامٍ حُكْمه أن لا يَمنَع اللُّبسَ والقَلْمَ على التفصيل المذكور.
وهذا جارٍ على قياسهم.
2763- ولو مات الحاج بعد التحللين، فلست أرى على قياسِ المراوزة وجهاً لجواز الاستنابة في المناسك الواقعة وراء التحللين؛ فإن ذلك لا يتأتى إلاّ ممن سبق
__________
(1) ساقط من الأصل، (ك) .(4/379)
منه إحرام، ثم هذه المناسك تتبع الإحرام السابق. فأما الإتيان بها من غير تقدّم إحرامٍ، فبعيد. هذا ما أراه.
فالوجه الرجوع فيها إلى أبدالها، وهذا أولى فيها من اقتحام مُحالٍ، وليس كالطواف والسعي؛ فإنه لا بدل لهما، فاضطررنا إلى تصوير الإنابة.
فهذا منتهى قولنا في البناء على الحج.
2764- والآن نعود بعد نجازه إلى تفصيل القول في موت الأجير في أثناء الحج، فنقول: إن كانت الإجارة متعلقةً بعين الأجير، ومات الأجير في أثناء الحج، فالغرض مأخوذ من جواز البناء وامتناعه.
فإن قلنا: البناء ممكن، فيُتَصَوّر من المستأجِر أن يستأجر أجيراً ليأتي ببقية أعمال الحج، فإذا كان ذلك ممكناً، فعمل الأجير الأول غيرُ محبَط، فلا شك أنه يستحق قسطاً من الأجرة.
وإن قلنا: البناء غير ممكن، فهل يستحق ورثة الأجير قسطاً من الأجرة؟ فعلى قولين: أحدهما - أنهم لا يستحقون، لأنه لم يَحْصُل للمستأجِر أمرٌ معتدٌّ به، وما جاء به الأجير قد حَبِط، وسقط أثره.
والقول الثاني - إنه يستحق قسطاً من الأجرة، لإتيانه ببعض العمل المقصود، وقد فعل الأجير ما في وسعه.
التفريع:
2765- إن قلنا: لا يستحق شيئاً، فلا كلام، وإن قلنا: يستحق، ففي كيفية التوزيع وجهان: أحدهما - أن التوزيع يقع من الإحرام إلى حيث انتهى، ولا نُدخل السَّفرة في الاعتبار. والوجه الثاني - أنا نُدخلها في الاعتبار؛ فيكثر على هذا التقديرِ المستحقُّ.
هذا والإجارة على العين.
2766- فأما إذا كانت الإجارة واردةً على ذمة الأجير، فإذا مات في أثناء الحج، فلا تنقطع عُهدة الإجارة عن تركته. فإن قلنا بالبناء، فورثة الأجير يستنيبون من يتمّم الحج، وإذا تم، استحقوا الأجرة المسماة على المستأجِر.(4/380)
وإن قلنا: لا بناء، فقد حبط عمل الأجير، وعليهم أن يحصّلوا حجةً عن المستأجِر من تركته؛ فإن الحج دينٌ في ذمته، والديون مقدَّمةٌ على الميراث، وحقوق الورثة. وكل ما ذكرناه فيه إذا مات الأجير بعد الشروع في الحج.
وقد ذكر صاحب التقريب أنا لو فرضنا الموت قبل الوقوف، فإذا استأجرنا أجيراً ليحرم، ويقف، فهذا ليس بناءً على إحرام الأجير، ولكنه إحرام على التمام، مبتدأ.
وإن وقع الموت بعد الوقوف؛ فإذ ذاك يتصور البناء.
وهذا وجه مزيف، وهو بالعكس أولى؛ فإن الإحرام قبل الوقوف إحرامٌ في أشهر الحج، وهو صحيح، والإحرام بعد فوات الوقوف واقعٌ في الخبط الذي ذكرناه، بين العراقيين والمراوزة.
2767- فأما إذا مات الأجير قبل التلبس بالحج، فهل يستحق الأجير شيئاً، على مقابلة نَصَبه في قطع المسافة؟
[إن قلنا في التفاصيل السابقة: لا تُدرج المسافة] (1) في الاعتبار، إذا وقع [الموتُ] (2) بعد الشروع في الحج، فلأن لا تعتبر المسافة قبل الشروع في الحج أولى، ولا يستحق الأجير شيئاً إذا مات قبل الإحرام.
وإن قلنا: المسافة مندرجة في الاعتبار في [حق] (3) الشارع في الحج، فهل تعتبر في حق من مات قبل الشروع في الحج؟ المذهب أنه لا تعتبر، ولا شيء للأجير.
وذكر بعضُ أصحابنا قولاً بعيداً: أنه يستحق الأجرة بقدره (4) حتى لا يحبَطَ عملُه. ثم لا يخفى سبيلُ التوزيع إذا كنا نعتبر المسافة.
وحاصل القول في هذا راجعٌ إلى أن قطعَ المسافة ذريعةٌ (5 إلى الحج، فإن اتصل بالحج، فقد وقعت المسافة ذريعة 5) فاختلف الأصحاب في أن الذريعة هل تعتبر كما
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) ساقط من الأصل.
(3) ساقطة من الأصل.
(4) (ط) : بقدر. (ك) : مقدّرة.
(5) ما بين القوسين ساقط من (ط) .(4/381)
تقدم. فأما إذا فُرض الموتُ قبل ملابسة الإحرام، فقد ضعف تقدير المسافة ذريعةً؛ من حيث لم تُفضِ إلى المقصود.
وبالجملة في الاستئجار على الحج نوعُ مضاهاة للجعالة؛ من جهة كون العاقبة مَغيبَةً (1) ، والمسافةُ ليست مقصودة، ولا بد منها، وكأنها إذا قطعت، ثم وقع الموت يضاهي قطعُها أعمالَ المقارِض، إذا لم تتصل بربح. وهذا نجاز الفصل.
الفصل الرابع
في أحكام الإجارة
2768- ومقصوده الكلام في موافقة الأجير المستأجِر في الجهة المعينة لأداء النسك، وفي مخالفته له، فنقول:
إذا استأجر من يقرُن عنه، فقَرَن، فقد وفّى وأدّى ما استؤجر له على الوفاق، فيستحق تمام الأجرة بلا خلاف. واختلف الأصحاب في أن دم القران على من؟ فذهب الأكثرون إلى أنه على المستأجر؛ فإن القِران انصرف إليه بإذنه، فكأنه القارن بنفسه.
ومن أصحابنا من قال: الدم على الأجير؛ فإنه تتمة القِران، وقد التزم، أن يقرُن، فَلْيَفِ بتمامه، ثم سواء قلنا: الدم على المستأجر، أو قلنا: هو على الأجِير، فأجرته ثابتة؛ من جهة امتثاله الأمر.
2769- ولو استأجره [ليُفرِد] (2) ، فقرن، وقع الحج والعمرة عن المستأجر اتفاقاً.
فإن قيل: لِمَ كان كذلك؟ وما روعي في أصله الإذن والأمرُ، روعي في تفصيله
__________
(1) أي غَيب: من غاب الشيء، يغيب، غَيباً، وغيبة، وغِياباً (بالكسر) ، وغُيوباً، ومغيباً، فهو غائب. (المصباح) .
(2) في الأصل: ليقرُن.(4/382)
ذلك أيضاً، والذي جاء به الأجير ليس ما أمر به المستأجر؟ قلنا: إذا كان المرء يحج، ويعتمر عن نفسه، فهو منهيّ عن ارتكاب المحظورات، مأمور بإقامة الأبعاض وتأديتِها، من جهة الشارع، فلو خالف (1) النهي والأمر، ولم يأت بمفسد، وقع النسكان موقعهما؛ وبرئت الذمة منهما، ثم الشرع متبع فيما يوجَب ويستحب من جبران، فجرى مخالفةُ الأجير المستأجِر [هذا] (2) المجرى، مع تحصيل أصل النسكين.
وهذا يتم بلطيفةٍ فائقة (3) في الفقه: وهي أن المستأجِر ليس يحصّل الحج لنفسه، وإنما يحصلُه ليقع لله تعالى، فجرت مخالفةُ الأجير مجرى مخالفة الشرع.
فإذا تمهد هذا، قلنا: بين الإفراد والقِران تفاوت بيّن: في الفعل، والميقات، فإذا استأجره ليُفرد، فقرن، فقد ترك مزيداً مستدعى منه، فهل يحط من أجرته؟ القول في ذلك كالقول فيه إذا أساء الأجير وجاوز [الميقات] (4) ، وقد تفصّل المذهب في هذا النوع على أحسن مساق.
2770- ولو أمره بالقِران، فتمتع، ففي القِران نقصان في الأفعال وإتيان بالحج من الميقات الأقصى، وفي التمتع كمالٌ في الأفعال، ونقصان في الميقات، فمن أصحابنا من قال: المأمور بالقِران إذا تمتع، فهو كما لو قرن [لتقارب] (5) الجهتين، فكأنه لم يخالف. ومنهم من جعله مخالفاً، وهو ظاهر القياس.
فإن لم نجعله مخالفاً، فلا كلام، وفي وجوب الدم الخلاف المقدم: ففي وجهٍ هو على (6 المستأجر، وفي وجهٍ هو على 6) الأجير، كما لو استأجره للقِران، فقرن.
فإن جعلناه مخالفاً، فالدم على الأجير وجهاً واحداً، ثم الزيادة التي أتى بها في تمتعه
__________
(1) أي الأجير خالف أمر المستأجِر ونهيه.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) (ط) : رائقة.
(4) ساقطة من الأصل.
(5) في الأصل: لتفاوت.
(6) ما بين القوسين ساقط من (ط) .(4/383)
لا تحسب له في تكميل أجْره؛ فإنه لم يكن مأموراً فيه؛ فنجعل المتمتع كالمسيء، [وقد مضى الخلاف في أنّا هل نحط من أصل أجر المسيء] (1) .
فإن قيل: إنما يفرض الحط على القول به إذا كان بين الفعل المطلوب وبين (2) الذي يأتي به الأجير تفاوت، كما قدمناه في المسيء، ولا تفاوت بين فعلي القارن والمتمتع، وقد يكون فعل المتمتع أكمل أجراً، قلنا: نحط ما في جهة التمتع من مزيد في العمل، ثم نعتبر وراء ذلك الحط تقديراً للتفاوت المقدر، فيتفاوت الأمران. فإن قيل: لو لم يظهر تفاوت مع ما ذكرتموه؟ قلنا: فلا حطَّ إذا كان كذلك.
الفصل الخامس
في إفساد الأجير الحجَّ بالجماع، مع ذِكْر ما يتصل بالإفساد في معناه
2771- فنقول: إذا شرع المستأجر في الحج الذي استؤجر عليه، ثم أفسده بالجماع، انقلب الحج الفاسد إلى الأجير، ولم يكن بعد الفساد مضافاً إلى المستأجر أصلاً؛ فإن الحجة المطلوبة لا تحصل بالحجة الفاسدة، وليس كما إذا ارتكب الأجير محظوراتٍ غيرِ مفسدة؛ فإن الاعتداد يقع بمثل هذا الحج شرعاً، فوقع الاعتداد به في طلب المستأجِر، والحج لله تعالى، وإن اختلفت الإضافات. والحجةُ الفاسدة لا تبرئ ذمةً، ولا تقع موقع الاعتداد. ثم إذا انقلب الحج بالفساد إلى الأجير، فيلزمه قضاؤها.
2772- والقول بعد ذلك يستدعي الفصلَ بين أن تكون الإجارة واردةً على عين الأجير، وبين أن تكون واردةً على ذمته، وكان قد لابس الحج بنفسه، لتبرأ ذمته.
فإن كانت الإجارة واردةً على عين الأجير، فإذا فسدت الحَجّة، وانقلبت إلى الأجير، انفسخت الإجارة ولا يتصور في إجارة العين إقامةُ مدةٍ مقام مدة، حتى يقال: إن فسدت الحجة في هذه السنة، فالأجير يأتي بحجة في السنة القابلة.
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(2) كذا. بتكرير (بين) مع الاسم الظاهر، وهو خلاف المشهور، ولكنه واردٌ سائغ.(4/384)
فلا (1) وجه [إلا انبتات] (2) الإجارة (3) وارتداد الأجرة.
فأما إذا كانت الإجارة واردةً على الذمة، ثم فسدت الحجة (4 على الأجير 4) فلا شك أن القضاء يلزمُه، فإذا أتى بالحج في قابلٍ، فهل نقول: هذا القضاء يقع عن المستأجِر؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يقع عنه؛ فإن القضاء عمّن الحجُّ الفاسد عنه، وقد تحقق انصراف الحج الفاسد إلى الأجير، فليكن القضاء عنه (5) . ثم في ذمته حَجةٌ عن المستأجر.
ومن أصحابنا من قال: القضاء ينصرف إلى المستأجِر، وكأن الحجة الفاسدة لم تسبق، ولا سبيل إلى إنكار انعقاد أصل الحج الأول عن المستأجِر، فليرتبط القضاء به، حتى نقدِّرَكأن الفساد لم يتخلل.
والأقيس الوجه الأول.
2773- ومما يجب التنبه له إذا انتهى الكلام إلي هذا المنتهى أن من كان في ذمته حجة واجبة لله تعالى، فلا يتصوّر منه التطوع بالحج، على مذهب الشافعي، ولو فرض قصد التطوع، لانصرف الحج [المنعقد] (6) إلى الجهة المستحَقة.
وكان شيخي يقول: الأجير الذي في ذمته حجة مرسلة، لو نوى التطوع بحج، فالذي جاء به ينصرف إلى ما عليه من الحج لمستأجِره (7) .
وهذا مما انفرد به، ولم يساعده عليه أحد، وذلك لأنا نقدم واجب الحج على نَفْله، لأمير يرجع إلى نفس الحج، مع بناء الأمر على تقديم الأوْلى [فالأوْلى] (8) في
__________
(1) في (ط) : ولا وجه.
(2) في الأصل: ذهبت عوادي الزمن بنصف الحروف. و (ط) : " للانبتات "، و (ك) " إلا إثبات ". والمثبت تقديرٌ منا رعاية للسياق.
(3) في (ط) : والإجارة (بزيادة واو) .
(4) ما بين القوسين ساقط من (ط) .
(5) عنه: أي عن الأجير، وهذا هو الأصح. قاله النووي (ر. المجموع: 7/134) .
(6) في الأصل: المتعبّد.
(7) (ط) : بمستأجره.
(8) ساقطة من الأصَل. وفي (ك) : " والأولى "، والمثبت من (ط) .(4/385)
مراتب الحج. والاستحقاقُ على الأجير ليس من خاصية الحج. ولو ألزم ذمته [ما لا] (1) يلزم مثله، لكان حكم الوجوب فيه، كحكم الوجوب في الحج (2) . والذي يوضح ذلك أن الحجة قد تكون تطوّعاً من المستأجِر -إذا جوزنا الاستئجار في حج التطوع- فلاح أن ذلك اللزوم ليس من قضايا الحج.
هذا قولنا في إقدام الأجير على المفسد.
2774- ومما نذكره متصلاً بذلك: أن الأجير لو صُدّ، وأُحصر؛ فتحلل، فالقول الوجيز فيه أن طريان الإحصار عليه، والإجارةُ واردةٌ على عينه، بمثابة طريان الموت، وقد سبق القول فيه (3) مفصلاً، في البناء وإمكانه، إن تُصوّر البناء، وانجلى الحصر.
ويعود حكم استحقاق شيء من الأجرة، والقول الجامع ما ذكرناه من تنزيل الإحصار، والتحللِ الطارئ بسببه، منزلة طريان الموت.
2775- ولو لابس الأجير الحجَّ، ففاته الوقوفُ، فالذي ذهب إليه معظم الأصحاب أن الفوات ينزل منزلة الإفساد، والسبب فيه أنه يوجب القضاء، كما يوجبه الإفساد، ويخرج الحج بالفوات عن حقيقته، وإن كان لا يتصف بالفساد.
__________
(1) في الأصل: " ما يلزم " وفي (ط) : " مالاً يلزم " والمثبت من (ك) ، بقراءة (ما لا) كلمتين، أي (ما) الموصولة، (لا) النافية، وسوّغ لنا ذلك أنها لم تُنوِّن (مالاً) .
(2) هذه العبارة يُكمل بها الإمامُ الردّ على شيخه، ويستدلّ بها على خطأ ما يراه، ومعنى العبارة: أن المستأجر لو ألزم ذمَّةَ الأجير ما ليس يلزمه بغير إلزامه إياه، كأن يُلزمَ ذمتَه استصناع ثوبٍ مثلاً، فليسَ هناك ما يمنع من أن يصرفه إلى نفسه، وتبقى ذمته مشغولة بثوبٍ آخر يصنعه للمستأجر، أي لا أوّلية هنا للوفاء بالملتَزَم، فكذلك لو ألزم ذمته حجةً، فله أن يحج عن نفسه تطوعاً، ثم يحج عن المستأجر، ولا يدخل هنا تقديم الفرض على التطوع؛ فإن ذلك يرجع لمعنى يخص الحج، وإلزام الشرع به المكلف ليس كإلزام المستأجر للأجير.
ثم أكد الإمام هذا المعنى بفرض المسألة في الاستئجار لحج التطوع، فالأجير المستأجر لحجة تطوع إذا أفسدها، فانصرفت له، فإذا قضاها، فهي للمستأجر تطوع، وللأجير تطوع، فبأي وجه نقول: المستأجر بها أولى؟؟
(3) ساقطة من (ك) .(4/386)
فالترتيب إذاً كالترتيب، ولا يستحق الأجير شيئاً من الأجرة على مقابلة عمله قبل الفوات.
وذكر العراقيون وجهاً بعيداً في إجراء الخلاف في إثبات قسطٍ من الأجرة على مقابلة ما جرى من العمل، قبل الفوات. وهذا بعحِد لا أصل له.
وانحصر القول وراء ذلك في محظورٍ لا يوجب القضاء، وقد مضى منقسماً إلى ترك المأمور، وارتكاب المنهي، وإلى محظور يفسد كالوقاع. وقد أجرينا الكلام في الموت وحكمِه، ثم ألحقنا آخراً الإحصارَ بالموتِ، والفواتَ بالإفساد.
الفصل السادس
يجمع مسائل متفرقة شذت عن ربط الأصول
2776- منها أن من استأجر أجيراً ليحج عنه، فقرن الأجير، ونوى بالعمرة نفسَه، وبالحج مستأجِره.
أما العمرة، فإنها تنصرف إلى الأجير؛ فإنه نوى نفسَه بها، وما استؤجر عليها.
وأما الحج، فالأصح أنه ينصرف إلى المستأجِر.
وذهب بعضُ أصحابنا إلى أنه ينصرف إلى الأجير؛ فإن الإحرام في حق القارن متّحد، لا يقبل الانقسام، فيستحيل أن يتعلق بعضُ حكمه بالأجير، وبعضه بالمستأجر، ويستحيل انصرافُ العمرة إلى المستأجر.
والأصح الوجه الأول؛ فإنه إذا (1) لم يمتنع اشتمال الإحرام على نسكين، لم يمتنع تعدد مَصْرِفهما. ولو استاجره زيد ليحج عنه، واستأجره عمرو ليعتمر عنه، فقرن ونوى بالحج زيداً، وبالعمرة عمراً، ففي المسألة وجهان: أصحهما - أن النسكين مصروفان إلى المستأجرَيْن. والثاني - أن ذلك ممتنع، لاتحاد الإحرام، ثم إذا امتنع انصراف النسكين إلى المستأجرين، فلا وجه إلا انصرافُهما إلى الأجير.
__________
(1) (ك) إنما.(4/387)
2777- ومما يتعلق بذلك أنه لو استأجره زيدٌ على أن يحج عنه، فقرن ونوى بالحج والعمرة جميعاً زيداً، فقد زاده نسكاً، لم يستأجره عليه.
واختلف نص الشافعي في ذلك، فمن أصحابنا من قال في المسألة قولان:
أحدهما - أن العمرة تنصرف إلى المستأجِر، ويتنزل ما زاده الأجير منزلةَ ما لو قال الرجل لوكِيله بع عبدي (1) هذا بألف درهم، فباعه بألفين، فالبيع صحيح، والثمن بكماله يدخل في ملك الموكِّل بالبيع.
والقول الثاني - أن العمرة لا تقع للمستأجر؛ فإنه لم يتعرض لها، وليست من جنس الحج أيضاًً على الإطلاق. ومن قال [بالأول] (2) ينفصل عن هذا، ويقول: أعمال القارن لا تزيد على أعمال من يُفرد حجَّه، وكأن العمرة صفةٌ وفضيلة للحج.
والقولان يقربان من القولين فيه إذا سلم الرجل ديناراً إلى وكيله، وأمره أن يشتريَ به شاة وصفها، فاشترى الوكيل شاتين بالدينار، كل واحدة على نعت الموكِّل. وفي ذلك اختلاف قولٍ سيأتي إن شاء الله تعالى، في كتاب الوكالة.
ومن أصحابنا من قال: النصان في العمرة منزلان على حالين: حيث قال: " لا تنصرف العمرة إلى المستأجِر "، أراد بذلك إذا لم يجر منه ما يتضمن رغبةً في العمرة.
وحيث قال: " تنصرف العمرة إليه "، أراد إذا كان رغب فيها، فامتنع الأجير ووقع [التقارّ] (3) على الحج [لإباء الأجير] (4) ، لا لانصراف المستأجِر عن إرادة العمرة. فإذا بدا للأجير والحالةُ هذه أن يحصّل العمرة له، فإنها تنصرف إلى المستأجِر.
ثم حيث نقول: تنصرف العمرة [إلى المستأجر] (5) ، فلا كلام، وحيث نقول: إنها تنصرف إلى الأجير، فيعود الخلاف في أن نسكي القِران هل يجوز أن يتعدد مصرفاهما؟ وقد مضى هذا.
__________
(1) (ط) : عني.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) في الأصل، (ك) : النعتان.
(4) في الأصل، (ك) : إلا بالأجير.
(5) ساقط من الأصل.(4/388)
2778- ومن المسائل أنا إذا جوزنا الاستئجار على التطوّع، فلو استأجر رجلٌ طائفةً من الأجراء حتى يحصّلوا له حِجَجاً في سنةٍ واحدة، فقد اختلف أصحابنا، فمنهم من قال: تصح الحجج، وتنصرف إلى المستأجِر. ومنهم من قال: لا ينصرف إلى المستأجر أكثرُ من حجة واحدة، فإن سبقت واحدةٌ بالعقد، فهي المنصرفةُ إليه، وإن وقع العقد بجميعها معاً، فليس بعضها أولى من بعض، فلا ينصرف شيء منها إليه.
وقد يختبط [فكر] (1) الفقيه في الإجارات، وليس ذلك من غرضنا؛ فإن الإذن كافٍ في هذا الباب.
ومن منع انصراف حجتين إليه، فصاعداً، اعتل بأن ذلك لا يتصوّر منه، على حكم المباشرة، وهي الأصل، والنيابة في حكم البدل؛ إذ لا مصير إليها [إلا] (2) مع العجز عن الأصل.
والأصح انصراف الحج إليه، وإنما يظهر الخلاف فيه إذا استأجر في سنة (3 واحدة أجيرين بحجتين، وما كان حج حجّ الإسلام، فلو صرفنا 3) الحجتين إليه فإحداهما تطوّع، وحكم التطوع أن يستأخر عن الفرض.
ويجوز أن يقال: حكمه أن لا يتقدم على الفرض، ولا يضر أن يجامعه، إذا تُصوِّر الأمر على ما ذكرناه.
2779- ومن المسائل مسألة نقلها المزني عن الشافعي في المنثور (4) ، فقال: إذا قال المعضوب: من حج عنّي، فله مائة دينار، فإذا حج عنه إنسان، وقع الحج عن القائل، واستحق من حج عليه المائة. ولما نقل المزني هذا، خالفه، وبالغ في تزييفه، وقال: كيف تصح هذه المعاملة، مع إمكان الإجارة، ومعلوم أن الجعالة إنما تثبت للضرورة، في مثل رد الأُبّاق من العبيد، والشرّاد من الدواب؛ فإن الضبط
__________
(1) في الأصل: قلب.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) ما بين القوسين بياض في (ك) .
(4) المنثور: كتاب للمزني.(4/389)
غير ممكن في هذه المواضع، فأثبت الشرع الجعالة (1 مع الجهالة 1) على حسب مسيس الحاجة. وما ذكره المزني ظاهرٌ متجه.
وخرّج أصحابنا من نص الشافعي تجويزَ الجعالة في كل موضعٍ تصح الإجارةُ فيه، حتى لو قال: من خاط ثوبي هذا، فله درهم، فمن خاطه استحق الدرهم. وسأذكر هذا مستقصىً في كتاب الإجارة.
ثم وإن مال معظم الأصحاب إلى ما ذكره المزني من فساد هذه المعاملة، قَضَوْا بأن [أثر] (2) فسادها في سقوط المسمى، فأما إذا حج إنسان عنه، وقد ثبت منه هذا القول، فالحج ينصرف إليه، وللحاج أجرُ مثله، وطردوا هذا فيه، إذا قال: من خاط ثوبي هذا، فله درهم، فإذا خاطه إنسان، استحق أجرَ المثل، وهذا يَقْوَى بشيء، وهو أن الإذن المجرد كافٍ في انصراف الحج إلى الآذن، من غير ذكر عِوضٍ على الصحة. والذي ذكره إذنٌ.
وقال شيخي أبو محمد: لو قال وكلت كلَّ من أراد أن يبيع داري هذه، فالتوكيل على هذا الوجه باطل عند القفال، على ما سنذكر أصل ذلك في كتاب الوكالة، إن شاء الله تعالى. فلا يمتنع أن يحكم (3) بفساد الإذن إذا قال: من حج عني؛ فإن الإذن على هذا الوجه ليس موجهاً على شخص، ولا يتصور توجّه الإذن على جمع، والمراد واحد منهم (4) .
2780- ولو استأجر رجلٌ رجلاً ليحج عنه بأجرةٍ فاسدة، أو فسدت الإجارة بشرطٍ فيها يتضمن إفساد العوض، فالذي رأيته للأصحاب القطعُ بأن المستأجَر إذا حج عن مستأجِره على حكم هذه الإجارة، انصرف الحج إلى المستأجِر. وهذا حسنٌ متجه، لصحة الإذن، وهو بمثابة التوكيل بالبيع، مع شرط عوض للوكيل، فالإذن صحيح، والعوض فاسد، وهذا يظهر جريانه فيما يكتفى فيه بالإذن المجرد، والحج كذلك.
__________
(1) ساقط من (ط) .
(2) مزيدة من (ط) .
(3) ساقط من (ط) .
(4) ساقطة من (ط) .(4/390)
الفصل السابع
في جريان العقد على خلاف اعتقاد العامل
2781- وذلك إذا استأجر رجلاً ليحج عنه، فأحرم عن مستأجِره، ثم صرف الإحرام إلى نفسه، على ظن أنه ينصرف إليه، ثم تمادى في الأفعال مستديماً هذا الظن، فالحج ينصرف إلى المستأجِر. وهل يستحق الأجير الأجرة؟ فعلى قولين: أصحهما - أنه يستحق لحصول الحج له، وصحة العقد في الابتداء، فلا يبقى إلا اعتقادٌ فاسد، والاعتقاد الفاسد لا يغير حكمَ العوض.
وبنى أئمتنا هذا على ما إذا دفع ثوباً إلى صبّاغ ليصبغه، فجحد الثوبَ، وصمم عزمه على الاستبداد بالثوب، ثم إنه صبغه لنفسه، ثم بداً له أن يردّه، فهل يستحق الأجرة على المالك؟ فعلى قولين.
وكذلك إذا استأجر رجلاً ليعمل في المعدِن (1) ، وجعل أجره ما يستفيد من النَّيْل، وكان عمله لا يُصلح المعدن، وإنما الغرض منه النَّيل فحسب، وليقع الفرض في معدنٍ (2) مملوك، فالنيل لمالك المعدِن. وفي استحقاق العامل الأجرة وجهان: أحدهما - أنه يستحقها، لوقوع العمل لمالكِ المعدن. والثاني - لا يستحقها، لأنه يقصد بالعمل نفسَه، وسيأتي ذلك في موضعه مستقصًى إن شاء الله تعالى.
الفصل الثامن
2782- مضمونه يتعلق بطرف من الكلام في الوصايا، وهو من أهم ما يجب الاعتناء به، وقد رأيت إيراد المقاصدِ منه في مسائلَ مرسلةٍ، فنقول:
2783- إذا استقر على الرجل حجةُ [الإسلام] (3) ، والجريانُ على القول الأصح في
__________
(1) المعدن: مكان استخراج المعادن بمعنى (المنجم) .
(2) (ط) في نيلٍ.
(3) ساقطة من الأصل.(4/391)
أن الحج دَيْنٌ من رأس المال، أوصى به، أو لم يُوصِ.
فإذا قال: أحجّوا عني فلاناً بمائة -والحج حجُّ الإسلام- فالقول في ذلك ينقسم: فإن كان المائة أجرَ مثله، ولم نجد من يحج عنه بأقلّ من ذلك، واعتقدنا هذا المبلغ أقلَّ أجرة المثل، فتنفذ وصيته؛ فإنا لا ننكر أن يكون له غرضٌ فيمن عيّنه، في تقواه أو ورعِه، ووقوع دعائه موقع الاستجابة في تلك المشاعر المعظمة. هذا غرض بيّن، فَلْتُنَفَّذ الوصية له.
ولو وجد الورثة من يحج عنه بخمسين، وكانت أجرة مثل ذلك الذي يحج [خمسين] (1) ، من غير احتياج إلى فرض مسامحة، فالدَّين المقدم على الوصايا الخمسون، لا غير؛ فإن مقدار الدين من الحج أقل ما يجزىء. ولهذا ينزلّ الحج المحكوم [بكونه] (2) ديناً على الميقات، كما قدمنا ذكرَه في أول كتاب الحج.
ولكن إذا كان الثلث يفي بالخمسين الزائدة بعد حَطّ المقدار الذي لا بد منه، فقد اختلف أصحابنا في أن مَن أجرته مائة، إذا كان أجنبياً وطلب أن يحج بالمائة، وقال (3) : قدّروا الخمسين وصيةً لي. فهل يجاب إلى ذلك والثلث وافٍ؟ فمنهم من قال: يجاب إليه؛ تحقيقاً لغرض الميت، فربما كان تَوسّمَ فيه مقصوداً. وقد ذكرنا أن مبالغ الأُجَرِ إذا تساوت، يجب تعيين من عيّنه إذا قبل، فقد التحق هذا بما يجب تنفيذه على الجملة، فلينفذ في الصورة التي ذكرناها.
ومن أصحابنا من قال: لا يجاب إلى ذلك؛ إذ لا غرض له فيه، فإن [الخمسين] (4) قدرُ أجرته، فلا نكلف الورثةَ بذلَ مزيد مال. وليس الآخذ متبرَّعاً عليه، وهو بمثابة ما لو قال: بيعوا داري من فلان، فهذا لا يعد من الوصايا. نعم إذا لم يحتج الورثة إلى بذل مال، فيجوز التعويل على غرض الميت، فأما مقابلة غرضه بمالٍ، وليس المعيّن متبرَّعاً عليه، فلا.
__________
(1) في الأصل: بخمسين.
(2) في الأصل: بلزومه.
(3) (ط) : وقد.
(4) في جميع النسخ الثلاث: (المائة) والمثبت تقديرٌ منا. يوجبه السياق.(4/392)
2784- وعلى هذا خرّج الأئمة أن المعيّن لو كان وارثاً، فكيف السبيل فيه؟ فإن قلنا: لا يجاب الأجنبي إلى ذلك، فلا يجاب الوارث إليه.
وإن قلنا: يجاب الأجنبي إليه، فلا شك أن الخمسين بالإضافة إلى التركة كالوصية؛ فإن الاكتفاء واقعٌ بالخمسين، ولكن هل نجعله وصية في حكم التعيين، أم لا؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه وإن كان وصيةً بالإضافة إلى [التركة، فليس وصيةً بالإضافة] (1) إلى هذا المعيّن؛ من جهة أنه لا يستفيد بأخذ المائة مزيداً؛ فإن ما يبذله (2 من منفعة 2) نفسه لا ينقص (3) عما يأخذه، فعلى هذا ينفذ هذا في حق الورثة.
والوجه الثاني - أنه وصية في حكم التعيين؛ فإن الأمر في ذلك لا يتبعض، فإذا كان الشيء وصية، بالإضافة إلى التركة، فليكن وصية في كل حكم.
وذكر العراقيون ما إذا ضُمَّ إلى ما ذكرناه، كان وجهاً ثالثاً، فقالوا: إذا قال: أحجوا عني فلاناً، ولم يذكر المقدار، وكان أجر [مثل] (4) من عيّنه مائة، ونحن نجد من يحج بخمسين، فالخمسون الزائدة في حق المعيّن تبرع. فكأنهم يبغون الفرق بين هذا وبين التنصيص على المائة؛ من جهة أنه لما أطلق إحجاج من عيّنه، يجوز أن يُحْمَل ذلك على اكتفائه بالخمسين التي توجد الحجة بها، فينتظم من هذا الفرقُ بين الإطلاق والتقييد بالمائة. ولا فقه فيما ذكروه.
وهذا (5) إذا ذكر المائةَ وعيّن شخصاً، أو أطلق تعيينه، ونحن نجد مَنْ أجرتُه خمسون.
2785- فأما إذا كان لا يوجد من أجرتُه أقل من المائة، ولكن وجدنا مسامحاً أجرتُه مائة، وهو يقنع بالخمسين، فهذه الصورة فيها تردّدٌ، من وجه آخر، ففي أصحابنا من يقول: الدَّينيّة في المائة الكاملة، وتحصيلُ غرضِ الميت حتمٌ فيمن
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) ساقط من (ك) .
(3) (ط) : ينتقص.
(4) ساقط من الأصل.
(5) في (ط) و (ك) : هذا (بدون واو) .(4/393)
عيّنه؛ وذلك أنه قد كان لا يرضى في حياته بأنْ يُتبرّع عليه (1 وهذا المعنى لا يبعد استدامته بعد وفاته. هذا وجهٌ. وإذا كانت المائة 1) كلُّها ديناً بالإضافة إلى التركة، فلا تكون وصية بالإضافة إلى المعيّن. والوجه الثاني - وهو الأصح (2 أن الدينيّة لا تتحقق إلا في الخمسين 2) ؛ فإن الورثة يزعمون أن الغرض تحصيلُ الحج (3) وإبراءُ ذمة الميت [عنه] (4) ، [ولئن] (5) كان يستشعر من ثقل المنة شيئاً في حياته، فلا معنى لذلك بعد الموت. فإذا انحصرت الدينية في الخمسين، عاد تفريع القول في المائة إلى ما قدمناه في القسم الأول، وهو إذا وجدنا مَن أجرتُه خمسون.
ولو وجدنا (6) متبرعاً بالحج من غير مال، فالخلاف يعود في المائة كلها.
2786- وكان الشيخ أبو محمد يُجري في أثناء الكلام مسألة، وهي أن من أوصى إلى إنسان وصيةً (7) ونصَّبه ناظراً في حق أطفالٍ، وذكر له مقداراً في مقابلة عمله، لا يزيد على أجر مثله، فلو وجد الوالي متبرّعاً بالنظر، لم يجز له إقامتُه وصرفُ الوصي بالجُعل.
وهذا لا أراه كذلك. نعم، إذا نصّبَ الأب وصيّاً من غير جُعل، وكان عَدلاً ذا كفاية، فلا استبدال به؛ فإن الشرع أقام الوصيَّ مقام الأب الموصي في نظره، فكما لا يتسلط الوالي على مزاحمة [الأب] (8) في نظره، فكذلك لا يستبدل [بمنصوبه] (9) .
هذا إذا لم يكن قدّر له شيئاً، فإن قدّر له مالاً، ووفى الثلثُ به، فلا شك أنه
__________
(1) ما بين القوسين امّحى من (ك) .
(2) ما بين القوسين غسل من (ك) .
(3) عبارة الأصل: أن الغرض في تحصيل الحج.
(4) ساقط من الأصل.
(5) في الأصل: ولكن.
(6) (ط) : ولوجدنا.
(7) ساقطة من (ط) ، (ك) .
(8) ساقطة من الأصل.
(9) في الأصل: المنصوص به.(4/394)
لا يردّ؛ فإنه لو تبرع بمقدار الثلث (1) عليه من غير عمل منه، لكان منفذاً. فأما إذا كان المسمى له زائداً على الثلث، ووجد الإمام متبرِّعاً، فالظاهر عندي القطعُ، بصرف ذلك [الغُرم] (2) عن الأطفال. فإن رضي الوصي بالعمل دونه، فلا استبدال. وإن أبى أن يعمل، أقام الوالي ناظراً.
وحقائق هذه الأطراف يوضّحها كتاب الوصايا.
2787- ومن مسائل الفصل: أنه لو أوصى بحج التطوّع، ففي صحة الوصية قولان، ذكرناهما في أول الكتاب، فإن صححنا الوصية، فلو عيّن في الوصية بحج التطوع شخصاً، وقال: أحجّوا عني فلاناً، ووَفَّى الثلثُ، فيجب رعايةُ تعيينه، ورأيت الطرق متفقةً على أن المال المذكور إذا كان لا يزيد على أجر المثل، لا يكون وصيةً في حق المعيّن، حتى لو كان وارثاً، لزم التنفيذ. وليس يبعد تخريج احتمال الوصية في حق المعيّن، إذا كان بَذْلُ المال في نفسه وصيةً، كما قدمناه في حجة الإسلام، إذا رُبط بمعيّن أجرته مائة، ونحن نجد مَنْ أجرته خمسون.
ولو عيّن في الوصية بحج التطوّع شخصاً، كما صورناه، فأبى ذلك المعيّن أن يحج، فهل يُصرف المال إلى آخر؟ أم نقضي ببطلان الوصية، ورجوع المال إلى التركة؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنا لا نبطلها؛ فإن الغرض أصلُ الحج، والتعيين في حكم التفصيل له، فينبغي ألا يَبطُلَ [الأصل] (3) بتعذرٍ في التفصيل.
ومن أصحابنا من أبطل الوصية، وقاس على ما لو قال: أعتقوا عني العبد الفلاني، ثم عسر الوصول إليه، فالوصية تبطل، ولا يصرف المال المبذول إلى عبدٍ آخر نشتريه ونعتقه. والقائل الأول ينفصل (4) ، فيقول: للعبد غرضٌ ظاهر في العتق، فكان في حكم الموصى له به، ولا غرض للذي يحج من غير مزيد على [أجرة] (5) المثل.
__________
(1) (ط) ، (ك) بمقداره.
(2) في الأصل: للعزم.
(3) ساقطة من الأصل.
(4) ينفصل: أي يخرج عن هذا الاعتراض.
(5) ساقطة من الأصل.(4/395)
2788- ومن مسائل الفصل أنه لو قال: أحجوا عني بألفٍ، وقيّد بالحجة الواحدة، فلم نجد من أجرة مثله ألف، بل كان أقصى أجرٍ ينحط، عن هذا المبلغ.
في المسألة وجهان ذكرهما الصيدلاني: أحدهما - أن الزيادة مردودةٌ؛ فإنها وصيّة لا لمعين، ولا لجهةٍ، فترد. والثاني - أن الألف تصرف إذا وفى الثلث، إلى شخص يتخيره الوارث، وتُجْعَل الزيادةُ وصيةً له.
2789- ومن مسائل الفصل: أنه إذا قال: أحجوا عنّي فلاناً بألف، وكان الألف زائداً على أجر مثله، فلا شك أن الزائد وصيةٌ له. فلو قال (1) : أحجوا عن المتوفَّى غيري بأجرِ مثله، واصرفوا إليَّ الزيادةَ الفاضلةَ، لم نجبه إلى ذلك؛ فإنه إنما أوصى له بها على شرط أن يحج عنه، فلا استحقاق دون الوفاء بالشروط.
2790- ومن المسائل مسألة حكاها الصيدلاني في وقائع المفتين بمَرو، وهي أن الرجل إذا قال: اشتروا عشرة آصُع من البرّ بمائة درهم، وتصدقوا بها، وكنا نجد ذلك القدرَ من الطعام بخمسين. قال: اختلف الأئمة: فمنهم من قال: نشتري الآصع بما نجد، ونرد الزيادة إلى الورثة، ومنهم من قال: نشتري بالمائة عشرة آصع، وتكون الزيادة وصية لبائع الحنطة. ومنهم من قال: نشتري بتلك الزيادة حنطة بسعر الوقت، ونتصدق به، والمسألة محتملة.
***
__________
(1) القائل: هو (فلان) الذي أوصى المتوفى بأن يَحُج عنه بألف. فهو يقول للورثة: أحجوا عنه غيري، بأجر المثل (أربعمائة مثلاً) واصرفوا الزيادة إلي.(4/396)
باب قتل الصيد عمداً كان أو خطأً
2791- الاصطياد من صيد البر حرام، على المحرم، والأصل فيه قوله تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [المائدة: 95] . والعامد يَختصّ بالمأثم، والضمان يعم العامدَ والخاطئ عندنا، وعند معظم العلماء، وخصص داود الضمانَ بالعامد، تعلّقاً بظاهر القرآن، وفيه على مذهب الشافعي -ومذهبُهُ القولُ بالمفهوم- إشكالٌ، ولكن الوجه أن الرب تعالى لما أراد الجمعَ بين الضمانِ، والمأثَمِ، والتعرضِ للعقوبة، خصص سياق الآية بالعامد، أما الضمان، فلائح واستشعار العقاب في قوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ} [المائدة: 95] .
ثم الصيد ينقسم إلى البحري والبري، فأما البحري، فلا حرج على المحرم فيه، وكان شيخي يقول: هذا قولنا في سمكة يصادفها في ماءٍ في الحرم.
وأما الصيد البرّي فينقسم إلى الطائر، وغيره، أما الطائر، ففيه بابٌ يأتي، وأما غيرُه، فينبغي أن يكون مأكولاً، وهو المحرّم بسبب الإحرام [والحرم] (1) ، والحيوان المتولد من بين المأكول وغيره محرم تغليباً للحرمة، وفيه الجزاء تغليباً للفدية، فالأمر في الحكمين على التغليظ.
ثم نجمع معاقد المذهب في فصول (2) : منها في جهات الضمان، ومنها في صفة الضمان وتفصيلِ الواجب، ومنها في الجنايات.
__________
(1) في الأصل، (ك) : المجرى.
(2) لم يَعْنِ الإمام فصولاً ذاتَ عناوين خاصة، وإنما عنى موضوعاتٍ أو مناحٍ للكلام ولذلك تراه لم يضع كلمة (فصل) بين كل موضوع وآخر.(4/397)
2792- فأما جهات الضمان، فثلاث: المباشرة بالجناية، والسبب، واليد العادية.
فأما المباشرة فبيّنةٌ.
والسببُ هو كلّ ما يكون المتسبب به متعدياً، كحفر البئر في محل العدوان، ويمكن ضبط هذا بما يُضمَن الآدمي به، فلو حفر المحرم بئراً في ملكه أو في موات، فتردّى فيها صيدٌ، فلا ضمان؛ إذ لا عدوان، ولو حفر في ملكه في الحرم بئراً، فتردى فيها صيدٌ، ففي الضمان وجهان: أشهرهما - الوجوب، لأن السبب في إيجاب الضمان في الصيد الحرميّ حرمةُ الحرم، وهذا المعنى يعم الملكَ وغيرَه. والثاني - لا يجب اعتباراً بالصيد في حق المحرم.
ولو نصب المحرم شبكةً في ملكه، أو في مواتٍ، فقد ردد الصيدلاني جوابه فيها، والذي أظهر نقلَه أنه إذا تعقّد (1) صيد بالشبكة، وجب الضمان، وإن كانت منصوبة في الملك؛ لأن نصب الشبكة مقصودٌ للاصطياد، فكأن ناصبَه مجرِّداً قصدَه إلى الاصطياد، فكان كما لو اصطاد بيده صيداً في ملكه. قال: ويحتمل أن تكون الشبكة في معنى البئر (2) ؛ فإن البئر لو احتفرت في محل العدوان، كانت سبب الضمان كالشبكة، وإذا كان من غير عدوان، فلا ضمان. وهذا قياسٌ متجه.
2793- وأما اليد (3) ، فهي سبب الضمان، فإذا أثبت المحرم يدَه على الصيد ابتداءً في الإحرام، فهلك الصيد تحت يده، ضمنه، كما يضمن الغاصب ما تثبت عليه يده، وتمام القول في اليد الدائمة، التي طرأ الإحرام عليها يأتي في فصلٍ معقود بعد هذا.
(4 فهذه قواعد أسباب الضمان.
2794- فأما الدّلالة على الصيد، فليست 4) مضمِّنةً عندنا، خلافاً لأبي حنيفة (5)
__________
(1) (ط) : تعقل.
(2) هذا هو الجواب الثاني الذي ردّده الصيدلاني.
(3) هذا هو السبب الثالث من أسباب الضمان.
(4) ما بين القوسين مغسول من (ك) .
(5) ر. المبسوط: 4/79، مختصر اختلاف العلماء: 2/215 مسألة: 684، الاختيار:=(4/398)
وضبطُ المذهب من جهة المعنى أن الصيد لله تعالى، وهو مالك الأعيان، وقد حجر على المحرم فيه، فيضمنُه المحرم بما يضمن به ملكَ الغير؛ إذ (1) لم يكن مستحقه، ومن دل على ملك غيره، لم يضمن بالدلالة شيئاً، وإنما يضمن ملك الغير بالأسباب التي ذكرناها.
2795- فأما جُمَل القول (2) في المضمون الواجب، فنص القرآن شاهدٌ على إيجاب المثل قال تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ} [المائدة: 95] ، والمراد [به] (3) إيجاب النَّعَم المشابهة في الخلق والصوَر، للمتلفات من الصيود.
ثم كل ما وجدنا فيه نصَّ [خبرٍ أو قضاء] (4) للصحابة، اتبعناه، وما لم نجد فيه نصاً وقضاء، طلبنا مماثلة الخلقة بالاجتهاد، كما سنصفه.
أما مواقع النصوص والأقضية، ففي حمار الوحش بقرةٌ (5) ، وفي الضبع كبش.
رواه جابر (6) عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الأرنب عَناقٌ، وفي أم حُبَيْن حُلاّن (7) وهو جدي صغير. وكان شيخي يقول: أم حبين من صغار الضب، [حتى
__________
=1/165، اللباب: 1/211، حاشية ابن عابدين: 2/213.
(1) (ط) ، (ك) : إذا لم يكن مستحفظاً فيه.
(2) عبارة (ط) : " فأما حمل القرَآن في المضمون الواجب ". عبارة (ك) : " فأما حَمْل القول في الضمان الواجب ".
(3) ساقطة من الأصل.
(4) في الأصل: جزاء وقضاء.
(5) جزاء حمار الوحش رواه من حديث ابن عباس الشافعي في الأم: 2/192، والدارقطني: 2/247، والبيهقي: 5/182.
(6) حديث جابر في جزاء الضبع رواه أصحاب السنن وابن حبان وأحمد والحاكم وغيرهم (أبو داود: الأطعمة، باب في أكل الضبع، ح 3801، الترمذي: الحج، باب ما جاء في الضبع يصيبها المحرم، ح 851، والأطعمة، باب ما جاء في أكل الضبع، ح 1791، النسائي: مناسك الحج، باب ما لا يقتله المحرم، ح 2836، والصيد، باب الضبع، ح 4323، ابن ماجة: المناسك، باب جزاء الصيد يصيبه المحرم، ح 3085، الصيد، باب الضبع، ح 3236، وانظر التلخيص: 2/529 ح 1101) .
(7) أم حبين ضربٌ من حشرات الأرض تشبه الضب، والحلاّن والحلام: وزان تفاح: الجدي=(4/399)
يفرضَ مأكولاً. أما الظبي ففيه عنز] (1) . وفي طرق العراق في الظبي كبشٌ، وفي الغزال عنز. وهذا وهم؛ فالذي صح القضاء فيه في الظبي العنز، وهو شديد الشبه به؛ فإنه أجرد الشعر، متقلص الذنب، والغزال ولد الظبي، فيجب فيه ما يجب في الصغار من كل جنس على ما سنصفه.
فهذا قولنا في محالّ الأقضية.
2796- فأما ما لا نص فيه، فالوجه طلب المثلية الخِلقية، بالنظر والاجتهاد، كما قال تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] .
ثم شرط الأئمة صَدَر الإلحاق الشبهي عن رجلين، كما أشعر به النص، وهذا محتوم، ليس على الاستحباب، وليكن الناظران عدلين خيّرين، من أصحاب الكياسة، فيما يتعلق بهذا الغرض. ولو حكم عدلٌ بالشبه، وحكم به القاتل المحرِم، فحكمه غيرُ مقبول، لخروجه عن نعت العدالة. هذا إذا قتل عمداً.
فإن كان خطأ لم يعصِ بما جرى منه، ففي المسألة وجهان: أقيسهما أنه لا يقبل حكمه؛ لأنه محكوم عليه، فليكن الحاكم غيره. والوجه الثاني - وهو ظاهر المذهب أنه يقبل حكمه، والدليل عليه ما روي: " أن عمر رضي الله عنه، شاور بعضَ الصحابة في صيد كان قتله، فقال المستشار: أرى فيه شاة، فقال عمر: وأنا أرى ذلك " (2) .
ثم في الصغار من كل جنس صغار الجنس من النَّعم التي تثبت كبارها في الكبار، والمعيب يقابل المعيب، وتقبل العوراء في العوراء، وهكذا كل عيب، ولا نسلك
__________
=الصغير. يشق بطن أمه ويخرج. وحديث جزاء أم حبين رواه الشافعي عن عثمان بن عفان (الأم: 2/194) والبيهقي: 5/185.
(1) سقط من الأصل، ما بين المعقفين.
(2) أثر عمر ورد في قصة صحابي يقال له: أربد، والأثر رواه الشافعي في الأم: (4/194) بسند صحيح (قاله الحافظ) ورواه عبد الرزاق: (4/402) ، والبيهقي في الكبرى: 5/182، والصغرى: 2/163 ح 1572، وانظر التلخيص: 2/542.(4/400)
طريق جبران العيب بعيب آخر، وإن قرب الأمر، فلا تقبل عوراء في جَرِب. وهكذا القول في العيوب المختلفة.
2797- ومما يتعين (1) الاعتناء به في هذا الفصل: الكلام في الإناث والذكور، والحامل [والحائل] (2) : فإذا أتلف المحرم ذكراً من جنسٍ [من] (3) الصيد، فإن قابله بذكبر من النّعم، فذاك، وإن قابله بأنثى، اختلف النص في إجزاء ذلك.
والذي نراه ونقطع به أن الأنثى إن كانت قيمتُها دون قيمة الذكر من النَّعم، فلا تُجزىء. وإن آل الأمر إلى ذبح النَّعم كما سنصفه، وكانت الأنثى خبيثة اللحم؛ لأنها (4 وَلَدَت، فلا تجزئ 4) ، لاجتماع المخالفة في الخلقة، والنقصان، في القيمة، والرداءة في اللحم. وإن كانت الأنثى طيبة اللحم لو ذبحت، تامّة القيمة إذا قوّمت للتعديل -كما سنذكره- فهل تجزئ عن الذكر؟ فعلى طريقين: من أصحابنا من قال: قولان: أحدهما - أنها لا تجزئ للاختلاف في الخلقة، والثاني - أنها تجزىء، وهو الأصح؛ فإن هذا القدر محتمل في التفاوت.
ومن أصحابنا من قال: اختلاف النص محمول على ما أشرنا إليه، فحيث مَنَع أراد إذا كانت الأنثى ناقصة، أو معيبةَ اللحم، وحيث جوّز أراد إذا كانت مساويةً للذكر من النَّعم في القيمة، وطيب اللحم، أو كانت أفضل منه.
وأما القول في الزكاة، فمتعلق بطرف صالحٍ من التعبد، وقد مضى تفصيل القول في أخذ الذكور والإناث في الزكاة.
ولو أتلف المحرم ظبية، فإن أخرج الأنثى أجزأت، لمشابهة الخِلقة، وإن أخرج (5 الذكر، فإن كان الذكر 5) دون الأنثى، فلا إجزاء، وإن كان مثلَها، أو أفضلَ
__________
(1) في الأصل: يتعلق.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) ساقطة من الأصل.
(4) ما بين القوسين بياض في (ك) .
(5) ساقط من (ك) .(4/401)
منها، فعلى ما ذكرنا من اختلاف الطرق (1) .
وذكر الشيخ أبو بكر وغيرُه أن مقابلة الأنثى بالأنثى واجبةٌ، والتردد في مقابلة الذكر بالأنثى. وهذا ذهاب عن التحصيل، وهو يبتني على اعتقاد كون الأنثى أفضلَ، والأمر مختلف في ذلك، والمتبع ما ذكرناه من الفضيلة، ورعاية الخلقة، ويستوي فيه مقابلة الذكر بالأنثى، ومقابلة الأنثى بالذكر.
فهذا قولنا في الذكور والإناث.
2798- فأما إذا قتل المحرم ظبية حاملاً، فهذا مما اختبط فيه الأصحاب، وردوا الأمر إلى اضطرابٍ لا أصل له.
وأنا أذكر ما هو الحق المبتوت: فإذا كانت الظبية المتلَفةُ حاملاً، فلو قابلناها بحائل (2) من النعم، كان ذلك مخالفةً في الخلقة، فالحامل من النعم أفضل في القيمة من الحائل منها، ولكن لا سبيل إلى ذبح الحامل من النَّعم؛ فإن مرتبتها في القيمة تزول بالذبح. ولو أخرج حائلاً نفيسة تبلغ قيمتُها قيمةَ حامل مقتصدة، فالتفاوت في الخلقة لائح، وهذا فوق الذكورة والأنوثة، فلا وجه إلا تقديرُ حامل من النَّعم؛ ثم الرجوع إلى قيمتها، وتعديلُ الطعام بها.
فهذا هو الوجه، وهو الذي اختاره أئمة العراق.
وذهب بعض أصحابنا إلى أنه لو أخرج حائلاً نفيسةً، كما صورناها، وذبحها، أجزأت؛ تخريجاً على إخراج الأنثى عن الذكر. وهذا بعيدٌ؛ فإن الحَمْل إذا تحقق زيادةٌ في الخلقة معتبرة.
فهذا بيانُ القول في الحامل والحائل، والذكر والأنثى.
ولو جنى على ظبيةٍ حامل، فألقت جنينَها، فإن بقيت الأم، وألقت الجنين حيّاً، ثم مات، ففي الجنين صغيرٌ من النَّعم، على قدرٌ يقرب منه. وإن ألقته ميتاً، فلا يُضمن الجنين في نفسه، ولكن يجب ما تنقصه الجناية من الأم. وإن ماتت الأم،
__________
(1) (ط) ، (ك) : الطريق.
(2) (ط) : بحالٍ.(4/402)
ومات الجنين بعد انفصاله، ضمن كلَّ واحدٍ على حياله.
2799- فأما القول في الجناية على الصيد من غير إهلاك، فقد قال الشافعي، فيما نقله المزني: إن جَرح ظبياً، فنقص من قيمته العشر، فعليه العشر من ثمن شاة. قال المزني: الوجه أن نقول عليه عشرُ شاة، جرياً على رعاية المثلية.
واختلف أصحابنا في ذلك: فمنهم من صوّب المزني، وقال: هو المذهب لا غير، وحمل نص الشافعي على الإرشاد إلى الانتقال من الشاة، إلى تعديل الطعام بالقيمة؛ فإن الكفارة على التخيير، وإخراج قسط من الحيوان عسير، وإلا، فهو الأصل.
ومن أصحابنا من جرى على ظاهر النص، ولم يوجب قسطاً من الحيوان بسبب الجناية على الصيد، وجعل ما يدخل (1 على الصيد من نقصٍ، بمثابة ما يدخل على المثليات من النقص، بسبب الجناية 1) عليها، فإذا جنى رجل على حِنطة إنسان جنايةً تنقُص من قيمتها، فلا يلزمه إلا القيمة، وإن كانت الحنطة في نفسها مضمونةً بالمثل إذا أتلفت، فكذلك القول في الصيد إذا أتلف، فهو مقابَلٌ بالمثل، وإن أثرت الجناية في صفته، لم يجب جزء من المثل.
وهذه الطريقة ضعيفة؛ فإن مقتضاها إيجاب قسط من قيمة الظبية؛ فإن من جنى على حنطة إنسان وعيَّبها، فالمضمون أرش نقص الحنطة المجني عليها.
فرع:
2800- إذا جنى على صيدٍ، فَأَزْمَنَه، وأذهب امتناعَه، بحيث لا يرجى عودُه، فالذي ذهب إليه معظم الأئمة أنه يجب بإزالة امتناعه تمامُ الجزاء، كما يجب بقطع يدي العبد تمامُ قيمته.
وذهب بعض أصحابنا إلى وجه غريب، وهو أن الواجب قسطٌ من المثل، أو قيمة المثل. وهذا مزيّف متروكٌ. فلو أتلف الصيدَ المزمَنَ محرم آخر، فيلزمه جزاؤه على ما هو عليه من العيب. وقد قدمنا أن المعيب يضمن بمثله.
__________
(1) ما بين القوسين، ذهب به البلل من (ك) .(4/403)
ولو كان للصيد امتناعان، كالنعامة تمتنع بشدة العدْو، ولها امتناع من الجناح بالطيران، فإذا أبطل المحرم أحد امتناعيه، والتفريع على ظاهر المذهب، وهو أن إزالة الامتناع توجب تمام الجزاء، ففي هذه الصورة، وهي إزالة أحد الامتناعين وجهان: ذكرهما العراقيون.
ولو أزال المحرم امتناع صيدٍ على وجهٍ لا يعود، ثم قتله، فالتفصيل فيه كالتفصيل فيما إذا قطع رجلٌ يدي رجل ورجليه، ثم احتز رقبته قبل اندمال الجرح، المنصوصُ [اتحاد] (1) الدية. وخرّج ابن سريج انفراد أروش الأطراف (2) عن دية النفس، وذلك الترتيب يعود هاهنا. ثم من لم يكمل الأرش في أحد الامتناعين في النعامة، فالغالب على الظن أنه يعتبر ما نقص. وفي الحقيقة الامتناعُ في النعامة واحد ولكنه يتعلق بالرجل والجناح، ولا ضبط. فالوجه في زوال بعض الامتناع إيجاب ما ينقص.
فرع:
2801- إذا أمسك المحرم صيداً، فقتله مُحِلٌّ في يده، فالضمان كلّه على المحرم؛ فإنَّ فِعْل الحلال في الصيد غيرُ مضمونٍ، فيجعل ما جرى (3) كالتلف بآفة سماوية.
ولو أمسك المحرم الصيد، فقتله محرم آخر في يده، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه يجب تمامُ الضمان على القاتل؛ فإنا إذا كنا (4) نقدم المباشرة على السبب، فلأن نقدم الإتلاف على اليد أولى.
ومن أصحابنا من قال: الضمان بينهما، وهذا بعيد، لا وجه له. نعم الوجه أن يقال: قرار الضمان على المتلِف والطَّلِبَةُ تتوجه على الممسك. وقد ذكرنا قريباً من ذلك في تفاصيل الحلق.
__________
(1) في الأصل: " إيجاب ". والمثبت من (ط) ، (ك) .
(2) (ط) : الأفراد.
(3) (ط) : يجرى.
(4) (ط) : إذ تركنا.(4/404)
فصل
2802- إذا كنا نعتبر المِثْل بالاجتهاد، نظراً إلى الشبه الخِلْقي، فلا تعلق لهذا بمكانٍ، وإن آل الأمر إلى اعتبار القيمة، فكيف السبيل؟ والمرعي أيّةُ قيمة؟ أولاً نذكر صفة الجزاء، ومحلَّه، ثم نرجع إلى ما أشرنا إليه.
فإن كان الجزاء منصوصاً عليه في خبر أو قضاء، فهو متبع، وإلا نقيسه.
2803- ثم الكفارة على التخيير. ذهب إليه معظم الأصحاب، وأشعر به نص القرآن.
ثم للجزاء ثلاثة أركان: أحدها - الحيوان. والثاني - الإطعام. والثالث - الصوم المعدّل بالإطعام.
أما الحيوان، فالمعتبر فيه اتباع التوقيف، أو النظرُ فيما لا توقيف فيه إلى الشبه الخِلقي.
وأما الإطعام، فهو معتبر بقيمة المثل، لا بقيمةِ الصيد، فيقوّم المثلُ المنصوصُ، أو المجتهَدُ بالدراهم، ولا نرى التصدّق بها، بل نصرفُها إلى الطعام المعتبر في صدقة الفطر، والكفارات، فإن أراد التصدق بها، فذاك. وإن أراد الصومَ، قابل كلَّ مدّ بصوم يوم، فإن وقع كسرٌ في مدّ، قابله بصومِ يومٍ. فإن [التعطيل] (1) غيرُ ممكن، والصومُ لا يتبعّض. ثم المحرم بالخيار بين هذه الخِلال.
وحكى بعض الأصحاب عن أبي ثور أنه نقل عن الشافعي قولاً في الترتيب، وهذا غلط باتفاق الأئمة، مردود على ناقله، مخالفٌ لنص القرآن، ولا يخلِّص منه التعلق بآية المحاربين؛ فإن الظواهر لا تُزال بسبب إزالة ظاهرٍ آخر. نعم، إن انقدح تأويلٌ، واستند إلى دليل، فلا يمنع الاستشهادَ لإبانة إمكان التأويل في اللسان.
2804- وإن كان الصيد غيرَ مقابَل بالمثل كبعض الطيور، فالوجُه اعتبارُ القيمة، وردُّها إلى الإطعام، ثم تقدير الصيام معدَّلاً بالطعام.
__________
(1) في الأصل: التفصيل.(4/405)
وإذا كان المتلف مقوَّماً، فالكفارة فيه ذاتُ ركنين: الطعام، والصيام، والرجوع إلى قيمة المتلف، فإنا عجزنا عن تقدير مثلٍ، حتى نفرض اعتبار قيمته.
2805- فإذا ثبت ما ذكرناه، فإن كان المحرم الجاني يُخرج الجزاء حيواناً، فمحله الحرم، كما تقدم.
ولا شك أنا لا نشترط فيه صفاتِ الضحايا؛ فإنا (1) إذا كنا نوجب في الصغار صغاراً، وفي المعيبة ما يضاهيها، فلا نلتزم والحالة هذه صفاتِ الضحايا، والشاة لا تجزئ في الضحايا عن شخصين، ولا يتبعض في القرابين غيرُ البُدنِ والبقرِ. وإذا أوجبنا في انجناية على الصيد جزءاً من الحيوان، فسيُخرج الملتزمُ عشرَ شاة، وسبب ذلك كلِّه اتباعُنا المثليةَ، والأشباه الخِلقية. ثم لا يكفي التصدق بالحيوانات المخرجة جزاءً، بل لابد من الذبح. وهذا إذا ضم إلى سقوط اعتبار صفات الضحايا، كان بدْعاً. والأمر كذلك، فالعَنَاق والحُلاّن مذبوحان ذبحَ الكبار، على صفات الهدايا.
وإن أراد المحرم العدولَ إلى الطعام، فالاعتبار بقيمة مكة في المثل؛ فإن المثل لو أخرج، لكان مستحقاً لهم، فالاعتبار عند العدول بقيمة تلك البقعة.
وإن كان الصيد متقوماً في نفسه، لا جزاء له من الحيوانات، فقد قال العراقيون: الاعتبار في قيمته بمكان الإتلاف، نظراً إلى كل متلَف مقوَّم، ثم القيَمة تصرف إلى الطعام، وبعدَه تعديلُ الصيام. وقالوا: ذهب بعض أصحابنا إلى أنا نعتبر قيمة المتلف بسعر مكة، وزعموا أن الصحيح الأول.
وقد قطع المراوزة بأن الاعتبار بقيمة مكة في الصيد المقوّم، ثم كلام العراقيين متردد في التفريع، على ما رواه ظاهر المذهب، فيحتمل عندهم بعد ما عرف مقدار القيمة، نظراً إلى مكان الإتلاف، أن نعتبر سعر الطعام في ذلك المكان أيضاًً، ويحتمل أن يقال: إذا ضبطت القيمة بمكان الإتلاف، فالمعتبر في صرفها إلى الطعام سعرُ مكة. وهذا هو الظاهر من كلامهم فيما أظن.
__________
(1) ساقطة من (ط) .(4/406)
فصل
2806- المحرم إذا قتل صيداً، فقد اختلف قول الشافعي في أن الصيد الذي ذبحه في مذبحه، أو أثبته بسهم في شروده مَيتةٌ أمْ لا؟ فله قولان: أحدهما - أنه ميتة، وهو مذهب أبي حنيفة (1) .
وفائدة ذلك تحريمه على الناس كافة في حال الاختيار، وإلحاقه بالميتات.
والقول الثاني - أنه ليس بميتة، ولغير الذابح استحلاله.
التوجيه:
من قال: إنه ميتة، قال: لأنه ممنوع من هذا الذبح لمعنىً فيه، فأشبه المجوسي، والمرتدَّ. ومن قال: ليست ذبيحتُه ميتةً، قال: إنه من أهل الذبح على الجملة، يعني البهائم، ولكن حالَ مالكُ الأعيان بينه وبين الذبح، حَجْراً عليه، كما حجر الشرع على الإنسان ذبح شاةَ الغير.
فإن قلنا: الصيد الذي ذبحه ميتة، فلا كلام، فليجتنبْها المحرم والمُحِل.
وإن قلنا: ذبيحته ليست بمَيْتة، فهي حلال للحرام (2 والحلالِ، إلا أنها محرّمة على المُحرِم الذابح وفاقاً.
2807- ثم يتبين الغرض بتفريعٍ فنقول: إن كان 2) الصيد مباحاً غيرَ مملوك، فإن قَضَيْنا بكونه ميتةً، فلا كلام، وإن خصصنا التحريم بالذابح، فلو تحلل عن إحرامه، فالمذهب الذي قطع به المراوزة أن التحريم لا يزول بزوال الإحرام. وحكى العراقيون سوى ذلك وجهاً آخر: أن التحريم يزول بزوال الإحرام، ثم إنهم زيّفوه. فهذا إذا كان الصيد مباحاً.
2808- فأما إذا كان الصيد مملوكاً، فإن قضينا بأنه يصير ميتة، فالمحرم يضمن قيمته لمالكه، ويلتزم تمام الجزاء، كما يلتزمه في الصيد المباح. وقد ذكرنا أنه لا فرق بين المملوك وبين المباح في الصيد، ولا فرق بين الآنس منه والمتوحش.
__________
(1) ر. المبسوط: 4/85، اللباب: 1/216، الاختيار: 1/168.
(2) ما بين القوسين أصابه البلل من (ك) .(4/407)
وإن قلنا: ذبيحة المحرم ليست ميتة، فعلى المحرم في الصيد المملوك الجزاء لله تعالى، وما ينقصه الذبح للآدمي.
2809- ثم كما يحرُم على المحرم أن يأكل من الصيد الذي ذبحه، فكذلك يحرم عليه الأكل من كل صيد دلَّ عليه، أو أعان الصائد بوجه على اصطياده. وكذلك لو صاد صائد حلالٌ الصيدَ للمحرم، من غير أمره وإذنه.
والمتبع في ذلك الأخبار: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لطائفةٍ من المحرمين: " لحمُ الصيد حلالٌ لكم، ما لم تصطادوه، أو يصاد لكم " (1) . واصطاد أبو قتادة، وهو حلال، فقدم الصيدَ إلى محرمين، فقال للرسول صلى الله عليه وسلم: " ما ترى، فقال: هل أشرتم؟ هل أعنتم؟ فقالوا: لا فقال: طعامٌ أطعمكم الله " (2) . وأهدي إلى عثمانَ لحمُ صيدٍ، وهو محرم، فقال لأصحابه: " كلوا؛ فإنه ما صيد لكم " (3) ، ولم يأكل (4) . ولا نظن بعثمان رضي الله عنه أن يأمر بالاصطياد، ثم يمتنع عن أكله، فدلت القصة على أن الصائد، كان اصطاد من غير مراجعته.
__________
(1) حديث: لحم الصيد حلال لكم. رواه الشافعي، وأبو داود، والترمذي، والنسائي من حديث جابر (ر. ترتيب المسند: 1/322، أبو داود: المناسك، باب لحم الصيد للمحرم، ح 1851، الترمذي: الحج، باب ما جاء في أكل الصيد للمحرم، ح 846، النسائي: المناسك، باب إذا أشار المحرم إلى الصيد فقتله الحلال، ح 2827، التلخيص: 2/525 ح 1097) .
(2) خبر صيد أبي قتادة. متفق عليه، وله عندهما ألفاظ كثيرة، واللفظ الذي ذكره الإمام (هل أشرتم ... ) عند مسلم دون البخاري (ر. البخاري: جزاء الصيد، باب إذا صاد الحلال فأهدى للمحرم الصيد أكله، ح 1821، مسلم: الحج، باب تحريم الصيد للمحرم، ح 1196) .
(3) خبر عثمان رضي الله عنه. رواه عبد الرزاق، والبيهقي (ر. مصنف عبد الرزاق: 4/433، ح 8345، 8346، 8347، البيهقي في الكبرى: 5/191، والصغرى: 2/165 ح 1583) .
(4) لأنه صيد من أجله، كما جاء في تفصيل الخبر.(4/408)
2810- فإذا ثبت ما ذكرناه، فإن قتل المحرم صيداً، والتزم جزاءه بالقتل، فلو أكل منه، كان الأكل حراماً، ولا يلزمه بسبب الأكل جزاءٌ آخر، بل يُكتفى بجزاء القتل.
ولو كان دلّ على صيد أو صِيد له، وحرمنا الأكل عليه، فلو أكله، ففي وجوب الجزاء قولان: أصحهما - أن لا جزاء؛ فإن الجزاء في نص الكتاب يتعلق بالجناية على الصيد. والقول الثاني - يجب الجزاء؛ فإنا لم نوجب على من قتل صيداً، والتزم جزاءه بسبب أكله جزاءً جديداً؛ لأن ضمان القتل كافٍ، ولم يوجد في الأكل من الصيد المدلول عليه جزاءٌ يلتزمه المحرم، بسببٍ غير الأكل، فجاز أن يتعلق الضمان بالآكل، كما يتعلق بقتل (1) الصيد المُزْمَن الذي لا حراك به.
وإذا قتل المُحل [أو] (2) المحرمُ صيداً حرمياً، ففي المسألة طريقان: من أصحابنا من خرّج القولين في أنه إذا ذبح، فهو ميتة أم لا؟ ومنهم من قطع القول بأنه ميتة؛ لأن المانع في الصيد لا في الذابح (3) ، فكأنه ملتحق بما لا يحل أكله، مادام متحصِّناً بالحرم.
فصل
جامعٌ في ملك المحرم في الصيد، دواماً، وابتداء، وما يتعلق به
2811- فنقول: أولاً - إذا اصطاد المحرم صيداً، فقد جنى على إحرامه، ولم يملكه وإن كان الاصطياد من أسباب الاكتساب.
واختلف قول الشافعي في أنه (4 لو أحرم، وفي يده صيدٌ مملوك، فهل 4) يلزمه رفْعُ اليد عنه أم لا؟ فقال في أحد القولين: لا يلزمه إرساله، بل يديم اليدَ عليه، وهذا كما أنه لا ينكِح ابتداء، ولكن النكاح الذي [كان] (5) قبل الإحرام، فهو
__________
(1) (ط) : بأكل.
(2) في الأصل: و.
(3) (ط) : الذبح.
(4) ما بين القوسين ذهب به بللٌ من نسخة (ك) .
(5) ساقط من (ك) .(4/409)
مستدام، لا يؤثر الإحرام في قطعه، وإنما المحرّم على المحرم الاصطيادُ، وقد شهد لذلك أن الأوّلين كانوا يُحرمون، وفي أقفاصهم في منازلهم الطيورُ، فلا يتعرضون لتقديم إرسالها، أو الأمر بذلك بعد الإحرام.
فإن قلنا: اليد مستدامة فالملك دائمٌ، ولو تلف ذلك الصيد تحت يده، لم يضمنه، ولكن ليس له قتله؛ فإنه كما ثبت على قطعٍ المنعُ من الاصطياد، ثبت أيضاً قطعاً المنع من قتل الصيد في الإحرام، فلو قتله، فداه، ولزمه جزاؤه.
وإن قلنا: يجب إرساله، فهل يزول ملكه؟ فعلى قولين: أحدهما - يزول.
والثاني - لا يزول.
ثم اختلف الأصحاب في [ابتداء] (1) التاريخ، فمنهم من قال: يزول بنفس الإحرام، ويلتحق الصيد في يده بالمباحات. ومنهم من قال: الإحرام يوجب عليه الإرسالَ، ثم إذا أرسل، زال ملكه.
ومن قال: الإحرام لا يتضمن زوال الملك، فالملك مستدام مادامت يده ثابتة (2) على العدوان، فإذا ارتسم ما أمرناه به، وأرسله، فهل يزول الملك الآن؟
بنى شيخي هذا على وجهين لأصحابنا في أن من فتح باب قفص لطائرٍ، وحل الرباط عنه -وهو حلال- وحرره، فهل يزول الملك عنه؟ فيه اختلاف سيأتي [في موضعه] (3) إن شاء الله تعالى.
فإذا أوجبنا الإرسالَ جرى في زوال الملك ما [ذكرناه] (4) ، وقطع غيره من الأئمة بأن الملك لا يزول إلا أن يقصد التحرير، (5 فيخرج على الوجهين على أن الأصح أن التحرير 5) لا يتضمن إزالة الملك.
__________
(1) في الأصل: في بناء التاريخ. والمثبت تقدير منا، و (ط) : اختلف أصحابنا في التاريخ، وفي (ك) : اختلف في التاريخ.
(2) (ط) سقط منها: " على العدوان ".
(3) ساقط من الأصل.
(4) في الأصل: قطعناه.
(5) ما بين القوسين سقط من (ك) .(4/410)
2812- ومما يتعلق بالفصل أن المحرم لو اشترى صيداً، فهل يملكه؟ وهل يصح شراؤه؟ فعلى قولين منصوصين قَرِيبَي المأخذ، من شراء الكافر عبداً مسلماً. ولا شك أن القولين يتفرّعان على أن الإحرام لا يقطع دوام الملك، فإنا إذا كنا نحكم بأن الإحرام يقطع الدوام، فلا شك [أنه] (1) يمنع الجَلْب على سبيل الابتداء. وسنذكر في كتاب البيع أنا وإن لم نصحح شراء الكافر العبدَ المسلمَ، نحكم بأنه لا يُمنع ثبوتُ الملك له من جهة الإرث في العبد المسلم. وكان شيخي يقطع بمثل هذا في الصيد، ويقول: يرث المحرم (2) الصيدَ قولاً واحداًً. وفي شرائه إياه قولان. وهكذا ذكره الصيدلاني.
وقال العراقيون: إذا قلنا: الإحرام يقطع دوامَ الملك، ففي الإرث وجهان: أحدهما - أنه لا يفيد الملك؛ فإن الإرث مشبه بأستمرار الملك على الدوام، فإذا كان الإحرام ينافي الدوام، فكذلك ينافي الملك [المستجد] (3) والمشبه بالدوام. والوجه الثاني - أن الملك يحصل بالإرث، ويزول؛ فإنا نضطر إلى الجريان على قياس التوريث، فليجر (4) ذلك الحكم، ثم نحكم بعده بالزوال.
ولم يختلف أحد من العلماء في أن المحرم لا يملك بالاصطياد أصلاً؛ فإنه المحرّم المقصود بنهي الشارع، فلا يفيد الملكَ.
2813- ومما يتفرع على هذا الأصل أنا إذا أوجبنا على المحرم إرسال صيده، ورفعَ اليد عنه، فلو أدامها، ودام الصيدُ، حتى تحلّل المحرم، فالأمر بالإرسال (5 قائم بعد التحلل عن الإحرام. ولكن لو قتله وهو محرم، ضمنه، ولو قتله بعد التحلل، فالمذهب أنه يضمنه؛ فإن الضمان والأمرَ بالإرسال 5) مقترنان، والمتحلل
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في (ك) : المسلم.
(3) في الأصل: المتجدد.
(4) في (ط) : فليخرج، (ك) : فلنجرّد.
(5) ما بين القوسين سقط من (ك) .(4/411)
في الصيد كالمتمسك بالإحرام. وحكى العراقيون وجهاً بعيداً أن الضمان لا يجب، وهذا مزيّف مع القطع بوجوب الإرسال.
فهذا ما أردنا أن نبينه في ملك المحرم الصيدَ دواماً وابتداء.
فرع:
2814- إذا قلنا: للمحرم أن يشتري الصيدَ، ولو اشتراه ملكه، فله أن يبيعه أيضاًً (1 وإن منعناه من الشراء، ولم نصححه منه، نمنعه من 1) البيع أيضاً. وليس هذا (2) كتصرف الكافر في العبد المسلم، فإنا وإن منعناه من شرائه، لا نمنعه من بيعه من مسلم؛ والسبب فيه أن بيعه من المسلم يُزيل مادّة الاعتراض. وإذا امتنع عن بيع عبده الذي أسلم في يده، فإنّا نبيعه عليه من مسلم، فإذا فعل مانفعله، نفذ.
والمقصود في الصيد الإرسال ورفعُ اليد عنه، والمحرم ببيعه يورّطه في التقييد والضبط، فكان البيعُ في معنى الشراء.
ولا شك أن كل ذلك يتفرع على أن الإحرام لا ينافي الملك في الصيد.
2815- ثم قال الأئمة: إذا باع المحرم صيداً أمرناه بإطلاقه، فإرساله مستحَق على المشتري، فإن استبعد الفقيه ذلك، فهو بمثابة تصحيحنا من المشتري شراءه، مع أمرنا إياه بالإرسال. ثم إذا أرسله المشتري بعدما قبضه، اتصل هذا بالتفريع في أن من اشترى عبداً مرتداً، وقبضه، ثم قُتل فىِ يده بردّته، فهو في [ضمانِ من؟] (3) وفيه اختلاف. ولعل الأوجهَ القطعُ هاهنا بأن إرساله من ضمان البائع وجهاً واحداًً؛ فإنا قد نقول في المرتد إذا قتل: إنه قتل لردةٍ حالّة، والخطَرَات تتجدد، حالاً على حال.
والسبب الذي نيط به وجوب الإرسال دائم، لا تجدد فيه.
ثم قال الأصحاب: لو تلف الصيد في يد المشتري، أو في يد من اشترى منه، وهكذا، كيف تناسخت الأيدي، فالضمان يجب على المحرم؛ فإنه المتسبب إلى إثبات هذه الأيدي. والسبب فيما يُضمن في اقتضاء الضمان كالمباشرة.
__________
(1) ما بين القوسين ذهب به بلل من (ك) . وعبارة الأصل فيها سقط: هكذا: " فله أن يبيعه، وليس هذا كتصرف الكافر.... ".
(2) ساقطة من (ط) .
(3) ساقط من الأصل.(4/412)
فرع:
2816- إذا قلنا: يجب على المحرم رفعُ اليد عن الصيد الذي كان في يده قبل الإحرام، فليسْع في ذلك، وأجمع الأئمة أنه لا يجب تقديم السعي على الإحرام، حتى نقول: [ليحزِرْ] (1) الوقتَ الذي يوافي الأمرُ بالإرسال فيه أهلَه، ولْيقدِّر الإحرامَ بعده، بل يبتدئ ذلك بعد الإحرام، فلو لم يقصر ولم يؤخر، ولكن اتفق موت ذلك [الصيد] (2) الذي هو تحت حكم يده، قبل اتصال الأمر بإرساله، فالمذهب وجوب الضمان. ومن أصحابنا من لم يضمّنه إذا لم يقصر.
فرع:
2817- المحرم إذا نفّر صيداً، فتطلّق (3) ، فهذا سبب منه قد يجر عليه ضماناً، فلو تطلق الصيد بتنفيره، ثم تعثر، وتكسر، وهلك، وجب الضمان. وقال الأئمة: المحرَّم المنَفَّر في عهدة تنفيره إلى أن يسكن الصيد، ويعود إلى ما كان عليه.
فلو هلك الصيد في نفاره لا بسبب النفار، ولكن بآفة سماوية، ففي الضمان وجهان: أحدهما - لا يجب؛ لأنه لم يهلك بسببٍ من المحرم، ولم يهلك أيضاًً تحت يده. ومن أصحابنا من جعل دوام آثار النِّفار كاليد المضمّنة، وهذا بعيد عن القياس، وإن كان مشهوراً في الحكاية.
فرع:
2818- إذا أرسل المحرم كلباً ضارياً بالاصطياد، فاصطاد، ضمن المحرم. وكذلك لو أرسل جارحةً من جوارح الطير، ولا يتوقف وجوب الضمان على الإغراء، بل يكفي رفعُ الرباط.
ولو أغرى سبعاً بإنسان في متسع من الأرض، فسنذكر أنه إذا قتل السبعُ ذلك الإنسانَ، فلا ضمان على المغري. والفارق أن السباع لا [تضرَى] (4) بالناس ضراوتها بالصيود، حتى قال أصحابنا: لو فرضت الضراوة بالإنسان في بعض السباع، وجب الضمان.
__________
(1) حزر الشيء: قدّره بالتخمين. من بابي ضرب، وقتل. وفي (ط) : ليحرزه (ك) ليحرر، وفي الأصل: ليحرّز.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) تطلّق: انطلق.
(4) في الأصل: تغرى.(4/413)
ولو أرسل جارحةً، ولا صيد بالحضرة، ثم بدا صيدٌ، فقد ذكر الأئمة وجوبَ الضمان. وترددوا فيه إذا انحل الرباط عنها، حيث ينتسب المحرم إلى التقصير في ضبطها.
والمتبع في هذا الأصلِ أنا لا نقف وجوبَ الضمان على بلوغ الأمر مبلغاً يكون المحرم صائداً فيه؛ فإن الاصطياد لا يتم [إلا بالإغراء والإيساد....] (1) ، وذلك ليس شرطاًً في الضمان، فرفع الرباط كاف، وفي التقصير ما ذكرناه من التردد.
ولو أفلتت الجارحة من غير تقصير، فالأظهر أن لا ضمان إذا أخذت صيداً.
فرع:
2819- إذا كان بين رجلين صيد مشترك، فأحرم أحدهما دون الثاني، وقلنا: يجب على المحرم أن يرسل الصيد الذي كان تحت يده قبل الإحرام، فالإرسال غيرُ ممكن والصيد مشترك. فأقصى ما يتكلفه أن يرفع يد نفسه عنه، ولم يوجب الأصحاب عليه السعيَ في تحصيل الملك في نصيب الشريك، حتى إذا حصل أطلقه، ولكن ترددوا في أنه لو تلف هل يجب الضمان في حصته؛ من جهة أنه لم يتأت منه الوفاء بالإطلاق على ما ينبغي.
فصل
2820- لا يجوز التعرض لصيد الحرم: حرم مكة، وإذا أتلفه المتلف، ضمنه، وإن كان حلالاً. ثم الصيد الحرمي يُضمن بما يَضمن به المحرم، كما تقدم، وللصوم مدخل في جزاء صيد الحرم عندنا، خلافاً لأبي حنيفة (2) . ومذهبنا أن سبيل صيد
__________
(1) العبارة في نسخة الأصل هكذا: " الاصطياد يتم بالإغراء (وابساداً) " و (ك) : " الاصطياد لا يتم إلا بالإغراء و (الاتساد) ". و (ط) : " الاصطياد لا يتم إلا بالإغراء (أو يسار) ". وكلها فيها خلل، على تفاوتٍ في قدر هذا الخلل. والمثبت تصويبٌ منا للتصحيف الذي اعترى النسخ الثلاث، فقد تصحفت كلمة (الإيساد) . وهي مصدر (آسَد) تقول: آسَدَ الصائدُ كلبَه بالصيد: إذا أغراه به وهيجه (المعجم) .
(2) الذي رأيناه في كتب الأحناف أنهم يفرقون بين المحرم والحلال في جزاء الصيد، فيجعلون للصوم مدخلاً عند جزاء المحرم دون الحلال. (ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/216 مسألة=(4/414)
الحرم (1) كسبيل الصيد في حق المحرم، في كل تفصيل.
ثم يثبت الحظر و [عهدته] (2) بسببين: أحدهما - بكون الصائد في الحرم، والآخر - بكون الصيد في الحرم. فلو رمى حلالٌ من الحِل صيداً في الحرم، ضمنه، وهذا ظاهر من جهة الصيد بالحرم، ولو وقف في الحرم ورمى صيداً في الحل، وجب الضمان، ولم يختلف الأئمة فيه، فالاصطياد في الحرم، كالاصطياد من الحرم.
ولو رمى سهماً، وكان في الحل، والصيد في الحل، فخرق السهم في مروقه وممره هواءَ طرفٍ من الحرم، ثم أصاب صيداً في الحل، ففي وجوب الضمان وجهان؛ لمكان اتصال السهم بالحرم.
ولو أرسل الحلال كلباً إلى صيدٍ في الحل، فلم يزل الصيد يروغ هارباً، حتى دخل الحرم، واتّبعه الكلب، فقد قال الأئمة: لا ضمان والحالة هذه، لأن موقفه وموقف الصيد كانا في الحل، ثم ما حدث من تحوّل الصيد إلى الحرم أمرٌ، لم يكن حالة وقوع [الفعل] (3) ، والكلب حيوان ذو اختيار؛ فإذا دخل الحرم أضيف ذلك إليه.
ولو علم أن الصيد إذا هرب، فلا ممر له إلاّ الحرم، فأرسل الكلبَ والحالةُ هذه، فدخل الصيد الحرمَ، وجرى الأمر كما ذكرناه، وجب الضمان. ولو كان الأمر كذلك، ولم يعلمه الصائد، فالأمر كذلك فيما يتعلق بالضمان، ولكنه لا يأثم.
وأسباب الضمان في المتلفات لا تختلف بالعمد والخطأ. وقد ذكرنا أنا إن فرقنا بين الناسي والعامد في الطيب واللباس، فلا فرق في الإتلافات، وذكرنا فيه قولاً آخر، وقد وجدتُ قولاً محكيّاً عن حَرْملة، عن الشافعي: أنا نعذر متلف الصيد بما نعذر به المتطيّب. وهذا فيما أظنه في حق المحرم.
__________
=685، الأصل: 2/367، مختصر الطحاوي: 70، 71، المبسوط: 4/84، 97، البدائع: 2/207، البحر: 3/31، 40، حاشية ابن عابدين: 2/220، اللباب: 1/212، 217) .
(1) عبارة الأصل: أن سبيل الصيد كسبيل الصيد.
(2) في الأصل: وعدته.
(3) سقطت من الأصل.(4/415)
فأما الصيد الحرميّ، فيجب القطع فيه بوجوب الضمان، فإنه ليس يضمن لعبادة، حتى يُقضَى بأن النسيان (1 يؤثر فيها، فليُضمن الصيد الحرمي ضمان أموال الناس، في الغصوب والعواري 1) .
2821- ونص الشافعي على مسألتين، فقال: لو اصطاد الحلال حمامة في الحل، وكان لها فرخٌ في الحرم، فضاع الفرخ بهذا السبب، وجب الضمان، وهو في حكم الرمي من الحل إلى الحرم. وقال: لو أخذ حمامةً في الحرم، ولها فرخ في الحل، ضمن الحمامة وفرخَها: أما الحمامة، فمأخوذة في الحرم، وأما ضمان الفرخ، فسببه يضاهي الرمي من الحرم إلى الحل.
ولو نفّر صيداً حرمياً، فقد تعرض للعهدة، فلو استمر النفار، حتى خرج من الحرم، وتكسر في الحل، وجب الضمان، بلا خلاف. ثم قال الأئمة: يدومُ التعرض للعُهدة، حتى يسكن نِفاره، كما قدمناه في حق المحرم. قال الصيدلانيّ: حتى يعود إلى الحرم. وهذا أراه زلّة؛ فليس عليه أن يسعى في ردّه إلى الحرم، ولا يتعرض بسبب خروجه للضمان.
ولو قتل المحرم صيداً حرمياً، لم يتضعّف الضمان، وإن تعدد سببه.
ولو أدخل الحرمَ صيداً مملوكاً، لم يتحرم الصيد بالحرم، وكان حكمه في حق مالكه حكمَ بهيمةٍ من النّعم، خلافاً لأبي حنيفة (2) . والإحرام في هذه الخصلة آكد من الحرم، (4 فإن طريانَ الإحرام على الصيد المملوك يقْصُِر (3) يدَ المالك عنه، والكلام في وجوب الإرسال، وزوال الملك 4) في الحرم (5) لا يؤثر عندنا كما ذكرنا.
فهذا قولنا في صيد الحرم.
__________
(1) ما بين القوسين مما ذهب به البلل في (ك) .
(2) ر. المبسوط: 4/98، البدائع: 2/206، حاشية ابن عابدين: 2/220.
(3) من باب قتل، وضرب.
(4) ما بين القوسين ساقط من (ك) .
(5) " في الحرم " سقط من (ط) .(4/416)
2822- فأما أشجارها، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة عام الفتح: " لا يُعْضَدُ شجرُها، ولا ينفّر صيدُها، ولا يختلى خلاها، ولا تحِل لقطتُها، إلا لمنشد " (1) ، فلم يختلف علماؤنا في أن الأشجار الحَرَمية، كما سنصفها يحرمُ عضدُها والتعرضُ لها، بما ينقُصُها.
ثم ظاهر المذهب أن الأشجار الحرمية إذا عُضِدَت ضُمنت.
2823- والكلام في فصولٍ: أحدها - في صفات الأشجار المضمونة.
فالذي رأيت طرق الأصحاب عليه أن المضمون هي الأشجار البريّة، التي تنبت [بأنفسها] (2) من غير قصد آدمي، فأما الأشجار المثمرة التي ينبتها الناس، فلا ضمان فيها، والبرّيات مشبهة بالصيود، والأشجار المستنبتة مشبهة بالنَّعم. ثم المثمرة منها كالنخيل والكروم وغيرها، وغير المثمرة: كالصنوبر، والعَرْعَرْ، والفِرْصاد (3) والخِلاف. والأشجار البرّية كالعوسج، والطَرفاء، والأراك، والعَضاة. ونحوها.
ثم ما ذهب إليه الأصحاب أن الأشجار البرية إذا استنبتت، فهي مضمونة بجنسها، والأشجار التي تستنبت لو نبتت بأنفسها وفاقاً، لم تضمن لجنسها. وقال صاحب التلخيص: الاعتبار بالقصد، لا بالجنس، فما استنبت، لم يُضمن، وما نبت بنفسه، ضُمن، من غير نظر إلى الجنس.
قال أئمتنا: لا خلاف أن من أدخل نواةً الحرم، أو قضيباً حِلِّياً وغرسه في الحرم، فَعَلِق وبَسَق، لم يصر شجرةً حرمية، (4 وسبيلها سبيلُ الصيد المملوك يدخل الحرم. ولو أخرج قضيباً حرمياً من الحرم، وغرسه في الحل، فهو شجرةٌ حرمية 4) نظراً إلى أصلها.
وهذا فيه تردد عندي ظاهر.
__________
(1) حديث: " لا يعضد شجرها " متفق عليه (ر. البخاري: الجنائز، باب الإذخر والحشيش في القبر، ح 1349، وأطرافه كثيرة، مسلم: الحج، باب تحريم مكة وصيدها وخلاها، ح 1355،1353) .
(2) ساقطة من الأصل.
(3) الفِرصاد في لسان الفقهاء: الشجر الذي يحمل التوت. (المصباح) .
(4) ما بين القوسين ساقط من (ك) .(4/417)
وابن القاص (1) إذا كان يعتبر (2) القصدَ، فلا يثبت الحرمة لهذه الشجرة في الحرم؛ من جهة تعلق القصد بها، فما الظن إذا غرست في الحل؟
(3 فهذا قولنا في أجناس الأشجار 3) .
2824- ثم قال الشافعي: في الدوحة الكبيرة الحرمية بقرةٌ، وفي التي تقصر عنها شاةٌ. قال: قلته تقليداً لابن الزبير.
وللشافعي قول في القديم مشهور: إن الأشجار الحرمية لا تُضمن أصلاً، وإنما يُضمن ذو روح، وليس في الأشجار إلا تحريمُ العضدِ، والتنقيصِ، كما ذكرناه.
ثم إذا فرعنا على ظاهر المذهب، فالجريان على مذهب ابن الزبير، ففي الشجرة الكبيرة التي هي من أكبر أشجار الحرم بقرة، ولم يقع التعرض للبدَنة، ولكنا لا نشك أن البدنة في معنى البقرة.
وأما إيجاب الشاة، فليس في الشجرة الصغيرة، التي فيها الشاة ضبط يُهتدى إليه.
ولعل أقربَ قولٍ فيه أن تكون قريبةً من جنس الكبار، والشاةُ من البقرة سُبعها، فليَعتبر المعتبر هذا التقريب، بين الدوحة، وبين شجرة الشاة. وإن كانت صغيرةً جداً، فالقيمةُ مصروفةٌ إلى الطعام. ثم الصيامُ معدَّل بالطعام، كما ذكرناه في الصيد.
وكما لا تعضد أشجار الحرم لا يختلى خلاها. وحشيشها مضمون بالقيمة، إذا اختليت، كما ذكرناه في الأشجار الصغار.
2825- وأما البهائم، فإنها ترسل حتى ترعى من رعْي الحرم وكلئه. وقال بعضُ علمائنا: سبب المنع من الاحتشاش والاختلاء توفير المراعي للبهائم والصيود الراتعة، واختلف أصحابنا في أن من اختلى واحتش ليعلف بهائمه، فهل يحرم ذلك؟ فمنهم من قال: لا تحريم، ولا ضمان، وإنما يحرم الاختلاء للبيع، وغيره من الأغراض، سوى العلف.
__________
(1) هو صاحب التلخيص، الذي يناقَش قولُه الآن.
(2) (ط) : لا يعتبر.
(3) ساقط من (ك) ومن الأصل.(4/418)
ومن أئمتنا من حرم الاختلاء مطلقاً؛ لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يختلى خلاها " والوجهان ذكرهما الشيخ في شرح التلخيص.
ثم صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استثنى الإذخر من حشيش الحرم، وجوّز قطعَه، والحديث فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يختلى خلاها " قال العباس: إلا الإذخر، فإنها لقبورنا، وبيوتنا، وقُيُوننا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الإذخر (1) .
فلو مست الحاجة إلى شيء من كلأ الحرم في دواء. فهل يجوز قطعه؛ تشبيهاً بالإذخر؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ في شرح التلخيص.
2826- ثم صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نهى عن قطع أشجار [حرم] (2) المدينة، والاصطياد فيه، وقال: " حرمت ما بين لابتيها " (3) فيحرم التعرض لصيد المدينة، وشجرها، ثم إذا وقع التعرض، فمن أصحابنا من قال: لا ضمان أصلاً، وإنما الفاعل عاصٍ. ومنهم من قال: يجب الضمان.
ثم قد ورد أن من تعرض للصيد سُلبت ثيابه، ثم ما حكم سَلَبه؟ اختلف أصحابنا على ثلاثة أوجه: منهم من قال: هو للسالب، لما روي أن سعداً رضي الله عنه سلب ثيابَ إنسان، اصطاد في حرم المدينة، فبعث إليه الوالي في ردّه، فقال: " ما كنت لأرد شيئاً نفّلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم " (4) .
__________
(1) حديث: "إلا الإذخر" متفق عليه وسبق تخريجه.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) حديث: " حرمت ما بين لابتيها " متفق عليه من حديث أبي هريرة، ومسلم من حديث سعد، وجابر، ورافع بن خديج (ر. البخاري: فضائل المدينة، باب حرم المدينة، ح 1869، مسلم: الحج، باب فضل المدينة، ح 1361، 1362، 1363، 1372) .
(4) حديث سلب سعد ثياب من اصطاد في المدينة. رواه مسلم، وأبو داود، والحاكم، والبيهقي (ر. مسلم: الحج، باب فضل المدينة، ح 1364، أبو داود: المناسك، باب في تحريم المدينة، ح 2037، مستدرك الحاكم: 1/486، البيهقي: 5/199، التلخيص: 2/532 ح 1104) .(4/419)
ومن أصحابنا من قال: هو موضوع في بيت المال، وسبيله سبيل السهم المُرْصَدِ للمصالح.
وذكر العراقيون وجهاً آخر: أنه يفرق السلب على محاويج المدينة، قاطنين كانوا أو عابرين، على قياس جزاء صيدِ الحرم.
وذكر بعض أصحابنا أن الواجب في صيد المدينةِ، وشجرِها، كالواجب في حرم مكة.
2827- ومما يتعلق بذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيد وَجّ الطائف، وعضَدِ شجرِها، والتعرض لكلئها. قال صاحب التلخيص: من فعل شيئاً من ذلك أدبه الحاكم، ولم يلزمه شيء، قلته تخريجاً (1) . قال الشيخ (2) : التحريم في وَج متردد، فلعله كراهية، فإن ثبت التحريم، فالضمان محتمل، ثم سبيله إن ثبت الضمان، كسبيل المدينة.
(3 والذي اشتهر من قول الأصحاب نفيُ الضمان؛ فإن إثباتَه من غير ثَبَتٍ بعيدٌ، وهذا هو الذي قطع به الأئمة في الطرق 3) وإنما ترددوا في التحريم، والكراهية.
2828- ثم قال ابن القاص: والنَّقيع (4) حماه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقصد تحريمَ صيده، ولكن قصد منعَ كلئه من غير الجهات التي عيّنها. وقيل: كان حماه للصدقات. ثم قال: ومن تعرض لحشيش النقيع فهل يضمنه؟ فيه وجهان:
__________
(1) ر. التلخيص لابن القاص: 276.
(2) الشيخ: هو أبو علي السنجي شارح التلخيص، وليس ابن القاص كما قد يتوهّم.
(3) ما بين القوسين سقط من (ك) .
(4) في (ك) : البقيع، وكذا في التلخيص لابن القاصّ، وهو وهمٌ، فقد ظن ناسخ (ك) ، ومن ادعى تحقيق التلخيص، ظنّا أن المراد هو البقيع المشهور، مقبرة أهل المدينة منذ عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مشهور معروف، ومعروف أيضاً أنه ليس به عشب ولا كلأ، فكيف يُحمى؟ ولكن المقصود هنا هو (النقيع) وهو موضع كثير العشب والكلأ على مسافة عشرين فرسخاً من المدينة، حماه الرسول صلى الله عليه وسلم لإبل الصدقة، ومن بعده عمر بن الخطاب. وهو بالنون المشددة المفتوحة (هذا الصواب في ضبطه) . انظر معجم البلدان لياقوت: مادة (ن ق ي ع) .(4/420)
أظهرهما الضمان. ثم يضمن (1 بالقيمة، ولا سَلَبَ، كما تقدم في المدينة، ومنهم من قال: لا ضمان أصلاً. وأشجار النقيع هل تحرم كما 1) يحرم الحشيش، فعلى وجهين ذكرهما الشيخ: أحدهما - أنه لا يحرم كما لا يحرم الصيد؛ فإن النقيع إنما حماه رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكان كلئه وحشيشه.
فرع:
2829- إذا أبحنا السَّلَبَ في حرم المدينة، فالمعني بالسَّلَب الثيابُ، ولا ينحو بهذا نحو سلب القتيل في الجهاد.
ولو كان مع المسلوب شيء، من جنس الحلي فهل هو من جملة ما يسلب؟
اختلف أصحابنا فيه. ثم إذا كان يسلب فما عندي أنه يُفْصل بين صيد وصيد، وشجر وشجر، وكأن السلب في حكم المعاقبة للمتعاطي. وغالب ظني أن الذي يهمّ بالصيد لا يسلب حتى يصطاد، ولست أدري أيسلب إذا أرسل الصيدَ، أم ذلك إذا أُتلف؟ كل ذلك محتمل، ولا ثبَت معنا في توقيفٍ، ولا قياس.
***
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ك) .(4/421)
باب جزاء الطائر (1)
2830- أوجب طوائف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم في الحمامة في حق المحرم، والحمامةِ الحرميّة شاةً، روي ذلك عن عمرَ، وعثمانَ، وابنِ عباس، وابنِ عمرَ، وغيرِهم (2) .
ثم الطيور تنقسم -بعد الحمام- إلى قسمين: قسم هو أصغر من الحمام، كالعصفور وغيرِه، فالواجب قيمتُه مصروفةً إلى الطعام. والقسم الثاني - ما [هو] (3) مثلُ الحمام في الجثة، أو أكبرُ منه، ففيه قولان: أحدهما - أن الواجب شاةٌ كالحمامة. والثاني - أن الواجب القيمة، كما ذكرناه في العصافير، وغيرِها؛ فإنّ إيجاب الشاة لا يُحمل إلاّ على الاتباع الذي لا مجال للقياس فيه، ثم الحمام صغار وكبار، فكل ما عبّ وهَدَرَ، فهو حمام، منها: اليمام، والفواخت، والقُمريّ، والدُّبْسي والقطا، وغيرُها.
والجرادُ تعتبر قيمته، وهو ملحق بصغار ما يطير، وروي أن عمر سأل كعبَ بنَ عُجْرة عن جرادةٍ قتلها: ما جعلتَ في نفسك قال: درهم. فقال عمر: " بخٍ درهمٌ خيرٌ من مائة جرادة " (4) ، وروي عن عمرَ أنه قال: " في جرادة تمرةٌ " (5) . وقال ابن
__________
(1) ك: الصيد.
(2) انظر تلك الروايات في الأم: 2/195، والكبرى للبيهقي: 5/205، 206، وانظر تلخيص الحبير: 3/543، 544.
(3) ساقطة من الأصل.
(4) أثر عمر رضي الله عنه عندما سأل كعبَ بن عجرة، رواه الشافعي في الأم وفيه (درهمان) بدلاً من (درهم) . (ر. الأم: 2/196، 197، التلخيص: 2/545) .
(5) أثر عمر: " في جرادة تمرة ". رواه مالك وعبد الرزاق والبيهقي (ر. الموطأ: 1/416 ح 236، مصنف عبد الرزاق: 4/410 ح 8246، البيهقي: 5/182) .(4/422)
عباس: " تصدق بقبضةِ طعامٍ، إذا أخذتَ قبضةً من جرادات " (1) .
وقد روي خبر يدل على إسقاط الضمان في الجراد، قال أبو هريرة: " كلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستقبلنا سرب من الجراد، فكنا نضربه بالسوط، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هو من صيد البحر " (2) وهذا دليل على أنه لا يُضمن.
ولكن لم يصر إلى ظاهر هذا الحديث أحد من أصحابنا.
ولو طمّ الجرادُ المسالكَ، واضطررنا إلى وطئها، فما يتلَف منها هل يُضمن أم لا؟ فعلى وجهين وقد قدمنا ذكرَ هذا، ويمكن حملُ حديث أبي هريرةَ على الوجهين. والأشبه أنه صلى الله عليه وسلم كان يُجري في خلقة الجراد حديثاً، فأنبأهم أن أصل الجراد من صيد البحر، وقيل إنها من (3 خرء السمك.
ولو صال 3) صيد على محرم، فدفعه، وأتى دفعُه عليه، فلا ضمان عليه أصلاً.
فرع:
2831- (5 المحرم إذا قصده لص على حمار وحش، ولم يتأت له دفعُ اللص إلا بقتل مركوبه، فهل يضمنه؟ ذكر القفال قولين: أحدهما - أن الغرامة تتوجه على اللص، ولا يطالَب بها المحرم. والثاني - أن الطَّلِبَة (4) تتوجه على المحرم 5) ثم إذا غرم يرجع بما غرم؛ فإن الحلال يبعد أن يغرَم صيداً ابتداء.
وكذلك ذكر قولين في أن من ركب دابةً مغصوبة، وقصد إنساناً فقُتلت الدابةُ في ضرورة الدفع، فأحد القولين أن الغرامة تتوجه على راكب الدابة، ولا طَلِبَة على
__________
(1) أثر ابن عباس: " تصدق بقبضةٍ من طعام ". رواه الشافعي بسند صحيح (ر. الأم: 2/196، 197، التلخيص: 2/545) .
(2) حديث أبي هريرة: " استقبلنا سرب من الجراد " رواه أبو داود: المناسك، باب الجراد للمحرم، ح 1854، والترمذي: الحج، باب ما جاء في صيد البحر للمحرم، ح 850، وابن ماجه: الصيد، باب صيد الحيتان والجراد، ح 3222، والبيهقي: 5/207 (وضعفه) ، وأحمد: (2/306، 364، 407) قال في الإرواء: ضعيف (4/220 ح 1031) .
(3) ما بين القوسين امحى من (ك) .
(4) الطَّلبة: وزان كلمة.
(5) ما بين القوسين ذهب من أطراف (ك) .(4/423)
الدافع. والثاني - أن الطَّلِبَة تتوجه على الدافع أيضاً، ثم إذا غَرِم يرجع بما غَرِم، وبين ما ذكره في المحرم، وبين ما ذكره في الغاصب فرقٌ ظاهر في الحكم؛ فإن الحلال على أحد القولين لا يغرَم الصيدَ، ولكن يرجع المحرم عليه إذا غرم. وفي مسألة الغصب تتوجه الطَّلِبةُ على الغاصب قولاً واحداًً. وإنما الكلام في قرار الضمان كما سبق.
فرع:
2832- إذا نحّى المحرم من هوامّ رأسه شيئاً، فلا يلزمه شيء في ظاهر المذهب. ومن أصحابنا من قال: يلزمه؛ ولا محمل له إلا إزالة الشعث.
ثم لا مقدار لما يخرجه. وكان شيخي يقول: أقل ما يسمى طعاماً، ولا يجب في إزالته من الثوب شيء، لما ذكرناه من معنى الشعث.
فصل
2833- إذا كسر المحرمُ بيضةً مأكولة، فلا يلتزم قيمتَها، فإن كانت مَذِرة، فاسدة، فلا قيمة لها، ولا ضمان. ولو كسر بيضةً للنعامة مذِرة، فلا شيء، ولو قدرت قيمة، فهي لنقشر، وليس ذلك مضموناً، كما لا يضمن الرّيش المنفصل من الطائر.
وإن كان قد ظهر فرخٌ ذو روح، ضمنه بطريقه كما يُضمن الفرخ.
ولو نفّر المحرم طائراً عن بيضه الذي كان يحضُنه، ففسد البيض، ضمن البيضَ بما ذكرناه.
***(4/424)
باب ما للمحرم قتله
2834- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خمس من الفواسق يُقتلن في الحل والحرم: الحية، والغراب، والحدأة، والعقرب، والكلب العقور " (1) . ووردت الفأرة بدلاً من العقرب. أما القول فيما يُضمن، وفيما لا يُضمن، فقد مضى، وأوضحنا أن ما كان حراماً في جنسه، لم يضمن بالإحرام، ولا بالحرم، ومقصود هذا الباب بيان ما يجوز قتلُه، وما لا يجوز قتله.
فأما المؤذيات، فهي مقتولة أين صودفت، ومنها السباع، وقال أبو حنيفة (2) لا يحل قتل الأسد والذئب والنَمِر ما [لم] (3) يَصُل، وعنده يجب الجزاء بقتله على المحرم.
وأما ما لا يؤذي من الطيور المحرّمة، فمن أصحابنا من حرّم قتلها، فإن ذا الروح لا يقتل إلا لغرضٍ ظاهر أو (4) دفع أذى. ومن أصحابنا من لم يزد على الكراهية في قتلها.
والحشرات المؤذية مقتولة، وما لا يؤذي منها، فلا تجريم، وأقصى ما يذكر فيها الكراهية. وكان شيخي يقول: لا كراهية في دفعها للتعذر، وإن أدى إلى هلاكها.
والأمر في ذلك قريب.
__________
(1) حديث: " خمس من الفواسق " متفق عليه من حديث عائشة (ر. البخاري: جزاء الصيد، باب ما يقتل المحرم من الدواب، ح 1829، مسلم: الحج، باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم، ح 1198، التلخيص: 2/523 ح 1093) .
(2) ر. المبسوط: 4/90، البدائع: 2/197، حاشية ابن عابدين: 2/219، مختصر اختلاف العلماء: 2/121 مسألة: 595.
(3) ساقطة من الأصل.
(4) في الأصل: و.(4/425)
2835- وقد نجز في القول (1 الصيد. وأغفلنا 1) صورتين اختلفنا فيهما وأبو حنيفة:
أحدهما - إذا اشترك جماعة في قتل صيد، فلا تلزم إلا (2 فدية واحدة مفضوضة عليهم 2) خلافاً لأبي حنيفة (3) . والغالب عندنا في جزاء الصيد مَشَابِه (4) الغرامات (5 والدليل عليه أنه يجب في 5) بعض الصيد بعضُ الجزاء؛ اعتباراً بالقيمة والأبدال، (6 بخلاف الكفارات، ولو قتل جماعة رجلاً، وجب على كل واحد منهم كفارة. فإن الكفارة (6) لا تتبعض، ولا تتعلق بالأبعاض.
2835/م- المسألة الأخرى- عندنا لا يجب على القارن إذا قتل صيداً إلا دم واحد، خلافاً لأبي حنيفة (7) . والخلاف جار بيننا في جميع المحظورات.
***
__________
(1) ما بين القوسين سقط بسبب البلل من (ك) .
(2) ما بين القوسين مغسول من (ك) .
(3) ر. مختصر الطحاوي: 71، المبسوط: 4/81، رؤوس المسائل. مسألة 158، فتح القدير: 2/472. البدائع: 2/208، مختصر اختلاف العلماء: 2/220 مسألة 689.
(4) في (ط) : مثابة. والمشابه: بفتح الميم جمع شَبه على غير قياس. (المعجم) .
(5) ما بين القوسين ذهب من أطراف (ك) .
(6) بياض في (ك) . ما بين القوسين.
(7) ر. مختصر الطحاوي: 71، مختصر اختلاف العلماء: 2/220 مسألة: 689.(4/426)
باب الإحصار
2836- المحرم إذا صدّه العدوّ على ما سنصف الصدَّ، تحلل، قال الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب} [البقرة: 196] .
ومضمون الباب تحويه فصول: أولها - في السبب الذي يثبت التحللَ.
فإذا اعترض للحجيج الأعداء، وصدوهم عن الكعبة، من جميع الجهات، فهذا هو الصدّ المتفق عليه، ثم إذا كان المانعون مسلمين، واقتدر الحجيج على [مكاوحتهم] (1) ، فلا يلزمهم ذلك. وإذا كانوا لا يتخلصون إلا بقتالٍ، فهم مصدودون.
وإن كانوا لا يتخلصون إلا ببذل مالٍ، فهم محصورون مصدودون. قال الشافعي: لو احتاج الحجيج إلى بذل درهم، وهو صاحب آلاف، وكان لا ينجلي الحصر إلا ببذل شيء، فلا يجب بذلُه، ويجوز التحلل.
ولو كان الذين لقوا الحجيج مشركين، فقد قال بعض المصنفين: إذا كان المسلمون على الحد الذي لا يجوز الفرار معه، ولم يزد الكفار على الضعف، يجب مصادمة الكفار، ولا يجوز التحلل.
وهذا كلام مختلط، وقد نص الأئمة في الطرق، على جواز التحلل، سواء كان
__________
(1) في الأصل، (ك) : مكافحتهم. والمكاوحة هي الأقرب، والمعهود في استعمال إمام الحرمين. ومعناها: المقاتلة والغلبة. فهي أبلغ من المقاتلة والمكافحة.(4/427)
الأعداء مسلمين أو مشركين؛ فإن الحجيج لا يكونون على أُهَب القتال، في أغلب الأحوال، فلا يجب القتال لذلك، وقد لا يسوغ؛ إذا منعنا الاستقتال، كما سيأتي في كتاب الجهاد إن شاء الله تعالى.
فإن كان الحجيج متأهبين للقتال، وقد صدمهم الكفار، فلا فرار إذاً، إذا تجمعت الشرائط المعتبرة في تحريم الفرار. وإذا تعين الاشتغال بالقتال، فلا معنى للانصراف، ولا سبيل إلى التحلل إذا امتنع الانصراف.
هذا التفصيل لا بد منه.
ولو أحاط الأعداء بالحجيج من الجوانب، فهل يجوز التحلل والحالة هذه، فعلى قولين: أحدهما - لا يجوز، فإنهم لا يستفيدون بالتحلل أمراً، وإذا لم يكن من لُقيان العدوّ بدّ، فمصابرة الإحرام محتومة.
والقول الثاني - يجوز التحلل؛ فإنهم ممنوعون عن صوب الكعبة، والحصر متعلق بالمنع منها، فإن فرضت محنة في جهة أخرى، فلا التفات إليها.
2837- وأما المرض فليس من أسباب التحلل عند الشافعي. ولو أحرم المرء، وشرط أنه إذا مرض مرضاً ثقيلاً تحلل، ففي جواز التحلل عند المرض قولان: المنصوص عليه في الجديد أنه لا يجوز التحلل؛ فإن ما لا يفيد التحلل بنفسه، فيبعد أن يُفيد الشرط فيه (1 تحللاً، مع اختصاص الحج عن العبادات بمزيد التأكد 1) ، والبعد عن التحلل.
ونص في القديم على أنه (2 يجوز التحلل إذا جرى الشرط كذلك، لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لضُباعة [الهاشمية] (2) ، لما ذكرت ما بها من سقم، ورامت التخلف عام حجة الوداع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أهلي واشترطي أن مَحِلّي حيث حبستني " ويتجه حمل الحديث على أمرها بالإهلال،
__________
(1) ما بين القوسين، مما ذهب من أطراف (ك) .
(2) في الأصول: الأسلمية. وهو وهم نبّه عليه النووي في " تهذيبه ": 2/376، وحديث ضباعة متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها (اللؤلؤ والمرجان: ح 754) .(4/428)
وإعلامها أن مَحِلَّها حيث تتوفى، فكأنه قال لها: أهلي فإن حبسك أجلُك، فكل نفس تذوق الموت 1) .
ثم إذا جوزنا التحللَ عند المرض بسبب الشرط، فلو جرى هذا الشرطُ في سببٍ آخر، مثل أن يقول: إن ضللت الطريق، أو بلغني أمر مهم، واقتضى الحال تداركَه بالانصراف، تحللت، فالذي كان يقطع به شيخي أن الشرط لاغٍ، ولا يجوز التحلل، والقول القديم مختص بالمرض؛ فإن المتبع فيه الخبر، والأقيسة لا تجول في هذه المضايق.
وقطع العراقيون أقوالهم: [إن الشرط في كل مُهِمٍّ يحل مَحَلَّ المرض الثقيل، يخرّج على القولين] (2) المذكورين في المرض.
ولو قال الذي يُحرم: إذا مرضت، انحل إحرامي، فلم يشترط إنشاء التحلل، بل شرط الانحلال، والتفريع على القول القديم، فقد اختلف أئمتنا في ذلك، فمنهم من ألغى [هذا] (3) الشرط؛ فإنه ليس على مضاهاة التحلل الثابت عند الإحصار.
والإحرامُ بالحج لا يقبل التأقيت.
فإذا كان الحج لا يفسد، فليفسد الشرط، وليسقط أثره.
ومن أصحابنا من قال: يثبت هذا الشرط كما شرط، لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: " واشترطي أن مَحِلِّي حيث حبستني " هذا مشعر في ظاهره بالانحلال، من غير إنشاء.
2838- ومما يتعلق بذكر الأسباب أن الحصر إذا كان عامَّاً، فهو الذي يُثبت التحلل، وليس المعنيُّ بالعموم أن يعم الأقطار، وجميعَ الآتين من جميع الجهات، ولكن إذا تحقق الحصر في طائفةٍ ذوي عددٍ، فهذا حصرٌ (4) مثبت للتحلل وفاقاً.
والحصر الخاص هو أن يتعرض ظالمٌ لواحد، أو لشرذمةٍ من جميع الحجيج،
__________
(1) ما بين القوسين ذهب من أطراف (ك) للسبب نفسه.
(2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(3) مزيدة من (ط) ، (ك) .
(4) سقطت من (ك) .(4/429)
فيمنعهم، فإذا تُصوّر الحصر الخاص، فالذي ذكره الأئمة من المراوزة أن القول مختلِف في ثبوت حكم التحلل.
وذكر العراقيون طريقة هي أمثل (1) من ذلك، فقالوا: كل حصر يُثبت التحللَ، خاصّاً كان أو عاماً. ولكن إن كان عاماً، سقط القضاء، وإن كان التحلل بسبب خاص، ففي سقوط القضاء قولان.
فإن قيل: كيف يطّرد للمراوزة ذكر القولين في جواز التحلل، مع إجماع الأصحاب على أن العبد إذا أحرم بغير إذن مولاه، فمنعه المولى، فله التحلل. وهذا حصرٌ خاص؟ قلنا: الانفصال من هذا ممكن، وهو أن العبد اقترن بإحرامه ما يسلّط المولى على حَلّه، وهذا المعنى لا يتحقق في منعٍ يطرأ من ظالمٍ على المحرم؛ فإن ذلك مسبوق بتأكد الإحرام، وليس [العام] (2) عام الصد، والآية نزلت في الصد على الحجيج. والأوجه طريقة العراقيين.
2839- ومما يتعلق بهذا أن من جوز التحلل عند المرض إذا تقدم الشرط، ذكر وجهين في أن الدم هل يلزم عند التحلل؟ أحد الوجهين - يلزم كما يلزم المصدود بالعدوّ. والثاني - لا يلزم؛ فإنَّ تحلل المريض وفاءٌ بالشرط، فلا نوجب الدمَ، وتحلل المصدود بالعدوّ ليس مرتباً على حكم شرط، بل هو طارئ بعد لزوم الإحرام مطلقاً.
فإن قيل: لو شرط المحرم أن يتحلل (3 عن صد العدو، فما القول 3) فيه؟ فهل يؤثر الشرط؟ قلنا: اختلف الأصحاب، فمنهم من قال: يُؤثِّر؛ حتى يُخرَّجَ لزوم الدم
__________
(1) (ك) : مثل.
(2) في الأصل: للعلم. والمثبت من (ط) ، (ك) وكأن في العبارة شيئاً؛ فالمعنى المقصود بالسياق: إن المحرم لم يكن يتوقع أنه سيلقى الصدّ.
(3) ذهب ما بين القوسين من أطراف (ك) .
وفي الورقات الأربع الباقية من نسخة (ك) كثر فيها أثر البلل حتى وصل بالتدريج إلى ربع الصفحة تقريباً. ولذا لن نشير إلى ذلك، وسنحاول طبعاً الاستعانة بكل سطرٍ أو جملة يمكن قراءتها.(4/430)
على أحد (1) الوجهين. ومنهم من قال: لا يؤثر؛ وهو الأصح، لأن ما ذكره بالشرط ثابت، فلا أثر للشرط. وإذا سقط أثره، لغا.
فإذا لاح أسباب التحلل.
فالفصل الثاني
بعده وهو استفتاح [كلام] (2) وإتمام ما مضى.
2840- فنتكلم في سقوط القضاء عن المحصر، ونذكر صورَ الوفاق والخلاف.
فإذا أحرم الرجل، ولم يأت بنسك سوى الإحرام، فصُدّ على ما تُصوّر الصدّ، فإن تحلل، فلا قضاء. وإنما يظهر هذا إذا كان الحج تطوعاً، فإنه إن كان فرضاً، عاد إلى ما كان عليه قبل الشروع، ووضوح ذلك مغنٍ عن كشفه.
ولو صُدّ عن طريقٍ، وأمكنه سلوك طريقٍ آخر على الشرط المرعي في الاستطاعة، وكان لا ييئس من إدراك الحج، فليس له التحلل، والحالة هذه؛ فإنه غير مصدود عن الكعبة، وإنما صدّ عن طريق، فإذا مال إلى الطريق الآخر، ولم يأل جهداً، ففاته الحج، والحجّ تطوّع، فقد تقدم أن من فاته الحج، يلزمه أن يلقَى البيتَ؛ فإن ذلك ممكن.
ثم في وجوب القضاء قولان: أحدهما - يجب القضاء لمكان الفوات. والثاني - لا قضاء؛ فإنَّ سبب الفوات ما جرى من الصد عن الطريق القاصد. ولا شك أن هذه المسألةَ مفروضةٌ فيه إذا كان السبيلُ الذي مال إليه أطولَ وأشطَّ، أو أعسرَ وأشقَّ. وإذا كان الطريقان متساويين في كل معنى، فهذا فوات محض، ويجب القضاء فيه لا محالة.
ولو وقف الحاج بعرفة، فصدّ عن البيت، فله التحلل، ولا نقول له: صابر؛ فإن ما بعد الوقوف لا يفوت.
__________
(1) سقطت من (ط) .
(2) في الأصل: كلامه.(4/431)
فإذا تحلل، ذكر صاحب التقريب قولين في وجوب القضاء، وإن لم يتحقق فواتٌ. وقطع العراقيون بأن القضاء لا يجب.
والذي راعاه صاحب التقريب في طرد القولين، وتمييز صور القطع، أن قال: إذا لم يجر قبل الحصر إلا الإحرام المحض، ثم تحلل المحصر، فلا قضاء، وإن جرى مع الإحرام نسك، ثم فرض الصدّ والتحلل، ففي القضاء قولان.
وقال العراقيون: المصدود عن البيت إذا تحلل بعذر الإحصار، لم يقضِ قولاً واحداًً. ومن قدر على لُقيان البيت، وصُدَّ عن عرفة، ولم يُتمّ -لأجل الصد- حجَّه، ففي القضاء قولان. والواقف بعرفة إذا صُدّ عن البيت ممنوع عن لقاء البيت، فإذا تحلل، لم يلزمه [القضاء] (1) لكونه مصدوداً.
2841- ولا يحصل عندي شفاء الصدر بهذا. والوجه أن نقول:
الفوات في وضعه يوجب القضاء، والإحصار لا يوجب. فإذا تجرد الفوات، ولم يكن الإحصار سبباً فيه، وجب القضاء. وإذا كان التحلل بمحض الإحصار ولم يتقدّمه سبب يوجب القضاء، فلا قضاء.
وبيان ذلك أنه لو أفسد الحج، فأمرناه بالمضي في الفاسد، فلقيه العدو، وصدّه، فله التحلل، وعليه القضاء بالفساد المتقدم.
والمسائل كلها في حج التطوع، حتى يظهر القول في القضاء.
[و] (2) في هذه المسألة يتصور وجوب القضاء، وإقامةُ القضاء في سنةٍ واحدة، فإن من أفسد الحج قبل الوقوف، فصد، فتحلل، وانجلى الحصر، فلو أحرم وقضى أمكن ذلك. ولولا تخلل الحصر، وما ترتب عليه، لما تُصور هذا.
ولو جرى فوات سببه الحصر، فقد اشترك الفوات والحصر، فيختلف القول.
2842- ومما يتم به الغرض أن المحصرَ لو لم يتحلل، وصابر، ودام الحصر، حتى فات الحج، فلأصحابنا طريقان في هذه المسألة:
__________
(1) في الأصل: دم.
(2) مزيدة من (ط) ، (ك) .(4/432)
منهم من قطع بأن الحج إذا فات بمصابرته، يلزمه القضاء قولاً واحداًً؛ فإنه كان يمكنه ألا يصابر، ولو تحلل، لما تصوّر الفوات، فكأنه قصد التسبب إلى الفوات، وليس كما لو سلك طريقاً بعيداً؛ فإن الصد عن جميع الطرق لم يتحقق في تلك الصورة، والصد في هذه الصورة عمّ الطرقَ، فكانت مصابرتُه سبباً في جلب الفوات.
ومن أصحابنا من قال: في المسألة قولان، فإنه يمكن حمل مصابرته على رجاء انجلاء الحصر، فعُذِر لذلك، والحصر قائم، وصاحب الفوات إنما يلتزم القضاء لانتسابه إلى طرف من التقصير، الذي ينسب إلى مثله كل مخطىء.
فهذا بيان ما أردناه.
2843- ومما يتصل بذلك أن من وقف بعرفة، ثم صُدّ بعده، فتحلل، ثم انجلى الحصر، ففي البناء وإمكانه ما قدمناه. فإن لم نره، فهذا من المسائل المقدّمة، فالعراقيون يقطعون بنفي القضاء. وصاحب التقريب يجعل المسألة على قولين لتأكد الإحرام بالنسك الأعظم.
وما ذكره العراقيون أمثل؛ فإن هذا تحلل بالحصر المحض. وإن رأينا البناء، [فلْيَبْن، فلو لم يبن] (1) ، ولم يعد مع إمكانه، ففي القضاء وجهان: أحدهما - لا قضاء؛ فإن الحج كان تطوعاً، وقد تحلل. والثاني - يلزمه القضاء؛ فإنه في التمكن من البناء (2 إذا قصر 2) منتسبٌ إلى ترك الممكن (3) . وقد يتجه أن نقول: هل يجب البناء أم لا؟ أخذاً مما ذكرناه.
2844- ومما نصوره أن المحرم بالحج إذا فاته الحجة، ثم اعترض له من يصده، فله التحلل بعذر الصدّ، ويستفيد بذلك قطعَ الإحرام في الحال، حتى لا يحتاج إلى لقاء البيت، وقطعِ المسافةِ إليه. ثم القضاء لازم في هذه الحالة؛ من جهة أن الفوات
__________
(1) عبارة الأصل: " فلئن لم يبن ".
(2) ما بين القوسين ساقط من (ط) .
(3) (ط) : التمكن.(4/433)
الموجب للقضاء تقدم على الحصر، ولم يقع بسبب الحصر؛ فكان تقدّم الفوات بمثابة تقدم الفساد.
وقد ذكرنا أن من أفسد حجه بالجماع، وألزمناه المضي، فإذا أحصر تحلل، ثم القضاء واجب، كما مضى.
2845- ثم حكى صاحب التقريب عن ابن سريج أنه قال: إذا فاتت الحجةُ، ثم تحقق الإحصار والتحلل بسببه؛ فيلزمه دمان: أحدهما - دم الفوات، والثاني - دم الإحصار. وهذا الذي ذكره منقاس؛ فإن سببي الدَّمَيْن قد تحققا، أما الفوات، فلا شك فيه، والتحلل بالإحصار وقع، وأفاد الخلاص من ربط الإحرام، وهما مختلفان، وأثرهما يجري على مقتضى التناقض؛ فإن من فاته الحج لا يتخلص من الإحرام ويقضي. ومن أُحصر يتخلص ولا يقضي.
وذكر صاحب التقريب خبطاً في كتابه مشعراً بأنه لم يقف على كلام ابن سريج، فلا معنى لذكره، وقد يحمل [ما] (1) في الكلام من الخبط على خلل النسخة.
2846- واختلف أئمتنا في أن دم القِران هل يندرج تحت دم الإفساد؟ وسبب ذلك أن القارن لم يستفد من تخفيف القِران أمراً إذا أُفسد عليه، فكان ذلك محمولاً على هذا. على أن الأصح وجوبُ الدمين أيضاً، ولست أرى لمخالفة ابن سريج وجهاً فيما صورته.
فأمّا الفصل الثالث
فمضمونه الكلامُ في صفة دم الإحصار، والقولُ في بدله، وإبداءُ حقيقته ووضعه. وهذا الفصل يتعلق منتهاه ببيان ما تقدم، كما [سَننبّه] (2) عليه.
2847- فأما دم الإحصار، فدم شاةٍ، قال الله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْي} [البقرة: 196] . هذه الصيغة منزلة على دم شاة؛ فإنها أقل مراتب الهدايا. ثم
__________
(1) مزيدة من (ط) ، (ك) .
(2) في الأصل، وفي (ك) : " سنبينه ". والمثبت من (ط) .(4/434)
اختلف قول الشافعي في أن دمَ الإحصار هل له بدل أم لا؟ فقال في أحد القولين: له بدل اعتباراً بجميع دماء الجبرانات. وقال في [القول] (1) الثاني: لا بدل له، فإن الدماء التي جرى لها ذكر في كتاب الله تعالى -وهي ذات أبدال- اشتمل الكتاب على ذكر أبدالها جملة، وتفصيلاً، وهي جزاء الصيد، وفدية الأذى، ودم التمتع. ولما ذكر الله تعالى دم الإحصار، لم يذكر له بدلاً، وسنبين في تفصيل الكلام مخالفةَ دمِ الإحصار لما عداه من الدماء.
التفريع على القولين:
2848- إن قلنا: لا بدل لدم الإحصار، فلا كلام. وإن قلنا: له بدل، ففيه ثلاثة أقوال:
أحدها - أن بدله كبدل دم الإساءة، فإنه في مقابلة ترك النسك، ودم الإحصار في مقابلة التحلل عن النسك قبل أوانه.
والقول الثاني - أن بدله كبدل دم الحِلاق، من حيث إن الحالق يكفّ الأذى، والمحصر بالتحلل يؤثر الخلاصَ مما هو فيه، إن علم أن الإحرام ليس [يفيده] (2) المقصودَ مع (3) جريان الصد.
والقول الثالث - أن بدله كبدل دم التمتع.
فهذا بيان القول في كيفية الدم وبدلِه.
2849- ثم نذكر وراء ذلك تحقيقاً مطلوباً، وفيه بيان أصلٍ مستقل، وهو منعطِفٌ على تمام البيان فيما تقدم، فنقول:
المحصر يتحلل، فإن كان يريق الدمَ، فمتى يريقه؟ وبماذا يحصل التحلل؟ للشافعي أولاً قولان: أحد القولين - أنه لا يتحلل قبل الإراقة. والقول الثاني - إنه يتحلل قبل الإراقة إن أراد ذلك.
__________
(1) في الأصل: القديم الثاني.
(2) في الأصل: يقيّده. (وهو تصحيف واضح) .
(3) في الأصل: وهو مع (بزيادة: وهو) .(4/435)
والذي يجب التنبه له أن دم الإحصار إذا أجريناه على قياس الدماء، فهو دم جبران، وسببه التحلل عن الإحرام قبل أوانه، فإذا (1) كان كذلك، تعذر ربط (2) التحلل بإراقة الدم؛ فإن الإراقة موجَبُ التحلل، فليتصور تحلّلٌ موجِب لها اعتباراً بكل موجِب وموجَب في الكفارات، ثم لو وفَّيْنا هذا الأصلَ حقَّه، لجعلنا تقديمَ الإراقة على التحلل، بمثابة تقديم فدية الأذى على الحلق. وفي جواز ذلك وجهان، ذكرناهما فيما سبق.
فهذا على تشبيه دم الإحصار بدماء الجبرانات.
ولكن التحلل عن الإحرام من غير سببٍ مشكلٌ، وأسباب [التحلل] (3) كلُّها ممتنعة في حق المحصر، فأُثبت الدمُ في إفادة التحلل حالاًّ محلَّ أسباب التحلل، في حق المستمر على نظم النسك من غير صدّ.
ولا ينبغي أن يُعتقد أن دم الإحصار بدلٌ عما صُدَّ المحصرُ عنه؛ فإنه مصدود عن الأركان في الحج، والأركان لا بدل لها. ولو كان الدم بدلاً، لوجب أن يقال: الشارع في حج الإسلام إذا صدّ، فتحلل، يسقط عنه فرض الإسلام؛ لأنا نحل الدم محل ما تعذر. وليس الأمر كذلك.
فالوجه على هذا القول أن نقول: الدم سبب تحلّل في حق المحصر المضطر، يفيد ما (4) تفيده أسباب التحلل، فإذا وقع التنبه لما ذكرناه، ولأجله غمض القول في بدل الدم، فيجب وراء ذلك تنزيل القولين على ما ذكرناه. فمن ألحق دم الإحصار بدماء الجبرانات، قال بتقدم التحلل عليه، وإنما يجب لسبب التحلل، فعلى هذا التحلُّلُ السابقُ على إراقة الدم لا يحصل بفعلٍ من الأفعال.
2850- وقد يبتدر فهمُ بعض الناس إلى أن التحلل يقع بالحلق، وليس الأمر كذلك؛ فإن القول وإن اختلف في أن الحلق هل هو نسك أم لا في أوان التحلل في
__________
(1) (ط) وإذا.
(2) (ك) بطء.
(3) ساقطة من الأصل.
(4) (ك) : ما لا تفيده.(4/436)
النسك الجاري على النظام، لم يختلف القول في أنه ليس نسكاً في حق المحصر. وإذا كان كذلك، فلا تحلل إلا بالقصد الجازم، شبّب (1) بما ذكرناه أئمتنا، وصرح به العراقيون، فإذا تحلل بالنية أراق الدم.
ولكن مع هذا لم يختلفوا في أن تقديم الإراقة جائز، وخالفوا قياس دماء الجبرانات، حتى لم يذكروا خلافاً في إيجاب تأخير الإراقة على قياس دماء الجبرانات.
وبالجملة إذا أعضل شيء [و] (2) خرج عن قياس الباب، لم يتمحض للمضطربين فيه قول. (3 هذا بيان هذا القول 3) .
2851- ومن لم يحصّل التحلّلَ دون (4) الإراقة، في حق المتمكن منها، جعل إراقة الدم سببَ التحلل في هذا المقام؛ من حيث بَعُدَ عنده التحلل بمجرد القصد من غير فعل، فالدم يفيد من التحلل ما يفيده أسباب التحلل في التخلص من الإحرام في حق المستمر على نظم النسك.
ثم [السَّبْر] (5) التام في هذا القول: أن نفسَ الإراقة لا تكون تحللاً بلا خلاف؛ فإن المحصرَ لو أراق الدمَ، ولم يقصد التحلّلَ، لم يتحلل، فالقصد بمجرده لا يحلّل، والإراقة بمجردها لا تحلّل، فهي إذن مخالفةٌ للتحلل الذي يقع على نظم النسك، في حق من ليس مصدوداً، من جهة أن تيك الأسباب إذا جرت، كان التحلل في حكم انتهاء العبادة نهايتَها، وبلوغها تمامَها. وهذا المعنى لا يتحقق في دم الإحصار؛ فإن التحلل هاهنا قاطعٌ لدوام الإحرام، على خلاف نظام [التمام] (6) ، فلا بد من الجمع بين الإراقة والقصد.
__________
(1) شبب: أي نوّهوا به، وبحسنه، وجودته. وهذا اللفظ معهود في لغة إمام الحرمين.
(2) مزيدة من (ط) ، (ك) .
(3) ما بين القوسين سقط من (ط) ، وأما (ك) ، فقد ذهب منها نحو نصف صفحة في هذا الموضع.
(4) أي قبل الإراقة.
(5) (ط) ، (ك) : السرّ.
(6) في الأصل: النظام، و (ك) دوام التمام.(4/437)
هذا حقيقة القولين.
2852- ثم نقول وراء ذلك: إن لم يجد المحصر دماً، فكيف التحلل؟ وما الوجه؟ هذا يتفرع على أن دمَ الإحصار هل له بدل أم لا؟ فإن قلنا: لا بدل له، فرّعنا الأمر على أن التحلل في حق واجد الدم، يقع بماذا؟ فإن قلنا: يقع التحلل بالقصد المجرد، والإراقة بعد التحلل تقع، فليتحلل إذا لم يجد بالقصد، ثم لينتظر وجدان الدم.
وإن قلنا: لا يحصل التحلل دون الإراقة في حق واجد الدم، فهل يحصل التحلل بالقصد المجرد في حق الفاقد؟ فعلى قولين: أحدُ القولين - لا يحصل التحلل دون إراقة الدم، فليصابر المحرم إحرامَه إلى أن يجد دماً. والقول الثاني - أنه يتحلل بالقصد المجرد عند فقد الدم.
وإن فرعنا على أنه لابد من الإراقة عند التمكن منها؛ لأن مبنى تحلل الإحصار على التخفيف، وتكليفُه مصابرةَ الإحرام إلى وجدان الدم تكليف عسر، يناقض وضع الشرع في التحلل المرتب على الإحصار.
هذا إذا قلنا: لا بدل لدم الإحصار.
فأما إذا جعلنا له بدلاً، [فما كان مالاً منه على بعض] (1) الأقوال، فترتيب المذهب فيه في الوجود والعدم، كترتيبه في الدم، غيرَ أن المرعي في الدم الإراقة، والمرعيُّ في الصدقات التسليم إلى المستحق.
فإن قدرنا بدل الدم صوماً، فإن قلنا: لا يتوقف [التحلل على الإراقة مع إمكانها، فلأن لا يتوقف] (2) على الصوم مع امتداد الزمان فيه أولى. وإن قلنا: يتوقف التحلل على الإراقة عند الإمكان، فهل يتوقف على الصوم؟ فعلى قولين. والفاصل في نظم
__________
(1) بياضٌ بالأصل.
(2) ساقط من الأصل.(4/438)
الترتيب أن الإراقة لا يطول زمانها في حق المتمكن منها، والصوم يطول زمانه، ويعسر استصحاب الإحرام معه.
فهذا تمام القول في الحصر وحكمه وما يتعلق به من فدية، وتنزيلُ الفدية منزلتها، وبيان سقوط القضاء عند تمحض الإحصار، وتفصيل القول في امتزاج الفوات بالإحصار. والآن نذكر بعد ذلك تفصيلَ القول في حصر السيد عبدَه المحرم، وحصرِ الزوج زوجتَه. وقد عقد الشافعي باباً فيه.
***(4/439)
باب حصر العبد يحرم بغير إذن سيده
2853- العبد إذا أحرم بغير إذن سيده، انعقد إحرامه، وأطلق أصحابنا أن للسيد أن يحلله، وسنذكر شرح ذلك.
ولو أحرم العبد بإذن مولاه، ثم بدا للسيد أن يمنعه عن المضي في إحرامه، لم يكن له ذلك عندنا، خلافاً لأبي حنيفة (1) .
2854- والزوجة المستطيعة إذا أرادت أن تحج [حجة] (2) [الإسلام] (3) من غير إذن زوجها، فهل للزوج منعُها؟ فعلى قولين: أحدهما - له منعها؛ فإن حقه عليها ناجز على الفور، والحج على التراخي، فلا يجوز تقديم ما مبناه على التأخير على حقٍّ مبناه على الفور.
والقول الثاني - ليس للزوج منعُها؛ فإنا إذا سلطناه على ذلك، أفضى إلى خلو عمرها عن الحج؛ فإنها مهما تهم به، منعها الزوج، ولا يجوز إخراج الحج عن العمر (4) ، وذكر الأئمة وجهين في أن الزوج لو أراد أن يمنع زوجته، عَن إقامة فريضة [الصلاة] (5) في أول الوقت، فهل له ذلك؟ والحج أولى بأن لا يُمنع منه؛ فإن الصلاة مؤقتة، والقلب يرتبط بوقتها على ثقةٍ في العادة وصدق رجاء، وما يناط بالعمر، فهو على إبهام. وقد ذكرنا هذا في كتاب الصلاة، ولهذا الفرقِ مال الفقهاء إلى أن من أخر الصلاة إلى وسط الوقت ومات، لم يلق الله عاصياً، على ظاهر
المذهب عندهم. ومن مات بعد استمرار الاستطاعة، ولم يحج، لقي الله عاصياً.
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 72، بدائع الصنائع: 2/176.
(2) زيادة من (ط) .
(3) زيادة منّا على ضوء السياق. والعبارة بكاملها تقع ضمن الأسطر التي ذهبت من (ك) .
(4) في (ط) : العمرة.
(5) ساقطة من الأصل وحدها.(4/440)
وفي هذا كلامُ يتعلق بالأصول، وليس من غرضنا ذكره الآن.
فإن قلنا: لا يملك الزوج منعَ المرأة من حج الإسلام وحملِها على تأخيره، فإذا أحرمت، لم يحللها.
وإن قلنا: يملك منعَها، فإذا أحرمت ملكَ تحليلَها.
هذا في فرض الإسلام.
2855- فأما حج التطوع، فليس للمرأة أن تخرج لأجله، وتترك حقوق الزوج الواجبة، بسبب التطوع، والزوجُ يمنعها لا محالة، فإن أحرمت، فهل يملك الزوج تحليلَها؟ قال الأئمة: في المسألة: قولان: [أحدهما - لا يملك،] (1) ووجهه أن الإحرام وإن كان تطوّعاً، فإذا تحقق الشروع فيه، لزم وتأكد، والتحق بالقول بترتيب الواجبات.
[والرأي] (2) عندنا في هذا أن نقول: هي ممنوعة من الخروج، لتُحرم بحجة التطوع من ميقاتها، وإذا نجّزت الإحرام، فقولان، وفي منعها من الخروج لحج الإسلام قولان، فإن نجزت الإحرام بحجة الإسلام، ففي جواز التحليل قولان، مرتبان على المنع، فإن الإقدام على الإحرام على التراخي، فاتجه تقديم حق الزوج عليه لتنجّزه وتعجّله، وإذا لابست الإحرام، بطل معنى إمكان التأخير، وتعارض حق الله سبحانه وتعالى الناجز، وحق الزوج.
فهذا لابد من التنبه له.
ولكن تسليطَنا السيدَ على تحليل عبده المحرم بغير إذنه يقدح فيما أشرنا إليه بعضَ القدح.
__________
(1) زيادة من المحقق اقتضاها السياق. (حيث سقطت من النسخ الثلاث. ويترجح عندي أنه ليس هناك سقط، انما هو إيجازٌ بالحذف، وله نماذج مماثلة فيما مرّ علينا، وفيما يستقبلنا، ان لم يبلغ هذا المبلغ.
وكما ترى لم يذكر القول المقابل؛ لأنه مفهوم، والفريع عليه منقطع، وكأنه قال: وإن قلنا: له تحليلها، فلا كلام) .
(2) في الأصل: والذي، والمثبت من (ط) ، (ك) .(4/441)
2856- ونحن نذكر تفصيل المذهب في العبد. ثم ننعطف على ذكر الزوجة.
فأما العبد إذا أحرم بغير إذن مولاه، فللسيد أن يمنعه من المضي في إحرامه وفاقاً، وأطلق أئمتنا تحليلَ السيد إياه، وهو مَجَازٌ بلا خلاف فيه؛ فإن التحلل لا يحصل إلاّ من جهة العبد، ولو أراد السيد تحصيله، دون العبد لم يجد إليه سبيلاً عندنا. وقال أبو حنيفة (1) : يقع التحليل بفعل من السيد: فإن أحرمت أمةٌ، وطئها السيد قاصداً تحليلها، فينحلّ الإحرام. وإن أحرم عبدٌ، طيَّبَه، أو حلق شعره، أو ألبسه مَخيطاً على قصد التحلل. وهذا سهوٌ عظيم.
واتفق الأئمة على أن التحلل يقع من جهة العبد، وليس للسيد إلا منعُه من المضي، واستخدامُه في الجهات التي كان يستخدمه فيها.
ثم إن أراد العبد التحلّلَ، وهو ممنوع من المضي بمولاه، تفرّع الأمر على تحلل الحرّ، فإن قلنا: إنه يتحلل من غير إراقةٍ، فالعبد بذلك أولى. وإن قلنا: لا يتحلل الحر إلا بإراقة الدم، وإن لم يجد الدم صابرَ إحرامَه إلى أن يجد، ففا حكم العبد؟.
اختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من قطع بأن العبد يتحلل من غير دم، وليقع هذا التفريع على أن دم الإحصار لا بدل له، والعبد لا يملك، وإن ملك، فبهذا التصوير يظهر غرضُنا في تحقيق العسر.
وعنده (2) اختلف الطرق، فالذي قطع به الصيدلاني أنه يتحلل، ولا يصابر الإحرامَ؛ فإن وجدان الدم في حقه يتوقف على العتق، وليس هذا أمراً ينتظر (3) ، ويربط الترتيب فيه، فيؤدي إلى عسرٍ لا يحتمل مثله في الشرع.
ومن أصحابنا من قال: يخرّج الأمر فيه على القولين المذكورين في الحر المعسر: فإن قلنا: إنه يصابر إحرامَه، صابر العبد إحرامَه، غيرَ أن المعسرَ ينتظر الغنى، والعبد ينتظر العتقَ. والأصح الطريقةُ الأولى.
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 72، بدائع الصنائع: 2/176.
(2) أي عند تحقق العسر.
(3) في النسخ الثلاث: " أمر " بالرفع، ولما أعرف له وجهاً.(4/442)
ومن تمام القول في هذا أنا إذا قلنا: إن العبد يملك بالتمليك، فلو ملكه مولاه شاةً، وأذن له في صرفها إلى دم الإحصار، فليفعل، وليتحلل، على الترتيب المقدّم.
2857-[و] (1) إذا اتصل الكلام بهذا، فلابد من ذكر جميع ما يتعلق به.
قال الشافعي رضي الله عنه: إذا تمتع العبد بإذن مولاه، وقلنا: إنه لا يملك بالتمليك، فلو مات العبد، وأخرج السيد عنه دماً، قال: وقع الدمُ موقعَه (2) .
وهذا مشكلٌ، فإن الدم كان (3) لا يقع الموقع في حياته، إذ التفريع على أنه لا يملك إذا مُلِّك، والموت يزيد في التصرفات عُسراً. ولكن لم أر أحداً من الأصحاب يخالف النصَّ. وإذا لم نجد خلافاً ننقله، فأقصى ما نعوّل عليه احتمالٌ نذكره.
ومن أنكر احتمال خلاف النص، فقد جحد؛ فإن النافذ من الإنسان بعد وفاته على تقدير النفوذ عنه في حياته يقع (4) ، حتى كأن بقايا تصرفاته من آثار حياته.
ولكن الممكن في توجيه النص أن الميت يبعُد تمليكه حراً كان أو عبداً، ثم نَفَذَ التصرفُ عن الحر بلا خلاف، فيقع إخراج السيد عن عبده هذا الموقع، وهو من عبده على أخص الأسباب.
وهذا مشكل.
2858- وكل ما ذكرناه على أن دم الإحصار لا بدل له، فإن أثبتنا للدم بدلاً، فالقول في توقف (5) تحلل العبد على البدل إذا كان صوماً، كالقول في الحر من غير فرق.
فهذا بيان ما أردناه.
__________
(1) الواو زيادة من (ط) .
(2) ر. الأم: 2/96.
(3) (ط) : الذي.
(4) يقع: جملة فعلية خبر (فإن النافذ) .
(5) في الأصل، (ك) : توقيف.(4/443)
ثم الكلام في الزوج والزوجة كالكلام في المولى والعبد، غير أن الزوجةَ الحرةَ يحصوّر منها التوصّل إلى الدم فيترتب (1) أمرها على موجَب أمر المحصر الحرّ.
2859- وختامُ الكلام في ذلك كله، أنا إذا قلنا: الزوجة ممنوعة من المضي، وقد أحرمت، ثم لم نُعلِّق تحليلَها باختيار الزوج، وإنما ملكناه منعها من الخروج، فكيف السبيل في استمتاع الزوج بها؟ وكذلك القول في الأمة، قطج الصيدلاني جوابَه بأنه يستمتع بها، فإن كان مأثمٌ، فعليها.
وهذا فيه نظر، من جهة أن المُحرمة محرّمةٌ لحق الله تعالى. [كالمعتدة] (2) ...
[.. فيحتمل أن يحرم على الزوج والسيد الاستمتاعُ، والقول في ذلك يطول، وسنذكر في ربع النكاح إن شاء الله تعالى] (3) تقسيمَ القول في الصفات المحرِّمة، وكونَها في المُقْدم أو في المحلّ. وقد نجز بذلك (4) [الكلام في حصر العبد والزوجة] (5)
***
__________
(1) هذا آخر الموجود من نسخة (ط) ، وهذا ما جاء في خاتمتها، ما نصه: " قد انتهى نسخ ما وجد من الجزء السادس من نهاية المطلب بقلم الفقير إلى الله تعالى عبده محمود حمدي على ذمة الحسيب النسيب الحبر البحر الفهامة والعالم العلامة حضرة السيد أحمد بيك الحسيني، وكان الفراغ منه موافقاً يوم الخميس المبارك الموافق ثامن عشر شهر شعبان المكرم سنة 1330 ثلاثين وثلاثمائة وألف من هجرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين ".
(2) ساقطة من الأصل، وقدرناه على ضوء المفهوم من مختصر النهاية لابن أبي عصرون. حيث ذهبت من (ك) فيما ذهب.
(3) ما بين المعقفين سقط من الأصل، والمثبت من (ك) وقد امّحى قبله قدر كلمة هي التي أثبتناها من المختصر. ثم بدأ من هنا سقط في ذيل ص287، ثم من رأس ص 288 من نسخة (ك) .
(4) من هنا بدأ خرم في نسخة الأصل. وترتب على هذا اضطراب فيما بقي من كتاب الحج، وسنحاول ستدراك ما يمكن على ضوء ما بقي من نسخة الأصل، ومن أطراف الصفحات من نسخة (ك) . ومن مخطوطة مختصر ابن أبي عصرون.
(5) تقديرٌ منا على ضوء السياق والسباق.(4/444)
[باب] [ما جاء في الأيام المعلومات والمعدودات] (1)
"........"
***
__________
(1) عنوان هذا الباب مأخوذ من مختصر النهاية لابن أبي عصرون، ومختصر العز بن عبد السلام وواضح أنه ليس تحته كثير كلام، فهو لا يستغرق أكثر من أربعة أسطر من مسطرة نسخة (ك) وهذا واضح تماماً من المساحة التي أصابها البلل.
وقد اختصره ابن أبي عصرون على هذا النحو:
" ذكر الله تعالى الأيامَ المعلومات في آية، والأيامَ المعدودات في آية أخرى.
فالمعلومات عندنا العشرُ من ذي الحجة، والمعدودات أيام التشريق " ا. هـ بنصه.(4/445)
[باب] [نذر الهدي] (1)
"........" (2)
2860-[هذا الباب له اختصاص] (3) بأحكام الضحايا، ولو خضنا فيها على شرط هذا الكتاب، لاحتجنا إلى ذكر معظم أحكام [كتابها] (4) . وشرطنا في هذا المجموع اجتناب المكررات جهدنا. فالذي نراه ألا نذكر في هذا الباب إلا ما نرى له تعلّقاً بالمناسك.
فأما الهدي مطلقاً، وتبرراً، وملتزَماً، ومعيناً، فلا تعلّق له به. والقول في التطوّع من الضحايا، وما يحل الأكل منه، وما لا يحل، وما يختلف [فيه] (5) ، فالتفصيل في تعين الحيوان، وثبوت أحكام التعين. كل ذلك أصول من كتاب الضحايا، فنقتصر على ما نرى له اختصاصاً بالمناسك، وتعلُّقاً به، فنقول:
2861- من نذر لله هدياً، فالملتزَم بهذا اللفظ فيه قولان: أحدهما - أنه منزل على أقل دم مجزىء، وهو دم شاة على الصفات المرعية فيها.
والثاني - أن الملتزَمَ التصدّقُ بأقل ما يسمى مالاً؛ فإن الهدي من الهدية، وهي عطية، وذلك يبتني على أن مطلق النذر يحمل على أقل موجَبٍ في اللسان، أو على مأخذ الشريعة.
__________
(1) عنوان هذا الباب مأخوذ أيضاً من مختصري النهاية. حيث وقع ضمن الخرم من نسخة الأصل، وضمن أطراف الصفحات التي أصابها البلل من نسخة (ك) .
(2) الذي ذهب من أول هذا الباب رؤوس وأطراف الكلمات من السطر الأول، وسنبذل جهدنا في قراءة هذه الكلمات، وتقدير ما لا يمكن قراءته.
(3) تقديرٌ ما على ضوء السياق. وبدأ بعد المعقفين الموجود من نسخة (ك) .
(4) تقديرٌ منا.
(5) تقديرٌ منا.(4/446)
وكان شيخي يقول: يجب تبليغُ الملتزَم مكةَ؛ فإن الهدي مشعر به. ثم قال أئمتنا على قول التبليغ: إن قال: جعلت هذا المال هدياً، فمؤنة تبليغه من عينه، وإن قال: لله عليّ أن أهدي هذا، فيلزمه مؤنةُ التبليغ، ولْيوصِّل ذلك المالَ بجملته إلى مكة، وهذا رمز أيضاًً، وسأعود إليه إن شاء الله تعالى، في كتاب النذور على أبلغ وجهٍ في البيان.
2862- ثم قال: إن كان الهدي بدنةً أو بقرة، قلّدها نعلين، وأشعرها، فالتقليد والإشعار في البُدن والبقر مشروعان، ولا يتأتى في الشاة إن استاقها إلا التقليد، ثم [نُؤثر له التصدقَ بجِلالها] (1) وما قُلّدت إذا بلغ المحِل. وسيعود هذا.
2863- ثم قال: يجوز أن يشترك السبعة في البدنة، وهذا من [خصائص أحكام الضحايا] (2) ، وذكر القفال فيه كلاماً حسناً يتعلق بما نحن فيه، فقال: السُّبُع من البدنة في القرابين والهدايا يحل محلّ [الشاة إلا في حكم واحد] (3) وهو أنا إذا أوجبنا في الضبع شاةً، لم يقم سُبُع بدنة مقامها؛ فإن المرعي في جزاء الصيد المِثْليّة [الخِلْقية، ولهذا يُجزئ في] (4) ذلك الباب ما يخالف قياس الضحايا؛ فإنا نخرج الصغار، والمعيبة، والعشر من بدنة [والجزء من الشاة] (5) .
[وهذه الهدايا ما كان] (6) منها تطوّعاً، أُكل منه.
2864- والتفصيل فيما يحل الأكل منه وما لا يحل (7) [من الهدايا، والنذور، والضحايا يأتي مفصلاً مستقصىً في كتاب الضحايا، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) تقديرٌ منا بمساعدة مختصر ابن أبي عصرون، وبعض أطراف الحروف التي بقيت من (ك) .
هذا. والجلال بالكسر جمعُ (جُلّ) بالضم، وهو للدابة كالثياب للإنسان (المصباح) .
(2) من مختصر ابن أبي عصرون. بنصه.
(3) من المختصر بنصه.
(4) من المختصر.
(5) بنص المختصر.
(6) تقدير ما.
(7) هذا ما بقي من (ك) بعد ذهاب البلل بربع الصفحة، مع زيادة عدة كلمات منَّا على ضوء السياق. وبهذا بدأ سقطٌ آخر في (ك) .(4/447)
وغرض هذا الفصل الكلام فيما يتعلق بالناسك.
فإذا ساق هدياً فمحله الحرم، وظاهر المذهب أنه يجوز الأكل منه في مَحِلّه.
فإن عطب في الطريق أراق دمه، وكان هذا مَحِلَّه، وأباحه للمساكين، وقال الشافعي: لا يحلّ لمن ساقه الأكلُ منه، ولا للمختصين به من الرفقة؛ لأنهم متهمون في إعطابه، ويباح للفقراء من الرفقة غير المختصين به، ولكن ظاهر نص الشافعي أنه لا يجوز له، ولا لأحد من الرفقة، أغنياء كانوا أو فقراء؛ لمحل التهمة] (1)
(2) [هذا غرض الفصل، أما أحكام الضحايا وما يؤكل منها، وتقييد] أو إطلاق القدر. ثم تعيين هذا عن تلك الجهة. فالمذهب في ذلك مضطرب، ولكن جميعه ينتظم في الضحية، وقدر الغرض المنع من الأكل قبل المحل، كما ذكرناه.
وليعلم الناظر أن ذلك مفروض في الذي قيل فيه: جعلته هدياً، فإنه لو فرض نذرٌ لوجوب سابق، فيضطرب القول في ذلك.
2865- ثم دم الجبرانات لا وقت في ذبحها، وإنما التأقيت في الضحايا والهدايا المتطوّع بها، أو المنذورة.
وجملة (3) دماء الجبرانات محلها الحرم كما تفصَّل، إلا في حق المصدود، فإن محِل الدماء محِلّه. وكذلك محِل دم الإحصار، خلافاً لأبي حنيفة.
فهذا ما رأيناه متعلقاً بالنسك، وليُطلب تمام البيان، وشفاء الصدور، من كتاب الضحايا.
2866- ثم إذا عطبت بهيمة مهداة في الصورة التي ذكرناها، فينبغي أن تذبح أو تنحر، ثم يُلْطَخُ بدمها جنبُها، وذلك علامة يستدل بها المارّ على أنه هدي مأكول.
__________
(1) هذه الأسطر مزاج بين كلمات وأطراف كلمات من مختصر النهاية مع تلخيصٍ للمسألة من المجموع للنووي: 8/370.
(2) هذا أول الموجود من نسخة الأصل، بعد الخرم الذي أشرنا إليه آنفاً. وهو صفحة واحدة وجه واحد من الورقة.
(3) عادت هنا نسخة (ك) بعد أن ضاع منها ما ضاع بسبب البلل، وأشرنا إليه في التعليق الذي يسبق هذا برقمٍ واحد.(4/448)
وهل يجوز الاكتفاء بهذه العلامة في الإقدام على الأكل؟ فيه قولان: أحدهما - يجوز، وعليه يدل سِيَرُ السلف. والثاني - لابدّ من لفظٍ؛ فإن لحم الهدي لا يحل لكل من يجده، وإنما هو لمن يسلمه المهدي إليه. فإن أراد التعميم، فليقل: ليأكله من مرّ به، ويمكن إشاعة هذا في منزلٍ، أو غيره، في المدة التي لا يفسد اللحم فيها.
فهذا منتهى المراد. والله المستعان، وعليه التُّكلان (1) ، (2) .
***
__________
(1) هذا آخر نسخة الأصل، وخاتمتها، لم تزد على ذلك.
(2) جاء في خاتمة نسخة (ك) ما نصه: " فهذا منتهى المراد والله أعلم والحمد لله رب العالمين، وصلواته على سيدنا محمد خاتم النبيين.
يتلوه إن شاء الله تعالى في المجلد الثالث بمعونة الله وحسن توفيقه..
كتاب البيع.
الأصل في البيع الكتاب والسنة والإجماع.
... تم نسخه بحمد الله في مساء يوم الخميس سابع شهر رجب المبارك شهر الله...... رجب الفرد سنة ثمان ... وستمائة
.. العبد الفقير الراجي رحمة الله الكريم أحمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي ... بالجامع الأعلى بحماه المحروسة عمره الله تعالى بالإسلام.(4/449)
إمام الحرمين لسان مذهب الشافعي
بل لسان الشريعة على الحقيقة
التاج السبكي
في الأشباه والنظائر(5/4)
كتاب البيع (1)
2867- الأصل في البيع الكتاب والسنة والإجماع، فأما الكتاب، فقوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) [البقرة: 275] وقوله تعالى: (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ) [النساء: 29] وستأتي الأخبار في الأبواب على قدر الحاجة. وأصلُ البيع متفق عليه، ذكر المُزَني لفظةً عن الشافعي في البيع جامعةً، والذي نص عليه في الأم أجمعُ لتراجم أبواب البيع، فنقتصر على اللفظة الأتم.
قال رضي الله عنه: "وجماع ما يجوز به البيع عاجلاً وآجلاً أن يتبايعا عن تراضٍ منهما، ولا يعقداه بأمر منهي عنه، ولا على أمر منهي عنه، فإذا تفرقا عن تراضٍ منهما، فقد لزم البيع، وليس لأحدهما ردُّه إلا بخيار، أو عيب يجده، أو شرط يشرطه، أو خيار الرؤية، إن جاز بيعُ خيار الرؤية" (2) .
فدلّ بذكر العاجل والآجل على بيع العين، والسلم، والمؤجل؛ وذكَر التراضي، فأشعر بأن الإكراه يمنع انعقاد العقد، وعنَى بقوله: "بأمر منهي عنه" الأثمان المحرَّمةَ بوجوه التحريم، وأراد بقوله: "وعلى أمر منهي عنه" الشرائطَ الفاسدةَ، على ما ستأتي مفصلة، إن شاء الله تعالى. ونبه على خيار المجلس، وعلى ما يُنهيه، بقوله: "فإذا تفرقا عن تراضٍ" ثم استثنى عن حكمه بلزوم العقد بعد التفرق جهاتِ الخيار.
فأراد بقوله: "إلا بخيارٍ" خيارَ الشرط، وذكر خيارَ العيب، ثم قال: "أو شرط
__________
(1) يبدأ العمل من أول كتاب البيع باتخاذ الجزء الخامس من (ت 1) أصلاً، و (هـ 2) نصاً مساعداً.
(2) انظر الأم: 3/3. وعبارة إمام الحرمين هنا فيها نوعٌ من التصرف، فليست بنص الألفاظ الواردة في النسخة المطبوعة المتداولة من الأم: وليس في مفتتح كتاب (البيوع) من المختصر أيضاً.(5/5)
يشرطه" يعني خيارَ الخُلف (1) على ما سيأتي، ثم ردد قولَه في خيار الرؤية، وبيعِ الغائب. وهذا مقصود الباب، فقال: "إن جاز بيعُ خيار الرؤية"، فنقل الأئمة قولين عن الشافعي: في أن من اشترى عيناً لم يرها، فهل يصح العقد أم لا؟.
أحدهما: أنه لا يصح، وهو اختيار المُزني؛ فإن العين في العُرف تُعْلَم بطريق المعاينة، فإذا لم يرها المشتري، عُدّت مجهولة عُرفاً، واستقصاء الطريقة في الخلاف (2) .
والقول الثاني: أن البيع صحيح؛ فإن المبيع متميَّز [والشرع] (3) قاضٍ باعتماد قول البائع، وعليه ابتنى قبول قوله في الملك وغيره، مما يشترط في صحة العقد.
التفريع على القولين:
2868- إن حكمنا بفساد البيع، فأول ما نذكره تفصيلُ القول في الرؤية؛ فالمذهب أن من رأى شيئاً، ثم غاب عنه، فاشتراه على قرب العهد بالرؤية، والغالب على الظن أن المبيع لا يتغير في تلك المدة، فالبيع صحيح، والرؤية المتقدمة كالمقارِنة.
وحكى العراقيون والشيخُ أبو علي عن أبي القاسم الأنماطي أنه يشترط مقارنةَ الرؤية للعقد، ونزَّلها في البيع منزلة اشتراط اقتران حضور الشاهدين بعقد النكاح، ثم الشيخ حكى عن الإصطخري أنه قال: "كنت أناظر بعضَ من يذبّ عن الأنماطي، وكنت أُلزمه المسائلَ، وهو يرتكبها (4) حتى قلت: لو عاين الرجلُ ضيعةً وارتضاها، ثم
__________
(1) خيار الخلف: هو حق الفسخ لتخلف وصفِ مرغوبٍ اشترطه العاقد في المعقود عليه. كمن اشترى حصاناً على أنه من خيل السباق كامل التدريب، فوجده غيرَ ذلك، وهذا طبعاً غير خيار العيب بل فوات أمرٍ زائد. (الدكتور عبد الستار أبو غدة - الخيار وأثره في العقود: 2/719) .
(2) يقصد في علم الخلاف، ولإمام الحرمين في هذا العلم أكثر من مؤلّف: منها: الدرّة المضية فيما وقع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية، وقد وفقنا الله لتحقيقه، وغنية المسترشدين، والأساليب.
(3) مزيدة من (هـ 2) .
(4) يرتكبها: لم أجد هذا اللفظ مصطلحاً من مصطلحات الجدل والمناظرة فيما راجعت من مؤلفات في هذا المجال، وكذلك لم أجده منصوصاً في المعاجم اللغوية، ولا في كشاف =(5/6)
ولاَّها ظهرَهُ، فاشتراها، فهل يصح ذلك؟ فتوقف".
قال أبو سعيد (1) : لو ارتكب، لكان خارقاً للإجماع، والوجه في مذهب الأنماطي أن ما لا سبيل إلى تحصيله على يسر، فلا شك انه لا يشترط، وهو كرؤية كل جزء من قرية أو دار يشتريها، فأما إذا صرف عنه بصره في حالة إنشاء العقد مقبلاً على من يبايعه، فقد نقل الإصطخري الإجماعَ فيه، وما أرى الأنماطي يسمح بهذا، ويحتمل أن يكتفي بكون المبيع بمرأى منه حالة العقد، وإن كان لا يلحظه. وبالجملة مذهبه فاسد.
والأصحاب لما اكتفَوْا بتقدّم الرؤية، شرطوا أن يكون الزمان المتخلل بحيث لا يتغير فيه المبيع غالباً، وهذا يختلف باختلاف صفات المبيع، فما يتسارع إليه التغير، يُعتبر فيه ما يليق به، والعقار وما يَبعُد تغيُّره يراعى فيه ما يغلب تغيُّره فيه. ثم قال الأئمة: إذا تقادمت الرؤية، وتخلل زمان يغلب التغير فيه، فتلك الرؤية لا حكم لها، وإذا اشترى تعويلاً عليها، لم يصح، على منع شراء الغائب.
وذكر الشيخ في شرح التلخيص ما ذكرناه ووجهاً آخر: أن الرؤية المتقدمة كافية في تصحيح العقد، ثم إن اتفق تغيّر، ثبت الخيار، كما سنذكره، واختار هذا الوجهَ وصححه، ولم أرهُ لغيره.
فرع:
2869- إذا حكمنا بصحة البيع تعويلاً على الرؤية المتقدمة القريبة، فإذا المبيع قد تغير على ندور، فقد قال الأئمة: للمشتري الخيارُ، ثم لم يفصّلوا قولاً في التغير، الذي يُثبت الخيار، ونحن نذكر من نص الشافعي، وقول العراقيين ما بلغنا فيه. قال الشافعي: "لو اشترى نخيلاً كان رآها غيرَ مؤبّرة، فإذا هي قد أُبّرت، قال:
__________
= اصطلاحات الفنون ولا كليات أبي البقاء، ولا تعريفات الجرجاني، ولا في الألفاظ التي ضبطها ابن خلكان في الوفيات، وابن شاكر في الفوات.
ويلوح من السياق في المواضع التي تكرر فيها في كلام إمام الحرمين أن معناه أن الخصم في المناظرة يلزم خصمه: إن قلت بكذا يلزمك أن تقول بكذا، لما هو ظاهر الخطأ، فإذا لم يعرف الخصم دَفعْ هذا الإلزام، والتزم ما ألزمه، سمي مرتكباً.
(1) أبو سعيد: هو الإصطخري.(5/7)
له الخيار". وهذا يُشعر بتعلق الخيار بفوات غرضٍ، وهو الثمار. وقال العراقيون: إذا كان التغيّر إلى نقصٍ، ثبت الخيار، فهذا ما وجدتُه.
والذي أراه أن التغيّر اليسير الذي لا يُكترثُ به لا يثبت خياراً، وكذلك التغير إلى الزيادة، ولا شك أنا لا نشترط أن يكون الحادث عيباً؛ فإنّ خيار العيب لا يختص بهذه الصورة.
فالظاهر عندي أن يقال: كل تغير لو فرض خُلْفاً في صفةٍ مشروطة، تعلق بها الخيار، فإذا اتفق بين الرؤية والعقد، أَثْبَت الخيارَ. وكأن الرؤية المتقدمة بمثابة شرطٍ في الصفات الكائنة حالة الرؤية.
ويمكن أن يقال: كل تغيّر تخرج به الرؤيةُ عن كونها مفيدةً معرفةً وإحاطةً، فهو مثبت للخيار.
وبيان ذلك أن الرؤية المعتادة تتعلق بصفاتٍ من المبيع، كما سنذكرها، ويغيب عنها صفاتٌ، فكل ما تشتمله الرؤية المعتبرة، ولو لم تتعلق الرؤية به، لكان المبيع غائباً، فإذا تغير، ثبت الخيارُ.
2870- ومما نفرّعه على هذا القول: أن البائع إذا ذكر صفاتِ العين الغائبة، واستقصاها بذكر صفات السلم، والتفريع على منع بيع الغائب، ففي صحة البيع وجهان: أحدهما- لا يصح؛ فإن طريق إعلام العين الغائبة المعاينَةُ، والدليل عليه أنا نكتفي بالرؤية، وإن لم نُحط بجملة صفات المبيع، ولو كان المرعيُّ الإعلامَ، لما صح العقد بالرؤية المعتادة.
والوجه الثاني- أن البيعَ يصح؛ فإن الرؤية تُطلع على خاصيةٍ، قد لا يناله استقصاء الوصف، فنزل منزلةَ الإعلام التام بالوصف عند عدم الرؤية، والغرض الإعلام بالجهتين. فإن صححنا العقدَ ووفت الصفات، فلا كلام، وإن اختلفت، فكل صفة يشترط ذكرها فإذا ذكرها كاذباً، كان كما لو لم يذكرها، فلا يصح العقد.
2871- ومما نفرعه النموذج وبناء البيع عليه، فإذا أخرج الرجل نموذجاً من حنطة، وقال: بعتُك من هذا النوع مائةَ صاع، فهو باطل على كل قول؛ فإنه لم يُعَيّن(5/8)
حنطةً، ولم يرع شرائط السلم، وإن قال بعتُك المائة الصاع، التي في هذا البيت، وهذا النموذج منها، فإن لم يدخل النموذج في البيع، فقد قيل: هذا بيع غائب، فلا يصح على هذا القول.
ويحتمل عندي أن تكون رؤية النموذج بمثابة وصف المبيع الغائب على ما مضى.
فإن قيل: مثل هذا لا يُكتفى به في وصف المُسْلَم فيه. قلنا: لأن السلم ينافيه التعيين جملة، كما سيأتي في السَّلم إن شاء الله تعالى، وأصل التعيين معتمدُ بيع الأعيان.
فأما إذا أدخل النموذج مع الآصع في البيع، فقد قطع القفالُ بالصحة، وألحق ذلك ببيع الصُّبْرة التي يدل ظاهرها على باطنها، وخالفه طوائفُ من الأئمة. والقياس ما قاله، ولا شك أن النموذج مفروض في المتماثلات.
فأما إذا صححنا بيع الغائب، فما ذكره العراقيون، والصيدلاني، وشيخي، أنه لا بُد من ذكر الجنس، فلو قال: بعتك ما في كُمي، ولم يعرفه المشتري، فالبيع باطل. وهذا ظاهر مذهب أبي حنيفة (1) .
ومن أصحابنا من صحح العقد، تفريعاً على هذا القول، وهو قياسٌ ظاهر، فإذا كنا لا نشترط استقصاءَ الصفات، فلا تزول الجهالة بذكر الجنس، والمرعي في هذا القول أن يكون المبيع متعيناً.
ثم قال العراقيون: يشترط ذكرُ النوع، حتى يقول بعْتُك العبدَ التركي، ولم يشترط أصحاب القفال ذلك، ثم قالوا: إذا ثبت اشتراط الجنس والنوع، فهل تُشترط صفاتُ السلم؟ أم يكتفى بالمعظم؟ فعلى وجهين، ولعلهم أرادوا بالمعظم ما تحيط به الرؤية المعتادة.
وهذا الذي ذكروه يجانب طريق المراوزة؛ فإنَّهم ذكروا التعرضَ للصفات على قولنا: لا يصح بيع الغائب؛ فقالوا: استقصاءُ الصفات هل تنزل منزلة الرؤية، حتى
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 48، المبسوط: 13/68، رؤوس المسائل: 273 مسألة 161، إيثار الإنصاف: 294، فتح القدير: 6/335.(5/9)
يصحَّ العقدُ بسببه، كما سبق في التفريع على القول الأول؟ وذكروا استقصاء الصفات على تجويز بيع الغائب في معرضٍ آخر. فقالوا: إذا وصف المبيع على الاستقصاء ثم وفت الصفات، فهل يثبت خيار الرؤية أم لا؟ فعلى وجهين. وتوجيههما واضح.
فأما (1 اشتراط استيفاء الصفات في تصحيح العقد على قول تجويز بيع الغائب فمما انفرد به العراقيون. ثم قياس طريقهم عندي، أن من 1) اشترط استقصاءَ الصفات -على قول تجويز بيع الغائب- فإذا وفت، ثبت خيارُ الرؤية وجهاً واحداً، فإن هذا القائل لا يصحح بيعَ الغائب إلا عند استقصاء الصفات، وخيار الرؤية لا سبيل إلى نفيه أصلاً، ولو خُص الخيار بالخُلف، لكان خيار الخلف. ومما نفرعه على تجويز بيع الغائب خيار الرؤية.
فصل
2872- خيارُ المجلس يثبت في البياعات، كما سيأتي، فالوجه أن نذكر حكمَ خيار المجلس في بيع الغائب أولاً، ثم نبني عليه خيارَ الرؤية، فنقول: اختلف الأئمةُ في خيار المجلس في بيع الغائب، فمنهم من قال: يثبت خيار المجلس للمتعاقدين، كما يثبت في كل بيع، ووجهه ظاهر.
ومنهم من قال: لا يثبت لهما خيار المجلس متصلاً بالعقد؛ فإنَّ خيار الرؤية خيارٌ شرعي لا يختص ثبوته بغرض، فهو في معنى خيار المجلس، فيبعد اجتماع خيارين من جنسٍ واحدٍ، وهذا الوجه بعيدٌ؛ فإنّ نفي خيار المجلس في حق البائع لا وجه له؛ إذ ليس في حقه خيار الرؤية، وكل ما نذكره فيما رآه البائع دون المشتري.
ومنهم من قال: يثبت خيارُ المجلس للبائع عقيب العقد على الاتصال، ولا يثبت للمشتري خيارُ المجلس، لمكان ثبوت خيار الرؤية له، وهذا أمثل من الثاني.
والصحيح هو الأول. فهذا هو القول في خيار المجلس. وفيه بقية سنذكرها.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من: (هـ 2) .(5/10)
2873- فأما خيار الرؤية، فلا شك في ثبوته عند الرؤية، وهل يثبت قبل الرؤية للمشتري؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يثبت؛ فإنه منوط في الخبر -إن صح- بالرؤية، كما سنرويه في آخر الباب.
والوجه الثاني - أنه يثبت الخيارُ قبل الرؤية؛ فإنا نُثبت له حقَّ الفسخ عند الرؤية، مغبوناً كان أو مغبوطاً، فلا معنى لاشتراط الرؤية.
ثم إن لم يثبت خيار الرؤية قبلها، لم ينفذ فسخُ المشتري، ولا إجازته. وإن أثبتنا الخيارَ قبل الرؤية، فينفذ الفسخُ ولا تنفذ الإجازة؛ لأن الفسخ مقصود الخيار، فنفذ لقوّته، ووقفت الإجازةُ على الرؤية. هذا ما وجدته في الطرق. فأما إذا رأى، فالخيار يثبت.
وأحسنُ ترتيب فيه: أنا إن أثبتنا للمشتري خيارَ المجلس عقيب العقد، فهذا الخيارُ يثبت على الفور، ولا يمتد امتداد المجلس، وإن قلنا: لا يثبت له خيار المجلس ابتداءً، فإذا ثبت له الخيار عند الرؤية، فهل يمتد امتدادَ المجلس، فعلى وجهين: أحدهما - أنه على الفور، كخيار العيب، ووجهه أنه معلّق شرعاً بالرؤية، وليس ممدوداً، فليقرن بها كخيار العيب المنوط بالاطلاع على العيب، وهذا هو الصحيح.
والوجه الثاني - أنه يمتد في حقه امتداد المجلس؛ فإنه لم يثبت له خيار المجلس، وهذا شبيهٌ بخيار المجلس، فكأنه اعتاضه عنه. فإن قلنا: خياره على الفور، فلا يثبت للبائع الخيار، وإن نفينا خيار المجلس عنه ابتداء؛ فإنا إذا حكمنا بأن خيار الرؤية على الفور، فلابد من اختصاصه بمن لم يرَ. وإن حكمنا بأنه يمتد امتداد المجلس، وأثبتنا للبائع خيار المجلس ابتداء، فلا خيار له عند الرؤية، بعد انقضاء المجلس.
وإن لم نُثبت للبائع خيارَ المجلس ابتداء، وحكمنا بامتداد خيار الرؤية في حق المشتري، فهل يثبت للبائع الخيار مع المشتري؟ على وجهين: أحدهما - لا يثبت، ويختص بمن لم يَرَ المبيع، والثاني - يثبت، وحقيقةُ الوجهين ترجع إلى أن هذا خيار المجلس أم لا، فكأن أحد القائلَيْن يزعم أن خيار المجلس يتراخى في بيع الغائب إلى وقت الرؤية، فعلى هذا يثبت الخيارُ للبائع مع المشتري، والثاني - يقول: ليس هو(5/11)
خيارُ مجلس، وإن امتد امتداد مجلس المشتري، [فعلى هذا لا يثبت للبائع] (1) .
فهذا ما أردناه.
فصل
يجمع مسائل تلتحق ببيع الغائب
2874- منها: إذا اشترى صُبْرةً من حنطة، أو غيرها من المتماثلات، وكان لا يختلف ظاهرها وباطنها، فهو صحيح قولاً واحداً؛ فإن الظاهر دالٌّ على الباطن، وهذا يُعدّ رؤية عُرفاً، ولو كان باطن الصُّبْرة يخالف ظاهرَها، فحِفْظِي عن الإمام (2) أن ذاك بيعُ غائب، وفيه احتمالٌ ظاهر عندي، ولو ظهرت تحت الصُّبرة دِكَّة، وكان المشتري يَحسَب الصُّبرة حنطة إلى استواء الأرض، فقد كان شيخي يقول: هذا بيع الغائب، وقال غيره: هو بيع معاين؛ فإن الحنطة لم تختلف، ولكن يثبت الخيار للمشتري، وستأتي نظائر ذلك، في بيع المصراة، ولا وجه لما قاله شيخي.
ولو قال: بعتك صاعاً من داخل الصُّبْرة، فهو بيع غائب. وأقرب صورة شبهاً بهذا مسألة النموذج، إذا لم يدخل في البيع، ولو قال: بعتك صاعاً من هذه الصُّبْرة، فليس بيعَ غائب، ولكن في بيع صاع من صُبْرة تفصيلٌ لا يتعلق بالغَيْبة والحضور.
ولو اشترى ثوباً منشوراً، ورأى أحد وجهيه، وكان لا يستدل به على الوجه الثاني، فهو بيع غائب، فإن كان لا يختلف وجهاه كالكرباس (3) ، وما في معناه، ففيه وجهان، ذكرهما شيخي والصيدلاني. والوجهُ القطعُ بأنّه بيعُ غائب.
وذكر المُزني مسألة تردد فيها الأصحابُ، وهي أن من باع منديلاً نصفه في صندوق
__________
(1) مزيدة من: (هـ 2) .
(2) الإمام يقصد والده.
(3) الكرباس: الثوب الخشن، وهو فارسي معرّب، بكسر الكاف، والجمع (كرابيس) وينسب إليه بيَّاعه، فيقال: (كرابيسي) وهو نسبة لبعض أصحاب الشافعي رضي الله عنه. (المصباح) .(5/12)
ونصفه بارز منه، فقد اختلف الأئمة في المسألة، فمنهم من قطع بأن المسألة على قَوْلي بيع الغائب، والشافعي أجاب بالفساد، جرياً على أحد القولين، وأشار بعضُ الأصحاب إلى أن البيعَ يفسُد في هذه الصورة قولاً واحداً؛ لأن ما لم يره في محل خيار الرؤية لو صح البيع فيه، وما رآه لا خيار فيه، وهذا قد يُفضي إلى قطع البارز عن المستور.
وهذا ليس بشيء؛ فإنا لو قدرنا خيار الرؤية، لاقتضى ردّ الجميع، كما لو اشترى عمامة رآها، ثم وجد بجزءٍ منها عيباً؛ فإنه يرد جميعَها، ولا يختص الرد بمحل العيب.
وأشار بعض الأصحاب إلى تخريج المسألة على تفريق الصفقة، إذا اشتملت على مختلفين، وهذا فاسدٌ، لما قدمناه؛ فإن الكل في حكم ما لم يُرَ، كما استشهدنا به في العيب؛ إذ المبيع واحد، فلا وجه إلا طريقة القولين.
ولو اشترى ثوباً مطوياً، فقد ألحقه الأئمة ببيع الغائب، وقطعوا القول به.
فصل
2875- المعتمد في الأصل اتباع العُرف في الإعلام، ونحن في منع بيع الغائب إذ [عَنَيْنا] (1) بأن المبيع لم يعلم، [عنينا لم يعلم] (2) بما يعلم مثلُه في العرف، ومعلوم أن من الثياب ما يَنْقُصه النشر والردّ إلى طاقةٍ واحدة، ولا يُنشر كذلك إلا إذا أريد قطعه، وقد جرى العرف بأن مثل هذا الثوب يُرى منه طاقات، ولا ينشر عند البيع.
فما نقله الأئمة تخريج المسألة على قولي بيع الغائب، ويحتمل عندي أن يُصحَّح البيع قطعاً، لما في النشر من التنقيص، ويُلحق ذلك ببيع الجوز، والمقصود منه لُبُّه، ولكن لما كان في كسره إبطالُ مقصود الادّخار، وانضمَّ إلى ذلك عموم العرف، صح العقد.
__________
(1) في النسختين عينا. والمثبت تقدير منا.
(2) زيادة من المحقق اقتضاها السياق.(5/13)
فإن قيل: عمّ العُرف ببيع الثياب التّوزيَّة (1) في المُسوح (2) ، قلنا: لا يتجه فيه إلا التخريج على بيع الغائب، وعموم عرف أهل الزمان يُحمَل على مقصود المالية، والإضراب عن رعاية حدود الشرع على قول من يمنع بيع الغائب.
والذي يحقق ذلك أن من أراد ابتياع ثوب بعينه ممّا في المسح، فإنه يراه عرفاً، ثم يشتريه.
فإن قيل: من اشترى جارية متنقبة، فهو بيع غائب، فإن أراد الخروج عن القولين، فكيف السبيل؟ قلنا: ينظر إلى وجهها، ويديها، ورجليها، وإلى ما يظهر من أطراف ساقها وساعدها، في الفِضْلَةِ (3) والمهنة، ويجوز أن نقول: ينبغي أن يرى ما ليس عورة من الجارية باتفاق، وهو المعروض منها في العرف.
وظهر اختلاف الأصحاب في أن رؤية الشعر هل هي من تمام عرضها، حتى إذا لم يُرَ، كان العقد بيعَ غائب.
ولم يتعرض الأصحاب لكشف الرأس، وهو محتمل عندنا، ويمكن أن يستفاد من ذكر الاختلاف في كشف الشعر الاختلافُ فيه.
فرع:
2876- قال الشيخ أبو علي في شرح التلخيص: بيع اللحم في الجلد قبل السلخ باطلٌ، قولاً واحداً، سواءٌ بيع دون الجلد، أو مع الجلد.
وعندي أن تخريج بيعه مع الجلد على قولي بيع الغائب محتمل. وقال الشيخ: إذا سلخ الجلد، ثم رُدّ اللحم إليه فبيع، فهو على قولي بيع الغائب.
وبيع الرؤوس والأكارع، وعليها جلودها مشويةَ ونِيّة جائزٌ، قولاً واحداً. وذلك
__________
(1) الثياب التّوزيَّة: نسبة إلى مدينة (تُوْز) وزان فُعْل، مدينة من بلاد فارس، وعوامّ العجم تقول: تَوْز بفتح التاء (المصباح) .
(2) "المسوح" جمع مِسْح، وهو ثوب غليظ من الشعر (المعجم) و (المصباح) فهل المعنى أن الثياب التوزية كانت تعرض للبيع ملفوفةً في "المسوح" أم أن "المسوح" علمٌ على نوع من الأغلفة كانت تُدرج فيها الثياب التوزية. كما هو المفهوم من السياق؟
(3) المراد بالفِضلة (بكسر الفاء) الثوب الواحد الذي يُبقيه المتفضل على جسده عند النوم والمهنة.(5/14)
غالب في العرف، والجلودُ مأكولة عليها؛ فهي كاللحم. وأما السموط فقد قال الشيخ: يجوز بيعهُ مشوياً، ونِيّاً مهيأً للشي.
وأنا أقول: أما المشوي فكما قال، وفي النِّىّ احتمالٌ.
فرع:
2877- من باع شيئاً والبائع لم يره، ففي صحة العقد قولان. والمراوزة يرتبون القولين في ذلك على القولين فيه إذا رأى البائع ولم ير المشتري، ويجعلون عدم رؤية البائع أولى باقتضاء الفساد. والعراقيون يرون عدم رؤية المشتري أولى باقتضاء الفساد، وما ذكروه أفقه؛ فإن المشتري متملكٌ، والضبط بالتملك أَلْيق، والبائع مزيل. والذي يحقق ذلك أن المشتري إذا اطلع على عيب فيما حسبه سليماً، فله الخيار، والبائع لو باع ما يحسبه معيباً، ثم استبان أنه سليم، فلا خيار له.
التفريع:
2878- إذا صححنا بيعَ ما لم يره البائع، ففي ثبوت الخيار له وجهان: أحدهما - يثبت كالمشتري، والثاني - لا يثبت وهو الأصح؛ لأنه مزيل، والخيار عنه بعيد.
فرع:
2879- كان شيخي يقول: هبة الغائب كشراء الغائب، ويحتمل أن تُرتَّب الهبةُ على الشراء؛ إذ الهبة بالصحة أولى؛ فإنها ليست عقدَ مغابنة، والرهنُ قريبٌ من الهبة.
***(5/15)
بابُ خيار المتبايعين ما لم يتفرقا
2880- خيار المجلس ثابتٌ عند الشافعي، والمعتمد الخبر الصحيح، ومعنى خيار المجلس أن يتخير المتعاقدان، في الفسخ والإجازة، بعد العقد ما لم يتفرقا.
ونحن نتكلم في معنى لفظةٍ في الحديث المعتمد، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المتبايعان كل واحد منهما على صاحبه بالخيار، ما لم يتفرقا إلا بيعَ الخيار" (1) .
وقد اختلف أصحابنا في قوله: "إلا بيع الخيار"، منهم من قال: معناه يلزم البيعُ بالتفرق عن مجلس العقد إلا بيعاً يشرط فيه خيار ثلاثة أيام؛ فإنه يبقى جوازه ببقاء مدة الخيار، وإن انقطع خيارُ المجلس بالتفرق.
ومن أصحابنا من قال: معناه أنه يثبت خيار المجلس في كل بيع إلا بيعاً يشترط فيه المتعاقدان نفيَ خيار المجلس.
وهذا التأويل يستدعي تقديمَ بيان المذهب في ذلك، فنقول: اختلف الأئمة في البيع الذي يشترط فيه نفيُ خيار المجلس على ثلاثة أوجه: فمنهم من قال: الشرط فاسد لمخالفته مقتضى الشرع، ثم إذا فسد الشرط، فسد البيع. وهذا ليس بالمرضي.
__________
(1) الحديث متفق عليه، وهو من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وله عنه ثلاث طرق: الأول - عن نافع بلفظ: "البيعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا، إلا بيع الخيار" وهكذا هو عند البخاري: 2/18، 19، كتاب البيوع، باب 44 البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، ح 2111، ومسلم: 5/9، كتاب البيوع: باب ثبوت خيار المجلس للمتبايعين، ح 1531، وكذا مالك: 2/671/79، أبو داود: البيوع، باب في خيار المتبايعين، ح 3454، والنسائي: 2/213، البيوع، باب وجوب الخيار للمتبايعين قبل افتراقهما، ح 4470، والطحاوي: 2/202، والبيهقي: 5/268، وأحمد: 2/73. (إرواء الغليل: 5/153-154) وراجع إن شئت باقي طرق الحديث وألفاظه في الموضع نفسه.(5/16)
ومنهم من قال: الشرط صحيح، وينتفي الخيار، ويلزم العقد. وهذا القائل يحمل قول الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا، وقد روى الشافعي هذا التأويلَ عن مسلم بن خالد الزنجي (1) ، فإن قيل: كيف يحمل قوله: "إلا بيع الخيار" على نفي الخيار، قلنا: المتعاقدان لو تخايرا في المجلس، وأَلزما العقدَ، لزم. فإذا شرطا قطعَ خيار المجلس، فكأنهما تعجلا التخايرَ والإلزامَ حالة العقد.
ومن أصحابنا من قال: الشرط فاسد، والعقد صحيح، ويثبت خيار المجلس.
وهذه الأوجه الثلاثة تقرب من الاختلاف في شرط نفي خيار الردّ بالعيب، على ما سيأتي. ولذلك لم نُغرق في التوجيه.
وإذا صححنا بيع الغائب، فشرط فيه نفي خيار الرؤية، ففيه الأوجه الثلاثة في خيار المجلس. وخيار الرؤية أبعد عن قبول النفي؛ فإن بيع الغائب مع نفي الخيار غرر ظاهر، ولا يتحقق ذلك في خيار المجلس.
فهذا تمهيدُ معتمدِ الباب. ثم نذكر بعد ذلك فصلين: أحدهما - ما يثبت فيه خيار المجلس من العقود، والثاني - في ذكر ما يقطع الخيارَ، أو يُنهيه.
[الفصل الأول
فيما يثبت فيه خيار المجلس] (2)
2881- فأما ما يثبت فيه خيارُ المجلس، فقد قال الأئمة: إنه يثبت في كل بيع؛ فإن المعتمد فيه الخبر، وهو عام في كل بيع، فيندرجُ تحت ما ذكرناه: بيعُ العُروض، والصَّرف، والسَّلم، والمرابحة، والتَّوْلية والإشراك، كما سيأتي بيانها.
__________
(1) مسلم بن خالد بن فروة المخزومي أبو خالد الزنجي المكي الفقيه، روى عنه ابن وهب والشافعي وآخرون. توفي في خلافة هارون الرشيد سنة ثمانين ومائة بمكة. (ابن حجر، تهذيب التهذيب: 10/128) .
(2) عنوان النص من عمل المحقق، أخذاً من تقسيم المؤلف نفسه.(5/17)
وذكر شيخي وجهين في الولي الذي يتولى طرفي العقد، إذا باع مالَ الطِّفل من نفسه، أو باع ماله من طفله، فهل يثبت له خيار المجلس، فعلى وجهين: أحدهما - لا يثبت؛ فإن المعوّل الخبر، وهو في المتبايعين، والولي قد تولى الطرفين.
والثاني - يثبت، وهو ظاهر المذهب؛ فإنه بيعٌ محقق، وغرض الشارع إثباتُ خيار المجلس في البيع، وخصص المتبايعين إجراء للكلام على الغالب المعتاد.
فإن قلنا: له الخيار، فيمتد امتدادَ مجلس العقد، ثم الوجه عندي إثباتُ الخيار من وجهين: أحدهما - للولي على الخصوص، والثاني - للطفل، والولي نائب عنه، فإن فسخ نفذ كيف فرض الأمر، وإن أجاز في حق نفسه ونظر في إجازته لطفله، لزم العقدُ، وإن أجاز في حق نفسه، بقي له النظر لطفله في الفسخ والإجازة.
فرع:
2882- إذا اشترى الرجل من يَعتِق عليه، فالمذهب المشهور أنه لا يثبت فيه خيارُ المجلس؛ فإنه ليس عقد مغابنة، والحديث وإن لم يتقيد بالمغابنة، فهو مشعرٌ بعقد يفرض في مثله استدراك غبينة (1) . وقال أبو بكر الأُودَني: يثبتُ خيارُ المجلس، وتمسك بظاهر الحديث، وبقوله صلى الله عليه وسلم "لن يَجزيَ ولدٌ والدَه إلا بأن يجدَه مملوكاً فيشتريه فيُعتقَه" (2) ، قال: هذا ظاهر في إثبات إنشاء إعتاق بعد العقد، وعنده أن المشتري لو فسخ في المجلس، انفسخ، ولو أعتقه، أو ألزم العقد، كان كما لو اشترى عبداً لا يعتِق عليه. وستأتي تصرفات المتعاقدين في مكان الخيار وزمانه.
فإذا قلنا: لا خيار للمشتري، فلا خيار للبائع أيضا، وإن كان العقد من جانبه عقد مغابنةٍ. ولكن النظر إلى كون العقد عقد عَتاقة.
هذا قولنا في البيوع.
__________
(1) الغبينة: الخديعة: يقال: لحقته غبينة في تجارته. (معجم) .
(2) الحديث: "لن يجزي ولدٌ والده إلا بان يجده مملوكاً ... " رواه مسلم عن أبي هريرة، كتاب العتق، باب فضل عتق الوالد، ح 1510.(5/18)
2883- فأما ما سواها، فالعقود الجائزة من الجانبين لا معنى لتخيّر (1) خيار المجلس فيها: فإن الجواز مطرد غيرُ مختص بمجلس. وأما العقد الجائز من أحد الجانبين كالرهن والكتابة، فلا وجه لتوهم خيار المجلس في المرتهن والمكاتب؛ فإنهما متخيران أبداً، ولا يثبت الخيار للراهن والسيد، قطع به الأئمة، وعللوا بأنهما مغبونان تحقيقاً، والخيار للاستدراك.
وهذا تكلف. والمعتمد الخبر وهو في البيع. والرهن والكتابة ليسا في معنى البيع، والقياس منحسمٌ.
وصلح المعاوضة بيعٌ في الحقيقة، ففيه الخيار.
ولا خيار في الهبة التي لا ثواب فيها، إذا اتصلت بالقبض. وإن كان فيها ثواب، فقد ذكر العراقيون وجهين في ثبوت خيار المجلس والشرط: أحدهما - يثبتان؛ [لأنها في معنى البيع، والثاني لا يثبتان] (2) ؛ لأنها لا تسمى بيعاً؛ والمتبع التوقيف. وهذا الخلاف من طريق المعنى يقرب من تردّد الأصحاب في أن الهبة بالثواب هل تفتقر إلى القبض في إفادة الملك؟ وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى.
وأما الحوالة، ففي حقيقتها خلاف، فإن حكمنا بأنها ليست معاوضة، فلا خيار فيها، وإن حكمنا بأنها معاوضة، فقد قال العراقيون: لا يثبت فيها خيار الشرط، وفي خيار المجلس وجهان. وكان شيخي يثبت الخلاف في الخيارين، وهو الوجه إن لم يكن من الخيار بُدّ. والظاهر أنهما لا يثبتان؛ فإن الحوالة لا تسمى بيعاً، وليست في معناه، وهي بعيدةٌ عن قبول الفسخ.
وأما القسمة فمنقسمةٌ إلى قسمة إجبار، وقسمة اختيار. فإن كانت قسمةَ إجبارٍ، فلا خيار فيها، والمحكَم القرعةُ. وإن كانت قسمةَ اختيار، خرج أمرُ الخيار على حقيقة القسمة؛ فإن قلنا: ليست القسمة بيعاً، فلا خيار فيها، وإن قلنا: إنها بيع،
__________
(1) كذا في النسختين، فهل هي مصحفة عن (تخيل) ؟ يرشح ذلك قوله في صورة الكتابة والرهن: "فلا وجه لتوهّم".
(2) زيادة من: (هـ 2) .(5/19)
فقد ذكر صاحب التقريب وجهين على هذا القول في ثبوت الخيارين: أحدهما - الثبوت، والثاني - وهو مختارُه، أنهما لا يثبتان؛ فإن القسمة لا تسمى بيعاً، وليست عقداً منشأً، وإنما لها حكم البيع في بعض القضايا.
وقد نجز الفصل الأول.
الفصل الثاني
فيما يقطع خيار المجلس أو ينهيه
2884- فنقول: ما يقطع خيارَ المجلس ينقسم إلى قولٍ، وإلى ما ليس بقول.
فأما القول، فينقسم إلى المتعرض للخيار، وإلى تصرفٍ يتضمن فسخاً أو إجازة، فأما التصرف، فسنذكره عند نجاز القول في أصل خيار المجلس والشرط.
وأما القول المتعرض لنفس الخيار؛ فنقول: إذا قال المتعاقدان في المجلس: ألزمنا العقد، أو أجزناه، أو قطعنا الخيار، انقطع الخيارُ، ولزم العقدُ، وإن كانا في المجلس؛ فإن الخيار حقُّهما، فإذا أسقطاه، سقط، وكان كإسقاط حق الرّد بالعيب، عند الاطلاع، وليس ذلك كشرط نفي الخيار في العقد؛ فإنه منعٌ لثبوت موجَب العقد، فكان كشرط التبرِّي من العُيوب، من غير اطلاع عليها.
ولو قال أحد المتعاقدين: أجزتُ العقد، ولم يساعده الثاني، لم يبطل خيار صاحبه. وهل يبطل خياره في نفسه؟ فعلى وجهين: أصحهما - أنه يبطل، كما لو ثبت لهما خيار الشرط، فأسقط أحدهما خيارَ نفسه. والثاني - لا يبطل خيارُه؛ فإن وضع خيار المجلس أن يثبت للمتعاقدين جميعاً، وإن انقطع، [انقطع] (1) عنهما، ولا وجه لإبطال خيار من لم يُبطل حق نفسه، فيبقى خيارُ المجيز أيضاً.
فإن قيل: هلا بطل خيارُ المجيز، وخيار من لم يجز، حتى تنزل إجازةُ المجيز منزلةَ ما لو فارق صاحبه؟ قلنا: المفارقة [تُنهي] (2) خيارَ المجلس بنص الخبر، وليس
__________
(1) مزيدة من: (هـ 2) .
(2) مزيدة من: (هـ 2) .(5/20)
فيه تفويتٌ لحق واحدٍ منهما؛ فإنه إذا هم أحدهما بالمفارقة، تمكن الثاني (1) من مساوقته، واستمكن من مبادرة الفسخ.
قال شيخي: لو قالا: أبطلنا الخيار، أو قالا: أفسدناه، ففيه وجهان: أحدهما - لا يبطل الخيار؛ فإن الإبطال يُشعر بمناقضة الصحة، ومنافاة الشرع، وليس كالإجازة؛ فإنها تصرفٌ في الخيار، وهذا ضعيف جداً، ولكن رمز إليه شيخي، وذكره الصيدلاني.
2885- فأما ما لا يكون قولاً، وهو رافعٌ للخيار، فالأصل في ذلك الافتراق، فإذا تفرق المتعاقدان، زال خيارُ المجلس، وإذا لزم أحدهما المجلس، ففارقه الثاني، انقطع الخيارُ؛ فإن هذا إذا جرى عُد افتراقاً، والشارع اعتبر الافتراق، وليس من شرطه، أن يأخذ أحدُهما جهةً، ويأخذ الآخر جهة أخرى، ولو تساوقَ المتبايعان، وزايلا مكان العقد، ولم يتفرقا، فالبيع جائز، والخيار قائم، وإن تماشيا أياماً منازل (2) ، فالمعتمد في قطع الخيار افتراقُهما.
ثم الرجوع في الافتراق إلى العرف، فليس في ذلك توقيفٌ شرعي، ولا ضبط معنوي؛ فإن جمعهما بيتٌ مقتصدٌ، فالمفارقة بخروج أحدهما من البيت، وإن كانا في عَرْصةٍ ضاحية (3) ، فإذا فارق أحدهما، ومشى خطوات، وبَعُد بُعداً، يُعدّ ذلك مفارقةً، انقطع خيارُ المجلس. ولو تبايعا قريبين من باب بيت، فتعدى أحدهما البابَ، وخرج، فالظاهر عندي أن ذلك مفارقة، وإن خطا خطوتين مثلاً. وإذا تبايعا في صدر بيتٍ مقتصد، فالمفارقةُ بالخروج من الباب.
هذا حكم الجريان على العرف.
ويخرج من ذلك أن البعد يختلف باختلاف المجالس، فإن جمعهما بيتٌ، فالتعويل على الخروج منه، وإن لم يجمعهما بيت، فيراعى فيه بُعدٌ يُعدّ فراقاً، ويمكن
__________
(1) عبارة (هـ 2) : تمكن الآخر من المساوقة.
(2) منازل: جمع منزل. والمراد هنا مراحل الطريق التي ينزل المسافرون بعدها للراحة.
(3) عَرْصة الدار ساحتها. وهي البقعة الواسعة التي ليس فيها بناءٌ، والجمع عراصٌ وعرصات (معجم ومصباح) . والمراد هنا أنهما تبايعا في بقعة خارج البلد.(5/21)
أن يقال: وجه التقريب فيه -إذا لم يكن بيتٌ جامع- إن جلوس رجلين في مجلس واحد ليس يخفى، وذلك ينقسم إلى التقارب في الجلوس والتباعد، وقد يتدانى رجلان حتى يتماسَّا، وقد يبعد أحدهما عن الثاني بعضَ البعد، ولكن يُعدان في مجلس واحد.
فهذا ما ينبغي أن يراعى.
فنقول: إذا فارق أحدهما الثاني، وانتهى إلى موضع، لو استقر فيه، لم يُعدّ المكان مجلساً جامعاً، فهذا فراق، وإن كان أقرب من ذلك، فليس فراقاً.
ويمكن أن يقال: المجلس الواحد ما يتسير فيه التفاهم، مع الاقتصاد في الصوت، ويراعى في ذلك اعتدال الأحوال. فهذا أقصى الإمكان.
ويخرج عليه أن البيت إذا تفاحش اتساعه، وقد تبايعا في صدره، فيتحقق الفراق بأن يفارق أحدهما الثاني إلى بعض البيت؛ فإن مثل هذا البيت لا يبين أن يكون مجلساً واحداً لشخصين.
فإن قيل: العرف يختلف في اتحاد المجلس، وقرب الجلوس وبُعده، باختلاف الأقدار والمناصب، فالمتوسط لا يقرب من الملك قُربَه ممن هو في مثل حاله، قلنا: المجلس لا يختلف عندنا بذلك، والذي خيّله السائلُ مغالطةٌ؛ فإن منصب الملك يمنع أن يجتمع [معه] (1) متوسط في مجلس واحد، فهذا من باب امتناع اتحاد المجلس، وليس من تفاوت المجلس.
2886- فإن قيل: لو وقف المتعاقدان متباعدين، وزادت المسافة بينهما على مقدار المجلس، وتناديا بالإيجاب والقبول، فهل ينعقد العقد؟ وإن انعقد فما حكم خيار المجلس؟ قلنا: الوجه القطع بصحة البيع، إذا اتصل الإيجاب بالقبول من جهة الزمان، هذا ما أثق به، نقلاً ومعنى.
فأما خيار المجلس ففيه احتمال ظاهر، يحتمل أن يقال: لا خيار؛ فإنهما أنشآ العقد على صورة التفرق، وهو قاطعٌ للخيار إذا طرأ على المجلس الجامع، فإذا قارَن العقدَ، منع ثبوتَه. ويجوز أن يقال: يثبت لكل واحد منهما الخيار. ثم إذا قدرنا
__________
(1) في الأصل: فيه.(5/22)
ثبوتَه، اعترض احتمال آخر في أن أحدهما إذا فارق مكانَه، وبطل خيارُه، هل يبطل خيار صاحبه أم يبقى خيار صاحبه إلى أن يفارق هو أيضاً مكانه؟ فيكون خيار كل واحد منهما منقطعاً عن خيار الثاني. هذا فيه تردد.
فإن قيل: إذا تعاقدا والمجلس جامع، ثم صابرا حتى بُني بينهما جدار حائل، فهل يصيران في حكم المتفرقين؟ قلنا: إن بنى أحدُهما الجدارَ، فالظاهر أن هذا بمثابة مفارقته، وإن بنى غيرُهما، اتصل القول بأن أحد المتبايعين لو حُمل وأُخرج من المجلس، هل ينقطع الخيار؟ وفيه فصل يأتي إن شاء الله تعالى.
ومن لطيف القول في هذا الفصل، أن المتبايعين لو كانا بقربِ الباب، فخرج أحدهما، فهو مفارق، وإن قربت المسافة. ولو كانا في مكانٍ ضاحٍ، فلا بُد من اعتبار بُعدٍ، كما سبق بيانه، فلو كانا في مكان بارز كما ذكرنا، ففارق أحدهما بعد العقد وبَعُد على الحدّ المذكور، فانتصب (1 واتبعه الآخَر، لم ينفعه ذلك بعد وقوع الفراق. ولو كانا في بيتٍ قريبين من بابه، ففرّ أحدُهما وفارق العتبة 1) ، فاتبعه الثاني على الفور، فالظاهر عندي في هذه الصورة أن البيع على جوازه؛ فإن مثل هذا لا يُعد تفرقاً في العرف.
فهذا مقدار غرضنا في البعد المُنهي للمجلس.
فصل
2887- إذا مات أحد المتعاقدين في مجلس العقد، فالمنصوص للشافعي أنه لا ينقطع الخيار بموته، بل يقوم وارثه مقامه.
وقال في المكاتَب: إذا باع شيئاً أو اشتراه، ثم مات في مجلس العقد، وجب العقد، فأشعر قولُه "وجب" بانقطاع الخيار.
واختلف الأئمة: فمنهم من قال: في انقطاع خيار المجلس بالموت قولان، سواء فُرض العاقد مكاتَباً أو حُرّاً.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من: (هـ 2) .(5/23)
توجيه القولين: من قال بالانقطاع تمسك بأن خيار المجلس يقطعه التفرق؛ من حيث إن المفارق بفراقه يخرج عن مجلس التخاطب، ومفارقة الدنيا بالموت أبلغ في هذا المعنى، والميت في حكم التصرفات كالمعدوم، فكأنه عُدم عن مجلس العقد.
والقول الثاني - أنه لا ينقطع الخيار؛ فإنه حقٌ ثابت قاطِعُه في الحديث التفرّق، وهذا ليس تفرقاً إطلاقاً، فالوجه إبقاء الخيار حقا لوارثه.
ومن أصحابنا من قطع ببقاء الخيار، وقال: أراد الشافعي بقوله: وجب البيع، أي استمرت صحته، ولم يبطل، وقد يَظن ظانٌّ أن البيع ينقطع بموت المكاتب رقيقاً.
ومن أئمتنا من حاول الفرق، وتقرير النصين، وقال: إن كان العاقد مكاتباً، انقطع الخيار بموته، بخلاف ما لو مات من يورَث؛ لأن الوارث ينوب مناب المورث، وكأنه هو، فإذا خلفه كان بمثابة الميت، والسيد ليس في حكم النائب عن مكاتبه، فإذا انقلب إلى الرق، بَعُد أن يقال: ينوب السيد عن مكاتبه، ويخلُفه.
وهذا ليس بشيء؛ فإن المكاتب إذا رَقَّ، قام السيد مقامه في الحقوق، التي ثبتت له، والخيار من الحقوق التابعة للملك والعقد، فإذا انقلب العقد بحقوقه إلى السيد، فالخيار من حقوقه.
والطريقة المشهورة طرد القولين.
التفريع:
2888- إن حكمنا بانقطاع الخيار بموت أحدهما، فقد لزم العقد من الجانبين، وإن قلنا: لا ينقطع خيار المجلس بموت أحد المتعاقدين، فإن كان الوارث في مجلس العقد حل محل الميت، وكأنه لم يمت، فيتعلق بالوارث من المفارقة والبقاء في المجلس ما كان يتعلق بالعاقد لو بقي، وإن كان الوارث غائباً، فبلغه الخبر، ثبت الخيار. ثم ذلك الخيار يثبت على الفور، أو يمتد امتداد مجلس بلوغ الخبر، فعلى وجهين ذكرهما الإمام، وصاحب التقريب: أحدهما - أنه على الفور؛ فإن المجلس قد انقضى، ولكنّا رأينا ألاّ نعطلَ حقا ثبت للمورث، فأثبتنا أصله للوارث، وعسر اعتبار المجلس؛ فاقتضى ذلك الفور.(5/24)
والوجه الثاني - أنه يمتد؛ فإن الخيار الذي ثبت للمورث كان ممتداً، فليثبت للوارث على الامتداد، والوجهان كالوجهين فيه إذا مات أحد المتعاقدين في زمان الخيار، فخيار الشرط موروث، فإن كان الوارث غائباً، فلم يبلغه الخبر حتى انقضى الزمان المضروب للخيار، فكيف يثبت الخيار لذلك الوارث؟ فيه وجهان: أحدهما - أنه يثبت على الفور؛ فإن الزمان المذكور قد انقضى، والثاني - أنا نثبت للوارث الخيارَ في مثل المدة التي كانت بقيت، لما مات من له الخيار.
ونتمم تفريع ذلك في خيار الشرط ثم نعود إلى خيار المجلس، فنقول: إذا مات من تولى العقد، فقد انقضى من زمان الخيار يومٌ، وقد بقي يومان، فبلغ الوارثَ الخبرُ، وقد بقي من مدة الخيار يوم، فلا خلاف أن خيار الوارث يدوم في هذا اليوم؛ فإنه من بقية الزمان المذكور، وهل ينقطع خياره بانقضاء اليوم الأخير؟ أم يثبت له مع ذلك اليوم الخيارُ في يوم آخر؟ حتى يكمل له -بعد بلوغ الخبر- من الخيار ما كان باقياً لمَّا مات المورِّث؟ على وجهين. ومأخذهما ما قدمناه.
2889- عاد بنا الكلام إلى خيار المجلس، فنقول: انقطاع المجلس بالموت كانقضاء زمان الخيار قبل انتهاء الخبر إلى الوارث، وتقدير مجلسٍ بمثابة ضرب مدةٍ للوارث، وقد انقضت المدة المذكورة قبل الخبر، والفور كالفور.
2890- ومما نذكره في ذلك أنه إذا مات أحد المتعاقدين ووارثه غائب، فبلغه الخبر، والعاقد الباقي سبقه (1) إلى ذلك المجلس، فلا خلاف أنه يثبت له مع ذلك الوارث الخيارُ؛ فإن موت من مات إذا لم يقطع الخيارَ عن وارثه، فلا يتضمن قطع الخيار عن العاقد الباقي. ولكن اختلف أئمتنا في أنه هل يدوم خيارُ الباقي من المتعاقدين إلى أن يبلغ الخبرُ الوارثَ؟ أم يقضى بان الخيار يزول في حقه، حتى يثبت للوارث، ثم يعود إذ ذاك خيارُه؟ فعلى وجهين ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - أنه يدوم خيارُه؛ إذ سبب استئخار خيارِ الوارث عدم بلوغ الخبر إليه، ولو كان الوارث عالماً، لتخيَّرَ، والباقي من المتعاقدين عالم بحقيقة الحال.
__________
(1) في (هـ 2) : "سبق".(5/25)
والوجه الثاني - أنه لا يثبت له الخيار، قبل بلوغ الخبر إلى الوارث؛ فإنه لو تخير، لكان منفرداً في التصرف في خيار المجلس، في وقتٍ لا ينفذ فيه تصرف صاحبه.
2891- وتحقيق ذلك يستدعي مزيداً؛ فنقول: من مات أبوه في غيبةٍ وهو لم يشعر بموته، فتصرف في ماله، على ظن أنه يتصرف ظالماً في مال أبيه، ثم بان أنه كان مات أبوه، وأنه تصرف في ملك نفسه، ففي نفوذ تصرفه اختلاف قولٍ، سيأتي إن شاء الله تعالى. فإن لم ننفذ تصرفَه في الصورة التي ذكرناها، فالوارث لو فُرض منه فسخٌ، أو إجازة قبل أن يبلغه الخبر، لم ينفذ.
وإن نفّذنا التصرفَ في الصورة المتقدمة، فالوجه أن يقال: إجازته لا تنفذ، وفسخه ينفذ، بناء على القاعدة التي نبهنا عليها في وقف العقود، أما ردُّ الإجازة، فالسبب فيه أن الإجازة رضا، وإنما يتحقق الرضا مع القطع وتصميم العقد، فأما ما كان على تردد، فلا يتأتى منه قطع الإجازة، وقد قدّمنا في تفريع خيار الرؤية أن إجازة المشتري لا تنفذ قبل رؤية المبيع، وفي تنفيذ فسخه كلام، وفيما ذكرتُه من الإجازة في المسألتين احتمال ظاهر.
فإن قيل: إذا قلنا: لا يثبت للعاقد الباقي الخيارُ قبل بلوغ الخبر إلى الوارث، تعليلاً بأنه لا ينفرد بالتصرف عاقدٌ في خيار المجلس، فلو بلغ الخبرُ الوارثَ، والعاقدُ لم يكن مع الوارث في ذلك المجلس، ولم يكن على علم من بلوغ الخبر إلى الوارث، فلا يثبت لهذا العاقد الخيارُ، إذا لم ينفذ التصرف على وقفٍ كما مضى. وإذا كان كذلك، فالوارث لو تخير، لكان منفرداً في تخيره.
ومنشأ ما نُفرعُ عليه منعُ التفرد بالخيار، فلو جَرَينا على حَقِّ هذا القياس، لقلنا: لا يثبت للوارث الخيار إلا إذا كان العاقد عالماً مع علمه. قلنا: هذا مُشكل، ولكن قطع الأئمة أنه يثبت له الخيار كما (1) بلغه الخبر، سواء اقترن ببلوغ الخبر علمُ العاقد الباقي، أو لم يقترن، وعللوا بأن شرط اقتران علمه يعطل خيار الوارث، ويُعسِّر الأمرَ. هذا منتهى الإمكان.
__________
(1) "كما" بمعنى عندما.(5/26)
ثم إذا ثبت الخيار للوارث؛ فإن فسخ، نفذ، وإن أجاز، فحق العاقد الباقي في الفسخ هل يبقى؟ الوجه أن يقال: إن أثبتنا الخيار للوارث على الفور، وقلنا: لا يمتد امتداد المجلس، فإذا بطل الخيار بالتأخير، أو بالإجازة، انقطع خيارُ العاقد الباقي.
وإن قلنا: امتد خياره امتداد مجلس بلوغ الخبر، فإن أجاز وهو في مجلسه بعْدُ لم يفارقه، فبلغ الخبرُ العاقدَ الحى والمجلس مستمر بَعْدُ، يثبت له حق الفسخ. وإن فارق الوارثُ مجلسَ بلوغ الخبر، فقد انقطع خياره، فينقطع الآن خيار العاقد الباقي، ونجعل مفارقة الوارث لذلك المجلس، بمثابة مفارقة أحد المتعاقدين.
فإن قيل: إذا مات أحدُ المتعاقدين، وحكمنا بأن الخيار يثبت لوارثه، وكان غائباً، فقد بطل أثر هذا المجلس، فلو فارقه العاقد الباقي هل يتعلق بمفارقته حكمٌ؟ قلنا: لا يتعلق بمفارقته حكمٌ، والسبب فيه أن القاطع لخيار المجلس مفارقةُ أحد المتعاقدين الثاني، وإذا مات أحد المتعاقدين، فلا أثر لمفارقته، ولا يتعلق به في أمر المجلس حكمٌ، ووجوده وعدمه بمثابة.
فصل
2892- مذهب الشافعي أن خيارَ الشرط موروث، فإذا شُرط للمتعاقدين، فمات أحدهما في مدة الخيار، قام وارثه مقامه، كما قدمنا التفصيل في انقضاء المدة قبل بلوغ الخبر، وانقضاء بعضها. قال صاحب التقريب: إذا حكمنا بأن خيار المجلس لا يورث، فقد خرَّج عليه بعضُ أئمتنا قولاً أن خيار الشرط لا يورث، [فإنه] (1) كما اختص المجلس بالعاقد، ولم يوجد منه فراق محسوس، فكذلك الشرط [يختص] (2) بالعاقد. وهذا بعيدٌ جداً، لم أره لغيره.
__________
(1) في الأصل: "وإنما".
(2) في الأصل: "مختص".(5/27)
فصل
2893- إذا ثبت خيارُ المجلس بين المتعاقدَيْن، فأُخرج أحدُهما من المجلس محمولاً مكرهاً، فلا يخلو: إما أن يُسدَّ فُوه في حال النقل، حتى لا يتمكن من الفسخ، أو ينقل من غير ذلك، فإن حُمل مُكرهاً مسدودَ الفم، وأُخرج من المجلس، ففي انقطاع خيار المجلس وجهان في الطرق، يقربان من القول في الانقطاع بموت أحد المتعاقدين، والأقرب في الإخراج بقاء الخيار؛ فإنَّ من له حق الخيار باقٍ، وإبطال حقه اللازم قهراً مع بقائه بعيدٌ، فهذا فيه إذا أخرج مسدود الفم. فأما إذا حُمل مفتوح الفم، وكان متمكناً من الفسخ، ففيه طريقان: من أصحابنا من قطع بانقطاع الخيار، وهو اختيار الصيدلاني، فإنه كان متمكناً من التصرف، فلا يتحقق الإكراه.
وذكر بعضُ أصحابنا وجهين في هذه الصورة، وأشار إليهما العراقيون، ووجه ذلك أنه كان مكرهاً في الإخراج، وهو سبب المفارقة، فقد جرى السبب القاطع للمجلس على كُره، فلا ننظر إلى تمكنه من الفسخ، وهذا يضاهي تركَ المجروح مداواةَ الجرح، مع القدرة عليها، حتى تَزهقَ روحُه (1) ، وقد يكون المخرَج مبهوتاً في تلك الحالة، أو تكون عليه بقية من التروِّي، ففي إرهاقه وهو في تروّيه إكراه في مقصود الخيار.
فإن قلنا: يبطل خيار المكرَه المُخرج، فيبطل خيار الباقي في المجلس؛ فإنا نجعل هذا الإخراج في قطع المجلس بمثابة الخروج على سبيل الاختيار، ولو خرج مختاراً، لانقطع خيارهما جميعاً.
فأما إذا قلنا: لا يبطل خيار المخرَج كُرهاً، نُظر في الباقي، فإن ضُبطَ (2) حتى لا يساوق هذا المخرَج، فلا يبطل خيارُه؛ [إذْ] (3) تحقق الإكراه في حقه، كما
__________
(1) فترْكُ مداواة الجرح لا يمنع من تحميل الجاني الجناية على النفس، بعد أن كانت جُرحاً وجناية على الطرف.
(2) ضبط: المراد ألزم المجلس مرغماً حتى لا يرافق المكره على الخروج.
(3) في الأصل: إذا. وما أثبتناه من: (هـ 2) .(5/28)
تحقق في حق [المخرج] (1) ، وإن كان مطلقاً، وكان يمكنه أن يساوقه حتى لا يتحقق الافتراق، فتقاعد ولم يساوقه، فذلك منه بمثابة إجازة العقد مع دوام المجلس.
وقد ذكرنا أن أحد المتعاقدين إذا أبطل خيار نفسه وحكمنا ببقاء خيار صاحبه، فهل يبطل خيار من أبطل خيار نفسه؟ فعلى وجهين: والمذهب البطلان.
ثم تمام التفريع في ذلك أنا إذا أثبتنا لهما الخيار، وقد جرى التفرق، فمهما (2) تمكن المخرجُ من التصرف وهو في المجلس، فالقولُ فيه كالقول في الوارث إذا بلغه الخبر، وأثبتنا له الخيارَ، وقد سبق القول في الفور والامتداد إذا زايله الإكراه وهو مارٌّ، غيرُ قار في موضع، فإن كنا نرى الخيار على الفور لو كان في مجلس، فالخيار على الفور، عند تحقق التمكن، وزوال الإكراه، وإن قلنا: يمتد الخيار امتداد المجلس، فإذا كان ماراً غيرَ لابثٍ، فالذي أراه أنه إذا فارق في مروره مكان التمكن، انقطع خياره؛ إذ لا ينضبط لمروره منتهى، فكان مكان التمكن مجلساً، وقد فارقه.
2894- فإن قيل: إذا خرج عن مجلس العقد مكرهاً، وحكمنا بأنه لا يبطل خياره وبسبب هذه المفارقة، فإذا زايله الإكراه وتمكن من الانقلاب على المجلس والاجتماع بمُعَاقِده، فهل عليه ذلك إن أراد بقاء الخيار؟ قلنا: الوجه عندنا أنه إن طال الزمان، فقد انقطع ذلك المجلس حسّاً، فلا معنى للعود. وإن قرب، ولم يطل الفصل، ففي المسألة احتمال في تكليفه العودَ إلى الاجتماع بمُعاقده، من حيث إنه في استدامة الكَوْن على صورة المفارقة في حكم المؤْثر للفراق. والعلم عند الله تعالى.
فرع:
2895- إذا جُنَّ من له الخيار في مكان الخيار وزمانِ الخيار، لم ينقطع خيارُه وفاقاً، وقام من يقوم عليه في أموره مقامه في أمر الخيار، وليس الجنون في معنى الموت؛ فإن الموت فراقٌ كما قدمناه.
فلو فارق المجنون مجلسَ العقد، فهذا فيه احتمال يلاحِظ إخراج أحد المتعاقدين عن مجلس العقد كُرهاً. ويجوز أن يقال: لا ينقطع بمفارقة المجنون؛ فإن التصرف
__________
(1) في الأصل: المكره. وما أثبتناه من: (هـ 2) .
(2) "فمهما": بمعنى: فإذا.(5/29)
في الخيار، انقلب إلى الولي القوَّام عليه، ويعارض ما ذكرنا أنه لو كان كذلك، لكان الجنون كالموت، وكان المجنون كالمعدوم، حتى تخرج المسألة على قولين في بطلان الخيار، وليس الأمر كذلك، ولا شك أن من نسي العقدَ، وفارق المجلس، ثم تذكره، فينقطع خيارُه، ولو أكره على المفارقة حتى تعدى بنفسه المجلسَ، فيظهر تنزيل هذا منزلة ما لو حُمل وأُخرج.
ولا وجه لتقريب ما نحن فيه من أحكام الحِنث في اليمين، وقد ذكرنا قولين في أن الناسي هل يحنَث في يمينه؟ فالذي نحن فيه لا يُتلقى من ذلك الأصل؛ فإن المعتبر في نفي الحِنْث، في حق الناسي على قولٍ = أن الحالف جعل اليمين وازعةً إياه مما حلف عليه، وهذا يُشعر بتخصيصه عقد اليمين بحالة الذكر؛ فإنّ اليمين المنسية لا تَزَعُ.
والأصل الذي نحن فيه ليس من ذلك، والناسي إذا فارق مجلس العقد في حكم مضيّعٍ حقَّ نفسه بالنسيان.
وأما إذا كان مكرهاً، فقد نقول: لا يبطل حقه اللازم بما هو مكره فيه، وذلك واضح لمن أَلِفَ مسالك الفقه.
فصل
2896- خيار الشرط ثابت في نص السنَّة، وهو متفق عليه، ومذهب الشافعي أنه لا يُزاد على ثلاثة أيام، والمتبع في ذلك التوقيفُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حديث حَبّانَ بنِ مُنقذ، أنه قال فيما رواه نافع، عن ابن عمرَ، قال: "كان حَبانُ بنُ مُنقذ رجلاً ضعيفاً، وكان قد سُفع في رأسه مأموماً (1) ، فجعل له النبي صلى الله عليه وسلم الخيار فيما اشترى ثلاثاً، وقال له: بع وقل لا خِلابة" (2) وكان
__________
(1) سفع في رأسه مأموماً: أي أصيب إصابة بالغة بأم رأسه، أي أصابت دماغه.
(2) حديث حبان بن منقذ: متفق عليه من حديث ابن عمر: البخاري: كتاب البيوع، باب ما يكره من الخداع في البيع، ح2117، 2407، 2414، 6964، ومسلم: البيوع، باب من يخدع في البيع، ح 1533، وانظر تلخيص الحبير: 3/49 ح 1187، وليس عند الشيخين، ولا أصحاب السنن تسمية حبان بن منقذ، وأنه المخاطب بالحديث. ولكنه عند الشافعي، =(5/30)
ثقل لسانُه لمكان الشجَّة، وكان يقول: لا خذابة، لا خذابة.
والخيارُ مخالفٌ لوضع البيع، في منع نقل الملك، أو في منع لزومه، فثبوتُ الخيارِ حائدٌ عن الموضوع، فيتعين التوقيف فيه، فليس في إثباته غيرُ الاتباع، وقد ورد الخبرُ في إثبات الثلاث (1) ، فلا مزيد عليها، فإذا تشارط المتبايعان الخيارَ ثلاثة أيام، ثبت. وإن شرطاه أقل من ذلك، ثبت المشروطُ بلا مزيدٍ، ولا سبيل إلى الزيادة على الثلاث، ولا يختلف ذلك باختلاف صفات المعقود عليه.
2897- ثم أول ما نذكره تفصيلُ القول فيما يثبت فيه خيار الشرط من العقود، فنقول: خيار المجلس يعم كلَّ بيع، كما تقدم. وخيار الشرط لا يثبت من البيوع في الصرف والسلم. والسبب فيه أن الصرف لا يقبل الأجل، والخيارُ أحق بأن يكون غرراً من الأجل، وهو في التحقيق تأجيلُ نقل الملك، أو تأجيلُ لزومه، والسلم وإن قيل: التأجيل في جهة المسلَم فيه، فلا يتصور ذلك في رأس المال؛ إذْ إقباضُه في المجلس شرط العقد، فكان في ذلك كالصرف من الجانبين، والخيارُ لو قُدر ثبوته، لتضمن جوازَ العقد في عِوَضيْه؛ إذ لا يتصوّر بيعٌ جائزٌ في أحد العوضين.
فرع:
2898- إذا ثبت أن خيار المجلس يثبت في الصرف والسلم، فأثر ثبوته أن مَن فسخ العقد من المتعاقدين، انفسخ، وإن كان ذلك بعد جريان التقابض حِساً، ولو
__________
= وأحمد، وابن خزيمة وابن الجارود، والحاكم، والدارقطني. ذكر هذا ابن حجر في الإصابة في ترجمة حبان.
وقيل: إن صاحب القصة هو منقذ والد حَبانَ، وليس حَبان، وذكر ذلك البخاري في تاريخه، وابن ماجه، وحكاه النووي في المجموع، والتهذيب، وذكر الحافظ في التلخيص أن النووي قال: إنه الصحيح.
(1) في هامش الأصل: ما نصه: "في هداية الحنفية أن ابن عمر أجاز الخيار إلى شهرين". والذي أشار إليه هامش نسخة الأصل، تجده في الهداية: 3/27 منسوباً إلى أبي يوسف ومحمد، ونص عبارتها: "ولا يجوز الخيار أكثر من ثلاثة أيام عند أبي حنيفة وهو قول زُفر والشافعي، وقالا: (أي أبو يوسف ومحمد) يجوز إذا سمّى مدة معلومة لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه أجاز الخيار إلى شهرين" ا. هـ. بنصه.(5/31)
أجازا العقدَ، نُظر: فإن أجازا بعد التقابضِ، لزم العقدُ، وامتنع فسخه، وإن أجازا العقدَ قبل جريان القبض، ففي المسألة وجهان، ذكرهما شيخي، وصاحب التقريب: أحدهما - أن الإجازة لاغية؛ فإن القبضَ يتعلق بالمجلس، وهو بعدُ باقٍ، فحكم المجلس في الخيار باقي. والوجه الثاني - أن خيار المجلس ينقطع.
ثم الذي أثق به في التفريع، أنا إذا قطعنا باللزوم، تعيّن على المتعاقدين التقابضُ، فإن تفرقا قبل التقابض، انفسخ العقدُ بعد اللزوم، ولم نُعَصِّهما إذا كان تفرقهما عن تراضٍ، وإن فارق أحدُهما الثانيَ منفرداً قبل القبض، انفسخ العقد، ولكنه عصى بانفراده بما تضمن فسخَ العقد، وإسقاطَ المستحق عليه من العوض.
فرع:
2899- الإجارة هل يثبت فيها خيارُ المجلس والشرط؟ الطريقة المرضية فيها، أن خيار الشرط لا يثبت فيها؛ لأنه يتضمن تعطيل المنافع، ونحن منعنا إثبات خيار الشرط في الصرف؛ من حيث إن الصرفَ يقتضي تعجيلَ الإقباض، والخيار يؤخر التصرّفَ، وهو نقيض موضوع الصرف. فإذا فسد شرطُ الخيار في الصَّرف بتأخير مقصوده، فالخيار الذي يعطل المنافع بذلك أولى، وهل يثبت فيها خيارُ المجلس؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يثبت؛ فإن المعتمد فيه الخبر، وهو مختص بالمتبايعين، والإجارة لا تسمى بيعاً.
والوجه الثاني - أن خيار المجلس يثبت؛ فإنا فهمنا من إثبات خيار المجلس غرضَ تدارك الغبن إن كان، والإجارة في هذا المعنى كالبيع، وقد قال الشافعي: الإجارات صنفٌ من البيوع، فهو في التحقيق بيعُ المنافع. ثم المجلس في غالب الأمر لا يمتد، فإن مضى شيء من الزمان، وتعطل فيه مقدار نزر من المنفعة، فهو مما لا يبالَى به، وإن طال المجلس على ندور، فالنادر لا يغير وضعَ الشيء.
وذكر الإمام وبعض أصحاب القفال الخلافَ في خيار الشرط أيضاً. وحاصل الطريقة ثلاثةُ أوجه في الخيارين: أحدها - يثبتان، [والثاني - لا يثبتان] (1) ، والثالث -
__________
(1) زيادة من (هـ 2) .(5/32)
يثبت خيارُ المجلس، ولا يثبت خيار الشرط.
والمرتضى الطريقةُ الأولى، فإن قلنا: لا يثبت الخياران جميعاً، وهو الأصح، فلا كلام.
وإن قلنا: يثبت الخياران، أو أحدُهُما، فالوجه عندي القطعُ بأن ابتداء المدة المضروبة في الإجارة تُحتسب من وقت العقد؛ فإن المصيرَ إلى أن المدة يحتسب ابتداؤها من انقضاء الخيار، يتضمن استئخار مدة الإجارة عن العقد، وهذا ينافي مذهب الشافعي؛ فإنه لا يرى إجارةَ الدار للسنةِ القابلة. والمصيرُ إلى أن ابتداء المدة من وقت تصرُّمِ الخيار تصريحٌ باستئخار موجَب العقد [عن العقد] (1) وإجارة الدار للسنة القابلة عند الشافعي بمثابة تعليق العقد على مجيء الزمان المرتقب، وهذا لا مساغ له.
فإن قيل: إذا احتسبنا المدة من ابتداء العقد، فتتعطل المنافع على المستأجر، أو
على المكري؟ قلنا: لا بد من التزام ذلك إذا قلنا بإثبات الخيار.
ومن فساد التفريع نتبين فساد الأصل.
ثم نقول: لو قُلنا: ابتداءُ المدّة من انقضاء الخيار، فالمنافعُ في مدة الخيار تتعطل على المكري، فلا بد من تعطيل كيف فرض الأمرُ.
فلو قالَ قائل: ينبغي أن تُجوّزوا للمُكري الانتفاعَ إذا صرنا إلى [أن] (2) ابتداء المُدَّة يُحسَبُ من انقضاء الخيار. قلنا: هذا الآن ينتهي إلى القُرب من خرق الإجماع. ومن أكرى داراً سنة مطلقاً، ثم أكراها من غير المكتري ثلاثة أيام، فلا مُجيز لذلك، فيما أظنُّ. وقال شيخي: من أئمتنا من يحتسب ابتداء مدة الإجارة من وقت انقضاء الخيار، وهذا يمكن توجيهُه على بُعده. ولهذا القائل أن يقول: إنما يمتنع استئخار حُكم الإجارةِ عن العقد، إذا لزم العقد. وهذا كما أنه يلزم ملك المشتري إذا لزم العقد، ويتأخر ملكُه، أو لزومُ ملكه إذا اشتمل العقد على الخيار. فإن صح هذا
__________
(1) زيادة من (هـ 2) .
(2) مزيدة من: (هـ 2) .(5/33)
الوجه، فالقياس يقتضي جوازَ إجارة الدار للمكري في مدة الخيار، وأراه بعيداً.
التفريع:
2900- إن احتسبنا المدةَ من العقد، فالمنافع الفائتة في زمان الخيار يُنظرُ فيها، فإن هي فاتت في يد المكري، فهي من ضمانه، وإن كانت الدارُ في يد المكتري، ففوات المنافع في يده بمثابة تلف جزءٍ من المبيع في زمان الخيار في يد المشتري. وسنعقد في ذلكَ فصلاً.
وإن فرَّعنا على أن العقد يحتسب ابتداءُ مدته من انقضاءِ الخيار، فلا خفاءَ بما نحاولهُ. وإنما الذي يغمض فيه أن المكرِي لو أراد أن يُكري الدار في مدَّة الخيار، فهل له ذلك؟
وكل ما ذكرناه في إجارةٍ تورد على عين، فأما الإجارة الواردة على المدة، فقد قال الشيخ أبو علي: من يجعلها كالسَّلَم، ففيها خيار المجلس، ولا يثبت فيها خيار الشرط، ومن أئمتنا من يجعلُها كالسلم (1) ، فيثبتُ عنده فيها الخياران، بخلاف الإجارة الواردةِ على الحين، وذلك لأن المعتمد في نفي الخيار في الإجارة الواردة على العين ما قدمناه من تعطّل المنافع، وهذا المعنى لا يتحقق في الإجارة الواردة على الذمَّة، وفيه احتمالٌ عندي؛ لأن هذا لا يسمى بيعاً، والمعتمدُ في الخيارين الخبر، وهو في البيع.
فرع:
2901- في المسابقة قولان: أحدهما - أنها جائزة، فلا معنى لتقدير الخيار على ذلك، والثاني - أنها لازمة، قال الأئمة: إذا حكمنا بلزومها، فهي في الخيارين بمثابَةِ الإجارة، والمسابقة عندي أبعد من الخيار، لأنها لا تعدُّ من عقود المغابنات، فازدادت بُعداً من البيع الذي هو مورد الخبر.
__________
(1) كذا في الأصل، وفي: (هـ 2) . ولعلّ الصواب: البيع؛ فهو الذي يثبت فيه الخياران جميعاً باتفاق، وليس السَّلَم كذلك.(5/34)
فصل
يحوي حقائق في جمع الخيارين وفي ثبوت أحدهما دون الثاني
2902- فنقول: خيار المجلس يثبت في كل بيعٍ، وخيار الشرط لا يثبت في الصَّرف والسَلَم، ويثبت في غيرهما من البيوع. والوجه نفي الخيارين في الإجارة، ولا يتَّجه إثبات خيار الشرط في الإجارة؛ فيخرج من ذلك أن خيار الشرط أولى بالانتفاء في الإجارة؛ لأنه يتضمن التعطيلَ لا محالة، وخيار المجلس في الغالب لا يدوم.
وإذا قُلنا: القسمةُ بيع، وكانت قسمةَ اختيار، فقد ذكرتُ التردد فيها. والوجه أن يقال: هذا التردد في خيار المجلس؛ فإن خيار الشرط معتمدُه اللفظ، ويبعُد ثبوتُه لفظاً في القسمة، وهي لا تعتمد لفظاً.
ومن هذا الجنس أخذُ الشفيع الشقص المشفوعَ، فإذا أخذهُ ملكه بعوضٍ يبذله، وهو في حكم بيعٍ، ففي ثبوت الخيار للشفيع وجهان؛ فإنهُ ابتياع حكماً، ثم هذا إنما يجري في خيار المجلس، فأما خيار الشرط، فلا يثبت؛ فإن الخيار الذي يُثبته اللفظ يليق بعقدٍ يعتمد الإيجابَ والقبول.
ثم في خيار المجلس للشفيع غموضٌ أيضاً، من حيث إنه يستحيل ثبوتُهُ للمشتري؛ إذ هو مقهور، وثبوت الخيار حكماً في أحد الجانبين بعيدٌ. ثم إذا أثبتنا الخيار للشفيع، فليس المعني به ثبوتَ الخِيرة في الأخذ والترك، مادام في المجلس، تفريعاً على قول الفور. وقد غلط بذلك بعضُ الأصحاب. والصحيحُ عندنا أنه يأخذ على الفور، ثم له الخيار في نقض الملك وردّه.
وأما الحوالة فقد ذكرنا ترتيبَ المذهب في الخيار فيها، فإن قُلنا بثبوت الخيار، فقد قال العراقيون: لا يثبت خيارُ الشرط، وليس يتجه عندي فرق بين الخيارين في الحوالة؛ فإن المعتمد في الحوالة اللفظُ، فلا يبعد شرط الخيار معهُ.
فرع:
2903- ذكر الأئمة أن الصداقَ لا يثبت فيه الخياران جميعاً، وقد ذكر(5/35)
صاحب التقريب وغيرُه وجهاً آخر في إثبات الخيار في الصداق وحده، وإن كان لا يثبت في النكاح، كما يجري الرد في الصداق والنكاحُ بحاله. وهذا منقاسٌ، وقد ذكر الصيدلاني في كتاب الصداق قولين منصوصين في ثبوت الخيار في الصداق، ثم من أثبت الخيار في الصداق، لم يفصل بين خيار المجلس، وخيار الشرط. وخيارُ الشرط أليق بالصداق عندي من خيار المجلس، من حيث إنه يعتمد اللفظ، ويقبل التخصيص، فيجوز أن يشترط مختصّاً بالصداق. وخيار المجلس يبعُد ثبوتُه في الصداق؛ فإن وضعَه يتضمن التعَلُّقَ بالجانبين، فإذا امتنع ثبوتُه من جانبٍ، بَعُد ثبوته من الجانب الثاني.
فصل
2904- إذا شرطنا في البيع خيارَ ثلاثة أيام، وثبتَ فيه خيار المجلس شرعاً، فقد رَتَّبَ الشيخُ في شرح الفروع ترتيباً وافقَ في معظمه ترتيبَ صاحب التقريب، فمما اشتهر فيه خلاف الأصحاب أن البيع إذا شُرط فيه خيار ثلاثة أيام مطلقاً، وثبت فيه خيار المجلس لا محالة، فخيار الشرط من أي وقت يحتسب؟ فعلى وجهين: أصحهما - أنه يحتسبُ من وقت العقد، ولا يبعُد ثبوتُ الخيارين في وقتٍ واحدٍ، ومطلقُ الشرط يتضمنُ اتصال المشروط بالعقد.
والوجه الثاني - أنه يثبت ابتداءُ مدة الخيار المشروط من وقت التفرق، وهذا القائل يعلل ما قاله بوجهين: أحدهما - أن الشرط المطلق يتضمن إثبات الخيار في زمان لولا الشرط، لم يثبت جواز العقد، فإذا كان خيار المجلس ثابتاً شرعاً، وجَرَى شرط الخيار، أشعر ذلك بتخصيص الخيار المشروط بما بعد المجلس. والوجه الثاني - أن إثبات خيارين متماثلين، في وقتٍ واحدٍ لاغٍ، لا معنى له، وكل شرط لم يتضمن فائدة لغا، فسقط أثر الخيار.
ثم قال الشيخ وصاحب التقريب: هذا فيه إذا كان شَرْطُ الخيار مطلقاًً، فأما إذا صرحنا بإثبات خيار الشرط من وقت العقد، فإن قلنا: مطلق الشرط يقتضي ذلك، فهذا تصريح بمقتضى الإطلاق، فيصح. وإن قلنا: إن (1 الخيار المطلق يحتسب من(5/36)
وقت التفرق، فإذا شرطا احتسابه من وقت العقد، ففي صحة الشرط وجهان، يتلقى توجيههما 1) من المعنيين اللَّذيْن ذكرناهُما في توجيهِ احتساب الخيار المطلق من وقت التفرق. فإن قلنا: سبب ذلك أن الشرط يتضمن إثبات الخيار، [حتى] (2) لا يثبت لولا الشرط؛ فاستئخار الخيار إذن من حكم إطلاق اللفظ، فإذا وقع التصريح بالاحتساب من وقت العقد، نجري على حكم التصريح، وإن اعتبرنا في التوجيه استبعادَ ثبوت خيارين، فهذا مسلكه المعنى إذن. فلا يجوز التصريح باشتراط جمع الخيارين، والشرطُ فاسد مفسدٌ للعقد، كما سيأتي تفصيل الشرائط في آخر الكتاب إن شاء الله تعالى.
وإن قلنا: الخيار المشروط يحتسب ابتداءُ مدته من وقت العقد عند الإطلاق، وهو الصحيح الذي اختاره ابن الحدّاد، فلو شرط احتساب ابتداء خيار الشرط من وقت التفرق، فقد قطع الشيخ بفساد الشرط، على هذا الوجه الذي عليه نفرعّ. ووجَّهه بأن الشرط تضمن إثباتَ ابتداء الخيارِ في وقتٍ مجهول، إذ لا يُدرَى متى يكون التفرق.
وذكر صاحب التقريب في هذه الصورة وجهين: أحدهما - ما ذكرناه، والثاني - أن الشرط يصح. وهذا وإن أمكن توجيهه، فالأصح ما ذكره الشيخ.
فرع:
2905- إذا حكمنا باجتماع الخيارين، فلو قالا: أبطلنا الخيارين، بطل الخيار.
وإن قلنا: يستأخر ابتداءُ خيار الشرط عن المجلس، فإذا قالا: أبطلنا الخيارَ أو قطعناه، فينقطع خيارُ المجلس، وهل ينقطع خيارُ الشرط؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يبطل؛ فإنه لم يصادفه الإبطال. والثاني - يبطل الخياران؛ فإن مقصودَهما إلزامُ العقد، هذا هو المفهوم من مطلق الإبطال. فلو قالا: أَلزمنا العقدَ، وجب القطعُ بانقطاع الخيارين.
فرع:
2906- قد أوضحنا أن خيار الشرط يتأقَّت بثلاثة أيام، وشرط خيار زائد
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من: (هـ 2) .
(2) في الأصل: حين.(5/37)
فاسدٌ مفسد. وأما خيار المجلس، فلا يتقدَّر بمقدارٍ، ومنتهاه إن لم يُقطع التفرقُ (1) .
وحكى الشيخ أبو علي وجهاً أن خيار المجلس لا يزيد على ثلاثة أيام، وإذا تمادى المجلس في سفينة، أو غيرها، وانتهى إلى ثلاثة أيام، انقطع الخيارُ. وهذا بعيدٌ مزيّفٌ.
فرع:
2907- إذا ذكرا في البيع أجلاً، والعقد استعقبَ خيارَ المجلس، فقد ذكرنا أنه لو شرط فيه خيار الشرط، فهوَ من أيّ وقتٍ يحتسب؟ قال الشيخ: إن قلنا: خيارُ الشرط يحتسب ابتداؤه من وقت العقد، فيحسب ابتداءُ الأجل من وقت العقد أيضاً، وإن قلنا: الخيار المشروط يحسب ابتداؤه من وقت التفرق، ففي الأجل وجهان، والفرق بين الأجل والخيار أن الأجل ليس من جنس الخيار، فكان اجتماعهما أقربَ؛ لما بينهما من الاختلاف. فإن قيل: لا وجه لقول من يحتسب الأجلَ من وقت التفرق إذن، قلنا: الخيار يمنع المطالبةَ بالثمن، كالأجل، فكان قريباً منه. والخيار في التحقيق تأجيل لإلزام الملك، أو نقله، والأجلُ تأخيرُ المطالبة، ومن أخّر الأجل عن خيار المجلس، فقياسه يقتضي أن نقول: إذا شَرط في البيع خيار ثلاثة أيام، وأجَّل الثمنَ فيهِ، فينبغي أن يفتتح هذا القائلُ ابتداءَ الأجل من انقضاء خيار الشرط؛ لأنه عنده في معناه، ولا سبيل إلى الجمع بين المثلَين كما قررناه.
فرع:
2908- إذا شرط المتبايعان الخيار لثالث، وفوضا إليه الفسخَ والإجازةَ، صح ذلك باتفاق الأصحاب، ونفذ منه الفسخُ والإجازةُ.
فإذا شرطا الخيارَ لثالث، ولم يتعرضا لثبوت الخيارِ لأنفسهما، فهل يثبت لهما الخيار، وقد أطلقا شرط الخيار لثالث، ولم ينفياه عن أنفُسِهما؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يثبت لهما الخيار؛ فإن الثالث في حكم النائب عنهما، وليس عاقداً؛ فاستحال أن يثبت له الخيار، ولا يثبت لهما. والثاني - أنه لا يثبت لهما؛ فإن هذا الخيار في أصله يتبع الشرط، فثبت لمن شُرِط له، ولا يثبت لغيره.
__________
(1) "التفرُّقُ" خبر المبتدأ: "ومنتهاه".(5/38)
فإن حكمنا بأن الخيار يثبت لهما، فلو صرَّحا بنفي الخيارِ عن أنفسِهما، وخَصَّصا الخيارَ بالثالث، فَفي صحة هذا الشرط وجهان: أحدهما - يصح اتباعاً للشرط.
والثاني - لا يصح. وحقيقةُ الوجهين ترجع إلى أن من حكم بثبوت الخيار للعاقدين فهو بماذا؟ فكان من أصحابنا من يقول: سبب ثبوت الخيار لهما أن شرطَهما الخيارَ لثالث يقتضي من حيث اللفظ أن يثبت لهُما. فمن قال ذلك بنى عليه أنهما لو صرَّحا بالنفي عن أنفسهما، انتفى عنهما. ومن أصحابنا من قالَ: سبب ثبوت الخيار للمتعاقدَيْن استحالةُ ثبوته لمن ليس عاقداً، إلا على طريق النيابة، فعلى هذا الجمع بين إثبات الخيار للغَيرِ ونفيه عن المتعاقدين فاسدٌ.
ولا خلاف أنهما لو شَرَطا الخيارَ لأحدِ المتعاقِدَين ثبتَ له مختصّاً به، وانتفى عن الثاني.
قال صاحب التلخيص: لو كان المبيع عبداً، فشرط المتعاقدانِ الخيارَ له، ففوَّضا إليه الفسخَ والإجازة، جاز. وكان تفويضُ الخيار إليه بمثابة تفويضه إلى أجنبي، وقد ساعده الأصحاب على ما قالَ.
فرع:
2909- إذا وكل رجل وكيلاً في بيع، وأذنَ له في اشتراطِ الخيار، فاشترَط على حسب أمره، ثبت الخيار له، واختلفَ أئمتنا في أن الخيارَ الثابتَ لمن؟ فمنهم من قالَ: هو للموكِّل، كما أن الملك في العوض له، والخيار من حقوق الملك والعقد. والوجه الثاني - أن الخيار للوكيل؛ فإنه المتعاطي للعقد، والوجه الثالث - أن الخيار ثابتٌ لهما جميعاً، فيثبت للوكيل لتوليه العقد، ويثبت للموكِّل لأن مقصود العقد إليه يئول.
وإذا شرط المتعاقدان الخيارَ لثالث، فلا يجري فيه إلا وجهان، كما تقدمَ ذكرُهما، ولا يخرج فيه أن الخيار لهما، ولا خيار للثالث. وقد ذكرنا وجهاً أن الخيار للموكّل ولا خيار للوكيل، ثم إذا أثبتنا الخيار للموكل وحده، أو للوكيل والموكل جميعاً، فإنما ذاك في خيار الشرط، فأمّا خيارُ المجلس، فإنه يتعلق بالوكيل، وينتهي بمفارقته المجلس. ويجب القطع بأنه لا ينفذ فسخُ الموكِّل وإجازتُه؛ فإنه لا تعلق له بالمجلس. وخيار المجلس إنما يثبت لمن يتعلق به المجلس، وينقطع بفراقِه. وهذا(5/39)
كما أن حق القبول يتعلق بالوكيل المخاطب، فمجلس العقد يختص بالعاقد كالعقد.
فهذا ما أراه.
وقد نجزت قواعدُ القول في الخيارين.
فصل
2910- قد تقدَّم القول في ثبوت الخيارين، ونحن الآن نذكر أحكام الزوائد التي تَحدثُ في زمانِ الخيار، ثم نذكر التصرُّفَ الذي يَصدُر من المتعاقدَين، أو من أحدهما.
والوجه تقديمُ القول في المِلكِ، فإذا ثبت الخيار للمتعاقدَيْن جميعاً، فقد اختلفت نصوص الشافعي في أن الملكَ في زمان الخيار لمن؟ والنصوص مشهورٌ، فلم أنقلها، وحاصلها أقوال: أحدها - "أن الملك في المبيع للمشتري"، وهو الصحيح. والثاني - "أن المِلكَ فيه للبائع". والثالث - "أن الملك موقوف". فإن تم العقد تبيّنا أن الملك زال إلى المشتري، بنفس العقد، وإن فُسخ العقدُ في زمان الخيار، تبيَّنا أن الملك لم يَزُل عن البائع، ثم طرد الأئمةُ الأقوالَ الثلاثةَ فيه، إذا كان الخيارُ لهما، أو كان الخيار لأحدهما.
وقال بعضُ المحققين: إن كان الخيار لهما، ففيه الأقوال. والأصحُّ أن الملك موقوف، وإن كان الخيار للمشتري فالأصحُّ أن المِلك له، وإن كان الخيار للبائع، فالأصح أن المبيع باق على ملكه، وكان الإمام يقول: يتّجه أن نجعل ذلك قولاً رابعاً مفصلاً، ضماً إلى الأقوال المرسلة.
توجيه الأقوال: إن قلنا: إن الملك للمشتري، فلأن البيعَ موضوعٌ لنقل المِلكِ، فلو استأخر عنه موضوعه، لكان في معنى تعليق العقدِ؛ إذ لا وجه لعقد لا يتحققُ فيه موضوعُه. نعم مقصود الخيار ثبوت استدراكٍ، وإلا فلا فرق بين تأخير المقصود بالعقدِ، وبين تأخير انعقادِه.(5/40)
وإن قلنا: الملك للبائع، فوجهه أن البيع [المطلق] (1) الذي لا يفرض فيه خيارٌ
موضوعُه نزولُ المشتري في المبيع منزلة البائع، في استفادة التصرفات، ومعلومٌ أن الخيار يوجب استئخار التصرُّف، فأشعر ذلك باستئخار الملك.
وإن قلنا بالوقف، فوجهه النظر في الجانبين، واعتمادُ العاقبة في الأمر، وهذا القول يلاحظ [قول] (2) وقفِ العقود بعضَ الملاحظة.
ثم إذا حكمنا بأن الملك في المبيع للمشتري، فلا شك أن الملك في الثمن للبائع، وإذا حكمنا بأن المبيعَ باقٍ على ملك البائع، فالثمن باقٍ على ملك المشتري، وإذا حكمنا على الوقف، فالأمر في العوضين موقوف.
فإذا وضح غرضُنا في الملك، فنذكرُ بعد ذلك فصولاً: أحدها - في الزوائد، والثاني - في التصرفات المتعلقة [بالأقوال، والثالث في التصرفات المتعلّقة] (3) بالأفعالِ، ونختم الغرضَ بما يقطع الخيار وما لا يقطع.
[الفصل الأول
في الزوائد التي تحدث في المبيع في زمن الخيار] (4)
2911- فأما الزوائد: أما المتَّصلةُ، فلا أثر لها، وهي لمن يستقر الملك في الأصل له، ولا موقع للزوائد إلا في الصداقِ، عند فرض الطلاق قبل المسيسِ، كما سنذكره إن شاء اللهُ تعالى.
وأما الزوائد المنفصلة، فمنها الكسبُ، فإذا اكتسب العبد المبيعُ في زمان الخيار شيئاً، فنفرع حكمه فيه إذا أُجيز العقد وتَم، ثُم نفرع حكمَه إذا فُسخ العقد.
فإن أجيز العقد، نُفرِّع الأمر على الأقوال في الملك، فإن فرّعنا على أن الملك للمشتري، فالزوائد له؛ فإنها استفيدت والملكُ له، ثم استقرَّ الملك آخراً. وإن
__________
(1) مزيدة من: (هـ 2) .
(2) مزيدة من: (هـ 2) .
(3) زيادة من: (هـ 2) .
(4) العنوان من عمل المحقق.(5/41)
قُلنا: المِلكُ للبائع، ففي الكسب وجهان: أحدهما - أنه للبائع؛ فإنه جرى والملك في الأصل [له، على هذا القول، وهو الظاهر، والثاني - أن الملك للمشتري؛ فإن الملك في الأصل] (1) تقرر عليه، وكان العقد معقوداً لذلك، والبائع لم يقصد باستبقاء الملك تأثُّلَه (2) ، وهذا الوجه يلاحظ قولَ الوقف.
وإن فرعنا على قول الوقف، فالملك في الكسب للمشتري؛ فإن العقد إذا أُجيز نتبين أن الملك للمشتري.
فهذا تفريع الكسب، وقد أُجيز العقدُ.
2912- فأما إذا فسخ العقد في زمان الخيار، بعد حصول الكسب، فنخرّج ذلك على أقوال الملك، فإن حكمنا بأن الملك للبائع، وقد استقر الملك عليه آخراً، فالكسبُ لهُ، وإن حكمنا بأن الملك موقوفٌ، فالكسب للبائع أيضاً؛ فإن العقدَ إذا فسخ فمُوجَب الوقف أنا نتبين أن مِلكَ البائع لم يزل، وإن حكمنا بأن الملك للمشتري، ففي الكسب وجهان: أحدهما - أنه له؛ إذْ حصل في زمانٍ كان الأصلُ مملوكاً له فيه. والثاني - أنه للبائع؛ فإن الملك في الأصل استقرَّ له، وآل إليه.
وحاصل الخلاف والوفاق في الإجازة والفسخ، أنا نقول: من اجتمع له ملكُ الأصل، واستقراره عليه، فالملكُ في الكسب له وجهاً واحداً. ومن لم يكن له ملكٌ في الأصل، ولم يصر المِلكُ إليه في المآل، فليس الكسب له وجهاً واحداً. وإن كان الملك لأحدهما أولاً، ثم لم يستقرَّ له، بل صار إلى صاحبهِ، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن ملك الكسب لمن صار الملكُ في المآلِ إليه، والثاني - أن الملكَ في الكسب لمن كان الملكُ حالة حصول الكسب له في الأصل.
ولو حدثت ثمرةٌ، أو وُلد مملوكٌ في زمان الخيار، فالقول فيه كالقول في الكسبِ، حرفاً حرفاً.
فهذا بيان الزوائد في زمان الخيار.
__________
(1) ساقط من الأصل، وأثبتناه من (هـ 2) .
(2) تأثله: المراد تثميره، ونماؤه.(5/42)
[الفصل الثاني
في التصرفات التي تقطع الخيار] (1)
2913- فأما التصرف، فنبدأ بالأقوال، وهي تنقسم إلى ما يقبل التعليق، وهو العتق، وإلى ما لا يقبله، كالبيع، فنبدأ بالعتق، فنقول:
إن أعتق المشتري العبدَ في زمان الخيار، فلا يخلو إما إن كان المشتري منفرداً بالخيار، أو كان الخيار لهما جميعاً، أو كان الخيار للبائع وحدهُ.
فإن كان الخيار للمشتري وحده، فينفذ عتقُه، سواء قلنا: الملك له، أو قلنا: الملك للبائع، أو وقفناه؛ فإنّ عتقه إجازةٌ منه، وله الانفراد بها، إذا كان منفرداً بالخيارِ، فنَفَذَ إذاً عتقُه وتضمَّن الإجازة، وإن فرَّعنا على أنه لا ملك لهُ.
وإن كان الخيارُ لهما جميعاً، نفرعّ العتق على الملك، فإن قُلنا: الملكُ للمشتري، ففي نُفوذ عتقهِ وجهان: أحدهما - ينفذ لمصادفته الملكَ. والثاني - لا ينفذ لثبوت حق البائع من الخيار فيهِ، وهذا يدنو من اختلاف القول في نفوذ عتق الراهنِ في المرهُون. فإن قلنا: ينفذ عتقه، فهل يبطل حق البائع من الخيار؟ فعلى وجهين: أحدهما - يبطل؛ فإن متعلّق الخيارِ العين، وإذا نفذنا العتق وتعذَّرَ ردُّه، فلا معنىً للخيارِ. والوجه الثاني - أن الخيار يبقى متعلّقه العقد، والعقدُ لا ينقطع بفوات المِلكِ في المعقود عليه.
التفريع:
2914- إن حكمنا بأن الخيار قد انقطع، فلا كلام، وقد لزم العقد، واستقرَّ الثمن، وإن حكمنا بأن خيار البائع باق، فهل له ردّ العتق، فعلى وجهين: أحدُهما- ليس لهُ ذلك؛ فإن رد العتق بعيدٌ بَعدَ الحكم بنفوذهِ. والوجهُ الثاني - له ردّهُ؛ فإن العتق يضاهي الملك، فإذا كان جائزاً، كان العتق مشابهاً لهُ في الجواز.
التفريع على هذين الوجهين:
2915- إن قلنا: له ردُّ الملك، فلا كلام. وإن قُلنا: ليس له رَدُّه، فإن أجاز
__________
(1) العنوان من عمل المحقق بناء على تقسيم الإمام.(5/43)
العقدَ، جازَ، وإن فسخ، وجب على المشتري قيمةُ العبد، وقد يستفيد بذلك مزيداً، إذا كانت القيمة أكثرَ من الثمن.
هذا كلُّه تفريعٌ على قولنا: إنهُ ينفذ عتق المشتري، فأمَّا إذا قُلنا: لا يَنفذ عتقُ المشتري، فلا يخلو إما أن يفسخ البائعُ أو يجيز، فإن فسخ، ارتد العبدُ إليه مملوكاً، وإن أجاز العقدَ، ولزم الملك للمشتري، فهل ينفذ الآن عتق المشتري، فعلى وجهين: أحدهما - لا ينفذ؛ لأنه نجَّز العتقَ، فرددناه، فتنفيذُه بعد ردّه محال، وهو بمثابة ما لو أعتقَ عبداً لغيره، ثم اشتراه.
والوجه الثاني - أنه ينفذ عتقُه [إذا] (1) لزم ملكه؛ فإنه استقرَّ ملكه آخراً، فالاعتبار بما استقرَّ الأمر عليه، وهذا ميلٌ إلى قول الوقف.
فإن قلنا: بأن العتقَ لا ينفذ، فلا كلام، وإن قلنا: إن العتق ينفذ، فمتى ينفذ؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه ينفذ إذا لزم الملك، والثاني - أنا نتبين أنه نفذ حين أنشأه، وإن كنا لا نُفرّع على قول الوقف. وهذا بعيد جداً، وهو تصريحٌ بمقتضى الوقف.
وكل ما ذكرناه تفريعٌ على أن الملك للمشتري، فإن حكمنا بأن الملك للبائع، فلا ينفذ عتق المشتري أصلاً؛ إذ لا ملك له، وليس منفرداً بالخيار، وإن أجيز العقد، ففي نفوذ العتق الخلافُ المتقدّم. وهذا أولى بألاّ ينفذ. ثم التفريع ينساق كما مضى.
2916- وإن فرَّعنا على أن الملك موقوف، فالقول الحاوي في التفريع عليه، أنه إن أُجيز العقد، فالتفريع في هذه الحالة على هذا القول، كالتفريع على أن الملك للمشتري وقد أجيز العقد. وإن فسخ، فالتفريع في هذه الصورة كالتفريع على أن الملك للبائع وقد فسخ العقد.
وكل ما ذكرناه فيهِ إذا كان الخيار لهُما جميعاً، أو كان الخيار للمشتري وحده.
__________
(1) في الأصل: فإذا.(5/44)
2917- فأما إذا كان الخيار للبائع وحدهُ، فالوجهُ التفريع على أقوال الملك، كما ذكرناه فيه إذا كان الخيار لهما جميعاً، ولا يتفاوت شيء من التفريع.
2918- فأما إذا أعتق البائعُ العبدَ في زمان الخيار نُظر، فإن كان الخيار لهما، أو للبائع وحده، فينفذ عتقُه على الأقوالِ، لأن عتقَهُ يتضمن فسخاً، ويجوزُ للبائع الانفرادُ بالفسخ، وإن كان الخيار لهما، فلا يصح من المشتري إلزام العقد في حق البائع إذا كان الخيار لهما، نَعم إذا كان الخيار للمشتري وحدهُ، انفرد بالإجازة، ونفذ إذ ذاك عتقُه على الأقوال كلها، كما تقدَّم ذكرُه.
فرع:
2919- إذا رَددنا عتق المشتري، والخيارُ لهما، فهل يكون عتقُه المردودُ إجازةً منه، حتى لو أراد أن يفسخ العقدَ بعد ذلك لا يمكنه؟ فعلى وجهين:
أحدهما - لا يكون إجازة؛ فإن المردود [لا] (1) حكم له، والإجازةُ لو حصلت، لكانت ضمناً للعتق، فإذا لم ينفذ العتقُ، كيف ينفذ ضمنُه.
والثاني - أنه يصير مجيزاً؛ فإنه ظهرَ بقصده الرّضا (2) بالملكِ؛ فكان ذلك إجازةً، وتحصيل ذلك أنّ قصدَ الإجازةِ منه صحيح، وإن رُدَّ العتق.
ويتجه أن يقال: إن أعتق ظاناً أن عتقه نافذٌ، فرددناه، ففيهِ الاختلافُ الذي قدمناه، فأما إذا كان يعتقد أن عتقه مرددٌ، فيبعد أن يكون ذلك إجازة منه، مع حكمنا بردّ العتق، وذلك يظهر فيه إذا صرَّح بأنه يعتقد أن العتق لا ينفذ، وإن أطلق الإعتاق، لم يصدَّق في قوله: لا أعتقد النفوذ.
وإذا حكمنا بأن عتق المشتري نافذٌ، ثم أثبتنا للبائع ردّ عتقه فَردَّهُ، فالوجهُ القطعُ بأن العتق وإن رُد كذلك، فالمشتري يكون مجيزاً إذا تصرَّف، ونفذ منه، والردُّ إنما كان لحق البائع، فهو بمثابة تنفيذنا فسخَ البائع، بعدَ نفوذ إجازة المشتري في حق المشتري.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) "الرضا" فاعل للفعل "ظهر".(5/45)
فرع:
2920- إذا أعتق البائع المبيعَ، ولم يكن له خيار، ولكنا رأينا في التفاصيل المقدَّمة أن ننفذ عتقه تفريعاً على قولنا: إن المِلكَ للبائع، ثم رأينا ألا نردّ العتق بعدَ نفوذهِ، فالوجه أن [نقول: إن كان] (1) في يد البائع، فإعتاقُه إياه بمثابة إتلافه المبيعَ حِسَّاً، وسيأتي ذلك في باب الخراج بالضمان.
فصل
2921- إذا وهب الأب من ابنه عبدأ [فأقبضه] (2) ، فله الرجوع فيما وهبَ. ولو أعتق الأبُ العبدَ، فهل ينفذُ العتقُ متضمناً رجوعاً، كما ينفذ عتقُ البائع ويتضمن الفسخَ؟ فعلى وجهين، ذكرهما العراقيون: أحدُهما - ينفذُ العتق؛ فإنه ينفرد بالرجوع، كما ينفرد البائع بالفسخ، فليكن العتقُ بمثابة التصريح بالرجوع. والثاني - أنهُ لا ينفذ، بخلاف عتق البائع؛ فإن مِلك المتََّهب تام. ينفذ فيه جميعُ تصرفاته، فلا وجه لإقدام غيره على التصرّف، فليرجع أولاً. ثم ليتصرَّف في مِلكِ نفسهِ.
ومن اشترى عبداً، ولزم ملكُه فيه، وأفلسَ قبل أداء الثمن، فللبائع الرجوع في عين المبيع، فلو أعتقه ابتداءً، ففي نفوذ عتقهِ وجهان، كما ذكرناه في الرجوع في الهبة.
هذا بيان العتق من التصرفات.
2922- فأما البيعُ، ففيه طريقان [فنطرد] (3) كل واحدةٍ على حدَتِها.
أما الإمام، فكان يقول: إن المشتري إذا انفرد بالخيار، فباع، نفذ بيعُه، سواء قلنا: الملك له، أو قلنا: الملك للبائع.
فإذا فرّعنا على أن الملكَ له، فقد صادف بيعُه ملكَه. وإن قلنا: للبائع، فبيعُ المشتري وهو منفردٌ بالخيارِ يتضمن الإجازة. ثم نُقدِّر انتقالَ الملك للمشتري قُبيل
__________
(1) زيادة من: (هـ 2) .
(2) مزيدة من: (هـ 2) .
(3) في الأصل: ننظر.(5/46)
البيع، ليكون بيعُه مصادفاً ملْكَه. وهو كحكمنا بارتداد الملك في المبيع إلى البائع إذا تلفَ في يده، وكان يقول رحمه الله: بيع البائع المبيعَ في زمان الخيارِ، إذا كان الخيار له أو لهما ينفذ على الأقوال، متضمناً فسخاً، كما ذكرناه في العتق.
فأما إذا باع المشتري وكان الخيار لهما، أو للبائع، فلا ينفُذ بيعُه، وإن قلنا: الملكُ له؛ فإنه ليس له الانفراد بالإجازة، بخلاف ما تقدَّم، فبيعه بين أن يصادفَ ملكَ الغيرِ، وبين أن يصادف حقَّ الغير، وإذا ذكرنا خلافاً في العتق؛ فهو لمزيَّتِه في القُوَّة والنفوذ، وهذَا بمثابة قَطْعِنا بردّ بيع الراهن، مع التردد في نفوذ عتقه. ثم كان يقول: إذا رددنا بيعَ المشتري، فهل نجعله إجازةً منه، فعلى وجهين، كما تقدم في العتق المردود.
وقالَ بعض أصحابنا: إذا باع المشتري وكان منفرداً بالخيارِ؛ فإن قلنا: المِلكُ للبائع، فلا ينفذ بيع المشتري، وإن كان منفرداً بالخيار، وإن قلنا: الملكُ له، ففي نفوذ بيعه وجهان؛ لضعف الملك بالجواز.
وما ذكره الإمام أفقهُ. وكان رحمه الله يُشير إلى الوجهين، في بيع الواهب العبدَ الموهوبَ فيُنزله منزلة إعتاقه إياه، وينزل البيعَ منزلة العتق من جِهة صدوره ممن يستبد بالرجوع، كما نزل بيع المشتري المنفرد بالخيار منزلة إعتاقه.
وقال بعض أصحابنا: إذا انفرد المشتري بالخيار، فباع، ففي المسألة ثلاثة أوجه: أحدها - ينفذُ بيعه، ويلزم العقد. والثاني - لا ينفذ، ولا يلزم، والثالث - لا ينعقدُ العقد، ولكنه يتضمن الإجازَةَ.
وهذه الأوجُه نشأت في هذه الطريقة، من خلافٍ في أصلين، أحدُهما - أن بيعه هل ينفذ، والثاني - أن التصرف الفاسد هل يتضمن الإجازة. وكان الإمام يقطع بنفوذ البيع إذا انفرد المشتري بالخيار.
ونذكر ثلاثة أوجهٍ في الصورة الأخرى، وهي أن الخيارَ إذا كان لهمَا جميعاً، وقد ذكرنا أن المشتري لو انفرد بالبيع من أجنبيّ، لم ينفذ بيعُه، ولو باع ما اشتراه من البائع، قال: فيه ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدُها - أنهُ ينفذ البيع الثاني، ويلزم البيعُ الأول؛ فإن الخيار لا يَعدوهما، فكان(5/47)
إقدامهما على العقد متضمناً إلزام العقد الأول.
والوجه الثاني - أنه لا ينعقد؛ فإن المشتري لا يجوز لهُ الانفراد بالبيع، فإذا ابتدأ الإيجابُ، بطل، ثم القبول مترتب عليه.
والوجه الثالث - أن العقد الثاني لا يصح؛ لما ذكرناه، ولكن يلزم الأول؛ تخريجاً على أن التصرف وإن رُدّ يتضمن إجازة.
هذا بيان الطرق في البيع.
2923- وما ذكرهُ الإمام يقتضي تردداً في بيع الراهن المرهون من المرتهن، من غير تقديم فك الرهن؛ فإن البيع لا يَنفُذ من الراهن على الانفراد، فكان التبايع منهما على صورة التبايع من المتعاقدين في زمان الخيار.
فإن قيل: نص الأصحابُ على أنَّا إذا منعنا بيع الدار المكراة على قولٍ، فيجوز بيعها من المكتري. قُلنا: قد ينقدح فرقٌ؛ فإن بيع المرهون لحق المرتهن، فإذا لم يصرح أولاً بإبطالٍ، لم يبعد تخيل خلاف فيه، وبيع الدار المكراة في قولٍ لم يبطل لحق المكتري، فإن من يصحح بيعَ الدار المكراة لا ينقضُ الإجارة، فالمبطل في البيع ثبوت يد المستأجر على المبيع، فإذا باع من المستأجر، فالمبيع في يد المشتري، فاقتضى ذلك القطعَ بصحة العقد، كما ذكرته في بيع الراهن من المرتهن، تصرفاً في القياس. وإلا فالذي أقطع به نقلاً صحّةُ البيع فليُعتقد ذلك. وإن كان يبطل به نظم الأوجه الثلاثة في بيع المشتري من البائع.
فصل
مشتمل على الوطء في زمان الخيار
2924- أجمع المراوزةُ على أن الوطء من البائع فسخ، إذا كان له خيار، وكذلك جعلوا الوطء إجازةً من المشتري.
وقال العراقيون: وطء البائع الجاريةَ فسخ منه، وفي وطء المشتري وجهان: أحدهما - أنه إجازة منه، كما أنهُ فسخٌ من البائع؛ إذْ هو مشعرٌ من كل واحد منهما(5/48)
باختيار الملك. والثاني - أنهُ لا يكون وطؤُه إجازةً، وإن كان فسخاً من البائع.
وهذا بعيدٌ.
والذي ينقدح في توجيهه على البُعد أن ما يصدر من المشتري قد يُحمل على الامتحان والاختبار (1) ، [لا على الرضا والاختيار] (2) ، وما يكون من البائع لا محمل له إلا اختيار رَدّها إلى الملك.
وقد اشتهر اختلافُ الأئمة في أن من أجمل عتقاً بين أَمَتين، فقال إحداكما حُرَّة، ثم وطىء إحداهُما، فهل يكون وطؤُه تعييناً للموطوءة في الرق، حتى تتعين الأخرى للعتق؟
والخلاف يجري كذلك في تعين المنكوحة بالوطء عند إجمال الطلاق. وقد مرَّ بي في الخلاف من قول من لا يُعدُّ من أئمة المذهب ذكرُ خلافٍ في أن الوطء هل يكون فسخاً من البائع؟ وهذا [في] (3) القياس غيرُ بعيدٍ، تخريجاً على الخلاف في تعيين المنكوحة والمملوكة في الوطء، ولكن لم أر ذلك لأئمة المذهب. وهذا هو النقل والاحتمال.
ونحن نذكر الآن ما يتعلَّق بالوطء من الأحكام، ونبدأ بوطء المشتري.
2925- فنقول: إذا وطىء المشتري والخيار لهما، فلا شَكَّ في تحريم وطئه؛ فإنا إن حكمنا بأن الملكَ ليس له، فقد صادف وطؤه ملكَ الغير، وإن حكمنا بأن الملك للمشتري، فهو ضعيفٌ، وفيه حق الخيار للبائع، ثم لا يخلو وطؤه: إما أن يعرَى عن العلوق، أو يتصلَ به العلوق. فإن لم تعلق، فلا حدَّ للشُّبهَةِ. وفي انقطاع خيار المشتري ما قدمناه.
وأما المهرُ، فلا يخلو البائع إما أن يفسخ أو يُجيز، فإن أجاز واستقر الملكُ
__________
(1) أخذ الغزالي هذا التوجيه عن شيخه، فقال في الوسيط: " وقيل: إنه (أي الوطء) يحمل على الامتحان، كالخدمة " وقد علق ابن الصلاح على ذلك قائلاً: "هذا كلامٌ غث ينفر منه المؤمن" (ر. مشكل الوسيط. مطبوع بهامش الوسيط: 3/116) .
(2) زيادة من: (هـ 2) .
(3) في الأصل فيه، والمثبت من: هـ 2.(5/49)
للمشتري، فالمهر يُنحى به نحو الأكساب، فيقال: إن قلنا: الملكُ للمشتري، وقد استقر الملك له، فلا مهرَ عليهِ، لأنه اجتمع له الملك أولاً، والقرار آخراً.
وإن حكمنا بأن الملك للبائع، ففي المهر وجهان: أحدُهما - يجب على المشتري للبائع؛ نظراً إلى الملك حالة الوطء. والثاني - أن المهرَ لا يلزم؛ نظراً إلى مآل العقد.
وأما إذا فسخ البائع، فإن حكمنا بأن الملكَ للبائع في زمان الخيار، فعلى المشتري المهر للبائع؛ إذ كان المِلكُ له حالةَ الوطء، واستقرَّ عليه آخراً. وإن حكمنا بأن الملكَ للمشتري، فوجهان: أحدهما - لا يجب، نظراً إلى الحال، والثاني - يجب، نظراً إلى العاقبة.
وإن فرَّعنا على قول الوقف، نظرنا، فإن أُجيز البيع، فهو كما قلنا: الملك للمشتري، وقد لزم البيع. وإن فُسخ، فهو كالتفريع على قولنا: الملكُ للبائع، وقد فسخ العقد.
هذا حكم وطء المشتري من غير علوق.
2926- فأما البائع إن وطىء والخيار لهما، فنذكر أولاً حكم الوطء في التحريم والحل. وقد اختلف الأئمة في الترتيب، فقالَ بعضهم: إن قلنا: الملك للمشتري، فلا يحل للبائع الإقدامُ على الوطء، وإن قلنا: وطؤه يتضمن فسخَ العقد.
وإن قلنا: الملك للبائع، ففي إباحة إقدامهِ على الوطء وجهان: أصحهما - الإباحةُ. والثاني - لا يباح؛ فإن الملك ضعيف، وحِلّ الوطء يستدعي ملكاً تاماً.
ومن أصحابنا من قلب الترتيب، وقال: إن حكمنا بأن الملك للبائع، فيحل له الإقدام على الوطء. وإن قلنا: الملك للمشتري، ففي إباحة الوطء للبائع وجهان: أحدهما - لا يباح لمصادفته ملك الغير. والثاني - يباح؛ فإن الوطء يتضمن الفسخَ، وكل ما يتضمن فسخاً يُقدّر نقلُ الملك فيه قُبَيْله، فيكون الوطء مصادفاً ملكَه. وهذا الطريق لصاحب التقريب.
وكان الإمام يقطع جوابَه في دروسه، بحل الوطء للبائع، إذا كان له خيار، وكان(5/50)
يقول: لو جَعلنا الوطء رجعةً، لأبحناه للزوج.
ثم نقول: إذا أبحنا الوطء للبائع، فلا يلزمُه المهر؛ فإنا إنما نُبيح له الوطء على قولنا: المِلكُ له، أو على تقدير نقل المِلك إليه قُبيل الوطء، وذلك يمنع ثبوتَ المهر.
وإن حرّمنا الوطء، فلا شكَّ أنا مع التحريم نحكم بانفساخ العقدِ، فالوجه مع ذلك القطعُ بنفي المهر؛ فإنا وإن حرَّمنا الإقدام [على الوطء] (1) ، فنقول: الفسخ يتضمن تقدير نقل الملك قُبيل الوطء.
فإن قيل: إذا أبحنا الوطء، فالإباحة تستدعي تقدير نقل الملك قُبيل الوطء، كما ذكرتموه لا محالةَ، فأما إذا لم يُبَح، فما المانع من الحكم بأن الفسخ لا يقتضي تقديمَ الملك على الوطء؟ قلنا: هذا التقدير محتمل، وللقول فيه مجال، ولكن لا يجب المهر مع هذا التقدير أيضاً؛ فإن مساقه يتضمن مقارنةَ الملك للوطء، وإذا قارن الملكُ الوطء، استحال إيجاب المهرِ، ولا سبيل إلى المصير إلى أن الوطءَ (2) يستعقب الفسخ.
فهذا تفصيل القول في وطء البائع والمشتري إذا كان الخيار لهُما جميعاً.
2927- أما إذا كان الخيار للمشتري وحده، فظاهر المذهب أن الوطء منه إجازةٌ.
وذكر العراقيون الخلافَ هاهنا، كما ذكروه والخيار لهُما. فإذا وطىء وجعلناه مجيزاً، لم يلزمه المهر؟ فإنه عند انفراده بالخيار ينفرد بالإجازة، كما ينفرد البائع بالفسخ، ثم التفصيل في إباحة الوطء للمشتري كالتفصيل في البائع. والقول في المهرِ على ما ذكرناه في الأكساب، في مثل هذه الصورة.
فهذا كُلّه فيهِ إذا عَري الوطء عن الإعلاق.
2928- فأما إذا اتصل الوطء بالإحبال، فنذكر حكمَ المشتري، ثم نشُير إلى حكم البائع.
__________
(1) مزيدة لاستقامة المعنى.
(2) عبارة الأصل: "إلى أن إيجاب الوطء".(5/51)
فإذا وطىء المشتري الجاريةَ، وعلقت منه بولد، فأما نفي الحد والقول في المهر، فعلى ما مضى، لا يختلف منه شيء، فلا (1) يسقط المهر، وإن ثبت الاستيلاد؛ إذا (2) يجب وإن لم يكن علوقٌ.
وأما القول في الولد، فهو ينعقد حُراً؛ فإنّ من وطىء جاريةَ غيره بالشبهة، كان ولدهُ منها حراً، ولا تنحط رتبة وطء المشتري عن ذلك.
ونحن نذكر بعد هذا الاستيلادَ، ثم قيمةَ الولد: فأما ثبوت الاستيلادِ، فالقول الوجيزُ أن الاستيلاد كالعتق، وقد مضى القول في العتق، ولكن من أصحابنا من رتّب صور الخلاف في الاستيلاد على أمثالها في العتق، وجعل الاستيلادَ أولى بالنفوذ؛ من جهة أنه يعتمد فعلاً، والفعلُ لا يناله فسخ. ومن أصحابنا من قلبَ الترتيب، وجعل العتق أولى بالنفوذ؛ فإن حرمة الاستيلاد توقُّعُ حُرّيةٍ، وتنجُّزُها أقوى من تَوقُّعِها، ولا يبعد الحكم باستوائهما، لتعارض الكلام.
فإذا صح مأخذُ الاستيلاد، فنتكلم في قيمة الولد، ونقول: إن فرَّعنا على أن الملك للمشتري، وأجيزَ العقد؛ فلا تلزمه قيمة الولد؛ فإن الملك كان له في الابتداءِ، واستقرَّ عليه في الانتهاء.
وإن حكمنا بأن الاستيلاد نافذ، ولا سبيل إلى رَدّهِ، ولا وجهَ مع نفوذه لفسخ العقد، فهذا كما قدَّمناه؛ فإن الإجازة قد لزمت، والتفريع على أن المِلكَ للمشتري.
وإن قلنا: لا يثبت الاستيلاد، أو يثبت ولكنه يرد، فرُدَّ وفسخ العقد، ففي لزوم قيمة الولد وجهان؛ فإن العُلوق جرى والملك للمشتري، ولكن لم يستقرَّ الملكُ عليهِ، وقد ذكرنا في الأكساب الخلافَ في مثل هذه الصُورة.
هذا تفريعٌ على أن المِلكَ للمشتري.
__________
(1) في النسختين: ولا. والمثبت تقديرٌ منا.
(2) في النسختين: إذا. وهي بمعنى (إذْ) ، وهو واردٌ، وضع كل منهما مكان الأخرى.(5/52)
2929- فأما إذا قلنا: الملكُ للبائع، فلا يخلو إما أن يفسخ أو يجيز، فإن فسخ، فلا شك أن الاستيلاد لا ينفذ في هذه الصورة، وتجب قيمة الولد؛ إذ الملك للبائع أولاً وآخراً، والكسب في هذه الصورة للبائع وجهاً واحداً، وإن أجاز البائع العقدَ في هذه الصورة، ففي نفوذ الاستيلاد وجهان: فإن حكمنا بأن الاستيلاد لا يثبت، ففي لزوم قيمة الولد وجهان مبنيّان على نظيرهما في الكسب، في مثل هذه الصورة.
وإن قُلنا: يثبت الاستيلاد، فهذا يبنى على أمرٍ، وهو أن الاستيلاد إذا ثبت بالإجازة، فيثبت عند الإجازة، أو يستند إلى العلوق؟ وفيه خلافٌ ذكرته، في الإعتاق.
فإن قلنا: إن الاستيلاد ثبت عند الإجازة، فقد تقدَّم العلوق، والمِلك للبائع إذ ذاك، ففي قيمة الولد وجهان، كما ذكرناه.
وإن قلنا: الاستيلاد يتقدم الإجازة إسناداً وتبيُّناً (1) ، فنبني الغرضَ الآن على أن الأب إذا استولد جارية الابن، فمتى ينتقل الملك إلى الأب؟ فيه وجهان: أحدهما - أنه ينتقل الملك قبيل العلوق، فعلى هذا نقول في مسألتنا هذه: لا تجب قيمةُ الولد؛ فإن العلوق صادف ملكَ المشتري، على التقدير الذي ذكرناه. وإن قلنا: ينتقل الملك بعدَ العلوق؛ فقد صادف العلوقُ ملكَ البائع، ولكن استقر ملك المشتري، ففي قيمة الولد وجهان، كما تقدم ذكره.
فهذا منتهى الغرض.
فأما إذا وطىء البائع واستولد، فإن كان له خيار فوطؤه فسخ، والاستيلادُ يثبتُ كيف فرض الأمر، ولا يلزمُه قيمةُ الولد؛ فإن الفسخ يُقارن الوطءَ، أو يتقدم عليه، والعُلوق بعدَ الوطء.
وإن كان الخيار للمشتري وحده، فوطىء البائع وأولد، فهو كالمشتري إذا استولد، ولم يكن منفرداً بالخيار فيفرَّع على أقوال الملك، ثم نفرض فيه الفسخَ، والإجازةَ. كما تقدّم ذكره.
__________
(1) ساقطة من (هـ 2) .(5/53)
فصل
فيما يكون اختياراً في الفسخ والإجازة
2930- فنقول: كل تصرفٍ يتضمنُ زوالَ المِلكِ كالإعتقاقِ، فلا شك أنهُ يتضمنُ فسخاً من البائع، وإجازةً من المشتري إذا صحّ، وفي الفاسد خلافٌ مضَى، والبيع في معنى الإعتقاق، والاستخدام ليس اختياراً أصلاً، قطع به الأئمة. وذكر بعض أصحاب القَفاّل وجهين في أن ركوب الدابة هل يكون اختياراً؟ وهذا بعيدٌ. وهو من هفوات المصنف. وقد مرَّ بي رمزٌ إليه من أئمة الخلاف (1) . وهذا يقتضي تردُّداً في الاستخدام لا محالة.
وفي تعليق شيخي عن شيخه القفال وجهان، في أن الإجارةَ هل تكون اختياراً؟ وهذا فيه احتمالٌ؛ من حيث إنها عقدٌ يقتضي تمليكاً، والتزويج في معنى الإجارة، وأما الوطء، فقد سبق الكلام فيهِ، وأنه هل يكون اختياراً؟
قال الشافعي: إذا سلَّم البائع المبيعَ في زمان الخيارِ إلى المشتري، فلا يكون ذلك إجازةً من البائع. واتفقَ الأصحاب على هذا، وإن كان التسليم دلالة ظاهرة في التنفيذ. وقالَ مالك (2) : التسليمُ إجازة من المسلِّم، وليس التسلّمُ اختياراً من القابض، وقال الصيدلاني: إذا أذن البائع للمشتري في بيع المبيع، لم يكن مجرَّدُ إذنه إجازةً وقطعاً للخيار، ولو رجع عن إذنه، فهو على خيارهِ.
2931- وقد عقدَ الشافعي باباً فيما يكون رجوعاً عن الوصية (3) ، وليس من الممكن استيعابُ مضمون الباب هاهُنا، ولكنا نذكرُ ما يليق بغرضِنا: فمما يكون رجوعاً عن
__________
(1) يشير إلى ما قاله آنفاً في الفقرة الأولى من الفصل السابق "فصل مشتمل على الوطء في زمان الخيار" والمصنف هنا هو الذي قال عنه هناك: "لا يعد من أئمهَ المذهب" وهو أبو القاسم الفوراني، والغالب أنه يرمز إليه بقوله: "بعض المصنفين".
(2) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/523 مسألة: 846.
(3) انظر الأم: 4/45.(5/54)
الوصيّة العَرْضُ على البيع، والهِبَة قبل القبض (1) ، ولو وطىء الموصي الجاريةَ الموصَى بها، فإن عزل عنهَا، فلا يكون رجوعاً عن الوصيّةِ، وإن لم يعزل وأنزل، كان رجوعاً.
والذي يدور الباب عليه أن كلَّ ابتداء لو تم، لكان مُزيلاً، فهو في ابتدائه يكون رجوعاً عن الوصيّة.
ولو أوصى بحنطة، ثم طحنها، كان ذلك رُجوعاً؛ لأنه عرَّضَها للتلف، فجُعِل كتحقيق التلف. والوطء لم يكن في عينه رجوعاً، وإنما الرجوع في الإنزال؛ من حيث أشعر بقصد الاستيلاد، وليس من الممكن أن يجري الاختيار في زمان الخيار مجرى ما يكون رجوعاً عن الوصيَّة.
والدليل عليه في النفي والإثبات أن الوطء اختيارٌ في ظاهر المذهب معَ العَزل، وليسَ رجوعاً عن الوصيةِ، والسبب فيهِ أن الوصية لا تتضمَّن تحريماً على الموصي، والجارية الموصَى بها مباحة على الموصي، فإذا كان يطؤها، فليس [في ذلك] (2) ما يتضمن منعَها عن الوصيةِ بعد الموتِ، فكان الاستمرار على الوطء غيرَ مشعر بالرجوع. والبيع يتضمّنُ في وضعِه إزالةَ الملك، وكل بائع موطَنٌ نفسَه على الانكفاف عن التي باعَها، فإذا وطئَها أشعرَ ذلك بردّه إياها على ما كانت عليه قبل البيع.
فإن قيل: أليس الظاهِرُ أن البائع إذا وطىء وله الخيار فوطؤُه مباحٌ؟ قلنا: فيه كلام. ثم تقدير الإباحةِ فيه يخرج على قَصْدهِ الردَّ، وأمَّا الوصيَّة، فإنها تنشأ على استمرار الموصي على الانتفاع مادام حياً، فهذا فرقُ ما بين البابين.
والعرض على البيع رجوعٌ عن الوصيَّة، وفحوى كلام الأئمة القطعُ بأنه ليس اختياراً، والسبب الفارق أن الوصيةَ ضعيفةٌ؛ من حيث إنه لم يُوجد في حياة الموصي إلا أحَدُ شِقي العقد، والبيع وإن كان جائزاً، فقد تم انعقادُه بشقَّيه. وتحصيل القول
__________
(1) نص عبارة الشافعي: " ولو أوصى لرجلٍ بعبدٍ، ثم أوصى أن يباع ذلك العبد، كان هذا دليلاً على إبطال وصيته به، وذلك أن البيع والوصية لا يجتمعان في عبدٍ، ولو أوصى لرجل بعبدِ، ثم باعه، أو كاتبه، أو دبَّره، أو وهبه، كان هذا كلُّه إبطالاً للوصية ". (الأم: 4/45َ) .
(2) زيادة من المحقق، اقتضاها السياق.(5/55)
فيهِ أن الشرع سوَّغ أن يتخلل بين الإيصاء والقبول الزمانُ الطويلُ وموتُ الموصي. ثم إن جرى من الموصي ما يُشعر بمناقضة الوصية، كان ذلكَ بمثابَةِ تخللِ زمانٍ طويل بين الإيجاب والقبول في البيع، فبهذا السبب كان الرجوع في الوصيَّة أوسع باباً من الاختيار في البيع.
2932- ونحن نذكر الآن أربعَ مراتبَ، نجمع فيها قواعدَ المذهب:
الأولى - فيما يثبت على الفور كالرّد بالعيب، فكل ما ينافي الفورَ وُيشعر بالتأخير، فهوَ مُسقطٌ، وسنذكر ما يليق به في موضعه.
والثانية - الرجوعُ عن الوصيَّة، وهذا يعتمدُ ما يُشعر بمناقضةِ مقصود التنفيذ والاستمرارِ على الوصيَّة.
والثالثة - الاختيارُ في زمان الخيار، والأصل فيه ألا يحصل إلا بتصريحٍ أو تصرفٍ مزيلٍ للملكِ، والوطء قياسُه ألا يكون اختياراً، ولكنّ المذهب فيه ما قدَّمناه، وتقريب تعليلهِ على أقصَى الإمكان أن الوطء لا يصدُر إلا ممن يؤثرُ استبقاء أو ردّاً، ويبعد حَملُهُ على الاختيار، وكذلكَ يَبعُد حمله على الهم بالاختيار، وليس كالأمر بالبيع؛ فإنه يدل على الهم بالاختيار، ولا يَدُل على جَزمِ الرأي فيه، والهمُّ يقطعُ الوصيةَ لضعفها، والوطء ليس همّاً، بل لا يُقدم عليه إلا مُوطِّنٌ نفسَهُ على أمر. نعم قد يكون الوطء فجرة (1) من الواطىء، ولكن من له الخيار لا يُحمل أمرُه على هذه الجهة، كما أن الإعتاق قد يوجهه المرءُ على ملكِ غيره هازلاً، ولا يُحمل الإعتاق في زمان الخيار إلا على الاختيار.
__________
(1) كذا مع ملاحظة أنها في (هـ 2) بدون أي نقط، وفي الأصل بنقطة على الفاء. وأقرب ما تعطيه هذه الصورة في المعاجم (فجرة) كما رجحناه، وهي بمعنى المرة من الفجور من فجر الرجل إذا زنا، والمعاجم لم تذكر إلا (ركب فلانٌ فجرةَ) [بدون تنوين] إذا كذب كذبة عظيمة.
هذا. وقد راجعت مع الأساس واللسان والمحيط والوسيط والمصباح والمختار، الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي، وغريب الحديث لأبي عبيد، وغريب الحديث للخطابي، وتهذيب الأسماء واللغات، والألفاظ التي فسرها ابن خلكان في الوفيات، ومعجم الأمثال العربية، فلم أظفر من كل ذلك بما يشفي الغلة، فعسى أن يكون ما قدرتُ صواباً. والعلم عند الله.
والمراد أن الوطء قد يكون (نزوة) ، وليس معناه إرادة الاستبقاء، أو إرادة الإجازة.(5/56)
ولو وهبَ أحدُهما المبيعَ ولم يسلمه، فالقياس عندي أنه لا يكون مختاراً؛ فإنه إنما يتم بالقبضِ، والهبةُ مُشعرةٌ بالهمِّ بخلاف الوطء، وفيه احتمال. والاستخدامُ ليس اختياراً على القاعدة.
وفي الإجارة والتزويج الاحتمالُ الظاهر.
ولو باعَ المبيعَ في زمان الخيار وشرط في البيع الخيارَ، فإن قلنا: لا يزول مِلكُ البائع، فيقرب تنزيل هذا منزلة الهبةِ قبل القبض، وإن قُلنا: يزول الملك، ففيه احتمالٌ أيضاً، لإمكان الاستدراكِ فيه، فكأنه هَم أن يبتَّ الخيارَ. ولو وهبَ البائعُ من وَلدهِ وسَلّمَه، فالوجه القطع بأنه اختيار؛ فإنّ ملك المتهب تامّ. والرجوعُ في حكم ابتداء حق أثبته الشارع.
والمرتبةُ الرابعة - حق الرجوع بعدَ تمام زوال الملكِ كرجوع الواهب، والرجوع في عين المبيع عند إفلاس المشتري بالثمن، والأصل فيه أن الرجوع يستدعي تصريحاً، فإنه جَلْبُ ملك ابتداءً، وقد ذكرت خلافاً في إعتاق من له الرجوع، وأنه هل ينفذ متضمناً رجوعاً، والوجه القطعُ بأن الواهبَ لو وطىء الجاريةَ الموهوبة، لا يكون وطؤه رجوعاً، ولا شك أن إقدامَهُ على الوطء محرَّم؛ فإن تلك الجاريةَ مباحةٌ للمتَّهب، ويستحيل أن تحلَّ جاريةٌ لرجلينِ في حالةٍ واحدة.
هذا بيان قواعد المذاهب فيما أردناه.
فصل
2933- من ثبت له الخيار بالشرط، لم يقف نفوذُ تصرفه على حضور صاحبه.
وإن أجاز، نفذت الإجازةُ في غيبة صاحبهِ نفوذَها في حضرته، وكذلكَ إذا فسخَ. ولو أعتقَ المشتري، أو باع في حضرة البائع، فسكتَ البائع، ولم يُبدِ نكيراً، لم يكن سكوته إجازةً منه للعقد، والقول فيما فعله المشتري نفوذاً ورداً، كما تقدَّم استقصاؤه. وإن وطىء المشتري الجاريةَ المشتراة بحضرة البائع، فسكت، فهل يكون السكوت منه إجازةً؟ فعلى وجهين ذكرهما بعض أصحاب القَفّال، وصاحب(5/57)
التقريب: أحدهما -[أنه لا يكون إجازة] (1) بمثابة سكوتهِ على البيع والعتق. والثاني - أنه إجازة؛ فإن المتبعَ في أمر الوطء ما ذكرناه من إشعارِه بتصميم العزم، والسكوتُ على الوطء في هذا المعنى كالوطء.
فصل
في التلف
2934- لم يبقَ من أصول أحكام الخيار، إلا تفصيلُ القول في تلف المعقود عليه في زمان الخيارِ. فنقول: إذا تلفَ المبيع في زمان الخيار، فلا يخلو إما أن يتلف في يد البائع، أو في يدِ المشتري، فإذا تلف في يد البائع، فلا شكَّ في انفساخ العقد.
وإن كان سُلّم إلى المشتري، فتلفَ في يده، فنذكر طريقتين للأئمة: إحداهما - لصاحب التقريب وأصحاب القفال، وهي المرضيّة. قالوا: نخرّج المذهبَ على أقوال الملك، فنقول: إن قلنا: الملكُ للبائع، فينفسخ العقدُ، وإن جرى التلف في يدِ المشتري؛ لأنَّا إذا كنا نحكُم بانفساخ العقد بتلف المبيع في يد البائع بعد لزوم البيع، لبقاء عُلقة من العقدِ؛ فلأن نحكم بذلك، وقد تلف المبيع ملكاً للبائع أولى.
وإن حكمنا بأن الملكَ للمشتري وقد تلف في يَدهِ، فهل نقضي بانفساخِ العقد؟ فعلى وجهين ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - لا ينفسخ، وهو الذي قطع به أصحابُ القفال؛ لأنه قد تلف في ملك المشتري ويدهِ. والثاني - أنه ينفسخ لبقاء عُلقة البائع فيه، وملكُ المشتري قبل القبض بعد لزوم العقد أثبتُ من ملكهِ في زمان الخيار.
التفريع:
2935- إن فرعنا على أن المِلك للبائع، وقضينا بانفساخ العقدِ، فالمشتري يستردّ الثمن، ويغرَم للبائع قيمة المبيع كالمستام (2) ، فإنا إذا ضمَّناهُ لتوقع العقد، فهذا الذي نحن فيه بالضمان أولى، وإن فرَعنا على أن الملك للمشتري،
__________
(1) سقط من الأصل، ما بين المعقفين.
(2) المستام، الذي يطلب شراء السلعة، فإذا تلفت في يده، ضمن قيمتها للبائع.(5/58)
وحكمنا بانفساخ العقد، فالجواب كما مضى. وإن حكمنا بأن العقد لا ينفسخ، فهل يبقى الخيار أم ينقطع؟
التفصيل فيه: أنه إن كان اشترى عبداً بثوب معين، ثم تلف العبد في يد مشتريهِ، وبقي الثَّوبُ في يد البائع، فالبائع على حقه من الخيار؛ إذ لو اطلع على عيب بالثوب، وقد تلف مقابله، لردَّ الثوبَ، فكذلك هاهنا. وأما المشتري لو أرادَ الفسخَ، أو كان اشترى عبداً بثمن في الذمّة، فأراد البائعُ الفسخَ؛ ففي المسألة وجهان: أحدهُما - أن الخيار قد انقطع؛ لأنه كان متعلقاً بالمبيع، وقد فات، فأشبه ما لو اطلع المشتري على عيب بالعبد بعدما مات، فإن أراد ردَّ قيمته واسترداد الثمن، فليس له ذلك، والوجه الثاني - أن الخيار قائم؛ فإن متعلَّقه العقد والعقدُ باقٍ، فأشبه ذلك التحالفَ بعد تلف المعقود عليه. ومذهبُنا أن المتبايعين إذا اختَلَفا في صفة العقد بعد تلف المبيع في يد المشتري، تحالفَا وتفاسخا. فإن حكمنا بانقطاعِ الخيار، فقد لزم العقد، واستقر الثمن، وإن حكمنا بأن الخيار باق؛ فإن أجيز العقد، فالجواب كما مضى في انقطاع الخيار، وإن فسخ العقدُ، استرد المشتري الثمن. وغرِم قيمةَ المبيع للبائع.
قالَ الصيدلاني: إذا قبض المشتري المبيعَ في زمان الخيارِ، ثم أودعه عند البائع، فتلف في يده، فهو كما لو تلف في يدِ المشتري. فإن حكمنا بأن الملك للمشتري، وقلنا: لا ينفسخ العقد، فعلى المشتري الثمن، وإن قلنا: بأن الملك للبائعِ وقُلنا: ينفسخ العقد [لو تلف] (1) في يد المشتري، فنقول: الآن ينفسخ أيضاً، والثمن مَردودٌ على المشتري، ثم قَالَ: وعلى المشتري القيمةُ للبائع؛ فإن يد البائع يدُ أمانةٍ، وهي بمثابة يد المشتري. ولو تلف في يد المشتري، لالتزم القيمةَ، فكذلك إذا تلف في يد البائع؛ فإن يده بمثابة يد المشتري.
قلنا: هذا الذي ذكرهُ في إيجاب ضمان القيمة على المشتري، والتفريع على أن الملك للبائع محتمل؛ فإن العين المملوكة إذا عادت إلى يد صاحبها وتلفت، فيظهر أن يقال: لا ضمان على المشتري، فما ذكرهُ الصيدلاني أوجه.
__________
(1) زيادة من: (هـ 2) .(5/59)
ولو فَرعّ مفرعٌ على أن الملكَ للمشتري، وارتضى أن البيع ينفسخ إذا تلف المبيع في زمان الخيار في يد المشتري، فحينئذٍ إذا تسلم المشتري، ثم أودعه عند البائع وتلف، فالقيمة تجب على المشتري؛ فإنه تلف ملكه مضموناً في يدٍ أمينة.
2936- هذا بيان طريقة [واحدةٍ] (1) على وجهها. وذكر العراقيون وبعضُ أصحاب القفال: أن المبيع إذا تلفَ في يد المشتري في زمان الخيار، لم ينفسخ العقدُ أصلاً، وإن فرَّعنا على أن الملكَ للبائع.
ثم فرَّعوا تفريعاً بديعاً، فقالوا: إذا لم ينفسخ العقد، ولم يفسخ أيضاًً، حتى انقضى زمانُ الخيار، فعلى البائع رَدُّ الثمن، وعلى المشتري غرامةُ القيمة، وعللوا بأن المبيع تلف ملكاً للبائع، والمشتري لا يملكهُ في زمان الخيار، ولو بقَّينا الثمنَ على ملكِ البائع، لكان محالاً فإنه إنما يملكُ الثمن إذا ملكَ المشتري المثمن، ولما انقضى الخيار، كان المثمن تالفاً، لا يتصور تقرُّرُ الملك فيه، فلما عسر جريانُ ملك المشتري في المبيع، اقتضى ذلك ألا يملكَ البائعُ الثمن. وهذا الذي ذكروه تخليطٌ ظاهر.
لكنّي أتصرّف [فيه] (2) ثم أنبّه على منشأ التخليط وطريق قطعه، فأقول: وجبَ أن نفرع هذا أولاً على أن الخيار هَل ينقطع بتلف المبيع في زمان الخيار؟ فإن قلنا: إنه ينقطع، وقلنا: لا ينفسخ البيع على طريقهم لجريان القبض، وإن قلنا: الملك للبائع، فيتّجه على ذلك أن نقول: يستقرّ العقد، وينقلب المبيع إلى ملك المشتري قبيل التلف تبيّناً (3) ؛ فإنّ سبب استمرار ملك البائع الخيارُ، فإذا كان التلف يقطع الخيار، فيجوز أن يؤثر في قلب المبيع إلى المشتري، كما نقول إذا تلف المبيع بعد لزوم العقد في يد البائع، فينقلب إلى ملك البائع قُبيل التلف، فعلى هذا لا ضمان على المشتري، ويستقرّ ملكُ البائع في الثمن.
__________
(1) مزيدة من: (هـ 2) .
(2) زيادة من: (هـ 2) .
(3) سبق أن شرحنا معنى التبيّن.(5/60)
وإن قلنا: لا ينقطع الخيارُ، وقَدْ رأَوْا أن البيع لا ينفسخ، فمن هذا ثار الخبط، كما ذكرناه.
وكان من حقّهم أن يحكموا بانفساخ العقد، ويعللوا بما ذكروه من أنه لا يتصوَّر إجراء الملك في الثمن، من غير جريانه في مقابِله، وقد عسر جريَانُه في مقابله.
وهذا التعليل حسن. ولكن تعليل الانفساخ أظهر، فيجب القطع بالانفساخ على قولنا: الملك في المبيع للبائع في زمان الخيار.
ثم إذا حكمنا بانفساخ العقد على قولنا: الملك للبائع، وذَكرنا جوابين على القول الآخر، فمما أجريناه في التفريع إلزام المشتري القيمةَ. فإن قيل: أيةُ قيمةٍ تعتبر؟ قلنا: إن فرَّعنا على أن الملك للبائع، فالقول في القيمة على هذا القول، كالقول في قيمة المستعار، والمأخوذ على سبيل السَّوْم، وإن قلنا: المِلكُ للمشتري ورأينا أن العقد ينفسخ، فمن ضرورة ذلك الحكم بانقلاب المبيع إلى ملك البائع، ثم التلف يجري في ملكه، فهاهُنا نقطع باعتبار قيمته وقت التلف؛ فإن المبيع كان قبلَه مملوكاً للمشتري، فاستحالَ اعتبار القيمة عليه من وقت الملكِ فيه له. فهذا ما أردناه.
فرع:
2937- البائع إذا استولد الجارية ولا خيار له، فإن قلنا: الملكُ له، وقضينا بأن الاستيلادَ يثبت؛ فإن كانت الجارية في يد البائع، انفسخ العقدُ. وسنذكر قولين في أن البائع إذا أتلفَ المبيعَ قبلَ القبض بعدَ لزوم المِلكِ للمشتري، فهل يكون هذا كتلف المبيع بآفةٍ سماويَّةٍ، وذاك فيه إذا استقرَّ المِلك للمشتري. أمّا هاهنا، فقد أتلف ملكَ نفسهِ قبل زوال يده، فالوجه القطع بانفساخ العقد، وإن كان سَلّمها إلى المشتري واستولدها في يده، وقلنا: المِلكُ للبائع، فالوجه في الطريقة المرضيَّة الحكم بانفساخ العقد أيضاًً؛ فانا إذا فرّعنا على أن الملك للبائع، فلا أثر لما جَرى من التسليم في منع انفساخ العقد على قياس الطريقة المرضيَّة.
فرع:
2938- إذا اشترى رجل عبداً بجارية، وكان الخيار للمشتري وحده، فلو أعتق المشتري الجاريةَ، لكان ذلك فسخاً منه للعقد، ولو أعتق العبد، كان إمضاءً وتنفيذاً للعقد، فلو أنه أعتقهما جميعاً؛ فلا ينفذ عتقه فيهما جميعاً؛ فإن تنفيذ العتق(5/61)
فيهما يتضمن فسخاً وإجازة، وهما نقيضان، فلا سبيل إلى جمعهما، ولكن اختلف أئمَّتُنا: فمنهم من قالَ: ينفذُ العتقُ في الجارية، لأن ذاك يتضمنُ فسخاً، والفسخ أقوى، ومنهم من قالَ: ينفذ عتقُه في العبدِ وهو اختيار ابن الحداد والقياس، وذلك لأن عتقَهُ في العبد تنفيذٌ للعقد.
وإذا فرَّعنا على الأصح وهو أن الملك في المبيع للمشتري، فلا يحتاج في تنفيذ عتقه إلى تقدير واسطةٍ بل نقول: أعتق ملكَه، فنفذ. وهذا فرَّعه ابن الحداد على أن الملكَ في المبيع للمشتري، فيجتمع ملكُه في المبيع وسُلطان الفسخ في الثمن، ومنه نشأ الخلاف.
قال الشيخ أبو علي: يتَجهُ عندي أن أقول: لا ينفذ عتقُه في واحد منهما؛ فليس عتقه في أحدهما أولى من الثاني، وهو ينفرد بكل واحدٍ منهما، ولا سبيل إلى تنفيذهما، فالوجه ردّهما بالتدافع، كإفسادِنا النكاحَ الوارد على الأختين.
والذي أراه أنّا إذا حكمنا بأن الملكَ في المبيع للبائع، فينفذ عتقُ المشتري قطعاً في الجارية؛ لأن الثمن على هذا القول ملكُ المشتري، فقد اجتمع في الجارية ملكُه ونفوذ الفسخ، وما ذكره الشيخ أبو علي ينقدح هاهُنا؛ فإن معتمدَهُ تصوّر الانفراد في كل واحدٍ من العتقين.
فرع:
2939- إذا شرط المتعاقدان خيار يومين، جاز، فلو زادا في اليومين الخيارَ يوم الثالث، فهذا يخرج على خلافٍ سنذكرهُ في أن الإبراء أو الزيادة في الثمن والمثمَّن هل يلحقان العقد في زمان الخيار؟ وهذا يأتي مشروحاً إن شاء الله تعالى. فإن قلنا: يتصوَّر إلحاق الزيادة في الثمن والمثمن، فزيادة الخيار تثبت، كما لو شُرطت في العقد، وإن قلنا لا تلحق الزوائد، فالشرط في زيادة الخيار ساقط، والعقد بحاله.
قال الشيخ أبو علي: الزوائد عند أبي زيد تلحق في مجلس العَقدِ، ولا تلحق في زمان الخيار. وهذا مما انفرد به، ولا يظهر فرقٌ بين الخيارين.
فرع:
2940- إذا اشترى عبدين على أنه بالخيارِ في أحدهما، فالعقد باطلٌ؛ فإن متعلّق الخيار مجهول، فإن قال: على أنِّي بالخيار في هذا العبد، فالصفقةُ قد(5/62)
جمعت بيع خيار في عبدٍ، وبيعاً لا خيار فيهِ في عبد، فيخرج على قولي تفريق الصفقة.
فرع:
شذَّ من تفريع بيع الغائب، فرأيت تداركَه في آخر هذا الباب
2941- قد ذكرنا أنه إذا رأى شيئاً، ثم اشتراه، وكان المبيع لا يتغيَّر غالباً في مثل تلك المدة، ولكن اتفق تغيُّره، فللمشتري الخيار. وقد استقصينا ذلك، فلو قالَ المشتري: هذا المبيع متغيرٌ عما رأيته؛ فلي الخيار. وقال البائع: هو على ما كان عليه. قالَ الصيدلاني: قال صاحب التقربب: القول قول البائع؛ فإنه يبغي بقولهِ المحتمل تقرير العقد، فصار كما لو اختلف البائع والمشتري في عيبٍ، فادَّعى البائع أنه حَدَث في يد المشتري، فالقولُ قول البائع. قال الصيدلاني: القياس أن القولَ قول المشتري في مسألة الرؤية؛ فإن البائع يدَّعي على المشتري أنه اطلع على المبيع على هذه الصفة، وهو ينكر اطلاع نفسه، فكان هذا بمثابة ما لو قال البائع للمشتري: هذا العيب قديم، ولكنك قد اطلعتَ عليه، وقال المشتري: ما اطلعتُ عليه، فالقول قول المشتري.
* * *(5/63)
باب الربا
وما لا يجُوزُ بَعضُه ببَعض مُتَفاضِلاً ولاَ مُؤجَّلاً والصَرف
2942- قال الشافعي (1) : " أخبرنا عبد الوهَّاب ... الحديث ".
قد نصّ الله تعالى على تحريم الربا وتوعّد عليه، ولكن ذَكَرَ الربا مجملاً في القرآن، والتفسيرُ مُحالٌ على بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمعتمدُ في الباب الخبرُ، وقد روى الشافعي بإسنادهِ عن مسلم بن يسار، ورجل آخر عن عبادةَ بنِ الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تبيعوا الورِقَ بالورِق، ولا الذهبَ بالذهبِ، ولا البُرَّ بالبُرّ، ولا الشعيرَ بالشعير، ولا التمرَ بالتمر، ولا الملح بالملح، إلا سواء بسواء، عيناً بعين، يداً بيدٍ، ولكن بيعوا الورِقَ بالذهب، والذهبَ بالورق، والبر بالشعير، والشعيرَ بالبُرّ، والملح بالتمر، والتمر بالملح كيف شئتم يداً بيد" (2) .
فنقول: نصَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على تحريم الرِّبا في ستة أشياء وهي الدراهم، والدنانير، والبر، والشعير، والتمر، والملح، واضطربت مذاهب العلماء في تعدّي مورد النصّ، ولا يليق التعرُّضُ للاختلاف بهذا الكتاب المقصور على بيان مذهب الشافعي وأصحابه، فالوجه الاقتصار على هذا المذهب.
2943- والباب يشتمل على ضروب من الربا. وأصل جميعها ربا التفاضل، فنبدأ بهذا، ونستقصي القولَ فيه، ثم نذكر ما عَدَاهُ، ونصنّفُ الأشياء الستة صنفين،
__________
(1) انظر الأم: 3/12.
(2) حديث عبادة رواه الشافعي في الأم: 3/12، قال: أخبرنا عبد الوهاب، عن أيوب، عن مسلم بن يسار، ورجل آخر، عن عُبادة بن الصامت. ورواه مسلم: كتاب المساقاة، باب الصرف، وبيع الذهب بالذهب نقداً، ح 1587، وفي الباب عن عمر وعن علي، وعن أبي هريرة وغيرهم (ر. التلخيص: 3/15 ح 1135) .(5/64)
فنذكر الأربعة منها فنّاً: وهي البُرّ، والشعيرُ، والتَمرُ، والملح، ثم نتكلم بعدها في الدراهم، والدنانير. فأما الأشياءُ الأربعة، فتحريم ربا الفضل فيها عند الشافعي معلَّلٌ في قوله الجديد بالطعمِ، ثم لهذه العلةِ محل وهو اتحاد الجنس، فإذا صادف الطعم جنساً متحداً، اقتضى تحريمَ التفاضل. وليس الجنسُ صفةً في العلةِ، وإن كان الحكم يتوقف عليه، وهذا بمثابة قولنا: الزنا موجبٌ للرّجم إذا صدر من محصنٍ، وليس الإحصانُ صفة في العلة، ولكنه محلّها. وقد استقصينا القول في ذلك في مجموعاتِنا (1) في الخلاف.
وأثر ما ذكرناه يبين في ربا النساء، وباب الصرف.
وقد ثبت الآن تحريمُ التفاضل في كل مطعوم متّحدٍ جنسُه سواء كان مقدراً بكيل، أو وزنٍ، أو لم يكن مقدراً، كالسفرجل، والرمان، والقثاء، والبطيخ.
واعتبر في القديم الطعم كما ذكرناه، وضمّ إليه التقدير وقال: علة الربا من الأشياء الأربعة الطعمُ، وإمكانُ التقدير. واعتبار التقدير في القديم وصفٌ في العلّة، وهي مركّبة من الطعم والتقدير، ومحل العلّة المركَّبة اتحادُ الجنس كما تقدم، وهذا أصل الباب في هذه الأشياء.
وإذا اختلف الجنسُ لم يحرم التفاضل، كما نص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال: " وإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم ".
2944- ثم أول ما نبدأ به شرح الطعم الذي اعتبرناه في العلّة: فكل ما يكون الغرض الغالب منه الطعْم، وإنما يُعد غالباً له، فهو مالُ ربا على الجديد، مقدَّراً كان أو غير مقدَّرٍ. والمقدر مما يُطْعم مال ربا في القديم؛ فالأغذيةُ والفواكه داخلةٌ
__________
(1) مجموعاتنا أي مؤلفاتنا، يشير إمام الحرمين، إلى كتبه في الخلاف، وقد عرفنا منها: الدرّة المضية فيما وفع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية (وقد وفقنا الله لتحقيقه وإخراجه) . 2- غنية المسترشدين ويسمى اختصاراً (الغنية) . 3- الأساليب. 4- العُمَد وهذه لم نعثر على أثر لها في المكتبات للآن. ولإمام الحرمين أيضاً (الكافية في الجدل) ، وقد حققته وأخرجته الدكتورة فوقية حسين، جزاها الله خيراً.(5/65)
تحت الطُّعْم، والأدويةُ مطعومةٌ، وإن كانت تستعمل على نُدورٍ، ولكنها مُعَدَّةٌ لتُطعم إذا مست الحاجةُ إليها.
هذا هو الأصل، ونذكر مسائلَ فيها تردد.
قال العراقيون: الطين الأرمني مطعوم دواءً، فهو مال ربا، والطين الذي يأكله السفهاء لا ربا فيه؛ فإنه لا يعدّ مأكولاً، وأكله سفهٌ. وكان شيخي يتردد فيه، ويميل إلى أنهُ مال ربا، وما ذكروه في الطين الأرمني صحيحٌ، لا خلاف فيه. وذكر العراقيون فيما صُرف عن الطُّعم اعتياداً وأصله مطعوم، كدهن البنفسج، والورد، وغيرهما، أن المنصوص أن هذه الأدهان مال ربا، فإنها شَيْرج اكتسب روائح من الأزهار، وانكف الناس عن أكلها ضِنّة بها. قالوا: وذكر بعض الأئمة قولاً مخرَّجاً أنها ليست مالَ رباً؛ لأنها لا تُعدّ مطعومةً عرفاً.
قال صاحب التقريب: " دهن البنفسج مال ربا، وفي دهن الورد وجهان ".
ولستُ أفهم الفرق بينهما، ثم إذا جعلناها مال ربا فكلُّها جنسٌ واحد؛ فإنها شَيْرج اختلفت روائحها، لمجاورة أشياءَ مختلفة. هكذا ذكره العراقيون، وهو الوجه.
وذكر الإمام وجهين في الكتان ودهنه، وقطع العراقيون بأن دهنَ الكتان المعد للاستصباح ليس مالَ ربا، والظاهرُ ما قالوه؛ فإن الكتان ودهنه إن فُرض أكلُهما على ندور، فلا نظر إلى ما يندر، وإنما الاعتبار بما هما معدّان له غالباً، وهذا كالكبريت والقطران، قد يندر من بعضٍ أكلُهما، ولكنهما ليسا مُعدَّيْن لذلكَ.
قال العراقيون: ودَكُ السَّمكِ المعَدُّ للاستصباح وتدهين السفن ليس مال ربا، وعللوا ذلك بما قدمناه. وهذا يظهر فيه جعلُه مالَ ربا؛ فإنه جزءٌ من السمك، وهو مطعوم فيه، والزعفران مأكولٌ، والمقصود الأظهر منه الأكل تلذذاً وتداوياً.
ولو فرض علينا شيء يجري فيه الطعم وغيرُه على التقارب في التساوي؛ فالوجه القطع بأنه مال ربا؛ فإنه ظهر كونه مطعوماً، فكفى ذلك، ولا يضر ظهورُ غرضٍ آخرَ فيه، وفيما نقله العراقيون في دهن البنفسج وودك السمك المعدّ للاستصباحِ تناقضٌ؛ فإنهم لم ينظروا إلى العادة في انصراف دهن البنفسج عن الطُعم، واختاروا كونه مالَ ربا، وحكَّموا النص فيه، وقولهم في ودكِ السمكِ يخالف ذلك. وهذا غامض عليهم.(5/66)
والوجه عندنا تخريجُ هذا الفن على الخلاف؛ فإنه متردّد بين الأصل المأكول، وبين الانصراف عن جهة الأكل لغرض في العادة.
فرع:
2945- اختلف الأئمة في بلع السمكة الحيّة؛ فإن منعنا ذلك، فليس السمك مال ربا في الحياة. وإن جوزنا بلْعَها، فقد تردد شيخي في إجراء الربا فيها، وهذا بعيدٌ عندي. والوجه القطع بأنه لا ربا فيها؛ فإنها لا تُعدّ لهذا الشأن. وكان تخصيص ما ذكره بالصغار التي تُبتلع. وتردّد صاحب التقريب في السمكة، وبنى أمرها على ما ذكرناه، وقطع بالفصل بين الكبار والصغار.
وأما الماء، فمطعوم لا شك فيه، والمذهبُ أنه مملوك يباع، فهو مال رباً. ومن أصحابنا من قال: الماء لا يُملك؛ فيمتنع عنده بيع الماء بالدراهم، وسأذكر أحكام المياه مجموعةً في إحياء المواتِ، وتمام الضبط في هذا أن المعتبر في الاعتداد بالطُّعم حالةُ الاعتدال والرفاهية، فأما ما يطعم في سِني الأَزمِ والمجاعة، فلا معوّل عليه.
فصل
في اعتبار طريق التقدير
2946- ما جرى في تقديره طريقٌ في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو المعتبرُ فيما يحرم فيه التفاضل، فالحنطة والتمر والشعير كانت تكال، فلا يجوز بيع بعضها ببعض مع اتحاد الجنس وزناً بوزنٍ، وإن كان الوزن أحصرَ من الكيل، ولكن المتبعَ الشرعُ، وإن صح الوزن في شيء في عَصر الشارع صلى الله عليه وسلم، تعيّن الوزنُ فيهِ؛ حيث تحرم المفاضلة.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " المكيال مكيال المدينة والميزان ميزان مكة " (1) فما معنى الحديث؟ قلنا: لعل اتخاذ المكاييل كان يعمُّ في
__________
(1) الحديث عن ابن عمر، أخرجه أبو داود في البيوع، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: " المكيال مكيال المدينة "، ح 3340، والنسائي في الزكاة، باب كم الصاع: 5/54 ح 2521، وفي البيوع، باب الرجحان في الوزن: 7/284، ح 4598، وصححه ابن حبان: =(5/67)
المدينة، واتخاذ الموازين يعمُّ بمكة، فخرج الكلام على العادة، وإلا، فلا خلاف أن اعتبار مكاييل أهل المدينة، وموازين أهل مكة لا يرعى، ويجوز أن يقال: ما تعلق بالوزن من النُّصب وأقدار الدياتِ وغيرها، فالاعتبار فيها بوزن مكة، وما تعلق بالكيل في زكاةِ الفطر، والكفارات، فالمعتبرُ ما كان يغلب في المدينة. وليسَ في الحديث تَعرُّضٌ لأمر الربا.
فرع:
2947- إذا اتخذ مكيالٌ لم يُعهد مثله في عصرِ الشارع، وكان يجري التماثل به، فالوجه القطع بجواز رعاية التماثل به؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعبَّدْنا في الحديث إلا بالكيل المطلق فيما يكال، ولم يعيّن مكيالاً، وأجمع أئمتنا: على أن الدراهم إذا بيعت بالدراهم، وعُدِّلَتا بالتساوي في كفّتَي ميزان، فالبيع صحيح. وإن كنا لا ندري ما تحويه كلُّ كِفة.
وهذا الذي ذكرته في مكيالٍ يجري العرف باستعماله، ولكن لم يعهد في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو بيع ملءُ قصعة بملئها، وما جرى العرف بالكيل بأمثالها، فقد حكى شيخي تردّداً عن القفال، والظاهر عندنا الجواز. والوزن بالطيّان (1) وزنٌ، وإن لم يكن له لسانُ وزنٍ، والاستواء يبين فيه بتساوي قَرْعتي الكِفتين، والوزن بالقَرَسْطون وزنٌ، وقد يتأتى الوزن بالماء بأن توضع دراهم في ظَرْف، فتُلقى على الماء ويُنظر إلى مقدار غوصه، ثم يفعل مثل ذلك بمقابلهِ، وليس ذلك وزناً شرعيّاً ولا عرفيّاً. والظاهرُ أنه لا يجوز التعويل عليه في تماثل الربويات.
وما استَربْنا فيه، فلم ندرِ أنه كان مكيلاً في عَصر الشارع أو موزوناً، فلا يخلو إما أن يكون له أصل يعرف تقدير الشارع فيه، أو لا يكون، فإن لم يكن له أصل يُعلم
__________
= 1105 عن ابن عباس. وأخرجه أيضاًً الطبراني في الكبير: 3/2، 20/1، والبيهقي: 6/31، وأبو نعيم في الحلية: 4/20، والطحاوي في المشكل: 2/99، وقال الألباني: صحيح (إرواء الغليل: 5/193 ح 1343) ، وانظر أيضاًً (شرح السنة للبغوي - تعليق شعيب الأرناؤوط: 8/69) ، و (نيل الأوطار: 5/307) .
(1) الطيان، والقرسطون: نوعان من الموازين كما يتضح من السياق. ولما أصل إلى وصف لهما.(5/68)
تقديرُه شرعاً، وكان يتأتى فيه الكيل والوزن جميعاً، ففيه أوجه: أحدها - أن يكالَ؛ فإن الكيل كان غالباً في معظم المطعومات، فنعتبر موضع الإشكال بالغالب. والثاني - أنه يتعين الوزن؛ فإنه أحصرُ من الكيل، فإذا لم يثبت الكيل بالتوقيف، فطلبُ الأحصَرِ أولى. والثالث - أنا ننظر إلى العادة الغالبةِ في موضع المعاملة؛ فإنه إذا عسر اعتبار عرف الشارع، وقد وجدنا العرف أصلاً متبعاً، فالأقربُ اعتبار عرف الوقت.
وذكر شيخي وجهاً رابعاً - وهو أنا نتخيَّر بين الكيل والوزن؛ إذ ليس أحدهما أولى من الثاني. وهذا بعيد جداً لم أره لغيره. وإذا جرى التقديران، فلا بد من تفاضل يجري لأحدهما. ولو منع مانعٌ أصلَ البيع لاستبهام طريق التماثل، لكان أقربَ مما ذكره، ولكن لا قائل به من الأصحاب. فأما إذا كان للشيء أصل يعرف طريق تقديره في عصر الشارع، ولكنه في نفسه لا يُدرَى بماذا كان يُقَدَّر في العصر الأول، ففيه الأوجه المتقدمة، وزاد شيخي وصاحب التقريب والصيدلاني وجهاً آخر أنهُ يتعيّنُ أن يقدَّر بما يقدر به أصله.
فصل
2948- في بيان الحال التي تباع في مثلِها أموال الربا، بعضُها ببعض، ويتصل به التفريع على القول القديم؛ فنقول: قد منع الشافعيُّ في معظم العلماء بيعَ الرطب بالتمر، واعتمد فيه الحديث المشهور، وهو ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن بيع الرطب بالتمر، فقال: " أينقصُ الرطبُ إذا جف؛ فقيل نعم، فقال صلى الله عليه وسلم: فلا إذن " (1) . ثم استنبط الشافعي من مورد الحديث أن
__________
(1) حديث أينقص الرطب إذا يبس؟ رواه مالك في الموطأ: 2/624، والشافعي في الأم: 3/15، وأحمد في مسنده: 1/175-179، وأبو داود: البيوع، باب في التمر بالتمر، ح 3359، والترمذي: البيوع، باب ما جاء في النهي عن المحاقلة والمزابنة، ح 1225، والنسائي: بيوع، باب اشتراء التمر بالرطب، ح 4545، 4546، وابن ماجة: التجارات، باب بيع الرطب، ح 2264، والدارقطني: 3/49، 50، والبيهقي: 5/294، 295 وقد صححه الألباني (ر. تلخيص الحبير: 3/20 ح 1143) .(5/69)
المماثلة حقها أن يعتبر فيها حالُ كمال الشيء، فالتمر حالةُ كماله جفافه، فإذا بيع الرطب بالتمر مع التساوي في الحال، ثم فرض جفاف الرطب، نقص مقداره عند جفافه عن التمر الذي قابله، وكأنا تخيّلنا على الجملة أنَّ تعبّدَ الشارع في منع التفاضل يعتمد بشرف الطعام، فنعتبر التماثل في أشرف الأحوال، ثم بنى الشافعي على ما مهّدَهُ في ذلك منعَ بيع الرطب بالرطب؛ فإنهما إذا جفّا، لم يُدْرَ هل يتماثلان.
2949- فنقول: بعد تمهيد القاعدة: كل رطب يعتاد تجفيفه لا يجوز بيع بعضه ببعض، وكذلك القول في العنب.
فأما الرطب الذي لا يجفف ولو فُرض تجفيفُه، لاستحشف وفسد، فهل يجوز بيع بعضِه ببعضٍ؟ فيه وجهان: أحدهُما - الجواز، وهو القياس؛ لأن هذا النوع كماله في إرطابه، وليست له حالة منتظرة أكمل من هذه.
وقد أجرى بعض أصحابنا لفظ الادّخار في أدراج الكلام، وهو غير معتمد؛ فإن اللبن يباع بعضه ببعضٍ، كما سنذكره، ولا يتأتى فيه الادخار، ولكن لما كان ذلك أكملَ أحوالهِ، روعي كمالُه، ولم يثبت أيضاً توقيف في النهي عن بيع الرطب بالرطب خصوصاً، وإنما النهي في بيع الرطب بالتمر. والوجه الثاني أن البيع باطل، نظراً إلى جنسِ الرطب، و [امتناعاً] (1) من تتبع التفاصيل في أنواع الجنس؛ فإن القول في ذلك يطول.
ولم يختلف أئمتنا في منع بيع الرطب الذي لا يجفف بالتمر، وكان القياس يقتضي تجويزَه عند من يجوّز بيعَ الرطب بالرطب، إذا كان لا يجفف. وما ذكرته مدلول كلام الأئمة، ولم أجد لهم نصاً في منع بيع التمر بالرطب الذي لا يجفف.
2950- وأمَّا المشمش والخوخ، فقد يجري العرف في تشميسهما، ولكن لا يعم [عمومَ] (2) تجفيف الرطب والعنب، فذكر الأئمةُ ثلاثة أوجهٍ فيها: أحدُها - أنه لا يجوز بيع الرطب منها بالرطبِ من جنسهِ؛ إذ له حالة جفاف منتظرة، فأشبه الرطبَ
__________
(1) في الأصل: وامتناعنا.
(2) مزيدة من: (هـ 2) .(5/70)
والعنبَ. وهذا القائل يجوّز بيعَ الجاف منه بالجافّ، قياساً على الرطب.
والوجه الثاني - أنهُ يجوز بيع الرطب بالرطب، فإن أكمل أحوال المشمش، وما في معناه الرطوبةُ، والتجفيف فيه في حكم النادر، الذي يستعمل في الفاضل عن الأكل من رطب الجنس، وكُثْر الغرض في الرطوبة بخلاف الرطب؛ فإن الأصل فيه التجفيف.
والوجه الثالث - أنه لا يجوز بيع بعضه بالبعض، لا رَطباً ولا يابساً؛ فإنه لم يتقرر له حالة كمال؛ والبيعُ يعتمد حالة الكمال؛ فإمكان الجفاف وجريانه أخرج حالة الرطوبة عن قضية الكمال، وعدمُ عموم ذلك أخرج حالة اليبوسة عن حكم الكمال.
ولم يصر أحد من أئمة المذهب إلى تجويز البيع في حالة الرطوبة ومنعه في حالة الجفاف.
نعم، الرطب الذي لو جفف فسد، ولم يبق فيه انتفاعٌ يُحتفل به، يجتمع فيه أربعةُ أوجُهٍ: ثلاثة منها كما ذكرناها، والرابع - التجويز في حالة الرطوبة، والمنع في حالة اليبوسة؛ فإن الرطوبة في هذا النوع هي الكمال، والجفاف غير معتاد أصلاً.
2951- وممّا يتصل بهذا الأصل -وفيه التفريعُ على القول القديم- تفصيلُ القول في بيع القثاء بمثله، وكذلك ما في معناه مما لم يجر فيه العرف بتجفيفٍ أصلاً، فنقول: أولاً - هذا غير مُقدّرٍ عُرْفاً بكيل ولا وزن، وإنما يباع عدداً، فإن فرَّعنا على القول القديم، ورأينا ضمَّ التقدير إلى الطعم، فليس هذا الجنسُ مالَ ربا؛ فيجوزُ بيعُ بعضه ببعضٍ كيف قُدّر وفُرض، وإذا أخرجناه على هذا القول من كونه مال ربا، فلو جُفف على نُدور، وكان مأكولاً، وجرى فيه الوزن في جفافه، فقد ذكر الإمامُ عن شيخه القفال، أنه لا يجري الربا فيه على القديم، وإن تقدر؛ فإن أكمل أحواله الرطوبة، وقد خرج في حال الرطوبة عن كونه مال ربا، فلا ننظر إلى حالة جفافه، ونتبع هذه الحالةَ تلك الحالة في سقوط الربا.
والظاهر بخلاف هذا؛ فإنه مطعوم مقدَر في الجفاف.
ويجوز على القديم بيعُ الجوز بالجوز، والبيض بالبيض، وكذلك كل معدود في(5/71)
العرف. ويمتنع بيعُ لب الجوز واللوز بعضُه متفاضلاً على القديم؛ فإنه مقدَّر مطعوم في حالة شَرَفهِ، وليس مصيرُه إلى إجراء التقدير فيه نادراً، بخلاف ما قدمته في القثاء والسفرجل، وما في معناه. ولا رباً على القديم في الرمَّان. ويجري في حب الرمّان إذا جف [ما] (1) ذكرته في اللُّبوب.
فرع:
2952- الشعير في سنبله لا يقدَّر، فإذا فرّعنا على القول القديم، فالوجه عندي منعُ بيع بعضه ببعض؛ فإنه من جنس ما يقدّرُ، ولا ننظر إلى حالته هذه، وليس كالجوز مادام صحيحاً، وكيف نستجيز التشبيب بالخلاف مع قيام النص في الشعير.
وقد تقرر في (الأساليب) (2) ردُّنا على أبي حنيفة (3) في إخراجه الحفنة، وهي بعض المنصوص عليه في الخبر. وهذا تفريعُنا على القديم.
2953- فأما الجديد، فنقول عليه: كلُّ مطعوم مالُ ربا، وإن كان لا يُقدّر، وإذا كان كذلك امتنع بيعُ بعضه ببعض عدداً، والمانع تعذر التقدير، وهل يجوز بيع بعضه ببعض وزناً؟ فعلى وجهين: أحدهُما - وهو ظاهر المذهب أنه لا يجوز؛ فإن الوزن فيه غير معتاد، لا في عصر الشارع صلى الله عليه وسلم، ولا بعده، ولا سبيل إلى تجويز البيع عدداً؛ فالوجه المنع. والثاني - أنه يصح؛ فإنَّا إن نظرنا إلى الكمال، فرطوبتُه أكمل أحواله، والتقدير قد حصل بالوزن.
وأما عدم جريان العرف بالوزن؛ ففيه سرٌّ يجب رعايته. فنقول: ما جرى فيه عرف الشارع بالكيل، فقد تُعُبِّدْنا فيه بالتساوي في الكيل، فلا معدل عنه إلى الوزن، وما تقدر وجهلنا فيه عرفَ الشارع؛ ففيه اضطرابٌ تقدم ذكره، فأما ما نحن فيه، فقد جرى العرف فيه بالعدد، وذلك تساهل في الطريق، والشرع لا يقنع به، وفي الوزن الضبط التام، وليس فيه تركُ تقديرٍ تعلَّق به تعبّدٌ.
__________
(1) في النسختين: كما ذكرته. والمثبت تقدير منا.
(2) أحد كتب الإمام في علم الخلاف.
(3) ر. تبيين الحقائق: 4/85، 87، البدائع: 5/139، الهداية مع فتح القدير: 6/293.
وأبو حنيفة إنما جوّز الحفنة بالحفنتين والتفاحة بالتفاحتين؛ لعدم الكيل والوزن؛ لأن علة التحريم عنده الكيل أو الوزن مع الجنس.(5/72)
وهذا وإن كان فقيهاً، فالأصح الأول. فلو جفف ما نحن فيه، وكان إذ ذاك يوزن، وقد منَعْنا بيعَ رطبه بالرطب وزناً، ففي جواز البيع في حالة الجفافِ خلافٌ مشهور: من أصحابنا من مَنع. وتوجيهُه أنه امتنع فيه عند هذا القائل جوازُ البيع في أكمل أحواله، فكان ما جرى من الجفاف على ندورٍ، تابعاً في المنع لحالة الكمال.
وهذا يلاحظ ما ذكرناه من التفريع على القول القديم في مثل ذلك.
ومن أصحابنا من قال: يجوز بيع البعض بالبعض في الجفافِ؛ لجريان العُرف بالوزن، وإذا جوزنا بيعَ الرطب بالرطب وزناً، وضممنا إليه القولَ في حال الجفاف، [كان ذلك] (1) بمثابة الرطب الذي لا يجفف اعتياداً، فيجري في حالة الرطوبة واليبوسة الأوجه الأربعة، التي تقدمت مشروحة.
قال العراقيون: جفاف البطيخ حيث يعتاد ذلك من البلاد في حكم جفاف المشمش، والأمر على ما ذكروه.
فرع:
2954- قال صاحب التقريب: بيع الزيتون بالزيتون جائز؛ فإنه حالة كماله وليس له حالة جفاف، ولكن يعتصر الزيت منه، وليس ذلك من باب انتظار كمالٍ في الزيتون؛ فإنه تفريق أجزائه، وتغييره عن حاله، كما يستخرج السمن من اللبن.
والأمر على ما ذكره.
ومما يتصل بتمهيد هذا الأصل، القول في الدقيق، وكل ما يُتَّخذ منه. فالمذهب الذي عليه التعويل أنه لا يجوز بيع الدقيق بالدّقيق مع اتحاد الجنس؛ والسبب فيه أن كمال البُرّ في كونه بُرّاً، والدقيق زائل عن الكمال، وهو إلى الفساد لو لم يُستعمل، وإذا كان كذلك، فلو بيع الدقيق بالدقيق كيلاً أو وزناً، ثم لاحظنا حالة كونهما بُرّين، لم نَدْرِ هل كانا متماثلين بُراً أم لا. فكان نظرنا إلى الكمال الزائل، بمثابة نظرِنا إلى الكمال المنتظر عند بيع الرطب بالرطب، وكذلك نمنع بيع الحنطة بالدقيق، كما نمنع بيع الرطب بالتمر، وكل ما يتخذ من البُرّ من كعك، أو خبز، أو سويق، فهو [في] (2)
__________
(1) في الأصل: كذلك. وفي: (هـ 2) : وكذلك. وهذا التصرف منا رعاية للسياق.
(2) مزيدة من: (هـ 2) .(5/73)
معنى الدقيق؛ فيمتنع بيع بعضهِ بالبعض، ويمتنع بيعُه بالبُرِّ.
وقد يعترض فيما (1) ذكرناه علةٌ أخرى مع ما ذكرناه؛ فإن الخبز في معنى المختلِط؛ إذ فيه ماء وملح. وسنذكر بعد ذلك إن شاء اللهُ تعالى منعَ بيع المختلط بمثلهِ.
فهذا قاعدةُ المذهب، وسنذكر إن شاء الله تعالى في آخر الفصل نصوصاً غريبة في ذلك.
فإن قيل: الحنطة المسوسة إذا قربت من العفونة، فما القول فيها؟ قلنا: ظاهر قول الأئمة جواز بيع بعضها بالبعض، وإن أمكن أن يقال فيها: إنها زايلت كمالَها، وهي أقرب إلى العفن من الدقيق. وإنما راعَوْا في هذا النظرَ إلى طرد القول في الجنس، ولا وجهَ غيرُه؛ فإنا لو ذكرنا غيرَ ذلك، لعَسُرَ النظرُ في تفصيل الحنطة، التي تمادى زمانُ احتكارِها. وهذا مما يعسرُ تتبعه.
ولعل هذا قبل أن تتآكل، فأما إذا تآكلت، وخلت أجوافُها، ففيها نظرٌ عندنا؛ فإن الأئمةَ أطلقوا بيع المسوسة بالمسوّسة، والمسوسة هي التي بدأ التآكل فيها، والقياس القطعُ بالمنع؛ إذ الحنطة المقليّة لا يباع بعضها ببعض، لما فيها من التجافي الحاصل بالقلي، فكذلك لا يجوز بيع الحنطة المبلولة بالحنطة المبلولة والجافَّة، لما ذكرناه في المقليّة، ولو بُلت الحنطة ونُحّي منها قشرتُها بالدّق والتهريس، وهي الكَشْك (2) - قال الأئمةُ: هي كالدقيق؛ فإنها تفسد على القرب، ويتفاوت ما يزايلها من القشر، ولو بُلَّتْ ثم جُفّفت ولم تُهرَّسْ، فإنها تتشَنج في جفافِها على تفاوت يُفضي إلى جهلٍ بالمماثلةِ قبل البلّ، فإن كان كذلك، فالوجه المنع. وفي الجاوَرْس (3) إذا نُحّيت منه القشرةُ احتمالٌ عندي، ولا شك في [جواز] (4) بيع الرّز بالرّز المنقَّى عن قشرته. فتأَملوا هذه المراتبَ.
__________
(1) في (هـ 2) : في بعض ما ذكرناه.
(2) الكشك: وزان فَلْس: ما يعمل من الحنطة (مصباح) .
(3) الجاوَرس: بفتح الواو، حب يشبه الذرة، وهو أصغر منها. (مصباح) .
(4) مزيدة من (هـ 2) .(5/74)
2955- ومما يتعلّقُ بهذا الفصلِ القَولُ في بيع هذه المطعومات بعضها ببعضٍ مع نزع النَّوى، والسبب فيه أنه يكتنز في المكيال، ويتجافى على تفاوت ظاهرٍ، على قدر الضغط، وإذا امتنع هذا، فلا شك في امتناع بيع [التمر] (1) المنزوع نواه بالتمر مع النوى.
وكان شيخي يذكر خلافاً في مُقدَّد المشمش والخوخ، فيقول: من أصحابنا من أجراهما مجرى التمر، فمنع البيع مع نزع النوى، ومنهم من جوَّز البيعَ مع النزعِ؛ فإن ذلك معتاد في جنسها، ونواها لا يُصلحها، بخلاف نوى التمر؛ فإنه عصامُها من التسويس. وهذا القائل يجوّز البيعَ مع النوى ومن غير نوى، ولم أر لأحدٍ اشتراط نزع النوى، إلا لشيخي، فإنه ذكر عن بعض الأصحاب وجهاً بعيداً في اشتراط نزع النوى، كما يشترطُ نزع العظم عن اللحم في ظاهر المذهب.
فقد تحصلنا على ثلاث مراتبَ، أما التمر، فنزع نواه يمنع بيعَه، واللحم في ظاهر المذهب يتعيّنُ نزع عظمه، إذا حاولنا بيع بعضه بالبعض، وبينهما المشمش، وما في معناه، فيجوز بيعُ بعضِه ببعضٍ مع النوى، وفي تجويز البيع مع النزع الخلافُ المذكور.
وذكر العراقيون وجهين في جواز بيع التمر بالتمر مع نزع النوى، وهذا بعيد جدّاً، ثم جاؤوا بما هو أبعد منه، وذكرُوا خلافاً في بيع تمرٍ منزوع النوى بتمرٍ غير منزوع النوى، وهذا ساقط لا يُحتفلُ بمثله.
وقد تم الغرضُ من الفصلِ.
2956- ونذكر الآن النصوص الغريبة في الدقيق والكعك.
نقل المزني في المنثور أن الشافعيَّ كان يمنع بيع الدقيق بالحنطة، ويجوّز بيع الدقيق بالدقيق، ونقلَ حرملةُ ذلك أيضاًً، وهذا النصُّ ليس يشعر بأن الدقيق يخالف جنسَ الحنطة، ولكن مقتضاه أن منع بيع الدقيق بالحنطة سببُه التفاوت الظاهر في الكيل، والدقيق مع الدقيق لا يتفاوتُ.
__________
(1) زيادة من المحقق اقتضاها السياق.(5/75)
ونقلَ الحسينُ الكرابيسي عن الشافعي أنه كان يقول: الحنطةُ ودقيقُها جنسان؛ فيجوز بيع أحدهما بالثاني متفاضلاً، لاختلاف الصفة، والاسم، والمنفعة. والدقيق مع الدقيق جنس واحدٌ.
وحكى ابن مِقلاص (1) أن الشافعي جعل السويقَ مخالفاً لجنسِ (2) الحنطة؛ لأنه يخالفها في المعنى. والدقيقُ مجانس للحنطة؛ فإنه حنطة مفرقة الأجزاء، والحنطة دقيق مكتنز. وعلى هذا الخبز يخالف الحنطة، ويجب أن يخالف الدقيقَ السويقُ أيضاًً.
وقال العراقيون: بيع الخبز غيرِ اليابس بمثله، أو باليابس لا يجوز؛ لأن الرطوبة التي فيه ماءٌ، وفي بيع اليابس بمثله خلاف. وذكروا الخلاف في بيع الدقيق بالدقيق.
فهذا مجموع النصوص.
ولكن اتفق أئمة المذهب على أنها لا تُعدّ من متن المذهب، وإنما هي ترددات جرت في القديم، وهي مرجوعٌ عنها، والمذهب ما مهدناه قبل هذا.
فصل
في بيان القاعدة المترجمة بمُدّ عجوة ودرهم
2957- وهذا ركن عظيم في مذهب الشافعي في أصل ربا الفضل، فنقول: مذهبُنا أن من باع مُدَّ عجوةٍ ودرهماً، بمُدَّي عجوة. فالبيع باطل، وقد اعتمد الشافعي في هذا الأصل حديثَ القلادة، وهو ما رُوي عن فَضالة بن عُبيدٍ قال: "أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بقلادةٍ فيها ذهب وخرزٌ تباع، وهي من المغانم، فأمر رسول الله
__________
(1) ابن مقلاص: عبد العزيز بن عمران بن أيوب. أبو علي الخُزاعي، الإمام. أخذ عن الشافعي، روى عنه أبو زرعة، وأبو حاتم، وغيرهما ت 234 هـ (طبقات السبكي: 2/143) .
(2) كان السبكي تقي الدين يقول عن رواية ابن مقلاص هذه: "إن الدقيق في تلك البلاد إنما يستعمل من الشعير، وحينئذِ لا إشكال في مخالفة السويق للحنطة" حكى هذا السبكي الابن تاج الدين في طبقاته: 2/143، 144.(5/76)
صلى الله عليه وسلم بالذهب الذي في القلادة، فنزع، وقال: الذهب بالذهب وزناً بوزنٍ" (1) ؛ فاعتمد الشافعي معنىً ظاهِراً قد تقصّيناه في الأساليب.
ولكن لا بد من ذكرِ ما يجري مجرى التحديد، ونشير إلى أصل التعليل. فنقول: إذا باع مُدَّ عجوة قيمته درهمان [ودرهماً بمدّي عجوة قيمةُ كلِّ مدٍّ درهمان] (2) فالبيعُ باطلٌ عند الشافعيّ. والذي اعتمدهُ الأصحاب فيه من طريق المعنى التوزيعُ.
فقالوا: الدرهم من هذا الجانب ثلث ما في هذا الجانب، فقابل ثلث ما في الجانب الآخر، وثُلث المُدّين ثلثا مُدٍّ، فيبقى مد وثلث، يقابل مُدّاً. وهذا تفاضل بيّن، ثم أثبتوا التوزيعَ بالقياس على جريانه في الشفعة إذا اشتملت الصفقةُ على شقصٍ وسيف، كما قررته في (الأساليب) .
والتعويل على التوزيع في التحريم غيرُ سديدٍ عندي؛ فإن العقد لا يقتضي وضعُه توزيعاً مُفصلاً، بل مقتضاه مقابلةُ الجملة بالجملة، أو مقابلة جزأين شائعين مما في أحد الشقين بجزأين مما في الشق الثاني. والمصير إلى أن الدرهم ثلث ما في هذا الجانب تفصيل، والعقدُ جرى مبهماً، وقد تفصّل التوزيع في الشقصِ والسيف لضرورة الشفعة، كما أنا قد نقسم مِلكاً مشتركاً قسمة إجبارٍ، وإن كانت القسمةُ تُخالفُ شُيوعَ مِلك الشريكين في جميع أجزاء المِلك، فالوجه في التوزيع أن يقال: ثلثُ الدرهم وثلث المُدّ يقابل ثلُثَ المدّين، وهذا لا يفضي إلى ما يزيده، ولا ضرورةَ في تكلف توزيعٍ يؤدي إلى التفاضل.
فالمعتمد عندي في التعليل، أنا قد تُعبّدنا بالمماثلة تحقيقاً، وإذا باع مُدّاً ودرهماً بمُدّينِ، لم تتحقق رعاية التماثل، وهو شرط صحة العقد؛ ففسد العقدُ لعدم تحقق المماثلة، لا لتحقق المفاضلة. ثم لا نحكم بتوزيع التفصيل بوجهٍ، ولا سبيل إلى
__________
(1) حديث فضالة رواه مسلم: البيوع، باب بيع القلادة فيها خرز وذهب، ح 1591، وأبو داود: البيوع، باب في حلية السيف، ح 3351، 3352، والبيهقي: 5/292، 293. وانظر (التلخيص: 3/19 ح 1142) .
(2) ما بين المعقفين سقط من الأصل.(5/77)
تحكم أبي حنيفة (1) في مقابلة مدٍّ بمدٍّ، ودرهم (2) بمد.
هذا قاعدة الفصلِ.
ومن مال إلى التوزيع من أصحابنا، فتقريبه أنا أُمرنا بطلب المماثلة، كما أُمرنا بتمييز الشقص المشفوع في الصفقة المشتملة على الشقص والسيف، ولا طريق يهتدى إليه إلا التوزيع.
وله نظائر في الشريعة، وهذا لا يقوى على السَّبرِ.
فقد حصل مسلكان: أحدهما - التوزيع، والآخر - عدم التماثل والاستبهامُ، ونحن الآن نُخرِّج مسائلَ الفصل على المسلكين.
2958- فلو باع مُدَّ عجوة قيمتُه درهم ودرهماً؛ بمُدَّي عجوة قيمةُ كل واحد منهما درهم، فالبيع باطل باتفاق الأصحاب. فأمَّا من اعتمدَ التوزيع إذا قيل له: الدرهم نصف ما في هذا الجانب، فيقابل مداً، ويبقى مدٌّ في مقابلة مدٍّ، فلا تفاضل، فيقول مجيباً: إنما أدَّى التوزيع إلى التماثل من جهة أن قيمة المدّ الذي مع الدرهم فُرضت مثلَ الدرهم، وإنما صِيرَ إلى ذلكَ من جهة التقويم، والتقويم متلقى من الاجتهاد، وشرط التماثل أن يجري محسوساً.. هذا ما ذكره الموزّعون.
وأنا أقول: سبب التحريم في هذه الصورة ما قدَّمته من أن الصفقة اشتملت على مال الربا، ولم يتحقق جريان المماثلة، وقد تُعبّدنا بالمماثلةِ. وهذه الطريقة تجري في هذه الصورة جريانَها في الأُولى.
ولو باع مدَّ عجوةٍ ودرهماً بمُد عجوةٍ ودرهمٍ، فالبيع باطل، وسبيل تخريج الفساد على أصل التوزيع أن نقول: الدرهم في هذا الجانب [ثلثُ ما في هذا الجانب] (3) مثلاً، فنقابل ثلُثَ درهم وثلُثَ مدٍّ، ويعود التفريع إلى بيع ثلث درهم وثلث مد بدرهم، ولو وضع البيع كذلك أول مرّة، لكان هذا بمثابة بيع درهم ومد بمدين؛ فإنه
__________
(1) ر. إيثار الإنصاف: 288، 289، فتح القدير: 7/144.
(2) في هامش الأصل تعليق بخط مغاير، يقول: من يحفظ يصل إلى تحكم أبي حنيفة.
(3) ما بين المعقفين سقط من الأصل.(5/78)
قد اتحد الجنس في أحد الشقَّين، واختلف ما في الشق الثاني، وما اعتمدتُه من الاستبهام يجري في هذه الصورة، كما تقرر من غير حاجةٍ إلى فَضْلِ بيان.
فهذه صُورُ الوفاقِ في التحريم مع التردّد في التعليل.
2959- ونحن نذكر الآن صُوَراً اختلف فيها الأصحابُ، فننقلها، ونذكرُ الخلاف فيها، ثم نذكر ضبطَها بالتعليل.
فممَّا اشتهر الخلافُ فيه أنه إذا باع خمسةَ دراهم مكسرة، وخمسةً صحاحاً بخمسة مكسرةٍ، وخمسةٍ صحاحٍ، أو باع مدَّ عجوةٍ وصَيْحانيَّ (1) ، بمدّ عجوة وصيحاني.
وذكر صاحب التقريب الخلاف فيه إذا باع خمسةً مكسرة وخمسةً صحاحاً بعشرة صحاح، وتعرض في توجيه الصحة لأمرٍ، وهو أن مُخرج الصحاح مسامحٌ بالصفة في الخمسة المقابلة بالمكسرة، والتفاوت في الصفة لا يضر. ولو باع خمسة مكسرة وخمسة صحاحاً بعشرة مكسرة، قد ذكر هو الخلافَ في هذه الصورة أيضاًً. وقال في توجيه الصحة: من أخرج الخمسة الصحاح مسامحٌ بالصفَةِ في مقابلة الخمسة المكسرة.
وكان شيخي يختار الفسادَ في هذه الصور كلها، جرياً على أصل التوزيع، فإنا نقول: الخمسةُ المكسَّرة ثلثُ ما في هذا الجانب مثلاً، فتقابل [ثلث] (2) ما في الجانب الثاني، فيؤدي [إلى] (3) التفاضل المحقق، والتوزيع في أصلهِ باطل عندي.
وهو في هذه الصورة نهاية في الفساد؛ فإن الصفقة إذا انطوت على عشرة من جانب، نصفها مكسّر، وعلى عشرة على هذا الوجه من الجانب الثاني، فتكلف التوزيع في هذا غلوّ، واشتغالٌ بجلب التفاضل على تكلف، وقد صارت المماثلةُ محسوسةً بين الجملتين. وهذا ما تُعبدنا به، ثم [هذا] على (4) وضوحه في المعنى يعتضد بما
__________
(1) الصَّيْحاني: تمرٌ معروف بالمدينة (مصباح) .
(2) مزيدة من (هـ 2) .
(3) ساقطة من الأصل.
(4) في الأصل: "وهي وضوحه"، وفي (هـ) : "وهي على وضوحه" وهذا التصرّف في العبارة من المحقق.(5/79)
يقرب ادّعاءُ الوفاق فيه، فما زال الناس يبيعون المكسرة بالصحاح. والمكسرةُ لو قسمت، لكان فيها قِطع كبار وصغار، والقيمةُ تتفاوت في ذلك تفاوتاً ظاهراً. ثم لم يشترط أحدٌ تساوي صفة القطاع، فقد خرجت هذه المسائل على ما ذكرته أولاً، فمن رَاعى التوزيعَ، أفسدَ البيع، ومن تعلق بما ذكرناه، حكم بالصحة، لتحقق تماثل الجملتين.
2960- والذي يحيك في الصدر نصُّ (1) الشافعي؛ فإنه قال: "لو راطل مائةَ دينار عُتُق، ومائة مروانيَّة بمائتي دينار وسط، فالبيع باطل" وقد اتحد الجنس في شقّي العقد، وقياسي يقتضي القطعَ بصحة العقد، ولم أر أحداً من الأئمة يشير إلى خلافٍ في صورة النص. واللفظ الذي ذكرته لصاحب التقريب (2) في توجيه الصحةِ إذا باع خمسةً مكسرةً وخمسة صحاحاً بعشرة صحاح، حيث قال: "صاحب العشرة الصحاح مسامحٌ بالصّفة". فيه احتراز من صُورة النص؛ فإن الشافعيَّ فرض مسألتَه في العُتُق وهي نفيسة، والمَرْوانيَّة وهي دونها، ثمَّ فرضَ من الجانب الثاني مائتي دينارٍ وسطاً حتى لا تتحقق معنَى المسامَحةِ، وإذا لم يتحقق ذلك، اقتضى العقدُ من الشقين طلب المغابنة، وهذا يقتضي التوزيعَ، وهو يُفضي إلى التفاضل لا محالةَ، لو ثبت التوزيع.
فهذا حكم المذهب تَلقِّياً من النصِ، وتصرُّف الأئمة.
وما ذكرتُه في هذه الصورة من التصحيح رأيٌ رأيتُه وهو خارج عن مذهب الشافعي وأصحابهِ.
ومما لا يخفى دركه أنه لو باع عشرةً مكسّرة بعشرة صحاحٍ، فالبيع صحيح؛ إذ لم يتحقق اختلاف جنس، ولا اختلافُ نوعٍ في واحد من الشقين.
__________
(1) ر. المختصر: 2/154. وفي نقل إمام الحرمين نوعُ تصرّف، فنص الشافعي هو: "لو راطل مائة دينار عُتُق مروانيه، ومائة دينار من ضرب مكروه، بمائتي دينارٍ من ضرب وسط، خير من المكروه، ودون المروانية - لم يجز" ا. هـ بنصه.
(2) صاحب التقريب: القفال بن الإمام أبي بكر القفال الكبير. وقد سبقت ترجمتهما.(5/80)
فصل
فيما أثّرتِ النار فيه
2961- هذا في وضعه كالقولِ في بيع الشيء في غير حال كماله، ولكنا أفردناه لغائلةٍ فيه. فنقول: بيع الدّبس (1) بالدّبس ممتنع باتفاق الأصحاب؛ والسببُ فيه أن النار قد أثرت فيه تأثيراً بيّناً، وأثر النار يتفاوتُ في التعقيد تفاوتاً ظاهراً؛ فإن ألسنة النار في اضطرابها تختلف حتى يُرى حِسّاً اختلاف الأثر فيما يحويه المرجل الواحدُ، وإذا كان كذلكَ، فالدِّبس قد كان عصيراً، والعصير على كمالٍ، إذ يجوز بيع العصير بالعصير، وإذا نظرنا إلى مقدار من الدّبس يقابله مثله، فلا نَدْري كم في أحدهما من أجزاء العصير قد تعقَد، وكم في الثاني منه؛ فكان هذا خارجاً [على] (2) منعنا بيعَ الدقيق بالدقيق، نظراً إلى توقع تفاوتٍ في كمالٍ سبقَ للحب، فهذا ما عليه التعويل.
ولو قيلَ: قد يخالف مكيالٌ من الدبس مكيالاً في الوزن لتفاوتٍ في التعقد، لكان كذلك، ولكن لا معولَ عليه؛ فإن المعقَّد يباع وزناً، فالتعويل على ما قدمته [من] (3) ملاحظة كمال العصير. فهذا بيانُ قاعدة الفصل.
2962- ولو مِيزَ (4) شيءٌ من شيءٍ من غير تعقيدٍ، لم يضرّ، كالشمع يُميَّز بالشمس عن العسل، ثم يباع العسل بمثله، فيجوز، ولا امتناع فيه. ولو مِيزَ الشمع بالنار، ووقع الاختصار على قدر الحاجةِ في التمييز، ففيه اختلاف: من أئمتنا من قال: هو بمثابة التمييز بالشمس، ومنهم من منع؛ لأن النار أعظم وقعاً من الشمس، وهي تؤثر آثاراً متفاوتة في مقدار زمان التمييز.
__________
(1) الدِّبس: عصارة الرطب.
(2) في الأصل: عن.
(3) في الأصل: بين.
(4) ميز: وزان بيع، من مازَه: فصله عن غيره. (معجم) .(5/81)
وظهر اختلاف الأئمة في بيع السكر بالسّكر، والفانيذ بالفانيذ (1) ، فمنعه بعضهم واعتمد أن تأثير النار ظاهر، وهو فوق التأثير في الدِّبس. وقالَ بَعضُهم: يصح؛ فإن تأثير النار قريب، والانعقاد من طباع السكر، لا من أثر النار، وأجزاءُ السكر لا تتفاوت.
فإن قيل: إذا صُفِّي العسلُ بشمس الحجازِ، فقد يكون أثر الشمس في تلك البلاد بالغاً مبلغ النار؛ فإنا نرى شرائح اللحم تُعرض على رمضاء الحجاز، فتنش نشَيشَها على الجمر. قلنا: هذا فيه احتمال، والأظهر جواز البيع؛ فإن أثر الشمس فيما أظن لا يتفاوت، وإنما يتفاوت أثر النار؛ لاضطرابها، وقربها وبُعدها من المرجل.
والتعويل على تفاوت الأثر، بدليل أنه لو أُغلي ماءٌ بالنار، أو خَلٌّ ثقيف (2) ، لم يمتنع بيع بعضه بالبعض؛ فإن النار لا تؤثر في هذه الأجناس بتعقيدٍ، حتى يفرضَ فيه التفاوت، فتزيل بعضَ الأجزاء، وتُبقي الباقي على استواءٍ، وهذا الذي ذكرته جارٍ في كل ما ينعقدُ.
فصل
معقود في الألبان والأدهان والخلول
2963- والغرض بيان اختلافها وتجانسها، فنقول: أدقّةُ الحبوب المختلفة الأجناس مختلفة، بلا خلاف، واختلف قولُ الشافعي في لحوم الحيواناتِ المختلفة، فقالَ في قولٍ: هي مختلفة؛ فإنها أجزاءُ أصولٍ مختلفةٍ، وقال في قول: هي جنسٌ واحد؛ لأنها اشتركت في الاسم، عند ابتداءِ دخولها في الربا، ولا ننظر إلى اختلاف أصولها؛ فإنها لم تكن مالَ ربا، والغرض من اختلاف الجنس واتحاده أمرُ الربا، وسيأتي القولان في بابه إن شاء اللهُ تعالى.
__________
(1) الفانيذ: نوع من الحلوى، يعمل من (القَنْد) والنشا. والقند: ما يعمل منه السكر، فالسكر من القند كالسمن من الزبد. (المصباح) .
(2) خل ثقيف: شديد الحموضة، من ثقف الخل اشتدت حموضته، وصار حرّيفاً لاذعاً فهو ثقيف. (المعجم) .(5/82)
فأمَّا الأَدْهان والخلول إذا اختلفَتْ أجناس أصولها، ففيها طريقان: الطريقة المرضيّة - أنها مختلفة الأجناس؛ فإن أصولها مختلفة، وهي أموال الربا (1) ، وليست كالحيوانات إذا اختلفت أصولها؛ فإن لحومها أجزاء أصولٍ لا ربا فيها.
ومن أئمتنا من يخرجها على القولين المذكورين في اللحمان، من حيث إنها تشترك في الاسم الخاص، ولا تتميز إلا بالإضافة كاللحوم، ولا يتم غرض هذا القائل إلا بفرق بينها وبين الأدِقّة. فنقول: الدقيق عين أجزاء الحبّ ولكنَّها مجموعة ففرقت، والدّهن المعتصرُ وإن كان (2) في أصله، ولكنّهُ في ظن الناس كالشيء المحصَّل جديداً. والوجه هو الطريقة الأولى.
وأمَّا الألبان، فالظاهر أنها كاللحوم، فنطرد فيها القولين؛ فإنها عصارة اللحوم جرت مَجراها.
ومن أصحابنا من قطع بالاختلاف، وطلب فرقاً بينها وبين اللحوم، فقال: اللحوم في أصولها ليست أموال الربا، والألبان يجري فيها الربا قبل انفصالها من أصولها، ويمتنع بيعُ شاة في ضرعها لبن بشاة في ضرعها لبن، وهذا الفرق رَديء؛ فإن الألبان في الضروع ألبان إطلاقاً واسماًً، فقد اشتركت في الاسم الخاص من أول حصولها، وهذا معتمد القضاءِ باتحاد جنس اللحوم، فلا فقه في إجراء الربا فيها في الضروع، بعد القطع باختلاف أصولها.
فرع:
2964- اختلف الأئمة في السكر والفانيذ: فمنهم من قال: هما جنس واحد، وهذا بعيد. ومنهم من قال: هما جنسان؛ فإن قصبهما مختلف، وليس الفانيذ عَكَرَ السكر، فاختلف اسمُهما وصفاتهما، وهذا متلقَّى الاختلافِ. وأما السكر الأحمرُ الذي يسمى القوالبَ فهو عَكَرُ السكر الأبيض، وهو من قصبه، وفيه مع ذلك تردد، من حيث إنه يُخالفُ صفةَ السكر الأبيض مخالفةً ظاهرةً، وقد يشتمل أصلٌ واحد على مختَلِفات؛ فإن اللبن جنس واحد، ثم المخيض منه يخالف السمن، كما
__________
(1) كذا في النسختين، ولعلها: أموال ربا.
(2) كان هنا تامة. وإلا كان في الكلام سقط.(5/83)
سنذكره. ولعل الأظهر أنه من جنس السكر.
وذكر شيخي وجهين في عصير العنب وخلِّه: أحدهما - أنه جنسٌ. ولكن حالت صفة العصير، فكان ذلك كاللبن الحليب مع القارص. والثاني - أنهما جنسان، وهو الظاهر عندي؛ لإفراط التفاوت في الاسم، والصفة، والمقصود. والشيء لا يكون مأكولاً، فلا يجري فيه الربا، ثم تحول صفته، فيصير مأكولاً؛ ويدخل في حكم الربا. فإذا كان تحوُّل الصفات يؤثر هذا الأثر، جاز أن يؤثِّر في اختلاف الأجناسِ.
وكُسب السمسم مخالفٌ جنسَ دهنه وفاقاً، كما يُخالف المخيضُ السمنَ. ولو اعتُصر من اللحم ماؤُه، وبقي من اللحم ما لا ينعصر بفعلنا، فالكلُّ جنسٌ واحد، وليس كالدُّهن والكُسب؛ فإنا نعلم أن في السمسم دهناً وثُقْلاً في الخلقة، واللحم كلُّه في الخلقة شيءٌ واحدٌ، والبلحُ مع الرطب والتمر، والحُصرم مع العنب، في معنى العصير مع الخل عندي.
وحكى العراقيون عن ابن أبي هريرة أنه منع بيع الشَّيْرج بالشَّيْرج متماثلاً، وعلل بأن دُهن السمسم لا يتأتى استخراجُه إلا بالملح والماء، فهو على تقديره مختلِفٌ.
وسنذكر منع بيع المختلِط بمثله، ثم خصَّص هذا المنعَ بدهن السمسم دون غيره من الأدهان. حكَوْا هذا عنه، وزيّفوه، وقالوا: الماءُ لا يُخالطُ الدُّهن، والملحُ يبقى مع الكُسبِ، ولو كان في الشَّيْرج، لأُدركَ طعمه، ثم تخصيص هذا بالشَّيرج لا معنى له.
فصل
في المختلِطات
2965- نقول: كل مختلِطٍ بغيره من أموال الربا بِيع بمثله، فالبيع باطل، كالسكَّر المختلط ببعض اللُّبوبِ إذا بيع بمثله، وبطلان البيع يُخرَّجُ على القاعدة الممهدة في بيع مُدِّ عجوة ودرهم بمد عجوة ودرهم.
وبيع اللبن باللبن جائز وفاقاً؛ فإن قيل: اللبن مشتمل على السمن والمخيض،(5/84)
وهما جنسان مختلفان، قلنا: اللبن يُعدُّ جنساً واحداً، وليس يَبين فيه اجتماع أخلاطٍ، ولو سلكنا هذا المسلكَ، لمنَعنا بيع السمسم بمثله، لاشتماله على الثُّقل والدُّهن، ولقُلنا: لا يجوز بيع التمر بالتمر؛ لاشتماله على المطعوم والنَّوى.
واتفق الأصحاب على منع بيع الشَّهد (1) بالشهد، وعللوا بأنه شمع وعسل. وأوقع عبارة في الفرق بين الشهدِ واللبن أن الشمع غيرُ مخامر للعسل في أصله؛ فإن النحلَ ينسِج البيوت من الشمع المحض، ثم يُلقي في خَللَهِ العسلَ المحضَ، فالعسل متميّز في الأصل، ثم من يشتارُ (2) العسلَ يخلطه بالشمع بعضَ الخلط بالتعاطي والضَّغط، وليس اللبن كذلكَ.
فإن قيل: قد ذكرتم أن اللبن في حكم جنسٍ واحد، لا اختلاطَ فيهِ، فجوّزوا بيعَ اللبن بالسمن بناء على أن اللبن جنسٌ واحد. قلنا: هذا فيه بعض الغموض من طريق التعليل، ولكنه متفق عليه.
وفي معناه بيعُ السمسم بالشَيْرج، مع تجويز بيع السمسم بالسمسم، وأقصى الممكن فيه أن اللبن إذا قوبل بالسمن، فلا يمكن أن يُجعل مخالفاًً للسمن؛ فإنّ اللبن إذا مُخض يُجمع منه السمن، فإذا لم يكن مخالفاًً للسمن، فإنما يُجانسُه بما فيه من السمن، لا بصورته وطعمه؛ فإن صورته تُخالف صورة السمن، وإذا اعتبرنا السمنَ لما ذكرناه، انتظم منه أنه بيعُ سمنٍ بسمنٍ ومخيض، وأما بيع اللبن باللبن، فيعتمد تجانس اللبن في صفته الناجزة، ولا ضرورة تُحوِج إلى تقدير تفريق الأجزاء، فافهموا ذلك.
فإن قيل: ذكرتم أن منع بيع الشهد بالشهد معلّلٌ بأنه بيعُ شمع وعسل، ثم حققتم ذلك بتميّز العسل في الخلقة عن الشمع، والنوى في الفطرة متميز عن المطعوم في التمر؟ قلنا: الأمر كذلك، ولكن صلاح التمر في ادّخاره في بقاء النوى فيه، فاحتمل ذلك هذه الضرورةَ، وصلاح العسل في تصفيته. ويمكن أن يقال: الشمعُ في العسل بمثابة العظم في اللحم.
__________
(1) الشهد: بفتح الشين وضمها. (لغتان) (المصباح) .
(2) يشتار العسل أي يجنيه، من قولهم: شُرتُ العسلَ أشوره شَوْراً من باب (قال) إذا جنيتُه وأخرجته من خليته. (المعجم) .(5/85)
فإن قيل: إذا قلنا: الألبان جنسٌ واحد، فلا يجوز بيعُ لبن البقر بلبن الإبل متفاضلاً، فلو بيع سمن البقر بلبن الإبل، فكيف حكمه؟ وليس في لبن الإبل سمنٌ يتميّز بالمخض والعلاجِ؟ قُلنا: الظاهر أنا لا نجعل لبن الإبل مشتملاً على سمن تقديراً، حتى يقال: هو بمثابة سمن البقر بلبن البقر، ثم إذا كان كذلكَ، فوَراءه احتمالٌ في أن سمن البقر هل يخالف جنسَ لبن الإبل، والتفريع على تجانس الألبان؟ فالظاهر أنه خلافه؛ فيجوز بيعه به متفاضلاً؛ والسبب فيه أنا حكمنا بتجانس الألبان، لاجتماعها في الاسم الخاص، وقد زال هذا المعنى، ولم نُقدّر في لبن الإبل سمناً.
والعلم عند الله.
فهذا تمهيد القاعدة في المختلطات.
2966- ونحن نبني عليها الآن مسائل في بيع الخلول بعضِها ببعضٍ.
فنقول (1) : بيع خل العنب بخل العنب، ولا ماء في واحدٍ منهما جائزٌ، مع رعايةِ التماثل. وبيع خل العنبِ بخل الزبيب ممتنعٌ؛ لمكان الماء في خل الزبيب. وعصيرُ الزبيب وخلُّه يجانس عصيرَ العنب وخلَّه. وبيع خل الزبيب بخل الزبيب ممتنعٌ، لتجانُس الخلَّين، واشتمالِ كل واحد منهما على الماء، فهو من فروع مُد عجوة. وكذلك يمتنع بيع خل التمر بخل التمر، فأما بيع خل التمر بخل العنب فيخرج على اختلاف القول في تجانس الخلول. فإن جرينا على الصحيح، وقلنا: هما جنسان، فالبيع صحيح، فإن الخلَّين جنسان، وليس في خل العنبِ ماءٌ، حتى يفرض تقابل الماءين. وإن قلنا: هما جنس واحد، فيمتنع البيع؛ لأنه بيع خل وماء بخل صرف يجانسه، فكان كبيع خل الزبيب بخل العنب. وأما بيع خل التمر بخل الزبيب، فيخرج على قول التجانس. فإن قلنا: هما جنس واحد، فالبيع ممتنع بما يمتنع به بيع خل التمر بخل التمر، وإن قلنا: هما جنسان، انبنى الأمر على أن الماء هل يجري فيه الربا؟ فإن قلنا: لا ربا فيه، صح العقد. وإن قلنا: فيه الربا، منع الأصحاب البيعَ؛
__________
(1) في النسختين: ونقول. (والفاء) تصرّف من المحقق.(5/86)
لجهالة مقدار الماء أولاً، ثم للجمع بينه وبين غيره في الشقين وفي الماء وكونه غيرَ مقصودٍ إشكالٌ (1) سنشرحه في باب الألبان.
فهذا تفصيل بيع الخلول.
فصل
في بيع الألبان وما يُتخذ منها
2967- لا خلاف في جواز بيع اللبن باللبن، وهذا حالُ كمالٍ فيه، وليس اللبن في ذلك كالرطب؛ فإن الرطب كمالُه عُرفاً في جَفافه المنتظر، واللبن يستعمل أكثره لبناً كذلك، وما يُستعمل من الرطب يُعدُّ تفكهاً بعُجَالةٍ من جنس. والمقصودُ الأظهرُ منه اقتناؤه قوتاً، وذلك بأن يجفف ويُدَّخر في المخازن، ويقتات على طوال السنة.
ولا يجوز بيع اللبن بشيء يُتخذ منه، لما قررتُه في فصل المختلطات، فينبغي أن يُعلم أن اللبن مشتمل على مخيض وسمن، ثم يُتَّخذ من المخيض إذا مِيز الأَقِطُ والمصل (2) ، والجُبن يتخذ من اللبن كما هو، ثم إذا مِيز السمن، وبقي المخيض، فلا خلاف أن المخيض والسمنَ جنسان مختلفان، لتباين الصفات، واختلاف الاسم والغرض، ومن مقصود الفصل ما تقدّمَ من [أن] (3) اللبن إذا قُوبل باللبن، كان بمثابة جنسٍ واحد يقابله مثله، كالسمسم يباع بمثله، ولا ينظر إلى اشتمال اللبن على السمن وغيرِه. وإذا قُوبل اللبن بالسمن، أو بالمخيض، لم يصح العقد، وكان كبيع السمسم بدُهنه.
2968- وجُملة ما سنذكره من مسائل الفصلِ يخرج على هذه القواعدِ، فاللبن يباع بمثله، والرائب الذي خَثُرَ بنفسهِ من غير نارٍ يباع باللبن الحليب، ويُباع بمثله.
__________
(1) في الأصل: إشكال سنشرحها في باب الألبان، وفي (هـ) : إشكال ينتشر كما في فصل الألبان.
(2) المصل: وزان فلْس، عصارة الأَقِط، وهو ماؤه الذي يعصر منه حين يُطبخ، قاله ابن السكيت. (المصباح) .
(3) مزيدة من (هـ 2) .(5/87)
فإن قيلَ: إذا خَثُر الشيءُ، كان أثقلَ، والذي يحويه المكيال من الشيء الخاثر يزيد على الرقيق من جنسه بالوزن زيادةً ظاهرةَ، فما الوجه في ذلك؟
قلنا: منع بيع الدبس بالدبس غير مبني على التفاوت في الوزن مع التساوي في المكيال؛ فإنا لو اعتبرنا ذلك لجوَّزنا بيع الدبس بالدبس وزناً، إذا كان يوزن. ولكنا اعتمدنا في ذلك خروجَ الدبس عن حال الكمال، ولا ندري كم في كل دبس من أجزاء العصير.
وأما الرائب الخاثر، فقد قطع الأصحاب بجواز بيعه باللبن، وجواز بيع بعضه بالبعض، ويتَّجهُ في بيع بعضه بالبعض أن يقال: الانعقادُ جرى في اللبن على تساوٍ، ولا يربو في الإناء إذا انعقد رائباً، ولا ينقص؛ فإنه طبيعة في نفس اللبن عقَّادة. وليس من جهة ذهاب جزءٍ وبقاء جزءٍ.
فأما بيع الخاثر باللبن، فإن كان يوزن، فيظهر تجويزه، وإن كان يكال، فبيعُ اللبن الحليب بالرائب الخاثر كيلاً فيه احتمال ظاهر في المنع، ووجهُ التجويز تشبيهُ الخاثر بالحنطة الصلبةِ العَلِكةِ، تباع بالرخوة. وتحقيقهُ فيه أن الرائب لبن خاثر، فكأنه لا يُعدُّ بعيداً عن اللبن الحليب، فيشبهان الحنطة الصُّلبة والرخوة.
وبيعُ المخيض بالمخيض جائز، إذا لم يكن فيهما ماء، ولا في أحدهما. وبيعُ السمن بالسمن جائز، والمخيض والسمن مختلفان؛ فيجوز بيع أحدهما بالثاني متفاضلاً.
واتفق الأئمة على جواز بيع المخيض بالزُّبد، ولا نظرَ إلى ما في الزُّبد من رغوة، وهي إذا مِيزَتْ كانت مخيضاً، ولكن لا مبالاة بذلك القدر؛ فإن المقصود من الزبد السمن.
2969- وقال الأئمة: لو باع حنطةً بشعير، وفي الحنطة حباتُ شعيرِ، صحَّ البيع؛ فإنّ الشعيرَ في الحِنطةِ غيرُ مقصودٍ لمن يبتغي تَملّكَ الحنطة، ولو باع حنطةً بحنطة وفي أحد المكيالين حبّاتُ شعير، فالبيعُ مردودٌ عند الأصحاب؛ من جهة أن المماثلة تزول بين الحنطتين بسبب ذلك القدر من الشعير، والمماثلة معتبرة في بيع(5/88)
الحنطة بالحنطة، والذي ذكرناه في بيع الحنطة بالشعير والمماثلةُ غيرُ معتبرةٍ في مقصود العوضين، [فلنقع] (1) على ذلك. ولهذا لم نمنع بيعَ المخيض بالزُّبد؛ فإن المخيض وما هو مقصود من الزبد مختلفان، لا تعتبر المماثلة بينهما، والرغوة إن ماثلت المخيض، فهي ليست مقصودةً.
والذي يشير إليه كلامُ الأصحاب أن المقدار اليسيرَ من الشعير، وإن كان يفرض متموّلاً، فالأمر كما وصفناه، إذا لم يكن بحيث يُقصد في نفسه. والأصحابُ لما جوزوا بيعَ المخيض بالزبد، لم يفرقوا بين القليل والكثير، وإذا كثُر الزَّبدُ، فالرغوة قد تبلغ مبلغاً يُطلبُ مثله في جنس المخيض، ولكن المرعيَّ في الباب [أن] (2) ما يُميَّزُ من الزَّبدِ في الغالب يُبدّدُ، ولا يُعتنَى بجَمْعه. وإن كثر الزَّبد، فهذا هو المعنيُّ بقول الأصحاب: الرغوةُ غيرُ مقصودة. والشعيرُ إذا قل بالإضافة إلى الحنطة، فلا يقصد تمييزها (3) ليستعملَ شعيراً، فيتعيَّن التَنبه لهذا.
وإذا بَاع الحنطةَ بالحنطة وفي أحد المكيالين من الشعير ما لو مُيّز، لم يَبِن على المكيال، فلا مبالاةَ بهذا أيضاًً. فإذا اتفق جنسُ المطلوب في العوضين، وكان في أحدهما جنس آخر، لو مُيّز لم يَبِن على المكيال، فلاَ مبالاة به. وإن كان يَبِينُ على المكيال، لم يضح البيع؛ لعدم المماثلة في الجنسِ المقصود.
وإن اختلف الجنس في العوضين، وكان (4) في أحدهما ما يُجانس العوض المقابلَ، ولكن لم يكن بحيث يُقصد على حياله، فالبيع صحيح، ولا نظر إلى التموّل تقديراً، ولا إلى التأثير في الكيل. أما التأثير في الكيل، فلا أثر له مع اختلاف جنس العوضين. وأما التموّل، فلم يُعتبر من جهة أنه مفردٌ غيرُ مقصودٍ، وشبّه هذا بأخذ المُحرِم الشعرَ من نفسه، فهو موجب للفدية، ولو قطع من نفسه عضواً عليها شعر، لم يلتزم الفِدية، من حيث لم يجرّد القصدَ إلى إزالة الشعر.
__________
(1) في الأصل: " فليقع " والمثبت من (هـ 2) . والمعنى: فلننتبه لذلك.
(2) مزيدة من (هـ 2) .
(3) تأنيث الضمير على ملاحظة لفظ " حبات الشعير ".
(4) في الأصل: وإن كان.(5/89)
ولو باع حنطة بحنطةٍ، وفي أحد المكيالين تراب لو مِيزَ ظهر نقصُه في المكيال، فالبيع باطل، وكذلك إذا اشتمل المكيالان على التراب، على الحد الذي ذكرناه. فأما إذا كان التراب في أحد المكيالين، فالمفاضلة مستَيْقنةٌ، وإن كان الترابُ فى المكيالين جميعاً، فالمماثلة مجهولة، وكِلا الأمرين يؤثر في صحَّة البيع.
ولو كان التراب منبسطاً على صُبْرةٍ انبساطاً واحداً على تناسب، فبيع صاعٌ منها بصاعٍ، فالمماثلة متحققة، ولكن هذا غيرُ موثوق به؛ فإن الترابَ لا ينبسط على تناسب واحد؛ فإنه ينسلّ من خلل الحبات يطلب التسفل، ولذلك يكثر التراب في أسفل الصُبْرة.
فخرج مما ذكرناه أنه إذا كان يؤثّر الترابُ في المكيال، فلا يجوز بيع حنطةٍ فيها تراب بحنطة فيها تراب، إذا كان بحيث لو مِيز التراب، ظهر نقصانهُ على المكيال، وإن كان لا يظهر، فهو محتمل.
2970- ومن تمام البيان في ذلك، أن النقصان قد لا يبين في المقدار اليسير، ويبين في الكثير، فالمتبع النقصان، فإن كان ما اشتمل عليه العقدُ بحيث لو مِيز التراب منه، لم يبن النقصان - صح العقد. [وإن اشتمل العقدُ] (1) على مقدارٍ لو جُمع ترابه [لملأ] (2) صاعاً، أو آصعاً، فالبيع باطل.
فإن استبعد من لم يُحط بأصل الباب تجويزَ البيع في القليل، ومنعَه في الكثير، لم نبُالِ [به] (3) ، ولزِمْنا الأصلَ المعتمدَ في النفي والإثبات.
ولو باع رجلٌ دنانيرَ هَروِيَّة بمثلها، فالبيع مردود؛ فإن كل شق من الصفقة اشتمل على ورِقٍ وذهب، وبيع الذهب الإبريز بالهروي عينُ الربا، وهو من فروع مد عجوة.
وبيع الذهب الهروي بالورِق باطل، وليس كبيع المخيض بالزبد؛ فإنّ الرغوة في الزبد لا تقصد، والنُّقْرة في الهرويّةِ مقصودة.
__________
(1) زيادة من (هـ 2) .
(2) في الأصل: يملأ.
(3) في الأصل: فيه.(5/90)
2971- ومن فروع الفصل بيع الزُّبد بالزّبد، وفيه وجهان ذكرهما الصيدلاني: أحدُهما - الصحة كبيع اللبن باللبن؛ فإنّ الرغوةَ التي في الزبد مختلطة بالسمن اختلاطاً خِلقياً، وهو أثبث من اختلاط رُكني اللبن، فإن ذلك الاختلاط يميّزه المخض، والرغوة لا تتميّزُ عن الزبد إلا بالنار. والوجه الثاني - أنه لا يصح بيع الزبد بالزبد، كما لا يصح بيع الشهد (1) بالشهد؛ فإنّ صفاتِ السمن لائحة من الزبد، كما يلوح العسل في الشهد، واللبن في مدرك الحس كالجنس الواحد المنبسط، والأَقِط من المخيض (2) ، وكذلك المَصْل.
وأجمع الأصحابُ على منع بيع الأقِط بالأقِط، وذلك أنه إن كان مختلطاً بملح كثيرٍ يظهر له مقدار، فيلتحق بيع بعضهِ بالبعض ببيع المختلط. وإن لم يكن فيه ملح، فهوَ معروض على النار، وللنار فيه تأثير عظيم، فيلتحق القول فيه بالكلام في المنعقد، إذا بيع بعضه ببعض. ولم يفصلوا بين أن يكون عقدُه بالنار، أو بالشمس الحامية، وإذا امتنع بيع الأَقِط بالأقِط، فيمتنع بَيعُه بالمصلِ؛ فإنهما من المخيض، ولا يتفاوتان في الصفات تفاوتاً يختلف الجنس به، ويمتنع بيع المخيض بالأقِط والمَصْل. كما يمتنع بيع العصير بالدبس.
وبيعُ الجبن بالجبن باطل بالاتفاق؛ فإنه مختلط معقود، ولا شك في تفاوت العقد في الجبن، وهذا ظاهر فيه. وبيع الجبن بالأقِط ممتنع، كما يمتنع بيع اللبن بالأقِط.
قال العراقيون: الأقِط، والمخيض، والمَصْل، والجبن، جنسٌ واحد. أما المخيض والأقط والمصل، فكما ذكروه. وأما الجبن ففيه ما يُجانِسُ المخيضَ، وهو كقول القائل: اللبن والأقِط جنسن واحد، [والوجه] (3) أن يقال في اللبن جنس الأقطِ. وذكر شيخي أبو محمد في بيع اللِّبأ باللِّبأ (4) وجهين، وهو في الحقيقة لبن
__________
(1) الشَُّهد بالفتح والضم العسل في شمعه. فإذا فصل من الشمع صار عسلاً.
(2) المخيض: فعيل بمعنى مفعول: مخضت اللبن، فهو مخيض، إذا استخرج الزبد منه.
فالمخيض: اللبن بعد استخراج الزبد منه.
(3) زيادة من (هـ) .
(4) اللبأ مهموز وزان عنب: أول ما تدرّه الحلوب بعد الولادة، قيل أكثره ثلاث حلبات، وأْقله حلبة.(5/91)
معروض على النار في أول الحلْبِ من الدَّرّةِ الأولى، وسبب الاختلاف أن أثر النار قريبٌ في اللِّبَأ وهو مشبه بالسكر في المعقوداتِ، والجبن تناهى عقدُه، فاتفق الأصحاب على منع [بيع بعضه ببعض] (1) .
2972- ومما نتعرضُ له الإنْفَحة (2) والوجه القطع بطهارتها، لإجماع المسلمين على طهارة الجبن، وهو في الغالب لا يخلو عن الإنْفَحة، والذي إليه إشارةُ الأصحاب أن الإنْفَحَة جنسٌ على حيالها، مخالف للبن، وكل ما يتخذ منه، ولستُ أدري أنها من المطعومات وحدها، كالملح حتى تعتبر المماثلةُ في بيع بعضها بالبعض، أم ليست من المطعومات؟
فصل
" ولا خيرَ في شاةٍ في ضَرعها لبن ... إلى آخره " (3) .
2973- بيعُ اللبن الحليب بشاةٍ لبون في ضرعها لبن يقدر على حَلْبه باطلٌ عندنا.
فإذا كنا نُبطل بيع اللحم بالحيوان، كما سيأتي ذلك في بابٍ، فلا يخفى إبطال بيعِ اللبن بشاة في ضرعِها لبن.
وإن كانت الشاة لبوناً، ولم يكن في ضرعها لبنٌ وقتَ البيع، فالبيع صحيح. وإن كان في الضَّرع مقدارٌ نزرٌ لا يُقصَدُ حلب مثله لقلّته، فالبيع صحيح؛ فإنّ مثله ليس مقصوداً، والحيوان مخالف لجنس اللبن، فيلتحق ببيع المخيضِ بالزبد، مع النظر إلى الرغوة.
ولو باع شاةً في ضرعها لبنٌ بشاة في ضرعها لبن، وكان اللبنُ الذي يُقصد مثله
__________
(1) في الأصل: " بيعه ببعض ".
(2) الإنْفَحة: بكسر الهمزة وسكون النون، وفتح الفاء، والحاء مشدّدة، أكثر من تخفيفها، وفي لغة تبدل الهمزة ميماً: منْفحَّة.
(3) ر. المختصر: 2/149. وتمام نصّ الشافعي: " ولا خير في شاةٍ فيها لبن يقدر على حلبه - بلبنٍ؛ من قِبل أن في الشاة لبناً لا أدري كم حصته من اللبن الذي اشتريت به نقداً، وإن كانت نسيئة، فهو أفسد للبيع " (المختصر، بهامش الأم: 2/149) .(5/92)
موجوداً في كل ضرعٍ، فالبيع باطل، وهو بمثابة بيع شاةٍ ولبن [بشاةٍ] (1) ولبن.
وحكى العراقيون عن أبي الطيّب بن سَلَمة من أصحابنا أنه قال: يجوز بيع الشاة اللبون بالشاة اللبون، وإن كان في ضروعهما لبن، ووافق أنه لا يجوز بيع اللبن بشاةٍ في ضرعها لبن، وشبَّه ما جوَّزه وما منعه ببيع السمسم بالسمسم، وهو نظير بيع الشاة اللبون بالشاة اللبون، وبيع دُهن السمسم بالسمسم، وهو نظير بيع [اللبن بالشاة اللبون] (2) التي في ضرعها لبنٌ.
فصل
قال: " وكل ما لم يجز التفاضلُ فيهِ ... إلى آخره " (3) .
اختلف قول الشافعي في أن القسمة بيعٌ أو إفراز حق.
وفي حقيقة القسمة وأحكامها مسائلُ ستأتي في آخر الدعاوى والبيّنات. فلا نلتزم الخوضَ فيها، ونختصر على مقدار غرضنا.
فنقول: ما جاز بيعُ بعضِه ببعضٍ، فالقسمةُ جائزةٌ فيه إذا كان يقبل القسمة، وما امتنع بيعُ بعضِه ببعض من أموال الربا، كالرطب والدقيق ونحوهما، فإن قلنا: القسمةُ ليست بيعاً، فلا يمتنع إجراؤها في هذه الأجناس؛ وإن قلنا: القسمةُ بيعٌ، فهي ممتنعة فيما يمتنع بيع بعضه ببعض، فلا يجوز على هذا القول قسمةُ الرطب والعنب، إذا كان لهما عاقبة التجفيف، وقد ذكرنا في مسائلِ الزكاة تردُّداً في قسمة الثمار إذا قطعناها قبل أوان الجِداد، وسبب التردد أن الأبدال لا مدخل لها في الزكاة، فلو لم تجز القسمة، ولم نميز حقَّ المساكين، لاضطررنا إلى الانتقال إلى الأبدال، فاختلف الأصحابُ على طُرقٍ استقصيناها في موضعها. وكمال البيانِ موقوفٌ على الإحاطة بباب القسّام.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) عبارة الأصل مضطربة هكذا: " بيع الشاة اللبون بالشاة اللبون ... إلخ ".
(3) ر. مختصر المزني: 2/150. وتمام العبارة: " وكل ما لم يجز التفاضل فيه، فالقَسْم فيه كالبيع ".(5/93)
وقد نجز الغرضُ من هذا القول في ربا الفضل، وشَذّ عما ذكرناه فروع قريبةٌ نرسمُها، وبنجازها ينتجز هذا الركن.
فرع:
2974- ذكرنا أن بيع ما لا يكال ولا يوزن من المطعومات، بعضُه ببعض - باطلٌ على القَولِ الجديدِ، كالخيارِ والبطيخ ونحوهما، فلو بيع القثاء بالقثاء وزناً، فالأصح المنعُ. ومن أصحابنا من جوَّز، كما نبهنا عليه فيما تقدم. وهو بعيد.
واتفقت الطرق على منع بيع البيض بالبيض والجوز بالجوز وزناً بوزن؛ من جهة أن المقصود منها في أجوافها، وقشُورُها تتفاوت تفاوتاً ظاهراً، وهذا لا يتحقق في القثاءِ وما في معناه، وذكر صاحب التقريب في البيض والجوز إذا بيع البعض منها بالبعض وزناً وجهين، وهذا بعيد.
فرع:
2975- إذا قُلنا: الماءُ يجري فيه الربا، وهو المذهب، فلو باع رجلٌ داراً فيها بئر ماء بمثلها، وقلنا: الماءُ يجري فيه الربا - قالوا: في هذه الصورة وجهان: أحدُهما - الجواز، وهو الظاهر؛ فإن الماء الكائنَ في البئر ليس مقصوداً، ولا يرتبط به قصد. والثاني المنعُ، وهو القياسُ، ولا ينقدح للوجه الأول وجهٌ في القياس، لكن عليه العمل، ومعتمدُه سقوط القصد إلى الماء الحاصل، وقد ذكرنا في فصلِ الخلولِ أن من باع خلَّ التمر بخل الزبيب، والتفريعُ على اختلاف أجناس الخلول، فالقَولُ في منع البيع يؤول إلى الماء الذي في الخلَّين، وهو مال ربا. فلو قال قائل: الماء ليس مقصوداً في الخلّ، كما أنه ليس مقصوداً في مسألة الدار، قلنا: قَدْرُ الماء مستعملٌ على صفة الخَلِّ حتى كأنه انقلبَ خلاً، فلم يخرج مقدار الماءِ عن كونه مقصوداً، وإن كان لا يقصد ماءً، وهذا لا يتحقق في البئر ومائِها.
وقد نجز منتهى المراد في ذلكَ.
وقد كُنَّا ذكرنا في أول الباب أن حديث عُبادةَ في أصل الربا مشتمل على ربا الفضل، والتعرضِ للتقابض، والنَّساءِ. نعني ما يتعلق من حُكمهِ بالربا. وبَيّنا أن أصلَ الباب ربا الفضل، والتقابضُ وتحريمُ النَّساء متفرعان عليه. ونحن الآن نعقد المذهب فيهما.(5/94)
فصل
2976- قد ذكرنا أن علّة الرّبا في الأشياء الأربعة الطُّعم، ومحل العلة اتحادُ الجنس، وعلةُ الربا في النَّقديْنِ جوهرُ النقدية، والمحل اتحاد الجنس.
ويرجع حاصل القول في النقدين والأشياء الأربعة إلى أن العلَّةَ في تحريم ربا الفضل في الأشياء الستة ما هو مقصودٌ من كل صنف. ثم رأينا جمعَ الأشياء الأربعةِ في مقصود الطُّعم، كما قرَّرناه في (الأساليب) وكتاب (الغُنية) (1) . والنقدان مجتمعان في معنىً واحدٍ، وهو جوهر النقدية.
فإن قيل: لم ذكرتم جوهرَ النقدية؟ قلنا: لأن التبرَ ليس نقداً في عينه، وكذلك الحلي والأواني. والرسول صلى الله عليه وسلم لم يتعرض للدراهم والدنانير، بل ذكر الذهب والورِق، والمقصود منهما مقتصر عليهما، فاقتضى ذلك ذكرَ جوهر النقدية، وهذا يعم المطبوعَ من الورِق والذهب، وغير المطبوع.
فإذا ثبتت علةُ الربا في الأشياء الستة، فباب التقابُض والنَّساء يدخلان تحت ضبط واحدٍ. فنقول:
2977- كلّ علّتين جمعتهما علة واحدة في تحريم ربا الفَضل، فإذا بيعت إحداهما بأخرى نقداً بنقدٍ، اشترط التقابض في المجلس، فلو تفرق المتعاقدان قبل التقابض، بطل العقد. ولا فرق بين أن يختلف الجنس أو يتحد. وإنما يختصّ باتحادِ الجنسِ ربا الفضل. واشتراط التقابض يعتَمد الاجتماعَ في علةِ التحريم، ولا التفات إلى [المحل] (2) ، وهو اتحاد الجنس.
وخصَّص أبو حنيفة (3) اشتراط التقابض بالنقدين، ولا عذر له فيها. وقد طرد رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريمَ ربا الفضل في الأشياء الستةِ عند اتحاد الجنس،
__________
(1) الغنية: أحد كتب إمام الحرمين في علم الخلاف. وكذلك: (الأساليب) .
(2) في الأصل: التحريم.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 75، طريقة الخلاف: 302 مسألة: 125، إيثار الإنصاف: 288، الاختيار: 2/31.(5/95)
ثم قال فيها بجملتها " إذا اختلف الجنسان، فبيعوا كيف شئتم يداً بيد " وتحريم النَّساء، يُنحَى به نحو التقابض، فكل عينين جمعتهما علةٌ واحدة في ربا الفضل، فلا يجوز إسلام أحدهما في الآخر، اتحد الجنس أو اختلفَ، فلا يصح إسلام البُرّ في الشعير، ولا إسلامُ الدراهم في الدنانير. وأما الاجتماعُ في الجنسية فلا وقعَ له عندنا؛ فيجوز إسلام الثوب في جنسه، وإسلام الخشبة في جنسها.
ومنع أبو حنيفة (1) إسلام الشيء في جنسه، وظن أن اتحاد الجنس أحدُ وصفَي العلّة، وهذا عريٌ عن التحصيل، كما قرَّرناه في مصنفات الخِلافِ.
فإذا انعقدَ الأصلان وابتنيا على تحريم ربا الفضل، فنذكرُ بعدهما أن الدراهم والدنانير تتعيّنُ بالتعيين، فإذا عيَّن الرجل دراهمَ في بيعٍ ولزم، لم يملك إبدالها، ولو تلفت قبل القَبض والتسلم، انفسخ العقدُ، ولو أراد مالكها أن يستبدِل عنها، لم يكن له ذلك، كما لو فُرض التعيين في ثوب أو غيره، وخلاف أبي حنيفة (2) في ذلك مشهور.
فإذا تمهّدَ هذا، خُضْنا بعدهُ في فصولٍ من الصرف وتحقيق التقابُض.
فصل
2978- إذا بيعت الدراهم بالدراهم أو بالدنانير، وجرى التعيينُ من الجانبين، فيرتبط العقد بما عُين فيه، ولا بد من التقابض في المجلس. ثم القول في مجلس التقابض، كالقول في مجلسِ الخيارِ، فلَسْنا نعني مكان العقد، وإنما نعني اجتماع المتعاقدَيْن وافتراقَهما، كما تفَصَّل في خيار المجلس بلا فرق، فإذا تفرقا قبلَ القبضِ، انفسخ العقد.
وإن تقابضا، والكلامُ مفروضٌ في التعيين، ثم وجد أحدُهما بما قبضه عيباً، فإن كان رديء الجنس، أو مشوَّشَ النقش، فإذا أراد الردَّ، فله ذلك، وحكم الردّ انفساخُ
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/15 مسألة: 1084، إيثار الإنصاف: 286.
(2) ر. طريقة الخلاف: 354 مسألة: 149، إيثار الإنصاف: 327، الغرة المنيفة: 81.(5/96)
العقدِ، ولا استبدالَ؛ فإن مورد [العقد] (1) معيّن، ولا فرقَ بين أن يجري الردُّ في المجلسِ، أو بعد التفرق.
وإن جرى التعيينُ كما ذكرناه والتقابضُ، ثم بان أن الذي قبضه أحدُهما نحاسٌ، فهذا يُثبت الردَّ، وقد بان أن العقدَ لم يكن عقدَ صرفٍ. ثم لا يخفى حكمُ الرد والفسخ.
والمسألةُ تلتفت على أصلٍ سيأتي، وهو أن من سمَّى جنساً وعيَّنه، ثم تبين أن الذي عيَّنَ ليس من الجنس الذي سمّى، ففي انعقاد العقد خلافٌ سيأتي. وذلك نحو أن يقول: بعتُك هذه النعجةَ، والإشارةُ إلى جحش، فإذا قال: بعتُك هذه الدراهم، فإذا هي فلوس، فالأمر يخرج على الخلاف الذي أشرنا إليه. وإن قال: بعتُك هذا، وكان حسِب المشتري أنه دراهمُ، فأخلف ظنه، فيلتحق هذا بفصول التلبيس، وسنذكرها في باب التصْرِية إن شاء الله.
فهذا إذا جرى العقد على التعيين، وليس هو غرضَ الفصل، وإنما ذكرناه لاستيعاب الأقسام.
2979- ولو وَرد العقدُ على الدراهمِ والدنانيرِ وصفاً بوصف، فهذا جائزٌ أولاً، اتفق عليه أئمتنا، ثم لا بد من التعيين بالقبض في المجلس، ولا يكون هذا من السلم؛ فإن وضعَ السلم على اشتراط تسليم رأس المال في المجلس فحسب، والصرفُ يجوز عقده على الوصفِ، ثم لا بد من التقابض. فإذا وضح ذلك، فلو تواصفا، ثم تقابضا، ثم بان أن ما قبضه أحدُهما ليس على الوصف الذي ذكره، فإذا جرى هذا في كل المقبوض في مجلس العقد، فالخطبُ يسير، فليردّ ما قبضه، وليستبدل عنه ما وصفه، ولا شك أن العقد لا ينفسخ بالرّدّ، وطلب البدلِ؛ فإن العقدَ ما ارتبط بالعين التي قبضها، وإنما ارتبط بموصوف، ثم بانَ أنَّ المقبوضَ ليس ذلك الموصوفَ، فكأن القابضَ لم يقبض، والمجلس بعدُ جامعٌ.
ولو تفرقا، ثم اطلع أحدهما على رداءة فيما قبضه لا يقتضيها الوصف، والقول فيه
__________
(1) في الأصل: العين.(5/97)
إذا كان المقبوض -مع ما بان فيه- من جنس الدراهم والدنانير، فإن رضي به القابض، فلا كلام. كما سيأتي شرحُه فيه إذا قبَض المسلمُ المسلَمَ فيهِ، فوجده دون الوصف.
ولو أراد الردَّ، فله ذلك، ولكن إذا ردّ، فهل ينفسخ العقدُ بردّهِ؟ فعلى قولين: أحدهما - ينفسخ؛ فإنهما تفرّقا، ثم لما ردّ ما قبض، فكأنه لم يقبض في المجلسِ شيئاً، فيتبين انفساخُ العقد؛ من جهة التفرق قبل القبض المستحق.
والقول الثاني - لا ينفسخ العقد؛ فإنهما تقابضا ما لو قنِعا به، أمكن إجراءُ العقدِ عليهِ، فإذا رَام استبدالاً، فلا يرتفع القبض من أصله.
وعبَّر الأئمة عن حقيقة القولين، فقالوا: إذا فُرض ردٌّ على قصد الاستبدال، فنتبين أن القبضَ الذي هو ركن العقد لم يَجْرِ، أم لا [يستدّ] (1) النقض إلى ما تقدَّم من القبض (2) ؟ فعلى قولين. وهذا بمثابة الاختلاف في نظيرٍ لهذا من السَّلم، فلو أسْلَم
__________
(1) في الأصل: "يستند"، وكذا في المجموع تكملة تقي الدين السبكي، والمثبت من (هـ 2) .
وإستد: أي استقام، والمراد هنا مضى وامتد.
(2) هذه العبارة أجهدتنا، وأرهقتنا كثيراً حتى وصلنا إلى ما أثبتناه أخيراً في الصلب، ومعناها على الجملة، كما هو مفهومٌ من السياق: أنه إذا ردّ أحد المتعاقدين -في عقد الصرف- ما قبضه لرداءته؛ قاصداً استبداله، طالباً ما يتحقق فيه الصفة التي تم التعاقد عليها، فهل يقال: نحكم تبيناً أن ما حصل لم يكن قبضاً، وعليه فقد العقد ركنَ القبض؟ أم يقال: لا ينقض القبض الذي حصل، ولا يَرفعُ الردُّ بقصد الاستبدال حكمَ ما حصل من القبض؟
هذا معنى العبارة، كما هو واضح من السياق. ولكن الاضطراب والتصحيف أجهدنا كثيراً، وطوّح بنا بعيداً.
وبيان ذلك: أن عبارة الأصل كانت هكذا: " أم لا يستند النقض إلى ما تقدَّم من القبض " ونسخة (هـ 2) : " أم لا يستدّ النقض إلى تقدم من القبض " [مع خلوها من الإعجام تماما، واحتمال أن تقرأ (البعض) بدل (النقض) وسقط منها كلمة (ما) الموصولة] فرحنا نبحث في كتب المذهب، وبعد لأْي وقعنا على النص كاملاً، نقله تقي الدين السبكي في تكملة المجموع: (10/121) وجاء بالعبارة هكذا: " أم لا يستند البعض إلى ما تقدم من القبض ". وللأسف وقعنا أسرى للثقة التي نوليها لطبعة المجموع القديمة، فاعتمدنا عبارتها، ورحنا نوجهها، فطوحت بنا بعيداً، وأركبتنا تعاسيف، إلى أن انعتقنا من هذه الثقة، ونظرنا إليها بعين النقد، فرأينا الخلل فيها، وأنها صحفت (استدّ) إلى (استند) ، و (النقض) إلى (البعض) ، وعندها استقامت العبارة، وإنما أسهبنا في وصف ذلك لكي يدرك من ينظر في =(5/98)
الرجل في جارية، ثم قبض جارية، فوجدها دون الوصف؛ فإن قنِع (1) بها، فذاك. وإن ردَّهَا، فلا شك أنه يطلب جارية على الوصف المستحق، ولكن المسلَمَ إليه، هل يجب عليه استبراء الجارية التي رُدّت عليه، فعلى قولين مأخوذين من الأصل الذي مهّدناه الآن: فإن جعلنا ردّ الموصوفِ بمثابة ما لو لم يقبض، فيتبين أن ملك المسلم إليه ما زال عن الجارية بالتسليم إلى المسلِم، فلا حاجة إلى الاستبراء، وإن لم نُسند الأمر، فنقول: زال الملك فيها. ثم عاد وانتقض، فيجب الاستبراء.
2980- عدنا إلى تفريع ما ذكرناه في الصرف. فإن قلنا بالاستناد (2) ، فلو جرى الرد بعد التفرُقِ، بان انفساخُ العقدِ، ولم يملك الرادُّ بدلاً، وإن لم نقل بالإسنادِ، فالرّادّ يطلب من المردود عليه بدلَه على الوصف المذكور في العقد.
هذا إذا كان ما قبضه أولاً وأراد رَدّهُ من جنس ما سمّاه.
فأما إذا كان الموصوف دراهمَ والمقبوض زُيوفاً، فإذا وقع التفرق، بطل العقدُ، فإنه تفرّق قبل قبض الموصوف في الصرف.
ولو قال القابض: أقنعُ بما قبضتُه، لم يكن له ذلك، والجهةُ مختلفةٌ، فهو كما لو أسلم في جارية فسُلم إليه غلام، فليس له أن يقنع به.
وسيأتي شرح ذلك في كتاب السلَم.
وما ذكرناه في جميع المقبوض في رداءة الجنس، ومخالفة الجنس نُعيدُه في بعض المقبوض. فنقول: إذا تفرّقا، وقد تقابضا في ظاهر الحال، ثم بان أن بعضَ ما قبضه
__________
= عملنا هذا كيف كانت المعاناة، فيغض الطرفَ عما قد يجده من هناة هنا أو هناك، ويجعل جزاءنا منه دعوة بخير، تنفعنا في مضجعنا وفي أخرانا إن شاء الله رب العالمين.
(1) قنع: من باب سلم سلامة: رضيَ، وقنَع: من باب خضع خضوعاً: سأل. ومنها: " القانع والمعترّ " (المصباح والمختار) .
(2) الاستناد عند الأصوليين هو أن يثبت الحكم في الزمان المتأخر، ويرجع القهقرى حتى يحكمَ بثبوته في الزمان المتقدم، كالمغصوب؛ فإنه يملكه الغاصب بأداء الضمان، مستنداً إلى وقت الغصب.
هذا. وقد مضى بيان أتم لمعنى الاستناد، وغيره، في تعليقات باب النفاس.(5/99)
أحدُهما زيفٌ، فلا شك في انفساخ العقد في ذلك القَدرِ، ويتفرع في الباقي قولا تفريقِ الصفقةِ على ما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وإن تفرقا، ثم كان بعضُ ما قبضه على خلاف الوصف مع اتحاد الجنس، فيخرجُ القولان في ذلك القدرِ الذي هو دون الوصف. فإن قلنا: لو ردّهُ، لانفسخ العقد تَبيُّناً (1) ، فهل ينفسخ في الباقي على قولي تفريق الصفقة؟ [أم لا] (2) ؟ وإن قلنا: لا ينفسخ العقدُ تَبَيُّناً، فليستبدل ذلكَ القدرَ. ولا يتطرقُ إلى هذا تفريقُ الصفقةِ؛ فإن التفريق ينشأ من انقسام حكم العقد ابتداءً، صحةً وفساداً، أو انتهاء فسخاً وإنفاذاً.
وقد يلتحق بما ذكرناه اشتمال الصفقةِ على جنسين من العقود، كالإجارة والبيع. وما ذكرناه من الاستبدال في البعض -حيث انتهى التفريع إليه- ليس من أصول [تفريق] (3) الصفقة في شيء.
فصل
2981- ذكر الشافعي في آخر الباب الصورةَ التي فرضناها في مد عجوةٍ ودرهمٍ، وهي بيع الدنانير المروانيَّة والعُتُق بالدنانير الوسط، وقد قدّمنا تفصيلَ المذهب في هذا الأصل، ثم ذكر بعد ذلك إباحةَ الذريعة التي لا تُناقض أصول الشريعة.
فإذا كان عند الرجل مائةُ درهمٍ صحاح، فأراد أن يحصل له مكانها مائةٌ وعشرون درهماً مكسرةً، فالوجه أن يشتري بالمائة سلعة أو دنانيرَ، ويسعى في إلزام العقدِ بطريقه، ثم يشتري بالسلعة أو بالدنانيرِ المائةَ والعشرين المكسَّرة، ويصح ذلك.
وقصدَ الشافعي بما ذكرهُ الردَّ على مالكٍ (4) ، فإنه يمنع أمثال هذا، واحتج الشافعي
__________
(1) التبين: قريب في معناه من الاستناد الذي شرحناه آنفاً، فهو أن يظهر في الحال أن الحكم كان ثابتاً من قبل في الماضي، بوجود علة الحكم، والشرط كليهما، في الماضي (راجع شرحاً أتم وتمثيلاً للتبيين في حواشي باب النفاس) .
(2) زيادة منا، رعاية للسياق، حيث سقطت من الأصل، وامّحت من (هـ 2) .
(3) مزيدة من (هـ 2) .
(4) ر. القوانين الفقهية: 251، الكافي في فقه أهل المدينة: 304، تهذيب المسالك للفندلاوي: 4/252.(5/100)
عليه بما روي أن عامل خيبرَ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمر جَنيبٍ (1) فقال: " أكُلُّ تمر خيبرَ هكذا؟ قال: لا. ولكن نبيع صاعين من الجَمْعِ بصاع من هذا -والجمع هو الدَّقَلُ وهو تَمر رديء- فقال النبي صلى الله عليه وسلم أَوْه عينُ الربا! لا تفعلوا، ولكن بيعوا الجَمع بالدراهم، واشتروا بالدراهم الجنيبَ " (2) .
ويقال: افتتح أبو حنيفة كتاب الحيل بهذا الخبر.
ولنا في الذرائع التي تتعلق بأمثال هذا والعاداتُ مطردة أو مختلفة كلامٌ سنذكره، إن شاء الله تعالى، في أثناء كتاب البيع.
* * *
__________
(1) الجنيب وزان زبيب: من أجود التمر. والجَمعُ، والدّقل الرديء منه. (المصباح) .
(2) حديث: بيعوا الجمعَ بالدراهم. متفق عليه، من حديث أبي سعيد، وأبي هريرة (البخاري: البيوع، باب إذا أراد بيع تمرٍ بتمرٍ خير منه، ح 2201، 2202، ومسلم: المساقاة، باب بيع الطعام مثلاً بمثل، ح 1593، وانظر التلخيص: 3/19 ح 1140) .(5/101)
بَابُ بيع اللَّحمِ باللَّحْم
2982- اختلف قول الشافعيّ بأن اللُّحمان جنسٌ واحدٌ أو أجناس، وذكر المزني أن الشافعي ذكر القولين، ثم زيّفَ قولَه أنها جنسٌ واحد.
توجيه القولين: من قال: إنهما أصنافٌ رجع إلى العادة؛ فإن الناس لا يعدُّون لحمَ الطائر من جنس لحم البقر، ولا يشكّون في اختلاف أجناس الحيوانات التي هي أصول اللحم، فلتكن اللحوم مختلفةً اختلافَها. ومن قال: إنها جنس واحد، احتج بأنها مشتركةٌ في اسمٍ لا تخصَّص بعده إلا بالإضافة، فكانت جنساً واحداً.
وفيما ذكرناه احترازٌ عن اجتماع المختلفات في اسم الثمار؛ فإن كلّ جنس يَختصُّ وراء اسم الثمار باسم خاصّ من غير إضافة، فيقال: خوخ، وتفّاح، ومشمش.
واللحوم لا تتميّزُ إلا بالإضافة إلى الأصول، فيقال: لحم البقر، ولحم الغنم.
التفريع على القولين:
2983- إن حكمنا بأنهما جنسٌ واحد، فلحوم البرِّيات كلها جنس، ولحوم البحريّاتِ بَعضُها مع بعضٍ جنسٌ، وفي لحوم البرّيَّاتِ مع لحوم البحريَّاتِ على هذا القول وجهان: أحدُهما - أنها جنسٌ واحدٌ؛ طرداً لحكم الاتحاد. والثاني - البريُّ والبحريُّ جنسان، وإن حكمنا باتحاد الجنس في اللُّحمان؛ فإن المعتمدَ في الحُكم بالاتحاد الاجتماعُ تحت الاسم، وهذا لا يتحقق في لحوم البحريّ مع البرّيّ، بدليل أن من حلف لا يأكل اللحم، لم يحنث بلحم الحيتان.
وإن قلنا: اللحوم أجناس، فالبقر جنس ذو أنواع، كالجواميس مع غيرِها، وأنواع الإبل جنس، والضأن مع المعز جنس، والطيور أجناس: فالحمام على اختلاف أنواعها جنس منها: اليمام والقُمْرِي، والدُّبسي، والفَواخت، والقطا، وهي كل ما عَبّ وهَدَر، والبطُّ جنس، والدجاج جنس، والعصافير على اختلاف جثثها وألوانها جنسٌ.(5/102)
والبحريّ مَع البريّ جنسان، والسموك جنس، والحيوانات المائيّة كبقر الماء، وغنم الماء، بالإضافة إلى ما يُسمَّى حيتاناً، على اختلافٍ بين الأصحاب: فمنهم من قال: جَميعُ البحريَّات بعضِها مع بعضٍ جنسٌ واحدٌ، ذو أنواع. ومنهم من قال: الحيتان مع ما لا يُسَمى حوتاً جنسان. ثم هذا القائل يحكم باختلاف ما عدا الحيتان، نظراً إلى البرّيّات، فغنمُ الماء وبقرُه جنسان.
وهذا التردُّد خارج على اختلافِ الأصحاب في أن جميع البحريات لها حكم الحوت، وإن اختلفت صُورُها حتى تحل ميتتُها، أم لا يثبت لها حكم الحوت؟ على ما سيأتي في كتاب الأطعمة إن شاء الله تعالى.
والوحشيات -على قول الاختلافِ- تخالف الأهليَّاتِ. ثم لا يخفى اختلاف أجناس الأهلياتِ، كذلك تختلف أجناس البرّياتِ كالبقر الوحشي؛ فإنها جنس، والظباء جنس. وكان شيخي يتردَّد في الظباء والإبل، وقرارُ جوابه على أنها جنس، كالضأن مع المعز، ولا يتجه غَيرُه.
هذا قَولُنا في النظرِ إلى لحوم الحيوانات بعضها مع بعض.
2984- فأمَّا القول فيما يشتمل عليه حيوان واحدٌ مما لا يعدّ من اللحم عند الإطلاق، ويخصص بأسماءَ من غير إضافةٍ، كالكرِش، والكبد، والمِعى، والطِّحال، والرئة.
فتحصيل القول في هذا يستدعي تقديم رمزٍ إلى أصلٍ في الأَيْمان. فإذا قالَ الرجل: والله لا آكل اللحمَ، فالذي ذهب إليه جماهيرُ الأصحاب، أنه لا يحنث بأكل الكبد، والكرِش، والطَّحال، والمِعَى والرِّئة؛ فإنّ هذه الأشياء لا تسمى لحماً.
وحكى الشيخ أبو علي عن أبي زيد المروزي قولين: أحدُهما - ما ذكرناه، والثاني أنه يحنث؛ فإنّ هذه الأشياء في معنى اللحم. وهذا بعيدٌ، لم أره لغيره، ولم يختلف الأصحابُ في أن من حلف لا يأكل اللحمَ، لم يحنث بأكل الشحم. ولست أعني سَمْنَ (1) اللحم؛ فإنه معدود من اللحم، اتفق عليه من يوثق به. وأما القلب، فقد
__________
(1) في (هـ 2) ، وفي المجموع ناقلاً عن النهاية: 10/219: "سمين".(5/103)
قطع الصيدلاني وغيرُه من المراوزة أنه لحم، وذكر العراقيون أنه كالكبدِ. والذي قالوه محتمل، والكُلية عندي في معنى القلب، والأَلْيةُ (1) لم يعدُّها المحققون من اللحم، ولا من الشحم، وجعلوه مخالفاًً لهُما، وهذا فيه احتمالٌ عندي، فيشبه أن يقال: هو كاللحم السمين يجتمع للضائن (2) على موضع مخصوص.
2985- فإذا ثبت ما ذكرناه من حكم الأَيْمان -واستقصاؤه محال على موضعه- عُدنا إلى غرضنا.
فالطريقةُ المشهورة أنا إذا حكمنا بأن اللحوم أجناس، فهذه الأشياء من الحيوان الواحد أجناسٌ؛ فإنها مختلفة الأسماء والصفات. وإن حكمنا بأن اللحوم جنسٌ واحد، فقد ذَكرنا خلافاً على هذا القول في لحوم البرِّيّات مع البحريّاتِ، ومأخذ قول من يَقول: إنهما جنسان من حكم اليمين؛ فإن من حلف لا يأكل اللحمَ، لم يحنث بأكل الحيتان، فما ذكرناه من الكَرِش وما في معناه يخرج على موجَب اليمين الذي ذكرناه. فكل ما يحنَثُ الحالف بأكله والمحلوف عليه اللحمُ، فهو من جنس اللحم على قولنا باتحاد جنس اللحمان، وكل ما لا يحنَث الحالفُ على اللحم بأكله، فهو خارجٌ على الوجهين، اعتباراً بلحوم الحيتان مع لحوم البرِّيَّات.
فهذه الطريقة المرضيَّة.
وحكى شيخي عن القفال عكْسَ هذا، فقال: إن حكمنا بأن اللُّحمانَ جنسٌ واحدٌ، فالمُسمَّياتُ التي ذكرناها ملحقةٌ باللحم مجانسة له، وليس الحكم بمجانستها للحم بأبعدَ من حكمنا بمجانسة لحم العصفور لحمَ الجزور.
وإن حكمنا بأن اللحمان أجناسٌ، ففي هذه المسمّيات من حيوانٍ واحدٍ وجهان: أحدُهما - أنها ملتحقة باللحوم، لاتحاد الحيوان، فكأن لحم كل حيوان يختلفُ
__________
(1) أَلْيةُ الشاة، قال ابن السكيت، وجماعة: لا تكسر الهمزة، ولا يقال: ليّة، والجمع ألَيات، كسجدة وسَجَدات، والتثنية: أَلْيان بحذف الهاء على غير قياس، وبإثباتها في لغةٍ على القياس. (مصباح) .
(2) الضائن: ذكر الغنم، والأنثى: ضائنة. (مصباح) .(5/104)
أجزاؤُه، والكل لحمٌ. وهذه الطريقةُ رديئةٌ، لم أرها إلا لشيخنا؛ فلا أعدُّها من المذهب.
والعظمُ لا شك أنه ليس بلحمٍ، الصلبُ منه والمُشاشي (1) ، والغضرُوفي (2) ، وكذلك المِخَخَة (3) .
وقطع أئمتُنا بأن الأكارع لحمٌ في اليمين، وهو من الشاة مجانسةٌ لسائر لحمها، ولا اعتراض على الاتفاق. ولعل ذلك من جهة أنه يؤكل أكْلَ اللحم، وإلا فالظاهر عندي أن العصبةَ المفردةَ ليست لحماً. والرؤوس من اللحوم لا شك فيه، وإنما أشرت إلى إشكالٍ في المعنى، من جهة أن الأكارعَ أعصابٌ تحويها الجلود، ولكنها إذا تهرَّت، أُكِلت أكلَ اللحم.
فهذا كلّه ترتيبُ القول في اتحاد الجنس واختلافِه.
2986- فلا يخفى بعد هذا أن كل لحمين حكمنا باختلافِ جنسهما، فلا حرجَ في بيع أحدهما بالآخر، مع حقيقةِ التفاضل، ولا تعبّدَ إلا في التقابضِ وامتناع النَّساء.
وإن حكمنا باتحاد الجنس، أو فرضنا في بيع لحم الغنم يباع البعض منه بالبعضِ، فقد قطع معظمُ الأصحاب بأنهُ لا يجوز بيع اللحم الرَّطْب باللحم الرطب. بل يجب أن يُجفَّفا حتى لا تبقى في اللحم رطوبة، فيباع القديد، ولو كان على القديدِ ملحٌ يظهر له أثرٌ في الوزنِ، لم يجُز بيع البعضِ بالبعض. وحكى بعضُ الأئمة وجهاً أن بيع اللحم الرَّطْب باللَّحمِ الرَّطب جائزٌ، وخرّجوا هذا على بيع الخوخ الرطب بالخوخ الرطب.
وقد ذكرنا، فيه وفي أمثاله خلافاً، ووجه شبه اللحم بما ذكرناه، أن تقديدَ الخوخ قد يلتحق بما لا يعم، واستعماله رطباً أعم. كذلك القول في اللحم. وهذا غريبٌ، وظاهر المذهب ما قدمناه.
وبقيةُ الكلام في الباب التعرضُ للعظم.
__________
(1) المُشَاشَة: رأس العظم اللين الذي يمكن مضغه (معجم) .
(2) الغضروف: العظم اللين الرَّخْص، في أي موضع كان (معجم) .
(3) أمخ العظمُ: صار فيه مخ، والمُخاخة ما خرج من العظم في فم من يمصّه وجمعه مخاخ، ومِخخة. (معجم وقاموس) .(5/105)
2987- لم يختلف أصحابنا أن بيعَ اللحم المنزوعِ العظمِ بلحمٍ يُشابهه في نزع العظم جائز، وليس كنزع النوى من التمر، وقد قدّمت هذا في الجواز مع النزع، وهل يجوز البيع مع العظم؟ اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من لم يُجوّز، وإليه ميل الأكثرين؛ فإن العَظم يُفسد اللحمَ ولا يُصلحُه، وليس كذلك النوى في التمر. ومن أصحابنا من لم يوجب نزعَ العظم الخِلقي (1) ، وهذا مشهور، ولكنهُ مزيف.
ثم إذا جوَّزنا البيعَ مع العظم، فلا يُشترطُ اتحادُ صنفِ اللحمين حتى تتقاربَ العظام، بل يجوزُ بيع الفخذ بالجنبِ، وإن كانت أقدارُ العظام تتفاوتُ، وهذا كتفاوت النوى في التمر.
وعندي: يجب أن يُرعى في هذا نظر؛ فإن العضوَ الذي فيه اللحم لو نحي منه مقدار صالح من اللحم، فالعظم الباقي في العضوِ لا يُحتمل في شراء ذلك العضوِ، فيجبُ أن يقالَ: إذا كان كذلك يمتنعُ بيعُ ذلك العضوِ بعُضو لم يُقطع من لحمه شيء.
وإن قلّ المقدار المقطوع بحيث لا يبالَى به، فلا بأس إذن على الوجه الذي نفرع عليه.
* * *
__________
(1) كذا في الأصل، وفي (هـ 2) : " الخلفي " بالفاء.(5/106)
بَابُ بَيعِ اللحْمِ بالحَيوانِ
روى الشافعي بإسناده عن ابن المسيّبِ أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن بيع اللحم بالحيوان " (1) ومراسيل ابن المسيب مقبولٌ (2) عندَ الشافعي، وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: " أن جزوراً نُحرَتْ على عهد أبي بكر رضي الله عنه فجاء رجل بعنَاقٍ، فقال: أعطوني جزءاً بهذا العَناق، فقال أبو بكر: لا يصلح هذا المبيع " (3) .
[فالمتبع] (4) في الباب الحديث، والقياسُ يقتضي تجويزَ لحم الشاة بالشاة، (5 من جهة أن الحيوان ليس مالَ رباً، فالمتّبعُ الحديثُ إذاً. ثم اتفق الأصحابُ على منع بيع لحم الشاة بالشاةِ 5) .
وخرّجوا بيعَ لحم الشاة بالبقر والبعير، على القولين في تجانس اللُّحمان واختلافهما، وقالوا: إن قضينا بتجانسِها، فالبيع يمتنع، كبيع لحم الشاة بالشاة، وإن حكمنا بأن اللُّحمان مختلفةُ الأجناس، ففي البيع قولان: أقيسُهما الصحّةُ؛ لأن بيع لحم الشاة بلحم البقر جائزٌ متفاضلاً، وإذا منعنا بيعَ لحم الشاة بالشاة، فهو على تقدير الشاة لحماً، فإذا كان لا يمتنع البيع مع مصير الحيوان المقابل للحم لحماً، فكيف يمتنع بيع اللحم بذلك الحيوان.
والقول الثاني - أن البيع ممتنع، لظاهر نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع اللحم بالحيوان.
__________
(1) حديث النهي عن بيع اللحم بالحيوان رواه مالك في الموطأ: 2/655، والشافعي، وأبو داود في المراسيل (ر. التلخيص: 3/2 ح 1144، ومختصر المزني: 2/157) .
(2) كذا في النسختين بتذكير " مقبول ".
(3) حديث ابن عباس رواه الشافعي في الأم، وفي المختصر: 2/157.
(4) زيادة من المحقق اقتضاها السياق.
(5) ما بين القوسين سقط من (هـ 2) .(5/107)
وطرد بعض الأصحاب القولينِ في بيع لحم الشاة بالعبد من جهة أنه بيع اللحم بالحيوان.
2988- والذي يجب التنبه له في مضمون هذا الباب، وأمثالِه أن من الأصول ما يستند إلى الخبر، أو إلى ظاهر القرآن، ولكن القياس يتطرق إليه من أصول الشريعة، فلا يمتنع التصرف في ظاهر القرآن والسنة، بالأقيسة الجليّة إذا كان التأويل منساغاً، لا ينبو نظر المصنف (1) عنه، والشرط في ذلك أن يكون صَدَرُ (2) القياس من غير الأصل الذي فيه ورُود الظاهر، فإن لم يتَّجه قياس من غير مورد الظاهر، لم يجز إزالةُ الظاهر بمعنىً يُستنبط منه، يَضمنُ تخصيصَه، وقصْرَه على بعض المسمَّياتِ، وقد ذكرت هذا على الاستقصاء في كتاب (الأساليب) ، وألحقت فيما مهَّدتُه في ذلك الردَّ على القائلين بالأبدال في الزكوات.
هذا فيما يتطرق إليه المعنى.
فأما ما لا يتطرق إليه معنى مستمرٌ صابرٌ على السَّبْر، فالأصل فيه التعلّقُ بالظاهر، وتنزيلُه منزلةَ النصِّ. ولكن قد يلوح مع هذا مقصودُ الشارع بجهةٍ من الجهات فيتعيّن النظرُ إليه، وهذا له أمثلة: منها أن الله تعالى ذكر الملامسة في قوله (أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ) [النساء: 43] وحملها الشافعي على الجسّ باليد، ثم تردّد نصُّه في لمس المحارم؛ من جهة أن التعليلَ لا جريان له في الأحداث الناقضةِ، وما لا يجري القياس في إثباته، فلا يكاد يجري في نفيه، فمال الشافعي في ذلك إلى اتباع اسم النساء، وأصح قوليه أن الطهارة لا تنتقض بمسهنَّ؛ لأن ذكْر الملامسة المضافة إلى النساء، مع سياق الأحداث، يُشعر بلمس اللواتي يُقصدن باللَّمسِ، فإن لم يتَّجه معنى صحيح، دلَّت القرينةُ على التخصيص.
ومن هذا القبيل قوله صلى الله عليه وسلم: " ليس للقاتل من الميراث شيء " (3)
__________
(1) كذا في النسختين، ولعلها: المنصف.
(2) " صَدَرُ ": أي صدور.
(3) حديث ليس للقاتل ميراث: أخرجه النسائي: كتاب الفرائض، باب توريث القاتل، ح 6368، ورواه ابن ماجه، ومالك في الموطأ، والشافعي، وعبد الرزاق، والبيهقي، كلهم =(5/108)
فالحرمان لا يستدُّ فيه تَعليلٌ كما ذكرنا في الخلاف، وإذا انسد مسلكُ التعليل، اقتضت الحال التعلّق بلفظ الشارعِ، فردَّد الشافعي نصَّه في أن القتل قصاصاً، أو حدّاً، إذا صدرَ من الوارث، فهل يتضمن حرمانَه؟ فوجهُ تعليق الحرمان بكل قتلٍ التعلّقُ بالظاهر، مع حسمِ التعليل، ووجه إثبات الإرث التطلعُ على مقصود الشارع، وليس يخفى أن مقصودَهُ مضادّةُ غرض المستعجل، وهذا لا يتحقق في القتل الحق.
2989- والذي نحن فيه من بيع اللحم بالحيوان خارج على هذا القانون، فمن عمم تعلّقَ بقول الشارع، ومن فصَّل تشوَّف إلى دَركِ مقصودهِ، وهو أن في الحيوان لحماً، فبيعُ الشاة به كبيع الشاة بلحمه. وعن هذا قال مالكٌ (1) : إن قصد من الحيوان اللحمَ، لم يجز بيع اللحم به، وهذا يقربُ من مذهبهِ في اشتراط قصد الشهوة في ملامسة الرجال.
ومن تمسك بظاهر اللفظ، فقد يترتبُ كلامُه، فيقرب بعضُ المراتب ويَبعُد بعضها، وهذا كما ذكرناه في قتلِ المورِّث. فالقتل قصاصاً أقربُ قليلاً، وأما القتل حدّاً سيّما إذا ثبت بإقرارِ من عليه الحدُّ، فاعتقاد جريان الخبر فيه بعيدٌ. ومن هذا القبيل منع بيع اللحم بالعبد، ولو ادّعى العلم في أن هذا ليس مرادَ الشارع، لم يكن بعيداً.
* * *
__________
= عن عمرَ، وفي الباب عن أبي هريرة، وابن عباس (ر. التلخيص: 3/185 ح 1406، 1407، 1408) .
(1) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/539 مسألة 873، عيون المجالس: 3/1445 مسألة 1011.(5/109)
بَابُ ثَمَرِ الحَائِطِ يُبَاعُ أَصلُهُ
2990- صَدَّرَ الشافعي البابَ بما رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من باع نخلاً بعد أن يُؤبر فثَمرتُه للبائع إلا أن يشترط المبتاعُ " (1) وقد ذكرَ الشافعي في هذا الباب تفصيلَ القول في بيع الأشجار وعليها الثمار، وفصّل القول في أنها متى تستتبع الثمارَ ومتى لا تستتبعُها، ثم ذكر في بابٍ آخر بعد هذا تفصيلَ القول في إفراد الثمار في البيع، وبيان تبقيتها وقطعها، وتفصيلَ الأقوال في ذلك.
2991- والأشجار المثمرةُ أقسام، فمنها ما تبدُو ثمارها في أول الأمر كالتين، ومنها ما تطلع ثمارها وهي في سواتر، ثم تزول السواتر أو تُزال، وتبرز الثمار، ومنها ما يتردّدُ الناظر في اعتقاد ظهورها. فأما الأشجار التي تكون ثمارُها بارزةً من أول الفِطرةِ، فإذا بيعت الأشجار وأُطلق تسميتُها من غير تعرضٍ لذكر الثمار، فالثمار تبقى للبائع، ولا تدخل تحت مطلق تسميةِ الأشجار؛ فإنها ليست جزءاً، وقد استقلت بظهورها.
وأما ما يطلعُ مستتراً بساتر كطلع النخل؛ فإنه يكون مستتراً بالكِمام، وأكِمّةُ الطلع غُلفٌ كثيفة تبدو مستطيلةً كآذان الحُمر والطلع في أوسَاطِها فإذا شُقَقت ظهر الطلعُ على العناقيد أبيضَ، وهو أشبه شيء بالرُّز، فإذا أُطلق بيعُ النخلة والطلع مستتر بالكِمام، فمذهب الشافعي أن الثمار تتبعُ مطلقَ تسميةَ الأشجار، ويملكها المشتري.
هذا تأصيل المذهب في الباب، وسيأتي التفصيل الآن.
فأما ما يتردّدُ الاعتقاد في ظهوره، فمن جملته الأشجارُ التي تُبدِي أزهارَها، وهي تنقسم، فمنها ما يحتوي مركَّبُ الأزهارِ وأصلُها على الثمارِ، على هيئةِ خَوخاتٍ
__________
(1) حديث " من باع نخلاً ... " متفق عليه من حديث ابن عمر. (ر. اللؤلؤ والمرجان: 376 ح 991، وانظر أيضاًً التلخيص: 3/65 ح 1212) .(5/110)
صغار، كالمشمش، والخوخ، وما في معناهما. فإذا بيعت هذه الأشجار وعليها أزهارُها، فالثمار في مطلق البيع للمشتري؛ فإنها مستترةٌ استتار الطلع، وفيها مزيدُ معنى، وهو أنهُ لا يعد ثمراً حتى يشتدَّ ويصلبَ، وذلك بعد انتثار الأزهار، وانكشافِها عن الخوخات.
ومن الأزهار ما لا يحتوي على الثمار، ولكنها تطلع والثمرةُ تحتها، كالكمثرى والتفاح، فما كان كذلك، فقد اختلف الأصحابُ فيه: فالذي مال إليه العراقيون أن الثمار لها حكمُ الظهور؛ فلا تتبع الأشجارَ المطلقةَ في البيع. ومن أصحابنا من قال: هي للمشتري؛ لأنها غيرُ منعقدة بعدُ، وإنما انعقادُها بعد انتثار الأزهار، وهذا هو الذي ذكره الصيدلاني.
ومما يتعلق بهذا القسم الكلام في الجَوْز، وقد قال العراقيون: القشرةُ العليا ساترةٌ للجوزِ سَتْرَ الكِمام للطلع، فإذا جَرى بيعُ الشجرة مطلقاًً، فالجوز تابعٌ. وقطع صاحب التقريب بخلاف هذا، واحتجَّ بأن هذه القشور لا تزول في الغالب إلا عند [الأكل] (1) ، وحقّق بما ينبّه على المقصود؛ فقال: القشرة العليا تُعَدُّ من الثمرة، والكِمام تُعدُّ من الشجرة، وإذا برزَتْ منها العناقيد وأقطفت (2) ، قُطفت، وتُركت الأَكِمَّة على الأشجار، تركَ السعف والكرانيف، وقشورُ الجَوْز ليست كذلك. والقُطن ملحقٌ بالنخيل، والمُراد ما يكون شجراً باقياً على مَمرّ السنين، فالقطن يؤخذ ويُتركُ القشرُ على الشجر، كما صوَّرناه في الكِمام. وأما الورد؛ فإنه يتستر بجزء من الشجرِ، يتشقق ذلك الجزءُ وتَبرُز الوردة، فهو كالنخل، وقد تبرز الوردةُ في غبَنِها (3) متضامَّة الأوراقِ، ثم تَتَفتّق، فماذا برزت بجُملتِها، فهي ظاهرةٌ لها حكمُ البروز إذ ذاكَ، فلا تتبع.
فهذا بيانُ الظهورُ والكمونِ في الثمار (4) .
__________
(1) في الأصل: القطف.
(2) أقطفت الثمار حان قطافها.
(3) غَبَنِها: أي مخبئها: اغتبن الشيء خبأه في الغَبَن. (معجم) .
(4) لا يسع المنصف إلا أن يسجل إعجابه بإحاطة أئمتنا بواقع المسألة التي يتكلمون فيها، فهذا =(5/111)
2992- ونرد التفصيل بعد ذلك إلى النخيل، وهي فحولٌ وإناث، والفحول لا تعنى ثمارُها للأكل، ولكنها تُعنَى لتؤخذَ، وتشقق أكِمّةُ الإناث ويُذرُّ فيها طلعُ الفحول، فتربو وتنمو. وقد تشَّققُ الأكِمَّة بأنفُسها. ثم التأبيرُ قد يختلف باختلافِ أنواع النخيل، فيتقدّمُ التأبيرُ في البعضِ، ويتأخر في البعض، ثم هي تتفاوتُ في أوان القطاف، ولم يجر عُرفُ القائمين بتعهد النخيلِ بتأبير جميعها، بل يكتفون بتأبير البعضِ، وقد تنبث رياح الفُحول إلى الجميع فتتأبر. ثم إن اتحد النوعُ تلاحق التأبيرُ على قُربٍ من الزمانِ، وإن اختلفت الأنواع، فقد تختلف أوقات تأبيرها.
فإذا تُصوِّر ما ذكرناه، قلنا: إذا باع الرجل نخيلَ بستانٍ والنوعُ متّحدٌ، وقد أبَّر بعضَها، فالذي لم يؤبَّر ملحقٌ في الحكم بالمؤبَّر، حتى لا يتبعَ الأشجارَ في إطلاق التسمية، فالكامن منها على الصورة التي ذكرناهَا يتبع الظاهرَ، والسببُ فيه أن رعايةَ الظُّهور في الجميع عسرٌ مفْضٍ إلى تتبع كل عنقود.
والقولُ في ذلك يختلفُ إذا كَثُرت النخيل، فعسُرَ التزامُ التفصيل، وإتباعُ الكامنِ الظاهرَ أوجَهُ؛ من جهة أن الكامن إلى الظُهور في أوقات متلاحقة، والأصل استقلال الثمار بأنفسها، وانقطاعُها عن تبعية الأشجار، وظهرَ بذلك وجوب الميل إلى إتباع الكامنِ الظاهرَ.
2993- ثم صور الوفاق فيما ذكرناه والخلاف، تنشأ من معنيين: أحدُهما - اشتمالُ البيع واختصاصُه. والثاني - اختلافُ الأنواع، وتباينُ أوقات التأبير، [لأجلها] (1) .
فإن اشتمل البَيعُ على نخيلٍ، وقد جَرى التأبير في بعضِها والنوعُ متحد، فقد اجتمع الاشتمالُ واتحادُ النوع، فيتبع الكامِنُ الظاهرَ وجهاً واحداً.
__________
= الوصف لأنواع الأشجار والثمار والزهور لا يكون إلا عن رؤية حقيقية ومتابعة لطبيعة هذه البساتين. وبعض نابتة العصر يهمزون أئمتنا ويلمزونهم، ويتشدقون بما يسمّونه فقه الواقع، وهم لا يدرون ما يقولون.
(1) في الأصل: كلها.(5/112)
فإن أَفْرَدَ مالكُ النخيل نوعاً منها بالبيع المطلق، والبستانُ يشتمل على نوع آخر، وقد جرَى التأبيرُ فيما لم يبع، ولم يجرِ في شيء مما باع، فالمبيع مقتَطَعٌ عما لم يبع.
فإذا لم تكن ثمارُ النخيل المبيعةِ مؤبرة، وما كان جرَى التأبير في شيء منها؛ فإنها تتبع أصولَها في مطلق البيع، ولا نظرَ إلى ما جرى من التأبير في النوع الذي لم يُبع، وقد اجتمع في المبيع معنيان: أحدُهما - اختصاص البيع، والثاني - تميُّزُ النوعِ المبيع عن الذي لم يُبع بوجه، يقتضي التفاوتَ في أوقات التأبير، فاقتضى مجموعُ المعنيين تخصيصَ مورد البيع بحُكمه.
وإن اتَّحد نوعُ النخيل في البستانِ، وكان جرى التأبيرُ في بعضِها، فأَفرَدَ بالبيع نخيلاً منها، لم يؤبر شيء منها، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنا نُتبعُ الأثمارَ الأشجارَ المطلقة في البيع، ولا ننظر إلى ما أُبّر؛ فإن المؤبَّر غيرُ مدرج في البيع؛ فلا يلحق البيع (1) منه حكم.
والثاني - أن الثمار كالمؤبّرة، فإنها ستتأبر على القرب، ودخول وقت التأبير عند هذا القائل كالتأبُّر نفسه.
وإن باع نوعين تختلف أوقات التأبّر فيهما، وقد جرى التأبيرُ في أحد النوعين، فهل يثبت للنوع الذي لم يؤبّر حكمُ التأبير، حتى لا تتبعُ الثمارُ الأشجارَ؟ فعلى وجهين: أحدهما - يثبتُ لها حكمُ التأبير؛ إتباعا لما أُبّر؛ فإن البيع مشتمل على النوعين، والجنس واحد، فلا نظر إلى اختلاف النوعين، وقد يفرض تفاوت الأوقات في النوع الواحد بصفاتٍ يختلف النخيل بها مع اتحاد النوع.
فهذا بيان صُور الوفاق والخلاف في ذلك. وسنذكر نظائرَ لهذا في تصوير بدُوّ الزَّهو والصلاح، في الباب المعقود لبيع الثمار وحدَها.
فرع:
2994- الفحول تُطلِع إطلاع الإناث، وتتأبّر على صورة تأبّر الإناث، فإذا لم يكن إلا الفحول، فبيعُها قبل التأبير كبيع الإناث، فتتبع الثمارُ الأشجارَ، هذا هو المذهب الظاهر.
__________
(1) كذا في النسختين، ولعلها: (المبيع) .(5/113)
ومن أصحابنا من قال: ثمار الفحول لا تتبع الأشجارَ إذا أُطلق بيعها، وإن لم تؤبر، فالنظر إلى وجود ثمار الفحول ظاهرة كانت، أو كامنةً؛ فإن المقصود منها طلعُها لتجفَّف وتُذر في شقوق أَكِمّة الإناث، وإذا كان كذلك، فمنتَهى ثمارِها وجودُها، بخلاف ثمارِ الإناث؛ فإنها تُعنى للإرْطاب وظهُورُها في حكم المبدأ للمقاصدِ منها.
ومما يتفرع على ذلك أن البستان إذا اشتمل على الفحول والإناث، وكان ظهر طلع الفحول، فهل يستتبع الإناثَ في حكم التأبير؟ فعلى وجهين: وهما كالوجهين في استتباعِ النوعِ النوعَ وقد مضى.
فرع:
2995- إذا أُبّرت نخيل، فاطلعت بعد تأبيرها نخيل، فما صار إليه ابنُ أبي هُريرة أن التي أَطْلَعت بعد التأبير لا تتبع المؤبرّةَ [وإنما تتبعُ المؤبرةَ فيما] (1) كان طلعها موجوداً عند تأبير ما قد أُبرّ. وقال غيرُه من أصحابنا: إن التي ظهر طلعُها بعد التأبير تتبع التي أُبّرت من قبل على تفصيلِ النّوع والأنواع كما تقدم.
فرع:
2996- الثمرةُ التي لم تؤبَّر إذا أراد مالكُها أن يُفردَها بالبيع فالذي ذهب إليه معظم الأصحاب جوازُ ذلك، وهذا مما تعلق به أصحاب أبي حنيفة (2) إذْ منعوا إتْباعَ الثمارِ النخيلَ، وقالوا: لما جاز إفراد الثمار بالبيع، دَلّ ذلك على استقلالها بنفسها، وحكى العراقيون عن أبي إسحاقَ المروزي أنه منع إفرادَ الثمارِ قبل التأبير في البيع، وقد ذكر صاحب التقريب في ذلك قولَين: وبناهُما على بيع الحنطةِ في سُنبُلها، وهذا منقدح حسن. وسنذكر تفصيلَ القولِ في الزروع، واكتتام الطلع بالكِمام لا ينقص عن اكتتام الحب بالسُّنبل.
فرع:
2997- كل شجرةٍ لا تُعنى أوراقُها، فإذا بيعت، دخلت أوراقُها تحت البيع، وإن كانت ظاهرةً؛ لأنها لا تعد مستقلةً بنفسها، فليُعتقد كونُها تابعةً، وإن كانت لا تبقَى وتنتثر، لا خلاف في ذلكَ.
__________
(1) زيادة من (هـ 2) .
(2) ر. مختصر الطحاوي: 78، اللباب: 2/495، الاختيار: 2/6.(5/114)
ولو كانت الأوراق مقصودةً، كأوراق شجر التُوتِ، فإنها تُقطع لدُودِ القَزّ، فقد قال العراقيون: قال أبو إسحاقَ: الأورَاقُ الباديةُ كالثمار الظاهرةِ، فإذا أطلق بيعُ الأشجار، بقيت الأورَاقُ للبائع، اعتباراً بالثمار الظاهرة. وقال غيرُه من الأصحاب: إنها تتبع الأشجارَ بمطلق التسميةِ، طرداً لما قدّمناه من الأصلِ في أوراق الأشجار، من غير نظر إلى تفاصِيلها.
ولم يختلف علماؤنا في أن شجرة الخِلاَفِ (1) إذا بيعت، دخلت أغصانُها التي تُقطع عادةً، وتُخلَفُ تحت مطلق البيع، فإن تيك الأغصان من جِرْم الشجرة.
فكأنا نتخيَّل مراتبَ مرتَبةً: منها في جرم الشجرة، وهو داخل تحت مطلق البيع؛ فإن اسم الشجرة صريح فيما هو من جرمه، وإن كان يُقطع فيُخلَف.
والمرتبةُ الأخرى الأوراق، وهي تكاد تكون كالجرم في الاعتبار، وإن لم تكن من جِرم الشجرة في الخِلقة؛ من حيث إنها تظهر وتنتثر، ظُهورَ الثمار والأزهار، فهي ملحقة بما هو من جرم الشجرة، إلا إذا كانت بحيث تُقصدُ وتنتَحى، كما تُقصد الثمار، فإن كانت كذلك، ففيها خلاف أبي إسحاق. والجماهيرُ على إلحاقها بجنس الأوراق.
والمرتبةُ الأخرى في الثمار، وليست هي من [جِرم] (2) الأشجار، ولا تُعدُّ تابعةً كالأغصان، فالقول فيها ينقسم إلى الظهور والكُمون، كما سَبقَ تفصيلُه. وكان شيخي أبو محمدٍ يقول: إذا أبَّر الطلعَ وحكمنا ببقائه للبائع، فجِرم الكِمام للمشتري؛ فإنه يُترك على النخلة.
فرع:
2998- ذكرنا أن الكُرسفَ (3) الحجازيّ كالنخلة، فإن أصول الكُرسفِ في الحجاز أشجارٌ تبقى على مكرِّ السنين، ويعتقب القطنُ عليها اعتقابَ الثمار، والقُطن في بلادنا زرعٌ، فلا يجوز بيعُه مع استبقاء الكرسُف؛ فإن أصله ليس باقياً، وسنقرر هذا في الزروعِ، وإنما نبَّهتُ عليهِ الآن حتى لا يلتبس ناجزاً.
__________
(1) الخلاف: شجر الصفصاف.
(2) مزيدة من (هـ 2) .
(3) الكرسف: القطن. والمراد هنا نوع خاص من القطن وصفه الإمام.(5/115)
فصل
قال: "ومعقولٌ إذا كانت الثمرةُ للبائع أن على المشتري تركَها ... إلى آخره" (1)
2999- إذا باع الرجل شجرة وعليها ثمارٌ ظاهرةٌ، والبيع مطلق، فالثمرةُ للبائع، ولا يُجبَر على قطعها قبل أوانها، وحكم البيع اختصاصُ المشتري بملك الشجرة، وبقاء استحقاق التَّبْقية للبائع إلى أوان القطافِ، فبقي للبائع ما كان له من حق التبقية.
وورُود استحقاق المشتري على هذا الوجه على رقبة الشجرة.
وكذلك لو باع الرجلُ ثماراً مُزهيةً على أشجاره، على ما سنصف ذلك في بابه، فالمشتري يُبقي الثمارَ إلى أوان القطع، إذا جرى البيع في حالة الزَّهو.
3000- فإذا تبيّنَ هذا عدنا إلى غرَضِنا من المسألة.
فإذا بقيت الثمرةُ للبائع، وجَرى ملك المشتري على رقبةِ الشجرة، فللبائع أن يسقي الشجرةَ التي باعها، إذا كان السقيُ لا يضرّ بالشجرة، وينفع الثمرةَ.
وليس للبائع أن يكلِّف المشتري السقيَ، لتنمو ثمارُه؛ فإن المشتريَ لم يلتزم تنميةَ الثمار، وإنما عليهِ تركُها إلى أوانِ جِدادها. نعم من الوفاء بتركها أن يمكِّن البائعَ من تنميتِها؛ إذْ لو منعه منه، لفَسدت الثمارُ، وأدَّى هذا إلى اضطراره إلى القَطعِ قبل أوانه، أو إلى فساد الثمارِ، فإذن على المشتري أن يمكنه من السقي.
وإذا باع الثمارَ المزهيةَ فمؤنةُ السقي إلى الجِداد على بائع الثمار، كما سَيأتي ذلك في بابها، والقدْرُ الناجزُ الآن أن السقيَ من تمام التسليم، وكأنه التزمَ تسليمَ الثمار تامَّة، ومن هذا نشأ اختلاف القول في الجوائح ووضعِها، كما سيأتي ذلك في بابها إن شاء اللهُ تعالى.
__________
(1) ر. المختصر: 2/162.(5/116)
3001- فإذا باع الأشجارَ واستبقَى الثمارَ، ولو سقَى الأشجارَ، لتضرَّرت، وتعرَّضت لعلّةٍ تنالُ الأشجارَ من السَّقي، ولو تَركَ السقْيَ، لانتقصت الثمارُ، أو فسَدَت، فالطُرُقُ مضطربةٌ في هذا المقامِ. ونحن نجمع حاصل أقوال الأصحاب.
فمن أئمتنا من يرعَى جانبَ المشتري، مَصيراً إلى أن بائع الشجرة التزمَ تسليم الشجرة على كمالها للمشتري، وكل ما يؤدي [إلى] (1) تنقيصِ الشجرة، فهوَ نقيضُ الوفاء بموجب العقد.
ومن أصحابنا من قال: للبائع أن يسقي إذا كان ينتفع ولا يبالي بتضرر المشتري.
وهذا حكاه العراقيون عن ابن أبي هريرة، ووجهه أنه استحق تبقيةَ الثمار، لا على الفساد. فكأنه استحق تنميتَها، والبيعُ لم يَرِد إلا على هذا الموجَب.
وذكر العراقيون وجهاً ثالثاً عن أبي إسحاقَ المروزي، وذلكَ أنه قالَ: إذا تعارض حقاهما، نُظر، فإن رضي أحدُهما بترك حقِّه، فذاك. وإن تدافَعا وتمانعا، فسخ القاضي العقدَ بينهما.
وحقيقةُ الأوجُه تؤول إلى أن من أصحابنا من يرعى جانبَ المشتري، ومنهم من يرعى جانبَ البائع، ومنهم من لا يقدّم أحدَ الحقَّين على الآخر. ثم من ضرورة استواء الحقين إذا كانا متناقضَين، ولم يكن أحدهما أولى من الثاني، أن يُفسَخ العقدُ بينهما.
3002- ولو كانت الثمار لا تحتاج إلى السقي، بل كانت تتضررُ به، وكانت الأشجار لا تتضرَّرُ بالسقي، فالخلاف يعود على النحو المتقدِّم. فمن أصحابنا من رَاعى جانب المشتري، ومنهم من راعى جانب البائع، ومنهم من لم يُقَدِّم أحدَهُما على الآخر. ثم موجَب ذلك الفسخ، كما ذكرناه.
ومن الصُوَر الملتحقةُ بما ذكرناهُ أن البائع لو أمكنهُ أن يسقي، ولو سقى، لانتفعتِ الشجرةُ والثمرةُ، ولو امتنع من السقي امتصَّتِ الثمارُ رطوبةَ الأشجار، وأضرَّت بها، فإذا كان السقْيُ ممكناً، فالبائع مُجبرٌ من جهة المشتري على أحد الأمرين: إما أن
__________
(1) مزيدة من (هـ 2) .(5/117)
يسقي، وإما أن يقطعَ الثمارَ إذا كان يضُرُّ بقاؤُها.
فلو لم يجد البائع الذي بقيت الثمارُ له ماء، ولو أبقى الثمرةَ، لانتفعت الثمرةُ وتضررت الشجرةُ، فقد ذكر العراقيون في ذلك وجهين: أحدهما - أنه يُجبر على القطع؛ فإنه إنما يملكُ التَّبْقِيَةَ على شرط دفع ضررِها عن الشجرة، فالتبقيةُ إذن مشروطةٌ بما ذكرناه، فإذا تخلف الشرطُ، لم يثبت المشروط.
والوجه الثاني - أن الثمرة تبقى؛ لأنها تنتفع بالتبقيةِ، وإنما على البائع أن لا يترك مجهوداً يقتدر عليه، فإذا انقطع الماءُ، فلا تقصيرَ من البائع، وحقّ التبقيةِ قائمٌ له.
والوجهان يشيران إلى ما قدمناه الآن من أن المراعَى جانبُ المشتري أو جانبُ البائع. ولم يقع التعرضُ لاستواء الحقين، ولا بُدَّ من هذا الوجه، ثم موجَبُ استواءِ الحقين الفسخُ، كما ذكرناه.
[وما ذكرناه] (1) من التردد في قدر حاجةِ الثمرة، فأما ما يزيد على الحاجة، ويضر بالشجرة، فهو ممنوعٌ.
وتمام البيان في هذا أن أهل البصيرة، لو قالوا: الثمرةُ لا تفسد بترك السقيِ، بل تسْلَمُ الثمرةُ من غير سقي [غير] (2) أنها لو سُقيت، لظهرت زيادة عظيمة، والشجر يتضررُ بها، فهذا فيه احتمالٌ عندي، يجوزُ أن يقالَ: يُمنع البائعُ من هذا السَّقْي؛ فإن الزياداتِ في نهايتِها لا تنضبط، فالمرعيُّ الاقتصاد. ويجوز أن يقال: له أن يسقيَ لمكان هذه الزيادة، على مذهب من يرعى جانبَ البائع؛ فإنّ هذه الزيادة تحصلُ بالسقي، ولو ترك السقيَ، لفاتت، ومن يراعي الاقتصادَ في الاحتمال الأول، لم يكتفِ بأن لا تفسدَ الثمرةُ، بل انتقاصُها عن القصد، والمسلك الوسط آفةٌ في القدر المنتقص.
فهذا بيان المذهب في ذلك.
__________
(1) زيادة من (هـ 2) .
(2) ساقطة من الأصل.(5/118)
فصل
قال: " وإن كانت الشجرةُ مما تكونُ فيه الثمرةُ ظاهرةً ... إلى آخره " (1) .
3003- نذكر في هذا الفصل صورتين: إحداهما - لم يذكرها المزني، وبها البدايةُ، فنقول: إذا اشترى رجلٌ ثماراً على الأشجار، ثم لم يقطعها حتى أخرجت الأشجارُ ثماراً زائدة، لم تكن حالةَ البيع، فلا شَك أنها للبائع، وسبيلُ التقسيم أن نقول: ذلك التلاحق والتجدد لا يخلو إما أن يكون في ثمرة تتلاحق غالباً، وإما أن يكون في ثمرة يَنْدُر فيها التلاحق.
فإن اتفقَ في ثمرةٍ لا تتلاحق غالباً، ولكن اتفق فيها التلاحق، فإن أمكن التمييز، فلا إشكالَ، وإن عسُرَ التمييزُ، واختلط الزائدُ المتجدّدُ بالمبيع الذي كان موجوداً، فلا يخلو إما أن يتفق ذلك قبل التخليةِ بين المشتري وبين الثمار، وإما أن يتفق بعد التخليةِ بينه وبينها.
فإن جرى الاختلاطُ قبل التخلية، وعَسُر التمييزُ فنقول: في أصل المسألة قولان: أحدهما - أن البيع ينفسخ، والثاني - لا ينفسخ.
التوجيهُ: من قال بالانفساخ، تعلق بتعذرِ اجتلافِ (2) المبيع، واليأسِ من التمكن منه على موجَب العقدِ، فأشبه ذلك تلفَ المبيع، وسنذكر في باب الخراج أن من باع دُرَّةً، فسقطت من يده في لُجّة البحرِ، وأَيِسَ من إصابتها؛ فإن ذلك ينزلُ منزلة التلف المحقق.
والقول الثاني - أن البيع لا ينفسخ؛ فإن عين المبيع قائمةٌ والتصرف فيها ممكنٌ على الجملة، وليس يتعذر رفعُ المانع، كما سنبيّن في التفريع.
فإذا قلنا: البيع ينفسخ، فلو قال البائع: أنا أسمحُ بحقي وأبذله للمشتري؛ قيل
__________
(1) ر. المختصر: 2/163.
(2) " اجتلاف " بالجيم: من جلفه جلفاً إذا قشره وكشطه، وقلعه واستأصله. (معجم) ، والمراد هنا تعذّر فصل المبيع وقطعه وحده.(5/119)
له: لا أثر لهذا، والتفريع على قول الانفساخ، وهو حكم نافذٌ لا يستدركُ بعد نفوذِه بتقدير بذل، وهذا لا خفاء به. وإن قلنا: البيع لا ينفسخ، فلا شك في ثبوت حق الخيار؛ فإن تعذر التَّسليم بإباق العبد المبيع وغيرِه يثبتُ الخيارَ للمشتري.
فلو قال البائع: أسمح بحقي، فلا تفسخ، فقد قال الأصحاب: على المشتري أن يقبل ذلك، ويمتنع عليه الفسخ، وشبّهوا هذا بمسألة النعل (1) وسنذكرُها في باب الخراج. وتلك المسألةُ ليست خالية عن الخلافِ، وهذه التي نحن فيها أولى بالخلافِ من تلك؛ فإنَّ إلزامَ المشتري تطوُّقَ مِنّةِ البائع فيهِ بُعدٌ، وفي هبة المجهول غوائلُ، وستأتي مسألةٌ في كتاب الصيود يَحارُ فيها نظرُ الفقيهِ، وهي إذا اختلَطت حمامةٌ بحمام برج، فكيف الخلاصُ منها إذا عسُر التمييز؟ فالمسألة الآن مختلَفٌ فيها. فإن أجبرنا المشتري سقط خيارُه، وإن لم نجبره، فهو على تخيره.
وذكر صاحب التقريب قولاً ثالثاً في المسألةِ، وهو: أن العقدَ لا ينفسخ، ولا خيارَ ونجعلُ الاختلاطَ قبلَ القبض، بمثابة الاختلاط بعده. وإذا فُرِض اختلاطُ مِلكَين مع الجهالة في المقدار، فالأمر موقوفٌ إلى البيان إن أمكن، أو المفاصَلة بمُصالحةٍ، أو مخاصمةٍ، تفصل بطريقها.
وهذا قولٌ بعيد؛ فإنّ تعذُّرَ التسليم في القدر المبيع ثابت، ولو لم يطرأ إلا تغيُّر المبيع أوّلاً، وخرُوجه عن التعيّن آخراً، لكان ذلك كافياً في إثبات الخيار.
3004- وكل ما ذكرنا إذا جرى التلاحق والاختلاط قبل التخلية، فأما إذا خلّى البائعُ بين الثمارِ وبين المشتري، فجرى الاختلاطُ، فهذا يُبنَى على أن الثمار لو تلفت بعد التخلية بجوائحَ، فهي من ضمان البائع، أو من ضمانِ المشتري؟ وفيه اختلافُ قولي سيأتي في بيع الثمار، فإن قلنا: هي من ضمان البائع، فالاختلاط بعد التخلية لا يُوجب انفساخاً، ولا يثبت خياراً، ويكون ما جرى بمثابة ما لو اشترى رجل حنطةً
__________
(1) مسألة النعل هي أن يُنْعل الحصان الذي اشتراه مثلاً، ثم يطلع على عيب قديمٍ فيه، فإذا أراد ردّه، فكيف التصرف في النعل؟ إذا كان خلعه سيُعقِب عيباً يمنع الرد. وستأتي في فصل قريب معقود في موضوع من اشترى أرضاً، ووجد فيها حجارة مودَعة بها.(5/120)
وقبضها، ثم انثالت عليها حنطةٌ للبائع، فلا وجه إلا المخاصمةُ، أو التوقفُ، أو المصالحةُ.
ولا اختصاص لهذا الفصل بما نحن فيهِ، ولا ينبغي أن يَظن الناظِرُ -إذا انتهى إلى هذا الموضع- أنا نقتصر في بيان هذا المشكل على هذا، وإذا انتهينا إلى مسائلِ الصلحِ، أتيتُ في هذا بأشفى بيان وأكملِه.
3005- وهذا كُلّه كلام فيهِ إذا كانت الثمارُ مما تتلاحقُ على ندور، فأما إذا كانت تتلاحق لا محالة في المُدة التي يُبقي المشتري الثمرةَ فيها، كالتين وغيره، فالكلام يقع في هذا الفصل في صحة العقد.
فإذا اشترى ثماراً مزهيةً على شرط التبقية، فقد قال العلماءُ: إذا كانت تتلاحقُ، فالبيع باطلٌ؛ فإنه عقدَهُ على وجهٍ يتعذرُ فيهِ تَسليمُ المبيع، وكان بمثابة ما لو اشترى عبداً آبقاً.
وذكر العراقيون قولاً بعيداً أن البيع موقوف، فإن سمح البائعُ [ببذل حقّه] (1) تبيناً انعقادَ العقدِ، وإن لم يسمح تبينَّا أن البيع غيرُ منعقد في أصله. وهذا قول مزيّفٌ لا أصلَ له، وهو بمثابة المصيرِ إلى وقف بيعِ العبدِ الآبقِ على تقديرِ فرضِ الاقتدارِ عليه وفاقاً (2) . فإن طردوا هذا، فإنه على فسادهِ مطردٌ، وما أراهم يقولون ذلك.
فإن أراد من يشتري الثمار المتلاحقةَ أن يصحَّ العقد، فليشترط القطع، وإذا فعل ذلك، صحَّ العقدُ؛ فإنّ القطعَ ممكن قبل الاختلاط، وفاءً بالشرط، ثم إذا صح العقدُ، وتأخر القطعُ، واختلطت الثمارُ، فالقول في هذه الصورة كالقول فيه إذا كان الاختلاطُ مما يندُر، ولكنه اتفق على ندور، فالقول قبل التخلية وبعدها كما مضى حرفاً حرفاً.
وكل ذلك كلام في صورة واحدة لم يذكرها المزني.
3006- فأما الصورة الثانية، وهي التي ذكرها المزني، فهي أن يبيع. الرجلُ
__________
(1) سقط من الأصل.
(2) كذا في النسختين، وواضح أن في الكلام سقطاً، تقديره: " وهو باطلٌ " وفاقاً.(5/121)
الأشجارَ، وعليها ثمارٌ بقيت له، فلم يقطُفْها حتى أخرجت الأشجارُ ثماراً للمشتري، واختلطت بالثمار التي كانت للبائع، وقد اختلفَ أصحابُنا على طريقين: منهم من قال: لا ينفسخ العقد في هذه الصورة، ولا يثبت الخيارُ للفسخ؛ فإن [المبيع] (1) لم يختلط، وإنما الاختلاط في زائدٍ غيرِ معقودٍ عليه.
ولو اشترى رجل أشجاراً، وتجدَّدت ثمارٌ في يد البائع، وعابت، والمبيع في يد البائع، فلا خيار للمشتري بعيب الثمار، وهذا هو القياس الذي لا يسوغ غيرُه.
وهذا القائل يغلّط المزني في النقل، وينسبُه إلى الإخلال بالتصوير، ويقول: صورة مسألة الشافعي [هي] (2) التي انتجزت الآن، فنقل المزني التصويرَ إلى بيع الأشجار، وهو في بيع الثمار.
ومن أصحابنا من جعل المسألة على قولين في الصورة الأخيرة في الانفساخِ وخيارِ الفسخ، كما مضى. ويزعم أن الثمار وإن لم تكن مبيعةً، فهي من حق الشجرة المبيعة؛ فإن المشتري إنما ملك الثمارَ بملكهِ الأشجارَ، ومِلْكُ الأشجارِ ثبت بالعقد.
وهذا القائل يفصل بين صورة الاختلاط، وبين تعيُّب الثمارِ المتجددةِ في يد البائع.
فنقول: الاختلاطُ سببُه بقاءُ ثمرةِ البائع على الأشجارِ، وعلى البائع في الجملة تخلية المبيع للمشترِي، فقد حصَل الاختلاط بسبب ما استبقاه البائع لنفسهِ، ولَعلّنا نذكر ما يُداني هذا في باب الخراج، عند ذكرنا مسيسَ الحاجَةِ إلى قلع باب الدار المبيعة، لنقل ما فيها من أمتعة البائع، وأن الخيار هل يثبت بهذا السبب؟ ويقرب منه نقلُ الأحجار المودَعةِ في الأرض.
فهذا منتهى القول في الصورتين.
3007- وتكلم الأصحاب وراءهما في شيء لا اختصاص له بالمسألة، ولكنا نذكره على ترتيب ذكر الأصحاب.
فنقول: من اشترى حنطةً، واستوفاها، ثم اختلطت بها حنطةٌ أخرى للبائع بعد
__________
(1) في الأصل: امتنع.
(2) مزيدة من (هـ 2) .(5/122)
القبض، فالقولُ في القدْر المختلِط قولُ المشتري إذا نازعه البائع، والسبب فيه أن اليدَ للمشتري، فإذا زعمَ أن المختلِط صاع والباقي لي، فالقولُ قولُه مع يمينهِ. ولكن سبيله في الخصومة ألا يتعرضَ للبيع؛ فإنه إذا ادّعى بيعاً في الصاعين، فسينكره البائع، ثم يرجع الكلام إلى اختلافِ المتبايعين في قدْر المبيع.
وإن اتفق الاختلاطُ قبل التسليم، وقلنا: لا ينفسخ البيع، ولم يفسخ أيضاًً، فالقول قول البائع، في القدر الذي باعه؛ فإن اليدَ له، فيبقى البيعُ فيما يذكره، ويده مستمرة عليه.
وإن جرى هذا الاختلاف في الثمرة؛ فإن لم يخلِّ بين المشتري وبينها، فصاحب اليد هو البائع، فلا رجوع إليه، ولو خَلَّى بين المشتري وبين الثمار ولم يقطُف بعدُ، فقد اختلف أصحابنا في أن اليد لمن في هذه الحالة؟ وهذا الاختلاف مبنيّ على القولين في وضع الجوائح.
وذكر بعضُ أصحابنا وجهاً ثالثاً في اليد، فقال: الثمارُ في أيديهما؛ فإنه يتعلق بهما: السقيُ على البائع، والتصرف نافذ من المشتري في الثمار بعد التخلية، فاقتضى ذلك ثبوتُ أيديهما على التساوي، وإذا ثبت حكم اليد، فقد ذكرنا حكمَ ما قبل القبض وبعده، وحكمُ يد البائع، ويدِ المشتري. ولو اعترفا -والاختلاط بعد القبض مثلاً- بالالتباس، ورضيا بألاَّ يُفسخَ العقدُ، رجع الكلام إلى الوقف، والاصطلاح.
وسنوضحه في كتاب الصلح إن شاء الله تعالى.
3008- ومما يتعلق بهذه الجملة أن من باع جِزَّةً من القُرْط (1) ، فينبغي أن يشترط في البيع القطعَ؛ فإنه يتزايد، فلو فعل ذلك، ثم لم يتفق القطعُ، حتى زاد القُرْط زيادةً بيّنة، فالذي حدث من جهة الأرض طولاً زيادة لا يستحقها المشتري (2) ، فالتفصيل
__________
(1) الجِزّة: صوف شاةٍ في سنة، والمراد هنا المرّة من حَصْد القُرْط. والقُرط نبات عشبيٌّ حَولي كلئي، وهو يماثل البرسيم (معجم) .
(2) ر. الأم: 3/59. باب بيع القصب والقُرط.(5/123)
فيها كالتفصيل في الثمار إذا اختلطت، في الفسخ والانفساخ.
وذكرَ العراقيون عن بعض الأصحاب المصيرَ إلى أن البيعَ لا ينفسخ في هذه الصورة، ثم زيّفوا ذلك، واحتجوا بأن تلك الزيادة لا يجبُ على البائع تسليمُها، وإذا لم يجب تسليمُها وتعذر تمييزُها، فلا وجه إلا إلحاقُها بالثمار.
ولست أرى لما حَكَوْه وجهاً. ولكنا في هذا الكتاب الحاوي لا نجد بُدّاً من ذكر ما ذكره الأئمةُ في التصانيف المشهورة، فالوجه أن نذكر الوجوه الفاسدة، وننبه على فسادِها، وإن أمكن توجيهٌ على بعدٍ أتينا به، ولعل الممكن فيه أن الزيادةَ بدت في القُرْط من جهة الجزّ فهي معلومة، والاختلاطُ لا يتحققُ تحقُّقَه في الثمار. وهذا غير سديد.
وقد نجزَ الفصل بما فيه.
فصل
قال: " وكل أرضٍ بيعت فللمشتري جميع ما فيها ... إلى آخره " (1) .
3009- ظاهر نص الشافعي هاهنا أن من باع أرضاً، وذكر في البيع اسمَ الأرض، أو الساحة، أو العَرْصة أو البقعة، فيندرج تحت مطلق هذه الألفاظِ البناء والغراس.
ونصَّ الشافعي في كتاب الرهون على أن رهنَ الأرضِ باسمِها، لا يتناول ما فيها من بناءٍ وغرسٍ، ومن أصحابنا من أجرى القولين في البيع والرهنِ. أحدهما - أن البناءَ والغراس يندرجُ؛ لأنها إذا اتصلت بالأرضِ عُدّت من أجزائها، فاستَتْبَعتها استتباعَ الدور حقوقَها، وإن لم يجر لها ذكر. والقول الثاني - أن الأبنيةَ والغراسَ لا تدخل في البيع والرهن. هذا هو الأصح؛ فإن البيعَ معقودٌ باسم الأرضِ، وليس البناء، ولا الغِراسُ، مما يتناوله اسمُ الأرض.
ومن أصحابنا من أوّل ما ذكره الشافعي هاهنا، وقال: أراد إذا زاد البائع على اسم
__________
(1) ر. المختصر: 2/165.(5/124)
الأرضِ في صيغةِ العقد، فقال: بعتُكَ الأرضَ بحقوقها؛ فإن المعقودَ عليه هو الذي يُسمَّى في العقد. كما قرَّرناه.
وهذا يتضمن نسبةَ المزني إلى الإخلالِ في النقل، والاختصار على بعض لفظ صاحب المذهب.
وذهب بعضُ الخائضين في المذهب إلى تقرير النصَّيْن في البيع والرهن، والمصير إلى أن البيع يستتبع البناءَ والغِراس، بخلافِ الرهن، واعتمد هؤلاء في طلب الفرقِ قوةَ البيعِ وتضمنه إزالةَ الملك، بخلافِ الرهن، وهذا بالغٌ في الضعف؛ فإن المتبع الاسمُ في المزيل وغيرِ المزيل، والقويّ والضعيف. والصحيحُ الجاري على القاعدة اتباع الاسم، ونسبةُ المزني إلى الإخلالِ بالنقل.
ويلي ذلك طريقةُ القولين، ومحاولةُ الفرق ظاهر السقوط.
وإن جرينا على اتباع الاسم، فلو قال العاقدُ: بعتك الأرضَ بحقوقها، فمن أئمتنا من ذهب إلى أن البناء والغِراسَ لا يدخلان بهذا اللفظ أيضاًً؛ فإن الحقوق مجملةٌ والمعنيُّ بها في تفاوض أهل العُرف: مجرى الماء، ومَطْرحُ التُراب، والممرُّ، وما أشبهها.
ومن أئمتنا من صار إلى أن لفظَ الحقوق يحتوي على الغِراس والبناء. وهذا أشهر. والأول أقيسُ.
ولما ذكرناه التفاتٌ إلى أصل نذكره في باب الخراج، وهو أن أجزاء البناءِ بالإضافة إلى الدارِ تنزل منزلةَ الصفاتِ، أو كلُّ جزء من البناء يُقدَّر مبيعاً، حتى يسقطَ قسطٌ من الثمن بتلفه.
3010- ومن مقاصدِ الفصلِ أن الرجل إذا قال: بعتُك هذه الدارَ، فالأصل أن كل ما يعدُّ جُزءاً من الدار، فاسم الدار يتناوله، والبيع يَرِدُ عليهِ، ثم هذا يفصّل بالثبوت ونقيضه، فكل ما ليس مثبتاً في الدار، فهو من الأقمشة (1) وليست مندرجة تحت اسم الدّار، واستثنى صاحب التلخيص مفتاح الدار؛ فإنهُ منقولٌ، والبيع يتناوله.
__________
(1) الأقمشة: الأمتعة: جمع قُماش. وقماشُ البيت متاعه. (معجم) .(5/125)
وقد اختلف أصحابنا في ذلك: فساعده بعضُهم، واعتلَّ بأن تسليم الدار مستحق، وإنما يتم التسليمُ بتسليم المفتاح، والأغلاقُ (1) من الدار، فتستتبع المفتاحَ، فإن المفتاح إنما يُعنَى للأَغْلاق.
ومن أصحابنا من قالَ: لا يدخل المفتاحُ تحت البيع؛ فإنهُ منقول غيرُ معدودٍ من أجزاء الدار، ولئن عُدَّ من مصالح الدار، كان بمثابة المكانسِ، والمساحِي، والمجارِفِ، وغيرها.
هذا قولُنا في المنقول، وسيلتحق بهذا الفصلِ طرفٌ من مسألةٍ سنُنبّه عليها في القسم الثاني.
3011- فأما الثوابت في الدارِ فتنقسم إلى ما يثبَّتُ تَتِمَّةً لبناءِ الدار، وإلى ما يَثبَّت والغرضُ من إثباته ألا يتحركَ في الاستعمال، كالأجَاجين (2) والأَرْحِيَةِ، فأما ما أُثبتَ ليُعَدّ من الدار، ويستكملَ به بناؤُها، فلا شك في دخولها، وما أُثبت كي لا يتزعزَعَ، فمنه الطاحونة.
وحاصل ما قاله الأصحاب ثلاثةُ أوجُهٍ: أقيسُهما - أن الحجرين الأعلى والأسفل (3) لا يدخلان في البيع؛ فإنهما لا يعذان من أجزاء الدّار، وإن جرى إثباث في الأسفل، فليس هو ليلحقَ بأبنية الدار، وإنما هو لغَرضٍ في الاستعمال.
والوجه الثاني - أنهما يدخلان، أما الثابت، فيدخل لثبوته، ثم يستتبعُ الحجرَ الأعلى، كما تستتبعُ الأَغلاقُ المفتاحَ.
والوجهُ الثالث - أن الأسفل يدخل لثبوتهِ، كما يدخل [أيُّ] (4) حجرٍ آخرَ يُثبَّت في عرْصةِ الدار، وصورةُ الثبوت لا تختلف، والقصودُ لا معوَّل عليها، والأعلى لا يدخل؛ لأنه من المنقولات، والاستتباعُ باطل هاهنا؛ فإنه لا يتحقق ما لم يتقرر
__________
(1) الأغلاق: جمع غَلَق، ما تغلق به الدار، وتفتح الأغلاق بالإغليق، وهو المفتاح (معجم) .
(2) الأجاجين: جمع إجّانة: آنية تغسل فيها الثياب.
(3) إشارة إلى حجري الطاحونة، فأحدهما يكون مثبتاً، والآخر يدور فوقه، والحبوب بينهما تطحن.
(4) زيادة اقتضاها السياق. حيث قدرنا سقوطها من النسختين.(5/126)
في الحجر الأسفل مقصودُ الأَرْحية، وهذا يُخرجه عن جُزئية الدار، وعما ذكرناه من صورة ثبوت الحجر، وليس كذلك الأغلاق؛ فإنها تعني إغلاقاً، وتُعد مع هذا المقصود من أجزاء الدار، ثم الغَلَق دون المفتاح لا خير فيه، فكان الاستتباعُ متَجِهاً فيه.
وأما الإجانة المثبتةُ، فقد قال الأصحاب: القول فيها كالقول في الحجر الأسفل المثبت من الطاحونة؛ فإنََّ إثباتَ الإجَّانة ليس لإلحاقها بأبنية الدار، وإنما هو لغرضٍ في الاستعمال كما تقدم.
ولو اتخذ الرجل من داره مدبغةً وأثبت فيها أجاجين يمعَسُ (1) فيها الأُهب، نُظر: فإن قال: بعتُك الدارَ، ففي دخول الأجاجين خلاف مرتَّب على الصورة الأولى، والأجاجين أولى بالدخول إذا ظهر قصدُ البائع والمشتري. وإن قال: بعتُ منك هذه المدبغةَ وفيها أجاجين مثبَّتَةٌ، فلا شك في دخولها؛ فإن اللفظ مُصرّحٌ بها، فهو كما قال: بعتُك هذه الطاحونةَ، فالحجرُ الأسفل يدخل لا محالةَ، وفي الحجر الأعلى خلاف، والأظهرُ دخولُه، وهو أوْلى من المفتاح بالدخول؛ فإن الطاحونة تتعرض باسمِها للطحن، والطحنُ لا يقعُ إلا بالحجر (2) . فهذا هو الذي لا يتجه غيرُه.
والرفوف في الدار منقسمة، فمنها ما أُثبتت مع الدار جُزءاً منها، وتتمةً لمرافقِها، فما كان كذلكَ، فهو داخلٌ تحت اسم الدار، وما يُبنى لوضع شيء عليه، كالخيوط التي تمدد لوضع الثيابِ عليها، فالمنقولُ منها لا يدخل كسائرِ الأمتعةِ. وما أُثبت بالمسامير حتى لا يتزعزعَ، فهو كالإجانة. والحجر الأسفل من الرحا، والسُلَّم المنقول من أمتعة الدار، وما أُثبت للبناء، فهو من الدار، كالمراقي المبنِيَّة من الطوب والجِصّ، وأما السلاليم المثبتة بالمسامير، فهي كالأجاجين، ومراقي الخشب إذا أثبتت إثبات تخليد، فهي على الأصح كمراقي الآجُر والجصق، بخلاف السلاليم.
فإن قيل: إذا فرَّعْتُم على أن اسم الأرض يتناول البناء، والغِراس، فما قولَكُم في
__________
(1) يمعس: يدلك: معسَ الشيء يمعَسُه معساً: دلكه دلكاً. يقال: معسَ الأديم ليّنه في الدباغ. (معجم) .
(2) كذا في النسختيِن. ولعلها: "بالحجرين".(5/127)
الأجاجين المثبتةِ، والحجرِ الأسفل من الرحا والسلاليمِ المسمّرةِ؟ قلنا: الاختلافُ يجري وإن وقع التفريع على القول الضعيف؛ لأن مأخذَ الخلاف من إلحاق هذه الأشياء بالمنقولات، ورد إثباتها إلى غرضٍ آخرَ يخالف البناء.
3012- ولو قال: بعتك هذه الدارَ، وفيها أشجار، فحاصل ما قاله الأئمةُ أوجه: أحدُها - أن الأشجار لا تدخل، والتفريعُ على الأصح، وهو اتّباع الاسمِ، وذلك أن الأشجار ليست من أركان الدار.
والوجه الثاني - أنها تدخل، واسم الدار يشملها، والدورُ منقسمةٌ، فمنها ما يَعْرَى عن الأشجار، ومنها ما يشتمل عليها.
ومن أصحابنا من قال: إن بلغت الأشجار مبلغاً يُجوّزُ تسميةَ الدار بستاناً؛ فإنها لا تدخل في اسمِ الدارِ، وإن لم تبلغ الأشجار مبلغاً يُكسبُ الدارَ اسمَ البستان، فهي داخلةٌ. وهذا أعدل الوجوه.
ولو قالَ: بعتُك هذا البستانَ، فلا شك في دخول أشجارها تحت الاسم، وتردد جوابُ الأئمة في دخول البناء، فمال بعضُهم إلى أنه لا يدخل، وقالَ الأكثرون: إنه داخل. والبناءُ عندي بالإضافة إلى البستان كالشجر بالإضافةِ إلى الدار.
ولو قالَ: بعتُكَ هذه القرية، فلا شك في دخول دورِها، وأبنيتها، ومزارعها، تحت البيع. وذكر العراقيون في دخول أشجارِها تحت البيع قولين إذا لم يقع لها تعرض، وهذا الذي ذكروه أبعدُ من التردّدِ في أشجارِ الدارِ؛ من جهة أن الأشجارَ مألوفةٌ في القُرى، ولا تستجدّ القريةُ بالأشجار اسماً، والدار تستجدّ اسمَ البستان بكثرة الأشجار.
ولو قالَ: بعتُكَ هذا البَاغَ (1) أو البستان، فقد كان شيخي يتردد بعض التردُّدِ في العُروش التي عليها الكروم، من جهةِ أنها ليست مخلَّدة، والوجه عندنا القطع بدخولها تنزيلاً على المعهودِ من اسم الكرْم، أو البستان، في مُطلق العُرفِ.
__________
(1) الباغ: البستان.(5/128)
وممَّا ذكرهُ العراقيون أن قالوا: من باع داراً وفيها بئر، فلا شك أن ما يحدثُ من الماءِ، فهو للمشتري، وأما الماءُ الذي كان موجوداً حالةَ البيع وهو جَمَّةُ (1) البئر، فلا شَكّ أنه من المنقولات، وليس من أجزاءِ الدار.
فإن قُلنا: لا يُملك الماء، وإنما يُختصُّ به، من جهة احتواءِ ظرفه عليه، وامتناعِ التصرفِ في ظرفه دون إذنه، فإذا جرى البيع، فيصير المشتري أولى بالماء؛ فإنه لا حقَّ في عينه، وقد امتنع على الناس تخطي مِلكِهِ إلى الماءِ، وإن قلنا: الماءُ يملك، فقد قطع العراقيون بأن القَدْرَ الموجودَ في البئر حالةَ العقد ملكُ البائع، ولست أرى قياساً، ولا توقيفاً يخالف ما ذكروه.
ولكن العادة عامة في المسامحة به. فإن نبا قلبُ ناظرٍ عن هذا فلذلك.
ولو كان في الأرض معدن [عِدّ] (2) كالنِّفظ وغيره، فإذا باع الأرضَ، وفيها المعدِن، فما يتجدَّد بعد البيع للمشتري، وما كان تجمّع، فهو للبائع، ولا تردُّدَ فيه، بخلافِ الماءِ؛ فإن في الناس من قال: إنه لا يُملك.
ونقل الصيدلاني أن الشافعي قال: إذا قالَ: بعتُك الدارَ وفيها حمَّامٌ، لم يدخل الحمامُ في البيع، [ونقل عن الربيع] (3) أنه قالَ: أراد الشافعيُ حمامات (4) الحجاز؛ فإنها بيوت من خشب، تُنقل وتحوّل، فأما إذا كان في الدار حمامٌ مبني، فهو من مرافق الدار، فيدخلُ تحت اسم الدار، ولا تعويل على اختصاص بعض الدور بالحمام، فإن هذا يجري في كثيرٍ من الأبنية، إذ قد توجد بعضُ الأبنيةِ في بعض الدور دون البعض.
__________
(1) جمة البئر: ما تراجع من مائها بعد الأخذ منه، والمراد هنا الماء الذي كان في البئر عند البيع.
(2) أولاً - كلمة عدّ مزيدة من (هـ 2) .
وثانياً - العِدُّ بكسر العين: الماء الجاري، الذي له مادهّ لا تنقطع، والكثرة في الشيء. والمعدِن هنا مكان استخراج المعادن، (كالمنجم) .
(3) زيادة من (هـ 2) .
(4) في (هـ 2) أقحمت كلمة (مكة) قبل كلمة (الحجاز) .(5/129)
فصل
3013- من باع أرضاً مزروعةً، فللأئمة طريقانِ في صحة البيع في الأرض، بعدَ الاتفاق على أن الزرعَ لا يدخل تحت تسميةِ الأرضِ، فإنّ سبيلَه سبيلُ المنقولاتِ، وليس معدوداً من أجزاء الأرض، فإذا كان الزرع يبقى للبائع، ففي بيع رقبة الأرض طريقان: أحدهما -وهو الأصح- أن البيع صحيحٌ.
ومن أصحابنا من خرّج بيعَ الأرض المزروعة على بقاءِ الزرعِ للبائع، على قولي بيع الدارِ المكراة، والجامعُ عند هذا القائلِ أن منافعَ الرقبة مستغرَقةٌ بالزرع حسَبَ استِغراقِها باستحقاقِ المستأجِر. والقائل الأول يفرق بين الأرض المزروعة، والمكراة.
ونقول: إثبات اليد للمشتري على رقبة الدار المكراة غيرُ ممكن مع استمرار يدِ المستأجِر واستحقاقِه، وتسليمُ الأرض المزروعةِ إلى مشتريها ممكنٌ. ثم من اشترى أرضاً وعَلِمَها مزروعة، فلا خيار له، لإقدامه على العقدِ على بصيرة بحقيقةِ الحال.
وليس له مع الفرض في العلمِ أجرةُ مثلِ الأرض، وكان منفعتَها مستثناة.
وهذا بمثابة ما لو علم المشتري أن الدار مشحونةٌ بأمتعةِ البائع، ولا يتأتى تفريغُها إلا في زمنٍ لمثله أجرةٌ، فلا أُجرةَ للمشتري.
ولو كان المشتري جاهلاً بكون الأرضِ مزروعةً، فإذا اشترى، ثم اطّلع، فله [الخيارُ، فإن فسخ، فلا كلام،] (1) وإن أجاز، فهل تثبت له أجرةُ مثلِ الأرض لمدة بقاء الزرع، فعلى وجهين ذكرهما صاحب التقريب: أحدُهما - ليس له ذلك، لقدرته على الفسخ، فإن أجاز، فلا مرجع له، وهو كما لو اطّلع على عيبٍ قديم بالمبيع، وتمكَّن من الردِّ، فإن أجاز العقدَ لم يرجع بشيء من الأرش.
والوجه الثاني - أنه يثبت [له] (2) أجر المثل؛ فإن هذا ضررٌ يلحقه فيما ليس معقوداً
__________
(1) زيادة من (هـ 2) .
(2) ساقطة من الأصل.(5/130)
عليه، وهو المنافعُ. ويرِدُ على هذا الضررِ أن المنافع تنزل منزلةَ نقصِ الرقبة في إثباتِ الخيار، فليَجْر حكمُ الرضا مجرى حكم الرضا في العيب. وسيأتي لهذا الخلافِ في الأجرة نظائرُ في الفصل الذي يلي هذا الفصل إن شاء الله تعالى.
3014- ولو اشترى داراً وصادفها مشحونةً بأمتعة البائع، وكان لا يتأتى تفريغُها إلا في مُدَّةٍ، وما كان حسِبَ أن الأمرَ كذلك، فهل يثبت له الخيار، كما يثبت لو اطلع على الأرض، فصادفها مزروعة؟ المذهب ثبوتُ الخيارِ. ومن أصحابنا من لم يُثبتة، وصار إلى أن الغالب في العادة اشتمالُ الدارِ على أمتعةٍ، ثم إنها تفرَّغ، ثم لا ضبط لمقدار الأمتعة. والأصح الأول. والرجوع فيما يُثبت الخيارَ إلى ما يحتاج في نقله إلى مدةٍ يتعذّر فيها الانتفاع بالدار، وكان للمدة أجرة.
ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أن من اشترى داراً مشحونةً بالأمتعة، كما صوَّرنا فقد أطلق الأصحابُ القولَ بصحة البيع، وذكروا في الأرضِ المزروعةِ طريقين في صحة البيع، ولا شك أن القياسَ يقتضي التسويةَ بينهما؛ إذ لا فرق. ولكن المنقول ما ذكرناه، من تخصيص الخلاف بالأرض المزروعة.
وإذا صححنا البيعَ في المزروعة، والدار المشحونة، فلو سلّم البائعُ الأرضَ وفيها الزرعُ، وسلَّم الدارَ وفيها الأمتعةُ، فقد ذكر أصحابنا وجهين في أن اليدَ هل تثبت للمشتري؟ أحدهما - أنها تثبت، وهو ظاهرُ المذهب؛ فإن الرقبة مسلَّمةٌ إليه، وإنما الاشتغال في المنافع.
ومنهم من قال: لا تثبت اليدُ في الموضعين، ما دامت المنافعُ مستغرَقة بالأمتعةِ والزروع.
ومن أصحابنا من ذكر وجهاً ثالثاً - فقال: اليدُ تثبت في الأرض المزروعة، دون الدار المشحونة. ولا يكاد يتضح الفرق.
وما ذكرته من تنزيل الدار المشحونة منزلةَ الأرض المزروعة في القياس، يتأكد بما نقلته من الخلاف، في أن اليد هل تثبت للمشتري عليها أم لا؛ فإنه إذا كان يمتنع ثبوتُ اليد حُكماً، فالبقعةُ المبيعة مشبهةٌ بالدار المكراة، من جهة امتناع ثبوت اليد.(5/131)
3014/م- ولو باع الأرضَ، وهي مبذورةٌ، ما نبتت بعدُ، فالبذر للبائع، ولا يدخل تحت مطلقِ البيع. ثم الكلام في صحة البيع وجميعُ ما ذكرناه في الأرض المزروعة، يعود حرفاً حرفاً؛ إذْ لا فَرْقَ.
ولو باع الأرضَ المزروعةَ مع الزرع، فلا شك في صحة البيع، وانعقادِه عليهما.
ولو باع الأرضَ المبذورةَ مع البَذْر الكامن فيها، فالأصح الحكم بفساد بيع البَذْر؛ لأنه مجهول مستتر، وهذا متَّضح على منع بيع الغائب. ولا يبعدُ الحكمُ بصحة البيع في البذر، على تجويز بيع الغائب، وذكر بعضُ أصحابنا وجهاً آخر، وهو أن البيع صحيح -وإن منعنا بيع الغائب- إذا بيع مع الأرض، فيجري تصحيح البيع [في البذر] (1) على قياسِ التبعيّه. وقد يتبعُ الشيءُ في حكم، وإن كان لا يجوز أن يتأصَّل فيه. وإن قلنا: البيعُ في البَذْر صحيحٌ، فلا كلامَ، وإن قلنا: البيعُ فيه فاسِدٌ، ففي الأرض قولا تفريقِ الصفقة، على ما ستأتي مسائله. إن شاء الله عز وجل.
3015- ثم ذكر بعض الأصحابِ جُملاً من الكلام في الزروع، وما يصح بيعُه، وما لا يصح، ولم أَرَ ذِكْرَها؛ فإني أستقصيها -إن شاء الله تعالى- في باب بيع الثمار قبل بدوِّ الصلاح وبعد بدوّه.
والذي يليق بمنتهى كلامِنا منها: أن الزروع التي لا تُخلِفُ بعد الجَزّ حكمه بقاؤه للبائع في مطلق بيع الأرض. كما تقدم.
ولو باع أرضاً، وفيها أصولٌ لبقولٍ مُخْلِفةٌ بعد الجَزّ، فقد قطع شيخي بأن تلك الأصول تدخل تحت مطلق تسمية الأرض؛ فإنها من الثوابت، وهي مخالفة للأبنية والأشجار؛ من جهة بدوِّها وظهورها، ومفارقتها الأرضَ في صفتها، وأصول البقول ثابتة كامنة، وكأنها من أجزاء الأرض.
وذكر العراقيون والصيدلاني في دخولها تحت مطلق تسمية الأرض قولين: كالقولين في البناء والغِراس، كما مضى مفصلاً، وهذا هو القياس؛ إذ لا يلوح فرقٌ بينها وبين الغراس والأبنية.
__________
(1) مزيدة من (هـ 2) .(5/132)
ولو باع أرضاً، وفيها أصلُ البقل، وكان قد ظهر شيء حالةَ البيع، فلا خلاف أن الظاهرَ باقٍ على استحقاقِ البائع، وله تلك الجزّة البادية. وفي الأصول من التفصيل ما ذكرته الآن.
فصل
قال الشافعي: " وإن كان فيها حجارةٌ مستودعة ... إلى آخِره " (1)
3016- إذا باع رجلٌ أرضاً، وفي باطنها أحجارٌ، نُظر: فإن كانت مخلوقةً فيها، فلا شكَّ في دُخولها تحت البيع؛ فإنها من أجزاء الأرض المبيعة، وإن كانت تلك الأحجار مستعملةً في أساس بنيان، فسبيلها كسبيل الجُدرانِ وغيرِها من الأبنية، وقد تقدم القول في أن الأبنيةَ هل تدخل تحت مطلق اسم الأرض في البيع أم لا؟ وإن لم تكن مخلوقةً فيها، ولا مبنية، ولكنها كانت مستودعةً للبائع؛ فلا خلافَ أنها لا تدخل تحت بيعِ الأرض، وهي بمثابةِ ما لو أودع كنزاً في الأرض، ثم باع الأرضَ، فالكنزُ للبائع لا محالةَ، ثم التفصيلُ وراء ذلك.
3017- فنقول: الأرض لا تخلو إما أن تكون مغروسة، وإما أن تكون بيضاءَ، لا غراسَ فيها، فإن كانت بيضاء، لم يخل الأمر من أقسامٍ، وحقُّها [أن] (2) تُفرض فيه إذا لم يكن المشتري عالماً بكونِ (3) الأحجار، فإذا كان كذلك، فمن الأقسام ألا تضرَّ تَبقيةُ الأحجارِ تحت الأرض، ولا يضُرّ بالأرض نقلُها أيضاًً، فلا خيار للمشتري؛ إذ لا ضرار كيف قُدّر الأمرُ. ولكن ذكر بعضُ المصنِّفين (4) : أن البائع بالخيار، إن شاء نقل الأحجار، وإن شاء تركها؛ فإنه لا يلتحق بالمشتري ضررٌ، على أي وجهٍ صُوّرت الحال. وهذا غلطٌ لا يجوز عَدُّه من المذهب.
__________
(1) ر. المختصر: 2/165.
(2) مزيدة من (هـ 2) .
(3) كون: كان هنا تامة.
(4) نُذكّر بأن الإمام إذا قال: " بعض المصنفين " فإنما يعني به أبا القاسم الفوراني.(5/133)
والذي قطع به الأئمةُ: أن للمشتري أن يجبر البائعَ على تفريغ أرضه، ونَقْلِ الأحجارِ منها، ولا تعويل على انتفاء الضِّرار، كما صوَّرناه، بل الأصل تمكن المالك من الإجبار على تفريغ مِلكهِ، والذي يوضح ذلك أن انتفاع البائع في التبقية ظاهرٌ، وربَّما يحتاج لو نقل الأحجارَ إلى موضعٍ يكتريه لينضدَ الحجارةَ فيه، فانتفاعُه بملك الغير، من غير إذنٍ واستحقاقٍ محالٌ، وقد يَعِنُّ للمشتري أن يضع مكان الأحجار أحجاراً لنفسه، فلا شك في وجوب القطع بأن المشتري لو أراد، أجْبرَ البائعَ على النقل. نعم، إذا استوى الأمران في عدم الضرار، فلا خيارَ للمشتري في فسخ البيع بسببه.
3018- ولو كانت الأحجار تضرُّ بالأرض، ولكنَّ نقْلَها ودفعَ ضررِها على القُرب واليُسر ممكن، في زمانٍ لا تثبت لمثله أجرةٌ، فلينقل البائعُ إذا كان كذلك - ولا خيارَ للمشتري. وهو بمثابة ما لو باع الرجلُ داراً، ثم لحق سقفَها أَدْنى خَلل، بحيث يمكن تداركُه قريباً، فإذا أدركه البائعُ من غير استعمالِ عينٍ جديدة فيها من ملكه، فلا خيارَ للمشتري.
ولو باع عبداً، فغصبه غاصبٌ، واستمكن البائعُ من استرداده على القُرب، فلا خيارَ للمشتري. وكذلك لو نال العبدَ مرضٌ، وكان يزول بالمعالجة الناجزةِ على التحقيق، فلا خيارَ للمشتري إذا سعى البائعُ في طرد ما جرى.
وقد ذكر العراقيون وصاحبُ التقريب هذه المسألةَ، ولا خفاءَ بها، وما ذكرناه فيهِ إذا لم يكن في النقل ضررٌ، أو كان، ولكن هو عرضة الإزالة على قُرب، وكان لا يحتاج إلى تعطيل الأرض المشتراة، في مُدّةٍ لمثلها أجرةٌ.
فأما إذا لم يكن ضرر راجعٌ إلى رقبةِ الأرض، ولكن كان النقلُ لا يتأتى إلا بتعطيلِ منفعةِ الأرضِ، في مدّةٍ لمثلها أجرةٌ. فأولُ ما نذكره في ذلك أن المشتري يثبتُ له الخيار في فسخ البيع، إذا لم يكن مطّلعاً على شيءٍ حالةَ العقد. فلو قال البائع: لا تَفسخ؛ فإني أَغْرَم لك الأجرةَ، فقد ذكر صاحب التقريب في ذلك وجهين: أحدهما - أنه يبطل الخيار، ويجب على البائع النقلُ، وبذلُ أُجرةِ المثل؛ فإن إبقاءَ العقد، وجَبْر حق المشتري، ببذل الأجرة أَوْلى. والثاني - أنه على خيارهِ، كما لو(5/134)
اطلع على عيب قديمٍ؛ فيثبت [له] (1) حق الرد. فلو قال البائع: أنا أغرَم لك أرشَ العيب، فلا ترُدّه، فلا يبطل حق المشتري من الردّ وفاقاً، فليكن كذلك فيما نحن فيه. وإن انفصل القائل الأول عن هذا، فقال: الخللُ في المنافع ليس متمكِّناً من نفس المبيع بخلاف العيب الكائن به، فهذا لا ينفع مع ثبوت حق الاختيار في الموضعين.
التفريع على الأصح:
3019- وهو أن الخيار لا يسقط بما ذكرناه من بذل الأجرة. فإن فسخ المشتري، فلا كلام، وإن أجاز العقدَ، ونقل البائعُ الأحجارَ، فهل يلتزم أجرةَ المثل للمدَّةِ التي تُنقل فيها؟ فعلى ثلاثة أوجهٍ: أحدُها - أنه لا يلزمه؛ فإن المشتري كان قادراً على دفع هذه الظُّلامة عن نَفسه بالفسخ، فإذا لم يفعل، فهو الذي قَنِعَ بما يجري من حقوق هذا العقد.
والوجه الثاني - أن البائع يلتزم أجرةَ المثل؛ فإن موجَب البيع المطلق تمكينُ المشتري من منافع المبيع عَقِيب العقد؛ فإذا لم يتأتَّ ذلك، لزمه في مقابلة ما امتنع من المنافع عِوضه.
والوجه الثالث - أنه إن نقلَ وعطّل المنافعَ قبل القبض، لم يلتزم شيئاً، وإن سلّم الأرضَ إلى المشتري، ثم فعل ما ذكرناه بعد التسليم، التزمَ الأجرة. وهذا التفصيل يلتفت على خلافٍ يأتي في باب الخراج، في أن البائع لو جنى على المبيع، وعيّبه قبل القبض، فالعيبُ الصادرُ من جهته كآفهٍ سماويَّةٍ؛ حتى يقالَ: للمشتري [الخيارُ] (2) فحسبُ، أم هو كعيبٍ يلحقُ المبيعَ بسبب جنايةِ أجنبي؟ فيه قولان: سيأتي شرحُهما. ولا شكّ أن البائعَ لو جنى على المبيع بعد القبضِ، فهو كالأجنبي في التزام أرش النقص، فتفويتُ المنافعِ عند بعض الأصحابِ ينزل منزلةَ تعييب المبيع.
__________
(1) مزيدة من (هـ 2) .
(2) ساقطة من الأصل.(5/135)
وكل ما ذكرناه فيه إذا كان لا يلحقُ الأرضَ من النقل عيبٌ، وذَكرنا أمرَ تعطيل المنافع على التقسيم المفصَّل.
3020- فأما إذا كان ينال الأرضَ عيبٌ، والغالِبُ أن ذلك يُتصوَّر في الأرض المغروسةِ؛ فإنها إذا كانت بيضاءَ، فغايةُ ما يُرتقبُ منها أن يحدث فيها حفائر، وطمُّها وردُّ التراب إليها ممكنٌ، فإذا كان كذلك، كَلَّف المشتري البائعَ النقلَ، ثم البائعُ يطمُّ الحُفَرَ، ويرد الترابَ إليها، ولا خلاف أن ذلك واجبٌ على البائع، ثم يعود النظر في تعطل المنافعِ، وتطاول المدة وقِصرها، وقد مضى ما يتعلق بأمر المنافع والأجرة.
3021- والذي نستقصيه الآن حديثُ طمّ الحُفَر: أجمع الأئمة على إيجاب ذلك على البائع؛ فإنه ممكن، وسنذكر في كتاب الغصوب -إن شاء الله عز وجل- أن من غصب أرضاً وحفر فيها حفائرَ، فيلزَمُه طمُّها وتَسويتُها.
فإن قيلَ: من اعتدى فهدم جدارَ إنسانٍ، فالواجب عليه أرشُ النقص، ولم يلزمه إعادةُ ذلك البناء كما كان وإن أمكن هذا، فما الفرقُ بين احتفار الحفائر وبين هدْمِ البنيان؟ قُلنا: طمُّ الحفيرَةِ لا تفاوُتَ فيه، فقَرُب إلزامُه والتزامُه، وهدْم الجدارِ يتضمن إبطالَ صفةِ البناءِ، وليست تلك الصفةُ من حكم ذَوات الأمثال؛ فإن هيئات الأبنية تتفاوتُ، وما كان كذلك، فهو مشبه بذوات القِيَم، فتجب مقابلةُ التفويت فيه بالقيمة، وهو أَرْشُ النقصِ. وطمُّ الحفرِ يضاهي مقابلةَ المثليِّ بالمثلي، فالصفات المضمونة تنقسم انقسام المتلفات، فما يضاهي المثليات، يجب في تفويته الإتيانُ بمثل ما فوّت، كما ذكرناه من ردم الحفائر وطمِّها.
ونقول: لو رفع إنسانٌ لبنة من رأس جدارٍ، وأمكنَ ردُّه. فنقول من غير تَخيُّل اختلاف في الكيفية والهيئة، فهذا (1) بمثابةِ طمّ البئر وردم الحفر. ثم إذا ثبت وجوبُ الطمّ، وقُرْبُ زمان الإمكان، فلا خيارَ؛ فإن الاحتفارَ إن أورث نقصاً، فهو مما يمكن تَداركُه قريباً، وقد ضربنا لذلك الأمثلةَ، في صَدْر الفصل.
__________
(1) جملة: فهذا بمثابة طم البئر، مقول القول. وكان حقها أن تكون (هذا) بغير الفاء.(5/136)
3022- فأما إذا كانت الأرض مغروسة، ففيها تزدحم الأقسام: فإن لم يكن في تَبْقيةِ الأحجارِ ضررٌ وفي (1) نقلها، فالأمر كما مضى حرفاً حرفاً.
وإن كان القلع والنقلُ يضرّ بالغراس، ولو تُركت الأحجارُ، لم يَضُرّ تركُها بالغِراس، بأن كانت معمقةً، لا تنتهي إليها عروقُ الأشجار، ولو اقتُلِعت، تضررت الأشجار، فإن آثر البائعُ النقلَ، فلا شك أن له ذلك، فإنه ناقلٌ عينَ ملكه، وليس لقائلٍ أن يقول: يمتنع عليه النقلُ وفاء بموجَب البيع، وقياماً بتسليم الأرضِ والأشجارِ له. ولكن إذا نقلَ وعيَّبَ، فللمشتري الخيارُ في فسخ البيع.
والمسألة في أطرافِها مفروضةٌ في جهل المشتري بحقيقةِ الحالِ.
فلو قال البائع: لا أنقل الأحجارَ، وأتركُها في الأرضِ؛ حتى لا يَعِيبَ (2) الغِراسُ بالقلعِ، ولا ضِرارَ بالترك، فقد أجمع الأئمةُ في طُرقهم على أن خيارَ المشتري يبطل، والحجارةُ يتركها البائع. وكأن للشَّرع صَغْواً وميلاً إلى إبقاءِ العقد، إذا أمكنَ مع دفْع الضرارِ عن المشتري. [وهذا مشبهٌ بمسألةٍ] (3) [سَنُوردها] (4) في باب الخَراج، وهي أن الرجل إذا اشترى دابةً، وأنْعَلَها، ثم اطَّلع منها على عيب قديمٍ، ولو اقتلع النَّعْلَ، لحدثَ بذلك السبب عيبٌ حادثٌ يمنعُ من الردّ بالعيب القديم، فلو قال: تركتُ النعل، فلا أرجعُ فيه، وقصْدُه استبقاءَ حقه من الرَّدّ. قال الأئمة: له ذلك، والبائع المردود عليه مُجبرٌ على القبول، وهذه المسألةُ مقصودُها استبقاءُ حق الردّ. وقولُنا في استبقاء العقد، حتى لا يُفرضَ طريانُ سبب يُسلِّط على نقضه وفسخه، والمعاني هي المتبعة.
3023- ثم قالَ الأئمةُ في مسألة النَّعْل وتَرْكِ الأحجارِ: ما يتركه التارك في المسألتين يملكه المتروك عليه، أم لا؟ فعَلَى وجهين: أحدهما - أنهُ لا يملِكه؛ فإن
__________
(1) كذا. ولعل الأوْلى: "في تبقية الأحجار ضررٌ ولا في نقلها".
(2) يعيب: يصيرُ ذا عيب. فالفعلُ لازم: عاب الشيءُ: صار ذا عيب، وعاب الشيءَ جعله ذا عيب. (معجم) .
(3) عبارة الأصل: "وهذا مسألة سنردّدها ... " والمثبت من (هـ 2) .
(4) في النسختين: سنردّدها. والمثبت تقدير منا على ضوء المعهود في لغة الإمام.(5/137)
الغرضَ ألاّ يحدثَ عيبٌ، وهذا لا يستدعي إثباتَ ملك. والوجه الثاني - أن المتروكَ عليه يملك ما أُجبر على قبوله. وهذا هو الذي يسدّ مسدَّ حقِّه الساقط بسبب الترك، فالحقوق لا تقابل إلا بأعواضٍ مملوكةٍ.
فإن قُلنا: يثبت الملكُ في المتروك، فأثرهُ ظاهر، ويتصرّفُ المتروك عليه في المتروكِ، تصرف المُلاك، ولا يرجع التارك إليه قط.
وإن حكمنا بأن المتروك عليهِ لا يَملك المتروكَ، فلا خلافَ أن البائع (1) يلزمه الوفاءُ بالترك، حتى لو قال بعد الترك: أقلع، وأقنع بأن يُرَدّ عليَّ المبيع، فلا يبالَى به. نعم لو جرت حالةٌ يزول فيها المعنى المقتضي للتركِ، فتلك الأعيان مردودة إذ ذاك على المالكِ التاركِ، كما أن [النَّعلَ] (2) لو استحق يزالُ، وإن سقَط، رجع فيهِ الراد، وكذا القول في الأحجار.
ولو انقلع الغِراس أو قلعه المشتري قصداً، وزال ما كنا نُحاذره من الضرار، فيعود حق التاركِ.
3024- وتمام البيان في ذلك أن هبة الأحجار إن كانت ممكنةً على الصحة، فوهب البائع الأحجار، وقبلَ الهبةَ المشتري، واستجمعت الهبةُ شرطَ الصحة، فالوجهُ القطع بحصولِ الملك، والمنعُ [من الرجوع] (3) في الهبة التي لا رجوعَ في مثلِها، فأما إذا كانت الأحجار لا تصح هبتُها على قولٍ، وقد جرت الهبة كما وصفناها، فمِن أصحابنا من صححها للضرورة، وتحصيلِ استبقاء العقد، ومنهم من لم يُصحّحها.
ولو لم تجرِ هبةٌ على شرطها في الإيجاب والقبُول، ولكن قال: تركتُ الأحجارَ، فمن أصحابنا من قال: لا حكم لهذا القول، وإليه صَغْوُ الصيدلاني في كتابه. ومن أصحابنا من قال: هذا القول كافٍ، ويجب على البائعِ المتلفظِ به الوفاءُ بموجَبه، وقد ذكر ذلك طوائفُ من أئمتنا.
__________
(1) الكلام هنا في مسألة الأرض، وليس في مسألة النعل. فإن التارك في مسألة الأرض هو البائع، وفي مسألة النعل هو المشتري.
(2) في الأصل: الفعل.
(3) مزيدة من (هـ 2) .(5/138)
3025- فتنخَّل من مجموع ما ذكرناه أنه لو قال: تركت الأحجارَ، فمن أئمتنا من لم يُقم لذلك وزناً، ولم يُثبت له حكماً، ومنهم من صححه، ثم من صحَّحه اختلفوا في أن الملك هل يحصل قهرياً أم لا؟ وإن جرت هبةٌ لا يصح مثلُها مفردةً، ففي صحتها الآن وجهان مرتبان على لفظِ التركِ، وهي أَوْلى بالصحَّةِ، فإنها على حالٍ عقدٌ تُصحّحُهُ الضرورةُ، ثم في إفادته المِلكَ -إن صحَّحناه- وجهانِ مرتبان على ما ذكرناه في التركِ، والملك أوْلى بالحصول في هذه الصُّورَة، وكأنَّ الضرورة رفعت شرطاً معتبراً في حالة الاختيار.
وإن جرت الهبةُ على شرط الصحة، فالمذهب أنها تُفيد الملك. وذهب بعضُ أصحابنا إلى ذكر الخلافِ في إفادة الملك أيضاًً، من جهة صَدَر الهبة عن حاملٍ عليها وليست كالهبة الصادرةِ عن اختيارٍ مجرد.
فهذا مجموع القول فيه، إذا كان النقلُ والقلع مضرّاً، وقد ترك البائعُ الأحجارَ على المشتري.
3026- فأما إذا أبى إلا القلعَ، فله ذلك، وللمشتري الخيارُ، فإن فسخ، فذاكَ، وإن أجاز، وأحدث القلعُ النقصَ، فهل يغرَم البائعُ أرشَ النقصِ؟ قال صاحب التقريب: فيه الأوجه الثلاثة التي ذكرناها في الأجرة للمدة التي يتعطل فيها المنافع بسبب الاشتغال بالنقل: أحدُها - أنه لا يغرَمُ؛ فإن المشتري بترك الخيارِ راضٍ بما يجري من النقص، والوجه الثاني - أن البائع يغرَم أرشَ النقصِ وفاءً بتسليم المبيع، والوجه الثالث - أنه يفصل بين ما قبل القبض وما بعده، كما ذكرناه في الأجرة.
وابتناءُ هذا على جناية البائع على المبيع بيّن كما تقدَّم.
وهذه فصول نرسلها، وسنذكر بعدَ نجازها ضابطاً لمجال النظر في هذه المسألة، منبهاً على المقصود إن شاء الله تعالى.
3027- ولو كان القلع لا يضر، والترك يضر، يُجبر البائعُ على النقل، ولا خيارَ للمشتري، إلا أن يقتضيَ النقلُ تعطيلَ المنافعِ؛ فإذ ذاك يثبت الخيارُ، وينعكس الأمر على التفاصيل المقدمة في الأجرة عند اختيارِ الإجازةِ.(5/139)
3028- ولو كان القلْع والترك جميعاً مضرَّين، فلا شك في ثبوت الخيار، لتحقق الضِّرار من كل وجه، ولكن إن فسخ المشتري، فذاك، وإن أجاز وكُلِّف البائعُ النقلَ، لزمه النقل، وهل يلزمه أرشُ النقص؟ فعلى الأوجُه الثلاثة التي ذكرناها.
فرع:
3029- إذا اشترى أرضاً بيضاءَ، وغرسَها، ثم اطّلع على أحجارٍ مدفونة فيها، منعت عروقَ الأشجار من الانتشار، فهذا ضررٌ لحق الأشجارَ التي ابتدأ المشتري غرسَها، فهل يثبتُ له الخيار؟ فعلى وجهين: أحدُهما - يثبت؛ فإن الضِّرار الذي بدا من آثار ما قدَّمه البائع من إيداع الأحجار، فرجع الضررُ إلى معنى قديم.
ومن أصحابنا من قال: لا خيار؛ فإنه لولا ابتداءُ الغرسِ، لما ظهر ما ظهر من الضررِ، وليس من شرط المبيع أن يصلح لكل جهةٍ من الانتفاع، والبائع لم يلتزم بموجَب العقد إلا السلامةَ الناجزةَ في المبيع، فأما تكليفه تحصيلَ كل غَرضٍ ممكن في جنس المبيع، فبعيد.
3030- وقد نجزت مسائلُ الفصل، وهي مشتملة على أمورٍ بيّنَةٍ، وفي خَلَلها إشكالٌ في مواضعَ، ومهما كان الفصل على هذا النّعْتِ، فتمامُ الغرض في البيان يحصلُ بإرسالِ المسائلِ مقررةً، والتنبيهُ بعد نجازِها على مواقع الإشكال، حتى تكون ماثلة في النظر، يصادفُها الناظر مميزاً مفصلاً.
فأقول: مهما فُرض ضِرارٌ لا يندفع، فلا شك في ثبوت الخيار، بشرط ألا يكون المشتري مطلعاً على حقيقة الحال حالة العقد.
فإن كان مطَّلعاً، فلا خيار، وليس على البائع جُبرانُ نقصٍ في هذا القسم. وإن كان جاهلاً، فالخيار ثابت، ولا يخفى حكم الفسخ. فإن أجاز، وأراد أن يُلزم البائعَ أرشَ النقص، فهذا ينقسم قسمين: أحدهما - أن يتمكن البائعُ من دفع الضرر بترك الحجرِ. والآخر - ألا يتمكنَ، وذلك بأن يُفرض لُحُوقُ الضررِ، تُرِكَ الحجرُ أو نُقل، فإن لم يكن للضَّرر مَدفعٌ، ففي وجوب أرش النقص الأوجه.
وسبب الخلافِ تقابلُ الظنونِ؛ من جهة أن المشتري يجد خلاصاً بالفسخ، فإذا لم يفسخ، احتمل أن يكون ذلك كاطَّلاعه على حقيقة الحال حالةَ العقد، واحتُمل أن(5/140)
يقال: النقصُ ظهر بعد العقدِ بفعل ينشئه البائع إما قبل القبض وإما بعدهُ؛ إذ النقصُ، وإن استَنَد إلى سبب متقدَّمٍ، فهو حادث. وهذا يلتفتُ على قتل العبد المرتد في يد المشتري، على ما سيأتي في باب الخراج. ومخْرَجُ الفصل بين ما قبل القبضِ وبعد القبضِ بيّن كما مضى.
فأما إذا كان يجد البائعُ سبيلاً في دفع الضرر بترك الحجر، فلا يلزمه أن يترك، ولكن لو نقلَ وظهرَ الضررُ، فمن أصحابنا من قال: في تغريم البائعِ ما تقدم من الخلاف، ومنهم من يقطعُ بتغريمه في هذا القسم بوجهٍ يُجبَر المشتري عليه، وهو تركُ الحجرِ (1) .
ثم ينتظم على هذا تعطُّلُ المنافعِ، من غير نقصٍ في رقبة المبيع. وقد ذكرُوا الخلافَ في الأجرة، فالوجه ترتيبها. والفَرق لائح؛ فإن المنافعَ ليست معقوداًْ عليها، ولو قيل: القدرُ الذي يُفرِّغ البائعُ فيه المبيعَ غيرُ داخلٍ في استحقاق المشتري، لم يكن بعيداً، والمبيع كله مستَحق للمشتري بأجزائهِ، وصفاته.
فهذا مجالُ الإشكال في مسائل الفصل، ميزَّناه، وزدنا في تقريره حتى لا يبقى متشتتاً في المسائل، وقد نجز الفصل- ولله الحمد- بالغاً في البيان.
***
__________
(1) أي يقطعُ بأن يغرَم البائع الأحجارَ، فيتركها للمشتري، ويجبر المشتري على ذلك، فالأحجار على أية حالِ إضافةٌ وزيادةٌ في المبيع، والضرر في قلعها، وليس في تبقيتها.(5/141)
باب الوَقْتِ الَّذِي يَحلُ فيهِ بَيعُ الثّمارِ ورَدّ الجائِحَةِ مِنْ كثَب
قال الشافعي: أخبرنا مالك عن حُميدٍ عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيع الثِمار حتى تُزهي، قيل: يا رسول الله وما تُزهي؟ قال: حتى تحمرَّ أو تصفرَّ ... إلى آخره" (1) .
3031- هذا الباب معقود لبيان بيعِ الثمارِ، والزروعِ، وهو مصدَّر بذكر ما يشترط في صحَّةِ بيعه القطعُ، وما لا يشترط فيه ذلك. ونحن نبدأ بذكر الثمار، ثم ننعطف على الزروع.
فمن باع ثمرة على الشجرة، لم تخل الثمرة إما أن تكون مُزْهية بدا الصلاحُ فيها، وإما ألا تكون كذلك، فإن لم تكن مزهية، فلا يجوز بيعُها بشرط التَّبْقية، ولو بيعت مطلقة، فالبيع في الإطلاقِ محمولٌ عند الشافعي على شرط التبقية، وعَقْد المذهب أن العادةَ جاريةٌ بتبقية الثمار، والعقود المطلقةُ منزلةٌ على حكم العادة المقترنة بها، ومقتضى العادة المطردة إذا اقترنَ بالعقد نزل منزلة الشرطِ المصرّحِ به، وعلى هذا بنينا تنزيلَ الدراهمِ المرسلةِ في العقدِ على النقد الغالبِ في العادة؛ حتى نقول: لو اضطربت العاداتُ في العقودِ، فإطلاق الدراهمِ فاسد، والعقد باطل، وعلى هذا الأصل لم نحوج المتكارِيين (2) إلى ذكر المنازِل (3) وتفصيل كيفيَّة الإجراء (4) .
__________
(1) ر. المختصر: 2/167، والحديث متفق عليه، رواه البخاري: بيوع، باب إذا باع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، ح 2198، ومسلم: مساقاة، باب وضع الجوائح، ح 1555، ومتفق عليه أيضاًً من حديث جابر، وانظر التلخيص: 3/66 ح 1216.
(2) المتكاريين: المكاري بضم الميم: اسم فاعل من كاريتُه من باب قاتل، وهو في الأصل مفاعلة من الجانبين، بين كل طرفين تمّ بينهما كراء، وشاع اسماً لمن يؤجِر المطايا للركوب والرحيل عليها. (معجم ومصباح) .
(3) المنازل: جمع منزلة: المرحلة من الطريق، ينزل بعدها المسافرون للراحة.
(4) الإجراء: من الجري: أي كيفية الإسراع بالمطايا.(5/142)
وكلّ ما يتَّضح فيهِ اطرادُ العادة، فهو المحكَّم، ومضمرُه كالمذكور صريحاً، وكل ما تتعارض الظنونُ بعضَ التعارضِ في حكم العادة فيه، فهو مثارُ الخلافِ وسبَبُه.
وألحق القفالُ بما ذكرناه أمراً آخر، فقال: إذا عم في الناس اعتقادُ إباحةِ منافعِ الرهن للمرتهن، فاطراد العادة فيه بمثابة شرطِ عقدٍ في عقد، ويلزم منه الحكمُ بفساد الرهن، وقد يجري ذلك في أغراضٍ في القروض، لو ذكرت لفسَدَت القروض بها.
والقفال يجعل اطرادَ العرفِ بمثابةِ الشرطِ، ولم يُساعده كثيرٌ من أصحابنا، وقالوا: الرهنُ يصحُّ إذا لم يُشرط فيه شيء، وكذلك ما في معناه. وسنذكر الضبطَ في محل الخلاف والوِفاق -إن شاء اللهُ تعالى-
وكان شيخي يقولُ: لو كان في بقعَةٍ من البقاعِ المعدودة من الصرودِ (1) كرومٌ، فكانت الثمار لا تنتهي إلى الحلاوة، وعم فيها العُرف بقطع الحِصْرِم، فإطلاق البيع محمول على العُرف في القطع، وهو نازلٌ منزلةَ البيع بشرط القطع، فالتعويل في أصل المذهب على العادة.
وأنا أقول: لا شك أن حمل المطلقِ من البيع في الثمار التي لم يَبدُ الصلاحُ فيها على المقيّد بشرط التبقيةِ مأخوذٌ من العُرفِ.
والوجه في هذا عندنا أن يقال: كل ما يتعلق بتوابعِ العقودِ من التسليمِ، والقطعِ، والتبقيةِ، وكيفيةِ إجراء البهيمة المكراةِ، والمقدارِ الذي تَطوي في كل يوم، فهذه التوابع منزَّلةٌ على العرفِ، كما ذكرناه. ومن جملته حملُ الدراهم المطلقة على النقد الغالب، وهذا في اعتياد يعم، ولا يختصّ بتواطُؤِ أقوام.
3032- فأما العادة التي تُتلقَّى من تواطؤ أقوامٍ على الخصوص، كشرط الإباحَةِ في الرهن، وشرائطَ معروفةٍ فاسدة في القُروضِ، فهذا محمول على اصطلاحِ أقوام،
__________
(1) الصرود: الصَّرْدُ شدة البرد، والجمع صرود (المعجم) . وواضحٌ من السياق أن المعنى: إذا كانت كروم العنب في بقعةٍ معدودة من المناطق (الصرود) أي الباردة، فالعنب لا يتم نضجه بسبب البرد، فجرى العرف بقطعه وهو (حِصْرِم) أي حامض.(5/143)
وقد يختصُّ ببعض البلاد ببعض الأعصارِ، ففي مثله التردد. فأما القفال، فإنه يرى الاصطلاحَ المطَّردَ بين أقوامٍ بمثابةِ العادةِ العاقَة، وامتنع غيرُه من هذا. وعندي أن هذا يُنزَّلُ على منزلةٍ (1) ستأتي مشروحةً في كتاب الصداق، وهي أن أقواماً لو تواطئوا على أن يُعبّروا بالألفين على الألفِ، فإذا وقع العقد بلفظِ الألفين، فالتعويل على التواطُؤ، أم على صيغة اللفظ؟ فيه تردّدٌ. وسيأتي في المسألة المترجمة السرّ والعلانيةِ، ووجهُ التشبيه أن العادةَ مُبينة كالعِبارة، والعادةُ التي لا يُعرف مستَندُها من اصطلاح كاللغات، والعادةُ التي تستند إلى اصطلاح معلومٍ كلغة المتواطئين على مُراطناتِهم. وإعمالُ عادةِ التواطؤ - أقربُ مما ذكرناه في مسألة السرّ والعلانيةِ، والسببُ فيه أن إعمالَ التواطُؤِ في تلك المسألة [ألغى] (2) صريحَ اللغة الثابتة، فقد لا يُحتمل ذلك.
3033- ومما يَطرأ في هذا الأصل الذي نحن فيه أن الشيء إذا فُرض نُدورُه في بقعةٍ، ثم صُوّر اطرادُه، والحكم مستندَهُ العادةُ، فقد تردّد في هذا حملةُ المذهب، ومنه ينشأ اختلافهم في كثير دم البراغيث في بعضِ الأصقاع، في حكم العفو عن النجاسةِ. ويخرجُ على هذا القانون المسألة التي ذكرناها في الحِصرِم، في بعض الصرود؛ فإنّ فرض ذاك في نهايةِ الندور، وإن تُصوِّر واطَّردت عادةُ أهل البقعَةِ بقطف الحِصرِم، فهو على التردد الذي ذكرناه.
فهذا قولُنا في تأسيس الباب في الثمار التي تباع قبلَ بُدوّ الصلاحِ0
3034- وإن بَدا الصلاحُ، فيجوز بيعُ الثمار على شرط التبقية إلى أوانِ الجِداد، وإن بِيعت مطلقةً، صح البيعُ، وحُملَ على موجَب التبقيةِ، بناء على ما مهَّدناه من اتباع العادة العامة في توابع العقد.
فإن قيلَ: نَهْيُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار حتى تُزهي يشعر بمفهومهِ أن البيع قبل بدوّ الصلاح منهيٌّ عنه محرمٌ من غير فصلٍ بين أن يقدّرَ شرطُ القطع
__________
(1) في (هـ) : "مسألة".
(2) مزيدة من (هـ 2) .(5/144)
أو يطلق. قلنا: ظاهرُ اللفظِ هذا، ولكنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تكلّم في أمرٍ مستندُه العادة، نزَّل لفظُه على موجَبها، والعادةُ الجارية أن الإنسان لا يشتري الثمارَ قبل الزَّهو ليقطفها، وإنما يشتريها لتبقيتها إلى الجداد. هذه العادة. وإن فُرض غيرُ ذلك، كان خُرْقاً وسفهاً، فكأنه نهى عن البيع المعتادِ قبل بُدوّ الصلاح.
3035- ثم ذكر الأئمةُ من طريق المعنى مسلكين في ضبط المذهب: أحدُهما - أن الثمار قبل بُدوّ الصلاح تكون متعرضة للآفات والصواعق، ومن اشتراها كان معرَّضاً مقصودُه للهلاك، وفي ألفاظ الشارع ما يدل على هذا المعنى، إذ رُوي: "أنه صلى الله عليه وسلم، نهى عن بيع الثمار حتى تنجو من العاهة" (1) .
والمسلك الثاني - أن الثمار قبل بدوّ الصلاحِ ستكبر أجرامها كبراً ظاهراً، وإنما هي من أجزاء الشجرة، فلم يجرِ شرطُ التبقية لذلك، وإذا بدا الصلاح فيها، فلا تكاد تزداد ازدياداً به مبالاة.
والأوجه في ضبط المذهب المعنى الذي قدمناه، وهو متلقى من الخبر كما ذكرناه. والمعنى الثاني معتضدٌ بأمير مذهبي، وذلك أن من اشترى أشجاراً عليها ثمارٌ غيرُ مُزهيةٍ، فالعقد صحيح، وإن لم يجر شرط القطع، لما كانت الأشجار مضمومةً في المِلكِ إلى الثمار، فإذا امتصت الثمارُ شيئاً من رطوبات الأشجار، فلا بأس؛ فإنهما جميعاً في ملكِ مالكٍ واحد، ولو كانت الأشجار ملكاً لزيد، وكانت الثمار مِلكاً لعمرٍو، وهي غيرُ مزهيةٍ بعدُ، فلو باعها عمروٌ من زيدٍ مالكِ الأشجار مُطلقاً، أو على شرْط التبقية، ففي صحةِ البيع وجهان: أحدهما - أن البيع يصح، كما لو جمع بين الثمار والشجر في العقد، ومعناه ما ذكرناه من اتحاد المالكِ في الأصل والفرع.
ومن منع قال: سبب تصحيح العقد الوارد على الثمر والشجر أن الأصلَ الشجرُ، والثمارُ معها تابعةٌ لها، فلا يضرّ تعرض [المبيع للتَّوى] (2) ، فكأنَّ أحدَ القائلَيْن يلتفت
__________
(1) حديث: " ... حتى تنجو من العاهة"، هذا اللفظ عند مسلم في البيوع، باب النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها، ح 1534 عن جابر مرفوعاً، "تذهب عنه الآفة" وعن ابن عمر لما سئل ما صلاحه، قال: تذهب عاهته.
(2) في النسختين: "البيع للنوى". والتوى: الهلاك: تَوِي المال يتوَى: ذهب؛ فلم يُرْج، =(5/145)
على التعرض للعاهة ويحتمل ذلك في العقدِ الذي يكون الثمر يتعاقبه. والقائل الثاني يعتبر الاجتناب من امتصاص الثمار رطوبةَ أشجار الغير.
وأما أبو حنيفة (1) ، فإن مذهبَه مجانبٌ لمذهَبنا، وهو أخذ فيه مسلكاً آخر، فحقُّ العقد عنده إذا أفردت الثمار بالبيع، أن تُفرَّغ الأشَجار منها. مزهيةً كانت الثمار، أو غيرَ مزهيةٍ. ورأى تبقيةَ الثمارِ إدامةً لِشغل ملك الغَيرِ.
وأجاب بعضُ الأصحاب عن هذا الطريق بأن قالوا: ليس للأشجار منفعةٌ تفوتُ بتبقية الثمارِ عليها، وإن كان يقدَّر ازديادُ الثمار من أجزاء الأشجار، فذلك قليلٌ بعد بدوّ الصلاح.
وهذا المعنى غيرُ سديدٍ، وهو مشعر بتكليف التفريغ إذا كانت المنافع المُعتبرةُ تتعطل، وليس الأمر كذلك عندنا؛ فإن من ابتاع شجرةً مطلقاًً لم يكلف قلْعَها، وفي إدامتِها شُغلُ منافعَ معتبرةٍ. ولكن كانت العادةُ التبقيةَ، وليس في التبقية تعريضٌ للتلف، فاحتمل ذلك، وجرى بقاءُ الشجرة حقاً مستحقاً تابعاً لملك الشجرة. وليس هذا من قبيل الإعارة، ولا يسوغ لبائع الشجرة أن يقلعها على شرط أن يغرَمَ (2) ما يَنقُصُه القلعُ، والسبب فيه أن التبقيةَ مستحقةٌ بعقدِ الشراء، وحقوقُ الشراءِ، لا تَبطُل على أربابها، وكذلك إذا اشترى بناءً مطلقاًً، استحق تبقيتَه إلى غيرِ آخِرٍ، لما قرَّرناه.
3036- ومن هذا الأصل اختلف قول الشافعي في أن من اشترى شجرةً مطلقاًً، وملك بالشراء أغصَانها وعُروقَها، فهل يَملكُ مَغْرِسَها من الأرضِ؟ والأصَحُّ أنه لا يملكه؛ فإن اسمَ الشجرةِ لا يتناول شيئاً من الأرض.
وفي المسألةِ قول آخر: أنه يملكُه؛ فإنه يستحق تبقيةَ الشجر لا إلى نهايةٍ، فلْيُقضَ بملكه لمغرسها، وإلا، فلا نظير لهذا النوع من الاستحقاق.
__________
= والإنسانُ: هلك. (معجم) .
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء للطحاوي: 3/117 مسألة رقم 1197، 1198، البدائع: 5/173.
(2) في (هـ 2) : ألا يغرَم.(5/146)
وهذا الاختلاف ليس يجري على منهاج الاختلاف المقدم ذكرُه، في استتباع الأرض أشجارَها؛ فإن ذاك منشؤه استتباعُ الأرض فرعَها، وأما ملك مغرس الشجرة، فليس من جهة استتباعِ الشجرة الأرضَ؛ فإن الفرعَ لا يستتبع الأصلَ، ولكنهُ من جهة ثبوت استحقاقٍ لا محمل لهُ إلا الملك.
ثم إن قُلنا: إنه يملِكُ المَغْرِسَ، فلو انقلعت تلك الشجرةُ، أو قلعَها، فمِلكهُ قائم على المغرس يتصرفُ فيه تصرفَ الملاك، وإن قُلنا: لا يملك مشتري الشجرةَ مَغرِسَها، فإذا انقلَعت، أو قَلَعها، لم يملِك أن يغرسَ فيه شجرةً أخرى؛ فإن حق التبقيةِ كان تابعاً للشجرة التي ملكها، وقد زالت تلك الشجرةُ، فتبع زوالَها زوالُ الحق في المغرس.
فصل
في تفسير بُدوّ الصلاح
3037- معتمدُ الباب في الحقيقة الخبرُ، ومقتضاه اعتبارُ بدوّ الصلاح، وبيان ذلك في الثمار، ثم في غيرها.
أما الثمارُ، فتنقسمُ إلى ما يتلوّن عند الإدراك بلونٍ يخالف السابقَ قبل الإدراك، كالتمر والأعنابِ: السودِ والحمرِ، فبدوّ الصلاح في هذا القبيل بأن يبدو تلوّنُها، وهو المعنى بقوله صلى الله عليه وسلم: "حتى تُزهيَ، قيل له: يا رسول الله، وما تُزهي؟ فقال صلى الله عليه وسلم حتى تحمرّ أو تصفرّ"، ولا شك أن ذلك إذا ظهر فيها، طابَ أكلُها، وزالَ ما كان فيها، من عفوصيةٍ (1) أو قَرْصِ حموضة، أو مرارة، وقد ورد في بعض ألفاظ الحديث "حتى تطيبَ"، ثم لا يُشترط بلوغُها الغايةَ المطلوبةَ في الطيب؛ فإن هذا إدراك. وبين بدوّ الصلاح، وبين الإدراك وأوانِ القطافِ قريبٌ من شهرين.
هذا قولُنا في الثمار.
__________
(1) عفوصة: من العَفْص، وهو مادة قابضة يدبغ بها غالباً (معجم، مصباح) .(5/147)
3038- وأما بدوّ الصلاح في البطيخ، فأن يطيب الأكلُ، ويظهرَ فيه التلوُّنُ أيضاًً.
وأما الثمار التي لا تتلوّن بالإدراكِ كالأعناب البيض، فالاعتبار فيها بالتَموّه، وجريانِ الحلاوة، وزوالِ قَرصِ العُفوصة، وطيبِ الأكل.
وهذه الأشياءُ [تجري] (1) في التحقيق على قضيةٍ واحدة، على ما سأصِفُه الآن.
وأما بدوُّ الصلاح في القثاء، فليس بأن يتلوّن، ولا يمكنُ أن يقال فيه: هو أن يطيب أكله، أو يمكن ذلك فيه؛ فإن القثاءَ يطيب وهو في نهاية الصغر. قال الأصحاب: الوجه أن ينتهي إلى منتهى يُعتادُ أكله فيه.
فإن قيل: خالفتم بين القثاءِ والثمار؛ إذ قلتم في القثاء: يعتبر اعتيادُ الأكل، والاعتياد لا يعتبر في الثمرة المُزهية، فما الذي أوجب الفرقَ؟ قلنا: لا فرق؛ فإن الزهو إذا ابتدأ، ابتدأ الناسُ في الأكل، وقد يغلب تأخيرُ المُعْظم إلى تمامِ الإدراك، كذلك القول في القثاء؛ فإن الصِّغار منه يُبْتَدرُ، ولكنّ عُمومَ الأكل يتأخَّر، والذي يتناهى صِغرُه لا يؤكل قصداً، إلا أن يتفق على شذوذٍ، فرجع الحاصل إلى طيب الأكل، وابتداءِ الاعتياد فيه، وعلامةُ ذلك في المتلوّنات التلوّنُ إلى جهة الإدراك، وعلامتُه فيما لا يتلونُ التموُّهُ، وجريانُ الحلاوةِ، والرَّونق.
3039- فإذا تمهَّد معنى بدُوّ الصلاحِ فيما ذكرناه، فإذا باع الرجل ثمار بستان، وقد بدا الصلاحُ في بعضِها، فالذي لم يَبْدُ صلاحُه تابعٌ لما بدا فيه الصلاح، وترتيبُ المذهب في هذا الإتباع، كترتيب المذهب في إتباع ما لم يؤبَّرْ ما أُبِّر، في محلِّ الوفاقِ والخلافِ حرفاً حرفاً.
ولو باع ثمارَ بستان، وهي أجناسٌ مختلفةٌ، وكان بُدوّ الصلاح في بعضِها، فالجنس الذي لم يبْدُ الصلاحُ فيه، لا يتبع الجنسَ الذي أزهى بلا خلافٍ، وإنما التردد في اختلاف النوع مع اتحاد الجنس، كما مضى تفصيلُ ذلك في التأبير وحُكمِه.
قال العراقيون: لو باع الرجل ثمارَ بستانَيْن صفقةً واحدةً، وكان بدا الصلاحُ في أَحدِهما دون الثاني، فثمار البستان التي لم تُزه لا تتبعُ ثمارَ البستانِ التي بدا الصلاحُ
__________
(1) ساقطة من الأصل.(5/148)
فيها، وقطعوا القولَ بهذا. ولست أرى الأمرَ كذلكَ، سيما إذا لم يتباعدا تباعداً، يؤثر في اختلاف التغايير، ولا حاجز إلا جدار.
ولو كان للرجل بُستانان كما صَوَّرنا، وقد بدا الصلاح في ثمارِ أحدهما دون الثاني، فلو أَفردَ بالبيع الثمَار التي لم يَبْدُ الصلاحُ فيها، فالذي رأيت الطرُقَ متفقة عليه أنا لا نعتبِرُ حكمَ الثمار التي بيعت بثمار بستانٍ آخر، وهذا يشيرُ إلى ما ذكرهُ العراقيون من اعتبار اتحاد البستان وتعدُّده.
ولم يختلف علماؤنا أن بُدوّ الصلاح لو كان في مِلكِ غير البائع، ولم يَبْدُ الصلاحُ في بستان البائع. فلا يقال: الوقتُ وقتُ بدُوّ الصلاح، فتجعل الثمار المبيعة كأنها مزهية. هذا لا قائل به. وقد ذكرنا خلافاً فيه إذا اختلف الملكُ، واتَّحد البستان، وثبت التأبير أو الصلاحُ في بعضِ ثمار البستان، فهل يتبع المبيعُ غيرَ المبيع، والبستان واحدٌ؟ فيهِ الخلاف المعروف، ولا فرق بين أن يكون ما أبقاه البائع له، أو يكون لغيره؛ إذا كان البستان الواحد جامعاً لهُما. ولَعلَّ رعايةَ اتحادِ البستان من (1) جهة أنه كالشيء الواحد في التطواف عليه، والتردُّدِ فيه.
ومعظم هذه الأحكام تبتنَى على عاداتٍ. فهذا منتهى المراد في ذلك.
وكل ما ذكرناه في الثمار، أو ما يجري مَجرَاها.
3040- فأمَّا القولُ في الزروع، فهي تنقسم إلى التي تُخلِفُ، وإلى التي لا تُخلِف.
فأما ما يُخلِفُ منها إذا جُزَّت كبعضِ [البقولِ، ومنها القُرط، وما في معناه، فهذا الجنس يكون متزايداً أبداً، ولا] (2) وقوفَ له، فإذا بيع منه جِزَّةٌ، فلا بد من شرطِ القطع، ولا يُنظر في هذا القسم إلى ما يقع في زمان العاهات، أو في زمان النجاةِ منها، وكذلك لا يُنظرُ إلى طيبِ الأكلِ، وذلك أنّا إذا كنا (3) نحاذر إمكان الآفة، ونشترطُ القطعَ لذلك، فالاختلاطُ الذي يجرّ إلى البيع اللبسَ العظيمَ لأن يُجتَنبَ أوْلى.
__________
(1) الجار والمجرور في محل رفع خبر لعل.
(2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(3) في الأصل: أنا كنا، وفي: (هـ 2) : إذا كنا. والجمع بينهما تصرفٌ اقتضاه السياق.(5/149)
وهذا الأصلُ في شرط القطعِ مساو للثمار قبل بدوّ الصلاح، وليس مأخوذاً من مأخذها.
3041- فأما الزروع التي لا تُخلِف إذا جُزت، فينبغي أن يُستثنى منها ما يتسنبل ويَستتر المقصودُ منه للغُلُفِ (1) والقصيل (2) ، فإنا سنعقد في هذا فصلاً (3) على أثر هذا الفصلِ، ونتكلَّم فيما عدا ذلك.
قالَ الأئمة: الزرع الأخضرُ لا يجوز ابتياعه إلا بشرط القَطعِ، وكان شيخي يقولُ: لا مُعوّلَ على الخضرة، والتعويل فيما لا يُخلِف على النجاة من الآفة على القياس الممهَّدِ في الثمار، والذي أراه أن هذا ليسَ باختلافٍ؛ فإن الأخضرَ في الغالب يتعرض للآفة، فنُزل كلامُ الأصحاب عليه.
وفي (4) هذا الفصلِ سرٌّ، وهو أنَّا لو فرضنا زرعاً ناجياً من الآفة، لا يُخلِفُ إذا جُزَّ، وقد يزداد إذا لم يجز، فالذي رأيتُ الطُرقَ عليه أن هذه الزيادة غير ضائرةٍ، وهي عند فرضِ التبقيةِ على حُكم الشرط، أو على وفاق المشتري. والزيادة التي ذكرناها بمثابةِ نموِّ الثمار، إلى وقت اتفاق القطع، وليست كزيادة الزرع المُخْلِف.
وهذا على بيانهِ قد يزلّ فيه من لا يردُّ نظرهُ إليه.
3042- وتمام البيانِ في هذا أن من اشترى بطاطيخَ على أصولها دون أصولها، فإن لم يكن بدا الصلاحُ، فلاَ بُدّ من شرطِ القطع، وإن بدا الصلاَحُ في الكبارِ منها، فللصغار حكمُ الكِبار، جرياً على إتباعِ المقدَّمِ، ولكن ما يحدث من الأصول، فهو لمالك الأصول. فإن فرض اختلاطٌ، رجع ذلك إلى مسألة الاختلاط، كما تقدم ذكرها.
__________
(1) للغلف: أي بسبب الغلف، والغلف جمع غلاف: مثال: كتاب وكتب. (المعجم) .
(2) القصيل المراد به هنا ما يرادف الغُلُف، وليس القصيل المعروف الذي يتخذ للعلف، ويؤكد هذا قول إمام الحرمين الآتي بعد صفحات: "واختلف في بيع الحنطة في سنبلها، وهي مستترةٌ بغُلُفِها من قصيل السنبل".
(3) في (هـ 2) : أصلاً.
(4) في (هـ 2) : في هذا. (بدون واو) .(5/150)
ولو اشترى أصولَ البطيخ، صحَّ. وكل ما يُخرجه بعد الشراء، فهو ملكُ المشتري.
ثم من لطيف ما يجب التنبُّهُ له: أن من اشترى ما لا يُخلِف لو قُطع، ملكَ ظاهرَه وعِرْقَه المستترَ بالأرض، فلو قال قائل: لو اشترى البطيخَ وأصلَه قبل بُدوّ الصلاح، فهل تشترطون القطعَ، أو تلحقونها بما لو اشترى الثمار والأشجارَ معاً، حتى لا تشترطوا القطع؟ قلنا: إذا لم يكن بدا الصلاحُ في البطيخ، فهو وأَصلُهُ عرضةُ الآفة، وليس كالثمار تباع مع أشجارها؛ فإن الأشجار ليست عُرضةَ الآفة، فتجري الثمار تبعاً لها.
فهذا منتهى البيان في هذه الفصول.
فرع:
3043- ذكر الشيخُ في شرح التلخيص أن من اشترى ثماراً بدا الصلاحُ فيها على شرط القطع [صح العقدُ، ولزم الوفاء بالشرط، ولا شك أن هذا يطّرد في ابتياع الشجر على شرط القطع] (1) من المغرِسِ، وابتياع البناء كذلك، وهذا واضح، ولكنّي أحببتُ نقلَه منصوصاً.
فرع:
3044- إذا باع شجرةً عليها ثمرة مؤبرة، فالثمار للبائع، وله تبقيتُها إلى أوان الجِداد. فلو أصابَ الثمارَ آفة، وصارت بحيث لا تنمو، فهل للبائع أن يُبقيها ولا فائدةَ له في تبقيتها؟ أم للمشتري إجبارُه على قطعِها (2) ؛ ذكر [شيخي] (3) لصاحب التقريب قولين في ذلك: أحدهما - أن له التبقية استبقاءً منه لحق الإبقاء إلى أقصى الأمد، ولا نظر إلى فائدته، والقول الثاني - أنه يُجبَرُ على القطع؛ فإن شغل ملك الغير بلا فائدةٍ لا معنى له.
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) في (هـ) : تبقيتها.
(3) زيادة من (هـ 2) .(5/151)
فصل
3045- ذكرنا أن من باع نخلةً، وعليها ثمرتُها غيرَ مؤبَّرةٍ، فهي تابعةٌ للنخلة إذا أُطلق اسمُها في البيع، فإن استثناها البائعُ، بقيت له، ولا خلاف في جواز استثنائِها.
وإن تردَّد المذهبُ في جواز إفرادِها بالبيع، كما سنذكره على إثر هذا الفصل، ولا يجوز استثناءُ الحَمْل إذا بيعت الجاريةُ الحامل بالولدِ الرقيق.
هذا أصل المذهب، وسيأتي تفصيلهُ، في باب الخراج إن شاء الله عز وجل.
3046- ثم هل يُشترط في صحة استثناء الثمار شرْطُ القطعِ؟ فعلى قولين: أحدُهما - أنه لا حاجةَ إلى شرط القطع؛ فإن الاستثناءَ ليس تملُّكاً في الثمار، وإنما هو استبقاءُ الملكِ فيها. وآيةُ ذلك أنا نقطع بصحة الاستثناء. وظاهرُ المذهبِ أن إفراد الثمار بالبيع قبل التأبير ممتنع، ولا شرطَ على المستبقي.
والقول الثاني - أنه لا بد من شرطِ القطع؛ لأن هذا [الاستثناء] (1) في حكم جلب المِلكِ؛ إذ لا بد فيه من لفظٍ واختيارٍ، وعبَّر الأئمةُ عن حقيقة القولين بعبارةٍ، وبنَوْا عليها أحكاماً في أمثلةِ هذه المسألة، فقالوا: لما باع الشجرةَ أشرف مِلكُه في الثمرة على الزوال، غيرَ أنه تلافاها، فهل نجعل المِلْكَ المشرفَ على الزوال إذا استُدْرِكَ كالملك الزائل العائد؟ فعلى قولين.
3047- ومن نظائر ذلكَ: أن الرجل إذا دبَّر عبداً فجنى في حياته جنايةً، تستغرق قيمتَه، وماتَ السيدُ، ولم يخلّف غيرَه، ففداه الورثةُ. [و] (2) معلومٌ أنهم لو سلّموهُ، لبِيع، وبطل العتقُ فيه. فإذا فَدَوْه، وحكَمْنا بنفُوذ العتق [فيه] (3) ، فالولاءُ فيه لمن؟ فعلى قولين: فإن جعلنا المشرفَ على الزوال كالزائل العائدِ، فالولاء للورثة.
__________
(1) في الأصل: الاستبقاء.
(2) زيادة من المحقق.
(3) مزيدة من (هـ 2) .(5/152)
وإن لم نجعل الأمرَ كذلكَ، فالولاءُ للمولى المتوفى. وهذه المسألة تبتني على أن تنفيذ الوصية إجازةٌ، وليس ابتداءَ عطيةٍ، فإنَّا لو جعلنا التنفيذَ ابتداءَ تبرعٍ من الورثة، لم يختلف قولُنا في أنهم المعتقون، ثم كنا نقول: لا بد من إنشاء العتق فيه، وإن جعلنا التنفيذ إجازةً، فالقول في الولاء مضطربٌ عندي؛ فإنهم لم يحتاجوا إلى إنشاءِ العتق، فأيُّ معنىً لصرفِ الولاء إليهم، والعتق نفذَ على حكم التدبير الماضي، ولكن الأئمة نقلوا قولاً آخر: أن الولاء للورثة لقوة سببهم، ونزّلوا ذلك منزلةَ الإعتاقِ بلا مزيد. فالقول في الولاءِ عويصٌ، وهو بين أيدينا (1) .
3048- ومما يجب التنبُّه له في مسألة الاستثناء، أنا إذا شرطنا التقييدَ (2) بالقطع، فأطلقَه، فظاهرُ كلام الأئمة، أن الاستثناء باطلٌ، والثمرة للمشتري، وهذا مشكلٌ جداً؛ فإن صرْفَ الثمرة إليه، مع التصريح باستثنائه محالٌ عندي، فالوجه عدُّ الاستثناء المطلق شرطاً فاسداً مفسداً للعقد في الأشجار، ويكون كاستثناءِ الحمل.
ومما يتعيّنُ الإحاطةُ به، أن الخلاف في اشتراط التقييد بالقطع يترتب لا محالة على أن قطعَ الثمارِ هل يُستحق إذا بقيت للبائع؟ فالتقييد في الاستثناءِ يلتف بوجوب القطع، وجوازِ الإبقاء، فإن لم نشرط التقييدَ، رأينا الإبقاء، وإن شرطنا، أوجبنا الوفاء.
ولا خلاف أن الثمار إذا بقيت للبائع؛ لأنها كانت مؤبّرة، وما كان بدا الصلاح فيها، فلا يستحق عليه قطعُها وإن كان يُشترط في صحة البيع شرطُ قطعها، إذا أفردت بالبيع.
فصل
قال: "وكل ثمرةٍ وزرع دونها حائل ... إلى آخره" (3) .
3049- مضمون الفصل الكلامُ في بيع الحبوب المستترة والبارزة، فأما الحبوب
البارزة كالشعير، فيجوز بيعُها في سنبلها تعويلاً على العِيانِ، وأما بيعُ المطعومات
__________
(1) أي سيأتي في كتاب العتق.
(2) في (هـ 2) : التنفيذ.
(3) ر. المختصر: 2/170.(5/153)
المستترة بقشورها، فالقول منقسمٌ فيها (1) : فمنها ما يكون بقاؤها في استتارها، وصلاحُها في قُشورِها، كالرُّمان، والبيض، والجَوْز في القشرة الثانية الخشنة، فالبيعُ جائز؛ فإن صلاح لُبِّ الجَوْز وبقاءَه في قشرته، وكذلك في حشو البيض، وفي حب الرمان، ولا (2) التفات على المجفف من حبِّ الرمان؛ فإن المقصودَ الأظهرَ منه في طراوته ورطوبته، وبيعُ الجوز في قشرته العليا إذا جفَّت عليه ممنوع عندَ الأصحاب، وكذلك بيعُ الباقلاء إذا جف في قشرته العُليَا، ممتنع، واختلف القول في بيع الحِنطةِ في سنبلها وهي مستترة بغُلفِها من قصيل السنبلِ، وكذلك الرّز في قشرتها العُليَا.
ومجموع ما قيل فيهما ثلاثة أقوال: أحدُها - الصحةُ؛ فإن لاستتار الحبوب بغُلفِها أثرٌ في طول البقاءِ، بخلاف القشرة العليا من الجوز، والباقلاء.
والقول الثاني - لا يصح؛ لأن ذلك ليس غالباً في الاعتياد، فلا مُعتبرَ به.
والقول الثالث - أن البيعَ صحيحٌ في الرّز، باطلٌ في الحنطة؛ فإن مُعظمَ ادّخارِ الرز في قشرته في العادة.
واختلف أصحابنا في بيع الباقلاء الرَّطْب في قشرته العُليا، وهي المسمى (الفول) والظاهر التجويز، وقد صح أن الشافعي أمرَ بعضَ أعوانه ليشتريَ له الفولَ الرطْب.
وبيع الجوز الرطب في قشرته العُليا قرَّبه بعضُ الأصحاب من الفول؛ فإن تِيكَ القشرة تصُون رطوبةَ اللب، صيانةَ قشرةِ الباقلاء. والجوزُ عن الجواز أبعد؛ فإن الغرض منه في جفافه.
3050- وحقيقة القول في هذه المسائل تَبِين بنكتة، وهي أنا إذا (3) جوزنا بيعَ الغائب، فكل ما ذكرناه يجوز بلا استثناء؛ فإنا نجوّز على بيع الغائب أن يقول: بعتُكَ الدِّرهمَ الذي في كفّي، أو الثوبَ الذي في كُمِّي؛ وهذا في الجهالة فوق الصور التي ذكرناها. فإن كان المحذور فيها الاستتار، فهذا من ضرورة بيع الغائب، وإن كان
__________
(1) في (هـ 2) : ينقسم: فمنها.
(2) في (هـ 2) : فلا.
(3) سقطت من (هـ 2) .(5/154)
المحذور فيها الجهالة، فهي متحققة في (1) بيع الثوب الذي في الكُمِّ، وليس يدرى أنه كرباس غليظ، أو ثوب رومِيٌّ.
ومن الأسرار في ذلك أن العِيان محيط ببيع الباقلاء اليابس في القشرة العُليا، ولكن المقصودَ مستورٌ على خلاف العادة.
وقد أطلق أئمة المذهب أن بَيعْ نَيْلِ المعدِنِ في أدراج ترابه ممنوع، وزعم المحققون أن هذا مفرع على منع بيعِ الغائبِ، وإلا فقد تحققت جهالة واستتار، مع إحاطة العِيان بالكل. وهذا غير بِدْعٍ في بيع الغائب، ولكن جرى رسمُ المفرعين بأن يُفرّعوا على قولٍ صحيح عندهم مسائلَ، ويبينوا أقوالَهم فيها، ولا يتعرضون للقول الثاني.
3051- فحاصل المذهب أن المسائلَ التي ذكرناهَا مصحَّحةٌ على جواز بيعِ الغائبِ، والقولُ فيها على قولِ منع بيع الغائبِ منقسمٌ ثلاثةَ أقسام: أحدُها - أن يكون استتارُ المقصودِ بحيث يظهر مسيسُ الحاجَةِ إليه، وتغلب العادةُ فيهِ، كالبيض، والجوز، واللَّوْز إذا بيعت في قشرَتها التي هي صوانُها.
والقسم الثاني - ما يضطرب النظر فيه في اشتداد الحاجةِ إلى احتمال الاستتار، وهو كالحنطةِ في سنبلِها، والرّز في قشرِهِ، والفولِ الرطب، والجوزِ الرّطبِ في قشرتها العُليا، وراء قشرتها الخشنة، فالرأي يضطرب في تحقيق إظهارِ الحاجة في هذه المسائل، فاختلف المذهبُ لذلك.
والقسم الثالث - استتار وجهالةٌ من غير حاجةٍ، ولا استمرار عادة، كالباقلاء اليابس في القشرةِ العُليا، فلا حاجة إلى هذا الاستتار، ولا عادةَ فيهِ، فاقتضى مجموعُ هذا القطعَ بمنع البيع، وردِّ الأمرِ إلى منع بيع الغائب.
فلتُفهم هذه المسائل على هذا الوجه.
3052- وذكر الأئمة أن بيع لحم الشاة الذكيَّةِ في جلدِها قبل السلخ ممتنعٌ، وهذا الامتناع يجري على القولين جميعاً؛ من جهة أن الاستتار لا يزول إلا بقطع جزءٍ
__________
(1) في (هـ 2) : وبيع.(5/155)
وتفصيله؛ فإن السلخ قطعُ الجلد (1) الملتئم على اللحم عنه. وسيأتي لهذا نظائر عند ذكرنا بيعَ جزءٍ من نصْلِ أو خشبةٍ، وكان لا يتأتَّى تَسليمُ المسمَّى مبيعاً إلا بقطعٍ وتفصيل. ولعلَّنَا نُعيد هذه المسألة ثَمَّ -إن شاء الله تعالى-
وكان شيخي يقطع بمنع بيعِ الجَزَرِ، والسلقِ، والفجلِ، في الأرض. وهذا مفرعٌّ على منع بيع الغائب، وإذا جوزناه، صححنا البيعَ في هذه الأشياء، حسب تصحيحنا بيعَ الأشياء المدفونة في الأرض، إذا كان لا يَعسُر إخراجُها.
فصل
قال: "ولا يجوز أن يَستثني من التمر مدّاً ... إلى آخرِه" (2) .
3053- إذا باع ثمرةَ بستان إلا مدَّاً، فالبيع باطل، نصَّ عليه الشافعي -رحمه الله- في كتبه الجديدة، والقديمة، والسببُ فيه أن الثمار المشارَ إليها، ليست معلومةً بكيلٍ، ولا وزن، وإنما التَّعويل في إعلامها على العِيان، فإذا استثنى منها مقداراً، اختل به ضبطُ العِيان، فلا يُشار إلى شيء من الثمارِ إلا وللمُدِّ المستثنى منه نصيبٌ.
ولو استثنى من الثمار جُزءاً، كالنصف والرّبع، صح؛ فإنّ هذا لا يُخلّ بضبط العِيان؛ إذ لا يشار إلى شيءٍ من الثمار إلا وينتظم فيه القول بأن المبيعَ منه نصفُه مثلاً.
وعبَّر الشافعي عن هذا، وقال: "استثناء المقدار المعلوم عن المجهول يُكسبُه جهالةً لا تحتمل".
3054- ولو أشار إلى صُبرةٍ في البيع (3) ، وقال: بعتُك هذه الصُّبرة إلا مُدّاً، فإن كانت مجهولةَ الأمدادِ، فالجواب فيها كالجواب في الثمارِ، ولو كانت الصُّبرةُ معلومةَ الأمداد، فالبيع صحيح، والاستثناءُ ثابتٌ، ولا حاجة إلى ذكر أمدادِ الصُّبرةِ لفظاً،
__________
(1) في (هـ 2) : " قطع اللحم الملتئم على اللحم عنه ".
(2) ر. المختصر: 2/171.
(3) ولو أشار إلى صُبرة في البيع: كذا في النسختين (البيع) وواضح أنها بمعنى المكان الذي يعرض فيه المبيع، أو الذي تحفظ البضاعة فيه.(5/156)
بل يكفي أن يكونَ المتعاقِدان عالمين بمبلغ الأمداد.
ولو قالَ: بعتُكَ صاعاً من هذه الصّبرة، فإن كانت معلومةَ الصيعان، صح البيعُ.
واختلف الأئمةُ في تنزيله، فقال طوائفُ منهم: هذا بمثابة بيعِ جزءٍ من جملةٍ، حتى لو كانت الصُّبرة مائةَ صاع، فالبيع عُشر العُشر، وأثر هذا أنه لو تلفَ من الصُّبرة شيءٌ يقسط على المبيع والباقي. وهذا اختيار القفال.
وقال قائلون: ليس بيعُ صاعٍ محمولاً على مذهب التجزئة، ولو تلف شيء لم يتقسَّط التالف على المبيع وغيرِه، بل يبقى المبيعُ مَا بقِي صاعٌ؛ فإن البائع ما أخرَج بيعَ الصاعِ إخراجَ بيعِ الجزء من الأجزاء، والمقاصد هي المرعيّة.
هذا إذا كانت الصُّبرة معلومةَ الصِّيعان.
فأما إذا كانت مجهولةَ الصيعانِ، فقال: بعتك صاعاً منها، فهذا خارج على التردد في تنزيل بيع الصاع في صُورةِ العلم بمبلغ الصيعان، فإن نزلنا الصاعَ على الجزء، وبنينا عليه تقسيط التالف على المبيع والباقي، فالبيع على هذا المسلك مع الجهل بالصّيعان باطل؛ فإنه [بيعُ] (1) جزءٍ مجهولٍ، واستدَلّ القفال عليه بما لا دفع له، فقال: لو قُسمت الصُّبرةُ أمداداً، ومُيّزت، ثم قالَ مالكها بعتُكَ مُداً منها، فالبيعُ باطل، ولا فرق بين أن يتميز كذلكَ [وبين أن] (2) تجتمعَ. وهذا (3) هو القياس.
ومن نزَّل بيعَ الصاع في صُورةِ العِلم على الإبهام، لا على الجُزئية، صحح البيعَ في المُدّ من الصُّبرة المجهولة الأمداد، قائلاً: إن المبيع معلومٌ، ولا ننظر إلى الجزئية، ثم لا يقضي هذا القائلُ بتلف المبيع، ما بقي من الصُّبرة مقدارُ المبيع.
والقفالُ يقول: هذا خارجٌ عن الإشاعةِ، والتعيينِ، والوصْفِ، وإحاطةِ العيان.
ثم قال: لا فرق عندي بين بيع شيء مجهولِ القدر مضبوطٍ بالعِيانِ يستثنى منه مقدارٌ
__________
(1) مزيدة من (هـ 2) .
(2) في الأصل: "كذلك أو تجتمع". ورجحنا (هـ 2) لما عهدناه في أسلوب إمام الحرمين من تكراره لـ (بين) مع الاسم الظاهر، على خلاف المشهور.
(3) في (هـ 2) : فهذا.(5/157)
وبين بيعِ مقدَّرٍ مُضافٍ إلى مجهول القدر مضبوط (1) بالعِيان.
3055- ولو قالَ: بعتُك عشرةَ أذرع من هذه الأرض، وهي مجهولةُ الدُّرعان، فقد أطبقَ الأصحابُ على بطلان البيع، واعتَلُّوا بأن جوانبَ الأرضِ تتفاوت، وصيعانُ الصُّبرة لا تتفاوتُ. وإن كانت الأرضُ معلومةَ الدُّرعانِ، فالقفال يحمل البيع على الجزئية، ويصححه، ومن لا يرعى مذهبَ الجُزئية في الصاعِ، حكَمَ ببطلان البيعِ هاهُنا؛ فإن الذرعان متفاوتةٌ.
وسنذكر مسألةَ الأرض ونظائرَ لها في بابٍ وثَمَّ تتبينُ حقيقتُها.
3056- قالَ الشافعي: لو قال بعت منك ثمرةَ هذا الحائط بثلاثة آلاف درهم إلا ما يخص ألف درهم، فإن أرادَ إلا ما يخص ألف درهم من الثمن، فقد باع الثُّلثين بألفين، وصح العقدُ. وإن أراد بالألفِ المذكورِ في صيغة الاستثناء جُزءاً من قيمة الثمارِ لو قُوِّمت، فالبيع باطل؛ فإن الاستثناء على هذهِ الصفَةِ يَجُرُّ جَهالةً. وهذا بيّن لا خفاء بهِ.
فصل
قال: "ولا يرجع من اشترى الثمرةَ وسُلمت إليه بجائحةٍ ... إلى آخره" (2) .
3057- إذا اشترى الرجل الثمارَ بعدَ بُدوّ الصلاحِ بشرطِ التبقيةِ أو مُطلقاً، وقد تقرَّر أن مقتضى الإطلاق التبقيةُ، وسلم البائعُ الثمارَ على الأشجار إلى المشتري.
فنذكر قبل الخوض فيما قيل في وضع الجوائح أصلين لا خِلافَ على المذهب فيهما: أحدهما - أن المشتري يتسَلّط على التصرفِ في الثمار بسبب القبضِ من كل الوجوه. والأصل الثاني - أن البائعَ يلزمُهُ سقْيُ الأشجار إذا كان نموُّ الثمار به، وهذا يُشعِر ببقاء عُلقة على البائع من حق العقد؛ فإن إيجابَ السقي للتنمية من حكم إتمام التسليم، وكأنَّ المستحقَّ على البائع أن يَسْعَى في تسليم الثمار على صفةِ الكمالِ.
__________
(1) في (هـ 2) : معلوم.
(2) ر. المختصر: 2/172، 173.(5/158)
فإذا وضح هذا فلو اجتاح الثمارَ جَائحةٌ سماوية من صاعقة، أو حرٍّ أو بَردٍ، وما ضاهاها من العَاهاتِ، فما يتلف من الثمارِ بسبب الجوائح أهي من ضمان البائع أم من ضمان المشتري؟
المنصوص عليه في الجديد أنه من ضمان المشتري وهذا هو القياس؛ فإنّ ما جَرى من التسليم إليه سَلّطَه على التَصرُّفات المفتقرة إلى كمالِ القبضِ، فدل على حصول القبضِ كاملاً، وهذا يتضمَّن احتسابَ التالف على المشتري.
والقول الثاني -وهو المنصوص عليه في القديم- أن ما يتلف بالجوائح، فهو من ضمان البائع، فإن تلفت الثمارُ بجملتها، انفسخ البيعُ، وارتد الثمن إلى المشتري، ولو تلف بعضُها، انفسخ البيعُ فيه، وخرج القولُ في الباقي على قَوْلَيْ تفريقِ الصفقةِ.
وهذا القائل احتج بما رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيع السنين" "وأمر بوضع الجوائح" (1) وقد عرض هذا الحديث على الشافعي فقال: هذا الحديث رواه سفيان بن عُيينةَ عن [حُمَيْد] (2) بن قيس عن سليمان بن عتيق عن جابر بن عبد اللهِ مراراً، ولم يذكر وضعَ الجوائح، ثم روى وضعَ الجوائح، وقال: "كان قبله كلامٌ [فنسيتُه] (3) ثم رأيت أَروي ما أذكر"، قال الشافعي: فلعلَّ الكلامَ الذي كان (4) قبله شيء يدل على أن وضع الجوائح مستحبٌّ، لا واجب. ثم قال الشافعي: لولا أن سفيان وهَّن الحديثَ الذي رواه لقُلتُ به، وأراد بتوهينه إياه سكوتَه عن رواية وضع الجوائح أوّلاً، ثم تردُّدُه في كلامٍ كان قبل وضعِ الجوائحِ.
__________
(1) النهي عن بيع السنين، والأمر بوضع الجوائح، ورد كل منهما في حديث خاص، الأول عند مسلم عن جابر بن عبد الله: البيوع، باب النهي عن المحاقلة والمزابنة، ح 1536، ورواه أيضاًً: أبو داود والترمذي والنسائي، وابن حبان. وحديث وضع الجوائح عن جابر أيضاًً، ورواه مسلم: كتاب المساقاة، باب وضع الجوائح، ح 1554. وراجع التلخيص: (3/40 ح 1176، ص 71 ح 1222) .
(2) في النسختين (حمد) . والصواب حميد (مصغراً) كذا في مسلم.
(3) في الأصل: فنسيه.
(4) ساقطة من (هـ 2) .(5/159)
ورُبما يتمسَّك ناصر القول القديم (1) بما قدَّمناه في صدرِ الفصلِ من وجوب السقي على البائع، وانفصل عن تسلط المشتري على التصرف، بأن قال: لا يمتنع أن ينفذَ التصرفُ، وإن كان لو قُدِّر التلفُ، فالتلفُ (2) من ضمان المُمَلِّك (3) كالدار المستأجرة إذا قبضَها المُستأجر، فإنه يتصرّفُ فيهَا، ولو انهدمت الدار، انفسخت الإجارة في بقيّةِ المدّة.
وناصرُ القولِ الجديد يقول: البيع يستدْعي قبضاً كاملاً، والإجارةُ تصح من مالك الرقبة في حَال عَدمِ المنافع؛ فلا يَسوغُ اعتبار أحد العقدينِ بالثاني.
التفريع على القولين:
3058- إن قلنا: التالفُ بالجوائح من ضمان المشتري، فلا كلام.
وإن قلنا: إنه من ضمان البائع، فهذا يطّرد إلى أوان القطافِ. فإن أخَّر المشتري القِطافَ تأخيراً يُعدّ به متوانياً مقصّراً، فما يقعُ في هذا الزَّمن، لا يكون من ضمان البائع قولاً واحداً؛ فإن المشتري منتسب (4) إلى التقصير في تأخيرِ القِطاف. فشابه هذا ما لو اشترى الثمارَ بشرط القطعِ، ثم لم يقطع؛ فاجتاحته الجوائح، فالتلفُ من ضمانِ المشتري إذا وقعَ بعد التسليم إليه. ولو حان وقتُ القِطاف ولكن ليس يُعدُّ (5) مؤخِّرُه في اليوم واليومين متوانياً [وقد] (6) يُعدُّ مُتَشوِّفاً إلى مزيدٍ في نَشْفِ (7) رُطوبة فِجَّةٍ (8) لا يستقلّ بنَشْفِها الجرين، فلو جَرت الجائحةُ في هذا الزمان، فظاهِر المذهبِ أن التالفَ من ضمانِ المشتري، ولا يخرج القولان، وإنما محل جريانِهما فيما قبل أوانِ
__________
(1) ساقطة من (هـ 2) .
(2) في (هـ 2) : فإن التالف.
(3) " المُمَلِّك ": أي الذي مَلك حق التصرف للمشتري والمستأجر.
(4) في (هـ 2) : متسبب.
(5) ساقطة من (هـ 2) .
(6) في الأصل: ولا يعدّ.
(7) نشف كسمع، ونصر، منه متعدِّ ولازم: نشِفَ الثوبُ العرقَ، ونشف العرقُ (قاموس) .
(8) الفج بكسر الفاء غير الناضج (معجم) ، ووصفت الرطوبة بالفجاجة، لأنها سببها.(5/160)
القطافِ. وفي بعض الطرق رمزٌ إلى إلحاق هذا الزمن إذا لم ينتسب المشتري إلى التقصير بالزمان المقدَّم على القطافِ.
وعلى نحو هذا تردَّدوا في أمَدِ السقي الواجب على البائع، فأوجبوه على الوجه الذي ينفع قبل أوانِ القطاف، ورتبوا الكلامَ بعدهُ على ما ذكرناه.
3059- ومما يتفرع على قول وضع الجوائح: أن الآفة لو لحقت الثمار من جهة سارق، فلأصحابنا وجهان على قولنا بوضع الجوائح: أحدهما - يوضع المسروق وضعَ الجائحة السماوية. وهذا ضعيف وإن كان مشهوراً في الحكاية؛ فإن السرقةَ نتيجةُ ترك التحفظ، [واليدُ] (1) للمشتري (2) ، ولا نعرف خلافاً أنه لا يجب على البائع نَصْبُ ناطور على الثمار إلى جدادِها، ولستُ آمنُ أن يمنعَ ذلك (3) من يصير إلى الوجه البعيد من أن الفائت بالسرقة موضوع عن المشتري وهو من ضمان البائع.
ومما يتفرع على القولين أن الثمارَ لو عابت بالجوائح ولم تتلف، فثبوتُ الخيار للمشتري يبتني على الحكم بانفساخِ العقدِ لو تلفت الثمار، فلو حكمنا بالانفساخِ عند التلف أثبتنا الخيارَ للمشتري بالعيب، وإن لم نحكم بالانفساخ عند التلف، لم يثبت الخيار عند العيب.
3060- ومن أهم ما نفرّعُه وفيه تمام البيان أن نقول: كل ما ذكرناه في آفاتٍ سماويّة لم يكن سببُها تركَ السَّقي من البائع.
فأما إذا ترك البائعُ السقيَ، فتلفت الثمارُ لتركه السقيَ، فللأصحاب في ذلك خبط، ونحن نفصله بعون اللهِ وتوفيقه، فنقول: أولاً - إذا تلفت الثمار بسبب تركِ
السَّقي، ولم يَشعر المشتري (4 بحقيقةِ الحالِ 4) ، فلأصحابنا طريقان: منهم من قالَ: نقطعُ القولَ بانفساخ العقد، ورَدِّ الثمن؛ من جهة أن الآفةَ استندت إلى ترْك السقي
__________
(1) مكان كلمة غير مقروءة في الأصل.
(2) ساقطة من (هـ 2) .
(3) " ذلك " إشارة إلى عدم وجوب نصب ناطور على البائع.
(4) ما بين القوسين ساقط من: (هـ 2) .(5/161)
المستحق بالعقدِ، فصارَ كما لو جَرى التلفُ مقدّماً على التسليم، وما يستند إلى سبب سابق في العقدِ يتنزل منزلةَ ما لو سبق هو بنفسه. والدليل عليه أن البائع لو أبرأ المشتري عن شيءٍ من الثمن، لم يسقط ذلك عن الشفيع، ولو حُطّ مقدارٌ من الثمن أَرْشا لعيبٍ قديمٍ كان، فهو محطوط عن الشفيع لمكان استنادِه إلى العيب المقترن بالعقدِ.
ومن أصحابنا من أجرى المسألةَ على قولين وإن كان التلف بسبب ترك السقي، ذكرهُ صاحب التقريب، وأورده الصيدلاني على وجهٍ سأُنبّه عليه بعد الفراغ عن الترتيب الذي أريده.
وهذا الاختلافُ قريبُ المأخذِ من أصلٍ سيأتي في باب الخراج: وهو أن من اشترى عبداً مُرْتدّاً وقبضه، ثم قُتل بالردة في يده، فهذا التلفُ بعد القبضِ، ونفوذِ تصرّفِ المشتري، ولكنه مترتب على سبب سابق. فإن قلنا: العقد ينفسخ، فلا كلام. وإن قلنا: العقد لا ينفسخ، فسببُ التلفِ تَرْكُ السقي وهو اعتداءٌ من البائع.
وإذا ترتب التلفُ على سببِ عدوانٍ، تعلق به الضمانُ، فالوجه أن نقول: إن لم يطلع المشتري على حقيقة الحالِ، حتى تلفت الثمار، فيضمنُ البائعُ لا محالةَ.
3061- وإن بدا عَيْبٌ بالثمارِ لترك السقي، فكيف الوجه فيهِ؟ قال الصيدلاني: للمشتري أن يرد بالعيب، وزاد فقالَ: لو انقطعَ الماءُ، فله الرد بمجرد انقطاعِ الماءِ، ثم استتم الكلامَ فقال: إن فسخ، فلا كلامَ. وإن لم يفسخ حتى تلفت الثمارُ، ففي وضع الجوائح قولان.
وهذا كلام مختلِطٌ، فانَّ ثبوت الخيار فرعُ وضع الجوائح، كما قدمتُه في التفريع على القولين. وكلام الصيدلاني يدل على أن الخيار يثبت على القولين. وهذا على إشكالهِ متفقٌ عليه من الأصحاب.
فإذا عابت الثمارُ بسبب تركِ البائع السقيَ، فللمشتري الخيارُ، وإن حصل العيب بعد التسليم، ووقع التفريعُ على أن الجوائح لا توضع، وأن التالف بالآفة السماوية من ضمان المشتري، وتعليلُ ثبوتِ الخيارِ مع ثبوتِ اليدِ للمشتري تفريعاً على القولِ الجديد أن الشرع ألزمَ البائعَ تنميةَ الثمار بحكم العقدِ، فيصير العيبُ الحادثُ بهذا(5/162)
السبب كالعيب المتقدم على القبضِ، وهو في ظاهرِ الأمر مشبه بخيار الخُلف؛ فإن الصفةَ المشروطةَ لا تستحق بمطلق العقد، وإذا شُرطت وأُخلِفت، ثبت الخيارُ. فإذا فُرض العيب في الثمارِ بسبب ترك السقي، فكأنا نقول: أجزاءُ الثمار كانت تزيد لو سُقيت، فإذا لم تُسقَ، فتركُ السقي تضمّن ألا تؤخذَ تيك الزوائدُ التي كان التزمَ التسببَ إلى وُجودِها، وهي تُضاهي على هذا الترتيبِ منافعَ الدار المُستأجرةِ، فإنها ستوجد شيئاً فشيئاً، والدار مسلّمة بنفسها.
3062- ثم يَبِينُ حاصلُ المذهب بذكر صُورتين: إحداهُما - أن من اشترى عبداً مرتداً على علمٍ بردتهِ وقبضه، فلا ردَّ له لمكان علمهِ. فلو قُتلَ في يدهِ، ففي الانفساخ وجهان.
والصورةُ الثانيةُ - أن يشتريَ عبداً مرتداً ولا يدري رِدَّتَه، فإذا اطلع على رِدته، ردّهُ بالعَيب (1) ، ولو قُتل لردّتِه قبلَ علمهِ، ففي الانفساخ وجهان أيضاًً، ولكن بالترتيب على صورة العلم، فالخيارُ يختصُّ ثبوتُه بالجهلِ بالردة، والانفساخ على الاختلاف في حالتَي العلم والجهل.
3063- فإذا ثبتَ ذلك، قلنا بعدهُ: التلفُ بآفةٍ سماوية فيه القولان، والأصح أنه من ضمان المشتري، ويمكن أن يقرب من مسألة الردّة، من جهة أنه تعرض [للآفة] (2) تعرّض المريض، ولو اشترى عبداً مريضاً، فتلف بذلك المرض، فقد خرّجَ بعضُ الأصحاب هذا على الخلاف في قتل العبدِ المرتدّ في يد المشتري.
ولو كان هلاكُ الثمارِ وتلفُها بسبب ترك السقي، فلا يبعد الخِلاف في الانفساخِ، لمكان يد المشتري، أما الخيار فسبَبهُ استحقاقُ حق السقي على البائع، مع عدم الوفاء به. ولو اشترى عبداً مرتداً، ولم يكن عالماً بردتهِ، فلما علم لم يَردّه بالعيبِ، فيبطل خيارُه، فلو قتل بالردّةِ، فالأمر على خلافٍ في الانفساخ، كما لو علم بالردة حالةَ الشراء.
__________
(1) ساقطة من (هـ 2) .
(2) في الأصل: الآفة.(5/163)
كذلك إذا عابَت الثمارُ بتركِ السقي، نظر: فإن لم يشعر المشتري حتى تداعَى الأمرُ إلى التلف، فلا خيارَ بعد التلفِ، والانفساخُ على الخلاف. ولكن إن حكمنا بالانفساخ، ارتدَّ الثمن إلى المشتري، وإن قُلنا: لا ينفسخ وقد انقطع الخيار من غير تقصير من المشتري في ترك الفسخ، فعلى البائع قيمةُ الثمار إن لم تكن من ذوات الأمثال، وإن جعلناها من ذوات الأمثال، فعليه المِثل، ويصيرُ تركُ السقي منه بمثابة جنايةٍ ذاتِ سَريان، فإذا تمت السرايةُ وتحقق التلفُ، وجب ضمان التالف على الجاني. هذا إذا لم نحكم بالانفساخ، ولم ينتسب المشتري إلى ترك الخيارِ.
فأمَّا إذا علم المشتري بالعيب وترتُّبه على ترك السقي، فله الخيار، فلو رضي، بطل خيارُه، فلو تَداعَى العَيبُ إلى التلفَ، فإن قُلنا: ينفسخ العقد. فلا كلام. وإن قلنا: لا ينفسخ، فهل يغرَم البائع بدل التالفِ لعدوانهِ، فعلى جوابَين أشار إليهما الأئمة: أحدهما - أنه لا يغرَمُ شيئاً، وكان من حق المشتري أن يفسخَ؛ إذْ أثبت الشرعُ له خياراً. والثاني -[أن عِوضَ الثمار يجب على البائع لعدوانه، وموجَبُ العدوان] (1) لا يسقط بترك المتخيِّر خيارَه.
وهذا يقرب مما قَدَّمناه في أثناء فصل الحجارة المستودَعة، فإنا قلنا فيها: إذا علم المشتري أن ضرراً سيلحَقُه بسبب القلع، فله الخيار، فلو لم يختر والحالةُ هذه، ونقل البائع، فهل يغرم المشتري ما ينقصه القلعُ؟ فيه أوجهٌ ذكرتُها ثَمَّ.
فهذا ترتيبُ القولِ في الجوائح والآفات التي تلحقُ الثمارَ، ما غادرنا غامضةً إلا غُصنا عليها.
فإن قيل: إذا أوجبتم على البائع قيمة ما تلف، فقد حططتم عنه شيئاً؛ فإنه التزم شرعاً تنميةَ الثمارِ وتبليغَها المنتهى، ولولا ما جرى، لانتهت الثمار إلى غايتها، فهلا غرّمتم البائعَ عوضَ الرُّطب الكاملِ مثلاً، أو قيمته، ولم اجتزأتم بتغريمه عوض البلحِ (2) أو المذنبِ (3) ؟ قلنا: إذا كنا نُلزمُه بطريق الإتلاف، فلا نلزمُه إلا عِوضَ
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(2) البلح: ثمر النخل، مادام أخضر، قريباً إلى الاستدارة، حتى يغلظ النوى. (مصباح) .
(3) المذنَّب: ثمر النخيل إذا ظهر فيه شيء من الإرطاب من قبل ذنبه. (الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي) .(5/164)
ما تلف، ولا ننظر إلى ما كان يكون لولا التلف، فإنَّ كل ما (1) يُتلَف بلحاً على إنسان بهذه المثابة.
وهذا تمام البيان في ذلك.
* * *
__________
(1) كذا في جميع النسخ (ما) . والمعنى أن كل مُتْلَفٍ يراعى في تضمينه حالة الإتلاف، لا القيمة التي سيكون عليها مستقبلاً.
وقد تكون (ما) مستخدمة هنا للعاقل بمعنى (من) ، وذلك سائغ.(5/165)
بَابُ المُزابَنةِ وَالمحاقَلَةِ
3064- المحاقلةُ معناها بيعُ الحَب في السنبل بالحنطة على تخمينٍ في المساواة، وهذهِ المعاملةُ باطلةٌ وِفاقاً، ونَهْيُ النبي صلى الله عليه وسلم محمولٌ عليها.
وفي البَابِ النهي عن المزابنة، ومعناها عند الأئمة بيعُ الرطب على رؤوس الشجرِ بالتمر الموضوعِ على الأرض، وهذا على صورة المحاقلة في الزرع.
وبيعُ العَرايا من قبيل المزابَنةِ التي أجملنا ذِكرَها. وهو صحيحٌ، كما سيأتي في الباب الذي يلي هذا. وفيه يبينُ تميّز ما يصح عمَّا يفسُد.
والمحاقلةُ مأخوذةٌ من الحقل، والحقلُ ساحةٌ تزرع، وسُمّيت المعاملة محاقلةً، لتعلقها بزرعٍ في حقل.
والمزابنة معناها المدافعةُ والزَّبْنُ الدفع، سُميت المعاملة بذلك لأنها إذا ابتنت على تخمينٍ في التقدير أورثت في عقباها تنازعاً، وتدافعاً بين المتعاقدَيْن.
ولو باع الرجل الزرعَ قبل بَدْوِ (1) الحبّ فيه بالحنطة، فلا بأس؛ فإن الزرع حشيشٌ بعدُ غيرُ معدودٍ من المطعومات، وهذا [لا خفاء به] (2) .
* * *
__________
(1) بَدْو: ظهور. وهو مصدر: بدا يبدو. بُدُوّاً، وبَدْواً.
(2) في الأصل: وهذا (غير لاحق به) .(5/166)
بَابُ بَيع العَرَايا
قال الشافعي: "أخبرنا مالك عن داود بن الحُصين عن أبي سفيانَ مولى ابن أبي أحمد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أرخَصَ في بيع العَرايا فيما دون خمسةِ أوسق، أو في خمسة أوسق" الشك من داود ... إلى آخر الباب" (1) .
3065- إذا باع رجل الرطب على رؤوس الشجر بالتمر الموضوع على الأرض، وخرصَ الرطبَ قدراً، ثم قدّره تمراً، ثم باعه بخرصِه من التمر الموضوع على الأرضِ، وجرى البيعُ فيما دون خمسةِ أوسق، فالبيع صحيح عند الشافعي، ومعتمدُ البابِ الخبرُ الذي رَواه أبو هُريرة (2) . وروى بيعَ العَرايَا على أكمل وجهٍ في البيان زيدُ بنُ ثابتٍ (3) كما ذكَرتُه في الخلاف.
ثم لا يجوز إيراد هذه المعاملةِ على أكثر من خمسة أوسق من التمرِ، ويجوز إيرادُها على دون خمسة أوسق، وفي تصحيحها في الخمسةِ الأوسُق تردّدٌ للشافعيّ وتميُّلُ قولٍ، ولفظه في المختصر: " وأَحَبُّ إليَّ أن تكون العريَّة أقلَّ من خمسة أوسق، ولا أفسخه في الخمسة، وأفسخهُ في أكثر ". فقطع بالصحة فيما دون الخمسَة وقطعَ بالفسادِ فيما زاد على الخمسة، ومال إلى الصحة في الخمسة، [وذكر أصحابنا قولين للشافعي مرسلين في الخمسة.
__________
(1) ر. المختصر: 2/175، 176.
(2) حديث أبي هريرة: رواه الشافعي، في مختصر المزني: 2/175، ورواه البخاري: البيوع، باب بيع الثمر على رؤوس النخيل، ح 2190، وانظر الحديث رقم 2382، ورواه مسلم: البيوع، باب بيع الرطب بالتمر، ح 1541، وانظر التلخيص: (3/69-70 ح 1220) .
(3) حديث زيد بن ثابت رواه الشافعي في المختصر: 2/176، 177، ورواه البيهقي في المعرفة: ح 2446، وانظر التلخيص: (3/70 ح 1221) .(5/167)
واختار المزني الفساد في الخمسة] (1) ، وما ذكرهُ ظاهر متَّجه، فإن التعويل على الحَزْر. والخرصُ في طلبِ المماثلةِ في الربويات خارجٌ عن القياس، والذي نحكم بصِحَّته مستثنى عنه ملحق بالرخص، وقد ورد في بعض الألفاظ تصريح بهذا: رُوي أنه " نهى عن المزابنة وأرخص في العرايا " (2) الحديث.
3066- وإذا كان كَذلك فالأصل أن يطّرد التَّحريمُ الثابت على موجَب القياس، والنهي المطلق عن المزابنة، ولا يثبت التصحيح في هذا النوع إلا على ثَبَتٍ، والروايةُ مترددة في الخمسة، وقد رَوينا في صدرِ الباب أن داودَ بنَ الحصين هو الذي تشكك، وإنما ذكرت هذا لأقطع وهمَ من يَعزِي هذا اللفظَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويعتقد أنه صلى الله عليه وسلم قال: "فيما دونَ خمسةِ أوسق، أو في خمسةِ أوسق" فإن هذا لو صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكان تخييراً، فإذا كان التردُّد من الراوي، فالخمسةُ مشكوك فيها، ومعنا الأصلُ الثابتُ في التحريم، فينبغي أن نطردَه.
ومن قالَ بالتصحيح في الخمسةِ، وهو ظاهر النَّصِّ، فتوجيهه عسرٌ جداً، ولستُ أرَى طريقاً في التوجيه إلا أن تُحمَل المزابنَةُ على معامليما صادرة عن التخمين من غير ثَبَتٍ في الخَرْص، ولعلَّ المعاملةَ سُمّيت مزابنة لذلك، لاشتمالِها على المدافعة في غالب الأمر، ولا بُدّ وأن نتخيَّل الخرصَ متأصِّلاً في دَرْك المقادير، حتى ينقدِح لهذا القول وجهٌ.
ومنتهى الإمكانِ فيه أن الخرصَ معتبر في الزكاة، سيّما إذا جعلناه تضميناً، والماهرُ فيه يقلّ خطؤه، والأخرقُ بالكيل يتفاوتُ ما يكيله، والكيل بالإضافةِ إلى الوزن، كالخرص بالإضافة إلى الكيل. وفي كل حالة تقدير معتاد لائق بها، فليقم
__________
(1) ما بين المعقفين سقط من الأصل. وانظر اختيار المزني في المختصر: 2/178.
(2) لفظ " أرخص في العرايا " ورد في حديث سهل ابن أبي حثمة، وقد رواه الشافعي في مسنده، ورواه أحمد: 4/2، وأخرجه البخاري: البيوع، ح 2191، ومسلم: البيوع، باب تحريم بيع الرطب بالتمر، ح 1540، وورد في حديث أبي هريرة السابق أيضاًً، ر. التلخيص: (3/69 ح 1219) .(5/168)
الخرصُ في الرطب الذي لا يمكن كيلُه مقامَ الكيل فيما لم يمكن كيلُه، والكيل على حالٍ أيسر من الوزن، والوزن أحصرُ من الكيل، فإذا احتمل الكيل ليُسرِه مع إمكان إجراء الوزن، فليُحتَمل الوزنُ، حيث لا يتأتى الكيل.
والشافعيُّ منعَ بيعَ التمرِ بالرطب لما تخيّلهُ من التفاوت عند تجفيف الرطب، ومتمسكه قولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: " أينقص الرطب إذا يبس " وهذه إشارةٌ من الشارع إلى المآل، فإذاً ما وراء الخمسة مردود بذكر الخمسة؛ فإن التقدير ينقصُ في اقتضاء المفهوم.
فهذا أقصى الإمكان في توجيه النص، وهو على نهايَةِ الإشكال.
3067- ثم نفرّع على ما مهدناه مسائلَ، منها: أنه إذا اشترَى رجل في صفقاتٍ أَوساقاً كثيرة، وكل صفقةٍ لا يزيد مضمونُها على ما دون الخمسةِ، فالكل صحيحٌ، وحكم كل صفقة مأخوذٌ من مضمونها، لا تعلق لها بغَيرها.
ولو اشترى رجلان من رجل تسعةَ أوسق، فالبيع صحيح بلا خلاف؛ فإن إطلاق البيع يقتضي أن يملكَ كل واحدٍ من المشتريَيْن أربعةَ أوسقٍ ونصف، فلم يدخل في ملكِ كلّ واحد منهما إلا ما ينقصُ عن الخمسةِ.
ولو باع رجلان تسعة أوسق من رجل واحدٍ، فقد اختلف أصحابنا، فمنهم من أبطل البيعَ، وهو الذي اختاره صاحبُ التلخيص ووجهه أنه لو صح العقد، لدخل في مِلكهِ تسعةُ أوسقٍ بطريق الخَرْص دفعةً واحدة، وهذا يخالف مقصودَ الخبر، وإذا تحققت المخالفةُ، فلا فرق بين أن يتعدّدَ البائع أو يتَّحد.
ومن أصحابنا من صحح العقدَ، لأن الصفقةَ تتعدّدُ بتعدد البائع في العَهْد والردّ، فيجعل كأن المشتري اشترى أربعةَ أوسُقٍ ونصف في صفقة، واشترَى مثلَها في صفقةٍ أُخرى.
فترتيب المذهب إذاً أنه لو باع رجلان من رجلين، فاعتبار الخرصِ تسعةُ أوسق، فالبيع صحيح. ولو اشترى رجل من رجلين تسعة أوسق، فالبيع على الخلافِ. ولو اشترى رجلان من رجلٍ تسعةَ أوسق، فالبيع صحيح بلا خلاف.(5/169)
3068- ومما يجب التنبهُ له بعدما أعدنا الأقسامَ أنَّ الرجل الواحدَ إذا اشترى من رجلين شيئاً، واطلع على عيب، فالصفقةُ محمولةٌ على التعدد في حكم الردّ، وللمشتري أن يرد ما اشتراه من أحد البائعين، ويُمسِك الباقي.
ولو اشترى رجلان من رجل، واطلعا على عيبٍ، فهل ينفرد أحدُهما بالرد؟ فعلى قولين، سنذكرهُما في باب الخراج، فحكم الرد على مناقضة ما نحنُ فيه، والسبب في ذلك أن المرعي في كل أصل ما يليقُ به، وإذا اتحد البائع فقد تخيّل بعض العلماءِ أن المبيع خرج عن ملكه دفعة واحدة، فلو رجع إليه بعضُه، لكان خارجاً بعيبٍ عائداً بعيبين، وإذا تعدد البائع فردَّ المشتري تمامَ ملكِ أحدهما عليه، فردُّه لم يتضمن تبعيضاً عليه لم يكن قبل البيع، والمقصود المعتبر في بيع العرايا ألاَّ يملك الرجلُ دفعةً واحدةً خمسةَ أوسق، أو أكثرَ من خمسةٍ. وهذا الأصل يوجبُ ما ذكرناه من الترتيب في محلّ القطع والخلاف.
وقد انتظم من مجموع ما ذكرناه أنا في طريقةٍ نبغي ألاَّ نزيدَ على محل النصّ، وفي طريقة أخرى نثبت الخرصَ أصلاً، ولا يبعد تنزيلُه منزلةَ الكيل، ويفسد ما يفسد بالنصّ الدال على الفساد.
3069- ونحن الآن نُخرّج على ما ذكرناه مسائلَ في الباب منها: أنه لو بيع الرطبُ الموضوعُ على الأرض المقطوفُ بخرصٍ من التمر، فإن بنينا الباب على الاتباع، فهذا ممتنع، فإن الخبر وردَ في الرطب على رؤوس الشجر. وإن جعلنا الخرص أصلاً سوّغنا هذا.
و [لو] (1) باع الرطبَ بالرطبِ على تقدير المُساواةِ بخرصهما تمرين، فقد ذكر العراقيون ثلاثة أوجه: أحدُها - المنعُ، وهو على طريقةِ الاتباع. والثاني - الجَواز، وهو على طريقة تسويغ الرأي، والقياس. والثالث - الفصل [بين] (2) أن يكون الرطبان، أو أحدهما على الأرض، وبين أن يكونا جميعاً على الشجر، فإن كانا
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) ساقطة من الأصل.(5/170)
جميعاً على الشجر، جاز؛ فإنه قد يكون لهما غرضٌ في استبدالِ الرطبين، بأن كان يهوى كلُّ واحدٍ منهما النوعَ الذي لصاحبه. وهذا لا يتحقق في الرطب الموضوع على الأرض؛ فإن الغرض الذي أشار إليه الخبرُ أن يبذل الإنسانُ فاضلَ قوتهِ من التمرِ، ويستبدل عنه رُطباً على الشجر يأكلُه، على مرّ الزمن، شيئاً فشيئاً مع أهله رطباً، وهذا لا يتحقق في الرطب الموضوع؛ فإنه بين أن يفسدَ، وبين أن يجفَّ.
3070- ومن مسائل الباب أن الخبر الذي رواه زيدُ بنُ ثابت مختصٌّ بالفقراء، فإنه قال: " جاء طائفةٌ من فقراءِ المهاجرين والأنصار، وقالوا: إن الرطب يأتينا، وليس بأيدينا نقد، ومَعنا فضولُ قوتٍ من التمر ". الحديث. وظاهر المذهب أنَّ صحةَ بيع العَرِيّة لا يختص بالفقراء؛ فإن إرخاصَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في العرية مطلق في الألفاظ، وما ذكرهُ زيدٌ حكايةُ حالٍ أداها على وجهِها.
وذكر بعضُ أصحابنا قولاً بعيداً أن صحةَ بيعِ العرايا تختص بأصحاب الحاجةِ، وهذا مذهبُ المزني.
وبيع الجاف بالرطب في سائر الثمار بناه الأصحابُ على القولين في أن الخرصَ هل يجري في ثمارِ سائر الأشجار؟ وفيه اختلافٌ قدّمتُه في كتاب الزكاة. فإن قلنا إنه لا يجري، فالبيع ممتنع لتحقق الجهالة، وإن قلنا: يجري الخرصُ فيهَا، فبيعها باعتبار الخرص يخرج على الخِلافِ المقدم، في الاتباع وطريق الرأي، فمن سلكَ الاتباع منعَ البيعَ، ومن جوَّز الرأيَ سوَّغ هذا. وحق الفقيه أن لا يغفل في تفاصيلِ المسائلِ عما مهدناه في كتاب الزكاة من تفصيل القول في بيع الثمار، وفيها حقُّ المساكين، ولا حق فيها. والتنبيه كافٍ.
* * *(5/171)
باب بيع الطعام قبل أن يُستوفى
قال الشافعي: "أخبرنا مالاً عن نافعٍ عن ابنِ عمرَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ابتاع الطعامَ لا يبعْه حتى يستوفيَه". قال ابنُ عباس: أما الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو الطعام أن يباعَ حتى يكتال، قال ابن عباسٍ برأيه: ولا أحسِب كلَّ شيءً إلا مثلَه ... إلى آخره" (1) .
3071- الأصل في الباب الحديث الذي رواه الشافعي (2) ورُوي أنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى عتاب بنِ أَسِيد "انهَهُم عن بيعِ ما لم يقبِضُوا وربحِ ما لم يضمنوا" (3) ورُوي أنه صلى الله عليه وسلم " نهى عن بيعِ ما لم يُقبَض، وربح ما لم يُضمن " (4) .
ومأخذ الباب يستند إلى أصولٍ منها: بيانُ حكم الضمانِ، فالمبيع قبل التسليم إلى المشتري من ضمان البائع، والمعنيُّ به أنه لو تلف، انقلب إلى ملكهِ قبل التلف، ولذلك ينفسخ العقد، كما سنقرره في باب الخراج، ومن أثر الضمان أنه لو عاب المبيعُ، ثبت الخيارُ للمشتري، ونزل العيب الطارىء في يد البائع منزلةَ العيب المقترن بالعقد، حتى كأن العيبَ حَدَثَ في ملكهِ، ثم طرأ البيعُ.
__________
(1) ر. المختصر: 2/180، 181.
(2) الحديث الذي رواه الشافعي، متفق عليه من حديث ابن عمر، بهذا اللفظ، وغيره، البخاري: البيوع، باب ما ذكر في الأسواق، ح 2124، وأيضاًً، ح 2126، 2133، 2136، ورواه مسلم: البيوع، باب بطلان بيع المبيع قبل القبض، ح 1526.
(3) حديث كتاب عتاب بن أَسِيد، رواه ابن ماجه: التجارات، باب النهي عن بيع ما ليس عندك وعن ربح ما لم يضمن، ح 2189، والبيهقي في السنن: 5/313.
(4) رواه ابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. (التجارات، باب النهي عن بيع ما ليس عندك، ح 2188) وراجع في هذا الحديث وما قبله التلخيص: (3/59، 60، أحاديث 1203، 1204، 1205، 1206) .(5/172)
فهذا أحد الأصول.
وينشأ منه الحكم بضعف ملك المشتري.
وقد جمع الشافعي بين الضمان وضعفِ ملك المشتري.
وممَّا يتردد الكلام عليهِ كونُ المبيع محبوساً بالثمن على قولٍ، ثم إذا سَلّمَ المبيعَ إلى المشتري، قيل: انتقل الضمان إليه، والمعنيُّ به استمرارُ ملكه، حتى لو فرض تلَفٌ أو عيبٌ، كان محسوباً على المشتري.
فإذا ثبتت هذه التراجم، فنجري بعدها على ترتيب السواد (1) ؛ فنذكر تصرفات المشتري في المبيع، ونذكرُ بعدها تفصيلَ القول في كل مقبوض، ثم نندفع في مسائل الباب.
3072- فأما القول في التصرفاتِ، فبيع المشتري في المبيع قبلَ القبض مردودٌ، والأخبار شاهِدة، وذكر الفقهاءُ في ضبط المذهب أن الضمانَين لا يتواليان، وعَنَوْا به أنا لو قَدّرنَا نفوذَ بيع المشتري في المبيع قبلَ القبض، لكان مضموناً على البائع الأول للمشتري، ثم يكون مضموناً على المشتري الأول للمشتري الثاني، ولا حاجة إلى هذا مع الخبرِ، وما أشرنا إليه من ضعف المِلك، بسبب ثبوت الضمان على البائع.
وامتناعُ البيع في المبيع قبل القبضِ ليس معلَّلاً بحق البائع؛ فإن البائع وإن رضي ببيع المشتري، لم ينفذ بيعُه، والغالب على هذا الأصل التعبُّدُ.
ثم لا فرقَ بين أن يقدَّر البيعُ قبل توفيةِ الثمن على البائع، وبين أن يقدَّر بعدَها؛ فإنَّ امتناع البيع ليس مبنياً على حق البائع.
__________
(1) مرةً ثانية تقابلنا لفظة "ترتيب السواد"، ولا ندري المقصود بها. وإن كنا نظن ظناً أن المراد سوادُ المؤلفات والمصنفات. مجرد ظن لا قرينة تعين عليه.
بل ترجح عندنا إلى ما يشبه اليقين أن (السواد) هو مختصر المزني. أما لماذا يسميه السواد، فلم نصل إلى تفسيرٍ له.
قلت: هذا التعليق كتبته قبلاً على مرتين -كما يظهر من قراءته- بينهما فترة زمنية ربما تصل إلى سنوات، فقد استغرق العمل في هذا الكتاب أكثر من عشرين عاماً.
والذي نزيده اليوم هو ما أخذناه عن شيخنا أبي فهر "أن لفظ (السواد) يستعمل بمعنى الأصل والمتن، وعليه شواهد، وإن لم يكن منصوصاً فيما بين أيدينا من معاجم".(5/173)
هذا تفصيل البيع.
3073- ولو أعتق المشتري العبدَ المشترَى قبل القبض، فالذي قطعَ به الأئمةُ أن العتقَ ينفذُ بعد توفيةِ الثمن على البائع؛ فإن العتقَ ليس تصرفاً يقتضي ضماناً، وقد صَادفَ ملكاً لازماً، من غير اعتراضٍ على حق الغير. وفي بعض التصانيف رمزٌ إلى وجهٍ بعيدٍ، في أن العتقَ لا ينفذ. وهذا لا وجهَ له.
فأما إذا أعتق المشتري العبدَ قبل تَوْفية الثمن، فإن قلنا: ليس للبائع حق حبس المبيع، (1 فالعتقُ ينفذ نفوذَه بعدَ توفيةِ الثمن. وإن أثبتنا للبائع حقَّ حبس المبيع 1) ، ففي نفوذ عتق المشتري ثلاثةُ أوجه: أحدها - أنه ينفذ لمصادفته ملكَ المعتِق. والثاني - لا ينفذ لتضمنه إبطال حق البائع من الحبس. والثالث - أنه يفصل بين أن يكون المشتري موسراً بالثمن، وبين أن يكون معسراً. وهذا الوجه ذكره صاحب التقريب، وذكر مثلَه في إعتاق الراهن. والخلافُ في ذلك كالخلافِ في عتقِ الراهن. وكان شيخي يجعل عتقَ المشتري أَوْلى بالنفوذ من عتق الراهن؛ من جهة أن حقَّ الحبسِ يثبتُ تابعاً غيرَ مقصودٍ، والرهن يُثْبت للمرتهن حقَّ الاختصاص قصداً، ولذلك عُقد الرهن، ثم أُكد بالتسليم.
3074- ومن تصرفاتِ المشتري الإجارةُ، فلو أجر الدارَ المشتراةَ قبلَ القبض، وقبل تسليم الثمن. والتفريعُ بعدَ هذا نُجريه على ثبوتِ حقّ الحبس للبائع، فإذا أجر، ففي صحَّة إجارته وجهان: أصحهما - الصحَّةُ؛ فإنَّ ضمانَ عقدِ الإجارةِ لا يَرِدُ على محلّ ضمان عقد البيع؛ إذ المقصودُ من الإجارة المنافِعُ، وليست هي المبيعَ، فلا وجهَ لمنع الإجارة عن جهة الضمان، ولا وجه لمنعِها من جهة حقِّ الحبس الثابت للبائع؛ فإن ذلك لا يزيد على حقِّ المرتهن، وإجارةُ المرهون جائزةٌ على تفصيلٍ سيأتي في الرُّهون إن شاء اللهُ عز وجل.
ومن أصحابنا من منع صحةَ الإجارة؛ من جهة استدعائها ملكاً تامّاً، والمِلكُ في المبيع قبل القبض ضعيفٌ، ثم هذا القائل لا يفصِلُ في منعِ الإجارةِ بين ما قبل تسليم
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (هـ 2) .(5/174)
الثمن، وبين ما بعده؛ فإن معتمده ما ذكرناه من ضعف الملك. وهذا يطَّرد إلى قبض المشتري.
وتزويجُ المشتري الجاريةَ المبيعةَ قبل القبض يَنْزِلُ منزلةَ إجارته إياها في الخِلافِ المقدم. ولا شك أن التزويجَ مُنقصٌ للقيمة. وإذا كان كذلك أمكن أن نفصِل بين أن يزوّج قبل تسليم الثمن، وبين أن يزوّج بعدَ تسليمه إذا أثبتنا حقَّ الحبس. والإجارةُ ربما لا تؤدِّي إلى تنقيص القيمة، وفيها الخلافُ المقدَّمُ، وإن أدت إلى تنقيص القيمة. وقد ينتظم فيها وجهٌ أن نفرِّق بين ما قبل التوفيةِ وبعدَها.
ولا خِلافَ أن من استأجر داراً ثم أخرَها قبلَ القبضِ، لم تنفذ إجارتُها والسببُ فيهِ ظاهرٌ، وهو أن الإجارةَ موردُها المنفعةُ، فازدحام إجارتين على منفعةٍ قبل القبض باطل، كما يبطل ازدحامُ ضمانَي بيعين على مبيعٍ واحد.
3075- ولو رهن المشتري المبيعَ قبل القبض، أو وهبهُ؛ فإن كان ذلك بعد تسليم الثمن، فهو كالعتق في هذا الأوان، ثم إن رَهَنَ، أو وَهَب، وأراد التسليمَ، لم يَمنع منه البائعُ، وقد توفر الثمن عليهِ، والمشتري بالخيار إن شاء، [ألزمَ] (1) الرهنَ والهبةَ بالإقباض، وإن شاء، لم يفعل.
وإن فُرِضا -نعني الهبةَ والرهنَ- قبلَ تسليم الثمن، فقد ذكرَ الأئمةُ وَجهين في نفوذهما، كالوجهين في العتق في هذا الوقت. ثم أجمعُوا على أن للبائع أن يمتنع عن التسليم إذا أثبتنا له حقَّ الحبس. وفائدةُ صِحةِ الرهن والهبة أن حق البائعِ إذا زال وقبَضه المشتري، فإن حكمنا بفساد الرهن والهبة أولاً، فهو ساقطٌ ملغىً، وإذا حكمنا بالصحةِ، فلا يُحتاجُ إلى تجديد عقدٍ، وهو على خِيرَتِه في الإقباض.
وذكر صاحب التقريب وجهاً ثالثاً، فقالَ: أما الهبةُ فعلى ما ذكرهُ الأصحاب، ويجوز أن يقال: لا يصح الرهن، وإن صحتِ الهبةُ، لأن الرهنَ قرينُ البيع؛ إذ لا يُعنى به إلا البيعُ في حق المرتهن، وكل ما امتنعَ بيعُه، امتنع رهنُه، وقياس هذا يوجب إبطالَ الرهن، بعد توفية الثمن. كما يمتنع البيعُ في هذا الوقت.
__________
(1) في الأصل: أبرم.(5/175)
3076- ثم ذكر الشافعيُّ بعد الكلام في المبيع تفصيلَ الأيدي التي لا يمتنع بها نفوذُ البيعِ وغيرِه من التصرفات.
والوجه أن نذكر أولاً ما اختلفَ علماؤنا في إلحاقه باليد في البيع.
فنقول: منها تصرفُ المرأة في الصداق قبل القبض، وهذا يُخَرّج على قولين مشهورين في أن الصداق مضمونٌ (1) بالعقد أو باليدِ، وسيأتي شرحُ ذلكَ في كتاب الصداق - إن شاء الله تعالى.
ومن ذلك الإقالةُ. وقد اختلف القولُ في أنَّها بيعٌ، أو فسخٌ، فإن [جعلناها] (2) فسخاً، فلو تقايَلَ المتبايعان، وكانا تقابضَا العوضين في البيع، فلكلٍ منهما أن يتصرَّف في العِوَض الذي ارتدَّ إليهِ مِلكُه قبل أن يستردّهُ؛ فإن العقدَ إذا انفسخ، فليست يدُ واحدٍ منهما بمثابة يد البائع في المبيع؛ من جهة أن التلف يردُّ المبيعَ إلى مِلك البائع، ولو فرض التلف في أحدِ العوضين، أو فيهما، والتفريع على أن الإقالة فسخٌ، فيتلفُ كلُّ عِوضٍ على مِلك من كان مِلْكَه قبل التلف.
ثم الكلام في ضمان القيمة لمن كان مالكاً للعَيْن يأتي مستقصىً في موضعه، إن شاء الله عز وجل. وقَدرُ الغرض منه ما ذكرناه من أن الملك لا يزول بفرض طريان التلف.
وإن حكمنا بأن الإقالة بيعٌ، فالعوضُ المعيَّنُ في يدِ كلِّ واحدٍ منهما بمثابة المبيع قبل القبض، وكأنَّهما تبايَعا على التبادل في العِوضين تبايُعاً جديداً، والأجرةُ المعيّنة في الإجارة بمثابة المبيعِ، والبَدلُ المعيّنُ في الخُلع والصُّلح عن الدم، بمثابة الصداق.
فهذا بيان الأيدي على ما يُعد عِوضاً، أو يقرُبُ من معاوضة.
3077- ومن رَدّ بالعيب ما اشتراه، ففُسِخَ العقدُ، ولم يرفع بعدُ يده، فالبائع يتصرَّف فيه قبلَ الاسترداد، كما ذكرناه في الإقالة على قول الفسخ.
__________
(1) ساقطة من (هـ 2) .
(2) في الأصل: جعلنا، وفي (هـ 2) : جعلناه. والمثبت تصرفٌ من المحقق.(5/176)
فأما سائرُ الأيدي. فإذا ثبتت يدٌ على ملكِ الغير، ولم تكن يدَ معاوضة، وملك المالك تامٌّ، وهو قادِرٌ على رَدّ المِلكِ إلى يَدِ نفسهِ، فبيعُه نافذ سواءٌ كانت تلك اليد يدَ أمانةٍ، أو يدَ ضمان، فيدُ الأمانة كيدِ المودَع والمقارِض قبل أن يربح، وغيرِهما.
ويدُ الضمان كيد الغاصب، والمستعيرِ، والمستام.
ولو وهبَ شيئاً وسلّمه، وكان يثبت له حق الرجوع، فرَجع في الهبَةِ وبقيت العينُ في يَد المتَّهِبِ، فتصرّف الراجع نافذٌ، لما قدمناه.
وإذا قبلَ الموصَى له الوصيّةَ النافذةَ، والعين الموصَى بها في يدِ الورثة، فتصرُّفُ الموصَى لهُ نافذٌ قبل قبض العين، إذا استمكنَ من أخذها. وإن تصرَّف قبلَ قبول الوصية، خرج هذا على تفصيلِ القولِ في أن المِلك في الموصَى به متى يحصل؟ وهذا سيأتي مقرراً في كتاب الوصايا، إن شاء الله تعالى.
فهذا منتهى البيان في ذلك.
فصل
قال: " ومن ابتاع جُزافاً ... إلى آخره " (1) .
3078- هذا الفصل مضمونُه بيانُ القبضِ ومعناه، واختلافِه في المقبوضات على حسب اختلافها، فنقول: المقبوضاتُ ثلاثةُ أقسام: ثابتٌ لا يُنقَل.
ومنقولٌ مقدّر، وَرَدَ البيعُ عليه باعتبار التقدير فيه.
ومنقول غيرُ مقدّرٍ، أو قابل للتقدير، أُورد البيعُ عليه جزافاً.
فأما الثابت، فهو العَقارُ، والقبض فيهِ التخليةُ، والقولُ التام في التخليةِ ومعناها، أنها تمكينُ القابض مع تمكنه من إثبات اليد عند ارتفاع يدِ الممكن. وهذا يستدعي حضورَ المقبوض والقابض، معَ التمكن الذي ذكَرناهُ. ولو كانت العينُ غائبة، ففي تحقيق التمكينِ منها كلامٌ سأذكره في كتاب الرهون، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) ر. المختصر: 2/181.(5/177)
هذا في الثابت الذي لا ينقل.
3079- فأما المنقول الذي ليس مقدَراً، أو كان مقدَّرا ولكن اشتُريَ جزافاً، فالمذهب أن القبضَ فيه (1) لا يتتمُّ إلا بالنقلِ والتحويلِ، على ما أصفه الآن. وذهبَ مالك (2) إلى أن التخليةَ فيه كافٍ، ونقل حرملةُ قولاً للشافعي مثلَ ذلك.
التوجيه: من اعتبرَ النقلَ، استمسكَ بالعادةِ، والعادةُ مطرَدَةٌ بنقل ما يمكن نقله في [القبوضِ] (3) .
ومن لم يشترط النقلَ، احتجَّ بان الغرضَ من القبضِ ظهورُ تمكُّن القابضِ بتمكين المُقْبضِ، وهذا المعنى يحصُل بالتخليةِ والتمكينِ التام. فإن قلنا بذلك، فالمتبعُ ما ذكَرناه من التمكين والتمكُّن.
وإن شرطنا النقلَ، لم نشترط التحويلَ إلى مسافةٍ بعيدةٍ، ولكن اكتفينا بما يُسمَّى نقلاً.
3080- وهذا يبين بذكرِ صورتين: إحداهما - أن نَفرض البيعَ وحُضُورَ المبيع في بقعةٍ لا اختصاصَ لها بالبائع، مثل أن يتفق ما ذكرناه في شارع أو مسجدٍ، أو موضعٍ مباحٍ، أو في موضعٍ مخصوص بالمشتري، فإذا [جَرَى] (4) ذلكَ في أمثالِ هذه الأماكِن، ثم نقله المشتري بإذن البائعِ من الحيزِ الذي فيه البائعُ إلى حيز آخرَ يراه (5) ، فهذا نقلٌ كافٍ.
ولو أن البائع في هذهِ الصوَر نقلَ المبيعَ من جانبه إلى جانبِ المشتري، ومكنه من قبضِه، والاحتواءِ عليهِ، فقد حصل القَبضُ الناقلُ للضمان، والمسلّطُ على التَّصرُّفِ، وإن لم يُوجد من المشتري فعل ولا استدعاءٌ، [بل] (6) يَحصُلُ القبضُ، وإن كرههُ المشتري.
__________
(1) ساقطة من (هـ 2) .
(2) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/548 مسألة 891.
(3) في الأصل: المقبوض.
(4) في الأصل: فرض.
(5) في (هـ 2) : يخاف.
(6) ساقطة من الأصل.(5/178)
والسببُ فيه أن القبضَ مستحَق على البائع، فإذا أتى به، وقعَ على جهةِ الاستحقاق وإن أباه المستحِق.
وفي بعض التصانيف وجهٌ آخر: أن هذا لا يكون إقباضاً ما لم يقبله المشتري، كما لو وضع مالكُ العينِ عين مالهِ (1) بَيْن يَديْ إنسان، وقالَ: أودَعتُها عندكَ، فهذا لا يكون إيداعاً ما لم يقبل المودَع.
وهذا الوجه عندي يخرّج على قولٍ: وهو أن من عليه دينٌ حالٌّ إذا جاء به، فهل يُجبَر مستحِقه على قبولهِ؟ المذهبُ أنه يُجبَر، وفيه قول بعيدٌ أنه لا يُجبرُ. والقولان (2) مشهوران (3) في الدَّينِ المؤجَّل. فإن قُلنا: لا إجبار، فلا يكون ما جاء بهِ إقباضاً، وإن قلنا: إنه يجبرُ، فالظاهر أنه إقباضٌ وفيه احتمالٌ. ولا يَبعُد أن يقال: إذا لم نجعل هذا إقباضاً، فينوب السلطانُ عنهُ ويقبضُ.
ولو كان بين البائع والمشتري مسافةَ التخاطبِ مثلاً، فلو رفعَ المبيعَ من جانبهِ، ووضعَه على نصفِ المسافةِ الكائنةِ بينه وبين المشتري وهو يَبغي بذلك الإقباضَ، ففي حصولِ القبضِ بذلك وجهان، ذكرهما شيخي.
ولو كان وَضَعَه دون النصف، والمسافةُ الباقية وراء المبيع إلى المشتري أكثر من النّصفِ، فلا يكون ما جاء به نقلاً ناقلاً للضَمانِ وإقباضاً. ولو كان الباقي من المسافة أقلَّ مما بين البائع والمبيع، فالذي مضى إقباضٌ؛ فإنا لا نشترط أن نضع المبيع في حجر المشتري، أو بالقُرب منه.
وللناظر فيما ذكرناه فضلُ نظرٍ، ومزيدُ تدبر فيه، إذا كانت المسافةُ بين المتبايعين أكثرَ من مسافةِ التقارب والتخاطب، وذلك بأن تكون عشرين ذراعاً مثلاً، فلست أرى النقلَ إلى بقعةٍ بينها وبين المشتري تسعةُ أذرعٍ إقباضاً، ويقرب أن يقال: ينبغي أن يقع المبيعُ من المشتري على مسافة تنالُ المبيعَ يدُ المبتاع، من غير احتياجٍ إلى قيام وانتقال.
__________
(1) في (هـ 2) : ملكه.
(2) في (هـ 2) : القولان (بدون واو) .
(3) ساقطة من (هـ 2) .(5/179)
ولا شك أن البائعَ لو نقل المبيع من حَيّزهِ إلى صوبٍ عن يمينه، أو عن يَسارهِ، وهو يبغي الإقباضَ والمشتري في مقابلتِه، فليس ما جاء بهِ قبضاً؛ فإن صورةَ النقل لا تكفي حتى يكون نقلاً إلى المشتري، أو نقلاً من المشتري؛ فإن المشتري لو أخذ المبيعَ بإذن البائع، ونقلَه إلى [أيّة] (1) جهةٍ فُرضت، فهذا قبضٌ.
ولا يخفى على الفقيه أن الإقباضَ من البائع بجهةِ النقل يُشترط فيه أن يُشعرَ المشتري به، ويتمكَن منه، حتى لو وضعه بين يديه، وهو راقدٌ، فتلف المبيعُ قبل أن ينتبه، فهو من ضمان البائع. والسببُ فيه أن سرَ الإقباض التمكينُ، ثم صُورُ التمكينِ تختلف باختلاف المبيع، ومن ضرورة التمكينِ إشعارُ المشتري بما يجري، وعلمُه بحقيقة الحال، وتمكّنُه كما ذكرناه في التخلية.
وكل ما ذكرناه فيه إذا جَرى البيعُ ونقلُ المبيع في بُقعةٍ لا اختصاص لها بالبائع.
3081- فأما إذا جرَى البيعُ في مسكن البائع (2) ، وكان ملكَه أو مُستَأجَره أو مستعاره، فإذا أذن للمشتري في القبضِ والنقلِ، فأخذ المشتري المبيع ونقله إلى جانب نفسهِ، فليس ما جاء به قبضاً؛ من جهةِ أن الشرط في ثبوت يدِ المشتري القابض زوالُ يدِ المُقبض، وإذا كانت الدار للبائع، فهي تحت يدهِ، وما في الدارِ حكمهُ حكمُ الدارِ، ولو فرضَ نزاعٌ بين دخيل في الدارِ وبينَ مالكِ الدار في مبيعٍ قريبٍ من الدخيل ومجلسهِ، فصاحبُ اليد فيها صاحبُ الدار، إذا لم تكن العينُ متعلِّقة على نعتٍ من الاختصاص بالدخيل، بأن يقعَ النزاعُ في ثوبٍ، والدخيل لابسه، أو في متاع وهو محتوٍ عليه.
وفي هذا كلامٌ طويلٌ ليس هذا موضعَه؛ فإنا سنفصل، إن شاء الله تعالى تفصيلَ الأيدي التي تثبتُ بها رتبةُ المدَّعى عليه في كتاب الدعاوى - إن شاء الله تعالى.
فلو أذن البائعُ للمشتري في نقل المبيع إلى بقعةٍ من الدار و [أجّر] (3) تلك البُقعة
__________
(1) زيادة من (هـ 2) .
(2) هذه هي الصورة الثانية من الصورتين الموعودتين.
(3) في الأصل: وليجر.(5/180)
[منه] (1) أو أعارهُ إياها، فجرَى النقلُ إلى بقعة من الدار استأجرَها المشتري أو استعارها، فهذا نقل كافٍ، وقبضٌ ناقل للضمان؛ من جهةِ اختصاصِ المشتري بتلكَ البقعةِ.
وإذا قالَ البائعُ: دونكَ المبيعَ، فاقبضه وانقُلْه إلى تلك الزاويةِ، فهذا إذنٌ في النقل، وإعارةٌ للزاوية.
وإن قال: ارفع هذا (2) العينَ المبيعة، وانقلها إلى تلك البقعة، ولم يتعرض للقبضِ والإقباض، والدار مختصةٌ بالبائع، فالذي جرى ليس بقبضٍ.
وإذا فهمَ الفقيهُ المقاصِدَ، لم يخفَ عليهِ قضايا الألفاظ وموجبات الصيغ.
3082- وتمام البيان في هذا يستدعي كلاماً في تصوير [قبض] (3) العدوان من الغاصب.
فنقول: وإن فرَّعنا على الأصح في اشتراطِ النقل في المنقول في قبض المبيع، فلسنا نشَرطُ ذلك في قبضِ العدوان، بل المعتبرُ فيه الاستيلاءُ المحقَّقُ، حتى لو ألقى رجلٌ راكبَ فرسٍ من الفرسِ، وركبَ مكانَه مستولياً، وتلفت البهيمةُ تحتهُ، فالضمان يجب عليه، على المذهب الظاهر. وكذلكَ لَو نحّاه من بساط كان عليه، وجلسَ عليه (4) ، فهذا عدوانٌ مضمِّن.
3083- والقولُ الوجيزُ الضابطُ لما نقصده: أن التمكين المحقَّقَ في المنقول ليس قبضاً في البيع على الصحيح، حتى ينضمَّ إليهِ نقلٌ، وفيه قولٌ بعيد أن التمكينَ كافٍ، والاستيلاءُ المجرَّدُ قبضُ عدوان في المنقول، من غيرِ نقل. وفيهِ وجهٌ ضعيفٌ أن ضمان العدوان يقف على النقلِ.
فلو جرَى من المشتري [استبدادٌ] (5) بأخذِ المبيع، نُظر: فإن جرَى منه ما هو قبضٌ
__________
(1) في الأصل: فيه.
(2) كذا في النسختين باسم الإشارة المذكر. ولها وجة في الصحة.
(3) ساقطة من الأصل.
(4) في (هـ 2) : مكانه.
(5) في الأصل: استيلاءٌ.(5/181)
لو صدر من البائع، أو من [غيرِ] (1) إذنهِ، فإن كان المشتري يستحق ذلكَ بأن كان وفَّر الثمن، وامتنع البائعُ من التسليم المستحَق، فالذي فعله المشتري قبضٌ ناقلٌ للضمان مُسلِّط على التصرّف.
وإن لم يكن المشتري مستحِقاً لما فعل، وفرعنا على [أنَّ] (2) البدايةَ بالتسليم لا (3) تجب على البائع، فالذي فعله المشتري إتيانٌ بصورةِ القبضِ، وهو فيه مبطلٌ.
والقولُ الوجيزُ في ذلك أنا نجعلُه بمثابةِ ما لو اشترى طعاماً مُكايلةً، ثم قبضه جزافاً، فلا يتسلّطُ على التصرفِ في الرأي الظاهِر، وينتقلُ ضمانُ العُهدةِ إليهِ، حتى لو تلف تحت يده، كان من ضَمانهِ.
وإذا قُلنا: لا بد من النقلِ في قبض المبيع، وجعلنا الاستيلاءَ قبضَ عدوانٍ، فلو وُجد الاستيلاءُ من المشتري من غير نقلٍ، فهو كالقبض جُزافاً فيما اشترى مُكَايلةً.
وذكر شيخي وجهاً آخر: أن الاستيلاءَ كما صورنا لا يقتضي نقلَ الضمانِ، كما لا يقتضي التسليطَ على التَّصرُّفِ. وهذا بعيدٌ. والوجه ما تقدَّمَ.
ولو جرت التخليةُ من البائع، والقبولُ من المشتري من غير نقلٍ، ولا فرضِ استيلاءٍ -والتفريعُ على أن النقلَ لا بدّ منه- فلا يتصرف المشتري، وهل ينتقل الضمانُ إليه؟ فيه وجهان ذكرهُما العراقيون. فليميز الناظرُ بَيْن تخليةٍ من البائع، ولا قبولَ من المشتري، وبين تخليةٍ منه وقبولٍ من المشتري، في الحكم المطلوب، والتفريعُ على اشتراط النقل. فإن لم يكن من المشتري قبولٌ، فلا ينتقلُ الضمانُ إليه. وإن كان منه قبولٌ، ففي الانتقالِ وجهان؛ فإن التخليةَ مع القبولِ تُثبت صورةَ الاستيلاء معَ تخلّف النقل المعتبر، فافهمُوا ترشدوا.
هذا قولنا في النقل والتخلية.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق. ويتأكد صحةُ هذه الزيادة بما قاله الإمام في أول الفقرة ويتأكد من الفصل الذي يتلو هذا مباشرة.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) ساقطة من (هـ 2) .(5/182)
3084- والقسم الثالث فيه: إذا كان المبيع مقدَّراً، وقد أُورِدَ البيع باعتبار تقديره، بأن يقول: بعتُكَ هذه الصُّبرة، كل صاع بدرهمٍ، فلا بد من إجراء الكيل، ولا يتم القبضُ دونَهُ، والتخليةُ غير كافيةٍ، بل (1) لا بد من إجراء الكيلِ أو الوزنِ على حَسَب ما وقعَ تنزيلُ العقدِ.
والأصل فيه ما رواه الشافعي في السواد (2) عن الحسَن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه " نهى عن بيع الطعام حتى يجري فبه الصاعان " (3) ومراسيل الحسن (4) مستحسنةٌ عند الشافعي فلو اشترى بُرّاً كيلاً، فلا يتم القبضُ فيه حتى يُكالَ بعد العقد على
__________
(1) (هـ) : ولا بد.
(2) مرة ثالثة نلتقي بكلمة (السواد) ، وقد وضح معناها هنا، فالسواد اسم كتابِ يحيل عليه روى فيه الشافعي، ويحيل عليه إمامُ الحرمين، ويلتزم ترتيبه، ويجري في كتابه هذا (النهاية) على ترتيب هذا (السواد) . كما قال ذلك في الموضعين السابقين.
فما هذا الكتاب الملقب بالسواد؟
هل هو مختصر المزني؟
أكاد أجزم بذلك لسببين:
أ- أن إمام الحرمين صرح بذلك، في خطبة كتابه؛ إذ قال: "سأجري على ترتيب المختصر جهدي"، وقد تحقق ذلك، وتم فعلاً. (فالنهاية) تسير على ترتيب مختصر المزني حرفاً حرفاً، حتى وإن انتقد إمام الحرمين هذا الترتيبَ، وأعلن أن فيه تشويشاً في بعض المواضع، لكنه يعقب بإعلانه التزام هذا الترتيب، وعدم الخروج عليه.
ب- السبب الثاني أن ما رواه الشافعي هنا في السواد نجده في المختصر: 2/183.
ولكن يبقى السؤال: لم سمي مختصر المزني بـ (السواد) ؟
أقول الآن -عند المراجعة الأخيرة- إن (السواد) يطلق لغة على الصُّلب، والمتن، والأصل، وإن لم نجد هذا منصوصاً في معجمٍ من المعاجم للآن، وقد سبق أننا أفدنا هذا من شيخنا أبي فهر، برّد الله مضجعه.
(3) ومرسل الحسن هذا، رواه البيهقي: 5/316.
ورواه مرفوعاً عن جابر، ابن ماجه: التجارات، باب النهي عن بيع الطعام، ح 2228، والدارقطني: 3/8، والبيهقي: 5/316. وانظر التلخيص: 3/63 ح 1211.
(4) الحسن المراد به الحسن البصري. وكذا دائماً حيث أطلق، فهو الحسن البصري.(5/183)
المشتري، ولَو وُزنَ عليه، لم يكفِ، ولو اشتراهُ وزناً، فتمام القبض فيه بالوزن، فلو كيل بدلاً من الوزن، لم يكفِ.
ولا يخفى على الفقيهِ أن ما نرعاه من اتباع الشرعِ في الكيل والوزن، حتى لا يجُوزَ إقامةُ تقديرٍ مقام التقدير الثابت شرعاً، إنما هو في بيع مالِ الربا بجنسهِ حيثُ تجبُ رعايةُ المماثلة، [فإذا] (1) لم يكن كذلك، فلا حرجَ. وكيفَ يُشكِلُ هذا مع جواز ابتياع الحِنطة بالدراهم جُزافاً.
فلو اشترى رجلٌ حنطةً كيلاً، وبقاها في المكاييل، ثم باعها مكايلةً، فهل يجوزُ أن يكتفي بصبِّ تلك المكاييل بين يدي المشتري؟ فعلَى وجهين: أحدهُما - لا يكفي ذلك، [بل] (2) تُصبُّ الحنطةُ، ثم يُبتدأ كيلُها للمشتري. وهذا القائل يحتج بما روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن بيع الطعام حتى تجري فيه الصَّاعان " قيل: معناه حتى يجرى فيه (3) صاعُ البائع، وصاعُ المشتري وهذا [يُتصوّرُ] (4) فيهِ إذا اشترى رجلٌ طعاماً مكايلةً، [و] (5) باعه مكايلةً، ولعلَّ أمثالَ هذهِ المعاملات كانت تجري في مواسمِ الحجيج وغيرِها، فكان الرجل يبتاع مكايلة [بمقدارٍ، ويبيع مكايلةً] (6) بأقل أو أكثر، فنزل حديثُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما كانوا يجرون من ذلكَ.
هذا وجهُ هذا الوجه.
والوجه الثاني - أنه يكفي أن تصُب المكاييل للمشتري الثاني، ووجهه أن كونَ الحنطة في المكاييل على الدوام، ينزل منزلةَ أخذٍ جديد بالمكاييل؛ فإن الغرض من الأخذ بالكيل احتواءُ الكيل على المَكِيل، فإنه المقدِّرُ، والحنطةُ مقدّرةٌ به، والدليل عليه أنه إذا اشترى حنطةً مكايلةً، ثمِ ملأ المكيالَ، ونقلَ ذلك، كفى وتم القبض، ولا حاجةَ إلى تفريغ المكيالِ حتى يُقضى بتمام القبض.
__________
(1) في الأصل: وإذا.
(2) في الأصل: بأن.
(3) ساقطة من (هـ 2) .
(4) في الأصل: مصوّر.
(5) في الأصل: أو.
(6) ساقط من الأصل.(5/184)
3085- والغرضُ من هذا الفصل شيء واحد، وباقي القول في القبض جزافاً وكيلاً سنجمعه في فصلٍ على إثر هذا إن شاء الله تعالى.
وذلك المقصودُ: أنا إذا جرينا على اشتراط النقل وهو المذهبُ، فقد أطلق الأصحابُ القولَ بأن الكيل مع تفريغِ المكيال كافٍ؛ فإنّ من ضرورتهِ النقلُ من جهةِ الأخذِ إلى جهةِ التفريغ، وهذا يُوهم لبساً.
ومُعظمُ العماياتِ في مسائل الفقهِ من تركِ الأولين تفصيلَ أمور كانت بيّنةًً عندهم، ونحن نحرِصُ جهدَنا في التفصيل، ولا نبالي بتبرم الناظر.
فالكيلُ لَعَمْري نقلٌ، لكن يجب معهُ اعتبار الأمور التي مهّدناها (1) ، حتى لو كالَ البائع الحِنطة التي باعها مكايلةً، وأخذ يصُبّها عن يمينه وعن يسارهِ، لا في جهة المشتري، فالذي جاء بهِ كيلٌ، وليس بنقل، والنقلُ باقٍ في الحكم بصحة القبض.
فإذن الكيلُ أو الوزن معتبرٌ في عَقدِ المكايلة والموازنة، وقد يقعُ الكيل على صُورَةِ النقل فيسُدّ مسدَّينِ، وقد يقعُ لا على صُورَةِ النقل، فيبقى الكلام في النقل على ما تقدَّم.
فصل
في بيع الحنطة مكايلةً مع جريان القبض جزافاً
3086- فنقول: إذا اشترى طعاماً كيلاً، ثم قبضهُ جزافاً، فقد قال الأصحاب: لو تلفَ ما (2) قبضه كذلكَ، فإنه يتلف من ضمانه وفاقاً، ولا ينفسخ البيعُ أصلاً.
ولو أرادَ بيعَ ذلك الطعامِ الذي قبضه جزافاً نُظر: فإن أراد بيعَ الكيل، فلا يصح منه البيعُ في الجميع؛ إذْ حق البائع متعلِّقٌ به، وقد يزيد إذا كيل.
والمسألة مصوّرة فيه إذا باع عشرةَ آصع، وأشار إلى صبرة، ويجوز أن تكون الصُّبرة عشرة، ويجوز أن تزيدَ، فلو أنهُ قبض جزافاً، ثم باع القدر الذي يستيقن أنه
__________
(1) (هـ 2) : قدمناها.
(2) عبارة (هـ 2) : " قال الأصحاب: ذلك الطعام الذي قبضه كذلك ".(5/185)
حقهُ، أو أقَلُّ من حقه، فهل يصح البيعُ في [هذه الصورة] (1) ؟ ذكر العراقيون وجهين: أحدُهما - وهو اختيار أبي إسحاقَ أن البيعَ يصحّ؛ [لأن القبضَ ناقلٌ] (2) للضمان، فإذا انتقل الضمانُ، تَم الملك وزايله [الضعفُ] (3) المترتب على تعرض البيع للانفساخ عند تقدير التلف. وإذا صادفَ البيعُ مِلكاً تاماً مِن مالكٍ مطلقٍ، نَفَذَ.
والوجهُ الثاني -وهو اختيار ابنِ أبي هريرةَ- أنه لا يصح البيعُ في شيءٍ مما قبضهُ؛ فإن القبضَ فاسدٌ، وهذا ما قطع به شيخي، وطوائفُ من الأصحاب. وتوجيهُ الوجهِ يترتب على إثبات فسادِ القَبضِ، والدليل عليه الخبرُ الذي رَويناه من الأمر بإجراء الصَّاعَين، ومناهي الرسول صلى الله عليه وسلم محمولةٌ في هذه المَواضِع على الفسادِ، واقتضاءِ التحريم.
ثم قد أطلق الأولون الحكمَ بفسادِ القبض على الجُملة، مع المصير إلى تصحيح البيعِ في القدرِ المستيقَن. فلو قيل: فما معنى الفَسادِ على هذا الوجهِ مع صحَّةِ البيع في القدر المستحق؟ قلنا: لو قبض الطعامَ كيلاً، ثم ادّعى بعد ذلكَ نقصاناً متفاحشاً، لا يتوقعُ مثلُه في الكيل، لا يُقبل قولُه، ولو قبضهُ جزافاً، كما صورناه، ثم ادَّعى نقصاناً متفاحشاً عن حقه، فالقول قَولُهُ مع يمينه؛ فإن البائع يدعي عليهِ قبضَه، وهو يُنكِرُه، فالقول قولُه.
وهذا ليس مَحْملاً واضحاً في فسادِ القبض المعترف بهِ. وقد قيل: لو باع الجملةَ على جهالةٍ، فالبيع في الكُلِّ باطل قولاً واحداً، ولا يخرّج [على] (4) تفريق الصفقة، فهذا أثرُ الحكمِ بفسادِ القبض بالجملةِ.
وهذا كلام مختلط؛ فإنا إذا نقلنا الضمانَ، وجوزنا التصرُّف في القدرِ المستيقَن، فقد صححنا القبضَ فيه، والوجه في فرض بيعِ الكُلِّ التخريج على قول تفريقِ الصفقة، ولا حاجةَ إلى الاعترافِ بفسادِ القبض في الكل، مع التصحيح في التفصيل، وإنما
__________
(1) زيادة من (هـ 2) .
(2) في الأصل: لا القبض ناقل.
(3) في الأصل: الضعيف.
(4) في الأصل: عن.(5/186)
يستحق إطلاقُ الفساد ممن يمنع التصرفَ من القدر المستيقن، وهذا لا شك فيه.
3087- ويتصل الآن باستتمام الكلام فصولٌ نأتي بها أَرْسالاً: منها: أنا قدَّمنا فيما سبق أن الاستيلاءَ من غير إذن البائع ينقُل الضمانَ، حتى لو فرض التلفُ، كان من ضمان المشتري القابضِ قهراً، ولا ينفسخُ البيع. ولكن إذا أثبتنا للبائع حقَّ الحبس، فالمبيع مسترَدٌّ من المشتري؛ فإن ذلك ممكن؛ فلو باع المشتري، لم ينفذ بيعُه وجهاً واحداً رعايةً لحق البائع، وإن تحقق انتقالُ الضمان. وهذا كامتناع بيع الراهِن في المرهون.
ومسألةُ القبضِ جُزافاً مفروضةٌ فيه إذا جرى ذلك القبضُ عن رضاً من البائع، أو فرّعنا على أن لا حَقَّ للبائع في الحبس.
ولو رضي بالقبض جزافاً، ثم بدا له بعد جريان صورة القبضِ، فهذا يخرّج على تسلّط المشتري على البيع في القدر المستيقَن، فإن سلطناه عليه، فقد أَلْزمنا القبْضَ، فلا سبيل إلى تسليط البائع على نقضه؛ إذ القبضُ صدر عن إذنهِ، وتوفر عليه مقصودَاه: من نقلِ الضمان، والتسليطِ على التصرف. وإن قلنا: لا يتسلّطُ القابضُ على التصرّف في قدر حقّهِ، فهل يملك البائعُ نقضَ يده، والعودَ إلى حقّ الحبس؟
هذا محتمل عندنا. والعِلم عند الله.
3088- وممّا يتعلّقُ الآن بتفصيل بيع الطعام مكايلةً أن الرجل إذا اشترى طعاماً كيلاً سلَماً، واستقرَّ له ما اشتراهُ في ذمّةِ المسلَمِ إليه، واستقرَّ ذلك عن جهةِ [إقراضٍ] (1) ، أو بدلِ متلفٍ، ثم استحق عليه مستحِقٌ بجهةٍ من الجهاتِ مكاييلَ من الحنطةِ، فقال للمستحِق عليه استَوْفِ حقّكَ من فلان، وذكر الذي يُستحَقُّ عليه الطعام، فإذا اكتالَ المستحِق [المتأخِّر] (2) لنفسهِ، لم يصح مثلُ ذلك القبض؛ فإن القبض يتعلّق بالقابض والمقْبض. ولا يجوز تقديرُ صُدورِهما من شخصٍ واحدٍ. فإن قدَّرهُ مقدّرٌ
__________
(1) في الأصل: إقباض. لصحة اختيارنا، راجع المجموع: 9/280.
(2) في الأصل: المستأجر.(5/187)
وكيلاً بالقبض (1) من جهة الآمِر قابضاً من جهة نفسهِ، فهذا هو الذي لا نُصحّحهُ.
ولو قالَ [لمستحِق] (2) الطعام: اكتل حقَّك من حنطتي هذه، فإذا اكتاله بنفسه بأمرِ البائع، فَفِي حُصول القبضِ على الصحَّةِ وجهان: أحدُهما - أنه يصح لجريان صورة القبض بإذن صاحب الحنطةِ وبائعها. والثاني - لا يصح لاتحادِ القابضِ والمُقبض، والإذنُ بمجرَّده ليس إقباضاً. وهذا القائلُ يعضد كلامَه بالحديث الذي رويناه في صدرِ الفصل.
فإن قيل: قد قطعتم جوابَكم قبيلَ هذا بما يُناقِضُ هذا إذْ قلتمُ: لو كان للآذن الآمِر حنطة على إنسان، فقال لمن يستحق عليه: اقبض حقَّكَ منه، فإذا قبض زعَمتم أنه لا يصح. قُلنا: الفرقُ ظاهر؛ فإن [مِلْكَ] (3) الآذنِ فيما قدّمناه لا يثبت في عينٍ حتى يقبض له أولاً، فإذا قبض القابض لنفسهِ، ولم يجرِ القبض للآذن، كان باطلاً وجهاً واحداً؛ فإنه لا يستحق على من قبض منه شيئاً، ولم يثبت للآذِن المتوسّطِ استحقاق في عينٍ حتى يترتب عليه قبض هذا القابض. والمسألة التي ذَكَرنا الوجهين فيها مفروضة فيه إذا كان للآذن حنطةٌ حاضرةٌ عتيدةٌ، فأمر المستحِق بالاكتيال منها.
فإذا ظَهر محلُّ الخلاف والوفاقِ بنينا عليه غرضَنا، وقلنا: لو قال اقبض حقي من فلانٍ، صح، ووقع القبضُ والملكُ في المقبوض للآذِن، حتى لو تلف المقبوض في يَدِ الوكيل، كان محسوباً على الآذن، ويدُ الوكيل أمانة. وبمثلهِ لو قال: اقبض لي من فلانٍ حقّي، ثم اقبض منه حَقّكَ، فأمّا قبضُه له فصحيح. وقبْضُه لنفسه بعد قبضه له [يخرّجُ] (4) على الوجهين المقدمين.
ولو قال للذي يستحق عليه طعاماً: خُذ هذه الدراهمَ، واشترِ بها لنفسِك طعاماً، لم يصحّ هذا أبداً.
__________
(1) في هامش (هـ 2) : خ " بالإقباض ".
(2) في الأصل: المستحق.
(3) في الأصل: مالك.
(4) في الأصل: تخريج.(5/188)
ولو قال: اشترِ لي [طعاماً] (1) في الذمةِ، واقبض لنفسك، فالشراء صحيح، والقبضُ فاسدٌ. ولو قالَ: اشترِ لي واقبض لي، ثم اقبض منه حقّكَ، فالشراء والقبض للآمرِ صحيحان، وقبضُه لنفسه على الوجهين.
3089- ومما يجب التنبُّه له أنه إذا قال: اقبض حقَّك من فلانٍ، فقبضه، لم يصح، والمقبوضُ ملك المقبوضِ منه، فليردّهُ عليه. وإذا ثبت هذا، فلا خفاء في أن تصرفه لا يَنفذ، ويدُه ضامِنةٌ؛ فإنها لا تنحط في هذا المقام عن يدِ المستامِ.
وسأفصّل هذا في آخر الفصل إن شاء الله عز وجل.
ولو قال: اقبض حقَّك من صُبرتي هذه، فإذا اكتال بنفسه، وقلنا: يصح قبضُه، فلا كلام، ويتسَلّطُ على التصرُّفِ. وإن قُلنا: لا يصحّ قبضُه، فليس هذا كما لو اشترى طعاماً مكايلةً وقبضهُ جزافاً؛ فإنا ذكرنا ثَمَّ أن البيعَ في القدر المستيقن ينفذ عند أبي إسحاق، وهَاهُنا لا يَنفُذ البيع أصلاً، بل لا يملكُ القابضُ ما أخذ. والسبب فيه أن مسألة الجزاف مفروضةٌ في ثبوت الملك في الحنطةِ المعيَّنة بالعقدِ، ثم في قبضها التفصيلُ. فلقد قبض ما ملك بالعقدِ، فجرى الأمرُ على ما مضى. والمسألةُ الأخرى مصوّرةٌ فيهِ إذا استحق حنطةً في ذمة إنسانٍ، فأمره من عليه الحنطةُ أن يقبضها على وجهٍ، فإذا لم يصحّ ذلك الوجه، لم يملك المقبوضَ، ولم يتعيَّن حقُّه فيه؛ إذ لم يسبق له قبلُ استحقاق عينٍ (2) . وهذا واضحٌ لا إشكالَ فيهِ.
وقد نجز القول في أصول القبضِ. ونحن نرسم فروعاً شذَّت عن التفاصيل في
القواعد.
فرع:
3090- إذا باع طعاماً بطعامٍ مكايلةً، فإذا جرى التكايلُ في المجلسِ وترتب التقابُض عليهِ، فإذا تفرّقا، استمرت صحةُ العقد، ولو جَرَى التقابض مُجازفةً من الجانبين، وتفرقا عليه، ففي فساد العقد وجهانِ: أحدُهما - أنه يفسد، لأن القبضَ لم يتم. والثاني - لا يحكم بالفسادِ، لجريانِ صورةِ التقابض.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) لعلها: عين هذه الحنطة.(5/189)
وهذا يَبتني عندنا على الخلافِ المذكور في أن القابضَ على المجازفة هل يتسلط على بيع ما استيقنه؟
وتحقيق [القول] (1) فيهِ أن من يصحح التصرفَ في القدر المستيقنِ، يصحح القبضَ من جهةِ أن أثر القبضِ نقلُ الضمانِ والتصرّفِ، فإذا اجتمعَا، لم يبقَ لذكرِ الفسادِ معنىً. فعلى هذا إذا تفرقا، لم يبطل العقدُ.
وإن لم يسلَّط القابضُ على التصرف، فالقبض على هذا لم [يُفِدْ] (2) أحدَ مقصوديه، وهو التصرفُ، وأفادَ نقلَ الضمانِ. فإذا فرض التفرقُ على هذا الوجهِ، ففي بطلان العقدِ وجهان: أحدهما - أنه يفسُد لنقصان القبض. والثاني - يصح لجريانهِ واقتضائه لنقل الضمان.
وذكر بعضُ الأصحاب أن رجُلين لو تبايعا طعامين في الذمَّةِ، ثم تقابضا من غير رؤية في المقبوضِ، قال (3) : هذا يُخَرَّجُ على هذا الخلافِ المذكور في التقابض مُجازفة. وهذا فيه فضلُ نظر؛ فإن القبضَ [من غير رؤية يخرّج عندنا على بيع الغائب، فإن القبضَ] (4) [عن] (5) ثابتٍ في الذمّةِ مُملِّكٌ كالبيع، فحلّ محلّهُ.
فإن قلنا: لا يحصل التمليك، فتفرقا، فسدَ العقدُ، وليس كالقبض على مُجازفةٍ في عينين، فإن القبض وارد على مِلك، وإن حكمنا بأن القبضَ مع [عدم] (6) الرؤية مُملِّكٌ، ففي التفرق احتمال؛ من جهة أنه تفرق على جوازِ العقد، فإنا (7) إذا خرَّجْنا قبضَ ما لم يره القابضُ على بيع الغائب، فلا بدّ من تقديرِ خيارٍ فيهِ، والتفرقُ على حكم الخيارِ ضعيف، ولهذا لا يثبت خيارُ الشرطِ في عقدِ [الصَّرفِ] (8) ، ولنا في
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في الأصل: ينفذ.
(3) أي بعضُ الأصحاب هو القائل.
(4) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(5) في الأصل: عين، وفي (هـ 2) غير. والمثبت تقدير منا، لعله الصواب.
(6) سقطت من الأصل.
(7) عبارة (هـ 2) : فإذا أخرجنا.
(8) في الأصل: التصرف.(5/190)
خيارِ الرؤيةِ في قبض ما لم يرهُ القابض تردُّدٌ (1) ، فلينعمُ الناظرُ نظرَه فيه، فإن خيارَ الرؤيةِ متعلَّقُهُ الخبر، وهو إن صح واردٌ في الشراء، ففي (2) الخيار من طريق المعنى غموض [أيضاًً؛ من جهة أن المقبوض إذا كان على الصفةِ المستحقةِ، فلا فائدة] (3) من رد ما قبضه، فإنه لو رَدّه، لاستمكن المردودُ عليه من رد ذلك بعينه عليه، وليس هذا فسخاً. بخلاف الخيار في العقد. ويجوز أن يقال: هذا فسخٌ في القبض، فإذا أنشأ من عليه الحق إقباضاً، فليفعل.
فرع:
3091- قد ذكرنا أن الأصحَّ اعتبارُ النقلِ في المنقول، حتى لا يصحَّ القبضُ دونَه. فلو باع رجل داراً، وفيها أمتعةٌ باعها مع الدار، فقد اختلف أصحابُنا في اشتراط النقلِ فيها لتحقيق القبض، فذهب بعضهم إلى [أن] (4) النقلَ لا بدّ منه؛ طرداً لقياس اعتبار النقل، وذهب آخرون إلى أن النقل لا يعتبر، ووجّهُوا هذا بأن المنقولات تتبع الدارَ.
وهذا التوجيه غيرُ سديدٍ. والوجه تخريجُ الخلافِ على أصل سيأتي في الرهون.
وهو أن من باع الوديعةَ من المودَع، فهل يحتاج إلى إقباضٍ جديد، أم يكفي دوامُ اليد؟ ووجهُ خروجِ ما ذكرناه على ذلك الأصل أن اليدَ تثبتُ على الدار، فيصيرُ المنقول فيها تحت يد المشتري، فانتظم التردد على هذه القاعدة.
فإن بقي في النفس اقتضاءُ تفصيل، فهو مستقصى في الأصل الذي أشرنا إليه.
فرع:
3092- إذا بَعث من يستحقُ مكيالاً من طعامٍ مكيالَه إلى المستحقّ عليه حتى يملأه، فإذا ملأه، لم يصر نفس هذا إقباضاً عندَنا، خلافاً لأبي حنيفةَ (5) ، وهذا يخرّج على ما مهدناه من أن صورةَ التقدير لا يكون إقباضاً، حتى ينضمَّ إليه ما يتم الإقباضُ به.
__________
(1) ساقطة من (هـ 2) .
(2) في (هـ 2) : وفي.
(3) ساقط من الأصل.
(4) مزيدة من (هـ 2) .
(5) ر. بدائع الصنائع: 5/244.(5/191)
فرع:
3093- إذا كان لرجل على رجل دينٌ موزونٌ، استحقَّهُ عليهِ وزناً، فلا يستحق القبض فيه إلا وزناً، سواءٌ كان ذلك في بيع أو قرضٍ، أو غيرِهما.
فلو ألقى من عليه الحقُ إلى مستحِق الحق كيساً فيه دراهمُ مجهولة، وقال: خذها بحقِّك، فأخذها من غير وزنٍ، فالقبض فاسدٌ غيرُ مملِّكٍ، كما سبق. ولكن لو تلفت تلك الدراهمُ في يدِ القابضِ، كانت مضمونةً عليه؛ فإنه قبضها على قصد التملُّكِ، فإذا لم يصح مقصودُه، ثبت الضمان، ولا ينحط هذا من ضمان المحكوم به في حق المستام.
ولو ألقى إليه الكيس، وقال: خذ منه حقَّك، فإنه لم يسلِّم إليه ما في الكيس مملِّكا، ولكن سلَّمها إليه، والملكُ دائمٌ للمسلِّم، فوكَّله بأن يقبضَ حقه منه، فإذا قبض حقهُ منه وزناً، ففي صحَّة القبضِ الوجهان المقدَّمان في نظائرِ ذلك، ولو تلفت تلك الدرَاهِمُ في يده، قبلَ أن يقبضَ منها حقَّه، فلا يكون التالف مضموناً عليه؛ فإن يده يدُ الوكيل المؤتمن قبل أن يقبض، ولا ضمان على الوكيل فيما تلف تحت يدهِ.
وليس كيَدِ المستام؛ فإنه قبض ما قبض لمنفعةِ نفسِه من غير استحقاقٍ، واليد إذا كانت بهذه الصفةِ، فهي يَدُ ضمان والتوكيل ثابت ويدُه مستمرةٌ على حكم الأمانة، إلى أن ينشأ قبضُ حقِّ نفسهِ. وهذا يناظر ما لو أودع عند رجل عبداً، وذكر أن المودَعَ له أن يستخدمَ العبد إن أراد ذلك، فاليد يدُ وديعةٍ في الحالِ، فإذا ابتدأ في الاستخدام على حكم العارية، فيصير العبدُ إذْ ذاكَ مضموناَّ؛ فإنه مستعار الآن.
3094- وذكر شيخي تردُّداً عن القفال في مسألةٍ أجراها في أثناء الكلام، وهي أنه لو دفع رجلٌ إلى إنسانٍ دراهمَ، وقال له: اشترِ لنفسِكَ بهذا شيئاً، فقال: يجوز أن يحمل مُطلقُ هذا التسليم (1) على الإقراض، ثم لا يخفى حكمُه، ويجوز أن يحمل على الهبةِ والنحلة، والدليل عليه أن الشافعي قال: " إذا قال من لزمته كفارة لمالكِ عبدٍ: أعتقه عنّي، ولم يذكر عِوضاً، فإذا أعتقه عنه مطلقاًً، صحّ، وحُمل العتقُ على جهةِ التبرع " فليكن الأمر كذلك هاهنا.
__________
(1) ساقطة من (هـ 2) .(5/192)
فصل
في الاستبدال
3095- الأعيانُ الثابتةُ أعواضاً في الحقيقة في المعاوضات (1) لا يجوزُ الاستبدال عنها قبل القبض، بناءً على الأصل الممهّدِ في منع بيعِ المبيع قبل القبض، والاستبدالُ بيعٌ. وفي جوازِ الاستبدالِ في الصداق، وما ضممناه إليه من بَدل الخُلع والمصالحةِ عن الدم، الخلافُ المقدَّم، بناءً على أن الأعيانَ هل تثبت أعواضاً على الحقيقة، أم هي مضمونةٌ بالأيدي؟ [وعلى] (2) هذا يُبْتَنى حكمُ التلفِ، على ما سيأتي في كتاب الصداق.
وغرضُ الفصل تفصيلُ القولِ في الاستبدالِ عن الديون.
فنقول: الأموالُ الثابتةُ في الذمَّة تنقسم ثلاثةَ أقسام: أحدها - ما يثبت معوَّضاً في محل المبيع المثمَّن، والثاني - ما يثبت ثمناً. والثالث - ما يثبت بسبب من الأسباب، وليس مُتَّصفاً بكونه ثمناً ولا مثمناً، كالقرْضِ في ذمة المقترض وقيمةِ المتلَفِ، والمالِ المضمون في ذمّة الضَّامِن.
3096- فأما ما يثبت معوَّضاً مثمناً في محل المبيع، فهو المسْلَم فيه، فلا يجوز الاعتياض عنه، كما لا يجوز الاعتياض عن العَيْن المبيعة، وذلك أن المسلمَ فيه مبيع مقصودٌ كالعَين المبيعة (3) ، والملك في العين أقوى من الملك في الديْن، فإذا امتنع الاستبدال عن الملك في العَيْن، فلأن يمتنِع عن الدين الذي وقع مبيعاً أولى. ولو كان على المسلِمِ قرضٌ، فإخال المُقرِضَ بحقهِ على المسلَمِ إليهِ، فالحوالة فاسدةٌ؛ فإنها في التحقيق بيع سلمٍ بدينٍ، وذلك باطلٌ.
ولو كان للمسلَم إليهِ دينٌ على إنسانٍ عن جهةِ قرضٍ، وكان من جنسِ ما عليه في
__________
(1) عبارة الأصل: " في الاستبدال للأعيان الثابتة أعواضاً في الحقيقة المعاوضات ... الخ ".
(2) زيادة من: (هـ 2) .
(3) (هـ 2) : المعينة.(5/193)
عقدِ السلم، فلو أحال المسلِمَ على من عليه القرض، ففي الحوالة وجهان: أحدُهما - أنها فاسدة؛ فإنها تضمنت مقابلةَ سليم بقرضِ، فلتفسد كما تَفسُد إحالةُ القرضِ على السلم.
ومن أصحابنا من قالَ: حوالةُ السلَم على القرض صحيحةٌ؛ فإن الواجبَ على المسلَم إليه أن يوفر على المسلِم حقّهُ، فإذا فعل، فقد خرج عما عليه، فالأصح منع الحوالة؛ فإنا لو صححناها، لكُنَّا نقلنا استحقاقَ المسلَم من السلم إلى القرض، ومن ذمَّة المسلم إليه إلى ذمّةِ المستقرض، وهذا على حقيقة المعاوضة. وإن لم نجعل الحوالةَ معاوضةً، فيجب أن تصح الحوالة على السلم أيضاًً. وذكر الشيخ أبو بكر الصيدلاني وجهاً في صحة إحالةِ القرضِ على السلَم والسلَم على [القرض] (1) ، تخريجاً على أن الحوالةَ استيفاءٌ وليس بمعاوضةٍ.
وإذا جمعنا الإحالَةَ على السلم، وإحالةَ السلم على غيرهِ، انتظم على ما ذكره ثلاثةُ أوجهٍ: أحدها - المنع. والثاني - الجوازُ. والثالث - الفصل بين إحالة القَرْض على السلم؛ فإنها ممنوعة وبين إحالةِ السلم على القرض؛ فإنها جائزة.
فهذا قولُنا فيما ثبت من الديون على مرتبة الأعيان المبيعة.
3097- فأما ما ثبت قرْضاً، أو قيمةً عن مُتلَفٍ (2) ، أوْ لازماً عن جهةِ ضمانٍ، فالاستبدال عن جميعها جائزٌ. وإذا استبدل مستحِقُّ الدين في هذه الجهاتِ وأمثالِها عن الدين عيناً، صح الاستبدال لو جرى تسليمُ العين في المجلس. وإن تفرقا قبل تسليم العين، نُظر: فإن كان الاستبدالُ في شقيّه وارداً على ما يشترط التقابض فيه [ثم] (3) جرى التفرُّقُ، فيبطل الاستبدالُ، وإن لم يكن العقدُ عقدَ ربا، بأن كانت الديون دراهمَ وأعواضُها ثياب، وما في معانيها؛ فإذا جرى التفرُّقُ قبل القبض فيها، ففي بطلان الاستبدال وجهان: أحدهما - أنه لا يبطل؛ لأن اشتراط الإقباض لا يستند
__________
(1) في الأصل: السلم.
(2) هذا هو القسم الثالث من أقسام الأموال الثابتة في الذمة التي ذكرها في أول الفصل، وقد قدّمه وذكره ثانياً، وسيأتي الثاني وقد سماه (الثالث) في الصفحة التالية.
(3) في الأصل: لو.(5/194)
إلى أصلِ في غير عقود الربا والسَلَم، فليكن الاستبدال من دينٍ في عين بمثابَة بيعِ عينِ بدين، ولا (1) يُشترط الإقباضُ فيه.
والوجه الثاني - الاستبدالُ يَفسُد، ويندرجُ تحت نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم " عن بيع الدين بالدين " (2) . وهذا ظاهر نص الشافعي، وليس الاستبدال في معنى بيع العين بالدين؛ فإن العقد ينزل على مقصود المتعاقدين، وغرضُ الاستبدال استيفاءُ الدين من مالية العَين، فإذا لم يجز القبضُ، كان في حكم دينٍ في مقابلة دين.
وهذا تكلّفٌ والصحيح الأول.
3098- وإذا ثبت جواز الاستبدالِ عن الديون في هذه الجهاتِ، فهل يصح بيعُ الدينِ من إنسان آخر بعينٍ تؤخذ منه؟ فعلى قولين: أحدهما - يجوز؛ فإن الدينَ مملوكٌ، فإذا جاز استبدالُ مستحقِّه عليه، ونفذَ تصرُّفُه فيهِ، فينبغي أن يجوز بيعُه من الغير (3 أيضاًً، اعتباراً بالأعيان التي تَنفُذ التصرفات فيها.
والقول الثاني - لا يصح بيعُ الدين من الغيرِ 3) ، فإن الدينَ ليس ملكاً محصَّلاً، ولهذا يمتنع رهنُه، وإنما جوزنا الاستبدالَ توصُّلاً إلى الاستيفاءِ، وإبراءِ الذمة، ولا خلاف أنا وإن جوزنا بيع الدين من [الغير] (4) ، فلا يجوز بيعُ الدين من الغير بالدين؛ فإن هذا لَوْ جُوّزَ انطبق عليه نهيُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالىء بالكالىء.
وكان شيخي يقول: اشتراطُ القبضِ في الاستبدال متلقىً من القولين من بيع الدين من الغَير، فإن جوّزنا ذلك، فالاستبدالُ بيعٌ محقق، ولا يُشترط في بيع العين القبضُ، إذا لم يكن العقدُ مشتملاً على عِوضَي الربا. وإذا لم نجوّز بيعَ الدين من الغَيرِ، فلا نجعل الاستبدال في حقيقة البيع بل نجعله استيفاءً، والاستيفاءُ لا يَتعدَّى المجلسَ.
__________
(1) في (هـ 2) : ثم لا يشترط الإقباض فيه.
(2) حديث النهي عن بيع الدين بالدين رواه الحاكم: 2/57، والدارقطني: 3/71، والبيهقي: 5/290، 291، وانظر التلخيص: (3/62 ح 1209) .
(3) ما بين القوسين ساقط من (هـ 2) .
(4) في الأصل: "العين".(5/195)
3099- فأما القسمُ الثالث وهو الدَّيْن الثابتُ ثمناً، فنقول: في جَوازِ الاستبدال عن الثمن قولان للشافعي: أحدهما - أنه باطِل؛ فإنه دَين ثبت عوضاً في معاوضةٍ، فلا يجوز الاستبدال عنه، كالمسلَم فيه.
والقول الثاني - يجوز الاستبدال عنه؛ فإن الثمن لا يُقصد لعينهِ، وإنما تُقصدُ الماليّةُ منه، والاستبدال يُديمُ الماليةَ وحكمَها، وليس كذلكَ المسلَم فيه؛ فإنه مقصودٌ في جنسهِ، كالأعيان المعيّنَة.
وهذا ضعيف في القياسِ، ولكن رُوي عن ابن عُمر أنه قال: كنا نبيعُ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدراهم، فنأخذ بدلَها دنانيرَ، ونبيع بالدنانير، فنأخذ بَدَلها دراهم، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " لا بأس إذا تفرقتما وليس بينكما لَبسٌ " (1) وروي " وليس بينكما شيء " وهذا الحديث يقرب من مراتب النصوص، وقد حملناه في الخلاف على التبادلِ في المجلس، وهذا يخرج على مصيرنا إلى أن إلحاق الزوائد بالثمن والمثمّن جائزٌ في مجلس العقدِ، وزمانِ الخيار، ويشهدُ لهذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " لا بأس إذا تفرقتما وليس بينكما لَبس ".
3100- وتمام البيان موقوف على أن نذكر حقيقةَ الثمن والمثمَّن، وحاصلُ المذهب في ذلك ثلاثةُ أوجه: أحدُهما - أن الثمن هو الدراهم والدنانير المضروبتان.
والوجه الثاني - أن الثمن ما اتصل به باء الثمنيّة في صيغة العقد، فإذا قال القائل: بعتك هذا العبدَ بهذا الثوبِ، فقال مالك الثوب: قبلتُ، كان الثوبُ ثمناً والعبدُ مثمناً.
ولو فُرضت الصيغةُ على خلاف ذلك، فالمتبعُ عند هذا القائِل في تمييزِ الثمنِ عن
__________
(1) حديث ابن عمر، روي بهذا اللفظ، وغيره (ر. أحمد: 2/83، 154، أبو داود: البيوع، باب في اقتضاء الذهب من الورق، ح 3354، 3355، والترمذي: بيوع، الصرف، ح 1242، والنسائي: بيوع، بيع الفضة بالذهب، ح 4582، والبيهقي: 5/284، 315، تلخيص الحبير: 3/60-61 ح 1208) .(5/196)
المثمن الباءُ التي سميناها باءَ الثمنية، فعلى هذا إذا قال بعتك هذه الدراهم بهذا العبد فالدراهم مثمن والعبدُ ثمن.
والوجهُ الثالث - أن العقد إذا اشتمل على نقد وعَرْضٍ، فالثمن هو النقدُ سواءٌ ذكر بالباء، أو لم يذكر به، وإن لم يشتمل العقدُ على نقدٍ وإنما قوبل عَرْضٌ بعرض، فالثمن منهما ما يتصل به باءُ الثمنيةِ.
وإن قُلنا: الثمنُ هو النقدُ، فهل يصحُّ أن يُذكر مثمناً أوْ لا؟ ظهر اختلاف أصحابنا في أن السلم في الدراهم هل يصح؟ والأصح الصحةُ. والوجهُ الآخر وإن كان مشهوراً، فلا مخرجَ لتوجيهه إلا الامتناعُ من تقدير الدراهم على رتبةِ المبيع المثمَّن.
فإذا ثبت هذا فإن قلنا: لا يصح السلمُ في الدراهم. فلو قال: بعتك هذه الدراهمَ بهذا العبد، فمن أئمتنا من منع هذا. كما منعنا السلم في الدراهم.
والجامعُ ما ذكرناه من تقدير النقد مبيعاً ومنهم مَنْ أجاز هذا. وكان شيخي يقول: لو قال بعتك ألفَ درهم بهذا العبد من غير تعيين الدراهم، فهو بعينه على الخلاف المذكور في السلم في الدراهم، وإنما التردد في الدراهم المعينة إذا ذكرت مبيعةً.
3101- فإذا ثبتت هذه المقدمةُ، وصلناها بأخرى، وقلنا: إذا قال: بعتك هذا العبدَ بثوبٍ، وأطنب في وصفه، فالثوبُ هل يثبت له حكمُ المسلمِ فيه؟ أم هو على حكم الأثمان؟ خرج الأصحابُ هذا على الخلاف المذكور في أن العروض هل تصيرُ أثماناً بباء الثمنية، ولم يختلفوا في صحة العقد. فإن قلنا: الثوبُ ثمن، فلا يجب تسليمُ العبد في المجلس، وإن قلنا: الثوبُ في حكم المسلم فيه، فهل يجب تسليم العبد في المجلس؟ فعلى وجهين سنذكرهما في كتاب السلم: أحدهما - أنه يجب؛ [فإنّ] (1) الصفقةَ اشتملت على موصوفٍ من العروض، وهذا هو السلم. والثاني - لا يثبت حكم السلم؛ فإنها لم تثبت على صيغة السلم، ولصيغ العقودِ آثار بيّنة، فإذا انضم هذا إلى ما ذكرنا لحقيقة الثمنية، عُدْنا بعدَ ذلك إلى إتمام القول في الاستبدال.
__________
(1) في الأصل: في.(5/197)
3102- فنقول: لا مطمع في تصحيح الاستبدال عن الأعيان. فأما الديون فما حَكَمنا بكونه مثمناً، فلا يجوز الاستبدال عنه، وإن لم نوجب تسليمَ مقابله في [المجلس] (1) ، فإنَّ مَنْع الاستبدالِ مُتلقّىً من كون الشيء مبيعاً، لا من وجوب تسليم مقابلِه.
وكل ما حكمنا بكونه ثمناً، فحاصل المذهبِ في الاستبدال عنه ثلاثةُ أقوال: أحدها - الجوازُ. والثاني - المنعُ. والثالث - الفصلُ بين النقد وغيره؛ فإن النقودَ لا تُعنَى لأعيانها، بخلاف العُروض. وإذا كانت العروضُ معيّنة، فلا حاصلَ للفرق بين أن تكون أثماناً أو مثمنات.
وذكر صاحبُ التقريب على قولنا بالمنع عن الاستبدال عن الدراهم الواقعة ثمناً، إنما نمنع استبدالَ عَرْضٍ عن الدراهم، فأما استبدالُ نوعٍ من الدراهم عن نوعٍ، أو استبدالُ الدنانيرِ عن الدراهم، فهل يمتنع؟ فعلى وجهين: فإن القولَ يظهر في التحول من نقدٍ إلى نقد، في أن المستبدِلَ لم يحد عن المقصود، فإن النقود إذا استوت في الجريان، فليست هي مقصودةً لأعيانها، وإن سميت، ويعتضدُ هذا بحديث عبدِ الله بن عمر. ولا مطمع في تقدير معنى.
وكل ما أجريناه مسالكُ ضعيفة لا تصبرُ على السبر مع مصيرنا إلى أن إفلاس المشتري بالثمن يُثبت حقَّ الفسخ في المبيع. وقد ينقدح فيه أن يقال: المالية تعذّرَت بالإفلاس.
وهذا منتهى الكلام في الاستبدال، وما يجوز منه وما يمتنع.
فصل
في تلف المبيع قبل القبض وتعيُّبه
3103- الكلامُ في التلف والنقصان: فأما التلف، فلا يخلو إما أن يكون بآفة سماوية، وإما أن يكون بإتلاف متلفٍ. فإن كان التلفُ بآفةٍ، فالبيع ينفسخ، والمبيع
__________
(1) في الأصل: الجنس.(5/198)
يرتدُّ إلى ملك البائع تبيُناً (1) قبل تقدُّر تلفه. وهذا من ضرورة الحكم بالانفساخ، فإنه لو هلك ملكاً للمشتري، لاستحال أن يُستردَّ الثمنُ، ويُقضَى بانفساخ العقد، حتى قالَ الأئمةُ: لو مات العبدُ المبيعُ قبل القبض، فمؤنةُ تجهيزه ودفنهِ على البائع.
ثم إذا كان يتقدم انتقالُ الملك على التلف، فقد ذكر بعضُ المصنفين وجهين في التقدير: أحدهما - أنه ينتقل الملك إلى البائع قبيل التلف. والثاني - أنه يستند إلى أول العقد. وحقيقة هذا يرجع إلى أنا نتبين بالأَخَرة أن لا عقدَ أصلاً، فيكون العقدُ قبل القبض موقوفاً على ما تبين، فإن لم يسلَم المبيع، تبيَّنا أن لا عقدَ فيما مضى.
وهذا في نهايةِ البُعد.
وبنى هذا القائلُ الزوائدَ المتجدّدة بعد العقد على ما ذكره. وقال: إن قدرنا النقلَ قبيلَ الموت (2) ، فالزوائدُ المنفصلةُ تسلم للمشتري؛ لأنها تجدّدت على ملكه، وإن حكمنا بتبين [انتفاء] (3) العقدِ، فالزوائد تكون للبائع على طرد التبين أيضاًً، ولعلنا نعيد فصل الزوائد في باب الخراج.
هذا كله تفصيل القول فيه إذا تلف المبيع لا بجنايةِ جانٍ.
3104- فأما إذا أتلفه متلفٌ، لم يخلُ إما أن يتلفَه أجنبي، أو يتلفَه المشتري، أو يتلفَه البائع.
فإن أتلفه أجنبي، فالذي قطع به المراوزةُ أن البيعَ لا ينفسخ. وذكر العراقيون قولين في انفساخ العقد: أحدهما - أنه ينفسخ، كما لو تلف بالآفة السماوية؛ فإن المعقود عليه العينُ المبيعةُ وقد فاتت. والقول الثاني - أن البيع لا ينفسخ، ولكن المشتري بالخيار. كما سنفصله في التفريع. ووجه هذا القولِ أن إتلاف الأجنبي أعقب ضماناً على المتلف، والقيمةُ إذا ثبتت خلفت المقوَّمَ في الأعواض المالية.
__________
(1) سبق أن شرحنا مصطلح التبيّن، وهو أن يظهر في الحال أن الحكم كان ثابتاً من قبل في الماضي بوجود علة الحكم والشرط كليهما في الماضي.
(2) كذا. ولعلها: قبل (التلف) .
(3) زيادة من (هـ 2) .(5/199)
التفريعُ:
3105- إن حكمنا بأن البيع ينفسخ فالمشتري يسترد الثمنَ، والبائعُ يطالب الأجنبي بقيمة المتلف.
وإن قلنا: لا ينفسخ البيع، فالمشتري بالخيار. وسببُ خياره أنه عدِم العينَ التي كانت مورداً للبيع؛ فإن فسخ العقدَ، عاد التفريع إلى ما ذكرناه في قول الانفساخ.
وإن أجاز العقدَ [استقرّ] (1) الثمنُ عليه، واتبع [الأجنبي] (2) بقيمةِ المتلَف، فإذا غرِم الأجنبي القيمةَ، والتفريع على أنه يثبت للبائع حقُّ الحبس (3) ، فهل يستحق حبسَ القيمةِ حتى يتوفر الثمن عليه؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يستحق ذلك، كما لو أتلف أجنبيٌ العينَ المرهونةَ، وغرِم القيمةَ؛ فإنها تكون محبوسةً بالدين. والوجه الثاني - أن البائع لا يملك الحبسَ؛ فإن حق حَبْسه لم يكن مقصود عقدٍ حتى ينتقلَ من العين إلى القيمة، بل ثبت على طريق التبعية، فينبغي أن يسقط بتلفِ العين. والدليل عليه أن الراهن لو أتلف العينَ المرهونةَ في يد المرتهن، فإنه يغرِم قيمتَها لتكون رهناً، والمشتري لو أتلف المبيعَ، لم يلزمه بَذْلُ القيمةِ للبائع لتكون محبوسةً.
التفريع:
3106- إن قلنا: لا يملك البائع حبسَ القيمةِ المأخوذةِ من الأجنبي، سِيقت القيمةُ إلى المشتري، ولم يملك البائعُ إلا مطالبتَه بالثمن. وإن قلنا: يملك البائعُ حبسَ القيمةِ، فلو تلفت تلك القيمةُ المحصلة في يده بآفة سماوية، فالمذهب أن البيعَ لا ينفسخ؛ فإن سببَ انفساخِ البيع تلفُ المبيع. وليست القيمة مبيعةً؛ إذ قد تكون ألفين والثمنُ ألفاً. ومن أصحابنا من حكم بالانفساخ.
وهذا خبطٌ. وسببه أن الأصح أن البائعَ لا يملك حبسَ القيمة، والتفريعُ على الضعيف أضعفُ من أصله.
3107- فأما إذا تلف المبيع بإتلاف البائع، قال العراقيون: في المسألة طريقان.
وقالت المراوزة: في المسألة قولان: أحدهما - أن إتلافَ البائع المبيعَ بمثابة تلفه بآفة
__________
(1) في الأصل: استتر.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) في (هـ 2) : الفسخ.(5/200)
سماوية. وهذا أحدُ الطريقين للعراقيين. والقول الثاني - أن إتلاف البائعِ كإتلاف الأجنبي، وإتلافُ الأجنبي لا يوجب (1) انفساخَ العقدِ في طريق المراوزة. وهو على قولين في طريقة العراقيين.
التوجيه: من لم يجعله كالأجنبي، احتج بأن ضمانه يجب أن يكون ضمان العقود؛ [إذْ] (2) لم يجرِ القبضُ بعدُ، [و] (3) ضمانُ العقودِ يتضمن ردّ الثمن.
والقول الثاني - أنه كالأجنبي، فإنه جنى على ملكٍ مستقرٍّ للمشتري.
التفريع:
3108- إن حكمنا بالانفساخ، فلا كلام. وإن قلنا: لا ينفسخ على اختلافِ الترتيبين، فالمشتري بالخيار بين أن يفسخ، ويرجعَ إلى الثمن، وبين أن يجيز العقدَ، ويُلزمَ البائع قيمةَ المبيع. ثم التفريع وراء ذلك كما مضى.
وكان شيخي يقطع بأنه لا يثبت للبائع حقُّ الحبس في القيمة التي يغرمها؛ فإنه المتسبب إلى إبطال حقه من الحبس في عين المبيع، وليس كالأجنبي. وفي المسألة احتمال على بُعدٍ.
وطرد الأصحابُ وجهين في المرتهن إذا أَتلفَ العينَ المرهونةَ، وغرِم القيمةَ في أن القيمة هل تكون مرهونةً؟ وسيأتي ذلك في الرهون - إن شاء الله تعالى.
3109- فأما إذا أتلف المشتري المبيعَ، فإتلافُه قبضٌ للمبيع، اتفق الأصحاب عليه؛ فيستقر العقدُ والثمنُ، ولا يلزمُ المشتري بذلَ القيمة ليحبسَها البائعُ وجهاً واحداً. وتعليل ذلك أن إتلافَه صادفَ ملكَه، فاستبعد العلماءُ أن يقضُوا بردّ المتلَفِ إلى ملك الغيرِ، بعد صَدَرِ الإتلاف من المالك.
وإذا أعتق المشتري العبدَ المبيعَ قبل القبض، ونفذنا عتقَه على التفصيل المقدّم، كان إعتاقُه قبضاً، وإتلافاً للمبيع، من طريق الحكم.
هذا كلُّه كلامٌ في تلفِ المبيعِ بالجهات.
__________
(1) (هـ 2) : يوجب (بدون " لا ") .
(2) ساقطة من الأصل.
(3) الواو ساقطة من الأصل.(5/201)
3110- فأما نقصانُ المبيع، فإنه ينقسم إلى نقصان جزئي، وإلى نقصانٍ لا يتطرق إليه التجزُّؤ.
فأما النقصانُ الجزئي، فهو بمثابةِ ما لو اشترى عبدين، فتلف أحدُهما، أو كُرَّيْن (1) من الطعام، فتلِفَ أحدُهما، فالبيع ينفسخ في التالف، وفي انفساخِه في الباقي قولا تفريق الصفقة، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ثم المذهب الذي عليه التفريع أنا إذا خيرنا المشتري على قولنا لا ينفسخ العقد في الباقي، فإن أجاز العقدَ في الباقي، أجازه بقِسْطه من الثمن، هذا هو الصحيح. وفيه قول آخر، سنذكره في تفريع تفريق الصفقة.
والنقصان الذي يرجع إلى الجزئية [يَحُدُّهُ] (2) في ضبط المذهبِ أن يكون التالفُ بحيث يمكن إفرادُه بالبيع، ولا يكون جزءاً من الباقي.
ولو باع رجلٌ داراً، فاحترق سقفُها، فقد اختلف أئمتُنا في ذلك: فذهب بعضُهم إلى أن ذلك بمثابة تلفِ أحدِ العبدين، من قِبَل أنّ إفرادَ السقف بالبيع قد يمكن تقديرُه، وإن عسر فرضُه لتعذُّرِ فصلِه، فلا تعويلَ على ذلك، مع إمكانِ إفرادِ السقف بتقديرِ القيمة له، وليس ذلك كأطراف العبد؛ فإنها لا تستقلّ فيما ذكرناه. ومن أصحابنا من جعل احتراق السقفِ وتلفِ غيره من بنيان الدار بمثابة تلفِ أطرافِ العبد، حتى ينزل منزلةَ العيبِ، على ما سنفصله.
هذا بيانُ ما يتعلق [بنقصانِ الجزءِ.
3111- فأما القولُ في العيب الذي يتعلّق بصفةِ المبيع، ولا يتعلق، (3) بما ينقسم في حكم التقويمِ، أو في حكم الإفراد بالعقد، فالوجه أن نُعيد فيه التقاسيمَ الثلاثة.
فإن عابَ المبيعُ بآفةٍ سماوية، مثلِ أن سقطت يدُ العبد بآفةٍ قبل القبضِ، فللمشتري
__________
(1) كُرَّين، مثنى كُر، والجمع أكرار، مثل قفل وأقفال. والكرّ مكيالٌ يسع ستين قفيزاً. (مصباح) .
(2) في الأصل: نجده.
(3) سقط ما بين المعقفين من الأصل.(5/202)
الخيارُ لا غيرُ؛ فإن ردّ ارتدَّ الثمنُ، وإن أجاز لزمهُ تمامُ الثمن. والقول في أحكام الرد في باب الخراج.
3112- وإن قطعَ أجنبيٌّ يدَ العبدِ المبيعِ، فهذا نفرعه على حكم إتلافهِ، فإن جعلنا إتلافَه بمثابةِ التلفِ بآفةٍ سماويةٍ، فمساقُ ذلك يقتضي لا محالةَ ثبوتَ الخيارِ للمشتري، كما لو عابَ المبيعُ بآفةٍ سماويةٍ. ثم إن فسخ استرد الثمنَ، والبائعُ يطالب الأجنبي بأرش اليد، وإن أجاز استقر الثمنُ عليه للبائع، وله مطالبة الأجنبي بأرش اليد.
وإن فرعنا على أن إتلافَه لا يكون كالتّلفِ بالآفةِ السماويةِ، فالخيارُ يثبت للمشتري أيضاًً؛ لأن المبيعَ في عُهدةِ البائع إلى أن يسلّم، والدليل عليه أنا في صورة إتلافِ الأجنبيِّ نُثبت الخيارَ للمشتري أيَضاً، لجريان التلفِ في عُهدةِ البائعِ. فإن أجاز المشتري العقدَ غرِم الأجنبيُّ أرشَ اليدِ. وإن فسخ استردَّ الثمنَ، وغَرَّمه البائعُ (1) .
فيستوي التفريع على القولين في كل حكمٍ بسببين: أحدهما - أن الذي جرى ليس [تلفَ أجنبي] (2) يتطرق الاختلافُ إليه في الانفساخ، والعهدةُ مطردةٌ على البائع في كلِّ قولٍ، واجتماع هذين المعنيين يوجب تسويةً بين القولين.
3113- وإذا عابَ المبيعُ بفعل من جهة البائعِ، فإن جعلناه بمثابةِ الأجنبيّ، فقد مضى التفريعُ فيه، فيثبتُ له مطالبةُ البائعِ بأرش الجنايةِ، فسخَ أو أجازَ (3) .
وإن جعلنا [فعله] (4) كالآفة السماويةِ، فنقول على ذلك: إن فسخ، استردّ الثمن
__________
(1) أي يغرّم البائعُ الأجنبيَّ (ر. الروضة: 3/505، وفتح العزيز بهامش المجموع: 8/410، وقليوبي وعميرة: 2/212) .
(2) في الأصل: "تلفاً حَتى".
(3) هذه العبارة وردت بحروفها عند العز بن عبد السلام في مختصره للنهاية: "وإن أُلحق البائعُ في الإتلاف بالأجنبي، فله (أي المشتري) مطالبة البائع بالأرش، فسخ أو أجاز" ثم عقب قائلاً: كذا ذكره الإمام (إمام الحرمين) وفيه نظر" ا. هـ بنصه (ج 3 ورقة 204 ظهر.
مخطوطة مصورة) .
(4) في الأصل: نقله.(5/203)
ليس له غيره، وإن أجاز، لم يطالِب البائعَ بأرشِ الجناية؛ لأنا نزلنا فعلَه منزلةَ آفةٍ سماوية.
فإن قيل: هلاّ سلكتُم هذا المسلكَ فيه إذا كان الجاني أجنبيّاً؟ قلنا: لا تعلّق للعقد به، وإنما يلتزم ما يلتزم بالجناية المحضة، فيستحيل أن نُحبط جنايتَه في جهةٍ من الجهات، [نعم] (1) يجوز أن يختلف مستحِق الأرش، فأما أن يَبْرَأَ الجاني، فهذا محال. وإذا كان الجاني هو البائع، وجعلنا فعلَه كآفةٍ سماوية، فعهدةُ العقدِ متعلقةٌ به، فكفى إثباتُ حقّ الرد للمشتري، وهذا بمثابةِ إتلافهِ على قولنا: إنه كالتلف السماوي، فإنا لا نُلزمه القيمةَ.
والمرأةُ إذا ارتدت، فقد أفسدت على زوجها حقَّ المستمتعِ، ولا تنزل منزلةَ المرضعةِ تُفسدُ النكاح بالإرضاع.
وإن عاب المبيع بجنايةِ المشتري بأن قطع [يدَ العبدِ] (2) المبيع، فلا شك أنه لا خيارَ له، وإن جرى القطعُ في استمرارِ يدِ البائع، ولكنا نجعله قابضاً لمقدارٍ من المبيع؛ فإن إحباطَ الجنايات لا سبيلَ إليها، والعيبُ في هذا المقام بمثابةِ جزء من المبيع.
ثم قال العلماء: إن ألزمنا الأجنبي أرشَ القطعِ، فجراحُ العبدِ من قيمته، كجراح الحرِّ من ديتِه على النَّصِّ. وفي المسألة قولٌ آخر خرّجَه ابنُ سُريج: إنه يتعلق بالجنايةِ نقصانُ القيمة، وسيأتي ذلك في كتاب الخراج.
وإن جعلنا البائعَ كالأجنبي في الجناية، فقطع يدي العبدِ، ثم رجليه، واندملت الجراحات، فقد نُلزمه بسبب اليدين القيمة الكاملة وبسبب الرجلين قيمة عبدٍ أقطعَ اليدين، ثم نسلِّم العبدَ إلى المشتري إذا كان أجاز، ولا نلزمه إلا الثمن المسمَّى.
3114- وأما إذا كان الجاني هو المشتري، فقد قطع الأئمة بأن المرعيَّ في حقه النقصانُ لا المقدَّر، والسببُ فيه أنا لو اعتبرنا المقدّرَ، لجعلناه قابضاً للعبد حُكماً إذا
__________
(1) في الأصل: ثم.
(2) ساقط من الأصل.(5/204)
قطع يديْه، مع بقاء العبد في يدِ البائع، وهذا محالٌ لا سبيل إليه؛ فكانت هذه الصورة مستثناةً من بين الصور في القطع، باعتبار النقصان؛ والسببُ فيه أن قطعَه ليس بجناية، وإنما هي قبض، والأرش يتقدّر في الجنايات.
ومن غصب عبداً فسقطت يداه بآفةٍ، لم يلزمه إلا النقصانُ، مع تحقق العدوان، لأنه لم يجنِ، فلا إشكالَ إذن في أن الأرشَ المقدرَ لا سبيل إلى اعتباره في حق المشتري، وليس ذلك معللاً بالضرورة، وإنما تنكر (1) في الضرورة بتلك الصورة مستشهد بها للتقريب من فهم المسترشد. والتعليلُ ما ذكرناه، من أن ما صدر منه ليس جناية.
فهذا تفريعُ التلفِ والنقصانِ على أبلغ وجهٍ وأوجزِه.
فرع:
3115- إذا غصبَ المشتري المبيعَ من يد البائعِ، قبل توفيرِ الثمنِ عليه، فإن لم نُثبت للبائع حقَّ الحبس، فلا كلامَ. وإن أثبتنا له حقَّ الحبس، فلو أتلف البائعُ المبيعَ في يدِ المشتري وكان اغتصبه، فنقول: أوّلاً للبائع استردادُ المبيع منه لحقه في الحبس؛ فإن أتلفه البائعُ، فقد (2) ذكر صاحبُ التقريب قولين: أحدهما - أن البيعَ قد استقر بقبضه وإن ظَلَم (3) فيه، فعلى البائع القيمةُ، ولا خيارَ للمشتري في فسخ البيعِ.
والقولُ الثاني - أن الخيارَ يثبت للمشتري؛ فإن إتلافَه على صورة إتلاف المشتري، والمشتري إذا أتلف كان قابضاً، فإذا أَتلفَ البائع، كان ذلك في معنى استراد العين من المشتري، ثم ردّد كلامَه على وجهٍ معناه ما نبديه: فيحتَملُ أن يقال: ينفسخ العقدُ بإتلافه، وكأنه ردّ المبيع إلى يدهِ، ثم أتلفه، ليخرج على الخلاف في إتلاف البائع
__________
(1) في هامش (هـ 2) نسخة أخرى: " تيك الضرورة في تلك الصورة ". والعبارة على الحالين غير مستقيمة، ولعل تصحيفاً وقع فيها وصوابها: "وإنما (يذكُرُ) في الضرورة تلك الصورة مستشهدٌ ... " ومستشهد فاعل (يذكر) أو سقطت الألف علامة التنوين في مستشهد، وتكون هكذا: تتكرر في الضرورة ... مستشهداً بها. والله أعلم.
(2) في النسختين: قد (بدون الفاء) .
(3) أي كان ظالماً في قبضه، حيث اعتدى على حق البائع في حبس المبيع.(5/205)
المبيع. والظاهر أن البيعَ لا ينفسخُ، ولكن للمشتري الخيار في الفسخ والإجازة، ثم لا يخفى تخريجُ الحكمين وتفريعُهما. ولو تَلف المبيع في يد آخذه، وهو المشتري، كان من ضمانه ولا [يستفيدُ] (1) التصرفَ فيه، لبقاء حق الحبس للبائع فيه.
فهذا تفصيلُ القول في ذلك.
* * *
__________
(1) في الأصل: يستند.(5/206)
باب بَيعْ المصرَّاة (1)
قال الشافعي: "أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُصَرُّوا الإبلَ والغنمَ للبيع، فمن ابتاعَها بعد ذلك، فهو بخيِّر النظرين بعدَ أن يحلبها ثلاثاً: إن رضيها، أمسكها، وإن سخِطَها ردَّها وصاعاً من تمر" (2) .
3116- التصريّةُ: الجمعُ، وهو مصدر صَرِيَ يَصْرَى، ويقال للماء المجتمعِ في مستنقعه ماءٌ صَرَىً (3) وصَري، ومعنى التصريةُ في مقصود الباب جمعُ اللبن، وسدُّ الأخلاف (4) ، وتركُ الحِلاب، حتى تتكاملَ الدَّرَّة وتتضاعفَ نُوبٌ (5) منها، فينظر الناظر فيحسَبُ ما يشاهد درَّةَ نوبةٍ، فيعتقدُ غزارة اللبن، وقد تُسمَّى المصراةُ مَحَفَّلةً، والتحفيل الجمع أيضاًً. والخبر يرد باللفظين.
فنقول: من صَرى ناقةً أو بقرةً أو شاةً، وأوهمَ بالتصريةِ غزارةَ اللبن، ثم استبان المشتري أن لبنَ المشتراة بَكِيٌّ (6) أو مقتصد، فله الخيار، وإن لم يَجْرِ شرطُ غزارةٍ
__________
(1) من هنا صار التحقيق معتمداً على ثلاث نسخ، فقد أضيفت نسخة (ص) (راجع وصف النسخة والتعريف بها في المقدمة) .
(2) ر. المختصر: 2/184، والحديث متفق عليه، من حديث أبي هريرة. (ر. اللؤلؤ والمرجان: ح 970) .
(3) صَرِي صرى: من باب تعب، وصَرَى يصري: من باب رمى، متعدّ، وماء صَرىً، وصفٌ بالمصدر. وصريتُه بالتثقيل مبالغة (المصباح) ولا تُصرُّوا: بضم التاء، وفتح الصاد، على وزن لا تزكوا. قال الحافظ: "هذا هو الصحيح، وبعضهم يرويه بفتح التاء وبضم الصاد".
(التلخيص: 3/54 ح 1195) .
(4) الأخلاف: جمع خِلف بكسر الخاء، وهو من ذوات الخف كالثدي للإنسان، وقيل: الخِلْف طرف الضرع. (مصباح) .
(5) نُوَب: جمع نوبة، وهي المرة من الحلْب.
(6) بكي: قليل من بكأت البئر: قل ماؤها، والحيوان الحلوب: قلّ لبنه.(5/207)
لفظاً، والمعتمدُ في الباب الخبرُ الذي رواه الشافعي.
ثم الكلامُ يتعلق بفصلين: أحدهما في الخيار. والثاني فيما يردّه إذا ردَّ البهيمةَ في مقابلة اللبن.
[الفصل الأول] (1)
3117- فأما القول في الخيار: فإذا جرت التصريةُ كما وصفناها، وتعلّق بها ظنُّ المشتري ثم أَخْلَفَ، ثبت الخيار. وقاعدةُ مذهب الشافعي تدل على أن ثبوت الخيار جارٍ على القياس. وبيان ذلك أن أئمة المذهب قضَوْا بأن كل تلبيسٍ حالٍّ محلَّ التصرية من البهيمة إذا فُرض إخلافٌ فيه، ثبت الخيارُ، فلو جعَّد الرجلُ شعرَ [المملوك تجعيداً] (2) لا يتميز عن تجعيد الخِلقة، ثم زال ذلك، ثبت الخيار للمشتري، فنزلوا التجعيد منزلةَ اشتراطِ الجعودة، وقد طردتُ في هذا مسلكاً في (الأساليب) وإذا جرى الخُلفُ بشيء لا ظهورَ له، فلا مبالاة به، كما إذا كان على ثوب العبد نقطةٌ من مداد، [فهذا لا يتنزل منزلةَ شرط كونه كاتباً، ولو كان وقْعُ المدادِ] (3) بحيث يعد من مثله أن صاحب الثوب ممن يتعاطى الكتابةَ، فإذا أخلفَ (4) الظنُّ، ففي ثبوت الخيار وجهان. وإذا بني أمرٌ على ظهورِ شيء في العادة، فما تناهى ظهوره يتأصل في الباب، وما لا يظهر يخرجُ عنه، وما يتردد بين الطرفين يختلف الأصحاب فيه.
وهذه المراسمُ تكررت في هذا المجموع.
ومن صور الخلاف أن مالك الشاة إذا سعى في علفها على خلافِ العادة حتى ربا بطنُها، وكان يبغي بذلك أن يغلبَ على ظن الناظرِ أنها حامل، فإذا جرى ذلك، ففي ثبوتِ الخيارِ وجهان. وسببُ الاختلاف أن رَبْو البطن من العلفِ لا يكاد يلتبس بمخيلة
__________
(1) هذا العنوان من عمل المحقق أخذاً من كلام المصنف.
(2) زيادة من (هـ 2) ، (ص) .
(3) ساقط من الأصل.
(4) أخلف: لم يتحقق، يقال: أخلف الغيثُ أطمع في النزول، ولم ينزل. وفي (هـ 2) و (ص) : أخلف ذلك الظن.(5/208)
الحمل وعلامته، فكان الاختلاف للتردد فيما ذكرناه.
وألحق الأئمةُ بصورة القطع حبسَ الماء في القناة وإرسالَها حالة البيع، أو حالةَ الإجارة، وقد يفرضُ ذلك في إجارة الطواحين (1) .
وكل هذا مثبتٌ للخيار ملتحقٌ بصورة القطع.
3118- ومما يتصل بهذا أن من باع جارية ذاتَ لبنٍ، وكان صرّاها، فإذا بان خلافُ المظنون (2) ، ففي ثبوت الخيار وجهان: أحدهما - يثبت الخيار [كما يثبت في البهيمة المصراة. والثاني - لا يثبت الخيار] (3) ؛ فإن اللبن لا يقصدُ من الجارية إلا على ندور في الحضانة.
وهذا الخلاف ليس من النمط الذي ذكرناه قبيل هذا؛ فإن التلبيس بالتصرية في الجارية كالتلبيس بالتصرية في البهيمة، وإنما نشأ الاختلاف من أصلٍ آخر، وهو أن الأصل في خيار الخُلْف أن يترتب على الشرط، والفعلُ الموهم المدلّس أُلحق بالشرط، وهو دونه، ويقوى أثرُه فيما يظهر توجُّه القصدِ إليه، [فأما ما لا يتوجه القصدُ إليه] (4) فلا يظهر التلبيسُ فيه. ويمكن أن يقال: هذا مع هذا التقريب يلتحق بما قدمناه من مواقع الخلاف؛ فإن الشيء إذا كان لا يقصد، فما يجري من تلبيسٍ فيه وفاقاً لا يوهم. ويمكن أن يقرَّب مما تقدم من وجهٍ آخر، وهو أن الضروعَ والأخلافَ يُعتاد معاينتها، ويدركُ الفرقُ فيها، وليس كذلك الثديُ في بنات آدم؛ فإن المشاهدةَ لا تتعلق به غالباً.
وغرضُنا تخريجُ الوِفاق والخلافِ على أصولٍ ضابطةٍ.
3119- وذكر العراقيون التصرية في الأتان. والمسلك المرضي ما نزيده فنقول: ظاهر المذهب أن لبن الأتان نجس، فإذا فرضنا التصريةَ، فاللبن لا يقابَل بشيء، ولكن لا يبعد ثبوت الخيار؛ إذ قد يُقصد غزارةُ لبنها لمكان الجحش، فيلتحق هذا
__________
(1) المراد الطواحين التي يستخرج بها الماء من باطن الأرض.
(2) في (هـ 2) المطلوب، (ص) : المضمون.
(3) زيادة من (هـ 2) و (ص) .
(4) سقط من الأصل.(5/209)
الخيارُ بصور التردد. ومن أصحابنا من حكم بطهارة لبنها وحرّمه، فالقول كما مضى؛ فإن اللبن المحرمَ لا يتقوّم. ومن أصحابنا من حكم بحل لبنها تفريعاً على الطهارة، حكاه العراقيون عن الإصطخري.
وهذا عندي لا يلتحق بالمذهب، وهو من هفوات بعض الأئمة، فنقول: إن لم يُبح اللبن، فالنظر في الخيار. وإن فرعنا على الوجه الضعيف وأبحناه، فالقول في تصرية الأتان كالقول في تصرية الجارية. وسنذكر أن لبن الجارية هل يقابل بشيء في الفصل الثاني من الباب.
فرع:
3120- إذا تحفَّل اللبنُ بنفسه من غير قصدٍ من مُحفل، ثم جرى الظن والإخلافُ كما ذكرناه، ففي ثبوت الخيار وجهان. كان يذكرهما شيخي في الخلاف، وذكرهما غيره.
وعندي أن الخلافَ في ذلك يشير إلى تردد الأصحاب في مأخذ الخيار في الباب، وينقدح للخيار مأخذان: أحدهما -[تَنْزيلُ] (1) فعلِ الملبِّس منزلةَ قوله؛ فإنه بشرطه يُطمع المشتري في مقصودٍ، وقولُه بين الخُلْف والصدق. كذلك الفعل يُنَزَّلُ هذه المنزلةَ.
ومن أصحابنا من يبني الخيار في الباب على قاعدةِ خيارِ العيب، ويزعم أن من اشترى عبداً مطلقاًً، ولم يقع التعرضُ لشرط السلامة، فسبب الخيار إشعارُ ظاهرِ الحال بالسلامة، فإن بان ما يخالف الظاهر، ترتب عليه خيارُ الرد. وهذا يتحقق في المحفَّلة، فإن ظاهرَ الأمر يُشعر بغَزَر (2) اللبن.
فإن أخذنا الخيار من تشبيه فعل الملبِّس بقوله، فلا خيار في التي تحفَّلت بنفسها، من غيرِ قصد. وإن أخذنا الخيار من تنزيل العقد على الظاهر، فهذا يقتضي ثبوتَ الخيار في التي تحفلت من غير تحفيل (3) .
__________
(1) فِي الأصل: ينزل.
(2) غزَر: غزارة. وهذا معهود في أسلوب إمام الحرمين، فيستعمل صَدَر مكان صدور، وحَدَث مكان حدوث.
(3) في (هـ 2) : محفل.(5/210)
فرع:
3121- إذا اشترى مصراة فكما (1) حلبها اتفق درور لبنٍ على الحد المطلوب التي دلّت التصريةُ عليه، ثم استمر الأمر كذلك وفاقاً، فهل يثبت الخيار للمشتري؟ فعلى وجهين، ذكرهما العراقيون، وهما خارجان على قياسنا أيضاًً.
والخلاف في ذلك مُشبهٌ بأصلٍ سيأتي في الخراج، ويلتفت على أصلٍ في النكاح.
فأما ما يأتي في الخراج، فهو أن من اشترى عبداً، وكان به عيبٌ قديم، لم يتنبه له المشتري إلا بعد زواله، ففي ثبوت الخيار وجهان، ووجه الشبه بيّن.
وأما أصلُ النكاح: فإذا أُعتقت الأمةُ تحت زوجها الرقيق، فلم تشعر حتى عَتَق الزوجُ، فهل يثبت لها الخيار الآن؟ فعلى اختلاف نصوصٍ وأقوال.
وذكر العراقيون أن من ابتاع شاةً وعلم أنها مصراةٌ، ثم تحقق الأمرُ كما علم، وقل اللبنُ، فهل يثبت الخيار؟ فعلى وجهين.
ولست أرى لقولِ من قال بثبوت الخيار هاهنا وجهاً، إلا أن يقول قائل: لعل المشتري يستبهم عليه من التحفيل قدرُ اللبن الأصلي، فإذا رجع إلى أصله، فقد يكون دون القدر المظنون (2) . وهذا مزيف لا أصل له.
وقد انتهى القول في الخيار.
3122- وإذا تبين أصلُ الخيار، فالكلام بعد ذلك في أنه على الفور أم لا؟ وكيف السبيلُ فيه؟ فنقول: إذا لم يتبين للمشتري اختلاف ظنه إلا بعد يومٍ، أو يومين مثلاً، فلا يبطل خيارُه؛ فإن الكلام في الفور والتراخي يقع بعد الاطلاع على موجِب الخيارِ.
فلو حصل الاطلاع في اليوم الأول مثلاً، فالخيار يثبت على الفور أم يمتد إلى انقضاء ثلاثة أيام من وقت العقد؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - أنه على الفور، قياساً على خيار الخُلف والعيب، كما سيأتي حكمهما إن شاء الله عز وجل.
والوجه الثاني - أنه يمتد ثلاثةَ أيامٍ؛ فإنه صح في روايات حديث المصراة أنه عليه
__________
(1) "فكما" بمعنى (عندما) .
(2) (هـ 2) ، (ص) : المطلوب.(5/211)
السلام قال: " فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها ثلاثاً " فهذا خيارٌ شرعي مؤقت بما يتأقت به خيارُ الشرط، فاتُّبِع.
ومن قال بالوجه الأول، انفصل عن ذكر الثلاثة في الحديث، وقال: الغالب أن التلبيس لا يبين إلا بعد تكميل الحَلْب (1) ، فجرى ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم تنزيلاً على العادة في الباب.
قال شيخي: من أثبت الخيارَ ثلاثةَ أيامٍ، يُلحقه بخيار الشرط في حكمه، ويعيد فيه الاختلافَ في أن هذا الخيارَ يحتسبُ من وقت العقد، أو من وقت انقضاء خيارِ المجلس، كما تقدم ذكره في خيار الشرط بالإضافة إلى خيار المجلس.
ولو حصل الاطلاع على خُلْف (2) الظن آخرَ جزء من الأيام الثلاثة، فلا خلاف أنا لا نتعدى هذا، فلا يظنن ظان أنَّا نمدُّ الخيارَ من وقت الاطلاع ثلاثة أيام.
فإذا ظهر ذلك، فالمطلعُ في آخر الأيام خيارُه على الفور. ومأخذُ الفور على أحد الوجهين القياسُ على النظائر في خيار الخلف، والردَّ بالعيب.
وهو على الوجه الثاني من مصادفته آخر الوقت، لا من كونه في وضعه على البدار والفور.
وقد نجز القول في الخيار تأصيلاً وتفصيلاً.
[الفصل الثاني] (3)
3123- وأما الفصل الثاني، فمضمونه الكلام فيما يرده المشتري في مقابلة اللبن، إذا ردَّ البهيمة المصرَّاة. وهذا الفصل معتمده الخبر في أصل المذهب، وليس كأصل الخيار؛ فإنه قد يستدّ فيه طرفٌ من القياس، كما نبهنا عليه، فالمعتمد إذاً في المردود
__________
(1) كذا في النسخ الثلاث، ولعلها: " بعد تكميل الثلاث "، أو "بعد تكميل الحلب ثلاثاً" والله أعلم.
(2) في (هـ 2) ، (ص) : خلاف.
(3) العنوان من وضع المحقق أخذاً من تقسيم الإمام.(5/212)
قول النبي عليه السلام: " وإن سخطها ردّها، ورد معها صاعاً من تمر ". واختلف طرق الأصحاب: فذهب بعضهم إلى اتباع الخبر ومحاذرةِ الميل عنه، فأوجبوا في مقابلة اللبن المحلوبِ صاعاً من تمر، قلَّ اللبنُ أو كثر. فإن قل قدرُ اللبن مرةً وأبرّت عليها قيمةُ الصاع، عارضَ ذلك الاكتفاءُ بصاعٍ من تمر وإن كثر اللبن. فهذا مسلك.
ومن أصحابنا من قال: يقلّ التمرُ بقلة اللبن، ويكثر بكثرته، فقد يوجب ردَّ آصعٍ، وقد يكتفى بردّ مُدٍّ، فما دونه، على ما يقتضيه تعديل القيم.
3124- ثم كما اختلف الأصحاب في المقدار: فصار صائرون إلى اتباع الصاع، من غير زيادة ولا نقصان، وذهب آخرون إلى اعتبار قيمة المبذول بقيمة اللبن. كذلك اختلفوا في الجنس، فذهب ذاهبون إلى أن الأصلَ التمرُ، فلا مَعْدِلَ عنه. وقال قائلون: يقوم مقام التمر الأقواتُ؛ اعتباراً بصدقةِ الفطر، ثم لا يعدِّي الأئمةُ في هذه الطريقة القوتَ إلى الأقطِ، كما يعدي بعضهم إليه في صدقة الفطر؛ فإن السبب الحامل على المصير إلى إجزاء الأقِط خبر فيه، وذلك الخبر لا يعدَّى به مورده.
وقد روى شيخي في بعض صيغ حديث المصراة التعرضَ للحنطة. وهذا هو الذي مهد لأصحاب القوت مذهبَهم، وإلا فالأصل الاتباع.
ثم من عدَّى إلى الأقوات، وانحصر فيها، فليس منسلاً بالكلية عن الاتباع.
وأما تنزيل المبذول على قيمة اللبن، فهو مسلكٌ في الجُبران. والضمانُ منقاسٌ.
وذكر شيخي مسلكاً غريباً زائداً على ما ذكرهُ الأصحاب في طرقهم، فقالَ: من أصحابنا من قالَ نَجري في اللبن على قياس المضمونات، فإن بقي عينُه، ولم يتغيَّر، ردّه، وليسَ عليه رَدّ (1) غيرهِ. وإن تغير، ردَّ مثلَه؛ فإنّ اللبن من ذواتِ الأمثالِ؛ فإن أعوز المثلُ، فالرجوعُ إلى القيمة. وقد أومأ إليه صاحب التقريب، ولم يصرح به.
وهذا عندي غلط صريحٌ، وتركٌ لمذهب الشافعي، بل هو حيدٌ عن مأخذ مذهبه، ويبطل عليه مذهب الشافعي في مسألة المصراة، ولا يبقى إلا الخيار، فإن اعتمدنا فيه الخبر، لم يبعد من الخصم حمله على شرط الغزارة، مع تأكيد الشرط بالتحفيل.
__________
(1) ساقطة من (هـ 2) ، (ص) .(5/213)
فهذا إذن هفوةٌ غير معدودةٍ من المذهب ولا عودَ إليها (1) .
التفريع على الوجهين المقدَّمين:
3125- من قال بالاتباع [والانحصارِ] (2) على الصاع فلو (3) بلغت قيمةُ الصاع قيمة الشاة، أو زادت، فقد ذكر العراقيون وجهين: أحدهما: أنا نوجب الصاع وإن بلغت قِيماً، ولا ننزل عن الاتباع.
والوجه الثاني (4) : أنا لا نرى ذلك؛ فإن النبي عليه السلام وإن نصَّ على الصاع من التمر، فقد أفهمنا أنهُ مبذولٌ في مقابلةِ شيءٍ فائت من المبيع يقعُ منه (5) موقعَ التابع من المتبوع؛ فينبغي أن لا يتعدَّى على (6) هذا المعنى حدَّ التوابع. [والغلوّ] (7) في كلِّ شيءٍ مذموم، وقد يغلو المتبعُ للفظ الشارع، فيقع في مسلكِ أصحاب الظاهر.
التفريع على الوجهين:
3126- إن حكمنا بأن الصاعَ واجبٌ، فلا كلام، وإن لم [نر] (8) إيجابَ الصاع في الصورة التي ذكرناها، اعتبرنا القيمة الوسط للتمر [بالحجاز] (9) ، واعتبرنا بحسَب ذلك قيمةَ مثلِ ذلك الحيوانِ اللبون بالحجاز، وإذا نحن فعلنا هذا، جَرى الأمرُ في المبذول على الحدّ المطلوب.
ثم قال العراقيون: إن زادت قيمةُ الصاع على نصف قيمة الشاة، فالوَجهان
__________
(1) راجع حكاية السبكي لهذا الكلام بنصه، وتعليقه عليه، فإنه بالغٌ مفيد (المجموع: 12/51, 52, 53) .
(2) في الأصل: الحصار، والمثبت من (هـ 2) و (ص) .
(3) في (ص) : فقد تغلب.
(4) ساقطة من (ص) .
(5) في (ص) : يقع (فيه) موقع (البائع) من (المبيع) .
(6) ساقطة من (ص) .
(7) ساقطة من الأصل.
(8) ساقطة من الأصل.
(9) ساقطة من الأصل، والمثبت من (ص) .(5/214)
جاريان، وإن كانت قيمةُ الصاع مثلَ نصفِ قيمة الشاة، فيجب بذلُ الصاع، هكذا رواه (1) .
وقطع صاحب التقريب جوابه باعتبار قيمة الوَسط من صورة الوجهين.
ومما يدور في الخلد أن اللبن إن كان شُرب أو ضاع، فالأمر على ما ذكرناه. وإن كان متغيراً، لم يُردَّ وقد حدث به عيبُ التغيير، ولكن وإن كان اللبنُ موجوداً حالة العقد ثم حُلبَ وتغيَّر، فلا نجعل الشاةَ مع اللبن بمثابةِ عبدين يشتريهما الرجل، ويقبضهما ويحدُث بأحدهما عيبٌ في يَدهِ، ويطَّلِع على عيبٍ قديم بالثاني، فهذا من فروع تفريق الصفقةِ آخراً، وفيه اختلافٌ سيأتي. وليس الأمر في اللبن معَ الشاةِ كذلك، وفيه نص النبي صلى الله عليه وسلم على إقامةِ الصاع مقامَ اللبن.
وإن فرض فارض بقاءَ اللبن الحليب من غير تغير، حتى يثبت الخيار، فهذا تكلُّفُ أمرٍ لا يتصوَّر؛ فإنَ خُلفَ الظن يَبينُ بالحلب في النوبةِ الأخرى، ويتغيَّر اللبن لا محالةَ في جميع الأَهْوية. ولَو صُوِّرَ ذلَك على بُعد، فردُّ عين اللبن عندي مع الاتباع ليس بعيداً عن الاحتمال، والخبر يكون محمولاً على غالب الحال. وهذا يشابهُ قولَ من يُثبت الخيار على الفور، ويحمل ذكرَ المدةِ في الحديث على غالب الأمر، فإن الخُلف لا يبين إلا في مُدَّةٍ.
فرع:
3127- لو بان التلبيس، ورضي المشتري بالبهيمة، ثم وجدَ بها عيباً قديماً، فأراد الردَّ، فله الردُّ بالعيبِ القديم.
ثم قالَ الأصحاب: يرُدّ مكان اللبن صاعاً من تمر، كما لو رَدّ بسبب التصرية، قطع الإمام (2) وصاحبُ التقريب والصيدلاني أجوبتَهم بذلك، ونصّ الشافعي عليه في المختصر (3) .
__________
(1) الذي رواه هو أبو محمد، والد إمام الحرمين، وشيخه، وقد ترجح لدينا ذلك، اعتماداً على ما ألِفناه من أسلوب الإمام، ثم قطعنا به بعد ما قرأنا حكاية هذا القول، وجميع الأقوال في المسألة لتقي الدين السبكي في المجموع: 12/58، 59.
(2) الإمام: والده.
(3) ر. المختصر: 2/185.(5/215)
وهذا فيه إشكال من طريق القياس؛ فإن المعنى لا يُرشد إلى إثبات الصاع بدلاً عن اللبن، وإنما المتبع فيهِ الخبر، والخبر وردَ في التصرية، والقياسُ في هذا يقتضي أن ننزلَ البهيمةَ مع وجود اللبن في ضرعها، منزلةَ ما لو اشترى الرجل شجرةً مع ثمرتها، ثم تلفت الثمر فأرادَ رَدَّ الشجرةِ بعَيب قديم صادفَهُ بها، فيدخل هذا في تفريق الصفقة، هذا حكمُ القياس. ولكن الشافعي وجميعَ الأصحاب، حكموا بما ذكرناه. والسببُ فيهِ أن الردَّ بالعيب القديم في معنى الرد بالخُلف قطعاً. واللبن في الواقعتين على قضيةٍ واحدةٍ، فرأى الشافعيُ إلحاقَ الواقعةِ بالواقعةِ، كما رأى إلحاقَ الأمة بالعبد في قوله عليه السلام "من أعتق شِرْكاً له من عبدٍ قُوِّم عليه". وذكر الشيخ أبو علي في شرح التلخيص: إن من أصحابنا من ردّ هذه المسألةَ إلى موجَب القياس، وخرَّجها على تفريقِ الصفقةِ. وقد ذكرنا طريق القياس.
فرع:
3128- إذا أثبتنا الخيارَ في الجارية المصرَّاة، فإذا رُدّت، فهل يجب ردُّ شيءٍ في مقابلةِ لبنها؟ اختلف أصحابنا في المسألة.
فمنهم من أوجب ردَّ الصاع، وقال: إذا نزّلنا الجارية منزلة البهيمة المحفّلةِ في أصلِ الخيارِ، وجب أن ننزِّلَها منزلتها في التفصيل.
والوجه الثاني -ذكره الصيدلاني وغيره- أنه لا يجب في مقابلة اللبنِ شيءٌ؛ فإنّ لبنَ الآدميات لا يباع في الغالب.
وهذا فيهِ فضل نظر، والوجه أن نقولَ: إن لم يكن لذلك القدرِ قيمةٌ، ونحن نرى تنزيلَ المبذول على قيمة اللبن، فلا يجب شيء، وإن اتبعنا الصاعَ، ولم ننزله على القلَّة والكثرة على قيمة اللبن، ففي المسألة وجهان:
أحدهما - أنه يجب الصاعُ، لتحقيق الاتباع، والثاني - لا يجبُ؛ لأن الصاع [أُثبت] (1) بدلاً شرعياً، فليثبت له مبدل، وليكن المبدل متمولاً.
هذا إذا لم يكن اللبن متقوَّماً. فإن كان اللبن متقوَّماً، يجب البدل لا محالةَ، فإنَّ
__________
(1) في الأصل، (هـ 2) : أثبته.(5/216)
نفيَ البدل في هذا المقام لا يقتضيه خبرٌ ولا يوجبه قياس. [نعم، الواجب] (1) فيه وجهان سبقَ ذكرهُما: أحدهما - الصاعُ، والثاني - قدرُ قيمة اللبن من التمرِ، أو القوت.
فهذا كشف الغطاء في ذلك.
فرع:
3129- حكى العراقيون أنَّ محمدَ بنَ الحسن قال للشافعي: لو اشترى الرجل شاةً وحلبها، ولم تكن مصراةً، فوجد بها عيباً قديماً، فهل له الردُّ بالعيب؟
فقال الشافعي: يرُدُّها. قال: فهل يردُّ في مقابلة ما حلبَ شيئاً؟ فقال: لا يلزمُه شيء؛ فإن اللبن ليس يتحقق وجودُه في غير صُورةِ التصرية، فلا يقابَلُ بشيء، ويحمل على التجدّد بعد العقد. فهذا ما ذكروه.
وفيه نظر: وذلك أنا إن كنا نرددُ القولَ في أن الحمل هل يعلَم، فاللبن معلوم في الضَرع، وكيف لا، وقد تتكامل الدرَّةُ ويأخذ الضرعُ في التقطير. ولكن الوجه في ذلك أن نجعل اللبن كالحَمْلِ، وسيأتي قولان في أن الحمل هل يقابَل بقسطٍ من [الثمن] (2) واللَّبن في معنى الحمل. فإن قلنا: لا يقابل بقسطٍ، فالجواب ما حكَوْه، وإن قلنا: إنهُ يقابلُ بقسط من الثمن، فالوجه أن يرد بسبب اللبن شيئاً.
* * *
__________
(1) في النسخ الثلاث: " نعم. ما الواجب؟ فيه وجهان ". وهذا تصرّف من المحقق.
(2) في الأصل: التمر.(5/217)
باب الخراج بالضمان والرَّدّ بالعيبِ
قال الشافعي: " أخبرني من لا أتهم عن ابنِ أبي ذئبٍ عن مَخْلدِ بنِ خُفافٍ أنه ابتاع غلاماً، فاستغلّهُ ثم أصابَ به عيباً، فقضى له عمرُ بن عبد العزيز بردِّه، وغلّتِه، فأخبر عُروةُ عُمرَ عن عائشةَ أن النبي عليه السلام، قضى في مثل هذا أن الخراجَ بالضمان.
فردّ عمرُ قضاءَه، وقضى لمَخْلدَ بنِ خُفاف بردّ الخراجِ ... إلى آخر الكلام " (1) .
3130- مقصودُ الفصلِ [الكلامُ] (2) في حكمِ الزوائدِ الحاصلةِ من المبيع عند فرض اطلاع المشتري على عيبٍ قديمٍ يُثبت مثلُه [الردَّ] (3) ، فنقولُ:
من اشترى شجرة فأثمرت، أو شاةً فولدت، أو مملوكاً فاكتسبَ، فهذه الزوائد إذا تجدَّدَت على ملكِ المشتري تسمى الزوائدُ المنفصلةُ، وإذا صوّر معها اطلاع المشتري على عيب قديم، والمبيعُ لم يلحقه عيبٌ حادث في يد المشتري، فله الردُّ بالعيب، ولا تمنعه الزوائدُ من الردّ، خلافاً لأبي حنيفة (4) ، ثم يستبد المشتري بالزوائد، فلا يردُّها، ولا فرقَ بين ما حدث بعد القبض، وبين ما حدث في يد البائع بعدَ لزوم المِلكِ للمشتري.
والزوائدُ الحادثةُ في زمان الخيارِ قد استقصينا حُكمَها في أبواب الخيار، فحاصل المذهب أن الزياداتِ المنفصلةَ متروكة على المشتري، وله حق الرد، فلا هو يَمنعُ الردَّ ولا يرتدُّ إلى البائع.
__________
(1) ر. المختصر: 2/186، 187.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) في الأصل: بالرّد.
(4) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/157 مسألة رقم 1233، ومختصر الطحاوي: 80، 81.
البدائع: 5/257، 285، إيثار الإنصاف: 299. ثم الأمر عند الحنفية فيه تفصيل، وليس على إطلاقه، كما ذكر إمام الحرمين.(5/218)
وإذا كان هذا قولَنا في الزيادات المنفصلةِ، فالزيادات المتصلةُ كالمنفصلة في أنها لا تمنع الردَّ، ولكن تتبع المردودَ لا محالةَ، ولا سبيل إلى تخليفها على المشتري، وليس للزياداتِ المُتَّصلة أثرٌ ووقْعٌ إلا في الصداقِ وما يدنو منه، وسأذكر فيها قولاً جامعاً، إن شاء الله عز وجل.
وإذا اشترى رجلٌ عبداً، أو جاريةً واستخدمهما، ثم اطلع على عيبٍ بهما، فله الردُّ. وانتفاعُه السابقُ قبلَ اطلاعه، لا أثر له، وهو بمثابة [استبدادِهِ] (1) بالغلات المستفادة.
ومعتمد الباب ما رواه الشافعي بإسناده عن عروةَ عن عائشةَ عن النبي عليه السلام " أنه قضى بأن الخراج بالضمان " (2) ومعنى هذا اللفظ أن ما يخرج من المبيع من فائدةٍ، فهو للمشتري على مقابلة كون المبيع في ضمانهِ، مدة [الاستغلالِ] (3) والزوائدِ، فكأن الشارعَ جعل الزوائد في معارضة خطرِ الضمان، عند تقدير التلف.
هذا معنى الحديث.
ومفهومُه يشير إلى أن الزوائد للبائع إذا تجدَّدت في يد البائع؛ فإن البائعَ في عُهدة الضمان، وقد ذهب إلى هذا أبو حنيفه (4) ، ومذهبُ الشافعي ما قدمناه.
هذا في الزوائدِ الطارئةِ على ملكِ المشتري، فأما إذا ابتاعَ جاريةً حاملاً، فالقولُ فيه، وفيما لو اشترى شجرة لم تؤبَّر، سيأتي في فصلِ مفردٍ، إن شاء اللهُ تعالى.
وإن اشترى شجرةً، فكثرت أغصانها، فهي ملحقةٌ بالزيادات المتصلة، وليست كالثمار، ولو اشترى شجرةَ فِرْصَادِ (5) ، فأورقت في يد المشتري، ثم اطلع على
__________
(1) في النسخ الثلاث: استبداله. والمثبت تقدير منا رعاية للسياق وبمساعدة مختصر العز بن عبد السلام.
(2) حديث الخراج بالضمان، رواه مع الشافعي، الطيالسي: 6/206 ح 1464، والحاكم: 2/15، والترمذي: البيوع، باب ما جاء فيمن يشتري العبد ويستغله ... ح 1285.
(3) في الأصل: الاشتغال.
(4) ر. بدائع الصنائع: 5/238، فتح القدير: 6/296.
(5) الفِرصاد: شجرة التوت، وضرب المثل بها لأن أوراقها تعنى لذاتها، فهي ثمرتها في الحقيقة، لأنها تتخذ غذاء لدود القز.(5/219)
عيب، فقد اختلفَ أصحابُنا فيه: فمنهم من قال: الأوراق كالثمارِ التي تتجدد وتبرز في مِلك المشتري، ومنهم من قال: هي كالأغصان، وقد ذكرتُ قريباًً من هذا في باب استتباعِ الأشجارِ الثمارَ قبل التأبير، وأوراقُ سائر الأشجار ملحقةٌ بالأغصان.
ثم ذكر الشافعي تفصيلَ القول في وطء الجاريةِ المشتراة قبل الاطلاع على عيبها، فإن كانت ثيباً، فوطؤها عند الشافعي بمثابة استخدامها. ولذلك وصل هذا الفصل بما قدّمه من الاستغلال والانتفاع.
وإن كانت الجارية بكراً، فافتضّها، ثم اطلع على عيب بها، فالافتضاض عيبٌ حادث في يد المشتري. وسيأتي التفصيل في العيب الحادث في يد المشتري مع الاطلاع على عيبٍ قديم إن شاء الله تعالى.
3131- والذي يقتضيه الترتيبُ أن نقول: إذا اشترى شيئاً ثمَّ اطلع على عيب به، لم يخل: إما أن لحقه تغييرٌ، أو لم يلحقه، [فإن لم يلحقه] (1) ، ردّ ما أخذ كما أخذ، واستردَّ الثمن.
وإن لحقَهُ تغيير، لم يخل: إما أن يكون زيادةً، أو نقصاناً. فإن كانت زيادة تنقسم إلى المتصل والمنفصل، كما مضى. وإن كان نقصاناً، فهو العيبُ الحادث.
وسيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.
فصل
قال: " ولو أصابَ المشتريان صفقةً واحدةً ... إلى آخره " (2) .
3132- إذا اشترى رجلان عبداً من رجل، ثم تبيَّن عيبٌ بالعبد، فإن اتفقا على ردّه، كان لهما ذلك، وإن أراد أحدُهما أن ينفرد بالردّ دون صاحبه، فالمنصوص عليه للشافعي في كتبه الجديدة، ومعظم كتبه القديمة أن لكل واحد منهما أن ينفرد،
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) ر. المختصر: 2/188.(5/220)
وإن لم يُساعدْه صاحبه. وقال أبو حنيفه (1) : ليس لواحد منهما أن ينفرد بالرد، ونقل أبو ثور قولاً للشافعي موافقاً لمذهب أبي حنيفة.
والتوجيه مستقصى في الخلاف، ولكنا نذكر القدرَ الذي يتعلق بضبط المذهب من التوجيه.
3133- فمن منع انفرادَ أحدهما بالرد؛ اعتمد معنيين: أحدهما - أنه قال: العبد خرج عن ملك البائع دفعة واحدة والتبعيض عيبٌ؛ فإن نصفَ العبد لا يُشترى بما يخصُّه من الثمن لو بيع كلّه، فيؤدي هذا إلى أن يخرج المبيعُ عن ملكه بعيب، ويعودَ بعيبين إليه، وهذا ممتنع.
والمعنى الثاني - أن الصفقة متّحدة [نظراً] (2) إلى اتحاد البائع، فلا سبيل إلى تفريقها في الردّ.
ومن قال بالقول الصحيح، فمعتمَدُه أن كل واحدٍ إذا انفرد بالرد، فقد ردّ ما ملك كما ملك، وقد قرّرنا ذلك في (الأساليب) .
ثم هذا القائل: لا يسلِّم أن الصفقةَ متحدةٌ، بل يزعمُ أنها متعددة؛ من جهة تعدُّد المشتري.
ونقول: حقيقة القولين يؤول إلى التعدد والاتحاد، فإن حكمنا بأنهُ يجوز لكل واحد من المشتريين الانفرادُ بالرد، فهذا قضاءٌ منا بتعدّد الصفقة؛ نظراً إلى جانب المشتري (3) . وإن منعنا ذلكَ، كان حكماً باتحاد الصفقة؛ اعتباراً بجانب البائع.
التفريع على القولين:
3134- إن جوزنا لكل واحد أن ينفرد بالردّ، فلو خاطب البائع رجلين بالبيع، فقال: بعتُ منكما هذا العبدَ بألف، فقبل أحدُهما، ولم يقبل الثاني -والتفريعُ على
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/57 مسألة 1136، إيثار الإنصاف: 309، فتح القدير: 6/312 -314.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) في (هـ 2) ، (ص) : الشراء.(5/221)
قول التعدد- ففي صحة البيع إذا انفرد أحدهما بالقبول وجهان: أظهرهما في القياس - التصحيحُ؛ وفاءً بتعدد الصفقة، وإجراءً لحكمِ الآخر على الأول رداً وقبولاً.
وأظهرهُما في النقل - أن ذلك مُمتنِعٌ؛ فإنا وإن حكمنا بتعدد الصفقةِ، فصيغة قولِ البائع تقتضي جوابَهما، حتى كأنها مشروطةٌ بأن يجيباه جميعاً، وهذا بمثابةِ اقتضاءِ الإيجاب الجوابَ على الفور، وليس هو من حكم العقد، وإنما هو من مقتضى اللفظ في مُطَرد العرفِ.
وللشافعي نصٌّ في كتاب الخُلع يشهدُ لتصحيح القبول من أحدهما؛ فإنه قال: إذا خالعَ زوجتَيه، فقبلت إحداهما، صح القبول منها، ولزمها قسطٌ من البدل المسمَّى.
وإذا كان يصح هذا في الخُلع، فالبيع بالصحة أولى؛ من قِبَل أن الخلعَ معاوضةٌ مشوبة بالتعليق، والتعليق بصفتين يتضمن وقوف الطلاق على وجودهما جميعاً.
والمعاوضةُ لا تقتضي هذا الفنَّ؛ فإن الأحكامَ والمقاصدَ عليها أغلبُ، وقضايا الألفاظ على التعليقات أغلبُ.
وإن فرّعنا على اتحاد الصفقة، فيمتنع انفرادُ أحدهما بالرد فيما يَنقُصُه التبعيضُ، [فأما ما لا ينقصه التبعيضُ] (1) كذوات الأمثال، فإذا اشترى رجلان صاعاً من الحِنطةِ واقتسماهُ، وظهرَ عيب بالحنطةِ، فهل لأحدهما الانفراد برَد نصيبه؟
اختلف أصحابُنا فيه: فمن مانعٍ ومن مجوّزٍ. والخلاف مأخوذ من المعنيين المذكورين في توجيه القول، فإن كان التعويل على اتحاد الصفقة، فلا فرقَ بين أن يكون الشيء بحيث ينقُصه التبعيضُ، أو لم يكن كذلك، وإن وقع التعويل على أن التبعيض عيبٌ حادث، فهذا المعنى لا يتحقق في البُرِّ وغيرهِ، وكأنّ أصحاب هذا القول غيرُ متفقين في اتحاد الصفقة.
3135- ومن التفريع على هذا القول أنّا إذا منعنا أحدَهُما من الانفراد بالرد، فلو أرادَ مطالبتَهُ بالأرش، فهل له ذلك، أم لا؟
إن أَيِسْنَا من إمكان الردّ في نصيب صاحبه، بأن أعتقهُ، وكان معسراً، فلم يَسْرِ
__________
(1) ساقط من الأصل.(5/222)
العتق، فقد تحقق اليأس من إمكان الرد، فله الرجوعُ بالأرش؛ فإن ردّ البعض ممتنعٌ، وردُّ الجميع مأيوس عنه. وسيأتي تمهيدُ ذلكَ في الرجوع بالأرش.
وإن لم يُعتِق، ولم يأت بما يزيل المِلك بالكلية، فلا يخلو: إما أن يرضى بالعيب ويُسقِط حقَّ نفسه من الرَّد وإما ألاَّ يرضى، ولا يسقطَ، ولكن امتنع الردُّ منه لغيبةٍ، أو ما في معناها.
فإن أسْقط حق الرد [فهل للذي] (1) لم يُسقط حقهُ الرجوعُ بالأرش؟ أم لا؟ ذكر أصحابُنا وجهين، نسردهما، ثم نذكر حقيقتَهما: أحدُهما - أنه يملك المطالبةَ بالأرش؛ فإن الاجتماعَ على الرد منهما غيرُ ممكنٍ بعدما أَسقط [أحدهما] (2) حقّه.
والوجه الثاني - أنه لا يرجع بالأرش، لأن الرَّدَّ ممكن، بأن يملّكَ ذلك النصفَ باتّهابٍ، أو ابتياعٍ، أو غيرِهما، وإذا ملكه، فيضمُّ ما ملكه إلى ما اشتراه، ويردُّ الجميعَ، ويرجعُ بنصف الثمن، ويكون النصفُ المضمومُ إلى نصفه الذي اشتراه مؤنةً عليه يدرأ بها عيبَ (3) التبعيض، ويلزم البائعَ قبولُه كما يلزمُ قبولُ النعل.
وإذا كان ذلك ممكناً، فتوقعه يمنع المطالبةَ بالأرش.
ونحن نقول: أما الإجبار على قبول النعل، فهو صحيح، وكان تفصيلُه محالاً على هذا الباب، وسيأتي إن شاء اللهُ تعالى.
وأما إلزامُ البائِع قبولَ نصفٍ لم يبعه من هذا الشخص، فليس يشابهُ النَعل؛ من جهةِ أن النعل تَبَعٌ.
وقد اختلف أصحابُنا في هذا النوع، وهو كاختلافهم في أن من باع ثمرة على رؤوس الأشجار فتَجَدّدت للبائع ثمارٌ، واختلطت بالمبيع، فلو وَهَب تلك الثمارَ من المشتري، فهل يُجبر المشتري على القبُول؟ فيه وجهان: والأقيسُ عندي أن لا يُجبر على القبول؛ فإن تطويق الإنسان مِنَّة في أمر مقصودٍ ليندفعَ به حقٌّ له ثابت بعيدٌ من الجواز.
__________
(1) في الأصل: قبل الذي.
(2) في الأصل: حقهما. (وهذا تصحيف طريف) .
(3) ساقطة من (هـ 2) .(5/223)
3136- فإذا ثبت ذلك عُدنا إلى غَرضِنا، فإن كنا لا نلزم البائعَ قبُولَ ذلك النصف، فلو قالَ البائع: فأنا أقبلُه، قُلنا: لا حكم لتمليكك إيّاهُ عند هذا القائل، قبلت أو أبيت، فيثبت إذاً الرجوعُ بالأرش.
وإن قلنا: لو رجع النصف وضمّه إلى ما اشتراه، أُجبر البائعُ على قبولهِ، فهل يمتنع حَقُّه من الأرش لذلك؟ فعلى وجهين: أصحّهُما - أنه لا يمتنع؛ فإنَّ توقعَ العود بعيدٌ، وتكليفه التمليكَ أبعدُ منه، وليس ذلك العائد مما يملكه بالابتياع من بائعه؛ فإبطال حقُّ ناجزٍ له لتوقع ما ذكرناه لا وجه له. وإذا غابَ صاحبُه ولم يبطل حقّه، فقد ذكر صاحب التقريب وجهين في أنه هل يرجع بالأرش للحيلولة الناجزة؟ ونظائرُ ذلك كثيرة.
ثم يتفرعُ عليه إذا أمكن الردُّ بالمُساعدة ردّ الأرش، والرجوع (1 إلى الرد على خلافٍ للأصحاب في أمثاله معروف، ثم حيث أثبتنا له الرجوعَ 1) إلى الأرش، ففي كيفيتهِ كلام سنصفهُ في الأصول التي نمهّدها.
فإن قيل: إذا جوّزتم لأحدهما الانفرادَ بالرد على القول المشهور، فهل تُلزمونهُ أن يضم أرشَ نقصِ التبعيض إلى ما يرده؟ قلنا: [لا] (2) ، فإنا لو سَلّمنَا كونَ التبعيض عيباً حادثاً، لكُنَّا مسلِّمين قاعدةَ المسألة. ومعتمد القول المشهور النظرُ إلى ما تَملّكَه من البائع، وكل واحدٍ لم يتملك منه إلا البعضَ، وقَدْ ردَّ ما ملكه. فإن قيل: الإضرار بالبائع على كل حالٍ من غير جُبرانٍ لا وجه له. قُلنا: هو الذي أضرَّ بنفسه؛ إذ ملّك الشخصين بعضين.
3137- ومن تمام البيان أنا إذا حكمنا بتعدد الصفقة على القول الصحيح، فإذا وفَّر (3) أحد المشتريَيْن حصتَه، من الثمن، وجب على البائع أن يُسلّم إليه قسطه من المبيع، كما يسلمُ الشائعَ.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (هـ 2) .
(2) ما بين القوسين ساقط من الأصل.
(3) في (هـ 2) : وجد، (ص) : وفا.(5/224)
وإذا حكمنا باتحاد الصفقةِ، فلا يجب على البائع تسليمُ شيء من المبيع إلى أحدهما وإن وفر الثمن، حتى يوفر الثاني حصته أيضاًً، وهذا القائل يجعل المشتريَيْن كالمشتري الواحد. وإن اشترى رجل عبداً، ووفر معظمَ الثمن، لم يملك مطالبةَ البائع بتسليم شيء من المثمن إليه، إذا أثبتنا للبائع حقَّ حبس المبيع، وكذلك إذا اتحد العاقدُ من كل جانبٍ، وكان المبيع قابلاً للقسمة، فلو وفَّر المشتري بعضَ الثمن [وطالبَ بتسليم بعض المثمن] (1) ، فالمذهب الظاهر أن للبائع ألا يجيبَهُ، ويديمَ حبس المبيع بكماله ما بقي من الثمن شيء، قياساً على الرهن؛ فإنه لا [ينفك] (2) ما بقي من الدَّيْن شيء.
وأبعد بعضُ أصحابنا، فأوجب إجابة المشتري إلى تسليم بعض المبيع، على قدر ما سلّمَه من الثمن، وصار إلى أن حكمَ الثمن التوزّع على المثمن، هذا موجَب المعاوضة، فليثبت الحبس على موجَب التوزّع، وليسَ بين الدَّينِ والرهنِ مقابلة العوضَين.
وهذا وإن كان منقاساً من وجهٍ. فالمذهبُ الأولُ.
ثم ذكر الأصحابُ هذا فيما يقبل القسمةَ، وامتنعُوا منه في العَبدِ وغَيرهِ مما لا ينقسم، والسبب فيه أنا لو أوجبنا تسليم بعضٍ من هذه الأشياء، اضطرَّ البائع إلى تسليم الجميع على مناوبةٍ ومهايأة؛ إذْ تسليمُ المشاع لا يتأتّى إلا كذلك. وحق الحبس ضعيفٌ لا يحتمل هذا المعنى؛ ولهذا قطع الأصحاب بأن المرتهن لو رد الرهنَ إلى يد الراهن، ولم يرفع الرهنَ، فالرهن باقٍ على لزومه. ولو أعاد البائع المبيعَ من المشتري، فهل يبطل حقّه من الحبس؟ فيه اختلاف بين الأصحاب معروف، والفارق أن حق الرهن وثيقةٌ مقصودة بعقدٍ، وحق الحبس ظاهرٌ بدون ترتيب في تسلّمٍ وتسليم.
3138- وممَّا يتصل بذلك أنهُ إذا اشترى رجلٌ من رجلٍ عبداً، ثم مات المشتري وخلَّف ابنين، واطلعا على عيب قديم بالعبد، فليس لأحدهما الانفرادُ برَدّ حصتهِ؛
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) في الأصل: ينقل.(5/225)
فإن الملك تفرَّق عليهما إرثاً، والعقد في أصله وقع على الاتحاد، والاعتبارُ بما وقعَ العقد عليهِ، لا بما أفضى حكمُ التوريث إليه.
ولو اشترى رجل من رجلين عبداً، فلا خلاف أن الصفقةَ متعدّدةٌ في حكم الرَّدّ، فإذا اطّلَع المشتري على عيب قديمِ، تخيَّر: فإن أحبَّ ردَّ عليهما، وإن أراد أن يرد نصيب أحدهما عليه، ويمسكَ نصيبَ الآخر، فله ذلك. ولا خلاف أنهما إذا أنشآ البيعَ في العبد المشترك بينهُما، فقبِل المخاطبُ الواحدُ البيعَ في حصةِ أحدهما، صح ذلك.
ولو وكّل رجلان رجلاً حتى يشتري لهما عبداً من رجل، أو وكّل رجلانِ رجلاً حتى يبيع عبداً مشتركاً بينهُما من رجل، وقد صَحَّ تفصيل القول في أن الصفقة تتعدَّد في حكم الرَّدّ بتعدد البائع، وفي تَعدُّدِها بتعدد المشتري القولان والتفصيل، فإذا تعدَّد الموكِّل من أحد الجانبين واتّحَدَ الوكيل، فحاصل ما قالهُ الأصحابُ ثلاثةُ أوجهٍ: أحدُها - أن الاعتبارَ بالمُوكِّل من الجانبين؛ فإنه الأصلُ، وإليه المصيرُ. أمّا الموكِّل بالشراء، فهو المالكُ دون الوكيل، فإذا وكَّل رجلان رجلاً بالشراء، اقتضى العقد تثبيت الملك للموكّلَيْن مبعّضاً، كما لو توَلّيا الشراء بأنفُسِهما، والتعويل على ما يقع عليه مقتضى العقد. وإن وكل رجلان رجلاً بالبيع، فالمبيع يخرج عن أملاكِ البائعَيْن، وما قدرناه من اتحاد الوكيل لا أثرَ له في مقتضى العقد؛ فإن عبارة الوكيل مستعارةٌ، وكان وكيل الرجلين ناطق بلسانين.
والوجه الثاني - أن الاعتبار بالوكيل، لأنهُ المتعاطي للعقد، وانقسامُ الملك على الموكِّلَيْن إزالة وجلباً، بمثابةِ انقسامِ المبيع على الوارثين وكان المشتري واحداً.
والوجه الثالث - أنا نفصِّل بين جانب المشتري وجانب البائع، فنقول: الاعتبارُ في جانب البائع بالموكِّل، وفي جانب المشتري بالوكيل، وهذا اختيار أبي إسحاق المروزي، والفاصلُ عنده بين الجانبين أن الوكيل في جانب البائع لا استقلال له أصلاً، ولو مال العقد عن مُوجَب إذن الموكِّل بالبيع، لفسد العقد، ثم لم نجد نفاذاً.(5/226)
وليس كذلك الوكيل بالشراء؛ فإنه قد يقرب (1) ممن يتأصَّل، وإذا لم يجد الشراءُ نفاذاً على الموكِّل به، فقد (2) ينفذ على الوكيل إذا كان العقدُ وارِداً على الذمَّة.
وهذا الفصل عندنا إنما يستقيم في التوكيل بالشراء في الذمّة، فأما إذا وكل رجلٌ رجلاً حتى يشتري له عبداً بثوب معيّنٍ عيَّنه، فالوكيل في هذا المقام بمثابةِ وكيل البائع لا شك فيه.
ثم ما ذكرناه من اختلاف الأصحاب في اعتبار الوكيل والموكِّل يجري في صُورتين: إحداهما - أن يتّحد الوكيل ويتعدَّد (3) الموكّل. والأخرى أن يتعدَّد الوكيل العاقد، ويتّحدَ الموكِّل، فالخلاف جارٍ في الموضعين كما بَيّنا.
فصل
قال: " ولو اشتراها جَعْدةً، فوجدها سبْطةً ... إلى آخره " (4) .
3139- معظمُ المقصود من هذا الباب الكلامُ في الرد بالعيب، وما يتَّصل به ويشابهه، وتفصيلُ القول فيما يتعذّر به الرد، وحقيقةُ الأرش، والرجُوعُ به، وبيانُ مواقع الوفاق والخلاف في هذه الأحكام.
ونحن قد التزمنا الجريانَ على ترتيب المختصر في الأبواب والمسائل، فإن اقتضى في بعض المواضع تقديمَ مؤخر وتأخيرَ مقدَّم، حتى [يلقَى] (5) الناظرُ المقاصدَ مجموعةً، سهل احتمال هذا.
فالذي نرى أن نذكره تفصيلُ القول فيما يكون عيباً، ثم التفصيل فيما يتعلق حقُّ الردّ فيه بالشرط، وتقدير الخُلف فيه، ثم نصف بعدها الحكمَ بتيسُّر الرد، ثم نذكر وراءه الأسبابَ التي يتعذر الرد بها.
__________
(1) في (ص) : يفرق.
(2) في (ص) على الموكّل به، نفذ ...
(3) ساقطة من (ص) .
(4) ر. المختصر: 2/189.
(5) في (هـ 2) : يلفي، (ص) : يلتقي.(5/227)
[القول في العيب] (1)
3140- فأما القول في العَيب، فالجامع له: أن كل ما ينقُص من العَيْن تنقيصاً يخالف المعتادَ في جنسه، فهو عيبٌ وإن كان لا يؤثر في نقصانِ القيمةِ، بل قد يؤثر في زيادتها، وهذا كالخَصْي. فمن اشترى عبداً، ثم بان أنه خَصِيّ، ردّه بالعيب. وكل ما يؤثر في تنقيص القيمة عن المعتاد في الجنس، فهو عيب، وإن لم يكن نقصانَ جزءٍ، بل قد يكون زيادةً، مثل أن يشتري مملوكاً، ثم يطلع منه على إصبعٍ زائدة، ونقصانُ القيمة قد يرجع إلى نقصان الصفات (2 كما أن زيادة القيمة قد ترجع إلى زيادة الصفات 2) فالعبد الكاتب يشترى بأكثرَ مما يشترى به الأمّي، والعبد العفيف يُشترَى بأكثر مما يُشترَى به الزاني، وكذلك القول في الأمين والسارق والخَوَّان.
ولا يمكننا أن نقول: كل صفةٍ تُفقد، فهي ملحقة بالعيوب، حتى يثبت الخيارُ بفَقدِها من العقود وتفاوت القيم معَ الصفاتِ نِسَبٌ (3) ، فكيف الضبط في ذلك؟
3141-[الوجه] (4) أن نقول: النقائص المذمومة معلومةٌ، فإذا كان الشيء نقيصةً مذمومة، والعادةُ غالبةٌ في اطراد ضدّها، فتلك النقيصة إذا نقصت العينَ أو القيمةَ، فهي عيب.
وكل صفة لو وُجدت، لكانت فضيلةً، ولكن لا يعُمّ وجودُها. وعدمُها لا ينتهي القول فيه إلى الذم، فانعدام هذا الضَّرب لا يلتحقُ بالعيوب.
فالوجه أن نتخذ ما ذكرناه معتبراً، وتتميَّز عن مقتضاه الخيانةُ، والزنا، والسرقةُ، عن عدم الكتابة، والاحتراف، وغيرهما.
ومما يجب الإحاطة به أن مبنَى العيوب على أنها تُثبت حقَّ الرَّد للمطلع عليها في العقد المطلق، وقد يَشِذُّ عن هذا الأصل واحدٌ، وهو أن الافتراع في حكم التعييب،
__________
(1) هذا العنوان من عمل المحقق.
(2) ما بين القوسين ساقط من (ص) .
(3) هذا الضبط من (هـ 2) .
(4) ساقطة من الأصل.(5/228)
بدليل أنا نجعل افتراعَ المشتري مع اطّلاعه على عيبٍ قديمٍ في التفصيل بمثابة عيب حادثٍ ينضم إلى الاطلاع على العيب القديم.
ثم لو اشترى رجل جارية فكانت ثيباً مفترَعةً، لم نجعل الثيابةَ عيباً مثبتاً للرد في مطلق العقد، والسبب فيه أن البكارة ليست صفةً غالبةً في العادة، والجواري منقسمات إلى الثيبات والأبكار، والثُيَّب أكثر، فلا يرتبط الظن بالبكارة، نظراً إلى غالب الحال، حَسَب ارتباط الظن بالسلامة من العيوب، فإزالة البكارة تنقيصٌ، وليست البكارة مستحقَةً بمطلق العقدِ.
ثم ما ذكرنا من أن نقصان العين على المعتاد في الجنس عيبٌ جارٍ، ولكنهُ مشروط بأن يفوت بفوات ذلك [النقص] (1) غرضٌ ماليٌ، أو غيرُ مالي. فلو اشترى الرجل عبداً، ثم تبين له أنهُ قد قُطعت فلقة من لحمةِ ساقه، ولم يكن لذلك أثرٌ في غرض ولا ماليّةٍ، فهذا ليس بعيب.
وقد ذكرت لصاحب التقريب تفصيلاً في الشاة إذا وجد مشتريها على أذنها قطعاً. قال: إن كان لا يمنعُ من الإجزاء في الضحايا، فليس بعيب. وإن كان مانعاً، فهو عيب.
والخصاءُ الذي ذكرناه في المملوك إن لم يؤثر في المالية، فهو مؤثر في أغراضٍ ظاهرةٍ.
ثم ألحق أئمتنا بما مهدناه صوراً، فيها خلافٌ مع بعض العلماء، فالعبد الزنّاءُ معيبٌ، مردود كالجارية إذا كانت مساحقةً، خلافاً لأبي حنيفة (2) ، فإنه لم يجعل اعتياد الزنا من العبد عيباً. والبَخَر (3) والبول في الفراش عيبان في الجنسين، وأبو حنيفة (4) جعلهما عيباً في الإماء. وإن تحققت العُنَّة في المملوك، ففيها نظر عندنا. والظاهر أنها عيبٌ.
__________
(1) في الأصل: العين، (هـ 2) ، (ص) : المعين. والمثبت تقدير منا على ضوء السياق، وعبارة العز بن عبد السلام، في مختصره.
(2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/156 مسألة 1230، بدائع الصنائع: 5/274، فتح القدير: 6/7, الاختيار: 2/19.
(3) البَخر: من بخِر الفم بخراً: باب تعب أنتنت ريحه، فالذكر أبخر، والأنثى بخراء (مصباح) .
(4) ر. الاختيار: 2/19.(5/229)
3142- ثم المناقبُ التي لا تُعد نقائضُها عيوباً ونقائصَ، ولا ترتبط الظنون بها تصيرُ مستحقةً بالشرط، فإذا اشترى الرجل عبداً على شرط أنه كاتب، ثم أخلف الشرطُ، ثبت الخيار. والتحقَ عدمُ المشروط بالعيوب.
ثم إن كان ما يشرطه مما يؤثِّر في الماليّةِ، فالخُلف فيه يُثبت الخيارَ، فإذا كان العبدُ الكاتب يساوي ألفاً، والأمّي يساوي تسعمائةٍ وقد تعلّق الشرط بصفةِ الكمال، فالخلف مثبت للخيار. وعدَّ الأئمة من ذلك ما لو شرط جُعودةَ الشعرِ، فخرج الشعر سَبِطاً (1) .
فأما إذا كان الأمرُ المشروط لو عُدم لم يؤثر في نقصانٍ، ولو وُجد لم يتضمَّن زيادةً في الماليَّة، نُظر فيه: فإن كان لا يتعلّق بغرض مقصود، فالخُلفُ فيه لا يُثبت الخيارَ، وهذا بمثابة ما لو اشترى عبداً على شرط أنه أحمقُ، أو مشوّه، فخرج حسناً عاقلاً، فلا خيار. والشرط لاغ، على ما سنفصّل مراتب الشروط في بابها.
فأما إذا شرط ما يتعلق بغرضٍ، ولا يؤثر في الزيادة الماليَّة، مثل أن يشتري جاريةً على شرط أنها ثيّب، فإذا خرجت بكراً، ففي ثبوتِ الخيار وجهان: أحدُهما - أنه يثبت، لتخلف الغرض. والثاني - لا يثبت؛ لأن المعتبر في البيع الماليّة، وما يتعلق بها.
ومن هذا الجنس ما لو اشترى جارية، وشرط أنها سَبطةُ الشعر، فإذا كان شعرها جعداً وأخلفَ شرطُ الشارط في السُبوطة، فلا شك أنَ الجعدَ أشرفُ، وقد يكون السبط أشهى إلى بعض الناس، ولا ينسب من يبدي ذلك من نفسهِ إلى مفارقة الجَمهور، [والانسلالِ] (2) عما عليه العامّةُ، فإذا فُرض الخُلف في هذا المشروط، ففي الخيار الوجهان المذكوران في البكارة والثيابة.
__________
(1) سبط، بكسر الباء، ويجوز فتحها، على الوصف بالمصدر. سبط الشعر من باب تعب إذا كان مسترسلاً (المصباح) .
(2) في الأصل: الإفلال. ولم أصل إلى معنى لها يناسب السياق. وكذلك الإقلال بالقاف في (ص) .(5/230)
وقال الصيدلاني: كلُّ ما لو كان مشروطاً [و] (1) اتصل الخُلف به، اقتضى خياراً وجهاً واحداً، فالتدليس الظاهر فيه كالشرط، كما ذكرناه في باب التصرية، فإذا جعَّد البائعُ شعرَ المملوك، ثم بان سَبطاً، ثبتَ الخيار.
وكل ما لو فُرض مشروطاً وَصُوّر (2) الخُلف فيه، فكان في الخيار وجهان، فإذا فُرض التدليس فيه، ثم ترتَّب عليه خلف الظن، قال: لا خيار وجهاً واحداً، لضعف المظنون أولاً، وقصُور الفعل في الباب عن القول.
وهذا تحكم منه لا يُساعَد عليه، فالتدليس في ظاهر الفعل كالقول في مجال الوفاق والخلاف، على الاطراد والاستواء، فإذا سبَّطَ الرجل شعرَ الجارية، ثم بان أن شعرها جَعْدٌ، ففي الخيار الوجهان عندنا.
وقد نجز الغرض في بيان العيب، وما يجري الخُلف فيهِ، وتمييز [أحد] (3) البابين عن الثاني.
[القول في الرّد] (4)
3143- فأما القول في الرد، فحق الرّد ثابت على الفور والبدارِ، فإن رضي بالعيب القادرُ على الرد، أو لم يرض وقصَّر في الردّ، وسكت مع التمكن من النطق بالردّ، فيبطل حقُّه، وإذا بطل حقُّه، لم يرجع إلى أرش؛ فإن الأرشَ إنما يثبت في حق من لا يتمكّن من الرد، ولا يرضى الشرعُ باستمرار الظُّلامةِ عليه، فأما إذا أبطل حقَّ نفسهِ قصداً، أو تقصيراً، فلا مرجع له إلى الأرش.
ولو أراد المطالبةَ بالأرش مع التمكن من الرد، لم يَملِك إلزامَ البائع وِفاقاً.
ولو تراضيا على الرجوع إلى الأرش؛ ففي المسالةِ وجهان مشهوران: أحدهما - أنه لا يحل له ذلك؛ فإنه اعتياضٌ عن حق، والحقوق المطلقة لا تقابلُ بأموال.
__________
(1) في الأصل: أو.
(2) في (ص) ووقع.
(3) ساقطهَ من الأصل.
(4) العنوان من عمل المحقق.(5/231)
والوجه الثاني - أنه يحل أخذُ الأرش؛ فإن للأرش مدخلاً في الباب، بدليل الرجوع إليه عند تعذّرُ الرد. ثم الحق لا يعدو الرادَّ والمردود عليه، فإذا تراضيا على بذل مالٍ، بعُدَ امتناعُه.
التفريع على الوجهين:
3144- إن قلنا: يحل أخذ الأرشِ، فلا كلام. وإن قلنا: لا يحلّ؛ فلو أخذه على ظن الجواز والحلِّ، ثم تبين الأمرُ، واستردّ منه ما أخذ، فهل يعود إلى استحقاق الرد، فعلى وجهين ذكرهما العراقيون: أحدُهما - أنه لا يعود إلى الرد؛ فإنه أسقطه فسقط. والثاني - يعود إليه؛ فإنه لم يُسقط حقهُ [مطلقاًً] (1) بل ربطه باستحقاق العِوض، وعلَّقَه (2) به، فإذا لم يسلم له العوض، لم يتحقق سببُ إسقاط الحق.
وذكروا هذين الوجهين في الشفيع، إذا اعتاض عن الشفعة ظاناً أن ذلك حلال، ثم استرد منه العوض، فهل يكون على حقّه من الشفعة؟ فيه الخلاف الذي ذكرناه.
فإن قيل: أليس الخلعُ بالعوض الفاسد يوجب البينونة، والصلح عن الدم على العوض الفاسد يوجب سقوط القصاص؟ قُلنا: السببُ فيه أنه إن لم يثبت ما سماه، ثبتَ عوضٌ شرعي، وليس ذلك مناظراً لما نحن فيه. ونظير ما نحن فيه ما لو خالع الرجل امرأتَه المبذّرةَ، على مالٍ، فالمال لا يثبت، ولا يقعُ الطلاق رجعيّاً.
3145- وقد حان الآن أن نذكر الموانع من الردّ بالعيب.
فنقول: قد يمتنع إمكانُ الرد بسبب عدم العين أو عدم الملكِ فيه، وقد يمتنع بسببٍ مع استمرار الملك على الجُملة في العين.
فأمّا إذا فُقد المبيعُ وهلكَ، أو زالت الماليَّة فيه، بأن أعتق المشتري العبدَ، فإذا فَرضنا هلاكاً، أو زوال ملكٍ، ثم اطلع المشتري على العيب القديم، فالردُّ غيرُ ممكن، ولا خلافَ أنه لو أراد أن يقيم قيمةَ الفائت مقامه ليردّها ويستردَّ الثمن، لم يجد إلى ذلك سبيلاً.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في (ص) : وعكفه منه.(5/232)
ولكن لم يرض الشرعُ بإحباط حقِّه إذا تحقق تعذُّر الردِّ، فرجُوعه في هذا المقام إلى الأرش. ومعناه ما نصِفُه.
فليعلم الطالب أنا لا نلزم البائعَ نقصان قيمة المبيع في نفسه، حتى نقول نُقدِّر المبيعَ سليماً، فإذا [كانت] (1) قيمتُه ألفاً، ونقدّرهُ معيباً، فإذا قيمتُه تسعمائةٍ، ونوجب المائةَ الناقصةَ. بل نقولُ: نعتبر النقصانَ على النَسقِ الذي بَينَّاه، ونضبط نسْبتَه، ونعرف جزئيَّته، ثم نقول: يرد البائع مثلَ ذلك الجزء من الثمن إلى المشتري، فإن [كان] (2) الناقص عُشر القيمة، فالمسترد عُشرُ الثمنِ. ثم قد يكونُ الثمن مثلَ القيمة، أو أقلَّ منها، أو أكثر.
ومما يجب التنبيهُ له أن العيبَ إذا كان من جهة نقصان العين كالخصاء، ثم فات الردُّ بفوات العين، أو الملكِ، فلا رجوعَ إلى الأرشِ أصلاً؛ إذْ لا نقصانَ في القيمة، حتى يُعتبرَ بنسبته استردادُ جزءٍ من الثمن. والأعراض لا تتقوم.
هذا قولُنا في زوال العين والملك.
ويلتحق بهذا القسمِ مصيرُ الجاريةِ المشتراةِ مستولدةً؛ فإن حُرمةَ الاستيلاد في الغرض الذي نحن فيه كالحريّةِ الناجزةِ.
3146- والقول بعد هذا في تقاسيم الموانع، مع بقاء المبيع مملوكاً.
فنقول: من الموانع زوالُ ملك المشتري عن رقبة (3) المبيع بجهةٍ من الجهاتِ، فلا شك أن الردَّ غيرُ ممكنٍ، والمِلكُ زائلٌ، ولكن لو عاد المبيعُ إلى ملكِ المشتري بعدَ الزوالِ، فالتفصيل في ذلك أنه إن زال بجهةٍ لا تتعلق بجنسها عهدة الرد كالهبة، ثم عاد إليه بمثل تلك الجهة، أو بجهةٍ أخرى لا ردَّ فيها، فإذا جرى الزوال والعودُ والمشتري غيرُ مطلعٍ على العيب في الأحوال التي جرت، ثم اطلع على عيبٍ قديم بعد عود الملك إليه، كما صوَّرنا؛ فهل يثبت له الردُّ الآن على البائع؟ فعلى وجهين
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) مزيدة من المحقق رعايةً للسياق.
(3) في (ص) : بقية.(5/233)
مشهورين: أحدهُما - له الردُّ؛ لأنا لو نفذنا ذلك منه، كان راداً ما ملك كما ملك.
والوجه الثاني - لا يرد، لأن الردَّ نقضُ الملكِ المستفادِ من جهة العقد، وهذا ملكٌ جديد وليس الملكَ المستفادَ بالعقد.
وسيأتي لهذا نظيرٌ في المفلس إذا قبض المبيعَ، وزال ملكه، ثم عاد إليه، ثم أفلسَ واطَّرد الحجرُ عليه، فهل يثبت للبائع حقُّ فسخِ البيع؟ فيه من الخلاف ما ذكرناه.
وكذلك إذا زال ملك المرأةِ عن الصداق، ثم عاد إليها، وطلقها زوجُها قبل المسيس، وسنكرّر (1) هذا الخلافَ في كل أصلٍ على حسبِ ما يليق به.
3147- ولو باع رجل عبداً بجاريةٍ وتقابض المتعاقدان العوضين، ثم إنَّ قابضَ العبد وهبه وسلَّمه وعاد إليه بالهبة مثلاً، ووجد قابضُ الجارية عيباً، فلا شك أنه يثبت لصاحب الجاريةِ ردُّها؛ فإن الملكَ فيها لم يتبدل. ولو تلف العبدُ أو عَتَقَ، لثبت لصاحب الجاريةِ ردُّهَا غيرَ أنه في ردّها يرجع إلى قيمة العِوضِ المقابلِ للجارية. فإذا زال الملكُ عن العبد، وعَادَ كما صوَّرناه، فردَّ صاحب الجاريةِ الجاريةَ؛ فإنه يرجع إلى العبد العائدِ، أم إلى قيمته؟ اختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من خرّج استرداد ذلك العبدِ الزائلِ العائدِ على الوجهين السابقين. وهذا القائل يسوّي بين الاسترداد، وبين فرض الردّ في عينِ ما زال وعَادَ.
ومن أصحابنا من قطع بأن العبدَ يسترد عند ردَّ الجارية، وإن اختلف المذهب في أن العبد في نفسه هل يرد إن اطلع على عيبه. والفارق عند هذا القائل أن المستردّ ليس مقصوداً، فلا يشترط فيه ما يشترطُ في المردود المقصود.
فهذا كله فيه إذا كان الخروجُ والعودُ لا بجهةٍ تُثبتُ الردَّ.
3148- ولا نتعدى هذا الفصلَ حتى نذكر ما يليق به من حكم الأرش.
فإن قلنا: إن زال الملك بالجهة التي ذكرناها، لم نتوقع بعدهُ إمكان ردٍّ، وإن
__________
(1) في (ص) : وسنذكر.(5/234)
فُرض العودُ، فقد تحقق اليأسُ من الردّ، فإذا اطَّلعَ على العيبِ والملكُ زائلٌ أم عائد، فيرجع لا محالةَ إلى أرش العيب، كما لو فاتت العينُ، أو زال الملكُ بالعتق.
وإن قلنا: الردُّ ممكن عند تقدير العَوْد، فهذا الإمكان دائمٌ ما بقي الموهوب مملوكاً، بحيث يتصور فيه نقلُ الملك، فهل يثبتُ الرجوع إلى الأرش في الحال؟
القياس أنه يثبت، وهو مذهب طوائفَ من المحققين؛ فإن التعذر ناجز، والاستدراك بطريق الردّ عند تقدير العود ممكنٌ على بُعدٍ، والحق الناجز لا يتعطل بتوهمِ مستدركٍ قد يكون، وقد لا يكون.
ومن أصحابنا من قال: لا يثبت الرجوعُ إلى الأرش، مادامَ إمكانُ الرد متوقعاً.
وهذا الخلاف مبني على أن شُهود الزورِ إذا شهدوا على إنسانٍ بمالٍ، وجرى القضاءُ بشهادتهم، ثم رجعوا، فالقضاء بالاستحقاق لا يُنقَضُ. وهل يغرَم الشهودُ بدل الفائت للمشهود عليه؟ فعلى قولين. ولا خلاف أنهم لو شهدوا على إعتاقٍ، أو طلاق ورَجَعوا عن الشهادة بعد نفاذ القضاء؛ فإنهم يغرَمون.
والفاصل بين محلّ الوفاق والقولين أن العتق لا مستدرَك له أصلاً، والحيلولةُ الواقعةُ في الشهادة على المال ممكنةُ الزوال بأن يعترفَ المشهودُ له للمشهود عليه.
فنميز صورة القطع عن صورة القولين. كذلك القول في الرجوع إلى الأرش.
3149- فأمّا إذا كان زوال الملك بجهةٍ تُثبتُ الردَّ، مثل أن يشتري عبداً، ويبيعَه من غير علم بعيبه، فقد تحقق زوال الملكِ بالبيعَ، والبيع جهة يثبت الردُّ فيها، فإن اطلع المشتري من المشترِي على العيب وردَّه، فللمشتري الأول الرّدُّ على البائع الأول بلا خلافٍ. فإن قيل: أليس قَد زال الملك وعاد؟ قلنا: الردُّ ينقضُ الجهةَ المتجدّدة، ويردُّ الملك الذي كان ثابتاً قبل تجدد الجهة، وسبب الاختلاف في الرد بعد زوال الملك وعودِه أنا نعتقد العائد ملكاً جديداً، وليس كذلك إذا نُقِضت الجهة الحادثةُ، وارتد الملك الذي كان قبلَها. هذا إذا ردَّ على المشتري الأول ما باعَهُ.
فأمّا إذا اطلع المشتري الثاني على العيب، ورضي به، فقد بَطل حقه من الرَّدّ.
وهل يملك المشتري الأولُ حق الرجوعِ بالأرش على البائع؟ فعلَى قولَين ذكرهُما(5/235)
صاحب التقريب وغيرُه: أحدُهما - وهو الأظهر الأشهرُ أنه لا يرجع؛ لأنه كما راج عليه العيبُ في البيع الأوَّل، فكذلك روَّجه على المشتري منه، وانتهى الأمر إلى رضاه به.
والقولُ الثاني - أنه يرجع بالأرش وهذا أميلُ إلى القياس؛ لأن سبب الرجوع بالأرش ما اقتضاه العقد من السلامة، وإسقاط المشتري حقَّه عن هذا المعنى لا يُسقطُ حق المشتري الأول، ورضاه بمثابة تبرعٍ منه عليهِ، وهذا لا يُلزمهُ أن يتبرع على البائع الأول، كما تبرعَ عليه.
ولو لم يرض المشتري بالعيب، ولم يطلع بعدُ عليه، فهل يملك المشتري الأولُ الرجوعَ بالأرش على البائع الأول في الحال؟ هذا يُخرَّجُ على ما قدَّمناه في الهبة إذا كان الزوال بها والعَوْد بمثلها. فإن قلنا ثَمَّ مع إمكان الرد بالعَودِ: يملك المطالبةَ بالأرش في الحال، فكذلك القولُ هاهُنا؛ لتحقق التعذّر في الرد ناجزاً. وإن قلنا: لا يملك طلبَ الأرشِ؛ لتوقُّع الردّ، فهاهُنا لا يملِكُه أيضاًً.
ورأى بعضُ الأصحاب عدمَ المطالبةِ بالأرش هاهنا أولى؛ من جهةِ أنَّا نأمُلُ رضا المشتري الثاني بالعيب. وهذا عند هؤلاء مَقْطَعةٌ لحق الرجوع بالأرش، ومن لا يرى ذلك قطعاً لحق الرجوع بالأرش، فقد يَعِنُّ له من جهةٍ أخرى فرق، وهي أنَّ رَدّ المشتري الثاني بالعيب على المشتري الأول ممكنٌ ظاهرُ الإمكان، وهو مطّرد على نَظْم المعاملة، وعوْد الموهوب إلى الواهب توقُّعٌ، لا انتظام له، وإذا كان الرد أمكنَ، كان الرجوعُ بالأرش أبعدَ.
ولو باع المشتري الأول من المشتري الثاني، وأعتق المشتري الثاني، ثم اطلع على عيب، ورجع بالأرش على المشتري الأول، فلا شكَّ أنهُ يرجع بالأرشِ على البائع الأًول؛ فإنّ توقّع الرد منقطعٌ. وما تخيّله بعض الأصحاب أن المشتري الأولَ روَّج على المشتري الثاني لا يتحصل في هذه الصورة، وقد رجع عليه بالأرش.
3150- ولو باع العبد المشترَى من إنسانٍ، ثم إنه اشترى ذلكَ العبدَ من المشتري منه، ثم اطلع على عيبٍ قديم، كان به في يد البائع الأول، فلا شَكَّ أنه لو أراد الرد على الذي باع منه آخراً، وهو المشتري الثاني أمكنه ذلك، ثم إذا رد عليه، فله أن يردَّ(5/236)
عليه حكمَ البيع الأول، ثم إذا اتفق ذلك، فللمشتري الردُّ على البائع الأول، فإن الجهاتِ التي تخللت، ارتفعت بالفسوخ، وكأن لم تكن.
ولو اشترى المشتري الأول من المشتري الثاني، ثم اطلع على العيب كما صَوّرنَاه، فأراد الردَّ على البائع الأول، ففي المسألة وجهان: أحدهما - لا يملك ذلك، والثاني - يملكه. والوجهان مرتبان على ما لو عَادَ إليهِ بجهةٍ لا تُثبت الردّ.
والصورة التي نحن فيها أولى بأن لا يجوز الرَّدُّ فيها على البائع الأول. والفرق أن الرد على أقرب الجهات ممكن، فالاشتغالُ بالأقربِ أولى، وليس كذلك إذا كان العَوْد بهبةٍ؛ فإن الردَّ على من منه تَلقِّي (1) الملكِ آخراً غيرُ ممكن.
فإن قيل: إذا باع المشتري الأولُ ما اشتراه من إنسانٍ، ثم وهب ذلك المشتري منه، فما قولكم في هذه الصورة؟ قُلنا: اجتمع في هذه الصورة ظنُّ الترويج بالبيع الأول، وتبدّل المِلك بجهةٍ لا تقتضي الردَّ، فالقول في تمليك المشتري الأول الردَّ مُتَلَقَّى مما قدَّمناه من الأصول المفردَة.
والفقيهُ لا يختلط عليه مأخذُ الكلام عند اجتماع المقتضيات، واختلافها واتفاقها.
وما غادرْنا مأخذاً في تأصيلٍ وتفصيلٍ، وترتيبٍ وتقديمٍ، من طريق الأوْلى في ملكِ الرد، والرجوع بالأرش في محل اليأس والإمكان، إلا نبهنا علَيهِ، فلاَ معنى للتطويل بتكثير الصُّور.
وقد نجز الكلامُ في هذا المانع وهو انتقالُ الملكِ.
3151- ومن الموانعِ حدوث العيب في يد المشتري، فإذا اشترى رجل شيئاً وقبضه، فعاب في يده، لم يخلُ: إما أن يترتب ذلك على سببٍ كان في يد البائع، أَوْ لا يترتب على متقدّم. فإن ترتَّب على متقدِّم، مثل أن تُقطعَ يدُه بسرقةٍ سبقت، أو يتمادى به مرضٌ تقدَّم أصلُه، فهذه الأجناسُ نجمعُها في فصلٍ.
ونقصُر الآن غرضنا على العَيب المتجدّد، الذي لا استنادَ له إلى سابقٍ.
فإذا حدث واطلع على عيبٍ قديمٍ، فهذا الفصلُ فيه أدنى اختلاط في كلام
__________
(1) (ص) : بلغ.(5/237)
المشايخ، ولكن الوجه أن نستاق ما بلغنا على أقوم ترتيب، ثم نذكر حاصلَ المذهب عندنا.
والوجهُ في الترتيب أن نقول: إذا جاء المشتري إلى البائع لاستدراكِ الظُّلامةِ، فلو رضي البائع بقبول المبيع، مع العيب الحادثِ، فلا كلام.
ولو أراد المشتري أن يُلزمَه قبولَ المبيع رداً عليه، من غير أن يغرَمَ له شيئاً في مقابلةِ العيب الحادث، فلا سبيل إلى إلزامه ذلك؛ فإن هذا إلحاق ظُلامة في استدراك ظُلامَةٍ.
ولو قال المشتري للبائع: اغرَم لي أرشَ العيب القديم، وقال البائع: رضيتُ بالمبيع معيباً، فرُدَّه من غير أن تَغْرَمَ شيئاً، فليس للمشتري حق الأرش.
ولو قال البائع: لستُ أغرَمُ لك الأرشَ، ولا أقبلُ المبيع مع العيب الحادث، ولكن ضُمَّ إلى المبيع أرشَ العيب الحادث، ورُدّ المبيعَ معهُ واسترِدَّ الثمنَ. وقال المشتري: بل أطلبُ أرشَ العَيبِ القديمِ، ولا أرغب في الردِّ مع أرش العيب. ففي المسألة وَجهان: أحدهما - أن المتبع قولُ البائع، فإن جرى عليه المشتري، فذاك، وإن أبى، بطل حقُّه، وليس له طلبُ الأرشِ.
هذا منتهى ما ذكرهُ الصيدلاني وغَيرُه.
وذكر بعض أصحابنا خلافاً على صيغةٍ أخرى، وقالُوا: لو جاء المشتري إلى البائع، وقالَ: دُونَك المبيعَ وأرشَ العيب الحادث، فاقبلهُما ورُدَّ عليَّ الثمن. فقال البائع: لا أقبلُ ما جئتَ به، ولكن أغرَم لك أرشَ العيب القديم، فهل يُجبر البائعُ على موجَبِ قول المشتري، فعلى وجهين: أحدُهما - أنه يجبر في هذه الصورة، ومعناه أنه ينفذ الردّ عليه وإن لم يقبل، كما ينفذ عليه أصلُ الرد إذا لم يكن عيبٌ حادث، ويستردُّ منه الثمن.
والوجه الثاني - أنه لا يجبر على ما قاله المشتري، وله أن يغرَم أرشَ العيب القديم.
هذا منتهى ما ذكره الأئمة. ولن يحصل شفاء الغليل إلا بما نذكُرُه.(5/238)
3152- فنقول: تحققنا من كلام الأئمة أن أخذ الأرشِ بالتراضي جائزٌ، وليس كأخذ الأرش إذا تجرد العيبُ القديم، وتمكن من الرّدِّ؛ فإن في جوازِ أخذِه عند التراضي خلاف، وظاهر النصِّ أنه لا يجوز أخذه، وكذلك لا خلاف أن إحباط حقِّ المشتري لا يجوزُ، ولا بد من تمهيد حقِّه إما بجهة الردّ، وضم الأرش، وإما بجهة تقرير العقد، وغرامةِ الأرشِ للعيب. فإذاً المستدرَك وجهان لا غير.
وحاصل ما ذكرهُ الأصحاب من الخلاف في الطرفين، وما تلقَّيتُه من فحوى كلام الأئمة: أنهما إن تراضيا على أرشِ العيب القديم، أو على الردّ وضمّ أرش العيب الحادث، نفذ ما تراضيا عليه.
وإن دعا أحدُهما إلى أحد المسلكين وأباه الثاني، ودَعَا إلى المسلك الآخر، ففي المسألة أوجهٌ: أحدها - أن المتبع في تعيينِ أحدِ المسلكين رأيُ المشتري؛ فإنه ذو الحق.
والثاني - أن المتبع رأي البائع؛ فإنه الغارم من وَجهٍ والمُدخل في ملِكِه، إن شاء لم [يردّ عليه العقد في المسلك الآخر، فليتخير، وليقنع المشتري بأن] (1) يحصِّل غرضَه من أحد المسلكين.
والوجه الثالث - وهو مأخوذٌ مما لهج به الفقهاءُ في المسائل، وأثناء الكلام، وهو أن من دعا إلى الردِّ، وضمِّ الأرش، لا يجاب إليه؛ لأن هذا إدخالُ شيءٍ جديدٍ في حكم العقد، لم يكن قبلُ.
وهذا هو المعنيُّ بقول العُلماء: العيب الحادث يمنعُ من الردَّ بالعيب القديم. فأما الرجوع بالأرش، فخارج على مضمون العقد؛ فإن الملك لا يستقرُّ في الثمن على الكمال إلا في مقابلة المبيع السليم، فتقريرُ العقد وإلزامُ الاستدراك بطريقِ غرامةِ الأرش، أقربُ إلى مقتضى العقد.
وهذا القائل يقول: إذا فُرض التراضي على الرد وضمِّ أرشِ العيب الحادث، فسبيله كسبيل الإقالة.
__________
(1) ساقط من الأصل. هذا، ولعل الصواب: " يردّ عليه العبد ".(5/239)
وليت شعري ماذا يقول في مبيع يتعيّبُ في يد المشتري، ثم يتقايَل البائعُ والمشتري على تقدير ضم الأرش إلى المبيع، واسترداد تمام الثمن. هذا فيه احتمالٌ؛ [من جهة] (1) ، أنا إن جعلنا الإقالة بيعاً، فشرطه أن يقع بما وقع عليه العقد الأول. وإن جعلناه فسخاً، فالفسخ تلوُ (2) العقد، ولا يجوز أن يختلف مورد العقد والفسخ، ولكن من حيث إن هذا فسخٌ نيط بالتراضي، فلا يبعد احتمال ذلك فيه.
وإن أردنا أصلاً أقربَ منه، وبالحقيقة هو المأخذ، قلنا: إذا اشترى رجل عبدين، وتلف أحدُهما في يده واطلَعَ على عيب قديمٍ بالثاني، فهل له أن يرد العبدَ القائم، وقيمةَ العبدِ التالف ويستردَّ الثمن؟ على قولين سنذكرهُما في تفريق الصفقة.
فإن أثبتنا هذا الحقَّ، فضَمُّ أرشِ العيب الحادث بذلك أوْلى؛ فإن الفائت لا يتأَصَّلُ مبيعاً. وإن منعنا ما ذكرنا في العبدين، فالمسألةُ محتملةٌ في العيب الحادث، ووجه الاحتمالِ أن المغروم في مقابلةِ العيب الحادث مالٌ متأصل، إن لم يكن الفائت بحيث يُفردُ. والتراضي في معرض الإقالة على العبد القائم، وقيمةِ التالف ما أراه جائزاً، وإنما تردَّدنا في العيب الحادث في صورة الإقالة لما فيه من معنى التبعية.
وقد نجز ما عندنا في هذا نقلاً، وترتيباً، واستنباطاً من قول الأئمة.
3153- ثم من بقيةِ هذا الفصل أنهما إذا اتفقَا على أرشِ العيب القديم، وقبضَه المشتري، فلو زال العيبُ الحادث، فهل يثبت للمشتري حقُّ ردِّ المبيع مع الأرش الذي أخذه؟ فعلى وجهين:
أحدُهما - له ذلك؛ فإن الأرش المأخوذَ، كان لمكان الحيلولة بين الردّ الذي هو الأصل، وبين المشتري.
والوجه الثاني - لا رجوعَ إلى الرد، وأخذُ الأرشِ مُسقِطٌ له. ولهذا نظائرُ في الشرع في الجراحات والغرامات، ستأتي في موضعه.
ولو لم يقبض المشتري الأرشَ، ولكن قضى قاضٍ بثبوته، ثم زال العيبُ
__________
(1) زيادة من (هـ 2) ، (ص) .
(2) تِلْو وزان حِمْل: تابع. (معجم) .(5/240)
الحادثُ، ففي المسألة وجهان مرتبان على الوجهين فيه إذا قبض الأرشَ. وهذه الصورةُ أوْلى بعَوْدِ حق الرد.
ولو قال المشتري: رضيت به، ورضي البائع ببذلهِ، ولم يجر قضاءٌ ولا قبضٌ، ففي المسألة وجهان مرتبان على صورة القضاء. والرد أولى في الصورة الأخيرة منه في الصورة التي قُبيْلها (1) .
ولو لم يجر من ذلك شيء، ولم يتفق اطلاعٌ على العيب القديمِ، حتى زال العيبُ الحادث، فالمذهب المقطوعُ به أن حق الرد ثابتٌ. وفيه شيء بعيدٌ [غيرُ] (2) معتدٍّ به.
3154- ومما يتعلق بهذا الفصل مسألة النعل، وقد ردَّدْنا الاستشهادَ بها، فإذا اشترى رجلٌ دابةً وأنعلَها، ثم اطلع على عيب قديم بها، فإذا كانت الدابّةُ لا يلحقُها عيبٌ حادثٌ بسبب قلع النعل، فالمشتري يقلع النعلَ؛ فإنه عينُ ملكهِ، ويرد الدابةَ بالعيب القديم، ولو أراد ترك النعل على البائع حتى لا يلحقه تعبُ القلعِ، لم يكن له ذلك.
وإن كان بحيث لو قلعَ النعلَ انخرمت ثُقَبُ (3) المسامير، وعاب الحافر عيباً حادثاً، ولو تركَ النعلَ لم تعُد الدابة معيبة، ولا يلحقها عيب إذا استحق النعلَ، فلا نكلفُ المشتري قلعَ النعلِ، وله تركه على البائع؛ حتى يتأتى له الردُّ بالعيب القديم.
اتفق عليه الأئمةُ.
ثم اختلفوا في أن هذا تمليكٌ أو إعراضٌ لقطع ما يَحْذرُ (4) من ظهور العيب الحادث.
وقد ذكرتُ هذا النوعَ في فصل اختلاطِ الثِّمارِ، ووجهتُ الاختلاف فيه، وفائدةُ الخلاف أنا إن جَعلنا التركَ تمليكاً، فلو سقطَ النعل، فهو للبائع. وإن قلنا: تركُهُ إعراضٌ، فهو لازم لا يملك المشتري العودَ إليه، مادام متصلاً. ولكن لو سقطَ وفاقاً
__________
(1) في (هـ 2) : "قبلها".
(2) ساقطة من الأصل.
(3) ثُقَب: جمع ثقبة، وزان غرفة، وغرف. والثقبة هي الثقب. (مصباح) .
(4) في (ص) : يحدث.(5/241)
فهو للمشتري. وهو بمثابة قولنا: الكفنُ ملك الوارث، ولكن الشرعَ ألزمَ إدامتَهُ على الميت، فإن بلي عليه فذاك، وإن جرت حادثةٌ تميَّزَ الكفنُ بسببها عن جثةِ الميت، فهو ملكُ الورثةِ.
3155- ومن تمام ذلكَ أنا [إن] (1) جوَّزنا للمشتري تركَ النَعل على البائع، فلَسنَا (2)
نُلزمه ذلكَ، فإن اختار قلْعَ النعل قبل الرد بالعيب القديم، فله ذلكَ، ولكن يمتنع عليه الردُّ، ولا يلتحق بالعيب الحادث السماوي من غير اختيارٍ من المشتري، بل انتساب المشتري إلى التعييب قطعٌ منه لحقه من الخيار، إلا أن يطلع على العيب بعد القلع فيعود ما قدَّمناه من التفاصيل في العَيب الحادث والقديم.
ويخرج من هذا أنهُ إن أرادَ الردّ بالعيب، كلفناه أن يلتزم ترك النعل، فإن لم يفعل، فلا رَدَّ، ولا أرش. هكذا ذكرهُ الأئمة.
وفيه احتمالٌ من جهة أن النعل عينُ ملكه، وقد أنعل قبلَ الاطلاع، فإلزامُه تركَ ملكهِ فيه بُعد من طريق المعنى.
وإذا باع الثمار على الأشجار، وجرَى فيه الاختلاطُ، فقد قدَّمنا في ترك البائع ثمارَهُ الزائدةَ المختلطة كلاماً على الاستقصاء في موضع ذلك، في باب الثمار.
والذي نَزِيده أن من أصحابنا من جعل ما يتركه البائعُ على المشتري من الثمار، بمثابة ما يتركه المشتري على البائع من النعل.
ومن أصحابنا من قال: ليست الثمار كالنعل، فلا يلزمُ المشتري قبولُ منَّةِ التارك، وليس كالنعل؛ فإن الأمر يقرب فيهِ. ثم هو من حيث الصيغة متصل بالدَّابَّة مثبتٌ عليها بالمسامير.
وإن تكلَّمنا في بيع العبد وعليه ثياب (3) ، فإن ما عليه من الثياب هل يدخل تحت البيع؟ فنذكر تردُّدَ الأصحاب في دخول النعل تحت بيع الدابة.
فهذا ما أردناه.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في (ص) : فإنا.
(3) في (هـ 2) ، (ص) : سلبه.(5/242)
فصل
3156- قد ذكرنا في تقاسيمِ العيب الحادثِ ما يطرأ مستنداً إلى سبب في يد البائع. وها نحن نبيّن التفصيلَ فيه.
فنقول: ما ذهب إليه معظم الأئمة أن بيعَ العبد المرتدِّ وشراءَه صحيح، وإن كان مستحق الدم؛ لأن الماليَّةَ فيه كاملة. وذكر الشيخ أبو علي في شرح الفروع وجهاً غريباً أنهُ يمتنع بيعُه، وهذا [وإن] (1) كان ينقدح توجيهُه، فهو بعيدٌ في الحكاية غيرُ معتدٍّ به.
والعبدُ إذا قَتَلَ في قطع الطريق، وظفرنا به، وقَضَيْنا بتحتُّم قتلهِ، تفريعاً على ردَّ توبته، والتفريع على ما عليه الجُمهور من تصحيح بيع المرتد، ففي تصحيح بيعه، وقد تحتم قتلُه وامتنع سقوطُ القتلِ خلافٌ، فالذي ذهب إليه الجُمهور صحّةُ البيع، وإن كان دمه مستحَق الإراقة.
وذهب بعض الأصحاب إلى منع بيعهِ وإن جوَّزنا بيع المرتدّ. وذهب إلى ذلك أبو عبد الله الختن (2) من مشايخنا.
والفرق بين ما نحن فيه وبين المرتد أن المرتدَّ غيرُ محتومِ القتلِ، ومن الممكن أن يُسلمَ فيسقطَ القتلُ عنه، وقتلُ القاطع محتومٌ [لا دَرْءَ له] (3) ، فكان كالمقتولِ (4) . وإذا صححنا بيعَ المرتد، فلو قبضهُ المشتري، ثم قتل في يده بإصراره، على الردّةِ، فحاصل المذهب ما جمعهُ الشيخ أبو علي في شرح الفروعِ وهو ثلاثة (5) أوجهٍ:
____________________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) أبو عبد الله الختن: محمد بن الحسن بن إبراهيم الفارسي، ثم الاستراباذي. والختن، بفتح الخاء، والتاء، وهو ختن الإمام أبي بكر الإسماعيلي، أي زوج ابنته. والختن من أئمة المذهب أصحاب الوجوه، برع في القراءات، والمذهب، والجدل، والنظر. ت 386 هـ.
(تهذيب الأسماء: 2/255) .
(3) في الأصل: لإدراكه، و (هـ 2) : لا درا له. والمثبت من (ص) .
(4) في (هـ 2) كالمرتد.
(5) في (ص) : على ثلاثة.(5/243)
أحدها - أن التلفَ من ضمان المشتري، سواءٌ علمه مرتداً، فاشتراه وقبضه، أو كان جاهلاً بذلك. ووجه هذا أن صُورة التلفِ جرت في يَدِ المشتري وتحت استيلائهِ، فكان محسوباً من ضمانه، كما لو تلف بآفةٍ سماوية.
والوجه الثاني - أنه إن قبضه غيرَ عالمٍ بردّتهِ، ثم استمرَّ به الجهل حتى قُتلَ مرتدّاً، يُحكم بانفساخ العقد ونزُّل ذلك منزلةَ ما لو قتلَ في يد البائع.
والوجه الثالث - أنه يفصل بين العلم والجهل، فإن قبضهُ على علم بحالهِ، استقرَّ الضمان عليه، وقتلُه في يدهِ بمثابةِ موته حتفَ أنفهِ. وإن كان على جهل حتى قُتل العبدُ، فهو من ضمان البائع؛ من جهة أن المشتري معذورٌ بسبب جهله المستمرّ.
3157- توجيه الأوجه: من قال: التلفُ من ضمان المشتري، فوجهه التمسُّكُ بالصورة، فإنَّ التلفَ جرى تحت يدِ المشتري، فيستحيلُ إلحاقهُ بضمان البائع.
والدليل عليه أنه يتسلّط على التصرف، ويَبعد أن يُفيدَه القبضُ التصرفَ، ولا ينقلَ إليه الضمان. وفي المصيرِ إلى تجويز البيع مع الحكم بان التلفَ من ضمان البائع حكمٌ بتوالي (1) الضمانين.
ومن قال: التلف من ضمان البائع، اعتمد استنادُه إلى سببٍ كان في يد البائع.
والأسبابُ وإن تقدمت، [فالمسبب] (2) في حكم المقترن بها، ولذلك ألزمنا [الميّتَ] (3) بسبب احتفاره البئرَ في حياته غُرْمَ المتردِّي، وإن خرج بالموت عن كونهِ جانياً.
ونظائر ذلك كثيرةٌ.
وعن هذا صار من صار إلى فساد البيع، وكان يقرُبُ في (4) ذلك الوجه الوقفُ، حتى يقالَ: إن قُتلَ المرتدّ، تبيّنَّا أن بيعَهُ لم يصح، وإن عاد إلى الإسلام، تبيَّنا الصحَّة، ولم أر ذلك لأحدٍ.
__________
(1) في (ص) : بزوال.
(2) في الأصل: السبب.
(3) غير مقروءة في الأصل. وفي (هـ 2) : المستبب، (ص) : المسبب، والمثبت تقديرٌ منا، على ضوء السياق.
(4) في (هـ 2) : من.(5/244)
ومن فصل بين العلمِ والجهلِ رأى السببَ مؤكداً في حالة الجهل، وقدَّره منقطعاً مع علم المشتري؛ حتى كأن رضاه بما رآه قاطعٌ لما سبقَ من السبب. فإن حكمنا بالانفساخ من غير تفصيل، فلا كلام.
وإن قلنا: لا ينفسخ العقد، فإن كان عالماً، لم يرجع بشيء، وإن كان جاهلاً، رجعَ بأرش العيب، فيقوَّمُ العبد مرتداً ومسلماً وتُضبط النسبة والجزئية، ويثبت الرجوع بذلك الجزء من الثمن، فمهما (1) كان الكلام في الرجوع بالأرش، اختلفَ الحكم بالعلمِ والجهل بلا خلاف، وإنما الخلافُ في الانفساخ؛ فإن من أصحابنا من حكم بالانفساخ مع العلم بحقيقة الحال.
وكان شيخي يحكي طريقين في شراء العبدِ المريض وقبضِه، وتمادي المرضِ إلى الموت في يد المشتري، فمن أصحابنا من ألحقَهُ بالردة والقتل بها.
ومنهم من قطع بأن الموتَ بالمرض من ضمان المشتري قولاً واحداً؛ فإن المرض يتزايد ويتجدَّد في يد المشتري، حتى يُفضي إلى الهلاك، والردةُ خصلةٌ واحدةٌ، وقد سبقت في يد البائع. ثم إذا قلنا: التلف من ضمان المشتري، فيرجع الكلام إلى الرجوع بالأرشِ، وذلك يختلف بالعلمِ والجهل كما تقدّمَ.
ويتفرع على ما ذكرناه أن من اشترى عبداً سارقاً، فقُطعت يدُه في يد المشتري، فهذا مستندٌ إلى سبب سابق، فإن اتبعنا وقوعَ السبب، جعلناه كما لو حصل القطعُ في يد البائع، فيُرعَى الأرشُ في عبدٍ أقطعَ وسليمٍ (2) . وإن اتبعنا وقوعَ المسبَّب، فقد يثبت عند الجهلِ الرجوعُ بالأرشِ، ولكنَّ سبيلَه ما نصفه، فنقول: عبدٌ متهيىءٌ
__________
(1) "مهما" بمعنى (إذا) .
(2) المراد أن الأرش هنا يعتبر أرْشَ القطع، أي النقص الذي حدث بسبب القطع، على حين في حالة اعتبار وقوع المسبب يكون الأرش عن النقص الواقع بسبب تهيؤ العبد للقطع، وليس بحصول القطع. وهو فرق دقيق في المعنى، يشهد بدقة الإدراك.
ولكن لنا أن نتساءل عن الفرق بين أرش القطع، وأرش التهيؤ للقطع، وهل هناك فرق واقعاً وفعلاً؟؟
إن الأقطع عرفت حقيقةُ حاله، ووضح أمره، أما المستحق القطع المتهيىء له، فسيقطع اليوم أو غداً، ولا يُدْرى كيف سيكون أثر القطع عليه. فلعلّ هذا هو الفرق.(5/245)
للقطع كم قيمته؟ وعبدٌ سليمٌ غيرُ متهيىءٍ للقطع كم قيمته؟ فنعتبر النسبةَ كذلكَ، ولا نعتبر وقوعَ القطعِ على هذا الوجهِ، لجريانه في يد المشتري.
فرع:
3158- لو اشترى جارية مزوَّجة بكراً، فافتضها الزوجُ في يد المشتري، فهذا ملحق بعيب حادثٍ في يَد المشتري مترتبٍ على سبب في الاستحقاق سابقٍ في يد البائع.
ولا يخفى التفريع بعد هذا التنبيه.
فصل
3159- قد رأينا أن نأتي في هذا الباب بفُصولِ العيب متوالية، ولا نلتزم ترتيب السواد (1) .
وهذا الفصل يجمع كلاماً في أعيان عيوب قد نحتاج فيها إلى فضلِ نظرٍ، وكلاماً على الفوْر ومعناه.
أما الأصلُ فيما يكون عيباً، فقد تمهّد على أحسن وجهٍ فيما سبقَ.
وغرضنا الآن ذكرُ مسائلَ: فالبول في الفراش عدّهُ الأصحاب من العيوب، ولا شك أنهم عنَوْا به إذا كان يتفق في غير أوانه المعتاد، فأما إذا كان المشتَرَى صغيراً لا يندُر بولُ مثله في الفِراش، فليس ذلك منه عيباً.
وعَد الأصحاب الصُّنانَ من العيوب. وفيه تفصيلٌ لا بدّ منه: فإن كان الذي يلحق العبدَ مما يعم مثله في حق الشبان إذا تحرّكوا وعرِقوا، فهذا لا يعد عيباً، ولو كان يطرأ ذلك من غير سبب، وكان لا يندفع إلا بعلاجٍ يخالفُ المعتادَ، فهذا تميّزَ عما عليه الناس، وقد يعد عيباً.
والبَخَر الأصلي ناشىء من أخلاطٍ متكرِّجةٍ (2) في خَمْل (3) المعدة وهو العيب.
__________
(1) السواد: يريد به مختصر المزني.
(2) كَرَج الشيء بفتحتين إذا فسد (معجم) .
(3) خَمْل: وزان فَلْس: الهُدْب. وخمل المعدة: ألياف كأهداب القطيفة تغطي سطحها الباطن (معجم) .(5/246)
وما يكون من قَلَح الأسنانِ، ويزيله الاعتناءُ بتنظيفِ الفَم فلا يُعدُّ عيباً.
والجاريةُ إذا احتبس حَيضُها، رُوجع في أمرها أهل الصناعة (1) ، فإن قالُوا الاحتباسُ في هذا السن نادرٌ، فهو فيما يقال عيبٌ، وفي البنية علةٌ حابسةٌ للفضلةِ التي تَمَس الحاجة إلى استرسالها، وإن لم يُبْعد أهلُ الخبرةِ احتباسَ الحيض في هذا السن، فلا يكون عيباً حينئذٍ.
ولو اشترى الرجل عبداً، فخرج كافراً، فالذي ذهب إليه عامة الأصحاب أن الكفر عيبٌ.
وذكر العراقيون وجهاً أنهُ ليس بعيب، واسم العبد لا يتعرض للإيمان ولا للكفر.
والقول في هذا يُفصّل عندي: فإن كان الغالبُ العبدُ المسلمُ في موضع العبدِ، وكان الكفرُ منقصاً للقيمة، فهو عيب. وإن لم يكن الإيمان غالباً في العبيد، بل كانوا منقسمين، وكان الكفر منقصاً للقيمة، فهذا فيه تردُّدٌ. وظاهرُ القياس أنه ليس عيباً، وظاهر النقلِ أنه عيبٌ؛ فإن الكفر بالإضافة إلى الإيمان مع اضطراب العادة كالجهل بالكتابة، بالإضافةِ إلى العلم بها. وإن لم يكن الكفر بنقصٍ، والعاداتُ مضطربةٌ، فالوجهُ القطع بأن الكفرَ لا يكون عيباً.
فإن قيل: إذا خرج العبدُ زنَّاءً، فهو معيبٌ عندنا، والكفر شرٌّ من الزنا، [فإن] (2) قيل: ضررُ الزنا يتعدى، ويُفضي إلى حَبطِ (3) الأمانة في الحُرَم، وليس الكفر كذلك، فينقدح أن يقال: العبد الكافر قد ثبت كفره في الصبيان، والسفهاء غيرِ ذوي الرأي، وهذا يوجب كونَ الكفرِ عيباً على الجُملة. قلنا: الأمرُ كذلك، ولكن في تقرير الضَّرر من الكفرِ بُعدٌ، وهو ظاهرٌ في الزنا.
ومما يتعلق بهذا أن الرجل إذا اشترى عبداً على أنه كافرٌ، فخرج مسلماً، نُظر: فإن كنا متاخمين لبلادِ الكفر، وكانوا يكثرون الوُلوجَ فينا، وقد يكون الكافرُ أكثرَ
__________
(1) المراد هنا أهل صناعة الطب، أي الأطباء.
(2) في الأصل، (هـ 2) : (وإن) .
(3) في (ص) : خبط. وحَبطَ من باب تعب: فسد وذهب، أي فساد الأمانة وضياعها (المعجم) .(5/247)
قيمةً، فإذا أَخْلفَ الشرطُ والحالة هكذا، ثبت الخيار.
وأبعد بعضُ أصحابِنا وقال: لا خيار. وهو مذهبُ أبي حنيفة (1) . وارتاعَ هؤلاء من تشغيبٍ في نسبتِنا إلى إيثارِ الكُفر، وهذا غيرُ سديدٍ؛ فإن الماليّةَ هي المرعيّة، وهي مأخوذةٌ من الرغبات في كثرتها وقلّتها، فالكافر يشتريه المسلمُ والكافرُ، والمسلمُ لا يمكَّنُ الكافرُ من شرائه. هذا إذا كان الكافرُ أكثرَ قيمةً.
وإن لم يكن الأمر كذلك فخُلْفُ الشرط فيه بمثابة خُلْفِ الشرط في الثيابَةِ والبكارة والجُعودة والسُبوطة، فإذا بان مسلماً والمشروط كونُه كافِراً، فهو كما لو شَرط أن يكون سَبِطَ الشعرِ، [فخرج جَعْدَ الشعرِ] (2) .
ولو اشترى داراً، ثم بان له أن الجندِيين ينزلونها، فهذا عَيبٌ.
ولو اشترى ضيعةً، فبان في خراجها ثِقَل، فهو عيب. وإن كنا لا نرى أصلَ الخراج، فإن المتبعَ فيه رأيُ الولاة.
والرجوعُ فيما يكونُ عيباً وما لا يكون عيباً إلى أهل الخبرة. والقيمُ تتفاوت بالرغبات.
هذا ما أردناه في هذا المقصود.
3160- المقصودُ الثاني من الفصل: بيان الفور.
وكنتُ على أن أؤخّر تفصيلَهُ إلى كتاب الشُّفعةِ، ولكن بَدا لي أن أُنجز ما تَمسُّ الحَاجةُّ إليه.
فنقول أولاً: نفوذ الفسخ لا يتوقفُ عندَنا على القضاء، ولا على الرِّضا، فلو انفردَ من له الرَّدّ، وقال رَدَدتُ المبيعَ، أو فسخت العقدَ، انفسخ عندنا.
فإذا لاح هذا قلنا بعده: إن تمكن من الفسخ بين يدي قاضٍ، فلا عُذرَ في التأخير، ولو أخر بطل حقه، ولو هَمَّ بالرفع إلى القاضي، (1 ولم يكن المردود عليه حاضراً، ولم يتمكن من الإشهاد، فليسَ من الوفاءِ بالفور أن يقول في نفسه، فسخت
_________
(1) ر. رؤوس المسائل: 286 مسألة 173، فتح القدير: 6/8.
(2) ساقط من الأصل.(5/248)
العقد، بل لو لم يقله، وابتدر إلى القاضي 1) ، فهوَ مشتغلٌ بالأمر على أحزم الوجوه، لا يعدُّ في العرفِ مقصراً، ولا يلزمه أن ينطق بالفسخ؛ فإنه لو نطقَ به لم يُصدَّق فيه، فلا معنى له.
وإن كان المردود عليه حاضراً، فابتدر مجلسَ القضاء وترك الرد عليه، ظاهرُ المذهب أنه يَبطل حقُّه؛ إذ الناس يعدّونه مقصّراً.
ولو لم يجد المردودَ عليه، وأمكنه أن يتلفظ بالرد، ويُشهدَ، فأبى إلا الارتفاعَ إلى مجلس القضاءِ، ففي المسألةِ وجهان، سنذكر نظيرَهما في الشفعَة.
والانتفاعُ بعد العثور على العيب والاطلاعِ، يُبطل حقَّ الردّ، فإذا علم [عَيْبَ] (2) غلامٍ، فاستخدمه ولو في لحظةٍ، بطل حقه، حتى لو استخدمه في مدَّةِ ارتفاعه إلى مجلس القضاء، قضينا ببطلان حقّه.
وهاهنا نبيّن أثرَ الاستخدام، ولا ينبغي أن نفرضَ الاستخدامَ في زمانٍ لو سكتَ فيه، بطل حقُّه.
والقول في ركوب الدابةِ كالقول في الاستخدام، إلا أن يكون الركوب ضرورياً في الردّ، بأن كان يعسر قَوْد الدابَّة وسوقها، فإذ ذاك يُحمل الركوبُ على الردّ. قال صاحب التلخيص: لو ركب الدابّةَ [منتفعاً] (3) ، ثم اطلع على عيب بها، فإن استدام الركوبَ، بطلَ حقُّه؛ فإن استدامتَه كابتدائه، وإن نزل كما (4) اطَّلعَ واشتغل بالبدار، فحقُّه ثابت، وإن وضع على الدابةِ سَرْجاً أو إكافاً، وعلّق عليها لجاماً أو عِذاراً، ثم اطّلع على عيبٍ، فإن وضعَ الإكافَ والسرجَ من فورهِ، لم يبطل حقُّهُ، وإن استدام الإكافَ والسرجَ زماناً، كان كما لو استدام الركوبَ، ولا يضر استدامةُ العِذارِ واللجامِ؛ فإنه لا ثقل منهما، ولا يُعدُّ معلِّقهما [منتفعاً] (5) بالدابة.
__________
(1) ساقط من (هـ 2) ما بين القوسين.
(2) في الأصل: بيع.
(3) في الأصل، (ص) : مشفعاً. والمثبت من (هـ 2) .
(4) كما: بمعنى (عندما) ، كعهدنا بها في أسلوب إمام الحرمين.
(5) في الأصل: مشفعاً.(5/249)
والأصل الرجوعُ إلى العادة في الباب، فإن ظهرت، فالوفاق في النفي والإثبات، وإن اضطربت بعضَ الاضطراب ثار خلافُ الأصحاب.
فصل
قالَ: " ولو اختلفا في العَيبِ ومثلهُ يحدث ... إلى آخره " (1) .
3161- إذا ظهرَ عيبٌ بالمبيع في يد المشتري، فاختلف البائع والمشتري في قدمهِ وحُدوثه، فادّعَى المشتري قِدَمَه [وتلقِّيه] (2) منه، ووجودَه في يد البائع. وقال البائع: إنه حدث في يدك، فإن كانت المشاهدةُ تُكذب أحدَهما كذَّبناه، ولا يكاد يخفى تَصويرُ ذلك.
فإن كانت الجراحةُ طريَّة، والتسليمُ من سنين، فالمشتري مكذَّب في دعوى القدم، وإن كانت الجراحة مندملة، والتسليم من أيام معدودَة، فالبائع مكذَّب في دعوى الحُدوث.
وإن احتُمل الأمران، فالقول قول البائع في نفي العَيب (3) ، في يده؛ فإنّ الأصل الغالبَ السلامةُ، والأصل بقاءُ العقد على اللزوم، والمشتري في دعوى العيب يدعي ثابتاً يخالف الاعتياد، ويبغي رفعَ لزوم العقد، فالوجهُ الرجوعُ إلى قول البائع، ولكن لا بُدَّ من يمينه؛ لتطرُّقِ الاحتمال إلى الحال، ثم لا يُقنَع من البائع إلا بيمين جازمة ينفي بها العيب، ويقول: بالله لقد بعتُه وسلمتُه، وما به عيبٌ.
3162- وقال ابنُ أبي ليلى (4) : إنه يحلف على نفي العلم؛ (5 فإنّ جزمَ اليمين في نفي العيوب مجازفةٌ، وسنذكرُ في أقسام اليمين أن ما يتضمَّنُ منها نفيَ فعلِ الغير، فهو على نفي العلمِ 5) ، والعيوب قد تكون بهذه المثابة.
__________
(1) ر. المختصر: 2/190.
(2) في الأصل، (ص) : ويكفيه.
(3) في (ص) : الحدوث.
(4) ابن أبي ليلى: محمد بن عبد الرحمن ت 148 هـ.
(5) ما بين القوسين ساقط من (ص) .(5/250)
وهذا الذي ذكره، وإن كان فيه وجهٌ من التخييل، فهو بعيدٌ عن فقه الفصلِ؛ فإن غرض المشتري ليس يتعلّق بعلم البائع وجهلهِ؛ فإنَ حقهُ من الرد يتعلق بالعيب إن كان، وينتفي بانتفائهِ، فلا بد من التعرض لنفي موجِب الخيار؛ فإنه لو حلف على نفي العلم، اتجه للمشتري ادّعاءُ الخيار مع الاعتراف بانتفاء علمه.
فإن قيل: فكيف تتجه اليمين؟ وما الوجه فيه؟ قُلنا: إن كان [خَبَرَ] (1) البائعُ العبدَ، فقد يطلع على خفاء أمره، ويجوز اعتمادُ مثلِ هذا في اليمين، بل يجوز إقامةُ الشهادةِ على الإعسار، وأن لا وارثَ غيرُ الحاضرين، وعلى عدالةِ الشهودِ، وانتفاءِ ما يقدحُ فيهم بمثل هذا.
وإن لم يكن خَبَرَ البائعُ العبدَ، واستوى في نظره كونُ العيبِ وعدمُه، فلا يخفى وجه الاحتياط، وطريق التورُّع.
وإن سُئلنا عن جوازِ الحلفِ، فنصُّ الشافعي مصرّحٌ بجواز الحَلفِ ونَصُّه في مسألة العبد المشرقي، والسيد المغربي معروف؛ فإنه قال: لو اشترى مغربيٌّ رُبِّيَ بالمغرب، وهو ابنُ ثلاثين سنة عبداً مشرقياً، ابنَ خمسين سنةً، ثم باعه من يومهِ، ثم فرض (2) نزاعٌ في قدم عيبٍ وحَدَثِه (3) . قال الشافعي: يحلف المغربي بالله لقد بعتُه، وما به عَيب. فإن قيلَ كيف ينساغُ هذا؟ قلنا: لا وجه له إلا البناءُ على ظاهرِ السلامة، وعلى هذا بُني أصلُ الخيارِ، وإلا فحكمُ قولِ القائل بعتُكَ هذا العبدَ يُنزل (4) العبد على صفَاتِه سليماً كان أو معيباً، ولكن أقام الشرع لظنّ السلامة حكماً، فإذا تعلق أصل الخيار بظنِّ السلامة [ابتنى] (5) جوازُ الحلف على ظن السلامة.
ثم قال الشافعي: يحلفُ البائع: بالئه لقد بعته (6) وما به عيب، (1 فاعترض المزني
__________
(1) في الأصل: خيّر.
(2) في (ص) : عرض.
(3) في (هـ 2) ، (ص) : حدوثه. والمثبت هو ما عليه لغة إمام الحرمين.
(4) في (هـ 2) ، (ص) : تنزيل العبدِ.
(5) في الأصل: ما ابتنى.
(6) في (هـ 2) ، (ص) : بعته وأقبضته. (وهو مخالف للسياق) .(5/251)
وقال: لا تنقطع الخصومةُ بهذه اليمين، فقد يحدث العيب بعد البيع وقبل القبض، ولو كان كذلك، لثبت الخيارُ للمشتري، فليحلف بالله لقد بعته وأقبضتُه وما به عيب 1) .
قلنا: لا شك أن البائع لا يخرج عن عهدة الرد باليمين التي ذكرها الشافعي، ولكن لعلّه صوَّر دعوى المشتري في اقتران العيب بالبيع، وإذا قصَر المشتري دعواه على ذلك، فاليمين تكون على حسب الدعوى، في حكم المضادَّة.
3163- وقرّر الأئمةُ في هذا الفصل أصلاً في صيغ الدعوى والإنكار واليمين، وذلك أنهم قالوا: لا يشترط أن يكون الإنكارُ على مضادّة الدعوى لفظاً ومعنى، بل يكفي مضادّةُ المعنى. هكذا قال الأصحاب.
وهذا اللفظ فيه اختلالٌ. والوجه أن يقال: يكفي أن يكون الإنكار مضاداً لمقصود المدَّعي.
وبيانُ ذلك أن من ادعى ألفاً على رجلٍ من جهة قرضٍ، فيكفي في الإنكار أن يقول المدعَى عليه: لا يلزمني تسليم ما تدّعيه إليك. فهذا يضادُّ مقصودَه. وفيه غرضٌ ظاهرٌ عظيمُ الوقعِ للمنكرين، فقد يكون الإقراضُ جارياً، ولكن برئت ذمَّةُ المقترض بسبب، ولو اعترفَ بالأصلِ وادّعى طريَانَ ذلك السببِ، فيقف موقف المدَّعين، والقول قولُ صاحبِهِ فربما يجترىء ويحلف. وإذا قال: لا يلزمُني: تردّدَ هذا بين نفي الاقتراض، وبين ثبوت البراءة بعد جَريان الاقتراض، فاكتفى الشرعُ بلفظٍ يتضمنُ دفعَ مقصودِ المدعي، ويشمل الغرضَ الذي نبَّهنا عليه، ومضادَّةُ الدعوى في معناها أو مقصُودِها، وسرُّ هذا يأتي في كتاب الدعاوى، إن شاء الله عز وجلّ.
ثم اليمين تقعُ على حسب الإنكارِ. ولو وقع الإنكارُ على مضادَّة صيغَةِ الدعوى لفظاً ومعنى، فقال (2 المدعي: أقرضتُك. وقال 2) المدعَى عليه: ما أقرضتني، فلما انتهى الأمرُ إلى اليمين، أراد ردَّ اليمين إلى المقصودِ، وأن يحلف بالله:
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (هـ 2) .
(2) ما بين القوسين ساقط من (ص) .(5/252)
" لا يلزمُني تسليمُ ما تدعيهِ إليك ". [فَهَلْ] (1) يُقبل ذلك منه، أم يكلفُ أن يأتي باليمين على حسب الإنكار الذي صدر منه؟ فعلَى وجهين مشهورين.
ولو اكتفى في الإنكار بمضادّةِ مقصودِ الدعوى، ثم أتى باليمين على صيغةِ مضادَّة الدعوى لفظاً ومعنى، قُبلت منه اليمين؛ فإنها اشتملت على مقصود الإنكار، وزادت تصريحاً وقطعاً للإيهام.
ولو قال المدعي: أقرضتُكَ ألفاً، وعليك ردُّه، فاعترف المدعَى عليهِ بالاقتراض، ثم قالَ: أحلف: " لا يلزمني تسليم شيءٍ إليك "، لم يُقبل ذلك منه؛ فإنه اعترفَ بالأصل، ووقف موقفَ المُدّعين فيما يُسقط القرضَ، ولا تُقبل اليمين من المدَّعِي. ولو قال: أرجعُ الآن إلى إبهام الإنكار، لم يقبل منه؛ فإن ذلك [يُقبلُ] (2) من وجه تردده، وإذا اعترف بالأصل، زال التردُّدُ، وانحصر مجملُ الإنكار في ادعاء مسقط القرض. وهذا مقام المدعين.
3164- وإذا تمهَّد هذا، عدنا إلى كلام المزني فنقول: لعل الشافعي فرضَ فيه إذا ادّعى المشتري اقترانَ العيب بالبيع، ولم يدعِ غَيرَه، فإذا أنكر البائعُ دعواه، كفاه ذلك؛ فإن الإنكارَ قد يقصُرُ عن معنى الدعوى، فيكتفي به، كما قدّمنَاه. فكيف يُشترَط أن يزيدَ على معنى الدعوى؟
ولو قبض عوضاً كان موصوفاً في الذمةِ، ثم تنازع القابضُ والمقبضُ في عيبٍ بالمقبوض يُحتَملُ تقدُّمُه، ويحتمل حدوثُه، فقد اختلف أصحابُنا فيه، َ على ما حكاه صاحبُ التقريب.
فمنهم من قال: القول قول المُقبِض النافي لتقدُّمِ العيب، كما لو كان التنازع في عيبِ عينٍ متعيَّنةٍ في العقد.
ومنهم من قال: القولُ قولُ القَابضِ؛ فإن الأصلَ اشتغالُ ذمّةِ المقبضِ بما عليه، وهو يَدّعي براءةَ نفسهِ.
__________
(1) في الأصل: فلا.
(2) في الأصل: مقبل.(5/253)
وهذا الاختلافُ يقربُ من تقابل الأصلين، ويعتضد الوجهُ الأخير، بأنَّ ردّ المقبوض ليس يتضمن فسخَ العقد، حتى نقولَ: الأصلُ استدامةُ لزومهِ، وليس في تصديق القابض إلا الاستبدالُ.
ومما يتعلق بهذا الفصلِ أن المتبايعين إذا تنازعا في قدم العيب وحدوثه، وجعلنا القولَ قولَ البائعِ مع يمينه، فمقتضى اليمينِ حدوثُ العيب، ولكن البائع مصدَّقٌ في نفي قِدمهِ، لا في حقيقةِ حدوثهِ.
ويظهرُ أثرُ هذا في مسألةٍ، وهي أن المتبايعين بعد جريان ما وصفناه، لو تنازعا في مقدار الثمن مثلاً، وتحالفا وتفاسخا، فإذا ارتدَّ المبيع إلى البائع، قال: غرّموه أرشَ العيب؛ فإني أَثبتُّ حدوثَه، لم نُجبه إلى ذلك؛ فإنا صدقناه (1) محافظةً على استدامةِ لزومِ العقد، ودفعاً لما يطرأ عليه بالقطع. فالآن إذا انتهى الأمر إلى تغريم المشتري شيئاً بيمين غيرِه، والأصلُ براءةُ ذمته، فلا سبيل إلى التزامِ هذا.
3165- ومن نظائر ذلك أن الوكيل بالبيع واستيفاءِ الثمن إذا قالَ: قد استوفيتُ الثمنَ، وسلمتُه إلى الموكِّل، قُبِل قولُه مع يمينهِ؛ لأنه مؤتمن من جهةِ موكِّله. فلو استُحِق المبيعُ في يَدِ المشتري، واقتضى الحالُ الرجوعَ بالثمن، فلا نرجع على الموكِّل؛ فإنه أنكر قبضَ الثمن، وكُنَّا صدقنا الوكيلَ حتى لا نغرِّمَه [شيئاً وهو مؤتمن، فأما أن نغرمه] (2) حتى تُشغلَ ذمة الأصلُ براءتها، فلا سبيل إلى ذلك.
وإذا تولَّجت مسألة من كتابٍ في كتابٍ، فهي غريبة، ولا وفاءَ باستقصائها إلا في كتابها.
ونقل الأئمة عن الشافعيِ مسألةً في الاختلاف تدنو من الأصل الذي ذكرناه، وهي أن من اشترى عبداً وبه وَضحٌ (3) ، ثم حدث بياضٌ آخر، ثم زال أحدُهما، فقال البائع: الزائل البياضُ القديم، فلا ردَّ لك، وقال المشتري: الزائل البياضُ الحادث
__________
(1) في (ص) : صدقناه أولاً. وفي الأصل: ولا محافظة.
(2) ساقط من الأصل.
(3) الوضح: بياض البرص. (معجم) .(5/254)
الذي كان يمتنع بسببه الردُّ بالبياض القديم، والآن قد زال الحادث المانع، فقولاهما متعارضان لا يترجحُ أحدُهما على الثاني - ولكنَّ القولَ قولُ من يدعي استمرارَ لزوم العقد؛ فإنه الأصل، وليس كما إذا تحالف المتبايعانِ في مقدار الثمن والمثمن؛ فإنهما يتحالفان؛ لأنهما تناكرا جهةَ لزومِ العقد، وليس أحدُهما أولى من الثاني.
ثم قال الشافعي: فيحلف البائعُ ويغرَم للمشتري أرشَ أقلِّ البياضيْن إذا وقع التناكرُ في الأقلّ من القديم والحادث، وكانا مختلفين في المقدار.
والأمر على ما قال؛ فإنا بنينا الأمر على استصحاب اللزوم، وعلى براءةٍ في الأرش المبذول.
فصل
3166- قد مضت مسائلُ الرد على مساقٍ شافٍ، ونَحنُ نذكرُ في هذا الفصل حقيقةَ الرد، وانشعابَ المذاهب فيهِ، وهو يشتمل على مسائلَ في الزوائد أَخَّرتُها لمّا رأيتُها مستندة إلى حقيقةِ القول في الردّ. فأقول:
الردّ بعد قبض المبيع قطعٌ للعقد من وقتِه، ولا يستند ارتفاعُ العقد إلى ما تقدَّم.
هذا مذهبُ الشافعي، وعليه بَنَينا المذهَب في إبقاء الزوائد المنفصلةِ المتجددةِ بعد العقد على المشتري إذا [هو] (1) ردَّ الأصلَ، فلا الزوائدُ تمنعُ من الفسخ بالعيب القديم، ولا هي ترتدُّ إلى البائع عند ارتدادِ الأصلِ إليه. وهذا إذا جرى الفسخُ بعد قبض المبيع.
ثم لا فصل فيما مهدناه في الزوائدِ بين ما حدث من الزوائد بعد قبض المبيع، وبين ما حدثَ قبل القبض وبعد العقدِ؛ فإنّ الملكَ إذا استقرَّ في الأصلِ بالقبضِ، استقرَّ الملكُ في الزوائدِ ثم يختص الأصل بالارتداد.
والذي يعترض في هذا الفصل ما كان موجوداً حالةَ العقد، وكان حكمه أن يتبعَ الأصل [هل] (2) يجبُ التَّعرُّضُ له أو لا؟
__________
(1) مزيدة من (هـ 2) ، (ص) .
(2) في الأصل: يتبع هذا الأصل يجب، (هـ 2) : يتبع الأصل. هذا يجب. والمثبت عبارة (ص) .(5/255)
فإذا اشترى رجل جاريةً، وكانت حاملاً، فقد اختلف القولُ في أن الحمل هل يُقابلُه قسط من الثمن؟ [فعلى قولين:] (1) أحدهما - أنهُ يقابله قسط؛ فإنه مقصود في جنسهِ، وقد كفانا الشرعُ أمراً كُنّا لا نَستقلُّ به، وهو إدخالُه في البيع مع أنهُ لا يُقدَر على تسليمه.
والقول الثاني - لا يقابله قسطٌ؛ [إذ لا يمكن إفراده بالبيع] (2) وإنما ينتظم التقسيط عند تجويز الإفراد.
التفريع على القولين:
3167- إن قلنا: يقابله قسطٌ، فهو مبيع (3) وحكمُه [فيما] (4) نحن فيه، أن يردَّ إذا رُدّت الأم، و [من] (5) حكمه أن يُحبَسَ مع الأم، في مقابلةِ الثمن، إذا انفصل، ويبقَى العقدُ عليه إذا بقي، وإن تلفت الأم على أحد قولي التفريق. وهو بعد الانفصال بمثابةِ مملوكٍ مضموم إلى مملوكٍ.
وإن قلنا: الحمل لا يقابله قسطٌ من الثمنِ، فهو في حكم البيع كالمعدوم، فإذا ولدته أُمُّه، نجعله كزيادَةٍ متجدِّدةٍ بعد البيع. وقد مضى القول في الزياداتِ، وسيأتي باقي بيانها، إن شاء الله تعالى.
وإذا باع شجرةً عليها طلعٌ غيرُ مؤبَّرٍ، فمن أئمتنا من خرَّج مقابلةَ الطلع بقسط من الثمن على القولين المقدمَيْن في الحمل. والجامعُ أنهما جميعاً دخلا تحت العقد بمطلق تسميةِ الأرض. وقد شبَّه الشافعي الطلعَ في كِمامه بالحَمْل في أحشاء البطن.
ومن أئمتنا من قطع بأن الطلعَ يقابله قسطٌ من الثمن. وهذا التردد يبتني عندنا على الاختلاف في [الثمر] (6) قبل التأبير، هل يجوز إفرادُه بالبيع؟ وقد مضى فيهِ قولٌ بالغ.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق، ومن العجيب أن تتفق النسخ الثلاث في هذا السقط.
(2) ساقط من الأصل، ومكانه: " فهو مبيع ".
(3) في (هـ 2) ممتنع.
(4) في الأصل: " ما ". والمثبت من (هـ 2) ، (ص) .
(5) ساقطة من الأصل.
(6) في الأصل، (ص) : " الثمن " والمثبت من (هـ 2) .(5/256)
فهذا مما اعترض في نظمِ كلامنا في الزوائد.
3168- ومما يعترض أيضاًً، وبه تمام هذا الغرض: أن من اشترى جاريةً، فعَلِقت بمولودٍ، وأرادَ ردّها، ولم يعبْها الحملُ الطارىء في يدِ المشترِي، أو كان طرأ في يد البائع، فإذا أراد الردَّ، فهل يتبعُ الحملُ الأصلَ حتى يرتد إلى البائع؛ كما يتبعُ الحملُ الأصلَ في الدخول تحت استحقاق المشتري؟ على قولين. وكذلك القولان في الطلع الذي لم يُؤبّر، إذا كان كذلكَ يومَ الرَّد، وقد تجدد بعد العقدِ، ففي ارتداده إلى البائع القولان.
وهما يجريان في صُوَرٍ؛ منها:
إذا أفلس المشتري بالثمن، والجاريةُ المبيعةُ حامل في يده بحَمْلٍ متجدّدٍ، فإذا رجع البائعُ فيها، فهل يرجعُ في حَملها؟ فعلى قولين.
وكذلك إذا علقت الدابّةُ المرهونةُ بحَمْلٍ بعد الرهن، ثم احتجنا إلى بيعها في الديْن وهي حامل، فهل نقضي بتعلّق حق المرتهن بالحمل؟ فعلى قولين.
وإذا وهب الرجل من ابنه جاريةً، وافتضها وعلقت بمولودٍ رقيقٍ، فرجع الأبُ في الهبة، فهل ينقلب الحمل إليه ملكاً؟ فعلى قولين.
ولا فرق في هذه المواقف بين الطلع الذي لم يُؤبر وبين الحملِ.
3169- وضابط الباب: أن الحمل والطلع المستتر يتبعان الأصلَ في الأعواضِ الثابتة في العقودِ الاختياريّة، سواء [ثبتَ] (1) الأصلان مبيعاً أو ثمناً، أو صداقاً أو أجرةً، أو بدلاً في خُلعٍ أو صلح. وإذا [أُثبتا] (2) في عقد الهبةِ، فالمنصوصُ في الجديد أنهما لا يستتبعان الحملَ والطلعَ، ونَصَّ في القديم على أن الهبةَ كالبيع في اقتضاء الاستتباع. وإذا كانت الأصول ترتد بطرقٍ قهريّةٍ، كالردِّ والرجوعِ في الهبةِ، ورجوعِ البائع إلى المبيع عند إفلاس المشتري، والبيع المحتوم في حق المرتهن، فهل تستتبعُ الأصولُ الطلعَ والحملَ؟ فعلى قولين. والفرق بين الابتداءِ المعلّقِ بالاختيارِ،
__________
(1) في الأصل، (ص) : أثبت.
(2) في النسخ الثلاث (أثبتنا) . وما قيدناه تصرف منا رعاية للسياق.(5/257)
وبين ما يجري قهراً أنّ عُقودَ الاختيارِ تستدير بُعْد (1) المبيع عن العُسر، ولو نفذنا (2) البيعَ على الجاريةِ والشجر، دون الحمل والثَمرةِ، [لجرَّ] (3) ذلك عُسراً في الأصلين، فاقتضى الشرع إتْبَاعَ الحمل والطلع الأصلَيْن.
وما يجري من الارتداد قهراً ليس في حكم العقود، فجرى الأمرُ في التبعيّةِ على التردُّدِ، ولما كانت الهبةُ دون البيع في التعبداتِ فرّق الشافعي في الجديد بينهما في مقتضى الإقباض.
فهذا تفصيل القول في الزوائد والردّ بعد قبض المبيع.
3170- فأما إذا رَدّ المشتري المبيعَ قبل القبض، بعيبٍ كان مقترناً بالعقد، أو تجدد في يد البائع، فالزوائد التي تجددت بعد العقد لمن تكون؟ في المسألة وجهان مبنيان على حقيقةِ القول في اقتضاء الفسخ قبل القبض (4 وفيه وجهان: أحدُهما - أن الفسخ قبل القبض 4) كالفسخ بعده، في أنه يتضمن قطعَ العقد في الحال، ولا يتضمن الاستناد إلى ما تقدّمَ.
والثاني - أن الفسخ يتضمَّن ارتفاعَ العقدِ من أصله تبيُّناً، حتى كأن لم يكن العقد.
فإن قلنا: الفسخُ قطعٌ لا يتضمن استناداً، فالزوائد المتجددة بعد العقد متروكةٌ على المشتري، كما تُترك عليه إذا جرى الفسخُ بعد القبضِ.
وإن قلنا: الفسخُ قبل القبض يتضمن الاستنادَ، فترتدُّ الزوائدُ إلى البائع.
وهذا الاختلاف هو الذي قدّمناه فيه إذا تلف المبيعُ قبل القبض، وانفسخ العَقد، فقد ذكرنا الخلافَ في الزوائد المتجدّدةِ بعد العقدِ، إذا كان الانفساخ بتلفِ المبيع قبل القبض.
__________
(1) (ص) : بيع.
(2) (ص) : نزلنا.
(3) في الأصل: تجرّد، ومطموسة من (هـ 2) .
(4) ما بين القوسين سقط من (ص) .(5/258)
3171- ومما ذكرهُ بعضُ الأصحاب أن الزوائدَ المتجددةَ بعد العقد هل يحبسها البائعُ حَبْسَ المبيع؟ فعلى وجهين: وهذا فيه فضلُ نظر. أما الحملُ الذي كان موجوداً حالة العقد فحبْسُه محمولٌ على اختلافِ القَولِ في أن الحملَ هل يقابله قسط من الثمن، كما مضى؟
وأما الحبس في الزوائد المتجدّدةِ بعد العقد، فليس على حُكمِ حبسِ المبيع بالثمن، ولكن إنما ينقدح الاختلافُ فيه من قِبَل تعرضِ العقدِ للانفساخ، ثم إذا فرض، فالمذهب متردّد في أن الزوائدَ لمن؟
فالذي ذكره بعضُ الأصحابِ في منع الزوائدِ من المشتري محمولٌ على هذا الأصل، لا على تقدير الحبس في مقابلةِ الثمن.
وهذا القياس يتضمن طردَ الخلاف في الأكساب، وإن لم تكن من عيْن المبيع؛ لما نبهنا عليه.
فليفهم الناظر ذلك.
فهذا بيان المذهبِ في حقيقة الرد بعدَ القبض وقبله، وكيفية ابتناء أمرِ الزوائد على أصل المذهب في حقيقة الرد.
وأما أبو حنيفة (1) فإنه جعل الفسخَ قبل القبض رفعاً للعَقدِ من أصله، ورَدَّ الزوائدَ مع الأصل، وأراد طردَ ذلك بعدَ القبض، وقال: [الرّدُّ] (2) بعدَ القبض رفع للعقدِ من أصله، ثم ترَدّد في الزوائد، فلم يسمح بردّ الزوائد، ولم يرَ إسقاطَ اعتبارها، فقال: الزوائدُ تمنع الردَّ بعد القبض.
فهذا منتهى القولِ في ذلك.
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 80، بدائع الصنائع: 5/257، 285، تبيين الحقائق: 4/70، إيثار الإنصاف: 299.
(2) في الأصل: أراد.(5/259)
فصل
3172- إذا اشترى رجلٌ عبدَيْن وقبضهما، فتلف أحدهما بعد القبض، ووجد المشتري بالثاني عيباً، وأراد ردَّه بالعيب إفراداً من غير أن يضم إليه قيمةَ التالف، وجوزنا ذلك في تفريق الصفقة، كما سيأتي إن شاء اللهُ عز وجل. فالوجه أن يُقوَّم التالفُ والقائمُ المردودُ، وننسب إحدى القيمتين إلى الثانية، ثم نقول: إذا رَدَّ (1) العبدَ القائمَ استردّ من الثمن مثلَ نسبة قيمةِ القائم من التالف، فإن كان قيمةُ التالف ألفين وقيمةُ القائم ألفاً، استرد ثلثَ الثمن. وعلى هذا البابُ وقياسُه.
ومقصدنا أن القيمةَ في التالف بأيّ (2) يوم تعتبرُ؟ ذكر صاحب التقريب قولين عن الشافعي:
أحدهما - أنا ننظر إلى قيمة يومِ البيع؛ فإن التوزيع بيان تقسيط الثمن على المثمن، وهذا يحصل يومَ العقد؛ فإن كل جملةٍ توزعت على جملةٍ، قابلت أجزاؤها أجزاءها.
والقول الثاني - أنا نعتبر حالةَ قبضِ المشتري؛ فإن المبيع إنما يدخل في ضمانهِ ساعةَ قبضه، حتى كأنه مبتدأُ العقدِ. وهذا يلتفت عندنا على ما قدَّمناه من أن الفسخ قبلَ القبض يُعدِم العقدَ تبيُّناً أم كيف السبيل فيه؟ ولكن هذا تقديرٌ بعد القبض، فيوجه هذا القول بأن المبيع يدخل في ضمانه بقبضه، فإنما يحسب عليه الأمر من يوم قبضه؛ فإن الردَّ والاسترداد من أحكامه.
وذكر صاحب التقريب قولاً ثالثاً مخرَّجاً، وهو أنا نعتبر أقلَّ القيمتين في التالف من يوم البيع والقبض، فإن كانت قيمةُ التالف يوم البيع أقل، فبها العَبْرُ (3) ؛ فإن التوزيع وقع يومئذٍ. وإن كانت قيمتُه يوم القبض أقلَّ، فالاعتبار به؛ فإنه يومئذٍ دخل في
__________
(1) في الأصل: إذا أراد.
(2) في الأصل: تأتي.
(3) العَبْر: التقدير، من عَبَر المتاعَ والشيء نظر كم وزنه. (المعجم) . وفي (هـ 2) ، (ص) : العبرة.(5/260)
ضمانهِ، فإن كانت من زيادة قبل ذلك، فلا اعتبار بها.
ثم طرد الأئمةُ ما ذكرناه من التردّدِ في الوقت المعتبَر في القيمة في الرجوع بأرشِ العيب القديم عند مسيس الحاجَةِ إليه، فإن كان العيبُ القديم يومَ البيع مُنْقصاً ثلث القيمةِ، وكان يوم القبض مُنقصاً ربعَها، ففي المسألة أقوال: أحدها - الاعتبار بيوم العقد. والثاني - الاعتبارُ بيوم القبض. والثالث - أنا نراعي ما هو الأضرُّ بالبائع في الحالتين؛ فإن الأصلَ عدمُ استقرار الثمن، والعبارة عن هذا: أنَّا نَعتبرُ أكثر النقصانين من يوم العقدِ والقبض.
فهذا بيان المراد في القيمة المعتبَرةِ في أرش العيب. وسنعود إليها ببيانٍ شافٍ، في تفريق الصفقة، إن شاء اللهُ عز وجل.
فصل
قال المزني: سمعت الشافعيَّ يقولُ: " كل ما اشتريتَ مما يكون مأكولُه في جوفه ... إلى آخره " (1) .
3173- إذا اشترى الرجل جَوْزاً، فكسره، فوجده فاسدَ الجوف، أو اشترى بطيخاً، أو رماناً، فتبيّنَ ما ذكرناه، فسبيل التفصيل فيه أنه إن زاد في الكسرِ والقَطعِ على المقدار الذي يُطَّلَعُ به على فسادِ الجوفِ، فهذا الذي [أحدثه] (2) في حكم عيبٍ حادثٍ في يد المشتري. وقد سبق القولُ في أن العيبَ الحادثَ مع الاطلاع على العيب القديم، هل يمنع الردَّ بالعيب القديم.
فأما إذا اقتصر على القدر الذي يَطلعُ به على فساد الجَوفِ -وذلك يختلف باختلافِ وجهِ الفساد- فإن كان الفساد في الطعم، بأن كان البطيخ حامضَ الجَوف، أو مُرَّه فتقوير البطيخ للاطلاع على الطعم زيادةٌ على قدر الحاجة، إذ يكفي في ذلكَ غرزُ مِسلَّةٍ وذوقُ ما يعلق بها. وإن كان الفساد من تدوّد البطيخ، فقد لا يطلع عليه إلا بالتقوير.
__________
(1) ر. المختصر: 2/192.
(2) في الأصل: ذكره.(5/261)
3174- فإذا حصل التنبيهُ لهذا، عُدنا إلى مقصود المسألة، قائلين: إذا وقع الاقتصارُ على قدر الحاجة، ثم أراد المشتري الردَّ بالعيب القديم، فكيف السبيل فيه؟
المسألة لها صورتان وراء ما ذكرناه: إحداهُما - أن يكون للمبيع مع الفساد الذي بان قيمةٌ. والأخرى - ألا يكون للمبيع مع ذلك الفساد قيمةٌ.
فإذا كان للمبيع قيمة بأن قيل: هذا صحيحاً [بكذا، وهو] (1) مع الفساد بكذا، فهل يملكُ المشتري الردَّ؟ فعلى قولين: أحدهُما - لا يملكه؛ لمكان العيب الذي حدث في يده فيهِ؛ اعتباراً بالعيوب الحادثةِ في يد المشتري، لا من جهة الاطلاع على وجه الفسادِ.
والقول الثاني - يملك المشتري الردَّ؛ فإن التغيير الذي صدرَ منه كان طريقاً إلى الاطلاع على العيب، فلا يصير مانعاً من الردّ بالعيب.
التفريع على القولين:
3175- إن حكمنا بأن العيبَ الحادث بالكسر كالعيوب الحادثة لا بالجهات التي يطلع بها على العيب، فالقول في العيب الحادث والقديم كما تفصَّل فيما مضى.
وإن قلنا: العيبُ الحاصل بجهة الاطلاع لا يمنع حق الرد، فهل يغرَم المشتري أرشَ العيب الحادث بسبب كسره وتغييره ليضمه إلى المبيع، ويستردّ الثمنَ؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يغرَمُ الأرشَ، فعَلى هذا لا فرق بين ما انتهينا إليهِ، وبين عيبٍ حادثٍ لا عن جهة الاطلاع، إذا فرعنا على أن المشتري يملكُ ضمَّ الأرش إلى المبيع واسترداد الثمن، وإن قلنا: لا يملك ذلك في العيب الحادث إلا في جهة الاطلاع، فعَلى هذا الوجه يتميز العيب في جهة الاطلاع عن غيره في التفريع على هذَا القول.
ومن أصحابنا من قال: يرد المشتري المكسورَ من غير أرشٍ في مقابلةِ الكسر، ويسترد الثمنَ بكماله، وكأن المشتري معذور فيما يُوصِّله إلى الاطلاع من غير تعرُّضٍ للضمان.
__________
(1) زيادة من المحقق لا يستقيمُ الكلامُ دونها.(5/262)
3176- ومما يجب التنبُّه له ولا تتحقق الإحاطة بالمسألة دونه أن المسألة التي نحن فيها لا تتميّز أصلاً عن تفصيل القول في العيوب الحادثةِ إلا على قولنا: إن المشتري يرد المغيَّر المكسورَ من غير أَرْش، فإن لم نسلك هذا المسلكَ، فلا فرقَ؛ فإنا إذا ذكرنا في الكسر خلافاً في المنع من الرد وضَمِّ أرش الحادث من العيب، فقد ذكرنا مثلَه في كل عيبٍ حادثٍ، فلا تنفصل هذه المسألةُ عن غيرها إلا إذا جوَّزنا الردَّ من غير غُرم أرشٍ في مقابلة عيبِ الكسر.
ولو قال قائلٌ: مسألةُ الكسر أولى بأن يحتكم المشتري فيها بالرد، مَعَ غرامةِ الأَرْش، كان هذا فرقاً في ترتيب مسألةٍ على مسألةٍ.
ثم ما أجريناه من أرش عيب الكسر لا خفاء به.
فنقول: كم قيمةُ الجوز صحيحاً فاسد الجوف؟ فيقال مثلاً: مائة. ثم نقول: كم قيمتُه مكسوراً بيِّن الفساد، فيقال: خمسون، فالأرش إذاً خمسون؛ فإن الأرشَ المعتبر للعيب الحادثِ مَحْضُ نقصانِ القيمة، لا حاجةَ فيه إلى تقديرِ نسبةٍ ومقابلةٍ.
وكل ما ذكرناه؛ في الصورة الأولى، وهي إذا كان للجوز مع فساد جوفه قيمةٌ.
3177- فأما الصورة الثانية، وهي إذا قيل: لا قيمةَ للجوز مع فسادِ جوفه في حالة صحَّتهِ، ويظهر تصوير هذا في البيض وقشرهِ، فقد قال طائفةٌ من أئمتنا: إذا تبيّن ذلك، وأراد المشتري الرجوعَ بالأرش، فيرجع بجميع الثمن على البائع وسبيل رجوعهِ بالجميع استدراك الظُلامَة، لا استبانةُ أن البيع لم ينعقد من أصله لكون المبيع غيرَ متقوَّم. وهذا القائل يقول: إذا استرد المشتري الثمنَ استدراكاً للظلامة، فذلك المكسر يبقى على حكم اختصاصه بالمشتري، حتى إن مست الحاجةُ إلى تنقيةِ الطريق، فعلى المشتري تكلّفُ ذلك.
وهذا فاسدٌ؛ فإن الذي لا يتقوَّمُ لا يجوز أن يكون مورداً للبيع. ولا يدرأ هذا الإشكالَ أن يقولَ قائل: يقدّر في الصحيح من الجنس ضربٌ من الانتفاع وإن قَلَّ: مثل أن يُنقَش ويُتخذ منه اللُّعبَ، أو ينثر كدأبِ الناسِ في الجوز، وقد يعبث به الصبيان؛ فإن هذا تشبيبٌ بتقدير قيمة وإن قلت. وإذا كان كذلك، التحق هذا بالصورة الأولى.(5/263)
وإن قال هذا القائل: نُقدّر لصحيحه قيمةً على تقدير (1) ألا يتبين فساد، وهو على ما هو عليه من صحته، فهذا [تكلُّفٌ] (2) أيضاً، وقد تبين الأمرُ.
وإن قال هذا القائل: يمكن ترويجُ الصحيح بضم آحاده إلى ما ليس فاسداً في جنسه، فهذا في تقديره (3) له وُجَيْه (4) .
وبالجملة لا وجهَ إلا القطع بتبيّن فساد العقد؛ فإن من يصير إلى الصحَّة لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يُقدِّرَ قيمةً قليلةً، والمسألة مفروضةٌ حيث يتبين أن لا قيمة مع الصحة.
وإما أن يقدِّر رواجاً في آحادِ ما فيه الكلام، مع ما لا فساد بهِ، وهذا ليس بشيء؛ فإن الذي يسمح بقبول فاسدٍ لا قيمة له، يسمح بقبول الناقص دونه. وقد تجري قيمةٌ تقدر على تلبيسٍ، وهذا الأخير فيه، فالوجه القطع بتبيُّن فسادِ العقدِ والقشورُ مختصّةٌ بالبائع.
فإن قيل: قد قال الشافعي: "إلا أن لا يكون لفاسدِه (5) قيمة، فيرجع بجميع الثمن". فما محمل هذا؟ قلنا: معناه أنه يرجع بجميع الثمن لتبين فساد العقد.
وهذا تمام المراد.
3178- ويلتحق بالمسألة أن من قال بجواز الرد في الصورة الأولى، استشهد برَدّ (6) المصرَّاة؛ فإن تلك الواقعةَ اشتملت على لحوقِ تغييرٍ (7) بالمبيع، ثم لم يمتنع الرَّدُّ؛ إذ اللبنُ قد حُلب، ثم حال واستحال. والاستشهاد بتلك المسألة -والمذهبُ فيها مستندٌ
__________
(1) (هـ 2) ، (ص) : تأويل.
(2) في الأصل: تكليف.
(3) عبارة الأصل: فهذا فاسدٌ في تقديره ...
(4) تصغير (وجه) .
(5) العبارة في المختصر: إلا أن لا يكون له فاسداً قيمة.
(6) (ص) : بفساد.
(7) (ص) : يعتبر.(5/264)
فلما تعارضت هذه الوجوه، اختلف لأجلها أصحابُنا؛ لمّا علموا أن لا سبيل إلى إبطال حق المشتري من الأرش والرد جميعاً.
فذهب ابنُ سُريج إلى أن هذا عقد تعذَّر إمضاؤُه، فالوجه فسخُه، كما يُفسخ العقدُ إذا اختلف المتبايعان وتحالفا، ثم من حُكمِ الفَسخِ (1) ردُّ الثمنِ، ولا سبيل إلى استردادِ الحلي لما ذكرناه من وجوه الإشكال، فنقدِّر كأن الحلي تلف، والوجه إذا قدَّرنا ذلك الرجوعُ إلى قيمةٍ معتبرة بالذهب إن كان الحُليُّ من فضةٍ، فنعتبر قيمةَ الحلي وبه العيب القديم، ومساقُ هذا يقتضي تبقيةَ الحُلي على المشتري ملكاً، هذا مذهب ابن سُريج.
وذكر العراقيون وجها آخر، وهو أن الحُليَّ يُرَدُّ على البائع، ونورد الفسخَ عليه، ثم المشتري يغرَم للبائع أرشَ العيبِ الحادث، على تقدير أنه عيَّبَ ملكَ غيرهِ في يده الثابتةِ على سبيل السَّوْم.
وهذا يُناظر قولاً للشافعي منصوصاً عليه في النكاح، وهو أن الرجل إذا دخل بامرأته، ثم فسخ النكاح، أو انفسخ [لمعنىً] (2) بعد المسيس، فالمنصوص عليه أن الزوج [يستردّ] (3) جملةَ المسمَّى، ويرتد إليها البُضْعُ، ثم يغرَم الزوج لها مهرَ المثل، فجرى رجوعُ المهرِ، وارتفاعُ النكاحِ على قياس الفسوخ. ثم الزوج غرم مهر المثل، حتى لا يخلو الوطء عن المهر.
وقالَ صاحب التقريب: يُحتملُ وجة ثالث، وهو أن البائعَ يغرَم للمشتري أرشَ العيب القديم، ثم لفظه في الكتاب: "وأرجو أن يصح هذا". وقد مال إلى اختيار ذلك بعضُ المحققين، وقال: قد وقعَ التقابُل على شرط الشرع ابتداءً، وجرى الملك على جميع الثمن، فإذا فُرِض ضمانُ أرشِ العيب، فهذا تمليكٌ جديد، وإن كان له استناد إلى سابق من طريقِ الاستحقاق، والمرعي في تعبدات الربويّات حالةُ العقد، فغرامةُ الأرش في هذا المضيق، يقدَّرُ كأرشٍ مبتدأ مترتبٍ على جناية على ملكِ الغير.
__________
(1) في (ص) : حكم بالفسخ.
(2) في الأصل: بمعنىً.
(3) ساقطة من الأصل.(5/266)
فلما تعارضت هذه الوجوه، اختلف لأجلها أصحابُنا؛ لمّا علموا أن لا سبيل إلى إبطال حق المشتري من الأرش والرد جميعاً.
فذهب ابنُ سُريج إلى أن هذا عقد تعذَّر إمضاؤُه، فالوجه فسخُه، كما يُفسخ العقدُ إذا اختلف المتبايعان وتحالفا، ثم من حُكمِ الفَسخِ (1) ردُّ الثمنِ، ولا سبيل إلى استردادِ الحلي لما ذكرناه من وجوه الإشكال، فنقدِّر كأن الحلي تلف، والوجه إذا قدَّرنا ذلك الرجوعُ إلى قيمةٍ معتبرة بالذهب إن كان الحُليُّ من فضةٍ، فنعتبر قيمةَ الحلي وبه العيب القديم، ومساقُ هذا يقتضي تبقيةَ الحُلي على المشتري ملكاً، هذا مذهب ابن سُريج.
وذكر العراقيون وجها آخر، وهو أن الحُليَّ يُرَدُّ على البائع، ونورد الفسخَ عليه، ثم المشتري يغرَم للبائع أرشَ العيبِ الحادث، على تقدير أنه عيَّبَ ملكَ غيرهِ في يده الثابتةِ على سبيل السَّوْم.
وهذا يُناظر قولاً للشافعي منصوصاً عليه في النكاح، وهو أن الرجل إذا دخل بامرأته، ثم فسخ النكاح، أو انفسخ [لمعنى] (2) بعد المسيس، فالمنصوص عليه أن الزوج [يستردّ] (3) جملةَ المسمَّى، ويرتد إليها البُضْعُ، ثم يغرَم الزوج لها مهرَ المثل، فجرى رجوعُ المهرِ، وارتفاعُ النكاحِ على قياس الفسوخ. ثم الزوج غرم مهر المثل، حتى لا يخلو الوطء عن المهر.
وقالَ صاحب التقريب: يُحتملُ وجة ثالث، وهو أن البائعَ يغرَم للمشتري أرشَ العيب القديم، ثم لفظه في الكتاب: "وأرجو أن يصح هذا". وقد مال إلى اختيار ذلك بعضُ المحققين، وقال: قد وقعَ التقابُل على شرط الشرع ابتداءً، وجرى الملك على جميع الثمن، فإذا فُرِض ضمانُ أرشِ العيب، فهذا تمليكٌ جديد، وإن كان له استناد إلى سابق من طريقِ الاستحقاق، والمرعي في تعبدات الربويّات حالةُ العقد، فغرامةُ الأرش في هذا المضيق، يقدَرُ كأرشٍ مبتدأ مترتبٍ على جناية على ملكِ الغير.
__________
(1) في (ص) : حكم بالفسخ.
(2) في الأصل: بمعنىً.
(3) ساقطة من الأصل.(5/266)
فهذا بيان مذاهب الأصحاب.
3180- ولا يكاد يخفى على ذي بصيرةٍ أن كل مسلك من المسالك التي ذكرناها لا يخلو عن حيدٍ عن قانونٍ في القياس جارٍ في حالة الاختيارِ، ولابد من احتمالِ مسلكٍ من المسالك.
والكلامُ في تعيين ما يظنه الفقيهُ منها. ولم يَصِر أحدٌ إلى التخيير بين جميع هذه المسالك؛ من حيث اشتملَ كلُّ واحد على مَيْل عن أصلٍ. والضرورةُ تحوج إلى واحدٍ منها؛ وذلك أن كلَّ متمسك بمسلك قد بنى كلامَه على أمرٍ غلب على ظنه أن مسلكه أولى وأقربُ إلى طرق الرأي وأبعدُ عن اقتحام ما لا يجوز. فإذا كان سبيلُ اختلافِهم ما ذكرناه ووصَفناه، فلا خِيَرةَ.
3181- وأقربُها عندنا الرجوعُ إلى أرش العيب القديم، والمصيرُ إلى [أن] (1) حقَّ العقدِ قد توفَّر في التعبد بالمقابلة، وهذا الأرشُ استرجاعٌ مُنشَأٌ اقتضَته الضرورةُ.
وهذا عندنا كالتوزيع إذا اضطررنا إلى الحكم به؛ فإن العقدَ لا يتضمّنُه ولا يقتضيه. فإذا بَاع الرجل شِقْصاً مشفوعاً وسَيفاً بألفٍ، ثم طلبَ الشفيعُ الشُفعَةَ في الشقص، اقتضى الشَرْعُ التوزيعَ على السيفِ والشِّقص اقتضاء له استنادٌ إلى العقد، ولكنَّ العقدَ لا يقتضيه. كذلك جملةُ الثمن ملكها البائع، وإن [كان] (2) المبيع معيباً.
3182- ولو كان الثمن جارية، (3 استباح بائعُ الثوب بالجارية وطأها، وإن كان قد ينتقض المِلك في بَعض الجاريةِ 3) لمكان الأرش.
وينشأ من هذا الذي أشرنا إليه، ومما فهمته من فحوى كلام الأئمة تردُّدٌ في أمرٍ، وهو أن الحاجة إذا مسَّت إلى تغريم قابض الثمنِ الأرشَ، فلوْ أراد أن يأتي من مالٍ آخر بمقدار الأرشِ، فأبى المشتري إلا استردادَ جزء من الثمن المعيّن، فكيف السبيل فيه؟
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) مزيدة من (هـ 2) ، (ص) .
(3) ما بين القوسين ساقط من (هـ 2) .(5/267)
الظاهر أنه يتعين ردُّ جزءٍ من الثمن المعيَّنِ، وفي مرامزِ الأصحابِ ما يخالف هذا. ويدلّ على أنه لو جبر النقصانَ من مالٍ آخر، جاز.
3183- ومما يجب التنبُّه له أنا إذا قلنا -في العيب الحادث حيث لا ربا في الصفقةِ ولا تعدّدَ-: إن المشتري يضم أرشَ العيب الحادثِ إلى المبيع، ويرُدُّهما، فهذا في أصلِ وضعهِ إشكال؛ فإن التمليك بالفسخِ رداً واسترداداً حقُّه ألا يتعدَّى المعقودَ عليه، والردُّ كاسمه، فتقدير إدخالِ مالٍ جديدٍ في التمليك بطريق الرّدِّ بعيدٌ. وقد ذكرتُ طرفاً من هذا في فصلِ العيوب الحادثة.
ولا وجه يطابق القاعدةَ إلا أن نقول: الرَّدُّ (1) يَرِدُ على المعيبِ بالعيبيْنِ فحسب، من غير أنه يقتضي تضمينَ المشتري أرشَ العيب، بتأويلِ تقدير الضمان في حقِّه، وتشبيهِ يده بالأيدي الضامنة. ولكن قد لا يثق المردودُ عليه بذمّة الراد، فيضمُّ الأرشَ إلى المبيع المردود، فيكون المضمومُ مستحقاً بالسبيل الذي أشرتُ إليه، وليسَ أرشُ العيب الحادث مردوداً، ولو قال الراد: أَرُدُّ، ثم أبذل، لم يكن له ذلك؛ لعدم الثقةِ. وإذا ردَّ مع الأرش، جرى الملكُ في عين المضمومِ بتأويل أنه ضمن، وأقبض، لا على معنى أنه ملكَ بالرد شيئاً، لم يَرِد عليهِ العقد.
فإذا تبين (2) هذا، فقد عيّنَ بعضُ أصحابنا في صفقة الربا هذا المسلَك ولم يرَ غيره، وقد أوضحنا الأصحَّ عندنا.
وأبعدُ (3) الوجوه تقديرُ تبقيةِ الحُلي على المشتري وإلزامهُ قيمتَه ذهباً. ويليه ردُّ الآنيةِ (4) مع الأرش، وهو أمثل من الأول، لما حققناه من اختلافِ جهةِ الأرشِ وردّ المبيع، وإذا كان كذلك، فلا ربا. وأمثلُ الوجوه الرجوع إلى الأرش للعيب القديم.
__________
(1) في (ص) : الرادّ.
(2) في (ص) : ثبت.
(3) في الأصل: وأبعد بعض الوجوه، (ص) : وأوضح بعد.
(4) كذا في النسخ الثلاث، ولم يسبق لـ (الآنية) ذكرٌ في تصوير المسألة، فهل عبر عن الحلي بالآنية؟(5/268)
فرع:
3184- قال صاحب التقريب: إذا اشترى رجل ثوباً، فصبغهُ صبغاً منعقداً، ولم ينقُصه الصبغُ، بل زادَ في قيمته، ثم اطَّلع على عيبٍ قديم، فإن رضي المشتري بردّ الثوب مع الصبغ من غير مطالبةٍ بشيء، في مقابلة الصبغ، فله ذلك، ويستردُّ الثمنَ، ويملك المردودُ عليه الثوبَ [فإنه صفةٌ للثوب] (1) ، لا تُزايلهُ وليس كالنعل (2) . ولم يَصِر أحدٌ من الأصحاب إلى أن [المشتري] (3) يرد الثوبَ، ويبقى شريكاً بسبب الصبغ، كما سيجيء أمثالُ ذلك في الغُصوب وغيرها. لم أرَ (4) هذا لأحدٍ، مع تطرق الاحتمال.
ولو قال المشتري: أردُّ الثوبَ، وأُلزمُك قيمةَ الصبغِ، فهل يُجبر البائع على إسعافه؟ فعلى وجهين كالوجهين فيه إذا قال المشتري: أضم أرشَ العيب الحادث، وأردُّ المبيعَ، وأسترد الثمن، ففي إجبار البائع على هذا وجهان تقدّمَ ذكرهُما.
ولو قال المشتري: أطلب أرشَ العيب القديم، وقال: بل رُدّ الثوب وأغرَم لك قيمةَ الصبغ، فعلى وجهين، فقد جرى الصبغُ الزائد مجرى أرشِ العيب الحادث في طرفي المطالبة.
وهذه المسألةُ ذكرها صاحب التقريب، وأشار إليها العراقيون. والاحتمال فيها من الجهة التي ذكرتُها، وهو تجويز الرد مع ملك المشتري في عين الصبغ؛ فإنا قد نجعل الغاصبَ إذا صبغ الثوب شريكاً.
فصل
قال الشافعي: " لو باع عبدهُ وقَد جنى ... إلى آخره " (5) .
3185- إذا استُحق دمُ العبد أو طرفُه بجهةٍ لا يتطرقُ إليها مالٌ، كالردّةِ والقتلِ في
__________
(1) ساقط من الأصل. وفي (ص) : "فإن صفة الثوب".
(2) إشارة إلى من نعلَ الدابة، ثم اطلع فيها على عيبِ قديم. وقد سبقتٍ آنفاً.
(3) في الأصل: البائع. وهو سبقُ قلم من الناسخ.
(4) في (ص) : لم أره لأحد.
(5) ر. المختصر: 2/193.(5/269)
المحاربة، والقطعِ في السرقة، فقد تمهد القول في هذه الفنون.
ومقصودُ هذا الفصلِ محصورٌ فيه إذا جَنى العبدُ على آدميٍّ مضمونٍ خطأً أو عمداً.
والبدايةُ بالخطأ ومَوجَبُه المال، ثم الأرشُ يتعلق برقبةِ العبد، كما سنبين في كتاب الديات. فإذا تعلق أرشُ الجناية الواقعةِ خطأً برقبة العبدِ، أوْ أوجبت الجنايةُ قَوَداً، فعفا مستحِقُّهُ على مالٍ، فمتعلَّقُه الرقبةُ، فلو باع سيد العبدِ العبدَ الجاني قبل أن يفديَه، ففي صحة البيع قولان: أحدهما - أنه لا يصح، كبيع العبدِ المرهون، والمالُ متعلِّق بالرقبةِ في الموضعين. وإذا جنى المرهونُ، تقدَّم المجني عليه بحق الأرشِ على المرتهنِ، فإذا منَعَ حقُّ المرتهن البيعَ، وجب أن يمنعَ حقُّ المجني عليه أيضاًً.
ومن قال بصحة بيع العبد الجاني، احتج بأن تعلّق الأرش لم يصدر عن اختيارِ السيّد، وإليه الفِدَاء، فلْينفُذ بيعهُ، وليكن اختياراً للفدَاء. والرهنُ وثيقة أنشأهَا المالك، وقصد بها الحجر على نفسهِ إلى أداء الدينِ؛ فكان مطالباً بموجَب اختياره.
التفريع على القولين:
3186- إن قلنا: البيعُ فاسدُ، فلا يصير السيدُ ملتزماً للفداءِ به، ولا يطالَب، بل هو على خِيرتهِ، فإن أحب. فدى، وإن أحب سلَّم العبدَ (1) للبيع.
وإن قلنا: البيعُ صحيحٌ، فقد اختلف أصحابُنا في التفريع على هذا القول: فمنهم من قال: البائعُ يلتزم الفداءَ، ويتوجَّه علَيه الطلبُ من جهة المجني عليه، وعليه الخروجُ عنه باطِناً وظاهراً، فعلى هذا عبّر الأصحابُ عن البيعِ باللزوم.
ومن أصحابنا من قالَ: لا يصيرُ السيدُ بالبيع ملتزماً للفداء، ولا يتوجَّه عليه الطَّلِبَةُ، بخلاف ما لو أعتقَ العبدَ ونفذنا إعتاقه؛ فإن (2) الطلبة بالفداء تحق عليه.
وهؤلاء يقولون: البيعُ الذي عَقَدَه على الجواز، فإن فدى، فقد وفَّى بحق العقد، فيلزمُ إذْ ذاك. وإن لم يَفْدِ، [انفسخ] (3) البيعُ، وبِيعَ العبدُ.
__________
(1) أي ليباع في جنايته.
(2) في (ص) : فلا نطلبه بالفداء بحقٍ عليه.
(3) الأصل، (هـ 2) : يفسخ.(5/270)
وفيما ذكرناه أولاً من لزوم العقدِ فضلُ نظر؛ فإن البائع لو أعسر بالأرش، أو امتنع منه، ولم يقدر عليه، فُسخ بيعُه، والذي يقتضيه قياسُ قول الأصحاب أنه لو تعذر الوصولُ إلى الأرشِ بغيبةِ السيد البائع، أو باستقراره في المحبس (1) وتوطينه النفسَ على طول (2) الحبس، فالبيع ينفسخ (3) .
فإذا يرجع حاصل الخلافِ إلى أنَّا في الوجه الأول لا نجوّزُ للبائع أن يفسخَ البيعَ بنفسه، ولو رضي المجني عليه بمطالبته والاستمرارِ عليها، كان له ذلك.
وفي الوجه الثاني لا تتوجه الطَّلِبةُ على اللزوم. ولو أراد البائع بنفسه فسخَ العقد ليعرضَ العبدَ الجاني على البيع، كان له ذلك.
فهذا معنى تردد الأصحاب، ولا صائر يصير منهم إلى أن البيع ينفدُ نُفوذاً لا يَستدركهُ المجني عليه إذا تعذر عليه استيفاءُ أرشه.
ولا خلاف أن السيد لو قال: أفدي هذَا العبدَ، فلا يلزمه الفداء بهذا القول؛ فإنه وعدٌ مُجرَّدٌ. ولو قال: ضمنتُ الأرشَ، فهذا مبني على أن العبدَ هل له ذمةٌ في الجنايات؟ وفيه اختلاف سنذكرهُ في الديات: فإن قلنا: له ذمَّة، فالضمان لازم ملزِم، وإن قلنا: لا ذمَّة له، ففي لزوم الضمان وجهان، سنذكرهما في كتاب الضمان، أو في كتاب الديات.
ولو أعتق المولى العبدَ الجاني، فالقول في عتقه مرتَّبٌ على القول في بيعهِ، فإن نفذنا بيعَهُ (4) ، فالعتق أولى بالنفوذ.
ثم كان شيخي يقولُ: ينفذ العتق، وإن قلنا لا يلزم البيع، إذا كنا نحكم بصحّتهِ؛ لأن العتقَ هكذا سبيل نفوذه. وإن قلنا: لا ينفذ البيعُ كما لا ينفذ في المرهون، فالقولُ في عتقه كالقول في عتق الراهِن في العبد المرهون. وسيأتي شرح المذهب فيه إن شاء اللهُ تعالى.
__________
(1) في (هـ 2) : المجلس، (ص) : الحبس.
(2) في (هـ 2) : تطويل.
(3) الأصل، (ص) : يفسخ.
(4) في (ص) : عتقه، فالبيع أولى.(5/271)
ثم إذا أعتق، أو باع، وجعلنا البيعَ لازماً، فالوجه القَطع بأنه يغرَم أقلَّ الأمرين من الأرش والقيمة، بخلاف ما إذا أراد الفداء على الابتداء.
وإذا قُلنا: البيعُ غيرُ لازم، فالأمرُ موقوفٌ على الفداء [وفي الفداء] (1) قولان سيأتي شرحُهما إن شاء اللهُ عز وجل.
3187- وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت الجنايةُ خطأً، فإن كانت عمداً موجبة للقصاص، فإن لأصحابنا طرقاً.
منهم من قال: إذا قلنا: موجَبُ العمدِ القَودُ، فيجوز البيعُ قولاً واحداً. وإذا قلنا: موجَبُه أحدُهما، ففي صحَّة العقد طريقان: أحدُهما- القطعُ بالصحَّة؛ نظراً إلى ثبوتِ القصاص. والشاهد فيه أن القتل على هذا القول لا يثبت إلا بعدلين، كما لا يثبت على قَولنا: موجَبُه القود إلا بعدلين.
ومن أصحابنا من خرَّج جواز البيع على قولين، لثبوت المال على هذا القول، فكان كالجناية التي مُوجَبُها المالُ. وقد ذكرنا في الجاني خطأ قولين.
وشبَّب بعضُ أصحابنا بتخريج القولين على قولنا: موجَبُ العمد القَود؛ وذلك أن الماليّةَ ثابتةٌ ضمناً، ولهذا قُلنا: مستحِق القصاص يرجع إلى المال دونَ رضا من عليه القصاص، ويثبتُ المالُ بفوات مَحلِّ القصاص.
وبَعْدُ
3188- الترتيب الجامع للطُّرق أن يقال: في الجاني خطأ قولان، وفي الجاني عمداً على قولنا: الموجَب أحدُهما، لا بعينهِ قولان مرتبان، فالأولى الجواز؛ لأن المال غيرُ متجرِّد، ولا متعيَّن. وإن قُلنا: موجَب العمد القودُ المحضُ، ففي البيع قولان مرتبان على الصورة المتقدِّمة.
والغرضُ مما ذكرناه تبيين المراتب، وإلا فلا ينتظم بناءُ القولين في التفريع على قولٍ، على قولين في التفريع على القول الآخر.
__________
(1) ساقط من الأصل.(5/272)
فصل
قال الشافعي: " ومن اشترى عبداً، وله مالٌ ... إلى آخره " (1) .
3189- العبد القِنُّ لا ينفرد بتثبيت ملك لنفسه دونَ مولاه، ولو احتشَّ أو احتطبَ، أو اصْطادَ، ثبتَ الملك فيما تثبتُ يده عليه لمولاه، و [إن] (2) لم يَجر شيء من الأسباب إلا بإذن السيّد.
ولو اتَّهبَ العبدُ شيئاً، أو أُوصيَ له، فقبل، فإن كان بإذن السيد، صح، ووقع الملكُ في الموهوب، والموصَى به للسيد.
وإن قبلَ العبدُ الهبةَ والوصيةَ بغير إذن السيد، ففي صحَّة القبول وجهان: أحدهما - أنه يصح؛ فإن ما جاء العبدُ به ليس عقدَ عُهدة، فكان قبولُه كالاحتشاش، والاحتطاب.
والوجه الثاني - أن القبولَ مردودٌ؛ فإنهُ عقدٌ يُحكم تارة بصحته، وأخرى بفسادِه، فلم يبعد اشتراطُ إذنِ من يقع الملكُ له. وسنذكر كلاماً للأصحاب في شراء العبد شيئاً في ذمته.
وإذا خالع العبدُ زوجتَه على مالٍ، ثبت المَالُ للسيّدِ؛ فإن الخُلعَ لا مردَّ له، فالتحق بالاحتطاب وإن كان عقداً.
ولو أراد إنسانٌ أن يُملّكَ عبدَ غيره شيئاً ويقيمَه مالكاً فيه، لم يجد إليه سبيلاً.
3190- والسيد لو ملّكَ بنفسه عبدَه القِنَّ شيئاً، ففي ثبوت الملكِ له، ومملّكُه مولاه قولان: أحدهما -وهو المنصوص عليه في الجديد- أنه لا يملِكُ بالتمليكِ، والملْك التام فيه يُخرجُه عن رتبة المالكين.
والقول الثاني - أنه يملكُ كما يملك حق النكاحِ بالنكاح، وقد يَستَشهد هذا القائلُ
__________
(1) ر. المختصر: 2/194.
(2) ساقطة من الأصل.(5/273)
بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "من باع عبداً، وله مالٌ فماله للبائع" (1) .
فإضافة المال إلى العبد شاهدة لثبوت المِلكِ. وللتأويل توجّه ظاهر على اللفظ.
التفريع على القولين:
إن قلنا: لا يُتصوّرُ أن يملك القِنُّ، فلا كلام، والتمليك لاغٍ من السيد.
وإن قلنا: تمليك العبد القِنِّ صحيحٌ، فمِلْكُه جائزٌ معرض لاسترجاع المولى متى شاء، ولا يملكُ العبدُ شيئاً من التصرفات بحق الملكِ الذي ثبت له، حتى يأذَنَ السيد فيه. وهذا وفاقٌ.
وهل يتسرَّى العبدُ الجاريةَ (2) التي ملّكه السيدُ إيّاها؟ نُظر: فإن أَذِن له في التسريّ، فالذي ذهب إليه الجمهورُ من الأصحاب أن له أن يتسرى بالإذن. وذهب الأستاذ أبو إسحاق إلى أنه لا يتسرّى مع الإذن؛ فإن الوطءَ يستدعي ملكاً كاملاً، وملكُ العبد غيرُ كاملٍ. وإن لم يأذن السيد للعبد في التسري، فمُطلَقُ التمليك لا يُسلّطه على التسرّي عند معظم الأصحاب.
وذكر بعضهم وجهاً آخر أن مطلَقَ التمليك يفيد جواز التسرِّي وإن لم يجرِ فيه إذنٌ. وهذا ضعيفٌ مع اتفاق الأصحاب على أن مطلَقَ التمليكِ لا يُسلّط العبد على التصرفات؛ والتسري تصرفٌ من التصرفاتِ، ولعل صاحبَ المذهبِ يطرد مذهبَه في أكل الطعام المملّكِ وشُرب الشراب. وإنما يسلِّمُ افتقارَ العقود إلى الإذن. فإن طرد إذنَه في التصرفات جُمَع قياساً على المتّهبِ الذي يَثبت للواهب حق الرجوع فيما وهبَهُ منه، فهو بعيدٌ لم أره لأحدٍ.
وأكْثَرَ الأصحابُ في تفريع أحكام المِلكِ، ولا معنى لها، والشرط التعرض لما يختصُّ بملك العبد القِنّ.
__________
(1) حديث من باع عبداً وله مال. متفق عليه من حديث ابن عمر، البخاري: كتاب الشرب والمساقاة، باب الرجل يكون له ممرّ أو شرب، ح 2379، ومسلم: البيوع، باب من باع نخلاً عليها تمر، ح 1543، الرقم الخاص (80) ، وانظر (تلخيص الحبير: 3/72 ح 1224) .
(2) الجارية مفعول يتسرّى، فالفعل يتعدى بغير الباء: تسرّى الشيءَ: اختاره (معجم) .(5/274)
نعم كلُّ ما يقتضيه زوالُ الملكِ، فهو متعلَّقٌ بتمليك السيّدِ عبدَه من انقطاع الحول (1) وما في معناه. ويتعلق وجوب الاستبراء (2) به إذا رجع، وما يتعلق بصورة الملكِ، فهو يحصل بملكِ العبدِ، كانفساخ النكاح إذا ملّكه سيّدُهُ زوجتَه.
وما يستدعي كمالاً في الملكِ والمالك، فلا يحصل في مِلكِ العبدِ كوجوب الزكاة، وكتقدير العتق إذا ملّكه سيّدُه أباه أو ابنَه، وكيف يعتِق عليه قريبه وهو رقيق! وإذا ملّكه مولاه مالاً، ففي تكفيره به كلامٌ سأذكرُه في كفّارة الظهار، إن شاء الله تعالى.
فرع:
3191- إذا ملك الرجل عبدَينِ: سالماً وغانماً، فملّكَ كلَّ واحدٍ منهما الآخرَ، فقد اتفق الأصحاب على أن الملكَ لهما علَيهما لا يجتمع، ويستحيل أن يكون السيد مملوكاً لمملوكه، فإذا كنا نحكم بانفساخ النكاح بملكِ زوجته، فكيف نستجيز تقديرَ شخص مالكاً لمن هو مالِكُه. نعم [المستأخر] (3) ممّا وصفناه ناقضٌ للملكِ المتقدّم، ومثبتٌ حقَّ التمليكِ الجديدِ على قولنا بتمليك العبد. وإن وكَّل السيدُ وكيلين حتى يهبَا سالماً من غانم وغانماً من سالمٍ، ثم جرَى ذلكَ من الوكيلين معاً، لم يَنفذ واحدٌ منهما؛ إذ لا سبيل إلى الجمع، وليس أحدهما أولى بالرد من الثاني.
فصل
3192- إذا فرّعنا على القديم وقُلنا: يملك العبدُ ما ملّكه سيدُه، فإذا ملّكه، ثم أعتقه، أو باعه، ولم يتعرّض لما ملَّكه إئاه، فيكون العتقُ والبيعُ استرجاعاً منه فيما ملّكه، ويتخلَّف ذلك الذي جَرَى التمليك فيه على البائعِ والمعتقِ، ولا استتباع أصلاً، وليس كالمكاتب يُعتَق؛ فإنه يستتبع أَكْسابَه وأولادَه، كما سيأتي شرح ذلك في مَوضِعه، إن شاء اللهُ تعالى. والمكاتب على الجُملة أثبت الشرع له استقلالاً، حتى
__________
(1) أي حول الزكاة.
(2) أي استبراء الرحم، إذا زال ملكه برجوع السيد عن إذنه.
(3) في الأصل: المستأجر.(5/275)
انتهى الأمرُ إلى تصحيح مُعامَلته سيدَه. والعبدُ المملَّك لا يعامل سيّدَه المملِّك، حتى لو ابتاع سيدُه منه شيئاً مما كان ملّكه، فالذي جرى ليس بابتياعٍ، ولكنّهُ رجوعٌ فيما استردَّهُ.
وهل يكون ما جرى تمليكاً فيما بذله عوضاً (1) ، فعلى وجهين: أصحهما - أنه لا يكون تمليكاً؛ فإنه ذكر جهةً فاسدةً. والثاني - أنه تمليك على صيغةٍ (2) . وهذا غيرُ سديدٍ.
ولو باعَ العبدَ مُطلقاً، فقد ذكرنا أنه لا يدخل شيء مما كان ملّكَه عبدَه في ملك المشتري، ولا يبقى شيءٌ في ملك العبد.
3193- واختلف أصحابُنا في الثياب التي تكون على العبدِ والأمةِ حالةَ العقد، فالذي ذهب إليه القيّاسون أنه لا يدخل سلكُ (3) منها في العقدِ، وهي بجملتها ملك البائع، إلا أن تُشترطَ في العَقد.
ومن أصحابنا من أدخلَ الثيابَ في العقد للعُرف الغالب، حتى كأن اللفظَ [مشعرٌ] (4) به.
وهذا الخلاف يقرب من تردّدٍ ذكرناه في دخولِ جمَّةِ ماءِ البئر في البيع المشتمل على تسمية الدار.
ثم الذين حكموا بدخول الثياب في العقد اضطربوا: فذهب ذاهبون إلى أن الداخل ما سترَ العورةَ، وذهب آخرون إلى أنه يدخل جميع [ما العبدُ والأمةُ لابسُه] (5) حالةَ العقد. هذا إذا لم يسمّ في العقدِ إلا العبدُ، فأما إذا سُمّي مع العبد
__________
(1) أي لو اشترى السيد من عبده ما ملّكه إياه، فهل يكون الثمن الذي بذله عوضاً تمليكاً جديداً لهذا العوض؟.
(2) في (هـ 2) : صفة.
(3) سلكٌ: خيطٌ، وهو هنا كناية عن منتهى القلّة، ومبالغة في نفي دخول أي شيء من الثياب في البيع.
(4) في الأصل: مشعراً. (حيث اشتبه عليه "كأن" بـ "كان") .
(5) في الأصل: مال العبد والأمة لأنه.(5/276)
[الأموالُ] (1) التي كان ملَّكه إياها، فإن قلنا: العبدُ لا يملك بالتمليكِ، فسبيل ما سمَّاه معَهُ سبيلُ مالٍ مقصودٍ بالبيع ليس فيه تخيّل التبعيَّة، ويُرعى فيه شرائطُ العقد وتعبّداته في اجتناب ما يحرم في الربويّات، واشتراطِ القبض فيما يشترطُ فيه التقابض إلى غير ذلك.
وإن قلنا: العبدُ يملك بالتمليك، فإذا ذكر البائعُ في بيعهِ ما كان ملّكه، فيتعلق البيع به. ثم للشافعي في القديم قولان:
أحدهما - أنا لا نشترط فيما كان ملكاً للعبد ما نشترطهُ في الأموال المقصودة بالبيع، فلا نراعي الإعلامَ، ولا نلتفت إلى قواعد الربا.
والقول الثاني - أنه لا بدّ من رعايةِ شرائطِ العقدِ فيها.
3194- التوجيه على القديم: من قالَ لا بُدَّ من الإعلام جرَى على القياس، ومن لم يشترط، أثبتَ الأموال في مقتضى العقد تبعاً، وقد يدخل في العقد الشيءُ تبعاً على وجهٍ، لا يصح ثبوته فيه متبوعاً كمجرَى الماء، والحقوقِ، والثمرةِ قبل بدوّ الصلاح؛ فإنها تدخل في العقدِ، وإن كنا لا نرى إفرادَها بالبيع.
وحقيقةُ التوجيهِ يبين بالتفريع: فإذا تعلق حكمُ العقد بمالِ العبد، فأول تأثيره أن العقدَ لو كان مُطلقاً، لَزال ملكُ العبد عما كان له، وتخلَّف على السيد المملِّك، وإذا ضم إلى العبدِ، انقطعَ عنه حق (2) البائع.
ثم اختلفَ أصحابُنا في أن ذلكَ المال يكون ملكاً للمشتري أم هو مبقًّى على ملك العبدِ، والتردد لابن سُريج فيما حكاهُ صاحبُ التقريب.
وعندي أن أصلَ القولين [في] (3) اشتراطِ الإعلام والتزامِ أحكام الرِّبا يرجع إلى الخلاف الذي ذكرناه الآن. فإن حكمنا بأن المِلكَ يحصل للمشتري، فالذي جَرى ضمُّ
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في (ص) : حكم.
(3) ساقطة من الأصل.(5/277)
مالٍ إلى العبد، فلاَ بُدّ من رعايَةِ شرائط العقد. وإن قلنا: إنه يبقَى ملكاً للعبد، فلا حاجة إلى الإعلام.
ثم إذا بَقَيْناه ملكاً للعبدِ، فهذا فيه إذا قال: بعتُك هذا العبدَ بماله، فأما إذا قالَ: بعتُك هذا العبدَ ومالَه، فهذا يتضمّنُ قطعَ مِلكِ العبدِ وتثبيتَ ملك المشتري، ثم قد قدمتُ أن هذا يتضمّنُ التزامَ شرائط العقد.
3195- ومما يتفرعُ على هذا أنَّ العبدَ لو كان مأذوناً من جهَةِ السيّدِ الأوّل في التصرف والتسرِّي، فهل يحتاجُ إلى إذنٍ جديدٍ من المشتري، أم يستمر على ما كان عليه؟ فعلى وجهين: أظهرهُما - أنّه يستمرُّ على ما كان عليه إلا أن ينهاه المشتري، فإن نهاه، انتهى.
ولا خلافَ أن المشتري لو أرادَ أخْذَ تلك الأموال منه، جاز له ذلكَ، وهو على الجملة حالٌّ محلَّ البائع، ونازلٌ منزلتَه.
ولو أراد البائعُ أن يسترجعَ ما كان للعبدِ، لم يكن له ذلكَ؛ فإنهُ قطعَ سلطانَ نفسهِ، ونقل ما كان له من حتي إلى المشتري.
والوجهُ الثاني - أنه لا بد من أخذ إذنٍ جديدٍ من المشتري؛ فإنه ذو الحق وله الرجوع والاسترجاع، ولم يسبق منه إذنٌ. وهذا وإن كان يميل إلى وجهٍ، فالأشهرُ والأصح الأول.
ومما يتعلق بتفريع ذلك أن المشتري إذا اطلع على عيب بالعبدِ ذي المال، والتفريعُ على [أن] (1) ملكَه مستمرٌّ في الشراء، فإذا أراد ردَّهُ، ردَّه مع مالهِ، ولا خِيرَةَ له في تخليفِ مالهِ وقطعِه عنه، فليردّهُ كما اشتراه. ولو اقتضى الحالُ رجوعاً إلى الأرشِ بعيب قديم، فنقول: كم قيمة عبدٍ سليمٍ ذي مالٍ، وكم قيمةُ عبدٍ معيب ذي مالٍ، ولا بد فيما ذكرناه من التعرّض لقدرِ المال؛ فإن القيَم تختلف بذلك اختلافاً بَيَّناً.
__________
(1) ساقطة من الأصل.(5/278)