ضربٍ من الإجمال، ثم يتفصل شيئاً شيئاً، حتى يبين الغرض.
قال الأئمة: ما فوق النجاسة، وهو ما لم يتصل بالنجاسة طهور وِفاقاً، وأما ما هو أمام النجاسة من ماء النهر -وهو ما لم تصل إليه النجاسة- طاهر (1) ؛ فإنه لم يصل إلى النجاسة، كما لم تصل النجاسة إليه.
ثم قالوا: محل النجاسة من الماء نجس، وكذلك ما يقرب منه، مما ينسب إلى النجاسة.
هكذا ذكره الصيدلاني، وهو فحوى كلام شيخي.
وما عن يمين النجاسة وشمالها، إلى حافتي النهر، مما تردّد فيه أئمة المذهب، فذهب ذاهبون إلى أن في رعاية التباعد في جهة الاغتراف من اليمين والشمال بقدر قلتين - قولين، كالقولين في الماء الراكد.
وذكر الأكثرون: أنه إذا حصل التباعد عن مورد النجاسة، وما ينسب (2) إليها، جاز الاغتراف قولاً واحداً، ولا يعتبر التباعد بقدر القلتين؛ والسبب فيه أن جريان الماء يمنع من انبثاث النجاسة وتفشيها، فلا حاجة إلى الاستظهار بالتباعد، فإن لم نعتبر القلتين في التباعد، فلا كلام، وإن اعتبرنا القلتين، فقد سبق قياسه وطريقه، فإن لم يكن بين مورد النجاسة وبين شطّ النهر قلّتان، فالماء المقابل للنجاسة إلى ضفة (3) النهر نجس كله.
363- والذي ذكرناه لا يبين إلا بتقريبٍ وضبطٍ فيما ذكره الأئمة من مورد النجاسة.
فنقول: إذا لم نوجب التباعد عن مورد النجاسة في الماء الراكد بقدر قلتين، فلو اغترف الماء بقرب النجاسة، والنجاسةُ قائمة، جاز، والمغترَف منه ماء كثير؛ والسبب فيه أن ترادّ الماء يوجب تساوي أجزاء الماء في النجاسة، فالقريب والبعيد على وَتِيرَةٍ. وأما إذا كانت النجاسة على الماء الجاري، فإن الماء يحرك النجاسة،
__________
(1) هكذا، جواب (أما) بدون فاء، كدأب الإِمام غالباً. وهي لغة كوفية صحيحة.
(2) في هامش الأصل: قوله: وما ينسب إِليها يريد به الحريم.
(3) في هامش الأصل: ضفة النهر والبئر جانبه.(1/266)
والنجاسة تصادمه، فيوجب ذلك تعدّي النجاسة (1) في الماء عن محلٍّ واحد؛ فمن هذه الجهة قال الأئمة: لا نغترف مما ينسب إلى النجاسة (2) . فإذاً جريان الماء يوجب إشاعة النجاسة إلى ما حوالي النجاسة، ويمنع من الإشاعة إلى غير ذلك، والركود يوجب تساوي أجزاء الماء. فليفهم الفطن ما نقول.
فإن قيل: فاذكروا عبارة مقربة فيما قيل في محل النجاسة على الماء الجاري.
قلنا: ما يحرك النجاسة من الماء، وينعطف عليها من اليمين واليسار، فهو المعني بالذي ذكره الأئمة، فقدْرُ حجم النجاسة من الماء لا شك فيه، ويصدم النجاسة من يمينها ويسارها الماء، ثم يلتف الماء التفافاً، وكل ما يقرب من النجاسة، وما يلاقي النجاسة، أو يلتف عليها، فهو مضاف إلى النجاسة، وهو الذي قيل فيه: إنه لا يغترف منه. وما يبعد قليلاً لا يلقَى النجاسةَ، ولا يلتفُّ عليها، ولا يؤثر في إجرائها، إلا أن يزورَّ المجرى، ويختلف شكلُه، وذلك لا معتبر به.
ويمكن أن يقال: إن محل النجاسة ما يغيَّر شكله بجرم النجاسة، ثم يدخل تحت ما ينسب إلى النجاسة مقدارٌ ممّا فوق النجاسة، ومقدارٌ مما تحته، على التقريب الذي ذكرناه.
فهذا أقصى الإمكان في ذلك.
364- ثم نذكر بعد ذلك وجهين بعيدين في شيئين، أحدهما -ما ذكره صاحب التقريب في الماء المنحدر عن النجاسة أمامها. قال: من أصحابنا من أجرى في التباعد عن النجاسة بقدر قلتين فيما انحدر- التردّدَ المذكور في يمين النجاسة ويسارها، وقطع بطهارة ما فوق محلها المنسوب إليها، وفرق بأن صوب النجاسة إلى أمامها وقدامها، ولا اتصال لها بما وراءها، وهذا ليس بشيءٍ؛ فإن انحدار الماء الذي فوق النجاسة إلى النجاسة كانحدار النجاسة إلى أمامها، فلا فرق.
__________
(1) عبارة (ل) : تعدي التقاء النجاسة والماء.
(2) في هامش الأصل: " حاشية: هذا نقلٌ صريح عن الأصحاب في إِيجابهم اجتناب الحريم في الماء الجاري ".(1/267)
والوجه الثاني - ذكره شيخي، كان يحكي: إن من أصحابنا من لم يرع للنجاسة على الماء الجاري حريماً، وجوَّز الاغتراف من قربها، كما يُجوِّز ذلك في الماء الراكد، وجعل جريان الماء في دَفْع (1) حكم النجاسة القائمة، ككثرة الماء الراكد، وهذا غريب ضعيف لا نعدّه من المذهب.
وهذا كله في النجاسة القائمة إذا كانت تجري جَرْيَ الماء.
365- وأمّا إذا كانت النجاسة واقفة، والماء يجري عليها، فالقول فيما وراء النجاسة وفوقها كما مضى، والقول فيما عن يمين النجاسة ويسارها، كما ذكرناه.
وإنما يختلف التفريع فيما ينحدر عن النجاسة، فقال العلماء: قدر القلتين مما ينحدر نجس، وأما ما وراء القلتين مما ينحدر، ففيه اختلاف مشهور:
ذهب صاحب التلخيص إلى أنه طاهر؛ فإن النجاسة يتلاشى أثرها، ويزول في مقدار القلتين، فما وراء ذلك طاهر.
وقال ابن سريج: كل ما ينحدر عن النجاسة نجسّ، وإن امتدّ الجدول فراسخ، إلا أن يُجمع في حوض مقدارُ قلتين، ويثبت له حكم الركود، فيطهر، ثم ما يخرج من الحوض طاهر، ووجه ذلك ظاهر. وهو الذي أفتى به المفتون.
والذي يجب الاعتناء به أنّا ذكرنا أن ما عن اليمين واليسار إذا كان بعيداً لا يصدم النجاسة، فهو طاهر. والظاهر أنه لا يجب اعتبار القلّتين فيما عن اليمين واليسار، فإذا انحدر الماء، فكيف يحكم ابن سريج بنجاسة جميع الماء المنحدر؟ قلنا: إذا امتدّ الماء، كثر اضطراب الماء، والتقت الحواشي على الأوساط، وانعكست الأوساط على الشطين، فيصير الكل كالشيء الواحد.
ولا يبين هذا ما لم يكقل الفصل. وإذا انتهيت إلى ما أراه تتمةً لهذا الفصل، نبهت عليه، إن شاء الله عز وجل.
وهذا قانون المذهب في أصله.
قال صاحب التقريب في النجاسة الواقفة: من أئمتنا من قال: يُراعى فيما فوق
__________
(1) ضبطت في الأصل: دُفَع (جمع دفعة) ، وفي (ل) : في التأثير في دفع الماء.(1/268)
النجاسة من التباعد بقدر قلتين، ما يُراعى في اليمين واليسار، إذا كانت النجاسة واقفةً.
وهذا فيه احتمال، وهو أقرب مما ذكره في الفصل الأول من اعتبار القلتين فيما ينحدر والنجاسة جارية جَرْي الماء.
وهذا كله في النجاسة القائمة.
366- فأما إذا وقعت نجاسة مائعة في الماء الجاري، فإن لم تغيّر الماء، وامّحقت في الماء، فلا حكم لها، والماء طاهر كله؛ فإن جميع الماء في النهر يزيد على قلل، وقد درست آثار النجاسة. وما زال الماضون يستنجون من شطوط الأنهار، ولا يرون ذلك منجساً للماء.
وكل ما ذكرناه في الأنهار التي لا يبعد تغيّرها بالنجاسات المعتادة، فأما الأنهار العظيمة التي لا يتوقع تغيُّرها بالنجاسات، إذا وقعت فيها نجاسة، والنجاسة جارية، فالذي ذكره معظم الأصحاب القطعُ بألا تباعد بقدر قلتين. وإنما يجتنب محل النجاسة. كما مضى مفصّلاً. ويستوي في ذلك الوراء والأمام، واليمين واليسار.
وذكر صاحب التقريب هذا ووجهاً آخر: أنه يجري في اليمين واليسار والأمام من الخلاف في التباعد بقدر القلتين ما ذكرناه.
367- فأما إِذا كانت النجاسة واقفةً راسيةً في أسفل الوادي العظيم، فلا خلاف أنا لا نحكم بنجاسة ما ينحدر، وهذا محالٌ تخيله، وليكن ما ينحدر عن النجاسة كما عن اليمين واليسار في أمر التباعد.
قلتُ: لو وقعت بعرة صغيرة في وادٍ من أوديتنا، وكان لا يتوقّع تغير ذلك الوادي بمثل تلك النجاسة، وإِن كان يتغير بأكثر منها، فإذا تناهى صغر النجاسة، فهي بالإضافة إلى هذا الوادي كالجيفة الواقعة في أسفل الوادي العظيم، فيجب القطع بطهارة ما ينحدر في هذه الصورة.
368- والذي كنت وعدتُ التنبيه عليه فيما تقدّم، فهذا أوانه.
ثم أقول: المبلغُ التوقيفي في حد الكثرة قلتان، فالذي أراه أن النجاسة الواقفة في(1/269)
النهر، إِذا كانت بحيث يتأتىّ التباعد عن يمينها بقدر قلتين، وكذلك عن يسارها، فلا ينبغي أن يشك في طهارة ما ينحدر، ويلتف البعض على البعض، ولا يتغيّر.
فإن قيل: ألستم ذكرتم أن الأصح أنه لا يجب التباعد، وقد قلتم: إن النجاسة المائعة إذا وقعت في الماء الجاري ولم تغيّره، والتف الماء، فالكل طاهر، فهلا قلتم: ما ينحدر في حكم نجاسةٍ مائعة تصير مستهلكةً؟ قلنا: لو صب في ماء متغير بطول المكث مقدارٌ كثير من البول، فلم يتغير به، فالحدّ المعتبر عندنا أن يقال: يقدّر للبول صفةٌ تخالف صفةَ الماء، ويُنظر هل يتغير؟ [فإن كان يتغير] (1) ، فينجُس الماء.
وقد ذكرنا نظير ذلك في الطاهر من المائعات إذا اختلط بالماء، واستقصينا القول فيه؛ فالذي تقدم من النجاسة المائعة يُعتبر فيه ما ذكرناه. فإن كانت مخالفة لصورة الماء، اعتبر التغير، وإن كانت موافقة لصفة الماء، قدّرت مخالفةً، وبني الأمر على ما مضى. فالمقدار الذي هو محل النجاسة على ما فصّلناه، يعتبر في كونه مخالفاً للماء وينظر [أيتغير أم لا] (2) . فهذا منتهى القول في ذلك.
وكان شيخي يقول: إذا كانت النجاسة طافية على الماء الجاري، فأَخْذُ الماء في جهة العمق موازياً للنجاسة يخرّج (3) على أَخْذ الماء عن اليمين واليسار في حكم التباعد.
ولو كانت النجاسة في أسفل النهر، فأخذ الماء من وجه النهر موازياً للنجاسة، مُخرّجٌ على ما ذكرنا.
فهذا منتهى القول. ومن لم يتفطن للغرض بهذه التنبيهات لا يزيده الإكثار إلا دهشةً وعماية.
فرع:
369: إذا كان الماء يجري منحدراً في صبب (4) ، فهو الجاري حقّاً، وكذلك إذا كان يجري في مستوٍ من الأرض، وإن كان ما هو أمام الماء فيه ارتفاع،
__________
(1) زيادة من (م) ، (ل) .
(2) ما بين المعقفين تقديرٌ منا لما امّحى من كلمات الأصل، وهكذا وجدناها في (م) ، (ل) .
(3) عبارة (م) ، (ل) :.. موازياً للنجاسة، كأخذ الماء عن اليمين أو اليسار.
(4) الصبب من الأرض: المنحدر. (المعجم)(1/270)
فالماء يترادّ لا محالة، ولكنه قد يجري مع هذا جرياً متباطئاً، فإن ظاهر المذهب أنَّ حكمَه -إذا كان كذلك- حكمُ الماء الراكد، ومن أصحابنا من أجراه مجرى الماء الجاري، وهو ضعيف؛ لا أعده من المذهب.
فرع:
370- إذا جرينا على مذهب ابن سُريج في الحكم بنجاسة [ما ينحدر] (1) من النجاسة الواقفة، وإن امتدّ الجدول، فلا يقع الحكم على مذهبه بالنجاسة حالة وقوع النجاسة، ولكن تنجس الجِرْيةُ الأولى التي تلقى النجاسة، فإذا جرت، فينجس ما بين الجرية الأولى إلى موقف النجاسة، وإذا كانت النجاسة تتحرك حركة متباطئة، وكان جري الماء أسرع، فالقول فيما ينحدر كالقول فيه إذا كانت النجاسة واقفةً.
ولكن نجاسة الجرية الأولى والنجاسة تتلوها لا (2) تبعد بُعدها والنجاسة واقفة لا تتحرك، فليعتبر ذلك بكف تِبْنٍ (3) على الجرية الأولى، ويعترض في ذلك أيضاً أن النجاسة إذا تحركت، فالماء الآتي من ورائها يُطَهّر موقفها، ولا يتغيّر. فيقع هذا في تفصيل غسالة لا تتغيّر. ثم يأتي بعده ماءٌ طهور لا يصادف نجاسة، ثم ينظر في الذي قدرناه غسالة مع ما يلت عليه، ويقدّر مخالفاً له في صفته.
وقد تمهد جميع ذلك على الاستقصاء
فرع:
371- قد يجتمع في موضعٍ ماءٌ لبعضه حُكمُ الجريان، ولبعضه حكم الركود، كالحوض الذي يدخل إليه ماءٌ ضعيف ويخرج، فالمقدار الجاري هو الذي يدخل ويخرج، وما عن جانبيه وما هو تحت المجرى إلى العمق حكمه حكم الراكد، فلو كان على المقدار الجاري نجاسةٌ تجري جَرْي الماء -والتفريع على أنه لا يجب التباعد لو كان الماء كله جارياً- فلا ينجس الراكد؛ فإنّا نجوز في هذه الصورة
__________
(1) زيادة من (م) ، (ل) .
(2) في الأصل: " ولا " وقدّرنا أن الواو لا محل لها. ثم صدقتنا (ل) .
(3) فليعتبر: يقاس. والتبن ساق الزرع بعدما ينكسر بالدياس (الدراس) وتعلف به الماضية (المعجم والمصباح) .
والمراد هنا أن يُلقى على وجه الجرية الأولى من الماء مقدار ما يملأ الكف من التبن، لقياس سرعة الجري والبعد عن النجاسة.(1/271)
الاغتراف من حاشيتي القدر الجاري، فكيف يتعدّى حكم النجاسة إلى ما وراء الجاري، وطرفا الجاري طاهران.
وليقع التفريع إذا كانت النجاسة طافيةً وللماء الجاري عمقٌ أيضاً.
[فلو] (1) وقعت نجاسةٌ على ما له حكم الركود، والمقدار الراكد أقلّ من قلتين، حكمنا بنجاسة الراكد، ثم حاشية الجاري تلقى في جريانها نجاسةً واقفةً، وهي الماء الراكد، فقد يقتضي ذلك نجاسةَ الماء الجاري الضعيف في منحدره.
فاقتضى قياس ما تمهد أن النجاسة على المقدار الجاري لا تتعدى إلى الراكد إذا استدّت (2) ، على استنان (3) الجريان، والنجاسة على الراكد إذا كان أقل من قلّتين يتعدى حكمها إلى الجاري.
372- ولو كان في وسط النهر حفرة لها عمق، وكان يجري الماء عليها، فقد حكى صاحب التقريب نصاً للشافعي، في أن الماء في الحفرة له حكم الركود؛ فإنه قارٌ لا يبرح.
ونحن نفصَّل هذا، وينشأ منه مسائل:
فإن كان الماء الجاري يقلّب ما في الحفرة ويبدلها، ويخلُفها، فهو جارٍ، وإن كان يلبث الماء قليلاً، ثم يزايل الحفرة، فله في زمان اللبث حكم الركود. وإن كان لا يلبث، بل تثقل حركتُه، ثم يستدّ في المجرى، فله في زمان التثاقل حكم الماء الذي بين يديه ارتفاع، وهو متحرك على بطء. وقد مضى جميع ذلك.
وإن كان ماء الحفرة لابثاً وفيه نجاسة، والماء يجري عليها، فماء الحفرة نجس، والجاري عليه في حكم جار على نجاسة واقفة لا تبرح، وقد تفصّل جميع ذلك. ولو كان يتلَوْلَب الماءُ في طرفٍ من النهر، ويستدير، فهو في حكم الراكد عندي؛ فإن
__________
(1) في الأصل: ولو. وصدقتنا (ل) وحدها.
(2) استد: استقام.
(3) استنان مفسرة في الهامش باللغة الفارسية ما ترجمته: الاستنان هو الاستقامة والحركة في يُسرٍ وسهولة. وفي المعجم، سن الماء: صبه على وجه الأرض صباً سهلاً. هذا. وفي الأصل: " استدت وعلى استنان " والمثبت عبارة (ل) .(1/272)
الاستدارة في معنى الترادّ، والتدافع يزيد على الركود.
فهذه جمل لا يشذ عنها مقصود، لم نؤثر بسطَها أكثر من ذلك.
فرع:
373- ماءٌ نجسٌ في كوزٍ غُمس في ماءٍ كثير، فإن كان ضيق الرأس، فاتصال الماء الكثير برأس ذلك الكوز لا يؤثر فيما في الكوز.
هكذا ذكره الأئمة؛ فإن مجرد الاتّصال لا يُعنى لعينه، وإنما الغرض انبثاث الماء النجس في الماء الكثير، حتى تصير النجاسة مستهلكةً مندرسة الأثر، وهذا لا يتحقق في الصورة التي ذكرناها.
ولو كان الكوز واسع الرأس، فعندي أن الغمسة الواحدة لا تُزيل حكمَ النجاسة منها.
ومن أراد في ذلك معتبراً، فيقال له: لو كان ماء الكوز متغيراً بزعفران، وقُلب في الماء الكثير، فيزول أثر التغير بالكلية، ولو غُمس الكوز الذي فيه الماء المتغير في ماء كثير لم يزل التغير منه على الفور. نعم، قد يزول التغير إذا تمادى الزمان، فنلتزم بحسب ما ذكرناه أن نحكم بطهارة ماء الكوز، إذا مضى من الزمان ما يزول في مثله تغيّر الماء الذي فرضنا.
374- وكان شيخي يقول: إذا كان الكوز واسع الرأس، وفيه ماء نجس غير متغير، فغمس في ماء كثير، نحكم بأن الماء الذي فيه يطهر.
وهذا لا أعدّه مذهباً.
375- ولو فرضنا قُلَّتين، في حفرتين، وبينهما نهر صغير غير عميق، وفيه ماءٌ يتّصل أحد طرفيه بإحدى الحفرتين والثاني بالأخرى، فإذا وقعت نجاسة في إحدى الحفرتين، فلست أرى الماء في الحفرة الأخرى دافعاً تلك النجاسة، بحكم الكثرة؛ فإنه ليس بينهما ترادّ وتدافع، وتخلل ذلك النهر الصغير لا يوصل قوة أحد الماءين إلى الأخرى. وليعتبر ذلك بما قدرناه من التغيّر بالزعفران وغيره.
فهذا غاية ما عقدنا (1) في ذلك.
__________
(1) في (ل) : عندنا.(1/273)
فرع:
376- قال العراقيون: إذا رأى ظبيةً من البعد تبول في ماء كثير، فدنا من الماء وصادفهُ متغيراً، وجوّز أن يكون تغيّره من البول، وجوز أن يكون من طول الاستنقاع، فقد نص الشافعي (1) على أن الماء نجس، والتغير محال على السبب الذي عاينه [من] (2) بول الظبية، دون ما يظنه من الاستنقاع.
هكذا نقلوه، ووجهه بيِّن. وفيه احتمال لا يخفى على المتأمل.
فصل
377- قال: "ولو كان مع الرجل إناءان يستيقن أن أحدهما طاهر ... الفصل" (3) .
إذا كان مع الرجل إناءان في أحدهما ماء طاهر بيقين، وفي الثاني ماء نجس، والتبس الطاهر بالنجس، فمذهب الشافعي أنه يجتهد، ويتحرّى، فما أدى اجتهاده إلى طهارته، توضأ به، واستعمله فيما أراد.
وكذلك ثلاثة من الأواني: اثنان طاهران وواحد نجس، أو اثنان نجسان وواحد طاهر؛ فالاجتهاد سائغ في جميع هذه الصور.
وحكى الصيدلاني عن المزني: أنه لا يجوز الاجتهاد في الأواني. ومذهب أبي حنيفة (4) معروف، مذكور في الخلاف.
378- ثم الكلام في هذه القاعدة يتعلق بأمور: منها - أنه إذا كان إناءان مثلاً، فظاهر المذهب أنه لا بد من الاجتهاد، والاجتهاد يعتمد الأمارات والعلامات، فإذا
__________
(1) ر. الأم: 1/10.
(2) زيادة من (ل) وحدها.
(3) ر. المختصر: 1/47.
(4) مذهب أبي حنيفة أنه لا يجوز الاجتهاد في الأواني. ولم يعرض إمام الحرمين لهذه المسألة في "الدرة المضية فيما وقع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية".
فلعله ذكرها في كثاب آخر من كتبه في الخلاف وإليها يشير بقوله: " مذكور في الخلاف " ولنظر مذهب أبي حنيفة، راجع مختصر الطحاوي: 17، رؤوس المسائل: 1/122 مسألة 28، حاشية ابن عابدين: 5/221.(1/274)
رأى من البعد كلباً يلغ في أحد الإناءين، ثم التبس، فإذا رأى الماء ناقصاً في أحدهما، أو رأى الماءَ مضطرباً فيه، ورأى قطرات من الماء بالقرب من أحد الإناءين، فهذه العلامات وغيرها متعلق الاجتهاد، فإن لم ير شيئاًً منها، لم يستعمل واحداً من الماءين. وسيأتي ذكرُ ما نأمره به إذا تعذّر الاجتهاد.
فهذا هو المذهب.
ومن أصحابنا من قال: إذا التبس الأمر، فاستعمل أحد الماءين من غير اجتهاد، جازَ؛ بناءً على أن الأصل في الذي استعمله الطهارة، فلا تزول إلا بيقين النجاسة.
وهذا وإن كان لا يعسر توجيهه، فهو بعيدٌ عن المذهب جدّاً. ولكن حكاه الصيدلاني على هذا الوجه.
وذكر شيخي وبعض المصنفين مسلكاً آخر ثالثاً، وهو أنه لو ظن الرجل طهارة أحد الماءين من غير تعلّق بأمارة، فله التعويل على الظن من غير أن يكون له مستند، فأمّا استعمال أحدهما من غير اجتهاد، ولا ظن، فلا.
وهذا أشبه مما حكاه الصيدلاني، ولكنّه أضعف في التوجيه منه؛ فإن الظن لا يغلَّب من غير سبب يقتضي تغليبَه. والأمور الشرعية لا تبنى على الإلهامات والخواطر.
فإذاً حصلت ثلاثُ طرق، والمذهب منها الطريقة الأولى.
379- فإذا فرعنا على أنه لا بد من الاجتهاد، فلو انصبّ أحد الماءين، فهل يجوز استعمال الثاني من غير اجتهاد، وقد انفرد الماء؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما يجوز؛ فإنه مشكوك فيه، والأصل طهارته. والثاني لا بد من الاجتهاد؛ لأن الاجتهاد وجب متعلقاً بهذا الإناء وبآخر معه، فتبقى فرضيتُه في حق الإناء الثاني. فهذا أجدر (1) الأمور في القاعدة.
380- ومن القواعد في ذلك أنه إذا كان مع الرجل إناءان: أحدهما طاهر والثاني
__________
(1) في (م) ، (ل) : أحد الأمور.(1/275)
نجس، والتبس الطاهر منهما، ومعه ماء مستيقن الطهارة. [أو] (1) كان على شط بحرٍ أو نهرٍ، فهل يجوز استعمال أحد الإناءين بالاجتهاد وترك الماء المستيقن؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يجوز؛ فإن الاجتهاد إنما يسوغ عند فقدان اليقين، وهو عند زوال اليقين كالضرورة، فلا مساغ مع التمكن من اليقين. ولا يخفى نظائر ذلك.
والوجه الثاني - أنه يجوز استعمال أحد الإناءين بالاجتهاد؛ فإن أكثر ما فيه أنه يستعمل ماءً لا يستيقن طهارتَه، مع القدرة على ماء مستيقن الطهارة، وليس ذلك بدعا؛ فإنه لو كان معه ماء مشكوك فيه، وكان على شط بحر، فله استعمال الماء المشكوك فيه مع القدرة على الماء المستيقن الطهارة. والسبب فيه أن الماء الذي لم يستيقن نجاسته في الشرع كالماء الذي يستيقن طهارته.
381- وهذه القاعدة تنشأ منها مسائل مختلف فيها: منها إذا كان معه إناءان في أحدهما ماء طهور، وفي الثاني ماء مستعمل، أو ماء ورد، فمن منع الاجتهاد مع القدرة على اليقين، أوجب أن يتوضأ مرتين بالماءين ليستيقن ارتفاع الحدث، ومن جوز الاجتهاد، سوغّ التوضؤ بأحدهما بالاجتهاد.
ومنها إذا كان معه ثوبان أحدهما نجس، والآخر ملتبس، ومعه ماء طاهر، يمكنه غسل الثوبين به، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه يجب ذلك. والثاني - يسوغ الاجتهاد.
ومنها: إذا كان معه إناءان أحدهما نجس، وفي كل واحدٍ منهما قلة، ولو جمعهما، لكان الكل طاهراً بالكثرة، ففي المسألة وجهان: أحدهما - يجب طلب اليقين الذي ذكرناه (2) .
والثاني - يجوز التعويل على الاجتهاد.
وأصل هذه المسائل ما سبق تمهيده.
__________
(1) في الأصل: وكان. والمثبت تقديرٌ منا رعاية للسياق، وهي كذلك في المختصر لابن أبي عصرون، ووجدناها في (م) ، (ل) .
(2) في (م) : اليقين بالمسلك الذي ذكرناه.(1/276)
382- ومن الأصول في الفصل أنه إذا كان معه إناءان في أحدهما ماء. وفي الثاني بول، والتبس، فمن يرى استعمالَ أحد الماءين من غير اجتهاد إما تعويلاً على الظن، أو من غير ظن، فلا يجوِّز استعمال ما في أحد الإناءين وجهاً واحداً؛ إذ لا اجتهاد، ولا يتأتى البناء على أصل الطهارة، وكذلك لو انصبّ ما في أحد الإناءين، فأراد استعمال الثاني من غير اجتهاد، لم يجز وجهاً واحداً هاهنا، وإن ذكرنا وجهين في الماءين، فالفرق (1) لائحٌ.
فأما إذا أراد الاجتهاد في الماء والبول، فلاحت له [علامة] (2) ، ففي جواز الاجتهاد وجهان: أشهرهما - المنع؛ لأن الاجتهاد في الأواني ضعيف، ما لم يعتضد برد الأمر إلى استصحاب الطهارة. وهذا المعنى لا يتحقق في ماءٍ وبول.
والوجه الثاني - أنه يجتهد تعلّقاً بالعلامات، وهذا يتجه في القياس، والأول أشهر (3) .
383- ولو التبست ميتةٌ ومذكاة، [فلست] (4) أرى علامة تميز إحداهما عن الأخرى.
وكذلك لو التبست أختٌ محرمةٌ برضاعٍ، أو نسبٍ بأجنبتّة، فلا علامة تميّز، والتعويل على الظن محالٌ؛ فالوجه القطع بالتحريم. فهذا بيان قواعد الفصل.
ونحن نرسم الآن فروعاً يتم بها الغرض.
فرع:
384- إذا كان معه إناءان في أحدهما ماء طاهر، وفي الثاني ماء نجس، فأدى اجتهادُه إلى طهارة أحدهما، فتوضأ به، وصلى الصبحَ، ولم يُفضل شيئاً، فلما دخل وقتُ الظهر أدّى اجتهادُه إلى طهارة الثاني، فإن استعمل الثاني ولم يأت الماءُ على ما أتى عليه الأول، فلا تصح صلاتُه؛ فإنه يكون مستصحباً للنجاسة يقيناً.
__________
(1) في الأصل: والفرق. وأيدتنا (ل) وحدها.
(2) زيادة اقتضاها السياق، ووجدناها في (م) ، (ل) ، وكنا قدرناها [أمارة] .
(3) ر. المجموع: 1/194 وما بعدها، وفتح العزيز: 1/273.
(4) زيادة من (م) ، (ل) .(1/277)
وإن كان يأتي الماءُ الثاني على ما أصابه الماء الأول، فما نُقل عن نص الشافعي في رواية حرملة أنه لا يجب استعمال الماء الثاني؛ فإنا [إن] (1) جوزنا ألا يستوعب بالماء الثاني ما أتى عليه الماء الأول، فيكون ذلك حملاً للنجاسة قطعاًً.
وإن أوجبنا أن يأتي بالماء الثاني على جميع ما أتى عليه الأول، فيتضمن ذلك نقضَ الاجتهاد الأول، والاجتهاد لا يُنقض بالاجتهاد.
فهذا هو النص وتوجيهه.
وقال ابن سُريج: يستعمل الماء الثاني الذي أدى إليه اجتهادُه، ويجب أن يأتي على جميع ما أتى عليه الماء الأول. ووجه ما قاله: أنه يتّبع في كل طهارة اجتهاده الناجز، وهو بمثابة إلزامنا من التبس عليه جهةُ القبلة أن يجتهد عند دخول وقت كل صلاة، وقد يصلي صلوات باجتهادات إلى جهات.
وأما [إيجاب] (2) استيعاب ما أتى عليه الماء الأول [فليتوقَّى] (3) يقينَ النجاسة في الصلاة الثانية، التي يقيمها بالماء الثاني.
385- فإن فرعنا على النص، فإذا منعناه من استعمال الماء الثاني فيتيمّم، ويصلي ولا يعيد الصلاة الأولى، وهل يعيد الصلاة الثانية؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون: أحدهما - لا يعيدها؛ فإنه تيمم وهو ممنوع عن الماء الذي معه، وليس معه ماءٌ مستيقن الطهارة.
والوجه الثاني - يعيد الصلاة الثانية، وكلّ صلاة يصليها بعد ذلك بالتيمم، ما دام اجتهاده الثاني مستقراً؛ فإنه تيمم ومعه ماءٌ يظنه باجتهاده طاهراً.
وإن فرعناه على تخريج ابن سُريج، فلا نوجب قضاء شيءٍ من الصلوات؛ فإن كلّ صلاة مستندة إلى اجتهادٍ مستقلٍّ بنفسه.
وهذا عندي بمثابة ما لو صلى أربع [صلوات] (4) بأربع اجتهادات إلى أربع
__________
(1) مزيدة لاستقامة المعنى. وهي في (م) ، (ل) .
(2) مزيدة من (ل) ، وفي (م) : استحباب ما أتى عليه الماء.
(3) في الأصل: فيتوقى. وهذا تقدير منا صدقته (م) ، (ل) .
(4) في الأصل، (م) : ركعات(1/278)
جهات، فالمذهب أنه لا يجب قضاء شيء منها. وفيها شيء سأذكره في كتاب الصلاة. إن شاء الله تعالى.
وما ذكره ابن سُريج كذلك في الظهور، ويتطرّق إليه من الاحتمال ما يتطرق إلى مسألة القبلة.
386- ولو كانت المسألة بحالها، فأدّى اجتهاده إلى الماء الأوّل، فتوضأ به، وأفضل منه شيئاًً، ثم أدّى اجتهادُه في وقت الصلاة الثانية إلى الماء الثاني، فلا يخلو: إما إن كان ما أفضله من الماء الأول مقدار وضوء، أو كان أقل من ذلك، فإن كان مقدار وضوء، فالقول في أنه هل يستعمل الماء الثاني على الخلاف المقدم، نصاً وتخريجاً، وإنما يختلف بسبب الإفضال أمرُ القضاء.
فإن فرعنا على تخريج ابن سُريج، فيستعمل الماء الثاني، ولا قضاء؛ لما ذكرناه. وإن فرعنا على النص، فقد قطع الأئمة بأنه إذا تغيّر اجتهادُه يتيمّم، ويصلي.
ويُعيد في هذه الصورة كل صلاةٍ صلاها بالتيمم. هكذا ذكره الشافعي. وعلّل بأن معه ماءً مستيقنَ الطهارة.
387- فإن قيل: هلا قلتم: امتناع استعماله يُسقط قضاء الصلاة، كما إذا رأى المتيمم ماءً، ورأى معه مانعاً من استعماله، كسبُع أو غيره؟
قلنا: ليس المجتهد آيساً من دَرْك (1) اليقين، والاستقرارِ (2) على الاجتهاد [الأول] (3) عوْداً إليه. هذا هو المنقول الذي بلغني، ولست أنكر تطرقَ الاحتمال إليه. ولكن المذهب نقلٌ.
ووجه قضاء الصلاة ليس بالخافي؛ فإنه -لما ذكرناه في جميع حالاته- على تردد، ومعه ماء مستيقن، والذي رأى مع الماء سبعاً على يقين من المانع، فلو أنه أراق الماءين جميعاًً، تخلص عن القضاء في الصلوات التي يصليها بالتيمم.
__________
(1) بالفتح والسكون. (معجم) .
(2) في الأصل: إذ الاستقرار. والمثبت من (ل) .
(3) زيادة من (م) ، (ل) . وكنا قدرناها قبلاً هكذا بحمد الله وعونه.(1/279)
وقد ذكرنا خلافاًً في أن من صَبَّ ماء وضوئه بعد دخول وقت الصلاة من غير غرضٍ، وتيمم وصلى، فهل يلزمه قضاء الصلاة؟ والذي ذكرناه الآن في صب الماءين ليس كذلك؛ فإنه ثمَّ صبّ ماءً طاهراً هَزْلاً من غير غرض، وهاهنا عذرٌ في صب ماء لا يقدر على استعماله؛ فلا يلزمه قضاء الصلوات.
ولو صبّ أحدَ الماءين في الآخر حتى يصيرَ مستيقن النجاسة، يسقط القضاء أيضاًً.
ولو صبّ الماءَ الثاني، وأبقى الفضلة، وكان يتيمم ويصلي؛ فلا قضاء عليه، لأنه ليس معه ماء مستيقن الطهارة، ولا يغلب على الظن طهارته. وإن صب تلك الفضلة، وبقي الماء الثاني، فهل يقضي الصلوات التي يصليها بتيمّم؟ فعلى وجهين: ذكرهما العراقيون؛ فإنه ماء مظنون الطهارة، وقد سبق ذلك في الصورة الأولى.
388- فهذا إذا كان ما أفضله مقدارَ وضوء، فأما إذا كان أقل منه، فيزيد هاهنا التفريع على أن الماء القاصر عن مقدار الطهارة هل يجب استعماله؟ فإن قلنا: يجب، فتفصيل قضاء الصلاة كما مضى فيه، إذا كانت الفضلة مقدار وضوء.
وإن قلنا: لا يجب استعمال ما ينقص عن مقدار الطهارة، فوجود تلك الفضلة
وعدمها بمثابةٍ واحدةٍ. وهو كما لو صب الفضلة الباقية في الصورة الأولى، وبقي الماء
الثاني الذي مال الاجتهاد إليه. وقد مضى ذلك مفصَّلاً.
فرع:
389- ذكر ابن الحداد حكم الإمامة في التباس أمر الحدث في غير الأواني، ثم ذكر حكم الأواني، فنذكر ما ذكره أولاً مقدّمةً، ثم نبني عليها الأواني.
إذا جلس اثنان فسُمع منهما صوتُ حدث، وكل واحد منهما ينكر صدروه منه، فإذا انفرد كل واحدٍ وصلى وحده، حكم بصحة صلاة كل واحد منهما. ولو اقتدى أحدهما بالثاني، فأما الإمام، فتصح صلاته؛ فإنه لا تعلق لصلاته بصلاة المقتدي به، وحكمه حكم المنفرد، وأما المقتدي فلا تصح صلاته؛ فإن الحدث إن كان منه، فصلاته باطلة، وإن كان من إمامه، فقد اقتدى بمحدث.
ثم كان شيخي يذكر هاهنا اقتداءَ الشافعي بالحنفي، وفيه غموض. ونحن نذكره(1/280)
موضحاً به المذاهب المختلفة. فإذا توضأ الحنفي واقتدى به الشافعي، فالنية شرط الوضوء عند الشافعي. أما الأستاذ أبو إسحاق (1) ، فلم يجوِّز الاقتداء بالحنفي، وإن نوى رفعَ الحدث، وصار إلى أنه لا يرى النية واجبةً (2) ، فلا نعتدّها، وإن جاء بها.
وذهب القفال إلى صحة الاقتداء وإن لم ينو الحنفي؛ فإن كلَّ واحدٍ مؤاخذٌ بموجب اعتقاده، والاختلاف في الفروع رحمةٌ.
وذهب الشيخ أبو حامد (3) إلى أنه إن نوى، صحَّ اقتداء الشافعي به، ولا يضرّ عدم اعتقاد الوجوب، وإن لم ينو، لم يصح اقتداءُ الشافعي به.
وهذا لا يناظر ما قدمناه من اقتداء أحد الرجلين بالثاني إذا صدر منهما صوتُ حدث؛ فإن اقتداء المقتدي باطلٌ قطعاًً، على كل تقديرٍ، كما سبق تقريرُه، وأما اقتداء الشافعي بالحنفي، فلا يبطل على كل تقدير؛ فإن معتقد أبي حنيفة إن كان حقاً في نفي وجوب النية - فلا يضر الشافعي أن ينوي، ويعتقدَ وجوبَ النية ويقتدي، فلهذا تردد الأئمة في الاقتداء بالحنفي كما صوّرناه.
__________
(1) الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران، الإمام، ركن الدين. أحد أئمة الدين، كلاماًً، وأصولاً، وفروعاً. شيخ أهل خراسان، روى عنه البيهقي، وأبو الطيب الطبري، له من التصانيف الفائقة: الجامع في أصول الدين، والرد على الملحدين، وتعليقة في أصول الفقه ومسائل الدور، تكرر ذكره في الوسيط والروضة، ولا ذكر له فى المهذب، ممن قيل عنهم: إنه بلغ حد الاجتهاد. ت 418 هـ (ر. تهذيب الأسماء: 2/169، طبقات السبكي: 4/256، طبقات ابن قاضي شهبة: 1/189، وطبقات الشيرازي: 106) .
(2) ر. رؤوس المسائل: 1/100 مسألة: 7، طريقة الخلاف للأُسْمَندي: ص 7، مسألة: 2، إيثار الإنصاف لسبط ابن الجوزي: 42، المبسوط: 1/72، حاشية ابن عابدين: 1/72.
(3) الشيخ أبو حامد، هو أبو حامد الإسفراييني، أحمد بن محمد بن أحمد، ويعرف بابن أبي طاهر، إمام طريقة العراقيين، وهو متكرر كثيراً في كتب المذهب، وهو غير أبي حامد المرورّوذي، فذاك يُعرف بالقاضي أبي حامد، وصاحبنا يُعرف بالشيخ أبي حامد، ثم هو أكثر ذكراً وتكراراً في الكتب بعامة، وفي كتابنا هذا خاصة، وهو شيخ الماوردي، والقاضي أبي الطيب، وسليم الرازي. توفي 406 هـ (تهذيب الأسماء واللغات: 2/210 ترجمة رقم 318) .(1/281)
وهذا الاختلاف له التفات إلى تصويب المجتهدَيْن (1) . ولا وجه للخوض فيه.
390- ولو وجد شافعي وحنفي نبيذ التمر، فتوضأ به الحنفي، وتيمم الشافعي، واقتدى أحدهما بالثاني، فصلاة المتيمم باطلة عند المتوضىء، وصلاة المتوضىء باطلة عند المتيمم، فهذه الصورة تضاهي اقتداء أحد الرجلين بالثاني، وقد سُمع منهما صوتُ حدث؛ فإن المتيمم يقول: إن كنتُ مصيباً، فأنا مقتدٍ بمن استعمل نجساً، وإن كان إمامي مصيباً، فصلاتي باطلة.
والأصحاب أطلقوا الاختلاف في اقتداء الشافعي بالحنفي، ورأَوْا أن الاجتهاد المتعلق بالمذاهب في فروع الشريعة يخالف الاجتهادَ في الأواني، والإشكالَ في تعيين المحدِث، فإن الاجتهادَ في مذاهب الفقهاء لا يتوقع إفضاؤه إلى اليقين، والإشكالات في الوقائع التي ذكرناها يتوقع إفضاؤها إلى اليقين، وإذا كان ذلك ممكناً، فقد يجرّ مصادفةُ الإشكال بطلان الصلاة.
391- وإذا تقارب ثلاثةٌ، فسمع منهم صوتُ حدثٍ، وتناكروا، فإن صلَّوْا أفراداً، جاز في ظاهر الحكم، والله يتولى السرائر. ولو اقتدى واحد بواحد، فالذي رآه ابن الحداد أنه يصح في هذه الصورة اقتداؤه بأحد صاحبيه، فإن الحدث واحدٌ، والمقتدي يفرض نفسه وإمامه متطهرين، ويقدّر الآخر محدثاً، وهذا التقدير ممكن.
وقال صاحب التلخيص: لا يصح اقتداؤه بواحدٍ منهما؛ فإن أمرهما مشكل، والحدث متردد بينهما، فكل واحد منهما في حقه بمثابة الخنثى المشكل، ولا يصح اقتداء الرجل بالخنثى، كما لا يصح الاقتداء بالمرأة (2) .
فهذا إذا اقتدى بأحد صاحبيه. فأما إذا اقتدى بأحدهما في صلاة الصبح، واقتدى بالثاني في صلاة الظهر، فصلاة الإمامين محكوم بصحتها، وأما صلاة المقتدي، فصحيحةٌ خلف إمام الصبح، وظهره فاسدٌ خلف الإمام الثاني؛ فإنا وجدنا لتصحيح
__________
(1) ر. البرهان في أصول الفقه: 2/فقرة 1455-1479، والمنخول للإمام الغزالي: 453، وأصول الفقه للخضري: 374.
(2) إلى هنا انتهى كلام صاحب التلخيص، وعدنا لكلام ابن الحداد.(1/282)
الصلاة الأولى مَحْملاً، فتتعين الصلاة الثانية [للبطلان] (1) . هذا مذهب ابن الحداد.
وقال صاحب التلخيص: الصلاتان من المقتدي فاسدتان. وقال أبو إسحاق المروزي (2) : إن اقتصر على الاقتداء بأحدهما، صحت صلاته في هذه الصورة، وإن اقتدى [بهما] (3) فإحدى صلاتيه باطلة، لا بعينها، فيلزم قضاؤهما.
فإن قيل: فما الفرق بين مذهبه ومذهب صاحب التلخيص؟ قلنا: لو اقتصر على الاقتداء بأحدهما، فصلاته باطلة عند صاحب التلخيص، وهي صحيحة عند المروزي، وافتراق مذهبهما بيّنٌ.
392- صورة أخرى: خمسةُ نفرٍ كان منهم صوت حدث، فإن صلَّوْا أفراداً، حُكم بصحة صلاة الجميع ظاهراً، وإن اقتدى أربعةٌ بإمام واحد من غير تناوب، فصلاة الجميع صحيحة عند ابن الحداد والمروزي، وهي باطلة عند صاحب التلخيص، فلا يصح عنده إلا صلاةُ الإمام.
فلو تناوبوا في الإمامة، [فصلّى] (4) كل واحد منهم صلاةً إماماً، واقتدى به أصحابه، فأمّا مذهب ابن الحدّاد، فتصحّ لكل واحد منهم أربع صلوات، وتفصيلها أنه تصح من كل واحد الصلاة التي هو إمام فيها، وتصح ثلاثٌ سواها أولاً فأولاً، فإذا مضت أربعةٌ، بطلت الخامسة في حقه.
فأما إمام الصبح، فتصح منه الصبح، والظهر، والعصر، والمغرب.
وإمام الظهر يصح منه الظهر، ثم يبتدىء، فيعد من الأول ثلاثاًً سوى الظهر، وهي الصبح والعصر والمغرب.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق، وصدّقَتنا (م) ، وفي (ل) : للفساد.
(2) أبو إسحاق المروزي: إبراهيم بن أحمد، تكرر في المهذب، والوسيط، والروضة، وحيث أطلق أبو إسحاق في المهذب، فهو المروزي، وقد يقيدونه بالمروزي، تفقه على أبي العباس بن سريج، وانتهت إليه الرياسة في العلم ببغداد، وشرح المختصر، وصنف الأصول، وأخذ عنه الأئمة، وانتشر به المذهب في العراق، وسائر الأمصار، خرج إلى مصر، وتوفي بها سنة 340 هـ (ر. تهذيب الأسماء: 2/175، طبقات الشيرازي: 112) .
(3) زيادة اقتضاها السياق، ووجدناها في (ل) .
(4) في الأصل: فصلاة، والمثبت من (ل) ، وجاءت كما قدرناها.(1/283)
وكذلك القول في إمام العصر والمغرب.
أما إمام العشاء، فتصح منه العشاء وثلاثٌ من الأول: الصبح، والظهر، والعصر.
فإذاً يصح [من جميعهم الصبح، والظهر، والعصر، والمغرب] (1) ، ويفسد منهم العشاء، إلا إمام العشاء، فإنه يصح منه العشاء، ويصح الصبح، والظهر، والعصر، ويفسد المغرب. ولا خفاء بقياس مذهبه.
وصاحب التلخيص يصحح لكل واحد الصلاة التي كان إماماً فيها، ويُبطل الباقي.
والمروزي يقول: إذا صلى كل واحدٍ خمسَ صلواب، فالصلاة التي كان إماماً فيها صحيحة له، ويقضي الصلوات الأربع؛ لأن واحدة منها فاسدة [لا] (2) بعينها.
393- والذي ذكرناه من التباس الأمر في الحدث نفرضه في الأواني. فإذا كان بين خسمةٍ خمسةُ أوانٍ: واحد نجس وأربعة طاهرة، فأدّى اجتهادُ كل واحدٍ إلى إناءٍ، ثم تناوبوا في الإمامة، فالكلام كما مضى حرفاً حرفاً.
وقد يفرض زيادة في الأواني، وهي أن الخمسة إذا اجتهدوا، والنجس من الأواني واحد، فلو اجتهد رجل، فاختار إناء باجتهاده، واجتهد في بقية الأواني، فعيّن في ظنه النجس، فمن استعمل ذلك النجس، لم يقتد به، ويقتدي بالباقين على الصحة، كيف فرض صلاتهم؛ فإن اجتهاده في نفسه، وفي حق إمامه صحيح في حكم قدوته، وهذا لا يتأتى في سبق الحدث؛ إذ ليس ثَم اجتهادٌ، ولا استمساكٌ بدلالةٍ وأمارة عليها تعويل.
فإن تكلّف متكلف، وفرض فيه علامات ظنيّة، فيستوي البابان فيما ذكرناه الآن.
ولو كان ثلاثةٌ من الأواني الخمسة نجسة، واثنان طاهران، وتناوبوا في الإمامة، فتصح لكل واحد صلاتهُ التي هو إمام فيها، وصلاة أخرى. والبدار إلى [التصحيح] (3) فتبطل ثلاثُ صلواتٍ، فيصح لإمام الصبح صلاةُ الصبح، وصلاةُ الظهر، ويبطل باقي الصلوات، ويصح لإمام الظهر صلاة الظهر، وصلاة الصبح، ويصح لإمام العصر صلاة العصر، وصلاة الصبح، وتبطل صلاة الظهر، والمغرب، والعشاء، ويصح
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق، ثم صدقتها (ل) ، وهي في (م) : ما عدا المغرب.
(2) زيادة من (ل) ، (م) .
(3) في الأصل: "الصحيح" والمثبت من (ل) .(1/284)
لإمام المغرب صلاة المغرب، وصلاة الصبح فحسب، ويصح لإمام العشاء صلاة العشاء، وصلاةُ الصبح، وهذا مذهب ابن الحداد. ولا يخفى مذهب الباقين.
ولو كان أربعةٌ من الأواني نجسة، فلا يصح على المذاهب كلها اقتداءُ أحد منهم بأحدٍ من أصحابه؛ فإن كل واحد يعتقد أنه استعمل الطاهر، والباقون استعملوا النجس.
وهو كما لو اختلف اجتهاد أربعة في جهات القبلة، واستقبل كلُّ واحدِ جهةً، فلا يصح من بعضهم الاقتداء ببعض لما ذكرناه.
فصل
394- إذا كان معه إناءان أحدهما نجس، وقد التبس عليه النجس منهما، فأخبره ثقةٌ تُقبل روايته بورود النجاسة على إناء عيّنه، لزمه قبول قوله، والمعتبر فيه الرواية، فمن صحت روايته: حرَّاً كان، أو عبداً، ذكراً كان، أو أنثى، فيقبل إخباره فيما ذكرناه.
ولكن لا يكفي أن يقول: هذا هو النجس؛ فإن العلماء مضطربون في أسباب النجاسة، فقد يرى المُخبر الشيء نجساً، وليس هو بنجس، فلا بد من ذكر ما رآه وعاينه مفصَّلاً.
ولو أخبر مخبرٌ بأن هذا الإناء نجس وفصَّل، فأخبره الثاني بأن النجاسة وردت على الإناء الثاني، وكانت النجاسة واحدة، وهي ولغةُ كلبٍ مرةً واحدةً، وما كان تعدد السبب. فإذا تعارض الخبران، وكان أحد المخبرَيْن أصدق وأوثق عنده من الثاني، فيعتمد قولَ الأوثق منهما، كما إذا تعارض خبران، وأحد الروايتين أوثق. فإن استويا، فلا تعلق بخبرهما.
فرع:
395- قال أئمة العراق: الأعمى لا يجتهد في القبلة؛ فإن عماد الاستدلال فيها البصر، ويجتهد في وقت الصلاة؛ فإنه ينضبط بأورادٍ وأشغال كان يقضيها.
وبالجملة ضبط الساعات ليس يعسر على الأعمى بجهاتٍ.
وهل يجتهد في الأواني والمياه؟ ذكروا وجهين؛ لتردد هذا الاجتهاد بين القبلة والوقت. والله أعلم.
***(1/285)
باب المسح على الخفين
396- المسح على الخف رخصة قال بها علماء الشريعة، ولم ينكرها إلاّ الروافض، ومن يُعرفُ بالانتماء إليهم من العلماء، ومنكروها هم الذين أثبتوا مسحَ القدم.
والأصل فيها الأخبار المشهورة، منها ما روي عن صفوان بن عسّال المرادي (1) ، أنه قال: " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنّا مسافرين أو سَفْراً ألا ننزع خفافنا فيها ثلاثة أيام ولياليهن، إلا من جنابة، لكن من كائط، وبول، ونوم "، وروي أنه صلى الله عليه وسلم: " أرخص للمقيم يوماً وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، إذا تطهر فلبس خفَّيه أن يمسح عليهما " (2) ، وروي "أن رسول الله
__________
(1) حديث صفوان بن عسال، رواه الشافعي، وأحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن خزيمة، وابن حبان، والدارقطني، والبيهقي، وصححه الترمذي، والخطابي، وروى الترمذي عن البخاري قال: هو أحسن شيء في هذا الباب. وقال الألباني في الإرواء: حديث حسن. (ر. مسند الشافعي: 17-18، مسند أحمد: 4/239، الترمذي: َ الطهارة، باب ما جاء في المسح على الخفين للمسافر والمقيم، ح 96، وصحيح الترمذي: ح 84، والنسائي: الطهارة، باب التوقيت في المسح على الخفين للمسافر، ح 126، 127، وابن ماجه: الطهارة، باب الوضوء من النوم، ح 478، وابن خزيمة: 1/باب رقم 147 ح 193، وابن حبان: 4/ح 1319، والدارقطني: 1/196-197، والسنن الكبرى: 1/276، وإرواء الغليل: 1/140 ح 104، وتلخيص الحبير: 1/157 ح 216) .
(2) حديث: " أرخص للمقيم يوماً وليلة " رواه من حديث أبي بكرة ابن خزيمة، واللفظ له، وابن حبان، وابن الجارود، والشافعي، وابن أبي شيبة، والدارقطني، والبيهقي، والترمذي في العلل المفرد، وصححه الخطابي ا. هـ كلام الحافظ في التلخيص. ورواه مسلم في الصحيح كتاب الطهارة، باب التوقيت في المسح على الخفين، عن علي رضي الله عنه: 1/232 ح 276. (ر. ترتيب مسند الشافعي: 1/42، ابن أبي شيبة 1/179، وابن حبان: 4/151 ح 1322، وابن خزيمة: ح 192، والسنن الكبرى: 1/276، 282، والبغوي في شرح السنة: 237، والتلخيص: 1/157 ح 215) .(1/286)
صلى الله عليه وسلم: مسح على خفَّيه" (1) .
397- ثم الباب مصدّر بذكر مدة المسح.
فالذي صار إليه معظم الفقهاء أن مدة المسح تتأقت، فهو في حق المقيم يومٌ وليلة، وكذلك في حق المسافر سفراً قصيراً، وفي حق المسافر سفراً طويلاً، ثلاثة أيام ولياليهن.
ثم يجب نزع الخف، وراء المدة على ما سيأتي مشروحاً - إن شاء الله عز وجل.
وقال مالك (2) : يمسح المقيمُ والمسافرُ ما بدا لهما، ما لم يلزمهما الغُسل؛ فإنه يجب إذ ذاك النزع. وهذا قولُ الشافعي في القديم. وشهد له أخبار: منها حديث خزيمة، قال: "رخّص رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسافر أن يمسح ثلاثة أيام، ولو استزدناه، لزادنا" (3) . وروي عن أُبي بن عمارة، وهو كان ممن صلّى إلى القبلتين قال: قلت: يا رسول الله أنمسح على الخف يوماً وليلةً؟ قال: نعم، قلت: يومين وليلتين؟ قال: نعم، قلت: ثلاثة أيامٍ؟ قال: نعم، وما شئت (4) ، وهذه الألفاظ مشكلة، وقد صححها مالك.
__________
(1) حديث أنه صلى الله عليه وسلم مسح على خفيه، متفق عليه من حديث جرير بن عبد الله، وحديث المغيرة بن شعبة. (اللؤلؤ والمرجان: 1/62 ح 155، 157) .
(2) ر. الإشراف: 1/132، مسألة: 56، حاشية العدوي: 1/206، الشرح الصغير: 2/152، جواهر الإِكليل: 1/24.
(3) حديث خزيمة بن ثابت رواه أبو داود، وبسياقة إِمام الحرمين، ورواه ابن ماجة بلفظ: "ولو مضى السائل على مسألته، لجعلها خمساً"، ورواه ابن حبان باللفظين جميعاًً، ورواه الترمذي وغيره بدون الزيادة. وصححه الألباني بزيادته. (ر. تلخيص الحبير: 1/161 ح 219، أبو داود: الطهارة، باب التوقيت في المسح، ح 157، وصحيح أبي داود للألباني: 1/32 ح 142، والترمذي: الطهارة، باب المسح على الخفين للمسافر والمقيم، ح 95، وابن ماجة: الطهارة، باب ما جاء في التوقيت في المسح للمقيم والمسافر، ح 553، وابن حبان: 4/158 ح 1329) .
(4) حديث أبي بن عمارة، أخرجه أبو داود، وابن ماجة، والدارقطني، والحاكم في المستدرك، والحديث فيه ضعف، (ر. أبو داود: الطهارة، باب التوقيت في المسح، ح 158، وضعيف أبي داود للألباني ح 28، ابن ماجة: الطهارة، باب ما جاء في المسح بغير توقيت، ح 557، الدارقطني: 1/198، مستدرك الحاكم مع تعليق الذهبي: 1/170، تلخيص الحبير: 1/161 ح 220) .(1/287)
ومن يجري على ظاهر المذهب (1) يقول: أما حديث خزيمة، فظنٌ منه، والظن يخطىء ويصيب، وأما حديث ابن عمارة، فتأويله عسر، وقد قيل: " لم يُرد رسول الله صلى الله عليه وسلم امتدادَ مدّةِ مسحِ واحد "، وهو كقوله عليه السلام " التراب كافيك، ولو لم تجد الماء عشر حجج ". والوجه عندي المعارضة بنصوص التأقيت، ثم الأصل غسل القدمين، فلا تثبت رخصةُ المسح إلا بثَبَتٍ.
398- ثم ابتداء المدّة لا يحتسب من وقت لُبس الخف وفاقاً، ومذهبنا أنه يحتسب من أول حدث يقع بعد لُبس الخفين.
ويؤثر عن أحمدَ بنِ حنبل أنه قال: يحسب ابتداء المدة من أول مسحٍ (2) .
وهذا غير سديد، ونفش مذهبنا إذا ذُكر أغنى عن ذكر دليل عليه، فلا يدخل وقت المسح واللابس على الطهارة الكاملة، فإذا أحدث، حان وقتُ المسح، فكان ذلك ابتداءَ وقت المسح.
399- ثم مما يتعلق بأثر المدة أن من لبس الخفَّ مقيماً، ثم سافر، أو لبس مسافراً، ثم أقام، فيختلف أثر المدة.
فنذكرُ المقيم يسافر، فمذهبنا أنه إن أحدث في الإقامة، ودخل وقتُ المسح، ولم يمسح عليه، حتى فارق البلد مسافراً سفراً طويلاً، فإنه عند الشافعي يمسح مسح المسافرين، وابتداء المدة من وقت الحدث الذي جرى في الإقامة. وإن ابتدأَ المسحَ في الإقامة مسحَ مَسْحَ المقيمين. والمزني يقول: إذا أحدث مقيماً، مسح مَسْح المقيمين. وقال أبو حنيفة: إذا سافر قبل انقضاء المدة مسح مَسْح المسافرين (3) .
فرع:
400- إذا أحدث مقيماً، ودخل عليه وقت الصلاة، فلم يمسح حتى انقضى وقت الصلاة وهو مقيم، ثم سافر، ففي المسألة وجهان: أصحهما - أنه يمسح مَسْح
__________
(1) في هامش الأصل: أي مذهب الشافعي رضي الله عنه.
(2) هذه إحدى الروايتين عن أحمد، والأخرى -وهي المذهب عند الحنابلة- موافقةٌ لمذهبنا. ر. الإنصاف للمرداوي: 1/177، المغني: 1/327، المبدع: 1/142.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 21، البحر الرائق: 1/188، حاشية ابن عابدين: 1/185.(1/288)
المسافرين؛ فإنه سافر قبل ابتداء المسح.
والثاني - أنه يمسح مسْحَ المقيمين؛ فإنه عصى بتأخير المسح، والرخص لا تناط بالمعاصي، وأيضاً استقر وجوبُ المسح بانقضاء الوقت، فكان ذلك كإيقاع المسح في الإقامة.
وهذا غيرُ سديدٍ. أما المعصية، فليست في السفر، وهو سبب الرخصة، وأما لزوم المسح، فغير سديد؛ فإن المسح لا يتعيّن قط، من جهة أنه لو نزع خفّيه وغسل قدميه، فهو الأصل.
فرع:
401- إذا شك، فلم يدر: أمسح في الإقامة أم لا؟ فالأصل عدم المسح، وحكمه -لو لم يجر (1) - استكمالُ مدة المسافرين. ولكن أجمع أئمتنا على أنه يمسح مَسْح المقيمين، أخذاً بالأقل. وهذا يناظر ما قدمناه: من أن الماسح لو شك في انقضاء المدة، فالأصل بقاؤُها، ولكن يتعين الأخدّ بانقضائها؛ إذ الأصل وجوبُ غسل القدمين، فلا معدل عنه إلى المسح، إلا بثبَت، وتحقيق، وقد ذكرنا ذلك ونظائرَ لها في مسائل استثناها صاحب التلخيص، إذ قال: لا يترك اليقين بالشك إلا في مسائلَ ذكرَها (2) .
هذا في المقيم إذا سافر.
فأما من لبس الخف مسافراً، ثم أقام، فحكم الإقامة مغلَّب في كل حال، فإن مضى في السفر مدةُ المقيم، فأقام، نزع خُفّيه، وكذلك إن مضى كثر منها، فكما (3)
__________
(1) أي: لو لم يجر المسحُ. وفي هامش الأصل: "إِن لم يجر".
(2) سبق بيان هذه المسائل، وعدّها آنفاً. فقرة: 170.
(3) كذا في جميع النسخ: " فكما أقام نزع " ومعناها -كما هو واضح من السياق- كلما أقام، أو عندما أقام، وهذا الاستعمال لـ (كما) بهذا المعنى وارد كثيراً في عبارة إِمام الحرمين، في هذا الكتاب خاصة، وقد ظللتُ سنوات أبحث لهذا الاستعمال عن أصل، وأسال شيوخي وأساتذتي، فلم أجد عندهم شفاءً، وأسال أهل هذا الشأن من إِخواني وأقراني، فكانوا يقولون: هي مصحفة عن "كلّما" ويقطعون بذلك، وكنت أردّ ذلك، ولا أقبله، لأمرين: كثرة ورودها وتكرارها، وثانياً لاتفاق جميع النسخ عليها، فيحيل العقل (تصحيفها) ، إِلى أن أتاني بخبرها تلميذي النجيب وابني الحبيب البحاثة الدؤوب علي الحمادي. فقد وجد النووي =(1/289)
أقام، نزع. وإن لم تنقض تمام مدة المقيم، فإذا أقام، استكمل مدة الإقامة، ونزع.
واعتبر المزني النسبة، فقال: إن كان مضى في السفر يومان وليلتان، فقد مضى ثلثا المدة، فإذا أقام مسح مَسْح ثلث مدة المقيم، وإن كان مسح في السفر يوماً وليلة، فقد بقي ثلثا المدة، فإذا أقام مسح ثلثي مدة المقيم.
ولا حقيقة لما صار إليه. والأصل تغليب حكم الإقامة، كما ذكرناه.
402- فإن قيل: كل ما يغلَّب فيه حكم الإقامة إذا اشترك فيه الحضر والسفر، فلا فرق بين أن تطرأ الإقامة على السفر، وبين أن يطرأ السفر على الإقامة؛ فإن من تحرم بالصلاة المقصورة مسافراً، ثم انتهت السفينة في أثنائها، إلى الإقامة، فإنه يُتم ولا يقصر، وكذلك لو شرع في الصلاة مقيماً، ثم جرت السفينة، فإنه يتمها. فأما تغليبكم حكمَ الإقامة الطارئة على السفر، فجارٍ على هذا القياس. وأما مصيركم إلى أنه إذا دخل وقت المسح في الإقامة، فسافر يمسح مَسْح المسافرين، فنقضٌ للقاعدة.
قلنا: دخول وقت العبادة في الحضر لا يُلزم حكمَ الحضر؛ فإن دخل وقتُ الصلاة عليه، فسافر، يقصر. وقد ذكرنا أسلوب (1) هذه المسألة في الخلاف.
403- ثم المقيم يُتصوّر أن يصلي في اليوم والليلة بطهارة المسح ستَّ صلواتٍ، في مواقيتها من غير جمع، بأن يلبس الخفين، ثم يمضي من أول وقت الظهر مقدارُ أربع ركعات، فيحدث، فهذا أول المدة، فيمسح، ويصلي الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والصبح، ويصلي الظهر في أول الوقت أربع ركعات.
وقد انقضت مدةُ المسح.
فإن جمع بين الظهر والعصر في اليوم الثاني بعذر المطر، فيكون مؤدّياً سبع (2)
__________
= علق عليها في كتابه (التنقيح في شرح الوسيط) قائلاً: "لفظة (كما) يستعملها المصنف، وغيره من الخراسانيين كثيراً بمعنى (عند) وليست عربية ولا صحيحة" ا. هـ (ر. التنقيح بهامش الوسيط: 1/426) .
(1) أي في كتاب (الأساليب) في الخلاف.
(2) هذه الصفحة (260) من الأصل تلاشت منها خمسة سطور كاملة من أولها، وعبارات وكلمات في ثناياها، لم نستطع قراءتها، فلجأنا إِلى الفيلم نفسه وإِلى الجهاز القارىء، =(1/290)
صلواتٍ [ونفرض أن] يحدث بعد مضي [مقدار ثماني ركعات] من أول الظهر. ثم يصلّي الصلوات الخمس على ما ذكرنا، ويصلي في أول وقت الظهر الظهرَ والعصرَ جمعاً [وتقديماً] .
فصل
404- نذكر في هذا الفصل [أمرين] إن شاء الله عز وجل: أحدهما -[التفصيل] في اشتراط تقديم الطهارة على لبس الخفين. والثاني - بيان صفة الملبوس الذي يجوز المسح عليه.
فأما القول في تقديم الطهارة: فإذا تمكن المرء من الطهارة الكاملة، فلا بدّ من تقديمها على ابتداء اللُّبس، فإذا فرغ من غسل القدمين، فيبتدىء بعد الفراغ منها لُبس الخف الأول.
فلو غسل إحدى رجليه، وأدخلها الخف، ثم غسل الأخرى، فأدخلها الخف، ثم أحدث، لم يمسح على خفيه عندنا؛ [وعلة] المذهب [أن] الطهارة إنما تشترط لأجل اللُّبس، فيشترط [تقديمها بكمالها على اللُّبس] كالصلاة مع الطهارة.
وقد قرّرْنا هذا المعنى في (الأساليب) .
فلو غسل وجهه ويديه، ومسح برأسه، ولبس خفيه قبل غسل الرجلين، ثم صب الماء في خفيه حتى حصل غسل الرجلين، ثم أراد المسحَ بعد الحدث، لم يجز؛ فإن اللُّبس ابتداءً وقع من غير طهارة.
ولو غسل إحدى رجليه، وأدخلها الخف، ثم غسل الثانية، وأدخلها الخف، لم
__________
= وبالتكبير، والتصغير، وعلى ضوء ما بقي من أطراف الكلمات، وعلى ضوء السياق والسباق، قرأناها قراءة صحيحة -إن شاء الله- وما تعذر علينا قدّرناه من عندنا، وميزناه بوضعه بين المعقفين هكذا [] ، فكل ما جاء في هذه الصفحة هكذا، فهو تقدير منا من غير حاجة إِلى تنبيه على كل كلمة بعينها.
والحمد لله، فقد صدقتنا (م) ، (ل) تماماً إِلا كلِمات قليلة اختلف لفظها، واتحد معناها (مترادفة) وقد عدّلناها، كما في (م) ، (ل) .(1/291)
يمسح عند مسيس الحاجة، فلو أنه نزع الرجلَ الأولى، وهو بعدُ على الطهارة، وأعادها، فيمسح الآن؛ فإنه كان لبس الخفَّ الثاني على كمال الطهارة، فكان لُبسه صحيحاً. وإنما جرى الخلل في لُبس الخف الأول. فإذا نزع وأعاد، فنجعل كأنّ اللُّبس الأول لم يكن، وقد لبس الآن على كمال الطهارة.
405- ولو لبست المستحاضة -والحدثُ منها دائمٌ-[الخفَّ] بعد أن توضأت، ثم أرادت المسح على الخف، فقد اختلف أصحابُنا فيه، فمنهم من قال: لا تمسح؛ لأن طهارتها ناقصة، والحدث مقارن لها، وإنما يجوز المسح على الخف بعد تقديم طهارةٍ كاملة رافعةٍ للحدث.
ومن أصحابنا من قال: تمسح؛ لأنها تستبيح الصلاة بطهارتها الضعيفة، فإذا كانت صلاتها تصح بطهارتها، فينبغي أن يصح لُبسُها الخف بطهارتها.
ومن قال بالأول يقول: إذا كانت تمسح وأصل طهارتها ضعيف، فينضم ضعفٌ إلى ضعفٍ، والرخص لا يعدّى بها مواضعها. ونحن نأمر المستحاضة بأن تجدد الوضوءَ لكل فريضة، لتكون آتيةً بأقصى الممكن مع استمرار الحدث، فكيف يُضم إلى ما بها تركُ غَسل القدمين.
ثم قال الصيدلاني: من أجاز لها أن تمسح، فإنما يقول: لو لم تلبس، لكانت تصلّي فريضة واحدة ونوافل، فإذا لبست، وأحدثت حدثاً آخر -سوى حدث الاستحاضة- فإنها تتوضأ، وتمسح، وتصلي تلك الفريضة، وما شاءت من النوافل، وتقتصر (1) ، ثم تنزع للفريضة الثانية؛ فإن طهارتها الأولى كلا طهارة في حق الفريضة الثانية. وليس كالطهارة التامة في حق غير المعذور؛ فإنها تصلح (2) لأداء فرائض لو دامت، فإذا طرأ الحدث، جاز مسح الخف إلى انقضاء المدة المرعيّة.
هكذا قال الصيدلاني.
وليس هذا خالياً عن إشكال؛ فإن المسح إنما يقع بعد طريان الحدث على الطهارة
__________
(1) كذا في جميع النسخ. والمعنى: تقتصر عليها.
(2) في (ل) : لا تصلح.(1/292)
التي يُرتب اللُّبس عليها، فكان يحتمل أن يقال: إذا جوزنا لها أن تلبس الخف، فإنها تتوضأ لكل فريضة، وتمسح وتجعل ما [يتجدد] (1) من حدث الاستحاضة بمثابة ما يتجدّد من الحدث على الطهارة الكاملة، إلى انقضاء مدة المسح، فهذا تنبيه على محل الإشكال.
وما ذكره الصيدلاني مقطوع به على جواز المسح، وهكذا ذكره الأئمة في الطرق، فليس في المذهب تردّدٌ، فلتقع الثقة بما ذكره.
406- ولو تيمم ولبس الخف، نُظر: فإن كان التيمم لإعواز الماء، فلا يستفيد به المسحَ عند وجود الماء، بل كما (2) وُجد، بطل التيمم، ولزم نزع الخف، وتكميل الوضوء.
ولو تيمم الجريح، ولبس الخف، ففيه من الخلاف ما ذكرناه في المستحاضة.
ثم قال الأصحاب: إنما يمسح إذا أحدث قبل أداء فريضةٍ واحدةٍ، فيتوضأ، ويمسح، ويصلّي تلك الفريضة، وذلك يتصور إذا كان بدنه صحيحاً، وبعضه جريحاً، ولم يكن برجليه جرح، وكان يتمكن من غسلهما. فعلى الوجه الذي نفرع عليه إذا غسل الممكن وتيمّم، فإنه كان يصلي فريضة واحدة، فلو لبس الخف وأحدث، فإنه يغسل الممكن ويتيمم، ويمسح، ويصلي تلك الفريضة مع نوافلَ بلا مزيد، ثم ينزع، ويعود إلى أوّل مرّة.
ثم قال الصيدلاني وغيره: إذا لبست المستحاضة، وأرادت المسح في حق فريضة واحدة، فشفيت، أو شفي الجريح، فلينزعا، وليأتيا بطهارة كاملةٍ؛ فإن تلك الطهارة قد انقضت، بما طرأ من الشفاء، وزوال الضرورة، فلا سبيل إلى ترتيب المسح عليه أصلاً.
فهذا بيان ما أردناه من تقديم الطهارة على لبس الخف.
__________
(1) في الأصل: يجدّد. وقد صدقتنا (م) ، (ل) .
(2) كذا. وهي في موضع عندما، كما هو واضح من السياق، وقد سبقت الإِشارة إِلق أن هذه (لازمة) من لازمات إِمام الحرمين وغيره من الخراسانيين، ونقلنا آنفاً عن النووي أنها ليست عربية.(1/293)
407- فأما المقصود الثاني، فهو بيان صفة الملبوس، الذي يجوز المسح عليه، فيشترط فيه أمور: منها أن يكون ساتراً لمحل الفرض، وهو القدم إلى ما فوق الكعبين، فلو كان شيء من محل الفرض بادياً، فلا يجوز المسح أصلاً. ولا يضرّ بَدْوُ (1) القدم من أعلى الخف بسبب اتساع ساق الخف، والستر (2) المرعي فيه هو الستر من أسفل الخف والجوانب. وسنذكر في كتاب الصلاة مقارنة ستر العورة بهذا، وكل واحد من البابين مُجرى على المعتاد فيه. فلو تخرق الخف وبدا شيء -وإن قلّ من محل الفرض- لم يجز المسح على الجديد.
وقال مالك (3) : يجوز المسح على الخف المتخرق، ما دام متماسكاً في الرجل، وإن بدا من الرجل شيء كثير، وعنى بالتماسك أن يكون بحيث يتأتى المشي فيه، على ما سنصف معنى ذلك.
وأضيف هذا المذهب إلى الشافعي قولاً قديماً؛ فإن تخرُّقَ الخف قد يغلب [في الأسفار] (4) ، ويُعوِز [الخارز] (5) في الأسفار، ولو شُرط الستر التام، فقد يؤدي ذلك إلى عسرٍ في إقامة هذه الرخصة، والمذهب القول الجديد.
ومما يشترط في الملبوس أن يكون فيه قوة، بحيث يعد مثله للتردد فيه في الحوائج. وصرح الصيدلاني بأنا لا نشترط أن يتأتى قطعُ الفراسخ بالمشي فيه.
408- وهذا من مواقع الانتشار الذي ينبغي أن يُعتنى فيه بتقريب وضبط. فمذهبنا أن من لبس جورباً ضعيفاً لا يعتاد المشي فيه وحده، فلا سبيل إلى المسح عليه،
__________
(1) بَدْو: مصدر (بدا) بمعنى ظهر (القاموس) وهذا الوزن غير موجود في المعجم الوسيط. (وهذا من مواضع القصور في هذا المعجم، وقد أحصينا من ذلك قدراً يستحق التسجيل والتنبيه، ويظل هذا المعجم مع ذلك من كتب عصرنا التي نباهي بها القدماء) .
(2) كذا (بالواو) في جميع النسخ بدل الفاء، وهو معهود كثيراً في لغة إِمام الحرمين، وغيره من معاصريه.
(3) ر. الإشراف: 1/135 مسألة: 59، حاشية الدسوقي: 1/143، جواهر الإكليل: 1/24
(4) زيادة من (ل) وحدها.
(5) في الأصل: الخازن. وهذا تقدير منا صدقته (ل) .(1/294)
والسبب فيه أن نزع الجورب يسير، لا يُحتاج فيه إلى معاناة تعبٍ، والغرض من هذه الرخصة إقامة المسح على الملبوس الذي يمشي فيه حضراً وسفراً مقام غسل القدمين، والجورب إنما يلبس لدفع الغبار عن الرجل، ثم العادة جارية بأنه ينزع عند النزول، فلا يبقى في الرجل. ومن لبس خفاً على الجورب، ثم نزع الخف، فإنه ينزع الجورب، كما ينزع اللفافة. فإذاً لا تُفسَّر قوة الملبوس بأن يتأتى قطع مرحلةٍ أو مرحلتين فيه؛ فإن المسافر [قد يكون راكباً في سفره، ولكنه يرتفق] (1) بإدامة الخف [في رجله عند نزوله] (1) ، غَيْرَ أن الارتفاق إنما يحصل إذا كان الملبوس بحيث يتأتى التردد معه في الحوائج عند الحطّ والترحال، فإن لم يكن كذلك، لم يكن له الارتفاق به واستدامته، فليفهمه الفاهم. وليعلم أن القوة في الملبوس للتردد في الحوائج في المنازل، لا لإمكان (2) المشي والترجل في المراحل.
ولا يقع الاكتفاء بالساتر، كما يكتفى بالساتر من الجبائر في المسح عليها؛ فإن الرفق في الجبيرة للستر المطلوب فحسب.
وأنا أقول: لو ألقى على موضع الخَلْع (3) ساتراً، لا نفع فيه، ولا ارتفاق به، فلا يجوز المسح عليه. والرفق اللائق بهذا الباب يستدعي مع الستر إمكان التردد. فقد بان الغرض ووضح.
وأنا أعلم أنه لا يتبرّم بتطويلٍ في مثل ذلك إلا غبيّ، لا ينتفع بالنظر في هذا المذهب (4) ، فإن من أجلّ مقاصدي في وضع هذا الكتاب هذا الفن من الكلام.
409- ثم يعترض على القاعدة التي مهدناها، أن الرجل لو لبس خفاً من حديد، فإنه يمسح عليه، وإن كان لا يتأتى التردد فيه؛ والسبب فيه أن عسر التردد إنما كان
__________
(1) ما بين المعقفين تقدير منا، لأن أطراف الصفحة تلاشت تماماً لأربعة أسطر، وقد صدقتنا إِلى حد كبير (م) ، (ل) .
(2) في (م) ، (ل) : لإِمكان (بدون لا النافية) .
(3) المراد الموضع الذي يحتاج إِلى جبيرة، فالخَلع هو التواء العرقوب من غير بينونة (معجم) .
(4) المذهب: المراد هذا الكتاب، فقد كان يسميه: " المذهب " (انظر هذه التسمية في مقدمة المؤلف) . وصار هذا اصطلاحاً عند الخراسانيين، يسمونه (المذهب الكبير) .(1/295)
لضعف اللابس، لا لضعف الملبوس، فلا يُنظر إلى أحوال اللابسين؛ فإنها تخرج عن الضبط، وإنما النظر إلى صفة الملبوس.
فهذا منتهى النظر في ذلك.
410- وكان شيخي يقول: لو لف الرجلُ قطعةَ أَدَمٍ على قدمه واستوثق شدَّه بالرباط، فكان قوياً يتأتى التردد فيه، فلا يجوز المسح عليه؛ فإن اللف لا يقوى، ولا يتأتى التردد في الملفوف على ما تقدم الشرح، فإن ألحّ متكلف وصوَّر الاستيثاق بربط الملفوف بخيوط قوية، فمثل هذا تعسر إزالته، وإعادته على هيئته، مع [استيفاز] (1) المسافر، ويتعسر معه الارتفاق المعنيّ بالمسح على الملبوس المرفِق.
وبالجملة: الغالبُ في الرخص اتباع موارد النصوص، وإنما وردت في الخف وما في معناه.
411- وكان شيخي يذكر في الملبوس مشقوق المقدّم مخروز الجملة، يشد محل الشق بشَرَج (2) ، أو تُعطف إحدى الضفتين على الأخرى - وجهين في جواز المسح، أحدهما - المنع؛ فإن هذا سترُ لفٍّ، والأصح القطع بالجواز، إذا كان الستر حاصلاً مستداماً في مدة المسح؛ فإن الستر مع تيسر الارتفاق بهذه الآلة على جريان العرف حاصلٌ، فليقع الاكتفاء بهذا.
وقد نجز ما ذكرناه من اشتراط كون الملبوس ساتراً لمحل الفرض، قوياً يُعدّ للتردد في الحاجات.
412- وقد تردد أئمتنا في اشتراط صفة أخرى في الساتر، وهي أنه لو كان ساتراً لا تبدو منه القدم للناظرين، وكان قوياً يتأتى التردد فيه، كما تقدم شرح ذلك، ولكن
__________
(1) في الأصل: " استيثاق " والمثبت من (ل) . واستيفاز المسافر: أي تعجّله واستنفاره.
(2) الشرَج بالفتح عُرا العيبة والخباء ونحوه، والمعنى أنه يُشَدّ بواسطة العرا حتى يكون ساتراً. (تهذيب الأسماء واللغات، والمعجم، والمصباح) .
والشرْج -بالسكون- شدُّ الخريطة، أي ما تشدّ به، والخريطة وعاءٌ من أدَمٍ أو نحوه يُشرجُ على ما فيه (القاموس) فيكون المعنى على هذا، يشدّ بسير: برباطٍ حتى يكون ساتراً، (ر. فتح العزيز للرافعي: 2/369-371) .(1/296)
كان منسوجاً بحيث لو صب الماء عليه نفذ إلى القدم، ففي جواز المسح عليه خلاف.
من أئمتنا من جوز المسح، وهو القياس، ومنهم من منع. وفي كلام الصيدلاني إشارة إليه، ووجهه أن الذي وقع المسح عليه يجب أن يكون حائلاً حاجزاً بين الماء والقدم، فإذا لم يكن كذلك، وكان الماء ينفذ إلى الرجل، فكأنه ليس حائلاً.
وهذا بعيد.
وقد نصّ علماؤنا على أنه إذا انثقبت ظهارة الخف، ولم تنثقب البطانة بإزاء تلك الثُّقْبة، ولكن انثقبت البطانة من موضع آخر، وانفتقت الظهارة عن البطانة، وكان القدم لا تبدو، ولكن لو صُبّ الماء في ثقبة الظهارة، لجرت إلى ثقبة البطانة، ووصلت إلى القدم، فيجوز المسح والحالة هذه؛ فإذاً لا أثر لنفوذ الماء، ثم الماء في المسح لا ينفذ إلى القدم، وغسل الخف ليس مأموراً به.
فرع:
413- قال الصيدلاني: إذا اتخذ ملبوساً قويّاً من جوهرٍ شفاف يتراءى ما وراءه لصفائه، لا لخلل فيه، فيجوز المسح عليه، وستر العورة في ذلك ينفصل عن ستر القدم؛ فإن المصلي لو استتر بشيء تتراءى منه عورته لصفائِه، أو وقف في ماء صافٍ، لم يكن ساتراً للعورة. والمرعي من الستر في الخف حائلٌ قوي بين يد الماسح وبين القدم، وفي نفوذ الماء من التفصيل ما ذكرناه.
فصل
414- إذا لبس الرجل خفاً، ولبس فوقه جُرمُوقاً (1) ، ثم أراد المسح على الجرموق، فإن كان الجرموق ضعيفاً: بحيث لا يتأتى التردّدُ فيه، فلا يجوز المسح على الجرموق. ولو كان الجرموق قويّاً، والخف تحته ضعيفاً، فيجوز المسح على الجرموقين؛ فإنهما بمثابة الخفين، والخف بمثابة الجورب واللفافة.
وإن كان الخف والجرموق قويين: بحيث يجوز المسح على كل واحد منهما لو انفرد، ففي جواز المسح على الجرموقين -والحالة هذه- قولان: أحدهما -وهو
__________
(1) الجرموق: كعصفور خفٌّ قصير يلبس فوق خف (القاموس والمعجم) .(1/297)
الذي نقله المزني- أنه لا يجوز المسح عليه.
والثاني -وهو الذي نصّ عليه في القديم- أنه يجوز المسح عليه، وهو مذهب المزني.
فأما وجه قول المنع، فهو أن الخف بدل عن القدم، فيقع الجرموق بدلاً عن الخف، وليس للبدل في الطهارات بدل. على أن الرخص لا يعدّى بها مواقعها.
واحتج المزني بأن قال: "إنما جاز المسح على الخف مِرْفقاً (1) للمتردد في سفره وفي المسح على الجرموقين مَرفق ظاهر" (2) .
فنقول: هذا المِرفق تمس الحاجة إليه نادراً، فكان كالقفازين؛ فإن المسافر تشتد حاجته إليهما في شدة البرد، ثم لا يمسح عليهما. وأما الخف، فالحاجة إليه عامة ظاهرة، في حق المقيم والمسافر، ثم لا يعسر إدخال اليد تحت الجرموق ومسحُ الخف، وغسلُ الرجل في الخف عسر جدّاً.
التفريع:
415- إن قلنا: لا يجوز المسح على الجرموقين، نزعهما -[أو] (3) أدخل يده تحتهما- ومسح على الخفين.
وإن قلنا: يجوز المسح على الجرموقين، فقد ذكر ابن سريج في تنزيلهما ومحلّهما ثلاثةَ أوجهٍ: أحدها - أنه بدل عن الخف، والخف بدل عن القدم، فهو بدل البدل.
والثاني - أنهما بمثابة الخف، والخف بمثابة اللفاف، فالجرموق بدل عن القدم.
والثالث - أن الخف والجرموق بمثابة ملبوسٍ واحد، وكان الجرموق ظهارةٌ، والخف بطانة.
وهذه التقديرات محتملة، لا حاجة إلى توجيهها.
416- ونحن نفرع على (4) جواز المسح على الجرموقين أمرين: أحدهما - اللبس على الحدث. والثاني - النزع.
__________
(1) بفتح الميم وكسرها (معجم) .
(2) ر. المختصر: 1/49.
(3) في الأصل: وأدخل، وهذا تقدير منا، صدقته (م) .
(4) في الأصل: نفرع عليها على جواز المسح.(1/298)
فأما تفصيل القول في الحدث، فإن لبس الخفين على طهارة كاملةٍ، ثم لبس الجرموقَ، وهو مستديمٌ للطهارة، فلا إشكال، وإن أحدث بعد لُبس الخفين، لم يخل: إما أن يلبس الجرموق محدثاً، وإما أن يلبسه وهو على طهارة المسح على الخفين، فإن لبس محدثاً، نفرع على هذه التقديرات.
فإن قلنا: الجرموق بدل البدل، أو بدل القدم، والخف لفافة، فلا يمسح على الجرموق؛ فإنه ممسوح عليه مقصودٌ، لَبِسه محدثاً، فأشبه ما لو لبس الخف محدثاً، وأراد المسحَ عليه.
وإن قلنا: الجرموق فوق الخف، كطاقة فوق طاقة، من ملبوسٍ واحد، فيجوز المسح عليه، ويكون لُبسه على الحدث بمثابة ما لو لبس خفاً متطهراًً، ثم أحدث وألصق طاقةً جديدة بخفه [بخرزٍ أو غراء] (1) ، فله المسح على الطاقة التي ألصقها بعد الحدث.
ولو لبس خفيه وأحدث وتوضأ، ومسح على الخفين، ثم لبس الجرموق وهو على طهارة المسح. فإن قلنا: لو لبسه محدثاً، مسح، فيمسح هاهنا.
وإن قلنا: لا يمسح، فهذا يُبنى على أن المسح على الخف هل يرفع الحدث؟
قال قائلون: إن قلنا: يرفعه، فيجوز أن يمسح على الجرموق، بناء على طهارة المسح على الخف، وإن قلنا: لا يرفع المسحُ على الخف الحدثَ، فلا يمسح على الجرموق بناءً على طهارة المسح على الخف.
417- ثم قال هؤلاء: ما ذكر من الخلاف -في أن المستحاضة إذا توضأت، ولبست الخف هل تمسح- يخرّج على أن طهارة المستحاضة هل ترفع الحدث السابق أم لا؟ وفيه نظر.
وكان شيخي يقطع بأن طهارة المستحاضة لا تؤثر في رفع الحدث.
وقال هذا القائل: الجريح إذا غَسل ما قدر عليه، وتيمم عن المعجوز عنه، ولبس الخف، ففي جواز المسح خلاف، وهو أيضاً مبني على أن ما جرى من الغسل
__________
(1) تقدير منا على ضوء ما بقي من آثار الحروف، ونحمد الله؛ فقد صدقتنا (م) ، (ل) .(1/299)
والتيمم هل يرفع الحدث؟ وإنما لا يرفع الحدث إذا لم يكن معه غَسل؛ فإن التيمم مع الغَسل بمثابة المسح على الخف مع غسل سائر أعضاء الوضوء.
والتزام تخريج الخلاف على الخلاف في ارتفاع الحدث بما يجري في هذه المسائل من الطهارات - غيرُ صحيح؛ فإن طهارة المستحاضة مع مقارنة الحدث إياها يبعد أن ترفع حدثاً.
ثم إن صحّ هذا المسلك، فيجب، على موجَبه أن يقال: إذا لبست المستحاضةُ الخف على طهارتها، ولم يتفق حدث بين الفراغ من الوضوء وبين الفراغ من اللبس، ثم استرسل الدم بعد اللبس، إنها تمسح إلى تمام المدة؛ فإن الحدث الأول قد زال، والأحداث المتجددة بعد اللبس لا تمنع استكمال المدة، ولم أر ذلك لأحد.
418- والوجه عندي في تخريج هذه المسائل أن الطهارة المبيحة للصلاة، إذا لم تكن رافعةً للحدث، هل تفيد المسح على الخف؟ فعلى الخلاف المقدم.
فعلى هذا نقول:
إن حكمنا بأن المسح على الخف يرفع الحدث، فيجوز المسح على الجرموق بناء عليه، قولاً واحداً، وإن قلنا: إنه لا يرفع الحدث، فهل يُفيد جوازَ المسح على الجرموق؟ فعلى وجهين، كالوجهين في طهارة المستحاضة.
فهذا بيان المراد فيما يتعلق بتخلل الحدث، والمسح بين لبس الخف، ولبس الجرموق.
419- فأما القول في نزع الجرموقين. فنقول: إذا مسح على الجرموق على قول الجواز، ثم نزع الجرموقين بعد المسح عليهما. فإن قلنا: إنهما بمثابة الطاقة العليا، فلا يضرّ نزعهما، وهو بمثابة ما لو مسح على خفيه، ثم كشط الظهارة منهما.
وإن قلنا: الجرموق بدلٌ عن الخف، والخف بدل عن القدم، فإذا نزع الجرموقين، وجب المسح على الخفين. وهل تجب إعادة الطهارة من أولها، أم يجوز الاقتصار على مسح الخفين؟ فعلى قولين سيأتي ذكرهما في نزع الخفين، ولا نوجب نزع الخفين على هذا التقدير الذي ذكرناه.(1/300)
وإن قلنا: الجرموق خفٌّ، والخف لفافة، فإذا نزع الجرموقَ، لزم نزع الخفين، ثم يجب إعادة الوضوء من أوله، أم يكفي غَسل القدمين؟ فعلى قولين. فهذا إذا نزع الجرموقين.
420- فأما إذا نزع أحدهما فنقدّم عليه أن الماسح على الخف إذا نزع أحدهما، لزمه نزع الثاني، ثم يجري القولان في إعادة الوضوء، ومما نقدّمه أنه لو كان يغسل رجلاً، ويمسح على خُفٍّ على الرجل الأخرى، فلا يجوز ذلك وفاقاً. ولو أنه في الابتداء لبس خفين، ثم لبس فوق أحدهما جرموقاً، وترك الخف الثاني بادياً، فإن جعلنا الجرموق كطاقةٍ، فلا شَك في جواز هذا.
وإن قلنا: الجرموق بدلٌ عن الخف، فلا يجوز؛ فإنه أَثبت بدلاً في إحدى الرجلين، وتركَ الخف -وهو أصلُ الجرموق على هذا التقدير- بادياً، فكان كما لو كان يغسل رجلاً، ويمسح على خف على الرجل الثانية.
وإن قلنا: الخف تحت الجرموق لفافةٌ تقديراً، فإذا لبس جرموقاًً واحداً، فكان يمسح عليه، ويمسح على خفٍّ على الرجل الثانية، ففي المسألة وجهان ذكرهما شيخي. أحدهما - لا يجوز ذلك؛ فإن الخف البادي بمثابة لفافة.
والثاني - يجوز. وهو الصحيح؛ فإن الخف إنما يقدر [لفافة] (1) إذا كان فوقه جرموق. فإذا لم يكن، ترك الخف على حقيقته.
هذا تفصيل القول في الابتداء، إذا لبس جرموقاًً وترك خفاً بادياً.
فأما إذا لبس الجرموقين ومسح عليهما، ثم نزع أحدهما، فإن جعلناه كطاقةٍ، لم يضر ذلك، وله تبقية الجرموق الثاني، وإن لم نُقدِّر ذلك، فإذا نزع أحدهما، لزمه نزع الثاني.
ثم قد مضى تفصيل القول فيه إذا نزعهما جميعاًً.
421- فإن قيل: إذا جوزتم في الابتداء لبسَ جرموقٍ فوق خف، وترْك الخف
__________
(1) في الأصل: اللفافة. والمثبث تقديرٌ منا رعاية للسياق، وهي كذلك في (م) ، (ل) .(1/301)
بادياً، فهلا جوزتم ردّ الأمر إلى ذلك دواماً وانتهاء؟ قلنا: إنما جوزنا ذلك ابتداء على تقدير الخف لفافاً في أحد الوجهين. فقلنا: الخف البادي لم يكن [مقَدّراً] (1) لفافاً إذا لم يكن مستوراً، فأما إذا لبس الجرموقين، فقد ثبت للخفين حكم اللفافة، فإذا نزع أحدهما، ووجب نزع الخف، لزم ذلك في الثاني أيضاً.
فهذا تحقيق الفصل.
422- وقال جماهير أصحابنا: يبنى الدوام على الابتداء. فإن قلنا: يجوز في الابتداء المسحُ على خف وجرموق فوق خف، فيجوز ردّ الأمر إلى ذلك آخراً.
وهذا عندي غير مستند إلى بصيرة، فلا ينقدح قطّ ذلك في الانتهاء، إلا على تقدير الجرموق طاقة فوق طاقة.
وإذا قلنا: لا يجوز المسح على الجرموقين، فلو أدخل يده تحتهما، ومسح على الخف، وجب القطع بجوازه.
وإن جوزنا المسح على الجرموقين، فلو أدخل يده تحت الجرموقين، ومسح على الخف، فإن جعلنا الخف كاللفافة والبطانة، وجب ألا يجوز هذا، وإن جعلناه أصلاً، وجعلنا الجرموق بدلاً، فيجوز حينئذٍ.
فصل
423- من لبس خفّيه على كمال الطهارة، ثم نزعهما وهو على الطهارة الأولى، فلا أثر للنزع، ولا شك فيه.
وإن أحدث بعد لبس الخف، ونزعه وهو محدث، فلا شك أنه يستأنف الطهارة التامة، ثم يلبس الخف إن أراد المسح.
وإن أحدث، وتوضأ، ومسح على خفيه، ثم نزع وهو على طهارة المسح، فيجب غسل القدمين. وهل يجب استئناف الوضوء؟ فعلى قولين للشافعي.
__________
(1) في الأصل: مقداراً. والمثبت تقديرٌ منا، وقد صدقته (م) ، و (ل) .(1/302)
ثم ذهب بعضُ الأصحاب إلى أن القولين مأخوذان من التفريق هل يبطل الوضوء؟ فإن قلنا: لا يبطل، كفى غسل الرجلين، وإن قلنا: يُبطله، لزم استئناف الوضوء.
وهذا غلطٌ عند المحققين؛ فإن القولين يجريان، وإن لم يطل زمانٌ؛ فإنه لو غسل وجهه ويديه، ومسح برأسه وعلى خفيه، ثم نزعهما على الفور، ففي وجوب إعادة الوضوء قولان، وإن توالى ما وصفناه، ولم يتخلّل زمان.
قال القفال وغيره من المحققين: القولان مأخوذان من أن المسح على الخف هل يرفع الحدث عن الرجل أم لا؟ وفيه قولان مستنبطان من معاني كلام الشافعي.
فإن قلنا: لا يرفع الحدث، فقد ارتفع عن الوجه واليدين والرأس، فبقي الرجلان فيغسلهما. وإن قلنا: ارتفع الحدث عن الرجلين، فإذا بدتا، وجب غسلهما، والحدث قد عاد إليهما، ثم الحدث في عوده لا يتبعض، فيجب استئناف الوضوء من أوله.
فرع (1) :
424- كان شيخي ينقل من نص الشافعي أن لابس الخفين إذا نزع رجلاً من مقرها، وأنهاها إلى الساق، فهو نازع، وإن بقي منها شيء في مقر القدم، وهو محل فرض الغسل، فليس نازعاً بعد، فلو رد القدم، فالأمر مستدام لا يقطعه ما جرى.
ولو توضأ وضوءاً كاملاً، وأدخل إحدى رجليه الخفين، وقرّت في مقرها من الخف، ثم أدخل الثانية، فبقي شيء منها في ساق الخف، وقد أدخل المعظم، فأحدث، بطل اللبس، ولزم نزعُ القدمين، واستفتاحُ الأمر من أوله، فكأنا في الطرفين نستديم ما كانت الرجل عليه، إلى تمام خروجه عن صفته، إما من الخروج إلى الدخول، أو من الدخول إلى الخروج. ولم أر في الطرق ما يخالف هذا.
فرع:
425- إذا سقطت إحدى رجلي الرجل، ولم يبق شيء من محل الفرض،
__________
(1) سقط هذا الفرع كاملاً من (ل) .(1/303)
فلبس فَرْدَ خُف، وكان يمسح عليه، جاز؛ فإنّ حكم الرجل الأخرى ساقط بالكلّية، وإن بقي شيء من تيك الرجل وإن قل، فإذا لم يواره بملبوسٍ، تعين غسل الرجل الأخرى مع تيك البقية، وهذا أوضح.
***(1/304)
باب كيفية المسح
426- ينبغي أن يقع المسح على ما يواري محل الفرض من القدم، ثم نذكر الأكمل، وبعده الأقل.
فأما الأكمل، فمسحُ أعلى الخف وأسفله، إذا لم يكن الأسفل نجساً، ويبلل يديه، ويضع مؤخرة كفّه اليمنى على مقدمة أصابع الرجل من فوق، وأطراف أصابع اليد اليسرى من أسفل مما يلي العقب، وُيمرّ يديه، فتنتهي أطراف أصابع اليمنى إلى الساق، وينتهي مؤخر كفه اليسرى إلى أطراف أصابع الرجل من أسفل، ولا يقصد استيعاب الخف. فإن النبي عليه السلام لم يرد ذلك، وفي الحديث الصحيح "أن النبي عليه السلام مسح على خفه خطوطاً من الماء" (1) .
ولا نستحب التكرار في هذا المسح، بل نكرهه.
وهل يُستحب مسحُ عقب الخف، وهو ما يستر العقب المنتصب؟ فعلى وجهين
__________
(1) حديث أنه صلى الله عليه وسلم مسح على الخف خطوطاً: قال ابن الصلاح: تبع فيه الرافعي الإِمام؛ فإنه قال في النهاية: إنه صحيح، فكذا جزم به الرافعي، وليس بصحيح، وليس له أصل في كتب الحديث ا. هـ.
قال الحافظ: وفيما قاله ابن الصلاح نظر، وذكر أن الطبراني رواه في الأوسط عن جابر، وقد عزاه ابن الجوزي إِلى ابن ماجة، عن جرير بإِسناد غير إِسناد الطبراني، وقد استدركه المزي على ابن عساكر في الأطراف، وإِسناده ضعيف جداً. أما قول إِمام الحرمين المذكور، فقد تبع فيه القاضي حسين، وقد عدّ النووي تصحيح هذا الحديث من إِمام الحرمين خطأ فاحشاً. ا. هـ. (ر. الطبراني في الأوسط: 2/81 ح 1157، ابن ماجة: الطهارة، باب في مسح أعلى الخف وأسفله، ح 551، مشكل الوسيط - بهامش الوسيط: 1/404، التنقيح - بهامش الوسيط: 1/404، تنقيح التحقيق في أحاديث التعليق: 1/533، التلخيص: 160، ح 219، والمجموع: 1/522) .(1/305)
ذكرهما العراقيون: أحدهما - يستحب؛ فإنه ساتر لما هو محل الفرض من الرجل، والوجه الثاني - لا يستحب؛ فإنه لم يجر له ذكرٌ في شيء من الأخبار، وليس الاستيعاب محبوباً، حتى يقال: ينبغي أن يمسح جميع ما يستر محل الفرض، فهذا بيان الأكمل.
427- فأما الأقل، فيكفي أول ما ينطبق عليه اسم المسح، وإذا كنا نكتفي في مسح الرأس، وهو أصلٌ بالاسم، فلأن نكتفي به في مسح الخف -وهو رخصة- أَوْلى، ثم لا خلاف أنه لو ألقى الفرض (1) على ظهر القدم، جاز، ولو مسح أسفله مقتصراً عليه وهو ما يستر أخمص القدم، فظاهر النص في المخنصر أنه لا يجزئه (2) .
واختلف الأئمة، فقال بعضهم: في المسألة قول آخر: أنه يجزىء، وهو القياس؛ لأن أسفل الخف ساتر لما هو من محل الفرض، فشابه الأعلى.
والأظهر ما يدل عليه النص، وهو أنه لا [يكفي] (3) الاقتصار على الأسفل؛ إذ روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتصر على مسح الأعلى، وروي أنه مسح الأعلى والأسفل. ولم يُروَ الاقتصارُ على الأسفل. والمعتمد في الرخص الاتباع.
وكان [شيخي] (4) يذكر طريقين آخربن: أحدهما - القطع بمنع الاقتصار على الأسفل. والثاني - القطع بجواز الاقتصار، وحمل النص على الأوْلى، مع التأكيد فيه.
ولو فُرض الاقتصار على مسح العقب -وهو الذي ذكر العراقيون الاختلافَ في استحباب مسحه عند محاولة الأكمل- فهذا فيه تردّدٌ؛ من جهة أنه ساتر لما هو محل
__________
(1) في (ل) : "ألقى المسح".
(2) هذا مأخودّ من مفهوم كلام المزني، وليس من نصه. ر. المختصر: 1/51.
(3) في الأصل: يكتفى، وصدقتنا (م) ، (ل) .
(4) زيادة، قدرناها على ضوء أسلوب إِمام الحرمين، لضرورة السياق. وقد صح ما قدرناه، فوجدناها في (م) ، (ل) .(1/306)
الفرض، وهو دون أسفل الخف، [و] (1) من جهة أنه لم يجْر له ذكرٌ في السنن، بخلاف أسفل الخف، فإنه روي مسحُه [مع] (2) الأعلى، ولكن العقب ظاهر للناظر كاعلى الخف بخلاف أسفله.
فهذا بيان الأقل والأكمل في المسح.
***
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق، وليست في النسخ الثلاث.
(2) زيادة من مختصر ابن أبي عصرون، ووجدناها في (م) ، (ل) .(1/307)
باب الغسل للجمعة والأعياد
428- غسل الجمعة مستحبٌّ مؤكدٌ، وقوله عليه السلام: " غسل الجمعة واجبٌ على كل محتلم " (1) ، معناه مأمور [به] (2) مؤكد، وأراد بالمحتلم البالغ، لا الذي يحتلم يوم الجمعة، وهو كما روي عن عائشة أنها قالت: " لا تصلي الحائض من غير خمار " (3) ، أرادت بالحائض البالغة المكلفة.
ثم لو أجنب الرجلُ يوم الجمعة، فاغتسل، ونوى بالغسل الواحد غسلَ الجنابة والجمعة جميعاًً، حصلا، وذكر الشيخ أبو علي شيئاًً بعيداً أنهما لا يحصلان، والتشريك في النية يفسد الغسلَ -وقد قدمت ذلك، فيما (4) أظن- وهو غلط صريح، غير معدودٍ من المذهب.
ولو نوى غُسلَ الجنابة، ولم ينو غُسل الجمعة، ففي حصول غسل الجمعة قولان: أحدهما - لا يحصل؛ فإنه لم ينوه، والثاني - يحصل؛ فإن الغرض من غُسل الجمعة التنظف والتنزه، وقطع الروائح الكريهة، وقد حصل ذلك، وهو شديد الشبه
__________
(1) حديث غسل الجمعة، متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري (اللؤلؤ والمرجان: 1/163 ح 487، وانظر التلخيص: 1/69-70) .
(2) زيادة اقتضاها السياق، وصدقتنا (م) ، (ل) .
(3) حديث: " لا تصلي الحائض بغير خمار صحيح رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة، ومالك، وأحمد، وابن خزيمة، (ر. أبو داود: الصلاة، باب المرأة تصلي بغير خمار، ح 641، وصحيح أبي داود للألباني: 596، والترمذي: الصلاة، باب ما جاء لا تقبل صلاة المرأة الحائض إلا بخمار، ح 377، والألباني 311، وابن ماجة: الطهارة، باب إذا حاضت الجارية لم تصل إلا بخمار، ح 655، والألباني 534، ومسند أحمد: 6/150، 259، وابن خزيمة: ح 775) .
(4) ظن إِمامنا صادق، فقد قدم ذلك فعلاً في باب النية في الوضوء.(1/308)
بتحية المسجد، ومن دخل المسجد، ولم يجلس حتى صلى صلاة مفروضة، أو مسنونة، فقد حصلت تحيةُ المسجد وإن لم ينوها، هذا سماعي من شيخي، ولم أره لغيره من المشايخ.
429- ولو نوى المغتسل بغُسله غسلَ الجمعة، ولم ينو غسل الجنابة، فالمذهب الظاهر أن غسل الجنابة لا يحصل بهذا؛ فإن غُسل الجمعة لم يُشرع لأجل الحدث، وفيه شيء ذكرته في باب النية للوضوء.
إن قلنا: يحصل غسل الجنابة، فيحصل غسل الجمعة.
وإن قلنا: لا يحصل غسل الجنابة، فهل يحصل غسل الجمعة؟ فعلى وجهين، ذكرهما العراقيون. وإنما يظهر أثرهما إذا قلنا: لو نوى غسلَ الجنابة، ولم ينو غسل الجمعة، لم يحصل غسل الجمعة، فعلى هذا إذا نوى أولاً غسلَ الجمعة، ولم ينو الجنابة، ثم اغتسل مرة أخرى، ونوى الجنابة، ولم ينو غسل الجمعة، ففي حصول غسل الجمعة الوجهان، والظاهر حصوله.
ووجه قول من لا يحصِّله أنه تابع لغسل الجنابة، فيبعد حصوله أول مع بقاء غسل الجنابة.
430- فإن قيل: إذا قلنا: لو نوى غسل الجنابة مطلقاًً، حصل غسلُ الجمعة، فلو نواه، ونفى غُسل الجمعة، أو صلى كما (1) دخل المسجد فريضة، ونفى قصدَ تحية المسجد. فماذا ترون فيه؟
قلنا: فيه احتمالٌ، والظاهر أنه لا يحصل، وسبب الاحتمال أن مجرّدَ الغسلِ في حق من ليس بجنب لا يعتد به من غير نية، وقد يخطر أن الغرض منه [النظافة] (2) وإن كانت النية مشروطة في النظافة.
فهذا تمام الغرض في ذلك.
__________
(1) كما: بمعنى عندما وهذا جار كثيراً عند إِمامنا. وأشرنا آنفاً إِلى أنه غير صحيح عَربيّةً.
(2) زيادة اقتضاها السياق، وصدقتنا (ل) .(1/309)
فصل
431- " من غسَّل ميتاًً، أمرناه بأن يغتسل ... إلى آخره " (1) .
والأصل فيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من غسل ميتاًً، فليغتسل، ومن مسّه فليتوضأ " (2) وللشافعي وقفةٌ في الحديث، ولكنه أمر بالغسل استحباباً مؤكداً.
وقال الأصحاب: آكد الأغسال المسنونة غُسلان، أحدهما - غسل الجمعة، والثاني - الغسل من غسل الميت، وأيهما آكد؟ فعلى قولين مذكورين، أحدهما - غسل الجمعة؛ لصحة الأخبار، وظهور الخلاف في وجوبه؛ فإن طائفة من علماء السلف أوجبوه.
والثاني - الغسل من غسل الميت آكد؛ فإنه ورد فيه أمر، والأمر على الوجوب، ولم يعارضه ما يدل على نفي وجوبه، وورد في غُسل الجمعة ما يُسقط وجوبه.
432- وذكر العراقيون كلاماًً على التقدير وراء هذا، فقالوا: لو صح الخبرُ في الغسل من غسل الميت، فهل يقتضي وجوبَه أم لا؟ فعلى وجهين: ولو قضينا بوجوبه، فعلى ماذا يحمل وجوبه؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يحمل على نجاسة بدن الآدمي إذا مات، وهو وجه بعيد.
ثم على هذا من غسل ميتاًً، فترشش الماء إلى مواضع من بدنه لا يَدريها، فيجب تعميم البدن بالغَسل، ليستيقن طهارة بدنه، بعدما علم نجاسته.
__________
(1) نص الشافعي: "وأحب الغسل من غسل الميت" ر. المختصر: 1/52.
(2) حديث: " من غسل ميتاً، فليغتسل " أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة، وابن حبان، والبيهقي، من حديث أبي هريرة، وروي مرفوعاً وموقوفاً، والمرفوع فيه مقال.
وقد صححه الألباني. (ر. أحمد: 2/433، 454، 472، 280، أبو داود: الجنائز، باب في الغسل من غسل الميت، ح 3161، 3162، الترمذي: الجنائز، باب ما جاء في الغسل من غسل الميت، ح 993، وصحيحه للألباني: 791، وابن ماجة: الجنائز، باب ما جاء في غسل الميت، ح 1463، وصحيحه 1995، وابن حبان: 1158، والبيهقي: 1/300، 301، تلخيص الحبير: 1/136) .(1/310)
والثاني - أنه يحمل على تعبُّدٍ من غير تقدير نجاسة.
وهذا التقدير منهم في حكم اللغو عندي؛ فإنهم إن عَنوْا به أنه لو نقل الخبرَ ابتداء من يوثق به، فإذا كنا نقول! فهذا لا حاصل له، ولو فتحنا هذا الفن من التقديرات، لكثر الكلام فيما لا يعنينا، وان عَنَوْا بذلك، أنا لو تبينا صحة الحديث في المستقبل، وهذا مرادهم بالتقدير، فهذا بعيد؛ فإنه لو كان يتبين، لبانَ إلى الآن قطعاًً، فضَعُف ما ذكروه.
433- ومما زادوه أن الوضوء من مسّ الميت مختلف فيه، فمنهم من حمله على ما إذا مس فرج الميت، ومنهم من استحب الوضوء على التأكيد من مسّه، من غير مس فرج، وهذا ما قطع به المراوزة.
ثم في غسل العيد [ووقته] (1) كلام، وفي غسل الجمعة أيضاً بقية، تأتي في كتاب الصلاة، إن شاء الله عز وجل.
***
__________
(1) زيادة من (ل) فقط.(1/311)
كتاب الحيض (1) (2)
434- الأصل في الحيض الكتاب والسنة والإجماع.
فأما الكتاب، فقوله تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} الآية، [البقرة: 222] وسبب نزول الآية مشهور (3) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} : "افعلوا كل شيء إلا الجماع " (4) . والإجماع منعقدٌ على أصل الكتاب، وإن وقع خلاف في التفاصيل.
ونحن نصدّر الكلام بفصول: أحدها - في سنّ الحيض.
والثاني - في أحكامه.
والثالث - في أقله وأكثره وبيان الأدوار.
__________
(1) ابتداء من هنا عندنا نسختان (ت1) ، (ت2) . وقد اتخذنا (ت2) أصلاً، (ت1) نسخة مساعدة، واستمر الحال على ذلك إِلى آخر كتاب الطهارة، بل بعد بدء كتاب الصلاة، وإِلى أول (باب استقبال القبلة، ولا فرض إِلا الخمس) حيث صار عندنا أربع نسخ، سنبين حالها في موضعها. إِن شاء الله. ثم أسعفتنا المقادير بنسخة (ل) وهي مستمرة معنا إلى آخر كتاب الصلاة (انظر البيان في أول هذا الجزء) .
(2) أشار النووي إلى صعوبة (كتاب الحيض) ودقة مسائله، وكثرتها، وذكر أنّ ممن عُنوا به إمام الحرمين في النهاية، فمما قال: (اعلم أنّ باب الحيض من عويص الأبواب، ومما غلط فيه كثيرون من الكبار، لدقة مسائله، واعتنى به المحققون، وأفردوه بالتصنيف في كتب مستقلة ... وقد جمع إمام الحرمين في (النهاية) في باب الحيض نحو نصف مجلد، وقال بعد مسائل الصفرة والكدرة: "لا ينبغي للناظر في أحكام الاستحاضة أن يضجر من تكرير الصور وإعادتها في الأبواب ... " اهـ (المجموع: 2/344، 345) .
(3) يشير إلى ما صح في سبب نزول هذه الآية، من أن العرب في المدينة وما والاها، كانوا قد استنوا بسنة بني إسرائيل في تجنب مؤاكلة الحائض، ومساكنتها، فنزلت الآية تحلّ كل شيء إلاّ الجماع.
(ر. صحيح مسلم: كتاب الحيض، باب جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله، ح 302) .
(4) حديث: " افعلوا كل شيء ... " جزء من حديث أن الذي رواه مسلم (انظر الهامش السابق) .(1/313)
والرابع - في أحكام المستحاضة.
فأمَّا
الفصل الأول
[ففي سن الحيض] (1)
435- القول في سن الحيض مأخوذ من سن البلوغ، فنشير إلى سن [بلوغ الغلام] (2) : ظاهرُ نص الشافعي في كتاب اللعان يدل على أن بلوغ الغلام ممكن بعد مضي ستة أشهر من السنة العاشرة؛ فإنه قال: إذا جاءت المرأة بولد وزوجها ابن عشر، فالولد يلحقه، ومن ضرورة ذلك تقدير إمكان العلوق في أثناء السنة، وأقل مدة الحمل ستة أشهر.
ومن أصحابنا من يقول: يدخل إمكان بلوغ الغلام بنفس الطعن في السنة العاشرة.
فأما الجارية، فقد قال بعض أصحابنا: يحتمل أن يدخل وقت إمكان حيضها، باستكمال السنة التاسعة.
فعلى هذا، إذا فرعنا على أن الغلام يحتمل أن يبلغ بالطعن في السنة العاشرة، فيتفق وقت الإمكان فيهما، [ومن أصحابنا من قال: قد تحيض الجارية إذا مضت ستة أشهر من السنة التاسعة] (3) ومنهم من قال: قد تبلغ بنفس الطعن في التاسعة، وهي على الجملة أسرع بلوغاً، وإنما يتفق ما ذكرناه في البلاد الحارة.
قال الشافعي: رأيت جدة باليمن بنت عشرين سنة.
ثم المنقول في ظاهر المذهب أن الصغيرة إذا رأت دماً في السنة الثامنة، فهو دم فسادٍ، فليحفظ هذا المذهب.
وسنبيّن في فصل الأدوار، حقيقتَها على أقصى الإمكان في البيان إن شاء الله عز وجل.
فهذا بيان نقل المذهب في سن الحيض.
__________
(1) مزيدة من المحقق، اعتماداً على التفصيل الذي ذكره المؤلف.
(2) في الأصل: " إِلى سن البلوغ " والمثبت عبارة (ل) .
(3) زيادة من: (ت 1) ، (ل) .(1/314)
436- ثم كان شيخي يقول: إذا اتفق ما ذكرناه في البلاد الحارة، فهو على السن المذكور حيض، وإن اتفق في البلاد الباردة التي لا يعهد فيها أمثال ذلك، ففي المسألة وجهان، وهذا الذي حكاه له التفاتٌ على أن سن اليأس في الحيض يعتبر فيه أقصى نساء العالم، أو نساء القطر والناحية، أو نساء العشيرة، وفيه كلام يستقصى في العدّة، إن شاء الله.
فأمَّا
الفصل الثاني
ففي أحكام الحيض
437- فنبدأ بالطهارة، ونقول: لا يصح منها غسلٌ إلا على قولٍ بعيد، إذا قلنا: تقرأ الحائضُ القرآن، ولا تقرأ الجنب. فلو أجنبت المرأة، ثم حاضت، فلا تقرأ، فلو اغتسلت، قرأت (1) .
قال شيخي: في المناسك أغسالٌ مسنونة في أمورٍ لا تفتقر إلى الطهارة، منها غسل الإحرام، وغسل الوقوف بعرفة؛ فيستحب للحائض هذه الأغسال؛ فإن حقيقة الطهارة ليست مشروطة في شيء من هذه المناسك.
ثم نربط بالطهارة جملاً من أحكامها.
438- فنقول: لا يصح منها شيء مما يشترط فيه الطهارة، كالصلاة، وسجود الشكر، والتلاوة، والطواف. ولا يصح منها ما يتعلق بالمسجد، كالاعتكاف.
وأما دخول المسجد، فسنذكر في الصلاة أن الجنب يدخل المسجد عابراً، وأما الحائض، فإن كان يُخشى منها تلويث المسجد، فيحرم عليها دخول المسجد، وإن كانت أحكمت شدادها، وصارت بحيث لا يخشى ذلك منها، فالأصح أنه يحرم عليها دخول المسجد عابرةً بخلاف الجنب؛ لغلظ الأمر في حدثها، وأبعد بعضُ أصحابنا، فألحقها بالجنب، ولا أصل لهذا. وكذلك ذكروا هذين الوجهين في التي طهرت، ولم تتطهر بعد.
__________
(1) فكأنها لما اغتسلت، رفعت حكم الجنابة التي سبقت الحيض، فبعد أن كانت جنباً حائضاً، صارت حائضاً فقط، فجاز لها قراءة القرآن، عند من يقول: تقرأ الحائض.(1/315)
439- ومن أحكامها أنه لا يصح منها الصوم؛ [وهذا] (1) لا يُدرَك معناه؛ فإن الطهارة ليست مشروطة في الصوم.
ثم لا تقضي الصلاة التي تمرّ عليها مواقيتُها في الحيض، وتقضي ما يفوتها من صيام رمضان. والمتبع في الفرق الشرعُ، وقد سئلت عائشة في الفرق بين الصلاة والصوم، فقالت: " كنا نؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة " (2) فأبانت أن الاتباع هو الفارق بين البابين، ثم الحيض ينافي صحة الصلاة ووجوبها، وهو ينافي صحة الصوم، وهل يقال: إنه يجب في وقت الحيض، بدليل وجوب قضائه؟ قال قائلون: يجب، والمحققون يأبَوْن ذلك؛ فإن الوجوب شرطُه اقتران الإمكان به، ومن يبغي حقيقة الفقه لا يقيم لمثل هذا الخلاف وزناً.
440- ومن أحكام الحيض الاستمتاع، فإن الوقاع محرّم، والاستمتاع بالحائض فيما فوق السرة وتحت الركبة جائز، وفي جواز الاستمتاع بما دون السرة وفوق الركبة مع اجتناب الجماع وجهان.
وفي النصوص إشارات إليهما. وتوجيههما: من لم يحرِّم احتج بما رَوَيناه أنه صلى الله عليه وسلم قال: " افعلوا كل شيء إلا الجماع ".
ومن حرّم استدل بما روي عن عائشة أنها قالت: " كنت مع رسول الله في الخميلة (3) ، فحضت، فانسللت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لك؟ أنَفِسْتِ؟ فقلت: نعم، فقال: خذي ثياب حيضتك وعودي إلى مضجعك. فنال مني ما ينال الرجل من امرأته، إلا ما تحت الإزار " (4) .
__________
(1) في الأصل: فإنه. والمثبت من (ت 1) ، (ل) .
(2) حديث عائشة: "كنا نؤمر بقضاء الصوم" متفق عليه، من حديث معاذة عن عائشة. (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/7 باب 15 ح 192، وانظر تلخيص الخبير: 1/163 ح 224) .
(3) الخميلة = القطيفة: دثار له خَمْلٌ. (المصباح) .
(4) حديث: " فنال مني ما ينال الرجل من امرأته " رواه مالك في الموطأ، وإسناده عند البيهقي صحيح، وليس فيه: " ونال مني ما ينال الرجل من امرأته " وقد أنكر النووي في المجموع على الغزالي إيرادها في الوسيط، وقال: هو في ذلك متابع لشيخه. قال النووي: هذه الزيادة غير معروفة في كتب الحديث، ولكن في الصحيحين عن عائشة: كانت إِحدانا إِذا كانت حائضاً، =(1/316)
ثم إذا طهرت المرأة ولم تغتسل، فأمر تحريم الوقاع، وتفصيل الاستمتاع على ما ذكرناه في حالة الحيض. وقد روى مقسِم (1) عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من أتى امرأته والدم عبيط، تصدق بدينارٍ، وإن كانت في أواخر الدم، تصدق بنصف دينار " وفي الحديث ضعفٌ، والأصح أن الصدقة لا تجب، بل هي محبوبة.
ومن أصحابنا من أوجبها، وهو بعيد، غير معدود من المذهب، ثم المعني بأواخر الدم في تفصيل الصدقة مستحبَّةً أو مستحقَّةً أن يقرُب من الانقطاع.
وقال الأستاذ أبو إسحاق: المراد أن تطهر، ولم تغتسل بعدُ، فهذا أوان التصدق
__________
= أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأتزر بإِزارها، ثم يباشرها، وأما حديث الخميلة، فهو متفق عليه من حديث أم سلمة، دون الزيادة " فنال مني ... " (اللؤلؤ والمرجان: 1/66 ح 168، 170، الموطأ: 1/58، البيهقي: 1/311، والتلخيص: 1/167 ح 230) .
(1) حديث مقسم عن ابن عباس رواه أصحاب السنن، وأحمد، والدارقطني، والبيهقي، وغيرهم. وهو ضعيف كما حكم عليه إِمام الحرمين؛ إِذ قال ابن الصلاح في مشكلات الوسيط: " الحديث ضعيف من أصله، لا يصح رفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإِنما هو موقوف على ابن عباس " ثم أشار إِلى تصحيح الحاكم له، فقال: ولا التفات إِلى ذلك منه؛ فإنه خلاف قول غيره من أئمة الحديث، وهو معروف بالتساهل في مثل ذلك. ا. هـ وقد تبع النوويُّ ابنَ الصلاح فقال: " هو ضعيف باتفاق الحفاظ، وأنكروا على الحاكم قوله: إِنه حديث صحيح. وقد قال الشافعي: هذا حديث لا يثبت مثله " ا. هـ
أما الحافظ في التلخيص، فبعد أن أشار إِلى روايات الحديث بطرقه المختلفة، وإِلى من صححه، قال: "الخلاصة: أن الأئمة كلهم خالفوا الحاكم في تصحيحه، وأن الحق أنه ضعيف باتفاقهم". (ر. أبو داود: الطهارة، باب في إتيان الحائض، ح 264، الترمذي: الطهارة، باب ما جاء في الكفارة، ح 136، والنسائي: الحيض والاستحاضة، باب ذكر ما يجب على من أتى حليلته في حال حيضها مع علمه بنهي الله تعالى، ح 370، ابن ماجة: الطهارة، باب في كفارة من أتى حائضاً، ح 640، مشكل الوسيط لابن الصلاح، والتنقيح للنووي - كلاهما بهامش الوسيط: 1/415، 416، التلخيص: 1/291-293 ح 228) .
هذا وقد خالف حكمَ هؤلاء الأئمة الشيخُ أحمد شاكر، والألباني فصححاه. (ر. مسند أحمد: 1/272 ح 2458 (الشيخ شاكر) ، وصحاح السنن للألباني) .
قلت، (عبد العظيم) : فكيف يُقال عن إِمام الحرمين: إِنه لم يكن يدري الحديث متناً ولا إِسناداً؟.(1/317)
بنصف دينار، فأما مادام الدم موجوداً، فدينار. وهذا وإن كان قريباً من المعنى، فظاهر الخبر يخالفه.
ويتعلق بالحيض أحكام تستقصى في مواضعها، كالاستبراء وغيره.
فأمَّا
الفصل الثالث
فمضمونه بيان أقل الحيض وأغلبه، وأكثره، وذكر الدور
441- فأما الأقل، فظاهر النص أن أقل الحيض مقدار يوم وليلة، وهي أربع وعشرون ساعة.
وقال [في] (1) مواضع: أقله يوم، فاختلف الأئمة على طرق: فمنهم [من قال] : (2) قولان، ومنهم من قطع باليوم والليلة، وحمل قوله يوم على يوم بليلته.
وأبعد بعض أصحابنا، فقطع بأن الأقلَّ يوم، وقد كان الشافعي ذكر يوماً وليلة تعويلاً على الوجود، ثم وجد أقل من ذلك وهو يوم، فرجع إليه واستقر عليه.
وأما الأغلب، فست أو سبع؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمستحاضة أراد ردَّها إلى غالب الحيض: " تحيَّضي في علم الله ستاً أو سبعاً " (3) .
وأما أكثر الحيض، فخمسة عشر يوماً عند الشافعي.
وأما الطهر، فأقله خمسة عشر. ولا حدَّ لأكثره، وأغلبه مع أغلب الحيض ثلاثة
__________
(1) مزيدة من: (ت 1) ، (ل)
(2) مزيدة من: (ت 1) ، (ل)
(3) " حديث تحيَّضي في علم الله " طرفٌ من حديث طويل في قصة حمنة بنت جحش، رواه الشافعي في مسنده، وأحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة، والدارقطني، والحاكم، وحسنه الألباني. (ر. مسند الشافعي: 310، 311، مسند أحمد: 6/439، أبو داود: الطهارة، باب من قال: إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة، ح 287، والألباني: 267، والترمذي: الطهارة، باب ما جاء في المستحاضة، ح 128، وابن ماجة: الطهارة، باب ما جاء في البكر إذا ابتدئت مستحاضة أو كان لها أيام حيض فنسيتها، ح 627، والدارقطني: 1/214 ح 48، والحاكم: 1/172، والتلخيص: 1/163 ح 223) .(1/318)
وعشرون إن كان الحيض سبعاً، وأربعة وعشرون إن كان الحيض ستاً.
والدور عبارة عن حيض وطهر، والذي ذكرناه في ظاهر [هـ] (1) تقديرات، والتقدير لا يثبت إلا بتوقف، وليس يصح عند الشافعي خبرٌ في تقدير أقل الحيض وأكثره.
442- وقد روى أصحاب أبي حنيفة أخباراً توافق مذهبهم في الأقل والأكثر (2) ، والأقل عندهم ثلاثة أيام، والأكثر عشرة، وجملة تلك الأخبار مردودة عند أئمة الحديث.
فليت شعري إلى ماذا الرجوع ولا مجال للقياس، ولم يرد توقيفٌ موثوق به!
443- فنذكر أمراً راجعاً إلى الفطرة، ثم نذكر معتبر الشافعي، فالحيض دمٌ مجتمع في الرحم، ويزجيه الرحم، وقد ينقطع في الباطن عرق، فيسيل منه دم دائم، وهو الاستحاضة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمستحاضة سألته: " توضئي وصلي؛ فإنه دم عرق " (3) .
ثم ليس في الخِلَق والجبلاّت حدٌّ لأقل الحيض وأكثره، ولكنا نعلم قطعاًً أنه لا يدوم؛ فإنه في حكم فضلة تنفضه الطبيعة في نوبة مخصوصة، كسائر الفضلات الطبيعية في اعتدال الحال.
ثم [قد] (4) يختلط الحيض بالاستحاضة، وأحكامها مختلفة، فيضطر الفقيه إلى درك أقدار الحيض، في طرفي الأقل والأكثر.
فهُدي إمام المسلمين الشافعي لأرشد المدارك وأقصدها، فقال: يتعين في ضبط ما نحاول الرجوع إلى الوجود، في اعتدال الأحوال، فما وجد في أقل أدوار الحيض
__________
(1) زيادة من: (ت 1) ، (ل) .
(2) ر. فتح القدير: 1/142، حاشية ابن عابدين: 1/189، ونصب الراية: 1/191، 192.
(3) حديث: " توضئي وصلي " جزء من قصة فاطمة بنت أبي حبيش عن عائشة، رواه أصحاب السنن، واللفظ لأبي داود، وأصله في الصحيحين (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/70 ح 190، أبو داود الطهارة، باب إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة، ح 286، التلخيص: 1/167 ح 231) .
(4) زيادة من: (ت 1) ، (ل) .(1/319)
حكم به، وما وجد أكثر من غير دوام الدم واستمراره حكم به.
قال عطاء: رأيت مَنْ تحيض يوماً، ورأيت من تحيض خمسة عشر يوماً، وعندنا امرأة تحيض يومين يومين.
وقال الشافعي: رأيت امرأة لم تزل تحيض يوماً.
وقال أبو عبد الله الزبيري: في نسائنا من تحيض يوماً وليلة، وفيهن من تحيض خمسة عشر يوماً.
ولا يتصوّر في ذلك مسلك -إذا لم يصح توقيفٌ- إلا الوجود.
444- فإن قيل: لو وجدنا امرأة تحيض أقل مما ذكره الشافعي، أو أكثر من خمسة عشر، قلنا: أرسل أئمتنا في هذا أوجهاً مختلفة، ومعظم النقلة يتداولونها من غير بصيرة.
ونحن نذكرها، ونذكر في معرض التوجيه حقائقها.
445- فقال قائلون: لا نقصان من الأقل الذي ذكرناه، ولا زيادة على الأكثر؛ فإنّا لو تعديناهما، لم نقف عند ضبط.
وهذا ليس بتوجيه (1) ، مع ما تمهد من وجوب المصير إلى الوجود، ولكن هذا الوجه يُوجّه بأن الحيضَ ومقدارَه ليس من الأمراض، والأعراض التي تُميل [البنية] (2) عن الاعتدال. والأمورُ [الصحية] (3) إذا استمر عليها عصور، ثم بحث الباحثون عن الوجود فيها، فإن فرض نقصان أو زيادة، فهو ميل عن الاعتدال، فيحمل على الإعلال، لا على الحيض.
446- ومن أصحابنا من قال: نحن نتبع الوجود كيف فرض، وهذا مذهب
__________
(1) في (ل) : يتوجه.
(2) في الأصل: البينة، وفي (ت 1) : التنبيه. والمثبت تقدير منا رعاية للسياق. وصدقته (ل) بحمد الله.
(3) في الأصل: العجيبة، وكذا (ت 1) . والمثبت تقديرٌ منا، صدقته (ل) .(1/320)
طوائف من المحققين، منهم الأستاذ أبو إسحاق في جواب له، والقاضي حسين (1) .
ووجه هذا بيّن؛ فإن ما حُكِّم الوجود فيه، فالوجه اتباعُه كيف فرض، وقد يستمر شيء في خلق، ثم تختلف الأَهوية والقُطُر (2) فيه في عصور أخرى.
447- ومن أصحابنا من قال: إن وجدنا شيئاًً يخالف ما ذكره الشافعي، ووجدنا مذهباً من مذاهب أئمة السلف الذين يعتمدون الوجود موافقاً له، اعتمدناه وعملنا به، وإن لم نجده موافقاً لمذهبه، لم نعتمده.
وهذا فيه إلباسٌ؛ فإنا إذا وجدنا مذهباً ممن يعتمد الوجود؛ فقد ظهر لنا أن هذا الذي قد وجدناه الآن قد وجد قبل هذا، ولكن لم يبلغ الشافعي، ولو بلَّغه موثوق به، لاعتمده لا محالة، وصار إليه.
فهذا بيان ما قيل.
448- فإن قيل: لو رأينا امرأة ترى الدم دائماً؟ قلنا: نقطع بأن الجميع ليس بحيض؛ فإن الجبلّة لا تحتمل ذلك، وإنما يعتمد الوجود إذا كانت ترى طهراً مع الدم.
فلو فرض فارضٌ الدم لحظة واحدة، فهذا لا يكون قط حيضاً.
فإن قيل: أليس أقل النفاس لحظة واحدة عند الشافعي؟ قلنا: قد تلد المرأة ولا تَنْفَس أصلاً، وهى التي تسمى ذات الجفاف، فيتصوّر ألا ترى إلا دفعة واحدة من
__________
(1) الحسين بن محمد بن أحمد، أبو علي، المرورُّوذي: القاضي حسين. الإِمام الجليل، أحد رفعاء الأصحاب، تكرر ذكره في الوسيط، والروضة، ولا ذكر له في المهذب، ويأتي كثيراً معرفاً بالقاضي حسين، وكثيراً مطلقاً (القاضي) وهو من أصحاب الوجوه في المذهب، تفقه على القفال المروزي، وهو من أجلّ أصحابه وأنجب تلاميذه، هو والشيخ أبو علي السنجي، قال عنه إِمام الحرمين: " حبر المذهب على الحقيقة " التعليق الكبير المشهور، تفقه عليه جمع من الأئمة منهم: إِمام الحرمين، والمتولي. واعلم أنه متى أطلق القاضي في كتب متأخري الخراسانيين، كالنهاية والتتمة والتهذيب، وكتب الغزالي ونحوها، فالمراد القاضي حسين. توفي 462 هـ (تهذيب الأسماء: 1/164، والسبكي: 4/356) .
(2) القُطُر جمع قُطْر، والقُطْر: الناحية من الأرض، والمراد اختلاف المناخ الذي يؤثر عادة في الصحة والأجسام. وفي (ل) : الفِطَر: جمع فطرة.(1/321)
الدم، أما الحيض، فلم يُعهد لحظة واحدة، ولا ساعة.
449- والذي أختاره، ولا أرى العدول عنه، الاكتفاء بما استقر عليه مذاهب الماضين من أئمتنا في الأقل والأكثر؛ فإنا لو فتحنا باب اتباع الوجود في كل ما يُحدَّث به، وأخذنا في تغيير ما تمهّد تقليلاً وتكثيراً، لاختلطت الأبواب، وظهر الخبط والاضطراب، ولزم ألا يمتنع بلوغ الحيض عشرين، ورجوع الطهر إلى عشرة، وانحطاط الأقل إلى ساعة، ثم يجب طرد هذا (1) المسلك في الأمور التي يُتبع الوجودُ فيها، حتى لا يمتنع نقصان أقل مدة الحمل عن ستة أشهر، وزيادة أكثره على أربع سنين.
فالوجه أن نتبع ما تقرر للعلماء الباحثين قبلنا؛ فإن الغالب على الظن أن ما لم يصح في أعصارهم مع اختلاف خِلَق الخلائق، وتباين الطباع، يندر وقوعه في أعصارنا، وليس دم الفساد نادرَ الوقوع، فلسنا نبغي أمراً مقطوعاًً به، فإنه مُعوز فيما نحن فيه، فالوجه الانتهاء إلى أقل ما نقل، وإلى أما صح في طرفي الأقل والأكثر.
وقد أجمع الأئمة على أن المرأة إذا كانت تحيض يوماً وتطهر يوماً على الاستمرار، فلا تجعل كل نقاء طُهراً كاملاً، على ما سيأتي ذلك مشروحاً في بابه إن شاء الله تعالى.
450- ومن الأصول التي يتعين الاسترواح إليه فيما دفعنا إليه، ما رُوي أنه لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حالة النسوان " ناقصات عقل ودين، قيل له: ما نقصان دينهن؟ فقال: تجلس إحداهن شطر عمرها لا تصوم ولا تصلي " (2) .
فكان قولُ النبي عليه السلام مشيراً إلى ذكر أقصى زمان يُتصور منهن القعود عن وظائف العبادات فيه. فليتخذ المرء ذلك مرجعه في هذا الطرف، وليردّ نظره إلى طرف الأقل، وفيما نبّه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان أقل الطهر أيضاً.
ثم يبعد عندي فرض طريان الحيض في رمضان ليلاً، مع انقطاعه قبل الفجر في
__________
(1) عبارة الأصل: ... ثم يجب طرد هذا. هذا هو المسلك، والمثبت من: (ت 1) ، (ل) .
(2) حديث " ناقصات عقل ودين " رواه البخاري: كتاب الحيض، باب (6) ترك الحائض الصوم، ح 304، ورواه مسلم: 1/86 - كتاب الإِيمان، باب (34) ، بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات ... ، ح 79، البخاري عن أبي سعيد، ومسلم عنه، وعن ابن عمر، وأبي هريرة.(1/322)
الليلة الطويلة، والمرأة تتمادى على الصوم، فتستتم صوم رمضان، وقد حاضت في الشهر مرة أو مرتين، فدلّت هذه الإشارات على الوقوف عند مواقف الأئمة في الأدوار.
وقد نجز منتهى غرضنا من هذا الفصل.
الفصل الرابع
في أحكام الاستحاضة
451- فنقول أولاً: دم الاستحاضة في وضع البنْية والجبلّة يسيل من عِرقٍ ينقطع، وليس الدم الذي يُزجيه الرحم من مغيضه، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض المستحاضات: " إنه دم عرق ".
ثم حكمه على الجملة، حكم حدث دائم من نواقض الوضوء، كسلس البول، واسترخاء [الأُسْر] (1) .
وإذا أطبق حدثٌ من هذه الأحداث، فصاحب البلوى مأمور بأن يتوضأ لكل فريضة، ولا يجمع بين مفروضتين بطهر واحد، على التفصيل المذكور في التيمم، بل هو أولى بذلك، فإن الأحداث تتجدد عليه، والمتيمم لم يتجدد عليه حدث، بل حكم الحدث الأول مستدام.
فإذاً المستحاضة ومن في معناها تتوضأ لكل فريضة، وتُقيم بوضوء واحد فريضةً واحدة وما شاءت من النوافل.
وقد سبق أن المتيمم لو تيمم لقضاء فائتة، ثم أخّر الفائتة أزماناً، فلا بأس عليه، ولو تيمم في وقت فريضةٍ لإقامتها، ثم لم يتفق حتى خرج الوقت، فأراد قضاءها بذلك التيمم، جاز.
452- فأما المستحاضة والأحداث تطرأ عليها حالاً على حالٍ، فلو توضأت وابتدرت الصلاة، لكانت ساعية في تقليل الأحداث جهدها، ولو أخرت الصلاة، لكثُر تخلل الأحداث، فما حكم ذلك؟
__________
(1) في الأصل، (ت 1) : الأسفل. والأُسْر: شدة الخلق، واحتباس البول (معجم) . والمراد هنا: استرخاء ما يضبط أمرَ البول، ويتحكم في إخراجه.(1/323)
اضطرب الأئمة، فذهب ذاهبون إلى أنها مأمورة بمبادرة الصلاة بعد الفراغ من الوضوء، لتقليل ما يطرأ، فلو أخرت، لم تصح فريضتُها.
وذهب الخِضْرِيُّ (1) من الأئمة إلى أن حكمها حكمُ المتيمم، فلو أفرطت في تأخير الفريضة عن الوضوء، جاز، ولو توضأت لصلاة الظهر بعد الزوال، ثم لم توفَّق لأدائها، حتى تصرّم الوقت، قضتها بذلك الوضوء، قياساً على المتيمم؛ فإن قليل الحدث ككثيره، وقال: الأحداث التي تطرأ فرب الحكم حدث واحد، في حق الفريضة الواحدة (2) ، قلّت أو كثرت، فهذان الوجهان هما الأصل.
وذكر بعض أصحابنا وجهاً ثالثاًً، وهو أنها لو توضأت للظهر، فالأمر موسّع عليها، مادام الوقت باقياً، فإن صلت في آخر الوقت، وكانت توضأت في أول الوقت، فلا بأس، وإن انقضى الوقت، لم تقض تلك الصلاة.
وهذا بعيد عن قياس الشافعي، مشابهٌ لمذهب أبي حنيفة (3) .
453- فإن نزّلنا وضوءَها منزلة التيمم في حق الفريضة الواحدة، فلا كلام.
وإن منعناها من تأخير الفريضة عند الفراغ من الوضوء، فقد تردد الأئمة على ذلك:
فذهب ذاهبون إلى المبالغة في الأمر بالبدار.
وقال آخرون: لو تخلل زمن قصير، فلا بأس، وضبطُه على [التقريب] (4) عندي، أن يكون على قدر الزمان المتخلل بين صلاتي الجمع في السفر، على ما سيأتي مشروحاً إن شاء الله عز وجل.
ثم كان شيخي يحكي في التفريع على الأمر بالمبادرة عن بعض أصحابنا: أنها لو توضأت قبيل الزوال، ولما فرغت زالت الشمس، فإنها تصلي صلاة الظهر، نظراً إلى
__________
(1) سبقت ترجمته، وقد ضبط في (ت 1) الخُضَري.
(2) في (ت 1) : الأحداث التي تطرأ في الحكم كالمعدومة، في حق الفريضة الواحدة. وكذلك (ل) .
(3) ر. تحفة الفقهاء: 1/33، والهداية مع فتح القدير، والعناية: 1/160.
(4) في الأصل: الترتيب، وفي (ت 1) : التقرّب. والمثبت من (ل) .(1/324)
الاتصال؛ فإنه المرعيُّ، ولا نظر إلى الوقت؛ فإنها لو توضأت على هذا الوجه بعد الزوال، وأخرت إقامة الصلاة قليلاً، لم يجز، فالاعتبار بالاتصال والانفصال.
وهذا بعيد جداًً، والأصح القطعُ بأنها لا تقدِّم الوضوءَ على وقت الفريضة قياساً على التيمم، ثم هي على وجهٍ مأمورة بمزيد احتياط في رعاية الاتصال، لا يؤاخذ به المتيمم، وطهارة التيمم وطَهارة المستحاضة طهارتا ضرورةٍ، فمقتضى المذهب اشتراط إيقاعهما بعد فرضئة الصلاة.
454- وإذا انتهى الكلام إلى ذلك، نذكر خلافاً ذكره العراقيون في طهارة صاحب الرفاهية، وأنها متى تجب؟ قالوا: من أئمتنا من قال: لا تجب إلا عند وجوب الصلاة؛ فإنها تجب لأجل الصلاة، ولا تجب مقصودة في نفسها.
ومنهم من قال: إنها تجب عند الحدث وجوباً موسعاً، وصححوا ذلك (1) ، ووجهوه بأنها عبادة بدنية وقياس العبادات البدنية ألا يؤتى بها قبل وجوبها، وإنما تُقدم العبادات المالية قبل وقت الوجوب، كالزكاة والكفارة، على تفصيلِ مشهور.
وليست طهارة الحدث في هذا، كإزالة النجاسة، فإن الغرض منها ألا تكون النجاسة، وليست [الإزالة] (2) معنيةً بالأمر.
فرع:
455- ذكرنا ما يتعلق بتجديد الوضوء، واعتبار وقته في حق من استمر حدثه ودام.
ونحن نذكر الآن ما يتعلّق بزالة النجاسة.
فالمستحاضة مأمورة بأن تغسل نفسها وتتلجم وتستثفر، وتُحكم الشِّداد جهدها،
__________
(1) الإِشارة إِلى القول بأنها لا تجب إِلا عند وجوب الصلاة، وقال أبو محمد والد الإِمام في كتابه (الفروق) : "أجمع العلماء أنه لا يجب الوضوء ولا الغسل حتى يدخل وقت الصلاة" وعلق النووي قائلا: "وهذا ليس مخالفاً لما ذكر من حكاية الخلاف في وقت الوجوب؛ لأن مراده: لا يكلف بالفعل والله أعلم" ا. هـ. ملخصاً (ر. المجموع: 1/466) .
(2) في الأصل: النجاسة. وقد علق على هذه التفرقة بين طهارة الحدث اِزالة النجاسة الإِمام ابن أبي عصرون في مختصره للنهاية قائلا: "قلتُ: لا فرق بينهما؛ فإنه لا يجب اجتناب النجاسة إِلا في الصلاة" (ر. مختصر النهاية: 1/ورقة 193) .(1/325)
وهذا محتوم. وإن كانت تعلم أن النجاسة تبرز مع ذلك؛ فإنها مكلفة بالسعي في تقليلها، وهذا يؤكّد أمرَها بمبادرة الصلاة، لتكون مقللة للحدث.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " تلجمي واستثفري (1) ، [وأنعت] (2) لك الكُرْسُُف " (3) .
ثم مهما تحركت العصابة وزايلت موضعها، والنجس دائم، أُمرت بإعادة الغَسل (4) . وإن كانت قارّة، ولم يظهر نجس من جوانبها، فهل نأمرها بتجديد الغَسْل، ورفع الشِّداد وإعادته، مهما أمرناها بتجديد الوضوء؟ فعلى وجهين مشهوربن:
أحدهما - وهو الظاهر: أنا نأمرها بذلك؛ اعتباراً لإحدى الطهارتين بالأخرى.
والثاني - أنا لا نأمرها بذلك؛ فإنه قد تمهد في الشرع الأمر بالطهر مع قيام الحدث أو تجدده، وهذا في معنى ما لا ينقاس من التعبدات، فأما الأمر بتجديد الإزالة مع استمرار النجس، فبعيد.
وهذا غير سديد؛ فإنه لا خلاف فى الأمر به إذا زالت العصابة، ولا أثر للزوال، إنما الأثر لتجدد النجاسة.
وقال الأئمة (5) : لو لم تزل العصابة ولكن ظهر الدم عليها، أو من جوانبها وهي
__________
(1) حديث: " تلجمي واستثفري " هذا اللفظ وقع في حديث حمنة بنت جحش الذي سبق في فقرة: 441. واستثفر الشخص بثوبه، اتّزر به، ثم ردّ طرف إِزاره من بين رجليه، فغرزه في حجزته من ورائه. (المصباح) .
(2) في الأصل: وسأبعث. وهو تصحيف ظاهر، أما في: (ت 1) ، (ل) : وسأنعت.
والتصويب من كتب الحديث.
(3) الكُرسف: بضم، فسكون، فضم: القُطن.
(4) في هامش (ل) ما نصه: " في (التتمة) عليها أن تغسل فرجها، تحشوه بقطن أو خرقة حتى تردّ الدم، وتعصب فوق ذلك، فلو عصبت فرجها، فخرج الدم قبل أن تصلي، فإن كان لرخاوة في الشد، فعليها أن تجدد الطهارة، وإِن كان لغلبة الدم، فلا شيء عليها، وإِن أرادت أن تتطهر لصلاة أخرى، فإن كانت العصابة قد تحركت عن موضعها، فعليها أن تغسل الفرج، وتعصبه مرة أخرى، وإِن كانت العصابة باقية كما كانت، فوجهان " ا. هـ. بنصه.
(5) في (ت 1) : "الإِمام". وكنت إِلى ترجيحها أميل، ثقة بها لجودتها، ولكن وجدتُ النووي، =(1/326)
قارّة، فيجب القطع بالأمر بالتجديد، كما لو زالت العصابة.
456- ومما لا يكاد يخفى أن النجاسة لو ظهرت، فلا ينبغي أن تمنع من النافلة إذا لم تكن منتسبة إلى تقصير.
ولو زالت العصابة بنفسها، وكان ذلك بسبب ازدياد النجاسة، فالوجه منعها من النافلة؛ فإن هذا منسوب إليها، وإنما المعفوّ عنه في حق النوافل نجاسات الضرورة التي لا سبيل إلى دفعها.
457- ومما يتعلق بتمام الفصل ذكرُ انقطاع دم الاستحاضة في الصلاة، وقبل الشروع فيها، والقول في ذلك يتعلق بحالتين:
إحداهما - أن تنقطع الاستحاضة انقطاعاً كلياً وتشفى.
والثانية: أن تنقطع ثم تعود.
458- فأما إذا شُفيت، فإن فرض ذلك قبل الشروع في الصلاة، وقد تجدد عليها أحداث مع الوضوء وبعده مثلاً، ثم شفيت، فعليها أن تتوضأ بعد الشفاء للصلاة؛ فإن الضرورة قد زالت، وإنما كان يعفى عما يتجدد لأجل الضرورة.
وهذا يتنزل منزلة ما لو تيمم المسافر، ثم تمكن من استعمال الماء قبل الشروع في الصلاة.
فإن قيل: أليس اختلف الأصحاب في أن طهارة المستحاضة، هل ترفع الحدث؟ فاذكروا ما قيل فيه، وأوضحوا منه ما يتعلق بالفصل، قلنا: اشتهر الخلاف فيه، فقال قائلون: لا ترفع طهارةُ المستحاضة الحدثَ، بل تُبيح الصلاة كالتيمم؛ فإن الحدث مقارن للطهارة جارٍ معها، وما لم تسلم الطهارة عن مقارنة ناقض لها، لا ترفع ما سبق من الحدث.
__________
= يقول عقب إِيراد هذه المسألة، وهذا الحكم: "حكى الاتفاق عليه إِمام الحرمين، وغيره" فبان أنه قول الأئمة. والله أعلم. (ر. المجموع: 2/534) . وبعد هذا وجدنا عبارة (ل) هكذا: " قلت: لو لم تزل العصابة " أي أن القائل لهذا الرأي وصاحبه هو الإِمام، أي إِمام الحرمين. فهل اطلع النووي على دليل آخر يشهد له بأن (الإِمام) قاله حاكياً له، وليس مبتدئاً إياه؟ أم وقعت له نسخة النهاية المحرّفة هذه؟ العلم عند الله!(1/327)
وقال آخرون: إنها ترفع الأحداث السابقة، والدمُ المساوق لها لا يعتد به حدثاًً ناقضاً، كما لا يُرى ما يجري منه في الصلاة ناقضاً لها.
ثم الأصحاب خصصوا الخلاف بالأحداث السابقة على الطهارة، وما يجري مقارناً لها، فأما ما يقع بعدها، فالطهارة لا ترفعها، ولكن تؤثر في استباحة الصلاة معها، كما يُبيح التيمم الصلاة، مع استمرار الحدث.
459- فإذا تبين ذلك بنينا عليه غرضنا، وقلنا: إذا توضأت المستحاضة [وجريان الدم مقارن لوضوئها] (1) ، وجرت أيضاًً الأحداث بحد الوضوء، ثم شفيت، وانقطعت الاستحاضة بالكلية قبل الشروع في الصلاة، فعليها تجديد الوضوء؛ فإنا إن حكمنا بأن وضوءها لا يؤثر في رفع الحدث أصلاًً، فإنما كنا نجوّز لها أن تصلي بذلك الوضوء للضرورة، وقد زالت الضرورة. فأشبه ذلك ما لو رأى المتيمم الماءَ قبل الشروع في الصلاة، وتمكن من استعماله، فإن قلنا: يرفع وضوؤها ما سبق، ولم يُعتد بما يقارن أيضاً، فما جرى بعد الوضوء يستحيل أن يرفعه الوضوء. فإذا شفيت، لزمتها الطهارة، حتى ترفع تلك الأحداث الجارية بعد الوضوء.
460- ولو شُفيت عقيب الوضوء ولم يجر حدث بعده أصلاً، فالذي صار إليه أئمة المذهب، أنه يلزمها أن تتوضأ؛ فإنا وإن حكمنا بارتفاع الأحداث المتقدمة على الوضوء، فيستحيل أن نحكم بارتفاع ما قارن الوضوء منها؛ فإن الوضوء إنما يرفع حدثاًً متقدماً على أوله.
وقال بعض من لا مبالاة به: إذا حكمنا بأن الوضوء يرفع الحدث السابق، فيلزم على مساقه ألا نجعل ما يقارن الوضوء حدثاً، فعلى هذا إذا انقطع عقيب الوضوء، واتصل الشفاء، لم يلزمها الوضوء؛ فإنّ الأحداث السابقة قد ارتفعت، والمقارن لم يكن حدثاًً معتداً به، ولم يجر بعد الوضوء حدث، فلا يلزم تجديد الوضوء. وهذا لا يعد من المذهب.
__________
(1) الزيادة من: (ت 1) ، (ل) .(1/328)
وبهذا التفريع [يهي جداًً] (1) مذهب من يصير إلى أن طهارة المستحاضة تؤثر في رفع الحدث.
وهذا فيه إذا شُفيت قبل الشروع في الصلاة.
461- فأما إذا شفيت بعدما تحرقت بالصلاة، ففي المسألة جوابان مشهوران لابن سريج:
أحدهما - أن الصلاة تبطل؛ فإن الضرورة قد زالت، وقد تجددت أحداث مع الوضوء وبعده، فلا بد من دفعها عند زوال الضرورة.
والوجه الثاني - أن الصلاة لا تبطل، كما لا تبطل صلاة المتيمم برؤية الماء في خلال الصلاة.
وقد ذكر بعض أصحابنا في صلاة المتيمم خلافاً إذا رأى الماء في خلالها، أخذاً من الخلاف في طريان شفاء المستحاضة، وهو بعيد. والوجه تخصيص الخلاف بطريان الشفاء، والقطع بأن صلاة المتيمم لا تبطل برؤية الماء.
وما ذكرناه فيه، إذا انقطعت الاستحاضة أصلاًً، ولم تعد.
462- فأما إذا انقطعت زمناً ثم عادت، فنقول: إذا توضأت، ثم انقطع الدم، ثم عاد على الفور، فلا حكم لذلك الانقطاع، وإذا تطاول الزمان ثم عاود، أثرّ ذلك الانقطاع. ولنفرض فيه إذا دخل وقت الصلاة، فتوضأت، ثم انقطع الدم وعاود، فالذي ذكرناه من تطاول الزمان، أردنا به أن يمضي زمان يسع الوضوء والصلاة.
والزمانُ القريب ما يقصر عن هذا.
فنقول بعد ذلك: إذا انقطع الدم، فينبغي أن تبدُر (2) وتتوضأ وتصلي، فإذا فعلت ذلك، فقد صلّت غيرَ محدِثة صلاةً نقية عن الحدث.
فإن أخرت (3) حتى عاد الدم، [فقد قصرت؛ فيلزمها أن تتوضأ بعد عود الدم؛ لأنا
__________
(1) في الأصل: على حدا. وهو تصحيف غير مقبول. والمثبت من (ت 1) ، (ل) .
(2) بدر يبدُر إِلى الشيء أسرع. (المعجم) .
(3) المراد أخرت الصلاة عن الوضوء.(1/329)
قد ألزمناها الوضوءَ لما انقطع الدم] (1) .
فإذا تحقق التقصير منها، [بقي] (2) وجوب الصلاة عليها، وإن (3) عاود الدم، هذا ما قطع به الأئمة.
وإن انقطع الدم، ثم عاد قبل زمان يسع الوضوءَ للصلاة والصلاةَ، فلا يلزمها وضوء آخر بعد عود الدم، ووجودُ ذلك الانقطاع وعدمه بمثابة واحدة.
463- ولو انقطع الدم، فشرعت في الصلاة من غير تجديد وضوء، فلو تمادى الانقطاع حتى انتهى الزمان المعتبر الذي ذكرناه الآن، فنحكم بأن صلاتها باطلة؛ فإنها تحرمت والوضوء واجب عليها.
وإن عاد الدم في الصلاة قبل الزمان المتطاول، فقد بان أن الوضوء لا يجب، ولكنها شرعت في الصلاة على تردُّدٍ ظاهر، وكان ظاهر الحال يشعر بوجوب الوضوء، وإن بان خلاف ذلك آخراً، ففي صحة الصلاة وجهان، ذكرهما العراقيون: أصحهما - أنها لا تنعقد، لما قارن عقدَها من ظهور وجوب الوضوء على غالب الظن، وإن بان خلاف ذلك.
والثاني: أنها تنعقد نظراً إلى ما بان آخراً، وهي لم تكن على يقين من وجوب الوضوء عند عقد الصلاة، والأصل براءة الذمة عن كل ما لا يتحقق وجوبه بمسلك شرعي.
وقد نجز ما أردنا إيراده في أحكام الاستحاضة.
464- ثم مقصود هذا الكتاب هو أن الحيض يتصل بالاستحاضة، فيُطبِق الدم، ويتعين تمييز الحيض عن الاستحاضة، لاختلاف حكمهما. وها نحن نستفتح أحكام المستحاضات، ونحن نستعين بالله عزت قدرته.
***
__________
(1) زيادة من: (ت 1) ، (ل) .
(2) في الأصل: في، والمثبت من: (ت 1) ، (ل) .
(3) أي مع عود الدم، كما هي عبارة ابن أبي عصرون في مختصره للنهاية. (ر. مختصر النهاية: 1/196) وانظر المسألة بتفصيلها في المجموع: 2/538 وما بعدها.(1/330)
باب المستحاضات
465- القول في المستحاضات، يتعلق بنوعين:
أحدهما - أن يُطبق الدم ولا ينقطع.
والثاني - أن ينقطع الدم، وهو التلفيق.
فأما النوع الأول: فالمستحاضات في التقسيم الأول: مبتدأة، ومعتادة.
فأما المبتدأة: فهي التي كما يبتديها الدم تُطبق الاستحاضة، وتتصل الدماء.
وهي تنقسم إلى مميزة، وغير مميزة.
والمعتادة: تنقسم إلى ذاكرة لعادتها قبل الابتداء بالاستحاضة، وإلى ناسية لعادتها، وهي التي تسمى المتحيرة.
والمعتادة الذاكرة: قد تنقسم إلى مميزة، وغير مميزة أيضاً. فإذاً المستحاضاتُ أربع:
مبتدأة مميزة.
ومبتدأة غير مميزة.
ومعتادة ذاكرة.
وناسية.
466- وقد نُقل عن النبي صلى الله عليه وسلم: أخبار في المستحاضات، فنصدر بها الباب.
فمما نقل عنه صلى الله عليه وسلم في المستحاضة المميزة، ما روي عن عائشة: أنها قالت: "سألت فاطمةُ بنت أي حُبَيْش رسول الله، وقالت: إني أُستحاض، فلا أطهر، فقال عليه السلام: إنما هو عرق انقطع، إذا أقبلت الحيضة، فدعي الصلاة،(1/331)
وإذا أدبرت فاغتسلي، وصلي" وفي رواية: " دم الحيض أسود له رائحة تعرف " (1) .
والخبر الثاني: في المعتادة، وهو ما روي أن امرأة سألت أمُّ سلمة لها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وكانت مستحاضة، فقال عليه السلام: " مُريها فلتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن قبل أن يصيبها الذي أصابها، فلتدع الصلاة، فإذا خلّفت ذلك، فلتغتسل، ثم لتستثفر بثوب، ثم لتصلِّ " (2) والخبر الثالث: ما روي أن حمنة بنت جحش استحيضت سبع سنين، وكانت تحت عبد الرحمن بن عوف، وسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه السلام: " تحيّضي في علم الله ستاً أو سبعاً كما تحيض النساء، وكما يطهرن ميقات حيضهن وطهرهن ".
فالظاهر أنها كانت مبتدأة، وقوله عليه السلام: " في علم الله " معناه: فيما علّمك الله من عادات النساء.
[المستحاضة الأولى] (3)
467- فنبدأ بالمميزة المبتدأة، وهي التي طبق الدم عليها من أول الأمر، وكان يتميز لها دم الحيض عن دم الاستحاضة بالصفة، كما سنذكرها، ولا يمتنع عليها التمييز، بسبب من الأسباب.
468- ونحن نذكر ما جاء في صفة دم الحيض: روي أنه صلى الله عليه وسلم
__________
(1) حديث فاطمة بنت أبي حبيش، سبق في فقرة 443.
(2) حديث أم سلمة رواه مالك، والشافعي، وأحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة، وقد صححه الألباني. (ر. الموطأ: 1/62 رقم 105، مسند الشافعي: 311، مسند أحمد: 6/320، أبو داود: الطهارة، باب في المرأة تستحاض، ح 274، الألباني رقم 244، والنسائي: الحيض والاستحاضة، باب المرأة يكون لها أيام معلومة تحيضها كل شهر ح 355، والألباني: رقم 202، وابن ماجة: الطهارة، باب ما جاء في المستحاضة التي قد عدت أيام إقرائها 623، الألباني رقم 506، والتلخيص: 1/169 رقم 233) .
(3) زيادة من المحقق.(1/332)
قال: " إنه أسود محتدم بحراني، ذو دفعات له رائحة تعرف " (1) فأما الأسود، فلم يعنِ به أسودَ حالك، وإنما أراد به تعلوه حمرة مجسّدة (2) ، كأنها سواد من تراكم الحمرة. والمحتدم، أراد به اللذّاع؛ فإنه قد يلذع البشرة بحدّته، وهو يختص برائحةٍ كريهةٍ؛ ولذلك أُمرت إذا طهرت أن تتبع بفِرصةٍ من مسكٍ أثرَ الدم. واختلفوا في البحراني، فمعناه الصحيح أنه ناصع اللون، يقال: دم بحراني وباحريّ، إذا كان لا يشوب لونَه لونٌ. ودم الاستحاضة أحمر رقيق، ضارب إلى الشقرة في غالب الأمر.
فإذاً: دم الحيض أقوى لوناً ومتانةً من دم الاستحاضة.
469- فإذا كان يتميز الدم القوي عن الضعيف -وهذه مبتدأة، لم تسبق لها عادةٌ، واستمرارُ أدوارٍ قبل الابتلاء بالاستحاضة- فهي مردودة إلى التمييز، بشرط أنه يجتمع ثلاثة أركان:
أحدها - ألا ينقص الدم القوي عن أقل الحيض، وهو يوم وليلة، على ظاهر المذهب.
والركن الثاني - ألا يزيد الدمُ القوي على أكثر الحيض.
والثالث - ألا ينقص الدم المشرق الضعيف عن أقل الطهر، وهو خمسة عشر يوماً.
فإن استجمعت هذه الأركان تحيضت في أيام الدم القوي. وهي المعنية بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: " إذا أقبلت الحيضة، فدعي الصلاة " ثم إذا أدبر الدم القوي، فهي الاستحاضة، فتغتسل وتصلي، وحدثها دائم، كما مضى أمرها مفصلاً.
فإن عدمت ركناً من هذه الأركان، فقد عجزت عن التمييز، فهي مبتدأة غيرُ مميزة، وسيأتي حكمها إن شاء الله عز وجل، متصلاً بحكم القادرة على التمييز.
470- ثم مما نمهده في أمرها قبل الخوض في التفريع، أنها في أول الأمر إذا رأت
__________
(1) " إِنه أسود محتدم بحراني " هذا اللفظ من الزيادات في حديث فاطمة بنت أبي حبيش، الذي تقدم ذكره، وقد علق الحافظ في التلخيص على ذكر الرافعي لهذه الزيادة، فقال: "تبع فيه الغزالي، وهو تبع الإِمام، وفي تاريخ العقيلي عن عائشة نحوه، قالت: دم الحيض أحمر بحراني، ودم الحيض، كغسالة اللحم" وضعّفه (أي العقيلي) ثم قال: والصفة المذكورة وقعت في كلام الشافعي في الأم (ر. التلخيص: 1/169 ح 232) .
(2) في هامش (ل) : مجسدة أي مشبعة، ومنه قيل للزعفران: جساد. ا. هـ. وفي القاموس، والمعجم: "ثوبٌ مجسَّد، ومجْسَد: أي مصبوغ بالجِساد: وهو الزعفران، وكل صبغ شديد الحمرة".(1/333)
دماً قوياً أياماً، ثم ضعف الدم وتغيّر، وكل ذلك دون الخمسةَ عشرَ من ابتداء الدم؛ فإنا نأمرها في الشهر الأول بأن تتربص وتتحيّض في ظاهر الأمر، وتنظر ما يكون، فإن انقطع نوع الدم على الأكثر، وامتد بعده النقاء خمسة عشر يوماً، فجميع ما رأته من الدم حيضٌ، وإن كان بعضه ضعيفاً مشرقاً؛ فإنّ المرأة إنما تردّ إلى التمييز عند ضرورة الاستحاضة، فإن تربصت منتظرة لا تصوم ولا تصلي، والزوج معتزل عنها، كما سبقت أحكام الحيض، فزاد الدم على الخمسةَ عشرَ، فقد تبينت الآن أنها مستحاضة.
فنقول: بان لنا أن حيضك الدمُ القويُّ الذي رأيتِهِ في أول الأمر، فحكمك فيه حكم الحيض، وقد تقلَّبَتْ (1) عن الحيض من وقت تغيّر الدم إلى الضعف والإشراق، فعليها أن تتدارك، وتقضي الصلوات التي تركتها في تلك الأيام.
471- وإذا مضى الدم المشرق، وبلغ خمسة عشر يوماً فصاعداً، ثم عاود الدمُ القوي، فإنها تتحيّض [ثم] (2) إذا مضى في الدور الثاني أيامُ الدم القوي، واستحال ضعيفاً، فكما (3) استحال تغتسل وتصلي، ولا تتربص كما تربصت في الشهر الأول؛ فإنها في الشهر الأول لم تعلم كونها مستحاضة، حتى زاد الزمان القوي والضعيف على الأكثر. وهي على بصيرة في الشهر الثاني بكونها مستحاضة.
فإن قيل: ستذكرون خلافاًً في أن العادة في المستحاضة المعتادة هل تثبت بمرّة واحدة، فهلاّ خرّجتم هذا الخلاف في تبيّن الاستحاضة، [حتى] (4) تنتظر الشهر الثاني على وجه انتظارها في الشهر الأول، ثم لا تنتظر في الشهر الثالث وجهاً واحداً. قلنا: لما أطبق الدم عليها في الشهر الأول، فقد استيقنت أنها مستحاضة، ومما تحقق في الجبلة أن (5) الاستحاضة من العلل المزمنة التي تدوم مدة مديدة غالباً؛ فوقع الاكتفاء [لهذا بدور شهر] (6) .
__________
(1) تقلّبت: انتقلت
(2) ساقطة من الأصل.
(3) "كما" بمعنى عندما.
(4) في الأصل: هل. والمثبت من: (ت 1) ، (ل) .
(5) في الأصل: أن ندور الاستحاضة. بزيادة كلمة ندور.
(6) في الأصل: بهذا الشهر.(1/334)
وأما مقدار الحيض في القلة والكثرة، فقد يختلف ولا يطرد، وليس استقراره مقدار مرةً واحدة أمراً ظاهراً موثوقاً به. فقال قائلون: لا بدّ من التكرار، فقد لاح الفرق.
على أنا سنذكر أن الأصح أن العادة تثبت بمرة واحدة - إن شاء الله عز وجل.
472- ثم إذا استمرت الاستحاضة، وتمكنت من التمييز، فإنها مردودة إلى اتباع الدم القوي والضعيف في أدوارها. فلو جاءها دور ورأت في أوله خمسة أيام دماً قوياً، وتحيّضت فيها، وضعف الدم بعدها، فاغتسلت، ثم انقطع الدم على الخمسة عشر وشُفيت، فقال الأئمة: تحيُّضها في هذا الدور خمسة عشر يوماً؛ فإنا تبينا أنها ليست مستحاضة في هذا الدور، وإنما يردّ إلى صفة الدم المستحاضةُ.
فصل
473- حقيقة التمييز في الاستحاضة اتباعُ قوة الدم، وضعفه، مع وجود الأركان التي ذكرناها للتمييز، فإن كانت ترى دماً أسودَ أياماً، ثم دماً أحمر منطبقاً إلى آخر الدور، فهي مستحاضة في زمان الحمرة؛ فإن الأحمر بالإضافة إلى الأسود ضعيف.
ولو كانت ترى أولاً دماً أحمر، ثم بعد ذلك دماً أشقر مشرقاً إلى الصفرة، فهي حائض في أيام الحمرة، مستحاضة في أيام الشقرة؛ فإن الأحمر قوي بالإضافة إلى ما بعده من الشقرة.
والأمر يختلف في القوة والضعف بالنسب والإضافات.
فلو رأت خمسةً سواداً وخمسةً حمرةً، ثم شقرةً إلى آخر الدور، فالدمان الأولان قوتان بالإضافة إلى الشقرة بعدهما والحمرة ضعيفة بالإضافة إلى السواد المتقدم عليها، قويةٌ بالإضافة إلى الشقرة بعدها، ففي المسألة طريقان:
من أئمتنا من قطع بأن السواد والحمرة جميعاً حيض؛ لقوتهما، ولإمكان تقديرهما حيضاً.
ومن أصحابنا من ذكر وجهين في الحمرة: أحدهما - أنها حيض؛ لقوتها بالإضافة(1/335)
إلى ما بعدها. والثاني - أنها استحاضة؛ لضعفها بالإضافة إلى السواد المتقدم عليها.
474- ولو رأت خمسة سواداً، وأحدَ عشر حُمرةً قانية، واصفرّ الدم بعد ذلك، وأشرق وتمادى خمسة عشر يوماً فصاعداً، فاختلف أصحابنا في ذلك، فقال بعضهم:
السواد والحمرة جميعاًً بمثابة سوادٍ مطبقٍ [بالغٍ] (1) ستة عشر يوماً، أو حمرةٍ مطبقة في هذه المدة، ولو فُرض كذلك، لكان الدم القوي زائداً على أكثر، فكانت هي فاقدة لما هو من أركان التمييز، مردودةً إلى ما ترد المبتدأة إليه إذا لم تكن مميزة.
ومن أصحابنا من قال: نحيّضُها في أيام السواد، ونُلحق الحمرة بدم الاستحاضة؛ لأنها اتصفت بنوعين من الضعف: أحدهما - أنها ضعيفةٌ بالإضافة إلى ما قبلها، والثاني - وقع طرفٌ منها وراء [الأمد الأكثر] (2) ، فصارت من هذين الوجهين كالشقرة.
وكان شيخي يذكر الصورة الأولى: إذا لم يزد الزمان على اكثر، ويذكر الصورة الثانية: وهي إذا كان مجموعهما يزيدان على الأكثر. ثم كان يقول: اختلف أئمتنا في الصورتين. فمنهم من حكم بأن الدمين حيض إذا أمكن الجمع بينهما، وإن لم يمكن الجمع بينهما فوجهان: أحدهما - أنها فاقدة لركن من التمييز. والثاني - أنا نحيّضها في أيام السواد، ونحكم بأن الحمرة بعده استحاضة.
ومن أئمتنا من قال: إذا زاد الدّمان على الأكثر، فلتلتحق الحمرة بالشقرة وجهاً واحداً، وتحيُّضُها في أيام السواد، وإذا لم يزد الدّمان على الأكثر، فوجهان:
أحدهما - أنهما حيض والاستحاضة بعدهما.
والثاني - أن الحيض منهما السواد الأول، والحمرة استحاضة.
فهذا منتهى الغرض في التنبيه على وجوه اختلاف الأصحاب في هذا.
__________
(1) ساقطة من الأصل، (ت 1) .
(2) العبارة ملفقة من النسخ الثلاث، ففي الأصل: وراء الأمد، وفي (ت 1) ، (ل) : وراء الأكثر.(1/336)
475- ومما نُلحقه بهذا: أن الاعتبار في القوة والضعف باللون المجرد في الدم، فليُفهم ذلك (1) ، وإن ورد في الخبر صفاتٌ أخرى سوى اللون، من أنه محتدم، ذو دفعات، له رائحة تعرف.
وقد قطع به الصيدلاني، وهو متفق علَيه في الطرق، حتى لو رأت خمسةً سواداً مع الرائحة المنعوتة، وخمسة سواداً بلا رائحة، فهما دم واحد وفاقاً، وكذلك لا نظر إلى المتانة والرقة والخثورة، وإنما المعتبر اللون فحسب، فليثق الناظر بذلك.
476- ولو رأت أولاً خمسة شقرة، ثم خمسةً سواداً أو حمرةً قانية، ثم شقرةً إلى آخر الدور، فالدم في أول الدور ضعيف، ولكن موضعه وأوليته قد تقوِّيه في ظن الفقيه، والدم الثاني قوي في صفته، ولكنه متأخر عن وقته المعتاد غالباً، فاضطرب الأصحاب لذلك.
وأنا أرى أن أرسم صوراً، وأذكرَ مذاهب الأصحاب فيها، ثم أختمَها بما يضبط مأخذ الطرق.
477- صورة: فإذا رأت أولاً خمسة شقرة، ثم خمسة سواداً، ثم استمرت الشقرة، ففي هذه الصورة وجهان مشهوران: أحدهما - أنه يتبع الدم القوي على ما يوجبه التمييز، فنحيّضُها في الخمسة الثانية، ونجعل الخمسة الأولى دم فساد سابق على أول الدور، وهذا قياس التمييز.
والوجه الثاني: نحيّضُها في الخمسة الأولى والثانية جميعاًً، أما الخمسة الثانية، فإنها على نعت الحيض وقوته، وأما الأولى فمتقوية بالأولية، والغرض اتباع القوة، والجمع بينهما جميعاًً ممكن.
وحكى المحاملي في (الوجهين والقولين) وجهاً ثالثاًً، من أجوبة ابن سُريج: وهو أنها فقدت (2) التمييز في الصورة التي ذكرناها؛ فإن النزول عن أول الدور بعيد،
__________
(1) في هامش (ل) ما نصه: "قال في التتمة: معنى التمييز أن ترى الدم مختلفاً، بعضه أقوى من بعض، والقوة والضعف تتبين بثلاثة أشياء: اللون، والثخانة، والرائحة".
(2) في (ل) : تُسقط التمييز.(1/337)
فهذه مبتدأة لا تميز، فتردّ إلى أقل الحيض، أو غالبه، كما سيأتي ذلك مشروحاً، إن شاء الله عز وجل.
478- صورة أخرى تماثل التي سبقت: إذا رأت خمسة أولاً شقرة، وعشرةً سواداً، ثم استمرت الشقرة، ففي وجه: حيضُها السواد في العشرة.
وفي وجه: تحيّضُها خمسةَ عشرَ يوماً؛ فإن الجمع بين الأوّلية وقوة الدم ممكن.
وفي الوجه الثالث الذي حكاه المحاملي: هي فاقدةٌ للتمييز.
479- صورة أخرى: إذا رأت خمسة شقرة، وأحد عشر سواداً، فقد تجدد في هذه الصورة أمرٌ آخر، وهو أن الجمع بين الأولية والسواد متعذر في هذه الصورة؛ فإنا لو فعلنا ذلك، لزادت الحيضة على الأكثر، فأما من يتبع السواد فيُحيّضها في الأحد عشر الذي فيه السواد، ومن يجعلها فاقدةً في الصورتين السابقتين، فهذا ظاهرٌ في هذه الصورة. وأما من يحاول الجمع بين الأولية وقوة الدم -وقد تحقق تعذّر ذلك- فالمذهب الظاهر أنها فاقدةٌ للتمييز.
وذكر شيخي عند تعذر الجمع في كتاب الحيض من تصنيفه، الذي ترجمه بالمحيط (1) وجهاً غريباً، وهو أن من الأئمة من يحيِّضها في الخمسة الأولى، وإن كانت شقرة؛ نظراً إلى الأولية. وتغيُّر الدم إلى السواد، في هذه الصورة عند هذا القائل، كتغير الدم القوي إلى الضعيف.
وهذا الوجه هفوة [لا] (2) أراه، ولا أعده من المذهب.
480- صورة أخرى: إذا رأت خمسةً شقرة، وستة عشر يوماً سواداً، فمن اتبع الدم الأسود لا يمكنه أن يُحَيِّضَها في أيام السواد، وإذا تعذّر ذلك، فلا شك في تعذر
__________
(1) المحيط من مؤلفات والده أبي محمد الجويني، وهو الكتاب الذي أرسل إِليه البيهقي رسالته المشهورة، لما اطلع على أجزاء منه، فلما قرأ رسالة البيهقي، انصرف عن الكتاب، ولم يتمه، وقد كان نحا فيه نحو الاستقلال عن المذهب الشافعي، واستنبط الأحكام من الكتاب والسنة بدءاً.
(2) ساقطة من النسختين ولا يستقيم السياق بدونها، وعبارة (ل) : أراه هفوة، ولا أعده من المذهب.(1/338)
الجمع، فلا ينقدح في هذه الصورة إلا المصير إلى أنها غيرُ مميزة، ويأتي فيه الوجه الذي ذكره في المحيط، وهو أن نحيّضها في الخمسة الأولى.
وهذا غلط.
48-[فآل] (1) محصول المذهب إلى أن من الأصحاب من يتبع الدم القوي متى فُرض.
ومنهم من يحاول الجمع بين الأولية والدم القوي إن أمكنه، وإن تعذّر الجمع، جعلها فاقدة للتمييز.
ومنهم من يُسقط التمييز، وإن أمكن تقدير الجمع من جهة الزمان.
فرع:
482- ولو رأت المبتدأة في الشهر الأول خمسة عشر يوماً شقرة، وكنا نأمرها بالترّبص، فلما انتصف الشهر، ابتداً السواد، فرأت خمسة عشر سواداً، فلا يكاد يخفى تفريع هذه الصورة، ولكن من يتبع قوة الدم، يأمرها بترك الصلاة، [في النصف الثاني من الشهر. فهذه امرأة على هذه الطريقة أُمرت بترك الصلاة] (2) شهراً، أمرت به في النصف الأول للانتظار، ثم إنها تستدركه، وأمرت بترك الصلاة في النصف الثاني لقوة الدم على المذهب الذي نفرع له، ثم إن زاد الدم القوي على الأكثر، فهي غير مميزة؛ فنردّها بعد انقضاء الشهر والزيادة إلى ما تردّ المبتدأة إليه.
فصل
483- قد تستفيد المرأة عادة من التمييز، فترجع إليها عند [تعذر] (3) التمييز، وبيان ذلك أنها إذا كانت ترى خمسة سواداً، وباقي الشهر شقرةً، ثم أطبق السواد، وأطبقت الشقرة، وعسر التمييز، فهي مردودة إلى الخمسة التي كانت تتحيّض فيها.
بحكم التمييز.
وذلك واضح لا خفاء به.
__________
(1) في النسخ الثلاث: " فقال ". وهو تحريف ظاهر، لا ندري كيف اتفقت عليه.
(2) زيادة من: (ت 1) ، (ل) .
(3) في الأصل: عدم. والمثبت من: (ت 1) ، (ل) .(1/339)
فصل
484- المردودة إلى التمييز إذا تغيّر دمها القوي إلى الضعيف على (1) وجدان أركان التمييز، فكما [يتغير] (2) ، تغتسل وتستفيد أحكام [الطاهرات] (3) من الحيض.
وقال مالك (4) : تستظهر بعد التغيّر بثلاثة أيام.
ونحن لا نرى ذلك أصلاًً، ولكن أقول: إن انقلب الدم بدفعة من لون [قوي] (5) إلى لونٍ دونه، فالحكم ما ذكرناه في استقبال أحكام الاستحاضة.
وإن بدت خطوطٌ من الشقرة، وبقيت خطوط من السواد، فالذي أراه أن حكم الحيض قائم؛ فإن السواد باقٍ، واقتران دم ضعيف به لا يخرجه عن حكم قوته.
فهذا حكم المبتدأة المميّزة.
[المستحاضة الثانية] (6)
485- وأما المبتدأة التي لا تتمكن من التمييز، فكما حاضت أطبق عليها مثلاً لون واحد، فإلى ماذا تردّ؟
في المسألة قولان: أحدهما - أنها تُرد إلى أقل الحيض
والثاني - إلى أغلب الحيض، وهو ست أو سبع. وقد رُوِّينا خبراً عن النبي صلى الله عليه وسلم ظاهره حكم المبتدأة؛ فإنه عليه السلام قال: " تحيّضي في علم الله ستاً أو سبعاً " الحديث.
ومن قال: إنها مردودة إلى أقل الحيض، راعى الاحتياط في إدامة وظائف الشريعة وإقامتها؛ إذ ليس معها متعلَّق من اجتهاد أو عادةٍ، والأصل اشتغال الذمة بفرائض الله تعالى.
__________
(1) "على" بمعنى " مع " قال تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} [الرعد: 6] .
(2) في الأصل: تغيّر. وكما: بمعنى عندما، في عبارة الخراسانيين كما نبهنا آنفاًً.
(3) في الأصل: الطهارات، والمثبت من (ت 1) ، (ل) .
(4) ر. الإشراف: 1/191 مسألة 163، جواهر الإِكليل: 1/30.
(5) زيادة من (ل) .
(6) العنوان زيادة من المحقق.(1/340)
التفريع على القولين:
486- من قال: إنها مردودة إلى غالب الحيض لم يذكر الست والسبع تخييراً، وتخيُّل ذلك محال، ولكن ننظر إلى عادة النساء، فإن كنّ يحضن سبعاً، حيّضناها من أول الدور سبعاً، وإن كن يحضن ستاً، حيضناها ستاًً، وإن كن يحضن خمساً، حيضناها ستاً؛ فإنها أقرب إلى الخمس، وإن كن يحضن سبعاً أو ثمانياً، أو أكثر حيضناها سبعاً؛ فإن السبعَ أقرب إلى التسع والثمان من الست.
واختلف الأئمة في النسوة اللائي تُعتبر هذه (1) بهن، فالذي صار إليه الأكثرون اعتبارها بنساء قراباتها.
قال الصيدلاني: نحن نعتبر مهر مثل المرأة بنساء العصبات كما سيأتي، والنساء المعتبرات في هذا الباب جملة نساء القرابة، من طرفي نسبها.
ومن أئمتنا من قال: نعتبرها بنساء ناحيتها وبلدها، ولا تخصص بنساء العشيرة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تحيّضي ستاًً، أو سبعاً، كما تحيض النساء، وكما يطهرن ". ولم يخصص بنساء العشيرة.
ولو كان بعض النساء المعتبرات يحضن ستاًً، وبعضهن يحضن سبعاً، فنردها إلى الست؛ لأن الست متفق عليها؛ إذ في السبع ست. ولو كان بعضهن يحضن خمساً، وبعضهن تسعاً، فهي مردودة إلى الست.
487- قال شيخي: إذا اعتبرناها بنساء العشيرة وعادتهن تسعٌ مثلاً أو عشر، فيحتمل أن تثبت لها تلك العادة بعينها، ولا تخصص بالست والسبع.
وهذا الذي ذكره حسن، ولكني لم أره لغيره، وعندي أنه ما ذكره وجهاً مخرجاً، وإنما أبدى وجهاً من الاحتمال.
ثم إذا رددناها إلى الست، أو إلى السبع، فنردّها إلى أغلب الطهر، وتكمل مع زمان الحيض الدورَ بالطهر ثلاثين يوماً، فإن حيَّضناها ستاًً، حكمنا لها أربعة وعشرين يوماًً، وإن حيّضناها سبعاً، حكمنا لها بعد السبع بثلاث وعشرين طهراً.
__________
(1) في ت 1: يعتبر هذا بهن.(1/341)
فهذا بيان التفريع على الرد إلى غالب الحيض.
488- فأما إذا قلنا: إنها ترد إلى أقل الحيض، فإلى كم ترد في الطهر؟
أبعد بعضُ أصحابنا، وذهب إلى أنها ترد إلى أقل الطهر أيضاًً؛ فيكون دورها ستة عشر يوماًً: يومٌ وليلة حيض، وخمسةَ عشرَ يوماًً طهر، ويُحكى هذا عن البويطي.
وهو اتّباع لفظٍ وإضرابٌ عن المعنى؛ فإنا إنما رددناها إلى الأقل، حتى تكثر صلواتُها. فأما إذا رددناها إلى أقل الطهر، فالحيض يكُرُّ عليها على قرب، ففي تقليل أمد طهرها تكثير حيضها، وهذا يخالف وضعَ هذا القول.
فإذا ثبت أنها [لا] (1) ترد إلى أقل الطهر، فإلى ماذا تردّ في حساب الطهر؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنها تكمل بالطهر دورَها ثلاثين يوماًً، فحيضها يوم وليلة، وطهرها تسعةٌ وعشرون يوماً.
والثاني - أنا نردها إلى غالب الطهر. ثم الطهر الغالب بين ثلاثة وعشرين، وأربعة وعشرين (2) . وكان شيخي -على هذا الوجه الذي انتهى إليه التفريع- يرى أنها ترد إلى أربعة وعشرين احتياطاً للعبادة.
فهذا بيان ما ترد المرأة المبتدأة إليه من الحيض.
489- ثم هي حائض في الزمان الذي رُدَّت إليه، وما حكمها وراء ذلك الزمان على اختلاف القولين إلى تمام خمسةَ عشرَ يوماًً من أول الدور؟ فعلى قولين: أصحهما - أن حكمها حكمُ الطاهرات؛ قياساً على المميزة المعتادة؛ فإن المميزة إذا فارقت الدمَ القوي، فهي طاهرة بها حدث دائم، وكذلك المعتادة إذا انقضت أيامُ عادتها، فهي طاهرة إلى عودة الحيض في مفتتح الدور الآخر، فلتكن المبتدأة كذلك وراء أيام الحيضة، ردت إلى الغالب، أو إلى الأقل.
والقول الثاني - إنها مأمورة بالاحتياط وراء الحيض إلى انقضاء خمسة عشر يوماًً من
__________
(1) زيادة من (ت) ، (ل) .
(2) في النسختين بين ثلاثة وعشرين، وبين أربعة وعشرين، والمشهور أن (بين) لا تكرر مع الظاهر، وإنما تكرر مع الضمير، وقد جرت على هذا نسخة (ل) ، فلم تكرر (بين) .(1/342)
أول الدور؛ فإنا لم نسند أمرها إلى أصلٍ من تمييز ناجزٍ أو عادةٍ سابقةٍ، ولم يُنقل فيها حديث يتحقق أنه في المبتدأة، فاقتضى ذلك احتياطاً.
ثم الاحتياط على هذا القول، كالاحتياط في حق الناسية المتميزة، وسيأتي تفسيره فيها، فهو عمدة الكتاب.
فصل
490- ما ذكرناه من شهر التربص، وشهر الشفاء، وما بينهما من الشهور في المميزة يعود في المبتدأة، فإذا استمر الدم بالمبتدأة لمّا رأته، فإنها تتربص خمسةَ عشرَ يوماًً، وهي أوْلى المستحاضات بالتربص؛ فإنها لم يسبق منها في [نُوب] (1) الحيض شيء، وليست متمسكة بالتمييز في الحال، فإن انقطع الدم على الأكثر، فالكل حيضٌ، وإن جاوزه، ردت إلى الأقل من أول الدور، أو الغالب كما مضى، ثم لا تتربص في غير الشهر الأول كما تقدم، فإن انقطع الدم على خمسةَ عشرَ في شهر، وشفيت، فالدم بكماله في هذا الشهر حيض؛ فإن الاستحاضة إنما تتحقق إذا جاوز الدم الأكثر.
فصل
491- حكى العلماء بأحكام الحيض، عن [أحمد] (2) بن بنت الشافعي مذهباً في المبتدأة، لم يساعده الأصحاب عليه، وذلك أنه قال: إذا انفصل الخامس عشر بالنقاء
__________
(1) في النسختين: ثوب. وهذا تقدير منا. عسى أن يكون صواباً. وقد صدقتنا (ل) بحمد الله.
(2) في النسخ الثلاث: محمد بن بنت الشافعي. والذي في كتب التراجم: أحمد بن محمد بن عبد الله ابن محمد بن العباس بن عثمان بن شافع، المطلبي الشافعي نسباً ومذهباً، وهو ابن بنت الإِمام الشافعي رضي الله عنه، أمه زينب بنت الإمام الشافعي، يكنى أبو محمد وقيل أبو عبد الرحمن، روى عنه الإمام أبو يحى الساجي، له مسائل انفرد بها في الحج والرضاع وغيرها، توفي سنة 295 (ر. طبقات ابن قاضي شهبة: 1/75، وتهذيب الأسماء واللغات: 2/296 رقم 557، وطبقات السبكي: 2/186) .(1/343)
عن السادس عشر، فما وقع في النصف الأول حيض؛ وما وقع في النصف الأخير من الدور استحاضة.
وبيان ذلك بالتصوير: إذا استمر الدم عليها، ثم طهرت في السادس عشر، وعاود الدم في السابع عشر واطّرد، فالنصف الأول حيض؛ فإنه لم يتصل آخره بدم في أول النصف الثاني من الدور، فكان ذلك انفصالاً لأحد النصفين عن الثاني.
وإن طهرت في الخامس عشر، ثم عاد الدم في أول السادس عشر، فما وقع في النصف الأول حيض أيضاً؛ لأن الدم لم يطرد على آخر النصف الأول مع أول النصف الثاني.
فأما إذا استمر الدم على آخر النصف الأول وأول النصف الثاني، فتردّ حينئذ إلى غالب الحيض من أول الدور.
وهذا الذي حُكي عنه مذهب يختص به، لا يعد من مذهب الشافعي.
وحقيقة المذهب في تقطع الدم بنقاء لا يبلغ أقل الطهر يأتي مستقصىً في باب التلفيق، إن شاء الله تعالى.
[المستحاضة الثالثة] (1)
492- المستحاضة الثالثة: هي المعتادة، وهي التي استمرت لها أدوارٌ مستقيمة، ثم استحيضت، وطبق الدم عليها، فهي مردودة إلى عادتها في مقدار الحيض والطهر، ورعاية ترتيب الدور إذا كانت لا تتمكن من التمييز، وإن كانت متمكنة من التمييز، فسنعقد فيه فصلاً في الآخر. ولو كانت لها عادةٌ جارية مدةً، ثم تغيّرت قبل الاستحاضة، وزاد الحيض أو نقص، أو زاد الطهر أو نقص، وما استحيضت، فإن تكرر ذلك على [انتظام ثم] (2) استحيضت، فهي مردودة إلى حكم الدور الأخير، فإن جرى التغير مرةً واحدةً، ثم استحيضت، فظاهر المذهب أنها مردودة إلى الدور الأخير.
__________
(1) العنوان زيادة من المحقق.
(2) زيادة من: (ت 1) ، (ل) .(1/344)
وفي المسألة وجه ثانٍ: أنها ترد إلى العادة [القديمة] (1) ، ولا اعتبار بما جرى مرةً واحدةً، وهذا مذهب أبي حنيفة (2) .
493- توجيه الوجهين: من قال لا تثبت العادة بالمرة الواحدة، احتج بأن العادة من العود، وما لا يعود لا يؤثر فيما تكرر عوداً [على بدء] (3) قديماً.
ومن قال بالوجه الأظهر، احتج بأن المتأخر بالإضافة إلى ما تقدم كالناسخ والمنسوخ، ولا حقيقة [لقول منا] (4) يتمسك باشتقاق [لفظ] (5) العادة، فإن هذه اللفظة ليست من ألفاظ الشارع، فلا معنى للتعلق بمقتضاها. ولئن كان يبعد ترك عادة قديمة بمرة، فتركها بمرتين لا يغير من الاستبعاد شيئاً.
وما ذكرناه متفقاً عليه، ومختلفاً فيه، يتهذب بصور نذكرها: فلو كانت تحيض خمسة أيام، وتطهر خمسةً وعشرين يوماًً، وكانت الأدوار تطّرد كذلك، فجاءها شهر، فرأت ستة دماًً، وأربعةً وعشرين طهراً، فقد زادت حيضتها، فلو زاد عليها دورٌ كذلك، فرأت ستة دماً، وأربعة وعشرين نقاءً، ثم فاتحها الدم وطبق، ولم ينقطع، فهي مردودة إلى حساب الدورين الأخيرين وفاقاً. ولو رأت الستة والأربعة والعشرين مرةً واحدةً، وفاتحها الدم وأطبق، فإن قلنا: تتغير العادة بالمرة الواحدة، [وهو الأصح، فهي مردودة إلى الدور الأخير، فدورها ثلاثون يوماًً كان، لكن ستة من أول الدور حيض، وأربعة وعشرون استحاضة.
وإن قلنا: لا تتغير العادة بالمرة الواحدة] (6) فهي مردودة إلى عادتها القديمة، فنحيّضها خمسةً من أول الدور، ونحكم لها بالطهر خمسةً وعشرين يوماًً، وكذلك نُدير عليها أدوارها. وكذلك لو فرض نقصان الحيض مع التكرر، ومن غير تكرر، ثم طريان الاستحاضة، فلا يخفى تفريع الخلاف والوفاق.
__________
(1) زيادة من: (ت 1) ، (ل) .
(2) ر. حاشية ابن عابدين: 1/200
(3) زيادة من (ت 1) ، (ل) .
(4) عبارة الأصل: لمن يتمسك. والمثبت من (ت 1) ، (ل) .
(5) زيادة من (ت 1) ، (ل) .
(6) ساقط من الأصل وأثبتناه من: (ت 1) وجاءت في موضع سقط كبير في (ل) .(1/345)
وكل ما نذكره فيه إذا لم يزايل أول الدم بالتقدم ولا بالتأخر.
494- وتمام البيان في ذلك في ذكر قاعدة، وهي: أنها إذا كانت تحيض خمسة، وتطهر خمسة وعشرين، فجاءها شهر، ورأت ستة دماً، وأربعة وعشرين طهراً، ثم رأت الدور الثاني سبعة دماًً، وثلاثة وعشرين طهراً، ثم فاتح الدم وأطبق.
فإن قلنا: العادة تثبت بالمرة الواحدة، فالعادة القديمة نسختها الستة والأربعة والعشرون، ثم السبعة والثلاثة والعشرون نسخت الستة قبلها. فالمستحاضة مردودة إلى حكم الدور الأخير حيضاً وطهراً.
وإن قلنا: لا تثبت العادة بالمرة الواحدة، فالأصح أنه لا معتبر بالدورين الآخرين؛ فإنهما مختلفان، لم يتكرر واحد منهما، فالمستحاضة مردودة إلى حساب الأدوار القديمة، فنحيّضها من أول الدم خمسةَ أيام، ونحكم لها بالطهر خمسة وعشرين يوماًً.
ومن أصحابنا من قال: الستة متكررة؛ فإن في السبعة ستة، والسابع هو الذي لم يتكرر، فنحيّضها ستة أيام من أول الدور.
وإن قلنا: لا تثبت العادة بالمرة الواحدة، فإن قيل: إذا ردّت إلى الستة في الحيض فإلى ماذا ترد في الطهر؟ قلنا: كان في الأدوار القديمة خمسة وعشرون، ثم رأت في الدورين الأخيرين النقصان في الطهر على وجهين، فرأت في الدور بالستة الطهرَ أربعة وعشرين، ورأت في الدور بالسبعة ثلاثة وعشرين، فنقص في الدور الأول يوم، ونقص في الثاني يومان، فقد تكرر في النقصان يوم واحد، واختُص الدور الأخير بنقصان يوم، فنحط من الخمسة والعشرين ما تكرر نقصانه، وهو يوم واحد، فنحيّضها ستة، ونحكم لها بالطهر أربعة وعشرين، والدور ثلاثون كما كان. هذا تفريع هذا الوجه في الطهر والحيض.
495- فأما إذا زايل الحيضُ أولَ الدور، فلا يخلو إما أن يزايله بالتأخر، وإما أن يزايله بالتقدم.
فإن زايل أولَ الدور بالتأخر، فلا يخلو إما أن يزايل بالتأخر من غير زيادةٍ،(1/346)
ولا نقصانِ، أو يفرض مع التأخر زيادة أو نقصان.
فأما التأخر المحض فنصوّره ونقول: إذا كانت تحيض من أول الشهر خمسة أيام، وتطهر خمسة وعشرين يوماً، فجاءها شهر وحاضت من أوله خمسة، وطهرت خمسة وعشرين، وانتظرت معاودة الحيضة، فلم تعد حتى مضت خمسةُ أيام، ثم رأت الدم في الخمسة الثانية، فالدور الأخير خمسة وثلاثون يوماً، خمسة حيض، وثلاثون طهر.
فإن رأت الخمسة الثانية دماً، وطهرت ثلاثين يوماً، فعاودها الدم في الخمسة الثالثة من الشهر، فإذا عاودها الدم، وطبق في هذه الصورة، فهي مردودة إلى هذا الحساب الذي تكرر، فنحيّضها من أول الدم المطبق خمسة، ونحكم لها بالطهر ثلاثين يوماًً، وندير عليها أدوارها على هذا الحساب، ولا نذكر خلافاً.
وإن جرى ذلك مرةً واحدةً، وكما (1) رأت الدمَ في الخمسة الثانية استمر، فإن فرعنا على الأصح، وهو أن العادة تثبت بالمرة الواحدة، فدورها خمسة وثلاثون كما ذكرناه، ولا مبالاة بخلو أول الدور القديم.
وإن قلنا: لا تثبت العادة بالمرة الواحدة، فالذي صار إليه الأئمة، أنا نحيّضها خمسة من أول الدور؛ فإنه دمٌ في زمن إمكان الحيض، وقد تخلل بينه وبين الدم المتقدم طهر تام، فلا بد من تحيّضها.
ثم اختلفوا وراء ذلك، فذهب المحققون إلى تحييضها في الخمسة الثانية، كما ذكرناه، وهو أول الدم المطبق، ثم تحسب بعده خمسة وعشرين طهراً، فإن الطهر ثلاثين لم (2) يتكرر، فيعاودها الحيض في الخمسة الثانية أبداً، فإن الفقه في رعاية العدد، لا في خلوّ أول الدور.
ومن أصحابنا من قال: نحيضها في الخمسة الثانية وهي أول الدم المطبق، ونحكم
__________
(1) وكما: بمعنى عندما، وهو استعمال شائع عند الخراسانيين، وليس بعربي ولا صحيح، قاله النووي.
(2) جملة لم يتكرر هي خبر إِن، وكلمة (الطهر ثلاثين) كمركب، وهي اسم إِن.(1/347)
لها بالنقاء بقية الشهر، وهو عشرون يوماً، ونحيّضها خمسة من أول الشهر الآتي، والدم مطبق، ثم نعود إلى الحساب القديم، فنحيّضها خمسة من أول الشهر الذي انتهى التفريع إليه، وطهرها خمسةٌ وعشرون، وقد جرى لها قبل الاستحاضة طهر وهو ثلاثون، فزادت خمسة، فنقصنا تلك الزيادة من أول دور الاستحاضة لنعود إلى الترتيب القديم مقداراً وأوّليةً وملازمةً لأوائل الأدوار.
496- وحقيقة الخلاف آيلةٌ إلى أن من الأئمة من لم يُقم لأولية الدور وزناً، وإنما راعى العدد، وهو الصحيح.
ومنهم من راعى الأوّلية بعض المراعاة، فجرّه ذلك إلى التصرف الذي ذكرناه.
فهذا مذهب الأئمة في التفريع على الصحيح والضعيف.
497- وأما أبو إسحاق المروزي، فقد صح عنه في هذه الصورة أنه قال: إذا تأخرت حيضتُها مرةً واحدةً إلى الخمسة الثانية، ثم استمر الدم، فجميعُ ما رأته في هذا الشهر استحاضة، ثم تحيض في أول الدور خمستها، وتعود إلى حسابها القديم.
وإنما قال ذلك لاعتقاده في لزوم أول الأدوار، ما أمكن ذلك.
وهذا المذهب وإن صح عنه، فهو متروك على أبي إسحاق معدودٌ من هفواته، وهو كثير الغلط في الحيض، ومعظم ما عثَر به إفراطُه في اعتبار أول الدور، ووجه غلطه: أنها إذا رأت الدمَ في الخمسة الثانية، ثم استمرّ، فأول دمها في زمان إمكان الحيض وقد تقدم عليه طهر كامل، فالمصير إلى تخلية هذا الشهر عن الحيض ساقط لا أصل له.
ثم نقل النقلة عنه غلطاً عظيماً، فقالوا: عنده أنها لو رأت في الخمسة الثانية دماً، واستمرّ إلى آخر الشهر، ثم رأت نقاءً في خمسة أيام من أول الشهر الثاني، وخمسة وعشرين دماًً، ثم تكرر عليها هذا الترتيب سنين كثيرة، فهذه امرأة لا حيض لها.
وهذا بالغٌ في السقوط والركاكة.
والذي حكيناه في الشهر الأول إن حمل على عثرة عالم، وقد صح أنه غلط،(1/348)
فطردُ (1) ذلك في الشهور على التصوير الأخير لا يعزى إلى من يعد في [أحزاب] (2) الفقهاء.
هذا تفصيل القول فيه إذا تأخرت الحيضة من غير زيادة ولا نقصان.
498- فأما إذا تأخرت الحيضة وزادت، فلا يتصور أن تتبين الزيادة إلا بتكرر الطهر؛ فإن الحيضة إذا تأخرت، ثم استمر الدم بها متصلاً بها، لم يَبن مقدارُها، فنصوّر الزيادةَ، وتكرُّرَها، ووقوعَها قبل الاستحاضة مرةً واحدةً، ونذكر في كل صورة ما يليق بها.
499- فإذا كانت تحيض خمسةً، وتطهر خمسة وعشرين، فجاءها أول الدور، وكانت ترتقب الحيض فلم تر الدم حتى مضى من أول الدور خمسةُ أيام، ثم رأت الحيض ستة أيام، وطهرت بعد ذلك ثلاثين يوماًً، فقد تكرر الطهر ثلاثين يوماًً مرتين، ورأت الحيض ستة أيام مرة واحدة.
فإن رأت بعد الطهرين ستةَ أيام دماًً، وطهرت بعد ذلك ثلاثين، ثم استمر الدم، فقد رأت الستة مرتين، والطهر ثلاثين ثلاث مرات، فهي مردودة إلى ذلك.
ومن ضرورة تكرر الزيادة في الحيض قبل الاستحاضة أن يتكرر الطهر ثلاث مراتٍ، فإذا اتصلت الاستحاضة، فنحيّضها من أول الدم (3) ستةَ أيام، ونحكم بالطهر بعده ثلاثين، ثم يعود الحيض ستة، والطهر ثلاثين.
فإن قيل: هذا بيّن على قياس [مذهب] (4) الجمهور، فما الذي يقتضيه قياس أبي إسحاق المروزي مع غلوّه في الامتناع من تخلية أوائل الأدوار؟ قلنا: لا يجوز أن نقدر
__________
(1) ضبط في (ت 1) : فطرَدَ.
(2) في الأصل: إِلى من يعدُّ فىِ أجواب، وفي: (ت 1) : يعد في جواب. وعجيب أن تتفق النسختان على الخطأ في كلمة واحدة. وهو في موضع خرمٍ واسع من (ل) .
وما اخترناه هو تعبير إِمام الحرمين في مقامٍ آخر (راجع العبارات المصورة من المخطوطات في نهاية المجلد) .
(3) في (ت 1) : الدور
(4) زيادة من: (ت 1) .(1/349)
منه مخالفة الأصحاب في ذلك، في الصورة التي ذكرناها؛ فإنه لو تأخرت الحيضة [و] (1) استعقبت طهراً زائداً، ثم عادت الحيضة والطهر، واستمرت الأدوار على استئخار الحيض، فلا يصير مُسْلِمٌ إلى أن ما يراه ليس بحيض، ثم إذا [اطردت] (2) العادات كذلك، ثم استحيضت، يتعين الرد إلى حساب الأدوار الأخيرة، لا محالة.
والذي قدمناه من مذهبه فيه إذا تأخرت الحيضة، واتصل الدم، ولم ينقطع، ولو تأخر الدم، وزاد، ولم تتكرر الزيادة، فمن ضرورة تصور الزيادة تكرر الطهر؛ فإن الدم لو تأخر واستمر، لم تَبِن الزيادة.
ووجه التصوير أنها إذا كانت ترى الدم خمسة أيام في أول الدور، وتطهر خمسة وعشرين يوماً، فجاءها دور، فلم تر الدم في أوله حتى مضت خمسةُ أيام، ثم رأت الدمَ ستة أيام، ثم طهرت ثلاثين يوماً، ثم رأت الدم، واستمر واستحيضت، فقد كان طهرها خمسة وعشرين يوماًً، فجاءها دور، فلم تر الدم في أوله حتى مضت خمسة أيام، وتكرر عليها الطهر ثلاثين مرتين، وزادت الحيضة مرة واحدة. فإن قلنا: العادة تثبت بالمرة الواحدة، فالتفريع على ما تقدم، وإن قلنا: لا تثبت، فيثبت طهرُها ثلاثين للتكرر. ونردّها إلى الخمسة في الحيض أول الدم، فحيضُها خمسة وطهرها ثلاثون. ولا معنى للتطويل بعد وضوح الغرض.
وما ذكرناه في تأخير الحيض مع الزيادة.
500- ولا يكاد يخفى تأخرها مع فرض النقصان فيها متكرراً، أو غير متكرر.
501- فإذا تقدّمت الحيضة، وتصوير التقدّم أنها إذا كانت تحيض خمسةً من أول الدور، [وتطهر خمسةَ وعشرين يوماً، فحاضت مرة خمسةً من أول الدور] (3) وطهرت عشرين يوماًً، وكانت تقدّر دوام النقاء خمسة أخرى على العادة، فرأت الدم في
__________
(1) في الأصل: "أو استعقبت"، والمثبت من: (ت 1) .
(2) في الأصل: " طرَتِ " بهذا الضبط والمثبت من: (ت 1) .
(3) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، وأثبتناه من: (ت 1) .(1/350)
الخمسة الأخيرة، فقد نقص من طهرها خمسة أيام، فإن تكرر ذلك، وتصوير تكرره أن ترى الخمسة الأخيرة دماًً كما صورنا، وتطهر عشرين يوماًً، ثم يعود الدم ويستمر، فقد تكرر دورها خمسةً وعشرين، إذا رأت الطهر عشرين مرتين، فترد إلى ذلك، وتحيّض من أول الدم المستمر خمسة، ونحكم لها بالطهر عشرين، وتدور أدوارها كذلك.
ولا مبالاة بمفارقة الدم أول الدور على مذهب الجمهور، ولا يتأتى إلا مفارقة أول الدور؛ فإنا إذا رددناها إلى عشرين في الطهر، فلا بُدّ وأن تفارق الدم الأول.
وأما أبو إسحاق، فقياس مذهبه الذي يقرب بعض القرب، أنها لما رأت الدم في آخر الدور أولاً، ثم طهرت بعد ذلك، فتلك الخمسة حيض؛ فإنه احتوشها طهران كاملان، فلما طهرت عشرين من أول الدور الثاني، وعاد الدم في الحادي والعشرين من الدور الثاني، ثم استمر، فالذي ينقدح من مذهبه أيضاًً ما ذكرناه لتكرر نقصان الطهر، وذلك يقتضي لا محالة مزايلةَ أول الدور.
وإن قيل: لما استمر الدم، فالعشرة في آخر الدور الثاني استحاضةٌ غيرُ معدودة في حساب، وحيضها الخمسة الأولى من أول الدور، ثم تردّ بعدها إلى خمسةٍ وعشرين طهراً، لتعود الحيضة إلى الدور.
وسبب ذلك أن خلو أول الدور لم يتكرر، ومن ضرورة ردّ الحيض إلى أول الدور ردّ الطهر إلى الخمسة والعشرين، فهذا بعيدٌ. وإن كان يليق بعثراته في ملازمة أوائل الأدوار.
فالوجه: القطع بما قدمناه من مذاهب الأصحاب.
502- ولو كانت تحيض خمسةً، وتطهر خمسة وعشرين، فحاضت خمستها من أول الدور، وطهرت عشرين، فعاجلها الدم، واستمر الدم، فقد نقص طهرها في هذا الدور، وعاد إلى عشرين.
فإن قلنا: تثبت العادة بمرة واحدة، فتُرد إلى ما جرى في الدور الأخير، فنحيّضها خمسة من أول الدم، ونحكم لها بالطهر عشرين يوماًً، ثم نحيّضها خمسة، ونحكم(1/351)
بالطهر عشرين، وهكذا تدور أدوارها، ولا نبالي بمفارقة أول الدور القديم؛ فإنا إذا كنا نثُبت عددَ الطهر ونقصانَ الدور بالمرة الواحدة، فمزايلة أول الدور أيضاًً يثبت بالمرة الواحدة.
وإن قلنا: لا تثبت العادة بالمرة الواحدة، فإذا استمر الدم كما سبق تصويره، فقد اختلف أصحابنا كما سبق، فمنهم من قال: نحيّضها من أول الدم خمسة، ثم نحكم لها بالطهر خمسةً وعشرين، ثم نحيّضها خمسة، فيكون دورها ثلاثين، كما كان قديماً، ولكن زايلت الحيضة أوّلَ الدور بما جرى واتفق. ولكن حساب الدور باقٍ كما كان.
ومن أصحابنا من قال على هذا: نحيّضها الخمسة من أول الدم، ونحيّضها خمسة أخرى من أول الدور، فيكون حيضها في هذه الكَرَّةِ عشرةَ أيام، ثم نحكم لها بالنقاء خمسة وعشرين بقية الدور، ثم يعود الحيض خمسة في أول الدور، ويطَّرد الحيضُ خمسة، والطهر خمسة وعشرين، والحيضُ منطبق على أول الدور، كما كان قديماً.
وهذا القائل يلتزم من أول استمرار الدم زيادة الحيض، ليعود الحيض إلى الأول، ثم يستمر الحساب القديم، وهذا ساقط، لا أصل له؛ فإن الزيادة في الحيض من غير عادة سابقةٍ محالٌ.
والوجه اعتبار العدد، وترك المبالاة بأوّل الدور.
وأما أبو إسحاق، فقد اختلف الأصحاب في قياس مذهبه، والظاهر اللائق بمذهبه أنه يجعل الخمسةَ الواقعة في آخر الدور الأول استحاضة متقدمة، ويحيّضها في الخمسة الأولى من الدور، ويُدير أدوارها كذلك.
ومن أصحابنا من يقول: قياس مذهبه في هذه الصورة أن يحيّضها في هذه الكَرّة عشرةَ أيام، كما ذكرنا من مذهب بعض الأصحاب الآن، ثم يردّ الأمر إلى الحساب القديم.
503- ولو كانت تحيض خمسة وتطهر خمسة وعشرين، فجاءها شهر وحاضت خمستها، وطهرت خمسة عشر يوماً، وعاود الدمُ، واستمر.(1/352)
فإن قلنا: تثبت العادة بالمرة الواحدة، فقد صار دورها عشرين: خمسةٌ دمٌ، وخمسةَ عشرَ طهرٌ. وكذلك تدور الأدوار.
وإن قلنا: لا تثبت العادة بالمرة الواحدة، فالمذهب الصحيح أنّا نحيّضها خمسةً من أول الدم المعاود، ونحكم لها بالطهر بعدها خمسة وعشرين، ولا التفات إلى أول الدور، وإنما النظر إلى عدد الحيض والطهر، ومن أصحابنا من قال: نُحيّضها من أول الدم خمسة عشر يوماً، فتقع الخمس (1) الأخيرة في أول الدور على الحساب القديم، ثم نحسب من بعد ذلك خمسة وعشرين طهراً، فيعود الحساب في مقدار الحيض والطهر، وأوّليّة الدور إلى ما كان قديماًً.
وهذا ضعيف؛ فإنه إثباتُ زيادة في الحيض في هذه المرة من غير أصل.
وأما أبو إسحاق: فقد اختُلف في قياسه، فقيل: قياسُه هذا الوجه الذي ذكرناه آخراً.
وقيل: بل مذهبه أن العشرة الواقعةَ في آخر الدور استحاضة غيرُ معدودة في حساب، وإنما نحيّضها خمسة من أول الدور، ثم يجري حساب أدوارها كما كان قديماً.
504- ولو كانت تحيض خمسةً، وتطهر خمسة وعشرين، فرأت من أول دورها خمستها، وطهرت أربعة عشر يوماًً، ثم رأت الدم واستمر، ولم ينقطع، فالنقاء الذي رأته ناقصٌ عن أقل (2) الطهر بيوم.
فنقول: أولاً يوم وليلة من أول الدم استحاضة، تكملةً وتتمةً للطهر، هذا لا بد منه، ثم نُفَرِّع المسألة.
فإن قلنا: العادة لا تثبت بالمرة الواحدة، فقد اختلف الأئمة فقال الأكثرون: نحذف يوماًً كما ذكرناه من أول الدم؛ استكمالاً للطهر، ونحيّضها بعد هذا خمسة
__________
(1) (الخَمْس) كذا في النسختين، ووجهها أن المعدود إِذا تقدّم، يجوز في العدد الموافقة في التذكير والتأنيث، ولا تجب المخالفة. ووجدناها بعد ذلك في (ل) : الخمسة.
(2) في: (ت 1) : أول الطهر.(1/353)
أيامٍ، ونحكم لها بالطهر خمسةً وعشرين يوماً، ولا نبالي بمزايلة أول الدور، وإنما يتبع العدد في الحيض والطهر، كما تقرر في الصور المتقدمة.
ومن أئمتنا من قال: نحذف كما تقدم يوماًً من أول الدم، ثم نحيّضها العشرة الباقية من الدور، ونحيّضها خمسة من أول الدور الثاني، فيكون حيضها خمسةَ عشرَ، ثم نحكم لها بالطهر خمسة وعشرين، ثم نحيّضها، خمسة من أول الدور الثالث، وندير الأدوار القديمة، كما تقدم هذا المسلك في أمثلة متكررة.
وأما أبو إسحاق، فإنه يجعل الدم المبادر في أول الدور الأول استحاضة سابقة، ثم يحيضها في أول الدور الثاني خمسة أيام، كما تقدم.
ومذهب أبي إسحاق في هذه الصورة أقرب، وقد وافقه بعضُ الأصحاب.
والسبب فيه، أن أول الدم المبادر استحاضة؛ فإن اليوم الأول يكمل به الطهر، فيظهرُ بعضَ الظهور -والحالة هذه- الحكمُ على جميع ما تقدم بالاستحاضة.
فهذا إذا قلنا: العادة لا تثبت بالمرة الواحدة.
505- فأما إذا قلنا: تثبت العادة بالمرة الواحدة، فظاهر المذهب على هذا أنا نحذف يوماًً من أول الدم المبادر كما تقدم ثم نقول: عاد الدور إلى عشرين، فنحيّضها بعد اليوم خمسة، ونحكم لها بالطهر خمسة عشر، وندير على هذا الحساب أَدْوارها.
ومن أصحابنا من قال: لا يُرَدُّ الطهر إلى خمسة عشر بما جرى، وإن كنا نرى العادة تثبت بالمرة الواحدة، فإنا لم نتمكن من تحييضها في أول الدم المبادر، والدم يتردّد بين أن يكون حيضاً وبين أن يكون استحاضة، وليس كما لو رأت خمسةَ عشرَ يوماً نقاءً، ثم اطرد الدّم؛ فإن النقاء لا يكون إلا طهراً إذا لم ينقص عن الأقل، فنعتبر (1) العادة القديمة بمرة واحدة فيها ليس بعيداً.
ثم من جرى على ما ذكرناه، فقد تردد الغائصون على هذا، فذهب المحققون إلى أنا نحذف يوماً، ونحيّضها خمسة أيام بعده، ثم طهرها خمسة وعشرون يوماً.
__________
(1) كذا في النسختين. ولعلها: فاعتبار. وكذا في (ل) : فنعتبر.(1/354)
وقال آخرون: إذا رأينا ألا نردَّ الطهرَ إلى خمسةَ عشرَ بهذه المسألة (1) ، فنجعل الدم المبادر في آخر الدور كله استحاضة، ليكمل في هذا الدور الطهر خمسةً وعشرين أيضاًً، كما رآه أبو إسحاق.
وهذا فيه بُعد. والأصح المسلك الأول الذي ذكرناه الآن.
فصل
506- قد ذكرنا فيما تقدم أن المبتدأة المميزة تميّز، وترد إلى التمييز إذا تمكنت منه، ووجدت أركانه.
وكذلك المعتادة إذا نسيت عادتها القديمة، واستحيضت، وتمكنت من التمييز، فهي مردودة إلى التمييز وفاقاً.
507- فأما إذا كانت على عادة مستمرة، واستحيضت وهي ذاكرة لعادتها في أدوارها، وكانت تتمكن من التمييز أيضاًً، فإن كان ينطبق مقتضى التمييز على العادة، فهو المراد.
وإن اختلفا، فكان التمييز يقتضي مقداراً من الحيض يزيد على العادة أو ينقص منها، فقد اختلف أئمتنا، فمنهم من قال: هي مردودة إلى التمييز؛ فإنه اجتهاد، والعادة في حكم التقليد، والاجتهاد مقدم على التقليد، ويعتضد هذا بأن اختلاف المزاج بالطعن في السن يقتضي في مطرد العرف تغايير في أقدار الفضلات التي تدفعها الطبيعة، فيبعد أن تطّردَ العادة على مقدار واحدٍ، ويتجه اعتبار صفات دم الحيض عند استمرار الدماء.
ومن أئمتنا من قال: هي مردودة إلى العادة؛ فإن اعتبارها متفق عليه، والتمييز مختلف فيه، وأيضاًً فإن الرجوع في التمييز إلى لون الدم، ونحن نرى ألوان دماء العروق تختلف اختلافاً متفاوتاً، وقد يصفرّ دم الحيض أيضاً.
ومن أئمتنا من قال: يجمع بين العادة والتمييز إذا أمكن الجمع بينهما.
__________
(1) في (ل) : المرة.(1/355)
والقائلان الأوّلان يستمسكان بأحدهما، ووجه الجمع أنها إذا كانت ترى خمسةً حيضاً، وتطهر خمسة وعشرين، فلما استحيضت، صارت ترى عشرة سواداً، وعشرين صفرة، فنحيّضها في العشرة، ونردّ طُهرَها إلى عشرين، وهذا فيه إشكالٌ من جهة أنا كما نرعى العادة في الحيض، وجب أن نرعاها في الطهر، وفي تحييضها عشرة تنقيص طهرها، وذلك إسقاط صلوات في خمسة أيام، ولكن لا ينقدح في الجمع بين العادة والتمييز إلا هذا.
وكذلك لو رأت أولاً خمسةً شقرة في أيام عادتها [ثم رأت في الخمسة الثانية سواداً، ثم ضعف الدم إلى آخر الشهر، فمن يرى الجمعَ يُحيّضها في العشرة، وإن تعذّر الجمع بأن رأت خمسة في أيام عادتها] (1) دماًً ضعيفاً، ثم أحد عشر سواداً، فالجمع غير ممكن.
فإذا عَسُر [الجمع] (2) على رأي من يجمع عند الإمكان، ففي المسألة أوجه:
أحدها - أنها ترد إلى العادة.
والثاني - إلى التمييز المحض.
والثالث - أنهما يتدافعان، فلا يعتبر واحد منهما، وتجعل هذه كالمبتدأة العاجزة عن التمييز. وقد سبق القول في المبتدأة.
وهذا الوجه ضعيف، لا أصل له، ذكره بعض المصنفين. وقد تكرر تعارض أمرين في الدماء، والاختلاف في الجمع إذا أمكن، وفي تعذّر الجمع كما تقدم في الدم الأسود والأحمر مع انطباق الأشقر بعدهما. والذي ذكرناه الآن في اجتماع العادة [والتمييز] (3) يضاهي ما تقدم.
[فرع] (4) :
508- المبتدأة إذا تمكنت من التمييز، ورُدّت إليه، وصارت ترى الدمَ الأسودَ خمسةً، والدم الضعيف خمسة وعشرين، ثم استمر عليها الدم الأسود،
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، وأثبتناه من: (ت 1) ، (ل) .
(2) زيادة من (ل)
(3) في الأصل: الدم، والمثبت من: (ت 1) ، (ل) .
(4) في الأصل: فصل. والمثبت من باقي النسخ.(1/356)
وعجزت عن التمييز، فالمذهب الصحيح أنها مردودة إلى الخمسة؛ فإن التمييز عند جريان أركانه أثبت لها عادة، فإذا انخرم التمييز، رُدّت إلى العادة المستفادة بالتمييز.
ومن أصحابنا من قال: إذا انخرم التمييز، فلا ننظر إلى أدوار التمييز، ونجعلها كمبتدأة ما تمكنت من التمييز قط.
509- ولو كانت المسألة بحالها، فاطردت أدوارٌ على انتظام أركان التمييز، ثم استمر الدم على لونٍ واحد، وتعذّر التمييز، ثم جاءها دورٌ، فرأت عشرةً مثلاً سواداً وعشرين شقرة، وقد كانت في الأدوار المستقيمة ترى خمسةً سواداً، فهي الآن مردودة إلى العشرة، ولا يخرّج هذا على الخلاف في تقديم العادة والتمييز؛ فإن الأدوار التي استمرت كانت [تمييزية] (1) ، وإنما الخلاف في عادات جرت في غير الاستحاضة مع أطهارٍ وأدوارٍ مستقيمة، إذا قيست بالتمييز الممكن عند استمرار الاستحاضة.
فصل
قال الشافعي: " الصُّفرة والكُدرة في أيام الحيض حيض ... إلى آخره " (2) .
510- الصفرة شيء كالصديد تعلوه صُفرة، وليست على شيءٍ من ألوان الدماء القوية والضعيفة.
والكدرةُ شيء كدر ليس على ألوان الدماء أيضاً.
ونحن نذكر حكمها في حق التي لا تستمر عليها استحاضة.
فإذا كانت المرأة ترى خمسةً دماً، وخمسة وعشرين نقاءً، فجاءها شهر، فرأت في أوان الحيض خمسةً صفرةً، أو كُدرة، ثم طهرت، فما رأته حيض؛ فإنها رأته في إمكان الحيض، وأيام العادة.
وإن كانت ترى خمسةً دماًً، ثم رأت سبعةً كُدرة في أول دور، ثم طهرت ثلاثة وعشرين، فالخمسة الواقعة في أيام العادة حيض، وما زاد عليها إلى تمام السبعة، فيه
__________
(1) في الأصل، (ت 1) : تمييزاً به.
(2) ر. المختصر: 1/54.(1/357)
وجهان: أحدهما - أنه ليس بحيض؛ فإنه ليس بدم، وليس في أيام عادة، فينزل منزلة بول دائم.
والثاني - أنه حيض؛ فإنه في زمان إمكان الحيض، فأشبه الواقع في أيام العادة.
هذا فيه إذا لم تر لَطْخةً من الدم، فأما إذا رأت في أيام العادة مقداراً من الدم، ورأت بعدها دماً، ثم صفرة أو كُدرةً في خمسةَ عشرَ، وهي زمان إمكان الدم، ففي الصفرة الزائدة على أيام العادة وجهان مرتبان على الوجهين في الصفرة الأولى. وهذه الصورة أولى بأن تكون الصفرة فيها حيضاً؛ لأنه إذا تقدم دمٌ، حُملت الصفرة على جزء منه؛ فإنّ تدرّج انقطاع الدم هكذا يكون، والجراحة إذا مجت دماًً عبيطاً، ثم انقطع، فترق أجزاء من بقية الدم مع رطوبات، ويتلون ألواناً كثيرة.
وإن لم يسبق دمٌ، فيبعد حملُ الصفرة على الدم إذا لم يتقوّ بالوقوع في عين أيام العادة.
فحاصل القول إذاً، أن ما يقوى بالوقوع في أيام العادة، فهو حيض وفاقاًً، وما يقع وراء أيام العادة من الصفرة على ثلاثة أوجه:
أحدها - أنها ليست بحيض.
والثاني - أنها حيض إذا كانت في الخمسةَ عشرَ.
والثالث - أن ما يتقدّمه دم وقع في زمان الإمكان، فهو حيض، وما لا يتقدمه دم، ولا يكون في أيام العادة، فإنه ليس بحيض.
ثم كان شيخي رحمه الله يقول: مَنْ يشترط تقدّم دم، يكتفي بلحظة منه، ولا يشترط دوامه يوماًً وليلة؛ فإن الغرض من اشتراط تقدمه ما قدمناه من تخيل تدريج الدم في الانقطاع كما سبق. وهذا لا يختلف بالنقصان عن يوم وليلة.
51- ومن تمام البيان في ذلك أن المرأة إذا كانت مبتدأة، ورأت أول ما رأت صفرة، أو كُدرة، ثم طهرت، فقد اختلف أئمتنا: فذهب بعضهم إلى أن حكم مردّ المبتدأة على اختلاف القولين كأيام العادة في حق المعتادة، وهذا غيرُ مرضي، والصحيح أن حكم الصفرة في أيام مردّها كحكمها وراء أيام العادة في الخمسةَ عشرَ في حق المعتادة؛ فإنها في زمان إمكان الحيض ولم يسبق لها عادة معتبرة، والمستحاضة(1/358)
المبتدأة إنما تردّ إلى أقل الحيض أو أغلبه للضرورة. فهذا بيان الصفرة والكدرة.
512- ثم اختلف أئمتنا في معنى قول الشافعي: "الصفرة والكدرة حيض في أيام الحيض"، على [حسب] (1) اختلافهم في المذهب.
فقال بعضهم: معناه أنها في أيام العادة حيض.
وقال بعضهم: إنها في زمان الإمكان [حيض] (2) ، وقد روي عن حمنة بنت جحش أنها قالت: "كنا لا نعتد بالصفرة والكدرة وراء العادة شيئاًً" ثمْ إن جعلنا أيام مردّ المبتدأة كأيام العادة، فإذا رأت صفرة وراء المردّ في الخمسةَ عشرَ، ففيها وجهان، وإن جعلنا المسألة في مرد المبتدأة على وجهين، ففي الزائد أيضاً وجهان مرتبان، فهذا تمام البيان في ذلك.
513- وقد يتعلق بالمعتادة أن المرأة إذا كانت لها عادات مضطربة، فكانت تحيض في شهر خمسة، وفي شهر ستة، وفي شهر سبعة، ثم تعود إلى الخمسة، والستة، والسبعة، ثم استحيضت، فكيف يكون حكمها؟ وهذا يتعلق به أمور من المستحاضة الرابعة، وهي الناسية، فنذكره في أثناء الناسية المتحيرة - إن شاء الله تعالى.
514- ومما لم نعده تعويلاً على ما تقدم، ذكرُ التربص في الشهر الأول من شهور المستحاضة والاستمرار بعده على حكم العادة، وبيان شهر الشفاء. ولا ينبغي للناظر في أحكام الاستحاضة أن يتبرم [بتكثير] (3) الصور، وإعادتها في الأبواب.
515- فإذا كانت تحيض خمسةً، وتطهر خمسة وعشرين، فجاءها شهر، فرأت خمستَها، ثم زاد الدم، فتتربص على حكم الحيض؛ فإن الحيضة قد تزيد، فإن انقطع الدم على الخمسةَ عشَرَ، أو على أقلَّ منها، فالكل حيض، وإن زاد على الأكثر واستمرت الاستحاضة، فقد تَبيَّنَّا أن الحيض الخمسةُ الأولى، والزائد عليها استحاضة، فتتدارك ما تركت من الصلوات وراء العادة، ثم في الدور الثاني
__________
(1) زيادة من (ل) .
(2) ساقطة من غير (ل) .
(3) في الأصل: بتكرير. والمثبت من (ت 1) ، (ل) .(1/359)
لا نأمرها بالتربّص، كما سبق بيانه في المميزة والمبتدأة.
فإن جاءها دور، ورأت الدم في أوله، فلما زاد على الخمسة، اغتسلت، وأخذت تصلي، ثم انقطع الدم في هذا الدور على خمسةَ عشرَ وشُفيت، فقد علمنا أن جميع ما رأته من الدم حيض؛ فإنه انقطع على الأكثر، ونحن إنما نحكم بالاستحاضة عند زيادة الدم على الأكثر، وقد بان فيما سبق، ولم يضر الإعادة فيه.
[المستحاضة الرابعة] (1)
516- فأما المستحاضة الرابعة: وهي الناسية، فحكمها عَمرة (2) الكتاب، ونحن نستعين بالله تعالى، ونستوعب تفاصيل القول فيها، ونقدم تصوير أمرها، فنقول:
517- المرأة إذا كانت لها عادة، فنسيتها لعارض علة، أو كانت في أول أدوارها مجنونة، فاستحيضت وأفاقت، ولم تدر ما كانت عليه، فلا يخلو: إما ألا تذكر شيئاًً أصلاًً، لا مقدارَ الحيض والطهر، ولا وقتَهما، ولا زمانَ الانقطاع، ولا زمان الابتداء، ولكنها أفاقت ورأت الدم المستمر، وفقدت أركان التمييز، وهذه التي لا تذكر شيئاًً تسمى المتحيّرة.
وإن كانت تذكر شيئاًً، ففي ذلك القسم نذكر أبواب الضلال، والخلطَ، وغيرهما.
518- فلتقع البدايةُ بالمتحيرة المطلقة.
وقد اختلف قول الشافعي فيها: فقال في قولِ: المتحيرةُ كالمبتدأة، ولكن ابتداء دور المبتدأة من وقت رؤيتها الدم من سن إمكان الحيض، ولا نعرف للمتحيرة ابتداءً، فنردها إلى ابتداء الشهور، والمرعي الشهور العربية المبنية على الأهلّة، فنحيّضها من أول كلّ شهر المقدار الذي ذكرناه في المبتدأة، ثم إذا انقضى ذلك المقدار، فهي طاهرةٌ إلى آخر الشهر؛ فإن المواقيت الشرعية هي الأهلة.
__________
(1) زيادة من عمل المحقق.
(2) العَمرة ما يلبس على الرأس، من تاج وعمامة ونحوها (القاموس والمعجم) ، فالمراد هنا أن أحكام الناسية هي تاج الكتاب، أي كتاب الحيض، وقد سماها من قبل: عمدة الكتاب. وفي (ت 1) و (ل) : "غمرة" بالغين المعجمة: وهي الشدة.(1/360)
وهذا القول ضعيفٌ مزيفٌ لا أصل له؛ فإنا نجد في المبتدأة مستنداً؛ من حيث رأت دماًً في زمان إمكان الحيض، فجعلنا ما رأته أولَ الحيض، ثم بنينا على ذلك المستند -المستند (1) على التفصيل المتقدّم- ما اقتضاه الحال.
والمتحيرة لا مستند لها، والتحكم بتطبيق حيضها على أوائل الشهور لا يقتضيه قول الشارع، ولا قياسٌ ولا حكمٌ متلقَى من الفِطر والجبلات.
519- والقول الثاني - وهو الذي عليه التفريع، وبه الفتوى: إنها مأمورة بالاحتياط.
ثم منشأ الاحتياط أن حيضها ليس يتميّز عن استحاضتها، لا بصفة ولا بعادة معلومة، ولا بمبتدأ معلوم يُتخذ مَردّاً.
والحيض لا يدوم حتى يقدّرَ سقوط وظائف الشرع عنها.
ويبعد أيضاًً تقديرُ جميع ما ترى استحاضة؛ فإن رؤية الدم في زمان إمكان الحيض يقتضي القضاءَ بكونه حيضاً.
فإذا تعارضت هذه الأحوال، لم ينقدح إلا الأمر بالاحتياط، ثم من احتمال الحيض في كل وقت ينشأ تحريم الوقاع أبداً، ومن احتمال الاستحاضة في كل وقت ينشاً الأمر [بوظائف الصوم والصلاة، ومن احتمال انقطاع الحيض في كل وقت ينشأ الأمر] (2) بالاغتسال لكل صلاة مفروضة.
وقد ينبني على هذا الأمرُ بقضاء الصلاة بعد أدائها، على مذهب المحققين، كما سيأتي على الجملة مشروحاً (3) إن شاء الله عز وجل.
520- وتحقيق القول في هذا أن الذي ذكرناه على الجملة من الاحتياط -وسنفصله إن شاء الله- ليس من باب التغليظ والتشديد والأخذ بالأحوط. ومن اعتقد أن هذا احتياطٌ، فليس محيطاً بحقيقة الباب؛ فإن تأبيد التحريم (4) ، والأمرَ بإقامة وظائف
__________
(1) في الأصل، (ت 1) : "على ذلك المبتدأ المستند" والمثبت عبارة (ل) .
(2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، وأثبتناه من: (ت 1) ، (ل) .
(3) عبارة (ت 1) : كما سيأتي في ذلك مشروحاً (ل) كما سيأتي ذلك مشروحاً.
(4) المراد تحريم الوقاع.(1/361)
الشريعة من العبادات، مع تكليف القضاء -كما سيأتي- امتحانٌ عظيم، والمبتلاةُ بهذه الحالة ليست منتسبة إلى ما يوجب عليها تغليظاً، ولا يليق بالدين الحنيفي السمح جمع هذه الأمور احتياطاً؛ فإنا قد نسقط قواعدَ لأدنى ضرر، ولكن أمرناها بما سنذكره ضرورة لا (1) يستقيم غيره؛ إذ لو قدّرناها في كل زمان كأنها حائض، لسقطت الصلاة والصوم، [وبقيت] (2) دهرَها لا تصلي ولا تصوم، وهذا لا صائر إليه من الأمة، فلو أردنا أن نبعّض الأمرَ، فلا سبيل إليه، ونحن لا نعرف مبتدأ ومنقطعاًً، والأصول كلها ملتبسة.
ولو أحْللناها لزوجها أبداً، وهي ترى الدم في زمان إمكان الحيض، لكان ذلك بعيداً.
فما نأمرها به في حكم الضرورة، لا في حكم احتياطٍ، ونحن نجد جهةً غيرَه.
وينضم إليه أن الاستحاضة في أصلها نادرة، والنسيان على الإطلاق في نهاية الندور، وتنقرض الدهور ولا تُلفى متحيرة.
فليس فيما ذكرناه تغليظٌ يعتم، بل هو مرتبط بأندر الأحوال، فاحتمل لذلك.
521- ثم القول في معنى الاحتياط في حق المتحيرة يفصّل في خمسة أبواب:
أحدها - في بيان طهارتها.
والثاني - في حق حكم الصلاة المقامة في الأوقات.
والثالث - في الصيام وما يتعلق به.
والرابع - في قضائها ما يفوتها من الصلاة والصيام.
والخامس - في أحكام متفرقة، من تحريم الوقاع والعدة، وقراءة القرآن وغيرها.
***
__________
(1) كذا في النسختين، ولعلها: ولا يستقيم غيره. وفي (ل) : ولكن أمرها بما سنذكره ضرورة لا يستقيم غيره
(2) في النسختين: وبقي، والمثبت تقديرٌ منا، حيث ساعد عليه ضبط دهر بالفتح نصباً على الظرفية، في نسخة الأصل.(1/362)
باب في طهارة المتحيرة
522- التفريع على قول الاحتياط:
قال الشافعي: " هي مأمورة بأن تغتسل لكل صلاة مفروضة "؛ إذ لا يدخل وقتٌ إلا ويحتمل أن يقدر فيه انقطاع حيضها. فإذا اغتسلت لصلاة الصبح مثلاً، وصلّت، ثم دخل وقت الظهر، فمن الممكن أنها اغتسلت وصلت الصبح في زمان الحيض، وإن حيضها إنما انقطع بعد الزوال، ثم يطَّرد ذلك في جميع أوقات الصلوات؛ فاقتضى ذلك أمرَها بالغُسل لكل صلاة مفروضة.
ثم الغُسل في حقها كالوضوء في حق المستحاضة، فيما ذكرناه من الأمر بتجديده لكل فريضة.
523- وقد ذكرنا ترددَ الأصحاب في أن المستحاضة لو توضأت في الوقت، فهل يجوز لها أن تؤخر إقامة الصلاة عن الفراغ من الوضوء، أم يلزمها تعقيب الوضوء بالصلاة؟
فأما الغُسل في حق المتحيرة، فقد ذهب ذاهبون إلى أنه يجري مجرى الوضوء في التردّد الذي ذكرناه من اشتراط البدار إلى إقامة الصلاة، وهو وهمٌ وغلط من قائله، والسبب فيه أنا إنما أوجبنا على المستحاضة في وجهٍ ظاهرٍ تعقيب الوضوء بالصلاة؛ حتى تقلّ أحداثها؛ إذ لو أخرت، لتجددت أحداث مستغنىً عنها، وهذا لا يتحقق في الغسل؛ فإن عين الدم ليس من موجبات الغسل، بل إنما الموجب له انقطاع الحيض، وليس هذا مما يُتوقع تكرره في أزمنة تتخلل بين الغسل والصلاة.
وإن قيل: إذا اغتسلت وأخرت الصلاة، فلعل غُسلها وقع في الحيض، وإنما انقطع بعد الفراغ منه، فهذا المعنى لا يختلف تقديره بأن يقصر الزمان أو يطول؛ فإن(1/363)
ذلك ممكن تقديره وإن قرب الزمان، وما لا حيلة في دفعه يُقرّ على ما هو عليه.
نعم، إن اغتسلت وأخرت إقامة الصلاة، فيتوجه أن نأمرها بتجديد الوضوء قبل الصلاة، حملاً على أنَّ ما رأته دمُ الاستحاضة، وقد كثر وتكرر، ولو وصلت الفراغَ من الغسل باستفتاح الصلاة، لكانت لا تحتاج إلى الوضوء.
وهذا تفريعٌ على أن المستحاضة ليس لها أن تؤخر الصلاة عن الفراغ من الوضوء.
524- ومما يتعلق بغُسل المتحيرة أن الأئمة قالوا: إنما تغتسل في الوقت؛ لأنه طهارة ضرورة، فأشبهت التيمم، وقد ذكرنا وجهاً ضعيفاً في المستحاضة: أنها لو فرغت عن الوضوء مع أول وقت الصلاة، ثم صلّت على البدار، أجزأها ذلك؛ تفريعاً على إيجاب وصل الصلاة بالفراغ [من الوضوء] (1) وكان هذا القائل يرى أن الغرض هذا (2) في أمر الوضوء، لا إيقاعه في الوقت.
فقال قائلون: إذا رأينا ذلك في الوضوء، فنطرد ذلك القياس في غُسل المتحيرة أيضاً، ونقول: لو اغتسلت وأوقعت الفراغ من الغسل مع أول الوقت وصلّت، جاز، وهذا هو الغلط الأول الذي ذكرنا؛ فإنه لا معنى لرعاية الانفصال والاتصال بين الصلاة والاغتسال، وإنما يتأتى ذلك في وضوء المستحاضة، فالوجه القطع بإيقاع الغسل في الوقت؛ فإنه طهارة ضرورة، فأشبهت التيمم.
ثم إذا اغتسلت للفريضة، تنفلت ما شاءت كالتيمم.
***
__________
(1) زيادة من (ت 1) ، (ل) .
(2) اسم الإشارة خبر أن، والمعنى أن قائل هذا الوجه الضعيف يرى أن المطلوب وصل الصلاة بالوضوء، لا إيقاع الوضوء في الوقت.(1/364)
باب في صلاة المتحيرة
525- هي مأمورة بإقامة الصلوات كلِّها ما دامت بحالتها وحيرتها على القول الصحيح.
وقد نصّ الشافعي على أمرها بالغسل وإقامة الصلوات في مواقيتها، ولم يتعرض لإيجاب قضاءٍ بعد صدور صورة الأداء منها، مع تفريعه على الاحتياط.
وقال الشيخ أبو زيد المروزي: يلزمها القضاء مع الأداء؛ فإنها إذا أدت صلاة الصبح في أول الوقت، أو وسطه، فيحتمل أن حيضها انقطع في آخر الوقت، وأن الغسل والصلاة وقعا في زمان الحيض، فيلزمها -مع ما قدّمته- القضاءُ.
وكذلك يجري هذا الاحتمال في كل صلاة من الصلوات الخمس، وإذا فتحنا باب الاحتياط، فيلزم طرده في جميع وجوه الاحتمال؛ إذ ليس وجهٌ أولى بالاعتبار من وجه.
526- وقد اختلف المحققون في نص الشافعي، فقال قائلون: المذهب المبتوت ما ذكره أبو زيد، والشافعي فتحَ باب الاحتياط، ونبه على الاحتمالات كلّها، ولم يستقصها؛ [فما] (1) ذكره ذوو الفطن من أصحابه على القاعدة التي أسسها، هو عين مذهبه.
والشافعي، كما لم يذكر إيجاب القضاء لم ينفه أيضاًً.
ولا يمتنع أن يقال: لم يخطر له الاحتمال الذي أدركه مَن بعده، ولو خطر، لحكم بموجبه.
527- ومن أئمتنا من يرى نفي القضاء مذهباً للشافعي، ورأى ما ذكره أبو زيد في حكم تخريج قولٍ منقاسٍ.
__________
(1) في الأصل: فمما.(1/365)
فوجهُ قول الشافعي إذاً على هذا، أن المتحيرة لو تعطّلت عن وظائف العبادات عمرَها، لكان بعيداً، ولو تحكّمنا بإثبات أدوراها على الأهلة من غير أصلٍ، لكان بعيداً، فاحتطنا حتى نقيمَ أوراد الشريعة، ولا تتعطل. فأما أن نحكّم في أمرها كلَّ ممكن، فهذا ينتهي إلى حد التعذيب، والشريعة تحط أموراً بدون هذا من الضرر.
وقد قال الشافعي في الصوم: إنها تصوم شهر رمضان، ثم تقضي خمسة عشر يوماًً. ولا يتأتى ذلك إلا بأن تصوم شهراً آخر. وسيأتي شرح هذا في موضعه، إن شاء الله تعالى.
وتعرّضه للقضاء في الصوم مع السكوت عنه في الصلاة يدل على أنه حاول الفرق بينهما؛ لأن قضاء الصوم يطَّرد غالباً على الحُيَّض، ولا يجب قضاء الصلوات التي تمر مواقيتها في زمن الحيض.
والدليل على أنا لا نراعي كلّ ممكن أن المتحيرة إذا طلقها زوجها، فإنها تعتد ثلاثة أشهر، كما سيأتي ذلك في الباب الخامس، ومن الممكن أن يقال: هي من اللواتي تباعدت حيضتها حتى تصير إلى سن اليأس، ثم تعتد بثلاثة أشهر، فدلّ على أنه لا يعتبر كلَّ ممكن، إذا عظمت المشقة وظهر الضرر.
والوجه: ما قاله أبو زيد؛ فإن مساق الاحتمالات تقتضي القضاء، وليس في إعادتها الصلوات كبيرُ [ضرر] (1) .
528- ثم أطلق الأصحاب حكاية مذهب أبي زيد في إيجاب القضاء في الصلوات، ولم يستقصوا القولَ فيه، وأنا أقول مستعيناً بالله:
[إنما أوجب] (2) القضاءَ لاحتمال انقطاع الحيض في آخر وقت كل صلاة، ورب انقطاعٍ يوجب تدارك صلاتين؛ فإن الحائض إذا انقطع حيضُها قبل غروب الشمس بمقدار يسع خمس ركعاتٍ، يلزمها قضاء الظهر والعصر جميعاًً. وكذلك المغرب والعشاء، لو فُرض الانقطاع آخر الليل. فهذا ما اعتمده أبو زيد في إيجاب القضاء، وهو واضح.
__________
(1) في الأصل: أمر.
(2) في الأصل: إذا أوجب.(1/366)
ولكن في المقدار المقضي كلام ذَهِلَ (1) عنه معظم الأصحاب.
ثم في كيفية القضاء تفصيلٌ، لا بد من الاطلاع عليه، وقد اتفق لبعض ذوي الفطن من المختلفين إليَّ فِكرٌ غائصة في جهات الاحتمالات، وعرضَها عليَّ، فارتضيتها، ولم أعثر على زللِ فيها، ولا بدّ من إيداعها هذا المذهب (2) .
وحق الناظر في هذا الفصل أن ينعم النظر ويتئد، ويعلم أن شفاء الصدور يحصل عند الفراغ من الفصل.
وأنا استفتح القول فيها، ثم أرقى في مسالك الاحتمالات شيئاً شيئاً، ثم ما يتأخر في مساق الكلام قد يَرْفع ما تقدّم، حتى يستقر الغرض في المنقَرَض، وسبيل التعليم فيما يتلقى من الاحتمالات يقتضي هذا التدريج.
529- فلتقع البداية بما ذكره الأصحاب عن أبي زيد، قالوا: المتحيرة تؤدي كلَّ صلاة في وقتها، ثم تقضيها لاحتمال وقوع الصلاة المؤدّاة في الحيض، مع (3) اتفاق انقطاع الحيض في آخر الوقت. والحائض إذا انقطعت حيضتها في آخر الوقت؛ فإنها تلتزم الصلاة على ما سنقرر ذلك في كتاب الصلاة، في أوقات أصحاب الضرورات - إن شاء الله تعالى.
ثم قالوا: إذا صلت الظهر والعصر في وقتيهما، ثم غربت الشمس، وقد كانت اغتسلت لكل صلاة مؤدّاة في وقتها، فإن اغتسلت، وصلّت المغربَ، فرضَ الوقت، كفاها ذلك الغسل في قضاء الظهر والعصر، ولكنها تتوضأ لكل فريضة تقضيها لاستمرار الاستحاضة، كما ذكرناه في أحكام المستحاضات.
وسببُ الاقتصار على غسلِ في هذه الصورة أن سبب وجوب الغسل احتمال الانقطاع، وهذا بعينه سببُ إيجاب قضاء الظهر والعصر؛ فإن انقطع الدم قبيل
__________
(1) ذهل من باب: تعب، وتأتي أيضاً من باب: قطع. والأصل فيه اللزوم، ويتعدى بالهمزة: أذهله. وقد يتعدى بنفسه " المصباح والمعجم والمختار ".
(2) المذهب: المراد به هنا هو هذا الكتاب: نهاية المطلب، وبهذا سماه الإمام في المقدمة.
(3) ساقطة من (ت 1) .(1/367)
الغروب، فقد اغتسلت مرة للمغرب، فلا يعود إمكان الانقطاع إلى مدة، كما سنكشف الغطاء فيه.
وإن لم ينقطع الحيض قبل الغروب، فلا يجب قضاء الظهر والعصر أصلاًً، فلا معنى للأمر بالغُسل لأجلها.
وهذا إذا صلّت المغرب أداءً، ثم أرادت قضاء الظهر والعصر.
فإن اغتسلت، وقضت الظهر والعصر، ثم أرادت أن تصلي المغرب، فلا بدَّ من غُسلٍ آخر لصلاة المغرب، لاحتمال أن القضاء في الظهر لم يجب، وأنها بعد الفراغ من صورة قضاء الظهر والعصر، قد انقضت حيضتها، فعليها أن تغتسل لصلاة المغرب لهذا، وهذا المقصود بيّن.
ولكن الغرض من مقصود الفصل يتبيّن في الآخر.
530- ثم قال المحققون [تفريعاً] (1) على مذهب أبي زيد: إذا أوجبنا قضاءَ كلِّ صلاة، فنقول: إذا أرادت الخروج عنها، فلتغتسل ولتصلِّ صلاة الصبح في أول الوقت، بحيث تنطبق على الأول، ثم تغتسل وتصلي تلك الصلاة في آخر الوقت مرةً أخرى، وينبغي ألا توقع في الوقت إلا أقل من تكبيرة، أو ما دون ركعة، إذا قلنا: لا تدرِك التي تطهر الصلاةَ بإدراك الزمان الذي لا يسع ركعة [تامة] (2) .
وإذا فعلت ذلك، خرجت عن عهدة هذه الصلاة؛ فإن الصلاة الأولى إن قُدّرت في الطهر، فقد حصل بها أداء الفرض، وإن وقعت في دوام الحيض، واستمر إلى انقضاء الوقت، فلا أداء عليها ولا قضاء، وإن قدّر انقطاع الحيض قبيل إنشاء الصلاة في آخر الوقت، فقد اغتسلت وصلّت، والانقطاع لا يتكرر (3) كذلك.
وإن فرض انقطاع الحيض في أثناء الصلاة الثانية، فهذا التقدير لا يوجب الصلاة؛ فإنا صوّرنا إنشاء الصلاة الثانية على وجهٍ لو قُدّر انقطاعُ الحيض في أثنائها، لما وجب قضاء الصلاة، ولسقط الأداء والقضاء.
__________
(1) زيادة من: (ت 1) ، (ل) .
(2) في الأصل: ثانية، والمثبث من (ت 1) ، (ل) .
(3) في (ل) : والانقطاع يتكرر.(1/368)
531- وإن هي أوقعت الصلاة الأولى في أول الوقت على تحقيق التطبيق، ولكنها أخرت الصلاة الثانية، وأقامتها قبل انقضاء خمسة عشر يوماًً، وابتداء المدة من أول وقت الصلاة، فتخرج أيضاًً عما عليها؛ فإن الأولى إن وقعت في الطهر، كفت، وإن فرض الانقطاع في وسط الوقت مثلاً، فالحيض إذا انقطع، لم يعد إلى خمسةَ عشر يوماًً، فتقعُ الصلاة الثانيةُ في الطهر.
فهذا إذا صلت مع أول الوقت، ثم فعلت في إعادة تلك الصلاة ما ذكرناه، فقد أدت ما عليها.
532- ولو صلت في أثناء الوقت أولاً، ثم صلت ثانية في آخر الوقت، كما سبق التصوير فيه، أو أخرت وصلّت في الزمان الذي رسمناه في الصورة الأولى، فلا تخرج عما عليها لجواز أنها كانت طاهرةً في أول الوقت، في زمان يتأتى إيقاعُ الصلاة التامة فيه، ثم طرأ الحيض، وقد لزمتها الصلاةُ بإدراك الطهر في أول الوقت، ثم أوقعت الصلاتين في استمرار الحيض، فتبقى تلك الصلاة في ذمتها.
فإذا أرادت الخروج منها، ولم يتفق منها الصلاة في أول الوقت، كما ذكرناه في الصورة الأولى، وقد صلت في أثناء الوقت، فعليها أن تصلي مرتين أخريين سوى ما صلت في وسط الوقت، وتقع الصلاة الثانية بعد انقضاء وقت الرفاهية والضرورة في الخمسة عشر، وابتداءُ الخمسة عشر من افتتاح الصلاة التي أقامتها في وسط الوقت، وتُوقع الصلاةَ [الثالثة] (1) في أول السادس عشر، بحيث يكون بين الفراغ من الصلاة التي أقامتها في وسط الوقت وبين ابتداء الصلاة [الثالثة] (2) خمسة عشر يوماًً، فإذا فعلت ذلك، خرجت عما عليها في تلك الصلاة، وإنما زادت صلاةً لتركها إقامة الصلاة في أول الوقت كما تقدم ذكر ذلك.
وتعليل خروجها عما عليها بثلاث صلوات على الترتيب الذي ذكرناه، أن الخمسة عشر المتخللة -كما تقدم- إن كانت طهراً، فقد وقعت فيها صلاة، وإن كانت حيضاً،
__________
(1) في الأصل: ثانية، والمثبت من (ت 1) ، (ل) .
(2) زيادة من: (ت 1) ، (ل) .(1/369)
فقد وقعت الصلاة الأولى والثالثة في الطهر.
وإن قدّرنا أن الحيضة ابتدأت في آخر الصلاة الأولى، فتقع هي والصلاة الثانية في الحيض، وتقع الثالثة في الطهر لا محالة.
[واستقصاء القول في هذا يأتي في الباب المشتمل على قضاء الصوم والصلاة] (1) وبالجملة تأخيرها الصلاة عن أول الوقت ينزل منزلة ترك الصلاة؛ لجواز أن تكون طاهرة في أول الوقت، ثم يطرأ الحيض بعد [مضي] (2) زمان يسع الفريضة من أول الوقت، فلا بد من فرض صلوات.
533- ثم يحتمل احتمالاً ظاهر أن نوجب على المتحيّرة إقامة الصلاة في أول الوقت؛ فإنها لو علمت أن حيضها يبتدىء بعد انقضاء زمان الإمكان، فعليها البدار إلى إقامة الصلاة مع أول الوقت، ونحن في تفريع الاحتياط نجعل الممكن في حق المتحيرة بمثابة المعلوم المستيقن، ولا يمتنع على هذا الحكم أن يجب عليها إقامةُ الصلاة مرةً ثانيةً في آخر الوقت؛ لجواز وقوع الأولى في الحيض، وانقطاع الحيض في آخر الوقت بحيث يبقى من الوقت زمانٌ يسع الفريضة.
ولكن إن طبقت الصلاة الثانية على الآخر، بحيث يوافق التحلل عنها انقضاءُ الوقت، فلا تخرج عما عليها؛ لجواز أن ينقطع حيضُها في أثناء هذه الصلاة.
534- ولو خالفت ما أمرناها به، وافتتحت الصلاة الثانية في بقية الوقت، بحيث لو فرض انقطاع الحيض فيها، لما صارت مدركة للصلاة، كما سبق تصوير ذلك، فتخرج عما عليها، ولا يمتنع، والحالة هذه أن يجوز لها تأخير الصلاة الثانية إلى هذا الحد؛ للضرورة التي بها، وازدحام وجوه التشديد عليها، فإذاً توقع الصلاة الثانية على وجه تخرج بها وبالأولى عما عليها، ولا تقع في تغليظٍ آخر.
535- وما أوردنا إنما يفرض في صلاة الصبح، وصلاة العصر، والعشاء.
فأما صلاة الظهر، والمغرب، فلو أوقعتهما في أول الوقت، ثم أوقعتهما في آخر
__________
(1) زيادة من: (ت 1) ، (ل) .
(2) زيادة من: (ت 1) ، (ل) .(1/370)
الوقت المختص بهما، وقد أثبتنا للمغرب وقتين، فلا تخرج عما عليها؛ لجواز أن يستمر الحيض على جميع وقت الظهر والعصر، ثم تطهر في آخر وقت العصر، أو آخر الليل بمقدار أربع ركعات [ثلاث من هذه الأربع للمغرب وركعة للعشاء] (1) فتصير الآن مدركة للصلاتين، فلتصل الظهر والعصر في أول الوقت، ثم يبتدىء القضاء بعد غروب الشمس، كما ذكرناه للأصحاب.
536- ثم الآن نرقى من هذه المرتبة، فنقول: إذا أوجبنا على المتحيرة -وقد راجعتنا- قضاءَ الصلوات في يوم استفْتَتْنا فيه، فلو لم تقضها حتى مضت خمسةَ عشرَ يوماً من أول وقت الاستفتاء، فيجب القطع بأنه لا يجب عليها في هذه المدة إلا قضاء صلاة يوم وليلة على مذهب أبي زيد؛ فإنا إنما نوجب القضاء لاحتمال الانقطاع، ولا يتصور أن ينقطع الحيض في الخمسة عشر إلا مرة واحدة، وهذا يقتضي ألا يجب إلا تدارك صلاة واحدة في هذه المدة، إذا كانت تقيم وظائفها في أوائل الأوقات.
ويحتمل أن يجب تدارك صلاتي جمع، وهما الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، فلما أشكل ذلك، أوجبنا قضاء صلوات يوم وليلة؛ فإن ذلك يشتمل على ما تريد، وتكون هذه كالتي تنسى صلاةً من صلوات يوم وليلة، ولا تدري عينَها، فسبيل الخروج مما عليها إعادة صلوات يوم وليلة.
537- فإن قيل: هذا الذي ذكرتموه الآن يخالف ما قدّمتوه من إيجاب قضاء كل صلاة؛ فإنكم صرتم الآن إلى أنه لا يجب عليها في الخمسةَ عشرَ غيرُ قضاء صلوات يوم وليلة؟
قلنا: هذا الذي أغفله الأصحاب، وهو مقطوع به. والذي قدمناه إذا أرادت أن تخرج في كل يوم عما عليها، وكانت تؤثر البدار، وتقدّر كأنها تموت في مختتم كل ليلة، فأما إذا أخرت القضاء، فلا شك أنه لا يجب في الخمسةَ عشرَ إلا ما ذكرناه.
وهذا فيه إذا كانت تصلي في أوائل الأوقات، فلو أنها كانت تصلي في أوساط الأوقات، فيتصور أن يجب عليها في الخمسةَ عشرَ قضاءُ صلوات يومين وليلتين؛
__________
(1) زيادة من: (ت 1) .(1/371)
وسبب ذلك أنها إذا كانت تصلي في وسط الوقت، فقد يطرأ الحيض على صلاة في الوسط، فتبطل وقد ينقطع في وسط أخرى، فتجب، ويتبين فساد عقد هذه الصلاة، ثم يتفق بتوقع الطرآن والانقطاع فسادُ صلاتين مثلين. ثم يُشكل عينُها.
ومن فاتته صلاتان متماثلتان، فلا يحصل استدراكهما إلا بقضاء صلوات يومين وليلتين، ولو كانت تصلي في أول الوقت، فيحتمل وقوعُهما في استمرار الحيض، وانقطاع الحيض في أثناء الوقت، ولو فرض ابتداء الحيض في أثناء الصلاة المقامة في أول الوقت، لما وجبت الصلاة؛ فإنها لم تدرك من الوقت ما يسع لإقامة الفريضة، ولا يجتمع الفساد بسببي الطرآن والانقطاع. وهذا بيّن لمن وفق للتأمل.
538- ثم نرقى من هذه المرتبة، ونجدد العهد أولاً بقاعدة المذهب في المبتدأة، وقد اختلف قول الشافعي في أنها ترد من أول الدم الذي رأته إلى ماذا؟ فقال في قولٍ: " حيضها يوم وليلة "، وقال في قول: " حيضها أغلب الحيض "، ثم إن ردَدْناها إلى أغلب الحيض، فيكون دورُها ثلاثين، سبعة منه حيض، وثلاثة وعشرون منه طهراً.
أو ستة حيض، وأربعة وعشرون طهراً، على ما سبق تفصيل ذلك.
فإذا (1) رددناها إلى أقل الحيض من أول الدم، فالظاهر أنها تُرد إلى أغلب الطهر، وهو ثلاثة وعشرون، (أو أربعة وعشرون) (2) .
وفي المسألة وجه بعيد إذا ردت إلى أقل الحيض أنها تُردّ إلى أقل الطهر أيضاً، فيكون دورُها على هذا الوجه البعيد ستةَ عشرَ يوماًً.
فإذا ظهر ما ذكرناه، فنقول: إنما زيّفنا القول بأن المتحيرة كالمبتدأة، من جهة أن ابتداء دورها غيرُ معلوم، والتحكم بردّ ابتداء الدور إلى أوائل شهور العرب بعيدٌ جداًً، وابتداء دور المبتدأة من [أول دمها] (3) ، فهذا وجهٌ واحد في الفرق بينهما، وإلا فلا يمتنع ردّ المتحيرة إلى ما ردّت إليه المبتدأة: من الأغلب والأقل، حملاً للأمر على
__________
(1) عبارة (ل) فيها سقط؛ حيث جاءت هكذا: " سبق تفصيل ذلك. وإذا رددنا إلى أقل الطهر أيضاً، فيكون دورها على هذا الوجه البعيد ستة عشر يوماً ... ".
(2) ما بين القوسين ساقط من: (ت 1) .
(3) في الأصل: أولها. والمثبت من: (ت 1) ، (ل) .(1/372)
ما يجري في بيان جنسها، فالذي يتجه إذاً أن نقول:
539- على المتحيرة في كل دور من أدوار المبتدأة قضاء صلوات يومين وليلتين.
فإن قدرنا دورها ثلاثين، فهذه تقضي في كل ثلاثين صلوات يومين وليلتين، إذا كانت تصلي وظيفة الوقت في أثناء الوقت، أو في آخر الوقت، وإن كانت تصلي وظيفة الوقت في أول الوقت، فلا يلزم في دور المبتدأة إلا قضاء يوم وليلة، وقد قررنا ما يقتضي هذا الفرق فيما تقدم.
فهذا منتهى الفكر في هذا الفن.
540- وإن نسبنا ناسب إلى مخالفة الأصحاب، سفهنا عقله، فإن القول في هذه المعاصات يتعلق بمسالك الاحتمالات، وقد مهّد الأئمة القواعد كالتراجم، ووكلوا استقصاءها إلى أصحاب الفطن والقرائح، ونحن نسلّم أيضاًً لمن يبغي مزيداً أن يُبدي شيئاً وراء ما ذكرناه مُفيداً، على شرط أن يكون سديداً.
وبالجملة، النظر الذي يفيد المتحيرة تخفيفاً بالغُ الموقع مستفادٌ؛ فإنه إذا اجتمع عليها دوام العلة، واشتدادُ الضرر، لم يكن التشديد فيها لائقاً بالرخص المألوفة في المضايق.
***(1/373)
باب في صيام المتحيرة على قول الاحتياط
قال الشافعي تفريعاً على قول الاحتياط:
541- " المتحيرة تصوم شهر رمضان؛ لجواز أن تكون طاهرة في جميع الشهر، ثم لا يسلم لها من صوم الشهر -إن كمل ثلاثين يوماًً- إلا خمسة عشر يوماًً " (1) ؛ فإنها يجوز أنها كانت حائضاً في خمسة عشر يوماً، فيلزمها قضاءُ خمسة عشرَ يوماًً، ولا يتأتى لها ذلك إلا بأن تصوم شهراً كاملاً؛ حتى تستيقن أنها أتت بخمسة عشر في طهر.
542- قال أبو زيد: يفسد عليها من صيام كل شهر (2) ستةَ عشرَ؛ فإن الخمسة عشر إذا ابتدأ في نصف نهار؛ فإنه ينقطع في مثل ذلك الوقت من النهار الأخير، فينبسط على هذا خمسة عشر يوماًً على ستةَ عشر. وإذا كان ممكناً، فالاحتمال في حقها كاليقين إذا كانت مأمورة بالاحتياط.
والذي ذكره الشافعي فيه: إذا كان يبتدئها في أول اليوم بحيث لا يتعدّى إلى السادسَ عشرَ.
543- ثم اختلف أصحابنا: فمنهم من قطع بما ذكره أبو زيد، ومنهم من رأى المنقول عن الشافعي مذهباً. وهذا التردّد هو الذي ذكرناه للأصحاب في قضاء الصلوات التي تؤديها؛ فإن الشافعي لم يتعرض للقضاء، واستدركه أبو زيد.
ثم قال أبو زيد: إذا كنا نأخذ بفساد ستة عشر يوماً، فإذا صامت شهراً آخر، فلا
__________
(1) ر. الأم: 1/58.
(2) في (ت 1) : من صيام شهر رمضان. وكذا في (ل) .(1/374)
يحصل لها منه إلا أربعةَ عشرَ يوماً، لجواز فساد ستةَ عشرَ يوماًً (1 بخمسة عشر 1) كما سبق، فيبقى عليها قضاء يومين.
وسنذكر في باب قضاء الصلاة والصوم كيفية قضاء اليومين، مع ما يتعلق به -إن شاء الله عز وجل.
544- والذي يجب استدراكه في ذلك، إذا رأينا أن تُردَّ المبتدأة إلى سبعة أيام في ثلاثين يوماًً، ونحكم لها بالنقاء ثلاثة وعشرين يوماًً، فيتجه أن يقدر حيض المتحيرة سبعة في كل ثلاثين؛ فإنه لا فرق بينها وبين المبتدأة إلا في شيء واحد، وهو أنا نعرف ابتداء دور المبتدأة؛ ويستحيل أن نتحكم بتقدير ابتداء الدور للمتحيرة، فأما تنزيلها على غالب الحيض في كل ثلاثين قياساً على المبتدأة، فمتوجِّهٌ لا ينقدح [غيره] (2) ، فليقدّر لها سبعة أيام في شهر رمضان، ثم قد تفسد ثمانية أيام بسبعة، فيصح اثنان وعشرون يوماً.
فإن قيل: هذا عودٌ منكم إلى القول الضعيف في أن المتحيرة كالمبتدأة.
قلنا: هي مقطوعة عن المبتدأة في إثبات ابتداء الدور؛ فإن المبتدأة نحيّضها من أول [الدور] (3) ، ثم نبني أدوارها على ذلك الأول، ولا يتأتى ذلك في المتحيرة على قول الاحتياط.
فأما ردّها إلى الغالب فيما يتعلق بالعدد، إذا انتهى تفريعٌ إليه من غير تحكم بإثبات أوّليْة، فلا يتوجه غيره، فأقصى ما يتخيله الفارق، أن المتحيرة قد كانت لها عادات، فلا تأمن تخالف تلك العادات لو رددناها إلى الغالب، والمبتدأة ما سبقت لها عادة.
وهذا الفرق لا يرتضيه الفقيه؛ فإن المبتدأة ربما كانت تحيض عشرة، لو لم تُستحض، ثم من حاضت واستحيضت، ونسيت ابتداء دورها، فهي متحيرة، يُفرَّعُ [أمرُها] (4) على ما ذكرناه، وإن لم تسبق لها عادة في الأدوار مستقيمة.
فهذا منتهى القول في ذلك. والله أعلم.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من: (ت 1) . والمعنى يفسد صيام ستة عشر يوماًً بحيض خمسة عشر يوماًً.
(2) ساقطة من الأصل وحدها.
(3) في الأصل: الدم.
(4) مزيدة من: (ل) .(1/375)
باب
في قضاء الصلاة والصوم على قول الاحتياط
545- المتحيرة التي لا تذكر شيئاً إذا لزمها قضاء يوم، أو نذرت صومَ يومٍ، فأرادت الخروج عما عليها، فقد قال الشافعي: " تصوم يومين بينهما خسمةَ عشر يوماًً ". وأجمع أئمتنا أنه حَسَبَ (1) صومَ اليوم الأول من الخمسة عشرَ التي ذكرناها (2) ، فإنها لو صامت يوماًً وأفطرت خمسة عشرَ يوماً، ثم صامت يوماًً آخر، فيحتمل أن اليوم الأول وقع في آخر حيض، ثم طهرت خمسة عشر، ثم يقع اليوم الثاني في ابتداء حيض جديد، فيكون اليومان واقعين في الحيض، وإذا صامت يوماًً وأفطرت أربعة عشر يوماً، وصامت يوماًً آخر، فإن وقع اليوم الأول في الحيض يقع الثاني في الطهر، وإن وقع الثاني في الحيض، يقع الأول في الطهر.
546- واستدرك أبو زيد وجهاً في الإمكان، وهو أن يبتدىء الحيض في النصف الأخير من اليوم الأول، ويمتد إلى النصف السادس عشر، فيفسد اليومان في هذا التقدير.
والذي نُقل عن الشافعي لا يتجه إلا مع تصوير انطباق الحيض على أول النهار وآخره ابتداء وانقطاعاً، وهذا ليس مما يغلب حتى يقال: الحملُ عليه بناء على الغالب، وتصوير الابتداء والانقطاع في أنصاف النهار في حكم النادر، وقد مضى نظير ذلك في أداء رمضان وقضائه.
__________
(1) حسب: من باب قتل، أي أحصى وعدّ، وهو المعنى المراد هنا، أما حَسِبَ من باب تعب [وقد تكسر العين في المضارع أيضاًً] فهي التي بمعنى (ظنّ) . (المعجم والمصباح) هذا. ولما أصل إلى موضع هذا النص من كلام الشافعي.
(2) معنى العبارة: أن أئمة المذهب أجمعوا على أن الشافعي رضي الله عنه لم يرد أن تفطر خمسة عشرَ بين اليومين، بل حَسَب اليوم الأول وعدّه من الخمسةَ عشر. وقد حكى النووي نقلَ إمام الحرمين هذه العبارة عن الشافعي، وإجماع الأئمة على هذا التفسير، وجاء بالعبارة كما هي أمامنا بنص حروفها. (ر. المجموع: 2/453) .(1/376)
فليقع التفريع على مذهب أبي زيد. فقال الأئمة: إذا أرادت الخروج عما عليها بيقين، فلتصم يوماًً وتفطر يوماً، ثم تصوم الثالث، أو يوماًً آخر إلى آخر الخامس عشر، ثم تفطر السادس عشر، وتصوم السابع عشر، فتخرج عما عليها بيقين، إذا صامت ثلاثة أيام على هذا الترتيب.
فإن قُدِّر ابتداءُ الحيض من نصف اليوم الأول، فينقطع في السادس عشر، ويقع السابع عشر في الطهر وإن انقطع الدم في اليوم الأول، فاليوم الثالث يقع في طهر، وإن فرضنا انقطاع الدم في اليوم الثالث فيقع السابع عشر في الطهر، لا محالة.
وهذا بيّنٌ.
ولو صامت يوماًً، وأفطرت يوماًً، وصامت يوماًً، ثم [صامت] (1) الثامن عشر، فلا تخرج عما عليها؛ لجواز أن ينقطع الحيض في اليوم الثالث، ثم يبتدىء الحيض في الثامن عشر، فيقع الجميع في الحيض.
ولو صامت يوماًً وأفطرت يومين، وصامت اليوم الرابع، ثم صامت الثامن عشر،
فتخرج عما عليها؛ فإنه إذا قدّر انقطاع الدم في اليوم الرابع، فيقع الثامن عشر في الطهر لا محالة.
ولو صامت بدل الرابع يوماًً آخر إلى آخر الخامس عشر، جاز.
547- والضابط في ذلك أنا نقدر شهراً ثلاثين يوماًً، ونتخيله شطرين: خمسةَ عشر، وخمسةَ عشرَ، فلا بد من صيام ثلاثة أيام، فإن صامت اليوم الأول من الخمسةَ عشرَ الأولى، ثم صامت اليوم الثالث، فبين اليومين في أول النصف الأول يوم فطر، فليقع اليوم الثالث بعد يوم من النصف الثاني، وهو السابع عشر؛ نظراً إلى الفطر المتخلل بين اليومين في النصف الأول، ولو وقع اليوم الثاني في اليوم الرابع، فبين اليومين يومان، فيجوز أن يقع اليوم الثالث بعد يومين من النصف الثاني، وهو الثامن عشر، وإن وقع اليوم الثاني في الخامس عشر، فبين اليومين ثلاثة عشر، فيجوز أن يقع اليوم الثالث في التاسع والعشرين، وحيث يجوز أن تصوم الثامن عشر، فلا شك
__________
(1) في الأصل: أفطرت، والمثبت من: (ت 1) ، وهو الصواب المفهوم من السياق والسباق. وقد أكدته (ل) .(1/377)
في جواز السابع عشر، وكذلك حيث يجوز التاسع والعشرون، يجوز السابع والعشرون، لا محالة. وما ذكرناه حساب لا يخفى على متأمل.
[وكل] (1) ما ذكرناه مَبني على الأخذ بأكثر الحيض، فإن رأينا الأخذ بأغلب الحيض، فيكفي أن تصوم يوماًً، وتفطر سبعة أيام، وتصوم يوماًً آخر؛ فإن عودَ الحيض لا يقدّر على هذا الحساب؛ إذ الحيض إذا انقطع لا يعود إلا بعد خمسة عشر يوماًً.
ولكن هذا وإن كان ظاهراً منقاساً، فإنحن نتبع الأئمة، ونفرعّ في الاحتياط على [تقدير] (2) الحيض بالأكثر؛ إذ اقتضى الاحتياط ذلك.
ولا نعود إلى حساب الأغلب، ففيما ذكرناه من التنبيه كفاية. وقد كرّرناه في مواضع، ونحن نبغي الاطلاع عليها، فهذا بيان قضاء يوم واحد.
548- فإن لزمها قضاء يومين، وأرادت إيقاعهما في شهر واحد، فتصوم ستة أيام: تصوم ثلاثة في أول النصف الأول، وثلاثة في أول النصف الثاني، وهي السادس عشر، والسابع عشر، والثامن عشر، فتخرج عما عليها؛ فإنه إن انقطع الحيض في آخر اليوم الثالث، فلا يعود في السادس عشر والسابع عشر، وكيفما قُدِّر فيسلم يومان من الحيض.
549- فلو كانت تقضي ثلاثة أيام، فتُضاعِف الثلاثةَ وتزيد يومين، فتصوم أربعة أيام متوالية من أول الثلاثين، وأربعة من أول السادس عشر على الوِلاء، فتخرج عما عليها.
وإن كانت تقضي أربعة، ضعّفناها، وزدنا يومين، فتصوم عشرة أيام: خمسةً من أول الثلاثين، وخمسةً من السادس عشر.
وإن كانت تقضي خمسة، فنضعّفها ونزيد يومين، فتصوم على هذا الترتيب اثني عشر يوماًً.
وإن أرادت أن تقضي عشرة أيام، ضعّفناها، وزدنا يومين، فتصوم أحد عشر من أول النصف، وأحد عشر من السادس عشر على الوِلاء.
__________
(1) زيادة من: (ت 1) ، (ل) .
(2) في الأصل: على ما يقدّر الحيض بالأكثر، والمثبت من: (ت 1) ، (ل) .(1/378)
ولو كانت تقضي أربعة عشر يوماًً، ضعّفناها، وزدنا يومين، فتحتاج إلى استيعاب الشهر بالصيام، فتخرج بصوم شهر عما عليها من صوم أربعةَ عشرَ يوماً، وإن كان عليها خمسةَ عشرَ يوماًً تؤدي بصوم الشهر منها أربعة عشر يوماًً، ثم تقضي يوماًً في شهرٍ ثانٍ، كما رسمنا قضاء اليوم الواحد.
ولم نبسط القول في تخريج كل صورة لوضوح الأمر.
وإذا كان الكلام يدور على احتمال الانقطاع والعَوْد، فإذا فُرض الانقطاع، فلا يفرض العَوْد إلا بعد خمسةَ عشرَ يوماًً، فلا يكاد يخفى تخريج ما ذكرناه بترديد [هذه] (1) الاحتمالات والأخذ بالمستيقن.
فهذا منتهى المراد في قضاء الصيام.
[قضاء الصلاة] (2)
550- فأما إذا فاتتها صلاة، فأرادت قضاءها والخروجَ عنها بيقين، فليقع التفريع على طريقة أبي زيد؛ فإن طريقة الشافعي في ظاهر النص لا تكاد تخفى، ولعلنا نذكر نصاً للشافعي في طواف المتحيرة، وفيه كفاية في محاولة نقل طريقه.
551- فنقول على مذهب أبي زيد: قضاء الصلاة يجري على قياس قضاء الصوم قطعاًً، وإنما يفترق الباب في أن الصوم زمانه ساعات يوم، والصلاة زمانها الساعات التي تسعها، فحق المفرّع أن يُجري في الساعة التي تسع الصلاة ما أجراه في يوم، في حكم الصوم. فإذا أرادت أن تقضي صلاة، فإنها تقضيها، ثم تصبر ساعة تسع مثل الصلاة التي قضتها، ثم تصلي تلك الصلاة على تلك النية مرة أخرى، ثم إذا انقضى خمسة عشر يوماًً من أول الصلاة الأولى، ومضى من أول السادس عشر ما يسع الصلاة على الجهة التي [تقدمت] (3) ، فتقضي تلك الصلاة مرة ثالثة، فتخرج عما عليها، وتكون ساعات الصلوات بمثابة الأيام الثلاثة، وهي تريد قضاء صوم يوم.
__________
(1) زيادة من (ت 1) ، (ل) .
(2) العنوان من عمل المحقق.
(3) في النسختين: تقدم، وتأنيث الفعل هنا وجوباً. وفي (ل) : الحد الذي تقدّم.(1/379)
ثم يخرج فيه ما ذكرناه في الصوم من التصرف، فلو أنها صلت مرة، ثم أوقعت الصلاة الثانية في أول اليوم الثاني، وخللت بينهما يوماً، فإنها توقع الصلاة الثالثة بعد مضي ساعة من [أول] (1) السادسَ عشرَ، ولها أن توقعها في مقدار يوم من أول السادس عشر؛ فإنها فرقت بين الصلاتين في الأول بهذا المقدار. ولو صلت مرة، ثم أوقعت الصلاة الثانية في آخر اليوم العاشر، فقد خلّلت بين الصلاتين مقدار عشرة أيام، فإذا أرادت أن تصلي مرّةً ثالثة كما أمرناها، فليمض (2) من أول السادس عشر ما يسع الصلاة، ثم يتسع عليها وقت الصلاة الثالثة إلى آخر الخامس والعشرين، فتكون مهلتها بمقدار تفريقها ما بين الصلاتين أولاً، وقد ذكرنا نظير هذا في الصيام.
وبالجملة لا فرق بين البابين، إلا فيما ذكرناه من أن الصوم يتسوعب اليوم، بخلاف الصلاة، فيحتبر وقت إقامة الصلاة باليوم كلّه في القياس، واعتبار الاحتياط في التقديم والتأخير.
552- ولو كانت تريد أن تقضي صلواتٍ كثيرة فاتتها، فالذي ذكره الأئمة أنها تقضيها أولاً، ثم تصبر حتى تمضي [أوقاتٌ مثلُ الأوقات التي وصفتُها، ثم تقضيها جميعاً مرة أخرى إلى آخر الخامس عشر، ثم تصبر حتى يمضي] (3) من أول السادس عشر مثل تلك الأوقات، ثم تقضيها مرة أخرى، فتخرج عما عليها، فتكون الصلوات مع اعتبار الوقت الذي يسعها بمثابة صلاة واحدة.
والذي ذكره الأئمة صحيح في أنها تخرج عما عليها قطعاًً، إذا فعلت ما ذكروه.
ولكن يتأتى الخروج عن عهدة ما عليها مع تخفيف في أعداد الصلاة، والسبب الكلِّي في هذا أن الإشكال إنما ينشأ من تبعّض انقطاع الدم وعوده، فقد يُفرض وقوعُ الحيض في آخر عبادة، ثم يعود في جزء من التي تعاد في السادس عشر، فيفسدان، فمست الحاجة إلى ما رسمه الأئمة في الصلاة الواحدة، من إعادة صلاةٍ ثلاثَ مراتٍ مع رعاية التفريق بين الصلاتين الأوليين وتخيّله أول السادس عشر بمقدارٍ، فأما إذا كانت
__________
(1) زيادة من (ل) .
(2) (ت 1) : فلتقض.
(3) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. وأثبتناه من: (ت 1) .(1/380)
تقضي صلوات وِلاءً (1) ، فإن ورد الحيض على طرفٍ في الأول [أو] (2) الآخر، فإنما تبطل صلاة واحدة؛ فإن التي لابستها عبادات متميزة، فلا ينسحب توقع الفساد على جميعها بفرض ورود الحيض على طرفٍ في الأول [أو] (3) الآخر.
553- فإذا تقرر هذا، عدنا إلى التفصيل، فنقول: هذه لا تخلو إما إن كانت تقضي صلواتٍ متجانسةً أو مختلفةً، فإن كانت متجانسة مثل إن كانت فاتتها مائة ظهر، فالوجه أن يضعّف عددُ الصلاة، فتصير مائتي صلاة، ويُضمّ إلى المجموع صلاتين، ثم تقسم الجملة نصفين، فتصلي مائة، وصلاة في أول يوم، [ونفرض] (4) كأن المائة تقع في أربع ساعات من أول طلوع الشمس، وتقع الصلاة الزائدة على المائة في الساعة الخامسة، ثم إذا مضى خمسة عشرَ يوماًً محسوبة من أول طلوع الشمس، تصلي مائة صلاةٍ وصلاةً، على الترتيب المتقدم، فتخرج عما عليها يقيناً.
وقد انحطّ عنها عددٌ من الصلاة، وبيان ذلك أن الذي يفرض طرآنه في هذه الصورة ابتداء الحيض، وانقطاع الحيض، ونحن الآن نفرض التقديرين، فإذا ابتدأ الحيض في نصف الصلاة الأولى، فقد فسد ما أتت به في هذه الخمسةَ عشرَ، ولكن ينقطع في نصف الصلاة الأولى الواقعة في أول السادس عشر، فتفسد هذه أيضاًً، ولكن يصح بعد ذلك مائة صلاة، وكيفما قُدّر طرآن الحيض، فما يفسد من طرف يصح من طرف، وتسلم مائة لا محالة، إذا زدنا صلاتين على الضعف، كما ذكرناه.
ولو قيل يطرأ الحيض في اليوم الأول في الصلاة الموفية مائة، فقد صح ما قبلها تسع وتسعون، والحيض ينقطع في مثل ذلك من السادس [عشر] (5) ، فتصح الصلاة الزائدة على المائة، وتكمل بها المائة.
فهذا تقدير طريان الحيض.
__________
(1) ولاء بالكسر أي متتابعة (المختار، والمعجم) .
(2) في الأصل، (ل) : والآخر، والمثبت من: (ت 1) .
(3) في الأصل، (ل) : والآخر والمثبت من: (ت 1) .
(4) في الأصل: وتفرع، والمثبت من (ت 1) ، (ل) .
(5) زيادة من: (ت 1) ، (ل) .(1/381)
554- وإن قدرنا الانقطاع، فنقول: لعل الحيض انقطع في الصلاة الزائدة على المائة في اليوم الأول، ففسدت الصلوات كلها لوقوعها في الحيض، ولكن الطهر يمتدّ في أول السادس عشر، بحيث يسع مائة صلاة ونصف صلاة، فتكمل المائة.
وإن انقطع في الصلاة الموفية مائة من اليوم الأول، فتصح الصلاة الزائدة، ويصح من السادس عشر تسع وتسعون، فإن عاد الحيض، لم يضر، وقد كملت المائة بما يصح في السادس عشر، وبالصلاة الزائدة على المائة في اليوم الأول، ولا حاجة -مع ما ذكرناه من التصوير- إلى تأخير الصلوات في السادس عشر بمقدارٍ من أول النهار.
هذا كله، إذا كانت الصلوات كلها من جنسٍ واحد.
555- ثم كل صلاة من هذه الصلوات التي ذكرناها تَقدّمَ عليها غُسلٌ، فإن اضطرب فكر الناظر في ذلك، من حيث إن الأغسال تقع في أزمنةٍ (1) ، فلا مبالاة بهذا؛ فإنه لا ضبط للأزمنة التي تصلي فيها، والناس يختلفون في الحركات والسكنات إبطاء وإسراعاً، فلتعدَّ أزمنةُ الاغتسال كأنها من أزمنة الصلوات.
ولكن الذي يجب أن يراعى أن تكون الأزمنة في الأول إذا جمعت، كالأزمنة في السادس عشر، فلو لو تكن كذلك، لفسد النظام، ولأمكن أن يقع ما يزيد على مثل مقدار الساعات الأولى في حيضٍ جديد من السادس عشر.
هذا إذا كانت الصلوات من جنس واحد.
556- فأما إن كانت الصلوات التي تقضيها من أجناس مختلفة: مثل أن يلزمها قضاء الصلوات لعشرين يوماًً، فهي مائة صلاة من خمسة أجناس من كل جنس عشرون، فهذه الصورة فيها إشكال؛ من جهة أنه إن قدّر [فساد] (2) صلاة بانقطاع الحيض، وصلاة بابتداء الحيض، فلا يُدرى أن ذلك التقدير في أي جنس يتفق من الأجناس الخمسة، فما من جنس إلا وقد يُفرض بطلان صلاتين منه، كما سنبسط
__________
(1) كذا. ولعل في الكلام خرماً، تقديره: " في أزمنة متفاوتة " مثلاً. أو هو إيجاز بالحذف يفهم من الكلام.
(2) في الأصل: قضاء، والمثبت من: (ت 1) ، (ل) .(1/382)
وجوه [التقدير] (1) ، ثم لا يقع هذا إلا في جنس واحد، ولكنه لا يتعين لنا، وتعيين النية شرطٌ في الصلاة، فيخرج من التقدير إيجابُ عشر صلوات سوى عدد التضعيف، صلاتان من كل جنس.
ثم الذي يجري إليه الفكر في تصوير ذلك [ما نذكره] (2) . فنقول: تصلي في أول يوم تقدّره مائة صلاة، عشرين عشرين، ولتجر مثل على ترتيب الأجناس، فتبدأ بالصبح عشرين، ثم كذلك إلى [العشاء] (3) ، ثم تصلي في الخمسة عشرَ عشْرَ صلوات، كل صلاتين من جنس، ثم إذا دخل الساس عشر، لم تصل حتى تمضي ساعةٌ تسع صلاة، ثم تعيد مائة صلاة من الأجناس على الترتيب المتقدم، فتخرج عما عليها.
ولا بد من بسط في [ترديد] (4) الاحتمالات.
فإن طرأ الحيض على الصلاة (5) الأولى في اليوم الأول، فتقع الصلوات المائة والعشرُ الزائدة في الحيض، ولكن ينقطع الحيض في الساعة الأولى من السادس عشر، وتقع المائة التامّة بعدها في الطهر. وإن فرضنا انقطاع الدم في الصلاة الأولى، فتفسد تلك، ويصح ما بعدها، وتستدرك تلك العشرة، أي الفاسدة في الخمسة عشر، وإن فرضنا الانقطاع في الصلاة الثالثة، فيصح ما بعدها، ويفسدُ ثلاثٌ من صلوات الصبح، ثم يبتدىء الحيض بعد مُضى ساعتين ونصف من أول السادس عشر، وقد مضت صلاة في الساعة [الثالثة أو في] (6) الثانية صحيحة، وفي العشر صبحان صحيحان، فقد حصل استدراك الثلاث التي بطلت من الأول، وإن انقطع الحيض في الصلاة الرابعة مثلاً، فقد بطلت أربع صلوات، ثم سيعود الحيض بعد ثلاث ساعات ونصف من السادس عشر، وقد وقعت صلاة في الساعة الثانية، وأخرى في الثالثة،
__________
(1) في الأصل: التقديم، والمثبت من: (ت 1) ، (ل) .
(2) في الأصل: فائدة. وهو خلل ظاهر. والمثبت من (ت 1) ، (ل) .
(3) في الأصل: العشرين. والمثبت من (ت 1) ، (ل) .
(4) في الأصل: تزيد. والمثبت من: (ت 1) ، (ل) .
(5) في (ل) : الصورة.
(6) زيادة من (ل) .(1/383)
وانجبرت صلاتان من الأربع الفاسدة، وفي العشر اثنتان.
وعلى هذا التدريج تجري التقديرات كلها.
557- فإن قيل: أي فائدة في تعرية الساعة الأولى من السادس عشر؟ (1 قلنا: لو صلت في الأول من السادس عشر 1) وقد قضت الصلوات العشرَ في الخمسةَ عشرَ، فنفرض في هذه الصورة ابتداء الحيض في نصف الصلاة الأولى من اليوم الأول، ثم يمتدّ إلى نصف الصلاة الأولى من أول السادس عشر، فتقع الصلوات الخمسةَ عشرَ، ومن جملتها الصلوات العشر في الحيض، وتفسد صلاة مما يقع في السادس عشر، فتستفيد بفرض تأخير ساعةٍ إسقاطَ هذا الاحتمال، وهذا فيما نظنه أقرب الطرق.
558- ولست أُبعد أن ينقدح لذي خاطر مسلكٌ أقرب من ذلك، والرأي في أمثال ذلك مشترك، وما ذكرناه ليس استدراكاً فقهياً على من تقدم، ولكنهم مهدوا الأصول، ولم ينعموا النظر فيما يتعلّق بالاحتمالات الحسابية، ووكلوا استيفاءها إلى الناظرين، ولا حرج على الناظر في كتابنا أن يزيد طرقاً سديدة ويُلحقها بالكتاب. والله أعلم.
***
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 1) .(1/384)
باب في أحكام متفرقة في الاحتياط
559- قد ذكرنا تفريع الاحتياط في الأصول [وفي هذا الباب] (1) نجري أحكاماً متفرقة، وتشتمل على ضبط جامع في قواعد الاحتياط.
560- فنقول: الوطء محرَّم منها أبداً على قول الاحتياط، لإمكان الحيض في كل وقت.
وإذا طلقها زوجها، فالذي صار إليه جماهير الأئمة أنا لا نحمل أمرها على حال من يتباعد حيضها، حتى نقول (2) : تصبر إلى سن اليأس في قولٍ صحيح، ثم تعتد بثلاثة أشهر، بل نحكم بانقضاء عدتها بثلاثة أشهر من وقت الطلاق؛ فإنا لو حملناها على التي يتباعد حيضُها، لعظم المشقة، وطال العناء باحتمالٍ مجردٍ يخالف غالب الظن.
وأما إقامتها وظائفَ الصلاة في الأوقات، فليست من المشقات؛ فإن معظم الخلق لا يتركون الصلاة، وقضاءُ الصوم قاعدةُ الشريعة، فلا يبقى إلا قضاء الصلوات على رأي بعض العلماء، والأمر بأداء الصوم مع القضاء، والغُسل بدلاً عن [الوضوء] (3) الذي تكرره المستحاضة، وهذا قريب.
فأما تكليفُها أن تبقى أيّماً دهرها باحتمالٍ، فشديدٌ جداًً.
561- وقد ذكر صاحب التقريب وجهاً: أن أمرها محمولٌ على تباعد الحيض في العدّة، وهذا -وإن كان منقاساً- بعيدٌ في المذهب.
562- وهي في دخول المسجد كالحائض أبداً.
__________
(1) زيادة من: (ت 1) وعبارة (ل) : " وهذا الباب يحوي أحكاماً ... "
(2) ساقطة من (ل) .
(3) في الأصل: الصوم.(1/385)
563- وأما قراءة القرآن، فقد ذكرنا قولاً بعيداً، أن الحائض تقرأ [القرآن] (1) ، وهو على بعده يتجه في المتحيرة؛ فإنه لا نهاية لعذرها.
والذي ينقدح لي فيها أنها تقرأ في الصلاة ما شاءت؛ فإنها مأمورة بالصلاة، ولا تصح الصلاة من غير قراءة.
ومن منع الحائض من قراءة القرآن، فقد ينقدح على طريقه أنها تقتصر على قراءة الفاتحة في الصلاة؛ فإن الضرورة تتحقق في هذا القدر دون غيره.
والظاهر عندي أنها تتنفل بلا حَظْرٍ ولا حجر، كما يتنفل المتيمم، وإن كان التيمم طهارةَ ضرورةٍ.
ويُحتمل أن تُمنع من النافلة لاحتمال الحيض، كما تمنع من قراءة القرآن في غير الصلاة.
والتيمم وإن كان لا يرفع الحدث، فهو على الجملة يؤثر في رفع منعه. والصلاة تحرم في الحيض، كما تجب في الطهر، فهذه احتمالات متعارضات، لا نَقْلَ عندنا في معظمها، ونصّ أصحابنا في الطرق على أنها تتنفل، كما تتنفل المستحاضات في زمان الاستحاضة.
وما ذكرتُه احتمال ظاهر، وإن لم أنقله، اعتباراً بقراءة القرآن.
[وإذا جوزنا للحائض قراءة القرآن] (2) لكيلا تنسى، فيظهر أن تُمنع من القراءة، لا لهذا الغرض: مثل أنها كانت تكرر سورة الفاتحة، أو الإخلاص، على ما يعتاد بعضُ الناس ذلك.
وقد يقول قائل: إذا جاز لها قراءة سورة، جاز قراءة كل سورة، والعلم عند الله.
564- ومما يتعلق بما نحن فيه أنا وإن بالغنا في التشديد عليها، فلا نُطرِّق إليها احتمالات التلفيق حتى نقول: هي ممن تحيض يوماًً وتطهر يوماًً.
ونحن نقول: في قولٍ النقاء بين الدمين طهر. فلو فرّع مفرع على هذا القول،
__________
(1) زيادة من: (ت 1) ، (ل) .
(2) زيادة من: (ت 1) ، (ل) .(1/386)
وحمل أمرَها على هذا، لم يجز أصلاًً؛ فإنها مع الجهل بابتداء الدور لا تستقرّ مع احتمال التلفيق على رأي واحتياطٍ قط. ولا يتصور منها معه تدارك شيءٍ لأجل الاحتياط. وكل ما لو قدّر، انسدّ به كل باب، فلا معنى لتقديره وبناء الأمر عليه. فكذلك إذا أمرناها بالاغتسال لاحتمال انقطاع الحيض، فمن الممكن أن ينقطع حيضها في خلال الاغتسال، وهذا لو تحقق، لوجب عليها استئناف الغسل، ولكن لا معنى للأمر (1) بهذا الاحتياط؛ فإنها لو استأنفت الغسل، لأمكن ما ذكرناه في الغسل الثاني، وهذا أمرٌ لا ينقطع، ويؤدي إلى التسلسل؛ فليقطع هذا الفن من ابتداء الأمر.
565- ونحن الآن نحرر مراتب في الاحتياط والتخفيف، ونستتم ما مضى، ونشير إلى مواقف الخلاف والوفاق.
فأما احتياطٌ [لا مَردّ فيه] (2) ، ولا انقطاع له، ولا خلاص منه، فليس مرعياً وفاقاًً، كما ذكرناه في التلفيق، وتقدير الانقطاع في الغسل، أو بعد الفراغ منه.
وأما رد المتحيرة إلى المبتدأة بأن يُقدّر ابتداء دورها من الأهلة، ففيه قول بعيد، ولكنه في نهاية الضعف كما سبق.
وأما وجوه الاحتياط التي لا تتسلسل، فقد [ذكرناها] (3) على القول الصحيح، وظهر لنا أن الشافعي ليس يبني الأمر على غوامض الاحتمال، ولهذا لم يوجب قضاء الصلوات مع أدائها، وظاهر القياس المذهبُ المعزيّ إلى أبي زيد.
ولكن عنّ لنا في تفاصيل التفريع أن نعتبر أدوار المبتدأة، وإن لم نعتبر ابتداء الدور، حتي نراعي أغلب الحيض والطهر في بعض مجاري الكلام، وقد تقرر هذا مفصلاً.
فهذا منتهى القول في وجوه الاحتياط، والتنبيه على مواقع الخلاف والوفاق في النفي والإثبات.
__________
(1) عبارة (ل) : لا معنى للأخذ بهذا الاحتمال.
(2) عبارة الأصل: فأما احتياطُ الأمر فيه إِلى التسلسل، ولا انقطاع له.. والمثبت من: (ت 1) ، (ل) .
(3) في الأصل: ذكرها، والمثبت من (ت 1) ، (ل) .(1/387)
وأما العدة والحملُ على تباعد الحيض على ما سبق، فاتفاق معظم الأصحاب فيه محمول عندي على تقريب أمرها من أدوار المبتدأة، في عدد الحيض والطهر، فليفهم الفاهم ما نلقيه إليه مستعيناً بالله، ونعم المعين.
[فرع] (1) :
566- ذكر ابن الحداد فرعاً في طواف المتحيرة، وفيه عثراتٌ وسهوٌ كثير، وقد نبهنا على أمثالها في غير هذا الفرع، فلست أرى التطويل بإعادتها.
ولكن [أذكر] (2) المسلك الحقَّ، وما يُخرجها [عن] (3) الطواف بيقين على قياس أبي زيد.
فأقول: نتكلم في الطواف، ثم فيما يتعلق بالطهارة لأجله، فالمتحيرة في النُّسك إذا أرادت أن تطوف، فالطواف ينافيه الحيض؛ إذ الطهارة مشروطة فيه، ولا بد من الإتيان بطواف لا يقع في الحيض.
فالقول الوجيز فيه أنا نحسب طوافها وركعتي الطواف كصلاة تقضيها، وإذا أرادت قضاء صلاة واحدة، فقد ذكرنا أنها تصليها ثلاث مرات، وبيّنا أوقاتها، فنُجري طوافها مع ركعتي الطواف على ذلك الترتيب، فتطوف وتصلي، ثم تترك الطواف حتى يمضي من الزمان ما يسع مثل ما تقدم من أفعالها. ثم تطوف وتصلي بعد مضي (4 هذا الزمان 4) ، فإذا مضت خمسة عشر يوماًً من أول اشتغالها بالطواف الأول، فتصبر حتى يمضي من أول السادسَ عشر مثلُ الزمان الذي [وسع فعلها] (5) الأول، ثم تطوف وتصلي مرة ثالثة.
ولست أستقصي أطراف القول؛ فإنه بمثابة ما تقدم من قضاء صلاة من غير تباين، ثم تغتسل لكل طوافٍ، في كل كرّة. وأما ركعتا الطواف، فلا تغتسل لهما؛ فإن
__________
(1) في الأصل " فصل " بدلاً من (فرع) .
(2) في الأصل: ذكر. والمثبت من: (ت 1) ، (ل) .
(3) في الأصل: من. والمثبت من: (ت 1) ، (ل) .
(4) ما بين القوسين ساقط من: (ت 1) .
(5) في الأصل: يسع شغلها. والمثبت من (ت 1) ، (ل) .(1/388)
الطواف إن وقع في حيضٍ، فالركعتان لا يعتد بهما؛ فإن شرط صحتهما (1) صحة الطواف قبلهما، وإن فرضنا وقوع الطواف في بقية [الطهر] (2) وابتداء الحيض حالة الاشتغال بالركعتين، فإذا اتفق ذلك في كرَّةٍ، فلا بد وأن يقع طواف وركعتان في كرةٍ أخرى من الكرات في طهر، فيقع الاكتفاء بذلك، فإذاً لا يجب تجديد الغسل قطعاً للركعتين في كرَّةٍ من الكرات.
ولكن هل تتوضأ [للركعتين] (3) ، وقد اغتسلت للطواف؟ هذا يخرَّج على أن الركعتين سنة، أم فريضة؟ إن حكمنا بأنهما سنة، فلا تتوضأ؛ فإن للمستحاضة أن تؤديَ فريضةً، وما شاءت من النوافل بوضوء واحد، وإن حكمنا بأن الصلاة فريضة، فهذا يخرّج على خلافٍ متقدّم في التيمم، في أن الصلاة كجزء من الطواف، أو نقدرُها كفرض مبتدأ منقطع عن الطواف، وقد فرّعْنا حكم تجديد التيمم على هذين الطريقين، فإن عددنا ركعتي الطواف كشوطٍ من أشواط الطواف، فلا تتوضأ لهما، وتكتفي بالغسل للطواف، كما لا تتوضأ [لكل شوط من الطواف] (4) وإن رأينا الركعتين فرضاً مبتدأً بعد الطواف، فلا تغتسل لهما، ولكن تتوضأ.
وذكر الشيخ أبو علي مسألة الطواف في شرح الفروع، وذكر النص، وطريقةَ أبي زيد، وهفواتِ الأصحاب وأطال نَفَسَه، فإنه لم يذكر في احتياط المتحيرة غيرها، فاقتضى الشرحُ [جمعَ] (5) أقوال الأصحاب.
ونحن لما ذكرنا جميعَ الطرق في الأبواب المتقدمة، رأينا الاقتصارَ في هذا على المسلك الحق في درك اليقين، والذي جددنا العهدَ به القولُ في حكم ركعتي الطواف في أمر الطهارة فحسب، وإلا فالترتيب فيه كالترتيب في قضاء صلاةٍ واحدةٍ، حرفاً حرفاً.
***
__________
(1) ساقطة من (ت 1) .
(2) زيادة من: (ت 1) ، (ل) .
(3) في الأصل: لكل ركعتين.
(4) في الأصل: للطواف. والمثبت من: (ت 1) ، (ل) .
(5) في الأصل: جميع، والمثبت من: (ت 1) ، (ل) .(1/389)
باب في حكم الناسية إذا كلانت تذكر شيئاًً
567- جميع ما قدمناه في المتحيرة التي لا تذكر شيئاً، وهذا الباب يشتمل على ما إذا ذكرت شيئاًً في ترتيب أمرها في أدوارها، ونبين ما يقتضيه ذكرها من تخفيفٍ عنها في حكم الاحتياط.
وعلى الجملة: من أحاط بما قدمناه من قواعد الاحتياط في المتحيرة المطلقة، وهي تخبط في عمايةٍ عمياء، ولا تذكر شيئاًً؛ فيهون عليه مُدرَك اليقين فيه إذا كانت تذكر شيئاًً، وإنما غموض حكم الاحتياط فيما تقدّم، فلا نبسط القول في هذا الباب بتكثير الصور؛ علماً بأن من أحاط بالاحتياط فيما تقدم، يسرع إلى المطلوب في هذا الباب.
568- فنقول: لو عينت ثلاثين يوماًً، وذكرت أنها كانت تحيض في أوله (1) ، وينطبق أول حيضها على أول تلك المدة. ونحن فيما نحن فيه نسمي تلك الثلاثين شهراً، فإذا ذكرت ذلك، وزعمت أنها لا تذكر شيئاًً آخر، فتستفيد بما ذكرته أنّا نحيّضها بيقين يوماًً وليلة من أول الشهر، ثم نأمرها بالاحتياط إلى انقضاء الخامسَ عشر، [لاجتماع احتمال] (2) الحيض والطهر، والانقطاع بعد اليوم والليلة إلى آخر الخامس عشر.
وقد ذكرنا أن وجوهَ الاحتياط تنشأ من هذه الاحتمالات، ثم هي طاهرة بيقين من أول السادس عشر إلى منقرض الشهر.
ولو عيَّنت كما ذكرنا شهراً، وذكرت أن حيضها كان ينقطع في آخر الشهر، ولم تذكر غير ذلك، فنحكم لها بالطهر من أول الشهر خمسة عشر يوماًً، ثم يحتمل من أول
__________
(1) أعاد الضمير مذكراً على معنى: (الدّور) ، أو (الشهر) .
(2) في الأصل: لاحتمال الحيض والطهر. والمثبت من (ت 1) ، (ل) .(1/390)
السادس عشر الحيض والطهر، ولا يحتمل الانقطاع فيه؛ فإنه لو فرض الانقطاع، لم يعد إلا بعد خمسةَ عشرَ، وقد ذكرت أن حيضها كان ينقطع في آخر الشهر، فإذا بقي يوم وليلة من الشهر، فهي حائض بيقين على حكم العادة، وإذا زال احتمال الانقطاع في النصف الأخير، زال الأمر بالاغتسال، ولا تغتسل إلا مرة واحدة في آخر الشهر؛ فإنه وقت الانقطاع لا غير، وليقس الناظر بما ذكرناه من أمرها أمثاله.
فصل
في الخلط
569- هذا قد يهابه المبتدئ، ولا إشكال فيه مع تمهُّدِ ما مضى، ولولا إقامة الرسم في تراجم الأبواب، لما رأيتا إفراد أمثال هذا، فنقول والله المعين:
إذا عيَّنت شهراً ثلاثين، كما تقدم، وأبانت المبتدأ والمختتم، وذكرت أنها كانت تخلط الشهر بالشهر حيضاً بحيض، والمراد به أنها كانت حائضاً في آخر كل شهر، وأول كل شهر، ولم تذكر غير ذلك. فهذا هو الذي سماه العلماء الخَلطَ المطلق.
فإذا لم تذكر غير ذلك، فوجه تقريب القول، وتسهيل المسلك أنها حائض في اللحظة الأخيرة والأولى من الشهر؛ فإنها ذكرت ذلك، ثم هي مأمورة بأكمل الاحتياط بعد اللحظة الأولى من الشهر إلى آخر الخامس عشر إلا لحظة؛ لاحتمال الحيض والطهر والانقطاع في هذه الأيام، ثم هي طاهرة في اللحظة الأخيرة من الخامس عشر واللحظة الأولى من السادس عشر؛ فإن الحيض لا ينتهي إلى هاتين (1) اللحظتين في شيء من جهات التقدير، ثم بعد هذه اللحظة الأولى من السادس عشر إلى اللحظة الأخيرة من الشهر احتمالان:
أحدهما - الحيض.
والثاني - استمرار الطهر.
ولا يحتمل الانقطاع؛ فإن في آخر الشهر حيضاً بيقين.
ولو فُرض الانقطاع في النصف الأخير، لم يعد الحيض في آخر الشهر، ثم هي
__________
(1) في (ت 1) : ما بين اللحظتين.(1/391)
حائض بيقين في اللحظة الأخيرة من الشهر واللحظة [الأولى] (1) من مبتدأ الشهر، فهذا حكم الخلط المطلق.
570- وقد ذكر الأصحاب عبارات في رَوْم التقريب، فصارت مراسمَ في الباب، وقد تعاظمها المبتدئون ورأَوْها أموراً غامضة، وإنما معناها ما ذكرناه، ولكنا نذكرها؛ حتى لا نكون أخلينا الكتاب (2) عن فن مألوفٍ فيه.
فإذا ذَكَرَتْ الخلط المطلق، فنقدم حيضها إلى الزمان المنقضي (3) ، على أقصى الإمكان، ونؤخر حيضها في الزمان المستقبل على أقصى ما يتصور، فيقع حساب التقديم في النصف الآخر من كل شهر، ويقع حساب التاخير في النصف الأول من كل شهر، ونستمسك باللحظتين في الآخر والأول.
فنقول: أقصى الإمكان في التقديم أن نجعل آخر حيضها اللحظة الأولى من الشهر، فيقع أوله بعد لحظة من السادس عشر (4) . وأقصى الإمكان في التأخير أن نجعل أولَ حيضها اللحظة الأخيرة من الشهر، فيمتد إلى [آخر] (5) الخامس عشر إلا لحظة.
ثم نقول: ما يدخل في الحسابين: التقديم والتأخير، فهو حيض بيقين. وهو اللحظتان من الآخر والأول، وما خرج من الحسابين، ولم يلحقه واحد منهما، فهو طهر بيقين، وهو اللحظة الأخيرة من الخامس عشر، واللحظة الأولى من السادس عشر، وما دخل في حساب التأخير فحسب، ففيه أكمل الاحتياط، وما دخل في حساب التقديم فحسب، فليس فيه احتمال الانقطاع، فلا غسل، وإنما فيه احتمال الطهر والحيض.
وفيما قدمناه ما يغني عن هذه التهاويل والعبارات والتفاصيل، ولكن رأيت (6)
__________
(1) زيادة من (ت 1) ، (ل) .
(2) المراد كتاب الحيض.
(3) في (ت 1) : المقتضي.
(4) ذلك لأن أقل الطهر خمسةَ عشرَ، فإذا طهرت في اللحظة الأولى من الشهر، فينقضي المستيقن من الطهر، وهو أقله في أول لحظة من السادس عشر.
(5) زيادة من (ل) .
(6) في (ت 1) : ولكنا رأينا، وكذا في (ل) .(1/392)
التأسّي بما ذكر لنتخدّ ذلك دستوراً فيما يجري بعده. إن شاء الله عز وجل.
ثم نذكر زوائد من الفوائد في هذه الصورة، يتدرب بها المنتهي والمبتدىء.
571- فنقول: إذا ذَكَرَتْ الخلط المطلق، وكان في ذمتها صلاة منذورة مثلاً، فأرادت الخروج عما عليها، أو أرادت إقامة صوم يوم واجب عليها، فقد ذكرنا في المتحيرة المطلقة، أن الوجه أن تصلي ثلاث مرات، وتصوم ثلاثة أيام. وذكرنا ما يتخلل بين الكرات من المواقيت.
فإذا ذكرت أنها كانت تخلط الشهر بالشهر، فيكفيها أن تقضي ما عليها مرتين: مرة في حساب التقديم، ومرة في حساب التأخير، ولكن لا بد من رعاية وجهٍ يقع به أحدهما في الطهر.
فلو صامت يوم السادس والعشرين من شهر، ويوم السادس من الشهر الثاني، فلا تخرج عما عليها؛ لجواز وقوع اليومين في الحيض، [إن] (1) كانت تخلط.
ولكن إذا صامت يوم الخامس عشر ويوم السادس عشر، فتخرج عما عليها؛ فإن الحيض لا يدرك اليومين جميعاًً، بل إن أدرك، فإنه يدرك أحدهما.
ولو [صامت] (2) السابع عشر من شهر، والخامس عشر من الشهر الذي يليه، فإنها تخرج عما عليها؛ فإن الحيض مع تقدير الخلط لا يدرك اليومين جميعاًً في هذه الصورة. ولا يكاد يخفى على من أحكم استخراج الغوامض [المقدمة] (3) مأخذ هذا.
572- ومما نذكره الآن أنا قدّمنا في المتحيرة المطْلقة من مذهب أبي زيد، أنها تصلي كل صلاة، ثم تقضيها كما تفصّل.
ولا بد من تفصيل هذا الفن مع ذكرها الخلط.
فنقول: نذكر التفصيل في الأيام المقدّمة في الزمان الماضي، ثم نذكر الأيام
__________
(1) في الأصل، (ل) : " وإِن ". والمثبت من: (ت 1) .
(2) في النسختين: "صلت" وواضح أن المقصود: صامت، فإِن المسألة في فرض صوم يومٍ واجبٍ عليها. ووجدناها في (ل) كباقي النسخ.
(3) زيادة من: (ت 1) ، (ل) .(1/393)
المؤخرة المقدّرة في الاستقبال، والأيامُ المقدمةُ تقع في النصف الأخير من الشهر، والمؤخرة تقع في النصف الأول من الشهر.
فأما النصف الأخير من كل شهر، فلا يحتمل الانقطاع؛ فإن في آخر الشهر حيضاً معلوماً، وإن انقطع الحيض، لم يعد إلى خمسةَ عشرَ يوماًً، ولكن يلزمها إقامة الصلوات في أوقاتها؛ لإمكان الطهر.
ثم لو كانت تصلي في الأيام المتقدمة في أول الوقت وتطبق التكبير على أول الوقت، فلا يلزمها القضاء أصلاًً؛ لأن الصلاة إن وقعت في الطهر، فقد أدت ما عليها، وإن وقعت في الحيض، أو وقع آخرها فيه، فلا تلزمها هذه الصلاة، لا أداءً ولا قضاء، ولا يحتمل أن ينقطع الحيض في آخر الوقت، كما تقدم ذكره.
ولو صلت في وسط الوقت، فيتجه أمرُها بالقضاء؛ لاحتمال أن أول الوقت كان عارياً عن الحيض، فلم تصلّ فيه، ولما صلت كانت حائضاً. والذي يقتضيه تحقيق هذا الحساب، أنها لو أوقعت الصلاة بعد مضي مقدار تكبيرة من أول الوقت، فيلزمها القضاء؛ لجواز أن تقع التسليمة في ابتداء الحيض، وقد مضى من أول الوقت، ما يسع صلاة تامةً.
ثم يتجه على ما أوضحناه أن نوجب عليها ملازمةَ أول الوقت؛ فإنها لو استيقنت من نوَب حيضها -ولم تكن مستحاضة- أنه إذا مضى من وقت الزوال مقدارُ أربع ركعات تَحيضُ (1) ، فيتعين عليها إيقاع الصلاة في أول الوقت، وإذا احتمل ذلك، فالاحتمال في قاعدة الاحتياط بمثابة اليقين.
ولا يمتنع أن يقال: عليها مع رعاية التطبيق على أول الوقت أن تقتصر على مقدار الفرض؛ فإنها لو [بسطت] (2) وطوَّلت، فربما توقع شيئاًً من الصلاة في الحيض، مع القدرة على تبعيد الفرض عن المانع.
ولا يبعد أن يقال: يشق عليها مراعاة التطبيق على أول الوقت، والاقتصارُ (3) على
__________
(1) أي أنها تحفظ أن الحيض يعتريها بعد الزوال بمقدار أربع ركعات.
(2) في الأصل: سقطت. والمثبت من: (ت 1) ، (ل) .
(3) معطوف على (مراعاة) .(1/394)
ما لا يتصوّر أقل منه، فنقول: هي بالخيار بين مراعاة التطبيق وقدر الفرض، وبين أن تصلي في الوقت متى شاءت، ثم تقضي تلك الصلاة مرةً أخرى. فهذه جهات الاحتمالات فيما أردناه.
573-[ومما يليق] (1) بتمام البيان في الأيام المقدمة، أنها إذا صلت على وجهٍ يلزمها القضاء، فلو أرادت أن تقضي في الأيام المقدمة لتخرج عما عليها، لم يمكنها؛ لجواز وقوع القضاء في الحيض، ولكن سبيلَها أن تؤخر القضاء، وتصلي في الأيام المقدمة [مثلاً] (2) في أوساط الأوقات، ثم تقضي صلواتِ يومٍ وليلة؛ وذلك لأنه لا يبطل من صلاتها إلا واحدة في جميع الأيام المقدمة؛ فإن الصلاة إنما تبطل بتقدير ابتداء الحيض في أثناء الصلاة.
و [هذا] (3) إنما يتصور مرة واحدة في الأيام المقدمة، ولكن لما أشكلت الصلاة التي قدرنا فسادها، أوجبنا قضاء صلاة يوم وليلة.
فهذا تمام الكلام في الأيام المقدّمة.
ثم إنما تقضي الصلوات في الأيام المقدّمة والمؤخرة مرتين، كما تقدم، فتصلي مرتين خمساً خمساً، فتصير عشر صلوات.
574- فأما الأيام المؤخرة، فيحتمل فيها الانقطاع، فلو صلت في أول الوقت، فيلزم القضاءُ لتقدير الانقطاع في آخر الوقت، ووقوع الصلاة المتقدمة في الحيض، فالوجه أن تؤخر الصلاة -إن أرادت ألا تقضي- إلى آخر الوقت.
ثم نذكر مقدمةً لغرضنا، وهي أن من لا علّة به إذا أوقع بعضَ الصلاة في الوقت، وبعضها خارج الوقت، فالصلاة مقضية أو مؤداة؟ فيه خلاف، وسيأتي في كتاب الصلاة.
فإن قلنا: الصلاة مؤدّاة، فيجوز في حالة الاختيار تأخيرُ الصلاة إلى هذا الحد.
__________
(1) في الأصل: يتعلق. والمثبت من (ت 1) ، (ل) .
(2) زيادة من: (ت 1) ، (ل) .
(3) زيادة من: (ت 1) ، (ل) .(1/395)
حتى لو لم يقع في الوقت إلا مقدار تكبيرة، جاز، [وكانت الصلاة أداءً] (1) .
وإن قلنا: تصير الصلاة مقضية، فلا يجوز تأخير الصلاة إلى حالةٍ يقعُ بعضُها خارج الوقت.
فإذا ثبت ذلك، عدنا إلى غرضنا في الأيام المؤخرة.
575- فإن قلنا: تكون الصلاة مؤداةً، فلو أوقعت مقدار تكبيرة في الوقت، ووقع الباقي وراءه، فلا قضاء عليها، ولها أن تفعل ما ذكرناه؛ فإن هذه الصلاة إن وقعت في الطهر، فقد خرجت عما عليها، وإن وقعت في الحيض، فنعلم قطعاً أن الحيض طبق وقت الصلاة؛ فإن ابتداء الحيض في الأيام المؤخرة لا يتصور. وإنما الممكن استمرار الحيض، أو الانقطاع في كل وقت يشار إليه.
وإنما [ينشأ] (2) الاحتياط في هذه الأيام من إمكان الانقطاع.
فهذا إذا قلنا: تكون الصلاة مؤداة، وإن وقع بعضُها وراء الوقت.
576- فأما إذا قلنا: تكون مقضيّة، فلا يجوز لها أن تُخرج شيئاًً من الصلاة عن الوقت، ولكن توقع الصلاة أداءً في آخر الوقت، وكما يلزمها ذلك لتكون مؤدية، يلزمها قضاء الصلاة؛ لجواز أن الحيض انقطع في آخر الوقت (3) .
ثم إذا قضت عقيب الوقت مثلاً، وقد أدت في الوقت، فقد خرجت عما عليها؛ فإن الحيض إن انقطع في الوقت، فالقضاء يقع في الطهر، وإن وقع القضاء في الحيض، فالحيض مستمر قبله إلى اللحظة الأخيرة من الشهر السابق، ولا أداء ولا قضاء.
ثم لا يتعين -على إيجاب القضاء- تعقيبُ الوقت بالقضاء، ولكنها تقضي متى شاءت في الأيام المؤخرة، وسيأتي تمام ذلك الآن.
وإذا كنا [نوجب] (4) الأداء في الوقت، فلا معنى لتكليفها تطبيق الصلاة على آخر
__________
(1) زيادة من: (ت 1) ، (ل) .
(2) في الأصل: بينا. والمثبت من: (ت 1) .
(3) في (ل) : (الصلاة) .
(4) في الأصل: نوجز. والمثبت من: (ت 1) ، (ل) .(1/396)
الوقت؛ فإنها وإن فعل ذلك، فهي مأمورة بالقضاء، فلتصلِّ في الوقت متى شاءت، ثم لتقض.
577- ومما ننبه عليه -وإن [كان بيِّناً] (1) - أنا ذكرنا أن الصلاة التي نقدر فسادها في الأيام المقدّمة بالوقوع في وسط الوقت، لا تقضيها في الأيام المقدّمة مقتصرة عليها، والتي نأمر بقضائها في الأيام المؤخرة إذا قضتها فيها، كفاها ذلك.
والفارق أن القضاء في الأيام المقدمة قد يقع في الحيض مع وقوع الأداء فيه، وأما الأيام المؤخرة، فإنما يجب القضاء فيها في الصورة التي ذكرناها، لإمكان انقطاع الحيض في بقية الوقت. ولو فرض ذلك، فلا يقع القضاء بعده في الحيض قطعاًً.
وهذا مُغْنٍ بوضوحه عن مزيد كشف فيه.
578- ومما يتعلق بذلك أن [الخالطة] (2) لو كانت لا تقضي حتى مضت الأيام المؤخرة، فلا يلزمها إلا قضاء صلوات يوم وليلة؛ فإن الانقطاع لا يمكن تقديره في جميع الأيام المؤخرة إلا مرة واحدة، وذلك إذا اتفق، فقد يوجب قضاء صلاة واحدة، ثم تلك الصلاة لا تتعين، فيلزم لأجل ذلك قضاء صلوات يوم وليلة، ثم تقضي هذه الصلوات عند انقضاء الأيام المؤخرة [كما تقضي صلاةً مطلقة في ذمتها، فتأتي بها مرة في الأيام المقدمة، ومرة في الأيام المؤخرة] (3) كما تفصّل.
ولو أوقعت هذه الصلوات الخمسة (4) في آخر زمان من الأيام المؤخرة، كفاها ذلك مرة واحدة؛ فإنا لو فرضنا الانقطاع الآن، لم تجب الصلاة فيما مضى، لا أداءً ولا قضاء، ولكن فيه فضلُ فكرٍ.
وهو أن أول الشهر لو حسبناه من أول ليلة، ثم فرضنا الانقطاع في آخر الأزمان المؤخرة، فينقطع في آخر نهار قبل الغروب، ولو فرض ذلك، فقد يلزم الظهر
__________
(1) في الأصل: ساقط من الأصل. وفي (ت 1) : كنا بيَّنَّا.
(2) في الأصل: الحائض. والمثبت من: (ت 1) ، و (ل) .
(3) زيادة من: (ت 1) ، (ل) .
(4) كذا بالتأنيث، وهي صحيحة؛ فحيث تقدم المعدود تجوز الموافقة، ولا تجب المخالفة.(1/397)
والعصر في هذا اليوم، بإدراك زمانٍ في آخر النهار، فيرجع القضاء إلى الظهر والعصر إذا قضت الصلوات الخمس في آخر الأزمان المؤخرة.
وهذا لا يدركه إلا موفَّقٌ سديد الفكر، والبليد لا يزداد بالإطناب في البيان إلا دهشةً وتدوّخاً (1) والله المستعان.
579- ومن تمام البيان في ذلك أنا إذا أوجبنا القضاء والأداء في الأيام المؤخرة؛ تفريعاً على أنه لا يجوز إخراج شيء من الصلاة عن وقتها، فلو لم تؤدّ كما أُمرت، ولكن أوقعت التكبيرَ في الوقت والباقي وراءه، ونوت القضاء، فقد عصت بترك الأداء، ولكنها خرجت بالقضاء عما عليها؛ فإنها إن كانت طاهرةً في الوقت؛ فإن الطهر يدوم، فإن [ابتداء] (2) الحيض لا يتصور طريانه في الأيام المؤخرة، وإن فرضنا انقطاعاً وراء الوقت، فلا يجب قضاء الصلاة، والحيض مطبق للوقت، وإن فرضنا الانقطاع في آخر الوقت، فقد وقعت التكبيرة في الطهر، فإن فَرضَ متكلفٌ الانقطاع، وقد بقي نصف تكبيرة، فلا يجب قضاء هذه الصلاة، كما لو طبق الحيضُ الوقتَ، وسيأتي ذلك مشروحاً في كتاب الصلاة إن شاء الله تعالى.
580- وإن تركت الخالطة صلاة في الأيام المؤخرة، وأخرجتها عن الوقت، ثم قضتها عقيب الوقت مثلاً، فقد سقط الفرض عنها؛ فإنها إن كانت طاهرة في الوقت، فهي طاهرة في وقت القضاء، وإن انقطع الحيض في آخر الوقت، فقد لزم القضاء وقضت، وإن طبق الحيض الوقتَ، فلا أداء ولا قضاء.
وكل ما ذكرناه في صلاة الصبح والعصر والعشاء، فأما صلاة الظهر، فلو وقعت التكبيرة في الوقت، وباقي الصلاة خارجاً، ونحن نجوز ذلك، فلا تخرج عن عُهدة الظهر؛ لجواز أن يقع جميع ذلك في الحيض، ثم يتفق انقطاعُ الحيض في آخر النهار، فيجب قضاءُ الظهر مع العصر، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، فسبيلها في الظهر أن تؤدي الظهر في أي زمان يتفق، من زوال الشمس إلى انقضاء الوقت، ثم تقضي الظهر بعد الغروب.
__________
(1) ساقطة من (ل) .
(2) زيادة من: (ت 1) ، ل.(1/398)
ثم قد ذكرنا أن الأيام المقدمة أيام الوضوء، والأيام المؤخرة أيام الغسل، ويمكن ضبط المقصود في ذلك بأن الخالطة في أيام الوضوء تطبق الصلاةَ على أول الوقت، وفي أيام الغُسل قد تطبق التكبير في الصلوات الثلاث: الصبح والعصر والعشاء على آخر الوقت، عما عليها إذا ارتسمت رعاية الأول والآخر، كما رسمنا وقدّمنا ذلك.
581- وجميع ما ذكرنا فيه إذا لم تذكر إلا خلطاً مطلقاً، فأما إذا ذكرت خلطاً، وقيدته بشيء آخر، فنذكر فيه صوراً ترشدُ إلى أمثالها، وهي بينةٌ بالإضافة إلى ما تقدم.
فلو قالت: لا أحفظ شيئاًً إلا أني كنت أخلط الشهر بالشهر، يوماًً بيوم، فمعناه أني كنت حائضاً يوماًً وليلة في آخر الشهر، ويوماً [وليلة] (1) في أول الشهر، فقد قيدت الخلطَ بذكر مقدارٍ، فيقدّمُ الحيض أقصى ما يمكن، ويقدر اليوم الأول آخر الحيض، فيقع ابتداؤه أول السابع عشر.
وإذا أخرناه على أقصى الإمكان، قدرنا الأولَ اليومَ الأخير من الشهر، والآخرَ آخرَ [اليوم] (2) الرابع عشر، فقد دخل في الحسابين اليوم الآخر والأول، فهما حيض، وخرج من الحسابين الخامس عشر والسادس عشر، فهما طهر، وما دخل في الحساب المقدم فَحسْب أيام الوضوء، وما دخل في الحساب المؤخر فَحسْب أيام الغسل.
وباقي التفريع [كما] (3) تقدم.
582- ولو قالت: كنت أخلط الشهر بالشهر، وأحفظ أن حيضتي كانت خمسة أيام، فقد قيّدت الخلطَ بذكرها لمقدار حيضتها الأصلية، فتقدّم وتؤخر، ولكن تقدّم الخمسة وتؤخرها، وليس كما تقدم؛ فإنها لم تذكر فيه مقدارَ الحيض فيما سبق (4) ، فاقتضى الاحتياطُ رعايةَ أكثرِ الحيض في التقديم والتأخير، فإذا ذكرت المقدارَ وربطته بآخر الشهر وأوله، فتقدم الخمسة، وتقدر آخرها اللحظة الأولى من الشهر، فينتهي
__________
(1) زيادة من: (ت 1) ، (ل) .
(2) زيادة من: (ت 1) ، (ل) .
(3) في الأصل: على ما تقدم.
(4) في الأصل: فيما سبق (مما سواه) فاقتضى. والمثبت عبارة: (ت 1) ، (ل) .(1/399)
أولها إلى السادس والعشرين إلا لحظة من أوله.
وإذا أخرنا، قدّرنا اللحظة الأخيرة من الشهر أول الحيض، فينتهي إلى آخر الخامس إلا لحظةً، فقد دخل في الحسابين لحظتان [من الآخر والأول] (1) ، فهما حيض، وخرج من الحسابين اللحظة الأخيرة من الخامس إلى انقضاء لحظةٍ من السادس والعشرين. فهذه الأيام طهرٌ كلها؛ فإنه لم يلحقها الحيض لا بحساب التقديم، ولا بحساب التأخير، والأيام الداخلةُ في التقديم فحسب أيام الوضوء، والداخل في حساب التأخير أيامُ الغسل، كما تقدم ذكره.
583- ولو قالت: كنت أخلط الشهر بالشهر، وكنت يوم الخامس بليلته حائضاً، فقد قيدت الخلط بتعيين يومِ من الحيض، ولم تذكر مقدارَ حيضها القديم، فيقدم حيضُها أقصى ما يمكن، ويقدّر آخر حيضها اليوم الخامس، فينتهي التقديم إلى أول الحادي والعشرين.
وإن أخرنا أقصى ما يمكن، قدّرنا الابتداء من اللحظة الأخيرة من الشهر لذكرها الخلط، فينتهي إلى آخر الخامس عشر إلا لحظة، فقد دخل في الحسابين من اللحظة الأخيرة إلى آخر الخامس [فهي حائض] (2) في هذه المدة بيقين، والخارج من الحسابين هي اللحظة الأخيرة من الخامس عشر إلى أول الحادي والعشرين، فيكون طاهراً قطعاًً على حكم ذكرها.
ولا تخفى باقي الأحكام في هذه الصورة.
584- ولو قالت: كنت أخلط الشهر بالشهر، أو العَشر الأول بالعَشر الثاني فقد ترددت بين خلطين، وهذا أشد إيهاماً من خلط الشهر بالشهر مطلقاًً؛ فإنها ردّدت قولها بين خلطين، وذكرت إيهاماً في [محلّين] (3) ، فليس لها والحالة هذه حيض بيقين، ولا طهر بيقين؛ فإن اليقين فيهما إنما يثبت إذا تعين محل الخلط في الذكر،
__________
(1) في الأصل: لحظتان من الأواخر.
(2) زيادة من: (ت 1) ، (ل) .
(3) في الأصل: في مجلس. ولا معنى لها. والمثبت من: (ت 1) ، (ل) .(1/400)
وقدمنا وأخرنا على أقصى التصوير، فما يدخل في الحسابين حيض، وما يخرج عنهما جميعاًً طهر، ونحن في هذه الصورة لا ندري أنتخذّ أصل التقديم والتأخير الشهر أو العشر.
ولكنا نقول: لا غسل عليها من السادس والعشرين إلى انقضاء آخر الشهر؛ فإنها إن كانت خلطت الشهر بالشهر، فالانقطاع غير ممكن في هذه الأيام لا محالة، وكذلك إن كانت تخلط العشر بالعشر، فلا يُحتمل الانقطاع في هذه الأيام؛ فإنه لو انقطع، لم يعد إلى خمسة عشر يوماًً، وكذلك لا تغتسل في اللحظة الأولى من الشهر؛ فإنها إن كانت خلطت الشهر بالشهر، فتكون حائضاً في اللحظة الأولى من الشهر، وإن كانت خالطة العشر الأول [بالعشر] (1) الثاني، فكذلك لا يحتمل الانقطاع في هذه اللحظة، كما ذكرناه قبلُ، فإذا مضت اللحظة الأولى، احتمل الانقطاع بتقدير أن آخر حيضها اللحظة الأولى، ثم ينسحب إمكان الانقطاع إلى آخر العشر، ويمتدّ بعده بتقدير خلط العشر بالعشر، ويتمادى إلى آخر السادس والعشرين، كما تقدّم، ثم بعد ذلك حكم الوضوء (2) إلى انقضاء اللحظة الأولى من الشهر.
ولست أطنب في شرح هذا ومثله لبيانه، ومن تدرّب في المشكلات المتقدمة، هان عليه طلبُ اليقين في أمثال الصور التي ذكرناها. فهذه صورٌ في تقييد الخلط بوجوه غير ذلك، تهدي إلى أمثالها.
585- ولو قالت: لا أحفظ [شيئاًً] (3) إلا أني كنت أخلط الشهر بالشهر طهراً بطهر، فكأنها ذكرت أنها كانت طاهرة في اللحظة الأخيرة من الشهر، وفي اللحظة الأولى من أول كل شهر، ولا تستفيد حيضاً مستيقناً؛ فإن أكثر الطهر لا نهاية له، فلا يُفيد مَدُّه في التقديم والتأخير تعيين حيض.
ولكن إذا مضت اللحظتان اللتان في آخر الشهر وأوله، فإنا لا نأمرها بالاغتسال
__________
(1) زيادة من (ل) .
(2) كذا في النسختين، والمعنى أن حكمها الوضوء لا الغسل، كما هو واضح من عبارة مختصر النهاية لابن أبي عصرون، حيث قال: " ثم بعد ذلك تتوضأ إِلى اللحظة الأولى من الشهر ".
(3) مزيدة من: (ت 1) ، (ل) .(1/401)
بعد اللحظة الأولى، حتى يمضي يومٌ وليلة، فإن الطهر إن استمرّ، فلا غسل، وإن ابتدأ حيض، لم ينقطع حتى يمضي أقل الحيض، وهو يوم وليلة، فلو انقضى ذلك، اطرد الأمر بالغُسل إلى اللحظة الأخيرة من الشهر، لاحتمال الانقطاع.
586- ولو قالت: كنتُ أخلط الشهر بالشهر حيضاً بحيض، وكنتُ طاهرةً في اليوم الخامس، فسبيل التقديم أن نقدّر آخر حيضها اللحظةَ الأولى من الشهر، فتنتهي بالتقديم إلى أول السادس عشر إلا لحظة. وإذا أردنا التأخير، نقدّر أول حيضها اللحظة الأخيرة من الشهر، فينتهي حساب التأخير إلى آخر اليوم الرابع، ولا يتعداه لمكان الطهر في اليوم الخامس، فيخرج من الحسابين من اليوم الخامس إلى مُضي لحظة من أول السادس عشر، فتكون هذه الأيام طهراً بيقين.
ولو قالت: كنت أخلط الشهر بالشهر، حيضاً بحيض، وكنت يوم الخامس أو الرابع عشر طاهرة بيقين. فنقول: هي طاهرة يوم الرابع عشر؛ فإنها إن كانت طاهرة يوم الخامس، فيمتد الطهر إلى استيعاب الرابع عشر، فهو طهر في كل تقدير.
فهذا المبلغ كافٍ في صور الخلط، وفيه إرشاد إلى أمثاله.
فصل
في الضلال
587- وهذا عدّه الفقهاء من غمرات أحكام الناسية، والغرض منه، ومما تقدم من أمثاله بيانُ أحكامٍ مستفادةٍ مِنْ ذِكْرها أشياءَ في أدوارها، مع بقاء الإبهام في أشياء، ثم بوّب العلماء أبواباً وذكروا أسماء وألقاباً، وغرضهم إيناس الناظرين بمدارك التصرّف، ومسالك استخراج اليقين في الأمر بالاحتياط.
588- والضلال هو الذي نصفه، وهو منقسم إلى الضلال المطلق على الأجمال، وإلى الضلال المقيّد:
فأما الضلال المطلق الذي لا تقييد معه، فلا فائدة فيه، مثل أن تقول: أضللت حيضي في دوري، ولم تذكر مقدار الدور وابتداءه، فلا أثر لما ذكرت، فهي متحيرة مطلقة.(1/402)
وكذلك إن ذكرت أن دورها كان ثلاثين، ولم تذكر ابتداء دورها أنه كان من أي وقت، فلا أثر لما ذكرت، وهي متحيرة.
ولو ذكرت ابتداء دورها، وزعمت أنها أضلّت حيضَها فيه، فلا بدّ أن تذكر مقدار الدور لتستفيد من ذكرها.
فإذا قالت: كان دوري ثلاثين، وابتداؤه من وقت ذكَرَتْه، وقد أضلَّت حيضها فيه، فمن ضرورة الإضلال ألا تكون خالطة آخِرَ دورٍ بأولِ دورٍ؛ فإنها لو ذكرت خلطاً، فقد سبق حكم الخلط، فإذا ذكرت الضلال، تضمن هذا انحصارَ الحيض في الدور، ولا يبعد في مقتضى الضلال انطباقُ الحيض على أول الدور.
589- فإذا ذكرت مقدارَ الدور وابتداءَه، وقالت: أضللت حيضي فيه، فلا يخلو إما أن تذكر مقدار الحيض، أو لا تذكر، فإن قالت: لا أدري مقدار حيضي، فلا تستفيد مما ذكرت شيئاًً، إلا أنها لا تغتسل يوماًً وليلة من أول الدور؛ فإن الغسل إنما يجب لاحتمال الانقطاع، والانقطاع غير محتمل في اليوم الأول؛ فإنه لو فرض الانقطاع فيه، لكان من ضرورة ذلك أن تخلط، وقد ذكرت أنها كانت لا تخلط، فإذاً هي في اليوم الأول بين أن تكون طاهرة أو حائضاً، فإذا مضى يومٌ وليلة، اغتسلت لكل فريضة إلى آخر الدور.
فهذا إذا لم تذكر مقدار الحيض.
(1 وإن ذكرت مع الضلال مقدار الحيض 1) ، فقالت: أضللت حيضي، وهو خمسة في دوري، والدور ثلاثون، وهو معلوم المبتدأ، فتستفيد مما ذكرت ألا تغتسل خمسةَ أيام من أول الدور؛ فإن الانقطاع لا يحتمل فيها مع نفي الخلط، وهي بين أن تكون طاهرة أو حائضاً، كما تقدم.
ولو عينت للضلال أياماًً من دورها، فإن كان الحيض مثل نصف محل الضلال، أو أقل، فلا يحصل لها حيض معيّن، وإن كان حيضُها أكثرَ من نصف محلّ الضلال، فيثبت لها يقين حيضٍ، على ما سنصف. فإذا ذكرت أنها أضلت خمسةً في العشر الأول
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من: (ت 1) .(1/403)
من دورها، فتستفيد بهذا أنها طاهرة وراء العشر إلى آخر الدور قطعاً، ثم لا تغتسل في الخمسة الأولى، [من العشر الأولى] (1) ؛ فإن الانقطاع فيها لا يحتمل، وتغتسل في الخمسة الثانية، ولا تغتسل في بقية الدور؛ فإنها طاهرة بيقين وراء العشرة، ولا يثبت لها في العشر حيض على التعيين مستيقن.
ولو كانت حيضتها تزيد على نصف محل الضلال، فيثبت لها حيض معيّن مستيقن. مثل أن تقول: أضللت ستة في العشرة الأولى -ثم الأصل في معرفة مقدار الحيض التقديم والتأخير- فنقدم حيضها على أقصى الإمكان، فنقدر كأن حيضها منطبق على أول المحل، فينتهي الحيض على هذا التقدير إلى آخر السادس، ونؤخر الحيض أقصى ما يمكن فنقدر، كأن آخر حيضها منطبق على آخر العشر. فيقع أول الستّة في أول الخامس، فيدخل في حساب التقديم والتأخير الخامس والسادس، فهما حيضٌ بيقين؛ فإن أقصى التبعيد (2) في التقديم والتأخير ما ذكرناه، فما يندرج تحت التقديرين، فهو يقع حيضاً، لا محالة.
ثم هي مأمورة بالوضوء في الأيام المقدمة الخارجة عن حساب التأخير؛ فإن الطهر والحيض محتملٌ فيه، ولا يحتمل فيه الانقطاع، وما يقع بعد الحيض (3) مما دخل في حساب التأخير ولم يلحقه حساب التقديم، فهي مأمورة بالغسل فيه، لاحتمال الانقطاع في كل وقت من الأوقات هذه الأيام.
وقد ذكرنا في الأيام المقدمة في باب الخلط أنها مأمورة بتطبيق الصلاة في أول الوقت، وذكرنا أنها في الأيام المؤخرة مأمورة بتأخير الصلاة، على تفاصيلَ بالغنا في إيضاحها، والأيامُ المقدّمة في الضلال على يقين الحيض في تلك الأحكام التي ذكرناها كالأيام المقدمة في الخلط، والأيام المؤخرة بعد يقين الحيض في الأحكام المذكورة، كالأيام المقدمة في باب الخلط، حرفاً حرفاً.
وهذا الذي ذكرناه يجري إذا كانت في الضلال على وجهٍ يقتضي يقين حيضٍ لا محالة.
__________
(1) زيادة من: (ت 1) ، (ل) .
(2) في (ت 1) : التعيد أو التعبد.
(3) أي الحيض المستيقن في الخامس والسادس.(1/404)
590- ثم عبر الفقهاء عن مقدار يقين الحيض بعبارتين ضابطتين: إحداهما - أنا ننظر إلى المقدار الزائد من الحيض على نصف محل الضلال، فنضعّفه، ونحكم بأنه حيض بيقين من وسط المحل. وبيان ذلك أن الحيض ستة، والمحل عشرة، والستة زائدة على نصف العشرة يوم وليلة. ثم نضعِّفه، فيصير يومين وليلتين، فيكونان حيضاً من وسط المحل، ووسط العشرة الخامس والسادس. وهذا يجري في كل صورة فيها حيض بيقين في صور الضلال.
والعبارة الثانية - أنا نضعف الحيض ونقابله بالمحل، فيزيد على المحل لا محالة، فيصير قدر الزيادة حيضاً من وسط المحل، وبيان ذلك أن الستة إذا ضوعفت، فالمبلغ اثنا عشر، وهو يزيد على المحل بيومين، فهو حيض من وسط المحل، فيقاس على هذه الصورة ما في معناها. ولا معنى لتكثير الصور مع القطع بجريان ما ذكرناه واضحاً بيَّنَّاً في كل صورة.
591- فنذكر صورة أخرى للإيناس.
فلو قالت: أضللت يومين في ثلاثة أيام، فتجري الطرق المتقدّمة، ونحكم لها بالحيض في اليوم الثاني.
هذا ما يقتضي التقديم والتأخير.
وإن أجرينا العبارتين الأخريين، جرتا، فنصفُ المحلِّ يوم ونصف، والحيض يزيد على ذلك بنصف يوم، فنضعّفه فيصير يوماًً وليلة، فهو الحيض من وسط المحل. وكذلك تجري العبارة الأخرى، والأحكام في الوقت المقدّم والمؤخر على الترتيب المقدّم.
فهذا كافٍ فيما ذكرناه
592- فأما إذا ذكرت مع الضلال شيئاًً آخر، فعينت يوماًً للحيض، أو يوماًً للطهر، فنذكر في كل قسم من هذين صوراً.
فلو قالت: أضللت خمسةً في عشرة، وأعلم أني كنت حائضاً يوم الخامس، وليلته بيقين، فيحتمل أن يكون هذا آخر حيضها، بأن يقدر أول الحيض من أول(1/405)
المحل. ويحتمل أن يكون هذا أول حيضها، فينتهي إلى آخر التاسع، فيخرج اليوم العاشر عن الحسابين، فهو طهر بيقين؛ فإنه خارج عن أقصى التقديرين والحسابين؛ فآل محلُّ الضلال إلى تسعة، فكأنها قالت: أضللت خمسةً في تسعة، ولو قالت ذلك، لم يخف تخريج الصور على العبارات الثلاث المقدمة، والطرق السابقة (1) ، فيقتضي تحييضها اليوم الخامس وليلته. وهو الذي عيَّنته بذكرها.
ولو قالت: كنت يوم السابع حائضاً -وإذا ذكرنا يوماًً أردناه بليلته- فإن أخرنا، انتهى إلى آخر المحل، وانتهى (2) الأول إلى السادس. وإن قدمنا، فقدرنا السابع آخراً، كان الأولُ الثالثَ، فيخرج الأول والثاني من الحسابين جميعاً، فهي طاهرة فيهما بيقين فنخرجهما من المحل، فكأنها أضلت خمسة في ثمانية أيام، أول المحل اليوم الثالث من العشر الأول، فيقتضي ما تقدم من الطرق أن نحيّضها اليوم السادس والسابع.
ولو قالت: كنت يوم الثالث حائضاً بيقين، فنقدّم، ونقدّر أول الحيض اليومَ الأول، فينتهي الآخر إلى الخامس، وإذا أخرنا، فقدّرنا أول الحيض [اليوم] (3) الثالث، فينتهي إلى آخر السابع، فيخرج الثامن والتاسع والعاشر عن المحل، ويكون طهراً بيقين، فتكون قد أضلّت خمسة في سبعة، فنحكم بالحيض يقيناً في الثالث والرابع والخامس، على الأصول المقدمة.
593- فأما إذا ذكرت مع الضلال طهراً بيقين في يوم من المحل، فنذكر في ذلك صوراً.
فإذا قالت: أضللت خمسة في عشرة، وكنت يوم الخامس طاهرة بيقين، فهذه تَحسبُ ضلالاً، ولا ضلال؛ فإنا نعلم أن الخمسة لا تقع قبل اليوم الخامس، فهي طاهرة في الخمسة الأولى، وإذا تعينت الخمسة الأولى للطهر، تعينت الخمسة الثانية للحيض، ولا ضلال.
__________
(1) عبارة (ل) : والطرقُ السابقة تقتضي.
(2) في (ت 1) : وارتقى.
(3) زيادة من: (ت 1) ، (ل) .(1/406)
وإن قالت: أضللت أربعة في عشرة، وكنت يوم الخامس طاهرة بيقين، فالأربعة قبل الخامس تحتمل الحيض وتحتمل الطهر، ولا تحتمل الانقطاع، فهي أيام الوضوء، ثم تغتسل في آخر الرابع مرة، ثم تتوضأ من أول السادس إلى آخر التاسع؛ فإن الانقطاع غيرُ ممكنٍ فيها، وتغتسل في اليوم العاشر، لاحتمال الانقطاع في جميع ساعاته، بتقدير استئخار أوّل الحيض عن أول السادس، وانتهاء الانقطاع إلى أوقات اليوم العاشر.
ولو قالت: أضللت أربعةً في عشرة، وكنت يوم الرابع طاهرة، فهي طاهرةٌ أيضاً في [الأيام] (1) الثلاثة قبل الرابع. فنقول: قد أضلّت أربعةً في ستة، أوّلها اليوم الخامس، فتجري الطرق في [استخراج يقين الحيض كما تقدم ذكره، ولا يكاد يخفى بعد ذلك على الفَطِن] (2) استخراج (3) اليقين من أمثال هذه الصور.
فلنكتف بهذا المقدار في ذلك.
فصل
594- كنا وعدنا في المعتادة أن نذكر التي تختلف عاداتها ثم تُستحاض في آخر الناسية. وهذا أوان تفصيل القول في ذلك.
فإذا كانت تحيض من أول شهرٍ ثلاثة، ومن أول شهر خمسة، ومن أول شهر سبعة، ثم تعود إلى الثلاثة، ثم إلى الخمسة، ثم إلى السبعة، ثم تعود وأوائل الحيض منطبقة على أوائل الدور، وأواخرها مختلفة المقدار، ولكنها متسقة في الأدوار [المتعاقبة] (4) ، فإذا جاءها شهر، فاطرد الدم، فقد اختلف أئمتنا، فقال بعضهم: نردّها إذا استمرّ الدم بها إلى ما كانت عليه في الشهر الذي قبل الاستحاضة،
__________
(1) زيادة من: (ت 1) ، (ل) .
(2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، وأثبتناه من (ت 1) ، (ل) .
(3) في الأصل: استخراجها.
(4) زيادة من: (ت 1) ، (ل) .(1/407)
حتى إن كان شهر الثلاثة، فنحيّضها ثلاثة من أول الدور أبداً، ولا ننظر إلى ما كانت عليه في غيره من الأشهر.
وهؤلاء يقولون: إذا كانت عاداتها المتعاقبة مختلفة، فهي متناسخة، والأخير منها ناسخ لما تقدم.
وذهب الأكثرون إلى أنها مردودة إلى ترتيب عاداتها، وهؤلاء يقولون: تباينُ أقدارِ حيضها على الاعتقاب، والانتظام - عادة (1) محكوم بها، فإن كان الشهر المتقدم على الاستحاضة شهر الثلاثة، فنردُّها في شهر الاستحاضة إلى الخمسة، ثم إلى السبعة، ثم إلى الثلاثة، فندير عليها أدوارها في الاستحاضة، كما عهدناه قبل الاستحاضة.
وهذا الاختلاف الذي ذكرناه لا اختصاص له بقولنا: العادة تثبت بالمرة الواحدة أم لا تثبت؟ وإنما منشأ الخلاف في أن اختلاف أقدار الحيض -وإن كانت على انتظام- هل تنتظم منه عادةٌ أم لا؟ وإن حاضت أول مرة ثلاثة، ثم حاضت خمسةً في الدور الثاني، ثم سبعة في ثالث، ثم استحيضت في الرابع، فلا خلاف أنها لا ترد إلى انتظام تلك الأقدار في الأدوار، وإن قلنا تثبت العادة بالمرة الواحدة، ولكن على هذا الوجه تُردّ إلى أول الدور المتقدّم على شهر الاستحاضة.
وإن قلنا: لا تثبت العادة بالمرة الواحدة، فقد اختلف أئمتنا: فمنهم من قال: نردّها إلى أقل عاداتها؛ فإن الثلاثة موجودة في دَوْر الخمسة. والسبعة، فكأنها متكررة. ومنهم من قال: لا نردّها إلى شيء من تلك الأقدار الجارية في الأدوار، وسبيلها سبيل مبتدأة تستحاض في الدور الأول.
وقد مضى التفصيل، وقد مهدنا هذا المسلك في فصول المعتادة.
595- وكل ما ذكرناه فيه، إذا انتظمت لها أدوارٌ متفقة الأوائل مختلفة الأواخر، على اتساق ونظام، فاستحيضت وعلمت الشهر الذي تقدَّمَ الاستحاضة.
فأما إذا كانت عاداتها كما وصفناها، ولكنها قالت: لست أدري أن استحاضتي
__________
(1) خبر مبتدؤه: تباين أقدار حيضها.(1/408)
في أي نوبة كانت، ولست أعرف الشهر المتقدم على شهر الاستحاضة، فقد أشكل عليها الأمر في مقدار الحيض، وعلمت أن حيضها كان ينطبق على أوائل الشهور، وهي تعلم أن حيضها كان لا ينقص في نوبةٍ من النُّوَب على ثلاثة، وعلمت أن حيضها كان لا يزيد على سبعة.
فإن فرعنا على [أن] (1) انتظام العادات المختلفة أمرٌ مستفاد من تكرار العادات، كما سبق، فقد عسر علينا معرفة قدر الحيض في كل نوبة، ولكن سبب ذلك جهلُها بالنوبة التي استحيضت فيها.
فنقول: نقضي بما نتحقّقه، ونأمر بالاحتياط فيما لا نعلمه، فنحيّضها ثلاثة أيامٍ من أول كل دَوْر، ثم نأمرها بالاغتسال عقيب الثالث، ثم تتوضأ لكل صلاة، فِعْل المستحاضات إلى آخر الخامس، ثم تغتسل مرة أخرى، لاحتمال الانقطاع بأن نقدر النوبة للخمسة، ثم تتوضأ إلى آخر السابع، ثم تغتسل مرة ثالثة، ثم حكمها حكم الطاهرات المستحاضات إلى آخر الدور. ويحرم على هذه في السبعة من أول [الدور] (2) ما يحرم على الحُيّض، ولكن لا نأمرها بالاغتسال إلا في آخر الثالث والخامس والسابع.
وإن قلنا: لا يثبت من انتظام عاداتها حكم، وهي مردودة إلى النوبة الأخيرة المتقدمة على الاستحاضة [لو] (3) كانت ذاكرة لها، فكيف حكمها وهي جاهلة بها؟.
فنقول: قد يظن ظان في التفريع على هذا أنها تكون مردّدة (4) بين الثلاثة والخمسة والسبعة؛ فإن نوبتها كانت لا تخلو من هذه الأعداد، ثم يلزم من هذا التقدير أن نحيّضها ثلاثة أيام بيقين، ثم سبيلها في آخر الخمسة والسبعة كما تقدم إذا فرعنا على أنها تستفيد من انتظام عاداتها أمراً، فيتفق التفريعان على الوجهين عند فرض الجهالة.
وهذا الظنّ خطأٌ، وآيةُ ذلك استواء التفريع على وجهين مختلفين؛ فالوجه القطعُ
__________
(1) زيادة من: (ت 1) ، (ل) .
(2) في الأصل: الدم.
(3) في الأصل: ولو.
(4) في (ت) ، (ل) : مردودة.(1/409)
بأنا لا نديرها على الثلاثة والخمسة والسبعة، إذا كنا نردّها إلى النوبة الأخيرة لو كانت عالمةً بها؛ فإن صاحب هذا المذهب لا يلتفت إلى ما قبل النوبة الأخيرة أصلاًً، وما ظنَّه هذا الظان نتيجة الالتفات على ما مضى. فإذاً قد جهلت هذه مقدارَ حيضها، ولكنها علمت مقدارَ الدور، وانطباقَ الحيض على أول الدور، وأنها كانت لا تخلط دوراً بدور، ولا خلاف أنا نعمل بهذا، وإن التبس الأمر في المقدار؛ فإن الناسية لو قالت: كنت لا أخلط دوراً بدور، ولا أذكر غير ذلك، لكنا نبني على هذا ما يليق به من الحكم، فاختلاف المقادير لا يمنعنا من التمسك بانطباق الحيض على أوائل الأدوار.
فهذا قولنا في أصل الدور إذا علمته، والأولية.
فأما المقدار، ففيه الخلاف المقدَّم: فمن أئمتنا من قال: نحيّضها ثلاثة أيام، وهو أقل عاداتها، ومنهم من يجعلها كمبتدأة لا تعرف شيئاً. ثم القول في المبتدأة قد مضى، وهذا أَقْيس على هذا الوجه الذي نفرع عليه.
ثم قد ذكرنا في المبتدأة قولين في أنها هل تؤمر بالاحتياط إلى آخر (1) خمسة عشر يوماًً من أول [كل دور، وهما] (2) يجريان في هذه، ولا يختص الاحتياط بالسَّبع، كما نفرع على الوجه الأول في استفادة الانتظام من عاداتها؛ فإن ذلك إن قيل به، كان التفاتاً إلى ما تقدّم (3) ، وذلك يوجب التمسك بنظام العادات، ولا يكاد يخفى بعد وضوح هذه التفاريع أن الأصح استفادةُ الانتظام كما تقدم.
596- وكل ما ذكرناه في العادة المنتظمة. فأما إذا كان أقدار الحيض منضبطة، فكانت ثلاثة وخمسة وسبعة. ولكن لم تكن عوداتها منتظمة، فمرّة كانت تحيض ثلاثة ثم خمسة ثم سبعة، وأخرى كانت تحيض خمسة ثم ثلاثة ثم سبعة، لا على أمرٍ منظوم يتعلّق [الفقه] (4) به، فإذا استحيضت وطبق الدم، فإن رأينا في الصورة
__________
(1) في (ت) ، (ل) : انقضاء.
(2) في الأصل: من أول دورهما. وهو تحريف واضطراب ظاهر.
(3) في (ت 1) : التفاتاً على ما نقدّمه.
(4) في الأصل، (ت 1) : الرقبة.(1/410)
الأولى، وهي إذا انتظمت العادات أن نردها إلى النوبة الأخيرة، فهذه الصورة أولى بذلك.
فإن قلنا في الصورة الأولى بالاستمساك في ترتيب عودات الحيض، فهاهنا لا ترتيب في [العود] (1) ولكن الأقدار مضبوطة، فلا زيادة على السبعة، ولا نقصان من الثلاثة، والمتوسطة بين الثلاثة والسبعة خمسة، فإذا استحيضت، والتفريع على استفادة ما يمكن استفادته، فالقول فيها كالقول في التي جهلت النوبةَ المتقدمة على الاستحاضة، وكانت عاداتها منتظمة القدر والعود، ولكنها إذا جهلت، لم تنتفع بما كان من انتظام العود، فعدمُ انتظام العود في الصورة الأخيرة كجهلها بالانتظام الذي كان، فتتحيّض ثلاثة، وتغتسل، ثم تتوضأ لكل صلاة، وتغتسل بعد انقضاء الخمسة، ثم تتوضأ إلى آخر السابع، ثم تغتسل، ثم هي مستحاضة إلى آخر الدور.
فهذا منتهى غرضنا في اختلاف العادات، وإن زاد زائدٌ صوراً، لم يخف على الفَطن وجهُ استخراجها، مما ذكرناه الآن من الأصول المتقدمة في أبواب الناسية.
***
__________
(1) في الأصل: في الحيض.(1/411)
باب التلفيق
597- هذا مما يُعدّ من غوامض أبواب الكتاب (1) وهو [أصل] (2) مستفتح، فلا بدّ من الاعتبار بدرك أصله.
والقول فيه يتعلق بنوعين:
أحدهما - فيه إذا [تقطَّعَ] (3) النقاء والدم، وجرى ذلك في مدة لو طبّق الدمُ فيها، لكان حيضاً، ثم ترى بعد ذلك نقاءً مطرداً خمسةَ عشرَ يوماًً فصاعداً.
والأخرى - أن يجري التقطّع ويزيد أمدُه: دماًً ونقاءً على الخمسةَ عشَر، وقد يطّرد ذلك في جميع الأيام.
598- فأما إذا وقع التقطع في الخمسةَ عشرَ، ورأت بعد ذلك طهراً كاملاً متواصلاً، فنستوعب قواعدَ المذهب في ذلك إن شاء الله، ونسميه التلفيق في غير المستحاضة.
فإذا كانت ترى دماًً يوماًً وليلة، ونقاءً يوماًً وليلة، ثم دماً، كما ذكرناه إلى الخمسةَ عشرَ مثلاً، أو إلى مدة أقلَّ منها، فما حكم النقاء المتخلل بين الدماء؟ فعلى قولين: أحدهما - وهو الذي نص عليه في عدة مواضع أن النقاء حيض، وحكمها فيه حكمُ الحيض. وهذا مذهب أبي حنيفة (4) .
والثاني - أنّ حكمها في زمان النقاء حكم الطاهرات في الصلاة والصوم، وحِلِّ المواقعة وغيرها.
__________
(1) المراد كتاب الحيض.
(2) زيادة من: (ت 1) ، (ل) .
(3) في الأصل: انقطع، والمثبت من: ت 1.
(4) ر. المبسوط: 3/154، الهداية مع فتح القدير: 1/152، حاشية ابن عابدين: 1/192.(1/412)
وقيل: ذكر الشافعي هذا القولَ في مناظرةٍ جرت له مع محمد بن الحسن.
توجيه القولين: من قال: حكمُ النقاء الناقص عن أقل الطهر المحتوش بدمين هما حيض - أنه (1) حيضٌ. قال: إذا نقص عن الأقل، وأحاط به دمان هما حيض، حُمل النقاءُ على الفترات التي تقع في خلال استرسال الحيض؛ فإن الحيض لا يسيل سيلاناً متصلاً، بل يخرج دُفعة دُفعة، كما دلّ عليه بعضُ الأحاديث المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والذي يعضد ما ذكرناه أنّ الدم الناقص عن أقل الحيض دمُ فسادٍ، وحكمه حكم الطهر. والنقاءُ الناقص عن الأقل حكمه حكم فترات الحيض.
ومن قال: حكمها في زمان النقاء حكمُ الطاهرات، استدلّ بأنها نقية حسّاً، طاهرةٌ قطعاًً، والنقاء مجاوزٌ لأزمنة الفترات في العادات، فثباتُ الحيض ولا حيضَ بعيدٌ.
التفريع على القولين:
599- إن قلنا: حكم النقاء حكمُ الحيض، فهذا يسمى ترك التلفيق، فإن رأت يوماًً وليلة دماًً [ومثله نقاءً] (2) ثم مثله دماًً، ثم مثله نقاءً، ثم هكذا، حتى انقطع على الخمسةَ عشرَ، ولم يجاوز، فالكل حيضٌ.
ولو رأت يوماًً وليلةً دماًً [وثلاثة عشر يوماًً نقاءً، ويوماًً وليلة دماًً] (3) ثم طهراً كاملاً، فهي حائض في الخمسةَ عشرَ يوماً، وإن كانت نقيةً في ثلاثة عشر يوماً.
ثم اختلف الأئمة في تفصيل مقدار ما تراه من الدماء: فقال بعضُهم: إنّما يكون النقاء الواقع بين الدَّمين حيضاً، إذا كان كلُّ واحدٍ منهما بالغاً أقلَّ الحيض، فإن نقصا أو نقص أحدهما عن الأقل، فلا يكون النقاء حيضاً، وهذا الوجه مزيَّفٌ.
وقال أبو بكر المحمودي (4) : ينبغي أن يبلغ الدّمان إذا جمع أحدهما إلى الثاني
__________
(1) " أنه حيض " في محل رفع خبر للمبتدأ " حكمُ النقاء الناقص ... ".
(2) زيادة من: (ت 1) ، (ل) .
(3) زيادة من: (ت 1) ، (ل) .
(4) أبو بكر المحمودي: محمد بن محمود، أبو بكر المحمودي، المروزي، مذكور في الوسيط في باب الحيض، وتكرر في الروضة، ولا ذكر له في المهذب، ونقل عنه الرافعي في مواضع، منها في الحيض، في الكلام على قولي اللقط، والسحب، أخذ عن الإِمام الحافظ الزاهد، =(1/413)
أقل الحيض. مثل أن ترى اثنتي عشرة ساعةً دماً، ثم نقاءً إلى الخامس عشر إلا اثنتي عشرة ساعة. ثم ترى في هذه الساعات الباقية دماًً، فالدمان وما بينهما من النقاء حيضٌ.
وإن نقص مجموع الدمين عن يوم وليلة، فليس النقاء حيضاً، وما رأته من الدم دمُ فساد، لقصوره عن الأقل. ثم من مذهبه أن اليومَ والليلة لو انقطع على الخمسةَ عشرَ، وكان مجموعهما بالغاً أقل الحيض واقعاً في الخمسة عشرَ يوماًً، فالنقاء حيضٌ، ولا يشترط أن يكون كل دمين بينهما نقاء بالغين (1) أقل الحيض، بل يعتبر ما قاله في جملة الدماء الواقعة في الخمسةَ عشرَ.
وقال أبو القاسم الأنماطي: لو رأت لحظةً دماً، ثم امتد النقاء إلى آخر الخامس عشر إلا لحظة، ثم رأت فيها دماًً، ثم امتدّ الطهرُ، فالخمسة عشر كلها حيض، وإن نقص ما رأته من الدماء عن الأقل. وهذا سرفٌ ومجاوزةُ حدّ. وأعدل الوجوه ما ذكره أبو بكر المحمودي.
600- ومن أهم ما يفرّع على هذا القول: أن المرأة إذا رأت دماًً ثم نقاءً، فبماذا تؤمر، على قول ترك التلفيق في [الحال] (2) إلى أن يعود الدم أو لا يعود؟
قال أئمة المذهب: إن كان ما رأته من الدم أقلَّ من يومٍ وليلةٍ، فلا نأمرها بالاغتسال؛ فإن الدم إن لم يعد، فالذي انقطع دمُ فسادٍ، ولا غسل فيه. وإن فرض عودُه في الخمسةَ عشرةَ، فذلك النقاء حيضٌ في بعض الوجوه المتقدّمة، وليس على المرأة غسلٌ في استمرار الحيض.
فأما إذا كان ما رأته من الدم المتَّصل بالغاً أقل الحيض، فإذا انقطع، وجب
__________
= أبي محمد المروزي المعروف بعبدان (بفتح العين، وبسكون الموحدة، تثنية عَبْد) تلميذ المزني والربيع، قال الإِسنوي: لم أقف له على تاريخ وفاة، ولكن ذكره العبادي في طبقة الإصطخري، وأبي علي الثقفي. (ر. طبقات السبكي: 3/225، والإِسنوي: 2/376، وتهذيب الأسماء 2/196، طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة: 1/119، والعبادي: 65) .
(1) في (ت 1) : بالغاً.
(2) في الأصل: المآل، والمثبت من: ت 1، ومن مختصر النهاية، (ل) .(1/414)
الغُسل؛ فإنّ الذي رأته حيض، وقد انقطع ظاهراً، فإن قيل: ربما يعود الدم في الخمسةَ عشر، فنتبين على القول الذي نفرع عليه أنها اغتسلت في أثناء الحيض.
قلنا: الحكم ينبني على الانقطاع المحسوس، لا على توقُّع العودِ. وهذا متفق عليه في هذه الصورة. ثم ينبني على ذلك إثبات أحكام الطاهرات لها زمانَ النقاء، في الصوم والصلاة، وحلّ الوطء، وغيرها.
فإن عاد الدمُ، نتبين بالأَخَرَة وقوعَ ما قدمناه في الحيض، ثم لا يخفى حكمُها، وسبيل تدارك ما يُتدارك منها.
601- فلو عاد الدم، ثم انقطع على الترتيب الذي عهدناه، فهذا مما تخبط فيه كلامُ المصنفين في كتاب الحيض. وأنا أذكر فيه وجهَ السداد، وطرقَ الاحتمال.
فالذي وجب القطع به أن ما ينقطع في النوبة الأولى في الخمسةَ عشرَ لا يعدّ في حكم المتكرر، حتى يُبنى عليه الكلام المعروف في أن العادة تثبت بالمتكرر، وفي ثبوتها بالمرَّة الواحدة الخلاف. بل نقول: كما (1) أمرناها بالغسل لما انقطع الدم، ثم أمرنا بتدارك ما مضى -كما تقدم- فإذا انقطع الدم ثانياً، نأمرها بالاغتسال، فقد لا يعود الدم.
ثم إن عاد في الخمسةَ عشرَ، فيتدارك كما تقدم.
وكذلك الانقطاع الثالث والرابع في نوبة واحدة؛ فإن الحكم بعَوْد الدم وبناء الأمر عليه بعيدٌ في النوبة الواحدة من الحيض، فإذا انقطع الدم على الخمسةَ عشرَ، وامتدّ طهرٌ كامل، ثم عاد الدم على [سجيّة] (2) التقطع في الدور الثاني، وكذلك في الدور الثالث مثلاً، فهذا موضع تردّدِ الأصحاب.
فذهب ذاهبون إلى أنّ هذا يخرَّج الآن على الأصل الممهّد في أنّ العادة هل تثبت بالمرة الواحدة أم لا؟ فإن قلنا: لا تثبت، فالحكم في الدور الثاني كالحكم في الدور
__________
(1) كما أمرناها: الكاف هنا للتشبيه، كما هو معروف، والمعنى: " مثلما أمرناها ... فإذا انقطع الدم ثانياً نأمرها.... ".
فـ (كما) هنا ليست من الاستعمالات الخاصة بالخراسانيين التى أشرنا إِليها سابقاً.
(2) في الأصل: نتيجة، والمثبت من (ت 1) ، (ل) .(1/415)
الأول. وإن حكمنا بأن العادة تثبت بالمرة الواحدة فقد تمهّد [التقطع] (1) في الدور الأوّل، ونحن نفرع على ترك التلفيق، فالنقاء حيض، ولا يوجب الغسل، ولا تثبت أحكام الطهر بناءً على ما عهدناه أول مرّة، ثم من يسلك هذا المسلك، يقطع بأن الأمرَ في الدور الثالث يُخرّج متفقاً عليه؛ فإن التقطع قد ثبت مرتين، ولم يبن وجهٌ في الخلاف. فهذا مسلكٌ.
ومن أئمتنا من قال: لو تكرر التقطع مراراً كثيرة، فالحكم في الكرّة الأخيرة كالحكم في الكرة الأولى.
وهذا القائل يقول: ليس التقطع مما يثبت على اعتياب، ولا خلاف بين فرق الأصحاب أن الدمَ إذا انقطع مراراً في أدوارٍ، ثم استحيضت المرأةُ، وطبَّق الدمُ من غير تقطّعٍ، فلا نحكم على قول التلفيق بتقطيع (2) الحيض في [زمن] (3) الاستحاضة، حتى تلقط حيضاً من الخمسة عشر، كما سيأتي ذلك. ونحكم بتخلل دم الاستحاضة في أثناء الحيض، على قولنا بالتلفيق. فإذاً كل دورٍ في التقطع يقدّر كأنه ابتداء التقطع.
والسبب فيه أنه إذا انقطع الدم عيناً، فبناء الأمر على عَوْد الدم بعيدٌ. نعم، إن عاد، فاستدراك ما مضى على ما يقتضيه الشرع لا يبعد.
فهذا ما ثبت عندي من كلام الأصحاب.
602- وذكر شيخي أن الدم إذا انقطع في الدور الأول، فيجري فيه التردّد، حتى إذا انقطع أولاً، فليس إلا الأمر بالغُسل، ثم الاستدراك، كما مضى. فإذا انقطع ثانياً، فقد تكرر الآن الانقطاع، فيندرج بالثاني الانقطاعُ الأول في العدد؛ فنحكم بالتكرر.
وهذا بعيد، لم أره لغيره؛ فإن الحكم بالتكرر في نوبة واحدة محال، وقد ينقص الحيض ويقتصر على مقدار (4) ، فبناء الأمر على تقدير العود لا وجه له. نعم، إذا بان
__________
(1) زيادة من: (ت 1) ، (ل) .
(2) في (ت 1) : بتقطع.
(3) في الأصل: فنّ. والمثبت تقديرٌ منا. أما عبارة ت 1، فهي: في الاستحاضة. ومثلها (ل) .
(4) كذا، ولعل في العبارة خرماً، والتقدير: على مقدار يومٍ وليلة.(1/416)
ذلك في نوبةٍ، ثم بدا مثلُه في نوبةٍ، فقد يتخيل ذلك.
ثم ما ذكره شيخي فيه إذا كانت لها عادة في مقدار الحيض، فكانت تحيض خمسة أيام متوالية، ثم جرى من التقطع ما وصفناه، فيحتمل ارتقابُ العَوْد إلى استيفاء ما كانت تراه، فأمّا المبتدأةُ إذا انقطع دمُها في أول نوبة، فلا يخطُر لمحصّل بناء الأمر على العود في النوبة الأولى أصلاًً.
603- وأنا الآن أجمع في التكرر والاتحاد في قواعد الحيض كلاماً يحوي المقصودَ. وأشير إلى موضع الخلاف والوفاق.
فأقول: ما يرجع إلى مقدار الحيض زيادةً ونقصاناً، فيجري فيه أن العادةَ هل تثبت بالمرة الواحدة أم لا؟، كما سبق تقريره، [وهذا] (1) مع ملازمة الحيض أول الدّور، والحكم بالاستحاضة يثبت بدورٍ واحد، وجهاً واحداً؛ فإن الدم إذا طبَّق وزاد على خمسةَ عشرَ يوماًً، فقد أمرناها بالتربص إلى الخمسةَ عشرَ، ثم زاد الدم، فنردّها إلى العادة، وفي [الدور] (2) الثاني لا نأمرها بالتربص، فإذاً الاستحاضةُ تثبت بدورٍ واحد. وكان من الممكن أن تؤمر بالتربص مرتين عند من لا يُثبت العادة بالمرة الواحدة، ولكنّ الأمرَ مجمع عليه، كما حكيناه. والسبب فيه أنا استيقنّا أنها مستحاضة في الدور الأول، والاستحاضة من العلل التي إذا وقعت، دامت وتمادَت، فيحصل لها بالمرّة الواحدة ظنٌّ غالب في استمرار الدم.
فأما زيادة الحيض ونقصانه، فعادات النسوة في ذلك تضطرب (3) ، ولا يُستبعد توقع الاختلاف فيه، فإن استظهر مستظهر بالتكرر، كان حسناً، وكان سببه ما ذكرناه: أن الحيض فضلة تنفضُها الطبيعة كسائر الفضلات، وقد تختلف الحالات، فتختلف لها أقدار الفضلات، ولكنا لا نتعدى ما حُدَّ لنا في الأكثر والأقل.
والاستحاضة دم عرق ينفطر، أو ينقطع، وهو مزمنٌ إذا وقع.
__________
(1) زيادة من: (ت 1) ، (ل) .
(2) في الأصل: القدر.
(3) في الأصل: مضطرب.(1/417)
قال القفال: لو كانت امرأة تحيض خمسةً، وتطهر خمسة وعشرين يوماً، فرأت خمستها، وانقطع الحيضُ عشر سنين مثلاً، ثم طبَّق الدم، فلا يجوز أن يقال: نردّها إلى (1) مقدار الطهر عشر سنين، إذا فرعنا على الوجه الأصح، وهو أن العادة تثبت بالمرة الواحدة. فإذا لم يسغ هذا، فالسنة (2) الواحدة في معنى عشر سنين فصاعداً، [فما] (3) المنتهى المعتبر في ذلك؟
قال: راجعتُ في ذلك مشايخي، فلم يذكروا ضابطاً، ثم قال: والوجه عندي أن يقال: غايةُ طول الدور تسعون يوماً، الحيض منها ما يتفق، والباقي طهر. واعتبر في ذلك أنّ الشرع جعل عدة الآيسة ثلاثة أشهر، فكانت أقربَ معتبر. فلو كانت تحيض خمسة وتطهر خمسة وعشرين، فحاضت خمسةً، وطهرت خمسة وثمانين، ثم طبق الدم، فتجعل طهرها خمسةً وثمانين، ودورها تسعين. وإن حاضت خمسةً، وطهرت تسعين، فلا يعتبر هذا في الاستحاضة، ولكن نردها إلى الخمسة والعشرين التي كانت تطهر فيها قديماًً.
فإن قيل: هلاّ قلتم: نردُّها إلى خمسة وثمانين، ونطرح الزيادة؟ قلنا: إذا تناهى تباعدُ الحيض، فسبب الاحتباس علة أخرجت الطبيعةَ عن الاعتدال، وجميع أمد التباعد محمول على هذا، فلا نعتبره، ونرجع إلى العادة القديمة.
ولا مزيد على ما ذكره القفال.
ولكن لو تكرر طهرها سنة [سنة] (4) مرتين أو مراراً، ففي ردّها إلى ما تكرر احتمالٌ، والظاهر عندي أنه لا تبالي به وإن تكرر. والله أعلم.
وأما مفارقة الدم أول الدور، فإن انضم إليه زيادةُ الطهر، فهو مما يُبنى على الخلاف في المرّة والمرتين.
وإن استأخر مدةً، ثم عاد قدرُ الطهر كما كان، فالنظر عند المحققين إلى المقدار.
__________
(1) في (ت 1) ، (ل) : في مقدار الطهر إِلى عشر سنين.
(2) عبارة (ت 1) : فالنسبة الواحدة في معنى فصاعداً....
(3) في الأصل: في المنتهى.
(4) مزيدة من (ت 1) .(1/418)
وقد اختبط في ذلك المروزي، كما سبق.
وأما تقطّع الدم، فهل يُتلقى أمره من [التكرر] (1) في نوبة أو نوبٍ؟، فيه من التفصيل ما ذكرته الآن. ولا خلاف أنه لو تكرر التقطع في مائة نوبة، ثم اطَّرد الدم واستُحيضت، فلا نلتفت إلى قول التلفيق -وإن كنا نرى القولَ بالتلفيق- حتى لو كنا على قول التلفيق نلقط خمسة أيام من خمسةَ عشرَ يوماًً، ثم طبق الدمُ، فنحيّضها خمسة وِلاءً من أول الدم المطبق، هكذا قال الأئمة. وفيه للاحتمال أدنى (2) مجال.
فهذا مجموع ما يتفرق في أصول الحيض في هذا الفن جمعناه، [لينْظر] (3) الناظر فيه مجموعاً.
604- ثم إذا كنا نجعل النقاء بين الدّمين حيضاً، فلا شك أنا نشترط وقوع الدمين في الخمسة عشر. فلو رأت يوماًً [وليلة] (4) دماًً، وأربعة عشر نقاءً، ثم يوماًً وليلةً دماًً، فالدم الثاني استحاضة لوقوعه وراء زمان الإمكان، ثم يكون النقاء طهراً أيضاً؛ فإنه غيرُ محتوشٍ بدَمين هما حيض، وسنبيّن هذا في أحكام التلفيق في المستحاضات. إن شاء الله عز وجل.
فأما إذا فرَّعنا على التلفيق، وحكمنا بأن النقاء بين الدَّمين طهر، فإن رأت يوماًً وليلةً دماًً ومثلَه نقاء، ثم يوماًً وليلةً دماً، فالدمان حيضٌ. ولو كان مجموع الدماء في الخمسةَ عشرَ ينقص عن أقل الحيض، فالكل دم فسادٍ، لا شك فيه، فإنّا نُفرّع على أن النقاء طهرٌ. ومن اكتفى بلحظتين في الدم في الخمسةَ عشرَ على قول [ترك] (5) التلفيق يعتمد أنّ النقاء حيض، فيضمه إلى الدم. وهذا لا يتصوّر في قول اللقط والتلفيق، على أنّ ذلك الوجه في قول ترك التلفيق ضعيفٌ جدّاً كما مضى.
__________
(1) في الأصل: التكرير. والمثبت من: (ت 1) ، (ل) .
(2) كذا، وقد يبدو للوهلة الأولى أن في العبارة خللاً، ولكنها صحيحة، وواردة كثيراً في كلام الإِمام.
(3) في الأصل: ولينظر.
(4) مزيدة من: (ت 1) ، (ل) .
(5) مزيدة من: (ت 1) . ولا يستقيم الكلام بدونها. ووجدناها في (ل) .(1/419)
فأمّا إذا كان مجموع الدماء في الخمسةَ عشرَ يبلغ أقلّ الحيض [ولكن كل دمٍ في نفسه لا يبلغ أقلَّ الحيض] (1) . فالمذهب الصحيح أنها حيض؛ فإن أقل الطهر خمسة عشر يوماً، ثم على قول التلفيق: ينقطع الطهر على الحيض، ولا يبعد أن ينقطع الحيض على الطهر أيضاً.
ومن أصحابنا من قال: الدم الناقص ليس بحيض؛ لأنه ينضم إلى قلّته انقطاعه عما قبله وبعده بالنقاء الذي يتخلّل. والدم ينقسم إلى ما هو حيض، وإلى ما ليس بحيض. فأما (2) صورة النقاء، وهو عدم الدّم، فمهما (3) تحقق، بَعُدَ معه الحكم بالحيض. والمذهب الأول.
فإن رأت يوماًً وليلةً دماًً وانقطع، والتفريع على التلفيق، فلا شك أنها تغتسل، وحكمها حكم الطاهرات. وإن رأت دماً ناقصاً عن الأقل، وانقطع، فإن لم نجعل ما رأت حيضاً، فلا غسل، ولكنها تتوضأ وحكمها حكم الطاهرات.
وإن فرعنا على المذهب الصحيح، وقلنا: هو حيضٌ إذا عاد في الخمسةَ عشرَ ما يُكمّله، فعلى هذا لا ندري أيعود أم لا، ولو لم يعد، لما وجب الغسل، فكيف الحكم؟
من أصحابنا من قال: لا نوجب الغُسلَ في الانقطاع الأول؛ [فإنا] (4) لا ندري أنّ المنقطع حيضٌ أم لا، وإيجاب الغسل من غير ثَبَت يُخالف موضوع الطهارات.
ومنهم من قال: نوجب الغسل احتياطاً؛ فإنا أوجبنا الغسلَ على الناسية المستحاضة، لاحتمال انقطاع الحيض من غير قطعٍ، وهذا الاختلاف يقرب من القولين في أن الناسيةَ هل تؤمر بالاحتياط أم لا؟.
هذا ما أردنا في ذلك.
ولعل الأمر بالاغتسال يتجه؛ فإنّ ما رأته في زمان إمكان الحيض، ونفس الانقطاع
__________
(1) ساقط من الأصل، وزدناه من: (ت 1) ، (ل) .
(2) في (ت 1) : قلنا صورة النقاء.
(3) "مهما": بمعنى (إذا) .
(4) في الأصل: قلنا لا تدري.(1/420)
لا يخرجه عن كونه حيضاً، حتى تخلو الخمسةَ عشرَ، عن تتمة يوم وليلة.
605- ومما يتم به التفريع أن الحيض لا يسيل سيلاناً في الغالب، بل يخرج دُفَعاً، والفترة بين الدفعتين حيضٌ قولاً واحداً، ولم يذكر الأصحاب في تمييز الفترة عن النقاء -الذي يقع في القولين- ضبطاً. ومنتهى المذكور فيه أن ما يُعتاد تخلله بين الدُّفع، فهو من الفترات الملحقة بالحيض. وما يزيد على المعتاد [و] (1) يكون أكثر منه، [فهو] (2) على القولين. ثم جميع النقاء في القولين لا شك فيه، قدر الفترة من أول النقاء الكثير لا يستثنى من القولين، ويلحق بالحيض، وهذا لا خفاء به. ولكن قد ينتفع بذكره المبتدىء (3) .
606- وأنا أقول: أقرب مسلكٍ في التقريب الفاصل بين الفترة وبين (4) النقاء الذي يلفّق على أحد القولين أن يقال: الحيض يجتمع في الرحم، ثم الرحم يقطّره شيئاً شيئاًً؛ فإنه ليس الرحم منتكساً في الخلقة، حتى يسيل ما فيه دُفعة واحدة، فالفترةُ ما بين ظهور دُفعة إلى أن تنتهي أخرى من الرحم إلى المنفذ، والنقاء الذي في القولين يزيد على ما ذكرناه، حتى كان الطبيعة في مدة النقاء تجمع دماًً آخر في الرحم، ثم يزجيه الرحم على سجية التقطير والدُّفع.
فهذا أقصى الإمكان في ذلك، وقد تم تمهيد المذهب في تقطع الدم من غير استحاضة، ومجاوزة الخمسةَ عشرَ.
ونحن الآن نبتدىء تفصيل القول في التقطع مع مجاوزة الأكثر وثبوت حكم الاستحاضة. ونرى أن نبتدىء بالمعتادة.
***
__________
(1) زيادة من (ل) .
(2) في الأصل: فيكون.
(3) (ت 1) : المبتني.
(4) هكذا يكرر بين مع إِضافتها للظاهر، والمشهور من قواعد اللغة أنها لا تكرر إِلا مع الضمير.
ولكن جاء في النحو الوافي لأستاذنا الجليل المرحوم عباس حسن: أنه يجوز تكرارها، إِذا كان المعطوف ظاهراً (النحو الوافي: 2/268. هامش رقم 1. الطبعة الثالثة) .(1/421)
باب المعتادة في التلفيق
607- إذا كانت المرأة تحيض خمسة أيام وِلاءً، وتطهر خمسةً وعشرين يوماً، فجاءها شهر، فرأت يوماًً وليلةً دماًً، ومثلَه نقاءً، ثم استمر ذلك في جميع الدَّور، فهي مستحاضة وفاقاًً. ولم يصر أحدٌ من أئمتنا (1) إلى تحييضها في جميع أيّام الدم على قول التلفيق لقطاً من جميع الدور، وإن لم تزد الدماء على الأكثر، فمن يلفّق لا يرى الالتقاط إلا من الخمسةَ عشرَ. وهذا يقوي تركَ التلفيق، والمصيرَ إلى أنّ حكم النقاء حكم الحيض.
فإذا وضح هذا متفقاً عليه، فنقول: إذا تقطّع الدم على ما وصفناه، فإن قلنا بترْك التلفيق، فنحيّضها في الخمسة (2) من أوّل الدّور وِلاءً (3) ؛ فإن اليوم الأوّل دمٌ، والثالث والخامس دمْ، والنقاء المتخلل حكمه حكم الحيض.
وإن فرّعنا على قول التلفيق، فقد كانت حيضتُها قديماًً منحصرة في الخمسة الأولى [وهي لا ترى في الخمسة الأولى] (4) الدمَ إلا في ثلاثة أيام، ففي المذهب على قول التلفيق وجهان مشهوران: أحدهما - أنه لا تتجاوز أيام عادتها، وتلقط ما ترى فيها، وما يزيد على أيام العادة (5) استحاضة.
والوجه الثاني -وهو الصحيح- أنا نعتبر عددَ أيام حيضتها قديماً، ولا نبالي أن
__________
(1) في (ت 1) ، (ل) : العلماء
(2) في الأصل: في الخمسة عشرَ. وهو خلاف السياق.
(3) ولاءً بالكسر: متتابعة. والذي يجري على الألسنة بالفتح، ولكنها تكون بمعنى المِلْك، والنصرة، والقرابة، والقرب، والمحبة (المختار والمعجم) .
(4) ساقطة من الأصل، وزدناها من (ت 1) وعبارة (ل) : ونحن لا نصادف -مع التقطع الذي وصفناه في الخمسة الأولى- الدم إِلا في ثلاثة أيام.
(5) في (ت 1) : عادتها(1/422)
نجاوز أيام العادة، فنلقط من الخمسة عشر إلى استيفاء أيامها إن أمكن، ولا نجاوز الخمسةَ عشرَ قط. كما تقدم؛ فإن رعايةَ مقدار الحيض أولى من ملازمة زمانٍ.
ومَن حصرَ اللقط في الخمسة، فإنما يحمله على ذلك ملازمةُ الزمان.
وهذا يضاهي مذهبَ أبي إسحاق المروزي في [ملازمة] (1) أوائل الأدوار، كما سبق بيانُه، والردُّ على من يصير إليه فيما تقدم.
فإن قلنا: لا تجاوز في التلفيق أيامَ العادة، فقد نقص حيضُها، وعاد إلى ثلاثةِ أيام: الأوّل، والثالث، والخامس. وإن جاوزنا أيام العادة، فنقول: لم ينقص مقدارُ حيضها [ولكن] (2) تفرق، وكان وِلاءً، فتُحيّضُ المرأة في اليوم الأول، والثالث، والخامس، والسابع، والتاسع، وقد تمّ المقدار. ومما ينبغي أن ننُبه له -وإن مضى مقرراً في مواضع- أن من لا يرى مجاوزةَ أيام العادة، فإنه يقتصر على اللَّقْط من الخمسة، كما سبق إذا تحققت الاستحاضة في الدور الثاني، فأما في الدور الأول، فإنه يأمرها بالتحيّض في جملة أيام الدم الواقعة في الخمسةَ عشرَ؛ فإنه لو انقطع الدم، ولم يزد على الخمسةَ عشرَ، فجميع أيام الدم حيضٌ، وإن زاد على خمستها القديمة. وهذا بيّن.
ثم إذا زاد على زمان الأكثر، فتستدرك على القاعدة المقدمة.
608- ولو كانت تحيض خمسةً، كما فرضنا، فتقطّع الدمُ، فرأت يومين دماًً ويومين (3) نقاءً، واستمر الأمر على هذه الجملة. فإن قلنا بترك التلفيق، فإنا نحيّضُها خمسةَ أيام وِلاءً كما تقدم، وإن قلتا بالتلفيق، ولم (4) نجاوز أيام عادتها، فنحيّضُها اليومين الأوّلين، ونحيّضها في اليوم الخامس. وهذا منتهى حيضها.
وذكر بعض أصحابنا وجهاً ضعيفاً: أنَّا لا نحيّضُها اليومَ الخامس أيضاًً؛ فإنها في
__________
(1) زيادة من (ت 1) ، (ل) .
(2) في الأصل: بل.
(3) في ت 1: ويوماً. وهو خلاف الغرض المفهوم من عرض المسألة.
(4) في ت 1: فإن لم تجاوز.(1/423)
السادس مستحاضة، فقد اتصل الخامس بدم ضعيف، (1 فضعف واكتسب حكمه. وهذا قد ردّدَه الأصحاب في التفريعات 1) .
وهذا غلط عندي مطَّرح غيرُ معتدّ به، ولكنا نذكره لنقل ما قيل.
وإن رأينا مجاوزة أيام العادة، فنحيّضها في الأول والثاني والخامس والسادس، ونحيّضها في اليوم التاسع على المذهب.
ومن الأصحاب من لا يحيّض في التاسع لاتصاله بالعاشر، وهو استحاضة، وهذا ليس بشيء؛ فيعود حيضُها إلى أربعة على وجه المجاوزة، وإلى اثنين على الانحصار في أيام العادة.
609- ولو كانت تحيض خمسةً وتطهر خمسة وعشرين يوماًً، فتقطع الدم، وكانت ترى يومين دماًً وأربعة نقاءً، ويومين دماً، ثم استمر على هذا الترتيب. فإن قلنا بترك التلفيق، فنحيّضها اليومين من أول الدور فحسب، فإن النقاء بعدهما غيرُ محتوش بحيضين، وهذا ظاهر.
وإن فرّعنا على التلفيق، فنخرّجه على ما تقدم من ظاهر المذهب، والوجه البعيد، فإن لم نجاوز أيامَ العادة. حيَّضناها في اليومين الأولين، واستوى التفريع على ترك التلفيق. وعلى القول بالتلفيق، وإن رأينا على المذهب مجاوزةَ أيام العادة، فنحيّضها في اليوم الأول، والثاني، والسابع، والثامن، وفي الثالث عشر على (2) المذهب، دون الوجه البعيد. فالمذهب أنّا نُحيّضها فيه على وجه مجاوزة العادة. وقيل: لا نحيّضها؛ لاتصال الثالث عشر بالرابع عشر، وهو استحاضة.
610- ولو كانت تحيض يوماًً وليلة، وتطهر تسعة وعشرين يوماً، ثم تقطع دمُها، فرأت يوماًً دماً، وليلة نقاءً، وهكذا، ثم استمرّ ذلك، فقد نقص مقدار الدم عن أقل الحيض.
فإن فرعنا على ترك التلفيق، ففي هذه الصورة إشكال؛ فإنّ مجاوزة وقت العادة على ترك التلفيق محال، وما رأته من الدم ناقصٌ عن الأقل، وقد اضطرب الأئمة في
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 1) .
(2) في (ت 1) : في.(1/424)
هذه الصورة إذا فرعنا على ترك التلفيق، فقال أبو إسحاق: لا حيض لها على قول ترك التلفيق في هذه الصورة، فإنّ تحييضَها يوماًً محال، وتحييضُها الليلة مع اليوم وليست محفوفة بحيْضَيْن محال، ومجاوزة أيام العادة على القول بترك التلفيق لا سبيل إليه.
وقال أبو بكر المحمودي: هذه الصورة يلزم القول فيها بالتلفيق، وإن فرعنا على ترك التلفيق في الجملة؛ فإنه يبعد أن يقال: لا حيض لها، وهي ترى الدمَ في سنّ الحيض، على صفة دم الحيض شطر عمرها؛ فإذاً لا نقول بالتلفيق إلا في أمثال الصور التي ذكرناها. وقد يقع التفريع من قولٍ في قولٍ لضرورة داعيةٍ، [ولمثل] (1) ذلك يسلم صاحبُ مذهبٍ إثباتاً، وإن كان أصله النفي لصاحب مذهب الإثبات، ويسلم صاحب الإثبات النفيَ في بعض الصور لصاحب النفي.
وقال الإمام (2) : والذي ينقدح وجه آخر عندي سوى ما ذكرناه، وهو أن نحيّضها في اليوم وفي ليلة النقاء، وفي يوم الدم الذي [بعدها] (3) ، وفي ذلك ازدياد (4) حيضها. ويقع النقاء بين حيضين، [وهو أمثل من العود إلى التلفيق] (5) ، ومِنْ رفع الحيض بالكلية، وليست زيادة الحيض مستنكرة في تغاير الأدوار، فهذا إذا فرّعنا على ترك التلفيق.
__________
(1) في الأصل: وبمثل.
(2) لقد أغرب المؤلف رضي الله عنه بلقب (الإِمام) ، فلم ندر من يعنيه به، وأخذنا نبحث، هنا وهناك، ونتتبع أقوال الأئمة في هذه المسألة، في مظانها من أمهات كتب المذهب، إِلى أن هدانا الله إِلى أن المقصود بالإِمام هنا، هو الجويني الكبير: أبو محمد، والد المؤلف. وهو يذكره عادة بـ (شيخي) ، وقد تبعنا في القطع بأن الإِمام هنا هو والد المؤلف -الإِمام ابن أبي عصرون في مختصر النهاية (المخطوطة: 1/258) والآن يلوح لي أن صحة العبارة: قال الإِمام والدي: ... الخ. والله أعلم.
قلت: تأكد هذا بالحصول على نسخة (ل) فعبارتها: " قال الإِمام والدي رحمة الله عليه: ينقدح.. "- وهكذا. لقينا العناء كلَّه بسبب (نقطة) وضعها الناسخ فوق الدال المهملة. ولله الأمر من قبل ومن بعد، نستلهمه الصواب ونستمد منه العون.
(3) في الأصل: بعد نقاء، وفي (ل) : بعده.
(4) (ت 1) : ارتداد. وهو تصحيف ظاهر، ويتأكد هذا بعبارة ابن أبي عصرون في المختصر: 1/258. ثم جاءت بها (ل) .
(5) في الأصل: ولا نعود إِلى التلفيق. (مكان ما بين المعقفين) . والمثبت من (ت 1) ، وظاهرتها (ل) .(1/425)
فأما إذا قلنا بالتلفيق، وصرنا إلى مجاوزة أوقات العادة في اللقط، فلا إشكال، وتستوفي أقلَّ الحيض لقطاً. وإن قلنا: تنحصر في أيام العادة، فيأتي مذهب أبي إسحق في أنه لا حيض لها، كما تقدم، ويأتي حُسنُ (1) مذهب المحمودي حُسْناً بالغاً، فنجاوز في هذه الصورة، وإن كنا لا نرى المجاوزة في غيرها؛ فإنّ المجاوزة للحاجة الماسة أهون من رفع الحيض.
وهذا أمثل في التفريع على هذا القول من المصير إلى التلفيق على قول ترك التلفيق، كما سبق في مذهب المحمودي، فهذا منتهى التفريع في ذلك.
611- ثم قد يطرأ في الشهر الثاني في بعض صور التقطع خلوّ أول الدَّوْر عن الدَّم؛ فيتغيّر التفريع على ما سنذكره. وهذا من طريق الحساب يقع في بعض الصور ونحن نوضّح وقوع ذلك تصوّراً، ثم نبني عليه غرضَنا من الحكم إن شاء الله.
فإذا كانت تحيض يوماًً وتطهر يوماً، وكان الأمر كذلك في أول دَوْرِ التقطع، فلو أردنا أن نعرف أنَّ الدم هل ينطبق على أوّل الدور الثاني، وكان دورها ثلاثين يوماً قبل التقطع، فنأخذ مُدةَ الدّم ومدّة النقاء، فإن وجدنا عدداً لو ضربنا المدّتين فيه، لردّ الدور من غير زيادة ولا نقصان، فآخِر الدّور نقاء، وأول الدّور الثاني دمٌ.
وبيانه أنها إذا كانت ترى يوماًً دماً، ويوماً نقاء، فنأخذ يومين، فنضربهما في خمسة عشر، فيردّ [علينا] (2) ثلاثين، فنعلم أن الدم يعود في أول الدور الثاني على سجيته في الدور الأول.
وإن كانت ترى يومين دماًً ويومين نقاء، ولا نجد عدداً صحيحاً لو ضربنا فيه الأربعة، لرد ثلاثين -ولا يستقيم الضرب في كسرٍ فيما نحاوله- فنضرب الأربعة في عدد يقرب مردوده من الدور، وقد يزيد وقد ينقص، فالوجه اعتبار الأقرب فالأقرب، فالأربعة لو ضربناها في سبعة، لرد الضرب ثمانية وعشرين، فآخر هذا المردّ طهر، وقد بقي إلى تمام الدور يومان فيقع فيهما الدم، ويقع في أول الدور الثاني نقاء لا محالة.
وإن ضربنا الأربعة في ثمانية، ردّ علينا اثنين وثلاثين يوماً، فنعلم أن آخره نقاءٌ،
__________
(1) ساقطة من (ت 1) و (ل)
(2) في الأصل، (ت 1) : عليه.(1/426)
وآخره يقع في أول الدور الثاني. وهذا أقرب إلى حصول العلم.
ولو كانت ترى ثلاثة دماًً وثلاثة نقاءً، فنأخذ ستّة ونضربها في خمسة، فتردّ ثلاثين، فالآخر نقاء، و [أول] (1) الدور الثاني دمٌ.
ولو كانت ترى أربعة وأربعة، فنأخذ ثمانية، [ونقرّب] (2) ، فنضرب في أربعة [فتردّ] (3) اثنين وثلاثين، فالأربعة من آخر هذا المبلغ نقاء، فنعلم أن النقاء ينقسم على آخر (4) الدور الأول، وأول الدور الثاني، فتكون نقية في يومين من أول الدور الثاني، ثم تعود نوبة الدم.
[ولو كانت تحيض خمسة، وترى نقاء خمسة، فنضرب عشرة في ثلاثة، ونقول: الآخر نوبة نقاء، والدم يعاود أول الدور الثاني] (5) .
ولو كانت ترى الدّم ستة، والنقاء ستة، فلو ضربنا اثنا عشر في ثلاثة، لردّ ستة وثلاثين، فآخر المدّة نقاء، وهو الذي ينطبق على أول الدور الثاني.
وإذا عرفنا أن [نوب] (6) التقطّع تقتضي الدمَ في أول الدور الأول، والنقاءَ في أول الدور الثاني، فلو أردنا أن نعرف ما يكون في أول الدور الثالث، فنأخذ نوبتين ونضرب كما فعلنا أولاً، فيكون آخر المدة الآن دماًً.
والضابط فيه أن النوبة الأولى إن كانت دماًً، فآخِر المردود نقاءٌ، وإن كانت نقاءً، فآخر المردود دمٌ. فهذا وجه التقريب الحسابي في ذلك.
612- ونحن الآن نفض (7) المذاهب والأحكام على الصور، فلو كانت تحيض
__________
(1) مزيدة من (ت 1) ، (ل) .
(2) زيادة من (ت 1) ، (ل)
(3) في الأصل: فتراجع، والمثبت من (ت 1) ، (ل) .
(4) ساقطة من: ت 1.
(5) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، وأثبتناه من: (ت 1) وقد بدأ من هنا خرمٌ في (ل) بلغ نحو أربع صفحات.
(6) في الأصل: وجوب التقطع، والمثبت من (ت 1) .
(7) نفض المذاهب على الصور، أي ننزلها عليها، من فضّ المالَ على القوم إِذا قسمه بينهم، وفرّقه عليهم.(1/427)
عشرة أيام وتطهر عشرين يوماً، فتقطّع الدم والنقاء، فصارت ترى الدم يوماًً وليلة، والنقاءَ كذلك، فآخر العشرة نقاء، فإن قلنا بترك التلفيق، فنحيّضها تسعة أيام من أول الدور الأول (1) وِلاءً، ولا نحيّضها اليومَ العاشر؛ فإنه نقاء ليس بعده حيض.
وإن قلنا بالتلفيق، نفرّع ذلك على الخلاف المتقدم في أن اللقط من أيام العادة، أو من الخمسةَ عشرَ، فإن لقطنا من العشرة، فنحيّضها خمسة، وإن لقطنا من الخمسةَ عشرَ، فنحيّضها ثمانية.
وإن كانت عادتها قديماً كما ذكرناه، فتقطّع الدمُ والنقاء ستاً ستاً، فنقول في الدور الأول: على ترك التلفيق حيضها الستة في أول الدور فحسب.
وإن لفّقْنا ولم نجاوز أيام العادة، فكذلك الجواب.
فإن لقطنا من الخمسةَ عشرَ، فالستة الأولى حيض، وهل يضم إليها الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر؟ فيه خلاف، وقد ذكرنا نظير ذلك في تمهيد التفريع على التلفيق.
ولكن من قال من أئمتنا بتحييضها في هذه الأيام [ضمّاً إلى الستة الأولى، فهو جارٍ على ظاهر قياسه في لقط ما وجد من الخمسةَ عشرَ، ومن لم ير أن يحيّضها في هذه الثلاثة] (2) ، فليس مذهبه ببعيدٍ في هذه الصورة؛ فإن هذه الثلاثة متصلة بثلاثة واقعةٍ وراء زمان الإمكان، فاقتضى هذا الاتصالُ ضعفاً في الواقع في الخمسةَ عشرَ، وإنما يضعف هذا الوجه جدّاً إذا فرّعنا على ملازمة أيام العادة في التلفيق واللّقط، ثم اتفقت نوبةٌ من الدم، يقع بعضها في آخر أيام العادة، وبعضها وراءها، فمن يقول: لا نحيضها فيما وقع [في آخر أيام العادة، لاتصاله بما وقع] (3) وراءها، وإن كان في الخمسة عشر، فهذا في نهاية البعد.
فهذا تفريع المذاهب في الدور الأول.
__________
(1) ساقطة من (ت 1) .
(2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. وأثبتناه من (ت 1) . ومكانها خرم في (ل) .
(3) الزيادة من (ت 1)(1/428)
613- فأما بيانها في الدور الثاني، وقد مضى في هذا النوع من التقطع أن النقاء ينطبق على أول الدور الثاني، وكانت عادتها قبل التقطع والاستحاضة عشرة.
أما أبو إسحاق، فإنه يقول: قد [خلا من] (1) أول الدور ستة، فنحيّضها على ترك التلفيق في الأربعة الباقية من العشرة.
وغيره من الأئمة يقولون: نجعل ابتداء دورها من اليوم السابع، ونُلحق النقاء في الستة الأولى بالدور الأول، ونقول: صار ذلك الدور ستة وثلاثين يوماً، ثم إن فرعنا على ترك التلفيق، فنحيّضها ستة وِلاءً، أولها السابع من هذا الثلاثين. وإن قلنا بالتلفيق من العشرة، أو من الخمسة عشر، فنحسب ابتداء العشرة وابتداء الخمسةَ عشرَ، من اليوم السابع، والتفريع كما تقدم.
فلو كانت تحيض ستة وتطهر أربعة وعشرين، فتقطّع دمها ستة ستة، كما ذكرنا، أمَّا في الدور الأول من التقطع، فنحيّضها الستة الأولى على ترك التلفيق، وهذا مقدار دمها القديم.
وإن قلنا بالتلفيق، فلا مزيد على الستة الأولى؛ فإنها استوعبت مقدار الحيض، ولا حاجة إلى اللقط والتلفيق. فتستوي المذاهب في الدور الأول.
فأما الدور الثاني، فإنها ترى في أوله ستة نقاءً، فأما أبو إسحاق، فإنه يقول: لا حيضَ لها في هذا الدور؛ فإنه خلا جميعُ أيام العادة عن الدم، وقد سبق تفريع مذهبه في خلو أول الدَّوْر فيما سبق.
فأمّا من سواه، فإنهم لا يُخلونَ الدور عن الحيض.
ثم اختلف الأئمة، فقال الأكثرون: نحيّضها في الستة الثانية من الدور، على التلفيق وترك التلفيق.
وقال آخرون: إذا خلا أول الدور، نحيّضها في الستة المتقدمة الواقعة في آخر الدور الأول؛ فإنّ أوّل الدور الثاني قد خلا، فلا اعتبار به، والحيضةُ إذا فارقت محلَّها، فقد تتأخر وقد تتقدم، وبين الستة الأخيرة في الدور الأول وبين الستة من أول
__________
(1) في الأصل: قد كان أول الدور. والمثبت من (ت 1) .(1/429)
الدور الأول ثمانية عشر يوماً، فإذا أمكن أن نجعلها حيضاً، جعلناها كذلك.
614- ولو كانت تحيض سبعة وتطهر ثلاثة وعشرين، فتقطّع دمُها ونقاؤها سبعة سبعة على الاستمرار، فنقول أولاً: في هذه الصورة نضرب نوبتين، وهما أربعة عشر يوماً في اثنتين فتردّ علينا ثمانية وعشرين، فآخر ذلك نوبة من النقاء، فيبتدىء (1) الدم في التاسع والعشرين، فيقع يومان من الدم في آخر الدور الأول، وخمسة في أوّل الدور الثاني.
فأما أبو إسحاق، فالمحكي عنه أنه يُحيّضها في الخمسة التي وقعت في أوّل الدور الثاني، ويحكم بأن حيضها نقص في هذا الدور.
والذي ذهب إليه جماهير الأصحاب أنّا نُحيّضها في السبعة كلِّها، ولا يضرّ تقدّم يومين منها على أول الدور الثاني على ما سبق.
هذا في المعتادة المستحاضة، إذا تقطع الدم والنقاء عليها.
615- فأما المبتدأة، فإذا حاضت المرأة، وكما (2) رأت الدم في أول نوبة، تقطع واستمرّ، ووضح أنها مستحاضة. أما الشهر الأول، فنأمرها فيه بالتربّص إلى الخمسةَ عشرَ -كما سبق تمهيد ذلك- فإذا جاوزت الدماء الخمسةَ عشرَ، فإذ ذاك يُعلم أنها مستحاضة. وقد تقدم القولان في أن المبتدأة تُردّ إلى يومٍ وليلة، أو إلى أغلب الحيض، وهو ستة أو سبعة.
فإذا قرّرنا في المعتادة التفصيلَ، استغنينا عن التطويل في المبتدأة، فإن رددناها إلى يومٍ وليلةٍ، فحكمها حكم معتادةٍ، كانت تحيض (3) يوماًً وليلة، وإن رددناها إلى ستة أو سبعة، فهي كامرأة كانت عادتها ستة أو سبعة.
وقد مضى ذلك على أكمل وجه مفصلاً.
__________
(1) في (ت 1) : فسترى الدم.
(2) كذا في النسختين (كما رأت) وهي بمعنى (عندما) كما سبقت الإِشارة إِلى ذلك، وهذا استعمال جار على ألسنة الخراسانيين، وليس بعربي، ولا صحيح، (قاله النووي في التنقيح) .
(3) انتهى هنا السقط من نسخة (ل) الذي بدأ من نحو أربع صفحات(1/430)
616- ثم نقل الأئمة عن الشافعي نصاً في المبتدأة إذا تقطع الدم عليها، فننقله على وجهه، ثم نذكر تصرّف الأصحاب فيه، قال (1) رضي الله عنه: " إذا تقطّع الدم على المبتدأة في الدور الأول، فكانت ترى الدمَ يوماًً وليلة، ونقاءً مثله، فإنها لا تصوم ولا تصلي في أيام الدم في الخمسةَ عشرَ في الشهر الأول. وتصلي في أيام النقاء وتصوم ".
فإذا تبين أنها مستحاضة، ورددناها إلى ما ترد المبتدأة إليه، وهو يوم وليلة، وفرّعنا على ذلك، ورأينا تركَ التلفيق، والحكمَ بأنّ النقاء بين الحيضتين حيض، فالصلوات التي تركتها في أيام الدم وراء اليوم الأول تقضيها؛ فإنا قد تبينا بالأَخَرة (2) أن الحيضَ هو اليوم الأول، وما عداه استحاضة.
وأمَّا الصلوات التي أقامتها في أيام النقاء، فلا تُعيدُها؛ فإنّها أقامتها في النقاء والطهر. ولقد كانت الصلوات في أيام التربّص بين ألاّ تجب لو انقطع على الخمسةَ عشرَ، وبين أن تجب، والنقاء طهرٌ، فعلى أي حالٍ قُدّر، فلا قضاء.
وأما الصوم، فإنّ ذلك إن وقع في شهر رمضان، فلا شك أنها تقضي، ما لم تصمه في أيام الدم، فأما الأيام التي صامتها في النقاء، فقد ردّدَ الشافعي قولَه في أنها هل تقضيها أم لا؟. أحدهما -[أنها] (3) لا تقضيها؛ لأنا قد علمنا آخراً أنها كانت أيام النقاء، فليقع الحكم بما علمناه، وأيضاًً؛ فإن الصلاة لا يجب قضاؤها -وإن أقامتها على التردّد- فليكن الصوم بمثابة الصلاة.
والقول الثاني - أنه يلزمها قضاء الصَّوْم الواقع في أيام النقاء؛ فإن الصومَ يجب على الحائض، بمعنى أنها تقضيه بخلاف الصلاة، فالصلاة كانت بين أن تصحَّ، وبين ألا تجب أصلاًً، والصوم واجبٌ كيف فرض الأمر. وكان المُوقع متردّداً بين أن يصح وبين ألا يصحَّ، فَوجبت إعادته.
ثم قال أبو زيد: القولان في الصوم مبنيان على قولين في أصلٍ، وهو أن الرجل إذا
__________
(1) ر. الأم: 1/58. وهو معنى كلامه، لا نصه.
(2) ساقطة من: ت 1.
(3) زيادة من (ت 1) ، (ل) .(1/431)
اقتدى في صلاته بخنثى، فهو مأمورٌ بقضاء الصلاة، لجواز أن يكون الخنثى امرأة، فلو لم يقضها حتى تبيَّن أن الخنثى رجل، ففي وجوب القضاء والحالة هذه قولان؛ فإن الصلاة التي أقامها كانت واجبةً قطعاًً، وقد أقامها مردّدة بين الصحة والفساد، كذلك الصوم في أيام النقاء، والتفريع على ترك التلفيق، ولو انقطع ما تراه على الخمسةَ عشرَ، لكان النقاء حيضاً.
قال القفال: ما ذكره أبو زيد إنما يستقيم في الشهر الأول؛ فإنه شهر التربص والتَّوقف، فأمّا إذا بأن أنها مستحاضة في الشهر الثاني، فلا تردّد. وقد طردَ الشافعي القولين [في الصوم في الشهور كلها، فالوجه بناء القولين على القولين] (1) المقدّمين في أن المبتدأة وراء المردّ هل تؤمر بالاحتياط إلى خمسةَ عشرَ يوماً؟ وفيه قولان سبق ذكرهما.
وإن أمرناها بالاحتياط، فإنها تصوم، ثم تقضي أخذاً بالأحوط في الأداء والقضاء، وإن لم نأمرها بالاحتياط، فلا نوجب قضاء ما أدّته من الصيام.
قلت: [كأن الشيخ أبا زيد] (2) يطرد القولين في الشهر الأول. وإن فرعنا على أنها غير مأمورة بالاحتياط، لمكان التردّد الذي ذكرناه؛ اعتباراً بالاقتداء بالخنثى.
617- ومما يتفرع على هذا الذي انتهى الكلام إليه أن المبتدأة لو طبَّق الدم عليها ولم ينقطع، فالذي يقتضيه نصُّ الشافعي في الفصل بين الصوم والصلاة أنها إذا كانت تصلّي وتصوم وراء المردّ في الشهر الثاني فصاعداً، ففي وجوب قضاء الصوم قولان، مأخوذان من الاحتياط، ولا يجب قضاء الصلاة؛ فإنها بين أن تصح، وبين ألا تجب أصلاًً، والصوم واجب على كل حال.
__________
(1) ما بين المعقفين زيادة من (ت 1) ، (ل) .
(2) في (ت 1) : كان شيخي أبا زيد، ولا أرى لها وجهاً، وفي الأصل: كان شيخي أبو زيد.
وإذا قال: شيخي، فهو يعني والده، ومن أجل هذا قيده هنا بأبي زيد وهو لا يعني به شيخه المباشر، فأبو زيد توفي سنة 371 هـ، هذا على فرض سلامة العبارة من التحريف والسقط.
وهو ما لا أرجحه، ولعل الصواب: " وحكى شيخي أن أبا زيد يطرد.. " يساعد على ذلك عبارة (ت 1) والله أعلم. وقد صدق تقديرنا، فصواب العبارة كما في (ل) كأنّ الشيخ أبا زيد.(1/432)
وهذا الذي ذكرته صرح به الأئمة، ولم أذكره في المبتدأة التي طبَّق عليها الدم استنباطاً.
قلت: لو صح القول بالاحتياط في حق المبتدأة في الخمسةَ عشرَ من كل شهر، لم يمتنع أن يغلو غالٍ، فيوجب قضاء الصلوات؛ فإنها لا تفرغ من صلاةٍ إلا ويجوز تقدير وقوع صدرها في بقية الحيض، ولو فُرض ذلك، لكانت الصلاة باطلة، وهي واجبة لمكان الانقطاع في الوقت.
وأبو زيد يوجب قضاء الصلوات على المتحيرة (1) بمثل ذلك، فلو أوقعت الصلاة في آخر الوقت على وجهٍ لو فرض انقطاع الحيض بعد العقد، لما وجبت الصلاةُ، مثل أن تُوقع ركعةً في آخر الوقت والباقي وراءه، فلا يجب القضاء في هذه الصورة، [إذا] (2) قلنا: لا تجب الصلاة بدراك ما يقصر عن قدر الركعة من الوقت.
ثم القولان في الاحتياط في الخمسةَ عشرَ، فأمّا ما وراءها، فهي مستحاضةٌ فيه، قولاً واحداً، فلتوقع قضاءَ الصوم فيه إذا أمرناها بالقضاء.
618- ومما ذكره الأئمة في المبتدأة المستحاضة التي تقطّع الدم عليها مذهبٌ انفرد به [أحمد] (3) بن بنت الشافعي، وذلك أنه قال تفريعاً على ترك التلفيق: " إن انفصل آخر الخامسَ عشرَ عن أول السادس عشر، بأن وُجد نقاء في الخامس عشر، أو في أول السادس عشر، أو فيهما، فكل ما في الخمسةَ عشرَ إلى آخر دمٍ فيه حيض "؛ فلم يعتبر الأقل والأغلب في هذه الصورة.
وبيان ذلك بالمثال أنّها إذا كانت ترى الدم يوماًً وتطهر مثله، فهي في الخامس عشر ذات دم، وهي ظاهرة في أول السادس عشر، فنحيّضها في الخمسة عشر كلها.
فلو كانت ترى الدم يومين والنقاء مثله، فهي نقية في الخامس عشر والسادس عشر، ذاتُ دمٍ في الرابع عشر، فنحيّضها أربعة عشر يوماًً.
ولو كانت تحيض ثلاثة وتنقى ثلاثة، فهي ذات دمٍ في الخامس عشر، نقية في أول
__________
(1) في الأصل: على قول المتحيرة.
(2) في الأصل: فإِذا. والمثبت من (ت 1) ، (ل) .
(3) في الأصل: (محمد) وهو وهمٌ أجمعت عليه النسخ الثلاث، وقد تكرر قبل ذلك.(1/433)
السادس عشر، فنحيّضها الخمسةَ عشرَ كلَّها.
ولو كانت تحيض ستة وتنقى مثلَها، فالدم في النوبة الثالثة ينقسم على آخر الخامس عشر، وأول السادس عشر، فلا انفصال الآن، فنرجع إلى ترتيب الأصحاب في ردّها إلى الأقل أو الأغلب كما سبق من كلام الأصحاب.
وقد رأيت الحذّاق لا يعدّون مذهبه من جملة المذاهب، ويَروْنه منفرداً بتفصيلٍ، وهو غير مساعَدٍ عليه.
619- فأما المميزةُ في حكم التلفيق، فوجه تصوير التلفيق فيها بتقدير اعتقاب الدم القوي والضعيف. فإذا كانت ترى يوماًً دماًً أسودَ، ويوماًً دماًً مشرقاً، فنصوّر وِجدانها لأركان التمييز (1) وفقدِها لها.
فأمَّا تصوير وجود أركان التمييز، فوجهه ألا ترى الدماء القوية إلا في الخمسةَ عشرَ، مثل إن كانت ترى يوماًً سواداً ويوماً شُقْرةً، ثم استمر الدم المشرق في النصف الأخير، فهذه متمكنة من التمييز.
فإذا كانت مبتدأة، نفرع أمرَها على القولين في ترك التلفيق، والتلفيقِ: فإن تركنا التلفيق حيّضناها خمسةَ عشرَ يوماًً؛ فإن الخامسَ عشرَ نوبةُ السواد، وإن لفّقنا حيّضناها في أيام السواد، وهي ثمانية، وحكمنا لها بالطهر في أيام الشُّقرة، وحكمنا بذلك في النصف الأخير.
وإن كانت معتادة، ففي ردّها إلى العادة خلاف.
فإن رأينا ردَّها إلى التمييز، فقد سبق تفصيله، وإن رأينا ردّها إلى العادة، فقد تقدم ترتيبُ القول في تقطّع الدم على المستحاضة المعتادة.
وها هنا الآن دقيقة، وهي أنا إذا رَدَدْنا المميزةَ إلى العادة، فلا ننظر إلى صفة الدم أصلاًً، ولا نُعلِّق بها حكماً، كما مضى مشروحاً فيما مضى.
فلا جرم نقول: إذا كانت ترى يوماًً سواداً، ويوماًً شُقرةً، والتفريع على اعتبار العادة، فلا نرى ذلك من صور التلفيق، حتى تُخرّج على القولين، ولكن ما نراه
__________
(1) انظر أركان التمييز في الفقرة: 469.(1/434)
بمثابة دمٍ دامَ على لون واحد. ولا نظر إلى لون الدم على هذا الوجه.
وما ذكرناه فيه إذا انقطع الدم القوي والضعيف على المدّة في الخمسةَ عشرَ. فأما إذا جرى ذلك دائماً في جميع الأيام، فكانت ترى يوماًً سواداً ويوماًً شُقرةً أبداً، فهي فاقدة لأركان التمييز.
فإن قيل: كان دورها ثلاثين، وهي الآن لا ترى في الثلاثين إلا خمسةَ عشرَ سواداً، وهذا المبلغ غيرُ زائدٍ على الخمسةَ عشرَ، قلنا: وإن كان كذلك، وفرّعنا على التلفيق، فهي فاقدة لأركان التمييز؛ فإن الحيض حقُّه أن ينحصر في الخمسةَ عشرَ، ولا يسوغ انبساطه على أكثرَ من هذه المدة. وهذا يؤكد القول بترك التلفيق، فإن القائل بالتلفيق يجوّز تقطّع الطهر على الحيض، ويمنع تقطع الحيض على الطهر في أكثر من خمسةَ عشرَ يوماًً. وهذا تصريحٌ باختلاف حكم الحيض والطهر، ولا يتضح بينهما فرقٌ معنوي، فلئن جاز عَوْدُ الحيض قبلَ تمامِ الطهر، فما المانع من بسط خمسةَ عشرَ يوماًً حيضاًً على خمسة عشر يوماًً طهراً؟ فإذاً تبين من وفاق الأصحاب أنها فاقدةٌ للتميز.
فإن كانت معتادة، رُدَّت إلى العادة، وجعل كأنّ الدماء على لونٍ واحد مطبق، ولا التفات إلى اختلاف ألوان الدماء؛ فإنه إذا بطل التمييز، لم يكن للون الدم حكمٌ.
فافهم.
وإن لم تكن معتادة، فهي مبتدأة، ولا تلفيق، ولا اعتبار بتفاوت ألوان الدماء، وحكم لون الدم مرفوعٌ بالكلية. وهذا واضحٌ ولا إشكال فيه.
620- ونحن نذكر الآن تقطع الدم والنقاء على المتحيرة التي لا تذكر شيئاًً من أمرها، ثم نذكر موجَب التقطع مع أبوابها في الخلط، والضلال.
فإذا كانت ترى يوماًً دماًً، ويوماً نقاءً، واستمر ذلك بها، وكانت لا تذكر شيئاً، فنفرّع حكمَها على قولي التلفيق، فإن حكمنا بترك التلفيق، والتفريعُ على قول الاحتياط، فحكمها في زمان الدم ما تقدّم في قضايا الاحتياط، فتغتسل لكل فريضة، لاحتمال انقطاع الدم في كل لحظة، وانقلابها إلى دم الفساد، وتصوم، ويجتنبها زوجها كما مضى حكمها في أثناء الكتاب.(1/435)
وأما أيامُ النقاء، فهي مأمورة بالاحتياط فيها، والزوج يجتنبها؛ فإن التفريع على ترك التلفيق، ولا يمر بها يوم في النقاء إلا ويُحتمل أن يكون ذلك النقاء حيضاً محتوشاً بحيضين، ولكنا لا نأمرها في أيام النقاء بالاغتسال؛ فإنها إن كانت حائضاً حكماً، فالغسل إنما يجب عند احتمال انقطاع الحيض، وهذا التقدير محال في زمان النقاء قطعاً، وكما لا نأمرها بالاغتسال في أيام النقاء لا نأمرها بتجديد الوضوء؛ فإن الوضوء إنما يؤمر بتجديده عند تجدّد صورة الحدث، وهذا المعنى مفقودٌ قطعاًً في زمان النقاء. نعم، نأمرها بالاغتسال في أثر انقضاء كل نوبة من نُوَب الدم. ثم يكفي ذلك إلى عود الدم.
ومن دقيق ما ينبغي أن يُتفطَّن له أنه كلّما عاودَ الدمُ، فلا تُؤمر بالاغتسال مع اللحظة [الأولى؛ فإن الانقطاع إنما يدخل أوان احتماله بعد اللحظة الأولى، من عود الدم، واللحظة] (1) الواحدة لا يحيط بها فهم، ولا ينتهي إليها تنصيصُ فكرٍ، ولكن يجري حكمُها في العقل، وتستمر العبارة عنها. فهذا إن فرّعنا على ترك التلفيق.
621- فأما إذا قلنا بالتلفيق، فالذي نزيده أنها طاهرة في أيام النقاء والزوج يغشاها، ولا يخفى حكم الطهر في حقها، ولا تتوضأ لكل صلاة؛ فإن الحدث ليس متجدداً، وأما إمكان الانقطاع في زمان استمرار الدّم، فجارِ، والأمر بالغسل مترتب عليه.
وإن عنَّت صورةٌ يختلف الحكم فيها في التفريع على وجهٍ ضعيف، لم يخفَ درْكُها على الفَطِن المنتهي إلى هذا الموضع، مثل أن نفرعّ على أنّ الشرط ألا ينقص الدم في كل نوبةٍ عن يوم وليلة. وهذا على قول التلفيق في نهاية الضعف، ولكن قد يلتزم الفطن التفريعَ على الضعيف للمرون والدُّرْبة في الكلام على الدقائق، فعلى هذا، مهما عاد دمٌ لا نأمرها بالاغتسال، ما لم يمضِ من زمان الدم يومٌ وليلة، ثم نطرد الأمرَ بالغُسل إن تمادت نوبةُ الدم.
622- وقد جرى رسم الخائضين في هذا الكتاب بذكر الخلط والضلال مع تقطّع
__________
(1) ساقط من الأصل. وأثبتناه من (ت 1) ، (ل) .(1/436)
الدم في حق الناسية، فإذا كان الدمُ منقطعاً، وذكرت أنها كانت تخلط الشهر بالشهر، حيض بحيض، فالصور تختلف في ذلك، فإن كانت النُّوَب تقتضي أن يُطبق الدم على أول كل شهر، ويخلو عنه آخرُ كل شهر، فنحيّضها في اللحظة الأولى من الدم في أول كل شهر، ولا نحيّضها في اللحظة الأخيرة من الدور، وإن كنا نرى تركَ التلفيق؛ فإنها تصادف في آخر كل دور نقاءً، ونحن إنما نجعل النقاء حيضاً إذا كان محتوشاً بحيضتين، والذي استفدناه من ذكرها الخلطَ الحيضُ في لحظة من آخر الدور ولحظة من أوله، فلا نزيد على هذا.
ولا يتأتى الحكم بأن النقاءَ في آخر الدور حيض إلا أن نجعل جميعَه حيضاًً، ونجعل الدمَ المتقدمَ عليه حيضاً، وهذا إن قلنا به، فهو احتكامٌ من غير [ثَبَت] (1) ، وبناء أمرٍ على قطع.
وإن تقطّع الدم تقطّعاًً كان حسابه يوجب خلوَّ آخر الدّور وأوّلِه عن الدم، وقد ذكرت أنها قبل استمرار هذه الحال لها كانت تخلط شهراً بشهر حيضاً، فلا حيض لها بيقين، بحكم ذكرها الخلط [وإن فرّعنا على ترك التلفيق، فإنا لم نصادف دماًً في محل الخلط، ثم إذا بطل الخلط،] (2) فقد سقط أثر ذكرها الخلط بالكلّية، وتبين أنّ ما كانت عليه من الخلط قد تحوّل وزال، فهي كالتي لا تذكر من ذلك شيئاًً.
وإن تقطّع الدمٌ تقطّعاً يقتضي ترتيبُه أن ترى دماًً في آخر الدور وأوّله، فنجعلها حائضاً في اللحظتين، ثم لا يخفى التفريع بعد ذلك.
فهذا ما رأينا ذكره في تقطّع الدم (3 مع ذكر الخلط. ولا يخفى غيره على من يحاوله إن أحكم القواعد المتقدمة.
623- فأما ذكرها الضلالَ مع تقطّع الدم 3) ، فنذكر فيه صورةً واحدةً، ونوضح ما فيها، ثم يهون قياسُ غيرها عليها: فإذا تقطعت الدماء، وكانت تحيض يوماً وليلةً، وتطهر يوماًً وليلةً، وذكرت أنّها كانت تحيض خمسةَ أيامٍ، وقد أضلّتها في
__________
(1) في النسختين: تثبيت. والمثبت من مختصر النهاية لابن أبي عصرون، ومن (ل) .
(2) ساقط من الأصل، وأثبتناه من (ت 1) ، (ل) .
(3) ما بين القوسين سقط من (ل) .(1/437)
العَشر الأول من الشهر، فنفرّع هذه الصورةَ على قولنا بترك التلفيق، ثم نفرعها على التلفيق: فإن تركنا التلفيق، ولم نبعد أن يكون النقاء بين الحيضين حيضاًً (1) ، فمن موجب هذا القول، أنا لا نتجاوز محلَّ الحيض، كما مضى مفصلاً، حتى إذا كانت تحيض ستة أيام من أول كل شهر، ثم تقطع دمُها، فصارت ترى يوماًً دماًً ويوماً نقاءً، فإنها ترى يومَ السادس [نقاءً] (2) ولا نتعدى السادس، ولا نجعله حيضاً؛ إذ ليس بعده حيض، فيعود حيضها بسبب التقطع إلى خمسة [أيام] (3) .
فإذا تجدّد العهدُ بهذا، فنعودُ إلى الصورة التي انتهينا إليها، فنقول: حسابُ التقطع يوجب أن تكون نقيةً في اليوم العاشر، ونحن لا نرى تعدِّي المحلّ في ترك التلفيق، فقد خرج اليومُ العاشر من محلّ الضلال، وآل محل الضلال إلى تسعة، فنقول بعد ذلك: ليس لها حيضٌ معيّن بيقين.
فإن قيل: قد ذكرتم في أبواب الضلال أن مقدار الحيض إذا زاد على نصف محل الضلال، فلا بدّ أن يثبت حيضٌ بيقين، والحيض في الصورة التي فيها الكلام خمسة، وهي تزيد على نصف التسعة.
قلنا: ذلك إذا كانت الدماء مطّردة وِلاءً، فيقتضي الحسابُ ثبوتَ حيضٍ مستيقنٍ لا محالة، فأمّا إذا كانت متقطّعةً، فلا يجري ذلك، وإن كنا نجعل النقاء بين الحيضين حيضاً، ورَوْمُ تحصيل هذا [يُحوِج] (4) إلى مزيد بسط.
فنقول: نقدّر كأنّ حيضَها قديماًً كان ينطبق على الخمسة الأولى من الشهر، وكانت ترى دماًً متوالياً لا تقطّع فيه، فإذا انقطع، فالخمسة الأولى كلُّها على هذا التقدير حيضٌ مع النقاء المتخلل؛ فإنها في اليوم الأوّل والخامس ترى دماً، ويحتمل أنّ خمستها كانت تقع في الخمسة الثانية، وكانت ترى دماً متصلاً، والآن إذا تقطّع،
__________
(1) ساقط من (ت 1) .
(2) في الأصل: دماً. وهو خلاف الفرض في المسألة، والمثبت من: ت 1، ومن مختصر ابن أبي عصرون، ومن (ل) .
(3) زيادة من (ت 1) ، (ل) .
(4) في الأصل: يخرج، والمثبت من (ت 1) ، (ل) .(1/438)
فإنها لا ترى في السادس دماً، فلا سبيل إلى جعله حيضاً؛ [إذ ليس قبله حيض، ولا نرى مجاوزة العشر، فينقص على هذا التقدير حيضها] (1) ويعود إلى ثلاثة أيام.
وإن قدّرنا خمستها وسطاً، فقد [تلقى طهراً يعسر] (2) تقديره حيضاًً، ولا تتحصّل على حيض مستيقن أصلاًً، والحكم أنا لا نأمرها بالغُسل في الخمسة الأولى؛ إذ انقطاع الحيض فيها غير [مقدّر] (3) .
نعم، نأمرها بغسل واحد في آخر اليوم الخامس، ثم نأمرها بغسل واحد عقيب السابع، وبآخرَ عقيب التاسع، والسبب فيه أنّا نجوّز أن يكون ابتداء دمها من أول الثالث، فينقطع في آخر السابع، ونجوّز أن يكون الابتداء من أوّل الخامس والانقطاع في آخر التاسع.
وذهب بعضُ أصحابنا إلى أنها مأمورةٌ بالاغتسال لكل فريضة في السابع والتاسع؛ فإنّ انقطاع الحيض ممكن في أوساط اليومين. وهذا غلطٌ غير معدودٍ [من] (4) المذهب؛ فإنا لو قدّرنا الانقطاعَ في وسط السابع، احتجنا إلى تصوير ابتداء الحيض في وسط الثاني، وهذا التقدير مع التقطّع الذي صوّرناه غير ممكن؛ فإنها في اليوم الثاني نقية، والنقاء إنّما يكون حيضاًً إذا تقدمه حيض. وكذلك القولُ في وسط اليوم التاسع.
فهذا مجموع ما ذكره الأئمة في التفريع على ترك التلفيق.
624- وذكر القفّال شيئاًً آخر، فقال: لو قدّرنا حيضاًً قديماًً في الخمسة الثانية، فإن تقطع [الدم] (5) ولم تر في السادس حيضاً، فقد تأخر حيضُها ضرورة بيوم [وفاتَحها] (6) في أول السابع، [فتجاوز العشرة، وتجعل ابتداء خمستها من
__________
(1) زيادة من (ت 1) ، (ل)
(2) في الأصل: فقد تلقى طهر العشرة. وهو تصحيف واضح، والمثبت عبارة (ت 1) ، (ل) .
(3) في الأصل: غير مقدور.
(4) في الأصل، (ت 1) : في. والمثبت من (ل) .
(5) زيادة من (ت 1) ، (ل) .
(6) في الأصل: وفاتحنا.(1/439)
السابع] (1) ويمتدّ إلى آخر الحادي عشر؛ فعلى هذا نأمرها بالاغتسال في آخر الحادي عشر، ثم نقطع وراء ذلك بالطهر.
وطردَ هذا المذهبَ في صورة لا بد من ذكرها، فقال: لو كانت تحيض خمسةً من أول كل شهر، فتقطّع تقطّعاًً يوجب خلوَّ أول الشهر عن الدم، وكانت ترى الدمَ في اليوم الثاني، فعنده أن حيضها قد استأخر؛ فنجعل أول خمستها من اليوم الثاني، وتجاوز الخمسة الأولى.
وعند غيره نقصت حيضتُها، ولا سبيل إلى مجاوزة الخمسة الأولى.
فهذا إذا قلنا بترك التلفيق.
625- فأمّا إذا رأينا التلفيق، فقد اشتهر الخلافُ في أنها هل تجاوز في اللقط محل العادة؟ وقد مضى ذلك مقرّراً، فإن لم نر المجاوزة، فلا تتعدى العشرةَ التي هي محل الضلال، ولا نجعل لها حيضاً بيقين. والتفريع في جميع الأحكام، كالتفريع على ترك التلفيق، غير أنا نُثبت لها حكمَ الطاهرات قطع في زمان النقاء، ونأمرها بالاغتسال عقيب كل يوم ينقضي من الدم؛ فإنا على تقطّع الحيض نفرعّ، ومهما انقطع الحيضُ وجب الغُسل، وعلى ترك التلفيق لا تصور لانقطاع الحيض في الخمسة الأولى.
وإن رأينا مجاوزةَ المحل، فإنا نلقط في بعض التقديرات مما وراء العشرة أيضاً.
وبيان ذلك أنا إن قدرنا حيضها في الخمسة الأولى، ورأينا المجاوزة، حيضناها في الأول والثالث والخامس والسابع والتاسع، وإن قدّرنا حيضها في الخمسة الثانية قديماًً، حيّضناها إذا انقطع في السابع والتاسع والحادي عشر والثالث عشر والخامس عشر.
فإن قيل: كيف تجاوزون العشرة، وقد زعمت أنها أضَلَّت حيضتها في العشرة؟ قلنا: هذا بمثابة قولها: كنت أحيض الخمسة الأولى، ثم تقطع دمُها فتجاوز الخمسة الأولى وقد عينتها، فإذا جاوزنا ما عينته حيضاً، [جاوزنا] (2) ما عينته محلاًّ
__________
(1) زيادة من (ت 1) ، (ل) .
(2) في الأصل: فكذلك ما عينته، (ت 1) : فكذا ما عينته. والمثبت من (ل) .(1/440)
للضلال، فإذا ثبتت التقديرات، قلنا: فهي حائض في اليوم السابع والتاسع قطعاً، والسبب فيه أنهما يدخلان في كل حساب كيف فُرض الأمر، وما دخل في كل تقدير يفرض للحيض، فهو حيض، وعليه وقع بناء حساب التقديم والتأخير في أبواب الخلط والضلال.
فهذا منتهى ما حاولناه في ذكر الضلال مع التلفيق، ومن أحاط بما ذكرناه لم يخف عليه ما يُورد عليه مما سواه.
فقد نجزت مسائل الحيض. ونحن الآن نبتدىء بابَ النفاس مستعينين بالله. وهو خير معين. وبالله التوفيق.
***(1/441)
باب النفاس
626- والنفاس في اللغة يتناول الحيضَ، والدمَ الذي يخرج على أثر خروج الولد، وفي حديث عائشة أنها قالت: " كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخميلة (1) ، فحضت، فانسللتُ فقال عليه السلام: مالكِ؟ أَنَفَستِ؟ (2) " (3) ، فَعبّر بالنفاس عن الحيض، والنّفْسُ في اللسان هو الدم نفْسُه كيف فرض، ولكن العلماء يعبّرون بالنفاس عن الدم الذي يخرج عقيب الولادة. وهذا غرضُ الباب ومضمونه، والدم يحتوي عليه الرحم إذا علق بالولد، ثم يُزجيه إذا انفصل الولدُ. وحكم دم النفاس حكم الحيض؛ فإنه الحيضُ بعينه اجتمع، ثم استرخى وانسل.
ومضمون الباب تحصره ثلاثة فصول:
أحدها - في ذكر أقلِّ النفاس، وأغلبِه، وأكثرهِ.
والثاني - أن الحامل هل تحيض؟ وإن حاضت، فكيف يجري حساب دورها الأخير مع النفاس؟
والثالث - في فرض ولدين توأمين بينهما دم، كيف حكمه؟ وعلى أي وجه ينزل حسابه؟
فإذا نجزت هذه الفصول، ذكرنا بعدها حكمَ اتّصال الاستحاضة بالنفاس.
__________
(1) الخميلة: القطيفة، وهي كساء، أو فراش، أو دثار -وهو المراد هنا- له أهداب. (المعجم والمصباح)
(2) أَنَفست، بفتح النون. من نَفِست المرأة إِذا حاضت، أما إِذا ولدت فيقال: نُفست بالضم، وبالفتح، والأفصح الضم، أما في الحيض، فالمشهور الفتح؛ بل قيل: لا يجوز غيره (النووي: تهذيب الأسماء واللغات، والمجموع: 2/519، والمصباح)
(3) حديث الخميلة: متفق عليه، من حديث أم سلمة (اللؤلؤ والمرجان: 1/66 ح 170) وقد سبق في الفقرة (440) .(1/442)
[الفصل الأول] (1)
627- فأما الفصل الأول: فأكثر النفاس ستّون يوم عند الشافعي، ومعتمدهُ فيه الوجودُ، كما سبق في الحيض. وأغلب النفاس أربعون يوماًً، وأقل النفاس لحظةٌ واحدة.
وعلل بعض أصحابنا ذلك بأن المرأة قد تلد، ولا ترى دماًً أصلاًً، وهي التي تسمى ذات الجفاف، فإذا تُصوّر ذلك، لم يبعد أن ترى الدمَ لحظة.
وهذا التعليل باطلٌ ويُلزَم مثله في الحيض، فلا زمان تحيض المرأة فيه إلا ويتصوّر أن يستمر بها الطهر فيه. ثم هذا لا يدل على أن أقل الحيض لحظة، فالمتبع الوجودُ إذاً في قاعدة المذهب.
وذهب المزني إلى أن أقل النفاس أربعةُ أيام؛ مصيراً إلى أن أكثر النفاس مثلُ أكثر الحيض أربع مرّات، فليكن أقله مثل أقل الحيض أربع مرّات.
وهذا الفن غير لائق بفقه المزني، وعلوِّ منصبه؛ فإن المقادير لا تبنى على الخيالات الشبهية، ولست أرى لهذه الأصول مستنداً غير ما تقدَّم في أعصار الأولين من الوجود.
[الفصل الثاني] (2)
628- فأما الفصل الثاني، فلا شك أن الحامل ترى (3) الدمَ على ترتيب (4) أدوار الحيض، واختلف قول الشافعي في أنه دم حيض، أو دم فساد، والأصح أنه دم حيضٍ (5) .
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) زيادة من المحقق.
(3) كذا في النسخ الثلاث، ولعلّ الصواب: "قد ترى الدم ... " ويشهد لذلك التقدير كلام الإمام في الفقرة التالية.
(4) في (ت 1) : على الترتيب في أدوار الحيض.
(5) في (ل) : دم فساد. وهذا هو القول القديم للشافعي، والجديد الأظهر أنه حيض، وسواء ما تراه قبل حركة الجنين وبعدها. وقيل: القولان فيما بعد الحركة، فأما قبلها، فحيضٌ قطعاًً. (ر. الروضة للنووي: 1/174) .(1/443)
وتوجيه القولين، وذكْرُ مأخذهما مستقصىً في كتاب العِدَّة، فإن جرينا على أنه دمُ حيضٍ، فحكمه حكمُ الحيض، في كل تفصيل، غيرَ أنه لا يتعلق بتلك الأقراء انقضاء العِدة.
والذي يتعلق بأمر النفاس من ذلك أنها إذا كانت ترى أدواراً مستقيمةً في زمان الحمل، والتفريعُ على أنّ الحامل تحيض، فإذا كانت تحيض خمسةً وتطهر خمسة وعشرين، فرأت خمستها، وطهرت عشرة أيام، ثم ولدت ونُفست، ولم يتخلل بين الخمسة التي [رأتها] (1) قبل الولادة وبين دم النفاس طهر كامل.
فأما دم النفاس، فهو على حكمه، ونقصان الطهر قبله لا يؤثر فيه، واختلف أئمتنا في تلك الخمسة، فذهب بعضهم إلى أنها دم فساد؛ لأنها لم تستعقب طهراً كاملاً، والأصح أنها دم حيض، على القول الذي عليه التفريع؛ فإنّ الدم إنّما يضعف إذا لم يتقدمه طهرٌ كامل، والخمسة مسبوقة بطهر كامل، ونقصان الطّهر يؤثر فيما بعده، ولا ينعكس أثره على الدم السابق، وإذا لم يؤثر نقصان الطهر في النفاس بعده، لم يؤثر في الدّم قبله، والذي يوضّح ذلك أن الولادة إذا تخللت، فهي أقوى في فصل الدم من الطهر الكامل.
ولو رأت خمستها، ثم اتصلت الولادة بها ونُفِست من غير طُهرٍ، فالخلاف في الدم المتقدّم على الولادة كما تقدم، وإن لم يتخلل نقاءٌ أصلاً.
[الفصل الثالث] (2)
629- فأما " الفصل الثالث " فمضمونه ولادة توأمين بينهما دمٌ، فإذا ولدت ولداً، ورأت دماًً أياماً، ثم ولدت ولداً آخر من ذلك البطن، فالذي رأته من الدم على أثر الولد الأول نفاسٌ أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما - أنه ليس بنفاس؛ فإنه متقدم على فراغ الرحم من الولد.
والثاني أنه نفاس؛ فإنه على أثر الولادة.
__________
(1) في النسختين: لأنه. والمثبت من عمل المحقق. ثم صدقتنا (ل) ، بحمد الله وتوفيقه.
(2) زيادة من المحقق.(1/444)
فإن قلنا: إنه ليس بنفاس، فهل نجعله دمَ حيض أم لا؟ فعلى قولين مرتبين على أن الحامل هل تحيض؟ فإن قلنا: إن ما تراه من الدم يكون حيضاً، فهذا بذلك أولى، وإن قلنا: إنه لا يكون حيضاًً، ففيما نحن فيه قولان.
والفرق أنّ الغَالبَ في الحامل أنها لا ترى دماً؛ لانسداد فم الرحم، فإن رأته، فقد يُقَدَّر ذلك دم فسادٍ لندوره، وينزل ذلك منزلة ما لو رأت الصبيّةُ، وهي ابنة ثمانٍ دماًً.
فأمَّا إذا ولدت ولداً، وانفتح الرحم، فاسترخاء الدم من الرحم ليس بدعاً، بل النادر ألا ترى دماًً إذا ولدت، ثم إذا جعلنا ما رأته دمَ حيضٍ، فيلزم على هذا الوجه [رعاية] (1) قضايا الحيض فيه، حتى إذا زاد على خمسة عشر يوماً، كان الزائد دمَ فساد، والترتيب فيه كالترتيب في دم الحيض إذا زادت نوبته.
ثم يترتب على هذا الوجه أنه إذا تقدم على ولادة الولد الأول دمٌ، وتخلّل بينه وبين الدم بعدَ الولد الأول أقلُّ من أقلِّ الطهر، فيلزم من هذا القياس أن نجعل ذلك الدمَ دمَ حيضٍ؛ لأنه لم يتقدمه طهر كامل، وليس ذلك الدم دمَ نفاس حتّى ينفرد بحكمه، كما تقدم في الصورة الأولى، وهذا بعيد عن التحصيل.
وباختباط هذه التفريعات يتضح ضعف هذا الوجه.
630- وإن قلنا: إن ما رأته بين الولدين دمُ نفاسٍ، وهو الصحيح، فإن ولدت الولد الثاني، فرأت على أثره الدمَ أيضاً، فقد ذكر الأئمة اختلافاً في ذلك: وحاصل القول فيها يؤول إلى أن ما رأته على أثر الولدين في حكم نفاسٍ واحد، أو في حكم نفاسين، وفيه الاختلاف. ومنه ينشأ ما سنذكره.
فمن أصحابنا من قال: إنهما في حكم نفاسين؛ لمكان الولدين، وانفصال إحدى الولادتين عن الأخرى.
ومنهم من قال: إنهما في حكم نفاسٍ واحدٍ؛ فإن الرحم اشتمل على الولدين اشتمالا واحداً، فالفراغ عنهما في حكم ولادةٍ واحدةٍ.
فإن قلنا: إنهما نفاسان، فإن ولدت ولداً، ورأت الدمَ ستين يوماً، [ثم ولدت
__________
(1) ساقطة من الأصل. والمثبت من (ت 1) ، (ل) .(1/445)
آخر، ورأت على أثره ستين يوماًً دماً] (1) فالدماء كلها نفاسٌ.
ولو ولدت أولاداً من بطنٍ واحدٍ، ورأت على أثر كل واحدٍ ستين يوماًً دماًً، فالجواب كما سبق، ولكل ولدٍ حكمُ نفاسٍ، ولا يتعلّق حكم نفاسٍ في حسابٍ بنفاسٍ.
وإن قلنا: الدماء كلها في حكم نفاسٍ واحدٍ، فينبغي ألا يزيد الدمان جميعاًً على ستين يوماًً، ويحتسب أول الستين من أول الدم الذي رأته على أثر الولد الأول.
ويتفرع عليه أنها لو ولدت ولداً، ورأت على أثر الولد الدمَ ستين يوماً، ثم ولدت الثاني، ورأت دماًً، والتفريع على اتحاد النفاس - فقد قال الصيدلاني: اتفق أئمتنا في هذه الصورة أن الولد الثاني ينقطع عن الأول، ويستعقب نفاساً؛ فإن الذي تقدّمه نفاسٌ كامل، ويستحيل أن يقال: إذا ولدت ثانياً، ورأت دماًً على أثره، فلا يكون ذلك نفاساً.
وقد سمعت شيخي يقول في هذه الصورة: إذا فرّعنا على اتحاد النفاس، فالذي رأته بعد الولد الثاني دمُ فسادٍ، وهذا ولدٌ تقدّمه النفاس.
ويلزم على قياس هذه الطريقة أن يقال: إذا رأت على أثر الولادة الأولى ستين يوماً دماًً، ثم تمادى اجتنان الولد (2) الثاني أشهراً، ثم أتت به، ورأت دماًً، فيلزم أن يقال: إنه دمُ فسادٍ. وهذا بعيد جداًً.
وبهذا يتبين أنّ كلَّ ولدٍ يستتبع نفاساً، ولا يعتبر حساب نفاسٍ بحساب نفاسٍ.
631- ومما يتعلق بما نحن فيه، أن الحامل إذا كانت ترى دماًً، وجرى التفريع على أنه حيض، وإن لم يتخلل بينه وبين الولد طهرٌ كامل، فلو رأت الدم خمسةَ أيامٍ، واتصل الولد بها، فلا يكون ذلك الدم المتقدم محسوباً من النفاس أصلاًً.
ولو طُلِقت (3) المرأة، وبدأت مخايل الولادة، وانحلّ الدم، فالذي قطع به الأئمة
__________
(1) زيادة من (ت 1) ، (ل) .
(2) في (ت 1) : التوأم الثاني، وكذا في (ل) .
(3) طُلقَت المرأة: أصابها وجع الولادة، وظهرت علاماتها (المعجم) .(1/446)
أنه ليس من النفاس، وإن أمكن أن يقال: هذا من آثار الولادة.
وذكر صاحبُ [الإفصاح] (1) وجهاً بعيداً: أن ما كان كذلك، فهو محسوب من النفاس، حتى يعتبرَ ابتداؤه منه، وهذا غير معتدٍّ به في المذهب. نعم، ظهر اختلاف أصحابنا في أنّ الولد إذا بدا، وظهر مع ظهوره الدمُ، فهل يعدُ ذلك من النفاس أم لا يثبت حكمُ النفاس ما لم ينفصل [الولد] (2) ؟ هذا فيه خلاف مشهور، ووجه الاحتمال فيه ظاهر.
فرع:
632- ذكر الشيخ أبو حامد: أن الدم إذا رأته الحامل، ووقع الحكم بكونه حيضاًً، وإن اتصلت الولادة والنفاس به تفريعاً على أحد الوجهين، فلو رأت النفاس بعد الولد ستين يوماًً، ولم ينقطع الدم، قال: فأحسب [الدمَ] (3) بعد الستين حيضاً، وإن لم يتخلل بين منتهى النفاس، وبين الحيض طهرٌ، قياساً على ما لو تقدّم الحيضُ على النفاس واتصل به، ولم يتخلل بينهما طهر كامل، فجعل تقدُّم الحيض على النفاس من غير تخلل طهرٍ كتأخر الحيض واتصاله بآخر النفاس.
وهذا متروك عليه. والقياس الذي ذكره غير منتظم؛ فإن الدم المتقدم يتقوّى بتخلل الولادة، واعتقاد أن الولادة إذا تخللت، فهي أقوى من الطهر يتخلّل، وهذا المعنى لا يتحقق في اتصال الدّم بآخر النفاس؛ فإنّ جريان النفاس الكامل يتضمن فراغَ الرحم عن دم الحيض، [فإذا] (4) كان تقدّمُ الحيضِ الكامل ثَمَّ يستدعي تخللَ طهر، فتقدم النفاس الكامل لأنْ يقتضي ذلك أولى وأحرى.
__________
(1) في الأصل: التلخيص. والمثبت من (ت 1) وصاحب الإِفصاح غير صاحب التلخيص، فصاحب التلخيص هو ابن القاصّ أبو العباس المتوفى سنة 335 هـ، وأما صاحب الإِفصاح، فهو أبو علي الطبري، المتوفى سنة 350 هـ والمرجح هنا أنه صاحب الإِفصاح، كما نسبه إِليه الرافعي في الشرح الكبير: 2/579، وكذا حكاه عنه النووي في المجموع: 2/521. وفي (ل) : الإِفصاح.
(2) زيادة من (ت 1) ، (ل) .
(3) زيادة من (ت 1) ، (ل) .
(4) في الأصل: إِذا كان تقدّم الحيض ... (بدون فاء) ، والمثبت من (ل) .(1/447)
وذكر بعض أصحابنا وجهاً آخر ضعيفاً، قد يرجع إلى ما ذكره أبو حامد، و [ذلك] (1) أنه قال: إذا كانت تحيض خمسةً، وتطهر خمسةً وعشرين، فرأت خمسةً دماًً، ثم ولدت، فنحسب لها من أول النفاس خمسة وعشرين في تقدير الطهر، وإن لم يكن طهراً، ثم نُقدِّرُ خمسةً دمَ حيض، وإن كانت نفاساً، وقد انقضى في هذين التقديرين ثلاثون يوماًً من النفاس، ثم نحسب خمسة وعشرين في تقدير الطهر، ثم نحسب خمسة حيضاًً تقديراً، وقد تمّ أكثر النفاس. ثم نحسب بعد ذلك خمسة وعشرين طهراً تحقيقاً، ثم يعود الحيض المحقق.
وهذا تقدير لا [مُستندَ له ولا ثَبَت] (2) .
ثم قد تؤدي بعض الصور في قياسه إلى عين مذهب أبي حامد، وذلك بأن يفرض حيضَ المرأة خمسة، وطهرها خمسةً وعشرين، ويقدّر أمَدَ النفاس المعتاد خمسةً وأربعين، ثم يفرض رؤية الخمسة قبل الولادة بعشرة أيام، فيحسب تلك العشرة، ويحسب من مدة النفاس خمسة (3 عشر، ثم يحسب خمسة 3) في تقدير الحيض، وقد مضى من أمد النفاس عشرون يوماًً، ثم يحسب الطهر خمسة وعشرين، وقد مضى زمان النفاس. وهذا هو المحكي عن أبي حامدٍ، وهو مزيّف متروك عليه.
فرع:
633- إذا ولدت المرأة، ولم تر على أثر الولادة دماًً أياماً، ثم استرسل الدمُ، فابتداء مدّة النفاس يحسب من وقت الولادة، أو من وقت رؤية الدم؟ اختلف فيه الأئمة: فمنهم من قال: هو محسوب من وقت رؤية الدم؛ فإنه النفاس حقاً، ومنهم من قال: هو محسوبٌ من وقت الولادة، وهذا الخلاف فيه إذا لم يتخلل بين الولادة وبين الدم طهرٌ كامل، فإن تخلل، فسيأتي ذلك بعد هذا.
فهذا تمام المراد في إيضاح مضمون الفصول الثلاثة. مع ما يتعلق بها ويتشعب عنها.
__________
(1) في الأصل: وذكر. والمثبت من (ت 1) ، (ل) .
(2) في الأصل: لا يستد له، ولا يثبت. والمثبت من (ت 1) ، (ل) .
(3) ما بين القوسين ساقط من (ت 1) .(1/448)
[اتصال الاستحاضة بالنفاس] (1)
ونحن الآن نذكر تفصيل القول في اتصال الاستحاضة بالنفاس، ونشير إلى المستحاضات الأربع، في حكم النفاس
ونبدأ بالمعتادة.
[المعتادة] (2)
634- فنقول: إذا ولدت المرأة مرتين فصاعداً، وكانت تُنفَس أربعين يوماً، فولدت مرة ونُفست، وكان يتوقع انقطاع الدم على الأربعين، فزاد الدمُ وتمادى، فهي مأمورة بالتربّص، وترك ما يتركه الحُيّض، فإن انقطع على الستين، فالكل نفاس، وإن زاد على الستين، فقد بان أنها مستحاضة، ونردّها إلى عادتها القديمة، تبيناً واستناداً (3) ونستبين أن ما رأته وراء الأربعين دمَ فساد، كما سبق تقرير ذلك في أحكام
__________
(1) العنوان من عمل المحقق.
(2) العنوان من عمل المحقق.
(3) الاستناد عند الأصولِيين، هو أن يثبت الحكم في الزمان المتأخر، ويرجع القهقرى حتى يُحكم بثبوته في الزمان المتقدم، كالمغصوب: فإنه يملكه الغاصب بأداء الضمان، مستنداً إِلى وقت الغصب، حتى إِذا استولد الغاصب المغصوبة، فهلكت، فأدى الضمان، يثبت النسب من الغاصب. كذا في التوضيح، في فصل المأمور به المطلق والموقت.
واعلم أن الأحكام تثبت بطرق أربعة: الأول - الاقتصار، وهو أن يثبت الحكم عند حدوث علته، لا قبله ولا بعده، كما في تنجيز الطلاق، بأن قال: أنت طالق.
والثاني: الانقلاب، وهو صيرورة ما ليس بعلة علة، كما في تعليق الطلاق بالشرط، بأن قال: إِن دخلت الدار، فأنت طالق، فعند حدوث الشرط ينقلب ما ليس بعلة علة، يعني أن قوله: أنت طالق في صورة التعليق ليس بعلة قبل وجود الشرط، وهو دخول الدار، وإنما يتصف بالعلّية عند الدخول.
والثالث: الاستناد، وهو أن يثبت الحكم في الحال، بوجود الشرط في الحال، ثم يستند الحكم في الماضي بوجود السبب في الماضي، وذلك كالحكم في المضمونات، فإنها تملك عند أداء الضمان مستنداً إِلى وقت وجود سبب الضمان، وهو الغصب، وكالحكم في النصاب، فإنه تجب الزكاة عند تمام الحول بوجود الشرط عنده، مستنداً إِلى وقت وجود سبب الزكاة، وهو ملك النصاب. =(1/449)
المعتادة في أدوار الحيض، ثم نحسب وراء الأربعين طهرها المعتاد في أدوار الحيض، ثم نحيّضها المقدارَ المعتاد، وندير عليها أدوارها، ويرجع ترتيب الكلام [إلى] (1) القول في المستحاضة المعتادة، [ونقدّر] (2) النفاس في أمده بمثابة حيضةٍ من الحيض، ثم نعتبر بعده الطهرَ، كما ذكرناه.
ويليق بمذهب أبي حامدٍ أن يقول: أحتسب بعد أمد النفاس حيضةً ثم طهراً؛ إذ لا يبعد عنده اتصال الحيض بالنفاس، كما سبق، وهو باطل غيرُ معتدٍّ به، وهذا إذا كان ثبت لها أمد النفاس قديماً، وتكررت الولادة.
فإن ولدت مرة واحدة، ونُفست أربعين وطهرت، ثم اتصلت الاستحاضة بالولادة الثانية، فهذا يخرّج على أن العادة هل تثبت بالمرة الواحدة؟ وهاهنا الأصح ثبوتها بها، فإن الاستمساك بالمرة الواحدة أولى من ردّها إلى [عماية] (3) الظنون، ونقدرها مبتدأة، كما سنذكر الآن.
[المبتدأة] (4)
635- فأما المبتدأة، فهي التي كما (5) ولدت ونُفست استحيضت، وفيه قولان، كالقولين في أمر الحيض: أحدهما - أنها مردودة عند زيادة الدم على الستين إلى أقل
__________
= والرابع: التبين، وهو أن يظهر في الحال أن الحكم كان ثابتاً من قبل في الماضي بوجود علة الحكم والشرط كليهما في الماضي، مثل أن يقول في يوم الجمعة: إِن كان زيد في الدار، فأنت طالق، ثم تبين يوم السبت وجوده فيها يوم الجمعة، فوقع الطلاق في يوم الجمعة، ويعتبر ابتداء العدة فيه. لكن ظهر هذا الحكم يوم السبت. (هكذا في الأشباه وحاشية الحموي) عن (كشاف اصطلاحات الفنون: 3/647)
(1) في الأصل: " في ". والمثبت من (ت 1) ، (ل) .
(2) في الأصل: وتقديم النفاس، والمثبت من (ت 1) ، (ل) .
(3) في الأصل: غاية الظنون، والمثبت من (ت 1) ، (ل) .
(4) العنوان من عمل المحقق.
(5) (كما) بمعنى (لمّا) ، كما هو واضح من السياق، وأحيانا تأتي بمعنى (كلما) . ولما أعرف له وجهاً بعد. وأخيراً عرفنا أنها بمعنى (عندما) في استعمال الخراسانيين، وقد بيّنا ذلك من قبل.(1/450)
النفاس بطريق التبيّن، وهو لحظة واحدة، وما وراءها استحاضة
والثاني - أنها مردودة إلى الغالب، وهو أربعون يوماًً.
ثم إن كانت معتادة في أدوار الحيض مبتدأة في النفاس، فإذا انقضى ما رددناها إليه من النفاس، حسبنا بعده طهراً من أطهارها، وعادت إلى أدوارها المعتادة. وإن كانت مبتدأة في الحيض، حسبنا نفاسها لحظةً، وجرينا على قياسنا في أمر طهر المبتدأة، كما [مضى] (1) مقرراً.
وذهب المزني إلى أن المبتدأة في النفاس مردودة إلى الأكثر، وهو ستون (2) يوماً.
وهذا مما انفرد به، وليس له أصل؛ فإنّه وافق أن المبتدأة في الحيض لا تردّ إلى أكثر الحيض، ولا فرق بين النفاس والحيض، ولم يخالف أن المعتادة في النفاس إذا استحيضت، فهي مردودة [إلى العادة قياساً، وليست مردودة] (3) إلى الأكثر.
فرع:
636- إذا ولدت مرةً أو مراراً، ولم تُنفَس أصلاًً، ولم تر دماًً، ثم ولدت ونُفست، واستحيضت، فلسنا نرى ما مضى من حالها فيما تقدم عادةً، حتى نقول: لا نفاس لها، ردّاً إلى ما عُرف من أمرها مرةً أو مراراً، بل نجعلها إذا نُفست، واستحيضت، بمثابة مبتدأة تُنفس وتستحاض؛ فإنها مبتدأة في الصورة التي ذكرناها في النفاس، وإن لم تكن مبتدأة في الولادة، ونحن إنما نتبين النفاس وجريانه على اعتيادٍ أو ابتداء.
[المميزة] (4)
637- فأما المميزة، فهي التي تُنفَس وترى دماًً قوياً، ثم ترى دماًً ضعيفاً، ويستمرُّ ويزيد على الستين، فيتبيّن بالأَخَرة أن نفاسَها الدمُ القوي، ثم إن اجتمع التمييز
__________
(1) في الأصل: جرى. والمثبت من (ت 1) ، (ل) .
(2) قال ابن أبي عصرون في مختصره: "هذا سهو في نقل مذهب المزني؛ فإِن أكثر النفاس عنده أربعون". يقول المحقق: ما نقله إِمام الحرمين هو المشهور من مذهب المزني، ونُقل عنه أيضاً أنه أربعون، وعده النووي في المجموع غريباً (ر. المجموع: 2/542، التنقيح للنووي، ومشكلات الوسيط للحموي، كلاهما بهامش الوسيط: 1/477) .
(3) زيادة من (ل) .
(4) العوان من عمل المحقق.(1/451)
والعادة، ففيه الخلاف المشهور في أدوار الحيض.
فرع (1) :
638- المميزةُ في أحكام الحيض إذا رأت مرة الدم القويَّ، وبلغ أقلَّ الحيض، فصاعداً، ولم يزد على أكثر الحيض، وضعف الدم، وتحقّق أنها مستحاضة، ثم تمادى الدم الضعيف سنةً مثلاً، ولم يعد الدم القوي أصلاً، فالذي يقتضيه قياس التمييز والرد إليه أنها طاهرةٌ، وإن تمادى الدم سنين.
وقد يختلج في النفس استبعادٌ في الحكم بطهارتها، وهي ترى الدمَ دائماً. وسببُ أنّا لا نحيّضها [أنها] (2) رأت السواد يوم وليلة مرة واحدة، و [لو] (3) لم تره، لم تكن مميزة، وكان استمرار الدم بها يوجب أن يدور عليها الحيض على ترتيبٍ وأدوار رسمناها للمبتدأة، ولو تشوّفنا -وقد طال أمرُ الدم الضعيف- إلى تحييضها، فليس معنا مردٌ ضَابط في ذلك ننتهي إليه، وليس لأكثر الطهر ضبطٌ، فنتعلّقَ به. فهذا وجه التنبيه على إشكال الفرع.
وأنا أراه ملتفتاً على مسألة ذكرناها من كلام القفّال، في أن المرأة إذا حاضت، ثم طهرت، وتباعد حيضُها سنة أو سنتين، ثم عاودها الدمُ، وقلنا: العادة تثبت بالمرّة الواحدة، فلا نردها إلى الأمد الطويل في الطهر آخراً، إذا طَبَّق الدم عليها، بل نعتبر ثلاثة أشهر، وهو مدة العدة في حق الآيسة. وقد فصلتُ هذا وألحقته بالحاشية (4) ؛ فلا يبعد أن نقول: إذا تمادى الدمُ الضعيفُ، فلا نُخلي ثلاثة أشهرٍ عن حيض، فظاهر القياس أنها طاهرة، وإن بلغ أمد الطهر الضعيف ما بلغ. والله أعلم.
[المتحيرة] (5)
639- فأما المتحيرة في النفاس، فهي التي سبقت لها عاداتٌ قديمة فنسيتها، ثم ولدت ونُفست، واستحيضت قال الأئمة: هي في قولِ كالمبتدأة، وقد تفصّل
__________
(1) في (ل) : فصل (بدلاً من فرع) .
(2) في الأصل: إِذا والمثبت من (ت 1) ، (ل) .
(3) مزيدة من (ت 1) ، ومختصر ابن أبي عصرون، ووجدناها في (ل) .
(4) كذا، ولما نعرف المقصود بالحاشية بعدُ.
(5) العنوان من عملنا.(1/452)
حكمها. وفي قولٍ نأمرها بالاحتياط، وذلك كلّه بعد أن يزيد الدمُ على الستين، فإذ ذاك ننعطف بالحكم، ونخرِّج الأمر على القولين. ثم [إذا] (1) كان تحيرُها في النفاس، وكانت ذاكرةً لعادتها في أدوار الحيض، فليس عليها ترتيب أدوار الحيض؛ فإنها لا تدري أنّ طهرها متى يقدر عودُه بعد منقرض النفاس، وينجرّ عليها من هذا إشكالٌ، لا يكاد يخفى تفريعه؛ فإن ترتيب الطهر والدور وإن أعضل، فإذا كانت ذاكرةً لمقدار الحيض، فتستفيد بذلك أحكاماً بيّنةً.
قلت: الصحيح في المتحيرة في أحكام الحيض الردُّ إلى الاحتياط، كما تقدم.
والسبب فيه أنا لا ندري مبتدأ دورها ولا سبيل إلى التحكم بإثبات مبتدأ لدورها من غير ثبت، فهذا هو الذي ورّط في الاحتياط.
وإذا ولدت ونُفست، فابتداء النفاس معلوم، فيظهر عندي جعلُها كالمبتدأة في النفاس، وإن كان يضعف ذلك في الحيض.
فهذا منتهى القول في ذلك.
640- ومما يتعلق بأحكام النفاس أنه لو تقطّع الدم على النفساء، فكانت ترى يوماًً دماًً، ويوماًً نقاءً، فحكم التلفيق قد مضى مفصلاً.
والذي نجدده في أمر النّفاس أنّها لو طهرت في أيام النفاس خمسة عشر يوماًً، ثم عاد الدم في الستين، فقد اختلف أئمتنا في أن العائد نفاسٌ أم لا؟ فمنهم من قال: ليس بنفاس؛ لأنه انقطع وجرى طهرٌ كامل، ومنهم من قال: هو دم نفاس؛ لأنه في الستين.
فإن قلنا: إنه ليس بنفاس، فنقدّر الدم العائد حيضاًً.
وإن جعلنا الدمَ العائد نفاساً، وكنا نرى ترك التلفيق، فالذي صار إليه الأكثرون أن زمان النقاء حيضٌ، وإن بلغ خمسةَ عشر.
ومن أصحابنا من قال: وإن كنا نرى ترك التلفيق، فنقضي بأنها طاهرة في الخمسة عشر ونستثني هذه الصورة في التفريع على هذا القول.
__________
(1) زيادة من (ت 1) ، (ل) .(1/453)
641- ومما يتصل بذلك أن المرأة إذا ولدت، ولم تر الدم خمسة عشر يوماً، ثم رأت الدمَ، فهذا يخرّج على الخلاف المذكور.
ففي وجهٍ نقول: هي نفساء؛ لوقوع الدم في الستين.
وفي وجهٍ نقول: هي ذاتُ جفاف، لم تُنفس، والذي رأته من الدم حيض.
فهذا تمام البيان في ذلك.
642- وقد ذكر الصيدلاني في تخللِ طهرٍ كامل في الستين تفصيلاً حسناً، فقال: إن عاد الدم في الستين، ثم انقطع على الستين، فالوجهان في أنّ العائد نفاسٌ أم لا في هذه الصورة، فأمّا إذا جاوز الدمُ الستينَ، وصارت مستحاضة، فالذي يعود بعد الخمسةَ عشَر ليس بنفاس وجهاً واحداً، وإنما هو حيضٌ.
ولا وجه عندي إلا ما ذكره، وما أطلقه الأئمة منزل على هذا التفصيل قطعاً.
والله أعلم (1) .
***
__________
(1) تم بحمد الله وعونه وتوفيقه
الجزء الأول من نهاية المطلب
بتجزئة محققه. حيث اختلفت التجزئة في نسخ المخطوطات اختلافاً متبايناً بلغت معه سبعة وثلاثين جزءاً في بعض النسخ، وفي غيرها كانت نحو أربعة عشر جزءاً.
ومن المفارقات أنه لم تنته أية نسخة عند نهاية كتاب الطهارة، كما قدرنا.
والله الموفق والهادي إلى الصواب(1/454)
نهاية المطلب
في دراية المذهب
لإمام الحرمين
عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني
رحمه الله تعالى
(419-478 هـ)
حققه وصنع فهارسه
أ. د عبد العظيم محمود الديب
الجزء الثاني
الصلاة الجمعة
صلاة العيدين صلاة الخسوف
دار المنهاج(2/1)
الفقه صعب مرامه، شديد مراسه، لا يعطي مقاده لكل أحد ولا ينساق لكل طالب، ولا يلين في كل يد، بل لا يلين إلا لمن أيد بنور الله في بصره وبصيرته، ولطف منه في عقيدته وسريرته.
الإمام أبو المظفر السمعاني
المتوفي سنة 489 هـ(2/4)
كتاب الصلاة (1)
643- الأصل في الصّلاة: الكتابُ، والسُّنة، والإِجماع، فأما الكتاب، فقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 110] وقال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] ومعناه: فرضاً موقوتاً. والآيات المشتملة على ذكر الصّلاة كثيرة.
والسنة ما روي عنه عليه السلام أنه قال: "بُني الإِسلام علَى خمسٍ" (2) الحديث.
وقال: "الصلاة عماد الدين" (3) فمن ترك الصلاة، فقد هَدم الدين. وقال: "من ترك الصّلاة متعمداً، فقد كفر" (4) . وكلام العلماء في تفسير الحديث مشهور،
__________
(1) من أول كتاب الصلاة إِلى (باب استقبال القبلة وأن لا فرض إِلا الخمس) لا يوجد إِلا نسختان فقط (ت 1) ، (ت 2) . وقد اتخذنا (ت 2) أصلاً، وجعلنا (ت 1) نصاً مساعداً مع الاستئناس بمختصر ابن أبي عصرون. [وقد أسعفتنا المقادير بعد انتهاء العمل بنسخة في غاية الجودة من أول الكتاب إلى آخر كتاب الصلاة، فأفدنا منها ما شاء الله لنا، وهي التي رمزنا إليها بـ (ل) ] .
(2) حديث بني الإِسلام على خمس، متفق عليه (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 3، 4 ح 9) .
(3) حديث "الصلاة عماد الدين، قال النووي في التنقيح: هو منكر باطل. وتعقبه ابن حجر في التلخيص قائلاً: "قلت: وليس كذلك، بل رواه أبو نعيم، شيخ البخاري، في كتاب الصلاة، عن حبيب بن سليم، عن بلال بن يحيى، قال: جاء رجل إِلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله، فقال: "الصلاة عمود الدين"، وهو مرسل رجاله ثقات" والحديث رواه البيهقي في الجامع لشعب الإِيمان، عن عمر مرفوعاً، بسند ضعّفه السخاوي، في المقاصد الحسنة، قال: وهو عند الطبراني أيضاً، وكذا الديلمي، عن علي مرفوعاً (ر. تلخيص الحبير: 1/ 173، الجامع لشعب الإِيمان: 6/ 97 ح 2550، المقاصد الحسنة: ح 632، ضعيف الجامع الصغير: 3568، كنز العمال: 18889، 18890) .
(4) حديث: "من ترك الصلاة متعمداً، فقد كفر" قال الحافظ: رواه البزار، من حديث أبي
الدرداء بهذا اللفظ، وله شاهد من حديث الربيع بن أنس، عن أنس عن النبي صلى الله عليه =(2/5)
وسنذكر الأخبار الواردة في تفصيل الصلوات على حسبِ الحاجة في مظانها.
والأمة مجمعة على أنّ الصّلاة ركن الإِسلام.
ثم كان المسلمون متعبدين بصلاة الليل في ابتداء الإِسلام على ما يُشعر بها {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل: 1] ، ثم لما عُرج برسول الله صلى الله عليه وسلم، افترض الله عز وجلّ الصلوات الخمس، في قصة مشهورة، ونسخت فرضية صلاة الليل عن الأمّة، وقيل: إِن فرضيتها باقية على الرسول عليه السّلام، والله أعلم.
وليس في القرآن تنصيصٌ على أعيانها وتصريحٌ، ولكن فيه تلويحٌ وإِيماء إِليها، ومما تكلم العلماء عليه منها، قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] . وقد اختلف العلماء في الصّلاة الوسطى، فالذي اختاره الشافعي أنها صَلاة الصُّبح؛ فإِنها محتوشة بصلاتين ليلتين قبلها، وصَلاتين نهاريَّتين بعدها، وهي حَرِيَّة بمزيد الاستحثاث، من حيث إِن وقتها يُوافي الناسَ وأكثرهم في غمراتِ النّوْمِ والغفلاتِ. ثم الذي ذَكَره الشافعي وإِن كان ظَاهراً، فهو مظنون، والذي يليق، بمحاسن الشريعة، ألا تتبين على يقين؛ حتى يحرص الناسُ على جميع الصّلوات، حتى توافقَ الصّلاة الوسطى، كدأب الشريعة في ليلة القدر. وقد ورد خبرٌ في غزوة الخندق يدل على أن الصلاة الوسطى هي: صلاة العصر (1) والله أعلم.
__________
= وسلم، وفي الباب عن أبي هريرة، رواه ابن حبان، في الضعفاء.. وأصح ما فيه حديث جابر، بلفظ "بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة" رواه مسلم، والترمذي والنسائي، وابن حبان.. ا. هـ. ملخصاً (ر. تلخيص الحبير: 2/ 148 ح 811، ومسلم: الإِيمان، باب بيان إِطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة، ح 82، الترمذي: الإِيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة ح 2618-2620، النسائي: الصلاة، باب الحكم في تارك الصلاة ح 465، صحيح ابن حبان: ح 1451) وسيأتي في (باب تارك الصلاة) .
(1) يشير إِلى حديث علي رضي الله عنه، قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، فقال: ملأ الله قبورهم، وبيوتهم ناراً، كما شغلونا عن صلاة الوسطى حتى غابت الشمس، وهي صلاة العصر". وهو متفق عليه (البخاري: الدعوات، باب الدعاء على المشركين، ح 6396، وانظر: 2931، 4111، 4533. مسلم: المساجد، باب الدليل لمن قال: الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، ح 627) ولمسلم أيضاً من حديث عبد الله بن مسعود، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما، ح 628، 631.(2/6)
644- ثم صَدَّر الشافعي كتاب الصّلاة ببيان المواقيت، واعتمد في باب المواقيت حديثَ جبريل، وأجمعُ الروايات ما رواه ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمّني جبريل عند باب البيت مرتين، فصلّى بي الظهرَ حين زَالت الشمس، وصلى بي العصرَ حين كان ظل كلِّ شيء مثلَه، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء حين غاب الشفق، وصلى بي الصبح حينَ حَرُمَ الطعامُ والشرابُ على الصائم، ثم عاد فصلى بي الظهر حين كان ظل الشيء مثله، وصلى بي العصر حين كان ظل كُلّ شيء مِثْلَيْهِ، وصلى بي المغرب كصلاته بالأمس، وصلى بي العشاء حين ذَهب ثلُثُ الليل، وصلى بي الصبح وقد كاد حاجبُ الشمس يَطلع، ثم قال: يا محمد: الوقت ما بين هذين" (1) .
فلتقع البداية بوقت صلاة الظهر تأسياً بما ورد في قصة جبريلَ.
فأول وقت الظهر يدخل بزوال الشمس، وهو انحطاطها عن منتهى ارتفاعها، فإذا انحطّت، فهذا زوالها، ثم إِنما يتبين زوَالُها بزيادة الظِّل بعد النقصان، وظل الشمس عند ابتداء طلوع الشمس مستطيل في صَوْب المغرب، ثم كلما ارتفعت الشمس، يتقلص الظل وينقص، فإِذا انتهت الشمسُ إِلى مُنْتهى ارتفاعها، وقف الظل، فإذا أخذ في الزيادة، فهذا أوّل الزّوالِ في الشرع، والشمس لا وقف لها، وهي دائبة في استدارتها على الخط الذي ترسمه، فلو ظن ظان أنها كما (2) تنتهي إِلى مداها، تنحط
__________
(1) حديث صلاة جبريل، رواه الشافعي، وأحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن خزيمة، والدراقطني، والحاكم. صححه ابن العربي، وابن عبد البر، وحسّنه النووي وابن الصلاح، كما صححه الشيخ أحمد شاكر والألباني. هذا. وقد اعترض النووي على الغزالي في قوله في هذا الخبر: عند باب البيت، وقال: المعروف، عند البيت. قال الحافظ: وليس اعتراضه جيداً، لأن هذا رواه الشافعي هكذا (ر. تلخيص الحبير: 1/173 ح 242، ترتيب مسند الشافعي: 1/50 ح 145، مسند أحمد: ج 5 ح 3081 تحقيق الشيخ شاكر، أبو داود: الصلاة، باب في المواقيت، ح 393، وصحيح أبي داود: 1/79 ح 377، الترمذي: أبواب الصلاة باب ما جاء في مواقيت الصلاة، ح 149، وصحيح الترمذي: 1/50 ح 128، وابن خزيمة: ح 325، والدارقطني: 1/258، والحاكم: 1/193 وصححه ووافقه الذهبي، والبيهقي: 1/367، والمشكاة 583، والإِرواء: 249) .
(2) "كما" بمعنى عندما.(2/7)
ويتصل انحطاطها بآخر ارتفاعها -وإِن كان لا يتبيّن للراصد في الظل- فهذا تخيّل لا اعتبار به في الشرع، والذي يحقق ذلك، أنا أولاً: لا نُبعِد أن يتخيَّل وقوفُ الظل والشمسُ في [آخر] (1) الترقي، كما لا نُبعِد ذلك في اعتقادِ أول الانحطاط وقد ورد الشرع بالنهي عن الصلاة في وقت الاستواء، كما سيأتي ذلك في باب الأوقات المكروهة، وذلك الوقت ليس وقتَ إِجزاء الظهر وفاقاً، والذي يدور في خَلَد الفطِن، أنه إِذا بان ازدياد الظل، فنعلم قطعاً أن الشمس قد زالت قبل أن بان للراصد بلحظة.
فإِن قال قائل: لو صادف التكبيرة ما قبل زيادة الظل، ثم اتصل على القرب بها ظهور الفيء، فهل تقضون بانعقاد الصلاة في هذه الحالة؟ فالخبير بالمواقيت لا يعجز عن تقسيم وقت وقوف الظل ثلاثة أقسام، حتى يفرض قسماً إِلى آخر الارتفاع، وقسماً إِلى آخر (2) تردّد الراصد، وقسما إِلى الزوال. وهذا أقصى مَا يُبديه ذو الفطنة في هذا.
ولكن الوجه القطع بأنه لا يدخل وقت إِجزاء الظهر ما لم يتبين ازدياد الظل، وما قبل ذلك معدود في وقت الاستواء. وإِذا وقعت التكبيرة قبل تبيّن ظهور الزيادة، لم يُحكم بانعقاد الصّلاة؛ فإِن المواقيت الشرعية مبناها على ما يُدرك بالحواس، وفي مساق الحديث ما يدل على ذلك؛ فإِن جبريل أبان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن آخر الوقت بمصير ظل كل شيء مثله، ولا يخفى على المتأمل أن الآخر إِذا تأقَّتَ بذلك، فأول الوقت بظهور أول الظل الزائد.
فهذا بيان أول وقت الظهر.
645- ثم ينقضي وقته إِذا صار ظل كل شيء مثلَه، من أول الزيادة. ولا يحسب المثل من أول ظل الشخص (3) ، فإِنه لو قُدّر ذلك، فقد يكون الظل وقت الاستواء في
__________
(1) في الأصل: في أجل. والمثبت من: ت 1، ومن مختصر ابن أبي عصرون. ثم وجدناها في (ل) .
(2) في (ت 1) : وقسماً آخر إِلى تردد الراصد.
(3) الشخْصُ: كل جسم له ارتفاع وظهور، وغلب في الإنسان (المعجم) ، والمراد هنا العموم وليس الإنسان وحده.(2/8)
الشتاء زائداً على الشخص، فالنظر إِلى ما يفيء ويرجع من الظل بعد النقصان، ولا خفاء بمثل ذلك، ولكني أُضطر إِلى ذكر الجليّات؛ [إِذ التزمت] (1) نظم مذهب جامع.
646- وأول وقت العصر يدخل بانقضاء وقت الظهر، فليس بين منتهى وقت الظهر ومبتدأ وقت العصر فاصل وزمان متخلل، ثم صلاة العصر مجْزِئة أداءً إِلى غيبوبة [الشمس] (2) .
ونحن نذكر الآن فصلين في مواقيت الصلاة، بهما تمام البيان.
[الفصل الأول] (3)
647- أحدهما: أن معتمد الشافعي في المواقيت بيانُ جبريل عليه السلام؛ والخبر المأثور فيه مشعر بتعرضه لبيان أوائل الأوقات في نوبة، وبيان أواخرها في نوبة، وهذا واضح معترف به في صلاة الظهر.
وفي الحديث أدنى غموض؛ فإِنه يخيل أن صلاة الظهر أقامها في اليوم الثاني في الوقت الذي أقام فيه صلاة العصر في اليوم الأول، ومن هذا اعتقد مالك (4) أن الوقت مشترك.
وقد اضطربت المذاهبُ في وقت الظهر والعصر، وأبعدُها مذهبُ أبي حنيفة؛ فإِنه زعم أن وقت العصر يدخل بمصير ظل كل شيء (5 مثليه، وأن وقت الظهر يمتد إِلى أن يصير ظل كل شيء 5) مثليه، وخالفه صَاحباهُ (6) ، وقالا: لم يقنع صاحبنا بمخالفة
__________
(1) في الأصل: لترتيب نظم. والمثبت من: ت 1.
(2) في الأصل: الشفق. والمثبت من: (ت 1) .
(3) زيادة من المحقق.
(4) ر. الإِشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/201 مسألة 176، حاشية الدسوقي: 1/177، جواهر الإِكليل: 1/32.
(5) ما بين القوسين ساقط من: (ت 1) .
(6) فيما رأيناه من كتب السادة الحنفية، عند عرضهم لرأي ومخالفة الصاحبين، لم ينسب أحدٌ هذا =(2/9)
رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خالف جبريل عليه السلام، ولم يَبْنِ مذهبه على خبر، ولا قياس، وإِنما استمسك بحديث أرسله رسول الله مثلاً، لما قال: "مثلنا ومثل من كان قبلنا" الحديث (1) ، ثم ليس فيه للأوقات ذكر، وإِنما اشتمل الحديث على كثرة الأعمال وقلتها.
فأما متعلق مالك في ادعاء الاشتراك، فما نبهنا عليه في أول العصر بمقدار ما يسع أربع رَكعات، فهذا المقدار يصلح لأداء الظهر والعصر، وهذا مذهب المزني فيما حَكاه الصيدلاني.
648- وَاقتصد الشافعي، واعتمد الحديث، وفهم من بيان جبريل فَصْلَ أواخر (2) الأوقات عن أوائل ما يليها، فعلم من هذا المساق انقطاعَ آخر وقت الظهر من أول وقت العصر، فاعترض له منشأ إِشكال مالك، فرأى في ذلك تقريبا حسناً، وقال صلى جبريل صلاة الظهر في اليوم الثاني في آخر المثل الأول، بحيث انطبق التحلل عنها على انقضاء المثلِ، فقيل: صلى جبريل حين صار ظل كلِّ شيء مثله، وصلى صلاة
__________
= القولَ عن مخالفة الإِمام الأعظم الرسول صلى الله عليه وسلم وجبريل- إِلى الصاحبين (ر. المبسوط: 1/142، البدائع: 1/122، ابن عابدين: 1/240، والبحر: 1/257) وانظر فتح القدير ونصب الراية وغيرها.
(1) حديث "مثلنا، ومثل من كان قبلنا" رواه البخاري عن نافع عن ابن عمر بلفظ: قال صلى الله عليه وسلم: "مثلكم ومثل أهل الكتابين، كمثل رجل استأجر أجراء، فقال: من يعمل لي من غدوة إِلى نصف النهار على قيراط؟ فعملت اليهود، ثم قال: من يعمل لي من نصف النهار إِلى صلاة العصر على قيراط؟ فعملت النصارى، ثم قال: من يعمل لي من العصر إِلى أن تغيب الشمس على قيراطين؟ فأنتم هم، فغضبت اليهود والنصارى، فقالوا: ما لنا أكثر عملاً، وأقل عطاء؟ قال: هل نَقَصْتُكُم من حقكم؟ قالوا: لا. قال: فذلك فضلي أُوتيه من أشاء" (رواه البخاري: الإِجارة، باب الإِجارة إِلى نصف النهار، ح 2268، وباب الإِجارة إِلى صلاة العصر، ح 2269، ورواه أيضاً في كتاب مواقيت الصلاة، باب من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب، ح 557. ورواه الترمذي: الأدب، باب ما جاء في مثل ابن آدم وأجله وأمله، ح 2871، ورواه أحمد في مسنده: 2/6، 111.) .
(2) بين سطور نسخة (ت 1) - تفسير للأوائل والأواخر، بأنها أواخر أوقات الظهر، وأوائل أوقات العصر.(2/10)
العصر في اليوم الأول حين ابتدأ المثل الثاني متصلاً بانقضاء المثل الأول، فحسنٌ أن يقال: صلى حين صار ظل كل شيء مثلَه، فكانت إِحدى العبارتين مشيرة إِلى آخر المثل، والثانية إِلى الزمان المتصل بالآخر، واحتمال هذا في اللفظين مع إِمكانه وانسياغه في اللسان أمثلُ من التزام الاشتراك، والخروجِ عن مقصود الوقت المؤقّت في فصل أواخر المواقيت عن أوائل ما يعاقبها ويليها.
فهذا بيان تأسيس مذهب الشافعي في ذلك، وليس ما ذكره بِدْعاً؛ الله تعالى ذكر بلوغ الأجل في العدة، وعَنى الإِشراف على الانقضاء، فقال: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] معناه: "فراجعوهن" وذكر البلوغ في آية أخرى وأراد الانقضاء، فقال تعالى: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} (1) [البقرة: 232] وقال الشافعي في تجويز مثل ذلك في اللسان: يقال: بلغ المسافر البلد، إِذا انتهى إِليها، وإِن لم يدخلها، ويقال: بلغها، إِذا دخلها وتوسط [أبنيتها] (2) .
649- ثم بعد هذا اعترض إِشكالٌ آخر في الحديث، فإِن جبريل أبان بالتعرض لآخر وقت الظهر انقضاءَ وقته، وجرى على تلك الصيغة في صلاة العصر، والعشاء، والصبح، ما (3) يدل على ما يخالف ظاهر المذهب؛ فإِنه صلى العصر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثليه، وصلى صلاة العشاء في النوبة الثانية حين ذهب ثلث الليل، وصلى صلاة الصبح في المرة الثانية حين أسفر، فاقتضى ظاهر ذلك أن وقت الأداء في هذه الصلوات ينتهي بالانتهاء إِلى هذه الأوقات، كما جرى ذلك في صلاة الظهر، ولكن اضطرب الأصحاب في هذا على طرق:
فذهب الأقلون إِلى التزام ذلك في هذه الصلوات، والمصيرِ إِلى أن الصلاة تفوت بالانتهاء إِلى هذه الأوقات، وهذا غير معدود من متن المذهب، وقد عزاه الناقلون إِلى الإِصْطخري.
__________
(1) وتمام الآية {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 232] ونكاح زوج آخر لا يكون إِلا بعد انقضاء العدة.
(2) في الأصل: وتوسط فيها. والمثبت من (ت 1) .
(3) (ما) الموصولة هنا فاعل للفعل (جرى) .(2/11)
والذي نص عليه الشافعي وتابعه عليه الأئمة، أن هذه الصلوات لا تفوت بالانتهاء إِلى هذه الأوقات. ورأى الشافعي إِزالة الظاهر فيها؛ لأخبار صحيحة صريحة عنده في امتداد وقت الأداء وراءها؛ فإن النبي -عليه السلام- قال: "من أدرَك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك العصر، ومن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس، فقد أدرك الصبح" (1) ، فكان ما ذكره جبريل بياناً للمواقيت المختارة في الصلوات الثلاث.
وقال قائلون من حملة المذهب: "صلاة العصر والصبح لا تفوت بالانتهاء إِلى المثلين والإِسفار، وصلاة العشاء تفوت بالانتهاء إِلى الزمان المذكور"، وإِنما فصَّل هؤلاء؛ لأن الخبر في إِدراك ركعة ورد في العصر والصبح دون العشاء. وهذا غير مرضي؛ فإِنه ثبت في صلاة العشاء ما يناقض هذا المذهب؛ فإِنا لا نعرف خلافاً في أن الحائض إِذا طهرت، وقد بقي من الليل مقدارُ ركعة، أنها تصير مُدْرِكة لصلاة العشاء، ولو لم يكن ذلك معدوداً من وقت العشاء، لما صارت مدركة لها، كما لو طهرت مع طلوع الفجر. فهذا أحد الفصلين.
الفصل الثاني
في بيان كلام الأصحاب في وقت الفضيلة، والاختيار، والجواز في صلاة العصر
650- قال الشيخ أبو بكر (2) : للعصر أربعة أوقات:
وقت الفضيلة: وهو أول الوقت.
ووقت الاختيار: وهو يمتد إِلى انقضاء المثل الثاني.
ووقت الجواز من غير كراهية: وهو ما بعد ذلك إِلى اصفرار الشمس.
__________
(1) حديث "من أدرك ركعة.." متفق عليه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه (ر. البخاري: مواقيت الصلاة، باب من أدرك من الفجر ركعة، ح 579، مسلم: المساجد، باب من أدرك ركعة من الصلاة، ح 608) .
(2) المراد الصيدلاني، كما يفهم من كلامه الآتي عن صلاة الظهر.(2/12)
ووقت الجواز مع الكراهية: وهو مع الاصفرار إِلى الغروب.
وما ذكره سديد. أما الفضيلة، فمأخوذة من الأخبار التي تستحث على مبادرة الصلوات في أوائل الأوقات، ونحن نذكر على الاتصال (1) ، فهذا بيان وقت الفضيلة.
وأما وقت الاختيار: فمتلقى من بيان جبريل، فما دخَل تحت بيانه، فهو مختار، وإِن انحط عن الأفضل.
والجواز إِلى الغروب مستفاد من الحديث الذي ذكرناه.
والكراهية ثابتة في وقت الاصفرار؛ لأخبار سنرويها في باب الأوقات المكروهة.
وللعصر وقت خامس وهو: وقت الجمع بعذر السفر والمطر، كما سيأتي إِن شاء الله تعالى.
651- فأما صلاة الظهر، فلم يقسم وقتَها الصيدلاني، ولاشك أنه ينقسم إِلى: الفضيلة والاختيار. فأما وقت الفضيلة، فالأولُ. والاختيار ممتد إِلى انقضاء الوقت الذي ذَكره جبريلُ. ولها وقت الجمع، كما سيأتي.
فهذا تمام مضمون الفصْلين.
652- ونحن نذكر الآن وقتَ صلاة المغرب، ووقتَ صلاة العشاء، والصبح.
فأما وقت صلاة المغرب، فيدخل بغروب الشمس، وبه إِفطار الصائم، وقد يُشْكل غروبُ الشمس على من يقطن موضعاً محفوفا بالتلال، والجبال، فالرجوع فيه إِلى بَدْو (2) الظلام منَ المشرق، فليعلم الطالب أن للطلام طلوعاً وبَدْواً من المشرق عند تحقق غروب الشمس، كما للصبح الصادق طلوعٌ منه في أول النهار.
وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشار إِلى المشرق بيده فقال: "إذا أقبل
__________
(1) كذا في النسختين، ولعل المقصود: ونحن نذكر الأوفات على التوالي، وجاءت (ل) موافقة لهما.
(2) بهذا الضبط، وهو مصدر غير جارٍ على الألسنة للفعل: (بدا) بمعنى ظهر (القاموس) .(2/13)
الظلام من هاهنا، وأشار إِلى المغرب. وقال: وأدبر النهار من هاهنا، فقد أفطر الصائم" (1) .
فهذا بيان أوّل وقت صلاة المغرب.
فأمّا آخر وقتها، فقد اختلف قول الشافعي فيه، فقال في أحد القولين: يمتّد وقتها إِلى غيبوبة الشفق الأحمر، فبها يدخل وقت العشاء، وليس بين منقرض وقتها ومبتدأ وقت العشاء فاصل من الزمان.
وقال في القول الثاني: لا يمتد وقت أدائها إِلى وقت العشاء (2) .
توجيه القولين: من قال: إِنه لا يمتدّ، استدل بحديث جبريل وإِقامته صلاة المغرب في وقتٍ واحد في النوبتين جميعاً، ويشهد لهذا القول اتفاق طبقات الخلق في الأعصار على مبادرة هذه الصلاة في وقتٍ واحد، مع اختلافهم فيما سواها من الصلوات.
ومن نصر القول الثاني، استدل بأخبار رواها الأئمة وصححوها (3) ، منها ما روي "أن النبي عليه السلام صلى المغرب عند اشتباك النجوم" (4) وقد ذهب أحمدُ بن حنبل (5) إِلى هذا القول، ولولا صحة الأخبار عنده، لما رأى ذلك.
__________
(1) متفق عليه من حديث عمر رضي الله عنه بلفظ: "قال صلى الله عليه وسلم: إِذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم" (اللؤلؤ والمرجان: 1/244 ح 668) .
(2) ر. المختصر: 1/56.
(3) في هامش الأصل: صح عند المحققين من المحدثين امتداد وقت المغرب إِلى غيبوبة الشفق.
(4) لم أصل إِلى الحديث بهذا اللفظ، ولكن وردت أحاديث صحيحة، في أن وقت المغرب ممتدّ إِلى دخول وقت العشاء، منها حديث جابر في إِمامة جبريل عليه السلام، حكى الترمذي أنه أصح شيء في المواقيت، يعني في إِمامة جبريل، ومنها حديث بريدة، أن النبي صلى الله عليه وسلم بين المواقيت للسائل عنها، بقوله: "صل معنا هذين اليومين".. وهذا في صحيح مسلم، وبمعناه في مسلم أيضاً من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. (ر. التلخيص: 1/174 ح 248، وصحيح مسلم: 1/426-430، كتاب المساجد ومواضع الصلاة: باب أوقات الصلوات، ح 612، 613. ونيل الأوطار: 1/389-391) .
(5) ر. الإِنصاف: 1/434، كشاف القناع: 1/253، ويستفاد منهما أَن لها وقتين، أحدهما ما نسبه الإِمام لأحمد.(2/14)
وأما ابتدار الناس إِلى هذه الصلاة، فالسبب فيه -والعلم عند الله- أن العَمَلَة وأصحابَ المكاسب يأوون ليلاً عند الغروب إِلى منازلهم، ووقت الغروب غير بعيد من وقت غيبوبة الشفق، فلو لم يبتدروا هذه الصلاة، لغلبَ فَواتُها على طوائفَ.
653- التفريع على القولين: إِن قلنا: يمتد الوقت إِلى غيبوبة الشفق، فلا كلام، وإِن حكمنا بأن الوقت لا يمتدّ إِلى الغيبوبة، فإِلى أي وقت يمتد؟ وما التفصيل فيه؟ هذا يستدعي تقديمَ أمرٍ في المواقيت هو مَعْنِيٌّ في نفسه، والحاجة ماسة إِليه فيما نحاوله من وقت صلاة المغرب على قول التضييق، فنقول: مذهب الشافعي أن الأفضل إِقامة الصلوات في أوائل الأوقات، وسيأتي ذلك في فصل بعد هذا.
654- والذي نذكره منه أن ضبط القول في إِدراك فضيلة الأوّليّة مختلف فيه، وحاصل القول فيه ثلاثة أوجه: وجهان ذَكرهما الشيخ أبو علي، والثالث ذَكرهُ صاحب التقريب.
فأحد الوجهين اللذين ذكرهما أبو علي أن وقت الفضيلة يمتد إِلى نصف الوقت في كل صلاة، ووجْهُ هذا، أنه ما لم يتم النصفُ، فمعظم الوقت باق، فيجوز أن يسمى مقيم الصلاة -والحالة هذه- موقِعاً صلاتَه في حدّ الأولية.
وهذا بعيد عنْدي؛ فإِن إِقامة الصلاة في أول الوقت يقتضي بداراً، ومن أخَّر الصلاةَ إِلى قريب من نصف الوقت، في حُكم المؤخِّر، ثم من يضبط بالنصف لاشك أنه يجعل البدار أولى، وهذا تقسيم أول (1) الوقت إِلى الأفضل وغيره.
والوجه الثاني: أن الفضيلة إِنما يُدركها من نطق تكبيرةَ العصر على أول الوقت، وهذا القائل يقول: لا يدرك فضيلة الأوّليّة إِلا من يقدم الطهارة، والتأهب على دخول الوقت، حتى قال هذا القائل: لا يتصور إِدراك فضيلة الأوّلية مع التيمم؛ فإِنَّ شرط التيمم أن يقع بعد دخول وقت الصلاة. وهذا سرفٌ ومجاوزة حدّ؛ فإنَّ الذين كانوا يبادرون الصلاة في أول الوقت كانوا لا يضيقون الأمر على أنفسهم إِلى هذا الحد، فكيف يتخيل المحصّل ثبوت هذا مع العلم بان الأذان والإِقامة كانا يقعان بعد دخول
__________
(1) في (ل) : وهذا تقسيم الأولية إلى الأفضل وغيره.(2/15)
أوقات الصّلوات، وإِنما اضطربت المذاهب في صلاة الصبح ووقت الأذان لها، كما سيأتي ذلك؛ فالوجهان اللذان ذكرهما الشيخ ضعيفان جداً.
والوجهُ الثالثُ: ذكره صاحب التقريب، وهو الأقربُ؛ وذلك أَنَّهُ قال: معنى المبادرة أن يتشمر الإِنسان لأسباب الصّلاة عقيب دخول الوقت، بحيث لا يعد متوانياً ولا مؤخراً لها، والطهارةُ والأذان والإِقامة من الأسباب. ثم قال: "لو وقع في شُغل خفيف من أكل لُقَم أو مخاطبة إِنسان من غير تطويل، فهذا مما لا يفوّت الأوَّليّة".
ورأيتُ الطرق مترددة في إِيقاع التستر بعد الدخول. فألحق العراقيون التستر بالطهارة، ولم يَعُدُّوا الاشتغال بها مفوِّتاً للأوَّليّة. وكان شيخي يناقش في هذا من أجل أن فريضة الستر لا اختصاص لها بالصلاة، ولست أرى على الوجه الذي ذكره صاحب التقريب لهذا معنى؛ فإِنَّه صار إِلى أن التناهي في التضييق لا أصل له في تفويت فضيلة الأولية، كما ذكرناه الآن، وليس الزمان الذي يتأتى الستر فيه مما يُنهي الأمر إِلى مجاوزة التقريب في ذلك.
655- وعلى الجملة [أسوتنا] (1) في ذلك كله ما كان يعتاده السلف الصالحون المبادرون لإِقامة الصلوات في أوائل الأوقات، والكلام في مثل ذلك ينتشر، ونحن نحاول ضم النشر ما أمكننا، فنقول: الأذان والإِقامة معتبران بعد وقت الصلاة، وكذلك الطهارة، وكل ذلك من غير تطويل بيّن، ولا تكلّفِ عجلةٍ على خلاف الاعتياد، ويعتبر أيضاً تقديم السنن التي قدّمها الشرع على الفرائض، ثم ما لا يدخل في الحس دخولاً ظاهراً، ولا يؤثر في إِظهار أثر التأخير إِلا للراصد الحاذق، فذاك لو وقع، فغير مؤثر في تفويت الفضيلة، وأكل لقمة يكسر بها (2) شهوة الجوع، والتستر مع قرب الثوب من هذا الفن.
ثم الذي يتجه في ذلك أن وقت الفضيلة إِن انقسم إِلى الأفضل والفاضل، لم يبعد، فالذي يترك الأذان والإِقامة والستر لا يصير بهذا البدار حائزاً للأفضل، وإِنما تتلقى
__________
(1) في الأصل: أسلوبنا. والمثبت من: (ت 1) . ثم جاءت به (ل) أيضاً.
(2) في (ت 1) : يسكن سَوْرةَ الجوع.(2/16)
حيازة الأفضل من ترك الفعل الذي لا يُحس له أثر ظاهر في الوقت، ويلحق به أيضاً تقديم الطهارة على الوقت لمصَادفة الأوّلية، فهذا أقصى الإِمكان في ذلك.
ثم كان شيخي أبو محمد (1) يميل إِلى ضبط الأولية بنصف الوقت، وكان يذكر فيه دقيقة: وهي أن المرعي نصف الزمان الذي دَخَل تحت بيان جبريل عليه السلام، وهذا بيِّن في وقت صلاة الظهر، فأما وقت صلاة العصر فمنتهاه في بيانه عليه السلام أن يصير ظل كل شيء مثليه.
والمذهبُ امتدادُ وقت الجواز وراء ذلك. وكان شيخي يقول: وإِن كان كذلك، فالفضيلة متلقاة من نصف المثل الثاني، والأمر على ما ذكره.
فهذا حكم ما قيل في ضبط الأوليّة.
656- ونحن نعود بعد ذلك إِلى صلاة المغرب ووقتِها في التفريع على [قول] (2) التضييق، فنقول: أما رعاية التطبيق على أول الوقت، فليس معتبراً، بلا خلاف، وأما النظر إِلى نصف وقته كما سبق نظيره في الفضيلة، فليس معتبراً أيضاً، وإِنما اعتبر الأئمة في وقت المغرب التقريبَ الذي راعاه صاحبُ التقريب في فضيلة الأولية، وقد نص عليه في صلاة المغرب، تفريعاً منه على قول التضييق.
فنقول: نَعتبر وقتَ الأذان والإِقامة، ونعتبر وقتَ الطهارة، ثم بعد ذلك -مع الاقتصاد في ذلك كله بين التطويل وبين التعجيل- نرعى وقتاً يسعُ خمسَ ركعات بالفاتحة، وقصار المفصل، وإِنما ذكرنا الخمس؛ لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يصلون ركعتين خفيفتين (3) بين الأذان والإِقامة لصلاة المغرب، ولست أرى هذه السنة بمثابة سنة الظهر؛ فإن تقديم سنة الظهر كان مستقراً من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، مشروعاً، وليس كذلك الركعتان قبل فرض المغرب؛ فإن الصحابة كانوا لا يبتدرونها، كالذي ينتهز فرصة؛ فإن المؤذن كان
__________
(1) هنا صرح الإِمام بكنية والده (أبو محمد) . مما يؤكد بقطع بأنه يعني (بشيخي) والده.
رضي الله عنهما.
(2) زيادة من: (ت 1) .
(3) في هامش (ت 1) : مما يحفظ: ركعتان من الخير، هما اللتان بين الأذان والإِقامة.(2/17)
لا يصل أول كلمة الإِقامة بآخر كلمة الأذان في المغرب، فهذا ما أردناه في ذلك. ثم إِن أكل لُقَماً يلتحق بما لا يحس له أثر في الوقت.
وعلى الجملة: الأمر في وقت المغرب أضيق قليلاً مما جعلناه معتَبَرَنا في الأولية؛ لأن الأثر يسرع ظهوره في وقت المغرب بازدياد مبادىء الظلام.
657- ثم ذكر العراقيون وراء ما ذكرناه اختلافاً في أمرٍ، وهو يستدعي تقديم أصلٍ آخر مقصودٍ في المواقيت، فنقدمه على دأبنا فيما نُقدِّم، ونقول: من أوقع في غير صلاة المغرب ركعةً في الوقت، ووقعت بقيةُ الصلاة وراء منتهى الوقت، فقد اختلف الأئمة في أن الصلاة مؤداة أو مقضية؟ فمنهم من قال: هي مقضية، مهما وقع التحلل [وراء] (1) الوقت. ومنهم من قال: هي مؤدّاة اعتباراً بإيقاع ركعة في الوقت.
وذكر شيخي في بعض الدروس: أن الأمر منقسم، والواقع في الوقت مُؤدّى، والواقع ورَاءه مقضي. وسيظهر أثر هذا في باب القصر. ومن آثاره الناجزة جواز اعتماد ذلك؛ فإِن حَكمنا بأن الصلاة تصير مقضية أو يصير بعضها مقضياً، فلا يجوز التأخير إِلى هذا الوقت قصداً، وإِن قلنا: هي مؤداة كلها، فقد كان شيخي يردد جوابه مع ذلك في أنه هل يجوز التأخير إِلى هذا الحدّ؟ والمسألة محتملة.
والظاهر عندي منعُ التأخير؛ فإنَّ جَعْل الصلاة مؤداةً مأخوذ عندي من وقت العقد والنيَّة، وما أرى إِخراج بعض الصلاة عن الوقت قصداً جائزاً (2) .
ومما يليق بتمام ما نحن فيه، أن الأئمة ذكروا الركعة فيما يقع في الوقت، فإِنها القدر الذي يقال فيه: إِنَّه معتد به محسوب. وهو الذي يشترط إِدراكه من صلاة الجمعة، [وكان شيخي يردّ ذلك مراراً إِلى] (3) تفصيل المذهب في إِدراك الفريضة في
__________
(1) في الأصل: في الوقت. والمثبت من (ت 1) .
(2) "جائزاً" مفعول ثانٍ لـ (أرى) .
(3) في الأصل: "وكان شيخي يردد ذلك مراراً إلى تفصيل ... ".
وفي (ت 1) : "فكان شيخي مراراً يرد ذلك إلى ... ".
وفي (ل) : "ورأيت شيخي مراراً يرد إلى ... ".
والمثبت عبارة مؤلفة من النسخ الثلاث.(2/18)
حق أصحاب الضّرورات، وسيأتي قولٌ ظاهر في اعتبار تكبيرة العقد في حقوقهم، والذي ذكره ونزَّله غير بعيد، فهذا بيان ما قَدَّمنا.
658- وذكر العراقيون في صلاة المغرب تردداً واختلافاً، في أَنَّا إِذا ضيقنا وقت المغرب، فهذا التضيق لابتداء العقد، أمْ هو جارٍ في الصلاة كلها حلاً وعقداً؟ فأحد الوجهين - أن التضييق يشمل الصلاة، حتى إِذا وقع بعضها وراء الوقت الذي يسمع ما وصفناه، وقع في الخلاف المقدّم الآن، في أن الصلاةَ مقضيةٌ أو مؤدّاةٌ وجهاً واحداً.
الوجه الثاني: أن التضييق في ابتداء العقد، حتى لو مدّ المصلي الصلاة وأخرجها عن الوقت المعتبر، فالصلاة كلها مؤداةٌ، وجهاً واحداً، وجواز المدِّ يمتد إلى غيبوبة الشفق، وإِنما اختصت صلاة المغرب بذلك عند هذا القائل من بين الصلوات، لما روي عن النبي عليه السلام "أنه قرأ سورة الأعراف في صلاة المغرب" (1) . وهذا -إِذا حمل على الأمر المعتاد- قصدٌ لإِخراج أفعال الصلاة عن الوقت المذكور، وكان شيخي يذكر هذا في مقتضى ما ذكره العراقيون، ويقول: من جوز في غير صلاة المغرب إِيقاع بعض الصلاة وراء الوقت، ففي تجويز ذلك في صلاة المغرب عنده خلاف؛ لاختصاصها بالتضييق. وهذا وإِن كان يبتدره فهمُ المبتدىء، فهو غلطٌ عندي، والوجه مَا ذكره العراقيون؛ للخبر، ولأن وقت المغرب على قول التضييق خارج عن الضبطِ، فردُّ الأمر إِلى وقت العقد، والاتساع في وقت التحلل حسنٌ بالغ عندي.
ثم قَطعَ أئمتنا بأن من أخرج بعض الصّلاة عن الوقت وإِن منعنا ذلك، فالصلاة صحيحة، وقالوا: إِن خطر للناظر أن القضاء لا يصح بنية الأداء، فهو مردود عليه؛
__________
(1) حديث قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم سورة الأعراف في صلاة المغرب، رواه البخاري من حديث زيد بن ثابث، والنسائي، والترمذي، وأحمد. (ر. البخاري: الأذان، باب القراءة في المغرب، ح 764. والترمذي: الصلاة، القراءة في المغرب: 2/113 ح 308، 309، والنسائي: 1/ 214، القراءة في المغرب، ح 989، ومسند أحمد: 5/418، والتلخيص: 1/175 ح 249) .(2/19)
فإِنا نصحح نية الأداء في محل الضرورة، كما لو صام المحبوس شهراً حسبه شهر رمضان، ثم بان أنه ذو القعدة بعد مضي شهر رمضان، فيقع الاعتداد بما جاء به.
وهذا عندي صحيح إِذا كان لا ينضبط الوقت الذي إِليه التّأخير، وكان يعزم (1) المؤخِّر أنه يسع الصلاة، ثم يتفق خروج بعضها، فأمّا إِذا كان ينضبط في العلم أن الوقت لا يسع إِتمام الصلاة، ثم قلنا: إِن الصَّلاة مقضية، فإذا نوى الأداء والوقتُ وقتُ القضاء على بصيرة، لم تصح الصلاة أصلاً، وهذا بمثابة ما لو نوى الأدَاء في صلاة يبتديها بعد الوقت. ولو أنشأ الصلاة في بقية الوقت، وكان يسع تمام الصّلاة، ثم مَدَّهَا قصداً حتى خَرجَ الوقت، فالذي رأيت الطرق عليْه أن الصَّلاة لا تفسد، تفريعاً على أَنَّ الصّلاة مقضية، فإنه لما نوى الأداء كان الأداء ممكناً، فطريان حكم القضاء غير ضائر، وليس كما إِذا خرج بعض الجمعة عن الوقت، على ما سيأتي؛ فإن الإِيقاع في الوقت شرط صحة الجمعة، ولذلك لا يصح قضاؤها، والوقت ليس شرطاً في غيرها من الصلاة، ولذلك يصح القضاء في غيرها.
فرع:
659- إِذا مضى بعد الغروب على قول التضييق ما وصفناه، فإقامة السنة بعد الفريضة محبوبة، ثم هي مؤداة.
وفي هذا بقية نظر؛ فإن السنة التابعة للفريضة وقتُها وقتُ الفريضة، فينبغي على قياس تجويز أداء سنة صلاة المغرب أن يجوز افتتاح أداء الفرض في وقت أدَاء السنة، والوجه في هذا عندي: أَنَّا اعتبرنا مقدار خمس ركعات بعد التأهّبِ، فإن مضى ما يسَعُ خمساً، فالسنة بعدها نافلة محبوبة، تسمى صلاة الأوَّابين، وما أراها بمثابة سنة الظهر التي تلي الصلاة (2) . وكان كثير من السلف يستغرق ما بين الفراغ من فرض صلاة المغرب إِلى أول وقت العشاء بالنوافل، فالمعدود وقتاً للمغرب بعد انقضاء وقت التأهب ما يسع قدر خمس ركعات. ثم إِن وقعت الركعتان قبل الفرض، فذاك، وإِن
__________
(1) كذا في الأصل، وفي (ت 1) ، ثم وجدناها في (ل) "يُقدر"، فهل "العزم" ومعناه الإرادة والتصميم وعقد النية يؤدي معنى "التقدير" فتكون "يعزم" مضمَّنة معنى "يقدر"؟
(2) في (ت 1) : "تلي العصر". والمراد التي تلي صلاة الظهر، كما صرح به ابن أبي عصرون في مختصره للنهاية.(2/20)
قُدّرتا بعد الفرض، فوقتهما وقتٌ لافتتاح الفرض، وأما ما يزيد على ذلك على قول التضييق، فهو خارج عن الوقت، وما يفرض فيه من نافلة، فليس على حقيقةِ توابع الفرائض. وقد نجز القول في وقت المغرب.
660- فأما وقت العشاء، فيدخل أوله بغيبوبة الشفق الأحمر. والشمسُ إِذا غربت يعقبها حُمرة، ثم ترِقُّ إِلى أن تنقلب صفرةً، ثم يبقى بياضٌ. وأَول وقت العشاء يدخل بزوال الحمرة والصفرة. وبين غيوبة الشمس إِلى زوال الصفرة، يقرب ممّا بين الصُّبح الصّادق إِلى طلوع قرن الشمس، وبين زوال الصفرة إِلى انمحاق البياض، يقرب مما بين الصبح الصادق والكاذب، فهذا بيان أول وقت العشاء.
وآخره في بيان جبريل إِلى مضيّ ثلث الليل وقد روي عن النبي عليه السلام في حديث صحيح أَنه قال: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة، ولأخرت العشاء إلى نصف الليل" (1) واختلف قول الشافعي في وقت الاختيار لصلاة العشاء لمكان الخبرين.
__________
(1) الشطر الأول: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" متفق عليه، من حديث أبي هريرة. (ر. اللؤلؤ والمرجان 1/59 ح 142) .
وأما الشطر الثاني: "ولأخرت العشاء إِلن نصف الليل" فرواه الترمذي بلفظ: "إِلى ثلث الليل أو نصفه"، وأحمد في مسنده، وصححه الشيخ شاكر، ح 7406، 9589، 9590، ورواه ابن ماجة، وفي هذه الروايات الشك في ثلث الليل أو نصفه، ورواه الحاكم، وفيه إِلى نصف الليل، بغير شك، وقال صحيح على شرطهما، وليس له علّة، ووافقه الذهبي، ورواه البيهقي: 1/36، 37، ورواه النسائي، وابن خزيمة، وعلقه البخاري، وابن حبان، وصححه الأرناؤوط.
هذا. وقد قال النووي في المجموع عن هذا الحديث: "وأما الحديث المذكور في النهاية والوسيط، فهو بهذا اللفظ منكر لا يعرف، وقول إِمام الحرمين: إِنه حديث صحيح، ليس بمقبول منه، فلا يغتر به" ا. هـ بنصه. قال الحافظ في التلخيص معلقاً على ذلك: "وكأنه تبع في ذلك ابن الصلاح، فإنه قال في كلامه على الوسيط: لم أجد ما ذكره من قوله "إِلى نصف الليل"، في كتب الحديث مع شدة البحث. وهذا يتعجب فيه من ابن الصلاح أكثر من النووي، فإنهما وإِن اشتركا في قلة النقل من مستدرك الحاكم، فإِن ابن الصلاح كثير النقل من سنن البيهقي، والحديث فيه أخرجه من الحاكم. ا. هـ. كلام الحافظ بنصه. (ر. التلخيص: 1/64، 65 ح 67، وسنن الترمذي: الصلاة، باب ما جاء في تأخير صلاة =(2/21)
وفي ذلك شيءٌ يجبُ التنبيه لهُ، وهو أن الحديث المشتمل على نصف الليل كان يجب أن يُقطع بتنزيل المذهب عليه، ويُحمل حديث جبريل على أن مد الوقت إِلى الثلث فحسب لدرء المشقة، فإِنه عليه السلام قال في الحديث الآخر: "لولا أن أشق عَلى أمتي" فهذا الترتيب موجب لقطع القول، ولكن، ما استاق رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث الذي فيه السواك مقصوداً فيما يبين المواقيت، ويمكن أن يقال: أراد عليه السلام التقريب بذكر النصف وأرسله مثلاً، وأما حديث جبريل فمسوق للمواقيت، فكان التعلّق به أولى.
ثم ما وراء الوقت المختار إِلى الفجر الصادق وقتٌ لأداء العشاء جوازاً على المذهب الظاهر، وقد تقدّم استقصاء ذلك في أثناء الفصول الماضية.
661- وأمّا وقت صلاة الصّبح، فإِنه يدخل بطلوع الفجر الصادق، ويتقدّم الصّادقَ الكاذبُ، فيبدو الكاذبُ مستطيلاً، ثم يَمَّحق، ويبدو الصَّادق مستطيراً، ثم لا يزال الضوء إِلى ازدياد، ولا حكم للفجر الكاذب أصلاً، وسبيله سبيل كوكب يَطلع ويغرب، وهذا متفق عليه، وقال صلى الله عليه وسلم "لا يغرنكم الفجر المستطيل فكلوا واشربوا حتى يطلع الفجر المستطير" (1) .
ووقت الاختيار إِلى الإِسْفار، ووقت الجواز إِلى طلوع الشمس.
فهذا بيان مواقيت الصّلاة ترتيباً على بيان جبريل.
__________
= العشاء الآخرة، ح 167، وتعليقات الشيخ شاكر بهامشه (1/310، 311) ، والحاكم: 1/146، وابن ماجة: الصلاة، باب وقت صلاة العشاء، ح 691، وصحيح ابن ماجة: ح 565، وابن حبان: ح 1540، وسنن البيهقي: 1/36، 37، وشرح مشكل الوسيط لابن الصلاح، والتنقيح للنووي، كلاهما بهامش الوسيط: 2/18) .
(1) حديث: لا يغرنكم الفجر المستطيل ... ، رواه الترمذي من حديث سَمُرَة، بلفظ مقارب، وهو في مسلم، بألفاظ كلها مقاربة لهذا المعنى، ورواه أبو داود، والنسائي. (ر. مسلم: الصيام، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، ح 1094، الترمذي: الصوم، باب ما جاء في بيان الفجر، ح 706، أبو داود: الصوم، باب وقت السحور، ح 2346، النسائي: الصيام باب كيف الفجر، ح 2173، والتلخيص: 1/177 ح 255) .(2/22)
فصل
قال: "ولا أذان إِلا بعد دخول الوقت" (1) .
662- هذا وإِن كان من أحكام الأذان، ولكنه ذكره في المواقيت لتعلّقه بها.
فنقول: الأذان لكل صلاة لا يجزىء ولا يُعتد به ما لمْ يدخل وقت الصلاة، إِلا صلاة الصبح، فإن الأذان قبل الصبح مجزىءٌ عند الشافعي، وقد صح عنده بطرقٍ: أن بلالاً كان يؤذن بليلٍ لصلاة الصبح (2) .
ثم اضطرب أئمتنا في أن الأذان إِلى أي حدّ يقدم على الصبح؟ فقال بعضهم: إِذا مضى الوقت المختار للعشاء، دخل وقت الأذان للصّبح. فإِن جعلناه ثلث اللّيل، فإِذا مضى، جاز الأذان للصبح.
ومنهم من قال: لا يعتد به ما لم يوقع في النصف الثاني، وهذا القائل يمنع ذلك قبل مضي النصف، وإِن كان يرى الوقت المختار ثُلُثاً.
ومن أصحابنا من قال: لا يعتدّ بالأذان إِذا تفاحش التقديم، وإِن وقع في النصف الثاني، وهذا القائل يقول: ينبغي أن يقع سحراً قريباً من الصبح.
ثم وجد هؤلاء متمسكاً في ذلك من الحديث، فَرَوَوْا عن سعد القَرَظ أنه قال:
"كان الأذان لصلاة الصبح على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشتاء لسُبُعٍ بقي
من الليل، وفي الصيف لنصفِ سُبُع بقي من الليل" (3) ، وروى صاحب التقريب هذا
__________
(1) ر. الأم: 1/72.
(2) حديث أن بلالاً كان يؤذن بليلٍ، متفق عليه من حديث ابن عمر، وعائشة، وابن مسعود (ر. اللؤلؤ والمرجان 2/6 ح 662، 663، 664) .
(3) حديث سعد القرظ، رواه البيهقي في المعرفة، ورواه الشافعي في القديم، قال النووي في المجموع: هذا حديث باطل، غير معروف عند أهل الحديث، نقله الغزالي وغيره. وساق الحديثَ على نحو ما حكاه إِمام الحرمين هنا عن صاحب التقريب: "سبع ونصف شتاء، وسبع صيفاً". (ر. معرفة السنن والآثار: 2/ 210 ح 2415. المجموع: 3/88، فتح العزيز: 3/38، 39، ومشكل الوسيط لابن الصلاح والتنقيح للنووي بهامش الوسيط: 2/ 20، والتلخيص: 1/179 ح 257) .(2/23)
في كتابه، وفيه أنه قال: "لسُبع ونصف بقي من الليل في الشتاء، ولسبع بقي في الصيف".
وعندي أن هذا ليس تحديداً، وإِنّما هو تقريب، والمعتبر فيه على التقريب أَنَّ وقت هذه الصلاة يوافي الناس وهم في غفلةٍ، وللشرع اعتناء بالحث على أول الوقت، فلو صادف التأذين أولَ الوقت، فإِلى أن ينتبه النائم وينهض ويلبس ويستنجي ويتوضأ، يفوته أول الوقت، فقدم التأذين بقدر ما إِذا فُرض التهيؤ أمكن مصَادفة أول الصبح، وهو يقرب من السبُع ونصف السبُع، ولاشك أن ذلك ليس بحد على هذا الوجهِ الذي نفرعّ عليه، وإِنما يشترط هذا القائل التقريب. ولا نعتد بالأذان إِذا فرض بُعدٌ مفرط عن الصبح؛ لأنه دعاء إِلى صلاة الصبح، فينبغي أن يكون قريباً منها.
وذكر الشيخ أبو علي في شرح التلخيص وجهاً رابعاً بعيداً، أنه يجوز الأذان للصبح في جميع الليل اعتباراً له بنية الصوم، فكما يعم جوازُ نية الصوم للغد جميعَ الليل، فكذلك القول في الأذان للصبح، ولولا عُلُوُّ قدر الحاكي، وأنه لا ينقل في الشرحين (1) إِلا ما صح وتنقح عنده، لما كنت بالذي يستجيز نقل هذا. وكيف يحسن الدعاء لصلاة الصُّبح في وقت الدعاء إِلى صلاة المغرب، وإِلى صلاة العشاء، والسَّرَف في كُلّ شيء مُطَّرَح. ثم لو اكتفى المؤذّنُ للصُّبح بالتأذين قبل الصبح، جاز.
ولا شك أنه لا يعتد بالإِقامة إِلا بعد طلوع الفجر.
والأولى أن يكونَ في المسجد مؤذنان: يؤذن أحدهما قبل الفجر، ويؤذن الثاني بعد طلوع الفجر، وهكذا كان في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإِن بلالاً كان يؤذن بليل، وابن أم مكتوم كان يؤذن إِذا طلع الفجر، ثم كان يقيم بلال عند قيام الصلاة.
قال شيخنا أبو بكر: إِن لم يكن في المسجد مؤذنان، فينبغي أن يؤذن المؤذن مرتين، مرة قبل الفجر، ومرة بعده، وإِن أراد الاقتصار على مرة واحدة، فالأولى أن يؤذن بعد الصبح. هذا ما قطع به في طريق الأوْلى، وهو مقطوع به لاشك فيه.
__________
(1) المراد شرح تلخيص ابن القاص، وشرح فروع ابن الحداد.(2/24)
663- فإِن قيل: قد ذكرتم أوجهاً في ضبط القول في التأذين لصلاة الصُّبح، وكل واحدٍ يسير إِلى مَسْلَكٍ في المعنى قريب أو بعيد، فمن يعتبر انقضاء الوقت المختار للعشاء، فالمرعي عنده ألاّ ينتظم (1) هو وأذان العشاءِ، فيلتبس الأمر.
ومن راعى إِيقاعه في النصف الأخير يعتبر مع ما ذكرناه انقضاء معظم الليل.
[ومن يقرب، يعتبر] (2) تحقيق الدعاء للصلاة، مع التهيؤ لها، وهذه معان.
والشافعي نص فيما نقله المزني (3) أَنَّ تقديم التأذين ليس بقياس.
قلنا: لو ردّ الأمر إِلى نظرنا، ولم يرد في صلاة الصبح ما يدل على جواز تقديم التأذين لها، لكنا نرى التقديم بمسلك المعنى، ولكن إذا ورد، فما ذكرناه استنباطات، فلا تستقل بأنفسها دون الاعتضاد بمورد الشرع.
فصل (4)
664- من بقية القول في المواقيت في حالة الرفاهيَة، القولُ في الاجتهاد فيها. اتفق الأئمة على أن المحبوس الذي لا يتأتى منه الوصول إِلى دَرك (5) اليقين في الوقت، بحيث لا يخشى الفوات، يجتهد برد الظن إِلى تأريخات وتقديراتِ أزمنة ومحاولة ضبطٍ بأورادٍ أو غيرها، وكيف لا؟ وقد رأى الشافعي للمحبوس في المطامير (6) أن يجتهد في طلب شهر رمضان، ثم إِن بان أنه أصاب، وقع الاعتداد بما جاء به، وإِن وقع صومُه بعد شهر رمضان، صح، وتأدّى الفرضُ بنية الأداء، وإِن
__________
(1) في (ت 1) : ألا ينتظر فيه أذان العشاء ... وجاءت مثلها (ل) .
(2) في الأصل: حتى يقرب. والمثبت من: (ت 1) .
(3) ر. المختصر: 1/56.
(4) في (ت 1) : فرع. ومثلها جاءت (ل) .
(5) "درك" بفتح الراء وسكونها: اسم مصدر من الإدراك. (المعجم) .
(6) المطامير جمع مطمورة: وهي الحفرة تهيأ تحت الأرض ليحفظ فيها البُر، والفول، ونحوه، والبناء تحت الأرض، وهي السجن أيضاً، وهو المراد هنا. (المعجم والمصباح) .(2/25)
وقع قبل شهر رمضان، وتبين أمره بعد انقضاء الشهر المطلوب، ففي المسألة قولان، وسيأتي ذلك في موضعه.
وكان شيخي يُجرِي الصلاة في حق المحبوس، وفي حق من اعتاص الأمر عليه مجرى الصوم، في صورة القطع نفياً وإِثباتاً، وفي صورة القولين، ويقول: الصلاة أولى بذلك من الصّوم؛ فإِن الأمر فيها أخف، ولذلك سقط قضاؤها عن الحُيَّضِ، وإِن لم يسقط عنهن قضاء الصَّوم.
فأمّا إِذا كان بحيث لو صبر، لانتهى إِلى وقتٍ يستيقن دخولَ وقت الصلاة، فهل يجتهد في الوقت ويصلي بناء على الاجتهاد؟ فيه خلاف، وجماهير الفقهاء على تجويز ذلك؛ فإِن أسباب الظنون فيها ممكنة، ويشهد لذلك، أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يبنون أمر الفِطر على الظن، ولذلك اتفق في زمن عمر وقوعُ الفِطر في النهار، في قصة ستأتي في موضعها.
وكان الأستاذ أبو إسحق يمنع الاجتهاد في الصُّورة التي نحن فيها، ويرى تقريب ذلك من اختيارٍ له في صورةٍ ظهر الاختلاف فيها، وهي أنّه إِذا كان مع الرجل إِناءان، أحدهما طاهر، والثاني نجس، وقد أشكل عليه أمرُهما، فإِنّه يجتهد ويتحرى، فلو كانا معه، وكان معه إِناء ثالث مستيقن الطهارة، ففي جواز اعتماد الاجتهاد خلافٌ مشهور.
665- ومما يتعين النّظر فيه، أن أول الفجر إِذا بدا لأحَدِّ الناس بصراً وأشدِّهم نظراً، فلا شك أنّه طلع الفجر في علم الله قبيل إِدراك من وصفناه، فلو اجتهد المجتهد في صلاة الصبح، ثم بدا الفجر، وكانت الصلاة وقعت في وقت يعلم أنها فيه انطبقت على أول الفجر، ولكن كان ذلك في زمانٍ لا يتصور أن يتبين فيه الفجر للناظر، فالذي كان يقطع به شيخي، أن هذه الصلاة واقعة شرعاً قبل الوقت، وكان يُنزل هذا منزلة وقوع عقد صلاة الظهر في وقت الاستواء، ووقوف الظل، هذا حفظي عنه، وهو الذي طرده في أمر الصوم، وسأذكر فيه قولاً شافياً، في الصوم إِن شاء الله تعالى.(2/26)
فصل
قال: "والوقت الآخر وقت العذر والضرورة" (1) .
666-[جمع الشافعي بين العذر والضرورة] (2) ولَعله عبر بهما عن معبَّر واحدٍ، وأراد بيان أوقات صلوات أصحاب الضرورات، وهذا مقصود الفصل، والأصحاب يعبرون بالعذر عن السَّبب الذي يجوِّز الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء تقديماً وتأخيراً، وهو السفر والمطر، كما سيأتي بيانه إِن شاء الله تعالى.
وغرض الفصل الكلام في زوال الضرورات المؤثرة في منع وجوب الصّلاة في بقايا الأوقات، فنذكر جنساً واحداً من أصحاب الضرورات، ونسوق حكم الفصل فيه، ثم نذكر في خاتمة الفصل أعدادهم واستبانةَ الأحكام فيهم.
فالمرأة إِذا طهُرت من حَيضٍ أو نفاس في آخر النهار، وقد بقي من النهار إِلى الغروب ما يسع مقدارَ ركعة، فقد صارت مُدْرِكةً لصلاة العصر، ولو أدْركت من النهار ما لا يسع ركعةً تامة، بل كان يسع قدرَ تكبيرة واحدة مثلاً، ففي إِدراكها صلاة العصر قولان للشافعي: أحدهما - أنها تصير مدركةً، وهذا مذهب أبي حنيفة (3) ، والثاني - لا تصير مدركة، ما لم تدرك مقدار ركعة، وهذا اختيار المزني.
توجيه القولين: من اكتفى بإِدراك مقدار تكبيرة قال: قد أدركتْ شيئاً من الوقت، فلو فرض وقوع التكبيرة فيه، لكان ركناً من الصلاة مُقيَّداً (4) ، فإِذا لم يُشترط إِدراك مقدار الصلاة بتمامها، فالتكبيرة كالركعة، وهذا القول متجه في القياس.
ومن قال باشتراط مقدار الركعة، احتج بما روي عن النبي عليه السلام أنه قال:
__________
(1) المختصر: 1/57.
(2) زيادة من (ت 1) ، (ل) .
(3) ر. حاشية ابن عابدين: 1/196، 238، مختصر اختلاف العلماء: 1/262 مسألة: 214.
(4) في النسختين: مفيداً (بالفاء) ، ولعلّ الصواب (بالقاف) أخذاً من عبارة الفقهاء،: تقيّدت الركعة بكذا وكذا. أي أُدْركت. ثم (ل) وفيها: "معتداً به".(2/27)
"من أدرك ركعةً من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك العصر" وهذا قد تمسك المزني بمفهومه. وليس في الحديث ما يدل على التعرض لزوال الضرورات، بل ظاهر معناه: إِن تلبس بفعل الصلاة وتحرم بها، صار مؤدياً للصلاة، ولم يكن قاضياً إِذا أدرك مقدار ركعة، وهذا يدل على توجيه ما سبق من ذكر الأداء والقضاء في وقوع بعض الصلاة وراء الوقت.
ثم الجواب السديد عن الحديث، أن ما ذكره الفقهاء من إِدراك مقدار تكبيرة فليس مما يفرض وقوعه، ويقدّر تعلق الحسّ بهِ، وإِنما ذكروه تقديراً لبيان مناط الأحكام على التقديرات، وإِن كان لا يقع، ومقصود حَمَلَةِ الفقه في التقديرات بيانُ مأخذ الأحكام، وتمهيد طرق الاستنباطات في مواقع الإِمكان، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يتعرض لمثل هذا، وإِنما ينوط حكمَه وقضاءه بما يقدّر وقوعه، وأقلُّ ما يحصل إِدراكه مقدارُ ركعة، ولعلّه لا يفرض أيضاً إِلا مع الترصد، وإِحضار الذِّهن، فجرى كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يقع، وهو اللائق بمنصبه، وجرى كلام الفقهاء على التقدير.
667- ومما يتعلق به المزني أنه قال: "إِدراك الجمعة يختص بمقدار ركعة، ولا يحصل بأقلَّ منها" (1) وهذا الذي ذكره غير واقع؛ فإِن الأصل إِقامة الصّلاة أربع ركعات، والجمعة مُغَيَّرةٌ عنها بشرائط، والقياس، أن من عَدِم الجماعة في جميعها أو في شيء منها، لم يكن مدركاً لها، وكان مردوداً إِلى الركعات الأربع، ففي إِدراك الجمعة إِسقاطٌ للرَّكعتين، فكان حكم الإِيجاب أغلب، وهذا المساق يقتضي أن يُغلَّب حكم الإِيجاب في مسألتنا، ويكتفى بمقدار تكبيرة.
ونظير ما نحن فيه: لو أوقع المسافر تكبيرةً في الحضر وهو في السفينة، فَجَرَت، يلزمه الإِتمام، وإِن لم يتم ركعة في حالة الإِقامة، فهذا بيان القولين.
668- ثم أجمع علماؤنا على أنها تصير مدركةَ الظهرَ على الجملة بإِدراك وقت العصر، وإِنما الاختلاف في أنها بماذا تصير مدركة لها؟ فقال الشافعي في قولٍ: مهما
__________
(1) ر. المختصر: 1/58.(2/28)
أدركت العصر فقد أدركت فريضة الظهر. ثم يخرّج ذلك على ما تقدّم، فإن قلنا: تُدرك العصر بمقدار تكبيرة، فتدرك الظهر به أيضاً، وإِن شرطنا ركعةً، فعلى ما نرى.
وقال في قول آخر: إِنما تصير مدركة للصلاتين بإِدراك أربع ركعات وزيادة، ثم تلك الزيادة تكبيرة أو ركعة على ما تقدّم.
وأبو حنيفة (1) لا يجعلها مدركة لصلاة الظهر ما لم تدرك من وقت الظهر شيئاً. وتعليل مَذْهبنا أنّ وقت العصر على الجملة وقتُ الظهر في حال العذر، والذي نحن فيه وقت الضرورة، ولا يبعد أن يعتبر فيه وقت الضرورة بوقت العذر، فإذا غيَّر العذرُ ترتيبَ الوقت في إِدراك الصّلاتين، غيرت الضرورةُ حُكمَ الإِدراك، حتى كأن من زالت ضرورته في حكم من أخر الصلاة بعذر إِلى آخر الوقت.
669- فأمَّا توجيه القولين في أنها تصير مدركة للظهر بماذا؟ فوجه قول من قال: يكفي فيهما مقدار ركعة أو تكبيرة أن الغرض إِدراك وقتٍ مشترك، وليس المطلوبُ إِيقاعَ الصَّلاتين وجوداً في الوقت؛ فإِنها لو حاولت ذلك، لم تتمكن من إِقامة الظهر في وقت العصر، والمقدار الذي ذكرناه يحصل بإدراك مقدار ركعة فما دونها.
ومن قال: لا يحصل الإِدراك إِلا بمقدار ركعة وزيادة، اعتلّ بأنا إِنما جعلناها مدركة للصلاتين تمسكاً بالجمع وحملاً على الجمع، فلتدرك زماناً يتصور أن يقع صورة الجمع فيه، وذلك بوقوع صلاة تامة في الوقت وبعض الأخرى.
فإن حكمنا بأن الرّكعة فما دونها تكفي، فلا كلام، وإِن شرطنا أربع ركعاتٍ وزيادة، فالركعات في مقابلة صلاة الظهر، والزيادة في مقابلة صلاة العصر، أم الأمرُ على العَكس من ذلك؟ قولان مخرّجان من معاني كلام الشافعي: أصحهما - أن الركعات في مقابلة صلاة الظهر؛ فإنها الصلاة الأولى، ولو فرض الجمع، لكانت البداية بصلاة الظهر على الرأي الظاهر، ولو أدركت مقدار ركعة فحسب، لأدركت العصر، ولم تدرك الظهر على القول الذي نفرع عليه، وإِذا كانت تدرك العصر بركعة
__________
(1) ر. حاشية ابن عابدين: 1/197. مختصر اختلاف العلماء: 1/262 مسألة 214.(2/29)
أو تكبيرة، فينبغي ألا يقابلها عند الزيادة إِلا ذلك المقدار.
والقول الثاني: أن الركعات في مقابلة صلاة العصر؛ فإِنه إِذا اقتضى الحالُ الحُكمَ بإِدراك الصّلاتين، فالظهر تابعة في الإِدراك للعصر؛ فإنها أُدركت بسبب إِدراك العصر، فينبغي أن يكون الأكثر في مقابلة المتبوع، والأقل في مقابلة التابع، وكأَنَّ هذه المسائل وما فيها من الاختلاف يدور على أن الرخصة في الجمع عند العذر، كأنها عوض عن الالتزام عند زوال الضرورة.
ْفهذا عقد المذهب.
ثم سيظهر أثر القولين الأخيرين في صلاة المغرب والعشاء الآن.
670- ثم اختلف القول في أنا هل نعتبر مع إِدراك ركعة، أو تكبيرة في الصلاتين، أو في العصر، وفي إِدراك الركعات والزيادة إِدراكَ (1) زمان الطهارة؟ والأصح أنه لا يشترط؛ لأن الطهارة لا تكون شرطاً في التزام الصَّلاة، وإِنما تشترط في العقد والصحة؛ إِذ الصّلاة تجب على المحدث، ويعاقَب على ترك التوصل إِليها.
والقول الثاني: أنا نشرط مع ما ذكرناه إِدراكَ زمان الإِتيان بالطهارة. والقولان أراهما مخرَّجين، وقدْ ذكرَهمَا الصيدلاني قولين مطلقين.
671- فإِن قيل لنا: جمعتم أقوالاً في أحكام، فعبروا عن جميعها في الصلاتين، واذكروا ما تجمع، وأعلمونَا بما تصير الطاهرة عن الحيض مدركة للصلاتين؟
قلنا: يحصل ممّا ذكرنا ثمانية أقوال:
أحدها - أنها تدركهما بمقدار تكبيرة.
والثاني - بتكبيرة وزمان الطهارة.
والثالث - بركعة.
والرابع - بركعة وزمان الطهارة.
والخامس - بأربع ركعات وتكبيرة.
__________
(1) مفعول للفعل (نعتبر) السابق.(2/30)
والسادس - بما ذكرنا الآن وزمان الطهارة.
والسابع - بخمس ركعات.
والثامن - بخمس ركعات وزمان الطهارة.
فهذا بيان المذهب في الظهر والعصر.
وإِذا طهرت في آخر الليل، فالتفصيل في إِدراك صلاة العشاء ما ذكرناه قبلُ في صلاة العصر، والتفصيل في صلاة المغرب، كالتفصيل في صلاة الظهر، ويظهر الآن ما وعدنا قبلُ.
فإن قلنا: الركعات الزائدة في مقابلة الصّلاة الأولى، فيكفي ثلاث ركعات وتكبيرة: الثلاث في مقابلة المغرب، والتكبيرة في مقابلة العشاء، أو أربع ركعات: الثلاث في مقابلة المغرب، والرابعة في مقابلة العشاء.
وإن قلنا: الركعات في مقابلة الصلاة الثانية، فلا بد من أربع ركعات وتكبيرة: الأربع نظراً إِلى عدد ركعات العشاء، والتكبيرة في مقابلة المغرب، أو خمس ركعات: الأربع في مقابلة العشاء، والركعة في مقابلة المغرب، ثم إِذا اجتمع ما زدناه في صلاة المغرب والعشاء إِلى ما مضى، انتظم من المجموع اثنا عشر قولاً.
فهذا مجامع الكلام في ذلك.
672- ثم نذكر بعد ذلك ثلاثة أشياء لنعطف على ما تقدم، ونلحق كل شيء بمحله: أحدها - أن إِدراك التكبيرة واعتباره قولٌ صحيح، كما تقدّم، وهو في التحقيق تقدير؛ فإِنّ إِدراك الزمان الذي يسع مقدار تكبيرة، ليس بمحسوس، ولكن الكلام يجري على التقدير؛ فلو فرض فارض إِدراك زمان يسع بعض تكبيرة ولا يدرك تمامها، فكان شيخي يتردد في هذا، وفيه احتمال ظاهر؛ إِذ إِدراك الوقت متحقق في هذا، ولكن ليس [المدرَك مقداراً] (1) يسع رُكناً، فهذا أحد الأشياء.
__________
(1) في النسختين: ليس للمدرك مقدار يسع ركناً. والمثبث تقدير منا بمساعدة السياق، ومختصر ابن أبي عصرون. ثم صدقتنا (ل) .(2/31)
والثاني - أنا ردَّدْنا ذكر الركعة: والمراد بذكر الركعة (1) إِدراكُ زمانها، فكان شيخي يقول: المعتبر ركعة تشتمل على أقل ما يُجزىء، وجرى له في تحقيق هذا مرّةً، أنا نعتبر ركعة من العقد، والركوع من غير قيام وقراءة، نظراً إِلى ركعةِ مسبوقٍ يدرك الإِمامَ راكعاً، وهذا فيه بُعد عندي.
والثالث - أنّا اعتبرنا في قولٍ في مقابلة إِحدى الصلاتين ركعات، وقلنا في صلاتي الظهر والعصر: نعتبر أربع ركعات ويحتمل عندي أن [نعتبر] (2) ركعتين؛ نظراً إِلى الصلاة المقصورة؛ فإنا اعتبرنا وقت الجمع بداراً إِلى إِلزام الصلاتين، فتعتبر الصّلاة المقصورة؛ اكتفاء في الحكم بالإِدراك بالركعتين، وفي مذهب الصيدلاني إِشارة إِلى هذا، وإِن لم يكن مصرحاً به.
والذي ذكرناه أن جميع وقت العصر وقتٌ للظهر، نظراً إِلى الجمع، فإن قلنا: لا يشترط في إِقامة الظهر تأخير العصر عنه، ولا يرعى الترتيبُ في إِقامتهما، فلا وقت من العصر يشار إِليه إِلا وهو صالح لإِقامة الظهر.
وإِن قلنا: يجب تقديم الظهر، فجميع وقت العصر وقتٌ للظهر إِلا مقدار أربع ركعات في آخر الوقت؛ فإنه على رعاية الترتيب لا يتصور إِقامة الظهر في هذا الوقت.
قال الشيخ أبو بكر: الذي أراه أنه يرعى مقدار ركعتين في آخر الوقت اعتباراً بالقصر، فأما وقت العصر، فقد دخل مع اعتبار الجمع إِذا مضى من أول وقت الظهر ما يسع أربع ركعات، فإنه لابد من اعتبار الترتيب في إِقامة العصر في وقت الظهر، فجميع وقت الظهر وقتٌ للعصر، إِلا ما يسع مقدار أربع ركعاتٍ من أول الوقت؛ فإنه لا يتصور إِقامة العصر في ذلك الوقت.
قال الصيدلاني: ينبغي أن يعتبر الصلاة المقصورة في ذلك أيضاً.
فهذا منتهى القول في هذه الفصول.
__________
(1) في ت 1: ذكر الركعة وإِدراك زمانها.
(2) في الأصل: يدرك. والمثبت من: ت 1.(2/32)
673- ومما يتعلق بهذا الفصل: القول في خلو أول وقت الظهر عن الحيض مع طريان الحيض بعده، فإِذا كانت المرأة طاهراً في أول وقت الظهر، ثم حاضت واستمر الحيض بها، فالذي صار إِليه الأئمة أنها إِذا لم تدرك من أول الزمان ما يسع الصّلاة التامّة، فإنها لا يلزمها الظهر، فإِنه لو فرض افتتاحها الصّلاةَ مع أول وقت الظهر، ثم طرأ الحيض، فلا تتم الصّلاة. وإِذا فرض انقطاع الحيض في آخر وقت العصر، فلو تطهرت وتحرّمت لاستتبَّت لها الصّلاة، فظهر الفرق بين طريان الحيض على الوقت، وبين انقطاعه في الوقت.
وذهب أبو يحى البلخي (1) -من أئمتنا- إلى أن القول في إِدراك أول الوقت في رعاية التكبيرة على قول، والركعة على آخر، والنظر في إِدراك صلاة العصر بإدراك وقت الظهر كالقول في إِدراك الظهر في آخر العصر، وهذا متروك على أبي يحيى، وهو رديٌ جدّاً، وفيما ذكرناه من قول الأئمة ما يوضح بطلان هذا المذهب.
674- ثم من تمام القول في هذا الطرف، أن من الضرورات الجنون؛ فلو أفاق المجنون في آخر وقت العصر، ثم عاد الجنون متصلاً بأول وقت المغرب، فهذا في الترتيب بمثابة ما لو كانت المرأة طاهرة في أول الوقت، ثم طرأ الحيض؛ فإِن طريان الجنون فيما ذكرناه يمنع تقدير جريان الصّلاة على الصحة، لو فرض التحرم بها عقيب الإِفاقة من الجنون، كما يمتنع صحة الصّلاة لو طرأ الحيض بعد أول الظهر.
675- وهذا أوَانُ ذكر أصحاب الضرورات بأجمعهم. والصفة الجامعة لهم ما يمنع وجوب الصلاة. والموصوفون بذلك: الصبي، والمجنون، والحائض، والنفساء، والمغمى عليه، والكافر، فمن هؤلاء من لا تصح منه الصّلاة كما لا تجب، ومن هؤلاء من لا يجب عليه الصّلاة وإِن كان يصح منه كالصبي، فإِذا زالت
__________
(1) أبو يحيى البلخي: زكريا بن أحمد بن يحيى بن موسى. القاضي الكبير، قاضي دمشق، تكرر ذكره في المهذب، والوسيط، وهو من كبار الأصحاب، أصحاب الوجوه، أصله من بلخ، فارق وطنه من أجل الدين، وقطع نفسه للعلم، توفي بدمشق سنة 330 هـ. (ر. تهذيب الأسماء واللغات: 2/272، طبقات السبكي: 3/298، وشذرات الذهب: 2/326) .(2/33)
هذه الصفات في آخر الوقت، ففيه التفاصيل المقدمة.
والإِغماء كالجنون عندنا في إِسقاط قضاء الصلوات، ولا فرق بين الإِغماء الذي يقصر عن يوم وليلة، وبين ما لا يقصر عن هذه المُدَّة. وأبو حنيفة يقول: الإِغماء القاصر عن يوم وليلة كالنوم (1) .
ولو زالت الضرورة في آخر وقت الصبح، فما يجري من القول في التزام الصّلاة، يختص بصلاة الصبح؛ فإِنها ليست مجموعة إِلى صلاة قبلها، ولا إِلى صلاةٍ بعدها، فلا يلزم بإِدراكها غيرُها. فهذا مجامع أحكام الأوقات في أصحاب الضّرورات.
676- وممّا نذكر في باب المواقيت: أنّ الصلاة تجب عند الشافعي بإِدراك أول الوقت، ثم إِن كان في الوقت فسحة، فهي وَاجبة وجوباً موسعاً، وخلاف أبي حنيفة (2) في ذلك مشهور.
وفي هذه المسألة غائلة أصولية، ذكرتها في مصنفاتي (3) ، فليطلبها من يريدها.
ثم المذهب الظاهر أن من أخَّر الصلاة إِلى وسط الوقت، ومات، فلا يلقى الله عَاصياً، وظاهر المذهب أن من أخَّر الحج مع الاستطاعة، ومات، مات عاصياً، وفي المسألتين جميعاً خلاف، وسنجمع القول في ذلك في كتاب الحج.
***
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 24، مختصر اختلاف العلماء: 1/264 مسألة 215، رؤوس المسائل: 139 مسألة: 46، حاشية ابن عابدين: 1/512.
(2) ر. رؤوس المسائل للزمخشري: 138 مسألة: 45، حاشية ابن عابدين: 1/238.
(3) ر. البرهان في أصول الفقه: القول في الصيغة المطلقة، وبخاصة الفقرات: 143-153.(2/34)
باب صفة الأذان
677- لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى المدينة، وشرع الجماعات في الصلوات، وانتشر الإِسلام، وكثر المسلمون فكان منهم المكتسبون والملابسون لما يتعلق بإِصلاح المعايش، وكانوا لا يشعرون بدخول المواقيت فتفوتهم الجماعة، شق ذلك عليهم، واحتاجوا إِلى أمارة يعرفون بها الوقت، فاجتمعوا في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واشْتَورُوا، فقال بعضهم: نضرب بالناقوس، وقال آخرون: تلك عادة النصارى، وقاك آخرون: نوقد بالليل، وندخّن بالنهار، فقال آخرون: تلك عادة المجوس، ثم تفرقوا، ولم يجتمعوا على رأي. قال عبد الله بن زيد بن عبد ربّه الأنصاري: كنت بين النائم واليقظان إِذ نزل ملك من السماء عليه ثيابٌ خضر، بيده ناقوس، فقلت: يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ فقال: وما تصنع به؟ قلت: أضرب به في مسجد رسول الله، فقال: أفلا أدلك على خير من ذلك؟ قلت: بلى، فاستقبل القبلة، وقال: الله أكبر. وذكر الأذان، ثم استأخر غير بعيد، وأقام، فلما أصبحتُ أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكرتُ له ذلك. فقال: رؤيا حق، ورؤيا صدق إن شاء الله، ألقِه على بلال، فإنه أندى صوتاً منك، فقلت: يا رسول الله، ائذن لي لأؤذن مرة، فأذّنت، فلما سمع عمر صوته، خرج يجر رداءه، ويقول: والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل ما رأى، فقال: الحمد لله، فذلك أَثْبَتُ. ثم أتاه بضعةَ عشر من الصحابة قد رأى كلهم مثل ذلك (1) . فهذا أصل الأذان.
__________
(1) حديث عبد الله بن زيد في قصة الأذان صحيح، رواه أبو داود، وابن خزيمة، وابن حبان، والبيهقي، والترمذي، وابن ماجة، وأحمد، والحاكم. (ر. التلخيص: 1/197 ح 291، أبو داود: الصلاة، باب كيف الأذان، ح 499، وصحيح أبي داود: 1/98 ح 469، الترمذي: أبواب الصلاة، باب ما جاء في بدء الأذان، 189، ابن ماجه: الأذان، باب بدء الأذان، ح 706، صحيح ابن خزيمة: ح 371، ابن حبان: ح 1677، الحاكم: 3/336، البيهقي: 1/ 390) .(2/35)
واعتمد الشافعي في باب الأذان حديثَ أبي محذورة، قال عبد الله بنُ مُحَيْريز: كنت في حجر أبي محذورة، فلما أردت الخروج إِلى الشام قلت: إِني خارج إِلى الشام، وإِني أخشى أن أُسأل عن تأذينك، فأخبرني به، فقال: نعم! كنت عاشر عشرة، فقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر، ونزل منزلاً، فأذن بلال، فجعلْنا نصرخ عليه ونستهزىء به، فبعث إلينا رسول الله، حتى وقَفْنا بين يديه، فقال: أيكم الذي سمعتُ صوته قد ارتفع، فأشاروا إليَّ، وصدقوا، فأرسل كلَّهم وحبسني، ثم قال: قل الله أكبر -ولا شيء أكره إليّ من رسول الله ولا مما يأمرني به- وسَرَدَ الأذان، ونصَّ على الترجيع بالأمر بالشهادتين سراً، ثم قال: ارجع ومُدَّ من صوتك، وقل أشهد أن لا إله إِلا الله، ثم ذكر هكذا إِلى آخر الأذان، ثم أدناني فمسح يده على ناصيتي ووجهي، فما بلغت يده صدري حتى عادت تلك الكراهية كلها محبّةً، ثم ألقى إِليَّ صُرةً فيها دُريهمات، فقلت: يا رسول الله اجعلني مؤذن مَكة، فبعثني إِلى عتّاب بن أَسيد، فكنت أؤذن عنده (1) . فهذا هو الأصل في الأذان.
678- ثم الذي نرى تقديمه القول في أن الأذان من السنن، أم من فروض الكفايات؟ وقد ذكرَ بعض المصنفين في المذهب: أنّ الأصحّ الذي، ذهب إِليْه جمهور الأئمة أن الأذَان من فروض الكفايات، على ما نفصله في التفريع، وقال: ذهب أبو سعيد الإصطخري إِلى أن الأذان سُنة، فحكي هذا حكاية الشَّوَاذِّ والنوادِر.
وقال الصيدلاني: الأذان عندنا مستحب، ولم يحك عن أصحابنا إِلا هَذا، قال: وذهب بعض أهل العلم إِلى أنه فرض على الكفاية.
__________
(1) حديث أبي محذورة، رواه مسلم من غير تربيع (الله أكبر) وبدون ذكر القصة، وساقه بتربيع التكبير في أوله، الشافعي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة، وابن حبان، وقال ابن القطان: الصحيح في هذا تربيع التكبير. (ر. مسلم: كتاب الصلاة، باب صفة الأذان، ح 379، وأبو داود: الصلاة، باب كيف الأذان، ح 502، والنسائي: الأذان، باب كيف الأذان، ح 631، 632، وصحيح سنن النسائي 1/135 ح 613، 614، وابن ماجه: الأذان، باب الترجيع في الأذان، ح 708، 709، وصحيح ابن خزيمة: ح 379، والتلخيص: 1/196) .(2/36)
والمذهب الذي عليه التعويل ما ذكره الشيخ أبو بكر.
ثم نستكمل التفريع على مَا ذكره بعض المصنفين، ونذكر ما يتحصل آخراً.
فإِن قلنا: إِنّه فرض على الكفاية، فقد قال هذا الرجل: الصحيح أنه يجب في اليوم مرة واحدة في كل محلة، والذي يقرب في ضبط هذا أن يترتب المؤذنون في محالّ البلدةِ، بحيث لا يبقى قطرٌ منها لا يبلغها صوت مؤذن، وَحُكي عن عطاء أنه أوجب الأذان على هذا الترتيب على الكفاية في اليوم والليلة خمس مرات. ولم أر هذا المذهب مَعْزياً إِلى أحد أصحابنا.
قال: وذهب ابن خَيْران إِلى أن الأذان يجب في كل جمعة مرة.
فهذا ما حكاهُ في فرض الكفاية وتفريعه.
ونحن نُوجه هذا، فإِن ما يعد من فروض الكفايات سيأتي مجامعه في كتاب السير، ولكن من أظهر فنون فروض الكفايات ما يتعلق باستيفاء الشعائر الظاهرة المستمرة في الشريعة، وهذا يظهر في شعارٍ لو خلا عنه قُطْر، لتنادى الخلق بالإِنكارِ والاستنكارِ، وقد صح أن رد جواب المسَلِّم من فروض الكفايات، من حيث إِن ذلك من شعائرِ الإِسلام، فالأذان بذلك أولى. ثم لا يُؤْذِنُ الشعار بالدَّرْس إِذا كان مما يقامُ في اليوم والليلة مرّة واحدة.
وأما وجه ما ذكره ابن خَيْران، فهو أن الأذان دعاء إِلى الجماعات، وإِنما تجب الجماعة على الأعيان، مع الاختصاص بأوصافٍ معروفة يوم الجمعة، فاختص الأذان الذي هو دعاء إِليها بكونه فرضاً على الكفاية.
وسمعت شيخي يفرِّع على هذا الوجه، ويذكر فيه اختلافاً، ويقول: من أئمتنا من قال: الأذان فرضٌ يوم الجمعة، وهو الأذان الذي يقام بين يدي الخطيب؛ فإِنّه من الشعائر المختصة بصلاة الجمعة، فلا يمتنع القضاءُ بفرضيته كالجماعة، والخطبةِ، وقيامِ الخطيب في الخطبتين، وقعودِه بينهما. ومنهم من قال: يسقط بالأذان الذي يؤتى به لصلاة الجمعة، وإِن لم يكن بين يدي الخطيب، واتفق هؤلاء أن الأذان ينبغي أن يكون لصلاة الجمعة، ولا يسقط بأذانٍ لصلاة أخرى في يوم الجمعة، فإِن ذلك عند هذا القائل مختص بصلاة الجمعة على الخصوص.(2/37)
ثم لا يكاد يخفى معنى فرض الكفاية فيما ذكرناه. فإِذا قام بالأذان -الذي يبلغ أهلَ البلدة- رجل أو رجال، سقطت فريضة الأذان عن الباقين، وسيأتي فصل بعد ذلك في أنه إِذا سقط فرض الكفاية على رأي من يقول بالفرضيّة، فكيف الترتيب في استحباب الأذان لآحَاد الناس بعد فراغ المؤذنين المسقطِين للفرض؟
679- فإِن فرعنا على ما كان يصححه شيخي، وقطع الصيدلاني به، وهو أن الأذان سنة، فلو أطبق أهل ناحيةٍ على تركه، وتعطيل المساجد منه، وقُدِّمَ إِليهم نذير، فلم يقبلوا واستمروا عليه، فهل يقاتَلون؟ ما ذهب إِليه الأصحابُ أنهم لا يقاتَلون، وحكَوْا عن أبي إسحق المروزي أنه قال: إِنهم يقاتلون (1) ، وإِن (2) حكمنا بأن الأذان في وضع الشريعة سنة، واستدلّ هؤلاء بما روي أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في زمانه كانوا إِذا مَرُّوا بناحية، ولم يسمعوا صوت الأذان، صابحوا أهلها بالقتال. وربما تعلقوا من طريق المعنى بأن النفوس لا تطمئن إِلى إِماتة الشعائر الظاهرة إِلاَّ إِذا أضمروا ردَّ الشريعة، واعتقدوا بطلانها.
ونحن نقول (3) : أما الخبر، فلا حجة فيه؛ من جهة أنهم كانوا يَرَوْن ترك الأذان علامةً في أن أهل الناحية من الكفار؛ إِذْ كانوا قاطعين بأن قابلي الإِسلام، ومصدقي الرسل في علو الدين وصدمة الشريعة، وصفوة الملة، كانوا لا يتركون الأذان، ولم يكن ذلك عندهم -في حُكم عرف الزمان- أمراً مظنوناً، بل كان مقطوعاً به، والدليل عليه أن أبا إسحق لما رأى نَصْب القتال إِنّما رآه إِذا أُنذروا، فامتنعوا، واستمروا، وكان رسول الله وأصحابه يشنون الغارة على أهل النّاحية -إِذا علِموا أن لا أذان فيهم- من غير إِنذار وإِعلام، وإِشعار.
وأما ما ذكروه من إِنذار ترك الشعائر بالخلو عن الاعتقاد، فليس وراءه حاصل؛ فإِنهم إِذا اعتقدوا كون الأذَان سنة، وتناجى بذلك الخواص والعوام، وشهروا فيما بينهم، وانضم إِلى ذلك عسر القيام بدرك مواقيت الصلاة، فينبني عليه ترك الأذان على
__________
(1) ر. الغياثي: فقرة 291. حيث قطع إمام الحرمين هناك بأنهم يقاتَلون.
(2) أي مع حُكمنا بأن الأذان سنة.
(3) أي ردّاً على القائلين بقتالهم.(2/38)
تدريج، ثم يستمر، فحملُ الأمر على وجه واحد، -سيما مع إِطباق القوم على بذل كنه الجهْدِ في إِقامة فرائض الشرع- تحكُّمٌ (1) ، وقتلُ النفوس، وسفكُ الدماء من غير ثَبَت لا سبيل إِليه.
ثم الذي نختم هذا الفصل به أن هذا المحكي عن المروزي على قولنا: إِن الأذان سنة، وهذا مُضطرب؛ فإِن كل ما يتعلق بتركه في عاقبة الأمر قتلٌ، وهو نهاية العقوبات، فيستحيل القضاء بكونه سُنة، ومن حقيقة السنن جواز تركها، وما يجوز تركه يستحيل أن يَجُرَّ قتلاً.
نعم: إِن قال ذلك قائلٌ، على قولنا: إِنّه من فروض الكفايات -فإِذا عطله أهل ناحية، كانوا بمثابةِ وَاحدٍ عطل فرضاً من فرائض الأعيان؛ إِذ الحرج ينال الكافة من فرض الكفايات، كما ينال الحرجُ الواحدَ في فرض عينٍ- كان (2) مُتَّجِها، فإِذاً، القتال باطل، ثم المصير إِليه على قولنا: الأذان سنة، لا أصل له أصلاً.
وليس مَا ذَكَرناه من طريق رد مذهبٍ بمسلك الفقه في أساليب الظنون، ولكن الكلام في نفسه غير منتظم.
فهذا تفصيل المذهب في أن الأذان سنة، أو فرض كفاية.
والقول في الإِقامة كالقول في الأذان في جميع ما ذكرناه.
فصل
قال: "ولا أحب أن يكون في أذانه وإقامته إلا قائماً مستقبل القبلة ... إلى آخره" (3) .
680- ثَم ينبغي للمؤذن أن يؤذن قائماً، مستقبل القبلة، ولو ترك القيام
__________
(1) خبر لقوله: فحملُ الأمر.
(2) جملة: (كان متجهاً) واقعة في جواب إِن قال ذلك قائل.
(3) ر. المختصر: 59.(2/39)
والاستقبال، أو ترك أحدهما، فذكر شيخي وجهين في الاعتداد بأذانه، وذكرهما بعض المصنفين. وظهر ميله إِلى أنهما شرط في الأذان في كتابه المترجم "بمختصر المختصر" (1) ، وكان يوجه ذلك بأن شرائط الشعار متلقى من استمرار الخلق على قضية واحدة، وهذا ما بنى عليه الشافعي مذهبه في إِيجاب القيام في الخطبتين، والقعود بينهما في يوم الجمعة.
والأصح القطع بأن القيام والاستقبال ليسا مشروطين في الأذان.
681- ثم إِذا فرعنا أن الأَوْلى أو المشروط هو الاستقبال، قلنا: لو التوى يميناً وشمالاً في الحيعلتين، كان حسناً، حتى يُسمعَ النواحي، وكان ذلك معتاداً مألوفاً من دأب المؤذنين في العُصُر الخالية، ولكن لا ينبغي أن يستدير على المئذنة، بل يُقر قدميه قرارهما، ويلتوي يميناً وشمالاً بقدر التفات المسلم في آخر الصلاة.
ثم اختلف الأئمة، فقال الأكثرون: يقول: حيَّ على الصلاة مرتين عن يمينه، ثم يقول: حيَّ على الفلاح مرتين عن يساره، وهذا ما عليه العمل، وكان القفال يرى أن يقسّم الحيعلتين على الجهتين، فيقول: حيَّ على الصلاة عن يمينه، ثم حيَّ على الصلاة عن يساره، ثم حيَّ على الفلاح عن يمينه، ثم حيَّ على الفلاح عن يساره.
ثم الذي ذهب إِليه الأصحاب استحباب الالتفات على الوجه المذكور في الإِقامة.
وحكى بعض المصنفين (2) أن القفال ذكر مرّة أن الالتفات غير محبوب في الإِقامة.
وهذا غير صحيح، والرجل غير موثوق به فيما ينفرد بنقله.
__________
(1) من كتب أبي محمد الجويني.
(2) لم يصرح إِمام الحرمين بمن يعنيه ببعض المصنفين، الذي ينقل عنه هنا، والذي يصفه بأنه غير موثوق به فيما ينفرد بنقله، وقد ترجح عندنا أنه الإِمام أبو القاسم الفوراني، وسيأتي توضيحٌ لذلك، ومزيد بيان. (بعد أن سجلنا هذا تأكد هذا الترجيح، وصار يقيناً أنه يعني أبا القاسم الفوراني، ولعلنا نعرض لذلك في بعض ما نستقبل من التعليقات) .(2/40)
فصل
682- الترجيع مأمور به عندنا في الأذان، وهو أن يقول عقيب التكبيرات الأُوَل في صدر الأذان: أشهد أن لا إِله إِلا الله مرتين، وكذلك يقول: أشهد أن محمداً رسول الله مرتين، ولا يمد صوته، ثم يعود ويرجع إِلى سجيته في رفع الصوت، فيقول مادّاً صوته: أشهد أن لا إِله إِلا الله مرتين، وأشهد أن محمداً رسول الله مرتين.
والترجيع منصوص عليه في قصة أبي محذورة.
وأما أبو حنيفة (1) فإِنه لم ير الترجيع، وحمل حديث أبي محذورة على أن النبي عليه السلام كرر الشهادتين سرداً على أبي محذورة لتأكيد حفظه في التلقين؛ إِذْ كان صبياً، ثم لما رآه استظهرَ، أَمَرَه بأن يرجع ويمدّ صوته، فهذا طريقه.
وأما مالك (2) فقد حكى الصيدلاني من مذْهبه أَنّهُ كان يرى الترجيع، ولا يزيد في كلمات الأذان، وكان يقول: ينبغي للمؤذن أن يقول مرة واحدة أشهد أن لا إِله إِلا الله، ثم مرة أشهد أن محمداً رسول الله، ثم يرجّع فيمد صوته، فيقول: أشهد أن لا إِله إِلا الله رافعاً صوته مرة واحدة، أشهد أن محمداً رسول الله مادّاً صوته.
وما ذكره الشافعي أقصد الطرق، ومعتمده قصة أبي محذورة، وهي مدوَّنة في الصحاح.
وما قدره أبو حنيفة من ترديد الكلام لاستمرار حفظ المتلقن غيرُ صحيح من أوجه: أحدها - أنه خصص كلمتي الشهادتين بهذا، وعُسْرُ الحفظ، والتلقين كان متوقعاً في غيرهما.
والثاني - أنه صح أن أبا محذورة كان يرجّع في أذانه طول زمانه، وهذا قاطع في أنه
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 25، رؤوس المسائل: 136 مسألة: 43. حاشية ابن عابدين: 1/259.
(2) ر. الإِشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/ 215 مسألة: 193، حاشية الدسوقي: 1/193، جواهر الإِكليل: 1/36.(2/41)
فهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمرَ بالترجيع.
والثالث -وبه يبطل مذهب مالك- أن أبا محذورة قال: "لقنني رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان تسع عشرة كلمة" وأراد أصناف الكلِم في الأذان، وإِنما يبلغ هذا العدد إِذا حُسب الترجيع من الأذَان وَكُرِّرَ مرتين، [فاستدّ] (1) مذهب الشافعي على قصة أبي محذورة، وعلى ما فهمه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجرى عليه وأخبر عنه.
683- ثم اختلف أئمتنا في أن الإِتيان بالشهادتين بالصوت الرخيم (2) ركن لا يعتد بالأذان دونه أم لا؟ فمنهم من قال: ليس بركن للأذان، ولعله الأصح؛ فإِن مبنى الأذان على الإِسماع، والإِبلاغ، فإِذا لم يشترط ذلك في هذا، دل على أنه ليس رُكنَ الأذان.
ومنهم من قال: هو ركن الأذان، لما روي عن أبي محذورة أنه قال: "لقنني رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان تسعَ عشرةَ كلمة" فَعَدَّ ما فيه الكلام من متن الأذان.
وذكر بعض المصنفين، أن التثويب على قولنا: "إِنّه مشروع" ليس ركنَ الأذان وجهاً واحداًْ، وإِنما الخلاف في الترجيع، وهذا إِن صح، فسببه أنه صح في الترجيع عَدُّه من [كلم] (3) الأذان في قَرَن، ولم يصح مثله في التثويب، وفي التثويب عنْدي احتمال، من جهة أنه يضاهي كلم الأذان في شرع رفع الصوت به، وهو أيضاً موضوع في أثناء الأذان. والأظهر في الترجيع أنه غير معدود من أرْكان الأذان.
684- ومما يتم القول به في الترجيع، أن المصلي في الصلاة السِّرِّيَّة يقتصر مع سلامة حاسة السمع على إِسماعه نفسَه، والمُرَجِّعُ فيما يأتي به في صوت خفيض كيف
__________
(1) في الأصل، وفي (ت 1) : "فاستمرّ" وهو تصحيف واضح، فلا معنى لها، والصواب ما أثبتناه " فاستدّ": أي: "استقام"، وهو لفظٌ جار على لسان إمام الحرمين بكثرة [ومن عجب أن نسخة (ل) جاءتنا بالتصحيف نفسه] .
(2) الرخيم: من رخُم الصوت إذا لان وسهل، فهو رخيم. (المعجم) .
(3) زيادة من (ل) .(2/42)
حده؟ كان شيخي يقول: ينبغي أن يُسمع من بالقرب منه، أو أهل المسجد إِن كان واقفاً عليهم، وكان المسجد مقتصِدَ الخِطّة، وهذا فيه احتمال ظاهر، ويحتمل أن يكون المرجِّع كالقارىء في الصلاة السرية، ويحتمل أن يكون فيه رَافعاً صوته قليلاً، كما ذكره شيخي. وهذا ينشأ مما حكي عن مالك، كما ذَكرناه؛ إِذ عدَّ الترجيعَ من كلم الأذان، ولم يزد في الأذان، [ويشبه عندي على هذا] (1) أن يقال: يكون صوت المرجع في ترجيعه كصوت الذي يؤذن في نفسه؛ وسيأتي فصلٌ في تعليم الأذان يحوي ذلك وغيره.
ثم الذي يؤذن في نفسه لا يقتصر على إِسماعه نفسَه، كما سيأتي إِن شاء الله.
فصل
قال: "وأحب رفع الصَّوت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك" (2) .
685- الأذان مشروع للإِبلاغ والإِسماع، والأصل الذي ذكرناه في الأذان من اجتماع الصحابة واشتوارهم، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألقهِ إلى بلال فإنه أندى صوتاً منك" قاطعٌ في أن الغرض من الأذان الإِسماع والتنبيه على دخول المواقيت، وهذا يقتضي لا محالة رفعَ الصوت، وإِذا كان كذلك، فلو لم يرفع صوتَه بحيث يحصل الإِبلاع، فمقتضى هذا الأصل أنه لا يعتد بالأذان، وإِذا سبق الفقيه إِلى اعتقاد ذلك، ورامَ الجريانَ على مراسم هذا المذهب في محاولة هذا الضبط في مكان (3) الانتشار، فسيطرأ عليه التشوّف إِلى ضبط أقل ما يُراعي في إِجزاء الأذان مما يتعلق برفع الصوت، وهذا يستدعي تقديمَ أصل مقصودٍ في نفسه، وبذكره ينتطم ما نريد.
__________
(1) في الأصل: وشبه هذا عندي أن ... والمثبت عبارة (ت 1) .
(2) ر. المختصر: 60.
(3) ت 1: مظان. ومعنى العبارة: أن محاولة الضبط في موضع الانتشار، أي تشعب الآراء، وتعدد الأقوال ستؤدي إلى التطلع إلى ضبطِ أقل ما يجزىء من رفع الصوت.(2/43)
فنقول: إِذا كان في المسجد مؤذن راتب، فأذن، وحضر من الجمع من حضر، فلا شك أن الذين حضروا يكتفون بالأذان الراتب، والإِقامة الراتبة، ولا يؤذن واحد منهم.
ولو صلى الناس في الجَمْع الأول، ثم حضر جمع آخر، وأرادوا عقد جماعة في ذلك المسجد بعينه، فقد قال صاحب التقريب: لا ينبغي أن يؤذن مؤذنُ الجمع الثاني مع الإِسماع والإِبلاغ؛ فإِن ذلك إِن فُرِضَ، جَرَّ لبساً، وتعاقبت الأصوات، والتبس الأمرُ.
ولكن هل يؤذن مؤذنٌ في نفسهِ من غير إِبلاغٍ في رفع الصوت؟ ذَكر صاحبُ التقريب نصوصاً مضطربة في ذلك، وانتزع منها قولين: أحدهما - أنهم يكتفون بما سبق من الأذان الراتب؛ فإِنه يتضمن دعاء كل من يحضر أولاً وآخراً إِلى انقضاء الوقت، فليقع الاكتفاء به.
والقول الثاني - أنه يؤذن المؤذن في نفسه ولا يبالغ في رفع الصوت، ويقيم، فهذا على قولٍ أذان ليس فيه إِبلاغ في رفع الصوت. والقول الثاني حكاه المزني عن الشافعي في الأذان والإِقامة من غير إِبلاغ في الرفع، في المختصر الكبير.
قال صاحب التقريب: هذا فيمن يحضر المسجد الذي جرى فيه الأذان، وقد انقضى الجمع الأول، فأمَّا إِذا أذن مؤذنو المصر على مواضعهم، وبلغت أصواتُهم الناسَ في رحالهم، فأرَاد من لا يحضر المسجد أن يصلي في بيته، فهل يؤذن ويقيم؟ أم يكتفي بأذان المؤذنين في المصر؟ قال: هذا محتمل، يجوز أن يقال: يكتفي بأذان البلد، ويجوز أن يقال: يؤذن ويقيم.
686- وممّا نذكره مرسلاً، أن المرأة لا تؤذن رَافعةً صوتَها، ولو أذنت في جمع الرجال لا يعتدّ بأذانها وفاقاً، وذلك يناظر حكمنا بامتناع اقتداء الرجال بها، وإِن كانت صلاتها صحيحة، والقياس أن من صحت صلاتُه، صح الاقتداء به، ولكن ظاهر النص أن المرأة تقيم ولا ترفع صوتها، وكان شيخي يقطع بأن المرأة ليست مأمورة بالأذان، وهذا ما قطع به العراقيون.(2/44)
وحكى صاحب التقريب عن الشافعي في الأم أنه قال: "ليس على النساء أذان، وإِن جمعن الصلاة، فإِن أذَّنَ وَأقمن، فلا بأس، وإِن تركت الإِقامة، لم أكره لها مِن تركها ما أكره للرجال" (1) . هذا لفظ الشافعي في "الأم". ومساقه مشعر بأمور منها: أن الإِقامة على الجملة مَأمور بها في حقها؛ فإِنه قَدَّر في تركها كراهية، وحطّ قدرها عن كراهية التركِ في حق الرجال، وتَخصيصُه الإِقامة بالذكر في الكراهية دَليل على فصله بين الإِقامة والأذان، وهو مشعر بأن لا كراهية عليها في ترك الأذان، وقول الشافعي في الأذان والإِقامة "لا بأس" مشير إِلى أن الأمر لا يظهر في الأذان والإِقامة جميعاً، فهذه وجوه في التردد.
ونظم الأئمة من مجموع ذلك أقوالاً: أحدها - أن المرأة لا تؤذن وتقيم.
والثاني - أنها تؤذن وتقيم.
والثالث - تقيم ولا تؤذن، ثم إِن أذنت لم ترفع صوتها.
ومما نذكره مرسلاً أن الرجل إِذا انفرد بنفسه في الصلاة، وكان ذلك في موضعٍ لم ينته إِليه صوتُ مؤذن، فظاهر المذهب، أنه يؤذن ويقيم، وهو المنصوص عليه في الجديد.
وفي بعض التصانيف قولٌ محكي عن الشافعي في القديم، أنه لا يؤذن المنفرد ولكنه يقيم.
وقال بعض أئمتنا: إِن كان يرجو حضور جمعٍ، فالأذان مأمور به، وإِن كان لا يرجو، فلا يؤذن.
وإِذا رأينا له أن يؤذن، فالظاهر أَنا نُؤثر له رفعَ الصوت، والأصل فيه ما روي أن النبي -عليه السلام- قال لأبي سعيد الخدري: "إنك رجل تحب الغنم والبادية، فإذا
__________
(1) ر. الأم: 1/73. وسياقة عبارة الشافعي بهذه الصورة فيها حذفٌ، وتمامها: "وليس على النساء أذان ولا إقامة، وإن جمعن الصلاة. وإن أذن وأقمن، فلا بأس. ولا تجهر المرأة بصوتها، تؤذن في نفسها، وتُسمع صواحباتها إذا أذنت، وكذلك تقيم إذا أقامت، وكذلك إن تركت الإقامة، لم أكره لها من تركها ما أكره للرجال، وإن كنت أحب أن تقيم".(2/45)
دخل عليك وقت الصلاة فأذّن وارفع صوتك؛ فإِنه لا يسمع صوتك حجر ولا مَدَر إِلا يشهد لك يوم القيامة" (1) .
ومن أئمتنا من قال: إِن كان يرجو حضورَ جمع، رفع صوته، وإِن كان لا يرجو أذَّنَ في نفسه، وحديث أبي سعيد الخدري وقول الرسول له ليس نصاً في حالة انفراده؛ فإِنه صلى الله عليه وسلم لم يتعرض لذلك، وليس يبعد عن الحال أنه كان يتبدّى (2) مع عُصبة من خدمه وحشمه.
687- فهذه مسائل أرسلناها وحكينا ما قيل فيها، ونحن الآن نبغي فيها ضابطاً، ونؤثر تخريج محل الوفاق والخلاف عليه إِن شاء الله تعالى.
فالغرض الأظهر الذي انبنى عليه أصل الأذان إِظهار الدعاء إِلى الصلاة، وإِعلام الناس دخول الوقت، والغرض من الإِقامة إِعلام من حضر أو قرب مكانُه ممن يحضر أَنَّ الصلاةَ قد قامت، وهذا واضح بينٌ. ثم من اندرج تحت الدعاء وحضرَ الجمع، فهو مدعوٌّ مجيب، فلا يؤذن ولا يقيم، ومن لم يحضر أصلاً، ولزم موضعَه، ولكن
__________
(1) حديث أبي سعيد أخرجه البخاري مع اختلاف في اللفظ: الأذان، باب رفع الصوت بالنداء، ح 609، ورواه مالك في الموطأ على نحو البخاري: ص 69، الصلاة، ح 5.
هذا. وسياق إِمام الحرمين للحديث مخالف لما في البخاري والموطأ، وقد تبعه في هذا الغزاليُ في الوسيط، قال النووي في تنقيح الوسيط: هذا الحديث مما غيره المصنف، وشيخه، وصاحب الحاوي، والقاضي حسين، والرافعي، وغيرهم من الفقهاء، فجعلوا النبي صلى الله عليه وسلم هو قائل هذا الكلام لأبي سعيد، والصواب ما ثبت في صحيح البخاري والموطأ وجميع كتب الحديث عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة الأنصاري أنّ أبا سعيد الخدري قال له: "إِني أراك تحب الغنم والبادية...." قال أبو سعيد: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ا. هـ
وقد نقل الحافظ اعتذار ابن الرفعة عن الأئمة الذين أوردوا الحديث مغيَّراً، لكنه قال: إِن في جوابه تكلفاً. (ر. التنقيح للنووي، ومشكل الوسيط لابن الصلاح - بهامش الوسيط: 2/43، 44، التلخيص: 1/193 ح 285) .
وأخيراً -ونحن نراجع تجارب الطباعة- ظهر البدر المنير مطبوعاً، فرأينا ابن الملقن يقول (3/311) : "وأبدى ابن الرفعة في مطلبه عذراً حسناً لهؤلاء الجماعة" فانظر الفرق بين الموقفين من اعتذار ابن الرفعة.
(2) أي يخرج إِلى البادية.(2/46)
بلغه الدعاء العام، فالأصح أنه يؤذن، ولكن [ليس] (1) أذانه إِقامةَ الشعار الذي وصفناه؛ فإِنه ليس يَطلبُ دعاءَ جمع، وقد قام بالدعاء العام المرتَّبون له.
وكذلك المنفرد الذي لا يرجو حضور الجماعة، فإِن لم تبلغه دعوةٌ عامة، ففيه خلاف حكيته، وهو بالأذان أولى. ثم ينتظم من كونه أولى، مع ما تقدم في حق من بلغته الدعوة أقوال: أحدها - يؤذنان (2) ، والثاني - لا يؤذنان، والثالث - يؤذن المنفرد، حيث لم تبلغه دعوة، ولا يؤذن من بلغته دعوة.
[ولا ينبغي أن يختلف القول في المنفرد الذي لم تبلغه دعوة] (3) وهو يرجو حضور جمع. ثم من لم تبلغه الدعوة وهو يرجو [حضور جمع] (4) ، فنرى له رفعَ الصوت، ومن لا يرجو، ولم تبلغه دعوة ففي رفع الصوت تردّد وخلاف، ومن بلغته دعوة وهو يصلي في رَحلِه، ولا يقصد جمع طائفة، ففي رفع الصوت خلاف، وهو أوْلى بألاّ يرفعَ صوته.
ويترتب من المسألتين ثلاثة أوجه: فحيث نقول: لا يرفع، لا نكره رفع الصوت، ولا ننهى عنه، بل هو أولى قطعاً، وإِنما الكلام في الاعتداد بالأذان من غير رفع الصوت، وقد يُنهى عن رفع الصوت في بعض الصور، كما نصّ عليه، فالمرأة ممنوعة من رفع الصوت منعَ تحريم. ومن حضر الجمع الثاني في المسجد الذي أقيم فيه الأذان الراتب والجمع الراتب، لا يحرم عليه رفع الصوت بالأذان، ولكن الأولى ألا يرفع.
ثم حيث حرّمنا الرفع -وهو في حق المرأة- فهل [يشرع] (5) الأذان؟ فيه التردد المقدم، والأظهر أنه لا يشرع، وحيث ننهى ولا نُحرِّم، فهو في الأذان من غير إِبلاغ
__________
(1) زيادة من: (ت 1) ، ثم (ل) .
(2) "يؤذنان": أي من بلغته الدعوة، ومن لم تبلغه.
(3) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. وأثبتناه من: (ت 1) . وهو في (ل) أيضاً.
(4) زيادة من المحقق رعاية للسياق، وللإِيضاح. حيث حذفت النسخ كلها (المفعولَ به) .
(5) في الأصل كما في (ت 1) : يسوغ. والمثبت تقدير منا رعاية لعبارة الإِمام في المسألة نفسها، وهو أيضاً تعبير ابن أبي عصرون، في مختصره. وقد ساعدتنا (ل) .(2/47)
في رفع الصوت [أوْلى] (1) ، فينتظم في الصّورتين في شرع الأذان من غير رفع الصوت ثلاثةُ أوجه، من حيث ترتُّبُ صورةٍ على أخرى في الأوْلى، وكذلك يجري ترتيبُ كل مسألةٍ على الأخرى من طريق الأولى.
ثم في كل صورة استحببنا الأذان، فلا شك أنا نؤثر فيها الإِقامة، وحيث لا نرى الأذان من جهة كون الإِنسان مدعوّاً مجيباً في الجمع الأول، فلا إِقامة، وحيث لا نرى الأذان في غير هذه الصورة من الصور المقَدَّمة، ففي شرع الإِقامة خلاف.
فهذا ضبط هذه المسائل.
688- وقد خرج منها أن أصل الأذان الإِبلاغ، وما عداه مما [شرعناه] (2) إِذا لم يكن فيه معنى الإِبلاغ، ففي أصل شرعه تردد، ثم من يراه [يثبته] (3) تشبيهاً بما هو للإِبلاع، [ثم ما هو للإِبلاغ] (4) يتعين فيه الوفاء بتحقيق الإِبلاع، وذلك برفع الصوت، والذي ليس إِبلاغاً لابدّ فيه من نَوْع رفعٍ، على ما سنشير إِلى ضبطه.
فإِن قيل: فما الذي تراعونه في أقل درجات رفع الصوت في الأذان من المبلِّغ؟
قلنا: [ينبغي] (5) أولاً: أن تبلغ أصواتُ المؤذنين أهلَ الناحية، فإن قام بذلك رجل واحد جَهْوَرِيُّ الصوت، كفى، وإِن قام به عدد في المحالّ، جاز، كما تقدّم ذلك، حيث ترددنا في أَنَّ الأذان فرض على الكفاية أم لا.
ثم الغرض من إِبلاع الأذان أمران: أحدهما - التنبيه على دخول الأوقات، والثاني - الدعاء إِلى الجماعات، فليبلغ صوتُ كلّ من يقوم بالتبليغ من يحضر الجمع، أو يُتصوّر حضوره في الأمر الوسط، فقد يحضر الجمع طوائفُ تمتلىء بهم أرجاء المسجد، وقد لا يحضر إِلا شرذمة تقوم بهم الجماعة، فالوجه اعتبار الوسط،
__________
(1) زيادة من: (ت 1) ، وصدّقتها (ل) .
(2) في الأصل: سوغناه، والمثبت من (ت 1) ، (ل) .
(3) مطموسة في (ت 1) . وغير مقروءة في الأصل، والمثبت تقدير منا، والحمد لله صدقتنا (ل) .
(4) زيادة من: (ل) .
(5) زيادة من (ت 1) ، ثم ساعدتها (ل) .(2/48)
وهؤلاء هم الذين عبر عنهم الأئمة بأن المؤذن يُبْلِغ جيران المسجد.
فإِن قيل: هلاَّ نُزِّلَ أقلّ الرفع على ما يدعو أقلّ الجمع؟ قلنا: ليس ذلك بأذانٍ يسمى إِبلاغاً، وشَهْراً، وإِقامةً للشعار، فليدع الداعي جمعا وسطاً، فهو أقلُّ مرعيٍّ في ضبط الإِسماع والإِبلاغ، ولو أذن المؤذن في نفسه لا يبلغ بذلك شرذمة، والذي يطرأ علينا في ذلك أنه لو كثر عدد المؤذنين، ولم ينته كلّ مؤذن في نفسه إِلى ما ذكرناه، ولكن عمَّ الأذان البلدة بكثرة الدعاة لا برفع الصوت، فهذا فيه احتمال ظاهر.
فهذا في أذان الإِبلاغ، فأمَّا حيث يؤذن المؤذن في نفسه، فلو اقتصر فيه على حدِّ قراءة القارىء في الصلوات السرية، فلا يكون ما جاء به أذاناً ولا إِقامة، فليرفع صوته.
قلنا: والضبط فيه أنه يعني تنبيه من حضر أو على حَدِّه (1) ، وإِن لم يحضر أحد.
فهذا تمام ما انتهى إِليه الفكر في تقاسيم الأذان، وفيما يُراعى فيها من رفع الصوت.
فصل
قال: "ويكون على طُهر فإن أذن جنباً كرهته" (2)
689- أذان الجنب والمحدِث معتدّ به، فإِنا إِن نظرنا إِلى نفس الأذان، فهو دعاء وأذكار، وإِن نظرنا إِلى مقصود الأذان، فلا ينافيه الحدث، غير أنا نكره الأذان من غير طُهر، وسبب ذلك على الجملة أنه إِن حضر الجَمْعَ، فإِنه خيرٌ كثير (3) ، وقبيح أن يدعو ولا يُجيب بنفسه، فكان في حكم من يعظ ولا يتعظ، وتسوء الظنون به أيضاً.
ثم الكراهية في الجنابة أشدّ، من جهة أن الشغل في رفعها أكثر، وإِن انتظر
__________
(1) أي على قدر تنبيه من يكون حاضراً.
(2) ر. المختصر: 1/60.
(3) المعنى أن المؤذن إن حضر الجمعَ -الذي أجاب الأذان- وصلى معهم، فقد ناله خير كثير،
حيث جمع بين أجر الأذان وأجر الإجابة.(2/49)
المؤذن، كان أمدُ الانتظار أطولَ، وعلى الجملة حدث الجنابة أشد وأغلظ، وليس الجنب أيضاً من أهل المكث في المسجد للتأذين.
والكراهية في الإِقامة أشد منها في الأذان؛ لأن المقيم إِذا كان جنباً، أو حدثاً، فهو حري بأن تفوته الجماعة أو صدْر منها.
وإِنما اختلف الأئمة في اشتراط الطهر في خُطبتي الجمعة، كما سيأتي، وإِن كانتا أذكاراً، من جهة الاختلاف في أنهما مُقامتان مقام ركعتين، وهذا قد يتطرق إِليه سؤال، كما سنذكره في موضعه. وأقرب منه التردد في اشتراط الموالاة بينها وبين افتتاح الصّلاة، وهذا يتعذر مع تخلل الطهر بينهما، وبين ابتداء الصّلاة، ولا يتحقق ما ذكرناه في الأذَان والإِقامة.
فصل
قال: "وألا يتكلم في أذانه، فإن تكلم لم يُعِد" (1) .
690- إِذا تكلم المؤذن ولم يرفع صوته، ولم يطوِّل بحيث ينقطع وِلاءُ الأذان، لم يبطل الأذان بما جاء به وفاقاً.
والترتيب في مضمون الفصل: أنه إِن سكت سكوتاً طويلاً بحيث يظن السّامعون أنه أضرَبَ قصداً، أو نابه مانع من استتمامِه، ففي بطلانه قولان مرتبان على القولين في تفريق الطهارة. والأذانُ أولى برعاية الموالاة؛ من جهة أن المقصود منه الإِبلاغ والإِسماع، وإِذا تَبَتَّر، التبس الأمر على السامعين، وهجس لهم أن الذي جاء به لم يكن أذاناً، وكان الغرض منه تعليم الغير الأذانَ، أو ما في معنى ما ذكرناه، ولا يتحقق من الوضوء مقصود يُفرض زواله بترك الموالاة والمتابعة.
وهذا فيه إِذا ترك الموالاة في الأذان بالسكوت، فأما إِذا طوّل، وضمَّ إِليهِ الكلامَ مع رفع الصوت، فهذا يترتب على السُّكوت، وهو أوْلى بالإِبطال من جهة أنه أبلغ في إِبطال مقصود الأذان، وجَرِّ اللبس على السامعين.
__________
(1) ر. المختصر: 1/60.(2/50)
وإِذا لم نحكم ببطلان الأذان، فالمؤذن يبني على بقية أذانهِ، ويأتي بها، وهل يبنى غيرهُ عليه؟ فعلى هذا القول قولان، فإِنَّ صدور الأذان من رجلين غاية في جرّ اللبس ومدافعةِ مقصود الأذَان.
691- ولو أذن مؤذن وأَقام غيره، فالذي قطع به الأئمة أن ذلك جائز، وذَكر بعض المصنفين (1) فيه خلافاً، وزعم أنه مبني على أنه لو خَطب رجل يوم الجمعة، وصلى غيره، فهل يجوز ذلك أم لا؟ وهذا بعيد، وتلقِّي الأذان من الخطبتين غير سديد.
692- ومن تمام القول في ذلك أنه لو تكلم المؤذن ولم يُطوّل ورفع صوته بحيث أسمع من أسمعه الأذانَ، فالذي يقتضيه كلام الأئمة أنه غير ضارٍّ، ولا ينقطع الأذان به، وكان شيخي يتردد في هذا، من جهة أن الكلام يُلبِّسُ على السامعين أمرَ الأذَانِ، كما يتخبط عليهم الأذان بالسكوت الطويل.
693- ولو ارتدَّ المؤذن، ففيه اختلاف نصوص، وتصرف الأصحاب بالنقل والتخريج. وحاصل القول فيه. أنه إِذا أتى ببقية الأذان مع الردةِ، لم يعتد به، كما سيأتي بعد ذلك القولُ في أذان الكافر. وإِن عاد إِلى الإِسلام على قرب من الزمان من غير أن ينقطع الولاء، ففي المسألة قولان: أحدهما -وهو الأصح- أن الأذان معتدّ به؛ لأن الأذان ليس مفتقراً إِلى نيّة هي رابطته، حتى يُقضى بانقطاعها بطريان الردة.
ومن أبطل الأذان ومنع البناءَ عليه، استدل بأن الردة من المحبِطات، فالأذان لو صدر من المرتد، لم يعتد به، وإِن كانت النية غير مرعية فيه، فينبغي أن يحبِط ما مضى بطريانها.
ولو طال الزمان، ثم عاد إِلى الإِسلام، ولم يأتِ في زمان الردة بشيء من كَلِم
__________
(1) ترى هل يقصد إِمام الحرمين بقوله: (بعض المصنفين) الإِمام الماوردي؟؟ أكاد أجزم بذلك، فقد ذكر الماوردي بمثل هذا الأسلوب، بل أشدّ في كتاب الغياثي: انظر الفقرات: 209، 232، 233، 303. والله أعلم. بعد أن كتبت هذا ثبت عندي أنه لا يقصد الماوردي، بل أبا القاسم الفوراني، كما سيأتي إِن شاء الله. (ولم أشأ أن أحذف ما قدّرتُه أولاً) .(2/51)
الأذان. فالقول الآن يتركب من تأثير الرّدة في الإِحباط، ومن تخلل ما يقطع وِلاءَ الأذان، والخلاف فيه يترتب على أحد الأصلين المتجردين: إما تجرد (1) انقطاع الوِلاء بسكوت، أو طروء الردة، وقربِ الزمان.
فهذا منتهى البيان فيما يتعلق بوِلاء الأذان.
فصل
قال: "وما فات وقته أقام ولم يؤذن (2) ... إلى آخره".
694- إذا أرادَ قضاء فائتة واحدة، فالمنصوص عليه في الجديد أنه يقيم لها،
ولا يؤذن. ونص في القديم على أنه يؤذن، ويقيم. ونص في "الأمالي" أنه إن رجا
جماعةً أذَّن، وإن لم يرجها، اقتصر على الإقامة. فكأنه في "الجديد" اعتبر حرمة
الوقت، واعتبر في "القديم" حرمة الصلاة، واعتبر في "الأمالي" الجماعة.
ولو أراد أن يقضي فوائت وِلاء، ففي الأذان للأُولى منها الأقوال الثلاثة، ويقيم
لها، ولكل فائتة بعدها إقامة، ولا يؤذن لغير الأولى، قولاً واحداً.
وقال أبو حنيفة (3) : يؤذن لكل فائتة ويقيم، ولو كان يقضي فائتة في وقت أداء
فريضة، وكان يؤدي بعدها فرضَ الوقت، فإن أدى فرضَ الوقت أوَّلاً، أذَّنَ وأقام،
ويقيم للفائِتة ولا يؤذن.
ولو أراد تقديم الفائِتة، ففي الأذان لها الأقوال الثلاثة، ثم إن رأى أن يؤذن لها، فلا ينبغي أن يؤذن للأداء بعدها؛ فإِنَّ أذانين لا يتواليان، وإن لم يؤذِّن للفائتة -في قول- بل اقتصر على الإقامة، فيؤذن للصلاة المؤدّاة في وقتها، ويقيم ويؤدي.
__________
(1) في النسختين: أما (إذا) تجرد انقطاع الولاء ... ويبدو أن (إذا) مقحمة لا معنى لها، كما هو واضح من مختصر ابن أبي عصرون. (وجاءت (ل) بهذا الخلل أيضاً) .
(2) ر. المختصر: 60.
(3) ر. بدائع الصنائع: 1/154، مختصر اختلاف العلماء: 1/191 مسألة 124، حاشية ابن عابدين: 1/261.(2/52)
695- ومما يتعلق بهذا تفصيل القول في الجمع بين الصّلاتين، فإن قدم العصر إلى وقت الظهر، فلا شك أنه يقدم الظهر، فيؤذن ويقيم، ثم يقتصر على الإقامة لصلاة العصر، ولا يسوغ غير هذا؛ فإنه لو أذن لصلاةِ العصر لانقطع وِلاء الجمع، ولا خلاف أن الموالاة مرعية في جمع التقديم.
على أنا ذكرنا أن توالي الأذانين لا سبيل إليه إلا في صورة واحدة على قولٍ، وهي إذا قضى فائتة قبيل الزَّوَال وأذن لها على قولٍ، ثم لمّا فرغ من الفائِتة زالتِ الشمس، فأرَادَ إقامة الظهر في وقته، فإنه يؤذن لا محالة؛ فإن الأذان الواقع قبل الزوال لم يكن معتداً به عن أداء صلاة الظهر، ولم يكن دعاءً إلى صلاة الظهر.
ولو أخر الظهر إلى وقت العصر، فسيأتي في كتاب الجمع الخلاف في أنه هل يجب رعاية الترتيب والموالاة في هذا الجمع؟ فإن قلنا: يجب، فيبدأ بالظهر، ثم يأتي بالعصر، قال الأئمة: هل يؤذن لصلاة الظهر أم لا؟ فعلى الأقوال في قضاء الفائتة؛ فإن هذه الصلاة في حكم الفائتة؛ من حيث أخرجت عن وقتها المعتاد، والأذانُ المتفق عليه إنما يجري دُعاءً إلى الوقت المعتاد للصلوات. فإن قلنا: لا يؤذن لصلاة الظهر، فلا يؤذن أيضاً للعصر؛ فإنه على إيجاب رعاية الموالاة يفرعّ، والأذانُ لو تخللَ، لقطعَ الموالاة.
وهذا فيه نظر عندي. ويظهر أن نقول: يؤذن قبل صلاة الظهر، ثم ينقدح في تعليل ذلك وجهان: أحدهما - أن الصلاة مؤداة، وهذا وقت أدائها في السّفر إذا أُخِّرت. والآخر - أنه يبعد أن يدخل وقت العصر ولا يؤذن له، ثم لا يمتنع أن يقال: يقع الأذان لصلاة العصر، ويقدّم عليها صلاةُ الظهر، والإنسان يؤذن لصلاة، ثم يأتي بعد الأذان بنوافل وتطوعات إلى أن تتفق الإقامة.
فالوجه عندي: القطع بأنه يؤذن قبل صلاة الظهر ويقيم، ثم يقيم بعد الفراغ من صلاة الظهر، ويفتتح صلاة العصر.
فهذا كله إذا قلنا: يجب رعاية الترتيب والموالاة.(2/53)
696- فأما إذا قلنا: لا يجب رعاية الموالاة والترتيب، فصلاة الظهر على هذا (1) مقضِيَّة، فإن قدّمها، ففي الأذان لها الأقوال المقدمة، ثم إن أذن لصلاة الظهر على قول، فلا يؤذن مرة أخرى لصلاة العصر، وإن قلنا: لا يؤذن لصلاة الظهر، فيقيم لها ثم يؤذن لصلاة العصر؛ فإن الموالاة ليست مشروطة، فلا بد من الأذان، فإن صلى العصر أولاً، فيؤذن لها ويقيم، ثم يقيم لصلاة الظهر، ولا يؤذن، كالذي يقيم فريضة مؤداة، ويُعقبها بفائتة يقضيها، فإنه يؤذن ويقيم للصلاة المؤداة، ويقيم للصلاة المقضية.
697- ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أنا إذا قلنا: يجب رعاية الترتيب، فعليه أن يقدم صلاة الظهر، فلو قدم صلاة العصر، فقد أساء فيما فعل؛ فإنه حرَّم على نفسه رخصة الجمع، وصلاةُ العصر المقدّمة صحيحة، ولكن تعتبر صلاة الظهر في حكم صلاة أخرجت عن وقتها من غير عذر.
فإذا وضح هذا، فإذا قدم العصر، فقد قال بعض المصنفين (2) : صلاة العصر في هذه الصورة في حكم صلاة مقضية؛ فإنها أخرجت عن وقتها المؤقت لها شرعاً في ترتيب الجمع المثبت رخصة. وهذا خطأ صريح لا وجه له؛ فإن صلاة العصر مؤداة في وقتها قطعاً، وما جرى من إخلالٍ بالترتيب آيلٌ إلى صلاة الظهر؛ فإنها خرجت عن حكم الرخصة إلى تفريط التفويت. فهذا منتهى القول في ذلك.
__________
(1) من هنا سقطت لوحة كاملة من الأصل. واعتمدنا فيها على نسخة: ت 1.
(2) نسب النووي في المجموع هذا القول إلى صاحب التتمة أبي سعيد المتولّي، وأشار إلى حكاية إمام الحرمين له. في (النهاية) . فقد يوحي هذا بأن المعنيَّ (ببعض المصنفين) هو أبو سعيد المتولّي. ولكن هذا غير قاطع، فقد يكون إمام الحرمين حكاه عن (الفوراني) ، وهو أيضاً عند أبي سعيد لا سيّما أن أبا سعيد ذكر هذا في التتمة، وهي شرحٌ لـ (إبانة) الفوراني. فلا يمنع هذا من القول بما ترجح لدينا من أن الذي يعنيه إمامنا ببعض المصنفين هو (أبو القاسم الفوراني) والله أعلم.(2/54)
فصل
قال: "إذا سمع المؤذن أحببتُ أن يقول مثل ما يقول ... إلى آخره" (1) .
698- إجابة المؤذن مستحبة إذا سمع السامعُ الأذانَ، ولم يكن في الصلاة، والأكمل أن يقول مِثلَ ما يقول حرفاً حرفاً، إلا إذا قال: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، فإن المجيب يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فإنّ معنى الكلمتين الدعاء، ولا يليق بالمدعوّ أن يعيد كلمة الدعاء، ولكن ينبغي أن يقول إذا سمع الدعاء: لا حول، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. هذا نَقْلُ الأثبات عن السلف، وفيه التبرّي من الحول والقوة، مع الاعتصام بالله تعالى. ثم إذا قال: "الله أكبر" قال مثل ذلك وإذا قال: "لا إله إلا الله" قال مثل قوله.
وتستحب إجابة المقيم كما تستحب إجابة المؤذن.
وإذا قال المؤذن في صلاة الصبح: "الصلاة خير من النوم" فجوابه به "صدقت وبررتَ" وإذا قال: "قد قامت الصلاة"، فجوابه "اللهم أقِمها وأدِمها، واجعلني من صالحي أهلها".
وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من سمع المؤذن يؤذن، فليقل مثل ما يقول المؤذن" (2) . وقد روي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قال بعد فراغ المؤذن: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته، حلت له الشفاعة" (3) .
__________
(1) ر. المختصر: 1/61.
(2) حديث: "من سمع المؤذن ... " أخرجه الستة من حديث أبي سعيد الخدري، ورواه الترمذي وابن حبان من حديث أبي هريرة (البخاري: كتاب الأذان، باب ما يقول إذا سمع المنادي، ح 611، ومسلم: كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه، ح 383، والتلخيص: 1/210 ح 311) .
(3) حديث "من قال بعد فراغ المؤذن ... " رواه البخاري وأصحاب السنن من حديث جابر، إلا أنه قال: "مقاماً محموداً" بغير تعريف، وعند النسائي، وابن خزيمة بالتعريف فيهما. (ر. =(2/55)
ثم اختلف نص الشافعي في أن الرّجل لوْ كان في الصّلاة، فسمع الأذان، هل يُجيب أمْ لا؟، فذكر الأئمة قولين، وكان شيخي يذكرهما في الاستحباب، ويقول: لا تستحب الإجابة فيِ الصلاة في قولٍ؛ فإن الصلاة مشحونة بوظائف القراءة والأذكار، فينبغي ألا يُغيَّرَ ترتيبُها ولا يَثبُت فيها حُكمٌ من أمرٍ خارج منها، وفي قولٍ: يستحب؛ فإنها أذكار، ولو أُخِّرت، فقد يطرأ عائق في تداركها، وأيضاً فإنا أمرنا بالإجابة، والإجابة متصلة بالمسمُوع، فإذا أخرت، لم تكن إجابةً، ثم كان يقول: إن قلنا: لا تجب في الصلاة، فإذا تحلَّل، أعاد تلك الكلمات.
وذَكر آخرون: أن القولين فى إثبات الكراهية ونفيها، فأمَّا الاستحباب، فلا، قولاً واحداً، وكأنّا نكره في قولٍ، ولا نكره في آخر.
وذكر الشيخ أبو علي (1) أن المسألة ليست على قولين، بل نقطع بنفي الاستحباب.
ولا يكره ولا يستحب، قولاً واحداً، بل هو مباح. وهذه الطريقة هي المرضية.
ثم من يرى الإجابة، فلا شك أنه ينهى عنها في أثناء قراءة الفاتحة؛ فإن القراءة يُقطعُ وِلاؤها بكلِّ ذكر.
وقد رأيت في كلام صاحب التقريب رمزاً إلى أن إجابة الإقامة -وهي على إدرَاج (2) - لا نراها، وإنما تجاب كلمة الإقامة، وهي قول المقيم "قد قامت الصلاة". وهذا فيه احتمال، ولكن الظاهر ما قدّمناه من قول الأصحاب (3) .
__________
= البخاري: كتاب الأذان، باب الدعاء عند النداء، ح 614، النسائي: كتاب الأذان، باب الدعاء عند الأذان، ح 680، ابن خزيمة: ح 420، التلخيص: 1/210 ح 310) .
(1) في (ت 1) : الشيخ أبو بكر. والصواب: أبو علي، كما حكاه عنه النووي في المجموع جزء 3 ص 118.
(2) إدراج أي إسراع، بمعنى أن المقيم يوالي بين الألفاظ، ولا يرتلها كالأذان، بل يصل بعضها ببعض، وأصل الإدراج: الطي. من أدرجت الكتاب والثوب، إذا طويتهما. (ر. حاشية الشرواني: 1/467، والزاهر في غريب ألفاظ الشافعي: فقرة 81) .
(3) وصف النووي هذا الوجه المحكي عن صاحب التقريب بأنه شاذ ضعيف، وقال: "قطع الأصحاب بخلافه، إلا الغزالي فقد حكى هذا الوجه عن صاحب التقريب، في كتابه البسيط". (المجموع: 3/117، 118) .(2/56)
ثم إذا لم يُجب في الصلاة، فينبغي أن يأتي بالأذكار، كما (1) يتحلل، ولو طال الفصل. وهذه تشبه ما لو ترك التالي سجدة التلاوة، ففي أمره بالتدارك تفصيل، سيأتي إن شاء الله تعالى.
فصل
يجمع أحكاماً سهلة المأخذ في الأذان، فنسردها، ونصدِّر كلَّ حكم بقول الشافعي فيه في المختصر.
قال: "وترك الأذان في السفر أخف منه في الحضر" (2) .
699- والسَّبب فيه أن المسافر حريّ بالتخفيف عنه، ورخص السفر شاهدة في ذلك أيضاً؛ فإن المسافرين مجتمعون إذا نزلوا، فلا حاجة إلى أذان يجمع المتفرقين، بل يكفي إقامة تنبه على قيام الصَّلاة.
قال: "والإقامة فرادى" (3) .
700- مذهب أهل الحديث (4) إفراد الإقامة. ثم مذهب الشافعي المشهور في إفراد الإقامة ما نرى على أبواب مساجد أصحابه، وكأنه - رضي الله عنه - فهم من الإفراد ردَّ التكبيرات الأربع في صدر الأذان إلى شطرها، وذلك يقتضي التكبير مرتين، وردَّ الشهادة إلى مرة، لما ذكرنا من التنصيف.
وأما كلمة الإقامة، فإنها على التثنية مستحقة (5) في الإقامة فتُثنَّى، ولم يجر لها ذكر في غيرها؛ حتى ترد إلى الشطر فيها. ثم يقول المقيم بعد كلمة الإقامة: الله
__________
(1) كما: بمعنى عندما. كذا يستعملها الإمام.
(2) ر. المختصر: 1/61.
(3) المصدر نفسه.
(4) مذهب أهل الحديث: المقصود به مذهب الشافعية، وهذا اصطلاح شائع في ألسنة الخراسانيين بخاصة، ومنه قول عبد الغافر الفارسي في ترجمة إمام الحرمين: لولاه لأصبح مذهب الحديث حديثاً. (ر. طبقات السبكي: 5/178) .
(5) عبارة (ل) : "فإنها على التثنية؛ فإنها مستفتحة في الإقامة، ولم يجر لها ذكر ... إلخ".(2/57)
أكبر، الله أكبر، كما يقوله في الأذان في هذا الوضع، ويقول: لا إله إلا الله.
وذهب مالك (1) إلى حقيقة الإفراد في جميع الكلم، فيقول: الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، ويقول: قد قامت الصلاة مرةً، الله أكبر مرةً.
وقال الشافعي: "إن كنت تتحقق الإفراد، فاقتصر على التكبيرة الوَاحدة، ولا تَعُد إليها بعد كلمة الإقامة"، وللشافعي قول في القديم مثل قول مالك، وحَكى بعض الأصحاب قولاً ثالثاً: أنه وافق مالكاً في جميع مذهبه، إلا أنه كان يرى الله أكبر مرتين في صدر الإقامة [ويقول "الله أكبر" مرة واحدة بعد كلمة الإقامة؛ ليكون قد ردّ الإقامة إلى شطر الأذان] (2) ، وهو في هذا القول يوحد كلمة الإقامة، كما قال مالك.
فهذا بيان المذاهب.
والذي استقر عليه مذهبه في الجديد ما ذكرناه. والألفاظ الوَاردة في إفراد الإقامة كثيرة، معظمها في الصحاح، وكل ما روي في التثنية، فمعلول أو مرسل، والاحتجاج على القائلين بالتثنية سهل.
701- وبالجملة المذاهب ثلاثة: أحدها - التثنية، والثاني - مذهب مالك [وقول] (3) قديم في الإفراد، كما تقدمت الحكاية. والوسطُ مذهب الشافعي في الجديد. ومعتمد هذا المذهب ما رواه ابن عمر قال: "كان الأذان مرتين مرتين والإقامة مرة واحدة (4) إلا قوله قد قامت الصلاة، فإن المؤذن كان يقولها مرتين" (5) .
__________
(1) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/216 مسألة 195، حاشية العدوي: 1/225، جواهر الإكليل: 1/37.
(2) ساقط من الأصل، والمثبت من: (ت 1) ، (ل) .
(3) زيادة من: (ت 1) .
(4) في هامش: (ت 1) : أراد بالإقامة أخت الأذان.
(5) حديث ابن عمر "كان الأذان مرتين ... " صحيح، رواه الشافعي، وأحمد، وأبو داود، والنسائي، وأبو عوانة، والدارقطني. (ر. أحمد: 2/87 وصححه الشيخ أحمد شاكر، ح 5602، 5569، 5570، أبو داود: كتاب الصلاة، باب في الإقامة، ح 510، وصحيحه للألباني ح 482، النسائي: كتاب الأذان، باب تثنية الأذان، ح 628، الدارقطني: 1/239، والتلخيص: 1/196 ح 290) .(2/58)
ورواه غيره بألفاظ تداني هذا اللفظ، والتعرض لتثنية كلمة الإقامة مرتين نَص في الرد على مالك (1) ، وهو يبطل أيضاً مذهب أبي حنيفة (2) في حمل الإفراد في الإقامة على إفراد الصوت في كل صنف؛ فإن استثناء قد قامت الصلاة مبطل لهذا المسلك في التأويل.
702- ومما يوضح الغرض أنه وقع التعبير في بعض الألفاظ عن الأذان بالتثنية، مع العلم بأن التكبير فيه مُرَبع، فالإِفراد المذكور في الإِقامة على مقابلة تثنية الأذان يقتضي التشطير لا محالة، ولَمَّا تقرر في عرف الشرع ذلك، كان التكبير مرتين بعد الحيعلتين في الأذان، وبعد كلمة الإِقامة في الإِقامة في حكم المفرد. وهذا إِذا تأمله المُنصِف ألفاه أسدَّ المذاهب وأقواها إِن شاء الله تعالى.
703- قال: "ويزيد في أذان الصبح التثويب" (3) .
وهو أن يقول المؤذن بعد الحيعلتين: "الصّلاة خير من النوم" مرتين، والذي نص عليه الشافعي في القديم، أن ذلك مستحب مشروع وقد صح أن بلالاً كان يثوِّب كذلك، وقال في "الجديد" (4) : أكره التثويب (5) ؛ لأن أبا محذورة لم ينقله.
والطريق المشهورة نقل القولين.
وقد قال الأئمة: كل قولين أحدهما جديد، فهو أصح من القديم، إِلا في ثلاث مسائل، منها مسألة: التثويب. وسنذكر مسألتين أخريين عند الانتهاء إِليهما.
وقد ذكرَ الصيدلاني طريقةً حسنةً، وهي أنه قال: ذهب أصحابنا المحققون إِلى قطع القول باستحباب التثويب، وقد اعتمد الشافعي في الجديد حديث أبي محذورة، وقد صح عنده بطرق أنه كان لا يثوب. وكل حكم اعتمد الشافعي فيه الخبر -وقد بلغه الحديث لا على وجهه أو لم يبلغه التمام- فنحن نعلم قطعاً أنه لو بلغه الحديث على
__________
(1) في هامش (ت 1) : ردّ على مالك وأبي حنيفة.
(2) ر. المبسوط 1/129، بدائع الصنائع: 1/148، حاشية ابن عابدين: 1/260.
(3) ر. المختصر: 1/61.
(4) ر. المختصر: 1/61.
(5) في هامش (ت 1) : قف على أن الشافعي قال في الجديد: أكره التثويب.(2/59)
خلاف ما اعتقده وصح على شرطه، لكان يرجع إِلى موافقة الحديث. فكأنه في (الجديد) قال: مذهبي في التثويب ما صح من قصّة أبي محذورة.
704- قال: "وأحب ألا يُجعَل مؤذن الجماعة إِلا عدلاً ثقة؛ لإِشرافه على الناس" (1) .
قوله: "لإِشرافه على الناس" يحتمل وجهين: أحدهما - لإِشرافه في الغالب على المساكن والبيوت، لصعود منارة أو نَشَز (2) ، وقد يقع بصره على العورات. والثاني - لإِشرافه على الناس في مواقيت أشرف العبادات.
قال: "وأحبّ إليَّ أن يكون صيِّتاً حسن الصوت ليكون أرقَّ لسامعه" (3) .
لأن الدعاء من العادات إِلى العبادات جذبٌ إِلى خلاف ما يقتضيه استرسال الطبائع، فينبغي أن يكون الداعي حلو المقال؛ لترق القلوب، وتميل إِلى الاستجابة.
قال: "وأحب أن يكون الأذان على ترسلٍ، من غير بَغْي وتمطيط يزيل نظم حروف الكلم، وتكون الإِقامة على إدراجٍ، مع الوفاء بالبيان" (4) .
وبالجملة الأذان افتتاح الدعاء ليتأهب المتأهبون، فيليق به الترسل لغرض الإِبلاغ، والإِقامة للانتهاض للصلاة وتنبيه الحاضرين، فيليق به الإِدراج، ثم المرعي الوسط في الأمرين جميعاً.
__________
(1) ر. المختصر 1/62.
(2) النشْز: بفتح الشين وإسكانها ما ارتفع من الأرض (المعجم) .
(3) ر. المختصر: 1/62. والصيّت بوزن السيد والهيِّن: هو الرفيع الصوت، وهو فَيْعل من صات يصوت. (الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي فقرة: 80) .
(4) ر. المختصر: 1/62. والترسّل: التبيين، والمترسل: هو الذي يتمهل في تأذينه، ويبين كلامه تبييناً. والبغي: في الأذان: أن يكون رفعه صوته يحكي كلام الجبابرة، والمتكبرين، والمتفيهقين، فالصواب أن يكون صوته بتحزين وترقيق، ليس فيه جفاء كلام الأعراب، ولا لين المتماوتين. والبغي في كلام العرب: الكبر. والإِدراج هو أن يصل الإِقامة بعضها ببعض، وأصل الإِدراج الطي: يقال: أدرجت الكتاب والثوب، ودرجتهما إِدراجاً ودرجاً: إِذا طويتهما على وجوههما. (ر. الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي: 80، 81) .(2/60)
705- قال: "وأحب أن يكون المصلي بهم صالحاً فاضلاً ... إلى آخره" (1) .
الكلام في صفة الأئمة يأتي بعد ذلك في باب، والغرض الآن ذكر كلام الأصحاب في أن القيام بالتأذين أفضل، أو القيام بالإِمامة؟ وقد اشتهر فيه خلاف، قال الصيدلاني: من أئمتنا من قال: التأذين أفضل؛ فإِن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الأئمة ضمناء والمؤذنون أمناء" (2) ، ومنصب الأمين أفضل وأعلى من مرتبة الضامن. وقال عليه السلام: "المؤذنون أطول أعناقاً يوم القيامة" (3) ، (4) .
وقد اختلف في تفسيره، فقيل: أكثر الناس أتباعاً من الذين شُفعوا فيهم، والعُنق الجمع من الناس. وقيل: معناه أحراهم بالأمن؛ فإن الآمن في المجامع [يتشرف] (5) ، والخائف يتطامن ويستخفي. وقيل: أصدقهم رجاء، ومن رجا شيئاً امتدّ عُنقه نحو ما يرجوه. وقيل: معناه لا يلجمهم العرق.
وكان شيخي يؤثر تفضيل الإمامة، وسمعتُه في نوب يقطع بذلك وزَيفَ ما عدَاهُ،
__________
(1) ر. المختصر: 62.
(2) حديث الأئمة ضمناء (صحيح) ، رواه الشافعي عن أبي هريرة بهذا اللفظ، ورواه ابن حبان، وابن خزيمة، وأحمد، وأبو داود، والترمذي، والبزار، عن أبي هريرة أيضاً بلفظ: "الإِمام ضامن والمؤذن مؤتمن" وفي الباب عن عائشة، وعن جابر، وعن أبي أمامة (ر. ترتيب مسند الشافعي: 1/58 ح 174، 175، أبو داود: الصلاة، باب ما يجب على المؤذن من تعاهد الوقت، ح 517، والترمذي: أبواب الصلاة، باب ما جاء أن الإِمام ضامن والمؤذن مؤتمن ح 207، والبزار: 1/181 ح 357، وابن خزيمة: 3/15 ح 1528-1532، والمسند بتحقيق شاكر: 12/153 ح 7169، والبيهقي: 1/430، وابن حبان: 4/560 ح 1672، والحميدي: 2/438 ح 999، والطيالسي: 2404، والطبراني في الصغير: ح 289، 586، 783، ومشكل الآثار: 3/52، 56، والإِرواء: 1/231 ح 217، والتلخيص: 1/206 ح 304) .
(3) حديث: "المؤذنون.." رواه مسلم وأحمد وابن ماجة والبيهقي عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما (ر. مسلم: الصلاة، باب فضل الأذان، ح 387، أحمد: 4/95، 98، ابن ماجة: الأذان، باب فضل الأذان ح 725، البيهقي: 1/432) .
(4) في هامش (ت 1) : وروي إعناقاً، أي إسراعاً.
(5) في الأصل: "يتشوف" والمثبت من (ت 1) . ومعنى يتشرف، أي يظهر، وُيشرف على الناس، ولا يتطامن ويتقاصر ويتصاغر ليخفى عن الناس.(2/61)
ووجهه لائح؛ فإنَّ أظهر الأغراض من الأذان الاستحثاث على الجماعات، والإمامة عين القيام بعقد الجماعة، والقيام بالشيء أولى من الدعاء إليه. وما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: "الأئمة ضمناء" تنبيه على عظم خطر الإمامة، وذلك يشعر بعلو قدرها، مع الحث على التوقي من الغرر.
فإن قيل: لم كان لا يؤذن -عليه السلام؟ - قيل: تردد فيه الأئمة، فقيل: كان لا يتفرغ إلى رعاية ذلك، ولم يكن من إقامة الصّلاة بُدٌّ على حال، فآثر الإمامة عليها.
وقيل: لو أذّن، لقال: أشهد أن محمداً رسول الله، وهو محمد، فكان خارجاً عن جزل الكلام، ولو قال: أشهد أني رسول الله، لكان تغييراً لنظم الأذان المعروف، ولو قال: حيَّ على الصلاة، لكان معناه: هلموا، وذلك أمر ودعاء، فكان يتحتم حضور الجماعات، فأشفق على أمته، ولم يؤثر أن يُلزمهم ما قد لا يفونَ به.
قال: "وأحب أن يكون المؤذن اثنين" (1) .
706- إذا كان المسجد كبيرا أو مطروقاً، فينبغي أن يُرتَّبَ فيه مؤذنان، اقتداء بما كان في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه كان فيه بلال وابن أم مكتوم، ومن أظهر الفوائد فيه أن يؤذن أحدهما للصبح قبل طلوع الفجر، ويؤذن الثاني بعد طلوعه، قال عليه السلام: "إن بلالاً يؤذن بليل؛ فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابنُ أم مكتوم" (2) .
وإذا كثر المؤذنون، فلا يستحب أن يتراسلوا بالأذان، بل إن وسع الوقت ترتبوا، وإن ضاق تبدَّدُوا في أطراف المسجد وأذَّنوا، فيكون كل واحد منفرداً بأذانه، ويظهر أثر ذلك في الإسماع والإبلاغ.
ثم لا يقيم في المسجد إلا واحد. وإن كثر المؤذنون، فولاية الإقامة لمن أذن أولاً، والأصل فيه أن بلالاً غاب عن معسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة له؛ فأذَّنَ رجل من بني صُداء، فلما رجع بلال، همَّ بأن يقيم في وقت الإقامة، فقال عليه السلام: "إن أخا صُداء قد أذن؛ وإن من أذن فليقم" (3) .
__________
(1) ر. المختصر: 1/62.
(2) متفق عليه من حديث ابن عمر (اللؤلؤ والمرجان: 1/278 ح 662) .
(3) حديث: "إن أخا صداء ... " رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة، وتكلم فيه =(2/62)
فإن أذن المؤذنون معاً في مواضع متفرقة، وتشاحُّوا في الإقامة، أُقرع بينهم. ولو سبق إلى الإقامة سابق، وقد أذن مؤذن قبله، ففي الاعتداد بالإقامة كلام، وقد ذكرته قبلُ عند ذكر بناء مؤذن في بعض الأذان على من صدر منه صَدْرُ الأذان (1) .
707- وممَّا يتعلق بما نحن فيه أن وقت الأذان مفوّض إلى نظر المؤذن العالم العدل، ووقت الإقامة مفوّض إلى إمام المسجد؛ فإنَّ إقامة الصَّلاة إليه، فليراجَع في الإقامة، فإن سَبق إلى الإقامة من يقيم وتعدّى هذا الأدب، كان مُسيئاً، وفي الاعتداد بما جاء به تردّد للأصحاب، ولم يصرِّحوا به، ولكنه بيّن في كلامهم.
وإذا كان في المسجد مؤذن راتب، فتقدم عليه متقدم، وأذن، ثم أذن المؤذن الراتب فيه، ففي ولاية الإقامة ومن يكون أولى بها تردد ظاهر، وهو لعمري محتمل، فيجوز أن ينظر إلى تقدم الأذان؛ من جهة أنه يعتد به ويجوز الاكتفاء به، ويجوز أن يقال: إذا لم يقصِّر المؤذن الراتب، فمن سبقه في حكم المسيء، فلا يستحق بإساءته الإقامةَ، والقصة التي ذكرناها لبلال والصُّدائي كانت في غيبة بلال، وكان الصُّدائي أذَّن بإذْنِ رسول الله.
قال: "ولا يرزقُ الإمام مؤذناً وهو يجد متطوعاً (2) ... إلى آخره".
708- الإستئجار على الأذان وتفصيل القول فيما يجوز الاستئجار عليه من هذه الأصناف نذكره في أول كتاب الصّداق، إن شاء الله تعالى، والقدر الكافي هاهنا أن الإمام وكُلَّ من يلي بإذن الإمام هذا الأمر يستأجر على الأذان، وهل لآحاد الناس أن يستأجروا مؤذناً؟ فيه خلاف، والمذهب الصّحيح أنه يجوز. ثم الإمام لا يبذل مالَ بيت المال هزلاً، فإن كان يجد من يتطوع بالأذان، لم يستأجر من مال المسلمين، فإن لم يجد متطوعاً، فيستأجر حينئذ. ثم ظاهر النص أنه لا يستأجر أكثر من مؤذن
__________
= الحافظ (ر. أحمد: 4/169، أبو داود: كتاب الصلاة، باب في الرجل يؤذن ويقيم آخر، ح 514، والترمذي: كتاب الصلاة، باب من أذن فهو يقيم، ح 199، وابن ماجة: كتاب الأذان، باب السنة في الأذان ح 717، والتلخيص: 1/209، ح 308) .
(1) الفقرة: 691، 692.
(2) ر. المختصر: 1/62، 63.(2/63)
واحد، والمراد به أنه لا يستأجر في مسجد واحد أكثر من مؤذن، ولو كان صوت مؤذن واحد لا يُسمع أهل البلدة، فلا بد من استئجار من يبلُغ صوتهم أهلَ البلدة، وإن بلغوا عدداً. وقد رُوي أن عثمان في خلافته كان يرزق أربعة من المؤذنين، وهو محمول على مَا ذَكرناه من تحصيل الغرض من إسماع أهل البلدة.
وحكى بعض المصنفين عن ابن سُرَيج (1) أنه كان يجوِّز للإمام أن يستأجر أكثر من واحد.
والقول الكافي في ذلك: أن الإبلاغ مما لا شك في جواز الاستئجار بسببه، سواء حصل بواحد، أو جَمْع، فأمّا ما يزيد على هذا من إقامة [مؤذنين] (2) في مسجد كبير، فهو في حُكم رعاية الأحرى والكمال، وظاهر النص المنعُ من بذل المال فيه.
والوجه عندي فيه أنه إن كان يحتاج إلى المال لأمور واجبةٍ، أو مهمة بالغةٍ في مرتبتها مبلغ أصلِ التبليغ في الأذَان، ولَو صُرِف المال إلى الأولى والكمال، لتعطلت الأصول المرعيّة، فلا نشك أن الصرف إلى التكملة مع تعطيل الأصل غيرُ جائز، فأما إذا وسِعَ المال الأصول، وفَضَلَ، وتصدى للإمام أمران: أحدهما - الاستظهار بالادِّخار واعتماد ذخيرة في بيت المال، والآخر الصرف إلى تكميلات الأمور، فهذا محل النظر، ونصُّ (3) الشافعي عندي محمول على هذه الصورة، فلعله يرى الادخارَ، وفيه احتمال ظاهر، والقول في مصارف أموال بيت المال الكبير في هذه الفنون، يتعلق بالإيالة (4) الكبيرة، ومن أرادها على كمالها، فعليه بالكتاب "الغياثي" (5) من مصنفاتنا.
__________
(1) في النسختين: ابن شريح. وهو تصحيف ظاهر.
(2) في النسختين: مؤذن. والمثبت رعاية منا للسياق. ثم جاءت (ل) بنفس الخلل مثل أختيها، ولكن تقديرنا صحيح إن شاء الله، يشهد له قول الإمام -الآتي قريباً- في حكم بذل المال في حسن الصوت ورقته: "وهذا عندي خارج على قياس القول في المؤذن الثاني في المسجد الكبير".
(3) يشير إلى ما حكاه عن الشافعي آنفاً: "ولا يرزق الإمام مؤذناً، وهو يجد متطوعاً".
(4) أي سياسة الدولة.
(5) ر: على سبيل المثال الفقرات: 301، 302، 342. وغيرها.(2/64)
ولو بلغ اتساعُ المال مبلغاً لا ينقُصه مثل هذا. فالظاهر عندي القطع بصرف المال إلى التكملات.
ولو وجدَ الإمام متطوعاً بالأذان حسن الصوت، ووجد آخر بالأجر حسن الصوت، رقيقه، فقد كان شيخي لا يرى بذل المال في تحصيل حُسن الصوت ورقته، وهذا خارج عندي على قياس القول في المؤذن الثاني في المسجد الكبير.
709- وقد نجزت مسائل الأذان، ونحن نختمها بذكر من هو من أهل الأذان ومن ليس أهلاً له، فنقول:
من ليس له قصدٌ صحيحٌ، لو اتفق منه نظم كلمة (1) الأذان، فلا يعتد بأذانه، كالمجنون، وهو كالهاذي. والسكران، أمره خارج على الخلاف في تصرفاته، فإن جعلناه من أهلها، فقصده كقصد الصَّاحي، فلو نظم الأذان اعتدّ به.
والصبي المميز من أهل الأذان، فإنَّ قصده صحيح في العبادات، وكيف لا يصح أذانه، وإمامته في الصلوات المفروضة صحيحة؟.
المرأة إذا أذّنت للرجل أذانَ الإبلاغ، لم يعتدّ بأذانها، كما لا تصح إمامتها، فأمّا إذا كانت تؤذن في نفسها، ففيه الخلاف المقدّمُ في صدر الباب.
وأمّا الكافر، إذا أذّن -ويمكن فرض كافر مستمر على كفره مع فرض الأذان- فإن العيسوية (2) يقولون: محمد رسول الله إلى العرب. فلا ينافي مُطلقُ الأذان مذهبَهم.
ومن أذَّن منهم للمسلمين، لم يعتد بأذانه؛ فإن الأذان دعاء إلى الصلاة، والكافر ليس من أهل الصلاة؛ فكيف يكون من أهل الدعاء إليها، والمرأة لم تكن من أهل إمامة
__________
(1) "كلمة الأذان": المراد بها كلام الأذان، وهو استعمال صحيح، تطلق (الكلمة) على الكلام، ومشهور قول ابن مالك في (ألفيته) : "وكلمةٌ بها كلام قد يُؤم".
(2) العيسوية: طائفة من اليهود، ذهبت إلى إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنهم خصصوا شرعه بالعرب دون من عداهم، وهي تنسب إلى أبي عيسى إسحاق بن يعقوب الأصفهاني (أو الأصبهاني. ولذا تسمى أيضاً الأصبهانية) وظهرت في أيام المنصور العباسي. (ر. الإرشاد لإمام الحرمين: 338، والملل والنحل للشهرستاني: 2/20 بتحقيق عبد العزيز الوكيل) .(2/65)
الرجل، لما فيها من الشهرة، فلم تكن من أهل الأذان، فكيف يغمُض أن الكافر ليس من أهل الأذان، ثم الكافر ممنوع من سَرْد الأذان، وإظهار الشعار، وهو محمُولٌ منه -مع الإصرار- على الاستهزاءِ، كما تُمنع المرأة من أذان الإبلاغ.
فهذا تفصيل القول فيما أردناه، فإن قيل: فلم صححتم أذان الجنب، وليس هو من أهل الصلاة؟ قلنا: هو من أهلها ومن أهل التوصل إليها على قرب.
فصل
قال: "وأحب تعجيل الصلاة لأول وقتها ... إلى آخره" (1) .
710- إقامة الصلاة في أوائل الأوقات من أحسن شعائر أصحابنا. والأصل فيه ما روى أبو بكر الصِّديق - رضي الله عنه - عن النبي الصَّادق المصدوق، أنه قال: "أول الوقت رضوان الله، وآخره عفو الله" (2) . قال أبو بكر: يا رسول الله، رضوان الله أحب إلينا من عفوه. [قال الشافعي رضي الله عنه: ورضوان الله لا يكون إلا للمحسنين، والعفو يشبه أن يكون للمقصرين] (3) .
وهذا جارٍ في الصلوات المفروضات، خلا صلاة العشاء، ففيها قولان: أحدهما - أن التعجيل أفضل فيها أيضاً، تعلّقاً بعموم الحديث الذي رويناه، والثاني - التأخير أفضل، لما روي عن النبي عليه السلام، أنه قال: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة، ولأخرت العشاء إلى نصف الليل" (4) .
__________
(1) ر. المختصر: 1/63.
(2) حديث "أول الوقت رضوان ... " قال الحافظ: "رواه الترمذي والدارقطني، من حديث عبد الله بن عمر، وفي الباب عن جرير وابن عباس، وعلي، وأنس، وأبي محذورة، وأبي هريرة" ا. هـ باختصار كبير، ولم تسلم عند الحافظ رواية من مقال. (ر. التلخيص: 1/180 ح 259، الترمذي: كتاب الصلاة، باب ما جاء في الوقت الأول من الفضل، ح 172، والدارقطني: 1/249 ح 20، 21) .
(3) زيادة من (ت 1) ، (ل) .
(4) سبق هذا الحديث في الفقرة (660) .(2/66)
وقد يلوح في هذه الصورة معنى، وهو أن من أقامها فقد يبتدره النوم، ومن أخرها فقد يوفَّق لصلاةٍ أو غيرها من الخيرات قبل المنام.
ومما يستثنى من القاعدة، الإبراد بصلاة الظهر، والأصل فيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اشتكت النار إلى ربها، فقالت: قد أكل بعضي بعضاً، فأَذِن لها في نَفَسَينِ، نَفسٍ في الشتاء ونَفَسٍ في الصيف، فأشد ما تجدون من الحرّ من حرها، وأشد ما تجدون من البرد من زمهريرها، فإذا اشتد الحر، فأبردوا بالصلاة، فإن شدّة الحر من فَيْحِ جهنم" (1) .
فالذي صار إليه معظم الأئمة أن الإبراد بصلاة الظهر في الحرّ سنة.
وذكر الشيخ أبو علي في شرح التلخيص: أن من أئمتنا من عدَّ الإبرادَ رخصة، ولم يره سنة، والحديث الذي رويناه يدل ظاهره على أن الإبراد محثوث عليه، مأمور به.
ثم ذكر الشيخ أبو علي أن الإبراد -رخصةً كان أو استحباباً- مخصوص بالبلاد الحارة. وكان شيخي يُجريه في بلادنا المعتدلة في شدة الحر، فإن الحر في هذه البلاد ينتهي إلى مبلغ يتأذى المشاة فيه بالمشي في إشراق الشمس، فالمرعي رفعُ الأذى.
وقد ذُكر أن النهيَ عن استعمال الماء المشمس يختص بما شُمِّسَ في البلاد الحارة، والسببُ فيه، أن المحذور منه أثر طبِّي، وهو يختص بحِلابة تتحلّب من النُّحاس وغيره فتلقَى البشرةَ، وهذا لا يتوقع في البلاد المعتدلة، والتأذي بحرِّ الشمس جار في البلاد المعتدلة والحارة جميعاً.
ثم الغرض من الإبراد تأخير الصلاة في الظهر إلى أن يظهر فيء الأشخاص (2) ، فيمشي الماشون في الفيء إلى الجماعات، وليس المعني بالإبراد الانتهاء إلى برد العَشيِّ؛ فإن ذلك قد لا يحصل في البلاد الحارة، وإن دخل وقتُ العصر. ثم ذكر
__________
(1) حديث "اشتكت النار ... " متفق عليه من حديث أبي هريرة (اللؤلؤ والمرجان 1/121 ح 357، وانظر التلخيص: 1/181 ح 260.) .
(2) الأشخاص: أي الأشياء الشاخصة المرتفعة: من شَخَص الشيءُ شخوصاً: إذا ارتفع (المعجم) .(2/67)
الشيخ: أن التأخير بسبب الإبراد لا يُخرج الصلاة عن النصف الأوَّل من المثل (1) الأول. والأمر على ما ذكره.
وإذا وضح أن المقصود من الإبْراد سهولة المشي إلى الجماعات، فلو كان الرجل يصلي في منزله، فلا إبراد في حقه، فليبادر الصّلاة في أول وقتها، وكذلك إن كان ممشى الناس من موضعهم إلى المسجد في كِن، فلا إبراد.
وكان شيخي يحكي وجهاً أن من الأئمة من يعمم الإبراد في حق الناس كافة، ولا يعدِم هذا الإنسان (2) نظائر ذلك، وفيه معنى: وهو أن الناس يقيِّلون في وقت الاستواء، ويقتضي ذلك تأخيرَ وقت صلاة الظهر قليلاً، وهذا لا أعُدُّه من المذهب، والوجه القطع بالمسلك المتقدم.
وذكر بعض المصنفين وجهين في الإبراد بالجمعة: أحدهما - أنه مستحب في أوانه، اعتباراً بصلاة الظهر في كل يوم.
والثاني - أنه لا يستحب؛ فإنه لو تأخر خروج الإمام ثم قدّم الخطبتين، فيوشك أن تتأخر الجمعة عن وقت الإبراد في صلاة الظهر، والجماعة فيها [محتومة] (3) ، وقد يؤدي علم الناس بالتأخير، إلى التكاسل، [ثم تفوت الجماعة] (4) إذا تخاذل كثير من الناس.
وذكر أيضاً وجهين في الإبراد في المسجد الكبير المطروق، والوجه في منع الإبراد -إن صح الخلاف- أن المسجد الكبير يشهده أصناف، ولا يتأتى التّواجد منهم على حد الإبراد، فقد يسبق أقوامٌ، فيحتاجون إلى الانتظار في المسجد، فأما المسجد الصغير في محلة لا يطرقه إلا مخصوصون في الغالب، فيتأتى منهم التواطؤ على الإبراد، والتنصيص على انتظار وقته، فإن فرض سبق سابق غريب إلى مثل هذا المسجد، فهو في حكم النادر الذي لا يُخرم به الأصل.
__________
(1) أي أن ظل الشيء لا يزيد عن نصف مثله.
(2) كذا في جميع النسخ. والمعنى: هذا الإنسان القائل بتعميم الإبراد.
(3) في النسختين: محثوثة. وهو تحريف، لعل صوابه ما قدرناه.
(4) عبارة الأصل مضطربة هكذا: "إلى التكاسل في البيوت عن الجماعة إذا تخاذل كثير من
الناس" والمثبت عبارة: (ت 1) . ثم ظاهرتها (ل) .(2/68)
ومما يتعلق بهذا الفصل، القول في بيان فضيلة الأولية، ومحاولة الضبط فيها بتحديد أو تقريب، وقد ذَكرناهُ في باب المواقيت في الفصل المشتمل على بَيانِ وقت المغرب (1) .
***
__________
(1) نهاية الجزء الأول من النسخة التي رمزنا لها (ت 1) .
وجاء في خاتمتها ما نصه: "تم الجزء الأول من كتاب نهاية المطلب في دراية المذهب، ويتلوه في الثاني إن شاء الله - باب استقبال القبلة، وأن لا فرض إلا الخَمس.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً.
كتبه الفقير إلى رحمة الله تعالى عزّ بن فضائل بن عثمان القرشي. ووافق الفراغ من نسخه لخمس إن بقين من شهر رمضان سنة ست وستمائةٍ. حسبي الله ونعم الوكيل".(2/69)
باب استقبال القبلة، وأن لا فرض إلا الخَمس (1)
711- الأصل في الباب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستقبل الصَّخرة من بيت المقدس مدّة مقامه بمكة، وهي قبلة الأنبياء، وإياها كانت اليهود تستقبل، وكان عليه السلام لا يؤْثر أن يستدبر الكعبة، وكان يقف بين الركنين اليمانيين، ويستقبل صَوْب الصخرة، فلمّا هاجر إلى المدينة، لم يمكنه استقبالُ الصخرة إلا باستدبار الكعبة؛ فشقّ ذلك عليه، وعيّرته اليهود، وقالوا: إنّه على ديننا، ويصلي إلى قبلتنا، فمكث كذلك ستة عشر شهراً. ثم قال يوماً لجبريل عليهما السلام: "أنى يُكتب أن يُوجّهني رَبي إلى الكعبة" (2) ؟ فقال: سله؛ فإنّك من الله بمكان، فدعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وصعد جبريل عليه السلام، فلمّا كان وقتُ العصر، وأذّن بلال، خرج النبي عليه السلام ينظر في أطباق السماء، يتوقّع نزولَ جبريل عليه السلام. فنزل عليه السلام بقوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144]
ثمّ ذكر الشافعي أن استقبال القبلة شرطُ صحة الصلاة. واستثنى الصلاةَ في شدّة الخوف، والتحام الفريقين، ومطاردةِ العدوّ، والنوافلَ على الرواحل (3) .
أمّا صلاة شدة الخوف وما يشبهها. فستأتي (4) في باب مفرد. وفيها نذكر صلاة الغرقى، والمربوطين على الخشب.
__________
(1) من باب استقبال القبلة أصبح عندنا أربع نسخ، فاعتمدنا نسخة (د 4) أصلاً، (ت 1) ، (ت 2) ، (ط) نسخاً مساعدة.
(2) حديث تحويل القبلة أصله في الصحيحين، من حديث ابن عمر، ومن حديث البراء بن عازب، ولمسلم من حديث أنس نحوه (ر. اللؤلؤ والمرجان: 105، 106 ح 302-304، وانظر تلخيص الحبير: 1/214 ح 319) .
(3) ر. المختصر: 1/64.
(4) في الأصل وفي (د 4) ، وفي (ط) : ستأتي بدون الفاء، وأثبتناها من: (ت 2) ، مع أننا =(2/70)
712- وأما النوافل على الرواحل، فنستقصي القول فيها هاهنا، وحاصل القول فيها تحويه فصولٌ: أحدها - في طويل السفر وقصيره. والنافلة تقام على الراحلة، وماشياً في السفر الطويل.
والأصل فيه (1) ما رواه ابنُ عمرَ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على راحلته أين توجهت به. وروي (2) أنه عليه السلام كان يوتر على البعير. وروي (3) أن عليّاً رضي الله عنه كان يوتر على الراحلة.
ثم ترك الشافعي مقصودَ الباب، وأخذ يردُّ على من يوجب الوتر (4) . ولا يكاد يخفى أنه لا واجب إلاّ الصلوات الخمس.
ولعل المعنى في تصحيح النوافل على الرواحل أن الناس لا بدّ لهم من الأسفار، والموفَّق ضنين بأوقاته لا يُزجيها هزلاً. ولولا تجويز النافلة على الراحلة، لانقطع الناس عن معاشهم إذا تركوا السفر (5) ، أو انقطعوا من النوافل إذا آثروا السفر.
قال الشيخ القفال: كان الشيخ أبو زيد كثيرَ الصلاة، يستوعب الأوقات بوظائف العبادات، وكانَ يَبين ذلك في كلامه؛ فكان يقول: "لولا إقامة النوافل على ظهور الدواب، لانقطع اَلناس عن السفر"، وكان غيره يقول: "لولاه (6) ، لانقطع الناس عن النوافل" فكان يميل كلام الشيخ أبي زيد إلى أن النوافل لابدّ منها. وكان يقدّر أنّ الناس يتركون الأسفار لأجلها.
__________
= نرجح أنها من تصرف الناسخ، فقد لاحظنا أن مجيء جواب أما بدون فاء هو لازمة من اللازمات اللغوية في النسخ كلها.
(1) حديث ابن عمر متفق عليه. (ر. اللؤلؤ والمرجان 1/138 ح 406) .
(2) هذا جزء من حديث ابن عمر السابق.
(3) أثر علي رضي الله عنه رواه عبد الرزاق، والبيهقي، ورواه المزني عن الشافعي في المختصر (ر. مصنف عبد الرزاق: ح 4538، سنن البيهقي: 2/6، مختصر المزني: 1/64) .
(4) ر. المختصر: 1/64.
(5) أي تركوا السفر من أجل النوافل، كما صرحت بذلك نسخة (ل) .
(6) أي لولا إقامة النوافل على الرواحل.(2/71)
713- فإذاً هذه الرخصة ثابتة في السفر الطويل، وهل تثبت في السفر القصير؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه يختص بالسفر الطويل؛ فإنه تغيير ظاهر في الصلاة، وترك شرط استقبال القبلة، فهو حَريّ بأن يُشبَّه بالقصر وغيره من خصائص السفر الطويل.
والقول الثاني أنه يجري في السفر القصير والطويل؛ فإن الأخبار والآثار مطلقة فيه، لا اختصاص لها بالطويل. والمعنى الذي أشرنا إليه يعمّ السفرين أيضاً؛ فإن احتياجَ الناس إلى الأسفار القصيرة يكثر كثرةَ الاحتياج إلى الأسفار الطويلة.
فإن قلنا: إنها تجري فَي الأسفار القصيرة، [فهل] (1) يجوز لمن يتقلَّب في البلدة -وهو مقيم- أن يتنفَّل راكباً وماشياً؟ ما ذهب إليه الأئمة -وهو النص (2) الباتّ للشافعي- منعُ المقيم من ذلك؛ فإنّ تَرْكَ الاستقبال، وإكثارَ الأفعال في الصلاة من التغييرات الظاهرة، وهي بعيد عن حال المقيم.
وذهب أبو سعيد الإصطخري إلى تجويز ذلك، وكان يتنفّل على دابّته، ويتردد في حارات بغداد.
وحكى شيخي عن القفّال أنه كان يقول: "إن كان المتنفّل في الإقامة مستقبلَ القبلة في جميع صلاته، جاز، وإن استدبر في بعض صلاته، لم يجز".
714- ولا يَبين الغرض في ذلك إلاّ بأمرٍ سنذكره، فنقول: المتنفل لو صلّى قاعداً -مع القدرة على القيام- جاز مقيما؛ فتركُ القيام ممّا يسُوغ؛ مع الإتيان ببقية الأركان.
ولو تنفّل الرجل مضطجعاً -مع القدرة- وكان يومىء بالركوع والسجود، فظاهر المذهب المنع؛ فإنّ جواز ترك القيام في حكم الرخصة التي لا يُقاس عليها.
__________
(1) في النسخ الأربع: (فهو) . والمثبت تقدير منا، نرجو أن يكون صواباً. (الحمد لله صدقتنا (ل)) .
(2) ر. الأم: 1/84. حيث يقول: "ولا يكون للراكب في مصير أن يصلي نافلة إلا كما يصلي المكتوبة إلى قبلة وعلى الأرض، وما تجزيه الصلاة عليه في المكتوبة؛ لأن أصل فرض المصلين سواء إلا حيث دل كتاب الله تعالى، أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رخص لهم" ا. هـ بنصه.(2/72)
ومن أصحابنا من صحّح النفل من المضطجع، ويرى ترك الركوع والسجود، والاقتصارَ على الإيماء فيهما، بمثابة ترك القيام، وهذا ضعيف. وما رآه الإصطخري من النافلة على الراحلة تصريح بجواز الاقتصار على الإيماء بالركوع والسجود.
فإن قيل: لعلّه يُخصص ذلك بالمتقلّب؛ فإنه مضطر، أو محتاج إلى تقلّبه في البلد؟ قلنا: لا وجه لذلك؛ فإن المقيم جُوِّز له أن يمسح على خفّيه يوما وليلة، وقد يتخيَّل ذلك لأجل ما يليق بتقلّب المقيم. ولكن اللابث في مكانٍ واحد يمسح مسح المتردد.
فإذن حاصلُ القول: أن ترك القيام جائز في النفل، ثمّ ظنّ قوم أن ترك الركوع والسجود في معناه؛ إجزاءً لهيئات البدن مجرىً واحداً.
وذكر الصيدلاني أن المقيم لو كان على دابة واقفة، فاستمكن من إتمام الركوع والسجود، وكان مستقبلاً في صلاة النافلة، صحّت نافلتُه؛ وإن كانت الفريضة لا تصحّ منه -كما تقدّم ذكره- فالخلاف المقدّم فيمن لا يتمّ الركوع والسجود، أو يستدبر القبلة، أو كان يُرْخي (1) دابته؛ فإنّ حركتها مضافة إليها.
وأما القراءة، وما يجب عقده في النية، أو التلفظ به في التحريم، فالنفل في أصله كالفرض. وصار الأكثرون إلى تخصيص الرخصة بالقيام.
715- فهذا قولنا في النافلة تقام مع الإيماء، وفي تنفّل المقيم راكباً وماشياً.
ولكن مع أمرين آخرين: أحدهما - كثرة الأفعال التي ليست من الصلاة: كالمشي، وحركةُ الدابّة بالمصلي في معنى مشي المصلي.
والثاني - تركُ استقبال القبلة. والأصل أن النوافل كالفرائض، فيما يتعلق بالشرائط، فإذا بَعُدَ تجويز التنفل مُومياً -مع الاستقبال، والسكون عن الأفعال التي ليست من الصلاة- كان التنفل على الدابة، وماشياً مع الاستقبال، أبعدَ عن الجواز؛ لمكان الأفعال الكثيرة؛ وكان التنفّل راكباً -مع ترك الاستقبال- على نهاية البُعد؛ لمكان الاستقبال.
__________
(1) "يُرخي دابته" يقال: أرخى الدابة، ولها: طول لها الحبل. " المعجم " والمراد هنا أنه أطلق حركتها، وتركها تسير.(2/73)
ولو رتب مرتِّبٌ هذه المسائل بعضَها على بعض، لأشعر الترتيب بتفاوت المراتب وأقدارها في قضايا الفقه.
فهذا ترتيب القول في الحال الذي يجوز فيه إقامة النافلة على الراحلة.
الفصل الثاني
في بيان الفرائض وما في معانيها في ذلك
716- فالفرائض لا تقام على الرواحل وإن كانت واقفةً، والمصلي مستقبل قادر على إقامة الأركان كلِّها.
ولو كان على ظهر بعير معقول، فلا تصحّ الفريضة أيضاً؛ فإن المفترض مأمور بالتمكن في صلاته على الأرض، أو ما في معناها.
ويصلي على السفينة وإن كانت تتحرّك به، كما تتحرّك البهائم بأصحابها؛ فالماء على الأرض كالأرض، والسفينة صفائحُ مبطوحة على الأرض، والحيوان -وإن كان معقولاً- غيرُ معدودٍ من أجزاء الأرض.
وإقامة الصلاة في السفينة وهي تسير يؤخذ مأخذ الرخص؛ فإن هذه الحركات في حكم الأفعال الكثيرة؛ ولكن لما جاز ركوب البحر، فلا معدل -لمن ركبه- عنه في أوقات الصلوات. والغالب أن السفينة تجري، ولا اختيار في ربطها، فلم يُبال الشرع بتلك الحركات.
والمسافر على البرّ يتصوّر منه أن يسكن ويصلي، وإن كانت الضرورة تحمله على ترك النزول في أوقات الصلاة، فرخصةُ الجمع تأخيراً أو تقديماً في معارضة هذه الضرورة كافية.
وممّا يتعلق بهذا أن المتردّد على الزواريق (1) ، [وهو مقيم في بغداد أو غيره، إذا كان يتمّم الأركان، ويستديم الاستقبال، فهل يُصلي الفرضَ، والأفعالُ تكثر بجريان
__________
(1) جمع زورق، وهو القارب يدفع بالمجاديف. والمراد هنا، القوارب التي كانت تتردّد بالناس بين شاطئي دجلة، داخل بغداد حيث راكبها مقيم.(2/74)
الزواريق] ؟ (1) فيه تردد ظاهر، واحتمال؛ فإنه قادر على دخول الشط، وإقامة الصلاة. فليتدبَّر الناظرُ ذلك.
ولم يمتنع الأئمة من إقامة الفريضة في زورق مشدودٍ، مع الوفاء بإتمام الشرائط والأركان. وتَحرك الزورق تصعُّداً وتسفّلاً -إذا كان لا يُكثر- كتحرك السرير وغيره تحت المصلي.
والصلاة على أرجوحة مشدودة بالحبال ما أراها صحيحة؛ فإن المصلّي مأمور بالتمكن في مكان صلاته، وليست الأرجوحة مكانَ التمكن في العُرف، وليست مبنيةً كالغرفة المعلَّقة، والمتّبع في مثل ذلك العرف. وهذا بمثابة اشتراط الشرع، في صحّة الجمعة، دارَ الإقامة.
ثم قالوا: لو أقام قوم في بادية، واكتفَوْا بالخيام، فلا يُجمعُون؛ فإنهم ليسوا في بنيان يُعد بناءً عرفاً. والخيام [للقُلْعة والنُّقْلة] (2) ، لا للإقامة، فهذا ما أراه في الأرجوحة، وإن كانت لا تتحرك.
ولا يخلو ما ذكرته عن احتمال.
فإن قيل: أليس قال الشافعي في مسألة الزحام: إذا زُحم الرجل عن السجود، فتمكن من السجود على ظهر [إنسان، ففعل، صحّ؟ فما الفرق بين ما جَوَّزهُ في ذلك، وبين ما منعتموه من الصلاة على ظهر] (3) بعيرٍ معقول؟ قلنا: مسألة المزحوم مفروضة فيه، إذا كانت قدماه قارَّتين، فألقى رأسه على ظهر إنسان. ومسألة البعير فيه إذا كانت قدماه على ظهر البعير.
717- والمعتبر الكلي فيه أن الحيوان ذو اختيارٍ، فاتخاذه مَقرّاً في صلاة يجب القرار فيها ممتنع. وبالجملة، ليس يخلو القلب من احتمالٍ في البعير المعقول،
__________
(1) ساقط من الأصل، ومن (ط) ، وأثبتناه من: (ت 1) ، (ت 2) . ثم وجدناها في (ل) أيضاً.
(2) في النسخ الأربع: "المعلقة للنقلة" والمثبت من (ل) وحدها، والقلعة: التحول والارتحال، يقال: "الدنيا دار قُلْعَة: أي تحول وارتحال". (المعجم) .
(3) ساقط من الأصل، ومن (ط) ، والمثبت من: (ت 1) ، (ت 2) . ثم أكدتهما (ل) .(2/75)
ولكن التعويل في قواعد المذهب على النقل.
ولو حمل رجال سريراً وعليه إنسان، لم يصلِّ عليه الفرضَ؛ فإنه محمول الناس، فكان كمحمول البهائم، فهذا في الفرائض.
718- وأما الصلاة المنذورة، ففي جواز إقامتها على الراحلة -كالنوافل- قولان مشهوران، سيأتي أصلهما في كتاب النذور إن شاء الله عزّ وجلّ.
وأما صلاة الجنازة، ففي إجازتها على الراحلة كلام، والأصح منعها [لا] (1) لأنها فرض كفاية، ولكن [لأن] (2) الركن الأظهر منها القيام، وتركُ القيام فيها -وإن قدّرت على مناصب النوافل- كترك الركوع والسجود، والاقتصار على الإيماء في النوافل. ولو أقام صلاة الجنازة على الراحلة قائماً -حيث تجوز إقامة النوافل على الرواحل- فالظاهر عندي جواز ذلك.
الفصل الثالث
في بيان كيفية إقامة النافلة على الدّابة وفي حق الماشي
719- وغرض هذين الفصلين يتعلّق بأمرين: أحدهما - في استقبال القبلة في الطريق وما يتعلق بذلك.
والثاني - كيفية الصلاة.
وما نريده في الأمرين نذكره في الراكب، ثم نذكره في الماشي.
أمّا الراكب، فنبدأ بذكر الاستقبال في حقه، وقد اضطربت النصوص، واضطرب لأجلها طرق الأصحاب، والذي يتحصّل ما أنقله، ثم أذكر مبنى المذاهب ومنشأها من طريق التعليل.
فمن أصحابنا من قال: يجب استقبال القبلة عند التحريم بالصلاة، وإن تعذَّر ذلك، لم تصح الصلاة أصلاً.
__________
(1) ساقطة من: (ت 1) ، (ت 2) .
(2) زيادة منا رعايةً للسياق، واعتماداً على عبارة ابن أبي عصرون في مختصره.(2/76)
ومن أصحابنا من قال: إن كان الزمام أو العِنان بيد [الراكب] (1) ، فتوجيه الدابّة قِبَل القبلة سهل؛ فلا بد منه، وإن كانت الدابّة مقطّرة (2) ، وكان في توجيه القبلة عسر، فلا يُشترط استقبال القبلة عند التحرّم أيضاً.
وذكر الشيخ أبو بكر وجهاً ثالثاً، فقال: إن كان وجْهُ الدابة إلى القبلة عند الهم بالتحريم، فيتعيّن ذلك، وإن كان وجْهها إلى صوب الطريق، فلا يجب صرفها إلى القبلة، بل يتحرك كما تُصادَفُ الدابة.
وإن كان وجه الدابة منحرفاً عن القبلة والطريق جميعاًً، فلا يتحرّم. والدابة منحرفة عن الجهتين قطعاً، فإذا أراد صرفَ وجه الدابة ليتحرم، تعين صرفه إلى جهة القبلة، ليتحرم، ثم يستدّ في صوب طريقه.
وذكر بعض المصنفين، وشيخي وجهاً آخر: أنه لا تجب رعايةُ استقبال القبلة قط، كيف فرض الأمر.
فمجموع ما ذكرناه أربعة أوجه نشير إلى توجيهها، ثم نذكر المعتبر السديد منها
720- أما من لم يشترط الاستقبال قط، فنقول: إذا كنّا لا نشترط دوامَ ذلك، والتحريمُ عندنا ركن كسائر الأركان، فلا معنى لتخصيصه باشتراط الاستقبال عنده.
ومن اشترط قال: ينبغي أن يكون العقد على استجماع الشرائط، ثم استمرار الرخصة في الصلاة على حكم التخفيف، وهذا كاشتراط اقتران النيّة بأول التكبير، ثم لا يضرّ بعد ذلك عزوبُها؛ وإن كانت الأركان بعد التحريم عبادات، والعبادات تفتقر إلى النية.
ومن فصل بين أن يكون الزمام بيده، وبين أن يكون مقطَّراً، راعى العسر واليسر في التجويز والمنع.
ومن فصل بين أن يكون وجه الدابّة إلى الطريق أو منحرفاَّ [قال: "إن كان الطريق
__________
(1) في الأصل: الركاب وكذا في: (ط) . والمثبت من: (ت 1) ، (ت 2) .
(2) مقطرة: مربوط بعضها ببعض على هيئة قطار. من قطر البعير وأقطره: إذا ربطه بغيره وساقهما سياقاً واحداً (المعجم) .(2/77)
تجاهه، استمر على قصده، وإن كان منحرفاً] (1) ، فلا بد من التصريف. والصرف (2) إلى القبلة أولى، ثم منها إلى الطريق.
721- والذي نذكر في ذلك يستدعي تقديم مسألةٍ مقصودة: وهي أن الرجل إذا كان في مَرقدٍ (3) ، وكان يمكنه أن يستقبل القبلة، من أوّل الصلاة إلى آخرها، فيتعيّن ذلك عليه.
وهذا يوضح أن الاستقبال [إن حُطّ فسببه تعذُّرُه، وآيةُ ذلك أنه حيث لا يتعذّر، يتعين اعتباره في جميع الصَّلاة. فإن تعذّر الاستقبال] (4) في حالة التحرّم، فسَدُّ [باب] (5) النفل خروجٌ عن حقيقة المطلب في إجازة النافلة على الراحلة، فإن سبب جوازها ألا ينحسم مع استمرار المسافر في مرّه وذهابه، وإن لم يتعذّر الاستقبال عند العقد، فهذا محل الاحتمال. والظاهر أنه لا بدّ منه، فإن صرفَ الدابة مع اليسر (6) في أوّل العقد لا عسرَ فيه، وليس في حكم اللُّبث والنزول لأجل النافلة، والإنسان كثيراً ما يردّد الدابةَ يمنة ويسرة، ثم يعد مارّاً.
ثم افتتاح الصلاة أولى الحالات باعتبار ذلك؛ فإنّه أول الأمر، ثم رعاية دوام ذلك اشتراط لُبثٍ في خلاف صوب السفر، وهذا مبطلٌ لغرض الرخصة، واعتبار ذلك بعد العقد لا وجه له؛ إذ لا ركن أولى من ركن، وليس يحسن التمسك بالنية؛ فإنها مبنيةٌ على قضيةٍ أخرى، وهي أنها قصد أو عزم، واستدامتها عسير، ولا سبيل إلى انعطافها، فقُرنت بأول الفعل، ثم عفا الشرع عن استدامتها.
ويحتمل ألا يشترط الاستقبال أصلاً، بل يستمر المسافر كيف فرض الأمر على
__________
(1) ساقط من الأصل. ومن (ط) . وأخذناه من: (ت 1) ، (ت 2) ، ثم جاءت به (ل) .
(2) في (ت 1) : فلا بد من التصريف، فالصرف أولاً إلى القبلة أولى، ثم منها إلى الطريق. وفي (ت 2) : فلا بد من التصريف، والتصريف إلى القبلة أولى ثم منها إلى الطريق.
(3) المرقد مكان الرقاد، والمراد: مرقد على ظهر الدابة. ولم يقل (هودج) لأنه في العرف للنساء؛ كما أن الهودج يزيد بأن يُظَلَّل، وترخى عليه الأستار من جوانبه.
(4) ساقط من الأصل، ومن: (ط) .
(5) في الأصل: بان.
(6) كذا في النسخ الأربع، ولعل الصواب: مع السير، والحمد لله؛ صدفتنا (ل) .(2/78)
صوب قصده. ثم من راعى الاستقبالَ في التحريم، ذكر خلافاً في تعيّنه عند التحلّل، وزعم أن هذا الخلاف خارج على أن نيّة الخروج هل تشرط عند السلام؟ وهذا ركيك، صادرٌ عن غير فكر؛ فإن نيّة التحلل إن شرطت، فليس مأخذ اشتراطها ما ظنّه هذا القائل، من أنه أحد طرفي الصلاة؛ وإنّما سبب اشتراطها أنه خطابٌ للآدمي، مخالف لموضوع الصلاة، [فلا بد عنده] (1) من نيّةٍ تصرفه إلى مقصود الصلاة، ولا تعلّق لهذا الفنّ بما نحن فيه من أمر الاستقبال.
722- ومما نذكره في ذلك: أن المسافر إذا مضى في صلاته، فينبغي أن يتخذ طريقَه قبلتَه في دوام الصلاة، فلو انحرف عنها إلى غير القبلة قصداً، بطلت صلاته، ثم الطريق قد تستدُّ، وربّما تدور، فيتبعها كيف فُرضت، ولسنا نعني الطريق المعتدة بالإطراق، ولكنّا نريد صوبَها، فلو تعلّى (2) المسافر عن الطريق، ولم ينحرف عن صوبها، وكان يبغي التوقي من زحمةٍ، أو غبار، فلا بأس، ولو كان المسافر راكباً تعاسيف (3) ، فقد كان شيخي يقول: إن لم يكن له صوب ومقصد، وكان يستدبر تارةً ويستقبل أخرى -فِعْلَ الهائم- فلا يتنفل أصلاً، إذا لم يكن مستقبلاً في جميع صلاته.
[وإن لم يكن على طريق، بل كان ينتحي صوباً معلوماً، فهل يتنفل مستقبلاً صوبه] ؟ (4) فعلى قولين، وتوجيههما أنّا في قولٍ نقول: له مقصد معلوم، وفي قول نقول: ليس ينتحي طريقاً مضبوطاً، والصوبُ متاهة غير منضبطة.
ويخرج عن مجموع ما ذكرناه: أن الصلاة في حال الاختيار كلّها، لا بد وأن تكون منوطة بلزوم جهةٍ، وإنما الكلام في تعيّنها.
__________
(1) في النسخ الأربع: "فلا بدّ عند قائلين" ولعل صوابها " عند قائليه " فأصابها التحريف.
وما أثبتناه هو بعينه ما حاوله أحد قراء نسخة (ت 2) ، ففيها محاولة محو لعبارة " عند قائلين " وإثبات " عنده " مكانها. وأما نسخة (ل) فقد جاءت بنفس الخطأ تقريباً، وأقول: " تقريباً "؛ لأن في الموضع أثر (أرضة) خرمت أطراف بعض الحروف. والله المستعان.
(2) تعلى: ارتفع (المعجم) ، والمراد هنا تجنب الطريق المطروقة.
(3) عسف الطريق: سار فيه على غير هدى، وهو يركب التعاسيف: إذا لم يسلك الطريق المستقيم (المعجم) .
(4) ساقط من الأصل و (ط) .(2/79)
وقد انتهى الكلام إلى فروع نرسمها، ونحلّ بتوفيق الله مُعْوِصَها، ونوضِّح مسلكها - إن شاء الله تعالى.
723- فنقول: من صرف بدنه عن قُبالة القبلة قصداً في غير ما نتكلم فيه، بطلت صلاته، [ولو أماله إنسانٌ قهراً عن القبلة، وأبقاه مائلاً مدةً، بطلت صلاته] (1) .
ولو نسي الرجل أنه في الصلاة، فاستدبر القبلة، ثم تذكر، بنى على صلاته، والشاهد فيه حديث ذي اليدين، كما نرويه في باب سجود السهو: "أن النبي صلى الله عليه وسلم استدبر القبلة، وأقبل على الناس بوجهه" (2) .
ولو أماله إنسان عن القبلة لحظة، ثمّ تركه حتى استدّ، ففيه خلاف سأذكره في موضعه من صفة الصلاة.
ولو استدبر، وطال الزمانُ مع النسيان، ففيه خلاف، وهو كما لو نسي وأكثر الكلام ناسياً.
والجامع أن القليل مع العَمْد والاختيار مبطلٌ، والقليل مع النسيان لا يبطل، والكثير مع النسيان مختلفٌ فيه، وهو مأخوذ من الكلام الكثير الصادر من الناسي، والقليل الصادر من قاهرٍ مع ذكر المصلِّي مختلف فيه، والكثير على هذه الصورة مبطل.
وليس هذا موضع ضبط هذه القواعد، وإنما نكتفي منها بتراجم، لنذكر غرضَنا في هذا الفصل بناء عليها. وموضِعُ تعليل هذه الأصول الفصلُ [الذي نذكر فيه كلامَ الناسي، وفصلُ سبق الحدث في الصلاة] (3) .
724- فنعود ونقول: إذا نسي المصلي على الدابة الصلاةَ، وصرف الدابّة عن الطريق، فإنْ تذكَّر على القرب، وردّها إلى سمت الطريق، سجد للسهو، وإن طال
__________
(1) ساقط من الأصل، (ط) .
(2) حديث سجود السهو. متفق علية من حديث أبي هريرة (اللؤلؤ والمرجان: 1/115 ح 337) .
(3) عبارة الأصل: نذكر فيه كلام الناسي [ونصله بسبق الحدث] وفصل سبق الحدث في الصلاة.
والمثبت من (ت 1) ، (ت 2) ، وأما (ل) ففيها: "كلام الناسي، ونصله بسبق الحدث".(2/80)
الزمان، ففي بطلان الصلاة خلافٌ ذكرناه، فإن بطلت، فلا كلام، وإن قلنا: لا تبطل، فيردَّها ويسجد للسهو.
وإن جمحت الدابّة، وتعدّت بنفسها، والمصلّي ذاكر، فإن طال الزمان، بطلت الصلاة، وإن تمكن من ردّها على القرب، فقد ذكرنا في مثل هذه الصورة خلافاً فيمن يُصرف عن القبلة، والظاهر هاهنا أن الصلاة لا تبطل، فإنّ نفرةَ الدابّة وجماحَها -مع ردّها على قربٍ- ممّا يعم وقوعه، وتظهر البلوى به، ولو قضينا ببطلان الصلاة بقليل ذلك؛ لأثر ذلك في قاعدة الرخصة، مع العلم بأن هذه الرخصة مبنية على نهاية السعة، وغاية التخفيف.
فأمّا صرف الرجلِ الرجلَ عن القبلة، فأمرٌ لا يعهد وقوعه إلا في غاية الندور، فلهذا قطع الأئمة بأن جماح الدابة في زمان قريب لا يبطل الصلاة، ولم أر ما يخالف هذا للأصحاب، ثم إذا سددها، فقد قطع الصيدلاني بأنه لا يسجد؛ فإن سجود السهو لا يثبت إلاّ عند سهو المصلّي بترك شيء، أو فعلِ شيء، ولم يُوجد من المصلي شيء. ولا يجوز غير هذا الذي ذكر.
ولو خرجت الدابة من غير جماح عن السمت، والمصلي غافل عنها، ذاكر لصلاته، فإنْ قَصُر الزمان، لم تبطل الصلاة، وإن طال الزمان، ففيه الكلام المقدم.
فإن لم تبطل، فقد قطع شيخي بسجود السهو في هذه الصورة. وقياس ما ذكره الصيدلاني أنه لا يسجد؛ لأنه لم يصرف الدابة بنفسه ناسياً، فينسب الخروج عن السمت إليه. ويحتمل على طريقةٍ أن يسجد من حيث إنه غفل عن مستن (1) الدابة ومجراها، ولو كان متذاكراً حاضر الذهن، لَمَنَعها من الخروج، فالخلاف في هذه الصورة ظاهر.
فإذاً إن نسي، وأخرج الدابة، فالسجود عليه، حيث لا تبطل صلاته. وإن جمحت الدابة، وقهرت راكبها، فلا يسجد، حيث لا تبطل الصلاة قطعاً. وإن كان خروج الدابة عن السمت، لغفلة الراكب، ففي سجود السهو خلاف ظاهر، فهذا بيان حكم الاستقبال في حق الراكب.
__________
(1) في: (ت 1) ، (ت 2) : مسيرة.(2/81)
725- فأمّا كيفية الصلاة: فإن كان الراكب في مَرْقد، وتمكّن من إتمام الركوع والسجود، فليتمهما، ولو اقتصر على الإيماء، فالتفصيل فيه كالتفصيل في القاعد المتمكن، يومىء بالركوع والسجود، من غير عجز.
وإن كان لا يتمكن من إتمام الركوع والسجود لكونه على رحل أو سرج، فيأتي بما يقدر عليه، وينبغي أن يزيد انحناؤه للسجود على انحنائه للركوع؛ ليفصل بينهما.
وأنا أرى الفصل بينهَما -عند التمكن- محتوماً متعَيّناً.
وهل يجب أن يبلغ غاية وُسعه في الانحناء؟ هذا فيه تردّد وتصرّف عندي؛ والوجه أنّا نكلّفه أن ينحني بحيث يزيد على انحناء الراكع على الأرض. فأما الانتهاء إلى حد انحناء الساجد على الأرض مع التمكن، فهل يُشترط؟ فيه احتمالٌ. والظاهر عندي ألا يتعين، ويكفي انحناءٌ يظهر (1) مع مراعاة التمييز بين الركوع والسجود؛ فإن الدواب لها نزقات يخشى منها مصادمات محذورة.
فلو قيل: ينحني انحناء لا ينتهي إلى حدّ يتوقع ذلك في أحوال الغفلات، ويكتفى بهذا، لم يبعد والغالب على الظن أن السلف كانوا يقتصرون على هذا المقدار، والعلم عند الله عز وجل.
فهذا تفصيل القول في تنفل الراكب.
726- فأما الماشي، فإنه يتنفل عندنا، وهو يمشي كالراكب، ومنع أبو حنيفة (2) تنفل الماشي. ومعتمد المذهب اعتبار الماشي بالراكب، وكل واحد في تخفيفات السفر ورُخَصه كالثاني، والغرض من تجويز النوافل في السفر ألا تتعطل النوافل، وهذا المعنى يعمّ الراكبَ والماشي.
ثم نذكر في الماشي كيفية الصلاة أولاً، ونذكر بعده حكمَ الاستقبال.
__________
(1) في (ت 2) : " ... انحناء ظهره "وفي (ل) : "انحناء الظهر".
(2) ر. حاشية ابن عابدين: 1/469.(2/82)
727- فأمّا الكيفية، فقد نقل الأصحاب عن الشافعي، أن الماشي يركع، ويسجد، ويقعد، ويستقر لابثاً في هذه الأركان، ولا يمشي إلاّ إذا انتهى إلى حدّ القيام، فيمشي قارئاً.
وخرّج ابن سريج قولاً: إنه لا يلبث، ولا يضع جبهته على الأرض، بل يومىء راكعاً وساجداً.
وكان الشافعي لا يرى تغيير شيء من هيئات الصلاة في حق الماشي، والمشيُ في القيام لا يُسقط القيام.
ومن يرى الاقتصار على الإيماء، يحتج بأن سبب تنفل المتنفل ألا ينقطع في حركته في صوب سفره عن الصلاة، وإذا كثرت الصلاة، كثر سبب اللبث، وينتهض ذلك سبباً في الانقطاع عن الرفقة.
فهذه كيفية صلاة الماشي.
[وظاهر ما نقله الصيدلاني أن الماشي] (1) المتنفل يركع ويسجد على الأرض، ويمشي قائماً. وكذلك إذا انتهى إلى القعود، يمشي ولا يقعد.
وهذا متَّجِهٌ؛ فإنّ إقامة القيام لهذه الرخصة مقام القعود، بمثابة إقامة القعود -مطلقاً- مقام القيام في التنفل.
وقد يتوجّه على هذا سؤال: وهو أن المقيم المطمئن، لو قام بدل القعود في التشهد، فالظاهر أن ذلك لا يجزئه. والسبب فيه أن المتنفل جُوّز له القعود، حتى يكون أسهل عليه، والمشيُ قائماً بدلاً عن القعود أليق بتنفل المسافر الماشي، فليتبع الناظر المعنى في ذلك.
728- فأما القول في استقباله، فإن أوجبنا الإتيان بالركوع والسجود على اللُّبث، فيجب الاستقبال فيهما، فإنه في هذه الأركان على هذا المذهب الذي نفرع عليه مطمئنٌ، وأثر السفر فيهما عنه منقطع، واستقبال القبلة ممكن، وهذا واضح.
__________
(1) ساقط من الأصل، ومن (ط) . ومثبت في غيرهما من النسخ.(2/83)
فأمّا الاستقبال عند التحرّم، فالذي قطع الأصحاب به وجوبُه؛ فإنا إذا أوجبناه عند الركوع والسجود، فنوجبه في العقد، وكذلك يستقبل في قعوده متشهداً؛ لمكان لبثه، ثم يكون مستقبلاً حتى يتحلل عن صلاته، ولا وجه إلاّ هذا.
فأمّا إذا فرعنا على تخريج ابن سريج ولم نوجب اللبث في الركوع والسجود والقعود، فلا نوجب استقبال القبلة عند إقامة هذه الأركان؛ فإنه يأتي بها مارّاً، فليستقبل صوبَ سفره، كما يفعل ذلك في حالة القيام.
ثم إذا انتهى إلى القعود، فلا يومىء إليه إيماء، ولكن يومىء بالسجود، ثم يعتدل قائماً، ويأتي بالتشهد، فيقع القيامُ بدلاً عن القعود فى حق الماشي، كما يقع القعودُ بدلاً عن القيام في حق العاجز المفترض.
ثم هذا الفصل سيأتي مشروحاً في أن من عجز عن الحركات في صلاته المفروضة، فهل عليه أن يمثل الأركان في قلبه على صورها؟ وسنذكر ذلك -إن شاء الله- في موضعه.
وإذا كان كذلك، فهل يستقبل عند التحريم؟ التفصيل فيه كالتفصيل في الراكب الذي بيده زمام راحلته، وقد مضى ذلك. ثم إن أوجبنا الاستقبال عند التحرم، فهل نوجبه عند التحلل؟ فيه وجهان ذكرتهما في مالك الزمام.
فهذا تمام الغرض في تنفّل الراكب والماشي.
729- ومما يجري في فكر الناظر، أن الراكب لو أوطأ فرسَه نجاسةً، فلا بأس عليه، فليس المتنفل مؤاخذاً بطهارة الدابة، فكيف يؤاخذ بطهارة موطئها؟ نعم! ينبغي أن يكون ما يلاقي الراكبَ وثوبَهُ طاهراً من السرج وغيره.
فأما الماشي إذا مشى في نجاسة قصداً، وكان له مندوحة عنه، فالذي أراه: الحكمُ ببطلان الصلاة.
ولست أرى عليه أن يتحفّظ، ويتصوّن من ذلك ويرعاه؛ فإن كل رخصة متعلقة بما يليق بها من الحاجة، والطريق تغلب فيها النجاسة، والتصوّنُ منها عسر، ورعاية هذا الأمر يُلهي المسافر عن جميع أغراضه في السفر ليلاً ونهاراً.(2/84)
وإذا انتهى في ممرّه إلى نجاسة ولا يجد عنها معدلاً، فهذا فيه احتمال، ولا شك أنها إذا كانت رطبة، فالمشي فيها يبطل الصلاة، وإن كان من غير قصدٍ؛ فإن المصلي يصير بالمشي فيها حاملاً للنجاسة.
فهذا نجاز ما أردناه في ذلك.
فصل
قال الشافعي: "إذا كان يصلي على راحلته في سفره فدخل بلدة ... إلى آخره" (1) .
730- المتنفل إذا انتهى إلى بلدة أو قرية وهو في أثناء صلاة النافلة على دابته، فإنْ لم يُرد الإقامة بها، وقصد أن ينزل بها ليلةً، أو مدّة لا تزيد على مدّة المسافرين، فله أن يستكمل النافلة على دابته، وإن كان يتردّد لحاجته في النزول (2) ، فتردّده لذلك بمثابة [استداده] (3) في صوب سفره في كيفية الصلاة وترْك الاستقبال.
وإن كان وقف دابته في انتهائه إلى منزله، ولو نزل وتمم الصلاة، لم ينقطع عن شيءْ من مآربه، فلو بقي على الدابة، فما ذكره الصيدلاني أنه يصلي كما يصلي، مستداً في صوب قصده.
وكذلك إذا ابتدر الركوبَ قبل أن ترحل الرفقة، وكان يصلي راكباً واقفاً، منتظراً انتهاض الرفقة، فيصلي مومياً بالركوع والسجود؛ فإن هذه الرخصة لا تراعى فيها الضرورة الحاقّة، وإنما المرعيُّ مشقةُ السفر على الجملة؛ فإنه مظنّة الحاجة، وعن هذا بُني الرخص في السفر على كونه مظنة للمشاقّ، وإنْ كان قد يفْرض مسافر غيرُ مشقوق عليه.
__________
(1) ر. الأم: 1/84.
(2) في النزول: أي بالبلدة.
(3) في الأصل، (ط) : استدارة. وهو تصحيف ظاهر. فالاستداد هو الاستقامة، وهذا من ألفاظ إمام الحرمين التي يستخدمها كثيراً.(2/85)
وهذا الذي ذكره في الاقتصار على الإيماء في الركوع والسجود منقدح، فأما استقبال القبلة، فالوجه اشتراطها في ظاهر المذهب في حق الواقف، فإنّا ذكرنا أنه إن كان زمام ناقته بيده، تعيّن عليه استقبال القبلة عند التحرم، وفيه من الخلاف ما قدمناه.
وقد ذكرنا أن من كان في مرقد وتمكّن من الركوع والسجود، لم يقتصر على الإيماء، وتعيّن عليه الاستقبال في جميع الصلاة؛ فإنّه ليس ملابساً حالةً يعتبر (1) فيها الإيماء، وإذا ركب (2) ، فهذه الحالة يتعذر فيها الإتمام، ولا ننظر إلى أنه لا ضرورة في الركوب؛ فإن هذا يجرّ إسقاطَ الرخصة في السفر في حق من سفرُهُ مباح، ولا ضرورة عليه في ابتداء السفر، ولا حاجة أيضاً؛ فإن القواعد إذا أسست للحاجة، لم يراع في تفاصيلها الحاجة.
فهذا إذا لم يقصد الإقامة.
731- فأمّا إذا انتهى إلى بلدته، أو إلى موضع آخر، ونوى الإقامة بها، وهو في أثناء الصلاة النافلة، فلا يتمم الصلاة راكباً -إذا فرّعنا على الأصح في أن المقيم لا يتنفل راكباً- ولكنه ينزل ويبني على صلاته مستقبلاً، ويتمم الأركان في بقية الصلاة، وهذه الحركات (3) تفرض خفيفةً، بحيث لا تبلغ مبلغ الفعل الكثير المبطل للصلاة.
وسنذكر تفصيل ذلك في الصلاة المفروضة في حق الخائف إذا كان يقيمها في حالة الخوف راكباً، ثم أمن في أئناء الصلاة، فنزل فبنى. وظاهر نصّ الشافعي في حق الخائف أنه لو افتتح الصلاة آمناً، ثم طرأ الخوف، فركب، لم يصح، وفيه تفصيل طويل.
والظاهر عندي أن المتنفل لو أراد الركوب في أثناء الصلاة، فإنه يبني على صلاته،
__________
(1) في (ت 1) ، (ت 2) : يغير فيها الإتمام.
(2) وإذا ركب: أي ابتدر الركوب قبل أن ترحل الرفقة؛ فهذا الكلام من بقية الصورة نفسها.
(3) وهذه الحركات: أي حركة النزول والتوجه إلى القبلة.(2/86)
وفي المسألة احتمال، وسبب ظهور ما اخترته أن النفل لا يلزم بالشروع، وافتتاح الركوب في أثنائه كافتتاح الصلاة النافلة راكباً. والعلم عند الله.
فصل
قال: "ولا يصلّي في غير هاتين الحالتين إلا إلى القبلة ... إلى آخره" (1) .
732- حاصل القول في بقية الباب أمران: أحدهما - تفصيل القول في استقبال عين الكعبة، أْو في استقبال جهتها، عند إمكان اليقين.
والثاني - طلب القبلة بالاجتهاد عند تعذّر اليقين.
فنبدأ بالصور التي يمكن درك اليقين فيها، ونقول:
733- من كان بمكة في المسجد الحرام، فليعاين الكعبة، وليستقبلها، ثم إن اقترب منها استقبلها استقبالاً [محسوساً] (2) مقطوعاً به، ولو وقف على حرف ركن من أركان البيت، وكان يحاذي ببعض بدنه الركن، وبعضه خارج عن مسامتة الكعبة، ففي صحة الصلاة وجهان، ذكرهما بعض المصنفين وغيره.
أحدهما - أنه لا تصح الصلاة، وهو الذي قطع به الصيدلاني، فإنه لا يسمى مستقبلاً؛ بل يقال: استقبل بعض الكعبة، والأمر بالاستقبال مضافٌ إلى جميع بدن المصلي.
والثاني - يجزئه وتصحّ صلاته؛ فإنه يسمَّى مستقبلاً. وعلى هذا النحو اختلف أئمتنا في أن الطائف -في تردده وتطوافه- لو خرج عن محاذاة الكعبة في الجهة المرعية في محاذاة الطائف ببعض بدنه، وكان محاذياً بالبعض (3) ، فهل يصحّ طوافه أم لا؟ على ما سيأتي شرح ذلك.
ولو اقترب صف من البيت واصطفوا، فقد لا يحاذي الكعبةَ منهم من في جهة
__________
(1) ر. المختصر: 1/64.
(2) في الأصل، وفي (ط) : مخصوصاً.
(3) في هامش (ل) : صورتها أن يحاذي ببعض بدنه الحجرَ.(2/87)
الاستقبال إلا عشرون أو نيف وعشرون، ويخرج طرف الصف إن زادوا، وكانوا على استطالة واستداد (1) عن المُحاذاة، فلا تصح صلاة الخارجين عن المحاذاة في القرب؛ لخروجهم عن الاستقبال، وهذا بيّنٌ.
ولو بعدوا ووقفوا في أخريات المسجد، فقد يبلغ الصف ألفاً، وهم معاينون للكعبة، وصلاتهم صحيحة. ونحن -على قطعٍ- نعلم أن حقيقة المحاذاة -نفياً وإثباتاً- لا تختلف بالقرب والبعد، ولكن المتبع في ذلك وفي نظائره حكم الإطلاق والتسمية، لا حقيقة المسامتة، وإذا قرب الصف، واستطال، وخرج طرفُه عن المحاذاة، لم يُسمّ الخارجون مستقبلين. وإذا استأخر الصف وبعُد سمّوا مستقبلين.
734- وهذه الأحكام مأخوذة في [وضع] (2) الشرع من التسميات والإطلاقات.
وعلى ذلك بنى الشافعي تفصيلَ القول في الصلاة على ظهر الكعبة، فقال: إن لم يكن على طرف السطح شيء شاخص من بناء الكعبة، فلا تصح صلاة الواقف على الظَّهر؛ فإن من علا شيئاً لم يسمَّ مستقبلاً، ولو وقف خارجاً من الكعبة -على أبي قبيس مثلاً- فالكعبة مستقبلة عن موقفه، وصلاته صحيحة؛ فإنه يسمى مستقبلاً، ولا يختلف ما يطلق من ذلك بعلوّ الواقف وتسفّله.
ولو وقف على السطح، وكان على طرف السطح شيء شاخص من البناء بقدر مؤخرة [الرَّحْل] (3) وهو واقف في محاذاته، فصلاته صحيحة؛ فإنه يسمى مستقبلاً لذلك الجزء. ولو وضع شيئاً بين يديه ودفعه ونضَّده بالقدر الذي ذكرناه، واستقبله،
__________
(1) في (ط) : واستدارة. وهو تصحيف ظاهر.
(2) في الأصل: موضع. والمثبت من باقي النسخ.
(3) في الأصل وفي (ط) : الرجُل، والمثبت من (ت 1) ، (ت 2) : الرحل بالحاء المهملة الساكنة. وعبارة ابن أبي عصرون: بقدر المؤخرة. وفي المجموع للنووي: "إن كان الشاخص ثلثي ذراع، صحت صلاته، وإلا فلا، وقيل: يشترط ذراع، وقيل: يكفي أدنى شخوص، وقيل: يشترط كونه قدر قامة المصلي طولاً وعرضاً، حكاه الشيخ أبو حامد، وغيره، والصحيح المشهور الذي قطع به الجمهور الأول، وهو ثلثا ذراع" (3/199) .
والذراع في أصح تقدير نحو 46 سنتيمتر، مما يرجح الرّحْل، بالحاء. ثم التقدير بالرحل معهود في لسان الفقهاء.(2/88)
لم تصحّ؛ فإن ذلك الشيء لم يعدَّ من الكعبة.
ولو غرز خشبة واستقبلها، فقد اشتهر في استقباله خلافُ الأصحاب، فمنهم من منع صحة الصلاة؛ فإنَّ ذلك المغروز لا يعدّ بناءً، ومنهم من صحح، فإن من يبني بناءً، فقد يغرز خشبات عند منتهى البناء، ويعدّ ذلك من جملته، و [الأصحّ] (1) الأول.
ثم لو فرض شخوص خشبة من البناء، فمعلوم أنها في حجمها قد لا تكون على قدر بدن الواقف، وقد ذكرنا خلافاً فيمن وقف على طرف ركن من أركان الكعبة، وخرج بعض بدنه عن المسامتة، وهذه الخشبة الشاخصة، وإن اتصلت اتصال البناء فبدن الواقف خارج عن محاذاتها في الطرفين، فهذا فيه تردّد ظاهر عندي، كما ذكرته.
ومما يجب التنبيه له أن الأئمة اكتفَوْا بأن يكون ذلك الشاخص بقدر مؤخرة [الرحْل] (2) ، ولعلهم راعَوْا فيه أنه في سجوده يسامت بمعظم بدنه ذلك الشاخص بهذا القدر، وهذا فيه شيء -من جهة أنه في حال قيامه خارج بمعظم بدنه عن مسامتة ذلك ْالشيء- وقد ذكرنا تردد الأصحاب في الخروج ببعض البدن عن المحاذاة، ولكن الأئمة نزلوا هذا منزلة ما لو استعلى الواقف، والكعبةُ أسفلَ منه، وهذا فيه نظر من طريق المعنى، فإن جميع الكعبة إذا تسفّل، فهو القبلة بلا مزيد، فُنزل عليه اسمُ الاستقبال، وهذا الشاخص -في حق الواقف على ظهر الكعبة- جزء من القبلة، وفيه من تبعّض الأمر في المحاذاة ما ذكرته.
وقد حكى العراقيون وجهاً: أن البناء الشاخص ينبغي أن يكون على قدر قامة المصلي؛ تخريجاً على ما ذكرته من الاحتمال، وهذا الذي ذكروه في الطول يجري في العرض قطعاً، ويخرج منه منع الصلاة إلى العتبة والباب مفتوح.
وهذا الذي ذكروه منقاس حسن.
__________
(1) في الأصل، وفي: (ط) "ولا يصح الأول".
(2) في الأصل وفي (ط) : الرجل.(2/89)
وممّا حكوه عن ابن سُريج أنه جوّز الوقوف في عرصة الكعبة إذا انهدمت، وإن لم يكن بين يدي الواقف شيء شاخص، وهذا تخريج غريب. ولا شك أنه يجري هذا في ظهر الكعبة أيضاً، وهو مذهب أبي حنيفة (1) .
والاحتمال ما قدمته.
735- ولو وقف المصلي في جوف الكعبة واستقبل جداراً، صحت صلاته وفاقاً؛ وإن كان لا يقال: استقبل الكعبة، بل يقال: استقبل جزءاً منها.
وإن استقبل الباب وهو مردود، فهو كما لو استقبل جداراً.
ولو كان مفتوحاً، والعتبة لاطئة (2) وارتفاعها أقل من مؤخرة [الرَّحْل] (3) -وهي تداني ثلثي ذراع (4) - فلا تصح الصلاة، ولو بلغ ارتفاعها هذا القدر، فالصلاة صحيحة، كما ذكرنا.
736- ولو انهدمت الكعبة، ووقف الواقف خارجاً من عرصتها، واستقبل العرصة، صحّت الصلاة، ولا يشترط شخوص شيء من الكعبة.
فإن وقف في العرصة نفسها فهو كما لو وقف على السطح في كل تفصيل ذكرناه، من اشتراط شاخص بين يديه [كما مضى.
ولو احتفر في العرصة حفرة بالقدر المقدم، فما بين يديه] (5) من ارتفاع طرف البئر عن موقفه، بمثابة ارتفاع شيء من البناء شاخص، كما تفصّل قبلُ.
ولو فُرض غرز خشبةٍ في العرصة، فقد ذكر فيه الخلاف المقدم، ولو نبتت حشيشة، فعَلَتْ، فلا حكم لها في الاستقبال قطعاً، ولو نبتت شجرة من العرصة، فهي كبَنِيَّةٍ من جدار الكعبة، أو كسارية من سواريها؛ إذا استقبلها من دخل الكعبة.
فهذا ما أردناه في الاستقبال حالة المعاينة.
__________
(1) ر. بدائع الصنائع: 1/120، حاشية ابن عابدين: 1/612.
(2) لاطئة أي لازقة. من لطأ بالشيء لطئاً: لصق به. (المعجم) .
(3) في الأصل: الرجل. والمثبت من باقي النسخ.
(4) هنا تصريح بطول المؤخرة، وتقديرها بثلثي ذراع، مما يؤكد صحة اختيارنا.
(5) ساقط من الأصل، ومن: (ط) .(2/90)
737- ومما يتعلق بتمام ذلك أن العراقيين حَكَوْا نصّين ظاهرهما الاختلاف في المكي إذا لم يعاين الكعبة، فنقلوا أنه قال في موضع: "من سهل عليه معاينة الكعبة في صلاته على سهل، أو جبل، تعيّن ذلك عليه".
ونقلوا أنه قال: "من كان في مكة في مكان لا يرى منه البيت، لم يجز له أن يترك الاجتهادَ بكل ما يستدل به على الكعبة" ثم قالوا: والنصّان منزّلان على اختلاف حالين، فمن يكون موقفه بحيث تبدو منه الكعبة على [يُسرٍ] (1) وسهولة، فتتعين معاينة الكعبة.
وحيث يكون بينه وبين الكعبة حائل من جدار، أو جبل، أو غيرهما، فلا نكلفه المعاينة.
فظاهر كلامهم اشتراط العيان عند الإمكان، حتى قالوا: لو بنى حائلاً حاجزاً بين موقفه وبين الكعبة، حتى عسرت عليه المعاينة -من غير ضرورة وحاجة- فلا تصح صلاته؛ لتفريطه في ذلك.
وهذا كلام فيه إخلال، والذي أراه أن الرجل إذا سوَّى محراباً على العيان، ثم أثبت حاجزاً، فلا بأس، فإنه إذا وقف نقطع بأنه وقف موقفاً يسمى فيه مستقبلاً. وقد ذكرنا أنه لا يعتبر عند الاستئخار من جِرم الكعبة حقيقةُ المحاذاة والمسامتة، وإنما يكتفى بحصول اسم الاستقبال، فالعيان مرعيٌّ ليسوَّى بحسبه محراب عند الإمكان.
فأما إذا وقف في عرصة داره بمكة، فلا بأس، ولكن إن سوى محرابها بناءً على العيان في أول البناء، فهو خارج على ما ذكرناه، وإن بنى المحرابَ في البناء على الأدلة، ولم يعتن بالعيان في ابتداء الأمر، أو وقف واقف في بيتٍ من دارٍ لا محراب فيه، واعتمد فيه الأدلة، فظاهر ما نقله العراقيون جواز ذلك، وأنه لا يكلف الترقي إلى سطح الدار مع إمكان العيان فيه، وأطلقوا جواز الاجتهاد في هذه الصورة، واعتمدوا فيه ما صادفوا عليه أهل مكة وهم يصلون في عرصات الدور، وكذلك استفاض ذلك من الأوّلين.
__________
(1) في الأصل كما في (ت 1) نشز.(2/91)
وهذا فيه نظر عندي؛ فإن اعتماد الاجتهاد بمكة، مع بناء الأمر ابتداءً على عيانٍ، بعيد، فلينظر الناظر في ذلك مستعيناً بالله تعالى. والذي ذكرناه في قسم انتفاء الاجتهاد، والقدرة على درك اليقين.
738- ومما يتصل بهذا القسم أن من كان بالمدينة وكان يعاين محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم وموقفه، فلا اجتهاد له، فإنَّ استداد موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم [مقطوع به، ولا اجتهاد مع إمكان درك اليقين، فلو أراد ذو بصيرة أن يتيامن أو يتياسر عن صوب محراب المصطفى صلى الله عليه وسلم] (1) ، لم يكن له ذلك، والذي تخيله زلل، فلا اجتهاد إذاً جملةً وتفصيلاً.
ولو دخل بلدةً أو قرية مطروقة فيها محراب متفق عليه، لم يشتهر فيه مطعن، فلا اجتهاد له؛ مع وجدان ذلك؛ فإنه فى حكم اليقين، ولو أراد ذو بصيرة أن يتيامن بالاجتهاد قليلاً، أو يتياسر، فظاهر المذهب أنه يسوغ ذلك.
وسمعت شيخي يحكي فيه وجهاً - أنه لا يجوز؛ كما ذكرناه في مبهة والمدينة.
ومن قال: يتيامن أو يتياسر، يلزمه أن يقول: حق على من يرجع إلى بصيرة إذا دخل بلدة أن يجتهد في صوب القبلة، فقد يلوح له أن التيامن وجه الصواب، وهذا (2) إن ارتكبه مرتكب، ففيه بُعد ظاهر، والعلم عند الله.
وتفصيل القول في التيامن والتياسر -مع اعتقاد اتحاد الجهة- يَبين بأمرٍ نذكره بعد ذلك في فصول الاجتهاد. إن شاء الله تعالى.
وهذا منتهى القول في أحد القسمين.
__________
(1) ساقط من الأصل، ومن (ط) .
(2) "وهذا إن ارتكبه مرتكب" الإشارة هنا إلى القول بوجوب الاجتهاد في القبلة على ذي البصيرة إذا دخل بلداً، لا على فعل التيامن أو التياسر عن قبلة البلد.
والارتكاب كما يفهم من السياق -هنا وفي مواطن أخرى- معناه أن يدفع المناظرَ حب الغلبة إلى التمادي؛ حتى يقول بقولِ بعيدٍ عن المنطق والصواب، وعندها يسمَى (مرتكباً) .
هذا ولما أصل إلى (الارتكاب) بين مصطلحات الجدل والمناظرة، على كثرة ما راجعت من المؤلفات في هذا الشأن.(2/92)
739- فأما القسم الثاني - وهو إذا عَسُر دَرَكُ اليقين، ففيه تفصيل القول في الاجتهاد: فإذا كان الرجل في سفره، وتعذر عليه مدرَك اليقين، فأول ما خاض فيه الخائضون ذكرُ أدلة القبلة، ولست أخوض فيه؛ فإن استقصاء القول فيه يطول، وقد ألف ذوو البصائر فيه كتباً، وشرْطُ هذا الكتاب إذا فرض فيه أمر، أن ينتهي إلى غايته، فلتُطلب أدلة القبلة من كتبها.
وذكر الصيدلاني منها مهابّ الرياح، وهذا بعيد عندي جدّاً؛ فإن الرياح لا معوّل عليها، والتفافها في مهابّها أكثر من استدادها، ثم لا يتأتى التمييز فيها.
740- ومما نذكره في هذا الفصل: أن من يسافر هل يتعين (1 عليه أن يتعلم من أدلة القبلة ما يستقبل به، وهل يلتحق هذا بما يتعين 1) على المكلف تعلمه؟
ذكر بعض المصنفين فيه اختلافاً، وهو لعمري محتمل، فيجوز أن يقال: يجبُ؛ كما يجب تعلم أركان الصلاة وشرائطها، ويجوز أن يقال: لا يجب؛ فإن التباس جهة القبلة مما يندر، وإنما يتعين على كل مكلف تعلم ما يعمّ مسيس الحاجة إليه.
741- ثم إنما يجتهد البصير، فأما الأعمى، فلا شك أنه لا يتأتى منه الاجتهاد، وليس له إلا التقليد.
ومن لا يعرف الأدلة، ولم نوجب عليه التعلم، فإنه يقلّد أيضاً.
742- والعالم بالأدلة لا يقلد عالماً؛ إذا كان متمكناً من الاجتهاد. وإن التبست عليه الأدلة، وعسر عليه الاجتهاد، فقد نقل المزني عن الشافعي أنه قال: "ومن خفيت عليه الدلائل: فهو كالأعمى" (2) .
وعلى الجملة: اختلف أئمتنا في أنه إذا تعذر على العالم النظر، ولم يعسر على عالم آخر، فهل يقلّد من خفيت عليه الدلائل من لم يخْفَ عليه؟
فمنهم من قال: يقلّد؛ لأنه في حالته كالأعمى الذي لا يتمكن من النظر.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من: (ت 1) ، (ت 2) .
(2) ر. المختصر: 1/65.(2/93)
ومنهم من قال: لا يقلد.
واختيار المزني أنه يقلد، وقد استدل بنص الشافعي؛ حيث قال: "ومن خفيت عليه الدلائل، فهو كالأعمى" فقد جعل الشافعي فيما ظنه المزني من خفيت عليه الدلائل كالأعمى، والأعمى يقلد، فليقلد من خفيت عليه الدلائل. فقيل له: لا يمتنع أن يكون المعنى من تشبيهه بالأعمى أن يصلي كيف يتفق، كالأعمى الذي لا يجد من يقلده، فإنه يصلي لحقِّ الوقت كيف يتفق، ثم يقضي إذا وُجد من يسدّده.
ووجه من لا يرى التقليد: أن البصير إذا توقف لحظة، لم يخرج عن كونه عالماً بالأدلة، والفترات قد تطرأ، والقرائح قد تتبلّد، فلو قلّد، لكان عالما مقلداً عالماً.
ثم الاختلاف الذي ذكرناه، في ضيق الوقت، وخشية الفوات، فأما إذا أراد أن يقلد أول الوقت، أو وسطه، فلا سبيل إليه؛ إذ لا حاجة، والتقليد إنما يقام مقام انقطاع النظر عند الحاجة.
فإن قيل: إذا جوّزتم إقامة الصلاة بالتيمم في أول الوقت -مع العلم بأن المسافر قد ينتهي إلى الماء في آخر الوقت- فهلاّ جوّزتم التقليد في أول الوقت؛ لإدراك فضيلة الأولية؟
قلنا: إنما جوزنا التيمم على قولٍ؛ من جهة أن الماء في مكان التيمم مفقود، وأما إذا توقف العالم، فهذا تردُّدٌ من ناظر، فلا نجعل هذا بمثابة عدم العلم والنظر رأساً، وفي المسألة -على الجملة- نوع احتمال.
ثم إذا جوزنا له أن يقلد، فقلَّد وصلى، صحت صلاته، ولا يلزمه القضاء؛ فإنا نزّلناه منزلة الأعمى في تقليده.
وإن قلنا: ليس له أن يقلد، فقد قال شيخي: يصلي على حسب حاله، ثم إذا انجلى الإشكال، يصلي ويقضي (1) .
ويحتمل أن يقال: يقلد ويصلي بالتقليد، ثم يقضي إذا زال الإشكال، ويكون هذا بمثابة ما إذا تيمم في الحضر عند عدم الماء فيه، فقد نقول: يلزمه القضاء، ثم
__________
(1) أي يصلي ويقضي ما صلاه على حسب حاله، قبل انجلاء الإشكال.(2/94)
يلزمه أن يتيمم بحق الوقت، فالتيمم بدلٌ عن الوضوء، فنوجب إقامة البدل، وإن أوجبنا القضاء، فكذلك التقليد بدل عن الاجتهاد، فينبغي أن يقلّد، وإن كنّا نوجب القضاء. وهذا القائل يقول: إذا قلنا: يقلّد ويصلي، فهل يقضي؟ فعلى وجهين مبنيين على القولين فيمن تيمم بعذر نادرٍ لا يدوم، ثم زال العذر، فهل يقضي الصلاة؟ فعلى قولين.
743- ومما يليق بتحقيق القول في ذلك أن ما ذكرناه من التفريع والخلاف فيه إذا انحسم مسلك النظر على الناظر، فأما إذا لم ينحسم نظره، ولكن كان ينظر ويستمرّ في نظره، وعلم أن وقت الصلاة ينتهي قبل أن ينقضي نظره، فيقلد ويصلي لحق الوقت، أو يتمادى في نظره إلى أن يتم اجتهاده؟ هذا ينزل منزلة ما لو تناوب على بئر جماعة، وعلم واحد أن النوبة لا تنتهي إليه إلا بعد انقضاء الوقت. وهذا أصل قد ذكرناه، ووقع الفراغ منه في باب التيمم.
فهذا تمام ما أردناه.
744- وإذا جوزنا التقليد، فلا بد من العلم بصفة المقلِّد والمقلَّد، فأما المقلِّد، فهو الذي لا يتصور منه الاجتهاد كالأعمى.
وإن كان عالماً بصيراً، فركن إلى دَعة التقليد مع القدرة على الاجتهاد، لم يجز أصلاً.
وإن تحيّر وانحسم نظره، ولم يضق الوقت، لم يقلد، وإن ضاق الوقت مع الحَيْرة (1) ، ففيه الخلاف الذي ذكرناه. وإن لم ينحسم نظره، ولكن علم أنه لا ينتهي نظره في الوقت، فهو كالتناوب على البئر والثوب الذي يصلّي عليه وفيه.
وإن كان الرجل جاهلاً بأدلة القبلة، فهذا يبنى على أنه هل يتعيّن عليه تعلّم أدلة القبلة؟ وقد ذكرنا الخلاف فيه.
فإن قلنا: لا يتعين، فيقلّد ويصلي ولا يقضي، وإن قلنا: كان يتعين عليه
__________
(1) عبارة (ت 1) ، (ت 2) : لم يقلد [وإن ضاق الوقت لم يقلد] وإن ضاق الوقت مع الحيرة، ففيه الخلاف.(2/95)
التعلم، فلما لم يتعلم، فقد قصر وفرّط، فيلزمه القضاء، ثم يصلي لحق الوقت من غير تقليد، أو يقلد، ويصلي، ثم يقضي؟ فيه تردد ذكرته.
فهذا تفصيل القول في صفات المقلد.
745- فأما من يُقلَّد، فينبغي أن يكون عالماً بأدلة القبلة، وينبغي أن يكون مسلماً؛ لأنه لا تقبل أدلة المشرك بحال. ولو كان فاسقاً، لا يقبل قوله أيضاً. ولا تقبل دلالة صبي كما لا يقلَّد صبي، وإن بلغ مبلغ المجتهدين.
والقول الضابط في ذلك أنا نرعى في الدالِّ المقلَّد ما نرعاه في المفتي، غير أن العلم المرعي هاهنا ما يتعلق بأدلة القبلة.
746- ومما نذكره أن العالم وإن منعناه من تقليد عالم، فلو أخبره إنسان بطلوع الشمس من جهة مخصوصة، فهذا إخبار عن المشاهدة، فيجوز التعويل على قوله -إذا كان عدلاً ثقة- وهذا بمثابة رواية الأخبار، وليس هو من التقليد في شيء.
ثم يُشترط في المخبر عن المشاهدات في هذه الأشياء ما يشترط في رواية الأخبار، من: الإسلام، وعدم الفسق، وفي اشتراط البلوغ خلافٌ، مذكور في رواية الأخبار، ومختارُ معظم الأصوليين أنه لا يقبل رواية الصبي، ومَنْ قبلها يشترط أن يكون مميزاً، ولا يكون عرِماً (1) كذاباً.
فهذا تفصيل القول في صفات المقلِّدين والمقلَّدين، ومن يجتهد، ومن يُخبر عن المشاهدة، وينزل منزلة الرواة.
747- ونحن نذكر الآن تفصيلَ القول في الإصابة والخطأ بعد الاجتهاد، وسبيل رسم التقسيم فيه أن نتكلّم في الجهتين إذا فرض الخطأ فيهما، ثم نذكر فرض الخطأ في الجهة، (2 الواحدة.
فأما إذا قدّرنا الخطأ في الجهتين 2) ، فلا يخلو: إما أن يقع ذلك بعد الفراغ من
__________
(1) العرِم: من عَرَم فلان يعرُم عَرْماً: اشتد، وخبث، وكان شريراً. أو من عَرُم فلانٌ: شرِس واشتد. (المعجم) .
(2) ما بين القوسين ساقط من: (ت 1) .(2/96)
الصلاة، أو في أثناء الصلاة؟ فإن قُدّر ذلك بعد الفراغ، فنقول:
748- إذا اجتهد وصلى إلى جهةٍ وفرغ، ثم تبين أنه أصاب، أو لم يتبين شيء، لا بيقين، ولا بغلبة ظن، بأن جرى ذلك في موضع، فرحل منه وامتد، فلا يجب القضاء أصلاً.
وإن صلى وفرغ، ثم تغير رأيه في تلك الصلاة، فإن تبيّن قطعاً أنه قد أخطأ من جهة إلى جهة، ففي وجوب القضاء قولان مشهوران: أحدهما -وهو مذهب أبي حنيفة (1) والمزني- أنه لا يجب القضاء، والثاني - أنه يجب القضاء، وتوجيه القولين مذكور في (الأساليب) فليتأمّله الناظر.
ثم كان شيخي يقول: إن تبين للمجتهد الخطأ في الصلاة التي أقامها، وتعين له الصواب قطعاً، ففي القضاء القولان المشهوران، وإن تبين الخطأ في الصلاة المؤداة، ولم يتبين الصوابَ وجهتَه، ففي القضاء قولان مرتبان على قولين في الصورة الأولى، وهذه الصورة أولى بألا يجب القضاء فيها؛ فإنه لو قضاها لم يأمن أن يقع له في القضاء مثلُ ما وقع له في الأداء، وهذا سببٌ من أسباب سقوط القضاء، بدليل أن الحجيج إذا وقفوا مخطئين يوم العاشر، لم يلزمهم القضاء، إذْ لم يأمنوا في القضاء مثلَ ما وقع لهم في الأداء.
وهذا الترتيب خطأ عندي لا أصل له؛ فإنه إن كان لا يأمن في قضاء الصلاة مثلَ ما وقع له في الأداء، في حالة الالتباس، فيمكنه أن يصبر حتى ينتهي إلى بقعة يتعيّن له فيها يقين الصواب، وهذا يسير لا عسر فيه، وليس كذلك خطأ الحجيج في وقت الوقوف؛ فإنه يطرد فيه زوال الأمن عن وقوع الخطأ في السنين المستقبلة كلها.
فهذا إذا فرغ المجتهد ثم تيقن أنه أخطأ في تلك الصلاة بعينها.
749- فأما إذا تغير اجتهاده، وغلب على ظنه أنه أخطأ في تلك الصلاة، فلا يلزمه قضاؤها؛ إذا كان تغيّر الاجتهاد بعد الفراغ من الصلاة، وهذا يبنى على أصلٍ مقرّر في الشرع - وهو أن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد.
__________
(1) ر. رؤوس المسائل: 142 مسألة: 49، حاشية ابن عابدين: 1/291.(2/97)
750- ومما نُجريه في ذلك قبل مجاوزة الفصل، أن الفقهاء احتجوا بقول على قول بمسائل، والمذهب فيها مضطرب: فمما استشهد به من نصر وجوبَ القضاء: فرض الخطأ في الوقت؛ فمن اجتهد في وقت الصلاة، وأخطأ وتيقن الخطأ، فتفصيل المذهب فيه، أن هذا إن وقع في التأخير، فالوجه: القطع بإجزاء الصلاة، وإن نوى الأداء فيها، فتقوم نية الأداء مقام نية القضاء في ذلك، وهذا يناظر الخطأ في شهر رمضان في حق المحبوس، الذي التبس عليه عين الشهر، فإذا صام باجتهاده شهراً، فوقع بعد رمضان، أجزأه.
ولو تبين للذي اجتهد في وقت الصلاة أنه أوقع الصلاة قبل الوقت، فإن تبين ذلك ووقت الصلاة باقٍ بعدُ، تجب إعادة الصلاة في الوقت. وإن لم يتبين ذلك حتى انقضى الوقت، فالذي قطع به الأصحاب وجوب القضاء.
وكان شيخي يخرج ذلك على قولين، كالقولين في نظير ذلك في صوم رمضان؛ فإن المحبوس إذا صام بالاجتهاد، ثم تبين له أنه كان صام شعبان مثلاً، وقد انقضى صومُ رمضان، ففي إجزاء ما جاء به قولان، سيأتي ذكرهما في كتاب الصيام، إن شاء الله تعالى، فلا فرق إذن بين الصلاة والصوم، في فرض الخطأ في الوقت.
والذي أراه في ذلك أن الاجتهاد في الوقت إن كان ممن يتأتى منه الوصول إلى اليقين، بأن يَلْبَث ويصبر ساعةً، فإذا فرض الخطأ في التأخير، لم يضر ذلك، وإن فرض من هذا الشخص الخطأ في التقديم، فالوجه القطع بوجوب القضاء، فإن دَرَك اليقين إذا كان ممكناً، فإن سوغنا الاجتهاد، فيظهر فيه أن الاجتهاد يسوغ بشرط الإصابة.
فأما إذا كان المرء محبوساً في موضع، وكان لا يتأتى منه الوصول إلى دَرْك (1) اليقين، فإذا فرض الخطأ في هذه الصورة، فيظهر حينئذ أن يكون التفصيل فيه، كالتفصيل في شهر رمضان، كما تقدّم.
__________
(1) "درك": بسكون الراء وفتحها.(2/98)
751- ومما أجراه الأصحاب في توجيه القولين، الخطأ في الثوب الطَّاهر والنجس إذا فرض الاجتهاد، وهذا إن سلمه أبو حنيفة، فهو عندنا خارج على القولين في الخطأ في القبلة، وقد ذكرنا نظير ذلك في الخطأ في الأواني في كتاب الطهارة، فليتأمله الناظر ثَمَّ.
752- والقياس المقنع في ذلك، أن ما يتطرق إليه الاجتهاد من شرائط الصلاة، فإذا فرض فيه خطأ بعد الاجتهاد، فالقاعدة تقتضي تخريج القولين؛ فإن حقيقتها تؤول إلى أنّا -في قولٍ- نكلّف إصابة المطلوب، وفي قولٍ نكلَّف بذلَ المجهود في الاجتهاد، وهذا يجري في كل مجتَهد فيه جرياناً ظاهراً، فإن طرأ في بعض المسائل أمر -كما ذكرناه في تفصيل الخطأ في الوقت- فقد يقتضي ذلك مزيد نظر، كما تقدم الآن.
وهذا كله فيما يجري بعد الفراغ من الصلاة.
753- فأما إذا طرأ ما ذكرناه في أثناء الصلاة، فنذكر يقين الخطأ، ثم نذكر تغيّر الاجتهاد.
فأما إذا [تعيّن] (1) الخطأ في أثناء الصلاة، لم يخل: إما أن يتعين الصواب أيضاً، (2 وإما ألا يتعين الصواب 2) . فإن تعين الصواب والخطأ، فإن قلنا: لو جرى ذلك بعد الفراغ، [لزم قضاء الصلاة، (4 فإذا طرأ في أثناء الصلاة، تبين بطلانها، وإن قلنا لا يجب القضاء إذا بان ذلك بعد الفراغ] (3) فإذا طرأ على الصلاة 4) ففي المسألة قولان: أحدهما - لا تبطل الصلاة، ويستدير إلى جهة الصواب، فتقع الصلاة الواحدة إلى جهتين، تشبيهاً له بصلاة أهل مسجد قباء، لما افتتحوا الصلاة إلى بيت المقدس، ثم بلغهم نداء رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن القبلة قد تحولت، فاستداروا إلى
__________
(1) في الأصل، وفي (ت 1) ، وفي (ط) : تغير. والمثبت من: (ت 2) .
(2) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2) .
(3) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. ومن (ط) . والمثبت من (ت 1) .
(4) ما بين القوسين ساقط من ت 2.(2/99)
الكعبة، وصحت صلاتهم، ولذلك سمي المسجد مسجد القبلتين (1) .
هذا إذا تبين الصواب والخطأ في أثناء الصلاة.
754- فأما إذا بان يقين الخطأ في الصلاة، ولم يتبين الصواب، فإن عسر العثور على الصواب وطلبه، فتبطل الصلاة قطعاً؛ إذ لا سبيل إلى الاستمرار على الخطأ في الصلاة، والتحول إلى الصواب عَسر. فإن احتاج في الوصول إلى اجتهاد -وقد يطول الزمان فيه- ففي بطلان الصلاة على الجملة في هذه الصورة [قولان، مرتبان على القولين في] (2) الصورة التي قبلَ هذه، وهي إذا تعين الخطأ والصواب معاً. والصورة الأخيرة أولى بالبطلان؛ والسبب فيه أن في الصورة الأولى تمكَن من الانقلاب إلى جهة الصواب، كما (3) تعين له الخطأ، وليس كذلك الصورة الأخيرة؛ فإنه تعين له الخطأ، ولم يتصل بتعين الخطأ إمكان الصواب.
فإن قلنا ببطلان الصلاة، فلا كلام، وإن حكمنا بأن الصلاة لا تبطل، فهذا عندي يستدعي تفصيلاً.
وأقرب الأصول شبهاً بما انتهى التفريع الآن إليه، ما إذا تحرم المرء بالصلاة، ثم شك في أثناء الصلاة، في صحة نيته، فقال الأئمة: إن مضى ركنٌ، وانتقل المصلي إلى آخر، والشك مستمر، بطلت الصلاة.
وإن زال الشك قبل مضى ركن، فلا تبطل الصلاة. وهذا من غوامض أحكام الصلاة، وسأذكره في موضعه.
__________
(1) الرواية عن تغيير القبلة وأنه كان في مسجد قباء، في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما (ر. اللؤلؤ 1/106 ح 304) . هذا. والمشهور الآن بين الناس أن المسجد ذا القبلتين هو مسجد آخر غير مسجد قباء، وهو معروف يزار. فلعل التحول حدث في أكثر من مسجد، ففي الصحيحين أيضاً من حديث البراء: "أن رجلاً صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم العصر، ثم خرج، فمرّ على قوم من الأنصار يصلون إلى بيت المقدس، فقال: إنه يشهد أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه توجه إلى الكعبة، فتحرف القوم حتى توجهوا نحو الكعبة" فلعل هذه كانت في المسجد الآخر المعروف الآن بذي القبلتين. والله أعلم.
(2) ما بين المعقفين سقط من الأصل.
(3) "كما" بمعنى (عندما) . هكذا يستعملها الإمام كثيراً، ننبه على ذلك أحياناً، ونتركه أحياناً.(2/100)
والقدر الذي يتعلق بما نحن فيه أنّه إن استمر طلب الصواب في أثناء الصلاة زماناً، والتفريع على أن الصلاة لا تبطل، فقد كان شيخي يقول: هذا بمنزلة ما ذكرتُه من الشك في النية.
وهذا مشكل عندي؛ فإنه إلى أن يتعين الصواب يكون وجهه منحرفاً عن القبلة. والوجه عندي: أن يمثَّل هذا بما لو صُرف وجه الرجل عن القبلة؛ فإنه إن دام ذلك زماناً، بطلت الصلاة، وإن لم يمض ركن -وإن قصُر الزمان- ففيه الكلام المستقصى في أول الباب.
ولقد (1) شبهت هذه الصورة بما قدمته؛ لأن الذي صُرف وجهه معذور في نفسه، وكذلك الذي استدبر الكعبة مجتهداً، فهو على القول الذي نفرع عليه معذور، ثم إذا بان الخطأ، فمن وقت بيانه يجعل كالذي يُصرف وجهه عن القبلة، ولا يشك الفقيه أن الأَوْجَه الحكم ببطلان الصلاة؛ لغموض الاستمرار على الخطأ، واستئخار إمكان الصواب.
فهذا كله فيه إذا تيقن الخطأ في جهة استقباله.
755- فأما إذا لم يتيقن، ولكن تغير اجتهادُه، فأدى ظنّه إلى أن القبلةَ ليست في الجهة التي حسبها أولاً، فقد ذكرنا أن ذلك -إن فُرض بعد الفراغ من الصلاة- فلا يجب قضاء الصلاة؛ بناءَ على أن الاجتهاد لا يُنقض بالاجتهاد. فإذا طرأ ذلك في أثناء الصلاة، فلا سبيل إلى الدوام على موجب الاجتهاد الأول؛ فإن ذلك الاجتهاد قد زال، وحدث ظن يخالفه، ففي بطلان الصلاة قولان: أحدهما - البطلان، لتعذر المضي واختلاف بنائه. والثاني - لا نحكم على الجملة بالبطلان، ويبني على صلاته إن أمكنه البناء، كما سنفصله في التفريع.
فإن حكمنا ببطلان الصلاة، فإنها تنقطع، ويفتتح الصلاة إلى الجهة الثانية التي أدّى اجتهاده الثاني إليها.
وإن قلنا: لا تبطل صلاته، فينظر: فإن غلب على ظنه بطلان الاجتهاد الأول،
__________
(1) في (ت 1) : ولهذا. وفي (ت 2) وأنا. وفي (ل) : "وإنما".(2/101)
ولم يلح له اجتهاد الصواب، وطال الأمر، فتبطل صلاته قولاً واحداً.
756- وإن تغير اجتهاده الأول، وغلب على ظنه وجهُ الصواب معاً؛ فإنه يستدير إلى جهة اجتهاده الثاني، ويكون هذا بمثابة ما لو تعيّن له الخطأ والصواب جميعاًً؛ فإنه يستدير إلى جهة الصواب على هذا القول، كذلك القول فيه إذا تبدل الاجتهاد من غير تعين يقين خطأ أو صواب، فأما إذا ظهر له الخطأ في اجتهاده ظنّاً، ولم يغلب على ظنّه وجه الصواب ولم يأيس من الإصابة، لو استتم الاجتهاد، فمصابرة الجهة التي كان عليها محال، والاستمرار على التردد -ولم تَبِن بعدُ جهةٌ يتحول إليها- عَسِر، فالأظهر الحكم بالبطلان، كما تقدم، ومن لم يُبطل، فالقول في الزمان المتطاول الذي لا يحتمل، والقصير المحتمل، وأن الرجوع إلى مضي ركن على حكم اللَّبس أو أقل، أم المعتبر صرف الوجه عن قبالة القبلة؟ كما تقدم حرفاً حرفاً.
757- والذي [أجدده] (1) في هذا القسم، أنا إذا رأينا تمثيل هذا بما إذا صُرف وجه الإنسان عن القبلة، فلو أخذ يجتهد، وتمادى الزمن في هذه الصورة، وبلغ مبلغاً لا يُرى احتماله على القياس الذي رأيناه، من التشبيه بما إذا صرف وجهُ الإنسان عن القبلة، ثم تبين له في أثناء ذلك أنه كان مصيباً في اجتهاده الأول، فالذي أراه في هذا الآن، أن يلتحق بالقياس الذي ذكره شيخي في مضي ركن في زمان التشكك، في أنه هل نوى أم لا؟ إذا استبان بالأَخَرة أنه كان قد نوى؛ فإنه إذا تبيّن له بعد تغير الاجتهاد أنه كان مصيباً، فهو كما إذا تبين له بعد التشكك في النية أنه كان قد نوى، صحَّ (2) . وهذا واضح فيما أردناه إن شاء الله تعالى.
نجز بهذا الفصلُ الذي رسمناه في طريان اليقين في الصواب والخطأ، أو تغير الاجتهاد بعد الفراغ من الصلاة، [وفي أثناء الصلاة] (3) .
__________
(1) في الأصل، (ت 2) ، (ط) : أحدده، وفي (ت 1) : (أجرده) والمثبت تقدير منا نرجو أن يكون صواباً. وصدقتنا (ل) .
(2) كذا في النسخ الأربع، عقّب على موضوع الفقرة كلها بكلمة " صح " وقد أسقطتها نسخة (ل) ، فاستقام الكلام، ولم ينقص شيئاً. فالله أعلم أيَّ الأمرين أراده المؤلف.
(3) زيادة من (ت 1) ، (ت 2) ، (ل) .(2/102)
758- وبقي الآن الكلامُ في الجهة الواحدة إذا تغير الاجتهاد فيها.
فنقول: في مقدمة ذلك:
ظهر اختلاف أئمتنا في أن مطلوب المجتهد عين الكعبة أو جهتها، وهذا فيه إشكال؛ فإن المجتهد إذا كان على مسافة بعيدة، فكيف يتأتى منه إصابةُ مسامتة عين الكعبة؟ وكيف يقدر ذلك مطلوباً لطالب؟ والطلب إنما يتعلّق بما يمكن الوصول إليه.
وكان شيخي يقول: محل هذا الاختلاف يؤول إلى أن المجتهد يربط فكره في طلبه بجهة الكعبة أو عينها.
وليس ذلك واضحاً عندي، ولعل الغرض في ذلك يتضح بمسلكٍ آخر، ذكره العراقيون، وهو أنهم قالوا: هل يتصور دَرْكُ يقين الخطأ في الجهة الواحدة؟ فعلى وجهين: أحدهما - يتصوّر ذلك، كما يتصور ذلك في الجهتين.
والثاني - لا يتصور درك يقين الخطأ في الجهة الواحدة.
فإن قلنا: يتصور ذلك، فعن هذا عبّر الأولون؛ إذ قالوا: "المطلوب عين الكعبة". وإن قلنا: لا يتصور درك اليقين فيه، ففي هذا عبر المعبرون، إذ قالوا: " المطلوب جهة الكعبة".
وهذا كلام ملتبس، فيه بعد عندي؛ فإن من ظنّ أن جهات الكعبة، أو جهات شخص المصلي في موقفه أربع، فقد بَعُد عن التحصيل بُعداً عظيماً، وكل مَيْلٍ يفرض في موقف الإنسان، فهو انتقال منه من جهة إلى جهة أخرى، فذكر الجهة الواحدة، وفرْضُ الخلاف فيها، وتقدير ردِّ الطلب إلى الجهة، أو عين البيت، كلام مضطرب؛ لا يشفي غليل الناظر الذي يبغي دَرْك الغايات.
759- فالوجه في ذلك عندي أن يقال: من اقترب في المسجد الحرام من الكعبة، فإنه يصير منحرفاً عنها بأدنى ميل وانحراف، بحيث يُقطع بأنه ليس مستقبلها، [وإذا وقف في أخريات المسجد، فيختلف اسم الاستقبال اختلافاً بيناً] (1) ، ولذلك لا يصطف في المطاف ثلاثون إلا ويخرج بعضهم عن مسامتة الكعبة، ويصطف في
__________
(1) ساقط من الأصل، ومن (ط) .(2/103)
مؤخر المسجد ألف، ويسمى كل واحد منهم مستقبلاً. وقد تمهد أن التعويل على الاسم، فلا يسوغ تخيل غيره؛ فإن الخلق لو كُلِّفوا مُقابلة لو مَشَوْا على خطوط مستقيمة من مواقفهم، لاتصلت أجسادهم بالكعبة، لكان ذلك تكليف ما لا يطاق.
ثم إذا تجدّد العهد بهذا، فالذي يقف بعيداً في المسجد، لو انحرف أدنى انحراف لا يخرج عن اسم المستقبل، وإن كان لو انحرف كذلك في المطاف، لكان مائلاً عن المسامتة، فإذا لاح ذلك فيمن يبعد في المسجد بعضَ البعد، فهو فيمن يقطن طرفَ الشرق والغرب أظهر وأبين.
760- فنبتدىء بعد ذلك، ونقول: إذا وقع الفرض في الماهر المتناهي في العلم بأدلة القبلة، فإنه لا يَقطع بسلب اسم الاستقبال عمن يلتفت على البعد بعضَ الالتفات، وإذا ظهر الالتفات والميل، فيقطع إذ ذاك، ولا يتوقف قطعه بأن يُولِّي الواقفُ سمتَ الكعبة، يمينَه أو يسارَه. [فالصوب] (1) الذي لا يقطع الماهر على المتقلّب فيه بالخروج عن اسم الاستقبال، فهو الذي ينبغي أن يسميه الفقيه جهة الكعبة.
وإذا انتهى الأمر إلى منتهى يقطع البصير على المنحرف إليه بالخروج عن اسم الاستقبال، فهو جهةٌ أخرى، غيرُ جهة القبلة.
ثم حظ الفقيه وراء ذلك أنه يغلب على ظن الماهر أن بعض الوقفات -بين جَرْي الخروج عن اسم الاستقبال- أقرب إلى ابتغاء السداد من بعض، فهل يجب طلب المسلك الأسدّ في الظن؟
فعلى وجهين: أحدهما - لا يجب، كما لا يجب على الواقف في أخريات المسجد أن يتناهى في الاستداد.
والثاني - يجب؛ لأن الذي في المسجد على يقين من أنه بالتفاته القريب غيرُ خارج عن اسم الاستقبال، والبعيد على خطر من ذلك، فيجب عليه طلبُ الأصوب، فهذا هو الوجه.
__________
(1) في الأصل، وفي (ت 1) ، وفي (ط) : والصواب. والمثبت من (ت 2) .(2/104)
وما قدمناه للأصحاب لا أراه شافياً.
فإن طلب طالب منا أن [نَحُدَّ] (1) ما يقع من الالتفات مظنوناً، وما يقع مقطوعاً به، دلّ بطلبه على غباوته وعدمِ درايته بمأخذ الكلام، فليس ذلك أمراً يتصوّر أن يصاغ عنه عبارة حادّة ضابطة، وكيف يفرض ذلك؟ والأمر يختلف ويتفاوت بتفاوت المسافات، والقرب والبعد؟ فالأمر محال على معرفة البصير بأدلة القبلة، وقد تناهى وضوح ذلك إن شاء الله تعالى.
فهذه أصول الاجتهاد والتقليد في القبلة.
وأنا أرسم بعدها فروعاً توضح بقايا في نفوس الغوّاصين - إن شاء الله تعالى.
فرع:
761- إذا اجتهد الرجل وصلى صلاة إلى جهة، فلمّا دخل وقت الصلاة الثانية، تغير اجتهاده من غير قطعٍ بإصابة وخطأ، فلا شك أنه يصلي الصلاة الثانية إلى الجهة التي اقتضاها اجتهاده الثاني، وكذلك لو تغير اجتهاده ثالثاً في صلاة أخرى حتى صلى صلواتٍ باجتهادات إلى جهات، فالذي قطع به الأئمة، ودلّ عليه النص، أنه لا يجب قضاء شيءٍ من تلك الصلوات؛ فإن كل صلاة منها مستندة إلى اجتهاد، ولم يتحقق الخطأ في واحدة منها.
762- وذكر صاحب التقريب وجهاً مخرجاً: أنه يجب قضاء هذه الصلوات كلِّها، ولا يخرج هذا الوجه إلا على قولنا: إن من اجتهد وأخطأ يقينا يلزمه القضاء، وهذا وإن كان ينقدح ويتّجه، فهو بعيد في الحكاية، وتوجيهه -على بعده- أنه صلى معظم هذه الصلوات إلى غير القبلة، ونحن نفرِّع على أن من استيقن الخطأ في صلاة معينة، يلزمه قضاؤها، والخطأ هاهنا مستيقن، وإن لم يكن معيناً، فينزل صاحب الواقعة منزلةَ من فسدت عليه صلاة من الصلوات الخمس، وأشكل عليه عينها، فإنه يلزمه قضاء الصلوات كلّها، ولا فرق بين الصورة التي ذكرناها في الاجتهادات، وبين ما استشهدنا به إلاّ أن الصلوات هاهنا استندت إلى اجتهادات، ونحن نفرعّ على أن من
__________
(1) في جميع النسخ: يجد. وهو تصحيف واضح، والمثبت تقدير منا برعاية السياق وتوفيق الله.
ثم جاءت (ل) بنفس التصحيف: (نجد) .(2/105)
اجتهد، وتعيّن له الخطأ يلزمه القضاء. فهذا وجه.
وفي كلام صاحب التقريب وجه (1) آخر تلقيته من أدراج كلامه وأنا أذكره في صورة، ثم أبني عليها ما ينبغي.
فأقول: إذا صلى صلاتين بالاجتهاد إلى جهتين، فالنص أنهما صحيحتان، لا يجب قضاء واحدة منهما، وإن أوجبنا القضاء على المجتهد إذا تعين له الخطأ في الصلاة. والتخريج الذي حكاه صاحب التقريب -أنه يجب قضاء الصلاتين جميعاًً، وذكر وجهاً ثالثاً- أنه يقضي الصلاة الأولى، ولا يقضي ما أقامه باجتهاده الأخير، وهذا بعيد، وهو في الحقيقة نقض الاجتهاد الأول باجتهاده الثاني.
فعلى هذا لو صلى أربع صلوات بأربع اجتهادات إلى أربع جهات، فالنص أنه لا يجب قضاء واحدة منها، والتخريج الظاهر أنه يقضي جميعها، والوجه الغريب أنه يقضي ما سوى الصلاة الأخيرة.
والأصح النص وما عليه الجمهور، ثم يليه التخريج على بُعده، والثالث ضعيف جداً.
فرع:
763- إذا اجتهد، فصلى صلاة الظهر إلى جهة، ثم دخل وقت صلاة العصر، فهل يستمر على اجتهاده الأول؟ أم يلزمه أن يجتهد للصلاة الثانية مرّة أخرى؟ فعلى وجهين: ذكرهما العراقيون، أحدهما - أنه لا يلزمه أن يجتهد للصلاة الثانية مرّة أخرى؛ فإنه لم يتبذل المكان. والثاني - يلزمه؛ لأن الصلاة الثانية واقعة جديدة تستدعي اجتهاداً مبتدأ، وقد ذكرت نظيراً لذلك في طلب الماء في التيمم.
وهذا له التفات على مسألة من أحكام الفتاوى، وهي أن المفتي إذا استُفتي، فاجتهد وأجاب، ثم استُفْتي مرة أخرى في تلك الواقعة فهل يستمر على نظره الأول؟ أم يجتهد مرة أخرى؟ فيه كلام مستقصىً في الأصول.
__________
(1) في الأصل، وفي (ت 1) ، وفي (ط) . (وجهاً) ولا أدري كيف اتفقت النسخ الثلاث على هذا (الضبط) فلعل الكلام كان مصوغاً بعبارة أخرى. وانفردت نسخة (ت 2) بما أثبتناه.(2/106)
فرع:
764- إذا قلّد الإنسان مجتهداً، وتحرم بالصلاة، فمرَّ به مار، وقال: "قد أخطأ بك فلان، والقبلة في هذه الجهة" وعيّن جهة أخرى، فإن علم المقلِّدُ المتحرِّمُ أن الأول كان أعلم من الثاني، فلا يبالي بقول الثاني، وكذلك إذا رآه مثلَ الأول، وإن رآه أعلمَ، من الأول، فيترجح ظنُّه بهذا، فيتنزّل منزلة ما لو اجتهد الرجل بنفسه وتحرّم، ثم تغيّر اجتهاده في أثناء الصلاة وقد مضى ذلك مفصلاً.
وفيما نذكره دقيقة، وهي: أن المسألة مفروضةٌ فيه إذا قال المارُّ ما قال مجتهداً.
765- ولو كان المتحرم بالصلاة أعمى، فأخبره مار به يعرفه الأعمى: إنّك مستقبل الشمس. [وليس يشك الأعمى أن القبلة ليست في صوب مشرق الشمس] (1) ، فإذا كان المخبر موثوقاً به عند الأعمى، فلا شك أنه يعتمد قوله؛ فإنه في هذه الصورة يُخبر عن أمرٍ محسوس، لا تعلق له بالاجتهاد أصلاً.
ولو أخبره مجتهد بأنك على الخطأ قطعاً، فالذي ذكره الأئمة أنه يأخذ بقوله؛ فإن الأول قال ما قال اجتهاداً، وذكر أنه ظان، فنزل قطْع الثاني منزلة إخباره عن محسوس.
ولو كان قطع الأول بأن الصواب ما ذكره، ثم قطَعَ الثاني، ولم يكن أعلم من الأول، [فلا يبالي بقول الثاني حينئذٍ، وإنّما قدّم قول الثاني هناك؛ لأنّه وإن لم يكن أعلم من الأوّل] (2) ، فقطْعه أرجح من ظنّ الأول، وهذا بيّن لا شكَّ فيه.
766- ولو تحرّم المجتهد البصير باجتهاده بالصلاة، ثم عمي في الصلاة، فأخبره مجتهد أنه مخطىء فلا يبالي به، وإن عَلِمَه أعلمَ من نفسه؛ فإنه عقد صلاته باجتهاد، والمجتهد يعمل باجتهاد نفسه، وإن خالفه من هو أعلم منه.
ولو كان أعمى، فقلّد وتحرّم، ثم أبصر في أثناء صلاته، [وكان عالماً قبل أن عمي، فلا يستمر على تقليده، فإن احتاج إلى الاجتهاد في أثناء الصلاة، فهذا يلحق
__________
(1) ساقط من الأصل، ومن (ط) .
(2) زيادة من: (ت 1) ، حيث سقط من الأصل، ومن (ت 2) ، ومن (ط) .(2/107)
بما إذا تغيّر اجتهاد البصير في أثناء صلاته] (1) وقد ذكرت ذلك موضحاً فيما تقدم.
وقد نجز ما أردناه في هذه الفنون تأصيلاً وتفريعاً، والله أعلم.
767- وممّا نذكره في ذلك أنه إذا اجتهد رجلان، واختلفا في الاجتهاد، فرأى كل واحدِ منهما صوبا وجهةً مخالفة لجهة الثاني، فلا يقتدي أحدهما بالثاني، كما ذكرته في مسائل الأواني حرفاً حرفاً. ولو كان الاختلاف بينهما في تيامن قريب وتياسُر، فإن قلنا: يجب على المجتهد مراعاة ذلك، فالخلاف فيه يمنع القدوة، وإن قلنا: لا يجب مراعاة ذلك، فلا يمنع الخلافُ فيه صحّة الاقتداء.
فصل
قال الشافعي: "ولو دخل غلام في صلاة، فلم يكملها ... إلى آخره" (2)
768- إذا شرع الصبي في صلاة مفروضة، فبلغ باستكمال السن في أثناء الصلاة، [فالذي قطع به الفقهاء القفاليّون أنه يلزمه إتمامُ تلك الصلاة] (3) ، ولا إعادة عليه، وكذلك لو فرغ من الصلاة في أول الوقت، ثم بلغ، لم تلزمه الإعادة، خلافاً لأبي حنيفة (4) والمزني.
ونحن نذكر طريقتهم طرداً، ثم نذكر طريقة العراقيين.
__________
(1) زيادة من: (ت 1) ، (ت 2) .
(2) ر. المختصر: 1/69.
(3) انفردت (ت 1) ، (ت 2) . بزيادة ما بين المعقفين، ويظهر أن المراد بالقفاليين الخراسانيون، فالمشهور على الألسنة، أن القفال شيخ طريقة الخراسانيين، ويسمّون أيضاً المراوزة، في مقابلة العراقيين، هذا ولم يتبين من النووي في المجموع، ولا الرافعي في الفتح أي القفاليين يعنيه إمام الحرمين (ر. المجموع: 3/12، 13، فتح العزيز: 3/83، 84) .
فتسمية المراوزة (الخراسانيين) بالقفاليين اصطلاح لم نره بعدُ لغير إمام الحرمين. والذي يؤكد أنه يعني الخراسانيين، ما سيأتي قريباً من عرض طريقة العراقيين في هذه المسألة في مقابلة طريقة القفاليين (الخراسانيين) هذه. وجاءتنا (ل) بنفس التعبير.
(4) ر. رؤوس المسائل: 143 مسألة: 50، المبسوط: 2/95.(2/108)
ولو أصبح الصبي صائماً في يوم من رمضان، فبلغ في أثنائه، فقد وافق أبو حنيفة (1) والمزني أصحابنا في أنه لا يجب قضاء ذلك اليوم.
واعتلَّ أبو حنيفة بأن الصوم لا يجب في هذا اليوم بسبب طريان البلوغ؛ فإن بقية اليوم لا يسع صوم يوم، ولا يتصور إيقاع بعض اليوم في الليل.
وأئمتنا قالوا: لا يلزم القضاء، واختلفوا في العلّة، فمنهم من علل بما ذكرته، ومنهم من قال: سبب سقوط القضاء وقوعُ صوم هذا اليوم عن الفرض؛ قياساً على ما لو بلغ الصبي في أثناء صلاة الظهر، ويظهر أثر هذا التردّد فيه إذا بلغ الصبي مفطراً في يومه، فمن أصحابنا من قال: لا يجب قضاء هذا اليوم؛ فإن البلوغ طرأ عليه، ومنهم من قال: يجب القضاء؛ فإنه لم يقع فيه صوم، وقد صار مكلفاً فيه.
وقرّبوا هذا الخلاف من القولين فيه إذا قال: لله عليَّ أن أصوم يوم [يقدم] (2) فلان فيه، فقدِم نصفَ النهار، فهل يجب على الناذر قضاءُ يوم؟ فيه القولان المشهوران، على ما سيأتي ذكرهما.
ثم ذكر ابن الحداد: أن الصبي إذا صلى يوم الجمعة صلاة الظهر، ثم بلغ -والجمعة لم تفت بعدُ- فعليه أن يقيم صلاة الجمعة، وليس كما لو صلى العبد الظهر، ثم عَتَق، والجمعة بعدُ غير فائتة، فإنه لا يلزمه الجمعة، وكذلك المسافر إذا صلى الظهر، ثم نوى الإقامة والجمعة غير فائتة، وفرق بأن الصبي لم يكن من أهل الفرض، والعبد والمسافر كانا من أهل الفرض، لما صلّيا الظهر.
وقد صار معظم الأئمة إلى تغليطه، ونسبته إلى الوقوع في مذهب أبي حنيفة؛ فإن مذهب الشافعي أن الصبي إذا صلى صلاة الظهر في أول الوقت في غير يوم الجمعة، ثم بلغ في الوقت، فلا إعادة عليه، وإن لم يكن الصبي مكلفاً لما صلى الظهر، فهذا منتهى كلام القفال (3) وأصحابه.
__________
(1) ر. الأصل: 2/233، 235، مختصر اختلاف العلماء: 2/15 مسألة 498. والمبسوط: 3/88.
(2) الأصل، (ت 2) ، (ط) "يقوم فلان فيه" والمثبت من (ت 1) .
(3) إشارة إلى ما نسبه آنفاً إلى (القفاليين) .(2/109)
769- وأما العراقيون (1) فإنهم ذكروا ثلاث طرق: إحداها - ما ذكرناه.
والثاني - وهو اختيار ابن سريج، وتخريجُه: أن الصبيَّ إذا بلغ في أثناء الصلاة وبعدها في الوقت، يلزمه إعادة الصلاة، ولم يفرق بين أن يبقى من الوقت ما يسع القضاء، وبين أن يبقى ما يضيق عن إعادة الصلاة، فأوجب الإعادة مهما حصل البلوغ في الوقت.
وذكروا طريقة ثالثة عن الإصطخري، فقالوا: إنه قال: إذا بقي من الوقت ما يسع الإعادة، لزمه. وإن كان الباقي من الوقت يضيق عن الصلاة، فلا يجب القضاء، ثم خرّجوا عليه ما إذا بلغ الصبي في أثناء يومٍ من رمضان [وكان] (2) قد أصبح صائماً فيه.
فأما على النص الظاهر، لا (3) يجب القضاء، وكذا مذهب الإصطخريّ، فإنه يعتبر أن يبقى ما يسع العبادة، وبقية اليوم لا يسع صوماً، وحكوا عن ابن سريج أنه أوجب قضاء هذا اليوم؛ فإنه لا ينظر في إيجاب القضاء إلى ضيق الوقت وسعته.
وهذا الذي ذكروه في الصوم بعيد جداً.
ثم حكَوْا لفظ الشافعي في الصلاة، قالوا: قال الشافعي: "إذا بلغ الصبي في أثناء الصلإة أحببت أن يتمها" (4) قال ابن سريج: "هذا يوافق مذهبي" فإنه أحب أن يتم تلك الصلاة، وأوجب الإعادة: أتَمها أو قطعها. وقال أبو إسحاق (5) : معناه أُحِبُّ (6)
__________
(1) هذا التعبير: "وأما العراقيون" ووضْعُه في مقابلة (القفاليين) يؤكد تفسيرنا وتقديرنا أنه يعني (الخراسانيين) .
(2) في الأصل، (ت 1) ، (ت 2) : "وقد كان قد أصبح" والمثبت من (ل) .
(3) جواب (أما) بدون الفاء، كدأب الإمام في كثير من المواضع، وهي لغة كوفية. متكررة كثيراً في كلام الإمام.
(4) ر. المختصر: 1/69.
(5) أبو إسحاق: إذا أطلق فهو المروزي.
(6) في ت 2: ضبطها هكذا: أحِبُّ الإتمامَ، بضم الباء، فالذي يحب هو الشافعي رضي الله عنه، وأبو إسحاق يحكي معنى نص الشافعي.(2/110)
الإتمام والإعادة، فرجع الاستحباب إليهما، فأما الإتمام، فواجب، ولا تجب الإعادة (1) .
فأما الذي يجب في ذلك على النص، أن القول في إتمام ما تحرم به ينزل منزلة ما لو تحرم المتيمّم بالصلاة، ثم رأى الماء في أثناء الصلاة، فلا تبطل الصلاة على النص، ثم قد مضى القول في أن الأوْلى أن يتمّها، أو الأوْلى تقليبها (2) نفلاً، ويبتدىء الصلاة بوضوء، وذكرنا وجهاً - أنه يجب الإتمام بلا خِيَرَةٍ، وهذا على الجملة كذلك، وتفصيل المذهب ذكرناه (3) .
* * *
__________
(1) آخر كلام أبي إسحاق.
(2) في (ل) : أن يقلبها، هذا، و" تقليبها " مبالغة في قلبها. (المعجم) .
(3) كذا في جميع النسخ، وعبارة (ل) : وهذا على الجملة كذلك في تفصيل المذهب.(2/111)
باب صفة الصلاة
قال الشافعي: "إذا أحرم إماماً، أو وَحْده، نوى صلاتَه في حال التكبيرة، لا قبله، ولا بعده ... إلى آخره" (1) .
770- النية ركن الصلاة وقاعدتها، وهي محتومة باتفاق العلماء، وفي تفصيل القول فيها خَبْط كثير الفقهاء. والذي جر في ذلك معظمَ الإشكالِ الذهولُ عن ماهية النيّة، وجنسها في الموجودات.
ونحن نذكر الحق في ذلك، ثم نبني عليه الأغراض الفقهيّة على أبين وجهٍ إن شاء الله تعالى.
771- فالنيّة من قبيل الإرادات والقصود، وتتعلق بما يجري في الحال أو في الاستقبال: فما تعلق بالحال، فهو القصد تحقيقاً، وما يتعلق بالاستقبال فهو الذي يسمى عزماً، ولا يتصوّر تعلّق النيّة [بماض قطعاً. ثم إن فرض تعلق النيّة] (2) بفعل موصوف بصفة واحدة، سهلت النية، وإن كثرت صفات المنوي، فقد تعسر النية، وسأذكر سبب العسر فيه، وقد يظن الأخرق أن النية لها ابتداء، ووسط، ونهاية، وجريان في الضمير على ترتيب، وهذا زلل، وذهول عن حقيقة النيّة. وإنما الذي يجري على ترتيبٍ ما نصفه، فنقول:
إحضار علومٍ في الذهن متعلقةٍ بمعلوماتٍ عسر؛ حتى ذهب بعضُ الأئمة في الأصول إلى أن العلْمين المختلفين يتضادان ولا يجتمعان، وهذا خطأ صريح، فإذا كان الفعل موصوفاً بصفات، فالعلوم بها تترتب، وتقع في أزمنة في مطرد العادة. ثم إذا حضرت العلومُ، واجتمعت في الذكر يُوجه القصد إليها، في لحظة، بلا ترتب
__________
(1) ر. المختصر: 1/70.
(2) ساقط من الأصل، ومن: (ط) .(2/112)
واسترسال. ثم قد تجري العلوم، فيبقى الذهول في أواخر الأمور عن أوائلها، فلا تتوجّه النية إلى الموصوف كما ينبغي. فإن انضم إلى ذلك التلفظُ بشيء آخر سوى المنوي -كالتكبير في حال التحرم- تناهى العسر من اجتماع هذه المختلفات.
فقد نصصنا على ماهية النية، وأوضحنا أنها لا تترتب في نفسها، وذكرنا ما يطرأ فيها من عسر (1) ، وسنبين غرضنا الآن إن شاء الله تعالى.
فنقول بعد ذلك: الكلام في
ثلاثة فصول:
كلام في وقت النية، وكلام في كيفية النية، وكلام في محل النية.
[فصل]
[في وقت النية] (2)
772- فأفا وقت النية، وهو أغمض الفصول، فليعتنِ الناظر به، ونحن ننقل مقالات الأصحاب فيه مرسلاً، ثم ننبه على مُدرك الحق إن شاء الله تعالى:
فمن أئمتنا من قال: ينبغي أن تقترن النية بالتكبير وينبسط عليها، فينطبق أولها على أول التكبير، وآخرها على آخره. وهذا ما كان يراه شيخنا. وكان يستدل بظاهر نص الشافعي - قال: "نوى في حال التكبير لا قبلها ولا بعدها".
وذهب بعض أئمتنا إلى أنّه يقدم النية على التكبير. وإذا تمّت، افتتح همزة التكبير متصلة بآخر النيّة. ولو قرن النيّة بالتكبير، لم يجز. وذكر العراقيون والصيدلاني أنه لو قدم كما ذكره المقدِّمون، أو قرن كما ذكره الأوّلون، جاز.
ثم ذكر أصحاب هذه المذاهب وجوهَ مذاهبهم مرسلةً، فنذكرها، ثم ننعطف على إيضاح التحقيق إن شاء الله.
فأما الذين شرطوا الاقتران، اعتلّوا بأن العقد يحصل بالتكبير، فينبغي أن يكون القصد مقروناً به، وإن تقدّم القصد ثم جرى التكبير -عَرِيّاً عن العقد- لم يرتبط القصد
__________
(1) في الأصل، وفي (ط) : من غير عسر.
(2) من عمل المحقق.(2/113)
بالمقصود، ولم يتحقق تعلّق أحدِهما بالثاني.
وأما من رأى تقديم النية، اعتلّ بأن النيّة لو بسطت على التكبير، خلا أول التكبير من نيّةٍ تامّة، وإذا قدّمت النيّةُ، ثبت حكمها، فاقترن حكم النيّة التامّة بأول جزء من التكبير.
ومن جوّز الأمرين جميعاًً، بنى توجيه مذهبه على المسامحة في الباب، واستروح إلى أن الأوَّلِين كانوا لا يتعرّضوِن لتضييق الأمر في ذلك على الناس.
773- وهذه المذاهب ووجوهها مختبطة لا حقيقة لها. ونحن نقول: قد سبق أن النية لا يتصوّر انبساطها، وإنما الذي يترتب ذكرُ العلوم بصفات المنوي كما سبق، فمن يُقدّم إنما يقدّم إحضار العلوم، فإذا اجتمعت، ولم يقع الذهول عن أوائلها، وقع القصد إلى المعلوم بصفاته مع أول التكبير، فتكون حقيقة النية في لحظة واحدة مقترنة بأول جزءٍ من التكبير، فهذا معنى التقديم، فالمقدّم [إذاً] (1) العلوم (2) ، والنيّة مع الأول.
ومن يظن أن النية منبسطة، فإنما تنبسط أزمنة العلوم، فيبتديها مع أول التكبير، ثم نقدّر تمام حضورها مع آخر التكبير. فعند ذلك يجرد القصد إلى ما حضرت العلوم به، فينطبق هذا القصد على آخر التكبير، وآخر التكبير أول العقد، فمن يحاول الاقتران والبسط، فإنّما يحاول إيقاع القصد مع آخر التكبير.
فإذاً سبيل التوجيه -مع ما ذكرناه- أن الأوّل يقول: لو لم تتقدم العلوم على أول التكبير، لم ينطبق القصد على أول التكبير، وإذا خلا أوّل الصلاة عن القصد، لم يجز. ومن شرط الاقتران يقول: النظر إلى حالة العقد، وإنما يقع العقد مع آخر التكبير، ومن خيَّر بين التقديم والتأخير، آلَ حاصل كلامه إلى التخيير بين إطباق القصد على أول التكبير، وبين إطباق النية على أوّل العقد.
فهذا بيان هذه الطرق.
__________
(1) زيادة من: (ت 1) ، (ت 2) .
(2) (ت 2) : المعلوم.(2/114)
774- ولم يتفطّن لحقيقة النيّة أحد من الفقهاء غيرُ القفّال؛ فإنه قال: "النيّة تقع في لحظة واحدة لا يتصور بسطها" وشَرْحُ ما ذكره ما أوردناه.
ولو حضرت العلوم قبل التكبير، ثم وقع القصد قبل أول التكبير، وخلا أول التكبير عن النيّة، فلا يصح ذلك عند أئمتنا.
775- وأبو حنيفة (1) يصحح هذا. وحقيقة الخلاف بيننا وبينه يرجع عندي إلى أمر أصولي: وهو أن من يرى تقدّم الاستطاعة على الفعل، فمتعلق القدرة عنده ليس عين الفعل (2) ، فعلى هذا متعلق القصد يتقدم على وقوع المقصود، كما أن متعلق القدرة متقدم على وقوع المقدور، ثم لا يجوِّز أبو حنيفة أن ينقطع تعلق القصد بغيره عن أول التكبير.
فهذا هو الوفاء ببيان حقيقة المذاهب في التقديم والاقتران. ثم فرعّ الفقهاء على هذه الطرق تفريعاتٍ مختلطة صادرة عن اختلاط الأصول.
776- فأمّا من قال بتقديم النيّة قال: يجب أن يكون مستديماً للنيّة جملةً، إلى الفراغ من التكبير. وهذا أيضاً قول من لم يحط بحقيقة النيّة.
وأنا أقول: من ضرورة تقديم النيّة أن تنطبق النيّة على أوّل التكبير، والمقدم هو المعلوم، ثم إذا حضرت العلوم، وقع القصد، فليس ما يدام نيّةً وإنّما هو ذكر النيّة، وذكْرُ النيّة علمٌ بأنها وقعت، كما وصفنا وقوعها. فإذاً هل نشترط دوام العلم بجريان النية إلى الفراغ من التكبير؟ فيه تردد للأئمة على هذه الطريقة: فمنهم من يشترط الدوام، ومنهم من لم يشترط، ولم يوجب أحدٌ بسطَ حقيقة النيّة.
وممّا يتم به بيان هذه الطريقة أن من شَرَط التقديم فإنما عَنَى تقديمَ العلوم -كما سبق شرحه- وبنى الأمرَ على مجرى العُرف فيه.
فلو قال قائل: لو هجمت العلوم والقصدُ مع أول التكبير، فلا شك أنه يجوز ذلك، لكن هذا لا يقع في مطرد العرف، فهذا تفريع هذه الطريقة.
__________
(1) ر. بدائع الصنائع: 1/129، حاشية ابن عابدين: 1/279. البحر الرائق: 1/292.
(2) ر. البرهان في أصول الفقه: 1/فقرة 176.(2/115)
777- فأمّا من قال: ينبغي أن تُبسط النيّة على التكبير، فقالوا: لو افتتح النية مع أول التكبير، وفرغ منها مع تمام. التكبير، فلا شك أنه يجوز. ولو تمّت التكبيرة قبل تمام النيّة، فلا تنعقد الصلاة، وهذا صحيح. ولكن العبارة خطأ؛ فإن النيّة لا تنبسط، وتحصيل هذه الصورة يؤول إلى أن العلوم إذا انبسطت، ولم يجر القصد حتى مضى التكبير، فلا تنعقد الصلاة؛ فإنَّ وقت العقد مقدم على وقت القصد.
والذي انسحب (1) على آخرِ التكبير لم تكن نيّة، وإنما كان علوماً بصفات المنوي، فإذا نجز التكبير قبل النية، فقدَ تقدم وقتُ العقد على النية.
ولو تمَّت النيّة قبل نجاز التكبير، فقد ظهر اختلاف الأصحاب في ذلك. فنذكر ما ذكروه، ثم نوضح حقيقته: فمنهم من قال: لا تصح الصلاة، ويجب استفتاح التكبير، ومحاولة تطبيق النيّة عليه، بحيث ينطبق الأول على الأول، والآخر على الآخر. وهذا مزيف غير سديد.
وقال قائلون: يكفي استدامة ذكر النية إلى انقضاء التكبير، ولا يجب إنشاء نيّة أخرى.
وأنا أقول: أما من شرط بسط النية، فليس على حقيقة من معرفة النيّة كما تقدَّم ذكره. ولكن وجه ذكر الخلاف أن يقال: من أصحابنا من يشترط بسط مقدمات النيّة على التكبير، ليوافقَ القصدُ حالةَ العقد. وهذا وإن كان معناه ما ذكرناه، فهو رديء في التوجيه. ومن راعى من أئمتنا استدامةَ ذكر النيّة، فهذا تتوقف الإحاطة به على دَركِ الفصل بين إنشاء القصد وبين ذكره. أما إنشاؤه فمفهوم، وأما ذكره، فهو استدامة العلم بجريان القصد حتى ينقضي وقت العقد.
778- والذي يختلج في الصدر أنه لا ينقدح على القاعدة إلا ثلاثة أوجهٍ، أحدها - محاولة تطبيق [القصد] (2) على أول التكبير، والآخر - تطبيق القصد على آخر التكبير، وهو. وقت العقد، والثالث - التخيير بينهما، فأما البسط، فليس له معنى، ولكن لما
__________
(1) في (ت 1) ، (ت 2) : استحب.
(2) في جميع النسخ: "العقد". والمثبت من (ل) .(2/116)
لم تكن النية إلا في خَطْرة، والتكبير يُسمى تكبيرة العقد، وكانت حقيقة النيّة لا تنبسط، ذهب ذاهبون إلى بسط العلم، إلى إنشاء القصد، وذهب آخرون إلى بسط الذكر بعد اتفاق نجاز النية في وسط التكبير. وعندي أن من يشترط مراعاة حالة العقد، فلا يبعد أن يجوّز [تخلية] (1) أول التكبير عن افتتاح العلوم بالمنوي، إن كان يتأتى تطبيق القصد على وقت العقد.
779- فهذا منتهى النقل والتحقيق، ووراء ذلك كله عندي كلام: وهو أن الشرع ما أراه مؤاخذاً بهذا التدقيق. والغرضُ المكتفى به: أن تقع النية، بحيث يعد مقترناً (2) بعقد الصلاة. ثم تميز الذكر عن الإنشاء، والعلم بالمنوي عنهما، عسر جدّاً، لاسيما على عامة الخلق. وكان السلف الصالحون لا يرون المؤاخذة بهذه التفاصيل. والقدر المعتبر ديناً: انتفاءُ الغفلة بذكر النيّة حالة التكبير، مع بذل المجهود في رعاية الوقت، فأما التزام حقيقة مصادفة الوقت الذي يذكره الفقيه، فممّا لا تحويه القدرة البشرية.
فهذا منتهى الغرض في حقيقة النيّة ووقتها.
[فصل]
[في كيفية النية] (3)
780- فأما القول في كيفية النيّة، فنذكر كيفيتها في الفرائض المؤدَّاة في أوقاتها، ثم نذكر بعدها أصنافَ الصلوات.
فأول ما يُعتنَى به: التعيينُ، ولا بد منه في الصلاة، فليميّز الناوي الظهر عن العصر وغيرِه من الصلوات. وقد ذكرتُ معتمد التعيين في (الأساليب) (4) في كتاب الصيام.
__________
(1) في الأصل وفي (ت 1) وفي (ط) : تخيله. والمثبت من: (ت 2) . (ل) .
(2) كذا في جميع النسخ، ولعله على معنى (القصد) .
(3) زيادة من عمل المحقق.
(4) (الأساليب) من كتب الإمام في الخلاف، التي لم تقع لنا للآن.(2/117)
وأمّا التعرض لفرضية الظهر، فقد اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من لم يشترط، واكتفى بالتعيين؛ فإن النيّة إذا تعلقت بالظهر، فالظهر لا يكون إلا فرضاً. ومنهم من شرط التعرض للفرضيّة؛ فإن المرء قد ينوي الظهر، فيقع نفلاً؛ بأن كان أقامه في انفراده، ثم يدرك جماعةً، فيقيمها مرة أخرى.
وقد ذكر العراقيون في ذلك تقسيماً، فقالوا: من العبادات ما لا يشترط فيه التعرض للفرضيّة وجهاً واحداً، كالزكاة، فإذا نواها من لزمته، ولم يتعرض للفرضيّة في النيّة أجزأته؛ فإن اسم الزكاة لا يطلق إلا على المفروض، وما يتطوع المرء به يسمى صدقة، فإن أجرى ذكرَ الصدقة، فلا بد من تقييدها بالفرضية. وكذلك الكفارة إن جرت في الذكر، كفت عن الفرضيّة. وإن نوى الإعتاق، فلا بد من تقييده بالفرضية، التي تحل محلّ الكفارة.
والحجّ والعمرة والطهارة فلا حاجة إلى تقييدها بالفرضية أصلاً. والصلاة والصوم، إذا عُيِّنا -فجرى ذكر الظهر، أو صوم رمضان- ففي اشتراط ذكر الفرض الخلافُ الذي اذكرناه.
وإذا نوى الناوي الصلاةَ وعيّنها، فهل يُشترط إضافتها إلى المعبود بها، مثل أن يقول: فريضة الله أو لله؟ ذكر صاحب التلخيص أن ذلك لا بدّ منه، وبه تتميز العبادة عن العادة. ومن أصحابنا من ساعده على اشتراط ذلك، ومنهم من رأى ذلك مستحباً؛ من جهة أن العبادات لا تكون إلا لله، فذِكْرُها يغني عن إضافتها.
781- ومما يتعلق بكيفية النيّة: تمييز الأداء عن القضاء، وهذا أصل متفق عليه؛ والسبب فيه أن التعيين إنما يجب للتمييز، وللعبادات رُتب ودرجاتٌ عند الله، فليجرِّد العابد قصدَه في كل عبادة معينة؛ ليتحقق تقرّبه بالعبادة المخصوصة. وإذا كان التعيين لهذا، فرُتْبة إقامةِ الفرض في وقته تخالف رتبةَ تدارك الفائت، فلا بد من التعرض للتمييز. ثم قال قائلون من أئمتنا: ينبغي أن يجري ذكر فريضة الوقت، وبهذا يقع التمييز.
وكان شيخي يحكي عن القفال أنه يكفي أن يذكر الأداء. ومن اعتقد مثل هذا في(2/118)
الاختلاف، فليس على بصيرة في الإحاطة بالغرض (1) ، فإن الذي يُجريه الناوي معاني الألفاظ، والمقصودُ العلمُ بالصفات، فإذا حصلت العلوم بحقائق صفات المنوي، فهو الغرض، ثم يقع تجريد القصد إلى ما أحاط العلم به. وإذا لاح أن الغرض هذا، فالتنافس في الصلوات (2) وتخيّل الخلاف فيها لا معنى له.
ومما كان يذكره شيخي أن أصل النية أن يربط الناوي قصده بفعله، ويُخْطِر بباله أني أؤدي الصلاة، أو أقيمها؛ فإنه لو ذكر الصلاة وصفاتها، ولم يعلق قصده بفعله لها، لم يكن ناوياً.
وهذا في حكم اللغو عندي؛ فإنه إذا ثبت أن النية قصده، ومن ضرورة القصد أن يتعلق بالفعل، فإن وُجد القصدُ فمتعلّقه فعل الصلاة لا محالة، ولا ينقسم الأمر فيه -تصوراً- حتى يحتاج فيه إلى تفصيل. وإن لم يتعلق القصد بالفعل، فالقصد إذن غير واقع، وإذا لم يقع القصد، فلا نيّة.
فهذا بيان كيفية النيَّة.
782- وذكر بعض المصنفين وجهاً بعيداً: أنه يجب أن تُعلَّق النية باستقبال القبلة، وهذا وجه مزيف مردود؛ فإن الاستقبال إن كان شرطاً، فالتعرض له في نيّة الصلاة لا معنى له، وإن كان ركناً من أركان الصلاة، فليس على الناوي أن يتعرض لتفاصيل الأركان أيضاً.
هذا ذكر كيفية النيّة في الصلاة المفروضة.
783- فأما السنن الراتبة، فلا بدّ من تعيينها في النيّة، ولا بدّ من ذكر إقامتها في الوقت. والقول في إضافتها إلى الله تعالى، على ما تقدّم ذكره.
__________
(1) في الأصل، (ط) ، (ت 1) : الفرض، والمثبت من (ت 2) .
(2) في (ت 1) ، (ت 2) : العبادات، ومثلهما (ل) .(2/119)
[فصل]
[في محل النيّة] (1)
784- فأما الكلام في محل النيّة، فمحل النيّة القلب، ولا أثر لذكر اللّسانِ فيه.
وما قدمناه من ذكر حقيقة النيّة في صدر هذه الفصول يتبيّن به كل مشكل في التفصيل، فإذا وضح أن النية قصد، فمحل القصد القلبُ.
وذكر العراقيون أن من أصحابنا من أوجب التلفظ بما يؤدّي معنى النيّة قبل التكبير، وأخذ هذا من لفظ الشافعي في كتاب الحج، وذلك أنه قال "ينعقد الإحرام من غير لفظ بالنيّة، وليس كالصلاة التي يفتقر عقدها إلى اللفظ". ثم قالوا: هذا الذي ذكره هؤلاء خطأ، والشافعي لم يرد باللفظ التلفظ بالنيّة، وإنما أراد باللفظ التكبير الواجب في ابتداء الصلاة، وهذا (2) لا يُعدُّ من المذهب.
وقد نجزت قواعد المذهب في النيّة. ونحن نذكر بعد هذا فصولاً وفروعاً، تشتمل (3) أطراف الكلام في النية، إن شاء الله عز وجل.
فصل
785- "المتحرّم بالصلاة إذا نوى الخروج من الصلاة، بطلت صلاته" (4) .
قال أبو بكرٍ (5) وغيره من الأئمة: لو تردد المصلّي في الخروج، والاستمرار على الصلاة، بطلت صلاته بالتردد، كما تبطل بجزم قصد الخروج. ولم نر في هذا خلافاً. وطريق تعليله أن الصلاة فى حالة العقد تستدعي قصداً مجرداً لا تردّد فيه، ثم اكتفى الشرع بالاستمرار على حكم النيّة، مع عزوبها عن الذكر، ولم يكلف إدامة ذكر
__________
(1) العنوان من عمل المحقق.
(2) إشارة إلى وجوب التلفظ بالنية.
(3) كذا. يُعدِّي الفعل (تشتمل) بنفسه، والمعهود أنه يتعدى بحرف الجر، فهل صح عنده شاهدٌ لذلك؟؟ ثم جاءتنا (ل) وفيها: (تشمل) ، فهل ما فيها تصرُّف من الناسخ؟؟.
(4) لم نجد هذه العبارة في المختصر.
(5) المراد: أبو بكر الصيدلاني.(2/120)
النيّة؛ فإن الوفاء بذلك عسرٌ، ثم شَرَطَ ألاّ يأتي بما يناقض جزمَ النيّة، وإن لم يشترط إدامة ذكر ما جزمه. والتردّد يناقض الجزم. وهذا بمثابة الإيمان، فإنا نكلف المرء أن يطلب عقداً مستمرّاً على السداد، ثم لا نكلّفه استدامتَه، بل يطَّردُ عليه حكم الإيمان، غير أنّا نشترط ألا يتشكّك عقدُه.
ثم من الأسرار التي يتعين الوقوف عليها أن الموَسوس قد يجري في نفسه التردّد، وليس هو التردد الذي حكمنا بكونه قاطعاً مبطلاً، ولكن الإنسان قد يصور في نفسه تقدير التردد لو كان كيف كان يكون، وذلك من الفكر والهواجس، ولو أبطل الصلاة، لما سلِمت صلاةُ مفكر موسوس. والتردد الذي عنيناه هو أن ينشىء الإنسان التردّدَ في الخروج على تحقيقٍ، من غير تقدير، وتكلف تصوير، وقد يطرأ على نفس المبتلَى بالوسواس تقدير الشرك بالله، مع ركونه إلى استقرار المعتقد، ولا مبالاة به. والعاقل يفصل بين هذه الحالة، وبين أن يعدَم اليقين، ويصادف الشك.
786- ومما يتعلق بحكم الصلاة في ذلك أن المصلي لو نوى في الركعة الأولى جَزْمَ الخروج في الركعة الثانية، فهو يخرج عن الصلاة في الحال؛ فإنه قطع موجب النية؛ إذ موجبها الاستمرار إلى انتهاء الصلاة، وقد نجز في الحال قطعُ مقتضاها في ذلك.
ولو علق نيّة الخروج على أمر يجوز أن يُفرض طريانه، ويجوز ألا يفرض -مثل أن ينوي الخروج لو دخل فلان- فهل يقتضي بطلانَ الصلاة أم لا؟ وجهان مشهوران، أقْيَسُهما: بطلانُ الصلاة؛ فإن الذي جاء به تردّد فيها يخالف موجب النيّة، ويناقض مقتضى استمرارها.
والوجه الثاني: أن الصلاة لا تبطل؛ فإنه لا يمتنع ألا يدخلَ مَن ذكره، وتتم الصلاة على مقتضى ما أحدثه من التردد، وهذا غير سديد.
فإن حكمنا ببطلان الصلاة في الحال، فلا كلام. وإن حكمنا بأن الصلاة لا تبطل في الحال، فلو وجدت الصفة التي علق الخروج عليها، وكان ذاهلاً عما قدّمه من تعليق النيّة، فهذا فيه احتمال. وحفظي عن الإمام (1) أن الصلاة لا تبطل، وإن حدثت
__________
(1) المراد والده.(2/121)
تلك الصفة، وذلك التعليق الذي كان منه، مُحبَط (1) لا وقع له، ووجودُه وعدمه بمثابةٍ، وفي كلام الشيخ أبي علي ما يدل على أنّا إذا فرّعنا على وجه الصحة، ولم نبطل الصلاة بما علّق، فإذا وُجدت الصفة نقضي بالبطلان، فإن مقتضى تغييره، وتعليقه هذا.
والذي أراه في ذلك أنه إن صح الحكم بالبطلان عند وجود الصفة، فيظهر على هذا أن يقال: نتبين (2) عند وجود الصفة أن الصلاة بطلت من وقت تغيير النيّة؛ فإنّا بطريان الصفة نتبين أن ما جرى من التغيير خالف مقتضى النيّة في حكم ما وقع.
وفي كلام الشيخ أبي علي في شرح التلخيص ما يدلّ على أن من علق الخروج بانتصاف الصلاة، أو مضيّ ركعةٍ منها، أن الصلاة لا تبطل في الحال. ولو رفض (3) المصلي ذلك التردد قبل الانتهاء إلى الغاية التي ضربها، فتصحّ صلاته. وهذا بعيد جداً.
فهذا حكم الصلاة في التردد ونيّة الخروج.
787- فأمّا الحج، فلا تُؤثر فيه نيّة الخروج، ولا تنقطع بالإفساد.
وأما الصوم، فقد قال الأئمة: تعليق نيّة الخروج لا تبطله وجهاً واحداً. وجَزْمُ نية الخروج هل تبطله؟ فعلى وجهين. والفرق بين الصلاة والصوم أن الصلاة مشتملة على أفعالٍ مقصودة، وإنما تقع عباداتٍ بالنيات، فكانت النياتُ مرعية معيّنةً، فإذا ضعفت بالتردد، يجوز أن تبطل، والصوم إمساك وانكفاف، والنية لا تليق بالتروك، كما تليق بالأفعال، فلا يضر ضعفُ النيّة. ولا يحتاط الشرع في نيته احتياطَه في الأفعال المقصودة. وأيضاً، فإن الصلاة مخصوصة من بين العبادات بوجوه من الربط، ولا يتخللها ما ليس منها إلا على قدر الحاجة.
788- ومما يتعلق بهذا الفصل أن المصلي بعد التحرّم إذا شك، فلم يدرِ أنوى أم
__________
(1) "محبطُ": أي مهدرٌ، لا أثر له. من: أحبطتُ العمل والدمَ إذا أهدرته. (المصباح) .
(2) سبق تفسير التبين ومعناه في اصطلاح الأصوليين.
(3) رفض من باب ضرب، وفي لغة من باب قتل أي ترك. (المصباح) .(2/122)
لا، أو تردّد في صحة النيّة؟ فالذي ذكره الأصحاب فيه أنه إن لم يطل التردد، ولم يمض في وقته ركن، وزال الرَّيْب على قربٍ، فالصلاةُ صحيحة.
ولو تردد المسافر في نيّة القصر في أثناء الصلاة لحظة، ثم تذكر أنه كان نواه، يلزمه الإتمام. والفرق أن تلك اللحظة -وإن قصرت- فهي محسوبة من الصلاة، مع تخلّف نيّة القصر. وإذا مضى شيء من الصلاة مع تخلف القصر، غُلّب الإتمامُ؛ فإنه الأصل، وإذا كان التردد في أصل النيّة أو في صحّتها، فلا تحسب تلك اللحظة على التردد بل نحفظها، ونقدّر كأن لم تكن، ونعفو عنها، كما نعفو عن الفعل اليسير إذا طرأ في الصلاة. وإن دام الشك حتى مضى ركنٌ على الشك، بطلت الصلاة وإن تذكّر المصلّي النيّة أو صحتها؛ لأن الركن الذي قارنه التردّد لا يعتدّ به، فكأنّه زاد في صلاته ركناً في غير أوانِه، ولو فعل هذا حُكِم ببطلان الصلاة، كما سنذكره.
وإن طال زمان التردد، ولكن لم ينقضِ فيه ركن، ففيه وجهان. وهو كما لو طرأ الشك في التشهد الأول وامتدّ.
وهذا الخلاف يقرب ممّا إذا كثر الكلام على حكم النّسيان من المصلي، فهل يتضمن ذلك بطلان الصلاة؟ فيه كلام سيأتي في هذا الباب إن شاء الله تعالى.
789- فهذا ما ذكره الأئمة، وهذا مما يحتاج إلى فضل بيان، فنقول: إن جرى ذلك في الركوع، وزال في ذلك الركوع نفسه، واستمر صاحب الواقعة بعد التذكر ساعة راكعاً، ثم رفع رأسه، فالذي قطع به الأئمّة صحّةُ الصلاة، وإن مضى في حال التردد ما لو قدّر الاقتصار عليه، لكان ركناً، ولكنه لما بقي راكعاً لم يضرّ ما تقدم على هذا.
فإن قيل: هلا قدّرتم صورةَ الركوع في حال التردد، مع الطمأنينة في حكم ركوع [زائد مبطل للصلاة؟ قلنا: الركوع الممتد واحدٌ في الصورة، فلا يجعل بعضه كركوع] (1) منفردٍ زائدٍ غير محسوب.
ولو طرأ ما ذكرناه من التردد، والرجل في القيام، وكان يقرأ الفاتحة مثلاً، فقرأ
__________
(1) ساقط من: الأصل، (ط) .(2/123)
مقداراً منها، ثم تذكر، فإن أعاد القراءة بعد التذكر، لم يضرّ ما مضى، وإن لم يُعد، فلا تصحّ الصلاةُ، وإن لم يمض في حال التردد ركن تام؛ فإن المعتبر أن يمضي ما لا بدّ منه، ثم لا تتفق إعادتُه.
والجملة المغنيةُ عن التفصيل أنّا نجعل ما مضى في حال التردد غيرَ محسوب، ولا معتدّاً به في الصلاة، ولو ترك قراءة حرفٍ واحدٍ من الفاتحة، لبطلت صلاته.
ولو تردّد من أول الركوع، ودام التردّد حتى رفع رأسه، ثم تذكّر وأراد أن يعود، ويركع مرةً أخرى في حال الذكر، فالصلاة تبطل في هذه الصورة على ما ذكره الأصحاب؛ فإنه قد تميز الركوع عن الركوع، فيكون صاحب الواقعة بمثابة من يزيد في صلاته ركناً.
فإن قيل: لو زاد في صلاته ركناً ناسياً، ثم تبيّن، لم يُقْضَ ببطلان الصلاة؛ فهلا عَذَرْتُم من ركع متردّداً، ثم استدرك بعد التذكر وركع؟ قلنا: من ركع متردداً، فهو عامد في الركوع في حالة لا يحتسب ركوعه، فلا نجعله كالناسي. وهذا مفروض فيه إذا كان من نتكلّم فيه عالماً بحقيقة هذه المسألة. وإذا كان كذلك فالواجب ألا يفارق الركوع ويمُدُّه حتى يزول ما هو فيه من لبسٍ، فإذا لم يفعل ذلك، وارتفع، ثم عاد بعد التذكر، فقد زاد ركناً كان مستغنياً عنه.
وإن جرى ما فرضناه من جاهل، فقد نعذره لجهله، كما سنذكر أحكام الجاهلين في أمثال هذا إن شاء الله تعالى.
[فهذا بيان ما أردنا بيانه] (1) .
فصل
790- قال صاحب التلخيص: إذا كبّر وتحرّم بالصلاة، ثم تردّد في أن النيّة هل كانت على شرطها أم لا، فكبّر ثانيةً، آتياً بالنيّة على صفتها المطلوبة. قال: إن كانت الصلاة في علم الله منعقدةً بالتكبيرة الأولى، فقد انقطعت بهذه التكبيرة؛ فإنه قصد بها
__________
(1) ساقط من: الأصل، (ط) .(2/124)
عقداً، ومن ضرورة استفتاح عقد حلُّ ما كان تقدم؛ فإن المنعقد لا ينعقد عقده إلا بعد حله، ثم يُبتَدأ بعد الحلِّ العقد. ثم لا يحكم -والحالة هذه- بانعقاد الصلاة بالتكبيرة الثانية -وإن كانت على الشرط المطلوب- فإن هذه التكبيرة قد تضمنت حلاً؛ فيستحيل أن تتضمّن عقداً؛ فإن الشيء الواحد لا يصلح -فيما نحن فيه نتكلم- لحكمين نقيضين: الحل والعقد جميعاًً، فهذا ما ذكره. وطائفةُ كافّة الأصحاب عليه من غير مخالفٍ. فالوجه إذن أن يرفع التكبيرَ (1 الأول بسلام أو كلام أو غيره، ثم يبتدىء التكبير 1) الثاني عاقداً، فيحصل الحلّ بما يتقدّم عليه، ويتجرّد هذا التكبير للعقد.
791- ولو كبر التكبير الثاني على أنه قطع ما كان فيه -إن كان قد انعقد- فقدّر التكبيرَ الثاني قاطعاً محللاً، واستفتح تكبيراً ثالثاً عاقداً، فقد قال الأئمة: تنعقد الصلاة؛ فإن التكبيرة الثانية جرت قاطعةً غير عاقدةٍ، فتتجرد التكبيرة الثالثة للعقد.
وهذا فيه إشكال عندي، من جهة أنا نجوّز أن التكبيرة الأولى، لم تكن عاقدة في علم الله تعالى، والتكبيرة الثانية صحت من حيث إنها لم تكن متضمنةً حلاً، فإذَا كبّر التكبيرة الثالثة، فهي تتضمن حلاً لما انعقد، كما صوّرناه، وإذا تضمنت حلاً، لم تقتضِ عقداً؛ فإن التكبيرةَ الواحدةَ لا تصلح للنقيضين جميعاًً. هذا وجه الإشكال.
ولكن الجواب عنه: أن التكبيرة الأولى -وإن لم تكن عاقدة في علم الله- فقد قصد صاحب الواقعة بالتكبيرة الثانية حلاّ لما تقدّم، وهذا يُفسد التكبيرة؛ فإنها وإن كانت غير حالة عند الله، فقصد الحل يُفسدها، ويخرجها عن كونها صالحةً للعقد. فإذا فسدت لذلك، فالتكبيرة الثالثة تقع مجرّدةً للعقد، فتصح.
ولو ظن أن التكبيرة الثانية تعقد لو صحت، ولم نحكم بفسادها، فأجرى التكبيرة الثالثة، وهو يُجوّز أن الثانية عَقَدت، فيظهر في هذه الصورة أن يقال: تفسد التكبيرة الثالثة؛ من جهة أنه قصد بها حلاً لما اعتقد انعقادَه. فإذاً إنما تنعقد الصلاة بالتكبيرة الثالثة في حق من يعلم أن الثانية لا يجوز أن تكون عاقدةً حتى لا يفرض حل ما عقدَه بالثالثة. فليتأمل الناظر ذلك؛ فإنه بين.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من: (ت 1) .(2/125)
792- قال الشيخ أبو علي: لو كبّر وشكّ كما ذكرناه، ثم قصد التحلل -إن كان عَقْدٌ- عند التكبيرة الثانية، فلو كانت التكبيرة الأولى عاقدة، ما حكمه؟ قال: هذا يُبنى على أن من قصدَ نية الخروج مُعلِّقاً على أمرٍ في المستقبل، فهل يصير في الحال خارجاً أم لا؟ فيه من التردّد ما ذكرناه قبلُ: إن قلنا: يصير خارجاً، فقد خرج بمجرد ما جرى به من الذكر، ولم يتوقف خروجه على جريان التكبير الثاني. فإذا أقدمَ على التكبير الثاني، فيكون متجرداً للعقد، فيصح.
هذا تفريع على وجهٍ. وفيه نظر؛ فإنه لو اعتقد أن التحلل يحصل بالتكبير الثاني، فقد جاء به على قصد التحلل؛ [فينبغي أن يفسد بقصده، وإن كان التفريع على أن التحلل] (1) وقع قبله، إلا أن يتفطّن صاحب الواقعة لينجِّز الانحلال قبل الإقدام على التكبير الثاني، [فيُقدم عليها عاقداً، فيكون كما قال، فأمّا إذا أقدمَ على التكبير الثاني] (2) وهو يظن أن الحلَّ يحصل به، فينبغي أن يفسد لقصده (3) .
ثم فرع على الوجه الثاني -وهو أن من علق الحلّ بأمرٍ في المستقبل، لا تنحل صلاته في الحال- فقال على هذا: يحصل الحلّ عند التكبيرة الثانية، ولا يحصل العقد بها.
وهذا التردّد منه دليل على أن من علق التردّد على أمرٍ يقع لا محالة في الصلاة إن دامت، ففي التحلل في الحال قبل وقوع ما جعله متعلقاً للحلّ خلافٌ، كما حكينا ذلك عنه. وهذا ضعيفٌ غير سديدٍ، والوجه: القطع بانتجاز الانحلال في الحال في مثل هذه الصورة؛ فإنا ذكرنا قطعَ الأصحاب بأن من تردّد في أن يخرج أو لا يخرج،
__________
(1) زيادة من: (ت 1) ، (ت 2) .
(2) زيادة من: (ت 1) ، (ت 2) .
(3) خلاصة النظر الذي أبداه الإمام في كلام الشيخ أبي علي، أن من أقدم على التكبير الثاني قاصداً به التحلل لا يصح أن تنعقد به الصلاة -حتى لو فرعنا على أن التحلل قد حصل قبله بسبب نيته الخروج من الصلاة- لأنه جاء به على قصد التحلل؛ فيفسد هذا التكبير بهذه النية.
ولا يُنجي من هذا الفساد " إلا إذا تفطن صاحب الواقعة، فنجز الانحلال قبل الإقدام على التكبير الثاني "؛ فحينئذٍ يصح التكبير الثاني للعقد، كما قال الشيخ أبو علي.(2/126)
فنفس تردده يتضمّن الحل في الحال. وإذا علق الحل على أمرٍ سيقع في الصلاة لا محالة، فهذا في اقتضاء الحل في الحال ينبغي أن يكون أظهر أثراً من التردّد في نية الخروج.
فصل
793- المسبوق إذا صادف الإمام راكعاً في الصلاة المفروضة فكبّر، وابتدر الركوع ليدرك الركعةَ، فأوقع بعضاً من تكبيرة العقد بعد مجاوزته القيام، فلا شك أن صلاته لا تنعقد فرضاً؛ فإن الصلاة المفروضة إنما تنعقد ممن يوقع تكبيرة العقد في حالة القيام، ثم إذا لم تنعقد الصلاة، فهل تنعقد نفلاً؟ فإن النافلة تصحّ قاعداً مع القدرة على القيام.
اضطربت نصوص الشافعي في هذه المسألة وأمثالها مما سنذكر صورها، ففي المسألة قولان: أحدهما - أن الصلاة تنعقد نفلاً، وأنه إن اختل شرط الفرضية، لم يختل شرط النافلة. وهو قد نوى صلاة، ووصفها بالفريضة، وما جرى يناقض الصفة، فلنترك الصفة، ولتبق الصلاةُ مطلقةً، والصلاة المطلقة مصروفة إلى النافلة.
والقول الثاني - أن الصلاة تبطل، ولا تنعقد نفلاً؛ فإنه أوقعَها فرضاً، ففسدت في جهة إيقاعه، وكأن هذا القائل يزعم أن [الفريضة جنسٌ] (1) من الصلاة تتميز عن النفل، وهي منفردة في حكمها وليست صلاة وفريضة، فإذا بطلت من جهة الفرض، لم يبق وجه في الصحة. وهذا يرد عليه أن الشافعي يجوّز أن يقلب المفترضُ الصلاة المفروضة. نفلاً بأسباب، ولا معنى للقلب إلاّ من جهة تقدير رفع الفرضيّةِ، وتَبْقية الصلاة مطلقة، وهذا يوجب بقاءها نفلاً، (2 وهو مصرّح بأن الصلاة المفروضةَ فيها حكم الصلاة المطلقة، فكذلك تبقى نفلاً 2) إذا بطلت الفرضيّة عنها.
ويمكن أن يقال: من قلب المفروضَة نفلاً، صح؛ لقصده في ذلك، فأما من
__________
(1) في الأصل وغيره من النسخ: "الفرضية جزء" والمثبت من (ل) .
(2) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2) .(2/127)
قصد الفرض على وجهٍ لا يصح إيقاع الفرض عليه، ولم يجرِ في قصده أمرُ النفل، فلا يحصل له النفل. والأمر محتمل.
794- ثم الصورة التي ذكرناها في إيقاع تكبير العقد في الركوع لها نظائر، منها: أن يتحرّم الرجل بصلاة الظهر قبل الزوال [فـ]ـلا (1) تنعقد فرضاً، ولكن هل تنعقد نفلاً؟ فعلى قولين.
وكذلك لو عقد الصلاة قاعداً مع القدرة على القيام، ففي انعقادها نفلاً ما ذكرناه.
وكذلك لو تحرّم بصلاة مفروضة، وصحّت له، ثم أراد أن يقلبَ الظهر عصراً، أو العصرَ ظهراً، فلا ينقلب فرض إلى فرض، وتبطل الفرضيّة التي كانت صحت، ولا يحصل ما نوى القلب إليه. ولكن هل تبقى الصلاة نافلة؟ فعلى القولين اللذين ذكرناهما.
ولو كان العاجز عن القيام يصلي قاعداً، فوجد في أثناء الصلاة خِفةً، وأمكنه القيامُ من غير عسر؛ فاستدام القعود؛ فتبطل فرضيةُ الصلاة. وهل تبقى الصلاة نافلةً فعلى القولين.
795-[والذي ذكرناه، والذي لم نذكره يجمعه أمر، وهو أن من أتى بما ينافي الفرضيّة ولا ينافي النافلةَ، فإذا لم يحصل الفرض، فهل تبقى الصلاة نافلةً؟ فعلى قولين] (2) ولا خلاف أن من قلب الفرض نفلاً، فلا يبعد أن ينقلب نفلاً عند مَسِيسِ حاجةٍ إليها. وسنعود إلى هذا في بعض مجاري الكلام، وهو أن الفريضة إذا قلبت نفلاً كيف يكون أمرها إذا لم تكن حاجة؟ وبماذا تُضبط الحاجة؟
[وهذا نذكره] (3) في المنفرد بالفريضة إذا وجد جماعةً: كيف يفعل؟
فرع:
796- إذا أراد المصلي أن يقتدي في صلاته بإمام، فلينو القدوةَ في الوقت الذي ينوي فيه الصلاة -على ما تقدم وقت النية في اقترانها بالتكبير، أو تقدمها- فلو
__________
(1) في النسخ كلها: "لا" بدون فاء. ثم جاءتنا (ل) بالفاء.
(2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، و (ط) .
(3) في جميع النسخ "وهذه تذكرة"، والمثبت من (ل) .(2/128)
نوى الاقتداء بعد الفراغ من التكبير، فهو كما لو انفرد بالصلاة، ثم نوى الاقتداء في أثناء الصلاة. وسيأتي تفصيل القول في ذلك مشروحاً إن شاء الله.
فصل
قال: "ولا يُجزىء إلا قوله: الله أكبر ... إلى آخره" (1) .
797- لفظُ التكبير على صفته المعلومة يختص بالعقد؛ فلا تنعقد الصلاة إلاّ بقوله: الله أكبر، أو الله الأكبر. فلو ذكر اسماً آخر من أسماء الله، أو وصَفه بصفة أخرى سوى الكبرياء، فقال: الله أعظم أو أجل، لم تنعقد الصلاة عندنا.
وأصل الشافعي تغليب التعبد، والتزام الاتباع، والامتناع من قياس غير المنصوص على المنصوص عليه.
ثم الأصل الله أكبر، فإن قال: الله الأكبر، أجزأه عندنا؛ فإن في قوله: الله الأكبر الله اكبر، ولكنّه زاد لاماً، ولم يغير المعنى؛ فيقدر كأنه لم يأت باللاّم، والإتيان بها بمثابة مد -لا يغيّر المقصود- أو تثاؤبٍ أو نحوهما مما لا يغير المعنى.
ولو قال: الله الجليل أكبر، ففي صحة الصلاة وجهان: أحدهما - الصحة؛ لأنه أتى بالتكبير، والزيادة غير مغيّرةٍ للتكبير، فصار كما لو قال: الله أكبر.
ومنهم من قال: لا تنعقد الصلاة، فإنه خالف مورد الشرع، والذي أتى به زائد، كلمةٌ [مفيدة] (2) ، يزيدها، فيخرج بزيادتها عن حقيقة الاتباع، وليس كاللام يزيدها من الأكبر؛ فإنها لا تستقل بإفادة معنىً مغيّر.
__________
(1) ر. المختصر: 1/70.
(2) في جميع النسخ: "مقيدة": بالقاف، بل في (ت 1) تأكيد لذلك؛ إذ ضبطتها بفتحة وشدّة على الياء هكذا: (مقيدة) . والمثبت تقديرٌ منا، يساعد عليه قوله الآتي: "وليس كاللام يزيدها من الأكبر؛ فإنها لا تستقل بإفادة معنى". وأما (ل) ، فجاءت عبارتها مغايرة هكذا: "والذي أتى به زائداً كلمة مُفسدة يزيدها" ا. هـ
وتوجيه ما في النسخ الأخرى: أن كلمة " زائدٌ " خبر للمبتدأ (والذي ... ) والجملة بعدها صفة.(2/129)
ولو كان قال: "الأكبر الله"، ففي المسألة وجهان، أصحّهما المنع؛ فإنه وإن أتى بالتكبير، فهو في التقديم والتأخير خالف الاتباع مخالفةً واضحةً. ومنهم من قال بالصحة من حيث أتى بالتكبير.
وحقيقة الكلام في أمثال ذلك أنا إذا رأينا التعبد متبعاً في شيءٍ، فإن أتى بغير المنصوص، لم يجز، وإن أتى به مع أدنى تغييرٍ خفي، فقد يحتمل، وقد يفرض اختلاف في بعض التغايير.
798- إذا تمهّد أن أدنى التغيير لا يضرّ، فنفرض صورةً تتعارض الظنون في قرب التغيير، أو بعده، ومجاوزة الحدّ، فلو قال: أكبر الله، فهو كقوله الأكبر الله، هكذا ذكره العراقيّون، وهو الوجه. وكان شيخي يمتنع من طرد الخلاف في قوله: أكبر الله، ويرى أن ذلك غير منتظمٍ، بخلاف قوله: الأكبر الله. وهذا زلل، وهو غير لائقٍ به، مع تميّزه بالتبحر في علم اللسان، فقول القائل: "الله أكبر" مبتدأ وخبر، فلا يمتنع تقديم الخبر على المبتدأ، فنقول زيدٌ قائمٌ، وقائمٌ زيدٌ.
فرع:
799- لا ينبغي أن يبتدىء المقتدي التكبيرَ إلا إذا نجزت تكبيرة الإمام، فلو افتتح التكبير مع الإمام، أو أتى بها في أثناء تكبير الإمام، لم تنعقد صلاته.
ولو ساوق المقتدي الإمامَ في الأركان التي تقع بعد العقد، وكان يركع معه، ويرفع معه، جاز. وإنما تمتنع المقارنة في التكبير، والسبب فيه أن إنشاءَ الاقتداءِ إنما يصحُّ بمن انعقدت صلاتُه، وإنما تنعقد الصلاة عند نجاز التكبير.
وقد يقول من يحاول التحقيقَ: لا معنى للعقد والحلِّ، ولكن التكبير ابتداء العبادة، والتسليم آخرها. ولكن ما ذكره الأصحاب يوضح أثر العقد؛ إذ لو لم يكن الأمر كذلك، لصحّت مساوقة الإمام في التكبير. ومن الدليل على أثر العقد أن من ابتدأ التكبير ولم يكمله لا نقول: بطلت صلاتُه، بل نقول: لم تحصل، ولم تنعقد في أصلها. وليس كما لو كبّر ثم انكفَّ؛ فإنه قد تبطل صلاتُه بعد القطع بانعقادها.(2/130)
فصل
800- إذا صادف المسبوقُ الإمام راكعاً، فكبَّر للعقد قائماً، ثم كبر ليهوي فهذا هو الأمر المدعوُّ إليه. وإن اقتصر على تكبيرةٍ واحدةٍ، وأوقعها في حالة القيام، ولكنّه نوى بها تكبير العقد، وتكبيرَ الهُويِّ جميعاًً، فقد أجمعت الأئمة على أن صلاته لا تنعقد.
ولو أتى بتكبيرة واحدةٍ، وقصد بها العقدَ، وقصدَ ترك تكبير الهُوي، صحت صلاتُه.
ولو أتى بتكبيرةٍ واحدةٍ، ولم يخطر له تركُ تكبيرة الهُويِّ، ولا قصد التشريك، ولكنه أتى بتكبيرة واحدةٍ مطلقة، فقد حكى العراقيون عن الأمّ، أن الصلاةَ لا تنعقد (1) ، ويكون هذا كما لو قصدَ التشريكَ بين العقد وتكبير الهُويِّ، وزعموا أن الشرط عند الاقتصار على تكبيرة واحدةٍ، القصد إلى إيقاعها عن جهة العقد، وإذا لم يكن قصد مجرد إلى ذلك، فهو كقصد التشريك.
وكان شيخي يذكر هذا وجهاً غيرَ منصوص، ويذكر وجهاً آخر: أن الصلاة تصحّ عند الإطلاق، ووجهه بيِّن منقاس؛ فإن التكبيرة الأولى في وضع الشرع للعقد، فإذا اقترنت النيّة بها، أو بأولها -كما سبق ذلك- فنفس اقتران النية يجردها للعقد، فالذي نسمّيه مطلقاً في حكم المقيَّدِ، بسبب ارتباط نية العقد. وهذا ظاهر.
فرع:
801- إذا كان المرء عاجزاً عن الإتيان بلفظ التكبير، وكان حديث العهد بالإسلام، وقد لا يطاوعه اللسان إلا بمقاساةٍ وتمرينٍ وتعلّمٍ، فينبغي أن يأتي بمعنى التكبير -إن كان يحسن معناه- وقال الأئمة: يتعيّن الإتيان بمعناه -وإن كان بالفارسيّة- ولا يقوم ذكرٌ آخر يُحسنه مقام التكبير؛ فإن معنى التكبير أقرب إليه من ذكر آخر.
وقد قال الأئمة: من عجز عن قراءةِ القرآن، أتى بأذكارٍ، ولم يوجبوا الإتيان
__________
(1) ر. الأم: 1/7، ونص عبارة الشافعي: " ... وإن كبر لا ينوي واحدة منهما، فليس بداخلٍ في الصلاة".(2/131)
بمعناه، بل قالوا: لو أتى بمعنى الفاتحة، لم يعتد به.
وكان شيخي يفرق بين [البابين] (1) ، ويقول: الغرض الأظهر من قراءة القرآن الإتيان بنظمه على ترتيبه، ثم المعنى تابع للنظم، والمعجز من ذلك هو النظم، واعتبار عين معنى (2 التكبير أغلب. فإذا عجز المصلي عن القراءة، سقط اعتبار المعنى. وليس كذلك التكبير. وتحقيق ذلك أن معنى الفاتحة لا ينتظم ذكراً.
ومعنى 2) التكبير ينتظم ذكراً، كما ينتظم التكبير في لفظه، وهو يشير إلى أن الغرض (3) الأظهر، والشرف الأبهر في نظم القرآن.
وفيه دقيقة، وهي أن النظم إذا كان معجزاً، فلا يتأتى الاحتواءُ على لطف المعاني ودقائقها بالترجمة والتفسير. وسيأتي في فصول القراءة، أن من لا يحسن الفاتحة إذا كان يحسن غيرها من القرآن، فعليه الإتيان بما يحسن من القرآن على قدر الفاتحة، فلو كان لا يحسن من القرآن شيئاًً، ولكنه أتى بأذكار منتظمة تقع تفسيراً لبعض آيات القرآن، وكان ذكراً منتظماً كسائر الأذكار، فالذي أراه: أن ذلك يجزىء، ولا يمتنع إجزاؤه. أما ذكر [تفسير] (4) آية حُكْمية، أو آية فيها قصة، أو وعد أو وعيد، فلا يعتد به.
وهذا واضح إذا تأمله الناظر.
802- ومما يتعلق بتمام القول في ذلك: أن من أسلم، فعليه أن يبتدر تعلم شرائط الصلاة وأركانها، فإن قصر، ولم يتعلم التكبير الذي نحن في تفصيله، فلا يُقضى بصحة صلاته.
ولو كان الرجل يقطن بادية، والماء مُعوِزٌ بها، وكان يتيمم للصلاة -ولو انتقل إلى قرية، لاستمكن من استعمال الماء- فلا نكلفه الانتقال إلى القرى. وإن كان لا يلقى بالانتقال إليها عسراً.
__________
(1) في الأصل وفي (ط) : الناس.
(2) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2) .
(3) عبارة (ت 1) : "وهو يشير إلى أن العز والشرف الأبهر في نظم القرآن".
(4) سقط من الأصل، و (ط) .(2/132)
ولو أسلم في موضع، ولم يجد من يعلّمه فيه التكبيرَ، وكان يقيم معنى التكبير مقامه، ولو انتقل إلى قرية لتأتَّى منه تعلم التكبير، فقد اختلف الأئمة: فذهب ذاهبون إلى أنه يجب عليه الانتقال والتعلم؛ فإن ذلك ممكن لا عسر فيه، وهذا هو الأصح؛ فإن بدل القراءة لا يحل محل التيمم، إذ أمرُ التيمم غيرُ مبنيّ على نهاية الضرورة (1 بل ينويه للتخفيف والترخيص. وإقامة الذكر مقام القراءة مبني على نهاية الضرورة 1) ، وهذا يقتضي لا محالة التسبُّبَ إلى تعلم القرآن.
وذهب بعض أصحابنا إلى أنه لا يجب الانتقال للتعلّم، وينزل إقامة الذكر مقام القراءة منزلةَ إقامة التيمم مقام الوضوء في مكان إعواز الماء (2) . وهذا ضعيف.
فصل
803- رفع اليدين مع التكبير سنة، وهو شعار من الصلاة متفق عليه في هذا المحل، ولتكن الأصابع منشورة، ولا يُؤثر اعتماد تفريجها، ولا نرى ضمّها، ولتكن بين بين، والضابط في هيئتها أن ينشر الأصابع، ويتركها على صفتها وسجيتها، ولا يعمد فيها ضم ولا تفريج، وإذا فعل ذلك، اقتصد الأمر في الانفراج.
ثم الذي شُهر نقلُه عن الشافعي أنه رأى رفع اليدين حَذْوَ المَنكِبين: روى أبو حميد الساعدي في عشرة من جلة الصحابة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنه كان إذا قام، اعتدل، ورفع يديه حتى يحاذي بهما مَنْكِبيه" (3) ، وقيل لما قدم الشافعي
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2) .
(2) عبارة (ت 2) مضطربة هكذا: ".. منزلة إقامة التيمم في مكان الوضوء في إعواز الماء".
(3) حديث رفع اليدين متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر بهذا اللفظ تقريباً، وفيه زيادة: "وإذا كبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك ... " (اللؤلؤ والمرجان: 1/79 ح 217) . وأما حديث أبي حميد بسياقة إمام الحرمين (في عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، فقد رواه أبو داود، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن حبان، وصححه الألباني، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده قوي، وعزاه للبخاري في: (قرة العينين =(2/133)
العراق اجتمع إليه العلماء كأبي ثور والحسين الكرابيسي (1) وغيرهما، وسألوه عن الجمع بين الأخبار في منتهى رفع اليدين؛ إذ روي أنه رفعهما حذو منكبيه، وروي أنه رفع يديه حذو شحمة أذنيه، وروي أنه رفعهما حذو أذنيه (2) . فقال الشافعي: إني أرى أن يرفع يديه بحيث يحاذي أطراف أصابعه أذنيه، ويحاذي إبهاماه شحمة أذنيه، وتحاذي ظهور كفه منكبيه، فاستحسن العلماء ذلك منه.
وقد تحقق أن الذي رآه أبو حنيفة من محاذاة الأذنين [إنما عنى بها محاذاة الأصابع الأذنين] (3) ، فعلى هذا يرتفع الخلاف (4) ، وقد تحققت أن من أئمتنا من يحمل مذهب الشافعي على محاذاة المنكب باليد، بحيث لا تجاوز الأصابع طرف المنكب.
ْفيخرج من ذلك، ومما حُكي من جمعه بين أخبار الرفع قولان: أشار إليهما الصيدلاني، أحدهما - مذهب الجمع كما تفصّل.
ْوالثاني - محاذاة أطراف الأصابع طرف المَنكِب، والتعويل في ذلك على رواية أبي حُمَيْد الساعدي، ومقتضاها محاذاةُ المَنكِب، لا محاذاةُ الأذن والمَنكِب، وهي أصح الروايات.
وهذا بيان صفة اليدين، وذكر منتهى رفعهما.
__________
= في رفع اليدين في الصلاة) . (ر. أبو داود: كتاب الصلاة، باب افتتاح الصلاة، ح 730،
والترمذي: أبواب الصلاة، ح 304، والنسائي: كتاب السهو، باب رفع اليدين في القيام إلى
الركعتين الأخيرتين، ح 1182، وصحيح النسائي للألباني: 1/255 ح 1130، وابن حبان:
5/178 ح 1865 بتحقيق شعيب الأرناؤوط، والتلخيص: 1/219 رقم 328) .
(1) الحسين الكرابيسي أبو علي الحسين بن علي الكرابيسي البغدادي صاحب الشافعي، وأحد رواة مذهبه القديم، وأخذ عنه الفقه خلق كثير. توفي 245، وقيل 248 هـ. (ر. تهذيب الأسماء: 2/284، وطبقات السبكي: 2/117، وتاريخ بغداد: 8/64، وتهذيب التهذيب: 2/59، وشذرات الذهب: 2/350، وطبقات الشيرازي: 92-101) .
(2) انظر هذه الروايات في تلخيص الحبير: 1/218 ح 328. وأيضاً نيل الأوطار: 2/188 وما بعدها، وكذلك نصب الراية: 1/310.
(3) ساقط من الأصل، ومن (ط) .
(4) ومع ذلك عدها إمام الحرمين وعالجها في (الدرّة المضيّة) مسألة رقم: 62.(2/134)
804- والذي يتم به الغرض وقتُ رفعهما وخفضهما. وقد ذكر أئمتنا في وقت الرفع والخفض ثلاثة أوجه: أحدها - أنه يرفع يديه غير مكبر، فإذا انتهت نهايتَها كبّر، وأرسل مع التكبير يديه، فيقع الإرسال مع التكبير [وانتهاء اليد إلى مقرها من الصدر مع انتهاء التكبير] (1) ، أو على القرب منه، وهذه رواية أبي حميد الساعدي عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والثاني - يبتدىء الرفع مع ابتداء التكبير، فيقرب انتهاء التكبير من انتهاء اليد نهايته في الرفع، وهذه رواية وائل بن حُجْر.
والثالث - أنه يرفع يديه ويقرهما قرارهما، ويكبر وهُما قارّتان، ثم يرسل يديه بعد الفراغ. وهذه رواية عن ابن عمر.
ثم من أئمتنا من رأى الأوجه اختلافاً، وكان شيخي يقول: ليس هذا باختلاف، ولكن الوجوه كلها سائغة؛ إذ الرجوع فيها إلى الأخبار، ولا مطمع في ترجيح وجه على وجه بمسلك معنوي. وإذا صحت الروايات، فلا وجه إلا قبول جميعها، ولم يصح عندنا ترجيح رواية على رواية، بوجه يوجب الترجيح في الروايات.
وحكى الأئمة عن الشافعي أنه إذا كان لا يتأتى منه رفع اليد على النظم الذي ذكرناه، وكان يتمكن من مجاوزة الحد الذي ذكرناه في الرفع، فليرفع يديه على ما يتمكن منه، وإن كان مجاوزاً للحد.
فصل
قال: "ولا يكبر حتى يسوي الصفوفَ خلفه" (2) .
805- ينبغي أن يعتني الناس بتسوية الصفوف قبل تكبير الإمام، ثم لا يكبر الإمام حتى يظن أن الصفوف قد استوت.
__________
(1) ساقط من الأصل ومن (ط) .
(2) ر. المختصر: 1/70.(2/135)
ثم يقع قيامُ الناس، وهمُّ الإمام بالتكبير بعد فراغ المؤذّن عن الإقامة.
وأبو حنيفة يقول: يسوون الصفوف عند قوله: "حي على الفلاح"، وقال: يكبر قبل قوله: "قد قامت الصلاة" (1) إلا أن يكون المؤذن هو الإمام، فلا وجه إلا أن يفرغ.
فصل
"ثم يأخذ كوعه اليسرى ... إلى آخره" (2)
ْ806- ينبغي للمصلي أن يضع يمناه على يسراه، وكيفيته أن يأخذ الكوع من يده اليسرى بكف يده اليمنى؛ بحيث يحتوي عليه وكان شيخي يذكر لذلك صورتين، ويحكي عن القفال التخيير (3) فيهما: إحداهما - أن يقبض بكفه اليمنى على كوعه من يسراه، ويبسط أصابعه على عرض المفصل.
والثانية - أن يأخذ كوعه من يسراه من أعلى، وينشر أصابعه في صوب ساعده، وهو في الوجهين قابض على كوعه، ويده اليمنى عالية.
وأبو حنيفة (4) يقول: يضع بطنَ كفه اليمنى على ظهر كوعه من يده اليسرى من غير احتواء، ثم يضع يديه تحت صدره.
قال الشيخ أبو بكر: لم أر ذلك منصوصاً عليه للشافعي في شيء من كتبه، ولكن الأئمة اعتمدوا فيه نقل المزني، وقالوا: لعل ما نقله اعتمد فيه سماعه من الشافعي.
__________
(1) ر. بدائع الصنائع: 1/200، تبيين الحقائق: 1/108، حاشية ابن عابدين: 1/322، وانظر الدرة المضية فيما وقع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية: مسألة رقم 56.
(2) ر. المختصر: 1/70-71.
(3) في (ت 1) ، (ت 2) : التردد بينهما.
(4) الذي رأيناه عند الأحناف أن وضع اليدين تحت السرة. وأمَّا الأخذ والوضع وكيفيته ففيها خلاف عندهم. ر. حاشية ابن عابدين: 1/327. مختصر الطحاوي: 26، مختصر اختلاف العلماء: 1/202 مسألة: 138، فتح القدير: 1/249.(2/136)
فصل
"ثم يقول: وجهت وجهي ... إلى آخره" (1) .
807- ينبغي إذا عقد الصلاة أن يُعْقب عقدها بقراءة: وجهت وجهي.. إلى آخره، ثم يستعيذ قبل قراءة الفاتحة، واختلف قول الشافعي في الجهر بالتعوّذ في الصلاة الجهرية، [فنصَّ في القديم على أنه يجهر في الصلاة الجهرية] (2) ، ونص في الجديد على أنه لا يجهر بالتعوذ أصلاً.
ثم اختلف أئمتنا في أنَّا هل نستحب التعوّذ في مفتتح كل ركعة، أو يقتصر على التعوذ في أول الركعة الأولى؟ وفيه وجهان مشهوران: والأصح - أنه يتعوذ في أول كل ركعة، متصلاً بقراءة القرآن فيها.
فصل
"ويقرأ فاتحة الكتاب ... إلى آخره" (3) .
808- قراءة الفاتحة محتومة على كلِّ مصلٍّ يحسن القراءة. ولا يقوم غيرُ الفاتحة من السور مقامَها، ويجب افتتاحها بقراءة بسم الله الرحمن الرحيم. فمذهبنا أن بسم الله الرحمن الرحيم آية من الفاتحة. وقد روى محمد بن إسماعيل البخاري: "أن النبي صلى الله عليه وسلم عدّ فاتحة الكتاب سبع آيات، وعدّ بسم الله آية منها" (4) ، ثم التسمية من القرآن في أول كل سورة، خلا سورة التوبة، وهي محسوبة
__________
(1) ر. المختصر: 1/71.
(2) ساقط من الأصل، ومن (ط) .
(3) ر. المختصر: 1/71.
(4) الذي رواه البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم فسّر " السبع المثاني " بسورة الفاتحة، وقال: "هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته" (ر. البخاري: 5/146، 222، كتاب التفسير: تفسير سورة الفاتحة، ح 4474، وتفسير سورة الحجر، ح 4703) وليس فيها أنه صلى الله عليه وسلم عدها سبع آيات، وعدّ البسملة آية منها. ولهذا قال الحافظ في =(2/137)
آيةً في أول الفاتحة، وهل تكون آية من كل سورة؟ فعلى قولين: أحدهما - أنها آية تامة حيث كتبت في أوائل السور كسورة الفاتحة.
والثاني - أنها مع صدر السورة آية، وليست آية تامة إلا في أول الفاتحة، وهذا القائل استدل بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سورة تجادل عن ربها، وهي ثلاثون آية، ألا وهي سورة الملك" (1) ، ثم تلك ثلاثون آية دون التسمية، فإذن على هذه الطريقة التسمية من القرآن في أول كل سورة، وإنما اختلف القول في أنها تُعدّ آية بنفسها أم لا؟
وذكر الشيخ أبو علي عن بعض الأصحاب طريقة أخرى، وهي أن التسمية من القرآن في أول الفاتحة، وهل هى من القرآن فى أوائل السور؟ فعلى قولين، والصحيح الطريقة الأولى.
وذكر العراقيون خلافاً في أن كون بسم الله من القرآن في أوائل السور معلوم أو مظنون، وهذا غباوة عظيمة؛ لأن ادعاء العلم -حيث لا قاطع- محال.
__________
= التلخيص: "إن الإمام نسب هذا الحديث للبخاري وتبعه الغزالي في الوسيط، ومحمد بن يحيى في المحيط، وهو من الوهم الفاحش، قال النووي: لم يروه البخاري في صحيحه، ولا في تاريخه" ا. هـ (ر. التلخيص: 1/233) هذا. والمحيط المذكور في شرح الوسيط.
أما الحديث على نحو ما ساقه إمام الحرمين فقد رواه البيهقي والدارقطني، وابن خزيمة في صحيحه، (ر. المجموع: 3/333، والسنن الكبرى: 2/58، وتلخيص الحبير: 1/233، والدارقطني: 1/307، وصحيح ابن خزيمة: 1/248 ح 493 باب رقم 97، ص 251 ح 500 باب رقم 101، والطحاوي: 1/199-200، والحاكم: 1/232 وقال: هذا صحيح على شرط الشيخين، ولم يوافقه الذهبي) .
(1) حديث سورة الملك.. صحيح. رواه أبو داود: الصلاة، باب في عدد الآي، ح 1400، وصححه الألباني: 1247. وأخرجه الترمذي: فضائل القرآن، باب ما جاء في فضل سورة الملك، ح 2891، وقال أبو عيسى هذا حديث حسن. وأخرجه ابن ماجة: الأدب، باب ثواب القرآن، ح 3786، والألباني: 3053، وعند أحمد: 2/321، وصحح الشيخ شاكر إسناده: ح 7962، 8259. وأخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة: ح 710. وابن حبان في صحيحه: 3/67 ح 787، وحسّن شعيب الأرناؤوط إسناده. والحاكم، وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وانظر تلخيص الحبير: 1/233 ح 349.(2/138)
ثم قراءة الفاتحة ركن في صلاة الإمام والمنفرد، وأما المأموم، فإنه يقرأ الفاتحة خلف الإمام، وهو حتم واجب عليه، ولا فرق بين أن تكون الصلاة جهرية أو سرية.
وحكى المزني قولاً آخر عن الشافعي: أنه إن أسر الإمام، قرأ المأموم حتماً، وإن جهر القراءة، سقطت القراءة عن المأموم. وهذا مذهب مالك (1) ، والمزني لم ينقل بنفسه عن الشافعي إلا هذا القول، ونقل القول الأول عن الأصحاب عن الشافعي.
فهذه قواعد المذهب في القراءة، ونحن الآن نبتدىء تفصيل المذهب في القراءة في فصلين: أحدهما - في قراءة القارىء القادر على القراءة. والثاني - في قراءة العاجز عن قراءة الفاتحة. فأما
الفصل الأول
809- من تمكن من قراءة الفاتحة، لزمته. وقد ذكرنا التفصيل في المأموم. ثم يجب الإتيان بحروف الفاتحة من مجاريها، فلو أخل بحرفٍ، لم تصح الصلاة، ومن الإخلال تخفيف المشدَّد؛ فإن المشدّد حرفان مِثلان أولهما ساكن، وإذا خفَّفَ، فقد أسقط حرفاً. وكان شيخي يتردد في إبدال الضّاد ظاءً في قوله (ولا الضالين) ؛ فإن هذا لا يتبين إلا للخواصّ، وهو مما يتسامح فيه عند بعض أصحابنا. والصحيح القطع بأن ذلك لا يجوز؛ فإن الظاء والضاد حرفان متغايران، فإذا حصل الإبدال، فالذي جاء به ليس الحرف المطلوب.
810- ثم لو ترك الفاتحة من أوجبناها عليه عامداً، لم تصح صلاته، ولو تركها ناسياً، فالمنصوص عليه في الجديد -وهو المذهب- أن الركعة التي خلت عن قراءة الفاتحة لا يُعتد بها، وتركُ القراءة ناسياً كترك الركوع والسجود.
ونُسب إلى الشافعي قولٌ قديم: أنه يُعذر التارك ناسياً، وتصح الركعة، وجعل النسيان بمثابة إدراك المقتدي الإمامَ راكعاً؛ فإنه يصير مدركاً للركعة وإن لم يقرأ.
وهذا قول متروك، لا تفريع عليه، ولا يعتد به.
__________
(1) ر. جواهر الإكليل: 1/50.(2/139)
811- ثم يجب على القارىء رعاية الترتيب في القراءة، فلو قرأ الشطر الأخير من الفاتحة أولاً، لم يعتد به؛ فإن القرآن معجزٌ، والركن الأَبْين في الإعجاز يتعلق بالنظم والترتيب.
ولو (1) قدم أواخر التشهد، وأخر أوائله، فإن غيره تغيراً يَبطُل به معناه، فلا شك أن ما جاء به ليس محسوباً. وإن تعمد ذلك، بطلت صلاته؛ فإنه جاء بكلام غير منتظم عمداً، وإن كان تقديماً وتأخيراً -وكل كلام مفيد في نفسه- فالذي ذكره الأئمة: أن ذلك لا يضر؛ فإنه جاء بالتشهد، وليس الكلام معجزاً في نفسه، فيؤثرَ فيه تبديل الترتيب، والمعنى لم يختلف.
وذكر شيخي فى التشهد -إذا غير ترتيبه تغييراً تقديماً أو تأخيراً- وجهين، وليس ذلك بعيداً، وهو بعينه الخلاف المذكور فيه، إذا قال الأكبر الله؛ فإنه في تغيير الترتيب تاركٌ لطريق الاتباع، وقد ذكرنا أن معتمد الشافعي في العبادات البدنية التي لا تتعلق بأغراض جزويّة (2) مفهومة - الاتباعُ (3) .
فهذا تفصيل القول في رعاية الترتيب.
812- وذكر العراقيون وجهاً أن ترك الموالاة بالسكوت الطويل قصداً عمداً، لا يبطل القراءة، وهذا مزيف متروك، وإن كان لا يبعد توجيهه.
وتجب أيضاً رعاية الموالاة في القراءة، فلا ينبغي أن يخلل القارىء بين قراءته سكوتاً طويلاً يقطع الولاء، أو ذكراً ليس من القراءة، فإن تخلل سكوتٌ طويل -
__________
(1) هذا استطراد للحديث عن الترتيب في التشهد، ليظهر الفرق بين ما تجب رعاية النظم فيه، وما يكتفى فيه بأداء المعنى.
(2) كذا في الأصل، وفي (ت 1) ، وفي (ت 2) : حزويه، وفي ط: جزءية (كذا) : وواضح من السياق أن المعنى المقصود هو الأغراض الجزئية في مقابلة القضايا الكلية للشريعة ومقاصدها، فالمعنى: أن قراءة الفاتحة وقراءة التشهد من العبادات التي لا تتعلق بمقاصد خاصة بها يمكن إدراكها، ولذا فالمذهب فيها الاتباعُ.
(3) خبر (أن) في قوله: "أن معتمد الشافعي ... ".(2/140)
والمعتبر فيه أن يسكت سكوتاً يُشعر مثله بأن القراءة قد انقطعت، إما باختيار أو بمانع- فهذا هو السكوت القاطع للولاء.
وأما تخلل الذكر، فالذي ذكره الأئمة أنه إذا أدرج القارىء في أثناء القراءة ذكراً تسبيحاً، أو تهليلاً، فتنقطع موالاة القراءة، وإن كان ذلك الذكر قليلاً واقعاً في زمان لا ينقطع الولاء بالسكوت في مثله.
وقد صح عندنا أنا وإن كنا نشترط اتصال الإيجاب بالقبول في العقود، فلو تخلل بين الإيجاب والقبول كلام من أحدهما قريب لا يضر تخلله، على تفصيل وضبط سيأتي في موضعه، ونص الشافعي دال على ذلك، فإنه قال في كتاب الخلع: "لو قال لامرأتيه: خالعتكما، فارتدتا، ثم قالتا: قبلنا، ثم عادتا إلى الإسلام، قبل انقضاء العدة، فالخلع صحيح" (1) ، وقد تخللت كلمة الردّة.
ولو تخلل بين الإيجاب والقبول سكوت طويل، لم ينعقد العقد. فتخلل السكوت استوى فيه القراءة والعقد، وافترقا في تخلل الذكر، والسبب فيه أن من أدرج ذكراً في أثناء القراءة؛ فإنه يجري في انتظام القراءة حتى كأنه منها، وذلك يُغيّر النظمَ والترتيبَ والإعجازَ. والإيجابُ والقبول صادران من شخصين، وقد ورد التعبد باتصال الجواب بالإيجاب؛ فإن للجواب اتصالاً -في مطرد العرف- بالخطاب يكون لأجله جواباً، والسكوت الطويل إذا تخلل يقطع الجوابَ عن الإيجاب. وإذا صدر كلام يسير عن أحد المتعاقدَيْن، لم يُشعر مقداره بإضراب المخاطب عن الجواب - لم يضر تخلله. وفي القراءة يختلط الذكر بالمقروء، ويجري في أدراجه، وليس هذا من قبيل ما ذكرناه من رعاية الاتصال بين الإيجاب والقبول.
فيخرج من ذلك أن تخلل الذكر ليس مؤثراً في القراءة من حيث يقطع ولاءها، ولكن من حيث يغير نظمَها.
ولو فرض سكوت في أثناء القراءة لا يقطع مثلُه الولاء، وفرض فيه ذكرٌ يسير، لا بصوت القراءة، بحيث لا ينتظم بالقراءة، فلست أبعد في هذه الصورة أن يقال: لا تنقطع القراءة، والله أعلم.
__________
(1) ر. الأم: 5/185.(2/141)
813- وقد ظهر اختلاف الأئمة في أنه إذا أمّن الإمام في آخر الفاتحة، وكان المأموم في أثناء قراءة فاتحته، فأمّن عند تأمين الإمام، فهل تنقطع قراءته بهذا؟ فذهب ذاهبون إلى أن القراءة. تنقطع، وهذا قياس ما ذكرناه.
وصار صائرون إلى أنها لا تنقطع، وليس يتجه عندي هذا الوجه إلا بما رمزت إليه من أن المحذور ألاّ ينتظم الذكر بالقراءة، وإذا جرى في أثناء الكلام شيء هو محمل الذكر، ويظهر به أن الذكر لم يجر في نظم القراءة، كالتأمين عند تأمين الإمام، فهذا يبيّن انقطاع الذكر عن الانتظام، فلذلك جرى الخلاف فيه.
814- وكذلك كان شيخي يذكر خلافاً في أن الإمام لو كان يقرأ السورة، والمأموم في أثناء الفاتحة، فانتهى الإمام إلى آية الرحمة، وطلب للرزق، فقال المأموم: اللهم ارزقنا -وهذا مما نستحبه كما سيأتي- فهل تنقطع القراءة؟ فعلى وجهين. وهو ملتحق بالمعنى الذي ذكرناه في مسألة التأمين؛ فإن ارتباط ما تخلل بما طرأ من الإمام يقطعه عن تخلل الانتظام بالقراءة.
815- وإذا انتهى الإمام إلى آيةٍ فيها سجدة والمأموم في خلال القراءة، فيسجد، والمأموم يسجد متابعاً لا محالة، وهل تنقطع القراءة؟ فعلى ما ذكرناه من الوجهين، فهذا وجه الكشف في تحقيق القول في ذلك.
816- ومن تمام القول في هذا، أن العراقيين حكَوْا عن نص الشافعي ما يدل على أنه لو ترك الموالاة ناسياً، لم يضر، وهذا مفرعّ على أنه لو ترك القراءة أصلاً، ناسياً، لم يعتد بالركعة، ومع هذا حكَوْا النص في أن ترك الولاء ناسياً غير ضائر.
وهذا غير سديد عندي، فإن ترك الولاء إذا كان (1) تختل به القراءة، فاذا جرى على حكم النسيان، فهو بمثابة ترك القراءة ناسياً.
وقد ذكر شيخي ما ذكره العراقيون وزاد كلاماً، فقال: لو ترك الترتيب في قراءة الفاتحة ناسياً، لم يعتد بقراءته، ولو أخلّ بالموالاة ناسياً، احتسب بالقراءة، وقال
__________
(1) "كان" هنا تامة بمعنى (وُجد) و (حدث) .(2/142)
في تحقيق الفرق: ولو أخل الرجل بترتيب الأركان ناسياً، فسجد قبل الركوع، لم يعتد بالسجود، ولو طوّل ركناً قصيراً، وأخل بالموالاة بهذا السبب، لم يضر، واعتدّ بما جاء به، فكذلك يفرق بين ترك الترتيب والموالاة على حكم النسيان في القراءة. وهذا صحيح؛ فإن ترك الولاء يُخل بالقراءة إخلالَ ترك الترتيب كما تقدم.
فهذا نقل ما قيل، مع ما فيه من الاحتمال.
817- ولو كرر القارىء الفاتحة [أو كلمة من الفاتحة] (1) كان شيخي لا يرى بذلك بأساً إذا كان سبب ذلك شك من القارىء، في أن تلك الكلمة هل أتت على ما ينبغي أم لا؟، فإنه معذور، وإن كرر كلمة منها قصداً من غير سبب، كان يتردد في إلحاق ذلك بما لو أدرج في أثناء الفاتحة ذكراً.
818- والذي أراه أن وِلاء الفاتحة لا ينقطع بتكرر كلمة منها، كيف فرض الأمر؛ فإن الذي عليه المعول في إدراج الذكر ما قدمناه من انتظام الذكر بالقراءة، وإفضاء ذلك إلى اختلاف النظم، وإذا كرر القارىء شيئاًً من الفاتحة، لم يؤدّ التكرير إلى ما أشرنا إليه.
والعلم عند الله.
فهذا مجامع القول في قراءة الفاتحة في حق من يحسنها.
فأما:
الفصل الثاني
فهو في تفصيل القول في الأُميّ
819- والأُمي في اصطلاح الفقهاء من لا يحسن الفاتحة، أو لا يحسن بعضَها، ويحسن بعضها.
فأما إذا كان لا يحسن منها شيئاًً، فلا يخلو إما إن كان يحسن شيئاًً من القرآن، أو
__________
(1) ساقط من الأصل، ومن (ط) .(2/143)
كان لا يحسن شيئاًً من القرآن، [فإن كان يحسن من القرآن سورة أو سوراً، فعليه أن يقول من القرآن] (1) ما يقع بدلاً عن الفاتحة.
820- ثم قال الأئمة: الفاتحة سبعُ آيات، فليأت بسبع آيات، ثم إن كانت قصاراً بحيث لا يبلغ عدد حروفها عددَ حروف الفاتحة، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه يجزئه ما جاء به نظراً إلى مقابلة الآي، ولا مؤاخذة بالحروف وعددها.
ومنهم من قال: لا بد من رعاية أعداد الحروف؛ إذ بها حقيقة المقابلة والمماثلة، وأجزاءُ القرآن كالأسباع وغيرها تعتمد الحروف.
ولو قرأ آية طويلة بلغ عددُ حروفها عددَ حروف الفاتحةّ، واقتصر عليها، فقد حكى الأئمة أن ذلك لا يجزىء ولا يكفي.
ولم أر في الطرق في ذلك خلافاً، فعدد الآي مرعي إذن، وفي عدد الحروف خلاف، ولعل سبب الوفاق في عدد الآي، ما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم عد فاتحة الكتاب سبعَ آيات" (2) ، وقال تعالى في ذكرها {وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87] فاقتضى اعتناءُ الكتاب والسنة بآياتها عددَ الآي بَدَلَها. والحروفُ على التردد كما حكيناه.
821- وكان شيخي يقول: إذا راعينا مقابلةَ الحروف، فيجب رعاية الترتيب، كما نصفه: وهو أن يأتي في مقابلة الآية الأولى بآية تشتمل على عدد حروف تلك الآية أو تزيد، وإن كان لا يحسن إلا الآيات القصار، فيقابل الآية بالآيتين، وهكذا إلى تمام الفاتحة.
وكان يقول: لو قرأ ست آياتٍ من القصار التي لا تفي حروفُها بعدد حروف الآيات الست الأُوَل، ثم قرأ آية طويلة تجبر ما كان من نقصان، وتقابل حروف الآية الأخيرة، وقد يزيد - قال: هذا لا يجوز؛ فإنه لم يراع في الآيات الست المقابلةَ
__________
(1) ساقط من الأصل، ومن (ط) .
(2) سبق الكلام عن هذا الحديث آنفاً.(2/144)
المشروطةَ؛ فصارت الآية الأخيرة في حكم آية واحدة يقابل حروفها حروفَ جميع الآيات. وكان رضي الله عنه يقطع بهذا.
والذي أراه أن هذا لا معنى لاشتراطه بعد ما حصلت مقابلة الآي ورعاية عدد الحروف على الجملة.
822- ولو كان يحسن سبع آيات متفرقات، فيأتي بها وتجزئه. ولو كان يحسن سبع آيات على الوِلاء، فأراد أن يأتي بسبع متفرقة، كان رضي الله عنه يمنع ذلك، وهو ظاهر لا يتجه غيره. وفي الإتيان بسبع آيات متفرقات إذا كان لا يحسن غيرها نظرٌ في صورة واحدة، وهي أن [الآية الفردة] (1) قد لا تفيد معنى منظوماً ولو قرئت وحدها مثل قوله تعالى: {ثُمَّ نَظَرَ} [المدثر: 21] ، فيظهر ألاّ يكتفى بإفراد هذه الآيات، فيردّ إلى الذكر، كما سنذكره.
823- ومما يتعلق بهذا، أنه إذا كان لا يحسن من القرآن إلا آية واحدة مثلاً، فقد ظهر اختلاف أئمتنا في أن الواجب في بدل الفاتحة ماذا؟ فقال بعضهم: يُكرر تلك الآية سبعاً، ويكفيه ذلك، وقال بعضهم: يأتي بها مرة واحدة، ويأتي بالأذكار في مقابلة ست آيات.
ولم يوجب أحدٌ الجمع بين التكرار والذكر؛ فإن التكرار إن وجب فعلى مقابلة الآيات الباقية، ولا يجب على مقابلتها بدلان: الذكر وتكرير الآية، وهذا مع الالتفات إلى رعاية الحروف.
والخلاف في هذا كله إذا كان يحسن شيئاًً من القرآن.
824- وأما إذا كان لا يحسن من القرآن شيئاًً، فإنه يأتي بدلاً عن الفاتحة بأذكار، وينبغي أن تكون أذكاراً عربية إن كان يحسنها، ثم ذكر الأئمة التسبيح والتهليل، ولا شك أن المرعي مقابلة الحروف؛ فإنه ليس في الأذكار مقاطع وغايات على مقابلة الآيات، فليس إلا اعتبار الحروف، ثم كان شيخي يقول: إن جرد التسبيح والتهليل جاز، وإن جرّد الدعاء، ففيه احتمال، هكذا كان يقول رضي الله عنه، ولعل الأشبه
__________
(1) في جميع النسخ: "آيات القراءة" والمثبت مما أفادتنا به (ل) .(2/145)
أن الدعوات التي تتعلق بأمور الآخرة تنزل منزلة التسبيح، وأما بمآرب الدنيا، فيبعد الاعتداد به مع القدرة على غيره (1) .
فرع:
825- إذا كان يحسن آية من غير الفاتحة، فهل يكفيه أن يكررها سبعاً؟ أم يأتي بها مرة واحدة، ويأتي بالذكر بدلاً عن الست؟ فعلى وجهين مشهورين، لا يخفى توجيههما.
826- ولو كان يحسن آية واحدة من الفاتحة، فهل يكفيه أن يكررها أم يأتي بها، ويأتي بست آيات إن كان يحسنها من غيرها؟ فعلى وجهين أيضاً.
فإن قلنا: يكفي التكرير، فإن كان يحسن آيتين مثلاً، ففي التكرير احتمال، يجوز أن يقال: يكررهما أربعاً، وقد كفى؛ فإنه أتى بالسبع، وزاد، فليتأمل الناظر ذلك، فهو محل النظر. فهذا الفرع ملحق بما تقدم. فهذا كله إذا كان لا يحسن الفاتحة، ولا شيئاًً من القرآن.
وذكر العراقيون: أن النبي صلى الله عليه وسلم علّم أعرابياً كان لا يحسن [الفاتحة ولا] (2) شيئاًً من القرآن أن يقول بدل القراءة: "سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله" (3) .
__________
(1) انتهى إلى هنا الجزء الثاني من تجزئة النسخة التي نرمز لها (ت 2) . وجاء في خاتمة الجزء ما نصه: "تم الجزء الثاني بحمد الله وعونه، وصلى الله على محمد نبيه، وعلى آله وصحبه وسلم، وشرّف وكرّم. يتلوه في الجزء الثالث: فرع إذا كان يحسن آية من غير الفاتحة، فهل يكفي أن يكررها".
(2) زيادة من (ت 2) .
(3) حديث "أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أعرابياً ... " صحيح. رواه أبو داود، وأحمد، والنسائي، وابن الجارود، وابن حبان والحاكم، والدارقطني، واللفظ له من حديث ابن أبي أوفى (ر. التلخيص: 1/236 ح 351، أبو داود: الصلاة، باب من رأى القراءة إذا لم يجهر، ح 832، وصحيح أبي داود: 1/157 ح 742، النسائي: الافتتاح، باب ما يجزىء من القراءة لمن لا يحسن القرآن، ح 924، وصحيح النسائي: 1/201 ح 885، المسند: 4/353، 356، 382، المنتقى لابن الجارود: ح 189، ابن حبان: ح 6805، الحاكم: 1/241، الدارقطني: 1/313-314، والإرواء: 303) .(2/146)
ثم ذكروا وجهين في أن هذه الأذكار تتعين أم لا. وتعينها بعيد عندنا.
827- فأما إذا كان يحسن بعض الفاتحة، فيلزم الإتيانُ بما يحسنه، فإن كان من صدر الفاتحة أتى به أولاً، ثم أتى بالبدل عما لا يحسنه. وإن كان يحسن النصفَ الأخير، فيلزمه أن يأتيَ بالبدل أولاً. ثم يأتي بما يحسن، ورعاية الترتيب في هذا واجب، اتفق عليه أئمتنا. وليس علّةُ الترتيب في هذا علةَ الترتيب في تلاوة الفاتحة في حق من يحسنها؛ فإن الترتيب يراعى في قراءة الفاتحة محافظةً على نظمها، وليس بين الأذكار التي قُدّرت بدلاً عن النصف الأول، وبين النصف الثاني انتظام. ولكن هذا الترتيب يُتلقى من اشتراط الترتيب في أركان الصلاة؛ فعليه فرض قبل النصف الثاني، فليُقِمه. ثم ليأتِ بالنصف الثاني. ويجوز أن يقال: يأخذ البدلُ حكمَ المبدل، والترتيب شرط في فاتحة الكتاب لعينها، فنزل بدل النصف الأول منزلته في رعاية ترتيب النصف الآخر عليه.
فهذه قواعد المذهب في الفاتحة: ونحن نرسم بعدها فروعاً تستوعب ما شذّ، وتقرّر القواعد.
فرع:
828- الأمي إذا تعلم الفاتحة في أثناء الركعة، نُظِر، فإن تعلَّمها قبل أن يخوض في البدل، فعليه قراءة الفاتحة، وإن فرغ من البدل ولم يركع بعدُ، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه يلزمه قراءة الفاتحة؛ فإن وقت القراءة ومحلها باقٍ قائم.
والثاني - لا يلزم؛ لأن البدل قد تم، وسقط الفرض فيه، فلا معنى لعود الفرض بعد سقوطه، وهو كما لو أتى من لزمته الكفارة بالبدل، فلا أثرَ لوجود المبدل.
والقائل الأول يقول: كون الأذكار بدلاً ووقوعها كذلك يتوقف على انقضاء القيام؛ فإن من كان يُحسن الفاتحة قد يُوقع أذكاراً قبل القراءة، فلا يتبين وقوع الذكر بدلاً إلاّ عند الاكتفاء [به] (1) والتلبس بالركوع، والصيام الواقع بدلاً في الكفارة مصروف بالنية إليها. وآحاد الأذكار لا تتناوله النية تخصيصاً.
__________
(1) زيادة من (ت 2) .(2/147)
829- ومما يتعلق بهذا، أن الأمي إذا افتتح الصلاة، وقصد إقامة دعاء الافتتاح بدلاً عن الفاتحة، فإنه يقوم مقامها. ولو قصد أن يقع مسنُوناً كما شُرع، فيجب القطع بأن الفرض لا يسقط والقصدُ كما ذكرناه؛ فليأتِ عن الفاتحة ببدلٍ.
ولو أتى بأذكار سوى دعاء الاستفتاح، ولم يقصد إقامتها بدلاً، فقد تردد صاحب التقريب في هذا، وهو محتمل (1 حسن. والذي ذكرته من تعليل أحد الوجهين في أول هذا الفرع يشير إلى هذا، فإني قلت: لا يقع الذكر في عينه بدلاً إلا بانقضاء وقته 1) ، فلا يمتنع أن يقال: لا بدّ من قصد في إيقاعه بدلاً.
830- ولو اشتغل بالذكر، ولم ينقضِ بعدُ، حتى تعلم الفاتحة، فالأصحّ الذي يجب القطع به أنه يجب قراءة الفاتحة.
وأبعد بعض أصحابنا، فقال: لا يجب قراءة الفاتحة؛ فإن الاشتغال بالبدل يُسقِط رعايةَ المُبدل؛ فإن من شرع في صيام الشهرين المتتابعين، ثم وجد الرقبة، لم يلزمه إعتاق الرقبة.
وهذا الوجه أطلقه الناقلون. وهو خطأ صريح عندي؛ فإنا قد ذكرنا أن من كان يحسن نصف الفاتحة، لزمه الإتيان بما يحسن والبدل عما لا يحسن، فالقراءة إذن تتبعض في هذا الحكم، فالوجه القطع بأنه إذا أتى بنصف الأذكار مثلاً، وتعلم الفاتحة، فيتعين الإتيان بالنصف الأخير من الفاتحة وجهاً واحداً، وفي قراءة النصف الأول تردّدٌ، وليس ذلك كالأصل والبدل في الكفارة؛ فإن بعض الرقبة لا يسد مسداً، وهذا واضح.
ولو تعلم الفاتحة بعد الركوع، فلا شك أن تيك الركعة مضت معتدّاً بها.
فرع:
831- إذا كرّر فاتحة الكتاب في ركعة مرتين قصداً، فالذي ذهب إليه معظم الأصحاب أن الصلاة لا تبطل وذهب أبو الوليد النيسابوري (2) إلى أن الصلاة تبطل
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2) .
(2) أبو الوليد النيسابوري: حسان بن محمد بن أحمد بن هارون بن حسان - القرشي الأموي. أحد أئمة الدنيا، تلميذ ابن سريج، مذكور في الروضة في الوتر. توفي سنة 349 هـ. (طبقات =(2/148)
بهذا، واحتج بأن من زاد في الركعة ركوعا قصداً، بطلت صلاتُه، والقراءة ركنٌ، فإذا تكررت، كان كالرّكوع يكرر، وعدّ الأصحاب هذا من غوامض محالّ الاستفراق (1) ، والأمر في ذلك قريب.
فنقول: إنما تبطل الصلاة بزيادة ركوع، من حيث إن ذلك يُظهر خروج الصلاة عن النظم، والذي يوضّح ذلك أن الفعل القليل لا يبطل الصلاة؛ لأن النظم لا يفسد به ولا يختل، وإذا زيد ركن، ظهر به الاختلال، وإن كان ركوع واحد لا يبلغ مقدار الفعل الذي يُفسد الصلاة لكثرته، ولكن كالفعل الكثير من جهة اختلاف نظم الصلاة به، ونظم الصلاة لا يختلف بتكرير الفاتحة، فلا يؤثر في بطلان الصلاة.
فرع:
832- ذكر العراقيون عن نصّ الشافعي: "أن الأخرس الذي لا ينطق لسانه بالفاتحة، يلزمه أن يحرك لسانه بدلاً عن تحريكه إياه في القراءة، [والتحريك من غير قراءة كالإيماء بالرّكوع والسجود"، وهذا مشكل] (2) عندي؛ فإن التحريك بمجرده لا يناسب القراءة ولا يدانيها، فإقامته بدلاً بعيدٌ، ثم يلزم على قياس ما ذكروه أن يلزموا التصويت من غير حروف مع تحريك اللسان، وهذا أقرب من التحريك المجرد.
وعلى الجملة، فلست أرى ذلك بدلاً عن القراءة لما ذكرته، ثم إذا لم يكن بدلاً، فالتحريك الكثير يلتحق بالفعل الكثير، على ما سيأتي مشروحاً في الأفعال.
فصل
833- ذكر صاحب التقريب أن المصلي إذا كان في أثناء قراءة الفاتحة، فنوى قطعها عقداً، ولم يقطعها فعلاً، فلا أثر لهذه النية. وليس كما لو نوى قطع الصلاة؛ فإن ذلك يتضمّن قطع نية الصلاة وهي رابطتها، فإذا عمد قطعها بطلت. وهذا ظاهر لا شك فيه، ولكني أحببت نقله منصوصاً.
__________
= الشافعية: 3/226، وتهذيب الأسماء واللغات: 2/271 رقم 442) .
(1) "الاستفراق": طلب الفرق.
(2) زيادة من (ت 1) ، (ت 2) .(2/149)
فصل
قال: فإذا قال الإمام: {وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] ، قال: "آمين" (1) .
834- آخر الفاتحة، {وَلَا الضَّالِّينَ} ، فإذا انتهت استحببنا لمن أنهاها أن يقول: آمين، وفيه لغتان: القصر والمد، والميم مخففة على اللغتين، والصحيحُ أنه من الأصوات، وُضع لتحقيق الدعاء، والمراد به: "ليكن كذلك" كما أن المراد من قوله: "صه" أي اسكت، فيؤمّن المنفرد والإمام والمأموم. وإذا قال الإمام " ولا الضالين " أمّن، ويؤمّن المقتدون به.
835- ثم الإمام في الصلاة الجهرية -وفيها الفرض (2) - يؤمّن، ويرفع صوته بالتأمين، ويتبع التأمين القراءةَ، وكما يجهر بها يجهر بالتأمين، وهذا يقوّي أحد الوجهين في الجهر بالتعوّذ، فإنه تابع للقراءة كالتأمين.
والمأموم يؤمّن وإن لم يكن ذلك آخر تلاوته للفاتحة؛ فإنه كان يستمع، وآخر الفاتحة دعاء، والتأمين بالمستمع المشارك في الدعاء أليق في سجية الداعين منه بالداعي نفسه، فإذا كان الإمام يؤمّن أمّن من خلفه، ولهذا قال أبو حنيفة (3) : لا يؤمّن الإمامُ ويؤمّنُ المقتدِي، ويُسرّ.
836- ثم إذا ثبت أن الإمام يجهر بالتأمين، فالمقتدي هل يجهر بالتأمين؟ اختلف نص الشافعي: فقال في موضع: يجهر، وقال في موضع: لا يجهر، واختلف الأئمة، فذهب الأكثرون إلى أن المسألة على قولين، ثم اختلف هؤلاء: فذهب جمهورهم إلى طرد القولين في كل صورة، أحدهما - أن المقتدي لا يجهر، كما لا يجهر بالقراءة وشيء من أذكار صلاته، وإنما الجهر للإمام.
__________
(1) ر. المختصر: 1/71.
(2) المعنى أن الإمام يؤمن في الصلاة الجهرية، فرضاً كانت، أو نفلاً كالعيدين، والقيام، وغيرها.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 26، رؤوس المسائل: 54 مسألة: 59، مختصر اختلاف العلماء: 1/202 مسألة: 139، الهداية مع فتح القدير: 1/256، حاشية ابن عابدين: 1/331.(2/150)
القول الثاني أنه يجهر لما روي عن أبي هريرة أنه قال: "كان إذا أمّن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمّن من خلفه، حتى كان للمسجد ضجة، وروي لجة" (1)
__________
(1) حديث أبي هريرة في التأمين. متفق عليه. ولفظ البخاري "إذا أمن الإمام، فأمنوا، فإن الملائكة تؤمن، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه" (اللؤلؤ والمرجان: 1/83 رقم 231) .
* أما على نحو سياقة إمام الحرمين، فقد قال الحافظ: "لم أره بهذا اللفظ، لكن روى معناه ابن ماجة، عن أبي هريرة، وكذلك أبو داود أيضاً". ا. هـ ملخصاً.
هذا: وقد تعقب ابنُ الصلاح في الكلام على الوسيط الإمامَ الغزالي قائلاً: "أورد هذا الحديث، تبعاً لإمام الحرمين في النهاية، وهو غير صحيح مرفوعاً، وإنما رواه الشافعي من حديث عطاء: كنت أسمع الأئمة: ابنَ الزبير، فمن بعده يقولون: آمين حتى إن للمسجد للجة". ا. هـ نقلاً عن الحافظ في تلخيصه.
ثم قال الحافظ: وقال النووي مثل قول ابن الصلاح، وزاد -أي النووي-: "وهذا غلط منهما". ا. هـ بنصه.
هذا ولم أصل إلى هذا الذي قاله النووي في المجموع عند كلامه على أحاديث الباب: 3/369-370. فلعله قاله في مكان آخر.
ملاحظة: ذكر الحافظ تنبيهاً حول هذا الحديث، قال فيه: "ذكر الغزالي في الوسيط، وفي الوجيز زيادة "ما تقدم من ذنبه، وما تأخر"، قال ابن الصلاح: "وهي زيادة ليست بصحيحة". ثم عقب الحافظ قائلاً: "وليس كما قال، كما بينته في طرق الأحاديث الواردة في ذلك" انتهى كلام الحافظ.
قلتُ (عبد العظيم) : مراد الحافظ: ليس الأمر كما قال ابن الصلاح بالنسبة للجزء الأول من الزيادة: "ما تقدم من ذنبه" أما زيادة "ما تأخر"، فقد وصفها الحافظ نفسه في الفتح بأنها شاذة من بعض الطرق، وغير صحيحة في البعض الآخر (ر. فتح الباري: الأذان -باب جهر الإمام بالتأمين ج 2 ص 262 حديث 780، وتلخيص الحبير: 1/238، 239 ح رقم 354-356) .
* تنبيه واستدراك: كنا قد كتبنا التعليق السابق قبل أن يطبع مشكل الوسيط لابن الصلاح، وتنقيح الوسيط للنووي، وبعد أن رأينا الكتابين تبيّن لنا ما يأتي: 1- الكلام الذي نقله الحافظ في التلخيص عن النووي، وقلنا: إننا لم نجده في المجموع، وجدناه في التنقيح. 2- كلام ابن الصلاح بشأن زيادة " ما تقدم من ذنبه وما تأخر " وأنها زيادة غير صحيحة، والتعقيب عليه بعد ذلك، نقول: عبارة ابن الصلاح نقلناها من التلخيص للحافظ، لكننا رأينا العبارة في مشكل الوسيط تختلف، فابن الصلاح يقول عن هذه الزيادة: "إنها غير صحيح منها قوله (وما تأخر) ". ولم يتكلم عن "ما تقدم"، وهذا بخلاف عبارة الحافظ التي نقلها عن ابن =(2/151)
والمعنى أن المقتدي متابعٌ لإمامه في التأمين؛ فإنه ليس يؤمّن لقراءة نفسه، وإنما يؤمّن بسبب انتهاء قراءة إمامه، فليتبعه في الجهر، كما يتبعه في أصل التأمين.
واعتمد أئمتنا من القولين هذا، ولم يَرَوْا في حديث أبي هريرة متعلقاً؛ فإن الناس إذا كثروا وأسمع كل واحد نفسه معاً، فيحصل من مجموع أصواتهم هينمة (1) وضجة، فيمكن أن يحمل الحديث على ذلك.
ومن أصحابنا من قال: إن لم يجهر الإمام بالتأمين في الصلاة الجهرية، جهر به المقتدي قولاً واحداً. وإن جهر الإمام، فهل يجهر المأموم؛ فعلى قولين، وهذا التفصيل ذكره العراقيون، وكان شيخي لا يراه ولا يذكره.
ويمكن توجيه ما فصلوه من القاعدة التي نبهنا عليها في التأمين، وما فيه من رعاية التبعية.
837- وذكر العراقيون طريقة أخرى، وقالوا: من أئمتنا من قال: ليست المسألة على قولين، والنّصان منزلان على حالين، - فحيث قال: "لا يجهر المأموم"، إذا قلّ المقتدون، وقربوا من الإمام، أو صغر المسجد، وكان القوم يبلغهم صوتُ الإمام، فإذا أسمعهم، كفى ذلك لمن سمعوه، كأصل القراءة. وإن كَبِر المسجد، وكان صوت الإمام لا يبلغ الجمع، فنؤثر للمقتدين أن يرفعوا أصواتهم حتى تبلغ أصواتُ الأقربين الأباعدَ. ثم لا يختص استحباب الرفع بقوم، بل نؤثر للجميع.
فهذا منتهى القول في ذلك.
838- ثم كان شيخي يقول: ينبغي للمقتدي أن يترصد فراغ الإمام عن قوله: "ولا الضالين"، فيبادر التأمينَ حينئذ، فيقع تأمينُه مع تأمين الإمام، وكان يقول: لا تستحب مساوقة الإمام ومقارنته في شيءٍ إلاّ في هذا؛ فإن النبيّ صلى الله عليه
__________
= الصلاح، والتي تفيد أن ابن الصلاح يضعف الزيادة كاملة. (ر. التنقيح للنووي، ومشكل
الوسيط لابن الصلاح - كلاهما بهامش الوسيط: 2/120، 122) .
(1) "الهينمة" الكلام الخفي، غير البين، من قولهم: هينم فلان. إذا دعا الله، وأخفى كلامه. (المعجم) .(2/152)
وسلم قال في حديث صحيح: "إذا قال الإمامُ "ولا الضالين"، فقولوا: آمين، فإن الملائكة تؤمّن على ذلك، ومن وافق تأمينُه تأمينَ الملائكة غُفِر لهُ ما تقدم من ذَنبِه" (1) .
وما ذكره من استحباب المقارنة، يمكن تعليله بأن القوم لا يؤمّنون لتأمينه، حتى يرعوا في هذا ملابسته للتأمين أولاً، وإنما يؤمّنون لقراءته، وقد نجزت قراءته، فإذا وقع التأمين بعد نجاز القراءة، كان في أوانه وحينه.
فصل
839- قراءة الفاتحة واجبة عندنا في كل ركعة، وقال أبو حنيفة (2) : لا تجب في الركعتين الأُخريين، وإنما تجب في الركعتين الأوليين، وطرد مذهبه في جميع الحالات: منفرداً كان المصلي، أو إماماً، أو مقتدياً.
840- ثم قراءة السورة بعد الفاتحة مسنونة في حق المنفرد والإمام في الركعتين الأوليين، وفي ركعتي الصبح، وهل تستحب قراءة السورة في الثالثة من المغرب، والركعتين الأخريين من الصلوات الرباعية؟ فعَلى قولين منصوصين: أحدهما -وإليه ميل النصوص الجديدة- أنها مستحبة في كل ركعة على إثر الفاتحة، لما روي عن أبي سعيد الخدري أنه قال: "حزرنا قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعتين الأوليين من الظهر، فكانت قدر سبعين آية، وحزرنا قراءته في الركعتين الأخريين، فكان على النصف من ذلك" (3) .
__________
(1) تقدم الكلام عن هذا الحديث، اقرأ التعليق قبل السابق كاملاً.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 28، مختصر اختلاف العلماء: 1/216 مسألة 155، بدائع الصنائع: 1/111. حاشية ابن عابدين: 1/307.
(3) حديث أبي سعيد الخدري رواه مسلم بلفظ: كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين، في كل ركعة قدر ثلاثين آية، وفي الأخريين قدر خمس عشرة آية، أو قال نصف ذلك. وأما لفظ إمام الحرمين: "قدر سبعين آية، فقد قال عنه ابن الصلاح: "هو وهم تسلسل، وتواردوا عليه" كذا حكاه الحافظ عنه (ر. مسلم: الصلاة، باب القراءة في الظهر والعصر، ح 452، وأبو داود: الصلاة، باب تخفيف الأخريين، ح 804، التلخيص: 1/239 ح 356) .(2/153)
والقول الثاني -وعليه العمل- إن قراءة السورة لا تستحب بعد الركعتين الأوليين؛ فإن بناء ما بعداهما من الركعات على التخفيف، ويشهد له أنه لا يستحب فيهما الجهر في الصلوات الجهرية، ومن يرى قراءة السورة في الركعتين الأُخريين يؤثر أن تكون أخفَّ من الركعتين الأوليين، ويشهد له حديث أبي سعيد الخدري.
841- ومن تمام البيان في ذلك تفصيل القول في المقتدي:
فإن كانت الصلاة جهرية، وكان المأموم يسمع صوت الإمام، فلا يستحب له قراءة السورة، بل يقتصر على قراءة الفاتحة، والأصل فيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا كنتم خلفي، فلا تقرؤوا إلا بفاتحة الكتاب؛ فإنه لا صلاةَ إلاّ بها"، وتمام الحديث أن أعرابياً اقتدى برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " والشَّمْسِ وَضُحاها " فراسله الأعرابي، فتعسرت القراءة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمّا تحلّل عن صلاتِه، قال: إذا كنتم خلفي، فلا تقرؤا إلا بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة إلاّ بها" (1) .
__________
(1) حديث "أن أعرابيا راسل النبي صلى الله عليه وسلم قراءة سورة والشمس وضحاها، فتعسرت عليه القراءة.." قال الحافظ: "لم أجده هكذا، وروى الدارقطني من حديث عمران بن حصين. كان صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس، ورجل خلفه، فلما فرغ قال: من ذا الذي يخالجني سورة كذا؟ فنهاهم عن القراءة خلف الإمام. وعيّن مسلم في صحيحه، هذه السورة " سبح اسم ربك الأعلى " ولم يذكر فنهاهم عن ذلك. بل قال فيه: قال شعبة: قلت لقتادة: كأنه كرهه، قال: لو كرهه لنهى عنه. قال البيهقي: وهذا يدلّ على خطأ الرواية الأولى".
ا. هـ بنصه من التلخيص.
هذا وقد روي عن عبادة بن الصامت حديث بمعناه. من غير تعيين الرجل والسورة، رواه أحمد، والبخاري في جزء القراءة خلف الإمام محتجاً به، وصححه أبو داود، والترمذي، والدارقطني، وابن حبان والحاكم والبيهقي. (ر. مسلم: الصلاة، باب نهي المأموم عن جهره بالقراءة خلف إمامه، ح 398، أبو داود: الصلاة، باب من ترك القراءة في صلاته بفاتحة الكتاب ح 823، 324، والترمذي أبواب الصلاة، باب ما جاء في القراءة خلف الإمام، ح 311 نحوه، قال أبو عيسى حديث حسن، وصححه الألباني: 1/199 والمسند: 5/313، 316، والدارقطني: 1/318 ح 5، وابن حبان: 5/1785، 1792، وقال الأرناؤوط: إسناده قوي. والبيهقي في السنن: 2/164، والحاكم: 1/238، وتلخيص الحبير: 1/230-231، 239-240 ح 342، 343، 357) .(2/154)
ولو كانت الصلاة سرّية أو بَعُدَ موقف المأموم وكان لا يسمع صوت الإمام، فهل يقرأ السورة؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يقرأ، وهو القياس؛ فإن المقتدي كالمنفرد عندنا، غير أنه حيث يسمع يقدم الاستماع في السورة على القراءة، فإذا كان لا يستمع، فلا معنى لترك قراءة السورة.
والوجه الثاني - أنه لا يقرأ، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كنتم خلفي، فلا تقرؤوا إلاّ بفاتحة الكتاب" ولم يفصل بين صلاة وصلاة.
والقائل الأول يؤوّل قولَه على الحكاية المروية في مراسلة الأعرابي إياه، ويخصص النهي عن قراءة السورة بالسامع في الصلاة الجهرية. وكان شيخي يقول: صح، أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سكتة بين الفراغ من الفاتحة وافتتاح السورة، فليبتدرها المقتدي، فإن انتجزت فيها قراءة الفاتحة، فذاك، وإن بقيت استتمها مع أول السورة.
فصل
قال: "وإذا فرغ منها وأراد أن يركع ... إلى آخره" (1) .
842- ذكرنا تفصيل القول في المفروض والمسنون من القراءة. ولا شك أن السورة تقرأ بعد الفاتحة، فلو قرأ المصلّي السورة أوّلاً، ثم الفاتحةَ، فقراءةُ الفاتحة مجزئة، ولكن هل يعتدّ بقراءة السورة؟ فعلى وجهين، ذكرهما العراقيون وغيرهم، ولا يخفى توجيههما على من يحاوله.
843- والقيام ركنٌ في صلاة المفترض، ثم لا يضر خفض الرأس على هيئة الإطراق، ولكن يجب نصب الفقار، ولو ثنى شيئاًً من حَقْوه ومحل نطاقه، لم يجز، وإن ثنى فِقار ظهره، ولم يثنِ معقد النطاق -إن أمكن ذلك- فلا يسوغ أيضاً.
والمعتبر فيه أنا سنذكر أن الاعتدال عن الركوع واجب، والاعتدال الانتصاب التام، ولولا ما صحّ من هيئة الإطراق، لأوجبنا رفعَ الرأس للاعتدالِ.
__________
(1) ر. المختصر: 1/72.(2/155)
844- ثم القدْر الذي تقع قراءة الفاتحة فيه من القيام مفروضٌ، وإذا مدّ المصلّي القيامَ، وزاد على ما يحوي قراءة الفاتحة، فقد ذكر الشيخ أبو علي وجهين في أنّا هل نحكم بأن جميع القيام فرض أم لا؟ وبنى هذين الوجهين على الوجهين، في أن من يستوعب رأسه بالمسح، فهل نقول: جميع المسح وقع فرضاً، أم لا؟
وهذا عندي كلام خارج عن ضبط الفقه؛ فإنه إذا جاز الاقتصار على ما يقع عليه اسم المسح، فكيف ينتظم القول بأن الزائد عليه فرض؟ ولولا تعرض هذا الإمام لحكاية هذا، وإلا كنت لا أرى ذكره.
ثم إن تخيل متخيل ذلك، فشرطه عندي، أنه لو أوصل الماء إلى رأسه دفعة واحدة بحيث لا يفرض تقدّم جزءٍ على جزء، فليس جزء من هذا أولى من جزء بأن يضاف الفرض إلى المسح الواقع به، فاعتقد معتقدون أن جميعَه يقع فرضاً، وهذا بعيدٌ في هذه الصورة التي تكلّفنا في تصويرها أيضاً.
فأما إذا أوصل الماء شيئاًً فشيئاًً إلى رأسه حتى استوعبه بالمسح، فتخيل الفريضة في الأجزاء التي وصل الماء إليها بعد الجزء الأول محال.
فأما القيام، فإذا قرأ المصلّي الفاتحة قائماً، ثم مدّ القيام بعد ذلك، فوصف القيام بعد تقدم القراءة بالفرضية لا يقبله محصل، وكيف يوصف بالفرضية ما جاز تركه، وهو متميز عما تقدم محلاً للقراءة المفروضة؟
نعم إن خلا أول القيام من قراءة الفاتحة، ثم افتتح المصلّي القراءة، فما هو محل القراءة مفروض أعني: قراءة الفاتحة، وما تقدم عليه فيه احتمال، من جهة أنه كان يتأتى إيقاع قراءة الفاتحة فيه، وكان لا يسوغ قطعه قبل جريان القراءة. فأما ما يقع بعد القراءة من القيام، فلا معنى لوصفه بالفرضية.
845- ومما نذكره في القيام، أن بعض الناس قد يعتاد أن يتحرك قليلاً في صوب الركوع، وينحني قليلاً، ثم يرتفع، فمهما زايل الاعتدالَ، وأوقع في حال زواله حرفاً من قراءته الواجبة، فلا يعتد بذلك الواقع خارجاً عن اعتدال القيام. ولو كان يفعل ذلك، ويعود قبل اشتغاله بالقراءة المفروضة، فإن كان ينتهي إلى حدّ الركوع ويعود،(2/156)
فهذا يُفسد الصلاة عمداً؛ فإنه زيادة ركوع في الصلاة، وسيأتي شرح ذلك. وإن كان يزايل حد اعتدال القيام ويعود، وكان لا ينتهي إلى حد الراكعين، فهذا فيه ترددٌ عندي، والظاهر أنه يُبطل الصلاة، وإن لم يبلغ حد الكثرة في الأفعال؛ لأنه يُعدد القومات في ركعة واحدة، فيصير كما لو عدد الركوع في ركعة؛ فإن من خرج عن الاعتدال، فليس قائماً القيام المعتد به، فإذا عاد، كان ذلك قياماً جديداً، وهو يقرب عندي من انحراف الرجل قصداً عن قُبالة القبلة، وقد ذكرت أن ذلك مبطلاً (1) للصلاة؛ فالخروج عن السمت المرعي في القيام ينزل هذه المنزلة.
وسمعت شيخي يجعل الانحناء الذي لا ينتهي إلى الركوع بمثابة الأفعال، فإن قلَّ زمانه، لم يضر، وإن كثر، فهو كالفعل الكثير، وهذا بعيد جداً.
846- ونحن نبتدىء الآن تفصيل القول في الركوع، فنذكر أقله، ثم نذكر أكمله وأفضله.
فأما الأقل، فإنه يعتمد أمرين: أحدهما - الانحناء إلى الحد الذي نذكره، والثاني - الطمأنينة، أما الانحناء، فأقلّه أن ينحني حتى ينتهي إلى حدّ لو مد يديه نالت راحتاه ركبتيه، وينبغي أن ينتهي إلى هذا في الانحناء، فلو كان بلوغه لانخناسه وإخراجه ركبتيه وهو مائل شاخص، فهذا ليس بركوع، ولا يخفى ذلك، ولكن مزَجَ انحناءَه بهذه الهيئة، ولم يجرد انحناءه، فوصل إلى ما ذكرناه بهما، فلم يعتد بما جاء به، فليكن بلوغ الحد المذكور بالانحناء.
847- فأما الطمأنينة في الركوع، فلا بد منها، ولا تصح الصلاة دونها، ثم ليس المعنيُّ منها لُبثاً ظاهراً، ولكن ينبغي أن يفصل الراكع منتهى هُويه عن حركاته في ارتفاعه، ولو بلحظة؛ فإذا فعل ذلك، فقد اطمأن، وإن لم ينفصل آخرُ حركات هُويه عن أول حركات ارتفاعه، بل اتصل الآخر بالأوّل، فهذا رجل لم يطمئن.
ومما يتمّ به هذا التحقيق، أن الراكع لو جاوز أقلّ الحد في الهوي والخفض،
__________
(1) كذا في النسخ الأربع. مبطلاً، ولا أدري له وجهاً إلا على تقدير سقوط لفظة مثل: يُعد. ثم جاءتنا (ل) وفيها: "مبطل".(2/157)
واتصلت حركاته، فإن ظن ظان والحالة هذه أن زيادة حركاته وراء أقلّ حد الركوع يحسب طمأنينة، قيل له: ليس كذلك، والرجل غير مطمئن؛ والسبب فيه أنا نشترط الطمأنينة ليتميز الركن بها بانفصاله عمّا قبله وبعده؛ فإنه إذا كان كذلك، كان ركناً معموداً متميزاً، فإذا تواصلت الحركات، فلا يحصل هذا الغرض، فهذا بيان الأقل.
848- ولا يجب عندنا ذكرٌ في الركوع -خلافاً لأحمد بن حنبل (1) - فإن الركوع في نفسه مخالف للهيئة المعتادة، فلم يُشترط فيه ذكر، بخلاف القيام، فإنه واقعٌ في الاعتياد، فخصص بقراءة في العبادة.
849- فأما بيان الأكمل، فنذكر ما يتعلق بالهيئات، ثم نوضح الذكرَ المشروع فيه.
فينبغي للرّاكع أن يجاوز الحدّ الذي ذكرناه في الأقل، ويسوّي ظهره في الرّكوع، وينصب قدميه من موطئهما إلى حَقْوَيه، ويخنِس ركبتيه إلى وراء، ولا نرى له أن يثني ركبتيه، بل ينصب الرجلين، ويثني ما فوقهما على استواء.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمدّ ظهره وعنقه في الركوع على استواء، بحيث لو صبّ الماء على ظهره، لاستمسك، ويضم راحتيه على ركبتيه والأصابعُ على حِلْيتها (2) متوسطة في التفريج، وينبغي أن يوجهها نحو القبلة، وإذا انتهى إلى المنتهى الذي ذكرناه، فيجافي مرفقيه عن جنبيه، ولا نُؤثر له أن يتجاوز في الانحناء الاستواء الذي وصفناه.
850- فأمّا الذكر المشروع، فينبغي أن يقول إذا ابتدأ الهوي: الله أكبر، ثم اختلف قول الشافعي، فقال في قولٍ: يحذف التكبير حذفاً، ولا يمده، ولا يبسطه، وليس المراد بحذفه أن يوقعه قائماً ثم يبتدىء بالهوي، بل يكبر في هويه، ولكن لا يحاول البسط.
__________
(1) ر. كشاف القناع: 1/390، الإنصاف: 1/115، غاية المنتهى: 1/141.
(2) حِلْيتها أي خلقتها وصِفَتها. وفي (ت 1) : جبلّتها. والمعنى واحد. أما في (ت 2) فحرّفت إلى حيلتها. (المعجم) .(2/158)
والقول الثاني - أنه يمدّ التكبير، ويبسطه على انتقاله من القيام إلى الركوع.
وقد طرد الشافعي القولين في جميع تكبيرات الانتقالات، فمن رأى الحذف حاذر من البسط التغيير، ومن رأى البسط، لم يُحبّ أن يُخلي حالَةً عن الذكر.
ثم إذا انتهى إلى الركوع قال: سبحان ربّي العظيم. روى حذيفة بن اليمان: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك في ركوعه" (1) ، وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، أنت ربّي خشع سمعي، وبصري، ومخي، وعظمي، وعصبي، وما استقلَّت به قدمي لله رب العالمين" (2) .
فإن سبَّح ثلاثاً وأتى بالذكر الذي رواه أبو هريرة، فحسن، وإن اقتصر على أحدهما؛ فالتسبيح أولى وأشهر، وعليه العمل.
ثم كان شيخي يقول: إن كان إماماً لم يزد على التسبيح ثلاثاً، وإن كان منفرداً، فكلما زاد، كان حسناً.
851- وقد اعتمد الشافعي في الطمأنينة وبيان الأقل في الركوع والسجود، ما رواه
__________
(1) حديث حذيفة: رواه الدارقطني، وروي نحوه عن ابن مسعود، وأصل هذا الحديث عند أبي داود، وابن ماجة، والحاكم، وابن حبان من حديث عقبة بن عامر. (ر. الدارقطني: 1/341، أبو داود: الصلاة، باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده، ح 869، ابن ماجه: إقامة الصلاة، باب التسبيح في الركوع والسجود، ح 887، الحاكم: 1/225، التلخيص: 1/242، 243 ح 365) .
(2) حديث أبي هريرة: رواه الشافعي، وليس فيه: ومخي وعصبي، ورواه مسلم من حديث علي رضي الله عنه على نحو ما ساقه إمام الحرمين تماما إلا: (أنت ربي) (وما استقلّت به قدمي) وهي عند ابن خزيمة، وابن حبان، والبيهقي، ورواه النسائي عن جابر. (ر. مسلم: 1/534، كتاب صلاة المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، ح 771 (جزء منه) ، وأبو داود عن علي: الصلاة، باب ما يستفتح به الصلاة من الدعاء، ح 760، وصحيح أبي داود للألباني: ح 688، والترمذي: كتاب الدعوات عن علي كذلك، باب 32 ح 3421، 3422، والنسائي عن جابر: التطبيق، باب (114) نوع آخر من الذكر في الركوع، ح 1052، وعن علي، ح 1051، والشافعي في الأم: 1/111، وأحمد في المسند عن علي: 1/95، 102، 119، والبيهقي: 2/87، تلخيص الحبير: 1/243، ح 365) .(2/159)
رفاعة بن رافع: أن أعرابيا دخل المسجد وصلّى، فأساء الصلاة، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فرد عليه السلام، فقال: "ارجع فصل؛ فإنّكَ لم تُصَلِّ، فَرَجَعَ وَصَلى، ثم عَادَ، فسلم، فرد عليه السلام، وقال: ارجع وصلِّ؛ فإنّك لم تصل، فرجع وصلّى، ثم عاد فسلم، فرد عليه، وقال: ارجع وصل فإنك لم تصلّ. فقال الأعرابي: والذي بعثك بالحق لا أحسن غيرها، فعَلِّمني!! فقال: تَوَضّأ كما أمرك الله، ثم استقبل القبلة، فقل: الله أكبر، ثم اقرأ ما معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع رأسك حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تعتدل جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم افعل ذلك في كل ركعة" (1) ولم يأمره بذكرٍ في الركوع والسجود.
852- ثم ينبغي للمصلّي أن يقيم شعار رفع اليدين، فيرفع يديه عند الركوع، وعند رفع الرأس من الركوع، كما يرفع يديه عند تكبيرة العقد.
ثم الذي نذكره هاهنا وقتَ الرّفع والخفض، فيرفع يديه عند ابتداء الهُوي، ثم يبتدىء الهوي، ويبتدىء خفضَ اليدين مع الهوي، فينتهي إلى الركوع، وقد انتهت يداه إلى ركبتيه، وإذا أراد رفعَ الرأس من الركوع، ابتدأ رفعَ اليد مع الارتفاع، فيعتدل وقد انتهت يداه في الارتفاع إلى منتهاها، ثم يخفض يديه بعد الاعتدال، فهذا بيان الرفع عند الركوع، وعند رفع الرأس من الركوع.
ثم يقول الرافع من الركوع: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد. ولا فرق بين
__________
(1) حديث المسيء صلاته متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، البخاري: كتاب الأذان، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها ح 755، وأطرافه في 797، 6251، 6252، 6667، وأخرجه مسلم: كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، ح 397.
وأما من حديث رفاعة بن رافع، الذي ذكره إمام الحرمين، فقد أخرجه أبو داود: الصلاة، باب من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، ح 858، والنسائي: التطبيق، باب الرخصة في ترك الذكر في الركوع، ح 1054، والحاكم: 1/242، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، والشافعي في الأم: 1/88، وأحمد: 4/340، وقال الألباني: رواه البخاري في جزء القراءة: 11-12، انظر الإرواء: 1/321، 322 ح 289.(2/160)
أن يكون إماماً، أو مأموماً أو منفرداً، وقد روي أنه صلى. الله عليه وسلم قال: "سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمدُ ملءَ السموات والأرض، وملء ما شئتَ من شيء بعد، أهل الثناء والمجد حق ما يقول العبد، كلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيتَ ولا معطيَ لِمَا منعت، ولا ينفعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ" (1) .
ولعلّ هذه الدعوات تليق بالمنفرد، فأمّا الإمام، فيقتصر على قوله: "سمع الله لمن حمده ربّنا لك الحمد"؛ فإنه مأمور بالتخفيف على من خلفه.
853- ثم ذكر الأئمة أنه يجب الطمأنينة في الاعتدال، كما يجب ذلك في الركوع والسجود، وفي قلبي من الطمأنينة في الاعتدال شيء؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأعرابي ذكر الطمأنينة في الركوع والسجود، و [أما] (2) الاعتدال قائماً وجالساً، فلم يتعرض للطمأنينة؛ فإنه قال: "ثم ارفع رأسك حتى تعتدِلَ قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع رأسك حتى تعتدل جالساً" (3) . وهذا الركن من
__________
(1) دعاء الرفع من الركوع روي مختصراً، وكاملاً على نحو ما ساقه إمام الحرمين، والمختصر " سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد " متفق عليه (اللؤلؤ والمرجان: 1/80 ح 220) وبتمامه عند مسلم من حديث أبي سعيد الخدري وابن عباس (مسلم: 1/347، باب (40) ما يقول إذا رفع من السجود من كتاب الصلاة، ح 477، 478) ووقع في (المهذب) و (الوجيز) كما هنا في النهاية (حق) بدون الهمزة، وحذف الواو في (كلنا لك عبد) وتعقب النووي ذلك بأن الذي عند المحدثين بإثباتهما. وأجاب الحافظ بأنه عند النسائي بحذفهما أيضاً. (ر. تلخيص الحبير: 1/244 ح 367، 368، 369) .
(2) زيادة من: (ت 2) .
(3) نقل الرافعي في الشرح الكبير: 3/403 عن إمام الحرمين عبارته هذه: "في قلبي من الطمأنينة في الاعتدال شيء؛ فإنه صلى الله عليه وسلم قال ... إلخ" وقال الحافظ في التلخيص: "ولم يتعقبه الرافعي، وهو من المواضع العجيبة التي تقضي على هذا الإمام بأنه كان قليل المراجعة لكتب الحديث المشهورة، فضلاً عن غيرها؛ فإن ذكر الطمأنينة في الجلوس بين السجدتين ثابت في الصحيحين ... أما الطمأنينة في الاعتدال، فثابت في صحيح ابن حبان، ومسند أحمد، من حديث رفاعة بن رافع، ولفظه: "فإذا رفعت رأسك، فأقم صلبك حتى ترجع العظام إلى مفاصلها". ورواه أبو علي بن السكن في صحيحه وأبو بكر بن أبي شيبة من حديث رفاعة في مصنفه بلفظ: "ثم ارفع حتى تطمئن قائماً" ا. هـ: التلخيص: 1/256-257) . =(2/161)
الأركان القصيرة أيضاً، ولو وجبت الطمأنينةُ فيه، لما امتنع مدّه كما في الركوع والسجود.
ولم يتعرض للطمأنينة في الاعتدالين الصيدلاني (1) ، ولكن سماعي من شيخي، وما ذكره بعض المصنفين اشتراطُ الطمأنينة في الاعتدالين، وهو محتمل من طريق المعنى، وسيأتي من بعد ذلك كلام يدل على تردد الأصحاب في أن الاعتدال ركن مقصود في نفسه، أم الغرض هو الفصل بين الركوع والسجود وبين السجدتين؟ فإن جعلناه مقصوداً، فيظهر فيه اشتراط الطمأنينة، وإن لم نجعله مقصوداً، فلا يبعد ألا تشترط الطمأنينة فيه، والعلم عند الله. وما ذكرته احتمال. والنقل الذي أثق به اشتراط الطمأنينة.
فصل
قال: "وأول ما يقع على الأرض منه ركبتاه ... إلى آخره" (2) .
854- نجز القول في الركوع والاعتدال عنه.
ثم يهوي المصلّي ساجداً مكبراً، والقول في حذف التكبير وبسطه على ما ذكرناه.
__________
= ثم لنا أن نقول: إن الحافظ - على جلالته وتبحره في العلم بالسنة، يعترف أنه لم يعرف أن الطمأنينة في الاعتدال عند ابن ماجة، حتى أفاده بها شيخ الإسلام جلال الدين (ر. التلخيص: 1/257 سطر 6) .
ثم بعد كل هذا نقول: إن إمام الحرمين أنهى تردده قائلاً: "وما ذكرته احتمال، والنقل الذي أثق به اشتراط الطمأنينة" ا. هـ.
فهل بعد هذا يستحق أن يعنف به الحافظ كل هذا العنف؟ رضي الله عنهما، وتقبلهما مع الشهداء والصدّيقين.
ومما يمكن أن يسجل أيضاً أن الحافظ لم يلتفت أدنى التفات إلى تسليم الرافعي بما نقله عن إمام الحرمين، وصب كل لومه وتعنيفه على الإمام وحده. فلماذا؟ الله أعلم.
(1) عبارة (ت 2) : ... ولم يتعرض للطمأنينة في الاعتدالين. وللصيدلاني إشارة إلى ذلك، ولكن سماعي من شيخي..
(2) ر. المختصر: 73.(2/162)
ثم مذهب الشافعي أن الأوْلى أن يقع منه على الأرض أولاً ركبتاه، ثم يداه. وأبو حنيفة (1) يعكس ذلك. وقد روي مثل ما ذكرناه عن النبي عليه السلام.
ثم الكلام في السجدة يتعلق ببيان الأقل، ثم بعده بالأكمل الأفضل.
855- وأما الأقل، فنذكر هيئة البدن فيه، وما يجب وضعه على الأرض، فيجب وضع الجبهة، وفي وجوب وضع اليدين والركبتين وأطراف أصابع الرجلين قولان: أحدهما - لا يجب وضعها، وما يوضع منها فلضرورة الإتيان بهيئة السجود، وهذا القائل يقول: المقصود نهاية الخشوع بوضع أشرف الأعضاء الظاهرة على الأرض.
والقول الثاني - أنه يجب وضع هذه الأعضاء، لما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: "أمِرتُ أن أسجدَ على سبعة آراب" (2) وعنى بها الوجه واليدين والركبتين والقدمين.
وذكر بعض أئمتنا أنه لا يجب وضع الركبتين والقدمين قولاً واحداً، وإنما القولان في وجوب وضع اليدين.
ثم إذا أوجبنا وضع اليدين، فهل يجب كشفهما في السجود؟ فعلى قولين.
ولا يجب كشف الركبتين والقدمين وفاقاً؛ أما الركبتان، فمتصلتان بالعورة، فلا يليق برعاية تعظيم الصلاة كشفهما، وأما القدمان، فلا يتجه وجوب كشفهما مع تجويز الصلاة مع الخفين.
توجيه القولين في اليدين: من قال: يجب كشفهما، احتج بما روي عن خباب بن الأرت رضي الله عنه أنه قال: "شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء
__________
(1) الذي رأيناه عند الحنفية أنهم يقولون بوضع الركبتين أولاً مثل الشافعية. (ر. مختصر الطحاوي: 27، مختصر اختلاف العلماء: 1/211 مسألة 149، والبحر الرائق: 1/335، وابن عابدين: 1/335) .
(2) حديث أمرت أن أسجد على سبعة أراب. متفق عليه من حديث ابن عباس: بلفظ: (سبعة أعظم) (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/99، باب (44) أعضاء السجود، ح 276، التلخيص: 1/251 ح 376) .
* و"الآراب" جمع (إِرْب) بكسر فسكون، وهو العضو. (المعجم) .(2/163)
في جباهنا وأكفنا، فلم يشكنا" (1) معناه: لم يعطنا شكوانا.
ومن لم يوجب كشفهما، احتج أن الغرض المعقول من السجود إظهار صورة التواضع، وذلك يحصل بكشف الجبهة، ولا ينخرم (2) بترك الكشف في اليدين.
ومن قال بالأول، فله أن يقول: ترك كشف اليدين يحكي صورة الكَسْلى (3) ويؤذن بالتنعم الذي يناقض الغرض.
فالأعضاء على مراتب ثلاث: أما الركبتان، ففي كشفهما خروج عن هيئة ذوي المروءات، وليس في كشف القدمين معنى يليق بالسجود، أما الجبهة، فكأنها المقصودة بالسجود، فلا بد من كشفها، على ما سنفصل ذلك، والكفان على التردد؛ فليس في ترك كشفهما إخلال بالخضوع، ولكن في ذلك إثبات تنعم وترفه، فاقتضى ذلك اختلافَ القول، كما ذكرناه.
856- ونحن نذكر الآن أمرين آخرين: أحدهما - تحقيق القول في الوضع ومعناه، والثاني - تفصيل القول في الكشف.
فأما الوضع، فقد قال الأئمة: لو أمس جبهتَه الأرضَ وهو مقلّ لها، لا يرسلها، لم يجز، ولم يصح السجود، وقال صلى الله عليه وسلم: "مكّن جبهتك من الأرض يا رباح" (4) ، وطريق المعنى فيه وهو مدار تفصيل المذهب في السجود،
__________
(1) حديث خباب بهذا السياق قال الحافظ: "رواه الحاكم في الأربعين له"، وأصله في مسلم وغيره من دواوين السنة، ولكن بغير "جباهنا وأكفنا" وهي موضع الاستشهاد والاستدلال.
ملاحظة: قال الحافظ: هو عند مسلم ليس فيه: "جباهنا" و"أكفنا" و"حر". وهو كما قال في اللفظين الأولين. أما (حر) فهي عنده. (ر. مسلم: المساجد ومواضع الصلاة، ح 619، والبيهقي 1/438، والإحسان في تقريب صحيح ابن حبان: 4/1480، التلخيص: 1/ 252 ح/377) .
(2) في (ت 1) ، (ت 2) : يتحزم.
(3) جمع: كسِل، وكسلان (المعجم) .
(4) حديث مكن جبهتك من الأرض رواه ابن حبان في حديث طويل، عن ابن عمر، ورواه الطبراني، وقال النووي: لا يعرف، وذكره في الخلاصة في فصل الضعيف. هذا. ولم نصل إلى (رباح) المخاطب بهذا الحديث. (ر. ابن حبان: 5/215 ح 1887، والطبراني =(2/164)
فهو (1) أن نهاية التواضع لا يتأتى إلا بتمكين الجبهة من الأرض، والإمساسُ المجرد في حكم الإلمام (2) بافتتاح التواضع، وتمامُه التمكن، ثم التمكين عندنا فيه نظر؛ فإن ظاهره يشعر بأن الساجد متعبد بأن يتحامل على موضع سجوده، بحيث يظهر أثر تحامله.
وأنا أقول فيه: إن لم يكن موضع سجوده وثيراً محشواً، فيكفي أن يُرخيَ رأسَه ولا يُقلَّ ثِقْله، والسر فيه أن الغرض منه إبداء هيئة التواضع، والاسترسال في المصلّي كالشيء الملقَى، وهو (3) أليق بالتواضع من تصنّع التحامل على موضع السجود، والأصل في طلب نهاية التواضع أن الذي يكتفي بإمساس جبهته، الأرضَ، وهو يقلّ ثِقْلَ رأسه، كأنه يتقزّز (4) بإقلاله، كالضنين به، والذي يتكلف تحاملاً ليس يحصل بما يأتي به إظهار تواضع، فالأقرب إرخاء الجبهة، قالت عائشة رضي الله عنها: "رأيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في سجودِه كالخِرقة البالية" (5) .
وإن كان الموضع الذي يسجد عليه محشواً بقطن أو غيره، فكان شيخي يوجب التحامل في مثل هذه الصورة، فيقول: ينبغي أن يتحامل تحاملاً يتبين أثره على يدٍ لو فرضت تحت ذلك المحشو، ولست أرى الأمر كذلك، بل يكفي إرخاء الرأس كيف
__________
= في الكبير ح 13566، والبيهقي في دلائل النبوة: 293، التلخيص: 1/251 ح 374) .
هذا. وقد أورده إمام الحرمين موقوفاً على علي كرم الله وجهه، في الدرة المضية - مسألة رقم 75.
(1) كذا " فهو " بالفاء، مع أنها خبر لقوله: "وطريق المعنى ... " ثم جاءتنا (ل) مخالفة النسخ الأربع بحذف لفظ " فهو " والاستغناء عنها، فصار الخبر " أن " ومعموليها.
(2) في (ل) : الاهتمام.
(3) ساقطة من (ل) .
(4) في (ل) : يتعزز.
(5) حديث عائشة رضي الله عنها، قال الحافظ: لم أجده هكذا، وقال ابن الصلاح: لم أجد له بعد البحث صحة، وتبعه النووي، فقال في التنقيح: "منكر لا أصل له" ا. هـ. ثم قال الحافظ: نعم قد روى ابن الجوزي نحو هذا في حديث عائشة ليلة النصف من شعبان.. قولها: "فانصرفت إلى حجرتي فإذا أنا به كالثوب الساقط. على وجه الأرض ساجداً" (ر. التلخيص: 1/ 254، ح 378، والعلل المتناهية لابن الجوزي: 2/67 ح 917) .(2/165)
فرض محل السجود، فهذا منتهى القول في معنى الوضع والتمكين.
857- فأما الكشف، فيجب كشف شيء من الجبهة، ثم قال الأئمة: لا يجب وضع جميعها، بل يكفي وضع ما ينطلق عليه الاسم منها، ويجب أن يكشف شيئاًً وإن قلّ من جبهته، وليكن ذلك الموضوع مكشوفاً، ولو كشف شيئاًً ولم يضعه، لم يعتد به، ولو كان بعض ما وضعه مكشوفاً، كفى؛ فإن الفرض يسقط بذلك المقدار المكشوف الموضوع، والباقي لا أثر له.
ثم لو سجد على كَوْر (1) عمامته، ولم يضع بشرة جبهته على محل سجوده، لم يجز. وكذلك لو كان على جبهته طرة (2) ولم يُبعدها وإنما مسها الأرض، لم يسقط الفرض حتى يُنَحِّيها ويمس بشرة جبهته المصلّى.
ولو سجد على طرف كم نفسه أو ذيله، فإن كان يتحرك ما يسجد عليه إذا ارتفع وانخفض؛ فإنه لا يجوز؛ فإنه منسوب إليه. وإن طوّل طرفَ كمه، وكان بحيث لا يرتفع بارتفاعه، فإذا سجد على ذلك الطرف أجزأه؛ فإن ذلك الطرف في حكم المنفصل عنه في هذا.. وسيأتي في أحكام النجاسات أمر يخالف هذا في ظاهره، وإذ ذاك نُوضّح الفرقَ.
ولو سجد على ذيل غيره، لم يضرّ؛ فإن ذلك الشيء غير منسوب إليه، وكذلك لو سجد على ظهر إنسان واقف في منخفض من المكان، بحيث لا يُفسد هيئة السجود، فيجوز لما ذكرناه، ثم قد نص الشافعي عليه كما تقدم ذكره.
وإذا أوجبنا وضع اليدين وكشفهما، فيكشف من كلّ يد شيئاًً، ويكفي الشيء القليل من كل واحدة منهما، وليكن المكشوف موضوعاً، كما ذكرناه في الجبهة.
__________
(1) كَوْر عمامته: أي: الدور من لفائف العمامة، والمراد هنا سجد على عمامته. (المصباح) .
(2) الطرة: طرف كل شيء، وما تطرّه المرأة من الشعر، وتصففه على جبهتها. وهذا هو المعنى المراد هنا، ولولا أنه سبق مقابلته بكور العمامة، لاحتمل أنه طرف كل شيء يكون على الرأس.
ملاحظة: لم يرد لفظ الطرة في غريب ألفاظ الشافعي. ولم يورد المصباح هذا المعنى، بل ذكره الخطابي في غريب الحديث: 2/66، والمعجم الوسيط.(2/166)
فهذا بيان الوضع والكشف.
ثم لا يقوم غيرُ الجبهة مقامها، فلو وضع الأنف، ورفع الجبهة، ولم يضعها، لم يجز عندنا.
858- ومما بقي في ذلك الكلامُ في هيئة الساجد، فيما يتعلق بالأقلّ: وكان شيخي يقول: إن تنكس المرء في سجوده، فتسفَّلَتْ أعاليه، واستعلت أسافله، فهذه الهيئة هي المطلوبة. وإن وضع جبهته على شيء مرتفع، وكان موقع رأسه أعلى من حَقْوه، لم يكن ساجداً، ولم يكن ما جاء به معتداً به، ولو كان مستوياً منبطحاً بحيث يساوي موضع رأسه حَقْوه، فهذا كان يتردد فيه، وهو موضع التردّد.
وأنا أقول: إن تقبض وانخنس، ووضع رأسه بالقرب من ركبته، فهذا ليس هيئةَ السجود، ولا يُشعر أيضاً بالتواضع المطلوب، وإن بعد رأسه عن موضع ركبته، فإن موضع جبهته ينخفض عن كتفه لا محالة، فلا يخلو الساجد في المكان المستوي عن هذا الضرب من الانخفاض. والظاهر عندي هاهنا الإجزاء؛ فإن الانخفاض والتواضع ظاهر.
وإن كان موضع الرأس مرتفعاً قليلاً، بحيث يساوي الرأس الكتف واليدين، وسببَ الاستواء ما ذكرناه من الارتفاع، فالظاهر المنع هاهنا، وإن لم يكن موضع الرأس أعلى مما وراءه.
وكان شيخي يذكر التردد مطلقاً في صورة الاستواء، ويعتبر التسوية بين الحقو وموضع الرأس.
ومما يتعلق بهذا أنه لو سجد على وسادة، فإن كان متنكساً مع ذلك، جاز، ولا شك فيه. وإن ارتفع الرأس لهذا السبب، لم يجز أصلاً، وإن كان هذا سببَ الاستواء، ففيه التردد الذي ذكرته.
ولو كان في مرض يمنعه من التنكس، وكان لا يتأتى منه هيئة الاستواء أيضاً، ولكن لو وضعت وسادة، لَوَضَع جبهتَه عليها، ولو لم يكن، لانتهى الرأس إلى ذلك الحد من غير وضعٍ على شيء، فهل يجب الوضع على وسادة، أو يدني الرأس جهده(2/167)
ولا يلزمه الوضع؟ تردد أئمتنا في ذلك، فمنهم من لم يوجب الوضع؛ فإنه وإن وضع فليس منتهياً إلى الحد المطلوب في السجود، ومنهم من أوجب، وقال: على الساجد وضع وهيئة، فإن تعذرت الهيئة، وجب عليه الوضع.
وهذا كله كلام في هيئة الساجد في بيان الأقل.
فأما الطمأنينة، فلا بد منها في السجود [كما ذكرناه في الركوع.
وقد تم بذكرها بيان الأقل المقصود من السجود] (1) .
859- فأما بيان الأكمل، فيتعلق بالهيئة والذكر: أمّا الهيئة، فإن كان الساجد رجلاً، فينبغي أن يخوي (2) في سجوده، فيفرق ركبتيه ويجافي مرفقيه عن جنبيه، بحيث يُرى عُفْرَة (3) إبطيه لو كان مكتفياً برداء، ويُقلّ بطنَه عن فخذيه، ويضع يديه منشورة الأصابع على موضعهما في رفع اليدين، وأصابعه مستطيلة في جهة القبلة مضمومة غير مفتوحة، بخلاف حالة العقد والرفع، وعند الركوع، فلا موضع يؤمر فيه بضمّ الأصابع مع نشرها طولاً إلا في السجود.
هكذا ذكره بعض المصنفين وهو سماعي عن شيخي، ولم أعثر في هذا على خبر، ولا يثبت مثله بطريق المعنى والله أعلم.
وقد روي عن البراء بن عازب أنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد خوى في سجوده" (4) و [تفسير] (5) التخوية ما ذكرناه، ومنه يقال: خوى
__________
(1) زيادة من (ت 1) ، (ت 2) .
(2) خوى يخوي من باب رمى، وخوى الرجل في سجوده خُويَّاً: رفع بطنه عن الأرض، وقيل جافى عضديه. (المصباح) .
(3) العُفرةُ: بياض ليس بالخالص. (المعجم) .
(4) حديث البراء بن عازب رواه أحمد في مسنده، ورواه النسائي وابن خزيمة، وغيرهما بلفظ مغاير، ومعناه متفق عليه بلفط مغاير، وروي عن عدد من الصحابة رضوان الله عليهم. (ر. مسند أحمد: 4/303، النسائي: التطبيق، باب صفة السجود، ح 1105، ابن خزيمة: ح 647، تلخيص الحبير: 1/255 ح 383) .
(5) زيادة من (ت 2) .(2/168)
البعير؛ إذا برك على وفاز (1) ولم يسترح، ومعناه في اللسان ترك خواً بين الأعضاء.
860- ومما يتعلق بالهيئة، أن ظاهر النص أنه يضع أطراف أصابع رجليه على الأرض في السجود، ونقل المزني أنه يضع أصابعه بحيث تكون مستقبلة للقبلة، وهذا يتضمن أن يتحامل عليها، ويوجه رؤوسها إلى قُبالة القبلة. والذي صححه الأئمة أنه لا يفعل ذلك بل يضع أصابعه من غير تحامل عليها.
والمرأة لا تؤمر بالتخوية، بل تؤمر بضدها، فلتضم رجليها وتلصق بطنها بفخذيها؛ فإن ذلك أستر لها، ورعاية الستر أهم الأشياء لها.
ومما نذكره في الأكمل ألا يقتصر على وضع الجبهة، بل يضع الأنف مع الجبهة.
وأما الذكر، فيقول في سجوده ثلاثاً: سبحان ربي الأعلى، إن كان إماماً، ولا يزيد، ليخفف على من خلفه، فهذا بيان السجود في الأقل والأكمل.
فصل
861- الاعتدال من السجود فرض، كما يجب الاعتدال من الركوع، ووجوب الطمأنينة في الجلوس كوجوبها في الاعتدال من الركوع، وقد سبق القول فيه.
ثم تكون هيئة الجالس بين السجدتين في يديه ورجليه كهيئة الجالس في التشهد الأول، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى، ويضع يديه منشورتي الأصابع على ما يتصل بركبتيه من فخذيه، ولو انعطف أطراف الأصابع على الركبة، فلا بأس، فليس في ذلك ثَبت. أمّا أصل وضع اليدين على الفخذين محبوبٌ (2) ، ولو ترك يديه على الأرض من جانبي فخذيه، فهو بمثابة من يرسل يديه في القيام.
862- ثم يستحب أن يذكر الله تعالى في الجلوس بين السجدتين.
وقد روي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول بين السجدتين:
__________
(1) في (ت 1) : "إذا تُركَ على وفانٍ" بهذا الضبط وهذا الرسم، والوفاز: العجلة، وعدم الاطمئنان. (المعجم) .
(2) جواب أما بدون الفاء.(2/169)
"اللهم اغفر لي واجبرني وعافني وارزقني، واعف عني" (1) .
ثم يسجد سجدة أخرى مثل السجدة الأولى، ثم يرتفع.
فإن كانت الركعة تستعقب تشهداً، جلس للتشهد كما سنصفه، وإن كانت تستعقب قياماً، فينبغي أن يجلس على إثر السجدة الثانية جلسةً خفيفةً، ثم ينتهض منها قائماً، وهذه الجلسة تسمى جلسةَ الاستراحة، وهي مسنونة عندنا. والأصل فيه ما رواه مالك بن الحويرث، قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في الركعة الأولى [والثالثة] (2) لم ينتهض حتى يستوي قاعداً" (3) .
ولا يسن في هذه الجلسة ذكر مخصوصٌ.
863- ولكن اختلف أئمتنا في وقت افتتاح التكبيرة التي ينتقل بها، فمن أصحابنا من قال: يبتدىء التكبيرة محذوفة أو ممدودة مبسوطة مع رفعه الرأس من السجود، وينتهي -وإن مدّت- مع انتهاء الجلسة، ثم يقوم غير مكبر.
ومن أئمتنا من قال: يعتدل جالساً من غير تكبير، ثم ينتهض في جلوسه مكبراً إلى القيام. ونصُّ الشافعي رضي الله عنه يدلُّ على هذا في كتاب صلاة العيد، كما سنذكره ثَم إن شاء الله تعالى (4) .
__________
(1) حديث ابن عباس: رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة، والحاكم، والبيهقي، مع تفاوت في اللفظ، وصححه الألباني عند الترمذي وابن ماجة، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي (ر. أبو داود - كتاب الصلاة، باب الدعاء بين السجدتين، ح 850، وصحيح أبي داود: ح 756، والترمذي: أبواب الصلاة، باب ما يقول بين السجدتين، ح 284، وصحيح الترمذي: 233، وابن ماجة: إقامة الصلاة، باب ما يقول بين السجدتين، ح 898، والحاكم: 1/262، 271، البيهقي: 2/122، التلخيص: 1/258 ح 387) .
(2) زيادة من (ت 1) .
(3) حديث مالك بن الحويرث: رواه البخاري: 1/194، كتاب الأذان، باب من استوى قاعداً في وتر من صلاته ثم نهض، ح 823، والشافعي في مسنده ص 41. بنحو ما ساقه إمام الحرمين.
(4) قال النووي في التنقيح في شرح الوسيط: إن الإمام الغزالي في الوسيط، وفي البسيط، وشيخه في (النهاية) والصيدلاني، ومحمد بن يحيى، تركوا وجهاً ثالثاً في المسألة: أنه يرفع مكبراً، ويمدُّ التكبير إلى أن ينتصب قائماً؛ حتى لا يخلو شيء من الصلاة عن ذكر، وهذا =(2/170)
864- ثم إذا أراد الانتهاض من الجلوس قائماً، فالأحسن أن يعتمد على الأرض بيده؛ فإن ذلك أحزم وأقرب إلى الخضوع، وروي عن ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام في صلاته وضع يديه على الأرض كما يضع العاجز" (1) .
فصل
865- إذا هوى ليسجد، فسقطَ، نُظر: فإن سقط على وجهه على الهيئة المطلوبة في السجود، فقد نصّ الشافعي رضي الله عنه أن السجود معتدّ به، وإن لم يوجد فيه وفي الطريق إليه حركات اختيارية من المصلّي، واتفق أئمتنا على ذلك.
ولو سقط على جنب، ثم استدّ، واعتمد على جبهته، قال رضي الله عنه: إن قصد باستداده واعتماده أن يأتي بالسجود، وقع ما جاء به سجوداً معتداً به، ولا نظر إلى وقوع الهوي ضرورياً (2) لمَّا سقط وخرّ، وإن قصد باستداده أن يستوي ويستقيم، ولم يخطر له السجود، بل جرد قصده إلى الاستقامة، فلا يعتد بما وقع منه عن السجود.
وهذا الذي ذكره الشافعي رضي الله عنه يناظر ما إذا أفاض الناسك، ودخل وقت طواف الزيارة، فلو أفلت منه إنسان، فأخذ يتبعه طائفاً حول الكعبة، فما يقع من ترداده على قصد اتباع غريمه لا يعتد به عن الطواف.
وقد ذكرت نظير هذا في كتاب الطهارة، فيمن تعزُب عنه النية، فيغسل رجليه مجرِّداً قصدَه إلى التنظيف، وهو ذاهل عن النية. ذكرت أن من أئمتنا من صحح
__________
= الوجه الثالث هو الصحيح عند جماهير الأصحاب. (التنقيح - بهامش الوسيط: 2/142) .
(1) حديث ابن عباس: قال عنه ابن الصلاح: لا يصح، ولا يعرف، ولا يجوز أن يحتج به، وقال النووي في شرح المهذب: هذا حديث ضعيف، أو باطل لا أصل له، وقال في التنقيح: ضعيف باطل (ر. تلخيص الحبير: 1/260 ح 391. ومشكل الوسيط لابن الصلاح، والتنقيح للنووي - بهامش الوسيط: 2/143) .
(2) أي ليس إرادياً واختيارياً.(2/171)
الوضوء، وهؤلاء طردوا ذلك في الطائف أيضاً، وطردوه في الذي ينتهض من سقطته.
وهذا الخلاف على بعده يجري في صورة مخصوصة، وهي أن تجري صورة ركن مع القصد إلى صرفه عن غير جهة العبادة، بسبب الذهول عن العبادة، فلو لم يكن ذاهلاً عنها، بل كان ذاكراً لها، وقصد مع ذلك صرفَ ما جاء به إلى غير جهة العبادة، كأنه يستثنيها عن سَنَن العبادة، ويستخرجها من حكم نظامها. فإذا كان كذلك، فالوجه القطع بأنه لا يقع ركناً معتداً به، وذلك الوجه البعيد مخصوص بالذاهل -في وقت وقوع صورة الركن منه- عن أمر العبادة.
فلو استدّ الساقط، ولم يخطر له الانتهاض ولا السجود، فالذي جاء به معتد به وفاقاً.
866- فقد ترتب مما ذكرناه صورٌ ثلاث: إحداها - أن يقصد الركن، فيقع ركناً، وإن لم تقع حركات هُويه اختيارية.
والثانية - ألا يقصد شيئاًً، بل يقع منه صورة السجود، فيعتد بها أيضاً قطعاً.
والثالثة - أن يجرد قصده إلى الانتهاض، وهذا ينقسم، فإذا كان ذاكراً للعبادة، وقصد استثناء هذا عن نظامها، فلا يعتد بما يأتي به ركناً، وإن كان ذاهلاً، فالنص أنه لا يعتد به، وفيه وجه مخرَّج، كما ذكرته وطردته، أنه يعتد به، ثم إذا كان ذاهلاً، فلا تبطل الصلاة بما يأتي به، وإن استثنى وهو ذاكر للعبادة، فهذا رجل أتى بصورة ركن عمداً، وسنذكر أن ذلك يبطل الصلاة.
867- وقد بقي الآن في إتمام ما نحاول شيئان: أحدهما - أن الذي سقط على جنبٍ إذا استوى ساجداً، وقصد الاستقامة، وجرينا على النص في أنه لا يعتد بما جاء به، فإن أراد أن يسجد، لم تنقطع صلاته، فلو أراد أن يديم صورة السجود عن السجود الذي عليه الآن باستدامة تلك الحالة، لا يسقط عنه فرض السجود؛ فإن هذا سجود لم يحتسب أوّله، ولا بدّ من ابتداء سجود معتد به، فكيف السبيل إلى الإتيان به؟
هذا يتعارض فيه أمران: أحدهما - أن يقال: يقوم، ثم يهوي. ساجداً من قيام،(2/172)
ووجه ذلك أنه كما صرف صورة السجود عن الصلاة، فيصرف الهوي عن الصلاة، فَلْيَعُدْ إلى ما كان، فكأنه لمْ يهوِ، وليبتدىء الهوي، فهذا وجه في الاحتمال.
والأظهر عندي أن يعتدل جالساً، ثم يسجد، وعلة ذلك أن الجلسة كافية في الفصل بين السجدتين، فليقع الاكتفاء بها الآن، والذي يسجد السجدة الثانية، يسند سجدته الثانية إلى فاصل يبني عليه ابتداء السجود الثاني.
وكان من الممكن أن يؤمر بالقيام والهوي منه إلى السجدة الثانية، فلما لم يرد الشرع بهذا دلّ أن القعود كافٍ، فعلى هذا لو قام -ونحن نكتفي بالقعود- فهذا زاد قياماً في صلاته من غير حاجةٍ، وسأقرر هذا إن شاء الله تعالى عند ذكري زيادة الأركان قصداً في أدراج ذكر الأفعال الكثيرة والقليلة إذا جرت.
فهذا أحد الأمرين في تتمة الفصل.
الثاني - أنه قد يتخالج في نفس الفقيه أن المصلي مأمور بأفعاله، فإذا جرت حركات الهوي ضرورية، فيستحيل أن تقع مأموراً بها؛ فإن المأمور به يجب قطعاً أن يكون فعلاً للمكلّف.
فالوجه في التفصِّي (1) عن هذا، أن هذه الحركات غير مقصودة، وإنما الغرض الإتيان بالسجود، ثم يقال عند ذلك: فالسجود لم يقع أيضاً مقصوداً، وهو مقصود قطعاً. وقد مضى في صدر الكلام أن استدامة السجود لا يقع موقع ابتدائه.
فالذي أراه -وإن نقلت ما ذكره الأصحاب- أنه لا يعتد بهذا السجود، ولا يكفي، فليعتدل قائماً، ويسجد (2) سجدةً عن الاعتدال.
والشافعي رحمه الله فرض المسألة فيه إذا سقط على جنب، ثم استقام واستدَّ، فقد حكيت ما ذكره الأئمة، ثم اختتمت الكلام بما عندي فيه. والله المستعان.
__________
(1) "التفصي": أي الخروج عن هذا الاعتراض المفهوم من الكلام، من قولهم: تَفَصى من الشيء، وعنه، إذا تخفص منه (المعجم) .
(2) في (ت 1) ، و (ت 2) : وليسجد، و (ت 2) بدون "قائماً". ومثلها جاءت (ل) بدون "قائماً".(2/173)
فصل
868- قد ذكرنا تفصيل القول في صفة ركعة واحدة، ولم يبق في كيفية الصلاة (1) إلا التشهد والسّلام.
أمَّا التشهد، فنذكر أولاً كيفية الجلوس، وهيئة اليدين فيه، ثم نذكر التشهد وما يتصل به، فنقول: ذهب مالك (2) إلى أن المصلي يتورك في القعودين جميعاًً.
وقال أبو حنيفة (3) : يفترش في القعودين.
وقال الشافعي رحمه الله: يفترش في التشهد الأول، ويتورك في التشهد الثاني.
واعتمد مالك خبراً مطلقاً عنده في التورك، واعتمد أبو حنيفة خبراً بلغه في الافتراش.
واعتمد الشافعي رحمه الله في الفصل ما روي أن أبا حميد الساعدي قال: "رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم إذا جلس في الركعتين، جلس على رجله اليسرى، وإذا جلس في الركعة الأخيرة، قدم رجله اليسرى، وجلس على مَقْعَدَتِه" (4) .
وإذا ورد في النفي والإثبات خبران مطلقان في واقعة، وورد فيها خبرٌ مفصل، فالمطلقان محمولان على المفصل، لا محالة.
__________
(1) إلى هنا انتهت الصفحات التي كتبت بخط حديث في أول الجزء الثاني من نسخة (ت 2) . وهو خط مغاير لخط النسخة كلها مما يدلّ على أن هذا الجزء (من أول: فرع إذا كان يحسن آية من غير الفاتحة) إلى هنا كان ساقطاً مخروماً من النسخة، واستلحقه مالك النسخة بهذا الخط الحديث من نسخة أخرى.
(2) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/250 مسألة: 253، حاشية العدوي: 1/240، جواهر الإكليل: 1/51.
(3) ر. حاشية ابن عابدين: 1/321، 344، ومختصر اختلاف العلماء: 1/212 مسألة: 150، فتح القدير: 1/271، 274.
(4) حديث أبي حميد الساعدي: رواه البخاري: 1/201، كتاب الأذان، باب سنة الجلوس في التشهد، ح 828.(2/174)
869- فإذا ثبت أصل المذهب فنذكر الآن كيفية الافتراش والتورك.
أما المفترش، فهو الذي يفرش رجله اليسرى، ويجلس عليها، والقدم من الرجل اليسرى مضجعة، وظهر القدم إلى القبلة، والرجل اليمنى منصوبة، وأطراف الأصابع على الأرض منتصبة [والعقب منتصبة] (1) . هذه صفة الافتراش.
وأما التورك، فصفته أن يضع رجليه على هذه الصفة، ثم يخرجهما من جهة يمينه، فرجله اليسرى مضجعة، واليمنى منصوبة، ثم يمكّن وركه ومقعدته من الأرض.
ثم الذي يلوح في الفصل بين الجلستين من جهة المعنى أن المفترش في الجلسة الأولى سيقوم، والقيام عن الافتراش هيّنٌ، وهو عن التورك عسر، فأمَّا الجلسة الأخيرة فليس بعدها عمل، فيليق بها التورك، والركون إلى هيئة السكون.
870- فإذا بان كيفية الجلوس، فنذكر صفة اليدين وموضعهما من الفخذين.
أما اليد اليسرى، فينشر أصابعها مع التفريج المقتصد، وتكون أطراف الأصابع مسامتةً للركبة.
وأما اليد اليمنى، فإنه يقبض أصابعه على ما نفصله، فيقبض الخنصر والبنصر والوسطى ويطلق المسبِّحة.
ثم اختلف الأئمة وراء ذلك: فقال قائل: يضمّ الإبهام إلى الوسطى المقبوضة كالعاقد ثلاثاً وعشرين.
وقال آخرون: يضم الإبهام كالعاقد ثلاثاً وخمسين. [ومنهم من قال: يطلق الإبهام والمسبحة كالعاقد ثلاثة] (2) . ومنهم من قال: [يحلق] (3) الإبهامَ والوسطى، والخنصر والبنصر مقبوضتان، والمسبحة مطلقة.
وهذا الاختلاف الذي ذكره الأئمة لم يبلغني فيه اختلاف روايات عن الذين نقلوا
__________
(1) زيادة من: (ت 1) ، (ت 2) .
(2) زيادة من: (ت 1) .
(3) في الأصل: يطلق.(2/175)
كيفية صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان صَدَرُ (1) ذلك عن روايات، فذاك، وإن لم تكن روايات، فلعلهم تحققوا صحة إطلاق المسبحة، ولم يتحققوا هيئة الإبهام، فينشأ هذا الاختلاف منه. وأثبت كلّ أمراً قريباً عنده.
871- ثم يؤثر للمصلّي أن يرفع مسبحته عند انتهائه إلى قول: لا إله إلا الله، فيرفعها مع الهمزة في "إلا"، وهل يستحب أن يحركها عند الرفع؛ فعلى وجهين: وهذا الاختلاف متلقى من الرواية، فروي أنه عليه السلام لم يحرّكها، وروي أنه حركها، فقال الكفار: إنه يسحر بها (2) .
ثم يقرب يده اليمنى من ركبته. فهذا بيان هيئة اليدين.
فرع:
872- المسبوقُ إذا جلس مع الإمام في تشهده الأخير، فالمسبوق سيقوم إلى استدراك ما فاته إذا سلّم الإمامُ، والإمام متورّك، فالمسبوق يفترش؛ فإن هذا ليس آخر صلاته؛ فالافتراش هو الذي يليق بحاله (3) .
وذكر شيخي: أن من أئمتنا من قال: إنه يتورك متابعةً للإمام. وهذا عندي غلط غير معدود في المذهب، فلا أثرَ لتفاوت الهيئة في القدوة.
فصل
873- إذا انتهى الإمام إلى التشهد الأخير، وكان قد جرى ما يقتضي سجودَ السهو، فالذي قطع به الأئمة أن الإمام يفترش؛ لأن عليه شغلاً بعد السهو، والسجود عن هيئة التورك أيسر من القيام.
وقال قائلون: يتورك؛ فإن الذي نقله الرواة التورك في الجلسة الثانية مطلقاً، والتعويل الأعظم في العبادات على الاتباع، ومجال الاستنباط ضيق جداً.
874- وقد حان الآن أن نذكر التشهد والقولَ في ذلك:
__________
(1) "صدر" أي صُدور كما يستخدم الإمام هذا الوزن كثيراً.
(2) انظر هذه الروايات في السنن الكبرى للبيهقي: 2/130-133.
(3) من هنا بدأ خرمٌ في نسخة (ت 2) .(2/176)
فالتشهد الأخير مفروض عندنا، خلافاً لأبي حنيفة (1) .
والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ركن أيضاً في الجلسة الأخيرة.
وفي الصّلاة على الآل قولان: أحدهما - أنها ركن، والثاني - أنها سنة تابعة للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مؤكد.
والتشهد الأول سنة مؤكدة وهو من الأبعاض، وهل تُشرع الصلاة في التشهد الأول؟ فعلى قولين: أحدهما - بلى (2) ؛ فإن ما يقع فرضاً في التشهد الأخير، فهو مشروع في الجلسة الأولى كالتشهد، والثاني: لا يشرع؛ فإن الجلسة الأولى مبنية على رعاية التخفيف. ثم إن أوجبنا الصلاة على الآل في التشهد الأخير، ففي شرعها في الجلسة الأولى ما ذكرناه من القولين: إن قلنا إنها لا تجب في الثانية، فلا تشرع في الأولى.
ثم نذكر ما رآه الشافعي رضي الله عنه الأفضلَ والأكملَ في التشهد، ونذكر بعده الأقل.
875- فأما الأكمل، فما رواه ابن عباس قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وصلم يُعلِّمنا التشهدَ، كما يعلّمنا السورة من القرآن: "التحيّاتُ المباركات، الصّلوات الطيبات لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله" (3) .
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 29، حاشية ابن عابدين: 1/313، فتح القدير: 1/274.
(2) بلى هنا بمعنى نعم. وهذا الاستعمال صحيح، عليه شواهد من الحديث الصحيح، منها ما في البخاري (6642) : "أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قالوا: بلى". وسنذكر مزيداً من الأمثلة في مواضع أخرى سيتكرر فيها استعمال بلى بمعنى نعم.
(3) حديث ابن عباس في التشهد رواه مسلم على نحو ما ساقه إمام الحرمين تماماً (لكن) بتعريف (السلام) : الصلاة، باب (100) التشهد في الصلاة، ح 403، والشافعي في مسنده: 42، والترمذي: أبواب الصلاة، باب ما جاء في التشهد، ح 290، والدارقطني: 1/351 ح 8، وابن ماجة: إقامة الصلاة، باب ما جاء في التشهد، ح 900، وانظر تلخيص الحبير: 1/264 ح 407.(2/177)
واختار أبو حنيفة (1) روايةَ ابنِ مسعود (2) . والروايتان صحيحتان، وقد ذكرنا في مسائل الخلاف ما نرجح به رواية ابن عباس (3) ، فهذا هو الأفضل.
وذكر العراقيون في الأفضل عند الشافعي رضي الله عنه طريقين: أحدهما - التحيات المباركات، الصّلوات الطيبات لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين (4) أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسولُ الله.
والطريقة الثانية في الأفضل - التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، السّلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسولُ الله. فأثبتوا الألف واللام في الطريقة الأخيرة، وحذفوا " وأشهد " عند قوله: "وأن محمداً رسول الله".
والطريقان جميعاًً مردودان عند المراوزة. والصّحيح ما ذكرناه قبل حكاية طريقي العراقيين، وهو الذي نقله الصيدلاني وشيخي، فهذا بيان الأفضل.
876- فأما الأقل، فقد ذكر الشافعي الأقل على وجه، وذكره ابن سريج على وجه: فأما ما ذكره الشافعي، فهو: التحيات لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله.
هذا ما ذكره الصيدلاني.
وذكر العراقيون [في] (5) طريقة الشافعي هذا، ونقصوا كلمة واحدة وهي " وأشهد " في الكرَّة الثانية، فقالوا "أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله".
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/214 مسألة: 152، فتح القدير: 1/272، حاشية ابن عابدين: 1/342.
(2) رواية ابن مسعود في التشهد متفق عليها. (ر. تلخيص الحبير: 1/264 ح 408) .
(3) ر. الدرة المضية: ص 132 مسألة رقم: 80.
(4) إلى هنا انتهى الخرم في نسخة (ت 2) .
(5) في الأصل: وفي (ط) : فيه.(2/178)
والذي ذكروه من إسقاط " وأشهد " فإنها أمثلُ وأليقُ بذكر الأقل، فهذه طريقة الشافعي.
وأما ابن سريج فإنه قال: التحيات لله، سلام عليك أيها النبي، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
فقال الأئمة كأن الشافعي اعتبر في ذكر الأقل ما اتفقت الأخبار عليه، ولم يخلُ عنه حديث، وجعل ما انفرد به الأحاديث غير معدود من الأقل، ولكنه اتبع مع هذا الخبر دون المعنى.
وكان ابن سريج راعى الأقل بطريق المعنى بعض المراعَاة، وحذف من الألفاظ ما رأى الباقي مشعراً به، فحذف قوله: "رحمة الله" واكتفىَ بقوله: "سلام عليك أيها النبي" فإن السلام يدل على الرحمة لا محالة، ولم يذكر "علينا"، واقتصر على قوله: "سلام على عباد الله الصالحين".
وفي بعض التصانيف: "سلام على عباد الله" من غير ذكر " الصالحين " في طريقة ابن سريج. وهذا غلط لا يعتد به.
فهذا تفصيل الأكمل والأقل في طريق أئمتنا والله أعلم.
877- أما الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الآل، ففيما ذكرناه قبلُ مقنع. ثم قال الصيدلاني: يستحب الإتيان بالصّلاة كما ورد في الحديث، وقد روي: أنه لما نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} [الأحزاب: 56] قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: عرفنا السلام عليك، فكيف الصلاة عليك؟ قال: قولوا: "اللهمّ صلِّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد" (1) .
__________
(1) حديث الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، متفق عليه من حديث كعب بن عجرة. (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/82 ح 227، تلخيص الحبير: 1/263، 268، ح 405، 412) .(2/179)
هذا هو الذي ورد في الحديث، ثم قال (1) : وما يزيده الناس من قولهم: "وارحم محمداً، وآل محمد كما رحمت على إبراهيم"، فليس له ثبت في الحديث، ثم الذي يتلفظ به الناس ركيك في اللغة؛ فإن من الناس من يقول: كما رحمتَ على إبراهيم، وهذا ركيك؛ فإن العرب تقول: رحمته، ولا تقول: رحمت عليه، ومن الناس من علم، فقال: كما ترحمت على إبراهيم إلى آخره، وهذا فيه خلل آخر، وهو أن الترحم يدل على تكلّف في الرحمة وتصنع، وهذا مستحيل في نعت الإله تعالى، وليس له ذكر في الأحاديث (2) .
878- ثم قال الصيدلاني: الإمام ينبغي ألا يزيد علي التشهد والصلاة، بل يقتصر، وأراد الصلاة التامة مع ذكر الآل وذكر إبراهيم، وزعم أن الأوْلى ألا يذكر دعوة بعد الصلاة، بل يبادر السلام رعاية للتخفيف على من خلفه، ثم قال: فإن أراد الدعاءَ، فينبغي أن يكون ذلك الدعاء في مقدار أقلَّ من التشهد.
والذي ذكره من الاقتصار على التشهد والصلاة في حق الإمام، لم أره لغيره، فأمَّا إذا كان منفرداً، فيأتي بالدعاء بعد الصّلاة، وإن أراد أن يزيد على مقدار أقل (3) التشهد، فلا معترض عليه، ولم يصح دعاء معين بعد الصلاة، بل روي أنه صلى الله عليه وسلم ذكر التشهد والصّلاة، ثم قال: "لِيتخيَّرْ أحَدُكم من الدعاء أحبّه، أعجبه إليه" (4) . كذلك رواه الصيدلاني.
فهذا تفصيل القول في التشهد وما يتبعه.
__________
(1) أي الصيدلاني.
(2) هذا كله كلام الصيدلاني.
(3) ساقطة من: (ت 1) ، (ت 2) .
(4) حديث الدعاء عقب التشهد: رواه البخاري من حديث عبد الله بن مسعود بلفظ: "ثم ليتخير ْأحدكم من الدعاء أعجبه إليه، فيدعو به" وأخرجه مسلم: بلفظ: "ثم يتخير من المسألة ما شاء". (ر. البخاري: الأذان، باب ما يتخير من الدعاء بعد التشهد وليس بواجب، ح 835، مسلم: الصلاة، باب التشهد في الصلاة، ح 402، تلخيص الحبير: 1/268 ح 413) .(2/180)
فصل
هذا الفصل يشمل السلام والتحلل وما يتعلق به. فنقول:
879- التحلل عن الصلاة بالتسليم، ولا يقوم غير التسليم مقامه، والخلاف فيه مشهور، والمعتمد فيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تحريم الصلاة التكبير وتحليلها التسليم" (1) .
ثم الكلام في أقل السلام وأكمله.
فأما الأقل، فهو أن يقول: "السلام عليكم". فهذا المقدار لا بد منه، ولا يجب إلا مرةً واحدةً، فإن التحلل يقع بواحدة، ولو قال: "سلامٌ عليكم" ففي المسألة وجهان: أحدهما - لا يجزىء، ولا يقع التحلل على الصحة به؛ فإن الأصل الاتباع، ولم ينقل التسليم إلاّ مع الألف واللام، فلزم الإتيان به على وجهه.
ومن أئمتنا من قال: يُجزيه؛ فإنّ التنوين في قول القائل: "سلامٌ" يقوم مقام الألف واللام، وليس ذلك مخالفة وخروجاً بالكليّة عن الاتباع.
ولو قال: "عليكم السلام" فمن أئمتنا من قطع بالإجزاء، ومنهم من خرّج ذلك على الخلاف، من حيث إنه بالتقديم والتأخير خرج عن حكم الاتباع.
وقد ذكرنا أنه إذا قال فى عقد الصلاة: "الأكبر الله" أو "أكبر الله"، فهل تنعقد صلاته أم لا؟ فظاهر نص الشافعي يشير إلى الفرق بين التسليم والتكبير في التقديم والتأخير، فإنه لو قال: "عليكم السلام" كان مُسَلماً، ومن قال: "أكبر الله" لم يكن مُكَبراً.
__________
(1) حديث تحريم الصلاة..: رواه الشافعي، وأحمد، والبزار، وأصحاب السنن إلا النسائي، وصححه الحاكم وابن السكن عن علي كرم الله وجهه. (ر. أبو داود: الطهارة، باب فرض الوضوء، ح 61، والترمذي: أبواب الطهارة، باب ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور، ح 3، وابن ماجة: 1/101، كتاب الطهارة وسننها، باب مفتاح الصلاة الطهور، ح 275، وترتيب مسند الشافعي: 1/70 ح 206، ومسند أحمد: 1/129. وصحح الشيخ أحمد شاكر إسناده ح 1006، 1072، تلخيص الحبير: 1/216 ح 323) .(2/181)
وقد جمع الأئمة بين التكبير والتسليم إذا فرض التقديم والتأخير فيهما، فقالوا: فيهما أوجه: أحدها - أنهما لا يجزيان، والثاني - أنهما يجزيان، والثالث - يجزىء التسليم ولا يجزىء التكبير.
880- وممّا يتعلق ببيان الأقل في التحفل نية الخروج عن الصّلاة، وقد ظهر اختلاف أئمتنا في اشتراطها، فقال الأكثرون: لا يجب ولا يلزم، اعتباراً بسائر العبادات، والنيات تعنى للإقدام على عبادة الله، فأمّا نجازها وانقضاؤها، فإنما هو انكفاف عن العبادة، والنية تليق بالإقدام لا بالتّرك.
وقال قائلون: لا بدّ من نية الخروج؛ فإن السّلام في وضعه مناقض للصّلاة؛ فإنه خطاب للآدميين، ولو جرى في أثناء الصلاة قصداً، لأبطلَ الصلاة، فإذا لم يقترن بالتسليم نية تصرفه إلى قصد التحلل، وقع مناقضاً مفسداً.
وسائر العبادات تنقسم، فأمّا الصّوم، فينقضي بانقضاء زمانٍ، والحجّ لا يقع التحلّل عنه بما هو من قبيل المفسدات.
ثم إن لم نشترط النية ولم نوجبها، فلا كلامَ. وإن أوجبنا، فنشترط اقترانها بالتسليم، فلو تقدمت عليه على جزم وبت، بطلت الصلاة؛ فإنّا قدمنا أن نية الخروج عن الصلاة تقطعها، ولو نوى قبل السّلام الخروجَ عند السلام، لم تنقطع الصلاة بهذا، ولكن لا يكفي هذا، فَلْيَأْتِ بالنية مع السلام.
ثم قال علماؤنا: لا يشترط في نية الخروج تعيين السلام، وإنما يشترط التعيين حالة العقد، فإن الغرض من هذه النية صرف السلام إلى قصد الخروج [ولا يخرج المرء إلا عن الصلاة التي شرع فيها، فوقعت نية الخروج] (1) بناء على ما تقدم، ونيةُ العقد ابتداء، فيجب تعيين المنوي.
881- ومما يدور في النفس من هذا، أن المناقض للصّلاة قول المُسَلِّم: "عليكم"، فينبغي أن يقع الاعتناء بجمع النية مع هذه الكلمة، ويجوز أن يقال: " السلام " وإن لم يكن خطاباً، فإنه بنفسه لا يستقل مفيداً، والكلام الذي لا يفيد لو
__________
(1) زيادة من: (ت 1) ، (ت 2) .(2/182)
جرى في أثناء الصلاة، أبطل الصلاة، فإذاً هو كلام لا يستقل، وإتمامه خطابٌ، فكان الجميع في حكم الخطاب.
882- وقد تردد الأئمة في تقديم نية العقد وقَرْنها بالتكبير، وأجمعوا في نية الخروج على أنها تُقرن ولا تقدم؛ فإن نية الخروج إذا تقدمت، فهي مناقضة مفسدة، وهذا فيه نظر، فإني قد ذكرت في تحقيق نية العقد، أن الذي يتقدم ليس بنية، وإنما هو إحضار علومٍ بصفات المنوي، فعلى هذا لو جرى ذكر الصلاة قُبيل السلام، ثم قرن القصد إلى الخروج بالسلام، فما أرى ذلك ممتنعاً. وفيما مهدته من حقائق النيات ما يوضح هذا.
883- وممّا يليق بتمام القول في هذا أن الأئمة قالوا: السلام من الصلاة، كما أن التكبير العاقد من الصلاة. وأنا أقول: إن لم نشترط نية الخروج، فالسلام في موضعه من الصلاة. وإن قلنا: لا بدّ من نية الخروج، فيبعد عندي أن يكون قصد الخروج مع خطابٍ هو مناقض للصلاة من الصلاة. والعلم عند الله.
فهذا تفصيل القول في الأقل.
884- فأما القول في الأفضل والأكمل، فأول ما نذكر فيه الكلام في [عدد السلام] (1) فالّذي نصّ عليه الشافعي رحمه الله في القديم، أن المصلي يقتصر على تسليمة واحدة. ونقل الربيع: أن الإمام إن كان في مسجد صغير وجَمْعٍ قليلٍ، اقتصر على تسليمة واحدة، وإن كثر الجمْعُ، فيُسلّم تسليمتين.
والنص الظاهر أنه يسلّم تسليمتين أبداً من غير تفصيل.
فحصل من مجموع النصوص ثلاثة أقوال: أحدها -وهو الذي عليه العمل- أنه يسلم تسليمتين، وهذا [هو] (2) الّذي تناقله على التواتر الخلف عن السلف.
__________
(1) في الأصل وفي (ط) : عقد الصلاة، وفي (ت 1) ، (ت 2) : عقد السلام. وعلى ذلك يكون لفظ [عدد] اختيار منا رعاية للسياق، ولا وجود له في أي نسخة من النسخ الأربع. ولفظ [السلام] مأخوذ من: (ت 1) ، (ت 2) . ثم صدقتنا (ل) .
(2) مزيدة من: (ت 2) .(2/183)
والقول الثاني: وهو المنصوص عليه في القديم، أنه يقتصر على تسليمة واحدة من غير تفصيلٍ. ومعتمد هذا القول ما روي عن عائشة أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم تسليمةً واحدة تلقاء وجهه (1) .
فأمّا التفصيل، فالتعويل فيه على إبلاغ الحاضرين، قلّوا أو كثروا، فإن قلنا: يقتصر على تسليمة واحدة، فلتكن تلقاء وجه المسلّم من غير التفات. وإن قلنا يسلم مرتين، فيلتفت في أولاهما عن يمينه، وفي الثانية عن يساره.
ثم قال الشافعي: فيلتفت حتى يُرى خداه، فاختلف أصحابنا في معناه، فمنهم من قال: يرى خداه من كل جانب، وهذا بعيد، فإنه إسراف في الانحراف. والصحيح أن المعنيَّ به أن يرى خداه من الجانبين، من كل جانب خد.
ثم ذكر العلماء: أنه ينوي السلام على من عن يمينه ويساره من أجناس المؤمنين: من الجنّ، والإنس، والملائكة، ثم مَنْ على اليمين واليسار يقصدون الرد عليه عند الإقبال عليه.
وإن فرعنا على قول التفصيل، فالمنفرد والمأموم يقتصران على تسليمة واحدة.
ثم يقول المسلّم في كل تسليمة: السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ثم التسليمة الثانية تقع وراء الصلاة، وقد تم التحلل بالأولى، ولو فرض حدث مع التسليمة الثانية، لم تبطل الصلاة، ولكن شرط الاعتداد بالتسليمة الثانية إذا ندَبنا إليها دوامُ الطهارة؛ فإنها وإن كانت تقع بعد التحلل عن الصلاة، فهي من أتباع الصلاة. فالظاهر عندي أن شرط الاعتداد بها الطهارةُ، والله أعلم.
885- ثم إن كان المصلي إماماً، فإذا تحلّل، فلا ينبغي أن يلبث على مكانه، بل
__________
(1) حديث عائشة رواه الترمذي: أبواب الصلاة، باب التسليم في الصلاة، ح 296، وابن ماجة: كتاب إقامة الصلاة، باب من يسلم تسليمة واحدة، ح 919، وابن حبان: 3/224 ح 1992، والحاكم: 1/230، 231، والدارقطني: 1/358. ورواه ابن حبان من وجه آخر: 4/72 ح 2433، وهذا إسناده صحيح على شرط مسلم، قاله الحافظ. وأما الأول فالموقوف أصح من المرفوع. وفي كل مقال، (انظر التلخيص: 1/485 ح 420) .(2/184)
يثب ساعةَ يسلم؛ وفي الحديث: "إذا لم يقم إمامُكم فانخسوه" (1) وهذا يدلّ على أن الجمع محتبسون إلى أن يقوم الإمام، ولولا ذاك، لَما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بنخسه.
ثم إذا وثب أقبل على الناس بوجهه، واختلف أئمتنا في أنه من أي قُطْرَيْه يميل، فمنهم من قال: يولي الناس شقه الأيسر، والقبلةَ شقه الأيمن في التفاته، ومنهم من يعكس ذلك، وإن لم يصح في هذا تعبّد، فلست أرى في ذلك إلاّ التخيير.
ثم ينصرف من أي جهة شاء، ولو استوى في حقه الأمران، فالتيامن محبوب في كلّ شيء.
فهذا منتهى القول في ذلك.
وإن كان في المقتدين بالإمام نسوة، فينبغي أن يلبث ويحتبس الرّجال معه، والنسوة يبتدرن وينصرفن؛ حتى لا يختلطن بالرجال.
فصل
في القنوت
886- ذهب الشافعي إلى أن القنوت مأمورٌ به في الركعة الأخيرة من صلاة الصبح بعد الركوع، والأصل في ذلك، ما روي عن أنس بن مالك قال: "قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً يدعو عليهم، ثم ترك، وأما في الصّبح، فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا" (2) .
__________
(1) حديث "إذا لم يقم إمامكم ... " لم أجده بهذا اللفظ برغم طول بحثي -فضلاً عن الكتب التسعة- في الكتب الآتية: الجامع الكبير والصغير للسيوطي، السنن الكبرى للبيهقي، سنن الدارقطني، كنز العمال، شرح السنة، مصنف عبد الرزاق، تلخيص الحبير، والعلل المتناهية، وتذكرة الموضوعات، والجامع الأزهر للمناوي، ولم أجده أيضاً عند الماوردي في الحاوي، ولا عند الرافعي في الشرح الكبير، ولا في وسيط الغزالي.
ولكن وردت أحاديث تشير إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يجلس في مكانه بعد السلام. انظر نيل الأوطار: 2/353.
(2) حديث: "قنت صلى الله عليه وسلم شهراً يدعو عليهم". المراد على رَعْل وذكوان، وهما =(2/185)
فإذا ثبت أصلُ القنوت في صلاة الصبح، فالمقدار الثابت فيه ما نقله المزني في المختصر (1) وهو: "اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولّني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شرّ ما قضيتَ، إنك تقضي ولا يُقضى عليك، وإنه لا يذِلّ من واليتَ، تباركت ربّنا وتعاليت" (2) .
ثم الذي يجب القطع به أن تتعين هذه الأذكار، ولا يقوم غيرُها مقامَها، وقال الحسن بن علي رضي الله عنهما: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعلّمنا القنوت كما يُعلّمنا السورة من القرآن. وقد روي مثل ذلك عن ابن عباس في التشهد.
ثم القنوت شديد الشبه بالتشهد الأول؛ فإنهما جميعاًً من أبعاض الصلاة التي يتعلق بها السجود.
ووقته إذا رفع المصلّي رأسه من الركوع.
__________
= قبيلتان من سُلَيْم، لما قتلوا القراء. وهذا الجزء من الحديث متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/133 ح 393) .
أما الحديث بتمامه على نحو ما ساقه إمام الحرمين، فقد رواه الدارقطني: 2/39 ح 10، 11، والبيهقي: 2/201، ورواه أحمد في مسنده. (ر. تلخيص الحبير: 1/244 ح 370) .
(1) المختصر: 1/77.
(2) حديث القنوت بهذه الصيغة صحيح، قال الشافعي: هذا القدر يروى عن الحسن بن علي رضي الله عنهما، قال الحافظ: "نعم هذا القدر روي عن الحسن، رواه الأربعة، وأحمد، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والدارقطني، والبيهقي، لكن ليس فيه عنه أن ذلك كان في الصبح، بل روَوه بلفظ علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر" ثم قال الحافظ: "رواه الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة، وأنه كان في صلاة الصبح في الركعة الثانية بعد الرفع من الركوع، وصححه (أي الحاكم) وليس كما قال، بل هو ضعيف" ا. هـ. (ر. أبو داود: الصلاة، باب القنوت في الوتر، ح 1425، 1426، الترمذي: أبواب الصلاة، باب ما جاء في القنوت في الوتر، ح 464، النسائي: قيام الليل وتطوع النهار، باب الدعاء في الوتر، ح 1745، ابن ماجة: إقامة الصلاة، باب ما جاء في القنوت في الوتر، ح 1178، التلخيص: 1/247 ح 371) . وقد رواه البيهقي أيضاً عن ابن عباس، وعن محمد بن الحنفية، وأنه كان في صلاة الصبح. (السنن: 2/209-210 - باب دعاء القنوت) .(2/186)
887- ثم قال العراقيون: إذا نزل بالمسلمين نازلةٌ وأرادوا أن يقنتوا في الصلوات الخمس، ساغ، وإن لم يكن، وأرادوا القنوت من غير سبب، قالوا: قال الشافعي رحمه الله في الأم: لا يقنت. وقال في الأملاء: إن شاء قنت، وإن شاء، لم يقنت.
ثم جعلوا المسألة على قولين.
(1 وكان شيخي يقلب الترتيب ويقول: إن لم تكن نازلة، فلا قنوتَ إلا في صلاة الصبح، وإن كانت نازلة، فعلى قولين 1) .
ثم ما نقله العراقيون من الإملاء، يشعر بأنه يتخير: إن شاء، قنت، وإن شاء، لم يقنت، وهذا يتضمن أن ترك القنوت في غير صلاة الصبح ليس من الأبعاض، والتخيير مصرح بهذا.
وإن كانت نازلة، فقد رأوا القنوت عندها من غير تخيير.
ولست أرى مع ذلك القنوت (2) من الأبعاض، التي يتعلق بتركها سجود السهو.
888- وممّا يتعلق بأمر القنوت الجهر والإسرار، وقد ذكر أئمتنا في هذا وجهين: أحدهما - أن الجهر به مشروع (3) وهو الظاهر.
والثاني - لا يجهر به، اعتباراً بالتشهد وغيره من أذكار الصلاة. ثم إن لم نر الجهر به أصلاً، قنت المأموم، كما يقنت الإمام، قياساً على سائر الأذكار.
وإن رأينا الجهر بالقنوت، فالمأموم إن كان يسمع صوت الإمام أمَّنَ، ولم يقنت، وإن كان موقفه بعيداً وكان لا يسمع، ففي قنوته وتأمينه من الخلاف ما ذكرناه في قراءة السورة. والخلاف في قراءة المأموم جارٍ في الصلاة السرية.
وإن رأينا الإسرار بالقنوت، فالمأموم يقنت وجهاً واحداً، والسبب فيه أن القنوت إذا رأينا الإسرار به، يلتحق بسائر الأذكار. والسورة وإن كان الجهر بها في بعض
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2) .
(2) المراد قوت النازلة، غير قوت الصبح.
(3) (ت 2) : مشروع للإمام.(2/187)
الصّلوات، فأمرها على الانقسام على الجملة، فينزل منزلة انقسام المأموم في القرب والبعد في الصلاة الجهرية.
889- ومما يتعلق بالقنوت ما أصفه: كان شيخي يرفع يديه في القنوت، ثم كان يمسح بهما وجهه (1 عند الختم، وفي بعض التصانيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه شاهراً ثم يمسح بهما وجهه 1) .
وقد امتنع كثير من أئمتنا من هذا، فإن دعوات الصلاة ليس فيها رفع اليدين مثل التشهد. وقد راجعت بعضَ أئمة الحديث، فلم يثبت رفعَ اليدين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) .
وكان شيخي يصلّي (3) في آخر القنوت، ولم أر لهذا ثَبَتاً، وفيه الإتيان بما هو ركن في الصلاة منقولاً عن محله، وفيه كلام سيأتي في باب سجود السهو، إن شاء الله تعالى.
فهذا منتهى الكلام في القنوت.
فصل
قال: "ومن ذكر صلاة وهو في أخرَى ... إلى آخره" (4)
890- من فاتته صلوات، فلا ترتيب عليه في قضائها، خلافاً لأبي حنيفة (5)
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2) .
(2) في الصحيحين من حديث أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرفع يديه في كل دعاء إلا في الاستسقاء فإنه يرفع يديه حتى يُرى بياض إبطيه. (اللؤلؤ: 1/173 ح 516) ولكن وردت أحاديث صحيحة أنه صلى الله عليه وسلم رفع يديه في غير موطن، بل روى البيهقي: أنه رفع يديه في القنوت. قال الحافظ: "فتعين تأويل حديث أنس (أي الوارد في الصحيحين) أنه أراد الرفع البليغ، بدليل قوله: حتى يرى بياض إبطيه" (ر. تلخيص الحبير: 1/51 ح 373، سنن البيهقي: 2/ 211 باب رفع اليدين في القنوت) .
(3) أي على النبي صلى الله عليه وسلم.
(4) ر. المختصر: 1/79.
(5) ر. مختصر الطحاوي: 29، رؤوس المسائل: 1/145 مسألة 52، مختصر اختلاف =(2/188)
ومن فاتته صلاة الظهر، فدخل وقت العصر، فإن قضى ما فاته أوّلاً، ثم أقام فرضَ الوقت، جاز، وإن أدّى فرض الوقت أوّلاً ثم قضى جاز، ولكن الأَوْلَى إنِ اتَّسَعَ الوقتُ أن يقضي ما فات أولاً، ثم يؤدي فرض الوقت. وقد روي في ذلك أخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإذاً رعايةُ الترتيب بين صلاة مقضية وأخرى مؤداة محبوب، والسبب فيه من طريق المعنى -والعلم عند الله في ذلك- أن الأمر برعاية الترتيب يستحث على إقامة القضاء، ولو ابتدر الرجل فرض الوقت، فقد يؤخر القضاء، وتبقى ذمته مشغولة به، وهذا إذا اتسع الوقت، فأما إذا ضاق الوقت، ولو اشتغل بقضاء ما فاته، لفاتت صلاة الوقت، فلا شك أنّا نوجب تقديم الأداء في هذه الصورة.
فصل
"وصلاة المرأة كصلاة الرجل ... إلى آخره" (1) .
891- لما نَجَز الشافعيُّ صفةَ الصلاة قال: والمرأة في كيفية الصلاة كالرجل، إلا أنّا لا نأمرها بالتخوية في السجود كما سبق؛ وكلّ ذلك للستر. وفي الحديث:
"صلاة المرأة في قعر بيتها أفضل من صلاتها في صحن دارها" (2) .
وممّا ذكره الشافعي في سياق ذلك، أن الرجل إذا كان مقتدياً بالإمام، فناب إمامَه
__________
= العلماء: 1/285 مسألة 242، حاشية ابن عابدين: 1/487.
(1) ر. المختصر: 1/80. والكلام هنا بمعنى كلام المختصر، وليس بنصه.
(2) حديث صلاة المرأة في بيتها (صحيح) رواه أبو داود بلفظ: "صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها" وابن خزيمة، والبيهقي، والحاكم في المستدرك، والبغوي في شرح السنة، والطبراني في الكبير، وعبد الرزاق في مصنفه. (ر. سنن أبي داود: الصلاة، باب التشديد في ذلك (ما جاء في خروج النساء إلى المسجد) ح 570، وصحيح ابن خزيمة: 3/94 ح 1688، والسنن الكبرى: 3/131، والمستدرك: 1/209، والبغوي: 3/441، والمعجم الكبير: 9/341 ح 9482، والمصنف: 3/151 ح 5116، وانظر مجمع الزوائد: "باب خروج النساء للمساجد وغير ذلك ... ") .(2/189)
شيءٌ، فينبغي أن يسبِّح لينَبِّه الإمام، والمرأة لا تسبح، فإن ذلك يَشْهَرها، بل تصفق، والأصل فيه، ما روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ليصلح بين فئتين، فأبطأ مجيئه، فقال بلال لأبي بكر: قد استأخر مجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقيم لتصلّي بالناس، فقال أبو بكر: ما شئتَ، فأقام وتقدم أبو بكر، فلما تحرّم بالصلاة حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل الناس يصفقون، وكانت الصفوف تخرق وأبو بكر لا يلتفت، فلمّا علم بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الصفوف لا تُخرق إلا له، استأخر، وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة مشهورة. فلما تحلّل عن صلاته قال: "مالي أراكم تصفقون؟ من نابه شيء، فليسبح، فإن التسبيح للرّجال، والتصفيق للنساء" (1) .
ثم قال القفال: لا ينبغي للمرأة أن تضرب الراحة بالراحة، فإن هذا تصفيق اللهو، ولكن تضرب كفها على ظهر كفها الأخرى.
فصل
قال: "وعلى المرأة أن تستر جميع بدنِها ... إلى آخره" (2) .
892- نذكر ما يجب ستره، وهو الذي يسمى عورة، ثم نذكر كيفية الستر.
فنقول: أما القول فيما يجوز النظر إليه وما لا يجوز النظر إليه، فنذكره مستقصى في أول كتاب النكاح إن شاء الله عز وجل، وإنما غرض هذا الفصل ذِكر ما يستر في الصلاة. فنقول: أمّا الحرة فجملة بدنها في حكم الصلاة عورة من قرنها إلى قدمها، إلا الوجه والكفان، أما الوجه فواضح، وأمّا الكف، فلسنا نعني به الراحة فحسب، ولكنا نعني به اليدين إلى الكوع ظهراً وبطناً، فأما أَخْمَص قدمها، ففيه وجهان، والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] قال
__________
(1) الحديث متفق عليه من حديث سهل بن سعد الساعدي: ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/88 ح 243. بألفاظ مقاربة لما ساقه إمام الحرمين.
(2) ر. المختصر: 1/80.(2/190)
المفسرون: الوجه والكفّان، وما سوى ما ذكرناه من الحرة، فهو عورة، فلو بدت شعرة من غير (1) ما استثنياه، لم تصح صلاتها.
893- فأما الرجل، فالعورة منه ما بين السرة والركبة، والمذهب أن السرة والركبة ليستا من العورة للرجل. وحكى العراقيون وجهاً غريباً عن بعض الأصحاب: أن السرة والركبة من العورة، وزيفوا ما حكَوْه. وهو لعمري بعيد غير معدود من المذهب.
894- وأما الأمَة، فما بين سرتها وركبتها عورة، كالرجل، وما يظهر منها في المهنة، كالرقبة والساعد وأطراف الساق والرأس، فهذه الأشياء ليست بعورة منها، فأمّا ما وراء ذلك مما فوق السرة وتحت الركبة، وهو ممّا لا يظهر في الامتهان والخدمة ففيه وجهان مشهوران.
فهذا تفصيل القول فيما يجب ستره.
895- ونحن نذكر الآن الستر ومعناه، فنقول أولاً: وجوب الستر لا يختص بالصلاة، بل يجب إدامة الستر عموماً، ولو استخلى بنفسه، وتكشف في الخلوة حيث يعلم أنه لا يطلع عليه أحد، فقد ذكر الشيخ أبو علي في شرح التلخيص: أنه يحرم التكشف في الخلوة من غير حاجة، وزعم أنه يجب الستر عن الجن والملائكة، كما يجب الستر عن الإنس. وكان شيخي لا يحرم التكشف في الخلوة، ويقول: إذا كان يجوز التكشف بسبب استحداد، أو لقضاء حاجة من غير إرهاق وضرورة، فإيجاب التستر في الخلوة لا معنى له، هذا في غير الصلاة.
فأما الستر في الصلاة، فواجب، سواء كان المصلّي في خلوة، أو إذا كان بمرأى من النّاس.
896- ثم التستر بما يحول بين الناظر وبين لون البشرة، ومن لبس ثوباً صفيقاً، فقد يتراءَى حجمُ أعضائه في الشمس من ورائه، فلا يضر ذلك، فالمرعي باتفاق الأصحاب ألا يبدو السواد أو البياض من وراء الثوب.
__________
(1) سقط رقم 189 من صفحات المخطوط مع عدم وجود خرم فليلاحَظ ذلك عند تتابع تسلسل أرقام المخطوط.(2/191)
ولو وقف المصلّي في ماءٍ صافٍ يبدو منه لون بشرته، فليس بمستورٍ. وإن كان الماء كدِراً، فهو مستور، ولو طلى على عورته طيناً، فهو ستر باتفاق أصحابنا، وهو كافٍ مع القدرة على الستر بالثياب.
ولو لم يكن معه ثوب، وكان متمكناً من التسبب إلى تحصيل طين ينطلي به، فهل يجب عليه ذلك؟ فعلى وجهين، ذكرهما العراقيون: أحدهما - يجب؛ فإنه ستر، والثاني - لا يجب؛ لأنه لو وجب، لدام الوجوب في الصلاة وغيرها، وتكليف ذلك عظيمٌ منتهٍ إلى مشقة ظاهرة.
897- ثم الستر يراعى من الجوانب ومن فوق، ولا يراعى الستر من أسفل الذيل والإزار.
ونص أئمتنا أن من كان يصلي في قميص واحد، على طرف السطح، فإدراك سوأته هين على من هو تحت السطح، وصلاته صحيحة.
وهذا عندي فيه للفكر مجال؛ فإن من وقف هكذا فوق مكانٍ مطروق، وكان الريح تعبث بثوبه، فلستُ أستجيز إطلاق القول بأنه يحلّ له ذلك، وهو مُعرَّض للنظر.
فإن قال قائل: العرفُ هو المرعي في الستر، والناس يستترون من فوق ومن الجوانب، قيل: هذا كلام عري عن التحصيل؛ فإن العرف لا يطرد بين العقلاء هزلاً في شيء، وأهل العرف إنما لم يراعوا الستر من أسفل من جهة أن التطلع من تحت القميص والإزار غيرُ ممكن إلا بمعاناة وتكلّف، فإذا فرض الموقف على شخص (1) ، والأعين تبتدر إدراك السوأة، فهذا لا يُعد في العرف ستراً أصلاً، إلا أن يكون الذيلُ ملتفاً بالساق.
فرع:
898- إذا كان في الثوب الساتر خرق، فوضع يده عليه وكان يصلي، فقد ظهر الاختلاف في ذلك.
والمذهب عندي تجويز الصلاة، فإن الرجل لو لم يكن في الصّلاة، وفعل
__________
(1) شخص: مكان مرتفع (المعجم) .(2/192)
ما ذكره، فلست أرى تعصيته، وإلحاقَه بمن يبدو للناس متكشفاً، وإذا ظهر ذلك خَارجَ الصلاة، فالستر لا يختلف بالصلاة والخروج منها.
ولو كان يصلي في قميص ساتر [ذي طوق واسع وهو] (1) مشدود الإزار، جاز.
ولو كان مفتوحَ الإزار، وكان إذا ركع أو سجد تبدو عورتُه، فإذا بدت، بطلت صلاته، فإن كانت لحيته الكثيفة تسد موضع فتح الإزار، ففيه الخلاف المذكور؛ فإنه سَترَ ما يجب ستره بشيء من بدنه. والصحيح ما ذكرناه.
ولو كان بحيث تبدو منه العورة، ولكنه في قيامه وانتصابه لا يبدو منه شيء، فهل تنعقد صلاته؛ ثم إن انحنى وتكشف، بطلت صلاته؟ هذا ملتحق بما ذكرناه؛ فإن سبب الستر وعدم التكشف التصاق صدره في قيامه بموضع إزاره، ففيه ما ذكرناه، والمذهب الحكم بالستر في جميع ذلك.
فرع:
899- إذا وجد خرقة لا تستوعب جميعَ ما يجب ستره، فيجب استعمالها.
ثم قال العراقيون: من أصحابنا من قال: يستر بها القبل؛ فإن السوأة الأخرى مستترة بانضمام الإليتين. ومنهم من قال: يستر بها السوأة الأخرى؛ فإنها أفحش في الركوع والسجود. ولا يتجه التخيير في ذلك.
ثم الفخذ وما دون السرة من العورة، ولا فرق عندنا في وجوب الستر بين السوأة وبين غيرها.
899/م- وأبو حنيفة (2) يفصّل ويزعم أن الربع معفوٌّ عنه في التكشف في كل عضو، ويرعى في السوأة تكشف مقدار درهم. ونحن لا نرعى هذا. وإذا كان كذلك، فلا يمتنع أن نقول: ما ذكره الأصحاب في الخرقة وترديد القول في السوأتين في حكم الأوْلى. ولو ستر واجدُ الخرقة بها جزءاً من فخذه، لم يبعد. جواز ذلك.
وفي كلام الأصحاب ما يدل على تحتم ستر السوأتين أو إحداهما، وله وجه؛ فإن المرعي هو العرف، وما الناس عليه في ذلك، وليس يخفى أن من ستر شيئاًً من فخذه وترك السوأة بادية، يعد متكشفاً.
__________
(1) زيادة من: (ت 2) .
(2) ر. بدائع الصنائع: 1/117، حاشية ابن عابدين: 1/273.(2/193)
فرع:
900- ذكر العراقيون نصين في العراة لو أرادوا عقد جماعة: أحدهما - أنهم إن انفردوا، فعذرهم تمهد في ترك الجماعة، وإن صلّوا جماعة، وغضوا أبصارهم، فجائز.
والثاني - وهو الذي نص عليه في القديم أنهم يصلون فُرادى؛ فإنّ حفظَ العيون فرضٌ، والجماعة نفلٌ، وجعلوا المسألة على قولين في الأوْلى، ولا خلاف أنهم لو عقدوا جماعة، صح ذلك منهم.
ثم إمام العراة ينبغي أن يقف وسطهم، كما سنذكر في صلاة النسوة إذا عقدن جماعة.
فرع (1) :
901- إذا أراد رجل أن يبذُلَ ثوباً، وقد حضر رجل وامرأة على العري، فالمرأة أولى من الرجل وفاقاً، ولو حضر رجلان ولو قسم الخرقة وشقها يحصل في كل واحد بعضُ الستر، ولو خصَّ أحدهما، يحصل له الستر الكامل، فهذه المسألة محتملة، ولعلّ الأظهرَ أن يستر أحدهما، وإن أراد الإنصاف، أقرع بينهما.
فرع:
902- إذا كان يصلي في إزار ساترٍ، فكشف الريح طرف إزاره عن عورته، فإن أمكنه أن يردّه على القرب، لم يضره ما بدا، وإن عسر الردّ وطيرت الريح الإزار، فهذا يفسد الصلاة، وإن تعاطى بنفسه الكشف عمداً، ثم ردّه على الفور، بطلت صلاته. وهذا يطّرد في الانحراف عن القبلة، وإصابةِ نجاسةٍ يابسةٍ الثوبَ، [فإن كان عن قصد، فالفساد] ، (2) وإن كان عن غير قصد وقرب الزمان، فلا بأس، وإن طال الفصل، بطل.
وإن انحل عقدُ الإزار وانسلّ، فردّه، فهو كما لو انكشف طرف منه وأعيد، فلا فرق.
فإن قيل: ما المعتبر عندكم في قرب الزمان وبعده؟ وهل ترون ضبطَ هذا تحقيقاً
__________
(1) هذا الفرع ساقط كله من: (ت 2) .
(2) زيادة من: (ت 1) ، (ت 2) .(2/194)
أو تقريباً؟ قلنا: لعلّ الأقربَ فيه ألا يظهر بين الانكشاف وبين ابتداء الردّ مُكْث محسوس على حكم التكشف.
فرع:
903- الأَمةُ إذا كانت تصلي مكشوفة الرأس، فعَتَقت في أثناء الصلاة فإن كان بالقرب منها خمارٌ، فابتدرته وسترت رأسها، استمرت وبَنَتْ، وكان ما يجري بمثابة تكشف من غير قصد، [تداركه] (1) المصلي على الفور. وإن كان الخمار بعيداً عنها، وكانت تحتاج أن تمشي إليه خطوات كثيرة، فهذا عند المحققين ينزل منزلة ما لو سبق الحدث في الصلاة، وسيأتي ذلك على القرب.
فإن جرينا على الأصحّ، حكمنا ببطلان الصلاة، وإن فرعنا على القديم فَلْتَمْشِ هذه إلى الخمار وتستتر، ولتبْن على صلاتها، وإن لم تمش، ولكن وقفت حتى أتاها آتٍ بالخمار، ففي بعض التصانيف أن ذلك بمثابة ما إذا أطال الرجل السكوت في صلاته، فإن في بطلان الصلاة وجهين، كذلك هاهنا، وهذا كلام ملتبس.
والوجه أن نقول: إن أتاها الخمار في مدة لو مشت فيها، لنالت فيها الخمار، فلا تبطل الصلاة؛ فإن السكون أولى في الصلاة من المشي والعمل، فإن زادت مدة سكونها على مدة مشيها إلى الخمار لو مشت، فإن لم تبن أمرَها على أن تؤتَى بالخمار، ولكن بقيت كذلك، ثم طالت المدة، وزادت على مدة المشي، فالوجه القطع ببطلان الصلاة، وإن بنت أمرها على أن تؤتَى بالخمار بإشارتها إلى إنسان، فأتى بالخمار، فإن زادت المدة وطالت، فهذا سكون طويل، وتركٌ للساتر، وفي معارضته أنها تركت عملاً كثيراً، وفيه احتمال ظاهر، إذا كان كذلك، ولعل الظاهر الحكم بالبطلان، فإنا إذا ألحقنا هذه الصورة بسبق الحدث، وقد ثبت أنه يُسرع المشي في تدارك ما وقع في القول الذي عليه التفريع، فوجود المشي وعدمه بمثابة، فالوجه النظر إلى التسرّع إلى التدارك من غير مبالاة بالأفعال.
__________
(1) في جميع النسخ: "فتداركه"، والمثبت من (ل) .(2/195)
فصل
904- المصقي إذا سبقه الحدث في الصلاة من غير قصد، فالمنصوص عليه في الجديد أن الصلاة تبطل، ووجهه بيّن من القياس.
وقال أبو حنيفة (1) : لا تبطل الصلاة.
وهو قول للشافعي في القديم، وقد بان أن القولَ القديم ليس معدوداً من المذهب؛ فإن الشافعي رحمه الله لما نص عليه في الجديد على جزم، رجع عمّا صار إليه في القديم، ولكن أئمة المذهب يعتادون توجيه الأقوال القديمة على أقصى الإمكان، ثم يفرعون عليه.
توجيه القديم: الحديثُ المدون في الصحاح، وهو ما رواه ابن أبي مُلَيكة عن عائشة أنه عليه السلام قال: "من قاء أو رعفَ، أو أمذى في صلاته، فلينصرِفْ، وليتوضأ وليَبْنِ على صلاته ما لم يتكلم" (2) وإنما لم يعمل الشافعي به في الجديد لإرسال ابن أبي مُلَيكة؛ فإنه لم يلق عائشةَ ولا حجةَ في المراسيل عنده. وقد روى إسماعيل بن عياش في طريقه عن ابن أبي مليكة، عن عروة عن عائشة، فأسند.
وإسماعيل هذا سيء الحفظ، كثير الغلط فيما يرويه عن غير الشاميين. وابن أبي مُلَيكة ليس من الشاميين، فإن جرينا على القول القديم، فكل ما يطرأ على الصلاة مما ينقض طهارة الحدث، أو ينجس ما يجب رعاية طهارته، فالمصلي يسعى في إزالة
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/266 مسألة 218، البدائع: 1/220، حاشية ابن عابدين: 1/403.
(2) حديث ابن أبي مليكة عن عائشة. قال الحافظ: رواه ابن ماجة، والدارقطني. (ر. الدارقطني: 1/154 ح 11-17، وابن ماجة: إقامة الصلاة، باب ما جاء في البناء على الصلاة، ح 1221، وتلخيص الحبير: 1/274 ح 430) هذا وقد عد الحافظ قول إمام الحرمين عن هذا الحديث: إنه مدون في الصحاح وهماً عجيباً، تابعه عليه الغزالي في الوسيط. لكننا لم نجد في الوسيط متابعة الغزالي لشيخه في هذه العبارة، بل قال الغزالي عن الحديث إنه روي مرسلاً، أما متابعة الغزالي لشيخه فكانت في البسيط، كما ذكر النووي في التنقيح (ر. التنقيح في شرح الوسيط للنووي - بهامش الوسيط: 2/157) .(2/196)
ذلك على أقرب وجه يقتدر عليه، وإن كثرت الأفعال، ومست الحاجة إلى استدبار القبلة ومشى فرسخاً مثلاً، فإنه يبني على صلاته، ولو أمنى أو أمذى، فالكل على وتيرة واحدة.
فإن قيل: فَلِمَ خصّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذكر أشياء معدودة؛ وإذا كان المذهب مبنياً على الخبر بعيداً عن القياس، فهلا اختص بما اشتمل عليه الحديث؟ قلنا: إنما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يجري في الصلاة وِفاقاً؛ فإن الرعاف وذراع (1) القيء مما يفرض جريانه في الصلاة إذا تعسر التماسك منهما، وكذلك الرجل المذاء قد يبتلى بالمذي في أثناء الصلاة، فعلمنا قطعاً أن الحديث لو صح، فإنما اختص بهذه الأشياء؛ لأنها الجارية في العرف غالباً، وأبو حنيفة (2) حكم بانقطاع الصلاة بخروج المني، ونزَّل الإمذاء منزلة الإمناء، وإن كان منصوصاً في الخبر، وألحقَ سبق البول بالرعاف والقيء.
905- ولو تحرّم الماسح على خفه بالصلاة، على طهارة المسح، ثم انقضت مدة المسح أثناء الصلاة، بطلت الصلاة وفاقاً -وإن فرعنا على القديم في سبق الحدث- والسبب فيه أنه قصر، حيث لم يرع قدْر المدة وانقضائها، وكان كالذي يتعمد إلى الحدث (3) .
ولو تخرّق خفُّه في الصلاة وبرز القدم، ففي المسالة وجهان: أحدهما - تبطل الصلاة، كانقضاء المدة؛ فإنه مقصر من حيث لم يرع ضعف الخف، وكان كتقصيره في أمر المدة.
والثاني - أن التخرق كسبق الحدث؛ فإن التقصير لا يظهر فيه.
906- ولو رأى المتيمم الماءَ، فالمنصوص عليه في الجديد أن الصلاة لا تبطل، وليس ذلك كسبق الحدث؛ فإن رؤية الماء في نفسها ليست مبطلة للوضوء حتى يتمكن
__________
(1) كذا في جميع النسخ، والمعروف فيما بين أيدينا من المعاجم: "ذَرْع" فلعل لها وجهاً لا نعرفه، ثم جاءتنا (ل) وفيها: "ذرع".
(2) ر. البدائع: 1/222، حاشية ابن عابدين: 1/406.
(3) أي يقصد إلى الحدث، وفي (ل) "كالذي يتعمد الإقدام إلى الحدث".(2/197)
الرائي من استعمال الماء [على يسر، والصلاة عاصمة شرعاً مانعة من استعمال الماء،] (1) فهذا -مع ما فيه من الغموض- معتمد المذهب الجديد.
907- ثم قال أبو حنيفة (2) : من سبقه الحدث في المسجد، فخرج وتوضأ، لزمه أن يعود إلى مكانه من المسجد، وفيه يبني، فلو بنى في بيته على صلاته، لم يجز، وهذا ممّا انفرد به أبو حنيفة، وليس له فيه معتصم.
ونحن نقول: إذا رفع المانعَ الطارىء، وهو في منزله، تعيّن عليه البناءُ حيث انتهى إليه، فلو رجع إلى المسجد، بطلت صلاته؛ فإن هذه الأفعال تجرى بعد ارتفاع المانع، فتقع قادحةً في الصلاة، لا محالة، ثم نأمر الساعي في رفع المانع بأن يقتصر من أفعاله على قدر الحاجة، ولا نكلّفه أمراً يخرج به عن مألوف اعتياده من [عَدْوٍ] (3) وبدار إلى رفع الحدث، ولكنه يقتصد، وكما يرعى تقليل الأفعال وتنزيلها على حكم العادة، فكذلك يرعى تقريب الزمان؛ فإن دوام المانع مع التمكن من رفعه استصحابٌ لما يناقض الصلاة.
908- ولو سبق الحدث، ثم استكمل الذي هو صاحب الواقعة الحدثَ، بطلت صلاتُه. وقد ذكر صاحب التقريب أنه لو قطر منه بولٌ سبقاً، فله أن يستتم ذلك البول، ثم يتوضأ، وهذا عندي خطأ إذا كان يمكنه أن يتماسك؛ فإن الذي أتى به حدث على اختيار.
ونحن نقول: لو زاد فعلاً من غير حاجة، وبلغ مبلغ الكثرة، بطلت صلاته؛ فالحدث أولى بالتأثير في الصلاة، إذا جرى على حكم الاختيار.
909- ومما يتعلق بغوامض المذهب أن الأئمة قالوا: لو انكشفت العورة، ثم رد الساتر على قرب، لم تبطل صلاته قولاً واحداً، وطردوا ذلك في نظائر سبقت،
__________
(1) زيادة من: (ت 1) ، (ت 2) .
(2) ر. البدائع: 1/223، حاشية ابن عابدين: 1/407.
(3) في الأصل، وفي (ط) وفي (ت 1) : غدو. وساقطة من (ت 2) . والمثبت تقدير منا رعاية للسياق. والحمد لله، صدقتنا (ل) .(2/198)
وما جرى (1) مناقض للصلاة، وإن قلّ الزمان وقصر، وكان القياس يقتضي أن ينزل ما ذكرناه منزلة سبق الحدث (2) . ولكن الأئمة قاطعون بما ذكرته.
فلْيتأَمل طالبُ الحقائق ما ذكرناه. ولو كان ذلك محطوطاً عن المصلي لقرب الزمان فيه، للزم أن يقال: لو تعمد المصلي كشف إزاره وردّه على القرب، لا تبطل صلاته. وقد قالوا: إذا تعمد، بطلت صلاته. ولو طيرت الريحُ الإزار وأبعدته، وكان لا يلحق إلا بأفعال كثيرة، فهذا ألحقوه بسبق الحدث، وخرجوه على القولين.
910- ومما فرعه أبو حنيفة (3) على مذهبه في سبق الحدث، أن المصلي إذا سبقه الحدث، وكان ملابساً ركناً من الأركان، مثل أن كان في الركوع أو السجود، قال: بطل ذلك الركن، فإذا أراد البناء، لزمه العود إلى ذلك الركن.
وهذا فيه عندي تفصيل في مذهبنا المفرع على القديم، فأقول: إن سبق الحدث قبل حصول الطمأنينة، فمضى إلى التدارك، فيعود إلى الركوع، وإن كان ركع واطمأن ثم أحدث، فإذا أراد البناء ففي إلزامه العود إلى الركوع احتمال. والظاهر أنه لا يعود؛ فإن موجب هذا القول، أن الحدث لا يبطل شيئاًً مضى، وأن من سبقه الحدث يبني، ولا يعيد شيئاًً قد تم على موجب الشرع.
[فصل] (4) :
قال: "ولو تكلم أو سلم ناسياً ... إلى آخره" (5) .
911- الكلام على عمدٍ مبطل للصلاة؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها من كلام الآدميين شيء" (6) ولا فرقَ بين أن يكون في مصلحة
__________
(1) أي ما جرى من انكشاف العورة.
(2) أي من جعله على قولين، ولكنهم قاطعون بصحة صلاة من ردّ الساتر على قربِ قولاً واحد. فهذا هو (الغامض) .
(3) ر. البدائع: 1/223، فتح القدير: 1/391.
(4) في جميع النسخ (فرع) واخترنا ما جاءت به (ل) ؛ لأن هذا بالفصل أشبه.
(5) ر. المختصر: 1/80.
(6) حديث: "إن صلاتنا هذه.." رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن حبان، والبيهقي، عن معاوية بن الحكم السلمي. (ر. مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة، ونسخ ما كان من إباحته، ح 537، أبو داود: الصلاة، باب تشميت =(2/199)
الصلاة، وبين ألا يكون كذلك، خلافاً لمالك (1) ، ولو جاز الكلام في مصلحة الصلاة، لما أمر الرجل بالتسبيح والمرأة بالتصفيق إذا ناب الإمامَ شيءٌ.
ثم مضمون هذا الفصل يوضحه أمران: أحدهما - في كلام من ليس معذوراً، والثاني - في المعذور وتفاصيل العذر.
فأما غير المعذور، فمهما (2) عمد المصلّي مع ذكر الصلاة وعلمه بتحريم الكلام كلاماً (3) خارجاً عن مراسم الشرع، في القراءة والتسبيح والدعاء، بطلت صلاته. ثم ما يأتي به، ينقسم إلى كلام مفهوم، وإلى حروف لا تفهم: فأما ما يفهم، فإنه على الشرائط التي ذكرناها، تبطل الصلاة وإن كان حرفا واحداً، فإذا قال: (عِ) أو (قِ) أو (شِ) من وعى ووقى ووشى، بطلت صلاته.
وإن كان أتى بحرف لا يُفهِم معنى، فالحرف الواحد لا يبطل الصلاة، وإن والى بين حرفين، بطلت صلاته؛ فإن أقل مباني الكلام في أصل اللسان حرفان.
ولو استرسل منه صوت غُفْل لا تقطّع فيه، ولا يسمى حرفاً، فسماعي عن شيخي فيه أنه لا يبطل الصلاة، ولو ذكر حرفاً ووصله بصوت غُفل؛ فإنه كان يتردد فيه، وهو لعمري محتمل؛ فإن الكلام حروف، والأصوات المرسلة من مباني الكلام.
والأظهر عندي أنه مع الحرف كحرف مع حرف؛ فإن الصوت الغُفل مَدّة، والمدّات تقع ألفاً أو واواً أو ياءً، وهي -وإن كانت إشباعاً لحركات- معدودةٌ حرفاً، وعندي أن شيخي ما تردد فيها، وإنما تردد في صوت غُفل مع حرف إذا لم يكن ذلك الصوت مَدّة، وإشباعاً لإحدى الحركات الثلاث.
912- ومما يتعلق بهذا الكلامِ القولُ في التنحنح، فمن تنحنح فاتحاً فاه مغلوباً
__________
= العاطس في الصلاة، ح 930، والنسائي: السهو، باب الكلام في الصلاة، ح 1218، التلخيص: 1/281 ح 449) .
(1) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/263 مسألة: 278، عيون المجالس: 1/323 مسألة: 152، حاشية الدسوقي: 1/282.
(2) "فمهما" بمعنى (فإذا) .
(3) "كلاماً" مفعول لـ " عمد " والمعنى: إذا قصد كلاماً خارجاً....(2/200)
فيه، وما أتى به لحاجة، فالذي قطع به الأئمة أنه إذا أتى بحرفين، بطلت صلاته.
وحكى ابن أبي هريرة نصاً عن الشافعي: أن التنحنح لا يبطل الصلاة أصلاً؛ فإن الذي يأتي به -على ما يُعهد- ليس آتيا بحروف محققةٍ؛ فهو كصوت غُفل. قال القفال: بحثت عن النصوص، فلم أر ما ذكره، وأنا سأعود في أثناء الكلام إلى هذا.
وأقول الآن: إذا صار المصلي بحيث لا يتأتى منه القراءة المفروضة ما لم يتنحنح، فكأن (1) اختنق أو اغتص بلقمة؛ فإنه يتنحنح ولا يضره ذلك، مع مسيس الحاجة التي وصفناها.
ولو كان في صلاة جهرية، وقد عسر عليه الجهر لو لم يتنحنح، وما عسرت القراءة سراً، فهل له أن يتنحنح ليجهر ويقيم شعار الجهر وكان إماماً؟ فيه وجهان مشهوران: أقيسهما: المنع؛ فإن الجهر أدب وهيئة، وترك ما هو من قبيل الكلام حتم، ولا يتجه وجه الجواز إلا بشيء، وهو أن التنحنح في أثناء القراءة يُعد من توابع القراءة، ومن ترديد الصوت بها، ولا يُعد كلاماً منقطعاً عن القراءة. ولعل ابن أبي هريرة نقل ذلك القول في أثناء القراءة، فينقدح توجيهه، وإن لم تكن حاجة ماسة كما ذكرته، وإن كان بعيداً.
فأما التنحنح لا في حالة استياق (2) القراءة، فيبعد المصير إلى أنه لا يُبطل، فكان مأخذ الكلام في التنحنح الجاري في القراءة [أنه يُبطل في ظاهر المذهب، إذا لم يتعذّر أصل القراءة] (3) ، فإن تعذر رفعُ الصوت، ففيه الخلاف المعروف، ووجهه أنه مع الحاجة في القراءة كأنه تابع، وعن هذا قد يتجه أنه إذا لم تكن حاجة أيضاً، لا يُبطل، إذا كان في خلال القراءة.
وحكى شيخي عن القفال أنه كان يقول: لو طبق شفتيه وتنحنح، لم تبطل صلاته، وإنما التفصيل فيه إذا كان يتنحنح فاتحاً فَاه. وهذا ممّا انفرد به القفال، وصار إلى أن
__________
(1) كذا في نسخة الأصل وحدها، وفي باقي النسخ: "وكان".
(2) في (ل) : "اتساق القراءة".
(3) ما بين المعقفين زيادة من: (ت 1) ، (ت 2) .(2/201)
التنحنح مع التطبيق كجرجرة في الحلق، أو قرقرة في التجاويف. ولست أرى الأمر كذلك؛ فإن هذه الأصوات لا تختلف في السمع بالتطبيق والفتح، ومن تنحنح لا يأتي بالحروف الحلقية صريحاً، وإنما هي أصوات تداني الحروف الحلقية، لا يصفها الكتبة ويعرفها من يتأمل. وإذا كان كذلك، فلا فرق بين حالة التطبيق وحالة الفتح.
913- ولو قرأ المصلي آيةً أو بعضاً من آية، فأفهم بها كلاماً، مثل أن يقول: "خذها بقوة"، أو يقول -وقد حضر جمع فاستأذنوا-: "ادخلوها بسلام"، فإن لم يخطر له قراءة القرآن، ولكن جرد قصدَه إلى الخطاب، بطلت صلاته.
وإن قصد القراءة، ولم يخطر له إفهامَ أحد، بحيث لو دخلوا لم يُرد دخلوهم من معنى قوله، [فلا شك أن صلاته لا تبطل، وإن قصد قراءة القرآن وقصد إفهامهم] (1) ، فالذي قطع به الأئمة أن الصلاة لا تبطل؛ فإنه لا يُجدّ متكلماً، والحالة هذه. وقال أبو حنيفة (2) : تبطل الصلاة بهذا.
914- ولو دعا بالفارسية، بطلت صلاته، وكذلك لو أتى بترجمة القرآن. وقد ذكرنا أن ترجمة القرآن لا تقوم مقام القراءة، وخلاف أبي حنيفة مشهور فيه (3) .
ومعتمدنا في وجوب الرجوع إلى الأذكار عند تعذر القراءة، ما روي عن رفاعة بن رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قام أحدكم إلى الصلاة، فإن كان يحسن شيئاًً من القرآن، قرأ، وإن كان لم يحسن شيئاًً، فليحمد الله وليكبر" (4) .
فهذا تمهيد المذهب فيما يأتي به المصلي من الكلام من غير عذر.
__________
(1) زيادة من: (ت 1) ، (ت 2) .
(2) ر. الهداية مع فتح القدير: 1/349، تبيين الحقائق: 1/157، حاشية ابن عابدين: 1/417.
(3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/260 مسألة 211، رؤوس المسائل: 157 مسألة: 62، المبسوط: 1/37، تبيين الحقائق: 1/109، فتح القدير: 1/247.
(4) جزء من حديث المسيء صلاته وقد تقدم.(2/202)
915- فأما تفصيل القول في المعذور، فنبدأ بالنسيان أولاً، فإذا نسي الرجل كونَه في الصلاة وتعمد الكلام، وهذا هو المعني بكلام الناسي، فهذا غير مبطل للصلاة، خلافاً لأبي حنيفة (1) ، والمعتمد فيه من جهة السنة قصة ذي اليدين وهي مذكورة في الخلاف.
ولو كثر الكلام في حالة النسيان، ففي بطلان الصلاة وجهان: أحدهما - وهو القياس أنه لا تبطل الصلاة؛ فإنه لو أبطل الصلاة [كثيرُه، لأبطلها قليلُه، كحالة العمد، والثاني - إذا كثر أبطل الصلاة] (2) لأمرين: أحدهما - أن هيئة الصلاة تزول بكثرة الكلام، وينقطع نظامها، والثاني - أن الناسي يعذر، لأنه قد يبتلى ببادرة، فأما الكثير، فيبعد تصوير النسيان فيه، فإنه يتنبه أو يُنبّه، وما يقع نادراً لا يعتد به، والصائم إذا أكل ناسياً لصومه فإن قل أكله، لم يبطل صومه، وإن كثر، ففي المسألة وجهان مرتبان على الوجهين في الكلام الكثير مع استمرار النسيان، فإن قلنا: لا تبطل الصلاة، فلأن لا يبطل الصوم أولى، وإن قلنا تبطل الصلاة [ففي الصوم وجهان مرتبان على المعنيين المذكورين في التوجيه، فإن قلنا ببطلان الصلاة] (3) ، لندور النسيان الطويل، فهذا يتحقق في الصوم أيضاً. وإن اعتمدنا في الصلاة الهيئة وانقطاعَ النظام، فهذا لا يتحقق في الصوم؛ فإنه ليس بعبادة ذات نظام، وإنما هو انكفاف عن أمور معروفة.
916- ولو تكلّم الرجل جاهلاً بأن الكلام يحرم في الصلاة، وكان قريب عهدٍ بالإسلام، فلا تبطل الصلاة، وجهله يعذره. والأصل فيه الأخبارُ، وقد رويناها في الخلاف (4) .
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/269 مسألة: 222، رؤوس المسائل: 159 مسألة: 64، المبسوط: 1/170، فتح القدير: 1/344، حاشية ابن عابدين: 1/413.
(2) زيادة من: (ت 1) ، (ت 2) .
(3) زيادة من: (ت 1) ، (ت 2) .
(4) لم يعرض الإمام لهذه المسألة في الدرة المضية، فلعله ذكرها في كتالب آخر من كتبه في الخلاف.(2/203)
ولو علم أن الكلام محرّم في الصلاة، ولكن لم يعلم كونَه مفسداً، فتفسد صلاته وفاقاً، وهذا يطرد في الصوم وغيره، وهو يناظر مسألة من كتاب الحدود، وهي أن من شرب الخمر، ولم يعلم تحريمَها لم يحدّ، وإن علم تحريمها، ولم يعلم أنه يُحد شاربُها، حُد، ولم يصر جهله بالحدود دارئاً له.
ولو علم أن الكلام على الجملة يحرم، ولكن لم يدْرِ أن الذي جاء به محرم، فقد ذكر بعض المصنفين أن الصلاة تبطل في هذه الصورة، وهذا محتمل عندي، ويظهر المصير إلى أنها لا تبطل الصلاة.
فهذا بيان تمهيد عذر الناسي والجاهل.
917- ومما يلتحق بالنسيان والجهل وهو أولى منها، وهو أنه لو التف لسان الذاكر والقارىء، فجرى بكلام جنسه مبطل للصلاة، فلا تبطل صلاته أصلاً، وعندي أن أبا حنيفة يوافق في هذا، مع مصيره إلى أن الناسي لا يعذر؛ فإن سبق اللسان إلى هذا لا يزيد على سبق الحدث، ومن سبقه الحدث، لا تبطل صلاته.
918- ومما نذكر في المعاذير أن المصلي لو أكره على أن يتكلم في الصلاة، فتكلم مكرهاً، فهذا كما لو أكره الصائم على الأكل مع ذكره للصوم، وفيه قولان، سأذكر حقيقتهما في كتاب الصوم إن شاء الله تعالى، والغرض الآن تنزيل المصلي منزلة الصائم.
919- ومما نذكره متصلاً بالكلام السكوت، فإذا أطال الرجل سكوته، وهو لا يؤمر باستماع وإصغاء، فإن تعمد ذلك في ركن طويل، فقد ذكر القفال وجهين في بطلان الصلاة، أصحهما (1) أنه لا تبطل؛ فإن السكوت ليس خارماً لهيئة الصلاة وما فيها من رعاية الخضوع والاستكانة.
والثاني - أنه تبطل الصلاة؛ فإن اللائق بالمصلي الذكر والقراءة، والسكوتُ في حكم الإضراب عن وظائف الصلاة وما شرعت الصلاة لأجله.
والدليل عليه أنَّ من رأى رجلاً على البعد يتكلم، يسبق إلى اعتقاده أنه ليس في
__________
(1) في (ت 2) : أحدهما.(2/204)
الصلاة، كذلك إذا رآه في سكتة طويلة؛ فإنه يعتقد أنه ليس في الصلاة.
وإن سكت سكوتاً طويلاً ناسياً للصلاة. [فالسكوت الطويل إن قيل: لا يُبطل الصلاة واقعُه على العمد] (1) ، فلا شك أن واقعَه على النسيان [لا يبطل، وإن قلنا: عمدُه مبطل للصلاة، ففي واقعه على النسيان] (2) طريقان: منهم من قال: هو كالكلام الكثير الصادر من الناسي، وفيه الخلاف المقدم، فيعتبر طويل السكوت بكثير الكلام، ومنهم من قال: السكوت الطويل من الناسي -حيث انتهى التفريع إليه- كالكلام اليسير؛ فإن قليل الكلام من العامد مبطل، وقليل السكوت من العامد غيرُ ضائر، فاعتبرنا طويل السكوت بقليل الكلام.
فصل
قال: "وإن عمل عملاً قليلاً مثل دفعه المارّ بين يديه ... إلى آخره" (3) .
920- العملُ القليل على عمد وذِكْرِ الصلاة غيرُ مبطل لها، والعمل الكثير على وجه التوالي والاتصال عمداً - مبطل للصلاة، والدليل على أن القليل غير مبطل للصلاة أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ في الصلاة أذُنَ ابن عباس، وأداره من يساره إلى يمينه (4) .
ودخل أبو بكرة المسجد، فصادف رسول الله في الركوع، فخاف أن تفوته الركعة فركع منفرداً، ثم وصل إلى الصف بخطوة، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة، قال: "زادك الله حرصاً ولا تَعُد" (5) ولم يأمره بإعادة الصلاة.
__________
(1) زيادة من (ت 1) ، (ت 2) .
(2) زيادة من (ت 1) ، (ت 2) .
(3) ر. المختصر: 1/81.
(4) حديث ابن عباس متفق عليه. (اللؤلؤ والمرجان: 1/145 ح 437) .
(5) حديث أبي بكرة: رواه البخاري: الأذان، باب إذا ركع دون الصف، ح 783، وأبو داود: الصلاة، باب الرجل يركع دون الصف، ح 683، 684، والنسائي: الإمامة، باب الركوع دون الصف، ح 871، وأحمد: 5/39، 45، والطحاوي: 1/395، والبغوي في شرح =(2/205)
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا مر المار بين يدي أحدكم وهو في الصلاة، فليدفعه، فإن أبى، فليدفعه، فإن أبى، فليقاتله، فإنه شيطان" (1) .
وقيل في تفسير قوله شيطان، معناه المارّ من شياطين الإنس. وقيل: إنه ليس المقصود من دفعه منعَه، ولكن الشيطان لا يجسر أن يمر بين يدي المصلي وحده، فإذا مر بين يديه إنسي، رافقه، فقوله: "فإنه شيطان" معناه، "فإن معه شيطاناً".
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لو علم المارّ بين يدي المصلي ما فيه لوقف أربعين" (2) وقد اختلف فيه فقيل: أربعين سنة، وقيل: أربعين شهراً، وقيل: أربعين يوماً، وقيل: أربعين ساعة.
921- فإن قيل: هل من ضبطٍ في الفرق بين العمل القليل والكثير؟ قلنا: لا شك أن الرجوع في ذلك إلى العرف وأهله، ولا مطمع في ضبط ذلك على التقدير والتحديد؛ فإنه تقريب، وطلب التحديد في منزلة التقريب مُحال، ولكن كل تقريب له قاعدة، منها التلقي، وإليها الرجوع، فمطلوب السائل إذاً القاعدة التي عليها التحويم (3) في ذلك.
فنقول: الآدميُّ ذو حركات وسكنات، ويعسر عليه تكلفُ السكون على وتيرة في زمان طويل، ولا شك أن المصلي مؤاخذ بالخشوع، والخشوع هو إسكان الجوارح، ورأى رسول الله رجلاً يعبث بيديه في الصلاة، فقال: "هذا لو خشع قلبه لخشعت جوارحه" (4) . فالقدر الذي يُحمل صدورُه على ضرورة الخلقة والجبلة، ولا يحمل على الاستهانة بهيئة الخشوع والاستكانة مُحتمل، بل لا بد منه، وما فوقه إلى
__________
= السنة: 822، 823، وانظر (الإحسان: 5/568، 569، 2194، 2195، وتلخيص الحبير: 1/457) .
(1) حديث: "إذا مر المار بين يدي أحدكم ... " متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري، في قصة له، مع تفاوت يسير في اللفظ. (اللؤلؤ والمرجان: 1/100 ح 283) .
(2) حديث: "لو علم المار": متفق عليه (اللؤلؤ والمرجان: 1/101 ح 284) .
(3) (ت 1) ، (ت 2) : التحريم.
(4) "لو خشع قلب هذا.." حديثٌ موضوع. (ر. إرواء الغليل: 2/92 ح 373) .(2/206)
الانسلال عن الهيئة المطلوبة مضطرب، والفعل فيه تركٌ للأولى، وإذا تعدى الفعلُ هذا المسلك أيضاً، وانتهى إلى الانسلال عن السكون الذي يتميز فيه المصلي عن غير المصلي، فهو المبطل.
وعبَّر القفال عن هذا، فقال: كل مقدار من الفعل إذا رآه الناظر من بُعدٍ، غلب على ظنه أن صاحبه ليس في الصلاة، فهو الكثير، فهذا هو المعتبر، وقد ثبت في مضمون الآثار وقول الأئمة أن الصلاة لا تبطل بخطوتين متواليتين، وتبطل بالثالثة وِلاءً، وكذلك لو فرضت ضربتان، فالضربة الثالثة كالخطوة الثالثة.
فليتخذ الناظر هذا معتبرَه. وليس الرجوع في هذا التقريب إلى العدد؛ فإن من حرّك إصبعه مراراً كثيرة، لم يقابل ذلك خطوة، ولست أنكر أن التعديد والتقطيع أمر معتبر في هذا الباب؛ فإن الخطوة الواحدة لا تبطل، ولو قطَّعها المصلي، فجعلها ثلاث خطوات متواليات، لبطلت، فإن الخطو الوساعَ إن اتحد لا يعد كثيراً، وإذا تقطع عُدّ كثيراً، ولست أنكر أنه إذا خطا خطوتين واسعتين جداً وِلاءً، فإنهما في العرف قد يوازنان ثلاث خطوات. وقد اضطرب جواب القفال في أن الحركات الكثيرة في إصبع أو كفّ كحركات من يعقد ويحل، أو كحركات من يدير المسبحة هل تبطل الصلاة؟ فقال مرّة: جنس هذه الأفعال لا تبطل الصلاة؛ فإنها في طرف وكُثْر البدن (1) ساكن، وهيئة الخشوع غير مختلة.
وقال مرة: كثيرها يبطل. معتبراً برتبة الخطى والضربات.
922- ثم تمام القول في ذلك أن ما استبنَّا بلوغَه حدَّ الكثرة، فمبطل، وما استبنَّا وقوعَه في حدّ القلة، فهو غير مبطل، وما ترددنا فيه، فينقدح فيه أوجه: أحدها - استصحاب صحة الصلاة.
والثاني - الحكم بالبطلان؛ فإنا مؤخذون بالإتيان بهيئة مطلوبة، ونحن شاكون في الإتيان بها وامتثال الأمر فيها.
والثالث - أنا نتبع غلبة الظن، فإن استوى الظنان، فالأصل دوام صحة الصلاة،
__________
(1) في (ت 2) : اليدين.(2/207)
والأظهر استصحاب الحكم بدوام الصلاة؛ فإن الهيئة التي ذكرناها وبنينا الكلامَ عليها ليست ركناً مقصوداً في الصلاة، كالركوع والسجود ونحوهما، وكأنها النظام والرابطة لأركان الصلاة، فإذا لم يتحقق انقطاعها، دامت، وسيأتي هذا ومثله مستقصىً في باب سجود السهو، إن شاء الله تعالى.
ثم إذا كثر الفعل في الصلاة، ولكنه وقع مقطعاً غيرَ متوالٍ، فلا تبطل الصلاة به، ويمكن أن يفرض في ركعة واحدة طويلة مائة خطوةٍ فصاعداً مع تخلل الفصول الطويلة. ثم المعتبر في الفصل المتخلل بين الفعل والفعل أن يُشعِر بالإضراب عن الفعل، ويتجاوز حد الثاني في قبيلٍ من الفعل يتمادى المرءُ عليه،، فهذا كله في الفعل الكثير الواقع عمداً.
923- فأما إذا نسي الرجل الصلاة، وأوقع أفعالاً كثيرة، فللأئمة طريقان: أحدهما - أن القول فيها كالقول في الكلام الكثير الصادر من الناسي، وفيه وجهان مذكوران.
ومن أئمتنا من قال: أول مبلغ الكثرة في الفعل هو الذي يُبطل الصلاة عمدُه، فإذا وقع هذا من الناسي، لم تبطل الصلاة، وهذا المبلغ من العامد كالكلام اليسير من العامد، فإنَّ يسير الخطاب يَخْرِمُ أُبّهة الصلاة، كما أن كثير الفعل يخرِمُها، وما يجاوز مبلغَ أول الكثرة وينتهي إلى السَّرف، فهو من الناسي كالكلام الكثير في حالة النسيان، فهذا تمام القول في ذلك.
فرع:
924- كان شيخي يذكر في الدروس خلافَ الأصحاب في أن الصوم هل يُشترط في الصلاة؟ حتى لو أكل المصلي أو شرب ولم يفعل فعلاً، تبطل صلاته، وكان يصحح اشتراط الصوم في الصلاة، وهذا الذي قطع به الأئمة في طرقهم، ولم يشر إلى الخلاف كما ذكره غيرُ العراقيين.
والوجه الحكم ببطلان الصلاة؛ فإن قليل الأكل كقليل الكلام في منافاة هيئة الصلاة.
وبالجملة الغرض الكلي من العبادات البدنية التي لا تتعلق بأغراض ناجزة -كسد الحاجات بسبب بذل الزكوات- تجديدُ الإيمان، ومحادثة القلوب بالمعرفة، والرجوع(2/208)
إلى الله، وأجمعها لهذا الغرض الصلاة، ولذلك وجب فيها الانقطاع عن أفعال العادة، والانكفافُ عن خطاب الآدميين، والاستواء في صوبٍ واحد وتلقاءٍ واحد، وهو القبلة؛ فإن الانكفاف عن هذه الملهيات والانكبابَ على الأذكار يحصر الذهن ويذكر الحقائق، وقليل الأكل ينافي هذا الغرض، فإن لم نوجب الصوم، ألحقنا الأكل في الصلاة بالأفعال، وقد تفصَّلَ المذهب فيها. وهذا بعيد جداً، فإن أوجبنا الصوم، فكل ما يفسِد الصوم يفسِد الصلاة، وسيأتي تفصيل مفسدات الصوم في كتابه إن شاء الله تعالى.
925- ومما يتعلق بهذا الفصل أن المصلي لو زاد ركوعا أو سجوداً عمداً، بطلت صلاته عندنا، وإن كان الركوع الواحد لا يبلغ مبلغ العمل الكثير، وأبو حنيفة (1) لا يُبطل الصلاةَ بزيادة ركن، ويرعى فيها كثرةَ الفعل وقلَّته، ومعتمدنا أن الكثرة والقلة لا تُعنيان لأعيانهما، وإنما المتبعُ المعنى، فزيادة ركن يُظهر مخالفة النظم، ويعتبر بضدّ الأركان، وأما الأفعال، فلا بد من جريان قليلها في ضرورة الجبلّة، والقول في كثيرها ما سبق، وسنعود إلى هذا في باب السجود إن شاء الله تعالى.
فصل
926- ما أدرك المسبوق، فهو أولُ صلاة المأموم، وإن كان آخر صلاة الإمام، وقد يخالف أبو حنيفة (2) في هذا، ويقول: ما أدركه محسوب له آخراً، وهو يتدارك الأول، وما ذكرناه له آثار، نشير إليها، فنقول: إذا أدرك المسبوق الركعة الأخيرة من صلاة الصبح، وقنت الإمام فيها، فإذا قام المقتدي واستدرك ما فاته، قنت ثانياً؛ فإن القنوت وقع في أول صلاته، ولكنه وقف (3) اتباعاً للإمام، ووفاء بما نواه والتزمه من المتابعة.
__________
(1) ر. حاشية ابن عابدين: 1/315، 316.
(2) ر. المبسوط: 1/190، مختصر اختلاف العلماء: 1/293 مسألة: 251، رؤوس المسائل: 166 مسألة: 69.
(3) كذا في جميع النسخ الأربع (وقف) ولعل الصواب: "وقع" أو "قنت".(2/209)
وإذا أدرك ركعة من صلاة المغرب، وقعد مع الإمام في التشهد الأخير، فإذا سلم الإمام، قام المسبوق، وصلى ركعة أخرى، وجلس للتشهد، وهذا تشهده الأول المحسوب، ثم يصلي ركعة ثالثة ويتشهد مرة أخرى، وهذا مطرد واضح.
927- ولكن نقل المزني عن الشافعي أنه قال: إذا أدرك المسبوق الإمام في الركعتين الأخيرتين من الظهر أو العصر أو غيرهما، وصلّى مع الإمام ركعتين، ولما سلّم الإمام، قام ليصلي ركعتين، قال الشافعي: يقرأ في الركعتين اللتين يتداركهما السورة مع الفاتحة؛ فاعترض المزني، وقال: ما يدركه المسبوق أول صلاته على مذهب الشافعي، وما يقضيه من الركعتين آخرُ الصلاة، فلِمَ أمر المسبوق بقراءة السورة في الركعتين الأخيرتين من صلاته؟
فاختلف أئمتنا في الجواب، فقال بعضهم: أجاب الشافعي على استحباب قراءة السورة في كل ركعة، ولو أجاب على تَخْلِية الأخيرتين [عن قراءة السورة، لما أمر المسبوقَ بقراءة السورة، كما ذكره المزني] (1) وهذا غير مرضي عند المحققين؛ فإن فحوى كلام الشافعي دليلٌ على أنه لم يفرع على الأمر بقراءة السورة في كل ركعة؛ فإنه اعتنى بتصوير هذه (2 الصورة على التخصيص، وأمر فيها بقراءة السورة، فلو كان يأمر بها عموماً، لما كان لاعتنائه لتخصيص هذه الصورة 2) بالذكر معنى، فالصحيح أنه مع التفريع على اختصاص قراءة السورة بالأوليين يأمر المسبوق في هذه الصورة بقراءة السورة. والسبب فيه أن إمامه لم يقرأ السورة في الركعتين الآخرتين اللتين أدركهما المسبوق حتى يقع وقوفُ المأموم لقراءته واستماعه موقع قراءته في نفسه، فقد فاتته قراءة السورة، فليتداركها في الركعتين المقضيتين، فهو إذن قاضٍ لقراءة السورة، وليس مُقيماً وظيفة الركعتين الأخيرتين.
وهذا يناظر نص الشافعي في الجمعة، حيث قال: إذا ترك الإمام قراءة سورة الجمعة في الركعة الأولى أعادها في الركعة الثانية مع سورة المنافقين.
__________
(1) سقط من الأصل، و (ط) .
(2) ما بين القوسين سقط من (ت 2) .(2/210)
فإن قيل: قد قال الشافعي: لو ترك الطائف الرَّمَل في الأشواط الأُوَل من الطواف، لا يتدارك الرمل في الأشواط الأخيرة، فما الفرق؟ قلنا: المشي على الهينة والسكينة سنة في الأشواط (1 الأخيرة، كما أن الرمل سنة في الأشواط 1) الأول، فلو رمل في الأخيرة، لترك سنة ناجزة لتدارك سنة فائتة، وتركُ القراءة في الركعتين الآخرتين لا نعده من السنن، ولكنه من التخفيف الذي تأكد بالاتباع، فليس ترك قراءة السورة هيئة مقصودة، والمشي والسّكينة في الأشواط الأخيرة هيئة مقصودة مأمور بها. فهذا منتهى الإمكان في الفرق، والاحتمال ظاهر في مسألة المسبوق، كما ذكره المزني وتابعه من تابعه.
فصل
قال: "ويصلي في الجماعة كلَّ صلاة صلاها ... إلى آخره" (2) .
928- من صلى صلاة من الصلوات الخمس منفرداً، ثم أدرك جماعة، استحببنا له أن يعيدها في الجماعة، ولا فرق بين صلاة وصلاة.
وقال أبو حنيفة (3) : يعيد الظهر والعشاء، فأما الصبح، والعصر، والمغرب، فلا يعيدها، وبنى مذهبه في الصبح والعصر على أنهما يستعقبان وقتاً مكروهاً، وعنده أن الصلوات، وإن كان لها أسباب، لا تقام في الأوقات المكروهة، وأما المغرب؛ فإنه لم ير إعادتها؛ لأنها وتر النهار، وإذا أعيدت صارت شفعاً.
وقد ذكر شيخي في درسه وتعليقه وجهاً عن بعض أصحابنا مثلَ مذهب أبي حنيفة، في أنه لا يعيد هذه الصلوات الثلاث، وإن انفرد بها أولاً وأدرك جماعة ثانياً. وهذا لست أعده من المذهب، ولا أعتد به.
فالمذهب القطع بأنه لو انفرد بالصلاة، ثم أدرك جماعة [أعادها، ولا فرق بين صلاة وصلاة.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2) .
(2) ر. المختصر: 1/282.
(3) ر. حاشية ابن عابدين: 1/480.(2/211)
929- ولو صلى في جماعة، ثم أدرك جماعة] (1) فهل يعيدها مرة ثانية؟ فيه وجهان مشهوران، ذكرهما الصيدلاني وغيره، أحدهما - أنه يعيدها لينال فضيلة الجماعة الثانية أيضاً.
والثاني -وهو الأصح عند الصيدلاني- أنه لا يعيدها؛ فإن ذلك لو قيل به، لزم مثله في إدراك جماعة ثالثة ورابعة، وهذا يخالف ما كان عليه الأولون.
فإن قلنا: يعيدها، فلا فرق بين صلاة وصلاة؛ فإنا على هذا الرأي نراها صلاة لها سبب، والصلوات ذوات الأسباب لا يكره إقامتها في الأوقات المكروهة، وتكون كما لو انفرد أولاً ثم أدرك جماعةً، وإن لم نر إعادتَها مقصودة، فهو في حكم متنفل متطوّع بصلاة لا سبب لها، فعلى هذا لا يكره ذلك في الظهر والعشاء، ويكره في الصبح والعصر؛ فإنهما يستعقبان وقتا مكروهاً. والصلاة لا سبب لها فيما نفرع عليه. فأما المغرب، فلا تستعقب وقتاً مكروهاً، ولكن التنفل بثلاث ركعات مما لا نراه في غير وتر الليل، فَلْيَزِدْ ركعةً أخرى حتى تصير الصلاةُ أربعَ ركعات.
ثم نقول: لا ينبغي أن ينوي الفرض أصلاً في هذا التفريع، بل ينوي صلاة التطوع.
930- وإذا انفرد بالصلاة أولاً، ثم وجد جماعة، فأعاد الصلاة، فالفريضة أيتهما؟ فعلى قولين: أحدهما - أن الفريضة هي الأولى؛ فإنها لو اقتصر عليها، كفته.
والثاني - أن الفريضة إحداهما لا بعينها، والله يحتسب بأكملهما.
وذكر شيخي عن بعض الأصحاب أن الفريضة هي الثانية؛ فإنها الكاملة بالجماعة، ويتبين بالأخرة أن الأُولى وقعت نفلاً، وهذا مزيف مردودٌ، ولا أعده مذهباً.
ثم قال الصيدلاني: إذا حكمنا بأن الفريضة هي الأولى، فَنَنْدُبُ إلى الثانية في الصبح والعصر؛ فإن هذه صلاة لها سبب، وأما المغرب، فإنه تُعاد أيضاً، ولكن
__________
(1) ساقط من الأصل، وأثبتناه من (ت 1) ، (ت 2) .(2/212)
ينبغي أن يضم إليها ركعة أخرى؛ فإن التنفّل بالثلاث في هذا الوقت غيرُ مأثور ولا مأمور به، وهذا حسن بالغ.
ثم إن حكمنا بأن الفرض إحداهما لا بعينها، فلا شك أنا نأمره بأن ينوي الفريضة فيهما جميعاًً، وإن حكمنا بأن الفريضة هي الأولى، فهل ينوي بالثانية المقامة في الجماعة الفريضة؟ تردَّد الصيدلاني فيه، واختار أن ينوي الفريضة، وهذه هفوة؛ فإن أمره بنية الفريضة مع القطع بأن الصلاة التي يقيمها ليست فريضة محال.
نعم الوجه أن يقال: وإن حكمنا بأن الصلاة الثانية ليست فريضةً، فينبغي أن ينوي تلك الصلاة، وهي الظهر والعصر، ولا يتعرض للفريضة، فيكون ما جاء به ظهراً مسنوناً، كالظهر من الطفل، وفيما ذكرته احتمال. ولو نوى النافلة، ولم يعيّن الظهر، فيبعد أن يصير بالجماعة في النافلة مستدركاً لِما فاته من الجماعة في صلاة الظهر، فعلى هذا إذا كان ينوي المغرب، فما ذكره الصيدلاني من ضم ركعة رابعة لا أصل له؛ فإن المغرب لا يكون أربع ركعات، ولا تبعُد صلاة مغرب غيرِ مفروضة، والعجب منه مع حسن إيراده في هذا الفصل أنه قال: إذا حكمنا بأن الصلاة الثانية نفل، فيضم ركعةً إلى المغرب، ثم قال: وعلى كلا الوجهين ينبغي أن ينوي الفرض، وهذا خبط وخروج عن الضبط، وقد لاح ما يكتفي به الفطن، والحمد لله وحده.
فصل
قال: "ومن لا يستطيع إلا أن يومىء أومأ ... إلى آخره" (1) .
931- القيام في الصلاة المفروضة ركن مقصود عندنا، فإن عجز عنه المكلّف قعد، فلو اعتمد القادر على شيء في قيامه من غير حاجة وضرورة، أو اتكأ، لم تصح، فليكن مستقلاً في قيامه مقلاًّ نفسه، ولو كان لا يتمكن من القيام إلا متكئاً أو معتمداً، فلا يجوز له أن يقعد، من حيث إنه عجز عن القيام على صفة الاستقلال، بل
__________
(1) ر. المختصر: 1/83.(2/213)
قيام المتكىء أولى من القعود، فلا يجوز الانتقال إلى القعود إلا عند العجز عن صورة القيام، وإذا عجز عن القيام، قعد حينئذ، ولا يجب في القعود هيئة مخصوصة، فلو قعد مفترشاً، أو متوركاً، أو متربعاً، أو مُقْعياً رافعاً ركبتيه، فكل ذلك جائز.
932- ولو قدر على القيام ولكن لا يقدر على الركوع والسجود أصلاً، فيلزمه القيام، ثم يومىء بالركوع والسجود.
وأبو حنيفة (1) يُسقط القيامَ في هذه الصورة، وهذا يدل على أن مذهبه أن القيام ليس ركناً مقصوداً، وهذا ساقط؛ فإنه وإن اعتقده محلاً، فكان يلزمه ليقرأ قائماً.
أما نحن، فنوجب القيام لنفسه وعينه، وإذا لم يتمكن من القيام على هيئة الانتصاب، فَلْيَقُم على انحناء، وليتخِذْ في هذا حديثَ النبي صلى الله عليه وسلم معتمده حيث قال: "إذا أمرتكم بأمر فاتوا منه ما اسْتطعْتم" (2) ، ولو كان لا يقدر على الارتفاع من حد الراكعين، فالذي دل عليه كلامُ الأئمة أنه يقعد، ولا يجزئه غيره؛ فإن حد الركوع مفارقٌ لحد القيام وحكمه، وهو أيضاً هيئة ركن في نفسه يخالف هيئة القائمين.
933- ولو عجز عن الانتصاب على قدميه، لكن قدر على الانتهاض على ركبتيه، كان شيخي يتردد في وجوبه، وهو محتمل من جهة أن هذا لا يسمىَ قياماً، والانحناء فوق حد الراكعين يسمى قياماً.
934- فإذا أراد القعود عند العجز عن القيام، فقد اختلف أئمتنا في الهيئة المختارة المطلوبة، فنقل المراوزة نصين: أحدهما - يفترش كما يفترش القاعد في التشهد الأول، والثاني - أنه يتربع، ثم جعلوا ذلك قولين، ووجهوا قول التربع بأنه لو افترش، لالتبس جلوسه في التشهد الأول بقيامه، ونحن نرى الفصل بين التشهدين في
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/324 مسألة: 288، الهداية مع فتح القدير: 1/460، حاشية ابن عابدين: 1/299.
(2) متفق عليه من حديث أبي هريرة (اللؤلؤ والمرجان: 2/73 ح 846) .(2/214)
حق القادر، بالافتراش والتورك، فينبغي أن يقع الفصلُ بين القعود الواقع بدلاً عَن القيام، وبين القعود للتشهد.
والقول الثاني - وهو الذي ارتضاه شيخي: أنه يفترش، فإن التربع ليس يليق بهيئة الخاضعين لله عز وجل في الصلاة، وذكر بعض المصنفين أنه يتورك في القعود الواقع بدلاً، وهذا عندي غلط صريح لا يتوجه.
وقد سمعت من أثق به أن القاضي حسين كان يرى الأَوْلى أن ينصب ركبته اليمنى [ويحتبي عليها] (1) ، كالذي يجلس في اعتيادنا قارئاً على من يقرئه، فهذا خارج عن الإقعاء؛ (3 فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه وقال: "لا تُقعوا إقعاء الكلاب" (2) . وهو منفصل عن الافتراش والتورك، وليس جلسة المتنعمين كالتربع، وإذا لم يرد ثَبَت شرعي، ورُدَّ الأمر إلى نظرنا، وبان أن المطلوب الفصلُ، وتوقَي هيئات أصحاب الترفه والتنعم، فالذي ذكره قريب في ذلك.
ولو قعد على رجليه جاثياً على الركبتين، فلست أرى به أيضاً بأْساً، وليس ذلك إقعاء 3) ؛ فإن الإقعاء هو الجلوس على الوركين ونصب الفخذ والركبتين وهكذا يكون الكلب إذا أقعى.
935- فإن عجز عن القعود أيضاً، واضطر إلى الانبطاح، فعل ذلَك، وفي كيفية هيئته اختلاف. فالمذهب المشهور الذي عليه التعويل أنه يقع على جنبه الأيمن مستقبلاً بجميع مقاديم بدنه القبلة، كالذي يوضع في قبره.
__________
(1) في الأصل وفي (ط) : ويحنو على اليسرى، وفي (ت 2) ، ومختصر ابن أبي عصرون: يحني على اليسرى. ومطموسة تماماً في (ت 1) ، والمثبت في نسخة أخرى: بهامش (ت 2) . وهو الصواب -إن شاء الله- فإن الاحتباء هو أن يجلس على إليتيه، ويضم فخذيه وساقيه إلى بطنه.
(2) حديث النهي عن إقعاء الكلب على نحو ما ساقه إمام الحرمين، رواه ابن ماجه من حديث علي وأبي موسى. وتكلم الحافظ في بعض رواته، وصحح الألباني حديث علي رضي الله عنه.
(ر. تلخيص الحبير: 1/225 ح 335. وابن ماجه: إقامة الصلاة، باب الجلوس بين السجدتين، ح 895، وصحيح ابن ماجه: 1/47 ح 730) .
(3) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2) . ومطموس تماماً في (ت 1) ، وهو نحو سبعة أسطر.(2/215)
وقال أبو حنيفة (1) : ينبغي أن يكون مستلقياً وأخمصاه إلى القبلة على الهيئة المعتادة في المحتضرين، وصار إلى ذلك بعض أصحابنا، وهذا الخلاف ليس راجعاً إلى الأولى، بخلاف ما فرعنا الآن من هيئة القاعد، بل هو اختلاف فيما يجب، وإنما قلنا ذلك؛ لأن أمر الاستقبال يختلف به اختلافاً ظاهراً.
وفي بعض التصانيف وجة ثالث، وهو أنه يكون على جنبه الأيمن، ولكن أخمصاه إلى القبلة، وهذا غلط غير معتد به. ولست أرى له وجهاً، والأصل فيما ذكرناه حديث رواه من يُعْتَمَدُ في رؤوس (2) مسائله عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يصلّي المريض قائماً، فإن لم يستطع صلى جالساً، فإن لم يستطع القعود (3) أومأ، وجعل السجود أخفض من الركوع، فإن لم يستطع صلى على جنبه الأيمن مستقبل القبلة وأومأ بطرفه، فإن لم يستطع، صلّى على قفاه مستلقياً، وجعل رجليه مستقبل القبلة" (4) ، فهذا حديث ساقه عليّ عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيجب القطع باتخاذه مرجعاً، ثم الاستلقاء وإن كان مذكوراً في الحديث، فهو بعد العجز عن الاضطجاع مع الاستقبال بجميع البدن كما نص عليه، ولكنه على الجملة مذكور.
وفي الاستلقاء معنى لا يبعد تخيله إذا سبق إليه من لم يبلغه الخبر، وهو أن العاجز يومىء بالركوع والسجود، كما سنذكره، فإذا كان مستلقياً، وقع إيماؤه في صوب القبلة، ولا يكون الأمر كذلك إذا أومأ على جنب، (5 فأما إذا كان على جنب 5)
__________
(1) ر. بدائع الصنائع: 1/106، مختصر اختلاف العلماء: 1/256 مسألة: 206، الهداية مع فتح القدير: 1/458.
(2) رؤوس المسائل: لعله اسم كتاب لأحد الأئمة ولم نصل إلى اسم صاحبه.
(3) كذا في الأصل. وفي ط، و (ت 1) ، وفي متن الحديث: "إذا لم يستطع أن يسجد أوْمأ" أما (ت 2) فقد سقط منها ذكر حالة القعود، وحالة الاستلقاء.
(4) حديث علي "يصلي المريض قائماً ... " رواه الدارقطني: 2/42 باب صلاة المريض، ومن رعف في صلاته كيف يستخلف. وقد ضعّف الحافظ إسناده. (ر. تلخيص الحبير: 1/226 ح 337) .
(5) ما بين القوسين ساقط من (ت 2) .(2/216)
وأخمصاه إلى القبلة، فليس لهذا ذكر في الخبر، ولا يشير إليه معنى متخيل.
فهذا كله في القيام والعجز عنه وعن القعود.
936- ونحن نذكر بعد ذلك الإيماءَ بالركوع والسجود، فأما القاعد إن قدر على الركوع والسجود، وجب عليه الإتيان بهما، وسجوده كسجود القادر على القيام، فأما الركوع، فنذكر حد أقله، قال صاحب التقريب: ينثني مقداراً يناسب انحناءه بالإضافة إلى القيام، فيجعل كأن قامته مقدار انتصابه في قعدته، ويعتبر نسبة انحنائه من قيامه لو كان قائماً، ثم ينثني مثل تلك النسبة في قعوده، وقد رأيت في حد الركوع في ألفاظ الأخبار أنه ينحني بحيث تنال راحتاه ركبتيه، وليس ذلك بيانَ الكمال. فإنا ذكرنا أن الأكمل وراء هذا، فيتعين صرف هذا في الحديث إلى بيان الأقل، ثم يعتبر اعتدال الخلقة في طول البدن وقصرها، ثم نتخذ هذه النسبة معتبرنا في حق القاعد.
وقد ذكر بعض الأئمة في أقل ركوع القاعد أنه ينحني بحيث يقابل وجهُه ما وراء ركبتيه من الأرض، ثم بأدنى المقابلة يكون مؤدياً لأقل المفروض عليه، وعند تحصيل هذه المقابلة يكون متشوفاً إلى طلب الكمال. وهذا ليس مخالفاً لما ذكرناه قبلُ.
937- وتمام البيان عندي في ذلك، أنه إذا جاوز وجهه الحد الذي يسامت ركبتيه، فذقنه يحاذي الأرضَ، وليس يبعد أن يقال: طلب الكمال في ذلك بأن يفعل ذلك، ويطأطىء وجهَه حتى يحاذي جبهتُه موضعَ سجوده، وهذا يناظر في هيئة الكمال مدَّ القادر الذي لا مانع به في الركوع ظهره ورقبته على استواء، غير أن الاستواء غيرُ ممكن من القاعد.
ولو كان يعجز عن القيام، فأقام القعودَ مقامه، وكان لا يعجز عن هيئة الركوع، تعين عليه أن يرتفع إلى حد الراكعين؛ فإن المقدور عليه لا يسقط بسقوط المعجوز عنه.
938- ومما يتعلق بذلك أنه إذا كان لا يقدر على إتمام السجود، لزمه أن يأتي بما يقدر عليه اعتباراً بما مهدناه من وجوب الإتيان بالمقدار المقدور عليه، فلو كان يقدر على مقدارِ أقل الركوع في حق القاعد، فلا نقول: نقسم ذلك المقدار بين الركوع(2/217)
والسجود، ونصرف شيئاًً إلى الركوع والزيادةَ عليه إلى السجود، فإنا لو فعلنا هذا، كنا مسقطين عنه أقلَّ الركوع مع قدرته عليه، ولكن يأتي بالركوع عما عليه من وظيفة الركوع، ثم ينحني مرةً أخرى عن السجود، ولا يضر استواؤهما، كما يستوي فرضُ القيام في حق القاعد، وفرضُ القعود للتشهد الأخير، ولا يجوز غيرُ هذا، ولو كان يقدر على انثناءٍ يزيد على مقدار الأقل، وكان يزيد على مقدار الكمال أيضاً، فالوجه أن يأتي بما هو على حد الركوع، ثم يأتي بالزيادة على حد الكمال عن السجود؛ فإن الفرق على حسب الإمكان بين الركوع والسجود واجب، وذلك ممكن في الصورة التي ذكرناها، ولا يجب الفرق بين القعود الواقع بدلاً عن القيام، وبين قعود التشهد، وهذا ظاهر، وليس عرياً عن الاحتمال، فَلْيتأمله الناظر.
ولو كان يقدر على أقل حد الركوع، وعلى ما ينتهي إلى حد الكمال، فليس يظهر عندي تكليفه الاقتصار على حد الأقل، ليكون الزائد عليه عن السجود، وليترتب عليه تحصيلُ الفرق بين السجود والركوع - ظهورَه (1) في الصورة التي قبل ذلك؛ فإن تلك مفروضة في زيادةٍ مجاوزةٍ حدَّ الراكعين، وهاهنا الكلُّ واقع في حد الركوع، ومنعُه من الركوع التام حالةَ الركوع بعيد.
939- ولو كان يصلي مضطجعاً، أو على قفاه، كما ذكرناه، وكان لا يقدر على الركوع والسجود أصلاً، فقد قال الأئمة: يلزمه أن يومىء بطرفه إلى الركوع والسجود، والذي ذكروه معتضده الحديث الذي رويناه عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه نص على الأمر بالإيماء، فليعتقد الفقيه أن الإيماء بالطرف حتمٌ.
940- فإن لم يبق في أجفانه حراك، لزمه أن يُجريَ صورةَ الركوع والسجود على قلبه، وذلك أيضاً حتمٌ عند الأئمة، وذلك بأن يمثِّل نفسَه راكعاً وساجداً، ثم يجريهما على الذكر تامَّيْن؛ فإنه لا يعجز عن ذلك فكراً إن عجز فعلاً.
941- ثم إن لم يكن لسانه معتقلاً، أتى بالقراءة وبالأركان، وإن اعتُقل لسانُه،
__________
(1) "ظهورَه" متصل بقوله: "فليس يظهر"، فهو مفعولٌ مطلق.(2/218)
لزمه (1 إجراءُ تكبير العقد، والقراءة، والتشهد والصلاة في أوقاتها على قلبه، وهذا أظهر من 1) إجراء الأركان الفعلية على القلب؛ فإن حقيقة الكلام عند أقوامٍ هي الفكر القائم بالنفس، فإن اقمنا كلام النفس مقام قراءة اللسان، لم يبعد (2) .
فإن قيل: ما الذي اعتمدتموه في إجراء ذكر الأركان وتمثيلها في الفكر؟ قلنا: قد ثبت في الحديث أنه أمر المستلقي بالصلاة، والصلاة في الشريعة عبادة مخصوصة، ذاتُ أركان قولية، وفعلية، فلا يُتصور اعتقادها عند سقوط الأفعال الظاهرة إلا بإجرائها في الفكر، وهذا حسنٌ لطيف.
فإن قيل، فأسقطوا فريضة الصلاة، لعدم تصوّرها، ولا توجبوا [تخيلها] (3) ، كما أسقطها أبو حنيفة (4) ، قلنا: منعنا من ذلك الحديث؛ فإنه عليه السلام أمر المستلقي بالصلاة، وهو ساقط الحركات، ثم إذا اضطررنا إلى الإيجاب، فلا يوجد (5) إلا بما ذكرناه، وليس يبعد أن يقال: صلى فلان بقلبه.
942- ومما يتعلق بإتمام ذلك أن القادر على بعض الركوع وبعض الانحناء للسجود، مأمور بأن يأتي بما يقدر عليه، كما ذكرناه، وهل يجب أن يتخيل تمامه بقلبه ويجريه على ذكره؟ هذا محتمل عندي، يجوز أن يقال: الفكر للعاجز عن أصل الفعل بالكلّية، فأما إذا كان يقدر على شيء من الفعل، أغناه ذلك عن الفكر، وهذا هو الظاهر عندي؛ إذ لا خلاف أن القاعد العاجز عن القيام، لا يلزمه أن يُجري القيام في ذكره، وقد ينقدح فرقٌ في هذا بين القيام المعجوز عنه، وبين الركوع والسجود.
فرع:
943- المفترض إذا عجز عن القيام صلى قاعداً. والمتنفل يصلّي قاعداً مع القدرة على القيام، وهل يتنفل على جنب، أو مستلقياً مومياً، كما يفعله المريض
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2) .
(2) في (ت 2) : ينعقد. وهو تحريف ظاهر.
(3) في الأصل، و (ط) ، و (د 4) : تخليها. والمثبت من (ت 2) .
(4) ر. بدائع الصنائع: 1/107، الهداية مع فتح القدير: 1/459.
(5) في (ل) : "فلا وجه".(2/219)
المضطر في صلاة الفريضة؟ فيه اختلاف. ولعل الأصحَّ المنعُ؛ فإنه خروج عن هيئة المصلّين بالكلية.
قلت: ومن جوَّز ذلك في النفل، فما عندي أنه يجوز الاقتصار على ذكر القلب في القراءة والتكبير والتشهد والتسليم، وهذا يُضعف أصلَ الوجه؛ فإن ذكر القلب إلى قراءة اللسان أقرب من إجراء أمثال الأفعال في الفكر مجرى صورها فعلاً. ولو ارتكب المفرع على هذا الوجه الضعيف جواز الاكتفاء بقراءة القلب، كان طارداً للقياس، ولكنه مسرفٌ في الخروج عن الضبط، منتسب إلى الاقتحام.
944- وأنا أذكر في ذلك تحقيقاً ينتجح به طالب الفقه، فأقول: قد ذكرنا فيما تقدم في كتاب الطهارة من تقاسيم الضرورات والمعاذير، أنا لا نشترط في القعود في الصلاة المفروضة - بدلاً عن القيام نهايةَ الضرورة، وعدمَ تصوّر القيام في الإمكان. وأنا أقول الآن: ينبغي أن يُشترط في الاضطجاع في الفريضة الضرورةُ، وعدمُ تصور القعود، أو خيفةُ هلاك، أو مرضٍ طويلٍ، وأرى أقربَ المراتب شبهاً بهذا رتبةَ المتيمم في مرض وجُرحٌ به، وقد سبق ذلك مفصلاً.
وعلى الجملة لا أكتفي في ترك القعود بالاضطجاع بما أكتفي به في ترك القيام بالقعود.
ولعل الشرع جوز التنفل قاعداً تهويناً لأمر القيام، والذي يوضّح الغرضَ في ذلك أن الأئمة لما قسموا الأعذار إلى العامة والنادرة، عَدّوا ما يقعد المصلي لأجله من الأعذار العامة، والمرض الذي لا يتصور معه القيام ليس بعام، ولكنهم لما اعتقدوا أنه يُكتفى في القيام بما دون الضرورة، ألحقوا ذلك بما يعم، وأما ما يضطجع المصلي لأجله، فإنهم ألحقوه بما يندر ويدوم، وهذا مشعر بما ذكرته من اشتراط مزيد ضرورة في الاضطجاع (1) . ثم إذا صلّى المريض على حسب الإمكان، لم يلزمه القضاء، فإنه إن قعد، فالعذر عام، وإن اضطجع، فالعذر نادرٌ دائم، وقد ذكرنا أنه لا قضاء في القسمين جميعاًً.
__________
(1) عبارة (ت 2) فيها زيادة وسقط، هكذا: ... في الاضطجاع (فالعذر نادر دائم) وقد ذكرنا.(2/220)
فصل
945- إذا كان بالإنسان رمدٌ متمكن مؤلمٌ مؤذٍ، فقال من يوثق به: لو اضطجعت أياماً، وعولجت، برَأت، فهل يصلي مضطجعة لهذا العذر؟ قال العراقيون: هذه المسألة ليست منصوصة للشافعي، وللعلماء فيها اختلاف، ونقلوا خلاف العلماء في جواز ذلك، ثم قالوا: وما يقتضيه أصل الشافعي أنه لا يجوز الاضطجاع لهذا، واستدلوا بما روي أنه لما قرب ابن عباس من العمى، قال له بعض الأطباء: لو صبرت سبعةَ أيامٍ مضطجعاً، وعالجتُك برَأت عينُك، فاستفتى ابنُ عباس رضي الله عنه عائشةَ وأبا هريرة، فلم يرخّصا له في ذلك، وكُفَّ بصرُه (1) .
قلت: إذا لم يكن للشافعي في ذلك نص، وقد نقلوا في ذلك خلاف العلماء، فالمسألة محتملة، وفساد البصر شديد، وتكليف المصلي ما يغلب على الظن منه عماه بعيد، وما ذكروه من حديث ابن عباس واستفتائه تعلقٌ بمذهب آحادٍ من الصحابة، وهو حكاية حال، فلعلهم لم يثقوا بقول الطبيب، ورأَوْا الأمرَ شديداً، والعلاجَ غيرَ مجد، والله أعلم.
ثم إن قال قائل: القيامُ في نفسه مقدور عليه، وليس في عينه عجزٌ؟ قيل: إيصال الماء إلى محل الجروح ممكن، ولكن مخوفُ العاقبة (2) ، ثم إن صح ما قاله
__________
(1) هذا الأثر عن ابن عباس رواه البيهقي، وفيه أنه سأل عائشة، وأم سلمة، وقد علق عليه النووي في المجموع قائلاً: رواه البيهقي بإسنادين أحدهما صحيح، والآخر ضعيف، ثم تعقب روايتنا هذه قائلاً: "وقع عند الغزالي في الوسيط: أن ابن عباس استفتى عائشة، وأبا هريرة، وهو باطل فلا أصل لذكر أبي هريرة" ا. هـ. وقد تبع النوويُّ ابنَ الصلاح في إنكاره على الغزالي، والحق مع إمام الحرمين وتلميذه الغزالي، فقد قال الحافظ "فأما استفتاؤه لأبي هريرة، فأخرجه ابن أبي شيبة، وابن المنذر" ا. هـ. (ر. السنن الكبرى: 2/309، والتلخيص: 1/228 ح 339، ومشكل الوسيط لابن الصلاح والتنقيح للنووي - بهامش الوسيط: 2/108، 109) .
(2) المعنى أنه كما يجوز التيمم مع وجود الماء وإمكان إيصاله إلى محل الجروح؛ خوفاً من العاقبة وفساد الجرح، فيجوز الاضطجاع مع القدرة على القيام إذا كان القيام مخوف العاقبة.(2/221)
العراقيون، فالذي أراه في ذلك أن القعود إذا كان مُغْنياً في دَرْء غائلة الرمد، قعد بلا خلاف؛ فإنا نكتفي فيما يجوز القعود لأجله بما يُضجر ويُقلق، ويسلب خضوع الصلاة، وهذا المعنى دون خوف فوات البصر، وقد نصّوا على تخصيص المسألة بالاضطجاع، فليتأمل الناظر الفطن مواضع النظر.
946- ومما يتعلق بصلاة العاجز، أن القادر على القيام إذا طرأ عليه عجز، قعد وبنى، والعاجز عن القيام إذا وجد خفة في أثناء قعوده، قام وانتصب، وبنى على صلاته، ثم إن كان القائم في أثناء قراءة الفاتحة، فعجز، فليختتم القراءة في هُويه إلى القعود؛ فان ذلك أقرب إلى حد القيام، وليس ما ذكرناه استحباباً، بل يجب مراعاة ذلك، بناء على ما ثبت من رعاية الأقرب إلى الامتثال.
ولو وجد القاعد في أثناء الفاتحة خفة، وأراد القيام، فلا يقرأ في طريقه إلى القيام؛ فإنه إذا تمكن من إيقاع القراءة في القيام، لم يكتف بما دونه، ثم إذا قام، لم نوجب عليه إعادةَ الفاتحة في القيام، بل يقرأ بقيةَ الفاتحة؛ فإنه إذا كان يبني بعض [الصلاة على بعض، في طوْري النقصان والكمال، فكذلك يبني بعض] (1) القراءة على بعض.
ومما نذكره في ذلك أن العاجز إذا وجد خفّة، وكان قد فرغ من القراءة، ولم يركع بعدُ، فيلزمه أن يقوم، ثم يهوي راكعاً؛ فإن الهُويَّ من القيام إلى الركوع مأمور به، وقد تمكن هو من ذلك، فَلْيَأْتِ به وكذلك إذا كان فرغ من الركوع، ثم وجد من نفسه خفة لمَّا اعتدل قاعداً، فَلْيَقم ولْيسجد عن قيام تام.
947- قلت: في هذا المقام لطيفة يقضي الفطِن منها العجَبَ، وأنا أقول فيها: إذا اعتدل العاجز عن الركوع قاعداً، فوجد خفة، فليقم كما ذكرته، ويجب والحالة هذه الطمأنينةُ، على ما ذكره الأئمة في اشتراط الطمأنينة في الاعتدال عن الركوع.
فأمّا إذا وجد خفة، وقد قرأ قاعداً، فأمرناه بالقيام ليهوي راكعاً، فأمرُ الطمأنينة في هذا القيام متردد عندي؛ فإنه إن ظن ظان أن الاعتدال عن الركوع ركن مقصود،
__________
(1) ما بين المعقفين زيادة من (ت 1) ، (ت 2) .(2/222)
فما أرى ذلك ظاهراً في هذه القومة، التي وجبت لأجل الهوي منها إلى الركوع؛ فإنها غير مقصودة قطعاً، ولا يمتنع أيضاً أن يقال: ينبغي أن يكون الركوع عن سكون وقيام، وإذا لم نجد نصاً، فالرجوع إلى قضايا النُّهى، وليس لنتائج القرائح منتهى.
ولو ركع الراكع، ثم وجد في الركوع خفة، فلا نأمره أن يقوم ويهوي راكعاً، بل نقول: لو فعل ذلك، بطلت صلاته؛ فإنه يكون آتياً بركوعين بينهما قيام في ركعة واحدة، ولكنه إذا وجد خفة كما ذكرناها في الركوع، ففد قال الأئمة: يجوز أن يرتفع راكعاً حتى ينتهي إلى ركوع القادرين على القيام، ولم ينصُّوا على أنه يجب ذلك.
وأنا أقول فيه: إذا وجد الخفة قبل حصول الطمأنينة، فالظاهر أنه يجب عليه الارتفاع إلى ركوع القائمين.
فإن قيل: قد لابس البدلَ، فهلاَّ جاز إتمامه والاكتفاء به؟ قلنا: نصبُ القدمين إلى معقد النطاق حتمٌ في الركوع كما مضى في فصل الركوع، فَلْيَأت به، وبالجملة، القول في ذلك متردّد محتمل.
وإن ركع واطمأن عن قعوده، ثم وجد بعد ذلك خفة، فالظاهر أنه لا يجب الانتهاء إلى ركوع القائمين؛ فإنه وجد الخفة بعد كمال الركوع، ولا يمتنع أن يقال: يجب ذلك، مادام ملابساً للركن، تخريجاً على أن الركن إذا مدّ، فجميعه فرضٌ، أم الفرض منه مقدار الاكتفاء أولاً؟ وقد سبق في هذا كلامٌ تام، في الأمّي إذا تعلم الفاتحة وهو قائم.
فلينعم الطالبُ فكره جامعاً وفارقاً في هذه المسائل. ولن ينتفع بهذا المجموع إلاّ من هو في الفقه مطلع على مسالكي في المذهب والخلاف والمأمول من فضل الله أن يُعمّمَ النفعَ به، ويجعلَه خالصاً لوجهه، إنه على ما يشاء قدير، وبإسعاف راجيه جدير.
948- ولو قدر العاجز عن القيام في أثناء القعود، لم يجز له أن يلبث قاعداً؛ فإن القعود في هذا الوقت مشروط بالعجز، وقد زال العجز، فليترك القعودَ.(2/223)
ثم قد ذكرنا أنه إن لم يكن ركع، قام وهوى منه راكعاً، وإن كان ركع، قام وهوى ساجداً. فإن كان هذا بين السجدتين، فهذا أوان القعود، فلا يقوم؛ إذ الفاصل بين السجدتين في حق القادر هو القعود.
وغرض هذا الفصل أنا حيث نأمره بالقيام لا يجوز له أن يلبث قاعداً، ولو لبث، وقد كان تمم القراءة، فإنما نأمره الآن بالقيام ليهوي راكعاً أو ساجداً، فعلى ماذا يترك قعودَه، ومَا المعتبر فيه؟ فالوجه أن يقدر كأنه قعد [بسبب وقد زال، فليبتدر قطعَ قعوده، ولو مكث كان كما لو قعد] (1) قعدةً في أثناء قيامه في حال قدرته، وإن فرض ذلك، بطلت الصلاة به، وكل ذلك إن فرض مع العمد والعلم؛ فإنه لا يجوز.
ثم إن أمرناه بأن يقوم، فاشتغل بحركات الانتهاض، وواصلها، كما يفعله في انتقالاته، كفاه ذلك، والمكث الذي ذكرناه وحكمنا بكونه مبطلاً هو الطمأنينة التي وصفناها، فإذا قصد مثلَها مع العلم، كان مبطلاً للصلاة.
فهذا منتهى ما نراه في ذلك.
949- ثم يجوز اقتداء القادر بالعاجز، وكل واحد منهما يصلّي على حسب حاله، فيقوم المقتدي القادر على القيام خلف العاجز، وسيعود ذلك في أحكام الجماعات، إن شاء الله تعالى.
فصل
950- قد ذكرنا (2) في خلال الكلام النهيَ عن المرور بين يدي المصلي، وروينا فيه الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قال الأئمة: ينبغي أن يكون بين يدي المصلي شيء من جدار، أو سارية، أو مصلَّى، ولْيقع بين موقفه وبين ما بين يديه، ما يكون بين يدي الصفين في توافر الناس، وهو مقدار ذراعين إلى ثلاثة، وفيه
__________
(1) ما بين المعقفين زيادة من (ت 1) ، (ت 2) .
(2) فقرة 920.(2/224)
مسجد (1) على توسع، وإنما رأَوا ذلك، حتى يبين حدّ السجود. وحد مصلَّى المصلِّي، ثم المار يجتنب المرور في ذلك؛ فإنه بمثابة المستحَق لاضطراب المصلّي في حركاته وانتقالاته.
ولو كان الرجل يصلّي في صحراء، فحسن أن يغرز بين يديه عَنَزَة (2) أو سوطاً، أو ينضد شيئاًً من رَحْله، أو ما شاء، ولعل السر في ذلك أن يبيّن للمار الحدَّ الذي يجتنب المرورَ فيه، فيتنكّبه.
وإذا لم يكن بين يديه شيء يُعلِم حدَّه، والمار في مروره يعسر عليه الاشتغال برعاية ذلك، فيكون المصلي في ترك ما يتستر به كالمقصر في الاهتمام بحماية حد صلاته.
ثم ليس المرور حراماً في حده، وإن تستر، وإنما هو مكروه، ولا ينتهي دفعُ المصلّي إياه إلى منعٍ محقق، بل يومىء ويشير برفق في صدرِ (3) من يمرّ ويبغي تنبيهَه.
وهذا كذلك. وإن ورد لفظ القتال حيث قال: "فَلْيُقَاتل"، فهو محمول على إبداء الحدّ (4) في محاولة الدفع، والساتر الذي يرعاه، إنما هو إعلام كما ذكرناه، وهو الغرض منه، وليس المقصود التستر الحقيقي به، وليس كما ذكرناه في نصب شيء في سطح الكعبة يستقبله المصلّي؛ فإن ذلك الشاخص قبلةُ المصلّي، ففصّلنا القول في استقباله، وهذا لإعلام الحد.
951- ولو قصَّر المصلّي ولم يبيّن عَلَماً، ثم أراد أن يمنع المار في حدّه، فهل له ذلك؛ فعلى وجهين: أحدهما - لا؛ لأنه المقصر، والثاني - يمنعه، ويصير دفعه الآن إعلاماً، فَلْيَكتف به المدفوع، فعلى هذا يعود أمرنا المصلّي بنصب عَلَم إلى أَنْ لا يحتاج في أثناء الصلاة إلى الدفع، فإن لم يتفق مست الحاجة إليه، واكتفى المدفوع
__________
(1) أي مكان سجود وفي (ت 2) : وفيه يسجد.
(2) عَنَزَة بثلاث فتحات: عصا أقصر من الرمح ولها زُج من أسفلها. "المصباح".
(3) (ت 2) : في صده. وفي (ل) "في صلب من يمر".
(4) كذا في النسخ كلها بالحاء واضحة تماماً. ولعلها: (الجَد) بالجيم، وإلا فالحدّ (بالحاء) تكون بمعنى الحدة.(2/225)
به، فكأن العلَمَ لو نصب، في حكم الإشارة إلى الدفع، فإذا لم ينصب، فإنشاء الدفع في حكم التصريح بالمقصود.
952- ثم قال الأئمة: ما ذكرناه من النهي عن المرور [و] (1) دفع المار فيه إذا وجد المارّ سبيلاً سواه، فإن لم يجد، وازدحم الناس، فلا نهي عن المرور، ولا يشرع الدفع.
953- ولو كان الرجل في صحراء، وخطَّ خطاً بين يديه مُعلماً به حدّه، فقد تردّد في هذا كلام الشافعي في القديم، وأن هذا هل يكون ساتراً؟ فمال إلى الاكتفاء به قديماً، ثم رُئي ذلك القول في الجديد، قد خَطّ عليه الشافعي، فالذي استقر عليه أن الخطَّ لا يكفي؛ إذ الغرض منه الإعلام، وهذا لا يحصل بالخط.
فصل
قال: "وأحب إذا قرأ آية رحمة أن يسأل ... إلى آخره" (2)
954- الإمام إذا مرّ في أثناء القراءة بآية رحمة، فحسنٌ أن يسأل، وإذا مر بآية عذاب، فحسن أن يستعيذ، وكذلك يفعلُ المأموم المستمع.
وقد رُوي عن حذيفة بن اليمان أنه قال: "صليتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين، فقرأ فيهما سورةَ البقرة، وكان إذا مر بآية رحمة سأل، وإذا مر بآية عذاب استعاذ، وإذا مر بآية تنزيه سبح، وإذا مرّ بآية مثَلٍ فكَّر" (3) .
__________
(1) ساقطة من جميع النسخ، وزدناها رعاية للسياق. ثم وجدناها في (ل) .
(2) ر. المختصر: 1/83.
(3) حديث حذيفة رواه أصحاب السنن، وصححه الألباني، ورواه البيهقي من حديث عائشة (ر. أبو داود: الصلاة، باب ما يقول في ركوعه وسجوده، ح 871، الترمذي: أبواب الصلاة، باب ما جاء في التسبيح في الركوع والسجود، ح 262، النسائي: الافتتاح، باب تعوذ القارىء إذا مرّ بآية عذاب، وباب مسألة القارىء إذا مرّ بآية رحمة، ح 1008، 1009، ابن ماجه: إقامة الصلاة، باب ما جاء في القراءة في صلاة الليل، ح 1351، البيهقي: 2/310، تلخيص الحبير: 1/240 ح 359، وصحيح أبي داود: 1/165 ح 774) .(2/226)
955- ويتصل بذلك من مذهبنا أن المصلي يدعو بما شاء في صلاته، ولا يشترط أن تكون دعوته واردة في الصلاة، أو مأثورة شرعاً في غير الصلاة، ولكن شرطها أن تكون عربية، ولا يكون فيها خطاب آدمي.
وقد ذكرنا أن من عجز عن التكبير العربي أو عن التشهد، فإنه يأتي بمعنى ما عجز عنه بالأعجمية، وذكرنا الآن أنه لا يأتي بدعوة يخترعها بالعجمية.
فأمّا الأذكار المسنونة كتكبيرات الانتقالات، وتسبيحات الركوع والسجود وغيرها، فهل يأتي الأعجمي بمعناها؟ تردد الأئمة فيه، وحاصل التردد في الاحتمالات ثلاثة أوجه: أحدها - المنع؛ فإنها مسنونة، وتركُ لسان العجم حتم.
والثاني - يأتي بمعناها ويقيمها مقام الأذكار العربية.
والثالث - ما يجبر منها بالسجود لو ترك، فيأتي ببدلها بلسانه، وما لا يجبر لا يأتي له ببدل أعجمي.
وكان شيخي يتردد في دعاء مخترع يشتمل على وصفِ مسؤول، مثل أن يقول: اللهم ارزقني جاريةَ صفتها كذا وكذا، ويميل إلى المنع من ذلك، والمصير إلى أنه من المبطلات؛ فإنه ينافي تعظيمَ الصلاة.
وهذا غير سديد، والوجه ألا يمنع منه؛ فإنه قد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول أحياناً في قنوته، "اللهم أنج الوليد واشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف" (1) فتسمية الواحد منا في دعائه شخصاً وشيئاًً بمثابة ما صحت الرواية فيه، فأما الأعجمي، فالترتيب فيه أنه لا يأتي بأعجمي مخترع، ويأتي بمعنى ما يجب من الأذكار، وفي معنى ما يسن ولا يجب، ما ذكرناه من الاحتمال.
__________
(1) حديث: اللهم أنج الوليد. متفق عليه من حديث أبي هريرة. (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/133 ح 392) .(2/227)
فصل
قال: "فإذا قرأ آية السجدة، سجد ... إلى آخره" (1) .
956- السجود عند الآيات المشتملة على السجود، كما سنذكرها مأمورٌ به، يشهد له السنة المتواترة، وأجمع عليه المسلمون، وليس واجباً، ولكنه مسنون. خلافاً لأبي حنيفة (2) .
957- ومضمون الفصل يحويه القول في مقتضي السجود، وفي كيفية السجود، وفي قضائه:
فأما، مقتضيه، فتلاوة أربعةَ عشرَ آية معروفة، وموضع السجود فيها مبين.
ووافق أبو حنيفة (3) في العدد، ولكنا اختلفنا في سجدتين على البدل، فلم نُثبت في " ص " سجدة، وأثبتها أبو حنيفة (4) ، وأثبتنا في سورة الحج سجدتين، ونفى أبو حنيفة السجدة الأخيرة. ومعتمدنا ما روى عقبةُ بن عامر قال: "سألتُ النبي صلى الله عليه وسلم، وقلت: في الحج سجدتان؟ فقال: نعم، ومن لم يسجدهما، فلا يقرأهما" (5) .
__________
(1) ر. المختصر: 1/83.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 29، مختصر اختلاف العلماء: 1/240 مسألة: 185، بدائع الصنائع: 1/180، تبيين الحقائق: 1/205، فتح القدير: 1/465.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 29، بدائع الصنائع: 1/193، تبيين الحقائق: 1/ 205، فتح القدير: 1/464.
(4) ر. مصادر الأحناف في الهامش السابق.
(5) حديث عقبة بن عامر رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والدراقطني، والبيهقي، والحاكم (ر. أبو داود: الصلاة، باب تفريع أبواب السجود وكم سجدة في القرآن، ح 1402، الترمذي: أبواب الصلاة، ما جاء في السجدة في الحج، ح 578، المسند: 4/151، 155، البيهقي: 2/317، وفي المعرفة: 1/152، 153، ح 1106، الحاكم: 1/221، التلخيص: 2/9 ح 487) .(2/228)
ومذهب مالك (1) أن سجدات التلاوة إحدى عشرة، ولم يُثبت في المفصل سجدة، وهذا قول للشافعي في القديم، والمعتمد في نُصرته ما روي عن ابن عباس أنه قال: "لم يسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المفصّل بعد ما هاجر" (2) . واعتمد الشافعي في الجديد ما رواه أبو هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد لما تلا: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} (3) [الانشقاق: 1] وكان إسلام أبي هريرة بعد الهجرة بسنين (4) ، ورأى ما أثبته أولى من نفي ابن عباس.
وفي بعض التصانيف أن ابن سريج أثبت سجدة "ص"، فصارت السجدات على مخرجه خمسَ عشرةَ سجدة.
958- ثم إن تلا الرجل آية سجدة، سجد، وإن لم يتل بنفسه، ولكنه كان يستمع إلى قراءة غيره، فتلا وسجد التالي، يسجد المستمع، فالاستماع إذاً يقتضي السجود إذا سجد التالي، فأما إذا لم يسجد التالي، فالذي ذهب إليه معظم الأئمة، أن المستمع لا يسجد، ويشهد لذلك ما روي: "أن طائفة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يتدارسون القرآن بين يديه، فقرأ قارىء آية سجدة وسجد، فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرأ آخرُ آيةَ سجدة، فلم يسجد، فلم يسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، قرأ فلان فسجدتَ، وقرأتُ فلم تَسجد، فقال صلى الله عليه وسلم: كنت إمامنا فلو سجدتَ، لسجدنا" (5) .
__________
(1) ر. حاشية العدوي: 1/318، حاشية الدسوقي: 1/307، جواهر الإكليل: 1/71.
(2) حديث ابن عباس: رواه أبو داود، وأبو علي بن السكن في صحيحه، وفيه راويان مضعفان.
(ر. أبو داود: الصلاة، باب من لم ير السجود في المفصل، ح 1403، البيهقي: 2/312، 313، تلخيص الحبير: 2/8 ح 484) .
(3) حديث أبي هريرة: رواه مسلم، وأصله في البخاري (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/116 ح 341، والتلخيص: 2/8 ح 485) .
(4) ومن يقرؤها بسنتين، فقد صحف؛ فإن إسلام أبي هريرة كان عام خيبر باتفاق.
(5) الحديث رواه أبو داود في المراسيل عن زيد بن أسلم، وكذا رواه الشافعي، ونظيره عند البخاري معلقاً عن ابن مسعود من قوله. وقد ذكر الحافظ من وصله فى تغليق التعليق. (ر. التلخيص: 2/9 ح 490) .(2/229)
وذكر صاحب التقريب هذا، وذكر معه شيئاًً آخر، وهو أنه قال: نقل البويطي عن الشافعي في مختصره أنه قال: إن سجد القارىء، تأكد السجود على المستمع، وإن لم يسجد القارىء، فسجد المستمع، كان حسناً، وكان مقيماً للسنة، فصار هذا قولاً، وليس يبعد توجيهه، وحُمل ما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم في تدارس أصحابه القرآن على استحثاث التالي على السجود.
ولو لم يقصد الاستماع، فلا يسجد وإن سجد التالي، وإن كان قرع سمعَه ما تلاه؛ فإنه إذا لم يقرأ في نفسه، ولم يجرّد قصداً إلى الاستماع، فتقع سجدتُه لو وقعت منقطعةً عن سبب يختاره وينشئه.
وكان شيخي يقول: المصلي يسجد إذا سجد إمامه سجودَ التلاوة، لا محالة.
ولو كان المصلي يُصغي إلى قراءة قارىءٍ في غير الصلاة، أو إلى قراءة مصل ليس إمامَه، فلا ينبغي أن يسجد أصلاً؛ فإنه ممنوع عن إصغائه، فلا حكم له، وحق الصلاة أن تُحرسَ عن سجودٍ زائدٍ لا يقوى سببُه.
فإذاً إنما يسجد المصلي إذا تلا إماماً أو منفرداً، أو إذا سجد إمامُه لما تلا، فيتابعه، فلو تلا الإمامُ، ولم يسجد، لم يسجد المقتدي، ولو سجد، بطلت صلاته. ولو تلا المقتدي، فلا يسجد، كما إذا سها، فإنه لا يسجد للسهو.
وذهب أبو حنيفة (1) رضي الله عنه أن المصلي المنفرد، والإمامَ إذا سمع غيرَه يتلو، فإنه يسجد إذا سمع خارجاً من الصلاة. وفي بعض طرقنا ما يشير إلى هذا، وهو بعيد جداً.
فهذا بيان ما يقتضي سجودَ التلاوة قراءةً واستماعاً، وذِكْرُ أعداد السجدات.
959- فأما كيفية السجود، فنذكر سجود من ليس في الصلاة، ثم نذكر سجود التالي في الصلاة.
__________
(1) ر. بدائع الصنائع: 1/187، فتح القدير: 1/468، تبيين الحقائق: 1/ 206، حاشية ابن عابدين: 1/519.(2/230)
فأما من ليس في الصلاة، فالكلام في الأقل والأكمل نأتي به ممتزجاً؛ لاختلاف المذهب فيه.
فأما الشرائط المعتبرة في الصلاة، فهي بجملتها مرعية في سجود التلاوة، وهي الستر، وطهارة الحدث، والطهارة عن الخبث، واستقبال القبلة.
وأما ما لا بد منه، فالاختلاف الظاهر فيه يحويه ثلاثة أوجه: أحدها - أنه لا بد من التحرم بالتكبير والنية والتحلل، فأما السجدة الفردة لا يسوغ تصحيحها.
والثاني - ألا يُشترطَ واحدٌ منها، ويكفي الإتيان بصورة السجود مع استكمال الشرائط التي قدمناها، وهذا ما كان لا يذكر شيخي غيرَه.
ووجهه أنه لو فرض فيه تحرُّم وتحلل، لكان صلاة، والسجدة الفردة لا يجوز أن تكون صلاة.
والوجه الثالث - أن التحرم لا بد منه، فأما السلام، فلا يشترط الإتيان به، ولكن رفع الرأس ينهيه نهايته، وجريان سجود التلاوة في الصلاة شاهد لما كان يذكره شيخي؛ فإنه لا يتصور في الصلاة تحرّم وتحلل.
وذكر صاحب التقريب وجهاً زائداً، فقال: إذا قلنا لا بد من التسليم، فمن أصحابنا من أوجب التشهد بعد رفع الرأس ليقع السّلام بعد نجازه، وهذا بعيد.
ونص الشافعي يوافق من هذه الوجوه ما كان يذكره شيخي.
فهذا ما نذكره الآن في سجود من ليس في الصلاة.
وأما من كان يسجد في الصلاة على التفصيل المقدم، فلا يشترط أن يكبر؛ فإنه لا يُتصور التحرمُ عقداً ونيةً وشروعاً، وإذا امتنع ذلك، فاشتراط التكبير، لا معنى له، ولكن ما ذكره الأئمة، أن الساجد يُستحب له أن يكبر إذا هوى ساجداً، ويكبر إذا ارتفع، كما يفعله في سجدات الصلاة.
وذكر العراقيون أن ابن أبي هريرة لا يستحب التكبير، لا عند الهوي، ولا عند رفع الرأس، وزعم أن ذلك يشبهها بالسجدات الراتبة.
وهذا بعيد لا يعوّل عليه، وعمل السلف على خلافه.(2/231)
960- ومما بقي علينا في كيفية السجود كلام يتعلق بالأَوْلى في سجود من ليس في الصلاة. فإن قلنا: التكبير ليس مشروعاً (1) ، فالمذهب المبتوت أنه مستحب، وحكى العراقيون عن أبي جعفر الترمذي (2) من أصحابنا أنه كان يكرهها ولا يراها، ويقول: التكبير شرع لصلاة معقودة، وليست هي صلاة، بل هي سجدة فردة، وهذا بعيد.
وإتمام هذا أن نقول: مَنْ شَرطَ التحللَ بالسلام، فلا شك أنه يرعى التحريم؛ [فإن التحلل مترتب على التحرّم،] (3) وعلى هذا لا بد من النية، وهي العاقدة في الحقيقة.
فأما من لا يشترط التحلّل، فلعله لا يشترط التحرم بالنية أيضاً، كما ذكرناه في السجدة الواقعة في الصلاة، ولكن إيجابَ التكبير واشتراطَه من غير نية بعيد. فهذا تمام البيان في ذلك.
ومن لم يشترط التشهد اضطربوا في أن التشهد هل يستحب؟ وهذا لعمري محتمل.
وكان شيخي يقوم ويكبر ويهوي عن قيام، ولم أر لهذا أصلاً ولا ذكراً.
فهذا منتهى القول. في صفة السجود.
961- فأما القضاء، فمن تلا آية سجدة، ولم يسجد حتى طال الفصل، فقد فات أوان السجود، فهل يقضيها؟ ذكر صاحب التقريب قولين في قضائها [وقرَّبهما] (4) من الاختلاف في أن النوافل إذا فاتت، هل تقضى أم لا؟ وسيأتي ذلك مشروحاً إن شاء الله في باب النوافل. وسجود التلاوة أبعد عندي من قبول القضاء من وجهين: أحدهما - أن ما يتعلق بأسباب، لا بأوقات من النوافل لا يُقضى، كصلاة الخسوف، وسجود التلاوة شبيه بها.
__________
(1) في (ت 1) ، (ت 2) : مشروطاً.
(2) أبو جعفر الترمذي، محمد بن أحمد بن نصر، شيخ الشافعية بالعراق قبل ابن سريج، وهو ممن اجتمع له إمامة العلم والعمل. ت 295 هـ عن أربعٍ وتسعين سنة (طبقات السبكي: 2/187، 188) .
(3) زيادة من: (ت 1) ، (ت 2) .
(4) في (ت 1) ، (ط) : "وقرنهما" وفي (ت 2) : "وقربها".(2/232)
والثاني - أن الصلاة قُربة كاملة مقصودة، فتقدير القضاء فيها أقرب من تقديره في السجود.
وذكر صاحب التقريب في هذا ضبطاً حسناً، وذلك أنه قال: ما لا يجوز التطوع به ابتداءً، فلا يجوز شرع (1) قضائه، إذا فات.
وقد ذكرنا أن المذهب، أن من أراد أن يسجد من غير سببٍ خشوعاً وتواضعاً لله، لم يجز. فلو قضى سجوداً من غير تلاوة، كان ذلك على صورة سَجْدةٍ لا سبب لها، وهذا ضبط حسن، إذا تدبره الطالب.
ثم من تمام البيان في ذلك أن [طول] (2) الفصل الذي ذكرناه في تصوير الفوات ليس بخافٍ في الجملة.
وبالجملة سجود التلاوة من توابع القراءة، فَلْيَقع متصلاً بها، والمعتبر في انقطاعها أن يغلب على الظن إضراب التالي عنها بسببٍ، أو بغير سبب. ولسنا ننظر في ذلك إلى مفارقة المجلس الذي حوى التلاوة أو ملازمته، وإنما النظر إلى الزمان، كما ذكرناه.
وقال صاحب التقريب: إذا كان الرجل في الصلاة، فقرأ قارىء ليس في الصلاة، أو لم يكن إماماً آيةَ سجدة، فالمصلي لا يسجد أصلاً، كما ذكرناه، ولكن إذا تحلَّل، ففي القضاء ما ذكرناه، وهذا فيه نظر؛ فإن الظاهر أن ما جرى، لم يكن مقتضياً لسجوده، وإذا لم يجر ما يقتضي أداء السجود، فالقضاء بعيد، ولكن صاحب التقريب يرى ذلك مقتضياً، ويرى الصلاة مانعة من الأداء، وينزل ذلك منزلة ما لو استمع الرجل وهو محدث، فإذا تطهر؛ فإنه في القضاء يُخرَّج عند الأصحاب على الترتيب المقدم.
فرع:
962- ذكر صاحب التقريب عن الأصحاب، أن الرجل لو خضع لله، فسجد من غير سبب، فله ذلك، ولا بأس. وهذا لم أره إلا له، وكان شيخي يكره ذلك ويشتدُّ نكيره على من يفعل ذلك. وهو الظاهر عندي.
__________
(1) في (ل) : "فرض قضائه".
(2) في الأصل: " ... في ذلك أن نفول: الفصل الذي ذكرناه.." والمثبت من باقي النسخ.(2/233)
فصل
قال: "ويقضي المرتد كل ما ترك في الردة ... إلى آخره" (1) .
963- من ارتد واستمر، ففاته صلوات في ردته، فيلزمه قضاؤها إذا أسلم، ولو كان قد فاتته صلواتٌ في إسلامه، فارتد، لم يسقط عنه قضاؤها، ولا يخفى مذهب أبي حنيفة (2) فيها.
وحقيقة مذهبنا أن الردة لا تقطع الخطاب عن المرتد، ولا تخرجه عن التزام أحكام الإسلام، وأبو حنيفة يلحق المرتد بالكافر الأصلي.
ولو ارتدت المرأة، فالصلوات التي تمر عليها مواقيتُها في زمان الحيض لا يلزم قضاؤها إذا أسلمت.
ولو جن المرتد، ثم أفاق وأسلم، فالظاهر من كلام الأصحاب أنه يلزمه قضاء تلك الصلوات، وفرقوا بين الحائض والمجنون، بأن إسقاط الصلاة عن الحائض ليس رخصة، وإنما هي لأن حالها لا يقبل الصلاة.
وكان شيخي يعبر عنه بعبارة رشيقة ويقول: الحائض مكلفة بترك الصلاة، وهذا يتأتى منها في الردة، فكأنها أقامت حكم التكليف في الردة، فلا تدارك له، والمجنون ليس [مُخاطباً بترك الصلاة، وإنما سقط قضاء الصلاة عنه تخفيفاً، والمرتد ليس] (3) ممن يخفف عنه.
وتمام البيان في ذلك، أن ما ذكروه من إسقاط القضاء في حق الحائض واضح لا شك فيه، وأما إذا جُن المرتد، فيظهر فيه خلاف سيأتي أصله مقرراً في باب صلاة المسافر، وهي أن المعاصي إنما تنافي الرخص إذا كانت في أسباب الرخص
__________
(1) ر. الأم: 1/61.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 29، مختصر اختلاف العلماء: 1/369 مسألة: 278، رؤوس المسائل: 167 مسألة: 70.
(3) زيادة من (ت 1) ، (ت 2) .(2/234)
كالعبد الآبق لا يترخص برخص المسافرين، فأما إذا لم تكن المعصية في سبب الرخصة، فلا تسقط الرخص؛ فإن المسافرين إذا كانوا يفسقون [بالشراب] (1) ، فإنهم يترخصون؛ إذ لا معصية في السفر نفسه، كذلك سبب الرخصة الجنون، وهو كائن لا معصية فيه، وسيأتي تمهيد ذلك على أبلغ وجه من البيان في موضعه. إن شاء الله تعالى.
964- ثم قال الأئمة: السكران إذا فاتته صلوات في سكره، يلزمه قضاؤها، وهذا متفق عليه، فلو جُن السكران، فقد ذكر الأصحاب وجهين في قضاء الصلوات: أحدهما - أنه لا يقضي إلا صلوات أيام السكر.
والثاني - أنه يقضي صلوات أيام الجنون؛ فإن جريان الجنون في السكر بمثابة جريانه في الردة؛ إذ السكران مغلّظ عليه في أمر الصلاة، كما أن المرتد مغلظ عليه.
وهذا كلام ملتبس لا حقيقة له، والوجه أن يقال: إذا زال السكر والجنون متصل، فلا يجب قضاء الصلوات التي تمضي مواقيتُها في الجنون بعد زوال السكر وجهاً واحداً، بخلاف المرتد يجن؛ فإن المجنون الذي جنّ في ردته مرتد في حال جنونه حكماً، وليس بسكران قطعاً. فأما الزمان الذي اجتمع فيه السكر والجنون، فيجوز أنْ يُقال: هو فيه كالذي يجن وهو مرتد.
والذي ذكرناه إذا لم يكن شُربُه سببَ جنونه، فإن كان كذلك، فهذا رجل جنن نفسه، ولو جرى ذلك وفاتت صلوات في الجنون، ففي وجوب قضائها وجهان، سنذكرهما في باب القصر عند جمع المعاصي المؤثرة في الرخص. والله المستعان.
***
__________
(1) زيادة من (ت 1) ، (ت 2) .(2/235)
باب سجود السهو
قال الشافعي رحمه الله: "ومن شك في صلاته، فلم يدر أثلاثاً صلى أم أربعاً ... إلى آخره" (1) .
965- إذا شك في الصلاة، فلم يدر أنه صلى ثلاث ركعات، أم صلى أربعاً، وكان رفع رأسه من السجدة الثانية، وتردد بين أن يجلس ويتشهد، وبين أن يقوم إلى الركعة الرابعة، فمذهب الشافعي أنه يأخذ بالأقل المستيقن ويبني عليه، ويقوم إلى الركعة التي شك فيها، ولا يأخذ بالظن، ولا يجتهد.
ثم الركعة التي جاء بها عنده مترددة بين أن تكون رابعة كما يقتضيه ترتيب الصلاة، وبين أن تكون خامسة زائدة، وقد تمت الركعات كلّها.
ثم يسجد للسهو في آخر الصلاة، كما سنصفه، ولا مجال للاجتهاد والتحري أصلاً؛ إذ التعويل في الاجتهاد على التعلق بالأمارات والعلامات المغلبة على الظن، وليس فيما شك عليه علامة يستشهد بها.
وقال أبو حنيفة (2) : إن كان يتكرر ذلك منه، فيجتهد ويبني على ما يغلب على ظنه، وإن كان يندر ذلك منه، فيقضي الصلاة ويستأنفها.
ومعتمدنا في المذهب ما رواه عبد الرحمن بنُ عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا شك أحدكم، فلم يدر أواحدة صلى أم اثنتين، فَلْيَبْنِ على واحدة، وإن لم يدر ثنتين صلّى أم ثلاثاً، فليبن على ثنتين، وإن لم يدر ثلاثاً صلى أم أربعاً، فليبن على
__________
(1) ر. المختصر: 1/84.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 30، مختصر اختلاف العلماء: 1/277 مسألة: 232، بدائع الصنائع: 1/165، حاشية ابن عابدين: 1/506.(2/236)
ثلاث، ويسجد سجدتين قبل أن يسلم" (1) .
والضابط المعنوي للمذهب أن الركعة التي جاء بها إن كانت رابعةً، فذاك، وإن كانت زائدةً، فالغلطُ بالزيادة لا يفسد الصلاة، والغلط بترك ركعة يفسد الصلاة.
ولا علامة يستند إليها الاجتهاد، فتعين من مجموع ذلك وجوبُ البناء على المستيقن.
966- ثم من غوامض المذهب في التعليل ما نشير إليه، وسيأتي تفصيله في أثناء الباب أن من شك، فلم يدر أتكلمَ ساهياً أم لا؟ فالأصل أنه لم يتكلم، ثم لا يسجد للسهو؛ فإنه لم يستيقن السهو، وإذا شك في عدد الركعات، فيبني على المستيقن، فإنه يجوِّز أن الركعة الأخيرة هي الركعة (2) الجارية على الترتيب المقتضى، فهو غير مستيقن بصدور السهو منه، فأمره بسجود السهو خارج عن القاعدة التي أشرنا إليها من أن السهو إذا لم يكن معلوماً، فلا سجود.
والذي يُعضّد الإشكال في ذلك النظرُ إلى حالة العَمْد، فإن من أمرناه بالسجود للسهو، وتَرَك السجود عمداً، لم تبطل صلاته، ولو سجد حيث ننهاه عن السجود عمداً، بطلت صلاته. ولمكان هذا الإشكال استثنى العراقيون هذه المسألة، وقالوا: من شك، فلم يدر أَأتَى بشيء من المنهيات، فالأصل أنه لم يأت به، ولا نأمره بسجود السهو إلا في مسألة واحدة، وهي إذا شك، فلم يدر أثلاثاً صلى، أم أربعاً؛ فإنه يبني على اليقين ويسجد، فهذا هو التنبيه على وجه الإشكال.
967- وقد اختلف علماؤنا في تنزيل ذلك، فقال شيخي، وطائفة من أئمة المذهب: إن متعلق السجود الخبر، ولا اتجاه له في المعنى أصلاً، وقال الشيخ أبو علي: المقتضي لسجود السهو، أن الركعة التي أتى بها آخراً إن كانت زائدةً، فهي
__________
(1) حديث عبد الرحمن بن عوف، رواه الترمذي، وابن ماجة، من حديث كريب عن ابن عباس، قال الحافظ: وهو معلول. (ر. الترمذي: أبواب الصلاة، باب ما جاء في الرجل يصلي فيشك في الزيادة والنقصان، ح 398، ابن ماجة: إقامة الصلاة، باب ما جاء فيمن شك في صلاته فرجع إلى اليقين، ح 1209، تلخيص الحبير: 2/5 ح 476) .
(2) (ت 1) ، (ت 2) : الرابعة.(2/237)
سهو، فيقتضي السجود، وإن كانت رابعةً أتى بها المصلي ولا يدري أصليَّة هي أم زائدة، فتضعف النية فيها، فاقتضى ذلك نقصاناً مجبوراً بسجود.
وينشأ من التردد في التعليل مسألة مذهبية، وهي أنه لو صلى هذه الركعة، ثم استيقن في آخر الصلاة أنه ما زاد شيئاًً، وإنما أتى بالركعات الأربع، فقد قال الشيخ أبو علي رحمه الله: إنه يسجد وإن زال الشك؛ لأن تلك الركعة جرت وضعْفُ النية مقارن لها، فلئن زال الشك آخراً، فذلك التردد، قد تحقق مقارناً لما مضى، وكان شيخي يقطع في هذه الصورة بأنه لا يسجد للسهو؛ فإنه كان لا يعتمد معنىً في الأمر بالسجود، وإنما كان التعويل على الحديث، وظاهر الحديث في دوام الشك والتردد.
والذي ذكره الشيخ أبو علي منقوض عليه، بما إذا لم يدر الرجل أقضى فائتة كانت عليه أم لا، فأمرناه بقضائها، فإنه يقضيها ولا يسجد للسهو، وإن كان على التردد في أن الصلاة مفروضة عليه أم لا، من أول الصلاة إلى آخرها.
ثم الشيخ أبو علي إنما يأمر بالسجود إذا انقضى ركن مع التردد، فأما إذا خطر الشك، ولم يدم وزال، ولم ينقض معه ركن تام، فلا أثر له أصلاً.
وقد قدمت تفصيل القول في الركن التام ومقارنة الشك إياه في فصول النية في أول باب صفة الصلاة.
فصل
قال: "إذا فرغ من صلاته بعد التشهد، سجد سجدتين للسهو، قبل السلام ... إلى آخره" (1) .
968- مقصود هذا الفصل بيان محل سجود السهو، فالظاهر المشهور من المذهب أنه يسجد قبل السلام إذا فرغ من التشهد والصلاة وما تخيره من الدعاء، فيسجد سجدتين، ثم يسلم.
__________
(1) ر. المختصر: 1/85.(2/238)
وأبو حنيفة (1) يقول: يسلم ويسجد بعد السلام.
وقال مالك (2) : إن كان السهو نقصاناً من الصلاة، فإنه يسجد قبل السلام جَبراً لذلك النقصان، وإن كان السهو زيادةً في الصلاة، فإنه يسجد بعد السلام، وهذا قول الشافعي في القديم، ثم لا شك أنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بالسجود قبل السلام، وصح أنه قال: "ويسجد سجدتين بعد السلام" (3) ، ولا شك في صحة الروايتين، ثم إنه كان مالك حمل إحدى الروايتين على ما إذا كان السهو نقصاناً في الصلاة، وحمل الثانية. على ما إذا كان زيادة في الصلاة.
وقال الشافعي: كان مالك لا يدري (4) الناسخ من المنسوخ (5) ، وكان آخر ما فعله
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 30، مختصر اختلاف العلماء: 1/274 مسألة: 227، بدائع الصنائع: 1/172.
(2) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/275 مسألة: 300، حاشية الدسوقي: 1/274، 275، حاشية العدوي: 1/277، 278، جواهر الإكليل: 1/60.
(3) سجود السهو قبل السلام ثبث في حديث متفق عليه من حديث عبد الله بن بُحَيْنة (اللؤلؤ والمرجان: 1/114 ح 335. وأما بعد السلام، فقد ثبت في حديث ذي اليدين، وحديث ابن مسعود، وهما في المتفق عليه (اللؤلؤ والمرجان: 1/114-115، ح 336، 337. وانظر تلخيص الحبير: 2/2-6 ح 469، 470، 481) .
(4) بدأ من هنا خرم من نسخة (ت 2) . وهو عبارة عن ورقة بوجهيها.
(5) نقلُ إمام الحرمين هنا عن الشافعي موهمٌ وغير دقيق؛ فهو يوحي بالعموم وبالقطع، مع أن نص الشافعي -كما سننقله بعد قليل- خاص بالنسخ في سجود السهو بعد السلام، وجاء بأسلوب الاحتمال لا بالقطع؛ إذ قال: "لعل مالكاً"، وتمام عبارته بنصها في كتاب سجود السهو في الأم: "سجود السهو كله عندنا في الزيادة والنقصان قبل السلام، وهو الناسخ والآخِرُ من الأمرين، ولعل مالكاً لم يعلم الناسخ والمنسوخ من هذا" (ر. الأم (الطبعة البولاقية) : 1/114) .
هذا، وباب سجود السهو الموجود في الأم من جمع وترتيب السراج البلقيني، وهذه العبارة المذكورة آنفاً أخذها من جمع الجوامع لأبي سهل بن العِفْريس الذي جمع فيه نصوص الشافعي.
ومما ينبغي تسجيله أننا احتفينا بتحقيق الأخ الدكتور رفعت فوزي لكتاب الأم، ولكن عجبنا أشد العجب حينما وجدناه أسقط باب سجود السهو من هذه الطبعة بحجة لا تُسلّم له، فحرم قراء طبعته من نصوص للشافعي في هذا الباب لن يصلوا إليها، فأين سنجد كتاب جمع =(2/239)
النبي صلى الله عليه وسلم السجود قبل السلام، وروى عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد قبل السلام وبعد السلام، وكان آخر الأمرين أنه سجد قبل السلام (1) ، فهذا كلام الشافعي.
وقد جرى للشافعي تردد في بعض المواضع، لما رأى الأخبار صحيحة في التقديم والتأخير تُشير إلى جواز الأمرين جميعاًً، وهذا يعضده أمر في الأصول، وهو أن فِعلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتضمن الإيجاب عند المحققين، ولكنه يتضمن الجواز والإجزاء، فلئن صح ما ذكره الزهري أنه سجد قبل السلام آخراً، فهذا لا يُعيِّن ذلك، ولا ينفي جواز ما تقدم.
969- فإذا لاح مأخذ الكلام، فنذكر ما تحصل من المذهب: فذكر ذاكرون ثلاثة أقوال: أحدها - وهو الظاهر: أن السجود قبل السلام، وإذا وقع بعده، لم يعتد به.
والثاني - أن الساهي بالخيار إن شاء قدم، وإن شاء أخّر.
والثالث - أنه يفصل بين أن يكون السهو زيادة، وبين أن يكون نقصاناً، وهو المنصوص عليه في القديم، وهو مذهب مالك.
وقال بعض أئمتنا: لا خلاف أنه يُجزىء التقديمُ والتأخير، وإنما التردد في بيان الأوْلى والأفضل، ففي قولٍ نقول: الأفضل التقديم، وفي قول: لا نفضل ولا نفرق ويجوز الأمران جميعاًً، وفي قول: يفصل بين الزيادة والنقصان في الأفضل، لا في الإجزاء؛ فإن الأمرين جميعاًً جائزان مُجزيان في الحالتين جميعاًً.
فهذه طريقة. وتوجيهها صحةُ الأخبار في التقديم والتأخير جميعاًً.
والطريقة المشهورة ردّ التردد إلى الإجزاء والجواز، كما تقدم. [وهذه] (2) يظهر توجيهها في طريق المعنى؛ فإن السجود إذا وقع في الصلاة، كان زيادة في الصلاة،
__________
= الجوامع لابن العفريس؟ مع أن الباب موجود كاملاً في الطبعة البولاقية.
(1) حديث الزهري، رواه الشافعي، والبيهقي في السنن: 2/341. وانظر التلخيص: 2/6، 7 ح 481.
(2) في الأصل، وفي (ط) ، وفي (ت 1) : وهذا. وفي (ت 2) : سقطت الورقة كاملة.
والمثبت تقدير منا رعاية للسياق. وجاءتنا أخيراً (ل) مثل أخواتها.(2/240)
وإذا وقع وراء ذلك، كان منفصلاً عن تحريمة الصلاة وحكمها، وهما أمران متباعدان، والتخير بينهما بعيد، فرأى الشافعي في ظاهر المذهب؛ التمسك بآخر أفعال النبي صلى الله عليه وسلم.
ونحن نعتمد في التفريع هذه الطريقة الأخيرة، ونبني الأمرين على التردد في الإجزاء، لا في الفضيلة، فإن فرعنا على المشهور، وهو (1) أن السجود قبل السلام، فإن وقع ذلك، فلا كلام، وإن سلم الساهي، ولم يسجد، لم يخل: إما أن يسلم ساهياً ناسياً لسجود السهو، وإما أن يسلم عامداً ذاكراً لسجود السهو، فإن تعمّد وسلم، فقد فوت سجدتي السهو على نفسه، وتركهما عمداً، فالصلاة صحيحة، وقد فاتت السجدتان، وليس سجود السهو واجباً عندنا، بل هو سنة كسجود التلاوة.
وإن سلم، وتحلّل ناسياً، ثم تذكر: لم يخل، إما أن يتذكر على القرب، أو يتخلل فصل طويل. فإن تذكر على القرب، فهل يسجد على هذا القول؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - يسجد، ويجعل كأن السلام لم يكن، وهو بمثابة ما لو نسي ركعة وسلم، ثم تذكر على القرب؛ فإنه يبني على صلاته، ويعد السلام الجاري في غير محله سهواً مقتضياً للسجود.
والوجه الثاني - أنه لا يسجد، وإن كان سلامه ناسياً؛ فإن السجود مما يجوز تركه قصداً، والسلام ركن جرى في محل جوازه، فاعتقاد خروجه عن وقوعه موقعه لمكان سنة لو تركها قصداً، لجاز، بعيدٌ.
والذي يحقق ذلك، أنه بعدما سلم ساهياً، قد يبدو له ألا يسجد إذا تذكر، وسأذكر السر في ذلك الآن.
التفريع على هذين الوجهين:
970- إن حكمنا بأنه لا يعود إلى السجود، فقد تحقق فوات السجود إذا سلم ناسياً.
وإن قلنا: يعود، فإن عاد، فهو في الصلاة ولو أحدث بطلت صلاته، ويقدّر
__________
(1) آخر الورقة الساقطة من (ت 2) .(2/241)
كأنه لم يسلم، ويعتقد أن السلام لم يقع معتداً به، فيسجد سجدتين، ويسلم الآن، ولا وجه غيره. فلو بدا له ألا يسجد أصلاً بعدما تذكر، فقد رأيتُ في أدراج كلام الأئمة تردداً في ذلك، وهو محتمل جداً.
والظاهر أنه إذا أراد ذلك، قلنا له: فسَلِّم مرة أخرى، وإن السلام الذي تقدم لم يكن معتداً به، وآية ذلك أنه لو أراد السجود، لكان في الصلاة، ويستحيل أن يخرج من الصلاة، ثم يعود إليها.
ويحتمل أن يقال: أمر السلام الذي تقدم على الوقف والتردد، فإن سجد تبيّنا أنه لم يقع التحلل به، وإن أضرب عن السجود لما تذكر، تبَيّنَّا وقوعه موقعه.
فهذا كله إذا سلم ناسياً، ثم تذكر أمرَ السجود على القرب.
فأما إذا طال الفصل، كما سنذكر الضبطَ فيه، والتفريع على أن حق السجود أن يقدم، فلو جاء بالسجود بعد تخلل الفصل الطويل، فلا يعتد به أصلاً، وقد لاح فواته.
والمشكل الآن أن السلام هل وقع ركناً؟ فإن قدرناه ركناً محللاً على الصحة، فلا إشكال، ولو قدره مقدر غيرَ واقع ركناً، فكيف الوجه؟ فأقول: الوجه القطع بصحة التحلل في هذه الصورة، وهذا يعضده ما ذكرناه الآن، من أنه إذا تذكر، ثم بدا له ألا يسجد، أنه لا يعيد السلام.
فَلْيتَأمل الفقيه هذا الموضع، فلا وجه غيره.
هذا كله تفريع على أن شرط سجدتي السهو وقوعهما في الصلاة.
971- فأما: إذا قلنا: يجوز إيقاعهما خارجاً من الصلاة، فلو تعمد وسلَّم ذاكراً، وأراد أن يسجد بعد السلام، جاز على هذا [القول] (1) إذا كان سجد على القرب.
ثم إذا سجد سجدتين، فهل نأمره أن يتشهد؟ القول الوجيز في ذلك، أنهما سجدتان منفصلتان عن الصلاة، فحكمهما حكم سجدة التلاوة، إذا وقعت خارجة من الصلاة، وقد ذكرنا تفصيل القول في أنه هل يتشهد، وهل يتحرم ويتحلل؟ فلا فرق
__________
(1) زيادة من (ت 2) .(2/242)
بين سجدتي السهو، وبين سجدة التلاوة في هذا، إلا أن سجدة التلاوة فَرْدة، والسهو سجدتان. ونحن نقطع بأن لا يعود الساجد على هذا القول إلى الصلاة. ولو أحدث، لم تبطل صلاته أصلاً.
وقد قال أبو حنيفة (1) : إنه يسلم، ثم يسجد، وزعم أنه يعود إلى الصلاة، فلو أحدث، بطلت صلاته، وهذا كلام متناقض، ولا معنى للخروج من الصلاة والعود إليها، وهذا مذهب لم يصر إليه أحد من أصحابنا في التفريع على هذا القول. فإن رأينا أن يتشهد: اشتراطاً، أو استحباباً، كما يفعل ذلك في سجدة التلاوة، فإنه يتشهد بعد السجدتين، كما ذكرناه في سجود التلاوة.
وحكى الشيخ أبو علي عن الأستاذ أبي إسحاق أنه كان يقول حيث انتهينا إليه في التفريع: إنه يتشهد قبل السجدتين، لتقع السجدتان آخراً، وفي سجود التلاوة يتشهد بعد السجود. وهذا متروك عليه، وهو غير معدود من المذهب. وقد اعتمد فيه على تقديم السجود على السلام؛ إذ تخيل تقديمَ التشهد على السجود، هذا إذا أراد السجود متصلاً.
فأما إذا سلم وطال الفصل، ثم أراد أن يسجد سجدتي السهو بعد طول الفصل، فقد ذكر الصيدلاني وجهين: أحدهما - أنه لا يقع الموقع، وطول الفصل يفوّته؛ فإن السجود وإن كان يقع بعد التحلل، فهو متصل بالصلاة، فيجب رعايةُ حقيقة الوصل فيهما، وهذا كالتسليمة الثانية إذا أمرنا بها، فإنها تقع بعد التحلل بالتسليمة الأولى، ولكن شرط الاعتداد بها أن تكون متصلة.
والثاني - أنه يقع الموقع وإن طال الفصل؛ فإنه في حكم الجُبران لما وقع في الصلاة وهو مشبه بجبرانات الحج، ثم الجبرانات إن وقعت في الحج أجزأت، وإن وقعت بعده متصلة، أو منفصلة أجزأت.
ثم إن قلنا: إذا انفصل وطال الفصل، فقد فات السجود، فينزل هذا منزلة سجدة التلاوة إذا فاتت، وقد ذكرنا قولين، في أنها هل تقضى أم لا؟ ويجري القولان في سجود السهو لا محالة.
__________
(1) ر. بدائع الصنائع: 1/174.(2/243)
فآل حاصل الكلام إلى أنا في وجه نحكم بفوات السجود، ونخرّج قولين في القضاء. وفي قول نحكم بأنه لا يفوت، فهذا منتهى البيان في ذلك.
972- والذي نتعلّق به الآن ضبط القول في الاتصال والانفصال، وهذا فن التزمناه في هذا المذهب (1) مستعينين بالله.
فالمذهب أن الرجوع فيه إلى العرف في الفصل بين الاتصال والانفصال، ثم الذي ظهر لنا من العرف، أنه إن تخلل زمانٌ يغلب على الظن أنه قد أضرب عن السجود قصداً أو نسيه، فهذا حدّ الانفصال، وما دون ذلك اتصال. ولا يعتبر في ذلك غيرُ الرجوع إلى العرف، فلو طال الزمان على ما ذكرناه مع اتحاب المجلس، فقد تحقق الانفصال، ولو سلم، وفارق المجلس، ثم تذكر على قُرب من الزمان، فهذا محتمل عندي، فإن نظرنا إلى الزمان، فهو قريب، وإن نظرنا إلى العرف، فمفارقة المجلس، [قد] (2) يُغَلِّب على الظن الإضرابَ عن السجود كما يُغلّب طويل الزمان على الظن ذلك.
والعلم عند الله.
وقد ذكر العراقيون في ذلك قولين عن الشافعي، أحدهما - أن المعتبر في ذلك قرب الزمان وبعده، وطوله وقصره.
والقول الثاني - قالوا: نص عليه في القديم، أنه يعتبر المجلس، فإن لم يفارقه، فهو متصل، وإن طال الزمان. وإن فارقه، فهو منفصل وإن قرب الزمان.
هذا ما أردناه من التفريع في محل سجود السهو.
فإن قيل: لو صلى، وأحدث، ثم انغمس في ماء على قرب من الزمان متصل، قلنا: الظاهر أن الحدث يفصل السجود، وإن قرب زمان الطهارة.
ثم قد مضى القول فيما يتصل وينفصل على الاستقصاء.
973- وإن فرعنا على القول القديم الموافق لمذهب مالك، فإن كان السهو
__________
(1) المذهب: المراد به هذا الكتاب. فهو يسميه: المذهب الكبير.
(2) في جميع النسخ: "فقد" والمثبت تقدير منا. ثم جاءت به (ل) .(2/244)
نقصاناً، فالتفريع في هذه الحالة كالتفريع على قولنا باشتراط إيقاع السجود في الصلاة، وإن كان السهو زيادة، فالتفريع في هذه الحالة كالتفريع على إيقاع السجود بعد التحلل.
فصل
إذا شك في أعداد الركعات في أثناء الصلاة، فقد مضى القول فيه مفصلاً، فلو سلم وتحلل، ثم شك بعد التحلل في أنه صلى ثلاثاً أم أربعاً، ففي المسألة قولان مشهوران: أحدهما - أن ما يطرأ من الشك بعد التحلل لا حكم له، وقد مضت الصلاة ظاهراً محكوماً بصحتها.
وهذا يوجَّه بأنا لو غيّرنا حكم الصلاة التي اتفق التحلل عنها بالشك، لما سلمت صلاةٌ في الغالب عن شك وتردد بعدها، على قرب من الزمان أو بُعْد، فوقع ذلك محطوطاً عن المصلي.
والقول الثاني - أنه مؤاخذ بحكم الشك -كما سنوضحه- اعتباراً بطريان الشك في أثناء الصلاة. وهذا القائل يمنع بلوغ هذا الأمر في طريان الشك مبلغ العموم، بل هو مما يندر ولا يعم، فإن فرض موسوس، فالحكم لا يبنى على حالة، وإنما يُبنى على أعم أحوال الناس.
ثم قال بعض المصنفين: لو جرى هذا التردّد بعد انفصال الزمان، جرى القولان أيضاً [فإن نحن أسقطنا أثر التردد متصلاً، أسقطناه منفصلاً أيضاً] (1) وإن أمرنا المتردد على الاتضال بالتدارك، فإذا انفصل الأمر، فلا تدارك إلا باستئناف الصلاة.
وكان شيخي أبو محمد يقول: إنْ جرى التردد بعد انفصال الزمان، فهو محطوط غيرُ معتبر قولاً واحداً، فإن هذا الآن صورة لا مستدرك لغائلتها؛ إذ الإنسان لا يدرك كيف صلى في أمسه، ولو أُمر إذا شك بالقضاء، فسيعود هذا بعينه -إذا طال الزمان- في القضاء، فلا يسلَم من هذا عاقل قط. ولا يجوز فرض الخلاف في هذا.
__________
(1) زيادة من: (ت 1) ، (ت 2) .(2/245)
فأما إذا قرب التردد، ففيه القولان، كما قدمنا ذكرهما.
وهذه الطريقة حسنة بالغة.
974- وعندي كلام وراءها، وبه تتبين حقيقةُ الفصل.
فأقول: لو عرض للإنسان فكرٌ في صلوات أيامه السابقة، فإنه لا يتخيل جريانَها ووقوعَ أركانها في مظانها، فإنها انسلت بجملتها عن ذكره وغابت عن فكره، وإذا كان كذلك، ففرض التردد في تمامها ونقصانها، مع الذهول عن تفصيلها مما لا نعتقد المؤاخذةَ به أصلاً، فأما إذا تحلل عن الصلاة، وتخلل زمان متطاول، ولم يغب عن ذكره تفصيل صلاته، وتردّد مع ذلك في زيادة ونقصان، فتخريج ذلك على القولين [ليس بعيداً على ما تقدم، ولا يمتنع أيضاً إخراج هذا عن القولين] (1) من حيث إنه يغلب مع طول الزمان الذهولُ، ويعم الضرر، ثم إذا لم نَحطّ حكم التردد، وقد اتصل، فيجعل كأنه لم يسلّم، وكأنه تردد في الصلاة، فيقوم، ويبني على صلاته، كما سبق. وإذا طال الفصل، ورأينا مؤاخذته، فليس إلا إعادة الصلاة واستئنافها، وقد تم ما نريد من ذلك.
فصل
قال: "وإن ذكر أنه في الخامسة ... إلى آخره" (2) .
975- إذا قام المصلي إلى ركعة، ثم علم أنها خامسة، فمذهبنا أنه كما (3) علم ذلك يقطع تلك الركعة، ويعود إلى هيئة القعود، ولا فرق بين أن يتذكر ذلك وهو في قيام الركعة الزائدة، أو في ركوعها، أو كان انتهى إلى سجودها، فعلى أي وجه فُرض، فما جاء به غلط غيرُ محسوب، ولا قادح في صحة الصلاة.
__________
(1) زيادة من: (ت 1) ، (ت 2) .
(2) ر. المختصر: 1/85.
(3) "كما": بمعنى (عندما) .(2/246)
976- ومن دقيق ما ننبه عليه في ذلك، أنا ذكرنا خلافاً في أن الكلام من الناسي، إذا كثر هل يبطل الصلاة؟ وردّدنا القول في الفعل الكثير من الناسي، كما سبق، والزيادة في الصلاة وإن كثرت، فإنها لا تبطل الصلاة وفاقاً، والسبب فيه أن الذي اعتمده من صار إلى أن الكلام الكثير من الناسي يبطل الصلاة، أنه يخرم نظمَ الصلاة، (1 والزيادة الكثيرة من جنس الصلاة إذا صدرت من الناسي لا تخرم نظم الصلاة 1) .
976/م- ومن دقيق القول فيه أن من زاد ركوعاً عامداً، بطلت صلاته عندنا، وإن لم يكن في مقداره موازياً لما يُعد كثيراً من الأفعال، والزيادة وإن قلّت -أعني زيادة ركن- مبطلة، فإنه [اعتماد] (2) تغيير الصلاة بما يجانسها، والزيادة الكثيرة مع النسيان لا أثر لها.
فليفهم الفاهم ما نبديه من بدائع الفقه.
977- ثم إذا أمرناه بالعود إلى القعود، فننظر وراء ذلك، فإن لم يكن قد تشهد، قعد وتشهد، وسجد للسهو، وسلم.
وإن كان قد تشهد، لم يخل: إما إن كان تشهد على قصد التشهد الأخير، ثم طرأ من الغلط ما طرأ، أو كان تشهده ظاناً أنه التشهد الأول، فإن كان تِشهد على قصد التشهد المفروض، ثم أمرناه بالعَوْد، فهل يتشهد مرة أخرى؟ فيه وجهان معروفان: أحدهما - أنه لا يتشهد، وهذا هو الذي لا ينقدح في المعنى والقياس غيرُه؛ فإنه قد تشهد مرة؛ فإيجاب الإعادة مرةً أخرى لا معنى له، ولكنه غلط لما قام إلى ركعة زائدة، فليعد، وليتدارك غلطته بسجدتين جابرتين للسهو.
والوجه الثاني - أنه يتشهد مرة أخرى، وهذا ظاهر النص في السواد (3) ؛ فإنه قال: سواء قعد في الركعة، أو لم يقعد؛ فإنه يجلس للرابعة ويتشهد.
فذهب ابن سُريج إلى موافقة ظاهر النص، وأوجب على الراجع القاطع الركعة
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2) .
(2) زيادة من: (ت 1) ، (ت 2) .
(3) نُذكر أن المراد بـ " السواد " مختصر المزني.(2/247)
الزائدة أن يتشهد، وعلل بعلتين: إحداهما - أن الموالاة شرط في الأركان فَلْيَلِ السلامُ تشهداً، وقد انقطع ذلك التشهد الذي جرى قبل القيام إلى الركعة الزائدة عن السلام.
فهذا معنى.
والثاني - أنه لو لم يعد للتشهد، لوقع السلام فرداً، لا يتصل بركنٍ قبله، ولا يعقبه ركن بعده.
وهذان المعنيان جميعاًً فاسدان عندي، أما الموالاة، فلا معنى لذكرها هاهنا، فإن من طوّل ركناً قصيراً ساهياً، فقد ترك الوِلاء ولا تبطل صلاته، وقد بنى الفقهاء الأمر على أن الموالاة إذا اختلت بذلك، وأخطأ في الصلاة، فلا أثر لاختلالها.
ثم يجرّ مساق هذا الكلام خبلاً وفساداً؛ فإن التشهد الأول، قد وقع معتداً به، فإن أخرجناه من الاعتداد به، فقد انقطع التشهد الذي نعتدُّه عن الأركان المتقدمة قبلُ، وهذا إن كان اختلالاً، فلا مستدرك لها (1) أصلاً، ويجب من مساقه أن تبطل الصلاةُ أصلاً، فإن لم يجز ذلك، فليس إلاّ أن يُحتمل بقطع (2) الوِلاء بسبب النسيان. وأما وقوع السلام فرداً، فهو مفرع على النظر إلى الموالاة، وإلا فليس فرداً، فهو منتظم مع الأركان المتقدمة.
978- ثم فرع ابن سُريج على معنييه مسألة، وهي أنه قال: لو هوى القائم إلى السجود، وقد ترك الركوعَ ناسياً، ثم تذكر، فإن نظرنا إلى مراعاة الموالاة، فلينتصب قائماً، وليركع ليلي الركوعُ القيامَ، ثم يرفع معتدلاً ويسجد، وإن نظرنا في مسألة العود من الركعة الزائدة إلى أن السلام ينبغي ألا يقع فرداً، (3 فالذي يركع يرتفع إلى حد الراكعين، ولا ينتصب قائماً؛ فإن الركوع لا يقع فرداً 3) ؛ إذ بعده السجود وغيره من الأركان.
979- قلت: هذا أوان التنبيه لدقيقة، وهي أنا قد ذكرنا في تفريع صلاة العاجز أنه
__________
(1) كذا في جميع النسخ، والمتبادر إلى الذهن: "له" فلعله أنث الضمير على معنى الواقعة، أو الحالة مثلاً، والله أعلم.
(2) كذا في النسخ كلها. ولعلها: (قطع) .
(3) ساقط من: (ت 2) .(2/248)
لو قرأ الفاتحة قاعداً، ثم وجد خفة، فإنه يقوم ليركع عن قيام، ولم نذكر فيه تردداً، فإن كان ما ذكرناه كذلك، فليجب أيضاَّ عَلى من هوى ساجداً، وترك الركوع أن يقوم لا لموالاةٍ، ولكن ليكون ركوعه عن قيامه. وإن قلنا: لا يقوم من هوى ساجداً، ويكفيه أن يرتفع راكعاً، فيجب أن نقول: من وجد خفة، وقد أقام فرض القراءة في القعود يكفيه أن يرتفع راكعاً؛ فإن القعود الذي جاء به في حال العجز قائم مقام القيام، ولا فرق في ذلك. فلا يؤتينَّ ناظر عن خبالٍ لا حاصل له.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كان تشهد على قصد التشهد الأخير، فأما إذا كان تشهد ظاناً أنه التشهد الأول، فالفرض هل يتأدى بذلك أم لا؛ فيه وجهان مشهوران.
ومن نظائر هذه الصورة، ما لو أغفل المتوضىء لمعة من وجهه في الغسلة الأولى، ثم تداركها بالثانية، وهو يقصد بها إقامة السنة، فهل يسقط الفرض عن تلك اللمعة؟ فعلى وجهين، فإن قلنا: لا يسقط الفرض، فهو رجل قام إلى ركعة زائدة، ولم يتشهد، فيعود ويتشهد لا محالة، وإن قلنا يسقط الفرض، فليلتحق هذا بالصورة التي تقدم الفراغ منها، وهي إذا تشهد على قصد الأخير، ثم قام. وقد مضى ذلك كافياً.
ولو لم يكن له قصد في التشهد، فهو كما لو قصد التشهد الأخير، وتعليل ذلك لا حاجة إلى إيضاحه.
فصل
قال: "وإذا ترك التشهد الأول حتى قام منتصباً، لم يَعُد ... إلى آخره" (1) .
980- التشهد الأول من أبعاض الصلاة، ويتعلق بتركه سجود السهو، وهو من أركان الصلاة (2 عند أحمد بن حنبل 2) .
__________
(1) ر. المختصر: 1/86.
(2) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2) . ووصفُ التشهد الأول بأنه ركن قولٌ في مذهب أحمد، وعنه أنه سنة، ولكن المذهب أنه واجب، ر. الإنصاف: 2/115. وسيأتي بعد ذلك أن إمام الحرمين يصف التشهد الأول عند أحمد بأنه فرض، وبأنه واجب.(2/249)
ومعتمد المذهب حديث عبد الله بن مالك ابن بُحَيْنَة، قال: "صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي: الظهر أو العصر، فقام عن اثنتين، فسبحنا به، فلم يرجع، فلما بلغ آخر الصلاة، انتظرنا تسليمه، فسجد سجدتين، ثم سلم" (1) فدل عدمُ رجوعه على أنه ليس ركناً، وسجوده للسهو ناصٌّ على ما ذكرناه من كونه من الأبعاض.
981- ثم ترتيب المذهب في تركه أنه إن قام المصلي، فاعتدل في وقت التشهد الأول، ثم تذكر ما كان منه، فليس له أن يعود لاستدراك التشهد الأول؛ فإنه قد تلبس بالقيام المفروض، فلا يجوز له أن يقطعه لاستدراك سُتةٍ، هذا إذا اعتدل.
والدليل على ذلك عدمُ رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رويناه.
981/م- ولو نهض نحو القيام، ولم يعتدل فتذكر، فقد اختلفت عبارات الأئمة، فذكروا عبارتين نذكرهما، ثم نذكر ما عندنا من التحقيق فيهما إن شاء الله تعالى.
قال الشيخ أبو بكر (2) : إذا لم ينته إلى حد القيام، رجع وتشهد؛ فإنه لم يلابس فرضاً حتى تذكَّر، ثم إذا رجع، وتشهد، فهل يسجد للسهو؟ قال: إن كان انتهى في انتهاضه إلى مبلغ كان أقرب إلى القيام منه إلى القعود، فإن الذي صدر منه فعل كثير أتى به ساهياً، وسنذكر أنه مما يقتضي السجود.
وإن كان إلى القعود أقرب، فتذكر ورجع، فلا يسجد، وما أتى به في حكم الفعل القليل، الذي لا يؤثر في الصلاة. فهذا كلامه.
وقال شيخي وغيره: إن لم ينته في ارتفاعه إلى حدّ الراكعين بعْدُ، فتذكر ورجع، فالذي صدر منه محطوط عنه، ولا سجود، وإن انتهى إلى حد الراكعين، أو جاوز، ولم يلابس القيام، فإذا تذكر ورجع، سجد للسهو.
__________
(1) حديث ابن بحينة متفق عليه، وقد مضى آنفاً.
(2) الشيخ أبو بكر: أي الصيدلاني، كما سيذكره قريباً.(2/250)
982- وأنا الآن أذكر مسالك كل فريق، فأقول: اعتمد الصيدلاني كثرةَ الفعل وقلَّته، وأنا أُجري ما قاله في صورة ليس فيها انتهاء إلى هيئة الراكعين، وإن قدّر ملابسة القيام مثلاً، فأقول:
إذا كان المصلي قاعداً، وانتصب من غير انحناء، وذهب ناهضاً إلى القيام، فهذا له ممر على هيئة الراكع، فالمرعي في هذه الصورة -على ما ذكره- النظرُ إلى الفعل.
ثم الضابط عنده (1) في الكثرة أن يكون أقرب إلى القيام، فإذا رجع، سجد للسهو.
فإن قيل قد ذكرتم أنه لو خطا خطوتين عمداً، لم يضره، وخطوتان أكثر من الانتهاء إلى القيام في حركات الناهض؟ قلنا: لا نعرف أولاً خلافاً بين أئمتنا في أنه إذا قرب من القيام في الصورة التي ذكرناها فلم يلابس هيئة الراكعين، ورجع، أنه يسجد للسهو.
وإذا كان كذلك، فلا ينقدح في ذلك تعليل إلا مجاوزة الفعل حدَّ القلة.
ثم الممكن في ذلك عباراتان: إحداهما - أن من حرَّك يداً وسائرُ بدنه قار، فليس فعله على رتبةِ فعل من يحرك جملةَ بدنه. والناهض صعُداً يحرك جملة بدنه.
فإن قيل: الماشي كذلك؟ قلنا: ولكن التعويل في الماشي على حركة الرجلين والبدن محمولهما ومنقولهما، فوقع التعويل على حركة الرجلين، والناهض يحرك بدنه قصداً، وهذا ما أراه شافياً للغليل.
والمعتمدُ العبارة الثانية، وهي: أن القرب من القيام يُفيد من تغيير هيئة الصلاة على الاختصاص بها ما يفيده الفعلُ الكثير، ولذلك قلنا: إن من ركع ركوعاً زائداً عمداً، بطلت صلاته، وإن لم يبلغ مبلغ الفعل الكثير، لأنه يؤثر في تغيير نظم الصلاة (2 فكذلك القرب من القيام، وإن لم يكن إتياناً بصورة رُكن، فهو مختص بتغيير نظم الصلاة 2) ، فكان كالفعل الكثير. وإن كان الناهض أقرب إلى القعود، فهذا يوازي
__________
(1) ساقطة من: (ت 1) .
(2) ما بين القوسين ساقط من (ت 2) .(2/251)
الفعلَ القليل الذي لا يغير نظم الصلاة، فأما الخطوة، فليست في جهة نظم الصلاة وانتقالاتها، فروعي فيها المقدار الكثير، وهذا في نهاية الحسن.
983- والذي أراه: أنه إن صوَّر متكلف كونَ الناهض على حد يستوي فيه نسبته إلى القعود والقيام، فلو رصع من هذا الحد، لم يسجد، كما لو كان أقرب إلى القعود، وهذا لا شك فيه.
هذا كله ترداد على عبارة الشيخ أبي بكر، وقد فرضنا في تنزيل عبارته انتهاضاً لا انحناء فيه.
984- وأما من ذكر حد الراكعين، فيصور انتهاضاً على هيئة الانحناء، حتى يقدر الانتهاء إلى القيام، فعلى هذا الوجه نُبين معظم أحوال الناهض في العادة، فنقول: إن انتهى إلى حد الراكعين، فتذكر، رجع وسجد للسهو، والسبب فيه أنه أتى بصورة ركن، وقد ذكرنا أن الإتيان بصورة ركن يؤثر في الصلاة، فيبطل عمدُه الصلاة، ويقتضي سهوهُ سجودَ السهو.
985- وهاهنا لطيفة لا بد من ذكرها، وهي أن الركوع الواقع ركناً شرطُ صحة الاعتداد به الطمأنينة، ولو لم تقع، لم يصح. والركوعُ الزائد المفسد للصلاة، لو فرض على وِفازٍ (1) من غير طمأنينة، فهو مبطل للصلاة، فلا يتوقف بطلانُ الصلاة بالركوع الزائد على الطمأنينة، وإن كان يتوقف الاعتداد به ركناً على الطمأنينة.
والسبب فيه من جهة المعنى أن المفسد للصلاة إنما يفسدها من جهة أنه يغيّر نظمها، وهذا المعنى يحصل وإن كان الركوع على وفاز.
وأما الركوع الذي يقع معتداً به، فالغرض منه، ومن كل حالة من حالات المصلي الخضوع، ولا يتأتى إيقاع الخضوع من غير لبث ومكث، يفصل الركنَ عن الركن.
986- ومما نقدمه قبل [الخوض] (2) في المقصود، أن من يهوي من قيامه إلى
__________
(1) وِفازْ من وَفَزَ، يفز بكسر العين إذا عجل. ومنه وافزه: أي عاجله، والوفَز: العجلة. (المعجم) .
(2) في الأصل، و (ط) ، و (ت 1) : الخضوع قبل المقصود.(2/252)
السجود على هيئة الانحناء ماراً، فليس يحصل في هويه صورة الركوع.
وقد ظن أبو حنيفة (1) أنها تحصل، فزعم أن القائم إذا هوى ساجداً، فقد حصل الركوع في ممره وهويه، وكفى ذلك، والطمأنينة ليست شرطاً. والأمر على خلاف ما قدر.
987- وأنا أقول: وإن ذكرت أن الركوع الزائد على وفاز يُفسد، فلا بد من فرض إفراده بصورته، فالقاعد إذا قام قصداً إلى هيئة الراكعين، ولم يطمئن ورجع، فهذا يفسد الصلاة عمدُه، لأنه وإن لم يسكن، فقد صور الركوع لما انتهى إليه، ثم انصرف عنه، فيمثل الركوع، والذي يهوي من قيام، لم يمثل الركوع بوقفةٍ ولا انصراف.
988- وإذا ثبتت هذه المقدمات، فنحن نتكلم فيما ذكره شيخي وغيرُه من الانتهاء إلى حد الراكعين، فَلْيعلم الطالب أن إدراك هذا ليس باليسير الهين، وأنا بعون الله أذكر فيه ضابطاً حسناً، فأقول:
القائم إذا كان يبغي الركوع الكامل والحد الفاصل، فقد وصَفْته في فصل الركوع، وإنما يتبين سره الآن، وقد مضى أن الأوْلى في هيئة الراكع أن يستوي ظهره ورقبته، ولا يخفض شيئاًً عن شيء ولا يرفع، وهذا عندي على نصف حد القيام، وكأنه الوسط بين الانتصاب التام وبين السجود، فلنعتقد ذلك، ولنتخذه معتبرنا.
فأقول: قد مضى أن أقل الركوع أن ينحني المصلي حتى يصير بحيث لو مد يديه، نالت راحتاه ركبتيه، مع اعتدال الخلقة.
وأنا أقول الآن: بين القيام التام وبين الانتهاء إلى الوسط الذي هو رتبة الكمال مسافة، فأقل الركوع هو أن يصير أقرب إلى الوسط [في انحنائه منه إلى انتصابه، فهذا حدُّ أقلّ الركوع قطعاً. ثم كما تنقسم المسافة من هيئة الانتصاب إلى الوسط] (2) في جهة الهوي، فكذلك إذا فرض انتهاض القاعد إلى حد الركوع، فبين قعوده
__________
(1) ر. حاشية ابن عابدين: 1/334. وبدائع الصنائع: 1/162.
(2) زيادة من: (ت 1) ، (ت 2) .(2/253)
والوسط الذي جعلناه معتبرنا في هذا الفصل مسافة، فإن نهض منحنياً، وكان أقرب إلى حد الوسط، فهذا من هذه الجهة انتهاء إلى حد الراكعين، وهو أنقص من الكمال، ولكنه في حد الركوع [فإذا انتهى إلى حد الركوع] (1) من قعوده، ثم رجع، سجد، فإن انتهض، ولم يصر أقرب من حد الوسط، فليس منتهياً إلى حد الركوع، فيرجع ولا يسجد.
فهذا كشف الغطاء في ذلك كلِّه، وأين يقع هذا الفصل من غوامض الفقهِ؟ فلينظر الطالب في أسراره وليُكْبر الفقهَ في نفسه.
989- ثم أقول وراء ذلك: من راعى من أصحابنا الانتهاض إلى حد الراكعين، فلو فرض عليه الانتصاب من غير هيئة الانحناء إلى القرب من القيام، فإنه يثبت السجود هاهنا، ولا شك أنه لو فرض على من يراعي الانتهاء إلى قرب القيام أن ينتهي إلى حد الراكعين وصورتهم، ثم يرجع، فإنه يقول: إنه يسجد، فإنه أتى بصورة الركوع وانصرف، فكان هذا ركوعاً زائداً أتى به ساهياًً، فاقتضى سجوداً لا محالة.
فهذا نجاز الفصل بما فيه.
فصل
990- قد ذكرنا أن من ترك التشهد الأول ساهياً وانتصب قائماً، فليس له أن يقطع القيام بعدما لابسه؛ فإنه لو فعله، كان قاطعاً فرضاً لاستدراك مسنون، ولو عاد، نُظر: فإن كان معتقداً امتناع الرجوع والقطع، فخالف عقدَه ورجع، بطلت صلاته.
وإن كان يعتقد مذهب أحمد بن حنبل في فرضية (2) التشهد الأول، فرجع، لم تبطل صلاته.
__________
(1) زيادة من: (ت 1) ، (ت 2) .
(2) إمام الحرمين يقصد بالفرضية هنا الوجوب، كما هو اصطلاح الشافعية (لا يفرقون بين الفرض والواجب) وسيأتي بعد قليل ما يؤكد هذا حيث وصف إمامنا التشهد الأول بالوجوب عند أحمد، والقول بوجوبه هو مذهب أحمد كما أشرنا في تعليق سابق. وقد سبق في كلام إمام الحرمين أنه ركن عند أحمد.(2/254)
ولو التبس عليه مع انتحاله مذهب الشافعي أن الرجوع ممنوع، فرجع على ظن جواز الرجوع، لم تبطل صلاته، وأُمر بسجود السهو على ما ذكرناه.
991- ولو كان مقتدياً بإمامٍ، فهمّ إمامُه بالقيام ونهض إليه، فبادره المأموم بحق القدوة، واتفق سبقُه إلى حد القيام، ثم علم الإمام أنه غالط، وما كان انتهى إلى حد القائمين، فرجع إلى التشهد، والمأموم قد انتهى إلى حد القيام التام، فهل يرجع إلى القعود للاقتداء بإمامه؟
اختلف أئمتنا في هذه المسألة، فذهب بعضهم إلى أنه يرجع، وفاء بالقدوة التي نواها والتزمها، فان ذلك واجب، وإذا فعل ذلك، لم يكن قاطعاً واجباً لمكان سُنَّة، وإنما يقطع قياماً غلط في ملابسته، بسبب تحقيق موافقته لإمامه.
والثاني - أنه لا يقطع القيام، بل يصابره إلى أن يلحقه إمامه فيه، وهذا لا يبين إلا بأن يعلم أن المقتدي لو تقدم على إمامه بركنٍ واحد قصداً، لم تبطل صلاتُه، ولم تنقطع قدوته، وكان ذلك بمثابة ما لو تخلف عن إمامه بركن. وسنذكر ذلك في أحكام الجماعة، ونذكر خلافاً فيه.
992- فليقع التفريع على ظاهر المذهب.
فيخرج عن ذلك أن الخلاف الذي ذكرناه في جواز الرجوع إلى متابعة الإمام، فمن أئمتنا من منعه، وقال: لو رجع مع العلم بامتناع الرجوع، بطلت صلاته.
ومنهم من قال: يجوز له الرجوع.
ولم يوجب أحد الرجوع؛ فإنه لو قام قصداً، وترك متابعة إمامه في التشهد، لم نقض ببطلان صلاته، وكان في حكم من تقدم على إمامه بركن، فانتظره فيه حتى لحقه.
وهذا يتضح بصورة أخرى، وهي أنه لو قام قصداً إلى القيام من غير فرض زلل، وتقدير غلطٍ منه، فالوجه القطع بأنه لا يجوز له قطع القيام في هذه الصورة. وسنذكر نظيراً لذلك على الاتصال، فنقول: إذا رفع المأموم رأسه عن الركوع قبل ارتفاع الإمام قصداً، وانتصب قائماً، فلو أراد أن يرجع، لم يكن [له] (1) قطعاً، ولو فعله على علم
__________
(1) زيادة من: (ت 2) .(2/255)
بامتناع ذلك الرجوع، بطلت صلاته؛ فإنه يكون راكعاً ركوعين في ركعة واحدة، وهو مبطل للصلاة.
993- ولو كان موقف الإمام بعيداً، فسمع المأموم صوتاً، وحسب أن الإمام قد انتصب، فارتفع، ثم تبين له أن الإمام بعدُ في الركوع، فهل له أن يرجع ويركع؟ اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: لا يجوز الرجوع، كما لو تعمد رفع الرأس من الركوع؛ لأنه لو رجع، كان آتياً بركوعين، وذلك غير سائغ، كما تقدم ذكره في العامد، ومنهم من قال: يجوز الرجوع؛ فإن قيامه كان من غلط، فإذا رجع، كان كما لو لم يقم واستدام الركوع.
994- ثم إذا قلنا: يجوز الرجوع إلى التشهد، فلو قيل لنا: ما الأولى؟ لم يتجه إلا القطع بأن الأولى ألا يرجع، ويصابر القيام، فلو لم يستفد بذلك إلا الخروج عن الخلاف، لكان ذلك كافياً، فإنه لا يجب عليه الرجوع، وفي العلماء من يصير إلى أنه لا يسوغ الرجوع، فكان إيثار الخروج عن الخلاف أمثل.
995- ولو رفع رأسه عن الركوع غالطاً كما ذكرناه، ثم هم بالرجوع، فكما (1) هم به، ارتفع إمامه من حد الراكعين، فليس له أن يرجع، فإنه إنما كان يرجع لإيثار متابعة الإمام، والآن لا يصادف الإمامَ راكعاً، فلا محمل لعوده إلا تثنية الركوع صورة في ركعة واحدة، وذلك غير سائغ، وتعمده مبطل للصلاة، كما تقدم تقريره.
فإن قيل: هلا قلتم: إنه انتصب قائماً غالطاً، فلا يُعتد بانتصابه، فليعد -وإن لم يصادف إمامَه- قطعاً للغلط، ثم يفتتح انتصاباً بعد ذلك؟ قلنا: لا أصل لهذا الكلام؛ فإنه إذا كان يجوز أن يتعمّد فينتصب سابقاً للإمام، فالإصرار على إدامة هيئة القيام، وإن اقترن بالانتصاب غلطٌ (2) هو (3) الوجه، فإن تعديد الركوع من
__________
(1) "فكما" بمعنى (عندما) ، فتنبه لذلك؛ لأننا لا ننبه إليها دائماً، بل مرة بعد مرة.
(2) غلطٌ: فاعل "اقترن".
(3) "هو الوجه" خبرٌ لقوله: "فالإصرار على الانتصاب ... " هذا وعبارة (ت 2) : "وهذا هو
الوجه".(2/256)
المبطلات، وتقدّم الإمام بركن من جملة ما يحتمل.
فقد تقرر ما حاولناه.
ولو كان وقوع مثل ما ذكرناه على وجه الغلط يُثبت الرجوع، لوجب أن يقال: الإمام أو المنفرد إذا قام غالطاً، ولم يتشهد التشهد الأول، فإنه يعود بعد التلبس بالقيام، فإن انتصابه كان على حكم الغلط، فدل على أن التعويل في صورة الخلاف المذكورة في هذا الفرع على المتابعة، والجريان على موجب القدوة، والعود إلى التأسي والاقتداء، وهذا إنما يتحقق إذا كان يصادف الإمام فيما تركه وتقدمه.
فهذا حاصل القول في ذلك.
فصل
996- رعاية الترتيب واجبة في أركان الصلاة، فلو أخلّ المصلي بالترتيب قصداً، بطلت صلاته، وإن ترك الترتيب ساهياً، لم يُقْض ببطلان صلاته، ولكن لا يُعتد بما يأتي به على خلاف الترتيب، ثم قد يقتضي ذلك إحباطَ بعض ما يأتي به في الأوساط، كما سنوضحه بالأمثلة والصور.
997- فنقول: إذا ترك الرجل سجدة في الركعة الأولى، وقام إلى الثانية ناسياً، فما يأتي به من قيام، وقراءة، وركوع في الركعة الثانية، فغير محسوبٍ، ولا مُعتد به؛ فإن الركعة الثانية مرتبة على الركعة الأولى، فما لم يؤدِّ جميعَ أركان الركعة الأولى، لا يحتسب بما يأتي به في الركعة الثانية.
وكذلك لو أتم الركعة الأولى، وأخل بركن في الثانية، وقام إلى الثالثة، فلا يعتد بشيء من أعمال الثالثة حتى يتدارك ما أخل به في الثانية.
فيخرج من ذلك أن الترتيب مستحق، وتَرْكُه عمداً قاطع للصلاة، مبطل لها، وتركه ناسياً لا يبطلها، ولكن يتضمن ألا يُعتدَّ بما يأتي به على خلاف الترتيب.(2/257)
998- ونقل بعض الناس من مذهب أبي حنيفة (1) أن الترتيب ليس بمستحق، وهذا غير صحيح من مذهبه، ولكنه يقول: لو ترك أربع سجدات من أربع ركعات، فأعمال الركعات محسوبة، وعلى من ترك السجدات الأربع أن يأتي بأربع سجدات وِلاء في آخر الصلاة، فإذا فعل ذلك، انجبر النقصان، وانقطعت السجدات على مواقعها. وحقيقة مذهبه أن يقول: إذا أتى في كل ركعة بسجدة واحدة، فقد تقيدت كل ركعة بسجدة، والركعة المتقيدة بسجدة في حكم ركعة تامة عنده، ولو أخَّر أربع سجدات قصداً من الركعات، فإنه يأتي بها وِلاء عنده في آخر الصلاة، وتصح الصلاة.
ولو أخلى الركعات عن السجدات كلها، فإن كان ذلك عمداً، بطلت صلاته، وإن كان سهواً، لم يعتد بشيء من أعمال تلك الركعات، ومذهبه كمذهبنا في هذه الصورة.
وكذلك لو أخلى كل ركعة عن ركوعها، أو قراءتها، فهذا عمدُه مبطل، وسهوه مقتضٍ ألا يحتسب بما يأتي به على خلاف الترتيب، كل هذا مما وافقنا فيه.
فخرج عن مجموع ما ذكرناه أن الترتيب مستحق بالاتفاق، فليقع التعويل في الدليل على اشتراط الترتيب بالإجماع.
وما ذكره أبو حنيفة في إخلاء كل ركعة عن سجدة واحدة، لم يذكره، لأنه لا يراعي الترتيب، ولكنه اعتقد أن الركعة إذا تقيدت بسجدة، كانت في حكم الركعة التامة، وهذا زلل بيّن؛ فإن الركعة لو تمت، لما وجب تدارك السجدة المتروكة، وأنزلت الركعة المقيّدة بسجدة منزلةَ الركعة التي تدارَك المسبوقُ فيها إمامَه في الركوع؛ فإنها محسوبة، وإن لم يجر فيها القيام على ما يجب عند التمكن.
فقد تمهد إذن ادعاء الإجماع في اشتراط الترتيب، وحُمل مذهب أبي حنيفة في ترك أربع سجدات من أربع ركعات على أمر تخيله في تمام كل ركعة واستقلالها بالسجدات المفردات.
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 30، بدائع الصنائع: 1/167، 168، تحفة الفقهاء: 1/392، مختصر اختلاف العلماء: 1/281 مسألة: 236، حاشية ابن عابدين: 1/ 309، 310.(2/258)
999- فإذا تمهد ذلك، فنحن نذكر صوراً في ترك سجدات من ركعات على حكم السهو، ونذكر مقتضى المذهب فيها إذا تَفصَّل (1) للمصلي بعد السهو كيفية الأمر، ثم نذكر ترك سجدات مع التباس الأمر في الكيفية.
فلو ترك سجدةً من الركعة الأولى، وجرى في صلاته على حكم السهو، ثم تذكر كيفية الحال في آخر الصلاة، فنقول: يحصل له من الركعتين الأوليين في الصلاة الرباعية ركعةٌ واحدةٌ؛ فإنه لما قام إلى الركعة الثانية وعليه سجدة من الأولى، فالقيام والقراءة والركوع والاعتدال عنه غير محسوب في الركعة الثانية، لما تقدم تقريره من ترك الترتيب، فلما انتهى إلى السجدتين، احتسبنا له منهما بسجدة واحدة، وتممنا الركعة الأولى، والسجدة الثانية غير معتد بها، وكأنه صلى ركعة واحدة، وأتى لها بثلاث سجدات ساهياً، فيُعتدّ بسجدتين. وتلغى الثالثة.
1000- ولو ترك سجدة من الركعة الأولى، ثم قام إلى الركعة الثانية ساهياً، ونسي السجدتين جميعاً في الركعة الثانية، ثم أتى في الركعة الثالثة بسجدتين فيحسب له من الركعات الثلاث ركعةٌ واحدة؛ فإن عمله في الركعة الثانية كلا عمل، وما أتى به في الركعة الثالثة قبل السجدتين، فغير محسوب ولا معتد به، فلما انتهى إلى السجدتين، احتسبنا إحداهما، وكملنا به الركعة الأولى، وأحبطنا الثانية، فتحصل له من المجموع ركعةٌ واحدة تامة.
1001- ولو تبين للذي يصلي أربع ركعات في آخر صلاته أنه ترك من كل ركعة سجدة، فنقول: حصل له ركعة واحدة من الأولى والثانية، وحصلت له ركعة ثانية من الثالثة والرابعة، فيقوم ويضم إليها ركعتين كاملتين ويسجد للسهو، لمكان الزيادة التي يعتد بها.
1002- ولو ترك سجدة من الأولى، وسجدتين من الثانية، وأتى بسجدتين في الثالثة، وأتى بسجدة واحدة في الرابعة وأخذ يتشهد على أنه أتى بالركعات الأربع على
__________
(1) المعنى أننا نذكر مقتضى المذهب في حالة تفصل الأمر، أي اتضح عند المصلي الساهي، وكذلك في حالة التباس الأمر عليه.(2/259)
كمالها، ثم تذكر حقيقةَ الحال، تبين أنه حصل له من ثلاث ركعات ركعة واحدة، والرابعة ناقصة بسجدة، وإذا تذكر ذلك، فعليه أن يكمل الركعة الأخيرة بسجدة، فإذا فعل، فقد حصلت له الآن ركعتان، فيقوم ويصلي ركعتين تامتين، ثم يتشهد ويسجد سجدتي السهو.
1003- ومن القواعد الواضحة في مذهب الشافعي في ذلك، أنه لو ترك المصلي سجدات من ركعات، وأشكل عليه مواضعها، وكيفيةُ الأمر في تركها، واستمر الإشكال، فحق عليه أن يأخذ بأسوأ الأحوال، وما يقتضي مزيدَ العمل على أقصى التقدير في التدارك؛ فإن مذهب الشافعي وجوبُ بناء الأمر عند وقوع الإشكال على الأقل المستيقن، وتدارك المشكوك فيه.
1004- وبيان ذلك بالتصوير، أنه لو علم في آخر الصلاة الرباعية أنه نسي أربع سجدات، ولا يدري كيف جرى تركها، فنقول: لو كان تمم الركعتين الأوليين وترك أربع سجدات من الثالثة والرابعة، وأخلاهما عن السجود وتشهد، وتذكر، لكُنا نقول: اسجد سجدتين وقد تمت لك ثلاث ركعات، فقم إلى الركعة الرابعة، فهذا حكم هذه الحالة لو كانت.
ولو كان ترك من كل ركعة سجدة، وبان له ذلك بالأخرة، لكُنا نقول: أنت على ركعتين، فقم إلى ركعتين كاملتين: هما ثالثتك ورابعتك.
ولو كان ترك سجدة من الأولى، وسجدتين من الثانية، وسجدة من الرابعة، لكُنا نقول: إذا بان ذلك، أنت الآن على ركعتين إلا سجدة، فاسجد سجدة وقد حصلت ركعتان، وقم إلى تمام ركعتين.
فهذا بيان وجوه الكلام في ترك أربع سجدات [من أربع ركعات، لو تبينت الكيفية، وتفصل الأمر.
فإذا علم أنه ترك أربع سجدات] (1) ، ولم يدر كيف تركها، وكيف انقسم تركها على الركعات، فوجه الأخذ بالأسوأ والبناء على الأقل المستيقن، أن نأخذ بترك
__________
(1) زيادة من: (ت 1) ، (ت 2) .(2/260)
سجدة من الأولى، وسجدتين من الثانية، وسجدة من الرابعة، فيسجد سجدة، وقد تمت ركعتان على قطع، ويقوم إلى ركعتين تامتين، ثم يتشهد بعدهما، ويسجد للسهو، ويسلم.
1005- وكان شيخي أبو محمد يذكر حيث انتهينا إليه أنه إذا ترك أربع سجدات وأشكل عليه كيفية الأمر، فيسجد سجدتين، ويقوم ويصلّي ركعتين تامتين، وكان يعلل ذلك ويقول: يحتمل أنه ترك السجدتين من الثالثة، والسجدتين من الرابعة، وتمَّمَ الركعة الأولى والثانية. ولو كان الأمر كذلك، لكان الحكم أن يسجد سجدتين، وقد تمت له ثلاث ركعات، ويقوم إلى الرابعة، فإذا أشكل الأمر، فلا يأمن أن يكون الأمر كذلك، فتنحتم سجدتان في الحال، ولو قام، ولم يأت بهما والحالة هذه، بطلت صلاته، فنأمره أن يأتي بسجدتين، ولا يحتسب له إلاّ ركعتان مما أتى به، فيقوم ويصلي ركعتين، فيكون قد أتى بكل ما يقدر وجوبه.
وهذا الذي ذكره غير سديد عندي؛ فإن السجدة الثانية لا تقع موقع الاعتداد في حسابٍ أصلاً، وإنما يقدر الاعتداد بسجدةٍ واحدة، وحيث قدر رحمه الله ترك السجدات الأربع من الثالثة والرابعة، فلو سجد سجدتين، حصل له ثلاث ركعات، وإذا كان الإشكال مستمراً، لا يحصل إلاّ ركعتان، والركعتان تحصلان بسجدة واحدة يأتي بها، ثم يقوم إلى ركعتين أخريين تامتين، والسجدة الثانية إنما أوجبها الشيخ أخذاً من تقدير ترك الأربع من الثالثة والرابعة، وفي هذا التقدير لو سجد سجدتين، لحصلت ثلاث ركعات، فلا وجه لما قاله، إلا أنه قد يجب سجدتان في هذا المقام، ولا يجوز تأخيرهما، فَلْيأتِ بهما، وإن كان لا يستفيد بالثانية شيئاًً معتداً به، وهذا مدخول؛ فإن ما لا يُعتد به قطعاً لا معنى للإتيان به، ولئن كان في الاقتصار على سجدة متعرضاً لإمكان تأخير سجدة في حساب، فليحتمَل ذلك في حال الإشكال إذا كان الإتيان بالكمال يحصل.
والذي يكشف الغطاء في ذلك أنه إن وجب سجدتان لا يعتد بإحداهما لتقدير أنهما قد يقدر وجوبُهما الآن مع تقدير تحريم تأخيرهما، فهذا يعارضه أن السجدة الثانية قد تكون زائدة والإتيان بسجدة في غير أوانها مبطلٌ للصلاة، وهذا يعارض ما ذكره،(2/261)
وإذا تعارضا، تعين صرفُ الأمر عند الإشكال إلى ما يقدّر أن يقع معتداً به.
وإنما زدت الكلام في ذلك؛ لأن شيخي كان يتولع بما حكيته، ويكرره في دروسه، وهو عندي زلل غير معدود من المذهب أصلاً.
وكل ما ذكرناه فيه إذا استمر الإشكال إلى آخر الصلاة على ما يقدره صاحب الواقعة آخر صلاته، ثم تبين الأمر، أو دام الإشكال في الكيفية.
1006- فأمّا إذا نسي سجدة من الركعة الأولى، وقام إلى الثانية، ثم تذكر في الثانية ما جرى، نُظر، فإن تذكر وهو في أثناء القيام، فلا شك أنه يقطع القيام، ويعود فيستدرك السجدة المنسية. ثم نفصل القول. فنقول: إن سجد في الأولى سجدةً، فلا يخلو إما أن ينتصب عَقِيبَها (1) قائماً من غير جلوس، وإما أن يجلس، ثم يقوم إلى الركعة الثانية، فإن لم يجلس، وانتصب قائماً، ثم تذكر وأمرناه بالعود، فيعود ويجلس، ثم يسجد عن جلوسٍ، أم يكفيه أن يسجد عن قيام من غير جلوس؟ ذكر أئمتنا في ذلك وجهين في الطرق كلها: أحدهما - أنه يجلس ثم يسجد، فإن المسألة مفروضة فيه إذا لم يكن جلس على إثر السجدة الأولى، والجلوس بين السجدتين ركن كالسجدة نفسها، وهذا ظاهر المذهب.
والوجه الثاني - أنه لا يلزمه الجلوس؛ فإن الغرض من الجلوس الفصلُ بين السجدتين [بانتصابٍ تام، والقيام الذي جرى أفاد ذلك الفصلَ، فليقع الاكتفاء به، وكل هذا في التحقيق يؤول إلى أن الجلسة بين السجدتين ركنٌ مقصود أم الغرض منها الفصل بين السجدتين] (2) ؟ وسيأتي بعد ذلك من التفريع ما يشهد لهذا الاختلاف.
__________
(1) "عقيب" بوزن كريم اسم فاعل من قولهم: (عاقَبَه معاقبة، وعقبه تعقيباً) ، فهو (معاقب) و (معقب) و (عقيب) : إذا جاء بعده، وقال الأزهري: والليل والنهار يتعاقبان، كل واحد منهما عَقِيبُ صاحبه، والسلام يعقب التشهد أي يتلوه، فهو (عقيب) له ... فقول الفقهاء: يفعل ذلك (عَقيبَ) الصلاة، لا وجه له إلا على تقدير محذوف، والمعنى في وقت (عقيب) وقت الصلاة: أي معاقب لها، فيكون (عقيب) صفةَ وقتٍ، ثم حذف من الكلام حتى صَار (عقيب) الصلاة، انتهى بتصرفٍ يسير جداً من (المصباح) فعلى هذا يكون قوله: "ينتصب عقيبها قائماً" معناه ينتصب في الوقت المعاقب لها.
(2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، (ط) .(2/262)
ثم من يكتفي بالقيام فاصلاً، فلا شك أنه يمنع الإتيان بذلك عن الجلوس في حال الذكر، وإنما يقيم القيام مقام الجلسة إذا جرى وفاقاً مع النسيان، والسبب فيه أن القيام ركنٌ مقصود في نفسه، فالإتيان به إقدامٌ على زيادة ركن على نظم الصلاة وترتيبها، فيكون كزيادة ركوع أو سجود.
ولو قيل: الجلوس أيضاً يقع في أوانه ركناً، ويقع به الفصل بين السجدتين؟ فالجواب أن القيام يخالف مورد الشرع، ففي الإتيان به إتيان بصورة ركن على خلاف الشرع، والمتَّبع الشرعُ في العبادات، هذا أصل الشافعي في قاعدة العبادات.
فهذا إذا لم يكن جلس عَقِيب السجدة الأولى من الركعة الأولى، فأما إذا كان جلس، ثم قام قبل أن يسجد السجدة الثانية، نُظر: فإن جلس على قصد الفصل بين السجدتين، ثم طرأت غفلة أذهلته عن السجدة الثانية، فقام، فإذا تذكر، وقطع القيام، فلا يجلس، بل يهوي ساجداً؛ فإن الجلوس قد أتى به على وجهه، ثم قام.
وإن جلس على قصد جلسة الاستراحة وقام، فقد أتى بصورة الجلوس، فإن كنا نقيم القيام مقام الجلوس بين السجدتين، فلا كلام، وإن لم نُقمْه مقام الجلوس، ففي الجلوس الذي أتى به على قصد الاستراحة وجهان: أحدهما - أنه كافٍ ولا حاجة إلى الجلوس عند العود.
والثاني - أنه لابد من الجلوس؛ فإن الجلوَس الذي أتى به قبل السهو نوى به إقامة السنة، والفرض لا يتأدى بقصد السنة، وهذان الوجهان كالوجهين فيما إذا أغفل المتوضىء لمعةً من وجهه في الغسلة الأولى، ثم تداركها في الغسلة الثانية، وقصد بالغسلة الثانية إقامةَ السنة، ففي سقوط الفرض عن اللمعة التي أغفلها وجهان، تقدم ذكرهما في الطهارة.
ولو ترك سجدة من الركعة الأولى، وقام إلى الركعة الثانية، ثم تذكر بعدما انتهى إلى الركوع، فإنه يقطع الركوع ويهوي منه إلى السجود، كما تقدم، ثم التفصيل في القعود كما تقدم.(2/263)
فصل
1007- يجمع مجامع الكلام فيما يقتضي سجود السهو، فنذكر ما رسمه أئمة المذهب في التقسيم، ثم نذكر حقيقةً تُطلع الناظرَ على سرّ الفصل إن شاء الله تعالى.
قال الأئمة: سجود السهو يتعلق بترك مأمور به، وارتكاب منهي عنه: فأما المأمور به الذي يتعلق به سجود السهو، فلا شك أن من ترك ركناً من صلاته، لم ينجبر ما تركه بسجود السهو، ولا بد من تدارك ما تركه؛ فإذاً لا يتعلق السجود إلا بترك بعض السنن، ولا خلاف أنه لا يتعلق بترك جميعها، وإنما يتعلق ببعضها.
فالسنن التي يتعلق السجود بتركها: الجلوسُ للتشهد الأول، والقنوت في صلاة الصبح، وإن عُدَّ الوقوف للقنوت، ثم ذُكر القنوت لم يبعد، والصلاة على الرسول في التشهد الأول مختلف فيه، كما مضى في باب صفة الصلاة، فإن لم نرها، فلا كلام، وإن أمرنا بها، فهي من الأبعاض التي يتعلق السجود بها، والصلاة على الآل مختلف فيها أيضاً، ثم إن اعتبرناها، وأمرنا بها، يتعلق بتركها سجود السهو.
ثم سمى الأئمة هذه المأمورات أبعاضاً، ولست أرى في هذه التسمية توقيفاً شرعياً، ولعل معناها أن الفقهاء قالوا: يتعلق السجود ببعض السنن، ثم قالوا: هذه السنن هي الأبعاض التي يتعلق بها السجود، والأبعاض تنطلق على الأقل، وما يتعلق به سجود السهو أقل مما لا يتعلق به السجود من السنن.
ثم من أثبت التشهد الأول سنة، ولم يقض بكونه فرضاً، مجمعون على تعلق سجود السهو به، وكذلك من رأى القنوت مأموراً به، رآه من الأبعاض التي يتعلق بتركها السجود.
وأبو حنيفة (1) لمّا أثبت القنوت في الوتر، علق بتركه السجود، كذلك من رأى القنوت في صلاة الصبح، وفي ذلك آثار عن جهة (2) الصحابة.
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 30، بد ائع الصنائع: 1/167، حاشية ابن عابدين: 1/315.
(2) في (ل) : "جلّة".(2/264)
ويستمر (1) على مذهبنا في غير القنوت شيء، وهو أن كل سنة ذهب إلى وجوبها طائفة من الأئمة، فهو (2) من الأبعاض، وأحمد بن حنبل أوجب الجلوس الأول، والتشهدَ والصلاة (3) ، فجرى ما ذكرناه. والقنوتُ في صلاة الصبح لم يبلغني فيه خلاف في الوجوب، فلعل المتبع فيه الآثار.
ثم من ترك بعضاً من هذه الأبعاض سهواً، سجد، ومن تركها عمداً، فهل يسجد؟ فعلى وجهين: أحدهما - يسجد؛ لتحقق الترك، وهذا القائل يرى العمدَ أولى بالجبران، وأبعد بالعذر (4) .
والوجه الثاني - أنه لا يسجد، وهو مذهب أبي حنيفة (5) ، ووجهه أن الساهي معذور، فأثبت له الشرع مستدركاً. ومن تعمّد الترك، فقد التزم النقصان، فلم يثبت له الشرع سبيلَ الجبران.
فهذا تفصيل القول في المأمور به الذي يتعلق بتركه السجود.
1008- فأما المنهي عنه، فقد قال الأئمة: كل منهي عنه لو تعمده المصلي، بطلت صلاته، ولو وقع منه سهواً، لم تبطل صلاته، فنأمره إذا سها، وأتى به، بالسجود.
__________
(1) كذا في جميع النسخ: "ويستمر" وأكاد أقطع أن الصواب هو: "يستد" بمعنى يستقيم؛ فهي الأوفق للمعنى، والأنسب للسياق، ثم هي جارية في لسان إمام الحرمين كثيراً، ثم تصحيفها إلى يستمر من أقرب التصحيفات. والله أعلم. ثم جاءت (ل) بنفس الخطأ: "يستمر".
(2) كذا بضمير المذكر في جميع النسخ.
(3) وجوب التشهد الأول، والجلوس له من مفردات مذهب الإمام أحمد، أما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فواجب، أو ركن في رواية أخرى، في التشهد الأخير. أما في التشهد الأول، فما رأيناه في كتب الحنابلة أن الصلاة لا تُشرع ولا تُستحب فيه، هذا هو المذهب، واختار بعض أئمة الحنابلة مشروعيتها ولكن دون القول بوجوبها.
(ر. المنح الشافيات: 1/201، الإنصاف: 2/76، 115، 116، المغني: 1/ 606، 610، كشاف القناع: 1/388، 390، شرح منتهى الإرادات: 1/ 206، 257، الفروع، 1/441، 466، المبدع: 1/497، 465، الفتح الرباني بمفردات الإمام أحمد: 1/142، 144) .
(4) (ت 1) ، و (ت 2) : أبعد من العذر.
(5) ر. حاشية ابن عابدين: 1/306، 497.(2/265)
وطمع المحققون في طرد هذا الحد وعكسه، في قبيل المنهيات، وقالوا: ما كان عمدُه مبطلاً وفاقاً، فسهوه مقتضٍ للسجود وِفاقاً، وما لا فلا، وما اختُلف في أن عمدَه هل يبطل الصلاة؟ اختُلف في أن سهوه هل يقتضى السجود؟ وسنوضح الوفاء بهذا في الطرد والعكس.
1009- ومما يخرج على الطرد ترك ترتيب الأركان؛ فإن من قام إلى الركعة الثانية ولم يأتِ بسجدة في الأولى، فإن تعمد ذلك، بطلت صلاته، وإن كان ساهياً، استدركَ الركنَ، كما تقدم تفصيله، وسجد للسهو كما تقدم، وكذلك من زاد ركوعاً أو سجوداً عمداً، بطلت صلاته، ومن سها به سجد، ومن تكلم عامداً، بطلت صلاته، ومن سها به سجد.
ثم من الأصول التي تلتحق بذلك فيما زعموه، أن من طوَّل ركناً قصيراً، أو نقل إليه ركناً، فجمع بين التطويل، ونقْل الركن، [كمن يقرأ] (1) في رفع الرأس من الركوع الفاتحة. قالوا: هذا إذا سها بذلك، يسجد للسهو، وجهاً واحداً، ولو تعمد، بطلت صلاته.
ولو قرأ التشهد في القيام، أو الركوع، أو السجود، أو قرأ الفاتحة في القعود في التشهد، فإن جرى ذلك سهواً، ففي الأمر بسجود السهو وجهان، فإن جرى عمداً، ففي بطلان الصلاة وجهان.
ولو طول القومة عن الركوع بسكوتٍ، أو ذكرٍ ليس بفرض، ففي كونه مبطلاً عند التعمد وجهان، وكذلك في اقتضائه سجودَ السهو عند السهو وجهان، وقال هؤلاء: إن وُجد تطويل الركن القصير، ونقْلُ ركنٍ إليه، فهذا أوان القطع بالبطلان في العمد، والأمر بالجبران في السهو، وإن وجد تطويلٌ بلا نقلٍ؛ كتطويل القيام عن الركوع من غير نقلٍ، أو وجد نقل بلا تطويل ركن قصير، كالذي يقرأ الفاتحة في التشهد، أو التشهد في القيام، ففي المسألة وجهان في البطلان عند التعمد، والجبران بالسجود عند السهو.
__________
(1) في الأصل، (ط) ، (ت 1) : كما تقرر. والتصويب من: (ت 2) .(2/266)
1010- فهذه طريقة مشهورة للأئمة، ثم إنا نستتمها ونخوض بعد نجازها في طريقة أخرى.
قال العلماء: القَوْمةُ عن الركوع قصيرة، لا تطويل فيها، إلا القومة التي شُرع القنوت فيها، وكذلك القَوْمةُ عن الركوع في صلاة التسبيح مطولة بالتسبيح، وقد صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) ، والقيام، والركوع، والسجود، والقعود، والتشهد، كل ذلك طويل. والقعود بين السجدتين مختلف فيه، فالذي ذهب إليه الجمهور، وهو اختيار ابن سريج أنه من الأركان الطويلة، بخلاف القيام عن الركوع، وقال الشيخ أبو علي: هو عندي كالقيام عن الركوع؛ فإن الظاهر أنه مشروع للفصل بين السجدتين، كما أن الاعتدال عن الركوع مشروع للفصل. وهذا الذي ذكره في شرح التلخيص، وهو منقاس حسن، وظاهر قول الأئمة يخالفه.
فهذه طريقة ظاهرة سردناها على وجهها، ومغزاها ربط الجبران في حالة السهو بالبطلان في حالة العمد، وفاقاً، وخلافاً، في النفي والإثبات جميعاًً.
1011- وذكر بعض الأئمة مسلكاً آخر حسناً، وهو حقيقة الفصل عندي، فقال: من قرأ التشهد في قيامه، أو الفاتحة في تشهده عمداً، لم تبطل صلاته وجهاً واحداً، وفي اقتضاء ذلك سجود السهو عند السهو وجهان مشهوران، وقد ذكر بعض أئمتنا: أن من قرأ الفاتحة، أو بعضاً منها في قيامه من الركوع عمداً، لا تبطل صلاته أيضاً.
1012- والآن ازدحمت المسائل واختلاف الطرق، فالوجه ذكر ما قيل، ثم اختتام الفصل بترجمة تضبط الطرق.
فأقول أولاً: المصير إلى بطلان الصلاة على من تعمد، فقرأ التشهد في القيام، أو الفاتحة في التشهد بعيدٌ عن القانون، وسبيل الكلام أن نقول: قد قدمنا أن من قرأ
__________
(1) صلاة التسبيح، ورد فيها أكثر من حديث مختلف في صحتها، ما بين ذكر حديثها في الموضوعات، كصنيع ابن الجوزي، وبين تصنيف جزء في تصحيحها كصنيع أبي موسى المديني، بل اختلف فيها كلام إمام واحد من أئمة الفقه والحديث كصنيع الإمام النووي. (ر. التلخيص: 2/7، ح 482) .(2/267)
الفاتحة مرتين قصداً في القيام، لم تبطل صلاته، وعُدَّ مصير أبي الوليد النيسابوري في ذلك إلى البطلان من هفواته، وعندي أن المصير إلى بطلان الصلاة بسبب قراءة التشهد على وجه التعمد في القيام، أو القراءة في القعود، قريب من مذهب أبي الوليد في الفاتحة؛ فإن قراءة الفاتحة ركنٌ، فإذا [زيدت وأُعيدت] (1) ، لم يجعلها الأئمة كزيادة ركوع أو سجود.
وأما ما حكيته من أن تطويل القيام عن الركوع لا يُبطل الصلاة عند بعض الأصحاب، فالنقل فيه صحيح، ولكن القول فيه يتعلق بترك الموالاة في الصلاة، وهذا أوان بيانه، فأقول:
1013- ظاهر المذهب أن تطويل الاعتدال عن الركوع غيرُ سائغ؛ فإنه لو ساغ، لم يكن لمصير الأصحاب إلى أن الموالاة شرط في الصلاة معنى؛ فإن الأركان الطويلة إذا كانت تقبل التطويل من غير رعاية [ضبطٍ في ذلك وحدّ، فلا يستقر في رعاية] (2) الموالاة كلامٌ، إلا في الاعتدال عن الركوع، وكان السرّ فيه أنه غير مقصود في نفسه، وأن الغرض منه -وإن كان فرضاً- الفصلُ بين الركوع والسجود، فينبغي ألا يطول الفصل فيما لا يقصد به إلا الفصل، فإن تطويلَه تركٌ لوِلاء الأركان في الصلاة. فمن قال: تطويلة لا يبطل الصلاة أصلاً، فلا يبقى عنده للوِلاء في الصلاة معنى.
والجلسة بين السجدتين عدها الأكثرون من الأركان المقصودة، فهي مطولة إذن، وقال الشيخ أبو علي: هي كالاعتدال من الركوع.
1014- وقد قدمنا خلافاً في تطويل الاعتدال عن الركوع من غير نقل ركنٍ إليه، ونحن الآن نزيد طريقة أخرى، صح عندنا النقل فيها، فحاصل القول أن في تطويل قَوْمة الاعتدال عن الركوع أوجه: قال قائلون: عمد التطويل مبطل إلا في محل القنوت، وصلاة التسبيح؛ فإنه تَرْكٌ للوِلاء، والموالاة لا بد منها في الصلاة، والتطويل المجرّد عند هذا القائل من المبطلات.
__________
(1) في الأصل، (ط) ، (ت 1) : ارتدّت، واعتدت.
(2) زيادة من: (ت 1) ، (ت 2) .(2/268)
وقال آخرون: التعمد بالتطويل المجرد لا يبطل، حتى ينضمَّ إليه نقلُ ركن إليه، وهذ لست أعرف له وجهاً سديداً منقحاً كما أحب.
وقال القفال فيما نقل بعضهم عنه: إن قنت في غير موضعه عامداً في اعتداله، بطلت صلاته، فإن طوّل بذكرٍ آخر، ولم يقصد به القنوت، لم تبطل صلاتُه، فصار ذلك طريقة أخرى.
وقال طوائف من محققينا: لا تبطل صلاتُه بتطويل الاعتدال على أي وجهٍ فُرض، وهذا وإن أمكن توجيهه، ففيه رفْع معنى الموالاة في أركان الصلاة، كما تقدم.
فهذه طرق مختلفة.
1015- ومن تمام القول في الموالاة أن بعض أصحاب القفال حكى عنه أن من طول السكوت وهو منفرد أو إمام في ركن طويل، بطلت صلاته إذا تعمد، وهذا يختص به إن صح النقل فيه، وهو غريب، فإن أمكن توجيهه؛ فإنه خروج عن هيئة المصلين، فكان كالأفعال الكثيرة المتوالية، ويمكن أن يقال أيضاً، هو في حكم ترك الموالاة؛ فإن الصلاة مبناها على تواصل القراءة، والأذكار والدعوات، فَلْيَتَأمل الناظر اختلاف الطرق.
1016- وأنا أقول: من ربط الأمر بالسجود بتقدير البطلان عند العمد، فقد طرد قياساً، وإن كان فيه من البعد ما وصفته، من أن المصير إلى بطلان الصلاة بقراءة التشهد في القيام فيه بعض [البعد] (1) ، ومن قال: لا تبطل الصلاة بذلك وجهاً واحداً، وفي سجود السهو وجهان، فقد يقول: لا تبطل الصلاة بالقراءة في الاعتدال من الركوع، فكأن هذا القائل نحا في السجود نحواً آخر، وهو السرّ الموعود.
فقال: التشهد الأول وإن لم يكن ركناً، ولم يكن تعمد تركه مبطلاً للصلاة، ففي تركه سجود السهو، فلا يبعد أن يكون في المنهتات ما ينزل تركه منزلة الإتيان بالتشهد في المأمورات.
__________
(1) في الأصل، (ت 1) ، (ط) : "النقد" وفي (ت 2) : "التعبد" والمثبت تقديرٌ منا والحمد لله صدقته (ل) .(2/269)
وحاصل القول يرجع عند هذا القائل إلى أمرِ بديع، وهو أن المصلي مأمور بالتصوّن والتحفظ، وإحضار الفكر والذهن، حتى لا يتكلم ولا يفعل فعلاً كثيراً، والأمر في ذلك مؤكد عليه حسب تأكد الأمر بالتشهد، وإن سها وتكلم، فالساهي على الجملة معذور غير مكلف في حالة اطّراده بسهوه، ولكنه يؤمر بالسجود، لتركه التحفظ عن الغفلات بإدامة الذكر، فكأنَّ كلَّ سجوب منوطٌ بترك أمر مؤكد غير محتوم، فالأمر بالتشهد وما في معناه من الأبعاض، والأمر بالتحفظ إذا ظهر تركه والهجوم على منهي عنه من هذا القبيل.
فلينعم الناظر نظرَه في ذلك، وليعلم أن المعتمد عند هذا القائل تركُ ما يغير نظمَ الصلاة تغييراً ظاهراً؛ فإنّ ترك التشهد الأول يغير النظمَ الظاهر المألوف في الصلاة، كذلك تركُ التحفظ حتى يؤدي إلى تطويل ركن، أو نقل ركن مما يغير النظمَ الواضح، والشعارَ البيّن فتعلق به على الوفاق والخلاف السجود.
وأما ترك تسبيح الركوع والسجود، وتكبيرات الانتقالات، والجهرِ في الجهري، والإسرارِ في السري، فلا تبلغ هذه الأشياء مبلغ تغيير الشعار الظاهر، والنظم المألوف
وقد خالف أبو حنيفة (1) في بعض ما ذكرناه، فأثبت السجود في الجهر بالقراءة في الصلاة السرية، وفي الإسرار بها في الصلاة الجهرية، وسبب مصيره إلى ذلك تغيير الشعار.
1017- وقال أبو حنيفة (2) : على من ترك التكبيرات الزائدة في صلاة العيد السجود، وكنت أود أن يصير إلى ذلك صائر من أصحابنا، من جهة أن التكبيرات الزائدة في صلاة العيد قريبة الشبه بالقنوت في الصلاة المختصة بالقنوت، ولكن قد ينقدح في ذلك فرق لا بأس به، وهو أن التكبير في يوم العيد من شعار اليوم، ولذلك
__________
(1) ر. بدائع الصنائع: 1/166، تحفة الفقهاء: 1/396، مختصر اختلاف العلماء: 1/275 مسألة: 229. حاشية ابن عابدين: 1/498.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 30، بدائع الصنائع: 1/167، مختصر اختلاف العلماء: 1/275 مسألة: 229، تحفة الفقهاء: 1/395.(2/270)
نستحبه في الطرق والمساجد، وفي أثناء الخطبة، وفي الصلاة، فكأن التكبيرات ليست من خصائص الصلاة بخلاف القنوت. ثم في السجود لترك القنوت آثارٌ عن الصحابة ذكر المزني بعضها.
1018- ثم نقول: إن صار أصحابنا إلى ربط سجود السهو ببعض السنن المؤكدة، فالذي ذكروه لا يبعد، مع مصيرهم إلى أن سجود السهو سنة، فلا يبعد أن يُجبرَ مسنون بمسنون، وأما أبو حنيفة، فقد علق سجود السهو بسنة، ثم أوجب سجود السهو (1) ، وإيجاب الجبران في مقابلة ترك المسنون بعيد عن التحصيل.
وقد انتهى تفصيل المذهب فيما يقتضي سجود السهو على اختلاف الطرق وتباين المسالك، فإن شذ عن الضبط شيء، تداركناه برسم فروع وفصول إن شاء الله تعالى.
فرع (2) :
1019- إذا رفع المصلي رأسه عن السجدة الثانية في الركعة الأولى، فظن أنها الثانية، فقعد ليتشهد، فالذي ذكره الأئمة: أنه إن افتتح التشهد، أو طول هذه الجلسة، سجد للسهو.
قال الصيدلاني: المقتضي للسجود أحد الأمرين: إمّا الأخذ في التشهد، وإما تطويل القعود، ولم أر في ذلك خلافاً، وكأن التشهد في غير موضعه في تغيير هيئة الصلاة ينزل منزلة ترك التشهد المشروع المسنون في أوانه، وجلسةُ الاستراحة لا تطول وفاقاً، وليس فيه من التردد ما حكيناه في الجلسة بين السجدتين.
ثم من قال من أئمتنا: من طوَّل الاعتدال عن الركوع قصداً، أو قنت فيه عمداً، بطلت صلاته، فلا بد وأن يقول: إذا تشهد في جلسة الاستراحة قصداً أو طولها، كان الحكم في بطلان الصلاة عند التعمد، كالحكم في تطويل الاعتدال عن الركوع.
فرع:
1020- نقل الشيخ أبو علي في شرح التلخيص عن ابن سريج أنه قال: من جلس عن قيام في الركعة الأخيرة، فسها، وظن أنه قد سجد، فتشهد، ثم تذكر،
__________
(1) الذي رأيناه عند الحنفية أنهم يعلقون سجود السهو بواجب، ر. بدائع الصنائع: 1/163، 164، تحفة الفقهاء: 1/388، حاشية ابن عابدين: 1/497.
(2) في (ت 1) ، (ت 2) : (فصل) بدل (فرع) .(2/271)
فلا شك أنه لا يعتد بالتشهد، وأنه يسجد ويتشهد مرة أخرى، ثم يسجد للسهو، فإنا نأمر من طوَّل جلسة الاستراحة، أو تشهد فيها بالسجود، وذلك الجلوس مشروع على الجملة، فأما الجلوس عن القيام، فغير مشروع، وإذا تشهد فيه قبل السجود الركن سجد للسهو.
1021- وقال: لو سجد في الركعة الأخيرة سجدة واحدة، واعتدل جالساً، وظن أنه فرغ من السجدتين وتشهد، ثم تذكر، فيسجد السجدة الثانية، ويعيد التشهد، لا محالة؛ رعايةً للترتيب، ولا يسجد للسهو؛ فإن الجلسة بين السجدتين طويلة، وهي محل الذكر، فلم يطوّل ركناً قصيراً، ولم يأت بجلوس في غير موضعه، والتشهد الذي أتى به بمثابة ذكرٍ آخر من الأذكار يأتي به.
فقال أبو علي: يحتمل أن أقول: الجلسة بين السجدتين قصيرة، وهي للفصل كالاعتدال عن الركوع، وهذا قد مضى ذكره، ثم قال: إن سلّمنا أنها طويلة، فقد أتى فيها بالتشهد، وهو على الجملة ركن أتى به في غير أوانه، وقد ذكرنا خلافاً ظاهراً للأصحاب فيمن نقل ركناً إلى ركن طويل، كالذي يتشهد في قيامه، أو يقرأ في قعوده، وهل يسجد للسهو؟ والذي ذكره الشيخ أبو علي حسن بالغٌ جارٍ في قاعدة المذهب.
1022- وأنا الآن أذكر شيئاًً لا بدّ من التنبيه له، فأقول: الركوع لا يعهد في الصلاة إلا ركناً، فلا جرم نقول: من زاد ركوعاً قصداً، بطلت صلاته، وكذلك القيام لا يكون إلا ركناً، فلو زاد قياماً قصداً، بطلت صلاته، فأما الجلوس، ففي الصلاة جلوس مشروع، وهو الجلوس للتشهد، وجلسة الاستراحة بين السجدتين، فلو جلس المصلي لمَّا انتهى إلى السجود من القيام جلسةً خفيفة، وسجد منها، لم تبطل صلاته؛ فإنه ليس آتياً بما لا يعهد إلا ركناً، وهو في نفسه ليس في حد الفعل الكثير أيضاً. ولكن لو طال الجلوس أو ابتدأ التشهد، فقد أتى بما يغير نظمَ الصلاة تغييراً ظاهراً، فنأمره بسجود السهو.
فإن قيل: في الصلاة سجود ليس بركن وهو سجود التلاوة، وسجود السهو؟(2/272)
قلنا: هما يقعان لعارض يعرض، فكأنهما ليسا من الصلاة، والجلسة المستحبة تقع من نفس الصلاة، وهذا بين.
ولو كان قائماً، فجلس، ثم قام عمداً، بطلت صلاته، لا لعين الجلوس، ولكن لأنه قطع القيام ثم عاد إليه، فكان آتياً بقَوْمَتين. فهذا منتهى ما أردناه في ذلك.
فرع:
1023- ذكر الشيخ أبو علي في شرح التلخيص: أن القاعد للتشهد لو قرأ سورةً أخرى سوى الفاتحة، كما لو قرأ الفاتحة. وهذا الذي ذكره متجه حسن، من جهة أن المعتبر تغيير الشعار الظاهر في الصلاة، ولكن ينقدح على مذاهب طوائفَ خلافُ ذلك، من جهة أن هذا ليس نقلَ ركن من محله إلى غيره.
فصل
1024- قد ضبطنا فيما تقدم طرقَ الأصحاب فيما يتعلق به سجود السهو تفصيلاً وتعليلاً، ومضمون هذا الفصل الآن شيئان: أحدهما - لو شك هل سها أم لا كيف يكون حكمه؟
والثاني - أنه لو استيقن السهوَ، وشك في سجود السهو فبماذا يؤمر؟
1025- أما الشك في السهو، فقد قال الأئمة: السهو ينقسم إلى ترك مأمورٍ، وارتكاب منهي، أما المأمورات، وهي الأبعاض، فإن شك هل ترك شيئاًً منها، (1 فالأصل أنه لم يأت به، فيسجد للسهو.
وأما المنهيات، فإن شك في ارتكاب شيء منها 1) ، فقد أجمع أئمتنا أنه لا يسجد، كالذي شك هل سلم أو تكلم في صلاته، فلا يسجد، والأصل أنه لم يأت بذلك المنهي، فالمتبع إذاً في الأصلين بناء الأمر على أنه لم يأت بما شك في الإتيان به.
قال العراقيون: من شك في الإتيان بمنهي، فلا سجود عليه إلا في مسألة واحدة،
__________
(1) ما بين القوسين ساقطة من: (ت 2) .(2/273)
وهي أنه لو شك المصلي في أعداد ركعات الصلاة، فلم يدرِ أثلاثاً صلّى، أم أربعاً؟ وبنى على المستيقن، فإنه يسجد. وسبب السجود أنه شك هل زاد في صلاته، والزيادة منهي عنها، وقد شك هل أتى بها أم لا، ومع ذلك أجمع الأئمة على أنه مأمور بالسجود، ونطق به الخبر.
وذكر الشيخ أبو علي: أن السجود في حق من شك وبنى على المستيقن معلل بأن الركعة التي أتى بها (1 إن كنت زائدة، فقد زاد ساهياً، وإن كانت رابعة، فقد أتى بها 1) وهو على التردد فيها، فوهى بهذا السبب قصدُه في إقامة الفرض، فهذا هو المقتضي للسجود.
ثم يتفرع على ما ذكرناه في ذلك:
فرع:
1026- وهو أنه لو بنى على الأقل، وقام إلى ركعة يجوز أن تكون خامسة، فلما انتهى إلى آخر صلاته، تبين أنها كانت رابعة قطعاً، فالذي قطع به الشيخ أبو علي أنه يسجد للسهو. وهو مستقيم على طريقه؛ فإنه قد أدى الركعة الرابعة وهو متردد في فرضيتها.
وكان شيخي يقول: لا يسجد في هذه الصورة؛ فإنه لو سجد، لكان ذلك السجود على مقابلة خَطْرة محضة تحقق زوالها، وكان يقول: الوجه في الأمر بالسجود في قاعدة المسألة الخبرُ الصحيح، ولا يستقيم ذلك على وجه من المعنى، ثم الحديث ورد فيه إذا دام الشك، ولم يزُل، فالوجه الاقتصار على مورد الخبر.
نعم، لو استيقن أنه زاد ركعةَّ فَي آخر صلاته، فالأمر بالسجود في هذه الصورة مترتب على أصل مجمع عليه مقطوع به؛ فإنه زاد في صلاته أركاناً ناسياً، وهذا مما يقتضي السجود.
فهذا كله فيه إذا شك هل سها أم لا.
1027- فأما إذا استيقن السهو، وشك قبل السلام، فلم يدر أسجد للسهو، أم لا، فَلْيَسْجد؛ فإن سجود السهو مشكوك فيه، والأصل عدمه، فيتعين الإتيان به،
__________
(1) ما بين القوسين ساقطة من: (ت 2) .(2/274)
وكذلك لو شك، فلم يدر أسجد سجدةً أو سجدتين، فيأخذ بأنه سجد سجدة واحدة، ويأتي بسجدة أخرى.
ثم أجمع الأئمة قاطبة في أنه بهذا السبب الذي جرى، وهو بناؤه على الأقل وإتيانه بسجده أخرى لا نأمره بسجدتي السهو ابتداءً، وإن كان قياس البناء على الأقل في ركعات الصلاة يوجب أن يسجد هاهنا؛ فإنه يجوز أن تكون السجدة التي أتى بها أو السجدتان جرتا على حكم الزيادة، وأنه قبلهما سجد سجدتين، وحكى الأئمة الوفاق في ذلك من المذاهب كلها.
وفي هذه المسألة جرت مفاوضة بين الكسائي (1) وأبي يوسف (2) ، فإن الكسائي قال: من تبحر في صنعةٍ يهتدي إلى سائر الصنائع، فقال أبو يوسف: فأنت متبحر في العربية، فما قولك فيمن شك هل سجد للسهو أم لا؟ فأَخَذَ (3) بأنه لم يسجد، فسجد، هل يلزمه السجود لجواز أن السجدة التي أتى بها بعد التردد زائدة؟ فقال الكسائي: لا يسجد، فسأله العلّة، فقال: لأن المصغَّر لا يصغر. فذكر العلة في صيغة مسألة من العربية، وذلك لأن التصغير لو صغر، لصغر تصغير التصغير، ثم هذا يتسلسل إلى غير نهاية.
كذلك الذي سجد للسهو في السجود، فلو أمرناه بالسجود لذلك، فقد يسهو على النحو الأول، فلو سجد السجدتين الأخريين اللتين أمرناه بهما، فيحتاج إلى أن يسجد مرة أخرى، ثم يفرض مثل هذه الوسوسة أبداً. فعُدَّ هذا من محاسن آثار فطنة الكسائي؛ فإنه أصاب أولاً في الجواب، ثم طبق مفصل التعليل، وأتى بمسألة من
__________
(1) الكسائي: علي بن حمزة بن عبد الله الأسدي بالولاء. الكوفي، مؤدب الرشيد، وابنه الأمين، وجليس الخلفاء، إمام اللغة، والنحو، والقراءات. ت 189 هـ (الأعلام للزركلي) .
(2) أبو يوسف: يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري. صاحب الإمام الأعظم أبي حنيفة، وقاضي القضاة، وناصح هارون الرشيد، ومؤلف كتاب الخراج له. (ر. الجواهر المضية في طبقات الحنفية: 2/220، والبداية والنهاية: 10/180) .
(3) كذا في جميع النسخ، وفي (ت 2) : "فأخبر" وهي واضحة المعنى، أما "أخذ" فمعناها: رأى واختار، ثم جاءتنا (ل) فكانت مثل سابقاتها: "فأخذ".(2/275)
العربية وفاء بما كان ادعاه أولاً، من أن التهدّي في صنعةٍ مرشدٌ إلى غيرها.
وتمام الحكاية أنه سأله في المجلس بعد إصابته في المسألة الأولى عن الطلاق قبل النكاح في المسألة المشهورة، فقال: لا يقع ويلغو، فسأله العلة، فقال: لا يسبق السيلُ المطر، فاستعمل مثلاً سائراً، وأشار إلى معتمد من يُبطل تعليق الطلاق قبل النكاح؛ فإنه يقول: الطلاق تصرُّفٌ في النكاح فترتب عليه، فتقديره سابقاً غير مستقيم.
فرع:
1028- إذا اعتقد المصلِّي أنه سها، وما كان عَقْدُه متردداً، فسجد سجدتي السهو، ثم تبين له قبل أن يسلم أنه ما كان ساهياً، فقد قال بعض المحققين: يسجد الآن قبل أن يسلم سجدتين، من جهة أن سجدتي السهو المعتقد أوّلاً عينُ السهو، فقد تحقق قبل أن يتحلل عن صلاته أنه زاد في الصلاة سجدتين، وهذا يقتضي السجود.
وكان شيخي يقول: لا يسجد في هذه الصورة، وهذا فيه فقه، فلا يمتنع أن يقال: سجدتا سهوه سهوٌ من وجه وجبرانٌ من وجه، فهما يجبران أنفسهما، كما يجبران كل سهو يقع، وهذا كإيجابنا شاة في أربعين شاة، فإذا أخرجها المكلّف فهي تطهر النصاب، والنصاب أربعون، فقد طهرت ما بقى، وطهرت نفسها، وهذا يعتضد بما تمهد من أن السجود يتداخل وإن تعدد السهو.
فرع:
1029- إذا سها وسجد سجدتي السهو، فلما رفع رأسه عن السجدة الثانية، تكلم ناسياً؛ فإنه لا يسجد لمكان هذا السهو، وقد اتفق الأئمة عليه، وهو يقرب من صورة التسلسل من جهة أنه يتوقع أن يسهو مرة أخرى لو أمرناه تقديراً بالسجود ثانياً، والتحقيق فيه أن سجود السهو لا يتعدد بتعدد السهو عند العلماء، ولذلك أخرنا سجدتي السهو إلى آخر الصلاة، حتى يتقدم عليه كل ما يفرض من سهو، ولما كان السجود يتعدد بتعدد تلاوة الآيات التي تقتضي سجودَ التلاوة، استعقبَ كلُّ تلاوة سجدتَها.
فإذا تمهد ذلك، فإن سجد للسهو المتقدم، ثم سها قبل السلام، فيقدر كان هذا السهو تقدم على السجود؛ إذ مبنى الباب على أن السجود لا يتعدد بتعدد السهو، ولهذا أخرنا سجود السهو، فإن اتفق وقوع سهو بعد السجود، فذاك في حكم المجبور بالسجود المقدم.(2/276)
1030- وذهب ابن أبي ليلى (1) . إلى أنه يقتضي كلُّ سهوٍ سجدتين، وهو مع ذلك لا يُعقب كلَّ سهو سجدتين، بل يؤخر السجدات، وقد احتج بما رواه عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لكل سهو سجدتان" (2) ، واعتمد الشافعي حديث ذي اليدين، فإنه تعدَّدَ السهو من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه سلم ناسياً، ثم استدبر القبلة، ثم تكلم، ثم سجد سجدتين.
وأما حديث ثوبان، فقد رأى الشافعي فيه محملاً، وذلك أنه أراد عليه السلام أن يبين أن سجود السهو يتعلق بأصناف من السهو بعضها تَرْك، وبعضها فعل، فلا يختص ثبوت السجود بصنف، وهو بمثابة قول القائل: لكل ذنب توبة، أي لا يختص وجوب التوبة بنوع دون نوع.
والذي ذكره الشافعي تأويل محتمل، وحديث ذي اليدين لا يقبل وجهاً من التأويل في الغرض الذي نحن فيه.
1031- ثم قال صاحب التلخيص: لا تتعدد سجدتا السهو إلا في مسائل منها: أن القوم إذا كانوا يصلون الجمعة، فسَهَوْا، وسجدوا، ثم بان لهم أن الوقت خارج، فإنهم يتمون الصلاة ظُهْراً ويسجدون مرة أخرى.
وكذلك المسافر إذا سها في صلاة مقصورة وسجد، ثم بان له قبل التحلل أن السفينة قد انتهت إلى دار الإقامة؛ فإنه يتمم الصلاة، ويعيد السجود.
والسبب في هذا الجنس أن الصلاة إذا زادت، وانقلبت عن العدد المقدر فيها، فالسجود يقع في وسط الصلاة غيرَ معتد به، فإذا بطل، فلا بدَّ من الإتيان بالسجود في آخر الصلاة، وإن كان يصح الاستثناء لو كان يعتد بالسجودين، ولا يبطُل واحد منهما.
__________
(1) ابن أبي ليلى: عبد الرحمن بن أبي ليلى أبو عيسى. من أكابر تابعي الكوفة. ت: 82 هـ (وفيات الأعيان: 3/126) .
(2) حديث ثوبان: أخرجه أبو داود، وابن ماجة، وأحمد، وصححه الألباني (ر. أبو داود: 1/630، كتاب الصلاة، باب من نسي أن يتشهد وهو جالس، ح 1038، وابن ماجة: 1/385، كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء فيمن سجدهما بعد السلام، ح 1219، والمسند: 5/280) .(2/277)
ومما استثناه أن المسبوق إذا سجد مع إمامه، وكان سها إمامه، فإذا قام وتدارك ما فاته، فإنه يسجد في آخر صلاة نفسه.
وهذا سببهُ أن ما أتى به مع إمامه كان لأجل المتابعة، وسجود السهو ما يأتي به في آخر الصلاة.
فصل
1032- مضمون هذا الفصل أمران: أحدهما: تفصيل القول في أن المقتدي إذا سها وراء الإمام كيف يكون حكمه؟
والثاني - أن الإمام إذا سها، فكيف يجري الأمر في حق المأموم؟
فأما المأموم إذا سها في حال كونه مقتدياً، فالإمام يحمل عنه سهوه، ولا يسجد الإمام بسهو المأموم، ولا يسجد المأموم بسهو نفسه (1 وهذا متفق عليه.
ولو كان مسبوقاً، فسها مع إمامه، ثم انفرد بتدارك ما فاته، فلا يسجد في آخر صلاة نفسه 1) ؛ فإن السهو الذي جرى مع الإمام محطوط، لا حكم له.
1033- ثم ذكر صاحب التلخيص جوامع القول فيما يتحمله الإمام عن المأموم، فعدّ من جملتها سجودَ السهو، كما ذكرناه.
ومما يتحمله: سجود التلاوة، فإن المأموم لو قرأ آية فيها سجود التلاوة، لم يسجد.
ويتحمل عن المقتدي قراءةَ السورة، ودعاء القنوت على التفصيل المذكور في صفة الصلاة.
ويتحمل عن المسبوق الذي أدركه في الركوع قراءةَ الفاتحة، واللُّبث في القيام، ولا يتحمل أصل القيام، فلو أوقع المسبوق التكبيرة في الركوع، لم تنعقد صلاته.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2) .(2/278)
ومما عده الجهرُ؛ [فإن المأموم لا يجهر بالقراءة] (1) في الصلاة الجهرية، ثم قال: لا يجهر المأموم بشيء إلا بالتأمين، وفيه الخلاف المذكور فيما سبق.
ومما يتحمله القعدة الأولى في صورةٍ، وهو أن يدرك المسبوق الإمامَ في الركعة الثانية، فإذا قعد الإمام للتشهد، فالمأموم يتابعه، وهو غير محسوب للمقتدي في صلاته، ثم يقوم الإمام إلى الثالثة، فإذا فرغ، لم يقعد، وهذا أوان قعود المأموم لو كان يتمكن، لكنه لا يجلس، فجلوسه في أوانه متحمّلٌ محطوطٌ عنه.
فرع:
1034- المسبوق إذا اقتدى، فلما سلم إمامُه، سلم هذا المقتدي غالطاً، فتذكر، بنى على صلاته، وسجد للسهو؛ فإن سهوه -وهو سلامه- وقع بعد سلام إمامه، فقد سها منفرداً، فكان عليه أن يسجد.
1035- ولو كان مسبوقاً بركعة، فجلس إمامه للتشهد الأخير، فسمع المسبوق صوتاً، وظن أن إمامه قد تحلل عن صلاته، فبنى الأمر عليه، وقام، وتدارك الركعة، ثم جلس، والإمام بعدُ في الصلاة، فقد قال الأئمة: لا يعتد له بهذه الركعة، فإنه أتى بها مع إمامه، وحكم القدوة متعلّق به، وما نوى الانفراد وقَطْع القدوة، ولكنه ظن أن القدوة [زايلته، وما كان الأمر كما ظنه، ولا يتصور مع بقاء القدوة] (2) أن يحتسب بركعة (3) للمقتدي، وهو في الصورة منفردٌ فيها - ولو أنه سها في هذه الركعة بأن تكلم ساهياً مثلاً، ثم بان بالأخرة ما بان، فذلك السهو محمول عنه، وهذه الركعة سهو كلها، ولا نأمره أن يسجد بسببها، لأن حكم القدوة باقٍ، ولو كانت المسألة بحالها، فعادَ والإمامُ بعدُ في الصلاة، فإذا سلّم الإمام، قام، وتدارك تلك الركعة، بعد تحلل الإمام، والذي جاء به غير محسوب.
1036- ولو ظن أن الإمام قد سلم، فقام على هذا الظن، ثم تبين في أثناء القيام أن الإمام لم يتحلل بالسلام، فإن آثر أن يرجع لما تبيّن، فهو الوجه، وإن بدا له أن
__________
(1) زيادة من: (ت 1) ، (ت 2) .
(2) زيادة من: (ت 1) ، (ت 2) .
(3) (ت 2) : ركعة.(2/279)
يتمادى ويقصد الانفراد قبل تحلل الإمام، فهذا أولاً مبني على أن المقتدي إذا أراد الانفراد ببقية الصلاة، وقطْعَ القدوة، والإمام بعدُ في الصلاة، فهل له ذلك؟ فيه خلاف سيأتي إن شاء الله تعالى. فإن منعنا ذلك، تعين على الذي تبين له حقيقةُ الأمر أن يرجع إلى حكم القدوة.
وإن جُوِّز له الانفرادُ وقطْعُ القدوة، فإذا قام ساهياً، كما تقدم، ثم بدا له أن يتمادى، ففي المسألة وجهان: أحدهما - ليس له ذلك؛ لأن نهوضه إلى القيام وقع غيرَ معتد به، فينبغي أن يعود، ثم يبتدىء انتهاضاً على بصيرة، ويقطع القدوة، إن أراد قطعها.
والثاني - أنه لا يلزمه ذلك؛ فإن الانتهاض إلى القيام في عينه ليس بمقصود، وإنما الغرضُ القيامُ نفسه، وما عداه من الأركان، وقد تمادى الآن فيه، فكان كما لو قصد ذلك عند ابتداء النهوض.
ولا شك أن هذا مفروض فيه إذا لم يكن قرأ في القيام، فإنه لو قرأ، ثم تبين له الأمر، فتلك القراءة لا يعتد بها؛ فإذا تمادى وشرعنا له ذلك، فيلزمه أن يقرأ مرة أخرى.
فهذا كله في سهو المأموم وتحمّل الإمام عنه.
1037- وأما تفصيل القول في سهو الإمام، فسنذكر تفصيل القول في المقتدي الذي ليس مسبوقاً، ثم نذكر حكم المسبوق.
فأما غير المسبوق، فنقول فيه: إذا سها إمامه سهواً يقتضي السجود، نُظر: فإن سجد الإمام، فعلى المقتدي أن يسجد متابعة له، فلو لم يسجد على قصد، بطلت صلاته، لمخالفته مع بقاء حكم القدوة.
فأما إذا لم يسجد إمامه، فالنص أن المقتدي يسجد ثم يسلم.
وقال المزني والبويطي: لا يسجد؛ فإنه ما سها هو في نفسه، وإنما كان يسجد متابعة للإمام. وقد ذهب إلى هذا بعضُ أئمتنا، وعبّر عن الخلاف بأن المقتدي يسجد لسجود الإمام (1 أو يسجد لسهوه؟ فظاهر النص أنه يسجد لسهوه، ولما يلحق صلاتَه(2/280)
من حكم النقصان بسبب اقتدائه، والإمام قَدْ سها، ومذهب المزني والبويطي أنه يسجد لسجود الإمام 1) ، وهو مذهب [بعض] (2) أصحابنا، وهو منقاس حسن، وإن كان ظاهر النص بخلافه.
فهذا إذا لم يكن المقتدي مسبوقاً.
1038- فأما إذا كان مسبوقاً، فإن سها الإمام بعد اقتدائه، فإن سجد، فظاهر المذهب أنَّ المقتدي المسبوق يسجد معه؛ (3 رعاية للمتابعة.
وذكر الشيخ أبو بكر عن بعض الأصحاب أن المسبوق لا يسجد مع الإمام 3) ؛ فإن هذا ليس وقتَ السجود في حق المسبوق؛ إذ موضع سجود السهو آخر الصلاة، وهذا غريب، ولكن حكاه الصيدلاني.
فإذا جرينا على الأصح وهو أن يسجد، فلو سجد، ثم قام إلى استدراك ما فاته، فهل يسجد في آخر صلاته مرة أخرى؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه يسجد؛ لأن السجود الذي أتى به مع الإمام لم يكن في آخر صلاته، وإنما أتى به رعاية للمتابعة، فإذا انتهى إلى آخر صلاة نفسه، فليسجد الآن.
والثاني - أنه لا يسجد؛ فإنه قد أتى بحق المتابعة؛ إذ سجد مع الإمام، وليس هو الساهي في نفسه حتى يسجد.
فهذا إذا سها الإمام وسجد.
فأما إذا لم يسجد الإمام، فظاهر النص أن المسبوق يسجد في آخر صلاة نفسه.
وقال المزني والبويطي: لا يسجد، ووافقهما بعض الأصحاب كما تقدم.
ثم لا شك أن الإمام إذا لم يسجد، فالمسبوق لا يسجد في آخر صلاة الإمام، فإن هذا سجودٌ في غير موضعه، إذا نظرنا إلى نظم صلاة المسبوق، ولم يسجد الإمام حتى يتابعه. وإنما الخلاف في أنه هل يسجد في آخر صلاة نفسه؟.
وهذا كله فيه إذا كان المقتدي مسبوقاً، وقد سها إمامه بعد اقتدائه.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2) .
(2) مزيدة من: (ت 1) .
(3) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2) .(2/281)
1039- فأما إذا كان سها الإمام قبل اقتدائه، فظاهر المذهب أنه يلحق المقتدى حكمُ السهو، ويكون كما لو سها بعد اقتدائه؛ فإن الصلاة واحدة.
ومنهم من قال: لا يلحقه حكم هذا السهو لأنه جرى وهو غير مقتدٍ، وهذا بعيد ضعيف، ولكن حكاه الصيدلاني على ضعفه، فإن قلنا: يلحقه حكم هذا السهو، فهو كما لو سها الإمام بعد اقتدائه، وقد سبق التفصيل فيه.
وإن قلنا لا يلحقه، فمما يتفرع عليه، أنه لو لم يسجد الإمام، فلا يسجد هو، وجهاً واحداً، وإن سجد الإمام، فالظاهر في التفريع أنه لا يسجد مع إمامه متابعاً، وقال بعض أصحابنا: يسجد معه متابعاً، ولكن لا يسجد في آخر صلاته.
هذا تفصيل القول في سهو الإمام في حق المقتدي [المسبوق] (1) .
فرع:
1040- المسبوق إذا سها إمامه بعد اقتدائه وسجد، فسجد المقتدي متابعاً، وفرعنا على أن المسبوق يُعيد السجودَ في آخر صلاة نفسه، فلو تحلل الإمام واشتغل بقضاء ما فاته، فسها بعد انفراده سهواً يقتضي السجود، وقد كان لحقه من جهة الإمام سهو، فالمذهب أنه يكفيه عن الجهتين سجدتان؛ فإنَّ مبنى السجود على التداخل كما ذكرناه.
وذكر العراقيون وجهاً آخر، فقالوا: من أصحابنا من قال: يسجد أربع سجدات، سجدتين عما لحقه من جهة الإمام، وسجدتين عما وقع له لمّا انفرد، والسبب فيه اختلاف جهة السهو، وهو غير سديد، والوجه القطع بأنه يكفي سجدتان عن الجهتين جميعاًً.
فصل
1041- سجدة الشكر مسنونة عندنا، ووقتها إذا فاجأت الإنسانَ نعمة كان لا يتوقعها، أو اندفعت عنه بليةٌ، من حيث لا يحتسب اندفاعَها، فمفاجأة النعمة دفعاً ونفعاً يقتضي سجودَ الشكر، وفيه أخبار مشهورة، والسجود على استمرار النعمة
__________
(1) زيادة من: (ت 2) .(2/282)
لا يستحب، وإذا رأى الإنسانُ صاحبَ بلاء، فهاله ما به، فحسنٌ أن يسجد، وقد روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى نُغَاشِياً (1) فسجد شكراً لله تعالى" (2) ، والنغاشي الناقص الخلق.
ثم قال الأئمة: إن رأى مبتلىً - معذوراً فيما به؛ فلا ينبغي أن يسجد بمرأى منه، فإنه قد يتداخله من ذلك غضاضة، وإن رأى فاسقاً مبتلىً بما يعانيه، فينبغي أن يسجد بحيث يراه، فعساه يرعوي عما يتعاطاه.
ثم لا يجوز أن يسجد في الصلاة شكراً، ولو سجد، بطلت صلاته، وإنما جازت سجدةُ التلاوة في الصلاة، لتعلق التلاوة بالصلاة.
1042- فالسجدات إذن عندنا أربعة أصناف: سجدةُ الصلاة، وسجدة التلاوة، وسجدة السهو، وسجدة الشكر.
وسجدة الشكر من جملتها لا تقام في الصلاة. وسجدة الصلاة من أركانها المختصة بها. وسجدة السهو مختصة بها أيضاً، وفي محلّها التفصيل المقدّم في صدر الباب. وسجدة التلاوة تقع في الصلاة وفي غيرها. وسجدة الشكر لا تقع في الصلاة.
ثم كيفية سجود الشكر في الأقل والأكثر بمثابة كيفية سجود التلاوة.
فرع:
1043- اختلف أئمتنا في أن سجود الشكر هل يقام على الراحلة إيماء، وماشياً كذلك؟ وهذا الاختلاف بمثابة الاختلاف في أن صلاة الجنازة هل تقام على
__________
(1) في الأصل، و (ط) ، (ت 1) : نُغَاشاً. والنُّغاشي: بضم النون، والغين والشين معجمتان، هو القصير جداً الضعيف الحركة، الناقص الخلق. قاله ابن الأثير. (ر. التلخيص: 2/11) .
(2) حديث رؤية النغاشي: ذكره الشافعي في المختصر، ولم يذكر إسناده، وكذا صنع الحاكم في المستدرك. وأسنده الدارقطني، والبيهقي وابن أبي شيبة من حديث جابر الجعفي مرسلاً وفيه أن اسم الرجل: زنيم. ا. هـ ملخصاً من كلام الحافظ. وفي سجدة الشكر أحاديث غير هذا. (ر. مختصر المزني: 1/90، الحاكم: 1/276، الدارقطني: 1/410، البيهقي: 2/371، مصنف ابن أبي شيبة: 2/482، تلخيص الحبير: 2/11 ح 494، 495) .(2/283)
الراحلة. وسبب الاختلاف في الموضعين جميعاًً أن الركن الأظهر في صلاة الجنازة القيام، فلو أقيمت على الراحلة، لسقط أظهرُ أركانها، كذلك السجدة الفردة إذا اكتفي فيها بالإيماء، كان ذلك في حكم الإسقاط، وذلك كله يشابه إقامة النافلة (1 مضطجعاً إيماء في حالة القدرة، وسيأتي ذلك مشروحاً.
وسجدة التلاوة وإن جرت في صلاة النافلة 1) المقامة على الراحلة، فإنها تقع إيماء؛ فإنها تتبع الصلاة، وليست مستقلة بنفسها، وكذلك سجود السهو، وإن أقيمت سجدة التلاوة في غير الصلاة إيماءً على الراحلة، فهي كسجود الشكر.
***
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2) .(2/284)
باب أقل ما يجزىء من عمل الصلاة
1044- مقصود هذا الباب ذكر أقل ما يجزىء من عمل الصلاة، إذا فرض الاقتصار عليه، وأقل المجزىء هو الأركان مع الشرائط.
وقد عد صاحب التلخيص أركان الصلاة أربعة عشر، فقال: هو (1) النية، وتكبير الإحرام، واستقبال القبلة، والقيام، وقراءة الفاتحة. فهذه خمسة، والركوع (2) ، والاعتدال عنه، والسجود، والاعتدال عنه على هيئة الجلوس، والسجدة الثانية، فهذه خمسة أخرى، ثم الجلوس الأخير، والتشهد، كما مضى ذكر أقلّه، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والسلام. فهذه أربعة أخرى، مجموعها أربعة عشر.
ولم يخالَف فيما ذكره إلا في شيئين: أحدهما - أنه عد استقبال القبلة من الأركان، وقد قيل: إنه من الشرائط، وما ذكره أقرب؛ فإن الطهارة تتقدم على الصلاة، وستر العورة لا يختص وجوبه بالصلاة، وكذلك الإيَمان، فلم تكن هذه الخصال أركاناً، بل هي شرائط، ووجوب استقبال القبلة يختص بالصلاة، ولا يجب تقديمه على عقد الصلاة.
ومما عورض فيه أنه عد السجدة الثانية، وهي متكررة، ويلزم من ذلك أن يعد الركوع على التكرر في ركعتي صلاة الصبح، وهذا قريب، فإنه أراد أن يذكر ما يجب في الركعة الواحدة، ثم ذكر ما يتعلق بآخر الصلاة، وهو القعود، والتشهد، والصلاة، والسلام.
__________
(1) كذا بتذكير الضمير في النسخ الأربع، فهل على معنى " الركن " المفرد؟ ثم جاءتنا (ل) وفيها تأنيث الضمير، كما هو المتبادر.
(2) من هنا بدأ خرم في نسخة (ت 2) .(2/285)
وقد زاد بعض الأئمة الصلاة على الآل، ونية الخروج، كما مضى مفصلاً، ولم يعدّ صاحب التلخيص الطمأنينة في محالها، لأنه رآها هيئة، وإن كانت واجبة، وعدها بعضُ الأئمة ركناً، فهذا مضمون الباب.
***(2/286)
باب طول القراءة وقصرها
قال الشافعي: "يقرأ في صلاة الصبح بعد أم القرآن بطوال المفصَّل، وفي الظهر شبيهاً بالصبح، وفي العصر نحو ما يقرأ في العشاء، وفي المغرب بقصار المفصل" (1) .
1045- وفي كلام الشافعي ما يشير إلى أن الأوْلى في قراءة الصبح طوال المفصل، وفي المغرب القصار، وفي الظهر والعصر والعشاء الأوساط، ولعل السبب فيه أن وقت الصبح طويل، والصلاة ركعتان، فحسنٌ تطويلهما، ووقت صلاة المغرب ضيق؛ فشرع فيها القصار، وأوقات صلاة الظهر والعصر والعشاء طويلة، ولكن الصلوات كاملة الركعات، [فقد اجتمع في الصبح سعة الوقت، ونقصان الركعات] (2) فاقتضى ذلك تطويل القراءة، وقِصَرُ وقت المغرب يقتضي [تقصير القراءة، وسعة الوقت في الصلوات الثلاث يقتضي التطويل] (3) ، وكمالها بالركعات يعارض ذلك، فترتب عليه التوسط (4) .
قال ابن عباس: "صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح يوم الجمعة، فقرأ في الركعة الأولى سورة السجدة {الم (1) تَنْزِيلُ} [السجدة: 1، 2] وفي الثانية: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} [الإنسان: 1] ، وقرأ في صلاة الجمعة سورة الجمعة، والسورة التي فيها ذكر المنافقين" (5) . وعن جابر بن سَمُرَة قال: "قرأ رسول الله
__________
(1) ر. المختصر: 1/92.
(2) زيادة من (ت 1) حيث سقط من كل النسخ.
(3) زيادة من (ت 1) .
(4) آخر الخرم في (ت 2) . وهو ورقة كاملة.
(5) حديث ابن عباس عن قراءة (السجدة) و {هَلْ أَتَى} . رواه مسلم بتمامه: الجمعة، باب ما يقرأ في الجمعة، ح 879، وأبو داود: الصلاة، باب ما يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة، ح 1074، 1075، والنسائي: الجمعة، باب القراءة في صلاة الجمعة، =(2/287)
صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح {يس} و {حم} " (1) وعن عمران بن حصين قال: "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الظهر {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} ، وكان يسمعنا الآية والآيتين" (2) ، وعن بُريدة الأسلمي، قال: "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة العشاء {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} و {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} (3) ، وروي أنه قرأ في صلاة العصر {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} ".
1046- ثم الأمر في تقصير القراءة في المغرب يعمُّ الإمامَ والمنفردَ، لتعلق ذلك بالوقت، وأما ما عداها، فما ذكرناه في حق الإمام؛ حتى لا يتعدى ما رسم له، ولا يتجاوز الحد في التطويل على من خلفه، وقد قال عليه السلام: "إذا صلى أحدُكم بالناس، فليخفف؛ فإن فيهم السقيم والضعيف وذا الحاجة" (4) ، وقال أنس ابن مالك: "ما صلّيتُ خلف أحد أخف صلاة، ولا أتم من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم" (5) .
وأما المنفرد، فإن رأى تطويلَ الصلاة الراتبة الواسعة المواقيت، فلا حرج.
***
__________
= ح 1422، والترمذي: الجمعة، باب ما جاء فيما يقرأ به في صلاة الصبح يوم الجمعة، ح 520، وأحمد: 1/226.
(1) حديث جابر بن سمرة هذا لم أصل إليه، ولكن عند مسلم في صحيحه: عن جابر بن سمرة أنه صلى الله عليه وسلم قرأ في الصبح ق والقرآن المجيد (الصلاة، باب القراءة في الصبح، ح 458) ، ورواه البيهقي في سننه: 2/382.
(2) حديث عمران بن حصين: رواه مسلم، ح 398.
(3) حديث بريدة رواه الترمذي وقال: حديث حسن. ولفظه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العشاء الآخرة بالشمس وضحاها، ونحوها من السور". ورواه النسائي، وصححه الألباني. (ر. الترمذي: الصلاة، باب ما جاء في القراءة في صلاة العشاء، ح 309، النسائي: الافتتاح، باب القراءة في العشاء الآخرة بـ " والشمس وضحاها " ح 1000) .
(4) حديث إذا صلى أحدكم بالناس ... متفق عليه من حديث أبي مسعود الأنصاري، وحديث أبي هريرة، بمعنى ما ساقه به إمام الحرمين: (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/97 ح 267، 268) .
(5) حديث أنس متفق عليه (اللؤلؤ والمرجان: 1/97 ح 270) .(2/288)
باب الصلاة بالنجاسة (1)
قال الشافعي: "وإذا صلى الجنبُ بقومٍ أعاد، ولم يعيدوا" (2) .
1047- هذا الفصل بأوصاف الأئمة ألْيق، وسيأتي بابُها، ولكنه صدَّرَ الباب بهذا.
فمن اقتدى بإنسان ثم تبيّن أنه كان محدثاً أو جنباً، فالإمام يعيد الصلاة، وليس على القوم إعادة عندنا، إذا لم يعلموا بطلان صلاة الإمام.
وخالف أبو حنيفة (3) فيه.
وقال مالك (4) : إن كان الإمامُ عالماً ببطلان صلاته، [فأمَّ الناسَ] (5) على علم، فلا يصح اقتداؤهم به، ويلزمهم إعادة الصلاة؛ فإن الذي جاء به عبث لا حرمة له، وإن كان جاهلاً، فصلاته فاسدة، ولكنه من حيث إنه معذور لا يبعد أن يثاب على عمله، وإن كانت الإعادة تلزمه.
وقد ذكر صاحب التلخيص قولاً للشافعي مثلَ مذهب مالك.
وسر المذهب المشهور ومُعَولُه، أن المقتدي لو علم أن صلاة إمامه باطلة، واقتدى به، لم تصح صلاته وفاقاً، وكان كما لو استدبر المصلّي القبلة على علم من غير ضرورة، ولو طلب القبلة في محل الاجتهاد، ولم يستيقن إصابةً ولا خطأ،
__________
(1) من هنا بدأت نسخة (د 1) ، فصارت النسخ المساعدة أربعاً مع نسخة الأصل.
(2) ر. المختصر: 1/92.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 31، مختصر اختلاف العلماء: 1/246 مسألة 194، رؤوس المسائل للزمخشري: 170 مسألة: 72.
(4) ر. المدونة: 1/37، الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/279 مسألة: 308، القوانين الفقهية: ص 70، تهذيب المسالك للفندلاوي: 2/189 مسألة: 35.
(5) في الأصل، وفي (ط) : قام الناسُ، وفي (ت 1) : قام بالناس. والمثبت من (ت 2) .(2/289)
فصلاته محكوم بصحتها. وهذا يناظر ما لو اقتدى بإمام، ولم يعلم صحةَ صلاته ولا فسادها.
ولو اجتهد، فتبين آخراً أنه كان استدبر القبلة، ففي وجوب القضاء [قولان] (1) مشهوران سبقا.
وإذا تبين جنابة الإمام وحدثَه، فالذي يقطع به أنه لا قضاء على المأموم، والفرق أنه لا يجب على المقتدي البحثُ عن طهارة إمامه، بل إنما كُلف البناء على الظاهر، فلا ينسب إلى التقصير في طلب مأمور به، ولا تعلق لصلاة إمامه بصلاته على التحقيق، بل كلّ يصلّي لنفسه، والمجتهد في القبلة إذا أخطأ منسوبٌ إلى التقصير في الاجتهاد والطلب، ولو تمم الاجتهاد، لأصاب.
ثم لو صلّى وراء الإمام، فتبين أنه كان كافراً، فعلى المأموم إعادة الصلاة هاهنا قولاً واحداً، وذلك لأن الكافر يتميز بالغِيار (2) غالباً، ويندر جداً أن يقيم مصرّاً على كفره الصلاةَ على شعار الإسلام، فألحق هذا بما لو اتفق ميلُ الإنسان في مسجد أو دارٍ عن قُبالة القبلة في صلاته لظُلمة أو وجهٍ نادر من وجوه الغلط، فالصلاة تفسد، ولا حكم لما طرأ من الغلط؛ فإن البناء على غالب الأمر.
وكذلك لو اقتدى رجل بامرأة على ظن منه أنها رجل، فالصلاة فاسدة بمثل ما قررناه.
1048- واختلف أئمتنا فيمن اقتدى برجل ثم تيقن أنه موصوف بصنف من صنوف الكفر يستسرّ به غالباً كالزندقة، فمنهم من قال: الاقتداء به على حكم الغلط كالاقتداء بالجنب والمحدِث. ومنهم من قال: الكفر لا يختلف -فيما نحن فيه- حكمه، بل نعمِّم البابَ بإيجاب القضاء على المقتدي فيه؛ فإن التزام تفصيل الأمر بحسب تفصيل الكفر يطول، فالوجه تعميم الباب.
ولو اقتدى رجل بمن ظنه رجلاً، فتبين أنه خنثى، فالذي قطع به الأئمةُ وجوبُ
__________
(1) بياض بالأصل، و (ط) ، وساقطة من: (ت 1) . وأثبتناها من (ت 2) .
(2) الغيار علامة أهل الذمة، كالزنار للمجوسي ونحوه، يشدُّ على الوسط. (المعجم) .(2/290)
القضاء، وإن وقع ذلك خطأً؛ فإن هذا الشخص لا يخفى حاله، والنفوس مجبولة على إشاعة الأعاجيب، وإن حرص الحارصون على كتمانها. وألحق صاحبُ التقريب هذه الحالة بالجنابة والحدث؛ من حيث إنها تخفى، ورد عليه الكافة ما قاله لما ذكرناه.
ولو اقتدى بالرجل، ثم تبين له أنه كان على بدنه أو ثيابه نجاسة خفية، فهذا كالحدث والجنابة، وإن كان عليه نجاسة ظاهرة لا تكاد تخفى، ولكن لم يتفق تأملها، ثم لاحت بعد الصلاة مثلاً، فهذا فيه احتمال عندي؛ فإنها من جنس ما يخفى بندور الظهور وعدم الاطلاع فيه، فشابه هذا الكفرَ الذي يُستتر به غالباً، وقد ذكرنا الخلاف فيه.
1049- ولو طرأ حدث على الإمام، وبطلت صلاته، لم تبطل صلاة المقتدي عندنا، بل ينفرد ببقية صلاته، وأبو حنيفة يبطل صلاة المقتدي بطريان بطلان صلاة الإمام.
فصل
1050- دم البراغيث وما يسيل من دماء البثرات، يتطرق العفو إليه على الجملة، فنذكر ما يتعلق بذلك، ثم نذكر قاعدة المذهب فيما عداه من النجاسات.
فما يخرج من بثرة ببدن الإنسان، أو يتصل به من دماء البراغيث. والبراغيثُ والبقُّ والبعوضُ لا دماء لها في أنفسها ولكنها تقرُص، وتمص الدم، ثم قد تمجها (1) ، فهو المعنيُّ بدم البراغيث، فإذن القليلُ من ذلك معفو عنه، إذا لم يمكن التحرز والتصون عنه، وهو مما تعم به البلوى، فيتطرق العفو إليه، ثم يتحقق فيما يقل منه شيئان:
__________
(1) "تمجها": كذا في جميع النسخ بتأنيث الضمير؛ فالأصل: "قد تمجه" ولكن جاء الضمير هنا مؤنثاً على خلاف الأصل، وهو وارد وعليه شواهد، منها ما جاء في صحيح البخاري: " أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحة، فخيرٌ تقدمونها إليها " بتأنيث الضمير العائد إلى لفظ (خير) . وانظر (شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح: 143) .(2/291)
أحدهما - عمومُ البلوى؛ فإن قليلَه يعم. والآخر - أن المرعيّ في تنزيه البدن والثياب عن النجاسات في الصلاة، تعظيمُ أمرها، وتوقيرُها، وحمل المكلف على إقامتها على أحسن هيئة، وأنظف زينة.
والكثير (1 من الفن الذي نحن فيه قد لا يعم وقوعاً، ولا يظهر الابتلاء به، ويفحش أيضاً في النظر، ولكن 1) من حيث لا ينضبط المَيْزُ بين القليل والكثير، بتوقيفٍ شرعي ولا بوجهٍ من الرأي، قال فقهاؤنا: القليل معفو عنه، وفي الكثير وجهان: أحدهما - لا يُعفى عنه لما ذكرناه، والثاني - يُعفى عنه نظراً إلى الجنس، ولما أشرنا إليه من عسر التمييز بين القليل والكثير، وإذا كان كذلك، فَلَوْ لم يُعفَ عن الكثير، لجرَّ ذلك تنغيصاً في العفو عن القليل، من جهة أنه قد يعتقد المعتقد أن ما يراه قليلاً في أوائل حد الكثرة.
والظاهر في المذهب الفرق بين القليل والكثير، فليقع التعويل عليه.
1051- ثم سر هذا الفصل الكلام في ضبط القليل وتمييزه عن الكثير.
نقل الرواة عن الشافعي في القديم أنه قال مرة: "القليلُ من دم البراغيث، وما في معناه، قدرُ الدينار"، وقال مرة أخرى: "قدرُ كف"، وهذا مشكل لا نعرف له مستنداً، وهو في حكم المرجوع عنه، فليعتمد مسلكه في الجديد، [وقد استنبط الأئمة وجوهاً من الكلام من مسالكه في الجديد] (2) ، ونحن نأتي عليها إن شاء الله تعالى.
فقال قائلون: إن كان موضع التلطخ بحيث يلوح ويلمع للناظر من غير احتياج إلى تأمل، فهذا في حكم الكثير، وهذا يستند إلى خروج رتبة الصلاة عن الجهة المبتغاة في التحسين، ورعاية النظافة، فهذا مسلك.
والمسلكُ الأفقه في ذلك: أن المقدار الذي يجري التلطخ به غالباً، ويتعذر التصون منه هو القليل المعفوّ عنه، فنأخذ القليل مما نأخذ منه أصلَ الفصل، وهو
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2) .
(2) زيادة من: (ت 1) ، (ت 2) .(2/292)
تعذّر الاحتراز عنه، وهذا أمثل من رعاية اللمعان والظهور؛ فإن ذلك [لا] (1) يستقل بنفسه دون أن يعتبر تعذّر الاحتراز، فإنا سنوضح أن هذا العفو لا يجرى فيما لا يعم وقوع التلطخ به من النجاسات، فإذاً تعذُّر الاحتراز ينبغي أن يتخذ معتبراً في الأصل والتفصيل، وفي تمييز القليل من الكثير.
1052- ثم من سلك هذا المسلك اضطربوا في أن الأمر هل يختلف باختلاف الأماكن والبقاع، وباختلاف الأزمنة، وفصول السنة؟ والذي ذهب إليه المحققون: أن الأمر يختلف باختلاف الأماكن والأزمنة؛ فإن التفاوت بهذه الجهات غالب بيّن، فمن الوفاء برعاية الاحتراز النظر إلى تفاوت الأسباب.
ونقل عن بعض أصحابنا التزامُ التفاوت، ولم يعتبر أقل ما يتوقع في أنقى الأزمنة والأمكنة، ولا أكثرها، ولكن اعتبر وسطاً من الطرفين، وهذا ليس بشيء؛ فإن ضبط هذا الوسط أعسرُ من التزام تتبع الأحوال، فهذا قاعدة الفصل.
1053- ثم الذي أقطع به أن للناس عادةً في غسل الثياب في كل حين، فلا بد من اعتبارها؛ فإن الذي لا يغسل ثوبه الذي يصلي فيه عما يصيبه من لطخٍ سنةً مثلاً، يتفاحش مواقعُ النجاسة من هذه الجهات عليه، وهذا لا شك في وجوب اعتباره.
ومما أتردد فيه أن الثوب السابغ إذا تبددت عليه النجاسةُ فلتفرقها [أثر] (2) في العفو -فيما أحسب- ولاجتماعها، حتى يكون ظاهراً لامعاً للناظر أثر في وجوب الغسل، سيما على رأي من يرعى في ضبط القلة الظهورَ واللمعان.
وفد نجد في هذا أصلاً قريباً؛ فإن من توالت منه أفعالٌ كثيرة تبطل صلاته، فإن فرقها وتخلل بينها سكينة، لم تبطل صلاته، والاحتمال في هذا ظاهر.
1054- ومما نختم به مواقع الإشكال في ذلك، أنه لو ارتاب المصلي: فلم يدر أن اللطخ الذي به في حد ما يعفى عنه، أو في حد الكثير الذي لا يعفى، فهذا فيه احتمال
__________
(1) زيادة من: (ت 1) ، (ت 2) .
(2) في الأصل، (ط) ، (ت 1) : أثراً. ولا أدري له وجهاً، والمثبت من (ت 2) ثم جاءت بمثلها (ل) .(2/293)
عندي، من جهة أن القليل معفوّ عنه، وقد أشكل أن ما فيه الكلام هل تعدى الحدَّ، أم لا؟ فهذا وجه.
ويجوز أن يقال: الكثير فيما عليه التفريع غيرُ معفوٍّ عنه، وقد أشكل أن الذي فيه الكلام هل هو منحط عن الكثير أم لا؟ والأصل إيجاب إزالة النجاسة.
ويمكن أن يقرب هذا من صلاة المرء وهو ناسٍ للنجاسة، كما سنذكره في آخر الفصل.
ثم يعتضد هذا الكلام بظهور العفو عن النجاسات.
فهذا منتهى الكلام في هذا الطرف.
ثم قال الأئمة: ما ذكرناه من تفصيل العفو في دم الإنسان نفسه وصديده الخارج من بثراته، وفيما يناله من آثار البراغيث.
1055- فأما إذا أصابه دم غيره، فالكثير لا يعفى عنه، وفي القليل وجهان. وهذا وإن اشتهر نقلُه، فلست أرى له وجهاً، والذي يقتضيه قاعدة المذهب القطعُ بإلحاق دم الغير بسائر النجاسات.
وكان شيخي يلحق لطخ الدماميل والقروح -إن كان مثلها يدوم غالباً- بدم الاستحاضة، وإن كان مثله لا يدوم غالباً، [كان يُلحقه] (1) بدم أجنبي فيما ذكرناه.
وهذا ظاهر حسن؛ من جهة أن البثرات تكثر، وقد لا يخلو معظم الناس في معظم الأحوال عنها، ولا يكاد يتحقق ذلك في الدماميل والجراحات، وفي المسألة على الجملة احتمال؛ فإن الفصل بين البثرات، وبين الدماميل الصغار عسر، لا يدركه إلا ذَوُو الدراية، وكبارها مما يدوم الابتلاء بها زماناً.
وقد ذكر صاحب التقريب تردداً في هذه الدماميل، وما يخرج من دم الفصد، ومال إلى إلحاقه بدم البراغيث، وصحَّحه على خلاف ما كان يراه الإمام، فاعلم.
فهذا كله تفصيل القول في الدماء، وما في معناها من القيح والصديد؛ فإنه دم حائل.
__________
(1) في الأصل، (ت 1) ، (ط) : "كان لا يلحقه"، والمثبت من (ت 2) ، وصدقتها (ل) .(2/294)
1056- فأما ما عدا ذلك من ضروب النجاسات، كالبول، والعذرة، وغيرهما، فلا عفو فيها، قلَّت، أو كثرت، ولا يستثنى منها إلا عفو الشرع عن الأثر اللاصق بسبيل الحدث، عند الاقتصار على الأحجار في الاستجمار، وذلك عند الشافعي مخصوص عن جميع جهات النظر، والمتّبع فيه الخبر فحسب.
واتخذ أبو حنيفة (1) ذلك (2) أصلاً في جميع النجاسات المغلّظة عنده، ورَاه قدر الدرهم البغلي. وهذا نظرٌ حائد عن جهة قطْعِنا بأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطرُدوا هذا العفو في كلِّ نجاسةٍ في كلِّ محل، وكانوا أوْلى من يفهم ذلك من الشارع، لو كان صحيحاً؛ فإذن لا قياس على الاستنجاء، ولا عفو فيما عدا الدم الموصوف.
1057- وتردد نص الشافعي رحمه الله فيما لا يدركه الطرف لا لخفاء لونه، ولكن لصغر قدره، فقال مرة: لا عفوَ مع تيقن الاتصال. وقالى في موضعٍ: إنه يعفى عنه.
وقيل: إنه استشهد عليه بأن السلف كانوا لا يحترزون عن عَوْد الذباب الواقعة على النجاسة وقت قضاء الحاجة إلى ثيابهم، وفي هذا الاستشهاد نظر، من جهة أن أرجل الذباب تجف في الهواء بين ارتفاعها من النجاسة، ووقوعها على الثوب، وآية ذلك أنه لا يظهر لذلك أثر على الثوب، وإن كثر، والقليل إذا توالى، وكثر، ظهر كوَنيم (3) الذباب؛ فإن ما يتوالى منه يظهر على الثوب، وأيضاً، فإن التزام ذب الذباب عسر، وهو ملحق بالغبار الذي يلحق بدنَ الإنسان، وهو ثائر من الدِّمَن والمزابل، والمواضع النجسة، فهذا معفو عنه، وإن كان واقعاً قطعاً؛ من جهة أن التحرز لا سبيل إليه.
1058- ومما يتصل به أن الذي لا يُعفى عنه من النجاسات، إذا صلى الإنسان معها، وهو غير شاعر بها، فإذا تحلل عن الصلاة، واستبان الأمر، فالمنصوص في الجديد
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 21، مختصر اختلاف العلماء: 1/131 مسألة: 20، الهداية مع فتح القدير: 1/177.
(2) "ذلك" إشارة إلى العفو عن نجاسة موضع الاستجمار.
(3) الوَنِيم: خُرء الذباب. (المعجم) .(2/295)
وجوب إعادة الصلاة اعتباراً بالمحدِث، ولا خلاف أن من صلّى ظاناً أنه متطهر، ثم تبين له أنه كان محدثاً يلزمه إعادة الصلاة، ونص في القديم على أن النسيان عذر في النجاسة؛ فإن العفو إليها أسرع منه إلى الحدث، ولا يمكن إنكار ذلك، ولا يبعد أن يعتقد النسيان من المعاذير.
1059- ولو علم الرجل أن به نجاسة، ثم نسيها، فقد ذكر الأئمة فيه طريقين: أحدهما - القطعُ بأنه لا يعفى عنه. والآخر: تخريج العفو على القولين، كما إذا لم يكن عَلِمه أصلاً.
وقال مالك: إن تذكر وعلم ما به من نجاسة، ووقتُ الصلاة قائم بعدُ، قضى، وإن خرج عن الوقت، لم يقض. وقد تحققت من أئمة مذهبه أن مالكاً مهما قال ذلك فليس يوجب الإعادة في الوقت، وإنما يستحبها (1) .
واحتج الشافعي في القديم بما رواه أبو سعيد الخدري رحمه الله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي لابساً نعله، فخلع في الصلاة نعله، فخلع الناس نعالَهم، ثم قال: أخبرني جبريل عليه السلام أن على نعلك شيئاًً" (2) ، ووجه الدليل من بقائه على صلاته، وما كان على علم حتى أخبره جبريل عليه السلام، وقد يمكن أن يقال: لم تكن نجاسة، وإنما كان بلغماً أو غيره مما يليق بالمروءة التحرز عنه.
فرع:
1060- لو وقعت لطخة من بثرة، وقلّت فقد تمهد العفو، ولو اعتمد الرجل إخراج شيء منها ولكنه قليل، ففيه احتمال من طريق المعنى، والظاهر العفو لما روي: "أن ابن عمر حك بثرة بوجهه، فخرج منها شيء، فدلكه بين إصبعيه وصلى" (3)
__________
(1) ر. جواهر الإكليل: 1/11، وحاشية الدسوقي: 1/68، وشرح زروق: 1/94.
(2) حديث أبي سعيد الخدري: رواه أبو داود، وأحمد، والحاكم، وابن خزيمة، وابن حبان، ورواه الحاكم أيضاً من حديث أنس وابن مسعود، ورواه الدارقطني من حديث ابن عباس.
(ر. أبو داود: الصلاة، باب الصلاة في النعل، ح 650، أحمد: 3/20، 92، الحاكم: 1/260، 139، ابن خزيمة: 1017، الدارقطني: 1/399، تلخيص الحبير: 1/278 ح 436) .
(3) حديث ابن عمر: رواه الشافعي، وابن أبي شيبة في مصنفه، والبيهقي، وعلقه البخاري.
(ر. البخاري: الوضوء، باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين من القبل والدبر =(2/296)
ولا يبعد أن يقال: لعله جرت يده بذلك في غفلة، وقد تطوف اليد على البدن في النوم وأوقات الغفلات، والله أعلم.
فهذا منتهى القول، وليس علينا إلا أن نبلغ كلَّ فنٍّ غايته جهدنا، ومن طلب في مواقع التقريب الحد الضابط، فقد طلب الشيء على خلاف ما هو عليه.
فصل
قال الشافعي: "إذا كان مع الرجل ثوبان أحدهما طاهرٌ والثاني نجس، تحرَّى" (1) .
1061- مذهب الشافعي أن من كان معه ثوبان أحدهما طاهر، والثاني نجس، والنجاسة طارئة على النجس منهما، فإنه يتحرى ويجتهد، ويصلي في الذي يؤدي اجتهاده إلى طهارته.
وتفصيل القول في الاجتهاد في الثياب عندنا كتفصيل المذهب في الاجتهاد في الأواني، وقد مضى مفصلاً؛ فلا نعيد ممّا تقدم شيئاًً جهدنا.
وقال المزني في الثوبين: يصلي مرتين، مرة في هذا الثوب، ومرة في الآخر، فيخرج عما عليه يقيناً، وقال في الإناءين: لا يجتهد، ولا يستعمل دفعتين، بل يتيمم.
وعند الشافعي لو صلى في الثوبين دفعتين من غير اجتهاد، كما رآه المزني، فالصلاتان جميعاًً باطلتان.
ومعتقد المذهب أن الصلاة بالنجاسة ممنوعة، والإقدام عليها محظور، والاجتهاد ممكن، والعلامات في النجاسات ليست بعيدة، والاجتهاد مرجوع الشريعة في معظم الوقائع.
__________
= (1/336) ، البيهقي في الكبرى: 1/141، ومعرفة السنن والآثار: 1/236، التلخيص: 1/287 ح 466) .
(1) ر. المختصر: 1/92.(2/297)
فإن قيل: قد ذكرتم وجهين فيمن أشكل عليه الأمر في ثوبين كما ذكرتموه، وكان معه ما يتأتى غسل أحد الثوبين به، فهل يلزمه ذلك، أم له أن يعتمد الاجتهاد؟ وسبب الخلاف أن الوصول إلى اليقين، ممكن، وما ذكره المزني وصولٌ إلى اليقين، فهلا خرجتم مذهبه وجهاً؟
قلنا: لا سواء؛ فإن من غسل أحد ثوبيه وصلى فيه، فقد أقدم على الصلاة على يقين من الصحة، ومن صلى مرتين في ثوبين، كما يراه المزني، فكل صلاة مشكلة في نفسها لا مُستند لها من يقين ولا اجتهاد.
والذي يحقق ذلك أنه لو كان يكفي اليقين من غير رعاية حالة الإقدام، للزم على مساق ذلك أن من التبست عليه جهات القبلة في السفر، فصلى كما اتفق من غير اجتهاد ولا تقليد مجتهد، ثم تبين أنه كان مستقبلَ جهة القبلة وفاقاً، فلا يلزمه القضاء. وليس كذلك، فدل على فساد ما اعتمد المزني، وهو حسن لطيف، فافهم.
1062- ولو أصاب ثوبَ الإنسان نجاسةٌ، وأشكل مورد النجاسة، فالوجه غسل جميع الثوب، فإن صب عليه الماء صباً معمّماً مستغرقاً، أو غمسه في ماءٍ جارٍ، أو كثير، فلا شك أنه يحكم بطهارة الثوب، على ما سيأتي بعدَ هذا تفصيل القول في النجاسة الحُكمية والعينية.
1063- ولو غسل من الثوب نصفه مثلاً، ثم قلَبه، وغسل نصفه الثاني، ولا يصب الماء على جميعه أولاً ولا آخراً، فقد قال صاحب التلخيص: لا يجزئه ذلك؛ فإنَّ ورود النجاسة مستيقن، والغسل على هذه الصفة لا يفيد إزالة النجاسة بيقين؛ فإنه لا يمتنع تقدير النجاسة على منتصف الثوب مثلاً، ولو فرض الأمر هكذا، لكان الغَسل المفروض فاسداً؛ فإنه أتى في النصف الأول على نصف النجاسة تقديراً، فإذا غسل النصف، تعكَّس أثرُ النجاسة من ذلك النصف على النصف الآخر، ويغمض إذْ ذاك مُدركُ الأمر، والأصل بقاء النجاسة، فهذا مذهب صاحب التلخيص.
وقال صاحب الإفصاح (1) : لو غسل الثوب الذي يشكل نصفين في دفعتين، جاز؛
__________
(1) صاحب الإفصاح: أبو علي الطبري، الحسين بن القاسم، وقد سبقت ترجمته.(2/298)
فإنه قد حصل الاستيعاب، وهذا مزيف متروك عليه غير معدود من المذهب. والوجه القطع بما ذكره صاحب التلخيص.
1064- لو أشكل عليه مورد النجاسة من ثوبه، وكان يعلم أنها على أحد كميه مثلاً، واجتهد، فأدى اجتهاده إلى النجس منهما، فغسله، وأراد الصلاة في الثوب، ففي المسألة وجهان مشهوران: أحدهما - أن ذلك لا يجوز، وهذا ما كان يختاره شيخي، والثاني: أنه يجوز، وقد صححه الصيدلاني، وهو الظاهر عندي.
توجيه الوجهين: من منع، احتج بأن ورود النجاسة مستيقن، فليكن زوالها عن الثوب مستيقناً، وليس كما لو اجتهد في ثوبين أحدهما نجس، وصلى فيما أدى اجتهاده إلى طهارته؛ فإنه ما استيقن نجاسة الثوب الذي صلى فيه قط، ولكن ترددت النجاسة بين الثوبين أولاً وآخراً، والأصل طهارة الثوب الذي صلى فيه، والثوب الواحد قد تحقق نجاسته، فليتحقق طهارته، وذلك بغسل جميعه.
ومن جوّز الصلاة في الثوب الواحد على الترتيب الذي ذكرناه، قال: طلب اليقين ليس شرطاً في التوقي من النجاسة، بل الظاهر كافٍ، وإذا فعل بالثوب الواحد ما وصفناه، فالظاهر أنه طاهر؛ فإنه طهّر أحد الكمين بالغسل، والظاهر بحكم الاجتهاد طهارة الكم الثاني.
وما ذكرناه في الكمين لا يختص بهما، بل مهما انحصر عنده النجاسة في موضعين من الثوب، ثم اجتهد فيهما، وغسل ما اقتضى الاجتهاد غسلَه، فهو على الخلاف المذكور.
1065- ولو كان معه قميصان، أحدهما نجس، وأدى اجتهاده إلى أن أحدهما نجس بعينه، فغسَلَه ثم لبسه مع القميص الآخر، وصلى فيهما جميعاًً، فالمسألة على الوجهين المذكورين في الثوب الواحد إذا أشكل مورد النجاسة منه، فغسل بالاجتهاد موضعاً منه، وليس كما لو اجتهد وصلى في أحد الثوبين؛ فإن هذا الثوب لم يكن مستيقن النجاسة قط، والثوبان إذا جُمعَا، فيقين النجاسة فيهما مجموعين، كيقين النجاسة في ثوب واحد.(2/299)
1066- ومما لا بد من التنبيه له أنه إذا كان معه ثوبان، نجس وطاهر، وقد أشكل الأمر، فلو غسل أحدهما، ثم صلى من غير اجتهاد في الثاني الذي لم يغسل، ففي صحة صلاته وجهان، فإنه لما صلى كما صورنا، لم يكن على يقين في نجاسةِ أحد الثوبين، وقد مهدنا أصل ذلك في كتاب الطهارة.
ولو أصابت نجاسة ثوباً، فغسل موضعاً وفاقاً من غير اجتهاد، ثم أراد الصلاة فيه، لم يجز ذلك وجها واحداً؛ [فإن النجاسة مستيقنة أولاً، ثم لم يوجد قطع ويقين ولا اجتهاد،] (1) ولكن أفاد غسل موضع من الثوب، أنّ أمر النجاسة صار مشكُوكاً فيه، والشك المحض لا يعارض اليقينَ السابق، إذا لم يكن صدَرُه عن اجتهاد.
فصل
قال الشافعي رحمه الله: "إذا أصاب دم الحيض ثوب المرأة ... إلى آخره" الفصل (2)
1067- النجاسة تنقسم إلى حكمية وإلى عينية: والعينية هي التي تشاهد عينُها، والحكمية هي التي لا تشاهد عينُها، مع القطع بورودها على موردها المعلوم.
فأما العينية فالغرض إزالة عينها، فلو بقي لونها، أو طعمها، أو ريحها، مع تيسر الإزالة، فالمحل نجس، وإن عسر ذلك في بعض الصفات، فقد قال الأئمة: أما الطعم، فلا يعسر قط إزالته، فما دام باقياً، فالنجاسة باقية، وأما اللون؛ فإن بقي أثر منه مع الإمعان، وبذل الإمكان، فهو معفو عنه.
فلو اختضبت المرأة بالحناء وكان نجساً، فإذا غسلت العضو واللونُ باق، فقد زالت النجاسة، والشاهد في ذلك من جهة الخبر، ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "كان الحيض يصيب ثوباً (3) فنغسله، فيبقى لطخة منه، فنلطخه بالحناء
__________
(1) زيادة من (ت 1) ، (ت 2) .
(2) ر. المختصر: 1/94.
(3) كذا في جميع النسخ، ولعلها: "ثوبنا" وبها جاءت (ل) .(2/300)
ونُصلي فيه" (1) فدل على أن ما يبقى من أثر اللون اللاصق معفو عنه.
فأما الرائحة إذا كانت ذكية (2) بحيث يعسر إزالتها كرائحة الخمر العتيقة، وبول المبَرْسم (3) ، وما أشبههما، فإذا بقيت مع الإمعان في الغسل، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن بقاءها كبقاء الطعم.
والثاني - أنها كاللون.
ومما يجب التنبيه له أن رائحة الشيء الذكي الرائحة قد تبقى في فضاء بيت، فإن الخمر الذكية (4) إذا نقل ظرفها من بيت، وما رشح شيء منها، فقد يبقى رائحتها في فضاء البيت أياماً، فلا اعتبار بمثل هذا، والذي هو في محل القولين أن الخمر إذا أصابت أرضاً، أو ثوباً، ثم غسل، وكان المحل بحيث لو اشتم، لأدركت الرائحة منه، فهذا محل القولين.
فأما إذا كانت الرائحة لا تدرك من المحل، وإنما تدرك من هواء البقعة، فلا خلاف في حصول الطهارة.
فهذا تفصيل إزالة النجاسة العينية.
1068- وأما النجاسة الحكمية التي لا تبين عينها، ففي الحديث أن محلّها يُغسل ثلاثاً، ثم أجمع أصحابنا على أن رعاية العدد فيها لا تجب، ويكفي مرور الماء على مورد النجاسة مرةً واحدة، والزيادة احتياطٌ، والسبب فيه أن ما لطف حتى لا يظهر له
__________
(1) هذا الأثر عن عائشة رواه الدارمي عن معاذة عن عائشة أنها قالت: إذا غسلت الدمَ فلم يذهب، فلتغيره بصفرة أو زعفران، ورواه أبو داود بلفظ: "قلت لعائشة في دم الحائض يصيب الثوب، قالت: تغسله، فإن لم يذهب أثره، فلتغيره بشيء من صفرة" (ر. أبو داود: الطهارة، باب المرأة تغسل ثوبها الذي تلبسه في حيضها، ح 357، الدارمي: ح 1011، التلخيص: 1/36 ح 27) .
(2) ذكت الريح: فاحت وانتشرت. (طيبة كانت أو منتنة) .
(3) "المبرْسَم": الذي أصابه البرسام، والبرسام داء يسمى أيضاً: "ذات الجنب"، وهو التهاب في الغشاء المحيط بالرئة. (المعجم) .
(4) أي الشديدة الرائحة.(2/301)
لونٌ، ولا طعم، ولا رائحة، [ولا جرم، فمرور الماء عليه بمثابة زوال اللون والطعم والرائحة] (1) من النجاسات العينية.
ثم لا يخفى على الفطن أنه إذا زالت الصفات، فقد يبقى للظن والتجويز مجال في بقاء شيء خفي على إدراك الحواس، ولكن لا مبالاة به.
1069- والذي يطلقه الفقيه من أن النجاسة زالت يقيناً كلام فيه تساهل، واليقين الحقيقي ليس شرطاً، وإنما المرعيُّ زوالُ ما نُحسُّه من الصفات.
1070- ثم قد ذكرنا الإمعان، ونعني به الجريان على المعتاد في قصد إزالة النجاسة من غير انتهاءٍ إلى المشقة الظاهرة، ولا اكتفاءٍ بالغسل القريب.
ولما سألت أسماء بنت أبي بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دم الحيض يصيب الثوبَ، فقال عليه السلام: "حُتِّيه، ثم اقرُصيه، ثم اغسليه بالماء" (2) استفدنا أمرين: أحدهما - التسبب إلى الإزالة بالحت والقرص، فليعتمد الغاسل من هذا الفن ما يُعين على الإزالة، كالتخليل والدلك بالماء. والفائدةُ الأخرى أنه نص على الماء، فأشعر بأنه لا يجب استعمال غيره.
1071- ثم في هذا ضبط وتقريب عندي.
فأقول: ليدم الغسلُ إلى زوال الطعم وإلى زوال الرائحة من مورد النجاسة على الأصح، فيبقى النظر في اللون، والوجه فيه أنه إن كان سهلَ الإزالة فَلْيُزَل، وإن كان اللون قائماً لا يزول إلا على طول الزمن، فالمعتبر فيه النظر إلى الغُسالة، فما دامت تنفصل متلونة، فهي تقطع من أعيان النجاسة، وإذا انفصلت صافية مع إمعانٍ وتحامل، فهذا كافي، والأثر الباقي معفوّ عنه.
__________
(1) زيادة من: (ت 1) ، (ت 2) .
(2) حديث أسماء متفق عليه، بلفظ: أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم.. فقال: "تحته ثم تقرصه بالماء، وتنضحه، ثم تصلي فيه" (اللؤلؤ والمرجان: 1/65 ح 161) وأما رواية: أن أسماء هي السائلة على نحو ما ساقه إمامنا، فهي أيضاً صحيحة، رواها الشافعي، وتعقب الحافظُ النووي وابنَ الصلاح في تضعيفهم إياها قائلاً: بل إسنادها في غاية الصحة. والذين ضعفوها هم الغالطون. (ر. الأم: 1/58، التلخيص: 1/35 ح 26) .(2/302)
وهذا فيه نظر؛ فإن الثوب إذا صبغ بصبغ نجس، فالصبّاغون لا يحسنون تعقيد الصبغ حتى لا ينفصل في هذه الديار (1) ، فربما لا ينقطع انصباغ الغُسالات عن الثوب المصبوغ ما بقي منه سِلْك (2) ، فتكليف ما ذكرناه، عسر جداً في ذلك، ومن يُحسن عقدَ الصبغ، فسبب عدم انفصاله انعقاده، وإلا فالثوب كان قبل الصبغ على وزنٍ، وهو مصبوغاً أكثر وزناً، وإن كان الصبغ معقوداً.
وهذا فيه نظر، ويظهر عندي اجتناب مثل هذا الثوب إذا كان الصبغ نجساً؛ فإن العين مستيقنةٌ حساً، والذي ذكره الأصحاب من المعفو عند الأثر أراه فيه إذا لم يُقدّر له وزن، ويسبق السابق إلى أنه لون بلا عين، وإن كان ذلك غير ممكن، ولكن الشرع مبناه على ظواهر الأمور، والله أعلم.
وقد قال صاحب التلخيص: إن بقي لون النجاسة أو طعمها، فالنجاسة باقية، وفي الرائحة قولان، وهذا مأخوذ عليه باتفاق الأصحاب، فاللون على التفصيل لا يضر بقاؤه قولاً واحداً، وحديث عائشة نص قاطع في الرد عليه.
فصل
يجمع النجاسات بأنواعها
1072- إذا أردنا ضبط القول في النجاسات، ذكرنا تقسيماً يجمع شتات [النظر] (3) ، وقلنا: ننظر في الجمادات التي ليست خارجة مِن حيوان، ثم ذكرنا الحيوانات، ثم ذكرنا الميتات، ثم نذكر ما يخرج من الحيوانات.
فأما الجمادات في القسم الأول، فكلها طاهرة إلا الخمر؛ فإن الشرع نجّسها؛ تأكيداً لاجتنابها، وزجراً عن مخامرتها، وذكر الشيخ أبو علي في المثلَّث (4) المسكر
__________
(1) يعيب الإمامُ صناعة الصبغ في بلاده في ذلك الزمان.
(2) السلْك: الخيط (المعجم) .
(3) زيادة من (ت 1) .
(4) المثلّث: شرابٌ، وسمي كذلك، لأنه طبخ حتى ذهب ثلثاه. (المعجم) .(2/303)
الذي نحرِّمه ويبيحه أبو حنيفة (1) -خلافاً في النجاسة مع القطع بالتحريم، ولست أعرف المصير إلى طهارته، وهو مسكر، مشتدٌّ محرمٌ ملحقٌ بالخمر- وجهاً (2) .
فهذا بيان الجمادات.
1073- وأما الحيوانات، فكلها طاهرة العيون إلا الكلب، والخنزير، والمتولّد منهما، أو من أحدهما وحيوان طاهر.
فكأن الأصلَ طهارة الجمادات والحيوانات إلا ما استثناه الشرع، وسببُ استثناء الخمر من الجمادات كسبب استثناء الكلب والخنزير من الحيوانات، وهو تأكيد قطع الإلف.
1074- وأما الميتات فالقياس، الحكم بنجاستها؛ فإن الحياة مدرأةٌ للاستحالات، والعفن، والموت مجلبة لها. وقد استثنى الشرعُ من جملة الميتات السمك والجراد، ولا خلاف فيهما.
وظاهر المذهب أن جثة الآدمي لا تنجس بالموت، وفيه وجهٌ معروف، وسنذكره في كتاب الجنائز إن شاء الله تعالى.
فأما سائر الحيوانات إذا ماتت، فكل حيوان له نفس سائلة، (3 فإذا ماتت، فميتاتها نجسة، وكل ما ليس له نفسٌ سائلة 3) ، ففي نجاسة ميتاتها خلاف وتفصيل، سبق في كتاب الطهارة مستقصىً.
1075- وأما القسم الرابع وفيه يتسع الكلام، فهو ما يخرج.
فنقول: القول في ذلك: ينقسم إلى رشحٍ، لا يبين -في ظاهر الأمر- فيه اجتماع واستحالة، وهو اللعاب والعرق، والمتبع فيها طهارة عين الحيوان ونجاستها، فإذاً
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 281، مختصر اختلاف العلماء: 4/365 مسألة: 2058، حاشية ابن عابدين: 5/292.
(2) وجهاً: مفعول ثانٍ لـ (أعرف) ، ثم جاءتنا (ل) وفيها: "وجهاً واحداً".
(3) ما بين القوسين ساقط من (ت 2) .(2/304)
عرق الحيوانات كلها، ولعابُها طاهر، إلا عرقَ الكلب والخنزير، ولعابهما، وقد تفصل ذلك.
1076- فأما ما يجتمع ويستحيل في الحيوانات ثم يخرج، فالقياس في جميعها النجاسةُ، إلا ما استثناه الشرع، فالأبوال، والأرواث، والدماء، كلها نجسة من جميع الحيوانات، سواء كانت مأكولة اللحم، أو لم تكن، وخلاف أحمدَ بنِ حنبل (1) وغيرِه من علماء السلف، ومصيرُهم إلى طهارة أبوال الحيوانات المأكولة مشهور، والأرواثُ في معنى الأبوال عندهم.
وقد تكلم الشافعي على أحاديثَ تعلق بها أحمدُ، وهي صحيحة، منها حديث العُرينيين، فإنهم دخلوا المدينة، واجْتَووها واصفرّت ألوانهم، وأسلموا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو خرجتم إلى إبلنا، فأصبتم من ألبانها وأبوالها، ففعلوا، فصحّوا، فمالوا على الرعاة، فقتلوهم، واستاقوا الإبل، فألحق النبي صلى الله عليه وسلم الطّلب بهم، فأدْرِكوا، فأمر بهم حتى قطعت أيديهم وأرجلُهم، وسُملت أعينُهم، وألقوا بالحَرَّة يستسقون، فلا يُسقَوْن، حتى ماتوا عطشاً وجوعاً" (2) .
ووجه الدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم جوّز لهم أن يصيبوا من أبوالها.
قال الشافعي: هذا الحديث منسوخ (3) ؛ إذ فيه أنه مثَّل بهم، ثم ما قام في مقامٍ إلا أمر بالصدقة، ونهى عن المَثُلَة، ثم قال: أذِن لهم في التداوي عند الضرورة، والتداوي جائز عندنا بجملة الأعيان النجسة إلا الخمر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) ر. الإنصاف: 1/339.
(2) قصة العرينيين في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه. (ر. اللؤلؤ والمرجان: القسامة، باب حكم المحاربين والمرتدين، ح 10860) .
(3) في هامش (ت 1) ما يمكن أن نقرأ منه ما يلي: "جاء في غاية البيان: كان ذلك في أول الأمر، ثم نسخ بعد أن نزلت آيات الحدود ألا ترى.." ثم عدة جمل غير مقروءة، وكل ما يفهم منها أنها شرح لألفاظ الحديث. مثل (سمل) .. وشرح لألفاظ إمام الحرمين مثل: (المثلة) ثم نقرأ بوضوح ما نصه "وذكر في غاية البيان تفصيل ذلك، وأجاب ابن حجر في شرح البخاري بأن نَسْخَ بعض الحديث لا يوجب نسخ كله". ا. هـ.(2/305)
سئل عن التداوي بالخمر، فقال: "إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم" (1) .
وقد حكى شيخي عن بعض الأصحاب جواز التداوي بالخمر عند ظهور الضرورة، وإذا انتهت التفاصيل إلى ذلك فتذكر فيه (2) .
وهذا القائل يحمل حديث الخمر على علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن السائل عن التداوي بها كان لا ينتفع بها، وهذا بعيد في التأويل، ولكن إذا تمهد في الشرع تحليلُ الميتة حالة المخمصة، وهذا في التحقيق مداواة للضرورة ودَرْء للمخمصة. ثم أجمع الأئمة على جواز التداوي بجملة الأعيان النجسة، [وإن] (3) كان في التداوي نوع من الإشكال؛ من جهة أن درءَ الجوع بالميتة معلوم، والاطلاع على أن الأدوية تنفع وتنجع بعيد، وحذاق الصناعة لا يجزمون القولَ بنفع الأدوية وإن تناهَوْا في علومهم، وسنذكر ذلك في كتاب الأطعمة إن شاء الله تعالى.
وقد نص الشافعي رحمه الله على أن من غُصّ بلقمة، ولم يجد إلا خمراً يُسيغها، فإنه يستعمل منها ما يسيغها، وإنما قال ذلك؛ لأن إساغة الغُصة معلومة، بخلاف نفع الدواء.
ومما يتعلق به أحمد ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "في أبوال الإبل وألبانها شفاء الذَّرب" (4) وهذا لا دليل فيه؛ لأنه مخصوص بالمداوة.
__________
(1) حديث "إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم" رواه الطبراني في الكبير من حديث أم سلمة، ورمز له السيوطي بالصحة، ورجاله رجال الصحيح، ورواه أبو يعلى، وابن حبان، والبيهقي، قال في المهذب " وإسناده صويلح " وقال ابن حجر: ذكره البخاري تعليقاً عن ابن مسعود، قال: وقد أوردته في تغليق التعليق من طرق صحيحة" ا. هـ. (ر. البخاري: الأشربة، باب شراب الحلواء مع العسل، الطبراني في الكبير: 23/356، ابن حبان: 2/335 ح 1388، أبو يعلى: ح 6966، البيهقي: 10/5، التلخيص: 4/140، 141، ح 2112، فيض القدير للمناوي) .
(2) "فتذكّر": ضبطت في (ت 1) بفتح الكاف مشددة. وفي (ت 2) : "فنذكر" بالنون، ومثلها جاءت (ل) .
(3) في جميع النسخ: "فإن" والمثبت تبعنا فيه نسخة (ل) .
(4) رواه أحمد في مسنده من حديث ابن عباس رضي الله عنه، بلفظ: "إن في أبوال الإبل وألبانها شفاء للذرية بطونهم". (ر. المسند: 1/293) . =(2/306)
ومما احتجوا به ما روى البراء ابنُ عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أكل لحمه، فلا بأس ببوله" (1) وهذا يعسُر تأويلُه حملاً على المداوة؛ فإنَّ جواز ذلك لا يختص بما يؤكل، ولكن أقرب مسلك فيه، أنه صلى الله عليه وسلم بيَّن أنه لا ينفع شيء من الأبوال، إلا بول ما يؤكل لحمه، والعلم عند الله.
1077- ثم لا فرق عندنا في التنجيس بين ذرق الطيور ورجيع الحيوانات ومذهب أبي حنيفة معروف في ذرق الحمام وغيرها (2) ، واختلاف أئمتنا معروف في خُرء السمك والجراد، وكلِّ شيء يخرج منهما، وسبب هذا الاختلاف أنها مستحَلّة الميتات، فإذا فارقت الحيواناتِ في هذه الجهة، ظهر الخلاف فيما ذكرناه.
وذكر الصيدلاني وغيره: إنا إذا حكمنا بطهارة ميتات ما ليس لها نفس سائلة، فهل نحكم بطهارة هذه الأشياء منها؟ فعلى وجهين، وهذا أبعد عندي مما ذكرناه في السمك والجراد؛ فإن ميتات هذه الأشياء لا تحل، وإذا حكمنا بأن الآدمي لا ينجس بالموت، لم يقتض ذلك الحكمَ بطهارة فضلاته، ولكن الفرق واضح؛ فإن سبب الحكم بطهارة ما ليس له نفس سائلة أنها إذا ماتت لا تفسد، بل تعود كأنها جمادات، والآدمي بخلاف ذلك، فإنه ينتن إذا مات ويفسد، وسبب الحكم بطهارته ما يتعلق به من تعبُّد الغُسل والحرمة، ولا يظهر في تنجس فضلاته ما يخالف موجَب الحرمة.
واختلاف الأئمة في فضلات بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد سبق ذكره في كتاب الطهارة.
فهذا تمهيد القول فيما يستحيل في الحيوانات.
1078- ونذكر الآن ما استثناه الشرع، فنقول أما ألبان الحيوانات المأكولات اللحوم، فلا شك في حلها وطهارتها، وذلك عندي في حكم الرخص؛ فإن الحاجة
__________
= والذرَب: داء يعرض للمعدة، فلا تهضم الطعام، ويفسد فيها ولا تمسكه (المعجم) .
(1) حديث البراء بن عازب، رواه الدارقطني بلفظ: "لا بأس ببول ما أكل لحمه" ورواه عن جابر باللفظ الذي ساقه به إمام الحرمين. قال الحافظ: "وإسناد كل منهما ضعيفٌ جداً" (ر. التلخيص: 1/43 ح 37) .
(2) ر. البدائع: 1/76، حاشية ابن عابدين: 1/213، 214.(2/307)
ماسة إلى الألبان، وقد امتن الله تعالى بإحلالها، فقال: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66] .
1079- ومما يتعلق بقسم الاستثناء القول في المني، فظاهر مذهب الشافعي أن مَنِي الرجل طاهر، ومعتمد المذهب الأخبار، وهي مذكورة في الاختلافات (1) .
وفي منيّ المرأة خلاف، وسببه تردد الأئمة في طهارة بلل باطن فرج المرأة، فلعل من يحكم بنجاسة منيها يقول: هو ليس نجس العين، وإنما ينجس بملاقاة رطوبة باطن فرجها.
[وقال صاحب التلخيص: مني المرأة نجس، وفي مني الرجل قولان] (2) .
وهذا أنكره الأصحاب عليه، ورأوا القطع بطهارة مني الرجل.
ومن غوامض المذهب ما أبهمه الأصحاب من التردد في رطوبة باطن فرج المرأة، وليس يخفى أن الرطوبة التي في منفذ الذكر إلى الإحليل في معنى رطوبة باطن فرج المرأة، وممرّ المنِيين على الرطوبتين على وتيرة واحدة، فلست أرى بين الرطوبتين والممرّين فرقاً إلا من جهة واحدة، وهي أن ما في الذكر رطوبة لَزِجَة لاحِجة (3) لا يخرج منها شيء؛ فلا حكم لها، ولا يمازجها ما يمر بها، وأمثال هذه الرطوبات لا حكم لها في الباطن، وبلل باطن فرج المرأة كثيرٌ يمازج، وقد يخرج، ويكاد أن يكون كمذي الرجل، فإذاً ليس ينقدح في ذلك إلا ما ذكره من تصوير الممازجة في إحدى الرطوبتين، وعدم ذلك في الثانية، فكان مَنيَّها يخرج مع شيء من الرطوبة لا محالة، بخلاف منيه.
ثم يبقى بعد هذا تساهل أئمة المذهب في العبارة، وذلك أنهم يقولون: رطوبة باطن فرج المرأة نجسة أم لا؟ وهم يريدون بذلك أن تلك الرطوبة هل يثبت لها
__________
(1) كذا في جميع النسخ، ولعلها: "الخلاف": أي كتب الخلاف، ثم جاءت (ل) فإذا بها سقطت منها.
(2) زيادة من: (ت 1) ، (ت 2) .
(3) لاحِجَة: في هامش (ت 1) : "لَحِجَ في الشيء إذا نشب فيه، ولزمه" مجمل اللغة. ا. هـ.
هذا. وقد سقطت اللّفظة من: (ت 2) ، وكذا من (ل) .(2/308)
حكمٌ، وهل تنجّس ما يخرج؟ وهل يعتقد في الخارج الامتزاج بها؟ فهذا وجه القول في ذلك.
1080- فأما منيّ سائر الحيوانات: اختلف أصحابنا فيها على ثلاثة أوجه: أحدها - أن جميعها نجس إلا منيّ الآدمي، فإن طهارته أُثبتت تكريماً على التخصيص، ليكون أصل فطرته من طاهر.
والثاني - أنه يحكم بطهارة مني ما يؤكل لحمه من الحيوانات أيضاً، لأن منيّها يضاهي بيضَ الطائر المأكول.
والثالث - أن جملة مني الحيوانات الطاهرة العيون طاهر، نظراً إلى طهارة الحيوانات في أنفسها، فهذا تمام القول في المني.
1081- وممّا يتعلق بذلك: القول في ألْبان ما لا يؤكل لحمه: فلبن الآدميات حلالٌ طاهر، ولبن غيرهن مما لا يؤكل لحمه حرام، وفي ظاهر المذهب أنه نجس؛ فإن الألبان إنما أبيحت للحاجة، ووقع الحكم بطهارتها تبعاً لمسيس الحاجة إلى تحليلها، وأبعد بعضُ أصحابنا، وحكم بطهارة ألبان الحيوانات الطاهرة العيون، وهذا ساقط غير معدود من المذهب.
1082- ومما يتعلق بذلك القول في البيض: فكل بائضٍ مأكولِ اللحم، فبيضه مأكول، وما لا يؤكل لحمه من الطير لا يؤكل بيضه، والكلام في طهارته كالكلام في مني الحيوانات التي لا يؤكل لحمها، وهي طاهرة العيون.
ومما ذكره الأئمة أن البيضة الطاهرة المأكولة إذا صارت مذرة في الاحتضان، ففيها خلاف، وظاهر المذهب أنها نجسة؛ فإنها دم، ومن أئمتنا من حكم بطهارتها؛ فإنها أصل الفطرة.
وكذلك اختلف الأئمة في أن المني إذا استحال في الرحم عَلقة ومُضغةً، فهي نجسة أم لا؟ والخلاف في ذلك أظهر عندي؛ من جهة أن الحكم بطهارة مني الرجل مأخوذ عندي من كرامةْ الآدمي، وهذا يطرد في المضغة، وأما البيض، فليس فيه هذا المعنى، وإنما الطهارة فيه تبع الحل.(2/309)
قال الشيخ أبو علي: الخمرة المحترمة التي الغرض منها الخَل، تخرّج على هذا الخلاف، فمن أئمتنا من حكم بطهارتها، وبنى على ذلك أنها مضمونة. وهذا بعيد جداً؛ فإن الخمرة المحترمة التي يجب الحدُّ على شاربها يبعد الحكم بطهارتها، والمصيرُ إلى إيجاب الضمان بإتلافها، فالوجه [القطع] (1) بأنها ليست مضمونة، وإن حرم إتلافها، كالجِلد الذي لم يدبغ بعدُ.
فإذاً انحصر الاستثناء في الألبان، والمني، والبيضُ في معنى المني، فأما ما سوى ذلك من المستحيلات، فنحكم بنجاستها.
1083- والدماء نجسة، وكذلك القيح والصديد، والمِرّة الصفراء والسوداء.
قال الشيخ أبو علي: المشيمة إذا خرجت على الولد، فهي نجسة، وقال: إذا خرج الولد وعليه بلل، فهو نجس، وإن حكمنا بطهارة رطوبة باطن فرج المرأة؛ فإن الولد يخرج من الرحم وعليه رطوبات الرحم، ولو أرخى الرحم رطوبةً، فهي نجسة.
وهذا الذي ذكره صحيح، ولكن فيه ذهول عن الحقيقة التي نبهنا عليها في رطوبة باطن فرجها.
ولو خرج من باطن فرج المرأة رطوبة، فلا شك في نجاستها، ولكن إذا خرج منه المني، فليس نقطع بخروج رطوبة فرجها، عند بعض الأصحاب، وإذا خرج الولد مبتلاً، فهذه رطوبة خارجة قطعاً متميزة عن الولد.
1084- وذكر الشيخ أبو علي وجهين في البلغم الذي ينقلع من منفذ المريء:
أحدهما - أنه نجس، لأنه مستحيل في الباطن.
والثاني - أنه طاهر، كالذي ينزل من الرأس؛ فإنه لا خلاف في طهارته.
فرع:
1085- البلل الذي ينفصل من جرحٍ، لا دمَ ولا صديدَ فيه، أو ينفصل من نَفَّاطَة (2) تنفطر، فإن كانت رائحته كريهة، فهو نجس كالصديد، وإن لم تكن رائحتُه كريهة، فقد ذكر العراقيون أنه طاهر، وحكَوْه عن نص الشافعي، وقالوا: إنه
__________
(1) ساقطة من الأصل، و (ط) ، و (ت 1) .
(2) النَّفَّاطة: بثرة مملوءة ماء، تظهر في اليد من أثر العمل. (معجم) .(2/310)
كالعرق، وظاهر كلام الشيخ أبي علي أنه نجس، وهو فيما أظن سماعي عن شيخي.
فرع (1) :
1086- اختلف أئمتنا في الإنفحة، فقال قائلون: إنها نجس، وهو القياس، فإنها لبن مجتمعٌ في باطن الخروف، ويستحيل، فيخرج إذا ذبح الخروف، ويجبَّن به اللبن، والمستحيل نجسٌ.
وقال قائلون: إنها طاهرة لإطباق الأمَّة على استحلال الجُبن، مع علمهم بأن انعقاده بالإنفحة، فنزلت الإنفحة من جهة الحاجة منزلة أصل اللبن الذي أبيح لأجل الحاجة، والقياس الحكم بنجاسة الإنفحة، ولكن عمل الناس، وعدم الإنكار من علماء الأعصار (2) يدل على الطهارة.
1087- ومما يتعلق بما ينفصل عن الحيوان، أن كلّ ما أُبين عن الحي فهو ميت، فإن كان الحيوان لو مات لتنجّس، فينجُس الجزء المبان من هذا الأصل، إلا الأصواف والأوبار إذا جُزَّت من الحيوانات المأكولة، على رأي من يُثبت لها حكمَ الحياة في اتصالها.
والسبب في ذلك مسيس الحاجة إليها في الملابس والمفارش، مع استبقاء الأصول، فهي نازلة منزلة الألبان التي استثنيت -في الحل والطهارة- من قياس المستحيلات للحاجة.
ولو أُبين عضو من آدمي، فإن حكمنا بنجاسة الآدمي لو مات، فالمبان منه نجس، وإن حكمنا بأن الآدمي لا ينجس بالموت، ففي العضو المفصول منه وجهان:
أصحهما - الطهارة، اعتباراَّ بَالأصل لو مات. ومنهم من قال: ينجس لسقوط حُرْمته بالانفصال عن جملته، وهذا بعيد، ولكنه قريب من خلاف أئمتنا في أن من قطع فِلْقة من سمكة، فهل تحل أم لا؟ فإن ميتةَ السمك حلال وفي الفِلْقة المُبانة من الخلاف ما ذكرناه.
فهذا معاقد المذهب فيما نحكم بنجاسته وطهارته.
__________
(1) في (ل) : فصل.
(2) كذا في جميع النسخ، وجاءتنا (ل) وفيها: "الأمصار".(2/311)
فصل
قال: "وكل ذلك نجس إلا ما دلت عليه السُّنة من الرش ... إلى آخره" (1) .
1088- بول الصبي الذي لم يطعم إلا اللبن نجس، كسائر الأبوال، ولكن ورد فيه تخفيفٌ في كيفية إيصال الماء إلى مورده، وروي عن لبابة بنت الحارث أنها قالت: "أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحسن أو (2) الحسين، فأجلس في حجره، فبال في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت لبابة: قلت يا رسول الله: أَغسلُ إزارك؟ فقال: لا، إنما يغسل الثوب من بول الصبيّة، ويرش على بول الغلام، ودعا بماء فرشَّ عليه" (3) ، فإذاً يجوز الاقتصار على الرش في بول الغلام الذي لم يطعم الخبز، ولا مجال للقياس فيه.
ثم ليس في الحديث تعرّض لتطعم الغلام، وإنما فهم الفقهاء ذلك من جهتين: إحداهما - أنه قد نُقل: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بالحسن ليسميه ويطعمه" وهذا على قرب العهد بالولادة.
والثاني (4) - أنه لا يتوهم امتداد هذا الحكم على الدوام، ولا نرى فيه
__________
(1) ر. المختصر: 1/94.
(2) في النسخ الأربع: (و) والذي في حديث لبابة: الحسين من غير ترديد. ولبابة هي أم الفضل زوجة العباس رضي الله عنه. أما الترديد بلفظ " أو " فقد ورد في أحاديث أخرى، منها حديث أبي السمح عند أبي داود والنسائي وابن ماجة وغيرهم (ر. أبو داود: الطهارة، باب بول الصبي يصيب الثوب، ح 376، النسائي: الطهارة، باب بول الجارية، ح 304، ابن ماجة: الطهارة، باب ما جاء في بول الصبي الذي لم يطعم، ح 526، التلخيص: 1/60 ح 33) .
(3) حديث لبابة رواه أبو داود: الطهارة، باب بول الصبي يصيب الثوب، ح 375، بلفظ: "إنما يغسل من بول الأنثى، وينضح من بول الذكر" وأخرجه ابن ماجة: الطهارة، باب ما جاء في بول الصبي الذي لم يطعم، ح 522، ورواه الحاكم: (1/166) ، وأحمد: (6/339) ، والطبراني في الكبير: (25/25، 26) ، وصححه الألباني في المشكاة: (501) ، وفي صحيح أبي داود: (399) ، وفي صحيح ابن ماجة: (421) (وانظر التلخيص: 1/37، 38 ح 33) .
(4) كذا في جميع النسخ، وفي (ل) : "والثانية": أي الجهة الثانية.(2/312)
مردّاً (1) إلا أن يطعم ويحتوي جوفه على ما يستحيل، واللبن لا يبالى به، ولا يستحيل استحالة متكرّهة.
وأما بول الصبية، فمقتضى الخبر أنه يجب غسل الثوب عنه، والمذهبُ إلحاقه بالنجاسات؛ فإنّ ما ذكرناه في الغلام تلقيناه من الحديث، وفي الحديث الفصل بين الصبية والغلام.
وذكر الأئمة في الطرق قولاً آخر، أن الصبية كالغلام في جواز الاقتصار على الرش على بوله، وهذا لست أعرف له وجهاً، مع مخالفة القياس والخبر، ولكنه ذكره الصيدلاني وزيَّفه، وذكره غيره أيضاً.
ثم لا خلاف في نجاسة بول الغلام، وإنما يختص من بين النجاسات بالاكتفاء بالرش فيه، ثم الذي ذكره الأئمة، أن الرش لا يشترط أن ينتهي إلى جريان الماء، بل يكفي أن يعم الماء موضع البول رشاً، وإن لم يتردد ولم يَقْطُر (2) .
وذكر شيخي: أنه لا يكتفي بنضحٍ وأدنى رش، ولكن يجب أن يكاثره بالماء حتى ينتقع، ولا يجب عصر الغسالة، وبهذا يقع الفرق، وفي وجوب العصر في سائر النجاسات خلاف سيأتي.
وهذا الذي ذكره لا أعده من المذهب؛ فإن هذا ليس رشاً، بل هو مكاثرةٌ وغَمرٌ، وتَرْكُ عصر، وقد نذكر أن الأصح أن العصر لا يُشترط في إزالة جميع النجاسات؛ إذا اتفق الزوال.
فصل
1089- نذكر في هذا الفصل شيئين: أحدهما - وصْل العظم المنكسر بعظم نجس.
والثاني - وصل المرأة شعرها.
فأما الأول - فإذا انكسر عظمٌ من الإنسان، فوصله بعظمٍ نجس، فقد قال الأئمة:
__________
(1) "مرداً": أي نهاية، ومرجعاً.
(2) "يَقْطُر": من قطر الماء والدمع قطراً (من باب ضرب) : أي سال. (المعجم) .(2/313)
إن لم يتصل، ولم يلتحم، وجب تنحيته، وإن التحم واتصل، ولم يكن في إزالته وقلعه خوف، وجب إزالته، لمكان الصلاة.
وإن كان في إزالته خوف، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا يُزال إبقاءً على المهجة.
والثاني - أنه يزال لحق الصلاة، ونحن نرى سفكَ الدم على مقابلة ترك صلاةٍ واحدة.
وهذا بعيد عن القياس؛ فإن المحافظة على الأرواح أهم من رعاية شرط الصلاة.
ومما يعترض على ذلك: أن من أخذ خيطاً لغيره، وخاط به جرحه، فلا نكلفه نزعه عند الخوف، قطع الأئمة جوابَهم به، وذلك لأنا نأخذ طعامَ الغير لشدة المخمصة، ونغرَم له القيمة، ونَقِي الأرواحَ بالأموال على شرط الضمان، واستصحاب النجاسة يقدح في الصلاة، ولا مساهلة في الأديان.
وهذا عندي تكلّف، والقياس القطعُ بأنه لا ينزع العظم إذا خيف؛ فإنا نحرِّم إمساس الجرح ماء لإزالة نجاسة عليه، وإن كان في إبقائها حملٌ على إقامة الصلاة مع النجاسة، (1 وكل نجاسة يعسر الاحتراز عنها، فإن الشرع يعفو عنها، كما مضى التفصيل فيه.
وإن قال قائل: المصلي مع النجاسة 1) يقضيها؛ فإنها مرجوّة الزوال، والعظم النجس الملتحم قائم أبداً. فلا أصل لهذا، [والمستحاضة لا تقضي الصلوات التي أقامتها في زمان الاستحاضة] (2) ، وقد يقال: ذلك دمٌ جارٍ من غير اختيار، وهذا أدخل العظمَ على عضوه، ولا ثبات لمثل هذا.
1090- ومما يعنُّ في المسألة من وجوه الإشكال، أن التداوي بالأعيان النجسة جائزٌ وفاقاً، وإنما التردد في التداوي بالخمر. وقد قال الأئمة: لو ألصق ضماداً نجساً على جرحه، نُزع لأجل الصلاة، والسبب فيه -مع الإشكال- أن تحريم أكل النجاسة
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2) .
(2) زيادة من: (ت 1) ، (ت 2) .(2/314)
من باب الأمر بتخير الطيبات في الأغذية، فإذا خيف الهلاك، زال ذلك، ولا تعلق له بالصلاة؛ فإن ما يحويه البطنُ يسقطُ اعتبار طهارته، وإلصاق الضماد النجس بظاهر الجرح يؤثر في الصلاة.
1091- ومما يشكل أن العظم النجس إذا اكتسى بالجلد واللحم، فقد بَطُن، فتكليفُ إظهارِه ونزعِه بعيد، وقد التحق بالباطن.
والذي ذكره الأصحاب من الالتحام عَنَوْا به الاتصالَ، فأما الاكتساء بالجلد واللحم، فالقياس فيه ما تقدم.
ولولا أنَّ المذهب نَقْل، وإلاّ لكان القياس، بل القواعد الكليّة تقتضي أن أقول: لا ينزع عند الخوف وجهاً واحداً، ولا عند الاكتساء بالجلد، وحصول التستّر والبطون (1) ، فكان لا يبقى [احتمال] (2) إلا في صورة، وهي أنه إذا أمكن الوصلُ بعظم طاهر، واعتمد الوصلَ بالنجس، واعتدى، فهل ينزع والحالة هذه؟ الظاهر أنه لا ينزع مع الخوف، وفيه احتمال بسبب تفريطه وتسببه إلى هذا.
ثم خوفُ فساد العضو عندي في التفاصيل، ينزل منزلة خوف الهلاك، وتلف المهجة.
وإذا عسر عليَّ في فصل تخريجُ المذهب المنقول على قياس أو ربطه بخبر، فأقصى ما أقدر عليه استيعابُ وجه الإشكال، وإيضاح أقصى الإمكان في الجواب عن توجيه الاعتراضات.
1092- ومن تمام الكلام في المسألة: أنه إذا كان رقَع عظمَه بعظم نجسٍ ومات، فقد قال الشافعي: صار ميتاً كلُّه والله حسيبُه، وظاهره يشعر بأنه لا يقلع منه إذا مات؛ فإن التكليف انقطع، وكله ميت، وذلك إشارة إلى نجاسة الميت، وقد اختلف أئمتنا في ذلك، فقال قائلون: لا يقلع لما أَشْعر به ظاهرُ كلام الشافعي، وفيه تقطيع الميت وهتك حرمته.
__________
(1) أي عندما يصير تحت اللحم والجلد، فيصبح باطناً.
(2) زيادة من: (ت 1) ، (ت 2) .(2/315)
ومن أئمتنا من قال: يقلع؛ فإنا تُعبّدنا بغسله، وذلك العظم يمنع من وصول الماء إلى ما اتصل العظم به، وهذا إن كان يتحقق ففي العظم الظاهر، وأما إذا اكتسى بالجلد، فيبعد كلُّ البعد أن يكشطَ الجلد، ويخرجَ العظم منه، وقد انقطعت وظائفُ الصلاة، والماءُ يجري على بشرة طاهرة، ومصيره إلى البلى، وظهور النجاسات.
فهذا بيان ترقيع العظم بالعظم النجس.
1093- وأما وصل المرأة شعرها بشعر امرأة أو رجل، فقد قال (1) : والذي إليه الرجوع في ذلك، وهو معتمد الفصل، ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لعن الله الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة، والواشرة والمستوشرة" (2) .
وقال ابن مسعود: ألا ألعن من لعنه الله في كتابه، لعن الله الواصلة، فرجعت امرأة وقرأت القرآن، فلم تجد ذلك، فرجعت إلى ابن مسعود، وقالت: قرأتُ ما بين الدفتين، فلم أجد ما قلتَ. قال: لو قرأتيه (3) لوجدتيه، ألم تسمعي الله تعالى يقول: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] ، ثم روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اللعنَ، وساق الحديث (4) . واللعنُ من أظهر الوعيد، وما اتصل الوعيدُ به اقتضى ذلك التحريم في النهي، والإيجاب في الأمر.
فهذا أصل الفصل.
1094- ثم أذكر تفصيل مذهب الأئمة، فقالوا: إن قلنا: إن الشعر نجس، فاستصحابُ النجاسة في الصلاة محرم، ولا يتلقى من ذلك التحريمُ في غير الصلاة،
__________
(1) أي الشافعي، وهذا معنى كلامه. ر. الأم: 1/46، والمختصر: 1/95.
(2) حديث لعن الله الواصلة ... متفق عليه، فمعناه في جملة من الأحاديث. (ر. اللؤلؤ والمرجان: كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة والمتفلجات والمغيرات خلق الله، ح 1375-1378) .
(3) كذا في جميع النسخ، بإثبات الياء في (قرأتيه) و (وجدتيه) وهي لغة أشار إليها سيبويه، في الكتاب: 4/200 قال: "وحدثني الخليل أن ناساً يقولون: ضربتيه، فيلحقون ... ". وفي خزانة الأدب للبغدادي بتحقيق أستاذنا عبد السلام هارون: 5/268، 269 أتى بالشاهد رقم 382 على أن أبا علي قال: "تلحق الياء تاء المؤنث مع الهاء" فراجعه إذا شئت.
(4) حديث ابن مسعود متفق عليه أيضاً (ر. اللؤلؤ والمرجان: ح 1377) .(2/316)
وإن كان الشعر طاهراً، نظر، فإن كان شعرَ آدمي، فلو أبرزته لزوجها، وكان شعر امرأة، فذلك حرام؛ فإن النظر إلى عضو من أجنبية حرام. وإن كان شعرَ رجل، فنظرها إلى شعر أجنبي، ومسها إياه حرام. فهذا مأخذٌ.
[وللنظر] (1) فيه مضطرَب؛ فإن الأئمة اختلفوا في النظر إلى جزءٍ مفصول من امرأة أجنبية؛ من جهة سقوط الحرمة، وعلى هذا (2) بنَوْا بطلانَ الطهارة بمس الذكر المبان، فهذا فنٌّ.
وقد يرد عليه أنها لو وصلت بشعرها شعرَ امرأة من محارم الزوج والزوجة، وينتشر الكلام ويخرج عن الضبط.
وذهب بعض الأئمة في مذهب آخر فقالوا: إن لم تكن ذات زوج (3 فهذا التزيّن تعرض منها للتهم، وتهدُّف للرّيب، فلا يجوز، وإن كانت ذات زوج 3) ولبّست على زوجها، وخيلت إليه أنه من شعرها، لم يجز.
وإن ذكرت له وكان الشعر شعرَ بهيمة، وكان طاهراً في نفسه، ففي المسألة وجهان: أحدهما - لا يجوز؛ لعموم نهيه ولعنه.
والثاني - وهو الأصح أنه يجوز؛ لأنه تزيّنٌ منها بحلال، واستمالة لقلب الزوج.
قال الصيدلاني: وكذلك ما يشبه هذا من تحمير الوجنة، وما يشبهه مما يخيّل أمراً في الخلقة.
1095- والذي يتحصل من مجموع ذلك أن ما يقع من مجموع هذه الصورة مستنداً إلى أصلٍ، كاستصحاب نجاسةٍ في الصلاة، أو كإبداء عضوٍ لمن يحرم عليه النظر،
__________
(1) كذا في جميع النسخ والمثبت تقديرُ منا، صدقته (ل) .
(2) "وعلى هذا" أي على الخلاف في حكم النظر إلى جزء مفصول من امرأة أجنبية، وسقوط حرمة الجزء، وأنه لا يطلق عليه اسم امرأة، ولا يقال لمن مسّه: إنه مس امرأة. بخلاف الذكر المبان؛ فإنه يطلق عليه الاسم، فتبطل الطهارة بمسه عند القائلين بهذا الوجه.
(3) ما بين القوسين ساقط من (ت 2) .(2/317)
على ما سبق الإيماء إليه، فلا شك في التحريم، وإن كانت برزة [مُربَّأةً] (1) للأجانب، فلا شك في تأكّد الوعيد والتحريم.
فيبقى أن تتزين وتستحلي، ولا تكون ذات زوج، [أو كانت ذات زوج، فتلبِّس عليه أو تذكر له، فإن لم تكن ذات زوج] (2) فقد حرَّم الأئمة لما فيه من الريبة؛ إذ يستحيل أن يُحمل نهيُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على التي تتبرج؛ فإنها متعرضة من جهة تبرجها لسخط الله ولعنته، فلا يليق بنظم الكلام أن يذكر من أمرها التبرج، ويذكر الوصل. ويمكن أن نتمثل في ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس للقاتل من الميراث شيء" (3) ثم قال الأئمة: من قتل مورثه خطأ حُرم ميراثَه؛ من حيث إنه متعرض للريبة، كذلك المستحلية، بل هي أقرب إلى التهمة وإن فعلت ذلك ملبِّسة، فقد قطع الأئمة بالتحريم؛ من جهة أنها مُحْتَكِمة على قلب الزوج بزور وغرور وباطل، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "المتشبع بما لم يُعطَ كلابس ثوبي زور" (4) وأراد
__________
(1) المرأة البرزة: أي التي تجالس الرجال. والمربأة للرجال: بمعنى البرزة أيضاً، من: ربأ الشيء أعلاه ورفعه. (المعجم) .
هذا وهي في الأصل، (ط) ، (ت 2) : مرتابة. والمثبت من: (ت 1) . وهي فيها واضحة مضبوطة بضم الميم، وبفتح الباء المشدّدة. والله أعلم. ثم جاءتنا (ل) وفيها: "مرئية".
(2) زيادة من: (ت 1) ، (ت 2) .
(3) حديث: "ليس للقاتل من الميراث شيء" رواه النسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ: "ليس للقاتل ميراث"، ورواه ابن ماجة ومالك في الموطأ، والشافعي، وعبد الرزاق، والبيهقي، وروي بلفظ مغاير، عن ابن عباس، وعن أبي هريرة، وممن أخرجه: الترمذي، وأبو داود، والدارقطني، (ر. التلخيص: 3/184 ح 1406-1408، والنسائي في الكبرى: الفرائض، باب توريث القاتل، ح 6368، والترمذي: كتاب الفرائض، باب ما جاء في إبطال ميراث القاتل، ح 2109، وأبو داود: كتاب الديات، باب ديات الأعضاء، ح 4564، وابن ماجة: كتاب الفرائض، باب ميراث القاتل، ح 2735، ومالك في الموطأ: 2/867) .
(4) حديث: "المتشبع بما لم يُعْطَ ... " متفق عليه من حديث أسماء (ر. اللؤلؤ والمرجان، كتاب اللباس والزينة، باب النهي عن التزوير في اللباس وغيره والتشبع بما لم يعط، ح 1379) .(2/318)
صلى الله عليه وسلم أن الذي يتزيا للشهادة (1) بالزور كالذي يُري من نفسه بتغيير الخلقة ما لم يخلقه الله تعالى.
ويمكن أن يقرب ذلك من تحريم التصوير.
وأما إذا ذكرت للزوج، فهو على الخلاف، وينبغي عندي أن يختص الخلاف بالوصل لمكان النهي، ثم تردُّدُ الأئمة فيه يشبه تردَّدَهم في أن من قتل قصاصاً مورِّثه هل يُحرَم؟ ووجه الشبه أن من أصحابنا من يتعلق بظاهر الخبر، إذ قال صلى الله عليه وسلم: "ليس للقاتل من الميراث شيء"، ومنهم من يتعلق بالمعنى، ولا يرى للتهمة في قتل القصاص موضعاً. ثم يبعد الخلاف في تحمير الوجه بإذن الزوج؛ إذ ليس فيه خبر، وقد يحمرُّ الوجه لعارضِ غضبٍ أو فرع أو كدًّ وإسراع في المشي.
وأما تطويل الشعر، فإنه تغيير في الخلقة في الحقيقة.
ولست أرى تسويةَ الأصداغ، وتصفيفَ الطُرر محرَّماً. وتجعيد الشعر قريب من تحمير الوجه.
والصيدلاني أجرى الخلاف في التحمير كما ذكرته.
فهذا منتهى الكلام في ذلك.
فصل
قال: "وإذا أصاب الأرضَ بول طهُر بأن يُصبَّ عليه ذنوب من ماء ... إلى آخره" (2) .
1096- مضمون هذا الفصل القول في الأسباب التي تُزيل النجاسة.
وأما إزالة النجاسة عن الثوب والبدن، فيتعين لها استعمال الماء، بحيث يقلع آثار
__________
(1) سببُ ورود الحديث أخرجه مسلم، فتمام الحديث من أوله بلفظ مسلم عن عائشة رضي الله عنها: "أن امرأة قالت: يا رسول الله أقول: إن زوجي أعطاني ما لم يعطني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المتشبع بما لم يُعطَ كلابس ثوبي زور" وقد حكى النووي في شرح مسلم أقوالاً منها قولٌ للخطابي، قال: المراد أن الرجل الذي تطلب منه شهادة زور، فيلبس ثوبين يتجمل بهما، فلا ترد شهادته لحسن هيئته.
(2) ر. المختصر: 1/95. وهو بمعنى كلام الشافعي.(2/319)
النجاسة، كما سبق التفصيل فيه، في كتاب الطهارة، وفي هذا الباب.
وقد ذكرنا الصفاتِ التي تراعى: من اللون، والطعم، والرائحة.
ومما ذكرناه في الطهارة -والحاجةُ الآن ماسة إلى تجديد العهد به إيماء- غسالة النجاسة إذا انفصلت، وحكمُ طهارتها ونجاستها، وقد مضى ذلك مبيناً في كتاب الطهارة.
ثم ظهر اختلاف أئمتنا في أنه هل يجب عصرُ الثوب المغسول عن الغسالة على حسب العادة في مثله؟ وقد قال شيخنا أبو علي: هذا الخلاف بعينه، هو الخلاف في نجاسة الغُسالة وطهارتها. فإن حكمنا بنجاستها، فبالحري أن نوجب العصرَ، لفصلها على حسب الإمكان، مع الاقتصاد في الاعتياد، وإن قلنا: الغسالة التي تنفصل بالعصر طاهرةٌ، فلا معنى لإيجاب العصر مع المصير إلى أنّ ما يعصر لو رُدّ إلى الثوب ساغ.
فهذا تفصيل القول في العصر.
ثم وإن حكمنا بنجاسة الغسالة وأوجبنا العصر، فالبلل الباقي بعد الإمعان في العصر طاهر، وكان من الممكن أن يتوقف الحكم بطهارة الثوب على جفافه عن البلل، فإن معنى الجفاف خطف الهواء أجزاء البلل، ولم يصر إلى اشتراط ذلك أحد.
1097- ثم ذكر الشافعي في صدر الفصل تفصيلَ إزالة النجاسة التي تصيب الأرضَ. ومعتمد المذهب فيها حديث الأعرابي الذي دخل المسجد، وجلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يختص بتكريمه، والرفق به، فقال لذلك في صلاته: اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعد التحلل: "لقد تحجَّرت واسعاً" ثم قام الأعرابي إلى ناحيةٍ من المسجد، فبال فيها، فهمّ به بعضُ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضربه، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تُزْرِموه" أي لا تقطعوا عليه بوله، ثم قال صلى الله عليه وسلم "صبوا عليه ذَنُوباً من ماء" (1) ولعله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) حديث الأعرابي. أصله في الصحيحين، متفق عليه من حديث أنس (اللؤلؤ والمرجان: =(2/320)
علم أنهم لو أزعجوه، لانتشر اللطخ وزاد، فأراد أن تكون النجاسة مجموعة في موضع واحد.
وغرضنا الآن أنه قال: "صبوا عليه ذنوباً من ماء"؛ فمذهبنا أن الأرض إذا أصابها بول، أو نجاسة أخرى مائعة، فكوثر موردُ النجاسة بالماء، حتى غلب على عين النجاسة، ولم يُبق شيئاًً من آثاره إلاّ غمَره، كان ذلك تطهيراً.
1098- وزعم أبو حنيفة أن الأرض لا تطهر بهذا، ما لم يحفر موضعَ النجاسة، وينقل ترابَها (1) . والحديث ناصٌّ في الرد عليه، وإنما قال ما قال من جهة حكمه بنجاسة الغُسالة، فالماء المتردد الحائر في مورد النجاسة نجس وفيه النجاسة، وقد قال أبو حنيفة: صبُّ الماء على مورد النجاسة نشر لها، وسعي في زيادة التنجيس، وتوسيعٌ لمكانه.
فإن قيل: إذا حكمتم بنجاسة الغُسالة، وأوجبتم عصر الثوب المغسول، فماذا ترون في الأرض؟ قلنا: نقول مادام الماء قائماً حائراً، فهو نجس، والأرض نجسة، فإذا نضب الماء، كان بمثابة العصر في الثوب. ثم لا يتوقف الحكم بالطهارة على الجفاف، بل الأرض طاهرة، وإن كانت مبتلة إذا غاض الماء.
ثم هذا القياس يقتضي لا محالة (1 أن يقال: إذا أوجبنا عصرَ الثوب، فلو لم يعصر، وترك حتى جف بالهواء، أو قارب الجفاف، ينزل هذا منزلة العصر، بل هو أبلغ منه.
__________
= 1/64 ح 162) أما صورة القصة، فعند أبي داود: كتاب الطهارة، باب الأرض يصيبها البول، ح 380، 381، والنسائي: الطهارة، باب ترك التوقيت في الماء، ح 52-56، والترمذي: الطهارة، باب ما جاء في البول يصيب الأرض، ح 147، وابن ماجة: الطهارة، باب الأرض يصيبها البول كيف تغسل؟ ح 528-530.
وتُزرموه أي تقطعوا عليه بولته. من زرم البول: انقطع، وأزرم الشيء: قطعه (المعجم) .
(1) ر. مختصر الطحاوي: 31، بدائع الصنائع: 1/89، مختصر اختلاف العلماء: 1/133 مسألة: 22، فتح القدير: 1/174، وتحفة الفقهاء: 1/145، 146.(2/321)
فإن قيل 1) : إذا أوجبتم الحكم بنجاسة الغُسالة، وعلى هذا القول توجبون العصر، فلو أصاب من تلك الغسالة شيء ثوباً، ثم جف عليه، فلا يطهر ذلك الثوب، فأي فرق بين أن يجف على هذا الثوب، وبين أن يصيب ثوباً آخر، ويجف عليه؟
قلت: الفرق هو ضرورة الغسل، ونحن نعترف أن القياس يقتضي ألا نحكم بطهارة الثوب بالماء القليل، فإن الماء ينبغي أن ينجس بملاقاة النجاسة أول مرة، ثم لا يفيد إذا تنجس تطهيرَ المحل، ولكن جرى حكم الشرع بطهارة الثوب مجرى الرخص كما قررتُه في أساليب (2) مسألة إزالة النجاسة فإذا أصاب شيء من الغسالة ثوباً آخر على حُكْمنا بنجاسة الغسالة، لم يطهر ذلك الثوب بالعصر والجفاف، بل سبيل ما أصاب، كسبيل النجاسة تُصيب ثوباً، وإذا جف عن الثوب الذي ورد عليه، يجب الغسلُ عن هذا، عصراً وفصلاً للغسالة.
1099- ثم المتبع في نجاسة الأرض أن تصير مغمورة، وذلك يختلف بمقدار النجاسة وكيفيتها، وليكن مقدار الماء المصبوب، من الذنوب، أو القربة على حالة النجاسة.
وذكر الصيدلاني: أن من أصحابنا من قال: ينبغي أن يكون الماء المصبوب سبعة أمثال النجاسة، وهذا لست أعرف فيه توقيفاً، ولا له تحقيقاً من جهة المعنى، بل الذي أراه أنه لا يكتفى في المكاثرة والمغالبة بهذا أصلاً.
ثم من ركيك ما فرعه المفرعون أن قالوا: قد قال الشافعي: "وإن بال اثنان لم يطهرها إلا دلوان"، فذهب ذاهبون إلى أنه يجب رعاية ذلك، وهذا الفن من الكلام مما لا يقبله لبُّ عاقل، فأي معنىً لتعدد الدَّلو والغرضُ المكاثرة؟ وأي فرق بين أن يجمع ملء دلوين في دَلوٍ عظيم ويصب، وبين أن يكون في دَلوين فيصبان؟ فأي أثر لصورة الدلو؟ وقد يكثر بول بائل، ويقلُّ بولُ بائلين، فاعتبار مقدار النجاسة، وتنزيلُ
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2) .
(2) إشارة إلى كتابه (الأساليب) وهو في علم الخلاف.(2/322)
مقدار الماء على مقدارها بنسبة المغالبة مقطوعٌ، لا مراء فيه.
1100- وكل ما ذكرناه والنجاسة التي أصابت الأرضَ مائعة، فأمّا إذا كانت جامدةً، فلا يُحكم بطهارة موردها، مادامت النجاسة شاخصة قائمة، فالوجه نقل تلك الأعيان، ثم صب الماء، والمغالبة بعد ذلك.
فهذا بيان استعمال الماء في الأرض، وتنزيل نضوب الماء منزلة العصر في الثوب.
1101- ثم قال الشافعي: إذا أصاب الأرضَ بول، ثم حميت الشمس عليها أياماً، وزالت آثار النجاسة، لم تطهر الأرض، ما لم يُستعمل الماء على الترتيب المذكور.
ونص في القديم على أن الأرض تطهر إذا زالت النجاسة بهذه الجهة، فاتخذ المفرّعون هذا القول القديمَ أصلاً، وخرجوا عليه أشياء كما سنذكرها وِلاءً إن شاء الله.
منها أن الزبل (1) إذا اختلط بالتراب وتطاول الزمان، وخرج عن صفته، وانقلب إلى صفة التراب، والتفريعُ على القول القديم، ففي الحكم بطهارته وجهان: أحدهما - نجس؛ فإنَّ عين النجاسة قائمة.
والثاني - أنه طاهر لانقلابه تراباً، وللاستحالة أثر في تغيير الأحكام؛ فإن العصير إذا اشتدّ ينجُس، ثم إذا انقلبت الخمر خلاً، فالخل طاهر في نفسه.
وقالوا: إذا وقع كلب في المملحة، فانقلب على مر الزمان، ملحاً ظاهراً وباطناً، فهل يطهر؟ وهل نحكم له بما نحكم به للملح، لمكان هذه الاستحالة؟ فعلى الوجهين المذكورين في انقلاب الزبل تراباً.
1102- ثم مذهب أبي حنيفة أن رماد كل عين نجسة طاهر (2) ، وهذا بعيد على مذهب الشافعي، وقد صار إليه أبو زيد المروزي والخِضري (3) من أصحابنا، تفريعاً على القول القديم.
__________
(1) في (ت 2) : البول.
(2) ر. فتح القدير: 1/200، بدائع الصنائع: 1/85.
(3) "الخِضري" جاء في (ت 1) بالحاء المضمومة، والضاد مفتوحة، وهو سبق قلم من الناسخ.
عفا الله عنا وعنه.(2/323)
1103- ومما أجراه الأصحاب على ذلك أن قالوا: إذا ضُرب اللَّبِن (1) بماءٍ نجس، وجف، فهو نجس، فلو صب على ذلك ماء طهور حتى انتقع ووصل الماء إلى أجزائه، كان هذا بمثابة ما لو أصاب الأرضَ نجاسة فصب الماء عليها، وكوثرت به.
ولو اتخذ من ذلك اللَّبِن آجُراً، فهل يطهر؟ قالوا: إن حكمنا بأن الشمس لا تطفر، فالآجر نجس، وإن قلنا: بأن الشمس تطهر، فالنار أقوى أثراً وأبلغ، فينبغي أن يطهر الآجُر.
وحاصل هذا القول فيما ذكرناه: أنا على الجديد لا نحكم لشيء أصابته نجاسة بالطهارة، حتى يُصبَّ عليه الماء، كما تفصل، وإن احتُفر الترابُ، ونقل، فهذا من باب إعدام محل النجاسة، وهو كما لو أصابَ ثوباً نجاسة، فقُرض موردها بمقراض ونُحي.
فهذا قاعدة المذهب.
1104- ونصَّ الشافعي في القديم أن الشمس إذا حميت وأزالت عينَ النجاسة، طهر المكان، ونزل منزلة ما لو احتُفر التراب ونُقل، وقد تحقق عدم النجاسة، فخرج أصحابنا على القول القديم فرعين: أحدهما - انعدام العين [بتأثير النار، وهذا التخريج متجه منقدح لا بد منه] (2) .
والثاني - تغير صفات النجاسة بانقلابها تراباً، أو ملحاً، أو رماداً، كما ذكرناه، وهذا أبعد من جهة أن عين النجاسة قائمة، وإنما تغيرت الصفات، وحالت من نعت الإنتان، وصفة الاستقذار إلى نعتٍ آخر، وكان هذا تخريجاً على التخريج تقريباًً.
والذي يقتضيه الترتيب أن يقال: إذا جعلنا خطفَ الشمس والنار لعين النجاسة تطهيراً، ففي تغيّر الصفات وجهان. ثم ينبغي أن تتغير إلى صفات أعيان طاهرة النوع كالذي ينقلب تراباً، أو ملحاً، أو رماداً، فإن هذه أنواع طاهرة في أنفسها.
__________
(1) "اللبن" هو القوالب التي تصنع من الطين المخلوط بالتبن ونحوه، ويجفف ويبنى به، وقد يحرق بالنار ويطبخ بها حتى يستحيل إلى آجر، وصناعته تسمى (الضرْب) .
(2) زيادة من: (ت 1) ، (ت 2) .(2/324)
وعندي أن جميع ذلك غيرُ معدود من مذهب الشافعي؛ فإنه ينشأ من قول قديم له في الشمس، وقد ذكرنا أن القول القديم مرجوع عنه، غيرُ معدود من المذهب.
والذي يحقق ذلك أنا لو فتحنا هذا الباب في النجاسات، فليت شعري ماذا نقول في صخرة صماء أصابتها قطرة من بول، ثم صب عليها دُفعُ الخلِّ الرقيق الثقيف (1) في حدورٍ وصبب! فنعلم قطعاً أن تلك القطرة قد زالت، ولم يبق منها أثر، فإن كنا نرعى زوال عين النجاسة، فينبغي أن نحكم بطهارة تلك الصخرة [على هذه الصورة، ولا يسمح بها أحد ينتحل مذهب الشافعي،] (2) وهذا لازم قطعاً على هذا القياس.
فرع:
1105- إذا فرعنا على القديم، وقلنا: الشمس تطهّر الأرض، وكذلك النار، فلو أصابت النجاسةُ ثوباً، ثم أثرت الشمس فيها، فانقلعت آثار النجاسة، فقد قال أبو حنيفة: لا يطهر الثوب بهذا، وإنما تطهر الأرض؛ فإن في أجزاء. التراب قوة محيلةً تحيل الأشياءَ إلى صفة نفسها، وهذا لا يتحقق في الثياب.
وأصحابنا نزلوا الثوب منزلة الأرض، وما ذكره أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه غيرُ بعيد، فليخرج الثوب على وجهين -إن قلنا الشمس تطفَر الأرض- لما ذكرته من الفرق بينهما (3) .
ثم ذكر بعض المصنفين: أنا إذا حكمنا بأن الثوب يطهر بالشمس، فهل يطهر بالجفاف في الظل؟ فعلى وجهين. وهذا في نهاية البعد، ثم لا شك أن نفس الجفاف لا يكفي في شيء من هذه الصور؛ فإن الأرض تجف بالشمس على قرب، ولم تنقلع بعدُ آثار النجاسة، والمرعي انقلاع الآثار على طول الزمان (4) بلا خلاف، وكذلك القول في الثياب.
فرع:
1106- الآجُرُ الذي كان عُجن بالماء النجس في طهارته كلام، فإن قلنا: إنه نجس -وهو المذهب والقول الجديد- فلو نقع في الماء زماناً، لم يطهر باطنه، فقد
__________
(1) ثقف الخل اشتدت حموضته، فصار حريفاً لاذعاً، فهو ثقيف.
(2) زيادة من: (ت 1) ، (ت 3) .
(3) ر. الدرة المضية: مسألة رقم 102، 103.
(4) في (ت 2) : (فلا) .(2/325)
استحجر، ولا يتغلغل الماء إلى أجزائه الباطنة، بخلاف اللَّبِن الذي عجن بماء نجس، ثم صُب عليه الماء، فنفذ؛ فإن هذا ينزل منزلة الأرض النجسة يُصبُّ عليها الماء كما تقدم، فإذا تبين أن باطن الآجُر لا يطهر، حيث انتهى التفريع إليه، فهل يطهر ظاهره إذا أفيض الماء عليه حتى تصح الصلاة عليه؟ قال القفال: يطهر ظاهره؛ فإن الماء يصل إليه، وقال الشيخ أبو حامد: لا يطهر؛ فإنه صار بتأثير النار مستحجراً، فلا يؤثر صب الماء في قلع شيء منه، فلا تزول نجاسة ظاهره بجريان الماء عليه.
والأمر في ذلك مفصل عندي: فإن كانت نجاسة الآجر بسبب أنه عُجن ببول أو ماء نجس، فالوجه القطع بأنه يطهر من ظاهره؛ فإن النار قد سلبت الماء، وطيرته قطعاً، ولكنا في التفريع على الجديد لا نحكم بطهارته تعبُّداً، حتى يستعملَ الماء، فإذا جرى الماءُ على ظاهره، فلا يبقى بعد ذلك عذر.
فأما إن كان سببُ نجاسة الآجر أنه كان خُلط ترابه بالزبل أو الرماد النجس -على الجديد- فلا يطهر ظاهرُه بصب الماء عليه؛ فإن تلك الأعيان مستحجرة لا يزيلها الماء من ظاهر الآجر.
وهذا التفصيل لا بد منه، فإن كان أبو حامد يخالف في طهارة ظاهر الآجرّ وسببُ نجاسته ماءٌ نجس، فلا وجه لخلافه، وإن كان القفال يقول في الآجر الذي سبب نجاسته الزبل والرماد النجس: إنه يطهر ظاهره، فلا وجه لقوله. وإن كانا يُفصِّلان، فلا خلاف بينهما إذاً.
هذا تفصيل القول في الأسباب التي تُزيل حكمَ النجاسة، على الوفاق والخلاف.
فصل
قال: "والبساط كالأرض ... إلى آخره" الفصل (1)
1107- ذكرنا فيما تقدم تقاسيمَ القول في النجاسات، ثم ذكرنا بعدها ما يزيلها، ومضمون هذا الفصل ما يجب التوقي عنه في البدن، والثوب، والمصلَّى.
__________
(1) ر. المختصر: 1/96.(2/326)
1108- فإن كان على بدنه نجاسة لا يُعفى عنها، لا تصح صلاته، وإن كان حاملاً نجاسة، لا تصح صلاته، فإن حمل حيواناً طاهر العين، جاز، ولا حكم للنجاسات التي يحتوي عليها جوفُه. نعم منفذ ذلك الطائر قد لاقته النجاسة البارزة منه، وذلك جزء ظاهر نجس. فمن أئمتنا من قال: يُعفى عن هذا القدر إذا لم تكن النجاسة باديةً. ومنهم من جرى على القياس، ومنع صحة الصلاة.
فعلى هذا قالوا: إذا اقتصر الرجل على الأحجار في الاستنجاء، فالأثر اللاصق بمحل النجو نجس، ولكنه نجس معفوٌّ عنه في حق المستنجي، فلو حمل مصل هذا الشخصَ في صلاته، ففي صحة صلاته وجهان: أحدهما - الصحة؛ فإن الأثر معفو عنه، ولا حكم له.
والثاني - أنه لا يصح؛ فإن العفو مختص بالمستنجي، فلا يتعدى إلى الحامل، والخلاف في المقتصر على الأحجار أظهر، من جهة أن الشرع طهَّر أثرَه بالعفو عما به، ولم يُطَهِّر ذلك في الحيوانات المحمولة، فالوجه القطع فيها بالمنع.
1109- ولو حمل المصلي بيضة مَذِرةً، حشوها دمٌ، فقد اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: النجاسة المستترة بالقيض (1) لا حكم لها؛ فإنها مستترة استتار خلقة، فأشبه النجاسات الكائنة في جوف الحيوان المحمول.
ومنهم من قال: حكمها حكم النجاسة البادية؛ فإن نجاسة الحيوان تدرأ حكمها حياةُ ذي الروح، وللحياة أثر في دفع النجاسات، والبيضة جماد.
وهذا الخلاف يجري فيمن حمل عنقوداً، قد استحال باطن حباته خمراً، ولكنها مستترة بالقشور من غير رشحٍ.
ولو حمل المصلي قارورة مُصَمَّمَة الرأس فيها نجاسةٌ، فظاهر المذهب أن صلاته تبطل؛ فإن هذا الاستتار ليس من جهة الخلقة، وخرّج ابن أبي هريرة (2) ذلك على
__________
(1) القيض: القشرة العليا على البيضة. (معجم) .
(2) ابن أبي هريرة: الإمام القاضي أبو علي الحسن بن الحسين، تففه على ابن سريج، وأبي إسحاق المروزي، وشرح المختصر. ت 345 هـ (طبقات السبكي 3/256، البداية والنهاية: =(2/327)
وجهين كالبيضة المذرة، وهذا مردود عليه.
ولو حمل نجاسةً ملفوفة في خرقة أو قرطاسٍ، أو ما أشبههما، فلا أتخيل في ذلك خلافاً، وإنما ذكر ابن أبي هريرة الخلاف فيما يضاهي سترُه للنجاسات سترَ البيض، بحيث لا يتوقع بروزها وظهورها بوجه.
فإذا قد ظهر أنا نشترط طهارةَ بدنِ المصلي وثيابِه، التي هو لابسها، وكل ما يلقاه عضو من أعضائه في الصلاة، فلا بد من طهارة موطىء قدميه وموضع أعضاء سجوده؛ فإن الثوب الذي هو لابسه منسوب إليه في الصلاة ملبوساً، والذي يلقاه منسوب إليه ممسوساً، وإذا تحققت الملاقاة بين المصلي والنجاسة، فاختلاف السبب بعد ذلك لا أثر له، ولا بد للمصلي من مكانٍ يصلي عليه، كما لا بد من ثوب يلبسه.
1110- ولو كان يحاذي بدنَ المصلِّي في سجوده نجس [وكان لا يلاقيه بدنُه ولا ثوبُه، مثل أن يكون على حيال صدره في السجود نجس،] (1) ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن الصلاة صحيحة لانتفاء الملاقاة.
والثاني - أنها باطلة؛ فإن القدرَ الذي يوازي الساجد ويسامته منسوب إليه (2 مختص به، كما أن قميصه الفوقاني الذي لا يلقَى بدنَه منسوب إليه 2) على الاختصاص باشتراط طهارته، وإن كان لا يلقاه، فهذه الأصول التي تشترط فيها الطهارة.
1111- وإذا كان يصلي على بساط، وكان يلاقي أعضاؤه في السجود، ويسامتُ بدنُه وثيابُه طاهراً (3) ، وكان طرف ذلك البساط نجساً، فلا يضرّ نجاسةُ ذلك الطرف، ولا فرق بين أن يكون ذلك الطرف بحيث يتحرك بحركة المصلي أو لا يتحرك، ولا حاجة إلى تعليل البينات.
__________
= 11/304، تاريخ بغداد 7/298 وشذرات الذهب: 2/370، وطبقات الشيرازي: 112) .
(1) زيادة من: (ت 1) ، (ت 2) .
(2) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2) .
(3) (طاهراً) مفعول لفعلي: يلاقي، ويسامت.(2/328)
1112- ولو كان يصلي على بساطٍ صفيق، وكان الوجه الذي يلي الأرض نجساً، ولا نجاسة على الوجه الذي يلي المصلي، صحت الصلاة، ولا يضر نجاسةُ الوجه الذي لا يلي المصلي، وهو بمثابة ما لو كان يصلي المصلي على طبقة طاهرة من أرض، وكان وراءها نجاسة مستترة، بالطبقة العالية، فلا أثر لها، فالصلاة صحيحة.
1113- ولو كان المرء يصلّي، وكان يحتك في قيامه بجدار نجس، فصلاته باطلة، لملاقاة النجاسة.
ولو كان على رأسه طرف عمامة وكان طاهراً، وكان الطرف الآخر من العمامة نجساً، وكان ملقى على الأرض متضمخاً بالنجاسة، فالصلاة باطلة، فاتفق (1) أصحابنا عليه؛ فإن تلك العمامة تعد من ملبوساته، وإن كان ذلك الطرف بعيداً عنه، ولا فرق بين أن يتحرك ذلك الطرف بحركته وبين أن يكون بحيث لا يتحرك بحركته.
وهو كما (2) لبس قميصاً طويلاً عليه، وكان بحيث لا يرتفع طرف ذيله بارتفاعه، (3 وكان نجساً، فالصلاة باطلة.
ولو كان بيد المصلي طرف طاهر من حبل والطرف الآخر نجس، وهو بحيث لا يتحرك بارتفاعه 3) وانخفاضه، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا تصح صلاته، كطرف العمامة.
والثاني - تصح؛ فإن العمامة منسوبة إليه لبساً؛ إذ أحد طرفيه مُكوّر على رأسه، والملبوس وإن طال، فالمصلي مأخوذ بطهارته كالقميص وإن كان مستمسكاً بطرف الحبل؛ فليس الحبلُ ملبوسَه، وليس الطرف النجس محمولَه، فإنه لا يرتفع بارتفاعه.
ولو استمسك بطرف عمامة على هذه الصورة، لكانت المسألة مختلفاً فيها كالحبل.
__________
(1) في (ل) وحدها: "اتفق".
(2) في (ل) وحدها: "وهو كما لو لبس".
(3) ما بين القوسين ساقط من (ت 2) .(2/329)
ولو كان شد الطرف الطاهر من الحبل على حبله (1) ، أو وسطه، والطرف النجس مُلقىً على الأرض، لا يتحرك، فقد ذكر العراقيون وغيرهم في هذه الصورة وجهين أيضاً؛ فإنه ليس للحبل إليه انتسابٌ، إلا من جهة التمسك، وإن شده على يده (2) أو وسطه، فهو استيثاق للإمساك، وليس بلُبس. ولو كان طرف الحبل بيده والطرف الآخر ملقى على نجاسة يابسةٍ، فهو كما لو كان ذلك الطرف البعيد نجساَّ، فيخرّج على الخلاف المقدم، فلا فرق بين نجاسة الشيء وبين وقوعه على الشيء النجس.
1114- ولو تمسك بطرف حبل، والطرف الآخر مشدود في عنق كلب، فهو كما لو كان ملقى على نجاسة يابسة، ولو كان الطرف المشدود على الكلب غيرَ بعيد من المصلي، وكان بحيث لو مشى الكلب به، لكان المصلي حامله، فهذه الصورة مرتبة على ما إذا كانت بعيدة، وهي أولى باقتضاء البطلان، وفيها احتمال من جهة أن المصلي ليس حاملَه، ولو كان الطرف الآخر متعلقاً بساجور (3) ، والساجور في عنق كلب، ففي هذه الصورة وجهان مرتبان على الوجهين، فيه، إذا كان الحبل يلقى جِرم الكلب، وصورة [الساجور] (4) أولى بالصحة؛ فإن بين الكلب وبين طرف الحبل واسطة وهي الساجور.
ولو كان طرف الحبل في عنق حمار، وعلى الحمار نجاسة، فهذه الصورة مختلف فيها، وهي أولى بالصحة من صورة الساجور؛ فإن الساجور لا يبعد أن يعد
__________
(1) كذا في جميع النسخ، والحبل يطلق في اللغة على معانٍ عدة منها: حبل العاتق وهو عصب بين العنق والمنكب، فلعله المراد هنا، فالمعنى: "لو شدَّ الطرف الطاهر على عاتقه أو وسطه" فالكلام على التوسع في العبارة أو على حذف مضاف (ر. لسان العرب - مادة: ح. ب. ل) . ثم جاءتنا (ل) وفيها: "على يده" فالله أعلم بما قاله المؤلف. وإن كنت أرجح ما في النسخ الأخرى، على (ل) ؛ فإن الأصل أن لغة القرن الخامس غير لغتنا، ودائما النساخ يغيرون الكلمات غير المألوفة عندهم إلى كلمات أخرى تناسب السياق. والعلم عند الله.
(2) هنا قابل بين يده ووسطه، وفيما مضى من عدة أسطر قابل بين حبله ووسطه، فهل الحبل بمعنى اليد؟
(3) الساجور: القلادة التي توضع في عنق الكلب. (المعجم) .
(4) ساقطة من الأصل، ومن (ط) .(2/330)
جزءاً من الحبل، والحمار ليس جزءاً من الحبل أصلاً.
ولو كان طرف الحبل متعلقاً بسفينة فيها نجاسة، فإن كانت بحيث تنجرّ بالحبل لو جُرّت، فهذه الصورة كصورة الشد على عنق حمار، وإن كانت السفينة بحيث لا تنجر بالحبل لكبرها، فالوجه القطع بصحة الصلاة، فإن الحبل يتعلق بطاهرٍ، ووراء متعلَّقه النجاسة، وليست السفينة جزءاً من الحبل، ولا بحيث تنجر بحركة الحبل، فكان ذلك كما لو كان الحبل متعلقاً بباب بيت، وفي البيت نجاسة.
وذكر العراقيون اختلافاً في السفينة الثقيلة والحبل؛ فإن السفينة على حالٍ تجر بالحبال، وهذا بعيد جداً.
وقد زيف العراقيون الخلاف فيه، وإن حَكوه، والوجه القطع بالصحة.
ولو كان أحد طرفي الحبل متعلّقاً [بالكلب] (1) من غير واسطة، والطرف الآخر تحت قدم المصلي، فتصح صلاته وجهاً واحداً، فإن هذا الطرف في حكم البساط، ولو كان الطرف الذي يصلي عليه المصلي طاهراً، وكان الطرف الذي لا يلاقي المصلّي ولا يسامته نجساً، لم يضر ذلك، وقد قطعنا به فيما تقدم.
1115- فخرج مما قدمناه أن كل ما ينتسب إلى المصلي ملبوساً، فهو مؤاخذ بطهارة جميعه، فلو كان طرفٌ منه نجساً أو ملقى على نجاسة، لم تصح الصلاة، طال أو قصر.
وإن كان ينتسب إلى المصلي انتساب البساط بأن كان تحت قدمه، فإنما يؤاخذ المصلي بطهارة ما يلاقيه أو يوازيه.
وإن كان ينتسب إليه من جهة الحمل، فمن ضرورة ذلك أن يكون المصلي رافعه وشايله (2) ، وإن انتسب إليه بتمسكه به، والطرف الآخر نجس، وما كان المصلي شايله، ففي هذا الاختلافُ [والتفصيل] (3) ، والفرقُ بين أن يكون واسطة أو لم يكن،
__________
(1) في الأصل وفي (ط) : بالباب.
(2) شايله: رافعه. من شاله يشيله شيلاً: رفعه (المعجم) .
(3) زيادة من: (ت 1) ، (ت 2) .(2/331)
ثم الفصل بين أن تكون الواسطة الطاهرة ساجوراً، أو حيواناً، أو صفيحةً طاهرة في سفينة، وحشوها نجس.
فصل (1)
1116- إذا كان المصلي على بساطٍ نجسٍ، وكان فرشَ إزاراً سخيفاً (2) مهلهل النسج، ذكر الأئمة فيه خلافاً، من حيث إنه يُعد حائلاً، والظاهر المنع؛ لأن المصلي وثوبَه الذي هو لابسه يلقى البساط النجس من خلال الفُرَج في أثناء النسج السخيف، والمسألة مصورة في البساط النجس الجاف.
1117- وإذا منعنا الرجل من الجلوس على الحرير، فبَسَطَ فوقه إزاراً صفيقاً، فجلس عليه، جاز. فلو بسط إزاراً سخيفاً، كما ذكرناه، ففي جواز الجلوس عليه التردد الذي ذكرناه في البساط النجس في حق المصلي.
فصل
1118- المحدِث يدخل المسجد عابراً وواقفاً، والجنب يدخل المسجد عابراً، ويحرم عليه اللُّبث فيه، والحائض إن كان يُخشى منها تلويث المسجد، فهي ممنوعة من الدخول، وليس ذلك من خصائص أحكام الحيض؛ فإنَ من به سلسُ البول، واسترخاء الأسفل، أو جراحة نضاحة بالدم، بحيث يُخشى منه التلويث، يُمنع من دخول المسجد.
وإن كان لا يخشى منها التلويث، فهي ممنوعة من المكث، وهل تمنع من العبور؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنها تمنع؛ لأن حكم الحيض أغلظ من حكم الجنابة.
والثاني - وهو الذي اختاره الصيدلاني وقطع به، أنها كالجنب في جواز العبور،
__________
(1) في (ل) وحدها (فرعٌ) مكان (فصل) .
(2) السخيف غير متماسك النسج.(2/332)
وإنما اختار هذا؛ لأن إثبات حكم [جزئي] (1) لاعتقاد افتراق كلي لا يتجه. وهو بمثابة قولنا: لا يحرم على الجنب ذكر الله، ولا يحرم أيضاً على الحائض، ولا يجب من افتراقهما في أحكامٍ لا تعلق لها على الاختصاص بما نطلبُه أن يفترقا فيما نحن فيه.
ويمكن أن يقال: المسلمون مستوون في المسجد؛ فإنه بيت الله، والمؤمنون عباد الله على إضافة التخصيص والتشريف، والمُحْدِث يصحُّ اعتكافه، ولا يحرم عليه اللُّبث، والجنب يحرم عليه الاعتكاف، فلم يكن من أهل اللُّبث؛ إذ لو كان من أهله، لكان من أهل الاعتكاف، والعبور لا يحرم عليه؛ فإنه ليس فيه ما يقتضي تحريم العبور، فلتكن الحائض التي لا يخشى عليها (2) التلويث كذلك.
ثم العبور الذي يتّجه هو على الاعتياد والاقتصاد؛ فلا نأمره بالإسراع في المشي، ولعل الضبطَ فيه ألا يعرج في موضع بخط تعريجاً يقضي بأن مثله يكون أقلَّ ما يجزىء في الاعتكاف، إذا جرينا على أن الاعتكاف شرطه اللّبث.
ثم لا نؤاخذ العابر بسلوك أقصد الطرق، وكيف يُظن هذا، وله أن يدخل المسجد ابتداءً عابراً، وإنما يتخيل هذا الفرق على مذهب أبي حنيفة (3) ، فإنه لا يرى للجنب أن يدخل المسجد، لكن لو كان فيه، فاحتلم، فيخرج. ثم قال: إنه بالخيار إن شاء انتحى أبعد الأبواب، وإن شاء خرج من السبيل الأقرب. ولكن لا ينبغي للعابر عندنا أن يتردد في أكناف المسجد، معتقداً أن له أن يمشي؛ فإن التردد في غير جهة الخروج في حكم المكث. وهذا بيّن.
1119- وأما الكافر؛ فإن لم يكن جنباً، فله أن يدخل المسجد بإذن واحدِ من المسلمين، وهل له أن يدخل من غير إذن؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يدخل؛ فإن الكافر ليس من أهل من يقيم في المسجد، فكأن المسجدَ يختص بالمسلمين اختصاصَ دار الرجل به.
__________
(1) في جميع النسخ: "جديد" والمثبت مما أفدناه من (ل) .
(2) كذا في جميع النسخ، على التوسع في إنابة حروف الجر بعضها عن بعض، فإن (على) من معانيها المصاحبة. وأما (ل) ففيها: "منها".
(3) ر. حاشية ابن عابدين: 1/115.(2/333)
والثاني - أنه يدخل؛ فإنه بالجزية، صار من أهل دار الإسلام، (1 والمسجد من المواضع العامة في دار الإسلام 1) ، فشابه الشوارع التي يطرقها الكافة.
وإن كان الكافر جنباً، فهل يجوز تمكينه من المكث في المسجد؟ اختلف أئمتنا فيه، فمنهم من منع من ذلك؛ فإنه إذا كان يُمنع المسلم الجنب رعايةً لحق المسجد وحرمته، فلأن يمنع الكافر أولى.
ومنهم من قال: لا يمنع؛ فإنه ليس معتقداً لاحترام المسجد، ولا تتعلق تفاصيل التكليف به مادام كافراً، وكان الكافرون يدخلون مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم -مع القطع بأنهم يجنبون- ويجلسون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويطوّلون مجالسهم، وربط رسول الله صلى الله عليه وسلم ثُمامةَ على ساريةٍ في المسجد في القصة المشهورة (2) .
فصل
1120- صح نهيُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في سبعة مواطن: "المزبلة، والمجزرة، وقارعة الطريق، وبطن الوادي، والحمّام، وظهر الكعبة، وأعطان الأبل" (3) ، وقد سبق الكلام على بعض ما اشتمل عليه الحديث.
1121- والذي نبغيه الآن الحمَّامُ وأعطان الإبل، فأما نهيُه عن الصلاة في الحمّام، فنهيُ كراهية، وذكر الفقهاء معنيين: أحدهما - أنه لا يخلو عن رشاش وبَدْوِ عورات، والثاني أنه بيت الشياطين، وخرَّجوا على ذلك الصلاة في المسلخ، وإن علَّلنا النهي
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2) .
(2) حديث ربط ثمامة. متفق عليه من حديث أبي هريرة مطولاً. (اللؤلؤ والمرجان: الجهاد، باب ربط الأسير وحبسه وجواز المنّ عليه، ح 1152) .
(3) حديث النهي عن الصلاة في سبعة مواطن، رواه الترمذي عن ابن عمر، ورواه ابن ماجة من طريق ابن عمر عن عمر، وفي سند كل منهما راو ضعيف. كذا قال الحافظ، فانظر تفصيل قوله في التلخيص: 1/215 ح 320.(2/334)
بالترشش وبدْو العورات، فهذا لا يثبت في المسلخ، وإن عُلّل بأنه بيت الشياطين، فقد يعم ذلك المسلخ.
ومما نتكلم فيه الصلاة في أعطان الإبل -نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيها- وليس المراد بالأعطان المرابط التي يكثر البول والبعر فيها؛ فإنه عليه السلام نهى عن الصلاة في الأعطان، وسوغّ الصلاة في مرابض الغنم، ولو كان النهي للنجاسة، استوى الغنم والإبل. والمراد بالأعطان أن الإبل قد تزدحم على المنهل، فتفرَّق أذواداً (1) كلما شرب ذود نُحِّي، حتى إذا توافت [استيقت] (2) ، فلا يكثر فيها الأبوال والأرواث، ومُراح الغنم يصور حسب تصوير أعطان الإبل، ثم سبب الفرق بينهما مذكور في الحديث، والإبل لا يؤمن نفرتها. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الإبل: "إنها جن خلقت من جن، ألا تراها إذا نفرت كيف تشمخ بآنافها، وقال في الغنم: إنها خلقت من السكينة؟ فإنها من دواب الجنة" (3) .
***
__________
(1) فتفرق أذواداً: تفرق: تتفرق بحذف تاء المضارعة، والأذواد: جمع ذَوْد، وهو القطيع من الإبل بين ثلاث إلى العشر (المعجم) .
(2) في جميع النسخ (استبقت) بالباء. ولكن ابن الصلاح قال في مشكل الوسيط: هي بتاء مثناة مكسورة، ثم بياء مثناة من تحت ساكنة، فعلٌ لم يسم فاعله، يقال: ساقها واستاقها، فاعلمه؛ فإنه تصحف" ا. هـ بنصه. (مشكل الوسيط بهامش الوسيط: 2/172) .
(3) جزء من حديث، ساقه الإمام على غير ترتيب وروده في كتب السنة، وقد رواه الشافعي، والبيهقي، وروى أحمد، والنسائي، وابن ماجة، وابن حبان، والطبراني نحوه. (ر. مسند الشافعي: 2/67 ح 19، البيهقي: 2/449، المسند: 5/56، 57، وابن ماجة: المساجد، باب الصلاة في أعطان الإبل ومراح الغنم، ح 769، وصحيح ابن حبان: 1702، وشرح السنة: 2/404 ح 504، والتلخيص: 1/276 ح 432) .(2/335)
باب الساعات التي تكره الصلاة فيها
1122- قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم النهيُ عن الصلاة في خمسة أوقات، روى أبو ذر وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا صلاة بعد الصبح، حتى تطلع الشمس ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس" (1) ، وروى عبد الله الصُّنَابحي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الشمس تطلع ومعها قرن الشيطان، فإذا ارتفعت، فارقها، فإذا استوت قارنها، فإذا زالت، فارقها، فإذا دنت للغروب، قارنها، فإذا غربت، فارقها" (2) ، ونهى عن الصلاة في هذه الأوقات.
فإذاً الساعات التي تكره فيها الصلوات بلا سبب خمس: ثلاث منها تتعلق بالزمان من غير تأثير فعلى: أحدها - إذا دنا طلوع الشمس، فاختلف في ذلك، فقال قائلون: إذا بدت بوادي الإشراق، دخل وقت الكراهية إلى طلوع القرصة بتمامها، وقيل:
__________
(1) الحديث بقريب من هذا اللفظ متفق عليه من حديث أبي سعيد (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/159 ح 474) . وأما عن أبي ذر، فقد أخرجه الشافعي، وأحمد، وابن عدي، ورواه ابن خزيمة في صحيحه والبيهقي في السنن، وفي المعرفة. أما عن أبي هريرة، فقد رواه البخاري ومسلم بلفظ: "نهي عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس.." الحديث. قاله الحافظ في التلخيص: (1/185، 189 ح 265، 275) . وانظر البخاري: مواقيت الصلاة، باب لا يتحرى الصلاة قبل الغروب، ح 588، ومسلم صلاة المسافرين، باب الأوقات التي نهى عن الصلاة فيها، ح 825، ومعرفة السنن والآثار: 2/275 ح 1316، والسنن الكبرى: 2/461، والمسند: 5/165، والكامل: 4/137 ترجمة عبد الله بن المؤمل، وصحيح ابن خزيمة: 4/126 ح 2748".
(2) حديث عبد الله الصنابحي: رواه مالك في الموطأ، والشافعي عنه، والنسائي، وابن ماجة (ر. التلخيص: 1/185 ح 266) وانظر أيضاً الموطأ: 1/219 كتاب القرآن، وترتيب مسند الشافعي: 1/55 ح 163، والنسائي: المواقيت، الساعات التي نهي عن الصلاة فيها: 1/275 ح 559، وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في الساعات التي تكره فيها الصلاة ح 1253.(2/336)
يمتد وقت الكراهية إلى استيلاء سلطان الشمس، فإن الشعاع يكون ضعيفاً في الابتداء، ثم يظهر ويُبهر، كما أنها إذا تطفلت (1) للغروب يضعف نورها، وظاهر الخبر يدلى على الوجه الآخر؛ إذ فيه: "فإذا ارتفعت فارقها"، وهذا يظهر الشعاع.
وأما الساعة الثانية، فوقت الاستواء إلى أن تزول.
وأما الساعة الثالثة، فوقت الغروب، وهذا إذا اصفرت الشمس، وقد ورد في النهي عن تأخير الصلاة إلى اصفرار الشمس أخبار تُحقِّقُ ما ذكرناه.
فأما الساعتان الباقيتان المتعلقتان بالفعل، فمن فرغ من فريضة الصبح، كرهنا بعدها كل نافلةٍ، لا أصل لها، ولا سبب، حتى تطلع الشمس. ومن فرغ من فريضة العصر، كرهنا له إقامة ما لا سبب له (2 من النوافل حتى تغرب الشمس.
ووجه تعلقها بالفعل أن من غلس بصلاة الصبح، طال وقت الكراهية 2) ، وإن أسفر بأداء الفريضة، قصر وقت الكراهية، وكذلك صلاة العصر.
1123- ثم نتكلم بعد ذلك في الصلاة التي تكره في هذه الأوقات والتي لا تكره، ونتكلم في استثناء زمان واستثناء مكان.
فأما القول في الصلوات، فاعلموا أن الصلوات التي لها أسباب كالفوائت المفروضة، (3 وكذلك السنن الراتبة، إن قضيت في هذه الأوقات، لم تكره.
ونذكر أولاً قاعدةَ المذهب من الأخبار 3) ، ثم نذكر التفصيل.
فقد وردت ألفاظٌ تدل على تعميم النهي من غير تفصيل، منها ما روى أبو ذر وابن الصنابحي، وقد وردت أخبار تدل على رفع الحرج على العموم من غير تفصيل، منها ما روى جبير بن مطعم أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يا بني عبد مناف من ولي منكم من أمور الناس شيئاًً، فلا يمنعن أحداً طاف بهذا البيت، أية ساعة شاء من ليل أو نهار" (4) .
__________
(1) تطفلت: من طَفَلَت الشمس (بثلاث فتحات) طَفْلاً وطفولاً، مالت للغروب، واحمرت عنده، وأطفلت وطفلت: طَفَلَت. (المعجم) .
(2) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2) .
(3) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2) .
(4) حديث: "يا بني عبد مناف.." رواه الشافعي وأحمد وأصحاب السنن، وابن خزيمة، وابن =(2/337)
وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم إقامة صلاة في وقت مكروه، روت أم سلمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها بعد العصر فصلى ركعتين، قالت: فقلت لجاريتي تقدمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقولي أَلستَ كنتَ نهيتنا عن الصلاة في هذا الوقت؟ فإن أشار إليك فاستأخري، فقالت الجارية ما رسمتُ، فأشار إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ، قال: "هما ركعتان كنت أصليهما بعد الظهر، فشغلني عنها الوفد" (1) وروي أنها قالت: "أنقضيها نحن إذا فاتتنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا" (2) فقيل في ذلك: كان رسول الله إذا أقام نافلة، صارت وظيفة محتومة عليه، فقوله: لا. معناه لا يفترض عليكم كما يفترض عليّ.
وسئل أبو سعيد الخدري عن حديث أم سلمة، فقال: كان صلى الله عليه وسلم يفعل ما يؤمر، ونحن نفعل ما نؤمر، وأشار إلى أن ذلك كان من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والحديث الدال على التفصيل في النهي ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأى قيس بن [قهد] (3) يصلّي بعد الصبح ركعتين، فقال: ما هاتان الركعتان؟ فقال: هما ركعتا الفجر، فلم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم (4) وقد روي
__________
= حبان، والدارقطني، والحاكم، وصححه الترمذي (ر. التلخيص: 1/190 ح 276، والأم: 1/148، والمسند: 4/80، وأبو داود: ح 894 في المناسك، باب الطواف بعد العصر، والترمذي: الحج، باب ما جاء في الصلاة بعد العصر وبعد الصبح لمن يطوف، ح 868، والنسائي: مناسك الحج، باب إباحة الطواف في كل الأوقات، ح 2924، وابن ماجة: إقامة الصلاة، باب ما جاء في الرخصة في الصلاة بمكة في كل وقت، ح 1254، والإحسان: ح 1552، 1553) .
(1) حديث أم سلمة. متفق عليه (ر. اللؤلؤ والمرجان: 159 ح 477) .
(2) هذه الزيادة رواها حماد بن سلمة بسنده عن ذكوان مولى عائشة عنها - أخرجها الطحاوي، وقد ضعفها البيهقي، ولذا جاء بها إمام الحرمين بصيغة التمريض (روي) (ر. التلخيص: 1/188) .
(3) قيس بن فهد (بالفاء) في النسخ الأربع، وفي التلخيص، وفي الاستيعاب، ولكن الصواب -والله أعلم- قيس بن قهد (بالقاف) . (ر. تجريد أسماء الصحابة، والإصابة، والمغني في ضبط الأسماء، وسنن البيهقي) .
(4) حديث قيس بن قهد. رواه الشافعي، ومن طريقه البيهقي. (ر. التلخيص: 1/188، =(2/338)
عنه عليه السلام في الحديث الصحيح أنه قال: "من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلّها إذا ذكرها، فإن ذلك وقتُها لا وقت لها غيره" (1) .
1124- فمذهب الشافعي أنه لا يكره في هذه الأوقات إقامةُ الصلاة التي لها أسباب متقدمة، فالفوائت تقضى في هذه الأوقات والجنازة إذا حضرت لم تؤخر الصلاة.
وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يا علي لا تؤخّر أربعاً وذكر من جملتها الجنازة إذا حضرت" (2) ، ولو اتفق دخول المسجد في وقت من هذه الأوقات، فالذي ذهب إليه الأئمة أنه يقيم تحية المسجد، و (3) هي صلاة لها سبب، وسببها الحصول في المسجد، وهو مقترن بالوقت.
وحكى الصيدلاني عن أبي عبد الله الزبيري أنه كان يكره إقامة التحية في هذه الأوقات، ويصير إلى أنها ليست صلاة مقصودة؛ إذ تقوم إقامة فائتة مقامها، وهذا متروك عليه.
وإذا جريتُ على طريقة الأصحاب، فلو قصد الحصول في هذه الأوقات لا عَنْ وفاق، فيقيم التحية من غير كراهية، كما لو قصد تأخير الفائتة إلى هذا الوقت، والزبيري يكره التحية، وإن كان دخول المسجد وفاقيّاً.
وركعتا الإحرام صلاةٌ وردَ الشرعُ بها، وقد رأيت الطرق متفقة على أنه يكره الإتيان
__________
= وترتيب مسند الشافعي: 1/57 ح 169، والسنن الكبرى: 2/456) .
(1) حديث من نام عن صلاة.. أصله في الصحيحين، ولفظ مسلم: "من نسي صلاة، أو نام عنها، فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها" (ر. اللؤلؤ والمرجان: المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، ح 397) .
(2) حديث: "لا تؤخر أربعاً.." قال الحافظ: الذي في كتب الحديث: "لا تؤخر ثلاثاً، الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت لها كفؤاً" وقد رواه الترمذي من حديث علي، وقال غريب. (ر. الترمذي: الجنائز، باب ما جاء في تعجيل الجنازة، ح 1075، التلخيص: 1/186 ح 267) وسيأتي في الجنائز.
(3) كذا بالواو في جميع النسخ، فلا تظن أنها صحفت عن الفاء، ولكن هكذا أسلوب ولغة الإمام تجد فرقاً بين ما نتذوقه في عصرنا وبين ذاك العصر في الأسلوب والألفاظ، والتعابير، واستخدام أدوات الربط خاصة.
وهنا أيضاً جاءت (ل) مثل أخواتها الأربع. فتأمل.(2/339)
بها في الأوقات المكروهة، وعللوا ذلك بأن سبب هذه الصلاة متأخر عنها، وهو الإحرام، وحصوله غيبٌ، فلا يجوز الإقدام عليها لتوقع السبب بعدها، فالصلاة التي لها سبب في غرض الفصل هي التي يتقدمها السبب أو يقارنها.
وسجود التلاوة يقام في الأوقات المكروهة لتعلقها بسبب القراءة، وهذا متفقٌ لا كلام فيه.
ومما تردد الأئمة فيه صلاة الاستسقاء، وذهب الأكثرون إلى أنها تقام في الأوقات المكروهة، فإن سببها مقترن بها، ومن أئمتنا من لا يرى إقامتها فيها؛ فإنها لا تفوت، ولا يمتنع تأخيرها، فإيقاعها قصداً في الأوقات المكروهة ممنوعٌ، وهذا عند الأوّلين منقوضٌ بالفائتة؛ فإن قضاءها على التراخي، ثم لا يكره إيقاعها في هذه الأوقات، وقد يقول الفقيه في تأخير الفائتة خطرٌ؛ فإنها فريضة.
فهذا بيان مواضع الوفاق والخلاف فيما ليس له سبب.
1125- فأما التنفل الذي يبتديه الإنسان، وليس فيه شرع على التخصيص، فهذا الذي نعنيه بالصلاة التي لا سبب لها، فهذا بيان ما يتعلق بالصلوات.
1126- فأما استثناء الزمان، فقد روى أبو سعيد الخدري: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة نصف النهار، حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة" (1) ، فاختلف أئمتنا في ذلك فقال قائلون: هذا مختص بمن راح يوم الجمعة مهجراً (2) ، وحضر الجامع، وكان يغشاه النعاس في وقت الاستواء، فيصلي ركعتين لطرد النعاس، ولا كراهية، ولا يجوز في حق غير هذا الشخص للحالة المخصوصة التي ذكرناها.
وحكى الصيدلاني وجهاً آخر: أنه لا كراهية في يوم الجمعة [في شيء من الصلوات
__________
(1) حديث "النهي عن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة" رواه الشافعي من حديث أبي هريرة، والبيهقي أيضاً، ثم قال (يعني البيهقي) : وروي في ذلك عن أبي سعيد الخدري، وعمرو بن عبسة، وابن عمر مرفوعاً. ا. هـ وأصله عند البخاري من حديث سلمان. (ر. سنن البيهقي: 2/464، والتلخيص: 1/188 ح 273) .
(2) المراد هنا مبكراً، من هجر إلى الشيء بكر إليه (المعجم) .(2/340)
والأوقات، فقد روي أن الجحيم لا تسعر يوم الجمعة (1) ] (2) فهذا مختص من بين سائر الأيام، وهذا ضعيف عندي.
1127- فأما استثناء المكان، فقد روي أن أبا ذر أخذ بعضادتي الكعبة وقال: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني، فأنا جُندب، [صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم] سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، إلاّ بمكة" (3) .
وقد اختلف أئمتنا في ذلك، فذهب الأكثرون، إلى استثناء مكة في جميع الصلوات والأوقات، لما روى أبو ذر، وذهب آخرون إلى أن المراد بالاستثناء ركعتا الطواف دون غيرهما من الصلوات.
وهذا فيه نظر؛ فإن صلاة الطواف تقع بعد الطواف، فيصير تقدم الطواف سبباً في اقتضائها، فهي صلاة لها سبب، ولا يظهر بها تخصيص، وأجمع الأئمة على أن إقامة الطواف المتطوع به في الأوقات المكروهة لا كراهية فيه، وقد روينا الخبر الصحيح فيه، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: "يا بني عبد مناف من ولي منكم من أمور الناس شيئاًً، فلا يمنعن أحداً طاف بهذا البيت في آية ساعة من ليل أو نهار" (4) فهذا تمام القول في ذلك.
__________
(1) حديث "أن الجحيم لا تسعر يوم الجمعة" رواه أبو داود، والبيهقي، وهو ضعيف كما قال إمام الحرمين (ر. أبو داود: الصلاة، باب الصلاة يوم الجمعة قبل الزوال، ح 1083، وضعيف أبي داود للألباني، ح 236، ضعيف الجامع الصغير، ح 1849، البيهقي: 2/464، التلخيص: 1/339 ح 275) .
(2) زيادة من: (ط) ، (ت 1) ، (ت 2) ، (د 1) .
(3) حديث أبي ذر، أخرجه البيهقي، بهذا السياق نفسه، وأخرجه أحمد، والشافعي، وابن خزيمة في صحيحه. وقد تقدّم في أول الباب. (ر. السنن الكبرى: 2/461، والتلخيص: 1/189 ح 275، والمسند: 5/165) .
(4) حديث: "يا بني عبد مناف ... " رواه الشافعي، وأحمد، وأصحاب السنن، وابن خزيمة، وابن حبان، والدارقطني، والحاكم، وغيرهم. (ر. التلخيص: 1/190 ح 276) وقد تقدم آنفاً بأتم من هذا.(2/341)
1128- ثم إذا أوقع المرءُ صلاة لا سبب لها في ساعة من الساعات المكروهة، حيث يمنع ذلك وينهى عنه، ففي صحة الصلاة وجهان مشهوران: أحدهما - تصح، فإنَّ الوقت على الجملة قابلٌ لجنس الصلاة، فالنهي عند هذا القائل كراهية في الباب.
والثاني - أن الصلاة لا تصح؛ فإن الصلاة لو صحت، لكانت عبادة، والعبادة مأمور بها، والأمر بالشيء والنهي عنه مقصوداً يتناقضان؛ وليس هذا كالصلاة في الدار المغصوبة؛ فإن النهي عنها مقصود في نفسه، ولهذا تعلقٌ بقاعدةٍ في الأصول وقررناها في موضعها.
1129- ولو نذر الرجل صلاة في هذه الأوقات، فهو خارج على الخلاف، فمن أصحابنا من أبطل النذر، ونزله منزلة نذر صوم يوم العيد، ومنهم من صححه. ثم الوقت لا يتعين بالنذر في الصلوات. فإن قيل: فهل يجوز إيقاع هذه المِنذورة في الأوقات المكروهة؟ قلنا: لا شك على هذا الوجه في جوازها، فإنها صلاة مفروضة، فضاهت الفائتة وقضاءها.
وفي هذا بقية، ستأتي مشروحة، إن شاء الله عز وجل، في صوم يوم الشك والعيد.
فصل
يتعلق بما نحن فيه
1130- وهو أن المسبوق إذا دخل المسجد وصادف الإمام في فريضة الصبح، فلا ينبغي أن يشتغل بالسنة، بل يبادر الاقتداء بالإمام في الفريضة، ثم إذا فرغ منها، فليتدارك السنة.
وقال أبو حنيفة: إن علم أنه لو فرغ من السنة، أدرك ركعة من فريضة الصبح، فإنه يشتغل بالسنة. وإن علم أن الجماعة في الفريضة تفوته، فإنه يقتدي حينئذ (1) .
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/271 مسألة: 225، حاشية ابن عابدين: 1/253 و481.(2/342)
وقد استدل الشافعي على مذهبه بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا أقيمت الصلاة، فلا صلاة إلا المكتوبة" (1) .
ثم إذا فرغ من الفريضة، فالسنة مقضية، أو مؤداة؟ سيأتي القول في ذلك في التطوع، على إثر هذا إن شاء الله.
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا أقيمت الصلاة، فلا صلاة سوى المكتوبة، فالحديث صحيح مسندٌ، والمزني رواه موقوفاً على أبي هريرة.
فصل
في قضاء النوافل
1131- فنقول: النوافل تنقسم: فمنها ما علقت بأوقات مفردة كصلاة العيد، ومنها ما شرعت تابعة للفريضة كالنوافل التي تتأقت بأوقات الفرائض، ثم منها ما يقدُمُ الفرائض، ومنها ما يعقبها.
فأما ما انفرد منها بأوقات لها، كصلاة العيد، فالأصح أنه يقضى، وللشافعي قول آخر: "أنها لا تُقضى"، وقد ذكره شيخي، وحكاه صاحب التقريب، ولفظ الشافعي فيما حكاه صاحب التقريب عنه: "أن القياسَ والأصلَ أن لا تقضى فائتةٌ أصلاً".
ثم ما يتأقت من النوافل، ولا يتبع فريضة أولى بالقضاء عند الشافعي من النوافل التي تتبع الفرائض.
فتحصل في المؤقتات بأنفسها، وفي توابع الفرائض ثلاثة أقوال: أحدها - أنه
__________
(1) حديث "إذا أقيمت الصلاة، فلا صلاة إلا المكتوبة"، أخرجه مسلم وأصحاب السنن من حديث أبي هريرة، ورواه أحمد بلفظ: "إلا التي أقيمت"، (ر. مسلم: صلاة المسافرين، باب كراهة الشروع في نافلة بعد شروع المؤذن، ح 710، وأبو داود: التطوع، باب إذا أدرك الإمام ولم يصل ركعتي الفجر، ح 1266، والترمذي الصلاة، باب ما جاء إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة، ح 421، والنسائي: ح 866، 867، الافتتاح، باب ما يكره من الصلاة عند الإقامة، وابن ماجة: إقامة الصلوات، باب ما جاء في إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة، ح 1151، وانظر التلخيص: 2/23 ح 544) .(2/343)
لا يقضى شيء منها أصلاً؛ فإن الأصل أن الوظيفة المؤقتة إذا فات وقتها، فقد فاتت، لأن صيغة التأقيت تقتضي اشتراط الوقت في الاعتداد بالمؤقت، فإذا انقضى الوقت، فليس الأمر (1) بالأداء أمراً بالقضاء، فإن ثبت في الصلاة المفروضة القضاءُ فبأمر مجدّد عند الشافعي، ثم الفرائض ديون، فإذا أثبت الشرعُ فيها عند الفوات مستدركاً فسببه (2) أنها لوازم، ولا يتحقق ذلك في النوافل.
والقول الثاني - أنها تُقضى؛ فإنها مؤقتة، فلتقض كالفرائض.
والقول الثالث - أن ما اختص منها بوقت، ولم يكن تابعاً لغيره، قُضي، وما هو تابع لا يقضى.
وكان شيخي يلحق صلاة الضحى بصلاة العيد في الترتيب، من حيث إنها مفردة بوقت، وليست تابعة لفريضة.
وأبو حنيفة (3) يقول في النوافل التابعة: إن فاتت الفرائض معها، قضيت مع الفرائض، كما كانت تؤدى مع الفرائض، وإن كانت فاتت وحدها، لم تقض، وليس في هذا التفصيل أثر ولا قياس.
التفريع:
1132- إن حكمنا بأن النوافل لا تقضى، فلا كلام، وإن حكمنا بأنها تقضى، (4 فهل تتأقت أم تقضى 4) أبداً؟ فعلى قولين: [أحدهما -وهو اختيار المزني- أنها تقضى أبداً، وهو القياس، قال الصيدلاني: هذا أصح القولين] (5) . والأمر على ما ذكره؛ فإن ما فات وقتُ أدائه، وثبت وجوبُ قضائه، فلا وقت أولى بالقضاء من وقت كالفرائض.
ْوالثاني - أنها إذا قُضيت تُقضى إلى أمد معلوم لا يتعدى. ثم على هذا القول قولان في النوافل التابعة للفرائض: أحدهما - أن كل نافلة من التوابع فاتت، فإنها تقضى
__________
(1) في (د 1) ، و (ت 2) : فالأمر بالأداء أمرٌ بالقضاء.
(2) في (ت 2) ، (د 1) ، (ط) : فيه.
(3) ر. حاشية ابن عابدين: 1/482، وبدائع الصنائع: 1/287.
(4) ما بين القوسين ساقط من: (ت 1) .
(5) ساقط من الأصل، دون النسخ الأربع الأخرى.(2/344)
ما لم يؤدّ المرءُ الفريضة الأخرى المستقبلة، فإذا دخل وقتُها وأدَّاها، فقد انقطع وقت إمكان قضاء الفائتة.
وبيان ذلك أن من فاته الوتر، فطلع الفجر، قضاه (1) ، فإن هو صلى فريضة الصبح، فلا قضاء بعد ذلك.
وهذا القول يجري في التوابع كلها على هذا النسق، ووجهه أن الفريضة الآتية في الوقت المستقبل إذا أُديت، فقد انقطعت التبعية بالكلية باستفتاح الفريضة الآتية (2) ، والتوابع ما أثبتت مستقلة، وإنما أثبتت تابعة.
والقول الثاني - أن النظر إلى طلوع الشمس وغروبها في ذلك، فمن فاتته سنة ليلية، فإنه يتداركها، ما لم تطلع الشمس، ومن فاتته سنة نهارية كركعتي الفجر، فإنه يتدارك ما لم تغرب الشمس، واعتبار طلوع الشمس مع العلم بأن النهار الشرعي ابتداؤه طلوع الفجر محال.
فالقول السديد في ذلك أن الأصل أن لا تقضى النوافل، فإن قضيت، تقضى أبداً، كما ذكرناه.
وفي قضاء صلاة العيد، بقيّة ستأتي في كتاب صلاة العيد.
وصلاة الخسوف لا تقضى بعد الانجلاء بلا خلاف؛ فإنها في التحقيق ليست بمؤقتة، وهذا يؤكد (3) نفي القضاء في المؤقتات.
فأما صلاة الاستسقاء (4 فلا معنى لقضائها، فإن الناس وإن سقوا، فإنهم يأتون بصورة صلاة الاستسقاء 4) ويضمنونها الشكر (5) .
فهذا تفصيل القول في قضاء النوافل، وقد روى أبو سعيد الخدري قضاء الوتر عن
__________
(1) في (ت 2) وفي (ط) : فصلاه.
(2) كذا: "الآتية" بالتاء في النسخ كلها، ولعلها: "الآنية" بالنون.
(3) تعقب ابن أبي عصرون الإمام قائلاً: "قلت: لا وجه لتأكيده، لأن حكم المؤقت يخالف ما ليس بمؤقت" ا. هـ بنصه من مختصر النهاية: 2/249.
(4) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2) ، ومن (ط) .
(5) أي تكون صلاة شكرٍ، لا استسقاء.(2/345)
النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "قال رسول الله: من نام عن صلاة الوتر أو نسيه فليقضه إذا أصبح" (1) وإذا صح خبر في نوع من النوافل، اتجه قياس الباقي عليه.
فرع:
1133- كان شيخي يقول: من صادف الإمامَ في صلاة الصبح وابتدأ الاقتداء به، فإذا فرغ من الفريضة، استدرك ركعتي الفجر، ونوى الأداء؛ فإن الوقتَ باقٍ، وتقديم ركعتي الفجر أدب ورعايةُ ترتيب، والوجه ما قاله، ولو كانت مقضية، لاختلف القول في إمكان تداركها، والعلماء متفقون على أنها تستدرك في الصورة التي ذكرناها.
فصل
في ترتيب النوافل في المناصب والمراتب، وبيان الأفضل فالأفضل منها:
1134- فنقول: اتفق أئمتنا على أن أفضلها صلاةُ العيدين، والخسوفين، والاستسقاء، وهذه مُقدَّمةٌ على السنن التابعة للفرائض.
ثم أفضلها صلاةُ العيد، فإنها جمعت التأقيتَ وفيه مشابهة الفرائض، وشرعت الجماعة فيها، وهو أيضاً وجه بيّن في مضاهات المفروضات، ثم يليها صلاة الخسوف؛ فإن الجماعة مشروعة فيها، وفيها معنى التأقيت من جهة أنها تفوت كما تفوت المؤقتات بانقضاء الأوقات، وآخرها صلاة الاستسقاء، فالمرعي فيها التأقيت وشَرع الجماعة.
1135- وهذه الصلوات الخمس مقدَّمة على أتباع الفرائض، ثم أفضلها ركعتا الفجر والوتر، وقد اختلف القول فيهما، فأحد القولين: إن الوتر أفضل من ركعتي الفجر؛ فإن وجوبه مختلفٌ فيه، وتركه على خطر.
__________
(1) حديث "من نام عن صلاة الوتر" رواه أحمد بلفظ: فليوتر إذا ذكره، أو استيقظ، ورواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة. كلهم عن أبي سعيد (ر. المسند: 3/31، وأبو داود: الوتر، باب في الدعاء بعد الوتر، ح 1431، والترمذي: الوتر، باب ما جاء في الرجل ينام عن الوتر أو ينسى، ح 465، وابن ماجة إقامة الصلوات، باب من نام عن وتر أو نسيه، ح 1188) .(2/346)
والثاني: أن ركعتي الفجر آكد وأفضل، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ركعتا الفجر خير من الدنيا بما فيها" (1) ، وقال في صلاة الوتر: "إن الله تعالى زادكم صلاةً هي خير من حمر النَّعَم" (2) ، فالصلاة التي قدمت على الدنيا بما فيها آكد وأفضل. وقالت عائشة: "ما كان يتسرع رسول الله إلى شيء تسرعه إلى ركعتي الفجر، ولا إلى غنيمة ينتهزها" (3) .
وكان شيخي يؤثر أن يقدم صلاة الضحى -من حيث إنها مؤقتة بنفسها- على النوافل الراتبة. وليس الأمر على ما ذكره؛ فإن السلف ما كانوا يواظبون عليها، حسب مواظبتهم على النوافل الراتبة، فالذي أراه أنها مؤخرة عن جميع النوافل الراتبة التابعة للفرائض.
وقد قال الشافعي في الوتر: يشبه أن تكون صلاة التهجد، وهذا معناه عند المحققين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مأموراً بالتهجد، وقيل: كان فرضاً عليه، فقال الشافعي: المعنيّ بالتهجد في قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ} [الإسراء: 79] صلاةُ الوتر، وهي التي كانت محتومة عليه، لا يتركها في حضر ولا سفر، وقد ورد في بعض الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: "كتب علي ثلاثٌ، لم تكتب ْعليكم، وذكر من جملتها الوتر" (4) ، فإن قيل: قد سمى الله التهجد نافلة في حقه،
__________
(1) حديث: "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها" أخرجه مسلم بهذا اللفظ من حديث عائشة.
(مسلم: 1/501، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب (14) استحباب ركعتي الفجر، والحث عليهما، ح 725) .
(2) حديث: "إن الله زادكم صلاة ... " رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة، والدارقطني، والحاكم من حديث خارجة بن حذافة. وفي الباب عن معاذ بن جبل، وعمرو بن العاص، وعقبة بن عامر، وأبي بصرة الغفاري، وابن عباس، وابن عمر، وعبد الله بن عمر، ولم يسلم واحد منها من مقال. (ر. التلخيص: 2/16 ح 523، وانظر: أبو داود: الصلاة، باب استحباب الوتر، ح 1418، والترمذي: أبواب الصلاة، باب ما جاء في فضل الوتر، ح 452، وابن ماجة: إقامة الصلاة، باب ما جاء في الوتر، ح 1168، والدارقطني: 2/30، والإرواء: 2/156) .
(3) حديث عائشة متفق عليه بلفظ: "لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشدَّ تعاهداً منه على ركعتي الفجر". (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/141 ح 422) .
(4) يشير إلى حديث ابن عباس "ثلاث هن علي فرائض، ولكم تطوّع: النحر، والوتر، وركعتا =(2/347)
فقال: {نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79] ، فقد قال المفسرون: زيادة لك؛ فإن نوافل غيره تقع جبراناً لنقصان الفرائض، وكانت فرائضه مبرأة من النقصان، فيقع تهجده زيادة طاعةٍ.
***
__________
= الضحى" رواه أحمد (واللفظ له) والدارقطني، والحاكم، والبيهقي. وفي كل منها مقال.
(ر. التلخيص: 2/18 ح 530، والمسند: 1/231، والدارقطني: 2/21، والبيهقي: 9/264، والحاكم: 1/300) .(2/348)
باب صلاة التطوع وقيام شهر رمضان
1136- السنن الراتبة التابعة للفرائض قد اختلف فيها الأئمة وفي عددها، فقال قائلون: هي إحدى عشرة ركعة، ركعتان قبل الصبح، وركعتان قبل الظهر، وركعتان بعده، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، والوتر ركعة.
وزاد بعضهم ركعتين أخريين قبل الظهر، فيصير العدد ثلاث عشرة ركعة، ويقع قبل الظهر أربع ركعات.
وزاد بعضهم أربع ركعات قبل العصر، فمجموع الركعات سبع عشرة على حسب عدد الركعات المفروضات، وعلى الجملة المتفق عليه آكد مما تطرق الخلاف إليه، ولم يصح عن رسول الله المواظبة على صلاة قبل فريضة العصر حسب ما كان يواظب على سنة الظهر قبله وبعده.
وذهب بعض أصحابنا إلى استحباب ركعتين قبل فرض المغرب.
وقال أبو عبد الله الخِضْري: ليس لصلاة العشاء سنة ثابتة.
فهذا مجموع ما ذكر الأصحاب في السنن الراتبة.
فصل
1137- السنن الراتبة كلها مثنى مثنى إلا الوتر على ما سيأتي التفصيل فيه، وإذا أراد الإنسان أن يتطوع بالصلاة ابتداء، فالأولى أن يأتي بها مثنى مثنى، أيضاً ليلاً ونهاراً، هذا مذهبنا. وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "صلاة الليل (1)
__________
(1) في الأصل، وفي (ت 1) : "الليل والنهار". ولفظ والنهار، وارد في غير المتفق عليه في الصحيحين (ر. التلخيص: 2/22 ح 543) .(2/349)
مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح فليصل ركعة يوتر بها ما قد صلى" (1) .
ثم لا خلاف أن الخِيَرة في التطوع الذي يبتديه المرء إليه في عدد الركعات، فلو أراد أن يصلي مائة ركعة بتسليمة واحدة، جاز، ولو صلى ركعة فَرْدةً، جاز عندنا، وإن كان نهاراً.
ثم إن صلى ركعات بتشهد واحد، جاز، وإن كان يقعد على أثر كل ركعتين، ثم يقوم، جاز، فإن تشهدين في أربع ركعات مفروضة موجودة. فإذا كان عدد الركعات إلى المتطوّع، فكل أربع ركعات من جملة صلاته كأربع ركعات مفروضة.
وإن كان يجلس للتشهد في إثر كل ركعة، فهذا فيه احتمال؛ من جهة أنا لا نَلْقَى صلاة على هذه الصورة في الفرائض، والأظهر عندي جواز ذلك؛ فإن له أن يصلي ركعة فردة متطوعاً ويتحلل عنها، فإذا جاز له ذلك، جاز له القيام عنها، وزيادة ركعة أخرى.
والجملة فيه أن كل ما يجوز الاقتصار عليه والإتيان بتشهد التحلل في آخره، جاز الإتيانُ بالتشهد فيه مع القيام عنها، ولا يشترط أن تكون صورة الصلاة المتطوَّعِ بها مضاهيةً لصورة الصلاة المفروضة.
فعلى هذا لو كان يصلي ثلاثين ركعة بتسليمة واحدة، وكان يقعد للتشهد في كل ثلاث ركعات، جاز ذلك.
1138- ولكن وراء هذا إشكال سأبديه في آخر الفصل.
فأقول: إذا نوى أن يصلي ركعتين ويتشهد، ثم بدا له أن يزيد ركعتين، فليزد ما شاء، وليقم قاصداً إلى الزيادة على حكم الاستدامة، وهذا في التحقيق نيةٌ في أثناء الصلاة. ولو كان نوى ركعتين، ثم قام إلى الركعة الثالثة ساهياً، ثم تذكر ولم يُرد الزيادة، فليرجع ويسجد للسهو، كما يفعل ذلك في الصلاة المفروضة.
ولو أراد أن يتمادى ويزيد، فله ذلك، ولكن هل يعود جالساً؟، ثم يقوم عن
__________
(1) حديث: "صلاة الليل مثنى مثنى ... " متفق عليه من حديث ابن عمر، بنفس اللفظ الذي ساقه به إمام الحرمين. (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/144 ح 432) .(2/350)
قعود قاصداً زيادة أم لا يعود بل يتمادى؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يعود؛ فإن انتهاضه كان على حكم السهو، فلا يعتد به، ثم يلزم على هذا أن يسجد للسهو؛ لأن القيام الذي جاء به فقطعه صورة ركن زادها، وليس معتداً بها، وإن قلنا يمرّ ويتمادى ولا يرجع، فكأنا لا نرى انتهاضه سهواً فيتمادى ولا يسجد للسهو.
1139- وقد ذكرت في باب سجود السهو أن المأموم إذا رفع رأسه قبل الإمام، ظاناً أن الإمام قد رفع، ثم علم أن الإمام في الركوع، فهل يرجع؟ فيه خلاف: من أصحابنا من قال: لا يجوز أن يرجع، ومنهم من قال: يجوز أن يرجع، ولم يوجب الرجوعَ أحد من أئمتنا، والسبب فيه أن تقدمه على الإمام قصداً جائز، كما فرَّعناه.
وهذه المسألة التي نحن فيها من التطوع فيها مشابهةٌ لتلك، ولكنْ بينهما فرق؛ فإن قيام المتطوع قصداً إلى ركعة زائدة من غير نية الزيادة في الصلاة، مبطل للصلاة، وقيام المقتدي قصداً قبل الإمام مع استدامة القدوة جائر، فإذا كان ساهياً حمل [عنه] (1) ، وكان في رجوعه تعديد صورة الركوع في ركعة واحدة، وفي رجوع المتطوع في الصورة التي نحن فيها قطع لقيام لو تعمده من غير قصد [الزيادة] (2) ، لأبطل صلاتَه، فإذا حصل سهواً، يجوز أن يؤمر به ليقطعه، فانتظم الخلاف في التطوع على وجهين، وهو أنه يرجع على وجهٍ لا محالة، ولو لم يرجع، بطلت صلاتُه، وفيه وجهين أنه لا يجوز أن يرجع، والخلاف في مسألة باب سجود السهو أنه في وجهٍ يجوز أن يرجع، وفي وجه لا يجوز أن يرجع، فأما إيجاب الرجوع ثَمَّ، فلا يجري أصلاً، وهذا بيّن لمن تثبت.
1140- ولو نوى ركعتين ثم قام إلى الركعة الثالثة من غير سهو، ولم يقصد أن يزيد في أعداد ركعاته، فتبطل صلاته لا محالة.
ولو نوى أن يصلي أربع ركعات بتسليمة واحدة، ثم بدا له أن يقتصر على ركعتين، فليتشهد، وليسلم.
__________
(1) في الأصل وفي (ط) ، (ت 1) ، (د 1) : عليه. والمثبت من (ت 2) .
(2) زيادة من: (ت 2) .(2/351)
[ولو سلم ساهياً، لم يتحلل، فإذا تذكر، فإن أراد أن يكمل ما نوى أكمل، وسجد للسهو. وإن أراد أن يقتصر، جاز، ولكن لا يكون سلامه تحلّلاً وجهاً واحداً، فإنه جاء بها غالطاً، فليسجد للسهو، وليسلّم عمداً] (1) ولو سلم عمداً، وما قصد الاقتصار على الركعتين، فتصوير هذا عسر، فإن لم يقصد به التحلل، فكأنه يقصد خطاباً وتكليماً عمداً، فتبطل صلاتُه، كما لو خاطب في جهةٍ أخرى عمداً.
1141- وفي هذا الفصل دقيقة، وهي أن من سلم في آخر صلاته، فالأصح أنه لا يشترط نية الخروج من الصلاة، وإذا سلم المتطوع في أثناء صلاته قصداً، فإن قصد التحلل، فقد قصد الاقتصار على بعض ما نوى، وإن سلم عمداً، ولم يقصد التحلل، فقد حمله الأئمة على كلامٍ عمدٍ مبطل، فكأنهم يقولون: لا بد من قصد التحلل في حق المتنفل الذي يريد الاقتصار. وفي إيجاب قصد التحلل عند السلام في آخر صلاةٍ انتهت نهايتها خلاف، والأصح أنه لا يجب، والفرق ظاهر؛ فإن المتنفل المسلم في أثناء صلاته يأتي بما لم تشتمل عليه نية عقده ولا بد من قصدٍ فيه، فافْهم.
1142- ومما يتعلق ببقية هذا الفصل ما أحلنا عليه من بقية كلامٍ في التشهد.
فنقول: إن نوى أن يصلّي ركعتين بتشهد واحد، ثم بدا له أن يتشهد مرتين على إثر كل ركعة مرة، ولو عقد الصلاة على هذه الهيئة، فالذي أراه أن ذلك لا يمتنع، وإن عقدها على تشهد واحد، وتشهد عقيب الركعة الأولى، فالذي أراه أنه ساهٍ، يسجد للسهو، وإن خطر له أن يتشهد عمداً على إثر الركعة الأولى، فليفعل، وهو كما لو أراد أن يزيد أو ينقص في صلاته، في أثناء النافلة، فليس تغيير الهيئة قصداً بأعظم من التغيير بالزيادة والاقتصار.
1143- ولو نوى ركعتين مطلقاً، ولم يخطر له تشهدان، ولا تشهد واحد، فالذي أراه أن الصلاة تنعقد على تشهد واحد؛ فإنه المعتاد الغالب.
وإن نوى عشر ركعات بتسليمة، ولم يخطر له في التشهد شيء، ولسنا نعهد صلاة
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، ومن (ط) .(2/352)
على هذه الصفة حتى ينزل مطلق العقد عليها، فيظهر عندي أن يجلس على إثر كل ركعتين، وإن أراد مزيداً، فيقصد.
1144- ومن تمام الكلام في هذا: أنه إذا كان يصلي المكلف صلاةً مفروضة رباعية، فالتشهد الأول من الأبعاض، فلو تركه، سجد للسهو، ولو نوى المتنفل أربع ركعات مطلقاً، فله أن يتشهد في أثناء الصلاة؛ تنزيلاً على الصلاة المفروضة، ولو ترك التشهد الأول، فالذي أراه أنه لا يسجد للسهو في النافلة؛ فإن التشهد في الفريضة مشروع (1 مؤكد، ولا يتحقق هذا التأكيد في النافلة، ولا يبلغ مبلغ الأبعاض المشروعة.
ولو نوى أن يصلي أربع ركعات ويتشهد مرتين 1) فلو ترك التشهد الأول قصداً، [فالذي أراه أنه لا يسجد للسهو، ولو ترك المفترض التشهد الأول قصداً] (2) ، فالمذهب الظاهر أنه يسجد للسهو؛ فإن التشهد الأول مشروع في الفرض شرعاً، وليس إلى المصلي رفعه، والتشهد في صلاة التطوع إلى قصده، وإن أراد أن يرفعه، كان له رفعه؛ فإنّ رفعه لا يزيد على رفع ركعات، كان نواها.
ولو قصد تشهدين، ثم ترك التشهد الأول ساهياً، ففي سجود السهو احتمال، والظاهر أنه لا يسجد، والسبب فيه أن سجود السهو يتعلق من السنن بآكدها الذي يسمى الأبعاض، ولا يتحقق التأكد في حق المتنفل مع أن الأمرَ إلى خيرته في تغيير الصلاة وتبديل هيئاته.
1145- فهذا تمام القول في ذلك. وما ذكرته من الزيادة والنقصان، فهو في التطوع الذي بيّناه.
فأمّا السنة التي حدَّها الشرع وأثبت هيئاتها، فليس إلى المكلف تغييرها، فلو زاد ركعةً ثالثةً في ركعتي الفجر، بطلت تلك الصلاة؛ فإنه خالف وضع الشرع فيها، ولكن يجوز أن يقال: تنقلب تطوعاً أو تبطل؟ فعلى خلاف، سبق في مواضع، وسيعود مشروحاً.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2) .
(2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، ومن (ط) .(2/353)
فصل
1146- للمتنفل أن يصلي قاعداً مع القدرة على القيام، ولو أراد أن يتنفل مومياً مستلقياً أو على جنب، فقد اختلف أئمتنا فيه: والذي اختاره الصيدلاني جواز ذلك، وكان شيخي يحكي هذا ويزيفه، ويقول: إنما ثبت الاقتصار على القعود رخصة في النافلة مع الإتيان بكمال الأركان، فإن أراد أن يسقط جميع الأركان قياساً على القيام الذي أُبدل بالقعود، فقد أبعد، والذي ذكره شيخي حسنٌ متجه، وهذا يلتفت إلى إقامة النافلة على الراحلة في الحضر، وقد قدمت التفصيل فيه في باب استقبال القبلة.
فصل
1147- من نذر صلاة، لزمه الوفاء بها، وهل له أن يقعد فيها مع القدرة على القيام؟ فيه قولان مأخوذان من أصلٍ سنوضحه في النذور، وهو أن الملتزم بالنذر هل يحمل على واجب الشرع، أو يحمل على حكم الاسم المطلق؟ وفيه قولان سيأتي ذكرهما في موضعهما إن شاء الله.
ولو نذر أن يقوم في كل نافلة ولا يقعد، فقد قال الصيدلاني: لا نأمره بالوفاء بهذا النذر؛ فإن القعود في النافلة رخصة، ومن أراد أن ينفي الرخصة بنذره، لم يجد إليه سبيلاً، وهو بمثابة ما لو نذر أن يتمم الصلاة في كل سفر، أو يصوم ولا يفطر، وهذا الذي ذكره في نهاية الحسن.
ولو نذر أن يصلي أربع ركعات قائماً، لزمه القيام قولاً واحداً؛ لأنه صرح بالتزامه، وهذا كما لو قال: لله علي أن أعتق عبداً سليماً عن العيوب والآفات. لزمه الوفاء، ولو أطلق، ففي إجزاء معيب عنه قولان، ولست أسترسل في مسائل النذور؛ فإنها صعبة المرام، لا يتأتى الخوض فيها إلا بتمهيد أصولها.(2/354)
فصل
قال: "وأما قيام شهر رمضان، فصلاة المنفرد أحب إليّ منه ... إلى آخره" (1) .
1148- أراد بقيام شهر رمضان التراويح، ولست أطيل [ذِكْرَ] (2) ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما جرى لعمر رضي الله عنه: أما ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنه صلى بأصحابه جماعةً ثلاثَ ليال، ثم ترك الجماعة، فروجع فيها، فقال: خشيت أن تُكتب عليكم، فلا تطيقون" (3) ثم رأى عمر أن يجمع الناس على إمامٍ، لما علم أن الشرع لا يتغير بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم (4) .
1149- وقد اختلف أئمتنا في أن الانفراد بها أفضل أم الجماعة؟ وحاصل ما ذكروه أوجه: أحدها - أن الجماعة أفضل تأسياً بسيرة عمر، وما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً.
والثاني - أن الانفراد بها أفضل؛ فإنها صلاة الليل، فالاستخلاء بصلاة الليل أولى، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "فضلُ صلاة الرجل تطوعاً في بيته، على صلاته في المسجد كفضل صلاته المكتوبة في المسجد، على صلاته في بيته" (5) وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من مائة
__________
(1) ر. المختصر: 1/107.
(2) زيادة من (ل) .
(3) حديث صلاة التراويح: "خشيت أن تفرض عليكم" متفق عليه من حديث عائشة. (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/145 ح 436) .
(4) أثر جمع عمر الناس على إمام في صلاة التراويح. هذا الجزء الذي ذكره إمام الحرمين في صحيح البخاري: 2/252، كتاب صلاة التراويح، باب (1) فضل من قام رمضان، ح 2010.
(5) الحديث معناه في الصحيحين، متفق عليه من حديث زيد بن ثابت بلفظ " ... فإن أفضل =(2/355)
صلاة في غيره من المساجد، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من ألف صلاة في مسجدي، وأفضل من ذلك كله رجل يصلي في زاوية ركعتين، لا يعلمها إلا الله تعالى" (1) .
والوجه الثالث - أنه إن كان حافظاً للقرآن عالماً بأنه لو خلا بنفسه، لما منعه الكسل والفشل (2) عن الصلاة على حقها، فالانفراد أولى، وإن كان لا يحسن ما يصلي به، ولم يأمن أن يثبطه الكسل لو خلا، وإذا كان يصلي في جماعة، أقام الصلاة مقتدياً، فالاقتداء أولى به.
1150- ثم إن لم تشرع الجماعة فيها، فالسنن الراتبة التابعة للصلوات المفروضات أفضل وأولى منها.
وإن قلنا الجماعة مشروعة فيها، فالأصح أيضاً تفضيل السنن الراتبة عليها؛ فإنها لا تتأصل في وظائف المكلف تأصل الرواتب.
ومن أئمتنا من شبب بتفضيلها على قولنا باستحباب الجماعة فيها؛ لأن الجماعة أقوى معتبر في التفضيل، كما تقدم ذكرها.
1151- ثم ذكر الشافعي (3) أن أهل المدينة يقومون بتسع وثلاثين ركعةَ، وأصل هذه الصلاة عشرون ركعة، وسبب زيادته أن أهل مكة يقومون بين كل ترويحتين إلى البيت، فيطوفون سبعة أشواط، ويصلون ركعتين للطواف، فزاد أهل حرم رسول الله
__________
= الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" (اللؤلؤ والمرجان: 1/149 ح 447) .
(1) هذا المعنى عند البخاري، ومسلم من حديث زيد بن ثابت (اللؤلؤ: 1/149 ح 447) ، وعند الترمذي في باب فضل التطوع في البيت، ح 450، وعند النسائي في قيام الليل، باب الحث على الصلاة في البيوت، ح 1600. قال الحافظ: ولأبي داود: "صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا، إلا المكتوبة" (التلخيص: 1/21 ح 541) هذا. ولم أصل إلى هذا اللفظ عند أبي داود (ر. أبو داود: 2/145، باب 346 فضل التطوع في البيت، ح 1347) .
(2) الفشل: التراخي (المعجم) .
(3) في (د 1) ، (ت 2) : ثم ذكر شيخي، والصواب: الشافعي، فهذا ما رواه عنه المزني في المختصر: 1/107.(2/356)
صلى الله عليه وسلم في صلاتهم في مقابلة ما يأتي به أهل مكة من الأشواط في خلال التراويح.
1152- واختلف أئمتنا في معنى قول الشافعي، "وأما شهر رمضان، فصلاة المنفرد أحب إليّ منه": منهم من قال: معناه [أن الانفراد بها أفضل من إقامتها في الجماعة، ومنهم من قال معناه] (1) أن الراتبة التي لا يشرع فيها الجماعة أحب إليّ من التراويح التي شرعت الجماعة فيها.
فصل
1153- صلاة الوتر لا تجب عندنا، ولا واجب شرعاً إلا الصلوات الخمس، والخلاف مشهور في ذلك.
1154- ثم لو أوتر الرجل بركعةٍ واحدةٍ، جاز، ولو أوتر بثلاث، أو خمس، أو سبع، أو تسعٍ، أو إحدى عشرة ركعة بتسليمة واحدة، جاز. وقد نُقل جميع ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي بعض التصانيف: أو ثلاث عشرة. ولا ينبغي أن يعتمد ذلك.
وهذا التردد في أن الإتيان بثلاث عشرة، هل نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لا؟
ومن أوتر بما يزيد على الحد المنقول عن المصطفى، مثل أن يوتر بخمس عشرة ركعة فصاعداً، فهل يصح إيتاره؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يصح وتره؛ فإن الوتر من أفضل السنن الراتبة المشروعة، فلا يجوز تعديتها عن مراسم الشرع، كركعتي الفجر؛ فإنَ من أقام سنة الصبح أربع ركعات، لم يكن مقيماً لهذه السنة، فكذلك من زاد الوتر على ما يصح نقله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والثاني - يجزىء في الوتر الزيادة؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ورد بإقامته
__________
(1) ساقط من نسخة الأصل، (ط) . دون باقي النسخ.(2/357)
على أنحاء ووجوه، ففصَل بينهما وبين السنن التي كان لا يقيمها قط -سفراً أو حضراً- إلا على عِدة واحدة.
1155- ثم من كان يوتر بخمس، أو سبع، أو غيرها من العدد، فكم يتشهد في الصلاة الكثيرة الركعات؟ اختلفت الروايات في ذلك، فروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر بخمس لا يتشهد إلا في الرابعة والخامسة، وبسبع لا يجلس إلا في السادسة والسابعة، وبتسع لا يجلس إلا في الثامنة، والتاسعة، وبإحدى عشرة لا يجلس إلا في العاشرة والحادية عشرة. فهذه الروايات تدل على أنه كان يتشهد مرتين.
وروي أنه كان يوتر بثلاث لا يجلس إلا في آخرهن [وبخمس لا يجلس إلا في آخرهن] (1) . وقد روت عائشة رضي الله عنها الروايتين (2) .
وما ذكرناه تردد في الأوْلى على حسب اختلاف الرواية، فلو [آثر] (3) الموتر بإحدى عشرة مثلاً أن يجلس للتشهد في إثر كل ركعتين ثم يقوم، ولا يتحلل، لم يكن له ذلك؛ فإنا نتبع الرواية في هذه الصلاة الراتبة العظيمة القدر، وليس كما إذا أراد الرجل أن يتطوع بعشر ركعات أو أكثر بتسليمة واحدة، وأراد أن يجلس للتشهد على إثر كل ركعتين؛ فإنا قد ذكرنا هذا فيما سبق، والفرق أن التطوعات لا ضبط لها في عدد الركعات، وأقدار التشهدات، وصلاة الوتر حقها أن تُضبط وتحصر على ما يرد في الأخبار.
ثم تردُّدُ الأئمة في جواز الزيادة على ما نقل من عدد الركعات؛ من جهة أنا ظننا أن إقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها على جهاتها ممهداً للأئمة جواز الزيادة.
__________
(1) سقط من الأصل ومن (ط) وحدهما.
(2) حديث عائشة عن اختلاف أعداد الركعات في الوتر، وأنه كان لا يجلس إلا في آخرها، وأنه كان يجلس في الأخيرة والتي قبلها. مؤلفٌ من أكثر من حديث، كلها عند مسلم (كتاب صلاة المسافرين، باب 17، 18 - ج 1 من 508-514) وانظر (تلخيص الحبير: 2/14، 15 ح 512، 514، 516، 517، 518) .
(3) في النسخ الخمس: أوتر، والمثبت تقدير منا.(2/358)
وأما التشهد، فالمنقول فيه يشير إلى اتباع ضبط:
فأما الاقتصار على تشهد واحد (1 فمحمول على محاولة الفرق بينها وبين صلاة المغرب، وأما الإتيان بتشهدين 1) ، فمحمول على تشبيهها بصلاة المغرب، وليس فيها ما يتضمن الخروج عن الضبط بخلاف أعداد الركعات.
ثم اختلف أئمتنا: فالذي ذكره المعتمدون أن ما ذكرناه من التشهدين، والتشهد الواحد كلاهما سائغان؛ لصحة الرواية فيهما جميعاًً عن عائشة رضي الله عنها.
وفي بعض التصانيف أن من أصحابنا من لم ير [غير] (2) الاقتصار على تشهد واحد في [الآخر] (3) ، واعتقدَ أن ما روي عن التشهدين إنما جرى على التفصيل، فكان يصلي أربعاً بتسليمة، ثم ركعة بتسليمة، فيقع تشهدان، وكذلك ما كان يزيد في
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ت 2) .
(2) هذه الزيادة تقدير منا لاستقامة العبارة. وقد أعيانا تقويمها، فمن عجبِ أن تتفق النسخ الخمس على هذا الخلل. ويبدو أن أصل عبارة المؤلف رحمه الله كانت هكذا: "من أصحابنا من لم ير إلا الاقتصار على تشهدِ واحد" فكانت عين الناسخ لا تستوعب أو لا تقبل وجود هذا التتابع [إلا الا] فيسبق الوهم إلى أنه تكرار.
وقد قطعت أخيراً بهذا عندما وجدت النووي حكى هذا الكلام عن إمام الحرمين قائلاً: وحكى الفوراني وإمام الحرمين وجهاً أنه لا يجوز الوتر بتشهدين، بل يشترط الاقتصار على تشهد واحد، وحمل هذا القائل الأحاديث الواردة بتشهدين على أنه كان يسلم في كل تشهد.
قال الإمام، وهذا الوجه رديء لا تعويل عليه" ا. هـ بنصه (ر. المجموع: 3/12) .
وهذا كما ترى نفس كلام إمام الحرمين، يقرب من حروفه. رضي الله عنهما. وألهمنا الصواب.
وتأكد هذا أيضاً بما ثبت عندنا من المقصود بقول إمام الحرمين: "بعض التصانيف"، " بعض المصنفين " إنما يقصد به (الفوراني) .
والآن حقت علينا سجدة الشكر؛ فقد جاءتنا (ل) ؛ ووجدنا عبارتها: "وفي بعض التصانيف أن من أصحابنا من لم ير إلا الاقتصار على تشهد واحد في الآخر" وهذا بعينه هو التقدير الذي قدرتُه، وفسرتُ به خطأ الناسخ؛ فالحمد لله حمداً يوافي نعمه، ودائما وأبداً نلوذ بحوله وقوته، ونبرأ من حولنا وقوتنا، ونسأله أن يقيض لنا من أهل العلم والصلاح من ينظر في عملنا هذا بعين الإنصاف، ويجعل جزاءنا منه دعوة بخير.
(3) في الأصل، (ط) ، (ت 1) : "الإجزاء"، والمثبت من (ت 2) ، وصدقتها (ل) .(2/359)
الركعات. وهذا رديء، لا تعويل عليه، والمذهب طريقة الأصحاب.
1156- ومن أهم ما يذكر في الوتر أن الأفضل في عِدَّة ركعاتها ماذا؟ فذهب بعض أصحابنا إلى أن الإتيان بثلاث موصولة أفضل، فإن ذلك صحيح وفاقاً، والإيتار بركعة واحدة مختلف فيه، وارتياد ما يصح وفاقاً أولى؛ فإن الصلاة خطيرة عظيمة الموقع، وهذا اختيار أبي زيد المروزي.
ومن أصحابنا من قال: الأفضل الإيتار بركعة فردة، وغلا هذا القائل بها، فقال: لو أوتر بإحدى عشرة، وأوتر بركعة فردة، فالركعة الفردة أفضل من إحدى عشرة، وتعلق هذا القائل بما روي: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر بركعة واحدة في آخر الليل، يوتر به ما قد صلى" والزيادة على الواحدة ما كان يواظب عليها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين الجواز بما يندر من أحواله، ويوضح الأفضل بما يواظب.
وذكر القفال وجهاً ثالثاً، فاقتصد وأنصف فيه، فقال: لو صلى ثلاثاً في تسليمة، وصلى ركعتين وسلّم، ثم أوتر بركعة، فالثلاث الموصولة تقابل بالثلاث المفصولة، فيقال: الفصل أفضل، فأما إذا قوبل ثلاث بواحدة، فلا شك أن الثلاث أفضل من الواحدة.
وذكر بعض أصحابنا وجهاً رابعاً فقال: إن كان ينفرد بالوتر، فالفصل والإيتار بركعة واحدة أفضل، وإن كان يصلي بالناس، فثلاث ركعات موصولة أولى؛ فإن الجماعة تجمع طبقات الناس على مذاهب، فالإيتار بما يجتمع عليه أصحاب المذاهب أولى.
وكل هذا التردد بين الثلاث الموصولة، والركعة الفردة، والثلاث المفصولة، فأما الزيادة على الثلاث، فلا يؤثره من طريق الفضيلة أحد من الأئمة، وإنما يحمل فعل الشارع على الجواز، لا على الأوْلى.
1157- ومما يتعلق بالوتر أن الصدِّيق رضي الله عنه كان يوتر، ثم ينام، ثم يقوم ويصلي [من التهجد ما وُفِّق له، ووتره سابق، وكان عمر ينام ولا يوتر، ثم يقوم(2/360)
ويصلي] (1) ما اتفق له، ثم يوتر في آخر الأمر، وكان ابن عمر يوتر وينام، ثم يقوم ويصلي ركعة فردة، يصير بها ما يتقدم شفعاً، ثم يصلّي متهجداً، ثم يوتر بركعة فردة، "وكان يسمي ذلك نقض الوتر" (2) .
فأما أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فإنهما راجعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم وأشار إلى أبي بكر: "أما هذا فأخذ بالحزم، وأما هذا -وأشار إلى عمر الفاروق- فأخذ بالقوة" (3) .
وميل الشافعي إلى حزم أبي بكر؛ فإن إقامة الصلاة أولى من النوم عليها على خطر الانتباه.
وأما نقض الوتر، كما روي عن ابن عمر، فلم يره أحدٌ ممّن يُعتمد من أئمة المذهب.
وذكر بعض المصنفين أن الأولى عندنا ما فعله ابن عمر رضي الله عنه. وهذا خطأ، غير معدود من المذهب. والتمسك بسيرة الشيخين أولى، ولم يؤثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نقضُ الوتر.
فصل
1158- لو صلى العشاء أربع ركعات، وصلى بعدها ركعة واحدة وتراً، ولم يزد، فهل يجزيه الوتر؟ تردد أئمتنا فيه، فمنهم من قال: يصح وتره، وهو القياس، ومنهم
__________
(1) سقط من الأصل، ومن (ط) وحدهما.
(2) حديث نقض ابن عمر للوتر. رواه الشافعي، وأحمد، والبيهقي (ر. ترتيب مسند الشافعي: 1/195 ح 551، المسند: 2/135، البيهقي: 3/36، التلخيص: 2/2 ح 549، وخلاصة البدر: 1/183 ح 630) .
(3) حديث حزم أبي بكر وقوة عمر، مشهور، رواه أبو داود، وابن خزيمة، والطبراني، والحاكم من حديث أبي قتادة. والبزار، وابن ماجة، وابن حبان، والحاكم، من حديث ابن عمر، وفي الباب عن أبي هريرة، وجابر (ر. أبو داود: الصلاة، باب في الوتر قبل النوم، ح 143، ابن خزيمة: ح 1084، الحاكم: 1/301، ابن ماجة: إقامة الصلاة، باب ما جاء في الوتر أول الليل، ح 1202، ابن حبان: 2437، التلخيص: 2/17 ح 526) .(2/361)
من قال: ما جاء به تطوع وليس الوترَ المشروعَ؛ فإن من صفة الوتر أن يوتر ما تقدم عليه من السنن الواقعة بعد فريضة العشاء، فإذا لم يوجد غيرُها، لم يكن وتراً، وفي كلام الشافعي إشارة إلى الوجهين جميعاًً، وميله إلى أن ما يأتي وتر. وإن قصر في ترك السنن قبله.
فرع:
1159- ظاهر المذهب أنه لو أتى بصلاة الوتر قبل فريضة العشاء، لم يعتد بما جاء به وتراً أصلاً.
وقال أبو حنيفة (1) ، هو وتر. وهو مذهب بعض أصحابنا، والأصح الوجه الأول، ولم يحك بعض أصحابنا غيره؛ لأنها على كل حال مترتبة على سابق.
والصحيح من مذهب أبي حنيفة أنه لو اعتقد ذلك عن قصد، لم يعتد بما جاء به، ولو سها ولم يتعمده، فيعتد به، ومن أبعد من أئمتنا في الاعتداد به لم يفصل بين أن يكون ذلك عن نسيان، وبين أن يكون عن قصد وتعمدٍ.
فصل
1160- القنوت لا يشرع في الوتر عندنا إلا في النصف الأخير من رمضان، وهذا مذهب عمر رضي الله عنه، وروى بعض من يعتمد في روايته: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه التراويح عشرين ليلة، ولم يقنت في الوتر إلا في النصف الأخير من الشهر" (2) والرواية غريبة؛ فإن المشهور أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل التراويح في جماعة إلا ثلاث ليال.
1161- ثم موضع القنوت [عندنا إذا رفع رأسه] (3) من الركوع، [وأبو حنيفة يرى القنوت قبل الركوع] (4) .
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/288 مسألة 247، حاشية ابن عابدين: 1/241.
(2) لم نصل إلى هذه الرواية، فهي غريبة كما قال الإمام رضي الله عنه.
(3) سقط من الأصل و (ط) فقط.
(4) سقط من الأصل و (ط) فقط.(2/362)
وقد رَوَوْا عن علي وابن مسعود وابن عباس مثل مذهبهم (1) ، ولكن الراوي عن علي الحارث الأعور. قال الشعبي؛ هو من جملة الكذابين (2) .
وقد صح عن علي أنه قنت بعد الركوع، وحديث ابن مسعود رواه ابن أبي عياش، وقد كذَّبه شعبة، وحديث ابن عباس رواه عطاء بن مسلم الحلبي وكان يروي المناكير عن الثقات.
فرع:
1162 - قد اشتهر من فعل الخاص والعام في الفصل والوصل قراءة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} في الركعتين الأوليين، وقراءة المعوّذتين وسورة الإخلاص في الثالثة، وقد رأيت في كتاب معتمد أن عائشة رضي الله عنها روت ذلك (3) .
***
__________
(1) ر. الهداية مع فتح القدير: 1/373، والدرة المضية فيما وقع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية. مسألة رقم: 134، 135.
(2) حديث القنوت قبل الركوع، روي من حديث أبي بن كعب، وابن مسعود، ومن حديث ابن عمر، وابن عباس. كذا أورده الزيلعي في نصب الراية: 2/123. ولم يشر الزيلعي إلى حديث علي الذي ضعفه إمام الحرمين. وانظر تهذيب التهذيب، والميزان، ونصب الراية، لترى أنهم قالوا في هؤلاء الرواة بمثل ما قاله فيهم إمام الحرمين.
(3) حديث عائشة عن القراءة في الوتر رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة. وقد حسنه ابن الملقن في البدر المنير. (ر. أبو داود: 2/132، باب ما يقرأ في الوتر، ح 1423، 1424، والترمذي: ح 463 باب ما يقرأ في الوتر، والنسائي: قيام الليل، باب القراءة في الوتر، ح 1730، وابن ماجة: الصلاة، باب ما جاء فيما يقرأ في الوتر، ح 1173 تلخيص الحبير: 2/19 ح 533، والبدر المنير: 4/332) .
هذا، ولم نعرف (الكتاب المعتمد) الذي يقول الإمام: إنه رأى فيه هذا الحديث. فهل هو (سنن أبي داود) ؟(2/363)
باب فضل الجماعة والعذر بتركها
1163- إقامة الجماعة في الصلوات من شعائر الإسلام، وما أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم الجماعة مادام بمكة، فلما هاجر إلى المدينة، شرع الجماعات، واستحث المسلمين عليها.
1164- واختلف أئمتنا فيها: فقال بعضهم: إقامة الجماعة سنة مؤكدة. وقال آخرون هي من فروض الكفايات.
وقد ذكرنا تردد الأئمة في الأذان في هذا المعنى، ولم ينسب الصيدلاني المصير إلى أن الأذان فرضٌ على الكفاية إلى أئمتنا، وصرح في هذا الباب بحكاية هذا في الجماعة.
ثم من قال: إقامة الجماعات فرض كفاية، فلا شك أنه يقول إذا قام بها قوم، سقط الفرض عن الباقين.
وقد ذكرنا في الأذان تفصيلاً، وذلك التفصيل على وجهه لا ينتظم ولا يطرد هاهنا، وذكر بعض المصنفين أن الجماعة ينبغي أن تقام في كل مَحِلَّة. وقال الصيدلاني: إذا فعل قوم، سقط الفرض عن الباقين.
1165- وأنا أقول: أما الجماعة في صلاة الجمعة، ففرض على الأعيان الذين يلتزمون الجمعة، كما سيأتي في كتابها، وإنما الكلام في الجماعة في سائر الصلوات، أما أحمد بن حنبل (1) ، وداود (2) ، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة (3) ،
__________
(1) وجوب الجماعة متفق عليه في مذهب أحمد، أما كونها شرطاً فقول في المذهب. ر. الإنصاف: 2/210، وكشاف القناع: 1/454.
(2) داود بن علي بن خلف الأصبهاني ثم البغدادي، إمام أهل الظاهر، أحد العلماء الزهاد العباد، قالوا: كان عقله أكبر من علمه ت 270 هـ (ر. تهذيب الأسماء: 1/182 رقم 157) .
(3) محمد بن إسحاق بن خزيمة الإمام من الأصحاب، إمام نيسابور في عصره، أحد المحمدين =(2/364)
فإنهم أوجبوا الجماعة (1 على كل من يلتزم الصلاة، وشرطوا في صحة الصلاة المفروضة الجماعة 1) كما تشترط في صحة الجمعة.
واحتج الشافعي بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة، وروي بخمس وعشرين درجة" (2) ، وهذا يدل على أن صلاة الفرد صحيحة، والصلاة في الجماعة أفضل. وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: "صلاة الرجل مع الواحد أفضل من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أفضل من صلاته مع واحد، وحيثما كثرت الجماعة فهو أفضل" (3) وهذا يدل على صحة صلاة المنفرد.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار مشتملة على الوعيد في ترك الجماعة؛ وسببُها أن المنافقين كانوا يتخلفون، ولا يصلون في منازلهم، فكان المقصود من الوعيد حملهم على الصلاة على الرغم منهم.
1166- فإذا ثبت هذا، فلم نضبط فيما قدمناه قولاً في الجماعة التي يسقط بإقامتها [الحرج] (4) عن الذين لم يحضروها، فنقول: الغرض ظهور الشعار، فلتقم الجماعة في البلدة الكبيرة في مواضعَ بحيث يظهر بمثلها في مثل تلك البلدة الشعار.
ولا يخفى أنه لو فرض إقامة الجماعة في طرفِ أو في أطراف، فقد لا يشعر بها أهلُ
__________
= الأربعة من أصحاب الشافعي الذين بلغوا رتبة الاجتهاد، كما قال السبكي في طبقاته.
ت 311 هـ (طبقات السبكي: 3/109-119) .
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2) وحدها.
(2) حديث فضل صلاة الجماعة متفق عليه من حديث ابن عمر، بلفظ "سبع وعشرين". اللؤلؤ والمرجان: ح 381. (وانظر التلخيص: 2/25 ح 553) .
(3) حديث "صلاة الرجل مع الرجل ... " أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن حبان، وابن ماجة من حديث أبي بن كعب (ر. أبو داود: الصلاة، باب في فضل صلاة الجماعة، ح 554، النسائي: الإمامة، باب الجماعة إذا كانوا اثنين، ح 843، ابن ماجة: المساجد والجماعات، باب فضل الصلاة في جماعة، ح 790، أحمد: 5/140، التلخيص: 2/26 ح 554) .
(4) في الأصل، وفي (ط) وفي (ت 1) : الخروج، والمثبت من (ت 2) .(2/365)
البلدة، ويكون جريان ذلك من جهة التمثيل بمثابة عمل من الأعمال لا يُشاع مثله في العرف إذا جرى من شخص أو أشخاص، وقد لا يشعر به معظم أهل البلدة، فَلْيَقِس الناظر ذلك الذي نحن فيه بهذا، ولْيعلم أن الغرض ظهور الشعار. وهذا هو الأصل. فإذاً قد لا يحصل ذلك إلا بأن تقام في كل مَحِلَّة، وقد تصغر القرية فيقع الاكتفاء بجماعة واحدة.
1167- ومما ينبغي أن ينبه عليه أن الناظر قد يقول: إذا كبرت البلدة، وكثر أهلها وكان معظمهم لا يقيمون الجماعة، وكان الشعار يظهر بالذين يقيمونها، ولكن كان يظهر من أهل البلدة الاستهانة بالجماعة؛ من حيث يتقاعد عنها معظمهم، فإنهم يعصون. وهذا الظن خطأ؛ فإنه ظهر الشعار، وسقط الفرض عن الباقين، وإن كانوا جماهير أهل البلدة.
والذي يحقق ذلك أن الصلاة على الموتى من فروض الكفايات، فلو كان لا يصلي عليهم إلا شراذم والباقون يعبُرون ولا يبالون، فالفرض يسقط عن الباقين، فإذاً النظر إلى ظهور الجماعة.
وقد يتجه أن نقول: لو كان حضر في [كل] (1) مسجد اثنان - ثلاثة، بحيث لا يبدون للمارين، فلا يحصل ظهور الشعار بهذا.
والجملة في ذلك أن كل واحد في نفسه لم يفرض عليه لأجل صلاته جماعة، وإنما الغرض أن يحصل إظهار شعائر الإسلام على الجملة.
ولا يمتنع أن يقال: لا يعتبر في القرى الصغيرة القريبة من البلاد إظهار ذلك، إذا استقلت البلاد بإظهار ذلك، فلهذا المعنى اختص وجوب الجمعة بالبلاد والقرى الكبيرة.
وفي أهل البوادي إذا كثروا عندي نظر فيما نتكلم فيه، فيجوز أن يقال: لا يتعرضون لهذا الفرض، ويجوز أن يقال: يتعرضون له إذا كانوا ساكنين، ولا شك أن المسافرين لا يتعرضون لهذا الفرض، وكذلك إذا قل عدد ساكنين (2) في بلدة؛
__________
(1) سقطت من الأصل ومن (ط) وحدهما.
(2) كذا " ساكنين " بالتنكير، في جميع النسخ، ولم تخالفها (ل) .(2/366)
فإنهم وإن أظهروا الجماعة، لا يحصل بهم ظهور الشعار، وقد ذكرنا أن الإنسان في نفسه لصلاته لا يتعرض لهذا الفرض، وإنما المرعيّ فيه أمرٌ كليٌ عائد إلى شعائر الإسلام، فهذا ما أردناه في ذلك.
1168- ثم كثرة الجَمْع مرغوب فيها، وقد روينا الخبر الدّالّ عليه، وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى مع واحد كان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء، ومن صلى مع اثنين، فإنه له مثل أجرهما من غير أن ينقص من أجرهما شيء" (1) ، وحيثما كثرت الجماعة فهو أفضل.
ولو كان بالقرب من منزل الإنسان مسجد ولو تعداه، لتعطّل، ولو أقام فيه الشعار، لقامت الجماعة بسببه، فهو أولى من قصد الجماعة الكثيرة، وإن كان المسجد لا يتعطل بسبب تعديه عنه ومجاوزته، فالمذهب أن فضل الجماعة الكثيرة أولى.
وذكر بعض أصحابنا أن رعاية حق الجوار لذلك المسجد أولى، وذلك غير سديد؛ فإن صح النقل فيه، فسببه أنه قد يخطر قصد الجماعة الكثيرة لغيره، فيؤدي ذلك إلى تعطيل المسجد، ولعل ذلك في مسجد السكة، فأما إذا كان على طريقه، وكان أقرب من المسجد المشهود، فلا ينقدح الوجه الضعيف في هذه الصورة.
فصل
1169- يجوز ترك الجماعة بالمعاذير، وهي تنقسم إلى أعذار عامة، وإلى أعذار خاصة.
فالعامة: كالمطر وما في معناه، وذكر بعض المصنفين في الوحل خلافاً؛ من حيث إنه يتأتى الاستعداد له. والأظهر أنه عذر؛ فإن في التخطي فيه عسراً ظاهراً، وهذا إذا لم يتفاحش. والرياحُ الشديدة أعذار بالليل، وليست أعذاراً بالنهار.
__________
(1) لم نصل إلى هذا الحديث مع طول بحثنا في مظانه المختلفة.(2/367)
1170- والأعذار الخاصة: كالمرض، وتمريضِ مريض يعتني به الإنسان، وفي تركه إضرار.
ومنها قيام الإنسان على مالٍ، لو تُرك، لضاع، أو خيف في تركه ضَياعُه.
وذكر بعض الأئمة من الأعذار أن يكون مديوناً معسراً، وقد لا يصدقه مستحق الدين فيحبسه، فله أن يتخلف لذلك.
ومنها أن يكون قد استوجب القصاص، ولو ظفر به مستحقه، لقتله، ولو غيّب وجهه، رجا أن يعفوَ عنه إذا سكن غليلُه، فقد جوز الشافعي التخلف بهذا.
1171- وهذا فيه إشكال عندي؛ من حيث إن سبب التزام القصاص أكبر الكبائر بعد الردة، فكيف يستحق أن يخفف عنه، ويجوَّز له تغييب الوجه عن مستحق القصاص؟ وهذا غامض، وإن لم يتخلف عن الجماعة. ولعل السبب فيه تعرّض القصاص للشبهة؛ فإن مستحق القصاص مندوب إلى العفو في نص كتاب الله عز وجل، فلا يبعد أن يسوغ لمن عليه القصاص أن يُغيِّب وجهَه إذا كان يرتجي عفواً، ولسنا نلتزم الآن في كتاب الصلاة البحثَ عن هذه [المعاصات] (1) .
وقد سمعت شيخي يذكر فصل القصاص كذلك في كتاب الجمعة، وكان يحكي عن نص الشافعي جوازَ التخلف عن الجمعة لمن عليه القصاص، كما ذكرناه، ولم أر في هذا خلافاً، والذي ذكرتُه الآن نَقَله بعض المصنفين.
ومنشأ هذا الإشكال جواز الامتناع من مستحِق الدم، فإن ثبت هذا، لم يخفَ بعده جوازُ ترك الجماعة والجمعة.
وأنا بعون الله تعالى أعود في كتاب الجمعة إلى تفصيل المعاذير، ولعلّي ثَمّ أذكر ما فيه شفاء الغليل.
1172- ثم مما قد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر مُناديه في الليلة
__________
(1) في الأصل، و (ت 1) المغاغات، ولم أجد لها معنى، والمعهود في كلام إمام الحرمين: المعوصات، والمعاصات بالصاد. فلذا اخترنا ما جاء في (ت 2) على أنها أدنى عندي من (ت 1) ، ومن الأصل. وأما (ل) ، فجاءت بتحريف ظاهر: "المغاصات".(2/368)
المطيرة، والليلة ذات الريح [يقول] (1) "ألا صلوا في رحالكم" (2) .
ثم ذكر الصيدلاني استحبابَ هذا النداء، وأن المؤذن يقوله عند فراغه من قوله: حي على الفلاح، وهذا مشكل؛ فإنه لم يصح فيه ثَبت عن النبي صلى الله عليه وسلم (3) ، وتغيير الأذان بشيء يثبت في أثنائه من غير نقلٍ فيه صحيع بعيد عندي، وليس في ذكره بعد الأذان ما يفوّت مقصود النداء.
فصل
قال: "وإذا وجد أحدُكم الغائطَ ... إلى آخره" (4)
1173- إذا أرهق الرجلَ حاجةُ الإنسان، وحضرت الصلاة، فينبغي أن يبدأ بقضاء حاجته؛ فإنه إن استدام ما به، امتنع عليه الخضوع، وهو مقصود الصلاة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يصلّين أحدكم وهو يدافع أخبثيه" (5) ، وقال: "لا يصلين
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق، وهي في الحديث المتفق عليه.
(2) حديث "ألا صلوا في رحالكم" رواه أحمد، والنسائي، وأبو داود، وابن ماجة، وابن حبان، والحاكم، وأصله في الصحيحين متفق عليه من حديث ابن عمر بلفظ: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر المؤذن، إذا كانت ليلة ذات برد ومطر يقول: "ألا صلوا في الرحال". (اللؤلؤ والمرجان: 1/137 ح 404، المسند: 5/24، 74، 75، أبو داود: الصلاة، باب الجمعة في اليوم المطير، ح 1059، النسائي: الإمامة، باب العذر في ترك الجماعة، ح 854، ابن ماجة: الإقامة، باب الجماعة في الليلة المطيرة، ح 936، ابن حبان: 2076، الحاكم: 1/293، التلخيص: ح 566) .
(3) ما استشكله إمام الحرمين من قول الصيدلاني، استنكره الناس حينما قال ابن عباس لمؤذنه: " لا تقل حي على الصلاة. قل: صلوا في بيوتكم " فلما استنكر الناس ذلك، قال ابن عباس: فعله من هو خير مني، إن الجمعة عزمة، وإني كرهت أن أخرجكم فتمشون في الطين والدحْض. (ر. اللؤلؤ والمرجان: 137 ح 405) فصح بهذا ثبتٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما حكاه الصيدلاني، وبذلك لا محل لاستشكال إمام الحرمين ما قاله الصيدلاني. نعم ورد النصّ في حديث ابن عمر عند مسلم، أن قول: "صلوا في رحالكم" كان في آخر النداء، وهذا ما يرجحه إمام الحرمين، حتى لا يدخل في الأذان ما ليس منه.
(4) ر. المختصر: 1/110.
(5) حديث: "لا يصلين أحدكم وهو يدافع الأخبثين" رواه ابن حبان بهذا اللفظ من حديث =(2/369)
أحدكم وهو ضام وركيه"، وروي أنه قال: "لا تقبل صلاة امرىءً لا يحضر فيها قلبه". (1 ولو حضرت الصلاة وبالرَّجُل جوع مفرط، فليكسر ما به من سَوْرةِ الجوع وكَلَبه بلقم 1) وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا أقيمت العِشاء وحضَر العَشاء، فابدؤوا بالعَشاء" (2) ولم يُرِد الجلوس للأطعمة وترديد الألوان، وإنما أراد تعاطي لقم، كما قدمته.
وقد بُلغت عن القاضي حسين أنه قال: "لو صلى وقد ضاق عليه الأمر في مدافعة البول والغائط، وخرج عن أن يأتي منه الخشوع أصلاً لو أراده، فلا تصح صلاته؛ فإن ما هو عليه لا يوافق هيئة المصلين، بل هو في التحقيق هازىء بنفسه مستوعَبُ الفكر بالكلية فيما هو مدفوع إليه، ومن أنكر أن المقصود من الصلاة الخشوع والاستكانة، فليس عالماً بسر الصلاة".
وهذا إن صح عنه، فهو بعيد عن التحقيق، ولكنه هجوم على أمر لم يُسبق إليه، ولست أعرف خلافاً أن الساهي اللاهي النازق الذي يلتفت من جانبيه، وإنما يقتصر على قراءة الفاتحة والتشهد، ولا يأتي بذكر غيرهما بعيد عن هيئة المصلين، ثم لم نحكم في ظاهر الأمر ببطلان صلاته.
***
__________
= عائشة، ومسلم وأبو داود عن عائشة أيضاً بلفظ: "لا صلاة بحضرة طعام، ولا هو يدافعه الأخبثان" (ر. مسلم: المساجد، باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله في الحال، ح 560، وأبو داود: الطهارة، باب أيصلي الرجل وهو حاقن، ح 89، وانظر المسند: 6/43، 54، 73، وابن حبان: ح 2071، التلخيص: 2/32 ح 567) .
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2) .
(2) متفق عليه من حديث أنس بلفظ: "إذا وضع العشاء، وأقيمت الصلاة، فابدؤوا بالعشاء"،
ومتفق عليه بمعناه أيضاً من حديث عائشة، وحديث ابن عمر. (اللؤلؤ والمرجان: 112، 113 ح 327-330، والتلخيص: 2/32 ح 568) .(2/370)
باب صلاة الإمام قائماً بقعود أو قاعداً بقيام
1174- إذا عجز الرجل عن القيام في الصلاة صلى قاعداً، والأَوْلى به أن يستخلف في الإمامة، فإن صلى بالناس قاعداً، صح، وهم يصلون خلفه قياماً إذا كانوا قادرين.
وقال أحمد: يصلون خلف الإمام قعوداً متابعة للإمام (1) . وقد صحت أخبار تقتضي ذلك؛ فإنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صلى الإمام قاعداً فصلّوا قعوداً خلفه أجمعين" (2) .
والشافعي رأى ذلك منسوخاً بما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر أمره، إذ تقدم وقعد، وكان يصلي قاعداً، وأبو بكر يصلي قائماً خلفه، مقتدياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس قيام (3) ، فرأى الأخذ بتقرير رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر والناسَ على قيامهم مع قعود إمامهم، ثم ذكر في الباب أحكاماً من صلاة القاعد يقدر على القيام، أو القائم يعجز عن القيام، وقد استقصيت ما يتعلق بذلك في باب صفة الصلاة على أبلغ وجه وأحسنه.
1175- ثم قال الشافعي: على الآباء والأمهات أن يعلّموا صبيانهم الصلاة. وهذا بيّن، ثم الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: "مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع،
__________
(1) ر. الإنصاف: 2/261، وكشاف القناع: 1/477.
(2) جزء من حديث متفق عليه عن عائشة وعن أبي هريرة بلفظ: "إنما جعل الإمام ليؤتم به ... وإذا صلى جالساً، فصلوا جلوساً أجمعون" (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/84 ح 233، 234) .
(3) متفق عليه في قصة من حديث عائشة رضي الله عنها. (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/84 ح 235) .(2/371)
واضربوهم عليها وهم أبناء عشر" (1) : قيل: أمر بضربهم على العشر؛ لأنهم يحتملون الضرب، وقيل: السبب فيه أن العشر سن احتمال البلوغ، فلا نأمن أن الصبي العرم بلغ ولا يصدقنا.
***
__________
(1) حديث: "مروا أولادكم بالصلاة، وهم أبناء سبع.." رواه أبو داود، والحاكم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده، وهما والترمذي والدارقطني عن سبرة الجهني. (ر. أبو داود: الصلاة، باب متى يؤمر الغلام بالصلاة، ح 494، 495، الحاكم: 1/197، 201، الترمذي: أبواب الصلاة، باب ما جاء متى يؤمر الصبي بالصلاة، ح 407، الدارقطني: 1/230، التلخيص: 1/84 ح 264) .(2/372)
باب اختلاف نية الإمام والمأموم
1176- اختلاف نية الإمام والمأموم في الصلاة لا يمنع القدوة عندنا، فيجوز أن يقتدي قاضٍ بمؤد، ومؤد بقاضٍ، ومتنفلٌ بمفترض، ومفترضٌ بمتنفل، والخلاف مشهور مع أبي حنيفة (1) ، ومعتمد المذهب أن الاقتداء متابعةٌ في ظاهر الأفعال، والغرض منه أن يربط المقتدي فعلَه بفعل إمامه، حتى لا يتكاسل ولا يتجوَّز في صلاته، وإلا، فكل مصل لنفسه، والنيات ضمائر القلوب، فلا يتصوّر الاطلاع عليها؛ حتى يفرض اقتداءٌ بها.
واختلف قول الشافعي في أن إمام الجمعة لو كان متنفلاً، فهل يصح من القوم أداء الجمعة خلفه أم لا؟ وكذلك اختلف قوله في إقامة الجمعة خلف الصبي، وسيأتي ذلك مستقصىً في كتاب الجمعة إن شاء الله تعالى.
وسبب اختلاف القول في الجمعة أن الجماعة واجبة فيها، فجرى الأمر فيها على نسق آخر.
1177- ثم نحن وإن لم نراعِ في صحة القدوة في سائر الصلوات اتفاقَ النيّات، فلا بد من رعاية كيفية الصلاة في ظاهر الأفعال، والقول في ذلك ينقسم: فإن كانت صلاة (2) الإمام في وضعها مخالفة لصلاة المأموم، مثل أن يكون الإمام في صلاة الجنازة، أو الخسوف، والمأموم في صلاة من الصلوات المعهودة، فالأصح أن الاقتداء باطلٌ؛ لأن المتابعة لا بد منها في الأفعال ظاهراً، وذلك متعذر غير ممكن، وأبعد بعض أصحابنا، فجوز الاقتداء.
فإن منعنا، فلا كلام.
__________
(1) ر. حاشية ابن عابدين: 1/89، 90، مختصر اختلاف العلماء 1/246 مسألة: 193.
(2) من هنا بدأ خرم في نسخة (ت 2) وهو عبارة عن فقد ورقة كاملة.(2/373)
وإن جوّزنا، فتفريعه أن نقول: إذا اقتدى بإمام في صلاة الجنازة، فيبقى قائماً مادام إمامه في الصلاة، فإذا سلم، انفرد المقتدي بنفسه، فيركع ويجري على ترتيب صلاته، ولا يوافق الإمامَ في تكبيرات صلاة الجنازة، والأذكارِ المتخللة بينها، ولا يقدح ذلك في القدوة المعتبرة في ظاهر الأفعال؛ فإن المقتدي بالإمام في صلاة العيد لو لم يكبر التكبيرات الزائدة، وكان الإمام يأتي بها، فلا تنقطع القدوة بهذا السبب.
وإذا اقتدى في صلاة معهودة بمن يصلي صلاة الخسوف -والتفريع على الوجه الضعيف في تصحيح القدوة- فإذا ركع الإمام، ركع المقتدي، ثم الإمام يرفع رأسه، ويركع ركوعاً آخر، والمقتدي يستقر في الركوع الأول حتى يعود إليه الإمام، ثم يرتفع معه، إذا رفع رأسه من الركوع الثاني، ولا يرتفع عن الركوع الأول، ثم ينتظره واقفاً حتى يركع ركوعاً آخر، ويرتفع؛ لأنه لو فعل كان مطوّلاً ركناً قصيراً، وإذا انتظر راكعاً، فالركوع ركن طويل يقبل التطويل، ولم يصر أحد من أصحابنا إلى أنه يوافق إمامه فيركع ركوعين، وإن كان المأموم قد يأتي بأفعال لا تحسب له بسبب الاقتداء، كما سنذكر طرفاً منه الآن.
والسبب في ذلك (1) في صلاة الخسوف، أن نظم صلاة الخسوف يخالف نظم الصلاة التي تَلَبَّس المقتدي بها، وإن كان المقتدي يوافق إمامه إذا كان مسبوقاً في أفعالٍ لا تحسب؛ فتلك الأفعال موجودة في صلاة المقتدي على الجملة.
فهذا إذا كانت صلاة الإمام مخالفة في وصفها لصلاة المأموم.
1178- فأما إذا لم تكن الصلاتان مختلفتين في الوضع، ولكن كانتا مختلفتين في عدد الركعات، نُظر: فإن كان عدد ركعات صلاة المقتدي أكثر، فالقدوة تصح بلا خلاف، كمن يقتدي في قضاء صلاة العشاء بمن يصلّي الصبح (2) فهذا صحيح، فيصلي مع الإمام ركعتين، فإذا سلم الإمام، قام المقتدي إلى بقية صلاته، وإنما صح
__________
(1) "في ذلك" أي في عدم المتابعة للإمام الذي يصلي صلاة الخسوف؛ لأن المتابعة ستقتضيه أفعالاً تخالف نظم صلاته.
(2) انتهى الخرم الذي بدأ من نحو صفحتين في نسخة (ت 2) .(2/374)
ذلك؛ لأن من سبقه إمامُه في [صلاة رباعية بركعتين، فاقتدى به في بقية صلاته، فصورة] (1) صلاته تكون بمثابة اقتداء من يصلي العشاء بمن يصلي الصبح.
1179- فأما إذا كان عدد ركعات صلاة المأموم أقل، ففي صحة القدوة على ظاهر المذهب قولان في هذه الصورة: أحدهما - الصحة، وهو الظاهر الذي قطع به الصيدلاني، ووجهُه اعتبارُه بالصورة قبيل هذه.
فإذا توافقت الصلاتان في النظم، فينبغي ألا يؤثر تفاوت عدد الركعات، كما لو كان عدد ركعات صلاة المأموم أكثر.
والقول الثاني - أنه لا تصح القدوة بخلاف الصورة الأولى؛ فإن في الصورة الأولى لا يفارق إمامه، والإمام متمادٍ في صلاته، بل الإمام يفارقه، وهو يقوم إلى بقية صلاته، كفعل المسبوق. بخلاف صورة القولين على ما سنبين في التفريع.
فإن صححنا القدوة -على الأصح- فنفرع صوراً، فنقول: إن كان المقتدي في الصبح قضاء أم أداء، والإمام في صلاة رباعية، فيصلي ركعتين مع الإمام، ويجلس معه للتشهد، ثم الإمام يقوم إلى الثالثة، والمقتدي لا يقوم معه أصلاً، وهو بالخيار: إن شاء تحلل عن صلاته، وفارق إمامه، ولا يضره ذلك؛ لأنه معذور بمفارقته، وإن شاء بقي جالساً، وانتظر الإمام، حتى يصلي ركعتين، ويجلس، ويسلم، فيسلم معه. [و] (2) في هذا الانتظار، وفي بقاء المقتدي على حكم القدوة في سهو يقع (3) ، كلامٌ [مُفصّل] (4) يأتي في صلاة الخَوْف (5) إن شاء الله تعالى.
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل ومن (ط) ، وحدهما.
(2) "في هذا الانتظار ... " كلامٌ مستأنف، زادته (ل) وضوحاً؛ إذ جعلت (واواً) في أول الفقرة.
(3) "يقع" أي أثناء الانتظار من الإمام.
(4) في الأصل، وفي (ط) و (د 1) و (ت 2) : متصل، وأما (ت 1) فالصفحة كلها مطموسة، ولعلّ الصواب ما قدرناه. أما (ل) ففيها: "كلام مشكل". وفي هامشها: "متصل" نسخة أخرى.
(5) في (ت 2) : الخسوف. وهو تصحيف.(2/375)
1180- فإن قيل: هلاّ تابع الإمامَ في ركعتيه الباقيتين، ثم لا تحسبان [له] (1) كالمسبوق يدرك الإمام رافعاً رأسه عن الركوع، فإنه يتابعه في بقية الركعة، ثم لا تحسب له؟ قلنا: هذا محال؛ فإن المتابعة في ركعة تامة، غير محسوبة، محال، فأما بعض الركعة، فقد لا يحتسب.
ثم ذلك في حق المسبوق يقع في صدر الصلاة، فلا وجه إذاً لما قاله السائل.
فلو اقتدى في صلاة المغرب بمن يصلي أربع ركعات، فإذا رفع الإمام رأسه من سجود الركعة الثالثة، وقام إلى الرابعة، جلس المقتدي للتشهد، ولم يتابع إمامه أصلاً، [ويسلم] (2) . ولو أراد أن ينتظر إمامَه في هذه الجلسة حتى يعود إليه ويسلم معه، لم يكن له ذلك على ظاهر المذهب، فإنه فارقه لمّا جلس للتشهد، فلا ينتظره بعدما فارقه.
وليس كما لو كان المقتدي في صلاة الصبح والإمام في الظهر، فإنه يجلس مع إمامه، ثم يقوم الإمام إلى الثالثة، وله أن ينتظره؛ لأنه ما أحدث تشهداً، بل وافق إمامه فيه، فإذا انتظره، كان في حكم المطوِّل المستديم لتشهده، وفي صلاة المغرب تشهد، حيث لم يتشهد إمامه أصلاً، فكل ذلك مفارقة للإمام.
1181- ومما يليق بتمام التفريع أن المأموم لو كان في قضاء الظهر والإمام في صلاة المغرب، فإذا جلس الإمام عقيب الركعة الثالثة للتشهد، يجلس المقتدي معه للمتابعة، ثم لا تحتسب له هذه الجلسة، فإذا سلم إمامه، قام إلى الركعة الرابعة، ولا يبعد أن يوافق في تشهدٍ لا يحسب له، فأما ركعة تامة، فيستحيل أن يوافق فيها، ثم لا تحتسب له، كما قدمناه في تفريع الصورة المتقدمة.
__________
(1) ساقطة من الأصل، ومن (ط) ، ومطموسة في (ت 2) .
(2) في جميع النسخ: "ولم يسلّم" وهو سبق قلم لا شك، ينقضه الجملة بعده، ثم جاءتنا (ل) مؤكدة هذا. (أي بدون لم) .(2/376)
فصل
1182- إذا أحس الإمام بداخل، فهل ينتظره حتى يدركه؟
أما إذا كان في القيام، فلا ينتظره، فإنه لا يتوقف إدراكه على أن يدركه قائماً؛ إذ لو أدركه راكعاً، لصار مدركاً، ولا ينتظر في السجود أحداً؛ لأن المأموم لا يصير مدركاً بإدراك السجود، فالانتظار إن كان يفيد، فإنما يفيد في الركوع. فإذا أحس الإمام في الركوع بداخل، فهل ينتظره؟
فعلى قولين: أحدهما - لا ينتظره، وهو الأصح، لأنه بانتظاره يطوّل الصلاةَ على نفسه، وعلى السابقين بسبب المسبوق وهذا لا سبيل إليه.
والقول الثاني - إنه لا بأس لو انتظر، قال الإمام (1) : [وقد] (2) رأيت طردَ القولين لبعض الأئمة في الانتظار في القيام والسجود، لإفادة الداخل بركةَ الجماعة. وهذا لا أعتمده.
ثم اختلف أئمتنا في محلّ القولين في الانتظار في الركوع، فمنهم من قال: القولان في بطلان الصلاة، وهذا فيه بعد، ولكن في كلام الشافعي ما يدل عليه، كما سنذكره في كتاب صلاة الخوف إذا زاد الإمامُ انتظاراً في الصلاة.
والذي يمكن أن يوجّه البطلان به، أن الذي ينتظر يُعلِّق صلاتَه بغيره، ولا يجوز أن تعلق الصلاةُ إلا بإمامٍ يُقتدى به، وسنذكر في أحكام القدوة والإمامة أن من اقتدى بمقتدٍ، فصلاته باطلة؛ لأنه علق بمن لا يصلح للإمامة، وإذا كانت الصلاة تبطل بهذا، فلا يبعد أن تبطل إذا عُلقت بانتظار من ليس في الصلاة.
ومن أئمتنا من قال: القولان في الكراهية. وهذا هو الظاهر، فإن توجيه البطلان تكلف.
__________
(1) الإمام هنا يعني به والده الشيخ أبا محمد.
(2) في الأصل: ولو.(2/377)
1183- ثم إن قلنا: إن الانتظار لا يُبطل ولا يكره، فقد تردد جواب شيخي في أنه هل يُستحب إذا انتهى التفريع إلى هذا؟ والوجه عندي القطع بأنه لا يستحب، بل يعارض توقِّي التطويلَ على الأولين السعيُ في تحصيل ركعةٍ في الجماعة للداخل، فيقتضي تعارضهما جوازَ الانتظار من غير كراهية.
ثم ذكر الصيدلاني: "أن الاختلاف فيه إذا كان لا يطوّل على السابقين، وهذا موضع التأمل؛ فإنه لو لم يطوّل الركوعَ الذي هو فيه، لم يحصل للانتظار تصوّر، حتى يفرض التردد فيه، وإن طول الركوع، وزاد على المعتاد فيه، فقد حصل التطويل".
فالذي أراه في ذلك أنه إذا طوّل ركوعاً واحداً تطويلاً لو فُضَّ (1) ووزعِّ على جميع الصلاة، لما ظهر في كل الصلاة أثرٌ في التطويل محسوس، ولكن كان يظهر في الركن الذي فرض فيه الانتظار، فهذا موضع القولين.
وإن كان التطويل بحيث يظهر على كل الصلاة. ظهوراً محسوساً، فهذا يمتنع عند الصيدلاني قولاً واحداً، وهذا حسن بالغ، ولا وجه إلا ما ذكره.
1184- والذي يليق بتحقيق هذا: أنا إذا كنا نقول: الانتظار لا يبطل الصلاة على أحد القولين، ويُبطل على القول الثاني، فقطعُنا القولَ بمنع التطويل في الصورة التي ذكرناها لا يوجب قطعاً بالبطلان؛ فإن سبب القطع بالمنع ألا يُطَوِّل على السابقين، وهذا أدبٌ، وليس من مبطلات الصلاة، والذي يقتضيه ما ذكره أنه لو انتظر مرة، أو مرتين، فقد يخرج على القولين إذا كان لا يظهر أثر التطويل في جميع الصلاة، وإن كان ينتظر في كل ركعة، فقد يجر ذلك القطعَ بالمنع، لإفضائه إلى التطويل إذا جمع، ونزّل ذلك منزلة الإفراط في تطويل ركوع واحد.
__________
(1) فُض: أي قسّم.(2/378)
فصل
فيمن يصح الاقتداء به
1185- القياس الظاهر يقتضي أن يقال: من تصح صلاتُه في نفسه، يصح اقتداء الغير به، ولا يقع الاكتفاء بأن يكون المصلِّي مأموراً بصلاته؛ فإنه إذا كان يقضيها، فلا يصح اقتداء من تصح صلاته من غير أمر بالقضاء به، وهذا القياس يجري مطرداً على مذهب الشافعي إلا في موضعين، فنذكر طرد القياس أولاً بالأمثلة، فنقول: يصح اقتداء المتوضىء بالمتيمم الذي لا يقضي الصلاة، ويجوز اقتداء الكاسي بالعاري، إذا كان لا يجب القضاء على العاري، فإن لم يجد المرء ماءً ولا تراباً، وقلنا: إنه يصلي في الوقت ويقضي، فلا يصح اقتداء المتوضىء به، ولا اقتداء المتيمم الذي لا يقضي.
1186- فأما ما هو مستثنى عن القياس الذي طردناه، فشخصان أحدهما - المرأة. لا يجوز اقتداء الرجل بها أصلاً، وإن كانت صلاتها صحيحةً، وهذا تعليله مشكل، ولكنه متفق عليه، لا نعرف فيه خلافاً، ولو قيل: الإمام يحتاج إلى تبرج وبروز، ولا يليق بمنصب النساء، لم يكن بعيداً، ولكن لا يقتدي الرجلُ بزوجته، وبأخته في داره، فلعل المرعيَّ في الإمامة كمال، وليست المرأة أهلاً له.
ولا خلاف أن المرأة يجوز أن تكون إمامةً، لامرأة أو نسوة، فهي إذاً على الجملة من أهل الإمامة، وإنما يمتنع على الرجال الاقتداء بالنساء.
ويمتنع اقتداء الرجل بالخنثى المشكل، ولو اقتدى، لزمه القضاء، ولو لم يتفق منه القضاء حتى بان الخنثى رجلاً، ففي وجوب القضاء قولان: أحدهما - لا يجب؛ لأنه قد تبين أنه اقتدى برجل.
والثاني - يجب؛ فإنه فى عقد صلاته خالف الأمر، وقد ألزمناه القضاء ظاهراً لذلك، فلا ينقض ما مضى؛ لأن التحرم والعقد كان على ظاهر البطلان.
والخنثى لا يقتدي بامرأة؛ لجواز أن يكون رجلاً، فلو اقتدى بامرأة، فألزمناه(2/379)
القضاء، فلم يقض حتى تبين أنه امرأة، ففي وجوب القضاء القولان المقدمان، كما ذكرناه.
فهذا أحد ما استثنيناه.
1187- والثاني - اقتداء القارىء بالأمي، فنصوّر الأمي ونصفه أولاً، ثم نذكر ترتيب المذاهب. والمعنيُّ بالأمي الذي لا يحسن قراءة الفاتحة، أو كان لا يطاوعه لسانُه على القراءة السديدة، بل كان يُحيل معنى كلمة منها، وإن كان قادراً على التعلم مقصراً فيه، فلا تصح صلاتُه في نفسه، وليس ذلك صورة مسألتنا، وإن كان لا ينطلق لسانه بالصواب، فصلاته في نفسه صحيحة، وهو الأمي الذي نريد تفصيل الاقتداء به.
وإن كان يحسن الفاتحة، وكان يلحن في غيرها، فقد قال الأئمة: لا يضرُّ لحنُه في غير الفاتحة، إذا كان عاجزاً عن تسديد اللسان؛ فإنّ صلاته صحيحة، والمقدار الذي هو ركن القراءة هو فيه ليس بأمي.
وفي هذا نظر؛ من جهة أنه لو قيل: ليس له في نفسه أن يقرأ بعد الفاتحة ما يلحن هو فيه؛ فإن تلك القراءة ليست واجبة، والتوقي من الكلام واجب، والكلمة التي يلحنها ليست من القرآن، فكأنه يتكلم في صلاته، لما (1) كان ذلك بعيداً عن القياس، فلينظر الناظر في ذلك.
وإن كان يردد حرفاً، ثم ينطلق كالذي يردد التاء ثم يجري -وهو التمتام- فليس بأمي، وكذلك الفأفاء، وهو الذي يردد الفاء، فإنه إذا كان يأتي بحرف، وهو معذور فيما يزيد، كالذي يتكلم ناسياً، فالقراءة صحيحة، والزائد محطوط عنه.
فإذا تُصوّر الأمي، فالذي نص عليه الشافعي في الجديد أنه لا يصح اقتداء القارىء به، ونص في القديم على جواز الاقتداء به.
ونقل بعض الأئمة قولاً ثالثاً: وهو أنه إن كانت الصلاة سرية، جاز الاقتداء به، وإن كانت جهرية، لم يجز الاقتداء به مطلقاً.
__________
(1) قوله: "لما كان ذلك بعيداً عن القياس" هو جواب (لو) في قوله: "لو قيل ... ".(2/380)
1188- احتج للقديم بأن صلاته صحيحة، وهو من أهل التبرج (1) ، احترازاً عن المرأة، فأشبه القارىء، واحتج المزني لما اختار هذا القول بأن اقتداء القائم بالقاعد العاجز عن القيام صحيح، وكذلك اقتداؤه بالمريض المومىء، وكذلك اقتداء المتوضىء بالمتيمم، فإذا كانت القدوة تصح إذا صحت صلاةُ الإمام، سواء كان نقْصُ صلاته راجعاً إلى ركنٍ أو شرط، فليكن العجز عن القراءة السديدة بهذه المثابة، ولا شك في [اتجاه] (2) القياس في نُصرة هذا القول.
ثم لا خلاف أنه يجوز اقتداء الأمي بالأمي.
ومن قال بالجديد، فليس ينقدح لتوجيهه عندي وجه إلا أن الإمام يتحمل على الجملة القراءة عن المأموم؛ فإنه يتحمل عنه القراءة إذا أدركه المسبوق في ركوعه قولاً واحداً، ولا يجري ذلك في شيء من الأركان، وهذا لا يعارضه سقوط المكث في القيام عن المسبوق؛ فإن القيام تبع للقراءة من جهة أنه محلها، فإذا سقطت، سقط المحل، فإذا وضح ذلك في القراءة، فينبغي أن يكون الإمام على كمالٍ في هذا الركن، حتى يصلح للإمامة لكاملٍ فيه (3) .
وتحقيق ذلك أنا نقول: كأن قراءة الإمام منقولة إلى المقتدي، ولو قرأ المقتدي ما يقرؤه الأمي، وهو في نفسه قارىء، لم تصح صلاته، ويخرّج عليه جواز اقتداء الأمي بالأمي.
وأما وجه القول الثالث (4) ، فلا يتبين إلا بتخريج ذلك القول على القول الذي حكيناه في أن القراءة تسقط عن المقتدي في الصلاة الجهرية، ولا تسقط في السرية، فحيث تسقط كأنها وقعت محتملة عن المأموم، فلا بد من اشتراط كمال من يتحمل، وفي السرية تجب القراءة على المقتدي، فلا أثر لعجز الإمام، كما ذكره المزني من
__________
(1) "من أهل التبرج": أي من أهل الظهور والبروز، وقد سبق قوله قبلاً: "إن الإمامة تحتاج إلى تبرج وبروز، ولا يليق هذا بمنصب النساء".
(2) في الأصل: اتحاد.
(3) أي ينبغي أن يكون كاملاً في هذا الركن حتى يصلح لإمامة من هو كامل فيه.
(4) الوجه الثالث هو جواز الاقتداء بالأمي في الصلاة السرّية دون الجهرية.(2/381)
التعلق باقتداء القائم بالعاجز عن القيام.
فهذا بيان الأقوال في الاقتداء.
1189- ثم إن قلنا: يجوز الاقتداء بالأمي، فلا كلام.
ولو لم يجز الاقتداء به، فلو كان الرجل يلحن في النصف الأول من الفاتحة، وكان المقتدي يلحن في النصف الأخير منها، فلا يجوز الاقتداء به، وإن كانا أميين، لأن المقتدي في هذه الصورة ليس بأمي في النصف الأول، وإمامه أمّي فيه، فإذا اقتدى به، فقد تحقق اقتداء قارىء في النصف الأول بأمي فيه، ولو فرض اقتداء الإمام في هذه الصورة بمن قدرناه مقتدياً، لم يجز أيضاً لمثل ما ذكرناه، فإذن هما شخصان، لا يجوز اقتداء أحدهما بالثاني. وهذه من صور المعاياة (1) والمغالطة في السؤال، فإن السائل يعرضها ويقول: أيهما أولى بالإمامة؟ والجواب عنها، أن واحداً منهما لا يجوز أن يكون إماماً لصاحبه، لما قدمنا على القول الذي نفرع عليه.
1190- ومما نفرعه على هذا القول: أن من اقتدى بإمام في صلاة سرية، والمقتدي قارىء، فقد أجمع الأئمة على أنه لا يجب على المقتدي البحثُ عن قراءة إمامه، فإن الغالب أنه قارىء، فيجوز حمل الأمر عليه، كما يجوز حمل الأمر على أنه متطهر، وإن كنا نشترط في القدوة صحة طهارة الإمام. ثم يخرج من ذلك أنه لو بحث، فتبين أنه لم يكن قارئاً، فهو في التفريع كما لو تبين أن الإمام كان جنباً، ولو ظهر ذلك، لم يجب على المأموم إعادة الصلاة.
ولو كانت الصلاة جهرية، فتبين فيها كونَه أُميّاً أو قارئاً؛ فإنه يقع الحكم على حسب ما يظهر. ولو كان يُسر بالقراءة في صلاة جهرية، فقد ذهب كثير من أئمتنا إلى أنه يجب الآن بحثه عن حاله؛ فإن إسراره والصلاة جهرية يُخيل مكاتمة نقصه في القراءة.
وقال آخرون: لا يجب البحث في هذه الصورة أيضاً، فإن الجهر الذي تركه هيئة
__________
(1) المعاياة: يقال: عايا فلانٌ صاحبَه: ألقى عليه كلاماً لا يهتدَى وجهه. فالمعاياة هي: الإلغاز، والمعاجزة. (المعجم) .(2/382)
من هيئات الصلاة، [فلا أثر له، وللإسرار محمل آخر سوى جهله بالقراءة، وهو أنه نسي أن الصلاة] (1) جهرية؛ فأسر بها، فهذا تفريع القول.
فرع:
1191- في [بعض] (2) الأئمة: ما كان يقطع به شيخي وهو مذهب نَقَلَةِ المذهب، أن اقتداء الطاهرة بالمستحاضة صحيح، طرداً للقياس المقدم في رعاية الصلاة (3) ، وصلاة المستحاضة صحيحة.
وذكر بعض أئمة العراق وجهاً، أنه لا يجوز الاقتداء بها؛ فإن في صلاتها خللاً غيرَ مجبور ببدل، وليست كالمتيمم يقتدي به المتوضىء؛ فإن الإمام، وإن لم يتوضأ، فقد أتى بما هو بدل عن الوضوء. وهو ركيك لا أصل له.
فرع:
1192- من لم يجد ماء ولا تراباً هل يقتدي بمن هو في مثل حاله، ثم يقضيان جميعاًً؟ كان شيخي يتردد في هذه الصورة، من جهة أن صلاة الإمام إن كانت مقضية، فصلاة المأموم كذلك، فيشبه بما لو صحت صلاتهما جميعاًً. ويمكن أن يقال: لا يصح الاقتداء نظراً إلى فساد صلاة الإمام، والعلم عند الله.
فهذا مجموع ما يمنع القدوة وما لا يمنعها، وبيان طرد القياس مع الاستثناء منه.
فصل
1193- إذا اجتمعت نسوة في دار فحسن عندنا أن تصلي بهن واحدة منهن؛ فإن اقتداء النسوة بالمرأة جائز، وإذا لم يبرزن في مسجد، فليس في عقدهن الجماعة ما يناقض الستر المأمور به.
ثم الجماعة على الصورة التي ذكرناها مسنونة لهن عندنا، خلافاً لأبي حنيفة (4) ،
__________
(1) ما بين المعقفين سقط من الأصل، ومن (ط) .
(2) في الأصل و (ط) و (ت 1) : نقض. وفي (ت 2) : نقض الإمامة. والمثبت من: (د 1) . ثم الكلام على حذف مضاف، والتقدير: فرعٌ في غريب بعض الأئمة.
(3) "رعاية الصلاة": أي اعتبار صلاة الإمام، فإن صحت، صحت صلاة المأموم.
(4) ر. حاشية ابن عابدين: 1/380، مختصر اختلاف العلماء: 1/305 مسألة: 263.(2/383)
وقد روي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم، أمر أم ورقة حتى تصلي بالنسوة في دارها" (1) . وروي أن عائشة وأمَّ سلمة أمَّتا بنسوة ووقفتا وسطهن (2) . وهذا هو المستحب للتي تكون إمامة؛ فإنها لو تنصلت عن الصف كدأب الرجل الإمام، كان ذلك مناقضاً للستر المأمور به.
1194- فإن قيل: هلا خرجتم استحباب الجماعة على ما قدمتموه في باب الأذان من الاختلاف في أذانهن وإقامتهن؟ قلنا: في الأذان إظهارٌ وتركٌ للستر، وليس في إقامة الجماعة ذلك، ولو خفضت المرأة صوتها، كان ذلك تركاً لمقصود الأذان، فقد بان مفارقة الأذان والإقامة للإمامة، ولما كانت الإقامة لا يشترط فيها رفع الصوت، كان إثباتها في [حقهن] (3) أولى في ترتيب المذهب من الأذان.
1195- والنسوة لو شهدن المسجد، واقتدين بالرجال، فإن كنّ شوابّ، فلا يستحب ذلك لهن، والستر ولزوم البيت أولى بهن، ولو حضرن، صح اقتداؤهن، ثم لا يشترط في تصحيح الاقتداء [لهن] (4) أن يقتدين وينوي الإمام إمامتهن. وشرط أبو حنيفة (5) في صحة قدوتهن ذلك، وهذا غير صحيح؛ فإنه يجوز عندنا للرجل أن يقتدي بالمنفرد في صلاته، وإن لم ينو إمامة أحد.
__________
(1) حديث أم ورقة رواه أبو داود، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي (ر. التلخيص: 2/27 ح 556، أبو داود: الصلاة، باب إمامة النساء، ح 591، 592، والدارقطني: 1/403، والحاكم: 1/203، والبيهقي: 3/130) .
(2) حديث إمامة عائشة رواه عبد الرزاق في مصنفه، والدارقطني، والبيهقي، ومن طريق آخر ابن أبي شيبة والحاكم.
وأما حديث إمامة أم سلمة، فقد رواه الشافعي، وابن أبي شيبة، وعبد الرزاق (ر. التلخيص: 2/42 ح 597، 598، عبد الرزاق: ح 5086، ابن أبي شيبة: 2/89، ترتيب مسند الشافعي 1/107 ح 315، والدارقطني: 1/405، والحاكم: 1/203، والبيهقي: 3/131) .
(3) في الأصل، و (ط) ، و (ت 1) : خفضهن. والمثبت من: (ت 2) و (د 1) .
(4) مزيدة من: (د 1) .
(5) ر. حاشية ابن عابدين: 1/387، مختصر اختلاف العلماء: 1/266 مسألة: 217.(2/384)
والعجوز إذا خرجت إلى جمع الرجال، ووقفت في أخريات المسجد (1) ، واقتدت، صح ذلك منها، وهل يستحب [ذلك أو يكره؟ أما الكراهية، فلسنا نكره، خلافاً لأبي حنيفة، فإنه كره] (2) ذلك [إلا] (3) في صلاة الفجر والعشاء، ونحن نعتمد ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه كره للنساء الخروج للجماعة إلا أن تكون عجوزاً تخرج في مِنْقَليها" (4) .، والمنقل الخف الخلَق، أراد صلى الله عليه وسلم خروجها للعبادة مبتَذِلة (5) ، فإنها لو تشبهت بالشوابّ، فلا شك أنه يكره ذلك لها.
ثم إذا نفينا الكراهية، فالذي رأيته للأئمة أنا لا نرجح خروجَها على لزومها بيتها؛ فإنه يتعارض في حقها رعايةُ الستر وإقامةُ الجماعة مع الرجال، فيخرج من تعارض الأمرين نفي الكراهية في الحضور واستواء الأمرين.
ولو حضرت شابّة، ووقفت بجنب الإمام واقتدت، فقد أساءت من وجوه، ولكن تصح صلاتها، وصلاةُ الإمام، خلافاً لأبي حنيفة (6) ، وخبط مذهبه معروف في ذلك.
فصل
1196- ذكر الشافعي أن الأعمى يجوز أن يكون إماماً للبصير، وهذا خارج على القياس الممهد، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلف للإمامة في بعض غزواته ابن أم مكتوم في المسجد (7) ، ثم مذهب الشافعي أنا لا نجعل البصير أولى من
__________
(1) في (ت 2) : الناس.
(2) زيادة من (ت 1) ، و (ت 2) .
(3) زيادة من المحقق، بناء على المعروف من مذهب أبي حنيفة (ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/231 مسألة 171، والاختيار: 1/59، وحاشية ابن عابدين: 1/380) .
(4) حديث "أنه صلى الله عليه وسلم كره للنساء الخروج للجماعة ... " قال الحافظ: "لا أصل له" ... لكن رواه البيهقي موقوفاً عن ابن مسعود رضي الله عنه (ر. السنن الكبرى: 3/131، والتلخيص: 2/27 ح 557) .
(5) اسم فاعل من ابتذل: لبس المِبْذَل. والمبذل: الثوب الخَلَق. (المعجم) .
(6) ر. رؤوس المسائل للزمخشري: 149 مسألة: 56، مختصر اختلاف العلماء: 1/266 مسألة: 216، البدائع: 1/431، تحفة الفقهاء: 1/360، الهداية: 1/57.
(7) حديث استخلاف ابن أم مكتوم. رواه أبو داود عن أنس، ورواه أحمد، ورواه ابن حبان في =(2/385)
الضرير، ولا الضرير أولى من البصير؛ [إذ في كل واحد منهما أمر يعارض ما في صاحبه، أما البصير] (1) فقد يفرق فكرَه في الصلاة بصرُه، ولكنه مستقل بنفسه في استقباله، والضرير في الأمرين على مناقضته، فاقتضى ذلك أن يستويا.
فصل
1197- يجوز الاقتداء بمن لم ينو الإمامة وكان منفرداً؛ فإن معنى الاقتداء أن يربط الإنسان صلاته بصلاة غيره، وهذا المعنى يحصل وإن كان الإمام منفرداً؛ وقد روي: "أن عمر كان يدخل فيصادف أبا بكر في صلاة فيقتدي به" وكذلك يفعل أبو بكر إذا دخل فصادف عمر في الصلاة (2) .
1198- وأجمع أئمتنا أن من اقتدى بمأموم لم يجز؛ وتبطل الصلاة، والسبب فيه أن منصب الإمامة يقتضي الاستقلال وكونَ [الإمام متبوعاً قائماً بنفسه، وليس المقتدي كذلك، والذي يحقق ذلك أن سهو] (3) الإمام يلحق المأموم، وسهو المأموم يحمله الإمام، والمقتدي سهوه محمول، ويلحقه سهو إمامه، وهو يُخرجه عن حكم الإمامة، فإن قيل: أليس أبو بكر كان مقتدياً برسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض موته، والناس كانوا مقتدين بأبي بكر؟ قلنا: إنما كانوا مقتدين برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعداً في المحراب، وكان أبو بكر كالمترجم الذي يبيّن للقوم أحوالَ الإمام وانتقالاته في صلاته.
1199- ولو اقتدى برجل هو شاكٌ لا يدري أن إمامه مقتد بغيره أم لا، فلا تصح
__________
= صحيحه، وأبو يعلى والطبراني عن عائشة، والطبراني أيضاً عن ابن عباس (ر. أبو داود: الصلاة، باب إمامة الأعمى، ح 595، والمسند: 3/192، وابن حبان: 2131، 2132 وأبو يعلى: 7/434 ح 4456، التلخيص: 2/34 ح 575) .
(1) زيادة من (ت 1) و (ت 2) و (د 1) .
(2) حديث "أن عمر كان يصادف أبا بكر فيصلي وراءه ... " قال الحافظ: "لم أجده" (التلخيص: 2/43 ح 602) .
(3) سقط من الأصل، ومن (ط) وحدهما.(2/386)
قدوته مع هذا التردد، كما لو اقتدى بخنثى مشكل. ولو استمر على القدوة ثم بان أن إمامه لم يكن مقتدياً، هل يجب على المقتدي قضاء الصلاة والحالة هذه؟ فعلى قولين كالقولين فيه إذا اقتدى بخنثى، ثم لم يقض الصلاة حتى يتبين أن الخنثى رجل.
1200- ولو كان يصلي مع رجل وأشكل على كل واحد منهما حالُه، فلم يدر أنه مقتدٍ بصاحبه أو إمامٍ له، فلا تصح صلاة واحدٍ منهما على هذا التردد؛ فإنه لا يدري أيتابع أم يستقل؟ ولو كان يظن كل واحد منهما أنه إمام صاحبه، فتصح صلاته؛ فإنه يمضي في صلاته باختياره ولا ينتظر حكم المتابعة.
1201- ومما يليق بما نحن فيه أن من اقتدى بإمام، فالأولى ألا يعيّنَه في نيته، بل ينوي الاقتداءَ بالإمام الحاضر، وليس عليه أن يعرفَه بلا شك فيه؛ فإن نوى الاقتداء بزيد، فإن أصاب، فذاك، وإن أخطأ، فالذي ذكره الأئمة أنه لا يصح اقتداؤه، ولا تصح صلاته، وعدوا هذا مما لا يجب التعيين فيه.
ولو عينه المرء، فعليه خطر في الخطأ، فإن أخطأ، لم تصح صلاته، وكذلك لو نوى الصلاة على زيد، ثم تبين أن الميت غيرُ من عينه، فلا تصح صلاته، وهذا فيه إشكال من جهة أن من ربط نيته بمن حضر، واعتقده زيداً، فإذا المعيَّنُ غيرُه، فقد اجتمع في نيته تعيين وخطأ في المعيَّن، فيظهر أن يقال: المحكَّم (1) تعيينه وإشارته إلى شخصه، ويسقط أثر خطئه في اسمه.
وقد يعنّ للناظر أن يخرّج هذا على مسألةٍ في البيع، وهي أن يقول الرجل: بعتك هذا الفرس، وأشار إلى حمار، ففي صحة البيع وجهان مشهوران سيأتي ذكرهما، فربْطُ الاقتداء بمن في المحراب مع اعتقاده أنه زيد بهذه المثابة.
وإن تكلّف متكلّف تصويرَ عقد الاقتداء بزيد مطلقاً من غير ربط بمن في المحراب، فهذا في تصويره عُسْر مع العلم بأنه يعني من خضه، ومن سيركع بركوعه ويسجد بسجوده، والعلم عند الله عز وجل.
__________
(1) في (ت 2) : الحكم.(2/387)
فصل
يشتمل على ذكر من يقتدي بعد الانفراد، وينفرد بعد الاقتداء.
1202- فلتقع البداية بمن يعقد الصلاة على حكم الانفراد، ثم يتفق عقد جماعة، فيريد ربطَ الصلاة بالقدوة، وقد اختلف نصوص الشافعي (2 في ذلك: والذي نقله الصيدلاني عن الجديد منعُ ذلك، وهو مذهب أبي حنيفة (1) ، وقال الشافعي 2) في الكبير: "قد كان في ابتداء الإسلام، ثم نسخ، وذكر فيه قصة معاذ، وهي أن المسبوق كان يحضر ويسائل من في الصلاة عما فاته، فيشيرون بالأصابع إلى أعداد الركعات التي فاتت، فكان يبتدر إلى ما فاته، ثم يصلي بصلاة الإمام فيما يصادفه من بقية صلاته، فدخل معاذ يوماً وكان مسبوقاً، فاقتدى، وصلّى ما وجد، ثم قام لمّا سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضى ما فاته، ثم لما تحلل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاته قال: إن معاذاً سن لكم سنة حسنة فاتبعوها" (3) .
وحكى قولاً في القديم: إن الاقتداء بعد حصول العقد على حكم الانفراد جائز، ووجهه أن القدوة معناها ربط الصلاة بصلاة الغير، وليس ذلك من أركان الصلاة قط؛ فإنه ليس تغييراً لأمر يتعلق بركن أو شرط.
1203- ثم الظاهر من مذهب الشافعي في الجديد جواز الاستخلاف في الصلاة، على ما سنذكر ذلك مشروحاً إن شاء الله تعالى في صلاة الجمعة، وهو في الحقيقة ابتداء اقتداء، لم يكن حالة العقد؛ فإن القوم يعقدون صلاتهم بزيد، ثم يربطونها في الأثناء بعمرو المستخلَف، وسيأتي شرح الاستخلاف في موضعه.
ثم يشهد لجواز الاقتداء أثناء الصلاة خبران، أحدهما - ما روي: "أن رسول الله
__________
(1) ر. حاشية ابن عابدين: 1/390، 401.
(2) سقط من (ت 2) وحدها.
(3) حديث قصة معاذ.. رواه أحمد في مسنده، ورواه أبو داود (ر. المسند: 5/246، وأبو داود: الصلاة، باب كيف الأذان، ح 506، والتلخيص: 2/42 ح 596) .(2/388)
صلى الله عليه وسلم أمَّ بأصحابه (1) ، ثم تذكر في أثناء الصلاة أنه جنب. فأشار إلى أصحابه: أي كما أنتم قفوا، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأسه يقطر فتحرم، واستمر الأصحاب على حكم الاقتداء" (2) ومعلوم أنهم أنشؤوا [اقتداء جديداً، فإن] (3) اقتداءهم الأول لم يكن صحيحاً، والثاني - أن أبا بكر في صلاة المرض اقتدى برسول الله صلى الله عليه وسلم في أثناء الصلاة، كما مضت القصة.
1204- ثم إذا ظهر القولان، فقد اختلف أئمتنا في محلّهما، فمنهم من قال: إنهما يجريان في الركعة الأولى، فإذا عقد المنفرد الصلاةَ، ثم اتفقت جماعة وهو في الركعة الأولى، فقولان، فأما إذا صلى ركعة على الانفراد، ثم أراد بعدها الاقتداء، فلا يجوز؛ لأنه يختلف ترتيب الصلاة ويتفاوت.
ومنهم من طرد القولين في الصورتين.
وإذا جمع الجامع الكلام في ذلك، كان الخارج منه ثلاثة أقوال، أحدها - المنع، والثاني - الجواز، والثالث - الفصل بين أن يقع في الركعة الأولى قبل الركوع أو بعده.
فهذا كلامٌ في أحد مقصودي الفصل.
1205- فأما إذا كان مقتدياً، ثم أراد الانفراد ببقية الصلاة؛ حتى يسبق الإمام، فقد ترددت النصوص فيه، وحاصل المذهب فيه ثلاثة أقوال: أحدها - المنع؛ فإنه التزم الاقتداء، وانعقدت الصلاة على حكم المتابعة، فلزم الوفاء.
والقول الثاني - له الانفراد؛ فإن إقامة الجماعة كانت مسنونة، [فإذا خاض فيها، لم تلزم] (4) بالشروع؛ فإن من مذهبنا أن السنن لا تلزم بالشروع.
والقول الثالث - أنه يفصل بين المعذور وغيره، ويشهد لهذا قصة معاذ: "وقراءتُه
__________
(1) كذا: (بالباء) في جميع النسخ، والحديث بمعناه، لا بلفظه، كما يتضح من سياقته.
(2) رواه أبو داود، والشافعي من حديث أبي بكرة، وصححه ابن حبان والبيهقي (ر. أبو داود: الطهارة، باب في الجنب يصلي بالقوم وهو ناس، ح 233، 234، وابن حبان: 6/5 ح 2235، الأم: 1/167، التلخيص: 2/33 ح 571) .
(3) سقط من الأصل. ومن (ط) وحدهما.
(4) في الأصل و (ط) : "فلا اختصاص فيها ثم تلزم".(2/389)
سورةَ البقرة في صلاة العشاء، وكان اقتدى به رجل كان يعمل طول نهاره، وكان عقل بعيراً كان معه، فانحلّ عقاله، فقام فقطع القدوة، وتجوّز في صلاته، وخرج، فرفعت قصته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنكر على معاذ تطويلَه، ولم ينكر على من قطع القدوة، ولم يأمره بالقضاء" (1) .
ثم الأعذار التي تقطع القدوة لأجلها كثيرة، ولا ينتهي إلى حد الضرورة عندي، وأقرب معتبر فيها أن يقال: كل عذر يجوز ترك الجماعة بسببه، كما سبق في باب الجماعة، وسنعود في كتاب الجمعة، فهو المعتبر في الذي نحن فيه أو ما في معناه.
فصل
في المسبوق: إذا أدرك الإمام وقد فاته من الصلاة شيء.
1206- فنقول: إذا أدرك الإمامَ راكعاً، فكبر في قيامه وركع، وصادف الإمام راكعاً، فقد أدرك الركعة، ولو كان الإمام هاماً بالارتفاع، متحركاً في جهته، فأدرك المأمومُ -وهو بعدُ غيرُ مترقٍّ عن أقل حد الركوع- فقد أدرك الركعة.
ولو لم يدر هل كان جاوز حد الراكعين أم لا، فالأصل بقاؤه في حد الركوع إلى أن يزول عنه قطعاً. ولكن الأصل أنه لم يصر مدركاً للركوع، فهو على تردد من أمره كما ترى.
وقد ألحق أئمتنا هذا بتقابل الأصلين، فذكروا وجهين، ولعلنا نجمع في ضبط ذلك قولاً بالغاً - إن شاء الله تعالى.
1207- ولو أدرك الإمامَ بعد الارتفاع عن حد الركوع، فلا يكون مدركاً للركعة أصلاً، ويتابع الإمامَ فيما يصادفه فيه، ولا يعتد به له من أصل صلاته.
__________
(1) قصة تطويل معاذ أصلها في الصحيحين، متفق عليها من حديث جابر (اللؤلؤ والمرجان: 1/96 ح 266، وقد رويت على أوجه مختلفة (ر. التلخيص: 2/39 ح 591) .(2/390)
1208- ولو أدرك الإمامَ قائماً بعدُ، فإن أمكنه أن يتمم قراءة الفاتحة، ثم يدرك ركوعَ الإمام، فهو المراد، ولو علم أنه لو تمم الفاتحة، لفاته الركوع، فماذا يفعل؟ فيه خلاف معروف، فذهب بعض الأئمة إلى أنه يقطع القراءة، ويبادر الركوع. وسقوطُ بعض القراءة عنده، ليس بأبعد من سقوط تمام القراءة إذا صادف الإمام راكعاً، لمّا كبر وتحرم بالصلاة.
ومنهم من يقول: عليه أن يتمم القراءة ولا يقطعها؛ فإنه خاض فيها، فيلزمه إتمامها.
وذكر الشيخ أبو زيد في ذلك تفصيلاً حسناً، فقال: إن تحرم بالصلاة وبادر بالقراءة ولم يقدّم عليها دعاء الاستفتاح، ولا التعوذ، ولكنه لمّا تفطَّن لضيق الوقت، اشتغل بالأهم، فإذا ركع الإمام، فهو معذور الآن، فنجعله مدركاً، وإن قدم على القراءة الذكرَ المسنون والتعوذَ، فقد تعرض لخطر الفوات.
1209- ووجه هذا التفصيل بيّن، ولكنا نوضّحه، ونوضح الوجهين المرسَلَيْن قبله بالتفريع.
فأما من لم يفصل فيقول: ليس على المسبوق مبادرة القراءة بل يجري على هيئته وسجيته، والدليل عليه أنه لو قدر على أن يتسرع قبل الشروع، فلم يفعل، لم يختلف حكم إدراكه، فليكن الأمر كذلك بعد التحرم.
والأصح ما ذكره أبو زيد من التفصيل؛ فإنه بعد الشروع صار ملتزماً لحكم القدوة، مطالباً بموجبها، فليجر على الأصوب فيما نرسم له. ولا شك، أن الاشتغال بإقامة الأركان أولى، ومن لم يتحرم بالصلاة فهو على خِيَرته في أمر الجماعة.
فهذا بيان الاختلاف في هذه الجهة.
ولا ينبغي أن يُعتقدَ خلافٌ فيه، إذا تحرّم وسبَّح، وتعوذ، ثم سكت سكوتاً طويلاً، ولم يشتغل بالفاتحة أنه يكون مقصراً، وإنما الخلاف المذكور فيه إذا اشتغل قبل القراءة بالسنن المشروعة في الصلاة، ثم إن أمرناه بالركوع، فاستتم القراءة، وبادر، فأدرك الإمامَ راكعاً، فهو المطلب، وهو مدرِكٌ.(2/391)
وإذا رفع الإمام رأسه من الركوع، فلا شك أنا لا نجعله مدركاً للركعة، ولكن هل تبطل صلاة المسبوق بمخالفته إياه وترك ما رسم له؟ سنذكر على إثر هذا تفصيلَ المذهب في تقدم الإمام على المأموم بركن أو ركنين.
فإن سبقه الإمامُ بركنين في هذه الصورة التي نحن فيها، فتبطل صلاة المأموم، وإن سبقه الإمام بالركوع، ولكنه أدركه عند اعتداله -ونحن قد نقول: إن هذا المقدارَ من التقدم لا يضر (1 في أثناء الصلاة 1) في حق غير المسبوق- فهاهنا إذا خالف المسبوقُ، فسبقه الإمام إلى الاعتدال، أما الركعة، فقد فاتت، وفي بطلان الصلاة وجهان: أحدهما - لا تبطل؛ فإن هذا المقدارَ من التقدم غيرُ ضائر.
والثاني - أن الصلاة تبطل؛ فإنه ترك متابعة الإمام فيما فاتت الركعة لأجله، فكأن الإمام سبقه بركعة، وليس كما لو جرى مثل ذلك في أثناء الصلاة، في حق من ليس بمسبوق.
فإن قلنا: تبطل صلاته، فلا كلام. وإن قلنا: لا تبطل، فلا ينبغي أن يركع؛ فإنه لو ركع لم يكن الركوع محسوباً له، ولكن ينبغي أن يتابعَ الإمامَ الآن، فيما يأتي به من هُويه إلى السجود، ويقدر كأنه أدركه الآن، ثم لا تحتسب له هذه الركعة.
فأما إذا قلنا: إنه يتمم القراءة، فإن تممها وأدرك الإمام راكعاً، فقد حصل تمامُ الغرض، وإن رفع الإمامُ رأسه من الركوع واعتدل، فالمأموم يركع ويرفع وهو مدرك للركعة، معذورٌ في تخلفه، ولو تجاوز الإمامَ، وسبقه بأركان، فلا يضر ذلك.
واستقصاء القول في هذا يتعلق بمسألة الزحام على ما سيأتي إن شاء الله.
1210- ومن تمام البيان في ذلك أن أبا زيد إذا فصل بين أن يُقصِّر وبين أن يبتدِر، فمن تمام كلامه في ذلك أنه لو لم يقصر، فإذا ركع (2) الإمام، ففي المسألة وجهان: في أنه يتم القراءة، أو يقطعها، كما تقدم ذكرهما، والتفريع عليهما.
وإن كان مقصراً، فليقرأ من الفاتحة بقدر تقصيره، فإن رفع الإمام رأسه من
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2) .
(2) بدأ من هنا خرمٌ من نسخة (ت 2) . وهو صفحة واحدة.(2/392)
الركوع، فالتفريع الآن كالتفريع فيه إذا أمرناه بالركوع، فخالف أمرنا، وقرأ حتى فاته الركوع، وقد مضى بيان ذلك.
فرع:
1211- في إدراك التكبيرة الأولى من صلاة الإمام رغائبُ وأخبار مأثورة، وقد اختلف أئمتنا في أنه متى يصير مدركاً لفضيلة التكبير؟ فمنهم من قال: إذا أدرك الركعة الأولى ولو بإدراك الركوع، فقد أدرك الفضيلة، فإدراكها مربوط بإدراك الركعة الأولى، وهذا سرفٌ ومجاوزة حدّ.
ومنهم من قال: إذا أدرك شيئاًً من قيام الركعة الأولى، فقد أدرك الفضيلة، وإن لم يدرك الإمامَ إلا راكعاً، فهذا قد أدرك الركعة، وفاتته الفضيلة في التكبيرة.
ومنهم من قال: المدرك من يكبّر الإمام في [شهوده] (1) وحضوره، ثم يتعقبه في عقد الصلاة، على العقد المرعي المرضي في الاتصال. وهذا هو الأظهر عندي؛ فإن من جرى التكبير في غيبته لا يسمى مدركاً لتكبير العقد، ولا شك أن [من] (2) يجعله مدركاً لها بإدراك القيام؛ فإنه يجعل (3) الاتصال في العقد. والشهود أفضل وأكمل.
وذكر بعض مشايخنا في ذلك تفصيلاً، فقال: إن شغله عن الصلاة أمرٌ من أمور الدنيا حتى ركع الإمام، فهو غير مدرك للفضيلة، وإن أقعده عذرٌ، ثم أدرك الركعة الأولى، فهو مدرك.
1212- وهاهنا دقيقة لا بد من الاهتمام بها، وهو أن من قصر، ولم يكبر حتى ركع الإمام، فكبّر وركع، فهو مدرك وفاقاً، ولا أثر لتقصيره بغيبته أو تأخيره في حضوره؛ فإنه إنما يلحقه حكم الجماعة إذا تحرم، فأما دَرْك الفضيلة، فلا يبعد أن نفصل فيها بين المقصر والمبتدر؛ فإن الغرض من الحث على التكبيرة الأولى الدعاء إلى ترك الملهيات، والبدارُ إلى الصلاة، فليفهم الناظر ذلك.
__________
(1) في الأصل، و (ط) و (ت 1) : سجوده. وهو تحريفٌ طريف.
(2) زيادة من (ل) وحدها.
(3) عبارة: (د 1) : ... بإدراك القيام، فيجعل الاتصال في العقد والشهود أفضل وأكمل.(2/393)
فصل
في تأخُّر المأموم عن الإمام، وفي تقدمه عليه:
1213- فنقول: أما تكبيرة العقد، فيجب أن يتقدم الإمام بها (1) ، ويقع ابتداء تكبيرة المأموم بعد فراغ الإمام من التكبير، فلو ساوقه المأموم، لم يجز أصلاً، وجوز أبو حنيفة (2) ذلك.
فأما ما عداها من الأركان، فيقتضي أدب الشرع فيها أن يتقدم الإمام بالركن، ثم يتلوه المقتدي قبل أن يفارق ذلك الركن، فإذا ركع، ركع بعده، بحيث يدركه في الركوع، فلو ساوقه، وجاراه في سائر الأركان، جاز ذلك، والأولى ما قدمناه. ولو ساوقه في التسليم، [جاز قياساً على سائر الأركان، وكان شيخي قال مرة: التسليم] (3) كالتحريم، فلا تجوز المساوقة فيه، وهذا زلل، غير معدود من المذهب.
فإذا وضح ذلك فيه، فنذكر تقدم الإمام، ثم نذكر تقدم المأموم.
1214- (4 فإذا تقدم الإمام على المأموم 4) من غير عذرٍ بركنٍ، فالذي أطلقه الأصحاب اختلافٌ في ذلك، فقالوا: من أصحابنا من قال: إن تقدم بركنين، ولابس الثالث، بطلت القدوة والصلاة، وإن تقدم بركن واحد ولابس الثاني، لم يضر.
ومنهم من عدّ التقدم بركنٍ واحد وملابسة الثاني مبطلاً، وإنما يتم هذا بفرض القول في الركوع مثلاً.
فنقول: إذا ركع الإمام، وتخلّف المأموم قائماً من غير عذر، حتى رفع الإمام رأسه، واعتدل، ثم هوى، فسجد، فكما (5) لابس الإمام السجود، حكمنا ببطلان
__________
(1) انتهى هنا الخرم في نسخة (ت 2) .
(2) ر. حاشية ابن عابدين: 1/353، مختصر اختلاف العلماء: 1/198 مسألة: 132.
(3) ساقط من الأصل ومن (ط) .
(4) ما بين القوسين سقط من: (ت 2) ، (د 1) .
(5) بمعنى (فعندما) .(2/394)
صلاة المأموم؛ فإن الإمام قد سبق بالركوع، والاعتدال، وهو قائم، ولابس الركن الثالث، ولا يتوقف بطلانُ الصلاة على أن يرفع رأسه من السجود، والمأموم بعدُ قائم وفاقاً.
ولو رفع الإمام رأسه من الركوع، والمأموم بعدُ قائم، فهل تبطل بهذا المقدار صلاة المقتدي؟ فعلى وجهين مشهورين.
ثم ذهب بعض الأصحاب إلى أخذ هذا الخلاف من التردد في أن الاعتدال عن الركوع ركن مقصودٌ أم لا؟ فإن قلنا: إنه ركن مقصود، فقد فارق الإمامُ ركناً، ولابس آخر مقصوداً، فتبطل صلاة المتخلف، وإن لم نجعل الاعتدال ركناً مقصوداً، توقف الحكم بالبطلان على ملابسة السجود.
1215- وهذه الطريقة وإن كانت مشهورة، فلست أرضاها؛ فإن الاعتدال من الأركان التي لا بد منها، ولو لم يكن مقصوداً وكان الغرض منه الفصل بين الركوع والسجود، للزم منه أن يقال: إذا فارق حدَّ الراكعين في انتصابه كفى، وإن لم يعتدل قائماً؛ لحصول الفصل، فلا تعويل على هذا عندي.
والوجه رد الخلاف إلى شيء [آخر] (1) ، وهو أن من أصحابنا من يقول: لا تبطل الصلاة ما لم يسبق بركنين، والمأموم بعدُ في قيامه، ومنهم من يقول: إذا اعتدل، فقد تحقق السبق بركن تام وهو الركوع، فكفى ذلك في الحكم بإبطال الصلاة، فإن اسم المسبوق قد حصل، فإذا تقدم الإمام، فركع، فتلاه المأموم، وأدركه في الركوع، فما سبق الإمام بركنٍ، بل سبق إلى الركن، وتابعه المقتدي. وهو صورة المتابعة. وإذا بقي قائماً حتى يرفع الإمام، فقد سبقه بركن على التحقيق.
1216- ومن تمام التفريع في ذلك أنا إذا شرطنا سبقَ الإمام بركنين، فإذا رفع الإمام رأسه وهوى، ولم ينته بعدُ إلى السجود، فيظهر عندي أن نحكم ببطلان القدوة، وإن لم يلابس السجود، وإن كنا نشترط التقدّم بركنين؛ فإن التقدم يحصل بمفارقة الاعتدال، ولا يرفع ذلك ظن من يظن أن الاعتدال غيرُ مقصود، فلْيلابس السجودَ،
__________
(1) زيادة من: (ت 2) ، (د 1) .(2/395)
فإن ذلك باطل، كما تقدم، وأيضاً: فالإمام إذا لابس ركناً، لا يكون سابقاً به ما لم يفارقه، فلو صح ذلك، للزم ألا تنقطع القدوة، حتى يرفع الإمام رأسه من السجدة، والمقتدي بعدُ قائم.
فهذا تمام البيان في ذلك.
1217- ولو فرض السبق في السجود ابتداء، لانتظم ما ذكرناه، فلو رفع الإمام رأسه من الركوع، والمأموم معه، فسجد الإمام ورفع، والمأموم في اعتداله، فهو كما لو بقي في القيام حتى ركع ورفع الإمام، وملابسة السجدة الثانية كملابسة السجدة الأولى، والتفريع كالتفريع. غير أن من أصحابنا من يقول: الجلوس بين السجدتين من الأركان الطويلة؛ فيجعلها مقصودة، ومنهم من يجعلها قصيرة، فهي كالاعتدال من الركوع.
1218- ومما يليق بتمام البيان في ذلك أن المأموم لو لم ينتسب إلى تقصير في تخلفه، ولكن الإمام أفرط في السرعة، وخالف عادته، فسبق بركن أو بركنين، فمن أئمتنا من يحكم ببطلان صلاة المقتدي، لوجود صورة السبق، ومنهم من قال: لا تبطل صلاة المقتدي لتمهد عذره.
وسيأتي شرح هذا في مسألة الزحام.
فهذا كله إذا سبق الإمامُ، وتخلف المأموم.
1219- وأما إذا تقدم المقتدي، فركع قبل الإمام، أو رفع رأسه قبل الإمام، فالذي صار إليه الأئمة أن تقدُّمه مقيسٌ على تقدم الإمام عليه في الوفاق والخلاف حرفاً حرفاً.
1220- وكان شيخي يقول: تقدم المأموم قصداً يُبطل صلاتَه. حتى إذا ركع والإمام قائم، بطلت صلاتُه، وإن أدركه الإمام في الركوع. وكان يوجّه هذا بأن التخلف صورةُ المتابعة. فإن وجد فيه سرفٌ، ففيه خلاف، فأما التقدم على الإمام فمناقض لصورة الاقتداء، فكما (1) وقع أبطل، وكان يمثل بموقف الإمام والمأموم،
__________
(1) "فكما" بمعنى فعندما.(2/396)
ويقول: تقدمُ المقتدي على الإمام في موقفه بأقل القليل يُبطل القدوة، وتأخره بالمسافة الكثيرة قد لا يبطل صلاته، وتعلق بأخبار فيها وعيد، منها ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار" (1) وما ذكره وإن كان يتجه، فإني لم أره لغيره، فلا أراه من المذهب، والوجه ما قطع به الأئمة (2) .
***
__________
(1) حديث "أما يخشى الذي يرفع رأسه ... " متفق عليه من حديث أبي هريرة (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/90 ح 247) .
(2) إلى هنا انتهت نسخة (د 4) وهي التي اتخذناها أصلاً من أول (باب استقبال القبلة) وجاء في خاتمتها: "تم المجلد الثالث يتلوه باب موقف صلاة الإمام والمأموم أول المجلد الرابع من نهاية المطلب. وفرغ من تعليقه أبو محمد بن عبد الواحد بن حرب القرشي. في العشر الأولى من جمادى الأولى من سنة اثنتين وستين وخمسمائة".(2/397)
باب (1) موقف صلاة الإمام والمأموم
1221- الباب يشتمل على نوعين: أحدهما - الكلام في رعاية أفضل المواقف وذكر الأَوْلى، والثاني - ما يجب رعايتُه في المواقف في الأماكن المختلفة.
فأما الأول فنقول فيه: إذا كان يصلي الإمام مع رجل واحد، فينبغي أن يقف ذلك الرجل عن يمينه، ولا يقف عن يساره، ولا وراءه، ولو وقف خلفه أو وراءه، صح. والأصل فيه حديثُ ابن عباس: "فإنه ذكر أنه اقتدى برسول الله وحده في بيت خالته ميمونة، فوقف عن يساره فاقتدى، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم جرّه من ورائه حتى أوقفه على يمينه" (2) ، فدلّ ذلك على الأولى، والصبي الواحد كالرجل في هذا، فكان ابن عباس صبياً إذ ذاك.
ولو كان يصلي مع الرجل امرأة واحدة، فتقف وراء الإمام وتتستر به.
ولو كان يصلي مع خنثى وحده، فهو كالمرأة فيما ذكرناه.
ولو كان يصلّي مع الإمام رجلان، أو صبي ورجل، فإنهما يقفان ويصطفان وراءه.
وروي عن علقمة: "أنه دخل على ابن مسعود مع صاحب له، فدخل وقت الصلاة، فأقام أحدهما عن يمينه، والثاني عن شماله، وصلى بهما، ثم قال: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم" (3) ، والشافعي رأى هذا منسوخاً، واعتمد في
__________
(1) من هنا بدأ اعتماد نسخة (د 1) أصلاً. و (ط) و (ت 1) و (ت 2) نصوصاً مساعدة. والله الموفق والهادي إلى الصواب.
(2) سبق الكلام على هذا الحديث في الأفعال القليلة والكثيرة في الصلاة، وأنه عند البخاري (كتاب الأذان) باب (58) إذا قام الرجل عن يسار الإمام، فحوله الإمام.
(3) حديث علقمة عن ابن مسعود هذا، أخرجه أبو داود، وفيه أن الذي كان مع علقمة هو الأسود، وأخرجه النسائي أيضاً في كتاب الإمامة، باب موقف الإمام، ح 800، وقال السندي =(2/398)
الباب ما روى أنس أنه قال: "وقفت أنا ويتيم كان في البيت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأم سليم خلفنا، فصلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" (1) فرأى الشافعي هذا ناسخاً لحديث ابن مسعود، وثبت عنده تأخر هذا الفعل، والله أعلم.
وفي بعض كلامه تقديم رواية أنس بأنه كان بحجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذاك، فرأى روايته أثبت، وما رُئي رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد يصلي باثنين، وهذا أسلم من دعوى النسخ.
1222- وإن كان يصلي برجل وامرأة، فليقف الرجل عن يمينه، وتقف المرأة خلف الرجل المقتدي، فتكون مستترة به عن الإمام، بعيدة عن المقتدي والتفاته.
وإن كان رجل وخنثى مع الإمام، فهو كالرجل والمرأة.
وإذا كان رجل وخنثى وامرأة، وقف الرجل عن يمينه، والخنثى وراءه، والمرأة وراء الخنثى، وتعليل ذلك بين. وروى الشافعي بإسناده: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّ أنساً وعجوزاً منفردة خلف أنس" (2) ، وإن كان مع الإمام خنثى وامرأة، وقف الخنثى وراء الإمام، والمرأة خلف الخنثى، فهذا بيان ما يرعى في فضيلة الموقف.
1223- ولو دخل المأموم المسجد، فلا ينبغي أن يقف وحده؛ فإن النبي صلى الله
__________
= في شرح النسائي: حملوا هذا الحديث على أنه لعلّه صلى الله عليه وسلم فعله لضيق المكان أحياناً، أو على النسخ. وانظر أبو داود: 1/408، باب إذا كانوا ثلاثة كيف يقومون، ح 613) .
(1) متفق عليه من حديث أنس أخرجه البخاري: الأذان، باب (78) المرأة وحدها تكون صفاً، ح 727. وأخرجه مسلم: 1/457، كتاب (5) المساجد، باب 48 ح 658 بلفظ: ".. وصففت أنا واليتيم وراءه، والعجوز من ورائنا، فصلى بنا".
(2) هذا ولم يورده عبد الباقي في اللؤلؤ والمرجان. و (ر. التلخيص: 2/36 ح 582) .
حديث: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّ أنساً ... " رواه مسلم: 1/458، كتاب المساجد، باب (48) ح 269 بلفظ: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى به وبأمه أو خالته. قال: فأقامني عن يمينه، وأقام المرأة خلفنا"، ورواه الشافعي في مسنده: 1/105 ح 310.(2/399)
عليه وسلم نهى عن ذلك، فلو وقف وحده، صحت الصلاة مع الكراهية، والأولى لمن لا يجد موقفاً في الصف أن يجرّ أحداً من الصف، والأولى لذلك الواحد المجرور أن يساعده؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك، فهذا مما يتعلق بغرضنا في هذا النوع.
1224- فأما النوع الثاني، فنصدّره بأن نقول: المنصوص عليه في الجديد أن موقف المأموم إذا تقدم على موقف الإمام، لم يصح اقتداؤه.
وقال مالك: يصح اقتداؤه إذا كان يَشعر بصلاة الإمام (1) . وهذا قولٌ للشافعي في القديم.
ولو كان موقف المأموم مساوياً لموقف الإمام، ولم يكن متقدماً ولا متأخّراً، جازَ، والأدب أن يتأخر عن موقف الإمام قليلاً. ثم الاعتبار في الموقف بموقف العقبين من الأرض، فإن شخص المقتدي قد يكون أطول فيتقدم موقع رأسه، وإن تأخر ساوى موقع قدمه. وذكرتُ العقب؛ فإنّ قدمَ أحدهما قد يكون أكبر من قدم الثاني، فالعبرة بما ذكرته بلا خلاف.
ومما يتعلق بهذا أن الناس يصلون في المسجد الحرام مستديرين حول الكعبة، والإمام الراتب وراء مقام إبراهيم في جهة الباب، فالذين يستديرون من وراء البيت وجوههم إلى وجه الإمام، وتصح الصلاة بلا خلاف، هكذا عُهد الناسُ في العُصُر الخالية، حتى كأن الكعبة هي الإمام، ولعل الحاجة أحوجت إلى تسويغ ذلك؛ فإن الناس يكثرون في المواسم، ولو كلفوا الوقوف في جهة واحدة، لتعذّر ذلك.
وقال الأئمة: إذا دخل الناس البيت، فالجهات كلها قبلة، فلا يمتنع أن يقف الإمام والمأموم متقابلين، كما ذكرناه في الاستدارة حول الكعبة.
1225- واختلف أئمتنا في صورة وهي أنه إذا كان بين الإمام في جهة وقوفه، وبين
__________
(1) الذي رأيناه عند المالكية أن تقدم المأموم على الإمام يصح مع الكراهة، (ر. الإشراف: 1/ 300 مسألة: 355، حاشية العدوي: 1/271، حاشية الدسوقي: 1/331، جواهر الإكليل: 1/79، القوانين الفقهية: 81) .(2/400)
الكعبة عشرةُ أذرع، وكان موقفُ المأمومين في جهة أخرى من البيت أقربُ إلى البيت من هذا، فهل يجوز ذلك أم لا؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يجوز كما لو تقدم واحد في جهته، وكان أقرب إلى البيت.
والثاني - يجوز؛ فإن الجهة إذا اختلفت، فلا معنى لاعتبار المقايسة في المسافة؛ فإن اختلاف الجهة أعظم في الاختلاف من الاختلاف في القرب والبعد، (1 فإذا لم نمنع القدوة مع الاختلاف في الجهة والوقوف على هيئة التقابل، فلا معنى وراء ذلك في النظر إلى القرب والبعد 1) . وأما إذا اتّحدت الجهة، فيظهر أثر التقدم والتأخر.
فهذا بيان ذلك.
1226- ثم نتكلم بعد هذا في المواقف في الأمكنة المختلفة: والوجه في الترتيب أن نذكر أفرادها والاجتماع فيها، أي في أفرادها، ثم نذكر وقوف القوم في أماكن مختلفة منها.
فأما القول في أفرادها، فيتعلق بالمسجد، والملك، والمواضع المشتركة.
1227- فأما المسجد، فإذا تقدم الإمام وتأخر المقتدي، لم يضر بُعد المسافة -وإن أفرط- إذا كان المسجد واحداً. وكذلك لا يضر اختلافُ المواقف ارتفاعاً وانخفاضاً، حتى لو وقف الإمام في المحراب والمقتدي على منارةٍ من المسجد، أو بئر، وكان لا يخفى عليه انتقالات الإمام، فالقدوة صحيحة؛ وذلك أن المكان مبنيٌّ لجمع الجماعات، فالمجتمعون فيه مجتمعون لإقامة الصلاة، فلا يؤثر البعد في المسافة. وهذا متفق عليه.
ولو كان مسجدان باب أحدهما لافظٌ (2) في الثاني كالجوامع، فإن كانت الأبواب
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2) .
(2) "لافظ" أي لاصق بالأرض نافذ، من غير فاصل بينهما من طريق أو غيره. كذا قال ابن الصلاح في مشكل الوسيط، وأضاف: "هذا ما أشعرَ به ما علقته من بعض التعاليق الخراسانية، ولم أجد الكلمة في كتب اللغة، وكأنه مستعار من قولهم: لفظ الشيء مِن فِيه، إذا نبذه ورماه، وكأن الباب الموصوف بسهولة النفوذ منه يرمي من أحد المكانين إلى آخر".
ا. هـ بنصه (ر. مشكل الوسيط - بهامش الوسيط: 2/231) .(2/401)
مفتوحة، فهما كالمسجد الواحد، ولا أثر لانفصال أحد المسجدين عن الثاني بالجدار، وإن كان الباب مردوداً، وكان صوت المترجم يبلغ في المسجد الثاني، وهما معدودان كالمسجد الواحد، فالمذهب الظاهر صحة الاقتداء، فإنهما كالمسجد الواحد.
وأبعد بعض أصحابنا، فمنع إذا لم يكن حالة الاقتداء منفذٌ؛ لأن أحدهما يعدّ عند رد الأبواب منفصلاً عن الثاني، ولا يعدّان مجتمعين عرفاً.
ثم من منع الاقتداء والباب مردود قالوا: لو كان الجدار الحائل بين المسجدين المانع من الاستطراق مشبكاً، لا يمنع من رؤية مَن هو واقف في المسجد الذي فيه الإمام، فعلى الوجه البعيد وجهان.
وما ذكر من رد الأبواب فالمراد إغلاقها، فأما إذا لم تكن مغلقة الأبواب، فهي كالمفتوحة قطعاً، والذي أرى القطعَ به جوازُ القدوة، وإن كانت الأبواب مغلقة، والجدارُ غيرَ نافذ إذا كان المسجدان في حكم المسجد الواحد، وباب أحدهما لافظٌ في الثاني، وهو المذهب، ولست أعد غيره من متن المذهب.
1228- فأما إذا كان الاقتداء في مواتٍ مشترك في الصحراء، فقد قال الشافعي: "إذا كان بين موقف الإمام وبين موقف المأموم مائتا ذراع، أو ثلاثمائة ذراع، فيجوز الاقتداء، وإن زاد، لم يجز" (1) .
والذي يجب ضبطه قبل الخوض في التفاصيل، أن الشافعي لم يكتف في جواز الاقتداء بأن يكون المأموم بحيث يقف على حالات الإمام وانتقالاته، وقد نَقَلَ عن عطاء (2) أنه اكتفى بهذا في الأماكن كلها. وبُلِّغت عن مالك (3) أنه صار إلى ذلك، ولم
__________
(1) ر. المختصر: 1/118.
(2) مذهب عطاء هذا نقله الشافعي، وعقب عليه قائلاً: ولا أقول بهذا. (ر. المختصر: 1/118) . ونص عبارته: "ومذهب عطاء أن يصلي بصلاة الإمام من علمها، ولا أقول بهذا" ا. هـ.
(3) القائل " وبلغتُ عن مالك " هو إمام الحرمين، وحقاً ما بلغه؛ فمذهب مالك كمذهب عطاء.
(ر. جواهر الإكليل: 1/80، وحاشية الدسوقي: 1/337، والموسوعة الفقهية " اقتداء ف 16 ") .(2/402)
يفصل بين بقعة وبقعة، وهذا قياس بيّن، ليس يخفى على المتأمل.
ولكن الشافعي راعى مع إمكان الوقوف على حالات الإمام أن يكون الإمام والمأموم بحيث يعدان مجتمعين في بقعة، وقال: من مقاصد الاقتداء حضور جَمْعٍ، واجتماعُ طائفةٍ على مكان عند الصلاة في الجماعة.
1229- ولا يعد من الجماعة أن يقف الإنسان في منزله المملوك، وهو يسمع أصوات المترجمين في المسجد، ويصلي بصلاة الإمام، ثم معتمد الشافعي في الشعائر المتعلقة بالصلاة رعاية الاتباع؛ فإن [مبنى] (1) العبادات عليها وهذا حسن.
1230- فإذا تبين ذلك، فالمسجد إن كان جامعاً للإمام والمقتدي، لم يضر إفراط البعد؛ فإن المسجد لهذا الشأن، فيحمل الأمر على أن المجتمعين فيه للصلاة متواصلان، فأما الصحراء الموات، فمحطوط عن المسجد، من جهة أنه ليس مكاناً مهيّأً لجمع الجماعات، وهي مشابهة من وجهٍ للمسجد؛ فإن الناس مشتركون فيه اشتراكهم في المسجد، فقال رضي الله عنه: لذلك: "لا يشترط في الموقف اتصال الصفوف"، ثم ضبَطَ القربَ المعتبر بثلاثمائة ذراع. والأصح أن هذا تقريب منه، وليس بتحديد، وكيف يطمع الفقيه في التحديد، ونحن في إثبات التقريب على عُلالة؟
وقد قيل: اعتبر الشافعي في ذلك المسافة التي تنحى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بطائفةٍ من أصحابه عن موضع القتال. وقد قيل: إنها كانت قريبةً مما ذكرناه، فإنه تباعد تباعداً لا ينال المصلي فيه سهمُ الأعداء غلوة (2) . ونبال العرب لا تنتهي إلى مثل هذه المسافة، وإنما تعلق الشافعي بذلك؛ لأن في بعض الروايات أن الذين كانوا في الصف في بعض الأحوال كانوا على حكم الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الرواية وإن كانت في صلاة ذات الرقاع، ولا يختار الشافعي العملَ بها، فهي صحيحة، وإذا عدمنا في محاولة الضبط [تقريباً] (3) ، اكتفينا بمثل هذا، وعددنا هذا نوعاً من التواصل.
__________
(1) في الأصل، (ت 1) ، (ط) : "معنى"، والمثبت من (ت 2) ، ثم صدقتها (ل) .
(2) الغَلْوة: رمية السهم. وتقدر بثلثمائة إلى أربعمائة ذراع. (المعجم) .
(3) في (ت 2) : "تفريقاً"، وفي باقي النسخ "تفريعاً"، والمثبت جاءتنا به (ل) .(2/403)
1231- وكنت أود لو قال قائل من أئمة المذهب: يُرعى في التواصل مسافةٌ يبلغ فيها صوتُ الإمام المقتدي، لو رفع صوتَه قاصداً تبليغاً على الحد المعهود في مثله، وهذا قريب مما ذكره الشافعي، وهو نوع من تواصل الجماعات في الصلاة، ولما لم ير الشافعي الاكتفاء بالاطلاع على حالات الإمام وانتقالاته، ولم يجد توقيفاً شرعياً يقف عنده، [أخذ يتمسك بالتقريب، فجز ذلك اختلافاً] (1) في بعض الصور على الأصحاب.
1232- ومما يتصل على القرب بما نحن فيه أن الأمام لو كان وحده، والمأموم بعيدٌ عن (2) الحد الذي راعيناه في التقريب، فالكلام على ما مضى.
ولو قرب من الإمام صف أو واحد، فقُرْب هذا الثاني يقاس بالمقتدي بالإمام [لا بالإمام] (3) ، وإنما يرعى ثلاثمائة ذراع بينه، وبين آخر واقف في الصف الذي صح اقتداؤهم.
1233- وفي بعض التصانيف أنا نرعى المسافة بين المأموم البعيد وبين الإمام، وهذا مزيف لا تعويل عليه، ولكن لا بد من ذكر معناه مع بعده، لأني وجدت رمزاً إليه لبعض أئمة العراق.
فأقول في بيانه: إن تواصلت الصفوف على المعهود من تواصلها، فقد يكون بين الواقف الأخير وبين الإمام ميل، أو أكثر، والقدوة صحيحة، والتواصل ثابت، فأما إذا لم يحصل التواصل المألوف، ولكن وقف الإمام، ووقف صفٌ، وبعُد الواقف الذي نتكلم فيه، فالمذهب المبتوت المقطوع به، أنا نرعى المسافة بينه وبين آخر واقف صح اقتداؤه في جهته.
__________
(1) في جميع النسخ العبارة هكذا " ... أخذ متمسك بالتقريب جر ذلك اختلافاً" وهي غير مستقيمة فغيرناها على النحو الذي قدرنا أنها حرفت عنه. والله ولي التوفيق. والحمد لله، صدقت (ل) تقديرنا، إلا أنها جاءت بالواو مكان الفاء، "وجز ذلك اختلافاً".
(2) كذا في جميع النسخ، ولعلها: "على". وقد جاءت بها (ل) .
(3) زيادة من (ت 1) ، (ت 2) .(2/404)
وذكر بعض من لا يعتمد [نقله] (1) وجهاً أن الصفوف إذا لم تكن متصلة على الاعتياد، فالذي بعُد موقفه، يراعى قربه من الإمام، وهو غير مقتد (2) ؛ إذ ليس الصف على القرب المعتاد منه. فهذا بيان هذا الوجه، وتصويره وإن لم يكن معدوداً من المذهب.
1234- ولو كان بين المقتدي في الصحراء وبين الإمام نهر جار، فإن كان يُخيض الخائض فيه من غير احتياج إلى سباحة، فلا أثر له، وليس بحائل. وإن كان لا يخيض، فهو يمنع القدوة به. وذكر أئمتنا فيه خلافاً.
ثم قال المحققون: المذهب صحة القدوة، وإن عسر من المقتدي التوصّل إلى الإمام، إذا كانت المسافة على النحو الذي ذكرناه؛ فإنه لا حاجة في قضية الصلاة إلى وصول المأموم إلى الإمام.
ومن منع، تمسك بأن مثل هذا النهر يعدّ حائلاً، ولا يعد الإمام والمأموم مجتمعين في بقعة جامعة لهما، وظاهر نص الشافعي يشير إلى الجواز؛ فإنه قال: لو اقتدى رجل في سفينة بإمام في سفينة أخرى، صح، كما سنذكر ذلك، وإن كان بين السفينتين قطعة من البحر. وقد ينقدح في ذلك فصل في البعد؛ فإن وصولَ السفينة إلى السفينة ممكن؛ فالبحر في حق السفن كأرض ممتدة، في حق أقدام المشاة عليه، والله أعلم.
ولو كان على النهر الكبير جسر ممدود، فالتواصل حاصل وفاقاً.
ولو كان بين الواقف والإمام شارع، فظاهر المذهب أن ذلك غير ضائر، وذكر بعض الأصحاب أنه قاطع، وهذا مزيف لا أرى له وجهاً، إلا أن الصائر إليه -فيما
__________
(1) زيادة من (ل) وحدها، والذي لا يعتمد نقله هو بعينه (بعض المصنفين) ، أي الإمام أبو القاسم الفوراني، فإمام الحرمين كثير الحط عليه، من جهة تضعيفه في النقل، لا من جهة تفقهه، كذا قال السبكي في طبقاته في ترجمة الفوراني. وترى أن إمام الحرمين حفي بأقواله يناقشها، ويعنف في ردها أحياناً، ويعتمدها أحياناً، ولو كان لا يعتمد تفقهه، ما انشغل بفقهه.
(2) أي لا يكون مقتدياً إلا إذا كان على حد القرب الذي قررناه.(2/405)
أظن- اعتقد أن الشارع قد يطرقه رفاق (1) في أثناء الصلاة، وينتهي الأمر إلى حالةٍ يعسرُ فيها -لوقوع الحيلولة- الاطّلاع على أحوال الإمام، فتهيؤ الشارع المطروق لهذا ينتهض حائلاً. وهذا لا أصل له. ثم إن لم يكن من ذكر ذلك بد على بعده وضعفه، فهو في شارع يغلب طروقه.
1235- ومما يتصل بما نحن فيه أن الإمام والمأموم لو وقفا على ساحةٍ مملوكة هي على صورة الصحراء الموات، فظاهر المذهب أنها كالموات؛ لأنها على صورته في العِيان وإمكان الاطلاع.
وذكر شيخي وغيرُه: أنا نراعي فيها اتصال الصفوف، كما سنصفه بعدُ إن شاء الله تعالى؛ فإنّ الموات في حكم الاشتراك مضاه مساوٍ للمساجد، وهذا لا يتحقق في الأملاك.
ثم إن جرينا على الصحيح، ونزلناه منزلة الموات في القدوة، فلو وقف الإمام في ملك زيد، ووقف المأموم في ملك عمرو، والموقفان في العِيان على امتداد ساحة واحدة، فقد ذكر الصيدلاني فيه وجهين: أحدهما - المنع وإن قربت المسافة المعتبرة، وهذا ضعيف جداً، ولست أرى له وجهاً يناسب ما عليه بناء الباب.
ولا خلاف أنه لو كان في مسجدٍ نهر عظيم، فلا أثر له في قطع القدوة.
فهذا حكم المسجد والموات إذا أفرد كل واحد منهما في التفريع.
1236- فأما الوقوف في الأملاك على تصوير التفريد بأن يقف الإمام والمأموم جميعاًً في الملك، فنقول: إن لم تكن فيه أبنيةٌ، ولكن كان أرضاً ممتدة، فقد تقدم التفصيل فيه، وكذلك إذا اجتمعا في عَرْصة فيحاء من دارٍ.
فأما إذا وقفا في دارٍ وفيها أبنية مختلفة، فنقول: إن اجتمع الإمام والمأموم في بناء واحد، فهو كاجتماعهما في عَرْصة الدار كما سبق، فإن اتصلت الصفوف، قطعنا بالصحة، وأما إن لم تتواصل، فالمذهب تنزيله تنزيل الموات، وعندي أن هذا أقرب
__________
(1) رفاق جمع رُفقة، والرفقة هي الجماعة، فالمراد يقطع الطريق جماعات. (المعجم) .(2/406)
إلى اقتضاء التصحيح من الساحة المملوكة الممتدة؛ فإن البناء الواحد -وإن اتسعت خِطتُه- يُعد مجلساً جامعاً في العرف.
وإن وقف الإمام في بناء، ووقف المأموم في غيره، مثل أن يقف الإمام في صدر صُفّة والمقتدي في العرصة، أو في بناء آخر، فقد أجمع أئمتنا على اعتبار اتصال الصفوف في أبنية الأملاك، واختلاف الأبنية غير معتبر في المسجد وفاقاً؛ فإن الإمام لو وقف في المقصورة، ووقف المقتدي خارجاً منها، فلا أثر لاختلاف الأبنية في المسجد قطعاً؛ فإنه بقعة واحدة مهيأة لجمع الجماعة، ثم إذا اعتبرنا في الدار -عند اختلاف الأبنية- اتصالَ الصفوف، فليعلم الطالب أنا نطلق الاتصال في الصف على صورتين: إحداهما - اتصال الصف طولاً على معنى تواصل المناكب، وهذا يعد صفاً واحداً.
والثانية - أن يقف صفٌ، ويقف وراءه صف آخر قريبٌ منه بحيث يكون ما بين الصفين قريباً من ثلاثة أذرع، وهي مكانُ متوسعٍ في سجوده وانتقالاته، فهذا اتصال الصفوف المتعدّدة. فأما إذا أطلقنا اتصال الصفوف عنينا هذه الصورة الأخيرة، وإذا قلنا اتصل صف واحد عنينا تواصلَ المناكب.
فنقول الآن: إذا كان الإمام في صُفَّة والمأموم الذي نتكلم فيه في بيت، على جانبٍ من الصفة، بابه لافظٌ (1) في الصُّفة، فإذا دخل صف من الصفة البيتَ، وتواصلت المناكب، فمن يقف في الصف الذي وصفناه، فصلاته صحيحة؛ فإن هذا نهاية الاتصال، ولا يبقى مع هذا لاختلاف الأبنية وقعٌ وأثر أصلاً.
1237- ثم قال الأئمة: الواقفُ في هذا الصف تصح قدوته.
ولو كان بين آخرِ واقف في الصف المحاذي لباب البيت وبين الواقف في البيت موقف رجل، فالصف غير متصل، وقدوة من في البيت باطلة، لاختلاف الأبنية وعدم الاتصال، والبقعة غير مبنية لجمع الجماعات، وكل كائن في بناءٍ من الدار يعد منقطعاً عن الواقف في غيره، فإذا لم يفرض اتصالٌ تام محسوس، فلا اجتماع ولا قدوة.
وإن كان بين آخر واقف في الصف المسامت للباب فرجة تسع واقفاً، فقد ذكروا في
__________
(1) سبق تفسير كلمة (لافظ) قبل صفحات.(2/407)
ذلك وجهين، وخرّجوا على ذلك العتبة إذا كانت خالية عن واقف، فقالوا: إن اتسعت لواقف، فلا يصح اقتداء من في البيت، وإن كانت أقل من موقف، والذي في البيت اتصل موقفه بالعتبة - ففيه الخلاف.
وعندي أن هذا التدقيق مجاوزةُ حد، ولا ينتهي الأمر في أمثال ما نحن فيه إليه؛ فإنه ليس معنا توقيفٌ شرعي في المواقف، وإنما نبني تفريعات الباب على أمر مرسل في التواصل.
1238- وإذا دخل صف البيتَ طولاً بحيث يعد ذلك صفاً واحداً عرفاً، فلا يضر خلوّ موقف واقف واحدٍ إذا عد ذلك صفاً. ثم هذا التدقيق فيه إذا خلا موقفُ واقفٍ حسّاً، فأما إذا كان لا يتبين في الصف موقفٌ بين واقفين، ولكن كان الصف بحيث لو تكلف الواقفون فيه تضامّاً، لتهيأ موقفٌ، وكان لا يبين في الصف فرجة محسوسة، فهذا الذي ذكرناه محتمل سائغ؛ فإن ذلك يعدُّ اتصالاً عرفاً، ولا ينبغي أن يكون في ذلك خلاف.
والذي يكشف الغطاء في ذلك أنه لو وقف في الصّفة على باب البيت [واقف، واتصل به موقفُ من في البيت، كفى هذا، ولا حاجة إلى فرض سوى الواحد الواقف على باب البيت] (1) وإذا كان كذلك، فالاتصال مرعي بين هذا الواحد على الباب، وبين من يقف في البيت.
قال الأئمة: إذا دخل صف في البيت، واتصل بواحد من الصفة كما قدمناه، فصلاةُ من في هذا الصف في البيت صحيحة، ومن يقف وراء هذا الصف في هذا البيت، فصلاته صحيحة على قياس صلاة الواقفين في الصف، ولو تقدم متقدم على هذا الصف، لم تصح صلاته مقتدياً، وهذا الصف كالإمام، فمن وراءه متصل به، ومن تقدم، فلا يثبت له اتصالٌ بالإمام، ولا بالصف الذي وراءه؛ فإن الاتصال له صورتان: أقربهما - التواصل في صف واحد طولاً، والثاني - وقوف صف وراء صف.
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، و (ط) و (ت 2) وأثبتناه من (ت 1) .(2/408)
فهذا إذا كان البيت على جانب من الصفة.
1239- فأما إذا كان الإمام واقفاً في الصفة، والمأموم في العَرْصة، أو في بناءٍ وارء الصفة، فالذي ذكره الأئمة أنه إن اتصلت الصفوف على ما قدمنا تفسيره، ففي صحة اقتداء هؤلاء الذين وقفوا في بناء آخر وجهان: أصحهما - الصحة لاتصال الصفوف، قياساً على اتصال صفٍّ واحد طولاً، مع تواصل المناكب، إذا دخل في بيت على أحد جانبي الصفة كما سبق.
والثاني - لا يصح؛ لاختلاف الأبنية، وعدم تواصل المناكب. وهذا القائل يقول: ما يسمى اتصال الصفوف ليس باتصالٍ حقيقي، وكلُّ بناء مجلس على حياله، والبقعة ما بنيت لتجمع الجماعات، ولم يوجد التواصل بين المناكب، ولو لم يكن بين الواقف في البناء الواقع وراء الصف وبين من في الصفة تواصل الصفوف على قدر ثلاثة أذرع، بل زاد الانفصال على ذلك زيادة بيّنة في الحس، فصلاة من في البناء الواقع وراء الصفة باطلة؛ فإن البناء مختلف والصفوف غير متصلة.
1240- والضبط فيه أنه إذا اتحد البناء، واتصلت فيه الصفوف، صحت القدوة، وإن اختلف البناء، ولم يكن اتصالُ صفوف، لم تصح قدوة من في بناء غير البناء الذي فيه الإمام. وإن اتصلت الصفوف، واختلف البناء، فإن اتصل صف واحد طولاً، صح. وإن كان اتصل الصفوف وراء الإمام، فوجهان.
وإن اتحد بناء، ولم تتصل الصفوف، على الحد الذي ذكرناه، بل وقف الإمام في صدر الصفة، والمأموم على عشرة أذرع مثلاً، فقد ذكر الأئمة فيه الخلافَ المقدم في الملك إذا امتد في العرصة والساحة. والذي أراه القطع بالصحة عند اتحاد البناء؛ فإن البناء جامع. وهذا أجمع من ساحة منبسطة لا تُعدُّ مجلساً واحداً.
1241- ومما يبقى في النفس [أنا] (1) ذكرنا خلافاً فيه إذا اختلف البناء وراء الصفة، واتصلت الصفوف عرضاً على قدر ثلاثة أذرع.
__________
(1) في جميع النسخ: "إذا" وهذا مما أفادتنا إياه (ل) وحدها.(2/409)
فلو قال قائل: لو كان البيت على جانب من الصفة، ووقف واقفٌ ممن في الصفة على باب البيت، ووقف واقف في البيت على قدر ثلاثة أذرع من الواقف على الباب، فهلا خرجتم ذلك على الخلاف المذكور في تواصل الصفوف عرضاً، مع اختلاف الأبنية؛ فإن المسافة في الطول كالمسافة في العرض؟ قلنا: لم يختلف الأصحاب في منع ذلك طولاً؛ فإن ذلك لا يعد اتصالاً في الصفوف. ووقوف الصف وراء الصف يعد اتصالاً، فأما الطول، فالاتصال فيه بتواصل المناكب.
1242- ومما يتصل بحكم الدور في المواقف أن صفاً لو وقفوا على مرتفع من الأرض، فهل يعدّون متصلين بالواقفين دونهم؟ قال شيخي: إن كان الواقف المنخفض بحيث ينال رأسُه ركبةَ الواقف المستعلي، فهذا اتصال.
وقال صاحب التقريب إن كان رأسه يلاقي قدمَ من علا موقفُه، كان ذلك اتصالاً.
وهذا هو المقطوع به.
ولست أرى لذكر الركبة وجهاً. والمرعي أن يلاقي شيء من بدن المنخفض شيئاًً من بدن العالي، وهذا قريب في الارتفاع والانخفاض من المسافة بين الصفين، ولو كان الواقف أسفل صبياً لا ينال رأسه مسامتة العالي، لقصر قامته، فلعل ذلك مما يتساهل فيه، وكذلك لو فرض ذلك بين الصفين، فلا يعتد بعدِّ الثلاثة الأذرع، فإن زاد شيء لا يبين في الحس ما لم يذرع، فهو أيضاً غير محتفَلٍ به.
1243- ثم الرباطات والمدارس، إذا لم تكن مساجد -في المواقف- كالدور المملوكة بلا خلاف، والسبب فيه أن الدور المملوكة إنما ضاق فيها أمر المواقف، من جهة أنها ما بنيت لإقامة الجماعات فيها، وهذا المعنى يتحقق في المدارس والرباطات والدور الموقوفة.
وقد تنجَّز القول في المواقف في المواضع الفردة.
1244- ونحن نذكر الآن ما لو اختلف موقف الإمام والمأموم في البقاع التي ذكرنا تباين حكم المواقف فيها.
فلو كان موقف الإمام في المسجد، وموقف المقتدي في مِلكٍ، فهو كما لو كان(2/410)
موقفهما في بناءين مملوكين؛ فإن كان البيت المملوك على جانب المسجد، وكان بابه لافظاً فيه، فهو كما لو كان الإمام في الصفة والمأموم في بيتٍ بابه نافذ في أحد جانبي الصفة، فيعود كل ما ذكرناه في اتصال الصف طولاً.
وإن كان البيت المملوك الذي هو موقف المقتدي وراء المسجد، وكان بابه لافظاً فيه، فهو كبيت وراء صفة فيها موقف الإمام، فيقع التفصيل في اتصال الصفوف عرضاً، ولا أثر لكون أحد الموقفين مسجداً؛ فإن ذلك لا يغير الحكم، ولا يرفع الاختلاف، وما (1) ذكرناه من أن المملوك غير مبني للصلاة، وجمع الجماعات.
1245- فأما إذا كان الإمام في مسجد والمقتدي في موات، أو شارع يستوي فيه الكافة، فهذا يخرج على القاعدة التي نبهنا عليها الآن، فالأصل أن نجعل كأن الإمام والمأموم في موات، كما قدمنا في الملك والمسجد، حيث قلنا: هو كما لو كانا في ملكين، ولا نقول: نجعل كما لو كانا في المسجد، نظراً إلى كون أحدهما في المسجد، فالحكم يجري على موجب البقعة التي يقتضي الشرعُ فيها ضرباً من التضييق، لا على المسجد الذي يتسع فيه أمر المواقف.
فإذا تمهد ذلك، قلنا: إذا كان [الإمام في مسجد والمأموم في مواتٍ أو الشارع، فالقرب المرعي ثلاثمائة ذراع أولا، ثم إذا كان] (2) الموقف وراء المسجد، فيعتبر أول هذه المسافة في حق أول واقف في الموات من أي موضع في المسجد؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يعتبر من آخر الصف في المسجد، والثاني - أنه يعتبر من آخر جزء من المسجد، في الجهة التي تلاقي المقتدي، حتى كأنَ جِرْمَ (3) المسجد إمامُه.
والصحيح النظر إلى الواقفين في المسجد، كما ذكرناه أولاً.
وإذا قلنا بالوجه الثاني، فكأنا جعلنا لكون الإمام والجماعة في المسجد مزيدَ أثرٍ
__________
(1) معطوف على (الاختلاف) ، فهو داخل ضمن معمول (يرفع) .
(2) هذا مما جاءتنا به (ل) منفردة عن باقي النسخ.
(3) كذا في (ت 2) بالجيم المعجمة، وفي باقي النسخ حرم بالحاء، ورجحنا هذا رعاية لمعنى النص، وقد رأينا النووي في المجموع يعبر بلفظ (حريم) المسجد. (ر. المجموع: 4/307) .(2/411)
في توسيع أمر المواقف؛ فإنه ربما يكون بين آخر صفٍ، وبين آخر المسجد ألفُ ذراع، فلا تعتبر تلك المسافة، ويعتبر ابتداءُ الثلاثمائة من آخر المسجد في صوب المقتدي.
ثم تمام البيان في ذلك، أن المقتدي لو كان وراء المسجد على محاذاة جدار المسجد، ولم يكن على (1) باب في جهة المقتدي، بل كان الجدار حاجزاً بينه وبين الصفوف، فمن أصحابنا من جعل الجدار قاطعا مانعاً من الاقتداء، إذا كان ذلك الجدار الحائل مانعاً من الاستطراق، وهذا الذي صححه العراقيون.
والثاني يصح، وهذا يخرج بناء على قولنا: إن إمامَ المقتدي الواقف خارجَ المسجد جِرمُ المسجد.
ثم قال العراقيون: إذا منعنا القدوة والجدار مانعٌ من الاستطراف والنظر، فلو كان الجدارُ مشبكاً، غيرَ مانع من النظر وإن منع الاستطراق، فعلى هذا الوجه وجهان: من جهة أن نفوذ النظر ضربٌ من الاتصال، وهذا كله في موقف المقتدي وراء المسجد.
فأما إذا كان وقوفه في أحد جانبي المسجد، فهو كما مضى، فيعتبر القرب والبعد، كما تقدم في الصحاري، ثم لا فرق بين أن يكون باب المسجد مفتوحاً، وبين أن يكون مغلقاً.
وذكر صاحب التقريب وجهاً، ومال إليه واختاره: أن الباب إذا كان مغلقاً، لم يصح اقتداء الواقف خارج المسجد، وهذا يطرد في كل واقف خارج المسجد أين وقف. وهذا قريب مما صححه العراقيون، من كون الجدار حائلاً مانعاً. والصحيح عندنا: أن الجدارَ المانع من الاستطراق، وبابَ المسجد المغلق، لا أثر له.
ثم حكى الصيدلاني عن صاحب التقريب في تفريع الوجه المحكي عنه أنه قال: إذا كان الباب مفتوحاً، فينبغي أن يقف صف بحذاء الباب، ثم يقف من يقف وراء الصف على حدّ القرب المعتبر في الصحاري، حتى لو وقف واقف قدام الصف المحاذي
__________
(1) كذا في جميع النسخ، والصواب -والله أعلم- بدون (على) مع اعتبار (كان) تامة. وبذا يستقيم الكلام.(2/412)
للباب المفتوح، لم يجز. وهذا حكاه الأصحاب عنه، ولم أره في كتابه.
أما اعتبار فتح الباب، فمنصوص له.
هذا بيان اختلاف الأماكن في المواقف.
1246- ولو كان الإمام في مواتٍ، والمأموم في مسجد، لم يختلف شيء من التفاصيل المقدمة.
ثم إن كان الإمام متقدماً عن المسجد، والمقتدي واقفاً في آخر المسجد، فهل يعتبر ما بين مقدمة المسجد في جهة الإمام، وما بين موقف المقتدي من طول المسجد في الثلاثمائة الذراع، أم لا نعتبر مسافة المسجد ونرفعها من البين؟ فعلى الخلاف المقدم فيه إذا كان الإمام في المسجد، حيث قلنا: نعتبر ابتداء المسافة من آخر واقف في جهة المقتدي الخارج، أم نعتبر أولَ المسافة من آخر جزء من المسجد في جهة الواقف؟ وهذا بيّن.
ولو وقف المقتدي الواقف في ملك في سطحِ داره، متصلاً بسطح المسجد، فهذا الآن يضاهي اتصال ملكِ منبسطِ لا بناء فيه بالمسجد، أو بأرضٍ مباحة، ثم اعتمد الشافعي أثراً عن عائشة، وهو لعمري معتصم عند ضيق القياس، وهو ما روي: "أن نسوة في حجرة عائشة، أردن أن يصلين فيها، مقتديات بالإمام في المسجد، فنهتهن عائشة، وقالت: إنكن دون الإمام في حجاب" (1) .
فرع:
1247- إذا وقف الإمام والمأموم في سفينة واحدة، والسفينة مكشوفة، فالذي قطع به أئمتنا: أن النظر إلى البحر الذي عليه السفينة، فنُجريه مجرى الأرض المباحة في المواقف، والسفينة تحت الأقدام كصفائح منصوبة في الصحراء، وقد وقف عليها القوم، فلا أثر لتلك الصفائح.
__________
(1) أثر عائشة لم أصل إليه إلا عند اليهقي من رواية الربيع عن الشافعي بلفظ: قد صلى نسوة مع عائشة في حجرتها، فقالت: لا تصلين بصلاة الإمام، فإنكن دونه في حجاب". قال الشافعي رحمه الله: وكما قالت عائشة -إن كانت قالته- قلناه" ا. هـ (ر. السنن الكبرى: 3/111) . هذا ولم يتعرض الحافظ في التلخيص لهذا الأثر، ولا النووي في المجموع، ولم أصل إليه عند الشافعي.(2/413)
ولو كانت السفينة مسقفة، والركاب تحت السقف، فنجعل السفينة الآن بمثابة دار مملوكة، وقد تقدم التفصيل فيه.
ولو كان الإمام في سفينة أخرى، والسفينتان مكشوفتان، فالذي صار إليه أئمة المذهب جواز الاقتداء، واعتبار القرب والبعد المذكور في الصحاري.
وقال أبو صعيد الإصطخري: إن كانت سفينة المأموم مشدودة بسفينة الإمام، بحيث نأمن أنها لا تتقدم على سفينة الإمام، فالقدوة صحيحة على قرب الصحاري، وإن كانتا مطلقتين، قال: لا يصح الاقتداء؛ فإنا لا نأمن أن تتقدم السفينة التي فيها المقتدي في أثناء الصلاة، على السفينة التي فيها الإمام. وهذا متروك على أبي صعيد. والوجه تصحيح القدوة، وعدم المبالاة بما يتوقع من تقدّم، على أن تقدّم السفينة المتأخرة على السفينة المتقدمة بعيد.
ثم قال شيخنا أبو بكر (1) : وما ذكرناه في سفينتين مكشوفتين، فأما إذا كانتا مسقفتين، وكان الإمام والمأموم تحت السقوف، فالقدوة فاسدة، فإنَّ كلَّ واحدٍ منفردٌ عن الثاني ببيت على حياله، فهو كما لو فرض بيتٌ في بنيان في الصحراء، والإمام في أحدهما، والمقتدي في الثاني.
فهذا تمام ما عندنا في المواقف. والله المستعان.
***
__________
(1) المراد: أبو بكر الصيدلاني. كما حررناه من قبل.(2/414)
باب صفة الأئمة
1248- قد ذكرنا فيما تقدم من يصح الاقتداء به ومن لا يصح الاقتداء (1) . وهذا الباب معقودٌ لبيان من هو أولى بالإمامة عند فرض اجتماع قوم يصلح كل واحد للإمامة، ولكن الغرض بيان الصفات المرعية في تقديم من هو أولى بالتقديم والإمامة.
والأصل أولاً في الباب ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعُصبة وفدوا عليه: "يؤمكم أقرؤكم لكتاب الله، فإن لم يكن، فأعلمكم بسنة رسول الله، فإن لم يكن، فأقدمكم سِناً. أو قال: أكبركم سِناً" (2) ، فصار الحديث أصلاً في التقديم بالفضائل.
ثم مذهب الشافعي أن الأفقه الذي يحسن قراءة الفاتحة، مقدَّم على الأقرأ الماهر بالقراءة (3) ، إذا كان في الفقه غير مواز لصاحبه، والسبب فيه أن الصلاة إلى الفقه أحوج منها إلى قراءة السورة؛ فإن ما يتوقع وقوعه من الوقائع لا نهاية له، ولا يغني فيها إلا الفقه والعلم، ويجوز الاكتفاء بقراءة الفاتحة.
وظاهر الحديث الذي رويناه مشعر بتقديم الأقرأ، ولكن الشافعي أوّل الحديث، ونزّله على الوجه الحق، فقال: فإن الأغلب في الصحابة أن من كان أقرأ، كان أفقه.
__________
(1) كذا في جميع النسخ، بحذف " به " وهو سائغ جيد، لا غبار عليه.
(2) حديث: "يؤمكم أقرؤكم.." رواه مسلم بنحو هذا السياق. من حديث أبي مسعود الأنصاري، (ر. صحيح مسلم: كتاب المساجد، باب من أحق بالإمامة، ح 673، وتلخيص الحبير: 2/32 ح 576) .
(3) كذا في جميع النسخ، ولعلها (بالقرآن) كما هو وارد في لفظ الحديث الشريف، عن فضل وجزاء القارىء الماهر بالقرآن. مجرد حَدْس. والله أعلم.(2/415)
وقد روي أنهم كانوا يتلقنون خمساً من القرآن، ثم لا يجاوزونها حتى يعلموا ما فيهن، ويعملوا بما فيهن، فكان القراء فقهاء في ذلك الزمان.
وقد قال بعض جلة الصحابة: "نحن في زمان قل قراؤه، وكثر علماؤه، وسيأتي زمان يقل علماؤه، ويكثر قراؤه"، وقيل: كان يستقلّ بحفظ جميع القرآن ستة نفر: أبو بكر، وعثمان، وعلي، وزيد، وأبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود. ثم لحقهم من بعدهم، عبد الله بن عباس، فاستظهر القرآن.
وللكلام على الحديث سرٌّ به يتم الغرض وهو: إن عمر كان مفضَّلاً على عثمانَ، وعليّ، والثلاثة الذين ذكرناهم بعدهم، وكان أعلم وأفقه منهم، ولكن كان يعسر عليه حفظ القرآن، وقد جرى كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأعم الأغلب لما قال: يؤمكم أقرؤكم.
فهذا ما أردناه. فالقراءة والفقه، مقدمان على جملة الصفات المرعية. والفقه مقدّم على المهارة في القراءة.
1249- وكان شيخي يقول: الورع مقدم على الفقه؛ فإن المتورع موثوق به، ولا يعدل المحقَقُ بالديانة والورع شيئاًً، وهذا فيه نظر.
والوجه عندي أن نقول: الورِع العارفُ بمقدار الكفاية، مقدم على الفقيه [القارىء] (1) الفاسق؛ فإنا لا نأمن ألا يحتفل الفاسق برعاية الشرائط.
فأما إذا كان الفقيه ورعاً أيضاً، ولكن فضَلَه في الورع صاحبُه، فالفقه مقدم عندي على مزيّة الورع.
1250- ثم نتعرض بعد الفقه والقراءة للسن والنسب، فلا يوازيهما في مقصود الباب بعد الفقه والمهارة في القراءة شيء، ثم إذا اجتمع سن ونسب، والمعني بالنسب المعزي (2) إلى قريش، فقد ذكر الشيخ أبو بكر وجهين، وفي بعض التصانيف قولان:
__________
(1) زيادة من (ت 1) ، (ت 2) .
(2) الفعل (عزا) واوي ويائي.(2/416)
القديم - أن القرشي مقدم لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قدموا قريشاً ولا تتقدموها" (1) .
والمنصوص في الجديد: أن السن مقدّم، لما رويناه في صدر الباب، أنه صلى الله عليه وسلم: ذكر بعد الفقه والقراءة السنَّ، فقال: "وإن لم يكن، فأقدمكم سناً " أو قال: "أكبركم سناً"، قال العراقيون: إنما يؤثر كبرُ السن إذا كان في الإسلام، فلو أسلم شيخ من الكفار، فلا نقدمه لسن أتى عليه في الكفر. وهذا حسن بالغ.
ثم كان شيخي يشير إلى الشيخوخة وروى فيها أخباراً، مثلَ قوله صلى الله عليه وسلم: "من إجلالِ الله إجلالُ ذي الشيبة المسلم" (2) ، وهذا قد يُخَيِّل أن ابنَ الثلاثين مع ابن العشرين إذا اجتمعا، وابنُ العشرين قرشي، فالقرشيُّ مقدّم، من حيث إن صاحبه ليس شيخاً، ولكن أجمع أئمتُنا على أنا لا نعتبر الشيخوخة، بل يكفي كبرُ السن. والحديث الذي رويناه دال عليه، فإنه قال: "أقدمكم سناً".
والذي ذكره شيخنا في حكم من يخصص طرفاً من المسألة بنَصْبِ دليلِ فيه، ومما نجريه في ذلك، أنا قدَّمنا أن الورِع النازل في الفقه، والفقيه الذي ليس بالفاسق إذا اجتمعا، فالفقيه مقدم.
ولو اجتمع مرموق في الورع، ورجل مستور فقيه، فالفقيه مقدّم. ولو اجتمع مشهور بالزهد والورع، ورجل مستور أقدم منه سناً، أو قرشي، فهذا فيه احتمال.
والذي يقتضيه قياسُ المذهب، تقديمَ النسب والسن. والله أعلم.
__________
(1) حديث: "قدموا قريشاً.." رواه الشافعي، والطبراني والبيهقي، وابن أبي شيبة. قال الحافظ: وقد جمعت طرقَه في جزء كبير. (ر. التلخيص: 2/36 ح 579، والسنن الكبرى: 3/121، والمصنف: 6/ 401، 402 ح 32386) .
(2) حديث: "إن من إجلال الله ... " رواه أبو داود من حديث أبي موسى الأشعري بلفظ: "إن من إجلال الله إكرامَ ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه، والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط"، وصححه الألباني (ر. أبو داود: الأدب، باب في تنزيل الناس منازلهم، ح 4843، وصحيح أبي داود: 3/918 ح 4053، وصحيح الجامع: ح 2195 أو ح 2199 في الطبعة الجديدة. والمشكاة: ح 4972، وصحيح الترغيب: 1/93) .(2/417)
1251- ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أن المعتبر نسبُ قريش. على ما ذكرناه.
وقد يفرض نسب شريف وهو الانتساب إلى العلماء والصالحين، وقد رأيت في كتب أئمتنا تردداً في ذلك، والظاهر أنه لا يختص بالانتساب إلى قريش، بل كل نسب معتبر في كفاءة النكاح، فهو مرعي هاهنا.
ولا ينبغي أن يَغْتَرَّ الناظر باستدلال الأصحاب بقوله: "قدموا قريشاً"؛ فإنه من جنس تعلق من يقدم السن بأخبار الشَّيب وتعظيمه.
وهذا منتهى القول.
1252- وقد يعرض للفطن سؤال في السن والنسب، وهو أن نقول: تقابلُ الأخبار هلاَّ دلَّ على استواء السن والنسب؟ وهذا موضع تخيل مثل ذلك؛ فإن الكلام في التقديم، وفي الأَوْلى، والنظر في الصفات، يتقارب مأخذه. ولا يتناقض (1) في هذا المقام الحكمُ بالاستواء، ونحن قد [نَجْبرُ] (2) في كفاءة النكاح بعضَ المناقب ببعض (3) ؟.
قلنا: لا سبيل إلى ذلك؛ فإن ما تعلق به ناصر كل قولٍ، يشير إلى التقديم، كقوله صلى الله عليه وسلم: "قدموا قريشاً"، وقوله: "فأقدمكم سناً"، فكأنا نفهم على القطع إذا نظرنا في مأخذ ذلك، أن المسألة على التفصيل والتقديم، ودلالة الشريعة أين وجدت دالّة على ذلك، فنعتقد وجوب التقديم، ثم ننظر في الأَوْلى، وهذا من دقيق النظر.
فليفهم الناظر.
1253- ثم ممّا يراعى في الباب النظافة، والنزاهة، في الثياب، والطهارة.
__________
(1) في (ت 2) : يتفاوت مأخذه في تناقض.
(2) في الأصل وفي (ت 2) : بدون إعجام. وفي (ط) نجيز، وفي (ت 1) نخير. وما اخترناه تقدير منا، رعاية للسياق، نرجو أن يكون هو الصواب.
(3) آخر السؤال الذي يعرض للفطن.
(4) حدث خطأ في ترقيم صفحات المخطوط، فسقط رقم (44 ي وش) .(2/418)
1254- ولو اجتمع في دار إنسان طائفة، فالإمامة إلى مالك الدار، وإلى من يأذن له المالك.
ولو اجتمع في الدار مالك الدار ومكتريها منه، فالمكتري أَولى؛ لأنه مستحق المنافع.
ولو اجتمع مستعيرُ الدار وأجانب، فالمستعير أولى. وإن اجتمع المعير والمستعير، فإن رجع في العارية، فهو أولى، وإن لم يرجع، فقد اختلف جواب القفال في ذلك، فقال مرة: المعير أولى، وهو المالك، وليس للمستعير استحقاق، وقال مرة: المستعير أولى؛ فإنه صاحب السكنى إلى أن يُصرف ويُمنع.
ولو اجتمع في الدار مالك الدار والسلطان، فالسلطان أولى بالإمامة، وبتقديم من يرى؛ فإن الأئمة رضي الله عنهم كانوا يرون الإمامة للصلوات من أحكام الولايات، وقد وجدت كتب الأصحاب متفقة، ونصَّ الشافعيُّ عليه في المختصر (1) ، وعلّتُه أن التقدُّمَ على السلطان، والتقديم بحضرته خروج من موجب المتابعة، وبذل الطاعة.
وإذا كان المالك راضياً بإقامة الصلاة في داره، فتعيينه متقدَّماً ومقدَّماً (2) ، ليس من تصرفات الملاك، ولا يختلف انتفاع الكائنين في داره بذلك، فهو بالولاية العامة أليق.
فإن لم يكن والي، فالمالك أولى من غيره.
ولو كان السيد أسكن عبده داراً، فحضر قوم، فالعبد الذي هو ساكنُ الدار أولى بالتقدّم والتقديم، كما ذكرناه في المستعير، ولكن لو كان السيد حاضراً، فهو أولى بذلك، وفي حضور المعير مع المستعير الخلاف المقدَّم.
والفرق أن العبد في سكونه (3) ممتثل أمرَ مولاه، وسكون العبد من غرض السيد؛
__________
(1) ر. المختصر: 1/121. ولفظ الشافعي: "ولا يتقدم أحد في بيت رجل إلا بإذنه، ولا في ولاية سلطانِ بغير أمره".
(2) أي تعيين المأموم (المتقدَّم) والإمام (المقدَّم) ليس من تصرفات الملاك. وفي (ل) : "فتعيينه مقدَّماً ومقتدياً".
(3) "سكونه" أي سكناه وسكنه، تقول: "اتخذت هذا البيت سكونًا، وهذا المكان لا يصلح =(2/419)
فإنه ملكه، فإذا حضر السيد، فهو المالك، وإليه ترجع فائدة السكون، وفائدة السكون في حق المستعير آيل إليه، فإذا لم يرجع المعيرُ في العارية، فيجوز أن يقدر دوام الحق للمستعير.
1255- ومما يتعلق بهذا الفصل أن السلطان لو حضر، وفي المجلس من هو أقرأ أو أفقه منه، فهو المقدَّم، كما يتقدم على صاحب الملك في الدار.
1256- فرجع ضبط الكلام إلى أن السلطنة مقدمة، ثم يليها الملك للمالك في الموضع المملوك، فإن لم يكن ولاية ولا ملك، فالذي يختص بالصلاة القراءة والفقه، فكانا مقدمين؛ لأنهما مختصان بالصلاة، ثم الفقه مقدّم على القراءة، كما تقدم.
وفي الورع سرٌّ؛ فإنه وإن لم يكن شرطاً في الصلاة، فله تعلق عظيم بثقة المقتدي وحسن ظنه في رعاية الإمام شرائط الصلاة. وتفصيل المذهب فيه ما ذكرته.
ثم السن والنسب لا تعلق لهما بالصلاة، ولكنهما من موجبات التقديم (1) ، والإمامة تقدمٌ؛ فجرى فيهما من التردد ما ذكرناه.
1257- ومما يتعلق بالباب أنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يقبل الله صلاة من يؤم قوماً وهم له كارهون" (2) ، فإذا كره قوم إمامةَ إنسان، فلا يستحب له أن يصلي بهم، وإن كان فيهم كارهون، فالنظر إلى الأكثر، وهذه الكراهية فيمن لم يقدّمه سلطان، فإن كان (3) منصوباً من جهة السلطان، فلا نظر إلى كراهية القوم إمامته.
__________
= سكوناً" وهو استعمال غير مألوف، ولكنه وارد في لسان الفقهاء ومستخدمٌ في ذاك العصر، وسيرد في كتابنا هذا في ربع المعاملات أكثر من مرة بهذا المعنى.
(1) في (ت 1) التقوى.
(2) حديث: "لا يقبل الله صلاة من يؤم قوماً وهم له كارهون" جاء هذا المعنى في حديث رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة، وصححه الألباني (ر. أبو داود: الصلاة، باب الرجل يؤم القوم وهم له كارهون، ح 593، وصحيح أبي داود: 1/118 ح 554، والترمذي: الصلاة، باب ما جاء فيمن أم قوماً وهم له كارهون، ح 360، وصحيح الترمذي: 1/113 - ح 295، وصحيح ابن ماجة: 1/159، كتاب إقامة الصلاة، ح 791، 792، المشكاة: 1123) .
(3) في (ت 2) فإن لم يكن.(2/420)
وروى الشافعي في الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يؤمن أحدُكم في بيت رجل إلا بإذنه، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه" (1) ، والتكرمة طنفسة، أو مصلى، أو بساط في موضع مخصوص يُجلس عليه مالك الدار من يريد إكرامه، فلا ينبغي لمن يدخل دار إنسان أن يجلس على تلك التكرمة من غير إذن مالك الدار (2) .
***
__________
(1) حديث: "لا يؤمن أحدكم في بيت رجل إلا بإذنه.." رواه مسلم في صحيحه، وهو جزء من حديث أبي مسعود البدري، بلفظ: ".. ولا تؤمَّن الرجلَ في أهله، ولا في سلطانه ولا تجلس على تكرمته في بيته إلا أن يأذن لك، أو بإذنه" وبنفس اللفظ تقريباًً، أبو داود، والنسائي، وابن ماجة. (ر. صحيح مسلم: 1/465، كتاب (5) المساجد، باب (53) من أحق بالإمامة، أبو داود: الصلاة، باب من أحق بالإمامة، ح 582، والنسائي: الإمامة، باب من أحق بالإمامة، ح 781، وابن ماجة: كتاب إقامة الصلاة، باب (46) من أحق بالإمامة، ح 980، وتلخيص الحبير: 2/36 ح 579، 580) .
(2) إلى هنا انتهى الجزء الثالث من نسخة (ت 2) . وجاء في خاتمته: "كمل الجزء بحمد الله وعونه وحسن توفيقه. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلّم تسليماً.
يتلوه في الجزء الرابع إن شاء الله. باب إمامة النساء".
وبهذا ينقطع سياق نسخة (ت 2) حيث فقد منها الجزء الرابع.(2/421)
باب إمامة النساء
روت أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تقوم إمامة النساء وسطهن"، وروي أن عائشة "صلت بنسوةٍ العصرَ، فقامت وَسْطهن" (1) ، وقد تقدم ذلك فيما مضى، وسبق في باب الأركان حكمُ أذانهن وإقامتهن.
***
__________
(1) سبق الكلام على الحديثين.(2/422)
باب صلاة المسافر
1258- القصرُ من السنن المتعلقة بالسفر الطويل، ويستوي فيه حالةُ الخوف والأمن، وخلاف داود مشهور.
ثم السفر الطويل عند الشافعي مرحلتان، والمرحلة الفاصلة بين الطول والقصر ثمانية فراسخ، والمرحلتان ثمانية وأربعون ميلاً، كل ثلاثة أميال فرسخ، وألفاظ الشافعي، وإن اختلفت، فإنها راجعة إلى هذا قطعاً، فلسنا نطوّل بذكرها.
1259- ثم قال الشافعي: "وأكره تركَ القصر رغبة عن السنة" (1) .
القصر عند الشافعي رخصة، وليس بعزيمة، خلافاً لأبي حنيفة (2) . والإفطارُ في رمضان من الرّخص، ثم الصوم عند الإمكان أفضل من الفطر، ولا احتفال بقول من يقول من أصحاب الظاهر: إن الصوم في السفر لا يصح. والمحققون من علماء الشريعة لا يقيمون لمذهب أصحاب الظاهر وزناً.
واختلف قول الشافعي في أن القصرَ أفضل من الإتمام، وسبب اختلاف القول، أن الصلاة المقصورة صحيحة وفاقاً، وفي صحة الصلاة التامة، خلاف، والمقصورة المتفق على صحتها أولى من التامة المختلف فيها أيضاً؛ فإن القصر غالب من أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفره، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يواظب إلاّ على الأفضل والأولى.
ورأيت في نسخٍ من مذاهب الصيدلاني أن القصر أفضلُ من الإتمام قولاً واحداً، وفي الفطر قولان: أحدهما - أنه أفضل.
__________
(1) ر. المختصر: 1/121.
(2) ر. مختصر الطحاوي 33، رؤوس المسائل: 173 مسألة 75، بدائع الصنائع 1/ 91، 92.(2/423)
والثاني - أن الصوم أفضل، وهذا خطأ من النساخ قطعاً، فلا يعتد به.
ثم قال الشافعي: "أما أنا، فلا أقصر في أقل من ثلاث مراحل" (1) ، [وإنما آثر هذا] (2) للخروج من الخلاف، وإلا فمذهبُه واحد في أقل السفر الطويل، ثم أشعر نصُّه هذا بأن الإتمام في مسيرة يومين أفضل؛ لأن جواز القصر مختلفٌ فيه، والإتمامُ سائغ وفاقاً، فأما إذا بلغ السفر ثلاثَ مراحل، ففي القصر القولان المذكوران.
فصل
قال: "وإذا نوى السفرَ، فلا يقصر حتى يفارق المنازل" (3)
1260- إذا هم الرجل بالسفر، لم يقصر حتى يخوض في السفر، وإنما يصيرُ خائضاً في السفر إذا فارق دارَ الإقامة، وهذا نُفصِّله في الخارج من بلد، أو قرية، ثم نذكر في (4) أهل الخيام إذا أقاموا في البادية، ثم رحل راحل منهم.
فأما الخارج من البلدة، فلا شك أنه، وإن رحل، وشمّر، وفارق منزلَه، لم يصر مسافراً، حتى يفارق خِطةَ البلدة، وهذا يستدعي تفصيلاً: فإن كانت البلدة مسوّرةً، عليها دروب، فإذا خرج من الدروب، فهذا أول سفره، فيستبيح رخصَ المسافرين.
وإن لم يكن البلد مسوراً، ونهض في صوب سفره، فلا بد من مفارقة عمران البلدة.
وإن كان وراء العامر خرابٌ، ففي هذا وقوف وتردد، فالذي أشعر به فحوى كلام الصيدلاني، وكلامُ بعض المصنفين: أن مجاوزة العمران كافٍ، والخراب لا حكم له، وظاهر النص دال على ذلك؛ فإنه رضي الله عنه قال: "فلا يقصر حتى
__________
(1) ر. المختصر: 1/121. ولفظه: "أما أنا، فلا أحب أن أقصر في أقل من ثلاثة أيام، احتياطاً على نفسي، وإن ترك القصر مباح لي".
(2) في الأصل: "ولا أثر للخروج من الخلاف" والمثبت من (ت 1) وظاهرتها (ل) .
(3) ر. المختصر: 1/122.
(4) كذا في جميع النسخ: "في أهل الخيام".(2/424)
يفارق المنازل"، واسم المنازل يختص بالعامر، الذي يمكن أن يسكن، وهذا يظهر تعليله؛ فإن المسافر هو البارز من مكان الإقامة، والخراب ليس مكان إقامة، فهذا وجهٌ. وهو سديد وتعليله بيّن.
ولكن شرط ذلك ألاّ يكون وراء الخراب عمارةٌ معدودة من البلد، فإن كان، فلا شك أن الخراب من البلدة، ولا بد من مجاوزة منتهى العمارة.
1261- وأما شيخنا فإنه كان يفصل القول في الخراب الواقع على طرف الخِطة، ويقول: إن كانت آثار الأبنية باقية، فلا بد من مجاوزتها؛ فإنها تُعدّ من البلدة، وقد ثبت أن مجاوزة البلدة لا بد منها، ثم كان يقول: يتصور فيها أحوال، نخرّجها على حكم البلدة، ونحن واصفوها، منها: أن يتخذها الناس مزارع، فإذا انقلبت مزارع، فليست الآن من البلدة وفاقاً؛ فإنها خرجت عن أن تكون مساكنَ قصداً. وكان يقول: إن سُوِّرَ العامرُ، وأخرج الخراب، فيكفي مجاوزةُ السور المحوط على العمران؛ فإن سكان البلدة اعتمدوا إخراجَ الخراب، وكان يقول في هذه الصورة: لو سوّروا على العامر، وحوطوا سوراً آخر على الخراب، فلا بد من مجاوزة السورين.
ومما يطرأ على الخراب أن يندرس بالكلية، ولا يبقى له أثر. كان يقول: هذا يُخرجها عن خِطة البلدة؛ فإن آثار البنيان يَظهر عدُّها من البلد، فأما الدارس المنطمس، فلا.
ومما يذكر في الخراب أنه لو اتخذ منها بساتين، وكانت منازلَ ودوراً، فإن كان ملاكها لا يسكنونها ولا يخرجون إليها إلا متنزهين، أو لنقل الثمار، وإنما يأوي إليها الأكَرَة (1) والنواطير، فهي كالمزارع، فتخرج عن الخطة، وإن كان ملاكها يسكنونها، فهي من البلدة، ولكنها سكنت قديماً دوراً، وهي الآن مسكونة على هيئة أخرى. وكذلك إذا كان ملاكها يأوون إليها منتقلين إليها في بعض فصول السنة، فهي مَحِلة نَزِهة من البلد، فلا بد من مجاوزتها. والذين لا يعدّون الخراب من البلد في الطريقة الأولى يوافقون على هذا التفصيل في البساتين.
__________
(1) الأكرة: بفتحات ثلاث جمع أكار، وهو الحراث، من: أكرْتُ الأرض: حرثتها. (المصباح) . والمراد هنا كل من يعملون في زراعة الأرض وحراستها.(2/425)
فهذه طريقة شيخي في الخراب وما يطرأ عليه من التغايير.
1262- ولو كان الرجل ساكناً قريةً، فالقول في مجاوزة خِطتها وأبنيتها، كما ذكرناه، وبساتين القرى تعد منها قطعاً؛ فإنها تُعدّ من القرى، وإنما التفصيل في بساتين البلاد. فإذا جاوز البنيانَ، وانتهى إلى مزرعة القرية، فقد فارق القريهَ وفاقاً؛ فإنها ليست موضع سكون (1) ، ولو كانت بساتينها، وكرومُها غيرَ محوطة على هيئة المزارع، أو مزارعها محوطة، فلا يشترط عندي مجاوزتها؛ لأنها ليست من مساكن القرية، وقد يتردد الناظر في ذلك. والوجه القطع بما ذكرته.
فرع:
1263- قال العراقيون: لو فرضت قريتان أبنية إحداهما متصلة بأبنية الأخرى، فمن خرج من إحدى القريتين في صوب الأخرى، فلا بد من مجاوزتهما جميعاًً؛ فإنهما بمثابة محلَّتين، والذي ذكروه ممكن ظاهر، وقد حكَوْه من نص الشافعي.
ولكن للاحتمال فيه مجال بيّن؛ فإن المحال تعزى إلى بلدة، وخِطتُها شاملةٌ لها، أما هاهنا القرية (2) منفصلة عن القرية باسمها وحدودها، والدليل عليه أنه لو فرضت قرى كثيرة متصلة تمتد خطتها مراحل، فيلزم على قياسهم ألا يستبيح الخارج من أقصاها الرخصَ، ما لم يخرج عن جميعها. وهذا بعيدٌ جداً.
ثم قالوا: لو انفصلت أبنية إحداهما عن أبنية الأخرى، ولكن كانتا مع ذلك متقاربتين، فمن خرج من إحداهما، كفاه مفارقة أبنيتها، وحَكَوْا عن ابن سُريج أنه قال: لا بد من مفارقتهما جميعاًً، كما لو اتصلت الأبنية، ثم زيفوا هذا، وهو لعمري مزيف، غيرُ منضبط؛ فإن القرب الذي ذكروه لا ضبط له، ولعل الوجهَ في تقريبه أن يكون مثلَ ما يقع بين محلتين متواليتين في بلدة، وهذا باطلٌ، لا أصل له.
والوجه في اتصال أبنية القريتين ما ذكرناه من أنّ مجاوزةَ أبنية القرية التي خرج عنها كافية.
__________
(1) سكون: أي سَكَنٌ، وسُكنى. وهذا من ألفاظ الإمام واستعمالاته.
(2) نذكر بأسلوب الإمام في إسقاط الفاء في جواب (أما) .(2/426)
فهذا في الخروج عن الأبنية.
1264- فأما المقيم في البريّة، إذا نهض مسافراً من مقامه، فينبغي أن يجاوزَ الخيامَ والأخبيةَ، ومطارحَ التراب، والمواضع الذي يتردد أهل الخيام إليها، وكذلك مجلسهم الذي يشتورون فيه، وهو الذي يسمونه النادي، فهذه المواضع إذا وقعت في صوب خروجه، فلا بد من مجاوزتها.
فإن قيل: لم تذكر محتطَبَْ القوم، والموضعَ الذي يستقون منه. قلنا: ذلك يختلف، فإن كانوا يغدون نازلين على الماء أو على الحطب، فهو معتبر، وإن كانوا يحتطبون من بُعد أو يستقون، فلا يعتبر مجاوزة ذلك؛ فإنه غيرُ معدود من مخيّم القوم، ومحل إقامتهم.
وقد نص الشافعي أنهم إن نزلوا في بطن وادٍ، وكان السفر في عُرض الوادي، فلا بد من قطعه، وهذا محمول على الغالب؛ فإن الأغلب أن عُرض الوادي يكون منسوباً إلى مخيم النازلين، فإن اتسع عُرض الوادي، وقلّت الخيام، فلا يعتبر جَزْع (1) عُرض الوادي.
فإن قيل: هل في اعتبار مجاوزة مطارح التراب والدِّمَن في هذه الصورة، ما يشهد لاشتراط مجاوزة الخراب في البلدة؟ قلنا: هذه الأشياء من مرافق الخيام، ولا بد لها منها، ولا يتحقق مثل هذا في الخراب.
فهذا منتهى التفصيل في المواضع التي يعتبر مجاوزتها، وما فصّلتُه غايةُ الإمكان فيه، وأشدُّ ما أعانيه في هذا المجموع أمثالُ هذه الفصول؛ فإنها في الكتب منتشرة لا ضبط لها، ولست أرى فيها اعتناء من الأولين لمحاولة الضبط. والله ولي الإعانة والتوفيق، بمنّه ولطفه.
فرع:
1265- إذا فارق الهامُّ بالسفر العمرانَ كما ذكرنا، وصار خائضاً في السفر، ثم كان خلّف شيئاًً من أمتعته، فعاد إلى البلدة ليحمله، فأراد أن يقصر في البلدة، فهل له ذلك؟ قال الأئمة: إن كانت البلدة وطنَه، وقد أنشأ السفر منه، فإذا عاد إليه
__________
(1) جَزْعُ: قَطْعُ. (المعجم) .(2/427)
مستوفزاً، فلا يقصر، وإن كان غريباً في تلك البلدة، وكان قد أقام فيها مدة، ثم فارقها وعاد إليها كما ذكرناه، فهل يقصر؟ فعلى وجهين: أصحهما - أنه يقصر؛ فإنه لم تكن البلدة وطنَه، ولكن أقام بها، ثم تقلع عنها، فصارت البلدة في حقه كسائر المنازل، ومن أصحابنا من جعله كالمتوطّن، يسافر ثم يعود.
فرع:
1266- إذا أقام قوم في طرفٍ من البادية، وكانت خيامُهم متبددة متفرقة، فقد ذكر الصيدلاني في ذلك ضبطاً، فقال: إن كانوا بحيث يجتمعون للسمر في نادٍ، وكان يستعير (1) بعضهم من بعض، فهم مجتمعون، فلا بد من مفارقة الخيام. وإن أفرط التباعد بحيث لا يجتمعون، ولا يستعين بعضهم ببعض، فأهل كل خيمة ينبغي أن يفارق خيمته وحريمَها، كما ذكرنا في الخيام.
فصل
1267- إذا خرج مسافراً، يقصر من وقت خروجه ومفارقته الوطن، بشرط أن تكون نيتُه مربوطة بسفر طويل، فأما إذا لم يرتبط قصده بسفر طويل أو قصير، ولم يخطر له مقصد، ولكنه خرج هائماً على وجهه، فهذا لا يقصر ولا يترخص رُخَصَ المسافرين، وإن سافر على هذه السجية ألف فرسخ؛ فإنه لما خرج، كان لا يدري أنه في سفر طويل أو قصير، ثم هذا يجري في كل حالاته، والذي طواه قبلُ من المسافة لا أثر له، وإنما النظر في حاله، وفيما بين يديه.
1268- ولو أنه خرج لردِّ عبد آبق، أو طلب غريم، وكان لا يدري أنه يُدرك على القرب أو على البعد خصمَه، فحكمه حكم الهائم في بعض السفر، لأنه ليس له مقصد معيّن، ولا نحكم عليه بأنه في سفر طويل أو قصير، والقصرُ الذي نحن فيه مختص بالسفر الطويل.
1269- ولو خرج مسافراً رابطاً قصده بطيّ مسافةٍ تبلغ مرحلتين، فصاعداً، ثم طرأ عليه بعد خروجه نيةٌ، فعزم أنه مهما (2) لقي فلاناً، انصرف، وإن لم يلقه، تمادى إلى
__________
(1) فسر هذه الاستعارة بالاستعانة في الجملة الآتية.
(2) "مهما": بمعنى إذا.(2/428)
مقصده الأول، فظاهر المذهب في هذه الصورة أنه يقصر؛ من جهة أنه خرج ملابساً سفراً طويلاً، وكان ذلك مبتدأ حاله إلى أن يطرأ قاطع، وتوقع الالتقاء بمن عينه لا يقطع حكم سفرِه؛ فإن ذلك أمرٌ مظنون، وملابسته السفرَ الطويل كان مقطوعاً به، فلا ينقطع، ما لم يلق فلاناً، فإذا لقيه، خرج عن كونه مسافراً، وحكمه الآن حكم المقيم، جرياً على حكم نيته، وقد حقَّت وتنجزت، فانقطع سفرُه.
فإن ابتدأ وراء هذا سفراً، نظرنا فيه وفي صفته كما تقدم.
ومن أصحابنا من يقول: إذا خرج رابطاً نيته بسفر طويل، ثم نوى أنه لو لقيه فلان، لرجع، فقد خرج عن كونه مسافراً سفراً طويلاً، وبطلت النية الأولى، فصار كما لو خرج في الابتداء ونيته الأولى على هذا الوجه.
1270- وحكى الأئمة عن نص الشافعي مسألة تداني ما ذكرناه، وهي أن الرجل لو خرج عازماً على أن يخرج إلى بلدة عيَّنها في نيته، ويقيم بها أربعة أيام، ثم يخرج منها إلى بلدة أخرى عيَّنها، فإن لم يكن بين منشأ سفره وبين البلدة الأولى مرحلتان، فإنه لا يقصر؛ فإن سفره سينقطع على موجب نيته بإقامته في البلدة الأولى، فهذه سفرةٌ في نفسها، وليست طويلة، فإنْ فرض خروجه إلى البلدة الثانية، فهذه سفرة أخرى جديدة، فإن لم تبلغ المسافة بين البلدتين مرحلتين، فإذا خرج، أخذ في القصر، وكذلك القول في السفرة الثانية. فلو أنه ربط نيته في أول خروجه بالمصير إلى البلدة الثانية من موضع خروجه، وكان جميع المسافة بالغاً مرحلتين، فصاعداً، فإنه يقصر، فلو خرج على هذه الجملة (1) التي وصفناها، ثم بدا له بعد الخروج أن يقيم ببلدة في وسط الطريق أربعة أيام، وليست المسافة الآن بينه وبين البلدة التي ربط النية بها مرحلتين، فإن الشافعي يقصر في هذه الصورة؛ فإن سفره الأول ثبت على وجه يتعلق به القصر، ثم طرأ بعد ذلك نيةٌ أخرى، فلا معوّل على النية الثانية، وحكم النية الأولى قائم، إلى أن ينتهي إلى البلدة التي ربط السفر بها في الكَرة الثانية، فإذا انتهى إليها وقصد الإقامة، بطل الآن السفر، فإذا خرج من البلدة الأولى، فهذا سفر
__________
(1) كذا في جميع النسخ، والمعنى: خرج على نية قطع هذه الجملة، أي المسافة بين وطنه والبلدة الثانية.(2/429)
جديد، فينظر في المسافة من مكان الخروج من هذه البلدة، إلى حيث تعلق به قصد هذا الخروج.
فهذا نص الشافعي.
1271- وذكر بعض أصحابنا وجهاً آخر لما حكيناه من النص، وقال: مهما قصر سفره على الإقامة في البلدة التي عينها ثانياً، ولم تبلغ المسافةُ إليها مرحلتين من أول الخروج، فطريان النية كذلك بمثابة ما لو كانت النية كذلك في ابتداء الخروج، فإذا لم تبلغ المسافة بين منشأ السفر وبين البلدة التي نواها وعينها مرحلتين، انكف عن القصر.
فهذا بيان ما أردناه نصاً وتخريجاً.
فصل
1272- إذا انتهى المسافر إلى بلدةٍ أو قرية دون مقصده، ولم يكن له بها حاجة يرتقب نجازها، فإن أقام بها ثلاثة أيام بلياليها، فهو مسافر فيها، وإن أبرم عزمه على مقام أربعة أيام، أو على مقام ثلاثة أيام وزيادة، ولم يكن له حاجة يرقبها، فهو مقيم، ثم لا تتوقف إقامته على مضي ثلاثة أيام، بل كما (1) نوى إقامة أربع صار في الحال خارجاً عن حكم المسافرين في الرخص، فلا يترخص بشيء من رخص المسافرين.
وكان شيخي أبو محمد يقول: الثلاثة الأيام التي ذكرناها في مقام المسافر، لا يعد منها يومُ دخوله، ولا يوم خروجه، فلتكن ثلاثاً (2) سوى يوم الدخول ويوم الخروج، وفي كلام الصيدلاني إشار ظاهرة إلى ما ذكره شيخي، وتعليله، أنه في شغل يوم الدخول ليحط ويمهد، وينضد الأمتعة. وهو يومَ الخروج في شغل الارتحال،
__________
(1) "كما" بمعنى عندما.
(2) كذا " ثلاثاً " بالتذكير، مع أن المراد الأيام، وهي هنا صحيحة لها وجهٌ لا يخفى عليك، واعلم أن المعدود إذا تقدم، جاز في لفظ العدد الموافقة والمخالفة.(2/430)
فألحقنا يوم دخوله وخروجه بأوقات تردّدِه في طي المراحل.
ومما يتعلق بتحقيق ذلك أنا إذا قلنا: لا يحتسب يوم دخوله، أردنا النهار، فحسب، إن دخل نهاراً، ولم نُرد اليوم بليلته، ولو دخل ليلاً، لم نحتسب عليه بقيةَ الليل، فأما أن نقول: لا نحتسب بقية الليل ولا نحتسب الغد أيضاً، فلا. وتعليلُ ما ذكرناه من ذلك واضح، فإن لم نحتسب عليه يوم الدخول لما عليه من الشغل فيه، فهذا لا يدوم يوماً وليلة.
وما ذكرناه من مقام المسافر ثلاثة أيام، فهي ثلاثة أيام بلياليها قطعاً، والذي يغمض أنه لو انتهى المسافر إلى المنزل في بقيةٍ من النهار قريبة، مثل أن كان انتهى إلى المنزل بعد وقت العصر قبل الغروب، وكان يقع شيء من شغله في الليل لا محالة، فالذي أراه أن بقية النهار، والليلَ كلَّه غيرُ محسوب من المدة، في هذه الصورة، نظراً إلى الشغل ووقوعه في الليل، فهذا إذا نوى مُقام ثلاثة أيام.
وإن نوى مُقام أربعة أيام، أو مُقام ثلاثة أيام ولحظة، ولم تكن إقامته لشغل، كأن يرتقب تجارة، ولكنه جرَّد نية الإقامة في هذه المدة من غير شغل، صار مقيماً، وانقطعت عنه الرخص المشروطة بالسفر وفاقاً.
1273- فخرج من ذلك أن المكث ثلاثة أيام من غير شغل تَودّع (1) محتمل في حق المسافر، إذ لا يشترط أن يكون المسافر دائباً في حركاته، وذلك غير ممكن، ولا يتصور احتمال مشاق السفر إلا بتودع في البين (2) يُجمّ (3) المسافرَ ودوابَّه، وإذا أفرط السكون، كان ذلك مناقضاً لحال المسافر، وكأن الثلاث فيما قيل آخر حدّ القلة، وأول حد الكثرة، وبها تحدد الخيار في البيع، وأمدُ استتابة المرتد، وغيرُهما، فكان ذلك قصداً وسطاً.
__________
(1) التودع: السكون، والاستجمام. من تَوَدعّ: إذا صار صاحب دَعةٍ وراحة. (المعجم) .
(2) البين: استخدم إمام الحرمين هذا اللفظ في البرهان، وفي النهاية أكثر من مرة، وهو يفهم من السياق، وإن لم نجده -فيما وصلنا إليه من معاجم- منصوصاً. وهو هنا بمعنى الأثناء، أي أثناء السفر.
(3) من أجمَّ الإنسانَ والفرسَ. إذا تركه يستريح. (المعجم) .(2/431)
ثم لم نكتف في ذلك بما أشرنا إليه، حتى عضده الخبر والأثر، أما الخبر، فقد روي: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حرّم على المهاجرين الإقامة بمكة، ثم رخص لهم إذا قدموا أن يمكثوا بعد قضاء النسك ثلاثاً" (1) ، وهذا ظاهر في أن هذا المقدار لا يُلحِق الماكثَ بالمقيم.
وحرّم عمر على أهل الذمّة الإقامةَ في أرض الحجاز، ثم أجاز لمجتازيهم المكث بها ثلاثة أيام (2) .
ومذهب أبي حنيفة (3) أن أكثر مدة مُقام المسافر خمسةَ عشر يوماً، وقد روَوْا عن أنس: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمكة في حجة الوداع عشراً وهو يقصر فيها" (4) ، ولم ير الشافعي التعلق برواية أنس في سَفْرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجه، وآثر على روايته روايةَ جابر (5) ؛ فإنه كان أحسن الرواة سوقاً لتفصيل أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالذي رواه أنس من العشر صحيح، ولكن جابراً روى تفصيله، وقد قدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة صبيحة رابعة مضت من
__________
(1) حديث يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثاً، متفقٌ عليه من حديث العلاء بن الحضرمي (ر. التلخيص: 2/45 ح 605، واللؤلؤ: 313 ح 858، وهو عند البخاري ح 1832 وعند مسلم ح 1352) .
(2) الأحاديث الواردة في إخراج اليهود، والنصارى من جزيرة العرب، والتي تؤكد بأنه لا يجتمع في الجزيرة دينان، في غاية الصحة، فهي عند البخاري ومسلم، عن أكثر من صحابي، راجع البخاري الأحاديث ح 2338، وأطرافه 2285، 2328، 2329، 2331، 2499، 2720، 3152، 4248، والأحاديث: 4028، 6944، 7348، وفي مسلم 1551.
وإما إجلاء عمر لمن بقي منهم، وأنه أذن لمن يجتاز أو يدخل بالبقاء ثلاثة أيام فقط، فانظر: مصنف عبد الرزاق: 6/51 ح 9977، 10/357، ح 19360، والسنن الكبرى: 9/207، 208، 209، وانظر التلخيص: 2/46 ح 609.
(3) ر. رؤوس المسائل: 175 مسألة: 76، حاشية ابن عابدين: 1/528، وبدائع الصنائع: 1/97.
(4) حديث أنس رواه الستة. (نصب الراية: 2/184) .
(5) حديث جابر في صفة حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، معروف باسم حديث جابر الطويل، رواه مسلم في صحيحه. (ر. مسلم: 1/886، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، ح 1218، التلخيص: 1/192 ح 283) .(2/432)
الحجة، فأقام الرابع والخامس والسادس والسابع، وصلى الصبح بالأبطح في الثامن، وكان يقصر الصلاة في هذه الأيام، ثم أقام ليلةً بمنى، وليلة بمزدلفة، وثلاثَ ليالٍ بمنى، فكانت إقامته ببقاع متفرقة.
وسيأتي في ذلك أمر عظيم يجب الاعتناء به في الخبر ومعناه، وعقد المذهب.
ثم إذا حكمنا على من نوى الإقامة أكثر من ثلاثة أيام بأنه مقيم، لم يتوقف انقطاع الرخص منه على مُضيِّ مدة المسافرين، بل كما (1) نوى انكف عن الرخص، فإنه صار مقيماً شرعاً. وكل ما ذكرناه فيه إذا نوى الإقامة في مدةٍ، ولم يعلِّق إقامته بحاجة وشغل.
1274- فأما إذا سنح له شغل في قرية أو بلدة على طريقه، واحتاج لأجلها إلى الإقامة، فقد ذكر صاحب التقريب فيه أحسن ترتيب، فنسوقه على وجهه، ثم نأتي فيه ببدائع وآيات، قال رضي الله عنه: إن كانت الإقامة من الغُزاة في محاصرةٍ، أو قتال دائمٍ، فالمنصوص عليه للشافعي أنه لو أقام يرقب الفتح، وكان ذلك ممكناً في اليوم مثلاً، ويمكن استئخاره، فإنه يقصر على هذه الحالة ثمانية عشر يوماً بلياليها، قطع بذلك نصُّه.
ولو زاد المُقام على هذه المدة، فهل يقصر؟ فعلى قولين: أحدهما - لا يقصر.
والثاني - أنه يقصر أبداً ما استمرت هذه الحال.
توجيه القولين: من قال: لا يزيد، فإنما حمله على ذلك أنه صح عنده إقامةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على حربٍ في مثلها (2) ، وكان يقصر، فأثبت ما ورد،
__________
(1) "كما": بمعنى عندما.
(2) حديث قصر الرسول صلى الله عليه وسلم في الغزو، روي أنه أقام سبعة عشر. رواه ابن عباس، وروى: أنه أقام تسعة عشر يوماً، وروي أنه أقام ثمانية عشر يوماً. رواه عمران بن حصين، وروي: عشرين. قال في التهذيب: اعتمد الشافعي رواية عمران لسلامتها من الاختلاف. ورواية عمران بن حصين، أخرجها أبو داود، والترمذي، والبيهقي. وأما رواية ابن عباس بلفظ (سبعة عشر) فرواها أبو داود، وابن حبان، وروايته بلفظ (تسعة عشر) رواها أحمد والبخاري ا. هـ ملخصاً من كلام الحافظ. (ر. البخاري: تقصير الصلاة، باب =(2/433)
ولم يتهجم على الزيادة؛ فإن الرخص لا تثبت إلا بالنص. ومن قال: يزيد ما استمرت الحال، احتج بأن قال: عرفنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقصر منتظراً للفتح، فاتفق المقام في هذه المدة، والظاهر أنه لو تمادى انتظار الفتح، لكان يتمادى على سجيته، وهذا يقرب من القطعيات في مأخذ الكلام على الوقائع، وبمثله أثبتنا استرسال الأقيسة، ووجوه النظر في الوقائع من غير نهايةٍ؛ فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاسوا في مددٍ قياسَ من لا يقول ما يقول عن حصر.
فهذا قول الشافعي في الغزاة إذا عَرَّجوا (1) للقتال.
1275- فأما إذا كانت الإقامة لغرض آخر من تجارة أو غيرها، وكان صاحب الواقعة يُجوّز نجازَها في مدةٍ قريبة، ويجوّز استئخارها، كما سبق تصويره، فإنه يقصر في ثلاثة أيام، وهل يقصر إلى تمام ثمانيةَ عشرَ، كما يفعله الغازي؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه يقصر كالغازي.
والثاني - لا يقصر فيما يزيد على الثلاث؛ فإن الرخص لا يعدى بها مواضعها، وقد نُقل القصرُ ثمانيةَ عشرَ يوماً في الغزو، فهذه قاعدة النص في الموضعين.
1276- ثم خرّج الأصحاب في الغازي قولاً من التاجر: أنه لا يقصر وراء ثلاثة أيام، وخرجوا قولاً من الغازي في التاجر: أنه يقصر أبداً، وإن زاد على ثمانيةَ عشرَ يوماً، كما ذكرنا ذلك قولاً في الغازي.
فإن قيل: ما وجه تخريج منع القصر في الزيادة على الثلاث في حق الغازي؟ وقد نُقل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قصر في هذه المدة؟ قلنا: وجهه أن هذا المخرج يدَّعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتنقل من بقعة إلى بقعة، ومن قلعة إلى قلعة، ومَن سماه عاكفاً أراد به عكوفه على ذلك الشغل في تلك الناحية،
__________
= ما جاء في التقصير، ح 1080، أبو داود: الصلاة، باب متى يتم المسافر، ح 1229، 1230، الترمذي: الصلاة، باب ما جاء في التقصير في السفر، ح 545، أحمد: 1/223، البيهقي: 3/151، ابن حبان: 2739، التلخيص: 2/45 ح 607، نيل الأوطار: 3/256، نصب الراية: 2/86) .
(1) عرّجوا: أقاموا. من عرّج بالمكان: إذا أقام فيه. (المعجم) .(2/434)
وعلى هذا حمل حاملون ما روي: "أن ابن عمر أقام على القتال بأذربيجان ستة أشهر، وكان يقصر الصلاة فيها" (1) .
ثم إذا قلنا: يقصر الغازي ثمانيةَ عشرَ يوماً، أو قلنا: ذلك في التاجر، فلو نوى أن يقيم ثمانية عشر يوماً، وجزم قصده فيه، فهل يقصر؟ فعلى قولين: أحدهما - يقصر، كما لو أقام على التردد؛ فإن هذه المدة في حق هؤلاء، كثلاثة أيام في حق المسافر الذي لا شغل له، ثم لو نوى المسافر ثلاثة أيام، قصر فيها، وهذا لا يبين إلا بذكر صورة أخرى: وهي أن المحتاج إذا علم أن شغله لا ينتجز إلا في ثمانيةَ عشرَ يوماً، فهل يقصر على قولنا: إنه يقصر لو كان على ارتقاب من النجاز على القرب، أو على الاستئخار؟ فعلى قولين على هذا القول: أحدهما - أنه يقصر كما لو كان على تردد.
والثاني - لا يقصر؛ فإن المتردد لا يكون مطمئناً إلى السكون، والقاطع في الصورة الأخيرة ساكن مطمئن إلى إقامته، فيعدّ من مضاهاة المسافرين.
1277- فإذا ثبتت هذه الصورة، عدنا إلى البحث عن الصورة المذكورة قبل هذا، وهي أنه إذا جزم عزمه على الإقامة ثمانيةَ عشرَ يوماً، فنقول: إن علم أن الشغل يتمادى إلى مثل هذه المدة، فإذا جزم النية، فهو الخلاف الذي ذكرناه أخيراً. فأما إذا كان على تردد في أمره، وجزم نية الإقامة مع ذلك، فهذا في تصويره عسر؛ فإنا نقول: إن جزم على تقدير بقاء الشغل في هذه المدة، فهو لا يدري أيبقى أم لا؟ فهذا تردد وليس بجزمٍ للقصد، وإن كان معنى قصده جزمَه أن يقيم في هذه المدة قاصداً، وإن انتجز الشغل قبلها، فلا معنى لذكر الخلاف في هذه الصورة؛ فإن هذا رجل جزم نية الإقامة من غير تقدير قتال وشغل، فالوجه أن تقطع الرخص عنه قطعاً، وإن كان القتال دائماً، أو غير ذلك من الحاجات، على التفصيل المقدّم؛ فإنه لم يربط قصدَ إقامته بالشغل، بل جزمه وإن لم يكن شغل، ولا يجوز خلافُ هذا الذي ذكرناه، فهذا ما أردناه في ذلك.
__________
(1) حديث إقامة ابن عمر وقصره بأذربيجان، رواه أحمد والبيهقي بسند صحيح. قاله الحافظ (التلخيص: 2/48 ح 610) . (الفتح الرباني: 5/112 ح 1228، والسنن الكبرى: 2/152) .(2/435)
1278- فإن قيل: الثمانيةَ عشرَ في أي خبر صح؟ وكيف وجه النقل فيه؟ قلنا: هذا الذي سبب بإشكاله في النقل، وها أنا ذاكره فأقول: كنت أظن قديماً أن الإقامة التي اختلفت الرواية في مدتها كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في محاصرة خيبر، وهكذا سماعي عن شيخي، ثم تبين لي أن اختلاف الروايات في سفرةٍ أخرى، وقد روى أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمكة عشراً، وقد قدمتُ ذكرَ روايته، وقد روى عمران بن حصين أنه أقام سبعة عشر يوماً، وروى ابن عباس ثمانية عشر يوماً، وروى جابر عشرين يوماً، فاجتمع وجوهٌ من الإشكال، منها أن الأصل في هذه المدة الغزو، والظاهر أن الروايات لم تكن في غزاة؛ فإنها جرت بمكة، فوجه حل الإشكال أنه جرى من الفقهاء في هذا خبطٌ؛ من جهة أنهم لما سمعوا أنه جرى ما جرى بمكة، حملوه على سفر الحج، والذي رَووْه من رواية أنس كانت في الحج قطعاً، فأثبتوه في هذه القصة، والصحيح أن هذه المدة في الإقامة التي اختلفت الرواية فيها في عام فتح مكة؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة، أخذ يريد المسير إلى هوازن، وكانت إقامته على تدبير الحرب، فَلْيَفْهَم الفاهم ذلك.
فأما رواية أنس فغلطٌ من الناقل في هذه السفرة، فإنها كانت في الحج.
بقيت رواية عمرانَ، وابنِ عباس، وجابر، فمن أئمتنا من قال: في مدة الغازي ثلاثة أقوال مأخوذة من هذه الروايات، ومنهم من قال: المعتبر ثمانيةَ عشرَ يوماً، وما رواه جابر محمول على موافقة رواية ابن عباس، فكأنه عدَّ يوم الدخول والخروج، ورأى ابن عباس أن ينقل مدة الإقامة، وهي ثمانية عشر، ولا يتعرض ليوم الدخول والخروج، فهذا وجه التصرف في الحديث، وبيان ما وقع من ظن الفقهاء فيه (1) .
1279- وقد بقي وراء ذلك أهمُّ شيء بالاعتناء به، وهو نظام الفصل وترتيب القول فيه؛ فإنه كبر قدره وانتشرت أطرافه، فنقول: حال المسافر في التقسيم الأول ينقسم إلى مسافر لا شغل له، وإلى ذي شغل يثبطه (2) : فأما من لا شغل له يثبطه، فمدته
__________
(1) هذا التصرف من الإمام في هذه الروايات، أي الجمع بينها استحق الثناء من الحافظ ابن حجر حيث قال في التلخيص: وهو جمع متين. (التلخيص: 2/96) .
(2) ثبطه على الشيء: عوقه وبطّأ به (المعجم) .(2/436)
ثلاثة أيام، فإن زاد، فهو مقيم في حاله، لا خلاف على المذهب فيه؛ إذ لا شغل يَحْمل عليه قصدَ الإقامة، ومقام ذلك مقام عذر (1) ، وتجريد القصد في الإقامة فوق الثلاث يقطع السفرَ.
وإن كان شغلٌ، انقسم إلى ما لا يدري أنه متى ينتجز، وإلى ما يدري أنه سيتمادى: فأما ما لا يدري مدتَه، فإذا وقع التعريج (2) بسببه، والقصدُ متردد على حسب الشغل، فلا يمتنع القصر في الأيام الثلاثة وفاقاً، والزائد عليه ينقسم إلى الغزو وغيره، وقد مضى النص وتصرف الأصحاب، ونحن نحتاج اليوم إلى فَرْقَين: أحدهما - بين ما لو نوى الإقامة من غير شغل، وبين هذا، وحاصله أن الذي لا شاغل له له قصدٌ مجرد في مناقضة السفر، فلم يُحتمل ذلك في أكثر من الثلاث، والذي عنّ له شغل وُجِد في قصده ضَعْفان: أحدهما - أنه مربوط بسببٍ وعذر، والثاني - أنه مردَّد لا جزم فيه، وفيه سرّ وهو أن الأسفار لا تُعنى لأعيانها، وإنما تحتمل مقاساتها لأوطارٍ وأشغال، وقد يتفق مثل ما ذكرناه كثيراً في الأسفار.
والفرق الثاني - بين القتال وغيره من المهمات، وذلك من طريق المعنى، فنقول: أولاً [القتالُ] (3) يُثبت في الصلاة تخفيفاتٍ ورخصاً، ستأتي مشروحة في صلاة الخوف، كصلاة ذات الرقاع، وصلاة شدة الخوف، وغيرهما، مما سيأتي إن شاء الله.
والآخر (4) أن القتال ينتهي إلى مبلغ لا يجوز الانكفاف، فيسقط فيه أثر قصد الإقامة؛ فإن الشرع جازمٌ أمره بالإقامة، وسائر الحاجات قد لا تكون كذلك.
فهذا إذا كان قصد المسافر متعلقاً بشغله متردداً تردده.
__________
(1) كذا في النسخ الثلاث، وزاد الأصل شدة فوق الذال. ولعلها محرفة عن (عَدْن) من عدن بالمكان عَدْنا إذا أقام به (المعجم) . وتكون العبارة: "ومقام ذلك مقام عَدْن" أي إقامة قاطعة للسفر. والله أعلم.
(2) التعريج: الإقامة.
(3) في (ت 1) : الطريق يثبت.. إلخ، وهي ساقطة من (د 1) ، (ط) ، والمثبت تقديرٌ منا وقد صدقتنا (ل) .
(4) (والآخر) بمعنى: وثانياً، معطوفة على قوله: نقول: أولاً القتال يثبت ... إلخ.(2/437)
فأما إذا جزم قصده في الإقامة في المدة المذكورة، فهذا آخر ما يصوّر، وقد ظهر قصد الإقامة وقوي وقعه، وقد نبهت على سر ذلك وغائلتِه في أثناء الكلام.
واعلموا أن المسألة التي توشَحَها (1) أقوالٌ ضعيفة وانتشرت أطرافها، فقد يأتي بعض التفاريع على خلاف الإجماع.
وبيانه أنه ينتظم مما ذكرناه، أن التاجر الذي يعلم أن تجارته لا تنتجز إلاّ في سنة، يقيم فيها ويقصر، وهذا بعيد جداً، لا سبيل إلى المصير إليه، وهو نتيجة تفريعاتٍ على أقوال ضعيفة.
وقد نجز ما أردناه في ذلك.
فرع:
1280- إذا نوى المسافر الإقامة من غير شغل، لم يترخص، ولا فرق بين أن يجري ذلك في قرية أو في بريّة إذا كانت الإقامة ممكنة، وإن كان لو فرضت، لجرت تعذراً أو عسراً، ولو نوى الإقامة في مفازة لا يتصوّر فيها إقامة أصلاً، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا يترخص؛ لأنه قطع السفر وتعرض للهلاك.
والثاني - يترخص؛ فإن الوفاء بهذه النية غيرُ ممكن، فهي لاغية، وحكم السفر بناء على القصد الأول مستدام.
فصل
يشتمل على ثلاثة مقاصد:
1282- أحدها - دخول وقت الصلاة على المقيم في الحضر، ثم اتفاق الخروج.
والثاني - في قصر الصلاة المقضيّة، والثالث - اقتداء المسافر بالمقيم.
فأما الأول، فإذا دخل وقت الصلاة والرجل بعدُ في البلد، ثم خرج مسافراً والوقت باقٍ، وكان الباقي يسع صلاةً تامة، فظاهر النص أنه يقصر في السفر إن أراد، ونص الشافعي على أن المرأة إذا كانت طاهرة، في أول وقت الظهر، فمضى ما يسع أربع
__________
(1) في (ت 1) : تولجها.(2/438)
ركعات، ثم حاضت، فيلزمها قضاء هذه الصلاة إذا طهرت، فجعلها مدركة لصلاة الظهر بإدراك ما يسعها من أول الوقت، وقياس ذلك يقتضي أن يقال: إذا كان الرجل مقيماً حتى مضى من أول الوقت ما يسع الصلاة، فقد التزم الإتمام، ثم سافر، فلا يجوز له أن يقصر، فالتزام التمام في حقه كالتزام أصل الصلاة في حق الحائض.
فاضطرب أئمتنا: فذهب القيّاسون منهم إلى تخريج المسألة جميعاًً على قولين: أحدهما - إنَّ إدراك أول الوقت على ما ذكرناه ملزم، فالحائض تقضي، والمسافر يتم تلك الصلاة ولا يقصر، وهذا مخرّج على أصلٍ للشافعي خروجاً واضحاً؛ فإن الصلاة عنده تجب كما (1) دخل الوقت، فقد أدركا وقتَ الوجوب، وقد وجبت الصلاة عليها، ثم حاضت، ووجب الإتمام على الآخر، ثم سافر.
والقول الثاني - إنه يجوز القصر، ولا يصير المسافر في وسط الوقت ملتزماً للإتمام، والمرأة لا تقضي تلك الصلاة.
ووجهه أن الوجوب لا يضاف إلى كل ساعةٍ تسع الصلاة من ساعات الوقت المتَّسع، ولكن إذا مضى الوقت بكماله، فالوجوب مضادت إلى جميعه، فالنظر إلى الآخر، فإذا طرأ الحيض أو السفر، لم نقض بوجوب الصلاة، ولا بوجوب الإتمام.
وهذا الخلاف مأخذه من خلاف الأصحاب في أن من أخر صلاة الظهر من أول الوقت إلى وسطه، ثم مات، فهل يلقى الله عاصياً أم لا؟ وفيه خلاف، والأصح أنه لا يكون عاصياً. وفي المستطيع إذا مات ولم يحج خلاف، والأصح أنه يعصي؛ فإنا لو لم نُعصِّه، لما انتهى الحج قط إلى حقيقة الوجوب؛ فإن خاصية الوجوب أنه يعصي بتركه، والصلاة المؤقتة يتصور إفضاء الأمر فيها إلى التعصية بأن يبقى المكلّف حتى ينقضي الوقت عليه وهو غير معذور.
1283- ومن أئمتنا من أقر النصين قرارهما في الحائض والمسافر، وقال: الحائض تلتزم الصلاة بإدراك ما يسع الصلاة من أول الوقت، والمسافر لا يلتزم الإتمام
__________
(1) كما دخل: أي عندما دخل.(2/439)
إذا خرج في وسط الوقت، وحاول هذا فرقاً عظيماً ولكنه عَسِر، وحاصله أن المسافر مرّ عليه الوقت مسافراً، كما مر عليه الوقت في البلد، وإذا استمر الوقت والتكليف بالصلاة، ففرضية الصلاة لا تضاف على التخصيص إلى وقت معين. والحائض أدركت قبل الحيض وقتاً، ثم استمر المانع، فانحصر الوجوب في وقت الإمكان على التعيين، وهذا لا يتحصل إذا تأمل. والله أعلم.
1284- ولو انقضى الوقت بكماله في البلد، وجب إتمام القضاء عند أصحابنا.
وذهب المزني إلى أنه لا يجب الإتمام، وللمسافر أن يقصر الصلاة التي مرّ وقتها في الحضر، فهو ينظر إلى وقت القضاء، قائلاً: إذا كانت المؤداة تقصر، فالمقضية تقصر. وهذا مما انفرد به دون الأصحاب.
1285- ولو لم يبق من وقت الصلاة إلا ما يسع ركعة مثلاً، فخرج وهذا المقدار باقٍ، فهل يقصر أم لا؟ والتفريع على أنه يقصر لو خرج في وسط الوقت؟ فعلى وجهين بناهما الأئمة على أن الصلاة لو افتتحت هل تكون قضاء أم أداءً إذا كان المرء مستديماً للإقامة؟ وفيه خلاف قدمناه، فإن قلنا: هي مقضية، فلا تقصر، وإن سافر وقد بقي تكبيرة مثلاً، فإن قلنا: لا يقصر، وقد بقي مقدار ركعة، فهذه الصورة أولى بذلك. وإن قلنا: يقصر في الأولى، ففي هذه الصورة وجهان: وإنما رتبنا الآن الركعة، وقد يدرك بها القصر كالمسبوق يدرك ركعة من الجمعة، فإنه يصير مدركاً لها، ولو أدرك مقدار تكبيرة، لم يكن مدركاً للجمعة، والجمعة على صورة ظهرٍ مقصورة.
1286- ومما يتعلق بإتمام البيان أن المسافر لو خرج، وقد بقي مقدار ركعتين، فهو في الترتيب كما لو بقي مقدار ركعة؛ فإن الخلاف ينشأ من تردد الأصحاب في أن الصلاة في مثل هذه الصورة لو قدّر الشروع فيها، فتكون مقضية أو مؤداة؟ وهذا يجري في ركعتين وثلاث ركعات يُفرض إدراكها، ويقع شيء وراء الوقت، كما يفرض في إدراك ركعة واحدة، فإذا صارت الصلاة مقضية في حق المكلف قبل البروز، فلا سبيل إلى القصر.(2/440)
1287- وحكى شيخي أن من أصحابنا من قال: إن برز وقد بقي مقدار ركعتين، قصر؛ فإنه صادف في السفر وقت القصر، وإن كان أقل من ذلك لم يقصر، وهذا وإن كان يُخيل شيئاًً، فلا أصل له، وربما كان يجمع وجوهاً.
فنقول: من أصحابنا من شرط أن يبقى مقدارُ أربعَ ركعات إذا برز، ومنهم من لم يشترط إلا مقدارَ ركعتين، ومنهم من اكتفى بمقدار ركعة، وكان يقطع بأن إدراك أقلّ من ركعة لا يسوِّغ القصر، وبهذا قطع [بعض المصنفين] (1) . والصحيح الترتيب الذي ذكرته قبل هذا.
1288- ومما يتعلق بتمام الكلام في ذلك، أن المرأة لو كانت طاهرة في أول الوقت في مقدار ركعة مثلاً، ثم حاضت، فالمذهب أنه لا يلزمها هذه الصلاة. كما تقدم في أول هذا الكتاب. ومن يجعل المسافرَ كالحائض في إدراك أول الوقت، فلو أدرك قبل الخروج مقدار ركعة أو أقل، والتفريع على أن القصر يمتنع بإدراك مقدار أربع ركعات، فينبغي أن يمتنع بإدراك ما دونها؛ فإن طريان السفر ليس طريانَ مُناقض للصلاة وإتمامها، وطريانُ الحيض ينافي إمكان إتمام الصلاة، فهذا أحد المقاصد.
1289- فأما القول في قصر الصلاة المقضية، فنقول: أما الصلاة التي فاتت في الحضر وانقضى تمام وقتها فيه، فإذا أراد المسافر قضاءها، أتمها كما تقدم، إلاّ على مذهب المزني.
فأما إذا فاتت الصلاة في السفر وأراد قضاءها، فللمسألة ثلاث صور، إحداها - أن يقضيها في ذلك السفر بعينه.
والثانية - أن يريد قضاءها في إقامته.
والثالثة - أن تفوت في سفر، فيقيم، ثم يسافر، ويريد قضاءها في السفر الثاني.
فأما الصورة الأولى، ففي جواز القصر فيها قولان: أحدهما - أنه يقصر قياساً
__________
(1) في جميع النسخ: "قطع المصنفون" والمثبت مما جاءتنا به (ل) ، وهو الصواب المتفق مع السياق، ومع المعهود من أسلوب الإمام.(2/441)
للقضاء على الأداء، وقد فاتت في السفر وقضيت في ذلك السفر.
والثاني - لا يقصر، ورخصة القصر مخصوصة بالأداء، ولهذا لا تُقضى الجمعة إذا انقضى وقتها، والفقه فيه أن القصر لَعَلَّهُ شُرع تخفيفاً ليكون ذلك استحثاثاً على إقامة الصلاة في وقتها، مع ازدحام الأشغال، وإذا أخرجت الصلاة عن وقتها، فقد زال سبب الرخصة.
1290- فأما الصورة الثانية، فهي إذا فاتت صلاة في السفر، فأراد المرء قضاءها مقصورة في الإقامة، ففي المسألة قولان مرتبان على الصورة الأولى، وهذا أولى بامتناع القصر؛ فإن حكم الحضر يغلب حكمَ السفر، والرخصة المثبتة في السفر يبعد إقامتها في الحضر، وهي لو جازت، بمثابة تجويز الفطر في الحضر، والمسح ثلاثة أيام.
1291- والصورة الثالثة -وهي إذا تخللت إقامة- مردَّدة (1) بين الصورتين: إن رتبت على الأولى، فامتناع القصر فيها أولى، وإن رتبت على الثانية، فهي أولى بالجواز، وقد جمع أئمتنا هذه [الصور] (2) وطردوا فيها أقوالاً: أحدها - أن الفائتة لا تقصر قط.
والثاني - أنها تقصر أبداً، ولو في الإقامة.
والثالث - أنها تقصر في السفر، ولا تقصر في الإقامة، ولا يضر تخلل الإقامة بعد وقوع القضاء والفوات جميعاًً في السفر.
والرابع - أنه إذا تخللت إقامة، امتنع القصر في سفرٍ آخر أيضاً؛ لأنه كان في مدة الإقامة المتخللة مأموراً بالقضاء والإتمام، فلزم الجريان عليه، وهذا يلتفت إلى أصل في الغصوب، وهو أن من غصب عبداً قيمته مائة، ثم ارتفعت قيمته بالسوق، فصارت مائتين، ثم تلف، وجب على الغاصب المائتان؛ فإنه كان في وقت ارتفاع القيمة مخاطباً بالرد، فإذا لم يرد، التزم قيمة تلك الحال بالغة ما بلغت.
__________
(1) مردّدَّةٌ. تعرب خبراً لقوله: والصورة الثالثة.
(2) في النسخ الثلاث: "الصورة" والمثبت تقدير منا رعاية للسياق. وجاءت (ل) بمثل أخواتها.(2/442)
1292- فأما (1) تفصيل القول في اقتداء المسافر بالمقيم، وفي الفصل عقارب (2) ، فليتأنَّ الناظر فيها.
فنقول: أولاً - إذا اقتدى مسافر بمقيم، لزمه الإتمام؛ فإنه تابعٌ في صلاةٍ تامة، والأصل الإتمام.
ولو اقتدى بمقيمٍ يصلّي الظهرَ أربعاً، وقد بقيت ركعتان من صلاته، فإذا اقتدى المسافر، لزمه الإتمام، وإن كان الباقي من صلاته على صورة صلاة مقصورة؛ فإنه وإن كان كذلك، فالصلاة تامة في نفسها، فقد تابع في صلاةٍ تامة.
ولو كان المسافر يقصر الظهرَ، فصادف إماماً كان يقضي صلاة الصبح، فأراد المسافر أن يقصر مقتدياً به، بناء على أن اختلاف نية الإمام والمأموم لا يؤثر في القدوة، فإن المقتدي يُتم، فإن صلاة الصبح تامة.
[وهكذا الجواب لو كان الإمام في صلاة الصبح مسافراً؛ فإن صلاة الصبح تامة] (3)
من المسافر والمقيم، ولو اقتدى مسافرٌ بمقيم، أتم، ولو اقتدى بمسافرٍ يتم، أتم أيضاً؛ فالإمام إذن مسافر متم.
1293- ولو اقتدى مسافر دخل البلدة مجتازاً بمن يصلي الجمعة في الإقامة، ونوى المسافر الظهرَ المقصورة، ولم ينو الجمعة، فهل يصح قصرُه؟ في بعض التصانيف وجهان - أحدهما - أنه يُتم؛ لأنه خلف مقيم، وصلاة الجمعة في حقه كصلاة الصبح.
__________
(1) هذا هو المقصد الثالث والأخير من هذا الفصل.
(2) عقارب أي مسائل معقربة، ينبغي التنبيه إليها، والتأني في معالجتها، والحذر من الاستهانة بها كالعقارب.
هذا ولم أجد هذا في المظان التي ينصرف الذهن إليها، فلم أجده في حلية الفقهاء، ولا في أنيس الفقهاء، ولا في المصباح المنير، ولا تعريفات الجرجاني، ولا كليات أبي البقاء، ولا كشاف اصطلاحات الفنون، ولا المعجم الوسيط، ولا أساس البلاغة، ولا القاموس المحيط، ولا مختار الصحاح، ولا تهذيب الأسماء واللغات. مما يلفت النظر إلى ضرورة العناية باستخراج غريب ألفاظ الفقهاء في مؤلف حديث. (وقد كنا نسمع هذا التعبير من مشايخنا في أول العهد بالطلب) .
(3) زيادة من (ت 1) .(2/443)
والثاني - أنه يقصر، لأن الجمعة ظهرٌ مقصورة عند بعض الأصحاب. وتمام البيان في هذا يأتي في كتاب الجمعة عند ذكرنا نيّةَ صلاة الجمعة.
والمسألة التي ذكرنا الآن مفروضة فيه إذا لم ينوِ المسافر الجمعة، وإنما نوى قصر الظهر، كما كان ينويه كل يومٍ في سفره.
ولو نوى المقيم في الجمعة ظهراً مقصوراً، فهذا هو الذي أحلته على الجمعة، وسيأتي إن شاء الله.
1294- ولو اقتدى مسافرٌ يبغي القصرَ بمسافرٍ متم، لزمه الإتمام، ثم لو أفسد هذه الصلاة على نفسه والوقت قائمٌ بعدُ، فأراد القصرَ، لم يكن له ذلك؛ فإنه التزم الإتمام بالحالة التي جرت له، فلزمه الوفاء به.
ولو تحرم الرجل بالصلاة في البلد، ثم أفسدها على نفسه، وخرج مسافراً والوقت باقٍ، فأراد القصر، لم يكن له ذلك؛ فإنه بالشروع فيها التزم الإتمام.
ولو شرع فيها مقيماً، ثم تبين له أنه محدث، وأن صلاته لم تنعقد، فخرج مسافراً والوقت باقٍ، فإنه يقصر إن أراد؛ فإنه ما شرع في الصلاة مقيماً، بل ظن ذلك ظناً، فلم يوجد منه إلا عزْمٌ على الإقدام من غير خوض فيه على الصّحة.
وكذلك لو اقتدى مسافرٌ بمقيم، وتبين أن المسافر كان محدثاً، فله أن يقصر؛ فإنه ما خاض في الصلاة تحقيقاً.
1295- ولو اقتدى مسافر بمن ظنه مسافراً، ثم تبين له أنه مقيمٌ محدِث، وبان له الأمران معاً، فإنه يقصر الصلاة؛ فإنه ما التزم الإتمام، ولم يلزمه ذلك من جهة قدوةٍ صحيحة؛ فإنه قد تبين أن القدوة باطلة، وهذه المسألة أوردها صاحب التلخيص في كتابه، وتابعه عليها المحققون، والتعليل بيّن.
وحكى الشيخ أبو علي في الشرح وجهاً أنه يلزمه الإتمام؛ فإنه قد أقتدى بمقيم، وبان ذلك، فإن كانت صلاةُ الإمام باطلة، فصلاة المأموم صحيحة، وجنابة الإمام لا تمنع صحةَ القدوة مع الجهل، ولو منعت، لبطلت صلاة المقتدي، كما لو بان الإمام كافراً، وهذا عزاه إلى محمد، وكثيراً ما يحكي في الشرح عنه، ولست أدري(2/444)
ما (1) يعني بهذا، ولست أعدّ ذلك من المذهب.
وهذا فيه إذا ظنه مسافراً، ثم بان له أنه مقيم محدث معاً، وكذلك لو بان حدثه أولاً، ثم بان أنه مقيم، فالجواب كما سبق.
1296- ولو اقتدى بمن ظنه مقيماً، فبان أنه مسافر، فعلى المقتدي الإتمام؛ لأنه التزم الإتمام، فلزمه الوفاء بما التزمه.
ولو ظنه مقيماً كما ذكرناه، فإذا هو مسافرٌ محدث، فعلى المقتدي إتمامُ الصلاة؛ لأن خوضه في الصلاة صحيح، وقد خاض خوضاً يوجب الإتمام، فلا ينظر إلى فساد صلاة الإمام.
ولو اقتدى بمن ظنه مسافراً، فبان له في الصلاة أنه مقيم أولاً، ثم بان له بعد ذلك أنه محدث، فعليه الإتمام، وليس كما لو بانت الإقامة والحدث معاً، أو بان الحدث أولاً؛ فإنه إذا بانت الإقامة، فقد صار ملتزماً للإتمام في دوام الصلاة؛ فإنه إذا بان الحدث بعد ذلك، وصلاة المقتدي صحيحة، فلا يسقط ما لزم من حكم الإتمام ببيان الحدث. ويتنزل هذا منزلة ما لو اقتدى بمن علمه مقيماً، ثم بان أنه محدث، فعلى المقتدي الإتمام للالتزام، كما تقدم تقريره.
1297- ومما يتعلق بما نحن فيه أنه لو اقتدى مسافر بمن لا يدري أنه مقيم أو مسافر، فإن بان أنه مقيم، فلا شك أن المقتدي يلزمه الإتمام، وإن بان الإمام
__________
(1) في (ت 1) : (مَنْ) وعلى هذا يكون إمام الحرمين غيرَ عالم بمن يعنيه الشيخ في الشرح بـ (محمد) . على حين انصرف الذهن بداءة إلى محمد بن الحسن. ويكون معنى العبارة على تقدير (ما) : أن إمام الحرمين يتعجب من حكاية الشيخ أبي علي لأقوال (محمد) ضمن الوجوه والأقوال في مذهب الشافعي. والله أعلم بالصواب.
هذا وقد حكى إمام الحرمين في كتابه (الدرة المضية) قولاً للشافعي عن عيسى بن أبان بن صدقة تلميذ محمد بن الحسن، وقد ناقش أئمة المذهب قبول رواية المخالف عن إمامهم.
ورجح النووي قبولها عن عيسى بن أبان، لأنه ثقة. (ر. المجموع: 1/204، والدرة المضية: مسألة رقم: 23) . مما يرجح أن المقصود هنا ليس محمد بن الحسن، وعلى هذا تصح عبارة (ت 1) : "من". وقد حكى عن (محمد) وجهاً في باب الغسل للجمعة والخطبة، فانظر تعليقنا هناك، فبه يتم الكلام.(2/445)
مسافراً، أو كان المقتدي على تردد في ذلك ابتداء، فالذي صار إليه الأئمة أن المقتدي يلزمه الإتمام؛ فإنه شرع في الصلاة على تردّدٍ من حال الإمام، والأصل الإتمام.
وهذا يقتضي أن المسافرَ إن أراد القصر، فينبغي أن يبحث عن حال إمامه، وذلك ممكنٌ لا عسر فيه، فإذا لم يبحث، لزمه الإتمام، هكذا حكى شيخي وغيره عن نص الشافعي.
ولصاحب التقريب في هذا تردد سأذكره بعد هذا. إن شاء الله.
وإن اقتدى بمسافر، ثم بان أن الإمام متم، فعلى المقتدي الإتمام بلا شك فيه، ولو بان أنه قاصرٌ، وقد نوى المقتدي القصرَ، قصرَ. وتردُّد المقتدي في أن إمامه المسافر هل نوى القصر أم لا؟ لا يُلزمه الإتمام، وليس ذلك كتردّده في أن إمامه مقيم أو مسافر؛ وذلك لأن الاطلاع على كون الإمام مسافراً، ممكن، والبحث عنه يسير، فأما نية الإمام القصرَ أو الإتمام، فلا يتصور الاطلاع عليه (1) ، فلذلك لم يكن التردد فيه مؤثراً.
وقد حكى شيخي قولاً عن الشافعي: أن المقتدي إذا تردد في صفة إمامه، ثم بان له أنه مسافرٌ قاصر، كان له أن يقصر، كما لو تردد في أن إمامه المسافر هل نوى القصر أم لا، ثم بان أنه قاصر؛ فإنه يقصر.
فهذا نجاز الغرض من مقاصد هذا الفصل.
فصل
1298- لا يصح القصر من غير نية، وإذا تحرم المسافرُ بالصلاة مطلقاً، لزمه الإتمام، فإن أراد القصرَ، فلينوه مع التكبير، على الترتيب المقدم في وقت النية، ولو شك هل نوى القصر أم لا؟ لزمه الإتمام، ولو شك كما ذكرناه، [ثم تذكر] (2) أنه كان نوى القصر، لزمه الإتمام، ولا فرق بين أن يتذكر على القرب، وبين أن يدوم
__________
(1) كذا في النسخ الثلاث ولها وجه، فلا تحملها على الخطأ.
(2) زيادة من (ت 1) .(2/446)
الشك حتى يمضي ركن، ولو شك في أصل النية حتى مضى ركن، فقد ذكرنا أن الصلاة تبطل، ولو زال الشك قبل مُضي الركن، لم تبطل الصلاة، وقد فصلتُ ذلك في باب صفة الصلاة.
فإن قيل: ما الفرق بين طريان الشك (1 في أصل النيّة إذا زال قبل مُضي ركن، وبين الشك 1) في القصر إذا زال قبل مُضي ركن؟ قلنا: إذا شك في نية القصر، لزمه الإتمام في تلك اللحظة وإن خفَّت وقلّت، وإذا لزمه الإتمام في بعض الصلاة، لزمه في جميعها، فإنه قد اعتد بتلك اللحظة من حساب التمام، فلا يتبعض الأمر. وإن كان الشك في أصل الصلاة، فلا يعتدّ بتلك اللحظة، وهي غيرُ مفسدة (2) للصلاة، ولأنه إذا تذكر، فالباقي من الركن يحسب، وذلك الشك محطوط عنه غير معتد به.
1299- ولو اقتدى مسافرٌ بمسافرٍ، ونويا القصر، فلو نوى الإمامُ الإتمامَ، أتمّ، ولزم المقتدي الإتمامُ أيضاً، ولو قام الإمام إلى الركعة الثالثة، فظن المقتدي أنه قصد الإتمام، فعلى المقتدي الإتمامُ بهذا التردد، وهو كما لو تردد في نية نفسه. فإن قيل: كل مقتد بمسافرٍ، فهو على تردد في نيةِ إتمام إمامه، ولا يلزمه الإتمام؟ قلنا: السبب فيه أن نية الإمام مما لا يمكن الاطلاع عليه، فالتردد فيه غير ضائر، فأما إذا قام إلى الركعة الثالثة، فقد ظهر أمرٌ بيّن في الإتمام، فأثَّر التردُّدُ عند ظهور هذا الفعل، ولو رجع الإمام، وقعد، فإنه كان ساهياَّ، فعلى المأموم أن يتمادى فيتم؛ فإنا ألزمناه الإتمام.
ولو علم المقتدي أن إمامه ساهٍ، فلا يلزم المقتدي الإتمامُ بغلطِ إمامه، فلو نوى المقتدي الإتمامَ، فليتم، ولكن ليس له أن يقتدي بالإمام في سهوهِ؛ فإن ذلك الفعل ليس محسوباً للإمام، فلا يُحسب صلاةً، ولا يجوز الاقتداءُ بمن لا يُحسب له ما هو فيه صلاة.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 1) .
(2) هنا اضطراب في رأس الصفحة 418/ب حيث انتقلت بعد كلمتين اثنتين فقط إلى ص 420/أ (من نسخة ت 1) ففيها تقديم وتأخير، وتشويش نحو صفحة.(2/447)
1300- ولو اقتدى مسبوق بإمام يصلي أربعاً، وكان المسبوق أدرك ركعة مثلاً، فقام الإمام إلى الركعة الخامسة غالطاً، فلو أراد المسبوق أن يقتدي به في هذه الركعة في تلافي ما فاته، لم يجز، ولو اقتدى، بطلت صلاته؛ فإنه مقتدٍ بمن ليس في صلاة، وهو بمثابة ما لو اقتدى بمن يعلمه محدثاً أو جنباً، وتصوير هذا في القيام إلى الركعة الخامسة ظاهر؛ فإنه بيّن ولا يخفى. فأما تصوير السهو من المسافر في القيام إلى الركعة الثالثة ممكن (1) ، ولكن الاطلاع على سهوه عسرٌ، فإن تُصوِّر، فحكمه ما ذكرنا.
1301- ومما يتعلق بذلك أن من نوى القصر، ثم قام إلى الركعة الثالثة والرابعة ساهياً، فلما انتهى إلى التشهد، تذكّر ما جرى له من السهو، فليسجد للسهو في آخر الصلاة، وإن خطر له: "أني لو أتممتُ، لكان ذلك سائغاً، فقد صرفت ما فعلته إلى جهة الإتمام الآن"، فيقال: ما جرى غلطٌ، لم ينعكس بعد مُضيه إلى جهة الاحتساب، ولكن إذا نويتَ الإتمامَ، فقم وصل ركعتين، فقد لزمك الوفاء بالإتمام في المستقبل، وما تقدم منه، فهو غلط، فيصلي ركعتين أخريين ويسجد للسهو في آخر صلاته.
1302- ومما يذكر متصلاً بهذا في اجتماع حكم القصر والإتمام، أنه لو كان مقيماً في ابتداء صلاته، أو في آخر صلاته، فالحكم الإتمام، وإنما يتيسّر فرضُ هذا في السفينة، فلو كان مسافراً في ابتداء صلاته، ونوى القصر، ثم انتهت السفينة إلى موضع إقامته، وهو في الصلاة، لزمه الإتمام تغليباً لحكم الإقامة والإتمام، وهذا واضح على الأصول.
1303- ولو ابتدأ الصلاة والسفينة في حدّ الإقامة، ثم فارقتها، فالإتمام يتعين، لوقوع عقد الصلاة في الإقامة، فمهما وقع جزء من الصلاة في الإقامة، تعين الإتمام.
وهذه المسألة فيها غائلة، وقد تجري في مسائل، فلا بد من الوقوف عليها.
__________
(1) "ممكن": جواب أما بدون الفاء، كدأب إمام الحرمين.(2/448)
فأقول: من نوى القصر، ثم نوى في أثناء الصلاة الإتمامَ، أتمَّ على الصحة، وإن كانت نيةُ الإتمام طارئة، وقد يخطر للفقيه أن النية في أثناء الصلاة لا أثر لها؛ فإن موضع النية ابتداء الصلاة ولكني أقول: المسافر وإن نوى القصرَ، فالإتمام ضمن (1) نيته على أصلنا؛ فإن الأصل الإتمام، ونية القصر قصد إلى الترخص، والترخص مشعر بالتعرض للتمام، وكأنَّ تقديرَ النية فيه: إني أترخصُ، فأقصر إن لم يطرأ ما يقتضي الإتمام، فإن طرأ، فالإتمام جار على أصله.
فليفْهَم الناظر هذا فإنه لُباب الفقه.
1304- وعلى هذا أقول: إذا نوى القصرَ مسافراً، فجرت السفينةُ، وانتهت إلى حدّ الإقامة، وجب الإتمام، ولا حاجة إلى نية الإتمام، فإن الإقامةَ قطعت حكم الرخص، وإذا انقطعت الرخصة، لم يبق إلا الإتمام، والإتمام قد وقع مدرجاً تحت نية الترخص بالقصر.
ولو دام السفرُ، وقد نوى القصرَ أولاً، وأتم الصلاة صورةً، لم يعتد بما جاء به زائداً على القصر، ولكن إن كان ساهياً يسجد، وإن تعمد ولم يقصد الإتمام، بطلت صلاته؛ فإنه لا بدّ من شيءٍ قاطعٍ للترخص؛ فإنه قد نواه ابتداء، ثم لم تطرأ إقامة، ولا حالة تقطع الرخصة، وهو أيضاً لم يقطعها بنية الإتمام، فإذا أتم صورة عمداً، ولم يقطع الترخص قصداً، تناقض فعلُه وعقدُه. وإذا انتهى إلى الإقامة في أثناء الصلاة، فقد انقطعت الرخصة، وبقي حكمُ الإتمام.
وهذا غائض فقيه.
وعليه يُخرّج أنه لو اقتدى بمسافر، ونوى القصر، فأتم إمامُه، فالمسافر يتم، ولا حاجة إلى نية الإتمام، وكأن نية الترخص معلقة في أمثال هذه المسائل باشتراط دوام ما يقتضي الرخصة، وتقدير هذا يؤذن بالإتمام عند انقطاع الشرط، ثم لا يثبت للإتمام عن هذه الجهة حكمُ التعليق؛ فإن الإتمامَ هو الأصل، فليست النية فيه معلّقة.
__________
(1) هنا خلل في سياق نسخة (ت 1) . حيث بدأت صفحة 418 بكلمتين صحيحتين، ثم انتقلت إلى السطر الثاني من ص 420/أ.(2/449)
1305- ولو ابتدأ الذي في السفينة الصلاةَ، وهو في حد الإقامة، فليس في هذه الصورة كبيرُ فائدة؛ فإنه إن نوى الإتمامَ أو نوى الصلاةَ مطلقة، فتوقُّع القصرِ، وهو لم ينو القصر، لا معنى له، وإن نوى القصر وهو في حدّ الإقامة، فهو كمقيم مستقيم ينوي القصرَ. ولو نوى المقيمُ القصر في صلاة، فهذا فيه شيء، من جهة أنا مهدنا أن نية الترخص بالقصر تقتضي من طريق الضِّمْن الإتمامَ، فكان يحتمل أن يقال: بطل قصد الترخُّص، وثبت أصل التمام، ونزل هذا منزلةَ ما لو نوى مسافرٌ القصرَ خلف من حسبه مسافراً، ثم تبين أنه مقيم، فإنه يلزم المقتدي الإتمامُ، ولا تبطل صلاته، فهذا وجه.
ويظهر أن يقال: نية القصر من المقيم تُبطل صلاتَه؛ فإنه غير معذورٍ في نيته بوجهٍ، فالذي جاء به نيةٌ فاسدة، وفساد النية يتضمن فساد الصلاة.
ولست أعرف خلافاً أن الرجل لو نوى القصر على اعتقاد أنه مسافر، ثم تبين أنه كان انتهى إلى الإقامة، فيلزمه الإتمام، وصلاته صحيحة، وما ذكرته من قصد القصر في حق المقيم من غير تخيل، وهو يشبه عندي من وجهٍ بما لو نوى المتوضىء بوضوئه استباحة صلاة الظهر دون غيرها، ففي فساد النية خلاف مقدم في الطهارة، ووجه التشبيه أن رفع الحدث إذا وقع التعرض له، فإنه لا يتبعض، وإذا قصد تبعيضَه، فمن أئمتنا من أفسد النية، وقال: كأنه لم ينو أصلاً، ومنهم من حذف التخصيص من النية.
والذي يجمع بين المسألتين أنه لو نوى صلاة الظهر، لم يحتج إلى ربط القصد بأربع ركعات، بل هي ترتبط بها شرعاً، كذلك من نوى الاستباحة بوضوئه لو لم يعلق قصده بتعميم الاستباحة، صح وضوؤه وجهاً واحداً، ولو نوى استباحة الظهر، ولم ينف غيره، صح وضوؤه، وعمَّ بلا خلاف.
1306- ومما يدور في خلدي من ذلك أن المسافر لو نوى صلاة الظهر ركعتين جزماً، ولم يخطر له الترخص بالقصر، ففي نيته شيء؛ فإن صلاة الظهر أصلها الأربع، وإنما يقع الاقتصار على ركعتين ترخصاً، وهذا ما قصد الترخّص، ويظهر(2/450)
هذا التصوير في حق حديث العهد بالإسلام الذي لم يبلغه رخصةُ القصر، لو نوى صلاة الظهر في السفر ركعتين، وظن أنها كصلاة الصبح ركعتان، فهذه صورة تترتب في فكري، وها أنا أجمعُها وألقيها إلى الناظر، وليس عندي فيها نقل.
فالذي أراه أن المقيم لو نوى الظهر ركعتين جزماً، ولم ينو الترخص، فينبغي أن تبطل صلاته، ولو نوى الترخص بالقصر، فيه احتمال، ولو نوى المسافر الذي لم يعلم رخصة القصر الظهر ركعتين، فهذا فيه احتمال، ولو نوى من يعلم القصرَ الظهرَ ركعتين، ولم يتعرض للترخص، ولا لنفيها، فهذا محمول على الصحة، وهو الترخّص بعينه، وإن لم يجدّد ذكره.
وإن اعتمد نفيَ الترخص وجزمَ النية في ركعتين، فهذا فيه احتمال.
فهذا مجموع ما أردته في ذلك. والله أعلم بوجه الصواب فيه.
فصل
قال: "وإن أحرم خلف مقيم، أو خلف من لا يدري ... الفصل" (1) .
1307- قد ذكرنا فيما تقدم أن من اقتدى بمن علمه مسافراً، ولكن لم يدر أنه هل نوى القصر أم لا، ثم بان أنه كان نوى القصر، فيصح قصر المقتدي، وإن كان لو نوى الإتمام، لزمه الإتمام، فلا يضره هذا التردد، والعلة السديدة فيه أنه مما لا يمكن الاطلاع عليه، فيعذر المقتدي فيه.
وفيه دقيقة، وهي أن من الممكن أن يقال: لا يصح القصر مع الاقتداء؛ من حيث إن صلاة المقتدي تقع مترددة، وقد ذكرنا في مواضع أن التردد بين القصر والإتمام، يوجب تغليب الإتمام، ولكن لو قلنا بهذا، لجرّ ذلك سدَّ باب الجماعة في السفر، وهذا بَعيدٌ من محاسن الشريعة، والذي يحقق ذلك ويوضحه أن الشريعة أثبتت رخصةَ إقامة النافلة على الراحلة، مع استدبار القبلة، حتى لا ينقطع المسافر عن النافلة في
__________
(1) ر. المختصر: 1/135.(2/451)
سفره، فكيف يليق بهذا (1) أن يسدّ بابَ الجماعة في حق من يترخص بالقصر.
1308- ثم ذكر الصيدلاني في تعليل جواز القصر مع التردد عند الاقتداء بالمسافر وجهاً لا أرتضيه، ولكنه ربط به مسائل، فأسردها مجموعة، ثم التعويل في التعليل على ما قدمته.
قال: ظاهر حال الإمام المسافر القصر، والبناء على الظاهر صحيح، والتردد وراء ذلك غير ضائر، وجمعَ مسائلَ في أحكام النية يحسن ذكرها مجموعة: فلو كان للرجل مالٌ غائب، فأخرج دراهمَ، وقال: هذه زكاة مالي الغائب إن كان باقياً، فبان أنه باقٍ، فالنية صحيحة، والزكاة واقعة موقعها؛ من جهة أنها مستندة إلى مالٍ الأصلُ بقاؤه.
وبمثله لو قال: هذه الدراهم زكاة مالٍ، إن استفدته عن إرثٍ مثلاً، وما كان على علمٍ منه، ثم تبين أنه كان استفاد مالاً زكاتياً على ما قدَّره، فالزكاة لا تقع موقعها عليه؛ فإن النية ما كانت مستندة إلى مالٍ كائن، فالأصل عدمُ المال في المسألة الأخيرة، والأصل وجود المال في المسألة التي قبلها، والحكم في التصحيح والإفساد للأصل.
1309- ولو نوى الرجل في ليلة الشك، في أول شهر رمضان أن يصوم غداً عن الفرض إن كان من رمضان، وما كان لنيّته أصل، فبان الغدُ من رمضان، لم يصح صومه عن الفرض، ولزمه قضاء يوم، ولو كان ذلك في ليلة الثلاثين من رمضان، وكان على شك في أن الغد عيدَ أم هو من رمضان، فقال: إن كان من رمضان، فقد نويت صومَه، وكان من رمضان، فالنيّةُ صحيحة، والفرض معتد به؛ فإنها مستندة إلى أصلٍ، وهو بقاء رمضان.
1310- ولو شك المتوضىء أنه أحدث، أم لا؟ فتوضأ، ونوى رفعَ الحدث إن
__________
(1) كذا في النسخ كلها، وهي صحيحة، وجاءت بها (ل) أيضاً؛ فالمراد: هذا القائل بعدم صحة اقتداء المسافر إذا اقتدى بمن علمه مسافراً من غير أن يطلع على نيته، هل نوى القصر أو نوى الإتمام.(2/452)
كان أحدث، ثم تبين أنه كان قد أحدث، لم يرتفع الحدث بوضوئه؛ فإنَّ الأصل عدمُ الحدث، وبمثله لو استيقن الحدث، وشك هل توضأ؟ فتوضأ على التردد، ثم تبين أنه ما كان توضأ، فوضوؤه يرفع حدثه؛ فإنه بناه على أصل يقين الحدث؛ إذ كان مستيقناً للحدث شاكاً في الوضوء، وهذه المسألة حسنة.
وفي المسألة الأولى من الطهارة تردد؛ فإن أئمتنا ذكروا خلافاً في أن من نوى تجديدَ الوضوء معتقداً أنه ليس محدثاً، ثم تبين أنه محدث، فهل يرتفع حدثه أم لا؟
فظاهر المذهب أنه لا يرتفع الحدث، وعليه بنى الصيدلاني ما ذكره.
فهذه مسائل جَمَعَها وهي حسنة.
1311- ولكن قوله: الأصل في المسافر القصرُ مدخولٌ على مذهبنا؛ فإن الأصل الإتمام في حق الكافة، والصحيح في التعليل ما ذكرناه من عُسرِ الاطلاع على نية الإمام في القصر والإتمام، وقد ذكرنا أنه إذا أشكل على المسافر أن إمامه مقيم أو مسافر، فاقتدى به على الإشكال ثم بان أنه مسافر، وقد كان المقتدي نوى القصرَ على تقديره مسافراً قاصراً، فعلى المقتدي الإتمام، وإن كان إمامه مسافراً قاصراً؛ فإنه كان يمكنه أن يبحث عن حاله ويتبين أنه مسافر أم لا، وليس هذا كعُسرِ الاطلاع على نية الإمام في القصر والإتمام، والإمامُ مسافر.
1312- وقد ذكر صاحب التقريب وجهاً أنه إذا اقتدى بمن لا يدري أنه مسافر أم مقيم، ونوى القصر على هذا التقدير، ثم بان مسافراً قاصراً أنه يقصر المقتدي، وقاس هذا على ما لو كان متردداً في أن إمامه المسافر هل نوى القصر أم لا؛ فإنه يقصر، إذا بان الإمام قاصراً، وهذا وإن كان مما يمكن التعلق به، ولكن المذهب ما ذكره الأصحاب، ولست أعدّ ما ذكره من المذهب.
فرع:
1313- قال العراقيون: إذا اقتدى مسافرٌ بمسافر، وكان مسبوقاً، فأدرك ركعة من صلاته، فلما تحلل الإمام، ذكر أنه كان قاصراً، فالمقتدي يعوّل على قوله ويقصر.
وإن ذكر الإمام أنه كان متماً، فإن تحقق عنده صدقُه، فعليه أن يتم؛ فإنه اقتدى بمتم، وقد تمهد ذلك.(2/453)
وإن استراب في قوله وكان يجوز له كذبُه، فهل يلزمه الإتمام؟ فعلى وجهين: ذكروهما.
والظاهر عندي أنه يلزمه الإتمام.
ولو كان الإمام عدلاً موثوقاً به عند المقتدي، فلا يقطع بصدقه أيضاً (1) .
والذي أراه في هذه الصورة القطعُ بوجوب اعتماد قوله، ولا يشترط في ذلك اليقين؛ فإن العدل الواحد إذا أخبر عن مشاهدةٍ كطلوع شمس، أو غروبها، أو طلوع كوكبٍ عن قطرٍ معلوم، فعلى السامع أن يعتمد قوله، وهذا بيّن لا شك فيه. وصورة الوجهين فيه إذا لم يكن الإمام موثوقاً به، أو كان لا يدري حقيقة حاله بأن كان مستوراً.
فصل
قال: "وإن رعف، وخلفه مسافرون ومقيمون ... إلى آخره" (2) .
1314- إذا كان يصلي مسافر بمسافرين صلاةً مقصورة، فرعف الإمام، وكان في المقتدين به مقيم، فاستخلفه الراعف، فالمنقول عن الشافعي أن على المقتدين والراعف أن يتموا الصلاة، فأما إيجاب الإتمام على المقتدين، فبيّن؛ فإنهم مقتدون بالمستخلَف المقيم على ما سيأتي تفصيل القول في الاستخلاف، في كتاب الجمعة، إن شاء الله تعالى.
فأما إيجاب الإتمام على الراعف، فبعيد، فإنه نوى القصر أولاً، ثم لم يقتد بمقيم، وقد اختلف أصحابنا، فقال بعضهم: مسألة الشافعي فيه مفروضة فيما إذا أزال الراعف ما به من مانع، ثم عاد واقتدى بالمستخلف المقيم؛ فإذ ذاك يلزمه الإتمام، وفي كلام الشافعي ما يدل على أن التصوير هكذا، والدليل عليه أنه قال:
__________
(1) أي تكون على وجهين أيضاً. ولكن الإمام يرى أنها لا تكون على وجهين، بل عنده القطع بقوله وجهاً واحداً.
(2) ر. المختصر: 1/126.(2/454)
"فعليهم والراعف أن يتمموا؛ لأنه لم يكمل واحد منهم الصلاة، حتى كان فيها في صلاة مقيم" وهذا إنما يتحقق في الراعف إذا عاد واقتدى، ثم اقتداؤه يمكن أن يصور ابتداء على قولنا: إن من سبقه الحدث يبني على صلاته، فيرفع المانع، ويعود مقتدياً بالمقيم من غير ابتداء عقد.
وسلك بعض الأصحاب مسلكاً آخر، فقال: إذا فرّعنا على القول الجديد وقلنا: تبطل الصلاةُ، فالراعف لا يُتم إذا لم يعد مقتدياً، وإن فرعنا على القول القديم، وهو أن من سبقه الحدث لا تبطل صلاته، فعلى الراعف الإتمام، وإن لم يقتد بالمستخلَف؛ لأنه اجتمع مع مقيم في صلاة واحدة، وقد يعضد هذا بأنه المتسبب إلى تقديمه وإلزام المقتدي به الإتمام.
وهذا ضعيف لا أصل له؛ فإنه لم يقتد بمقيمٍ أصلاً، وقد نوى القصر ابتداء، ثم هذا مع ضعفه غيرُ مستقيم في نظم الأقوال قديماً وجديداً؛ فإن الاستخلاف في القديم باطل، وصلاة الراعف في الجديد باطلة، فلا يتسق هذا التفريع إذاً.
فصل
1315- قد ذكرنا أن من برز من وطنه، ثم تذكر شغلاً، فعاد إلى وطنه، ليقضيه على الفور، فلا يقْصُر في خِطة البلد الذي هو موضع إقامته.
ولو برز كما ذكرناه، ثم عزم على العود، فقد صار مقيماً على مكانه، فلا يقصر في ذلك المكان مادام فيه؛ فإنه بقَصْد الرجوع قد قطع سفره، فصار على مكانه مقيماً لا يترخص، فلا يتوقف انقطاع حكم السفر على العَوْد إلى البلد، ثم إن بدا له في العود، وأراد أن يستمر في صوب قصده، فقصدُه الثاني لا يرفع قصدَه الأول، بل يبقى حكم الإقامة حتى يفارقَ ذلك المكان، هكذا ذكره الصيدلاني، ولا وجه غيرُه.
ولو نوى الرجوع وأثبتنا له حكم الإقامة على مكانه، فإذا نهض راجعاً إلى بلده، والمسافة قريبة، فلا يقصر في طريقه، ولا يقصر في البلد، فإذا خرج من البلد، فيقصر إذا كان سفره طويلاً.(2/455)
ولو انتهى في حركته الثانية إلى ذلك المكان الذي نوى العَوْد منه، ونزله ليرحل منه، فإنه يقصر فيه؛ فإنه الآن منزل، ولم يصر ذلك المكان بما جرى فيه من القصد موضعَ إقامة، حتى يقال: مهما (1) انتهى إليه ثبت له حكم الإقامة.
1316- ولو خرج من نيسابور يطلب الرّي، فانتهى إلى نصف الطريق، فقصد الرجوعَ إلى نَيْسابور، فإنه لا يقصر على مكانه؛ فإنه قطع بالقصد الذي جدده سفرَه الأول، فصار مقيماً في مكانه، فإن فارقه راجعاً، قصر؛ فإن المسافة إلى نيسابور طويلة، وإن جدد نيّة سفرته الأولى، فلا يقصر على مكانه، فإذا جاوزه فأمَّ المقصدَ الأول، قصر؛ لأن المسافة إلى الرَّي بعيدة، ولو قصرت المسافة إلى أحد المقصدين، وبعدت إلى الثاني، مثل أن يبقى بينه وبين الرَّي أقل من مرحلتين، ونوى الرجوع، فحكم مكانه ما ذكرناه، فإن انقلب إلى نيسابور، وفارق مكانه، قصر، وإن تمادى وخرج إلى الري، لم يقصر؛ لأن المسافة قريبة، وقد انقطع بالقصد المعترض السفرة الأولى، فهو الآن في مفارقته كأنه مبتدىء سفراً جديداً، وهو قصير، فلا يقصر.
1317- ولو خرج من نيسابور يطلب مرْوَ، فلما انتهى إلى سَرَخس حوّل قصدَه إلى هراة، فقد انقطع سفره الأوّل، فليس له أن يقصر بسَرَخْس، وإن كان مقامه به مقام المسافرين، ولكن إذا جاوز سرخس متوجهاً إلى هراة، فإذ ذاك يبتدىء القصر، ولو كان يقصد نيسابور من مرو، فصرف لما انتهى إلى سرخس نيته إلى هراة، فقد قلنا: لا يقصر مادام بسرخس، فلو نقض العزم الثاني، واستمر على قصده الأول، فلا يقصر أيضاً حتى يخرج من سرخس نحو نيسابور، فإن السفر الأول قد انقطع، فلا يعود مسافراً حتى يفارق مكانه.
1318- وقد قال الشافعي: لو خرج المكي حاجاً إلى عرفة، مبرماً عزمه على أن يعود إلى مكة، ويطوف طواف الوداع، ويخرج إلى سفرة بعيدة، فلا يقصر في حجه؛ فإن هذا ليس من سفره الذي عزم عليه من مكة، وإذا عاد إلى مكة، لم يقصر
__________
(1) "مهما": هنا بمعنى (إذا) .(2/456)
مادام بها حتى يفارقها إلى جهة سفره، وهذا بيّن.
وقال رضي الله عنه: لو خرج مكي إلى جُدّة ليعود منها، ويخرج من مكة إلى سفر بعيدٍ، فلا شك أنه يقصر ذاهباً إلى جُدَّة وراجعاً منها؛ فإنه على مسيرة خمسين فرسخاً، ثم يقصر بجُدةَ أيضاً إذا كان مقامه بها مُقامَ المسافرين.
ثم إذا عاد إلى مكة وهو على ألا يمكث بها، بل يرحل كما تقدم تصويره، فهل يقصر بمكة في مقام المسافرين؟ فعلى قولين للشافعي، وهما يجريان في مثال هذه الصورة، فكل من أنشأ سفراً من قُطرٍ، وربط قصده بالانتهاء إلى قطر، وكان يقع في ممره وصوبه بلدةٌ هي وطنه ومستقره، فإذا دخلها دخول عابر، وكان لا يقيم بها إلا مُقامَ منزل، فهل يقصر في تلك البلدة، وهي وطنه؟ فعلى قولين، ولعلّ أقيسَهما أنه يقصر؛ بناء على حكم قصده في سفرته هذه.
والثاني - أنه لا يقصر؛ فإنه في محل إقامته، فينافي ذلك رخصَ المسافرين في ظاهر الحال. وهذا بعيد لا يتجه في القياس؛ فإن التعويل في أحكام السفر على ملابسة السفر والقصد، والرجل مسافر مستمر على حكم قصده، ولو كان سفره ينقطع بانتهائه إلى وطنه، للزم أن يقال: إذا برز منها، آمّاً مقصده في سفره، يكون مبتدئاً سفراً، حتى لو كانت المسافة بين بلدته وبين منتهى سفره أقل من مرحلتين، لا يقصر، كما لو نوى الإقامة، ثم أنشأ سفراً [وهذا وإن كان قياس هذا القول، فما عندي أن أحداً يجترىء على التزامه، وركوبه] (1) والله أعلم.
فهذا سَوْقُ ما ذكره الصيدلاني.
1319- وفي هذا الفصل مباحثة لا بد من تدبّرها فأقول: من خرج من وطنه مثلاً، قاصداً موضعاً، وكانت المسافة مرحلة وقد قصد أن يؤوب، ولا يقيمَ في مقصد سفره، إلا مُقامَ المسافرين، فهذا لا يقصر ذاهباً ولا جائياً، ولا في مقصد سفره، وإن كان في حكم مقصده أن يطوي مرحلة ذاهباً، ومرحلة أخرى راجعاً، وناله في ذهابه ومجيئه من المشقات ما ينال قاطعَ مرحلتين متواليتين في صوب واحد، ولكن
__________
(1) زيادة من (ت 1) . وتأمل كلمة (ركوبه) فهي من ارتكاب المجادل إلزامات مُناظره.(2/457)
من حيث إن ما يلابسه، لا يعدّ سفراً طويلاً -والرخص لا تجول فيها الأقيسة، بل الغالب فيها الاتباع- وقد رُبط القصر والفطر بالسفر الطويل = امتنعا في الذهاب والإياب، في الصورة التي ذكرناها.
1320- ولو خرج من وطنه يؤمُّ موضعاً والمسافة مرحلتان، فلا شك أنه يقصر في طريقه ذاهباً وآيباً؛ فإنه في طرفي سفره مستقبل سفراً طويلاً، وظاهر ما نقله الصيدلاني أنه يقصر في مقصده إذا كان لا يقيم بها إلا إقامة مسافر، وهذا مشكل؛ فإن سفره ينقطع على منتهى المقصد، وهو في إيابه في حكم من يبتدىء سفراً، وليس الإياب متصلاً بالذهاب في الحساب، بدليل ما قدمناه من أنه لو كانت المسافة مرحلة، ولكنها تتثنَّى بالإياب، فلا يقصر، ويجعل كأنه لابس سفرين، كل واحد منهما مرحلة، وهذا القياس يقتضي ألا يقصر في مقصد سفره أصلاً، وإن طال السفر.
والذي ذكرته ابتداءُ إشكال، وليس عندي فيه نقل أعتمده إلا ما ذكره الشيخ أبو بكر. والله أعلم.
فصل
1321- إذا خرج يقصد موضعاً وكان إليه طريقان، أحدهما مرحلتان، والأخرى أقل منهما، فإن كان سلك الأقصر، فلا شك أنه لا يقصر.
وإن سلك الأبعد، نُظر: فإن اختار الأبعد لغرضٍ ظاهر مثل أن كان في الأقصر خوف، أو توعر وحُزونة يظهر ضررُها وأثرها، فلا شك أنه يقصر إذا سلك الأبعد.
وإن لم يترجح أحد المسلكين على الآخر بغرضٍ ظاهر، فإذا آثر الأبعد، فهل يقصر؟ فيه اختلافُ نصِّ الشافعي، وقد اختلف الأئمة، فمنهم من جعل المسألة على قولين: أحدهما - أنه يقصر، لملابسته سفراً طويلاً لا معصية فيه.
والثاني - لا يقصر؛ فإنه ليس له إرْب بَيّنٌ ظاهر في التزام زيادة المسافة، فهو في حكم من يتعب نفسَه ودابتَه بلا فائدة، وقد أجمع أئمتنا على أن مسافة سفره لو كانت مرحلة واحدة، ولكن كان يذهب يمنة ويسرة، ويتمايل عرضاً وطولاً بحيث تصير(2/458)