نهاية المطلب
في دراية المذهب
لإمام الحرمين
عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني
رحمه الله تعالى
(419-478 هـ)
حققه وصنع فهارسه
أ. د/ عبد العظيم محمود الدّيب
دار المنهاج(المقدمة/1)
الطبعة الأولى
1428هـ-2007م
جميع الحقوق محفوظة للناشر
دار المنهاج للنشر والتوزيع
لصاحبها عمر سالم باجْخَيفْ
وفقه الله تعالى
المملكة العربية السعودية - جدة
حي الكندرة- شارع أبها تقاطع شارع ابن زيدون
هاتف رئيسي 6326666 - الإدارة 6300655
المكتبة 6322471 - فاكس 6320392
ص. ب 22943 - جدة 21416
لايسمح بإعادة نشر هذا الكتاب أو أي جزء منه، وبأي شكل من الأشكال، أو نسخه، أو حفظه في أي نظام إلكتروني أو ميكانيكي يمكِّن من استرجاع الكتاب أو أي جزء منه، وكذلك لا يسمح بالاقتباس منه أو ترجمته إلى أي لغة أخرى دون الحصول على إذن خطي مسبقاً من الناشر
__________
ISBN 978-9953-498-07-2
WWW. Alminhaj.com
E-mail: info@alminhaj.com(المقدمة/2)
نهاية المطلب
في درَايةَ المذَهَب(المقدمة/3)
تنبيهان
أولاً:
هذا الكتاب بينك وبينه ألف عام تقريباً، فإذا رأيت من ظواهر اللغة والأساليب غير مألوفك ومعهودك، فلا تحاول أن تحمل لغته على لغتك، ولا تسارع بحمل ذلك على الخطأ وسهو المحقق وتقصيره، فهذه هي لغة عصرهم، وهذا أسلوبهم، وهو صحيح سليم، وإن لم يعد مألوفاً لدينا ومستعملاً عندنا ولا جارياً على ألسنتنا.
ثانياً:
إبراء للذمة، وخروجاً عن العهدة ننبه:
أن برنامج الصف استحال عليه كتابة الهمزة المتطرفة المكسور ما قبلها على الياء، مثل قارئ، يجزئ، فتنبه لذلك.(/)
الفقه صعب مرامه، شديد مراسه، لا يعطي مقاده لكل أحد ولا ينساق لكل طالب، ولا يلين في كل يد، بل لا يلين إلا لمن أيد بنور الله في بصره وبصيرته، ولطف منه في عقيدته وسريرته.
الإمام أبو المظفر السمعاني
المتوفي سنة 489هـ(/)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
(رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)
(البقرة: 127)
(رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا)
(الكهف: 10)
(رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)
(آل عمران: 8)(المقدمة/4)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ للهِ الذي وفَّقَ منِ اجتباهُ منْ عبادِهِ للتَّفقُّهِ في الدِّينِ، ونوَّهَ بذلكَ في الذِّكرِ الحكيمِ بقولهِ سبحانَهُ وتعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]
والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ سيدِ الأوَّلينَ والآخِرينَ، القائلِ: "خيارُكُمْ في الجاهليَّةِ خيارُكُمْ في الإسلامِ إذا فَقُهُوا" (1) .
أمَّا بعدُ:
فبينَ أيدي العلماءِ من تراثِ الفقهاء ما لَو جمعوا كنوزَهُ، ونقَّدُوا جوهرَهُ.. لزانُوا جِيدَ اَلمجتمعِ اَلإنسانيَّ بعِقْدٍ ثمينٍ.
وهذِهِ السَّماتُ تنطبقُ تماماً على هذا الكتابِ الموسوعيِّ "نهاية المطلب" للإمامِ اَلعظيمِ إمامِ الحرمينِ الجوينيِّ، الذِّي يعدُّ من أعظمِ كتبِ الشَّافعيَّةِ القديمةِ، ومنْ أثبتِ المراجعِ في نسبةِ المذهبِ للإمامِ الشَّافعي
فهذا الميراثُ الأصيلُ الذِّي يخرجُ إلى فضاءِ الطِّباعةِ الرَّحيبِ لأوَّلِ مرَّةٍ، بعدَ ما يقاربُ الألفَ سنةٍ على تأليفِهِ.. لَيؤكِّدُ معنى الخيريَّةِ المتجدِّدَةِ في هذه الأمَّةِ التي لا تختصُّ بزمنٍ دونَ آخرَ، بلْ لا زالتْ مسيرةُ استخراجِ الكنوزِ قائمةً على قدمٍ وساقٍ في كل عصرٍ ومصرٍ.
__________
(1) "البخاري" (3494) ، ومسلم (2526) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(المقدمة/5)
كلمة الناشر
وقدْ قيَّضَ اللهُ لهذا التُّراثِ العظيمِ عَلَماً منْ أعلامِ العصرِ، وهو متمرِّسٌ في إخراجِ الكنوزِ العلميَّةِ في حللِ التَّحقيقِ ترفلُ، وهو الشَّيخُ العلاَّمةُ الدُّكتورُ عبدُ العظيمِ الدِّيبُ.
وممَّا زادَ الكتابَ رفعةً وإشراقاً هو ما حلاَّهُ بِهِ من تحقيقاتٍ سنيَّةٍ، وتعليقاتٍ علميَّةٍ، فكانت نهايةً في الإتقانِ، وغايةً في الإحسانِ.
وكيفَ لا يكونُ الحالُ كذلِكَ وقدِ استغرقَ المحقَّقُ في هذا العملِ المباركِ زُهاءَ خمسةٍ وعشرينَ عاماً؟!
فكان بهذا قد أنفقَ أنفسَ أوقاتِهِ خدمةً لتراثِ إمامِ الحرمينِ؛ ليزفَّهُ إلى الهداةِ المتفقِّهَةِ مجلوّاً لا لبْسَ فيه ولا إبهامَ.
وإنّا لنأمُلُ أنَ يكون هذا العملُ نموذجاً للتحقيقاتِ العلميَّةِ الأصيلةِ لذلك التُّراثِ النائمِ في الأدراجِ والمكتباتِ، وهذا ديدنُ دارِنا منذُ تأسيسِها وللهِ الحمدُ والمنَّةُ.
كما نتوجَّهُ إلى اللهِ سبحانَهُ وتعالى بالدعاءِ الضّارِعِ أن ينفعَ بهذا العملِ الإسلامَ والمسلمينَ في مشارقِ الأرضِ ومغارِبِها، وأن يحيَ بِهِ العلمَ وأهلَهُ؛ إنَّهُ سميع مجيبٌ.
ودارُ المنهاجِ إذْ تخرجُ " نهايةَ المطلبِ " في (21 مجلداً) وهو الكتابُ المحاوي العظيمُ.. لا تقفُ عندَ هذا الحدِّ، بل سيتلوهُ بإذنِ اللهِ تعالى وتوفيقِهِ الكثيرُ الطَّيّبُ، وَفْقَ المنهجِ الَّذي يسيرُ في اتِّجاهينِ:
أوَّلهُما: طباعةُ القديمِ الَّذي لم يُسبَقْ طبعُهُ ونشرُهُ؛ ككتابِ " الخلاصةِ " لحجَّةِ الإسلامِ أبي حامدٍ الغزاليِّ رحمهُ الله" (1) .
__________
(1) وقد صدر كتاب "الخلاصة" حديثاً في مجلد ضخم عن دارنا.(المقدمة/6)
وثانيهِما: المطبوعُ المنشورُ الَّذي اعتراهُ الخللُ وغيَّرتْهُ العِللُ، رغمَ أهمِّيَّتِهِ ونفاستِهِ؛ ككتابِ " كفايةِ الأخيارِ " (1) .
ونحنُ نَهيبُ في هذه العُجالةِ بأولى الأقلامِ اللاَّمعةِ والأفكارِ المتخصِّصَةِ أن تُمِدَّنا بِرُؤاها حولَ منشوراتِنا ما دامَ ذلكَ يخدُمُ الأمَّةَ الإسلاميَّةَ، ويرتقي بالكتابِ إلى قمَّةِ الإتقانِ، ونحنُ على استعدادٍ لتقبُّلِ ما فيهِ الصَّلاحُ والنَّجاحُ.
واللهَ تعالى أسألُ أنْ يسلُكَ بنا مسلكَ الصَّالحينَ، ويدفعَ عنَّا كيدَ الحاسدينَ، ويوفِّقَنا لِما فيهِ رضاهُ. آمينَ
وأخيراً نشكرُ كلَّ من ساهمَ وأعانَ في إخراجِ هذا الكتابِ المباركِ، في كلِّ مرحلةٍ من مراحلِ العملِ، ونقولُ لهمْ جميعاً: (جزاكمُ اللهُ عنَّا وعنِ الأمَّةِ الإسلاميَّةِ خيرَ الجزاءِ، وأجزلَ لكُمُ المثوبةَ والعطاءَ، ومنحنا جميعاً التَّوفيقَ والسَّدادَ) .
اللَّهُمَّ؛ ارزقْنا الإخلاصَ في القولِ والعملِ، وحُسْنَ الختامِ عندَ انتهاءِ الأجلِ. والحمدُ للهِ الَّذي بنعمتِهِ تتمُّ الصَّالحاتُ، وصلَّى اللهُ على سيِّدنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلَّمَ.
الناشِر
أبو سعيد/عمر سالم سعيد باجخيف
حُرِّر في جدَّة (19) ربيع الآخر (1428هـ)
__________
(1) انظر مقدمتنا لـ "كفاية الأخيار" لتعرت مدى التصحيف الذي خامر هذا الكتاب.(المقدمة/7)
شكر وامتنان
أتوجه شاكراً لكادرنا العلمي والمهني
الذي كان يعمل خلف للأضواء باجتهاد ودأب
حثيثَين نحواً من أربع سنوات متتالية دون فتور أو مَلَلٍ في خدمة هذه الموسوعة الفقهية "نهاية المطلب" وإلى الله تعالى أتوجه أن ينفع بهذا الكتاب المسلمين أينما كانوا وأن يثيب كل من ساعد في إخراجه خير ما يجزى الصالحين.
وكتَبَهُ
محمد غسّان نصوح عزقول
المشرفُ على أعمالِ البُحوثِ والنشرِ
بمركز دار المنهاج للدراسات والتحقيق العلمي(المقدمة/8)
قالوا عن الإمام
الفِقهُ فِقهُ الشَّافِعيِّ، وَالأَدبُ أَدَبُ الأَصْمَعيِّ، وَحسن بَصرِه
بالوَعْظِ للِحَسَنِ البصرِيِّ، وكيفما كان فهو إمام كل إمام ...
ولولاه لأصبح مذهب الحديث حديثاً.
الباخرزي في دمية القصر
التبييْن لابن عَسَاكر
وظني أن آثار جده واجتهاده في دين الله يدوم إلى يوم الساعة، وإن انقطع نسله من جهة الذكور ظاهراً، فنشر علمه يقوم مقام كل نَسَبٍ، ويغنيه عن كُلِّ نَسَبٍ مُكتَسَبٍ.
التبييْن للحافظ ابن عساكر
عن عبد الغافر الفارسي المتوفي سنة 529هـ
ولا يشك ذو خبرةٍ أن إمام الحرمين كان أعلم أهل الأرض بالكلام والأصول والفقه، وأكثرهم تحقيقاً، بل الكُلُّ مِنْ بحرِهِ يغترفون، وأن الوجود ما أخرج بعدَهُ لَهُ نظيراً.
تاج الدين السبكي
المتوفي سنة 771هـ
__________
* مذهب الحديث: مذهب الشافعية.(المقدمة/9)
قالوا عن "نهاية المطلب"
استفاض بين الأصحاب وأئمة المذهب قولهم: "منذ صنَّف الإمام (نهاية المطلب) لم يشتغل الناس إلا بكلام الإمام"
ابن حجر الهيثمي المتوفي سنة 973هـ
المذهب الكبير
المسمى بنهاية المطلب في دراية المذهب
ما صنف في الإسلام قبله مثله
التبييْن للحافظ ابن عساكر
نقلاً عن عبد الغافر الفارسي المتوفي سنة 529هـ
النهاية في الفقه
لم يصنف في المذهب مثلها فيما أجزم به
تاج الدين السبكي
المتوفي سنة 771هـ(المقدمة/10)
إهداء
أهدى هذا العمل الذي هو نتيجة عمري، وثمرة دهري.
إلى رجال لم أرهم بعيني، ولكن ألمحهم بخاطري.
رجال يملأ قلوبهم الإيمان، ويعمر صدورهم القرآن، ويرفع رؤوسهم للإسلام.
رجال في قلوبهم نور، وفي وجوههم نور، وفي صدورهم عزم وتصميم، رجال بأيديهم معاول ومناجل، معاول ترك صروح الظلم والطغيان، ومناجل تجتث جذور الشر والفساد.
رجال سيرفعون رأس هذه الأمة، ويطهرون ديارهم من جحافل التتار الجدد وحفدة أوربان الثاني، وفردريك، وريتشارد، ولويس التاسع.
رجال سيردون لهذه الأمة مجدها وعزها، ويعيدونها إلى كتاب ربها وسنة نبيها حتى تأخذ مقعدها في قيادة البشرية وإنقاذ الإنسانية.
إلى هؤلاء الرجال هديتي
عبد العظيم(المقدمة/11)
يقولون لي فيك انقباض وإنما ... رأوا رجلاً عن موقف الذُّلِّ أحْجَما
ولم أقض حق العلم إن كان كلما ... بدا طمع صيَّرته لي سلما
إذا قيل: هذا منهل. قلت: قد أرى ... ولكن نفس الحرِّ تحتمل الظما
القاضي الجرجاني، صاحب الوساطة
والمتوفي سنة 392هـ
عاب التفقه قوم لا عقول لهم ... وما عليه إذا عابوه من ضرر
ما ضر شمس الضحى والشمس طالعة ... ألا يرى ضوءها من ليس ذا بصر
الإمام أبو الحسن التميمي، منصور بن إسماعيل
المتوفي سنة 306هـ(المقدمة/12)
دعوة واقتداء
وإني -على نهجي الذي انتهجت منذ أول كتاب نشرت- أدعو النقاد إلى إظهاري على أوهامي فيها، وتبيين ما دق عن فهمي من معانيها، أو ندَّ عن نظري من مبانيها؛ وفاءً بحق العلم عليهم، وأداءً لحق النصيحة فيه، لأبلغ بالكتاب فيما يستأنف من الزمان، أمثل ما أستطيع من الصحة والإتقان.
والنشر فنٌ خفيّ المسالك، عظيم المزالق، جمّ المصاعب، كثير المضايق، وشواغل الفكر فيه متواترة، ومتاعب البال وافرة، ومُبهظات العقل غامرة، وجهود الفرد في مضماره قاصرة؛ يؤودها حفظ الصواب في سائر نصوص الكتاب؛ ويُعجزها ضبط شوارد الأخطاء، ورجعها جميعاً إلى أصلها؛ فيأتي الناقد وهو موفور الجمام فيقصد قصدها، ويسهل عليه قنصها.
ومن أجل ذلك قلت -وما أزال أقول-: إنه يجب على كل قارئ للكتب القديمة أن يعاون ناشريها بذكر ما يراه فيها من أخطاء؛ لتخلص من شوائب التحريف والتصحيف الذي منيت به، وتخرج للناس صحيحةً كاملةً.
والله ولي التوفيق
من كلمات العلامة المحقق
السيد أحمد صقر
رحمه الله(المقدمة/13)
شكر واجب
" من لم يشكر الناس لم يشكر الله ". (رواه الترمذي وحسَّنه)
أجده حقّاً واجباً ودَيْناً في عنقي أن أقدم الشكر لشيوخٍ كبارٍ، وأساتذةٍ أجلاء إخوة كرام، وأبناء بررة وتلامذة مخلصين.
أشكر شيخي العلامة أبا فهر محمد محمود شاكر؛ فقد كان كلما تذاكرنا في مجلسه أمر (نهاية المطلب) يُعلي من شأن الكتاب، ومكانته، وأهمية الاشتغال به، وأن نصوص التراث ليست سواء، ويُعْظم إخرات هذا الكتاب، مما كان يشد من أزري، ويقوِّي من عزمي، وما أكثر ما أفدتُ من علمه وتوجيهه، رحمه الله وأجزل مثوبته.
وأشكر أخي وصديقي العلامة محمود محمد الطناحي، فقد كان حفياً بهذا الكتاب، ونوه به في كتابه الفذ (مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي) وحمَّلني أمانة نشره كما شاركني في معاناة بعض نصوصه وغوامضه. رحمه الله ونور ضريحه.
وأشكر علامة القراءات والنحو الشيخ عنتر حشاد، رحمه الله، والأستاذ محمد محمد مقلد خبير اللغة العربية، والأخ الدكتور علي أحمد الكبيسي الأستاذ بجامعة قطر، والأخ الدكتور خالد فهمي الأستاذ بجامعة المنوفية، فقد بذلوا جميعاً من وقتهم وجهدهم الكثير في البحث والمناقشة حول بعض ما كنا نلقاه من غرائب اللغة والأساليب.
كما أشكر كلَّ من أعاننا ويسر لنا السبيل للحصول على صور المخطوطات:
أشكر الأخ الصديق الصدوق علامة عصرنا فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي الذي ذلل لنا الكثير من العقبات.
وأشكر الأخ العربي التركي الدكتور أكمل الدين إحسان أوغلو على ما قدم لنا من عونٍ في هذا المجال، فلولا الأخ التركي المتعرب مصطفى شاهدي خبير المكتبات، الذي كلفه بمرافقتنا -أثناء رحلتنا إلى استانبول- ما استطعنا أن نصل إلى شيء مما وصلنا إليه؛ فبخبرته ومهارته فَلَيْنا مكتبات استانبول فلياً، فجزاه الله عنا خير الجزاء، وأعان الله الدكتور أكمل على ما تطوّقه أخيراً من حمل أمانة منظمة المؤتمر الإسلامي.(المقدمة/14)
كما أشكر الأستاذ الدكتور كمال عرفات المدير العام الأسبق لمؤسسة الفرقان للتراث
الإسلامي بلندن.
والشكر أيضاً لأبنائي البررة وتلامذتي النجباء: الدكتور إبراهيم عبد الله الأنصاري المدرس
بكلية الشريعة بجامعة قطر، والدكتور -قريباً- محمد المصلح المدرس المساعد بكلية الشريعة
بجامعة قطر، والمهندس عبد الله النعمة مدير جمعية قطر الخيرية؟ فقد كنت أفكر في إقامة
حفلٍ بمناسبة الانتهاء من العمل في تحقيق الكتاب، اقتداءً بسنة السلف الصالح، وإحياء
لنهجهم، فقد ذكروا أن إمام الحرمين لما انتهى من تأليف (نهاية المطلب) عقد مجلساً
للاستبشار والتهنئة احتفالاً بإتمامه، وبذلك مضت سنة الأئمة وعلماء الأمة، فقد قيل في
وصف احتفال ابن حجر العسقلاني بالانتهاء من كتابه (فتح الباري) ، قالوا في وصف الحفل
وكثرة الحضور: "ومنهم من حضر ولم يسمع".
نعم، كنت أفكر في شيء من ذلك، من باب التأسي والاقتداء، وإحياء سنن الأولين،
ومن باب " فتشبّهوا ". وما إن علم أبنائي الكرام هؤلاء، حتى سبقوني وأعدوا العدة،
ونظموا، ورتبوا لحفل ضخم ما كان يدور بخلدي أن أصنع مثله، كما تولى الدكتور إبراهيم
الأنصاري تقديم المتحدثين بالحفل، وألقى الدكتور محمد المصلح كلمة الأبناء والطلاب
خلع علينا فيها من فواضل أدبه ما لا نستحق، مما يجعلني أشعر فعلاً بعجز الكلمات عن الوفاء
بحقهم.
كما يجب علي أن أشكر كلَّ العلماء والزملاء، والإخوة والأبناء الذين أجابوا الدعوة
وشرّفوا الحفل، وإن كان جمعهم الكريم يستعصي على الحصر والذكر، فلا يفوتني أن أسمي
هؤلاء الأعلام الكبار الذين كانوا زينة حفلنا، وهم علامة العصر الأخ الكريم الشيخ يوسف
القرضاوي والعلامة الحبيب بلخوجة الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي، والأستاذ الدكتور
الشيخ خالد المذكور رئيس لجنة استكمال تطبيق الشريعة بالكويت، هؤلاء الكرام كانوا
المتحدثين في الحفل، فطوّقوا جيدنا بدُررٍ ولآلئ من طيب نفوسهم وعالي أدبهم، فأنى
أطيق شكرهم، وأوفي حقهم؛ أسأل الله سبحانه أن يجزيهم عني خير الجزاء.
وأخص بالشكر أيضاً العلامة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي مفتي سلطنة عُمان، والشيخ
عبد الرحمن شيبان وزير الأوقاف الأسبق بالجزائر، ورئيس جمعية العلماء بها الآن، وعلامة
الشام فضيلة الشيخ الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور، والأستاذ الدكتور إبراهيم
صالح النعيمي مدير جامعة قطر الأسبق.(المقدمة/15)
أما فضيلة الشيخ عبد السلام البسيوني الداعية الأديب الناثر الشاعر، اللغوي، الإعلامي، فقد أتحفنا بقصيدة عصماء من روائع شعره، بثنا فيها خالص حبه، وصادق تقديره، وأفاض علينا من حسن أدبه وجمال خلقه، فأدعو الله سبحانه أن يجزيه عني خير الجزاء، وأن يثيبه على ما يبذله من نفسه وجهده في سبيل الدعوة ليل نهار أسال الله أن يتقبل منا ومنه، وأن يجعل جهده الخارق، وعمله الدائب في ميزانه، يوم العرض على الخبير البصير، إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه.
كما أشكر كلَّ من احتفى بهذا الكتاب وعرف قدره، وكان حريصاًَ على نشره، أشكر الأخ الأستاذ الدكتور عبد الغفار الشريف الأستاذ بكلية الشريعة بجامعة الكويت الذي كان يودّ أن يكون هذا الكتاب من منشورات إدارة التراث بوزارة الأوقاف الكويتية.
أشكر الأستاذ الدكتور إبراهيم صالح النعيمي مدير جامعة قطر، ذلك الرجل الذي عرف قدر هذا الكتاب -مع بعده في تخصصه- وكان حريصاً كل الحرص أن يكون هذا الكتاب من مطبوعات جامعة قطر، وفعلاً ذلّل كل الصعاب، وتخطى كلَّ القيود، ودارت المطبعة حتى انتهت من صف الجزء الأول والثاني، ولكن قدر الله وما شاء فعل.
أشكر الأخ الأستاذ الدكتور أحمد نور سيف مدير دار البحوث في دبي، فقد كان أيضا حفياً بالكتاب حريصاً على أن يخرج من دار البحوث للدراسات الإسلامية ونشر التراث كما أشكر معالي الشيخ أحمد زكي يماني صاحب مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي بلندن، على ما كان من حفاوته واهتمامه.
أما الشيخ الجليل الشيخ بكر أبو زيد رئيس المجمع الفقهي، فقد كان يتمنى أن يكون هذا الكتاب من مطبوعات المجمع، وقد قال لي بالحرف الواحد -وهو يشد على يدي-: " أريد أن أُعلن في الجلسة الختامية أن المجمع سيطبع كتاب (نهاية المطلب) "، قال لي هذا مرتين في يومين متتاليين عندما كان المجمع يعقد دورتَه الرابعة عشرة في الدوحة.
أشكر كل هؤلاء الكرام وأسال الله أن يجزيهم عني خير الجزاء، أما الذين لم تسعفنا الذاكرة أسماءهم الآن -وهم كثر- فأسألهم الصفح والعفو، وهم لذلك أهل، واللهَ الكريمَ أسأل أن يتولانا جميعاً بعفوه ولطفه ورحمته، وهو نعم المولى ونعم النصير.
عبد العظيم(المقدمة/16)
خطبة الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
باسم الله وحده ولا شيء معه دائماً وأبداً، ونحمده سبحانه وتعالى، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وعليك توكلنا، وإليك أنبنا، وإليك المصير، اللهم إنا نعوذ بك من الخطأ والخطل، والخلل والزلل، وسيئ القول والعمل، ونصلي ونسلّم على صفوتك من خلقك وخاتم رسلك سيدنا محمد النبي الأمي، اللهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته، واهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد
فهذا مقام الشكر، مقام الحمد، مقام الثناء على الله بما أنعم فأوفى، فالحمد لله.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) } [الفاتحة: 2 - 4] .
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1] .
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43] .
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الإسراء: 111] .
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} [الكهف: 1] .
{الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59] .
{الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 70] .(المقدمة/17)
{وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 18] .
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سبأ: 1] .
{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا} [فاطر: 1] .
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر: 34] .
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} [الزمر: 74] .
{فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الجاثية: 36] .
{وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التغابن: 1] .
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، يا ربّ لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك.
***
من مأثور الدعاء وموجزه: " ربِّ أنعمت، فزِدْ ". ولكني أقول: ربِّ أنعمت، فأعني على شكرك وذكرك، وحسن عبادتك، {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} [النمل: 19] .
لم يبق لي إلا أن أحمد وأشكر، فقد كان إتمام هذا الكتاب غايةَ مناي ومنتهى أملي، وكم تضرعت إليه سبحانه مناجياً في ظلمة الليل البهيم: " اللهم أني أسالك أن تَنْسَأ في الأجل حتى أُتم هذا العمل " فالحمد لله أجاب سُؤْلي، وحقق أملي، وأمدني بحوله وقوته، فقد كنت دائما أبرأ إليه سبحانه من حولي وقوتي، وألوذ بحوله وقوته، فوهبني، ولم يمنعني، وأعطاني ولم يحرمني، وشد من أزري، وسدد خطاي، حتى وصلت بهذا العمل إلى نهايته، وسرت به إلى غايته، فلم يبق لي من سؤال إلا أن أسأله سبحانه أن يعينني على أداء حق الحمد والشكر، فلو عشت ما بقي من أيامي ساجداً مسبحاً حامداً، ما وفّيت نِعَمَه سبحانه.
وما بقي إلا أن أسأله سبحانه أن ينعم علينا بحسن الخاتمة، وأن يجعل خيرَ أعمالنا خواتيمها، وأن يجعل خير أيامنا يوم لقائه.(المقدمة/18)
صحبتي لإمام الحرمين:
هذا الكتاب ثمرة صحبة طويلة لإمام الحرمين، أَرْبت هذه الصحبة على الأربعين عاماً، وهذه الصحبة لم تكن عن اختيار مني أو تدبير، بل العكس هو الصحيح، فقد كنت أُقدِّر لدراساتي وحياتي العلمية طريقاً غير هذا الطريق، ومَيْداناً غيرَ هذا الميدان، وفعلاً قدرتُ ودبرتُ، واخترتُ موضوعَ رسالتي للماجستير.
وبينا أنا في منزل أستاذي الدكتور مصطفى زيد أعرض عليه خُطة الموضوع، وكان به مُرحِّباً، إذ دق جرس الهاتف وأخذ أستاذي الدكتور مصطفى في محادثةٍ طويلة، عرفتُ منها أن الذي على الطرف الآخر هو أستاذُ أستاذي الشيخ محمد أبو زهرة، ولما طالت المحادثة، ووجد أستاذي أنه قد شُغل عن ضيفه كثيراً، أراد أن يجاملني، فقال للشيخ أبو زهرة: عندي فلان، وهو يقرئك السلام، ثم أردف: هنِّئه، غداً سنعرض موضوعَ رسالته على القِسْم، فسأل الشيخُ أبو زهرة عن الموضوع، وما إن أجابه الدكتور مصطفى حتى احتدَّ الشيخ أبو زهرة، وفهمت أنه يرفض الموضوع (1) ، والدكتور مصطفى يدافع، ويقول: اطمئن يا أستاذنا، عبد العظيم من أولادنا، لا تخف، أنا أضمنه، إنه من المتحنثين [وكنت أسمع هذه الجملة أول مرة تجري في حديثٍ بين شخصين وعهدي بها أنها من ألفاظ الكتب والمعاجم] .
ثم انتهت المكالمة. وراح الدكتور مصطفى في صمت، ولم يُقبل على ما كنا فيه من مراجعة خُطة الموضوع، ولما رأى في عيني التساؤلَ، قال: انتهى الأمر، نبحث عن موضوع آخر، وأُسقط في يدي، وظهر علي الضيق والألم، بل والغضب المتمرد، فقال الدكتور مصطفى مجيباً عن كل التساؤلات التي تمور بداخلي: أنا لا أستطيع أن أخالف أمر الشيخ أبو زهرة. ثم أجاب عن عدة أسئلة لم أتفوَّه بها: هو
__________
(1) كان الموضوع عن الربا وصوره في بعض المعاملات المعاصرة، وكان المدُّ الاشتراكي في عنفوانه، فخشي الشيخ أبو زهرة من الوقوع تحت ضغط الواقع وتبريره، وكان ذلك شائعاً، وكلٌّ يحاول إلباس التأميم والمصادرة عمامة الإسلام، فمن هنا جاء رفض الشيخ رحمه الله وبرّد مضجعه.(المقدمة/19)
رئيس قسم وأنا رئيس قسم صحيح لكنه أستاذي، هو في كلية وأنا في كلية أخرى، ولكنه أستاذي، هو لا يملك أن يمنعني من التصرف ولكنه أستاذي.
ثم قال مجاملاً: والله يا عبد العظيم أنا أكثر ألماً منك، ثم تمتم: ليتني ما ذكرت له الموضوع، وفعلاً هزتني هذه الكلمات، وبدأ الغضب الثائر في داخلي ينزاح ويترك مكانه هدوءاً وبرداً وأمناً.
وهنا التمع وجه الدكتور مصطفى قائلاً: اسمع يا عبد العظيم لعل الله أراد بهذا لك خيراً. بل هو بالقطع كل الخير. لن نُضيّع وقتاً، سنتخذ طريقاً آخر، بعيداً تماماً عن هذا الطريق. تذكرُ كتابَ " البرهان في أصول الفقه ". تذْكرُه لا شك. أنت نسختَ لي منه صفحات منذ مدة بعيدة. ما رأيك أن تكون رسالتك تحقيق البرهان؟ وقبل أن أجيب أردف قائلاً: تَذْكُر المقابلات بين نُسخ المخطوطات التي قمتَ بها معاونةً لنا حينما كنّا نحقق كتاب " السِّير الكبير بشرح السرخسي " (1) . سيكون العمل ممتعاً لك.
ستتعلم شيئاً جديداً. ستدخل ميداناً رحباً فسيحاً. كل ذلك وأنا في صمتٍ متأمل.
فقال: لماذا لا تتكلم؟ ما رأيك؟ وقبل أن أجيب قال: اعتمد على الله. على بركة الله. الموضوع موضوعي. وعليّ إجازته من مجلس القسم، ابدأ اليوم، فكِّر في خُطة الموضوع والمقدمة والدراسة، اذهب إلى دار الكتب، وجدِّد صلتك (بالبرهان) .
وأخيراً وجدت نفسي، فقلت مجيباً أستاذي: على بركة الله. الحمد لله، قدّر الله وما شاء فعل، قلت ذلك باطمئنانٍ، ورضا، وثقة، مما جعل أستاذي يقبل عليّ معانقاً، قائلاً: مبروك.
__________
(1) كانت جامعة القاهرة قد قررت نشر هذا الكتاب استجابة لطلب الجمعية الشيبانية الأوربية، التي كان من عملها نشر مؤلفات محمد بن الحسن الشيباني، وقد ألفت الجامعة لجنة لذلك العمل يتولى مدير الجامعة بنفسه إدارة العمل وتوفير احتياجاته، ويقوم أستاذنا الدكتور مصطفى زيد بتحقيق النص وإقامته، ويقوم العلامة أستاذ أستاذنا الشيخ أبو زهرة بالتقديم للكتاب، وكتابة ما يحتاج من شرح وتعليقات.(المقدمة/20)
هكذا كانت صلتي بإمام الحرمين بغير تقديرٍ أو تدبيرٍ منِّي، بل على عكس ما قدرتُ ودبرت، ولكن الله إذا أراد أمراً قدّره، وهيأ له أسبابه، فمن ذا الذي أمسك ما سيّره، أو قدّم ما أخره، سبحانه سبحانه ما أعظم شأنه.
اندفعتُ في طريقي مع إمام الحرمين في صحبة طويلة، عشت معه في (نيسابور) حيث نشأ، ورأيت بيته حيث درج، وصَحِبْته إلى مجالس شيوخه، ومدارس أساتذته، ثم جلست إليه مع تلاميذه نسمع له، حيث أُجلس للتدريس وهو في نحو العشرين من عمره، وأَصَخْت إليه، وهو يخطب بالجامع المنيعي (أكبر جوامع نيسابور) ، ورأيته والناس حوله يبكون ببكائه في مجالس وعظه وتذكيره.
ثم رأيته يصول ويجول في ميدان المناظرة يقمع دعاة الفتنة، ويرد شبهاتِ الزائغين، ويكشف زيفَ المبتدعين.
ثم رأيته يصطلي بنار المحنة ولهيبها، فيضطر للهجرة، ويصابر ويصبر، ويحتسب، من غير أن يتزعزع، أو يتلجلج.
ثم تتبّعتُ آثاره ومصنفاتِه، ورأيت كيف جال في أكثر من علم، وبرع في أكثر من فن، فخلف مصنفاتٍ تربو على الأربعين عدّاً، منها ما يصل إلى نحو عشرين مجلداً، أسعفتنا الأقدار ببعض هذه المصنفات، فسلمت من المحن التي ابتلي بها تراث أمتنا، وبعضها سمعنا به ولمَّا نره بعد.
وأخذتُ مع هذا أعالج كتابه (البرهان) وأمازجُه، وأطيل الإصغاء؛ محاولاً أن أعي ما يريد الإمام أن يقوله في (لغز الأمة) (1) ، وما زلت أسمع من الإمام وأُنصت إليه سنوات، حتى حسبتُ أنني فهمت عنه، وعرفت ماذا يريد أن يقول في كتابه.
كانت هذه هي المرحلة الأولى من تلك الصحبة المباركة مع شيخي وإمامي، إمام الحرمين، استمرت هذه المرحلة سبعَ سنواتٍ مباركات، وكان من ثمرتها:
__________
(1) لغز الأمة هو اللقب أو الاسم الذي أطلقه السبكي على البرهان. (الطبقات: 5/192) .(المقدمة/21)
1- دراسة طبعت وحدها بعنوان (إمام الحرمين - حياته وعصره - آثاره وفكره) .
2- تحقيق وتقديم كتاب (البرهان في أصول الفقه) .
***
ثم استأنفتُ المسيرةَ مع إمام الحرمين، أستمع إليه وأنصت، وأطيل الاستماع والإنصات، وأُديم التأمل فيما أسمع من مؤلفاته كلها، وبخاصة كتابه الأكبر (نهاية المطلب) وأعرض ما أراه عنده، وما أسمع منه على ما سبقه من كتب المذهب، وأقارنه بما بعده من فقه الأئمة، محاولاً بذلك أن أصل -قدر الوُسع- إلى خصائص فقهه، ومنزلته في مجال الفقه، وكان من ثمرة هذه المرحلة البحثُ الذي قدمته للحصول على درجة الدكتوراة بعنوان: (فقه إمام الحرمين - خصائصه - أثره - منزلته) .
وكان من الحقائق التي ظهرت لي، واستقرت عندي أن علم إمام الحرمين الأول هو علم الفقه، وأن الاشتغال بكتبه وآثاره في علم الكلام، واعتباره متكلماً، قد شغل الناس -بغير حق- عن فقهه، ومنزلته، وجهوده، وأثره في إقامة المذهب الشافعي.
وكان من آثار هذه المرحلة وثمراتها أيضاً أنني قرأتُ كتابه (الغياثي) كلمة كلمة، وهيأته للتحقيق، وقد سجلت ذلك في مقدمتي لرسالة الدكتوراة، حيث قلت: " وكان من خيرات هذا البحث تحقيقُ كتاب (الغياثي) الذي يكاد يكون منتهياً، أما كتاب (نهاية المطلب في دراية المذهب) فسيكون تحقيقه ونشره هو الثمرة التالية إن شاء الله ".
ثم قلت: " إن هذا البحث -على تواضعه- قد أتاح لنا الاتصالَ بتلك الثروة الفقهية النادرة، والاطلاعَ على ذخائرها وكنوزها، واكد لي صدق ما كنتُ -وما زلت- أردده دائماً: من أننا لم نعرف من تاريخنا إلا ما أريد لنا أن نعرف، ولم نر من تراثنا إلا ما أريد لنا أن نرى.
ويوم أن تتاح لنا الفرصة لمعرفة تاريخنا كاملاً، ودراسة تراثنا كاملاً، يومها سنرى(المقدمة/22)
أية أمة هذه!! التي قادت العالم أكثر من ألف عام، وأية شريعة هذه التي أضاءت الدنيا، وبددت دياجيرها.
ولْنقل للحيارى الباحثين عن النجاة، والضاربين في كل اتجاه؛ جرياً وراء السراب، لنقل لهم ما قيل لبحارة السفينة التي ضلَّت طريقَها، حتى نَفِد منها الماء العذب، فأخذت تستغيث، فجاءها الرد: ألقوا دَلْوكم حيث أنتم. وتكررت الاستغاثة، وتكرر الردّ: ألْقوا دَلْوكم حيث أنتم.... فعادت الدلاء بالماء عذباً سائغاً، ذلك أنهم كانوا فوق مياه نهر (الأمازون) التي يدفعها النهر في المحيط، وهم لا يشعرون.
فيا أيها الحيارى الجارون وراء السراب: " ألقوا دلوكم حيث أنتم. لنُلْقِ الدلاء، فما أزخر الأعماق عندنا بالعذب الفرات " (1) .
كان هذا ما قلته، وهو يعبر عن إعجاب وتقدير لما اطلعت عليه -على قلّته- من تراثنا الفقهي.
***
أثمرت هذه المرحلة إذاً هذا البحثَ (فقه إمام الحرمين: خصائصه - أثره - ومنزلته) ثم تحقيقَ كتاب (الغياثي) .
ورحت أتطلع لما وعدتُ به من تحقيق (نهاية المطلب) ، ووقفت أسائل نفسي: هل أستطيع أن أقوم بهذا العمل؟ هل أتمكن من جمع صورٍ لمخطوطاته المبعثرة في خزائن العالم؟ وهل ستكوّن هذه الأجزاء نسخة كاملة؟ وفي كم من الزمن أستطيع أن أصل إلى هذا؟ وهل أُطيق قراءةَ هذا النصِّ وأُقيم تصحيفَه، وأصوب تحريفَه؟ ثم هل بقي في العمر فسحة تسع هذا العمل؟
وضعت هذه الأسئلة أمام عيني، ورحت أقلب الأمر على وجوهه، ووقفت حائراً
__________
(1) من مقدمة فقه إمام الحرمين: 16.(المقدمة/23)
متردداً: أقدم رجلاً وأؤخر أخرى، يدفعني حبي لإمامي، وعشقي لتراثه، فأتقدم، وتردُّني هذه الصعوبات فأتأخر.
وما هو إلا أن شرح الله صدري، وربط على قلبي، فحزمت أمري، وعقدتُّ عزمي، فنفضت يدي من كل عملٍ سوى هذا العمل، وأقبلت عليه إقبال عاشق ولهان، وقضيت هذه السنوات التي تربو على الخمس والعشرين، أسيرَ هوى إمام الحرمين وكتابه، أبذل في سبيل ذلك كل ما أُطيق، بل فوق ما أطيق، أرتحل وراء المخطوطات حيث يعزّ جلبُ صورها بالمراسلات، والرجاءات، والوساطات، وأتابع إعدادها للعمل: من نقلٍ من الميكروفيلم إلى الأوراق، ثم أعكف عليها مفهرساً مرتباً، وفي ذلك من العناء ما فيه، " لا يعرف الشوق إلا من يكابده ".
ناهيك عما كان يحدث من مفاجآت حيث كنا نلهث وراء تصوير المخطوط، ونبذل ما نبذل، ثم نفاجأ بعد إظهار الفيلم أنه ليس من (نهاية المطلب) ولكنه من كتاب آخر، أخطأ مفهرسو الخزانة وسجّلوه باسم نهاية المطلب. ولكن المفاجأة الأبشع أن يشتبه رقم المخطوط ورمزه على المصوِّر فيترك (نهاية المطلب) وهو بين يديه ويصوّر لنا كتاباً آخر، ومن أعجب العجب أنّ ذلك تكرر معنا أربع مرات متتاليات، تأتينا مكررةً صورةُ كتابٍ آخرَ غيرِ الذي نريده، مع أننا كنا لا نألو جهداً في توضيح المطلوب: حيث كنا نرسل صورةً لصفحة فهرس الخزانة، ونبين عليها الرقمَ المطلوب، ونذكُر بدءَ الجزء وخاتمته، ونؤكد أن هذا هو المطلوب!!! ومع ذلك كان ما كان. وأخيراً قيض الله لنا من أهل العلم مَنْ أعاننا على الحصول على الصورة المطلوبة، فجزاه الله خير الجزاء.
والحديث عن المعاناة في هذا الجانب ووصف ما لقيناه وكابدناه، يضيق به المقام، وله مجالٌ غير هذا المجال.
وإنما ألمحت إلى طرفٍ من هذا العناء لأقول: لو أن هناك عملاً مؤسسيّاً يرعى تحقيق التراث ويعمل على حمايته ونشره، لو كانت هناك مؤسسات فاعلة جادة في هذا المجال، لتولّت عن المحققين هذه المرحلة المرهقة المتعبة من العمل، ولقامت هي بجمع صور المخطوطات جمعاً مستقصياً بما يكون لديها من أجهزة(المقدمة/24)
متخصصة في هذا الشأن، ثم نقلتها من الميكروفيلم على الأرواق، وقدمتها جاهزة للمحققين، أتمنى أن يعود لأمتنا وعْيُها؛ فتعرف لهذا التراث حقَّه وقدره.!!
***
أما معاناة النص المخطوط، قراءةً وفهماً وتقويماً وتوضيحاً، وإضاءةً لِغَوامضه، وحلاًّ لمشكلاته، وجلاءً لمُعْوِصاته، فهذا هو عمل المحقق على الحقيقة، وهو لعمري عملٌ ممتع حقاً -على ما يأكل من الوقت والجهد- يعرف ذلك كلُّ من شرح الله صدره من أهل هذا الفن؛ من أجل هذا لم أكن أَضنّ على الكلمة أصوّب تصحيفها، أو الجملة أُقيم خَلَلَها، أو الفقرة أتبيّن مغزاها ومرماها، باليوم واليومين، بل بالأسبوع والأسبوعين، بل أحياناً تظل الكلمة أو الجملة تراوحني وتغاديني إلى ما شاء الله، حتى يفتح الله لنافيها وجهاً.
وكم من ليالٍ قضيتها وصورة الكلمة تلازمني في فراشي، وتشاركني وسادي، وكم من مرَّة أهب من فراشي فرحاً مسروراً، مكبراً مهللاً، فقد انكشفت صورة الكلمة الصحيحة، أو استقام لي بناء الجملة، وأسجل ذلك حامداً شاكراً، عادّاً ذلك آية على رضا الله وقبوله وتوفيقه.
انقطعت لهذا الكتاب عن دنيا الناس، ووهبت له وقتي، وجهدي، وسرّي، وعلانيتي (1) ، وبفضلٍ من الله وعونٍ انتصرت على نفسي، ورددتها عما كانت تجاذبني نحوه، وتدفعني إليه:
__________
(1) ما انشغلت عن الإمام إلا به، فقد أخرجتُ في هذه الفترة القسم الأول من كتابه (الدرة المضية فيما وقع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية) . ثم كان من فضل الله أن كلل مسعانا بالنجاح، فاحتفلت جامعة قطر بالذكرى الألفية لميلاد إمام الحرمين سنة 1419 هـ بإقامة ندوة عالمية قُدِّمتْ فيها أبحاث علمية رصينة شملت المجالات المتعددة لفكر الإمام ومنزلته وأثره، بلغت هذه الأبحاث نحو الثلاثين بحثاً، وكان لنا شرف الإعداد لهذه الندوة والإشراف عليها منذ قدمنا فكرتها إلى طباعة بحوثها.(المقدمة/25)
* من المشاركة في المؤتمرات والندوات، وفيها الذِّكْر والصِّيت، ولقاءُ الأعلام، ووراءها ما وراءها، وناهيك عن الأضواء والفلاشات.
* وكذلك المشاركة في التلفزة -بعد أن أخذتُ من ذلك بنصيب- وكنت مندفعاً في تياره، إلا أنني أمسكت وتماسكت سريعاً، ثم أحجمت وامتنعت امتناعاً جازماً.
* أما الصحف والمجلات، فلم يكن لنا فيها إلا أنَّةُ المكلوم، ونَفْثةُ المصدور، نشارك بها أحياناً: صرخة في وجه تزييف، أو كشفاً لتضليل، أو ردّاً لانحراف.
* ولكني مع ذلك -بحكم النشأة في العمل الإسلامي- لم أغب عن هموم أمتي ومتابعة ما يجري من حولي؛ فكم من مرة كنت أتناول بطاقة لأسطر عليها صرختي وآهتي، وأبثها مواجعي وآلامي، ثم أضعها جانباً، ولا أهيئها للنشر؛ لابدّ للمكروب أن يتأوّه.
* بل شغلت بهذا الكتاب عن قضية من أخطر قضايانا الفكرية، وأعني بها هذا الخلل العتيد في فهم تاريخ أمتنا؛ فعندي أنه ما لم يصحح الدعاة وقادة العمل الإسلامي، وعلماء الأمة، أقول: العلماء والدعاة وقادة العمل الإسلامي، ما لم يصحح هؤلاء فهمهم لتاريخ الإسلام والمسلمين، فلن تستقيم الأمة على طريق.
وليس في هذا الكلام أدنى مبالغة، فالذي يحرِّك الأمة ويقودها، ويضيء لها الطريق هو ثقافتها، ولا ثقافة بغير تاريخ.
وعندي في هذا الموضوع الكثير الكثير مما يصحح أخطاء وأكاذيب تعلمناها وصارت عندنا بدهيات ومسلمات، وما زال الدعاة والعلماء يرددونها، ويتخذونها مرتكزاً لأفكارهم، ومنطلقاً لآرائهم، ومستنداً لأحكامهم.
بل الأدهى من ذلك أن هذه الأكاذيب والأغاليط التاريخية شكّلت وِجدانَ هؤلاء العلماء، وصاغت عواطفَهم، لم يَنْجُ من هذا أحد "إلا من رحم ربَّك وقليلٌ ما هم". وويلٌ للعقل من العاطفة، "حبك الشيء يُعمي ويُصم" رواه أبو داود وسكت عنه.(المقدمة/26)
نعم، هذا ما نراه من الواقع الثقافي لعلماء الأمة -مع اعترافنا بعلمهم وفضلهم- وما نراه من الدعاة وقادة العمل الإسلامي - مع تقديرنا لجهادهم وتضحياتهم، إن هؤلاء وهؤلاء يسلّمون بتلك المقولة التي صارت إحدى دعائم ثقافتنا، وأعني بها: " القول بأن الإسلام لم يُطَبَّق إلا في عصر الراشدين، بل إن الانحراف بدأ منذ عصر الخليفة الثالث " هذه المقولة تجدها صريحةً حيناً، وبين السطور حيناً، حتى إنك لتجد العلمانيين والملاحدة الذين يناوئون الدعوة إلى الإسلام يَجْبَهون الدعاة والعلماء بما في كتبهم، وما سطروه بأيديهم: قائلين لهم: أيَّ إسلام تريدون؟ إسلام عثمان بن عفان!! الذي رتع في مال الأمة وأباحه لبني أمية، ونفى أبا ذرٍّ رضي الله عنه، وأَرْكبَ قبيلته بني أمية رقابَ العباد، فجعلهم الولاة، والقادة، وخَزَنَة بيت المال.
أم تريدون إسلام معاوية وعمرو بن العاص الذي خدع أبا موسى الأشعري يوم التحكيم، أم تريدون إسلام يزيد الذي أباح المدينة لجنوده، وضرب الكعبة وهدمها بالمنجنيق، وقتل الحسين؟؟
أم تريدون إسلام أبي العباس السفاح؟ أم إسلام هارون الرشيد وليالي ألف ليلة وليلة؟ ... إلخ.
ولا يجد الإسلاميون جواباً!! كيف!! وهذه المعاني مبثوثة في كتبهم، ودائرة على ألسنتهم!!
وعندما يُفحمون ويسقط في أيديهم يلجؤون إلى جوابٍ يظنون أنه ينفعهم ويخرجهم من ورطتهم؟ فيقولون: " إن الإسلام يحكم على البشر، والبشر لا يحكمون على الإسلام، فنحن لا ندعو إلى إسلام الأمويين، ولا إلى إسلام العباسيين، وإنما ندعو إلى الإسلام الصحيح الثابت في القرآن والسنة ".
ولكن هذا يرتد إلى نحورهم بداهةً، فيقال لهم: ما أشد غروركم، إذا كان الصحابة، والجيل الأول خير القرون قد عجزوا عن تطبيق الإسلام، فكيف تستطيعون أنتم تطبيقه؟؟ نريد مناهج قابلة للتطبيق؟ شيوعية، اشتراكية، ليبرالية، رأسمالية.
هكذا يتكلم العلمانيون وأعداء الحل الإسلامي. والإسلاميون -علماؤهم ودعاتهم - ينقطعون، ولا يُحيرون جواباً.(المقدمة/27)
أرأيت إلى خطورة هذه القضية، قضية التاريخ) (1) !!
لقد سادت حضارتنا أكثر من ألف عام، وارتادت أمتنا للبشرية طريق الأخوة والأمن والأمان والحق والعدل، وحملت لواء العلم والفكر، والأدب والفن، في أطهر خُلق وأسمى سلوك.
هذه حقائق ومسلّمات يعترف بها العدوّ قبل الصديق، وسَجَّلها شُرّاح الحضارات، وفلاسفة التاريخ، ولكن عَجَزْنا حتى الآن أن نستخرج منها نموذجاً لصورة الإسلام مطبقاً نباهي بها الدنيا، وندعوها إليه، وبقي علماؤنا ودعاتنا يردّدون أكاذيب عن عثمان رضي الله عنه، ونفيه أبا ذرّ، وعن يزيد بن معاوية وإباحته المدينة، وهدمه الكعبة، وعبثه برأس الحسين، وكل ذلك باطل لا أصل له.!!!
ليس هذا استطراداً ولا خروجاً عما نحن فيه، وإنما أردت بهذا أمرين:
الأول - أن أقول: إنني سعدتُ بكل ما فاتني بسبب إمام الحرمين وكتابه إلا هذه القضية، فكم كنت أتمنى أن أعطيها جهداً أكبر، ووقتاً أكثر، ولكن ضعفت المُنّة، وضاق الوقت حتى عن إتمام بعض ما بدأت (2) .
__________
(1) هذا استطرادٌ في غير محله، ومعالجةُ موضوع تاريخي طويل الذيول في مقدمة كتاب فقهي غيرُ مستحسن، والناس على تفاوت نزعاتهم تتحفظ على هذه الجزئية من المقدمة، ولذا فدار المنهاج تعتبر ذلك رأياً خاصاً للمحقق، فلزم التنويه والتنبيه. (الناشر) .
(2) كان من عملنا في هذا المجال: ذ
* بحث بعنوان (المنهج في كتابات الغربيين عن التاريخ الإسلامي) نشر في سلسلة كتاب الأمة رقم 27.
* ومجموعة بحوث جمعت في كتاب بعنوان (نحو رؤية جديدة للتاريخ الإسلامي) - دار الوفاء بمصر.
* بحث بعنوان (الزبير بن العوام - الثروة والثورة) نشر بحولية كلية الشريعة - جامعة قطر.
العدد (3) وما زال في حاجة إلى مزيد بسط.
* بحث بعنوان (من أخبار يزيد بن معاوية تحقيق وتمحيص) نشر بحولية مركز بحوث السيرة والسنة - جامعة قطر، العدد (9) .
* وبحث لم ينشر يؤكد أن أبا ذر لم يخرج إلى الربذة منفياً. =(المقدمة/28)
الثاني - والسبب الثاني في بسط هذه القضية هنا هو إظهار خطورتها، والتنبيه لآثارها؟ إبراء للذمة، وإعذاراً إلى الله تعالى، آملاً أن يَنْهَدَ لهذا الأمر من شباب العلماء والباحثين من يحقق الأمل، ويكمل العمل.
نعم، انقطعتُ لإمام الحرمين وكتابه عن كل هذه المجالات، أو بالأحرى صرفني الله عنها، فقد كانت متاحة ميسورة، مدَّ اليد، فتركناها -بعد أن ذقنا حلاوتها- عن قُدرةٍ عليها، ورغبة فيها، وذلك لا يكون إلا بفضلٍ من الله وعونه؟ فله سبحانه
الفضل والمنة.
كنت أقول لمن يدعوني للمشاركة في هذا العمل أو ذاك: إن إمام الحرمين يجالسني، ويراوحني ويغاديني، وهو أمامي على المكتب يأخذ على يدي إن هي امتدت لغير كتابه، كنت أستشعر هذا المعنى حقيقةً، فما كنت أغادر مكتبي إلا مضطراً لأداء واجب عزاءٍ أو نحوه، وكنت أعود مسرعاً، وكأني أقدّم للإمام عذري.
ومضت السنون وتطاولت الأعوام، وطال العمل واستطال، وأنا صابرٌ جَلْد، غيرُ ضجرٍ ولا ملول، بل مستمتع مسرور، ومَنْ حولي يعجبون، وعن الكتاب يتساءلون: كل هاتيك الأعوام في كتاب واحد؟؟ {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [سبأ: 52] "لا يعرف الشوق إلا من يكابده".
تجاوزت الأعوام الخمسَ والعشرين عدّاً وأنا في صحبة إمام الحرمين، أعطيه ويعطيني: أعطيه وقتي وجهدي، وصبري واتئادي، وتأملي وأناتي، وحبي وعشقي، وشغفي وهيامي.
ويعطيني كل يومٍ جديداً، يمنحني فرائد من الفقه، ودقائق من الأصول، وأوابد من النحو، ونوادر من اللغة، وشوارد من الحديث؛ ويطوف بي مرابع، ومجالس ومدارسَ، أسمع فيها من أعلام أمتي وأئمتها.
__________
= * وتحت الأعداد بحث عن عثمان ومال الأمة، وآخر عن قواد عثمان وعماله، وآخر مطول عن يزيد بن معاوية.(المقدمة/29)
وقد كان في هذا الانقطاع مكافأة أخرى؛ إذ كان مُغترباً لي وملجأ ألوذ به من واقع فاسد مفسد، واقع بئيس، ابتلينا به وقُدِّر علينا أن نعيشه مقهورين، قدّر علينا أن نعيش هذا الزمان الذي نرى أمتنا تتحرك على المحندر بعد أن تمزقت دولاً متناحرة، ووصل الأمر أن حاضر الأمة -بعد أن ضل عن معرفة أعدائها- راح يشتبك مع ماضيها بحثاً عن ذرائع تبرر ما نحن فيه من هوان، فصرنا نستدعي رموزَ أمتنا وعظماءَ تاريخنا لنحاسبهم، فنجلدهم، ونركلهم، ونصفعهم، ثم نقتلهم سحلاً، واستشرى هذا الداء حتى عمّ وطمّ، فوجدنا من يلمز أول الخلفاء الراشدين واصفاً إياه بالديكتاتورية.!! واغوثاه!! ثم واغوثاه!!
***
ومما يجب أن أذكره أن كثيراً من أبنائي وتلاميذي -وقد أحسنوا الظن بي- كانوا يغْشَون مجلسنا راغبين في تلقي العلم على طريقة الأسلاف. ولكن هموم العيش، وواجبات الوقت، ووعورة الطريق، وبُعد الشقة، أعجزهم عن الاستمرار -ولا ألومهم- فانصرفوا إلى الدراسة الرسمية، ومنهم من حصل فعلاً على الدكتوراة، وبعضهم في الطريق.
ولكن واحداً منهم استطاع أن يقهر كلّ الشواغل، ويدفع كل الصوارف، فشرح الله صدره، وأنار قلبه، فدامت صحبتُه لنا سنوات مباركات تزيد على العشر، وفي كل يوم يزداد حباً للعلم، وعشقاً للدرس، حتى صار الدأب في البحث طبعَه، والرغبة في استقصاء المسائل عادتَه.
ولما رأيته قد استوى عوده، واستقام أُملُوده، جعلت أقول له: يا بني يكفيك هذا معي، ابحث عن دراسة رسمية تنال بها (شهادة) ، فالعصر عصر الشهادات، فكان لا يزيد عن أن يقول -في تواضع- " أريد أن أتعلم، أين أنا من العلم!! ".
ذلكم هو ابني الحبيب وتلميذي النجيب:
الأستاذ علي حسن الحمادي
ومن عجب أن دراسته في أصلها (البكالوريوس) ليست في العلم الشرعي،(المقدمة/30)
ولكنه -بفضل الله- طوّف بالمكتبة الإسلامية والعربية تطواف محب عاشق، لا متعجّل أو مُكرَه، فعرف أمهات المصادر والمراجع في كل الفنون تقريباً، وبالصبر والمصابرة سَلِسَ له قيادها، ولان له عصيّها، وانفتحت له مغاليقها، وانكشفت له مُعْوِصاتها، فصار يحسن التلقِّي منها، ويجيد الأداء عنها، فاستكمل بذلك عُدة الباحث، وملكة المحقق.
وإني أضرع إلى الله سبحانه أن يديم عليه نعمة خب العلم، وعشق البحث، وأن يوفقه لخدمة تراث أمتنا العظيم، الذي صار من أكثر الناس له عشقاً.
كما أسأله سبحانه أن يجزيه خير الجزاء على ما قدّم لنا من عون في إخراج هذا الكتاب؛ فقد وفر لنا أوقاتاً ثمينة، وساعات غالية بتنقيره وتنقيبه عن مسائل الخلاف في كتب المذاهب الأخرى، وعن متون الحديث، حينما يعزّ الوصول إليها في المراجع القريبة والمواضع المعهودة.
كما أسأله سبحانه أن يوفقه لإخراج ما بين يديه من كنوز مذهب إمامنا الشافعي والله خير معين وناصر.
***
ثم بعد،،،
أستعير من إمام الحرمين قوله في خطبة هذا الكتاب، فأقول: "إن هذا العمل هو على التحقيق نتيجة عمري، وثمرة فكري في دهري".
كما أستعير منه ما قاله حين عجب من نقد (الصيدلاني) لشيخه (القفال) فيما لا يستحق النقد، فتضرع إلى الله قائلاً: " نسأل الله تعالى حسن الإعانة، وتقييض منصفين ينظرون في مجموعنا هذا، وهو ولي التوفيق ".
ومن كل من ينظر في عملنا هذا نرجو دعوةً لنا بظهر الغيب، وأن يهدي إلينا عيوبنا، وأن يلحق بالكتاب ما يتاكد لديه من تصويبات.
أما الذي يسرف على نفسه وعلينا بالعيب والطعن، وتتبع المعايب والمثالب،(المقدمة/31)
فنقول له: حنانيك!! لو رأيت (النهاية) وهي أجزاء مفرقة، وأشلاء مبعثرة، وحاولت قراءتها في هاتيك الأوراق، وعانيت مطالعتها في تلك الصفحات، لأقصرت وأقلَلْت.!!
" والذي لا يردّه ذو مُسكة، ولا يرى خلافه ذو حُنكة، أن المتعنت تعبانُ متعب، والمنصف مستريحٌ مريح.
ومن ذا الذي أُعطي العصمة، وأحاط علماً بكل كلمة؟ ومن طلب عيباً وجده، فإنني أهل لأن أزلّ، وعن درك الصواب -بعد الاجتهاد- أضلّ!! فمن أراد منا العصمة، فليطلبها لنفسه أولاً، فإن أخطأته، فَقَدَ عذره وخاب، وإن زعم أنه أدركها، فليس من أهل الخطاب " (1) .
كما أستعير من ياقوت الحموي أيضاً ماختم به خطبة كتابه، فما أشبه حاله بحالي، حتى كأنه ينطق بلساني فأقول بقوله: " ولما تطاولت في جمع هذا الكتاب الأعوام، وترادفت في تحصيل فوائده الشهور والأيام، ولم أنته منه إلى غاية أرضاها، وأقف على غَلوة (2) -مع تواتر الرشق- فأقول: هي إياها، ورأيت تعثر قمر ليل الشباب بأذيال كسوف شمس المشيب وانهزامه، وولوجَ ربيع العمر على قيظ انقضائه بأمارات الهرم وانهدامه، وقفتُ هاهنا راجياً فيه نيل الأمنيّة، بإهداء عروسه إلى الخطاب قبل المنية، وخشيتُ بغتة الموت، فبادرت بإبرازه الفَوْتَ.
على أنني من اقتحام ليل المنية عليّ قبل تبلّج فجره على الآفاق، لجدّ حذر ... وسألت الله عز وجل ألا يحرمنا ثواب التعب فيه، وألا يكلنا إلى أنفسنا فيما نحاوله وننويه، وجائزتي على ما أوضعت إليه ركاب خاطري، وأسهرت في تحصيله بدني وناظري، دعاءُ المستفيدين الناظرين، وذكر زكيٌّ من المؤمنين بأن أحشر في زمرة الصالحين ".
__________
(1) من كلام ياقوت الحموي في مقدمة كتابه (معجم البلدان) .
(2) الغَلوة: مقدار رمية سهم، وتقدر بثلاثمائة ذراع إلى أربعمائة.(المقدمة/32)
وأسأله سبحانه أن يهب لي خاتمة الخير، ويقيني مصارع السوء، ويتجاوز عن سيئاتي، ولا يفضحني بها يوم العرض، وأن يحلّني دار المقامة من فضله، بواسع عطائه وبالغ نواله، إنه الجواد الكريم، الغفور الرحيم، وإليه ضراعتي أن يغفر لوالدي، وأن يرحمهما كما ربياني صغيراً، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم (1) .
الدوحة فجر يوم الإثنين الثالث والعشرين من ذي الحجة 1423 هـ
الموافق الرابع والعشرين من فبراير 2003 م
***
__________
(1) لقارئ هذه الخطبة أقول: قد لا يكون الكلام قد أخذ حقه من الاتساق، والأسلوبُ قد أخذ حظه من الانتظام، فإن رأيت شيئاً من هذا، فلا تعجل باللوم، ومهّد لي عذري، فقد كتبت هذه المقدمة، وأنا على حال من البأس مضاعفة:
بأس في الجسد، تمثل في آلام في القلب، حذر معها الأطباء من القيام بأي مجهود، والاستعداد لعمل جراحة ليست بالهينة، مع تقدم السن وضعف الجسم، مما جعل الفكر مشتتاً، والذهن موزعاً.
وبأس آخر جاء ضِعفاً على الأول، فها هي طبول الحرب الإنجلوأمريكية تدق منذرة بحرب ماحقة تهدّد باجتياح دار السلام: بغداد، مدينة المنصور، حاضرة الرشيد، والمأمون، والمعتصم، مقرّ دار الحكمة، ومقام أبي حنيفة النعمان، وأحمد بن حنبل، بغداد التي ظلت حاضرة الإسلام، بل حاضرة الدنيا قروناً، سيطبق عليها تتار العصر غداً أو بعد غد، وحكام المسلمين اليوم مثل أسلافهم سنة 656 هـ عندما اجتاح هولاكو بغداد، وإذا كانت المقادير في الجولة الأولى أسعفتنا بعد عامين فقط 658 هـ بسيف الدين قطز (وعين جالوت) التي ثأرت لبغداد وردت التتار القدامى على أعقابهم، فهل نأمل في سيف الدين قطز بعد عامين؟ قولوا: اللهم آمين.(المقدمة/33)
تصدير بقلم العلامة فقيه العصر فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي أكمل لنا دينه، وأتم علينا نعمته، ورضي لنا الإسلام ديناً، والقرآن إماماً ومحمداً نبياً ورسولاً، والصلاة والسلام على سيدنا وإمامنا وأسوتنا وحبيبنا ومعلمنا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن سار على دربه إلى يوم الدين (أما بعد) .
فيسرني أن أصدر هذا الكتاب الكبير (نهاية المطلب في دراية المذهب) لإمام الحرمين الجويني رحمه الله، بتحقيق أخينا البحاثة الأستاذ الدكتور عبد العظيم محمود الديب، حفظه الله، وسدد خطاه.
ولا سيما أن كلية الشريعة بجامعة قطر تقيم ندوة علمية عالمية، بمناسبة مرور ألف سنة هجرية على ميلاد الجويني، فقد ولد رضي الله عنه سنة 419 من الهجرة باتفاق المؤرخين.
ولي في هذا التصدير كلمات ثلاث:
كلمة عن الكتاب، وموضوعه، وقيمته.
وكلمة عن مصنفه الكبير، ومنزلته في علوم الإسلام.
وكلمة عن محققه، ومستوى تحقيقه.(المقدمة/34)
1- الكتاب
أما الكتاب، فهو ذخيرة ثمينة من ذخائر تراثنا الفقهي الزاخر، يعرفه المشتغلون بفقه المذهب الشافعي، ويدركون قيمته، فهو أحد الأعمدة التي يستند إليها، ويعول عليها، وهو ينشر لأول مرة؛ فقد كان كنزاً مطموراً، برغم شهرته، ولكنه لم تكن منه نسخة كاملة مجموعة في مكتبة واحدة، يسهل تناولها والعكوف عليها.
ومن المعروف: أن في كل مذهب من المذاهب المتبوعة كتباً متميزة تعد (أمهات) فيه. وليس السبب في ذلك هو (كمها) أو سعتها وكثرة أوراقها وصفحاتها فحسب، بل العمدة فيها هو (الكيف) قبل (الكم) ؛ لما تعتمده من تأصيل، وما تحتويه من تدليل، وما تتخذه من نهج علمي، يميزها عن غيرها.
ألف إمام الحرمين كتاب (النهاية) في سنواته الأخيرة، أي بعد أن اكتمل نضجه، وأخرج زرعُه شطأه، واستغلظ واستوى على سوقه، أراد أن ينهض بمهمة في المذهب لا يقوم بها غيره، من تهذيب المذهب بكتاب (يحوي تقرير القواعد، وتحرير الضوابط والمعاقد، في تعليل الأصول، وتبيين مآخذ الفروع، وترتيب المفصَّل منها والمجموع، ويشتمل على حل المشكلات، وإبانة المعضلات، والتنبيه على المعاصات ... ) كما قال رحمه الله في مقدمة الكتاب. بل قال في مقدمته هذه الكلمة المعبرة عن نظرته إلى الكتاب وقيمته عنده: (وهو -على التحقيق- نتيجةُ عمري، وثمرة فكري في دهري) (1) !
ومن قرأ لفقهاء الشافعية بعد إمام الحرمين، وجدهم مزهوِّين كلَّ الزهو، فخورين كل الفخر، بكتاب إمامهم هذا، فطالما نوهوا به، وعظموا قدره، وأشاروا إلى تفرده وتميزه.
انظر إلى ما قاله ابنُ عساكر عنه في كتاب (تبيين كذب المفتري) : أنه ما صُنّف في الإسلام مثله!
__________
(1) اقتبسنا هذه الكلمة من مقدمة الكتاب عند الدكتور الديب.(المقدمة/35)
وقد اعتبره الإمام النووي في (المجموع) أحد كتب أربعة تعد أساسية في المذهب.
وقال عبد الغافر الفارسي فيما نقله تاج الدين السبكي:
" وصار أكثر عنايته مصروفاً إلى تصنيف (المذهب الكبير) المسمى بـ (نهاية المطلب في دراية المذهب) حتى حرره وأملاه، وأتى فيه من البحث والتقرير، والسبك والتنقير، والتدقيق والتحقيق، بما شفى الغليل، وأوضح السبيل، ونبه على قدره ومحله في علم الشريعة، ودَرَّس ذلك للخواص من تلاميذه، وفرغ منه ومن إتمامه، فعقد مجلساً لتتمة الكتاب، حضره الأئمة الكبار، ودعَوْا له وأثنَوْا عليه، وكان من المعتدِّين بإتمام ذلك، الشاكرين لله عليه؛ فما صنف في الإسلام قبله مثلُه؛ ولا اتفق لأحد ما اتفق له، ومن قاس طريقته بطريقة المتقدمين في الأصول والفروع وأنصف: أقرَّ بعلو منصبه، ووفور تعبه ونَصَبه في الدين، وكثرةِ سهره في استنباط الغوامض، وتحقيق المسائل، وترتيب الدلائل " (1) .
فانظر إلى هذه الجملة، تعرف قيمة الكتاب عند العلماء، ولا سيما الشافعية (ما صُنف في الإسلام قبله مثله) !
وقال تاج الدين السبكي: ومن تصانيفه (النهاية) في الفقه: لم يصنف في المذهب مثلها فيما أجزم به (2) .
وعلق علامة المتأخرين من الشافعية ابن حجر الهيتمي (ت 973 هـ) صاحب (تحفة المحتاج في شرح المنهاج) وغيره من الكتب في أثناء كلام من (ذيل تحرير المقال) على قولهم: إنه منذ صنف الإمام كتابه (النهاية) لم يشتغل الناس إلا بكلام الإمام، فقال: " لأن تلميذه الغزالي، اختصر النهاية المذكورة في مختصر مطول حافل، وسماه (البسيط) واختصره في أقلَّ منه وسماه (الوسيط) واختصره في أقل منه وسماه (الوجيز) ، فجاء الرافعي، فشرح الوجيز شرحا مختصراً، ثم شرحاً
__________
(1) طبقات الشافعية الكبرى لتاج الدين السبكي: 5/177، 178.
(2) المصدر السابق ص 171.(المقدمة/36)
مبسوطاً، ما صنف في مذهب الشافعي مثله ...
ثم جاء النووي واختصر هذا الشرح، ونقحه وحرره، واستدرك على كثير من كلامه ... وسماه (روضةَ الطالبين) ..، ثم جاء المتأخرون بعده فاختلفت أغراضهم ".
والعجيب أني قرأت لابن حجر نفسه في كتابه (كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع) أن أعظم مؤلفات الشافعية، هو المجموع للنووي (1) . فلعل كلَّ واحد من هذه الكتب الثلاثة كان أعظمَ بالنسبة لزمنه: النهاية للجويني، وشرح الوجيز للرافعي، والمجموع للنووي، وكل منهم له قدره ووزنه وأثره، ولا حرج على فضل الله.
2- المصنّف
أما مصنف الكتاب فهو إمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله الجويني (ت 478 هـ) أحد عمالقة الفكر الإسلامي، والعلم الإسلامي، الذي شرَّق صِيتُه وغرَّب. واعترف بفضله القاصي والداني، وأثنى عليه السابقون واللاحقون والمحْدَثون إلى يومنا هذا.
إمامٌ وابنُ إمام، وفقيه وابن فقيه، أخذ العلم كابراً عن كابر.
قال معاصره الإمام أبو إسحاق الشيرازي: تمتعوا بهذا الإمام، فإنه نزهةُ هذا الزمان! وقال له مرة: يا مفيد أهل المشرق والمغرب، لقد استفاد من علمك الأولون والآخرون.
وقال الحافظ أبو محمد الجرجاني: هو إمام عصره، ونسيج وحده، ونادرة دهره.
وقال قاضي القضاة أبو سعيد الطبري، وقد قيل له: إنه لقّب إمام الحرمين: بل هو إمام خراسان والعراق، لفضله وتقدمه في أنواع العلوم.
وقال العلامة تاج الدين ابن السبكي في ترجمته في (طبقات الشافعية) : هو الإمام
__________
(1) انظر: ص 276 من (كف الرعاع) المطبوع مع الزواجر، طبعة دار المعرفة - بيروت.(المقدمة/37)
شيخ الإسلام، البحر الحبر، المدقق المحقق، النظار الأصولي المتكلم، البليغ الفصيح الأديب، العَلَم الفرد، زينةُ المحققين، إمام الأئمة على الإطلاق.
ونقل ابن السبكي عن الحافظ عبد الغافر الفارسي قولَه فيه: فخر الإسلام، إمام الأئمة على الإطلاق، حبر الشريعة، المجمع على إمامته.. من لم تر العيون مثله قبله، ولا ترى بعده.. رباه حِجرُ الإمامة،.. وأرضعه ثدي العلم والورع، إلى أن ترعرع فيه ويفع (1) . اهـ.
في فقه الشافعية: إذا قيل: قال الإمام، أو اختاره الإمام، أو نحو ذلك، فلا إمام غيره، ولا تقال بهذا الإطلاق على أحد سواه.
وقد وصفه بعضهم وقد كان لا يزال في شبابه، فأضفى عليه من الفضائل والمناقب: ما لا يجتمع في العادة مثلها لفرد، ولكن الله يختص بفضله من يشاء.
قال: فالفقه فقه الشافعي، والأدب أدبُ الأصمعي، وحسن بصره بالوعظ للحسن البصري.. وكيفما كان فهو إمام كلِّ إمام، والمستعلي بهمته على كل هُمام ... إذا تصدر للفقه فالمزني من مُزْنته قطرة، وإذا تكلم (من علم الكلام) فالأشعري من وَفْرته شعرة، وإذا خطب ألجم الفصحاء.. (2) !
وقال ابن خلكان في ترجمته: أعلم المتأخرين من أصحاب الإمام الشافعي على الإطلاق، المجمع على إمامته، المتفق على غزارة مادته، وتفننه في العلوم، من الأصول والفروع والأدب، وغير ذلك. وتفقه في صباه على والده أبي محمد، وكان يُعجب بطبعه وتحصيله وجودة قريحته، وما يظهر عليه من مخايل الإقبال، فأتى على جميع مصنفات والده، وتصرف فيها، حتى زاد عليه في التحقيق والتدقيق (3) .
تكوّن إمام الحرمين تكوّناً علمياً قوياً منذ صباه، وتفقه على والده الإمام أبي محمد الجويني وأخذ علوم عصره عن أفذاذ رجالها المعروفين في وقتهم: من العربية،
__________
(1) انظر: الطبقات الكبرى للسبكي: 5/165-174.
(2) الطبقات الكبرى: 5/178.
(3) وفيات الأعيان لابن خلكان: 3/167 , 168 الترجمة رقم (378) .(المقدمة/38)
والقراءات والحديث، والتفسير، وأصول الدين، والفقه، وأصول الفقه.
وجمع الكثير من مصادر العلم في معارف عصره -بالإضافة إلى ما وجده عند والده- وأقبل على هذه المراجع ينهل منها ويعلّ، في لهفة وشوق، وفي دأب وصبر، مواصلاً الليل بالنهار، يقرأ ويحصل، ويفهم ويهضم.
يقول معاصره عبد الغافر الفارسي: سمعته في أثناء كلامٍ له يقول: "أنا لا أنام ولا آكل عادةً، وإنما أنام إذا غلبني النوم، ليلاً كان أو نهاراً، وآكل إذا اشتهيت الطعام في أي وقت كان! ".
وكان لذته ولهوه ونزهته في مذاكرة العلم، وطلب الفائدة من أي نوع كان.
قال عنه أحد شيوخه في النحو والأدب، وقد قرأ عليه بعض كتبه -وهو إمام الأئمة- مستزيداً من العلم، وطالباً له عند أهله، قال: ما رأيت عاشقاً للعلم -أيَّ نوع كان- مثلَ هذا الإمام؛ فإنه يطلب العلم للعلم (1) !
ونقل عنه السبكي قوله: ما تكلمت في علم الكلام كلمة، حتى حفظت من كلام القاضي أبي بكر (يعني الباقلاني) وحده: اثنى عشر ألف ورقة.
هذا من كلام شخص واحد في علم واحد! فكيف بكلام غيره، وبالعلوم الأخرى التي له فيها اليد الباسطة، والتصانيف المستكثرة: فقهاً وأصولاً وغيرها؟
ومراده بحفظ تلك الكتب: فهمها والقدرة على استحضارها عند الحاجة.
ويحكى أنه قال للغزالي يوماً: يا فقيه: فرأى في وجهه التغير، كأنه استقل هذه اللفظة على نفسه. فقال له: افتح هذا البيت، ففتح مكاناً وجده مملوءاً بالكتب، فقال له: ما قيل لي: يا فقيه (2) ، حتى أتيت على هذه الكتب كلها! (3)
__________
(1) الطبقات الكبرى: 5/179، 180.
(2) في نفسي شيء من هذه الحكاية، إذ لا معنى لتغير الغزالي من قوله له: يا فقيه! والسبكي قد ذكرها بصيغة التمريض (يحكى) .
(3) المصدر السابق 185.(المقدمة/39)
وقد قال عن نفسه: (قرأت خمسين ألفاً في خمسين ألفاً) (1) 50000، فهل يقصد الضرب؟! 50000 × 50000= 2500000000 هذا مستحيل، أو يقصد العطف؟ أي 50000 + 50000= 100000 أظن هذا هو المقصود والمعقول، ولا أحسبه يقصد العدد حقيقة، إنما المقصود كثرة ما قرأ وحصّل من العلوم العقلية والنقلية.
عبقرية متميزة:
كان إمام الحرمين عبقريَّ زمانه -وما بعد زمانه- في العلوم التي تجمع بين العقل والنقل، وهي: علم الكلام، وأصول الفقه، والفقه، والخلاف.
وربما يظن كثير من الناس أن علم الفقه علم نقلي بحت، وهو كذلك عند الكثيرين، ولكنه -عند إمام الحرمين ومن جرى مجراه- له ارتباط وثيق بالعقل، في التأصيل والتدليل، والتقرير والتعليل، وربط المسائل بجذورها، ورد الفروع إلى أصولها، وقياس الأشباه بأشباهها، ومراعاة الجوامع والفوارق، ورعاية العلل والمقاصد.
الاستقلال في التفكير والاستقلال. في التعبير:
تميز إمام الحرمين بالاستقلال في التفكير، والاستقلال في التعبير.
فهو في أصول الدين أشعري، ولكنه قد يخالف الأشعريَّ، برغم تعظيمه لقدره، وتقديره لفضله.
وهو في فروع الفقه شافعي، ولكنه قد يستقل عن الشافعي بمسائلَ، وينفرد بنظراتٍ، وأفكار واجتهادات فقهية، لم يسبق بها أحد.
وهو واضع اللمسات الأولى في مقاصد الشريعة، حيث أشار إليها في (البرهان) وتحدث عن المصالح الضرورية والحاجية والتكميلية.
__________
(1) أعلام النبلاء: 18/471. والطبقات الكبرى: 5/185.(المقدمة/40)
ثم جاء تلميذه الغزالي وصاغها صياغة جديدة متكاملة، ووضع أسس البناء لهذه النظرية، التي توسع فيها الشاطبي فيما بعد.
وعبارات إمام الحرمين في أكثر من كتاب له، بل في كل ما عرف من كتبه: تدل على أنه شخصية مستقلة الفكر، وإن انتسب إلى الأشعري اعتقاداً، وإلى الشافعي فقهاً، بل مع تعصبه للشافعي إلى الحد الذي جار على بعض المذاهب الأخرى، وبعض الأئمة مثل أبي حنيفة، كما تجلى ذلك في كتابه (مغيث الخلق في اختيار الأحق) ، وفي حديثه -في بعض الأحيان- عن الإمام مالك، واسترساله في المصلحة المرسلة.
استمع إليه، وهو يقول في (الغياثي) : " ومعظم المتلقبين بالتصنيف في هذا الزمان السخيف، يكتفون بتبويب أبواب، وترتيب كتاب، متضمَّنه كلامُ من مضى، وعلوم من تصرَّم وانقضى " (1) .
وفي موضع آخر يقول:
" ولو ذهبت أذكر المقالات وأستقصيها، وأنسبها إلى قائليها.. لخفت خصلتين: إحداهما: خصلة أحاذرها في مصنفاتي وأتقيها، وتعافها نفسي الأبية وتجتويها، وهي سرد فصل منقول، عن كلام للمتقدمين مقول. وهذا عندي بمنزلة الاختزال والانتحال، والتشبّع بعلوم الأوائل، والإغارة على مصنفات الأفاضل! " (2) .
فهو إذن يبحث عن الجديد، ويعاف تكرار القديم.
ثم يقول: " وحق على كل من تتقاضاه قريحته تأليفاً، وجمعاً وترصيفاً: أن يجعل مضمون كتابه: أمراً لا يلفى في مجموع، وغرضاً لايصادَف في تصنيف " (3) .
وفي مكان آخر من الكتاب نفسه يقول:
" لست أحاذر إثبات حكم لم يدوِّنه الفقهاء، ولم يتعرض له العلماء؛ فإن معظم
__________
(1) الغياثي بتحقيق د. الديب: فقرة (45) .
(2) المصدر السابق: فقرة (242) .
(3) الغياثي: نفس الفقرة.(المقدمة/41)
مضمون هذا الكتاب لا يُلفى مُدوَّناً في كتاب، ولا مُضمَّناً لباب. ومتى انتهى مساق الكلام إلى أحكام نظمَها أقوامٌ، أحلْتها إلى أربابها، وعزَيْتها إلى كتابها. ولكني لا أبتدع، ولا أخترع شيئاً، بل ألاحظ وضع الشرع وينبوعَه، وأستثير معنى يناسب ما أراه وأتحراه. وهكذا سبيل التصرف في الوقائع المستجدَّة، التي لا توجد فيها أجوبة العلماء مُعدّة" (1) .
وهذا شائع في كتبه كلها، وهو يعتد بذلك ويباهي به، إلى حدٍّ قد تصفه بالعُجب أو الغرور، ولكنها -كما قال أخي عبد العظيم- الثقة الكاملة بالنفس، يقول في (البرهان) معقباً على ماعرض فيه لأنواع الجموع: (ونحن من هذا المنتهى نفرع ذِروةً في التحقيق لم يُبلغ حضيضُها، ونفترع معنى بكراً، هو -على التحقيق- منشأ اختباط الناس في عماياتهم) (2) .
ولقد أقر الفقهاء، والأصوليون، والمتكلمون، من بعده، بأصالته وتقدمه، واستقلاله في العلم والفكر، فهو نسيج وحده فيما يصنف ويكتب، غير مقلد لأحد قبله.
يقول التاج السبكي في (طبقاته) عن كتابه (البرهان) : " اعلم أن هذا الكتاب وضعه الإمام في أصول الفقه على أسلوب غريب، لم يقتد فيه بأحد، وأنا أسميه (لغز الأمة) لما فيه من مصاعب الأمور، وأنه لا يخلي مسالة عن إشكال، ولا يخرج إلا عن اختيار، يخترعه لنفسه، وتحقيقات يستبدّ بها، وهذا الكتاب من مفتخرات الشافعية " (3) .
فانظر إلى هذه العبارات " لم يقتد فيه بأحد " وقوله: " عن اختيار يخترعه لنفسه، وتحقيقات يستبد بها " مما يدل على أن الرجل من المبدعين، وأصحاب العقول المبتكِرة.
__________
(1) الغياثي: فقر ة (378) .
(2) انظر: البرهان: فقرة (234) ج 1/328.
(3) الطبقات الكبرى: 5/192.(المقدمة/42)
وفي موضع آخر يعلق السبكي على ما وصفه بتحامل الإمام المازَري وغيرِه من علماء المالكية الذين شرحوا (البرهان) مبيناً سببَ هذا التحامل في رأيه، فقال: " إنهم يستصعبون مخالفةَ الإمام أبي الحسن الأشعري، ويرونها هُجنةً عظيمة، والإمام -إمام الحرمين- لا يتقيد لا بالأشعرىِ ولا بالشافعي، لا سيما في (البرهان) ، وإنما يتكلم حسب تأدية نظره واجتهاده، وربما خالف الأشعريَّ، وأتى بعبارة عالية، على عادة فصاحته، فلا تتحمل المغاربة أن يقال مثلُها في حق الأشعري ".
قال السبكي: وقد حكينا كثيراً من ذلك في شرحنا على (مختصر ابن الحاجب) (1) .
وقد استدل الحافظ السيوطي (ت 911 هـ) في رسالته (الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض) بعبارة السبكي هذه: أن إمام الحرمين لا يتقيد بالأشعري ولا بالشافعي، وإنما يتكلم حسب ما يؤديه إليه نظره واجتهادُه: أن هذا الإمام قد استقل بالاجتهاد، وتحرر من التقليد (2) .
ونقل عن ابن المنيّر أنه قال في حق إمام الحرمين: له علو همة إلى مساواة المجتهدين.
ووصفه الحافظ القزويني بأنه: المجتهد ابن المجتهد (3) .
ومما يؤكد ذلك: ما ذكره الدكتور الديب قي تحقيقه للبرهان من جملة فهارس لها دلالتها وأهميتها في آخر الكتاب، ومنها ثلاثة فهارس ننبه عليها هنا:
1- فهرس المسائل التي خالف فيها إمامُ الحرمين الشافعيَّ، وقد أحصاها، فكانت أربعاً وعشرين مسألة.
2- فهرس المسائل التي خالف فيها إمام الحرمين الأشعري، وقد حصرها في ثلاث مسائل.
__________
(1) الطبقات: 5/192.
(2) الرد على من أخلد إلى الأرض ص 194 تحقيق د. فؤاد عبد المنعم.
(3) نفسه.(المقدمة/43)
3- فهرس المسائل التي خالف فيها إمام الحرمين القاضي أبا بكر الباقلاني، وهو الرجل الثاني بعد الأشعري، وقد أحصاها، فكانت إحدى وأربعين (41) مسألة (1) .
وهو يتحدث عن الإمام الأشعري بكل احترام وتقدير، ولكن لا يمنعه هذا أن يقول في بعض المسائل: ورأي الأشعري مختبط في هذه المسائل! وكيف لا وقد علق على قولة لوالده، الإمام المعروف فقال: وهذه زلة من الشيخ رحمه الله! (2) .
وأما استقلاله في (التعبير) فهو ظاهرة ملحوظة في كل ما يكتب، فمعجمه اللغوي رحب، ومفرداته كثيرة، وهو ينتقي منها ويتأنق فيها، إلى حد الإغراب في بعض الأحيان، ولا يكاد يستخدم عبارات من قبله، وكثيراً ما يلتزم السجع، كما هو نمط عصره، وأغلبه مستساغ، وقليل منه متكلف، وقد رأيناه يلتزم السجع في بعض كتبه مثل (غياث الأمم) فهو مسجوع من أوله إلى آخره، إلا ماندر. وأحياناً أخرى يتحرر من السجع، ويمضي مسترسلاً، ككبار البلغاء. قال ابن خلكان: ورزق من التوسع في العبارة ما لم يُعهد من غيره (3) .
عقل كبير وقلب كبير:
وكما تميز الإمامُ الجويني بعقله الكبير، تميز بقلبه الكبير، فقد اتفق مؤرخوه أن الرجل كان من (أصحاب القلوب) الذين لهم مع الله تعالى حال ومقام، وكان إذا ذكّر الناس في مجلسه بكى وأبكى الحاضرين.
وهذا مع أن الذين يشتغلون بالقضايا العقلية، والمجادلات الكلامية، يصابون بجفاف الروح، وقسوة القلوب، إلا من رحم ربك، من القلائل الذين احتفظوا بقلوبهم حية لم تمت، سليمة لم تسقم، صافية لم تشب، ومنهم إمام الحرمين. وقد قال هو رحمه الله بحق: " من ضرِي بالكلام صَدِي جنانه! "
قال مؤرخه عبد الغافر الفارسي: " كان من رقة القلب بحيث يبكي إذا سمع بيتاً،
__________
(1) انظر: هذه الفهارس في أواخر الجزء الثاني من (البرهان) ص 1443-1449.
(2) انظر: شذرات الذهب لابن العماد: 3/360.
(3) وفيات الأعيان: 3/168.(المقدمة/44)
أو تفكَّر في نفسه ساعة، وإذا شرع في حكاية الأحوال، وخاض في علوم الصوفية في فصول مجالسه بالغدوات: أبكى الحاضرين ببكائه، وقطّر الدماء من الجفون بزعقاته ونعراته وإشاراته، لاحتراقه في نفسه، وتحققه بما يجري من دقائق الأسرار " (1) . اهـ.
وقد تجلّى ذلك في خلقه وسلوكه مع من حوله، ومن ذلك خلق التواضع، فقد ذكروا: " أنه كان من التواضع لكل أحد بمحلٍّ يتخيل منه الاستهزاء، لمبالغته فيه.
ومن حميد سيرته: أنه ما كان يستصغر أحداً حتى يسمع كلامه، شادياً كان أو متناهياً.. صغيراً كان أو كبيراً، ولا يستنكف أن يَعزي الفائدة المستفادة إلى قائلها، ويقول: إن هذه الفائدة مما استفدته من فلان، وإن كان من تلاميذه ".
" وإذا لم يرض كلام أحد زيّفه، ولو كان أباه أو أحد الأئمة المشهورين " (2) .
فهذا كله ينطق بأن هذا الإمام قد رُزق من نقاء القلب ما رُزق من ذكاء العقل، والله يختص بفضله من يشاء.
الإخلاص والشجاعة:
ومن الفضائل التي تميز بها إمام الحرمين، وتبدو واضحة لكل من درس حياته وتراثه بلا تعصب له ولا عليه: الإخلاص في طلب الحقيقة، عن طريق العقل الناقد، والشرع الضابط، فإذا كَشفت له الحقيقة قناعَها، ومدت له شعاعَها، بادر إلى الإيمان بها واعتناقِها، والإعلانِ عنها، بشجاعة لا نظير لها، وإن كانت مخالفة لما عليه الجمهور، أو ما عليه المذهب، وما مضى عليه دهراً من حياته، وقضى سنين عدداً وهو يدرسه ويصنّف فيه، ويذود عنه، ويحث على اتباعه.
وهذا واضح في مذهبه (العقدي) أكثر منه في مذهبه الفقهي. فمن المعروف والمشهور: أن إمام الحرمين كان من كبار متكلمي الأشاعرة، المؤوِّلين لآيات الصفات وأحاديثها، المدافعين عن التأويل. وقد برز في (علم الكلام) واشتهر به، وصنف فيه التصانيف التي سارت بذكرها الركبان، مثل (الشامل) و (الإرشاد)
__________
(1) الطبقات الكبرى: 5/180.
(2) المرجع السابق، وانظر: شذرات الذهب: 3/360.(المقدمة/45)
و (اللمع) و (النظامية) وغيرها، وأخذ عنه هذا العلم كثيرون من تلاميذه النوابغ، وكان يتكلف في تأويله والدفاع عن مذهبه الأشعري إلى حد الاعتساف أحياناً، الذي لايرضاه المنصفون. وهذا شأن البشر.
وقد ذكر مؤرخ الإسلام الحافظ الذهبي في (سير الأعلام) ما جرى بينه وبين أبي القاسم بن بَرهان من مناظرة في (أفعال العباد) . ومن المعروف لدى المتمرسين بمسائل الكلام: أن مذهب الأشعري في أفعال العباد من أضعف المذاهب، حتى ضرب به المثل في الخفاء، فقيل: أخفى من كسب الأشعري. ومع هذا كان الجويني في أول أمره يجادل عنه ويرد على خصومه، ويتأول صريح القرآن، وهو ما نقله الذهبي عن العلامة الحنبلي ابن عقيل في (فنونه) قال: قال عميد المُلك: قدم أبو المعالي، فكلم أبا القاسم بن بَرهان في العباد: هل لهم أفعال؟ فقال أبو المعالي: إن وجدت آية تقتضي ذا، فالحجة لك. فتلا:
(وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ) [المؤمنون: 63] ومد بها صوته، وكرر: (هم لها عاملون) [المؤمنون: 63] وقوله تعالى: (لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) [التوبة: 42] أي كانوا مستطيعين. فأخذ أبو المعالي يستروح إلى التأويل. فقال (أي ابن بَرهان) : " والله إنك بارد. تتأول صريحَ كلام الله، لتصحح بتأويلك كلامَ الأشعري!! وأكَلَه ابن برهان (أي أعياه) بالحجة، فبهت " (1) .
هكذا كان أبو المعالي إمام الحرمين، دهراً من حياته، ولا غرو أن اعتبره بعض الباحثين المؤسس الثاني للمذهب الأشعري، وكتب أستاذنا الشيخ علي جبر في كلية أصول الدين رسالة الأستاذية له عن (إمام الحرمين باني الأشعرية الحديثة) وإن لم نرها مطبوعة. ولكن الله شرح صدره للحق، فوجدناه في أواخر حياته قد غير نهجه، ورجع عن طريق التأويل -طريق الخلف- إلى طريق السلف في ترك الخوض، والانكفاف عن التأويل، كما أثبت أن للإنسان قدرة مؤثرة في أفعاله بإقدار الله تعالى وتمكينه، وليست مستقلة عن القدرة الإلهية. ولم يستنكف عن إعلان ذلك بكل
__________
(1) سير أعلام النبلاء جـ 18/469.(المقدمة/46)
صراحة وجلاء. وهو ما ذكره في (الرسالة النظامية في الأركان الإسلامية) (1) .
قال إمام الحرمين:
" اختلفت مسالك العلماء في الظواهر التي وردت في الكتاب والسنة، وامتنع على أهل الحق فحواها وإجراؤها على موجب ما يبرزه أفهام أرباب اللسان فيها.
فرأى بعضهم تأويلَها، والتزامَ ذلك في القرآنِ وما يصح من السنن، وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل، وإجراءِ الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الرب تعالى.
والذي نرتضيه رأياً، وندين الله به عقداً: اتباعُ سلف الأمة، فالأولى الاتباع، وتركُ الابتداع. والدليل السمعي القاطع في ذلك: أن إجماع الأمة حجةٌ متبعة، وهو مستند معظم الشريعة، وقد درج صحب الرسول صلى الله عليه وسلم على ترك التعرض لمعانيها ودرك ما فيها، وهم صفوةُ الإسلام المستقلون بأعباء الشريعة، وكانوا لا يألون جهداً في ضبط قواعد الملة، والتواصي بحفظها، وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها، فلو كان تأويل هذه الظواهر مسوغاً أو محتوماً؛ لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة.
فإذا تصرَّم عصرهم وعصرُ التابعين على الإِضراب عن التأويل؛ كان ذلك قاطعاً بأنه الوجه المتبع، فحق على ذي الدين أن يعتقد تنزه الباري عن صفات المحْدَثين، ولا يخوضَ في تأويل المشكلات، ويكلَ معناها إلى الرب. وعند إمام القراء وسيدهم الوقف على قوله تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) [آل عمران: 7] ، من العزائم، ثم الابتداء بقوله: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) [آل عمران: 7] ، ومما استحسن من إمام دار الهجرة مالك بن أنس أنه سئل عن قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه: 5] ، فقال: الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، والسؤال عنه بدعة.
__________
(1) طبعت في القاهرة بتحقيق المحدث الفقيه الحنفي المعروف الشيخ محمد زاهد الكوثري. وقد طبعت تحت عنوان (العقيدة النظامية) ويبدو أن الذي طبع منها فقط هو جانب العقيدة، وهو ما وجد منها، إذ لم يعثر على باقيها إلى الآن.(المقدمة/47)
فلتُجْرِ آيةَ الاستواء والمجيء (1) وقوله: (لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) [ص: 75] . وَيَبْقَى (وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن: 27] . و (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا) [القمر: 14] . وما صح من أخبار الرسول كخبر النزول وغيره على ما ذكرناه، فهذا بيان ما يجب لله" (2) .
ونقل الحافظ الذهبي عن الفقيه غانم الموشيلي قال: " سمعت الإمام أبا المعالي يقول: لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ما اشتغلت بالكلام " (3) .
وقال الذهبي: " قال الحافظ محمد بنُ طاهر: سمعت أبا الحسن القيرواني الأديب -وكان يختلف إلى درس الأستاذ أبي المعالي في الكلام- فقال: سمعت أبا المعالي اليوم يقول: يا أصحابنا: لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ ما اشتغلت به " (4) .
وقد علق السبكي على هذا القول فقال: يشبه أن تكون هذه الحكاية مكذوبة على إمام الحرمين، وابن طاهر عنده تحامل على إمام الحرمين، والقيرواني المشار إليه: رجل مجهول.
ولكن يعكر على هذا ما نقله الموشيلي عنه، ولم يتعقبه السبكي، ثم الأقوال الأخرى لإمام الحرمين في رجوعه إلى طريق السلف تؤكد صحةَ هذه الرواية. كما أن روايات الحفاظ لا تسقط بمثل التهم التي ذكرها السبكي، وأي تحامل على إمام
الحرمين في هذه الرواية؟ بل فيها ما يرفع من قدره.
وحكى الفقيه أبو عبد الله الحسن بن العباس الرستمي قال: "حكى لنا أبو الفتح الطبري الفقيه قال: دخلت على أبي المعالي في مرضه، فقال: اشهدوا علي أني قد رجعت عن كل مقالة تخالف السنة، وأني أموت على ما يموت عليه عجائز نيسابور" (5) .
__________
(1) آية المجيء قوله تعالى: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [الفجر: 22] .
(2) العقيدة النظامية: ص 23، 24. وقد نقل هذا النص الذهبي في (الأعلام) ج 18/473، 474.
(3) سير أعلام النبلاء: 18/473.
(4) المنتظم: 9/19، وطبقات السبكي: 5/186.
(5) طبقات السبكي: 5/191.(المقدمة/48)
وهذه الرواية قد أقرها السبكي، ولم يعترض عليها.
قال الذهبي:
"وقرأت بخط أبي جعفر (محمد بن أبي علي) : سمعت أبا المعالي يقول: قرأت خمسين ألفاً في خمسين ألفاً، ثم خليت أهل الإسلام بإسلامهم فيها وعلومهم الظاهرة، وركبت البحر الخضم، وغصت في الذي نهي أهل الإسلام عنه، كل ذلك في طلب الحق، وكنت أهرب في سالف الدهر من التقليد، والآن فقد رجعت إلى كلمة الحق، عليكم بدين العجائز، فإن لم يُدركني الحق بلُطف بره، فأموتَ على دين العجائز، ويختم عاقبة أمري عند الرحيل على كلمة الإخلاص: لا إله إلا الله، فالويل لابن الجويني (1) ! يعني: نفسه.
يقصد بالذي نُهي عنه أهل الإسلام: علم الكلام، فقد نهى عنه إمامه الشافعي، ونهى عنه مالك وأحمد، وغيرهما من الأئمة".
ويبدو أنه تأول نَهْي أهل الإسلام أنهم نهوا من يخاف عليه السباحة في هذا البحر الخضم، ويخشى عليه من الغرق، وهو يرى نفسه أقوى من ذلك.
كما قصد بتخلية أهل الإسلام وعلومهم الظاهرة: أنه دخل في العلوم العقلية والفلسفية وتغلغل فيها، ولم يشتغل بالعلوم النقلية من الحديث والآثار ونحوها، كما اشتغل بها غيره.
وهذا القول من هذا الإمام الكبير الذي أنفق عمره في هذا اللون من الثقافة العقلية التي امتزجت بفلسفة اليونان وجدلياتهم، التي لا تنفع غليلاً، ولا تهدي سبيلاً.. هذا القول يؤكد أن لا طريق أهدى ولا أجدى من طريقة القرآن في تأسيس العقيدة، وهي الأقرب إلى الفطرة، والألصق بالعقل والوجدان، وهو ما كان عليه الصحابة وتابعوهم بإحسان.
وإنما يستفاد من (علم الكلام) في الدفاع عن العقيدة في مواجهة المخالفين من أصحاب الأديان والفلسفات الأخرى، والفرق المبتدعة.
__________
(1) الخبر في (المنتظم) لابن الجوزي: 9/19، وأعلام النبلاء: 18/471، و (طبقات الشافعية) للسبكي: 5/585.(المقدمة/49)
وهو ما وضحه من بعد، تلميذه حجة الإسلام الغزالي، حين بين أن علم الكلام: علم مُحْدَث أريد به حراسة عقائد العوام من تشويش المبتدعة.
وقال في (الإحياء) : (اعلم أن حاصل ما يشتمل عليه علم الكلام من الأدلة التي ينتفع بها، فالقرآن والأخبار (أي الأحاديث) مشتملة عليه. وما خرج عنهما، فهو إما مجادلة مذمومة، وهي من البدع ... وإما مشاغبة بالتعلق بمناقضات الفِرق لها، وتطويلٌ بنقل المقالات التي أكثرها ترهات وهذيانات، تزدريها الطباع، وتمجها الأسماع، وبعضها خوض فيما لايتعلق بالدين، ولم يكن شيء منه مألوفاً في العصر الأول، وكان الخوض فيه بالكلية من البدع، ولكن تغير الآن حكمُه، إذ حدثت البدعة الصارفة عن مقتضى القرآن والسنة، ونبتت جماعة لفقوا لها شُبَهاً، ورتبوا فيها كلاماً مؤلفاً، فصار ذلك المحذور بحكم الضرورة مأذوناً فيه، بل صار من فروض الكفايات. وهو القدر الذي يقابل به المبتدع، إذا قصد الدعوة إلى البدعة، وذلك إلى حد محدود) (1) .
فلا غرو أن يروى عن إمام الحرمين ما رُوي من البراءة من (علم الكلام) والعودة إلى طريقة القرآن (2) .
وقد اجتهد العلامة تاج الدين السبكي في طبقاته الكبرى: أن ينحو بهذا الكلام الجلي الواضح من إمام الحرمين، منحى آخر غيرَ ما يتبادر منه، دفاعاً منه عن (علم الكلام) الموروث، ووجه كلمات هذا الإمام العظيم الشجاع المخلص، إلى معانٍ متكلفة لا ينشرح لها الصدر.
وتحامل السبكي على شيخه الإمام الذهبي، تحاملاً لا يقبل من مثله في مثله؛ فالواقع أني ما رأيت مؤرخاً منصفاً مثلَ الذهبي، حتى مع أعلام المعتزلة وأمثالهم.
على أن إمام الحرمين ليس هو وحده الذي انتهى إلى رفض التأويل، وترجيح مذهب السلف، وتفويض حقائق هذه الألفاظ ومعانيها إلى الله تعالى.
__________
(1) إحياء علوم الدين ج 1/22، 23 طبعة دار المعرفة - بيروت.
(2) اقرأ تفسيراً مخالفاً ينكر هذا الرجوع فيما يأتي ص 206 تحت عنوان (موقف إمام الحرمين من علم الكلام) . عبد العظيم.(المقدمة/50)
فقد رجع من قبله شيخه أبو الحسن الأشعري في كتابه (الإبانة) وفي (رسالة إلى أهل الثغر) وغيرهما. ورجع من بعده تلميذه حجة الإسلام أبو حامد الغزالي، وذلك في كتابه: (إلجام العوام عن علم الكلام) .
ولكن موقف شيخه إمام الحرمين كان أصرح وأوضح، فإن الغزالي اعتبر علم الكلام شأنَ الخواص، وجمهرةُ العلماء من الفقهاء والمفسرين والمحدثين والمتكلمين، وغيرهم يعتبرون من العوام في هذا الأمر عند الغزالي.
أما الخواص، فقد يوجد في كل عصر منهم واحد، أو اثنان.
ورجع بعد ذلك: الفخر الرازي (ت 606 هـ) الذي كان من أكبر المحامين المدافعين عن التأويل، وصنف فيه أكثر من كتاب، مثل (تأسيس التقديس) وغيره.
ثم قال في الطور الأخير من حياته العلمية:
" لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن: أقرأ في الإثبات: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه: 5] ، (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) [فاطر: 10] وأقرأ في النفي: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى: 11] ، ومن جرب مثل تجربتي، عرف مثل معرفتي "! (1)
وجاء في (طبقات الشافعية) لابن قاضي شهبة: 2/82 ما نصه: قال ابن الصلاح: أخبرني القطب الطوغاني مرتين: أنه سمع فخر الدين الرازي يقول: ياليتني لم أشتغل بعلم الكلام! وبكى (2) .
قال الإمام الشوكاني في (إرشاد الفحول) :
" وهؤلاء الثلاثة، أعني: الجويني والغزالي والرازي، هم الذين وسعوا دائرة التأويل، وطولوا ذيوله، وقد رجعوا آخراً إلى مذهب السلف، كما عرفت، فلله الحمد، كما هو أهله " (3) .
__________
(1) سير النبلاء: 21/500.
(2) ذكر ذلك الشيخ شعيب الأرناؤوط في مقدمته لكتاب (أقاويل الثقات) للشيخ مرعي الحنبلي ص 22 نشر مؤسسة الرسالة، بيروت.
(3) إرشاد الفحول 2/49 بتحقيق د. شعبان محمد إسماعيل.(المقدمة/51)
على أن إمام الحرمين لم يكتف بالرجوع إلى مذهب السلف نظرياً، بل حث الأئمة والمسؤولين عن قيادة الأمة -والمحافظة على الدين أول واجباتهم- أن يجعلوا مذهب السلف ونهجهم في تعلم التوحيد هو ما ينبغي أن يعلم للكافة.
أكد في (الغياثي) : " أن الذي يحرص الإمام عليه: جمعُ عامة الخلق على مذهب السلف السابقين، قبل أن نبغت الأهواء، وزاغت الآراء: وكانوا رضي الله عنهم ينهَوْن عن التعرض للغوامض، والتعمق في المشكلات، والإمعان في ملابسة المعضلات، والاعتناء بجمع الشبهات، وتكلف الأجوبة عما لم يقع من السؤالات، ويرَوْن صرفَ العناية إلى الاستحثاث على البر والتقوى، وكف الأذى، والقيام بالطاعة حسب الاستطاعة، وما كانوا ينكّفون -رضي الله عنهم- عما تعرض له المتأخرون عن عيّ وحَصَر، وتبلُّدٍ في القرائح. هيهات!
فقد كانوا أذكى الخلائق أذهاناً، وأرجحهم بياناً، ولكنهم استيقنوا أن اقتحام الشبهات، داعية الغوايات، وسبب الضلالات، فكانوا يحاذرون في حق عامة المسلمين ما هم الآن به مبتلوْن، وإليه مدفوعون، فإن أمكن حملُ العوام على ذلك، فهو الأسلم " (1) .
ونعم ما أوصى به هذا الإمام.
فكل خير في اتباع من سلف ... وكل شر في ابتداع من خلف
إمام الحرمين وعلم الحديث:
عُرف إمام الحرمين بالتقدم والإمامة في عدد من العلوم الإسلامية: مثل أصول الدين، وأصول الفقه، والفقه، والخلاف، ولكن لم يكن له قدم راسخة في الحديث وعلومه. وسبحان من وزع المواهب.
وقد عبر عن هذا الجانب مؤرخو الإمام والمعقبون عليه، بعبارات مختلفة، مغزاها كلها: أنه لم يكن من أهل هذا الشأن.
__________
(1) انظر: الغياثي: فقرة (280) بتحقيق د. عبد العظيم الديب.(المقدمة/52)
قال ذلك السمعاني في (أنسابه) : " كان قليل الرواية للحديث معرضاً عنه " (1) .
وقال ياقوت في (معجم البلدان) نفس ما قاله السمعاني (2) .
وقال الحافظ ابن حجر في (التلخيص) في تعليقه على ما قاله إمام الحرمين حول ثبوت الطمأنينة في الاعتدال: وهو من المواضع العجيبة التي تقضي على هذا الإمام بأنه كان قليل المراجعة لكتب الحديث المشهورة، فضلاً عن غيرها، فإن ذكر الطمأنينة في الجلوس ثابت في الصحيحين (3) .
وقال نحوه من قبله ابن الصلاح في (الفتاوى الحديثية) وهو -كابن حجر- من الشافعية المرموقين.
ولعل أشد العبارات في ذلك هي عبارة الإمام الذهبي في (أعلام النبلاء) ، حيث قال: " كان هذا الإمام، مع فرط ذكائه، وإمامته في الفروع وأصول المذهب، وقوة مناظرته: لا يدري الحديث، كما يليق به، لا متناً ولا إسناداً. ذكر في كتاب (البرهان) حديث معاذ في القياس، فقال: هو مدون في الصحاح، متفق على صحته. قلت -والقائل الذهبي-: بل مداره على الحارث بن عمرو، وفيه جهالة، عن رجال من أهل حمص عن معاذ، فإسناده صالح (4) . ا. هـ.
وقد أغضبت هذه العبارة أخانا الدكتور عبد العظيم الديب، محقق كتب الإمام، كما أغضبت من قبله العلامة تاج الدين السبكي في طبقاته الكبرى.
والعبارة فيها شدة ولا ريب، ولكن لا إلى الحد الذي أغضب الشيخ السبكي والدكتور الديب، فقد قيد الذهبي قوله بأنه " لا يدري الحديث كما يليق به " سواء كان هذا الضمير للحديث أم للإمام نفسه، أي لا يدريه على الوجه اللائق بهذا العلم أو بهذا الإمام (5) . وهذا حق لا أحسب أن إمام الحرمين نفسَه ينكره. وقوله عن حديث
__________
(1) الأنساب: 3/386.
(2) معجم البلدان: 2/193.
(3) تلخيص الحبير 1/256، 257 بتعليق عبد الله هاشم اليماني.
(4) أعلام النبلاء: 18/471، 472.
(5) اقرأ الفصل السادس من هذه المقدمات. (عبد العظيم) .(المقدمة/53)
معاذ ما قال لا يتفق مع ما قرره أهل الحديث إلا بتاويل وتكلف. وقد رأيناه في كثير من الأحيان يستدل بأحاديث ضعيفة، بل شديدة الضعف، حتى في الأصول (1) ، وأحاديث لا يعرفها المحدثون أنفسهم، وقد يعزو الحديث إلى غير من أخرجه، أو إلى غير صحابيه ... إلى آخره.
وفي رأي: أن الرجل غني عن هذا كله، فهو -بلا نزاع- ليس من المدرسة الحديثية النقلية، بل هو من المدرسة التي تجمع بين العقل والنقل، وكلامه نفسه رضي الله عنه يدل على هذا بوضوح وصراحة. وقد رد هو والباقلاني من قبله والغزالي من بعده: حديث " لأزيدن على السبعين " في الاستغفار لابن أُبيّ، وهو متفق عليه، لاعتقادهم أنه ينافي الفهم الصحيح لآية (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) [التوبة: 80] .
لنقرأ له هذه العبارة في (البرهان) يقول:
وهو يناقش تحمل الرواية وجهة تلقيها: " ولو عُرض ما ذكرناه على جملة المحدثين لأَبَوْه ... وهم عصبة لا مبالاة بهم في حقائق الأصول، وإذا نظر الناظر في تفاصيل هذه المسائل صادفها خارجة في الرد والقبول على ظهور الثقة وانخرامها، وهذا هو المعتمد الأصولي، قإذا صادفناه لزمناه، وتركنا وراءه المحدثين يتقطعون في وضع ألقاب، وترتيب أبواب " (2) .
فهذه نظرته إلى (المحدثين) عصبة لا مبالاة بهم في حقائق الأصول، وهو لا يعبأ أن يتركهم وراءه يتقطعون قي وضع ألقاب، وترتيب أبواب!
على أن هذا -عدم دراية الحديث كما يليق به- ليس خاصاً بإمام الحرمين، بل هو عام في فحول المدرسة الأشعرية كلها.
__________
(1) كاستدلاله بحديث (أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم) البرهان: فقرة (1548) وقد ضعفه ابن حزم وابن عبد البر وغيرهما، وقال الألباني في سلسلة (الضعيفة) رقم (58) : موضوع. واستدلاله بحديث "اختلاف أمتي رحمة" الغياثي (277) والحديث لم يعرف له سند. وقد افترض إمام الحرمين في (الغياثي) اندراس الشريعة، وانقراض حملتها تماماً وبنى على ذلك أحكاماً، وهو مخالف لأحاديث (بقاء الطائفة المنصورة) التي صحت واشتهرت واستفاضت عن عدد من الصحابة، وربما تواترت.
(2) البرهان: ج 1 فقرة (592) وفقرة (593) .(المقدمة/54)
فهكذا كان الأشعري والباقلاني من قبل، وكذلك كان الغزالي والرازي والآمدي وغيرهم من بعد.
وربما أغناه عن العناية بالحديث رجال نذروا أنفسهم لخدمته، وهيأهم الله لذلك، وخصوصاً من الشافعية، وكل ميسر لما خلق له.
وقد كان في عصر إمام الحرمين من هؤلاء أمثال الحافظ المتقن الكبير، أبي بكر البيهقي (ت 458 هـ) صاحب (السنن الكبرى) و (معرفهّ السنن والآثار) و (جامع شعب الإيمان) وغيرها من الموسوعات، والذي قال فيه إمام الحرمين نفسه: "ما من شافعي إلا وللشافعي في عنقه منة، إلا البيهقي؛ فإنه له على الشافعي منة، لتصانيفه في نصرته لمذهبه وأقاويله" (1) .
إمام الحرمين ومعاصروه:
عاصر إمام الحرمين علماء كبار كثيرون من مختلف المذاهب، فقد كان القرن الخامس الهجري، حافلاً بالنوابغ في مختلف أنواع العلوم والدراسات الإسلامية، في المشرق والمغرب (الأندلس) .
ففي المغرب كان ابن حزم الظاهري (456 هـ) وابن عبد البر المالكي (463 هـ) وفي المشرق ظهر القاضي أبو الطيب الطبري في الفقه (448 هـ) وكما ظهر البيهقي في الحديث (458 هـ) والخطيب البغدادي (463 هـ) وكلهم شافعية.
ونبغ في الفقه والنظر: أبو إسحاق الشيرازي (456 هـ) .
وأبرز من يقارن بإمام الحرمين في الفقه هو: أقضى القضاة أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) وهو شافعي كإمام الحرمين، وكلاهما له كتاب كبير في الفقه: ألف
__________
(1) الطبقات الكبرى للسبكي: 4/10 في ترجمة البيهقي. وقد وقع للبيهقي مع والد إمام الحرمين الشيخ أبي محمد حادثة معروفة، حين شرع فىِ تاليف كتاب المحيط) الذي عزم فيه ألا يتقيد بالمذهب، وإنما يعتمد على الأحاديث. وأصدر منه ثلاثة أجزاء اطلع عليها البيهقي. وكتب له رسالة يبين له فيها أوهامه وأغلاطه فيما استند إليه من حديث، فشكر له الشيخ وأعرض عن تكميل الكتاب وقد ذكر ذلك الأستاذ السيد أحمد صقر في مقدمته لكتاب البيهقي في (مناقب الشافعي) .
وكذلك د. أحمد بن عطيه الغامدي في مقدمته لكتاب (البيهقي وموقفه من الإلهيات) .(المقدمة/55)
الماوردي كتاب (الحاوي) في فقه الشافعية، كما ألف إمام الحرمين (النهاية) ، وكلاهما له كتاب في السياسة الشرعية: الماوردي له كتاب (الأحكام السلطانية) الشهير، وإمام الحرمين له كتاب (غياث الأمم) أو الغياثي.
ولكن لكل من الرجلين شخصيته المتميزة فيما يكتب ويصنف، فإمام الحرمين أبعد وأعمق، والماوردي أقرب وأسهل. إمام الحرمين يُعمل العقلَ أكثر من النقل، والماوردي يعمل النقل أكثر من العقل، وقد يعبر عن هذا فيقال: الأول عقله أكبر من علمه، والثاني علمه أكبر من عقله. وكأن إمام الحرمين يصنف للمنتهين، والماوردي يصنف للمبتدئين والمتوسطين، الأول مولع بالأصيل والجديد، والثاني مهتم بتقرير التليد. الأول همه ماذا يقول؟ والثاني همه -مع هذا- ماذا قال السابقون؟ الأول محسوب على أهل الإبداع، والثاني محسوب على أهل الاتباع. ولكل منهما فضله وأثره، وسوقه، ومحبوه، وأجره إن شاء الله، وإن جار الإمام الجويني على عصريِّه الماوردي، وأساء إليه، كما سنرى، غفر الله له.
كلمة عتاب لإمام الحرمين (1) :
هذا هو إمام الحرمين: إمام علا القمة بجدارة، وأوفى على الغاية في فكره وفقهه، وفي إنتاجه وعطائه، وفي مكارمه وفضله، وفي غيرته على دينه ودفاعه عنه، ومع هذا، فالكمال لله تعالى وحده، والعصمة لرسوله صلى الله عليه وسلم.
وكم كنت أتمنى لهذا الإمام الكبير ألا يبالغ في مدح نظام الملك، كما هو ظاهر في أكثر من موضع في كتابه (الغياثي) وفي مقدمته خاصة، حين قال في قصيدة له يمدحه بها:
وما أنا إلا دوحة قد غرستها ... وأَسْقَيتها، حتى تمادى بها المدى
فلما اقشَعَر العودُ منها وصَوَّحت ... أتتك بأغصان لها تطلبُ الندى
وقد قال التاج السبكي: " إنه وجد بخطه رضي الله عنه في خطبته للغياثي -وهو عنده بخطه- أنه قد ضرب على البيتين الأخيرين، قال السبكي: وسررت بذلك، فإني سمعت شيخ الإسلام -يعني والده التقي السبكي- رحمه الله يحكي عن شيخنا
__________
(1) هذا تعبير فضيلة الدكتور القرضاوي ورأيه، ونحن مأمورون بذكر محاسن موتانا؛ كما في الحديث الصحيح. اهـ (الناشر) .(المقدمة/56)
أبي حيان: أنه كان يتعاظمهما، ويقول: كيف يرضى الإمام أن يخاطب (النظام) بهذا الخطاب؟! ثم يذم الدنيا التي تُحْوج مثل الإمام إلى مثل ذلك! " (1) .
وما يدرينا لعل نيته في ذلك خير ينشده للدين أو للمسلمين، وإنما لكل امرىء ما نوى (2) ، أو لعلها لحظة ضعف مما يعتري البشر، استدركها الإمام على نفسه، وإنما استعظمت منه لأنه عظيم حقاً.
كما كنت أود ألا يغلو في نقده للمذهب الحنفي، إلى حد العنف الجارح، الذي لا يليق من أهل العلم بعضهم لبعض، كما بدا ذلك في كتابه (مغيث الخلق في اختيار الأحق) . وقد أنكر بعضهم نسبة الكتاب إليه، ولعل أخي عبد العظيم منهم، وكم أتمنى أن يصح ذلك. ولكن وجدت في أواخر (البرهان) (3) ما يؤيد بعض ما في الكتاب. كما أن المؤرخين من بعده نسبوا الكتاب إليه.
وقد وعد الدكتور الديب أن ينشر بحثاً موثقاً بالقرائن والأدلة: أن هذا الكتاب -أو بعضه على الأقل- مدسوس على إمام الحرمين. وإني لأرجو مخلصاً أن يوفق إلى ذلك.
وكذلك لم أكن أحب له أن يشتد في نقد إمام دار الهجرة مالك بن أنس، لأمور لم تثبت عنه، كالقول بقتل الثلث لإبقاء الثلثين، ونحو ذلك - وإن كان في بعض الأحيان قيدها بقوله: إذا صح ذلك عنه، وهذا هو الواجب، واللائق بمثله.
وأيضاً لم أكن أود من رجل كبير مثله أن يتحدث عن معاصره قاضي القضاة أبي الحسن الماوردي (ت 450) بمثل تلك اللهجة الساخرة المهينة (4) ، التي قرأناها
__________
(1) الطبقات: 5/209.
(2) حقا لم يكن نظام الملك مجرد صاحب سلطان وصولجان، ولكنه كان من أهل الفقه والحديث، وهو الذي قضى على التمزق والطائفية، وأحيا السنة، وأنشا المدارس النظامية، وهو صانع النصر التاريخي في معركة (ملاذ كرد) التي أسر فيها امبراطور الروم.
وقد بلغ من مكانته ومنزلته أنهم قالوا: "يوم مات نظام الملك رئي مكتوباً في السماء: اليوم رفع العدل من الأرض".
وكم أتمنى أن يتحقق أملي في أن أكتب ترجمة وافية لنظام الملك. (عبد العظيم) .
(3) البرهان: فقرة (1553) ص 1364، 1365 من الجزء الثاني.
(4) انظر ما قاله عنه في (الغياثي) فقرات: (209، 232، 233) .(المقدمة/57)
في أكثر من موقع، ولا سيما في كتابه (الغياثي) ، واستقبلناها بالغرابة والإنكار، وهو ما جعل سلفنا -رضي الله عنهم- يحذرون من أخذ أقوال المتعاصرين بعضهم في بعض!
ويبدو أن هذا الإمام الفذ -مع عقله الكبير- كان حار العاطفة، حاد المزاج، فلا يبعد أن تغلبه -مثل كثير من العظماء- حدة الطبع، فتدفعه إلى المبالغة في المدح إذا مدح، وإلى الإسراف في النقد إذا نقد، وهذا يؤكد أن الإنسان هو الإنسان، وإن بلغ في العلم والفضل ما بلغ، وقد قال الشاعر قديماً:
من ذا الذي ما ساء قط ... ومن له الحسنى فقط؟!
ومهما يكن الأمر، فحسنات الرجل أكثر، وفضائله أغزر، ومكارمه أكبر، والله أعلم بالسرائر، وفي الحديث الذي استدل به الشافعية: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث" (1) وفي رواية: "لم ينجسه شيء" (2) فكيف إذا كان بحراً زاخراً؟ غفر الله لإمام الحرمين وجزاه خيراً عما قدم لدينه وأمته.
3- المحقق
وأما المحقق، فهو الأخ الصديق الصدوق: الأستاذ الدكتور عبد العظيم محمود الديب، الذي أعرفه منذ كان طالباً في القسم الابتدائي بمعهد طنطا الديني (3) ، وتربطني به منذ ذلك الزمن صلة وثيقة، لم تزدها الأيام إلا قوة، وإن كان يصغرني ببضع سنوات.
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم وغيرهم عن ابن عمر. وذكره في صحيح الجامع الصحيح (416) .
(2) رواه ابن ماجه عن ابن عمر. المصدر السابق (417) .
(3) عرفني به صديقي وصديقه وبلديّه أخي الحبيب محمد الدمرداش سليمان مراد، رفيقي في المسكن والدراسة والدعوة والمعتقل، والذي وافته المنية في ريعان شبابه في صيف 1962 عليه رحمة الله ورضوانه، وقد كنا مجموعة من الشباب الأزهري المسلم، تلاقت على الدعوة الإسلامية أفكارهم، وتحابت قلوبهم، واتحدت غاياتهم، واتضحت مناهجهم، منهم: أحمد العسال، ومحمد السيد الوزير، ومحمد الصفطاوي، وآخرون من المتميزين، منهم من قضى نحبه ومنهم من يتتظر، وما بدلوا تبديلاً.(المقدمة/58)
ولا تمنعني أخوتي وصداقتي له أن أوفيه حقه من التقدير، فقد قال تعالى: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) [الأنعام: 152] .
وكما أن العدل يوجب أن تقول فيمن تحب: ما هو عليه، فهو يوجب أن تقول فيه: ما هو له.
(وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) [هود: 85] .
عرفت الدكتور الديب -منذ يفاعته- رجل صِدْق: صِدْقٍ مع نفسه، وصدق مع ربه، وصدق مع إخوانه، وصدق مع الناس أجمعين، مستمسكاً بالعروة الوثقى لا انفصام لها.
وعرفته قوي الإيمان، عميق اليقين، نير البصيرة، نقيَّ السريرة، يقظَ الضمير، حي القلب، جياش العاطفة، طاهر المسلك، بعيداً عن الريبة.
وعرفت فيه الحماسة والغيرة لما يؤمن به، لا يضن بجهد ولا وقت ولا نفس ولا نفيس في سبيل ما يؤمن به، مدافعاً عنه، وإن خالفه الناس. وقد يغلو في الدفاع عن بعض الفصائل الإسلامية، حتى يكاد يحسبه سامعه من المتشددين، وما هو منهم.
تجسدت فيه الأخلاق العريقة للقرية المصرية -قبل أن تُغزى بآفات الحضارة الحديثة- من الحياء والإباء، والشهامة والوفاء، والبر والصلة، كما يتجلى ذلك في إهداءاته لكتبه، وشكره لشيوخه وزملائه، وكل من عاونه بجهد.
أحسبه كذلك، والله حسيبه، ولا أزكيه على الله تعالى.
وقد تجلت هذه الفضائل التي عُرف بها الديب يافعاً وشاباً، في حياته العلمية المباركة، كهلاً وشيخاً، ومن شب على شاب عليه.
وإذا رأيتَ من الهلال نمؤَّه ... أيقنت أن سيصير بدراً كاملا!
فالدكتور الديب رجل عالم بحاثه دؤوب، طويلُ النفس، دقيق الحس، نافذ البصيرة، متمكن من مادته، قادر على الموازنة والتحليل، له ملكة علمية أصيلة يقتدر بها على الفهم والفحص، والنقد. صبور على متاعب العلم، وللعلم متاعب ومشقات(المقدمة/59)
لا يدركها إلا من مارسها وعايشها، كما قال الشاعر:
لا يعرف الشوقَ إلا من يكابده ... ولا الصبابةَ إلا من يعانيها!
وقديماً قالوا: إن العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كُلَّك، وقد أعطى الرجلُ العلمَ كلَّ نفسه، وكلَّ جهده، وكلَّ وقته، وأعطاه العلم ما يستحق.
وأنا أعرف أن الدكتور الديب رجلٌ له قلم رشيق بليغ، كما تجلى ذلك في بعض ما كتب من مقالات ورسائلَ وكتبٍ.
ومع هذا لم يشغل (التأليفُ) وقته، كما شغله (التحقيق) فقد اختار الطريقَ الوعر، والمهمةَ الأصعب، وهو لها بتوفيق الله: بما لديه من مؤهلات عقلية وعلمية ونفسية؛ فقد حفظ القرآن من صغره في الكتّاب، وتكون في معاهد الأزهر، الابتدائية والثانوية، ثم في كلية (دار العلوم) بالجامعة، وكان فيها فحولٌ في علوم العربية والشريعة.
وملك مفاتيح العلم، وعاش يقرأ ويدرس ويناقش، ويتعلم من كبار الشيوخ، وأساتذة التحقيق، وقد اكتملت له الخصال أو المزايا الست، التي أوصى بها شيخُه الإمام الجويني طُلأبَ العلم، فيما أنشدوا له من شعر، حيث قال:
أصخ، لن تنال العلم إلا بستة ... سأنبيك عن تفصيلها ببيان
ذكاء، وحرصٌ، وافتقار، وغربة ... وتلقينُ أستاذ، وطولُ زمان
وقد عكف الأخ عبد العظيم منذ دخل ميدان التحقيق على تراث إمام الحرمين، فهو مولع بالرجل منذ عرفه في دراسته عنه بالماجستير والدكتوراه بدار العلوم.
بل هو في الحقيقة (عاشق) لإمام الحرمين، كما تحس بذلك إذا تحدث عنه أو كتب عنه. والعاشق تهون عليه الصعاب، ويجد البعيد قريباً، والحَزْنَ سهلاً، في سبيل معشوقه.
ولقد بلغ من إعجاب الدكتور الديب بشيخه -بل من عشقه له- أنه لا يطيق أحداً ينكر عليه بعض هفواته، ولو كان من الشافعية أنفسهم، مثل ابن الصلاح، وابن حجر العسقلاني، وأمثالهما.(المقدمة/60)
وجلُّ ما ينكرانه إنما يتعلق بالحديث، والإمام لا يزعم أنه من رجاله، فلا غرو أن يقع منه ما لا يرضاه المحدثون من أقوال وتأويلات.
ويذكِّرني الدكتور الديب هنا بالعلامة تاج الدين السبكي، الذي تحامل بعنف على العلامة الكبير شمس الدين الذهبي لما ذكره عن إمام الحرمين في (سير أعلامه) .
والرجال الكبار -وخصوصاً المستقلين بالفكر منهم- لا يعيبهم أن تقع منهم هفوات، فكما قال الشاعر: كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه.
وقديماً قالوا: لكل جواد كبوة، ولكل سيف نبوة.
أخرج الدكتور الديب قبل ذلك من كتب إمام الحرمين (البرهان) في أصول الفقه، وهو كما قال التاج السبكي (لغزُ الأمة) .
وقد أمضى في تحقيقه سبع سنوات كاملة، صحب فيها الإمام وبرهانه، لم يدخر فيها وسعاً، ولم يضن بوقت ولا جهد، متنقلاً بين القاهرة ودمياط، حيث توجد النسخة الأصلية التي اعتمد عليها أساساً، يعالج فيها المخطوط ويمازجه، والمخطوط عبارة عن أكثر من أربعمائة ورقة، لا رباط بينها إلا أنها في مظروف واحد، عليه أن يعيد ترتيبها وترقيمها، بعد أن غَيَّر فيها مَنْ غير، وما أشقها من مهمة، وما أعسره من واجب!
وقد وفقه الله عز وجل لتحقيقه، وتولت نشره (إدارة إحياء التراث الإسلامي) في دولة قطر بعناية مديرها أخينا وصديقنا الكبير الشيخ عبد الله إبراهيم الأنصاري رحمه الله، وجزاه خيراً، وكتب لها المحقق مقدمة، وتوطئة تتضمن: تعريفاً موجزاً بإمام الحرمين، وتعريفاً بالبرهان، وإضاءة بين يدي التحقيق.
واستُقْبل الكتاب من العلماء والمهتمين بأصول الفقه خاصة في العالم العربي والإسلامي استقبالاً حسناً، وقدروا للمحقق هذا الصنيع، الذي قرب إليهم هذا الكتاب، الذي طال انتظاره.
وأخرج بعد ذلك له أثرين مهمين:
1- (الغياثي) أو (غياث الأمم) في السياسة الشرعية، وهو نسيج وحده، وقد(المقدمة/61)
قدمه بدراسة رائعة كشفت عن مكنونه، وعرفت بحقيقة مقصوده، وبينت ما سُبق به الإمام، وما أُخذ عنه، وإن لم ينسب إليه.
2- و (الدرة المضية في الخلاف بين الشافعية والحنفية) .
وقدم لها بدراسة مهمة ونافعة كذلك.
أما تحقيق (النهاية) أو نهاية المطلب، فقد كان حلماً وأمنية له، منذ عرف إمام الحرمين، ثم غدا أملاً ورجاء، ثم تحول إلى حقيقة منذ بدأ يبحث عن نسخه منذ سنة 1975 م.
ومنذ وصل إلى قطر سنة 1976 م، وهو مشغول بالكتاب.
ومنذ أكثر من عشرين عاماً، وهو عاكف على (النهاية) أو (نهاية المطلب) أعظم آثار الإمام الفقهية، وأبرز ما يعرف بقدره في الفقه، ومنزلته في التأصيل والاستنباط.
عايشه هذه السنين ورافقه: يقرؤه على مهل، ويجتهد أن يفهمه على الصواب ما أمكن، وأن يفسر غامضه، ويفك طلاسمه.
وأنا أدرى الناس بما عاناه الدكتور الديب فى تحقيقه لهذا المخطوط، من حيث جمع أصوله المبعثرة في شتى مكتبات العالم، فقد ظل يقرأ فهارس المخطوطات، ويتتبعها، ويزور المكتبات هنا وهناك بنفسه، ويسأل العارفين، ويستعين بالأصدقاء، وأنا منهم، ليبحثوا له عن نسخ من الكتاب، حتى جمع أقصى ما يمكن الحصول عليه من أجزاء الكتاب من مظانه في العالم، عن طريق التصوير طبعاً.
جَهِد د. الديب جهده، حتى جمع من الكتاب أكثر من عشرين نسخة صورها من مكتبات العالم: في القاهرة والإسكندرية وسوهاج من مصر، ودمشق وحلب من سورية، والسلطان أحمد وآياصوفيا من تركية. ولكن لم توجد منه نسخة كاملة.
وبلغ عدد مجلداتها (44) . وعدد أوراقها (10336) ونسخت بخط اليد في (14590) صفحة.
هذا، بالإضافة إلى المختصرات والنصوص المساعدة، وهي تسعُ نسخ، بلغ عدد مجلداتها (15) وعدد أوراقها (3755) تقريباً.(المقدمة/62)
ليس هيناً ما قام به الدكتور الديب من تحضير وتهيئة للعمل الكبير الذي نهض له، وهو له أهل، ليُخرج (النهاية) إلى النور، ويحيلها من مقبور إلى منشور.
وقد قال بعض العلماء: من نشر مخطوطة، فكأنما أحيا موءودة!. فكيف إذا كانت هي (النهاية) ؟!
ثم بدأ يقرأ النص قراءة العارف الخبير، ولكنه يقرأ نصاً غير عادي، لرجل غيرِ عادي. فبعض المصنفات تكون ترديداً لكلام السابقين، أو تكراراً وتأكيداً له، فيستطيع قارئها أن يبحث عنها فيما نقلت عنه.
أما إمام الحرمين، فهو -كما ذكرنا- مستقلٌّ في تفكيره، مستقلُّ في تعبيره، فيحتاج من محققه إلى فهم دقيق، وتأمل عميق، وصبر جميل، ومراجعة طويلة، حتى يفهم ما يريد المصنف.
على أن إمام الحرمين كثيراً ما يُغرِب في تعبيره، فيظل المحقق يبحث طويلاً في المعنى المراد، حتى يجده باليقين أو بالظن. وقد يظل أسابيع أو شهوراً، يفتش عن المعنى، ويبحث عن المظان، ويشاور من يثق به، إلى أن يشرح الله صدره لما يختار.
أضف إلى ذلك ما تعانيه المخطوطات أبداً من كلمات مطموسة، أو مخرومة، كلها أو بعضها، أو لعلها سقطت من المصنف نفسه أثناء الكتابة، كما يحدث لكل مؤلف، زيادة عما يصنعه النساخون بالكتب من تصحيف وتحريف، ومسخ وتغيير، وخصوصاً الجهلة منهم!
زد على ذلك ما يستشهد به المصنف رحمه الله من أحاديث، بعضها لا يكون معروفاً عند الفقهاء، وفي كتب الفقه المألوفة، بحيث نجده، في تلخيص الحبير، أو سنن البيهقي، أو غيرهما من الكتب التي هي مظان هذا اللون من الأحاديث.
ينتمي الأخ الدكتور الديب إلى مدرسة في التحقيق، متميزة، شيوخها الكبار: آل شاكر، أحمد ومحمود، وعبد السلام هارون، والسيد أحمد صقر، رحمهم الله، وأمثالهم.(المقدمة/63)
ومن أبنائها: الدكتور عبد الفتاح الحلو والدكتور محمود الطناحي رحمهما الله، والدكتور الديب، حفظه الله، وأمثالهم، وهي مدرسة تعنى بخدمة النص ذاته، وتقديمه للقارىء بيِّناً واضحاً مفهوماً، كما أراده مصنفه، بقدر الاستطاعة، ولا تُثقل كاهلَ المتن المحقق بكثرة التعليقات التي لا لزوم لها، وتوسيعها بغير حاجة، كما يفعل الكثيرون؛ حتى رأيت بعضهم يترجم في تعليقاته لأبي بكر وعمر والخلفاء الأربعة، ولأبي حنيفة ومالك والأئمة الأربعة، وللبخاري ومسلم والأئمة الستة.
وتتسع التعليقات حتى يصبحَ الكتاب أضعافَ حجمه، وفي ذلك إرهاق للقارىء مادياً ونفسياً وعقلياً، لا طائل تحته. وقد أصبحت أقرأ هذه الترجمات للأعلام في كل كتاب محقق، ولو كان رسالة صغيرة، فهي أعلام تتكرر دائماً.
كما يهتم بعضهم بذكر كل الفروق بين النسخ بعضها وبعض، وإن لم يكن لها ضرورة ولا فائدة للقارىء بحال. كما هو شأن بعض المستشرقين ومن يتبعهم، وربما كان المستشرقون معذورين، لأنهم كانوا يخافون أن يكون أي فرق بين النسختين أو النسخ مؤثراً في المعنى، وهو لا يشعر، لعجمته، فما عذر العربي المتمرس بالعربية؟!
ومن أصدق وأبلغ ما قرأتُ هنا ما قاله أخي عبد العظيم:
"والتعليق على المخطوطات: فن قائم بذاته، يحتاج إلى دُربة، ومهارة، وحذق، وإحساس صادق بما يحتاج التعليق، وبما لا يحتاج، وبما يحتاج إلى الشرح، وبما لا يحتاج، وكيف يكون الشرح، وكيف يكون التعليق، كما يحتاج إلى مهارة بارعة، وقدرة فائقة على الإيجاز، فالإطناب يحسنه كل أحد، أما الإيجاز، فهو المحك والفيصل، فمن الصفحات الكثيرة التي يقرؤها المحقق عن عَلَم من الأعلام، أو عن رجل من رجال السند، أو عن حديث من الأحاديث، أو حادثة من الحوادث - يحتاج إلن بضعة أسطر، بل بضعة جمل من هذه الصفحات، وهنا تكون المهارة، ويكون الحس الصادق، ومن قبل ومن بعد يكون توفيق الله سبحانه، فيما يختار وفيما يدع" (1) .
__________
(1) من مقدمة (الدرة المضية) ص 115.(المقدمة/64)
ولقد زرت الدكتور الديب في (مخبئه العلمي) أو في (ورشة العمل) التي يزاول فيها مهنته، ويمارس تحقيقه، وهي حجرة كبيرة فيها عدة مكاتب، ومجهزة بما سماه الدكتور (حافظ عصرنا) الكومبيوتر، وبالجهاز القارىء للمخطوطات، وبالمراجع المختلفة: من فقهية وحديثية ولغوية، وغيرها.
ورأيته يستعين بكتب الشافعية، وخصوصاً البسيط للغزالي تلميذ إمام الحرمين، وهو مخطوط مصور عنده، وهو أوسع كتب الغزالي الفقهية، ويعتبره الكثيرون مختصراً أو كالمختصر للنهاية، ويستعين بالمجموع والروضة للنووي، وبمختصر النهاية لابن عبد السلام، ولابن أبي عصرون وغيرهما، حتى يطمئن إلى حسن فهمه للنص.
قدم الدكتور الديب من قبل دراسة عن إمام الحرمين: حياته وآثاره، حصل بها على درجة (الماجستير) من كلية دار العلوم، وأخرى عن (فقه إمام الحرمين) حصل بها على درجة (الدكتوراه) مع مرتبة الشرف، والتوصية بطباعة الرسالة وتبادلها مع الجامعات.
وهذا كله ساعده على فهم إمام الحرمين، وكتابه المتميز (نهاية المطلب) .
كما قدم أكثر من دراسة، عن كل كتاب حققه من كتبه: من (البرهان) و (الغياثي) و (الدرة المضية) إذ كتب لها مقدمات علمية مستفيضة، تلقي أضواء كاشفة عليها لمن يقرؤها.
فكتب للبرهان مقدمة من 68 صفحة.
وكتب للغياثي مقدمة من 155 صفحة.
وكتب للدرة المضية مقدمة من 132 صفحة.
هذا عدا الفهارس المفصلة في نهاية كل كتاب.
وبين الأخ الديب وإمام الحرمين نسب جامع، وصفات مشتركة، جعلته ينجذب إليه، كما قال الشاعر: شبيه الشيء منجذب إليه. وصح في الحديث " الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف ".(المقدمة/65)
وما أجمل أن يرتبط المرء بمثل هؤلاء الأئمة أصحاب العقول الكبيرة، والقلوب المشرقة، ليعايشهم ويتأسى بهم. ونرجو أن يكون لأخينا الدكتور الديب نصيب أوفى من كل خير في شيخه وأستاذه وحبيبه إمام الحرمين.
لقد قدم الدكتور عبد العظيم الديب للمكتبة الإسلامية خدمةً جليلة، بتحقيق هذا الكتاب الفذ، ولا يسعنا، بل لا يسع أي مسلم يهتم بدينه وثقافته وحضارته إلا أن يشكر للدكتور الديب ما قام به من جهد وعناء طوال تلك السنين.
ومهما نشكره ونقدِّر فضله، فلا نملك أن نوفيه حقه، إنما الذي يوفيه جزاءه، ويشكر سعيه حقاً، هو الله تبارك وتعالى، الذي لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
جزى الله أخانا الأستاذ الدكتور عبد العظيم الديب عن عمله ودأبه، ومعاناته في سبيل العلم، خير ما يجزي العلماء العاملين، والدعاة الصادقين، من ورثة النبيين، ونفع الأمة بما يقدمه من إحياء لتراثها، وخدمة لدينها، وجعل ذلك في ميزانه يوم القيامة حسنات ودرجات عنده -تبارك وتعالى-
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180 - 182] .
***(المقدمة/66)
مقدّمات نهاية المطلب
سنلتزم في هذه المقدمات أمرين:
أولاً - الإيجاز.
ثانياً - البقاء في دائرة الكتاب الذي نقدّمه، بمعنى أن نقتصر على ما يبين موقع صاحبه ومكانته في سلسلة أئمة المذهب وتطوّره، وعلى ما يوضح مكانة الكتاب وأثره، ثم ما يعرّف به، ويبين خصائصه، ويضيء طريق مُطالعه والناظر فيه.
ولذا ستقع المقدمة في الفصول الآتية:
الفصل الأول - من تاريخ الحياة الفقهية حتى عصر الإمام الشافعي.
الفصل الثاني - المذهب الشافعي: من التأسيس إلى الاستقرار، مع شيء من مصطلحاته.
وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول - الإمام الشافعي.
المبحث الثاني - حملة الفقه عن الإمام الشافعي.
المبحث الثالث - مرحلة تحرير المذهب.
المبحث الرابع - من مصطلحات المذهب.
الفصل الثالث - تعريف بإمام الحرمين ومنزلته بين أئمة المذهب.
الفصل الرابع - تعريف بنهاية المطلب، وبيان منزلته بين كتب المذهب.(المقدمة/67)
الفصل الخامس - وفيه مبحثان:
المبحث الأول - من ملامح منهج إمام الحرمين.
المبحث الثاني - أسلوب إمام الحرمين.
الفصل السادس - إمام الحرمين وعلم الحديث.
الفصل السابع - من سمات وضوابط منهجنا في التحقيق.
الفصل الثامن - تعريف بالنسخ المخطوطة ووصف لها، ونماذج منها
***(المقدمة/68)
الفصل الأول من تاريخ الحياة الفقهيَّة حتى عصر الإمام الشافعي(المقدمة/69)
الفقه في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم
- أشرقت الأرض بنور ربها، وصدع محمد صلى الله عليه وسلم بأمر ربه، وأخذ يسعى في أرجاء مكة، ونور السماء بين يديه، يبدد جيوش الظلام التي تحاصر العرب وتسد عليهم منافذ الهدى.
- وكان أول منفذ يخرج منه هؤلاء المحاصَرون هو تحريرهم من العبودية للطواغيت، والارتفاع بهم إلى المنزلة العظمى: إلى عبادة الله وحده، وكان الصراع طويلاً مريراً؛ حيث أَلِفَ الملأ من قريش الظلامَ؛ ولم تقوَ عيونُهم على استقبال نور الله؛ فقضى الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاث عَشرَةَ سنة، وهو يحاول أن يطهر القلوب والعقول من الزيغ والضلال ويغرس فيها الإيمان بالله وحده، ومن هنا كان القرآن المكي -وهو يقرب من ثلثي القرآن الكريم (1) - متجهاً إلى إثبات وجود الله، وأنه وحده المستحق للعبادة، وأن هناك يوماً للحساب، حيث الجنة للطائعين، وجهنم للعاصين. وفي سبيل ذلك يضرب لهم المثل بالأمم السابقة وما أصابها حين عَتَوْا واستكبروا.
- ولما طال عنادهم وعتوُّهم أذن الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، وأحسن أهلُها الأنصارُ استقبال الهدى وأهلَه، وصار للإسلام دولة منذ أن استقر في المدينة، وعلى طول عشر سنوات مشرقة بنور الرسالة، نزل فيها باقي القرآن الكريم، وهو المدني من القرآن، وهو يزيد على الثلث قليلاً.
- كان المسلمون في دولتهم الجديدة يتقلبون في معايشهم: طعاماً وشراباً، وزواجاً وطلاقاً، وسفراً وإقامة، وحرباً وسلماً، وفق تشريع السماء، حيث كان
__________
(1) الخضري، محمد الخضري بك، رحمه الله، تاريخ التشريع: 15.(المقدمة/71)
التشريع هو الغالب على القرآن المدني، وكان التشريع في القرآن الكريم ينزل إما بدءاً، وإما حلاً لإشكال، أو إجابة لسؤال.
- وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يبلغ القرآن عن ربه، ويفصِّل مجملَه، ويُبين مشكلَه، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] ، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يسألونه عما نزل في القرآن؛ فيبين لهم، ويستفتونه؛ فيفتيهم.
- وكان عليه الصلاة والسلام ملجأ أصحابه: يُهرعون إليه كلما عرض لأحدهم أمر في أي شأن من شؤون الدين أو الدنيا، وكان عمادَ الحياة ومركزَها، تعرض الحادثة، أو يسأله أصحابه، فيجيب بما في القرآن إن وجده، أو بما يوحى إليه في الموقف والحادثة، أو يجتهد رأيه، أو يتوقف حتى تجيبه السماء.
- وقد اختلف العلماء حول اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم، فمنهم من قال: إنه مبلغ عن ربه {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] ، وليس له حق الاجتهاد، ومنهم من قال: له حق الاجتهاد في الأمور الدنيوية دون غيرها، وقيل: كان له أن يجتهد إذا خشي فوت الحادثة (1) ، والجمهور على أن اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم جائز وواقع فعلاً " وموضوعه متنوع، ديني، أو دنيوي مغيب أو شاهد " (2) .
وأدلة الجمهور على ذلك كثيرة، مثل: حديث نسل الممسوخ (3) ، وحديث عذاب القبر، ورأيه في أسرى بدر (4) .
- ومما هو واضح أن اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم لا يتعلق بالنصوص وفهمها؛ "لأن المرادات من النصوص واضحة عنده صلى الله عليه وسلم فليس اجتهاده في معرفة المراد من المشترك ونحوه، ولا تعارض عنده، فليس الاجتهاد
__________
(1) انظر: عبد العلي محمد نظام الدين الأنصاري. فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت: 2/366.
(2) فضيلة الشيخ عبد الجليل عيسى. اجتهاد الرسول: 167.
(3) اجتهاد الرسول: 60، 61.
(4) فواتح الرحموت (مصدر سابق) : 2/366.(المقدمة/72)
لدفعه، وإنما اجتهاده بإلحاق مسكوت بمنطوق" (1) .
- ويجب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في اجتهاده، والتعبد به فيما يختص بالأمور الدينية، لأن الله سبحانه وتعالى لا يقره على الخطأ، وأما في الأمور الدنيوية، فلا يجب العمل باجتهاده صلى الله عليه وسلم.
- وكما وقع الاجتهاد من الرسول صلى الله عليه وسلم وقع من صحابته رضي الله عنهم في عصر (2) البعثة في حضرته وفي غيبته، وبإذنه وبغير إذنه، وكان صلى الله عليه وسلم يَبْلُغه، فيقر المصيبَ على صوابه، ويصحح للمخطىء خطأه.
- وقد أفتى في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم جمعٌ من الصحابة، منهم أبو بكر الصديق، وعمر الفاروق، وعثمان ذو النورين، وعلي كرم الله وجهه، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاذ بن جبل، وعمار بن ياسر، وحذيفة بن اليمان، وزيد بن ثابت، وأبو الدرداء، وأبو موسى الأشعري. رضي الله عنهم وأرضاهم جميعاً.
وقيل (3) : كل من ولي عملاً للنبي صلى الله عليه وسلم بعيداً منه صار مفتياً، مثل معاذ بن جبل والي اليمن، ومثل أبي عُبيدة بن الجراح الذي كان أمير سرية الخَبَط، وأفتاهم بأكل الحوت، ومثل أبي سعيد الخدري.
وممن توفي في الحياة النبوية ونقلت عنهم فتاوى صادرة في العهد النبوي: عثمان بن مظعون، وجعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما.
ومما يجدر ذكره أن إطلاق لقب فقهاء على ذوي الرأي والحجا عرف مبكراً في ذلك العصر، عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففيما رواه البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه: "أن ناساً من الأنصار قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حين
__________
(1) المصدر السابق نفسه.
(2) ما ذكرناه رأي الجمهور والمسألة محل خلاف. انظر في ذلك: الآمدي، الإحكام: 4/335، الخضري. محمد الخضري بك. أصول الفقه: 373، واجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم (مرجع سابق) : 155.
(3) الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي: 1/172.(المقدمة/73)
أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من أموال هوازن ما أفاء، فطفق يعطي رجالاً من قريشٍ المائةَ من الإبل، فقالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يعطي قريشاً ويتركنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم ... فقال صلى الله عليه وسلم: "ما حديث بلغني عنكم"، فقال له فقهاء الأنصار: أما ذوو رأينا يا رسول الله، فلم يقولوا شيئاً ... " (1) .
هكذا، يقول أنس رضي الله عنه: (فقهاء الأنصار) .
- وعلى هذا مضى عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام، لا مصدر للأحكام في حقيقة الأمر إلا الوحي ينزل بدءاً بتشريع، أو حلاً لإشكال، أو إجابة لسؤال. وما على الرسول إلا البلاغ، ومن البلاع البيان والتفصيل.
وإذا أقرت السماء اجتهاداً وقع من الرسول صلى الله عليه وسلم أو صحبه، صار ذلك في منزلة الوحي من السماء؛ فمضى عصر الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يكن هناك اختلاف في حكم من الأحكام؛ إذ كان الوحي مستمراً، وللسماء القول الفصل عند اختلاف الآراء في شأن من الشؤون.
ومن الطبيعي ألا يكون في مثل هذه الظروف افتراض لحوادثَ وقعت ووضع أحكام لها، لأن وضع الأحكام كما أشرنا كان للوحي.
- ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن التشريع الإسلامي بمعنى سن الأحكام الشرعية وإنشائها لم يكن إلا في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ومنه هو فقط؛ إذ لم يجعل الله لأحد غيرِ نبيه سلطةَ التشريع (2) ، ومن رحمة الله سبحانه بأمته أن رسوله صلى الله عليه وسلم لم يفارق هذه الدنيا إلا وقد اكتمل بناء الشريعة، وحُفِظ مصدرها وعمادُها (القرآن) مكتوباً كله في العظام واللخاف، وفي حنايا الصدور، ومبيناً ومفصلاً بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) البخاري: فرض الخمس، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم حديث رقم 3147، مسلم: الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم حديث رقم 1059.
(2) فضيلة الشيخ محمد علي السايس. نشأة الفقه الاجتهادي وتطوره: 11، 12.(المقدمة/74)
الفقه في عصر الخلفاء وكبار الصحابة
- ولحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى -بنفسي هو وبأبي وأمي وبالناس أجمعين- وبدأ بانقطاع الوحي عصر جديد، حمل عبءَ الحياة فيه، وقيادةَ الدولة المسلمة الخلفاءُ الراشدون، وكبار الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
والحياة لا تقف، والوقائع تتجدد، والأحداث تفرض نفسها تتطلب الحكم والفتيا، وتلح في الجواب. وضاعف من ذلك أن عصر الخلفاء الراشدين كان عصراً خصباً مليئاً بالأحداث؛ كانت الدولة غضة في أول أمرها؛ حيث يكون النمو وثباً وقفزاً، فمنذ بويع أبو بكر رضي الله عنه ماجت البادية بالردة، وتحفزت فارس، وتأهبت الروم، فأخذ أبو بكر رضي الله عنه في قمع الردة، وتأديب المترصدين المتحفزين، الذين أحاطوا بالدولة المسلمة يريدون أن يسدوا على الدعوة المنافذ، ويطفئوا نور الله، وتابع على ذلك عمر وعثمان رضي الله عنهما. وفي عصر علي كرم الله وجهه كان ما كان!!
وفي مثل هذه الحياة النابضة تتوالى المسائل، وتتجدد الأحداث، فكيف كان موقف الصحابة رضي الله عنهم؟؟
- وجد الصحابة بين أيديهم القرآن الكريم وعرفوا من بيانه وتفصيله ما رأَوْه وسمعوه من الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان عليهم أن يواجهوا ما يجدّ عليهم من مسائل.
وقد كان الموقف عصيباً، فمن يقتعد مقعد النبوة، ويتصدى للفتيا؟؟، ولكن إرادة الحياة غلابة، والأمر لا يتصل بحياة فرد، وإنما بكينونة أمة، وحياة رسالة، واستمرار دينٍ، أراده الله خالداً عاماً.
أقبل الصحابة على القرآن الكريم، وعلى ما بين أيديهم من سُنة الرسول صلى الله عليه وسلم لعلمهم بمنزلتها من القرآن، وكما قلنا: كانت الأحداث تتجدد، والوقائع تتعدد، فما لم يجدوا في الكتاب والسنة، كان ملجؤها (الرأي) فقد رأَوْا آياتِ القرآن(المقدمة/75)
تدعو للتفكر والنظر (1) وسن لهم ذلك صلى الله عليه وصلم باجتهاده أمامهم، وبإقراره من اجتهد منهم على اجتهاده.
- لجأ الصحابة إذاً إلى الرأي فيما لم يجدوه منصوصاً في الكتاب، ولم تَجْرِ به سنة، ولكنهم -رضي الله عنهم- كانوا يستشعرون خطورةَ منصب الإفتاء، فيتحرجون، ويتدافعون " قال عبدُ الرحمن بنُ أبي ليلى: أدركت عشرين ومائةً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كان منهم محدِّث إلا وَدَّ أن أخاه كفاه الحديث، ولا مُفتٍ إلا ودَّ أن أخاه كفاه الفتيا " (2) ، فكانوا لذلك يتشاورون في أحكام الوقائع ورعاً من كل منهم أن ينفرد بالحكم، وكان لذلك أثرهُ في ناحيتين:
* ظهور الإجماع، كمصدر من مصادر الفقه، فهو في الواقع لون من الاجتهاد: الاجتهاد الجماعي (3) .
* عدم اتساع الخلاف بين الصحابة (4) .
- وكان الرأي عند الصحابة بمعناه الواسع، " فكانوا يطلقون كلمة الرأي عك ما يراه القلب بعد فكرٍ وتأمل، وطلبٍ لمعرفة وجه الصواب مما تتعارض فيه الأمارات " (5) ولم يكونوا يعرفون الأسماء والألقاب التي وضعها الأصوليون فيما بعد، قال إمام الحرمين رضي الله عنه: " ولو عُرضت الكتب التي صنفها القياسون في الفقه مع ما فيها من المسائل ... والصور المفروضة، وبدائع الأجوبة ... والعبارات المخترعة ... كالجمع والفرق، والنقض والمنع؛ والقلب وفساد الوضع ... ونحوها، لتعب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في فهمها؛ إذ لم يكن لهم عهد بها، ومن فاجأه شيء لم يعهده، احتاج إلى رد الفكر إليه ليأنس به " (6) .
__________
(1) العقاد: عباس محمود العقاد، رحمه الله - التفكير فريضة إسلامية: من ص 6- 21.
(2) انظر نشأة الفقه الاجتهادي (مرجع سابق) : 75.
(3) الأستاذ الجليل الشيخ علي حسب الله - أصول التشريع الإسلامي. ط 2: 75.
(4) تاريخ التشريع للخضري: 129.
(5) نشأة الفقه الاجتهادي للسايس: 37.
(6) إمام الحرمين. الغياثي، فقرة: 667.(المقدمة/76)
- وكان اجتهاد الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- واستعمالهم (الرأيَ) في المسائل التي لا نص فيها، أما ما كان من عمر رضي الله عنه من رأيٍ في سهم المؤلفة قلوبهم وحد السرقة عام المجاعة (1) ، فهو لَوْنٌ من توجيه النصوص وفهمها لا تعطيلها، أو الافتئات عليها. حاشا لله.
خصائص الفقه في عصر الخلفاء وكبار الصحابة
- ويمكن أن نوجز ملامح الحياة الفقهية في هذا العصر فيما يلي:
* أن الفقه ظل محصوراً في دائرة الوقائع التي تحدث فعلاً، فلم يكن هناك مجال لافتراض وقائعَ واستنباط أحكامٍ لها، وهم كانوا يتورعون عن الفتوى فيما وقع.
* أنهم كانوا يؤكدون أن ما رأَوْه من رأيٍ عرضةٌ للخطأ، ولذلك كان الرجل منهم يرفض أن يقال عن رأيه: هذا حكم الله (2) .
* ويتصل بذلك أن احترام الرأي الآخر كان سمة ظاهرة واضحة؛ لأن كل صاحب رأي كان يفرض الخطأ في رأي نفسه ورعاً وخشيةً.
* وقد كان الخلاف في الرأي ضيقاً محصوراً طوال هذا العصر.
* ظهر في هذا العصر (الإجماع) كمصدر من مصادر الأحكام.
* ظل الفقه بغير تدوين وكتابة، وإنما تصدر الفتوى أو الحكم، فيتناقله المسلمون شفاهاً، ويشيع بحسب الحاجة إليه.
* خلَّف هذا العصر مجموعة من الأحكام والفتاوى ظلت محل عناية الأئمة والفقهاء (3) ، وبخاصة تلك الأحكام التي غيرت بعضَ ما جرى عليه العمل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت مثار بحث وخلاف بين الأئمة.
فمن هذه الفتاوى والاجتهادات، إمضاء عمر رضي الله عنه الطلاق الثلاث بكلمة
__________
(1) انظر نشأة الفقه الاجتهادي للسايس: 65.
(2) تاريخ التشريع الإسلامي للخضري: 117.
(3) نشأة الفقه الاجتهادي وتطوره: 77.(المقدمة/77)
واحدة، وعدم تقسيم أرض سواد العراق، وضرب الخراج عليها، وكذا ما كان من عمرَ في سهم المؤلفة قلوبهم، وفي حد السرقة عام المجاعة، وما كان من عثمانَ رضي الله عنه في ضوالِّ الإبل، حيث رأى التقاطها وتعريفها.
ومن المسائل الاجتهادية الأخرى التي جرت بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختلف فيها الرأي: ميراث الجد مع الإخوة الأشقاء أو لأب، وفي بعض صور ميراث الجدة، وكذلك المسألة المشركة (الحجرية) ، والخلاف في (العَوْل) ، وفي حجب الأم من الثلث إلى السدس باثنين من الإخوة، وفي تحريم المرأة تحريماً مؤبداً على من نكحها في العدة، وفي توريث الزوجة المطلقة فراراً من الميراث، وكذلك الخلاف في عدة الحامل المتوفى عنها زوجها، وكذلك الخلاف في نفقة المبتوتة وسكناها، وغير ذلك كثير.
وقد كانت هذه الفتاوى والاجتهادات -بحق- ثروة فقهية، نظر فيها الأئمة المجتهدون، وأخذوا بما قاله الصحابي، ولم يُخالَفْ فيه، أي بما أجمعوا عليه، أما قول الصحابي وراء ذلك فقد كان الأخذُ به موضع خلافٍ بين الأئمة.
فقد رأى بعضُهم أقوال الصحابة حجة واجبة الاتباع، ورأى عصرَهم عصر تفسير وتكميل على حين لم ينظر آخرون إليها تلك النظرة (1) .
* كان من أسباب الخلاف بين الصحابة اختلافُ النظر والرأي وتقدير الأمور، وذلك أمر فطري، وكذلك بسبب اختلاف فهمهم للقرآن ومعرفتهم بالسنة.
* لم يكن الصحابة على درجة واحدة في استعمال الرأي، بل كان منهم من يتحرج ويهاب الفتيا، وأولئك في الواقع الذين لم تضطرهم الظروف إلى القطع والحسم بإبداء الرأي، ومنهم من برع في الرأي، وقدر عليه، وأشهرهم عمر رضي الله عنه، حيث كانت أعباء الحكم تدعوه لأن يبت في القضايا والأمور ولا يتحاماها.
ولقد عُرف بالفتوى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة ونيف وثلاثون نفساً ما بين رجل وامرأة، وكان منهم المكثرون والمتوسطون والمقلّون.
__________
(1) الأستاذ الجليل الشيخ عبد الوهاب خلاف، رحمه الله - تاريخ التشريع الإسلامي: 280.(المقدمة/78)
المكثرون من الفتيا:
والمكثرون الذين حفظت عنهم الفتوى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعائشة أم المؤمنين، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر.
ويمكن أن يجمع من فتوى كل واحد منهم سفر ضخم.
المتوسطون في الفتيا:
والمتوسطون منهم فيما روي عنهم من الفتيا: أبو بكر الصديق، وأم سلمة، وأنس بن مالك، وأبو سعيد الخدري، وأبو هريرة، وعثمان بن عفان، وعمرو بن العاص، وعبد الله بن الزبير، وأبو موسى الأشعري، وسعد بن أبي وقاص، وسلمان الفارسي، وجابر بن عبد الله، ومعاذ بن جبل.
فهؤلاء ثلاثة عشر يمكن أن يجمع من فتوى كل واحد منهم جزء صغير جداً.
ويضاف إليهم: طلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وعمران بن الحصين، وأبو بكرة، وعبادة بن الصامت، ومعاوية بن أبي سفيان.
المقلون من الفتيا:
وهم البقية الباقية من جملة المفتين، وهم أكثر من مائة نَفْسٍ، لا يُروى عن الواحد منهم إلا المسألة والمسألتان (1) .
الفقه في عصر صغار الصحابة والتابعين
- وبعد عهد الصحابة الخلفاء استمرت الحياة في توثبها، والأحداث في تجددها، بل جدت على الحياة الإسلامية عناصرُ جديدة كان لها أبلغ الأثر في التشريع والفقه.
من ذلك:
* تمكن الإسلامُ من قلوب الشعوب غير العربية، وتطلَّعَ أبناؤها إلى المشاركة في
__________
(1) ر. إعلام الموقعين لابن القيم: 1/12. بتصرفٍ يسير.(المقدمة/79)
الحياة الإسلامية، وكان لهؤلاء أعراف وعادات، وحضارات وعقائد وفلسفات، أثرت في تفكيرهم وتوجيههم.
* بدأت الفرق السياسية: من خوارج وغيرها تظهر، ويناصر كلَّ فرقة جماعةٌ يتعصبون لآرائها.
* انتشر الصحابة في الأمصار الإسلامية، فأصبح الإجماع عسراً.
* شاعت رواية الحديث، حيث اشتدت حاجة المسلمين إليها طلباً لأحكام الحوادث المتجددة، وحيث السنة أوسع مصادر الفقه لتعرضه للتفصيل (1) .
وفي غمرة الفرق وحاجة الناس للحديث اندس الوضاعون للحديث ينصرون فرقَهم بما يكذبون لها، ويحطمون أعداءهم بما يكذبون عليهم، أو يدسون للإسلام والمسلمين جملةً انتقاماً لدولهم الذاهبة ومللهم الغاربة.
- في هذا الموج الصاخب كان المعتصَمُ كتابَ الله، وما صح من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وكان علم ذلك إلى نفر بقي من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى جماعة من كبار التابعين كانوا تلاميذَ لأئمة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، تجرد هؤلاء للعلم، وجعلوه غايتهم، فاعتزلوا الفتن وأهلَها (2) ، فكانوا النجومَ التي يُهتدى بها في الظلمات، وقد توزعوا أو توزعتهم الأقدار على الأمصار الإسلامية.
فكان في المدينة: زيد بن ثابت ت 45 هـ، وعائشة أم المؤمنين ت 58 هـ، وجابر بن عبد الله ت 58 هـ، وأبو هريرة ت 59 هـ، وعبد الله بن عمر ت 73 هـ، رضي الله عنهم جميعاً، وعبد الملك بن مروان، أمير المؤمنين ت 86 هـ، وسعيد بن المسيب بن حَزْن المخزومي رأس علماء التابعين ت 93 هـ، وعروة بن الزبير بن العوام. ت 94 هـ، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي. ت 94 هـ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود. ت 98 أو 99 هـ، وسليمان بن
__________
(1) انظر نشأة الفقه الاجتهادي للسايس: 78، 88، وتاريخ التشريع الإسلامي للخضري: 133.
(2) تاريخ المذاهب الفقهية لأبي زهرة: 31.(المقدمة/80)
يسار، مولى ميمونة أم المؤمنين. ت 100 هـ وقيل: 107 هـ، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق. ت 106 هـ، وخارجة بن زيد بن ثابت. ت 100 هـ، وسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ت 106 هـ، وأبان بن عثمان بن عفان رضي الله عنه. ت 105 هـ، وعلي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، المعروف بزين العابدين. ت 94 هـ، ونافع مولى عبد الله بن عمر. ت 117 هـ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف. ت 94 هـ وقيل: 104 هـ، ومحمد بن مسلم المعروف بابن شهاب الزهري. ت 124 هـ، وأبو جعفر بن محمد بن علي بن الحسين المعروف بالباقر. ت 114 هـ، وأبو الزناد عبد الله بن ذكوان فقيه المدينة. ت 131 هـ، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، فروخ، التيمي، مولاهم، أبو عثمان المدني (ربيعة الرأي) ت 136 هـ وقيل: 133، وقيل: 142.
وفي مكة: عبد الله بن عباس رضي الله عنه ت 68 هـ، وعَبيدة بن عمرو السلماني المرادي ت 72 هـ، ومجاهد بن جبير، مولى بني مخزوم ت 103 هـ، وعكرمة مولى ابن عباس ت 105 هـ، وعطاء بن أبي رباح مولى قريش ت 114 هـ، وعبد الله بن أبي مُلَيْكَة ت 117 هـ، وأبو الزبير محمد بن مسلم، مولى حكيم بن حزام ت 127 هـ، وعمرو بن دينار أبو محمد الأثرم الجمحي، مولاهم ت 126 هـ.
وفي الكوفة: عبد الله بن مسعود ت 32 هـ، وأبو موسى الأشعري ت 44 هـ رضي الله عنهما، وعلقمة بن قيس النخعي ت 62 هـ، ومسروق بن الأجدع الهمداني ت 63 هـ، وشريح بن الحارث الكندي القاضي ت 78 هـ، وإبراهيم بن يزيد النَّخعي ت 95 هـ، والأسود بن يزيد النَّخَعي ت 95 هـ، وسعيد بن جبير، مولى والبة ت 95 هـ، وقيس بن أبي حازم، الأحْمَسي الكوفي ت 98 هـ، وشقيق بن سلمة أبو وائل الأسدي، الكوفي ت نحو 100 هـ، وأبو بردة عامر بن أبي موسى الأشعري، الفقيه، التابعي الشهير، قاضي الكوفة بعد شريح ت 103 هـ، وعامر بن شراحيل الشعبي، علامة التابعين ت 104 هـ، وأبو عبد الله، الحكم بن عُتَيْبة، الكِندي، مولاهم، الكوفي ت 115 هـ، ومحارب بن دثار، السدوسي، أبو مطرّف، الكوفي، مولاهم ت 116هـ، وحماد بن سليمان ت 120 هـ.(المقدمة/81)
وفي البصرة: أبو العالية، رُفَيعْ بن مهران الرّياحي، مولى امرأة من رِياح، بطن من تميم، ت 90 هـ، وأبو العالية، البرَّاء -مشدَّداً- زياد بن فيروز البصري ت 90 هـ، أنس بن مالك الأنصاري، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم ت 93 هـ، وأبو الشَّعثاء جابر بن زيد صاحب ابن عباس ت 93 هـ، ومطرِّف بن عبد الله الشِّخِّير، العامري، البصري ت 95 هـ، وزُرَارة بن أوفى الحَرَشي، البصري، قاضيها. ت 95 هـ، وأبو قِلابة عبد الله بن زيد، الجِرمي، إمام البصرة في الفقه ت 104 هـ، والحسن البصري، الحسن بن يسار، أبو سعيد، التابعي، أحد أئمة الفقه ت 110 هـ، ومحمد بن سيرين مولى أنس بن مالك. ت 110 هـ، وقتادة بن دعامة السدوسي. ت 118 هـ.
وفي الشام: عبد الرحمن بن غانم الأشعري. ت 78 هـ، وأبو إدريس الخَوْلاني ت 80 هـ، وقَبيصة بن ذؤيب ت 86 هـ، وأمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز بن مروان ت 101 هـ، ورجاء بن حَيْوة الكندي شيخ أهل الشام ت 112 هـ، ومكحول بن أبي مسلم مولى امرأة من هذيل ت 113 هـ، وسلمان بن موسى الأموي، الدمشقي، الفقيه ت 119 هـ، وعبد الله بن أبي زكريا الخُزاعي، أبو يحى، الشامي، الفقيه ت 117 هـ.
وفي الفسطاط: عبد الله بن عمرو بن العاص ت 65 هـ، وأبو الخير مرثد بن عبد الله اليَزني، مفتي أهل مصر ت 90 هـ، ويزيد بن حبيب، مولى الأزد ت 128 هـ.
وفي اليمن: طاوس بن كَيْسان، الجَنَدي، اليماني، توفي بمكة في موسم الحج سنة 106 هـ، ووهب بن منبه الصنعاني، عالم أهل اليمن ت 114 هـ، ويحيى بن أبي كثير، مولى طيّء ت 129 هـ (1) .
***
__________
(1) راجع (تاريخ التشريع الإسلامي) للخضري: 124-138، (والفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي) : 291-306، وراجع تهذيب التهذيب لابن حجر، وخلاصة الخزرجي، لترى ترجمة وافية لهؤلاء الأعلام.(المقدمة/82)
هؤلاء الأعلام الذين ذكرناهم ليسوا كلَّ الفقهاء والمفتين في هذا الدور، بل هم رؤوس الفقه والفتوى في هذه الأمصار، والأقاليم، ولم يكونوا وحدهم، بل كان هناك فقهاء ومفتون في مختلف الأمصار الإسلامية، في الشمال الإفريقي، وفي أقاليم فارس، وغيرها.
وإنما عُنينا بهذه الأقاليم؛ لأمرين:
الأول:
أن هذه المنطقة: الجزيرة العربية، بحجازها ويمنها، وعراقها، وشامها، كانت هي مركز الدولة الإسلامية، التي كان فيها عُظْم الصحابة رضوان الله عليهم، ومن تبعهم بإحسان، وحمل فقههم وعلمهم من التابعين.
الثاني:
أن الدولة الإسلامية ظلت حتى أوائل القرن الثاني الهجري، أو قرب منتصفه دولة مركزية تحت إدارة واحدة، وقيادة واحدة تخضع للحكم المباشر، الذي كانت هذه المنطقة مقرّاً له، ومن هنا كان التأثير العلمي والفكري لها وحدها إلى أن نمت وترعرعت مراكز علمية أخرى فيما استُقبل من الزمان.
خصائص الفقه في هذا الدور
- نتيجة لما تقدم من تغير في تكوين المجتمع وتوزع أهل الفتيا على الأمصار، وما جدَّ من عوامل أخرى، تميز هذا الدورُ من التشريع بمميزات أهمها:
* كانت مصادر الفقه كما هي في الدور السابق: الكتاب، ثم السنة، ثم الإجماع، ثم الرأي، وكانوا يأخذون بإجماع الصحابة إن وجد، فإن اختلف الصحابة، اختاروا من أقوالهم، وغالباً يأخذ كلُّ تابعي رأيَ شيخه من الصحابة (1) .
__________
(1) نشأة الفقه الاجتهادي وتطوره لأستاذنا فضيلة الشيخ السايس: 78.(المقدمة/83)
* عُني رجال هذا الدور من الصحابة والتابعين بجمع السنة التي رويت عن كبار الصحابة.
* وكذلك عُنوا بجمع تلك الثروة الهائلة من فتاوى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قول الصحابة عندهم حجة، كما أشرنا آنفاً.
* كان لهم ولا شك دور هام في الاجتهاد فيما يجد من شؤون هذا المجتمع المتوثب من حولهم، مما لم يرد فيه نص أو فتوى من الصحابة (1) .
- وكنا قد أشرنا إلى أن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان يتحرج، ولا يُقدم على الفتوى كعبد الله بن عمر، ومنهم من كان يفتي برأيه ويتوسع في ذلك كعمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود. وكان ذلك نواة لاختلاف الاتجاه بين التابعين، " فقد اتضح الفرق بين المنهاجين، واتسعت الفرجة بينهما: فمنهم من كان يُفتي برأيه غيرَ متوقف إذا لم يجد نصاً، ولا فتوى صحابي، ومنهم من لا ينطلق في الاجتهاد إن لم يجد ما يعتمد عليه من السنة أو القرآن الكريم " (2) .
وكان اتساع الهوة بين المنهاجين نتيجة ظروف المجتمع التي أشرنا إليها، فقد رأى أهل الرأي أن أمر الحديث قد اتسع، ودخل مجاله من لا يخشى في الله إلاًّ ولا ذمة، فبعد أن كان الرجل تعروه رِعدة وهو يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) ، أصبح الوضع والكذب وسيلة للدفاع عن الفِرق والأهواء (4) . رأى أهلُ الرأي ذلك، فخافوا من أن يُزيَّف عليهم حديث، فكان اعتمادهم على الرأي أكثرَ من بحثهم عن الحديث.
__________
(1) تاريخ المذاهب الفقهية لأبي زهرة: 31.
(2) المصدر السابق نفسه: 33.
(3) انظر: ابن سعد، محمد بن سعد بن منيع البصري الزهري، الطبقات الكبرى: 3/110 وهو يروي هذا عن ابن مسعود رضي الله عنه.
(4) انظر بحثاً قيماً عن الوضع في الحديث في كتاب (السنة قبل التدوين) لمحمد عجاج الخطيب: 186 وانظر أيضاً السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي للدكتور مصطفى السباعي رحمه الله: 89.(المقدمة/84)
ورأى أصحاب الحديث الفتنَ والأهواء، فخافوا، وتورعوا عن أن يقولوا برأيهم حتى لا تؤوَّل هذه الآراء، أو يُقتدى بهم؛ فجعلوا كلَّ همهم البحثَ عن الحديث، والاعتصامَ به في مُدْلَهَمِّ الفتن.
ومن هنا ظهر أخص ما يميز هذا الدور وأعني به وجودَ نوعين من الفقه: فقه الرأي، وكان بالعراق، وفقه الأثر، وكان بالحجاز (1) .
- وقد كان هذا العصر الأساسَ للازدهار الفقهي في العصر التالي، حيث بدأ تدوين السنة وتدوين الفقه، كما تحددت مناهج الفقه وطرقه.
عصر الأئمة المجتهدين
(من أوائل القرن الثاني الهجري إلى ما بعد منتصف القرن الثالث) .
نستطيع أن نحدد أبرز ملامح المجتمع على النحو التالي (2) :
* هدأت الفتوحات، وبلغت الدولة أقصى اتساعها.
* بدأ الرخاء يلقي ظلاله الوارفة على أقطار الدولة الإسلامية.
* تم الامتزاج بين العرب والموالي، حيث تعرب هؤلاء، وشاركوا العرب في سياسة الدولة، وتبليغ الرسالة، بل فاقوهم في كثير (3) من الأحيان.
* بدأ تَمَثُّل الحضارت القديمة التي حملها أبناؤها من الموالي، والتي تُرجمت علومها وفلسفتها إلى العربية؛ فحيث الهدوء والرخاء والفراغ من الفتح كان المجال مفتوحاً، والفرصة متاحة لتناول ثمار تلك الحضارات، وإعادة تشكيلها وهضمها.
* تطورت الحياة العقلية وارتقت وازدهرت، وانتشرت حلقات الدرس والبحث، وأقبلت الأكباد الظامئة على الارتواء من العلم.
* ما قلناه لا يتنافى مع ما حدث من انقلاب العباسيين على الأمويين في تلك
__________
(1) تاريخ المذاهب الفقهية لأبي زهرة: 35.
(2) انظر تاريخ الإسلام السياسي لحسن إبراهيم، وظهر الإسلام لأحمد أمين.
(3) يرى ابن خلدون في مقدمته أن أكثر حملة العلوم الإسلامية من الموالي: 4/1247.(المقدمة/85)
الفترة، وما كان من ثورات هنا أو هناك، فهذه الفترة تزيد على مائة وخمسين سنة، فلا ينقض ما قلناه حدوث قلاقل في شهور أو سنة أو سنتين، فى هذا الجانب من الدولة أو ذاك.
- كان من الطبيعي أن يواكب هذا الاستقرار والاتساع الحضاري، وهذا الرقي والنهوض الفكري والعقلي، كان من الطييعي أن يواكب ذلك ازدهارٌ في الفقه وعلوم الشريعة، وقد تمثل هذا الازدهار (1) في:
* ازدياد حفاظ القرآن، والعناية بأدائه ورواية قراءاته، فقد كان هذا العصر هو العصر الذي استقرت فيه القراءة عند القراء السبعة.
* تدوين السنة؛ فقد كان هذا عصراً مجيداً للسنة؛ حيث أخذ رواتها يتنبهون إلى وجوب تصنيفها بحسب الموضوع، وظهر من رجال السنة طبقة بعد طبقة، قامت الطبقة الأولى بتدوين السنة مختلطة بفتاوى الصحابة كالموطأ للإمام مالك، وقامت الطبقة الثانية بتدوين الحديث وحده، فألفوا ما عرف بالمسانيد، وأشهرها: مسند أحمد بن حنبل.
ثم جاءت الطبقة الثالثة فأتمت عمل الطبقتين السابقتين؛ إذ قامت بنقد ما وجدته أمامها من أحاديث، كما ينقد الصيرفي الدنانير؛ فكان من ذلك الكتب الصحاح، وأشهرها: البخاري (ت 256 هـ) ، ومسلم (ت 261 هـ) . كما ظهر علمُ الرجال الذي يبحث في حال الرواة وجرحهم وتعديلهم.
* كما ظهر في هذا العصر تدوين علم أصول الفقه لأول مرة، وكان إمام الأصوليين وواضع أساس هذا العلم هو الإمام الشافعي.
* ظهور المصطلحات الفقهية، وكان ذلك نتيجة طبيعية لظهور النشاط الفقهي والخلاف بين الأئمة، وتدوين أصول الفقه.
* تفريع المسائل، فقد كان الفقه قبل هذا الدور يغلب عليه الاقتصار على إبداء
__________
(1) انظر تاريخ التشريع للخضري: 177.(المقدمة/86)
الحكم فيما وقع فعلاً، أما في هذا الدور فقد توسع الفقهاء في تصور المسائل وفرضها ووضع الأحكام لها (1) .
- وكنا قد أشرنا من قبل إلى ظهور مدرستين في الفقه: مدرسة الأثر بالمدينة، ومدرسة الرأي بالعراق، وفي هذا العصر ازداد التمايز بين المدرستين، واتضحت مناهجهما، حتى صار يطلق على العراقيين أهل الرأي.
- وأحب أن أؤكد هنا أن هذا الكلام على إطلاقه بعيدٌ عن الواقع، بل هو من الأحكام العامة التي شاعت، وفُهمت على غير حقيقتها، وأخذت أكبر من حجمها، ذلك أن العراق لم يكن به فقهُ الرأي فقط، بل كان فيه الرأي مع الحديث، وكان في المدينة أيضاً الرأي بجوار الحديث، ألم تَر أنه كان بين فقهاء المدينة والمفتين بها (ربيعة الرأي) .
و"كان أهل الحديث يعيبون أهلَ الرأي بأنهم يتركون بعض الأحاديث لأقيستهم، وهذا من الخطأ عليهم، ولم نر فيهم من يقدم قياساً على سنة ثبتت عنده، إلا أن منهم من لم يُرْوَ له الأثر في الحادثة، أو روي له، ولم يثق بسنده، فأفتى بالرأي، فربما كان ما أفتى به مخالفاً لسنة لم تكن بمعلومة له، أو عُلمت، ولكنه لم يثق بروايتها" (2) .
فالقول بأن هؤلاء أهل رأي وهؤلاء أهل أثر بهذا الإطلاق وهذا التعميم، يوحي بما ليس مقصوداً، ويفهم منه غيرُ ما وقع.
روى سفيان بن عيينة (3) مناظرة بين أبي حنيفة إمامِ أهل الرأي (4) والأوزاعي (5) من أئمة الحديث، وكيف اختلفوا في القول برفع اليدين عند الركوع، وكل منهما في هذه
__________
(1) نشأة الفقه الاجتهادي لأستاذنا الشيخ السايس: 91.
(2) تاريخ التشريع للخضري: 146.
(3) سفيان بن عيينة بن أبي عمران الهلالي أبو محمد الأعور الكوفي توفي سنة 198 هـ (خلاصة تذهيب الكمال) .
(4) أبو حنيفة النعمان بن ثابت توفي 150 هـ.
(5) عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي أبو عمرو توفي 157 هـ (تهذيب التهذيب: 6/238) .(المقدمة/87)
المناظرة يحاول أن يثبت رأيه بأن الحديث الذي يعتمده أثبتُ من حديث صاحبه وأوثق، وقد انتصر أبو حنيفة صاحبُ الرأي في إثبات أن معتمده من الحديث أقوى من معتمد الأوزاعي صاحبِ الحديث.
وقد أورد هذه المناظرةَ الشيخُ الخُضري وعلق عليها قائلاً:
" وهذه المحاورة بدون أن نناقش أقوالها تدل على ما كان لكل فريق عند الآخر، وتدل على أن الجميع واقفون عند حد السنة متى وثقوا بها من روايتها " (1) .
فالفرق إذاً بين المدرستين فرقٌ في مقدار الأخذ بالرأي، حيث يكثر منه أهل العراق، ولا يكثر منه أهل المدينة، وفرق في نوع الرأي، حيث كان أهل العراق يسيرون في أكثر رأيهم على منهاج القياس، فتبع ذلك أن كثرت التفريعات الفقهية في العراق، والإفتاء فيما لم يقع لاختبار الأقيسة، وذلك ما يسمى بالفقة التقديري (2) .
ولم يوجد هذا النوع من الفقه في المدينة؛ لأن الأساس كان المصلحة، وهي لا تتحقق إلا في الوقائع؛ فلا يجيء فيها الفرض والتقدير.
هذا الكلام كتبناه وقررناه منذ نحو أربعين عاماً في مقدمات كتابنا (فقه إمام الحرمين) .
وعندما جاءت المناسبة لإعادته هنا نظرنا فيه، وفيما كُتب في هذه المسألة، وجدنا أن ما قلناه قد ذكره بوضوح أتم شيخُنا العلامة الشيخ محمد أبو زهرة - ومن عجب أن ما قاله الشيخ لم يشع ولم نره في الأبحاث والدراسات، وظل كل من كتب في تاريخ الفقه ومقدماته يقررون أنه نشأ مدرستان: مدرسة الرأي ومدرسة الحديث، مع أن كتاب الشيخ الذي قال فيه ذلك شائع متداول، منذ سنة 1948 م، وهو كتابه بعنوان (الإمام الشافعي) فقد جاء فيه ما نصه (3) :
"يجب أن نشير إلى أنه قال بعض كتاب الفقه في هذا المقام إنه ظهر مدرستان للفقه
__________
(1) تاريخ التشريع للخضري: 147.
(2) تاريخ المذاهب الفقهية لأبي زهرة: 36.
(3) ر. الإمام الشافعي: حياته وعصره: 42، 43، 44.(المقدمة/88)
استقامت كل واحدة على منهج واحد معين، وأن الفقهاء كانوا إلا قليلاً يسيرون على منهج إحدى المدرستين لا يخالفونه إلى نهج الأخرى، إحدى المدرستين مدرسة الحديث وكانت بالمدينة، والثانية مدرسة الرأي وكانت بالعراق.
وعندي أن المدارس لا تتميز بالرأي والحديث، بل تتميز بمنهاج من تلقوا عنهم وطريقة الرأي، وكثرة فتاوى الصحابة وقلتها، ومن المقرر أن الفقهاء السبعة الذين كانوا أساتذة الفقه الحجازي قد كان لهم رأي كثير". انتهى بنصه.
وهذا كلامٌ واضح مبين، ينطق بأن الشيخ لا يرى لهذه التسمية وجهاً، فليس هناك مدرسة حديث ومدرسة رأي، وإنما الخلاف بين مدرسة العراق ومدرسة المدينة هو في منهج الاستدلال وطريقة الرأي.
بل رفض شيخنا أبو زهرة مجردَ افتراض أن هناك من يقدم رأيه على الحديث الشريف، حيث قال:
" ولا يصح أن نفرض بأي صورة من صور الفروض أنهم يصدقون بنسبة الحديث، ويقدمون فهمهم في الإسلام على قول صحيح النسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن ذلك كلامُ قوم بور، ظهروا في هذا الأيام، وظهر أمثالهم من قبل في أهل الأهواء والبدع والمنحرفين، ومحال أن يكون ذلك من أئمة الإسلام الأعلام الذين فتحوا عيون الفقه، وعبَّدوا مشاربه " (1) . اهـ
وينبغي أن نشير هنا إلى تلك العبارة التي تتقاذفها الألسن، في مقام السخرية والاستهزاء، والاتهام بالتعصب الأعمى، تلك العبارة التي تُروَى عن أحد الأئمة متعصباً لمذهبه، فيقول: " كل ما كان من آيةٍ أو حديث بخلاف ما عليه أصحابنا، فهو إما مؤول أو منسوخ ".
لقد سمعنا هذه العبارة ممن هم في مقعد الأساتذة يعلموننا إياها دليلاً على استمكان التعصب الذي يُعمي صاحبَه، فينصر رأي مذهبه على الآية والحديث، حيث يجعل (الرأي) أولاً، ويخضع الآية والحديث له ثانياً.
__________
(1) تاريخ المذاهب الإسلامية: 289.(المقدمة/89)
هكذا، سمعنا هذه العبارة بهذا التفسير، ونحن نحبو في أول طريق الطلب، هكذا قرئت لنا، وظلت تقرأ حتى أيامنا هذه، يحملها (الأساتذة) جيلاً عن جيل، ويلقنونها لتلاميذهم، بهذا المعنى، ودليلاً على التعصب وإفساده للحياة الفقهية.
ولما قدر الله لنا صحبة أئمتنا والتلمذة لهم، والعيشَ في كنفهم، والاطلاعَ على شيء من أخبارهم، ومعرفة طرفٍ من أخلاقهم، بدأت أتململ حينما أسمع باحثاً مرموقًا يحكي هذه العبارة -بهذا الفهم- في قاعة المؤتمرات والندوات أمام عشرات العلماء، ومئات الطلاب، ورحتُ أقرأ هذه العبارة قراءة أخرى عكس ما تُقرأ وتتردد عليه، رحتُ أقرأ هذه العبارة في ضوء معرفتي المتواضعة بتاريخ أئمتنا، وأخلاقهم، وورعهم.
وأحببتُ قبل أن أصرح بهذه القراءة، وأُعلي بها صوتي، أن أعرف أولاً من صاحبها؛ لأرى مكانته ومنزلته فى الفقه، وقبل ذلك أعرف طرفاً من سيرته، فإذا بي أجد صاحب هذه العبارة هو:
الإمام الجليل، أبو الحسن الكرخي، شيخ الحتفية في عصره، وهو عبيد الله بن حسن بن دلال، توفي عن ثمانين سنة في شعبان سنة 340.
أما سيرته، فقد ذكر كل من ترجم له: " أنه كان قانعاً متعففاً، صبوراً على الفقر، عزوفاً عما بأيدي الناس، فقد كان من العلماء العباد الزهاد، كان صوّاماً قواماً، ذا تهجدٍ وتألّه، وزهدٍ تام ".
ذكره بهذا أربعة ممن ترجموا له من مخالفيه في المذهب، وهم الخطيب البغدادي الشافعي الشديد على الأحناف، المتوفى سنة 463 هـ، والإمام الذهبي السلفي المتشدد، المتوفى 648 هـ، والإمام ابن كثير، السلفي الشافعي المتوفى سنة 674 هـ، وابن العماد الحنبلي، المتوفى سنة 1089 هـ (1) .
__________
(1) ر. تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي: 10/353، سير أعلام النبلاء: 15/426، البداية والنهاية: 11/225، وشذرات الذهب: 2/358.(المقدمة/90)
كما أيد الخطيب، والذهبي، وابن كثير، ورعه وزهده، وصدقه مع الله، وأنه مستجاب الدعاء، بقصة أوردها الثلاثة بألفاظٍ واحدة تقريباً، وألفاظها عند الذهبي: قال: حدثني أبو القاسم الصيمري قال: حدثني أبو القاسم بنُ علانَ الواسطي، قال: لما أصابَ أبا الحسن الكرخي الفالجُ فى آخر عمره، حضرته، وحضر أصحابه: أبو بكر الدامغاني، وأبو علي الشاشي، وأبو عبد الله البصري، فقالوا: هذا مرض يحتاج إلى نفقة وعلاج، والشيخ مقل، ولا ينبغي أن نبذله للناس، فكتبوا إلى سيف الدولة بن حمدان، فأحس الشيخ بما هم فيه، فبكى، وقال: اللهم لا تجعل رزقي إلا من حيث عودتني، فمات قبل أن يحمل إليه شيء، ثم جاء من سيف الدولة عشرة آلاف درهم، فتُصدِّق بها عنه".
لما عرفتُ هذا. عرفت صاحب العبارة وسيرته، قلت: سبحان الله!! هذا العالم العابد الزاهد، مستجاب الدعاء، الذي لم يتعلق من دنيا الناس بشيء، كيف تُقرأ عبارته هذه القراءة؟؟
فتأكد لي صحة قراءتي لهذا القول، فقد صح عندي، ولا يصح في العقل غيره - أن الإمام أبا الحسن الكرخي يقول: ما كان لنا ولشيوخنا أن نخالف أمر الله، فنترك الآية أو الحديث إلى الرأي، فإذا وجدت شيئاً من هذا، فاعلم أنه ترجح عندنا صرفه عن ظاهره بدليلٍ، أو تأكد عندنا أنه منسوخ، أو أن الحديث لم يصح، ومعاذ الله أن نترك الآية والحديث لرأينا.
هكذا قرأنا هذه العبارة، ولا يصح غيرُ هذه القراءة في ضوء العصر الذي قيلت فيه، وفي ضوء المعرفة بصاحبها وسيرته.
أما أن تقرأ هذه العبارة تلك القراءة الشائنة، فذلك أثر من آثار ثقافة شوهاء نحو تاريخنا بشقيه السياسي والفكري.
وكم أتمنى أن يعثر باحث على أول من ردّد هذه العبارة، وقرأها هذه القراءة، فإني أشم فيها ذَفَر المستشرقين، وقمامة أفكارهم.
ويؤكد صحة قراءتي ما قاله شيخنا الإمام أبو زهرة حين قال: "ونحب أن نُقرر هنا(المقدمة/91)
أنه في حال الأخذ بالرأي عند من يأخذون به في مقابل الحديث، لا يُعدّ الحديث صحيحَ النسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بل إنهم ينكرون هذه النسبة، ويعتبرون الخبر المروي شاذاً في متنه، إذ أنه يخالف القواعد المقررة الثابتة المأخوذة من مقاصد الشريعة العامة، ونصوصها الخاصة" (1) .
* نعود إلى ملامح العصر فنقول: كان طبيعياً أن يصطبغ الفقه في كل إقليم بصبغة تختلف عن غيره من الأقاليم نتيجة لاختلاف الأعراف والتقاليد والظروف، ولذلك كثرت رحلات الفقهاء من إقليم إلى آخر للتعرف على ما عند الفقهاء الآخرين والاستفادة بفقههم.
***
- ونحب أن نؤكد هنا أن تسمية هذا العصر بعصر الأئمة المجتهدين، فيها شيء كثير من التجوّز، وذلك من ناحيتين:
أ- أن كل ما كان من فتاوى الصحابة والتابعين في القرن السابق، إنما هو اجتهاد لا شك في ذلك، فكل المفتين الذين ذكرنا أسماءهم آنفاً -وغيرهم- كانوا أئمة مجتهدين.
ب- أن الاجتهاد لم ينقطع -على الأصح- طوال هذه القرون، بل هو فرضٌ واجب في كل عصر، على حدّ تعبير السيوطي في عنوان رسالته:
(الرد على من أخلد إلى الأرض، وجهل أن الاجتهاد في كل عصرٍ فرض)
وإنما سوغ هذا الإطلاق، وتسميةَ هذا العصر بعصر الأئمة المجتهدين عدةُ أمور:
أ- أن هذا العصر هو الذي وُضعت فيه مناهج الاجتهاد، وضوابطه، وصار لها ألقابٌ، وأسماء، ومصطلحات، كما تمايزت فيه مناهج الأئمة بعضها عن بعض.
ب- أنه العصر الذي دوّن فيه الفقه بصفته فناً مبوّباً مفصلاً، مستقلاً عن غيره من الفنون.
__________
(1) تاريخ المذاهب الإسلامية: 289.(المقدمة/92)
ج- أنه العصر الذي أنجب الأئمة أصحاب المذاهب المتبوعة التي استمرت دون غيرها من مذاهب الأئمة الذين لم تدوّن مذاهبهم -وما أكثرهم- أو التي دوّنت، ولم يقم بها أتباعها؛ فنسيت.
- لقد حفظ لنا تاريخُ الفقه أسماء لثلاثة عشر إماماً مجتهداً دوّنت مذاهبهم، وعُمل بها، بقي منها المذاهب الأربعة المعروفة، ونُسي باقيها، بمعنى أنه لم يتيسر لهم من الأتباع من ينشر علمهم، وبقي حبيساً في بطون الكتب، من أشهر هؤلاء:
الإمام الأَوْزاعي، أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، ولد سنة 88 هـ وتوفي سنة 157 هـ.
والإمام الليث بن سعد، الذي قال فيه الشافعي: كان الليث أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به ت 175 هـ.
والإمام داود الظاهري، داود بن علي بن خلف الأصبهاني، المعروف بالظاهري، كان تلميذاً للشافعي (1) ، ومن أشد المدافعين عن مذهبه، والداعين إليه، ثم استقل بمنهجه وأصوله ومذهبه، وألف كثيراً من الكتب، في الفقه، وفي الأصول، وقد استمر مذهبه شائعاً متبعاً، ثم اضمحل في منتصف القرن الخامس، ولد داود بالكوفة سنة 202 هـ، وتوفي سنة 270 هـ.
والإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، كان شافعياً في أول أمره، ثم استقل بمذهبه، وقد ترك لنا ثروة علمية هائلة، في الفقه، والأصول والخلاف، والتفسير، والحديث، والتاريخ، ولد سنة 224 هـ، وتوفي سنة 310 هـ.
وعدوا من هؤلاء أيضاً: الحسن البصري ت 110هـ، وسفيان الثوري ت 161 هـ، وسفيان بن عيينة. ت 198 هـ، وإسحاق بن راهويه ت 238 هـ، وأبو ثور. ت 240 هـ.
__________
(1) لعل في العبارة تجوزاً؛ إذ كيف يكون تلميذاً للشافعي مع أنه ولد سنة (202) ، فالمقصود بالتلمذة هنا اتباعه، والعمل بأصوله ومناهجه.(المقدمة/93)
- وقد خلف لنا هذا الدور ثروة فقهية طائلة، حيث ضبطت الأصول، وتمهدت الفروع، وأصبح الإلمام بجزئيات الفقه وكلياته لا يحتاج إلى كبير عناء. وكانت الكتب التي خلفوها -وما زالت- زاد الفقهاء وإمامَهم.
***(المقدمة/94)
الفصل الثاني المذهب الشافعي: من التأسيس إلى الاستقرار، مع شيء من مصطلحاته
وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول - الإمام الشافعي.
المبحث الثاني - حملة الفقه عن الإمام الشافعي.
المبحث الثالث - مرحلة تحرير المذهب.
المبحث الرابع - من مصطلحات المذهب.(المقدمة/95)
المبحث الأول: الإمام الشافعي
لا أريد هنا أن أكتب ترجمة للإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه، فقد ترجم له كثيرون قديماً وحديثاً تراجمَ مطولة، وموجزة، وهي متاحة ميسورة، مَدَّ اليد لمن يطلبها، ولا أريد أن أقع فيما تبّرم به إمام الحرمين، وحذَّر منه حين قال: " ومعظم المتلقبين بالتصنيف في هذا الزمان السخيف يكتفون بتبويب أبواب، وترتيب كتاب، متضمنه كلامُ مَنْ مضى، وعلوم من تصرّم وانقضى" (1) ، وأملي أن ألتزم نُصحه ومنهجه، فقد قال: " حقٌّ على من تتقاضاه قريحته تصنيفاً، وجمعاً وترصيفاً أن يجعل مضمون كتابه أمراً لا يُلفى في مجموع، وغرضاً لا يصادف في تصنيف " (2) .
ومن هنا سأحاول أن أشير إلى معنىً ظهر لي أثناء مراجعتي وتأملي لتراجم الإمام الشافعي التي أفاد وأجاد في كتابتها السابقون واللاحقون، وعسى أن يوفقني الله في الإبانة والتعبير عن هذا المعنى الذي أدركته.
إن المتأمل في حياة الإمام الشافعي يستطيع أن يرى أن الأقدار قد هيأت للشافعي، وهيأت الشافعيَّ، قد هيأت للشافعي البيئة بعنصريها الزمان والمكان، وساقته المقادير بوقائعَ ومواقفَ أو ساقتها له.
فقد ولد الشافعي في سنة 150 هـ، فكانت نشأته وحياته في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري، حيث كان العصر -كما رسمنا ملامحه فيما سلف- عصرَ رخاء وسَعة، واستقرار وعمران، ومن الناحية الفكرية كان التدوين قد بدأ، وشاعت الكتابة، وكان العلم قد استبحر، وتنوعت فنونه، وأخذت مناهج كل فن تتضح وتتمايز، فبدأ تدوينُ السنة، وتدوين الفقه، وتدوين القراءات، واللغة، وغيرها، وبدأت حلقات العلم، ومجالس المناظرة.
__________
(1) ر. الغياثي: فقرة رقم 45.
(2) ر. السابق نفسه: فقرة رقم 242.(المقدمة/97)
وقد نقول: إن الفقه كان أسبق كل هذه الفنون نضوجاً، فكان الإمام أبو حنيفة، وتلاميذه قد ملؤوا العراق علماً سارت به الركبان إلى الآفاق، وارتحل الناس إليه من كل فجّ، وفي المدينة كان مالك إمام دار الهجرة، قد علا ذكره، وانتشر علمه، وأخذ يُرسي قواعدَ منهج جديد، ومذهب يغاير مذهب أهل العراق، وأخذت الدنيا تموج بالعلم. في هذا الزمان جاء الشافعي.
وأما المكان، فقد اتسعت مساحته، وترامت أطرافه فيما بين فلسطين، ومكة المكرمة، ومضارب هُذيل بالبادية، والمدينة المنورة، واليمن، ثم بغداد، ثم مكة، ثم بغداد، ثم مكة، فبغداد، فمصر.
قدَّرتْ أمُّ الشافعي -كما تقول الروايات- أنها تنتقل بابنها الطفل القرشي المطلبي من غزة إلى مكة المكرمة، حفاظاً على نسبه الشريف، حيث ينشأ بين من يعرفه من قومه وعشيرته، ولكن الأقدار أرادت هذا الانتقال لأمرٍ أكبر، ولشأن أعظم، فقد نشأ هذا الطفل، فوجد حوله حلقات العلم تملأ الحرم الشريف: الفقهاء، والقراء، والمحدِّثون، والمفسرون.
ووجد نفسه بين عرب أَقْحاح، يعرفون للسان العربي مكانته، ويَرَوْن اللحنَ هُجنة تُزري بصاحبها، فدفعته نفسُه الأبية إلى أن يلحق بالبادية، يلازم هُذيلاً -من أفصح قبائل العرب- يظعن بظعنهم، ويقيم بإقامتهم، ويحفظ الأشعار، ويستوعب اللغة، ويقول هو عن ذلك: " خرجت عن مكة، فلازمت هذيلاً بالبادية، أتعلم كلامها، وآخذ طبعها، وكانت أفصح العرب، أرحل برحيلهم، وأنزل بنزولهم، فلما رجعت إلى مكة، جعلت أنشد الأشعار، وأذكر الآداب، والأخبار " ا. هـ
طالت إقامته بالبادية حتى بلغت -في رواية عند ابن كثير- عشرَ سنوات، فاستقام لسانه، واستعصى على اللحن، حتى قال فيه معاصره ابنُ هشام صاحبُ السيرة:
" الشافعي تؤخذ منه اللغة " (1) ، ويكفيك دليلاً على هذا أمران:
أ- أن الأصمعي -وهو مَنْ هو في مجال اللغة- يجلس بين يديه يُصحح عليه أشعار الهُذليين.
__________
(1) ر. مقدمة الشيخ شاكر للرسالة ص 13، 14 ففيهما كلام مفيد في هذا المعنى، بل اقرأ المقدمة كاملة، ففيها من العلم ما لا يصح أن يفوتك.(المقدمة/98)
ب- والأمر الثاني أن تنظر في كتبه، وبخاصة (الرسالة) بخط الربيع، التي أخرجها العلامة الشيخ أحمد شاكر محافظاً على لغة الشافعي، منبهاً على أن ما يخالف معهودنا من النحو واللغة إنما هو صحيح فصيح، وإن جهله مَنْ جهله.
[ودَعْ عنك العبثَ الذي قام به محققو عصرنا الأشاوس بنص الرسالة، بدعوى تصويب الأخطاء اللغوية، حتى تجرّأ بعضهم على الشيخ شاكر، وسخر منه، لاستمساكه -فيما زعم- بالأخطاء التي في نسخة الربيع!!! أي والله!!! تصوَّر!!! سبحان الله!!! وهو وحده المستعان على كل بَلِيّة] .
اشتغال الشافعي بالفقه
أتقن الشافعي اللغة، وشغل بها، وبروايتها، وبرواية الأدب والأشعار، ولكن قيض الله له من يَلْفته إلى ميدان آخر: إلى الفقه والحديث؛ فقد لقيه مسلم بن خالد الزنجي شيخ الحرم ومفتي مكة وهو خارج يطلب النحو، فدار بينهما حوار حكاه الشافعي بقوله: " قال لي: يا فتى من أين أنت؟ قلتُ: من أهل مكة. قال: وأين منزلك بها؟ قلتُ: بِشعب الخَيْف.
قال: من أي قبيلة أنت؟ قلت: من ولد عبد مناف. قال: بخٍ بخٍ؛ لقد شرفك الله في الدنيا والآخرة؛ ألا جعلت فهمك هذا في الفقه، فكان أحسن بك " وُيروى أن الذي وجهه إلى الفقه آخرُ غيرُ مسلم بن خالد، ولا مانع أن يكون هذا قد تكرر من أكثر من شخص.
كان الشافعي قد حفظ القرآن الكريم قبل أن يخرج إلى البادية، فيضيف إليه الإحاطة بلغة العرب وآدابها وأشعارها؛ فيصبح بهذا محيطاً بكتاب الله لفظاً ومعنىً، ولذا ما إن استجاب لتوجيه من وجهه، وجلس في حلقات الفقه والحديث حتى ظهرت مواهبه، فلم يمض كثير وقت حتى استحق الإمامة في الدين، فقد أجازه شيخ الحرم، مسلمُ بنُ خالد بالإفتاء، وكانت سنه نحو الخامسة عشرة!!!
ولا عجب في هذا، فالفتى قد عرف كتاب الله نصاً حينما حفظه عن ظهر قلب، وقد أحاط به استنباطاً حين حفظ اللغة، ووعى أشعارها وآدابها، وعرف تصرُّفَ العرب في لغتها، وهذه كانت أدوات الصحابة رضوان الله عليهم في فتاواهم، وقد رأينا الشافعي الإمام، وهو يُنظِّر لأصول الفقه، ويضع ضوابط الاجتهاد وشروطه يكتفي بهذا؛ فيقول:(المقدمة/99)
" من عرف كتاب الله نصاً واستنباطاً، استحق الإمامةَ في الدين " (1)
وقد علق إمام الحرمين على عبارة الشافعي هذه، قائلاً: " جمع الإمامُ المطّلبي الشافعي رضي الله عنه الصفات اللازمة في المجتهدين في هذه الكلمة الوجيزة ... وكل التفاصيل التي قدمناها مندرجة تحت هذه الكلم " (2) .
قد يفُهم من هذه الروايات التي نصح فيها الناصحون الشافعي بالاشتغال بالفقه بأن ذلك كان بعد السنوات العشر التي قضاها في البادية، ولكن هذا غير صحيح؛ فقد صحت روايات عن الشافعي أنه قال عن اشتغاله باللغة، وإقامته بالبادية: " ما أردتُ بهذا إلا الاستعانة على الفقه ".
والذي لا يصح في العقل غيره أن الشافعي ما كان منقطعاً في البادية هذه السنوات العشر انقطاعاً متصلاً، بل كان يرواح بين الإقامة في مكة والارتحال إلى البادية، بل إن الروايات التي رُويت عن نُصحه بالاشتغال بالفقه توحي بأن ذلك كان أثناء اشتغاله باللغة والتردّد على البادية.
فالمراحل متداخلة، وليست متتابعة، وعلى هذا يمكن أن تُفهم هذه الروايات، فهو قد خرج أولاً إلى البادية لطلب اللغة، ولما اشتغل بالفقه -استجابةً لنصح الناصحين- وجد أن اللغة أَلْزم للفقه، فزاد اشتغاله بها، والارتحال من أجلها، وصح ما روي من قوله: " إنه ما أراد باللغة والشعر إلا الاستعانة على الفقه ".
فتكون السنوات العشر، أو الإحدى عشرة، قبل رحيله إلى الإمام مالك بالمدينة قد كانت بين حلقات الفقه، والارتحال إلى البادية. (جاء إلى مكة وهو ابن عامين ورحل إلى مالك وهو ابن ثلاثة عشر عاماً) .
مدرسة مكة
كانت مكةُ إذاً مراحَ طفولة الشافعي، ومربعَ صباه، ودار نشأته، ومجلى نبوغه، ففيها حفظ القرآن الكريم، وأتمه وهو بعدُ غضّ الإهاب طري العود، وفي البادية من
__________
(1) ر. الرسالة: فقرة رقم 46.
(2) ر. الغياثي: فقرة رقم 577، 578. بتصرف يسير.(المقدمة/100)
حولها أخذ اللغة، وحفظ الشعر، وأحاط بالأخبار، وعرف الأنساب، وحذَق الرميَ، وفي مجالس علمها تلقى السنَّة عن أعلامها، والفقهَ عن شيوخها وأئمتها، كل ذلك في نحو عشر سنوات مباركات أو أكثر منها قليلاً، كان يراوح فيها بين الإقامة للارتواء من حلق العلم، والارتحال لارتضاع اللغة من نبعها الصافي بالبادية.
وكانت مكة تمثل بين مراكز العلم والفقه مدرسة متميزة، ذات خصائص ومنهج خاص بها، قال ذلك -بحق- شيخنا العلامة الشيخ محمد أبو زهرة، قال: " تتميز بأنها تُعنى بتفسير القرآن، وتعرّف أسباب نزوله، ورواية تفسيره، وتفهم القرآن على ضوء ذلك، وفي ضوء لغة العرب، وبعض عاداتهم (1) " فهي مدرسة ابن عباس التي اتخذها مقاماً له.
" وكانت المماثلة في الجملة قائمة بين ابن عباس والشافعي: فالشافعي كان فصيح البيان، كما كان ابن عباس من قبل، وكان يُعنى بعلم القرآن كما عُني ابن عباس وأجاد، وكان يعنى بالشعر كما يعنى بالفقه كما فعل ابن عباس، ثم كان يحضر دروسه طالبو القرآن، وطالبو الحديث، وطالبو الفقه، ورواة الشعر والعربيه، كما كان الشأن مع ابن عباس. فهل كان الشافعي يجعل من ابن عباس مَثلَه الكامل ويترسم خطاه؟
أيّاً كان الأمر، فمن المؤكد أن الشافعي بإقامته في مكة ودراسته بها قد استفاد علماً لم يكن بالعراق ولا بالمدينة، وهو الأخذ بطريقة ابن عباس في العناية بدراسة القرآن، والعناية بمجمله ومفصله، ومطلقه، ومقيده، وخاصه وعامّه؛ حتى خرج بفقهٍ جديد، غير ما في العراق وما في المدينة " (2) .
الرحلة إلى الإمام مالك
بعد أن أحاط الشافعي بعلم شيوخه في مكة المكرمة من المحدثين والفقهاء، وبلغ بينهم من المنزلة ما بلغ تاقت نفسه للهجرة إلى المدينة؛ فقد كانت شهرة مالك قد طبقت الآفاق، وسارت بها الركبان، وسواء كانت رحلته إلى مالك بنصحٍ وتوجيهٍ، أو بباعث شخصي خاص به -وهذا ما نرجحه- فقد أحب أن ينظر في الموطأ قبل أن يلقى
__________
(1) ر. الشافعي: حياته وعصره: 42-45.
(2) السابق: نفسه.(المقدمة/101)
مالكاً، وتُجمع الروايات على أنه استعار الموطأ وحفظه عن ظهر قلب، وتحدد بعض الروايات أنه حفظه في تسع ليالٍ.
ولم يشأ -وهو الشريف النسيب- أن يلقى مالكاً الذي يتحدث الناس بمهابته ومكانته من غير أن يحمل كتاباً من والي مكة، فحمل الكتاب إلى والي المدينة، الذي صحبه إلى باب مالك، في قصة لسنا لتفصيلها ولا لإيجازها، ولكن الذي يعنينا منها أن الذي شفع عند مالك، وقدّم الشافعي له -بحق- هو علم الشافعي: قراءته للموطأ ظاهراً، وليس كتاب الوالي.
ذلك أن مالكاً رضي الله عنه نظر إلى الشافعي، ورأى حداثة سنه، فقال له: تجيء الغد، والتْمس من يقرأ لك، فقال له الشافعي: أنا أقرأ ظاهراً.
فلما كان الغد جلس الشافعي بين يدي مالك، فقرأ ظاهراً والكتاب في يده، كما روى عن هذا اللقاء العلمي الأول، يقول: قرأت قدراً ثم تهيبت مالكاً، فأمسكت، فأشار: زِدْ، وكلما هبتُه وأمسكت يقول: يا فتى زِدْ، أعجبه حسنُ قراءتي وإعرابي.
جلس الشافعي إلى مالك، وقرأ عليه الموطأ في أيامٍ يسيرة، ثم لزمه يتفقه علمه، ويدارسه المسائل، ويتأمل منهجه في الفتوى والاستنباط.
وقد تنبأ له مالك بأنه سيكون ذا شأن فقال له: " يا غلام، إن الله ألقى في قلبك نوراً، فلا تطفئه بالمعصية "!!
لزم الشافعي مالكاً، وحاز فقهه، ولكن في كم من السنين؟ وكم سنة دامت هذه الصحبة؟
* أكثر الروايات أنه لزمه حتى وفاته في سنة 179 هـ، وعلى هذا يكون بقاؤه في المدينة ستة عشر عاماً؛ فقد رحل إليها وسنه ثلاثة عشر عاماً، أي في سنة 163 هـ باتفاق.
* ويقول الشيخ زاهد الكوثري -في تعليقاته على ترجمة ابن عبد البر للشافعي في الانتقاء-: إنه رحل إلى اليمن وسنه سبعة عشر عاماً، وعلى ذلك تكون صحبته لمالك وبقاؤه في المدينة أربع سنوات فقط، يستدل على ذلك بأن الشافعي يروي عن مالك -في غير الموطأ- بثلاث وسائط فأكثر.
* وتكاد تجمع الروايات على أن مسلم بن خالد أجازه بالفتوى في سن خمسة عشر، وكان ذلك في مكة بالطبع؛ فيكون بقاؤه في المدينة مدة سنتين فقط.(المقدمة/102)
والذي نقوله للجمع بين هذه الروايات -وهو صحيح إن شاء الله-: إن صحبة الشافعي لمالك استمرت حتى وفاته فعلاً، أي لمدة ستة عشر عاماً، ولكنها لم تكن إقامة دائمة متصلة بالمدينة، بل كان يقيم بالمدينة ما شاء الله أن يقيم، ثم يعود إلى مكة فيقيم بها ما شاء الله أن يقيم، ثم يرحل إلى المدينة، " بل ربما إلى غيرها من البلاد والأمصار الإسلامية، يستفيد في هذه الرحلات ما يستفيده المسافر الأريب من علمٍ بأحوال الناس وأخبارهم، وشؤون اجتماعهم، فلم تكن ملازمته لمالك رضي الله عنه بمانعة من سفره واختباراته " على حد تعبير شيخنا الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه عن الشافعي.
ولكن الذي لا يصح مع هذا هو قول العلامة الكوثري: " إنه انتقل إلى اليمن وسنه سبعة عشر عاماً؛ فالانتقال إلى اليمن، والانشغال بالولاية، مع بعد الشقة يقطع صحبته لمالك التي تضافرت الروايات أنها استمرت حتى وفاة مالك سنة 179 هـ هذا أولاً، وثانياً - المتفق عليه أن انتقاله إلى اليمن كان ليتولى (ولاية) ، فهل يصح أن يكون ذلك وسنه سبعة عشر عاماً؟؟
وأما الاستدلال بأنه يروي عن مالك بثلاثة وسائط فأكثر، فمع قوة هذا الاستدلال، فلا ينهض دليلاً على أن الشافعي انتقل إلى اليمن وسنه سبعة عشر عاماً، فالجهة مُنْفكّة -كما يقول المناطقة- ولا ينهض دليلاً على انقطاع تلمذة الشافعي لمالك ومدارسته له، فلم لا يكون انصراف الشافعي مع مالك إلى مدارسة الفقه وطرق الاستنباط، أما الأخبار والآثار، فكان يحصلها من تلاميذ مالك، ثم إن الشافعي الْتقى بفقه مالك وأخبار مالك مرة ثانية حينما انتقل إلى مصر، وكان بها أعلام تلاميذ مالك، فسمع منهم ودارسهم، فمن هنا كانت الوسائط.
ثم نحن قد أثبتنا أن اتصاله بمالك والتلمذة له -مع أنها دامت حتى وفاته- إلا أنها كانت منقطعة تتخللها رحلات عن المدينة إلى مكة أو غيرها، فمن هنا كان الأخذ عن مالك بالوسائط.
الرحلة إلى اليمن
بعد وفاة الإمام مالك، واستقرار الشافعي بمكة، وكان قد حاز فقه مدرسة المدينة، وأحاط بمنهجها، وضم ذلك إلى ما تلقاه عن شيوخ مكة ومدرستها، وصار من أعلام(المقدمة/103)
الفقهاء، بعد ذلك آن له أن يدخل ميداناً آخر، فتطلعت نفسه إلى عمل يسدّ به خَلَّتَه، ويدفع حاجته، وفي زيارةٍ لوالي اليمن إلى مكة كلّمه بعض القرشيين في شأن الشافعي؛ فصحبه معه، وهناك ولاه على نجران، وفي هذا العمل ظهرت مواهب الشافعي، وذكاؤه وخبرته بالناس، ونبله وشرف نسبه، إلى علمه وفقهه، فذاع في الناس ذكره، وشاع عدله، ثم إنه في نجران رأى تطبيقاً عملياً لأحكام الجزية وقضايا نصارى نجران.
ومضى الحال على ذلك نحو خمس سنوات، والأمور توحي بالاستقرار والاستمرار، ولكن فوجىء الشافعي بتهمة غليظة!! اتهم بمناهضة الدولة، والانضمام إلى العلويين الذين يدبرون للانقلاب على أبناء عمهم العباسيين، وتلك تهمة عقوبتها حزُّ الرؤوس.
أما لماذا اتهم؟ فتفصل الروايات أسباب ذلك الاتهام، وخلاصته ترجع إلى الاستقامة الكاملة، والحرص على العدل الكامل، ففي كل زمانٍ ومكان يحاول المحاولون أن يأكلوا بالولاة، يميلونهم حيث يشاؤون، فمن استعصى عليهم، فله الوشاية، والسعاية.
أما لماذا كانت هذه التهمة بالذات، فالشافعي مأثور عنه، وثابت في شعره وأقواله حبُّ آل البيت، يصرح بذلك ويتمدّح به، فوجد الساعون الوشاة في هذا ما يرشحه لهذه التهمة، وأنها أليق شيء به.
الشافعي يحمل إلى بغداد
تتفق الروايات على أن الشافعي حمل إلى بغداد في سنة 184 هـ، ولكنها تختلف في أنه حمل من اليمن أم من مكة، ويمكن الجمع بينها بأنه اتهم باليمن، ثم حمل من مكة أثناء تردّده عليها لزيارة أهله.
حُمل الشافعي متهماً إلى بغداد هو ومَنْ معه من (المتآمرين) التسعة، وتصف الروايات المصير الذي كان ينتظره، حيث أدخلوا على الرشيد وبين يديه النِّطْع والسيف، وتستطيع أن ترى معي الآن الشافعيَّ الأبي الحسيب النسيب وهو يدخل على الرشيد عالي الهامة، مرفوع القامة، مُدِلاًّ بعلمه، واثقاً بذكائه، شامخاً بمواهبه،(المقدمة/104)
مطمئناً لبراءته، فيروع الرشيدَ مرآه، ويعجب بمخايله، فيفسح له ليلقي بحجته، فيؤخذ ببلاغته وبراعته، ويدرك أنه من أهل العلم - فقد كان الخلفاء حتى ذلك العصر ممن يشتغلون بالعلم، ويدارسون أهله، ويحضرون مناظراتهم، ويحكمون بينهم.
ترك الرشيد القضيةَ، وخاض مع (المتهم) في ضروب من العلم، فوقع في قلبه، وكان محمد بن الحسن حاضراً، فقال لمحمد بن الحسن: خذه إليك حتى أنظر في أمره، ووصله بخمسين ألفاً، فرقها الشافعي على مَنْ بباب الخليفة، قبل أن يبرح.
ويلوح لي أن (قرار الاتهام) كان أحدَ الأسباب التي لفتت نظر الرشيد إلى الشافعي، وجعلت اللقاء يجري على هذه الصورة، فقد روَوْا أن مَنْ رفع أَمْر الشافعي إلى الرشيد قال في (عريضة الاتهام) : " إن فيهم رجلاً من ولد شافع المطلبي يعمل بلسانه ما لا يقدر عليه المقاتل بسيفه ".
المهم أن الشافعي نجا من القتل الذي سيق له!! والأهم أنه وجد نفسه في نفس اللحظة في معية محمد بن الحسن، ينزل عليه، ضيفاً في بيته!!
سبحان من له الأمر والتدبير!!
ماذا لو لم يذهب الشافعي إلى اليمن؟
وماذا لو ذهب إلى اليمن ولم يُقَيَّض له الحاسد الواشي ليتهمه؟
من كان سينقل الشافعي من اليمن إلى العراق؟ ومن كان سيصرف الشافعي عن العمل بالولايات والإدارات؟
إنها الأقدار. هيأت للشافعي أن ينتقل إلى العراق، وأن يلقى محمدَ بنَ الحسن، وأن يكون ذلك في سن النضج واستحصاد الخبرة.
أقبل الشافعي على حلقة محمد بن الحسن، يأخذ، ويدوّن، ويدارس، ويناقش، ويناظر.
لم يناظر محمد بن الحسن في أول الأمر، وإنما كان يناقش تلاميذه بعد أن ينصرف عن الحلقة، ولما علم بذلك محمد بن الحسن دعاه لمناظرته، فتردّد الشافعي حياءً وتقديراً لمنزلة محمد وسنّه، ولكن محمد بن الحسن أصرّ؛ فكانت بينهما(المقدمة/105)
مناظرات، ملأت أخبارها بغداد، وشهد هارون الرشيد بعضَها، وأُعجب بالشافعي.
ظل الشافعي بالعراق، يدرس، ويسمع، ويناظر حتى أتقن طريقة العراقيين، وجمع علمهم إلى ما جمعه من علم مالك ومدرسة المدينة، وإلى ما حصله قبلاً من مدرسة مكة، وإلى ما تلقاه من علماء اليمن.
وكانت إقامته في العراق في هذا القَدْمة نحو عامين، حمل فيهما من علم محمد بن الحسن وحده وِقْر بعير، ليس فيها شيء إلا وقد سمعه عليه.
وقيل: إن إقامته ببغداد كانت خمس سنوات، وأنه لم يغادرها إلا بعد وفاة محمد بن الحسن في عام 189 هـ.
عودٌ إلى مكة
عاد الشافعي إلى مكة، وطالت إقامته بها نحو تسع سنوات، كانت هذه الفترة من أخصب الفترات في حياة الشافعي، فقد عاد إلى مكة بعد أن استوعب علم هاتيك البلاد والأمصار التي زارها، ومناهج هذه المدارس التي جلس إلى شيوخها، فكانت هذه الفترة فترة التأمل والنقد، وكانت مكة أنسب الأماكن لهذه التأمل والاختبار، فهي بعيدة عن ضجيج بغداد ومناظراتها، ومصارعة المذاهب والتيارات التي تموج بها، ثم فيها الاستقرار في كنف الأهل والعشيرة، والأنس ببيت الله الحرام.
ثم هي مثابة العلماء يفدون إليها في كل موسم، فيلقاهم، ويفيد ما عندهم، ويختبر ما عنده.
في هذه السنوات التسع عكف الشافعي على وضع مقاييس وقواعد يرجع إليها عند الاختلاف، فأخذ يبحث في القرآن الكريم: ناسخه ومنسوخه، والعام والخاص، وطرق الدلالة، وفي السنة ومنزلتها من الكتاب، وصحيحها وسقيمها، وكيف تستنبط الأحكام إذا لم يكن قرآن وسنة، وضوابط الاجتهاد، و....
ومن هنا بدأ استقلال الشافعي بمذهبٍ أو بمنهج خاص (1) .
__________
(1) ر. الشافعي، حياته وعصره: 26، 27.(المقدمة/106)
إلى بغداد طواعية
رحل الشافعي إلى بغداد طواعية هذه المرة، فلماذا؟ وما الذي دعاه إلى الانتقال إلى بغداد؟
كان الشافعي في القَدْمة الأولى قد حصَّل علم أهل العراق، وأحاط بما عند فقهائهم، وعرف مناهجهم، وخصائص مذهبهم، وسمع ما عندهم من آثار وأخبار، فلأيّ أمرٍ يعود الآن؟
لم يعد الشافعي هذه المرة ليأخذ من العراق، وإنما عاد ليعطي، كان الشافعي قد رأى بعينيه مكانة بغداد وسعة سوق العلم، وكثرة مجالسها وحلقاتها، وأنها تموج بأفواج العلماء من كل حدب وصوب، فقد كانت حاضرة الدّولة، بل حاضرة الدنيا، فمن أراد أن يعلن جديداً، أو يُذيع مذهباً، أو ينشر رأياً، فلن يجد أعلى من منابر بغداد.
من أجل هذا قصد الشافعي بغداد -هذه المرة- ليقرر مذهباً جديداً، وفقهاً جديداً، لا هو بالفقه المالكي الذي حصَّله على مالك وعلماء المدينة، ولا بالفقه الحنفي الذي حمله عن محمد بن الحسن وعلماء العراق.
دخل الشافعي بغداد هذه المرة ليكون صاحب حلقة يدرِّس ويقرر، لا ليسمع ويتلقى، دخل الشافعي المسجد الكبير في بغداد واتخذ مجلسه في صدر حلقته، وكان في المسجد عشرات الحلقات، انفض أكثرها، واتسعت حلقة الشافعي، ورفع به أصحاب الحديث رؤوسهم، وأطلقوا على الشافعي. (ناصر الحديث) (1) .
في بغداد هذه المرة أظهر الشافعي مذهبه، ووضع كتبه، ووضع ضوابط مذهبه: وضع كتبه التي عرفت بالمذهب القديم، ووضع ضوابط مذهبه في (الرسالة) التي أرسلها إلى عبد الرحمن بن مهدي.
وكان بقاؤه في بغداد مدة سنتين، إذ جاءها سنة 195 هـ وغادرها سنة 197 هـ.
__________
(1) عن منهج الشافعي في الاستنباط، الذي جمع به بين المدرستين اقرأ بحثاً قيماً بعنوان (منهجية الإمام محمد بن إدريس الشافعي في الفقه والأصول) للعلامة الأستاذ الدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان، عضو هيئة كبار العلماء بالمملكة السعودية، بيروت، دار ابن حزم، 1420 هـ، 1999 م.(المقدمة/107)
عود إلى مكة، فبغداد ثالثةً، فمصر (97-98-99)
عاد الشافعي إلى مكة بعد أن أرسى قواعد مذهبه في العراق، وترك وراءه كتبه وتلاميذه يحملون علمه، وينشرون مذهبه.
ويلوح لي أن عودته إلى مكة لم تكن للإقامة والاستقرار، فقد كان وراءه عملٌ في بغداد لم ينضج بعد، وفيما أقدر أن عودته إلى مكة كانت للبّر بآله وقومه وعشيرته ولشهود الموسم.
ولذا نراه يشد الرحال عائداً إلى بغداد في سنه 98 هـ ولكنه لم يتلبّث بها إلا قليلاً حتى غادرها إلى مصر.
فما الذي أزعجه عن بغداد فلم يُلق عصا الترحال بها؟
لم تذكر روايات المترجمين للشافعي سبباً مقنعاً لذلك، وأقرب تعليل ما قاله شيخنا الشيخ محمد أبو زهرة، من أنه حين عاد إلى بغداد وجد وجهها قد تغير، فقد انتهى عهد الأمين بن هارون الرشيد، وبدأ عهد المأمون، ورأى الشافعي غلبة العنصر الفارسي على الدولة؛ فقد كان الفرس جيشَ المأمون الذي حارب به أخاه الأمين، وقضى عليه.
أدرك الشافعي ذلك، ورأى المأمون يقرب المعتزلة -وإن لم يكن قد ظهر خطر ذلك بعد- فلم ينشرح صدره للإقامة ببغداد.
الشافعي في مصر
تغير وجه بغداد؛ فلم تطب الإقامة بها، فلماذا اختار مصر؟ ولماذا لم يرجع إلى مكة؟
نذكّر بما هيأته الأقدار للشافعي، فقد ذكر ياقوت في معجم الأدباء أن الشافعي لقي ببغداد الوالي العباسي على مصر، فدعاه إلى مصر، وطلب أن يصحبه إليها، وقبل دعوته واختار الذهاب إلى مصر.(المقدمة/108)
وعلى هذا يكون الشافعي قد استقر على ترك بغداد لما رأى من تغير وجهها، ولما استشعره -بفراسته- من ظهور أمر المعتزلة، فجاءته دعوة والي مصر لتحدد الجهة التي يترك بغداد إليها، وليست الدعوة -فيما نقدر- صالحةً وحدها لتغيير قراره بالبقاء في بغداد، وإنما جاءته وهو يهم بالرحيل عن بغداد لتحدد وجهته التي ينتقل إليها، ولا مانع أن نقول: إنها أيضاً صادفت رغبة في نفس الشافعي الذي كان يرى في الانتقال والترحال معرفةً وخبرة بالحياة والناس، وإحاطة بما عند من يلقاهم من العلماء والقراء والمحدثين.
ومعروف مشهور أقوال الإمام الشافعي في مدح السفر وتعديد فوائده.
فقه الشافعي في مصر
نزل الشافعي بمصر، فوجد حياة تموج بالفقه والفقهاء، وجد فقه الإمام الليث، وفقه الإمام الأوزاعي، وفقه الإمام أبي حنيفة، وفقه الإمام مالك.
وعلى عادة أئمتنا -قديماً- رضوان الله عليهم، كانوا يرون أن الاحتفال بمن يقدم إليهم من العلماء لا يكون إلا بعقد مجالس العلم، والاستماع إلى ما عنده، وعَرْض ما عندهم، ويتبع ذلك المُدارسة والمناظرة، كل ذلك طلباً للحق، وتحصيلاً للفوائد والفرائد.
اطلع الشافعي على ما عند علماء مصر، واتخذ حلقته في جامع عمرو بالفسطاط، وأقبل عليه الفقهاء يسمعون ويدارسون، حتى انحاز إليه الكثير من أتباع مالك وأبي حنيفة، بل من رؤوسهم مَنْ صار من أخص تلاميذ الشافعي مثل: عبد الله بن عبد الحكم، ومحمد ابنه، والبويطي، والمزني، فقد كانوا يقولون بقول مالك قبلاً.
استقر الشافعي في مصر نحو خمس سنوات فقط، ولكنها كانت سنوات مباركات؛ فإذا أحصينا ما ألفه الشافعي وأملاه من كتب، وما قعد له من دروس ومواعظ، وما عقد من مناظرات ... إذا أحصينا ذلك، وجدنا أن الزمن الذي قضاه(المقدمة/109)
في مصر لا يمكن أن يسع ذلك في العرف والعادة، ومن هنا عُدَّ هذا من الكرامات.
طابت الإقامة للشافعي بمصر، ولكن لم تطل، فقد وافاه الأجل المحتوم ليلة الجمعة بعد المغرب، ودفن بعد العصر من يوم الجمعة آخر يوم من شهر رجب سنة 204 هـ.
***
ونعود، فنذكر بأننا لا نقدم ترجمة للشافعي وإنما ننبه إلى معنىً لاحظناه أثناء قراءاتنا لتراجم الإمام الشافعي، وهو ما هيأته الأقدار للشافعي، وهيأت الأقدار الشافعي به، ونلخص ذلك فنقول:
لقد هيأت الأقدار للشافعي أمّاً تعرف قيمة شرف النسب ومنزلته، فتنتقل بابنها إلى مكة، وهناك يعرف قيمة العربية وفصاحة اللسان، فيطلب اللغة في البادية، وهيأت له من يوجهه إلى الفقه، فيجعل اللغة وعلوم العربية والشعر والأدب في سبيل الفقه، وهيأت له شيوخاً في مكة ورثوا فقه ابن عباس، وهيأت له التلمذة على مالك خاصة وفقهاء المدينة ومحدِّثيها بعامة، وقدر الله أن ينشأ فقيراً، فلو كان ذا مالٍ وفير، ربما كان اشتغاله بتثميره، ونشأته في الوفرة والدعة غيرت مجرى حياته.
وأوضح ما تراه من ذلك هو رحلته -من أجل العمل والارتزاق منه- إلى اليمن، وإتهامه بسبب هذا العمل وحمله قسراً إلى بغداد ليضرب عنقه، وتَهْيئة محمد بن الحسن ليكون في مجلس الخليفة ساعة مثوله بين يديه، فيجتمع له أمران في لحظة واحدة، نجاته من السيف بمساعدة من محمد بن الحسن، ثم لقاؤه واتصاله بمحمد بن الحسن وعلم محمد بن الحسن!!! فيحمل علمه وعلم العراقيين عامة.
ثم يعود إلى مكة، ويتردد بينها وبين العراق، ولكن تهيىء له الأقدار من الأحداث ما يزهده في العراق، ومن يدعوه إلى مصر، فيلقى فيها من العلم والعلماء، والأخبار والأحداث (1) ، ما يجعله يُخرج للدنيا هذا العلم الذي ملأ سمع الزمان، وانتقل إلى كل مكان.
هذا ما هيأته الأقدار للشافعي.
__________
(1) انظر الشكل رقم (1) لترى كيف حاز الشافعي فقه الأمصار كلها في الصفحة التالية.(المقدمة/110)
أما ما هيأت الأقدار الشافعيَّ به، فقد وهبه الله حافظةً لاقطة، وذاكرة واعية، وذكاءً نادراً؛ وعقلاً صافياً، وقلباً تقياً نقياً، وجناناً ثابتاً، ولساناً فصيحاً مبيناً، وخُلقاًَ رصياً.
كان الشافعي أحد عباقرة الدنيا، وواحداً من نوادر الموهوبين الذين قلّما ترى الدنيا مثلهم، وحسبك أن تعلم أنه لما أراد أن يقصد مالكاً من مكة أحب أن ينظر في الموطأ قبَل أن يلقى مالكاً، يقول: " استعرت الموطأ، فحفظته في تسع ليالٍ " ولما لقي مالكاً قرأه عليه ظاهراً من حفظه، وكانت سنه يومئذ ثلاث عشرة سنة.
وما أصدق ما قاله له الإمام مالك: "إن الله ألقى على قلبك نوراً، فلا تطفئه بالمعصية".
نعم ألقى الله!! وهَبَ الله!!
وصدق الإمام مالك، فبهذا النور الذي هيأته به الأقدار، وألقته في قلبه أجازه شيخ الحرم مسلم بنُ خالد الزنجي بالإفتاء، وهو ابن خمسَ عشرة سنة!! تأمل!! يُفتي في حرم الله، في البلد الأمين وهو ابن خمس عشرة سنة، ومكة يومئذ مثابة العلماء والفقهاء.
ثم تأمل!! لقد ملأ الشافعي طباق الأرض علماً، وملأ سمع الدنيا، وخلف كل هذا العلم، مع رحيله المبكر: في الرابعة والخمسين من عمره!! وكيف لو عاش إلى الرابعة والثمانين!!
***
هذا هو إمامنا الشافعي رضي الله عنه، لم نقصد أن نترجم له، وإنما أردنا أن نتأمل مواقف وأحداثاً في سيرته، تظهر فيها حكمة الله جل وعلا، وما يختاره ويهيئه سبحانه لمن يرثون نبيه، فيحملون أمانته، ويبلغون رسالته.
شيوخ الإمام الشافعي
ذكر أصحاب التراجم شيوخاً مباشرين للإمام الشافعي وعّدوا منهم عشرين شيخاً خمسة منهم في مكة، وستة في المدينة، وأربعة في اليمن، وخمسة في العراق.(المقدمة/112)
ولسنا نريد أن نترجم لهم، وإنما نريد أن نعرّف بهم فقط، أو بالتحديد أن نضبط أسماءهم، ونوضحها كاملة، فقد ذكرت مختصرة في الشكل رقم (1) .
شيوخه في مكة:
1- سفيان بن عيينة، أبو محمد سفيان بن أبي عمران، أصله من أهل الكوفة، ورحل واستوطن مكة. ت 198 هـ
2- مسلم بن خالد بن مسلم بن سعيد (الزنجي) أصله من أهل الشام، وكان أبيض مشرباً بحُمرة؛ فسمي (الزنجي) من باب الأضداد. ت 180 هـ
3- داود بن عبد الرحمن العطار، كان أبوه نصرانياً من أهل الشام، فخرج منها ونزل مكة، وولد له أولاد فأسلموا، فكان -مع كفره- يعلمهم القرآن والفقه، ويحثهم على ملازمة أهل الخير، ونبغ منهم داود هذا، وقد ولد سنة 100 هـ، وتوفي 174 هـ
4- ابن أبي رَوَّاد (بفتح الراء وتشديد الواو المفتوحة) هو عبد المجيد بن عبد العزيز الأزدي مولى المهلّب أبو عبد الحميد، المكي، ت 206 هـ.
5- سعيد بن سالم القداح، أبو عثمان، المكي، خراساني الأصل، ويقال: كوفي، سكن مكة توفي قبل سنة 200 هـ.
شيوخه في المدينة:
6- مالك بن أنس (وكفى) . ت 179 هـ
7- عبد العزيز الدرَاوَرْدي، عبد العزيز بن محمد بن أبي عُبيد الدرَاوَرْدي، أبو محمد، المدني، مولى جهينة، وأصله من دَرَاوَرْد قرية بخراسان، ولد بالمدينة ونشأ بها، وبها عاش، وبها توفي سنة 187 هـ
8- عبد الله الصائغ، وهو عبد الله بن نافع، الصائغ المخزومي، مولاهم، أبو محمد، المدني، ت 206 هـ
9- إبراهيم بن محمد، وهو إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، الأسلمي ويكنى أبا إسحاق، مولى لأسلم؛ توفي بالمدينة سنة 184 هـ(المقدمة/113)
10- إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، أبو إسحاق، المدني ت 183 هـ.
11- ابن أبي فُدَيْك (مصغراً) وهو محمد بن إسماعيل بن مسلم، واسمه دينار الديلي، مولاهم، وكنيته أبو إسماعيل، المدني ت 200 هـ
شيوخه في اليمن:
12- أبو أيوب، مطرِّف بن مازن، الكناني، مولاهم، قاضي صنعاء. ت 191 هـ
13- هشام بن يوسف، الصنعاني، أبو عبد الرحمن، قاضي صنعاء. ت 197 هـ
14- عمرو بن أبي سلمة، التنِّيسي، أبو حفص الدمشقي، مولى بني هاشم، روى عن الأوزاعي. ت 214 هـ
15- يحيى بن حسان بن حيان التِّنيسي البكري، أبو زكريا البصري. ت 208 هـ
شيوخه في العراق:
16- وكيع بن الجراح بن مليح، الرُّؤَاسي، أبو سفيان، الكوفي، الحافظ. ت 197 هـ
17- أبو أسامة الكوفي، وهو حماد بن أسامة بن زيد القرشي، مولاهم، أبو أسامة الكوفي. ت 201 هـ
18- محمد بن الحسن. ت 189 هـ
19- إسماعيل بن عُليّة البصري، وهو إسماعيل بن إبراهيم، بن سهم، بن مِقْسَم الأسدي، أسد خزيمة، مولاهم، الإمام، أبو بشر، البصري، أصله كوفي، وعُلية أمه، وكان يكره أن ينسب إليها. ت 193 هـ ويلتبس بابن عُلية الآخر (ابنه) إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم، وكنيته: أبو إسحاق، فالأب ثقة إمام، قالوا فيه: " ريحانة الفقهاء " والآخر جهمي " مذاهبه عند أهل السنة مهجورة ". ت 218 هـ
20- عبد الوهاب بن عبد المجيد بن الصلت بن عُبيد الله بن الحكم بن أبي العاص، الثقفي، أبو محمد، البصري. ت 194 هـ(المقدمة/114)
المبحث الثاني: حملة الفقه عن الإمام الشافعي (1)
لقد حظي بالجلوس إلى الشافعي والأخذ عنه خلائق لا يحصون عدّاً، ولكن اشتهر بالنقل عنه، وحَمْلِ علمه عشرةٌ: أربعة منهم نقلوا المذهب القديم الذي أملاه بالعراق، وهؤلاء هم:
1- الزعفراني، أبو علي الحسن بن محمد بن الصباح البغدادي الزعفراني، سُمع يقول: إني لأقرأ كتب الشافعي وتقرأ عليَّ منذ خمسين سنة. ت 260 هـ
2- أحمد بن حنبل، أعرف من أن يعرّف، ولد سنة 164 هـ وتوفي 241 هـ
3- أبو ثور، إبراهيم بن خالد بن اليمان، الكلبي البغدادي، تبع الشافعي، وحمل فقهه، وأقرأ كتبه، وكان له مع ذلك اجتهاداته التي استقلّ بها، حتى عُدَّ من الأئمة أصحاب المذاهب. ت 240 هـ
4- الكرابيسي، أبو علي الحسين بن علي بن يزيد الكرابيسي البغدادي، جمع بين الفقه والحديث، أخذ الفقه عنه خلق كثير. ت 245 هـ
أما رواة المذهب الجديد، فهم ستة:
1- البويطي، أبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطي المصري، نُسب إلى بويط من صعيد مصر، وهو أكبر أصحاب الشافعي المصريين، وله المختصر المشهور الذي اختصره من كلام الشافعي رضي الله عنه، ولما اختصره قرأه على الشافعي بحضرة الربيع، فلهذا يُروى عن الربيع أيضاً، وكان الشافعي يعتمد البويطي في الفتيا، واستخلفه على أصحابه بعد موته. وكانت وفاته ببغداد سنة 232 هـ
__________
(1) انظر الشكل الثاني الذي يبين سلسلة التفقه عن الشافعي.(المقدمة/115)
الشكل الثاني: يبين سلسلة التفقه عن الشافعي إلى ما قبل ظهور طريقتي الخراسانيين والعراقيين
من الطبقة الأولى: (الذين جالسوا الشافعي وسمعوا عنه)
اشتهر بالنقل عنه عشرة من كبار الصحابة:
أ- رواة المذهب القديم
1- الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني* (ت 260 هـ)
2- ابن حنبل* (ت 241 هـ)
3- أبو ثور* (ت 240 هـ)
4- أبو علي الكرايسي* (سنة 245 هـ)
ب- رواة المذهب الجديد
1- البويطي* (ت 231 هـ)
2- حرملة * (ت 243)
3- الربيع الجيزي* (ت 256 هـ)
4- المزني * (سنة 264 هـ)
5- الربيع* (ت 270 هـ)
6- يونس بن عبد الأعلى* (سنة 264 هـ)
من الطبقة الثانية:
1- إبراهيم* البلدي (نحو 299 هـ)
2- أحمد * بن بنت الشافعي (ت 295 هـ)
3- أحمد بن سيار (ت 268 هـ)
4- الأنماطي* (ت 288 هـ)
5- داود بن علي * (ت 290 هـ)
6- عبدان (ت 293 هـ)
7- محمد بن نصر المروزي* (ت 294 هـ)
من الطبقة الثالثة:
1- أبو أحمد الجرجاني (ت 365 هـ)
2- أبو إسحاق المروزي * تفقه بابن سريج (ت 340 هـ)
3- الاصطخري* فقيه العر اق (ت 328 هـ)
4- أبو بكر الإسماعيلي * (ت 371 هـ)
5- أبو بكر الصبغي (ت 342 هـ)
6- أبو بكر الصيرفي* تفقه بابن سريج (ت 330 هـ)
7- أبو بكر الفارسي * تفقه بابن سريج وقيل باصحاب الشافعي
(ت 305 وقيل 350 هـ)
8- أبو بكر المحمودي * المروزي (ت بعد 300 هـ)
9- أبو بكر النيسابوري ابن خزيمة (ت 311 هـ)
10- ابن الحداد * تفقه بابي إسحاق (ت 345 هـ)
11- ابن حَزبويه* البغدادي (ت 319 هـ)
12- أبو الحسن الجوري (ت بعد 300 هـ)
13- أبو حفص ابن الوكيل البابشامي (ت بعد 300 هـ)
14- الخِضري * شيخ القفال (نحو 373 هـ)
15- ابن خيران * تفقه بالأنماطي (ت 320 هـ)
16- زاهر السرخسي* تفقه بأبي إسحاق (ت 389 هـ)
17- الزبيري * أبو عبد الله صاحب الكافي (ت 317 هـ)
18- أبو زرعة الدمشقي الثقفي (ت 302 هـ)
19- أبو زيد المروزي* شيخ القفال (ت 371 هـ)
20- ابن سريج* تفقه بالأنماطي (ت 306 هـ)
21- سهل الصعلوكي* (ت 404)
22- الشيخ أبو حامد الاصفراييني (ت 406)
23- القاضي أبو حامد المرورّوذي * (ت 362)
24- صاحب التقريب: القاسم بن محمد الشاشي* (ت نحو 339 هـ)
25- صاحب التلخيص: ابن القاص * تفقه بابن سريج (ت 335 هـ)
26- أبو الطيب بن سلمة* (ت 308 هـ)
27- أبو علي الطبري* تفقه بابن أبي هريرة (ت 350 هـ)
28- أبو علي بن أبي هريرة* تفقه بابن سريج وأبي إسحاق (ت 345 هـ)
29- أبو عوانة (ت 336 هـ)
30- أبو القاسم الصيمري تخرج به الماوردي (ت 386 هـ)
31- القفال الكبير* (ت 365 هـ)
32- الماسَرجسي* أبو الحسن (ت 384 هـ)
33- ابن المنذر (ت 319 هـ)
34- أبو يحى البلخي * (ت 330 هـ)
__________
* نجمة يعني أنه مذكور في (نهاية المطلب)(المقدمة/116)
2- حَرْملة بن يحيى بن عبد الله بن حَرْملة بن عمران بن قُراد، التُّجِيبي: نسبة إلى قبيلة تُجِيب: بضم المثناة الفوقية وكسر الجيم وسكون الياء. وقولهم: قال حرملة، معناه قال الشافعي في الكتاب الذي نقله عنه حرملة، فسُمّي الكتاب باسم راويه مجازاً.
روي عن الخطابي أنه قال: إن أصحاب الشافعي المتقدمين يعتمدون روايات المزني، والربيع المرادي عن الشافعي ما لا يعتمدون حرملة والربيع الجيزي، ت 243 هـ
3- الربيع الجيزي، أبو محمد، الربيع بن سليمان بن داود، الأزدي، مولاهم، المصري، الأعرج، وقيل: ابن الأعرج، والجيزي نسبة إلى الجيزة تقع قبالة القاهرة على الجانب الغربي من النيل، كان فقيها صالحاً، وعلى طول صحبته للشافعي كان قليل الرواية عنه، وإنما روى عن عبد الله بن عبد الحكم كثيراً، وعن ابن وهب. ت 256 هـ
4- المزني، أبو إبراهيم، إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل بن عمرو بن إسحاق، المزني، المصري، الإمام الجليل ناصر المذهب، كان معظماً بين أصحاب الشافعي، وكان جبلَ علمٍ، مناظراً محجاجاً، زاهداً مجتهداً، صنف كتباً كثيرةً: الجامع الكبير، والجامع الصغير، والمختصر، والمنثور، والمسائل المعتبرة، والترغيب في العلم، وكتاب الوثائق، وكتاب العقارب، وكتاب نهاية الاختصار، وهو إمام الشافعيين، وأعرفهم بطرقه وفتاويه، وما ينقله عنه.
ومختصره أصل الكتب المصنفة في مذهب الشافعي، وعلى مثاله رتبوا، ولكلامه فسروا وشرحوا، وأخذ عنه خلائق من علماء خراسان والعراق والشام، توفي بمصر سنة 264 هـ
5- يونس بن عبد الأعلى بن موسى بن ميسرة بن حفص بن حيان، أبو موسى، الصَّدَفي، المصري، الفقيه المقرىء، قرأ القرآن على ورش وغيره، وأقرأ الناس، روى عنه مسلم والنسائي وأبو عوانة، والنيسابوري، صاحب الشافعي، وأحد رواة مذهبه الجديد، وانتهت إليه رياسة العلم بمصر، وهو من المكثرين في الرواية عن(المقدمة/117)
الشافعي والملازمين له، كان كثير الورع، متين الدين، توقي بمصر سنة 264 هـ ودفن في مقابر الصدقة.
6- الربيع المرادي، أبو محمد، الربيع بن سليمان بن عبد الجبار بن كامل، المرادى، مولاهم، المؤذن، المصري، راوي اكثر كتب الشافعي، وقال الشافعي في حقه: " الربيع راويتي " وقال: "ما أخذ مني أحد ما أخذ الربيع" وهو أثبت أصحاب الشافعي في الرواية عنه؛ حتى لو تعارض هو وأبو إبراهيم المزني، لقدم الأصحاب روايته، مع علو قدر أبي إبراهيم علماً وديناً، وجلالة، وموافقة ما رواه للقواعد، وكانت الرحلة في كتب الشافعي إليه من الآفاق، وكانت وفاته بمصر سنة 270 هـ
***
بقية ممن جالسوا الشافعي:
وممن جالسوا الشافعي وأخذوا عنه -غير هؤلاء العشرة الأشهر ذكراً وأثراً- ترجم السبكي وغيره لعشراتٍ منهم، نذكر بعضهم؛ تبعاً لشهرتهم، ولدوران ذكرهم في الكتب، فمن هؤلاء:
1- ابن مهدي، عبد الرحمن بن مهدي بن حسان بن عبد الرحمن، أبو سعيد، الأزدي، مولاهم، البصري، اللؤلؤي، إمام أهل الحديث في عصره، وهو الذي سأل الشافعي أن يضع له بعض ضوابط في الاستنباط للأحكام، فألف الشافعي الرسالة، وحملها إليه الحارث بن سريج، النقال. ت بالبصرة 198 هـ
2- الأصمعي عبد الملك بن قُرَيب بن عبد الملك بن علي بن أصمع، إمام اللغة والأدب والأخبار، ت 216 هـ
3- الحُمَيْدي، أبو بكر، عبد الله بن الزبير بن عيسى، القرشي، الأسدي، المكي، أبو بكر الحميدي نسبة إلى حُمَيد بن زهير بن الحارث بن أسد، محدّث مكة ومفتيها، قال الحاكم: هو لأهل الحجاز في السنة كأحمد بن حنبل لأهل العراق. ت 219 هـ(المقدمة/118)
4- أبو عُبيد، القاسم بن سلاّم، الإمام الجليل، الأديب الفقيه المحدث، صاحب التصانيف الكثيرة، صاحب كتاب الأموال، وغريب الحديث، تفقه على الشافعي، وناظره في معنى (القُرء) هل هو الطهر أو الحيض، إلى أن رجع كل منهما إلى ما قاله صاحبه، وهي مناظرة مشهورة تروى في كتب الفقه. ت 224 هـ
5- ابن مِقلاص، الإمام، أبو على عبد العزيز بن عمران بن أيوب بن مقلاص، الخزاعي، مولاهم، المصري الفقيه، كان فقيها زاهداً. ت 234 هـ
6- قَحْزَم بنُ عبد الله بن قَحْزَم، أبو حنيفة، الأسواني، آخر من صحب الشافعي موتاً، قال ابن عبد البر: روى عنه كثيراً من كتبه، وكان مفتياً، وأصله من قبط مصر، قالوا: ما أخمل ذكرَه إلا إقامتُه بأسوان، بأقصى صعيد مصر. ت 271 هـ
7- أخت المزني، كانت تحضر مجلس الشافعي، نقل عنها الرافعي في زكاة المعدن، فإنه صح أن الحول فيه لا يشترط، ثم قال: وفيه قول: "أنه يشترط، نقله البويطي"، إنما رواه المزني في المختصر عمن يثق به عن الشافعي، واختاره، وذكر بعض الشارحين أن أخته روت له ذلك، فلم يحب تسميتها.
***
انتشار المذهب وشيوعه في الآفاق
ثم توالى حملة الفقه طبقة بعد طبقة، كل طبقة عن سابقتها، ولم يكونوا سواء في حَمْل المذهب ونشره، فمنهم المقلّ في التأليف ومنهم المكثر، ومنهم النَّظََّار الذي يُعنى بعلم الخلاف، ومنهم الذي يهتم بالتدريس والتعليم، ومنهم من برع في الأصول والتخريج على نصوص الشافعي، وهم أصحاب الوجوه في المذهب، بل منهم من وصل إلى درجة الاجتهاد المطلق، وقد عُني كثير من الأئمة بالترجمة لعلماء المذهب، والتعريف بهم، فيما عرف بكتب (الطبقات) ، وتنوعت طرقهم في التقسيم على الطبقات، ومفهوم الطبقة، كما تنوعت في البسط والإيجاز، وسنشير إلى طرفٍ من ذلك فيما يأتي.(المقدمة/119)
حول طبقات علماء المذهب:
ترجم مؤلفو كتب الطبقات لعلماء المذهب وأعلامه، وهم يقسمونهم ويرتبونهم على طبقات زمنية، فمنهم من جعل أهل كل مائة سنة طبقة، كالسبكي، ومنهم من جعل كل عشرين سنة طبقة، كابن قاضي شُهبة، ومنهم من جعل كل خمسين سنة طبقة، كابن كثير، ثم عاد فقسم كل طبقة خمس مراتب، كل مرتبة عشر سنين، فيما عدا الطبقة الثالثة فقد جعلها مرتبتين، وكلَّ مرتبة خمساً وعشرين سنة، وكذلك الطبقة الرابعة جعلها مرتبتين، لكن جعل الأولى عشرين سنة، والثانية ثلاثين سنة.
وجعل كل خمسين طبقة ابن هداية الله الحسيني (ت 1014 هـ) .
المهم أن الترتيب على السنين هو السائد والملتزم لدى الجميع عادةً، لكن هناك من رتب على الألفبائية مثل ابن الصلاح، والنووي في تهذيب الأسماء واللغات (إذا عُدّ من كتب الطبقات) .
لكن ابن الملقن في طبقاته (العِقد المُذْهَب في طبقات حملة المذهب) انفرد بأمرٍ لم أره عند غيره من أصحاب كتب الطبقات، فقد قسم كلَّ حملة المذهب بدءاً من تلاميذ الإمام الشافعي إلى المعاصرين له -أي لابن الملقن- إلى طبقتين فقط، بمفهومٍ آخر ومعيارٍ آخر غير المعيار الزمني؛ ذلك أنه عَنَى بالطبقة هنا المنزلة والمكانة، والأثرَ في المذهب، فالطبقة الأولى عنده ومثلها الثانية كل منهما تبدأ بتلاميذ الشافعي والآخذين عنه، وصولاً إلى أوائل القرن الثامن، حيث انتهى بطبقاته، قبل أن يُلحقهما بمَنْ عاصَرهم من العلماء، وسماهم الطبقة الثالثة.
فالفرق إذاً بين الطبقتين ليس السبق الزمني، وإنما هو المنزلة والمكانة.
وقد سمى الطبقة الأولى "طبقة أصحاب الوجوه ومن داناهم، وعددهم يُنيف على الخمسمائة".
وقال عن الطبقة الثانية: " نذكر فيها جماعات دون أصحاب الوجوه ومن داناهم، وعددهم يُنيف على سبعمائة ".
ثم قسم الطبقة الأولى إلى أربع وثلاثين طبقة، يرتب كلاً منها على حروف(المقدمة/120)
المعجم، وأما الطبقة الثانية فقد قسمها إلى ست وثلاثين طبقة كذلك.
ويؤكد أنه عَنَى بالطبقة المكانة والمنزلة قولُه عن الطبقة الثانية (دون أصحاب الوجوه ومن داناهم) وقولُه في أول الذيل الذي صنعه لطبقاته: "رتبتُه على حروف المعجم، لا على السِّير".
وصنيعُ ابن الملقن هذا في حاجة إلى دراسةٍ لمعرفة المعايير التي قدّم بها من قدم وأخَّر بها من أخَّر، ولنرى هل التزم المعيار الزمني داخل الطبقات الفرعية، أم راعى المنزلة والمكانة، ولنُحصي من قدَّمهم، وندرس أحوالهم، ولماذا قدمهم.
نقول ذلك لما هو معروف من منزلة ابن الملقن ومكانته، فنظره في رجال المذهب وتصنيفه لهم يستحق كل اهتمام ودراسة، فعسى أن يَنْهَد أحدٌ من شباب الباحثين لهذا الأمر، كما يجعل من غرضه إعادة إخراج طبقات ابن الملقن، فقد خرجت في طبعة لا خير فيها، كثيرة التصحيف والتحريف والتشويش، تمثل أبشع صورة للعبث بالتراث.
هذا، وقد رأينا العلاّمة أحمد بك الحسيني في الجزء الأول من مقدمته الضافية لكتابه (مرشد الأنام لبّر أم الإمام) (1) يستخدم عبارة ابن الملقن، فعند ذكره " من انتسب إلى مذهب الشافعي رضي الله عنه من حين تدوين مذهبه إلى وقتنا هذا " قال: "ولنتكلم عليهم في فصول:
(الفصل الأول: في سرد أسماء أصحابه الآخذين عنه ومَنْ بعدهم من أصحاب الوجوه ومن داناهم) ولكنه اختلف عن ابن الملقن في أمور:
1- قسمهم إلى طبقات متبعاً تقسيم السبكي على المئات: كل مائة طبقة.
2- انتهى بهم إلى آخر الطبقة التاسعة (الذين توفوا فيما بين التسعمائة والألف) ، ولم يذكر ممن توفي أوائل القرن الحادي عشر إلا الشمس الرملي، وعبد العزيز
__________
(1) تقع هذه المقدمة في جزأين كبيرين، كل جزء يزيد على ثمانمائة صفحة بخط اليد، فأما الكتاب فيقع في أربعة وعشرين مجلداً في شرح ربع العبادات فقط، من كتاب الأم، كما هو واضح من اسمه، ولا يزال مخطوطاً أيضاً.(المقدمة/121)
الزمزمي، وقال: " هؤلاء هم أصحاب الوجوه، وأصحاب المصنفات المعتبرة في المذهب ".
3- أنه لم يجعل مَنْ دونهم طبقةً خاصة، بل سردهم في الفصل الثاني ضمن ذكره للمنتسبين للشافعي جميعاً.
4- أنه لم يجعل أحداً ممن سمع الشافعي وجالسه، وكذا كل من تُوفي قبل الثلثمائة، لم يجعل أحداً من هؤلاء دون أصحاب الوجوه ومن داناهم.
5- أنه نص على أصحاب الوجوه بأعيانهم، وميزهم عمن (داناهم) وهو يسردهم معاً.
6- وقف بأصحاب الوجوه عند سنة 740 هـ وهي السنة التي توفي فيها آخر أصحاب الوجوه أبو خلف الطبري.
***
هذا وقد تصفحنا عدداً من كتب الطبقات:
1- طبقات العبادي المتوفى 458 هـ
2- طبقات الشيرازي المتوفى 476 هـ
3- طبقات ابن الصلاح ت 643 هـ
4- طبقات السبكي المتوفى 771 هـ
5- طبقات الإسنوي المتوفى سنة 772 هـ
6- طبقات ابن كثير (1) 776 هـ
7- طبقات ابن قاضي شهبة 851 هـ
8- طبقات ابن هداية الله ت 1014 هـ
فلم نجد أحداً من هؤلاء يُعنَى بتمييز أصحاب الوجوه، وإثبات هذه الصفة لهم عناية النووي، ويبدو أن الاتفاق على حصر أصحاب الوجوه غير ممكن؛ فهذا يقتضي
__________
(1) نص ابن كثير -فيما رأينا- على بعض أصحاب الوجوه، وكذلك صنع ابن قاضي شهبة.(المقدمة/122)
نَخْل فقه كل واحد من هؤلاء، ومعرفة ما خرّجه من وجوه لم يُسبق بها.
ومع ذلك هناك اتفاق على عددٍ ليس بالقليل بأنهم من أصحاب الوجوه.
الإمام النووي هو الأكثر عناية بهذا الشأن
والذي تأكد لي بعد طول البحث والتقصي في المؤلفات التي تؤرخ للمذهب ورجاله، أن النووي كان أكثر عناية والتفاتاً إلى تمييز أصحاب الوجوه عن غيرهم، والنصِّ عليهم في كتابه (تهذيب الأسماء واللغات) .
والنووي هو أهل هذا الشأن؛ فجهده وجهاده في الفقه -مع الرافعي- هو تحرير المذهب، أي تنقيحه، وتحديد ما يصح أن ينسب إلى الشافعي، ويسمى مذهباً له، وتمييزه عن غيره من تخريجات، واجتهادات لمجتهدي المذهب على طول القرون التي سبقت عصره. (وسيأتي مزيد إيضاح لهذه القضية) .
ولذا كان حاضراً في ذهنه، ماثلاً أمام عينه منزلة أعلام المذهب وأئمته في هذا الشأن، فحيثما ذكر واحداً منهم ميزه من هذه الجهة، وقال: " من أصحاب الوجوه ".
وهذا يؤكد ما قلناه من قبل: إن الإحاطة بجميع أصحاب الوجوه غير ميسورة، فالنووي لم يترجم في تهذيبه لجميع رجال المذهب، فهناك كثير من أصحاب الوجوه غير المذكورين في (تهذيب الأسماء واللغات) .
وسنعرّف ببعض أصحاب الوجوه فيما يأتي:
من أصحاب الوجوه
سنعرّف في الصفحات الآتية بالمشهورين من أصحاب الوجوه ممن نصَّ عليهم النووي في تهذيبه، وابن كثير، وابن قاضي شهبة في طبقاتهما، وكذلك أحمد بك الحسيني، وابن سُميط العلوي، وسنقتصر على من له ذكر في كتابنا هذا (نهاية المطلب) ، وسنرتبهم على تاريخ الوفاة الأسبق فالأسبق، فمنهم:(المقدمة/123)
(من الطبقة الثانية)
1- أحمد بن سيار بن أيوب، أبو الحسن المروزي السياري.
سمع عَبْدَان بن عثمان، وعفان بن مسلم، وسليمان بن حرب، وإسحاق بن راهويه، وغيرهم، وروى عنه النسائي، وابن خزيمة، ومحمد بن نصر المروزي. ت 240 هـ.
2- محمد بن نصر المروزي إمام أهل الحديث في عصره، كان أعلم الناس باختلاف الصحابة، ولد ونشأ بنيسابور.
سمع من هشام بن عمار، وهشام بن خالد، والربيع بن سليمان، ويونس بن عبد الأعلى، وتفقه على أصحاب الشافعي.
وروى عنه أبو العباس السراج، ومحمد بن المنذر ت 294 هـ
3- أبو جعفر الترمذي، محمد بن أحمد بن نصر شيخ الشافعية بالعراق قبل ابن سريج، ت 295 أربع وتسعين سنة.
(من الطبقة الثالثة)
4-أبو الطيب بن سلمة، محمد بن الفضل بن سلمة بن عاصم البغدادي، واشتهر بأبي الطيب بن سلمة نسبةً إلى جده.
قال الخطيب البغدادي: يقال: إنه تفقه على ابن سريج. ت 308 هـ.
5- أبو عبد الله الزبيري. ويعرف بصاحب الكافي، وهو الزبير بن أحمد بن سليمان بن عبد الله بن عاصم بن المنذر بن الزبير بن العوام، الأسدي. ت 317 هـ
6- ابن حَرْبَوَيْه، القاضي، أبو عُبيد، علي بن الحسين بن حرب بن عيسى البغدادي، قاضي مصر.
حمل العلم عن أبي ثور، وداود الظاهري. توفي ببغداد سنة 319 هـ
7- أبو حفص بن الوكيل، البابشامي، عمر بن عبد الله بن موسى.(المقدمة/124)
فقيه جليل، من نظراء ابن سريج، وأصحاب الأنماطي، وتفقه عليه، وهو من كبار المحدثين، وكانت وفاته ببغداد سنة 320 هـ
8- ابن خيران: أبو علي الحسين بن صالح، أحد أركان المذهب ببغداد، تفقه بالأنماطي، ت 320 هـ
9- أبو بكر النيسابوري، عبد الله بن محمد بن زياد بن واصل بن ميمون، مولى آل عثمان رضي الله عنه.
سمع يونس بن عبد الأعلى، والربيع، والمزني، وأبا زُرعة، وروى عنه الدارقُطني وجماعة كان من أحفظ الناس للفقهيات واختلاف الصحابة. ت 324 هـ
10- أبو سعيد، الإصطخري، الإمام الجليل، حسن بن أحمد بن يزيد بن عيسى بن الفضل بن بشار بن عبد الحميد، قاضي (قم) .
كان هو وابن سريج شيخي الشافعية ببغداد. ت 328 هـ
11- أبو يحيى البلخي، زكريا بن أحمد بن المحدث يحيى بن موسى ختّ، القاضي الكبير، من كبار أئمة الشافعية. ت 330 هـ
12- أبو بكر الصيرفي، محمد بن عبد الله البغدادي.
الإمام الجليل الأصولي، كان يقال: أعلم خلق الله بالأصول بعد الشافعي، تفقه على ابن سريج، وشرح رسالةَ الشافعي. ت 330 هـ
13- ابن القاص، الشيخ، الإمام، أبو العباس، أحمد بن أبي أحمد الطبري.
أخذ الفقه عن ابن سريج، صاحب المفتاح، والمواقيت، وأدب القاضي، والتلخيص، وهو أنفسها، وقد اعتنى الأصحاب بشرحه، فشرحه أبو عبد الله الختن، ثم القفال، ثم أبو علي السِّنجي، وآخرون. توفي بطرسوس سنة 332 هـ
14- أبو إسحاق المروزي، إبراهيم بن أحمد بن إسحاق.
تفقه على ابن سُريج. وإليه تنتهي طريقة العراقيين والخراسانيين، شرح مختصر المزني، وانتقل آخر عمره إلى مصر، وجلس مجلس الشافعي، فاجتمع الناس عليه، توفي بمصر، ودفن عند الشافعي سنة 340 هـ(المقدمة/125)
15- أبو بكر الصِّبغي، أحمد بن إسحاق بن أيوب بن يزيد بن عبد الرحمن بن نوح، النيسابوري. توفي 342 هـ
وهو غير أبي بكر الصِّبغي النيسابوري الآخر الذي اسمه محمد بن عبد الله بن محمد بن الحسين المتوفى سنة 344 هـ. فهما متفقان في الكنية والنسبة واللقب، ولا يختلفان إلا في الاسم وسنة الوفاة.
16- ابن أبي هريرة: أبو علي الحسن بن الحسين، الإمام الجليل، القاضي، أحد رفعاء المذهب، تفقه بابن سريج وأبي إسحاق المروزي، ت 345 هـ.
17- ابن الحداد، أبو بكر، محمد بن محمد بن جعفر، الكناني، المصري الإمام الجليل، صاحب (الفروع) وهو من نظار الأصحاب وكبارهم، وله كتاب (الباهر) ، و (أدب القضاء) و (جامع الفقه) وقد عني بكتابه الفروع عظماء الأصحاب، فشرحه القفال، وأبو علي السنجي، والقاضي، وغيرهم. ت 345 هـ
18- أبو علي الطبري، صاحب الإفصاح، الحسين بن قاسم، له الوجوه المشهورة في المذهب، والإفصاح شرحٌ على المختصر، تفقه على أبي علي ابن أبي هريرة، سكن بغداد، وتوفي بها سنة 350 هـ.
19- أبو بكر الفارسي، أحمد بن الحسن (1) بن سهل، من أئمة الأصحاب ومتقدميهم، صاحب (عيون المسائل) ؛ من تلاميذ ابن سريج، وفي تاريخ وفاته اختلاف واضطراب، قيل: ت سنة 305، وقيل: سنة 350 وهو ما ذكره النووي في تهذيبه، وهو الأرجح، فقد صح أنه كان موجوداً في ذي الحجة من سنة 339 هـ، ذكر ذلك السبكي في ترجمته، واستدلّ عليه بما فيه مقنع.
20- أبو بكر المحمودي، محمد بن محمود المروزي، المعروف بالمحمودي، تفقه على أبي إسحاق المروزي، وأخذ عن عَبْدان تلميذ المزني والربيع. توفي بعد 300 هـ
__________
(1) كذا في طبقات السبكي، وعند العبادي، وكذلك النووي: " أحمد بن الحسين " (ر. طبقات السبكي: 2/184، وطبقات العبادي: 45، وتهذيب الأسماء واللغات: 2/195) .(المقدمة/126)
21- ابن القطان، أبو الحسين أحمد بن محمد بن أحمد البغدادي، آخر أصحاب ابن سريج وفاة، أخذ عنه علماء بغداد. ت 359 هـ
22- الإمام، سهل الصعلوكي، هو محمد بن سليمان بن محمد بن سليمان، العِجلي، الأصبهاني، ثم النيسابوري. تفقه على أبي إسحاق المروزي. ت 369 هـ
23- أبو زيد المروزي، محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد، الفاشاني، من قرية فاشان، إحدى قرى مرو (بفاء مفتوحة ثم ألف ثم شين معجمة ثم ألف ثم نون) من أصحابنا الخراسانيين، من أحفظ الناس لمذهب الشافعي، وأحسنهم نظراً، تفقه على أبي إسحاق المروزي، وروى عنه الحاكم والدارقطني. ت 371 هـ
24- أبو أحمد الجرجاني، محمد بن إبراهيم بن الصباغ، صاحب أبي إسحاق الشيرازي، تفقه على أبي إسحاق المروزي. ت 373 هـ
25- الماسَرْجِسي، أبو الحسين، محمد بن علي بن سهل، النيسابوري، شيخ القاضي أبي الطيب، أخذ عن أبي إسحاق المروزي، وصحبه إلى مصر، ولازمه إلى أن توفي، فانصرف إلى بغداد، ثم إلى خراسان ومات بها. ت 384 هـ
26- أبو بكر الأُودني، محمد بن عبد الله بن محمد بن نصير بن ورقة، البخاري، روى عنه الحاكم وغيره، كان إمام الشافعيين بما وراء النهر، توفي ببخارى سنة 385 هـ
27- أبو القاسم الصيمري، عبد الواحد بن الحسين بن محمد، القاضي، نزيل البصرة، ارتحل إليه الناس من البلاد، وهو ممن تفقه عليه الماوردي، وصنف كتباً كثيرةً، منها الإيضاح. ت 386 هـ
28- زاهر السرخسي، أبو علي، زاهر بن أحمد بن محمد بن عيسى، منسوب إلى سَرَخْس من نواحي خُراسان. تفقه على أبي إسحاق المروزي 389 هـ
29- الخِضري، أبو عبد الله محمد بن أحمد المروزي، إمام مرو، ومقدم الشافعية، أحد شيوخ القفال. ت في عشر الثمانين والثلاثمائة. (نحو 373 هـ)(المقدمة/127)
30- أبو الحسن الجوري (1) ، القاضي، علي بن الحسين. منسوب إلى (الجور) بضم الجيم من بلاد فارس، لقي أبا بكر النيسابوري، وحدث عنه وعن جماعة، ومن تصانيفه كتاب المرشد، في شرح مختصر المزني. ت بعد 300 هـ
(من الطبقة الرابعة)
31- الحَليمي، أبو عبد الله، الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم الجرجاني. أحد أئمة الدهر وشيخ الشافعيين بما وراء النهر، روى عنه الحاكم وغيره. ت 403 هـ
32- أبو علي السِّنجي، الحسين بن شعيب بن محمد المروزي، والسِّنجي نسبة إلى (سِنج) قرية من قرى مرو. إمامُ زمانه في الفقه، تفقه على الإمامين شيخي الطريقتين: أبي حامد الإسفراييني شيخ العراقيين، وأبي بكر القفال المروزي، شيخ الخراسانيين، وجمع بين طريقتيهما، وشرح المختصر شرحاً مطولاً، وشرح أيضاً تلخيص ابن القاص، وفروع ابن الحداد، وهو والقاضي حسين أنجب تلامذة القفال. ت 430 هـ
33- الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران، إمام في الكلام والأصول والفقه وغيرها، أقام بالعراق مدةً، ثم رجع إلى وطنه إسفراين، فطلب منه أهل نيسابور الانتقال إليهم، فأجابهم، وبنَوْا له مدرسة عظيمة، فلزمها إلى أن توفي بها. ت 418 هـ
34- أبو عاصم العبادي، القاضي، محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن عباد، الهروي، صاحب المؤلفات المتعددة. ت 458 هـ
35- القاضي حُسين، الإمام، المحقق، أبو علي، حسين بن محمد بن أحمد، المرورّوذي. أحد رفعاء المذهب، ومن له الصِّيت في الآفاق، وهو من أجلّ أصحاب القفال المروزي، تخرج عليه كثير من الأئمة، له شرح على فروع ابن الحداد. ومتى
__________
(1) وهو الوحيد الذي وجدنا العبادي في طبقاته ينص على أنه من أصحاب الوجوه (ر. طبقات العبادي: 85) .(المقدمة/128)
أُطلق (القاضي) في كتب متأخري الخراسانيين، كالنهاية، والتتمة، والتهذيب، وكتب الغزالي، ونحوها، فإياه يعنون. ت 462 هـ
ونكتفي بهؤلاء، وقد عُنينا بهم، لأن أسماءهم وردت موجزة في الأشكال البيانية الملحقة بهذا المبحث (شكل رقم 2، 3، 4) فأردنا أن نعرف بهم بعض التعريف.
تحديد أصحاب الوجوه:
أشرنا من قبل إلى أن الاتفاق على أصحاب الوجوه ليس ميسوراً، وقد صدّق قولَنا هذا العلامة بن سُمَيط العلوي الحضرمي (1277 هـ-1343 هـ) ، فقد عدّدَ من أصحاب الوجوه قوماً، اتفق مع أحمد بك الحسيني في بعضهم، وزاد عنه بعضاً آخر، لم يعدّه الحسيني منهم.
فمن هؤلاء الذين زادهم ابنُ سُميط: 1- أبو علي بن خَيْران. 2- أبو علي بن أبي هريرة. 3- ابن الحداد. 4- القفال الشاشي. 5- أبو عبد الرحمن القزاز.
فهؤلاء لم يعدَهم الحسيني من أصحاب الوجوه، لا سهواً، ولا اختصاراًَ، بل ترجم لهم، ولم يقل: (من أصحاب الوجوه) كما قال في الذين عدّدهم.
بل إن عبارة ابن سُميط توحي بأنه يرى أن أصحاب الوجوه موجودون في الطبقات بعد الرابعة، حيث يقول: "ثم جاء بعدهم بقية أصحاب الوجوه طبقة بعد طبقة" (1) .
وقد خالفه في ذلك السيد علوي بن أحمد السقاف المتوفى 1335 هـ وهو -أيضاً- من محققي المتأخرين، حيث ينقل عن ابن حجر الهيتمي المتوفَّى سنة 974 هـ ما لفظه: " وفي الاصطلاح المرادُ بالأصحاب المتقدمون، وهم أصحاب الأوجه غالباً، وضُبطوا بالزمن، وهم من الأربعمائة " (2) . فأنت تراه متفقاً في ذلك مع أحمد بك الحسيني، وهذا هو المقبول والراجح، وإن كنا لا نمنع أن يوجد آحاد بعد ذلك لهم القدرة على التخريج.
__________
(1) ر. الابتهاج في بيان اصطلاح المنهاج: 7، 8.
(2) ر. الفوائد المكية: 46.(المقدمة/129)
من غير أصحاب الوجوه، أعمدة وأركان للمذهب:
ولم يكن أصحاب الوجوه وحدهم أصحاب الأثر في نشر المذهب وشيوعه، فإذا كان أصحاب الوجوه هؤلاء قد أفادوا المذهب بتفريعهم وتَخريجهم على نصوص الشافعي -على ما سنشرح معنى الوجهين بعدُ- فإن هناك من الأصحاب من أوتي القبول في التدريس، والقدرة على المباحثة، فكثر تلاميذُه، وحملوا المذهب، وانساحوا به في الأرض.
ومنهم من وهب القدرة على التصنيف والإملاء، فحملت كتبه إلى الآفاق، وحَفِظَتْ مادةَ الفقه، ويسَّرت التفقه على المذهب.
ومن الأصحاب من مُنح القدرة على المناظرة، ونصرة المذهب أمام المخالفين، ومنهم من جمع الله له كلَّ ذلك، ولا حرج على فضل الله.
ونذكر بعض المشهورين من هؤلاء، سرداً بدون ترجمة؛ طلباً للإيجاز، فمنهم:
1- داود الظاهري، أبو سليمان داود بن علي بن خلف، كان من أجل أنصار الشافعي قبل أن يستقل بمذهب الظاهر. ت 270 هـ
2- الأنماطي، أبو القاسم، عثمان بن سعيد بن بشار توفي 288 هـ
3- عَبْدان بن محمد بن عيسى، الإمام، أبو محمد، المروزي ت 293 هـ
4- ابن بنت الشافعي، أحمد بن عبد الله بن محمد بن العباس بن عثمان بن شافع ت 295 هـ
5- إبراهيم بن محمد البلدي ت (نحو 299 هـ) .
من الطبقة الثالثة
6- أبو زُرعة الدمشقي، القاضي، محمد بن عثمان بن إبراهيم بن زرعة، الثقفي، مولاهم، الدمشقي. ت 302 هـ(المقدمة/130)
7- ابن سُرَيْج (1) ، أبو العباس، أحمد بن عمر البغدادي ت 306 هـ
8- أبو عَوانة، الإسفراييني، الحافظ، يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، بن زيد النيسابوري ت 316 هـ
9- أبو الوليد النيسابوري، حسان بن محمد بن أحمد بن هارون القرشي، الأموي ت 349 هـ
10- القاضي أبو حامد المرورّوذي، أحمد بن بشر بن عامر العامري. ت 362 هـ
11- القفال الكبير، الشاشي، أبو بكر، محمد بن علي بن إسماعيل. ت 365 هـ
12- أبو بكر الإسماعيلي، أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن العباس، الإسماعيلي. ت 371 هـ
13- صاحب التقريب، الإمام أبو الحسن القاسم، ابن القفال الشاشي الكبير، القاسم بن محمد بن علي بن إسماعيل. ت نحو 399 هـ
من الطبقة الرابعة
14- أبو الحسن المحاملي، أحمد بن محمد بن أحمد بن القاسم بن إسماعيل الضبي، المعروف بابن المحاملي. ت 415 هـ
15- القفال الصغير، المروزي، أبو بكر، عبد الله بن أحمد بن عبد الله. ت 417 هـ
16- الصيدلاني، أبو بكر، محمد بن داود بن محمد الدّاودي. ت 427 هـ
17- الجويني، أبو محمد، والد إمام الحرمين، عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن محمد بن حَيُّوية. ت 438 هـ
18- القاضي أبو الطيب الطبري، طاهر بن عبد الله بن طاهر بن عمر. ت 450 هـ
***
__________
(1) لم يذكر أحد من أصحاب الطبقات أنه من أصحاب الوجوه، ولكن الإمام أكثرَ من حكايات الوجوه عنه في (النهاية) .(المقدمة/131)
العراقيون والخراسانيون (1)
كما أشرنا من قبل انساح الفقه الشافعي في دار الإسلام، يحمله الأصحاب جيلاً عن جيل، حتى وصلنا إلى نهايات القرن الرابع وأوائل القرن الخامس، فظهر مصطلح: أصحابنا الخراسانيون، وأصحابنا العراقيون.
ثم تبع ذلك ما سُمي طريقةَ العراقيين، وطريقة الخراسانيين.
ونحب أن نؤكد هنا عدة أمور:
1- أن هذه النسبة: عراقي أو خراساني، لا علاقة لها بالِعْرق والميلاد، وإنما تأتي هذه النسبة من الشيوخ والتلقي، وموطن المدَارَسة، والتّلْمذة، فقد يكون الصاحب خُراسانيّ الأصل والعِرْق، والمولد، ولكنه عاش في العراق، وسمع شيوخ العراق، فهو حينئذٍ عراقي، وأوضح مثالٍ على ذلك الشيخ أبو حامد الإسفراييني، شيخُ طريقة العراقيين، فهو إسفراييني المولد، بل والنشأة، فقد قدم بغداد شاباً، وتفقه على شيوخه العراقيين وتخرّج بهم، فصار بهذا عراقياً، بل هو شيخُ طريقة العراقيين.
قال السبكي في ترجمته: "ولد سنة أربع وأربعين وثلثمائة، وقدم بغداد شاباً، فتفقه على الشيخين: ابن المرزبان: [علي بن أحمد، أبو الحسن، البغدادي، المتوفى 366 هـ] (2) والداركي (3) ، [أبو القاسم، عبد العزيز بن عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، والدارَكي نسبة إلى (دارَك) من أعمال أصبهان ت 375 هـ] (4) .
__________
(1) انظر الشكل الثالث.
(2) ما بين المعقفين زيادة منا لتوضيح ما أورده السبكي.
(3) طبقات السبكي: 4/61-65.
(4) ما بين المعقفين زيادة منا لتوضيح ما أورده السبكي.(المقدمة/132)
الشكل الثالث: يبين أعلام طريقتي الفقه الشافعي ثم الجمع بين الطريقتين:
أ- الخراسانيون
القفال الصغير المروزي، أبو بكر عبد الله بن أحمد ت 417 هـ شيخ طريقة الخراسانيين ومن أشهرهم:
1- أبو محمد الجويني ت 438 هـ
2- الفوراني: أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن فوران ت 461 هـ
3- القاضي حسين: الحسين بن محمد بن أحمد، أبو علي المروزي ت 462هـ
4- الشيخ أبو على السنجي: الحسين بن شعيب المروزي السنجي ت 427 هـ وقيل 430 هـ
5- المسعودي: أبو عبد الله محمد بن عبد الملك بن المسعود بن أحمد المروزي، توفي سنة نيف وعنرين وأربع مئة هـ
6- إمام الحرمين: عبد الملك بن عد الله بن يوصف الجويني ت 478 هـ
ب- العراقيون
الشيخ أبو حامد الاسفراييني ت 406 هـ رأس طريقة العراقيين، تبعه جماعة لا يحصون عدداً، أشهرهم:
1- الماوردي: القاضي أبو الحسن علي بن حبيب ت 450 هـ
2- القاضي أبو الطيِّب الطبري: طاهر بن عبد الله بن طاهر ت 450 هـ
3- القاضي أبو علي البندنيجي: الحسن بن عبد الله ت 425 هـ
4- المحاملي: أبو الحسن: أحمد بن محمد بن أحمد بن القاسم المحاملي، ت 415 هـ
5- سيم الرازي: أبو الفتح: سليم بن أيوب الرازي ت 447 هـ
6- أبو إسحاق الشيرازي ت 476 هـ
7- القاضي أبو علي الفارقي: الحسن بن إبراهيم ت 528 هـ
8- ابن أبي عصرون: أبو سعد عبد الله بن محمد بن هبة الله بن علي الموصلي ت 585 هـ
من جمع بين الطريقتين:
أ- هؤلاء خراسانيون جمعوا بين الطريقتين
1- الشيخ أبو علي السنجي (ت 427 هـ)
2- أبو عبد الله الحليمي (ت 403 هـ)
3- المتولي صاحب التتمة (ت 448 هـ)
4- إمام الحرمين (ت 478 هـ)
5- الكليا الهراسي (ت 504)
6- أبو حامد الغزالي (ت 505)
ب- هؤلاء عراقيون جمعوا بين الطريقتين
1- أبو إسحاق الشيرازي (ت 476)
2- ابن الصباغ صاحب الشامل (ت 477)
3- الروياني صاحب البحر (ت 502)
4- القفال الشاشي صاحب الحلية (ت 505)(المقدمة/133)
فها هو الشيخ أبو حامد يولد في إسفراين - بكسر الهمزة والياء، كما ضبطها الفيروزآبادي، وكذلك ابن خلكان، أما ياقوت في معجم البلدان، فقد ضبطها بفتح الهمزة وياءين -وهي بلدة بخراسان من نواحي نيسابور على منتصف الطريق إلى جرجان- فهو خراساني المولد والنشأة، ولكنه عراقي التفقه، فصار من (أصحابنا العراقيين) .
بل إن هذا ينطبق أيضاً على شيخه الدارَكي، فمع أنه دَارَكي، أصبهاني، نيسابوري، خراساني، وتفقه على الشيخ أبي إسحاق المروزي، ودرّس في نيسابور، إلا أنه انتهى بغدادياً (من أصحابنا العراقيين) وانتهى إليه الفقه في بغداد، وعنه أخذ عامة شيوخها (1) .
2- ومما ننبه إليه أيضاً أن الخراسانيين يسمّون أيضاً بالمراوزة، فتارة يقولون:
" أصحابنا الخراسانيون "، وأخرى يقولون: " أصحابنا المراوزة "، وهما سواء على
حد تعبير ابن الملقن في طبقاته، وقد علل لذلك بقوله: " لأن أكثر الخراسانيين من
مرو وما والاها " (2) فإن أراد " بما والاها " باقي مدن خراسان: نَيْسابور، وهَراة،
وبَلْخ، وما حولها، فهو صحيح إن شاء الله.
أما إذا أراد بذلك أن أكثر الخراسانيين من مدينة مرو بذاتها، فهذا خلاف الواقع،
فإن مرو ليست كبرى مدن خراسان، فقد حَكَوْا في سبب الجفوة التي كانت بين
أبي القاسم الفوراني وإمام الحرمين= أن الفوارني جاء من مرو إلى نيسابور للعزاء في
الشيخ أبي محمد والد إمام الحرمين، وكان في تقديره أن المتفقهة في نيسابور
سيُجلسونه مكان أبي محمد شيخاً لفقهاء نيسابور؛ فإنهاأكبر من مرو التي كان شيخاً
لها، ولكنه فوجىء بأن أهل نيسابور أجلسوا إمام الحرمين مكان أبيه؛ فأظهر أنه جاء
للعزاء لاغير.
وعلى عادة أئمتنا في ذلك العصر، بقي في نيسابور مدة، ليدرّس، ويناظر،
__________
(1) السبكي: 3/330-331.
(2) ر. العقد المُذهب في طبقات حملة المذهب، لابن الملقن: 216.(المقدمة/134)
وكان إمام الحرمين يغشى حلقته، ويحضر مناظراته، فلم يكن يلتفت إليه، ويحلّه بالمحل اللائق به، فمن هنا كانت هذه الجفوة التي سجلها التاريخ، ورأينا آثارها في كتابنا هذا (نهاية المطلب) ، حيث لم يصرح إمام الحرمين باسمه مرة واحدة، على طول هذا الكتاب، وإنما يقول عنه حيث يضطر لذكره: " بعض المصنفين " حتى تسمية كتبه لم يصرح بها إمام الحرمين، وإنما يقول: " وفي بعض التصانيف ".
ويعنينا من ذلك أن نثبت أن (مرو) لم تكن أكبر مدن خراسان، على الأقل في ذلك الوقت.
فما السبب الذي من أجله ساغ إطلاق لفظ (المراوزة) على (الخراسانيين) ؟
أعتقد أن السبب في ذلك هو ما وقع اتفاقاً من أن شيخ الطريقة وهو القفال كان مروزيّاً، وكان شيخه أبا زيد المروزي، وشيخ شيخه أبو إسحاق المروزي؛ فمن أجل ذلك صح وضع أحد الاسمين مكان الآخر، وأن يقال عن أي خراساني: (مروزي) وإن لم يدخل (مرو) .
واعتبر هذا بما لو كان شيخ الطريقة (بلخياً) أو (هروياً) .
3- والذي ننبه إليه ثالثاً أن بإطلاق لفظ (خراسانيين) في هذا المقام لا يراد به خراسان بحدودها الجغرافية -على سعتها وامتدادها- بل المراد كل الجناح الشرقي لدار الإسلام، فيشمل كلَّ ما وراء النهر إلى حدود الهند والصين.
وقد نبه إلى ذلك ابنُ الملقن، فقال وهو يُعدِّد مواطن الخراسانيين: " وجماعة من أصحابنا من بلاد المشرق كأصبهان، وجُرجان، وسمرقند، ونَسف، وهراة، ومرو، وبخارى، وشيراز، والرَّي، وطوس، وهمدان، ودامغان، وساوة، وتبريز، وبيهق، ومَيْهَنة، وإستراباذ، وغير ذلك من المدن الداخلة في أقاليم ما وراء النهر، وخراسان وأذربيجان، وماريدان، وخُوارِزْم، وغَزْنة، وكرمان، إلى بلاد الهند، وجميع ما رواء النهر إلى أطراف الصين والعراقَيْن -يقصد العراق العربي والعراق العجمي- وغير ذلك " (1) ا. هـ
__________
(1) ر. العقد المُذْهب في طبقات حملة المذهب: 216 (بتصرف يسير) .(المقدمة/135)
ويبدو أن (نيسابور) كانت عاصمة خراسان، أو كالعاصمة لها، ولهذا عقد ابن الملقن موازنةً بينهما حين قال: " وكل نيسابوري خراساني، ولا عكس؛ فالخراسانيون أعم منهم، وليس الخراسانيون مع نيسابور كالعراقيين مع بغداد، فثم جمعٌ من خُراسان لم يدخلوا نيسابور بخلاف العراقيين، لاتساع بلاد خراسان، وكثرة المدن بها (1) ".
فواضح أنه يفرق بين بغداد بالنسبة للعراقيين، ونيسابور بالنسبة للخراسانيين؛ فكل عراقي يدخل بغداد، وليس كل خراساني يدخل نيسابور؛ ويعلل ذلك باتساع بلاد خراسان، وإنما نبهنا إلى ذلك، وقلنا: إن المراد في هذا المقام ليس خراسان بحدودها الجغرافية؛ لأننا وجدنا ياقوت في معجم البلدان ينبه على أن ما وراء النهر ليس من خراسان فيقول: " ومن الناس من يُدخل أعمال خوارِزم في خراسان، ويعدّ ما وراء النهر منها، وليس الأمر كذلك " (2) وكأني به يردّ على هذا التوسّع الذي رآه في كتب طبقات المذهب ومصطلحاته. والله أعلم.
4- وننبه أيضا أن لفظ أو مصطلح (العراقيين) يطلق أيضا ويراد به الأحناف، وأوضح ما يمثل ذلك الاستعمال كتاب إمامنا الشافعي بعنوان: (اختلاف العراقيَّين) : يعني أبا حنيفة، وابنَ أبي ليلى، وهو ضمن كتاب الأم (الجزء السابع) . وأيضاً كتاب الكوثري بعنوان: (فقه أهل العراق وحديثهم) .
فإذا قيل أو أطلق لفظ (العراقيون) في مقابلة الخراسانيين، فالمراد به الأصحاب من أهل العراق، وأما إذا أطلق في مقابلة مذهب الشافعي أو غيره، فالمراد به أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه.
5- ومما يلفت النظر أن المصريين لم يكن لهم طريقة خاصة بهم، مع أن المذهب مصري: اكتمل بناؤه، وبلغ أشده بمصر، فلماذا لم نجد طريقة المصريين بجوار طريقة العراقيين والخراسانيين؟
__________
(1) السابق نفسه.
(2) ر. معجم البلدان: 2/350.(المقدمة/136)
وإذا قلنا: إن العراق كانت مهوى الأفئدة، ومحط رحال العلماء، حيث بغداد عاصمة دار الإسلام، بل عاصمة الدنيا في ذيّاك الزمان، فما بال خراسان وبلاد المشرق تناصي بغداد وحدها دون مصر؟
والجواب عن ذلك سهل ميسور، يظهر لمن عنده شيء من التأمل في تاريخ أمتنا، يوضح له الحقائق الآتية:
1- لم تكن بلاد الإسلام على النحو الذي هي عليه الآن من الحدود والسدود، والقيود، وقوانين الجنسية، بل كانت كل بلاد الإسلام داراً واحدة، ينتقل فيها المسلم كيفما شاء، ويستوطن حيثما شاء؛ فلا يصح قياس الغائب على الحاضر، ولا تتصور ما كان على ما هو كائن اليوم.
ب- إن الرحلة في طلب العلم كانت ديدن علمائنا وأئمتنا، ينبغ الواحد منهم حيث نبغ، فيأخذ عن أهل بلده، وعلماء إقليمه، حتى إذا شعر أنه حاز كل ما عندهم انتقل إلى جهة أخرى، يبحث عن جديدٍ فيها، ويعرض ما عنده، ويمتحنه بالمناظرة، فيأخذ ويُعطي، ويظل هكذا يعلم ويتعلم طول حياته.
وليس من الاستطراد أن أقول: إن هذا -الرحلة في طلب العلم واعتبار كل بلاد الإسلام داراً واحدة- ظل إلى عهد قريب، فقد كان الشيخ محمد الخضر حسين شيخاً للأزهر في عام 1952 م وهو تونسي الأصل، لم يقل أحدٌ يومها: كيف يتولى مشيخة الأزهر (أجنبي) ؟ ومن الطريف أن وكيل الأزهر في أيامه كان الشيخ محمد نور الحسن، وهو (سوداني) . تأمل. شيخ الأزهر تونسي، ووكيله سوداني، وأين علماء مصر؟ لم يقل أحد ذلك، بل لم يخطر على بال أحد أن ينظر إلى ذلك.
كان الشيخ محمد الخضر حسين تونسياً، تخرج في الزيتونة، وعمل بالقضاء، ثم التدريس في الزيتونة، ثم انتقل إلى دمشق واستقر بها، ولكنه عاد فشد الرحال إلى مصر، وتقدم للامتحان بالأزهر، فحصل على شهادة العالمية، وأنشأ بمصر جميعة أهلية (جمعية الهداية) ومجلة الهداية، وخاض معارك أدبية وعلمية ضد الشيخ علي عبد الرازق وكتابه: الإسلام وأصول الحكم. وضد طه حسين في كتابه (في الشعر الجاهلي) .(المقدمة/137)
وظل يصول ويجول في الساحة الفكرية والسياسية المصرية حتى توفي 1958، ودفن بناءً على وصيته في مقبرة صديقه العلامة أحمد تيمور باشا.
ونذكر في هذا الباب أيضاً العلامة الشيخ محمد رشيد رضا الذي رحل من طرابلس لبنان إلى مصر، فأنشأ بها مجلة المنار، وظل علماً من أعلام الفكر، له مدرسته الخاصة التي لها أثرها للآن. توفي سنة 1935 م.
ونذكر أيضاً الشيخ الدمشقي محب الدين الخطيب الذي أنشأ بمصر المطبعة السلفية ومكتبة ومجلة الفتح والزهراء، ورأس تحرير مجلة الأزهر. ت 1969 م.
فهؤلاء مُثل لما كان عليه الحال في هذا التاريخ القريب. فتأمل كيف صارت أمورنا الآن!
ومن يتأمل كتب التراجم والطبقات يجد في هذا الباب (الرحلة في طلب العلم) عجباً، مما يجعله جديراً بأن يكون موضوعاً لبحثٍ أو أطروحةٍ علمية، على أني أريده بحثاً إحصائياً أولاً، بمعنى تتبع الذين ارتحلوا في طلب العلم، وحصر أعدادهم، ومدة ارتحالهم، وعدد المواطن التي ارتحلوا إليها، وأكثر المَواطن اجتذاباً للعلماء في كل عصر، وعدد الذين عادوا إلى موطنهم الأصلي، وعدد الذين استجدّوا لهم موطناً ... إلخ.
ثم يأتي بعد ذلك أثر الرحلة في علومهم، ومن تأثر، ومن أثر ... إلخ.
جـ- إذا تأملت البندين السابقين سهل عليك أن تعلم أن تلامذة الشافعي الذين كانوا يجلسون إليه ويتلقَّون عنه لم يكونوا جميعاً مصريين، وأن من سمعه وأخذ عنه من المصريين لم يبقوا جميعاً في مصر، وهذا نقوله عن مجرد ملاحظة ويحتاج الأمر إلى إحصاء وتتبع، لسنا له الآن.
ولكن المقطوع به أن الذين حملوا المذهب عن تلاميذ الشافعي غير المصريين كانوا أضعاف أضعاف المصريين، ويكفي دليلاً على ذلك ما رواه النووي في تهذيب الأسماء واللغات عن محمد بن أحمد بن سفيان الطرائقي البغدادي أنه كان يقول: "سمعت(المقدمة/138)
الربيع بن سليمان يوماً، وقد حط على باب داره تسعمائة راحلة في سماع كتب الشافعي رضي الله عنه" (1) .
وربما يغني عن كل ذلك أن نقول: إن الفاطميين دخلوا مصر في سنة 358 هـ واستقروا بها، وقضوا على المذهب الشافعي بها.
فإذا عرفنا أنّ ظهور الطريقتين كان في أواخر القرن الرابع وأوئل القرن الخامس، وأن أبا إسحاق المروزي الذي أخذ عنه شيوخ رأسي الطريقتين توفي سنة 340 هـ إذا عرفنا ذلك أدركنا لماذا لم تتميز مصر بطريقة خاصة بها مثل خراسان والعراق، فقد انتهى وجود المذهب في مصر قبل نشوء الطريقتين.
عودٌ إلى مسألة الطريقتين
أول ما نلاحظه أنه مع كثرة ترداد المصطلح في كتب الأئمة، فتراهم يقولون: في طريقة العراقيين كذا، وفي طريقة الخراسانيين كذا، مع كثرة هذا الترداد لم نجد عناية تذكر بهذه القضية ممن ألف في طبقات المذهب ومصطلحاته؛ فلم نجد كتابة شافيه، ولا كافية في هذا الشأن.
فكل ما وجدناه عن الطريقتين عند الإمام النووي في الفصل الذي عقده في مقدمة المجموع لبيان القولين والوجهين والطريقين، كل ما وجدناه هو قوله: " وأما الطرق، فهي اختلاف الأصحاب في حكاية المذهب، فيقول بعضهم مثلاً: في المسألة قولان أو وجهان، ويقول الآخر: لا يجوز، قولاً واحداً، أو وجهاً واحداً أو يقول أحدهما: في المسألة تفصيل، ويقول الآخر: فيها خلاف مطلق. وقد يستعملون الوجهين، في موضع الطريقين وعكسه " (2) .
ومن بين مؤلفي كتب الطبقات وجدنا ابن الملقن وحده الذي يعقد فصلاً افتتحه بقوله: " وقد انقضى الكلام بحمد الله ومنِّه على الطبقة الأولى بأقسامها مستقصىً،
__________
(1) ر. تهذيب الأسماء واللغات: 1/48، 49.
(2) ر. مقدمة المجموع: 1/66.(المقدمة/139)
ونختم الكلام فيها بقاعدة مهمة، وهي بيان انقسام أصحابنا إلى عراقيين وخراسانيين" (1) .
ولكنه تحت هذا العنوان لم يزد على بيان من هم العراقيون، ومن هم الخراسانيون، وشغل الفصل كلَّه ببيان مدن خراسان، ومن أَرَّخ لكل مدينةٍ منها، بعد أن قال في مفتتح الفصل: " فاعلم أن أصحابنا تفرّقوا، فالعراقيون أهل بغداد، وما والاها، وقد صنف الخطيب (تاريخ بغداد) وذيّل عليه ابنُ النجار، وابنُ السمعاني " (2) . ثم أكمل -كما أشرنا- بذكر مدن خراسان ومَنْ أرّخ لها.
ولم يُشر إلى معنى الطريقة، ولا متى نشأت، وكيف نميز بين رجال هذه وتلك، بل يُفهم من صنيعه أنه لا يقصد إلى شيء من ذلك، فإنه يدعونا إلى التعرف على الأصحاب العراقيين من خلال تاريخ بغداد وذيوله، والتعرف على الخراسانيين من تاريخ نيسابور للحاكم، وتاريخ أصبهان لأبي نُعيم، وتاريخ مرو لابن السمعاني ... إلخ.
ومعلوم أن كل كتاب من هذه الكتب يترجم لكل من دخل المدينة التي يؤرخها ممن لهم شأن: قادة كانوا، أو أمراء، أو شعراء، أو نحاة، أو لغويين، أو فقهاء، فلا علاقة لها بما نحن فيه من معنى الطريقة ورجالها.
وفيما عدا ذلك لم نجد إلا شذرات وإشارات تتكرر في كل كتب الطبقات تقريباً، وربما بنفس الألفاظ.
فعند الترجمة للقفال المروزي المتوفى 417 هـ يقولون: رأس طريقة أصحابنا الخراسانيين.
وعند ترجمة الشيخ أبي حامد الإسفراييني المتوفى 406 هـ يقولون: رأس طريقة العراقيين.
__________
(1) ر. العِقد المُذْهَب في طبقات حملة المذهب: 215، 216.
(2) السابق نفسه.(المقدمة/140)
وعند ترجمة الشيخ أبي على السنجي المتوفى 430 هـ يقولون: أول من جمع بين الطريقين.
وعند ترجمة الشيخ أبي إسحاق المروزي المتوفى 340 هـ يقولون: وعنده تلتقي الطريقتان.
هذا كل ما وجدناه عن الطريقتين. أما معنى الطريقة ومفهومها، فلم نجد عندهم شيئا، وأما عوامل تباين الطريقتين وسبب نشأتهما، فلم نجد شيئاً، كما لم نجد شيئاً ذا بال عن الأصحاب في كل طريقة، وعما امتازت به كتب ومؤلفات كل طريقة.
هذا ما وجدناه عند المتقدمين وفي كتبهم.
أما المتأخرون، فقد وجدنا خاتمة المحققين منهم العلامة، أحمد بك الحسيني المتوفى 1332 هـ-1914 م يقول في مقدمات كتابه (دفع الخيالات) -بعد أن لخص كلامَ النووي في معنى القولين والوجهين والطريقين- يقول: " وكل ذلك قد بسطته بسطاً وافياً، وبينته بياناً شافياً في مقدمة كتابنا: شرح الأم المسمى (مرشد الأنام لِبّر أُم الإمام) يعز على أهل عصرنا، بل ومن قبلهم بمئين من السنين أن يقفوا عليه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء " (1) .
فكان هذا القول، بهذا الأسلوب، وبهذه المباهاة دافعاً للبحث عن مقدمته تلك، فهي ما زالت مخطوطة، فوجدنا فيها ما نصه:
"تتميم في بيان المراد من قولهم: (طريقة العراقيين وطريقة الخراسانيين)
اعلم أن مدار كتب أصحابنا العراقيين أو جماهيرهم مع جماعة من الخراسانيين على تعليق الشيخ أبي حامد الإسفراييني، وهو في نحو خمسين مجلداً، جمع فيه من النفائس ما لم يشاركه في مجموعه غيره، من كثرة المسائل والفروع وذكر مسائل العلماء وبسط أدلتها والجواب عنها وعنه انتشر فقه أصحابنا العراقيين، وهو شيخ طريقة العراق. وممن تفقه عليه من أئمة الأصحاب أبو الحسن الماوردي، صاحب الحاوي الكبير، والقاضي أبو الطيب الطبري، صاحب التعليقة المشهورة، وسُليم
__________
(1) دفع الخيالات عن القول الوضاح: 8.(المقدمة/141)
الرازي، صاحب المجرد، وأبو الحسن المحاملي، صاحب المجموع، وأبو علي البندنيجي صاحب الذخيرة، وغير هؤلاء ممن لا يُحصى كثرة.
فإذا أطلقوا في الكتب لفظ قال أصحابنا العراقيون كذا، وطريقة أصحابنا العراقيين كذا، فمرادهم الشيخ أبو حامد الإسفراييني وأتباعه هؤلاء المذكورن.
كما أنهم إذا أطلقوا لفظ قال أصحابنا الخراسانيون كذا وطريقة أصحابنا الخراسانيين كذا فمرادهم القفال المروزي، شيخ طريقة خراسان وأتباعه، وهم أبو بكر الصيدلاني، وأبو القاسم الفوراني، والقاضي حسين المرورّوزي، والشيخ أبو محمد الجويني، وأبو علي السنجي، قيل والمسعودي، فتارة يقولون: قال الخراسانيون، وتارة يقولون: قال المراوزة، وهما عبارتان عن معبَّر واحد.
فالخراسانيون، وإن كانوا أعم من المراوزة؛ لأن مدن خراسان العظيمة أربعة: مرو، ونيسابور، وبلخ، وهراة، لكنهم يعبرون تارة عن طريقة الخراسانيين بقولهم: قال المراوزة، لأن شيخ طريقة الخراسانيين ومعظم أتباعه مراوزة، فالقفال المروزي أخذ عن أبي زيد المروزي، عن أبي إسحاق المروزي، والشيخ أبو حامد الإسفراييني أخذ عن أبي القاسم الداركي، عن أبي إسحاق المروزي، فأبو إسحاق المروزي إليه منتهى الطريقين.
وأما إذا قالوا: في كتب الخراسانيين كذا، فإن هذا الإطلاق يشمل كتب أصحاب الطريقة المذكورين وسائر كتب أئمة خراسان، كما أنهم إذا قالوا: في كتب العراقيين كذا، فإنه يشمل كتب أصحاب الطريقة المذكورين وسائر كتب أئمة العراقيين، فمن كتب الخراسانيين: النهاية لإمام الحرمين، والوسيط للغزالي، وتعليق القاضي حسين، والإبانة للفوراني، والتتمة للمتولي، والتهذيب للبغوي، والعدة لأبي المكارم الروياني، وبحر المذهب لأبي المحاسن الروياني وغيرها.
ومن كتب العراقيين: المجموع واللباب والمقنع للمحاملي، والذخيرة لأبي علي البندنيجي، والمجرد لسُليم، وتعليق القاضي أبي الطيب الطبري، والحاوي الكبير للماوردي، والمعتمد لأبي نصر البندنيجي، والمهذب والتنبيه للشيخ أبي إسحاق الشيرازي، والشامل لابن الصباغ، والتهذيب لنصر المقدسي، والحلية لفخر الإسلام(المقدمة/142)
الشاشي، والعدة للحسين بن علي الطبري، والذخائر لمجلي، وغيرها.
وأما إذا أطلقوا في الكتب لفظ الأصحاب فهذا الإطلاق يعم أصحاب الطريقين ومن عاصرهم ومن كان قبلهم من الأئمة العظام ومن كان بعدهم.
ثم بعد أصحاب الطريقين جماعة من الأصحاب ينقلون الطريقين كأبي عبد الله الحَليمي، والروياني صاحب البحر، ومجلي صاحب الذخائر، وإمام الحرمين، والمتولي صاحب التتمة، والغزالي، وغيرهم.
وأما أصحاب الوجوه، فهم أخص من لفظ الأصحاب لأن كل من كان من أصحاب الوجوه يدخل تحت لفظ الأصحاب ولا عكس، وأصحاب الوجوه معروفون ويدخل فيهم أصحاب الطريقين" ا. هـ (1)
هذا ما كتبه الشيخ في المقدمة عن الطريقتين، فإن أراد بقوله: " بسطته، وبينته بسطاً يعز على أهل عصرنا، ومن قبلهم بمئين السنين أن يقفوا عليه " أنه جمع مفرّقه، ولمّ شعثه، ورتب مشوشه، فقد فعل، وجزاه الله خيراً، وهذا أحد الأغراض السبعة التي يصح فيها التأليف.
وأما إذا أراد أنه زاد القضيةَ إيضاحاً أو تفسيراً، أو تعليلاً، أو استنبط مما قاله السابقون شيئاً، فلم يكن شيء من ذلك، وما أظنه يقصده.
وقد عاصر الشيخَ اثنان من علماء المذهب الذين عُنوا بالكتابة عن تطوره ومصطلحاته، وهما السيد علوي بن أحمد السقاف، المتوفى 1335 هـ-1916 م، وابنُ سُميط العلوي، أحمد بن أبي بكر، المتوفى 1343 هـ-1924 م.
الأول له كتاب: (الفوائد المكية فيما يحتاجه طلبة الشافعية من المسائل والضوابط والقواعد الكلية)
وكما هو واضح من عنوانه فإنه يتناول فيما يتناول المصطلحات التي تدور ويتداولها طلاب المذهب الشافعي، وقد أفاد فعلاً في ذكر قواعد وضوابط، ومقدمات ومبادىء لا يستغني عنها طالب العلم، وعقد فصلاً خاصاً بمصطلحات الشافعية أجاد فيه وأفاد
__________
(1) مقدمة مرشد الأنام: 2/678 وما بعدها.(المقدمة/143)
إلا أنه مرّ مرور الكرام على مصطلح الطريقتين، فلم يتكلم فيه بِجملةٍ واحدة.
وأما ابن سُمَيْط، فله رسالة لطيفة بعنوان: (الابتهاج في بيان اصطلاحات المنهاج) تحدث في هذه الرسالة عن نشاة المذهب وتطوره، وأهم أعلامه، والمؤلفات المشهورة والمعتمدة حتى عصره، كل ذلك في إيجاني بليغ، لم يزد عن بضع ورقات.
ومع ذلك عرض لمصطلح الطريقتين والجمع بينهما كحلقة من حلقات تطوّر المذهب، فتكلم عن نشأتهما، وشيخيهما، ورجالهما، وكتبهما بنحو ما تكلم به الشيخ أحمد بك الحسيني، وربما بالألفاظ نفسها تقريباً، فكلاهما نقل كلام النووي في (تهذيب الأسماء واللغات) ، وما جاء في كتب الطبقات.
أما البحوث المعاصرة بما فيها الأطروحات الجامعية (1) ، فلم نجد فيها من التفت إلى هذه المسألة إلا ذلك البحث الرائد (2) للعلامة الشيخ محمد إبراهيم أحمد علي من علماء أم القرى، زادها الله تعظيماً وتشريفاً، وقد عزا ما قاله إلى الشيخ أحمد بك الحسيني في مقدمة دفع الخيالات ص 5؛ ولذا جاء كلامه موجزاً عما نقلناه لك آنفاً من مقدمة (مرشد الأنام) .
وأما شيخنا وشيخُ شيخنا الإمام محمد أبو زهرة، فقد عقد فصلاً، في كتابه الذي كتبه (الإمام الشافعي) (3) ، بعنوان (المجتهدون في المذهب الشافعي) تحدث فيه عن طبقات المجتهدين في المذهب وأصحاب الوجوه، ولكنه لم يلتفت إلى مصطلح
__________
(1) رأينا عملين جدين الأول: الإمام الشافعي في مذهبيه القديم والجديد للدكتور نحراوي عبد السلام رسالة دكتوراة من كلية الشريعة بالأزهر بالقاهرة، مكتبة الشباب، 1408 هـ-1988 م.
والثاني بعنوان (المدخل إلى مذهب الإمام الشافعي) رسالة دكتوراة من كلية الشريعة بالجامعة الأردنية من الدكتور أكرم يوسف عمر القواسمي، عمان دار النفائس، 1423 هـ-2003 م.
(2) هذا البحث بعنوان: (المذهب عند الشافعية، منشور بمجلّة جامعة الملك عبد العزيز (أم القرى فيما بعد) ، العدد الثاني، جمادى الآخرة 1398 هـ- مايو 1978 م الصفحات من 25 إلى 48.
(3) الإمام الشافعي -حياته وعصره- أراؤه وفقهه: 384.(المقدمة/144)
الطريقتين، مع أنه اعتمد فيما قاله على ما ذكره النووي في مقدمة المجموع، وفيه تعريف وبيان لمعنى الطريقة، ولكن شيخنا صرف النظر عن المسألة بالكلية، وسنحاول تفسير ذلك فيما يأتي.
***
من ثمار البحث
وبعد هذا البحث والتنقير ومحاولة الاستقصاء لم نجد جديداً نزيده على ما نقلناه لك حول مصطلح (الطريقتين) .
ولكن ذلك لم يخل من ثمار تستحق أن نسجلها فيما يأتي:
1- تصحيحُ وهم وقع من شيخنا الإمام محمد أبو زهرة، حين ظن أن (الأستاذ أبا إسحاق) الذي نقل عنه النووي قوله: " إن أصحاب مالك، وأحمد، وأبو داود، وأكثر الحنفية صاروا إلى مذهب أئمتهم رحمهم الله تقليداً لهم، ثم قال:
والصحيح الذي ذهب إليه المحققون ما ذهب إليه أصحابنا، وهو أنهم صاروا إلى مذهب الشافعي، لا تقليداً له، بل إنهم لما وجدوا طرقه في الاجتهاد والقياس أسدَّ الطرق، ولم يكن لهم يد من الاجتهاد، سلكوا طريقه، فطلبوا معرفة الأحكام بطريق الشافعي".
سبق إلى ظنه أن الأستاذ أبا إسحاق هو الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، فترجم له في حاشية كتابه (1) ، بناء على هذا الظن.
ولكن صاحب هذا القول هو الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران المتوفى 418 هـ.
والذي جعلنا نتوقف في صنيع شيخنا هو أننا لم نجد أحداً ممن ترجم للشيخ أبي إسحاق الشيرازي لقبه (بالأستاذ) ، فدائماً يلقبونه (بالشيخ) ، على حين أن أبا إسحاق الإسفراييني لا يذكر إلا بهذا اللقب (الأستاذ) ، والذي يتأمل هذه الكتب، كتب التراجم والطبقات، يجد أن هذه الألقاب لم تكن تلقى جزافاً، بل يجد أنها تُلتزم دائماً حتى تصير أعلاماً أو كالأعلام على أصحابها.
__________
(1) الشافعي - حياته وعصره: 386.(المقدمة/145)
ولكن هذا لم يكن كافياً بالجزم بأن المقصود أبو إسحاق الإسفراييني، فأعدنا قراءة كلام النووي في مصدره الذي أخذ منه شيخنا، وهو (مقدمة المجموع) ، فوجدناه ينقل هذا الكلام عن (أبي عمرو) أي (ابن الصلاح) ولما كان الكلام في الفتوى وطبقات المفتين، رجعنا لكتاب (أدب الفتوى) لابن الصلاح، فوجدناه يصرح بالاسم كاملاً، فيقول: " وقد بلغنا عن الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني ... إلخ (1) " فانكشف الأمر، واستيقن الظن، وأغنانا عن البحث في مظان أخرى.
وهذا مجرد نموذج لمعاناة المحقق وواجبه.
2- كما ننبه أيضاً لعبارة موهمة وردت في البحث الأصيل لأخينا النبيل الشيخ محمد إبراهيم علي (المذهب عند الشافعية) ، فقد جاء عند الحديث عن الطريقتين قوله: " وبقيت طريقة العراقيين وحيدة في الميدان الفقهي الشافعي، فقولها هو المعتمد، حتى نبغ القفال الصغير المروزي، واشتهر بالتدوين في الفقه، وتبعه جماعة لا يُحْصَون عدداً ... ".
فهذه العبارة توحي، بل تُصّرح أن طريقة العراقيين تقدّمت في النشأة عن طريقة الخراسانيين وظلت زماناً لا يعرف الفقهُ الشافعي غيرَها، حتى ظهرت طريقة الخراسانيين متأخرة عنها بزمانٍ طويل. هذا ما تقول به العبارة.
والواقع أن تمايز الطريقتين في رواية المذهب نشأ في وقتٍ واحد، وما قبلهما لم يكن يوصف بأنه عراقي ولا خراساني.
والذي يشهد بأنه نشوء الطريقتين كان متزامناً وفي وقت واحد، بصورة لا تقبل الشك هو النظر إلى ترجمة شَيْخي الطريقتين، الشيخ أبي حامد الإسفراييني، والقفال المروزي، فهما من طبقة زمنية واحدة، بل إن ميلاد القفال شيخ طريقة المراوزة قبل ميلاد أبي حامد شيخ طريقة العراقيين، فقد ولد القفال سنة 327 هـ على حين ولد أبو حامد سنة 344 هـ، وإذا قيل لنا: إن القفال تأخر اشتغاله بالفقه إلى سن الثلاثين، فالجواب أننا لو قدرنا تأخر ميلاده سبعة عشر سنة مثلاً (وهي فترة الطفولة والصبا)
__________
(1) أدب الفتوى، بتحقيق الدكتور رفعت فوزي: 40.(المقدمة/146)
لوقع ميلاده في السنة نفسها التي ولد فيها شيخ طريقة العراق وهي سنة 344 هـ، أو نقول: إن القفال اشتغل بالفقه سنة 357 هـ بعد ما بلغ سنّ الثلاثين، وأفتى بعد نحو عشر سنوات من اشتغاله بالفقه أي في سنة 367 هـ، وقد ذكروا أن الشيخ أبا حامد كان مبكر النبوغ، فأفتى وهو ابن سبع عشرة سنة، أي في سنة 361 هـ.
فهذا التدقيق في تواريخ الميلاد والاشتغال بالفقه يضع أمامك الدليل القاطع بأنهما متعاصران تماماً، وإن تفاوتا بعض التفاوت ميلاداً ووفاةً (القفال 327-417 هـ) و (الشيخ أبو حامد 344-406 هـ) .
وواضح أن هذا الوهم بسَبْق طريقة العراقيين مبنيٌّ على ما هو أكبر منه، وهو أن العراقيين كانوا يروون المذهب القديم فقط، والخراسانيون كانوا يروون المذهب الجديد فقط، حتى مطلع القرن الخامس، حين جمع بينهما الشيخُ أبو علي السنجي المتوفى نحو سنة 430 هـ، وهذا هو نص كلامه الذي أَفْهمَ ذلك: " وبظهور هؤلاء العلماء الذين جمعوا بين الطريقتين، بدأ الرافدان الأساسيان الناقلان لفقه الشافعي: قديمه وجديده يلتقيان في قولٍ موحَّد يمثل مذهبَ الشافعي والراجحَ من قوله (1) ".
وهذا لا قائل به، ولا هو بمعقول، فمنذ قرر الشافعي مذهبه الجديد، ودُوّنت كتبه الجديدة، وهي تُروى في العراق كما كانت تُروى في خراسان.
وهذا الوهم جاء الباحثَ من عبارة الشيخ أحمد بك الحسيني -التي هي مصدره-، حيث قال بعد أن ذكر طريقة العراقيين: "وحتى جاء القفال الصغير، وتبعه جماعة ... " (2) فأوهم تعبيرُه بـ (حتى) وجودَ (غاية) زمنية، ومدّةٍ بين ظهور الطريقتين.
والواقع أن (حتى) في عبارة الحسيني معطوفة على مثلها بالنسبة لطريقة العراقيين، ونص كلامه وهو يتكلم عن تطور المذهب: " ... ثم جاء بعدهم بقية أصحاب الوجوه طبقة بعد طبقة، حتى جاء الشيخ أبو حامد الإسفراييني، وتبعه جماعة ... وحتى جاء القفال المروزي وتبعه جماعة ... " فعند التنبه لهذا (العطف) لا توحي العبارة بوجود سبق زمني بين الطريقتين.
__________
(1) المذهب عند الشافعية: 34.
(2) من مقدمة كتاب (دفع الخيالات) . ص 5.(المقدمة/147)
وخلاصة ما نحاول إثباته هو أن الطريقتين نشأتا معاً بدون فارق زمني، ولم تختص طريقة العراقيين بالمذهب القديم وحده، بل كل واحدة منهما كانت تنقل القديم والجديد معاً.
3- وأمرٌ ثالث ننبه إليه، وهو أن العلامة أحمد بك الحسيني شبه الطريقتين في المذهب بالمدرستين البصرية والكوفية في علم العربية، وذلك في قوله: " وانتهى فقه الشافعيه إلى الطريقتين، ... ، ولم يوجد بعدهما إلا من هو تابع طريقتيهما، فإما عراقي، وإما خراساني، وكان مثلهما في فقه الشافعي مثل الكوفيين والبصريين في علم العربية " (1) .
وهذا لا يسلّم له، وأقل ما يقال فيه: إنه توسع في العبارة؛ فالذي يتضح من كلام النووي، وهو الأَقْمن بالتعبير عن المذهب: " أن الطرق هي اختلاف الأصحاب في حكاية المذهب " أي أنه خلاف في الرواية، فما يروي فيه المراوزة قولاً قد يروي فيه العراقيون قولين.
أما الخلاف بين مدرسة البصرة والكوفة في اللغة، فهو أبعد من الحكاية والرواية عمن تؤخذ منه اللغة، فتراه في التعليل، والتقعيد والتخريج، والله أعلم.
حقيقة المسألة
والواقع الذي انتهينا إليه -بعد طول التأمل والبحث- أن مسألة الطريقتين أهونُ بكثير من (اسمها) وكثرة تردادها، فحقيقة الأمر تتضح بالنظر إلى الحقائق الآتية:
1- معلوم أن العلم عندنا يؤخذ بالتلقي عن الشيوخ، وينقل بالرواية والإجازة، فلما انتشر المذهب وحمله تلامذة الإمام الشافعي بعد وفاته إلى العراق وما حولها، وإلى خراسان وما وراءها، -كان ذلك في أول القرن الثالث- وأخذ عنهم تلاميذهم، ثم تلاميذ تلاميذهم عن تلاميذهم، وهكذا ... ، فمع تباعد الديار وتنائي المجامع والمجالس، ومرور الأزمان، وكثرة التدوين والمراجعة، ومضي أكثر من قرن ونصف، أي في أواخر القرن الرابع، ظهر أن ما يحكيه الخراسانيون في مجالس علمهم، وحلقات دروسهم، ويدونونه في مصنفاتهم يختلف عما يحكيه العراقيون في بعض المسائل،
__________
(1) السابق نفسه.(المقدمة/148)
سواء كانت الحكاية عن إمام المذهب، أو عن أصحاب الوجوه من الجانبين.
2- لم يدم الأمر على ذلك طويلاً، فقد رأينا من درس على شيوخٍ من الجانبين، وجمع بين الطريقين، وكان ذلك في مطلع القرن الخامس على يد الشيخ أبي علي السِّنجي المتوفى سنة 430 هـ وقيل سنة 427 هـ ولم نصل إلى تاريخ ميلاده، فإذا فرضنا أنه توفي عن ستين عاماً، والمعهود أن يكون قد بلغ درجة الفتوى في سنّ الثلاثين، فمعنى هذا أن الجمعَ بين الطريقتين، قد بدأ في نحو سنة 400 هـ، أي بعد نشأة الطريقتين بنحو ثلاثين سنة.
ولسنا نقول: إنه بظهور الشيخ أبي علي السنجي انتهت الطريقتان، وانقطع أثرهما في التدوين والتدريس، بل ظل القرن الخامس يشهد من يجمع من المصنفين بين الطريقتين، ومن يقتصر في تصنيفه على طريقة واحدة من الطريقتين، إلى أن انتهى الأمر بالجمع بين الطريقتين.
فكأن تمايز الطريقتين في حكاية المذهب لم يدم طويلاً، بل لم يكد يظهر حتى ظهر الجمع بين الطريقتين.
3- والحقيقة الثالثة التي نقررها أن العبارة عن الطريقتين ومصنفاتهما فيها كثير من التوسع، وآية ذلك أنهم يعدون إمام الحرمين مروزياً من أركان المراوزة، ومن تلاميذ القفال شيخ طريقة المراوزة، وفي الوقت نفسه يعدونه، ممن جمع بين الطريقتين، وهو فعلاً قد جمع بينهما.
كما يعدون كتابه (نهاية المطلب) هذا الذي بين أيدينا من كتب أصحابنا الخراسانيين، ذكر ذلك صراحة التقيُّ السبكي في أول تكملته للمجموع، وهو يعدّد المصادر التي يعتمدها في تكملة شرحه للمهذب، حيث قال: " وعندي من كتب الخراسانيين تعليقة القاضي حسين، والسلسلة، والجمع والفرق للشيخ أبي محمد الجويني، والنهاية لامام الحرمين، والبسيط للغزالي، و ... إلخ" (1) .
وكما ترى يعدّ (النهاية) و (البسيط) من كتب الخراسانيين، وهما يجمعان بين
__________
(1) المجموع: 10/6.(المقدمة/149)
الطريقتين، ولكنه سوى بين المؤلفات التي تحكي طريقة الخراسانيين، والمؤلفات التي تجمع بين الطريقتين، فكأنه ينظر إلى نسبة أصحابها الجغرافية دون لون التفقه وطريقته، وهذا ما عنيناه بالتوسع في العبارة.
النتيجة:
في ضوء هذه الحقائق الثلاث، وما تقدم من حديث حول مسألة أو مصطلح الطريقتين نستطيع أن نفسر عدم العناية من أئمة المذهب والمؤرخين لتطوره وأعلامه بالكتابة عن الطريقتين؛ حيث لم يكن ذلك بالحجم أو بالشأن الذي يلفتهم إليه، فلم يكن ذلك عن تقصيرٍ منهم - حاشاهم!!
وبهذا نكون أيضا قد فسرنا -كما وعدنا- عدم ذكر شيخنا الإمام أبي زهرة مصطلح (الطريقتين) ولو بكلمة واحدة.
ثم نعود ونؤكد ما قلناه من قبل، وهو أن العمدة في كل ما كُتب -وقد سجلناه- هو كلام الإمام النووي، رضي الله عنه.
وأخيراً نقول: إن النظر إلى الشكل البياني رقم (3) يوضح بإيجازٍ بليغ كلَّ ما قيل عن طريقتي الخراسانيين والعراقيين، فنكتفي به، ونحيل إليه.
البصرويون والكوفيون والبغداديون:
وقد حكى إمام الحرمين خلافاً بين البصريين والكوفيين في عدة مواضع في كتاب الفرائض، ولكنها كلها تقع بين فقهاء السلف، وليس خلافاً داخل المذهب.
ولكن الماوردي في كتابه (الحاوي) حكى خلافاً بين البغداديين والبصريين، نقله عنه النووي في (المجموع) ، في حكم الوطء في الحيض، والتصدق بدينارٍ أو بنصف، قال الماوردي: " كان أبو حامد الإسفراييني وجمهور البغداديين يجعلونه قولاً قديماً، وكان أبو حامد المروزي وجمهور البصر لا يجعلونه قولاً قديماً، ولا يحكونه مذهباً للشافعي ... " (المجموع: 3/360) .
ويلوح لي أن هذا خلاف ثانوي داخل طريقة العراقيين، ولذا لم يُشر إليه النووي وهو يتكلم عن الطرق في حكاية المذهب.(المقدمة/150)
المبحث الثالث: مرحلة تحرير المذهب
يزداد كلامنا عن تحرير المذهب وضوحاً إذا تذكرنا ما قلناه من قبل عن أصحاب الوجوه، وعن المجتهدين من داخل المذهب، وعن رواة المذهب، إذا تذكرنا كل ذلك، عرفنا أن حملة فقه الشافعي من تلاميذه، والأَمَنة على نصوصه ومناهجه، لم يكونوا مجرد نقلة، بل كان فيهم مجتهدون مستقلون وإن انتسبوا إلى الشافعي كالمحمَّدِين الأربعة: محمد بن جرير الطبري، ومحمد بن نصر المروزي، وابن خزيمة محمد بن إسحاق، وابن المنذر محمد بن إبراهيم، وغيرهم.
ومنهم من استقل فعلاً بمذهبٍ وعرف به، كأحمد بن حنبل، وداود الظاهري.
ومنهم من كان يُخرِّج على أصول الشافعي ونصوصه حيناً، وينفرد برأيه ومذهبه حيناً آخر كالمزني، قال إمام الحرمين في (نهاية المطلب) : "إن كان لتخريج مخرّج التحاقٌ بالمذهب، فأَوْلاها تخريج المزني؛ لعلو منصبه في الفقه، وتلقِّيه أصول الشافعي من فَلْق فيه، وإذا تفرد برأي، فهو صاحب مذهب".
ومنهم من التزم التخريج على نصوصه وأصوله لم يَخْرج عنها، وهؤلاء هم أصحاب الوجوه الذين ذكرنا طائفة من أشهرهم فيما سلف، وأشرنا إلى "أن الأستاذ أبا إسحاق الإسفراييني ادعى لهم الاجتهاد المستقل، وأنهم صاروا إلى مذهب الشافعي لا تقليداً له، بل لما وجدوا طرقَه في الاجتهاد والقياس أسدَّ الطرق، ولم يكن لهم بدٌّ من الاجتهاد، سلكوا طريقَه، فطلبوا معرفة الأحكام بطريق الشافعي".
وقد ذكر الشيخ أبو علي السِّنجي نحو هذا، فقال: اتبعنا الشافعي دون غيره؛ لأنا وجدنا قوله أرجح الأقوال وأعدلها، لا أنا قلدناه" (1) .
__________
(1) المجموع للنووي: 1/43.(المقدمة/151)
حكى النووي هذا، وعقب قائلاً: " قلت: هذا الذي ذكراه موافق لما أمرهم به الشافعي، ثم المزني في أول مختصره " يعني نَهْيَ الشافعي أصحابه عن تقليده، وأَمْرهم أن يجتهدوا كما اجتهد هو.
استبحر الفقه الشافعي وملأ المكان والزمان، فكان له أنصاره وأتباعه في العراق، وفي بلاد الحجاز، واليمن وفارس، وخراسان، وما وراء النهر، وعاصر دولاً وأحداثاً، ونَصَره نظامُ الملك، ومكن له في دولة السلاجقة على اتساعها، وبنى لعلمائه وشيوخه المدارسَ النظامية، ببغداد، ونيسابور، وسائر مدن الدولة.
حمل ذلك التيارُ الهادرُ -مع تباعد الأقاليم وامتداد الزمان- تخريجاتٍ وآراءً، تتأثر -لا شك- بالبيئة هنا وهناك، وبالمشارب والمنازع، وأُودع كل ذلك مصنفات المذهب ومدوّناته، وكان فيها -بداهة- ما لا يتفق مع المذهب بصورةٍ أو بأخرى، من البعد والقرب.
يقول شيخنا الإمام أبو زهرة: " ولو أننا درسنا آراء فقهاء خراسان ونيسابور، وآراء فقهاء العراق، وحللَّناها، لوجدنا أثر البيئة واختلافَ النزعات يلوح وراءها، ولعل اجتهاد العراقيين، كان أقرب إلى المنقول عن الشافعي من اجتهاد الخراسانيين، والنيسابوريين (1) ".
وإلى شيء من هذا الفرق بين المدرستين قال النووي: " اعلم أن نقل أصحابنا العراقيين لنصوص الشافعي وقواعد مذهبه، ووجوه متقدمي أصحابنا أتقنُ وأثبتُ من نقل الخراسانيين غالباً، والخراسانيون أحسنُ تصرّفاً وبحثاً وتخريجاً وترتيباً غالباً " (2) .
***
__________
(1) ر. الشافعي - حياته وعصره: 385. ويلاحظ أن شيخنا يعطف (النيسابوريين) على (الخراسانيين) من باب عطف الخاص على العام، وليس المغايرة.
(2) السابق نفسه، عن المجموع: 1/69.(المقدمة/152)
معنى تحرير المذهب، ولماذا؟
بات الآن واضحاً معنى تحرير المذهب، وهو نَخْل مصنفات أئمته وشيوخه، وبيان ما هو موافق لقول الشافعي وأصوله، حتى يصح أن ينسب إليه، ويتميز عن غيره من الوجوه والاجتهادات التي لا يصح أن تنسب إلى الشافعي، وتُعتبر مذهباً له.
أما لماذا هذا التحرير، فيجيبنا على هذا التساؤل، الشيخ محمد إبراهيم علي في مفتتح بحثه بقوله:
" تُحتم الأمانة العلمية على الباحث أن يتحرى الصحة التامة في عزو الأقوال إلى قائليها، وخاصة الأقوال الفقهية، لما يترتب على الخطأ في عزوها من نسبة التحليل والتحريم إلى من لم يقل به.
ومن ثّم كان لزاماً على كل من يتعرض للبحث الفقهي -وخاصة المقارن منه- أن يعرف الاصطلاح المتفق عليه بين علماء المذهب -أيّ مذهب- والكتب التي اعتُمدت ممثلةً لرأي المذهب ودرجات اعتمادها ".
إذاً كان تحرير المذهب ضرورة بمقتضى الأمانة العلمية التي تحتم نسبة الأقوال إلى قائليها، فهذه الأقوال تتعلق بدين الله، تتعلق بالتحريم والتحليل، وقائلها كما سماه ابنُ القيم -رحمه الله- موُقِّعٌ عن رب العالمين، وأي منصب أخطرُ من هذا.
وواضح أننا حينما نتكلم عن تحرير المذهب، ببيان وتحديد ما يصح أن يُنسب للإمام الشافعي، ويعتبر قولاً له، واضح أننا حينما نقول ذلك لا يخطر ببالنا أن الوجوه والاجتهادات التي لم تُعدّ من المذهب ليست فقهاً، أو ليست صحيحة، لا يخطر هذا ببال أحد، ولكن أحببنا أن ننبه إليه؛ قطعاً لأي وهم.
بل إن هذه الأقوال والاجتهادات -التي لا تُعد من المذهب- أهمُّ المصادر لاجتهادات الفقهاء المعاصرين (الآن) ، منها يختارون، وعليها يتكئون، بعد أن يمتحنوا القواعد والأصول التي قامت عليها، والأدلة التي استندت إليها.(المقدمة/153)
شيخا المذهب:
في مفتتح القرن السابع الهجري، وجد أئمةُ المذهب هذه الثروة الفقهية الهائلة التي نمت وترعرعت واكتملت في غضون القرون السابقة، فكان من طبيعة الأمور، وسنن التطور أن ينصرف عملهم وجهدهم إلى تحرير المذهب، لم يكن أمامهم إلا العمل في هذا المجال، فقد كان الفقه قد نَضِج، وصار بعيداً -كما قال إمام الحرمين-: " أن تقع مسألة لم يُنصّ عليها في المذهب، ولا هي في معنى المنصوص، ولا مندرجة تحت ضابط ".
ومن هنا كان قَدَرُ الشيخين: الرافعي، عبد الكريم بن محمد القزويني. ت 624 هـ، والنووي، يحيى بن شرف المُرِّي. ت 676 هـ أن يصرفا جهدهما، ويستفرغا وُسعهما في تتقيح المذهب وتحريره: الأول في كتابه (فتح العزيز بشرح الوجيز) ، المسمى بالشرح الكبير، و (المحرر) ، والثاني في (روضة الطالبين) ، و (منهاج الطالبين) ، و (المجموع) شرح المهذب لأبي إسحاق الشيرازي (لم يتمه)
عُني هذان الإمامان الجليلان بتتبع كتب المتقدمين، والنظر في الأقوال والأوجه والاجتهادات والاختيارات، ووزن الأدلة وتقديرها، لتحديد ما هو المذهب منها.
ولهذا اصطلح علماء الشافعية بعدهما على تلقيبهما بشيخي المذهب، وصار القول المعتمد في المذهب ما اتفق عليه الشيخان، فإن اختلفا، فما جزم به النووي، ثم ما جزم به الرافعي.
"فَرَأْيُ الشيخين مقدم حتى لو عارضه نصُّ الشافعي، مع أن نص الشافعي في حقهم كنص الشارع في حق المجتهد.
وقد عللوا هذا التقديم بأن المتبحر في المذهب -كأصحاب الوجوه- له رتبة الاجتهاد المقيد، ومن شأن هذا أنه إذا رأى نصاً خرج عن قاعدة الإمام، ردّه إليها - أي أَوَّلَه- إن أمكن، وإلا عمل بمقتضى القاعدة، وخالف نص الإمام، فقد ترك الأصحاب إذاً نصوص الشافعي الصريحة، أو أوّلوها؛ لخروجها عن قاعدته.
فلا ينبغي الإنكار على الأصحاب في مخالفة النصوص، ولا يقال: إنهم لم يطلعوا(المقدمة/154)
عليها؛ فإنها شهادة نفي، بل الظاهر أنهم اطلعوا عليها، وصرفوها عن ظاهرها بالدليل، ولا يخرجون بذلك عن متابعة الإمام الشافعي" (1) .
وبلغ الوثوق بعملهما، والاعتماد على أقوالهما أن منع المتأخرون من الرجوع إلى الكتب المتقدمة على الشيخين واعتمادها في الفتوى، وإن تتابعت على حكم واحد؛ لأن هذه الكثرة قد ترجع إلى الحكاية عن واحد (2) .
وهذا المنع من كتب المتقدمين على الشيخين لا يمكن أن يؤخذ على إطلاقه، بل هو بالقطع خاص بالذين ليسوا من أهل الترجيح والنظر، وبالذين يريدون الحكم المتفق عليه من أقرب طريق.
إمام الحرمين وتحرير المذهب:
استقر الرأي عند علماء الشافعية أن تحرير المذهب بدأ بجهد الإمامين الرافعي والنووي، وذلك واضح من أعمالهما مطولة ومختصرة، ومن منهجهما الذي صرحا به أو رأيناه مطبقاً ملتزماً في مصنفاتهما.
ولكن ألم يسبقهما أحدٌ من أئمة المذهب؟
أستطيع أن أقول: إن إمام الحرمين كان -فيما رأينا للآن- أولَ من عُني بتحرير المذهب، وذلك في كتابنا هذا (نهاية المطلب) . صرح بذلك في مقدمته، والتزمه على طول كتابه؛ فقد كان يحكي الأوجهَ والأقوالَ كلها، ويميز ما هو من المذهب عما عداه.
بل عندما كان ينصر وجهاً أو يبدي احتمالاً على خلاف المذهب كان يبين ذلك بوضوح تام، ويقول: لكن المذهب كذا" أي غير ما يراه.
(وسنبين ذلك، ونؤيده بالأمثلة والشواهد في فصلٍ آتٍ بعنوان: منزلة نهاية المطلب وأثره، فلا نكرر ما سنقوله هناك) .
__________
(1) المذهب عند الشافعي: 39 (بتصرف يسير) وهو عن الفوائد المدنية: 20، 21 عن ابن حجر الهيتمي في الفتاوى: 4/324، 325.
(2) السابق نفسه.(المقدمة/155)
استقرار المذهب:
ظلت آراء الشيخين ومؤلفاتهما المعين الوحيد الذي يستقي منه علماء المذهب وأئمتُه، لا يعرفون غير كتبهما، ولايقولون بغير آرائهما، وانشغلوا بمؤلفاتهما -وبخاصة النووي- اختصاراً، وشرحاً، ونظماً، وتحشية، حتى يوفروا منها الزاد والري الذي يناسب مختلف الواردين: من الشُداة المبتدئين إلى الطامحين إلى الاجتهاد المنتهين.
وعلى طول القرون الثلاثة منذ وفاة الشيخين الرافعي والنووي في القرن السابع إلى القرن العاشر ظل الحال كما وصفنا؛ فقد كانت كتب الشيخين القطبَ الذي تدور حوله جميع التآليف، ومع ذلك لم يخل زمان من محقِّقٍ ينظر في كلام الشيخين، فيرجِّح بينهما إذا اختلفا، بل يخالفهما أحياناً.
وحظي القرن العاشر بعددٍ من هؤلاء المحققين، جمعوا إلى تحقيقاتهم تحقيق من سبقوهم، من هؤلاء: شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، المتوفى سنة 926 هـ
والخطيب الشربيني، محمد بن أحمد، شمس الدين، صاحب (مغني المحتاج) المتوفى سنة 977 هـ.
والشهاب الرملي -نسبة إلى رملة المنوفية-، أحمد بن حمزة، صاحب (فتح الجواد) ، المتوفى سنة 957 هـ.
وابنه شمس الدين، محمد بن أحمد بن حمزة، كان يلقب بالشافعي الصغير، صاحب (نهاية المحتاج) ، المتوفى 1004 هـ.
وابن حجر، الهيتمي، أحمد بن محمد، والهيتمي نسبة إلى محلة أبي الهيتم، وتسمى الآن (الهياتم) ، من قُرى دلتا النيل بمصر، صاحب (تحفة المحتاج) ت 974 هـ.
هؤلاء المحققون وغيرهم كان لهم من الجهد ما يمكن أن نسميه التحرير الثاني للمذهب فقد أدى اجتهادهم إلى مخالفة الشيخين في شيءٍ من ترجيحاتهما؛ وانتهى الأمر إلى اعتماد (التحفة) لابن حجر، (والنهاية) للشمس الرملي، في حق من لم(المقدمة/156)
يكن من أهل الترجيح، فمن كان من أهل الترجيح، والقدرة على النظر في الأدلة ووزنها وتقديرها، له أن ينظر في كلام الرافعي والنووي، فيرجح ويختار، كما اختار الرملي وابن حجر، ولا يجوز له أن يعدو الرافعي والنووي إلى من فوقهما؛ لما استقر عليه المحققون طوال القرون الثلاثة على أنه لا يجوز العدول عن قولهما.
فإذا لم يكن من أهل الترجيح، فكما قلنا: يلزمه اعتماد (تحفة المحتاج) لابن حجر، (ونهاية المحتاج) للشمس الرملي، لا يعدوهما، فإن اتفقا، فلا كلام، وإن اختلفا يختار أيَّهما، على خلافٍ فيمن هو أولى بالتقديم منهما بين علماء الشام وحضرموت، والأكراد، وداغستان (1) ، وأكثر اليمن والحجاز الذين يقدمون ما في تحفة ابن حجر، وعلماء مصر الذين يقدمون ما في (النهاية) للرملي (2) .
على هذا استقر المذهب في مطلع القرن الحادي عشر واستمر الحال على هذا نحو ثلاثة قرون أو تزيد، أي إلى أوائل القرن الرابع عشر، في هذه القرون كان عمل علماء المذهب -بالدرجة الأولى- هو التحشية على كتب المحققين من علماء الطور السابق، وعُرف من هؤلاء:
* الشيخ عطية الأجهوري صاحب حاشية على شرح التحرير، وحاشية على شرح المنهج، وثالثة على شرح ابن قاسم. توفي 1190 هـ.
* والشيخ محمد الكردي المدني، صاحب حاشية كبرى على شرح الحضرمية لابن حجر الهيتمي، وأخرى صغرى وحاشية ثالثة على شرح الغاية للخطيب، وهو صاحب الفوائد المدنية فيمن يُفتى بقوله من أئمة الشافعية، وله فتاوى جمعت في مجلدين.
توفي سنة 1194 هـ.
* والشيخ البجيرمي، العلامة، الفاضل، المحدث أحمد بن أحمد بن جمعة البجيرمي، توفي سنة 1197 هـ.
__________
(1) تأمل!! (علماء داغستان) ، واسأل، لتعرف أن داغستان (الآن) ضمن الاتحاد الروسي، وانظر كيف كنا، وكيف أصبحنا.
(2) الفوائد المكية: 37، واقرأ (المذهب عند الشافعية) ؛ ففيه تفصيل وبيان مفيد.(المقدمة/157)
* والشيخ سليمان الجمل، سليمان بن عمر بن منصور، العجيلي نسبة إلى منية عجيل إحدى قرى الغربية بمصر، المعروف بالجمل، صاحب الحاشية المشهورة على تفسير الحلالين، وله حاشية على شرح المنهج. توفي 1204 هـ.
* والشيخ عبد الحميد الشرواني " الداغستاني "، نزيل مكة، صاحب الحاشية المشهورة على تحفة ابن حجر، فرغ من تأليفها 1289 هـ.
* الباجوري، العلامة الشيخ إبراهيم الباجوري، (نسبة إلى بلدة الباجور منوفية مصر) ، له الحاشية المشهورة على شرح ابن قاسم الغزي.
* الشبراملسي (نسبة إلى شبراملس) قرية قريبة من قريتنا، فهو بلدُّينا من الغربية بمصر، وهو أبو الضياء، علي بن علي، صاحب حاشية على شرح ابن قاسم للورقات في أصول الفقه لإمام الحرمين، وحاشية مشهورة على نهاية المحتاج للشمس الرملي، توفي سنة 1087 هـ.
* القليوبي، شهاب الدين، أبو العباس، أحمد بن أحمد بن سلامة القليوبي (نسبة إلى قليوب) شمال القاهرة، صاحب الحاشية المشهورة على شرح الجلال المحلي للمنهاج، طُبعت مع حاشية أخرى، واشتهرت: بقليوبي وعميرة، و (عميرة) هو شهاب الدين البرلسي المتوفى سنة 957 هـ، أما قليوبي، فقد توفي سنة 1069 هـ.
* ونختم بالعلامة خاتمة المحققين -بحق- أحمد بك الحسيني، شهاب الدين، أحمد بن أحمد بن يوسف، الحسيني المصري، صاحب كثير من المصنفات التي تشهد له بالمنزلة والمكانة في علمي الأصول والفقه، مع الإحاطة بفقه الواقع، ونور البصر والبصيرة، فمن ذلك:
إعلام الباحث بقُبح أم الخبائث (الخمر) ، ودليل المسافر في مسائل قصر الصلاة والمسافات، وأحكام النية، وتحفة الرأي السديد في الاجتهاد والتقليد، وغيرها من الكتب والرسائل، ولكن عمدة مؤلفاته هو (مرشد الأنام لبر أم الإمام) الذي وقع ربع العبادات منه في أربعة وعشرين مجلداً، وقدم له في مجلدين كبيرين، توفي رحمه الله سنة 1332 هـ.(المقدمة/158)
الحالة الفقهية المعاصرة
صرفتُ النظر عمداً عن لفظ (النهضة) الذي يستخدمه الباحثون المعاصرون كافة في هذا المقام، حيث يقولون: (النهضة الفقهية المعاصرة) ؛ وذلك أن هذا الوصف بـ (النهضة) يأتي معبراً عن ثقافة فاسدة، ومفاهيم مغلوطة، تقوم على أن عالمنا العربي والإسلامي كان في تخلف وانحطاط (كذا، بهذا اللفظ يصفون عالمنا منذ القرن السابع الهجري) ، ولم نستيقظ، ولم ننهض إلا بعد أن أخذ بيدنا الغرب.
فقد كانت كتب التعليم -وأظنها ما زالت- تضع عنواناً رئيساً يقول: (عصر الضعف والانحطاط) (1) ويدرّسون تحت هذا العنوان الفترة التي تبدأ من سقوط بغداد سنة 656 هـ إلى غزو نابليون للشرق.
ثم تطالعنا هذه المناهج بعنوان آخر يقول: (عصر النهضة) (2) وتبدأ هذه النهضة بغزو نابليون للشرق (3) ، فقد صوروا لنا هذا الغازي المبير الذي سفك دماء العباد، وخرب البلاد، واتخذ من الأزهر اصطبلاً لخيوله، صوروا لنا هذا الغازي، الصليبي الحاقد بأنه جاءنا بالحضارة والتنوير، وأخذ بيدنا نحو الرقي.
ليس هذا استطراداً، ولا بعيداً عن الفقه -الذي هو موضوعنا- ذلك أن هذه الثقافة قادتنا في طريق التبعية للغرب، فأصبحت حياتنا كلها صورة مشوهة منقولة عن حياة الغربيين: في طراز المسكن، والأثاث، والزي، وألوان الطعام، إلى نظم التعليم ومؤسسات الاقتصاد، ومؤسسة القضاء والقوانين ... إلخ فجدت حياةٌ جديدة، في كل مظاهرها، قُنِّن فيها تعاطي الربا، وصناعة الخمور، وصالات القمار، واللهو
__________
(1) درست أجيالنا هذه الكتب بهذا (التحقيب) في مجال التاريخ السياسي والتاريخ الأدبي.
(2) حتى الثمانينات من القرن الميلادي الماضي، كنت أقرأ في كتاب تاريخ الأدب بأيدي أولادي هذه العبارة بنصها " استيقظ الشرق على طلقات مدافع نابليون " يفتتح بها مؤلفو الكتابِ الحديثَ تحت عنوان (عصر النهضة) .!!!.
(3) في وثائق الحملة الفرنسية يسمونها (الحملة على الشرق) ولكن من التضليل المصطلحي سموها في مناهج تعليمنا (الحملة على مصر) حتى يحاصروا الشعور بالوحدة بيننا.(المقدمة/159)
الفاضح، ولم يعد هناك ارتباط بين مواعيد العمل ومواقيت الصلاة ...
نشأت لهذا المجتمع مشكلات، وجدت له قضايا، وطُلب من الفقه الإسلامي أن يضع حلولاً لمشكلات لمجتمعٍ غير ملتزمٍ بالإسلام (1) .
هذا هو المأزق الذي يعيشه فقهاء العصر، أعانهم الله، وأنا أتحدث عن صفوة كرام بلغوا من الفضل والفقه والورع درجة تؤهلهم للاجتهاد في نوازل هذا العصر، هؤلاء الصفوة وراء النجاحات التي تحققها المجامع الفقهية، ومراكز البحوث، والموسوعات الفقهية. في ضوء هذا المأزق الذي صورناه تُدرس هذه الجهود إنصافا لهؤلاء الأفاضل.
وهناك زعانف كُثر حملوا ألقاباً علميةً، وإن لم تَشَم أنوفُهم رائحة الفقه، راحوا يسخرون من تراثنا الفقهي، ويردّدون ترديد الببغاء: (إنه جهد بشري نشأ لعصرٍ غير عصرنا) ويدعون لاطّراحه وإلقائه وراءنا ظهرياً، والأَخدَ مباشرة من القرآن والسنة، ولو أردت واحداً منهم على أن يقرأ صفحة واحدة من صحيح البخاري ما استطاع أن يقيم لسانه بها إعراباً، ناهيك عن معرفة المعنى اللغوي للمفردات، ولا أقول معرفة العام من الخاص، والمطلق من المقيد، والناسخ من المنسوخ.
هؤلاء لا كلام لنا معهم، ولا شأن لنا بهم، ولكنْ للأسف لهم صوتٌ عالٍ، وكثيراً ما يشغبون على الفقهاء الأصلاء المتبتَّلين للعلم والبحث.
وبعد
نعود فنقول: إننا لم ننس أننا في هذه المقدمات نتكلم عن تطوّر المذهب الشافعي وحاله في هذا العصر. وقد وضح الآن مما أشرنا إليه آنفاً أن الفقه المذهبي -مع أنه ما زال يدرس في كليات الشريعة- لم يعد له مكان في الفتوى، والتشريع، والبحوث، بل صارت كلها دراسات مقارنة، تنظر في كل الفقه الموروث بمذاهبه الأربعة، بل أحياناً الثمانية، وتزن الأدلة وتقدّرها في قضية معينة، وتختار ما تراه
__________
(1) التعبير الأوضح (لمجتمع غير إسلامي) ، ولكني عدلتُ عنه لأنه قد يوحي بتكفير المجتمع، وحاشا لله أن نقول بهذا.(المقدمة/160)
أرجح من بينها، مما يجعلنا نسمي هذا بالاجتهاد الجزئي، فمن أحاط ببابٍ من أبواب العلم، وعرف أدلته يمكن أن يجتهد فيه، ويكون مفتياً في مسائله، قال النووي: "قطع بذلك الغزالي، وصاحبه ابن بَرهان، وغيرهما، ومنهم من منعه مطلقاً، وأجازه ابن الصباغ في الفرائض خاصة، والأصح جوازه مطلقاً" (1) .
***
__________
(1) ر. المجموع: 1/43، وانظر تاريخ المذاهب الإسلامية للإمام أبي زهرة: 340.(المقدمة/161)
المبحث الرابع من مصطلحات المذهب وبخاصة ما جاء في نهاية المطلب
القديم والجديد:
عُرف في تاريخ المذهب الشافعي مصطلح (القديم) و (الجديد) ، بل يقولون: (المذهب القديم) و (المذهب الجديد) .
وعلى ذلك صار يُنظر في (القول) الذي يُروَى عن الشافعي أقديم هو أم جديد؟
القديم: هو ما أملاه الشافعي وقرره ببغداد من آراء وأقوال فقهية، ورواه عنه تلاميذه العراقيون، وأشهرهم الأربعة الذين عرّفنا بهم من قبل (1) (وانظر الشكل الأول) ، وقد أُودعت هذه المجموعة من فقه الشافعي كتابه (الحجة) ، ويسمى كتابه (العراقي) .
الجديد: هو الفقه الذي قرره الشافعي وأملاه بمصر، ورواه عنه تلاميذه المصريون، واشتهر منهم الستة المعروفون (2) .
هذا القدر من اصطلاح القديم والجديد متفق عليه بين أهل المذهب، ولكنهم اختلفوا فيما قرره الشافعي أو أملاه في المدة التي كانت بين مغادرته بغدادَ ودخوله مصر واستقراره فيها -وهي نحو عامٍ- هل يُعد هذا من القديم أم يُعدّ من الجديد؟ فابن حجر الهيتمي يرى " أن القديم ما قاله قبل دخولها " (3) ، وذلك يشمل ما نقل عنه وهو في طريقه إلى مصر قبل دخولها.
__________
(1) ر. الفصل الأول من هذه المقدمات، ص: 128.
(2) ر. الفصل الأول من هذه المقدمات، ص: 128، 129.
(3) تحفة المحتاج: 1/45 (عن المذهب عند الشافعية) .(المقدمة/162)
في حين أن آخرين يرون أن القديم ما قاله الشافعي بالعراق تصنيفاً، أو أفتى به (1) ، وأما ما وجد بين مصر والعراق، فالمتأخر جديد، والمتقدم قديم.
والرأي الأول أقرب إلى الراجح، وقد أيده الرملي في نهاية المحتاج (2) .
مدى الاختلاف بين القديم والجديد:
قد يتبادر إلى الذهن لدى البعض أن الشافعي أضرب عن القديم كَملاً، وأبطله كلَّه، وقد يساعد على ذلك ما روي عن الشافعي: " لا أجعل في حِلٍّ من روى القديم عني "، وما قاله الماوردي من " أن الشافعي غَيَّر جميع كتبه في الجديد إلا الصداق؛ فإنه ضرب على مواضعَ منه، وزاد في مواضعَ " (3) .
وهذا عند التأمل يظهر أنه غير معقولٍ، ولا مقبول، بل الواقع يقول بخلافه، فما يروى من خلافٍ بين القديم والجديد، قدرٌ محصور من فقه الشافعي، بمعنى أن ما حفظه تلامذة الشافعي ببغداد، وروَوْه من فقهه لا يخالف الجديد في كل حرفٍ ورأي.
وعلى هذا فما رواه تلاميذ الشافعي العراقيون مما أملاه وقرره بالعراق يعد مذهباً للشافعي غير مرجوعٍ عنه، ما لم يرد فيما أملاه بمصر ما يخالفه.
وأما النصوص الموهمة غير ذلك، فصرفها عن ظاهرها ميسور، وربما كان التشديد في عدم رواية القديم، وما يُفيد التغاير بين القديم والجديد خاصاً بالأصول؛ فمن المعروف أن الشافعي أعاد كتابة (الرسالة) في مصر، وغيَّرها عما كانت عليه عندما كتبها بالعراق، وأرسلها إلى عبد الرحمن بن مهدي.
أيّاً كان الأمر، فقد وضح ما نحاوله من بيان معنى القديم والجديد.
__________
(1) مغني المحتاج للخطيب الشربيني: 1/12 (عن المذهب عند الشافعية) .
(2) المذهب عند الشافعية.
(3) نهاية المحتاج: 1/50، ومغني المحتاج: 1/13، والفوائد المدنية: 50 (عن المذهب عند الشافعية) .(المقدمة/163)
القولان والوجهان:
القولان للإمام الشافعي صاحب المذهب، والوجهان للأصحاب الذين عرفوا بأنهم من أصحاب الوجوه.
القولان:
"قد يكون القولان قديمين، وقد يكونان قديماً وجديداً، وقد يكونان جديدين، وقد يقولهما في وقتٍ، وقد يقولهما في وقتين، وقد يرجح أحدهما، وقد لا يرجح" (1) .
فهذه عدة صور، فما حكم كل صورة.
* إن كان القولان (قديمين) بمعنى أنه قالهما قبل الدخول إلى مصر، فإما أن يقول قولاً مخالفاً لهما في الجديد أو لا.
فإن قال قولاً يخالفهما في الجديد، فالعمل بالجديد.
وإن لم يقل بخلافهما في الجديد، يرجح بينهما بطرق الترجيح التي سنشير إليها، ويعمل بالراجح منهما.
وهذا معنى كلام النووي رحمه الله، إذ قال: " واعلم أن قولهم: القديم ليس مذهباً للشافعي، أو مرجوعاً عنه، أو لا فتوى عليه، المراد به قديم نصَّ في الجديد على خلافه.
أما قديم لم يخالفه في الجديد، أو لم يتعرض لتلك المسألة في الجديد، فهو مذهب الشافعي واعتقادُه، ويعمل به، ويفتى عليه؛ فإنه قاله ولم يرجع عنه، وهذا النوع وقع منه مسائل كثيرة " (2) .
فإن كانا قديماً وجديداً، فالعمل بالجديد، والقديم مرجوع عنه، وكما قال إمام الحرمين في كتابنا هذا: " المرجوع عنه ليس مذهباً للراجع ".
__________
(1) ر. مقدمة المجموع: 1/66.
(2) السابق: 68.(المقدمة/164)
" واستثنى الأصحاب نحو عشرين مسألة أو أكثر، وقالوا يفتى فيها بالقديم، وقد يختلفون في كثير منها " (1) .
هذا نص كلام النووي، وقد عدّد نحو عشرين مسألة، مع الخلاف في بعضها، فطالعها إن شئت، ولا داعي للإطالة بذكرها.
ولكن هل تعدّ هذه المسائل من مذهب الشافعي، أم يقال: إن أصحاب الشافعي خالفوه في هذه المسائل، وعملوا فيها بخلاف مذهبه؟
الصواب الذي قاله المحققون، وجزم به المتقنون من الأصحاب: أن العمل في هذه المسائل والفتوى بالقديم فيها ليس من مذهب الشافعي (2) .
وخالف آخرون حكى النووي قولهم بقوله: " وقال بعض الأصحاب: إذا نص المجتهد على خلاف قوله، لا يكون رجوعاً عن الأول، بل يكون له قولان " وعقب قائلاً:
" قال الجمهور: هذا غلط؛ لأنهما كنصين للشارع تعارضا، وتعذر الجمع بينهما، يعمل بالثاني، ويترك الأول، فإذا علمت حال القديم، ووجدنا أصحابنا أفتوا بهذه المسائل على القديم، حملنا ذلك على أنه أداهم اجتهادهم إلى القديم لظهور دليله، وهم مجتهدون، فأفتَوْا به، ولا يلزم من ذلك نسبته إلى الشافعي، ولم يقل أحد من المتقدمين في هذه المسائل: إنها مذهب الشافعي، قال ابن الصلاح: فيكون اختيار أحدهم للقديم فيها من قبيل اختيار مذهب غير الشافعي إذا أداه اجتهاده إليه؛ فإنه إذا كان ذا اجتهادٍ، اتبع اجتهاده " (3) .
وكل هذا إذا لم يعضد القديمَ حديثٌ صحيح، لا معارض له، فإنه حينئذٍ يكون مذهباً للشافعي؛ عملاً بقوله: " إذا صح الحديث، فهو مذهبي ".
__________
(1) المجموع للنووي: 1/66.
(2) معنى كلام النووي في السابق نفسه.
(3) مقدمة المجموع: 1/67 (بتصرف) .(المقدمة/165)
بل قد رأينا بعض المتأخرين لا يسلم بأن هذه من القديم، ويقول: إنه تتبعها، فوجد أن المذهب فيها موافق للجديد (1) .
* فإن كان القولان جديدين، وقد قالهما في وقتين مختلفين، فالعمل بالمتأخر منهما إن علمه.
* فإن كان القولان جديدين، وقد رجح أحدهما، فالعمل بما رجحه.
* فإن كانا جديدين، ولم يعلم السابق منهما، ولم يرجح أحدهما، وجب البحث عن أرجحهما، فيعمل به، فإن كان أهلاً للتخريج أو الترجيح، استقل به متعرفاً ذلك من نصوص الشافعي، ومأخذه وقواعده.
فإن لم يكن أهلاً، فلينقله عن أصحابنا الموصوفين بهذه الصفة، فإن كتبهم موضحة لذلك، فإن لم يحصل له ترجيح بطريقٍ، توقف حتى يحصل (2) .
* فإن كان القولان جديدين، وقالهما في وقتٍ واحد، ولم يرجح أحدهما، فهو ترديد قولٍ، وتوقفٌ عن الفتوى والحكم، وحصرٌ له في هذين القولين.
وحكم العمل في هذه الحالة حكم الحالة السابقة تماماً، من وجوب البحث والترجيح ممن هو أهله ...
ويقول النووي وأئمة المذهب: إن ذلك لم يوجد إلا في ست عشرة أو سبع عشرة مسألة.
ويقول شيخنا الإمام أبو زهرة: (إن الشافعية يحاولون تقليل عدد هذه المسائل تعصباً للشافعي، ظناً منهم أن ذلك يغض من قدره، ويوحي بقصور اجتهاده، على حين العكس هو الصحيح، قال شيخنا: وإنك لترى الرازي كغيره من متعصبي الشافعية يظنون أن كثرة الآراء للشافعي لا تليق به، فيدفعونها عنه، ويقللون عدد المسائل التي
__________
(1) المذهب عند الشافعية، أَخْذاً من نهاية المحتاج: (1/50) والفوائد المدنية: 242-248، والشرواني على التحفة: 1/54.
(2) ر. المجموع: 1/68.(المقدمة/166)
قال فيها أكثرَ من رأي، وترى بجوارهم المتعصبين على الشافعي يرون كثرة الآراء منقصة فيه، ودليلاً على عدم الوصول إلى الحق.
وذلك نقص في العلم، وقد رددنا زعمهم، وبينا أن العلم يوجب التردد في كثير من الأحيان، وأن التردد عن بينةٍ علمٌ، واليقين عن غير بينة جهل.
والحق أن الشافعي كان مخلصاً في طلب ما يعتقد أنه الحق في هذه الشريعة الغراء، والمخلص لا تستحوذ عليه فكرة، ولا يسترقُّه رأي يجمد عليه؛ فإن له مقصداً معيناً، وهو طلب العلم لله. وذلك يجعله يفحص آراءه بميزانٍ ناقدٍ كاشف، ونظرٍ مستبين فاحص، وفوق ذلك كان الشافعي ذا فكرٍ حي متحرك يسير في طلب الغايات العلمية صعداً، لا يسكن إلى غاية حتى يطلب ما وراءها.
ومن كانت هذه حاله لا يجمد على آرائه، بل يسبرها دائماً بالميزان الذي يصل إليه في طوره العلمي الأخير" (1) .
وقد ذكر الشيخ أبو زهرة ثماني مسائل من فقه الشافعي له فيها أكثر من قول (2) ، وكأنه يريد بهذا أن يردّ القول بأن هذه المسائل محصورة في ست عشرة مسألة، ولذا عقب عليها قائلاً: " هذه أمثلة مما عثرنا عليه عند قراءتنا للمجموعة الفقهية المنسوبة للشافعي وتلاميذه، وهي كاشفة عما وراءها ومبينة، وإن لم تكن هي كل ما وجدناه من أقوال الشافعي رضي الله عنه " (3) .
ويبدو أن اعتبار ترديد الأقوال منقصة وقصوراً في فقه الشافعي أمر قديم، فقد وجدنا إمام الحرمين يقول في البرهان: "استبعد مستبعدون من الذين قصرت هممهم عن درك الحقائق ترديدَ الشافعي أقوالَه في المسائل؛ وتخيلوا أن ذلك حكم منه بحكمين متناقضين، وجمعٌ بين تحليل وتحريم في قضية واحدة.
وهذا جهلٌ من الظان، وعماية، وقلة دراية؛ فإن التردد الذي ذكره الشافعي نَفْيُ
__________
(1) الشافعي - حياته وعصره: 181، 182.
(2) اقرأ هذه المسائل. السابق: 179-179.
(3) السابق نفسه: 179.(المقدمة/167)
المذهب، واعتراف بالاعتراض والإشكال، وتصريح منه أنه لا مذهب لي في الواقعة بعدُ.
والشافعي بعدما ردد الأقوال، استقر رأيه على قولٍ واحد في جلة المسائل، ولم يبق على التردد إلا في ثماني عشرة صورة، فهو ليس كثير التردد" (1) .
ولم يكن إمام الحرمين وحده الذي عُني بهذه القضية، بل وجدنا ذلك أيضاً عند الإمام أبي إسحاق الشيرازي (2) .
وفي كتابنا هذا (12/229) قال إمام الحرمين أيضاً: " وقول عثمان هذا يدل على أن ترديد القول في الشرع ليس بدعاً، وفي مساق قول عمر ما يدل على مثله.
وبالجملة لا ينكر تردد المجتهد في المظنونات إلا أخرق، لا يعرف مسالك الاجتهاد ".
قال ذلك تعقيباً على قول عثمان رضي الله عنه في حكم الجمع بين الأختين في الوطء بملك اليمين، إذ قال رضي الله عنه: " أحلتهما آية، وحرمتهما آية " أي ردّد رأيه، ولم يقطع، وهو يشير إلى آية: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المعارج: 30] ، فعموم الآية يقتضي الإباحة، وأراد بالآية الأخرى قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] .
وأما قول عمر الذي يُفهم منه التردد أيضاً، فهو قوله حينما سئل عن ذلك: " أما أنا، فلا أحب أن أفعل ذلك " فكرهه في خاصة نفسه، ولم يقطع بتحريمه.
ووضع شمس الدين محمد السلمي الشافعي الشهير بالمناوي رسالة في هذه المسألة وحدها بعنوان: (فرائد الفوائد في اختلاف القولين لمجتهدٍ واحد) .
وعنوانها يكفي للدلالة على مضمونها، وهي رسالة كافية شافية، تحقق غرض الشافعية في الدفع عن إمامهم بأسلوب بعيد عن التعصب والإساءة.
وإن كانت القضية أصلاً لا تحتاج إلى اتهام ودفاع، كما قال شيخنا أبو زهرة.
__________
(1) البرهان في أصول الفقه: ج 2 فقرة: 1553.
(2) شرح اللمع: 2/1075 فقرة: 1219، والتبصرة في أصول الفقه: 511.(المقدمة/168)
الوجهان:
الوجه أو الوجهان أو الأوجه، هي لأصحاب الشافعي المنتسبين إلى مذهبه، يخرجونها على أصوله، ويستنبطونها من قواعده، ويجتهدون في بعضها، وإن لم يأخذوه من أصله. فتارة يخرّج من نصٍّ معين لإمامه، وتارة لا يجده، فيخرج على أصوله، بأن يجد دليلاً على شرط ما يحتج به إمامه، فيفتي بموجبه، وتارة يجد نصاً لإمامه في مسألة، ونصاً على حكم مخالف في مسألة تشبهها، فيخرّج من أحدهما إلى الآخر قولاً، فيقال: في كلا المسألتين قولان، أحدهما بالتخريج، والآخر بالنص.
وشرط هذا التخريج ألا يوجد بين النصين فرق، فإن وُجد، وجب أن يقرّهما قرارهما: وعلى ظاهرهما، ويكثر الخلاف في هذا اللون من التخريج، لاختلافهم في إِمكان الفرق (1) .
ومما ينبغي ذكره هنا قولُ إمام الحرمين: " ولعل الفقيه المستقلّ بمذهب إمامٍ أقدرُ على الإلحاق بأصول المذهب الذي حواه من المجتهد -أي صاحب المذهب- في محاولته الإلحاق بأصول الشريعة؛ فإن الإمام المقلَّد المقدّم بذل كُنه مجهوده في الضبط، وَوَضْع الكتاب وتبويب الأبواب، وتمهيد مسالك القياس، والأسباب.
والمجتهد الذي يبغي ردّ الأمر إلى أصل الشرع، لا يصادف فيه من التمهيد والتقعيد ما يجده ناقل المذهب في أصل المذهب المفرَّع المرتَّب " (2) .
والكلام على الأوجه من ناحيتين:
أولاً- ماذا يعد منها من المذهب، وما لا يعد.
إذا خرّج المجتهد المنتسب إلى المذهب على غير قواعد إمامه، وغير مستنبطٍ من نصوصه، فتخريجاته لا تعد وجوهاً في المذهب، بل تعدّ مذهباً خاصاً له، كبعض
__________
(1) مأخوذٌ من كلام النووي في مقدمة المجموع: 42، 43، ومن الفوائد المكية: 46، 47، ومن أدب الفتوى: 40-45.
(2) الغياثي: فقرة: 631.(المقدمة/169)
تخريجات المزني، ومحمد بن نصر المروزي، ومحمد بن جرير وغيرهم، وقد أشرنا إلى شيء من ذلك فيما سلف.
إما إذا خرّج على أصول إمامه وقواعده، أو خرّج من نصٍّ معين لإمامه، أو اكتفى في الحكم بدليل إمامه من غير أن يبحث عن معارض كفعل المجتهد المستقل في النصوص، فهذه الوجوه تعد من المذهب، قال إمام الحرمين في (نهاية المطلب) في باب ما ينقض الوضوء: " إذا انفرد المزني برأي، فهو صاحب مذهب، وإذا خرج للشافعي قولاً، فتخريجه أولى من تخريج غيره، وهو ملتحق بالمذهب، لا محالة ".
وعقب النووي على ذلك قائلاً: " وهذا الذي قاله الإمام حسن، لا شك أنه متعين " (1) وقد ذكر إمام الحرمين هذا المعنى بألفاظ أخرى حيث قال: " إن المفتي يحل في حق المستفتي محل الإمام المجتهد ... ، ثم يقلد المستفتي ذلك الإمامَ المقَّلدَ المنقلبَ إلى رحمة الله تعالى ورضوانه، لا الفقيهَ الناقلَ القيَّاسَ " (2) .
وإذا قلنا: إن هذه الوجوه المخرجة على أصول الشافعي وقواعده، والمأخوذة من نصوصه تلحق بمذهبه، ويقال فيها: هذا مذهب الشافعي، فهل يصح أن تنسب إلى الشافعي قولاً له؟
اختلف الأصحاب في ذلك، والأصح أنه لا يصح نسبته إلى الشافعي قولاً له، اختار ذلك أبو اسحاق الشيرازي، وابن الصلاح، والنووي، قال الشيرازي في (شرح اللمع) : "فأما ما يخرجه أصحابنا على قوله، فلا يجوز أن ينسب إليه، ويجعل قولاً له.
ومن أصحابنا من أجاز ذلك، وقال: حكمه حكم المنصوص عليه.
والدليل عليه أن قول الإنسان ما نص عليه، أو دل عليه بما يجري مجرى النص، فأما إذا لم ينص عليه، ولم يدل عليه بما يجري مجرى النص، فلا يحل أن يضاف
__________
(1) المجموع: 1/72.
(2) الغياثي: فقرة 633.(المقدمة/170)
إليه، ولهذا قال الشافعي: ولا ينسب إلى ساكت قول" (1) .
وقد ذكر الشيرازي، ذلك المعنى أيضاً في كتابه (التبصرة في أصول الفقه) (2) وبه أخذ ابن الصلاح والنووي (3) .
ثانياً - العمل بالوجهين:
الوجهان والأوجه لها صور لا تخرج عنها، ولكل منها حكمها:
* إذا كان أحد الوجهين منصوصاً أي لإمام المذهب، وما عداه للأصحاب، فالعمل بالمنصوص، إلا إذا كان المخرج من مسألة يتعذر فيها الفرق، فقيل: لا يترجح عليه المنصوص، وفيه احتمال، وقل أن يتعذر الفرق.
* إذا كان الوجهان أو الأوجه لواحدٍ من الأصحاب، فإن عرف المتأخر عمل به، وكان ما سبقه مرجوعاً عنه.
وإن لم يعرف المتقدم من المتأخر، وجب الترجيح لمن هو أهله على نحو ما ذكرنا في القولين.
* إذا كان الوجهان أو الأوجه لأكثر من شخص واحد، فلا اعتبار بالتقدم والتأخر، وهنا أيضاً يجب الترجيح ممن هو أهلٌ لذلك.
أما من لم يكن أهلاً للترجيح، فليأخذه عن الأصحاب الموصوفين بذلك، فإن وجد خلافاً بينهم، فليعتمد في الاختيار والتقديم الضوابط الآتية:
- يقدم الأكثر والأعلم والأورع.
- فإن تعارض الأعلم والأورع، قدم الأعلم.
- فإن لم يجد ترجيحاً عن أحد اعتبر صفات الناقلين للقولين والوجهين، فما رواه البويطي والربيع المرادي والمزني عن الشافعي مقدم عند أصحابنا على ما رواه الربيع
__________
(1) شرح اللمع: 1084 فقرة: 1228.
(2) التبصرة: 517.
(3) أدب الفتوى: 44، ومقدمة المجموع: 1/43.(المقدمة/171)
الجيزي وحرملة (1) . (هذا في نقل القولين، وهو مثال لما يجب العمل به في نقل الوجهين) .
الطريقة:
تكلمنا قبلاً عن نشأة الطريقتين، وأعلامهما، والجمع بينهما، وبيان أن ذلك مرحلة في تطور المذهب ونموه.
والآن بقي علينا تعريف الطريقة بصفتها مصطلحاً من المصطلحات التي تتردّد في مصنفات المذهب.
" الطرق: هي اختلاف الأصحاب في حكاية المذهب، فيقول بعضهم مثلاً: في المسألة قولان أو وجهان. ويقول الآخر: لا يجوز قولاً واحداً، أو وجهاً واحداً.
أو يقول أحدهما: في المسألة تفصيل، ويقول الآخر: فيها خلاف مطلق.
وقد يستعملون الوجهين في موضع الطريقين وعكسه " (2) .
الأصحاب: هم في الأصل أصحاب الشافعي، ثم توسّعوا في اللفظ فأصبح يشمل كل أعلام المذهب وفقهائه، فلم يقتصر على أصحاب الشافعي الذين جالسوه وأخذوا عنه.
ثم هم يسمَّوْن الأصحاب، ولو تباعد بينهم الزمان والمكان، ولذا يقول النووي في (تهذيبه) : " وهذا مجاز مستفيض للموافقة بينهم، وشدة ارتباط بعضهم ببعض كالصاحب " يعني (كالصاحب) من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
***
والأصحاب عند ابن حجر الهيتمي " هم المتقدمون من أئمة المذهب، وهم أصحاب الوجوه غالباً، وضبطوا بالزمن، وهم من الأربعمائة (3) ".
المتأخرون: وهم من بعد الأربعمائة، كما يفهم من كلام ابن حجر السابق.
__________
(1) المجموع: 1/68 (بتصرف) .
(2) المجموع: 1/66.
(3) قاله في الفتاوى، ونقله عنه السيد علوي السقاف في الفوائد المكية: 46.(المقدمة/172)
النص: المراد به نص الشافعي، من إطلاق المصدر على اسم المفعول، سمي بذلك لأنه مرفوع إلى الإمام، أو لأنه مرفوع القدر لتنصيص الإمام عليه (1)
من المصطلحات الخاصة برجال المذهب
الإمام: حيث يقال (الإمام) مطلقاً، فالمراد به إمام الحرمين. (طبعاً بعد إمام الحرمين)
* إذا قيل (الإمام) في كتب التفسير، فالمراد به الفخر الرازي
* وفي كتابنا هذا إذا قيل (الإمام) ، فالمراد به شيخه ووالده، أبو محمد الجويني.
الربيع: إذا أطلق (الربيع) بدون تقييد، فالمراد به الربيع المرادي
الشيخان: المراد بهما الرافعي والنووي.
الشيوخ: يراد بهذا المصطلح الرافعي، والنووي، ومعهما (السبكي) تقي الدين.
القاضي: حيث يطلق (القاضي) فالمراد به القاضي حُسين بن محمد بن أحمد المرورّوزي، عند إمام الحرمين وغيره من الخراسانيين، ثم شاع وذاع عند الجميع؛ حيث بدأ الجمع بين الطريقتين منذ القرن الخامس.
والقاضي: عند أبي إسحاق الشيرازي، وشبهه من العراقيين، هو أبو الطيب الطبري، ولكن هذا توقَّف بعد القرن الخامس، وأصبح القاضي هو القاضي حسين.
والقاضي: إذا أطلق في كتب الأصول لغير المعتزلة، فالمراد به القاضي أبو بكر الباقلاني، وأما في كتب الأصول للمعتزلة، فالمراد به القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمذاني.
القفال: إذا أطلق في النهاية وغيرها من كتب الخراسانيين كتعليق القاضي حسين،
__________
(1) السابق نفسه.(المقدمة/173)
والإبانة للفوراني، والتتمة للمتولي، والوسيط للغزالي، والبحر للروياني - فهو القفال الصغير المروزي، أبو بكر، عبد الله بن أحمد بن عبد الله، المتوفى 417 هـ عن تسعين سنة، وهو المذكور في كتب المذهب بعامة بعد الجمع بين الطريقين، وعند المتأخرين؛ فحيثما يقال: القفال مطلقاً، فاعلم أنه القفال المروزي الصغير، وهو رأس طريقة المراوزة، كما قررنا من قبل.
* القفال الكبير: وهناك قفالٌ آخر يشترك معه في الكنية، فكل منهما أبو بكر، ولكنهما يتميزان بالإسم والنسبة، فالكبير الشاشي، والصغير المروزي، والشاشي اسمه محمد بن علي بن إسماعيل، والصغير عبد الله بن أحمد بن عبد الله، والكبير أسبق وفاة، فقد توفي 365 هـ.
ويتميزان أيضاً بأن الصغير المروزي أكثر ذكراً في كتب الفقه، والكبير أكثر ذكراً في كتب الحديث والتفسير، وإذا ذكر في كتب الفقه قُيِّد، كما فعل الإمام في النهاية.
وغير لائق أن نترك الكلام عن القفال الكبير الشاشي دون أن نقول إنه واحدٌ من أئمة المسلمين الذين أثر عنهم أنهم خرجوا غزاة في الجيوش الإسلامية، فقد كان فيمن غزا الروم من أهل خُراسان وما وراء النهر في الغزوة التي سميت عامَ النفير.
كما نذكر أنه كان في قلب السياسة، بقصيدته التي أجاب بها هجاء نقفور اللعين، فكان لها وقع الصواعق على الروم وملكهم وقادتهم.
وقد أحسن السبكي حين شغل بهذه القصة نحو عشر صفحات من الجزء الثالث من كتابه الطبقات.
* وهناك قفالٌ ثالث، وهو ابن القفال الكبير الشاشي، واسمه القاسم، فهو القاسم بن محمد بن علي بن إسماعيل، ومع أنه أولى بلقب (الصغير) ، لكنه أبداً لم يعرف به، وذاعت شهرة كتابه (التقريب) ، وتخرج به فقهاء خراسان، فغلب اسمُ الكتاب اسمَ صاحبه، فيقال دائماً: صاحب التقريب، كما في النهاية، فلم يذكره إمام الحرمين مرة واحدة باسمه، بل دائماً: (صاحب التقريب) على كثرة ما ذكره.
وعندي أن هذا هو الذي أوقع الاختلاف في اسمه، فبعضهم يخطىء، فيقول:(المقدمة/174)
" أبو القاسم " والصواب كما قلنا: أنه (القاسم) وكنيته أبو الحسن. توفي رحمه الله نحو 399 هـ.
المحمدون الأربعة: يراد بهم: محمد بن نصر المروزي
محمد بن إبراهيم بن المنذر
محمد بن جرير الطبري.
محمد بن إسحاق بن خزيمة
* ومما يدخل في باب المصطلحات، قول السبكي (1) : ومن مستحسن الكلام: الشيخ والقاضي زينة خراسان: وهما الشيخ أبو علي السنجي، والقاضي حُسين بن محمد بن أحمد المرورّوزي.
والشيخ والقاضي زينة العراق، وهما الشيخ أبو حامد الإسفراييني، والقاضي أبو الطيب الطبري.
* ومن هذا الباب التفرقة بين القاضي أبي حامد، والشيخ أبي حامد:
فالأول هو القاضي، أبو حامد، أحمد بن بشر بن عامر العامري، المرورُّذي، بميم مفتوحة، ثم راء ساكنة، ثم واو مفتوحة، ثم راء مضمومة مشدّدة (وقد تخفف) ثم ذال معجمة مكسورة نسبة إلى مرو الروذ، وقد يقال: المرُّوذي بضم الراء الأولى وتشديدها، وحذف الراء الثانية. صنف الجامع في المذهب، واشتهر به، فيقال: صاحب الجامع، وشرح مختصر المزني. توفي سنة 362 هـ
وأما الشيخ أبو حامد، فهو شيخ طريقة العراقيين، الشيخ أبو حامد، أحمد بن محمد بن أحمد، الإسفراييني، ويعرف بابن أبي طاهر. توفي سنة 406 هـ
* وكذلك التفرقة بين الأستاذ أبي إسحاق، والشيخ أبي إسحاق.
فالأول هو الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، ويقال له غالباًْ الأستاذ أبو إسحاق، وهو إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران، الأستاذ، الإسفراييني، برع في الكلام والأصول، ثم الفقه، ولذا تراه تكرر في البرهان لإمام الحرمين عشرات المرات على
__________
(1) قال هذا في ترجمة الشيخ أبي علي السنجي: 4/344.(المقدمة/175)
حين لم يذكره بهذه الكثرة في النهاية. قيل فيه: إنه بلغ حد الاجتهاد؛ لتبحره في العلوم، واستجماعه شروط الإمامة، توفي سنة 418 هـ.
أما الشيخ أبو إسحاق، فهو الشيخ أبو إسحاق، إبراهيم بن علي بن يوسف بن عبد الله، الشيرازي الفيروزابادي، صاحب المهذب والتنبيه، بدأ تفقهه بفارس، ثم انتقل مبكراً إلى البصرة، فبغداد، وتفقه فيها على شيخه القاضي أبي الطيب الطبري، وجماعة من مشايخه، فهو عراقي وذاك خراساني، توفي ببغداد سنة 472 هـ.
* وهناك أبو إسحاق ثالث، ولكنه لا يشتبه مع هذين، وهو أبو إسحاق المروزي، وهو إمام جماهير الأصحاب، وإليه منتهى الطريقتين، ولعلو منزلته إذا قيل (أبو إسحاق) مطلقاً عرف أنهم إياه يعنون، توفي سنة 345 هـ.
من المصطلحات التي تتردّد في كتابنا هذا (نهاية المطلب) ومنها ما هو خاص به، لم نره في غيره
وهذه المصطلحات بعضها علمية، وبعضها خاص بالرجال والكتب. فمن المصطلحات العلمية:
الاستناد، وقد يقال: الإسناد.
وهو مصطلح أصولي: معناه أن يثبت الحكم في الحال بوجود الشرط في الحال، ثم يستند الحكم في الماضي أي يرجع الملك القهقرى لوجود السبب في الماضي، وذلك كالحكم في المضمونات؛ تملك عند الضمان مستنداً إلى وقت وجود سبب الضمان، كما في الغصب، فإن الغاصب يملك المغصوب عند أداء القيمة مستنداً إلى وقت وجود السبب وهو الغصب، فإذا استولد الغاصب الجارية المغصوبة، فهلكت، ثم أدى الضمان، يثبت النسب من الغاصب؛ لأنها صارت ملكه من وقت الغصب وكما في الزكاة؛ فإن وجوبها عند تمام الحول يستند إلى ملك النصاب أول الحول.
التبين: وهو أن يظهر في الحال أن الحكم كان ثابتاً من قبل في الماضي بوجود علة الحكم والشرط كليهما في الماضي، مثل أن يقول في يوم الجمعة: إن كان زيد في الدار، فأنت طالق، ثم يتبين يوم السبت أنه كان في الدار يوم الجمعة، فوقع الطلاق يوم الجمعة، ويعتبر ابتداء العدة منه، لكن ظهر هذا الحكم يوم السبت.(المقدمة/176)
وإتماماً للفائدة نذكر مصطلحين آخرين يتصلان بما سبق ويتم بهما الكلام، وإن لم يكن لهما ذكر في (نهاية المطلب) ، فالأحكام تثبت بطرق أربعة هي:
الأول - الاقتصار: وهو أن يثبت الحكم عند وجود علته، لا قبله، ولا بعده، كما في الطلاق المنجز، فإن قال: أنت طالق، فيقع الطلاق عند قوله هذا، لا قبله ولا بعده.
الثاني - الانقلاب: وهو صيرورة ما ليس بعلة علة، كما في تعليق الطلاق بالشرط، بأن قال: إن دخلت الدار، فأنت طالق؛ فعند حدوث الشرط ينقلب ما ليس بعلة علة، يعني أن قوله: أنت طالق في صورة التعليق ليس بعلة قبل وجود الشرط، وهو دخول الدار، وإنما يتصف بالعلّية عند الدخول.
والثالث والرابع، هما الاستناد والتبين، وقد تقدما.
***
الارتكاب: تكرر هذا اللفظ بأكثر من صيغة من صيغ الاشتقاق، في مواضع كثيرة، على طول هذا الكتاب، ومنها على سبيل المثال قوله في خطبة الكتاب: " وما اشتهر فيه خلاف الأصحاب ذكرته، وما ذكر فيه وجهٌ غريب منقاس ذكرت ندوره وانقياسه، وإن انضم إلى ندوره ضعف القياس نبهت عليه ... وإن ذكر أئمة الخلاف وجهاً مرتكباً أنبه عليه ". وحين يعرض للاجتهاد في القبلة، يعقب على أحد الوجوه في صورة من الصور قائلاً: " وهذا إن ارتكبه مرتكب، ففيه بعدٌ ظاهر " وفي باب آخر يعقب على أحد الوجوه قائلاً: "ولم يصر إلى هذا أحد من أئمة المذهب، وإنما هو من ركوب أصحاب الخلاف" وفي كتاب النكاح يعقب على إحدى المسائل قائلاً: " ولما نظر القفال إلى ما ذكرناه، لم يجد فرقاً، وارتكب طرد القياس في المسألتين اللتين ذكرهما صاحب التقريب، وقال أولاً: إنه حكى فيهما نص الشافعي، وقد تتبعت النصوص، فلم أجد ما حكاه من المسألتين منصوصاً ... ".
هذه نماذج لورود هذا اللفظ، وصورٌ من اشتقاقاته، ولقد تبادر إلى الذهن أن هذا (الارتكاب) أحد مصطلحات علم الجدل والمناظرة، فبحثت واستقصيت جهدي في كل مظانه: في الكافية في الجدل لإمام الحرمين، المعونة في الجدل لأبي(المقدمة/177)
إسحاق الشيرازي، واصطلاحات المتكلمين والفلاسفة للآمدي، المعجم الفلسفي لمجمع اللغة العربية، وكشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي، وتعريفات الجرجاني، وكليات أبي البقاء، ثم غريب ألفاظ الشافعي، ثم معاجم اللغة، ثم معجم الألفاظ التي شرحها ابن خلكان في الوفيات.
ويبدو أن المراد بالارتكاب هنا التعسف وركوب الطريق غير السوي، يظهر ذلك من سياق العبارات التي أمامنا، والذي يرشح هذا التفسير أن هذا (الارتكاب) يكون عادة من أئمة الخلاف، عند نصرة كل صاحب رأي لرأيه فيعتسف أيّ طريق، انتصاراً لرأيه، وفراراً من إلزامات خصمه. والله أعلم.
ومن المصطلحات الخاصة بالكتب والرجال (1) :
السواد: يعني به الإمام مختصر المزني، وهذا اصطلاح خاص به، فلم نره لغيره.
صاحب التلخيص: وهو أبو العباس أحمد بن أبي أحمد، القاص، الطبري، توفي سنة 335 هـ.
صاحب التقريب: هو الإمام، أبو الحسن، القاسم بن الإمام أبي بكر محمد بن علي القفال الشاسي، توفي نحو سنة 399 هـ وقد تقدم آنفاً بأتم من هذا.
الأستاذ أبو منصور البغدادي، وقد يطلقه، فيقول: الأستاذ بغير قيد، وذلك في كتاب الفرائض فقط، ويسميه إمام الصناعة مطلقاً، فلا يشتبه بالأستاذ أبي إسحاق.
وأبو منصور، هو الأستاذ أبو منصور، عبد القاهر بن طاهر بن محمد بن عبد الله، البغدادي، التميمي، الإسفراييني، كان يدرّس في سبعة عشر فناً، صاحب (الفرق بين الفرق) ولد ونشأ في بغداد، ورحل إلى خراسان، فاستقر في نيسابور، ثم فارقها، مات في إسفراين سنة 429 هـ.
بعض المصنفين: يعني به أبا القاسم الفوراني، صاحب الإبانة، وهو الإمام، أبو القاسم، عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن فوران، توفي سنة 461 هـ.
(وقد بينا حاله مع إمام الحرمين في أكثر من موضع، وأكثر من تعليق)
__________
(1) انظر الشكل الرابع.(المقدمة/178)
الشكل الرابع: يبين اصطلاح الإمام في الألقاب والكنى التي يطلقها على رجال المذهب الذين لهم ذكر في (نهاية المطلب) .
1- إبراهيم البلدي: إبراهيم بن محمد نسبة إلى بلد. ت قبل 300 هـ.
2- الأستاذ أبو إسحاق: لا يأتي إلا بهذا اللقب والمقصود أبو إسحاق الإسفراييني. ت 418 هـ.
3- الأستاذ أبو منصور البغدادي. ت 429 هـ.
4- أبو إسحاق: ويقيده أحياناً فيقول أبو إسحاق المروزي. ت 340 هـ. وأحيانا المروزي
5- الاصطخري وأحياناً أبو سعيد الإصطخري. ت 328 هـ.
6- أحمد بن بنت الشافعي: يأتي هكذا دائماً. ت 295هـ.
7 - أبو بكر الإسماعيلي: يأتي هكذا دائماً. ت 371 هـ.
8- أبو بكر الطوسي ت420 هـ.
9- أبو بكر الفارسي: لايأتي إلا هكذا. ت 305 أو 350 هـ.
10- أبو بكر المحمودي: وقد يقول: المحمودي. ت بعد 300 هـ.
11- الأودني أبو بكر ت 385.
12- بعض المصنفين: لا يأتي إلا هكذا، والراد أبو القاسم الفوراني. ت 461 هـ
13- البويطي: يأتي هكذا دائماً. ت 231 هـ.
14- أبو ثور: يأتي هكذا دئماً. ت 240 هـ.
15- أبو جعفر الترمذي- ت 295 هـ.
16- أبو حامد المروروذي يأتي هكذا والمقصود القاضي أبوحامد. ت 362 هـ.
17- ابن الحداد: يأتي هكذا دائماً. ت 345 هـ.
18- حرملة: يأتي هكذا دائماً. ت 243 هـ.
19- الحسين الكراييسي: ومرة قال: الكرابيسي. ت 245 هـ.
20- أبو حفص الوكيل: ومرة ابن الوكيل. ت 310 هـ.
21- الحليمي أبو عبد الله. ت 403 هـ.
22- الخضري: يأتي هكذا دائماً. ت 373 هـ.
23- ابن خيران: يأتي هكذا دائماً. ت 320 هـ.
24- الربيع: يأتي هكذا مطلقاً: فحيث أطلق فهو ابن سليمان المرادي ت 270 هـ.
25- الربيع بن سليمان الجيزي: يأتي هكذا دائماً. ت 256 هـ.
26- الزبيري: وأحياناً أبوعد الله الزبيري وقد يذكره بصاحب الكافي. ت 317 هـ.
27- الزعفراني، الحسن بن محمد ت260 هـ.
28- الزيادي، أبو طاهر محمد بن محمد ت 411 هـ.
29- أبو زيد: وقد يرد أبو زيد المروزي، وأحيا ناً الشيخ أبو زيد المروزي. ت 371 هـ.
30- الساجي، زكريا بن يحيى ت 307 هـ.
31- ابن سريج: لا يأتي إلا هكذا. ت 306 هـ.
32- الشيخ الإمام سهل الصعلوكي ت 404 هـ.
33- الشيخ أبوحامد الاسفراييني. ت 406 هـ.
34- الشيخ أبو علي: يرد هكذا غالباً، والمراد به: أبو علي السنجي. ت 430 هـ.
وقد يرد: الشيخ (مطلقاً) الشيخ في الشرح
الشيخ في شرح التلخيص، الشيخ في شرح الفروع
الشيخ أبو علي في شرح التلخيص، الشيخ أبو علي في شرح الفروع.
35- شيخي: المراد به: أبو محمد الجويني الأب. 438 هـ.
وأحياناً يقول: شيخنا، وأحياناً: الإمام.
ومرة قال: الشيخ الأب.
ومرة قال: الشيخ أبو محمد ومرة قال: الشيخ والدي.
36- صاحب التقريب: لا يأتي إلا هكذا. قبل: 400 هـ.
37- صاحب التلخيص: يأتي هكذا ومرة قال: أبو العباس. 335 هـ.
38- الصيدلاني: يأتي هكذا غالباً وأحياناً الشيخ أبو بكر. 427 هـ
أو أبو بكر الصيدلاني أو شيخنا أبو بكر الصيدلاني. ونادراً أبو بكر.
39- الصيرفي أبو بكر محمد بن عبد الله 330 هـ.
40- أبو الطيب بن سلمة. ت 308 هـ.
41- أبو عبيد بن حربويه 319 هـ.
42- أبو علي الطبري: لا يأتي إلا هكذا. ت350 هـ.
43- أبو القاسم الأنماطي: يأتي هكذا غالباً. ت 288 هـ.
44- القاضي أبو الطب الطبري: ومرة القاضي أبو الطيب. ت 450 هـ.
45- القاضي يأتي هكذا مطلقاً، وأحياناً: القاضي حسن. ت 462 هـ.
46- القفال: يأتي هكذا فقط مطلقاً والمراد القفال الصير المروزي. ت 417 هـ.
47- القفال الشاشي: لا يأتي إلا هكذا، وهو القفال الكبير. ت 365هـ.
48- ابن اللبان ت 446 هـ.
49- الماسَرْجِسِي، أبو الحسن. ت 384 هـ.
50- المحاملي: يأتي هكذا دائماً. ت 415 هـ.
51- المزني يأتي هكذا. ت 264 هـ.
52- أبو نصر الفشيري: الإمام عبد الرحيم بن الإمام عبد الكريم. ت 514 هـ.
53- ابن أبي هريرة: وأحيا ناً أبوعلي بن أبي هربرة. ت 345 هـ.
54- أبو الولد النيسابوري ت 349 هـ.
55- أبو يحيى البلخي ت 330 هـ.
56- أبو يعقوب الأبيوردي نحو 400 هـ.
57- يونس بن عبد الأعلى: يأتي هكذا. ت 264 هـ.(المقدمة/179)
بعض التصانيف: ويقصد بها مصنفات الفوراني (بعض المصنفين) وأشهرها (الإبانة) .
شيخي: يريد به والده الشيخ أبا محمد الجويني. المتوفى سنة 438 هـ.
الشيخ: إذا أطلقه الإمام، فهو الشيخ أبو علي الجويني، وكذلك لو قال: الشيخ أبو علي، أو الشيخ في الشرح، فالمراد بهذه كلها الشيخ أبو علي، الحسين بن شعيب بن محمد السنجي، المتوفى سنة 430 هـ ومرة واحدة -فيما أذكر- قال: (الشيخ) وأراد به القفال، وقد بيناها في الحاشية..
الشيخ أبو بكر: ويقصد به أبا بكر الصيدلاني. ت 427
المحاملي: هذا اللقب أو النسبة حمله نحو ستة من أعلام الفقه الشافعي بعضهم أب لبعض، والذي يعنيه الإمام هنا هو أبو الحسن أحمد بن محمد بن أحمد بن القاسم بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الضبي، ويعرف بابن المحاملي، صاحب اللباب، والمجموع، والمقنع، وغيرها، وله تعليقة عن الشيخ أبي حامد.
والمحاملي هذا هو الأكثر ذكراً وأثراً في الفقه، توفي سنة 415 هـ.
المحققون: يستخدم الإمام هذا اللفظ كثيراً، وبالتتبع والملاحظة ظهر أن المحققين عنده هم:
1- صاحب التقريب. توفي قبل 400 هـ.
2- القفال الصغير المروزي، عبد الله بن أحمد ت 417 هـ.
3- الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني. ت 418 هـ.
4- الشيخ أبو بكر الصيدلاني. ت 427 هـ.
5- الشيخ أبو علي السنجي. ت 430 هـ.
6- الشيخ أبو محمد الجويني. ت 438 هـ.
7- القاضي حسين. ت 462 هـ.
أثبات النقلة: يعني بهم الإمام:(المقدمة/180)
1- الشيخ أبا بكر الصيدلاني
2- الشيخ أبا علي السنجي
3- الشيخ أبا محمد الجويني
4- القاضي حسين
الأئمة المعتبرون في المذهب: وهم أثبات النقلة السابقون، وزاد عليهم: الحليمي وهو الإمام الكبير أبو عبد الله الحسين بن الحسن بن محمد الحليمي، صاحب (المنهاج) في شعب الإيمان، وهو من كبار أصحاب الوجوه. توفي سنة 403 هـ.
القفاليون = المراوزة الآخذون عن القفال = أصحاب القفال (يعبّر عنهم بواحدة من هذه العبارات الثلاث) وهم:
1- أبو بكر الصيدلاني
2- أبو علي السنجي
3- أبو محمد الجويني
4- القاضي حسين.
أئمتنا: يعبر الإمام -أحياناً- بهذا اللفظ عن شيوخ المراوزة، وذلك عندما يستحضر صفته المروزية؛ فيقول: أئمتنا ويعني بهم أئمة المراوزة.
مَنْ لا أعدل به أحداً من بني الزمان: جاء في كتاب الخلع قول الإمام: " قال من لا أعدل به أحداً من بني الزمان: سألت القاضي -وهو على التحقيق حَبْر المذهب- لم غلّبنا في بعض هذه المسائل حكم المعاوضة؟ وغلبنا في بعضها حكم التعليق؟ وأثبتنا الأحكام على الاشتراك في بعضها؟ ... "
وقد يتبادر إلى الذهن أنه يعني بمن لا يعدل به أحدً من بني الزمان، والده الشيخ أبا محمد، ولكن يعكر على هذا أن والده أسنّ من القاضي، حيث توفي سنة 438 هـ.
في حين كانت وفاة القاضي سنة 462 هـ.
وقد كدنا نقول إن المقصود هو الإمام أبو نصر عبد الرحيم بن الإمام عبد الكريم القشيري. فالإمام كان يعتز به ويكثر الثناء عليه، ونقل عنه مسائل في الدور والوصية(المقدمة/181)
في كتابنا هذا، وكان يجلس بين يديه مع أنه تلميذه، ولكن يعكر على هذا أيضاً أن الإمام عبد الرحيم بين وفاته ووفاة القاضي حسين اثنان وخمسون سنة، ولم نجد من يبين لنا تاريخ الإمام عبد الرحمن فإذا فرضنا أنه مات قي نحو الستين من عمره.
فيكون عمره عند وفاة القاضي لا يسمح بنقل العلم عنه.
ولذا لا يترجح عندنا بعد من يعنيه الإمام هنا.
***(المقدمة/182)
الفصل الثالث تعريف بإمام الحرمين، ومنزلته بين أئمة المذهب(المقدمة/183)
تعريف بإمام الحرمين
نتناول في هذه العجالة ترجمة موجزة لإمام الحرمين، نحاول فيها أن نُظهر بعضَ ملامح عصره والعوامل المؤثرة في حياته، وسمات شخصيته.
وسآخذ نفسي بأمرين:
الأول: الإيجاز؛ ذلك لأنني كتبت عن إمام الحرمين: علمه ومنهجه، ومنزلته، في دراسات أفردتها لذلك، وفي مقدمات كتبه التي وفقني الله سبحانه لتحقيقها ونشرها، ومن أجل هذا سيكون ما اكتبه في جملته معاداً مكروراً، وهذا من أشق الأمور على نفسي، وأثقلها على قلبي، وأصعبها على قلمي، وتلك خطة التزمتها، فمذ حملت القلم، كُرِّه إلى الكتابة في موضوعات معادة مكرورة، ولعل هذا من آثار صحبة إمام الحرمين، فقد كان يقول: " حق على من تتقاضاه قريحته تأليفاً، وجمعاً وترصيفاً، أن يجعل مضمون كتابه أمراً لا يلفى في كتاب، ولا يصادف في تصنيف " أ. هـ ومن بعده قال ابن العربي تلميذُ تلميذه: " لا ينبغي لحصيف يتصدى لتصنيف أن يعدل عن غرضين:
إما أن يخترع معنى، وإما أن يبتدع وضعاً ومبنى، وما سوى هذين الوجهين، فهو تسويد الورق، والتحلّي بحلية السرق " أ. هـ.
الثاني: سأحاول أن أضيف جديداً من ملامح شخصية إمام الحرمين، مما رأيته في كتابه أكبر (نهاية المطلب في دراية المذهب) .
***(المقدمة/185)
إمام الحرمين في الزمان والمكان
ولد إمام الحرمين رضي الله عنه في ثامن عشر المحرم سنة 419 تسع عشرة وأربعمائة من هجرة المصطفى صلى الله عليه وصلم، وتوفي ليلة الأربعاء بعد صلاة العشاء الخامس والعشرين من شهر رييع الآخر سنة ثمان وسبعين وأربعمائة (25 ربيع الآخر سنة 478) فكانت حياته رضي الله عته تسعاً وخمسين سنة وثلاثة أشهر وسبعة أيام.
كانت ولادته في نيسابور من أشهر مدن إقليم خراسان، ذلك الإقليم الذي كان من مدنه: هراة، ومرو، وبلخ، وطالقان، ونسا، وأبيورد، وسرخس، وغيرها.
هذا ما شغله من الزمان والمكان، مضافاً إليه أنه أُخرج أو خرج -في قصة طويلة- مع نحو أربعمائة من أئمة الإسلام، في المحنة المعروفة بمحنة أهل السنة، فخرج إلى الحرمين الشريفين، وكان الأئمة يقدمونه ليصلِّي بهم، ومن أجل ذلك جاءه هذا اللقب، الذي عرف به: إمام الحرمين هذا كل ما شغله من المكان والزمان، أما المكانة والمنزلة، فقد ملأ سمع الدنيا بمشرقها ومغربها منذ نبغ، وملأ أيامها منذ كان إلى اليوم، بل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
***
العوامل التي ساعدت في بناء شخصيته العلمية
أ- بيته ونشأته:
ولد إمام الحرمين في حِجْر الإمامة، فوالده هو الإمام أبو محمد، عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني. كان إمام عصره في نيسابور، تفقه على أبي الطيب سهل بن محمد الصعلوكي، وأبي بكر عبد الله بن أحمد القفال المروزي، وقرأ الأدب على والده يوسف الأديب (بجوين) ، وسمع أستاذَيه أبا عبد الرحمن السلمي، وأبا محمد بن بابَوَيْه الأصبهاني، وببغداد أبا الحسن محمد بن الحسين بن الفضل بن نظيف الفراء، وغيرهم.(المقدمة/186)
برع في الفقه، وصنف فيه التصانيف المفيدة، وشرح المزني شرحاً شافياً، وشرح الرسالة للشافعي.
وكان ورعاً دائم العبادة شديد الاحتياط، مبالغاً فيه. توفي سنة 438 هـ.
هذا والده الإمام الفقيه المحدث الورع العابد، شارح الرسالة والمزني.
وأما عمه، فهو أبو الحسن علي بن يوسف الجويني المعروف بشيخ الحجاز، كان -فيما حكاه ياقوت في معجمه- صوفياً لطيفاً ظريفاً فاضلاً، مشتغلاً بالعلم، والحديث، صنف كتاباً فى علوم الصوفية مرتباً مبوباً سماه كتاب السلوة، سمع شيوخ أخيه، وسمع أيضاً أبا نعيم بن عبد الملك بن الحسن الإسفراييني بنيسابور، وبمصر أبا محمد عيد الرحمن بن عمر النحاس، وروى عنه زاهر ووجيه ابنا طاهر الشحاميان، ومات بنيسابور سنة 463 هـ (1) .
أما جده، فكان علمه الذي نبغ فيه وعرف به علم الأدب، قال ياقوت وهو يترجم لوالد الإمام: إنه قرأ عليه الأدب في جوين.
فجده أديب مرموق، وعمه محّدث صوفي، ووالده فقيه أصولي، وقد أحسن ابن عساكر التعبير عن ذلك في التبيين، فقال: " رباه حجر الإمامة، وحرك ساعدُ السعادة مهده، وأرضعه ثديُ العلم والورع، إلى أن ترعرع فيه ونبغ " (2) .
ب- الحياة العلمية في عصره:
كان القرن الخامس الهجري يمثل أخصب فترات الحصاد لنهضة أمتنا العلمية الرائعة، فقد نبغ فيه أعلامٌ وأئمة في كل فن، نذكر منهم على سبيل المثال:
* أبو عبد الرحمن محمد بن الحسن بن بن موسى الأزدي النيسابوري صاحب التصانيف التي بلغت نحو مائة مصنف ت 412 هـ.
* القاضي عبد الجبار بن أحمد شيخ المعتزلة، قاضي القضاة، الأصولي، المتكلّم، صاحب المغني، ت 415 هـ.
__________
(1) معجم البلدان 2/193 - بتصرف.
(2) التبيين: ج 2، ورقة 73-74.(المقدمة/187)
* القفال الصغير - المروزي عبد الله بن أحمد أبو بكر، وحيد زمانه، علَم الشافعية، أستاذ أبي محمد الجويني ت 417 هـ.
* الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، الإمام في الفقه والأصول ت 418 هـ.
* ابن مِسكويه من أعلام علم الفلسفة والأخلاق ت 421 هـ.
* ابن سينا الشيخ الرئيس، صاحب الشفاء ت 428 هـ.
* عبد القاهر البغدادي بن طاهر بن محمد بن عبد الله، عالم متفنن، صاحب الفرق بين الفرق، كان يدرّس في سبعة عشر فناً ت 429 هـ.
* أبو محمد عبد الله بن يوسف الجويني، والد إمام الحرمين، شارح الرسالة، والمزني شيخ الشافعية ت 438 هـ.
* البِيروني: محمد بن أحمد أبو الريحان، الرياضي الفيلسوف، صاحب التصانيف التي تفوق العَدَّ في الهيئة والنجوم، والمنطق والفلسفة ت 440 هـ.
* أبو عبد الله الخبازي عالم القراءات، والتفسير ت 449 هـ.
* أبو عثمان الصابوني، إسماعيل بن عبد الرحمن، شيخ الإسلام، الواعظ، المفسر، المصنف، عمدة التفسير والحديث ت 449 هـ.
* الماوردي، أبو الحسن، أقضى القضاة، إمام الشافعية، صاحب الحاوي، والأحكام السلطانية ت 450 هـ.
* ابن حزم، علي بن أحمد، الفقيه الصولي الأديب، إمام أهل الظاهر، عبقرية الأندلس، صاحب المحلّى، والإحكام، والفِصَل في الملل والنحل ت 456 هـ.
* أبو يعلى، القاضي، محمد بن الحسين الفراء، الفقيه الحنبلي ت 458 هـ.
* ابن سيده، علي بن إسماعيل، صاحب المخصص، من أثمن كنوز العربية، وصاحب المحكم والمحيط الأعظم، وشارح الحماسة ت 458 هـ.
* البيهقي أبو بكر، أحمد بن الحسين بن علي، إمام الحديث والفقه، جامع نصوص الشافعي، وناشر علمه ت 458 هـ.(المقدمة/188)
* الفُوراني، أبو القاسم، عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن فوران، تلميذ القفال، صاحب الإبانة ت 461 هـ.
* ابن عبد البر أبو عمر، يوسف بن عبد البر، النمري، القرطبي، المحدث الفقيه، صاحب الاستذكار ت 463 هـ.
* الخطيب البغدادي، الحافظ، أبو بكر، أحمد بن علي، صاحب تاريخ بغداد، والكفاية، والجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، بلغت مؤلفاته نحو ثمانين مؤلفاً، ت 463 هـ.
* القُشَيري، عبد الكريم بن هوازن، صاحب الرسالة ت 465 هـ.
* الحرة، كريمة بنت أحمد، راوية الصحيح ت 465 هـ.
* الباخرزي، علي بن الحسن بن علي بن أبي الطيب، أبو الحسن، أديب من الشعراء والكتاب، له علم بالفقه والحديث، صاحب دمية القصر وعصرة أهل العصر ت 467 هـ
* الجرجاني، عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني، أبو بكر، واضع أصول البلاغة، أحد أئمة اللغة والبيان، صاحب أسرار البلاغة، ودلائل الإعجاز ت 471 هـ.
* الباجي، سليمان بن خلف بن سعد، التُّجِيبي القرطبي، أبو الوليد، فقيه المالكية وأحد أعلامهم، أصولي محدث، صاحب إحكام الفصول في أحكام الأصول، وشرح المدونة ت 474 هـ.
* والأعلم الشَّنْتَمري، يوسف بن سليمان بن عيسى أبو الحجاج، عالم بالأدب والشعر، صاحب شرح ديوان زهير، وشرح الحماسة، والنكت على كتاب سيبويه، ت 476 هـ.
* المجاشعي، علي بن فَضّال بن علي بن غالب، أبو الحسن، صاحب شجرة الذهب في معرفة أئمة الأدب، ت 479 هـ.(المقدمة/189)
* فاطمة بنت الحسن، الكاتبة، وهي التي كتبت كتاب الخليفة إلى طاغية الروم، ت 480 هـ.
* السرخسي، محمد بن أحمد بن سهل، شمس الأئمة، إمام الأحناف، صاحب المبسوط، ت 483 هـ.
* الزَّوْزَني، حسين بن أحمد، القاضي العالم بالأدب، شارح المعلقات، ت 486 هـ.
* ابن بُندار، عبد السلام بن محمد القزويني، شيخ المعتزلة في عصره، له تفسير في 300 جزء، ت 488 هـ.
* الراغب الأصفهاني، الحسين بن محمد أبو القاسم، أديب لغوي، مفسر، من الحكماء العلماء، كان يقرن بالغزالي، صاحب الذريعة إلى مكارم الشريعة، وجامع التفاسير، والمفردات، ت 502 هـ.
* الروياني، عبد الواحد بن إسماعيل، فخر الإسلام، إمام الشافعية، صاحب بحر المذهب، ت 502 هـ.
* أبو حامد الغزالي، محمد بن محمد، حجة الإسلام، تلميذ إمام الحرمين، الفقيه الأصولي، المتكلم، النظار، المتصوف، قامع الباطنية، وملاحدة الفلاسفة، ت 505 هـ.
هؤلاء الأعلام نماذج لآلاف من الأئمة كانت تموج بهم الحياة حول إمام الحرمين، في كل مدن الإسلام وحواضره، كانت مدارس، ومعاهد، ومكتبات، ومجالس علم، ومناظرات، ومحاورات، وجدل وصراع، وهجوم ودفاع، كانت الحياة العلمية والفكرية تمور وتفور، تصطرع فيها تيارات، ومذاهب واتجاهات، كان هناك الفكر الوافد من الترجمات عن اليونانية (علوم الأوائل) وكان هناك بقايا من عقائد وملل بائدة، فظهرت الباطنية، والغنوصية، والقرمطية، والزندقة، إلى جانب الجدل الإسلامي المسيحي، إلى ما كان من تأثر بفلسفة اليونان، في الإلهيات، كل هذا جعل الحياة الفكرية العلمية تعيش أزهى فترات نشاطها، وتوثبها، وقوتها، وحيويتها، وفي هذا الخضم المتلاطم كان إمام الحرمين.(المقدمة/190)
ج- صفاته:
وكان الأمر الثالث الذي ساعد على بلوغ الإمام هذه المكانة، وجعله يتبوأ هذه المنزلة هو ما يعبر عنه في أيامنا هذه بالاستعداد الفطري، والموهبة، فقد حباه الله سبحانه بصفات نادرة منها:
* أنه كان يتمتع بذاكرة نادرة، وحافظة لاقطة، روَوْا عنه أنه " كان يذكر دروساً يقع كل واحد منها في عدة أوراق، ولا يتلعثم في كلمة منها، ولا يحتاج إلى إبدال كلمة منها مكان غيرها، بل يمر فيها مراً كالبرق الخاطف، بصوت مطابقٍ كالرعد القاصف " (1) .
* كما وهبه الله ذكاء نادراً، فقد ظهرت عليه مخايل النجابة والنبوغ من صغره، حتى " كان أبوه يُزهَى بطبعه وتحصيله، وجودة قريحته، وكياسة غريزته، لما يرى فيه من المخايل " (2) .
وقد هيأ له ذلك الذكاء، وهذا النبوغ، تلك المنزلة التي جعلت الأئمة يُقعدونه للتدريس مكان أبيه، وهو دون العشرين سنة (3) ، على حين كانت نيسابور تموج بالأئمة الأعلام.
* كما تميز بصبر ودأب نادرين في طلب العلم والبحث، فمع أنه أقعد للتدريس مكان أبيه مبكراً، إلا أن ذلك لم يشغله عن البحث والدرس، " فكان يقيم الرسمَ في درسه ويخرج منه إلى مدرسة البيهقي يتتلمذ على أبي القاسم الإسكافي " (4) .
" وكان يبكر قبل الاشتغال بدرس نفسه إلى مسجد الأستاذ أبي عبد الله الخبازي يقرأ عليه القراءات ويقتبس من كل نوع من العلوم " (5) .
__________
(1) وفيات الأعيان 2/341.
(2) تبيين كذب المفتري 2/ورقة 74.
(3) المنتظم 7 ورقة 1.
(4) تبيين كذب المفتري: 2/ورقة 75.
(5) السابق نفسه.(المقدمة/191)
روى ابن عساكر بسنده أن إمام الحرمين كان يقول: "أنا لا أنام، ولا آكل عادة، وإنما أنام إذا غلبني النوم ليلاً كان أو نهاراً، وآكل إذا اشتهيت الطعام، أيَّ وقت كان" (1) .
* كان يؤمن أن العلم لا نهاية له، ولا حدود، وما كان يترك فرصة يستزيد فيها علماً، إلا واغتنمها، وسعى إليها: في سنة 469 هـ، وهو في ذلك الحين إمام الأئمة، فخر الإسلام، وكان قد جاوز الخمسين من عمره، في ذلك الحين قدم إلى نيسابور الشيخ أبو الحسن علي بن فَضَّال بن علي المجاشعي، النحوي، الأديب، فقابله إمام الحرمين بالإكرام، وأخذ في قراءة النحو عليه والتلمذة له، وكان يحمله كل يوم إلى داره، ويقرأ عليه كتاب (إكسير الذهب في صناعة الأدب) وكان المجاشعي يقول: " ما رأيت عاشقاً للعلم -أي نوعِ كان- مثل هذا الإمام " (2) .
* التواضع " فما كان يستصغر شأن أحد أياً كان، حتى يسمع كلامه، شادياً كان أو متناهياً، فإن أصاب كياسةً في طبع، أو جرياً على منهاج الحقيقة، استفاد منه صغيراً أو كبيراً، ولا يستنكف أن يعزو الفائدة المستفادة إلى قائلها، ويقول: هذه الفائدة مما استفدته من فلان " (3) .
ولعل أوضح ما يوضح ذلك -مما لا نعرف له مثيلاً- أنه كان لا يستنكف أن يتعلم من تلاميذه بعض الفنون التي نبغوا فيها، ولا يجد في ذلك حرجاً، ولا غضاضة، جاء في ترجمة الإمام عبد الرحيم بن الإمام عبد الكريم أبي القاسم القشيري: " تخرج على إمام الحرمين، وواظب على درسه، وصحبه ليلاً ونهاراً، وكان الإمام يعتد به، ويستفرغ أكثر أيامه معه، مستفيداً منه بعض مسائل الحساب في الفرائض، والدَّوْر، والوصية " (4) .
وليس هذا فقط، بل كان ينقل عنه ما يتعلّمه منه، ويدوّنه في كتبه، قال
__________
(1) التبيين: نفسه.
(2) طبقات السبكي: 5/180.
(3) التبين: 2/ورقة 79.
(4) طبقات السبكي 7/165.(المقدمة/192)
السبكي: " وأعظم ما عظم به الإمام عبد الرحيم أن إمام الحرمين نقل عنه في كتاب الوصية (1) ، وهذه مرتبةٌ رفيعة " (2) رضي الله عن إمام الحرمين، ورضي الله عن إمامنا الشافعي، الذي كان يقول لتلميذه أحمد بن حنبل: " يا أحمد إذا صح عندك الحديث، فأعلمني به ".
* ومع هذا التواضع، كان حرّ الرأي والضمير، لا يقلد أحداً، ولا يلتزم إلا بالدليل، ولا يخضع إلا للبرهان، " فمنذ شبابه رفض أن يقلد والده وأصحابه، وأخذ في التحقيق " (3) وفي هذا المجال " لم يكن يحابي أحداً، ولو كان أباه، أو أحد الأئمة المشهورين، قال في اعتراض على والده: هذه زلة من الشيخ رحمه الله " (4) .
* كان من الكرم والسخاء مضرب الأمثال، ولم يشتغل بمالٍ يثمره، أو يدّخره، بل " كان ينفق من ميراثه، ومن معلوم له على المتفقهة " (5) .
* كذلك رزقه الله رقة القلب والخشوع، حتى إنه " كان يبكي إذا سمع بيتاً، أو تفكر في نفسه ساعة، وإذا وعظ ألبس الأنفس من الخشية ثوباً جديداً، ونادته القلوب: إننا بشر فأسجح، فلسنا بالجبال ولا الحديدا " (6) .
في هذه البيئة العلمية درج، وفي هذا البيت الطاهر نما، وبهذه المواهب الربانية سما ونبغ.
د- أساتذته وشيوخه:
تتلمذ أول ما تتلمذ، وسمع أول ما سمع من أبيه، الإمام أبي محمد صاحب التفسير الكبير، والتبصرة، والتذكرة، وشرح الرسالة.. وغيرها، فقد "أتى على
__________
(1) انظر نهاية المطلب 11/201، لترى تفصيل ما نقله إمام الحرمين عن تلميذه.
(2) طبقات السبكي، الموضع السابق نفسه.
(3) تبيين كذب المفتري: 7 ورقة 74.
(4) شذرات المذاهب: 32/360.
(5) طبقات السبكي: 5/175.
(6) السابق نفسه: 5/167.(المقدمة/193)
هذه المصنفات، وقلبها ظهراً لبطن، وتصرف فيها، وخرج المسائل بعضها على بعض" (1) .
وانكب على علوم عصره وفنونه يأخذها عن أعلامها، فخرج إلى مدرسة البيهقي يأخذ الأصول عن أبي القاسم الإسكافي الإسفراييني. كما درس في أول أمره على الشيخ أبي القاسم الفوراني (2) .
* أما الحديث، فقد سمع من أبي بكر أحمد بن محمد بن الحارث الأصبهاني التميمي، كما سمع من أبي سعد عبد الرحمن بن حمدان النيسابوري النَّضْروي، وأبي حسان محمد بن أحمد المزكي، ومنصور بن رامش.
كما سمع من أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن يحيى المزكي، وسمع سنن الدارقطني من أبي سعد، عبد الرحمن بن الحسن بن عَلِيَّك، وسمع من أبي عبد الرحمن محمد بن عبد العزيز النيلي، وأجاز له أبو نُعيم صاحب الحلية، وحدّث.
* وأما القراءات، فقد كان يبكر كل يوم إلى مسجد أبي عبد الله الخبازي يقرأ عليه القراءات، ويقتبس من كل نوع من العلوم.
* وأما النحو فقد درس -مع ما درس في مطلع حياته- كتاب إكسير الذهب في صناعة الأدب، على مؤلفه الشيخ أبي الحسن علي بن فَضَّال المجاشعي، كما أشرنا إلى ذلك من قبل.
درس إمام الحرمين على هؤلاء الأعلام وغيرهم، ولم يكن هذا هو طريقه الوحيد طبعاً، فقد جاء في (تبيين كذب المفتري) عنه أنه قال عن دراسته لعلم أصول الفقه، على أستاذه أبي القاسم الإسكافي الإسفراييني: "كنت قد علّقت عليه في الأصول
__________
(1) وفيات الأعيان: 2/341.
(2) ولقد حدثت بينه وبين الفوراني نفرة، حيث رأى أن الفوراني لم يحلّه المحلّ اللائق به، فانصرف عنه، وظل لهذه النفرة أثر في نفس إمام الحرمين، جعلته يكثر من الحط عليه، وإذا تعرض للنقل عنه أو مناقشة آرائه، لم يصرح باسمه، وإنما قال عنه: " بعض المصنفين " وسترى ذلك مراتٍ لا تعدّ ولا تحصى في كتابنا هذا.(المقدمة/194)
أجزاء معدودة، وطالعت في نفسي مائة مجلّدة".
هكذا درس مع أستاذه أجزاء معدودة، " وطالع في نفسه مائة مجلدة " وتلك لعمري هي الدراسة، فمهما اتسع وقت الشيخ لتلميذه، فلن يحيط معه بأكثر من " أجزاء معدودة ". أما المطالعة والتحصيل، فلا حدود لها، وهذا ما يعبر عنه عند علماء التربية المعاصرين، بأن الشيخ لا يعلّم التلميذ العلم، وإنما يعلّمه كيف يتعلم، أي كيف يحصّل العلم.
ونستطيع من معايشتنا لإمام الحرمين ومصاحبتنا له هذا العمر، واستماعنا إليه طول هذه السنوات أثناء تحقيقنا لآثاره أن نقول: إنه استوعب علوم عصره، وأحاط بآثار أعلام الأئمة في كل فن، واستوعب علومهم، فمن هؤلاء:
الإمام أبو الحسن الأشعري، والقاضي أبو بكر الباقلاني، من متكلمي أهل السنة والقاضي عبد الجبار بن أحمد، والنظّام، وأبو علي الجبائي، وابنه أبو الهاشم، والكعبي من متكلمي المعتزلة.
* كما ظهر من كتابه الفذ (نهاية المطلب في دراية المذهب) أنه استوعب علم القاضي أبي حامد أحمد بن بشر المرورُّزي ثم البصري (ت 362 هـ) وعلمَ الشيخ أبي حامد الإسفراييني أحمد بن محمد بن أحمد، ويعرف أيضاً بابن أبي طاهر (ت 406 هـ) وكذلك أحاط بفقه ابن الحداد، أبو بكر محمد بن أحمد القاضي المصري، تلميذ أبي إسحاق المروزي (ت 345 هـ) ، فهو كثير النقل عن كتابه الفروع، ومناقشة مسائله.
أما ابن سُرَيْج، فهو أحمد بن عمر أبو العباس المتوفى 306 هـ، أحد أعمدة المذهب، فقد تردد ذكره في (النهاية) والنقل عنه مما يوحي بتلمذة الإمام له، والإحاطة بفقهه، وربما كان أكثر من عني الإمام بالنقل عنهم هما الشيخ أبو علي، وصاحب التقريب، فأما الشيخ أبو علي، فهو أبو علي السنجي، الحسين بن شعيب بن محمد، من سِنْجه، أكبر قرى مرو، أول من جمع بين طريقتي الخراسانيين والعراقيين، له شرح الفروع، وشرح التلخيص (ت 430 هـ) .(المقدمة/195)
وأما صاحب التقريب، فهو القاسم بن محمد بن علي بن إسماعيل، ابن القفال الكبير محمد بن علي بن إسماعيل الشاشي، وكنية الكبير أبو بكر، أما صاحب التقريب، فكنيته أبو الحسن ويخطىء من يقول: أبو القاسم، بل القاسم اسمه، وقد توفي الكبير 365 هـ، وأما صاحب التقريب، فقد توفي نحو 400 هـ.
كما أخذ الإمام عن القفال الأشهر، والأكثر ذكراً في كتب الخراسانيين، وهو القفال الصغير، عبد الله بن أحمد بن عبد الله المروزي، وكنيته أبو بكر مثل الكبير، ويفرق بينهما بأن هذا مروزي، والكبير شاشي، وهذا أكثر ذكراً في كتب الفقه، والكبير أكثر ذكراً في كتب التفسير والحديث والأصول والكلام والجدل، وقد توفي القفال الصغير سنة 417 هـ.
وكذلك عن القاضيين، القاضي حسين، وهو الحسين بن محمد بن أحمد أبو علي المرورّوزي، وهو الذي إذا أطلق المراوزة (القاضي) فإياه يعنون (توفي 462 هـ) .
والقاضي الثاني هو القاضي أبو الطيب الطبري، وهو طاهر بن عبد الله بن طاهر بن عمر، وحيث أطلق العراقيون لفظ (القاضي) فإياه يعنون (ت 450 هـ) .
وكذلك ينقل عن صاحب التلخيص، أبو العباس أحمد بن أبي أحمد الطبري المعروف بابن القاصّ (ت 335 هـ) .
كما اعتمد في كتاب الفرائض والوصايا على فقه أبي منصور البغدادي، عبد القاهر بن طاهر بن محمد التميمي الأستاذ أبي منصور البغدادي، كان يدرّس في سبعة عشر فناً، وبرع في الجبر والحساب (ت 429 هـ) .
هؤلاء الأعلام أهم شيوخه وأساتذته، أخذ عمن أخذ منهم مشافهة ومجالسة، وعن باقيهم بالرواية والمطالعة.
***(المقدمة/196)
منزلته العلمية
(علومه وفنونه-كتبه ومؤلفاته-منهجه-تلاميذه-أثره)
أولاً: علومه وفنونه التي نبغ فيها:
مثل كل علماء عصره وأئمته درس كل فنون العصر وعلومه، ما كان يعرف منها بعلوم الوسائل، وما كان يعرف بعلوم الغايات، وهكذا كان علماؤنا، وأئمتنا، ما كانوا يعرفون هذا الذي نسميه (الآن) التخصص الضيق، ولذا نجد كتب التراجم والطبقات تترجم لأحدهم، فتقول -بعد أن تذكر دراسته، وشيوخه- "وعلمه الذي نبغ فيه كذا ... ".
نبغ إمامنا في علومٍ وفنون كثيرة، منها:
1- علم الفقه.
2- أصول الفقه.
3- علم الخلاف وعلم الجدل.
4- السياسة الشرعية.
5- علم الكلام.
***
1- علم الفقه:
لقد خالفتُ الترتيب المعهود المعروف عن الإمام، حيث اشتهر بالمقام الأول أنه (متكلم) ولكن طول معايشتي للإمام، وإصغائي إليه، وقراءتي عليه، وسماعي منه ومناجاتي إياه جعل صورته تتضح لي تمام الوضوح، فرأيته فقيهاً أصولياً، قبل أن يكون متكلماً، كما شاع وعرف عنه.
رأيته فقيهاً من أعلام الفقه الإسلامي بعامة، والشافعي منه بخاصة، رأيته صاحب المدرسة النظامية، حاملة راية الفقه بنيسابور، ورأيته وقد انتهت إليه رياسة الشافعية(المقدمة/197)
بخراسان، ورأيت معاصريه من الأئمة والمؤرخين، يكبرونه، ويعرفون له منزلته في الفقه، فيقولون عنه: " لولاه، لأصبح مذهب الحديث حديثاً " يعنون بمذهب الحديث، مذهب الإمام الشافعي.
ورأيته رضي الله عنه يكره (علم الكلام) ، وكأني به قد اشتغل به من باب " إن لم تكن إلا الأسنة مركبا ".
ذلك أني رأيته منذ بواكير حياته، وهو في غمرة الاشتغال بالكلام يسخر من المتكلمين، وينهى عن الاستغراق في علم الكلام، فمن ذلك قوله في مقدمة كتابه " الغياثي ": ومن ضَرِي بالكلام صدي جنانه ويقول في البرهان: " وهذا الذي اختلج في عقول المتكلمين وطيْش أحلامهم " (فقرة: 227) .
قال هذا وغيره في أكثر من كتاب من كتبه المتقدمة، أي قبل ما يقال عن رجوعه عن علم الكلام.
من هنا ومحاولةً لتصحيح هذا الفهم الشائع، قدمت (علم الفقه) ، على أنه العلم الأول لإمام الحرمين رضي الله عنه.
2- علم أصول الفقه:
علم أصول الفقه هو علم إمام الحرمين الأول كعلم الفقه تماماً، فكلاهما (أول علومه) ، إذ هما لا ينفصلان وبخاصة عند كبار الأئمة أصحاب المدارس والتجديد.
ويعتبر إمام الحرمين أحد أركان علم الأصول الأربعة، هكذا قال ابن خلدون في مقدمته، حيث عد كتاب (البرهان) لإمام الحرمين أحد الكتب الأربعة التي قام عليها علم أصول الققه، وإليها ترجع معظم المؤلفات في هذا العلم، حيث قال -وهو يتحدث عن علم الأصول- "ومن أحسن ما كتب فيه المتكلمون:
1- كتاب (البرهان) لإمام الحرمين.
2- وكتاب (المستصفى) للغزالي.
(وهما من الأشعرية) .
3- وكتاب (العمد) للقاضي عبد الجبار بن أحمد.(المقدمة/198)
4- وكتاب (المعتمد) لأبي الحسين البصري.
(وهما من المعتزلة) .
وكانت الأربعة قواعدَ هذا الفن، وأركانه" ا. هـ.
ولم يصلنا من كتب أهل السنة في الأصول مما ألف على طريقة المتكلمين قبل (البرهان) (1) إلا أصل الأصول: (الرسالة) للإمام الشافعي.
ولقد كان هذا الكتاب فتحاً جديداً في علم أصول الفقه، يؤكد ذلك السبكي في طبقاته قائلاً: " إن هذا الكتاب وضعه إمام الحرمين في أصول الفقه على أسلوب غريب، لم يقتد فيه بأحد، " وأنا أسميه (لغز الأمة) لما فيه من مصاعب الأمور وأنه لا يخلي مسألة عن إشكال، ولا يخرج إلا عن اختيار يخترعه لنفسه، وتحقيقاتٍ يستبدّ بها " (2) .
ثم تحدث عن شراح البرهان ولاحظ أنهم كلهم من المالكية، وأنهم عندهم بعض تحامل على إمام الحرمين، وفسر ذلك " بانهم يستصعبون مخالفة الإمام أبي الحسن الأشعري، ويرونها هُجنة عظيمة، والإمام لا يتقيد لا بالأشعري، ولا بالشافعي، لا سيما في (البرهان) وإنما يتكلم على حسب تأدية نظره واجتهاده، وربما خالف الأشعري، وأتى بعبارة عالية، على عادة فصاحته، فلا تحتمل المغاربة أن يقال مثلها في حق الأشعري ". وقد حكينا كثيراً من ذلك في (شرحنا على مختصر ابن الحاجب) (3) .
ومع دفاع السبكي وردّه لتحامل شراح البرهان، ومنهم المازري، تراه يثني على المازري قائلاً عنه: "إن هذا الرجل كان من أذكى المغاربة قريحةً، وأحدهم ذهناً؛ بحيث اجترأ على شرح (البرهان) لإمام الحرمين، وهو لغز الأمة، الذي لا يحوم نحو
__________
(1) لا يعكر على هذا القول كتاب (العدة) لأبي يعلى الفراء الحنبلي، لأن سبقه لإمام الحرمين ليس بذي بالٍ من حيث الزمن أولاً، وثانياً لأن كتاب أبي يعلى لم يقع من الأئمة والعلماء موقع البرهان، ولم يكن له من الأثر ما كان للبرهان.
(2) الطبقات: 5/192.
(3) نفسه.(المقدمة/199)
حماه، ولا يدندن حول مغزاه إلا غواصٌ على المعاني ثاقب الذهن مبرز في العلم" (1) .
كما أكد ذلك السبكي في عبارة أخرى، فقال: " لم يُرَ أجلّ، ولا أفْحل في علم الأصول من البرهان " (2) .
ثم إن البرهان قد حفظ لنا الآراء الأصولية لجماعة من الأئمة الأعلام ضاعت كتبهم، فيما ضاع من تراث أمتنا ومجدها، فمن ذلك مثلاً: أنه يعرض لآراء القاضي أبي بكر الباقلاني في كل مسألة تقريباً، ولا شك أن هذه الآراء كانت مدونة في كتبه (الأصول الكببر) ، و (الأصول الصغير) ، و (المقنع) ، وغيرها، ولم يصلنا للآن أي من هذه الكتب.
كما ورد ذكرٌ في البرهان لآراء (ابن فورك) في (مجموعاته) وللأشعري في كتاب (أجوبة المسائل البصرية) وللقاضي عبد الجبار في (العمد) وفي (شرح العمد) ، ولابن الجبائي في كتاب (الأبواب) ، وهي كتب لم تصلنا للآن، بل ربما لم نعرف نسبة بعضها إلى أصحابها.
وغير هؤلاء كثيرون ذكرهم الإمام، مثل: الدقاق، والصيرفي، وداود، وابنه، والحليمي، والحارث بن أسد المحاسبي، والصيدلاني، و ... هذا ولم يكن (البرهان) هو كتابه الأصولي الوحيد، فله أيضاً:
- التلخيص: وهو تلخيص لكتاب الباقلاني (الإرشاد والتقريب) .
- الورقات: وهو خلاصة موجزة لعلم أصول الفقه، وقد طوّف هذا الكتاب ما طوّف، فشرق وغرب، وحظي بكثير من الشروح، والحواشي، والتعليقات، والنظم، فكان محور التدريس والتحصيل لعلم أصول الفقه زماناً طويلاً.
- التحفة في أصول الفقه، وهي من كتب الإمام المفقودة.
__________
(1) الطبقات: 6/243.
(2) الطبقات: 5/343.(المقدمة/200)
3- علم الخلاف والجدل:
يعتبر علم الخلاف والجدل قمة الإحاطة بالفقه والأصول، ودليل الإمامة والتمكن من العلم.
فهو في تعريف حاجي خليفة: " علم يعرف به كيفية إيراد الحج الشرعية، ودفع الشبه، وقوادح الأدلّة الخلافية، بإيراد البراهين القطعية، وهو الجدل الذي هو قسم من المنطق، إلا أنه خُصّ بالمقاصد الدينية " (1) .
ويقول ابن خلدون: " ولا بدّ لصاحبه من معرفة القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام كما يحتاج إليها المجتهد، إلا أن المجتهد يحتاج إليها للاستنباط، وصاحب الخلافيات يحتاج إليها لحفظ تلك المسائل المستنبطة من أن يهدمها المخالف بأدلته " (2) .
وربما كان أوضح دلالة على منزلة علم الخلاف، ما قاله الإمام الشاطبي، واستدلّ عليه بطائفة صالحة من أقوال السلف، قال: " جعل الناسُ العلمَ معرفةَ الاختلاف، قال قتادة: من لم يعرف الاختلاف، لم يشَمّ أنفُه الفقه، وعن هشام بن عبيد الله الرازي: من لم يعرف اختلاف القراء، فليس بقارىء، ومن لم يعرف اختلاف الفقهاء، فليس بفقيه، وعن عطاء: لا ينبغي لأحد أن يفتي الناس حتى يكون عالماً باختلاف الناس، فإنه إن لم يكن كذلك، ردّ من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه ... إلى آخر الفصل " (3) .
وقد برع إمامنا في هذا العلم، وضرب فيه بسهم وافر، فقد عُني بجانبيه: وسائله، ومسائله. فألف في وسائل علم الخلاف كتابه القيم.
(الكافية في الجدل)
ويقع في مجلد ضخم، ويعتبر من أهم الكتب في هذا الباب (4) .
__________
(1) كشف الظنون: 1/721.
(2) المقدمة: 457.
(3) الموافقات: 4/161-162.
(4) عُنيت بنشره وتحقيقه الدكتورة الفاضلة فوقية حسين محمود، رحمها الله رحمة واسعة.(المقدمة/201)
وألف كذلك في مسائل علم الخلاف، فله في هذا الجانب المؤلفات الآتية:
1- الأساليب في الخلافيات: ذكره الإمام وأحال عليه في عشرات المواضع من كتبه، وذكر حاجي خليفة أنه يقع في مجلدين (1) .
2- العُمَد: وهو من كتبه بالقطع، فقد ذكره في البرهان بصورة قاطعة، لا تدع مجالاً للشك في اسم الكتاب وموضوعه، حيث قال: " وقد أجرينا في (الأساليب) و (العمد) مسائل، ومعتمد المذهب فيها الأخبار ". (فقرة: 48) .
كما ذكره أيضاً في خاتمة الدّرة المضية، عندما قال: " إنها جاءت إيفاءً بمسائل لم تكن جرت في (العمد) و (الأساليب) "، والدّرة المضية في الخلاف قطعاً، فهي بين أيدينا، فحيثما كانت تكملة وتوفية (للعمد) و (الأساليب) ، فالعمد إذاً في الخلاف.
3- الغنية: واسمه الكامل (غنية المسترشدين) ، ذكره كثير ممن ترجموا للإمام كالسبكي والذهبي، ولكن الذي يدل دلالة قاطعة لا تقبل الشك، هو ما ذكره تقي الدين السبكي في أول تكملته للمجموع: 10/7، حيث عده من كتب الأصحاب في الخلاف التي بين يديه، ويرجع إليها، ويستمد منها تكملته للمجموع.
ولكن الأكثر وضوحاً، هو ما قاله في (نهاية المطلب) تعقيباً على إحدى المسائل: " وتوجيه القولين قد استقصيناه في (الأساليب) و (الغنية) " ا. هـ.
قلت: وهذه الكتب الثلاثة: على أهميتها - لما نعثر عليها للآن.
4- الدّرة المضية فيما وقع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية (2) :
وهو الكتاب الوحيد الذي وصلنا من أصل أربعة كتب ألفها الإمام في الخلاف، ومع أنها نسخة وحيدة إلا أنها عالية الجودة، على نقصٍ في بعض الكلمات، وتآكل في بعض الحروف، وانمحاء في بعضٍ آخر، ولكن كل ذلك -على خطورته- يمكن تداركه، بمزيد من المعاناة والصبر والدأب، وتكرار القراءة، والاستعانة بما كتب
__________
(1) كشف الظنون: 1/75.
(2) وقد أعاننا الله على إخراج قسم منها، ونسأله أن يتم علينا نعمته فنخرج الباقي.(المقدمة/202)
الإمام عن المسألة في النهاية، وبما جاء في كتب الخلاف المتاحة، ومن قبل ذلك ومن بعده توفيق الله سبحانه، الذي لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
4- علم السياسة الشرعية:
كان إمام الحرمين مثل كل أئمتنا، يعيش واقعه، ولا ينفصل عنه، يظهر ذلك في علاجه لمسائل الفقه المختلفة، إن في العبادات، أو في المعاملات، وسواء في الأنكحة أو الجنايات، وليس كما قال بعض الباحثين (1) : " إن المؤسسة العلمية انفصلت مبكراً عن المؤسسة السياسية، فمنذ فجر تاريخنا - بعد العصر الراشدي، بل من يوم مقتل عثمان رضي الله عنه أخذت المؤسسة العلمية في الانفصال عن المؤسسة السياسية، أو تمت العزلة بين الزعامة السياسية، والزعامة الفكرية، وعزلت الزعامة الإسلامية الملتزمة " هكذا قال بنص حروفه.
وأقول: إن هذا الكلام باطل ببديهة العقل، وباطل بحقائق التاريخ، باطل ببديهة العقل، فليس يصح في العقل السليم أن أمة هذا حالها (عَزلٌ للزعامة الفكرية وإقصاء لها) تنتج، وتصنع كلَّ هذه الحضارة التي ارتادت للبشرية طريق الحق والعدل والسلام والأمن والإيمان، والإخاء والمساواة، ودانت لها الدنيا أكثر من ألف عام.
وباطلٌ بحقائق التاريخ الذي يثبت أن كثيراً من (زعماء السياسة أنفسهم) مَنْ جمع بين الزعامة السياسية والفكرية، مثل عبد الملك بن مروان، وعمر بن عبد العزيز، وأبو جعفر المنصور، وهارون الرشيد، والمأمون، وغير هؤلاء ممن لا نعلمهم.
وباطل أيضا بحقائق التاريخ التي تثبت أن أئمتنا (زعماء الفكر) لم يعتزلوا ولم يُعزلوا أبداً على طول التاريخ، فأبو جعفر المنصور يطلب من الإمام مالك أن يضع له (الموطأ) وهارون الرشيد يطلب من أبي يوسف أن يضع له الخراج، والإمام
__________
(1) لم ألتزم بعزو هذا الكلام إلى صاحبه، فليس المقصود الرد على شخصٍ بعينه، ولكن الذي يعنينا هذا النمط من التفكير، وصاحب هذا الكلام ليس فرداً، فهذا الكلام أصبح بديهية من البديهيات، ومسلمة من المسلّمات عند كثيرٍ ممن يدعون بالمجددين أو المستنيرين، وهذا الكلام أصلاً مسلوخ من كلام المستشرقين.(المقدمة/203)
أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري الحنفي، نراه في طليعة جيش الإسلام في موقعة (ملاذ كرد) التي استؤصلت فيها جموع الروم، وأخذ إمبراطورهم أسيراً، تلك المعركة التي كان لها ما بعدها في التاريخ، وأخبارها للأسف مجهلة لعامة مثقفينا وعلمائنا (1) .
والشيخ أبو إسحاق الشيرازي كان في قلب السياسة، يوم أصلح بين الخليفة العباسي في بغداد، والسلطان ملكشاه في (الرّي) .
والإمام أبو الوليد الباجي هو الذي جيش جيوس المسلمين في معركة (الزلاقة) التي أعادت هيبة المسلمين في الأندلس، ولعدة مئات من السنين.
والإمام أسد بن الفرات يقود الجيوش في البر والبحر، ويموت شهيداً وهو من أعمدة الفقه المالكي، صاحب (الأسدية) من أمهات كتب المذهب.
وشيخ الإسلام ابن تيمية في قلب السياسة، والسجن، ويجَيِّش الجيوش لحرب التتار.
وسلطان العلماء العز بن عبد السلام صانع النصر في معركة عين جالوت.
وشيخ الإسلام محمد سعد الدين بن حسن المتوفى سنة 1008 هـ الذي كان بمعية السلطان محمد الثالث في حرب هنغاريا، فلما هم السلطان بالتراجع تحت وطأة الهجوم الصليبي، أخذ شيخُ الإسلام بزمام حصان السلطان، ووجهه ناحية العدو، وصاح زاجراً للسلطان: " إنما نعيش لمثل هذا اليوم!! نموت شهداء، ولا نرى انكسار جيش الإسلام " فكان النصر.
وعلماء الأزهر الذين كانوا يناقشون فرمانات السلطان، ويردّونها إذا خالفت الشرع (أي يناقشون دستورية القوانين) والذين انتزعوا وثيقة بحقوق الشعب مكتوبة موقعة من الأمراء المماليك قبل الحملة الفرنسية بسنوات (1794 م) .
__________
(1) اقرأ أخبار هذه المعركة في كتاب (زبدة التواريخ - أخبار الأمراء والملوك السلجوقية - صدر الدين علي بن ناصر الحسيني تحقيق. د محمد نور الدين. (بيروت. دار اقرأ 1405 هـ 1985 م) .(المقدمة/204)
هذه نماذج عفو الخاطر، وبادي الرأي، ولكنها كافية ناطقة بتكذيب هذه المقولة التي تزعم (العزلة بين القيادة السياسية والقيادية الفكرية) .
إن العزل ولا أقول العزلة أو الإنعزال لم يكن إلا في القرنين الماضيين: القرن التاسع عشر والعشرين الميلاديين. وهما فيما يزعمون عصر النهضة، لم يعزل العلماء والأئمة عن قيادة الأمة إلا في هذين القرنين، حين بدأ التغريب في الفكر والثقافة والقوانين ... ولذلك حديث يطول.
ولكني أحببت أن أقول: إن انشغال إمام الحرمين بالسياسة الشرعية فكراً وتنظيراً، ثم ممارسة وعملاً إنما هو شأن كل أئمة الإسلام. نجد هذا في ثنايا كتبهم، وفي طيات أقوالهم، وبين فتاويهم وخلال قضاياهم وأحكامهم. كما نجده فيما أفرده طائفة كبيرة منهم من بحوث وكتب مستقلة في السياسة، لم تظفر بعدُ هذه الكتب بمن يعتني بها تحقيقاً وتعليقاً، وطبعاً ونشراً.
وكان من هذه الكتب كتاب إمام الحرمين:
(غياث الأمم في التياث الظلم)
المشهور بالغياثي
وهو من أجلّ كتب الفكر السياسي الإسلامي، ولم يعرف وينشر إلا من نحو عشرين عاماً، وقدّر الله لنا شرفَ القيام بهذا العمل.
لقد عرف الدارسون والباحثون كتاب (الأحكام السلطانية) للماوردي وشغلوا به منذ قرنٍ تقريباً. والسبب في ذلك هو انشغال المستشرقين به، حيث نشروه وترجموه، وكأننا لا نعرف قيمة علمائنا ولا نعترف بهم إلا إذا نوّه بهم المستشرقون!!، على حين يرى إمام الحرمين - في نقده للأحكام السلطانية.. أنه ليس خالصاً للسياسة الشرعية.
وما زال المجال واسعاً أمام دراسة (الغياثي) والمقارنة بينه وبين (الأحكام السلطانية) . ولعلّ أحسن وأصدق تقييم لكتاب (الغياثي) ما كتبه العلامة المحقق المرحوم السيد أحمد صقر إذ قال: " يعتبر هذا الكتاب من أجلّ كتب إمام الحرمين قدراً من حيث الموضوع وطريقة العرض، ودقة الأداء، وهو كتاب فريد في بابه، لم(المقدمة/205)
ينسج ناسج على منواله، ولم يخض خائض في تياره، قد تنوّق مؤلفه في رصفه، واتخذ الرمز والإشارة سبيلاً إلى التعبير عن مضمونه الخطير، واتخذ أبحاثه العلمية ذريعة إلى عرضه الأصيل من الكتاب ... ثم تفضيل مؤلِّفه على علماء عصره، وأنه يفوقهم بالبحث العميق، والاستنتاج الدقيق، وفهم أسرار الشريعة على نحو لم يسبقه إليه سابق".
ثم قال: " وكتاب الغياثي هو الكتاب الذي فيه لُمَع وإشارات وتلويحات تكشف عن أخلاق كاتبه، وهو في أمسّ الحاجة إلى دراسة واعية متأنية، تضاف إلى الدراسة الجيدة التي كتبها عنه محققه " ا. هـ.
وأقول: إن هذا الكتاب يحوي نظريات ومبادىء سياسية تشمل سياسة الدولة بجوانبها المختلفة: الرئاسة، والوزارة، والأمن، والثقافة، والجيش، والضرائب ... إلخ.
وكل ذلك في حاجة إلى دراسة فاحصة متأنية من أهل الاختصاص في كل جانب من هذه الجوانب تستخرج مكنونه وتدرك سرّه، لنعرف قدره ومكانه في الفكر السياسي الإسلامي.
ثم يشهد لعناية الإمام بهذا الجانب، واهتمامه به، وقصده إليه، أنه كان يأخذ على الفقهاء عدم اعتنائهم به، فقد جاء في كتابه (نهاية المطلب) قوله " ... والشريعة بحاجة إلى أحكام الإيالات، وليس للفقهاء اعتناءٌ بها " (11/378) وأحكام الإيالات هي أحكام السياسة الشرعية كما هو معروف.
5- علم الكلام:
هذا هو العلم الذي اشتهر به إمام الحرمين وعرف به أكثر من غيره من علومه، وحظي هذا الجانب بأكبر عناية، فنشرت كتبه في هذا الفن، واعتني بها مبكراً، قبل أن ينشر له كتاب آخر -حاشا الورقات في أصول الفقه- نشر الإرشاد في سنة 1938 م نشره (لوسيان) في باريس، ثم نشر في القاهرة سنة 1984 م، نشره الدكتور محمد يوسف موسى وعلي عبد المنعم عبد الحميد، ثم علق عليه هلموت كلوبفر - القاهرة 1955 م.(المقدمة/206)
ثم نشُرت العقيدة النظامية، نشرها العلامة محمد زاهد الكوثري سنة 1948 م، ثم أعيد نشرها سنة 1978 م.
ثم نشُر الشامل سنة 1959 م في أنقره، نشره هلموت كلوبفر، ثم أعيد نشره سنة 1969 م نشره علي سامي النشار وآخرون.
ثم نشر لمع الأدلة وشفاء الغليل فيما وقع في التوراة والإنجيل من التحريف والتبديل سنة 1968 م نشرهما معاً في غلافٍ واحد الأب آلار ميشال بدار المشرق ببيروت.
ونشرت الدكتورة فوقية حسين محمود لمع الأدلة سنة 1965 م بالقاهرة وأعيد نشر الشفاء أيضاً سنة 1979 م.
هكذا رأينا العناية مصروفة كلها إلى كتبه الكلامية نشراً وتحقيقاً، ولم ير شيء من كتبه الأصولية والفقهية النورَ إلا منذ سنة 1980 م، حيث خرج (البرهان في أصول الفقه) ثم خرج (الغياثي) و (التلخيص) و (المجتهدين) حتى وإن حُقَِّقت بعض هذه الكتب قبل ذلك مثل البرهان الذي انتهينا من تحقيقه سنة 1975 م، والغياثي الذي انتهينا منه سنة 1976 م، فلم تتيسر الطباعة والنشر إلا بعد هاتيك السنين.
وإذا كان هذا في جانب العناية بالكتب وتحقيقها، فقد كان كذلك في جانب الدراسات، والندوات، والمحاضرات، ففي نحو سنة 1946 م قدم الشيخ علي جبر أطروحته للدكتوراة بعنوان: (إمام الحرمين باني المدرسة الأشعرية الحديثة) إلى كلية أصول الدين بجامعة الأزهر.
وفي سنة 1965 م نشرت الدكتورة فوقية حسين محمود بحثاً بعنوان (الجويني إمام الحرمين) كان عمدته وخلاصته التعريف بمنزلة الإمام في علم الكلام، وما تميز به وجدد فيه.
وكذلك كانت الدراسات في مقدمة كتبه الكلامية تنحو هذا المنحى، سواء ما كتبه الدكتور محمد يوسف موسى، أو الدكتور علي سامي النشار، أو المستشرق هلموت كلويفر، أو الأب ميشال آلار، أو غيرهم.
ثم قُدمت أطروحة بعنوان (منهج إمام الحرمين في دراسة العقيدة) إلى كلية الدعوة(المقدمة/207)
وأصول الدين بجامعة أم القرى للدكتور أحمد بن عبد اللطيف.
هذا هو مكانه في علم الكلام، وهذه هي مؤلفاته في هذا العلم -مع أنه لم يكن علمه الأول، كما أشرنا من قبل- وقد ذكر السبكي " أن المغاربة - حصل لهم بعض التحامل على الإمام، مع اعترافهم بعلوّ قدره، واقتصارهم -لا سيما في علم الكلام- على كتبه، ونهيهم عن كتب غيره " (1) .
هكذا اندفع إمام الحرمين يخوض تيار علم الكلام، مدافعاً عن دين الله ذاباً عن عقائد أهل السنة، يقمع أهل الزيغ والضلال والتعطيل، والتجبسيم والتمثيل.
موقف إمام الحرمين من علم الكلام:
إن المتتبع لآراء أئمة علم الكلام، كالأشعري، والجويني، والغزالي، والفخر الرازي وغيرهم، يجد أنه مع انشغالهم بعلم الكلام، وركوبهم سفائنه، وجدّهم واجتهادهم فيه، وتشقيقهم وتفصيلهم لقضاياه ومسائله، وتركهم المؤلفات المتعددة، التي تقرأ وتدرس للآن، يجدهم مع ذلك ينهَوْن عن علم الكلام، ويعلنون كراهيتهم للاشتغال به، ويدعون إلى منهج السلف في العقيدة يدعون إلى ذلك صراحة، لا رمزاً.
عرف هذا عن هؤلاء الأعلام، وكان التفسير الذي شاع لدى الدارسين والباحثين أن هذا تطورٌ في الرأي والفكر، فهم قد عادوا عن علم الكلام، ورجعوا عن منهجه، ونهَوْا عن التعلق به، وأكثروا الزراية عليه. وكان هذا آخرَ ما استقر عليه رأيهم، هذا هو التفسير السائد المعروف لدى الباحثين والدارسين والعلماء المعاصرين.
ولكن يلوح لي أن المسألة ليست قضية تطور أو رجوع، وإنما دخل هؤلاء الأئمة ميدان علم الكلام، وهم على كره لذلك الأمر، فكانوا يخوضون فيه مضطرين، من أجل المنافحة عن دين الله ضد هؤلاء الذين لا يعرفون إلا هذه المناهج، وهذه القضايا التي أخذوها عن اليونان، فرأى هؤلاء الأئمة أن يُحسنوا هذه الطرائق،
__________
(1) الطبقات: 5/193.(المقدمة/208)
ويتعلموا هذه الأساليب، ليعرفوا كيف ينقضونها على رؤوس أصحابها، وليدفعوهم بنفس أسلحتهم، ويهدموا بناءهم بنفس طرائقهم.
فالأئمة -أو على الأقل إمام الحرمين فيما أقدِّر- كانوا دائماً على ذكر ووعي بأساليب القرآن، يدعون إليها ويرغبون فيها، ولكنهم في الوقت نفسه درسوا أساليب اليونان (علم الكلام) وتمرسوا بها، ليدفعوا بها شبه المبطلين.
والدليل على ذلك أن إمام الحرمين مبكراً في صدر حياته، نجد له لمعاً وإشارات، تسخر من علم الكلام والمتكلمين، في الوقت الذي كان مشتغلاً به أشد الاشتغال.
وقد أشرت من قبل إلى سخريته من المتكلمين وكراهيته لعلم الكلام في خطبة كتابه (الغياثي) وفي كتابه (البرهان) .
والعقيدة النظامية التي قيل إنه رجع فيها إلى مذهب السلف متقدمة قطعاً عن الغياثي، وعن البرهان، فقد ذكر (النظامي) في خطبة الغياثي مصرحاً أن الغياثي جاء وفاءً بوعدٍ قطعه في (النظامي) ، ثم هو ذكر الغياثي في البرهان.
فإذا كان النظامي -ومنه أخذت العقيدة النظامية- قد أهدي إلى نظام الملك، ذلك الوزير العالم ناصر السنة، الذي تولى الوزارة سنة 455 هـ، فمعنى ذلك أن إمام الحرمين قال ما قاله في العقيدة النظامية من دعوة صريحة إلى مذهب السلف قبل نحو 460 هـ أي قبل وفاة إمام الحرمين بنحو ثمانية عشر عاماً.
فإذا عرفنا أنه توفي رضي الله عنه عن تسع وخمسين سنة، وأنه لم يعرف له مؤلف قبل وفاة والده سنة 438 هـ، حين أُقعد للتدريس مكانه، وعُد ذلك من نوادر النبوغ المبكر، إذاً تقع العقيدة النظامية في منتصف عمره العلمي - إن صح هذا التعبير، وليس في أواخر أيامه.
وقد يفصل في هذه القضية ويقطع كل شغب ما جاء في كتابنا هذا وهو من أواخر تآليفه حيث يوضح بما لا يدع مجالاً للتأويل نظرته إلى علم الكلام وأنه علم ضروري لقمع المبتدعة، ولو عاد الناس لصفو العقيدة ما كان لنا به حاجة، وهذا نصّ عبارته:(المقدمة/209)
" ولو قيل: العلم المترجم بالكلام هل يُستلحق بفرائض الكفايات؟ قلنا: لو بقي الناس على ما كانوا عليه في صفوة الإسلام، لكنا نقول: لا يجب التشاغل بالكلام، وقد كنا ننتهي إلى النهي عن الاشتغال به، والآن قد ثارت الآراء، واضطربت الأهواء، ولا سبيل إلى ترك البدع، فلا ينتظم الإعراض عن الناس يتهالكون على الردى، فحق على طلبة العلم أن يُعِدّوا عتاد الدعوة إلى المسلك الحق والذريعة التامة إلى حل الشُّبه، ولما مسّت الحاجة إلى إثبات الحشر والنشر على المنكرين، وإلى الرد على عبدة الأصنام، [صار من فروض الكفايات الاحتواء] على صيغ الحجاج، وإبداء منهاجه.
ولا شك أن هذه الآراء الفاسدة لو بُلي الناس بها، لأقام الشرع حجاج الحق من منابعها.
فإذاً علم التوحيد من أهم ما يطلب في زماننا هذا، وإن استمكن الإنسان من ردّ الخلق إلى ما كانوا عليه أولاً، فهو المطلوب وهيهات، فهو أبعد من رجوع اللبن إلى الضرع في مستقر العادة " (نهاية المطلب: 17/417) .
وأتمنى أن يَنْهد أحد الباحثين لهذه المهمة، فيقرأ مؤلفات الإمام كلها قراءة متأنية ويحصي كل إشاراته إلى علم الكلام ونظرته إليه، كما يحصي كل إشاراته إلى منهج السلف ودعوته إليه، وأكاد أجزم بصحة قولي هذا: " لم يكن هناك ندم ولا رجوع، وإنما كان علم الكلام هو الأسنة التي لم يكن للمضطر حيلة إلا ركوبها ". والله أعلم ...
***
6- علم الحديث.
7- علم اللغة والنحو.
8- علوم الأدب والبلاغة.
9- علم الحساب والجبر والمقابلة.
هذه من العلوم التي ضرب فيها إمام الحرمين بحظ وافر، عرفنا ذلك من ترجمته والفنون التي حذقها، وشيوخه في كلٍّ منها، كما رأينا أثرها في مصنفاته ومؤلفاته.(المقدمة/210)
وإنما لم نفرد كلاً منها بحديثٍ لأمرين:
أ- أنه لم يصنف فيها مؤلفات وكتباً.
ب- إيثاراً للإيجاز والاختصار.
ولكن الذي نريد أن نعود إليه ونبسط القول فيه هو علمه بالحديث، فقد ظُلم في هذا الجانب ظلماً بيناً (1) ، وقيل عنه: " إنه لا يُعتمد عليه في هذا الشأن " (2) وقيل عنه: " إنه كان لا يدري الحديث لا متناً ولا إسناداً كما يليق به " (3) وقيل عنه: " ... كان قليل المعرفة بالآثار النبوية، ولعله لم يطالع الموطأ بحال، حتى يعلم ما فيه، فإنه لم يكن له علم بالصحيحين: البخاري، ومسلم، ولا سنن أبي داود، والنسائي، والترمذي، لم يكن له بهذه السنن علمٌ أصلاً، فكيف بالموطأ ونحوه ... وإنما كان عمدته سنن أبي الحسن الدارقطني " (4) ... ، وقيل عنه: " إنه عديم المراجعة لكتب الحديث المشهورة، فضلاً عن غيرها " (5) . هذا فيض من غيض قيل في هذا الصدد.
ولقد تتبعت كثيراً، من هذه العبارات، وعايشت المؤلفات التي وردت فيها طويلاً، حتى أحسست روحَها، وشممت أنفاسَها، وسمعت حسّها وجرسَها، مثلما وزنتُ هذه الأقوال وراجعت دليلها وحجتها، فتأكد لي أن مصدر هذا أمران:
أحدهما: أن بعض القائلين ينقل عن بعض، حتى يفشو الكلام، ويصبح بالتكرار والاستفاضة من المسلمات والبديهيات التي لا تحتاج إلى دليل.
الثاني: أن بعضاً آخر من أصحاب هذه الأقوال عنده نوع تحامل على إمام الحرمين، يبعث على ذلك التحامل اختلافٌ في المذهب، والمنهج، وبخاصة في المذهب الكلامي.
__________
(1) انظر الفصل السادس من هذه المقدمات.
(2) مشكل الوسيط لابن الصلاح بهامش الوسيط: 6/529.
(3) سير أعلام النبلاء: 18/470.
(4) فتاوي شيخ الإسلام ابن تيمية: 5/299 طبعة دار المعرفة.
(5) تلخيص الحبير: 2/50 حديث 5، 6.(المقدمة/211)
وقد تجمع لي قدرٌ صالح من الأدلة القاطعة التي تنفي هذا الكلام، وترد هذا الاتهام، وتثبت علم الإمام بالحديث رواية ودراية، وإن كنا لا نطمع أن نثبت أنه من الحفاظ المحدّثين، ولا هو ادعى لنفسه ذلك، رضي الله عنه.
وحين يتم هذا البحث -إن شاء الله- بالمنهج العلمي السليم والأدلة الموثقة، سنرى أن هذه المسلمة -عدم علم إمام الحرمين بالحديث- مثل كثير من المسلمات في حياتنا الفكرية والثقافية في حاجة إلى مراجعة علمية، تقوم على دراسة نصوص أئمتنا وقراءتها، واستخراج الأحكام عليهم من واقع أعمالهم، لا من قول بعضهم في بعض. ونسأل الله أن يعيننا على إخراج هذا البحث قريباً.
***
ثانياً: كتبه آثاره:
لم تقف جهود الإمام في سبيل الدفاع عن الدين والسنة عند مناظراته ودروسه، ومواعظه وخطبه، بل خلّف مصنفات كثيرة في معارف متنوعة: شملت الكلام، وأصول الفقه، والخلاف، والجدل، والفقه، والتفسير، والخطب والمواعظ.
وقد بلغت هذه المؤلفات من التنوع والكثرة حداً جعل السبكي (1) يستدل بها على وجود الكرامات، حُسبت أعداد الأوراق التي احتوت عليها كتبه ومؤلفاته، وقسمت على أيام عمره وساعاته، مع ما كان يلقيه من الدروس، ويحضره من مجالس التذكير، فوجد أن عمره لا يفي بذلك!!
وقد بلغ عدد ما تحققنا من نسبته إليه أكثر من أربعين عنواناً، ومنها ما هو موجود ومنها ما هو مفقود، وقد أفردنا لذلك فصلاً في كتابنا (إمام الحرمين: حياته وعصره-آثاره وفكره) كما أشرنا إلى كثير منها أثناء حديثنا عن علومه، ونكتفي الآن بسرد أشهرها سرداً مجرداً، فمنها:
* في علوم أصول الفقه: التلخيص، والبرهان، والتحفة، والورقات.
__________
(1) الطبقات: 2/343.(المقدمة/212)
* في علم الفقه: نهاية المطلب في دراية المذهب، ومختصر النهاية، والرسالة النظامية في الأركان الإسلامية.
* في علم الخلاف والجدل: الأساليب، والغنية، غنية المسترشدين (1) ،
والعُمد، والدرة المضية فيما وقع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية، والكافية في الجدل.
* في السياسة الشرعية: الغياثي (غياث الأمم في التياث الظلم) .
* في علم الكلام: الشامل، والإرشاد، واللمع، وشفاء الغليل، والعقيدة النظامية، وقصيدة على غرار قصيدة ابن سينا في النفس، لم يذكرها أحد ممّن ترجموا له، ولكنها وقعت لنا في غير مظانها، أثناء بحثنا عن مؤلفات الإمام في مكتبات العالم، وله أيضاً مسائل الإمام عبد الحق الصقلي وأجوبتها (2) .
* وله كتاب (في التكفير والتبرؤ) هكذا قال: " لنا مجموع في التكفير والتبرؤ فليتأمله طالبه " (3) ولكن لم نعرف عنوانه. ولا موضوعه، وإن كان بعلم الكلام أشبه.
* كتاب في النفس: قال عنه في العقيدة النظامية (4) : " إنه يقع في نحو ألف ورقة " ولسنا ندري عنوانه ولا حقيقة موضوعه.
* تفسير القرآن الكريم: ذكره السيوطي في مقدمة الإتقان: (1/21) (5) ،
__________
(1) كان هناك تكراراً في صياغة عنوان الكتاب فالغنية وغنية المسترشدين شيء واحد.
(2) وتقع في رسالة لطيفة، أعددناها للنشر، نسأل الله العون حتى ترى النور قريبا.
(3) البرهان: فقرة 673.
(4) ص: 59 تحقيق الكوثري.
(5) جاء عند السيوطي في قطف الأزهار (1/312) : "قال الجويني في تفسيره: سمعت أبا الحسن بن الدهان يقول ... " فوهم ابننا الفاضل محقق الكتاب فترجم لإمام الحرمين، مع أن السيوطي يقصد بالجويني الشيخ أبا محمد والد إمام الحرمين، ومن عجب أن المحقق الفاصل رجع لبرهان الزركشي وقابل نصّ السيوطي عليه وسجل الفرق بين النصين بأن الزركشي يقول: " أبا الحسين بن الدهان "، ومع ذلك لم يلتفت إلى قول الزركشي " قال الشيخ أبو محمد الجويني " وظل على وهمه في أن السيوطي يريد بالجويني إمام الحرمين.(المقدمة/213)
وحاجي خليفة في كشف الظنون (1/443) وطاش كبري زاده في مفتاح السعادة (2/110)
***
ثالثاً: منهجه في مؤلفاته:
من الطبيعي أن تتنوع المناهج بحسب موضوع كل مؤلف، ولكننا نستطيع أن نشير إلى سمات عامة نجدها في كل مؤلفاته، منها:
1- الاقتصار على الجديد، وعدم الاكتفاء بحكاية كلام السابقين، وترداد مذاهبهم بدون إضافة أي جديد، أو استثمار ذلك في توليد معنى، أو ابتداع مبنى، فهو لا يدوّن في مصنفاته إلا الجديد الذي " لم يسبق إليه، ولم يزحم عليه " فإذا كان لا بد من حكاية أقوال السابقين، كان ذلك " في معرض التذرع إلى موضوعه، وفى إيجاز، وأحال كل شيء على محله وفنه ".
ويصرح بذلك قائلاً: " ... ولو ذهبت أذكر المقالات، وأستقصمها، وأنسبها إلى قائليها وأعزيها (1) ، لخفت خصلتين:
إحداهما: خصلة أحاذرها في مصنفاتي وأتقيها، وتعافها نفسي الأبية وتحتويها، وهي سرد فصول من كلام المتقدمين مقول، وهذا عندي يتنزل منزلة الاختزال والانتحال، والتشبع بعلوم الأوائل، والإغارة على مصنفات الأفاضل" (الغياثي: فقرة 242) .
فانظر أيّ نفورٍ من هذا: اختزال -انتحال- إغارة.
ثم يرسم المنهج لمن يريد أن يؤلف، وهو يعني نفسَه، فيقول: " حق على كل من تتقاضاه قريحته تأليفاً، وجمعاً وترصيفاً، أن يجعل مضمون كتابه أمراً لا يلفى في مجموع، وغرضاً لا يصادف في تصنيف ".
2- تحديد الغرض والغاية التي يتغياها من كل مؤلّف، وبعبارة أخرى تحرير
__________
(1) هذا الفعل واوي ويائي: عزا يعزو، وعزا يعزي (كلاهما صواب) .(المقدمة/214)
المقصود وتخليصه مما يختلط به، جاء في مفتتح البرهان قوله: " حق على كل من يحاول الخوض في فن من فنون العلم أن يحيط، بالمقصود منه، وبالموادّ التي يستمد منها ذلك الفن، وبحقيقته وحدّه إن أمكنت عبارة سديدة على صناعة الحد، وإن عسر، فعليه أن يحاول الدرك بمسلك التقاسيم ".
وهذا مجرد لمعة مما في مؤلفاته.
3- تحديد معاني الألفاظ والمصطلحات التي تستخدم في مخاوضاته ومناقشاته، وعرضه لآرائه، يظهر هذا واضحاً في مقدمات كتبه: مثل الإرشاد، ولمع الأدلة، والبرهان، والكافية.
4- عرض آراء المخالفين وأدلتهم كاملة بكل أمانة ووضوح، ثم مناقشتها ودفعها، وقد رأينا أثر هذا في تلميذه حجة الإسلام الغزالي، الذي قيل: إنه عرض آراء المتفلسفة قبل أن يبين (تهافتها) بأحسن مما عرضها بها أصحابها.
5- التحرر من كل فكرة سابقة قبل البحث، وعدم التعصب لمذهبٍ بعينه، اسمعه يقول: " وأنا الآن أنخل للناظر جميع مصادر المذاهب ليحيط بها، ويقضي العجب منها، ويتنبه لسبب اختلاف الآراء فيها، وبجعل جزاءنا منه دعوة بخير " (1) .
وأوضح من هذا قوله: " ... وحقنا أن نُحكِّم الأصول فيما نأتي ونذر، ولا نخرج بمسلك الحقائق ذباً عن مذهب " (2) .
6- الدقة في الترتيب والتقسيم والتبويب، حتى تجد المسائل يأخذ بعضها بحُجز بعض، ويترتبه بعضها على بعض في تسلسل منطقي بديع، يعمد إلى ذلك عمداً، وينبه إليه في ثنايا كتابه من آن لآخر، مثل قوله: " ونحن الآن نجدد العهد بترتيب يشمل على ما مضى من الكتاب، وعلى ما سيأتي منه، حتى يتجدد عهد الناظر بترتيب أبواب الكتاب، فإن معرفة الترتيب من أظهر الأعوان على درك مضمون العلوم القطعية " (3)
__________
(1) البرهان فقرة: 506.
(2) البرهان فقرة: 532.
(3) البرهان فقرة: 486.(المقدمة/215)
هكذا. يجدد العهد بالترتيب، لأنه من أظهر الأعوان على درك مضمون الكتاب.
وهذا الاهتمام بالترتيب والتبويب رأيناه أيضاً عند تلميذه حجة الإسلام الغزالي غايةً في الوضوح، والدقة، حتى تفوق فيه على شيخه.
7- التمييز بين المظنون والمقطوع، وبين ما يكفي فيه غلبة الظن، وما لا بد فيه من القطع، ويعلن أن منشأ الاختلاف في الرأي، وأن الزلل والخطأ في الفكر هو الخلط بين المقطوع والمظنون، ولذا نراه يقدم بين يدي كل قضية يعرضها، التمييزَ بين القطعيات والظنيات، فيقول عن " الخبط والتخليط والإفراط والتفريط " في قضايا الإمامة:
" والسبب الظاهر في ذلك، أن معظم الخائضين في هذا الفن يبغون مسلك القطع في مجال الظن، ويمزجون عَقْدهم باتباع الهوى، ويمرحون في تعاليل النفوس والمنى ".
ثم يقول: " ونحن بتوفيق الله نذكر معتبراً يتميز به موضع القطع من محل الظن " (1) .
ولا يفوته رضي الله عنه أن يؤكد قيمة هذا الأساس من أسس المنهج؛ فيقول: " ومن وفقه الله تعالى للوقوف على هذه الأسطر، واتخذها في المعْوِصات مآبه ومثابه، لم يعتَصْ عليه مُعضل، ولم يخْف عليه مشكل، وسرد المقصود على موجب الصواب بأجمعه، ووضع كل معلوم ومظنون في موضعه وموقعه " (2) .
ويقول في ختام أحد الفصول مؤكداً التزامه بهذا المنهج: " فقد نجز الفصل، مختوماً على التقدير بالمقطوع به في مقصوده، مثنى مما هو من فن المجتهدات، وقبيل المظنونات " (3) .
ولا يملّ من تأكيد هذا المعنى، والالتزام بهذا المنهج، فيقول في مفتتح الفصل الذى ختمه بالعبارة السابقة: " فنجري على الترتيب المقدّم والملتزم، ونبدأ بالمقطوع به " (4) .
__________
(1) الغياثي الفقرات: 69-72.
(2) الغياثي فقرة: 72.
(3) السابق: 81.
(4) السابق: 84.(المقدمة/216)
ولو ذهبنا نتتبع الإشارات والتأكيدات لضرورة الالتزام بهذا المنهج، لأعيانا الحصر والعد، وضاقت الأوراق، وكلّت الأقلام.
8- الإيجاز والميل إلى الاقتصاد في غير مقصود الكتاب:
هذه السمة من سمات المنهج كالتي قبلها، لم نصل إليها بالملاحظة والاستقراء لمؤلفاته وآثاره فحسب، ولكنه يعلن عنها صراحة، ويؤكد التزامه بها بوضوح فيقول:
" ... على أني آتي فيها بالعجائب والآيات، وأشير بالمرامز إلى منتهى الغايات، وأوثر الأيجاز والتقليل، مع تحصيل شفاء الغليل، واختيار الإيجاز على التطويل، بعد وضوح ما عليه التعويل " (1) .
ويقول عندما يقتضيه الموضوع البسطَ والإطالة: " وعلى المنتهي إلى هذا الموضع أن يقبل في هذه الإطالة عذري، ويحسِّن أمري " هكذا يعتذر إلى قارئه حينما شعر أنه خالف منهجه في التزام الإيجاز، فيمهد عذره قائلاً: " فقد انجرّ الكلام إلى غائلة، ومعاصة هائلة، لا يدركها أولو الآراء الفائلة، والوجه عندي قبض الكلام فيما لا يتعلق بالمقصود والمرام، وبسطه على أبلغ وجه في التمام فيما يتعلق بأحكام الإمام، وفيها الاتساق والانتظام " (2) .
ويكرر هذا المعنى نفسَه قائلاً: " فالوجه البسط في مقصود الكتاب، وإيثار القبض فيما ليس من موضوعه، وإحالة الاستقصاء في كل شيء على محله وفنِّه " (3) .
هكذا حينما تُعوص المشكلة، وتغمض المسألة، لا يتردّد في البسط والتفصيل، أما عندما يتضح المقصود والمعمود، فيجب قبض الكلام وإيثار الإيجاز.
9- تأصيل المسائل والقضايا:
يعمل دائماً على تقديم أصل للمسألة ووضع ضابط لها، ثم يبدأ في مناقشات
__________
(1) الغياثي فقرة: 9.
(2) السابق: 152.
(3) السابق: 273.(المقدمة/217)
الجزئيات والفرعيات في ضوء الأصل الذي أَصَّله.
فمن ذلك قوله عند افتتاح الفصل الخاص بالتعديل والجرح: " ونقدم على غرضنا أصلاً هو مرجوع الكتاب وأصل الباب " (1) وقوله في موضع سابق: " وفي كل أصل من الأصول قاعدة كلية معتبرة، قكل تفصيل رجع إلى الأصل، فهو جارٍ على السييل المطلوب، وكل ما لم نجد مستنداً فيه، ومتعلقه تخييل ظن، فهو مُطرح " (2) .
10- التحري والتدقيق في النقل عن الأئمة السابقين:
هذا مما يتبجح به بعض المعاصرين، ويسميه (التوثيق) ، ويظنه من بدْع هذا العصر، ولكنه موجود أصيل في تراث أمتنا، وله مكانه ومكانته، وإمام الحرمين يضرب المثل في ذلك. ويعلِّمنا إياه، فيقول: " وحكى القاضي عن العراقيين طريقة أخرى، لم أطلع عليها مع بحثي عنها ".
فهو ينسب الطريقة (الرأي) إلى صاحبه، ثم يبين مصدره، وعمن أخذه، ثم يبحث عن صواب النقل حينما يتشكك في صدور هذا الرأي عن المنقول عنه، ويعلن أنه لم يطلع على هذا الرأي للعراقيين (المنقول عنهم) مع طول بحثه.
ثم يؤكد خطأ هذا الرأي عنده، فيقول: " ولا شك أن ما حكاه غلط " وهنا غاية الدقة في العبارة: " إن ما حكاه غلط " ولم يقل: أخطأ العراقيون؛ لأنه غير واثق من صحة النقل، فيقول بعد العبارة السابقة مباشرة: " لكني أخشى أن يكون الناقل غالطاً " وتشككه هذا ليس شيئاًً بالهوى والتشهي إنما هو مبني على معرفته بالمنقول عنه، وبحدود المسألة، وقيمة الرأي المنقول، ولذلك يقول: " فلا يستجيز المصير إلى ما حكاه عن العراقيين من أحاط بأطراف الكلام في أحكام هذه المعاملة " أي أن من عرف أطراف الكلام، أي الشادي المبتدىء لا يمكن عقلاً أن يصير إلى هذا الرأي ويقول به.
جاء هذا في (نهاية المطلب) عند الكلام عن إحدى مسائل القراض.
__________
(1) البرهان فقرة: 559.
(2) السابق: 557.(المقدمة/218)
هذه أهم سمات وملامح منهج إمام الحرمين في مصنفاته بصفةٍ عامة وسنفرد فصلاً لملامح شخصيته وسمات منهجه في كتابه هذا بخاصة.
***
رابعاً: تلاميذه:
يظهر أثر إمام الحرمين رضي الله عنه في مجال آخر، حيث لمع اسمُه في تاريخ الفقه الإسلامي بصفته أستاذاً ومعلِّماً، وهذه منزلة لا تتاح لكل عالم، فقد يكون الرجل فقيهاً باحثاً يترك أعظمَ المؤلفات، ولكن لا يكون له في تربية الفقهاء وتخريج المتفقة شأن، ولم يكن إمام الحرمين من هؤلاء، فقد تولى التدريسَ وهو في نحو العشرين من عمره، فما إن استحصدت خبرته، ونضِجت معارفُه، وذاع صِيتُه، حتى صارت حلقته كعبة يشد إليها الرحال طالبو الفقه من أنحاء العالم الإسلامي، وحين تربع على عرش المدرسة النظامية بنيسابور التي بناها (نظام الملك) باسمه، صارت نظامية نيسابور ميدان بحث ومناظرة، تخرج فيها على يد إمام الحرمين من الأئمة ما تزدهي بهم نيسابور، ويزهو بهم الفقه الإسلامي إلى اليوم.
ولو رحنا نعد هؤلاء الأعلام الذين ذكرت الكتب أنهم تفقهوا بإمام الحرمين -وناهيك بمن لم تذكر- لطال بنا الكلام، ولاستعصى علينا الحصر والإحصاء، ألم يقولوا: إنهم كانوا عند وفاته نحو أربعمائة تلميذ، ولذلك يكفي أن نذكر منهم:
حجة الإسلام الغزالي، والكيا الهراسي، والخَوافي (1) ، والباخرزي، وعبد الغافر الفارسي، وقالوا عنه: أورثته صحبة إمام الحرمين فناً من الفصاحة، وأكسبته إياه سهراً حُمد صباحُه.
ومنهم: الإمام أبو نصر، عبد الرحيم بن الإمام عبد الكريم القشيري.
ومنهم: هاشم بن علي بن إسحاق بن القاسم الأبيوردي، وغانم الموشيلي، وعبد الكريم بن محمد الدامغاني، وعبد الجبار بن محمد بن أبي صالح المؤذن،
__________
(1) نسبة إلى (خَواف) بفتح الخاء المعجمة، وفي آخرها الفاء بعد الواو والألف (الأنساب للسمعاني) .(المقدمة/219)
وأبو عبد الله الفُراوي، وأبو المظفر الأبيوردي، وأبو الفضل الماهياني، وسعد بن عبد الرحمن الأستراباذي.
ومما يذكر في هذا المجال أن إمام الحرمين كان أستاذاً بصيراً بتلاميذه، يُحسن رعايَتهم ويشجعُهم، ويسعَد بنباهتهم ونبوغِهم، وقد وردت عنه كلماتٌ تدل على أستاذيةٍ ماهرة حاذقة، فقد كان الغزالي والكيا الهراسي والخَوافي أنداداً، وتناظروا يوما أمامه، فقال موازناً بينهم: " التحقيق للخَوافي، والجزئيات للغزالي، والبيان للكيا " وقال مرة أخرى: " الغزالي بحر مغدق، والكيا أسد محدق، والخَوافي نار تحرق " (1) .
***
خامساً: أثره:
لقد كان إمام الحرمين رائداً مجدداً مجتهداً في أكثر من فن: في الفقه، في الأصول، في علم الخلاف والجدل، في السياسة الشرعية، في علم الكلام، كان له الأثر والريادة والقيادة بما جدد واجتهد، في هذه الفنون التي تحدثنا عنها، وعن دوره فيها آنفا، وكان له الأثر بما خلّف من مؤلفات ظلت تحمل علمه وفكره على كرّ العصور والدهور، وكانت زاداً، ومرجعاً، وموئلاً لمن جاء بعده، واقتفى أثره، رأينا أثر هذه المؤلفات، في آثار كثير من الأئمة، وبخاصة أنجب تلاميذه حجة الإسلام الغزالي، فمؤلفاته تحمل فكر شيخه وعلم إمامه، وأحياناً بألفاظ إمامه وعباراته نفسها.
ولقد عقدنا الباب الرابع من كتابنا (فقه إمام الحرمين-خصائصه-أثره ومنزلته) بعنوان (منزلة إمام الحرمين) وجاء في نحو مائة صفحة، فلتراجعه إن شئت، ولا داعي للتكرار والإعادة هنا.
***
__________
(1) الغزالي: دكتور أحمد فريد الرفاعي: 1/98، 99.(المقدمة/220)
الفصل الرابع تعريف بنهاية المطلب، ومنزلته بين كتب المذهب(المقدمة/221)
تعريفٌ بنهاية المطلب ومنزلته بين كتب المذهب
تمهيد
لما استوى علم الفقه على سوقه، واستقامت مناهج الأئمة، ودوّنت المذاهب المتبوعة، وصار لكل إمام تلاميذ ورواة يحملون علمه، ويروون نصوصه، انتشرت هذه النصوص، وصار الفقهاءُ أتباعُ كل إمام يلتزمون نصوصه، ويجعلونها أساس استنباطهم وبحثهم، وموضعَ تفصيلهم وتفريعهم.
وكان مختصر المزني الذي جمع نصوص الشافعي من أوفر الكتب حظَّاً وقبولاً لدى علماء الشافعية وأئمة المذهب، فقد شرحه منذ فجر التأليف في المذهب جمعٌ من الأئمة منهم:
ابن سريج المتوفى 306 هـ
أبو إسحاق المروزي المتوفى 340 هـ
أبو علي الطبري المتوفى 350 هـ
القاضي أبو حامد المرورُّوذي المتوفى 362 هـ
القاضي أبو الحسن الجوري المتوفى بعد 300 هـ
الشيخ أبو علي السنجي المتوفى 427 وقيل 430 هـ
الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني المتوفى 418 هـ
القاضي أبو علي البندنيجي المتوفى 425 هـ
القاضي أبو الطيب الطبري المتوفى 450 هـ(المقدمة/223)
الشيخ أبو بكر الصيدلاني المتوفى 327 هـ
قاضي القضاة أبو الحسن الماوردي المتوفى 450 هـ
وفي هذا المضمار جرى إمام الحرمين أيضاً، فنسج على منوال هؤلاء الأئمة، وشرح مختصر المزني بكتابنا هذا.
(نهاية المطلب في دراية المذهب)
وننبه هنا أن المراد بالشرح ليس حل الألفاظ، وبيان غوامض التراكيب، وإنما الشرح الذي رأيناه -في الحاوي للماوردي، وفي النهاية لإمام الحرمين- هو جعل نصّ الشافعي أصلاً تُستنبط منه الأحكام، وحوله يدور التبويب والتفصيل، والمسائل والفروع.
ولذا وجدنا إمام الحرمين يقول في مقدمة (النهاية) :
" وسأجري على أبواب (المختصر) ومسائلها جهدي، ولا أعتني بالكلام على ألفاظ (السواد) (1) ، فقد تناهى في إيضاحها الأئمة الماضون، ولكني أنسب النصوص التي نقلها المزني إليه، وأتعرض لشرح مايتعلق بالفقه منها -إن شاء الله تعالى- وما اشتهر فيه خلاف الأصحاب ذكرته، وما ذكر فيه وجهٌ كريب منقاس، ذكرتُ ندوره وانقياسه ... ".
***
ولم يذع وينتشر من هذه الشروح -فيما نقدِّر- سوى اثنين: (الحاوي) للماوردي، و (نهاية المطلب) لإمام الحرمين، ولكن الذي كان له التأثير الأكبر، وصار عليه المعوّل، هو (نهاية المطلب) ، فعنه ومنه وحده -تقريباً- كان أَخْذُ الأئمة واستمدادهم، بل شاع بينهم القول: " منذ صنف الإمام كتابه (نهاية المطلب) لم يشتغل الناس إلا بكلام الإمام " (2) .
__________
(1) السواد: المراد به (مختصر المزني) .
(2) انظر الشكل الخامس.(المقدمة/224)
تحرير المذهب:
وبيان ذلك أن تحرير المذهب الشافعي انتهى إلى الإمامين: الرافعي، أبو القاسم عبد الكريم بن محمد بن الفضل، القزويني المتوفى 624 هـ، والإمام النووي، محيي الدين، أبو زكريا، يحيى بن شرف المتوفى سنة 676 هـ فإليهما يرجع الفضل في تحرير المذهب وتنقيحه، وهما العمدة في معرفة ما هو من المذهب، وتمييزه مما ليس منه، فهما شيخا المذهب في لسان من بعدهما من طبقات المذهب، فحيث قيل: (الشيخان) فهما الرافعي والنووي، وإليهما ينتهي الاجتهاد؛ فالراجح ما رجحاه، والمَفْتِيُّ به ما اعتمداه؛ ولم يخرُج مَنْ بعدهما على قولهما، حتى شاع بين المتأخرين قول ابن حجر الهيتمي:
" ... ومن جوّز اعتماد المفتي ما يراه في كتابٍ فيه تفصيل لا بدّ منه -ودل عليه كلام النووي في المجموع (1) وغيره- وهو أن الكتب المتقدمة على الشيخين لا يعتمد شيء منها إلا بعد مزيد الفحص والتحرّي، حتى يغلب على الظن أنه المذهب، ولا يغتر بتتابع كتب متعددة على حكم واحد؛ فإن هذه الكثرة قد تنتهي إلى واحد: ألا ترى أن أصحاب القفال أو الشيخ أبي حامد مع كثرتهم لا يفرّعون ويؤصلون إلا على طريقته غالباً، وإن خالفت سائر الأصحاب، فتعين سبرُ كتبهم.
هذا كله في حكمٍ لم يتعرض له الشيخان أو أحدهما -وإلا فالذي أطبق عليه محققو المتأخرين- ولم تزل مشايخنا يوصون به، وينقلونه عن مشايخهم، وهم عمن قبلهم، وهكذا -أن المعتمد ما اتفق عليه الشيخان الرافعي والنووي، فإن اختلفا، فالنووي، فإن وجد للرافعي ترجيح دونه فالرافعي-" ا. هـ بنصه (2) .
وهذا كلام واضح مُبينٌ دالٌّ على أن تحرير المذهب، وتمييز ما هو منه عما سواه انتهى إلى الإمامين الرافعي والنووي.
__________
(1) ر. المجموع للنووي: 1/4، ونصُّ كلام النووي الذىِ يشير إليه ابن حجر هو: " واعلم أن كتب المذهب فيها اختلافٌ شديد بين الأصحاب بحيث لا يحصل للمطالع وثوق بكون ما قاله مصنفٌ منهم هو المذهب حتى يطالع معظمَ كتب المذهب المشهورة ".
(2) ر. تحفة المحتاج بهامش حواشي الشرواني وابن قاسم: 1/39.(المقدمة/226)
وإذا نظرنا إلى علمهما نجده -في جملته- يرجع إلى كلام الإمام، أي إلى كتابه " نهاية المطلب ".
وبيان ذلك أن فقه إمام الحرمين في (نهاية المطلب) حازه تلميذه (الغزالي) في كتابه (البسيط) ، ثم اختصره إلى (الوسيط) ثم اختصر الوسيط في مجلدٍ لطيف سماه (الوجيز) واشتغل الإمام الرافعي (بالوجيز) ، فشرحه شرحين: مختصراً لم يسمّه، ومطوّلاً سماه (العزيز) واشتهر (بالشرح الكبير) ، كما اختصر الوجيز في مختصرٍ سمّاه (المحرر) (1) .
ثم جاء الإمام النووي فاختصر الشرح الكبير في كتابه (روضة الطالبين) ، كما اختصر المحرر إلى (المنهاج) .
وبعد الإمامين الرافعي والنووي بدأ طور الاستقرار في المذهب، وكان فقههما -ممثلاً في (روضة الطالبين) و (المنهاج) - هو المعتمد، وعليه المدار، فتتابع رجال المذهب على (الروضة) و (المنهاج) شرحاً، واختصاراً، ونظماً، وحواشي، ومضى الحال على ذلك قروناً، حتى استقر المذهب عند شيخي المتأخرين: ابن حجر الهيتمي (974 هـ) ، والرملي (1004 هـ) الأول في (تحفته) والثاني في (نهايته) ، وكلاهما شرح على (المنهاج) للنووي (2) وصار الاعتماد عليهما، ولا يفتى إلا بقولهما.
ويصور هذا التسلسل الدكتور محمد إبراهيم أحمد علي بقوله: "وهذا الاعتماد على كتب ابن حجر (يعني الهيتمي) والرملي ينبغي ألاّ يصرف نظر الباحث عن الحقيقة العلمية وراء ذلك، وهي أن كتب ابن حجر والرملي إنما هي حلقة في سلسلة ذهبية من كتب أكابر العلماء الشافعية، تمتد عبر القرون، حتى تصل إلى مؤسس المذهب (الإمام الشافعي) : فالتحفة والنهاية كلاهما شرح لمنهاج الطالبين. ومنهاج الطالبين مختصر النووي من المحرر. والمحرر مختصر الرافعي من الوجيز. والوجيز مختصر
__________
(1) كذا في البجيرمي على شرح المنهج وغيره أن الرافعي اختصر المحرر من الوجيز، لكن ابن حجر في التحفة يقول: " وتسميته (أي المحرر) مختصراً لقلة لفظه، لا لكونه من كتابٍ بعينه " (الفوائد المكية: 35، والتحفة مع حاشيتي الشرواني وابن قاسم: 1/35) .
(2) الفوائد المكية: 36، 37 بتصرف كثير.(المقدمة/227)
من الوسيط. والوسيط مختصر من البسيط والبسيط مختصر من (نهاية المطلب) ونهاية المطلب شرح لنصوص الشافعي التي جمعها (مختصر المزني) " (1) .
وتعبير ابن حجر الهيتمي -الذي تناقلته الكتب عنه- يوحي بأن " اشتغال الناس بكلام الإمام -منذ صنف (النهاية) - دون سواه " كان أمراً مقرراً شائعاً، ذائعاً، بالغاً: حدّ الاستفاضة، ولذلك لم ينسبه إلى أحد، ولم يروه عن راوٍ، كما هو نهج العلماء، وإنما قال: " وقولهم إنه منذ صنف الإمام كتابه (النهاية) ... لم يشتغل الناس إلا بكلام الإمام " (2) فأنت تراه يقول: (وقولهم) هكذا، بدون تحديد القائل، وضمير الجمع هنا عائد على علماء الشافعية وأئمتهم، كأنهم تكلموا بذلك جميعاً، واتفقوا عليه.
***
نهاية المطلب وتحرير المذهب:
ولعلنا لا نجاوز الحقيقة إذا قلنا: (إن نهاية المطلب) كانت الخطوة الأولى المبكرة في تحرير المذهب، قبل الرافعي والنووي، يشهد لذلك ما يأتي:
قولُ الإمام في خطبته: " ... وأبتهل إليه سبحانه في تيسير ما هممت بافتتاحه من تهذيب مذهب الإمام المطَّلبي الشافعي رضي الله عنه، يحوي تقريرَ القواعد وتحريرَ الضوابط، والمعاقد في تعليل الأصول، وتبيين مآخذ الفروع، وترتيب المفصّل منها والمجموع" فهو يؤكد أن عمله هذا تهذيبٌ لمذهب الإمام، وتقرير للقواعد.
ثم زاد هذا الأمر إيضاحاً، فقال: "وما اشتهر فيه خلاف الأصحاب ذكرته، وما ذكر فيه وجه غريب منقاس ذكرتُ ندورَه وانقياسه، وإن انضمَّ إلى ندوره ضعف القياس، نبهت عليه بأن أذكر الصواب قائلاً: "المذهب كذا" فهو يذكر خلاف الأصحاب، والوجوه المعتمدة في المذهب، منبهاً إلى ما يخرج بندوره وضعف قياسه عن المذهب.
__________
(1) ر. المذهب عند الشافعية، بحث منشور بمجلة جامعة الملك عبد العزيز -العدد الثاني- جمادى الآخرة 1398 = مايو 1978 ص 47 (بشيء من التصرف) .
(2) انظر مثلا: الفوائد المكية للسيد علوي بن أحمد السقاف: 36.(المقدمة/228)
ثم تابع التأكيد لهذا المنهج قائلاً: " وإن جرت مسألة لم يبلغني فيها مذهب الأئمة، خرّجتها على القواعد، وذكرت مسالك الاحتمال فيها على مبلغ علمي وفهمي ".
فهو يؤكد أن المسائل التي لا يجد فيها حكماً لأئمة المذهب سيخرّجها على (القواعد) أي قواعد المذهب.
ويشهد لما نحاوله -من إثبات أن هذا الكتاب كان أسبقَ في تحرير المذهب- الاسمُ الذي اختاره له الإمام (نهاية المطلب في دراية المذهب) ، فهو اسم معمودٌ مقصودٌ لأداء معنىً وتحقيق غاية، صرح بذلك الإمام قائلاً: " وقد استقرّ رأي على تلقيبه بما يشعر بمضمونه، فليشتهر بـ (نهاية المطلب في دراية المذهب) فمضمونه: (علم المذهب درايةً) .
***
ثم من يطالع (النهاية) يجد الإمامَ التزمَ بما وعد به من (تهذيب مذهب الإمام المطلبي) فحينما ينقل وجوه الأصحاب، ويكون فيها ما لا يمكن تخريجه على أصول الشافعي ينبه على ذلك، ويميز ما ليس من المذهب عما هو منه، بل قد ينقدح عنده هو وجهٌ يخالف المذهب، فيعرضه، ويقرره، ولكنه يقول معقباً: " والمذهب كذا ".
وهاك بعض نماذج وأمثلة مما جاء في (النهاية) :
* قال في كتاب الزكاة عند الحديث عن زكاة الحلي: " وهذا الذي ذكرته إشكال ابتديته، وليس قاعدةً للمذهب، فحقٌ على من يعتني بجمع المذهب أن يعتمد ما يصح نقله، ويستعمل فكره في تعليله جهده، حتى يكون نظره تبعاً لمنقوله، فأما أن يستتبع المذهَب، فهذا قصد لوضع مذهب " ا. هـ بنصه.
فهو يضع الضابط لتحرير المذهب، وهذا الضابط يقوم أولاً على التأكد من صحة النص المنقول عن الإمام الشافعي، وثانياً أن يكون الجهد في التخريج والتعليل والاستنباط (تبعاً لمنقوله) أي ملتزماً به، أما أن يجعل المذهب تابعاً لاجتهاده، وتعليله، " فهذا قصدٌ لوضع مذهب " أي ابتداع مذهب غير المذهب الشافعي، هذا منهجه في نهاية المطلب.(المقدمة/229)
ولكنه مع هذا لا يمنع من إبداء وجوه الاحتمال والإشكال، فيصرح بذلك قائلاً بعد هذا مباشرة: " نعم بعد النقل يحسن إبداء الإشكال، وذكر وجوه الاحتمال في الرأي، لا ليُعتقد مذهباً، ولكن لينتفع الناظر فيها بالتدرب في مسالك الفقه " ا. هـ بنصه.
فهو إن عرض في كتابه لوجوهٍ من الاحتمال والإشكال، فذلك للتدرّب في مسالك الفقه، لا أن تُعتقد مذهباً.
* وعندما تعرض لعلة الربا في الأصناف الستة وأشار إلى طرفٍ من الخلاف، تجده يكف نفسه عن الاسترسال في ذلك قائلاً: " ولا يليق التعرّض للاختلاف بهذا الكتاب المقصور على بيان مذهب الشافعي وأصحابه، فالوجه الاقتصار على هذا المذهب " ا. هـ
* وفي كتاب الغصب في مسألة إيجاب المثل مع اختلاف الأمكنة وأثره في ذلك، كمن غصب ماءً من مسافرٍ في صحراء، تجده يقول: " وحكينا عن شيخنا إيجاب المثل مع اختلاف الأمكنة من غير تفصيل. وهذا منقاس، لكني لست أثق به؛ فإني لم أره في شيء من الطرق، وسبيلي فيما أنفرد بنقله إذا لم أجده في عين طريقة أن أتوقف، ولا أخلي الكتاب عن ذكره " ا. هـ.
فهو أولاً يردّ قولَ والده، ثم يعلق أنه لا يثق بنقله، مع أنه يعترف بأنه منقاس، وذلك تطبيق للضابط الذي ذكرناه سابقاً، فهو لا يلتزم إلا باعتماد ما رآه في عين طريقة، أي من طرق نقل المذهب، فلا ينسب إلى المذهب إلا ما يتحقق نقله، (فالمذهب نقلٌ) ، أما ما لم يتحقق نقله، فهو لا يخلي الكتاب عن ذكره، ولكنه لا يعدّه من المذهب.
* وإذا كان المنقول ظاهر الشذوذ والبعد عن المذهب، لا يتردد في دفعه، ولو كان عن والده، ويحمل ذلك على خطأ الناقل أو المستمع، جاء في كتاب الزكاة عند الكلام عن أخذ المعيبة في الزكاة قوله: " وما حكيته عن شيخي من التسوية بين الضحايا والزكاة في هذه العيوب غير معدود من المذهب، وإنما هفوة من الناقل، أو المستمع " ا. هـ.(المقدمة/230)
* وفي كتاب الصلاة عند الكلام عن اشتراط الطهارة في البدن يعرض لمسألة وصل العظم المنكسر بعظم نجس، فيقول:
" ... ولولا أن المذهب نقلٌ، وإلا لكان القياس، بل القواعد الكلية تقتضي أن أقول: لا يُنزع [أي العظم النجس] عند الخوف، وجهاً واحداً، ولا عند الاكتساء بالجلد، وحصول الستر والبطون، وكان لا يبقى احتمال إلا في صورةٍ، ألا وهي إذا أمكن الوصل بعظم طاهر، واعتمد الوصل بالنجس واعتدى، فهل ينزع والحالة هذه؟ الظاهر أنه لا ينزع مع الخوف، وفيه احتمال بسبب تفريطه، وتسببه إلى هذا ... " ا. هـ.
وهذا كلام مبين غاية البيَان، بالغٌ النهاية في إثبات ما نحاوله.
* وفي كتاب الحجر قال عند الكلام على نفقة المحجور عليه بالإفلاس وزوجه وأقاربه الذين تلزم المفلس نفقتهم، قال: " وفي القلب من نفقة الأقارب مخالجة ظاهرة، ولكن المذهب نقلٌ، ونحن لا نذكر وجهاً إلا عن نقل صريح، أو أخْذٍ من رمز وفحوى في كلام الأصحاب، ولم أر فيما حكيته شيئاًً ".
وكان قد ذكر قبل ذلك بسطورٍ ما نصه:
" الحاكم قبل تفرقة مال المفلس ينفق عليه، وعلى من تلزمه نفقته من زوجاته وأقاربه الذين يستحقون إنفاقه عليهم.... " ثم قال: "وكان لا يمتنع أن يُلحَقَ في حقوقهم بالفقير الذي لا مال له، ولكن أجمع الأصحاب على ما ذكرناه، فليثق الطالب بما نقلناه" ا. هـ
فهو نقل إجماع الأصحاب على النفقة على الأقارب، ولكنه في صدره منه شيء، فلم ير نقلاً صريحاً، ولا مرامز إلى شيء من هذا.
* ويعرض صوراً لما يقطع القدوة في صلاة الجماعة وما لا يقطعها، وفي إحداها يميل إلى ما يخالف المذهب، أو بالتحديد يرى احتمالاً آخراً مقابلاً للمذهب، فيعبر عن ذلك قائلاً: "فلو قيل: ينقطع حكم القدوة، لم يكن بعيداً عن القياس، ولكن لم يصر إلى هذا أحد من الأصحاب، والمذهب نقلٌ، وأنا لا أعتمد قط احتمالاً إلا إذا(المقدمة/231)
وجدت رمزاً وتشبيباً لبعض النقلة، فإذا وضح ذلك، عدنا إلى البناء على ما هو المذهب" ا. هـ
* ثم نراه في هذا الكتاب لا يُعنى بذكر الخلاف المذهبي، وحيثما تطرّق الكلام إلى مسألة خلافية أحال على (مجموعاته-أي كتبه-في الخلاف) ، وإذا ذكر المذهبَ المخالف في مسألة -وما أكثر ما فعل- فهو لا يذكر الخلاف لذاته، فليس هذا معمودَه ولا مقصوده، وإنما الكتاب موضوع لبيان مذهبنا وحفظه وتأصيله، نبه على ذلك مراراً بأجلى بيان، من مثل قوله في باب نكاح المشركات تعقيباً على إحدى المسائل: " ونذكر أصول مذهب أبي حنيفة، والغرض من ذكرها أن يكون تقييداً لمذهبنا في الحفظ؛ فإن الشيء قد يحفظ بذكر ضده " ا. هـ
* ومن عنايته بتحرير المذهب أنه يكرر الضابط الذي وضعه لتحرير المذهب، وأشرنا إليه قبلاً، بنفس الألفاظ تقريباً، فيقول:
" وحق من يريد الاعتناء بالمذهب أن يفهم ما قيل، ويتثبت في النقل، ثم يحيط بالمشكلات، ويستمسك بها في نصرة قولٍ على قول " ا. هـ (قال هذا في كتاب النكاح في مسألة ما إذا أصدق نسوة في عقد واحد صداقاً واحداً) .
هكذا: الفهم لما قيل.
التثبت في النقل
الإحاطة بالمشكلات في التفريع.
الاستمساك بها في نصرة قولٍ على قولٍ.
فملاك الأمر -كما ترى- قولُ إمام المذهب، ونصوصُه، والتثبتُ من صحة النقل وحسنُ الفهم لها، والتفريعُ عليها، وقد تؤدي المشكلات التي تظهر في التفريع إلى نصرة قولٍ على قول، وترجح صحة نقله.
* ولأنه التزم بيان المذهب وتحريره، فهو يورد الوجوه كلها، قويها وضعيفها، ويبذل أقصى الإمكان في توجيهها، عبّر عن ذلك مراراً، من مثل قوله في كتاب(المقدمة/232)
الطهارة: " ومما يجب الاعتناء به أن الوجه البالغ في الضعف -إذا كان مشهوراً- فيتعين ذكر متعلّق له على حسب الإمكان ".
وقوله في كتاب الصلاة: " وإذا عسر عليّ في فصلٍ تخريج المذهب المنقول على قياسٍ أو ربطه بخبر، فأقصى ما أقدر عليه استيعاب وجه الإشكال، وإيضاح أقصى الإمكان في الجواب عن توجيه الاعتراضات " (1) .
* ويصرح بأنه ملتزم بذكر المذهب والإحاطة به، فيعتذر عن ذكر الجليات التي قد يقول قائل: لا مجال لمثلها في مثل هذا الكتاب، فيقول: " ولكني أضطر إلى ذكر الجليات؛ إذ التزمت نظم مذهب جامع ".
* ومن هذا الباب أيضاً -أعني تأصيل المذهب وتحريره- فحصُه تخريجات المزني وقوله عنها:
" والذي أراه أن يُلحق مذهب المزني في جميع المسائل بالمذهب؛ فإنه ما انحاز عن الشافعي في أصلٍ يتعلق الكلام فيه بقاطع، وإذا لم يفارق الشافعيَّ في أصوله، فتخريجاته خارجة على قاعدة إمامه، فإن كان لتخريج مُخرِّج التحاقٌ بالمذهب، فأَوْلاها تخريج المزني لعلو منصبه في الفقه، وتلقّيه أصول الشافعي من فَلْق فيه، وإنما لم يُلحق الأصحابُ مذهبَه في هذه المسألة (2) بالمذهب، لأن من صيغة تخريجه أن يقول: قياس مذهب الشافعي كذا وكذا.
وإذا انفرد بمذهب، استعمل لفظة تشعر بانحيازه، وقد قال في هذه المسألة -لما حكى جواب الشافعي-: " ليس هذا عندي بشيء " واندفع في توجيه ما رآه " ا. هـ بنصه
فهو يعرف للمزني حقه، ويقر بعلوّ منصبه، ويفضل تخريجاته التي التزم فيها أصول الشافعي على تخريجات غيره، ويجعلها الأَوْلى بالالتحاق بالمذهب، أما التي
__________
(1) قال هذا تعقيباً على خلاف الأصحاب في وجوب نزع العظم النجس إذا تداوى بوصله بعظمه أحد، وقد أشرنا إلى المسألة آنفاً.
(2) واحدة من مسائل كتاب الخلع، لا نطيل بذكرها، فقد تُسوّد عدة صفحات.(المقدمة/233)
لا يلتزم فيه أصول الشافعي، فهي ليست من المذهب، مع علوّ منصب صاحبها.
والذي نلفت النظر إليه تنبّه إمام الحرمين، وتنبيهه لصيغة المزني وعباراته، ومتى تدل على التزامٍ بأصول المذهب، ومتى تدل على الخروج عليها.
* وقد نرى للإمام في كتابه هذا اجتهاداً يخالف فيه المذهب، أو يزيده وجهاً، ولكنه يحرص دائماً على أن يميزه عن المذهب بتعبيرٍ واضح، لا احتمال فيه، من مثل قوله: " كنت أودّ لو قال قائل من أئمة المذهب بكذا ".
* بل قد يختار مذهباً مخالفاً، ويعلل لاختياره، ويستدلّ له، ولكنه دائماً يميز اختياره عن المذهب، مثال ذلك: حينما يعرض لرأي الشافعي في الزكاة، وأنه لا يجوز إخراج البدل، وأن الزكاة تخرج من المال الذي تجب فيه الزكاة، فمن كان ماله ذهباً لا يخرج عنه فضة، وهكذا، نجده يشير إلى رأي مالك وقوله: بأن الوَرِق يجزىء عن الذهب، والذهب يجزىء عن الوَرِق، فنراه يعلن ميله لرأي مالك صراحة، فيقول: " وهذا فيه قرب ". ثم يعلل لرأي مالك ويوجهه، فيقول: " إن الماشية إن قدّرت نامية، واعتُقد فيها اختصاص، فلا اختصاص لأحد النقدين عن الثاني بشيء ".
ومع هذا فالحرص واضح على عدم عدّ ذلك من المذهب.
ونكتفي بهذه النماذج -وما أكثرها في تضاعيف الكتاب- فهي كافية بالغة الدلالة، ونخوض في وجهٍ آخر يبين منزلة كتابنا هذا في بناء المذهب.
***
المذهب الكبير:
ويؤكد منزلة كتابنا هذا ومكانته في تحرير المذهب وبنائه أنه عُرف باسم (المذهب الكبير) وصار عَلَماً عليه، يشهد لذلك ما ذكره ابن الصلاح في (أدب الفتوى) قال: حدثني أحد المفتين بخراسان أيام مقامي بها عن بعض مشايخه، أن الإمام أحمد الخَوافي قال للغزالي في مسألةٍ أفتى فيها: لقد أخطأت، فقال الغزالي: من أين والمسألة ليست مسطورة؟(المقدمة/234)
فقال الخَوافي: بلى، في (المذهب الكبير) .
فقال الغزالي: ليست فيه.
قال ابن الصلاح: ولم تكن في الموضع الذي يليق بها، فأخرجها له الخوافي من موضعٍ أجراها فيه المصنف استشهاداً ... الخ الحكاية". ا. هـ
وعقب على هذه الحكاية ابنُ الصلاح قائلاً: " والمذهب الكبير هو نهاية المطلب تأليف الشيخ أبي المعالي الجويني " (1) .
وجاء في مشكل الوسيط قول ابن الصلاح: " وقوله -أي الغزالي- " المذهب البسيط " عبارة خراسانية، ويسمون (نهاية المطلب) المذهب الكبير، أي كتاب (المذهب البسيط) ، والله أعلم " (2) ا. هـ
وقال السبكي في ترجمة عبد الجبار بن محمد الخُواري ت 536 هـ: " تفقه على إمام الحرمين، وعلَّق المذهب عليه وبرع فيه، وكان سريع القلم، نسخ بخطه (المذهب الكبير) للجويني أكثر من عشرين مرة، وكان يكتبه ويبيعه، قلتُ (السبكي) : المذهب الكبير هو (نهاية المطلب) " (3) ا. هـ
وشيوع هذا الاسم (المذهب الكبير) وتسمية (النهاية) به لا يحتاج إلى دليل أكثر من هذا، فهو شائع ذائع، يعرفه كل من له إلفٌ بأمهات كتب المذهب.
***
الإمام:
يطلق لقب (الإمام) مطلقاً بدون تقييد في كتب الشافعية، ويراد به إمام الحرمين، وهذا الإطلاق مبكرٌ جداً، فقد رأيناه عند البغوي المتوفى سنة 516 هـ، فهل لهذا الإطلاق علاقة بما قام به من تحرير المذهب في كتابه هذا (نهاية المطلب) ؟؟
أكاد أجزم بهذا؛ فلم تكن هذه الألقاب تطلق هزلاً، وإذا كان لقب (الإمام) إذا
__________
(1) أدب الفتوى: 83.
(2) مشكل الوسيط لابن الصلاح بهامش الوسيط: 1/471.
(3) طبقات السبكي: 7/144.(المقدمة/235)
أطلق عند رجال أي مذهب، فمعناه مؤسس المذهب، فلا شك أن إمام الحرمين ما صار (الإمام) بعد الإمام الشافعي إلا لأن كتابه صار معتمد المذهب ومرجوعه، فهذه (إمامته للمذهب) .
وإطلاق هذا اللقب على إمام الحرمين من الشيوع بحيث لا يحتاج إلى إثبات وتدليل. وقد كان شيوع هذا اللقب مبكراً جدّاً؛ فالبغوي المتوفى 516 هـ عن ثمانين عاماً -فقد ولد سنة 436 هـ- ويكاد يكون معاصراً لإمام الحرمين؛ فقد كانت سنُه فوق الأربعين يوم وفاته، وجدناه يقول في (شرح السنة) عند الكلام عن حديث: " مطل الغني ظلم ": " ... قال الإمام: فيه دليل على أنه يجوز لصاحب الحق التشديد على المديون المليء بالقول" (1) .
وبلغ شيوع هذا اللقب حَدّاً صار به علماً على إمام الحرمين، فبين يديّ كتاب أدب القضاء لابن أبي الدم المتوفى سنة 642 هـ، وقد ورد فيه ذكر إمام الحرمين، والنقل عنه والاستشهاد بكلامه نحو مائتي مرة معظمها بلفظ الإمام، على سبيل المثال جاء في ص 484: " قال الإمام: وهذا عندي خطأ ... " وفي ذات الصفحة يقول: "قال الإمام: والمسألة محتملة مع ما ذكرناه" وفي الصفحة التالية 485 يقول: " قلت أنا: هذا الخلاف بين الإمام والصيدلاني " وفي ذات الصفحة يقول: " وظاهر فحوى كلام الإمام ... " فهذه أربع مرات متتالية في صفحتين متتاليتين مما يشهد بأن ذلك اللقب صار (علماً) على إمام الحرمين.
ونجد ابن الصلاح المتوفى سنة 643 هـ -مع تحامله على إمام الحرمين لما بين المحدّثين والمتكلمين- في كتابه (مشكل الوسيط) جعل هذا اللقب (الإمام) علماً على إمام الحرمين، كرر ذلك في كتابه مراراً، في ثنايا تعقبه لمؤلف (الوسيط) أبي حامد الغزالي، وشيخه إمام الحرمين.
وكذلك نجد العلائي، خليل بن كيْكلدي المتوفى سنة 761 هـ يحكي في كتابه (جامع التحصيل في أحكام المراسيل) كلام إمام الحرمين في تعريف الحديث
__________
(1) شرح السنة: 8/194 وهذا عين ما قاله الإمام في النهاية.(المقدمة/236)
المرسل، ثم يعقب على ذلك قائلاً: " هذا كلام الإمام في البرهان " (1) .
وفي أول كتاب العلم -باب فضل العلم- من فتح الباري يطالعنا قول ابن حجر: " وقد أنكر ابن العربي في شرح الترمذي على من تصدّى لتعريف العلم، وقال: هو أَبْين من أن يبيّن " قلت: وهذه طريقة الغزالي وشيخه الإمام أن العلم لا يحد لوضوحه أو لعسره (2) "
وفي (المنثور) (3) نجد قول الزركشي: "وقال الإمام في (الغياثي) : أهم المطالب في الفقه التدزب في مآخذ الظنون في مجال الأحكام، وهو الذي يسمى فقه النفس" (4) .
وتجد الزركشي أيضاً في إعلام الساجد بأحكام المساجد يعرض لحكام الصلاة على سطح الكعبة والخلاف في ذلك، ويحكي رأي إمام الحرمين قائلاً: " وقال الإمام: لا شك أنه يجزئه في السطح (5) " وجاء مثل ذلك في مواضع أخرى، على سبيل المثال: ص 95، 99 (6) ونجده كذلك في (خبايا الزوايا) يذكره بالإمام مطلقاً في مواضع كثيرة: (انظر مثلاً: ص 59، 85، 96، 159، 197 (7)) .
__________
(1) جامع التحصيل في أحكام المراسيل ت 23.
(2) فتح الباري: 1/141.
(3) المنثور: 1/68.
(4) الغياثي: فقرة: 582.
(5) إعلام الساجد: 94.
(6) ومما يذكر هنا أن المحقق الفاضل لم يعرف أن المقصود بالإمام هو إمام الحرمين، ولذا لم يذكر هذه الصفحات له في فهرس الأعلام.
(7) وهم المحقق الفاضل أبو الفضل إبراهيم رحمه الله في تحقيقه لكتاب (البرهان في علوم القرآن) للزركشي، حيث فهرس تحت لقب إمام الحرمين لفظ الإمام مطلقاً حيثما ورد في الكتاب، على ما جرت به العادة في كتب الشافعية، فقد جاء في كلام الزركشي (2/263) قوله: " واستشكله الإمام في تفسيره ... ".
ففسر الإمام في الحاشية بأنه (إمام الحرمين) ، مع أن المراد بلفظ الإمام هنا الإمام الفخر الرازي، فمن المعلوم أن لقب الإمام مطلقاً بغير قيد في كتب التفسير يراد به الإمام فخر الدين الرازي.(المقدمة/237)
أما شيخا المذهب الرافعي والنووي نجد هذا الإطلاق شائعاً في كتبهما، وبخاصة الشرح الكبير، والمجموع شرح المهذب، وروضة الطالبين، وبلغ شيوع هذا الإطلاق حدّاً لا يحتاج معه إلى إيراد نماذج، وذكر أمثلة، ومواضع وأرقام صفحات، فحيثما قلبت في هذه الكتب تجده أمامك.
وكذلك تجد هذا الإطلاق في مؤلفات السبكي التقيّ، والسبكي التاج.
كما تجد هذا أيضاً عند الخطيب الشربيني في الإقناع، وفي النهاية لولي الدين البصير، وتتابع على هذا أئمة الشافعية في كتبهم وشروحهم وحواشيهم.
وما ذكرناه مجرد أمثلة فقط. فحيثما وجدت لقب (الإمام) مطلقاً -في كتب مَنْ بعد إمام الحرمين- فاعلم أنه إمام الحرمين، وحذارِ أن تظن أنه الإمام الشافعي.
ومن أوهام الخواصّ في هذا الباب أن مصحح روضة الطالبين (1) -على فضله- قرأ قول النووي: 1/215: " قلت لم يجزم الإمام بأنه يكون على ذلك الخلاف، بل قال: في هذا تردد عندي "، فظن خطأً أن هذا الإطلاق يعني أن المقصود هو الإمام الشافعي، وواضح أن مثل هذا لا يكون من كلام الشافعي، فراجَعَ الشرحَ الكبير الذي هو أصل الروضة، وراجعَ المجموع، فوجد العبارة فيهما منسوبةً لإمام الحرمين، فغيّر عبارة النووي حتى صارت: " لم يجزم إمام الحرمين ... " وقال في الهامش: " في الأصل (الإمام) وقد صوّبتها من المجموع للنووي، والشرح الكبير للرافعي " ا. هـ.
والواقع أنه خطّأ الصواب، وأتى مكانه بمرادافٍ؛ فالإمام هو إمام الحرمين بعينه.
وهذا الوهم إلى هنا أمره محتمل غير خطير، ولكن تُرى ماذا فعل المحقق الكريم بما رآه من عشرات المرات للفظ الإمام، ولم يجد تصريحاً في مصدرٍ آخر بأن
__________
= ومما يسجل هنا أن الزركشي كان دقيقاً في استعمال هذا اللقب، فقد رأيناه في كتبه الفقهية يطلق على إمام الحرمين لقب (الإمام) مطلقاً، وأما في البرهان في علوم القرآن فاحتاط للأمر فذكر إمام الحرمين في كل موضع ورد فيه بهذا الاسم (إمام الحرمين) أو يقول: الجويني.
(1) طبعة المكتب الإسلامي، فقد طبعت بعدها طبعة لا خير فيها، ولا ثقة بها.(المقدمة/238)
المقصود إمام الحرمين؟!! هل فسرها بأنها الإمام الشافعي؟ أم بأي إمام؟ إن هذا الوهم وأمثاله لو لم يتدارك، لقلب الموازين، وغيّر وبدّل، وسمى الأشياء بغير أسمائها، وذلك لعمري خلل عظيم.
عُدنا للحديث عن منزلة الإمام.
ولعل من أعظم الأدلة على شيوع وذيوع هذا اللقب (الإمام) وإطلاقه على إمامنا أنه انتقل إلى لسان أئمة المذاهب المخالفة، وتردد في كتبهم، فقد وجدنا صاحب مسلّم الثبوت (ابن عبد الشكور) المتوفى 1119هـ -عند الحديث عن تعبد النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وهل كان متعبداً بشرعٍ، أو بغير شرع- يقول: " ونفاه المالكية، وجمهور المتكلمين: فالمعتزلة قالوا: التعبد بشرعٍ مستحيل، وأهل الحق: غير واقع، وعليه القاضي، وتوقف الإمام (1) والغزالي " (2) .
وعند الحديث عن تعدد العلة وتعليل الحكم بأكثر من علة، يقول: " والإمام قال: يجوز التعدد عقلاً ويمتنع شرعاً " (3) .
والأبلغ من ذلك دلالة أن يذيع تلقيب الإمام بهذا حتى ينتقل إلى لسان أئمة فنون أخرى غير الفقه والأصول، والعلوم الشرعية كلها، فنجده عند أئمة اللغة، وفي كتبهم، فها هو ابن هشام في كتابه الفذ (مغني اللبيب) عند الحديث عن (الواو) ومعانيها يقول: " ونقل (الإمام) في (البرهان) عن بعض الحنفية أن الواو للجمع " (4) .
***
__________
(1) ر. البرهان في أصول الفقه: 1/فقرة رقم: 423، حيث يقول الإمام بالتوقف في هذه المسألة.
(2) ر. شرح مسلم الثبوت: 2/183.
(3) السابق نفسه: 2/282، وانظر البرهان: 2/فقرة رقم: 791، حيث يقول الإمام: " تعليل الحكم الواحد بعلتين ليس ممتنعاً عقلاً وتسويغاً، ونظراً إلى المصالح الكلية، ولكنه ممتنع شرعاً " ا. هـ بنصه.
(4) مغني اللبيب عن كتب الأعاريب: 464.(المقدمة/239)
ولم يكن لقب (الإمام) وإطلاقه عليه بغير تقييد هو وحده الذي عظّم به الشافعية إمام الحرمين، فأنت واجدٌ في كتبهم تعظيم الإمام شائعاً بأكثر من لقب، سواء وافقوه أو خالفوه، ويكفي أن نشير إلى نموذج يسير من ذلك، فها هو النووي يحكي كلامه في مسألة من مسائل المياه، فيقول: "قال إمام الحرمين، وهو عمدة المذهب ... " (1) .
وعندما يردّ قوله ويخالفه يقول: "ومن أظرف العجائب قول إمام الحرمين هذا مع علو مرتبته، ونفوذه في العلوم مطلقاً (2) ".
فمع هذا الرّدّ لقول الإمام إلا أنه لم يسعه إلا الإقرار بعلوّ مرتبته، ونفوذه في العلوم مطلقاً.
أما السبكي، فيسميه: "لسان المذهب ولسان الشريعة"، ونص عبارته:
" مسألة: اشتهر عن الشافعي رضي الله عنه أن تَرْك الاستفصال في حكاية الأحوال، مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، وهذا وإن لم أجده مسطوراً في نصوصه، فقد نقله عنه لسان مذهبه، بل لسان الشريعة على الحقيقة أبو المعالي رضي الله عنه (3) ".
ولم يكن هذا -أيضاً- عند علماء الشافعية وأئمتهم، بل رأيناه عند المخالفين، بل أشدهم خلافاً، فقد وجدنا ملا علي القاري، وهو أحد أقطاب الحنفية، وأحد مجددي القرن الحادي عشر، شيخ الإسلام ببلد الله الحرام، وجدناه وقد ألف رسالة في الرد على إمام الحرمين في كتابه (مغيث الخلق (4) ، قال في مقدّمة هذه الرسالة (5) عن إمام الحرمين: " لا شك أن مدار أصول الشافعية، وفروعهم عليه " فمع أن المقام مقام
__________
(1) المجموع: 1/54.
(2) المجموع: 6/525.
(3) ر. الأشباه والنظائر: 2/137.
(4) هذا الكتاب مزيف مدَّعَّى على إمام الحرمين، وقد صار عندنا من الشواهد والأدلة ما يقطع بذلك، فعسى الله أن ينسأ في الأجل، ويعيننا على إتمام هذا البحث، وإخراجه، فقد ظلم إمام الحرمين بسبب هذا الكتاب ظلماً بينا من بعض المتعصبة.
(5) مخطوطة بمكتبة الحرم المكي، عندي صورة لها، هدية من الأخ العلامة الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان عضو هيئة كبار العلماء في السعودية.(المقدمة/240)
تعصب مذهبي، وردٌ ومحاجة وخصومة، إلا أن منزلة إمام الحرمين لم تغب عن بال صاحب الرسالة، رضي الله عنه وعن إمامنا، وكل الأئمة الأبرار.
ومن أئمة المذهب المالكي نجد الإمام ابن العربي يسمي إمام الحرمين (رأس التحقيق) ، ومن عجب أنه يقول هذا في ثنايا ردّه على الإمام واختلافه معه. (انظر المسألة كاملة في أحكام القرآن: 1/374) .
ثم نذكِّر بأن حديثنا هذا هو حديث عن (النهاية) ومنزلتها، فالإمام إنما بلغ هذه المنزلة، واستحق هذه المكانة، وتحلّى بهذه الألقاب لكونه صاحب (النهاية) ، ونقرّب ذلك بقولنا: إذا كانوا يقولون: إن الأسلوب هو الرجل، فلم لا نقول نحن هنا: " إن الكتاب هو الرجل ".
***
ومن جانب آخر حفظت لنا (النهاية) نصوصاً أصيلة لأئمة كبار، لم تصل إلينا مؤلفاتهم للآن، وتعتبر في عداد المفقود الذي ضاع من تراث أمتتا، مثل مؤلفات ابن سُريج، وابن الحداد، وأبي علي السنجي، والقفال، وصاحب التقريب وغيرهم، احتفظت لنا (النهاية) بكثير من هذه النصوص، بل أهمها، أعني ما هو موضع المناقشة والاستشهاد، أو المخالفة والردّ من أقوال الأئمة الأعلام.
***
بقي أن نعرض لقضية اتصال كتب الغزالي (بنهاية المطلب) وابتناؤها عليها، ومع أن ذلك معروف يتردد بوضوح في كتب المذهب الشافعي، ولا يحتاج منا إلى إثبات، ولكن الذي يدعونا إلى ذلك، أن علماً من أعلام الفقه في عصرنا، وهو من الأثبات الذين يعتد برأيهم، ويستمع لقولهم، ناقش في ذلك ذات يوم قائلاً: " إنه رجع إلى (وسيط الغزالي) ، فلم يشعر بأن الغزالي يعتمد على إمام الحرمين، أو ينقل عنه ".
ومن أجل ذلك نقول: إن مما يؤكد ذلك، ويشهد به أدلةٌ وشواهد، لا تقع تحت حصر وعدٍّ منها:
* إن ذلك شاع وذاع عن الغزالي حتى أُوخذ به، وعيب عليه، كما نقله طاش(المقدمة/241)
كبري زاده، بعد أن ترجم له وعدّد مناقبه ومؤلفاته (1) - قال:
" ومع هذا الفضل الغزير لم يسلم من قيل وقال، حتى خوطب بأنك ما عملت شيئاًً: أخذت الفقه من كلام شيخك، يعني إمام الحرمين في (نهاية المطلب) والتسمية لكتبك من الواحدي (2) " ا. هـ وبلغ من ذيوع ذلك القول أن الزركلي جزم به في الأعلام، فقال في ترجمة الواحدي، بعد أن عدد أسماء كتبه: " أخذ الغزالي هذه الأسماء وسمى بها تصانيفه ".
وقد ذكر هذه العبارة الصفدي في الوافي، وزاد عليها: " ويقال: إن (نهاية المطلب) لإمام الحرمين، كانت زُبر حديد، فجعلها الغزالي زُبر خشب " (3) .
* إن النووي في المجموع أكثر نقلاً عن (النهاية) وإمام الحرمين، وإذا ذكر الغزالي، أو كتابه البسيط، يذكره تبعاً لإمام الحرمين، ونهاية المطلب، وعباراته عن ذلك غالباً -بل دائماً- " اختاره الإمام، والغزالي في البسيط ".
* إن ابن الصلاح والنووي في تعقباتهما للغزالي -في مشكل الوسيط والتنقيح- يقولان -غالباً- وهذا أخذه عن شيخه في (النهاية) وكأنهما يورّكان بالخطأ على إمام الحرمين، ويحمّلانه خطأ الغزالي فيما تعقباه فيه.
* ومما يشهد، بل يؤكد اختصار (البسيط) (للنهاية) ما قاله النووي في المجموع: 1/146، وسلك إمام الحرمين طريقاً جامعاً مبسوطاً في هذه المسألة، ثم " اختصره الغزالي في البسيط "، فقال: ...
وذكر عبارة الغزالي، وعند مقارنتها بعبارة النهاية وجدنا الاختصار واضحاً جلياً.
* وأكثر دلالة، وأوضح عبارة قول ابن الصلاح، وهو يتعقب الغزالي في واحدة
__________
(1) مفتاح السعادة ومصباح السيادة: 2/202 طبعة حيدر آباد، عن عبد الرحمن بدوي - مؤلفات الغزالي: 479.
(2) الواحدي، علي بن أحمد بن محمد بن علي، أبو الحسن الواحدي: مفسر، عالم بالأدب، مولده ووفاته بنيسابور، له البسيط والوسيط والوجيز كلها في التفسير توفي 468 هـ (الأعلام للزركلي، وانظر النجوم الزاهرة: 5/104 وطبقات السبكي: 5/240) .
(3) الوافي بالوفيات للصفدي: 1/274.(المقدمة/242)
من مسائل الوسيط: " وهذا مشكل غير مذكور في (البسيط) وأصله وهو (النهاية (1)) ".
وقوله في موضع آخر: " كذا وقع في (الوسيط) و (البسيط) وفي أصلهما (نهاية المطلب (2)) " فهذا نصٌّ في القضية.
* وتستطيع أن ترى هذا بعينك إذا وضعت (النهاية) و (البسيط) بين يديك، ونظرت المسألة الواحدة فيهما، فعلى سبيل المثال لو عرضنا مسألة من مسائل النذر، وهي قوله: " لله علي أن أصوم يوم يقدم فلان ".
لو عرضنا هذه المسألة بحروفها في نهاية المطلب، وكذلك بحروفها في (البسيط) ، لوجدنا التأثر واضحاً تماماً، لا يحتاج إلى تعليق، فما قدم به الإمام للمسألة من تأصيل قدم به الغزالي بنفس الألفاظ تقريباً، ثم في عرض صور المسألة وتفريعاتها تجد الترتيب هو هو (3) .
* وبعد أن كتبنا هذا، ورتبناه، حصلنا على صورة غير مبتورة للجزء الأول من مخطوط (البسيط) ، فوجدنا الغزالي يقول في خطبة الكتاب: ".... وجعلته حاوياً لجميع الطرق، ومذاهب الفرق القديمة والجديدة، والأوجه القريبة والبعيدة، ومشتملاً على جميع ما اشتمل عليه مجموع إمامي إمام الحرمين أبي المعالي قدس الله روحه " وبهذا "قطعت جهيزة قول كل خطيب".
* ومع كل ذلك نقول: إننا لا نريد أن نثبت أن الغزالي مجرد ناقلٍ لفقه إمام الحرمين -حاشاه-، فلم يأخذ النهاية عفواً صفواً، وكيف يصح هذا في عقل عاقل، والغزالي هو من هو، إن عمل الغزالي في إعادة صياغة (النهاية) ، وترتيبه المسائل والفصول ترتيباً منطقياً، وبناء بعضها على بعض، ليس عملاً هيناً، بل يحتاج إلى عقلٍ
__________
(1) ر. مشكل الوسيط، مطبوع بهامش الوسيط: 1/322-323.
(2) السابق نفسه: 1/483-484.
(3) هممت أن أعرض النصين، فوجدت ذلك يستغرق نحو عشر صفحات، فلم أشأ التطويل والإثقال، فراجع ذلك إن شئت.(المقدمة/243)
واعٍ وفكر ثاقب، وذهن متوقد، وقدرة على الإحاطة الشاملة الكاملة بالأبواب والفصول، وإدراك ضوابطها، ومعاقدها، ومفاصلها.
ثم إن الغزالي له مع ذلك زياداته، واختياراته.
فالقول بأنه اختصر (النهاية) في (البسيط) لا يقدح في منزلته، ولا ينال من علو منصبه، وارتفاع مرتبته.
***
ونوجز ما قلناه عن منزلة النهاية ومكانتها فيما يأتي:
- إن الإمام حدد الغاية التي يتغياها من تأليفها بقوله: إنه أرادها تهذيباً للمذهب، وسماها اسماً يشعر بمضمونها.
- ثم التزم ذلك منهجا له على طول الكتاب، يذكِّر به، ويجدد العهد بالتزامه من حين لآخر.
- وقد عرف رجال المذهب ذلك، فسمَّوْها (المذهب الكبير) .
- وبها عرفوا قدر مؤلفها، فسمَّوْه (الإمام) مطلقاً.
- ثم قد حفظت لنا نصوصاً لأئمة كبار لم نعرف عنها شيئاًً للآن.
- وعليها بنيت كتب المذهب، حتى استفاض بين أئمته القول: " منذ ألف الإمام كتابه (نهاية المطلب) لم يشتغل الناس بغير كلامه ".
***(المقدمة/244)
الفصل الخامس
وفيه مبحثان.
المبحث الأول - من ملامح منهج إمام الحرمين وصفاته.
المبحث الثاني - أسلوب إمام الحرمين.(المقدمة/245)
المبحث الأول: من ملامح منهج إمام الحرمين وصفاته على ضوء (نهاية المطلب)
لا بدّ من منهج جديد للحكم على المذاهب والرجال:
نقدم بين يدي هذا الفصل من مقدمات النهاية دعوةً إلى منهج جديد للحكم على المذاهب والرجال، والتأريخ للعلوم، والفنون، والمذاهب.
هذا المنهج يجب أن يقوم على قراءة النصوص وتحليلها، ودراستها وفهمها، ولا نكتفي بنقل ما يقوله السابقون بعضهم في بعض، فلم يعد مقبولاً أن نردّد ما يقوله الأشاعرة عن المعتزلة، والمعتزلة عن الأشاعرة، ولا ما يقوله الشافعية عن الأحناف، والأحناف عن الشافعية مثلاً؛ فمعظم هذه أحكام مطلقة يردّدها لاحق عن سابق، حتى تصبح من كثرة الترداد، والتناقل حقائق ثابتة، ومسلمات بدهية، ومقدمات ضرورية؛ على حين لو قمنا بدراسة النصوص الأصلية لكل جماعة أو مذهب، لوجدنا أن كثيراً من هذه المسلّمات لا ثبات لها.
* على سبيل المثال وجدنا معظم الأصوليين -في مبحث الحكم- يقولون:
" لا حاكم إلا الله، خلافا للمعتزلة؛ فإنهم يحكمون العقل ".
وعندما قمنا بتتبع نصوص المعتزلة في كتبهم الأصيلة لم نجد هذا صحيحاً بهذا الإطلاق، وإنما هذا قول المعتزلة قبل ورود الشرع، أما بعد ورود الشرع، فلا حكم إلا لله، ولا يوجد مسلم يقول بغير هذا.
وعلى ذلك تخرج هذه المسألة من علم أصول الفقه إلى علم أصول: الدين (1) .
__________
(1) انظر بحثاً لنا بعنوان: (العقل عند الأصوليين) .(المقدمة/247)
* وأحياناً يُخدع الباحث والمؤرخ بكثرة الترداد في الكتب والمصادر، وتبدو له القضية مجمعاً عليها؛ فينقل ذلك مؤكداً له، معتداً به، ويرتب عليه من النتائج والآثار ما يرتب.
على حين لو عاد إلى أصول المسألة، وتتبع جذورها، لوجد هذه الكثرة الكاثرة -من القائلين بها، المردّدين لها- ترجع إلى راوٍ واحد، وعنه أخذ الآخذون، وأشاع المشيعون. ومثال ذلك: هذا الخبر المستبشع، الذي لا يصح في عقلٍ سليم، وأعني به ما قيل عن وقعة الحرة، وأن قائد يزيد بن معاوية أباح المدينة لجنوده ثلاثة أيام حتى ولدت خمسة آلاف عذراء بعد تسعة أشهر من ذلك اليوم المشؤوم.
هذا الخبر البالغ البشاعة ذاع وانتشر، وأصبح مسطوراً في معظم المصادر والمراجع، وربما كان هذا الشيوع بسبب غرابته وبشاعته؛ فللناس ولوع برواية الغرائب والعجائب، كما يقول ابن خلدون.
على حين عند الفحص والبحث، وتتبع جذور الخبر وأصوله، تجد أنه لا أصل له؛ فلم يروه إلا راوٍ واحدٌ تالفٌ كذاب، هو أبو مخنف، لوط بن يحيى، أخباري تالف، لا يوثق به، قال فيه ابن عدي: شيعي محترق، صاحب أخبارهم (1) .
وإنا لنعجب من ترديد هذا الخبر قديماً وحديثاً، مع أنه يحمل في ثناياه أدلة كذبه واختلاقه؛ فهذا الجيش الذي أُلصقت به هذه الفرية كان كله من الصحابة والتابعين؛ فكيف يقبل العقل أن يَفْجروا بعذارى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهن أيضاً من بنات الصحابة والتابعين.
هذا كله على فرضٍ مستحيلٍ، وهو أن قائد الجيش: مسلم بن عقبة المرّي، وهو العربي القرشي الصحابي، الذي نيف على التسعين من عمره، قد صدر منه الإباحة لجنوده، وما كان هذا من شيم العرب في جاهليتهم وحروبهم القبلية، فكيف يكون منهم هذا بعد أن أنعم الله عليهم بالإسلام!! أليس العربي الجاهلي هو الذي كان يقول:
__________
(1) ميزان الاعتدال للذهبي: 3/420.(المقدمة/248)
وأغض طرفي إن بدت ليَ جارتي ... حتى يواريَ جارتي مثواها
* ومن هذا الباب أيضاً نسبة كتاب (تهذيب الأصول) لمؤلفه الإمام أبي حامد الغزالي، فقد شكك في هذه النسبة المستشرق موريس بويج (1) -وهو يكاد يكون متخصصاً في دراسة الغزالي- فمع أنه قرأ عبارة الغزالي في مقدمة المستصفى التي يقول فيها: " إنه يريد أن يكتب كتاباً أقل تفصيلاً من كتاب (تهذيب الأصول) " (2) وعلى الرغم أن بعض من ترجموا له نسبوه إليه، مثل صاحب (الطبقات العلية في مناقب الشافعية) للفقيه محمد بن الحسن بن عبد الله الحسيني الواسطي المتوفى 776 هـ.
وقد عقب الدكتور عبد الرحمن بدوي على ذلك قائلاً: " وكلام بويج هذا يدعو إلى العجب! فكيف يقرر الغزالي نفسُه صراحة: " أنه يريد أن يصنف كتاباً يقع في الحجم دون كتاب (تهذيب الأصول) لميله إلى الاستقصاء والاستكثار " ومعنى هذا أنه يصرّح بأن له كتاباً بهذا الاسم، وإلا لذكر اسمَ مؤلف الكتاب إن كان لمؤلف آخر؛ لأنه لا يتحدث في هذا الموضع إلا عن كتبه هو. كيف يقرر الغزالي هذا كله بصراحة ووضوح، ثم يأتي (بويج) فيقول: " إنه لا يجرؤ أن ينسب إلى الغزالي كتاباً بهذا العنوان " (3) .
وإذا كان المستشرق بويج قد فهم أن الغزالي يقصد بكتاب (تهذيب الأصول) كتاباً لمؤلف آخر، وإذا كان الدكتور عبد الرحمن بدوي قد عجب من هذا الفهم، الذي لا تساعد عليه المناسبة والمقام، بل تؤكد عكسه؛ فإن الذي يفصل في القضية، ويقطع كل تردّد هو ما قاله الغزالي في (المستصفى) في موضع آخر (4) حيث قال: " ... وقد أطنبنا في كتاب (تهذيب الأصول) في توجيه الأسئلة على الآية ودفعها ... " اهـ يقصد قوله تعالى: {وَمَن يشَاقِقِ اَلرسُولَ مِن بَعدِ مَا تبَين لَهُ اَلْهُدَى وَيَتَبِع
__________
(1) مؤلفات الغزالي عبد الرحمن بدوي: 210.
(2) المستصفى: 1/4
(3) ر. مؤلفات الغزالي: 210، 211، 471.
(4) جـ 1: 175.(المقدمة/249)
غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء: 115] ؛ فهذا تصريحٌ واضح تمام الوضوح بأن كتاب (تهذيب الأصول) من تأليفه.
فلو كان (بويج) قد قرأ أعمال الغزالي، ما تشكك في نسبة كتاب (تهذيب الأصول) إليه، ولو كان عبد الرحمن بدوي قد قرأ أعمال الغزالي، لوقع على هذه العبارة، ولجاء ردّه على (بويج) قاطعاً نضاً، لا استنتاجاً، ولكان شافياً مقنعاً لـ (بويج) ولكل المتشككين، ولحسمت القضية، ولم تبق معلقة بين باحِثَين مثبتٍ ونافٍ.
فهذا دليل آخر يؤيد دعوتنا إلى ضرورة بناء دراسات الفكر الإسلامي والحكم عليه على تحليل المؤلفات ذاتها، والرجوع إلى مادة المصادر عينها، وهذا يتطلب منا بذل جهودٍ صادقة (لتكشيف) كتب التراث، وفهرستها فهرسة علمية دقيقة.
وأعتقد أن ذلك عندما يتم، وتراجع الأحكام والدراسات على ضوء النصوص التراثية، وتحليلها، وفهمها، أعتقد أن كثيراً من الأحكام الموروثة الشائعة بيننا الآن ستتغير، ومميكلون تغيير كثير منها إلى العكس تماماً.
***
بعد هذا التمهيد نأخذ في بيان بعض ملامح منهج إمام الحرمين على ضوء ما ندعو إليه، أي نستخرجها من نصوص كتابه هذا (نهاية المطلب) .
أولاً - بصر وبصيرة بروح الشرع، ومقاصد الشريعة:
* فمن ذلك عندما عرض لأحكام المياه، وذكر حكم الماء إذا خالطه التراب، وكان بحيث لا يمنع إطلاق اسم الماء عليه، وقول الجمهور: " إنه لا يسلب الماء طهوريته "، ردّ تعليلَهم ذلك الحكمَ: " بأن التراب طهور في نفسه، فهو موافق للماء في صفته، فلا يضر تغير الماء به " وأنكر عليهم هذا التعليل أشدّ الإنكار، قائلاً: " هذا من ركيك الكلام، وإن ذكره طوائف؛ فإن التراب غير مطهّر، وإنما عُلِّقت به إباحةٌ بسبب ضرورة، والكلام في أصله مفرّع على طريقة غير مرضية، وإذا طال التفريع على الضعيف، تضاعف ضعفه ". اهـ(المقدمة/250)
فهو يرفض عدّ التراب مطهِّراً، منكراً أن يكون في استعماله في التيمم معنى التطهير والتنظيف، وإنما " عُلِّق بالتراب إباحةٌ بسبب ضرورة " فهو يرى أن التيمم مبيحٌ، وليس رافعاً للحدث، وقد قال ذلك صراحة عند الكلام على النية في التيمم، قال: " مقصود هذا الفصل القول في كيفية النية في التيمم. وأصل الفصل أن التيمم لا يرفع الحدث، ولكنه يبيح الصلاة، والدليل عليه أن من أحدث أو أجنب وتيمم، ثم وجد الماء، فيلزمه التطهّر بالماء، على حسب ما تقدم من حدثه ...
والسبب في التيمم أن من وجد الماء، فهو مأمور باستعماله لرفع الحدث، فإن لم يجده، وظّف الشارع عليه التيمم ليدوم مرونه على إقامة الطهر؛ إذ قد يدوم انقطاعه عن الماء الذي يجب استعماله أياماً، فلو تمادى انكفافه عن الطهارة -وهي ثقيلة- لاستمرت النفس على تركها، فالتيمم إذاً لاطراد الاعتياد في هذه الوظيفة ". اهـ
* ويتصل بهذا أنه خالفَ الأصحاب جميعاً في قولهم بضرورة بسط التراب على جميع أعضاء التيمم رادّاً لإعطاء التراب حكم الماء، حيث رأى اختلاف وظيفة كل منهما وهو يؤكد انفراده بهذا، وأن أحداً من الأصحاب لم يسمح به. وهاك نص ما قاله في ذلك:
" والذي ذكره الأصحاب أن يجب إيصال التراب إلى جميع محل التيمم يقيناً، ولو تردّد المتيمم في ذلك، وأشكل عليه، وجب إيصال التراب إلى محل الإشكال، حتى يتيقن انبساط التراب على جميع المحل، وهذا على القطع منافٍ للاقتصار على الضربة الثانية؛ فإن الاقتصار عليها يوجب عدم الانبساط، ضرورةً وقطعاً، وليس قصور التراب مع غاية التأني يتفق على ندور، بل هو أمر لا بد عنه.
فالذي يجب اعتقاده أن الواجب استيعاب جميع المحل بالمسح باليد المغبرة، من غير ربط الفكر بانبساط الغبار. وهذا شيء أظهرته، ولم أر بدّاً عنه، وما عندي أن أحداً من الأصحاب يسمح بأنه لا يجب بسط التراب على الساعدين ". اهـ
* وشديد الاتصال بهذا ردّه لغلو بعض الأصحاب في كيفية التيمم، ولتصخ السمعَ لنص عبارته في ذلك، قال: " ... كان شيخي يحكي عن القفال: أنه إذا عبق الغبار(المقدمة/251)
بخلل الأصابع في الضربة الأولى، ثم لم يُنفَض حتى ركب ذلك الغبارَ غبارٌ في الضربة الثانية، فلا يصح التيمم؛ فإن الغبار الأول يمنع الغبار الثاني، ولا يمكن الاكتفاء بذلك الغبار؛ فإنه في حكم غبارٍ حصل على المحل، رُدِّد عليه من غير فرض نقلٍ إليه في أوان فرض النقل".
هذا نقل والده عن القفال، ومع علوّ منزلة القفال، وأنه شيخ طريقة الخراسانيين (المراوزة) ، وإجلال الإمام له، لم تمنعه جلالته من ردّ الإمام لقوله هذا؛ إذ تعقبه قائلاً: " وهذا عندي غلوٌّ ومجاوزة حدّ، وليس بالمرضي اتباع شَعْب الفكر، ودقائق النظر في الرخص ".
ثم يستدلّ لرأيه بدليلين: أولهما- أن ما قاله القفال مخالف لروح الشرع، فيقول:
" وقد تحقق من فعل الشارع ما يشعر بالتسامح فيه ".
وثانيهما- أنه مخالف للمعقول المشاهد، فيقول في ذلك: " لم يوجب أحد من أئمتنا على الذي يهم بالتيمم أن ينفض الغبار عن وجهه ويديه أولاً، ثم يبتدىء بنقل التراب إليها، مع العلم أن المسافر في تقلباته لا يخلو عن غبارٍ يرهقه (1) " وهذا كلام واضح مبين دالٌ على مقصودنا من غير تعليق.
* ومن هذا الباب أيضاً خلافه للأصحاب في الاقتصار على ما يطلق عليه الاسم من أركان الخطبة في الجمعة، وبخاصة ركن (الوصية بالتقوى) ، فيقول: " إذا قال الخطيب: " أطيعوا الله واجتنبوا معاصيه "، فهذا القدر لو فرض الاقتصار عليه، فالذي يؤخذ من قول الأئمة أنه كافٍ؛ فإنه ينطلق عليه اسم الوصية بالتقوى والخير ".
ثم يتبع ذلك قائلاً: " ولكني ما أرى هذا القدرَ من أبواب المواعظ التي تنبه الغافلين، وتستعطف القلوب الأبية العصية إلى مسالك البر والتقوى ... ؛ فلا بدّ من فصلٍ مجموع فيه هزٌّ واستحثاثٌ ".
فهو هنا ينظر إلى أقوال الأئمة وطرقهم، وإلى النصوص والأدلة، فيرى هذا القدر من الوعظ محققاً للأركان، مسقطاً للفرض، ولكنه لا يرضى ذلك، ويخالف
__________
(1) يرهقه: أي يعلوه، ويغشاه: (معجم) .(المقدمة/252)
الأئمة؛ فإنه وإن كان كافياً من حيث ينطلق عليه الاسم، ويحقق الشرط، إلا أنه لا يحقق المعنى المطلوب، ومقصدَ الشرع من الخطبة.
ومع مخالفته للأصحاب يأخذ في الاستدلال لرأيه بما يجعله هو المذهب، فيقول: " وقد بالغ الشافعي في الاتباع حتى أوجب الجلوس بين الخطبتين ... ؛ فليس يليق بمذهبه أن يعدّ قول الخطيب: "الحمد لله والصلاة على محمد أطيعوا الله" خطبة تامة فهو يحاول أن يجعل قوله هو المذهب مستدلاًّ بأن مذهب الشافعي وجوب الجلوس بين الخطبتين، ولا دليل على ذلك إلا الاتباع، والاتباع أيضاً يقتضي أن مثل هذا لا يصح أن يعد خطبة تامة، فلم يُؤثر قط الاكتفاء بمثل هذا في الخطبة.
ثم يسوق دليلاً آخر، فيقول: " ثم إن الشافعي ذكر لفظ (الوعظ) في (الإملاء) ، وفيه إشعار بما ذكرته ". اهـ
ومعنى هذا أن لفظ (الوعظ) يُشعر بأنه يجب أن تشتمل الخطبة على ما يكفي للزجر، والترغيب والترهيب، ويحرك القلوب، ويهز النفوس.
ثم لا ينسى أن يذكر أن خلافه خاص بركن (الوصية بالتقوى) دون غيره من الأركان، فيقول: " أما الاقتصار على كلمة في الحمد، والصلاة، مع أداء معناهما، فلا شك في كفايته؛ فإنما قولي هذا في الوعظ ". اهـ
ويستأنس لقوله هذا بقول أبي القاسم الفوراني: " إن مقصود الخطبة الوعظُ " فيقول: " وهذا الآن يشير إلى ما ذكره (بعض المصنفين) (1) من أن مقصود الخطبة الوعظُ، والحمد والصلاة ذريعتان ".
ثم ينظر إلى ركن آخر من أركان الخطبة، وهو قراءة القرآن، وينقل كلام الأئمة في أنه لا بد من قراءة آية تامة؛ حتى ينطبق عليه اسم القرآن. ولكنه لا يكتفي بهذا.
__________
(1) دائماً يكني عن (الفوراني) بقوله: (بعض المصنفين) ، وأبداً لم يصرح باسمه على طول هذا الكتاب، وهو كثير الحطّ على الفوراني -على حد تعبير السبكي- ولكنه مع ذلك لا يتردّد أن يذكر له صواب رأيه، إذا وجده، وإن أصرّ على عدم التصريح باسمه، كما هو في هذا الموضع.(المقدمة/253)
بل ينظر إلى المعنى، وروح الشرع ومقصده؛ فلا يرضى بهذا، ويخالف فيه، فيقول: " وهذا فيه كلام عندي، فلو قرأ شطراً من آية طويلة، فلست أبعد كفاية ذلك، ولا أشك أنه لو قال: (ثم نظر) لم يكف ذلك، وإن عُدّ آية، ولعل الأقرب أن يقرأ ما لا يجري على نظمه ذكر من الأذكار ". اهـ
وهذا كلام واضح مبين، يشهد بأنه ينظر إلى روح الشرع ومقصده، فلا يكتفي بآية تامة (ثم نظر) ويكتفي ببعض آية طويلة إذا أشعر بنظم القرآن، واشتمل على معنى كافٍ.
ومما يتصل بالخطبة أيضاً أنه يوجب الاستماع إلى الخطبة من عدد الجمعة، ولا يكتفي بحضورهم الصلاة من غير استماع إلى الخطبة، ويرى أن ذلك هو المذهب، فيقول: " ومن أنكر وجوب الاستماع إلى الخطبة، فليس معه من حقيقة هذه القاعدة (1) شيء، فيجب القطع على مذهب الشافعي أنه يجب الاستماع إلى الخطبة، وكيف يستجاز خلاف ذلك على طريق الشافعي في مسلك الاتباع؟ ". اهـ
وحقاً وصدقاً أي معنىً لخطبة لا يسمعها المصلون!!
ولا يكتفي وهو يعالج هذه القضية بما قدمناه من رده قول القائلين بأنّ سرد الأركان خطبة كاملة، وقوله: " لا بدّ من فصلٍ مجموعٍ فيه هزٌّ واستحثاث " لا يكتفي بذلك بل يعلن عن ثورته وغضبه على هؤلاء الذين يقفون عند الرسوم والأشكال، ولا يبصرون الحقائق، ولا يحاولون إدراك الغايات، ولا يلتفتون إلى روح الشرع، فيقول معبراً عن ثورته، معللاً سبب قصورهم:
" وإنما بلائي كله من شيئين: أحدهما - أن بني الزمان ليس يأخذهم في طلب الغايات، لا بل في طلب حقيقة البدايات ما يأخذني؛ فلا يهتدون لما أبغيه من مداركها " ويتوقع عدم قبولهم ما يصل إليه من الحقائق، فيقول:
" بل أخاف أن يتبّرموا بها ".
ثم يعلِّل عنايته بهذه الأمور، قائلاً: "ثم الأولين لم يعتنوا بالاحتواء على ضبط
__________
(1) يقصد الاتباع.(المقدمة/254)
الأشياء، والتنبيه على طريق التقريب فيها وبخاصة في الأمور المرسلة التي لا يثبت توقيف خاص شرعيّ فيها، كما نحن مدفوعون إليه من لزوم الاتباع، وترك الاقتصار على أدنى مراتب الأذكار، فلم تثبت في الخطبة ألفاظٌ مخصوصة مثل التشهد والقنوت وغيرهما؛ فجرّ ذلك ما أنهيت الكلام إليه من الترددات".
والخلاصة: أن الأحكام تقتضي الإتيان بأركان الخطبة، وهيئاتها، وآدابها، ولكن حقيقة الخطبة هل توجد بسرد الأركان؟ إنه يبحث عن الحقائق والغايات ويشهد له الاتباعُ، فالمأثور من فعل المصطفى صلى الله عليه وسلم، وسلف الأمة عدمُ الاكتفاء بسرد الأركان والهيئات.
* ومسألة أخرى تشهد بالتفاته إلى روح الشرع ومقصوده، وهي الأذان الأول لصلاة الصبح، فينقل مخاوضة الأصحاب ومفاوضتهم في محاولة تحديد وقت محدد لذلك الأذان، ولا يرى التحديد رأياً، فيقول: " إن هذا ليس تحديداً -وإن رَوَوْا فيه حديثاً- فالمراد بتقديم الأذان التهيؤ للصلاة بعد الاستيقاظ من النوم؛ حتى يصادف أول الوقت؛ فالمسألة تقريب، وليست تحديداً ".
وكما ردّ القولَ بالتحديد ردّ بقوّة القولَ بجواز الأذان طول الليل، ولم يمنعه من نقده العنيف لهذ القول أن صاحبه هو الشيخ أبو علي السِّنجي الذي يعترف بعلو منصبه، ويكثر النقل عنه، والثناء عليه.
* ويدخل في هذا الباب ردُّه وعدم قبوله للتعليلات والتفسيرات التي لا يقبلها العقل، وليس وراءها معنى يرعاه الشرع، مثال ذلك: حينما قال المزني: إن أقل النفاس أربعة أيام مستنبطاً ذلك من أن أكثره ستون يوماً، وأكثر الحيض خمسة عشر يوماً، وأقل الحيض يوم واحد، فلما كان أكثر النفاس أربعة أمثال أكثر الحيض، كان أقل النفاس أربعة أمثال أقل الحيض، أي أربعة أيام. كذا قال المزني، فغضب إمام الحرمين، ولم يقبل هذا، وردّه قائلاً: " وهذا الفن غير لائق بفقه المزني، وعلوّ منصبه؛ فإن المقادير لا تبنى على الخيالات الشبهية ".
ثم العلة التي رآها هو لهذا التقدير هي الوجود الذي ثبت بالاستقراء فقال:(المقدمة/255)
" ولست أرى لهذه الأصول مستنداً غير (1) ما تقدم في أعصار الأولين من الوجود " فهو يرى أن تقدير أقل النفاس بأربعة أيامٍ لا مستند له إلا الاستقراء الذي ثبت به عند الأولين هذا (الوجود) ، أي وجدوا أن أقلّ ما تنفس المرأة أربعة أيام.
* وشبيه بهذا ردّه لقول من قال: " إن من عليه أحداث، مثل من مسَّ، وبال، ثم نام، فإذا نوى رفْع حدث النوم بالوضوء، لم يرتفع حدث البول والمس " فقد سخر الإمام من هذا الكلام، وقال معقباً عليه: " وهذا حَيْدٌ عندي عن الفقه؛ فإن المرعي هو المنع، وهو المعني بالرفع، وما اتحد فلا يتحقق فيه تعدد ولا اختلاف، ولا يترتب بتقدم أولٍ وتأخر ثانٍ ".
* ومن هذا الباب أيضاً رده لقول القائلين: " إن الخمر لا يطهر إذا تخللت بطرح شيء فيها؛ بعلة أن ذلك الشيء الذي يطرح فيها يتنجس بملاقاتها، فإذا تخللت الخمر، نجستها هذه الأعيان التي طرحت فيها وتنجست بها عند طرحها ".
ناقش ذلك في كتاب الرهن عند الكلام عن رهن العصير الذي يتخمر ثم يعود خلاًّ ... ، وهاك نص عبارته:
" وعلل بعص أصحابنا منع تخليل الخمر بطرح شيء فيها، بأن العين الواقعة في الخمر تنجست بملاقاتها، فإذا انقلبت الخمر خلاً، نجسته تيك العين المتنجسة بملاقاة الخمر، وهذا قول غير صادر عن فكرٍ قويم؛ فإنه لا معنى لتنجيس العين إلا اتصال أجزاء الخمر بها، وجوهر تلك العين على الطهارة، فإذا انقلبت الخمر خلاًّ، فمن ضرورة ذلك أن تنقلب تلك الأجزاء التي لاقت العين الواردة على الخمر طاهرةً؛ فلا حاصل إذاً لذلك ".
ومع وضوح هذا الكلام، نجده يزيد الأمر إيضاحاً وبياناً، فيستدل بما يبقى في العصير من العناقيد والثجير (2) ، فإذا تخمر العصير، فقد تنجست هذه الأعيان التي به، فإذا عاد خلاً من غير طرح شيء فيه، فهو طاهر عندهم، مع أن الأعيان التي به
__________
(1) مفعول ثانٍ لـ (أرى) .
(2) الثجير: ثُفل كل شيء يعصر، كالعنب وغيره. (معجم) .(المقدمة/256)
تنجست عندما صار خمراً، فلماذا لم تنجسه؟ وهذا نصّ عبارته في ذلك: " لو التزمنا تمحيص العصير، لنقّيناه من العناقيد، والثجير، والتزمنا تصفيته جهدنا عن الأقذاء، وهذا أمر طويل، لا يستريب مُحصِّل في حيده عن سمت الشريعة ".
فتأمل قوله: " لا يستريب محصل في حيده عن صمت الشريعة " فسمت الشريعة: روح الشريعة لا يقبل هذا التشدّد، ومن يقول به لا بصر له بروح الشرع.
* ومن ذلك ما قاله عند الكلام على تطهير الأرض التي أصابتها نجاسة مائعة، كالبول مثلاً، فقد ردّ -غاضباً- قول من قال: " يجب رعاية عدد الدّلاء؛ فإذا بال اثنان، لم تتطهر الأرض إلا بصب دلوين " ردّ ذلك قائلاً: " وهذا الفن من الكلام مما لا يقبله لُبّ عاقل، فأيّ معنىً لتعدّد الدّلو، والغرضُ المكاثرة؟ وأي فرقٍ بين أن يجمع ملء دلوين في دَلوٍ عظيم ويصبّ، وبين أن يكون في دلوين فيصبان؟ فأي أثر لصورة الدلو؟ وقد يكثر بول بائل، ويقلّ بول بائلين، فاعتبار مقدار النجاسة، وتنزيلُ مقدار الماء على مقدارها بنسبة المغالبة مقطوعٌ لا مراء فيه ".
هكذا دائماً ينظر إلى الحقائق والغايات، وهي روح الشرع، فالمقصود الطهارة، والطهارة تكون بالمغالبة والمكاثرة، سواء حصلت بماءٍ يحويه دلو أو أكثر، ولا عبرة بتعدد الدلاء، ولا بتعدد البائلين.
* ويدخل في هذا أيضاً ما قاله عند الحديث عن نقض الوضوء بمسّ الفرج، وكيف الحكم لو كان الممسوس فرج الخنثى؟ وبأي العلامات يُلحق بالذكر؟ وبأيها يُلحق بالأنثى؟ قال: " وأما ما ذكره بعض الناس من النظر في أعداد الأضلاع، فذاك شيء لم أفهمه، ولست أرى فرقاً فيها بين النساء والرجال ". اهـ
يشير إلى ما يقوله البعض من أن أضلاع الرجال تنقص واحدة عن أضلاع النساء، زاعمين أن الله عزت قدرته أخذ ضلعاً من آدم، فخلق منها حواء، ناظرين في ذلك إلى الحديث الشريف:
" اتقوا الله في النساء؛ فإنهن خُلقن من ضلع أعوج ".
وها أنت ترى الإمام لم ير هذا الكلام يستحق الذكر، فأعرض عنه، واكتفى بأن(المقدمة/257)
ردّ باستنكار على قائليه، مزدرياً إياه قائلاً: " فهذا شيء لم أفهمه ".
* وشبيهٌ بهذا تماماً ردُّه لتعليل المزني لصحة التيمم من الجنب الذي نسي الجنابة فتيمّم للحدث، حيث أضرب عن ذكر تعليل المزني، وذكر العلة التي ارتضاها، ونص عبارته: " وقد علّل المزني ذلك بعلّة غير مرضية، وليس يتعلق ذكر غلطه بغرضٍ فقهي؛ فلا نتعرض له " ثم ذكر العلة التي ارتضاها، فقال: " والعلة السديدة أن التيمم لا يرفع الحدث، سواء ذكر على الصواب، أو على الخطأ، وإنما مقصود النية استباحة الصلاة، ولا احتفال بذكر غيرها بوجهٍ من الوجوه ". اهـ
* ومن هذا الباب أيضاً ردّه لذلك السؤال القائل: " هل يجب الصوم على الحائض في وقت الحيض بدليل وجوب قضائه، أم لا يجب لعدم إمكانه؟ " ويأبى الإصغاءَ لهذا الخلاف قائلاً: " ومن يبغي حقيقة الفقه لا يقيم لمثل هذا الخلاف وزناً ". اهـ
ونكتفي بهذه النماذج، فالأمثلة في كتابه هذا لا تعد ولا تحدّ.
ثانياً - تحري الدقة والتثبت في النقل عن الأئمة:
حينما ينقل الإمام الوجوه والأقوال عن الأصحاب الأعلام الذين يؤخذ عنهم المذهب لا يستسلم لكل ما يُرْوى ويُنقل، بل حينما يلوح الخلل فيما ينقل يأخذ في نقده بما يمكن أن نسميه النقد الداخلي والنقد الخارجي، أو بما يمكن أن نسميه نقد السند والمتن.
فمن ذلك حينما نقل الناقلون عن القفال القول بانقطاع النكاح إذا أسلم الزوج المشرك، وعندما أسلم أَحْرم، ثم أسلمت زوجته وهو محرم، وكذا إذا نكح في الشرك، ثم إن المرأة وطئت بشبهة بعد جريان النكاح، وجرت في العدة، فلحق الإسلام النكاح والمرأة في عدة الشبهة، فينقطع النكاح عند القفال في هذه الصورة أيضاً، كذا نقل النقلة.
تتبع الإمام هذا القول، وعرف مصدره، ثم قال: " هذا مما حكاه أصحاب القاضي عن القفال على هذا النسق، وأورده بعض المصنفين عنه على هذا الوجه ".(المقدمة/258)
إذاً فمصدر هذا الكلام القفال المتوفى سنة 417 هـ نقله عنه أصحاب القاضي المتوفى سنة 462 هـ ولما لم يطئمن الإمام إلى نسبة هذا إلى القفال، بحث عنه عند من اختص بنقل نصوص القفال، وهو الصيدلاني المتوفى سنة 427 هـ، فلم يجده؛ بل وجد الصيدلاني نقل عكسه، ونص عبارته: " ولم يورد الصيدلاني هذا في طريقه (أي مؤلَّفه) المقصور على مذهب القفال ومسلكه، بل أورد عنه ضد ما أوردناه ". اهـ
فهو يردّ حكاية أصحاب القاضي عن القفال، ويقبل حكاية الصيدلاني عنه، فهو
أولى وأحرى بالقبول، أولاً - لأنه ينقل عن شيخه مباشرة، وثانياً - لأن مؤلفه خاص بنقل نصوص القفال.
ثم لا ينسى أن يشير إلى (بعض المصنفين) فيمن يضعف نقلهم، ولا يصحح روايتهم، ويعني -دائماً- ببعض المصنفين أبا القاسم الفوراني، وهو كثير الحط عليه وتضعيفه من جهة النقل، على حد تعبير السبكي.
* ومن هذا الباب أيضاً ما جاء في مسألة وطء الأب جارية الابن، وثبوت الاستيلاد بهذا الوطء، وهل هناك فرق بين الموسر والمعسر؟ فنجد الإمام يقول: " فأما الفصل بين الموسر والمعسر في ثبوت الاستيلاد عند وطء الأب جارية الابن، فلم أره لصاحب التقريب، مع اعتنائي بالبحث عن كتابه، ولم ينقل أصحابنا هذا القول إلا عنه ".
فها أنت تراه يبحث عن المصدر الذي استقى منه الأصحاب هذا " الفصل بين الموسر والمعسر "، فلا يجد لهم سنداً إلا كلام صاحب التقريب.
فيبحث في كتابه (التقريب) بعناية، ولا يجد هذا بين دفتيه، فيعجب أشد العجب، ويسجل عجبه، وأنه لا يجد سنداً لهذا الوجه.
ومما لا حظناه أن الرافعي حكى هذا عن (التقريب) أيضاً، وحكى قول الإمام في المسألة، ولكنه لم يشر إلى تشككه في نسبة هذا القول المحكي عن صاحب التقريب" (1) .
__________
(1) ر. الشرح الكبير: 8/183.(المقدمة/259)
* وفي مسألة من مسائل القراض -لا نُطيل بذكرها- يقول: " وحكى القاضي عن العراقيين طريقة أخرى، لم أطلع عليها من مسالكهم، على طول بحثي عنها ".
فالمنهج -كما ترى- نسبة الطريقة إلى أصحابها، ومعرفة الناقل، ثم عندما وجد المنقول غير صحيح ولا مقبول رجّح الخطأ في النقل، ولذا " أطال البحث عن مسالك العراقيين ".
ثم عقب قائلاً: " ولا شك أن ما حكاه غلط " أي فقهاً.
ولذا يتردّد في نسبة هذا الغلط إلى العراقيين (أي أئمة العراق من أصحابنا) فيقول: " ولكن أخشى أن يكون الناقل غالطاً " ثم يؤكد هذه الخشية، ويجعلها استبعاداً عقلياً، فيقول: " فلا يستجيز المصير إلى ما حكاه عن العراقيين من أحاط بأطراف الكلام في أحكام هذه المعاملة ". اهـ
وكأنه بهذا يقطع بخطأ النقل، فلا يجوز عقلاً أن يقع في هذا الخطأ من عنده إحاطة بأطراف المسألة.
* وهذا المنهج -حملُ الخطأ على النقل- عليه شواهد وأمثلة كثيرة: منها ما جاء في النفقة على اللقيط المنبوذ من ماله، فقد قال: " وذكر العراقيون وجهاً بعيداً: أن القاضي لا يأذن له (أي ملتقط المنبوذ) في صَرْف مال الطفل إلى نفقته، وهذا بعيد، لا أعرف له وجهاً، ولا آمن أن يكون غلطةً من ناسخ " فعندما وجد الخطأ واضحاً غير محتمل على أي وجه، لم يحمل القائل على الجهل، وعدم الفقه، ولكن ردّ القول برفق، وجعل له احتمالاً آخر، وهو أن يكون غلطة من ناسخ.
* ومن هذا أيضاً ما ذكره في كتاب الحج عن الكلام عند فوات الحج والصد عن البيت وأن من فاته الحج وصُدّ عن البيت يلزمه دمان: دم الفوات ودم الحصر، قال وهو يحكي أقوال أئمة المذهب: " وذكر صاحب التقريب خبطاً في كتابه مشعراً بأنه لم يقف على كلام ابن سريج، فلا معنى لذكره، وقد يحمل ما في الكلام من الخبط على خلل النسخة ".
فهو يدقق فيما يُنْسب إلى الأئمة، وحينما يرى في كتبهم ما لا يليق بهم، يبحث،(المقدمة/260)
ويتقصى، ويراجع أكثر من نسخة، وأكثر من مصدر، ويجعل لاحتمال خلل النسخة مجالاً.
* وإذا كنا قد سجلنا هذا منهجاً لإمام الحرمين، وأقمنا الدليل عليه من نصوص عباراته في كتابنا هذا، فقد سبقنا إلى ذلك إمامٌ جليل من أئمة المذهب، وهو شهاب الدين أبو إسحاق، إبراهيم بن عبد الله، المعروف بابن أبي الدم المتوفى سنة 642 هـ، فقد وصف الإمامَ بأنه " معروف بشدة تتبعه كلامَ من تقدمه بالبحث والتحقيق "، وذلك عندما نقل في كتابه (أدب القضاء) ما حكاه إمام الحرمين عن أبي حنيفة في تعريف المدعي والمدعى عليه، وهاك عبارته بنصها، قال: " وقال الإمام: المدعي عند أبي حنيفة من يثبت الشيء لنفسه، والمدعى عليه من يثبت عن غيره، وفي نسخة أخرى (أي من النهاية) : " من ينفيه عن غيره ". هذا نقل الإمام عن ذلك الحبر الإمام، ولم يزد عليه شيئاًً، مع شدة لتبعه كلامَ من تقدّمه بالبحث والتحقيق ".
فابن أبي الدم يعجب من نقل الإمام عن أبي حنيفة هذا الحدَّ للمدعي والمدعى عليه، بدون أن يبين خلل هذا الكلام، أو يبحث عن زلله، " ولم يزد عليه شيئاًً " وهذا غير معهود من إمام الحرمين. وواضح أن ابن أبي الدم راجع نقل الإمام في نسخةٍ أخرى من النهاية، ولم يرتض هذا ولا ذلك.
وبعد أن بين بطلان حد المدعي من جهة المعنى، بأن يكون المدعي وكيلاً، أو وصيّاً، أو ناظر وقف، فهو لا يُثبت لنفسه، بعد هذا قال: إن بطلان حد المدعى عليه واضح لا يحتاج إلى كلام؛ فهو كلام غير مستقيم -على النسختين- " وإنما صوابه: ينفيه عن نفسه " (1) ثم قال: " وعندي أن هذا زلل من النساخ؛ فإن منصب هذا الإمام (يعني أبا حنيفة) أجلّ من قول مثل هذا " (2) .
__________
(1) هذا الذي قدره ابن أبي الدم هو الذي تجده في مصادر الأحناف، انظر على سبيل المثال: الاختيار: 2/109، وتحفة الفقهاء: 3/181، وبدائع الصنائع: 6/224، وروضة القضاة: 1/165، 166.
(2) ر. أدب القضاء، لابن أبي الدم، بتحقيق محمد الزحيلي: 185.(المقدمة/261)
ويعنينا من عرض هذه المسألة إثبات ما نحاوله " من أن شدة تتبع كلام المتقدمين بالبحث والتحقيق " كان صفة لازمة لإمام الحرمين، عرف بها، وشاعت عنه.
ثالثاً - الاهتمام بوضع القواعد والضوابط:
اهتم إمام الحرمين في كتابه هذا بوضع القواعد والضوابط اهتماماً بالغاً، وإذ نقول ذلك لا نقوله لما رأيناه من كثرة القواعد والضوابط التي رأيناها في كتابه، وإنما نقوله بلسانه، حيث أعلن مراراً وتكراراً: " أن من أجلّ مقاصده في هذا الكتاب هو التقعيد والتأصيل للأبواب والفصول، ووضع الضوابط التي تلم شعثها، وتجمع متفرقها " قال ذلك أوّلاً في خطبة الكتاب، حيث وصفه بأنه " يحوي تقرير القواعد، وتحرير الضوابط والمعاقد " ثم ردّده على طول الكتاب بأكثر من عبارة، ووضحه بأكثر من أسلوب، وهاك بعض نماذج وشواهد لما نقوله:
* من هذا الباب ما قاله في فصل شرط التيمم تقديم طلب الماء، حيث عقب على ذلك قائلاً: " ومما أحرص عليه جهدي أن أضبط مواضع الانتشار، وأوضح مقام الاستبهام، على مبلغ الإمكان، وقد يتأتى ذلك بأن نقدم المعلومات، حتى يرجع موضع الإشكال إلى ما يقرب النظر فيه ". اهـ
فهو يؤكد حرصه على ضبط مواضع الانتشار ثم هو يرى أن ذلك قد يكون بالتدريج، حيث يقدم المعلوم، لينطلق منه لتعليم المجهول.
وهذا ما استقر عليه علماء التربية المعاصرون، حيث يقررون أن الانتقال من المعلوم إلى المجهول هو الطريقة الصحيحة للتربية والتعليم.
* ولعل العبارة الآتية التي جاءت تعقيباً على مسألة من مسائل كتاب القراض، تكون أكثر إيضاحاً لهذا المعنى الذي أشرنا إليه.
قال: " ... وقد بان الآن ومما أُجريه في هذا المجموع -ولا شك في تبرّم بني الزمان به- أني كثيراً ما أجري المسائل على صيغة المباحثة، ثم هي تُفضي إلى مقر المذهب آخراً، ويعلم المسترشد طريق الطلب، والنظر.
وهذا من أشرف مقاصد الكتاب، فلست أخل به لجهل من لا يدريه". اهـ(المقدمة/262)
فهو يؤكد أن هذا المنهج -المباحثة- يفضي إلى مقر المذهب، أي معاقده وضوابطه.
* ويؤكد أنه لا يحب أن تشغله التفاصيل والتقاسيم، بل يأتي منها بقدرٍ؛ توطئة لذكر المعاقد، أي القواعد والضوابط. وقد عبر عن ذلك بما قاله تعليقاً على تفريعه لبعض قضايا الإجارة، وما لو غصب غاصب الأرض المستأجرة؛ قال:
" وقد أكثر الأصحاب في التفاصيل والتقاسيم، وهذا فنٌّ لا أوثره في هذا المجموع، وقد تولّع المصنفون بتطويل الكلام بالإعادات، ونحن إذا كنا نضطر إلى مجاوزة الحد في كشف المشكلات، فينبغي أن نؤثر قبضَ الكلام في المعادات، ونقتصر على ذكر المعاقد والمرامز ".
* وفي كتاب الصلاة، بعدما أطال النَفَس في حكم قصر الصلاة عندما ينزل المسافر مقيما أثناء السفر، وسبب هذه الإقامة، وأنواع المسافرين بهذا السبب، قال: " وقد بقي وراء ذلك أهمُّ شيء بالاعتناء به، وهو نظام الفصل وترتيب القول فيه؛ فإنه كبر قدره، وانتشرت أطرافه ".
فهو يجعل الضابط الذي يلم شعث الفصل، ويجمع انتشاره أهم ما يعنيه، فهو أهم شيء في الفصل، ثم يأخذ في وضع الضابط، فيصوغه في دقةٍ وإحكام، ولا نرى داعياً للإطالة بذكره هنا؛ فليس هذا موضوعَنا.
* وفي باب (الاستطابة) عندما يتكلم عن ضرورة رعاية العدد في أحجار الاستجمار، يعتذر عن الإطالة في الحديث عن ذلك قائلاً: " وإن أطلت الكلام في هذا، فليحتمل " معلّلاً هذه الإطالة بأنها كانت من أجل استخلاص الضابط الذي انتهى إليه، مؤكداً أن ذلك هو غرضُه الأهم، من وراء هذا العمل، أي من وراء هذا الكتاب، فيقول: " فإن غرضي الأظهر في وضع هذا الكتاب التنبيه على قواعد الأحكام ومثاراتها؛ فإن صور الأحكام والمسائل فيها غير معدومة في المصنفات، فهذا أصل الباب، ومنه تتشعب المسائل ".
" بل يعلن تبرّمه وشكواه -مراراً- من أن الأصحاب انصرفوا عن هذا الجانب أعني(المقدمة/263)
التقعيد، ووضع الضوابط - ولم يعتنوا به العناية اللائقة، فيقول:
" ... هذا ما أطلقه الأصحاب، وما ذكروه كلام مرسل، ومقصودنا ضبطه، ولم يهتم به أئمة المذهب، ولم يعملوا فيه وفي أمثاله القرائح الذكية، واكتفى الناقلون عنهم بظواهر الأمور، وانضم إليه قلة البحث، فصار أمثال ذلك عماية عمياء، والموفق من يهتدي إلى المأخذ الأعلى؛ فإن مذهب إمامنا الشافعي تَدْواره على الأصول، ومآخذ الشريعة " ثم استمرّ، فوضع ضابطاً شاملاً جامعاً (1) .
* وحينما ينتشر الفصل، ويتشعب بصورة لا يمكن وضع ضابط يلم شعثه، ويجمع متفرقه، لا يتردد أن يعلن ضيقه وتبرّمه وأن ذلك شديد على نفسه، مثال ذلك: ما جاء في باب صلاة المسافر واشتراط مفارقة المنازل؛ حتى يسمى مسافراً خائضاً في السفر، يفصل بين الخارج من بلدة والخارج من قرية، ثم من كان من أهل الخيام، ويحكي ما قاله الأصحاب في ذلك، وينتشر الكلام فيما يعدّ من البلدة وما لا يعدّ، وما يعدّ من القرية وما لا يعدّ، ويطول الكلام ويتشعب، ولا يمكن وضع ضابط له، فيعلن أن ذلك شديد على نفسه، فيختم الكلام قائلاً:
" فهذا منتهى التفصيل في المواضع التي يعتبر مجاوزتها، وما فصّلته غاية الإمكان فيه، وأشد ما أعانيه في هذا المجموع أمثال هذه الفصول؛ فإنها في الكتب منتشرة لا ضبط لها، ولست أرى فيها اعتناء من الأولين لمحاولة الضبط، والله ولي الإعانة والتوفيق، بمنّه ولطفه " فهذه العبارات تنطق بشدة تشوفه إلى وضع الضوابط والمعاقد، وتعبر عن ضيقه وتبرّمه لقلة عناية الأولين بهذا الجانب.
* وحينما تنتشر أطراف بعض الفصول، وتشتبك بفصولٍ وأبواب أخرى ينبه إلى أنه سيذكر الضابط في أخص الفصول به، وأولاها بذكره، ففي فصل النهي عن الاحتكار من كتاب البيوع، أخذ يفرق بين المحتكر الذي يلحقه اللعن والوعيد، ومن يدخر في وقت الرخاء، أو من يدّخر لأهله في وقت المخمصة واستحلال الميتة، وماذا يدّخر،
__________
(1) لا نريد أن نطيل بذكر هذا الضابط وأمثاله؛ فليس هذا مكانه، ولو ذكرنا هذه الأمثلة والنماذج التي نومىء إليها، لخرجت هذه المقدمات عن وضعها، حيث يصير حجمها أضعافاً.(المقدمة/264)
رأى أن استيفاء الكلام ليس في هذا الموضع، فعقب قائلاً:
" فالقول في هذا وفي كل ما يدّخره كل إنسان لنفسه ولعياله ليس بالهين " ثم بين الموضع المناسب له، فقال: " وسأذكر فيه في باب المضطر أصلاً يرقى عن مجال الفقهاء، وننبه على قاعدة عظيمة إن شاء الله عز وجل ". اهـ
* وفي فصل ضرب الجزية وأنها على الرجال دون النساء ومن في حكمهم بعد تقرير هذا كخلاصةٍ للباب، قال: " ثم استيفاء مقصود الفصل يستدعي تقديم قاعدة بدّدها الأصحاب فلفَّقناها من كتبٍ، ولا بد من ضبطها، والإحاطة بها، ثم بعدها نخوض في المقاصد ".
هكذا يقدّم القاعدة وضبطها، ثم إذا تمت الإحاطة بها، يمكن الخوض في الفصل، أي في تفاصيل المسائل والصور معتمداً على القاعدة مرجعاً.
ثم هو كما ترى يجدد الشكوى من قلة العناية من الأصحاب بقضية الضوابط والقواعد.
* وفي هذا المجال يزاوج بين منهجين، فحيناً يذكر المسائل، والصور، حتى إذا فرغ من تفصيلها وبيانها، استنبط منها الضابط الذي يجمع متفرقها، ويلم شعثها، كما مثلنا آنفا، وآناً يقدم الأصول والضوابط قبل الخوض في المسائل والتفاصيل، فمن ذلك: " فصل نكاح المشركين على غير شرط الشرع إذا أسلما معاً أو متعاقبين " قال:
" هذا الفصل يستدعي تقديم أصول لا يستقلّ مقصود الفصل دونها، وهي أركان الباب، فالوجه أن نذكرها على نهاية البيان ثم نعود إلى الفصل، ونُتْبعه بعد نجازه مسائلَ الباب ".
* وشبيه بهذا ما قاله في مفتتح أحد فصول الخلع، حيث بدأ بوصف منهجه في مطلع الفصل، وأخذ بيدنا، ووضعها على تفاصيله، وطريقة تدريجه، وهذا نص كلامه: "والقول في ذلك ... (أي موضوع الفصل) مضطرب، ونحن نرى أن نجمع العِوض في نوعين، ونأتي في واحدٍ بالمسائل اللائقة مرسلة، ونذكر في كل مسألة ما بلغنا من قول الأئمة، حتى إذا استوعبنا مضمون كل نوعٍ بالمسائل، انعطفنا على(المقدمة/265)
ذكر جامعٍ ضابط إن شاء الله عز وجل، ثم نحتم الفصل بعثرات وقعت، لا نعدها من المذهب، ولا نرى ترك نقلها". اهـ
فها هو وضع خطوات المنهج مقدِّماً بها للكلام في الفصل، وهي كما ترى:
1- عرض الموضوع في صورة مسائل تستوعب مضمونه.
2- حكاية أقوال الأئمة في كل صورة ومسألة.
3- وضع ضابط جامع، أخذاً من هذه المسائل والصور.
4- ذكر العثرات التي لا تعد من المذهب (مقتصراً على من يستحق أن تحكى أقواله) .
* ومن هذا ما جاء في باب الأذان عند حديثه عن أن الغرض من الأذان الإبلاغ، والإسماع حيث قال: " وإذا سبق الفقيه إلى اعتقاد ذلك، ورام الجريان على مراسم هذا المذهب في محاولة هذا الضبط في مكان الانتشار، فسيطرأ عليه التشوف إلى ضبطِ أقل ما يراعى في إجزاء الأذان مما يتعلق برفع الصوت، وهذا يستدعي تقديم أصل مقصودٍ في نفسه، وبذكره ينتظم ما نريد ". اهـ
وفي موضع آخر من باب الأذان يقول: " وهذه مسائل أرسلناها، وحكينا ما قيل فيها، ونحن الآن نبغي فيها ضابطاً، ونؤثر تخريج محل الوفاق والخلاف عليه إن شاء الله تعالى ".
هكذا (يقدم أصلاً أو يبغي ضابطاً) ، فهو متشوف أبداً إلى التأصيل والتقعيد، ووضع الضوابط.
رابعاً - الالتزام بترتيب مختصر المزني:
اختار إمام الحرمين في كتابه هذا أن يلتزم الجريان على ترتيب (مختصر المزني) ، وأكد ذلك في خطبة كتابه قائلاً: " وسأجري على أبواب المختصر ومسائله جهدي "، هذا وعده في خطبة الكتاب، وقد وفى به فعلاً، فجاء كتابه على ترتيب أبواب المختصر ومسائله.(المقدمة/266)
وقد قلنا -من قبل- في كلامنا عن منزلة (النهاية) : إنها شرحٌ (لمختصر المزني) ، بمعنى أنه كان يأتي بالجملة من المختصر -الذي هو عبارة عن نصوص الشافعي- ويجعلها أصلاً للباب: يدور عليها التفريع، ومنها يكون الاستنباط، وعليها يقوم بناء القواعد والضوابط، مضى الإمام في كتابه على ترتيب أبواب المختصر ومسائله بهذا المعنى.
أثر هذا الالتزام في كتاب النهاية:
لقد أدى هذا الالتزام بترتيب المختصر الذي فرضه الإمام على نفسه إلى حرمانه من التبويب والتفصيل والتفريع بالأسلوب المنطقي الرائع الذي رأيناه في كتابه (البرهان) والذي بلغ القمّة، وأوفى على الغاية في كتابه (الغياثي) ، حيث قسّم الكتاب إلى (أركان) وكل ركن إلى (أبواب) ، وكل باب إلى (فصول) ، وكان ينبه إلى وجه هذا التقسيم وسرّه في أوائل (الأركان) و (الأبواب) و (الفصول) ، ويبين كيف يُبنى بعضها على بعض، ويتولّد بعضها من بعض، وكان الإمام على ذُكرٍ -دائماً- لأثر هذا الترتيب، ينبهنا إليه، ويذكرنا به، فيقول مثلاً: " ونحن الآن نجدد العهد بترتيب يشتمل على ما مضى من الكتاب، وعلى ما سيأتي منه، حتى يتجدد عهد الناظر بترتيب أبواب الكتاب؛ فإن معرفة الترتيب من أظهر الأعوان على درك مضمون العلوم القطعية " (1) .
كان المأمول والمعقول أن تكون (النهاية) -وهي من أواخر تآليف الإمام- أن تكون أكثر ضبطاً، وأبلغ إحكاماً في الترتيب والتبويب، وأن تُبرّ (2) في ذلك على مؤلفاته كلها، ولكن الجريان على ترتيب (المختصر) حال دون ذلك.
حقاً، وجدنا الإمام -أحياناً- عندما تطول الأبواب والفصول يضع لها ترتيباً منطقياً، واضح المعالم، بيّن القسمات، وينبهنا إلى هذا الترتيب، ويدلنا عليه.
__________
(1) البرهان: 1/فقرة: 486، وانظر مقدمتنا لكتاب (الغياثي) ص 64 م.
(2) أبرّ (بالراء المهملة) على أقرانه: زاد عليهم، وغلبهم (القاموس المحيط، والمعجم الوسيط) .(المقدمة/267)
ولكن الذي لم يتحقق في (النهاية) هو البناء العضوي المتكامل، أو الوحدة العضوية، التي تجعل الكتاب خلْقا سوياً متناسق الأعضاء، كل باب منه، وكل فصل فيه، يُبنَى على ما قبله، ويلد ما بعده، على صورة منطقية، وهيئة عقلية.
لم يتحقق هذا في (النهاية) .
تبرّم الإمام بهذا الترتيب:
ولم يكن الإمام راضياً على هذا الترتيب الذي التزمه في كتابه (النهاية) ، ولكنه اتبعه (تيمُّناً) بترتيب المزني في (مختصره) ، وقد صرح بذلك قائلاً: " ذكر المزني أحكام جناية المكاتَب، وأحكامَ الجناية عليه في أبواب، ولو نظم جميعها في تقسيمٍ، لكان أضبط، ولكننا تيمنَّا بالجريان على مراسمه ".
ومرة ثانية يعلن عدم رضاه عن هذا الترتيب، عندما قال: " ولو لم نلتزم الجريان على ترتيب (السواد) (1) ، لأخرنا هذا الفصل إلى ذاك الباب، لانعطافه في جوانبه على مضمون ذلك الباب (2) ، ولكن نتبع الترتيب، ومسلك الشارحين ".
الخروج على ترتيب المختصر أحياناً:
ومع إعلان التزامه بترتيب المختصر، وتيمنه باتباعه، كان ينبهنا إلى أنه يخرج -مضطراً- على هذا الترتيب، معتذراً بأنه خروج (محتمل) ؛ حيث يكون في أضيق الحدود، مثال ذلك قوله - في كتاب البيوع: "ونحن قد التزمنا في هذا المجموع الجريان على ترتيب المختصر في الأبواب والمسائل، فإن اقتضى الحالُ في بعض
__________
(1) السواد: أي مختصر المزني. ولفظ (السواد) يأتي بمعنى المتن والأصل، وهذا غير منصوص في المعاجم، ولكني أخذته عن شيخي شيخ العربية، الشيخ محمود محمد شاكر، برّد الله مضجعه.
(2) الباب المشار إليه هو (باب مكاتبة بعض العبد) والفصل الذي كان يتمنى تأخيره هو الفصل الذي عقده لأحكام (المنازعة بين عبدٍ يدّعي الكتابة، وبين وارثين) وتمام عبارته: ( ... إذا كاتب الرجل عبداً ومات، وخلفه مكاتباً، وترك ابنين معترفين بالكتابة، فهذا يتعلق بأطراف الكلام في مكاتبة بعض العبد، وسيأتي فيها باب معقود، ولو لم نلتزم الجريان على ترتيب (السواد) ، لأخرنا هذا الفصل إلى ذلك الباب.(المقدمة/268)
المواضع تقديمَ مؤخرٍ، وتأخير مقدمٍ؛ حتى يلقَى الناظرُ المقاصدَ مجموعة، سهُلَ احتمال هذا".
وفي كتاب البيوع أيضاً، يعلن مرة ثانية أنه سيخرج على ترتيب المختصر، فيقول عند الكلام عن العيوب في المبيع: " وقد رأينا أن نأتي في هذا الباب بفصول العيب متوالية، ولا نلتزم ترتيب (السواد) ".
ثم يشتد به الضيق، ويزداد التبرّم، فيعلن أن ترتيب المختصر لا يُقبل، وأنه لن يلتزمه، وذلك قوله في آخر باب صوم التمتع بالعمرة إلى الحج: " ثم ذكر المزني في آخر الباب طرفاً من الكلام في طواف الوداع، فلم أر ذكره؛ فإن ذكر طواف الوداع قبل بيان أركان الحج بعيدٌ عن الترتيب المطلوب " انتهى بنصه.
بل تندُّ منه لفظةٌ مُعْرِبةٌ عن بالغ نقده حينما يقول:
" لم يرعَ المزني ترتيب مسائل الحج كما ينبغي، بل أتى بها إتياناً يُشعر بقصد التشويش، ولكنا التزمنا الجريان على ترتيب المختصر ". انظر " يُشعر بقصد التشويش "!
* وأحياناً يعتذر عن التشويش وعدم الترتيب، والإتيان بالمسائل في غير موضعها، وكأنه يعلن أنه لم يفعل ذلك عن غفلة، ولكنه الالتزام بترتيب (المختصر) ، ففي كتاب الغصب عند الكلام عن ضمان المغصوب، والقيمة المعتبرة في هذا الباب - قال بعد انتهاء الباب: " ثم ذكر الشافعي جملاً تتعلّق بقضايا الضمان في تصرفات صاحب اليد المضمنة (1) ، وتلك الأحكام تأتي مفرّقة في محالّها، ولكنا نتبع ترتيب (المختصر) ؛ فنذكر منها ما يليق بشرح السواد ".
* ومن هذا الباب ما جاء في كلامه عن أحكام العبد المأذون له في التجارة، فقد قال: " وفي المأذون وتصرفاته، وتصرفات المولى فيما في يده أحكام سيأتي ذكرها في كتاب النكاح -إن شاء الله تعالى- ولو جمعنا أحكام المأذون، لطال الباب، ولسنا نلتزم مثل هذا؛ فإنه يُحْوِج إلى الخروج عن التزام ترتيب (السواد) ". اهـ
__________
(1) أي ذكرها في المختصر.(المقدمة/269)
فها هو ينبه إلى أن بعض أحكام المأذون ستأتي في كتاب النكاح، وأن حقها أن تكون هنا، وأن يجمع كل أحكام المأذن في نسق واحد، ولكنه لا يفعل؛ لأن هذا سيُحْوِجه إلى الخروج عن ترتيب (السواد) ، وقد ألزم نفسه به.
هذه نماذج من عبارات الإمام تكفي لبيان أثر التزامه ترتيب المختصر، وأن تيمُّنه بهذا الترتيب هو الذي حال بينه وبين ما عهدناه في كتبه الأخرى من إحكامٍ وضبطٍ في الترتيب والتبويب والتفصيل، وأنه كان أمام ترتيب المختصر، بين مخالفة يسيرة محتملة، وبين اتباعٍ والتزام على غير رضاً، ينبه على سببه، ويبين ما كان ينبغي أن يكون، والمواضع التي عبر فيها الإمام عن ذلك لا تقع تحت خصر، وما ذكرناه مجرد أمثلة ونماذج.
الترتيب بين النهاية والبسيط:
كتاب (البسيط) للإمام الغزالي حجة الإسلام، مبنيٌّ على كتاب شيخه (النهاية) ولكن الغزالي استطاع أن يأتي بترتيب بديع، بلغ الغاية في الضبط والإحكام؛ حيث أخذ فقه إمام الحرمين، ولكنه لم يلتزم ترتيبه، بل اتبع ترتيباً عجيباً لم يسبق إليه، يقوم على منطق واضح القسمات، بيِّن الملامح، فهو -فيما نعلم- أول من قسم الفقه إلى أرباع، ونص على ذلك صراحة: ربع العبادات، وربع المعاملات، وربع المناكحات، وربع الجراح.
ثم يبدأ كلّ كتابٍ بتمهيد، ثم يبين في سطورٍ معدودات، أقسام الكتاب، وأبوابه، وموضوع كل منها، ولنعرض ما جاء في أول كتاب الحج نموذجاً لهذا الترتيب:
افتتح كتاب الحج بذكر أدلة الحج، ثم قال: " هذا تمهيد الباب، ومقاصده يحصرها ثلاثة أقسام:
الأول - في المقدمات والسوابق، وهي شرائط صحة الحج ووجوبه، ومواقيت الحج.
الثاني - في المقاصد، وهي ما يجب فعله وتركه في الحج، وكيفية وجوه أدائه.(المقدمة/270)
الثالث - في التوابع واللواحق، وهي فوات الحج والدماء الواجبة فيه، وأبدالها ". اهـ.
ثم إذا جاء إلى كل واحد من الأقسام الثلاثة، قسمها إلى أبواب، والباب إلى فصول، والفصل إلى مسائل أو مباحث، فإذا شذّ عن ذلك شيء أتى بها آخراً تحت عنوان (فرع) أو (فروع) .
وقد كان الغزالي متفطناً لقيمة عمله، مباهياً به، وذلك قولُه في خطبة الكتاب:
" وقد أتيتُ فيه بترتيبٍ، خف -مع كبر حجم الكتاب- محمله، وسهل مع غموض معانيه تناوله؛ ترغيباً لأولي المآرب، وتسهيلاً على الراغب الطالب ". اهـ
خامساً - الغرض من النظر في فقه السلف:
يعرض إمام الحرمين في بعض المسائل لفقه السلف وآرائهم في المسألة، ويتغيا بذلك غرضين يحددهما بقوله.
" وقد أرى في بعض الفصول حكاية مذهب السلف لغرضين:
أحدهما - أني أرى مذهبين في طرفي النفي والإثبات، ومذهب الشافعي يتوسطهما.
الثاني - أن من الأحكام ما يظن بعض الناس أنه متفق عليه، فأحكي فيه خلافاً أصادفه لمقصود في التفريع ".
قال هذا بعد أن حكى مذهب أبي سلمة بن عبد الرحمن، ومذهب طاوس، في مسألة من مسائل التيمم، ليبين أن كلاًّ منهما في طرف، وأن مذهب الشافعي بينهما.
ثم ليؤكد أن الحكم الذي اشتهر بأن حضور الماء يبطل التيمم، هناك من السلف من يقول بخلافه، وأن القول بأن التيمم استباحةٌ وليس رفعاً هناك من يخالفه.
سادساً - الغرض من ذكر المذاهب المخالفة:
أكد إمام الحرمين -كما أشرنا من قبل- أنه وضع هذا الكتاب لبيان مذهب الشافعي وتحريره، وأنه ليس من غرضه ذكر المذاهب المخالفة؛ ومن أجل هذا رأيناه يعلل(المقدمة/271)
لإيراده أحياناً بعض مسائل الحنفية وغيرهم، ويبين أن ذلك أيضاً من أجل بيان وتوضيح مذهب الشافعي.
ولذلك رأيناه يقول: " ونحن نأتي بها (أي المسائل التي خالف فيها أبو حنيفة) ونخرجها على أصلنا، ونبين مذهب أبي حنيفة فيها، وننبه على مأخذه.
والغرض من ذكر مسائل الخلاف بيان الأصول التي بنيت عليها، والفرق بين الأصول ".
* ويؤكد هذا المعنى بصورة أكثر وضوحاً، عندما يعقب على مسألة من مسائل كتاب النكاح، وخلاف أبي حنيفة فيها، فيقول: " ونذكر أصول مذهب أبي حنيفة والغرض من ذكرها أن يكون تقييداً لمذهبنا في الحفظ؛ فإن الشيء قد يحفظ بذكر ضده ".
سابعاً - إنصافٌ للمذاهب المخالفة:
مع تمذهب الإمام وشافعيته، لا يتردد في نصرة المذهب المخالف حين يرى أن الحق معه، ففي مسألة من مسائل كتاب الصداق، بعد أن يورد مذهب محمد بن الحسن، نجده يقول: " وهذا الذي ذكره غير بعيد عن مسلك الفقه " ثم يقول: " وكنا نود لو كان هذا مذهباً لبعض الأصحاب ".
قال هذا تعقيباً على قول محمد بن الحسن: " إن زاد المسمى على مهر المثل، وزادها بالشرط، لغا الشرط، وصحت التسمية، وإن نقص ... إلى آخر المسألة ".
* وبعد أن حكى قول أبي حنيفة: " إن على من ترك التكبيرات الزائدة في صلاة العيد السجودُ " قال: " وكنت أود أن يصير إلى ذلك صائر من أصحابنا؛ من جهة أن التكبيرات الزائدة في صلاة العيد قريبة الشبه بالقنوت ".
* بل لا يتردد في وصف مذهب أبي حنيفة في إحدى المسائل " بأنه منتظم "، وأن " الذي أطلقه أصحابنا فيه إشكال ".
وهذه هي مسألة المُحرز من قطار الإبل، وهذا نصُّ ما جاء فيها:
قال الأئمة: قطار الإبل محرز بالقائد.(المقدمة/272)
وقال أبو حنيفة: إن قادها، فالمحرز هو البعير الأول، وإن ساقها، فالجميع محرزٌ به، وإن ركب واحداً، فمركوبه، وما أمامه، وواحد من ورائه، مُحرز به.
وهذا المذهب منتظم. والذي أطلق أصحابنا فيه إشكال". اهـ
ثم فسر كلام الأصحاب بما يوافق مذهب أبي حنيفة، وعقب قائلاً: " ولا يجوز أن يعتقد الأمر إلا كذلك ".
* وفي مسألة من مسائل الوديعة واختلاف المودِع والمودعَ وكان الإيداع من شخصين، وكيفية إجراء الخصومة معهما، يقول: " وذكر أئمتنا في طرقهم أن اليمين الواحدة تكفيه في حقهما، وقال أبو حنيفة:
لا بد أن يحلف لكل واحد منهما يميناً، وهذا عندي محتملٌ في القياس؛ فإن خصومة كل واحد منهما منفصلة عن خصومة الثاني. وهذا احتمال، والمذهب ما نقلته ".
فها هو يرى أن القياس قول أبي حنيفة، ويعلل لهذا الرأي، ولكنه يميز بين ما يُبديه من رأي والمذهب، فيقول: " والمذهب ما نقلته ".
* وفي فصل زكاة الحلي بعد أن أفاض في بيان المذهب، وأن الزكاة لا تجب في الحلي عندنا، وذكر مذهب أبي حنيفة، وخلافه في ذلك عقب قائلاً:
" ولا يخفى على ناظرٍ في وجه الرأي أن الأصح في القياس إيجاب الزكاة في الحلي ".
فهو -كما ترى- ينصف المذهب المخالف، وكأنه يرى رأيه، ولكنه دائماً يؤكد " أن المذهب نقلٌ ".
* وفي مسألة من مسائل طلاق المريض، والتفريع على القديم والقول بالفرار من الميراث، يذكر مذهب أبي حنيفة في المسألة، ثم يقول: " وكنت أودّ لو كان ذاك مذهباً لأصحابنا ".
* وفي التيمم يكاد ينصر مذهب مالك في الاكتفاء على الكفين، مستدلاً بما رواه عن عمار بن ياسر: " التيمم ضربتان، ضربة للوجه، وضربة للكفين " فيقول إمام(المقدمة/273)
الحرمين: " وهذا الخبر بعيدٌ عن قبول التأويل ".
* بل لا يتردد في إنصاف أبي القاسم الفوراني الذي لم يذكره باسمه مرةً واحدة على طول الكتاب، فيقول عنه دائماً: " بعض المصنفين " وهو كثير الحط عليه، ومع ذلك لا يتردد في إنصافه عندما يرى الحق في جانبه.
ترى ذلك في أكثر من موضع، ولا داعي للإطالة بذكر المسائل والأمثلة، ونكتفي بالرمز إلى ذلك.
ثامناً - معرفة الواقع والإحاطة به:
إن من يقرأ كتابنا هذا يجد الإمام -عندما يتكلم في قضية من القضايا- عارفاً بواقع الحياة من حوله، محيطاً بدقائق المسألة التي يتكلم فيها بصورة تلفت النظر، ولنضرب لذلك أمثلة:
* فالذي يقرأ كلامه عن بيع النخيل المؤبر، ولمن تكون الثمرة، ويرى وصفه للطلع، وحديثه عن ذكوره وإناثه، وشرحه لكيفية التأبير، وتشقيق الطلع أو تشققه، وعادة الذين يعملون بالتأبير وأنهم يؤبرون بعضاً، ويتركون بعضاً، وأن الريح تنقل طلع الذكور، فتقوم بالتأبير.
وأن الطلع لا يخرج كله في وقت واحد، بل يخرج متداركاً بعضه وراء بعض إذا كان نوع النخيل واحداً.
أما إذا كان النخيل مختلف الأنواع، فلا يتدارك الطلع، بل يتقدم بعضه، ويتأخر بعضه.... إلى آخر ما قال.
إن من نشأ في القرى، وعاش بين من يقومون على بساتين النخيل، لو قيل له: صف هذا الذي يعملون، ما استطاع أن يأتي بمثل هذا الوصف، وهذا التدقيق.
وقس على ذلك كلامه في قضايا الصناعات: من قِصارة، وصباغة، وخياطة، ونحوها.
وهذا يؤكد أن أئمتنا وفقهاءنا -وإمام الحرمين نموذج منهم- لم يكونوا منفصلين عن مجتمعهم وواقعهم كما يزعم الزاعمون.(المقدمة/274)
* ومثال آخر عند حديثه عن استئجار الأرض للزراعة، واشتراط إمكان حصول الماء لها، ثم كلامه عن نهر النيل بمصر -وهذا عجيب جداً- والزراعة (البَعْلية) (1) على شاطئيه، وطريقة الري بالحياض، التي تعلمناها في المدارس في كتب الجغرافيا بالخرائط والصور، والشرح والتمثيل. إن من يقرأ كلام الإمام يعجب أشد العجب، كيف أحاط بهذه الأمور بهذه الدقيقة، وهو لم يرحل إلى مصر، وبالقطع لم يقع في يده كتاب من كتب الجغرافيا؛ فإن ذلك شيء لم يكن موجوداً من قبل!!!
وأنا -لمعرفتي بدّقة هذا الكلام- أجزم أن إمام الحرمين استوصف واستفصل من أحد الفقهاء -أو غير الفقهاء- الذين عاشوا في مصر، وعاينوا هذه الأمور.
* وقريب من هذا حديثه في كتاب الزكاة عن بساتين النخيل التي تُطلع مرتين في العام، وعن البساتين التي تحوي أكثر من نوع من النخيل يختلف أوان جدادها، وعمن يملك أكثر من بستان في تهامة ونجد غيرها، وتختلف أوقات الجداد، وكيف تحسب الزكوات في كل حالة، إن من يقرأ كلامه في هذا الموضع يخيل إليه أنه عايش أصحاب هذه البساتين، وعرف أحوالها.
وليس من المعقول أن نقول: إن هذه المعرفة بهذا التفصيل وقعت له عرضاً في السنوات الأربع التي جاور فيها الحرمين الشريفين؛ فإن هذه المعرفة -بهذه الدقة- لا بد أن تكون مقصودة، وتحصيلها والإحاطة بها عن قصدٍ وتتبع.
* ومن هذا أيضاً معرفتُه بمصطلحات التجار، وألفاظ المتعاملين في السوق، واعتمادها في الأحكام، ففي باب بيع المرابحة والحطيطة يذكر المصطلح الدائر على الألسنة باللغة الفارسية، كأن يبيعه بربح (ده يازدة) أو (دو بازدة) ، ويعرض لهذه المسألة في الجزء الذي أفرده للجبر والحساب، وألحقه بالوصايا.
__________
(1) الزراعة البعلية في مصر، وهي التي يسمونها أيضاً (ريَّ الحياض) : هي التي تعتمد على مياه الفيضان، بمعنى أن يبذر الفلاح البذور في الأرض التي غمرها الفيضان لمدة نحو شهرين - بعد انحسار الماء عنها، ولا تروى بعد ذلك، وأغلب ما يزرع بهذه الطريقة العدس، والفول، ويكون أجود ما يكون عندما يزرع بهذه الطريقة.(المقدمة/275)
فهناك يعرض للخلاف بين الفقهاء والحُسّاب في طريقة حساب الخسائر، فيقول: " وإن باعه بخسران (ده يازده) ، فالذي ذهب إليه جمهور الفقهاء أن العشرة تجري أحد عشر، ونحط منها جزءاً.
والذي رآه الحُسّاب أن لفظ خسران (ده يازده) معناه نقصان عُشرٍ تام، وهو نقيصة درهم من عشرة.
والذي ذكره جماهير الفقهاء متَّجهٌ في اللفظ، ولا وقع لهذا في الباب الذي نحن فيه؛ فإن هذا الباب ليس مُداراً على الألفاظ ومعانيها، وإنما هو مدار على ما يقع ".
تأمل قوله: " مدار على ما يقع "، فهو يرعى اصطلاح الناس، وواقعهم، والمعنى الذي يفهمونه من ألفاظهم ومصطلحاتهم، وإن خالف مدلول الألفاظ ومعانيها.
ثم هو يجري في بابٍ على ما يليق به، ففي باب الطلاق والخلع يدير الباب على معاني الألفاظ ومدلولاتها، حيث لا يوجد ما يخرجها عن ذلك.
* وربما كان من ذلك تنبيهه إلى رعاية العرف وتحكيمه، من مثل قوله: " ومن لم يمزج العرف في المعاملات بفقهها، لم يكن على حظٍّ كاملٍ فيها " وقوله: " والتعويل في التفاصيل على العرف، وأعرف الناس به أعرفهم بفقه المعاملات ".
* ويعد من هذا الباب -البصر بالواقع- أيضاً ما قاله عند الحديث عن الكفاءة في النكاح، وقد جعل منها الانتساب إلى شجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلى العلماء وإلى الصالحين، ثم استثنى الانتساب إلى عظماء الدنيا، فقال:
" فأما الانتساب إلى عظماء الدنيا -وجماهيرهم ظلمة، استولَوْا على الرقاب، فهم يُعظَّمون رغبة ورهبة، والشرع بائح بحط مراتبهم في الدين- فلا تعويل على أنسابهم، وإن كانوا قد يتفاخرون بها ".
فهذا يوحي، بل يشهد وينطق بأنه يعيش واقعه، وأنه غير راضٍ عن واقع الحال الذي استولى فيه الظلمة على الرقاب.(المقدمة/276)
تاسعاً - البراعة في التشبيه والتمثيل لتوضيح المعاني:
بقليل من التأمل والتنبه يدرك من يطالع كتابنا هذا اتباع الإمام لأسلوب التشبيه والتمثيل، لبيان المعنى الذي يقصد إليه، فمن ذلك:
* عندما تحدث عن الجبر والمقابلة، والاعتماد عليه في استخراج الوصية بالنسبة إلى ما تبقى من الأنصباء، وضرورة الجبر والمقابلة للوصول إلى سرّ النسبة، قال:
" وأصل الجبر أسرار النسبة. ولو اطلع مطلع على سرّ النسبة، لم يحتج إلى شيء من مراسم الحُساب، ولكن الوصول إلى حقائق النسب ليس بالهين ...
وأشبه شيء بالنسب والطرق الموضوعة في الحساب - الذوقُ في الشعر مع العروض؛ فمن استدّ ذوقه، قال الشعرَ، ومن لا يترقى ذوقه، نَظَم، وقام له العروض مقام الذوق إذا أحكم مراسمها.
كذلك طرق الحُسّاب إذا تمرن المرء عليها، أهدته إلى إخراج المجاهيل، وقد تطول دُربته فيها، فيتطلع إلى إدراك النسب ".
ولسنا بحاجة إلى أن نلفت نظرك إلى ما في هذا التشبيه من دقة، وطرافة، وذوق، ومهارة، ودلالة على سعة المعارف، وخصوبة الذاكرة.
فهو يشبِّه المهارة في إدراك النسبة بين الأعداد وعلاقتها بعلم الجبر الذي يؤدي في حقيقته إلى الوصول إلى النسبة ومعرفتها. يشبِّه ذلك بالذوق الشعري وعلاقته بعلم العروض، فكما أن صاحب الذوق الشعري يقول الشعر طبيعةً من غير معاناة تعلم، فيقع موزوناً مقفىً، فلا يحتاج إلى علم العروض.
فكذلك من مهر في إدراك النسبة بين الأعداد، وصار ذلك سليقةً وطبعاً له، لا يحتاج إلى علم الجبر ليكشف له هذه النسبة.
* ومن ذلك تشبيهه وتصويره لتطهير البئر إذا تنجست، وقد تبدو هذه المسألة هينة لمن ينظر إلى حالنا اليوم ووفرة الماء في البيوت، وجريه في أنابيب محكمة نظيفة، ويصب علينا من صنابير (حنفيات) ذات أشكال وألوان من التجمل والتفنن.(المقدمة/277)
ولكن لو تصورت جماعة في بادية أو قرية ليس عندهم مصدر للماء إلا بئر، منه يستقون ويتطهرون، فإذا وقعت فيه فَأْرةٌ وماتت فيه، وتحللت، فأية كارثة تحل بهم -وما أكثر ما كان يحدث هذا- فكيف يطهرون هذه البئر؟ وكم دلواً ينزحون؟ ومتى يصلون إلى يقين الطهارة؟ والماء يتجدد ويختلط طاهره الذي يَنْبع بالمتنجس والنجاسة تفتتت وتهرّأت في الماء.
كارثة تتكرر في هذه البيئات، وكان بعض الأئمة يُفتي بطَمّ البئر، وحفر غيرها!! وإلى أن يتم حفر غيرها ماذا يفعل الناس؟
ولكن إمام الحرمين يرى "أن يُنزح مثلُ ماء البئر مراراً، فيصير النزح المتدارِك مع حركة الماء ودفعه أجزاء النجاسة كالماء الجاري، فالعيون تفور بمياه جديدة، فتدفع النجاسات، وهي تنزح، فتطهر".
ثم قرّب هذه الصورة بتمثيل عملي عجيب، حيث قال: " وإن أراد الإنسان أن يقف على حقيقة هذا اتخذ طاساً مثقوباً، وسدّ ثُقبته، وصب فيه مقداراً من الماء، ووضعه على ماء في مِركن، وفتت فيه شيئاًً، وفتح الثقبة، وهي مثال العين الفوارة، ثم يتخذ آلةً في نزح الماء عن الطاس على مثال الدَّلو، بالإضافة إلى ماء البئر، فلا يزال ينزح، والماء يفور، وهو يقدّر ما يخرجه، وقد تقدّر عنده ماء الطاس أولاً، فهو دائب كذلك، حتى لا يبقى مما فتته شيء، وقد صفا الماء، فليتخذ ذلك دستوره في ماء البئر، ويقيس فورانَ العيون وجمةَ البئر، وما ينزحه، بما ضربته مثلاً ".
تأمل كيف صوّر نزحَ البئر، وتطهيرَ مائه من هذه النجاسة التي تفتتت وانتشرت، صوّر ذلك بهذا الجهاز البديع الذي اخترعه؛ حتى يؤكد إمكان تحقيق التطهير بهذه الطريقة.
* والأمثلة على هذه البراعة كثيرة بين يديك، وفيما ذكرناه الكفاية لإيضاح المعنى الذي نريده.
* ومما يستحق أن نسجله هنا أننا كنا نعجب من براعة الإمام الغزالي في هذا الباب، وبخاصة في كتابه (المنقذ من الضلال) و (تهافت الفلاسفة) ، حتى بلغ بي(المقدمة/278)
الإعجاب أن اقترحت على أحد الباحثين أن يجعل أطروحته بعنوان (البراعة والتفنن في ضرب المثل عند أبي حامد الغزالي) والآن عرفت أن هذه البذرة كانت عند إمام الحرمين، فنمت وترعرعت، واهتزت وربت عند تلميذه الإمام الغزالي.
عاشراً - التمسك بالخبر وتقديمه على القياس:
وكان من حق هذا البند أن يكون الأول في الترتيب، ولكني أخرته لعدةِ معانٍ رأيتها، منها:
* أنني كتبت فصلاً كاملاً وافياً في كتابنا (فقه إمام الحرمين خصائصه وأثره) عن هذا البند، وكان الممكن أن أنقله كاملاً أو ألخصه هنا، ولكن هذا شيء أكرهه، ولذا حاولت في هذا الفصل عن منهج الإمام أن أشير إلى خصائص من فقه الإمام غير ما كتبته هناك.
* ولأهمية هذا لم أشأ أن أغفله، بل رأيت الاكتفاء بالإشارة إليه، بضرب مثال واحد، في مسألة من مسائل القَسْم بين الزوجات، فيما إذا تزوج ثيباً، وأقام عندها أكثر من الثلاث (التي هي حق العقد) ، فعليه أن يقضي كلّ ما أقامه عندها (الحق مع الزيادة) أما إذا أقام عند البكر أكثر من السبع (التي هي حق العقد) ، فيقضي الزيادة فقط دون حق العقد.
وسبب هذا الفرق أنه في حال الثيب ورد خبر فالتزم به، وفي حال البكر لم يرد خبر فرجع إلى التمسك بالقياس، وهو عدم بطلان حق صاحب الحق إذا أخذ أكثر من حقه.
وهاك نص عبارته في هذا الموضوع، قال: " ولسنا نفي بمعانٍ جامعة فارقة، وإنما ندور على مقتضى الخبر، فإذا لم نجد متعلقاً فيه، رجعنا إلى التمسك بالقياس، ومن القياس الجلي ألا يبطل حق صاحب الحق إذا أخذ كثر من حقه.
فأجرينا الزيادة على حق البكر على هذا القياس، وتركنا ما ذكرناه في حق الثيب من بطلان حقها -إذا طلبت الزيادة وأجيبت- على موجب الخبر ".
* والمعنى الثالث الذي من أجله أخرنا هذا البند أن نتيمن بجعله مسك الختام.(المقدمة/279)
المبحث الثاني: أسلوب إمام الحرمين
أسلوب الإمام في مؤلفاته يضعه في الطبقة الأولى من البلغاء والأدباء، فهو واحد من فرسان البيان المعروفين، فمع أنه يكتب في فنون علمية دقيقة: علم الكلام وعلم الأصول، وعلم الفقه، إلا إنك تجد في أسلوبه طلاوة وعذوبة، مع جزالة وفخامة في الوقت نفسه، وإن وجدتَ غرابة في بعض الألفاظ، فلن تجدها حوشيَّة خشنة، وإنما تأتي الغرابة من بُعد ما بيننا وبين عصر الإمام، وطغيان العُجمة واللكنة على لغتنا نحن، عرف له ذلك معاصروه ومترجموه، فها هو عبد الغافر الفارسي يقول:
" أخذ من العربية وما يتعلق بها أوفرَ حظ ونصيب؛ فزاد فيها على كل أديب، ورُزق من التوسع في العبارة وعلوِّها ما لم يُعهد من غيره، حتى أنسى ذكرَ سحبان، وفاق فيها الأقران، وحمل القرآن، فأعجز الفصحاء اللُّد، وجاوز الوصف والحد (1) ".
وقال صاحب المسالك والممالك، ابنُ فضل الله العُمري: " أفصحُ الفقهاء لساناً، وأوضح البلغاء إحساناً، لعباراته في الفقه نزعاتٌ أدبية، ونزغات عربية، كأنما جاء بها من البادية، تلاعبها أعطاف ريحها، وتجاذبها أطراف البداوة إلى لِمم شيحها (2) ".
لم يَغب عنا أن شرطنا في هذه الفصول أن نلتزم بما يستخرج ويستنبط من (نهاية المطلب) ولكنا لم نستطع أمام شهادة بهذا المستوى، وبهذا القدر إلا أن نتحفك بها.
ونعود إلى (نهاية المطلب) ، فنجد الأسلوب الرشيق الأنيق، والألفاظ الدقيقة الواضحة، والكلام الجزل الفصيح، فهو بحق أسلوب علمي متأدب، فمع أن لغة
__________
(1) طبقات السبكي: 5/174.
(2) مسالك الأبصار في ممالك الأمصار: 6/285.(المقدمة/280)
الفقه، ومصطلحاته تحتاج إلى الدقة والصرامة، ومع أن لغة العلم تتجرد من العاطفة والمجاز، مع كل هذا، والتزام الإمام به، إلا أنك تلمح سمات الجمال والطلاوة في أسلوبه، تقرأ كتابه فتجد ذلك واضحاً ملموساً، لا يحتاج إلى استدلال، ولكنا نضع أمامك شيئاًً مما رأيناه يستلفت النظر، وسنلتزم الإيجاز، فنقتصر على أقل ما يكفي للاستشهاد من الكلمات:
* فمن ذلك قوله: " ومن الأصول الخفية أن مَحَطَّ القياس قد يضيق، فيدق النظر، وهو يمشي مشي المقيد، ثم قد يقف، ويضطر الفقيه إلى حكمٍ، فيصرفه إلى أقرب الوجوه إليه ".
تأمل التعبير، وانظر إلى الصورة المتحركة " مَشْي المقيد ".
* وفي كتاب العتق - باب جناية المكاتب على سيده، وهو يتكلم عن إنشاء المريض الكتابةَ، ووصيته بها، يقول:
" وقد أتيت على هذه الأبواب فقهاً وحساباً، في كتاب الوصايا، ولم أغادر فيها مزيداً لمتنفس، ومهدت الأصول، ونظمت المسائل، وعند الصباح يَحْمَد القوم السُّرى ".
تأمل الصورة الأدبية: " ولم أغادر فيها مزيداً لمتنفَّس "، وانظر الإيقاعَ في قوله: " ومهدت الأصول، ونظمت المسائل " مما يسميه علماء البلاغة: " الازدواج " أو حسن التقسيم.
أما ختام العبارة بالمثل السائر: " عند الصباح يحمد القوم السُّرَى " فلا يحتاج إلى أن أنبه إليه.
* وفي موضع آخر، يقول:
وههنا وقفة طال فيها نظرنا، فليأخذ الناظرُ المقصودَ عفواً صفواً، " فرب ساعٍ لقاعد ".
ولست بحاجة إلى التنبيه إلى ما في العبارة، من طرافةٍ وطلاوة، وما تحمله من روع تكاد تقرب من الفكاهة.
* وربما تكون روح الفكاهة والدعابة أوضح في العبارة التي قالها عن القاضي حسين، فعندما ناقش مسألة من مسائل الجنايات، وهي إذا قتل أخوان أبويهما: أحدهما قتل(المقدمة/281)
الأب، والآخر قتل الأم، وأيهما يقدم للقصاص؟ هل بالسبق أم بالقرعة؟ قال معقباً على ذلك -بعد أن استوفى المسألة بحثاً وتمحيصاً-: " ولقد رأيت في مرامز كلام الأصحاب ما يدل على القرعة، والقاضي لم يذكرها، واقتصر على أن قال: لو ابتدر أحدهما، وقتل صاحبه، كان كذا وكذا. وهذا فرار من الزحف ".
انظر روعة تشبيه التمثيل لإغفال القاضي قولاً من الأقوال في المسألة.
* وفي كتاب الفرائض، عند الكلام عن كيفية توريث من يدلي من ذوي الأرحام بقرابتين، ذكر قولَ الأستاذ أبي منصور وما يراه في المسألة، ثم قال: " وقد أورد القاضي أبو محمد في كتابه: أن أبا يوسف لا يورث بقرابتين، ونحن نقول: الرجوع إلى ما نقله الاستاذ أبو منصور أولى؛ فإنه إمام الصناعة مطلقاً، " وكل الصيد في جوف الفَرَا " (1) .
* وقال في (باب في أقسام الضرب) من كتاب الفرائض، وهو يصف طريقة تعلم الحساب، قال: " ولْيعلم الطالب أن الشرط الأول على من يبغي المهارة أن يحفظ الآحاد، بحيث لا يحتاج إلى التفكر فيها، وهي طريحة ساعده " (2) .
وقال في كتاب القَسْم والنشوز فيما لو أراد الزوج أن يزيد النوبة على الثلاث "ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا يجوز، إذ لا موقف بعد المجاوزة ... فربما نجعل النوبة ستة أو أكثر منها، وهذا يؤدي إلى مهاجرة في حق اللواتي تتأخر نوبُهن، ثم يترتب عليها انتساج وحشةٍ بين الزوج وبين المتخلفات، وإلى تأكد ألفةٍ تنتهي إلى المِقَة، فيحصل من السرف في الازدياد مقتتٌ ومِقَة" ولا يخفى على الفطن ما في الكلام من محسنات البديع.
* وتقرأ في الجزء 15 ص 471، 472 قوله: " وهذا موقف لا يجوز للفقيه الاكتفاء فيه بالاتباع، ولا يسوغ أن يخطوَ الخطو الوِساع ".
والحق أن التمثيل والاستشهاد على أن " لعباراته في الفقه نزعاتٌ أدبية، ونزغات عربية " أمرٌ يحِّير من يحاوله: أيّ العبارات يأخذ وأيها يدع، فالكتاب بين يديك، لا تجد فقرة فيه، إلا وهي صالحة للتمثيل والاستشهاد.
فنكتفي بما حاولناه، ونأخذ في بابةٍ أخرى من أسلوب ولغة الإمام.
__________
(1) انظر ج 9/249.
(2) انظر ج 9/265.(المقدمة/282)
إمام الحرمين واللغة:
وإذا تركنا الفصاحة والبلاغة، وتحدثنا عن إحاطة الإمام باللغة وتصرفه فيها متناً وقواعد، لوجدنا معجم الإمام في (نهاية المطلب) يحوي مفرداتٍ، ومشتقاتٍ، وصيغاً غيرَ معهودةٍ لنا الآن، ولكنها صحيحة فصيحة، غير حُوشيةٍ ولا جافية، ولكننا نحن الذين بعدت بيننا وبين لغتنا الشقة، باعد بيننا وبينها العجمة التي سادت لغتنا اليومية، وأسماءَ متاجرنا ومصانعنا، وأدواتِ معيشتنا، وأسماء ما نطعمه ونشربه، ونلبسه ونركبه، بعد أن (فَرْنجنا) تعليمنا ومناهجنا، ففعلنا بأنفسنا ما عجز الاستعمار أن يفعله بنا.
ولهذا الانقطاع عن تراثنا، وأصيل لغتنا، أصبح الاتصال بأئمتنا، والتلمذة لهم، وقراءة كتبهم، أصبح ذلك أمراً عسيراً، وصار بعض (الدكاترة) يعزو ما يعجز عن معرفة وجهه في كتب التراث إلى الخطأ، ويقوم بتغييره، فيقول في المقدمة: " إن من عمله في تحقيق الكتاب تصويب الأخطاء النحوية واللغوية، من غير حاجة إلى تنبيه " فيغير لغةَ صاحب الكتاب الذي بينه وبين المحقق مئات السنين، وُينطقه بلغة عصرنا، وهذا من أخطر الجنايات التي ارتكبت في حق تراث أمتنا، وعلم أئمتنا، ارتكبها كثير من محققي العصر والأوان، وهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً.
وقد سنَّ لنا أئمة هذا الفن، فن التحقيق الذين يُهتدى بهم، سنّ لنا هؤلاء الأئمة المحافظةَ على لغة المؤلف صاحب الكتاب حتى فيما يختص بقراءته التي كان يقرأ القرآن عليها، فها هو العلامة الشيخ أحمد شاكر يضبط لفظ (القُرَان) بضم القاف وفتح الراء مخففة وتسهيل الهمزة، في كل موضع ورد فيه اللفظ في رسالة الشافعي، اتباعاً للإمام الشافعي -مؤلف الرسالة- في رأيه وقراءته، فقد ورد بسندٍ اعتمده الشيخ شاكر أن الشافعي كان إذا قرأ قوله تعالى {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء: 45] ، هَمَز (قَرأْتَ) ولم يهمز (القُران) ، وهي قراءة عبد الله بن كثير عن مجاهد عن ابن عباس عن أُبي (1) .
__________
(1) ملخصاً من تعليق الشيخ شاكر على الرسالة: 14 حاشية رقم (4) .(المقدمة/283)
وقد أشار العلامة الشيخ بكر أبو زيد إلى نحو هذا، حيث أخذ على الذين ينشرون تراث شيخ الإسلام ابن تيمية أن بعضهم غير الرسم في الآية الكريمة {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير: 24] فقد كانت في الأصول المخطوطة، وفي بعض الطبعات (بالظاء) (بظنين) ، وهذا الرسم (بالظاء) هو الموافق للقراءة التي كانت سائدة في بلاد الشام، ومصر، واليمن في عصر ابن تيمية، ولذا قال الشيخ: " فينبغي عند تحقيق كتب شيخ الإسلام عدم التصرف في الرسم للآيات التي يستشهد بها، حتى تكون على وفق رسم المصاحف السائدة في عصرنا (1) ".
ونحن نقول مع الشيخ: إن هذا الأمر يعسر القيام به، لصعوبة الإحاطة بعلوم القراءات وعلم الرسم، رسم المصحف، بل والعلم بتاريخ انتشار القراءات وأماكن شيوعها، وتكليف المحقق معرفة بأيها كان يقرأ المؤلف.
وإذا عَسُر هذا بالنسبة للقرآن العظيم، فهو بالنسبة للحديث الشريف ميسور، فمعلوم أن الروايات تتعدد بالنسبة للحديث الواحد، وتختلف فيما بينها في بعض ألفاظها، كما في كتب اختلاف الموطآت وغيرها، ومعلوم أن عدداً من كتب الحديث المطبوعة الآن من رواية واحدة فحسب، كسنن أبي داود، فإن النسخة المطبوعة من رواية اللؤلؤي، مع أن هناك غيرها من الروايات كان معروفاً متداولاً قبلُ.
ومن هنا على المحقق ألا يعجل بتغيير ألفاظ الأحاديث التي في الكتاب الذي يحققه، لتوافق اللفظ الموجود في كتب الحديث التي بين يديه، فهو لا يدري أيَّ رواية وقعت للمؤلف، وغاية ما عليه أن ينبه في الحاشية على اختلاف اللفظ الذي يجده (2) .
وإذا كان هناك بالنسبة للقرآن والحديث، فهو بالنسبة للغة أيسر، وألزم، وأوجب، فعلى المحقق إذا وجد ما لا يتفق ومعلومه عن النحو واللغة ألا يسارع بالتخطئة، والتغيير، بل يجب أن يبحث في كتب النحو واللغة، وعليه أن يستعين بأهل الصناعة، حتى لا يخطِّىءَ الصواب، ويغيرَ لغة المؤلف، ويُنطقَه بما لم ينطق به.
__________
(1) ر. المداخل إلى آثار شيخ الإسلام ابن تيمية، الشيخ بكر بن عبد أبو زيد: 54. بتصرف.
(2) السابق نفسه (بتصرف) .(المقدمة/284)
وقد نبه الشيخ أحمد شاكر إلى شيءٍ من هذا، حين قال - في تعليقه على سنن الترمذي: 1/440: " وقد رأيت كثيراً من الناسخين والعلماء يجيزون لأنفسهم تغيير ما خالف القواعد المعروفة؛ ظناً منهم أنه خطأ ".
قال هذا وهو يتحدث عما رآه من اختلاف رواية الحديث الشريف: " ليلني منكم أولو الأحلام والنهى "، وهو كلام نفيس يدل على سعة اطلاع وطول باع، ونور بصرٍ وبصيرة، يحسن أن نأتي به بتمامه، قال رحمه الله وطيب ثراه تعقيباً على هذا الحديث: " قال النووي في شرح مسلم: "ليلني: هو بكسر اللامين وتخفيف النون من غير ياءٍ قبل النون، ويجوز إثبات الياء مع تشديد النون على التوكيد".
وهكذا طبع في صحيح مسلم بحذف الياء في طبعة بولاق (1: 128) وفي طبعة الآستانة (2: 30) في حديثي أبي مسعود وابن مسعود، وكتب بهامشها في حديث أبي مسعود أن في نسخةٍ ليليني " وضبط بتشديد النون، وفتح الياء قبلها.
ولكن في نسخة مخطوطة عندي من صحيح مسلم -يغلب عليها الصحة- بإثبات الياء فيهما من غير ضبط، وكتب بهامشها في الموضعين أن في نسخةٍ (ليلني) بحذف الياء.
وقال المباركفوري في شرح الترمذي: 1/193: " قد وقع في بعض نسخ الترمذي: (ليلني) بحذف الياء قبل النون، وفي بعضها بإثباتها ".
أقول (1) ، وإني لم أرها في شيء من نسخ الترمذي بحذف الياء، وأظن أن حذفها فيه وفي غيره من تصرف الناسخين، وكذلك ضبط الكلمة على إثبات الياء: بفتحها وتشديد النون؛ ذهاباً منهم إلى الجادَّة (2) في قواعد النحو، بجزم الفعل المعتل بحذف حرف العلة.
وقد رأيت كثيراً من الناسخين والعلماء يجيزون لأنفسهم تغيير ما خالف القواعد المعروفة، ظناً منهم أنه خطأ، والدليل على ظن التصرف منهم أن الشارح
__________
(1) القائل الشيخ شاكر، فما زال الكلام له.
(2) يعني المألوف المعروف من قواعد النحو.(المقدمة/285)
المباركفوري نقل عن الطيبي قال: " من حق هذا اللفظ (ليليني) الياء؛ لأنه على صيغة الأمر، وقد وجدناه بإثبات الياء وسكونها في سائر كتب الحديث، والظاهر أنه غلط ".
هكذا أثبت الشيخ أن أصل الكلمة كان بإثبات الياء وسكونها في سائر كتب الحديث.
ثم عقب على كلام الطيبي قائلاً: " وليس هذا غلطاً كما زعم الطيبي، بل إثبات حرف العلة في مثل هذا ورد في الحديث كثيراً، وله شواهد من الشعر، وقد بحث فيه العلامة ابنُ مالك في كتاب (شواهد التوضيح) بحثاً طويلاً (70-76) ... (1) ".
وقد أطلنا هذا النقل من كلام الشيخ -على غير منهجنا- لترى صرامة المنهج في التحقيق، وترى كيف عنَّى الشيخُ نفسَه وراء لفظة واحدة، وتتبع النسخَ والروايات لكي يضع يدكَ بيقين على أن أصل هذه الكلمة كانت بإثبات الياء، فتعاورها النقلةُ والنساخ، ما بين من يظن أنه يصححها بالتفنن في ضبط، ومن يظن أنه يصوبها بحذف الياء، حتى انتهى الشيخ إلى أن الأصل أنها بالياء، وأنها صحيحة.
وبهذا نصل بك إلى ما وجدناه من ظواهر واستعمالات لغوية عند إمام الحرمين جاءت على غير المألوف والمعهود، وأننا التزمنا -بعون الله- بصرامة المنهج، فلم نعجل بتخطئتها.
وسنحاول أن نصنف هذه الظواهر والاستعمالات، ونعدّدها على النحو الآتي:
1- استعمالات على غير المعهود في قواعد اللغة، فمن ذلك:
* إثبات ياء المخاطبة في نحو: أنت قلتيه ورميتيه، وذلك قوله في كتاب اللعان: " إذا قال الزوج لزوجته: ما ولدت هذا الولد بل استعرتيه، أو التقطتيه ".
* ومن هذا أيضاً حذف النون من الفعل المضارع المرفوع تخفيفاً، وذلك قوله -في كتاب الوصايا-: " وقد يخرجوها إذا دقَّ الحساب من الكسور ... إلخ " فالمشهور المعروف (يخرجونها) .
__________
(1) سنن الترمذي: 1/440، 441.(المقدمة/286)
ولكنا لم نعجل بحمل الأمر على خطأ الناسخ، أو لحن المؤلف -كما يبادر إلى ذلك البعض- وأخذنا في البحث فوجدنا ابنَ مالك يقول: " حذف نون الرفع في موضع الرفع لمجرد التخفيف ثابت في الكلام الفصيح نثره ونظمه ".
ثم وفّى المسألة بذكر الأمثلة، وأفاض في التعليل النحوي لهذا الحذف (1) .
* ومن ذلك حذف الفاء في جواب (أما) على غير معهودنا ومألوفنا، ومن طريف ما يحكى في هذا الموضع أن العلاّمة الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية المتوفى 1354 هـ-1935 م، كان في مناظرة، فوقع حذفُ الفاء في جواب (أما) في كلامه، فظن مناظرُه أنه يستطيع إحراجه، فقال له: " أين الفاء؟ " فأجابه الشيخ على البديهية: " ذهب بها الكوفيون يا بصريّ ".
ويبدو أن هذه اللغة كانت شائعة في القرن الخامس الهجري، فأنت واجدٌ هذا في كتب الغزالي، وأبي إسحاق الشيرازي، وابن السمعاني، وغيرهم، وليس في (نهاية المطلب) وحده.
وقد رأيت من أفاضل المحققين من ضرب إسقاط الفاء في جواب (أما) مثلاً للأخطاء النحوية التي وجدها عند المؤلف، وصوَّبها من غير إشارة إليها، وتنبيه عليها في الحاشية.
ومقابل هذا كم من محقق غيَّر، ولم ينبه، ولم يُشر.
وقد بلغ حذف هذه الفاء -في كتابنا هذا- من الكثرة حدّاً جعل التمثيل له بذكر جملة من كلام الإمام غيرَ ذي جدوى.
وقد أكثر الغزالي من حذف هذه الفاء، حتى علق النووي في التنقيح على قوله: " أما قولنا: تراب، يندرج تحته الأعفر ".
قال النووي: "هكذا هو في النسخ (يندرج) بغير فاءٍ، والمشهور في العربية جواب أما بالفاء، وقد أكثر المصنف وغيره من حذف هذه الفاء، وهي لغة صحيحة،
__________
(1) ر. شواهد التوضيح، بتحقيق الدكتور طه عبد المحسن: 58، 59.(المقدمة/287)
وقد جاءت متكررة في الأحاديث الصحيحة، وغيرها من كلام العرب، لكن الفصيح المشهور إثباتها" ا. هـ كلام النووي ويعنينا مما قال أمران:
1- أن ذلك كان شائعاً في استعمال الأئمة في ذلك العصر.
2- أنه لغة صحيحة، جاءت بها الأحاديث الشريفة.
* ومن ذلك حذف حرف العطف في مثل قوله -في كتاب الطلاق-: ولو قال رجل لامرأته: أنت طالق لرضا فلان، زعم أنه أراد بما قال تعليلاً، وقع الطلاق ناجزاً.
اجتمعت نسختان هنا على حذف واو العطف بين الجملتين: قال رجل لامرأته ... [و] ، زعم أنه أراد ...
لم أعجل بزيادة (واو العطف) -مع أنه الأيسر والأسهل- وتوقفت أراجع المسألة في مظانها، فوجدتُ ابنَ مالك يقرر أنه يجوز حذف حرف العطف، ويضرب لذلك أمثلةً، وشواهد من الجامع الصحيح لأبي عبد الله البخاري، منها قوله صلى الله عليه وسلم: " صلى رجل في إزارٍ ورداء، في إزارٍ وقميص، في إزارٍ وقباء " والأصل: صلى رجلٌ في إزار ورداء [أو] ، في إزارٍ وقميص، [أو] في إزارٍ وقَباء " فحذف حرف العطف مرتين لصحة المعنى بحذفه ". ا. هـ
وفي الحديث فائدة أخرى، وهي مجيء الماضي بمعنى الأمر، أي: ليصلِّ الرجل (1) .
* ومن ذلك رفع المستثنى في كلام تام موجب، وقد جاء ذلك نادراً جدّاً، وهو سائغ، وعليه جاء حديث أبي هريرة -في رواية النسفي-: " كل أمتي معافىً إلا المجاهرون " بالرفع (2) .
* إعادة الضمير مؤنثاً على مذكر، ومذكراً على مؤنث.
ونكتفي بهذه النماذج، وهناك غيرها لم نذكره هنا، وهو مبينٌ موضحٌ في حواشي الكتاب.
__________
(1) ر. شواهد التوضيح: 117.
(2) السابق نفسه ص 94.(المقدمة/288)
ب- استخدام أساليب على غير المعهود المشهور، مثل:
* استعمال (بلى) بمعنى نعم في جواب الكلام الموجب.
* تكرار (بين) مع الاسم الظاهر في مثل قوله: " بين ثبوت الرق، وبين استبقاء النكاح " والمعهود المشهور أنها لا تكرر إلا مع الضمير، مثل: والفرق بين الأنام وبينه.
* دخول الباء على غير المتروك في نحو استبدلت الدراهم بالدنانير، وذلك إذا أمن اللبس.
***
جـ- استعمال أدوات على غير المعهود في استعمالها، مثل:
* (مهما) بمعنى (إذا) وهذا الاستعمال شائع عند الغزالي وغيره، تجده عند السرخسي في المبسوط، بل تجده عند الخليل بن أحمد الفراهيدي المتوفى سنة 170 هـ في معجمه العبقري (كتاب العين (1)) .
* (إذا) بمعنى: إذْ
* (إِذْ) بمعنى: إذا (2) .
* (ما) للعاقل.
* (ثمَّ) للقريب.
* وكذا إنابة حروف الجر بعضها عن بعض، ومن هذا كثير، نبهنا على عُظْمِه في الحواشي.
***
د- ألفاظ يستعملها الإمام على غير أوزانها، وصيغها المعهودة، وعامة ما وجدناه من ذلك في مصادر الثلاثي مثل:
* صَدَر، وحَدَث، ونَفَر، مكان صدور، وحدوث، ونفور.
__________
(1) انظر عبارة الخليل في رسالة بعنوان (تصحيح الكتب وصنع الفهارس المعجمة) بقلم العلامة الشيخ أحمد شاكر، وتعليق العلامة الشيخ عبد الفتاح أبي غدة: 47.
(2) انظر في ذلك (شواهد التوضيح: 62) .(المقدمة/289)
* وبَدْو مكان بُدُوّاً مصدراً لـ (بدا) بمعنى ظهر.
* وسكوناً مكان (سَكَناً) في نحو قوله عن قسمة العقار: " إذا أمكن الانتفاع بكل حصةٍ منه (سكوناً) يريد (سَكَناً) ، ويبدو أن هذا الوزن من المصدر كان شائعاً في الاستعمال في هذا المعنى، في لسان ذلك العصر.
***
هـ- استعمال ألفاظ لم نجدها في المعاجم بنفس المعنى الذي استعملها فيه الإمام مثل:
كلمة (البين) في قوله في بيع التولية: " وحقيقة التولية إحلالُ المولَّى محلّ المولِّي، حتى كأن المولِّي مرفوع من (البين) ".
وقوله في مسألة إعراض الغانم عن حصته من الغنيمة: " ظاهر كلام الأصحاب أن من أعرض عن حصته أخرج من (البين) ، ويقدر كأن لم يكن، ويخمس المغنم، ويصرف أربعة أخماسه إلى الباقين "
تكررت هذه الكلمة بهذا المعنى في أكثر من موضع من كتابنا هذا، كما وردت بهذا المعنى ذاته في كتابه (البرهان في أصول الفقه) ، ولم نرها مستعملة بهذا المعنى في المعاجم.
***
و كما استعمل لفظاً صحيحاً خطّأه الإمام النووي، وظهر أنه صواب منصوص في كتب اللغة.
وذلك لفظ (طريان) في نحو قوله: " طريان الحيض "، " طريان العجز "، " طريان السفر "، " طريان الخوف ".
كذا استعملها الإمام، وتكررت مراراً، واستعملها تلميذه الغزالي في الوسيط، قال في كلامه عن المستحاضة: " ... وقال الشافعي رضي الله عنه: تقضي خمسة عشر يوماً، وكأنه لم يخطر له (الطريان) -أي طريان الحيض- في وسط النهار ".
عقب الإمام النووي على ذلك قائلاً: "قوله: (الطريان) هكذا يتكرر في(المقدمة/290)
الوسيط، وهو تصحيف، وصوابه (الطرآن (1)) .
ولمنزلة الإمام النووي ومكانته، كدتُ أستسلم لقوله، ولكن إحساسي بقدرة إمام الحرمين، وإحاطته باللغة دفعني إلى مزيد من البحث، حتى وجدتها في كتاب (التكملة والذيل والصلة للصغاني) و (تهذيب اللغة) ، فقد نقلا عن ابن الأعرابي قوله: " طرى يطرِي إذا أقبل، وطرى يطري إذا تجدد، وطرى يطري إذا مرّ " فالفعل يائي، وعليه يكون المصدر (طريان) ، وليست الألف في (طرى) مسَّهلة عن الهمزة، حتى نهمز المصدر (طرآن) .
***
ز- استعمل كلمة (كما) بمعنى (عندما) أو (لمَّا) ،
في مثل قوله: " ... فأما التقدم على الإمام، (فكما) وقع أبطل الصلاة " و" ... (فكما) لابس الإمام السجود، حكمنا ببطلان صلاة الإمام"، " ولو تيمم، ولبس الخف، نظر: فإن كان التيمم لإعواز الماء، فلا يستفيد به المسح عند وجود الماء، بل (كما) وُجد بطل التيمم، ولزم نزع الخف "، " فأما المبتدأة، فهي التي (كما) يبتديها الدم تطبق الاستحاضة، وتتصل الدماء ".
ونكتفي بهذه الأمثلة، ففيها غَنَاء، فقد تكررت بهذا المعنى مرات تستعصي على العد والحصر.
وقد وجدنا هذا الاستعمال عند الغزالي، وعند السرخسي في المبسوط، وعند الرافعي في الشرح الكبير، وعند نجم الدين النسفي في كتابه طلبة الطلبة.
وقد تعقب الإمام النووي -في التنقيح- الغزاليَّ في الوسيط، فقال: " لفظة (كما) يستعملها المصنف وغيره من الخراسانيين بمعنى (عند) وليست عربية ولا صحيحة (2) ".
__________
(1) التنقيح، بهامش الوسيط: 1/442.
(2) ر. التنقيح بهامش الوسيط: 1/426.(المقدمة/291)
كذا قال الإمام النووي طيب الله ثراه، ولم نصل إلى أصلٍ لها في العربية، وراجعنا أصحاب الصناعة، فلم نجد عندهم جواباً بعد.
ح- ومما يستحق أن يسجل في ختام هذا الموضع هو أن إمام الحرمين كان يستخدم مفردات وألفاظاً غير معهودة في معجمنا اللغوي، ولساننا المعاصر.
وقد يقول قائل: إن هذا أمر بدهي مُسلَّم، لا يحتاج إلى الإشارة إليه، أو التنبيه عليه، ونقول: نعم، هو كذلك، ولكن أردنا أن نشير إلى ذلك، لأمرٍ أهم يتعلق بمنهج التحقيق.
وسأضرب مثلاً بلفظة واحدة جاءت في كلام الإمام، وهو يتحدث عن كراء الأرض للزراعة، واشتراط إمكان وجود الماء وتوقعه، وتحقُّق ذلك أو عدمه في الأرض التي يرويها (النيل) ... قال الإمام: " ولو كان بالقرب من (ضيفة) النيل أرضٌ.... الخ " كذا بهذا الرسم الواضح ضاد، فياء، ففاء، فتاء مربوطة.
وفي نسخة أخرى: " ضفة النيل ".
فهنا يجري الذهن مع المألوف المعهود: (ضفة) وتصحيف (ضفة) إلى (ضيفة) أمر قريب متوقع من النساخ. ولقد هممت فعلاً باعتماد النسخة المساعدة (ضفة) وصرف النظر عن نسخة الأصل، لاسيّما وأن الأمر لا يتعلق به خطأ أو صواب.
ولكني أحجمت وتوقفت وتذكرت القاعدة التي أكدها أئمة الصناعة، وهي: إذا اختلفت نسختان في لفظة، فجاءت إحداهما بها مأنوسة معهودة، والأخرى جاءت بها غير معهودة، فالصواب في جانب التي جاءت بها غير معهودة؛ وذلك أن الناسخ يصحف غير المعهود إلى المعهود الذي يسبق إلى ذهنه.
وفعلاً صَدَقتْ القاعدة، فوجدنا كلمة (ضيفة) صحيحة، وإن كانت غير مألوفة، وهي بمعنى (جانب) الوادي أو النهر.
***(المقدمة/292)
الفصل السادس إمام الحرمين وعلم الحديث(المقدمة/293)
إمام الحرمين وعلم الحديث
تمهيد:
نقدم بين يدي الفصل بعض الضوابط والمبادىء راجين أن يفهم ما نقوله في ضوء هذه الضوابط والمبادىء، وهي:
1- إننا لا نحاول أن نثبت أن إمام الحرمين كان من المحدثين الحفاظ، وأئمة الحديث وحملته، لا ندعي نحن ذلك، ولا ادعاه إمام الحرمين لنفسه؛ فهو يقول في كتابه (الغياثي) : " فليطلب الحديث طالبه من أهله " (فقرة 148) ، وفي كتابه هذا (نهاية المطلب) يقول: " وقد راجعتُ بعض أئمة الحديث، فلم يُثبت رفع اليدين في القنوت "، وفي موضع آخر يقول: " ولكن أخبرني من أثق به من أئمة الحديث أن الذي ظهر وصحّ من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم - التختّمُ في ... " قال هذا في كتاب الجنائز عند الكلام عن مخالفة أهل البدع في شعارهم.
وعند الكلام عن تلقين المقر بالحد الرجوعَ عن إقراره، يروي أن النبي صلى الله عليه وسم قال للمقر: " ما إخالك سرقت! قل: لا " ثم عقب قائلاًَ: " وقد سمعت بعض أئمة الحديث لا يصحح هذا اللفظ، وهو: " قل: لا ".
وقد تكرر منه نحو هذا كثيراً.
فهذه الأقوال تنطق بأنه لا يدّعي لنفسه أنه من أهل الحديث وأئمته، بل يدعونا ويعلمنا أن نأخذ كل فن من أهله.
ولا شك أن إمام الحرمين في هذا مقتدٍ بالإمام الشافعي الذي كان يقول لتلميذه أحمد بن حنبل: " يا أحمد، إذا صح عندك الحديث، فأعلمني به ".(المقدمة/295)
2- إن علم الحديث ليس بالعلم الذي يمكن الإحاطة به إحاطة كاملة، فما من محدث حافظ إلا وتعقبه متعقب في حديث أو أكثر.
وعبر عن هذا شيخ الإسلام ابن تيمية قائلاً: " ولا يمكن لواحد أن يحيط بجميع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يدعي.
والدليل على ذلك أن أبا بكر رضي الله عنه - وهو الذي لا يفارق النبي صلى الله عليه وسلم حضراً ولا سفراً سأل عن ميراث الجدة، فأخبره المغيرةُ بنُ شعبة، ومحمد بنُ مَسْلمة بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك عمر رضي الله عنه، خفيت عليه أحكام: منها حكم المجوس في الجزية، حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " (1) ا. هـ.
3- ثم إن هذا العلم ليس من العلوم التي تقبل الشركة، بل هو علم من يهب له نفسَه، ويعطيه كلَّه، ولا يلتفت إلى غيره، قال الخطيب البغدادي: " علم الحديث لا يعلق إلا بمن قصر نفسَه عليه، ولم يضم غيره من الفنون إليه.
وقد قال الشافعي رضي الله عنه: أتريد أن تجمع بين الفقه والحديث؟ هيهات!
وقد كان شيخ الإسلام، أبو إسماعيل ابن الأنصاري، الأصبهاني، الهروي، يقول: هذا الشأن -يعني الحديث- شأن من ليس له شأن سواه " (2) .
4- إنني لا أنصب نفسي محامياً عن إمام الحرمين؛ فليست المسألة مسألة اتهام ودفاع، وتعصب وتحزب، وإنما هي مباحثة علمية نبغي بها وجهَ الصواب، والبحثَ عن الحقيقة بدليلها، ووزن الأمور وتقديرها، متجردين من الهوى والميل، سائلين الله سبحانه أن يلهمنا الصواب، ويعصمنا من الزلل، وأن يقيض لنا منصفين ينظرون في كلامنا هذا بعين الإنصاف.
5- إن إمام الحرمين وحده- فيما أعلم- حظي بهذا القدر من الهجوم في هذا
__________
(1) رفع الملام عن الأئمة الأعلام: 5-7.
(2) الرسالة المستطرفة: 221.(المقدمة/296)
الباب، وبهذه الحدة، وحده دون غيره من الفقهاء، حاشا تلميذه الغزالي، فقد ناله قدرٌ من ذلك، ولعله أصيب به تبعاً لشيخه.
6- كنت أتمنى أن أقوم بدراسة إحصائية استقصائية لكل الأحاديث التي استشهد بها إمام الحرمين في كتبه كلها، نجمعها كلها في صعيدٍ واحد ثم نُجري الدراسات الآتية:
* توزع على دواوين السنة لنرى كم حديثاً منها أخرجه البخاري؟ وكم حديثاً أخرجه مسلم؟ وكم حديثاً أخرجه أبو داود؟ وهكذا.
* ثم تُقسم بحسب الصحة أولاً قسمين ما بلغ درجة الصحة والحسن، وما دون ذلك، ثم يقسم ما نزل عن درجة الحسن إلى الضعيف الذي يصلح للاستدلال به في فضائل الأعمال، وإلى ما دون ذلك.
* ثم يُنظر في هذا الضعيف هل استدل به وحده، أم استأنس به مع حديث أو قياس؟
* ثم ينظر هل استدل بهذا الضعيف دون غيره من الفقهاء والأئمة؟ أم أن هذه الأحاديث دائرة متداولة في كتب الفقهاء؟
* وننظر أيضاً في أحاديث الخلاف، وما تكلم فيه من أحاديث الخصوم، وكيف ردّها.
* وننظر في الأحاديث التي أخذها عليه وعلى الغزالي ابنُ الصلاح والنووي، أو ابن حجر؟ وكم مما أخذه ابنُ الصلاح ردّه عليه النووي أو ابن حجر، وكم مما أخذه النووي ردّه عليه ابنُ حجر أو غيره.
كان هذا تصوّرنا لهذا الفصل ولحسم هذه القضية، ولكن لم يسعفنا الوقت ولا الجهد، ولذا سنتناول هذه القضية على نحو آخر فيما يأتي.
خُطة هذا الفصل وطريقته:
سنسير في هذا الفصل على الخطوات الآتية:
أولاً - ذِكْرُ الناقدين والمتحاملين على إمام الحرمين في هذا الجانب.
ثانياً - النظر في الأسباب والعلل التي سوّغوا بها ما يقولون.
ثالثاً - بيان أن الأوهام الحديثية لا يكاد ينجو منها أحد.
رابعاً - ذكر نماذج من كلام إمام الحرمين في نقد أحاديث الخصوم.(المقدمة/297)
أولاً - الذين رأيناهم نقدوا إمام الحرمين، وضعفوه في الحديث هم:
1- السمعاني، أبو سعيد، عبد الكريم بن محمد بن منصور المتوفى سنة 562 هـ.
2- ياقوت الحموي الرومي البغدادي المتوفى سنة 646 هـ.
3- الإمام ابن الصلاح المتوفى سنة 643 هـ.
4- الإمام النووي المتوفى سنة 656 هـ.
5- شيخ الإسلام ابن تيمية المتوفى سنة 728 هـ.
6- الإمام الذهبي المتوفى سنة 748 هـ.
7- الإمام الحافظ ابن حجر المتوفى سنة 852 هـ.
فهؤلاء -فيما نعلم- هم الذين صدرت منهم عبارات عالية تُضعِّف إمام الحرمين في الحديث، وإذا وجد غيرهم، فهم لهم تبع، وعنهم ينقلون.
ويحسن أن نذكر نماذج لهذه العبارات، ونناقشها، وننظر في مدى صحتها أو بطلانها.
ثانياً - عرض لأقوالهم ومناقشتها:
* أما السمعاني في (الأنساب) فقد قال -بعد أن ذكر لنا من سمع الإمام منهم الحديث، ومن سمعوه منه- قال: "وكان قليل الرواية للحديث معرضا عنه" (1) .
وهذه العبارة بنص حروفها، وفي نفس سياقها قالها ياقوت في (معجم البلدان) (2) ، ولم يزيدا على ذلك.
وليس فيما قالاه شيء؛ فلم يزعم أحد أن إمام الحرمين كان من المشتغلين بعلم الحديث، وإن كانت العبارة فيها شيء من القسوة والتحامل، فلا يقال لكل من اشتغل بعلوم أخرى غير علم الحديث: إنه معرض عن الحديث.
* ولكن الذي يستحق أن يناقش هو ابن الصلاح في مشكل الوسيط تعليقاً على عبارة الغزالي في باب (دفع الصائل) : أما جواز الاستسلام، فإن كان الصائل مسلماً محقوناً، فقولان: أحدهما - الجواز لقوله صلى الله عليه وسلم لحذيفة رضي الله عنه
__________
(1) الأنساب: 3/386.
(2) معجم البلدان: 2/93.(المقدمة/298)
في وصف الفتن: " كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل " اهـ.
علق ابن الصلاح على ذلك قائلاً: " ذكر شيخُه (أي إمام الحرمين) أنه حديث صحيح، ولا اعتماد عليه في هذا الشأن، ولم أجده في الكتب الخمسة (1) المعتمدة " ا. هـ مشكل الوسيط (ورقة 118 ب) (2) .
ويحسن هنا أن نأتي بعبارة إمام الحرمين بتمامها، حتى نرى كيف اجتزأ منها ابن الصلاح هذه الفقرة، وحكم عليها هذا الحكم، قال إمامنا: " وحاصل المذهب في أصل التمهيد قولان:
أحدهما - أن الاستسلام غير جائز؛ فإن المهجة المصول عليها محترمة، والشخص الصائل ظالم ساقط الحرمة؛ فيجب إيثار الذَّب عن المهجة المحترمة؛ ولا يسوغ بذلها لشخص ساقط الحرمة.
والقول الثاني - يجوز الاستسلام، ومعتمده الأخبار الصحيحة، منها ما روي عن حذيفة بن اليمان: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف ما سيكون من الفتن، فقال حذيفة: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أدركني ذلك الزمان؟ فقال: " ادخل بيتك وأخمل ذكرك " فقال: أرأيت لو دخل بيتي؟ فقال: إذا راعك بريق السيف، فاستر وجهك، وكن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل " وفى بعض الأخبار: " ولتكن خيرَ ابني آدم " عَنَى صلى الله عليه وسلم قابيل وهابيل.
وصح عن عثمان رضي الله عنه أنه استسلم يوم الدار، وقال: " لا أحب أن يراق فيّ محِجمة دم ... " (3) .
ونلاحظ أمرين: 1- أن إمام الحرمين لم يستشهد بحديث واحد، ولم ينسب له الصحة بعينه.
2- أن الإمام ابن الصلاح حكم على العبارة المجتزأة التي لخصها الغزالي من كلام شيخه
__________
(1) الكتب الخمسة المعتمدة: هي البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي. وهذا اصطلاح خاص بابن الصلاح (ر. مقدمة ابن الصلاح: 585) .
(2) هامش الوسيط: 6/529.
(3) نهاية المطلب: الجزء 17 من مخطوطة (هـ) ورقة 120 يمين (تحت الطبع) .(المقدمة/299)
هذا الحكم القاسي؛ فنفى صحة الحديث، وقال: لم أجده في الكتب الخمسة المعتمدة، وقال عن إمام الحرمين هذه الكلمة الغليظة: " لا اعتماد عليه في هذا الشأن ".
* أما الحافظ ابن حجر، فقد كان أشد عنفاً حيث قال في التلخيص: " هذا الحديث لا أصل له من حديث حذيفة. وإن زعم إمام الحرمين في النهاية أنه صحيح ".
ثم اتبع ذلك بنقل كلام ابن الصلاح، فقال: " وقد تعقبه ابن الصلاح، قائلا: لم أجده في شيء من الكتب المعتمدة، وإمام الحرمين لا يعتمد عليه في هذا الشأن. انتهى" (1) .
* وقبل أن نعلق على هذا الكلام، ونبين ما فيه نورد ما قاله ابن قدامة في المغني عن المسألة نفسها، وعن الحديث نفسه، كذلك ما قاله ابن ضويان في منار السبيل، قال ابن قدامة:
" وأما من أُريدت نفسه أو ماله، فلا يجب عليه الدفع لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الفتنة: (اجلس في بيتك، فإن خفت أن يبهرك السيف، فغط وجهك ... وفي لفظٍ: فكن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل، ولأن عثمان رضي الله عنه ترك القتال مع إمكانه، مع إرادتهم نفسه " (2) .
وقال ابن ضويان: " فإن كان ثَمَّ فتنة، لم يجب الدفع عن نفسه، ولا نفس غيره، لقصة عثمان رضي الله عنه، ولما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الفتنة: " اجلس في بيتك، فإن خقت أن يبهرك شعاع السيف، فغطِّ وجهك، وفي لفظٍ: فكن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل " (3) ا. هـ
فهما يسوقان الحديث على نحو سياقة إمام الحرمين، بل إن إمام الحرمين أشار إلى أن ما يستدلّ به مأخوذ من معاني عدة أحاديث، وليس حديثاً واحداً.
***
ومما يستحق أن نذكره هنا أن ابن الصلاح وابن حجر قد عقد كل منهما كتابه أصلاً
__________
(1) تلخيص الحبير: 4/157 كتاب الصيال حديث رقم 2143.
(2) المغني: 10/353.
(3) منار السبيل 2/317.(المقدمة/300)
لأمرٍ لا يتعلق مباشرة بإمام الحرمين، فابن الصلاح يتحدث في مشكل الوسيط للغزالي، وابن حجر يتحدث في تخريج أحاديث الرافعي في الشرح الكبير، فكان كل منهما يترك صاحبَ كتابه ويصعد إلى إمام الحرمين، حقا إن الغزالي تلميذ إمام الحرمين تلقى منه مباشرة، والرافعي وإن كان بينه وبين إمام الحرمين ثلاثة شيوخ في ثلاث طبقات في تفقهه، فهو أيضاً تلميذ إمام الحرمين، ولكن هل هذا كافٍ في أن يصعد كل من ابن الصلاح وابن حجر إلى إمام الحرمين بنقده العنيف وتخطئته دون إشارة إلى صاحب كتابه الذي يعلّق أصلا عليه؟؟
أليس هذا تحاملاً واضحاً!!
***
أحقاً أخطأ إمام الحرمين؟؟
بعد هذه الملاحظات ننظر، فنجد الحق في جانب إمام الحرمين، فهذه الألفاظ التي أوردها إمام الحرمين جاءت في أحاديث صحيحة، صححها ابن حجر نفسه، وأما من حيث الرواية عن حذيفة رضي الله عنه، فقد صحت بمعناها عنه، ثم للفقهاء طريقتهم في إيراد الحديث بالمعنى مع الاقتصار على موضع الاستدلال، درجوا على ذلك، ليس عن عجز وقلة معرفة بالحديث، بل رعايةً للاختصار، وتوضيحا للحكم، والتفاتاً إليه، أو بتعبيرٍ آخر، بُعداً عن الحشر والتطويل، وآية ذلك أن المحدثين الفقهاء لم يخرجوا في مؤلفاتهم الفقهية عن هذا المنهج، ومثالهم الواضح الإمام الطحاوي، المحدث الجليل، فمع جلالته في علم الحديث رواية ودراية، تراه في مؤلفاته الفقهية يجتزىء من الحديث بموضع الاستدلال فقط، وغالبا ما يكون بالمعنى، ليدخله في صياغة العبارة وسياقها، بدون قلق أو اضطراب، ومن يتأمل كتابه (مختصر الطحاوي) ، في الفقه يجد ما نقوله واضحاً جلياً.
ثم بعد ذلك نقول:
* روى الحاكم في المستدرك عن حذيفة رضي الله عنه قال: قيل يا أبا عبد الله ما تأمرنا إذا اقتتل المصلون؟ قال: آمرك أن تنظر أقصى بيتٍ من دارك، فتلج فيه، فإن دُخل عليك، فتقول: ها بُؤْ بإثمي وإثمك، فتكون كابن آدم، قال الحاكم:(المقدمة/301)
" هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه " (1) وسكت عنه الذهبي، ولكن قال الألباني في الإرواء: " هو على شرط مسلم وحده، ففيه الحسين بن حفص لم يخرج له البخاري " (2) .
فهذا هو حديث صحيح عن حذيفة، وإن لم يكن بلفظ " كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل " فهو بمعناه، فقوله " فإن دُخل عليك، فتقول: ها بُؤْ بإثمي وإثمك، فتكون كابن آدم " ليس لهذه العبارة معنىً إلا أنه يكون كابن آدم المقتول، لا القاتل، أي عبد الله المقتول، لا القاتل.
* وقد روى أبو داود والترمذي، وابن ماجه، وأحمد، وابن حبان، والبيهقي من حديث أبي موسى نحو حديث حذيفة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن بين يدي الساعة فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، القاعد فيها خير من القائم، والماشي فيها خير من الساعي، فكسروا قسيّكم، وقطعوا أوتاركم واضربوا سيوفكم بالحجارة، فإن دخل بغي على أحدٍ منكم، فليكن كخير ابني آدم ".
أخرجه أبو داود رقم 4259، والترمذي: 2314، وابن ماجه رقم 3961 ووابن حبان: 7/579-580 رقم 5931، وأحمد: 4/408، 416، والبيهقي: 8/191 (3) فهذا حديث صحيح أيضاً بمعنى حديث حذيفة.
* وأخرج أحمد في المسند، من حديث خباب: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، قال: فإن أدركت ذاك، فكن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل " (4) .
__________
(1) المستدرك: 4/444- 445.
(2) الإرواء: 8/102.
(3) وانظر تلخيص الحبير: 4/158 حديث رقم 2146، والإرواء: 8/102، في تخريج حديث رقم 2451.
(4) المسند: 5/110 ورواه الآجري في الشريعة ص42-43، والطبراني في الكبير: رقم 3629-3631.(المقدمة/302)
* "ويشهد له حديث جندب بن سفيان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن بين يدي الساعة فتناً كقطع الليل المظلم ... فقال رجل من المسلمين: فكيف نصنع عند ذلك يا رسول الله؟ قال: "ادخلوا بيوتكم واخملوا ذكركم، فقال رجل: أرأيت إن دُخل على أحدنا بيته؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لتمسك بيده، ولتكن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل ... " أخرجه الطبراني في الكبير: 2/77 رقم 1724" (1) .
* ومن حديث سعد بن أبي وقاص نحو حديث أبي موسى، وفيه: " فإن دخل عليَّ بيتي، فبسط يده إلي ليقتلني؟ قال: كن كابن آدم " رواه أحمد: 1/185، وأبو داود برقم 4257، والترمذي كتاب الفتن. رقم 2304، وصحيح الترمذي: 1785.
* ومن حديث خالد بن عرفطة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا خالد، إنها ستكون بعدي أحداث وفتن واختلاف، فإن استطعت أن تكون عبد الله المقتول، لا القاتل، فافعل " أخرجه أحمد: 5/292، والحاكم: 4/517 وسكت عنه، كما سكت عنه الذهبي أيضاً، ورواه الطبراني في الكبير: رقم 4099.
فهذه مجموعة أحاديث صحيحة (صححها الألباني) في الفتن، فيها معاني وألفاظ ما أورده إمام الحرمين، فحينما قال إمام الحرمين: " والقول الثاني معتمده الأخبار الصحيحة " لم يخطىء، وأقصى ما يمكن أن يقال: " إنه وهم في نسبة هذا اللفظ وجَعْلِه من حديث حذيفة " أما أن تستعمل هذه الألفاظ العالية:
- " لا اعتماد عليه في هذا الشأن ".
- " زعم أنه صحيح ".
- " لا أصل له ". (ولا يخفف من هذا أنه أكمل العبارة بقوله: " لا أصل له من حديث حذيفة "، فلا يقال لا أصل له إلا للباطل المفترى) .
* وإذا أردت أن تُدرك ما في كلام ابن الصلاح وابن حجر من تحامل، قارنه بكلام
__________
(1) ر. الإرواء: 8/103-104.(المقدمة/303)
الألباني في الإرواء الذي قاله حُكماً على عبارة ابن ضويان في منار السبيل، وهي قريبة من عبارة إمام الحرمين، قال ابن ضويان: " فإن كان ثم فتنة، لم يجب الدفع عن نفسه، ولا نفس غيره، لقصة عثمان رضي الله عنه، ولما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الفتنة: " اجلس في بيتك، فإن خفت أن يبهرك شعاع السيف، فغطِّ وجهك، وفي لفظٍ، فكن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل " ا. هـ.
علق الألباني قائلاً: صحيح. وهو من أحاديث جمع من الصحابة رضي الله عنهم. وذكر خمسة أحاديث بشواهدها عن جمع من الصحابة، وليس فيها حديث واحد باللفظ نفسه، وبالسياقة عينها التي ساقها عليه ابن ضويان، إنما هو المعنى، والألفاظ في جملتها (1) .
والعجب الأكبر من الحافظ ابن حجر، فبعد أن قال: " وإن زعم إمام الحرمين في النهاية أنه صحيح " والزعم مطية الكذب كما هو معروف، أورد الأحاديث الصحيحة بمعنى وألفاظ ما جاء به إمام الحرمين، وإن لم يورد حديث حذيفة الذي رواه الحاكم من أكثر من طريق (2) .
ولعل أوضح ما يشهد لنا قولُ صاحب البدر المنير في خلاصته بعدما حكى معنى قول ابن الصلاح: لم أجده في الكتب الخمسة، والعجب من إمام الحرمين كيف قال: هذا حديث صحيح. قال صاحب الخلاصة: قلت: لكنه يروى من رواية جمع من الصحابة كما ذكرتهم في الأصل. (أي البدر المنير) فها هو الحافظ سراج الدين بن الملقن صاحب البدر، والخلاصة، يستدرك على ابن الصلاح، ويرد قوله، ويستغربه.
***
* وربما كان أبلغ مما سبق دليلاً على التحامل ما جاء من ابن الصلاح وابن حجر تعليقاً على ما ورد في النهاية والوسيط، في مسألة خطبة الجمعة، وهل يجوز قطعها
__________
(1) الإرواء: 8/100-104 حديث رقم 2451.
(2) تلخيص الحبير: 4/157-158 حديث رقم 2145، 2146.(المقدمة/304)
بكلامٍ من غيرها، فقد استدل إمام الحرمين على جواز ذلك بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كلّم قتلةَ ابن أبي الحُقَيْق، أبي رافع اليهودي، حينما وافَوْه يوم الجمعة وهو على المنبر، في القصة المعروفة ...
" جاء في النهاية: ... كلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أبي الحُقَيْق، ووقع كذلك في بعض نسخ الوسيط.
فانظر ماذا قال ابن الصلاح في مشكل الوسيط؟ قال: " قوله: وسأل ابنَ أبي الحقيق عن كيفية القتل بعد قفولهم من الجهاد " هكذا وقع في البسيط، وهو من السهو الفاحش، وقد غُيّر في بعض النسخ إلى صوابه، وصوابه ما قاله الإمام الشافعي: " وسأل الذين قتلوا ابنَ أبي الحقيق " ا. هـ بنصه من مشكل الوسيط (1/ورقة 142-أ، ب) .
أما ابن حجر فقد عقد في التلخيص تنبيهاً قال فيه: أورده إمام الحرمين والغزالي بلفظٍ عجيب: قال: " سأل النبيُّ صلى الله عليه وسلم ابنَ أبي الحقيق عن كيفية القتل " وهو غلط فاحش، وأعجبُ منه أن إمام الحرمين قال: صح ذلك. ا. هـ كلام ابن حجر.
هكذا وصف بفحش الغلط، وعجبٌ من قول الإمام صح ذلك!! ثم استدرك الحافظ على نفسه، فاستأنف كلامه قائلاً: " ويجوز أن يكون سقط من النسخة لفظ (قتلة) قبل ابن أبي الحُقيق. " ا. هـ بنصه.
قلت: ألا يشهد ذلك بالتحامل ومحاولة تلمس الخطأ للإمام!! فهل يجوز في عقل عاقل أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم (المقتولَ) ؟ وكيف يرد هذا بخاطرٍ؟ كيف يُسال المقتول عن كيفية القتل؟
إن الأمر أقرب وأيسر، وهو كما قال الحافظ نفسه: سقط لفظ (قَتَلة) قبل ابن أبي الحقيق. هكذا أدرك الحافظ الصواب، ولكن بعد أن قسا في قوله، وأغلظ في لفظه، فنسب الإمام إلى فُحش الخطأ، وعجب من قوله: صحّ أن الرسول صلى الله عليه وسلم سأل ابن أبي الحقيق.(المقدمة/305)
وقد ظهر الوسيط محقَّقاً، وَوُجِدت نسختان بغير سقط للفظة (قتلة) وإن كان ابن الصلاح لم يعجبه ذلك، فقال: وقد غُيِّر هذا في بعض النسخ. فكأن ترك أو إسقاط لفظ (قتلة) كان عن قصدٍ وعمد!! كيف هذا؟ الله أعلم.
ولعل هذا هو الذي جعل موفق الدين الحموي في (شرح مشكلات الوسيط) يستجيب لهذا الكلام، ويتلمس له الصواب، فيقول: " يريد الغزالي أنه سأل قتلة ابن أبي الحقيق عن كيفية قتله، وإنما أهمل الشيخ ذكر القتلة لاشتهاره عند نقلة الحديث، وصار هذا من قبيل حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، كما في قوله تعالى: (واسأل القرية) ، وبه خرج الجواب " ا. هـ بنصه شرح مشكلات الوسيط (ورقة 57/أ، ب) .
وهو كما ترى دفاع غير مستساغ ولا مقبول، وإنما هو من باب مجاراة الخصم، والله أعلم.
والصواب، هو ما عاد إليه الحافظ ابن حجر، من أن لفظة (قتلة) سقطت من الناسخ، وتعاقب عليها النساخ، وقد وُجدت نسختان من الوسيط بغير هذا السقط كما ألمعنا إلى ذلك آنفاً.
ولكي تُدرك أننا مصيبين في عدّ هذا تحاملاً من ابن الصلاح وابن حجر قارن هذا بمنهج إمام الحرمين حين يجد الخطأ في كلام مخالفيه فاحشاً، يردّه عنهم، ولا يقبل نسبته إليهم، بل يحمل ذلك على النقلة، أو النساخ، أو سوء الفهم، فمن ذلك قوله:
" وقد نُقل عن أبي هاشم أنه كان لا يحرم السجود بين يدي الصنم، ويقول: المحرّمُ القصد) فيرفض نسبة هذا القول إلى أبي هاشم المعتزلي -والمعتزلة خصومه- ويقول: " وهذا لم أطلع عليه من مصنفات الرجل، مع طول بحثي عنها " ثم يعرض رأي أبي هاشم صحيحاً كما رآه وحققه، ثم يبدأ في الرد عليه، وبيان فساده، فجمع أنه لا يقر رأي أبي هاشم، فهو لا يرضى في الوقت نفسه أن يزيَّف عليه، وأن يتزيد النقلة عليه بهذه الصورة.(المقدمة/306)
فإذا عرفنا أن أبا هاشم هذا من أئمة الاعتزال، وأن إمام الحرمين لقي الأذى من المعتزلة، وأُخرج وأوذي مع نحو أربعمائة من أهل السنة، اضطروا للهجرة من خراسان بسبب تسلط هؤلاء عليهم، فيما هو معروف بمحنة أهل السنة. إذا عرفنا ذلك، أدركنا أيَّ درجة من الإنصاف كان عليها إمامنا.
ومن ذلك ما قاله عند المخاوضة في بعض مسائل الحج من كتابه (نهاية المطلب) ، وقد رئي لأحد رفعاء المذهب كلاماً لا يستقيم على أصول المذهب، نجده يشير إليه، ولا ينقله في كتابه، بل يقول: ".. لا معنى لذكره وقد يحمل ما في الكلام من الخبط على خلل النسخة ".
فهذا منهج الإمام يرى الخطأ ماثلاً أمامه، ولكنه لا ينسبه إلى صاحب الكتاب فِعْلَ المتشهي إلى التخطئة، بل يدعو إلى حمل الخطأ على الناسخ، أو الناقل، وهذا قاله صراحة في كتابه (البرهان) : " فالأولى أن يُوَّرك بالخطأ على النقلة ".
هكذا!! لا أن يرى خطأ الناسخ واضحاً، فيحمله على إمامنا، " ويجعله من فاحش الخطأ "، و"يعجب من قول إمام الحرمين: صح هذا"!! وكيف يصح في عقل عاقل أن يُصحح إمامُ الحرمين تكليم رسول الله صلى الله عليه وسلم للمقتول؟!!
***
* ونموذج آخر: كان المثال الذي قدمناه مع ابن الصلاح، وابن حجر، أما هذا النموذج، فمع ابن الصلاح، والنووي، فقد وقع في (الوسيط) وفي بعض نسخ (نهاية المطلب) : " لما روي أن أم سليم جدة أنس بن مالك ... " والصواب أن أم سليم هي أم أنس لا جدته، وقد علق على هذا الخطأ ثلاثة من الأئمة الذين لهم مؤلفات عن (الوسيط) ، وهم الإمام ابن الصلاح، والإمام النووي، والإمام بن أبي الدم، وقد رأينا أن نعرض تعليقاتهم بنصها لما يأتي:
أ- أنها انتقلت من (الوسيط) إلى تعقب (النهاية) وصاحبها.
ب- أنها تكشف عن مناهج ثلاثة في تفسير هذا الخطأ وتعليله.
ولنبدأ بابن الصلاح، قال: "قوله: (لما روي أن أم سليم جدة أنس بن مالك) .(المقدمة/307)
هذا غلط تسلسل وتوارد عليه أبو بكر الصيدلاني، ثم إمام الحرمين، ثم تلميذه صاحبنا (يعني الغزالي) ثم تلميذه محمد بن يحيى، فلا خلاف بين أهل الحديث، وأهل المعرفة بالصحابة، وبالأنساب أن أم سليم أم أنس بن مالك، لا جدته، وفي الصحيحين الإفصاح بذلك " ثم استمر يعلل هذا الخطأ من هؤلاء الأئمة، ويفسره، ويبين سببه، فقال: "ولكن من أعرض عن علم الحديث، مع ارتباط العلوم به، وقع في أمثال هذا، وما هو أصعب منه من التمسك بالحديث الضعيف، واطراح الصحيح، وإن ارتفعت في علمه منزلته، وأسأل الله عفوه وفضله، آمين" ا. هـ بنصه (مشكل الوسيط 1/50 ب - بهامش الوسيط: 1/342) .
أما الإمام النووي رضي الله عنه، فقد قال: " قوله (لما روي أن أم سليم جدة أنس بن مالك ... إلى آخره) صوابه: أم أنس، فهي أمه بلا خلاف بين العلماء من الطوائف، لا جدته، وقد قال بأنه جدته أيضاً الصيدلاني، ثم إمام الحرمين، ثم الروياني، ثم محمد بن يحيى صاحب الغزالي، وهو غلط فاحش.... وأم سليم: سهلة، وقيل: رميثة، وقيل غير ذلك، ا. هـ بنصه (ر. التنقيح في شرح الوسيط بهامش الوسيط: 1/343) .
وأما ابن أبي الدم، فقد قال: " ... الصواب أن أم سليم أم أنس بن مالك، لا جدته، وهي امرأة أبي طلحة، ذكره علماء الحديث وغيرهم، منهم أبو داود في سننه، وهو كذلك في النسخ الصحيحة من (النهاية) ، وقد يوجد في بعض منها مثل ما في (الوسيط) وهو غلطٌ من النساخ" (ر. إيضاح الأغاليط الموجودة بالوسيط: 3 أ- بهامش الوسيط: 1/342) .
قلت (عبد العظيم) : هكذا رأينا اختلاف المناهج الثلاثة في تفسير هذا الخطأ:
أ- فابن الصلاح يفسر ذلك بالإعراض عن علم الحديث، ويجعله سبب الوقوع في هذا الخطأ، ثم راح يعرض بأخطاء "أصعب من ذلك الخطأ، من التمسك بالحديث الضعيف: واطراح الصحيح" ويعني هؤلاء الأئمة " الذين ارتفعت منزلتهم في علومهم " الصيدلاني، وإمام الحرمين، والغزالي، ومحمد بن يحيى.(المقدمة/308)
ويرى ابن الصلاح أن هذا ذنب وإثم، ظهر ذلك من ختام تعليقه هذا بقوله: " وأسأل الله عفوه وفضله، آمين ".
ب- وأما الإمام النووي، فقد اكتفى بقوله: " وهو غلط فاحش " بعد أن بين تسلسله عند الأئمة الذين ذكرهم الغزالي، وزاد عليهم (الإمام الروياني) .
جـ- وأما الإمام ابن أبي الدم، فقد ذكر أنه في بعض نسخ النهاية، بل في القليل من نسخها، كما يفهم من عبارته التي نقلناها بنصها آنفاً (ووقع لي نسخة صحيحة من النهاية) .
ثم زاد، فبرأ إمامنا من هذا الخطأ، وكذلك الغزالي، وجعل هذا من غلط النساخ.
وأقول ثانية: لقد ظهر لي تحامل ابن الصلاح -وغيره- على إمام الحرمين، وعلى الغزالي، رأيت ذلك في كثير من تعقباته الحديثية، حتى إنه يدفعه التحامل إلى الوقوع في بعض الأخطاء، التي تعقبه في بعضها الإمام النووي، وأثبت أن الصواب مع إمام الحرمين، والغزالي.
* وهاك مثالاً آخر من كلام الحافظ ابن حجر:
جاء في كتاب الوصايا عند الكلام على من تصح له الوصية - قولُ إمام الحرمين تعليقاً على حديث: " لا وصية لقاتل ": وهذا الحديث ليس على الرتبة العالية في الصحة، والصحيح: " لا وصية لوارث " ا. هـ
عقب الحافظ في التلخيص قائلاً: " وأما قول إمام الحرمين: ليس هذا الحديث في الرتبة العالية من الصحة، فعجيب، فإنه ليس له في أصل الصحة مدخل ... " (1) .
وواضح أن إمام الحرمين لا يعني (بالصحة) المعنى المصطلح عليه المعروف لدى علماء الحديث، وإلا لو كان يعني ذلك، لقبل الحديث، ولما وسعه ردّه، فإن
__________
(1) ر. التلخيص: 3/197.(المقدمة/309)
الأحاديث الصحيحة -كما هو معلوم- متفاوتة في درجة الصحة، ومعلوم أيضاً أن أدنى درجة في الصحة تحكم للحديث بالقبول.
فإذا ردّه إمامُ الحرمين، تعيّن على من يبغي الإنصاف أن يفسر كلام الإمام في ضوء هذا الردّ للحديث.
ومثل الحافظ ابن حجر، وهو من أعلام المذهب، لا يغيب عنه ما قاله إمام الحرمين في البرهان من أن معيار القبول والرد للأحاديث " هو ظهور الثقة وانخرامها، وهذا هو المعتمد الأصولي، فإذا صادفناه، لزمناه، وتركنا وراءه المحدثين يتقطعون في وضع ألقاب، وترتيب أبواب " (1) .
فالإمام لا يُعنى بالألقاب والمصطلحات الحديثية، وربما كانت مثل هذه العبارات سبباً في هذه الجفوة بينه وبين المحدّثين، وهي التي جعلتهم، يشتدون عليه، ويخطِّئونه.
* والإمام الذهبي أيضاً:
نعرض هنا لما قاله الإمام الذهبي في ترجمة إمام الحرمين في (سير أعلام النبلاء: 18/471) ، فقد قال: " قلت: كان هذا الإمام مع فرط ذكائه وإمامته في الفروع وأصول المذهب، وقوة مناظرته لا يدري الحديث كما يليق به؛ لا متناً ولا إسناداً؛ ذكر في كتاب (البرهان) حديث معاذ في القياس، فقال: هو مدون في الصحاح متفق على صحته (2) .
قلت: بل مداره على الحارث بن عمرو، وفيه جهالة، عن رجالٍ من أهل حمص؛ عن معاذ، فإسناده صالح " ا. هـ كلام الإمام الذهبي.
هكذا يلقيها الإمام الذهبي تهمة عريضة: " لا يدري الحديث لا متناً ولا إسناداً "، فإذا أقام دليلاً على هذه التهمة، نجده يقدم حديث معاذ، وقولَ إمام الحرمين " هو مدون في الصحاح " فهل هذا يصلح دليلاً على أن إمام الحرمين لا يدري الحديث لا متناً ولا إسناداً؟؟
__________
(1) ر. البرهان في أصول الفقه: فقرة رقم 593.
(2) ر. البرهان: فقرة 720.(المقدمة/310)
وهل ما قاله الذهبي في الحديث أثبت وأقوم وأصح مما قاله فيه إمام الحرمين؟
لقد قال إمام الحرمين عن الحديث: " هو مدوّن في الصحاح " وهو كذلك، فقد رواه " أبو داود "، و" الترمذي " وهما من أصحاب الصحاح الستة.
وقال متفق على صحته، وهو لا يعني بهذا المصطلح الحديثي " متفق عليه بين البخاري ومسلم " ولا اصطلاح " صاحب المنتقى " ما اتفق عليه البخاري ومسلم وأحمد، فمن يقرأ النص كاملاً في البرهان يدرك أنه يقصد بالاتفاق تلقي علماء الأصول له بالقبول.
فماذا قال الذهبي عن الحديث؟
قال: " إن الحارث بن عمرو فيه جهالة ".
وهذا الكلام لا يسلم للذهبي، فقد تعقبه الشيخ شعيب الأرناؤوط بقوله: " ممن مال إلى القول بصحة هذا الحديث أبو بكر الرازي الجصاص، وأبو بكر بن العربي، والخطيب البغدادي، وابن قيم الجوزية، وقالوا:
الحارث بن عمرو ليس بمجهول العين، لأن شعبة بن الحجاج يقول عنه: إنه ابن أخي المغيرة بن شعبة، ولا بمجهول الوصف؛ لأنه من كبار التابعين في طبقة شيوخ أبي عون الثقفي المتوفى سنة 116 هـ.
ولم ينقل أهل الشأن جرحاً مفسراً في حكمه، ولا حاجة في الحكم بصحة خبر التابعي الكبير إلى أن ينقل توثيقه عن أهل طبقته، بل يكفي في عدالته وقبول روايته ألا يثبت فيه جرح مفسّر، عن أهل الشأن؛ لما ثبت من بالغ الفحص عن المجروحين من رجال تلك الطبقة؛ فمن لم يثبت فيه جرح مؤثر منهم، فهو مقبول الرواية.
والشيوخ الذين روى عنهم هم من أصحاب معاذ، ولا أحد من أصحاب معاذ مجهولاً، ويجوز أن يكون في الخبر إسقاط الأسماء عن جماعة، ولا يُدخله ذلك في حيز الجهالة، وإنما يدخل في المجهولات إذا كان واحداً، فيقال: حدثني رجل أو إنسان.
وشهرة أصحاب معاذ بالعلم والدين، والفضل والصدق بالمحل الذي لا يخفى.
وقد خرج الإمام البخاري الذي شرط الصحبة حديث عروة البارقي: "سمعت(المقدمة/311)
الحيَّ يتحدثون عن عروة، ولم يكن ذلك الحديث في جملة المجهولات.
وقال مالك في القسامة: أخبرني رجل من كبراء قومه، وفي الصحيح عن الزهري: حدثني رجال عن أبي هريرة: " من صلى على جنازة، فله قيراط ".
وانظر الفقيه والمتفقه: 1/188، 190، وإعلام الموقعين: 1/202. اهـ كلام الشيخ شعيب الأرنؤوط بنصه (1) . وانظر جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر: 552.
فهذا اتهام الذهبي ودليله، وما قاله أهل الصناعة في هذا الدليل.
ولكنا نريد أن نؤكد ما قلناه من أن إمام الحرمين لا يعني بقوله: " إنه مدون في الصحاح " إنه في الصحيحين، وأن (الصحاح) يطلق على الكتب الستة، كان ذلك وما زال.
فمن ذلك قول محدث العصر الشيخ أحمد شاكر في مقدمته الماتعة لسنن الترمذي، وهو يتحدث عن سبق المسلمين إلى صناعة الفهارس، قال: " وهذه كتب رجال الحديث أكثرها وضعت كتباً على معنى الفهارس، فإنك تجدهم يذكرون الراوي المترجم، ويذكرون أين روايته من الكتب الستة، خصوصاً فيما صنع لتراجم الرواة في الصحاح الستة أو السبعة " انتهى بنصه (2) .
فهل يبقى لاتهام الذهبي سندٌ بعد هذا.
* وشيخ الإسلام ابن تيمية:
لقد تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية في إمام الحرمين، وعلمه بالحديث في أكثر من موضع، في أكثر من كتاب من كتبه، وسنكتفي منها بموضعين:
الأول - جاء في كتاب (الفتاوى الكبرى) : " ... ولم يكن الواحد من هؤلاء -يعني إمام الحرمين، والغزالي، وابن الخطيب- يعرف البخاري ومسلماً، وأحاديثهما
__________
(1) ر. تعليقات الشيخ شعيب على سير أعلام النبلاء: 18/472.
(2) مقدمة الشيخ شاكر لسنن الترمذي ص 55.(المقدمة/312)
إلا بالسماع، كما يذكر ذلك العامة، ولا يميزون بين الحديث الصحيح المتواتر -عند أهل العلم بالحديث- وبين الحديث المفترى المكذوب، وكتبهم أصدق شاهد بذلك؛ ففيها عجائب" (1) .
والموضع الثاني -في الفتاوى- قال: "إن أبا المعالي مع فرط ذكائه وحرصه على العلم وعلو قدره في فنه كان قليل المعرفة بالآثار النبوية، ولعله لم يطالع الموطأ بحال، حتى يعلم ما فيه؛ فإنه لم يكن له بالصحيحين: البخاري ومسلم وسنن أبي داود والنسائي والترمذي، وأمثال هذه السنن علمٌ أصلاً، فكيف بالموطأ ونحوه، وكان مع حرصه على الاحتجاج في مسائل الخلاف في الفقه إنما عمدته سنن أبي الحسن الدارقطني" (2) .
فنحن أمام قولٍ صريح واضح مفصل يتهم إمام الحرمين بأنه كان لا يراجع كتب الحديث، وكان اعتماده على سنن الدارقطني، ولم ير سنن أبي داود عمدة الأحكام، ولا غيره من الكتب الستة.
وربما كان دفع هذا الكلام أيسر من سابقه، وذلك بأكثر من دليل، منها:
1- إن إمام الحرمين استدل بأكثر من حديث، وعزاه صراحة إلى أبي داود، مثل حديث الفأرة التي ماتت في السمن، فقد قال: رواه أبو داود في سننه، وكان كما قال، وتكرر هذا مراراً.
2- يورد أحاديث كثيرة مستشهداً بها، يرويها أبو داود وغيره، وعند مراجعة لفظ الحديث نجد أن اللفظ الذي اختاره الإمام وأورده هو لفظ أبي داود، مثل حديث خزيمة بن ثابت في المسح على الخفين، وحديث أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل على ماعز، ولم ينه عن الصلاة عليه.
وحديث: " إذا مات ابن آدم انقطع عنه عمله إلا من ثلاث " فقد رواه أبو داود والنسائي والترمذي، ولم يورد أحدهم لفظَ (عنه) إلا أبو داود. حقاً رواه مسلم بلفظ
__________
(1) الفتاوى الكبرى: جمع عبد الرحمن بن قاسم، طبعة الملك خالد: 4/71، 72.
(2) الفتاوى الكبرى، في ستة أجزاء، تحقيق عبد القادر عطا، القاهرة، دار الريان للتراث، 1408 هـ: ج 6 ص 166.(المقدمة/313)
عنه أيضاً، وسواء كان إمام الحرمين أخذه عن مسلمٍ أو عن أبي داود، فهذا ينفي أشد النفي القول بأنه لا علم له بالصحيحين، ولا بأبي داود، ولا بأصحاب السنن.
3- بل مما يشهد بحفظه لسنن أبي داود أو على الأقل مراجعته لها استشهاده بقول أبي داود في الحديث، وردّه لأحاديث الخصوم بقول أبي داود فيها.
فعندما ردّ قول الأحناف بجواز إخراج الدقيق في صدقة الفطر، مستدلين بحديث أبي سعيد الخدري: وفيه: " أو صاعاً من دقيق ".
يرد إمام الحرمين قائلاً: " قلنا: قال أبو داود: زاده سفيان من عند نفسه مذهباً، فأُنكر عليه، فتركه من الحديث " وسفيان هو سفيان بن عيينة.
فهذا من إمام الحرمين شاهد صدق على حفظه لأبي داود.
وارجع إلى أبي داود، لترى أن الأمر كما قال إمام الحرمين، بشيء من التصرف.
4- وربما كان أبلغ ردّ لكلام شيخ الإسلام ابن تيمية، وإبطالٍ له من أساسه، هو حديث أبيض بن حمال الذي استشهد به إمام الحرمين في إحياء الموات، وفيه أن أبيض استقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم ملحَ مأرب، فأراد أن يقطعه إياه، ويروى: فأقطعه، فقيل: إنه كالماء العِدّ، قال: " فلا إذاً ".
هذا الحديث من رواية أبي داود والترمذي، والنسائي في الكبرى، وابن ماجه، وابن حبان، والبيهقي، والدارقطني.
فانظر بأي لفظٍ رواه إمام الحرمين، لقد اعتمد إمام الحرمين في روايته لفظ هذه الدواوين جميعاً، ولم يعتمد لفظَ الدارقطني.
فهل يصح بعد ذلك القول: إنه لم يكن يعرف إلا سنن الدارقطني؟ أم يصح لنا أن نقلب القضية، ونقول: إنه كان يعرف كل كتب السنة إلا سنن الدارقطني؟ كلا لن تقول هذا؛ فهذه المبالغات لا مجال لها في البحث العلمي المنصف النزيه، المتجرد عن العاطفة.
بل يكفينا أننا أسقطنا بهذا الدليل القاطع القول بأنه لم يكن يعرف إلا سنن الدارقطني.(المقدمة/314)
وهذا يدعونا أن نكرر هنا ما قلناه مراراً من أن تاريخنا الفكري -مثل تاريخنا السياسي- في حاجة إلى مراجعة، وإعاد قراءة، تقوم على تحليل نصوص الأئمة، وقراءة آثارهم، والحكم عليهم من داخلها، ونبذ هذه الأحكام العشوائية، التي يقولها الخصوم بعضهم في بعض، ويتناقلها الناس، وتشيع، وتغطي على الأعين والبصائر، وتصبح حقائق، وهي محض زيف وهوى.
بابةٌ أخرى:
لم يكتف شيخ الإسلام ابن تيمية بتضعيف إمام الحرمين في الحديث، بل تعرض لمنزلته في الفقه، وفي المذهب الشافعي، فأزرى به، وحطَّ عليه، وجعله لا شأن له في المذهب، ولا وزن له بين علماء الشافعية، وذلك عندما قال:
" ولقلة علمه وعلم أمثاله بأصول الإسلام اتفق أصحاب الشافعي على أنه ليس لهم وجه في مذهب الشافعي فإذا لم يسوّغ أصحابهم أن يُعتد بخلافهم في مسألة من فروع الفقه، كيف يكون حالهم في غير هذا، وإذا اتفق أصحابه على أنه لا يجوز أن يُتخذ إماماً في مسألة واحدة من مسائل واحدة من مسائل الفروع، فكيف يُتخذ إماماً في أصول الدين؟ مع العلم بأنه إنما نبل قدره عند الخاصة والعامة بتبحره في مذهب الشافعي رضي الله عنه؛ لأن مذهب الشافعي مؤسس على الكتاب والسنة.
وهذا الذي ارتفع به عند المسلمين غايته فيه أنه يوجد منه نقلٌ جمعه، أو بحث تفطن له، فلا يُجعل إماما فيه كالأئمة الذين لهم وجوه، فكيف (بالكلام) الذي نص الشافعي وسائر الأئمة على أنه ليس بالشرك بالله ذنب أعظم منه " (1) .
وكنا نود ألا تدفع الخصومة مع الأشاعرة والمؤِّولة شيخ الإسلام إلى الدخول في هذا الباب، وأن يقصرها على الجانب الكلامي.
فشيخ الإسلام بهذا أنكر الشمس في رابعة النهار، فالشافعية يحلون إمام الحرمين بالمحل الأعظم، ومدار فقههم على ما قاله إمام الحرمين، ويكفي أنهم يجميع طبقاتهم منذ وفاة إمام الحرمين لا يذكرونه في كتبهم إلا بـ (الإمام) مطلقاً، فحيثما
__________
(1) الفتاوى الكبرى، القاهرة، دار الريان، 1408 هـ (في ستة أجزاء) جزء 6 ص 616.(المقدمة/315)
وجدتَ: " قال الإمام "، أو " وهذا ما حكي عن الإمام " ونحو هذا، فاعلم أن (الإمام) هو إمام الحرمين.
ولا أدري كيف ساغ لشيخ الإسلام وهو من هو معرفةً بعلوم الأمة، ومنزلة الأئمة، كيف ساغ أن يقول هذا عن إمام الحرمين، وهو صاحب (البرهان في أصول الفقه) الذي لم يؤلف في الإسلام مثله؟ إن من يؤصل للفقه ويضع له قوانين الاجتهاد، وأصول الاستنباط، في (البرهان) ، (والتلخيص) و (الورقات) ، كيف يقال عنه: " غايته من مذهب الشافعي نقلٌ جمعه "؟!!
كيف؟ وكتابه (البرهان) أحد الأعمدة الأربعة التي قال عنها ابن خلدون: قام عليها علم أصول الفقه، بل هو أول كتاب لأهل السنة في الأصول بعد رسالة الشافعي.
وها هي نصوص إمام الحرمين دائرة في كتب الشافعية، لا تكاد تخلو منها صفحة واحدة من أي كتاب، أفمن كان بمثل هذه المنزلة يقال فيه: " اتفق أصحابه على أنه لا يجوز أن يتخذ إماماً في مسألة واحدة من مسائل الفروع "؟!!
لا أريد أن أسترسل في بيان منزلة إمام الحرمين في الفقه، فتوضيح الواضح من أشكل المشكلات، ولعل في الفصل الذي مرّ آنفاً عن منزلة النهاية غناء ومقنعٌ.
بالإضافة إلى كتابنا بعنوان:
(فقه إمام الحرمين-خصائصه-وأثره-ومنزلته) .
أما كلام شيخ الإسلام عن أصحاب الوجوه في المذهب وأن إمام الحرمين ومثله الغزالي ومن نحا نحوهما ليسو من أصحاب الوجوه، فهذا أمر آخر لا نظن أنه يغيب عن شيخ الإسلام، فأصحاب الوجوه هم الذين فرعوا المسائل على نصوص الشافعي، واستنبطوا أحكامها على أصوله، ومعلوم لكل من له دراية بالفقه أن ذلك أمرٌ له نهاية، تلك طبيعة الأشياء، وقد كان في القرنين السابقين على إمام الحرمين فُسحة كافية لتشقيق المسائل وتفريعها، ولذلك لم يوجد مجال لاستنباط، وتفريع جديد، منذ انتهى القرن الرابع الهجري، أي كان الأئمة قد فرغوا من التفريع والتخريج قبل أن يولد إمام الحرمين.(المقدمة/316)
ومن العجيب الطريف الذي يدفع هذا الكلام عن إمام الحرمين هو كلام شيخ الإسلام نفسه، فقد أحلَّ ابنَ سُريج بالمحل الأسمى من الفقه والمذهب، وسماه الشافعي الثاني، وهو كما قال. فماذا يقول شيخ الإسلام إذا قلنا له: ليس لابن سريج وجه في المذهب؟ هل سيعود فيحط عليه ويزري به، ويقول: إنه مثل إمام الحرمين ليس من أصحاب الوجوه؟؟!!
وظني بل أكاد أجزم أن هذا الكلام مزيف على شيخ الإسلام بن تيمية، فمن كان في مثل مكانه ومكانته لا يغيب عنه هذا الأمر في نشأة المذهب الشافعي وتطوره، ومعنى الوجوه وأصحابها.
ثم إن شيخ الإسلام معروف بالإنصاف والاعتدال مع الخصوم، فمع حِدّته وغَضْبته وعنفه أحياناً، لكنه أبداً لا يسلب خصومه محاسنَهم، ولا يُنكر علمَهم، ولا يبهتهم ويبخسهم حقهم.
كل هذا يجعلني أقول: إن هذا الكلام لفَّقه بعضُ الصغار من المتعصبة، وأدخلوه في كلام شيخ الإسلام إرضاء لنزعاتهم، وأسلوب هذه الفقرات، وصياغتها ينطق بأنها ليست من كلام شيخ الإسلام وأنها مزيفة عليه، وغريبة عن نهجه وخلقه.
وهذا ليس بغريب، فقد سبق أن زيف مزيفون مثل هذا على الإمام الغزالي، وأدخلوا في كلامه جملاً مقيتة فيها إساءة إلى الإمام أبي حنيفة.
كما زيفوا على إمام الحرمين ذلك الكتيب القبيح المسمى (مغيث الخلق في اتباع المذهب الأحق) بما فيه من خزعبلات وترهات ضد الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان.
وقد تَجمَّع لدى العبد الفقير إلى لطف مولاه أدلة كافية لدحض هذه الفرية، وإظهار براءة إمام الحرمين منها.
ولم أصل إلى كلام شيخ الإسلام هذا في طبعة الفتاوى التي جمعها ابنُ قاسم، وآمل ألاّ يوجد فيها -فهي النسخة المعتمدة- حتى يبرأ شيخ الإسلام من هذا الكلام من أقصر طريق.(المقدمة/317)
ثالثاً - الأوهام الحديثية لا يكاد يخلو منها أحد:
لم يخل متعقِّب ممن تعقب إمام الحرمين من متعقِّب تعقَّبه وخطّأه في تعقبه، فمن ذلك:
* تعقب ابنُ الصلاح في مشكل الوسيط حديثَ سلمان عن شرب ابن الزبير من طست كان فيه شيء من دم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " لم أجد لهذا الحديث أصلاً بالكلية. " قال الحافظ ابنُ حجر: " كذا قال: وهو متعقَّب ".
(ر. التلخيص: ح رقم 18)
* حديث أنه صلى الله عليه وسلم قال لأسماء -عن دم الحيض-: " حتيه، ثم اقرصيه. ثم اغسليه بالماء ".
قال الحافظ ابن حجر: " زعم النووي في شرح المهذب أن الشافعي روى في الأم أن أسماء هي السائلة. بإسناد ضعيف. وهذا خطأ، بل إسناده في غاية الصحة.
ثم قال: " وكأن النووي قلد في ذلك ابنَ الصلاح. " (ر. التلخيص. حديث رقم 26)
* ويتعقب ابنُ حجر النوويَّ في عزوه حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهراً يدعو على قاتلي أصحابه ببئر معونة، ثم ترك " حيث عزاه إلى المستدرك للحاكم، قال ابن حجر: " وليس هو فيه، وإنما أورده الحاكم وصححه في جزء له مفرد في القنوت ".
ثم أشار ابن حجر -في ذكاء- إلى سبب وهم النووي، فقال: " ونقل البيهقي تصحيحه عن الحاكم؛ فظن الشيخ أنه في المستدرك " (1)
* في حديث المسح على الخفين: " واستيعاب الكل ليس بسنة، مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم على خفيه خطوطاً من الماء، قال ابن الصلاح: تبع فيه الإمامَ، فإنه قال في النهاية: إنه صحيح، وليس بصحيح، وليس له أصل في كتب الحديث ". ا. هـ
__________
(1) ر. التلخيص: 1/245 حديث رقم 370.(المقدمة/318)
قال الحافظ: " وفيما قال نظر، فقد رواه الطبراني في الأوسط، وهو في بعض نسخ ابن ماجه دون بعض - ثم قال: إسناده ضعيف جداً " (بتصرف من التلخيص. حديث رقم 218.) .
* في حديث استحباب التصدق بدينار للواطىء في إقبال الحيض، وفي إدباره بنصف دينار، في كلام الحافظ المفصل الوافي عن الحديث جاء قوله: " وأقر ابن دقيق العيد تصحيح ابن القطان وهو الصواب ... وفي ذلك ما يرد على النووي في دعواه في شرح المهذب والتنقيح، والخلاصة أن الأئمة كلهم خالفوا الحاكم في تصحيحه، وأن الحق أنه ضعيف باتفاقهم، وتبع النووي في بعض ذلك ابنَ الصلاح " انتهى ملخصاً من كلام الحافظ (1) (ر. التلخيص. حديث رقم 227) .
ويعنينا من هذا أن ابن الصلاح والنووي -على جلالتهما- لم يسلما من تعقب ابن حجر.
* وفي أحاديث الوتر يتعقب ابنُ الصلاح إمام الحرمين في روايته أن النبي صلى الله عليه وسلم أوتر بركعة واحدة، فيقول ابن الصلاح: " لا نعلم في روايات الوتر -مع كثرتها- أنه عليه الصلاة والسلام أوتر بركعة واحدة فحسب ".
ويتعقب ابنَ الصلاح الحافظُ بقوله: " قد روى ابنُ حبان من طريق كريب، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم أوتر بركعة " (2) .
* ومرة أخرى يتعقب ابنُ حجر ابنَ الصلاح، وذلك في حديث السلام في ختام الصلاة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله ... " وأنكر ابنُ الصلاحِ الرواية التي فيها: " وبركاته " وقال: " هذه الزيادة ليست في شيء من كتب الحديث " فتعقبه الحافظ بقوله: هذه الزيادة في صحيح ابن حبان، وعند ابن ماجه أيضاً، وكذا عند أبي داود، فيتعجب من ابن الصلاح، وإنكارها. انتهى كلام الحافظ ابن حجر بتصرف (3) .
__________
(1) تلخيص الحبير: 1/164 حديث 227.
(2) تلخيص الحبير: 2/15 حديث 515.
(3) ر. التلخيص: 1/271 حديث رقم 420.(المقدمة/319)
* في عبارة واحدة يتعقب الحافظ ابنُ حجر الطحاويَّ والنووي؛ فقد أنكر الطحاوي أن تكون جلسة الاستراحة في حديث أبي حميد الساعدي الذي وصف فيه صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ بعد أن أورد الحديث في تلخيص الحبير: " وهي كما تراها فيه " (1) .
ثم استطرد الحافظ يتعقب النووي، فقال: " وأنكر النووي أن تكون في حديث المسيء صلاته، وهي في حديث أبي هريرة في قصة المسيء صلاته عند البخاري في كتاب الاستئذان " (2) ا. هـ
* وقع في (المهذب) رواية في دعاء الرفع من الركوع، بلفظ: " أهل الثناء والمجد، حق ما قال العبد، كلنا لك عبد ... " بإسقاط الألف من (أحق) ، وإسقاط الواو من (وكلنا لك عبد) . وقد تعقبه النووي بقوله: " إن الذي عند المحدثين بإثباتهما ". فتعقّب الحافظُ النوويَّ بقول: " هو في سنن النسائي بحذفهما " (3) .
فكما ترى يغيب عن النووي رواية النسائي بحذف (الألف) و (الواو) فينكرها على صاحب المهذب، فيتعقبه الحافظ.
* حديث: " مانع الزكاة في النار " قال ابن الصلاح: " لم أجد له أصلاً " وتعقبه الحافظ بقوله: " وهذا عجيب من ابن الصلاح؛ فقد رواه الطبراني في الصغير فيمن اسمه محمد " (4) .
* علق ابنُ الصلاح على قول الإمام الغزالي:، ولو توحشت إنسية، ولم يمكن ردّها، فهو كالصيد يذبح في كل موضع، وكذا لو تنكس بعيرٌ في بئر وخيف هلاكه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: " لو طعنت في خاصرتها، لحلت لك "، فخصص
__________
(1) تلخيص الحبير: 1/259 حديث 390.
(2) تلخيص الحبير: 1/259 حديث 390.
(3) ر. التلخيص: 1/244 حديث 367.
(4) ر. التلخيص: 2/149 حديث 811.(المقدمة/320)
المراوزة الخاصرةَ ليكون الجرح مذفِّفاً، فلا يجوز جرح آخر، وإن كان يفضي إلى الموت".
علق ابن الصلاح على ذلك بقوله: " هذا الذي ذكره من الحديث اختصار من الحديث الذي استدل به في ذلك شيخُه إمام الحرمين ... وأخطأ في قوله: " ولو طعنت في خاصرتها "، وإنما قال: " في فخذها " ... ؛ فلا يثبت -والحالة هذه- ما رامه المراوزة من تخصيص الخاصرة وأشباهها.. " ا. هـ كلام ابن الصلاح.
وقد تعقب الحافظ ابن حجر ابنَ الصلاح، فقال: " أنكر ابنُ الصلاح على الغزالي لفظَ (الخاصرة) .. ولا إنكار؛ فقد رواه الحافظ أبو موسى في مسند أبي العُشَراء له بلفظ: " لو طعنت في فخذها أو شاكلتها، وذكرت اسمَ الله، لأجزأ عنك "، والشاكلة الخاصرة ". ا. هـ كلام الحافظ (1) .
فها هو ابن الصلاح -على منزلته في علم الحديث- ينكر لفظ (الخاصرة) ولا يحفظها: ويتعقب الغزالي وشيخَه، فيتعقبه الحافظ، ويثبت له أن هذه اللفظة واردة في الحديث، وأنه لا محل لإنكارها، ولا حق له في تعقب الغزالي وشيخه (2) .
* قال الغزالي في الوسيط: " أعطى النبي صلى الله عليه وسلم صفوان بن أمية في حال كفره ارتقاباً لإسلامه ".
وقد تعقبه النووي بقوله: " هذا غلط صريح بالاتفاق من أئمة النقل والفقه، بل إنما أعطاه بعد إسلامه " انتهى.
__________
(1) ر. مشكل الوسيط - بهامش الوسيط: 7/105، وتلخيص الحبير: 4/134 حديث 1935.
(2) ومن الملاحظات التي يجب تسجيلها هنا، أن الحافظ ابن حجر رفق بإمام الحرمين -على غير عادته- حيث قال في تنبيه له حول هذا الحديث نفسه (حديث أبي العُشَراء قال: وقع لإمام الحرمين فيه وهمٌ؛ إذ جعل المخاطب بذلك أبا العُشَراء الدارمي، وإنما هو أبوه. ثم قال: ويجوز أن يكون ذلك من النساخ، كان يكون سقط من النسخة: " عن أبيه " ا. هـ
وسبحان الله مقلب القلوب، فهذه أول مرة يحمل الحافظُ فيها الخلل على النساخ، ولا يحمله على إمام الحرمين وقد رأيناه في أكثر من موضع مثل هذا تماماً يعنفُ الإمام، ويُغلظ له، ويحمله الخطأ، مع أن حمله على الناسخ أقرب من هذه الحالة. والله أعلم بالقلوب.(المقدمة/321)
وتعقب ابنُ الرفعة النوويَّ، فقال: " هذا عجيب من النووي كيف قال ذلك؟ وقد نص الشافعيُّ في الأم (1) : " أنه صلى الله عليه وسلم أعطى صفوان بنَ أمية قبل أن يسلم " وقد جزم ابنُ الأثير في الصحابة أن الإعطاء كان قبل الإسلام.
وكلام النووي نفسه في تهذيب الأسماء واللغات في ترجمة صفوان: " أنه شهد حنيناً مع النبي صلى الله عليه وسلم كافراً " ومعلوم أن الإعطاء كان من غنائم حنين، فأيُّ قوليه كان أولاً؟؟ الله أعلم (2) .
* ذكر الإمام حديثَ أم سلمة: " أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه؟ "، وجعل القصة لعائشة وحفصة على خلاف المشهور من أنها مع أم سلمة وميمونة.
وتعقبه الحافظ سراجُ الدين بن الملقن في (تصحيح المنهاج) ، بأن ذلك لا يعرف.
وقد تعقب الحافظُ ابنُ حجر شيخَه ابنَ الملقن، وردّه قائلاً: " وُجد في الغيلانيات من حديث أسامة على وَفْق ما نقله القاضي والإمام، فإما أن يُحمل على أن الراوي قَلَبه ... وإما أن يحمل على التعدد، ويؤيده حديث عائشة عند مالك: أنها احتجبت من أعمى، فقيل لها: إنه لا ينظر إليك، قالت: " لكني أنظر إليه ". انتهى بتصرف يسير من كلام الحافظ ابن حجر (3) .
* ومن هذا الباب أيضاً ما كان من ابن الجوزي حين وهم في أكثر من حديث عدّها في الموضوعات، منها حديث: " إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم " وابن حبان أيضاً يقول عن هذا الحديث: " إنه لا أصل له ".
وقد تعقبهما الحافظ ابن حجر، فقال: "إسناده حسن، وقال عن ابن الجوزي، وابن حبان: " لم يصيبا جميعاً "، والحديث له أصل من حديث أبي موسى، واللوم
__________
(1) راجع في هذه المسألة: تلخيص الحبير: 3/236 حديث: 1501، والأم للإمام الشافعي: 2/72، وتهذيب الأسماء واللغات: 1/249.
(2) راجع في هذه المسألة: تلخيص الحبير: 3/236 حديث: 1501، والأم للإمام الشافعي: 2/72، وتهذيب الأسماء واللغات: 1/249.
(3) ر. التلخيص: 3/308، 309 حديث 1588.(المقدمة/322)
فيه على ابن الجوزي أكثر، لأنه خرج على الأبواب" (1) .
والحديث أخرجه أبو داود في كتاب الأدب باب رقم 23، وقد صححه الألباني في صحيح أبي داود، والمشكاة، وصحيح الجامع، وصحيح الترغيب.
فلم يسلم ابن الجوزي، وابن حبان -على منزلتهما- من التعقب.
* يقول السيوطي في ترجمته الموجزة لنفسه، في آخر الجزء الثاني من المزهر، يقول: " لزمت في الحديث والعربية شيخَنا الإمام العلامة تقي الدين الشبلي الحنفي، فواظبته أربع سنين ... ورجع إلى قولي مجرداً في حديثٍ؛ فإنه أورد حديث ابن أبي الجمرا في الإسراء، في شرح الشفا، وعزاه إلى ابن ماجة، فاحتجتُ إلى إيراده بسنده، فكشفت ابن ماجه، فلم أجده، فمررت على الكتاب كله، فلم أجده، فاتهمت نظري، فمررت مرة ثانية، فلم أجده، فعدت ثالثة، فلم أجده!!
ووجدته في معجم الصحابة لابن قانع، فجئت إلى الشيخ وأخبرته، فبمجرد ما سمع مني ذلك أخذ نسخته، وأخذ القلم، وضرب على ابن ماجة، وألحق ابن قانع في الحاشية.
فأعظمت ذلك، وهبته لعظيم منزلته في قلبي، واحتقاري في نفسي، وقلت: ألا تصبرون لعلكم تراجعون!!، فقال: لا. إنما قلّدت في قولي: " ابن ماجة " البرهان الحلبي " (2) انتهى.
وقد آثرت إيراد النص بتمامه لما فيه من فوائد بجوار ما نحاوله من إثبات أن أكابر الأئمة يقعون في الوهم، ولا يحط ذلك من قدرهم، ولا يزري بمنزلتهم، فبجوار ذلك ترى صورة رائعة من صبر العلماء، فتأمل كيف صبر السيوطي على قراءة ابن ماجة، ثلاث مرات من أجل الوصول إلى سند حديث، يريد أن يورده مسنداً.
ئم تأمل كيف يلزم السيوطي ذلك العلامة الشافعي شيخاً حنفياً يأخذ عنه الحديث، والعربية ويستمر ذلك أربع سنوات، ويتحدث عنه بهذا الإجلال والتقدير. نضع هذه
__________
(1) ر. التلخيص: 2/118 حديث 761.
(2) المزهر: 2/657.(المقدمة/323)
أمام أعين الذين لا يرون في تاريخنا الفكري إلا صوراً من الصراع المذهبي ومتى يحدث هذا؟ يحدث في القرن التاسع والعاشر، في القرون التي يسمونها عصر الضعف والانحطاط.
* والحافظ بن حجر الذي رأينا كثيراً من تعقباته وشدته أحياناً على من يتعقبه، لا يسلم من الوهم، ويقيض الله له من يتعقبه.
وذلك أنه في كتابه الماتع (فتح الباري) وهو يشرح حديث زيد بن أسلم عن أبيه: " أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل مولىً له يدعى هُنيّاً على الحمى، فقال: يا هُنيّ، اضمم جناحَك عن المسلمين، واتق دعوة المسلمين؛ فإن دعوة المظلوم مستجابة، وأدخل ربَّ الصُّريمة ورب الغُنَيمة، وإياي ونَعَم ابن عوف، ونَعَم عثمان بن عفان؛ فإنه إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى نخل وزرع، وإنّ رب الصُّريمة ورب الغُنيمة إن تهلك ماشيتهما يأتني ببينة، فيقول: " يا أمير المؤمنين "!
أفتاركهم أنا، لا أبالك؟ فالماء والكلأ أيسر عليّ من الذهب والورِق، وايم الله، إنهم لَيَرون أني قد ظلمتهم؛ إنها لَبلادُهم، قاتلوا عليها في الجاهلية، وأسلموا عليها في الإسلام، والذي نفسي بيده لوَلا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميتُ عليهم من بلادهم شبراً ".
وهذا الحديث رواه البخاري من طريق مالك: حدثنا إسماعيل قال: حدثني مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه.
وقد ختم الحافظ شرحه للحديث قائلاً: " وهذا الحديث ليس في الموطأ " (1) .
وقد تعقبه العلامة محمد فؤاد عبد الباقي قائلاً: " هذا الحديث في الموطأ كتاب (60) كتاب دعوة المظلوم (2) ، باب (1) ما يُتقى من دعوة المظلوم: حدثني مالك عن زيد بن أسلم ". ا. هـ
__________
(1) ر. فتح الباري: 6/175-177. كتاب الجهاد (56) - باب (180) إذا أسلم قومٌ في دار الحرب ولهم مال وأرضون فهي لهم. حديث رقم 3059.
(2) ر. الموطأ: 2/1003 حديث رقم (1) من كتاب دعوة المظلوم. وليس في الكتاب إلا باب واحد، به حديث واحد، هو هذا الحديث.(المقدمة/324)
ويلوح لي أن الحافظ لم يجد الحديث في أبواب الجهاد من الموطأ، فظن أنه ليس في الموطأ، فأراد أن يفيد قارىء (الفتح) هذه الفائدة، فوهم في ذلك.
* والمجد بن تيمية يقول عن حديث جبير بن مطعم: " يا بني عبد مناف، من ولي منكم من أمور الناس شيئاًً، فلا يمنعن أحداً طاف بالبيت وصلى أيّة ساعة شاء من ليل أو نهار ".
يقول المجد: " رواه الجماعة إلا البخاري " ويلزم من ذلك أن يكون عند مسلم، وقد تعقبه الحافظ ابنُ حجر بقوله: " وهذا وهم منه، تبعه عليه المحب الطبري، فقال رواه السبعة إلا البخاري، وابنُ الرفعة، فقال: رواه مسلم ولفظه: " لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت، وصلى أي ساعة شاء من ليلٍ أو نهار ". وكأنه -والله أعلم- لما رأى ابنَ تيمية عزاه إلى الجماعة دون البخاري اقتطع مسلماً من بينهم، واكتفى به عنهم، ثم ساقه باللفظ الذي أورده ابن تيمية، فأخطأ مكرراً " انتهى بنصه من كلام الحافظ ابن حجر (1) .
* وينبه الحافظ في التلخيص إلى وهمٍ آخر لابن الرفعة في حديث: " خلق الله الماء طهوراً لا ينجسه شيء، إلا ما غير طعمه أو ريحه " قال الحافظ: " عزا ابن الرفعة هذا الاستثناء إلى رواية أبي داود " فقال: ورواية أبي داود: " خلق الله الماء طهوراً لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو ريحه " ووهم في ذلك، فليس هذا في سنن أبي داود أصلاً ". انتهى بنصه (2) .
* وينكر ابن الرفعة رواية السمك والجراد -في حديث: " أحلت لنا ميتتان "- فيقول: قول الفقهاء: السمك والجراد، لم يرد ذلك في الحديث، وإنما الوارد: " الحوت والجراد " فيتعقبه الحافظ ابنُ حجر بقوله: " وهذا مردود؛ فقد وقع في رواية ابن مردويه: " السمك والجراد " (3) .
__________
(1) تلخيص الحبير: 1/190 حديث رقم 276.
(2) تلخيص الحبير: 1/14-16 حديث رقم 3.
(3) ر. التلخيص: 1/25-26 حديث رقم 11.(المقدمة/325)
* ونظل مع ابن الرفعة أيضاً، فقد عزا حديث أبي هريرة: " إذا قام أحدكم في المسجد عن مجلسه، فهو أحق به إذا عاد إليه " عزاه ابن الرفعة إلى البخاري، وليس فيه، بل هو من أفراد مسلم، نص على ذلك عبد الحق والحميدي (1) .
* والحافظ ابنُ تيمية شيخ الإسلام الذي بلغ في الحديث من المنزلة، أن قيل فيه: " كل حديث لا يعرفه ابنُ تيمية لا أصل له " لا يسلم من مثل هذه الأوهام؛ فقد جاء في رسالته إلى السلطان الملك الناصر ص 16: " ... فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما غُزي قومٌ في عقر دارهم إلا ذَلُّوا "؟ فأورده حديثاً مرفوعاً.
وقد تعقبه الشيخ العلامة أبو غدة، فقال: " الله أعلم بثبوته ". وعنده أن هذا من قول سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه في خطبةٍ طويلة، أولها: " أما بعد؛ فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، فمن تركه رغبةً عنه ألبسه الله الذلَّ ... فوالله الذي نفسي بيده: ما غُزي قوم في عقر دارهم إلا ذَلّوا ... ".
وقد أورده منسوباً إلى سيدنا علي أبو العباس المبّردُ في أوئل كتابه " الكامل ": 1/20 من طبعة سنة 1977 م، 1/29 من طبعة 1406 هـ، وكذلك أورده الجاحظ في (البيان والتبيين: 2/53) ، وأيضاً ابنُ أبي الحديد في (شرح نهج البلاغة: 2/74) وأبو الفرج الأصفهاني في (الأغاني: 15/43) (2) .
* ويقع شيخُ الإسلام أيضاً في الاستشهاد بالحديث الضعيف، بل البالغ الضعف، بل ذكره ابن الجوزي في الموضوعات.
فقد جاء في فتاوى شيخ الإسلام، وهو يتحدث عن الإلهام وكونه طريقاً للترجيح قولُه: " القلب المعمور بالتقوى إذا رجَّح بمجرد رأيه، فهو ترجيح شرعي. قال: فمتى ما وقع عنده وحصل في قلبه ما يظن معه أن هذا الأمر، أو هذا الكلام أَرْضى لله ورسوله، كان هذا ترجيحاً بدليلٍ شرعي (3) .
__________
(1) ر. التلخيص: 3/142 حديث رقم 1335.
(2) ر. رسالة بعنوان (تصحيح الكتب وصنع الفهارس المعجمية) للشيخ أحمد شاكر، بعناية وتعليق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، وهذا من تعليقة في ص 14 من الرسالة المذكورة.
(3) اقرأ في هذا الموضوع بحثاً قيمّاً وافياً للعلامة الشيخ يوسف القرضاوي بعنوان: (الإلهام =(المقدمة/326)
والذين أنكروا كونَ الإلهام ليس طريقاً إلى الحقائق مطلقاً أخطئوا؛ فإذا اجتهد العبد في طاعة الله وتقواه، كان ترجيحه لما رجح أقوى من أدلة كثيرة ضعيفة، فإلهام مثل هذا دليلٌ في حقه. وهو أقوى من كثير من الأقيسة الضعيفة والموهومة، والظواهر والاستصحابات الكثيرة التي يحتج بها كثيرٌ من الخائضين في المذاهب والخلاف، وأصول الفقه.
وقد قال عمر بنُ الخطاب: اقربوا من أفواه المطيعين، واسمعوا منهم ما يقولون؛ فإنهم تتجلى لهم أمور صادقة، وحديث مكحول المرفوع: " ما أخلص عبدٌ العبادةَ لله تعالى أربعين يوماً إلا أجرى الله الحكمة على قلبه، وأنطق به لسانَه " وفي رواية: " إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه ". انتهى بنصه (1) .
وحديث مكحول هذا عن أبي أيوب الأنصاري أورده ابنُ الجوزي في الموضوعات: في (باب من أخلص لله أربعين صباحاً) .
وقد ذكر في الباب ثلاثة أحاديث جعل أولها حديث مكحول هذا عن أبي أيوب الأنصاري ثم ثنى بحديثٍ عن أبي موسى الأشعري، والثالث عن ابن عباس رضي الله عنهم، وكلها بمعنى واحد وألفاظ متقاربة (2) .
وقد أورد السيوطي حديث مكحول هذا في الجامع الصغير عن أبي نعيم في الحلية، ورمز له بالضعف.
أما المناوي في الفيض، فقد رجح الحكمَ عليه بالوضع؛ إذ قال: أورده ابن الجوزي في الموضوعات، ولخص ما قاله ابن الجوزي في سنده قائلاً: فيه يزيد الواسطي، وهو يزيد بن يزيد بن عبد الرحمن الواسطي كثير الخطأ، وحجاج مجروح، ومحمد بن إسماعيل مجهول، ومكحول لم يصح سماعه من أبي أيوب الأنصاري ".
__________
= والكشف والرؤى، هل تعد مصادر للأحكام الشرعية؟ - حولية كلية الشريعة بقطر، العدد السادس 11-73.
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 20/42-47.
(2) الموضوعات لابن الجوزي: 3/144-145.(المقدمة/327)
ثم قال عمن تعقب ابنَ الجوزي بأن الحافظ العراقي اقتصر في تخريج الإحياء على تضعيفه: وهو تعقب لا يسمن ولا يغني من جوع (1) .
تنبيه وبيان:
ونؤكد أننا بتسجيل هذه الأوهام، ورصدها والتنبيه عليها لا نريد -حاشا لله- الانتقاص من هؤلاء الأئمة الأعلام أو الحط عليهم -نعوذ بالله من ذلك- وإنما أحببنا فقط أن نذكِّر بما هو معروف مقرر من قصور الإنسان، واستيلاء النقص على قوى البشر.
وعليه يكون ما وقع فيه إمام الحرمين من أوهام أو أخطاء من هذا الباب، ولا يترتب عليه تلك الأحكام القاسية المزرية التي قيلت فيه.
رابعاً: من كلام إمام الحرمين في متن الحديث وصناعته:
بل إننا نجد للإمام كلاماً في الصناعة الحديثية من التضعيف والتصحيح، ونقد السنن والمتن، والكلام في الرواة، وذكر ما قاله أئمة الصناعة فيهم.
نجد من هذا الشيءَ الكثير، مما يشهد أنه كان على درجةٍ من حفظ الحديث، ولم يكن معرضاً عنه، أو لا يدريه كما قال فيه القائلون.
وسنعرض هنا لبعض نماذج من كلام الإمام في عدد من الأحاديث لتكون دليلاً على ما قلناه:
* يردّ الإمامُ ما روي من حديث عائشة وأنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " النفاس أربعون يوماً ".
يردّ الإمام هذا، فيقول: " قال أئمة الحديث: حديث عائشة موضوع، وحديث أنس تفرّد به عن جميل سلامُ بن سَلْم، وهو متروك " (2) .
هذا ما قاله إمام الحرمين عن الحديثين، فماذا قال أئمة الحديث؟
__________
(1) ر. فيض القدير: 6/43-44.
(2) الدرة المضية: 67 مسألة رقم 39.(المقدمة/328)
لو راجعتَ ما قاله الدارقطني، والزيلعي، وابن حجر، وابن الجوزي (1) عن الحديثين، لرأيت أنه لم يخرج عما قاله إمام الحرمين، ولأدركت منزلة إمام الحرمين من الصناعة الحديثية، فالذي يقول هذا من حافظته، ويدوّنه من ذاكرته، كيف يقال: إنه لا يدري الحديث، أو كان قليل المراجعة لكتب الحديث!!
* وفي أحاديث التيمم، يردّ ما استدل به الأحناف على جواز التيمم بالرمل قائلاً: " فإن قالوا: روى أبو هريرة أن رجلاً قال يا رسول الله: إنّا بأرضٍ رملة تصيبنا الجنابة والحيض والنفاس، ولا نجد الماء أشهراً، فقال صلى الله عليه وسلم: " عليكم بالرمل ".
قلنا: رواه المثنى بن الصباح، وهو ضعيف صاحب مناكير، ثم روى عمرو بن شعيب هذه القصة، وفيها: " عليكم بالتراب ". ثم المراد بالرمل الرمل الذي يخالطه التراب؛ فإن العرب لا تَقِرّ إلا في موضع العشب، ولا نبات حيث لا تراب (2) ".
فهو يردّ الحديث بالنظر في سنده، وتضعيف راويه، ثم بالنظر في متنه، فعلى فرض صحته، فالمراد به الرمل الذي به تراب ينبت عشباً في بيئة تصلح للاستقرار.
وقد روى ابنُ قدامة هذا الحديثَ في المغني، وضعفه بما ضعفه به إمام الحرمين (3) كما تكلم الذهبي في ميزان الاعتدال عن المثنى بن الصباح بنحو ما قاله عنه إمام الحرمين (4) .
* عند ذكر الخلاف مع الأحناف في أقل الحيض، وأنه عندهم ثلاثة أيام يقول: "ولهم روايات يتمسكون بها، منها:
ما رواه أبو أمامة الباهلي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أقل ما يكون من
__________
(1) ر. سنن الدارقطني: 1/220، نصب الراية: 1/206، والتلخيص: 1/171، والعلل المتناهية: 1/386.
(2) الدرة المضية: 25 مسألة رقم 11.
(3) المغني لابن قدامة: 1/249.
(4) ميزان الاعتدال: 1/435.(المقدمة/329)
الحيض للجارية البكر والثيب ثلاثاً، وأكثر ما يكون عشرة أيام، فإذا رأت أكثر من ذلك، فهو استحاضة".
قلنا: يرويه عبد الملك، وهو مجهول، عن العلاء بن كثير، وهو ضعيف، عن مكحول، وهو لم يلق أبا أمامة" (1) .
وانظر سنن الدارقطني، ونصب الراية، لترى ما قاله إمام الحرمين عن الحديث بنصه تقريباً (2) .
ثم قال الإمام في المسألة نفسها: " فإن روَوْا عن واثلة بن الأسقع أنه عليه السلام قال: أقل الحيض ثلاثة أيام، وأكثره عشرة أيام ".
قلنا: يرويه حماد بنُ منهال، وهو مجهول عن مكحول، ولم يسمع من واثلة (3) ".
وما قاله إمام الحرمين في الحديث هو بنصه تقريباً ما قاله أئمة الحديث: الدارقطني، والزيلعي، والذهبي (4) .
وفي المسألة نفسها يرد أثراً للأحناف عن ابن مسعود وأنس وعثمان بن أبي العاص، قائلاً: " حديث عبد الله يرويه هارون بنُ زياد القُشيري، وهو ضعيف جداً.
وحديث أنس يرويه الجَلْد بنُ أيوب، وليس يساوي في الحديث شيئاًً، وحديث عثمانَ يرويه الأشعث بنُ سَوَّار، وهو ضعيف، عن الحسن، ولم تثبت رواية الحسن عن عثمان. " (5) ا. هـ بنصه.
وهذا الذي قاله إمام الحرمين هو بعينه ما قاله الدارقطني والذهبي والزيلعي، ومما
__________
(1) الدرة المضية: 55 مسألة رقم 31.
(2) سنن الدارقطني مع التعليق المغني: 1/218، ونصب الراية: 1/191.
(3) الدرة المضية الموضع السابق نفسه.
(4) انظر: نصب الراية 1/192، وسنن الدارقطني: 1/219، وميزان الاعتدال 1/420.
(5) الدرة المضية: 56 المسألة رقم 31.(المقدمة/330)
يستحق أن يسجل أن قول إمام الحرمين عن الجَلْد بن أيوب: " ليس يساوي في الحديث شيئاًً " هو عبارةُ أحمد بن حنبل بعينها في الحكم على الجَلْد (1) .
* وحين يعرض لخلاف الأحناف في دخول وقت العشاء يقول:
" فإن رَوَوْا عن جابر في حديث السائل عن أوقات الصلاة: " أن بلالاً أذن للعشاء حين ذهب بياضُ النهار ".
قلنا: يرويه صدقةُ بنُ عبد الله الدمشقي عن عبيد الكلاعي، عن سليمان بن موسى، قال أحمد بن حنبل: " صدقة ليس بشيء " (2) .
وقد نقل الذهبي تضعيف أحمد لصَدَقة بن عبد الله على نحو ما قاله إمام الحرمين (3) .
* وحين يردّ قولَ أبي حنيفة: إن التثويب أن يقول المؤذن بعد الفراغ من الأذان: حي على الصلاة، حي على الفلاح " يقول:
" فإن روَوْا أن بلالاً كان إذا أذن أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقف على الباب، فقال: الصلاة يا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح ".
قلنا: يرويه موسى بن محمد بن الحارث التيمي عن أبيه عن بلال، وموسى ضعيف، ومحمد لم يلق بلالاً، ويرويه أيضاً كامل أبو العلاء السعدي، ولم يلق بلالاً.
ثم لا اختصاص لهذا الحديث بأذان الصبح، ولعله كان ينبه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الأحايين (4) ".
وقد قال يحيى بنُ معين عن موسى بن محمد هذا: ليس بشيء ولا يكتب حديثه، وقال مرة: ضعيف.
__________
(1) ميزان الاعتدال: 1/420.
(2) الدرة المضية: 78 مسألة 43.
(3) ميزان الاعتدال: 2/310.
(4) الدرة المضية: 83، 84 مسألة رقم 47.(المقدمة/331)
وقال البخاري: عنده مناكير، وقال النسائي: منكر الحديث، وقال الدارقطني: متروك (1) .
* لا يفتتح الإمامُ الصلاة ما لم يفرُغ المقيم من الإقامة عندنا.
وقال أبو حنيفة: يقوم الإمام إذا بلغ الحيعلة، ويكبر إذا لفظ الإقامة.
قال الإمام: فإن رَوَوْا عن عبد الله بن أبي أوفى: " أنه كان إذا قال بلال: قد قامت الصلاة، نهض النبي صلى الله عليه وسلم، وكبّر ".
قلنا: " يرويه حجاج بن فرّوخ، وهو مجهول " (2) .
وعن حجاج هذا قال ابن معين: ليس بشيء، وضعفه النسائي (3) .
* وعند الاختلاف في الجهر بالتأمين، وقول الحنفية: لا يجهر الإمام ولا المأموم، ويستدل الأحناف فيما استدلوا به بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا قال الإمام ولا الضالين، فأنصتوا " يرد إمام الحرمين هذا الحديث قائلاً: " هذا الحديث يرويه محمدُ بنُ يونس، وهو ضعيف " ثم الإنصات هو السكوت، والمأموم يؤمن ولا يجهر عند أبي حنيفة.
فإن قالوا: روى وائل أن النبي صلى الله عليه وسلم خفض صوته بآمين ".
قلنا: قال الدارقطني: رواه شعبة، ووهم فيما روى، والصواب أنه رفع بها صوته، فقد تعارضت الروايات (4) .
وقد قال أئمة الحديث في هذين الحديثين بنحو ما قاله إمام الحرمين (5) .
* وقد اعتمد الأحناف في قولهم: لا تسن الإقامة للنساء على حديث: "ليس على النساء أذان ولا إقامة"، فردّه إمامُ الحرمين قائلاً:
__________
(1) ر. ميزان الاعتدال: 4/218.
(2) الدرة المضية: 92 مسألة رقم 56 (بتصرف) .
(3) ر. ميزان الاعتدال: 1/464.
(4) الدرة المضية: 103، 104، مسألة رقم 65.
(5) ر. نصب الراية: 1/369، ميزان الاعتدال: 4/74.(المقدمة/332)
قلنا: " يرويه الحكم بنُ عبد الله الأَيْلي، وبُريدُ بنُ السمط: الأول متروك، والثاني مجهول (1) ".
فإذا نظرنا في كتب الرجال، نجد الإمام أحمد يقول عن الحكم هذا: " أحاديثه كلها موضوعة، وابن معين يقول فيه: " ليس بثقة "، وقال السعدي وأبو حاتم: " كذاب "، وقال عنه النسائي والدارقطني: " متروك (2) ".
* وخالفنا الأحناف في السجود على كَوْر العمامة، حيث أجازوا ذلك، وروَوْا فيه حديثاً: " أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد على كَوْر عمامته " وقد ردّ إمام الحرمين الحديث قائلاً:
" هذا الحديث رواه أبو زرعة في كتاب، فقال: اضربوا عنه، فإنه منكر، وقد رَوَوْه عن أبي هريرة، وهو الذي أنكره أبو زرعة.
وربما روَوْه عن ابن عباس مرفوعاً، ومداره على محمد بن زياد الطحان، وهو متروك.
وربما روَوْه عن جابر مرفوعاً، ومدار رواته عن عمرو بن شمر عن جابر الجعفي: قال يحيى بنُ معين: عمرو ليس بثقة، وجابر لا يحتج بروايته (3) ".
وقد ضعف أهل الصناعة أحاديث ابن عباس، وأبي هريرة، وجابر بنحو ما ضعفها به إمام الحرمين (4) .
* القنوت في صلاة الصبح سنة عندنا.
وخالف الأحناف في ذلك، وكان مما استدلوا به أن قالوا: روت أم سلمة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القنوت في الفجر ".
__________
(1) الدرة المضية: 86 مسألة رقم 50.
(2) ر. ميزان الاعتدال: 1/572.
(3) الدرة المضية: 118، 119 مسألة رقم 75.
(4) ر. نسب الراية: 1/384، ونيل الأوطار: 2/288، وتلخيص الحبير: 1/253، ح 377، وميزان الاعتدال: 1/379، 3/268، 552.(المقدمة/333)
وقد ردّ هذا الحديث إمامُ الحرمين قائلاً: " يرويه محمدُ بن يعلى السُّلمي عن عِنبسة بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن نافع، عن نافع، وكلهم ضعفاء إلا نافعاً، وهو لم يلقَ أُمَّ سلمة.
فإن قالوا: روى ابن مسعود: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهراً، لم يقنت قبله ولا بعده ".
قلنا: يرويه أبو حمزة، ميمون القصاب، ولا يحتج به.
ويتجه حمله على غير الصبح، والدليل عليه ما روي: أنه قيل لأنس: " إنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً، فقال: ما زال يقنت في صلاة الغداة حتى فارق الدنيا (1) ".
ولو نظرنا فيما قاله أئمة الحديث، لوجدناهم يُضعِّفون الحديثين بمثل ما قاله إمام الحرمين، وبعبارة أخرى: وجدنا إمام الحرمين يحكم على الحديثين بمثل ما قاله أئمة الحديث.
فنجد الدارقطني يقول عن رواة حديث أم سلمة: " محمد بن يعلى، وعنبسة، وعبد الله بن نافع كلهم ضعفاء، ولا يصح لنافع سماع من أم سلمة (2) ".
وهذه كما ترى عبارة إمام الحرمين نفسها، ونجد ابنَ الجوزي يقول عن الحديث نفسه: " تفرد به عِنبسة، قال يحيى: ليس بشيء، وقال النسائي: متروك الحديث، وقال ابن حبان: هو صاحب أشياء موضوعة لا يحل الاحتجاج به (3) ".
ومما يجب أن نسجله هنا أن حديث ابن مسعود الذي ضعفه إمام الحرمين لا وجود له في سنن الدارقطني، نقول ذلك حتى نقطع قولَ الذين يقولون: إن اعتماد إمام الحرمين كان على سنن الدارقطني وحدها.
هذا، وحديث ابن مسعود معلول -كما قال إمام الحرمين- بأبي حمزة ميمون
__________
(1) الدرة المضية: 126، 127 مسألة رقم 83.
(2) سنن الدارقطني: 1/28. حديث رقم 5.
(3) العلل المتناهية: 1/445.(المقدمة/334)
القصاب، قال ابن حبان في كتاب الضعفاء: كان فاحش الخطأ كثير الوهم، يروي عن الثقات ما لا يشبه حديث الأثبات، تركه أحمد بن حنبل، ويحيى ابن معين " انتهى (1) .
ونكتفي بهذه النماذج من كلام إمام الحرمين في نقد الأحاديث والرجال، وفي الجمع بين المتعارض منها، وهي ناطقة شاهدة بعنايته بعلم الحديث، مبينة عن إحاطته بعلم الرجال، دالّةُ على معرفته بالجرح والتعديل.
وفي كتابه (الدرّة المضية) من هذا الباب مئات من الأحاديث التي تكلم -بعلم- في نقد رجالها، وتوجيه متنها.
جانبٌ آخر من الاشتغال بالصناعة الحديثية:
لقد عقد الإمام في كتابه البرهان كتاباً سماه كتاب الأخبار، تناول فيه الحديث بصفته الأصل الثاني من أصول التشريع، ولكنه تناول فنون الأحاديث ومراتبها، وناقش أصول الرواية وضوابطها، وخالف المحدثين في شيء من قواعدهم وضوابطهم، وأسمائهم وألقابهم، وإليك طرفاً من ذلك:
الخبر المتواتر:
عقد إمام الحرمين في البرهان فصلاً بعنوان (القول في الخبر المتواتر (2)) يصف فيه الخبر المتواتر والأقوال فيه وفي إفضائه إلى العلم، ويعرض الشرائط التي رآها من تعرضوا للحديث المتواتر، ومنها اشتراط صدوره عن عدد، ويقول: " إن الناس اضطربوا في ذلك اضطراباً فاحشاً (3) " ويعرض هذه الآراء ويتعقبها بالحجة والبرهان حتى يبطلها واحداً واحداً.
ثم يقول: "فإن قيل: فما الذي ترضَوْنه في ذلك؟ قلنا: الخوض فيما نؤثره يستدعي تقديم أمر. وهو أن العلوم الحاصلة على حكم العادات وجدناها مرتبة على
__________
(1) ر. كتاب المجروحين، لابن حبان: 3/5، 6، وانظر أيضاً ميزان الاعتدال: 4/34.
(2) البرهان فقرة: 491 وما بعدها.
(3) البرهان فقرة: 494.(المقدمة/335)
قرائن الأحوال وهي لا تنضبط انضباط المحدودات بحدودها.
ولا سبيل إلى جحدها إذا وقعت وهذا كالعلم بخجل الخجل، ووجل الوجل، ونشط الثمل ونحوها، فإذا ثبتت هذه القرائن ترتب عليها علوم لا يأباها إلا جاحد، ولو رام واجد العلوم ضبطَ القرائن ووصفَها بما تتميز به عن غيرها لم يجد إلى ذلك سبيلاً، فكأنها تدق عن العبارات".
ثم ينتهي إلى قوله: " لا يتوقف حصول العلم بصدق المخبرين على حد محدود، وعد معدود، ولكن إذا ثبتت قرائن الصدق، ثبت العلم به (1) ".
ثم يقول: " وأنا الآن أنخل للناظر جميع مصادر المذاهب ليحيط بها، ويقضي العجب من الاطلاع عليها. ويتنبه لسبب اختلاف الآراء فيها ويجعل جزاءنا منه دعوة بخير " (2) .
ويستمر في عرض وجهة نظر أصحاب الآراء والمذاهب، لا مجرحاً ولا مسفهاً، بل مبيناً موضع الشبهة، وسر الزلل، وكأنه يعتذر عنهم، أو هو بالتأكيد يعتذر عنهم.
ثم يختم المسألة بخلاصة رأيه معتزاً به مباهياً. فيقول: " والجملة في ذلك أن التواتر من أحكام العادات، ولا مجال لتفصيلات الظنون فيها، فليتخذ الناظر العادة محكمة.
وقد أتى هذا المقدار على أسرار لا تحويها أسفار وهو على إيجازه لا يغادر وجهاً من البيان تمس الحاجة إليه. وينزل كل كلام وراءه كالفضل المستغنى عنه " (3) .
في خبر الواحد:
ويناقش خبر الواحد من جهة كونه يوجب العمل، فيقول:
" وأطلق الفقهاء القول بأن خبر الواحد لا يوجب العلم ويوجب العمل، وهذا تساهل منهم. والمقطوع به أنه لا يوجب العلم ولا العمل.
__________
(1) البرهان فقرة: 503.
(2) البرهان فقرة: 506.
(3) البرهان فقرة: 515.(المقدمة/336)
فإنه لو ثبت وجوب العمل مقطوعاً به، لثبت العلم بوجوب العمل، وهذا يؤدي إلى إفضائه إلى نوع من العلم.
وذلك بعيد؛ فإن ما هو مظنون في نفسه يستحيل أن يقتضي علماً مبتوتاً.
فالعمل بخبر الواحد مستند إلى الأدلة التي سنقيمها على وجوب العمل عند خبر الواحد.
وهذا تناقشٌ في اللفظ، ولست أشك أن أحداً من المحققين لا ينكر ما ذكرناه (1) ".
القاعدة في الخبر الصادق عنده:
ثم يعقد فصلاً عن تقاسيم الأخبار، ويناقش آراء الأئمة في المقطوع بصدقه والمقطوع بكذبه، ثم يخرج بقاعدة مؤداها: " كل خبر يخالفه حكم العرف فهو كذب (2) " ويعطي العرف كل منزلة في هذا.
رأيه في العمل بالمراسيل:
فأما رأيه في المراسيل فيدل على ذهن أصولي فذ، كما يدل على تحرر في الرأي والفكر.
فأبو حنيفة رضي الله عنه قائل بالمراسيل بجميع صورها قابل لها، عامل بها.
والشافعي يرد المراسيل ولا يقبلها.
وهنا يعرض إمام الحرمين حجج القائل بها والرافض لها، بكل أمانة وثقة ودقة، كدأبه في المسائل.
ثم يقرر رأيه غير متأثر بمذهب من المذاهب، وإنما ناظراً لقاعدة الباب مراعياً للأصل الذي يبني عليه لا غيره، والأولى أن ننقل كلامه في هذا الموضع بنصه حيث يقول:
__________
(1) البرهان فقرة: 538.
(2) البرهان فقرة: 534.(المقدمة/337)
" فإذا وضح اعتبار ما تمسك به النفاة والمثبتون، فقد جاز أن نوضح المختار قائلين:
قد ثبت أن المعتمد في الأخبار ظهور الثقة في الظن فإن انخرمت الثقة، اقتضى انخرامها التوقف في القبول. وهذا الأصل مستنده الإجماع الذي ثبت نقله من طريق المعنى استفاضة وتواتراً، فإذا سبرنا ما ردوه وما قبلوه يحصل لنا من طريق السبر أنهم لم يَرْعَوْا صفات تعبدية كالعدد والحرية، وإنما اعتمدوا الثقة المحضة، فلتعتبر هذه قاعدة في الباب. ومساقها يقتضي رد بعض وجوه الإرسال وقبول بعضها (1) ".
فهو يرى أن المراسيل يقبل بعضها ويرد بعضها، لا يميل إلى رأي الشافعي، ولا إلى رأي أبي حنيفة، وإنما يعتمد القاعدة والأصل الذي اعتبر في صدق الأخبار.
وبعد أن يقرر هذا يقول: " ثم مخالفة الشافعي في أصول الفقه شديدة، وهو ابن بجدتها وملازم أرومتها ". ولذا يعود إلى تخريج كلام الشافعي وتوجيهه بما يوافق رأيه الذي رآه. وتراه يعتز ويتيه بذلك قائلاً: " ولكني رأيت في كلام الشافعي ما يوافق مسلكي هذا وتقر به الأعين. قال رحمه الله: مرسلات ابن المسيب حسنة. وشبب بقبولها والعمل بها (2) ".
فهو يعرف للشافعي قدره في الأصول، وفضله على هذا الفن ولذا يستروح لموافقته.
موجز لبعض آرائه في الحديث:
وخوفاً من الإطالة نوجز بعض آرائه في الحديث التي انفرد بها أو خالف فيها، فمنها:
- يخالف أبا إسحاق الإسفراييني (الأستاذ) في أن (الخبر المستفيض) قسم بين المتواتر وبين المنقول آحاداً، ويرد زعمه بأنه يقتضي العلم نظراً (3) .
__________
(1) البرهان فقرة: 579.
(2) انظر البرهان فقرة: 581.
(3) انظر البرهان فقرة: 519.(المقدمة/338)
- يخالف القاضي أبا بكر في إلحاق مسألة رد رواية الصبي بالمظنونات ويرى أنها من القطعيات (1) .
- يخالف الشافعي والقاضي وينفرد برأي في مسألة التصريح بالتعديل والتجريح حيث يرى " أن الأمر في ذلك يختلف باختلاف المعدل والجارح (2) ".
- في فصل تحمل الرواية وجهة تلقيها يعرض لمسألة ما إذا كانت النسخة بيد عدل غير الشيخ، وكان الشيخ لا يحفظ حديثه. ويقرر أن هذا سماع غير صحيح، وإن كان القاضي قد تردد فيه (3) .
- إذا انفرد راوٍ بزيادة عن غيره. يرى التفصيل فيها، فيقول: هي مقبولة إذا سكت الحاضرون عن نقل ما تفرد به بعضهم، فأما إذا صرحوا بنفي ما نقله، فهذا يعارض قول المثبت ويوهيه (4) .
- ينفرد برأيه عن المحدثين فيما إذا قال الرجل: رأيت في صحيح محمد بن إسماعيل البخاري، ووثقت باشتمال الكتاب عليه، فعلى الذي سمعه يذكر ذلك أن يثق به، ويلحقه بما تلقاه بنفسه ورآه ورواه من الشيخ المسمع.
ثم يقول: ولو عرض ما ذكرناه على جملة المحدثين لأبوه؛ فإن فيه سقوط منصب الرواية عند ظهور الثقة وصحة الرواية وهم عصبة لا مبالاة بهم في حقائق الأصول.
وإذا نظر الناظر في تفاصيل هذه المسائل صادفها خارجة في الرد والقبول على ظهور الثقة وانخرامها، وهذا هو المعتمد الأصولي، فإذا صادفناه لزمناه، وتركنا وراءه المحدثين ينقطعون في وضع ألقاب وترتيب أبواب (5) ".
فهو يقرر رأيه بحسب القاعدة الأصولية التي اعتمدها، صارفاً النظر عن الأسماء والألقاب التي يضعها المحدثون، غير مبال بخلافهم.
__________
(1) انظر البرهان فقرة: 552.
(2) نفس المصدر فقرة: 560، 561.
(3) نفس المصدر فقرة: 586.
(4) نفس المصدر فقرة: 608.
(5) البرهان فقرة: 592، 593.(المقدمة/339)
أئمة الحديث يعتدّون بآراء إمام الحرمين في الصناعة الحديثية:
ويشهد لمنزلته في الحديث اعتماد رجال الحديث لآرائه واعتنائهم بتسجيلها في كتبهم، وذكرهم لها مذهباً ورأياً معتداً به مع آراء المحدثين.
جاء في كتاب الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع للقاضي عياض ص 75:
" فإن كان الشيخ لا يمسك كتابه هو، وإنما يمسكه عليه ثقة عارف سواه، وإن كان الشيخ يحفظ حديثه، فالحال واحدة، وإن كان لا يحفظه فاختلف هاهنا، فرأى بعضهم أن هذا سماع غير صحيح، وإليه نحا الجويني من أئمتنا الأصوليين ".
كما نقل عنه رأيه في موضع آخر. قال:
" وقال الإمام أبو المعالي الجويني في كتابه البرهان في الإجازة لما صح من مسموعات الشيخ أو لكتاب عينه: تردد الأصوليون فيه: فذهب ذاهبون إلى أنه لا يتلقى بالإجازة حكم، ولا يسوغ التعويل عليها عملاً ورواية.
واختار هو التعويل على ذلك مع تحقيق الحديث (1) ".
وفي ص 42 أيضاً ينقل رأيه في إجازة الشيخ لمعين على العموم والإبهام، دون تخصيص ولا تعيين لكتب ولا أحاديث، فيقول: فهذا الوجه هو الذي وقع فيه الخلاف تحقيقاً، والصحيح جوازه، وصحت الرواية والعمل به بعد تصحيح شيئين: تعيين روايات الشيخ ومسموعاته وتحقيقها، وصحة مطابقة كتب الراوي لها. وهو قول الأكثرين، والجمهور من الأئمة، والسلف ومن جاء بعدهم من مشايخ المحدثين والفقهاء والنظار. وهو مذهب الزهري ومنصور ابن المعتمر ... ويستمر في ذكر أئمة الحديث ثم يقول: وهو الذي عليه عمل الشيوخ وقووه، وصححه أبو المعالي واختاره هو وغيره من أئمة النظار المحققين) اهـ.
فهو يستظهر لكل هؤلاء الأئمة بإمام الحرمين، وينص عليه دون غيره من أئمة النظار والمحققين.
__________
(1) الإلماع ص 89.(المقدمة/340)
وابن الأثير أيضاً:
وبعد القاضي عياض وجدنا ابنَ الأثير في مقدمة كتابه (جامع الأصول) يعقد باباً بعنوان (الباب الثالث في بيان أصول الحديث، وأحكامها، وما يتعلق بها) يقول تحت هذا العنوان:
" ما نثبته في هذا الباب من أصول الحديث وأحكامها، وشرح أقوال الفقهاء وأئمة الحديث، وذكر مذاهبهم، واصطلاحاتهم، فإنه منقول من فوائد العلماء، وكتبهم وتصانيفهم التي استفدناها وعرفناها، مثل كتاب (التلخيص (1)) لإمام الحرمين أبي المعالي الجويني، وكتاب (المستصفى) لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي، وكتاب (التقويم) لأبي زيد الدبوسي، وكتاب (أصول الحديث) للحاكم أبي عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري، وكتاب (المدخل إلى الإكليل) له، وشيء من رسائل الخطيب أبي بكر بن ثابت البغدادي، وكتاب (العلل) للإمام أبي عيسى الترمذي، وغير ذلك من كتب العلماء وتصانيفهم، رحمة الله عليهم.
فجمعت بين أقوالهم، واختصرت من كل واحد منهم طرفاً يليق بهذه المقدمة (2) ... " إلخ فانظر كيف سلك إمام الحرمين مع أئمة الحديث وحُفاظه: الحاكم، والخطيب البغدادي، والترمذي، بل الأعجب أنه عدّ كتابه قبل كتبهم، وقدّمه في الذكر عليهم.
شيوخ إمام الحرمين في الحديث، وتلاميذه:
ونذكر بما ثبت من سماعه الحديث، وأخذه إياه عن شيوخه وأئمته، مثل والده، والشيخ أبي حسان، محمد بن أحمد المزكي، وأبي سعد، عبد الرحمن بن حمدان النضْرَوي، وأبي عبد الله، محمد بن إبراهيم بن يحيى المزكي، وأبي سعد، عبد الرحمن بن الحسن بن عَلِيَّك، وأبي عبد الرحمن، محمد بن عبد العزيز النِّيلي، وغيرهم.
__________
(1) انظر ما قاله إمام الحرمين عن الحديث في كتابه (التلخيص) الفقرات: 964-1184.
(2) مقدمة جامع الأصول من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم: 68، 69.(المقدمة/341)
وروى عنه: زاهر الشحَّامي، وأبو عبد الله الغُراوي، وإسماعيل بن أبي صالح المؤذن، وغيرهم.
* وجمع أربعين حديثاً عرفت باسمه، وقرئت عليه (1) .
* وقد رأيناه في نهاية المطلب يعتز بمسموعاته في الحديث، ويحرص على روايتها، ومن ذلك قوله: " قد قدمنا في صدر الباب تباين المذاهب واختلاف قول الشافعي رضي الله عنه في بيع أمهات الأولاد، وسبب التردد اختلاف الأخبار والآثار.
ونحن نذكر منها ما فيه مَقْنَع من مسموعاتنا، أخبرنا ... " (2) وروى من الأخبار من مسموعاته، وكأنه يتيمّن بذلك في ختام كتابه.
***
عودٌ على بدء.
وتؤكد ما قلناه قبلاً (3) أننا لا نريد ولا نحاول أن نثبت أن إمام الحرمين كان من أئمة الحديث وحفاظه.
وكل الذي نتغياه أن نقول لبعض الأغرار من نابتة العصر، وبعض من أعماهم التعصب، أولئك الذين يقعون في الأئمة، ويسوّدون صفحات بحوثهم، ويرددون في دروسهم القول بأن هذا الإمام أو ذاك كان لا يدري الحديث ولا علم له به، بل جمح يبعضهم الهوى، فقال عن إمام الحرمين والغزالي: إنهم من أعداء السنن.
يقولون ذلك متكئين على ما نقلناه عن الأئمة الكبار، ابن الصلاح، والنووي، وشيخ الإسلام، والذهبي. نقول لهؤلاء: حنانيكم، أقصروا، إن ما كان عند هؤلاء من علم الحديث مع أنه ليس من علومهم - أكثر مما عند كثير من المختصين بعلم الحديث في عصرنا، وما قدمناه آنفاً من نماذج لعلم إمام الحرمين لن نجد في محدّثي عصرنا من يحفظ مثله.
__________
(1) ر. طبقات السبكي: 171، 181.
(2) نهاية المطلب: ج 19 ص 503.
(3) انظر ما سلف في أول هذا الفصل.(المقدمة/342)
وننبه هنا أن كلام الأئمة الكبار بعضهم في بعض يجب أن يؤخذ بحذر، وبخاصة عند اختلاف المذاهب والمشارب، كما في حال هؤلاء الأئمة مع إمام الحرمين.
كما أن كلام الكبار بعضهم في بعض يمكن احتماله، أما أن يطير به بعض الشداة، ويرددونه، فهذا ما قصدنا دفعه، والتنبيه إلى خطورته.
ونختم هذا الفصل بهذه الكلمة المضيئة لإمام العلم والعمل، الإمام ابن القيم، إذ قال: " لو كان كل من أخطأ، أو غلط تُرك جُملةً، وأهدرت محاسنه، لفسدت العلوم، والصناعات والحكم، وتعطلت معالمها (1) ".
ونضيف ما جاء عن ابن عبد البر في كتابه (جامع بيان العلم وفضله) :
" قال الثوري رحمه الله: " عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة " (2) .
ثم قال ابن عبد البر: " ومن لم يحفظ من أخبارهم (3) إلا ما بدر من بعضهم في بعض على الحسد والهفوات، والغضب والشهوات، دون أن يُعنى بفضائلهم حُرم التوفيق، ودخل في الغيبة، وحاد عن الطريق.
جعلنا الله وإياك ممن يسمع القول فيتبع أحسنه " (4) .
***
__________
(1) مدارج السالكين: 2/39.
(2) عُزيت هذه الحكمة إلى ابن عيينة، عزاها ابن الجوزي في مقدمة صفة الصفوة ص 45، وقال الشيخ أبو غدة: عزيت إلى ابن عيينة في غير مصدر (مقدمة الانتقاء ص 6) .
(3) عَنَى الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة.
(4) ر. جامع بيان العلم وفضله: 2/199 (آخر باب حكم قول العلماء بعضهم في بعض) .(المقدمة/343)
الفصل السابع منهج التحقيق وعملنا في الكتاب(المقدمة/345)
منهج التحقيق وعملنا في الكتاب
عن التحقيق ومفهومه:
التزمت في تحقيق هذا الكتاب، المفهوم الدقيق لمعنى التحقيق، والمنهج الدقيق الذي قرره أئمة هذا الفن من العلماء والأئمة المعاصرين والأقدمين، وعلى رأسهم شيخي، أبو فهر الشيخ محمود محمد شاكر، شيخ العربية، رحمه الله وتقبله في الصالحين.
يقوم هذا المنهج على أصل واحد هو " إخراج الكتاب على الصورة التي أرادها له مؤلفه " فإذا لم يتيسر، أو بالأحرى إذا استحال ذلك، فليكن على أقرب الصور إليها.
وهذا ليس بالعمل الهين، بل هو الميدان حقاً، الذي بذل فيه العلماء من شيوخ هذا الفن وفرسانه جهودهم، وظهرت فيه آثارهم، نذكر منهم على سبيل المثال، لا الحصر، العلامة الشيخ نصر الهوريني، والشيخ الجليل محمد بن عبد الرحمن، المعروف بقطة العدوي، ومِنْ بعدهم شيخ العروبة أحمد زكي باشا، وأحمد باشا تيمور، والإمام محمد محمود التركزي الشنقيطي. والشيخ عبد الغني محمود، والعلامة محب الدين الخطيب.
وتبعهم في جيلٍ تال، العلامة المحدث الفقيه الأصولي الأديب الشيخ أحمد شاكر، وأستاذنا الجليل الأستاذ عبد السلام هارون، والعلامة الشيخ السيد أحمد صقر، والأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم، والأستاذ مصطفى السقا، والأستاذ إبراهيم الأبياري، وواسطة العقد، شيخي الجليل، أبو فهر الشيخ محمود محمد شاكر.
ثم تلا هؤلاء، أو جاء معهم الدكتور إحسان عباس، والدكتور ناصر الدين الأسد، وشيخ الشام أحمد راتب النفاخ، وأحمد بن محمد بن مانع، والشيخ حمد الجاسر.(المقدمة/347)
ثم كان من الجيل الذي يليهم، أخونا المرحوم الدكتور عبد الفتاح الحلو، والصديق الكريم الدكتور محمود محمد الطناحي، برد الله مضجعه (1) .
تذكَّر: قلتُ على سبيل المثال.
لم أذكر لك هؤلاء نافلة ولا تزيُّداً، وإنما لتوازن بين أعمالهم، وبين ما تطلع علينا به المطابع الآن من تحقيقات، يهولك منظرها، ويعجبك مرآها، وتقلِّب النص بين يديك، فتجد الفتى قد افتات على مؤلف الكتاب، وأثقل هوامشه إثقالاً بتعليقاتٍ لأدنى ملابسة، (كما يقولون) بل بدون ملابسة، وتجد النص الأصلي ممزقاً في رؤوس الصفحات، مبعثراً بين أرقام الهوامش، وتحاول أن تقرأ النص الذي هو موضوع الكتاب، وعماده ومَعْمُوده، فتجده غير مستقيم، به من خلل التصحيف والسقط ما به، مع فواصل، وعلامات، إن ساعدتك على قراءة النص مرة، تضلّك مرات ومرات، ويكابد الباحث ما يكابد، ويعاني ما يعاني، وهو يتخبط بين الهوامش وفروق النسخ، محاولاً إقامة النص، وفهم مراد المؤلف. وهيهات، هيهات.
لقد كنا نسعد كل السعادة، ونَهشّ ونَبَشّ حينما نسمع أن كتاباً من الأمهات، والمراجع قد طبع، ونقول: منارةٌ قد أضيئت، وطريق مُهّدت، وأقيم عليها الصُّوى.
أما الآن، فكلما سمعنا أن كتاباً قد خرج، نضع أيدينا على قلوبنا، وكم من باحث اشترى كتاباً من الكتب الأمهات المحققة، وذهب به فرحاً مسروراً، وأمضى الليل به حفيا، ولكنه في الصباح أرسل يردُّه إلى مَنْ باعه إياه، ثم أقبل إلى الطبعة القديمة من الكتاب يحنو عليها كالمعتذر لها، عن همه بالاستغناء عنها وهجرها إلى تلك الخلوب!!!
__________
(1) توفي رحمه الله في صباح يوم الثلاثاء، السادس من ذي الحجة (1419 هـ) ، الموافق الثالث والعشرين من مارس (1999 م) ، توفي فُجاءة، وهو في أوج عطائه، وأقصى توهُّجه، فانْهدّ بموته ركن من أهم أركان الثقافة العربية والإسلامية، وقبر معه علمٌ أي علم، وطويت بموته المدرسة الشاكرية، وقد كان رحمه الله حفياً بهذا الكتاب (نهاية المطلب) ، يتمنى أن يراه مطبوعاً، ووجّه للعبد الفقير نداء في كتابه الفذ (مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي) يحثني على إخراجه، وكم كنتُ أتمنى أن أسعده بإهدائه أول نسخة تخرج من المطبعة.(المقدمة/348)
نعم. كم من كتاب خرج بهذا التحقيق (العصري) مثقلاً بالحواشي والتعليقات، ينوء بما يسمونه التخريج والتوثيق، وأما النص -الذي هو عمل المحقق أصلاً- ففيه ما فيه من الخلل والاضطراب، فماذا تُغني هذه التعليقات إذاً!؟
ومن قبل تنبه علماء أجلاء، ومحققون أصلاء إلى هذه القضية، ونبهوا عليها، فها هو الشيخ عبد الله دراز يتحدّث عن عمله في تحقيق كتاب الموافقات، فيقول في مقدمته: " إنه إقامة النص، وتخليصه من التصحيف والتحريف "، ويسخر في مهارة وخفة من هذه التعليقات إياها، فيقول: " ولم أَرُمْ الإكثار في هذه التعليقات، وتضخيمها بالَّلم من المصنفات للمناسبات، بل جعلت المكتوب بمقياس المطلوب، واقتصرت على المكسوب في تحقيق المرغوب، إلا ما دعت ضرورة البيان إليه في النادر الذي يتوقف الفهم عليه " (1) اهـ.
وانظر كلام الميمني في منهج التحقيق عن إثبات الفروق والإسراف فيها: يقول الأستاذ عبد العزيز الميمني: " ... غير أني لم أنبه على أغلاط الأصل إلا على شيء نزر، رأيت في التنبيه عليه فائدة أو داعياً، وأغفلت منها قدراً جمّاً عدد الرمل والحصى، لأني لم أَرَ في ذكرها غرضاً غيرَ تسويد الكتاب، وتضييع أوقات القارىء فيما لا يجديه، وغير إبراز هوى النفس الأمّارة، المكنون في التحذلق والتفيهق، ورغماً لأنف من يستنكره عليَّ من نابتة العصر المتبجحين، فإني أرى -ولا كفران- أنه:
إذا رضيت عني كرام عشيرتي ... فلا زال غضباناً عليَّ لئامُها" (2)
ومن أسفٍ غاب هذا المنهج عن كثيرين، وراج عند الناس هذا المنهج الآخر، حتى إنك لتجد أحدهم يقلِّب الكتاب بين يديه، فإذا وجده مثقلاً مظلماً بالتعليقات، تزدحم حواشيه بأسماء المراجع والمصادر، وأرقام الأجزاء والصفحات، قال في إعجاب، وهو يضغط على ألفاظه: " هذا كتاب مخدوم "!!! للأسف راجت العملة الرديئة.
__________
(1) مقدمة الموافقات: 1/13.
(2) مقدمة سمط اللآلي، تأمل هذا الكلام، وغضبة الرجل على هذا (اللون من التحقيق) .(المقدمة/349)
لكن انظر عملَ (محمد أبو الفضل إبراهيم) في تاريخ الطبري، وعمل إحسان عباس في الوفيات لابن خلكان، وفي الفوات لابن شاكر، وعمل كبار المحققين وشيوخهم عامّة، تجد نصاً مستقيماً، لا تصحيف، ولا تحريف، ولا خلل ولا اضطراب، وتجد أن عمل المؤلف خلص له، فخرج كتابه على النحو الذي أراده، وبقي المحقق متوارياً خلف النص، لا يظهر قلمه إلا " فيما دعت ضرورة البيان إليه " على حد تعبير الشيخ الجليل عبد الله دراز، فنادراً ما تجد تعليقاً في تحقيقات هؤلاء الأعلام، ولكن حينما تعثر على هذا التعليق النادر تدرك أنه كان ضرورة اقتضاها إما استقامة العبارة وسلامتها، أو فهم المرمى والمغزى الذي يريده صاحب الكتاب.
وأستطيع أن أتخذ هذا مقياساً للحكم على هذه التعليقات وقيمتها، فكل تعليق يستطيع قارىء الكتاب ودارسه أن يقرأ كلام المؤلف، ويفهم مراده دونه، فهو نافلة، قد يكون حلْية وزينة، أو تحسينياً، كما يعبر الأصوليون، وقد يصل إلى أن يكون ثقلا، وغثاثة، وغتامة، أو مجلبة للضيق والغم.
هل من عذر لهؤلاء؟
نستطيع أن نميز بين هؤلاء طائفتين، طائفة تطلعت إلى سوق النشر، فرأتها ذات بريق، وضجيج وعجيج، ولها أعلام وبيارق، ووراءها قطوف وثمار، وعجزت أن تدخلها من أي باب، فلم تجد غير باب التحقيق، فولجت منه جهلاً واجتراءً، وذهولاً وغفلةً عن معنى التحقيق، ظانين أنه مجرد نقل من ورقٍ بالٍ عتيق، إلى ورق ابيضَ صقيل، وقد عبرت الدكتورة بنت الشاطىء عن عمل هؤلاء بقولها: " إنهم لم يقصدوا إلى شيء من النشر العلمي، ولا عنَّاهم أن يثقلوا على أنفسهم ببعض أعبائه وتبعاته، ولا أن يضبطوا أقلامهم بشيء من نظمه ومناهجه، وإنما اتخذوا النشر وسيلة ارتزاق فحسب، وجعلوا طبع المخطوطات تجارة، لا مجال فيها لتقدير حرمة النصوص، أو احترام أمانة العلم " اهـ بنصه (1) .
__________
(1) تراثنا بين شرق وغرب -محاضرات ألقتها على الدارسين بمركز تحقيق التراث، بدار الكتب بمصر- مطبوعة على الآلة الكاتبة ص 6.(المقدمة/350)
ولذلك لا تعجب إذا سمعت أن فلاناً أخرج كتاباً من عشرة مجلدات أو أكثر، في عام أو أقل. على حين تجد العلامة الشيخ محمود محمد شاكر أبا فهر يمضي زهرة عمره بمعاونة أخيه المحدث العلامة الشيخ أحمد شاكر في إخراج ستة عشر مجلداً من تفسير الطبري، لم تزد عن ثلث التفسير إلا قليلاً، حيث وقفت الأجزاء الستة عشر في أثناء تفسير سورة إبراهيم.
وتجد علاّمة الهند محمد حميد الله يقول بالحرف الواحد: " ... صرفت عشر سنوات في تصحيح نسخة الغياثي، وإعدادها للنشر" وهو كتاب من مجلد واحد (1) .
ونجد الشيخ عبد الرحمن الخضري شيخ علماء دمياط، يقول عن كتاب البرهان في أصول الفقه، حينما عثر على نسخته المخطوطة: " ... فأخذته وأغثته، وجعلته في حضانتي، ووضعته في كفالتي، وشرعت أعالجه، وباللطف أمازجه، متأنياً بلا ملل، حتى زال معظم الخطر والخلل، ووضعت كل عضو منه في موضعه، فاستراح نوعاً، ولم يتجاف عن مضجعه، وأنفقت في إصلاحه سنتين، حتى صار قرير العين ... "
وكان من نعمة الله علينا -ونعمه لا تعد ولا تحصى- أن هيأنا لخدمة هذا الكتاب وإخراجه أيضاً، فأنفقنا في ذلك سبع سنين دأباً، وكنت أقول لمن يعجب من ذلك مستكثراً هذا الزمن: إذا كان شيخ علماء دمياط قد أنفق سنتين في ترتيب أوراقه، وقراءته، أكثير على من كان في مثل عجزي وضعفي وتقصيري أن ينفق سبع سنوات في قراءته، ونَسْخه، ومقابلته، والتعليق عليه، والتعريف به، وفهرسته وإخراجه؟
وحينما نجد أن الشيخ أحمد شاكر يقول: " إنه سلخ في تحقيق رسالة الشافعي نحو ثلاثة أعوام ".
حينما نجد ذلك أليس من حقنا أن نفزع لهذا السيل المتدفق من الكتب الأمهات، التي يبلغ كل واحد منها من المجلدات عدداً؟ ونسأل الله السلامة.
وبالنسبة لي شخصياً فقد عانيت من طول العمل في نهاية المطلب (علم الله)
__________
(1) كان لنا -بفضلٍ من الله وتوفيقه- شرف السبق إلى نشره.(المقدمة/351)
لا متضجراً، ولا متمللاً، ولا متعجلاً. ولكن فقط سئمت السؤال: ألم تنته بعد؟.
وفي عيون بعض السائلين وراء التعجب شيء لا أدرك كنهه، وكأنهم يستكثرون، أو لا يصدقون أن ينفق باحث في كتاب واحد كل هذه السنوات التي فاقت الخمس والعشرين سنة.
والله وحده المستعان!!!
* وهناك طائفة أخرى من المحققين، لا تعوزهم القدرة، ولا ينقصهم حسن النية، ولكن أخرجهم عن المنهج القويم شعورهم بأن الناس من حولهم لا يقدرون قيمة عمل المحقق في قراءة النص، وإقامته، ورأوا الكتاب المحقق منشوراً باسم مؤلفه طبعاً، لا باسم المحقِّق، فخافوا أن يسألهم الناس أين أنتم؟ فانصرفوا إلى الهوامش يثقلونها بالحواشي، والتعليقات، وفروق النسخ، والمراجع والمصادر، ولسان حالهم يقول: ها أنذا. واشتغلوا بهذه التعليقات، وأكثروا، وتزيّدوا منها، حتى صرفتهم عن عملهم الأصيل، في إقامة النص، وسلامته.
وكان على هؤلاء أن يدركوا أن العلم عندنا دين، والعمل به عبادة، فلا يلتفتوا إلا إلى رضا الله سبحانه وتعالى، ويعلموا أن عمل المحقق وجهده الذي يصل فيه الليل بالنهار، دائماً خلف ستار، فهو دائماً متوارٍ في الظل خلف النص الذي يحققه، لا يراه الناس، ولا ذكر له عندهم.
ومن وفقه الله يسعد بهذا، ولا بأس عليه، ويحتسبه عند الله، مسروراً بأن لم يذكره أحد، فهو بذلك قد نجا بدينه من أحد الذئبين الجائعين اللذين حذر منهما المصطفى صلى الله عليه وسلم: " ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف (أي الشهرة) لدينه " حديث صحيح رواه أحمد، والنسائي، والترمذي وابن حبان في صحيحه، من حديث كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه، كما رُوي من وجه آخر عن عدد من الصحابة، وقد عُني بشرحه الحافظ ابن رجب الحنبلي رضي الله عنه.(المقدمة/352)
ورضي الله عن إمامنا الشافعي، فقد كان يقول: " وددت لو أن الناس انتفعوا بهذا العلم، ولم ينسبوا إلي منه حرفاً ".
وهذه سنة العلماء إلى يوم الناس هذا، فقد كتب الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله، يقول: " ... إنا لا نكتب بحمد الله ليقال: بحث واستقصَى، واستوعب وأحصَى، ولم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، بل نكتب ما نكتب لنسد فراغاً، ولينتفع بما نكتب أهل العلم، إنْ واتتنا القوة لسد الفراغ، وأسعفنا التوفيق من الله، وجعل من كلامنا ما ينفع الناس" ولقد أشار رحمه الله إلى من أشرنا إليهم آنفاً، فقال: " ولقد وجدنا علماء أفاضل من قبلُ ومن بعد يُعْنَوْن أشد العناية بأن يشعر القارىء عند قراءة ما يكتبون بعظيم جهدهم، فيذكروا للمسألة الواحدة، أو للخبر الواحد مصادر مختلفة، ما بين مخطوط ومطبوع.... ولقد نهج ذلك المنهاج المتكلف شبابنا الذين يكتبون، فظنوا أنه كلما عُني أحدهم بالإكثار من المصادر، كان ذلك دليلاً على أنه يفهم نظام البحث الحديث، وأنه مجدد فيما يكتب ... ".
ومع كل ذلك. دائماً لا يصح إلا الصحيح، وأبداً لا يذهب العرف بين الله والناس، فيبقى للمحقق -إن أخلص لله عمله- مع ثواب الله وأجره، تقدير العلماء الأصلاء، والباحثين الصادقين، وتبقى النصوص العلمية التي نفض عنها غبار الزمن، وجفَى وجهَها للناس، تبقى هذه النصوص هي المادة التي يشكِّل منها العلماء أعمالهم، والتِّبر الذي يصوغ منه الباحثون جواهرهم، ودُرَرَهم.
***(المقدمة/353)
ملامح المنهج
وإذا كنا نستطيع أن نعبر عن كنه التحقيق ولُبِّه في جملة واحدة، فيمكن أن نقول:
" التحقيق إقامةٌ وإضاءة "
نعني بذلك إقامة النص، صحيحاً سليماً مستقيماً، لا تصحيف، ولا تحريف، ولا عِوَج، ولا اضطراب، ولا قلق، ولا خلل.
ونعني بالإضاءة إيضاح ما أبهم من لفظ أو عبارة، بسبب غرابة في المفردات، أو دقةٍ في الصياغة، أوخفاءٍ في المعنى المراد.
إذا كان هذا هو التحقيق، فما الخطوات التي تحقق ذلك.
أولاً: نترك الحديث عن الخطوات الأولية، التي تتعلق بما يمكن أن نسميه الإعداد للعمل، ونعني بها:
• جمع نسخ المخطوط جمعاً مستقصياً من جميع مكتبات العالم (المراد صورها طبعاً) .
• جمع ما يتصل بهذا المخطوط من شروح، ومختصرات، مطبوعة ومخطوطة كلما أمكن ذلك.
• الحصول على مؤلفات صاحب المخطوط مطبوعة أو مخطوطة.
• الحصول على مؤلفات شيخ صاحب المخطوط التي في الموضوع نفسه، مطبوعة، أو مخطوطة قدر الطاقة.
• الحصول على مؤلفات تلاميذ صاحب المخطوط التي في الموضوع نفسه، مطبوعة، أو مخطوطة إذا احتاج الأمر، أو تيسر ذلك.
• البحث عن الكتب الأمهات في موضوع المخطوط، والتي هي مظنة النقل عنه.(المقدمة/354)
• إعداد مراجع مناسبة في موضوع الكتاب المراد تحقيقه، مطولة ومختصرة.
• هذا بجانب المراجع العامة المعروفة، من معاجم لغوية، وكتب الطبقات، والأعلام، ...
• ترقيم صور المخطوطات إن لم تكن مرقمة، وفهرستها على التوازي، بمعنى أن يجمعها كلها فهرس واحد يبين أين يقع الموضوع المطلوب في كلِّ منها.
• قراءتها قراءة سريعة، للتحقق من تسلسلها، وعدم تشويش ترتيبها، وحصر مواضع الخرم إن كان.
• تقسيم النسخ بحسب الجودة إلى فروع، وأمهات، واختيار الأصل من بينها.
• نَسْخ المخطوطة، وإعدادها للعمل.
هذه أهم الخطوات الأولى، وتركُ الحديث عنها ليس تهويناً لشأنها، فهذه المرحلة تحتاج إلى جهد ودأب، ومعرفة بمظان المخطوطات وفهارسها، ثم السعي في تصويرها.
وهذا عمل شاق يؤود الباحث ويرهقه، وبخاصة في عالمنا هذا، حيث الجهات والمراكز التي تمتلك المخطوطات، وصورَها تضنّ بها ضناً، ولا تسمح بها إلا بعد التي والّلتيا -إن سمحت- ويظل الباحث يدأب ويسعى ويتابع بكل وسيلة، حتى يحصل على بغيته -إن حصل عليها- بعد زمان، يصل أحياناً إلى سنوات، ما بين طلبٍ ضائع، وآخرَ مرفوض، وثالث مشروط بالتبادل، ورابع مقبول تحول دون إجابته الإمكانات.
مما يضطر الباحث أحياناً إلى ركوب (الصعب) ، وأحياناً إلى تدبير رحلة إلى أكثر من دولة، حيث خزائن المخطوطات التي يتوقع طلبته فيها، وقد يعود من بعضها بلا شيء، ليواصل البحث عن دروب أخرى. وبخاصة عندما يكون النص المراد تحقيقه من عدة مجلدات، كما هو واقعٌ معنا في كتابنا (نهاية المطلب) . فقد بلغت نسخ الكتاب أكثر من عشرين نسخة، تعاونت جميعاً بالكاد على تكوين نص الكتاب، وكانت هذه النسخ مبعثرة بين مكتبات العالم من شرقٍ وغرب، وشمال وجنوب.(المقدمة/355)
فلنترك هذه المرحلة، فالحديث عنها يطول، ولكن أمره مفهوم. إن شاء الله.
ثانياً: خطوات العمل (1) :
الواجبات التي يجب أن يلتزم بها المحقق، والصفات التي يجب أن يتحلى بها:
1- رعاية حرمة النص:
وأولها أو مِلاكها الذي تتفرع عنه كل الصفات، هو رعاية حرمة النص، فالمحقق يتكلم إلى الناس بلسان صاحب الكتاب، فعليه أن يتأنى، ويتريث، ويتلبث، حتى لا يُنطق الكتاب بغير ما قاله صاحبه، فهذا يكون كذباً وتزييفاً، والعياذ بالله.
2- العلم والإحاطة بالفن موضوع الكتاب الذي يحققه:
أن يكون على علم ودراية بالفن الذي يحقق فيه، أي بالفن الذي هو موضوع الكتاب الذي يحققه، فإن كان يحقق كتاباً في أصول الفقة يجب أن يكون على علم بأصول الفقه، ودراية به، تتيح له القدرة على قراءة النص الذي يحققه، ولو مستعيناً بقراءة أصول الفقه مسألة مسألة في مرجع آخر، واستحضارها قبل أن يقرأ النص المحقق.
3- العلم والدراية بالمصطلحات:
أن يكون على علم ودراية بمصطلحات الفن موضوع الكتاب الذي يحققه، فعدم العلم بهذه المصطلحات وإلْفها باب واسع من أبواب الخلل والخطر، والمحقق الثقة، والذي يعرف للنص حرمته، إذا تعذر عليه شيء من ذلك يتوقّف، مثل ما حدث من الدكتور عبد الله الجبوري في تحقيقه لكتاب طبقات الأسنوي، ففي ترجمة
__________
(1) توثيق نسبة النهاية إلى مؤلفها:
يقتضي المنهج وقواعد الصناعة أن يقوم المحقق بتوثيق نسبة الكتاب المحقَّق إلى مؤلفه، مع أن ذلك في كتابنا هذا يعتبر من نافلة القول، فقد بلغت نسبة هذا الكتاب إلى إمام الحرمين حدّ التواتر الذي يوجب العلم الضروري، فمحاولة الاستدلال على ذلك ضربٌ من التزيد لا معنى له.
وخضوعاً لصرامة المنهج وضعنا هذه الحاشية؛ حتى لا يدّعي علينا مدّعٍ أننا قصرنا في حق المنهج، ولم نلتزم بقواعده.(المقدمة/356)
الإمام أبي بكر المحمودي، ورد قولُ الإسنوي: " ذكره الرافعي في مواضع منها: في الحيض في الكلام على (قَوْلَيْ السَّحْب واللَّقْط) " (1) اهـ.
فأشار المحقق في الهامش قائلاً: كذا وردتا في الأصول. أي أنه متوقف في قراءة الكلمتين وحسناً فعل، فدل على علمه وخلقه، فهناك من يغيِّر ما لا يفهم، أو يفسره تفسيراً خاطئاً، يسد على القارىء الأبواب.
وهذا الكلام وجدته في (النهاية) عن أبي بكر المحمودي فعلاً، وهو عن حكم التلفيق لمن تتداخل أيام حيضها وأيام طهرها، وهل (تلقُط) أيام حيضها وتجمعها، وتعتبر الباقي طهراً، أم (تَسْحَب) حكمَ الحيض على أيام النقاء بين الدمين؟ في تفصيل طويل، وخلاف بين الأصحاب، يراجع في مظانه.
ومما يستحق الإشارة هنا أن المصباح المنير، لم يذكر أيّاً من اللفظين (السَّحْب واللَّقط) مع أنهما من ألفاظ الشرح الكبير، فلعل صاحبه رضي الله عنه، لم يعتبرهما من الغريب. كما لم أجدهما في أنيس الفقهاء، ولا حلية الفقهاء، ولا كشاف اصطلاحات الفنون، ولا التعريفات، ولا الكليات، ولا في المعاجم أيضاً.
وربما كان أخصر مثال نذكره هنا للخطأ الذي وقع نتيجة لعدم الإحاطة بالمصطلحات، هو ما ذكره أحدهم عن المعتزلة، وأنهم يقولون بالتعديل والتجويز (بالزاي المعجمة) .
4- ألاّ يعتمد على إِلفْه ومعتاده من أساليب اللغة ومفرداتها، فيخطِّىء ما عداها، فكم من صواب أصيل غير معروف ولا مألوف لنا، والأمثلة على ذلك كثيرة منها: ما كان معنا في (نهاية المطلب) ، فقد جاء في باب مسح الخف قوله: " فلو كان شيء من محل الفرض بادياً، فلا يجوز المسح أصلاً. ولا يضر بَدْوُ القدم من أعلى الخف، بسبب اتساع الخف، فالستر المرعي فيه هو الستر من أسفل الخف والجوانب ".
فلفظ (بَدْو) جاء بهذا الضبط في نسخة الأصل، وهو بمعنى الظهور، مصدر بدا
__________
(1) طبقات الإسنوي: 2/377.(المقدمة/357)
أي ظهر. ولكن المسموع المشهور في مصدر بدا بمعنى ظهر (بُدُوّاً) و (بداءً) .
ورعاية للتثبت والتوقف راجعت المعجم الوسيط، والمصباح المنير، ومختار الصحاح، فوجدت أن تقديري صواب، وأن هذا الضبط في المخطوط خطأٌ من الناسخ، فالفعل مصدره المنصوص في المعاجم الثلاثة بُدُوّاً وبداءة، فقمت بتصويب النص، وغيرته إلى (بُدُوّاً) ، وحرصاً على حرمة النص، واحتراماً للضبط الموجود في المخطوطة، قمت بالتعليق في الهامش، وتسجيل هذا التغيير، وسببه، والمعاجم التي استندتُ إليها. وانتهى الأمر.
ولكن في مراجعة ثانية -وما أكثر المراجعات- حاك في الصدر شيء، فراجعت القاموس المحيط، فكانت المفاجأة الكبرى، إذ وجدت الأصل صحيحاً، والتغيير الذي قمتُ به عدوان على النص، حملني عليه قصور المعاجم الثلاثة التي راجعتها، حيث اكتفت بذكر بعض مصادر الفعل (بدا) دون بعضها. أما الفيروزآبادي، فقد قال في القاموس: " بدا بَدْواً، وبُدُوّاً، وبداءة: ظهر " فأورد الوزن الذي ظننته خطأ أوّل أوزان المصدر، وردني عن التغيير الذي قمت به، مخطِّئاً ما كان صواباً.
مثال ثان: وردت هذه اللفظة عند إمام الحرمين في النهاية أيضاً: " وفي بيع بزره خلاف " وردت لفظة (بزر) بالزاي، والمشهور المتداول (البذر) بالذال.
فهنا يسرع المحقق إلى تغييرها، وكتابتها (بالذال) عملاً بالمنهج المعروف.
وأعني به: " الكتابة على القواعد الإملائية المعهودة، بدون التنبيه إلى ذلك في الهامش ". ولكني توقفت وتريثت، وساءلت المعاجم، فإذا بالفرق واضح لائح، فالبذر بالذال في الحبوب كالحنطة والشعير ونحوها.
والبزر بالزاي في الرياحين والبقول. وأما الضبط، فالباء مع الذال مفتوحة لا غير، ومع الزاي، بالفتح والكسر.
وهنا أفاد التريث، والتوقف، فرأيت أن ما في المخطوط صواب، وكادت الواقعة تقع بتخطئته.
وعندي من هذا الباب عشرات الأمثلة.(المقدمة/358)
5- كذلك على المحقق ألا يعتمد على مألوفه من قواعد اللغة: نحوها وصرفها، فيسارع بتغيير ما يراه مخالفاً لما علِمه أو تعلّمه، بل عليه أن يتأنى، ويتوقف ويراجع كتب اللغة، فإن لم يجد عندها الجواب، فعليه أن يسأل علماء اللغة وأساطينها. وفي كل الحالات إذا لم يجد وجهاً لما في المخطوط، وانتهى الأمر بعد المراجعة والمباحثة إلى تغييره، فيجب أن يثبت ذلك في الهامش بوضوح، ذاكراً المراجع والمحاولات التي قام بها. فقد يصل باحث آخر فيما بعد إلى وجه من الصواب لهذا الذي غيره.
وأمثلة ذلك كثيرة منها:
قال صاحب المخطوط: وهو يتحدث عن فرائض الوضوء: " أما الفرائض، فست " فجاء المحقق، فغيرها إلى " فستة " وعلق في الهامش قائلاً " لا يصلح ست من حيث اللغة ". نظر في ذلك إلى أن المعدود مذكر (فرض) ، ولذا يجب تأنيث العدد معه. وهذه قاعدة مشهورة. ولكنه لو توقف قليلاً وراجع كتب اللغة القريبة، لوجد أن المعدود إذا تقدم، تجوز الموافقة في التذكير والتأنيث، وعليه فإن المخطوط كان صحيحاً. والذي خطَّأ الصواب هو المحقق.
مثال ثان: وهو مما عانيته في (نهاية المطلب) قال إمام الحرمين: " أما من حكم بالانتقاض مطلقاً، لم يجعل للشرط موقعاً ".
فها أنت تراه أسقط الفاء في جواب " أما " وهنا توقفت، وتأنَّيتُ، وتلفت أبحث عن المراجع النحوية، فأسعفتني الذاكرة بما كنت قد قرأته قريباً عن الشيخ محمد بخيت بن حسن المطيعي، أحد شيوخ الأزهر وأعلامه ومفتي الديار المصرية في زمانه، وقد كان في مناظرة يتدفق بالدفاع عن رأيه، فقاطعه أحد شهود المناظرة من معارضي رأيه، قائلاً: أسقطت الفاء في جواب " أما " فأجابه الشيخ على البديهة.
" الاستغناء عن الفاء في جواب " أما " لغة الكوفيين، فافهم يا بصري ".
وهنا طبعاً عرفت صواب ما لم يكن مألوفاً لي صوابه، ووجدت هذه إحدى خصائص لغة إمام الحرمين، فقلما يأتي بالفاء في جواب " أما ".
ومثال ثالث: من (نهاية المطلب أيضاً) : كثر في عبارة الإمام تكرار (بين) مع الاسم الظاهر، من مثل قوله: " والفرق بين البيع وبين الهبة " والمعروف المشهور أن(المقدمة/359)
هذا لا يجوز إلا مع الضمير، حينما تتحدث عن علي وإبراهيم مثلاً، ثم تقول: " والفرق بين علي وبينه " فحينئذ فقط يجوز تكرار لفظ (بين) . هذا هو المشهور الذي نعرفه، وعليه شواهد من الشعر والنثر، لا نطيل بإيرادها.
ولكني توقفت أيضاً، وبحثت حتى أعياني البحث، وأنا موقن أن للأمر -لا شك- وجهاً في اللغة، فمحال أن تجتمع عدة نسخ في عدة مواضع على هذا التعبير، ويكون خطاً، وظللت أسائل من أتوقع عنده العلم من أهل اللغة، حتى أفادني بعضهم ممن له إلف بالأساليب القديمة بأن ذلك وارد في كثير من النصوص، وجائز، ثم دلني على موضعه من كتب اللغة، فنبهتُ في الهامش على صواب عبارة المخطوط، حتى لا ينسبنا أحد، إلى الذهول عن هذا الخطأ، وحتى أفيد من يطلع على المخطوط بعد ذلك، علماً جديداً بصحة هذا التعبير، وبالطبع أسندت ذلك إلى المرجع. أما أخونا عالم اللغة الذي ساعدنا، فسيكون ذكره في مقدمة الكتاب مع قائمة العلماء والخبراء والباحثين الذين أفادونا بعلمهم، وساعدونا بجهودهم.
ولإمام الحرمين عدة خصائص أسلوبية أضنانا بالبحث عن تخريجها، والتأكد من صوابها، سيكون بيانها في الجزء الخاص بالفهارس -إن شاء الله تعالى- فنكتفي منه بهذين المثالين.
- قارن هذا العناء بمثال آخر: قال صاحب المخطوط: " ... فإن (قَدِموا) على هذا الفعل، وجب عليهم كذا ... الخ ".
فغيرها المحقق، فصارت فإن أقدموا.. ثم في الهامش علق قائلاً:، " الأصل: قدموا، والصواب أقدموا كما هو معروف " اهـ بنصه.
فهنا استسلم المحقق لمألوفه ومحصوله اللغوي، وخطَّأ المخطوط، وغير لغة مؤلفه، وتحكم فيها بلغته هو، وقصَره وحصره على ما يعرفه هو من اللغة.
والواقع أن قَدِم بمعنى أقبل، منصوصة في أقرب المعاجم إليه لو أراد التثبت والتحقق، جاء في المعجم الوسيط: قدِم على الأمر يقدَم قدوما: أقبل عليه، ولكنها العجلة، التي ستجعلنا نتكلم لغة جديدة، وننطق أئمتنا بلغة غير التي كانوا يتكلمون بها.(المقدمة/360)
- ومثال آخر أعجب من هذا، جاء في أحد كتب السيرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام الحديثُ المعروف المتفق عليه: " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا (يكسِفان) لموت أحد، ولا لحياته ". فإذا بالمحقق يغيرها إلى (ينكسفان) قائلاً: في الأصل (يكسفان) .
واعجب معي لماذا غيرها؟ لم يقل لنا!! واللفظ وارد في حديث شريف، لماذا لم يرجع به إلى مصدره في الصحيحين أو أحدهما إذا لم يعجبه لفظ (يكسفان) ؟.
وبعمله هذا أوهمنا أن (يكسفان) من الأخطاء اللغوية التي يصار إلى تصحيحها من غير بيان السبب أو المصدر. مع أنها واردة في نص الحديث.
ولكن أتاه كل هذا الخلل من صفتين: الجرأة، والاعتماد على محصوله ومعلومه من اللغة.
وهذا المحقق نفسه، وفي الموضع نفسه، من الكتاب نفسه، يقول الكتاب: " كَسَفت الشمس يوم وفاة إبراهيم بن المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيضبطها (كُسِفت) ، بضم الكاف وكسر السين، مجانباً الصواب المحفوظ في القرآن الكريم: " فإذا برق البص وخَسَف القمر " ولكنها الجرأة والعجلة.
أكتفي بهذه الأمثلة في هذا الباب وعندي منه -على جذاذات- ما يملأ مجلداً كاملاً، تجمَّع لدي من طول معاناتي، ومطالعاتي، فأخذت أدون وأسجل. وفي النية -إذا نسأ الله في الأجل- أن نخرجه، مدققاً موثقاً، مبيناً أسماء الكتب التي وقع فيها هذه الأوهام، ليكون استدراكاً وتصحيحاً، وإنصافاً لأئمتنا، أصحاب هذه الكتب، وتدريباً وتنبيهاً لأبنائنا الشُّداة المبتدئين، عسى أن يكون في ذلك فائدة لهم.
6- الحذر من التصحيف والتحريف:
وهذا في الحقيقة أُسُّ العمل وصلبه، ودواعيه كثيرة، وأبوابه متعددة، ولا منجى منه إلا بتوفيق الله سبحانه وإلهامه الذي يهبه لمن يشاء، كفاء إخلاصهم، وصبرهم ومصابرتهم، ومثابرتهم. فكم من كلمات تهجم العين عليها، فتقرؤها قراءة خاطئة، وكم من كلمات يصحفها الناسخون.(المقدمة/361)
وأحياناً تكون الكلمة مع تصحيفها وتحريفها تتوافق مع السياق والسباق على نحوٍ ما، ولكن المحقق المتأني المتريث، مع دُربته وتذوقه يدرك أن فيها نوعاً من القلق.
فيظل يدير العبارة على أنحاء من القراءة، ويدير الكلمة على أنحاء من الصور، متأملاً، متأنياً بلا ملل، مستبصراً مستلهماً إلى أن يصيح: وجدتها. ودائماً سبحانه وتعالى لا يضيع أجر من أحسن عملا. وعندي من الأمثلة التي عانيتها مع شيخي إمام الحرمين (في نهاية المطلب) المئات من الأمثلة النادرة العجيبة، وقلما يمر يوم من غير أن يحدث شيء من هذا، ولكن عن الغرائب والنوادر نتكلم.
فمن ذلك: جاء في النهاية تعليقاً على الاستدلال لبعض القضايا، قوله: " وهذه الأدلة تتعلق ببحورٍ لا (تنكر) من قضايا أصول الفقه " هكذا في نسخة الأصل، تنكر وفي النسختين المساعدتين متسع بعد الكاف يجعلها قابلة لأن تقرأ: لا (تكسر) من الكسر (مع ملاحظة أن المخطوطات لا تنقط إلا بعض الحروف، بل أحياناً لا تنقط أصلاً) .
وقفت أمام العبارة، والمعنى على الجملة مفهوم، والسياق مستقيم، ولكن ما هكذا يكتب الأئمة الأقدمون، فعبارتهم مشرقة، وأسلوبهم مضيء، والكلمة (تنكر) هنا قلقة غير مستقرة، وكأنها رقعة من نسيج سخيف في ثوب محكم النسج، فما قيمة وصف البحور بأنها لا تنكر أو لا تكسر؟. ولكن ما الحيلة؟ انتهى الأمر.
ولكن ظللت قلقاً مع قلق اللفظة (تنكر) ، وصرت أعود إلى الموضع مرة بعد مرة؛ أحاول أن أدرك موضع الخلل، وذات مرة من هذه المراجعات، أخذت أتصور حروف الكلمة بكل ضبط، وبكل نقط، وأحاول أن أقرأ، وأستعين بالمعجم، فقلت من باب إبراء الذمة أجرب مادة: ن. ك. ز (نكز) ، بالزاي، وأخذت أقرأ: وكان العجب: نَكِزت البئرُ: قلّ ماؤها، وأنكز البئرَ: أنفد ماءها. فترجح عندي أن الكلمة هي (تنكز) ، وبحور لا تنكز: أي لا تنفد، وهذا هو المناسب، فالبحور توصف بأنها نفدت أو أنفدت. وعندي من هذا أمثلة كثيرة اكتفي بالإشارة السريعة إلى آحاد منها. مثل:
قال الإمام: " ... فلا يضر تعرض البيع للنوى" هكذا وقد يمر عليها المحقق مر(المقدمة/362)
الكرام، فالسياق على نحوٍ ما مستقيم، والكلام في البيع. و (النوى) مما يشتمل عليه المبيع، ويباع تبعاً من غير تعرّضٍ له، وانتهى الأمر.
ولكن معايشة النص، والوعي الكامل بالسياق، والموضع الذي فيه الكلام، يشعر بأن هنا فجوة، ومع التأني والتلبث والتريث، وسؤال الله من فضله، وَمَضَ النصُّ وَمْضةً كشفت عن الصواب، فإذا هو: " فلا يضر تعرض المبيع للتوى " فتصحفت كلمة المبيع إلى البيع، وكلمة (التوى) بمعنى الهلاك، إلى النوى.
ومثال من التصحيفات التي رأيتها في كتاب الاستيعاب لابن عبد البر، قوله، وهو يترجم لعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق: " ويقال: إنه لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم أربعة ولا أب وبنوه، إلا أبو قحافة، وابنه أبو بكر، وابنه عبد الرحمن بن أبي بكر، وابنه أبو عتيق محمد بن عبد الرحمن ". اهـ
فقوله: " لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم أربعة ولا أب وبنوه " كلام غير مستقيم، ولا مدلول له، والسبب في ذلك تصحيف ظريف خفيف عند قراءة النص المخطوط. وذلك أن كلمة: " ولا أب وبنوه " صوابها: وِلاءً: أبٌ وبنوه. ولكن لما كانت المخطوطات القديمة لا تهمز الممدود، بل ولا غير الممدود، فصارت كلمة: (وِلاءً) (لا) النافية وقبلها (و) ، وبهذا التصحيف استغلق الكلام.
فالمعنى: لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم أربعةُ أجيال متوالية من أب وأبنائه إلا أبو قحافة وأبو بكر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، ومحمد بن عبد الرحمن.
رضي الله عنهم أجمعين. وهكذا ضاعت الهمزة، فجعلت اللفظة لفظتين، واضطرب السياق.
7- ضبط الغريب والمشكل، وتفسيره:
وهذا أيضاً مثل كل عمل المحقق يحتاج إلى اليقظة، والدقة، وعدم الاعتماد على المعروف لديه، المعلوم عنده. وليس المطلوب ضبط الغريب الذي يحتاج إلى تفسير فقط، ولا المشكل الذي يُشكل إعرابُه فقط، بل المراد إضاءة النص، بضبط اللفظ الذي يساعد على فهم المراد، وإقامته بضبط بنية الكلمة التي قد تنطق خطاً، مثل بعض(المقدمة/363)
الأسماء، والأفعال غير المألوفة، والمشتقات التي كثر فيها الخطأ (أسماء الفاعل، والمفعول، والآلة ... ) وكذا عين المضارع الثلاثي، فقد يبدو أن ذلك سهل ميسور. {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15] .
وأقرب مثال لذلك كلمة (وِلاء) بمعنى الموالاة والتتابع التي وردت في المثال السابق، يتبادر إلى الذهن ضبط أولها (الواو) بالفتح والصواب بالكسر: وِلاء: أما بالفتح، فهي بمعنى: النصرة والموالاة.
مثال ثان:
جاء في (نهاية المطلب) قولُ الإمام في سبب المنع من السَّلَم في النَبْل: " إنه التركُّب من أركانٍ: الخشب، والعقب، والريش، والنصل في مكان الرعظ " فكيف نضبط هذه الكلمات، مع ملاحظة عدم الوفاء بالنقط؟ كيف نضبط لفظة (الرعظ) بل كيف نرسمها؟ (هل هي بالراء أم بالزاي، بالعين أم بالغين، بالطاء أم بالظاء) .
من هنا كان لا بد من البحث في المعاجم عن كل صور الكلمة: ر. ع. ط، ز. ع. ط، ر. غ. ط، ز. غ. ط، ر. ع. ظ ... الخ كل الصور.
وأخيراً وجدناها في مادة: ر ع ظ، فهي من الفعل رعظ يرعظ (باب فتح) : رعظ السهم إذا جعل له رُعظاً. والرُّعْظ مدخل أصل النصل، أو الثقب الذي يدخل فيه أصل النصل.
وفي العبارة السابقة أيضاً نجد كلمة (العقب) : يتبادر إلى الذهن أنها العقب بفتح وكسر. ولكن عند البحث في مادة الكلمة نجد هذا غير مراد، والكلمة بهذا تكون خطأ ضبطاً ومعنىً. وإنما المقصود هنا: العَقَب بفتحتين. وهو العصب تصنع منه الأوتار.
وكم عنَّاني شيخي إمام الحرمين مذ عرفته، بمثل هذه الألفاظ والكلمات.
رضي الله عنه، ونفعنا بعلمه، وأعاننا على أداء واجبنا نحوه.
• وبعد الضبط يأتي تفسير الغريب، وهنا ذكاء المحقق وفطنته، فلا يجوز أن يسرف في تفسير وشرح ألفاظ، إذا غمضت على العامة، فهي ليست بغامضة على من(المقدمة/364)
يتعاطَوْن الفن الذي فيه الكتاب المحقَّق، فعليه أن يكون قادراً على تمييز واختيار ما يفسِّر، وما يترك لفطنة القارىء ومعرفته.
ويسرف أحياناً بعض المحققين في هذا الباب حتى يصل الأمر إلى ما يشبه العبث، فحينما يحقق أحدهم كتاباً من عيون التراث، فيفسر كلمة (حضانة) ، ويسمح لقلمه أن يسجل في الهامش: حضن الطائر بيضه حضانة: أي رقد عليه حتى يفرخ!! ألا يستحق التعزير على ذلك؟
والأدهى من ذلك أن أحدهم يتصدى لتفسير ألفاظ، قد لا يكون فيها نوع غموض، ويترك ألفاظاً غير مأنوسة ألبتة.
8- علامات الترقيم:
وهذا في الواقع روح العمل، وقوامه، فوضع هذه العلامات -لا شك- فرع فَهْم المحقق للنص، وآيةُ حسن قراءته، وتمام إقامته، وهي بعد ذلك مُعينة وهادية للباحثين، والدارسين، والعلماء الذين سيطالعون النص من بعدُ.
فعلى المحقق أن يتعهد مقاطع الكلام، ويميز بينها، بواسطة هذه العلامات: الفصلة، والنقطة، والشرطة ... ونحوها. ويضع كلاًّ منها في موضعه المناسب، ويرتبط هذا على نحوٍ ما بالضبط، فعندما يميز المحقق بين الواو العاطفة، والواو المستأنفة، فعليه أن يضبط ما بعد الواو المستأنفة، إضاءة للنص، وقطعاً لوهم من يتوهم العطف، فيضرب في بيداء التيه، ويقع بعيداً عن مراد المؤلف ومرمى كلامه.
وكذلك رعاية المسائل، وتمييزها بعضها عن بعض، ثم فروع كل مسألة في داخلها، وتقسيمها إلى فقرات، ووسيلة المحقق إلى ذلك: النقطة علامة تمام الكلام، والبدء من أول السطر، ثم البدء من أول السطر مع ترك مسافة، أو مسافتين، أو وضع علامة الانتقال إلى موضوع جديد.
كل ذلك (التنسيق) مسؤولية المحقق، وآية قدرته على أداء أمانة التحقيق التي قلنا: " إنها إقامة وإضاءة ".
وكم من عبارة انقلب معناها إلى معنىً مغايرٍ تماماً، بسبب هذا الخلل في وضع(المقدمة/365)
نقطة أو فصلة. والأمثلة على ذلك كثيرة، وفيها من العجائب والغرائب ما لا يخطر على بال.
وسأكتفي بمثال واحد مما عانيناه في (نهاية المطلب) . جاء في قوله عن موجب القتل العمد، وهل هو القود؟ أم الدية، أم الواجب أحدهما على البدل. قال:
" وشبب بعض أصحابنا بتخريج القولين على قولنا موجب العمد القود فإن المالية ثابتة ضمناً ولهذا قلنا مستحق القصاص ـ رحع إلى المال دون رصا من عل ـ هـ القصاص وـ س ـ ـ المال ـ فوا ـ محل ال ـ صاص وـ عد ال ـ ر ـ ـ ـ الحامع للطر ـ |ن ـ ـ ال فى الحا ـ ى حطا قولان وفى الحا ـ ى عمدا على قولنا الموح ـ احدهما لا ـ ع ـ ـ هـ قولان مر ـ ـ ان فالاولى الحوار لان المال عـ ـر مـ ـحرد ولا مـ عس "
(لاحظ أننا كتبنا العبارة وخاصة السطرين الأخيرين بدون فواصل، ولا نقط تقريباً شبه كتابة المخطوطات) .
وهنا أخدنا نحاول إقامة السطرين الأخيرين، وقلبنا الأمر على كل وجه، فلم نستطع أن نصل إلى قراءة نطمئن إليها، فأخذنا نرجح أن في الكلام سقطاً، وبدأنا (نجرب) زيادة كلمة هنا أو هناك، حتى كدنا نستقر على هذه القراءة: " ... ويثبت المال بفوات محل القصاص، وبعد الترتيب الجامع للطرق، (يمكن) أن يقال: في الجاني خطأً قولان، وفي الجاني عمداً على قولنا: الموجب أحدهما ... إلخ.
وكدنا أن نطمئن إلى ذلك وحُلَّت المشكلة بزيادة لفظة (يمكن) ، وانصرفنا عن المسألة، ولكن حائكاً ظل يحوك في الصدر، كيف تتفق النسخ الثلاث على هذا السقط؟ ولكن ما الحل؟ وظللت أعود للمسألة مرة بعد مرة، وتركت المكتوب المحقق، وأتأمل في المخطوطات ذاتها، وفجأة سطعت الفكرة، تجلياً من الله على عباده، فصحت الله أكبر. وصار النص واضحاً صريحاً صحيحاً، لا سقط، ولا خرم، وإنما هو الوقف والابتداء. وهذه هي القراءة الصحيحة: " ... ولهذا قلنا: مستحق القصاص يرجع إلى المال دون رضا من عليه القصاص، ويثبت المال بفوات محل القصاص.
وبعدُ. الترتيب الجامع للطرق أن يقال: في الجاني خطأً قولان، وفي الجاني عمداً على قولنا: الموجب أحدهما لا بعينه قولان مرتبان، والأولى الجواز، لأن المال غير متجرد ولا متعين ... ".(المقدمة/366)
فها أنت ترى أن حل هذه المشكلة المستعصية كان في إدراك مقطع الكلام، ومعرفة (الواو) وبعد. فهذا الاستئناف، والانقطاع والإضراب عما قبله، جعلنا نقرأ الكلام مستقيماً، لا حاجة فيه إلى تقدير سقط أو خلل.
9- الترجمة للأعلام:
وهذا أيضاً مجال يعتمد على ذكاء المحقق وألمعيته، فليس كل ما يقرؤه المحقق عن العلم المترجم له يكتبه، فما أيسر هذا، وأقربه، ولكن على المحقق أن ينظر أولاً إلى الجانب الذي يتعلق بالفن الذي يحقق فيه، فإذا كان النص المحقق في الفقه مثلا -والعَلَم في كثير من الأحيان له عدة جوانب عرف بها- فعلى المحقق أن يعنى بتعريفه من الجانب الفقهي، شيوخاً، وتلاميذَ، وكتباً، وتأثراً وتأثيراً، وذلك في إيجاز شديد.
وهذا الإيجاز هو العمل الصعب حقاً، وهو الذي يدل على قدرة المحقق، وفنه.
كما يجب على المحقق أن يفرق بين الأعلام الذائعة المشهورة، والأعلام غير المعروفة، فيوجز في ترجمة الأولى أكثر من إيجازه في ترجمة الأعلام غير المعروفة.
وعليه أن يسأل نفسه: ماذا يريد قارىء هذا النص من هذا العلم، فأحياناً لا يحتاج القارىء لمثل هذا الكتاب إلى غير معرفة تاريخ وفاة العلم.
كما عليه أن يميز الأعلام بعضهم عن بعض، حينما يذكرهم المؤلف باللقب، أو الكنية، أو النسب، وهنا مجال العمل، وبذل الجهد، فهذا يدخل في باب حل مشكلات النص وإضاءته.
مثال ذلك ما عانيته في الأجزاء الأولى من (نهاية المطلب) حين كان الإمام يذكر الأعلام بهذه الطريقة: وحكى الشيخ، وحكى شيخنا، وحكى الشيخ أبو علي، وحكى الشيخ أبو بكر، وحكى القاضي، وحكى أبو بكر الفارسي، وقال أبو زيد، وعن الإمام، ... ونحو ذلك.
فهنا كان علينا أن نتوقف حتى نقطع شوطاً في الكتاب، ونحن نسجل هذه الأعلام، ومواضعها، فقد يُبهم في مكان، ويوضح في آخر، وبهذه الطريقة استطعنا أن نميز المقصود ببعض هذه الألقاب وهذه الكنى. ولكن العدد الأكبر منها لم يتضح لنا، فكان(المقدمة/367)
علينا أن نرجع إلى المصادر التي تحكي أقوال أئمة المذهب، وتنسبها إلى قائليها، لنرى هل صرحت باسم صاحب هذا القول الذي ذكره الإمام على الإبهام، بكنيته أو لقبه، فكنا نرجع إلى (المجموع) و (الروضة) للنووي، و (الوسيط) و (الوجيز) للغزالي وشرح الوجيز (فتح العزيز) للرافعي. وقد أفادنا ذلك أحياناً كثيرة.
لكن كل ذلك لم يبلغ مبلغ القطع إلا بعد أن انتهينا من ربع العبادات تقريباً، وأحصينا الأعلام، ومواضع ورودها، حتى استطعنا أن نعرف مصطلح الإمام، عندما يقول: أبو بكر، هل هو الصيدلاني أم الفارسي، وحينما يقول: أبو علي، هل هو أبو علي بن أبي هريرة، أم أبو علي السِّنجي أم أبو علي الطبري، أم أبو علي. بن خَيْران ... إلخ
ومن هذا الباب أنه يذكر أحياناً بعض الأئمة بقوله: " بعض المصنفين " مجهِّلاً اسمه، ودائماً يذكره في مجال التخطئة والإزراء عليه وعيبه، وحاولت أن أصل إلى من يعنيه بهذا فلم أظفر بقاطع، فخمَّنتُ أنه يعني به الماوردي، وذلك لما رأيته من شدته عليه في كتابه (الغياثي) ، فقد ذكره ثلاث مرات عائباً له، وفي إحدى هذه المرات قال: " بعض المتلقين بالتصنيف " فقلت في نفسي: ها هي العبارة نفسها، فالاحتمال أن يكون المعنيُّ بها الماوردي احتمال قريب، ومن هنا راجعت كل المسائل التي قال فيها: " بعض المصنفين " على كتاب الحاوي للماوردي، لأرى هل الماوردي يقول بهذا القول المذكور، في هذا الموضع من كتابه، فلم أجد ذلك، ولا في مسألة واحدة، فقطعت بأنه لا يريد بهذا اللفظ الماوردي. وبقي السؤال من هو؟ إلى أن وصلت إليه بطول تقليبي لطبقات السبكي، فقد رأيته يقول: " وإمام الحرمين كثير الحطّ على الفوراني " ثم رأيته قال: " وحيثما قال في النهاية: بعض المصنفين، فهو يقصد أبا القاسم الفوراني "، فقطعت جهيزةُ قول كل خطيب، كما وجدت هذا أيضاً عند ابن كثير في البداية والنهاية (1) ، وهو عن ابن خلكان (2) ، وعدت إلى ما كنت كتبته تخميناً، فمحوته، وكتبته تحقيقاً.
فهذا هو العمل في ترجمة الأعلام، وليس المطلوب تفريغ كتب التراجم والطبقات على هوامش الكتاب.
__________
(1) البداية والنهاية 12/98.
(2) وفيات الأعيان: 3/132.(المقدمة/368)
وقد أخذنا أنفسنا بهذا المنهج: تمييز الأعلام وضبطها، مع الإيجاز في الترجمة، ولم نخرج على ذلك إلا اضطراراً، من أجل إزالة شبهة أو حل إشكال، مثلما حدث في ترجمة (الخِضري) محمد بن أحمد المروزي، حيث قالت بعض المصادر: إنه تتلمذ على القفال، وقالت أخرى: إن القفال تتلمذ عليه، فكان لا بد من الإطالة ببيان القفالِين، وأن القفال الأستاذ، غير القفال التلميذ. وعلى ذلك، فلا خروج على المنهج ولا تناقض.
10- تخريج النصوص:
هذا أيضاً أحد فنون العمل في التحقيق، الذي يحتاج إلى بسط وبيان بحسب طبيعة الكتاب المحقق، ولسنا لذلك الآن. وسنكتفي بالإشارة إلى عملنا في نهاية المطلب:
• اقتصرنا على النصوص القرآنية، والحديث، والشعر والحِكم إن وجد، أما نصوص الأئمة، فلم نخرج منها إلا نصوص الإمام الشافعي، وليست كلها، بل النصوص التي ترد في رأس الفصل، ويجعلها الإمام مدار الفصل، أما النصوص الأخرى، فهي إما مفقودة أو مخطوطة، فيما عدا (التلخيص) لابن القاص.
* بالنسبة للأحاديث الشريفة التزمنا الإيجاز الشديد في عزوها، على المنهج الآتي:
- إذا كان الحديث متفقاً عليه، اكتفيت بعزوه إلى الصحيحين، وغالباً إلى (اللؤلؤ والمرجان) .
- إذا كان في أحد الصحيحين عزوته إليه، وإلى ما يتيسر من دواوين السنة.
- إذا كان في غير الصحيحين، ووصلت إلى درجته، قلت صحيح، وأتبعت ذلك بذكر من خرّجه.
- وإذا لم أصل إلى الحكم على الحديث، عزوته إلى من خرّجه، وذكرت ما قيل فيه بإيجازٍ.
- عُنيت عناية خاصة بالأحاديث التي انتقدت على إمام الحرمين.
وفي جميع الحالات التزمنا أسلوب العزو بالكتاب والباب، ثم برقم الحديث في الكتب التي يتاح فيها ذلك، مع محاولة اختصار اسم الكتاب واسم الباب، فأحياناً كثيرة يعزى الحديث إلى سبعة كتب، فلو لم نلجأ إلى الاختصار، لطال بنا الكلام.(المقدمة/369)
وأما الكتب التي ليس فيها أرقام، ولا أبواب مثل مسند أحمد، فنعزو إليها بالجزء والصفحة.
(إمام الحرمين والحديث) (1)
لكن الأهم من ذلك في مجال الحديث، هو القيام بدراسة حول الأحاديث التي استدل بها إمام الحرمين في النهاية، وتقوم هذه الدراسة على الأسس الآتية:
أ- توزيع هذه الأحاديث على دواوين السنة: كم منها في كل كتاب من هذه الدواوين، وهل الأمر كما قيل: إن إمام الحرمين ليس عنده إلا حديث واحد منسوب للبخاري. (وبالتالي بيان النسبة العددية لكل كتاب من دواوين السنة)
ب- الأحاديث التي عزاها الإمام إلى مصادرها، ومدى صحة هذا العزو، والأحاديث التي لم يعزها ومصادرها.
ج- تقسيم الأحاديث بحسب درجتها الصحيح -الحسن- الضعيف. [وبيان النسبة العددية في كل درجة] .
د- الأحاديث التي حكم عليها بالصحة والضعف، ومدى صواب هذا الحكم.
هـ- المسائل التي استدل عليها بالحديث الضعيف، وهل كان اعتماده على الضعيف فقط، أم أن الدليل أصلاً يقوم على القياس مثلاً، وذكر الحديث للاستئناس؟
و الأحاديث التي أخذها عليه وعلى الغزالي ابنُ الصلاح، كم عددها؟.
ز- الأحاديث التي انتصر له فيها النووي وابنُ حجر، وبينا خطأ ابن الصلاح، وصوابَ إمام الحرمين.
ح- هل استدل غيره من الأئمة بنفس الأحاديث الضعيفة، أم انفرد وحده بها.
ط- هل انفرد وحده بالوقوع في الأوهام الحديثية؟ أم أن ذلك قصور لازم لطبع البشر، لم يسلم منه أحد.
__________
(1) أفردنا الفصل السادس من هذه المقدمات لهذا الموضوع.(المقدمة/370)
11- فن التعليق على المخطوطات:
تعلق المحقق على المخطوطات فن قائم بذاته من فنون الكتابة، فقد تنوعت فنون النثر إلى القصة، والأقصوصة، والرواية، والمقال، والرسالة، والخطبة، والبحث، والتوقيعات، وغيرها، وقد وضع علماء النقد والبلاغة لكل فن من هذه الفنون ضوابط وقواعد، صارت قوانين ملتزمة، يقبل ويرد العمل بحسب هذه القوانين.
وآن لنا نحن المشتغلين بالتحقيق أن نضع الضوابط والقواعد لهذا الفن، فن التعليق على المخطوطات، وحبذا لو عقدت ندوة لأهل هذا الفن، وأخرجت لنا -بعد المناقشة والمخاوضة- خصائص وقواعد لهذا الفن، وأبدأ فأتقدم بما أراه من هذه الخصائص والضوابط، آملا أن تكون نواةً وأساساً يكمل وينضج بإضافات ومناقشات أساطين العاملين في مجال التراث.
فمن هذه الخصائص:
1- الإيجاز والبعد عن الحشو والتطويل، وأداء المعنى المطلوب بأقل لفظ، وأخصر عبارة.
2- أن يضع المحقق نصب عينيه قيمة الكتاب الذي يحققه، ليعرف أيَّ نوعٍ أو أيَّ مستوى من القراء والباحثين سيتناول هذا الكتاب ويتعامل معه، ومن هنا يعرف ماذا يفسر وماذا يدع، وكيف يفسر، وبأي أسلوب.
3- أن يسأل نفسه دائماً، ماذا يبغي من هذا التعليق، وما فائدته؟
وعلى سبيل المثال والتطبيق لهذا القانون، عند إشارة الإمام في هذا الكتاب إلى المذاهب المخالفة كنت لا أزيد على أن أعزو المسألة إلى موضعها في مصادر المذهب المخالف، مكتفيا بالإحالة على اسم الكتاب والجزء والصفحة ملتزماً " أدب التحقيق " على حد تعبير أستاذنا العلامة عبد السلام هارون رحمه الله، فلن تجد في هذه الإحالات ذكراً للمسائل المحال عليها، لا شرحاً، ولا تلخيصا، ولا مجرد إشارة إليها.
ذلك أنني تساءلت ماذا نتغيا من تلخيص مسائل من كتب الأحناف أو المالكية، وإثقال الكتاب بها؟ ما الذي يستفيده قارىء الكتاب من ذلك؟(المقدمة/371)
إن كان باحثا يبغي الإحاطة بمذهب الشافعية، فها هو متن الكتاب بين يديه، ولن تفيده هذه النتف بهامش الكتاب شيئاًً.
وإن أراد بحثا مقارنا، فالمنهج يقتضيه أن يأخذ مسائل الأحناف -مثلا- من مصادرهم، ولن يغني عنه شيئاًً تلخيص المحقق لهذا المسائل في هوامش الكتاب، بل لا بدّ أن يأخذ هذه النصوص من مصادرها، وينظر فيها بنفسه.
ويكفي المحقق أن مهد له السبيل، حيث دلّه على المصادر بالجزء والصفحة، ولم يكن هذا عملا هينا، بل استغرق أوقاتا ثمينة، وجهداً جهيداً.
ثم إن هذه المسائل الخلافية بلغت -مع الأحناف وحدهم- أكثر من ثمانمائة مسألة، فلو عرض المحقق كل مسألة في نحو نصف في المتوسط، لتضخم الكتاب، وزادت مجلداته نحو مجلدين أو أكثر، وفي ذلك ما فيه من غير طائل.
12- فروق النسخ:
لقد بقَيت هذا الأمرَ إلى الآخر قصداً، مع أن مكانه في أوائل عمل المحقق -لأدل بذلك على مكانته، لا على مكانه، فهذا أهون أعمال المحقق، وأقلها شأنا. ولكنه يحتاج مع ذلك إلى تأكيد وتنبيه، فقد فشت فاشية بين محققي العصر، تُفرغ في هذا الموضوع جهدَها، وتشغل به هامش الكتاب، بصورة قد تصل إلى نصف الصفحات أحياناً. وهذا عمل غير مقبول، ولا سائغ. وقد نبه إلى هذا شيوخ الفن ورواده، لكن لا أحد يسمع، لقد قال عن هذا العمل شيخنا أبو فهر: " إنه فِعْل أغتام الأعاجم " ذلك أن المستشرق لجهله باللغة لا يعرف ما هو الفرق بين الخلل الناشىء عن جهل الناسخ أو تصحيفه، أو رجع البصر، أو سقطٍ أو نحوه، فتجد المستشرق يثبت كل ذلك. وهذا لا معنى له.
وإن جاز في الرسائل الصغيرة، وفي المسائل المعقدة، والقضايا المشكلة، التي يخشى أن يكون لتغير الحرف أو اللفظ أثر في المعنى، فلا يجوز ذلك في النصوص التي تبلغ مجلداً أو عدة مجلدات، ولذلك التزمت منهج هؤلاء الأئمة من شيوخ الفن وأساتذته، فلم أثبت من فروق النسخ إلا ما فيه، أو يحتمل أن يكون فيه أثر في المعنى، مع زيادة حرصٍ في ذلك، بمعنى أنك قد تجد بعضاً مما لا فائدة في إثباته.(المقدمة/372)
أما ما كان مجرد خلل أو خطأ، أو سهو من الناسخ، فلم ألتفت إليه، وتحت يدي عشرات الأمثلة لو ذكرتها لك، لعجبت فعلاً ممن يقول بإثباتها.
إن الفروق التي تثبت، ويعتنى بها حقاً، هي ما توحي بأن بعض النسخ تختلف عن بعض في صياغة بعض الأجزاء والعبارات، وقد رأيت هذا ماثلاً تماماً في إحدى نسخ كتاب (الغياثي) الذي أكرمنا الله بتحقيقه، فكانت إحدى النسخ تختلف عن باقيها في صياغة بعض المسائل، مما يوحي بأنها إملاء آخر للكتاب من مؤلفه، أو أحد حفاظه، كما كان يحدث أحياناً، فمثل هذه الفروق يجب أن يُعنى بها، وتكون محلَّ تعليق ودراسة، أما الفروق التي تأتي نتيجة عجز أو خطأ أو سهو أو عجمة، فما معنى تسجيلها؟.
ومع ذلك لم أهمل الإشارة إلى أي تغيير في نسخة الأصل، حتى لا يظن ظان أن للمحقق أن يتصرف في النص، فيقتدي بنا، ونتحمل وزر هذه السنة.
13- الفهارس:
" الكتاب من غير فهرس كنز مغلق، فاقرأ الفهرس قبل كل شيء "
هذه عبارة شيخي الجليل أبي فهر. كتبها على ظاهر كتاب من كتبه التي حققها.
ولن أستطيع (الآن) أن أتكلم عن صناعة الفهارس، ودورها، وأثرها، والملاحظات التي نراها على كثير من الفهارس، وما فيها من خلل أو قصور، فذلك حديث يطول (1) .
فلندع فن الفهارس، وما لنا عنه من حديث، ولنذكر الآن، منهجنا في فهرس النهاية (نهاية المطلب) .
- إن شاء الله سنخصص مجلداً خاصاً للفهارس التي صنعناها لهذا الكتاب:
من الفهارس المعتادة مثل:
1- الآيات القرآنية الكريمة.
2- الأحاديث الشريفة.
__________
(1) كتبنا طرفاً من ذلك في افتتاح الجزء الأخير الخاص بالفهارس من هذا الكتاب، عسى أن يكون فيها بعض الغناء.(المقدمة/373)
3- الأعلام.
4- الكتب.
5- القوافي.
6- الحكم والأمثال.
بجوار هذه الفهارس سنصنع إن شاء الله الفهارس الآتية:
7- معجم غريب النهاية.
8- المسائل اللغوية والخصائص الأسلوبية.
9- المسائل الخلافية بين المالكية والشافعية.
15- المسائل الخلافية بين الحنفية والشافعية.
11- المسائل الخلافية بين الحنابلة والشافعية.
12- المسائل الخلافية بين الظاهرية والشافعية.
13- مسائل فقه الصحابة.
14- مسائل فقه السلف.
15- فهرس القواعد الأصولية (1) .
16- فهرس القواعد الفقهية.
17- فهرس المسائل التي ليست لها أبواب معروفة.
18- فهرس المسائل الملقبة.
19- فهرس مبتكر لم نسبق إليه، وهو فهرس الكلمات التي تعذر علينا قراءتها، فقد صورناها من المخطوط، ووضعناها في قائمة مرتبة على الصفحات في آخر المجلد، آملين أن يلهم الله أحد المطالعين قراءة صحيحة لها. وهي كلمات معدودة، وليست في كل جزء.
__________
(1) لم يسعفنا الوقت، ولا الطاقة والمُنّة بالوفاء بهذا الفهرس، ولا بفهرس القواعد الفقهية الذي بعده.(المقدمة/374)
20- كشاف برؤوس الموضوعات على حروف المعجم (1) .
وبعد كل هذا، فنحن على ثقة ويقين بأنه لا عاصم من الخلل والزلل إلا المولى سبحانه وتعالى، فهو وحده الملهم للصواب، والهادي إلى سبيل الرشاد، فإليه سبحانه أضرع، وألوذ بحوله وقوته، وأبرأ من حولي وقوتي، مبتهلاً إليه سبحانه أن يتم نعمته، ويختم بالصالحات أعمالنا، ويتقبل منا، إنه نعم المولى ونعم النصير.
***
__________
(1) لم نستطع الوفاء بهذا الكشاف أيضاً، فهو عمل تنوء به العصبة أولو القوة، ويقع في مجلد كامل، وأملنا أن يعيننا الله سبحانه وتعالى على إتمامه، فنحن جدُّ حراصٍ على ذلك، وبدون هذا الكشاف سيظل نهاية المطلب كنزا مغلقاً، لا يمكن الاستفادة منه كما يجب.(المقدمة/375)
الفصل الثامن نسخ المخطوط، تعريفٌ ووصف(المقدمة/377)
بين يدي التعريف والوصف
سيطول القول إذا وصفنا ما قمنا به من بحثٍ مستقصٍ في فهارس خزائن المخطوطات حول العالم، ورجعنا إليهم من أهل هذا في مراكز البحوث التي تملك القاعدة للبيانات والمعلومات عن المخطوطات حول العالم.
وما تهيأ لنا من زيارات لمكتبات مصر، والسعودية، واستانبول، ولندن، وباريس، والهند، وباكستان، وتونس والجزائر.
سيطول بنا القول إذا وصفنا كل ذلك، وما كلفنا من جهد ومال، وما هو أغلى من المال.
ولذا نكتفي باستعارة جملة موجزة من الدكتور قاسم السامرائي تعبر عما لقيناه، حيث يقول: " يحتاج المحقق إلى عمر النسور، وخزائن قارون للجري وراء صور المخطوطات، ناهيك عن الصعوبات التي لا يعرفها إلا من عانى التحقيق وتلوَّع قلبه في الحصول على مصورات عن مخطوطات موجودة، ومسجلة في فهارس منشورة ... أما الحصول على مصورة لمخطوطة من مكتبات تركيا، فهو حديث خرافة " (1) .
***
__________
(1) علم الاكتناه العربي الإسلامي: 88 بتصرف.(المقدمة/378)
نُسخ المخطوط، تعريف ووصف
لم تسعفنا المقادير بنسخة واحدة كاملة، ولكن الحمد لله على ما بقي؛ فقد وجدنا أجزاء متفرقة من نسخٍ متعددة، بلغت ثلاثاً وعشرين نسخة، منها ما وجدنا منه جزءاً واحداً وهو معظمها، وأكثر ما وجدناه من نسخة واحدة هو عشرة أجزاء.
وهذه النسخ تختلف في تجزئتها، فبعضها بلغ بأجزائها إلى أكثر من ثلاثين جزءاً، وبعضها لم يزد في تجزئتها عن العشرين جزءاً، ومجموع هذه النسخ بأجزائها يكوّن نسخة واحدة، تتكرر في بعض المواضع حتى نجد خمس نسخ في موضع واحد، ولكن في مواضع كثيرة لم نجد إلا نسخة وحيدة، بل وجدنا خرماً في هذه النسخة الوحيدة مرة بسقوط ورقة، ومرة بامّحاء عدة أوراق، أما الخرم الأكبر، فهو ما كان من أواخر ربع المعاملات وأوائل ربع المناكحات (ويشمل هذا الخرم فصولاً من قسمة الفيء، وباب قسم الصدقات، وباب من خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم في النكاح وباب الترغيب في النكاح، وباب ما على الأولياء) وفي النية -إن شاء الله- أن نسدّ هذا الخرم بما نجده من مختصر (صفوة المذهب) .
وقد اتخذنا رمزاً لكل نسخة، تقع كلُّ أجزائها تحت هذا الرمز، بل إننا وضعنا الرمز أحياناً لعدة نسخ، لأنها جاءت من بلدٍ واحد، ووضعها مفهرسو الخزانة تحت رقمٍ واحدٍ، وكأنها نسخة واحدة، مثال ذلك الرمز (ت) للمجلدات التي مصدرها تركيا، والتي بلغت ثلاثة وعشرين مجلداً من خزانة واحدة، وهي من ست نسخ، وقد ميزنا كل نسخة بوضع رقم للرمز ذاته، هكذا: ت 1، ت 2، ت 3، ت 4، ت 5، ت 6، وكان هذا أيسر وأوضح من اتخاذ أكثر من عشرين رمزاً، لثلاث وعشرين نسخة.
وهاك وصف هذه النسخ:(المقدمة/379)
النسخة الأولى:
ت 1: وجدنا منها الأجزاء الثلاثة الأولى من أول الكتاب، وتشمل: كتاب الطهارة، وكتاب الصلاة، وأول كتاب الزكاة إلى آخر باب البيع في المال الذي فيه الزكاة بالخيار، (وتقع هذا الأجزاء -على التوالي- في 232، 221، 229 ورقة) .
ووجدنا منها أيضا الجزء الخامس، الذي يقع في 224 ورقة، ويبدأ من أول كتاب البيوع إلى آخر باب تجارة الوصي بمال اليتيم.
* كتبت هذه النسخة بخط نسخ معتاد، ناسخها عزّ بن فضائل بن عثمان القرشي الحموي.
* كتبت سنة 606 هـ.
* مقاس: 17×25 سم.
* مسطراتها: في كل صفحة 19 سطراً.
وهي نسخة جيدة فيما يأتي:
* ندرة التصحيف والتحريف مما يشهد بأن كاتبها على علمٍ بما يكتب.
* وضوح الرسم؛ فليس هناك تداخل بين الكلمات، ولا بين الحروف في الكلمة الواحدة، والحروف واضحة القسمات لا يشتبه بعضها ببعض، متناسقة في حجمها وترتيبها.
* تعنى بالنقط إلى حدٍّ بعيد.
ومع ذلك فمن مثالبها ما يأتي:
* أسرفت في الضبط، بمعنى أنها تضبط ما لا يحتاج إلى ضبط، فتجدها تضع فتحة على (القاف) من كلمة (قال) و (الباء) من كلمة (باع) ، و (ضمة) على العين في كلمة (باعوا) ، و (الهاء) في كلمة (لكنه) ... وهكذا.
* ومن هنا أخطأت في ضبط كثير من الكلمات، بحيث تضلل القارىء لو استسلم لها، فتضبط مثلاً: (مِلْك) تجعلها (مُلك) .(المقدمة/380)
* وفي كثير من الأحيان يكون سبب الخطأ في الضبط عدم وضع علامة الضبط على الحرف المقصود تماماً، بمعنى أن تتحرك علامة الضبط، فتقع فوق الحرف التالي للحرف المقصود، مثل: (القَدْر) ، تتحرك الفتحة، فتقع فوق الدال، فتصير (القدَرْ) .
ومع هذا تظلّ هذه النسخة من أجود النسخ، وقد اتخذناها أصلاً حيث وُجدت، بل كانت هي النسخة الوحيدة في كتاب الطهارة من أوله إلى أول كتاب الحيض (1) .
***
النسخة الثانية:
ت 2: وهي نسخة أجود ما فيها خطها، فقد كتبت بخط نسخي غاية في الجودة.
وتاريخ نسخها القرن السادس.
* مقاس: 17×25 سم
* مسطراتها: في كل صفحة 17 سطراً.
وقد وقع لنا منها: عشرة أجزاء وهي على الترتيب.
الثاني: ويقع في 206 ورقة، ويبتدىء بأول كتاب الحيض، وينتهي بالفصل الثاني في تفصيل القول في الأمي، وهو من لا يحسن قراءة الفاتحة.
الثالث: ويقع في 195 ورقة، من أول فرع: إذا كان يحسن آية من غير الفاتحة، وينتهي بأثناء باب صفة الأئمة.
الخامس: ويقع في 197 ورقة، يبتدىء بأول كتاب الزكاة، وينتهي بآخر باب الدين مع الصدقة (من كتاب الزكاة) .
التاسع: ويقع في 257 ورقة، ويبتدىء بأول بيع الغرر، وينتهي بأثناء باب الرهن.
__________
(1) قبل أن يقدر لنا الحصول على نسخة (ل) ، (م) .(المقدمة/381)
العاشر: ويقع في 239 ورقة، ويبتدىء بباب الرهن والحَمِيل في البيع، وينتهي بآخر كتاب الحوالة.
الثاني عشر: ويقع في 268 ورقة، ويبتدىء ببقية كتاب الضمان، وينتهي بآخر كتاب الشفعة.
الخامس عشر: ويقع في 240 ورقة، ويبتدىء بباب التقاط المنبوذ، وينتهي بأثناء كتاب الفرائض.
الحادي والعشرون: ويقع في 198 ورقة، ويبتدىء بباب اجتماع الولاة وتفرقهم، وينتهي بأثناء باب نكاح المشرك.
الخامس والعشرون: ويقع في 153 ورقة، ويبتدىء بكتاب الخلع، وينتهي بأثناء كتاب الطلاف.
السابع والعشرون: يقع في 162 ورقة، ويبتدىء بباب المطلقة ثلاثاً، وينتهي بأثناء باب كيف يكون اللعان.
وأهم سمات هذه النسخة ما يأتي:
* جودة الخط التي تشهد بأن صاحبها ناسخ محترف صرف همه إلى جودة الخط، فلم يحسن غيره!
* يظهر أثر احتراف الناسخ في تجزئة النسخة، حيث ينهي الجزء في أثناء الفصل قاطعاً للسياق، حرصاً منه على تكثير عدد الأجزاء، بصرف النظر عن تكامل الفصول أو الأبواب.
* كثيرة التصحيف والتحريف، الذي لا تكاد تسلم منه صفحة واحدة من صفحاتها، مما يشهد بأن ناسخها لا علاقة له بالعلم الذي ينسخه، بل ولا بعلمٍ غيره، فهو يحسن رسم الحروف لا غير ...
* تكاد تلتزم النَّقْط (الإعجام) وما أكثر الخلل فيه.
* أما الضبط، فهو يوزع علاماته يميناً وشمالاً، وفوق وتحت من غير خطامٍ ولا زمام، ولعله يجمل الخط بذلك، ولا يعنيه خطأ أو صواب.(المقدمة/382)
* يكثر فيها السقط بسبب رجع البصر، وبغيره أيضاً.
* فيها ما يشهد ببقايا عجمة أصيلة في ناسخها. مثل: تذكير الضمير في مثل " وسبب ذلك جهلها بالنوبة التي استحيضت فيه ".
***
النسخة الثالثة:
ت 3: ووقع لنا منها أربعة أجزاء.
* كتبت سنة 622 هـ.
* بقلم نسخ نفيس جداً.
* وكاتبها هو عبد الصمد بن مرتضى بن رحمة بن رفاعة الكندي.
*مقاس: 20×28 سم.
* مسطراتها: 25 سطراً.
والأجزاء التي وجدناها من هذه النسخة هي:
السابع: ويقع في 189 ورقة، يبتدىء بأول كتاب إحياء الموات، وينتهي آخر كتاب الفرائض.
الثامن: ويقع في 220 ورقة، ويبتدىء بأول كتاب الوصايا وينتهي بأثنائه.
العاشر: ويقع في 202 ورقة، ويبتدىء بباب ما جاء في الكلام الذي ينعقد به النكاح، وينتهي بآخر كتاب النكاح، يتلوه كتاب الخلع.
الثالث عشر: يقع في 218 ورقة، ويبتدىء بكتاب الجراح، وينتهي بآخر باب كفارة القتل، يتلوه في الذي يليه: باب الشهادة على الجناية.
وأهم ما تتصف به هذه النسخة ما يأتي:
* وضوح الخط.
* تُعنى بالنقط.
* بها شيء من السقط، وترك بياض.(المقدمة/383)
* بينها وبين نسخة (ح) نسب واضح؛ فهما من أم واحدةٍ، فبرغمِ تباين الخط، وتباعد الزمن فهناك، أكثر من دليل أو قرينة تؤكد ما نقول، منها:
اتفاق النسختين على الخطأ في كثير من الأحوال، وقد يكون هذا الخطأ في رقم حسابي لا مجال للتصحيف أو التحريف فيه، مثل اتفاقهما على وضع لفظ (عشرة) مكان لفظ (أربعة) خطأّ في مسألةٍ من مسائل الوصايا.
فمثل هذا الخطأ لا يكون الاتفاق عليه مصادفة، بل هو من الأصل الذي نقل عنه الناسخان.
* لم يسلم كاتبها من عجمة قديمة ظهرت في إعادة ضمير المذكر على المؤنث والعكس، والجمع بين (أل) والإضافة، ونحو ذلك.
وربما كان من الأدلة على ذلك أنه كان يتوقف في بعض الألفاظ والجمل، فلا يجازف بنسخها، بل يبيّض لها، ويترك مكانها.
على حين كان كاتب نسخة (ح) ، (وهما منقولتان عن أصلٍ واحد) يجتهد في ملء هذا البياض، وإقامة النص، فلم يترك بياضاً مما تركه كاتب (ت 3) ؛ وربما يكون ذلك من تورّعه، وليس من عجمته، والله أعلم.
***
النسخة الرابعة:
ت 4: كتبت في القرن السابع.
* بقلم نسخ جيد.
* والذي وقع لنا منها جزء واحد، وهو الجزء التاسع عشر.
* ويقع في 117 ورقة يبتدىء بباب الشهادات على الجناية، وينتهي بباب قطاع الطرق.
* مقاس: 16×24 سم
* مسطراتها: 21 سطراً
***(المقدمة/384)
النسخة الخامسة:
ت 5: كتبت في القرن السابع.
* بقلم نسخ معتاد.
* والذي وجدناه منها جزء واحد فقط، وهو الجزء العشرون.
* ويقع هذا الجزء في 241 ورقة، مقاس 6×25 سم.
* مسطراتها: 21 سطراً.
ويبتدىء بباب الشهادة على الشهادة، وينتهي بكتاب عتق أمهات الأولاد، وهو آخر الكتاب.
وأهم ما يميز هذه النسخة هو:
* ذهاب بعض كلمات وبعض أسطر بسبب بلل أصاب أطراف بعض الصفحات.
* كثرة التصحيف والتحريف.
* ترك بياض أحياناً.
* سقطٌ ضاع بسببه أكثر من ورقة، في أكثر من موضع، وبخاصة في أواخرها.
***
النسخة السادسة:
ت 6: كتبت في القرن السابع.
* مقاس: 21×28 سم.
* مسطراتها: في كل صفحة 25 سطراً.
وقد وقع لنا منها مجلدان:
أحدهما - يشمل الأجزاء: التاسع عشر، والعشرون، والحادي والعشرون.
وهو في 340 ورقة.
ويبتدىء بأثناء كتاب الخلع، وينتهي بآخر كتاب النفقات. أي آخر ربع المناكحات.(المقدمة/385)
ثانيهما - يشمل الأجزاء الخامس والعشرون، والسادس والعشرون والسابع والعشرون، وهو في 328 ورقة.
يبتدىء بأثناء كتاب الصيد والذبائح، وينتهي بأثناء عتق أمهات الأولاد، وهو آخر الكتاب (أي أنه ذهب من آخر الكتاب نحو ورقة) .
* ويلاحظ أن كل مجلد من هذين المجلدين لا يفصل في ثناياه بين الأجزاء التي يقول عنوان غلافه أنه يحويها، بمعنى أن الكلام في كل مجلد والترقيم متصل من أوله إلى نهايته، وكأنه جزء واحد، فلا نجد فاصلاً يبين نهاية أي جزء وبداية جزء آخر، وكأن الناسخ أضرب صفحاً عن تجزئه النسخة المنقول عنها، وجعل الثلاثة جزءاً واحداً.
وتتميز هذه النسخة بما يأتي:
* أنها من أصح النسخ -إن لم تكن أصحها- التي وجدناها لهذا الكتاب.
* يندر جداً أن يقع فيها تصحيف أو تحريف، وحيثما تجده -إذا وجدته- فليس هو من المستبشع الذي يدل على عدم الفطنة والجهل، بل تجده من المحتملات المشتبهات.
* يقل فيها (الضبط) و (النقْط) فهو لا يضبط إلا ما يشكل، وسواء من بنيه الكلمة، (الفاء أو العين) أو آخرها، أي إعرابها.
* كتبت بخط دقيق بحيث تسع الورقة الواحدة نحو أربع ورقات من نسخة (ت 2) .
* ومع دقة الخط، وعدم تجميله، فهو في غاية الوضوح.
* كل هذا يشهد بأن كاتبها من أهل العلم، وليس ناسخاً محترفاً، بل هو -فيما أُقدّر- أحد العلماء، نسخها لنفسه، وقد حرمنا من معرفة اسمه ذهابُ الورقة الأخيرة من النسخة.
***(المقدمة/386)
النسخة السابعة:
س: رمزنا لها بهذا الحرف؛ أخذاً من مصدرها، مدينة سوهاج بصعيد مصر.
* تاريخ نسخها 633 هـ.
* مقاس: 17×23 سم
*مسطراتها في كل صفحة 19 سطراً
* ناسخها عبد الله بن جبرائيل بن عبد الله.
* والذي وقع لنا منها جزء واحد، هو الجزء السادس عشر، ويقع في 186 ورقة، ويبتدىء من أثناء كتاب الوصايا: فصل -فإن كان أكثر من الثلث، فأجاز الورثة في حياته، لم يجز ذلك، وينتهي بفصلٍ- ذكر الشافعي في أثناء كلامه: " وإن منع الإمام من الفيء إذا فضل عن كفاية المرتزقة ... إلخ " من باب تفريق أربعة أخماس الفيء.
* وهي بخط واضح، وبها أثر بلل ذهب بكثير من كلمات ورقاتها الأولى.
* قليلة السقط والخلل.
* كذلك يقل فيها التصحيف والتحريف.
***
النسخة الثامنة:
ح: نسبةً إلى مصدرها مدينة حلب بسورية.
* تاريخ نسخها 666 هـ.
* مقاس: 16×23 سم.
* مسطراتها: في كل صفحة 25 سطراً
* والذي وقع لنا منها مجلد واحد به قدرٌ من كتاب الوصايا يشمل 113 ورقة من أصل 149 ورقة هي كل أوراق هذا المجلد، ويتلوه بعد الوصايا كتاب الوديعة كاملاً، ثم يبدأ كتاب قسم الفيء، وينتهي المجلد قبل تمامه بفصل قال: ولو كان لرجل أجير يريد أن يجاهد.(المقدمة/387)
* وهذا المجلد يحوي مجلدين؛ ففي الورقة رقم 65 في أثنائها يقول: انتهت المجلدة الرابعة عشرة، ويضع البسملة، ويستمر.
* كثيرة التصحيف والتحريف، ناسخها محترف يرسم ما أمامه بدون أدنى محاولة للفهم، فيجمع بين الكلمتين ويجعلهما كلمة واحدة، ويقطع الكلمة الواحدة، فيجعلها كلمتين، بصورة عجيبة، مثل: " الوصية لأصهاره " يكتبها: " الوصية لأمه تاره ".
* وفيه عجمة واضحة جعلته يكتب كلمة (الحرية) = (الهرية) .
* راجع وصف نسخة (ت 3) فبينها وبين هذه النسخة (ح) نسب وثيق.
***
النسخة التاسعة:
ط: نسبة إلى مكتبة طلعت بدار الكتب القومية.
* كتبت بخط نسخ حديث جيد.
* تاريخ نسخها 18 شعبان 1330.
* مسطراتها: 21 سطراً.
* كاتبها أحد النساخ المتمرسين المتخصصين بدار الكتب المصرية، وهو عبده محمود حمدي.
* لم يشر إلى الأصل المنقولة منه.
* ومن العجيب أننا لم نجد في مقتنيات دار الكتب هذا الأصل كله، فيما وجدناه من أجزاء النهاية.
* كتبت هذه النسخة -كما جاء في خاتمتها- لحساب (العلامة الحسيب النسيب الحبر البحر الفهامة، والعالم العلامة حضرة السيد أحمد بك الحسيني) .
* قلت: هذا أحد العلماء الكبار الذين أنجبتهم أمتنا، وهو يذكرنا بالإمام القفال الذي كانت صناعته الأقفال في صدر عمره، فصاحبنا أيضاً كان نحاساً، بل كان شيخاً لطائفة النحاسين (صناع القدور والأواني النحاسية) ، وكان ينقطع للعلم وقت فراغه(المقدمة/388)
من حرفته، إلى أن انقطع له تماماً، له العديد من المؤلفات والرسائل، وبلغ من قدرته العلمية أنه تصدّى لشرح (الأم) للإمام الشافعي شرحاً مطوّلاً، حتى وقع ربع العبادات في 24 مجلداً، وقد سمى هذا الشرح اسماً لطيفاً هو: (مرشد الأنام لبرّ أم الإمام) .
ولم يمهله القدر لإتمامه، فقد توفي بعد عامين فقط من كتابة نسختنا هذه له.
* والذي وقع لنا من هذه النسخة الأجزاء: 4، 5، 6.
الجزء الرابع: ويبتدىء من أول باب استقبال القبلة، وينتهي بباب وجوب الجمعة.
الجزء الخامس: يقع في 232 ورقة ويبتدىء بباب الغسل للجمعة والخطبة، وينتهي بباب البيع في المال الذي تجب فيه الزكاة.
الجزء السادس: في 254 ورقة ويبتدىء بباب زكاة المعدن، وينتهي بباب إحرام العبد والمرأة.
* وقد اتخذنا هذه النسخة بكل أجزائها نصاً مساعداً (أحياناً) حين تستغلق قراءة جملة، أو تتصحف كلمة؛ فقد كان معها في كل أجزائها نسخ عتيقة أصيلة.
والحمد لله.
***
النسخة العاشرة:
ك: نسبة إلى مصدرها مدينة الإسكندرية.
* كتبت بخط نسخ جيد.
* تاريخ نسخها: جاء في خاتمتها: " فرغ من نسخه بحمد الله ومنِّه يوم الخميس سلخ شهر رجب المبارك، شهر الله (ثم كلمات استحالت قراءتها انتهت بقوله: وستمائة) فهي إذاً من القرن السابع.
* ناسخها: أحمد بن عبد الرحيم الشافعي التنوخي بالجامع الأعلى بحماة المحروسة.(المقدمة/389)
* والذي وقع لنا منها جزء واحد هو الجزء الثاني في 145 ورقة.
* مقاس: 24×18 سم.
* مسطراتها: 23 سطراً.
ويبتدىء بأول كتاب الزكاة.
وينتهي بكتاب الحج.
* يكثر فيها الوهم والتصحيف والتحريف الذي يدركه القارىء بسهولة.
* يقل فيها السقط ورجع البصر.
* واضحة الخط سهلة القراءة.
* مشوشة الترتيب في مواضع كثيرة، بمعنى أن أوراقها تفرقت وتناثرت فجمعها من جلدها كيفما اتفق، ورقمها على هذا التشويش، مما يجعل الاستفادة منها تحتاج إلى معاناة وجهد، ولكن الوصول إلى الترتيب الصحيح مع ذلك لم يكن مستحيلاً.
* أصابها بلل في أواخرها ذهب بأسطر من رأس الصفحات وأخرى من آخرها.
***
النسخة الحادية عشرة:
ي: نسبة إلى مصدرها (اليمن) .
* كتبت بخط نسخ معتاد.
* تاريخ نسخها: بآخرها: بلغ مقابلة سنة 674 هـ.
* ناسخها: لم يسجل في آخرها اسم ناسخها.
* والذي وقع لنا منها جزء واحد، هو الجزء الثامن في 218 ورقة.
* مقاس 17×25 سم.
* ومسطراتها: 21 سطراً.
ويبتدىء بأثناء العارية.(المقدمة/390)
وينتهي بآخر كتاب المساقاة. (يتلوه في التاسع كتاب الإجارة) .
* مبتور من الأول.
* وهي نسخة جيدة قليلة التصحيف والتحريف.
* يقل فيها السقط، بل يكاد ينعدم.
* يكثر استخدام النقط، ويقل الضبط بالشكل.
***
النسخة الثانية عشرة:
هـ 1: نسبة إلى مصدرها الظاهرية.
* وقد وصلنا منها مجلد واحد، يغلب على الظن أنه الجزء الثالث.
* لم يعرف تاريخ نسخه، ولا اسم ناسخه، ونرجح أنه من القرن السابع.
* أصابه البلل إصابة بالغة ذهب بعشر ورقاتٍ كاملة من أوله، وبأجزاء متفاوتة من نحو أربعين ورقة بعدها.
* يقع في 222 ورقة.
* مسطراتها مختلفة اختلافاً بيِّناً تتراوح السطور ما بين 22 إلى 17 سطراً.
* تبدأ من أثناء زكاة التجارة إلى باب إحرام العبد (آخر كتاب الحج) .
* مكتوب بخط نسخ جيد.
* يكاد يلتزم النقط، ويكثر من الضبط بالشكل.
* يقل في هذه النسخة التصحيف والتحريف، والسقط.
***
النسخة الثالثة عشرة:
هـ 2:
* تاريخ نسخها: 24 شعبان سنة 565 هـ.
* ناسخها: لم نجد ما يدلّ عليه.(المقدمة/391)
* وقد وصلنا منها مجلدان، يختلف الخط قليلاً في أحدهما عن الآخر، ولكن سوّغ لنا عدَّهما نسخة واحدة أمران:
أحدهما -أن التمليك والوقف- على الغلاف واحد.
ثانيهما - أنه مع وجود بعض الاختلاف في نوع الخط؛ حيث يقرب في أحد المجلدين من الخط الفارسي، ويقرب في الثاني من النسخ إلا أننا نكاد نقطع بأن الناسخ واحد.
* أحد المجلدين يقع في 250 ورقة، كامل الأول والآخر، يبتدىء بكتاب البيع، وينتهي بنهاية كتاب الحجر، وليس في بدايته ولا نهايته ما يفيد برقم الجزء.
* وثاني المجلدين يقع في 256 ورقة، منها سبع عشرة ورقة بخطٍّ مغاير لباقي المجلد؛ إذ كُتبت بخط نسخ جيد كامل النقط، وكثير الضبط بالشكل، وبدأت هذه الصفحات بالبسملة والدعاء كأنها جزء خاص، ثم بدأ باقي المجلّد بالبسملة والدعاء، واستغرق 249 ورقة، أي ما بقي من المجلد، وهي وحدها تكوّن جزءاً مستقلاً، ألحقت به الأوراق السبع عشرة الأولى.
لم نعرف رقم الجزء لا من بدئه ولا من نهايته، أما ما جاء على غلافه بأنه الجزء السابع عشر، فلا ندري أهو خاص بالأوراق الأولى، أم بالمجلد كله.
* يبتدىء من أثناء القسامة إلى نهاية كتاب الصيد والذبائح، يتلوه في الذي يليه كتاب الضحايا.
* هذه النسخة غاية في الدقة والجودة.
* كاتبها على علمٍ بما يكتب، لا يكتب إلا بفهم، ولذا استقامت عبارتها، وكاد أن ينعدم فيها التصحيف والتحريف.
* قوبلت على الأصل المنقولة منه في عدة مجالس، يظهر ذلك مسجلاً على هوامشها، وفي نهايتها " بلغ مقابلة ".
* كما قوبلت على نسخة أخرى وسجلت الفروق في الهامش.
* كتب مجلدها الأول -كما أشرنا- بخط قريب من الخط الفارسي، وهذا المجلد(المقدمة/392)
أكثر جودة من الآخر، مع أنه كتب بخط دقيق جداً، والكلمات أقرب إلى التداخل والتراكب، ولعل ذلك لقلة الكاغد، وعدم القدرة على ثمنه، ولذلك تسع الورقة الواحدة من هذا المجلد ما يملأ خمس ورقات أو أكثر من بعض النسخ.
* تختلف مسطرات هذا المجلد اختلافاً بيناً ما بين 23-27 سطراً في الصفحة الواحدة.
* يكاد النَّقط أن ينعدم في هذا المجلد، أما الضبط بالشكل، فلا وجود له بتاتاً.
* تصعب القراءة في هذا المجلد جداً، ولكن بعد شيء من الوقت والجهد،
والمعاناة والدُّربة يصبح الخطُّ مألوفاً معروفاً، وعندها تكون المتعة بقراءة نصٍّ صحيح مستقيم.
* أما مجلدها الآخر، فقد كتب بخط قريب من النسخ، لا يُعنى صاحبه بتجويده وتجميله بقدر ما يعنى بتصويبه وتوضيحه، فأحياناً يكون في الكلمة الواحدة حروف دقيقة وأخرى ضخمة؛ حيث يلجأ إلى تصويب الحرف أو توضيحه بإعادة الضغط على القلم، وزيادة المداد؛ فجاءت الكلمات غير متناسقة حجماً، وكذلك الحروف في الكلمة الواحدة.
* ومسطرات هذا المجلد مختلفة وتتراوح ما بين 24-27 سطراً.
* في هذا المجلد قليل من النَّقط، أما الضبط بالشكل، فلا وجود له، كسابقه.
* في هذا المجلد القليل من السقط.
* مع أنهما يشتركان في الجودة إلا أن هذا أقل جودة من الأول، بالرغم من أنهما لناسخٍ واحد كما أشرنا.
***
النسخة الرابعة عشرة:
هـ 3:
* وقد وجدنا منها الجزء الثاني عشر.
* يقع هذا الجزء في 280 ورقة.(المقدمة/393)
مسطراتها 15 سطراً في الصفحة.
* يبتدىء هذا الجزء من أول كتاب الشفعة وينتهي بآخر كتاب المساقاة، يتلوه في الذي يليه كتاب الإجارة.
* كتب بخط نسخ جيد.
* يلتزم النقط تقريباً.
* يقل استعمال الضبط بالشكل.
***
النسخة الخامسة عشرة:
هـ 4:
* ولم نجد منها أيضاً إلا جزءاً واحداً، هو الجزء السادس والعشرون، كما ظهر من خاتمته.
* يقع هذا الجزء في 227 ورقة، ومسطراتها 17 سطراً في الصفحة الواحدة.
* ويبتدىء من أثناء كتاب الجزية إلى أواخر كتاب الأيمان والنذور، (باب من يعتق عليه من مماليكه إذا حنث) يتلوه في الذي يليه (باب جامع الإيمان) .
* مكتوب بخط النسخ الجيد.
* يكاد يلتزم النقط، أما الضبط بالشكل، فهو في حكم النادر.
* مبتور من الأول.
* في نهايته وقف على طلبة العلم بالجامع الأموي.
* جاء في خاتمته عبارة: " قوبل بجميعه وما قبله بمصر ".
* روجع على نسخة أخرى، وسجلت فروق النسخ بالهامش.
* النسخة بصفة عامة جيدةٌ.
***(المقدمة/394)
النسخة السادسة عشرة:
د 1: نسبة إلى مصدرها دار الكتب المصرية.
* كتبت في القرن السابع.
* مقاس: 9×27 سم.
* ومسطراتها: 23 سطراً.
* عليها وقفية مؤرخة سنة 634 هـ. يقول: وقف هذه المجلدة الثانية مع ما قبلها وما بعدها إلى تمام خمس عشرة مجلدة، هي تمام كتاب نهاية المطلب.
* في نهاية الجزء السابع، كتبه العبد الفقير إلى رحمة الله تعالى عبد الله بن جبريل ... بالمدرسة الفاضلية، وهو كاتب نسخة (س) ولكن تختلف تجزئة كل نسخة منهما عن الأخرى.
* وقد وجدنا منها جزأين:
أحدهما - الجزء الثاني ويقع في 248 ورقة، ويبتدىء بباب الصلاة بالنجاسة، وينتهي بباب البيع في المال الذي فيه الزكاة بالخيار.
ثانيهما - الجزء السابع، ويقع في 342 ورقة، ويبتدىء بكتاب الإجارة، وينتهي بباب ميراث المجوسي، يتلوه في الذي يليه: باب الرد والخلاف فيه.
* وهي نسخة لا بأس بها، قليلة التصحيف والتحريف، ويقل فيها السقط.
***
النسخة السابعة عشرة:
د 2: عليها وقفية مؤرخة 710 هـ.
* لم يعرف ناسخها.
* مأخوذة بالتصوير الفوتوغرافي عن نسخة في ملك الشيخ عيسى منون رحمه الله.
* وجدنا منها الأجزاء العاشر والحادي عشر والثاني عشر في مجلد واحد.(المقدمة/395)
تبدأ من أثناء الغصب (فرع: إذا كان الثوب يساوي عشرة، وكان الصبغ يساوي عشرة) وتنتهي بآخر الفرائض.
* وقد جاءت الأجزاء الثلاثة في 364 ورقة بدون فاصل أو تمييز بين جزء وجزء، مما يوحي بأن الناسخ نسخ هذه الأجزاء متصّلة تصرفاً منه، ولم يعن بتجزئة الأصل المنقول منه.
* مقاس: 21×27
* مسطراتها 25 سطراً.
* وهي نسخة جيدة.
* تكاد تلتزم النقط.
* يقل فيها -بل لا يكاد يوجد- الضبط بالشكل.
* يقل فيها التصحيف والتحريف.
* يندر فيها السقط ورجع البصر.
* واضحة الخط سهلة القراءة، لا يكاد يشكل على القارىء حرف أو كلمة منها.
***
النسخة الثامنة عشرة:
د 3: وهي أوراق أو كراريس (الكراسة عشر ورقات) متفرقة عددها اثنان وتسعون ورقة.
* مقاس: 17×25 سم.
* ومسطراتها: 21 سطراً.
تبدأ من أول الكتاب، وتنتهي بباب ما يفسد الماء.
ثم يليها أوراق من كتاب البيوع. ظهر أنها ليست من نهاية المطلب.
* تاريخ النسخ القرن السابع.
* وقد أفادتنا -على وضعها هذا- في الصفحات الأولى من الكتاب فائدة كبيرة،(المقدمة/396)
حيث كانت النسخة المساعدة الوحيدة، حين كانت نسخة الأصل ت 1، فيها أثر بلل ذهب بأطراف أوراق كثيرة من أوائلها، ولم تكن وقعت لنا نسخة (ل) ونسخة (م) بعدُ.
* خط نسخ لا بأس به.
* يقل فيها استخدام النقط.
* ليس بها أي ضبط بالشكل.
* قليلة التصحيف والتحريف.
* سهلة القراءة واضحة الخط. (بعد قليل من الإلف والدّربة) .
***
النسخة التاسعة عشرة:
د 4: وهي نسخة عتيقة نسخت سنة 562 هـ.
* بخط محمد بن عبد الواحد بن حرب القرشي.
* والذي حصلنا عليه منها الجزء الثالث، ويقع في 260 ورقة.
* مقاس: 6×23 سم.
* مسطراتها: في كل صفحة 13 سطراً.
يبتدىء بباب استقبال القبلة، وينتهي بفصل تأخر المأموم عن الإمام وتقدمه عليه.
* وهي نسخة جيدة يقل فيها التصحيف والتحريف.
* تصعب قراءتها على غير المتمرس بالخطوط القديمة، لا سيما أن كاتبها غير محترف للنسخ، ولذا لا يستطيع القارىء تمييز الحروف إلا بعد بعد تدرّب عليها ومعاناة لها.
* يقل فيها النّقط، أما علامات الضبط، فلا وجود لها إلا نادراً جدّاً.
***(المقدمة/397)
النسخة العشرون:
ص: نسبة إلى مكتبة أيا صوفيا.
* والذي وصلنا منها الجزء الرابع ويقع في 188 ورقة.
* مسطراتها 25 سطراً ويبتدىء بباب بيع المصراة.
وينتهي بباب الرهن والحميل في البيع.
* مبتور من الآخر، فقد ذهب من آخره خمسة أبواب من محتويات الجزء التي بينها على الغلاف.
* بسبب هذا البتر لم يعرف ناسخه، ولا تاريخ النسخ.
* عليها وقفيه باسم السلطان محمود خان سلطان البرَّين والبحرين خادم الحرمين، وقفاً صحيحاً شرعياً.
* حرر الوقفية أحمد شيخ المفتش بأوقاف الحرمين الشريفين.
* بخط نسخ نفيس جداً.
* تكاد تلتزم النّقط.
* لا يوجد بها ضبط بالشكل.
* قليلة التصحيف والتحريف والسقط.
***
النسخة الحادية والعشرون:
ل: نسبة إلى مصدرها جامعة استنبول.
* وقد وجدنا منها الجزء الأول، ويقع في 344 ورقة.
* مقاس: 15×23 سم.
* مسطراتها: 25 سطراً.
ويبتدىء من أول الكتاب، وينتهي بآخر كتاب الصلاة.(المقدمة/398)
* بخط نسخ معتاد.
* كتبه إبراهيم بن سعد الله بن جماعة.
* تاريخ النسخ: يوم الخميس رابع عشر ذي القعدة من شهور سنة ست وعشرين وستمائة (626 هـ) .
* يقل فيها التصحيف والتحريف والسقط.
* تعتبر من النسخ الجيدة.
وقد حصلنا عليها بعد أن قطعنا شوطا طويلاً في العمل، أثناء رحلة إلى مكتبات تركيا وقد ساعدنا الأخ الكريم أكمل الدين إحسان أوغلو مدير مركز الأبحاث للتاريخ والفنون آنذاك، والأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي الآن؛ أعظم مساعدة، فقد قدم لنا الأخ الكريم مصطفى شاهدي أمين مكتبة مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والآثار ليرافقنا طول هذه الرحلة، ولولا وجود هذا الأخ الكريم معنا ما استطعنا الحصول على هذه النسخة ولا التي تليها؛ ولو كانت هذه النسخة عندنا من أول الأمر، لوفرت علينا عناءً ما بعده عناء في تحقيق الجزء الأول من الكتاب، حيث حققناه عن نسخة وحيدة، أكملنا سقطها وسددنا خرمها بالبحث في كتب المذهب، مع التوسّم والتفرّس، مما أعيانا واستنفد جهداً جهيداً، ووقتاً مديداً.
* ومما يذكر أن نسخة (ل) هذه سلمت من بعض الأخطاء التي حمل بسببها ابنُ الصلاح والنووي على إمام الحرمين واتهماه بأنه لا يدري السيرة والسنة، مما يشهد بأن الأئمة لا يصح أن يتحملوا ما يقع في كتبهم من أوهام النَّقلة والناسخين.
***
النسخة الثانية والعشرون:
م: نسبة إلى مصدرها الخزانة السليمانية.
* وقد وجدنا منها الجزء الأول ويقع في 349 ورقة.
* مسطراتها: 17 سطراً ويبتدىء من أول الكتاب.
وينتهي قبل كتاب الحيض.(المقدمة/399)
* تاريخ النسخ نصف جمادى الأولى سنة 714 هـ.
* ناسخها: لم نتمكن من قراءة اسمه ولقبه كاملاً: محمد ... الإسناوي.
* كتبت بخط نسخ معتاد.
* يقل فيها التصحيف والتحريف والسقط.
* يقل فيها الضبط بالشكل.
* يكثر فيها النَّقْط.
* في هامشها ما يشير إلى أنها روجعت على نسخة أخرى.
***
النسخة الثالثة والعشرون:
نسخة ق
وعلى حين كان الكتاب ماثلاً للطباعة وأثناء تصحيح التجارب جاءنا الخبر عن نسخة أخرى بمكتبة المسجد الأقصى، وزودنا بصورة منها ابننا العزيز رامي سلهب، جزاه الله عنا خير الجزاء.
وكان كل الموجود من هذه النسخة الجزء الخامس عشر
* ويقع في 185 ورقة.
* مسطراتها: 25 سطراً.
* يبدأ هذا الجزء من كتاب الضحايا.
* وينتهي أثناء باب الامتناع من اليمين، وهو مبتور الآخر.
* وهي نسخة حديثة كما يظهر من خطها.
* ليس في أول الجزء ولا في آخره ما يشير إلى الناسخ ولا تاريخ النسخ، ولا مكانه، ولا الأصل المنسوخ عنه.
* كثيرة التصحيف والتحريف والسقط.(المقدمة/400)
* ومع ذلك أفدنا منها بعض التصويبات والتدقيقات، بيناها في موضعها من الكتاب.
مخطوطات لنصوص أخرى مساعدة:
بجانب هذه الأجزاء التي وقعت لنا من نسخ النهاية أسعفتنا المقادير بمخطوطات أخرى ساعدتنا كثيراً في عملنا هذا بما يأتي:
- إقامة النص وعلاج ما يكون به تصحيف أو تحريف.
- سدّ الخرم، وإكمال السقط.
- إيضاح النص وكشف ما به من غموض، وحلّ ما به من إشكال.
وهذه المخطوطات هي:
أ- مختصر النهاية للإمام ابن أبي عصرون المتوفى سنة 585 هـ، اسم هذا المختصر:
(صفوة المذهب من نهاية المطلب)
وقد أفدنا منه كثيراً في المواضع التي ليس فيها إلا نسخة وحيدة؛ ذلك أن ابن أبي عصرون جرى في اختصاره على ذكر عبارة الإمام في (نهاية المطلب) كما هي بدون تغيير يذكر، وإنما يقوم اختصاره على حذف بعض الأمثلة، وبعض الاستطرادات، والإسهاب في الشرح أحياناً.
ب- مختصر العز بن عبد السلام المتوفى سنة 660 هـ واسم هذا المختصر:
(الغاية في اختصار النهاية)
وهو على غير منهج ابن أبي عصرون، فهو يترك عبارة الإمام جانباً، ويصوغ الفصل صياغة جديدة غاية في الإيجاز.
ولذا كانت إفادتنا منه في حل المشكلات والمعوصات من المسائل؛ إذ كان يساعد على فهم المعنى والمغزى من مجمل المسألة، في كثير من الأحيان.
جـ- (البسيط) للإمام الغزالي، المتوفى سنة 505 هـ.(المقدمة/401)
والغزالي -كما هو معروف- تتلمذ على إمام الحرمين مشافهة، وكان من أنبغ تلاميذه، وألمع نجوم حلقته.
وكتابه (البسيط) هو إعادة صياغة وترتيب (لنهاية المطلب) ذكر ذلك الغزالي في مقدمته، ويعرفه كل من كان على علم بالكتابين (النهاية والبسيط (1)) .
ولذا كان إفادة البسيط لنا مزدوجة، حيث كنا نقرأ فيه المسائل المستغلقة المُعْوِصة، فينكشف لنا سرها، ويتضح لنا مرماها ومغزاها.
كما كنا نجد فيه الجمل؛ بل الفقرات الكاملة بألفاظ الإمام ذاتها، فمنه نقوِّم المعوج ونزيل التصحيف والتحريف.
***
__________
(1) انظر فصل: (منزلة النهاية) من هذه المقدمة.(المقدمة/402)
صور المخطوطات المستعان بها(المقدمة/403)
مصادر المقدمات
1- الابتهاج في بيان اصطلاح المنهاج: أحمد بن أبي بكر بن سُمَيط العلوي الحضرمي ت 1343 هـ. - القاهرة: مطبعة لجنة البيان العربي، 1380 هـ - 1961.
2- اجتهاد الرسول - صلى الله عليه وسلم -: عبد الجليل عيسى، من أعلام الفقه المعاصرين رحمه الله. - القاهرة: عيسى البابي الحلبي، 1950 م.
3- الإحكام في أصول الأحكام: سيف الدين أبو الحسن علي بن أبي علي الآمدي ت 631هـ. - القاهرة: مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح، 1387 هـ - 1968.
4- إحياء علوم الدين: أبو حامد الغزالي، محمد بن محمد بن محمد ت505 هـ. - بيروت: دار الكتاب العربي (مصورة عن طبعة مصرية قديمة 1357 هـ) .
5- آداب الشافعي ومناقبه: ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي ت 327 هـ؛ تحقيق الشيخ عبد الغني عبد الخالق. - القاهرة: مكتبة الخانجي.
6- أدب الفتوى وشروط المفتي وصفة المستفتي وأحكامه: أبو عمرو عثمان بن الصلاح الشهرزوري ت 643 هـ؛ تحقيق رفعت فوزي عبد المطلب. - القاهرة: مكتبة الخانجي، 1413هـ - 1992.
7- أدب القضاء لابن أبي الدم: القاضي شهاب الدين أبي إسحاق إبراهيم بن عبد الله المعروف بابن أبي الدم ت 642 هـ؛ تحقيق محمد مصطفى الزحيلي. - ط 2. - دمشق: دار الفكر المعاصر، 1452 هـ - 1982 م.
8- إرشاد الفحول: محمد بن علي بن محمد الشوكاني ت 1255 هـ. - بيروت: دار الفكر العربي (مصورة عن طبعة أندونيسيا) (د. ت) .
9- إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل: محمد ناصر الدين الألباني؛ إشراف محمد زهير الشاويش. - بيروت: المكتب الإسلامي، 1399 هـ - 1979.
10- الأشباه والنظائر: تاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي ت 771 هـ؛ تحقيق عادل أحمد عبد الموجود، وآخر. - بيروت: دار الكتب العلمية، 1411 هـ - 1991.(المقدمة/429)
11- الأشباه والنظائر: جلال الدين عبد الرحمن بن الكمال أبو بكر بن محمد ت 911 هـ. -القاهرة: دار إحياء الكتب العربية- عيسى البابي الحلبي (د. ت) .
12- أصول التشريع الإسلامي: الشيخ علي حسب الله (من رواد النهضة الفقهية الحديثة - رحمه الله) . - القاهرة: دار المعارف، 1959 م.
13- الأعلام: الزركلي، خير الدين بن محمود بن محمد علي الدمشقي (من نوابغ عصرنا) ت 1396 هـ - 1976 م. - ط 4. - بيروت: دار العلم للملايين، 1979 م.
14- إعلام الساجد بأحكام المساجد: محمد بن عبد الله الزركشي ت 794 هـ؛ تحقيق الشيخ أبو الوفا مصطفى المراغي. - دولة الإمارات: وزارة الشؤون الإسلامية (عن طبعة المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة، 1397 هـ) .
15- إعلام الموقعين عن رب العالمين: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر (ابن قيم الجوزية ت 751 هـ) ؛ مراجعة وتعليق طه عبد الرؤوف سعد. - القاهرة: مكتبة الكليات الأزهرية، 1968.
16- الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع: القاضي عياض بن موسى بن عياض اليحصبي ت 544 هـ؛ تحقيق العلامة السيد أحمد صقر. - القاهرة: دار التراث، 1970 م.
17- الإلهام والكشف والرؤى هل تعد مصادر للأحكام: العلامة فقيه العصر الشيخ يوسف القرضاوي. - الدوحة: حولية كلية الشريعة بجامعة قطر، العدد السادس.
18- الإمام الشافعي: حياته وعصره: فضيلة الشيخ محمد أبو زهرة -رحمه الله- من أعلام الفقه وحماة الشريعة في العصر الحديث. - ط2. - القاهرة: دار الفكر العربي، 1367 هـ - 1984 م.
19- الإمام الشافعي في مذهبيه القديم والجديد: أحمد نحراوي عبد السلام الإندونيسي. - القاهرة: مكتبة الشباب، 1408هـ - 1988.
20- الأم: أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي؛ وبهامشه مختصر المزني. - القاهرة: كتاب الشعب، 1388 هـ - 1968.
21- الأنساب: القاضي أبو سعد عبد الكريم بن محمد بن منصور السمعاني ت 562 هـ. - الهند: حيدر آباد الدكن، 1962.
22- البداية والنهاية: أبو الفداء إسماعيل ابن كثير الدمشقي ت 774 هـ. - بيروت: مكتبة المعارف، 1974.
23- البرهان في أصول الفقه: إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني ت 478 هـ؛ تحقيق عبد العظيم الديب. - الدوحة: الشؤون الدينية، 1399.
* ط 3. - المنصورة: دار الوفاء، 1412 هـ - 1992.(المقدمة/430)
24- البرهان في علوم القرآن: محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي ت 794 هـ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم. - بيروت: دار المعرفة (د. ت)
25- تاريخ الإسلام السياسي: حسن إبراهيم حسن. - القاهرة: مكتبة النهضة، 1967م.
26- تاريخ بغداد: الخطيب البغدادي أبو بكر أحمد بن علي ت 463 هـ. - القاهرة: مكتبة الخانجي، 1931 م.
27- تاريخ التشريع الإسلامي: محمد الخضري بن الشيخ عفيفي الباجوري (من أعلام دار العلوم ومدرسة القضاء الشرعي، ت 1345 هـ) . - ط 7. - القاهرة: المكتبة التجارية، 1965.
28- تاريخ التشريع الإسلامي: عبد الوهاب خلاف. - ط 6. - القاهرة: 1954م.
29- تاريخ المذاهب الفقهية: الشيخ محمد أبو زهرة. - القاهرة: دار الفكر العربي (د. ت) .
30- التبصرة في أصول الفقه: أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروز أبادي الشيرازي ت 476 هـ؛ شرح وتحقيق محمد حسن هيتو. - دمشق: دار الفكر، 1980.
31- تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري: أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله ابن عساكر الدمشقي. - ط 4. - بيروت: دار الكتاب العربي، 1411 هـ.
32- تحفة المحتاج بشرح المنهاج: شهاب الدين أحمد بن حجر الهيتمي ت 973 هـ (طبعة مصورة عن الطبعة الميمنية بالقاهرة 1315، ومعها حاشيتا الشرواني، وابن قاسم) .
33- تحقيق النصوص ونشرها: عبد السلام هارون (عمدة المحققين) . - القاهرة: مؤسسة الحلبي، 1385 - 1965 م.
34- تشييع الفقهاء الحنفية بالتشنيع على سفهاء الشافعية: ملا علي القاري 1014 هـ (مخطوط بمكتبة الحرم المكي، منه صورة بمكتبتنا) .
35- تصحيح الكتب وصنع الفهارس المعجمة: العلامة المحدث الشيخ أحمد شاكر ت 1377؛ اعتنى به وعلق عليه العلامة المحدث عبد الفتاح أبو غدة. - بيروت: دار البشائر الإسلامية، 1414هـ - 1993م.
36- التفكير فريضة إسلامية: عباس محمود العقاد. - القاهرة: دار الرشاد الحديثة.
37- تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني ت 852 هـ؛ تحقيق السيد عبد الله هاشم اليماني المدني. - المدينة المنورة: (د. ن) ، 1384 هـ - 1964.(المقدمة/431)
طبعة أخرى: تحقيق أبو عاصم حسن بن عباس بن قطب. - جدة: مؤسسة قرطبة، 1416 هـ - 1995.
38- التلخيص في أصول الفقه: إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني ت 478 هـ؛ تحقيق عبد الله جولم البيلي، وشبير أحمد العمري. - بيروت: دار البشائر الإسلامية، 1996.
39- التنقيح في شرح الوسيط: أبو زكريا يحيى بن شرف النووي ت 676 هـ[مطبوع بهامش الوسيط] . - القاهرة: دار السلام، 1417 هـ - 1997.
40- تهذيب الأسماء واللغات: أبو زكريا محيي الدين بن شرف النووي ت 676 هـ؛ تحقيق شركة العلماء بمساعدة إدارة الطباعة المنيرية. - بيروت: دار الكتب العلمية، (د. ت) . -[طبعة مصورة] .
41- تهذيب التهذيب: الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني ت 852 هـ. - بيروت: دار صادر، (د. ت) . -[مصورة عن الطبعة الأولى بدائرة المعارف النظامية بحيدر آباد الدكن بالهند، 1325 هـ]
42- جامع الأصول من أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ابن الأثير، الإمام أبو السعادات مبارك بن محمد بن الأثير ت 606 هـ؛ تحقيق محمد حامد الفقي. - القاهرة: مطبعة السنة المحمدية 1950 م.
43- جامع التحصيل في أحكام المراسيل: صلاح الدين أبو سعيد خليل بن كيكلدي ت 761؛ تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي. - بغداد: وزارة الأوقاف، 1978.
44- جامع الشروح والحواشي: عبد الله محمد الحبشي. - أبو ظبي: المجمع الثقافي، 2004 م.
45- خلاصة تذهيب تهذيب الكمال في أسماء الرجال: الخزرجي صفي الدين أحمد بن عبد الله ت 923 هـ. - القاهرة: المطبعة الخيرية، 1322 هـ.
46- الدرة المضية فيما وقع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية: إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني ت 478 هـ؛ تحقيق عبد العظيم محمود الديب. - الدوحة: إدارة إحياء التراث الإسلامي، 1406 هـ - 1986.
47- دفع الخيالات في رد ما جاء على القول الوضاح من المفتريات: أحمد بك الحسيني الشافعي. - القاهرة: دار الكتب العربية الكبرى - مصطفى البابي الحلبي(المقدمة/432)
48- الرد على من أخلد إلى الأرض: السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن الكمال ت 911 هـ؛ تحقيق خليل الميس. - بيروت: دار الكتب العلمية 1983 م.
49- الرسالة: الإمام محمد بن إدريس الشافعي ت 204؛ تحقيق وشرح العلامة المحدث أحمد شاكر. - القاهرة: مكتبة دار التراث، 1399 - 1979.
55- الرسالة المستطرفة لبيان مشهور كتب السنة المشرفة: محمد بن جعفر الكتاني ت1345 هـ. - ط4. - بيروت: دار البشائر، 1406 - 1986 م.
51- رفع الملام عن الأئمة الأعلام، ابن تيمية، أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ت 728. - الدوحة: إدارة الشؤون الدينية، 1394 هـ - 1974 م.
52- روضة الطالبين: أبو زكريا يحيى بن شرف النووي 676 هـ. - بيروت: المكتب الإسلامي، (د. ت) . -[على نفقة الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني] .
53- زبدة التواريخ، أخبار الأمراء والملوك السلجوقية: صدر الدين علي بن ناصر الحسيني؛ تحقيق محمد نور الدين. - بيروت: دار اقرأ، 1405 هـ - 1985 م.
54- السنة قبل التدوين: محمد عجاج الخطيب. - القاهرة: مكتبة وهبة، 1963 م.
55- السنة ومكانتها في التشريع: مصطفى السباعي (من نوابغ الدعاة والعلماء في العصر الحديث، رحمه الله وجزاه خيراً) . - ط 1. - القاهرة: مكتبة العروبة، 1961.
56- سنن الترمذي (مقدمة الشيخ أحمد شاكر) . - اسطنبول: دار الدعوة، 1401 هـ.
57- سنن الدارقطني: علي بن عمر الدارقطني ت 385 هـ؛ تصحيح عبد الله هاشم يماني.
- القاهرة: دار المحاسن - (ومعه التعليق المغني على سنن الدارقطني) .
58- سير أعلام النبلاء: محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي ت 748 هـ؛ إشراف شعيب الأرناؤوط. - بيروت: مؤسسة الرسالة، 1403 هـ - 1983.
59- شذرات الذهب في أخبار من ذهب؛ ابن العماد الحنبلي عبد الحي بن أحمد بن محمد ت 1089. - مكتبة القدس، 1350 هـ.
60- شرح السنة: أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي ت 516 هـ؛ تحقيق شعيب الأرناؤوط، ومحمد زهير الشاويش. - بيروت: المكتب الاسلامي، 1390 هـ - 1971.
61- الشرح الكبير: الرافعي، أبو القاسم عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم القزويني ت 624 (مطبوع بهامش شرح المهذب للنووي) . - بيروت: دار الفكر (د. ت) .
62- شرح اللمع: أبو إسحاق إبراهيم الشيرازي ت 476 هـ؛ تحقيق عبد المجيد تركي. - بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1408 هـ - 1988.(المقدمة/433)
63- شواهد التوضيح لمشكلات الجامع الصحيح: أبو عبد الله محمد بن مالك الطائي الأندلسي ت 672 هـ؛ تحقيق طه محسن. - بغداد: وزارة الأوقاف العراقية، 1405 هـ - 1985.
64- صحيح البخاري: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري ت 256 هـ. - إسطنبول: دار الدعوة، 1401 هـ - 1981.
65- طبقات الشافعية: الإسنوي، جمال الدين عبد الرحيم بن الحسن بن علي ت 772 هـ؛ تحقيق عبد الله الجبوري. - بغداد: رئاسة ديوان الأوقاف، 1391 هـ.
66- طبقات الشافعية: ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل بن عمر ت 774 هـ؛ تحقيق عبد الحفيظ منصور. - بيروت: دار المدار الإسلامي، 2004.
67- طبقات الفقهاء الشافعية: ابن قاضي شهبة، أبو بكر بن أحمد بن محمد الأسدي الدمشقي ت 851 هـ؛ تحقيق علي محمد عمر. - القاهرة: مكتبة الثقافة الدينية، (د. ت) .
68- طبقات الشافعية: ابن هداية الله الحسيني ت 1014 هـ؛ تحقيق عادل نويهض. - بيروت: دار الآفاق الجديدة، 1971.
69- طبقات الشافعية الكبرى: السبكي، أبو نصر عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي ت 771 هـ؛ تحقيق عبد الفتاح محمد الحلو، ومحمود محمد الطناحي. - القاهرة: مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، 1385 هـ - 1966. - القاهرة: هجر للطباعة والنشر والتوزيع، 1413 هـ - 1992.
70- طبقات الفقهاء الشافعية: ابن الصلاح أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري ت 643 هـ؛ تحقيق محيي الدين علي نجيب. - بيروت: دار البشائر الإسلامية، 1413 هـ - 1992.
71- طبقات الفقهاء الشافعية: أبو عاصم محمد بن أحمد العبادي ت 458 هـ. - ليدن: (د. ن) ، 1964.
72- طبقات الفقهاء: أبو إسحاق الشيرازي إبراهيم بن علي ت 476 هـ؛ تحقيق إحسان عباس. - بيروت: دار الرائد العربي، 1401 هـ، 1981.
73- الطبقات الكبرى: ابن سعد محمد بن سعد ت 230. - القاهرة: دار التحرير (د. ت) .
74- ظهر الإسلام: أحمد أمين. - القاهرة: مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1945.
75- العقد المذهب في طبقات حملة المذهب: ابن الملقن، أبو حفص عمر بن علي بن أحمد الأندلسي الشافعي ت 804 هـ. - بيروت: دار الكتب العلمية، 1417 هـ - 1997.(المقدمة/434)
76- العقل عند الأصولين: عبد العظيم محمود الديب. - مصر: دار الوفاء بالمنصورة، 1415 - 1995.
77- العقيدة النظامية: إمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني، ت 478 هـ؛ تحقيق العلامة محمد زاهد الكوثري. - القاهرة: مطبعة الأنوار، 1948 م.
78- العلل المتناهية في الأحاديث الواهية: عبد الرحمن بن علي بن الجوزي؛ تحقيق إرشاد الحق الأثري. - فيصل آباد (باكستان) : إدارة العلوم الأثرية، (د. ت)
79- علم الاكتناه العربي الإسلامي: قاسم السامرائي. - ط 1. - الرياض: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، 1422 هـ.
80- الغزالي: أحمد فريد الرفاعي. - القاهرة: دار المأمون، 1936 م.
81- الغياثي: إمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني ت 478 هـ؛ تحقيق عبد العظيم محمود الديب. - ط 2. - القاهرة: دار الأنصار؛ 1401 (مصورة عن طبعة الشؤون الدينية بدولة قطر) .
82- فتاوى ابن حجر الهيتمي (الفتاوى الكبرى الفقهية) شهاب الدين أحمد بن حجر الهيتمي ت 973. - بيروت: دار الفكر، 1403، 1983 (طبعة مصورة) .
83- الفتاوى الكبرى: ابن تيمية، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم، شيخ الإسلام ت 728؛ تحقيق محمد عبد القادر عطا ومصطفى عبد القادر عطا. - ط 1. - القاهرة: دار الريان للتراث، 1408 هـ - 1988 م.
84- فتح الباري شرح صحيح البخاري: الحافظ ابن حجر، أحمد بن علي بن محمد العسقلاني ثم المصري، الشافعي ت 852 هـ؛ بإشراف محب الدين الخطيب، وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي. - بيروت: دار المعرفة (مصورة عن طبعة المطبعة السلفية بالقاهرة) (د. ت) .
85- فرائد الفوائد في اختلاف القولين لمجتهد واحد: محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن السلمي المناوي الشافعي ت 747 هـ؛ تحقيق أبي عبد الله محمد بن الحسن بن إسماعيل. - بيروت: دار الكتب العلمية، 1415 هـ - 1995.
86- فقه إمام الحرمين: عبد العظيم محمود الديب. - ط 2. - المنصورة: دار الوفاء للطباعة والنشر، 1409 هـ - 1988.
87- الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي: محمد بن الحسن الحجوي الفاسي؛ تحقيق عبد العزيز بن عبد الفتاح القارئ. - المدينة المنورة: المكتبة العلمية، 1396 هـ.(المقدمة/435)
88- فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت: عبد العلي محمد بن نظام الدين الأنصاري (مطبوع بهامش المستصفى للغزالي - طبعة مصورة عن الطبعة الأميرية ببولاق 1322 هـ) .
89ـ الفوائد المدنية في بيان اختلاف العلماء من الشافعية: محمد بن سليمان الكردي المدني ت 1194 هـ؛ تصحيح وضبط محمد علي بن حسين المالكي. - القاهرة: المكتبة التجارية الكبرى، 1357 هـ - 1938.
95- الفوائد المكية (ضمن مجموعة سبعة كتب مفيدة) : السيد علوي بن أحمد السقاف ت 1335. - القاهرة: مصطفى البابي الحلبي، (د. ت) .
91- فيض القدير شرح الجامع الصغير: عبد الرؤوف المناوي ت 1031 هـ. - بيروت: دار المعرفة، 1391 هـ - 1972.
92- قطف الأزهار وكشف الأسرار: السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن الكمال ت 911 هـ؛ تحقيق أحمد محمد الحمادي. - قطر: وزارة الأوقاف 1414 هـ - 1994 م.
93- الكافية في الجدل: إمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني ت 478 هـ؛ تحقيق فوقية حسين محمود رحمها الله. - القاهرة: دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي، 1399 هـ - 1979 م.
94- كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون: حاجي خليفة، مصطفى بن عبد الله القسطنطيني كاتب جلبي، مؤرخ تركي متعرب ت 1066 هـ. - استانبول: وكالة المعارف الجليلة، 1943 م.
95- المجموع شرح المهذب: أبو زكريا محي الدين بن شرف النووي ت 676 هـ[بهامشه الشرح الكبير، وتلخيص الحبير] . - بيروت: دار الفكر، (د. ت) . -[طبعة مصورة عن طبعة شركة العلماء] .
96- المداخل لآثار شيخ الإسلام ابن تيمية: بكر بن عبد الله أبو زيد. - مكة المكرمة: دار عالم الفوائد، 1422 هـ.
97- المدخل إلى مذهب الإمام الشافعي: أكرم يوسف القواسمي. - عمان: دار النفائس، 1423 هـ - 2003 م.
98- مدخل إلى نشر التراث العربي: محمود محمد الطناحي. - ط 1. - القاهرة: مكتبة الخانجي، 1405 هـ - 1984 م.
99- المذهب عند الشافعية: فضيلة الشيخ محمد إبراهيم أحمد علي، من علماء أم القرى. - مكة المكرمة: مجلة جامعة الملك عبد العزيز - ع 2 ص 25-48، جمادى الآخرة 1398 هـ - مايو 1978.(المقدمة/436)
100- المزهر في علوم اللغة وأنواعها: السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن الكمال بن أبي بكر ت 911 هـ، تحقيق محمد أحمد جاد المولى وآخرَين. - القاهرة: دار إحياء الكتب العربية - عيسى البابي الحلبي (د. ت) .
101- مسالك الأبصار في ممالك الأمصار: ابن فضل الله العمري - ت 749 هـ، الجزء السادس (الفقهاء) ؛ تحقيق محمد عبد القادر خريسات وآخرَين. - العين - الإمارات: مركز زايد للتراث والتاريخ، 2001 م.
102- المستدرك على الصحيحين: أبو عبد الله الحاكم النيسابوري ت 405 هـ. - بيروت: دار الفكر، (د. ت) .
103- المستصفى من علم الأصول: أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي ت 505 هـ[ومعه فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت] . - طبعة مصورة عن المطبعة الأميرية ببولاق، 1322 هـ.
104- المسند: الإمام أحمد بن حنبل الشيباني ت 241؛ تحقيق الشيخ أحمد شاكر رحمه الله. - القاهرة: دار المعارف، 1392 هـ - 1972 (لم يتم) .
105- شرح مشكل الوسيط: أبو عمرو عثمان بن الصلاح ت 643 هـ[مطبوع بهامش الوسيط] . - القاهرة: دار السلام، 1417 هـ - 1977.
106- معجم البلدان: ياقوت الحموي ت 626 هـ. - القاهرة: مطبعة السعادة 1323 هـ - 1906 م.
107- مغني اللبيب عن كتب الأعاريب: أبو محمد عبد الله بن يوسف بن هشام الأنصاري ت 761 هـ؛ تحقيق مازن المبارك، وآخر. - بيروت: دار الفكر، 1979.
108- مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج: محمد بن محمد بن الخطيب الشربيني ت 977. - بيروت: دار الفكر (د. ت) .
109- مفتاح السعادة ومصباح السيادة: أحمد بن مصطفى الشهير بطاش كُبري زَادَه 968 هـ. - حيدر آباد الدكن - الهند: دائرة المعارف النظامية 1328 - 1329 هـ.
110- مقدمة ابن خلدون: عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن خلدون ت 808 هـ؛ تحقيق علي عبد الواحد وافي. - القاهرة: دار الشعب (د. ت) .
111- مقدمة ابن الصلاح: أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن بن الصلاح الشهرزوري ت 643؛ تحقيق بنت الشاطئ. - القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب 1976.(المقدمة/437)
112- مقدمة مرشد الأنام لبرّ أُم الإمام (في مجلدين كبيرين) (مصنف ضخم في طبقات علماء المذهب حتى القرن الثالث عشر، وفي كتب المذهب ومصطلحاته، ومقدمات العلم والتعلم) : أحمد بك الحسيني ت 1332 هـ. -[منه صورة بمكتبتنا] .
113- منار السبيل في شرح الدليل على مذهب الإمام أحمد بن حنبل: إبراهيم بن محمد بن سالم ضويان ت 1353 هـ؛ تحقيق زهير الشاويش. - بيروت: المكتب الإسلامي، (د. ت) .
114- المنتظم: ابن الجوزي، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد، ت 597 هـ. - حيدر آباد الدكن - الهند: دائرة المعارف العثمانية 1357 إلى 1359 هـ.
115- المنثور في القواعد: بدر الدين محمد بن بهادر الزركشي الشافعي ت 794 هـ؛ تحقيق تيسير فائق أحمد محمود. - الكويت: وزارة الأوقاف، 1402 هـ - 1982.
116- المنهج في كتابات الغربيين عن الإسلام: عبد العظيم محمود الديب. - الدوحة: رئاسة المحاكم الشرعية (سلسلة كتاب الأمة العدد رقم 27، ربيع الآخر 1411 هـ) .
117- منهجية الإمام محمد بن إدريس الشافعي في الفقه والأصول: عبد الوهاب أبو سليمان. - بيروت: دار ابن حزم، 1420 هـ - 1999 م.
118- الموضوعات: أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي ت 957 هـ؛ تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان. - المدينة المنورة: المكتبة السلفية، 1386 هـ - 1966.
119- الموطّأ: مالك بن أنس ت 179 هـ. - إسطنبول: دار الدعوة، 1401 هـ - 1981. 120- الموافقات: الشاطبي أبو إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي ت 790؛ تحقيق الشيخ عبد الله دراز. - بيروت: دار المعرفة (د. ت) .
121- مؤلفات الغزالي: عبد الرحمن بدوي. - الكويت: وكالة المطبوعات، 1977 م. 122- ميزان الاعتدال: الذهبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد ت 748 هـ؛ تحقيق علي محمد البجاوي. - بيروت: دار المعرفة (د. ت) .
123- نشأة الفقه الاجتهادي وتطوره: أستاذنا الشيخ محمد علي السايس. - القاهرة: مجمع البحوث الإسلامية، 1970 م.
124- نصب الراية لأحاديث الهداية (مع حاشيته بغية الألمعي في تخريج الزيلعي) : أبو محمد عبد الله بن يوسف الحنفي الزيلعي ت 762 هـ. - ط 2. - جوهانسبرج (جنوب إفريقيا) : المجلس العلمي، 1393 هـ.(المقدمة/438)
125- نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج: شمس الدين محمد بن أحمد بن حمزة الرملي ت 1004 هـ. - بيروت: دار الفكر، 1404 هـ - 1984. - (ومعه حاشيتا الشبراملسي والمغربي) .
126- نهاية المطلب في دراية المذهب: إمام الحرمين (وهو الكتاب الذي بين يديك) .
127- نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار: شرح محمد بن علي بن محمد الشوكاني ت 1250 هـ. - بيروت: دار الجليل، 1973.
128- الوافي بالوفيات: صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي ت 764 هـ؛ تحقيق هلموت ريتر وآخرون. - شتوتغارت: فرانز شتايز: جمعية المستشرقين الألمان، سلسلة النشرات الإسلامية، 1381 هـ/1418 هـ - 1962/1997.
129- وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان: أحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلكان ت 681 هـ؛ تحقيق إحسان عباس. - بيروت: دار الثقافة، (د. ت) .
***(المقدمة/439)
كتاب "نهاية المطلب في دراية المذهب" الذي ما صنف في الإسلام مثله.
ابن خلكان
المتوفي سنة 681 هـ
***
استفاض بين الأصحاب وأئمة المذهب قولهم:
"منذ صنف الإمام (نهاية المطلب) لم يشتغل الناس إلا بكلام الإمام"
ابن حجر الهيثمي المتوفي سنة (973 هـ)(مدخل/5)
بين يدي الكتاب
بقلم الدكتور
محمد عبد الرحمن شميلة الأهدل
" نهاية المطلب " واسطة عقد المذهب، والمنهل الروي لعِلْم الإمام الشافعي المُطَّلبي، وهل شيخا المذهب النووي والرافعي إلا من رواة قصائده؟! فهما اللذان غاصا في لجج " نهايته " مباشرة أو بواسطة، وعبَّا من معين درايته فتضلعا؛ (فكل علمٍ عندهم من رفده) .
وهذا ما لا يماري فيه المحققون، بل لهجت به ألسن أهل الاطلاع، وكل من جاء بعده اقتفى أثره، واغترف من بحره.
والإمام الجويني عَلمٌ من أعلام الفكر الإسلامي، أبدع في ميادين شتى في أصول الثقافة الإسلامية وفروعها؟ ولذلك لُقِّب (الإمام) .
عقدت الخناصر على فضله، ونطقت الحناجر بتقدمه وسبقه، وتعاضدت آراء الأوائل والأواخر مشيدة بعلو مكانته، ومعترفة بسعة معارفه، ونبل رأيه، ولست في هذه الأحرف معنياً بذكر نتاجه الفكري المتنوع، ولا بإبراز خصائص تراثه؛ فلهذه كتب مستقلة، وبحوث متعددة، ولكن أُرسل أضواء اليراعة على كتابنا هذا:
" نهاية المطلب في دراية المذهب "
" فالنهاية " كاسمها عرضٌ متكاملٌ لمذهب الإمام الشافعي، وشرحٌ مستوفىّ(مدخل/7)
لآرائه، وعماد قوي لطريقته؛ حتى قال ابن حجر الهيتمي: (منذ صنف الإمام كتابه " النهاية " لم يشتغل الناس إلا بكلام الإمام) (1) .
والواقع إن " نهاية المطلب " لم يكن شرحاً لـ " مختصر المزني " فقط، وإنما كان حاوياً وشارحاً لكتب الإمام الشافعي جميعها؛ ولذلك اشتغل الفقهاء به بعد ظهوره وتحبيره؛ لأنه زبدة المذهب، وخلاصة الأسفار الأربعة التي هي أساس المذهب الجديد، وأعني بذلك: " الأم " و" الإملاء " و" البويطي " و" مختصر المزني "، وهذا ما صرح به بعض المتأخرين؛ إذ اعتبر أن " النهاية " اختصارٌ لهذه الكتب، وزبدة لما تحويه، إلا أن العلامة ابن حجر الفقيه في آخرين يرون أن " النهاية " ليس إلا شرحاً لـ " مختصر المزني " خاصة.
وقد جمع محقق " النهاية " (2) بين الرأيين جمعاً حسناً متمحضاً عن اطلاع ودراية، فقال: (قلت: كلاهما على صواب، فمن حيث الشكل هي شرح " لمختصر المزني "، أما من حيث الواقع.. فالإمام جمع فيها كل علم الشافعي من كتبه الأربعة) .
دور الاختصار والتهذيب
ولما أكب أهل العلم على " النهاية " باعتبارها عماد المذهب، وزبدة كتب الإمام الشافعي.. أضحت مرجع القوم، ومصدر المذهب، ومعتمد الخاصة، وكتاب الفتوى، وقام حجة الإسلام الغزالي تلميذ الإمام باختصارها في كتابه " البسيط "، حتى كان مبغضو الإمام الغزالي يقولون له: ما صنعت شيئاً، أخذت الفقه من كلام شيخك في " نهاية المطلب " (3) .
__________
(1) الفوائد المكية للسيد علوي بن أحمد السقاف (ص: 35) .
(2) هو الأستاذ الدكتور عبد العظيم محمود الديب في بحث سماه " شخصية إمام الحرمين العلمية " ضمن بحوث الذكرى الألفية لإمام الحرمين الجويني (ص: 77) .
(3) طاش كبرى زاده في أواخر ترجمته للإمام الغزالي.(مدخل/8)
ثم اختصر الإمام الغزالي " الوسيط " من " البسيط " ثم اختصره ووسمه "بالوجيز" فقال قائلهم:
حرَّرالمذهبَ حبرٌ ... أحسن الله خلاصه
بـ " بسيط " و" وسيط " ... و" وجيز " و" خلا صه " (1)
ثم تصدَّى الإمام الرافعي لـ " الوجيز " فشرحه شرحاً وافياً، وتوسَّع فيه تدليلاً وتعليلاً وسماه: "العزيز"، واشتهر عند المتأخرين بـ "فتح العزيز شرح الوجيز " وربما أطلقوا عليه: " الشرح الكبير ".
وقد خرج أدلته جمعٌ من المحققين، حتى جاء خاتمة الحفاظ ابن حجر العسقلاني فلخصها، وضم إليها نفائس حديثية في كتابه الموسوم بـ "التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير".
ولم يقف الإمام الرافعي عند هذا الحد، بل اختصر " الوجيز " أيضاً في مجلد لطيف سماه " المحرر ".
وانبرى الإمام النووي بعده لهذين الكتابين فخدمهما خدمة أهل التحقيق، وهذبهما تهذيب أهل التدقيق، فقد اختصر "الشرح الكبير" في كتابه الجليل " روضة الطالبين "، كما اختصر " المحرر" اختصاراً لا يحبره إلا أمثاله وسماه " المنهاج "، وفضله سارت بها الركبان، وصدرت حديثاً طبعته الجديدة بعناية دار المنهاج.
فأما "روضة الطالبي".. فقد قام شيخ الإسلام زكريا الأنصاري باختصارها
__________
(1) فائدة: " الخلاصة " هنا هي مختصر " مختصر المزني" واسمها: " خلاصة المختصر ونقاوة المعتصر "، وليس هو مختصر لكتاب " الوجيز " كما قد يتوهم البعض فليتنبه لذلك، وهذا الكتاب سيخرج محققاً ومطبوعاً للمرة الأولى ضمن منشورات دار المنهاج بمشيئة الله تعالى.(مدخل/9)
وسماه " روض الطالب " فاختصر الاسم والمسمى، وشرحه أيضاً، كما قام غيره باختصار " الروضة " إلا أنه لم يشتهر شهرة " الروض ".
وأما " المنهاج ".. فإن شروحه وحواشيه ومختصراته تتقاعس العزائم عن تَعدادها، واستقر الأمر أنها من الكتب المعتمدة في المذهب، والمختارة في الدراسة؛ لما اشتملت عليه من التحقيقات.
وبنظرة عجلى إلى هذا التسلسل المعرفي ندرك أثر إمام الحرمين في المذهب، بل ومنَّته على كل شافعيٍّ جاء بعده.
ودار المنهاج الفتية كعادتها سبَّاقة إلى استخراج كنوز الأوائل، رائدة في خدمة التراث، ولها اليد الطولى في نشر العلوم الشرعية عموماً، وفقه الشافعية خصوصاً، ولا سيما ما كان منها مطموراً في دهاليز النسيان.
أوَ لم تخرج لنا " بيان العمراني " يرفل في حلل التحقيق، ويتهادى في ثوبه القشيب؟! ولولا عزيمة صاحب الدار التي لا تعرف التقاعس، وهمته العصامية.. لما اكتحلت أعين الفقهاء بإثمد هذه الموسوعة الفقهية.
أوَ لم تهد إلينا هذه الدار " النجم الوهاج " للعلامة الدميري بعد أن استرخى طويلاً وتراكم عليه غبار الإهمال؟!
ألم يتحفنا بـ " مختصر حلية أبي نعيم " للعلم المهذب الأستاذ الزاهد الواسطي؟! والقائمة طويلة طويلة في طول همة أبي سعيد: الأستاذ عمر بن سالم باجخيف، أعلى الله تعالى مقامه، وبلغه مرامه، وزاده توفيقاً وإحساناً.
وها هو اليوم يتحف الفقهاء في كل صقع بعمدة مذهب الشافعي " نهاية المطلب ودراية المذهب " لإمام الحرمين عبد الملك الجويني، هذا الكتاب الذي عكف عليه أرباب المذهب، وذهبوا في مدحه كل مذهب؛ ولعل دور الطبع أحجمت عن نشره لضخامته وعظم مؤنته؛ بيد أن الحظَّ الأسعد منح هذه الدار شرف نشره، فأعطى القوس باريها، فنقشت حروفه بيراعة الإبداع، وحلّت مظهره بكل ما تختزنه(مدخل/10)
من رصيد فني، وسكبت على طروسه محاسن خبرتها العالية؛ ليتربع على منصة الجودة، ويعلو سنام التميز، ويتناغم الجَمَالان: جمال المضمون الفقهي، وجمال الإبداع الفني في إيقاع أخاذ.
وبعد فلِلّهِ در محقق " نهاية المطلب " الدكتور عبد العظيم محمود الديب ذي العزمات الوثابة؛ فقد اضطلع بتحقيق هذا المصدر المعرق في الأصالة، وأنفق أنفس أوقاته في خدمة تراثنا الشرعي، متمثلاً في إبراز هذا السفر الجليل يتهادى في حلل التحقيق، ويتراءى في جودة التدقيق، فقد قضى -أثابه الله تعالى- نحواً من ربع قرن في العناية بـ " النهاية " إِلى النهاية، فقابل مخطوطاته ببعضها، وبين فوائدها وتنوعها، وخرج أحاديثها وآثارها، وميز صحيحها من سقيمها، وعلَّق على ما يتطلب التعليق من غريبها وغامضها، فما انفكت يده عنها إلا وهي تتلألأ تلألؤ النجوم في سمائها، فتهدي الحائر في ظلمة الليل البهيم، وأهدى هذا السفر إلى متفقهة العصر؛ ليضاف إلى ذلك الرصيد الضخم من التراث الشرعي:
هذي الفضائل لا قعبان من لبنٍ ... شِيبا بماء فعادا بعد أبوالا
فجزى الله تعالى الدكتور الديب خير ما يجزي الصالحين، وختم لنا وإياه بالحسنى، وأثاب الناشر بما هو له أهل.
***(مدخل/11)
مقدمة المؤلف(1/1)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قال الشيخُ [الإمام الأجل فخر الإسلام، إمام الحرمين، والأئمة، مقدَّمُ أهل السنة] (1) . أبو المعالي عبدُ الملك بنُ عبد الله بن يوسف الجويني، رضي الله عنه:
1- أحمد الله عزت قدرتُه حقَّ حمده، وأصلي على محمّد نبيّهِ، وخاتم رسله، وعبدِه، وأبتهل إليه في تيسير ما هممتُ بافتتاحه من مذهبٍ (2) مُهذَّبٍ، للإمام المُطَّلِبي الشافعي رضي الله عنه، يحوي تقريرَ القواعد وتحرير الضوابط [والمعاقد] (3) ، في تعليل الأصول، وتبيين مآخذ الفروع، وترتيب المفصَّل منها والمجموع، ومشتملٍ على حل المشكلات، وإبانة المعضلات، والتنبيه على المَعاصات والمُعْوِصات (4) ، ويُغني عن الارتباك في المتاهات، والاشتباك في العمايات.
ولستُ أُطنب في وصفه، وسيتبين شرفَه من يوفّق لمطالعته ومراجعته، وهو على التحقيق نتيجةُ عمري، وثمرةُ فكري في دهري. لا أغادر فيه بعون الله أصلاً ولا فرعاً إلاّ أتيت عليه، مُنتحياً سبيلَ الكشف، مؤثراً أقرب العبارات في البيان، والله المستعان وعليه التُّكلان.
__________
(1) زيادة من (م) و (ل) .
(2) عبارة (م) : تهذيب مذهب الإمام.
(3) في الأصل: المقاعد، وهذا تقدير منا، صدقته (م) ، (ل) بعد حصولنا عليهما مؤخراً.
(4) عاص الكلامُ وعَوِصَ خفي معناه، وأعْوص في الكلام أتى بالعويص منه، (المعجم) والمعنى أنه ينبه على المواضع الخفية، والتي يصعب فهمها من الكلام، وفي (ل) : على المغاصات في المعوصات.(1/3)
2- وسأجري على أبواب " المختصر " ومسائلها جهدي، ولا أعتني بالكلام على ألفاظ [السواد] (1) ، فقد تناهى في إيضاحها الأئمةُ الماضون، ولكنّي أنسبُ النصوصَ التي نقلها المزني (2) إليه، وأتعرض لشرح ما يتعلق بالفقه منها، إن شاء الله تعالى.
3- وما اشتهر فيه خلافُ الأصحاب ذكرتُه، وما ذُكر فيه وجهٌ غريبٌ منقاسٌ، ذكرت ندورَه وانقياسَه، وإن انضم إلى ندوره ضعفُ القياس، نبهتُ عليه، بأن أذكر الصوابَ، قائلاً: " المذهب كذا "، فإن لم يكن له (3) وجهٌ، قلتُ بعد ذكر الصواب: وما سوى هذا غلط.
وإن ذكر أئمةُ الخلاف وجهاً مرتبكاًً (4) أنبه عليه بأن أقول: اتفق أئمةُ المذهب على كذا، فتجري وجوهٌ من الاختصار، مع احتواء المذهب (5) على المشهور والنادر.
وإن جرت مسألةٌ لم يبلغني فيها مذهبُ الأئمة خرّجتُها على القواعد، وذكرت مسالك الاحتمال فيها، على مبلغ فهمي.
__________
(1) في الأصل: السؤال. والصواب: "السواد" كما في النسخ الأخرى كلها، والمراد بالسواد (الأصل) أو (المتن) هكذا يُستخدم هذا اللفظ من قبل الأئمة والمؤلفين القدماء في كتبهم ومؤلفاتهم. وسيرد هذا الاستعمال كثيراً في كلام الإِمام، وهو غير موجود في المعاجم.
(2) المزني، إِسماعيل بن يحيى بن إِسماعيل، أبو إِبراهيم، صاحب الشافعي، وأعرف من أن يعرّف، ومن تصانيفه المختصر الذي يجري إِمامُ الحرمين على منواله في النهاية. توفي بمصر: 264 هـ.
(3) أول الموجود من نسخة (د 3) .
(4) كذا في الأصل، (د 3) : (مرتبكاًً) ولما أصل إِلى المقصود (بالمرتكب) مع طول بحثي. هذا. وعبارة (د 3) : " ... وجهاً مرتبكاًً إِجماليا بأن أقول"، وفي (م) : (مرتبكاً) ، و (ل) : (مرتبكاً) ، كأختيها، وواضح أنه أحد مصطلحات علم الجدل، وسيأتي توضيح لهذا المصطلح فيما نستقبل من أبواب الكتاب وفصوله.
(5) المذهب: يريد به كتابه هذا.(1/4)
وتعويلي في متصرفات أموري على فضل الله تعالى. وقد استقرّ رأيي على تلقيبه بما يُشعر بمضمونه، فليشتهر بـ
(نهاية المطلب في دراية المذهب)
والله ولي التوفيق، وبيده التيسير، وهو بإسعاف راجيه جدير.
***(1/5)
كتاب الطهارة
قال الشافعي رحمه الله: " قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} (1) [الفرقان: 48] ... إلى آخره ".
4- ومقصود هذا الباب تفصيلُ القول في الماء الطاهر، الذي يتغير ببعض الأشياء الطاهرة.
فأقول: اختلف طرق الأئمة في ضبط مقصود الباب، فالذي أراه المسلكَ المرضي أن اختصاص طهارات الأحداث بالماء يُتَّبع فيه موردُ الشرع، ولا يُطلب له معنى وعلّة؛ فإنّ طُهْرَ الحدث، واختصاصَه بالماء غيرُ معقول المعنى، وإذا كان كذلك، فالوجه اتباعُ لفظ الشارع، وربطُ الحكم به، وقد مَنّ الله تعالى على عباده بإنزال الماء الطهور؛ فقال عزّ من قائل: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] وتكرّر ذكرُ الماء في الأخبار المأثورة، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فممّا روي قوله صلى الله عليه وسلم: " خُلقَ الماءُ طهوراً " (2) ، وغيرُه.
__________
(1) ر. المختصر: 1/2.
(2) حديث: "خُلق الماء طهوراً". قال الحافظ في التلخيص: " لم أجده هكذا "، وهو في حديث أبي سعيد الخدري، " أنه صلى الله عليه وسلم توضأ من بئر بضاعة "، فقيل له: يا رسول الله، أتتوضأ من بئر بضاعة، وهي بئر يُلقى فيها الحيض، ولحوم الكلاب والنتن؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الماء طهور لا ينجسه شيء" وقد رواه الشافعي: 1/21 (السندي) ، وأحمد 3/15، 16، 31، 86، وأبو داود: الطهارة، باب ما جاء في بئر بضاعة، ح 66، والترمذي: الطهارة، باب ما جاء أن الماء لا ينجسه شيء، ح 66، والنسائي: المياه، باب ذكر بئر بضاعة، ح 326، والدارقطني: 1/30، والبيهقي: 1/4. وروى ابن ماجة عن جابرٍ رضي الله عنه: " إِن الماء لا ينجسه شيء " ا. هـ مختصراً من تلخيص الحبير: 1/13-15. وراجع ما كتبه ابن حجر لترى تصحيحه لحديث =(1/7)
فالوجه أن يقال: كل ما يسمى ماءً على الإطلاق، ويُفهم من لفظ الماء، فهو على الإطلاق صالحٌ للطهارات، (1 إذا كان طاهراً، وما يتغيرُ تغيُّراً يخرجُ بسببه عن اسم الماء مطلقاً، فهو غير صالحٍ للطهارات 1) .
وإذا لم يتجه معنىً، ولزم اتباعُ اللفظ، والاقتصارُ على مقتضاه، فموجَب ذلك تحكيم معنى الاسم في النفي والإثبات.
هذا بيان ما يضبط مقصودَ الباب، وسنفصله بتخريج المسائل عليه.
5- فإذا تغيّر الماء بوقوع طاهرٍ فيه، نُظر: فإن تغير ريحُه بمجاورة الواقع فيه، مثل أن يقع فيه كافورٌ صلب، أو ما في معناه من الأدهان ذوات الروايح الفايحة، وهي لا تخالط الماء، بل تعلوه طافيةً، فإذا تغيرّت رائحةُ الماء بهذه الأشياء؛ فالماء طهورٌ؛ فإنه يسمى ماءً مطلقاً، والمتبعُ الاسم.
6- وإن تغير الماء بمخالطة الواقع فيه، فهو ينقسم على ما رسمه الأصحاب، إلى ما يمكن صونُ الماء عنه، وإلى ما لا يمكن صونُه عنه.
فأما ما يمكن صون الماء عنه كالزعفران والدقيق وغيرِهما، فإذا خالط شيءٌ منها الماءَ ولم يغيره، فالماء طهورٌ، مفهوم من مطلق اسم الماء.
وإن غيّره، نُظر: فإن تفاحش التغيرُ، بحيث يستجد ذلك المتغير اسماً، بأن يسمى صبغاً أو حبراً؛ فقد خرج عن كونه طهوراً؛ لسقوط اسم الماء المطلق عنه، ولا فرق بين أن يُعرَض على النار أو لا يُعرَض عليها.
وإن حصل أدنى تغيّر، ولم يَصِر الماءُ بحيث يتجدد له اسمٌ سوى الماء، فهو على موجب هذه الطريقة طهورٌ؛ فإنه يسمى ماءً على الإطلاق.
وما ذكرتُه من تفصيل القول في التغيّر ذكره شيخُنا أبو بكر الصيدلاني (2) فيما
__________
= "أبي سعيد"، وما قاله في إِسناد حديث " جابر " رضي الله عنهما.
(1) ما بين القوسين ساقط من نسخة: د3.
(2) الصيدلاني، محمد بسن داود الداودي، أبو بكر، تلميذ أبي بكر الققال المروزي، شارح المزني، وشرحه هذا يسمّى عند الخرسانيين "بطريقة الصيدلاني" (طبقات =(1/8)
جمعه من طريقة القفال (1) ، ولا [يستدّ] (2) في المذهب والخلاف غيره.
7- فأما إذا كان المغيِّرُ بحيث لا يمكن صونُ الماء عنه، فمعظم ما وقع في هذا القسم يجاورُ الماءَ، كالكبريت في منبع الماء، ومجراه، وكذلك [النُّوْرة في مجرى الماء] (3) والقطران الخاثر، الذي فيه دهنيّة.
وقد تقدم أن تغتر المجاورة لا أثر له.
فأما ما يخالط كالأوراق الخريفيّة إذا انتثرت في الماء وتعفنت، وبليت فيه، فمقتضى هذه الطريقة أن الماء طهورٌ، وإن تفاحش التغيُّر؛ لأن أهل اللسان لا يسلبون عن مياه الغُدران والأنهار اسمَ الماءِ عند تغيرها بما وصفناه، وقد تقرر أن التعويلَ على بقاء الاسم المطلق، ولعل العرب فهمت تعذرَ الاحتراز، وعلمت أن آلةَ الغَسل (4)
__________
= الشافعية الكبرى: 4/148، 149) ، وانظر أيضاً: (طبقات الإِسنوي: 2/129، 130) ، ولم يتعرض السبكي ولا الإِسنوي لتاريخ وفاته، لكن ذكر ابن هداية في طبقاته أنه توفي في نحو سنة 427 هـ.
(1) القفال، المراد به القفال الصغير، أبو بكر عبد الله بن أحمد بن عبد الله. توفي سنة 417 هـ وهو ابن تسعين سنة، وهو أكثر ذكراً في كتب الفقه، أما الكبير، فهو أكثر ذكراً في كتب التفسير والحديث، والأصول، والكلام، والجدل. واشترك القفالان في أن كل واحد منهما أبو بكر القفال الشافعي، لكن يتميزان بما ذكرنا من مظانهما، ويتميزان أيضاً بالاسم والنسب، فالكبير شاشي، والصجر مروزي، والشاشي اسمه محمد بن علي بن إِسماعيل.
وصاحبنا عبد الله بن أحمد بن عبد الله.
وهناك قفالٌ صغير آخر يشتبه مع صاحبنا القفال المروزي، وأعني به " القاسم بن محمد بن علي بن إِسماعيل " وهو ابن القفال الكبير الشاشي.
والقفال المروزي صاحبنا، هو أحد أئمة الدنيا، وشيخ الخراسانيين، وإذا ذكر القفال مطلقاً، انصرف إِليه.
(راجع: طبقات الشافعية الكبرى: 3/200-202، 472-474، 4/148، 149، 5/53-56، تهذيب الأسماء واللغات للنووي: 2/282، 283) .
(2) في الأصل، (د 3) : يستمرّ، وقدّرنا أنه تصحيفٌ عن (يستدّ) بمعنى يستقيم؛ فهي أوفق للمعنى، وهذا اللفظ يدور كثيراً على لسان إِمام الحرمين، وفي (م) ، (ل) : يستمر أيضاً.
(3) زيادة من (م) .
(4) غسل من باب ضرب، والاسم الغُسل، بضم فسكون، وقد تضم السين أيضاً، هذا وقد ضبطت في الأصل بضم الغين.(1/9)
الماءُ، فأدامت على ما يتغير بهذه الجهة اسمَ ما هو مُعدٌّ للغسل، فالتعليل ببقاء الاسم، والمظنونُ أن سبَب بقاء الاسم تعذُّرُ التحرّز، فليفهم الفقيه مراتبَ الكلام.
8- وأما الماء المتغير بالتراب أوانَ المدّ (1) ، فقد قيل: إن التراب لا يخالط الماء، بل يجاورُه باجزائه المنتثرة فيه، وآيةُ ذلك أن الماء المتغيّر به لو سكن في إناءٍ، لتميّزت أجزاءُ التراب راسبةً.
وإن اعترض متكلفٌ من أهل الكلام (2) على فصل الفقهاء بين المجاورة والمخالطة، فزعم أن الزعفران ملاقاته مجاورة أيضاًً؛ فإن تداخل الأجرام محال.
قيل له: مدارك الأحكام التكليفية لا تؤخذ من هذا المأخذ، بل تؤخذ ممّا يتناوله أفهامُ الناس، لا سيما ما يُبنَى الأمر فيه على معنى اللفظ.
ولا شك أن أرباب اللسان لغة وشرعاً قسّموا التغيُّر إلى ما يقع بسبب المجاورة، وإلى ما يقع بسبب المخالطة، وإن كان ما يسمى مخالطة في الإطلاق مجاورة في الحقيقة، فالنظر إلى تصرف اللسان.
ومنتهى هذه الطريقة النظر إلى الاسم، وهذا لا انقسام فيه، وإنما الانقسام في أسباب بقاء الاسم وزواله، فهذه هي الطريقة الصحيحة، ونصُّ الشافعي (3) في آخر
__________
(1) أي زمان (المدّ) المقابل (للجَزْر) ، وهما يتعاوران البحار، كما هو معروف.
(2) نلمح هنا تبّرم إِمام الحرمين بأهل الكلام، ولكن الذي نؤكده هو: أنه رفض أن تؤخذ الأحكام التكليفية من غير (ما يتناوله أفهام الناس) ومن غير (ما يقصده أرباب اللسان) .
(3) يشير إِلى نص الشافعي في الأم في آخر حديثه عن المياه، حيث قال: "وإذا وقع في الماء شيء حلال فغير له ريحاً أو طعماً، ولم يكن الماء مستهلكاً فيه، فلا بأس أن يتوضأ به، وذلك أن يقع فيه البان أو القطران، فيظهر ريحه أو ما أشبهه.
وإِن أُخذ ماء فشيب به لبن أو سويق أو عسل، فصار الماء مستهلكاً فيه، لم يتوضأ به، لأن الماء مستهلك فيه. إنما يقال لهذا: ماءُ سويق ولبن وعسل، مشوب، وإِن طرح منه فيه شيء قليل يكون ما طرح فيه من سويق، ولبن وعسل مستهلكاً فيه، ويكون الماء الظاهرَ، ولا طعم لشيء من هذا فيه، توضأ به، وهذا ماء بحاله". ثم ضرب عدة أمثلة أخرى لتغير الماء وعدم تغيره، ثم ختم كلامه بالجملة التي أشار إِليها إِمام الحرمين، وذلك إِذ قال: "وهكذا كل ما ألقي فيه من المأكول من سويق أو دقيق ومرق وغيره إِذا ظهر فيه الطعم والريح مما يختلط فيه، لم يتوضأ به، لأن الماء حينئذٍ منسوب إلى ما خالطه منها (الأم: 1/6 -دار الشعب- القاهرة) . =(1/10)
الباب موافقٌ لهذه الطريقة؛ فإنه قال في ذكر ما لا يجوز التَوضؤ به، أو غير ذلك، مما لا يقع عليه اسم ماء مطلق: "حتى يضافَ إلى ما يُخالطه أو خرج منه" وهذا ظاهرٌ في أن أدنى تغيّر لا يُؤثر.
9- وذكر طوائفُ من أئمتنا مسلكاً آخر في ضبط مقصود هذا الباب، ونفتتحه بالقول في المتغير بمخالطة ما يمكن صون الماء عنه.
ذهب أئمّةُ العراق إلى أن الماء إذا تغيّر بالزعفران وما في معناه أدنى تغيّرٍ، خرج عن كونه طهوراً، وهذا ما كان ينقله شيخي (1) عن القفال (2) .
ولست أرى لهذا المسلك وجهاً سديداً، لكنّي أذكر الممكنَ في توجيهه، فأقول: لعلّ هؤلاء يقولون: المكلّفون فهموا من ذكر الماءِ في الطهارات أنه شيء لطيفٌ عامُّ الوجود، يقلع آثار النجاسات، ولا يُكسب ما يُغسَل به صفةً في نفسه، وقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] يشير إلى الماء الباقي على صفاتِ فطرته، والماءُ المتغيّر -على هذا التقدير- خارجٌ عمّا فُهم من صفة الماء، والماء الكثير الذي لا يقبل النجاسة ما لم يتغيّر، إذا تغيَّر بها أدنى تغيّرٍ، صار نجساً، فتغيُّرُ الماء القليل بمخالطة الطاهرات، كتغيّر الماء الكثير بالنجاسة على موجَب هذه الطريقة.
فأمّا ما يتغيّر بالمجاورة، كالماء المتغيّر برائحة الكافور الصلب وغيرِه، فيجوز التوَضؤ به عند هؤلاء، وإن كانوا يكتفون في المخالطَة بادنى تغيّر؛ فإنّ اكتساب الماءِ رائحةَ الكافور الواقع فيه كاكتسابه رائحة الكافور بالقرب منه غيرَ واقعٍ فيه.
__________
(1) شيخي: يريد والده رضي الله عنهما، فهو أستاذه الأول، وهو أبو محمد: عبد الله بن يوسف الجويني إِمام عصره، تفقه على أبي الطيب الصُّعلوكي، وقدم " مرو " قصداً لأبي بكر بن عبد الله بن أحمد القفال المروزي، شرح المزني، وشرح الرسالة للشافعي، كان ورعاً، دائم العبادة، مبالغاً في الاحتياط، توفي سنة 438 هـ (سير النبلاء ج 11 ورقة 137، طبقات السبكي 5/73-93) .
(2) سبقت ترجمته، وقلنا: إِن المراد به القفال المروزي، المعروف بالصغير، وهذا عند الإطلاق دائماً.(1/11)
10- وذكر شيخي: أن صاحب التلخيص (1) ذكر قولاً في أنّ الماءَ المتغيّر بمجاورة ما وقع فيه ليس بطهورٍ، وهذا غريب مزيفٌ.
ثم قال هذا الفريق: "لو تغيّر الماءُ بمخالطة ما لا يمكن صونُ الماءِ عنه، كالأوراق الخريفية وغيرها، فيجوز التوضؤ به؛ لمكان التعذّر، وهذا كعفونا عمّا يتعذّر الاحتراز منه من النجاسات، كدم البراغيث وغيره".
فالماء المتغير إذاً ينقسم إلى ما يتغيّر بالمجاورة، وإلى ما يتغيّر بالمخالطة، فأما ما يتغير بالمجاورة، فطهورٌ على ظاهر المذهب، وفيه القول الغريب الذي ذكره صاحب التلخيص.
وأمّا ما يتغيّر بالمخالطة، فإنه ينقسم إلى ما يمكن صونُ الماءِ عنه، وإلى ما يتعذر الاحتراز منه.
فأمّا ما لا يمكن التحرّز منه، فإذا حصل التغيّر به؛ فالماء طهورٌ.
وما يمكن التحرز منه إذا خالطه، نُظر، فإن لم يُغيّر الماءَ أصلاً، جاز التوضؤ به، وإن غيّره أدنى تغيّرٍ، لم يجز التوضؤ به.
11- وذكر الشيخ أبو بكر الصيدلاني طريقةً ثالثةً لبعض أصحابنا، وهو النظر إلى التغير بالمخالطة، [قال هؤلاء: كل ما يتغير بالمخالطة] (2) فلا يجوز التطهر به، وإن كان مما يتعذّر الاحتراز منه في بعض المياه.
ونظر (3) أصحابُ هذه المقالة إلى أن التغيّر بالاختلاط في حكم انقلاب الجنس، فكأنّ الماء خرج عن كونه ماءً إذا غيّره ما خالطهُ، من حيث لا يُتوقَّع تميّز أحدهما عن الثاني، واتحد كل واحد من المخالطَيْن بصاحبه.
__________
(1) صاحب التلخيص هو أحمد بن أبي أحمد الطبريّ، الشيخ الإِمام، أبو العباس، ابن القاصّ، إِمام عصره، وصاحب التصانيف المشهورة " التلخيص " و" المفتاح " و" أدب القاضي " وغيرها، وهو تلميذ أبي العباس ابن سُريج، أقام بطبرستان، وأخذ عنه علماؤها، ثم انتقل إِلى طرسوس، ومات بها في سنة 335 هـ. (طبقات الشافعية الكلبرى: 3/59-63) .
(2) زيادة من نسخة: (د 3) وهي في (م) أيضاً، ثم وجدناها في (ل) كذلك.
(3) في الأصل: ولكن نظر ... والمثبت عبارة (م) ، (ل) .(1/12)
والمجاورة لا تقتضي هذا المعنى، ثم معظم ما لا يتأتى التصوّن منه [مجاورٌ] (1) ، والأوراق الخريفية، كالخشب تجاورُ، وليس فيها رطوبات تخالط، حتى لو انتثرت وفيها رطوبة، فخالطت وغيّرت، سلبت الماءَ طهوريَّتَه.
فهذا تحصيل طرق الأصحاب، في مقصود هذا الباب.
ونحن نرسم الآن فروعاً نذكر فيها مقالات الأئمّة، ونُخرِّجُها على الطرق، فتتهذّب بذكرها القواعد والأصول.
فرع:
12- الماء إذا ألقي فيه ملح، صودف منعقداً عن الماء الأُجاج، فتفاحش تغيُّره به، فقد ذكر أئمّة المذاهب فيه خلافاً، وقالوا: من أصحابنا من جوّز التوضؤَ به؛ لأن الملح انعقد من ماءٍ، فإذا ذاب في ماء عذبٍ، كان [كالجَمْد] (2) ، يذوب في الماء، وأيضاًً فلا خلاف أن الماء الملح -الذي ينعقد منه الملح- لو انصبَّ في ماء عذبٍ وظهرَ تغيُّره [به] (3) ، يجوز التوضؤ به؛ فليكن الملح بنفسه (4) بمثابته.
ومن أصحابنا من قال: لا يجوز التوضؤ بالماء الذي ظهر تغيُّره بالملح الواقع فيه؛ فإنه مع العلم به لا يسمى ماء مطلقاً، إذا تفاحش تغيُّرُه، وليس الملح من أجزاء الماءِ وجوهره؛ فإن المياه نزلت من السماء عذبة، ثمّ سلكها الله سبحانه وتعالى ينابيعَ في الأرض، فاكتسبَ ما انسلك في السبخات صفاتِها، ثم الملح المنعقد هي أجزاء السبخة تتجمع، وليست أجزاء الماء، ولذلك لا ينماعُ الملحُ في الشمس.
وأما انصباب الماء الأُجاج على العذب، فالمتبع فيه الاسم في مجاري الكلام؛ فالناس يقولون: " ماءٌ انصب على ماء "، وكان يجوز التوضؤ بالماء الأجاج عند انفراده، وإذا (5) ذاب ملحٌ في ماءٍ يظهر تغيّره به، فيمتنع أهلُ اللسان من تسميته ماء على الإطلاق.
__________
(1) في الأصل: مجاورة الأوراق، والمثبت عبارة (د 3) ، (م) ، (ل) .
(2) في الأصل: " كالجامد " والمثبت من: د3، (م) ، (ل) والجَمْد بفتح الميم وسكونها: الماء إِذا تجمد، (المعجم والمصباح) .
(3) مزيدة من (م) .
(4) في (م) : نفسه، وكذا في (ل) .
(5) في (م) : بخلاف ما إِذا ذاب ملح في ماء، فيظهر تغيره به. =(1/13)
وما ذكرناه في الملح المنعقد من الماء، فأما الملح المنتقَر (1) المحتفر من الجبال، الذي لم يُعهد منعقداً من الماء، فإذا ظهر تغيّر الماءِ به، قطعنا بزوال طهوريته، ولم ندرجه في الخلاف أصلاً، ومن ظنّ فيه خلافاًً، فهو غالط.
فرع:
13- إذا وقع في الماء كافورٌ صلبٌ، وغيّر رائحة الماء، فقد ذكرنا أن الماء طهورٌ عند الأئمة، والمجاورة لا أثر لها، فلو كان كافوراً رَخواً (2) ، فذاب في الماء، وخالطه، وظهرت رائحتُه، والكافور قليل، وسبب تغيّر الماء ظهورُ الرائحة الفائحة الغالبة، فمن لم يكتف من أئمتنا بأدنى تغيّرٍ، واتبع الاسم، حكم بأن هذا الماء طهور.
ومن صار إلى أن التغيّر اليسير بالزعفران يسلب تطهير الماء، فقد اختلفوا في الصورة التي ذكرناها، فذهب بعضهم إلى أنه لا يجوز التوضؤ به؛ فإنّه متغيّر والكافور مخالط في محل التصوير.
وذهب الأكثرون إلى جواز التوضؤ به، فإن الكافورَ وإن كان مخالطاً، فليست المخالطة سببَ التغيّر، وإنما سببُ التغيّر قوة ريح الكافور، فالماء في معنى ما يتغيّر بمجاورة الكافور.
فرع:
14- إذا جرت رياح في الربيع (3) ، ونثرت الأوراقَ الرطبة، وتغيّرت المياه بها، فمن اتبع المخالطة والمجاورة، منع التوضؤ به إذا تغيّرت المياه بمخالطة الأوراق إياها.
ومن اعتبر في أصل الباب التعذّر والتيسُّر في الاحتراز، اختلفوا في هذه الصورة؛ وسبب الاختلاف أن ما تعلق بالأعذار، فكل عذر يعمّ وقوعُه أثّر، وكل
__________
(1) المنتقر: من انتقر الشيء: احتفره. (المعجم) فالمحتفر هنا عطف بيان للمنتقر.
(2) رخواً بفتح الراء وكسرها، أي هشّاً. (المختار) .
(3) ذِكْرُ (الربيع) هنا له معنى مقصود؛ إِذ تختلف أوراق الربيع عن أوراق الخريف، بما فيها من (رطوبات) تجعل عصيرها مخالطاً للماء، بعكس أوراق الخريف الجافة، التي لا تخرج عن كونها (مجاورة) .(1/14)
عذر يندر وقوعه، فإذا وقع، تردد الأئمة فيه، فمنهم من ينظر إلى وقوعه إذا وقع، وألحقه بما يعمّ وقوعه، ومنهم من ألحقه بما يتيسّر الاحتراز منه؛ فإن العسر الذي يتعذّر احتماله إنّما يتحقق فيما يعمّ، وما يندر في الأحايين في حكم عارضةٍ تزول.
وسيأتي ما يمهّد هذه القاعدةَ في مسائل التيمّم، إن شاء الله عز وجل.
فرع:
15- إذا طُرح كفٌّ من التراب في كوز ماءٍ فكدّره، فمن اتبع اسمَ الماءِ في الطريقةِ المرضيّة جوّز التوضؤ به؛ فإن التغيّر بالتراب لا يسلب اسمَ الماءِ.
ومن راعى المخالطةَ، اختلفوا في أن الترابَ مخالطٌ أو مجاورٌ.
وقد أجريتُ ذكرَ هذا في أثناء تمهيد الأصل.
فإن قيل: إنَّه مجاور، لم يضرّ، وجاز التوضؤ به.
وإن قيل: إنه مخالط مغيّر، فقد اختلف هؤلاء الآن في جواز التوضؤ به، فمنعه بعضُهم للتغير والمخالطة، وتيسُّر الاحتراز عنه في هذه الصورة.
وأجازه بعضُهم ذهاباً إلى أن التراب طاهر طهورٌ؛ فهو موافق للماءِ في صفته، فلا يضر تغيّر الماء به.
وهذا من ركيك الكلام، وإن ذكره طوائف؛ فإن التراب غيرُ مطهرٍ، وإنما عُلِّقت به إباحةٌ بسبب ضرورة.
والكلام في أصله مفرعٌّ على طريقةٍ غير مرضيّة، وإذا طال التفريعُ على الضعيف، تضاعف ضعفه.
فرع:
16- إذا صُبَّ على ماءٍ قليلٍ مقدار من الماوَرْد، ولم يكن له طعمٌ محسوس، يخالف طعمَ الماء، ولا ريحٌ، فإن كان مقدارُه بحيث لو فُرض له طعمٌ مخالف لطعم الماءِ لغيَّره، على ما ذكرنا كلامَ الأصحاب في معنى التغير المؤثّر، فإذا بلغ الذي لا طعم له في الكثرة هذا المبلغ، لم يجز التوضُؤ بذلك المختلط؛ فإن ظهور صفة المخالط إن كانت له صفة، إنما أثَّر من حيث أشعر باختلاط الماءِ بغيره، فإذا تحققنا اختلاطهما، فليس المختلط ماءً مطلقاً، ومقدار المخالط كثيرٌ بحيث لا يُعدّ مثله مغموراً.(1/15)
وإن كان مقدارُ الماوَرْد الخليِّ عن الطعم قليلاً، بحيث لو فرض له طعمٌ، لم يظهر طعمُه في هذا المقدار من الماء، فالوجه أن ننُبّه على مثار الإشكال في ذلك، ثم نوضّح المذهبَ.
فنقول: إذا كان مخالطُ الماء جامداً، وكان يسيراً مغموراً، فالجاري على أعضاء الطهارة ماءٌ (1) لا شك فيه، وإذا كان المخالط مائعاً، فقد نعتقد أنه لم يجرِ على البدن الماءُ المحض، فمن هذه الجهة تردد الأئمةُ على ما أصف مسالكهم.
فأقول: إن كان مع الرجل مقدار من الماء لا يستوعب بدنَه في الغُسل، فصبّ عليه من المَاوَرْد ما كمّله، وكان مقدارُ المَاوَرْد مع ذلك قليلاً، على ما سبق طريقُ اعتبار القلة، فمقدار الماء يجوز استعماله من هذا المختلط، وهل يجوز استعمال الزائد عليه؟ فعلى وجهين: أحدهما - وهو مذهب أبي علي الطبري (2) على ما ذكره العراقيون: أنه لا يجوز استعمال الزائد عليه؛ لأنّا لو جوزناه (3) -وإنّما كمل مقدار الوضوء بالمخالِط- فنعلم قطعاً أن الماء لم يعم أعضاءَ الوضوء.
قال العراقيون: هذا غلطٌ منه، والصحيح استعمال الزائد؛ فإن المخالط مغمور، فكأن المختِلطَ ماءٌ كله.
وكان شيخي يصحح الوجه الأول، ويزيّف ما صحّحه العراقيون، ويعتلّ بما وجهنا به ذلك الوجه.
__________
(1) عبارة (م) : "ماءٌ وغيره، وهذا لا شك فيه".
(2) أبو عليّ الطبري، ويعرف أيضاً بصاحب الإِفصاح. وهو الحسين بن القاسم، وهو عند أبي إسحاق الشيرازي في طبقاته وابن خلكان، والنووي في التهذيب "الحسن بن القاسم" وكذا عند ابن النديم في " الفهرست". توفي سنة 350 هـ.
وهو من أصحاب الوجوه المشهورة في المذهب، وصنف في " أصول الفقه "، وفي " الجدل " وفي " الخلاف "، وهو من تلاميذ أبي علي بن أبي هريرة (طبقات الفقهاء للشيرازي: 94، وفيات الأعيان: 2/76، تهذيب الأسماء واللغات: 2/261، طبقات الإِسنوي: 2/154، طبقات الشافعية الكبرى للسبكي: 3/280، والفهرست لابن النديم: 300) .
(3) جواب "لو": فنعلم قطعاً أن الماء لم يعم أعضاء. وعبارة (م) : لأنا لو جوزناه، كمل مقدار الوضوء بالمخالط....(1/16)
وما صححه العراقيون يتجه بشيء ظاهر، وهو أن مقدار الماء يجوز استعمالُه قطعاًً وفاقاً، مع العلم بأنه إذا استعمل، فليس ماءً محضاً، وإذا لم يكن محضاً، فليس الواصل إلى الأعضاء ماء.
ومن تمام البيان في ذلك أن مقدارَ الماء إن كان يأتي على الوجه واليدين، ويقصُر عن الرجلين، فيصحّ غسل الوجه واليدين بهذا المختلط، وفي غسل الرجلين الخلاف المذكور، وإن كان مقدار الماء كافياً لوضوءٍ، صحّ الوضوءُ به، مع الاقتصاد في استعمال الماء، وفي استعمال الفاضل في طهارةٍ أخرى الخلاف.
وإن كان مقدار الماوَرْد في القلَّة، بحيث لا يتبيّن له في الحس أثر في تكميل مقدارٍ، ولا يظهر عند عدمه في الماء قصور في مُدرَك الحس، فلا أثر لذلك المخالِط قطعاً.
فإن قيل: قد ذكرتم في أول الكلام تقديرَ طعم المخالط، فما وجه ضبط القول فيه؟ والأمر يختلف بحِدة الطعم ونقيضها، فإن [احتدّ] (1) طعمُ الشيء، غلبَ القليل منه، وإن لم [يحتدّ] (2) ، لم يغلب إلا مقدارٌ زائد. قلنا: أقصدُ (3) الأمور ووسطها معتبرنا في ذلك.
وقد نجز الغرض من أصل الباب وتفريعه.
فصل
قال الشافعي: "ولا أكره الماءَ المشمَّسَ إلا من جهة الطب ... إلى آخره" (4) .
17- يكره استعمالُ الماءِ المشمَّس في الجواهر المنطبعة، كالرصاص والنحاس
__________
(1) في الأصل: " اتحد " والمثبت من: (د 3) ، (م) ، (ل) .
(2) في الأصل: " يتحد " والمثبت من: (د 3) ، (م) ، (ل) .
(3) في (د 3) : " قصد "، وكذا في (م) ، (ل) .
(4) الأم: 1/3.(1/17)
وغيرهما، وقد نهى عمر رضي الله عنه عن ذلك، وقال: " إنه يُورث البرص " (1) ، ورُوي أن عائشة، أم المؤمنين رضي الله عنها، كانت تشمّس الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تفعلي يا حميراء، فإنه يورث البرص " (2) .
وقال الأئمة: إنما ثبتت الكراهيّة بشيئين يجتمعان، أحدهما - أن يجرى [التشمِيسُ] (3) في البلاد الحارّة، دون المعتدلة والباردة.
والثاني - أن يكون التشمِيس في الجواهر التي ذكرناها، فإنّ حَمْيَ الشمس إذا اشتدّ على الماء فيها، فقد يعلوها شىء كالهباء، وهو الضارُّ فيما قيل. فأما التشميس في الخزف والغدران (4) ، فلا يضرّ أصلاً.
وإذا كان المرعيُّ أمراً يتعلق بالطبّ، فلا فرق بين أن يشمَّس الماء قصداً، وبين أن تنتهي الشمس إلى إناءٍ من غير قصدٍ.
__________
(1) أثر عمر رواه الشافعي في الأم (1/3) عن إِبراهيم بن محمد، عن صدقة بن عبد الله، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله: أن عمر كان يكره الماء المشمس ... الخ.
قال الحافظ: "صدقة ضعيف، وأكثر أهل الحديث على تضعيف " إِبراهيم "، لكن الشافعي كان يقول: إِنه صدوق، وإن كان مبتدعاً ... ولحديث عمر الموقوف هذا طريق أخرى، رواها الدارقطني (1/39) من حديث إِسماعيل بن عياش، حدثني صفوان بن عمرو، عن حسان بن أزهر، عن عمر، قال: " لا تغتسلوا بالماء المشمس، فإنه يورث البرص " وإسماعيل صدوق فيما يروي عن الشاميين، ومع ذلك لم ينفرد به، بل تابعه عليه أبو المغيرة ... " انظر (التلخيص 1/27، 28 ح 8) .
(2) حديث "لا تفعلي يا حميراء ... " أخرجه الدارقطني (1/38) وابن عديّ في الكامل (3/42) ، وأبو نعيم في الطب، والبيهقي (1/6) من طريق خالد بن إِسماعيل، عن هاشم بن عروة، عن أبيه عنها. قال ابن عدي: " خالد كان يضع الحديث "، وتابعه وهب بن وهب أبو البخترى، عن هشام، قال: ووهب أشرّ من خالد. راجع (تلخيص الحبير: 1/24، 25 ح 5) لترى كل ما قاله الحافظ في رجال هذا الحديث، وطرقه. ونلاحظ أن إِمام الحرمين يورد الحديث بصيغة التمريض: "روي".
(3) في الأصل: " الشمس " والمثبت من: (د 3) ، (م) ، (ل) .
(4) الغدران: جميع غدير، والغدير في الأصل، القطعة من الماء يغادرها السيل، والمراد هنا، تشمس الماء في مقره في الأرض.(1/18)
وخصصّ الشيخ أبو بكر (1) النُّحاسَ بالاعتبار من سائر الأجناس.
وأنا أقول: يَبعُد أن ينفصل من إناء الذهب والفضّة، مع طهارتهما شيء محذورٌ، وكان شيخي يطردُ قولَه فيما ينطبع وينطرق.
وقال العراقيون: تختص الكراهة بما قُصدَ تشميسه دون ما يتفق، ولم يتعرضوا لتفصيل الجواهر، وهذا غلطٌ.
وأنا أقول: ليست الكراهية في هذا الفصل مؤثرةً في تنقيص مرتبة الطهارة؛ فإن سبب الكراهية حِذارُ الوَضَح (2) ، وهذا يتعلق بالاستعمال في الوجوه كلها.
وأما الماء المسخّن، فلا كراهية في استعماله أصلاً.
فصل
18- إزالة النجاسة عند الشافعي رحمه الله تختصّ بالماء، وقد تخيّل رضي الله عنه اختصاص إزالة النجاسة بالماء تعبداً، من حيث رأى الماءَ في الشرع هو المعدّ للطهارات، وقد قررت ذلك على أقصى الإمكان في الخلاف (3) مع (4) إشكاله. والله أعلم.
***
__________
(1) الشيخ أبو بكر، لعله يقصد به الصيدلاني، فهو الذي يعبر عنه أحياناً بـ "شيخنا"، وأما (أبو بكر) الباقلاني، فيعبر عنه بـ (القاضي) ، والباقلاني أكثر ذكراً في الأصول والكلام، بل لعلّه لا يذكر -عند إِمام الحرمين- في الفقه أصلاً، وأبو بكر الفارسي ذكره مرتين فقط في هذا الجزء الأول (الطهارة) .
ويقطع كل احتمال أن النووي في المجموع: 1/88 نسب هذا الكلام للصيدلاني صراحة.
(2) الوَضَح: البياض. والمراد هنا داء البرص.
(3) أي في كتبه التي ألفها في الخلاف، وهي (الأساليب) و (الغنية) و (العمد) و (الدرّة) وهي الوحيدة التي وقعت لنا للآن، وقد نشرت بتحقيقنا، ولكن ليس فيها هذه المسالة.
(4) في (د 3) : وبينا إِشكاله.(1/19)
باب الآنية
قال الشافعي رضي الله عنه: "ويُتوضاً في جلود الميتة إذا دُبغت ... إلى آخره" (1) .
19- الأصل المرجوع إليه في الدِّباغ الحديث، وهو ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مرَّ بشاةٍ ميّتةٍ لمولاةِ (2) ميمونة، وروي لميمونة، فقال: " هلا أخذتم إهابها، فدبغتموه، فإنتفعتم به " فقالوا: يا رسول الله إنها ميتة. فقال: " أيما إهابٍ دُبغ، فقد طهر " (3) .
وروي أنه قال: " أليس في الشث والقرظ ما يطهّره؟ " (4) .
__________
(1) ر: المختصر: 1/3.
(2) في (م) : لآل.
(3) حديث شاة ميمونة بهذا السياق الذي ذكره إمام الحرمين، ملفقٌ من حديثين، وقد رواه مسلم الحيض، باب طهارة جلود الميتة بالدباغ، ح 363، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، إِلى قوله: " إِنها ميتة " ولفظه في مسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنما حرم أكلها".
أما حديث: " أيما إِهابٌ دبغ، فقد طهر "، فقد رواه الشافعي (الأم: 1/7) عن ابن عيينه عن زيد بن أسلم سمع ابن وعلة، سمع ابن عباس، سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " أيما إِهاب دبغ، فقد طهر " وكذا رواه الترمذي في جامعه: اللباس، باب ما جاء في جلود الميتة إذا دُبغت، ح 1728، عن قتيبة عن سفيان، وقال: " حسن صحيح ". ورواه مسلم، ح 366، بأكثر من طريق كلها عن ابن عيينه، بلفظ " إذا دبغ الإهاب، فقد طهر ".
انظر (تلخيص الحبير: 1/75، 76 ح 39، 40) .
(4) هذه الرواية أخرجها الدارقطني (1/41، 42) بإِسناد حسن، من حديث ابن عباس، ولكن بلفظ: " أوليس في الماء والقرظ ما يطرها "؟ وقال النووي في شرح المهذب: " ليس للشث ذكر في الحديث، وإنما هو من كلام الشافعي ".
وقال الشيخ أبو حامد الإسفراييني، شيخ الشافعية في العراق في " التعليقة ": جاء في الحديث: " أليس في الماء والقرظ ما يطهرها؟ " وهذا هو الذي أعرفه مروياً، قال: " وأصحابنا يروونه: الشث والقرظ، وليس بشيء ". =(1/20)
وروي أنه قال: " إنما حرم من الميتة أكلها " (1) . وعن سودة بنت زمعة، أنها قالت: "ماتت لنا شاة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدبغنا إهابها، فما زلنا ننبذ فيه، حتى صار شَنّاً (2) بالاستعمال".
20- وقد اختلف مذاهبُ الأئمّة في جلود الميتاتِ، والذي نذكره منها لتمهيد أصل الباب - مذهبُ أحمدَ بنِ حنبل (3) ، وقد صار إلى أنَّ الدباغ لا يطهّر جلدَ ميتةٍ، واستدلّ بما روي عن عبد الثه بن عُكَيْم الجهني: " أنه قال: ورد علينا كتابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل موته بشهرٍ: أن لا تنتفعوا من الميتة بإهابٍ ولا عصبٍ " (4) .
وكلُّ حديث نُسب إلى كتابٍ، ولم يُذكر حامله، فهو مرسلٌ، والشافعي لا يرى التعلّقَ بالمراسيل. وقد قيل: أراد النهيَ عن الانتفاع قبل الدباغ، فإن اسم الإهاب
__________
= والشث: بالثاء المثلثة نبتٌ طيب الرائحة، مرّ الطعم، يُدبغ به. ويروى بالباء الموحَّدة، الشبّ: وهو من الجواهر التي جعلها الله في الأرض، تشبه الزاج يدبغ به. (تلخيص الحبير: 1/79، 80 ح 43، والزاهر في غريب ألفاظ الشافعي: 59) .
(1) هذا جزء من رواية مسلم كما أشرنا آنفاً.
(2) رواه البخاري: كتاب الأيمان والنذور، باب إذا حلف أن لا يشرب نبيذاً، فشرب طلاءً أو سَكَراً أو عصيراً، لم يحنث في قول بعض الناس، ح 6686) والشن: الجلد البالي.
(3) ر. الإنصاف للمرداوي: 1/86، كشاف القناع للبهوتي: 1/54.
(4) حديث عبد الله بن عكيم: استدلّ به الإِمام أحمد كما أشار إِمام الحرميني، وردّه الإِمام كما ترى بالإِرسال، أو بتخصيص النهي بأنه عن (الإِهاب) قبل أن يدبغ، وقد أعله الحافظ في التلخيص، بالاضطراب مع الإِرسال، والانقطاع. وعورض بالأحاديث الدالة على الدباغ، ورجّحت بأنها أصح، وقيل: يمكن الجمع بين أحاديث الدباغ وحديث ابن عكيم بأن النهي الوارد به خاص بالإِهاب قبل الدباغ. أما محدّث الديار الشامية الشيخ ناصر الألباني، فقد صحح حديث ابن عُكيم، وأغلظ في تعقب الحافظ، نافياً الإِرسال والاضطراب. هذا والحديث رواه أحمد في المسند: 4/310، 311، وأبو داود: اللباس، باب من روى أن لا ينتفع بإهاب الميتة، ح 4127، والترمذي: اللباس، باب ما جاء في جلود الميتة إذا دبغت، ح 1729، والنسائي: الفرع والعتيرة، باب ما يدبغ به جلود الميتة، ح 4249-4251، وابن ماجه: اللباس، باب من قال: لا ينتفع من الميتة بإهاب ولا عصب، ح 3613، والطيالسي: 1293، والطحاوي في شرح معاني الآثار: 1/271، والبيهقي: 1/14، وابن حبان: 2/286 ح 1274، 1275.
وانظر (تلخيص الحبير: 1/76-78 ح 41، وإرواء الغليل: 1/76-79) .(1/21)
يتناول ما لم يدبغ، فأمّا إذا دُبغ استجدّ اسماً جديداً: يسمّى أديماً أو صَرْمَاً أو سخْتِياناً (1) .
فإذا ثبت أصل الدِّباغ، فالكلام بعده في ثلاثة فصول: أحدها - فيما يقبل الدِّباغ.
والثاني - في كيفية الدبِّاغ.
والثالث - في حكم الجلد بعد الدِّباغ.
[الفصل الأول فيما يقبل الدباغ] (2)
21- فأمّا ما يقبل الدِّباغَ، فالمعتبر عند الشافعي النظرُ إلى طهارة الحيوان، ونجاستِه، في حال الحياة، فكل حيوان كان طاهراً في حياته، فإذا مات طهر جلدُه بالدِّباغ، سواء كان مأكولَ اللحم، أو لم يكن، وكل حيوانٍ كان نجسَ العين في حياته، فلا يَطهُر جلدُه بالدِّباغ.
ثم الحيوانات كلها طاهرةُ العيون إلا الكلبَ، والخنزيرَ، والمتولد منهما، أو من أحدهما، وحيوانٍ طاهرٍ.
وإثبات نجاسة عين الكلب -ردّاً على أبي حنيفة (3) - يتعلق بالخلاف.
والذي تَمُسّ الحاجةُ إلى ذكره في تمهيد المذهب، أن الدِّباغ جارٍ مجرى الرُّخَص الّتي لا يتبيّن للناظر فيه معنىً يستقيمُ على السَّبْر؛ فإن جلدَ الميتة نجسُ العين كسائر أجزائها، ولذلك يحرُم بيعُ جلدِ الميتة قبلَ الدباغ، فالمتبعُ في كون الدباغِ مُطَهِّراً، حديثُ شاةِ ميمونة.
22- ثم اختلفَ نظرُ العلماء: أمّا أحمد بنُ حنبل، فرأى التعلقَ بحديث عبد الله بنِ
__________
(1) الأديم: الجلد المدبوغ، والصَّرْم بالفتح والسكون: الجلد وهو معرّب، أصله بالفارسية: (جرم) والسَِّخْتِيان: بفتح السين المشددة وكسرها، وسكون الخاء المعجمة، وكسر المثناة الفوقية، جلد الماعز المدبوغ. معرب أيضاً (المصباح والمعجم) .
(2) زيادة من عمل المحقق.
(3) ر. المبسوط: 1/202، بدائع الصنائع: 1/63، الهداية مع فتح القدير: 1/82، حاشية ابن عابدين: 1/139.(1/22)
عُكَيْم لاشتماله على تاريخٍ مُشعِرٍ بالتأخّر، ورأى حديثَ ميمونة منسوخاً - وقد تكلمنا على الحديث.
23- وذهب الزهري (1) إلى أن جلدَ الميتةِ طاهرٌ من غير دباغٍ، وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قصّة شاةِ ميمونة: " هَلاّ أخذتم إهابها، فانتفعتم به ".
وليس للدِّباغ ذكرٌ في هذه الرواية.
ومعظم العلماء رأَوْا التعلق بالروايات التامّة المشتملة على ذكر الدباغ.
24- وذهب أبو ثور (2) ، والأوزاعي (3) إلى أنه لا يَطهُر بالدباغ إلا جلدُ ما يُؤكل لحمُه إذا مات.
وإنما حملهما على ذلك اختصاصُ خبرِ الدباغِ بالشاةِ الميتةِ، مع ما قرّرنا من أن الدباغ في حكم الرُّخص، وسبيلها أن لا يعدّى بها مواضعها في الشرع، ثم لا شك أن كل ما يُؤكل لحمه في معنى الشاة.
25- وأما أبو حنيفة، فإنّه صار إلى أن جلدَ الكلبِ يَطهُر بالدباغ (4) . وطريقة مذهبه التعلقُ بعموم لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، إذ قال: " أيّما إهاب دُبغ، فقد
__________
(1) الزهري: أبو بكر محمد بن مسلم، ابن شهاب الزهري، التابعي. أعلم الحفاظ. توفي سنة 124 هـ. (تذكرة الحفاظ: 1/108) .
(2) أبو ثور، إِبراهيم بن خالد بن أبي اليمان أبو ثور الكلبي البغدادي، قيل: كنيته أبو عبد الله ولقبه أبو ثور، كان أحد أئمة الدنيا، فقهاً وعلماً وورعاً، وفضلاً وخيراً، كان يتفقه بمذهب الأحناف، حتى قدم الشافعي بغداد، فلزمه، وهو من جهابذة الحديث، الذابين عن السنة توفي 240 هـ. قال النووي: ومع صحبته للشافعي، فهو صاحب مذهب مستقلّ، لا يعد تفرده وجهاً في المذهب. (ر. تهذيب الأسماء واللغات: 2/200، طبقات السبكي: 2/74، طبقات الفقهاء للشيرازي: 92) .
(3) الأوزاعي، الإمام عبد الرحمن بن عمرو بن يُحْمِد أبو عمرو الأوزاعي، أحد أماثل المجتهدين، وَأفاضل المحدّثين، وأكابر أصحاب المذاهب المدؤنة المتبوعة، وإن انقرض مذهبه بانقراض أصحابه والمنتصرين له. توفي 157 هـ (ر: الدكتور عبد الله محمد الجبوري - فقه الإِمام الأوزاعي: 1/103، وتهذيب الأسماء واللغات: 1/298، وأعلام الزركلي) .
(4) ر. البدائع: 1/85، رؤوس المسائل: 97 مسالة: 4، الهداية مع فتح القدير: 1/81، حاشية ابن عابدين: 1/136.(1/23)
طهر " (1) . وقطع النظر عن اختصاص القصة بالشاةِ.
26- والشافعي لم يسلك مسلك الأوزاعي في الأخذ بخصوص السبب، ولم ير أيضاًً إجراءَ (2) اللفظ العام على كل جلدٍ. ولا يستدّ على السبر غيرُ مذهبه. فأما التعلق بخصوص السبب فغيرُ صحيحٍ؛ فإن لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقلٌ بالإفادة؛ فلا يُخصّص بسبب، كما لا يخصّص بمخاطَب.
وأمّا أبو حنيفة، فإنه لم يطرد مسلكه؛ إذ حكم بأن جلدَ الخنزير لا يَقبلُ الدباغ (3) ، ولا ينقدح فرقٌ لفظيٌّ ولا معنويٌّ بين الكلب والخنزير.
فأما الشافعي، فإنه نظر إلى ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من استعمال الأشياء الحادّةِ كالشَّثّ والقَرَظِ، وغاص على فهم معنىً، وهو أن سبب حكم الشرع بنجاسةِ الميتات، أنها بانقطاع الحياةِ عنها تتعرض للبلى والعَفن والإنتان، والمصير إلى الحالات المستكرهة، فإذا دُبغ الجلد كما سنصف الدّبْغَ، لم يتعرض للتغير، وقد بَطل حصرُ (4) اللفظِ على خصوص السبب، وامتنع التعميمُ لما ذكرنا في جلد الخنزير.
وأرشد الدِّباغ إلى معنى يضاهِي به المدبوغُ الحيوانَ في حياته؛ فإن الحياةَ مدْرأةٌ للعَفن، والموتُ [مجلبةٌ] (5) له، والدِّباغ يردّه إلى مضاهاة الحياة في الخروج عن قبول التغير المستكره؛ فانتظم له من ذلك اعتبار المدبوغ بالحي.
__________
(1) سبق الكلام على هذا الحديث.
(2) إِلى هنا انتهت الأوراق الموجودة من نسخة (د 3) .
(3) ر: مختصر الطحاوي: 17، الهداية مع فتح القدير: 1/81، حاشية ابن عابدين: 1/136.
(4) في (م) : حمل، وكذا (ل) .
(5) في الأصل: مخيلة، بمعني مظنَّة، وعلامة، وعلة، من الإِخالة، والإِخالة عند الأصوليين هي المناسبة، والمناسبة هي الملاءمة، وهي موافقة الوصف أي العلة للحكم، بأن يصح إِضافة الحكم إِليه (ر. التهانوي، محمد أعلى بن علي - موسوعة اصطلاحات العلوم الإِسلامية: 2/454، 6/1367 - دار خياط - بيروت - بدون تاريخ - مصورة من طبعة قديمة - 1278 هـ=1860م) . والمثبت من (م) ، (ل) .(1/24)
فقال: كلُّ ما يكون طاهراً حيّاً، فإذا مات عاد جلدهُ بالدِّباغ طاهراً، وكل ما يكون نجساً حيّاً؛ فالدِّباغ لا يطفر جلدَه، ثم ثبت عنده نجاسةُ عينِ الكلب من نجاسةِ لعابِه.
فهذا مأخذُ مذهبِ الشافعي فيما يقبل الدِّباغ وفيما لا يقبل.
فرع:
27- جلدُ الآدمي يخرّج أولاً على طهارة جُثّة الميت من الآدميين، فظاهر النص أن جُثة الميتِ من الآدميين طاهرةُ، وفيه تخريج، وسيأتي ذلك.
فإن حكمنا بطهارةِ الجُثة، فالجلدُ طاهرٌ في نفسه، ولكن يَحرُم استعمالُه لما فيه من الامتهانِ، والإذلال.
وقد قيل: لو أُبين جزءٌ من الآدميّ؛ فهو نجس لانقطاعه عن حرمة الجملة، وإن كنّا نحكم بطهارة جُثة الميت. وهذا غلطٌ، والوجه اعتبار الجزءِ المبان بالجثة بعد الموت.
وإن فَرّعنا على نجاسةِ جُثةِ الآدمي، وحكمنا بنجاسةِ جِلده على ذلك، فالدباغ يُطَهّرهُ على ظاهر المذهب؛ طردًا لما مهدّناه من اعتبار المدبوغ بالحي، والآدمي طاهرٌ في حياته.
وقيل: لا يطهرُ؛ لأن الدباغ محرَّم لما فيه من الامتهان، وقد تقرر أن طهارة المدبوغ مأخذها الرُّخَص، والرُّخص لا تُناط بالمعاصي. وهذا فاسد؛ فإن الدِّباغ لا يحرُم لعينه، وإنما يحرُم وقوعُ الامتهان على أي وجهٍ فُرض.
الفصل الثاني في حقيقة (1) الدباغ
28- لابد من الاعتناء بفهم الغرض من الدّباغ؛ فإن العلم بحقيقة هذا الفصل مترتب عليه.
فأقول: لم يختلف علماؤنا في أن الإهاب قبل الدباغ نجسُ العين، ولذلك امتنع بيعُه، وليس كالثوب المتضمخ بالدم. ثم ألحق ملحِقون الدِّباغ في تفصيله بإزالة النجاسات عن مواردها.
__________
(1) في (م) : كيفية.(1/25)
وألحقه آخرون بالاستحالةِ من حيثُ إن الجلدَ يستحيلُ عن فَجاجته وتعرُّضه للعَفن بالدبغ - إلى النظافة، ولين العريكة.
وهو على الحقيقة بَيْن الإزالة، والاستحالة؛ فإن في الإهاب قبل الدبغ رطوباتٍ فِجّةً، وفضلاتٍ لزجةً [وهي] (1) مخامرةٌ [لجِرم] (2) الجلد، والفسادُ يتسرعّ إلى تلك الفضلاتِ، ثم يَفسد بفسادها الجلدُ. والغرضُ من الدّباغ انتزاع تلك الفضلات من ظاهر الجلد، وباطنه، بالأشياء الحادة النافذة فيها، كالشثّ، وقِرْف القَرْف المقشر (3) ، وقُشورِ الرُّمّان، والعَفص (4) ، والملحِ وغيرِها. فإذا زالت بقي جِرُم الجلدِ طيّبَ الرائحة غيرَ قابل للعَفن، ليّن العريكة، لا يعود فسادُه عند النَّقْع في الماء، فلم يكن الدِّباغ كزالة النجاسة عن شيءٍ طاهر الجوهر، ولم يكن كالاستحالة المعلومة. فإن الاستحالة إنما هي تغيّر صفة المستحيل، لا زوالُ عينٍ عنه، كالخمر إذا زالت شدّتُها واستعقب زوالُها صفةً أخرى، قيل: استحالت؛ فالدباغ من حيثُ إنه فصلُ عينٍ من الجلد يشبه إزالةَ النجاسة، ومن حيثُ إنه يفيد انقلابَ الجلد من النجاسة إلى الطهارة يشبه الإحالة. فلما تردّد الدباغ كذلك، جرى القول في تفصيله متردِّداً.
فنقول أولاً: لا بدّ من إزالة الفضلات، ولا يتأتّى قلعُها إلا باستعمال الأشياء الحادّة، ولا يكفي [عقدُ] (5) الفضلات، وتجميدُها. فلو شُمّس الجلدُ، وتُرِّب، فالفضلات باقية، ولكنّها جامدة. وآية ذلك أن الجلدْ لو نُقع في الماء بعد ذلك، عاد إلى فساده؛ لأن تلك الفضلات باقية، ولكنّها تعقّدت بالتجفيف، وقد عادت سيّالة بالنقع في الماءِ (6) .
__________
(1) في الأصل: وهن، وهو تصحيف ظاهر. والمثبت من (د 3) ، (م) ، (ل) .
(2) في الأصل: لحوم.
(3) قرفُ كل شيء قشرهُ، والقَرفُ بالفتح شجرٌ يدبغُ به (القاموس، والمعجم) وفي (ل) : كالشت، والقرظ، وقرف الرمان.
(4) العفص: شجرة البلّوط، وثمارها، وهو دواء قابض مجفف (المعجم) .
(5) في الأصل: عند. والمثبت من (د 3) ، (م) ، (ل) .
(6) في (م) : في الماء النقيع، (ل) : في النقيع.(1/26)
فرع:
29- اختلف أئمتنا في أنه هل يجب استعمال الماء الطهور حالةَ الدَّباغ (1) ؟: فقال بعضهم: يجب؛ فإن الدَّبغ إزالةُ عينٍ نجسةٍ، كما قررنا ذلك في صورة الدِباغ، فيتعيّن الماء في تلك الإزالة؛ اعتباراً بكل إزالة.
وقال المحققون: لا يجب استعمال الماءِ حالةَ الدَّبغ؛ فإن الدَّبغ وإن كان يزيل فضلات، فالجلدُ لا يطهر بزوالها، بل طهارة الجلد بسبب أنه كان متعرّضاً للتغير، وقد خرج بسبب زوال الفضلات عن قبول التغيّر؛ فكان ذلك فيه بمثابة استحالة الخمر خلاًّ؛ إذ لو كان ذلك إزالةً، لحكمنا بطهارة جِرم الجلد قبل انفصال الفضلات عنه.
فإن حكمنا بأنه لا يجب استعمال الماء في الدَّبغ، فلا كلام.
وإن قلنا: إنه يجب، فلم يستعمله الدَّابغ؛ فالجلد نجس العين كما كان.
وكان شيخي يقول: " إنْ طلب تحصيلَ طهارته، فلا بد من ردّه إلى المدبغ، وإعادة دبغه ".
والسبب فيه أن الفضلات انتزعت من داخل الجلد، وكنا على هذا الوجه نؤثر إيصال ماءٍ طَهورٍ. إلى مَنافِذ الداخل. فإن لم يفعل، فحكم النجاسة لا يزول عن الباطن، ثم الماء المجرد لا يصل إلى الباطن حتى يصحبه شيء حِرِّيفٌ حادٌّ يحتدّ الماء به، ويرقّ الحرّيف بالماء، فيصلان. وإذا فرض ذلك، [كان] (2) صورة دِباغٍ [ثانٍ] (3) فهذا معنى قول شيخي: لا بد من ردّ الجلد إلى المدبغ.
30- وأنا أقول: إذا حدث نزعُ الفضلات بالأشياء الحادّة، فلا يبعد أن يكتفي بنقع الجلد في ماء طَهور؛ فإنه إذا فَعل ذلك وصل الماء إلى الباطن، ولكن لا يتأتى قَلع الرطوبات ابتداء بمجرّد الماء، ود انقلعت الآن بما تقدم من غير ماءٍ، فلم يبق إلا تعبّدٌ في وصول الماءِ، وهذا يحصل بما ذكرناه من النقع، والعلم عند الله تبارك وتعالى.
__________
(1) ناقش إِمام الحرمين هذه المسالة في كتابه (الدرة المضية) ص 10.
(2) زيادة من (م) ، (ل) .
(3) زيادة من (م) ، (ل) .(1/27)
ثم من أوجب على طريقة شيخي استعمالَ الماء مع شيءٍ حِرّيف، فلا يمتنع عنده استعماله متغيّراً بحرِّيف، وينزل ذلك عنده منزلة التعفير في غسلةٍ من الغسلات السبع من ولوغ الكلب، كما سيأتي.
وإن اتجه ما ذكرته من الاكتفاء بنقعه في الماء بعد انقلاع الفضلات؛ فلا يبعد أن أقول: يتعين هذا من حيث إنه إيصال ماءٍ طَهورٍ غيرِ متغير إلى الباطن. ولا يدرأ هذا إلا ظنّ من يظنّ أن الوصول إلى جميع أجزاء الباطن لا يحصل إلا بمصاحبة حريفٍ للماء. والله أعلم.
31- وكان شيخي يذكر الخلاف في استعمال الماء من وجهٍ آخر، ويقول: ما ذكرناه هو استعمال الماء حالة الدِّباغ. فإذا دُبغ الجلد كما ذكرناه، فلا يخلو ظاهر الجلد عن أجزاء من الشّثِّ لاصقةً به، فهل يجب صب ماءٍ قَراحٍ (1) على ظاهر الجلد ليزيل ما ذكرناه؟ فعلى وجهين: أحدهما -وهو الأصح- أنه يجب؛ فإن تلك الأجزاء تنجست بملاقاة الجلد أولاً، وهي باقيةٌ، فلا بد من إزالتها، وليست تلك الأجزاء كداخل الدَّن الذي استحالت الخمر فيها خلاً؛ لأن المراد بالحكم بنجاسة داخل الدَّنّ مجاورة أجزاءِ الخمر إيّاه، وقد انقلبت تلك الأجزاء خلاً طاهراً. وهذا لا يتحقق في الأجزاء التي تنجست بملاقاة الجلد [النجس] (2) .
والوجه الثاني - لا يجب استعمال الماء آخراً؛ فإن المتبع في الحكم بطهارة الجلد بالدِّباغ الخبرُ. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أيْما إهابٍ دُبغ، فقد طهر". وهذا قد دُبغ.
وليس لقائلٍ أن يقول: عادةُ الدبَّاغين غسلُ الجلود آخراً. فإنّ ذلك ليس كذلك، ونحن نرى الأجزاء التي ذكرناها تُنتقص من الجلود وهي تستعمل، فليقع الاكتفاء بما يُسمى دِباغاً.
ثم من أوجب غسل الجلد آخراً يحكم بطهارة عين الجلد قبل الغَسل [ويراه] (3)
__________
(1) قراح: خالص.
(2) في الأصل: بالنجس، والمثبت من (م) ، (ل) .
(3) مزيدة من (م) ، (ل) .(1/28)
كالثوب النجس ولا يمتنع بيعه. ومن شرط استعمالَ الماء حالة الدبغ -إذا لم يستعمل- يرى الجلدَ نجسَ العين، كما تقدم تفريعه.
الفصل الثالث في حكم الجلد بعد الدّباغ
32- فالمنصوص عليه للشافعي رحمه الله في الجديد، أن الجلدَ إذا دُبغ، طهر ظاهره وباطنه، وتجوز الصلاة فيه ملبوساً، كما تجوز الصلاة عليه مفروشاً، ويجوز استعماله في الرطب واليابس، ويجوز بيعه.
ومذهب مالك (1) فيما حكاه أصحابنا أنه لا يطهر بالدباغ إلا ظاهرُ الجلد.
وهذا غير صحيح من جهة أن عينَ الجلد كان نجساً قبل الدباغ، ويستحيل أن ينقلب ظاهره طاهراً دون باطنه.
ونقل عن الشافعي قولٌ في القديم يمنع بيعَ الجلد بعد الدِّباغ، وكان شيخي يحكي عن القفال: إنه لا ينقدح توجيه هذا القول إلا بتقدير قولٍ للشافعي موافقٍ لمذهب مالك في أن باطن الجلد لا يَطهر؛ إذ لو كان طاهراً، لم يتجّه لمنع البيع وجهٌ؛ إذ البيعُ تارةً يمتنع لتعظيم الحرمة، كما يمتنع بيع الحُرّ، وقد يمتنع لخسّة الشيء، كما يمتنع بيعُ النجاسات، ولو كان المدبوغ طاهراً ظاهراً وباطناً، لما كان فيه مانع عن البيع من الجهتين اللتين ذكرناهما. وقوله عليه السلام: " هلاّ أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به " عامّ في جهات الانتفاع، غير مُشعر بمنعِ البيع.
وعلى الجملة معتقدي أن الأقوال القديمة ليست من مذهب الشافعي، حيث كانت؛ لأنه جزم القول على مخالفتها في الجديد، والمرجوع عنه لا يكون مذهباً للراجع.
فرع:
33- اشتهر اختلاف الأئمة في أن جلد الميتة إذا دبغ، وحكمنا بطهارة باطنه وظاهره، فهل يحل أكله؟
فمنهم من حرّم. وهو الظاهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قصّة
__________
(1) ر. الإشراف على نكت مسائل الخلاف للقاضي عبد الوهاب: 1/110 مسألة: 10، عيون المجالس للقاضي عبد الوهاب: 1/178 مسألة: 43، جواهر الإِكليل: 1/9.(1/29)
ميمونة: " إنما حرم من الميتة أكلُها "، فأباح الانتفاعَ بعد الدباغ، وحرم أكل الميتة.
ومنهم من أباح؛ لأنه طاهر غيرُ مضرٍّ، وليس في تعاطيه هتك حرمةٍ، ولا يمتنع أن يُجعلَ هذا حدّاً لما يؤكل. ومنهم من قال: ما لا يؤكل لحمه لا يحل أكلُ جلده بعد الدباغ، وما يحل لحمه إذا ذكي، يحلّ جلدُه إذا دبغ بعد الموت؛ فإن الذكاة هو السبب الظاهر في التحليل.
فإذا كانت الذكاة لا تفيد في حيوانٍ حِلاًّ، يستحيل أن [يفيد] (1) الدبغُ في جلده بعد الموت حِلاًّ.
فصل
قال الشافعي: " ولا تطهُر بالدباغ إلا الإهاب وحده ... إلى آخره " (2) .
34- مقصود هذا الفصل الكلامُ في الشعور والعظام، فنبدأ بالشعور والأصواف والأوبار والرّيش.
فنقول: ظاهر نصّ الشافعي هاهنا أنه يَثبت للشعور حكمُ الحياة في الاتصال، وحكم الموت بموت الجملة، أو بالانفصال منها، مع بقاء الحياة.
وكلام الشافعي في الجراح يدل على أنه لا يثبت للشعور حكمُ الحياة والموت في الاتصال والانفصال (3) .
وحكى إبراهيم البلدي (4) عن المزني: أن الشافعي رجع عن تنجيس الشعور،
__________
(1) في الأصل: يقبل، والمثبت تقدير منا، صدقته (م) ، (ل) .
(2) ر. المختصر: 1/3.
(3) عبارة (م) : أنه لا يثبت للشعور حكم الحياة في الاتصال، وحكم الموت بموت الجملة وبالانفصال منها مع بقاء الحياة.
(4) إِبراهيم بن محمد البَلَدي، نسبة إِلى (بَلَد) كذا قال النووي في تهذيب الأسماء، ولم يعيّن أي بَلَد. وهي عند ياقوت اسمٌ لموضعين، وكذا عند السمعاني في الأنساب، أحدهما - مدينة قديمة على دجلة فوق الموصل، والآخر يقال لمدينة الكَرَج، بين همذان وأصفهان، ولم يذكره ياقوت، ولا السمعاني فيمن نسب إِلى أيهما، وكذا لم نجده في أعلام الزركلي، ولا في سير أعلام النبلاء للذهبي، ولا في وفيات ابن خلّكان، وترجم له السبكي في الطبقة =(1/30)
فاتفق أئمتنا على أن المسألة على قولين، وعبّر الفقهاء عنها بالتردّد في أن هذه الأشياء هل تحُلُّها الروح عند الاتصال بالحيوان؟ وهل يحُلّها الموت عند الانفصال؟ فأجْرَوا القولين في ذلك، ثم جعلوا الأحكام تفريعاً على ذلك.
وهذا إن تجوزوا به على طريق الاستعارة؛ فهو محتمل، وإن أجْرَوه عن عقدٍ، فهو باطل؛ فلا شك أن الشعور بمثابة الناميات، وليس فيها الخاصّية التي تتميّز بها ذوات الأرواح من الناميات.
فالوجه أن نقول في التعبير عن القولين: يثبت لها حكم الحياة، والموت، عند الاتصال والانفصال في قول، ولا يثبت لها الحكمان في القول الثاني، وهي كالجمادات في جميع الحالات، وتوجيه القولين يُستقصى في الخلاف.
التفريع:
35- إن حكمنا بأنها كالجمادات، فهي في أنفسها طاهرةٌ في كلِّ حالٍ: اتصلت، أو انفصلت. وإذا مات الحيوان، لم يلحقها حكم النجاسة.
وأما شعور الكلب والخنزير، فقد قطع الصيدلاني بنجاستها، وإن كانت جامدة، تغليظاً لحكم هذين الجنسين؛ فإن الحياة دارئةٌ للنجاسة، ثم لم تدرأ نجاسةَ الكلب.
فكذلك الجمادية من مقتضيات الطهارة؛ إذ لا نرى جماداً غيرَ مستحيل في حيوانٍ إلا وهو طاهر، فليُسْتثن شعرُهما من الجمادات، كما استُثني من الحيوانات عينُهما (1) .
وقال شيخي: " إذا فرّعنا على هذا القول، فظاهر المذهب أن شعرهما طاهر ". وذهب أبو حامد المرْوَرُّوْذي (2) إلى طهارتهما.
__________
= الثانية، وكذا ذكره العبّادي في الطبقة الثانية في المقلّين المنفردين بروايات، وروايته هذه عن رجوع الشافعي عن تنجيس الشعور حكاها عنه الغزالي في الوسيط، ومن قبله الماوردي وجماعات، "والرجل معروف الاسم بين المتقدمين غير أن ترجمته عزيزة". ولم نجد من ذكر تاريخ وفاته، ولكنه على أية حال مذكور في الطبقة الثانية، وهم من توفي قبل الثلاثمائة (ر. معجم البلدان لياقوت، والأنساب للسمعاني، وتهذيب الأسماء واللغات للنووي: 1/105، وطبقات السبكي: 2/255، والوسيط للغزالي: 1/355) .
(1) عينهما: أي الكلب والخنزير.
(2) أبو حامد، الشيخ أحمد بن بشر بن عامر العامري، المروَرُّوذي بميم مفتوحة، ثم راء ساكنة ثم =(1/31)
ووجه ما ذكرته أن الشعور على هذا القول من الجمادات، ولا حكم لاتصالها بالحيوانات، فكأنها جمادٌ منفصل عن الحيوان، وليس له حكم الجُزئيةِ؛ فلا يلحقها حكم تغليظ الكلب.
وإن فرّعنا على القول الثاني، فلا شك في نجاسة شعر الكلب والخنزير.
36- فأما ما عداهما من الحيوانات، فنذكرها في قسمين:
أحدهما - فيما سوى الآدميّين.
والثاني - في الآدميين.
أما القسم الأول - فالشعور المتصلة بالحيوانات الطاهرةِ العيون طاهرةٌ. وإذا ماتت، فإنها تنجس بنجاشة الجُثّة؛ إذ هي من أجزائها على هذا القول. ثم إذا دُبغت الجلودُ وطَهرت، فهل تَطهر الشعورُ تبعاً لها، كما كانت طاهرة في الحياة؟
فعلى قولين: أحدهما - لا تَطهر؛ فإن المعتمد في طهارة جلود الميتات بالدِّباغ؛ الخبرُ؛ وقد اقتصر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذكر الإهاب في أخبار الدِّباغ؛ وأيضاً لا أثر للدِّباغ في الشعور؛ فإنه لا يغيّر صفتها.
والقول الثاني - حكاه الربيع بن سليمان الجيزي (1) عن الشافعي: أنها تطهر تبعاً؛ فقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا بأس بمَسْك الميتة إذا دُبغ،
__________
= واو مفتوحة، ثم راء مضمومة مشدّدة، ثم واو ساكنة، ثم ذال معجمة، نسبة إلى مرو الروذ.
وقد يقال له المرُّوذي تخفيفاً، صدرٌ من صدور الفقه كبير، وبحرٌ من بحار العلم غزير، ويعرف
في كتب المذهب بالقاضي أبي حامد، بخلاف الشيخ أبي حامد الإِسفراييني. صحب أبا إِسحاق المروزي، وكتابه (الجامع) أمدح له من كل لسان ناطق، وعنه أخذ فقهاء البصرة.
توفي سنة 362 هـ (ر. تهذيب الأسماء واللغات: 2/211، طبقات السبكي: 3/12، 13، وطبقات الفقهاء: 114) .
(1) الربيع الجيزي، الربيع بن سليمان، أبو محمد الأزدي المصري الأعرج، أحد أصحاب الشافعي، وحملة علمه، ورواة كتبه، له ذكرٌ في المهذب في موضع واحد فقط في روايته عن الشافعي طهارة الشعر تبعاً للجلد، وذكر في الروضة في كتاب الشهادات في روايته عن الشافعي كراهة القراءة في الألحان (طبقات السبكي: 2/132، وتهذيب الأسماء واللغات: 1/187) .(1/32)
ولا بصوفه، وشعره إذا غُسل " (1) . وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان مطلقاً في الإهاب في أخبار الدباغ؛ فهو محمول على جريان العرف بتبقية الشعور على كثير من الأهب.
وأما عدم تأثير الدّباغ فيها، فنقول: أليس حكمنا بنجاستها وإن لم تتعرض للعَفن والبلى تعرضَ الجلود، ولكنها تنجست تبعاً فليكن أمر الطهارة على التبعيّة ثابتاً فيها، وإن لم تتأثّر بالدِّباغ.
ثم لقائل أن يقول: لو تُرك الجلد، لتمرّط الشعر منه باسترخاء المنابت وعُفونتها، فإذا تماسكت المنابت بالدّباغ، أثر ذلك في تطاول أمر بقاء الشُعور. فهذا حكم الشعور إذا مات الحيوان.
37- فأما إذا جُزّت الشعور في الحياة؛ فالقياس الحكم بنجاستها؛ قياساً على سائر أجزاء الحيوانات إذا فصلت في الحياة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما أُبينَ عن الحيّ، فهو مَيّت " (2) .
وهذا القياس مجرى مُطّرد في الحيوانات التي لا يُؤكل لحمها.
فأمّا الحيوانات المأكولة إذا جُرّ منها شُعورها، فهي طاهرة باتفاق الأمم، والقياس يقتضي النجاسة؛ وسبب طهارتها مسيسُ الحاجة إليها في ملابس الخلق، ومفارشهم.
__________
(1) حديث: " لا بأس بمسك الميتة " أخرجه الدارقطني: 1/47، والبيهقي في السنن الكبرى: 1/24 من حديث أم سلمة، وفيه راوٍ متروك، وقال عنه البخاري: منكر الحديث. والمسك: الجلد. وزان فَلس.
(2) حديث " ما أبين من حي فهو ميت " روي من حديث أبي واقد الليثي، وابن عمر، وأبي سعيد الخدري، وتميم الداري رضي الله عنهم، كما روي مرسلاً. وأخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة، والدارمي، والحاكم بألفاظٍ متقاربة مثل: "ما قطع من البهيمة وهي حية"، " ما قطع من حيّ "، ولم يأت بلفظ "ما أبين" إلا الذهبي في تلخيص المستدرك (4/124) . (ر. أحمد: 5/218، أبو داود: الصيد، باب في صيد قطع منه قطعة ح 2858، وصحيح سنن أبي داود ح 2543، الترمذي: الأطعمة، باب ما قطع من الحي فهو ميت، ح: 1480، ابن ماجه: الصيد، باب ما قطع من البهيمة وهي حية، ح 3216، وصحيح ابن ماجة ح 2206، الدارمي: 2018، الحاكم: 4/124، 239، تلخيص الحبير: 1/39، ح 14) .(1/33)
ولا تسدّ الشُعور التي تمرط من المُذكَّيات -بالإضافة إلى الحاجات- مسدّاً، فجرى حكمُ الشرع بتطهيرها مجرى الحكم بطهارة الألبان.
والقياس أن تنجس؛ فإنها مستحيلات في باطن الحيوانات كالدماء، وسائر الفضلات، ولكن امتن الله تعالى على عباده بإباحتها وطهارتها؛ حتى يتقوّت أرباب المواشي بها، ويستبْقوا أصول المواشي.
وأما شعور الحيوانات التي لا تؤكل لحومها، فمقرّةٌ على القياس؛ لأنه ليس يظهر احتياجٌ إليها، بخلاف الأصواف والأوبار.
ثم ما يُنتف من الشعر كالمجزوز، وما يَنسلّ بنفسه كذلك، ولا فرق، وليس الجز ذبحاً للشعر، حتى تُعتبر فيه شرائط الذبح (1) ، وإنما المتّبع الحاجةُ كما تقدم. هذا بيان أحد القسمين.
38- فأما الثاني - فالغرض منه شعر الآدمي. والوجه بناؤه على القول في نجاسة الآدمي إذا مات. فإن حكمنا بطهارته، فالشعر طاهرٌ إذا فصل منه، وإن حكمنا بنجاسة الآدميّ إذا مات -وهو خلاف ظاهر النص- فإذا انفصل منه الشعر، حُكم بنجاسته.
ثم إن حكمنا بنجاسة شعور الآدميين، ففي شُعور رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهان: ذكرهما الصيدلاني: أحدهما - إجراؤُها على القياس. والثاني - الحكم بطهارتها تخصيصاً له بهذه الكرامة؛ لأنه صح أنه أمر بتفرقة شعره على أصحابه (2) ، ولم ينههم عن استصحابها في صلواتهم.
فإن حكمنا بطهارة شعره بخلاف شعر غيره، ففي فضلات بدنه كبَوْله، ودمه،
__________
(1) عبارة (ل) : حتى يشترط إيمان الذابح.
(2) الحديث متفق عليه من حديث أن بلفظ أنه صلى الله عليه وسلم: "ناول الحالق شقه الأيمن، فأعطاه أبا طلحة، ثم ناوله شقه الأيسر، فحلقه، فقال: اقسمه بين الناس". (البخاري الوضوء، باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان، ح 170، 171. ومسلم: الحج، باب بيان أن السنة يوم النحر أن يرمي ثم ينحر، ثم يحلق، ح 1305. وانظر تلخيص الحبير: 1/82 ح 45) .(1/34)
وغيرهما وجهان: أحدهما - الجريان على القياس، وقد تقرر أنه عليه السلام كان يتنزه عن فضلاته تنزّهَ غيره. وكان لا يتخصّص عن البشر فيما يتعلق بطهارتي الحدث، والخبث.
والثاني - أنها طاهرة؛ لما روي أن أبا طيبةَ الحاجم شَرِب دم رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فلم يُنكر عليه. وقال: " إذاً لا يبجع بطنك " (1) ، وشربت أم أيمن بولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إذاً لا تلج النار بطنك " (2) .
وقد يتجه في الخبرين أن يقال: إنما لم يُنكر عليهما، لعلمه بأنهما تداويا بما شرباه، وقد يجوز التداوي بالأشياء النجسة، كما نذكر ذلك في الأطعمة.
فرع:
39- إذا حكمنا بنجاسة شُعور الآدميين، فما ينتف من اللحية واللِّمّة على العرف الغالب معفوٌّ عنه، وإن كان نجساً كدم البراغيث والبثرات؛ إذ لا يمكن التحرز من انتتافهما.
ثم القول في الفصل بين القليل والكثير فيهما كالقول في دم البراغيث، على ما سيأتي ذكره، ولعلّ القليل من الشعر مما يغلب انتتافه مع اعتدال الحال.
فهذا كافٍ في التنبيه الآن.
__________
(1) حديث "أن أبا طيبة شرب دم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينكر عليه" قال الحافظ في التلخيص: الظاهر أن صاحب هذه الرواية غيرُ أبي طيبة، بل هو مولى لبعض قريش، وليس صحيحاً أيضاً، وفي رواية أخرى وردت في حق سالم أبي هند الحاجم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: " ويحك يا سالم أما علمت أن الدم حرامٌ، لا تعد " وفي إِسناده مقال أيضاً. أما لفظ " إِذاً لا يبجع بطنك " فلم يورده ابن حجر، هنا، ولكنه في بعض روايات حديث أم أيمن الآتي بعده. وأشار الحافظ إِلى رواية للبزار، وابن أبي خيثمة، والبيهقي في الشعب والسنن: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ضحك رضاً بشرب الحجام. ولم يتكلم فيها (ر. التلخيص: 1/30 ح 17، والسنن الكبرى للبيهقي: 7/67) .
(2) حديث أم أيمن له أكثر من رواية ذكرها الحافظ في التلخيص، ووافق ابن دحية أنهما قضيتان وقعتا لامرأتين. وهو حديث ضعيف، من جهة بعض رواته، ومن جهة أن الراوي عن أم أيمن نبيح العنزي، وهو لم يرها. (ر. تلخيص الحبير: 1/31 ح 20، مستدرك الحاكم: 4/63، 64، المعجم الكبير للطبراني: 25/89، 90 ح 230، أبو نعيم في الحلية: 2/67، السنن الكبرى للبيهقي: 7/67، نيل الأوطار: 1/106) .(1/35)
40- فأمّا العظام، فقد قطع الصيدلاني القولَ بأنه يثبت لها حكمُ الحياة، والممات، بخلاف الشُعور، والقُرون، والأسنان، وما أشبهها من العظام.
وكان شيخي يُجري فيها القولين المذكورين في الشعور.
وأبو حنيفة ألحقها بالشعور؛ فنفى حكم الحياة عنها (1) .
وسبب هذا التردد في العظام، أن الناس يعتقدون أن العظام تألم كسائر أجزاء الحيّ بخلاف الشُعور. والشرع يُبنى في أمثال ذلك على معتقد الناس. وهي أيضاً تتعرض للبلى والعفن والإنتان بالموت.
وهذا سبب اقتضاء الموت للنجاسة.
والذي يحقق ذلك أن الأصحاب أجمعوا على أن وَدَك عظم الميتة نجس، وقد كان طاهراً في حياة الحيوان المأكول، فلو لم ينجس العظم بالموت، لما تنجس الوَدَك الذي فيه؛ فإن الوَدَك لا يتصف بموتِ ولا حياة.
وهذا من لطيف الكلام.
وقد بَقَّيتُ فيه مضطرَباً لفكر الفقيه، واقتصرت على التنبيه.
ثم من حكم بطهارة عظم الميتة، فيمنع صب شيء رَطب فيه؛ لما فيه من الدسم، فإن أمكن استخراجه بحيلةِ، فيجوز إذ ذاك.
فصل
41- الحيوان المأكول اللحم إذا ذكي، فلا شك في طهارة لحمه وعظمه؛ إذ لا خلاف في تحليلهما، وكذلك لا خلاف في طهارة جلده بالذكاة، قال أئمتنا: المُذكَّى في الحِسّ مَيتةٌ، وهو معرض للتغيّر على ما تقدّم، ولكن أباح الله اللحوم من الحيوانات الطيبة؛ ليتقوّى بأكلها الناس.
وكان لا يبعد عن القياس إبقاء جُلودها على قياس جُلود الميتاتِ، ولكنّها مأكولةٌ
__________
(1) ر. رؤوس المسائل: 99 مسألة: 6، الهداية مع فتح القدير: 1/84، حاشية ابن عابدين: 1/138.(1/36)
على الرُّؤوس، والأكارع، والمسموط؛ فهي من أجزاء اللحم، وإن كانت تتجافى عنه بالسلخ.
ثم تتبعُ الشعورُ الجلودَ في الطهارة وفاقاً للتبعيَّة المرعيَّة، وإن كان ما ذكرناه من مشابهة الجلود اللحومَ لا يتحقق فيها، وقد ينقدح فيها كلامٌ لطيفٌ: وهو أنه إذا أُوجبَ (1) الحكمُ بطهارة الجلد كما سبق تقريره، وللشعر أصول مستترة بالمنابت لا يتأتى استئصالها إلا بالاعتناء بنتف آحادها؛ اقتضى ذلك الحكمَ بطهارتها؛ ثم لا يتبعّض حكم الشَّعر (2) في الطهارة، والنجاسة.
فأما الحيوان الذي لا يُؤكل لحمُه إذا ذُكِّي، فذكاته كموته عندنا، وحكم الجِلد والشَّعر على ما عُلم في جلد الميتة وشعرها.
فرع:
42- إذا ماتت الدجاجة وفي بطنها بيضة، فإن كانت سيالة بحيث تخالطها الرُّطُوبات، فهي نجسة، وإن اكتست بالقَيْض (3) الحائل، فوجهان: أصحهما - الطهارة؛ فإنها ليست متصلةً اتصال خِلقَةٍ بل هي مُودَعة.
فصل
قال الشافعي: " ولا أكرَهُ من الآنِيةِ إلا الذَّهَبَ والفِضَّةَ ... إلى آخره " (4)
43- استعمال أواني الذهب والفضة محرّم؛ لما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الذي يشربُ في آنية الذهب والفضة إنما يُجرجر في بطنه نارَ جهنم " (5) .
__________
(1) أوجب الحكم: ثبت. وفي (م) : وجب.
(2) في (م) الشرع.
(3) القيض: القشرة العليا على بيضهَ الدجاجة (ر. القاموس والمعجم) .
(4) ر. مختصر المزني: 1/4.
(5) حديث: "الذي يشرب في آنية الذهب والفضة ... " متفق عليه من حديث أم سلمة، وليس فيه الذهب، وفي رواية أخرى عند مسلم بلفظ: "إن الذي يأكل أو يشرب في آنية الذهب والفضة ... " (البخاري: الأشربة، باب آنية الفضة، ح5634، مسلم: اللباس والزينة، باب تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الشرب وغيره، ح 2065، وانظر تلخيص الحبير: 1/51 ح 47) .(1/37)
وقد ذكر الشافعي الكراهيةَ، وأراد به التحريمَ، [وهو يعتاد ذلك كثيراً، والدليل على التحريم] (1) الوعيد المنقول عن النبي عليه السلام.
وحكى العراقيون قولاً للشافعي في أن استعمالَها مكروه غيرُ محرم، ولم يعرِف المراوزة ذلك، ونقلوا نصاً للشافعي في نفي التحريم مجملاً (2) ، ثم أوّلُوه، وحملوه على أن المشروب في نفسه ليس بمحرّمٍ، فليقع التعويل على التحريم.
ثم سلك الصيدلاني، وشيخي، وغيرُهما مسلكاً أسرُده على وجهه، ثم أذكر المختار عندي.
قد قالوا: للأئمة طريقان: منهم من خصّص التحريم بالنقدين من غير رعاية معنىً، وزعم أن اختصاص التحريم بهما كاختصاص أحكامٍ بهما من القراض والنقدية وغيرهما. ومنهم من تخيل معنىً محرماً: وهو إفراط الخيلاء والتزيّي بزي الأعاجم، ثم بنَوا على هذا مسائلَ الفصل، كما سيأتي.
والذي أراه أن معنى الخيلاء لا بد من اعتباره؛ فإنه مما يَبتدر إلى الفهم، وإذا أمكن اعتبارُ المعنى، فحسمه مع القول بالمعاني بعيد. وسأخرّج على ذلك تفريعَ المسائل في الفصل.
44- قال الأولون: إذا اتَّخَذَ إناء نفيساً من غير التبرين، فإن كان سببُ نفاسته حسنَ الصيغة، لم يَحرُم استعمالُه كَالزُّجاج؛ فإن مستعمله لا يُنسب إلى السَّرف والخُيلاء.
وإن كانت سبب النفاسة عزة الجوهر كالفيروزج، وما في معناه، فجواز استعماله مخرج على اختلاف الأئمة في اعتبار المعنى.
فمن خَصّص التحريمَ بالتبرين، لم يُحرِّم غيرَهما. ومن اعتبر الفَخر والسَّرف، حرّم ما علت قيمتُه بجوهره، لتحقق المعنى المعتبر.
45- وأنا أقول: يَبعد حَسمُ باب النظر مع إمكانه، وقد أجمع القيَّاسون على
__________
(1) ساقط من الأصل، وأثبتناه من (م) ، (ل) .
(2) في (م) : "ونقلوا أيضاً للشافعي سلك في نفي التحريم محملا ثم أولوه". وهو تصحيف ظاهر. وفي (ل) : "ونقلوا أيضاً للشافعي في نفي التحريم محملاً، ثم أولوه".(1/38)
استنباط المعنى من الأشياء الستة في الربا، ومسلك المعنى أضيق فيها، فأقول: من خصص التحريمَ بالتبرين، قال: هما يظهران لكافة الناس، فيتبين السّرف من استعمالهما، والجواهر النفيسة يختصّ بمعرفتها ذوو البصائر؛ فجرى الخلاف فيها لذلك.
وألحق شيخي البلّور بالزجاج، وألحقه الصيدلاني، والعراقيون بالجواهر النفيسة.
46- وَيحرم على الرجل التحلّي بالتبرين، كما سأشرحه في كتاب الزكاة. وفي تحريم التحلي بسائر الجواهر احتمالٌ عندي، ولست أحفظ فيه شيئاً.
47- ومن اتخذ إناءً من نحاسٍ أو غيره، وموّهه بأحد التبرين، فإن كانت المموِّهة تجتمع بالنار، حرم استعمال الإناء، وإن كانت مستهلكةً؛ ففي تحريم الاستعمال على رأي الأئمة وجهان: من اعتبر الفخر حرّم، ومن خصص التحريم بالعين المنصوص عليها، لم يُحرَّم؛ فإن العين مستهلكة.
والخلاف عندي [يخرج] (1) على ترديد الرأي في الخيلاء، فمن لم يُحرِّم، قال: لا يكاد يخفى المموَّه، ولا يلتبس بالتبرين؛ فلا يظهر معنى الخيلاء.
وإن اتخذ إناءً من فضةٍ أو ذهبٍ غشاه بالنحاس؛ فاستعماله على الخلاف: فمن اعتبر العين حرَّم، ومن اعتبر الخيلاء، لم يُحرِّم، ولا يخفى تخريج الخلاف على ما ارتضيته.
ولو اتخذ إناءً من ذهب، ثم غشاه بالنحاس من داخله، وخارجه. فالذي أراه القطعُ بجواز استعماله؛ فإن الإناء من النحاس، قد أُدرج فيه ذهبٌ مستتر والله أعلم.
48- ثم اتفق علماؤنا على أنه لا يختصّ تحريمُ الاستعمال بجهة الأكل والشرب، بل يحرم التوضؤ والتجمير والتبخير وغيرها. وهذا يحقق أن معنى السرف معتبر.
وخصص أصحابُ الظاهر التحريمَ بالأكل والشرب.
ولم يختلفوا في أن التحريم يَعُمّ الرجال والنساء.
__________
(1) زيادة من (م) ، (ل) .(1/39)
49- واشتهر اختلاف أئمتنا في أن استصناع هذه الأواني هل يحل؟ وهل للصنعة فيها قيمة، وحرمة؛ حتى يغرَم الكاسر ما ينقُصُه الكسرُ من القيمة؟
فمنهم من ألحقها بآلات الملاهي في إسقاط الحرمة، ومنع الاستصناع.
ومنهم من أثبت للصنعة فيها قيمة وحرمة.
وكان شيخي يقول: في جواز تزيين البيوت والمجالس بها - من غير أن تستعمل في جهةٍ - وجهان مأخوذان من جواز الاستصناع، فإن منعنا ذلك، لم يبق للصنعة حرمة، ولا [لجواز] (1) الاستصناع وجه.
والوجه عندي تحريمُ التزيين بها للسرف، مع الخلاف في حرمة الصنعة.
فإن قيل: فجوّزوا اقتناء المعازف وآلات الملاهي مع تحريم استعمالها. قلنا: النفوس متشوفة إلى استعمالها. ووجودُها داع إليه، وليس كذلك الأواني؛ فإن النفوس لا تلتذ باستعمالها.
50- ومن تمام القول في هذا الفصل: الأواني المضببة بالذهب والفضة، فالطريقة المشهورة أن الضبة إن صغرت ومست الحاجة إليها؛ فاجتمع الصغر والحاجة، حلّ الاستعمال.
وإن كبرت ولا حاجة، حرم الاستعمال؛ لظهور قصد التزين؛ ووجود العين.
وإن صغرت ولا حاجة، أو كبرت ومست الحاجة، فوجهان: فاجتماع الكبر، وانتفاء الحاجة يقتضي التحريم، والصغر مع الحاجة يتضمنان التحليلَ. وإذا وجد صغرٌ ولا حاجة، أو حاجة وكبر، فوجهان (2) .
ومن أصحابنا من قال: لو كانت الضبة تلقى فمَ الشارب، لم يجز وإن صغرت، وتحققت الحاجة. وفي كلام الشافعي دليل على ذلك. وقد رأى الصيدلاني تحريم ذلك مقطوعاً به.
__________
(1) في الأصل: ولا يجوز. والمثبت من (م) ، (ل) .
(2) قال النووي في الروضة: الأصح: يكره. (ر. الروضة: 1/45) .(1/40)
والعراقيون وطوائف من الأئمة لم يعتبروا هذا؛ فإن معنى التزيين إذا زال، وظهرت الحاجة، فالتحليل ظاهر (1) .
وكان شيخي يحكي وجهاً في تحريم استعمال المضَيّب كيف فُرض الأمر، تخريجاً على اعتبار عين التبر، وهى موجودة.
5- وتمام البيان في هذا الفصل يستدعي [بيان] (2) أمرين أبهمناهما: أحدهما - الحاجة، والثاني - الكبر والصغر.
أما الحاجة فلفظة مبهمة، لم أرَ لها تفصيلاً مقنعاً. وأنا أذكر ما يجري في فكري فأقول: لا شك أنهم ما عَنَوْا بالحاجة الضرورةَ الحاقّة، حتى يُظن أن من اضطر إلى استعمال إناء، ولم يجد غير إناءٍ منكسرٍ وضبّهٍ من فِضَّة، ومست الضرورة إلى شَعْبها (3) ؛ فإذ ذاك يَشْعَبُه بها، ويستعمله؛ فإن الأمر لو انتهى إلى ذلك، حلّ استعمالُ إناءٍ من ذهب، فليُخرج الفقيهُ هذا التخيّلَ في معنى الحاجة من فكره.
ونحن نقول وراء ذلك: الحاجةُ تحتمل معنيين: أحدهما - أن من انكسر إناؤه فَشَعَب موضعَ الكسر بالفِضّة، ولم يزد على مقدار الحاجة في الشَّعب، فهذا التضبيب ليس للزينة، وإنما تضبيب الزينة أن يضيِّب [موضعاً لا كسر] (4) فيه، أو يتعدى بالضبّة موضعَ الكسر.
فإذا كانت الضبّةُ صغيرةً على قدر حاجة الشَّعب، فليس فيها خيلاء - وإن كان موضع الكسر متسعاً، وكانت الضبة كبيرة على قدر الكسر، فهي على مقدار الحاجة، ولكن كبرها قد يجرّ فخراً.
وهذا القائل لا يشترط في الحاجة أن يعدِم شَاعِب الإناء ضَبَّةً من غير التبرين؛ فإن
__________
(1) في (م) : "حاشية: وعند العراقيين وجه أنه لا يحرم المضبب بكل حال".
(2) مزيدة من (م) ، (ل) .
(3) شعبها: من شعب الشيءَ إِذا لمَّ صدعَه، وأصلحه، ويقال في الضد أيضاً. (المعجم) .
(4) في الأصل: "موضع الكسر". وفي (م) ، (ل) : موضع لا كسر. والضبط بالنصب تصرف من المحقق.(1/41)
المحذورَ ما يظهر منه الفخر للناظرين، فإذا صغرت [الضبّهُ] (1) وانطبعت (2) في موضع الكسر؛ فليس في صورتها خيلاء. فهذا وجهٌ في معنى الحاجة.
والوجه الثاني - أن يقتصر على مقدار الكسر، ويعدِم ما يُضبّب به من غير التبرين، فإذا ضبب بالفضة على التفصيل المذكور، فهذا تضبيبٌ للحاجة. وتوجيه ذلك أنه في نفسه لو كان يستعمل إناء من فضة إذا استخلى، فما يفعله حرام، وإن كان لا يطلع عليه أحد إلا الله، فكما يحرم الإظهار في ذلك، يحرم الإقدام عليه في الخلوات، فإذا علم الله من رجلٍ تمكنه من شَعْب الإناء بغير التبرين، ثم إنه اعتمد الشَّعْبَ بالفضة، فليس يتحقق مع ذلك الحاجة بوجهٍ بين العبد وربه.
فهذان وجهان في الاحتمال، وقد يخطر للناظر أنه إنما يستعمل المضبّبَ على قدر الحاجة، إذا لم يجد إناءً غيره، فأما إذا كان له أوانٍ، فاعتماد استعمال المضبّب لا يجوز، وهذا بعيد.
والوجه الاقتصار في التردد على الوجهين المقدّمين في معنى الحاجة.
52- فأما معنى الصغر والكبر، فقد تردد فيه بعضُ الأصحاب: فذكر بعضُ من صنّف في المذهب أن الكبير ما يستوعب جزءاً من الإناء، مثل أن يستر أسفله، أو جانباً من جوانبه.
وهذا غلط؛ فإن الإناء إذا كان كبيراً، وكان أسفله ذراعاً في ذراع مثلاً، فما يأتي على ثلثي الأسفل أو نصفِه كبير متفاحش؛ فلا معتبر بما قال هذا القائل.
ولعل الوجه أن يقال: ما يلمع على البعد (3) للناظر؛ فهو كبير، وما لا يكون كذلك؛ فهو صغير؛ فيكون مأخذ ذلك مدانياً لمأخذ القليل والكثير، مما يُعفى عنه
__________
(1) في الأصل: الصبغة. والمثبت من (م) ، (ل) .
(2) في (م) ، (ل) : وانطبقت على.
(3) في هامش (م) ما نصه "حاشية: قال الرافعي: فإن قيل: ما حد القرب والبعد؟ فلعلك تقول المرجع فيه إِلى العرف. فإذا كان كذلك، فلنقل المرجع في القليل والكثير إِلى العرف، وليكون أيضاً وجهاً للأصحاب". (ر. الشرح الكبير - بهامش المجموع - جـ 1/308) والكلام بمعناه، لا بلفظه.(1/42)
من طين الشوارع إذا قلّ، ولا يُعفى عنه إذا كثُر.
وقد يَختلط بذلك طَرفٌ من القول في المموّه، والقولِ في إناء من فضة مغشىً بنحاس، إذا قيل: ما ترون في ضبّةٍ خفيفةِ الوزن بالغَ الصانعُ في ترقيقها وبسطها، فهي تلوح لذلك؟ أو ما ترون في ضبةٍ ثقيلةٍ ضيقة الحجم لا تلوح؟ فيكون مأخذ الإفراط في البسط مع خفّة الوزن من التمويه. ومأخذ الصغَر في مرأى العين مع الثقل من التغشية بالنحاس.
53- وكان شيخي يقول: لا ينبغي أن يسوّى بين الذهب والفضة في الصِّغَر والكِبَر؛ فإنّ القليل من الذهب في إظهار الخيلاء بمثابة الكثير من الفضة، وأقرب معتبر فيه أن ينظر إلى قيمة ضبة الذهب (1) إذا قُوّمت بالفضة.
فهذا مبلغٌ كافٍ فيما نبغيه. وقد سمعت شيخي يتردّد في صغار الظروف من الفضة، كظروف الغوالي (2) والمَكاحل الصغيرة من الفضة.
والوجه عندي تحريم استعمالها.
فصل
قال الشافعي: " لا بأس بالوضوء من ماء مُشرِك ... إلى آخره " (3) .
54- التوضؤ من آنية المشركين جائز، والصلاة في ثيابهم كذلك، إذا لم يغلب على الظن مخامرتهم النجاسات.
وقد شرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوضأ من ماء في مَزَادَة مُشرِكة (4) ،
__________
(1) في هامش (م) : "حاشية: قال النواوي: لكن المذهب تحريم المضبب بالذهب مطلقاً".
(2) الغوالي: جمع غالية، وهو نوع من الطيب، يمزج فيه المسك والعنبر بالبان. (المعجم) .
(3) ر. مختصر المزني: 1/4.
(4) حديث الوضوء من ماء في مزادة مشركة متفقٌ عليه، في حديث طويل عن عمران بن حصين رضي الله عنه. (البخاري: التيمم، باب الصعيد الطيب وضوء المسلم، يكفيه عن الماء، ح 344، مسلم: المساجد، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، ح 682) .
ومن عجب أن محدث الديار الشامية الشيخ ناصر الألباني، يقول في (إِرواء الغليل) -بعد =(1/43)
وتوضأ عمر رضي الله عنه من ماء في جَرّ (1) نصرانية.
والقول الضابط في ذلك، أن ما تحققنا نجاستَه، أو طهارته لا يخفى حكمه.
فأما ما يُتردّد فيه؛ فإنه ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها - ما يغلب على الظن طهارته؛ فالوجه الأخذ بطهارته. ولو أراد الإنسان أن يطلب يقين الطهارة؛ فلا حرج عليه، بشرط ألاّ ينتهي إلى الوساوس التي تُنكد عيشَه، وتُكَدر عليه وظائف العبادات؛ فإن المنتهي إلى ذلك خارجٌ عن مسالك السلف الصالحين، والوسوسة مصدرها الجهل بمسالك الشريعة، أو نقصانٌ في غريزة العقل.
والقسم الثاني - ما يستوي في نجاسته وطهارته التقديران؛ فيجوز الأخذ (2 بطهارته ولو انكفَّ المرءُ عنه، كان محتاطاً.
والقسم الثالث - ما يغلب على الظنّ نجاستُه، فللشافعي 2) فيه قولان: أحدهما -
__________
= أن نقل هذا عن المجد ابن تيمية وابن حجر-: لم أجده. ثم يذكر بعد ذلك حديث عمران بن حصين نفسه، الذي ذكره ابن حجر في (بلوغ المرام) - بطوله، ثم يعقب عليه قائلاً: "فأنت ترى أنه ليس في الحديث توضؤه صلى الله عليه وسلم من مَزَادة المشركة، ولكن فيه استعماله صلى الله عليه وسلم لمزادة المشركة " اهـ قلت: لا أدري ماذا يقصد شيخنا الألباني بأنه صلى الله عليه وسلم لم يتوضأ من مزادة المشركة، ولكنه استعملها؟. ففيم استعملها صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، وفي الحديث ما نصه: " ... دعا النبي صلى الله عليه وسلم بإِناء ففرغ فيه من أفواه المزادتين ... ونودي في الناس: اسقوا واستقوا ... وأعطى الذي اصابته الجنابة إِناءً من ماء، وقال: اذهب فأفرغه عليك" ففيم استعمل المسافرون في الصحراء هذا الماء؟ أفي غير الشرب والطهارة؟ إِلا إِذا أراد أنه لم يجده بهذا اللفظ. والله أعلم. (ر. سبل السلام: 1/71، نيل الأوطار: 1/87، وإرواء الغليل للألباني: 1/72-74) .
هذا، والمزادة بفتح الميم والزاي، بعدها ألف مدّ، ثم دال مهملة مفتوحة، وهي الراوية، ولا تكون إلا من جلدتين، تقام بثالث بينهما لتتّسع، كما في القاموس.
(1) أي من جرار نصرانية، فالجرّ جمع جرّة. (القاموس) وفي (م) جرة.
ووضوء عمر من جرار النصرانية، رواه الشافعي رضي الله عنه عن سفيان بن عيينة عن زيد بن أسلم عن أبيه: أن عمر بن الخطاب توضأ من ماء نصرانية، في جرة نصرانية (ر. الأم: 1/7) ورواه الدارقُطني: 1/32، والبيهقي: 1/32، وأورده المجد في المنتقى، وحكم عليه بالصحة، ووافقه الشوكاني (ر. نيل الأوطار: 1/81) .
(2) ما بين القوسين ساقط من (م) .(1/44)
أنه يجب الأخذ بنجاسته. والثاني - يجوز الأخذ بطهارته.
فوجه جواز الأخذ بطهارته بناء الأمر على ظاهر الطهارة، والمصير إلى أنها مستصحبة إلى أن يطرأ نقيض الطهارة، والاستشهادُ بطهارة الحدث؛ فإن من استيقن طهارةَ الحدث، وغلب على ظنّه الحدثُ بعدها؛ فيجوز الأخذ بما سبق من الطهارة.
ووجه من أوجب الأخذَ بالنجاسة أن الطهارة والنجاسة يتطرق إلى [دركهما] (1) الاجتهاد، وتنتصب عليهما العلامات، وما كان كذلك، وجب الاستمساك فيه بغالب الظن، كسائر المجتَهدات، وبها ينفصل أمر النجاسة عن أمر الحدث؛ فإن الاجتهاد لا يتطرق إلى دَرْكِ الحدث؛ إذ ليس عليه علامةٌ لائحة بها اعتبارٌ.
وتحقيق ذلك أن ما ذكرناه من غلبة الظن لم نعنِ به هاجساً لا مستند له من علامة ظاهرة.
ولو كان مع الرجل إناءان: أحدهما طاهر، والآخر نجس، والْتبس عليه الطاهر منهما، فالأخذ بالاجتهاد، وغالب الظن في هذا محتوم؛ فإن معه ماء مستيقنَ [الطهارة، وماء مستيقن] (2) النجاسة، وإذا لم يكن معه إلاّ إناء واحد، ففي الأخذ بغلبة الظن في النجاسة القولان.
55- ونحن نذكر صوراً يتهذب بها القولان: فإذا ظهر اختلاطُ الرجل بالنَّجاسات وعدمُ تصوّنه منها، مسلماً كان أو كافرا، ففي ثيابه وأوانيه القولان.
وإذا عَتُقت المقبرة وجرى النبشُ في أطرافها؛ فالغالب على الظن انتشارُ النجاسة فيها.
وإذا لم يستيقن نجاسة موضع منها، وغلب على الظن ذلك، ففيه القولان. ففي هذه الصورة نص الشافعي على القولين.
__________
(1) في الأصل: ذكرهما، والمثبت من (م) .
(2) ساقط من الأصل، والمثبت من (م) .(1/45)
وكذلك القولان في طين الشوارع - إذا غلب على الظن اختلاطُه بالنجاسة.
قال شيخي: لو استيقنا نجاسة طين الشوارع، فلا خلاف في العفو عن القليل الذي يلحق ثياب الطارقين؛ فإن الناس لا بدّ لهم من الانتشار في حوائجهم؛ وقد لا يملك كثير منهم إلا ما يكتسبون به، فلو كلفوا الغسل، لغلبت المشقة، وكذلك عفَوْنا عن دم البَراغيث والبَثَرات.
ثم كان شيخي يقول: القليلُ المعفوّ عنه ما لا ينسب صاحبه إلى نكبةٍ، أو عثرةٍ، أو قلّةِ تحفظ عن الطين. وسيأتي هذا الفن في كتاب الصلاة إن شاء الله تعالى.
***(1/46)
[باب] السّواك (1)
قال الشافعي: " وأحب السواك للصلاة ... إلى آخر الباب " (2)
56- استعمال السواك مستحب. وفيه أخبار صحيحة تدل على أنه سنّة مؤكدةٌ.
منها ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لولا أن أشق على أمتي، لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة " (3) . وقال: " السواك مطهرة للفم مرضاة للرّب " (4) .
ثم الكلام في آلة السواك، ووقته، وكيفيته.
57- فأما آلة السواك، فقضبان الأشجار أو عروقها، بها استاك رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسلفُ الصالحون، وظَهر أن الغرض من استعمال السواك إزالة قَلَحِ (5) الأسنان.
__________
(1) في الأصل: "كتاب" والمثبت من (م) ، (ل) ؛ رعاية لعبارة الإمام نفسه.
(2) ر. مختصر المزني: 1/4.
(3) حديث: "لولا أن اشق على أمتي.." متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (البخاري: الجمعة، باب السواك يوم الجمعة، ح 887 والتمني، باب ما يجوز من الَّلوِّ، ح 7240، مسلم: الطهارة، باب السواك، ح 252) . وفي رواية لمالك، ولأحمد (واللفظ له) : "لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء" (الموطأ: 1/66 ح115، وأحمد: 2/256، والبيهقي: 1/35) .
(4) حديث: " السواك مطهرة ... " صحيح رواه أحمد في مسنده: 6/47، 62، 124، 146، 238، والشافعي في الأم: 1/20، والنسائي: الطهارة، باب الترغيب في السواك، ح 5، وابن حبان: 2/201 - حديث: 1064، والبيهقي: 1/34، وعلقه البخاري في صحيحه: 4/187 مجزوماً به (ر. تلخيص الحبير: 1/99 ح 63، إِرواء الغليل: 1/105، نيل الأوطار: 1/125) .
(5) القَلَح: تغيّر الأسنان بصفرة وخضرة تعلوها. من قَلِحت تقلَح، من باب طرب.(1/47)
قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما لكم تدخلون عليّ قُلحاً!! استاكوا " (1) .
ومما يتعيّن الاعتناء به في القواعد، أن من الأصول ما يغلب التعبد فيه، وإن ذكر فيه معنى على بعد، لم يقع في رتبة الجليّات، ومنها - ما يظهر المقصود فيه، ولكنه نُقل مع آلةٍ مخصوصةٍ. فأما ما يقع (2) التعبد فيه، فإنه يختص بالآلة المنقولة، كطهارة الحدث، فإنها مختصة بالماء.
ورأى الشافعي أن يُلحِق إزالةَ النجاسة بطهارة الحدث، مع ظهور المعنى المقصودِ فيها؛ فقال بتعيّن الآلة في إزالتها.
وأما الاستنجاء بالأحجار، فالغرض منه ظاهرٌ وهو قلع عين النجاسة، فلمّا ظهر المقصودُ، لم يختصّ بآلة، بل قيل: كل عين طاهرة منشِّفة غير محترمة؛ فهي صالحة للاستنجاء، فالاستياك عندي في معنى الاستجمار، فالغرض منه إزالة القَلَح، إما بقضبان الأشجار، أو خرقةٍ خشنة. وفيه فيما أظن تثوّبٌ (3) خفي من التعبد؛ فإن من تمضمض بغاسول قلاعٍ، فأزال قَلَح أسنانه، فما أراه مقيماً سنةَ الاستياك، وليس ذلك عريّاً عن احتمالٍ بعيد. ولو كان الرجل نقيَّ الأسنان، قويم الطبيعةِ، لا يغشاها قَلَحٌ، فسنة الاستياك لا تسقط عنه. وهذا يقرّبُ معنى التعبد فيه قليلاً.
والوجه القطع بأنه لا يتعين في الاستياك آلة، إذا كان يزيل القلحَ. وما ذكرناه من التمضمض لا يزيل القَلَح، ما لم يتحامل معه على الأسنان بدَلْكٍ. وما ذكرناه من نقاء الأسنان غيرُ سديد، فإن كل أحد يغشاه قَلَح، وإن قلّ.
فهذا تفصيل القول في آلة السواك، غير أن اتباع السلف حسنٌ في كل شيء.
__________
(1) حديث: "ما لكم تدخلون علي قلحاً" رواه أحمد في مسنده، واللفظ له: 1/214، 3/442، والطبراني في الكبير: 2/64 ح 1301، 1302، 1303، و12/84 ح 12611، والبيهقي: 1/39 قال الهيثمي: فيه أبو علي الصيقل، قيل فيه: إنه مجهول.
(ر. مجمع الزوائد: 1/221، تلخيص الحبير: 1/115) .
(2) في (ل) : يغلب.
(3) تثوَّب: طلب الثواب. وفي (م) : سرٌّ خفي.(1/48)
58- فأما وقت السواك، فالاستياك يتعلق بثلاثة أوقاتٍ: أحدها - تغيّر النَّكهة (1) فمهما تغيرت رائحة الفم بأكل طعامٍ رائحته كريهة، أو نومٍ، أو طول أزْمٍ (2) استَحْبَبنا الاستياك، وإن لم يُرد المرء صلاةً ولا طهارةً. فهذا وقتٌ.
والثاني - القيامُ إلى الصلاة، فمهما أراد الرجل القيامَ إلى الصلاة، استحببنا له أن يستاك، وإن كان لا يتطهّر، قال النبي عليه السلام: " صلاة بسواك أفضل من سبعين صلاةً بلا سواكٍ " (3) .
والثالث - الوضوء، فيستحب لكل متوضىء أن يستاك. وكان شيخي يقول: ينبغي أن يستاك عند كل صلاة، فإن أخطأه ذلك، فعند كل طهارة، فإن أخطأه ذلك، ففي اليوم والليلة مرةً.
وفي السواك سرٌ، سنذكره في أول " باب سنة الوضوء " إن شاء الله عز وجل.
59- فأما كيفية السواك، [فيديرُ] (4) السواك على أسنانه في عرض الوجه، وطوله محاولاً إزالة القَلَح، فإن اقتصر على إحدى الجهتين، فينبغي أن يستاك في عرض الوجه؛ إذ رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه كان يستاك عرضاً " (5) ، ولعل فيه
__________
(1) النَّكهة: ريح الفم.
(2) الأَزْم: السكوت، والامتناع عن الطعام. وعبارة (م) : أو ثوم.
(3) عزاه السيوطي في الجامع الصغير لابن زنجويه عن عائشة في كتاب الترغيب في فضائل الأعمال؛ ونسب المناوي السيوطي إِلى التقصير؛ لاكتفائه بعزوه لابن زنجويه، وقال: بل هو مخرّج عند أحمد، والحاكم في المستدرك، وصححه، وابن خزيمة، والبيهقي وضعفه.
كلهم عن عائشة باللفظ المذكور. وتعقبه النووي كابن الصلاح بأنه من رواية ابن إِسحاق -وهو تقصير- بالعنعنة، فاقتصاره على ابن زنجويه تقصير" ا. هـ بنصه من الفيض. وقد رمز له السيوطي بالضعف، ووافقه الألباني. (ر. فيض القدير: 5/225، أحمد: 6/271، مستدرك الحاكم: 1/146، صحيح ابن خزيمة: 1/71، البيهقي في الكبرى: 1/38، والصغرى: 1/43 ح 80، تلخيص الحبير: 1/111-112، ضعيف الجامع الصغير للألباني ح 3519، سلسلة الأحاديث الضعيفة: 1503) .
(4) في الأصل: فتقدير. والمثبت من (م) ، (ل) .
(5) حديث كان صلى الله عليه وسلم يستاك عرضاً، ويشرب مصاً، ويتنفس ثلاثاً، ويقول: " هو =(1/49)
معنىً: وهو أن الاستياك على طول الوجه إن أُديم واقتصر عليه، فقد يَكشِط عمودَ الأسنان، ويقرح اللثَة.
***
__________
= أهنأ، وأمراً، وأبرأ" أخرجه البيهقي في السنن: 1/40 عن ربيعة بن أكثم، وذكره الألباني في ضعيف الجامع الصغير، وعزاه للبغوي، وابن قانع، والطبراني في الكبير، وابن السني، وأبي نعيم في الطب، كلهم عن بهز، وإلى البيهقي عن ربيعة بن أكثم أيضاً (ر. ح 4557 من ضعيف الجامع الصغير، وح 945 من سلسلة الأحاديث الضعيفة) .(1/50)
باب النية في الوضوءِ
60- طهارات الأحداث تفتقر إلى النّية: وهي الغُسل، والوضوء، والتيمم.
وإزالة النجاسة لا تفتقر إلى النية.
ونسب بعض الأصحاب إلى ابن سُريج (1) وجهاً في اشتراط النيّة في إزالة النجاسة، وهذا غلط، وسنذكر في أحكام النجاسات سببَ هذا الغلط، ثم نذكر كيفية النيّة، ووقتَ النيّة في قسمين.
فأما القول في الكيفية، فتأتي كيفيّة النيّة في الغسل والتيمّم في بابيهما.
61- فأما الوضوء، فينقسم إلى وضوء الرفاهية، وإلى وضوءِ الضرورة، فأما وضوء الرفاهية، وهو وضوء من لا عُذر له من النواقض للطهارة (2) ، ففي النية مسلكان: أحدهما - التعرّض لرفع الحدث، فإذا نوى المتوضىء رفعَ الحدث، صح وضوؤه وارتفع حدثُه.
وإن نوى رفع حدث البول، وكان حدثه نوماً، أو مسّاً، فالوجه القطع بارتفاع الحدث، وصحّة الوضوء، والسبب فيه أن عين الحدث لا سبيل إلى تخيل ارتفاعه، وإنما ثبت بسبب الحدث منعٌ، وهو الحدث على التحقيق، ثم يرتفع ذلك المنعُ بالوضوء، وذلك المنعُ ليس جنساً معيّناً ولا نوعاً مخصوصاً، فإن فُرض
__________
(1) ابن سُريج، أحمد بن عمر، أبو العباس، القاضي، البغدادي، تفقه بأبي القاسم الأنماطي وغيره. حامل لواء الشافعية في زمانه، وناشر مذهب الشافعي، وتفقه به جماعة من حملة المذهب ورفعائه. توفي سنة 306 هـ (ر. طبقات الشافعية الكبرى: الطبقة الثالثة: 3/21، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة الدمشقي: 1/48، وطبقات الفقهاء للشيرازي: 108، والأعلام للزركلي) .
(2) يشير بقوله هذا إِلى أصحاب الحدث الدائم مثل سلسل البول، والاستحاضة. وسيأتي الحديث عن نية الوضوء بالنسبة لهم قريباً.(1/51)
غلطٌ في التعرّض لذكر السبب، فالمقصود ارتفاع الحكم الواقع بذلك السبب، وذلك الحكم لا يتصنّف ولا يتفرعّ.
62- وكان شيخي يذكر هاهنا في وقوع الغلط في تعيين النيّة أقساماً، لا بدّ من ذكرها على إيجاز، فالعبادات تنقسم: فمنها ما يُشترط التعيين في نيّتها، كالصلاة والصوم، ومنها ما لا يُشترط التعيين فيها.
وهذا القسم يَنقسم قسمين: أحدهما - ألا يُشترط التعيين، ولكن لو عيَّن الناوي وغلط، لم يُعتدّ بالعبادة، وهذا كما أنا لا نشترط في نيّة الكفارة التعرض لذكر سببها، ولو نوى من أعتق رقبةً إعتاقها عن يمين، ثمّ تبيّن أنه ما كان حلف، وإنما كان ظاهَر، فالإعتاق لا يقع عن الكفارة التي كانت عليه، وكذلك لو نوى بما يُخرج زكاةَ مالٍ غائب، ثم ظهر له أن ذلك المال كان تالفاً في وقت إخراج الزكاة، فما أخرجه لا ينصرف إلى سائر أمواله. ولو كان نوى بما أخرجه تزكية ماله مطلقاًً، لانصرف إلى ما بقي من ماله الزكاتي. فهذا أحد القسمين.
والقسم الثاني - ألا يضرَّ الغلط في التعيين، وكان يذكر من ذلك ما لو نوى الإمامُ إمامةَ زيدٍ، ثم تبين أن المقتدي به عمرو، فلا يضرّ الغلط في ذلك. ثم كان يقول: حقيقة هذا القسم يؤول إلى أن أصل النية في هذه الصورة غيرُ مشروطٍ في صحّة صلاة الإمام، فإذا عين وأخطأ، لم يضرّ؛ فإن أقصى التقدير بطلانُ النية، ولو لم ينو الإمامُ أصلاً، لصحت صلاتهُ.
ولم يذكر غَلطَ المقتدي في تعيين إمامه، فإن فيه سرّاً سأُظهره في كتاب الصلاة، وكان يُلحق الغلط في تعيين الحدث بالقسم الأخير. وهذا فيه أدنى نظر على موجب تقسيمه؛ فإن أصل النية لا يسوغ تركه في الوضوء.
والذي يكشف الغطاء في ذلك أن المتيمم لو نوى استباحة الصلاة عن الحدث، ثم ظهر له أنه كان جنباً، صح تيمّمه، والغلط من الجنابة إلى الحدث لا أثر له.
ولمّا نقل المزني هذا في التيمم، استشهد عليه بغلط المتوضّىء من حدثٍ إلى حدث.(1/52)
وحكى في غلط المتوضىء إجماعَ (1) العلماء.
63- وأنا أقول: أما سقوط أثر الغلط في التيمم، [فواضح] (2) ؛ فإن التيمم لا يرفع الحدث أصلاً، وإنما أثره في استباحة الصلاة، والأحداثُ ذُكرت أو لم تُذكر باقية لا تزول، فيظهر التحاقُ التيمم في ذكر الحدث بما لا يشترط فيه النية أصلاً. والوضوء يرفع الحدثَ، ففرض الغلط في تعيينه قريب الشبه بالغلط في تعيين أسباب الكفارات.
وسأذكر صورةً بعد ذلك، يتم بذكرها الغرض إن شاء الله تعالى. فهذا ذِكر مسلكٍ واحدٍ في كيفية النية.
64- فأما الثاني - فهو ألا يتعرّض المتوضىء للحدث في نيته، ولكن ينوي استباحة شيء، فإن نوى استباحة ما يفتقر إلى الوضوء، صح وضوؤه، وارتفع حدثُه، واستباح ما عيّن، وما أضرب عن ذكره. فإذا نوى استباحة الصلاة، ارتفع حدثُه، وزال المانع بالكلية، وكذلك إذا نوى استباحة مس المصحف أو حمله. فأما إذا نوى ما لا يشترط فيه الوضوء، ولكن يستحب كقراءة القرآن عن ظهر القلب، ففي المسألة وجهان: أحدهما - لا يرتفع حدثه (3) ؛ فإنه لم ينو ما يمنع الحدثُ منه.
والثاني - يرتفع؛ فإنه لما ذكر ما أمر فيه بالوضوء، وإن كان [ندبًا] (4) ، فقد تعرض للحدث، فارتفع.
ولو كان محدثاً، فظن أنه متطهر، فتوضأ، ونوى تجديدَ الوضوء، فالتجديد على الجملة مأمور به، ولكن المذهبَ أن حدثه لا يرتفع؛ إذ التجديد مأمور به، لا لأجل
__________
(1) ر. المجموع: 1/314، لترى أنه نقل الإجماع في هذا أيضاً، ولترى بهامشها عن نسخة الأذرعي: أن النووي أخذ هذا من كلام (الإِمام) في أوائل باب نية الوضوء. ثم استدرك على النووي بكلام الإِمام، والذي نريده الآن هو إِثبات أن إِمام الحرمين هو المعني بقولهم (الإِمام) مطلقاًً. كما ذكرنا في ترجمته.
(2) يكاد إِمامنا أن يُسقط الفاء في جواب (أما) دائماً. وهي لغة كوفية، وعليها جرت نسخة الأصل، والمثبت من (م) ، (ل) .
(3) وهو الأصح (الروضة: 1/48) .
(4) في الأصل: نذراً. والمثبت من (م) ، (ل) .(1/53)
الحدث، ومن يريد أن يقرأ القرآن عن ظهر القلب مأمور بالوضوء لأجل الحدث؛ فتعلق وضوؤه بقصد رفع الحدث.
فرع:
65- إذا نوى المتوضىء استباحة صلاة بعينها دون غيرها، فعيَّن تيك الصلاة في نيّته، ونفى ما سواها، ففي المسألة وجهان: أحدُهما - أن حدثه باقٍ، ولا يصح وضوؤه أصلاً؛ فإن نيته فاسدة، [فكأنه لم ينو] (1)
والثاني - يصح وضوؤه (2) ، ويرتفع حدثه، فيستبيح ما عيّن وما نفى؛ فإن الحدث لا بدّ من تقدير ارتفاعه في استباحة الصلاة المعينة. وإذا ارتفع حكم الحدث، لم يتبعض، ولا خلاف أنه لو عَيّن صلاةً، ولم ينف غيَرها، ارتفع حدثُه، واستباح كلَّ مفتقرٍ إلى الوضوء، فإذا عين ونفى، لغا نفيُه، وصار كما لو عيّن صلاة، ولم ينف غيرها.
قال الشيخ أبو بكر (3) : لو اجتمعت أحداث ونوى رفع بعضها، ونفيَ ما سواها، ففي المسألة وجهان: أحدهما - لا يصحّ وضوؤه. والثاني - يصحّ ويرتفع جميعُ أحداثه.
66- ولا بدّ بعد هذه الحكاية من التنبيه لأمرين: أحدهما - أن هذا الاختلاف الذي حكاه في ذكر حَدثٍ من الأحداث يوجب لا محالة اختلافاً فيما تقدم ذكره، في أن من غلط من حدثٍ إلى حدث هل يصح وضوؤه؟ إذ منشاً الكلام فيهما يؤول إلى مآلٍ واحد؛ فإن المعتمدَ في أن الغلط من حدثٍ إلى حدث لا أثر له - ما تقدم ذكره من أن الحدثَ هو المانع الحاصل، وذلك في حكم خصلةٍ واحدةٍ، ولا تتنوع (4) ، وهذا بعينه يقتضي سقوطَ أثر العدد في أسباب ذلك المانع، وإذا سقط أثر العدد، والاختلاف، استوى الكلام في تعيين حدث من الأحداث، وفي الغلط من حدث إلى
__________
(1) مطموسة في الأصل. واثبتناها من (م) .
(2) وهو الأصح (الروضة: 1/48) .
(3) المراد الصيدلاني، فهذا لقبه، وهذه كنيته. ويتاكد ذلك منْ متابعة المسألة. وأبو بكر (كنية) لعدد ممن يتردد في (النهاية) لكن لا يذكر به مطلقاً غير مقيد إِلا الصيدلاني.
(4) في (م) ، (ل) : لا تتنوع (بدون واو) .(1/54)
حدث؛ فإن السرّ ذكر اتحاد ذلك المانع، والاتحاد ينافي التعددَ والاختلاف جميعاً.
وسمعت شيخي يذكر وجهاً ثالثاً في ذكر بعض الأحداث، ويقول: " إن نوى رفعَ الحدث الأول، يصح وضوؤه؛ فإنّ ما بعده ليس بحدث، وإن نوى رفع ما بعد الأول، لم يصح ".
وكل هذا حيْدٌ عندي عن الفقه؛ فإن المرعيّ هو المنع، وهو المعنيّ بالرفع.
وما اتحد، فلا يتحقق فيه تعددٌ، ولا اختلاف، ولا يترتب (1) بتقدّم أولٍ وتأخر ثانٍ.
فهذا أحد الأمرين اللذين نبهنا عليه.
67- والثاني - أن الصيدلاني لما ذكر الوجهين -فيه إذا نوى رفع حدث من أحداث- شرط في تخريج الوجهين أن ينوي رفعَ حدث ويَنْفي ما سواه.
ومقتضى كلامه أنه لو نوى رفع حدث معينٍ، ولم يتعرض لنفي ما سواه، صح وضوؤه، كما لو نوى استباحة صلاة بعينها، ولم ينف غيَرها، صحّ وضوؤه، وإنما الوجهان فيه إذا نفى في نيته ما سوى الصلاة المعينة.
وهذا وهمٌ عندي، أما تعيين الصلاة، فلا بد فيه من الفصل بين أن ينفي ما سوى الصلاة المعينة وبين ألا ينفي، فأما إذا اجتمعت أحداثٌ فنوى رفعَ واحدٍ، ولم ينف غيره فينقدح فيه ذكر الخلاف؛ فإنه لم يتعرّض لما بقي من الأحداث، فقد يتخيل أنه لا يرتفع ما لم يذكره. فأما إذا عيَّن صلاة ولم ينف غيرها، فمقتضى (2) استباحة تيك الصلاة ارتفاع جميع الأحداث، وهذا بيّن لا إشكال فيه.
فهذا بيان كيفية النية في وضوء الرفاهية.
68- فأما النية في طهارة الضرورة، وهي طهارة المستحاضة، ومن به سلس البول والحدث الدائم، فقد قال الأئمة: لو نوت المستحاضةُ رفعَ الحدث بوضوئها، واقتصرت على نية الرفع، لم يصح وضوؤها؛ فإن الوضوء لا يَرفع ما سيقعُ من الأحداث بعده، والأحداث الدائمة تقارن الوضوء، فليس رافعاً.
__________
(1) في (م) : ولا تثريب.
(2) في (م) : فمتضمن استباحته لتيك.(1/55)
وحكى شيخُنا عن القفال: أن صاحب الضرورة لو نوى استباحة الصلاة مقتصراً على ذلك، لم يصح، ولا بد من الجمع بين نية الاستباحة، وبين نية رفع الحدث؛ لينصرف رفعُ الحدث إلى ما تقدم، وينصرف استباحة الصلاة إلى ما يقارِن، أو يتجدّد بعد الوضوء، وهذا غلط، لا يستراب فيه؛ فإن نية الاستباحة تليق بالمتيمّم، وصاحب الضرورة، وهي أيضاً [تُفِيدُ] (1) رفع الحدث؛ فإن صاحب الرفاهية لو نوى بوضوئه استباحةَ الصلاة، ارتفع حدثُه؛ فنيّة استباحة الصلاة في حق صاحب الضرورة تُغني عن الرفع، وعن إفادة إباحة الصلاة.
والصيدلاني لم يحك هذا عن القفال أصلاً، بل حكى القطعَ بأن نية الاستباحة في حق صاحب الضرورة كافيةٌ.
ولست أستريب في نقل شيخنا (2) عن القفال شرطَ الجمع بين نية الرفع والاستباحة، ولكنّه خطأ لا شكّ فيه. على أني أقول: لا ينبغي أن نعتقد أن طهارة المستحاضة تؤثر في رفع الحدث أصلاً؛ إذ الطهارة إنما ترفع الحدث إذا تمت، وكيف يُفرض تمامها، والحدث مقارن لها؟
فهذا منتهى القول في كيفيّة النية.
69-[ووراء] (3) جميع ما ذكرناه غَائلةٌ لا يقف على سرّ المذهب من لم يتنبّه لها.
فأقول: ظاهر ما ذكره الأئمة أن النية في الوضوء من نية القربات، والشافعي أوجب النيةَ في الوضوء، من حيث أثبت أنّ الوضوءَ قُربةٌ، فعلى هذا إذا نَوى رفعَ
__________
(1) في الأصل: تقيّد. بهذا الضبط والوضوح، وهو تصحيف ظاهر. والمثبت من (م) ، (ل) .
(2) شيخنا المراد به هنا والده، فهو تلميذ القفال، وأما القفال فهو القفال (الصغير) المروزي أبو بكر عبد الله بن أحمد، وهو المراد عند الإِطلاق. هذا. والوجه المحكي عن القفال هنا حكاه النووي في المجموع: 1/332 عن أبي بكر الفارسي، والخضري، وأبي بكر القفال جميعاًً، وحكاه الرافعي: 1/333 عن أبي بكر الفارسي والخضري، وحكاه الغزالي في الوسيط: 1/365 عن الخضري، أما الحاكي هنا (شيخنا) ، فلم يذكره أي منهم.
(3) غير مقروءة بالأصل، وقدرناها في ضوء السياق، وما بقي من آثار الحروف، وقد أكدت (م) صحة تقديرنا، والحمد لله على توفيقه، وكذا (ل) أيضاًً.(1/56)
الحدث؛ فَيَنْقدح فيه ذكرُ خلافٍ في أنه هل يُشترط أن يضيف الوضوءَ إلى جهة التقرب إلى الله تعالى (1) ؟ فإن أئمّتنا اختلفوا في أن من نوى صلاة الظهر هل يُشترط في صحة نيته أن يقول: لله تعالى؟ كذا القول فيه إذا نوى رفع الحدث، فيجرى فيه [الخلاف] (2) أنه هل يشترط أن يقول بقلبه: فعلتُه لله؟
وقد قطع أئمة المذهب أن المتوضىء لو نوى بوضوئه أداءَ الوضوء، وفرضيةَ الوضوء، صحت نيّته (3) ، وارتفع حدثة، وإن لم يتعرض للحدث، ولا لاستباحة ما يفتقر إلى الوضوء، وذكروا اختلافاً في أن المتيمّم لو نوى فريضة التيمم هل يكفيه ذلك؟ وفرقوا بين الوضوء والتيمّم بأن الوضوءَ قربةٌ مقصودةٌ في نفسها؛ إذ يُستحب تجديدُها. والتيمم لا يُعنى إلا لغيره؛ ولهذا لا يستحب تجديدُه.
فهذه المسالك مُصرّحةٌ بأن نيةَ الوضوء نيةُ القربات، وإن ظن ظانٌّ أن الوضوء إذا كان يقع تنظفاً، ويقع مأموراً به، فالغرض من النية إيقاعُه مأموراً [به] (4) ؛ فإن من عليه ألفُ درهم، فسلّم الألف إلى مستحق الدين؛ فلا يقع أداء الدين ما لم يقصد أداء الدين، كان ظناً بعيداً عرياً عن التحصيل. فالوجه الاكتفاء بما ذكره الأئمة.
هذا تمام المراد في كيفية النية.
70- فأما القول في وقت النية؛ فهذا يستدعي ذكرَ تردد الأصحاب فيما يُعدّ (5) من الوضوء، وسنذكر في باب سنة الوضوء أن المتوضىء يسمي الله تعالى، ويغسل يديه ثلاثاً، ويستاك.
ثم اختلف الأئمة في أن هذه السنن هل تعدّ من الوضوء؟ فذهب ذاهبون إلى أنها
__________
(1) الأصح: لا يشترط (الروضة: 1/50) .
(2) مزيدة من (ل) وحدها.
(3) هذا مسلك ثالث في كيفية النية، زاده الإمام بعد المسلكين اللذين نص على أنه سيذكرهما في الفقرة (61) . وهذا ما استقر عليه المذهب، على سبيل المثال: يقول النووي من الروضة: "أما كيفية النية ... فينو أحد ثلاثة أمور ... الخ" (ر. الروضة: 1/48) .
(4) زيادة من (م) .
(5) في (م) بعد.(1/57)
ليست من الوضوء؛ فإن التسمية مندوبٌ إليها عند استفتاح كل أمرٍ ذي بال.
وغسل اليدين ثلاثاً سنةٌ (1) ؛ للتنظّفِ والتنقّي من النجاسة المتوهَّمة، والسواك مستحب في غير الوضوء، كما سبق تقريره في بابه.
وهذا وهم عندي؛ فهذه السنن من الوضوء. ولا يمتنع أن يشرع شيءٌ في مواضع، وليس شرط كون الشيء من الشيء أن يكون من خصائصه؛ فإن السجود يعدّ من أركان الصلاة، وإن كان مشروعاً عند التلاوة، وشكر النعم.
وأما السواك، فقد ذكرنا أن له أوقاتاً، منها الوضوء، فقد صحّ أنها من الوضوء، ومن قال غير ذلك، فهو غالط.
وإن نوى المتوضىء عند التسمية، واستدام ذكر النية حتى غسل بعض وجهه، صحّ وضوؤه، ولا يضر عُزوبُ النية بعد ذلك. ولو نوى عند غَسل الوجه صح، ولم يُعتدَّ بما قدمه على غسل الوجه من السنة؛ فإن النية لا تنعطف على ماضٍ، وإنّما يتعلق حكمها بالحال أو الاستقبال.
ولو قيل: يعتدّ بما مضى أخذاً من المتطوّع بالصوم إذا نوى نهاراً، فهو صائم من أول النهار؛ فتكون النية منعطفةً، فيكون وجهاً في الاحتمال، ولكن الصومَ في حكم الخصلة الواحدة، والوضوء يشتمل على أركان متغايراتٍ، فالانعطاف فيها أبعدُ، والمحفوظ في الوضوء أن النية لا تنعطف.
ولو نوى المتوضىء عند غسل اليدين، وقلنا: إنه من الوضوء، ثم عَزَبَت نيتُه قبل غَسل الوجه، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن الوضوء صحيح؛ فإن النية قارنت أولَه. والثاني - لا يصح (2) ؛ فإن النية لم تقارن فرضاً من أفعال الوضوءِ.
والمضمضة والاستنشاق من الوضوءِ بلا خلافٍ؛ فليتفرّعْ عليه مقصود النية.
فرع:
71- إذا نوى المتوضىء بوضوئه رفعَ الحدث والتبرّد، فضمُّ نيةِ التبرّد إلى النيّة المقصودة، لا يضر؛ فإن التبرد يَحصُل حسّاً وإن لم ينو، فلا معنى للنية فيه،
__________
(1) في (ل) : سبب.
(2) وهو الأصح (الروضة: 1/47) .(1/58)
وكل ما يحصل من غير نيّة، فالقصد فيه لاغٍ، لا يُناط به حكم.
ولو دخل الإنسان المسجدَ، وتحرّم بالصلاة، ونوى به فريضةَ الظهر وتحيّةَ المسجد، فتتأدى الفريضة، وتحصُل التحيةُ، وليس ذلك تشريكاً؛ فإن التحية كانت تحصل، وإن لم ينوها؛ إذ لا غرض من التحية إلا ألا يجلس مَن دخل المسجد حتى يصلي. ولو نوى المتحرم بالصلاة الفريضةَ والسنة، لم تنعقد صلاته؛ فإنَّ التشريك يمنع العقد. ولو قصد المسبوق بالتكبيرة التي يبتدىء بها العقدَ وتكبيرة الهُويّ، لم تنعقد صلاتُه.
ولو نوى المغتسل يوم الجمعة -وكان قد أجنب- (1) بغسله غسلَ الجنابة والجمعة، حصل الغرضان، ولو نوى غسلَ الجنابة فحسب، ففي حصول سنة غسل الجمعة قولان، سيأتي ذكرهما.
قال الشيخ أبو علي (2) في شرح التلخيص: "من أصحابنا من قال: من نوى بغُسله غسلَ الجنابة والجمعة، لم يصح غسلُه أصلاً؛ للتشريك، وكان ذلك كما لو نوى
__________
(1) في (م) : وكان قد أجنب فنوى.
(2) الشيخ أبو علي المراد هنا، هو الشيخ أبو علي السِّنجي: الحسين بن شعيب بن محمد، من قرية سنج أكبر قرى مرو. عالم خراسان، فقيه عصره، وأول من جمع بين طريقتي العراقيين والخراسانيين، تفقه على شيخ العراقيين أبي حامد الإِسفراييني ببغداد، وعلى شيخ الخراسانيين، أبي بكر القفال المروزي، وله غير شرح التلخيص، شرح المختصر، وشرح فروع ابن الحداد، توفي 430 هـ. وقبره بجنب أستاذه القفال بمرو.
وكتاب (التلخيص) المشار إليه من عمل ابن القاصّ: أحمد بن أبي أحمد الطبري، أبو العباس، له غير التلخيص (المفتاح) و (أدب القاضي) و (المواقيت) وغيرها، كان إِماماً جليلاً، تفقه على أبي العباس ابن سريج توفي 335 هـ.
وقد شرح التلخيص أكثر من شارح، منهم القفال المروزي عبد الله بن أحمد. والذي جعلنا نرجح أن شارح التلخيص المقصود هنا هو أبي علي السِّنجي أن السِّنجي هو الذي يلقب بالشيخ، حتى عرف بهذا اللقب وشاع عنه، قال السبكي في الطبقات: "فمن مستحسن الكلام الشيخ والقاضي زينة خراسان. والشيخ والقاضي زينة العراق، وهم الشيخ أبو علي السنجي والقاضي الحسين، والشيخ أبو حامد، والقاضي أبو الطيب" (راجع طبقات السبكي: 3/59 وما بعدها، 4/344، تهذيب الأسماء واللغات: 2/253، 261، طبقات الشافعية للإسنوي: 2/297، 298) .(1/59)
المسبوقُ بتكبيرة العقدَ والهُويّ". وهذا بعيد، لم أره لغيره. ووجه خروجه أن يفرعّ على أحد القولين، وأنه لو نوى غسلَ الجنابة ولم يتعرض لغسل الجمعة، لم تتأدّ سنةُ غسل الجمعة، فإذا نواه، فهو تشريك في ظن هذا القائل، وهو بعيد؛ فإن مبنى الطهارات على التداخل.
72- عدنا (1) إلى غرضنا:
لو نوى المتوضىء رفعَ الحدث أولاً، ثم عَزَبَت نيتُه؛ فنوى ببقية الطهارة تبرّداً، وهو ذاهل عن نية رفع الحدث، ففي المسألة وجهان: أحدهما (2) - أنه لا يصح منه بَقيَّة الطهارة على هذا الوجه؛ فإنَّه لما جرّد قصد التبرد، فكأنّه رفض (3) النية، ولو رفضها ورفعها، وجرّد قصد التبرد، لم يعتد بما يأتي به عند الوضوء، فكذلك إذا عزبت، وجرد قصدَ التبرد.
والثاني - أنه يقع بقيةُ الطهارة معتدّاً بها؛ فإن النية المنسية، كالنية المذكورة. فإذا نوى التبرّدَ وقد نسي نيةَ رفع الحدث، كان كالجامع بين نية الرفع، وقصد التبرّد.
فرع:
73- المسلم إذا نكح ذميةً، فحاضت، حرُم وطؤها، فإذا طهرت عن الحيض، لم تحلّ للزوج، ما لم تغتسل، فإذا اغتسلت، حلّت له. فإن قيل: كيف تحلّ، ولا يصح الغُسل إلا بالنية، ولا تصْح النيةُ من الكافر؟ قلنا: يتعلّق بالغسل حقان: حق الزوج، وحقُّ الله تعالى، بدليل أن المسلمة إذا طهُرت عن الحيض ضَحْوةً، فللزوج أن يجبرها على الغُسل لتحل له، وإذا كان (4) ذلك، قلنا: يصحُّ من الذمية الغُسل إذاً؛ لِحَقّ الزوجِ.
فلو أسلمت، فهل يجب عليها إعادة الغُسل إذا صارت من أهل النية؟ فعلى وجهين
__________
(1) عبارة (م) : على التداخل عندنا، ولو نوى ...
(2) في (م) : " أصحهما "، (ل) : "أحدهما وهو الأصح". وهذا الوجه هو الصحيح فعلاً (الروضة: 1/49) .
(3) رفض النية أي تركها ونقضها.
(4) لعل كان هنا تامة، والمعنى فإذا تقرر ذلك. وفي (م) : كذلك.(1/60)
مشهورين: والأصح عندي ألا تجب الإعادة؛ فإن القُربة إذا رُوعي فيها معنيان، ثم استقلت بأحدهما، صحت، ولم تجب الإعادة. وكذلك (1) قال الشافعي: " الكفارة تجب على الكافر، فإذا أدّاها في كفره ثم أسلم، لم يلزمه إعادة الكفارة " ولعلّ الفارق بين الكفارة -ولا خلاف فيها- وبين الغسل -[وفيه] (2) الخلاف- أن الكفارة المؤدّاة بالمال لا تخلو قط عن غرضٍ مرعي لآدمي من تخليصٍ عن رِقٍّ، أو إطعامِ محتاج، أو كسوة عارٍ؛ فكان أمر النية أضعفَ فيها، والغسل قد لا يتعلق بحق آدمي؛ فإن المرأة إذا لم تكن ذات زوج، كان عليها الغسل لله تعالى.
74- ومما يتعلق بذلك: أن المسلمة إذا امتنعت من الغسل عن الحيض تحت زوجها، فأوصل الزوجُ الماء إلى بدنها قهراً، حلّت له. وهل يلزمها أن تغتسل لله تعالى؛ قال الإمام (3) -رحمه الله-: فيه الوجهان المذكوران في الكافرة إذا أسلمت.
وفي المسألة احتمالٌ آخر، يُشير إلى القطع بإيجاب الغسل، من حيث إنها امتنعت عن النيّة، وكانت من أهلها.
ثم ما ذَكَرناه من صحّة الغسل على التفصيل المذكور في غسل امرأةٍ ذاتِ زوج. فأما
__________
(1) في (م) : ولذلك.
(2) في الأصل: وفيها. والمثبت من (م) ، (ل) .
(3) وقفت طويلاً أمام لفظ (الإِمام) هنا لأعرف من المقصود بالإِمام، ذلك أن هذا اللفظ (الإِمام) لم يرد هكذا مطلقاً بغير قيد أو وصف. إِلا مرتين فقط في هذا الجزء (الطهارة) كله. هذه، والثانية في أواخر كتاب الحيض. وهناك جزمنا بأن المقصود بالإِمام هو والد إِمام الحرمين أبو محمد، وذلك عن طريق ما حكاه عنه ابن أبي عصرون في مختصره.
أما هنا، فالأمر مشكل، إِذ هذا القول الوارد هنا المنسوب (للإِمام) هو بعينه ما أسنده النووي في المجموع: 1/331 إِلى إِمام الحرمين، وهذا أيضاً ما يفهم من ابن أبي عصرون في مختصره. فهل يكون المقصود بالإِمام هنا (إِمام الحرمين نفسه) وهذا اللفظ من عبارة الناسخ الذي نسخ الكتاب؟ أم أن المقصود هنا أيضاً (بالإِمام) هو الجويني الأب أبو محمد، وتجوّز النووي في نسبة كلام الوالد للابن؟ أمّا ابن أبي عصرون، فالأمر بالنسبة له أيسر، فهو يختصر النص، ويسمعه ذكر الأحكام بدون نسبتها إِلى أصحابها. ولذا لم يفد في هذا الموضع. والذي يغلب على الظن ويترجح لديَّ أنه (أبو محمد الجويني) ويظل للاحتمال مجال. والعلم عند الله. (والآن بعد أن أبحرنا في لُجج النهاية تأكد لدينا بأكثر من دليل صحة ما قدّرناه) .(1/61)
إذا لم تكن الكافرة ذاتَ زوجٍ، فاغتسلت، أو اغتسل الكافرُ ثم أسلما، فيجب إعادة الغسل وجهاً واحداً.
وقال أبو بكر الفارسي (1) : يطرد الخلاف في إجزاء (2) الغسل في حق كل كافر.
وهذا غلط صريح متروك عليه، وليس من الرأي أن تُحسب غلطاتُ الرجال من متن المذهب.
فرع:
75- من توضأ ثم ارتد، ثم عاد إلى الإسلام، فهو على طهارته؛ فإن الردّة الطّارئة ليست من الأحداث المبطلة للوضوء.
ولو تيمم، ثم ارتد، ثم عاد مسلماً، ففيه وجهان: أحدهما - أنه على تيممه، كالوضوء، والثاني (3) - أنه يبطل تيممه؛ فإن حق التيمم أن يستعقب صحةَ الصلاة.
ولذلك لا يصح التيمم لصلاة الظهر قبل دخول وقتها. فإذا ارتد المتيمم، فقد انتهى إلى حالة لا يتأتى منه الصلاةُ فيها؛ فضعف التيمُّم لذلك. ومَن ضعَّف التيمم، قضى ببطلانه بحسبانٍ مجرد؛ فإن المتيمم إذا رأى [سراباً] (4) ظنه ماءً، ثم تبين أنه ليس بماءٍ، لزمته إعادةُ التيمم بظنٍّ تحقق بطلانهُ.
ولو ارتدّ وتوضأ وهو مرتدّ، لم يصح [ذلك منه، ولو ارتد في خلال الوضوء، فإن أدى شيئاً وهو مرتد لم] (5) يعتدّ بما جاء به في ردته، وإن لم يأت بشيء، وأسلم
__________
(1) أبو بكر الفارسي، أحمد بن الحسين بن سهل، ويقال له البلخي أيضاً. صاحب عيون المسائل في نصوص الشافعي، اختلف في طبقته، فقيل: من الثانية، وعدّ من تلاميذ أصحاب الشافعي، وأنه تفقه بالمزني، وقيل: بل من الثالثة ممن تفقه بابن سريج، واختلف في سنة وفاته، فقيل سنة 305 هـ أي قبل ابن سريج بسنة، وقيل توفي سنة 350 هـ (طبقات السبكي: 2/184-186، طبقات ابن قاضي شهبة: 1/124، وطبقات العبادي: 45، وتهذيب الأسماء واللغات: 2/195) .
(2) في (م) : إِجراء (بالراء المهملة. وعليها علامة الإِهمال واضحة تماماً) .
(3) وهو الصحيح (الروضة: 1/47)
(4) في الأصل: "شراباً" بالمعجمة، والمثبت من (م) و (ل) .
(5) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، وزدناه على ضوء السياق، مع الاستعانة بمختصر ابن أبي عصرون، ثم تحقق صدق تقديرنا بعد حصولنا على نسخة (م) ، وكذلك (ل) .(1/62)
على قُربٍ -حتى لا نقع في تفريع تفريق الوضوء- فالنيةُ تنقطع بطريان الردّة؛ فإذا عاد، ولم يجدد نية في بقية الطهارة، لم يصح وإن أعاد [النية] (1) لمّا عاد مسلماً، فقد انقطعت النية، فيكون كما لو قطع المسلم النيةَ، وقسمها على أعضاء وضوئه: فنوى عند غسل الوجه رفع الحدث عن الوجه، وكذلك عند كل عضوٍ، ففيه خلافٌ سيأتي - إن شاء الله عز وجل.
***
__________
(1) زيادة من (م) ، (ل) .(1/63)
باب سنة الوضوء
76- ذكر الشافعي في هذا الباب (1) سننه وفرائضه. وابتدأ بغسل اليدين ثلاثاً في ابتداء الوضوء.
فيستحب للمتوضىء أن يغسل يديه ثلاثاً، قبل غمسهما في الإناء. قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلهما ثلاثاً؛ فإنه لا يدري أين باتت يده " (2) . خاطب بهذا العربَ، وكانت قد تقتصر في الاستجمار على الأحجار لعزّة الماء عندهم. وربما كانت تطوف أيديهم على ما تحت الإزار، أو على بثراتٍ [بأبدانهم] (3) ، فتتنجس وهم لا يشعرون، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بغسل اليدين قبل غمسهما احتياطاً واستظهاراً.
ثم قال الأئمة: هذه السنة قائمة، وإن استيقن المرءُ طهارة يديه، ولا فرق بين أن يستيقظ من نوم، وبين أن يُقدم على الوضوء عن دوام اليقظة. والذي يحقق هذا أنه عليه السلام ذكر إمكان تَطواف اليد على البدن، وقد يوجد ذلك من المستيقظ في غفلاته، ولعل ذلك أكثر وقوعاً من المتيقظ في تصرفاته وحركاته. وإنما جرى ذكرُ النوم؛ لأنه مظنة الغفلة غالباً، وفي ذكر السبب المترتب على النوم ما يشعر بتعميم المعنى.
__________
(1) في الأصل: في هذا الباب في سننه وفرائضه. وفي (م) ، (ل) : كيفية الوضوء في هذا الباب في سننه ... الخ.
(2) حديث " إِذا استيقظ أحدكم ... " متفق عليه، ورواه مالك والشافعي وأحمد وأصحاب السنن كلهم في الطهارة عن أبي هريرة، واللفظ لمسلم، قال الماوردي وغيره: لم يقل البخاري ثلاثاً. (ر. البخاري: الوضوء، باب الاستجمار وتراً، ح 162، مسلم: الطهارة، باب كراهة غمس المتوضىء وغيره يده المشكوك في نجاستها في الإناء قبل غسلها ثلاثاً، ح 278، فيض القدير، تلخيص الحبير بهامش المجموع: 1/197) .
(3) في الأصل: بأيديهم، والمثبت تقدير منا صدقته (م) و (ل) .(1/64)
ولو استيقن المتوضىء طهارة يديه، فغسْلُ اليدين سنةٌ في حقه أيضاً، والسبب فيه أن أسباب النجاسة قد يخفى دركها على معظم الناس، فيعتقد المعتقد الطهارة على وجهٍ يرى اعتقادَه يقيناً، وليس الأمر على ما يعتقده، فاطّردت السنّة على الناس كافة.
وهذه كالعدّة المنوطة بالوطء، فإنها تجب لتبرئة الرحم، وقد تجب مع القطع ببراءة الرحم؛ تعميماً للباب، وسيجري تقرير هذا في موضعه إن شاء الله تعالى.
وقال بعض المصنفين (1) : " إذا استيقن المرء طهارة يديه، فلا عليه لو غمس يديه، ولكنا نستحب غسلَ اليدين مع هذا ". وهذا عندي خطأ. فليتقدَّم غسلُ اليدين على غمسهما؛ إذ الغرضُ تعميمُ رعايةِ الاحتياط في حقوق الناس، وذلك يتعلق بالماء. ولو كان يتوضأ من قمقمةٍ، فيستحب غسلُ اليدين احتياطاً للماء الذي يصبّه على يديه، وينقله إلى أعضاء وضوئه.
77- ثم ذكر الشافعي استحباب التسمية، فإذا أراد المتوضىء استفتاحَ الوضوء فينبغي أن يقول بسم الله. قال النبي عليه السلام: " لا وضوءَ لمن لم يقل باسم الله " (2) . والتسمية سنة؛ لا يبطل الوضوء بتركها سهواً ولا عمدا.
__________
(1) بعض المصنفين: يريد إِمامنا به أبا القاسم الفُوْرَاني، فهو يُعمِّي اسمه، ويكثر من الحط عليه، رضي الله عنهما. وسيأتي في بعض التعليقات مزيدُ بيان لهذه القضية بينهما.
(2) لم أجده بهذا اللفظ، ولكنه ورد بألفاظ منها: " لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه ". وقد روي من حديث أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، وسعيد بن زيد، وعائشة، وغيرهم وتعددت طرقه، ولا يكاد يخلو واحد منها عن مقال. وأخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي وابن ماجة، والدارقطني والحاكم، والبيهقي. وقد قواه ابن الصلاح، والحافظ ابن حجر، وانتهى الألباني إِلى تصحيحه.
(ر. أبو داود: الطهارة، باب التسمية على الوضوء، ح 101، والترمذي: الطهارة، باب ما جاء في التسمية عند الوضوء، ح 25، وابن ماجه: الطهارة، باب ما جاء في التسمية على الوضوء، ح 397-400، والدارقطني: 1/79، والحاكم: 1/146، والبيهقي: 1/41، 43، صحيح الجامع الصغير: 7573، الإِرواء، 1/122، تلخيص الحبير: 1/386 بهامش المجموع) .(1/65)
فصل
قال [الشافعي] (1) : " ويغرف غُرفةً لفيه وأنفه ... إلى آخره " (2) .
78- المضمضة والاستنشاق سنتان في الوضوء والغسل جميعاً.
ثم الذي نقله المزني أنه يغرف غرفة لفيه وأنفه، فذكر أنه يقتصر على غُرفةِ واحدة لهما.
ونقل البويطي (3) عن الشافعي أنه يغرف [غرفة لفيه و] (4) غُرفة لأنفه.
فاختلف أئمتنا، فقال بعضهم: في المسألة قولان: أحدهما - الأوْلى الاقتصارُ على غُرفةٍ واحدة، توقِّياً من السرف في استعمال الماء؛ إذ هما كشيء واحد، وبذلك لا يَغرف لكل مرّة من مرّات المضمضة غُرفة، ويأخذ لكل غسلة من غسلات وجهه غُرفة.
والثاني - أنه يأخذ غُرفتين؛ فإن المضمضة والاستنشاق سنتان مُتعلقتان بعضوين.
وقال بعض الأئمة: ما نقله المُزني محمولٌ على الأقل. وما نقله البويطي محمول على الأكمل.
وقد روى عبدُ الله بنُ زيد (5) وضوءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر " أنه غَرف غُرفة واحدة لهما " (6) .
__________
(1) زيادة للتوضيح.
(2) مختصر المزني: 1/6.
(3) البويطي، أبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطي، نسبة إِلى بويط من صعيد مصر، أحد تلاميذ الشافعي وحملة علمه. توفي سنة 231 هـ (طبقات الفقهاء: 98، طبقات السبكي: 2/164-170) .
(4) زيادة من (م) ، (ل) .
(5) عبد الله بن زيد بن عاصم الصحابي تكرر في المهذب، وهو راوي صفة الوضوء، وحديث الشك في الحدث، وحديث صلاة الاستسقاء، وهو غير عبد الله بن زيد صاحب الأذان، فإِن ذاك ليس له إِلا حديث الأذان. وهو أنصاري مازني يعرف بابن أم عمارة نُسيبة بنت كعب، وهو قاتل مسيلمة الكذاب، شارك وحشياً في قتله، رماه وحشي بالحربة، وقتله عبد الله بن زيد بسيفه. توفي سنة 63 هـ وهو ابن سبعين سنة (تهذيب الأسماء واللغات: 1/267-26) .
(6) حديث عبد الله بن زيد في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه الجمع بين =(1/66)
وروى عثمانُ وعليٌّ رضي الله عنهما وضوءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا " إنه غرف غرفة لفيه وغرفة لأنفه " (1) .
فإن قلنا: يغرف غُرفةً لفيه وغُرفة لأنفه، فينبغي أن يقدّم المضمضة، فيتمضمض ثلاثاًً بغُرفة، ثم يستنشق ثلاثاًً بغُرفة.
79- وهذا الترتيب مستحقٌ أو مستحب؟ فعلى وجهين، ذكرهما شيخي: أحدهما (2) - أنه مشروط؛ فإنهما سنتان في عضوين مختلفين.
والثاني - ليس مشروطاً، ولكنّه مستحب، كتقديم اليمين على اليسار.
وإن حكمنا بأنه يغرف لهما غُرفة واحدة، فقد قال العراقيون تفريعاً على ذلك: ينبغي أن يخلط المضمضة والاستنشاق، فيتمضمض ويستنشق مرةً بما معه، ثم يفعل ذلك ثانية وثالثة؛ فإنّ اتحاد الغُرفة والاقتصارَ على ماء واحدٍ، يدلّ على أنهما في حكم شيء واحد.
وقطع أصحابُ القَفّال أن ترتيب الاستنشاق على المضمضة مأمور به، والخلطُ
__________
= المضمضة والاستنشاق، حديث متفق عليه (ر. البخاري: الوضوء، باب من مضمض واستنشق من غرفة واحدة، وباب الوضوء من التَّور، ح 191، 199، مسلم: الطهارة، باب آخر في صفة الوضوء ح 235) .
(1) قال الحافظ في التلخيص: "وأما رواية علي وعثمان للفصل (أي بين المضمضة والاستنشاق) فتبع فيه الرافعي الإِمام في النهاية، وأنكره ابن الصلاح في كلامه على الوسيط، فقال: لا يعرف، ولا يثبت، بل روى أبو داود عن علي ضده. قلت: (الحافظ) روى أبو علي بنُ السكن في صحاحه من طريق أبي وائل شقيق بن سلمة، قال: "شهدتُ علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان توضآ ثلاثاً ثلاثاً، وأفردا المضمضة من الاستنشاق، ثم قالا: هكذا رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ". فهذا صريح في الفصل، فبطل إِنكار ابن الصلاح" ا. هـ كما أنكره النووي أيضاً في التنقيح، وبطل إِنكاره بما أبطل به الحافظ إِنكار ابن الصلاح. (ر. تلخيص الحبير: 1/400-402 بهامش المجموع، شرح مشكل الوسيط لابن الصلاح، بهامش الوسيط: 1/283، التنقيح في شرح الوسيط للنووي، بهامش الوسيط: 1/284) .
(2) وهو الأصح (الروضة: 1/58) .(1/67)
يجري إذا قلنا: الترتيب ليس مأموراً به، والخلط وإن أجزأ إذا لم نشترط الترتيب ليس مأموراً به. هذا هو الصحيح.
ثم المبالغةُ في المضمضة مسنونةٌ وهي ردّ الماء إلى الغلصمة، وكذلك المبالغة في الاستنشاق، وهو تصعيد الماء بالنَّفَس إلى الخياشيم، من غير تكلّف شيء فيه إضرار، وإنما تُستحب المبالغة فيهما في حق غير الصائم، فأما الصائم، فمنهيٌّ عن المبالغة؛ قال النبي عليه السلام للقيط بن صَبِرَة: " أسبغ الوضوء، وخلِّل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً " (1) .
فصل
80- غسل الوجه ركنٌ من الأركان فى الوضوء، شهد له الكتاب، والسنة، والإجماع. وأول ما نعتني بذكره حدُّ الوجه.
نقل المُزني: أن حدَّ الوجه من منابت شعر الرأس إلى أصول الأذنين، ومنتهى اللحية (2) .
وهذا مأخوذٌ عليه؛ فإنه تعرّض لحد وجوه الملتحين، والغرض حدُّ الوجوه كلها.
والشافعي قال: " حد الوجه من منابت شعر الرأس إلى أصول الأذنين، ومنتهى اللحيين، وهما العظمان المكتنفان للوجه، يلتقي طرفاهما عند الذقن، وعليهما منابت الأسنان السفلى " (3) .
__________
(1) حديث لقيط بن صبرة رواه الشافعي، وأحمد، وابن الجارود، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، وأصحاب السنن الأربعة، وصححه الترمذي، والبغوي، وابن القطان (ر. ترتيب مسند الشافعي: 1/32، 33، أبو داود: الطهارة، باب في الاستنثار، ح 142، الترمذي: أبواب الطهارة، باب ما جاء في تخليل الأصابع، ح 38، والصوم، باب ما جاء في كراهية مبالغة الاستنشاق للصائم، ح 788، النسائي: الطهارة، باب المبالغة في الاستنشاق، ح 87، ابن ماجة: الطهارة، باب تخليل الأصابع، ح 448، تلخيص الحبير: 1/405 بهامش المجموع) وزادت (م) فيه: وخلل [وادلك] بين الأصابع.
(2) ر. المختصر: 1/6.
(3) ر. الأم: 1/21.(1/68)
فإن قيل: ما ترون في الأصلع والأغمّ؟
قلنا: سنذكر المذهبَ فيهما، ولكنهما لا يخرمان الحدّ؛ فإن موضع الصلع منبتُ شعر الرأس، وإن انحسر الشعر عنه بسببٍ، والجبهة وإن نبت الشعر عليها ليست منبت شعر الرأس.
وذكر الأصحاب عبارةً قريبةً في ذلك، فقالوا: حدّ الوجه في الطول من منحدر تدوير الرأس أو من مبتدأ تسطيح الجبهة إلى منتهى ما يُقبل من الذقن، وفي العَرْض من الأذن إلى الأذن.
قال الشافعي: مواضع التحذيف من الوجه.
وهذه لفظةٌ فيها بعض الغموض. والذي مال إليه قلبي بعد البحث أن موضع التحذيف يحويه خطٌّ مبتدؤه الطرفُ الأعلى المقبل على الوجه من الأذن ومنتهاه الطرف الأعلى من الجبهة المتصل بالرأس، ونفرض هذا الخَطَّ مستقيماً بين هاتين النقطتين فيقع مورّباً (1) في الباطن.
ولو قال قائل: التحذيف يحويه خطان محيطان بزاوية قائمةٍ، يذهب أحدهما طولاً من الطرف الأعلى من الأذن، حتى إذا حاذى أولَ تسطيح الجبهة انتهى، ثم يمتد منه خط إلى طرف الجبهة، كان أدخل في الوجه شيئاً من الرأس، فهذا ما أظُنّه، فإن وَقف مُوفَّق على مزيد بيان في ذلك، ألحقه بالكتاب (2) .
وقد قيل: سئل الشافعي عن الوجه، فدعا بحالق حتى حلق موضع التحذيف منه،
__________
(1) كذا، ولم أجد لها معنى في القاموس، ولا المعجم، ولا المختار، ولا الأساس، وفي اللسان: المورّب: العضو الموفّر، ولعل في العبارة تصحيفاً، ولم أجد النص في مختصر النهاية، ولا الوسيط، ولا الوجيز وشرحه، ولا المجموع. ومن السياق يظهر أن معناه المائل المنحني. وقد صدق تقديرنا -بتوفيق الله- فوجدنا في هامش (م) ما نصه: " المورّب الذي فيه تقويس كالفتر ".
(2) هذا الغموض الذي رآه الإمام في لفظ الشافعي، وراح يبحث في موضع التحذيف انتهى به إلى الظن بأنه من الرأس. وهذا الظن هو الذي رجحه شيخا المذهب فيما بعد، واستقرّا عليه.
قال النووي: " موضع التحذيف من الرأس لا من الوجه على الأصح " (ر. الروضة: 1/51) .(1/69)
ثم أشار بيده إلى الوجه، فقد يظن أن على موضع التحذيف شعراً، وهو كذلك، ولكنّه ليس بالخشن. وهو الذي يعتاد النساء نتفه. ولو قيل: مواضع التحذيف هو الجبينان من جانبي الجبهة، ثم يُبَيّن منتهاهما الخطُّ المورّب الذي ذكرته، كان قريباً.
والنزعتان من الرأس، وهما خطان محيطان بالناصية.
ومما يتعلق بما نحن فيه أن موضع الصلع من الرأس وفاقاً.
وأما موضع الغمم، فكان شيخي يقطع بإيجاب إيصال الماء إليه، ويعدُّه من الوجه، وهو ما ذكره الأئمة.
وذكر بعض الأصحاب أن شعر الأغم إن استوعب جميع الجبهة إلى الحاجب، وجب غسل الجميع، وإن أخذ بعضَ الجبهة، ففي وجوب غسل ذلك المقدار وجهان.
وعندي أن هذا على هذا الوجه غلط، والذي يدور في ظني منه: أن الأغم قد تخالف خلقةُ رأسه خلقة رأس غيره، فلا ينقطع شكل تدوير رأسه عند انقطاع شكل رأس غيره، بل ينتأ [ويبدو] (1) شيءٌ من أوائل جبهته متصلاً بتدوير رأسه، وهو الذي يسمى الأكبس (2) ، ولكنه مقبل في صفحة الوجه، ومثل هذا لا يكون في جميع الجبهة.
فالوجه عندي في ذلك أن الجبهة إن كانت على شكلها في التسطيح، فيجب غسلها، سواء نبت الشعر في كلّها، أو في بعضها؛ إذ ليس بالشعر اعتبارٌ. وإن دخل في مرأى العين شيءٌ من صورة التدوير في حدّ الجبهة، فذاك فيه ترددٌ.
وعلى الجملة لا يتأتى استيعاب الوجه بالغسل إلا بأخذ أجزاء من الرأس؛ فإن الوقوف على حد الوجه مع تفاوت الخلق غير ممكنٍ، ولا داخل في المقدور، فهذا قولٌ (3) ، هو منتهى فكري في حد الوجه.
__________
(1) الأصل: "يبدر" والمثبت من (ل) .
(2) الأكبس: من كَبس فلانٌ كبساً، أقبلت هامته، وأدبرت جبهتُه (المعجم) .
(3) كذا. ولعلها القَول. وهي في (م) ، (ل) : "قول" كالأصل.(1/70)
81- ثم يجب إيصال الماء إلى منابت شعورٍ خفيفةً كانت أو كثيفةً. وهي الحاجبان، والأهدابُ، والعذاران. وهما الخطان المحاذيان للأذنين، والشارب.
ثم علّل أئمتنا إيجاب إيصال الماء إلى منابت هذه الشعور بعلتين: إحداهما - أنها تكون خفيفة في الغالب، فإن كثفت على ندور، فلا حكم للنادر.
والثانية - أن بياض الوجه محيط بهذه الشعور؛ فتلحق منابتها بالبياض المحيط بها. وهذا ظاهر في الحاجب والأهداب والشارب، والعذارُ كذلك، فإنه يُقبل على بياض الوجه من جانب، وبينه وبين الأذن خط أبيض، لا شعر عليه، وهو من الوجه.
82- وأما شعر العارض وهو ما ينحط عن الأذن، وشعر الذقن؛ فإن كان كثيفاً، لا يجب إيصال الماء إلى منبته، وإن كان خفيفاً، يجب. والخفيف: الذي يبدو منبته للناظر الجالس من المنظور إليه مجلس المخاطب. ويمكن أن يُقال: الكثيف هو الذي يحتاج في إيصال الماء إلى منبته إلى تكلّف.
83- ثم من الكلام البيّن الذي يتعين ذكرُه ما أذكره، وكم من بيِّن لا يُعتنَى به؛ ثم تعثُر فيه الأئمة عند مغافصة (1) الأسئلة.
فأقول: المنبت الذي فصّلته في العارض والذقن هو ما يجب غسله من الأمرد والمرأة، فإذا ستره الشعر، ففيه ما ذكرته.
ثم كل شعر يجب غسل منبته يجب استيعاب جميع الشعر بالماء؛ إذا كان في حدّ الوجه، وحدُّ الوجه يُرجَعُ فيه إلى وجوه المُرْد، فإن وُجد (2) ، غُسِل المنبت، وما هو في حدّ الوجه. فلو طال الشعر، وخرج في [جهته] (3) عن حدّ الوجه، فهل يجب إيصال الماء إلى منتهاه؟ فعلى قولين للشافعي: أحدهما - يجب؛ حتى لا يتبعض
__________
(1) مغافصة: مفاجأة ومغالبة (القاموس) .
(2) وُجد: أي الشعر، والمعنى يغسل منبت الشعر، مع كل ما هو في حد الوجه، أما حكم الشعر إِذا استطال، فقد أشار إِليه قبلاً.
(3) في الأصل: جبهته.(1/71)
حكم [الشعر] (1) والثاني - لا يجب؛ فإن المغسول هو الوجه، أو (2) الشعر الكائن في حده، فأما الزائد، فليس في حدّ الوجه. وللأول أن يقول: اللحية تعد من الوجه اسماً وإطلاقاً.
84- ولو كثف شعر الذقن، وقلنا: لا يجب إيصال الماء إلى منبته، فيجب إيصال الماء إلى ظاهر ما هو في حدّ الوجه، فأما الزائد، فهل يجب إمرار الماء عليه إلى منتهى اللحية؟ (3) فعلى القولين المقدمين، ثم ذكر الزبيري (4) صاحب الكافي فيما ذكره (5) العراقيون: أنا إذا أوجبنا إفاضةَ الماء على ظاهر ما استرسل من اللحية الكثيفة، فقد أوجبنا إمرار الماء على الوجه البادي من الطبقة العليا.
وهل يجب إيصال الماء إلى الوجه الآخر من تلك الطبقة؟ فعلى وجهين: أحدهما - يجب حتى تصير الطبقة مستوعَبةً ظاهراً وباطناً. وهذا إنما وقع له من جهة أنا أوصلنا الماء إلى منبت هذه الطبقة في الجهة البادية.
وهو خطأ محض، لا ينبغي أن يُعد من المذهب.
85- وأما العَنْفَقَة، فإن كانت خفيفةً، وجب إيصال الماء إلى منابتها، وإن كانت كثيفة، ففيها وجهان؛ لترددّها في الشبه بين العذار والشارب، وبين شعر الذقن.
__________
(1) في الأصل: الشرع. وصدقتنا (ل) .
(2) في (ل) : والشعر.
(3) في (م) : العُثنون، وكذا في (ل) .
(4) الزبيري صاحب الكافي، الزبير بن أحمد بن سليمان بن عبد الله بن عاصم بن المنذر بن الزبير بن العوّام وإِليه ينسب، أبو عبد الله، كان إِماماً حافظا للمذهب، له غير الكافي (المسكت) وكتاب (النية) وكتاب (ستر الغورة) وكتاب (الهداية) وغيرها. من أصحاب الوجوه في المذهب، تكرر ذكره في المهذب والروضة، وذكره في الوسيط في باب الحيض، وذكره أيضاً في باب المياه. توفي سنة 317 هـ (ر. طبقات السبكي: 3/295، تهذيب الأسماء واللغات: 2/256، وطبقات الفقهاء: 108، وطبقات ابن قاضي شهبة: 1/93-94) .
(5) في (ل) : نقله.(1/72)
فرع:
86- غَسل الوجه ثلاثاًً مأمور به؛ والفرض غسلةٌ واحدة، إن استوعبت الوجه، والثانية والثالثة سنة.
فلو أغفل المتوضىء لمعةً في الغسلة الأولى، واعتقد أنه استوعب الوجه بها، فغسل ثانية وثالثة على اعتقاد السنة، واستوعب، ففي سقوط الفرض وجهان مشهوران، وهما مرتبان على وجهين، سبق ذكرهما فيمن نسي نية رفع الحدث، وأدى بقيةَ الطهارة على قصد التبرد. وسقوطُ الفرض فيما ذكرناه في الغسلة الثانية أوجَهُ، من جهة أن نية الوضوء مشتَملةٌ، فليست منسيةً، وهو إنما قصد السنة قصداً مبنياً على أن الأُولى استوعبت، وأما إذا نسي النية قُربةً، وجرد قصدَ التبرد (1) ، فليس للنية في ذكره جريانٌ أصلاً.
فرع:
87- إذا شك، فلم يدْرِ أغسل مرتين أو ثلاثاً، فالذي ذكره شيخي في تصنيفٍ له يسمى "التبصرة" أنه يقتصر على ما جرى منه (2) ، فإنه إن غسل مرة أخرى، كانت مترددة بين الرابعة -وهي بدعة-، وبين الثالثة، وتركُ السنة أهون من اقتحام البدعة، وليس كالمصلي إذا شك في أعداد ركعات الفريضة؛ فإنه يأخذ بالأقل؛ حتى يستيقن أنه قد أدى الفرض، والمشكوك فيه ليس بفرضٍ هاهنا.
وقال غيره: إذا شك، غسل غسلة أخرى؛ فالبدعة اعتمادُ غسلةٍ رابعة من غير سبب يقتضيه، وإذ ذاك قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من زاد، فقد أساء وتعدّى وظلم " (3) ، على أن الغسلة الرابعة وإن كانت مكروهة، فليست بمعصية. وقوله:
__________
(1) في (م) : نسي النية مع وجود قصد التبرد.
(2) التبصرة: 264. بتحقيق محمد بن عبد العزيز بن عبد الله السديس - مؤسسة قرطبة - الهرم - مصر 1413 هـ-1993م.
(3) حديث " من زاد فقد أساء ... " رواه النسائي بهذا اللفظ، في قصة أعرابي جاء يسأل عن الوضوء، فأراه النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال: " هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا، فقد أساء وتعدى وظلم ". ورواه أبو داود وابن خزيمة وابن ماجة، كلهم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه. قال الحافظ: رووه مطولاً ومختصر من طرق صحيحة.
(ر. النسائي: الطهارة، باب الاعتداء في الوضوء، ح 140، أبو داود: الطهارة، باب الوضوء ثلاثاً ثلاثاًً، ح 135، ابن خزيمة: 1/89 ح 174، ابن ماجة: الطهارة، باب =(1/73)
"أساء" معناه تَركَ الأوْلى، وتعدى حدَّ السنة، ووضَع الشيء في غير موضعه.
وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم " كان يخلل لحيته " (1) وهي من السنن في اللحية الكثيفة. وإن كانت خفيفة، وجب إيصال الماء إلى المنابت، والشعور على التفصيل الماضي.
فصل
88- غسل اليدين من أركان الوضوء، ويجب استيعابهما مع المرفقين. و "إلى" في قوله تعالى {إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] ، محمول عند معظم العلماء على الجمع والضم. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم "أدار الماء على مرفقيه"، ثم قال: " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به " (2) .
__________
= ما جاء في القصد في الوضوء وكراهية التعدي فيه، ح 422، التلخيص: 1/408 بهامش المجموع) .
(1) حديث: كان صلى الله عليه وسلم يخلل لحيته، رواه الترمذي، وابن ماجة، وابن خزيمة، والحاكم، والدارقطني، وابن حبان، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، وروي بألفاظ مقاربة من حديث عمار بن ياسر، وعبد الله بن عكبرة (وكانت له صحبة) وأنس وأبي الدرداء، وعن غيرهم من الصحابة، ولم يسلم واحدٌ منها من مقال، فيما قاله الحافظ في التلخيص، وحكى الصنعاني في سبل السلام عن عبد الله بن أحمد عن أبيه: "وليس في تخليل اللحية شيء" ثم عقب قائلاً: "حديث عثمان دال على مشروعية التخليل، فأما وجوبه، فاختلف فيه، ثم قال (أي الصنعاني) : والأحاديث الواردة في التخليل، ما سلمت عن الإِعلال والتضعيف، فلم تنهض دليلاً على الإيجاب" ا. هـ.
هذا، وقد قال البيهقي في سننه "بلغني عن محمد بن إِسماعيل البخاري، أنه سئل عن هذا الحديث، فقال: هو حسن، وقال: أصح شيء عندي في التخليل حديث عثمان" ا. هـ، وأما الألباني، فقد صحح حديث أنس، من رواية أبي داود وعنه البيهقي، وقال: "له شواهد كثيرة بها يرتقي إِلى درجة الصحة" (ر. أبو داود: الطهارة، باب تخليل اللحية، الترمذي: الطهارة، باب ما جاء في تخليل اللحية، ح 29-31، ابن ماجة: الطهارة، باب ما جاء في تخليل اللحية، ح 430، تلخيص الحبير: 1/414 وما بعدها (بهامش المجموع) ، السنن الكبرى: 1/54، سبل السلام للصنعاني: 1/100-101، إِرواء الغليل: 1/130 ح 92) .
(2) هذا الحديث رواه الدارقطني، والبيهقي، من حديث جابر بن عبد الله، قال الحافظ: فيه القاسم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل، قال عنه أبو حاتم: متروك، وقال أبو زرعة: منكر =(1/74)
89- فإن قُطعت اليد من الكُوع، أو من نصف الساعد، يجب إيصال الماء إلى ما بقي من محل الفرض.
وإن صادف القطعُ ما فوق المرفق، سقط الفرض من هذه اليد بسقوط محله، ولكن لو أمسّ عضدَه ماءً، كان حسناً؛ فإنا نستحب للسليم أن يغسل شيئاًً من عضده، وهو الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم تطويل (1) الغرة، وقد يُظن أن سبب الأمر بغسل طرف العضد الاستظهارُ به ليتيقن غسل محل الفرض من اليد، وليس الأمر على هذا الإطلاق؛ فإن تطويلَ الغرّة سنةٌ مقصودة في (2) نفسها، وإن كان يندرج تحتها استيقان الاستيعاب.
__________
= الحديث، وكذا ضعفه أحمد وابن معين، وانفرد ابن حبان بذكره في الثقات، ولم يلتفت إِليه في ذلك، وقد صرح بضعف هذا الحديث ابن الجوزي والمنذري، وابن الصلاح والنووي وغيرهم، ثم قال الحافظ: ويغني عنه ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة أنه توضأ حتى أشرع في العضد، ثم قال: "هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ. وأما الزيادة، فلم ترد في هذا الحديث، بل هي في حديث آخر (ر. تلخيص الحبير: 1/343 بهامش المجموع، مسلم: الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء ح 246، سنن البيهقي: 1/56، سنن الدارقطني: 1/83) .
(1) حديث "من استطاع منكم أن يطيل غرته، فليفعل" متفق عليه من حديث أبي هريرة، وأوله: "إِن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء" ولمسلم: "فمن استطاع منكم فليُطل غُرته وتحجيلَه"، ورواه أحمد من حديث نعيم، وعنده: قال نعيم: لا أدري قوله: "من استطاع أن يطيل غرته فليفعل" من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من قول أبي هريرة. (ر. تلخيص الحبير: 1/349، اللؤلؤ والمرجان: 1/59 ح 141، أحمد: 2/334، 523، والبيهقي: 1/57) .
(2) يوحي كلام الإِمام أن موضع الغرة في اليدين، وقد تبعه الغزالي، فنقل عبارته في الوسيط، هكذا: "وإن قُطعَ فوق المرفق، استحب إِمساس الماء ما بقي من عضده، فإِن تطويل الغرّة سُنة" ا. هـ (1/261) .
وقد تعقبه ابن الصلاح قائلاً: هذا غير مرضي؛ فإِنه يوهم وجود تطويل المحرة في اليد، ومن المعلوم الشائع اختصاص الغرّة بالوجه، وأن ما في اليدين والرجلين من ذلك هو التحجيل ثم أخذ يعلل هذا ويبحث عن سببه، فقال: "ولعل هذا وقع له مما روي عنه صلى الله عليه وسلم: "تأتي أمتي يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع أن يطيل غرّته، فليفعل" ولم يقل: فمن استطاع أن يطيل غرته وتحجيله، فليفعل، فتوهم أن الغرة شاملة لموضع التحجيل، وليس الأمر على ذلك، فإِنه من الإِيجاز الذي يكتفى فيه بذكر =(1/75)
والدليل على أن غسل العضد مقصودٌ، أن من اعتلّ وجهُه، وعسر عليه إيصالُ الماء إلى محل الفرض، فلا يُستحب إيصال الماء إلى أجزاءَ من رأسه، لما يُرى (1) غسلُها مع الوجه استظهاراً.
90- وإن صادف القطع مفصلَ المرفق، وهو مركب من منتهى الساعد، وطرف العضد، والطرفان متداخلان، فإذا انفصل عظمُ الساعد، وبقي من طرف العضد ما كان مداخلاً في طرف الساعد - فظاهر ما نقله المزني أنه لا يجب غسل ذلك؛ فإنه قال: " فإن كان أقطعَهما من المرفقين، فلا فرض عليه فيهما " (2) .
وروى الربيع عن الشافعي أنه قال: فإن كان أقطعهما فوق المرفقين، فلا فرض عليه فيهما (3) (4) .
__________
= أحد النظيرين، كما في قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} ولم يذكر البرد. على أنه قد ورد في بعض روايته: "فمن استطاع أن يطيل غرته وتحجيله" فإِن كان مراد المصنف أن تطويل التحجيل مستحب، ونبّه بذكر نظيره من الغرة عليه، فلا محذور فيه، سوى ما فيه من الإِبهام والله أعلم" ا. هـ بنصه (مشكل الوسيط: 1/32 أ) عن هامش الوسيط: (1/262) .
أما الإِمام النووي، فكان رفيقاً رقيقاً في تعليقه، حيث قال في التنقيح: "قال أصحابنا وغيرهم: الغرة في الوجه، والتحجيل في اليدين والرجلين، وهو غسل ما فوق المرفقين والكعبين، وهو سنة. وأطلق المصنف عليه الغرة مجازاً لمقاربَه الغرة، في قوله صلى الله عليه وسلم: " تأتي أمتي يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع أن يطيل غرته وتحجيله فليفعل" ا. هـ بنصه (ر. التنقيح للإِمام النووي - بهامش الوسيط - 1/262) .
(1) "لما يُرى غسلها مع الوجه" أي بسبب أن غسلها مع الوجه مندوب إِليه للاستظهار به، والاستيقان باستيعاب محل الفرض. والمعنى أن غسل أجزاء من الرأس عند اعتلال الوجه غير مطلوب؛ لأنه ليس مقصوداً في ذاته، وليس كذلك العضد؛ فإِن إِطالة الغرّة مقصودة في ذاتها.
(2) ر: المختصر: 1/7، لترى هذا النص من نقل المزني.
(3) هذا النص بتمامه في الأم هكذا: "وإذا كان المتوضىء أقطع، غسل ما بقي من المرفقين، وإن كان أقطعهما من فوق المرفقين، غسل ما بقي من المرفقين، وإن كان أقطعهما من المرفقين، ولم يبق من المرفقين شيء، فقد ارتفع عنه فرض غسل اليدين. وأحب إِلي لو أمس أطراف ما بقي من يديه أو منكبيه غسلاً، وإِن لم يفعل، لم يضره ذلك" (ر. الأم: 1/33) وانظر هذا النقل أيضاً عند الرافعي في الشرح الكبير عن الربيع: 1/350، وأيضاً نقله النووي في المجموع: 1/394. وهو ساقط من (م) .
(4) والربيع راوي هذا عن الشافعي هو الربيع المرادي، قال النووي في تهذيب الأسماء =(1/76)
فمن أصحابنا من غلّط المزني في النقل؛ فإن المِرفق عضوٌ مغسول، وقد سقط بعضُه، فوجب غسلُ باقيه.
ومنهم من جعل المسألة على قولين: أحدهما - يجب غسل الباقي. وقد سبق توجيهه.
والثاني - لا يجب؛ لأن الغرض بغَسل المرفق ما فيه من عظم الساعد، وهو المقصود بالغَسل، ولكن لا يتأتى غسلُ ما يحاذيه من البَشرة إلا بغسل جميع المرفق، فإذا سقط عَظمُ الساعد، فقد سقَط المقصود، فسقط التابع.
وقال بعض أئمتنا: القولان مبنيان على أن اسم المرفق يتناول العظمين المتداخلين جميعاًً، أم يتناول طرفَ عظم الساعد فحسب ولكن مستقره طرف عظم العضد؟ فعلى قولين. وكل ذلك خبطٌ. والوجه القطع بإيجاب غسل ما بقي.
فصل
91- إذا انكشطت جلدةٌ من الساعد، فإن تدلّت، فيجب غسلُ تيك الجلدة؛ فإن أصلها ثابت في محل الفرض، وقد صار ما ظهر مِمّا كان باطناً كالبشرة، وإن انقطعت الجلدة، واتصل طرفٌ منها بالعضد، والتصق به، والباقي منه متجافٍ، فيجب غسل كلا وجهيه من موضع التجافي، نظراً إلى أصله، ولا يجب قلعُ موضع الالتصاق، ولكن يجب إيصال الماء إلى الوجه الظاهر؛ لأن محل الالتصاق وإن كان تحته العضد؛ فإنها جلدةُ الساعد.
__________
= ما نصه: " واعلم أن الربيع حيث أطلق في كتب المذهب، المراد به: المرادي، وإِذا أرادوا الجيزي، قيدوه بالجيزي ".
والربيع المرادي هو أبو محمد الربيع بن سليمان بن عبد الجبار بن كامل المرادي، مولاهم المصري المؤذن، صاحب الشافعي، وخادمه، وهو أكثر أصحاب الشافعي رحمه الله رواية عنه، وهو راوية كتبه، حتى سمي راوية الشافعي، تكرر ذكره في المهذب، والوسيط، والروضة، توفي سنة 270 هـ (ر. تهذيب الأسماء واللغات: 1/188، طبقات السبكي: 2/132) .(1/77)
وذكر العراقيون أنه لا يجب غسل ما هو في حدّ العضد، وإنما يجب غسل ما هو في حد المرفق والساعد.
وهذا غلط.
ولو تدلّت جلد من العضد، ولم تلتصق بالساعد، لم يجب غسلها، نظراً إلى أصلها. وإن التصق طرفٌ منها بالساعد، فلا يجب غسل شيء منها إلا الوجه البادي في محل الالتصاق؛ فإنا لا نوجب القلعَ، فنقيم ذلك القدرَ في محل الالتصاق مقام ما استتر به، ويجب غسل ما تحتها من الساعد في محل التجافي، لا محالة.
92- ونقل العراقيون نصاً للشافعي، وقالوا: قال رحمه الله: " لو نبت لإنسانٍ يدٌ زائدة من عضده أو كتفه، فإن كانت بحيث (1 لو امتدت، لم تحاذ شيئاًً من محل الفرض في اليد الأصلية، فلا فرض فيها، وإن كانت بحيث 1) [لو امتدت] (2) [يحاذي طرف] (3) منها شيئاًً من محل الفرض في اليد الأصلية، فيجب غسلُ المقدار المحاذي؛ فإنه اجتمع فيه المحاذَاة واسم اليد " (4) ، وهذا نقله بعض أئمتنا، كما نقلوه عن الإمام الشافعي، والمسألة محتملةٌ جدّاً؛ إذ محلُّ الفرض العضو الأصلي.
ولا خلاف أنه لو نبتت له سِلعةٌ (5) من العضد، وكانت بحيث تمتد إلى الساعد، فلا يجب غسل شيء منها إذا كانت متدلية غير ملتصقةٍ. ولكن لم أر في المسألة إلا نقلَ النص للأصحاب.
93- ولو كانت يمينان لا يتبين الأصلية منهما، فيجب غسلُهما جميعاًً وفاقاً، وهذا في يدين التبس أمرُهما، ومنبتهما من الإبط. ولو كانت إحدى اليدين أصلية
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (م) .
(2) زيادة من (ل) .
(3) في الأصل: تحاذي طرفاً، والمثبت تقدير منا، والحمد لله وافقتنا: (م) ، (ل) .
(4) نص الشافعي هذا عن اليد الزائدة لم أصل إِليه في المختصر، ولا في الأم.
(5) السِّلْعَةُ: زيادةٌ في البدن كالغدة، تتحرك إِذا حرّكت، وتكون من حمصة إِلى بطيخة (القاموس) .(1/78)
والأخرى زائدة، ومنبتهما دون المرفق، فيجب غسل الزائدة؛ إذ لو كانت سِلعةً، لوجب غسلها لكونها على محل الفرض.
فصل
قال: " ثُمَّ يَمسَحُ رأْسَهُ ثلاثاًً ... إلى آخره " (1) .
94- نذكر أقل ما يُجزىء من المسح، ثم نذكر أكمله. فأما الأقل، فالقول فيه يتعلق بمحل المسح، وبالمقدار المفروض منه.
فأما المحل فبشرة الرأس، أما الشعر النابت عليها إذا لم يخرج عن حدّ الرأس، فإن أوقع المسح على طرفِ شعير خارجٍ عن حدّ الرأس، لم يعتد به، وإن تساقط الشعر وزايل المنبتَ، ولكن لم يخرج عن حدّ الرأس، فيجوز إيقاع المسح عليه، فإنه في حد الرأس. ولو كان الشعر متجعداً، وكان تجعده في حد الرأس، ولكن كان بحيث لو مُدَّ، لخرج طرفُه عن حد الرأس، فالطرف الذي يخرج بالمدّ عن حدّ الرأس لا يجزىء إيقاع المسح عليه (2) .
ويجوز إيقاع المسح على أصل الشعر، وما لا يجاوز منه حدّ الرأس، وإن لم يجز إيقاعه على الطرف الذي يخرج عن حَد الرأس.
95- فأما المفروض؛ فما ينطلق عليه اسم المسح، وإن قل.
والمعتمد الذي إليه الرجوع أن استيعاب الرأس بالمسح غيرُ واجب؛ إذ "مسح رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بناصيته، وعلى عمامته" (3) ، ولفظ المسح غير مُشعرٍ
__________
(1) ر. المختصر: 1/7، الأم: 1/26.
(2) ر. المجموع: 1/406، لترى النووي ينقل هذا الرأي عن إِمام الحرمين.
(3) الحديث رواه مسلم، والترمذي، والنسائي من حديث المغيرة بن شعبة، وأبو داود نحوه من حديث أبي معقل عن أنس (ر. مسلم: الطهارة، باب المسح على الناصية والعمامة، ح 81، أبو داود: الطهارة، باب المسح على العمامة، ح 147، تلخيص الحبير: 1/95 رقم: 58، سبل السلام: 1/106) .(1/79)
في وَضع اللسان بالاستيعاب؛ فالمأمور به مسحُ بَعضِ الرأس، وهو ينطلق على ما قل وكثُر، والمصير إلى التقدير من غير توقيف تحكّمٌ، ثم قال الأئمة: لو مسح بعضاً من شعره، كفى؛ لتحقق الاسم.
96- وحكى الشيخ أبو علي (1) عن بعض الأصحاب - اشتراط إيصال الماء إلى ثلاث شعرات، وهذا القائل أخذ مذهبه من اشتراط حلق ثلاث شعرات للتحلل من النسك، وهذا غلط؛ فإن الحلق في ألفاظ الشارع منوطٌ بالشعر، والشعر لفظُ جمعٍ؛ فَحُمِل على ما هو أقل الجمع.
والشعر ليس معنياً مقصوداً في المسح. ولو قيل: الأصل الرأس، والشعر قائم مقامه، وإن لم ينزل منزلة الأبدال، لم يكن بعيداً. وقد سقط إيجاب الاستيعاب، وبطل التقدير، فتعين الاكتفاء بما ينطلق عليه الاسم، والحلق متعلِّقٌ بالشعر لا محالة.
فرع:
97- لو غسل جزءًا من رأسه، سقط الفرض به وفاقاً؛ فإن المسح وإن كان هو المنصوص عليه، فالغَسل فوقه؛ فإجزاء المسح مُنبهٌ على الغَسل من طريق الأولى.
ولو بلّل الرجل يده، فلَطَم بها رأسَه، ولم يُجر ماءً، ولا أمرّ يداً، ففي سقوط الفرض وجهان: أحدهما -وهو الذي اختاره القفال- أنه لا يجزىء؛ لأن المرعي فيه ما يسمى مسحاً، والذي ذكرناه ليس مسحاً ولا غسلاً.
والثاني -وهو الذي لا يتجه عندي غيرُه- أنه يُجزىء (2) ؛ لأن الغرض وصولُ الماء إلى الرأس، وقد تحقق، ولا يجوز أن يُعتقد [تعبدٌ] (3) في كيفية إيصال الماء، وقد
__________
(1) المراد أبو علي السنجي في شرح التلخيص، والمحكي عنه ابن القاصّ، صاحب (التلخيص) كما صرح بذلك الرافعي في الشرح الكبير: 1/354.
(2) وهذا هو الصحيح في المذهب (الروضة: 1/53) .
(3) مطموسة في الأصل، وقدرناها على ضوء السياق وما بقي من أطراف الحروف. وصدفتنا (م) ، (ل) .(1/80)
ظهر أن المقدار الذي ابتلَّ من الرأس كافٍ، فلا أَرَب في إمرار اليد، والقدر المبتل باللطم هو المقدار المبتل بهيئة المسح.
فرع:
98- فهمتُ من مجاري كلام أئمة المذهب تردداً في أن الغَسل هل يُكره إلحاقاً بالسرف في استعمال الماء؟
فالذي ذهب إليه الأكثرون أنه سرفٌ كالغسلة الرابعة.
وصار صائرون إلى أن المسحَ في حكم التخفيف، فإن اتفق الغَسل، لم يكن سَرفاً. وهذا القائل يحتج بأن تكرير المسح بمياه جديدة إذا فرض على التوالي، يؤدي إلى الغسل؛ فإن الغسل إجراءُ الماء، وغالب ظني أن الماء يجري بهذا. ولم أر أحداً يستحب الغسل، [ولو لم] (1) يكن الغسل في الشرع سرفاً، لكان محبوباً.
ولا خلاف أن غسل الخف بدلاً من المسح مكروه، فإنه تعييبٌ للخف بلا فائدة.
فرع:
99- إذا ألقى المسح على الشعر، ثم احتلق، فالذي قطع به الأئمة أن ذلك غيرُ ضائر؛ فإن سقوط محل الفرض بعد أدائه لا يردّ حكم الحدث؛ والحدث بعد ارتفاعه بالطهر لا يعود حكمه إلا بحدث.
وحكى العراقيون عن ابن خَيْران (2) (3) أنه نَزَّل حلق الممسوح من الشعر منزلةَ نزع
__________
(1) في الأصل: ولم. والمثبت تقديرٌ منا على ضوء السياق، وانظر المجموع: 1/410، وصدقتنا (م) ، (ل) .
(2) ابن خَيْران، أبو علي الحسين بن صالح، أحد أركان المذهب، ومن كبار أئمته ببغداد، تفقه بأبي القاسم الأنماطي، توفي: 320 هـ (ر. تهذيب الأسماء واللغات: 2/361، طبقات الفقهاء: 110، وطبقات السبكي: 2/302، 3/271 وما بعدها) .
(3) كذا ذكره إمام الحرمين (ابن خيران) ، وتبعه الغزالي في الوسيط: 1/373، وتعقبه النووي، في التنقيح، وفي المجموع، كما تعقبه ابن الصلاح في مشكل الوسيط فقالا: صوابه ابن جرير.
وابن جرير هو أبو جعفر محمد بن جرير الطّبري، الإِمام المطلق، أحد أئمة الدنيا علماً وديناً، صاحب التفسير المعروف باسمه، وصاحب التاريخ أيضاًً المعروف باسمه. توفي 310، (طبقات السبكي: 3/121) .
وهذا من عجائب التصحيف، وحقّاً لا يعرى عن التصحيف أحد، فقد صُحّف ابن =(1/81)
الخف في حق الماسح، وهذا إنما تخيله من حيث إنه حسب الأصل في محل المسح بشرةَ الرأس، فقدّر الشعر بدلاً عنها، وهذا بعيدٌ جداً، وهو غيرُ محسوب من المذهب. ولو قَلَّم المتوضىء أظفاره، فقد بدا بالقَئم من الظُّفر ما كان [مستترا] (1) بالجَلْق (2) ، فلا يجب إيصال الماء إلى البادي عن الظفر، وابن خيران فيما أظن لا يخالف في ذلك، وإنما بنى ظنّه في حلق الشعر على ما ذكرته من اعتقاده أن الأصل بشرة الرأس، ومثل هذا لا يتحقق في الظُّفر.
فهذا منتهى ما أردنا في ذكر المفروض من المسح.
100- فأمّا الأكمل، فاستيعاب الرأس بالمسح سنة، وقد فرضه مالك (3) . ثم التكرار في مسح الرأس مستحب عن الشافعي بمياهٍ جديدة. فإن أراد أن يستوعب الرأس [بلل يديه وألصق] (4) أطراف الأصابع بأطراف الأصابع، وبدأ بمقدمة رأسه ومرّ
__________
= (جرير) على الإِمام بابن (خيران) ، وخطورة هذا التصحيف هنا لا تتعلق بنسبة قول إِلى غير صاحبه فحسب، (على ما في ذلك) بل بتقرير المذهب، وتكوينه، ونسبة ما ليس منه إِليه، قال النووي: " وحكي عن مجاهد والحكم، وحماد وعبد العزيز من أصحاب مالك، ومحمد بن جرير الطبري: أنهم أوجبوا طهارة ذلك العضو، ووقع في النهاية والوسيط، في هذه المسألة غلط، فقالا: لا يلزمه غسل ذلك خلافاً لابن خَيْران، فيقتضي هذا أن يكون وجهاً في المذهب، فإن أبا علي بن خيران، من كبار أصحابنا أصحاب الوجوه، ومتقدميهم في العصر والمرتبة، ولكن هذا غلط وتصحيف، وقد اتفق المتأخرون على أن هذا غلط، وتصحيف، وأن صوابه: "خلافاً لابن جرير" بالجيم، وهو إِمام مستقل، لا يعدّ قوله وجهاً في مذهبنا، وقد نقله أصحابنا العراقيون، والخراسانيون أجمعون، والغزالي أيضاًً في البسيط عن ابن جرير. والله أعلم (المجموع: 1/393، والتنقيح: 1/270، ومشكل الوسيط بهامش الوسيط: 1/270) .
(1) مطموسة بالأصل وقدرناها على ضوء السياق، وما بقي من أطراف الحروف، وصدقتنا (م) ، (ل) .
(2) الجلْق: من جَلَقَ الشيء يجلقِه كَشَفَه، وجلق رأسه حلقه (المعجم) وفي (م) مستتراً بالمقلوم، وكذا في (ل) .
(3) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/119 مسألة: 36، حاشية العدوي على شرح أبي الحسن لرسالة ابن أبي زيد: 1/169، حاشية الدسوقي: 1/88، جواهر الإِكليل: 1/14.
(4) في الأصل: بللُ يديه، ألصق ... ، والمثبت من (ل) وفي (م) : ثم ألصق ...(1/82)
بهما إلى القفا، ثم أعادهما إلى المكان الذي بدأ منه، ثم يأخذ ماءً جديداً ويمسح كذلك ثانية، وثالثة؛ وسبب ردّ اليدين من القفا إلى مقدمة الرأس أن الإمرار من الناصية إلى القفا يُضجعُ الشعورَ، ثم ردّهما يقلبها، فيحصل بالإمرار الأول والرد استيعابُ الشعور.
قال أبو بكر الصيدلاني: إنما يَرُدّ الماسح يَده من قفاه، إذا كانت على رأسه شعور تنقلب بترديد الماء. فأما إذا كان الرأس محلوقاً، أو كان عليه ذَوائب، فلا معنى لترديد اليد.
ولو مسح الرجل طرفاً من رأسه، ثم مسح طرفاً آخر، لم يكن ذلك من التكرار، وإنما هو مُحاولة الاستيعاب، والاستيعاب سنّة منفصلة عن التكرار.
وردّ اليد من القفا إلى الناصية من طلب الاستيعاب.
فرع (1) :
قال: " ويمسح أذُنيه ظاهرهما وباطنهما بماء جديد " (2) وهذا كما قال.
101- مسح الأذنين سنة مؤكدة، ولا بد من أخذ ماء جديدٍ لهما، ولو مسحتا بالبَلَل الباقي على الرأس، لم يعُتد بذلك، والأذنان عضوان على حيالهما، ثم المستحب إيصال الماء إلى داخل صدفة (3) الأذنين وظاهرهما، فيأخذ المتوضىء البللَ بيديه، ويُدخل مُسبّحتَيهِ في صماخَي (4) أُذنيه، ويُديرهما على المعاطف، وُيمرّ الإبهامين على ظهور الأذنين.
وكان شيخي يقول: يلصق بعد ذلك كفّيه المبلولتين بأذنيه طلباً للاستيعاب.
والتكرارُ محبوب في مسحهما، كما ذكرناه في الرأس.
وكان شيخي يذكر وجهين في أن مسح الرقبة سنّةٌ، أو أدبٌ، وكان يروي أن النبي
__________
(1) في (ل) : فصل.
(2) ر. الأم: 1/23، والمختصر: 1/7.
(3) صدفة الأذن: محارتها. (المعجم) .
(4) الصماخ قناة الأُذن التي تفضي إِلى طبلتها. (المعجم) .(1/83)
صلى الله عليه وسلم قال: " مسح الرقبة أمانٌ من الغُلّ " (1) ويقول: " لم يرتض أئمةُ الحديث إسنادَه، وسببُ التردد في تسميته سنةً هذا ".
ولستُ أرى لهذا التردد حاصلاً، ولم يجر مثلُه في غير ذلك (2) ، ولم يذكر الصيدلاني مسحَ الرقبة في كتابه أصلاً.
فصل
قال: " ثُمَّ يغسِلُ رِجلَيه ثلاثاً ... إلى آخره " (3) .
102- غَسْل الرجلين مع الكعبين من الأركان، والكعبان هما العظمان البارزان من
__________
(1) حديث " مسح الرقبة أمان من الغل "، قال عنه الحافظ في التلخيص: أورده أبو محمد الجويني وقال: "لم يرتض أئمة الحديث إسناده؛ فحصل التردد في أن هذا المسح سنة أو أدب" ثم أشار الحافظ إِلى ما قاله إِمام الحرمين هنا قائلاً: " وتعقبه الإمام بما حاصله أن الأصحاب لم يجر لهم تردّد في حكمٍ مع تضعيف الحديث ".
هذا وقد قال ابن الصلاح: هذا الحديث غير معروف عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من قول بعض السلف. وقال النووي في المجموع: هذا حديث موضوع، ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وزاد في موضع آخر: لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء في مسح العنق، بل هو بدعة، ولم يذكره الشافعي ولا جمهور الأصحاب. ا. هـ. وتعقبه ابن الرّفعة بأن البغوي من أئمة الحديث، وقد قال باستحبابه، ولا مأخذ لاستحبابه، إِلا خبر أو أثر، لأن هذا لا مجال فيه للقياس، وقد أورد الحافظ حديثاً عن ابن عمر بلفظ: "من توضأ ومسح عنقه وُقي الغل يوم القيامة" وقد صححه الروياني صاحب البحر، ولم يرض الحافظ هذا التصحيح. ا. هـ ملخصاً من كلام الحافظ وعنده مزيد بيان وتفصيل.
ونحب أن نزيد هنا أموراً:
أولها: في كلام الحافظ ما يشهد بأن لفظ (الإِمام) إِذا أطلق، يراد به إمام الحرمين، كما قلناه من قبل، في ترجمته، وفي مناسبات أخرى.
ثانيها: أن الحافظ ابن حجر كان مطلعاً على (نهاية المطلب) بل دارساً له عارفاً بدقائقه.
ثالثها: أن السنة والأدب يشتركان في أصل الندبية والاستحباب، لكن السنة ما يتأكد شأنها والأدب دون ذلك. كذا قال الرافعي في الشرح الكبير: 1/434 وانظر (تلخيص الحبير: 1/104، والمجموع 1/475، مشكلات الوسيط لابن الصلاح، والتنقيخ للنووي - بهامش الوسيط (1/288، 289) ، سنن البيهقي: 1/60) .
(2) هذا هو التعقب الذي أشار إِليه الحافظ ابن حجر، ونقلناه عنه في الهامش السابق.
(3) ر. المختصر: 1/7.(1/84)
الجانبين، وهما مَجْمع مفصل الساق والقدم، وعليهما الغَسل - كالمرفقين. ويجب إيصال الماء إلى خلل الأصابع، لا محالة، فإن استيقن المتوضىء ذلك، استحببنا مع ذلك تخليل أصابع الرجلين، وهو من السنن المؤكدة. وفي الأحاديث المتفق على صحتها ما روي أن لَقيطَ بنَ صَبرة قال للنبي عليه السلام: عَلّمني الوضوء يا رسول الله فقال: "أسبغ الوضوءَ، وخَلّل بين الأصابع، وبَالغ في الاستنشاق، إلا أن تكون صائماً"، ثم صح في السُنة من كيفية التخليل ما سنصفه، فيقع (1) التخليل من أسفل الأصابع، والبدايةُ بالخنصر من الرجل اليمنى، والختم بالخنصر من الرجل اليسرى، والتخليل يقع بالخنصر من اليد.
ثم لست أرى لتعيين [اليد] (2) اليمنى أو اليسرى في ذلك أصلاً، إلا نهي الاستنجاء باليمين؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن الاستنجاء باليمبن إكراماً لها" (3) ، وليس تخليل الأصابع مشابهاً له، فلا حرج على المتوضىء في استعمال اليمين أو اليسار؛ فإن الأمر كذلك في غسل الرجلين، وخلل الأصابع جزء منها، ولم يثبت عندي في تعيين إحدى اليدين شيء.
فصل
103- الترتيب مستحق في الوضوء، وترتيب اليسرى على اليمنى في اليدين والرجلين مستحب. ولا يمتنع أن يقال: ليس هذا من خصائص الوضوء؛ فإنه مأخوذ من قول عائشة رضي الله عنها " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب التيامن في كل شيء، حتى في تنعُّله إذا انتعل، وفي ترجُّله إذا ترجّل، وفي شأنه كله " (4) ،
__________
(1) في (م) ، (ل) : فليقع.
(2) مزيدة من (م) ، (ل) .
(3) ورد هذا النهي في الحديث المتفق عليه، المجمع على صحته من حديث أبي قتادة رضي الله عنه، ولفظه في الصحيحين: " وإِذا أتى الخلاء، فلا يمس ذكره بيمينه، ولا يتمسح بيمينه " (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/61 ح 151، تلخيص الحبير: 1/122) .
(4) حديث: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله، وترجله، وطهوره، وفي شأنه كله" متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها. (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/61 ح 152) .(1/85)
ولو ترك المتوضىء الترتيب ناسياً؛ فالمذهب أنه لا يُعتدّ بوضوئه.
104- وكان شيخي يحكي قولاً آخر في القديم أن الناسي معذور في ترك الترتيب، وكان يبني هذا على قول الشافعي، في أن من ترك قراءة الفاتحة ساهياً هل يُعذر؟
ويقول: وجه التقريب في ذلك أن قراءة الفاتحة تسقط عن المسبوق إذا صادف الإمامَ راكعاً، والترتيبُ يسقط عن المحدِث إذا اغتسل، كما سنشرحه؛ فاقتضى ذلك تقريباً بينهما في حق الناسي. وهذا عندي إن صح النقل عنه، فهو في حكم المرجوع عنه الذي لا يُعدّ من المذهب، أما الغسلُ، فلا ترتيب فيه أصلاً؛ فإن البدن فيه في حكم العضو الواحد.
ولو أحدث الرجل وأجنب، كفاه الغُسل، ولا يجب عليه إيصال الماء إلى أعضاء وضوئه مرتين، مرةً [عن] (1) الوضوء، ومرةً [عن] (1) الغسل، وذهب أبو ثور إلى أنه يجب أن يتوضأ ويغتسل، فنسب بعضُ المصنفين هذا إلى بعض أصحابنا، وهو غلط صريح.
ثم إذا اندرج الوضوء تحت الغسل [كما] (2) ذكرناه؛ فقد اختلف أئمتنا في أنه هل يجب على المغتسل رعايةُ الترتيب في أعضاء الوضوء؟ فقال بعضهم: يجب ذلك؛ فإن الوضوء إنما يندرج تحت الغُسل فيما يوجد في الغسل (3) ، كما تتداخل العمرة في الحج فيما يوجد منهما في حق القارن، فيطوف طوافاً واحداً، ويسعى سعياً واحداً، ولا تداخل فيما اختص به أحد النسكين؛ فإنّ القارن يقف ويرمي ويبيت، وإن لم تكن هذه المناسك في العمرة. كذلك الوضوء يندرج تحت الغسل، فيما يتعلق بالغسل وإيصال الماء، فأما الترتيب فمما يختص الوضوء به، فيجب الإتيان به.
وقال بعضهم: لا تجب رِعاية الترتيب، وهو الأصح؛ فإن الترتيب ليس ركناً مقصوداً، وإنما هو هيئة وكيفية في أداء الأركان، فإذا اندرج فعل الوضوء تحت
__________
(1) في الأصل: عند الوضوء ... وعند الغسل، وهذا تقدير منا. ووجدناه في (م) ، (ل) أيضاً.
(2) في الأصل، (ل) : فيما. والمثبت من (م) .
(3) ر. المجموع: 1/447-451.(1/86)
الغُسل، فرعاية الهيئة محال مع هذا، والوقوف والرمي والمبيت مناسك مقصودة، والعمرة تندرج تحت الحج، والحج لا يندرج تحت العمرة.
والذي يحقق ذلك أن العمرة لو انفردت، لم تفت، فإذا اندرجت تحت الحج، فاتت بفوات الحج؛ فاعتبار الترتيب بمقتضى الفوات أولى من اعتباره بمناسك مقصودة.
105- ومما يتصل بما نحن فيه أن من أحدث، ثم انغمس في ماء فغمره، ونوى رفع الحدث، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا يرتفع الحدث؛ فإنه لم يأت بهيئة الترتيب المأمور به في الوضوء.
والثاني - يرتفع حدثُه؛ لمعنيين: أحدهما - أنه صيّر وضوءه غُسلاً، والغُسل أكمل من الوضوء، فكأن الشرع خفف عن المحدث أمر الطهارة، فاقتصر منه على غَسلِ أطرافٍ ومَسْح بعضها، فإذا آثر الغُسلَ، فقد رقى إلى الأعلى، فأجزأه، والغسل لا ترتيب فيه.
والمعنى الثاني - أنه إذا غمرهُ الماء؛ فإنه يترتب على أعضاء الوضوء في لحظاتٍ لطيفة؛ فيقع الترتيب، وإن كان لم يُعتمد.
106- وإذا انتهى [الكلام] إلى هذا المنتهى، فلا بد من التنبيه لأصلٍ مهم، يوُضَّحُ بالسؤال والانفصال عنه.
فإن قيل: فلم شرطتم النية في طهارة الحدث؟ والنيةُ قصدٌ، ولا بد في تقدير القصد من فرض فعلٍ مقصودٍ، وليس في طهارة الحدث فعلٌ مقصودٌ؛ فإن الجُنب إذا برز لموقع القَطْر، حتى استوعب [بدنَه غسلاً] (1) ، كفاه ذلك، فإذا لم يوجد منه فعل فما متعلّق قصده؟ قلنا: وقوفه حالّ محلّ غُسلٍ ينشئه.
فإن قيل: لو ألقي رجلٌ في غمرة، ونوى رفع الحدث فما مقصوده؟ قلنا: إيثارُه المقامَ في تلك الغمرة مقصودُه.
فإن قيل: فإن كان لا يُؤْثر المقام فيها، وهو يُغَط وُيغمس قهرآ - قلنا: من
__________
(1) في الأصل: غَسلاً بدنه. والمثبت من (ل) .(1/87)
ضرورة نية رفع الحدث ربطُها بأمرٍ، وهو الكَوْنُ في الماء، ولو في لحظة، ويستحيل أن ينوي رفعَ الحدث لا بشيء. وإِن تناهى المصوّر في التصوير، ولم نُقدِّر للملقَى في الماء مقصوداً هو كونٌ أو مكثٌ، فقد رأيت للشيخ أبي علي أنه قال: لا يصح الوضوء؛ فإن النية لا تتحقق من غير تعليقٍ بأمر، فإن جمع بين قصد رفع الحدث وبين قطع النية عما هو فيه، فالنية لا تتحقق.
فإن قيل: أليس الصائم ينوي ولا يصدر منه فعلٌ؟ قلت: الانكفافُ عن المفطرات مما يتأتى ربطُ القصد والاختيار به، وهذا فيه احتمالٌ وإِشكال ظاهر، والذي يُشعر به كلام معظم الأئمة إِطلاق القول بأن النية تصحّ في حق الملقى في الماء من غير تفصيل؛ فإن الملقى إذا كان كارهاً لما هو فيه، فلا يمتنع أن ينوي رفع الحدث بما هو كاره له، والسر فيه أنه إِذا نوى رفع الحدث بما هو فيه، فيكون ما يلابسه مراداً له من وجه، ومكروهاً له من وجه.
وهذا مقامٌ يتعين إِنعامُ الفكر فيه.
107- وقد عُدنا إِلى ما كنا فيه من أمر الترتيب، فلو انتهى محدث إلى شَط نهر، واغتسل، فأوصل الماء إلى أسافله، ثم انتكس، فأوصل الماء إِلى أعاليه، ففي ارتفاع حدثه وجهان مرتبان على ما إِذا انغمس في ماء: فإِن حكمنا بأن الحدث لا يرتفع إِذا انغمس، فلأن لا يرتفع إِذا انتكس أولى، وإِن حكمنا بأنه يرتفع ثَمَّ، فهاهنا وجهان مبنيان على المعنيين المقدم ذكرهما.
فإِن قلنا: يرتفع حدث المنغمس لترتب الماء في أوقاتٍ لطيفة، فهاهنا لا يرتفع؛ لأنه نكس الغسل قصداً.
وإِن قلنا: يرتفع حدث المنغمس؛ لأنه جعل الوضوء غسلاً، فهذا المعنى متحقق في هذه الصورة.
فرعٌ لابن الحداد (1) :
108- قال تفريعاً على أن من أحدث وأجنب، لم تجب عليه رعاية الترتيب في
__________
(1) ابن الحداد: أبو بكر محمد بن أحمد القاضي المصري، صاحب الفروع، من نظار أصحابنا وكبارهم ومتقدّميهم، في العصر والمرتبة، أخذ الفقه عن أبي إِسحاق المروزي، انتهت إِليه =(1/88)
أعضاء الوضوء: ولو أوصل المغتسلُ الماء إِلى جميع بدنه إِلا رجليه، ثم أحدث يلزمه أن يتوضأ، ثم يراعي الترتيب في الوجه، واليدين، والرأس، ولا يجب رعاية الترتيب في الرجلين لبقاء حكم الجنابة فيهما؛ ولا يجب الترتيب في طهر الجنابة؛ فإِن شاء قدم غسلَ الرِّجل على غسل الوجه، وإِن شاء أوقعه وسطاً؛ فإِن حكم الترتيب ساقط عنه.
فإن قيل: الأصغر يندرج تحت الأكبر، وإِذا بقي من غُسل الجنابة غَسْلُ الرجلين، ثم طرأ الحدث، فالوضوء الآن أكُمل ممّا بقي من الغُسل.
قلنا: ذكر الشيخ أبو محمد (1) أن الترتيب يُراعَى في الرجل لهذا السؤال، ويتبع حكمُ الجنابة حكمَ الوضوء. وهذا وإِن كان فيه إِخالة في وجوه الاحتمال، فالذي ذكره الأصحاب هو المذهب المعتدّ به. وحكم طهر الجنابة على الجملة أغلب، وهو بأن يُستتبع أوْلى.
ثم الذي ذكره الشيخ أبو علي في الشرح (2) أن المتوضىء في الصورة التي ذكرناها، إِن نسي حكمَ الجنابة في رجليه، ونوى رَفع الحدث [فالجنابة] (3) ترفع عن رجليه في ظاهر المذهب، وإِن لم يتعرض لها؛ فإنّ أعيان الأحداث لا أثر لها، ولا يضرّ الغلط فيها.
وحكى وجهاً ثانياً، أن الجنابة لا ترتفع؛ لأن حكمها أغلظ من حكم الحدث الموجب للوضوء، والأعلى لا يرتفع بقصد الأدنى.
وهذا ضعيف مزيف، ثم بنى على ذلك أن الجنب لو انغمس في ماء مثلاً، ونوى
__________
= إمامة مصر في عصره، اعتنى الأئمة بشرح كتابه الفروع، فشرحه جمعٌ، منهم: القفال المروزي، والقاضي أبو الطيب، وأبو علي السنجي، توفي سنة 345 هـ (تهذيب الأسماء واللغات: 1/192، وطبقات السبكي: 3/79، طبقات الشيرازي: 114، طبقات ابن هداية: 204، طبقات ابن قاضي شهبة: 1/104) .
(1) المراد به والده، وهو يعبر عنه عادة بـ (شيخي) .
(2) المراد: الشيخ أبو علي السنجي في شرح الفروع.
(3) في الأصل: والجنابة، والمثبت من (م) ، (ل) .(1/89)
رفع الحدث الأصغر، لا شك أن الجنابة لا ترتفع عما خلا أعضاء الوضوء؛ فإِن نيّته لم تشتمل عليه. وفي ارتفاع الجنابة عن أعضاء الوضوء وجهان: أحدهما - لا ترتفع لما سبق من أن الأعلى لا يرتفع بالأدنى.
والثاني - ترتفع الجنابة عن الوجه واليدين والرجلين.
109- وأما الرأس، ففرض الوضوء فيه المسحُ، وفرض الغُسل فيه الغَسل، [فهل] (1) يسقط فرض الجنابة عن الرأس؟ ذكر على هذا الوجه وجهين: أحدهما - لا يرتفع؛ لأن نيته لم تتناول غسلَ الرأس.
والثاني - يرتفع؛ فإِن غسل الرأس في الوضوء يقوم مقام المسح، وهما جميعاً إيصال الماء.
وإِذا جُمع ما ذكره الشيخ الآن إِلى ما قدّمناه في باب [نية] (2) الوضوء، من أن الغلط في النية من حدث إلى حدث هل يؤثر؟ انتظم منه أوجه:
أحدها - أن الغلط لا يضر أصلاً.
والثانٍ- أنه يؤثر ويُفسد النية.
والثالث - أن الأدنى يرتفع بالأعلى، إِذا فرض الغلط كذلك. والأعلى لا يرتفع بالأدنى، وهذا ما ذكره الشيخ الأب.
فرع:
110- إِذا خرج من الرجل خارجٌ، فلم يدرِ أمَنيٌّ هو، أم مَذْي، فلا يلزمه الغُسل؛ فإِن الطهر لا يلزم إِلا بيقين، كما سيأتي في بابه.
والمقدار المستيقن إِيصال الماء إِلى أعضاء الوضوء، ثم ظهر اختلاف الأئمة في أنه هل يجب رعايةُ الترتيب في هذا الوضوء؟ فقال قائلون: لا يجب؛ فإِن وجوب الترتيب غير مستيقن.
وهذا عندي غلط؛ فإِن من أتى بوضوءٍ منكس، فليس هو بمتطهر قطعاًً؛ فإِنه
__________
(1) في الأصل: فهذا. والمثبت من (م) ، (ل) .
(2) في الأصل، (م) : سنة.(1/90)
إِن كان جُنباً، فلم يغتسل، وإِن كان محدثاً، فلم يتوضأ وضوءاً مرتباً، فالوجه أن يغتسل، أو يأتي بوضوء مرتب.
ثم مما يُبنى على ذلك، أن المني طاهرٌ، وخروجه يوجب الغُسل، والمذي نجس، يوجب خروجُه الوضوء، فإِن أصاب الخارج المشكلُ الثوب أو البدن، فإِن اغتسل، ولم يغسل موْرِده، وصلى، جاز؛ أخذاً باحتمال كونه منيّاً، ولو توضأ وغسله، وصلى، جاز؛ لاحتمال كونه مذياً.
وإِن توضأ، ولم يغسل الخارج وصلى، فعلى الوجهين المذكورين في الوضوء المنكس، فمن أصحابنا من قال: يُجزئه، ويُحط الغَسل (1) عنه؛ أخذاً بأنه منيٌّ.
ويحط عنه استيعاب البدن؛ أخذاً بأنه مذيٌ.
والوجه عندي القطع ببطلان الصلاة؛ لأنه لم يخرج عن موجَبِ واحدٍ من التقديرين، إِذا توضأ ولم يغسل بدنه [وثوبه] (2) .
فصل
قال الشافعي: " لو فرّق وضوءَه وغُسلَه أجزأه ... إلى آخره " (3) .
111- التفريق اليسير لا يبطل الوضوءَ والغُسل، والتفريق الكثير لا يؤثر أيضاًً في القول الجديد.
وقال الشافعي في القول القديم: " التفريق الكثير يُبطل الغسلَ والوضوء ". وهو مذهب مالك (4) .
وذكر الأئمة أن الموالاة مشروطة في الصلاة، ولا يتبين ذلك إِلا بما نشُير إليه.
فالصلاة تشتمل على أركانٍ طويلةٍ وأركانٍ قصيرة، أما الطويلة، فالقيام، والركوع،
__________
(1) بالفتح: أي غسل الثوب.
(2) زيادة من (م) .
(3) ر. المختصر: 1/10.
(4) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/124 مسألة: 45، حاشية الدسوقي: 1/90، جواهر الإكليل: 1/15، 22.(1/91)
والسجود، والقعود للتشهد، فمن تناهى في تطويلها، لم يضرّه؛ إِذ لا نهاية لآخرها.
وأما القصيرة منها، فالاعتدال عن الركوع، والاعتدال عن السجود، وكأنهما [موضوعان] (1) للفصل، فالاعتدال على هيئة القيام يفصل الركوع عن السجود، والقعود بين السجدتين يفصل إِحداهما عن الأخرى، وترك الموالاة في الصلاة معناه تطويل الفواصل قصداً، وذلك مبطلٌ للصلاة على ما سنذكره. إِن شاء الله عز وجل.
112- توجيه القولين في تفريق الطهارة.
من قال: إن التفريق يبطل الطُّهرَ شبهه بالصلاة، ووجه الشبه أن الحدث يَنقُضهما.
ومن قال بالقول الجديد، احتج بأن أركان الوضوء لا رابط لها، والركن [ينفصل عما بعده] (2) ، والزمن القريب المتخلل بين الركنين ليس فيه اشتغال بالطهارة، فالأركان المقصودة فيها كأنها أفرادٌ منبترةٌ، لا ناظم لها، فهي كاقدار الزكاة، يفرّقها [مستوعبها] (3) ، فيتخلل بين المقدار والمقدار زمان، لا اشتغال فيه بالزكاة، ثم لا فرق بين أن يطول ذلك الزمان المتخلل، أو يقصُر، فلتكن أركان الطهارة كذلك.
فإن قيل: إِلى ماذا الرجوع في الفرق بين التفريق اليسير والكثير؟
قلنا: إِذا غسل المتوضىء عضواً، ثم أضرب حتى زال الماء، مع اعتدال الهواء والحال، فهذا كثير. ولا يُفرض ذلك مع برد الهواء، ولا مع الحرّ المفرط، فالوسط هو المعتبر بين الطرفين.
ثم ما ذكرناه في تفريقٍ يقع من غير عذرِ، فإن كان سببُ التفريق عذراً من خوفٍ أو نفادِ ماءٍ، فالأصح القطع بأن التفريق لا يُبطل الطهارة.
ومن أصحابنا من سوّى بين المعذور وغيره في تخريج المسألة على قولين.
__________
(1) في الأصل: موضعان.
(2) في الأصل: يفصل ما بعده، والمثبت تقديرٌ منا، صدقته (م) ، وفي (ل) : ينفصل مما.
(3) في الأصل: مستوجبها. والمراد هنا [بمستوعبها] من يستوعب بأقدار الزكاة جميع الأصناف الثمانية. أو من يستوعب المقدار الواجب إخراجه دفعة دفعة.(1/92)
وكان شيخي يتردد في وقوع التفريق بسبب النسيان، فتارة كان يُلحقه بالأعذار، وتارة كان لا يَعُد النسيان عذراً.
ومما يتعين الاعتناء بفهمه أن التفريق في الصلاة إِنما هو تطويلُ ركنٍ قصيرٍ كما سبق، ثم لو فرض تطويله بنسيان وذهولٍ، لم يُقضَ ببطلان الصلاة قولاً واحداً.
وبهذا يتبين اتجاه القطع بأن تفريق المعذور لا يؤثر في طهارته.
113- فإن قيل: لا يبقى مع ما ذكرتموه من كون الناسي المطوِّل معذوراً في الصلاة وجهٌ لتخريج تفريق المعذور على قولين.
قلنا: من طول ركناً قصيراً في الصلاة؛ فهو في الصلاة، وإِن طوّل ما حقه ألا يطول. وقد ذكرنا أن المتوضىء في الزمان الذي يتخلل بين الركنين ليس مشتغلاً بالطهارة، ومع هذا يُعد الوضوء قربةً واحدةً. فاِذا تخللت أزمنةٌ متطاولةٌ، ينبتر (1) النظام فيها، بسبب أنه يتخللها ما ليس منها، وهذا يستوي فيه المعذور وغيره، وتخلل الأزمنة -على منع التفريق عندي- يتنزل منزلة الأعمال إِذا طرأت على الصلاة، فالقليل معفوٌ عنها، والكثير المتوالي على عمدٍ يُبطل الصلاةَ، وإِذا صدر الكثير مع النسيان، ففي المسألة وجهان، سياتي ذكرهما في الصلاة - إن شاء الله تعالى.
فهذا حقيقة القول في تفريق الطهارة.
ثم يستوي الغسل والوضوء في أمر التفريق. والوضوء يختصّ بالترتيب من جهة أن الترتيب إِنما يُصوّر فيما يشتمل على أركانٍ متغايرةٍ، وجميع البدن في الغسل كالعضو الواحد في الوضوء.
التفريع على قولي التفريق:
114- إن حكمنا بأن التفريق الكثير يبطل الوضوء، فإذا تخلّل، فسد الوضوء، ولزمه استئنافه. وإِن حكمنا بأن التفريق الكثير لا يبطل الوضوء، فإِذا فرق المتوضىء وضوءه، لم يبطل ما مضى، وله البناء على بقية وضوئه.
ثم اختلف أئمتنا في أنه هل يجب تجديد النية في بقية الطهارة؟ فمنهم من قال:
__________
(1) ينبتر: ينقطع، وفي (ل) : فيتبتر.(1/93)
لا يجب (1) ، والنية الأولى كافية. ومنهم من قال: لا بدَّ من تجديد النيّة؛ فإِن الطهارة إِذا تفرقت، وعزبت النيّة، فلا يكون ما يأتي به على هيئة القربات، وإِذا عزبت النيّة وتواصلت الأعمال، انبسطت النيةُ عليها حكماً، وانتظمت القُربَة حسّاً.
وقد ذكرنا في باب النية أن من نوى رفع الحدث، وعَزَبَتْ نيتُه ونسيها، ثم قصد ببقية الطهارة تبرّداً وتنظّفاً، ففيه خلاف قَدّمتُه، وليس ما ذكرناه الآن في تفريق الطهارة على هذه الصورة، بل إِذا مضى صدرٌ من الطهارة، وتخلّل زمنٌ متطاول، فأتى ببقية الطهارة، والنيّة منسيّة، ولم ينو بالبقية تبرّداً، ولا غرضاً آخر يخالف الطهارة، ولكن انضم إِليه التفريق، ففيه الخلاف.
فرع:
115- إِذا فرق المتوضىء النيةَ على أعضاء وضوئه، فنوى عند غَسل الوجه رفعَ الحدث عن وجهه، وهكذا فعل في باقي أعضائه، ففي صحة الوضوء وارتفاع الحدث وجهان.
وكان شيخي يبنيهما على القولين في تفريق الوضوء [فعلاً، ووجه] (2) البناء أنا إِذا منعنا التفريق، فالطهر قربة واحدة؛ فينبغي أن يشتمل عليها نية واحدة.
وإِن قلنا: يجوز التفريق، فقد قدّرنا كلَّ فرض قربةً بنفسه، كالأقدار التي يفرقها من [يستوعب] (3) الزكاة، فلا يمتنع تقسيط النية عليها.
والوجه عندي أن يقال: إِن منعنا التفريق فعلاً، لم يجز تفريق النية وتقسيطها.
وإِن جوزنا التفريق فعلاً، ففي تجويز تقسيط النية وجهان: أحدهما - الجواز، والثاني - لا يجوز؛ فإِن الوضوء -وإن جُوّز تفريق أركانه- قُربةٌ واحدة يرتبط حكم أوله بحكم آخره؛ فإِن من غسل وجهه، لم يقض بارتفاع الحدث عن وجهه، ما لم يتمم الوضوء؛ إِذ لو أراد مسَّ المصحف بوجهه المغسول، لم يجد إِلى ذلك سبيلاً.
__________
(1) وهو الأصح (الروضة: 1/64) .
(2) في الأصل: " فعلى وجه البناء " والمثبت من (ل) .
(3) في الأصل: يستوجب. والمثبت من (ل) .(1/94)
فصل
116- قال الأئمة: " الأولى ألا ينشِّف المتوضىء أعضاء وضوئه ".
قالت ميمونة (1) : " أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنديل ينشّف به أعضاء طهارته، فأشار بيده، ولم [يمسه] " (2) .
ولو نشف، لم ينته الأمر في ذلك إلى الكراهية، ولكن يقال: تركَ الأوْلى.
وقد روي " أنه عليه السلام نشَّف أعضاء وضوئه مرة " (3) ، وكان عليه السلام يواظب على الأوْلى، ويأتي بما هو جائز في الأحايين، فيتبين الأفضل بمواظبته، والجائز [بنوادر] (4) أفعاله.
قال العراقيون: لم يصر أحد إِلى أن التنشيف مستحب، والظاهر من مذهب الشافعي أن الأولى تركُ التنشيف. وهذا من كلامهم إِشارة إلى خلافٍ في ذلك، فكأن طائفةً قالوا: لا يترجح التنشيف على تركه.
وقد روى الصيدلاني: "أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم خرقةٌ ينشِّف بها" (5) .
__________
(1) حديث ميمونة عند الشيخين، البخاري: الغسل، باب نفض اليدين من الغسل بالجنابة، ح 276، ولفظه: " ... فناولته ثوباً، فلم يأخذه، فانطلق وهو ينفض يديه". ومسلم: الحيض، باب صفة غسل الجنابة، ح 317، ولفظه " ... أتيته بالمنديل، فرده" وفي الرواية الثانية: " فلم يمسه " وكذا رواه أبو داود أيضاً. هذا ولم يتعرض الحافظ في التلخيص لحديث ميمونة.
(2) في الأصل، وفي (ل) : " ولم يردّه " والتصويب من إِحدى روايتي مسلم.
(3) أخرجه ابن ماجة من حديث سلمان الفارسي، بلفظ: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ، فقلب جبة صوف كانت عليه، فمسح بها وجهه" وفي الزوائد: إسناده صحيح. (ر. ابن ماجة: كتاب الطهارة، باب المنديل بعد الوضوء، ح 468، التلخيص: ح 113، نيل الأوطار: 1/220، 221) .
(4) في الأصل: "بتوارد". والمثبت تقدير منا، وقد صدقته (ل) بحمد الله.
(5) قال الحافظ في التلخيص: رواه الحاكم من حديث عائشة بهذا اللفظ، وفيه أبو معاذ، وهو ضعيف. ورواه الترمذي من هذا الوجه، وقال: "ليس بالقائم" وقد تتبع طرق الحديث =(1/95)
وليس هذا بعيداً عن مسالك الإِمكان؛ فإن الذي لا ينشف إِن كان مُبقياً لأثر العبادة، فالمنشِّف متوقٍّ عن التصاق الغبرات بأعضاء وضوئه.
117- فأما الاستعانة، فالأولى تركها، والأجر على قدر [النصب] (1) ، وقد روي " أن النبى صلى الله عليه وسلم استعان في وضوئه مرة واحدة بالمغيرة " (2) ، والسبب فيه أنه كان لهٌ جُبة ضيقة الكُمّين؛ فعسر عليه الانفراد بإِسباغ الوضوء معها، فاستعان.
118- وكان شيخي يَعُدّ عند نجاز كيفية الوضوء فرائضَ الوضوء وسننَه.
فأما الفرائض، فستٌّ في قولٍ، وسبعٌ في آخر: النيةُ، وغَسلُ الوجهِ، وغَسلُ اليدين كذلك، وما ينطلق عليه اسمُ المسحِ في الرأس، وغَسلُ الرجلين مرة واحدة، والترتيب، والموالاةُ على أحد القولين.
وأما السنن إِذا جمعت، فهي أربعَ عشرةَ في قولٍ، وخمسَ عشرةَ في قولٍ: التسمية، وغسل اليدين قبل غمسهما، والسواك، والمضمضة، والاستنشاق: والمبالغة فيهما، إِلا أن يكون صائماً، والتثليثُ في المغسول والممسوح، وتقديم الميامن على المياسر، وتخليل اللحية، وتطويل الغرة، واستيعاب الرأس بالمسح، ومسح الأذنين، ومسح الرقبة، وتخليل أصابع الرجلين، والموالاة على أحد القولين.
__________
= الشيخ شاكر، محدث العصر -رحمه الله- وانتهى إلى القول بأن إِسناده صحيح (ر. الترمذي: أبواب الطهارة، باب ما جاء في التمندل بعد الوضوء 1/74 ح 53، الحاكم: 1/154، التلخيص، ح 113) .
(1) في الأصل: "النصف". والمثبت تقدير منا، صدقته (ل) و (م) .
(2) هذا اللفظ مستفاد من قصةٍ عن طريق المغيرة بن شعبة أخرجها البخاري ومسلم. (البخاري: كتاب الصلاة، باب الصلاة في الجُبة الشامية، ح 363، ومسلم: كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين ح 75، 80 - الرقم العام 274) .(1/96)
فصل
قال: " ولا يحمل المصحفَ ولا يمسه إلا طاهراً ... إلى آخره " (1) .
119- يحرم على المحدث مسُّ المصحف، ويستوي في التحريم الأسطر، والحواشي، والدفَّتان. ولو كان في غلاف هُيىّء له، أو صندوق مستصنعٍ له، ففي مس الصندوق المخصوص به، وفي الغلاف، وفيهما المصحف وجهان: َ أحدهما - المنع كالدفَّتين.
والثاني - التجويز؛ لأنهما ليسا من أجزاء المصحف.
ولا يحرم على المحدث قراءة القرآن عن ظهر القلب، والأولى أن يكون متطهراًً.
فإِن قيل: هل تطلقون لفظَ الكراهية على قراءة المحدث؟ قلنا: لا، وكيف ينساغ ذلك وقراءة المحدث عن ظهر القلب من أفضل القربات؟ ولكن الوجه أن يقال: القراءةُ في حال التطهر أوْلى، فلو كان يقرأ القرآن ناظر إِلى المصحف [وكان متطهرٌ] (2) يقلّب له الأوراق، فلا بأس. وكان سعد بنُ أبي وقاص رضي الله عنه يقرأ ناظراً، وابنه يقلب له، فأدخل يده تحت ثيابه، فقال له: " قم فتوضأ؛ ما أراك إلا وقد مسست ذكرَك " (3) .
ولو كان المحدث يقلب الأوراقَ بقضيب، فيه وجهان: والأظهر المنع؛ فإِنه وإِن كان لا يمسّ، فهو إِذا قلّب ورقة، كان في حكم الحامل لها، وحرام على المحدث
__________
(1) ر. المختصر: 1/10.
(2) في الأصل: "ناظراً إلى المصحف متطهراً، يقلب له الأوراق" والمثبت من (ل) وسقطت من (م) .
(3) رواه البيهقي عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص أنه قال: "كنت أمسك المصحف على سعد بن أبي وقاص، فاحتككت، فقال سعد: لعلك مسست ذكرك، فقلت نعم، فقال: قم فتوضأ، فقمت، فتوضأت" (السنن الكبرى: 1/88) ولعل هذا هو الذي أشار إليه الحافظ في تعليقه على حديث بسرة في الوضوء من مس الذكر، بقوله: " وفي الباب عن جابر، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمرو، ويزيد بن خالد، وسعد بن أبي وقاص و ... " (التلخيص: 1/123) .(1/97)
حملُ ورقةٍ من المصحف، سواء مسها في الحمل، أو حملها في غلاف. ولو ستر يدَه بطرف كمّه، وأخذ يُقلب، فالوجه القطع بالتحريم؛ فإن التقليب يقع باليد، لا بالكم.
ومن ذكر في ذلك خلافاً، كالخلاف في التقليب بالقضيب، [فهو] (1) غالط. هذا في مسّ المحدث.
120- فأما القول في الحمل، فيحرم على المحدث حملُ المصحف في غلافٍ، ومجرّداً عنه؛ فمهما حمله مقصوداً، عَصى، سواء فُرض حائل من غلاف أو عِلاقةٍ، أو لم يُفرض.
ولو حمل صندوقاً، فيه أمتعةٌ، وفي جملتها مصحفٌ، وهو عالم به، ففيه وجهان: أحدهما - لا يعصي؛ فإنه لم يحمل المصحف مقصوداً.
والثاني - يعصي؛ فإنّ المصحف من جملة المقاصد، فإن (2) كان تبعاً، لم يخرج عن كونه مقصوداً.
121- واختلف أئمتنا في أنه هل يجب على القُوَّام أن يُراعوا حفظَ الطهارة على الصبيان في مسِّهم المصاحفَ، والألواحَ؟ قال الصيدلاني: هذا الخلاف يقرب من حمل الصندوق وفيه أمتعة سوى المصحف؛ فإِن الصبي ليس له قصد صحيح في الشرع، فكان ضعفُ قصده في الشرع كتوزعّ القصد من الحامل على ما في الصندوق.
وهذا غير صحيح؛ فإِن قصدَ الصبي في العبادات التي هو من أهلها كقصد البالغ؛ إِذ لو تكلم في صلاته عامداً، بطلت صلاتُه، وألزمه قيّمُه إِعادةَ الصلاة، فالوجه أخذ المساهلة في باب الطهارة عند المس من تعذّر رعاية ذلك؛ فإِن الطهارة إِن روعيت عند الصلاة، لم تعسر، ومراعاتها في معظم [ساعات النهار عسرٌ، والصبي قد يمس المصحف في معظم] (3) النهار.
__________
(1) في الأصل: في، وقد صدقتنا (ل) .
(2) عبارة (ل) : فإذا لم يكن تبعاً، لم يخرج عن كونه مقصوداً.
(3) ما بين المعقفين مزيد من (ل) .(1/98)
122- فلو لمس المحدث (1) ، أو حمل درهماً على نقشه آية، أو ثوباً على طرازه آية، أو كتاباً فيه آيٌ، أثبتت للاحتجاج، أو للتيمن، لا لدراسة القرآن، لم يعصِ، ولو مسّ، أو حمل لوحاً عليه آية، أو بعض آية للدراسة والتلاوة، عصى ربّه؛ فإِنه يصير مجرِّداً قصده إِلى حمل شيء من القرآن مكتوبٍ عليه، وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً إلى هرقل، وضمنه قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64] وعلم أنْ الكتاب تتداوله أيدي الكفار، وهم على أحداثهم وجنابتهم.
فصل
قال: " ولا يُمنعُ من قراءة القرآن الا جنبٌ ... إلى آخره " (2) .
23- يحرمُ على الجنب من المسِّ والحمل ما يحرم على المحدث. ويحرم عليه قراءة القرآن عن ظهر القلب، ولا فرق بين الآية وبين بعضٍ منها، ولو قال: الحمد لله أو بسم الله، فإِن قصد قراءة القرآن عَصى، وإِن قصد ذكر الله والتيمن به، لم يَعصِ.
وإِن أجراه على لسانه، ولم يقصد ذكراً، ولا قراءةً؛ فقد كان شيخي يقول: لا يعصي، ويخص تعصيتَه فيه بما إِذا قصد قراءة القرآن. وهذا مقطوعٌ به؛ فإِن القصدَ مرعي في هذه الأبواب. وما ذكرناه في الفصل بين أن يقصد وبين ألا يقصد فيما (3) يوجد في الأذكار، ويجري في القرآن.
124- فأما الحائض، فإنها كالجنب في المنع من قراءة القرآن.
وحكى أبو ثور عن أبي عبد الله أنه كان لا يُحرّم قراءة القرآن على الحائض.
والظاهر أنه عنى بأبي عبد الله مالكاً (4) . وحمل بعضُ الأصحاب ذلك على قول
__________
(1) استئناف للحديث عن المحدث مطلقاًً، بعد أن انتهى الحديث عن مسّ الصبيان، وحملهم عند حفظهم للقرآن.
(2) المختصر: 1/10.
(3) في (ل) : لا يوجد في الأذكار.
(4) الأقرب فعلاً أنه عنى الإمام مالكاً، فمن مذهبه رضي الله عنه أن قراءة القرَان لا تحرم على =(1/99)
الشافعى. فإِنه يُكنَى بأبي عبد الله. وهذا بعيد.
ثم فرَّع هؤلاء على هذا القول الضعيف تردداً في أنَ تحليل القراءة يختص بالمعلِّمة المحترفة بتعليم القرآن، أو يَعُمّ النسوة؟ فقال قائلون: يختص بالمعلّمة؛ لضرورة الاكتساب؛ وقد يستوعب الحيض شطرَ عمرها، فهو إِذاً يقتصر على ما يتعلق بحاجة التعليم في زمان الحيض.
وقال آخرون: يعمّ التحليلُ كافّةَ النسوة على هذا القول؛ فإن المعلمة إِن تحققت فيها حاجةُ التعليم، فغيرها قد ينسى القرآن، فإِذاً على هذا هي كالطاهرة، فلتقرأ ما تشاء؛ إِذ ليس لما يطرأ في حق النسوان من النسيان ضابط، وتقدير.
***
__________
= الحائض، إِلا إِذا انقطع الدم عنها (ر. بلغة السالك: 1/76، جواهر الإكليل: 1/32) .(1/100)
باب الاستطابة
125- روى الشافعي بإسناده عن أبي هريرة عن النبي عليه السلام أنه قال: " إنما أنا لكم مثلُ الوالد، فإذا ذهب أحدُكم إلى الغائط، فلا يستقبل القبلة، ولا يستدبرها لغائطٍ ولا بولٍ، وليستنج بثلاثة أحجار، ونهى عن الروث والرمّة " (1) .
وكان رضي الله عنه يذكر في صدر الباب آداباً تتعلق بمضمون الباب.
فإذا كان الرجل بارزاً في قومٍ، آثرنا له أن يُبعد، وَيبعد عن أعين الناظرين، ويستترَ بشيءٍ إن وجَدَ، ويُعِدّ الأحجارَ قبل قضاء الحاجة، وَيتَّقي الجلوس في موضعٍ هو مُتحدَّث الناس ومجلسُهم؛ قال النبي عليه السلام: " اتقوا الملاعن وأعدوا النُّبلَ.
قيل: ما الملاعن يا رسول الله؟ قال: الجلوس في مجلس الناس ومُتحدثهم " (2) ،
__________
(1) حديث " إنما أنا لكم مثل الوالد ... " رواه الشافعي من حديث أبي هريرة (الأم 1/18) ، ورواه ابن خزيمة: 1/43 باب 8620، وابن حبان 4/279 ح 1431، والدارمي 1/182 ح 1428، وأبو داود: الطهارة، باب كراهية استقبال القبلة عند قضاء الحاجة، ح 8، والنسائي: الطهارة، باب النهي عن الاستطابة بالروث، ح 40، وأبو عوانة: 1/200، وابن ماجة: الطهارة، باب الاستنجاء بالحجارة، ح 313، وصححه الألباني. (ر. التلخيص: 1/102 ح 122، وصحيح ابن ماجة ح 252، مختصر المزني: 1/11) .
والرمة: العظام البالية.
(2) قال الحافظ: "رواه أبو داود، وابن ماجة، والحاكم من حديث أبي سعيد الحميري عن معاذ بلفظ "اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، والظل، وقارعة الطريق" وصححه ابن السكن، والحاكم، وفيه نظر" ا. هـ بنصه. ثم قال: رواه مسلم بلفظ: " اتقوا اللاعنين، قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله؟ قال: الذي يتخلى في طريق الناس، أو ظلهم ".
وأما الرواية بلفظ: " اتقوا الملاعن وأعدوا النبل " فقال عنها الحافظ: " عن الشعبي مرسلاً، ورواه ابن أبي حاتم في العلل مرفوعاً، وصحح أبوه وقفه " ا. هـ (ر. أبو داود: الطهارة، باب المواضع التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البول فيها، ح 26، ابن ماجة: الطهارة، باب النهي عن الخلاء في قارعة الطريق، ح 328، الحاكم: 1/167، التلخيص: 1/105، 107، ح 132، 139) .(1/101)
والنُّبْل جمع نُبلة وهي الحصاة الصغيرة.
ولا ينبغي أن يتدانى مجلسُ اثنين يقضيان الحاجة، ويتحدثان، وينبغي ألا يكشف المرء عورتَه قبل الانتهاء إلى مَوضع الجلوس.
قال العراقيون: لا ينبغي أن يبول في الماء الراكد، وتحت الشجرة المثمرة، ولا يستقبل الشمسَ والقمر. ويروون في هذه الأشياء أخباراً.
ومن الجوامع الاستنزاه عن البول، قال النبي عليه السلام: " استنزهوا من البول؛ فإن عامةَ عذاب القبر منه " (1) ثم من الاستنزاه أن يتوقَّى البولَ في العَزَاز (2) ، ويرتادَ موضعاً دَمِثًا (3) ، ولا يستقبلَ مَهابّ الرياح، ويهتمَّ بالاستبراء، فيمكثَ بعد انقطاع القطر، ويتنحنح، وكلٌّ أعرَف بطبعه.
والنتر (4) مما ورد الخبر فيه، وهو أن يمرّ إصبعاً من أصابعه أسفل القضيب، ليُخرج بقتةً، إن كانت.
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البول في الجُحر، وقال: "إنها مساكن إخوانكم من الجن" (5) .
__________
(1) حديث " استنزهوا من البول ... " قال الحافظ: " رواه الدارقطني من حديث أبي هريرة، وفي لفظ له وللحاكم وأحمد وابن ماجه " أكثر عذاب القبر من البول "، وأعله أبو حاتم، فقال: إِن رفعه باطل " ثم قال: "وفي الصحيح عن ابن عباس فىِ قصة صاحبي القبرين: "أما أحدهما، فكان لا يستنزه من البول" (ر. تلخيص الحبير: 1/106 ح 136، والدارقطني: 1/128، والحاكم: 1/183، وأحمد: 2/326، وصحح الشيخ شاكر إِسناده برقم 8313 ج 16 ص 143، وابن ماجة: الطهارة، باب التشديد في البول، ح 348، والبخاري: الوضوء، باب من الكبائر ألا يستتر من بوله، ح 216) .
(2) العزاز: الأرض الصلبة. (القاموس)
(3) دَمث المكان: لان وسهل. (القاموس) .
(4) استنتر من بوله: اجتذبه، واستخرج بقيته من الذكر، والنتر جذبٌ فيه جفوة. (القاموس) .
(5) رواه أحمد: 5/82، وأبو داود، الطهارة، باب النهي عن البول في الجحر، ح 29، والنسائي، الطهارة، باب كراهية البول في الجحر، ح 34، والحاكم: 1/186، والبيهقي: 1/99، وفي الأصل، ومثلها (ل) : " الجحرة " وزان عنبة جمع جحر، والتصويب من كتب الحديث.(1/102)
وإذا كان في بنيانٍ، فإنا نؤثر له إذا أراد دخولَ ذلك البيت أن يقدّم رجله اليسرى، وفي الخروج يقدّم رجله اليُمنى، على الضدِّ من دخول المساجد، والخروج منها.
ويقول عند الدخول: بسم الله، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ويقول عند الخروج: الحمد لله الذي أذهب عنّي ما يؤذيني، وأبقى عليّ ما ينفعني. ولا يستصحب شيئاًً عليه اسمٌ معظم، ولا يدخل ذلك البيتَ حاسِرَ الرأس، ويتكىء إذا جلس على رجله اليُسرى، ولا يستنجي في موضع قضاء الحاجة. وقد وردت أخبار فيما عدَّدْناه.
126- ثم يتصل بما ذكرناه القول في النهي عن استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة.
والكلام في ذلك قسمان: يتعلق أحدهما بما يحرم، ويتعلق الثاني بالآداب.
فإذا كان الرجل في مكانِ بارزٍ حرُم عليه استقبالُها، واستدبارُها عند قضاء الحاجة. ولو كان في عَرْصَةِ دارٍ، فهو بارزٌ يحرم عليه الاستقبال والاستدبار للقبلة، وإن كان في بيت يُعدّ ساتراً، لم يحرُم عليه الأمران، ولكن الأدب أن يتوقاهما، ويُهيىءَ مجلسه مائلاً عن الاستقبال والاستدبار (1) . ولو كان بينه وبين صوب القبلة ما يستره، كفى ذلك، وزال التحريم فيما ذكرناه. وينبغي أن يكون مجلسه قريباً من الساتر.
وذكر بعضُ المصنفين أنه ينبغي أن يكون بينه وبين الساتر ما يكون بين الصفّين، وهو قريب من ثلاثة أذرعٍ، وإن كان أقرب، كان الستر أبلغ. وهذا تقريب لا بأس به.
ولو تستّر في الصحراء بوَهْدَةِ، أو شيء آخر، زال عنه التحريم، ولو أناخ راحلتَه وتَستَّر بها، فهو مستترٌ، وقد رُوي ذلك عن ابن عمر.
__________
(1) هنا في هامش (م) بخط مغاير، ما نصه: "حاشية: ولو كان في مرحاضِ مرتب هُييء لذلك، وهو على جهة القبلة، فلا يحرم، ولا يكره، لكن الأولى أن يجلس مائلاً عن القبلة، ما أمكنه، ويستنجي في مكان قضاء حاجته، بالماء في المرحاض المذكور دون غيره. والله أعلم".(1/103)
ولو أرخى ذيله في قُبالة القبلة، فقد ذكر رضي الله عنه (1) فيه: وجهين في أن ذلك هل يكون تستراً؟ والوجه عندي القطع بأنه تستر؛ فإن المحذور ألا يستقبلَ القبلةَ ولا يستدبرها بإحدى سوأتيه، وهذا المعنى يزول بإرخاء الذيل. والقدر المعتبر في الساتر أن يستر من الجالس لقضاء الحاجة ما بين سُرَّتِه إلى موضع قدميه، وهو قريب من مقدار مُؤخَّرة الرَّحْل.
[باب] (2)
127- إذا خرج خارجٌ من أحد السبيلين ملوِّث، وجب فيه الاستنجاء.
والقول في مضمون الباب يتعلق بفصولٍ:
أحدها - فيما يوجب خروجه الاستنجاء.
والثاني - فيما يستنجى به.
والثالث - في كيفية الاستنجاء.
والرابع- في انتشار النجاسة في خروجها.
باب في الاستنجاء
فصل
[فيما يوجب الاستنجاء] (3)
128- فأما ما يوجب الاستنجاء، فكل عينٍ ملوِّثةٍ. والريح لا يوجب خروجُها الاستنجاءَ، ولا فرق في العين الملوثة بين أن تكون نجاسةَ البلوى، وبين أن تكون نجاسةً نادرة، كالدم والقيح.
__________
(1) الذي ذكَرَ وجهين -كما صرح باسمه النووي- هو (بعض المصنفين) وليس ابن عمر، كما قد يتبادر. وهنا يظهر إِنصاف إِمام الحرمين، فمع تحامله على (بعض المصنفين) -ويعني به أبا القاسم الفوراني- إِلا أن ذلك لم يمنعه من النقل عنه، واختيار (تقريبه) كما مر آنفاً بل يترضى عنه. (ر. المجموع: 2/79) .
(2) في النسخ الثلاث (فصل) وسوغ لنا هذا التغيير مضمون كلام الإِمام في السطور التالية.
(3) زيادة من المحقق.(1/104)
ولو خرجت حصاةٌ أو دُودةٌ، فلم يقع لوث محسوس، ففي المسألة وجهان: أصحهما - وجوب الاستنجاء؛ فإنها لا تخلو عن لوثةٍ، وإن كانت [خفية] (1) .
[فصل]
[فيما يُستنجى به] (2)
129- وأما القول فيما يستنجى به، فإن آثرَ القاضي حاجتَه استعمالَ الماء، فليكن طهوراً، [كما] (3) سبق وصفه.
وإن آثر الاقتصار على استعمال جامدٍ، فالخبر واردٌ في الأحجار، ولكن كلّ ما يقوم مقامها في المقصود، فهو بمثابتها، ولم يُعيّن الأحجارَ إلا أصحابُ الظاهر، وسنذكر السرَّ المعنوي في ذلك، في الفصل الذي بعد هذا.
فليكن ما يستنجى به عيناً طاهرة، منشِّفةً، غيرَ محترمَةٍ. فلو استنجى برَوثة، لم يجز، ولا يُعتدُّ به؛ فإن استعمالها يُثبت في محل النجو نجاسةً زائدةً غيرَ نجاسةِ البلوى.
والاقتصارُ على المسحات يختص بنجاسة البلوى، وقد صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنهي عن الروث (4) فهذا اشتراط [طهارة] (5) المستعمَل.
وأما قولنا: "منشِّفة"، فالمعنيُّ به أن الجامدات ينبغي أن تكون بحيث يتأتى بها قلعُ النجاسة، فلو كان ما استعمله أملسَ، لم يعتد به؛ فإنه لا يقلع النجاسةَ، ويبسُطها، ويُعدِّيها عن محلّها، إلى غير محلّها.
__________
(1) في الأصل: خفيفة، والمثبت من (م) ، (ل) .
(2) زيادة من المحقق.
(3) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها، وقد صدقتنا (م) ، (ل) .
(4) النهي عن الاستنجاء بالروث، رواه الشيخان، وأصحاب السنن، وأحمد، والدارمي (ر. البخاري: الوضوء، باب لا يستنجى بروث، ح 156 وباب الاستنجاء بالحجارة، ح 155، مسلم: الطهارة، باب الاستطابة، ح 262) .
(5) زيادة من (م) ، (ل) .(1/105)
وأما قولنا: "غير محترمةٍ"، فالمراد تحريمُ استعمال المطعومات، والأشياء التي عليها كتابة محترمة معظَّمة، مما يُحفظ، فالمحترَم هو الذي يحرم استعمالُه في النجاسة، فإذا فرض استعمالُ محترمٍ، انتسب المستعمِلُ إلى المأثم، وفي سقوط الفرض وجهان: أحدهما - أنه يسقط؛ لحصول ارتفاع النجاسة.
والثاني - لا يسقط؛ لأن الاقتصارَ على الأحجار من الرُّخص، والرُّخص لا تناط بالمعاصي.
وهذا الاختلاف يُضاهي الاختلافَ في المسح على الخُف المغصوب، كما سنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى.
وحكى الأئمّة اختلافَ نصّ الشافعى في الاستنجاء بالتراب، والذي يجب القطع به أنه أراد بالتراب المدَرَ (1) المتماسكَ لمَّا نصّ [على] (2) الاستنجاء به.
ومن شبّب من المصنفين بترديد الجواز في التراب المنتثر، فهو غالط؛ فإنَّ التراب يلتصق بالنجاسة، ولو قُدّر تحامل، انتشرت النجاسة، ونُقلت عن محلها.
ونقل البُويطي جوازَ الاستنجاء بالحُممَةِ (3) ، ونقل غيرُه منعَ ذلك، وقطع المحصّلون بتنزيل النصين على حالين، فإن كانت الحممةُ صُلبةً، لا تنتثر، وتقلع النجاسة، جاز الاستنجاءُ بها، وإن كانت رخوةً تنتثر، لم يجز، وتَخيّلُ التردد في ذلك غلط.
ولو استنجى بعصفورةٍ حيّةٍ، عصى ربَّه، وإذا انقلعت النجاسة، ففي سقوط الفرض الوجهان المقدمان في استعمال الأشياءِ المحترمة.
ولو استنجى بيد غيره، فهو كالاستنجاء بالعصفورة، ولو استنجى بيد نفسه، فالوجه القطع بالإجزاء؛ لحصول القلع، وانتفاءِ المأثم؛ فإنه لا حرج على المرء في تعاطي النجاسة باليد، ومن خرّج الصورة الأخيرة على الخلاف، فغالط.
__________
(1) المدر: الطين اللزج المتماسك (المعجم) .
(2) في الأصل: عن، والمثبت تقدير منا، صدقته (م) ، (ل) .
(3) الحممة: واحدة الحُمم، وهو الفحم والرماد، وكل ما احترق من النار (المعجم) .(1/106)
أما الاستنجاء بالجلد الطاهر الجافّ، فقد نقل حرملةُ (1) امتناعَه، ونقل البويطي أنه يجوز الاستنجاء به، ونقل الربيع أنه إن كان قبل الدباغ، لم يُجْزه، وإن كان بعده يجوز، فمن أصحابنا من يجعل ذلك أقوالاً.
ووجّه المنعَ بأنه من المأكولات، ووجّه التحليلَ بكونه طاهراً منشِّفاً غيرَ محترمٍ؛ فإن استعمالَ الجلد في النجاسة غيرُ محرم. ومن فصّل، قال: الجلد قبل الدباغ دسم غير نشاف، وإذا دُبغ، فهو نشاف.
ومن أصحابنا من قال: المذهب ما نقله الربيع، والقولان المطلقان في النفي والإثبات محمولان على ما قبل الدباغ وبعده.
وكان شيخي يقول: العظم الطاهر إذا جفّ، وصار بحيث لا يؤكل لجفافه، فلا يجوز الاستنجاء به؛ لأنه على الجملة من المطعومات، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه طعام إخوانكم من الجنّ" (2) .
__________
(1) حرملة بن يحيى بن عبد الله بن حرملة بن عمران التجيبي، المصري، أبو حفص، من أصحاب الشافعي، أحد الحفاظ المشاهير، وكبار رواة مذهبه الجديد، صنف المبسوط، والمختصر. ولد سنة ست وستين ومائة، ومات في شوال سنة ثلاث، وقيل: أربع وأربعين ومائتين. والتجيبي نسبة إِلى تجيب بتاء مثناة من فوق مضمومة، وقيل مفتوحة، ثم جيم مكسورة، بعدها مثناة من تحت، ثم ياء موحدة، وهي قبيلة نزلت بمصر. (له ترجمة في طبقات السبكي: 2/127، وطبقات الإسنوي: 1/28، وطبقات الفقهاء للشيرازي: 99، ووفيات الأعيان: 2/64) .
(2) حديث النهي عن الاستنجاء بالعظم "فإنه طعام إِخوانكم من الجن" رواه البخاري من حديث أبي هريرة، وساقه في باب ذكر الجن، بأتم مما ساقه في الطهارة، ورواه مسلم من حديث ابن مسعود (ر. البخاري: الوضوء، باب الاستنجاء بالحجارة، ح 155، كتاب مناقب الأنصار، باب ذكر الجن، ح 3860، مسلم: الصلاة، باب الجهر بالقراءة في الصبح والقراءة على الجن، ح 450، تلخيص الحبير: 1/109 ح 143) .(1/107)
[فصل]
[في كيفية الاستنجاء] (1)
130- فأما القول في كيفية الاستنجاء، فهاهنا ينبغي أن يتثبّت الناظر.
فإن أراد القاضي حاجتَه أن يستعمل الماء، فالمرعيُّ فيه إزالة العين والأثر، كما يُعتبر ذلك في إزالة النجاسات كلِّها عن مواردها.
فأمّا إذا أراد الاقتصارَ على الأحجار، فمما يجب الاعتناءُ به أن الاقتصار خارج عن قاعدة إزالة النجاسة؛ فإن إزالة أثر نجاسة البلوى ممكن، لا تعذُّر فيه، وقد يكون استعمالُ الأحجار أعسر من استعمال الماء، وليس ذلك على قياس الأبدال، التي يتوقف الأمر فيها على إعواز المبدلات، كالتراب في التيمم مع الماء، وإلا لم يجز الاقتصار على الأحجار عند وجود الماء، وليس ذلك معفوّاً عنه أيضاً، إلحاقاً بما يعفى عنه من دم البراغيث والبثرات وغيرها، وليست نجاسة البلوى متواصلةً كدم الاستحاضة.
131- وقد ذهب أبو حنيفة (2) إلى أن النجاسة معفوٌّ عنها، واعتقد الاستنجاء أدباً، ثم تعدّى من بعد ذلك إلى تقدير المعفوّ عنه من النجاسة بقدر درهم، أخذاً من نجاسة البلوى، وإنما حمله على ذلك خروج الأمر في هذه النجاسة عن قواعد الإزالات والرخص كلها، [بدليل جواز الاقتصار على الأحجار] (3) ، وهذا غلطٌ ظاهر؛ فإنا على اضطرارٍ نعلم أن الذين كانوا يقتصرون على الأحجار، كانوا يستنزهون عن مثاقيل الذرّ من النجاسة على أبدانهم وثيابهم، ولا يشكّ ذُو فهمٍ أنهم لم يُجروا سائر
__________
(1) زيادة من المحقق، بناء على قول الإِمام في أول الموضوع: إِنه يقع في فصول أربعة.
(2) ر. بدائع الصنائع: 1/18، الهداية مع فتح القدير: 1/187، رؤوس المسائل: 106 مسألة: 13، حاشية ابن عابدين: 1/84، 210، 223، 224، 226.
(3) ما بين المعقفين مقحم بين سطور الأصل، مع إِشارة نسخة أخرى، وبدون تحديد مكانه في النص، فوضعناه حيث قدرنا استقامة الكلام معه، وهو ساقط من (م) ، (ل) .(1/108)
النجاسات مجرى نجاسة البلوى، وأنهم كانوا يروْن الاقتصار مختصّاً بهذه النجاسة المخصوصة.
ثم ثارت مذاهبُ متناقضةٌ، فيما نَبّهنا عليه من الإشكال والخروج عن القواعد.
أما أصحاب الظاهر، فإنهم عينوا الأحجار، ولم يقيموا غيرها (1) مقامها، وليس ذلك بدعاً من مذهبهم [في] (2) اتباع موارد النصوص.
وأما مالك (3) ، فإنه فَهِمَ التعبدَ بزالة عين النجاسة، والعفو عن أثرها، فأقام غيرَ الحجر مقامه، ولم يوجب رعايةَ العدد، وقال: إذا حصل الإنقاء بحجر أو حجرين، كفى، ولا يشتَرِط رعاية العدد.
132- وأما الشافعي، فإنه رأى العددَ مرعيّاً، وقال: لو حصل الإنقاء بحجر واحدٍ، تعيّن استعمالُ الثاني والثالث، والإنقاء والعدد جميعاًً مرعيان عنده.
وهذا المذهب متردّدٌ بين التعبّد واعتبار المعنى؛ فإنه من حيث أقام غيرَ الأحجار مقام الأحجار، فقد قال: الغرضُ آلةٌ تُنقي، ولا تنقل، فهذا مصيرٌ منه إلى اعتبار الإنقاء، ولما أوجب مراعاةَ العدد، كان هذا خروجاً عن اعتبار الإنقاء.
وإنما ذكرت مسالك العلماء تنبيهاً على محلّ الإشكال.
ثم ما ذكره الشافعي هو المسلك المقتصد، والمنهج الوسط، ووجهه أنا فهمنا أن الغرض رفعُ عين النجاسة، ومن أنكر هذا الأصل، فهو جاحدٌ؛ فليس استعمالُ الأحجار في الاستنجاء بمثابة رمي الجمار؛ فإن الرميَ لا يعقل منه غرض، ولا محمل له إلا التعبّدُ المحض، والتزام الأمر؛ فتعيّنت الأحجار فيها، وأمّا الاستنجاء، فالغرض منه معقول، لا يُتمارى فيه؛ فاقتضى ذلك إقامةَ غير الأحجار مقام الأحجار.
__________
(1) ساقطة من: (د 3) .
(2) في الأصل، (د 3) ، (م) : من.
(3) ر. الإشراف: 1/140 مسألة 67، حاشية العدوي على شرح أبي الحسن لرسالة ابن أبي زيد القيرواني: 1/151، 155، جواهر الإِكليل: 1/19.(1/109)
وأما العدد، فلا ننكر فيه تعبداً وراء حصول الإنقاء، كالعدد المرعيّ في غسل الإناء من ولوغ الكلب.
على أنه لا يمتنع أن يقال: قد يبعُد تقديرُ حصول الإنقاء بحجر واحدٍ، وموقع النجاسة ليس منظوراً إليه، ولا تستمكن اليد من التصّرف التامّ فيه؛ فاقتضى مجموع ذلك استظهاراً باعتبار العدد، ثم إن فرض استيقان الإنقاء على ندور، طُرد التعبّد بالعدد فيه.
فهذا وجه معقولٌ، وأصل هذا التخفيف خارج عن قياس الأصول، وإذا اتجّه وجه في أمر الشارع، تعيّن اتباعُه، وقد قال النبي عليه السلام: "وليستنج بثلاثة أحجارٍ" (1) .
وأتاه ابنُ مسعود بحجرين وروثة، فرمى الروثة، وقال: " ابغ لي ثالثاً " (2) .
فأما اعتقاد التخصيص بالحجر، مع فهم كون الإنقاء مقصوداً، فلا وجه له، وإن ورد الأمر مختصاً بالحجر، فهو محمول على الموجود الغالب في حرّة المدينة.
فهذا تمهيد مذهب الشافعي.
ثم الذي راعاه الشافعيُ عددُ المسحات، فلو استنجى الرجل بحجر له ثلاثة أحرفٍ، واستعمل الأحرف، فقد راعى العدَد. ولو استنجى بحجر، ثم غسله واستنجى به بعد الجفاف ثانيةً، ثم بعد ذلك ثالثةً، كفاه.
133- وإن أطلتُ الكلامَ فيه، فليُحتمل؛ فإن غرضي الأظهر في وضع هذا الكتاب التنبيهُ على قواعد الأحكام ومثاراتها؛ فإن صُورَ الأحكام، والمسائلَ فيه غيرُ معدومةٍ
__________
(1) حديث " وليستنج بثلاثة أحجار " جزء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقد سبق الحديث عنه آنفاً (فقرة 125) . وبلفظٍ مقارب عند مسلم من حديث سلمان: كتاب الطهارة، باب الاستطابة، ح 262.
(2) فأما حديث ابن مسعود: " رمى الروثة، وقال: ابغ لي ثالثاً " فالحنفية لم تصح عندهم الزيادة " ابغني ثالثاً " وقالوا: اكتفى صلى الله عليه وسلم بحجرين، فدلّ أن العدد ليس بشرط.
وهذه الزيادة رواها أحمد بسنادٍ رواته ثقات، قاله الحافظ في التلخيص. (ر. المسند 1/450، تلخيص الحبير: 1/110 ح 145) .(1/110)
في المصنفات، فهذا أصل الباب، ومنه تتشعّبُ المسائل.
34- ثم ينبغي ألا يُحدث نجاسةً سوى نجاسة البلوى، فلو استعمل الرجل روثةً، فقد ذكرنا أن الفرض لا يسقط به، ثم لو أراد بعد ذلك الاقتصار على الأحجار، لم يجز؛ فإنه باستعمال الروث أحدَثَ نجاسةً أجنبيّة، وقد تقرّر أن الاقتصار على الأحجار يختصّ بنجاسة البلوى، فيتعيّن إذاً استعمالُ الماءِ.
ولو استعمل حجراً أملسَ، فإنْ نقل النجاسة، تعيّن استعمالُ الماء؛ فإنه كما يختصّ [ما ذكرناه] (1) بنجاسةِ البلوى، كذلك يختصّ بالمحلِّ المخصوص.
وإن وضع الحجرَ الأملس، ورفعه، ولم ينقل النجاسة، ثم أراد استعمالَ الأحجار المنشِّفة بعد هذا، جاز.
ولو استعمل حجراً مُبتلاًّ، لم يجز؛ فإنه لا ينشّف، فإن انبسطت النجاسة بهذا السبب، وتعدّت محلَّها، تعيّن استعمالُ الماء. وإن لم تنبسط النجاسةُ، وأراد أن يستعمل بعد ذلك الحجر المبتلِّ أحجاراً ناشفةً منشفة، فقد كان شيخي يمنع ذلك ويقول: ذلك البلل يتنجّس بملاقاة النجاسة، فيصير في حكم نجاسة أجنبيّة؛ فيتعيّن استعمال الماء.
وَلي في هذا نظرٌ؛ فإن عين الماء لا تنقلب نجساً، وإنما تجاوره النجاسة أو تخالطه.
135- وفي هذا الفصل بقية فقهٍ، تتعلق بكلامٍ بعد هذا.
ولو خرجت نجاسةٌ نادرةٌ كالدّم والمذيّ، ففي جواز الاقتصار على الأحجار قولان: أحدهما - يجوز؛ فإنّا لم نتعبّد بالإحاطة بأصناف النجاسات الخارجة.
والثاني - لا يجوز؛ فإنه تخفيفٌ غيرُ منقاسٍ، ورد في نجاسة البلوى.
وقال العراقيون: القولان في نجاسة نادرةٍ يتعلق بخروجها الوضوء، فأمّا ما يتعلق به الغُسل، وهو دمُ الحيض، فيتعيّن في إزالته الماء قولاً واحداً، وهذا ليس بعيداً عن الاحتمال.
__________
(1) زيادة من (ل) .(1/111)
136- ومما يتعلّق بالاستنجاء كيفيّة استعمال الأحجار. وفيه فصلان. أحدهما - في كيفية إعمال الحجر، فينبغي أن يوضع الحجر بالقرب من النجاسة، ثم يجري ملصقاً بالجلد حتى ينتهي إلى النجاسة، ولو وضع على النجاسة، فإنه يخلّف شيئاًً وينقله، ثم إذا انتهى الحجر إلى النجاسة، فلو أجراه على هيئة الإدارة، وكان يبغي أن يلقى كل جزءٍ طاهرٍ من الحجر أجزاء من النجاسة، فهذا إن فعله غيرُ ممتنعٍ.
واختلف أصحابنا في أنّه هل يجب ذلك؟ فقال بعضهم: يجب، لما ذكرناه؛ فإنه لو أمرّ الحجرَ من غير إدارةٍ؛ فإنه يلقى الجزءَ الثاني من النجاسة، بما قد تنجّس من الحجر.
وهذا غيرُ سديدٍ؛ فإنّا إنّما منعنا استعمال الروث؛ لأنه يُلحق بالمحل نجاسة أجنبيّة، والحجر في الصورة التي فيها الكلام إن تنجس، [فإنما تنجس بنجاسة البلوى، فلا تثبت] (1) نجاسة أجنبية، فلئن كان يوجه هذا الوجه، فالسبيل فيه أن من أمرّ الحجر من غير إدارة، فإنه ينقل النجاسة لا محالة، وإن كان يديره، فيخطف النجاسة، ولا ينقلها. وقال بعض الأئمة: لا يجب ذلك؛ فإن هذا تخفيفٌ لا يُوازنه في المساهلة رخصةٌ كما تقدّم، فلا يليق بوضعه تكليف الإدارة، وربط الأمر بكيفيةٍ لا يستقل بها إلاّ رجل صَنَاعُ اليد.
وسرّ هذا الفصل يتضح بأمرٍ، وهو أن المقتصر على الأحجار لو كُلّف ألاّ ينقل النجاسةَ في محاولة رفعها أصلاً، لكان ذلك تكليفَ أمرٍ يتعذّر الوفاء به، وذلك لا يليق بالفرائض التي ليست برُخص، فكيف يليق بما مبناه على نهاية التخفيف؟ فالقدر الذي يعسر -مع رعاية الاحتياط- التَصوّنُ منه في النقل، يجب أن يُعفى عنه، وهو بمثابة إلقاءِ الجَبيرة على محل الخلع؛ فإنه لا بدّ من أخذ أطرافٍ من المواضع الصحيحة، حتى تستمسك الجبيرة؛ فإذاً ما ذكره الأصحاب من النقل ومنعه عَنَوْا به ما لا ضرورة إليه، وهذا الذي ذكرته في النقل لم أره منصوصاً عليه للأصحاب، ولكن لا بدّ منه. فهذا أحد الفصلين.
__________
(1) ما بين المعقفين زيادة من: (د 3) ، (م) ، (ل) .(1/112)
[فصل]
[في العدد] (1)
137- فأما الثاني - فقد تقرّرَ أن العدد مرعيٌ في الأحجار، وقد ذكر الأصحاب وجهين في طريق رعايةِ العدد، فقال قائلون: لا بد من إيصال كلِّ واحدٍ من الأحجار إلى جميع المحَلّ، إلى استيعاب النجاسة.
وقال آخرون: يستعمل حجراً في الصفحةِ اليمنى، وحجراً في الصفحة اليسرى، ويستعمل الثالث في ملتقى الحجرين الأولين، وهو المسرُبَة.
138- توجيه الوجهين من طريق المعنى:
من قال بالمسلك الأول، احتجّ بأن فائدة العدد توارُدُ الأحجار على محلٍ واحدٍ، وهذا إنما يتحقّق إذا استعمل كُلَّ حجرٍ في جميع المحل، والمسلك الذي ذكره صاحب الوجه [الثاني] (2) لا يتحقق معه فائدة العدد؛ فإنه لا ينتهي في كل موضعٍ إلا حجرٌ واحدٌ، فهو في التحقيق إيصال مسحةٍ بدفعاتٍ إلى جميع المحل.
وقد يقال لناصر الوجه الأول: إذا عم الجزء الأولُ جميعَ المحل، فقد رفع طبقةً من النجاسة، ولا ينتهي إلى البشرة إلا الحجر الأخير، فالعدد راجعٌ إلى ترديد الأحجار على النجاسة.
وكان شيخي يقول: الوجهان موضوعان على التنافي، فصاحب الوجه الأول لا يُجيز المسلك الثاني، وصاحب الثاني لا يجيز الأوّل.
وقال العراقيون: الخلاف راجع إلى الأوْلى، والمسلكان جميعاً جائزان.
وهذا الذي ذكروه بعيد في المعنى، ولكن نقل الصيدلاني خبرين نذكرهما.
__________
(1) زيادة من المحقق، رعاية لتقسيم المؤلف نفسه.
(2) زيادة اقتضاها السياق، مكان كلمة غير مقروءة في الأصل، وساقطة من (د 3) . وصدقتنا (ل) ، (م) .(1/113)
أحدهما - أنه عليه السلام قال: " حجرٌ للصفحة اليُمنى، وحجر للصفحة اليُسرى، وحجر على الوسط " (1) وهذا بظاهره يشهد للوجه الثاني.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " وليستنج بثلاثة أحجارٍ، يُقبل بواحدٍ، ويُدبر بواحدٍ، ويحلّق بالثالث " (2) . ومعنى الخبر عند من يرى الوجه الأول أنه يأخذ حجراً، فيمرُّه من مقدم الصفحة اليمنى، فيديره منها إلى الصفحة الأخرى، ثم يأخذ حجراً آخر، ويبدأ من الصفحة اليسرى، وينهيها إلى منتهى الصفحة اليمنى، ثم يدير الحجر الثالث على جميع المحلّ، وهذا القائل يحمل الخبر الذي رويناه أولا على ذلك؛ فيقول: يبدأ بحجر من الصفحة اليمنى إلى منتهى اليسرى، كما تقدّم، فيحمل ما ذكرناه من قوله: حجر للصفحة اليمنى على البداية بتلك الجهة، لا على التخصيص، وقوله: حجر للوسط محمول على الإدارة على جميع المحل، وهذا الأخير بعيد؛ فإنّ حملَ الوسط على الجميع لا يستقيم، فإن قيل: معناه يبدأ بالوسط، فلستُ أرى فيه معنى.
والذي ذكره العراقيون من تجويز الأمرين يقوى بهذا الخبر. والعلم عند الله.
139- ومّما يتعلقّ بكيفيّة الاستنجاء، أنَّ الاستنجاء باليمنى منهي عنه، وهو مكروه غير محرّمٍ، وقد حرّمَه أصحاب الظاهر، ثم إذا كان يستنجي من الغائط، فيستعمل
__________
(1) قال الحافظ: رواه الدارقطني وحسنه، والبيهقي، والعقيلي في الضعفاء. ا. هـ وقد حسّنه النووي في التنقيح. (ر. تلخيص الحبير: 1/111، ح 148، الدارقطني: 1/56 - ح 10، باب الاستنجاء، والبيهقي: 1/114، والعقيلي في الضعفاء الكبير 1/16، التنقيح - بهامش الوسيط: 1/309) .
(2) قال ابن حجر في التلخيص: إِن الرافعي، تبع فيه الغزالي في الوسيط، والغزالي تبع الإِمام في النهاية، والإِمام قال: إِن الصيدلاني ذكره. وقد بيض له الحازمي والمنذري في تخريج أحاديث المهذب.
وقال ابن الصلاح في الكلام على الوسيط: لا يعرف ولا يثبت في كتاب حديث، وقال النووي في شرح المهذب: هو حديث منكر لا أصل له. ا. هـ بنصه. (ر. تلخيص الحبير: 1/110، 111. ح 147، مشكل الوسيط لابن الصلاح: 1/309 بهامش الوسيط) .(1/114)
يُسراه في محل النجاسة، ويصب الماء بيُمناه، وإن كان يستنجي من البول، فلو أخذ الحجر بيمينه وأخذ العضو بيساره، فإنْ كان يحرك يسراه ويمينُه قارّة، فهو مستنجٍ باليَسار، وإن كانت يده اليُسرى مع العُضو قارّة، وكان يحرك الحجر في يده اليمنى، فهو مستنجٍ باليمنى، وإن كان يُعمل يديه ويحرّكهما، فقد ارتكب النهي بتحريكه يمناه.
ولا شك بعد هذا كلّه أن الجمع بين الأحجار والماء هو المحبوب، وفيه نزل قوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: 108] الآية.
[فصل]
[في انتشار النجاسة] (1)
140- فأما القول في انتشار النجاسة، فقد نقل المزني: " ويقتصر على الأحجار، ما لم تعْدُ النجاسةُ المخرج " (2) ، ونقل عن القديم أنه قال: " ويقتصر على الأحجار، وإن انتشر، إذا لم يجاوز العادة في الانتشار ". فأوهم المزني أن المسألة فيها قولان.
وكان شيخي ينقل عن الربيع أنه قال: " يقتصر ما دامت النجاسة بين الإليتين، فإن ظهرت على ظاهر الإليتين، فقد تعيّن الماءُ ".
وقد ساعد بعضُ الأصحاب المزنيَّ في تخريج المسألة على أقوال، وهذا غلط، لا يعدّ من المذهب، والأصل اعتبار العادة في الانتشار، وما نقل عن الربيع قريبٌ مما ذكره عن الشافعيّ، وإن لم يكن ما ذكره حدّاً يوقف عنده، بل الوجه إحالة الأمر على العادة.
وأمّا ما ذكره المزني، فمأخوذ عليه، فإن الشافعيّ قال: " ما لم تعْدُ النجاسةُ المخرجَ، وما حوله "، فأغفل المزني: " وما حوله ". والدليل على ما ذكرناه من رد الأمر إلى العادة أن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت الاقتصار على الأحجار رخصةً في
__________
(1) العنوان من عمل المحقق، أخذاً من تفصيل الإِمام في أول الباب.
(2) ر. المختصر: 2/11.(1/115)
حق عامّة الخلق، على عموم الأحوال، مع العلم باختلاف الخلق والأحوال، والظاهر الانتشار في غالب الأمر، فلا ينبغي أن نستريب في أن التعدّي المعتاد لا يمنع الاقتصار على الأحجار.
141- ولكن يتطرّق إلى ذلك إشكال معنوي، فإن النجاسة إذا كانت متبعّرة أو قريبةً من التبعّر، فقد تنفصل من غير تلويثٍ يتعدَّى إلى [ملتقى الشرج] (1) إطارِ المنفذ، فإن فُرضتْ لوثَةٌ على الملتقى، فتيكَ تخطفها الأحجار، ويعفى عن الأَثر الباقي، وإن رقَّت النجاسة بَعض الرقّة، وانتشرت إلى معاطف الشرج المطبقة بالمنفذ، فإن النجاسة تغوص في أثناء تلك المعاطف، والأحجار تلاقي ظاهرها، وتبقى الأعيان على تلك المعاطف مندفنةً، وإزالة عين النجاسة لا بدّ منها.
وقد بلغني أن بعض الناس سأَلَ عليّاً عن الاقتصار، فلعله رضي الله عنه تفرّس فيه خروجاً عن الاعتدال، فقال: " كنا نبعر بعرات وأنتم تثلطون ثَلطاً " (2) ، فهذا وجهٌ في الإشكال من جهة المعنى، ولم أذكره لأدعوَ إلى التردّد في أن عين النجاسة إذا انتشرت انتشاراً معتاداً، فهل يجوز الاقتصار على الأحجار فيها؛ فإنّ إطلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم رخصة الاقتصار قاطعٌ، كما سبق ذكره وتقريره.
ولكن ينبغي أن يتنبّه الفقيه للعفو عن أعيان النجاسة في الصورة التي ذكرناها.
وهذا الإشكال لا [يجري] (3) في حق من يستعمل الماء؛ فإنه بلطافته ينفذ إلى
__________
(1) في العبارة اضطراب واضح: ففي الأصل: " تلويث يتعدى إِلى الشرج ملتقى أطاب المنفذ " وفي د3: " ... تلويث يتعدى إِلى الشرج أطاب المنفذ "، وأطاب الشيء جعله طيباً، أو وجده طيباً، وأطاب: استنجى، وأطاب أزال الأذى والقذر. (المعجم - والقاموس) . وفي (ل) : "يتعدى إِلى الشرج ويلتقي أطارَ المنفذ " وفي (م) " يتعدى إِلى الشرج ملتقى لطار المنفذ ". والمثبت تقديرٌ منا، مؤلَفٌ من كلمات النسخ الأربع. (انظر العبارة مصورة من المخطوطات في آخر هذا المجلد) .
(2) ثلط الصبي ثلّطاً: سلح سلّحاً غير متماسك. والثلط: الغائط غير المتماسك. وأثر علي رضي الله عنه، رواه البيهقي في السنن الكبرى: 1/106.
(3) في الأصل: يُجدي. والمثبت تقدير منا، وقد صدقته (ل) .(1/116)
حيث تنتهي النجاسة إليه من معاطف الشرج، وإذا استعين بالدّلك مع صب الماءِ وانحصرت بسببه تلك المعاطف، زالت النجاسة.
ولو انتشرت النجاسة انتشاراً معتاداً، ولكن ترشّش منها شيء إلى محلٍّ منفصل، فيتعين غسلُ ذلك المحل، وإن كان قريباً من محل النجوِ، وكان بحيث لو فرض اتصال نجاسة البلوى به، لما كان مجاوزاً حدّ الاعتياد، والسبب فيه أنه منفصلٌ عن محلّ النجو بالفاصل الذي لم تبلُغْه النجاسة. هكذا ذكره الصيدلاني، والأمر على ما ذكره.
ولو قضى الرجل حاجتَه، ثم قام وخطا، واحتكت إحدى إليتيه بالأخرى، وتعدّت النجاسة بهذا السبب أدنى تعدّ، تعيّن استعمالُ الماء، فإنه المتسبّب إلى التعدّي من غير حاجةٍ وضرورة.
فرع:
142- نصّ الشافعي على أن من توضأ، ثمّ استنجى، ولم يَمسّ فرجَه أنه متطهر، ونصّ أن من قضى حاجته، وتيمّم، ثم استنجى، لم يصح تيمّمه.
فمِن أصحابنا من قال: في [المسألتين] (1) قولان، وتقدير القولين في الوضوء بعيدٌ جدّاً، ولولا أن المزني نقل في (المنثور) (2) قولاً عن الشافعي أن الوضوء لا يصح، لما عددت هذه الطريقةَ من المذهب.
وصار الأكثرون إلى القطع بالصحّة في الوضوء، وخرّجوا القولين في التيمّم.
والفرق أن التيمّم طهارةٌ ضعيفةٌ، لا تقدم على دخول وقت الصلاة؛ فإنّها طهارة ضرورة، فإذا لم يَستعقب جوازَ الصلاة. لم يصح. وإذا تيمم، ثم استنجى، فالتيمم لم يستعقب جواز الصلاة، وهذا غيرُ سديدٍ (3) عندي.
ولو كان على بدن المتيمّم نجاسةٌ، ومعه من الماء ما يكفي لإزالتها من غير مزيد،
__________
(1) في الأصل: المسألة.
(2) المنثور: كتابٌ للمزني.
(3) ر. الأم: 1/19.(1/117)
فقد ذكر بعضُ أصحابنا أن تقديم التيمّم على إزالتها مخرج على الخلاف، وهذا بعيدٌ جدّاً، وإن كان الفرق يعسر بينها وبين نجاسة البلوى.
ولا نعرف خلافاً في أنّ من تيمّم وهو عارٍ، ثم اكتسىَ، جاز، وإن كان التيمم لا يستعقب جواز الصلاة إلى أن يكتسي.
***(1/118)
باب الأحداث
143- الأحداث يكنى بها عن نواقض الوضوء والغُسل. ومقصود هذا الباب ذكر ما يوجب الوضوءَ.
فنواقض الوضوء أربعةٌ: خروج الخارج عن أحد السبيلين، والغلبةُ على العقل، ولمسُ الرجل المرأة، والمرأة الرجلَ، ومس الفرج.
فأما القسم الأول - فكل خارج خرج من أحد السبيلين، أوجب خروجُه الوضوءَ، سواء كان عيناً، أو ريحاً، ولا فرق بين أن يخرج من القبل، أو من الدُبر، وإنما يخرج الريح من قُبل صاحب أُدْرة (1) ، أو استرخاء أُسْرٍ (2) ، ولا فرقَ بين أن تكون العينُ الخارجةُ نجاسةً مُعتادة أو نادرةً، فالوضوء ينتقض بجميع ذلك.
ولا ينتَقضُ الوضوءُ بالقيء والرُّعاف، والحجامة، والفصد، وخروج شيءٍ من الخارجات من غير المخرج المعتاد عند الشافعي.
ومعتمد الشافعي في هذا الباب أن وجوب الوضوء بالأحداث غيرُ معقول المعنى، ثم ما لا يجول القياسُ في إثباته، لا ينتظم القياسُ في نفيه، وإذا كان كذلك، فتصير الظواهر نصوصاً، من جهة أن التحكم بتركها محالٌ، ولا يستدّ (3) في معارضتها قياسٌ محقق.
44- ثم يتّصل بهذا القسم من الأحداث أنه لو انفتح سبيل، وكان يخرج منه
__________
(1) الأُدرة وزان غُرفة: انتفاخ الخُصية. (المصباح) .
(2) قال الفيروزآبادي في قاموسه، في تفسير قوله تعالى: {وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} [الإنسان: 28] : أي مفاصلهم، أو مَصَرّتي البول والغائط إِذا خرج الأذى تقبّضا، أو معناه: لا يسترخيان قبل الإِرادة. فالمراد هنا: استرخاء العضلات التي تتحكم في المخرج.
(3) يستد: يستقيم.(1/119)
الخارجات، فإن انسدّ السبيل [المعتاد] (1) ، نُظر، فإن كان السبيل المنفتح أسفلَ من المعدة، وكان الخارج غائطاً أو بَوْلاً، فهو حدث ناقض؛ فإنه [قائم] (2) مقام السبيل المعتاد.
وإن كان ذلك السبيل على المعدة أو فوقها، وكان الخارج النجاسةَ المعتادةَ، ففي انتقاض الطهارة قولان.
وإن كان السبيل المعتاد منفتحاً، وانفتح معه سبيل آخر، فإن كان على المعدة أو فوقها، فما يخرج منه ليس بحدثٍ.
وإن كان السبيل أسفل من المعد، ففي المسألة قولان، فالتعويل على انسداد المعتاد وانفتاحه، وعلى [محلّ] (3) المخرج الجديد.
ثم مهما حكمنا بانتقاض الطهارة بخروج الحدث المعتاد من المخرج المنفتح، فلو كان الخارج منه شيئاً نادراً، كالدم وغيره، ففي انتقاض الوضوء قولان: أصحهما - الانتقاض؛ لأن السبيل سبيلُ الحدث، فلا فرق بين أن يكون الخارج منه نادراً، أو معتاداً، كالسبيل المعتاد.
والثاني - لا ينتقض الوضوء؛ لأنا إنما نحكم بانتقاض الوضوء بخروج الخارج المعتاد، من حيث نعتقد أن هذا السبيل بدلٌ عن المعتاد، وإنما يتجه هذا في النجاسة المعتادة.
وكان شيخي يقول: " إنما نحكم بانتقاض الطهارة بخروج النجاسة النادرة من السبيل المعتاد؛ لأنه لا يخلو خروجها عن خروج شيء من المعتاد، وإن خفي وقلّ ".
ثم مهما لم نحكم بانتقاض الطهارة لخروج الخارج من السبيل الجديد، فيتعين إزالة تلك النجاسة باستعمال الماء.
__________
(1) ساقطة من الأصل، والمثبت تقدير منا، وقد صدقتنا (م) ، (ل) .
(2) ساقطة من الأصل، وأثبتناها من: (د 3) ، (م) ، (ل) .
(3) أثبتناها من (د 3) ، (م) ، (ل) .(1/120)
145- وإذا حكمنا بانتقاض الطهارة، ففي جواز الاقتصار على الأحجار في إزالة تيك النجاسة ثلاثة أقوال: أحدها - الجواز، كالسبيل المعتاد.
والثاني - أنه يتعين استعمال الماء لندُور المحل، مع أن الاقتصار على الأحجار خارج عن كل قياس.
والثالث - أنه إن كان الخارج نجاسةً معتادةً، جاز الاقتصار في إزالتها على الأحجار، وإن كانت نجاسةً نادرةً، لم يجز؛ لأنه يجتمع ندورُ المحلّ والخارج.
ثم إذا حكمنا بانتقاض الطهارة، فهل يثبت لذلك المخرج حكمُ السبيل المعتاد، حتى تنتقض الطهارة بمسّه، ويجب الغسلُ بالإيلاج فيه؟ فعلى وجهين. والمذهب أن ذلك لا يثبتُ. ثم هذا التردد على بعده لا يتعدّى أحكامَ الأحداث، فلا يثبت من الإيلاج فيه شيء من أحكام الوطء، سوى ما ذكرناه من التردّد في وجوب الغسل، وكان شيخي يتردّد في تحريم النظر إليه إذا كان فوق السُّرة، وهذا قريب أيضاًً.
146- القسم الثاني - من نواقض الطهارة الغلبة على العقل، وذلك ينقسم إلى النوم وغيره.
فأما غير النوم، فمهما زال العقل بجنونٍ، أو صرعةٍ، أو غَشْيةٍ، أو سكرٍ، ينتقض الوضوء، ولا فرق في هذه الأقسام بين حالةٍ وحالة، فلو جرى شيء منها والمرء قاعدٌ متمكّنٌ، نقض الوضوء، كما لو اضطجع.
والدُّوار لا ينقض الوضوءَ مع بقاء التمييز، وقد ظهر اختلافُ قول الشافعي في أن السكران هل يكون كالصاحي في أقواله وأفعاله؟ ولكن السُّكر على القولين حدثٌ في ظاهر المذهب. وذكر بعض المصنفين أنّا إذا جعلنا السكران كالصاحي، لم نجعل السكر حدثاً، ونزّلناه منزلةَ الصاحي، وهذا بعيدٌ.
147- فأما النوم، فنقول: الغفوة حديث النفس ليس بحَدث، كيف فرض، وإنما التفصيل في النوم إذا تحقق.
فلو قيل: صِفوا لنا النومَ، وميّزوه عن الغفوة. قلنا: النومُ يُغَشِّي الرأسَ فتسكن به القوى الدّماغيّة، وهو مجمع الحواسّ، ومنبت الأعصاب، وإذا فترت، فترت(1/121)
الحركاتُ الإرادية، ثم مبتدؤه من أبخرةٍ تتصعّد، فتوافي إعياءً من قوى الدماغ، فيبدو فتورٌ في الحواس، فهذا نعاسٌ وسِنةٌ، فإذا تم انغمارُ القوة الباصرة، فهذا أوّل النوم، ثم يترتب عليه فتورُ الأعضاء واسترخاؤها، وذلك غمرة النوم، فإذاً لا ينتقض الوضوء بالغفوة، وإذا تحقق النوم، لم يُشترط غايتُه؛ فإن الشافعي صار إلى انتقاض وضوء القائم النائم، ولو تناهى النوم، لخرَّ ساقطاً.
ومعظم الإشكال يثور من التهاون بالجليات.
148- فالآن نتكلم في حالات النائم، ونذكر سرَّ مذهب الشافعيّ، وقد يحتاج إلى الإشارة إلى مذاهب العلماء، ليتخلص من بينها مذهبُ الشافعي.
فنقول: ذهب أبو موسى الأشعري في طائفةٍ إلى أن النوم في عينه ليس بحدث كيف فرض، وذهب المزني إلى أن النوم في عينه حدثٌ ناقض للوضوء كيف قُدّر، وطَرَدَ مذهبَه في القاعد المتمكّن من الأرض، وألحق النومَ بسائر جهات الغلبة على العقل، وخرَّج ذلك قولاً للشافعي، وإذا انفرد المزني برأي، فهو صاحب مذهب، فإذا خرَّج للشافعي قولاً، فتخريجه أولى من تخريج غيره، وهو يلتحق بالمذهب لا محالة.
وأما المشهور من مذهب الشافعي، فمسلكه ما نذكره، فنقول: لو لم يثبت عند الشافعي أخبار صحيحة في أن نوم القاعد لا ينقض الوضوء، لكُنَّا ننتحي ما اختاره المزني على قطعٍ، ونجعل النومَ في عينه حدثاً كيف فرض، ولكن روي في نوم القاعد نصوصٌ، فمنها: " ما روي أن النبي عليه السلام خرج للصلاة، فصادف طلحةَ نائماً قاعداً، فاحتوى عليه من ورائه، قال طلحة لما انتبه: يا رسول الله أفي هذا وضوءٌ؟ فقال: لا، أو تضع جنبك " (1) ، فاستثنى نومَ القاعد، فقال قائلون من حَملةِ المذهب في ضبط المذهب: النوم الناقض هو الذي ينتهي النائمُ فيه إلى حالةٍ يتيسَّر خروج
__________
(1) لم أصل إِليه عن طلحة، ولكن أخرجه ابن عدي، والبيهقي من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، وهو عند النووي في المجموع، وقد ضعفه البيهقي بانفراد (بحر بن كنيز) به، وقال عنه: ضعيف لا يحتج بروايته. (ر. السنن الكبرى: 1/120، نصب الراية: 1/45، المجموع: 3/120) .(1/122)
الحدث منه، ولو خرج لم يشعر به، فإذا نام القاعد ممكِّناً مقعدته من الأرض، فيبعد خروجُ الحدث، وإن خرج يشعر به غالباً.
وهذا الضبط لا أرضاه؛ فإن من نام مستلقياً، فإليتاه ملتصقتان بالأرض، ولو استثفر بتُبانٍ (1) ونام مستلقياً، فطهارته تنتقض، مع بُعد خروج الحدث، وينتقض الوضوء بأول حدِّ النوم، كما تقدم معناه.
149- ومالك يصير إلى أن الطهر لا ينتقض ما لم يثقُل النوم (2) .
فإذاً مأخذ المذهب الظاهر للشافعي، أنه وردت أخبارٌ مطلقة في إلحاق النوم بالحدث، كما روي أنه عليه السلام قال: " من استجمع نوماً، توضأ " (3) ، وقال صفوان: " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا كنّا مسافرين ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليَهُنّ إلا من جنابةٍ، ولكن من غائطٍ وبولٍ ونوم " (4) ، فأجرى (5) النومَ بحكم هذه الظواهر حدَثاً، واستثنى نومَ القاعد للأخبار الصحيحة فيه.
150- وأما أبو حنيفة، فإنه قال: من نام على هيئة من هيئات المصلّين قائماً، أو راكعاً، أو ساجداًً، لم يبطل وضوؤه (6) . وظاهر مذهب الشافعي أن الوضوء ينتقض بالنوم على هذه الحالات.
وحكى البُويطي قولاً للشافعي مثلَ مذهب أبي حنيفة، وغلّطه معظمُ الأئمة فيه.
ثم أبو حنيفة لا يفْصل بين أن ينام في الصلاة، وبين أن ينام وهو غير مصلٍّ، فلا
__________
(1) التُبانُ وزان رمّان: سراويل صغيرة يستر بها العورة المغلظة. والاستثفار أن يدخل إِزاره بين فخذيه ملوياً. (القاموس) .
(2) ر. حاشية العدوي: 1/119، حاشية الدسوقي: 1/118، جواهر الإِكليل: 1/20.
(3) رواه البيهقي من حديث أبي هريرة، بلفظ " من استحق النوم " وفسرها: بأن يضع جنبه، ثم قال: لا يصح رفعه (السنن الكبرى: 1/119) وقال الحافظ: وروي موقوفاً وإسناده صحيح، وقال الدارقطني في العلل: إِن وقفه أصح. (التلخيص: 1/118 ح 160) .
(4) حديث صفوان بن عسال رضي الله عنه سيأتي في باب المسح على الخفين، الفقرة: 396.
(5) أي الشافعي رضي الله عنه وأرضاه.
(6) ر. بدائع الصنائع: 1/31، حاشية ابن عابدين: 1/95.(1/123)
يقضي بانتقاض الوضوء إذا جرى النوم على هيئةٍ من هيئات المصلّين: من القيام، والركوع، والسجود، والقعود.
ونصّ الشافعي في القديم على أن من نام على هذه الهيئات في الصلاة، لم ينتقض وضوؤه، وإن نام في غير الصلاة قائماً، أو راكعاً، أو ساجداًً، انتقض وضوؤه، واعتمد في هذا القول ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: "إذا نام العبدُ في سجوده باهى الله عزّ وجلّ به ملائكته، وقال انظروا إلى عبدي روحُه عندي، وجسده بين يديّ ساجد" (1) .
وعندي أن كلَّ قولٍ قديمٍ مرجوع عنه، ومنقول البويطي غلطٌ، فلا يبقى في عقد المذهب إلا مصير الشافعي إلى أن النوم ناقض إلا في حق القاعد، والذي خرّجه المزني أن النوم في عينه حدث كيف فرض، وفي كلام الشافعي تمثيلٌ (2) يشير إلى ذلك؛ فإنه قال: "ولا يبين إليّ أن أُوجب الطهارة على النائم القاعد" (3) .
فهذا ضبط قاعدة المذهب.
151- ثم نتكلّم الآن في نوم القاعد على الرأي الظاهر، فنقول: من نام ومقعدته متمكنة من الأرض، غير متجافيةٍ، لم ينتقض وضوؤه، ولو كانت متجافية، أعني سبيل الحدث، انتقض وضوؤه، ولو مكّن المقعدة من مجلسه، ولكنّه كان مستنداً أو متّكئاً، لم ينتقض وضوؤه، وإن كان بحيث لو سلّ السناد والمتّكاً، لخرّ؛ فإن النظر إلى تمكّن المقعدة.
وقد نقل المعلِّقون عن شيخي أنه كان يقول: إذا ظهر اعتماده على السناد بحيث
__________
(1) حديث " إِذا نام العبد في سجوده باهى الله به ملائكته ... "، قال الحافظ: أنكر جماعة منهم القاضي ابن العربي وجوده، وقد رواه البيهقي في الخلافيات من حديث أنس، وروي من عدة طرق، لا تخلو واحدة منها من ضعف ا. هـ ملخصاً (التلخيص: 1/120 ح 163) .
(2) في (م) : ميلٌ. (ل) : تخييل.
(3) نصُّ الشافعي بتمامه هو: " ونحب للنائم قاعداً أن يتوضأ، ولا يبين أن أوجبه عليه، لما روى أنس بن مالك أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا ينتظرون العشاء، فينامون، أحسبه قال: قعوداً " (مختصر المزني - بهامش الأم - 1/15) .(1/124)
يخرّ لو سُلَّ من ورائه، بطل وضوؤه. وهذا غلط من المعلّقين، والذي ذكروه عنه مذهبُ أبي حنيفة (1) .
فإن قيل: ألستم رأيتم في تمهيد المذهب أن الشافعي اعتمد الخبر؟ فهلاّ قلتم: لا ينتقض وضوء من يُسمَّى قاعداً، وإن كانت مقعدته غيرَ متمكنة؛ استمساكاً بظاهر الخبر؟
قلنا: المتبع وإن كان خبراً، والقياس لا مجال له أصلاً، فلا ينبغي أن نحسم مُدرَك الفهم في مورد الخبر بالكلية؛ فإن هذا سبيلُ مذهب أصحاب الظاهر. فإذاً فهم الشافعي من حال القاعد تمكين المقعدة. فلو نام القاعد متمكّناً، ثم تمايل في نومه -والمعنيُّ بالتمايل التجافي كما يكون- فإن تمايل، ثم انتبه، بطل وضوؤه؛ فإنه ثبت النوم في حال التجافي، ولو في لحظة. وإن انتبه، ثم تمايل، لم ينتقض وضوؤه.
وإن لم يدر كيف كان الأمر، فالأصل بقاء الطهارة، فلا يُقضى بانتقاضها مع الشك في طرآن الحدث.
152- القسم الثالث من الأحداث: اللمسُ: فإذا لمس الرجل امرأة هي محل حلِّه، والتقت البشرتان، انتقضت طهارة اللامس، والمعتمد في هذا ظاهر قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] ، وقرأ جمع من القُرّاء: {أَوْ لَمَسْتُمُ النِّسَاءَ} ، وقد ذكرنا أن الأقيسة لا مجال لها في إثبات الأحداث، ولا في نفيها، فحلت الظواهر فيها محل النصوص، ثم وراء هذا تصرّف في الظواهر، وتردّدٌ من نصّ الشافعي في معناه، ونحن نبيّنه في مثالٍ، ثم نخرِّج عليه المسائل، فنقول:
قد اختلف قول الشافعي في أن من لمس واحدةً من محارمه هل تنتقض طهارته؟ ونحن نذكر في توجيه القولين ما يمهد قاعدةَ المذهب.
فمن قال بانتقاض الوضوء، اتبع مطلق الاسم، وقال: المحارم تندرج تحت اسم النساء، ومعتمدُ المذهب ظاهر القرآن، وقد قال الله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} .
ومن قال: لا ينتقض الوضوء -وهو الأصح عندي- احتجّ بأن اسم النساء وإن كان
__________
(1) ر. البدائع: 1/31، حاشية ابن عابدين: 1/95.(1/125)
يتناول المحارم، فإذا ذكرت الملامسة، وأضيفت إلى النساء، أشعر ذلك بلمس اللواتي يُعنَيْن، ويُقصدْن باللمس، ويُعْدَدْنَ محلاً للمس الرجال، واستمتاعهم.
ويعتضد هذا بأمرين: أحدهما - أن من المفسرين من حمل الملامسة على المجامعة، ومنهم من حملها على الجس باليد، ولم يختلفوا في المحل، فليقع الجس عند من يحمل الملامسة عليه في محلّ المجامعة.
والثاني - أن الملامسة مذكورة في سياق الأحداث، وهذا يُخيِّل لمساً هو مظنة الاستمتاع.
هذا قاعدة المذهب.
والصغيرة التي لا تشتهى مُخرّجة على وجهين: مأخذهما ما ذكرناه؛ فإنّهنّ يندرجن تحت اسم النساء؛ اندراج النوع تحت الجنس، ولكنّهنّ لا يُقصدن باللمس. والعجوز وإن بلغت غاية الهرمِ، ينتقض الوضوء بلمسها. وذكر بعض المصنفين فيها وجهين، وهو بعيد غير معتمدٍ.
153- وفي انتقاض طهارة الملموس قولان: مأخذهما التردد في ظاهر القرآن، فمن استمسك بالظاهر، خصص الانتقاض باللاّمس، و [من فهم منهم] (1) اللمس بمعنى الجسّ، كما فهمه من حمله على الجماع؛ قضى بانتقاض طهارة الملموس.
154- وذكر الصيدلاني في لمس الشعر والسِّن والظفر وجهين، وشبب بأخذهما من الخلاف في أنه هل يثبت لها حكم الحياة؟ وهذا رديء؛ فإنها وإن لم يثبت لها حكم الحياة؛ فإنه يلحقها الحل والحرمة، فالوجه إدراج الخلاف تحت التردّد في الظاهر، ولا يمتنع أن يقال: من لمس شعر امرأةٍ، فقد لمس امرأةً، ولا يبعد أن يمتنع من إطلاقه.
والأظهر (2) أن الوضوءَ لا ينتقض. وكان شيخي يقطع به، والسبب فيه أنه اجتمع
__________
(1) في الأصل وفي (د 3) : ومنهم من فهم اللمس. وهذا تقدير منا، وفي (م) ، (ل) : ومن فهم اللمس.
(2) في (م) : الظاهر.(1/126)
فيه أن يقال: ما لمستُ فلانة، بل لمستُ شعرها، وإن الشعر لا يجرد القصد إلى لمسه، وإن انتحاه مغتلم، فهو كمجاذبة الخمار، وأطراف الثياب.
155- ولو اتفق التقاء البشرتين بين الرجل والمرأة من غير قصدٍ، فالذي قطع به الجمهور أنه ينتقض الوضوء؛ فإن اللمس حدثٌ، ولا يُعتبر في الأحداث القصدُ، وذكر صاحب التقريب فيه خلافاً، تَلقَّاه من لمس الصغيرة والمحارم؛ فإنّهنّ لا يقصدن باللمس.
كذلك لا يقع اللمس قصداً في أصله في هذه الصورة، وهذا بعيد جدّاً من مذهب الشافعي، وهو مذهب مالكٍ (1) ، ثم لم يتأنّق في توجيه الخلاف المحكيّ، ويمكن أن يتكلّف في إدراجه تحت التردّد المذكور في الظاهر؛ فإن ذكر الملامسة إشعارٌ بقصد التلذذ على الجملة، وقد يظنّ الظانّ خروج ما يقع وفاقاً من هذا.
فلينظر الناظر كيف مهدنا أصل المذهب أخذاً من الظاهر، ثم ذكرنا تردداً في معناه، وخرّجنا عليه المسائل المختلفة، مع توقي مسالك القياس.
156- ولمس المرأة بعد موتها كلمس الصغيرة، ومأخذ الكلامِ ما مضى.
وإذا تلامس الرجل والمرأة، انتقض وضوؤهما جميعاًً؛ لوجود الفعل من كل واحد منهما.
157- القسم الرابع: مسّ الفرج.
فنقول: من مسّ ذكره ببطن كفه، انتقض وضوؤه، ومعتمد المذهب في المسألة الحديث، وقد صحّ من طريق بُسرة (2) بنت صفوان أن النبي عليه السلام قال: " من مس ذكره، فليتوضأ " (3) . ثم الكلام متعلقٌ بما يُمس، وبالعضو الذي يقع به المسُّ،
__________
(1) ر. حاشية العدوي: 1/120، حاشية الدسوقي: 1/119، جواهر الإِكليل: 1/20.
(2) في الأصل، وفي (د 3) : سبرة، والتصويب من الحديث، أكدته (م) ، (ل) .
(3) حديث بسرة رواه مالك، والشافعي عنه، وأحمد، وأصحاب السنن، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، وابن الجارود، وصححه الترمذي، ونقل عن البخاري أنه أصح شيء في الباب. (ر. التلخيص: 1/122 ح 165، الموطأ: 1/42، ترتيب المسند للشافعي 1/34، أحمد: 6/406، 407، أبو داود: الطهارة، باب الوضوء من مسّ الذكر ح 181، =(1/127)
ولكل واحدٍ مأخذٌ، يتعين الاعتناء به.
فأمّا ما يُمس، فالحديث في مسّ الذكر، ولكن الشافعي في الجديد رام أن يُلحق بالذكر السوأةَ الأخرىَ، من حيث رآها في معنى المنصوص عليه، كما ألحق الأَمة بالعبد في سياقٍ قوله عليه السلام: " من أعتق شِركاً له في عبدٍ، قُوِّم عليه " (1) .
ونحن نسوق الترتيبَ في ذلك، فيبين المقطوعُ به، وما يتطرق إليه أدنى تردّد، مع المصير إلى حسم القياس، فالخبر وارد في مس الرجل ذكره، فلم يَسترب الشافعي قديماً وجديداً في أن من مسّ ذكَر غيرِه توضّأ؛ فإن الإنسان لا يمتنع عليه أن يمس ذلك من نفسه، ثم اقتضى ذلك نقض وضوئه، فكان ذلك تنبيهاً لا شك فيه على انتقاض الوضوء بمس ذكَرِ الغير.
ومسُّ القبل من المرأة ناقضٌ للوضوء؛ فإنه في معنى المذكور، ومن شبب بخلاف فيه، فقد أبعد. وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: " إذا مست المرأة قبلَها توضأت " (2) ثم المعنيُّ بقبل المرأة في حكم المس ملتقى الشفرين على المنفذ نفسه.
وأمّا مس حلقة الدبر -يعني ملتقى المنفذكما مضى- فهذا أبعد قليلاً من قبل المرأة، فقال في الجديد: إنه ناقض، وقال في القديم: إنه لا ينقض.
__________
= وصحيح أبي داود: ح 166، الترمدي: أبواب الطهارة، باب الوضوء من مس الذكر، ح 82، وصحيح الترمدي: ح 71، النسائي: الطهارة، باب الوضوء من مس الذكر، ح 163، وصحيح النسائي: 157، 158، ابن ماجه: الطهارة، باب الوضوء من مسّ الذكر، ح 479، وصحيح ابن ماجه: ح 388، وصححه الأرناؤوط في ابن حبّان: ح 1112، وانظر ابن خزيمة: باب 25 ح 33، والمستدرك: 1/137، ومنتقى ابن الجارود: ح 16، 17) .
(1) متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما (البخاري: كتاب العتق، باب: 4 ح 2522، مسلم: كتاب العتق، 2/1139 ح 1501) .
(2) حديث عائشة، رواه الدراقطني وضعفه، وكذا ضعفه ابن حبان، وله شواهد عن غير واحد من الصحابة (ر. التلخيص: 1/126، ح 127، الدارقطني: 1/147، ح 9، وابن حبان في المجروحين: 2/54، والحاكم: 1/138، والبيهقي في السنن: 1/133) .(1/128)
158- فأمّا فرج البهيمة فبعيدٌ جدّاً، فلا جرم نص في الجديد على أنه لا يتعلق بمسّه نقض الوضوء، وحكى يونس بنُ عبد الأعلى (1) قولاً عن الشافعي: أنه يتعلق به النقض، كما يتعلق بالإيلاج فيه وجوب الغُسل، فلنفهم هذا التدريج في عقد المذهب.
ثم نستوعب أطراف الكلام في هذا القسم، فنقول:
159- من مسّ فرج غيره، انتقض وضوؤه سواء كان الممسوس منه صغيراً أو كبيراً، أو حيّاً أو ميتاً.
وكان شيخي يقول: لما قطع الأئمة بانتقاض الوضوء بمس فرج الصغير، وإن كان ابنَ يومهِ، فهمت منه تحريم النظر إليه من غير حاجةٍ، ورأيت أن أحمل ما روي عن النبي عليه السلام: " أنه كان يُقبّل زبيبة الحسن والحسين " (2) على جريان ذلك وراء ثوبٍ، وقد رأيت في كلام الأصحاب ما يشير إلى التساهل في المسّ، والنظر إلى فرج الصغير الذي لم يبلغ مبلغ التمييز، مع القطع بانتقاض الوضوءِ بالمس.
وقد ذكر الشيخ أبو علي (3) في شرح التلخيص أن من جبّ ذكره، فموضع القطع من
__________
(1) يونس بن عبد الأعلى بن موسى بن ميسرة بن حفص بن حيان الصَّدَفي: أبو موسى.
المصري. من أصحاب الشافعي، وأحد أئمة الحديث، قال عنه الشافعي: ما رأيت بمصر أعقل من يونس بن عبد الأعلى. انتهت إِليه رياسة العلم بالديار المصرية، ولد سنة 170 هـ، وتوفي سنة 264 هـ (طبقات السبكي: 2/170، وطبقات الفقهاء: 99، والأنساب للسمعاني في (الصَّدفي) وشذرات الذهب: 2/149، وتذكرة الحفاظ: 2/527، ووفيات الأعيان: 7/249، وطبقات الإِسنوي: 1/33) .
(2) حديث تقبيل زبيبة الحسن والحسين، رواه البيهقي، والطبراني في الكبير، وقال البيهقي: إِسناده ليس بالقوي. وليس فيه أنه مسه بيده، ثم صلى ولم يتوضأ، وليس في حديث الطبراني أيضاً أنه صلى ولم يتوضأ، وأنكر ابن الصلاح هذا الحديث على الغزالي، قال الحافظ: والغزالي تبع الإِمام في النهاية فيه، ثم قال: وقال الإِمام في النهاية: هو محمول على أن ذلك من وراء ثوب، وتبعه الغزالي في الوسيط، قلت (الحافظ) : وسياق البيهقي يأبى هذا التأويل؛ فإن فيه أنه رفع القميص. (ر. التلخيص: 1/127 ح 169، السنن الكبرى: 1/137، الطبراني في الكبير: 3/51 ح 2658) .
(3) الشيخ أبو علي = السّنجي.(1/129)
ذكره إذا مُس، يتعلق به النقض. وإن استؤصل، ولم يبق منه شيء شاخصٌ، فيتعلق النقض بموضع الإبانة من جِرم الذكر، وإن اكتسى ذلك الموضع بالجلد وضاهى ما حوله، ولا يختصّ النقض بمسّ [الثقبة] (1) ، بخلاف مس القبل والدبر.
فأمّا مس الخصية والعِجَان (2) ، وما ليس بفرج، فلا شك أنه لا يتعلق النقض بمس شيءٍ منه.
ولو مس ذكراً مباناً، ففيه وجهان مشهوران: أحدهما - أنه ينتقض الوضوء؛ لانطلاق الاسم على الممسوس، والثاني - لا ينتقض؛ لأنه ساقط الحرمة، وقد فهم ذوو البصائر مما ذكره النبي عليه السلام مسَّ فرج محترم.
ولو انبتَّت يد امرأةٍ، فلَمسَها رجل، فالمذهبُ القطع بأن الطهارة لا تنتقض؛ فإن الظاهر المرجوع إليه في الملامسة قولهُ تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} ، وهذا يقتضي أن يكون الملموس امرأةً، وهذا الاسم لا يتناول العضو الفردَ، والمسّ في لفظ الشرع مُعلّق بالذكر نفسه، وهذا الاسم يتناول المتّصلَ والمُبَان.
فرع:
160- إذا قلنا: لا ينتقض الوضوء بمس فرج البهيمة، فلو أولج الرجل يده في فرج بهيمةٍ، فقد ذكر الأصحاب فيه وجهين، وإنما نشأ هذا التردد من شيء، وهو أن الغسل يجب على المولَج فيه، فباطن الفرج لو لاقاه ذكرٌ، تعلق به الغسل، فإذا لاقاه كفٌ، أمكن أن يتردّد فيه، والظاهر أنه لا ينتقض الوضوء.
فهذا منتهى القول فيما يتعلّق بمسّه النقض.
161- فأما العضو الذي يقع به المس، فبطن الكفّ، وبطون الأصابع، ومأخذ المذهب ما نورده. فأمّا شيخي، فكان يروي عن أبي هريرة أن النبي عليه السلام قال: " إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره، لا حائل بينهما، فليتوضأ وضوءه للصلاة " (3) فإن
__________
(1) في الأصل: البقية. والمثبت من (م) و (ل) .
(2) العجان، ككتاب: ما بين الخُصية وحلقة الدبر (مصباح)
(3) حديث " إِذا أفضى أحدكم بيده ... " رواه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة، وقال: صحيح سنده، عدول نقلته، وصححه الحاكم، وابن عبد البر، وأخرجه البيهقي والطبراني في الصغير، وقال ابن السكن: هو أجود ما روي في هذا الباب. ورواه الشافعي =(1/130)
صحّت هذه الرواية، فالإفضاء باليد قد يظهر منه التعاطي بالكفّ.
وأما أنا فأقول: يمكن أخذ هذا من مطلق قوله عليه السلام: " من مس ذكره فليتوضّأ " فإن أعضاء الإنسان في تصرفاته وتاراته تتماسّ وتتلاقى، فإذا قال القائل: مس فلانٌ عضواً من نفسه، لم يعن به التماسّ الذي يقع، وإنما يعني به اعتمادَ الممسوس بالعضو الذي أعدّه الله تعالى للّمس والحس (1) ، وإنما يقع ذلك ببطن الكفّ والأصابع، وهذا حسنٌ لطيف.
لو وقع المسّ بظهر الكف، لم يتعلق به النقض، خلافاً لأحمدَ بنِ حنبل (2) ، فإنه يسوّي بين ظهر الكف وبطنه.
واختلف أئمّتنا في المسّ برؤوس الأصابع، فألحقها ملحقون ببطون الأصابع، وما ينحدر عن رؤوسها؛ فإن هذه الأجزاء متواصلة متضاهية في الصفة؛ إذ بشرة الكف من حيث أعدها الله تعالى لمسّ الممسوسات على صفةٍ من الاعتدال، تخالف بها سائرَ البشرة، في جملة الأعضاء، ورؤوس الأصابع منها بمثابة بطون الأصابع.
والظاهر أن الوضوء لا ينتقض؛ فإن اللمسَ المعتاد يقع بالراحة، وبطون الأصابع، وقد ذكرنا في مأخذ هذا الفصل تنزيلَ الأمر على الاعتياد فيه.
وأما المسّ بما بين الأصابع، فقد نص (3) الشافعي على أنه لا ينقض الوضوء، وقطع به، وهو لعمري أبعد من رؤوس الأصابع، وقد ذكر بعض أصحابنا فيما بين الأصابع خلافاً، وهو بعيد جدّاً.
فرع:
162- قد ذكرنا قولين في انتقاض وضوء الملموس في القسم الثالث. فأما الممسوس فرجُه والماسّ غيرُه (4) ، فلا ينتقض وضوؤه، ومن أشار إلى خلافٍ فيه،
__________
= في الأم. (ر. التلخيص: 1/125، 126 ح 166، ابن حبان: 3/401 ح 1118، الأم: 1/16، السنن الكبرى: 1/131) .
(1) (ل) و (م) : الجس.
(2) ر. المغني: 1/203، الإنصاف: 1/204، كشاف القناع: 1/127.
(3) ر. الأم: 1/16.
(4) المعنى: أن صاحب الفرج الممسوس إذا كان المسّ من أجنبي، وليس منه، فلا ينتقض وضوؤه.(1/131)
فغالط؛ فإنّ نقض الوضوء في المس (1) يتعلق بهتك الحرمة، [لا بما] (2) يقصد به التلذذ، والملامسة الناقضة للوضوءِ موضوعها التلذذ، وإن كنّا لا نشترط وقوع ذلك؛ فهي مضاهية للوقاع الذي يستوي فيه المواقع، ومن هو محل الوقاع.
فصل
163- الخنثى ذكر أم أُنثى؟ فإن كان يبول بفرج الرجال، فهو رجل، والآخر ثقب زائد عليه، وإن كان يبول بفرج النساء، فهو امرأة في جميع الأحكام، والآخر سِلعة نابتة، وإن كان يبول بهما جميعاًً، فقد تعذّر التمسكُ بهذا، و [لا] (3) ينظر إلى القِلّة والكثرة، إذا كان يبول بهما؛ فإن ذلك لا يُضبط، فإن أمنى بفرج الرجال في أوان البلوغ، ولم يَحِض بفرج النساء، فهو رجل، وإن حاض، ولم يمن، فهو امرأة، وإن حاض وأمنَى، فقد عسر التعلق بهذا أيضاًً.
واختلف أئمتنا في نبات اللحية، ونهود الثدي. فكان (4) شيخي لا يرى التعلق بهما، ويقول: قد تنبت للمرأة لحية، وقد تكون المرأة [ضَهيأ] (5) لا ثدي لها.
وذهب بعض الأئمة إلى التعلق بما ذكرناه؛ فإن الغرض التمسك بما يورثُ غلبة الظن، وما قدمناه من المثال، وإن كان ظاهراً، فليس مقطوعاًً به؛ إذ لو كان مقطوعاً به، لاستحال فرض التعارض فيه، ومن اعتبر بنبات اللحية، ونهود الثدي، لا يعوّل على عدم نهود الثديين، ولا يحكم بأن عدم النهود يدل على أنه رجل، ولا يعارض نباتُ اللحية، ونهودُ الثدي شيئاً من العلامات التي اتفق الأصحاب عليها.
__________
(1) أي مس الذكر.
(2) في الأصل: [لأنه إِنما] يقصد به التلذذ. والمثبت من: (د 3) ، (م) ، (ل) .
(3) مزيدة من (م) ، (ل) .
(4) من هنا بدأ خرمٌ جديد في نسخة: (د 3) .
(5) غير واضحة في الأصل، والضهيأ كعسجد: المرأة تضاهي الذكر، في عدم الحيض أو الحمل أو الولادة؛ لأن أعضاء تناسلها لا تزال في الطور الجنيني، والتي لا لبن لها ولا ثدي (القاموس، والمعجم) وبعد أن أثبتناها تقديراً، منا، وجدنا في (م) ، (ل) : "ظهياً" بالظاء المعجمة، وتنوين الياء مسهلةً عن الهمزة.(1/132)
وأما ما ذكره بعض الناس مق النظر في أعداد الأضلاع، فذلك شيءٌ لم أفهمه، ولست أرى فرقاً فيها بين النساء والرجال.
وكان شيخي يتردد فيه إذا كان يبول بفرج الرجال، ويحيض بفرج النساء، ويميل إلى التعلق [بالمبال] (1) ، والوجه عندي القطع بتعارض الأمر في ذلك.
64- فإذا اعتاصت (2) العلامات، رجعنا إليه عند بلوغه، فإن ذَكر أنه يميل إلى الرّجال ميلَ النساء إلى الرجال، فهو امرأةٌ، وإن ذكر نقيضَ ذلك، فهو رجل. وإذا أخبر عن نفسه بأنه رجل أو امرأة، أجرينا عليه موجَب قوله؛ فإن ابن العَشْر لو ذكر أنه قد بلغ، صدقناه فيما له وعليه، فإن الإنسان أعرف بما جُبِلَ (3) عليه، ولو ذكر أنه رجل، ثم رجع عن ذلك، لم يقبل رجوعه فيما عليه، وأجري عليه حكم قوله الأول، إلا أن يجري ما يكذبه في قوله الأوّل، مثل أن يذكر أولاً [أنه] (4) رجل، ثم يلد، فنعلم قطعاًً أنه امرأةٌ.
فإن زعم أنه لا يميل إلى الجنسين، أو يميل إليهما، فهو المشكل، ويتعلق به أمرُ المس. فإذا كان مشكلاً ومس ذكره، لم ينتقض وضوؤه، لجواز أن يكون امرأةً، وإن مس ما هو على صورة فرج النساء، لم ينتقض أيضاً، لجواز أن يكون رجلاً.
والضابط في ذلك أنا نتعلق بيقين الطهارة، فلا نحكم بانتقاضها إلا بيقين، وهذا الأصل متفق عليه. وفيه غائلةٌ سأنبّه عليها إن شاء الله تعالى.
ولو مسّ رجل ذكرَ خنثى، انتقض وضوؤه؛ فإنه إن كان رجلاً، فقد مس الرجل ذكراً، وإن [كان] (5) امرأةً، فقد [لمس] (6) امرأة.
__________
(1) في الأصل: " المثال " والمثبت من (م) ، (ل) .
(2) اعتاص الأمر: صعب واشتد والتاث، فلم يُعرف صوابه (القاموس) . وفي (م) : تعارضت.
(3) في (م) : حل.
(4) مزيدة لاستقامة المعنَى، وقد صدّق تقديرنا نسخة (م) ، (ل) .
(5) زيادة اقتضاها السياق. ثم صدقتنا نسخة (م) ، (ل) .
(6) في الأصل: مس. والمثبت في (م) ، (ل) .(1/133)
وإن مس الرجل فرج النساء، لم ينتقض وضوؤه، لجواز أن يكون رجلاً، وهذا ثقبٌ زائد عليه. والمرأة لو مت منه فرج النساء، بطل وضوؤها؛ فإنها بين أن تكون ماسَّة فرج امرأةٍ، أو لامسةً رجلاً، ولو مسَّتْ ذكره، لم ينتقض وضوؤها، لجواز أن تكون امرأةً، والممسوس عضو زائد عليها.
والمتبع في التفاريع استصحاب الطهارة، إلى استيقان الانتقاض.
والخنثى إذا مسّ من نفسه أحدهما، لم يبطل وضوؤه، ويبطل إن مسّهماً جميعاًً.
وإذا كان الماسُّ غيره، فكل من مَسّ منه ما هو له (1) ، انتقض وضوؤه، ومن مس ما ليس له، لم ينتقض وضوؤه، كما سبق.
165- ولو مسّ خنثى ذكر خنثى، أو فرجه الآخر، لم ينتقض وضوؤه، ولا يستيقن انتقاض وضوئه ما لم يمسهما جميعاً.
وإن مس أحد الخنثيين ذكرَ صاحبه، ومس الممسوس ذكره الفرجَ الآخر من الماسّ، فنعلم أن طهارةَ أحدهما في علم الله تعالى قد طراً عليها حدث؛ فإنهما لو كانا امرأتين، فقد مس أحدهما فرج امرأة، وإن كانا رجلين، فقد مس أحدهما ذكراً، وإن كان أحدهما ذكراً، والآخر أنثى، فقد تلامسا، ولكن لا نحكم ببطلان طهارة واحد منهما؛ فإن كلّ (2) واحدٍ منهما لو انفرد بما صدر منه من مس أحد الفرجين، لما قُضي بانتقاض وضوئه، فصدور فعلٍ من غيره لا يغير فعلَه في نفسه.
وهذا بمثابة ما إذا قال رجل، وقد طار طائِرٌ: إن كان هذا غراباً، فامرأتي طالقٌ، وقال آخر: إن لم يكن غراباً، فامرأتي طالق. فلا يُحكم بوقوع طلاق واحد
__________
(1) واضح أن المعنى إِذا مسّ أحدٌ من الخنثى العضو الذي له مثله، انتقض وضوؤه، لأنه إِن كان رجلاً، فمس ذكر الخنثى، فلا يخلو إِما أن يكون الممسوس ذكره رجلاً أو امراة، فإن كان رجلاً، فقد انتقض وضوؤه بمس ذكره. وان كان امرأة فقد انتقض وضوؤه بلمس امرأة. ولو مس رجل فرج الخنثى، فلا ينتقض وضوؤه، لاحتمال أن يكون رجلاً، وهذا ثقب زائد، ولا نقض مع الاحتمال.
(2) في الأصل: فإِن كان كل واحد. والمثبت عبارة (م) ، (ل) .(1/134)
منهما إذا التبس الأمر، وإن (1) كنا نعلم أن الطائر كان توضأً أو لم يكن غراباً، ولكن لو انفرد أحدهما بقوله، لكان الجواب كما ذكرنا، فصدور قولٍ من غيره لا يغيّر حكمه.
فرع:
166- لو توضأ المشكل، ومس ذكره، وصلى صلاةَ الصبح، ثم توضأ، ومس بعده الفرج الآخر، وصلى صلاة الظهر، فنعلم أن إحدى الصلاتين وقعت بعد حدث، ولكن جرى وضوءَان، كما ترى، فقد ذكر بعض المصنفين وجهين في ذلك: أحدهما - إن إحدى الصلاتين باطلة، لا بعينها، فيجب قضاءُ الصلاتين جميعاً.
والثاني - لا يجب قضاءُ واحدةٍ منهما؛ فإن كل صلاة تختص بوضوءٍ، والأصل أنه لم يبطل، وتعدّد الواقعتين كتعدد الشخصية.
وهذه الصورة تناظر عندي ما إذا صلّى رجل صلواتٍ باجتهاداتٍ إلى جهات، ولم يتعين له خطأٌ ولا صوابٌ، فالمذهب أنه لا يقضي واحدة منها.
فإن قيل: إنما كان كذلك لأن كل صلاةٍ مستندة إلى اجتهادٍ، ولا مجال للاجتهاد في الأحداث. قلنا: بناء الأمر على استصحاب يقين الوضوء متعينٌ في الاجتهاد، ومناطٌ لحكم الله تعالى عند انحسام مسالك الأمارات.
فرع:
167- خروج الخارج من إحدى سبيلي الخنثى المشكل بمثابة خروج النجاسة من سبيل ينفتح أسفل من المعدة، وقد مضى ذلك مفصّلاً، وإن خرج من السبيلين جميعاً، فلا شك في انتقاض الوضوء؛ فإن أحدهما فرجٌ، لا شك فيه.
فصل
168- الأحداث على مذهب عامّة العلماء أربعة. وإنما الخلاف في تعيين بعضها، [وإقامة بعضها] (2) مقام بعضٍ، فأما خروج الخارج من السبيلين، والغلبة على
__________
(1) في (ل) : وإن كنا لا نعلم.
(2) زيادة من (م) ، (ل) .(1/135)
العقل، فقد اتفق العلماء عليهما في الأصل. ورأى الشافعي الملامسةَ ومّس الفرج حدثين، وأنكرهما (1) أبو حنيفة. وأثبت بدلهما خروجَ الخارج من غير السبيل المعتاد (2) ، والقهقهة في الصلاة (3) ، ونفاهما الشافعي.
وأكْلُ لحمِ الجزور مما ورد الأمر فيه بالوضوء، والمنصوص عليه (4) للشافعي في الجديد أنه لا يوجب الوضوءَ، ومذهب أحمد بن حنبل (5) أنه يوجب الوضوء، وقيل: هو قول قديم للشافعي، وإنما صار إليه لما رُوي أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنتوضأ من لحم الجزور؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم " (6) .
وأمّا أكل ما مسّته النار من مشويٍّ ومطبوخ، فقد رُوي عن النبي عليه السلام، أنه قال: " توضؤوا ممّا مسته النار، ولو من ثَوْرِ أَقِط " (7) .
__________
(1) ر. البدائع: 1/30، مختصر اختلاف العلماء: 1/162، 163 مسألة: 79، 81، حاشية ابن عابدين: 1/99.
(2) البدائع: 1/24، رؤوس المسائل: 108 مسألة: 15، طريقة الخلاف للأسمَندي: مسألة: 1، حاشية ابن عابدين: 1/91.
(3) ر. البدائع: 1/136، رؤوس المسائل: 109 مسألة: 16، مختصر اختلاف العلماء: 1/161 مسألة: 78، حاشية ابن عابدين: 1/97.
(4) ر. المختصر: 1/20.
(5) ر. المغني: 1/211، الإنصاف: 1/216، كشاف القناع: 1/130.
(6) جزء من حديث رواه مسلم عن جابر بن سَمُرة بلفظ: "أأتوضأ من لحوم الإِبل؟ قال: نعم توضأ من لحوم الإِبل"، ورواه عن جابر أيضاً أحمد وابن ماجة، ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وأحمد من حديث البراء بن عازب (ر. تلخيص الحبير: 1/115/116 ح 154، ومسلم: الحيض، باب الوضوء من لحوم الإبل، ح 360، والمسند: 4/288، 303، 5/86، 88، 93، 98، 100، 102، 105، 106، 108، والترمذي: أبواب الطهارة، باب ما جاء في الوضوء من لحم الإبل، ح 81، أبو داود الطهارة، باب الوضوء من لحوم الإبل، ح 184، ابن ماجة الطهارة، باب ما جاء في الوضوء من لحوم الإبل، ح 494، وإرواء الغليل: 1/152) .
(7) حديث " الوضوء مما مست النار "، أخرجه مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، بألفاظ مقاربة (ر. مسلم: الحيض، باب الوضوء مما مست النار، ح 352، وصحيح أبي داود: ح 160، وصحيح الترمذي: ح 68، وصحيح النسائي: ح 166) والثور: القطعة من الأقط (مصباح) .(1/136)
ثم رأى الشافعي أن ذلك منسوخ؛ لما روي "أنه عليه السلام في أواخر عمره أكل كتف شاةٍ مشوية، ثم صلّى، ولم يتوضأ" (1) ، واختلف الأئمة في أن الوضوء المأمور به أولاً كان وضوء الصلاة، أو غسل اليدين، فقال بعضهم: كان [يجب] (2) وضوء الصلاة، وقال بعضهم: الوضوء المأمور به في ابتداء الأمر غسل اليدين، قال النبي عليه السلام: " الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر، وبعده ينفي اللمم " (3) أراد غسل اليدين.
فصل
169- قال الأئمة: من استيقن الوضوء، وشك في الحدث، فله الأخذ بالطهارة استصحاباً لها، واليقين السابق مستصحب، غير متروك بشك الحدث، ولو تيقّن الحدثَ، وشك في الوضوءِ بعده، فهو محدث تمسّكاً باليقين، واستدل الشافعي على تمهيد ما ذكرناه بما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: "إن الشيطان ليأتي أحدَكم وهو في الصلاة، وينفخ بين إليتيهِ، ويقول: أحدثتَ أحدثت، فلا ينصرفنّ حتى يسمعَ صوتاً، أو يجد ريحاً" (4) .
__________
(1) حديث "أكل كتف شاةٍ مشوية ... " رواه البخاري ومسلم، وأصحاب السنن الأربعة، وابن خزيمة وابن حبان، مع اختلاف يسير في اللفظ. (ر. البخاري: كتاب الوضوء: باب من لم يتوضأ من لحم الشاة والسويق، ح 207، 208، وباب من مضمض من السويق ولم يتوضأ، ح 210، ومسلم: كتاب الحيض، باب نسخ الوضوء مما مست النار، ح 354، 355، تلخيص الحبير: 1/116 ح 155) .
(2) في الأصل: تحث. بهذا الإعجام. وواضح أنه تصحيف، وصدقتنا (م) ، (ل) .
(3) حديث " الوضوء قبل الطعامَ ... " بهذا اللفظ في مسند الشهاب عن موسى الرضا عن آبائه متصلاً، وعند أبي داود والترمذي عن سلمان: "بركة الطعام الوضوء قبله، والوضوء بعده" (ر. مسند الشهاب، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي: 1/205 ح 310، وفيض القدير: 6/376 ح 9683) .
(4) حديث "إِن الشيطان ليأتي أحدكم ... " قال الحافظ: تبع الرافعي فيه الغزالي، والغزالي تبع الإمام، وكذا ذكره الماوردي، وقال ابن الرفعة في المطلب: " لم أظفر به يعني هذا الحَديث" ا. هـ كلام ابن الرفعة. وقد ذكره البيهقي في الخلافيات عن الربيع عن الشافعي، =(1/137)
وقد اتفق الأصحاب على أن من تيقن سبقَ الوضوء، وغلب على ظنّه الحدث، فله الأخذ بالوضوء.
وقد ذكرنا قولين للشافعي في أن ما يغلب على الظن نجاسته هل نحكم بنجاسته؟
ومن الأسئلة التي ينبغي أن يُعتنَى بها الاستفراق (1) بين غلبة الظن في الحدث، وبينها في النجاسة. والذي كان يذكره شيخي أن الاجتهاد يتطرق إلى تمييز الطاهر من النجس، وسبب ذلك أن للطهارة والنجاسة أماراتٍ، وهي مستند الاجتهاد، وليس للحدث والطهر علاماتٌ يتعلّق بها المجتهد.
وفي هذا عندي فضل مباحثةٍ، فأقول: أصل الشافعي في تمييز دم الحيض عن دم الاستحاضة بالصفات معلوم، سيأتي شرحنا عليه إن شاء الله تعالى، وهذا اجتهاد.
وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم للمني صفاتٍ، وفائدةُ ذكرها التمسك بها، فإطلاق القول بأن الاجتهاد لا يتطرق إلى الأحداث غيرُ سديد.
ثم موضع القولين في النجاسة ليس فيما يظهر فيه علامة النجاسة من لون، أو ريح، أو طعم، ولكن إذا جرت أحوالٌ يغلب على القلب النجاسةُ فيها، فالقولان يجريان، وإن لم يظهر للحس علامةٌ في النجاسة (2) ، وهذا كالقولين في المقابر
__________
= فذكره بغير إِسناد، دون قوله: أحدثت أحدثت، وكذا ذكره المزني عن الشافعي، وهو في الصحيحين. ا. هـ كلام الحافظ في التلخيص. والمتفق عليه من الحديث هو عدم الأخذ بالشك، وإِجراء الحكم على يقين بصوت أو ريح. (ر. تلخيص الحبير: 1/128 ح 171، وأيضاً ح 157، البخاري: كتاب الوضوء، باب: لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن، 1/285 ح 137، ومسلم، كتاب الحيض، باب، الدليل على أن من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث، فله أن يصلي بطهارته تلك، ح 361، 362، وإِرواء الغليل: 1/153 ح 19، وصحيح أبي داود للألباني: ح 162، 163، وصحيح الترمذي ح 64، 65) .
(1) الاستفراق: طلب الفرق.
(2) في النسخ الثلاث: " وإِن لم يظهر للحس " ويتبادر إِلى الذهن أن (الواو) لا محلّ لها هنا، بمعنى أن محل القولين عدم ظهور علامة للحس، في مقابلة القطع بالنجاسة مع وجود علامة.
ولكن للواو هنا حاجة، وهي بمعنى (مع) فهي تقطع الذهن عن السبق إِلى القول باستصحاب اليقين عند عدم ظهور علامة للحس كما في الأحداث. فالمراد هنا التفرقة بين =(1/138)
العتيقة، وثيابُ من يخامر النجاسات من الكفّار، ومن لا يتقي النجاساتِ من المسلمين، وقد تُفرض أحوال تغلِّب على الظنّ وقوع الأحداث فيها، ولا يَطّرد القولان فيها، فيما ذكره الأئمة.
ولعل السبب فيه أن الأحوال التي يغلب ظن النجاسة فيها كثيرةٌ جدّاً، وهي قليلةٌ في [الأحداث] (1) ، فلا مبالاة بما يندر منها، والتمسك باستصحاب اليقين أقوى، وإذا لم يكن بالإنسان علّة، ففرضُ حالةٍ يغلبُ فيها وقوع الحدث عسير، ومن طلب تصوير ذلك كان متكلفاً. واستصحاب ما يثبت يقيناً أقوى، فيؤول حاصل القول فيه إلى أن الأحوال [المغلِّبة] (2) على الظنون غالبةٌ في النجاسة، فاختلف القول في أنها أولى بالاعتبار، أو استصحاب الحال.
وأما في الحدث، فلا يغلب فيه حالة تغلّب على الظنّ وقوعَ الحدث، فاتجه القول في الاستمساك باليقين واستصحابه.
فهذا منتهى فكري الآن.
فإن تطلّع فَطِن لمزيد معنى في الفرق بين البابين، كنت أنا المنبّه عليه.
170- ثم ذكر صاحب التلخيص: أن اليقين لا يُترك بالظنّ إل في مسائل (3) عدّها.
ونحن نذكر المستفادَ منها، ونضرب عن التي لا تشكل: [فمّما] (4) استثناه؛ أن الناس إذا شكّوا في انقضاءِ الوقت يومَ الجمعة، لم يُصلّوا الجمعة، ولم يستصحبوا اليقين بناءً عليه.
__________
= الأحداث، والنجاسات، حيث لا يستصحب يقين الطهارة في النجاسات عند عدم ظهور العلامات الحسية، وسيظهر ذلك من شرح المسألة في السطور الآتية.
(1) في الأصل: " أحداث " والمثبت تقدير منا صدّقته (م) و (ل) .
(2) في الأصل: "للغلبة" والمثبت تصرّف من المحقق. والحمد لله وجدناه في (م) ، (ل) .
(3) المسائل التي عدها صاحب التلخيص هي إِحدى عشرة مسألة، وقد ذكرها عاداً لها فعلاً، هكذا: إِحداها - الثانية ... إِلى الحادية عشرة. (ر. التلخيص لابن القاصّ: 122-124) وانظر الأشباه والنظائر للتاج السبكي: 1/29، 30، وقد أشار إِلى أن الإمام زاد عليها مسألة الجمعة، وانظر. المجموع للنووي: 1/264.
(4) في الأصل: " فيما " وما أثبتناه اختيار منا رعاية للسياق. وقد طابقته (م) ، (ل) .(1/139)
وكذلك الماسح على الخُفّ إذا شك في انقضاء المدة، لم يمسح بناء على أن الأصل بقاء المدة.
فيقال: الأصل في كل يومِ وجوبُ الظهر أربع ركعاتٍ، ثم ثبتت صلاة الجمعة بشرائط، وهي طارئة على الأصل، فإذا فرض تردّد وشكٌّ في الجمعة (1) ، رددنا الشاك إلى أصل صلاة الظهر، وكان ذلك استصحاب لأصلٍ سابق على فريضة الجمعة، وكذلك الأصل غسل القدمين، والمسح رخصة طارئة، منوطة بشرائط، فإذا فرض الشك في بعضها، تعين الرد إلى أصل غسل القدم.
والتحقيق فيه أنا لا نشترط غالبَ ظنّ في الفنّ الذي استثناه، بل الشك بمجرده يمنع إقامة الجمعة، والمسح على الخفّ، وهو في التحقيق تمسك باستصحاب [الأصل] (2) عند الشك في شرط ما طرأ على الأصل.
ومما ذكره أن المسافر إذا انتهى إلى موضع، وشك أن ذلك الموضع موطنه، ومنتهى سفره أم لا؟ قال: إنه لا يقصر، ولا يترخصّ برخص المسافرين، وهذا منتظم على القياس المقدَّم؛ فإن الأصل إتمامُ الصلاة، وإقامة الصلاة في وقتها، والرّخص طارىء مشروط بشرطٍ، فإذا فرض التشكك فيه، رُدّ المكلَّف إلى الأصل.
قال: وكذلك (3) لو شك، فلم يدر أنوى الإقامة أم لا، لم يترخَّص ما لم
__________
(1) هذه المسألة -مسألة الشك في انقضاء الوقت يوم الجمعة- ليست من المسائل الإِحدى عشرة التي استثناها صاحب التلخيص. (السابق نفسه) .
(2) في الأصل: " الحال "، والمثبت من (م) ، (ل) . وهو تعبير الإِمام في المسألة الآتية بعد هذه، وتعبير النووي في التنقيح (ر. الوسيط: 1/326 هامش (1)) .
(3) هذه هي المسألة الرابعة التي ذكر الإِمام أنه اختارها من مسائل صاحب التلخيص.
وقد أخذ أبو حامد الغزالي هذا عن شيخه، فقال في الوسيط: "واستثنى صاحب التلخيص من هذا أربع مسائل"، وعدد هذه المسائل بنصها. فأوهم أنها كلُّ ما استثناه صاحب التلخيص، مع أن إِمامنا قال: " استثنى مسائل عددها، نذكر منها ". ولذا تعقب النوويُّ الغزالي في التنقيح، فقال: أما قوله: " استثنى أربع مسائل، فقد يُنكر، لأنه يوهم أنه اقتصر على أربع، وليس كذلك، بل قد استثنى في (التلخيص) إِحدى عشرة مسألة، ليس منها مسألة الجمعة ". ا. هـ. (ر. التنقيح - بهامش الوسيط: 1/326. والمجموع 1/264) .(1/140)
[يبتدىء] (1) سفراً على الوصف المعروف فيه.
171- وذكر الشيخ أبو علي في المسألتين الأخيرتين خلافاًً عن بعض الأصحاب، ولم يحك فيما تقدّم من الجمعة والتشكك في انقضاءِ مدّة المسح خلافاًً.
ولعلَّ الفرق في ذلك، أن انقضاء وقت الجمعة والمسح، ليس مما يتعلق باختيار. فإذا فرض الشك فيه، لاح تعيين الردّ إلى الأصل. والانتهاءُ إلى دار الإقامة والعزمُ عليها متعلِّق بفعل الشاك، ومنه يُتلقى معرفته، فإذا جهله من نفسه، فقد يخطر أنه بمثابة ما لو لم يقع ذلك المعنى أصلاً.
على أن الوجه ما ذكره صاحب التلخيص.
فرع:
172- قال صاحب التلخيص: إذا استيقن الرجل أنه بعد طلوع الشمس توضأ وأحدث، ولم يدر أن الوضوء هو السابق، أم الحدث، فيقال له: قدّم وهمك على [مبتدإ] (2) هذا الزمان، فإن انتهيتَ إلى حدث، فأنت الآن متطهر، وإن انتهيت بوهمك إلى طُهر، فأنت الآن محدِثٌ.
وتعليل ما ذكره، أنه إذا انتهى إلى حدثٍ، فقد تيقن أنه رفعَ الحدث الذي انتهى إليه، وشك في أن ذلك الوضوء الرافع للحدث الأول هل نقضه حدثٌ أم لا، فالأصل بقاء الطهارة.
وإن انتهى إلى طهر، فقد تيقَّن أنه نقضه حدث، وشك في أن ذلك الحدث هل رفعه طهر أم لا.
وذكر الصيدلاني عن بعض الأصحاب أنه يقدم وهمَه كما ذكرنا، ويُضرب عن تعارض الطهر للحدث بعد طلوع الشمس مثلاً، فلا يستمسك بهما، ولكن إن انتهى، إلى حدثٍ، فهو محدث، وإن انتهى إلى وضوءٍ، فهو متطهِّر.
وهذا غير صحيح. والصواب ما ذكره صاحب التلخيص. والله أعلم.
***
__________
(1) في الأصل: " ما لم يبتد " بحذف آخر الفعل، اعتبار بحالة تسهيل الهمزة، واعتبارها ياءً. وقد وافقتنا (م) ، (ل) .
(2) مزيدة من (م) ، (ل) .(1/141)
باب ما يوجب الغسل
173- الأغسال الواجبة أربعة: غسل الجنابة، وغسل الحيض والنفاس، وغسل الولادة، وغسل الميّت.
فأما الجنابة، فلها سببان: أحدهما - تغييب الحشفة في فرجٍ، أيّ فرجٍ كان، من الآدمي والبهيمة، ولا يتوقف وجوب الغسل على الإنزال، وفيه أخبار ليس يليق بهذا المجموع ذكرها، وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: " إذا التقى الختانان، وجب الغسل، فعلتُه أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا " (1) والذي عناه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتقاء الختانين يحصل بتغييب الحشفة، فإن مدخل الذكر في أسفل الفرج، وموضع حديدة (2) الخافضة في أعلى فرج المرأة، فإذا غابت الحشفة حاذى موضع ختان الرجل، موضع ختان المرأة، فذاك المعنيُّ بالتقاء الختانين. قال الشافعي: يقال التقى الفارسان إذا تحاذيا، وإن لم يتضامّا (3) .
ولو كان الرجل مقطوعَ الحشفة، فأولج مقدار الحشفة التي كانت من بقيّة ذكره، وجب الغُسل على المولج، ويتعلق به ما يتعلق بتغييب الحشفة نفسها.
والإيلاج في فرج الميّت يوجب الغسلَ على المولج، وهل يجب تجديد غسل
__________
(1) حديث " إِذا التقى الختانان ... " رواه الشافعي في الأم والمزني في مختصره، وحرملة في سننه، وأحمد في مسنده، والترمذي عن عائشة، والبخاري ومسلم بمعناه عن أبي هريرة، وكذلك النسائي (ر. التلخيص: 1/134 ح 180، الأم: 1/39، المسند: 6/161، واللؤلؤ والمرجان: كتاب الحيض باب نسخ الماء من الماء، ووجوب الغسل بالتقاء الختانين، ح 199 وصحيح النسائي: ح 185، 186، وصحيح الترمذي: ح 94، 95، وصحيح ابن ماجة: ح 492، اِرواء الغليل: 1/163 ح 127) .
(2) حديدة الخافضة: آلة قطع الخافضة، وهي الخاتنة.
(3) في (م) : يتصادما.(1/142)
الميّت؟ ذكر بعض المصنفين وجهين فيه، والظاهر عندي أنه لا يجب؛ فإن التكليف ساقط، والغسل الواجب فيه ما يقتضيه الموت تنظيفاً وتعظيماً.
وكان شيخي يقول: إن أولج بهيمةٌ في فرجٍ، فينبغي أن يجب الغسل على المولَج فيه، اعتباراً بالإيلاج في فرج البهيمة، وهذا فيه نظر عندي من جهة أنه لا يفرض إلا في غاية النُدور. ثم في القدر المولَج واعتباره بالحشفة، كلام موكول إلى فكر الفقيه.
فهذا أحد سببي الجنابة.
174- فأما الثاني - فنزول المنيّ، وهو في اعتدال الحال أبيضُ، ثخين، دافق، ذو دفعات، يخرج بشهوةٍ، ويُعقب خروجُه فتوراً، ورائحته رائحة الطلع، ويقرب من رائحة الطلع رائحة العجين. [وقد] (1) تزول بعض هذه الصفات باعتراض إعلالٍ، فيرقّ ويصفرّ، وقد يسيل من غير شهوة، لاسترخاءٍ في أوعية المنيِّ.
والمذيُّ (2) رقيق يخرج بنشاطٍ، ولا يُعقب خروجُه فتوراً، وحكمه في النجاسة ولزوم الوضوءِ حكم البول.
ومَني المرأة أصفر رقيق. وقد زعم الأطبّاء أنه لا يخرج منها، ولا شك أن لها مذيّاً، وإذا هاجت، خرج منها، وهذا أغلبُ فيهن منه في الرجال.
والودي (3) أبيض، ولا يخرج عند هيجان شهوة، والغالب أنه يخرج عند حمل شيءٍ ثقيلٍ، وهو نجسٌ كالبول.
فإذا تحقق الرجل أنه خرج المني منه، لزمه الغُسل.
175- فإن شكَّ، فلم يدر أن الخارج منيٌ، أو وديٌّ، أو مذيّ، فهذا ممّا يتعين إنعام النظر فيه.
وكان شيخي يقول: إن تيقّن أن الخارج منيّ، لزم الغسل، وإن شك، ولم يدر،
__________
(1) مزيدة لاستقامة المعنى، وصدقتنا (م) ، (ل) .
(2) المذي فيه ثلاث لغات: فتح الميم مع سكون الذال، وفتحها مع كسر الذال وتشديد الياء: وزان غني، وكسر الذال مع التخفيف. ويرب حيئنذٍ إعراب المنقوص (المصباح) .
(3) الودْي بفتح وسكون، وقد يكسر ويثقل، وزان مَنِيّ. (المصباح) .(1/143)
استصحب الغُسلَ السابق، ولم يلتزم الغسلَ إلا بيقين.
وكان يُجري هذا على الأصل المقدَّم في أن من استيقن الوضوءَ وشكّ في الحدث؛ استصحب الطهر السابق.
وهذا لا يشفي الغليلَ؛ فإنه صحّ في الأخبار والآثار تمييز المنيّ بصفاته عن سائر الخارجات. فلئن كان الشاك في الحدث لا يجد علامة يستمسك بها، فالعلامات هاهنا ثابتة، وكشف الغطاء في هذا أن الخروج بالشهوة، مع استعقاب الفتور دلالة قاطعة على أن الخارج منيّ، وليس هذا مما يتضمن غلبة ظن. وكذلك الرائحة التي تشبه رائحة الطلع والعجين من القواطع. وكذلك الخروج بدفقٍ ودفعٍ، وتزريق، من خصائص المنيّ، لا تثبت لغيره.
فأما البياض والثخن (1) فمما يشترك فيه المنيّ والودي، وقد يرق المني ويصفرّ، ويشبه لونه لون المذي، وهو ماء لزج، يميل إلى الصفرة قليلاً.
فإن كان في الخارج صفةٌ واحدة من الصفات الثلاث المقدَّمة، فليس هذا موضع اجتهاد وظنٍّ، بل نعلم أن الخارجَ مني.
أما الرائحة والفتور صفتان معلومتان، وأما الدفقُ، فلا يكفي فيه الخروج بدفع، فإن من به [أَدَرٌ] (2) يخرج بوله قطراً، ويقع بين القطرة والقطرة فترة، والتعويل على التزريق، وذلك لا يكون إلا مع انتشارٍ وشهوة، ثم لا بد من جريان الفتور، فليس من الممكن أن يزرِّق إلا منتشرٌ، ثم لا ينزل المني إلاّ مع نفسي (3) الأرواح، وذاك يقتضي
__________
(1) المنصوص في المعاجم مصدراً لثَخُن: ثخونة وثخانة، ولكن غلب على إِمام الحرمين استعمال: فَعَل بتحريك العين مكان فعولة، وفعول في مصدر الثلاثي، فيقول مثلاً: إِن تيقنا صَدَرَ هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بدلاً من صدور، و" حَدَث العالم " بدلاً من حدوث.
(2) أدر يأدَر: أدَراً وأدَرة وأُدْرة، إذا انتفخت خصيته، لتسرب سائل في غلافها، وهي غير واضحة بالأصل، وفي (م) : إِدرارٌ، وعبارة (ل) : إِدرار بولٍ يخرج بوله قطعاًً.
(3) كذا تماماً. وفي (م) : نغس. بالغين، وليس في المعاجم مادة: ن غ س، وفي (ل) : تفشِّي، وهي من ألفاظ الطب والعلاج التي كانت شائعة في ذلك الوقت كما يظهر من السياق، ولكنها غير واضحة لنا (انظر العبارة مصورة من المخطوطات، في آخر هذا المجلد، أملاً بأن =(1/144)
فتوراً لا محالةَ. ثم لا تفارق المنيَّ الرائحة المختصّة به، في غالب الأمر.
فإذاً هذه الصفات قلما تفترق، وإنما تختلف الرقة والثخانة، واللون: بياضاً وصفرةً، فإنْ عدمنا الدلائل الثلاثة القاطعة، ولم نجد إلاّ اللونَ والثخانة، لم نحكم على الخارج بكونه منيّاًً، بل لا يغلب على الظنّ كونُه منيّاً؛ فإن المني في غالب الظن لا يخلو عن مجموع تيك الصفات أو بعضها، فهذا هو الكشف التام في ذلك.
والحاصل منه أنا إذا عدمنا القطعَ، ينعدم غلبة الظنّ أيضاً.
176- وممّا يُشكل في ذلك أن من أكثر الغشيان، فقد تخرج مادة الزرع دماً عبيطاً (1) ، ويُعقب خروجُه فتوراً؛ لأنه مادة المنيّ، وإنما تخلّف اللونُ عنه، لأن في ممرّه لحمةً غُدديَّةً تبيّض الدمَ المارَّ بها، فإذا ضعفت، لم تلوِّن.
فإذا كان الخارجُ دماً عبيطاً، ويَعقب خروجَه فتور، ولكنّا تحققنا أنه المادّة، ففي ذلك وقفة عندي؛ فإنه لا يسمى منيّاًً، ولا يسقط اسمُ المنيّ بالاصفرار ولا بالرّقة، والظاهر أنه يوجب خروجُه الغسلَ إذا كان على الصفات الثلاث المرعيّة، أو على بعضها، فإن اللون لا معوّل عليه.
ومما يتعلق بذلك أنه لو خرج من الرجل شيءٌ في نومه، ثم انتبه، وما كان أحسّ في غمرات نومه بشهوة، ولا فتور، ولا تزريق ودَفْقٍ، فإن وجد رائحةَ الطلع، فهو مني، وإن لم يجدها، ولم يجد بياضاً وثَخَناً، فالظاهر أنه ليس بمني. وإن وجد الخارج ثخيناً أبيض، فلا نقطع بأنه مني؛ إذِ الوديّ قد يكون كذلك.
فهذا موضع الإشكال.
وقد يغلب على القلب أنه مني من جهة أنه لا يليق بصاحب الواقعة الوَدْي، أو ربما كان يذكر حلماً رآه، ووقاعاً تخيّله، ثم شاهد الخارج، فإن كان كذلك، فلا قاطع، فيجوز أن يقالَ: يَستصحب يقينَ الطهر، ويجوز أن نحمل الأمر على غالب الظن، تخريجاً على غلبة الظنّ في النجاسة؛ فإن هذا الذي انتهى الكلام إليه مما يغلب في
__________
= يلهمكم الله قراءتها الصحيحة) .
(1) عبيطاً: طرياً - وفي (م) : غبيطاً (بالغين) .(1/145)
مثله وقوعُ غلبة الظن. ويتطرق أيضاً إلى قبيله التعلّقُ بالصفات، كما تقرّر ذلك في النجاسات.
وليس هذا كما لو توضأ رجلٌ ثم شك: هل أحدث بعده أم لا؟ فإنه لا يغلب في مثل ذلك على الظن أمر يبتنى عليه غلبة الظن في وقوع الحدث، كما تقدم التقرير فيه.
وإن لم يغلب على الظن أن الخارج مني، لم يجب الغُسل، ولا شك فيه.
177- فأما المرأة إن تحقق خروجُ المني منها، ولا يتصوّر الإحاطةُ بذلك إلا بفتور شهوتها، ولا شك أن شهواتِهنّ عند انقضاء الوطر تَفْتُر. فإن علمت ذلك من خروج الخارج، فهو منيّها، ولزمها الغُسل كالرجل، والدليل عليه ما روي أن أم سليم [أم] (1) أنس بن مالك قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل على إحدانا غُسل
__________
(1) في الأصل: " جدة أنس " والتصويب من (ل) ومن كتب الحديث.
وقد وقع هذا الخطأ في (الوسيط) للإِمام الغزالي أيضاًً، وقد تعقبه ثلاثة من الأئمة الذين لهم مؤلفات عن (الوسيط) وهم الإمام ابن الصلاح، والإِمام النووي، والإمام ابن أبي الدم، وقد رأينا أن نورد تعقيباتهم بنصها لما يأتي:
أ- أنها انتقلت من (الوسيط) إِلى تعقب (النهاية) وصاحبها.
ب- أنها تكشف عن مناهجَ ثلاثة في تفسير هذا الخطأ وتعليله.
ولنبدأ بابن الصلاح، قال: " قوله: (لماروي أن أم سليم جدة أنس بن مالك) . هذا غلط تسلسل وتوارد عليه أبو بكر الصيدلاني، ثم إِمام الحرمين، ثم تلميذه صاحبنا (يعني الغزالي) ثم تلميذه محمد بن يحيى، فلا خلاف بين أهل الحديث، وأهل المعرفة بالصحابة، وبالأنساب أن أم سليم أم أنس بن مالك، لا جدته، وفي الصحيحين الإِفصاح بذلك " ثم استمر يعلل هذا الخطأ من هؤلاء الأئمة، ويفسّره، ويبين سببه، فقال: " ولكن من أعرض عن علم الحديث، مع ارتباط العلوم به، وقع في أمثال هذا، وما هو أصعب منه من التمسك بالحديث الضعيف، واطراح الصحيح، وإِن ارتفعت في علمه منزلته، وأسأل الله عفوه وفضله، آمين " ا. هـ بنصه (مشكل الوسيط 1/50 ب - بهامش الوسيط: 1/342) .
أما الإِمام النووي رضي الله عنه، فقد قال: "قوله (لما روي أن أم سليم جدة أنس بن مالك.. إِلى آخره) صوابه: أم أنس، فهي أمه بلا خلاف بين العلماء من الطوائف، لا جدّته، وقد قال بأنه جدته أيضاًً الصيدلاني، ثم إِمام الحرمين، ثم الروياني، ثم محمد بن يحيى صاحب الغزالي، وهو غلط فاحش ... وأم أم سليم: سهلة، وقيل: رميثة، وقيل: غير ذلك " ا. هـ بنصه (ر. التنقيح في شرح الوسيط - بهامش الوسيط: 1/343) .
وأما ابنُ أبي الدم، فقد قال: " ... الصواب أن أم سليم أم أنس بن مالك، لا جدته، =(1/146)
إذا هي احتلمت؟ فقالت أم سلمة: فضحتِ النساء، فَضَحَكِ الله، وهل تحتلم المرأة قط؟ فقال النبي عليه السلام: تربت يمينك فمِما الشبه؟ إذا سبق ماءُ الرجل ماءَ المرأة نَزَع الولد إلى أعمامه، وإذا سبق ماءُ المرأة ماءَ الرجل، نَزَع الولد إلى أخواله. ثم قال لأم سليم: نعم عليها الغسل إذا رأت الماءَ" (1) .
178- ومما يتعلق بنزول الماءِ أن من أنزل واغتسل. ثم كان قد بقي شيءٌ من المني
فخرج، لزم الغُسل مرّةً أخرى، وإن كان هذا بقيّةَ ماءٍ تدفق معظمه، وهذه البقية
__________
= وهي امرأة أبي طلحة، ذكره علماء الحديث وغيرهم، منهم أبو داود في سننه، وهو كذلك في النسخ الصحيحة من (النهاية) ، وقد يوجد في بعض منها مثلُ ما في (الوسيط) وهو غلطٌ من النساخ " (ر. إِيضاح الأغاليط الموجودة بالوسيط: 3 أ - بهامش الوسيط: 1/342) .
قلت (عبد العظيم) : هكذا رأينا اختلاف المناهج الثلاثة في تفسير هذا الخطأ:
أ- فابن الصلاح يفسّر ذلك بالإِعراض عن علم الحديث، ويجعله سبب الوقوع في هذا الخطأ، ثم راح يعرّض بأخطاء " أصعب من ذلك الخطأ، من التمسك بالحديث الضعيف، واطراح الصحيح " ويعني هؤلاء الأئمة " الذين ارتفعت منزلتهم في علومهم " الصيدلاني، وإمام الحرمين، والغزالي، ومحمد بن يحيى.
ويرى ابن الصلاح أن هذا ذنب وإِثم، ظهر ذلك من ختام تعليقه هذا بقوله: " وأسال الله عفوه وفضله، آمين ".
ب- وأما الإِمام النووي، فقد اكتفى بقوله: " وهو غلط فاحش " بعد أن بين تسلسله عند الأئمة الذين ذكرهم الغزالي، وزاد عليهم (الإِمام الروياني) .
ج- وأما الإِمام ابن أبي الدم، فقد ذكر أنه (أي الخطأ) في بعض نسخ النهاية، بل في القليل من نسخها، كما يفهم من عبارته التي نقلناها بنصها آنفاًً ثم زاد، فبرَّأ إِمامنا من هذا الخطأ، وكذلك الغزالي، وجعل هذا من غلط النساخ [قلت: قد صدق الواقع ابن أبي الدم، فقد وقع لنا نسخة صحيحة فيها: " أم أنس "] .
وأقول ثانيةً: لقد ظهر لي تحامل ابن الصلاح -وغيره- على إِمام الحرمين، وعلى الغزالي، رأيت ذلك في كثير من تعقباته الحديثية، حتى إِنه يدفعه التحامل إِلى الوقوع في بعض الأخطاء، التي تعقبه في بعضها الإمام النووي، وأثبت أن الصواب مع إِمام الحرمين، والغزالي، وأحصيت شيئاً من ذلك، سيكون -إن شاء الله- موضع مناقشة في أحد فصول المقدّمة التي نعدها لهذا الكتاب، والله المستعان.
(1) حديث أم سليم، متفق عليه، رواه البخاري: كتاب الغسل، باب إذا احتلمت المرأة، ح 282، ورواه مسلم: كتاب الحيض: باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها، ح 313، وانظر التلخيص: 1/135 ح 181.(1/147)
لا تخرج بشهوةٍ ودفْقٍ وفتورٍ، ولكن قد لا تفارقها الرائحة، فإذا تحقق أنه منيّ، تعلق به وجوبُ الغُسل، سواء خرج قبل البول، أو بعده.
فهذا بيان ما يوجب الجنابة.
179- فأما الحيضُ، فإذا طهرت المرأة، اغتسلت. ودم الحيض، ودم النفاس يجتمع في الرحم، ثم يُزجيه الرحم عند الولادة، ثم قال الأكثرون: إنما يجب الغُسل بانقطاع الدم، وقال بعضُ المتأخرين: يجب بخروج الدم؛ فإن الطهارات تجب بخروج الخارجات، وهذا يضاف إلى أبي بكر الإسماعيلي (1) . وهو غلط؛ فإن الغُسلَ مع دوام الحيض غيرُ ممكنٍ، وما لا يكون ممكناً يستحيل وجوبُه به، فالوجه أن يقال: يجب الغسل بخروج جميع الحيض، وذلك يتحقق عند الانقطاع، وليس فيما ذكرناه فائدةٌ فقهيّةٌ.
180- فأما إذا ولدت المرأةُ، ولم تنفَس، فالأصح وجوبُ الغسل عليها؛ فإن الولد ينعقدُ من مائهما جميعاً، ففي انفصاله منها انفصالُ مائها.
وهذا التعليل غيرُ مرضيٍّ؛ فإن ما استحال من حال إلى حالٍ، لم يكن له حكم ما كان عليه قبل الاستحالة، والوجه في تعليل ذلك أن الغسل إذا كان يجب بخروج الماء الذي منه خَلْق الولد، فلأن يجب بانفصال الولد نفسِه أولى.
ومن أصحابنا من لم يوجب الغسل مصيراً إلى أن الأحداث لا تثبت قياساً، ولم يَرِد في انفصال الولد من غير نفاسٍ توقيف من الشارع.
فرع:
181- ذكر بعض أصحابنا أن منيّ الرجل إذا انفصل من المرأة (2) ، لزمها الغسل؛ فإنه يختلط منيُّها بمنيّه، فإذا انفصل، فقد خرج منيُّها.
__________
(1) أبو بكر الإِسماعيلي: أحمد بن إِبراهيم بن إِسماعيل بن العباس، الفقيه الحافظ، أحد كبراء الشافعية، المحدث، المصنف، توفي سنة 371 هـ وله أربع وسبعون سنة. (طبقات السبكي: 3/7، والإسنوي: 1/346، وطبقات ابن قاضي شهبة: 1/119، والأنساب للسمعاني، وشذرات الذهب: 3/72، وتذكرة الحفاظ: 3/947) .
(2) أي انفصل بعد الغسل.(1/148)
وهذا فيه تفصيل عندي، فإن لم تكن الموطوءة ذاتَ منيٍّ، بأن كانت صغيرةَ، لم يلزمها الغُسل، وإن كانت ذات منيٍّ، ولكن لم تقض وطَرَها، فلا يلزمها الغسل؛ فإنه لا يَنفصل لها منيٌّ، وإن انقضى وطرها، فيختلط منيّها بمنيّه، فإن [انفصل] (1) بعد أن اغتسلت، فيظهر وجوبُ الغسل عليها، وليس هذا مقطوعاًً به أيضاًً؛ فإنّه قد لا يختلط منيُّها بمنيّه، ولكن يخرج هذا على إيجاب الغسل بالاحتمال الغالب. كما ذكرته.
فأما الوضوء فلا شك في وجوبه عليها، فإن ذلك المنفصل يخرج معه شيء من رطوبتها الباطنةِ، لا محالة، فيجب الوضوء لذلك.
فأمّا غسل الميّت، فمن فروض الكفايات على ما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
فرع:
182- كان شيخي يفرض في أثناء الكلام جنابةً مجردةً من غير حدثٍ، ينقض الوضوء، فكان يصوّر فيه إذا لفّ خرقةً على حشفته، وأولجها؛ فإنه لو فرض الإيلاج دون (2) ذلك، يتقدَّم الجماعَ ملامسةٌ.
ولو فرض الإيلاج في دبرٍ، أو فرج بهيمةٍ حصل الغرضُ الذي أشار إليه رحمه الله.
فإن قيل: إذا أولج الحشفة ملفوفة، فلم يحصل التقاء الفرجين، فلم وَجب الغسل؟ قلنا: هذا تخييل لا مبالاة به، فإن أحكام الوطء [علّقت] (3) بالإيلاج في الفرج، وقد حصل هذا.
فإن قيل: إذا نزل المنيُّ، فهلا عُدَّ هذا مما يقتضي الجنابة المحضة؟ قلنا: المنيّ لا يتصوّر خروجه وحده، بل يخرج مع رطوبةٍ يتعلق بخروجها وجوب الوضوء.
وهذا فيه نظرٌ؛ فإن المنيّ إذا انفصل، فهو طاهر، وتلك الرطوبة التي قدّرناها ينبغي أن تكون نجسةً، ثم يجب الحكمُ بنجاسة المنيّ لذلك.
__________
(1) في الأصل، (م) : انفصلت.
(2) دون ذلك: أي دون لف خرقة.
(3) في الأصل: علق.(1/149)
وهذه التقديرات إنما ذكرتها؛ لأن من أصحابنا من حكى قولاً بعيداً عن (الأمالي) (1) مثلَ مذهب أبي ثورٍ، في أن من أحدث وأجنب، لزمه أن يتوضأ ويغتسل، ولا يندرج الوضوءُ تحت الغسل، فعلى هذا قد يُحوج إلى تقدير الجنابة المحضة.
ثم الذي أراه أن الذي لم يُدرِج الوضوءَ تحت الغسل، إنما يقول ذلك إذا تميّز الحدثُ عن الجنابة، فأما إذا كان انتقاض الوضوء بتقدم المس المتصّل بالوقاع، فالأظهر الإدراج هاهنا.
***
__________
(1) الأمالي: من كتب الإِمام الشافعي، كما هو معروف.(1/150)
باب غسل الجنابة
183- مضمون الباب بيان كيفيّة الغُسل، فنذكر أقلَّهُ، ثم نذكر أكمله. فأما الأقلّ، فهو إجراء الماءِ على ظاهر البدن ومنابت الشعور الكثيفة والخفيفة. قال النبي عليه السلام: " تحت كل شعرة جنابة، فبلّوا الشعر، وأنقوا البشرةَ " (1) .
وما تقدم في الوضوء من الفرق بين الشعر الكثيف والخفيف لا يجري في الغسل؛ فإن المطلوب فيه استيعاب جميع ظاهر البدن.
ولا تجب المضمضةُ والاستنشاق في الغسل عند الشافعي.
وفي بعض التعاليق عن شيخي حكايةُ وجهٍ عن بعض الأصحاب، موافقٍ لمذهب أبي حنيفة (2) ، وهو غلط.
ولا يجب الدلك، والغرض جريان الماءِ.
ويجب مع الاستيعاب النيّةُ، فإن نوى الجنبُ رفعَ الجنابة، فذاك، وإن نوى رفعَ الحدث الأصغر، لم ترتفع الجنابة، عن غير أعضاء الوضوء. وفي ارتفاعها عن أعضاء الوضوءِ كلامٌ، تقدّم ذكره في باب نيّةِ الوضوءِ.
__________
(1) حديث " تحت كل شعرة جنابة "، رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة، والبيهقي من حديث أبي هريرة، ومداره على الحارث بن وجيه، وهو ضعيف جداًً، وقال أبو داود: حديثه منكر. ا. هـ ملخصاً من كلام الحافظ، (ر. أبو داود: الطهارة، باب الغسل من الجنابة، ح 248، الترمذي: أبواب الطهارة، باب ما جاء أن تحت كل شعرة جنابة، ح 106، ابن ماجة: الطهارة، باب تحت كل شعرة جنابة، ح 597، البيهقي: 1/175، التلخيص: 1/142 ح 190) .
(2) أي في فرض المضمضة والاستنشاق في الغسل. ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/135 مسألة 25، رؤوس المسائل 101 مسألة: 8، البدائع: 1/21، حاشية ابن عابدين: 1/102.(1/151)
وإن نوى رفعَ الحدث مطلقاًً، ولم يتعرض للجنابة، ولا لغيرها، فالوجه الذي لا يتجّه غيره القطعُ بإجزاء الغُسل؛ فإن الحدث عبارةٌ عن المانع من الصلاة وغيرِها، على أى وجهٍ فُرض.
ولو نوت التي انقطع حيضُها بالغُسل استباحةَ الوِقاع، فقد ذكر الشيخ أبو علي وجهين في صحة الغُسل: أحدهما - أنه لا يصح؛ فإنها إنما نوت ما يُوجب الغُسل وهو الجماع.
والثاني - وهو الأصح أنه يصحّ؛ فإنها نوت حِلَّ الوطء، لا نفسَ الجماع، وحلُّ الوطء لا يوجب الغسل.
84- فأما الأكمل، فينبغي أن يبدأ فيغسل ما [ببدنه] (1) من أذىً ونجاسةٍ، إن كانت، وإن شكّ في نجاسةٍ، احتاط، وأزال الشك باستعمال الماء.
ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، كما تقدم وصفه.
فإذا انتهى إلى غسل القدمين، فقد اختلف قول الشافعي فيه، فقال في قولٍ: يغسل رجليه، ويُتمّمُ الوضوءَ قبل إفاضة الماء على البدن (2) . وهذا مما رواه هشامُ ابنُ عروة عن أبيه عُروة، عن عائشة، عن فعل النبي صلى الله عليه وسلم (3) . وقال في (الإملاء) : يؤخّر غَسل قدميه حتى يفرغَ من إفاضة الماء على بدنه، ثم يستأخر ويغسل قدميه، وهذا ما رواه ابنُ عباس (4) عن خالته ميمونة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) في الأصل: بيديه.
(2) ر. المختصر: 1/23.
(3) حديث عائشة في وصف غسل الرسول صلى الله عليه وسلم: متفق عليه (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/68، كتاب الحيض، باب صفة غسل الجنابة، تلخيص الحبير: 1/142 ح 191) .
(4) حديث ابن عباس عن خالته ميمونة، متفق عليه بمعناه، أخرجه البخاري في كتاب الغسل، باب الغسل مرة واحدة، 1/431 ح 249، وأخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب صفة غسل الجنابة، 1/254 ح 317، وانظر تلخيص الحبير: 1/143 ح 192.(1/152)
ثم إذا فرغ مما أمرناه به، تعهّد بالماء معاطفَه، ومغابنه (1) ، التي يعسر وصولُ الماء إليها، فيأخذ الماء كفّاً كفّاً، ويوصّل الماءَ إلى هذه المواضع، ومن جملتها أصول الشعور الكثيفة، ثم يُفيض الماء فيَحْثي (2) على رأسه، ثم على ميامنه، ثم على مياسره، وفي فحوى كلام الأصحاب، استحبابُ إيصال الماءِ إلى كل موضعٍ ثلاثاًً ثلاثاً، فإنا إذا رأينا ذلك في الوضوء، ومبناه على التخفيف، فالغسل بذلك أولى.
ثم نؤُثر أن يُتبع الماء يَدَيْه دلكاً؛ فإنه إذا فعل ذلك وصل الماء إلى البدن، ووقع الاكتفاء بما لا سرف في استعماله، ولو لم يستفد به إلا الخروجَ عن الخلاف، كفاهَ؛ فإن مالكاً (3) أوجب الدلك.
فصل
185- ذكرنا في باب النية أن طهارات الأحداث تفتقر إلى النيّة، ثم بنينا عليه أنها لا تصحّ من الكافر؛ فإنها بدنيّة محضة، مفتقرةٌ إلى النيّة، وذكرنا التفصيل في الذمّيّة إذا اغتسلت عن الحيض تحت مسلمٍ.
وقد ذكر أبو [بكر] (4) الفارسي أن الغُسل يصح من الكافر طرداً للباب، استمساكاً
__________
(1) جمع مغبن، وهو الإبط، وبواطن الأفخاذ عند الحوالب. (معجم) .
(2) الفعل واوي ويائي.
(3) ر. الإشراف: 1/125، مسألة: 47، حاشية الدسوقي: 1/90، جو اهر الإِكليل: 1/23.
(4) في الأصل: أبو زيد، وقد ترجح لدينا أنه تصحيف، وأن الصواب أبو بكر بالأدلة الآتية:
أ- لم نجد في كتب الطبقات والأعلام من يجمع بين هذه الكنية (أبو زيد) وهذا اللقب (الفارسي) وهو من أهل هذا الشان، وعاش في الفترة المناسبة.
(مما راجعناه: تهذيب الأسماء واللغات للنووي، وطبقات السبكي، وطبقات الإِسنوي، ووفيات الأعيان، وسير أعلام النبلاء، وطبقات الحفاظ، وطبقات ابن قاضي شهبة، وطبقات الفقهاء للشيرازي، وطبقات ابن الصلاح، وطبقات العبادي ... وغيرها) .
ب- قرأنا المسألة في مظانها عسى أن يصرح أحد الكتب باسم صاحب هذا الوجه، فلم يسعفنا مختصر النهاية لابن أبي عصرون، ولا حواشي التحفة، ولا الروضة، ولا الوسيط، ولا الوجيز، ولا شرحه: فتح العزيز، ولا المجموع للنووي، ولا في شرح المنهاج، وحاشيتي قليوبي وعميرة. =(1/153)
بغسل الذميّة تحت المسلم، وأجرى ذلك في الكافرة ليست تحت مسلمٍ، وطرده في غسل الجنابة، وهذا مزيَّف.
وحكى المحَامليّ في (القولين والوجهين) (1) وجهاً: أنه يصحّ من كل كافرٍ كلُّ طهر: غُسلاً كان، أو وضوءًا، أو تيمماً، وهذا في نهاية الضعف.
فرع:
186- تجديد الوضوء مندوبٌ إليه، قال النبي عليه السلام: " من جدّد وضوءَه جدّد الله له إيمانه " (2) .
___________
= جـ- وأخيراً أسعفتنا المقادير، فوجدنا طلبتنا في غير مظانها، إِذ ذكر الرافعي عند الكلام عن النية في الوضوء، بأنها " لا تصح من الكافر، فلو اغتسل الكافر، في كفره أو توضأ، ثم أسلم، لم يعتد بما فعله في الكفر لأنه ليس أهلاً للنية ... " ثم قال: "وقال أبو بكر الفارسي: لا يجب عليه إِعادة الغسل (إِذ صح منه) بدليل صحة غسل الذمية عن الحيض لزوجها المسلم " فهذا تصريح بأن صاحب النقل الذي ذكره إِمام الحرمين هو أبو بكر، وليس (أبو زيد) .
د- ثم تأكد لدينا هذا بدليل قاطع، ساقته لنا المقادير، حيث نقل مصححو المجموع للنووي بهامشه عن الأذرَعي عن إِمام الحرمين، "وجوب الغسل على الكافر إِذا أسلم، وعدم صحة غسله في كُفره، وتغليطه لأبي بكر الفارسي في الاعتداد بغسل الكافر في كفره". (ر. فتح العزيز شرح الوجيز بهامش المجموع: 1/212، وهامش ص153 ج 2. والمجموع: 1/330) .
وبعد كل هذا العناء أسعفتنا باليقين نسخة (ل) فقد صرحت بأنه: أبو بكر الفارسي.
(1) اسم لكتاب من مؤلفات المحاملي. والمحاملي: نسبة إلى بيع المحامل التي يركب عليها على ظهور المطايا، حيث كان بعض آبائه يبيعها في بغداد، وهذا اللقب (المحاملي) حمله نحو ستة من أعلام الفقه بعضهم أب إِلى بعض، والمعني هنا، والذي هو أكثر ذكراً في الكتب، وأثراً في الفقه، هو أحمد بن محمد بن أحمد بن القاسم بن إِسماعيل بن محمد بن إِسماعيل.
أبو الحسن، الضبي، ويعرف بابن المحاملي، الإِمام الجليل، من رفعاء أصحاب الشيخ أبي حامد، وبيته بيت الفضل، والجلالة، والفقه والرواية، صاحب اللباب، والمجموع، والمقنع، وغيرها، وله تعليقة عن الشيخ أبي حامد، وصنف في الخلاف، توفي سنة 415 هـ. (طبقات السبكي: 4/48 وما بعدها، وطبقات الإِسنوي: 2/381، وشذرات الذهب: سنة 415، والبداية والنهاية: 12/18، ووفيات الأعيان: 1/74، 75، والكامل: سنة 415 هـ) .
(2) حديث: "من جدد وضوءه"، معناه عند البخاري، وأقرب لفظ إِليه ما رواه البيهقي عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "من توضأ على طهر كتب الله له عشر =(1/154)
ولو توضّأ، ولم يُؤدّ بوضوئه شيئاًً، وأراد أن يجدّد، ففي استحباب ذلك وجهان، والأظهر أنه لا يستحبّ؛ فإنه لو استحبّ مرةً، لم يختصّ الاستحبابُ بها، ولم ينضبط القول في ذلك.
وقد يشبّه التجديدُ من غير تخلّل شيءٍ بالغسلَةِ الرابعة. وهذا الخلاف عندي فيه إذا تخلّلَّ بين الوضوء الأول والتجديد زمانٌ يقع بمثله تفريق، فأما إذا وصل التجديد بالوضوء، فهو في حكم الغسلة الرابعة.
187- ثم ذكر الشيخ أبو علي وجهين في استحباب تجديد الغُسل: أحدهما - أنه يُستحب كالوضوء، والثاني - لا يستحبُّ؛ [إذ] (1) لم يرد فيه ما ورد في تجديد الوضوء، ولم يُؤثر عن السلف الصالحين.
فصل
188- غُسل المرأة كغسل الرجل، ولا فرق بين البكر والثيّب، ولا يجب إيصال الماء إلى ما وراءَ ملتقى الشفرين؛ فإنا إذا لم نوجب إيصال الماء إلى داخل الفم، فما ذكرناه أولى.
وغسل التي انقطعت حيضتُها كغسل الجنابة، غير أنَّا نستحب لها أن تدخل فِرصةً (2) من مسكٍ في منفذ الدم، وقد ورد فيه حديث (3) عن النبي عليه السلام، فإن لم تجد، فطيباً آخر، فإن لم تجد، فالماء كافٍ.
__________
= حسنات" (ر. البخاري: كتاب الوضوء، باب الوضوء من غير حدث، ح 214، والسنن الكبرى: 1/162، مصنف عبد الرزاق: 1/54 باب هل يتوضأ لكل صلاة أم لا؟)
(1) في الأصل: إِذا. وهذا تقدير منا، وصدقتنا (م) ، (ل) .
(2) فرصة: خرقة أو قطنة، تتبع بها المرأة أثر الحيض (القاموس، والمصباح) .
(3) الحديث: " خذي فرصة من مسك، فتطهري بها،.. " متفق عليه من حديث عائشة، أخرجه البخاري في كتاب الحيض، باب دلك المرأة نفسها إِذا تطهرت من المحيض، وكيف تغتسل وتأخذ فرصة ممسكة فتتبع أثر الدم، ح 314، وأخرجه مسلم: 1/260، كتاب الحيض، باب استحباب استعمال المغتسلة من الحيض فرصة من مسك في موضع الدم، ح 332.
(ر. تلخيص الحبير: 1/143 ح 193) .(1/155)
189- الجنب إذا أراد أن يأكل أو يشربَ، فلا بأس، ولكن ذكر بعضُ المصنفين أنا نستحب له أن يتوضّأ، ثم يأكل، وإن كان الوضوء لا يرفع الحدث.
وكذلك إذا أراد الجنبُ أن يجامعَ، فينبغي أن يغسل فرجه، ويتوضأ وضوءه للصلاة، وهذا الوضوء، وإن كان لا يرفع الحدثَ، فقد ورد فيه خبرٌ عن النبي عليه السلام (1) .
فأما الوضوء بسبب الأكل والشرب، فلم أره إلا في تصنيف لبعض الأئمة (2) ، وقد روي أن رجلاً سلّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على حائطٍ، وتيمم، ثم أجاب (3) . وقيل: إنه كان جُنباً، وكان التيمم في الإقامة ووجود الماءِ، ولكنه صلى الله عليه وسلم أتى به تعظيماً لردّ السلام، وإن لم يُفد التيمم إباحة محظور.
ولو تيمم المحدث، وقرأ القرآن عن ظهر القلب، كان جائزاً على مقتضى الحديث. والله أعلم.
***
__________
(1) الخبر هو "إِذا أتى أحدكم أهله، ثم أراد أن يعود، فليتوضأ" رواه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري، ورواه أحمد، وابن خزيمة، وابن حبان والحاكم. (ر. مسلم: 1/249، كتاب الحيض، باب جواز نوم الجنب واستحباب الوضوء له، ح 308، وأحمد: 3/28، وابن خزيمة: 1/109، 110 ح 219، 220، 221، وابن حبان: 1/11، 12، وتلخيص الحبير: 1/141 ح 188) .
(2) بل ورد حديث متفق عليه عن عائشة رضي الله عنها (واللفظ لمسلم) : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا كان جنباً، فأراد أن يأكل أو ينام، توضأ وضوءه للصلاة". رواه مسلم: 1/248، باب جواز نوم الجنب واستحباب الوضوء له وغسل الفرج إذا أراد أن يأكل أو يشرب أو ينام أو يجامع، ح 305، الرقم الخاص: 22، ورواه البخاري: 1/468 كتاب الغسل، باب الجنب يتوضأ ثم ينام، ح 288، وتلخيص الحبير: 1/140 ح 187.
(3) متفق عليه (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/76، 77 ح 209) .(1/156)
باب فضل الجنب وغيره
190- مضمون الباب فصلان: أحدهما - أن التوضؤ بما يُفضله الجنب، والمحدث، والحائض جائز، وقد خالف فيه بعض السلف.
وغرض الفصل أن الجنب إذا مسَّ الماء، أو الحائضَ، أو المحدثَ على وجهٍ لا يصير الماء مستعملاً، فيجوز استعمال ما مَسّوه؛ فإن أبدانَهم طاهرة.
ولو فُسّر فضل هؤلاء بما لم يمسّوه، فلا يتخيّل أحدٌ امتناعَ استعماله.
فهذا أحد فصلي الباب.
وقد استدلَّ الشافعي بأخبارٍ تدلّ على طهارة بدن الجنب والحائض (1) ، فأرشدَ مساقُ كلامه إلى أن التصوير على التقدير الذي ذكرناه.
فأمّا الفصل الثاني، فمقصوده أن ماءَ الوضوء والغسل لا يتقدّر، وكيف يُعتقد التقدُّر فيه مع اختلاف الجثث والأبدان في الصغر والكبر، ولكنَ المرعيَّ الإسباغُ، مع اجتناب السرف، قال (2) الشافعيُّ: قد يَرفُق الفقيه بالقليل فيكفي، ويخرق (3) الأخرق بالكثير، فلا يكفي. والله أعلم.
***
__________
(1) ر. الأم: 1/7، ومنها حديث عائشة في الصحيحين: " كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إِناء واحد من الجنابة " (ر. البخاري: كتاب الغسل، باب غسل الرجل مع امرأته، ح 250، مسلم: كتاب الحيض، باب غسل الرجل والمرأة في إِناء واحد في حالة واحدة، وغسل أحدهما بفضل الآخر، ح 319، 321) .
(2) ر. المختصر: 1/27.
(3) خرق يخرق (من باب لعب) حمُق، ولم يرفُق في عمله، وبالشيء: جهله، ولم يحسن عمله. ورفُق: حسن صنيعه. (المعجم) .(1/157)
باب (1) التيمم
191- التيمم رخصة مختصةٌ بهذه الأمّة، والأصل فيه قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " التراب كافيك، ولو لم تجد الماء عشر حجج " (2) وقوله عليه السلام " جُعلت لي الأرض مسجداًً وتُرابها لي طهوراً " (3) . وأصل التيمم مُجمعٌ عليه.
192- ثم الباب مُصدَّر بمحل التيمم من البدن.
والمتبَّع فيه الكتاب والسنة: أمّا الكتاب، فقوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] ومن هذا الظاهر ذهب الزهريّ إلى أنه يجب مسح الأيدي في التيممّ إلى الآباط؛ فإن الأيدي في التيمم غير مقيَّدة بالمرافق، كما جرى تقييدها في الوضوء.
__________
(1) في (ل) : كتاب التيمم.
(2) حديث "التراب كافيك ولو لم تجد الماء عشر حجج" رواه أصحاب السنن عن أبي ذر، ورواه أحمد، والدارقطني، مع تفاوت في اللفظ. (التلخيص: 1/154 ح 209، النسائي: الطهارة، باب الصلوات بتيمم واحد، ح 322، وصحيح النسائي: ح 311، وأبو داود: الطهارة، باب الجنب يتيمم ح 332، وصحيح أبي داود: ح 321، 322، الترمذي: أبواب الطهارة، باب ما جاء في التيمم للجنب إذا لم يجد الماء، ح 124، وصحيح الترمذي: ح 107، وأحمد: 5/180، والدارقطني: 1/186 ح 1، 2، 3، 4، 5) .
(3) حديث: " جعلت لي الأرض مسجداً ... " أصل هذا الحديث في الصحيحين، من حديث جابر: " أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي ... " كما روي عن أبي هريرة، وحذيفة، وأبي أمامة، وأبي ذرّ، وابن عمر، وابن عباس، وعلي بن أبي طالب (ر. البخاري: التيمم، ح 335، مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، ح 521، 522، 523، التلخيص: 1/148 ح 202، وإرواء الغليل: 1/315 ح 285) .(1/158)
وأما مالك (1) ، فإنه قال: التيمم يقع من اليدين على الكفّين ظهراً وبطناً، إلى المفصل. ورَوَى عن النبي عليه السلام بإسناده أنه قال لعمار بن ياسر: " التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة للكفين " (2) ، وقيل: إن مذهبه (3) قولٌ للشافعي في القديم. وهذا الخبر بعيدٌ عن قبول التأويل.
والمنصوص عليه في الجديد، وهو على الحقيقة المذهب، أن محل التيمم من اليدين كمحل الوضوء منهما؛ لما رَوى ابنُ عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " التيمم ضربتان ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين " (4) . وروي " أن النبي عليه السلام تيمّم فمسح بوجهه وذراعيه "، ولا يمكن حمل فعله في التيمّم على غير تأدية الواجب؛ فإن وضعَ الشرع في التيمّم على الاقتصار على مقدار الواجب على ما سيأتي ذلك مشروحاً في فعل التيمم
193- وأما الحديث الذي رواه مالك، فمُشكلٌ جدّاً، ووجه الكلام عليه أن الحديث مرويّ في مخاطبة عمّار بن ياسر، وقد رئي وكان يتمعك في التراب بسبب
__________
(1) ر. الإشراف: 1/158 مسألة: 106، عيون المجالس للقاضي عبد الوهاب: 1/213 مسألة: 60، حاشية العدوي: 1/202، 203، وجواهر الإكليل: 1/27.
(2) حديث عمار رضي الله عنه: متفق عليه بلفظ: "إنما كان يكفيك هكذا" فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفه ضربة على الأرض، ثم مسح به ظهر كفه بشماله، أو ظهر شماله بكفه، ثم مسح بها وجهه"، وترجم البخاري للحديث (باب التيمم ضربة) ، وأخرجه أحمد، وأبو داود، والدارقطني، والدارمي، والطحاوي، والبيهقي، وفي بعض طرقه: بلفظ ضربتين، كما وقع في بعض طرقه إلى المرفقين، ونقل الحافظ عن ابن عبد البر، أن كل ما روي عنه من ضربتين فيه اضطراب. ا. هـ ولكن صح أن التيمم ضربتان في غير حديث عمار، وسيأتي قريباً. هذا. ولم نجد حديث عمار في الموطأ. (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/75، 76 ح 207، والتلخيص: 1/153 ح 208، وإرواء الغليل: 1/184-186) .
(3) مذهبه: المراد مذهب مالك.
(4) حديث ابن عمر، رواه الدارقطني، والحاكم، والبيهقي، وأصح منه حديث أبي الزبير عن جابر، قال الحاكم، والذهبي: إسناده صحيح، وقال الدراقطني: رجاله كلهم ثقات. (ر. التلخيص: 1/151 ح 207، وانظر تعليق السيد عبد الله هاشم اليماني، بهامش التلخيص، والدارقطني: 1/180، 181، والحاكم في المستدرك: 1/179، 180، والبيهقي: 1/207، والطبراني في الكبير: 12/367 ح 13366) .(1/159)
الجنابة، ورأى أن يوصّل التراب إلى جميع البدن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يكفيك ضربة للوجه، وضربة للكفّين " والغرض قطعُ توهّمه في إيصال التراب إلى جميع البدن، فجرى كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة التقليل لمحل التيمّم، متذرِّعاً إلى إيضاح نفي الاستيعاب. ثم ليس يبعد أن يُعبّر ببعض الشيء عن الشيء، وإنما كان يجري الحديث نصّاً لو جَرّدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قصده في تبيين محل التيمم، فأمّا والغرض نفي الاستيعاب، والنهي عن التمعّك، فقد يتطرق إليه التأويل، كما ذكرناه.
والذي يقرب من ذلك، ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " فإذا وجدتَ الماء فأمِسَّهُ جلدك " (1) وهذا بظاهره يدل على أن أدنى الإمساس كافٍ، وإن كان مسحاً، ولكن لم يقع ذلك غرضاً في الحديث، وإنما المقصود منه استعمال التراب إلى وجدان الماء، فتلخص مذهب الشافعي من المذاهب.
والزهري اعتمد فيما زعم ظاهرَ القرآن، وجميع الأخبار التي ذكرناها تخالف مذهبه، وما تمسك به ظاهرٌ تُفسِّره نصوصُ الأخبار.
ثم الشافعي رأى حملَ مطلق اليد في التيمم على المقيّد في الوضوء بالمرافق، وهذا وإن لم يعتقده بعضُ الناس، فهو مما يغضّ من ظهور الظاهر.
وإذا سقط مذهبُ الزهري، تعارض الحديث من مذهب الشافعي، ومذهب مالكٍ. ومنتهى التصرّف فيه ما ذكرناه، وقد ينقدح في نُصرة مذهب مالك شيء، وهو أن استيعاب الساعدين بضربة واحدة فيه عسر، وإن اقتصر على الكفيّن، فهو هيّن.
وإذا تعارض في التعبدات مذهبان، فالتمسك بالأحوط أولى.
فصل
194- مضمون الفصل ذكرُ ما يجب استعماله في أعضاء التيمّم. فنقول:
__________
(1) حديث: "فإذا وجدت الماء، فأمسه جلدك" جزء من حديث أبي ذرّ الذي سبق آنفاً في صدر الباب.(1/160)
لا بد من نقل الطَّهور إلى الوجه واليدين، كما سنصفه، فلو ضرب يده على مدرٍ صلبٍ لا غبار عليه، ولم يعلق بيده منه شيء، أو على حجر صلدٍ، ومسح وجهه ويديه، لم يُجزه عندنا. ثم إذا وجب نقلُ شيءٍ، فالشرط أن يكون المنقول تراباً طاهراً خالصاً مطلقاًً، وشرح هذه الألفاظ يوضّح غرض الفصل.
فأمّا قولنا: ترابٌ، فيندرج تحته أصناف التراب -وإن اختلفت ألوانه- فمنها الأعفر، والأسود، وهو ما يستعمل في الدواء، والأصفر، والأحمر، وهو الطين الأرمني، والأبيض وهو المأكول من التراب، لا الجص.
وقال الشافعي (1) : والسبخ، والبطحاء، والسبخ التراب الذي لا ينبت فيه، وليس هو الذي يعلوه ملح؛ فإن الملح لا يجوز التيمم به. والبطحاء ترابٌ لين يكون في مسيل الماء، وليس رملاً.
وأما قولنا: ينبغي أن يكون طاهراً، فلا شك أن التيمم بالتراب النجس لا يُبيح الصلاة، وهو بمثابة التوضؤ بالماء النجس.
195- وأما قولنا: ينبغي أن يكون خالصاً، فالتفصيل فيه، أنه إذا اختلط بالتراب زعفران، أو دقيق، أو ما في معناهما، نظر: فإن ظهر المخالط على التراب -والمرعي في الغلبة أن يُرى- لا يجوز (2) التيمّم به. وإن كان ذلك المخالط مغموراً؛ لا يظهر، ففي التيمّم وجهان: أحدهما - الجواز؛ فإن المغمور كالمعدوم، اعتباراً بما يخالط الماء ويغمره الماء.
والثاني - لا يجوز التيمّم به؛ فإن المخالط، وإن قل يعلق بالوجه واليدين، والتراب كثيف لا يزحزحه، فتبقى أجزاءُ من محلّ التيمّم غيرُ ممسوسة (3) بالتراب.
وهذان الوجهان مبنيان على ما إذا اختلط بالماء الذي يقصر عن قدر الوضوء من الماورد ما كمله، ففي جواز الوضوء وجهان، ووجه الشبه أنّا في هذه الصورة نعلم
__________
(1) الأم: 1/43، ومختصر المزني: 1/28. والكلام هنا بمعناه لا بلفظه.
(2) جواب الشرط.
(3) في (د 3) : ممسوح.(1/161)
أن الماء لم يستوعب محلّ الوضوءِ، ولكن المخالط مغمور في الحسّ، كذلك التراب إذا خالط شيئاًً قليلاً، وارتفع المختلط بضرب اليد، [فلا] (1) يستوعب الترابُ محلَّ التيمّم.
ولو اختلط بالتراب فُتاتةُ أوراق، أو غيرُها، فالظاهر أنه ينزل منزلة الزعفران، وإن كان فيه تيسّر (2) التحرز منها؛ فإن التراب الخالصَ غيرُ مُعوزٍ؛ فيكفي غبرةٌ تَثُور من مخدّة أو غيرها. وللمعترض أن يقول: إذا جوّزنا التوضؤ بالماء الذي تغيّره مخالطةُ الأوراق الخريفية، فقد يجد المرء ماءً صافياً، ولا يلزمه العدول عن الماء المتغيّر إليه. وكان شيخي يتردّد فيما ذكرته من تنزيل الأوراق منزلة الزعفران.
196- وأما قولنا: ينبغي أن يكون مطلقاًً، فيتعلق به أمران: أحدهما - أن سُحاقة الخزف أصلها تراب، ولكنها لا تسمى تراباً مطلقاًً، فهي من التراب، وليست تراباً مطلقاًً، وكان شيخي يذكر وجهين في الطين المأكول إذا شُوي ثم سُحِقَ، والوجه عندي القطع بجواز التيمم، فإن هذا القدر من الشيّ لا يسلبه اسمَ التراب، بخلاف طين (3) الخزف والآجر؛ فإذاً الوجه الثاني غلط، غير معتدٍّ به.
والثاني: أن الماء المستعمل في رفع الحدث لا يجوز استعمالُه في ظاهر المذهب كما سيأتي.
والتراب المستعمل فيه وجهان: أحدهما - وهو المذهب أنه يمتنع استعماله ثانياً، كالماء، والثاني - يجوز استعماله أبداً؛ لأن الماء يرفع الحدثَ، فيجوز أن يتاثر، بخلاف التراب. وهو على الجملة ممّا يؤثِّر الاستعمالُ في تغييره؛ فامتنع استعماله، وإن لم يتغيّر، ثم التراب المستعمل هو الذي التصق بأعضاء التيمم، ثم تساقط وانتثر منه.
فهذا عقد المذهب فيما يجوز التيمم به.
__________
(1) في الأصل: ولا. والمثبت من (م) ، (ل) .
(2) (د 3) ، (م) : قد تيسر التحرز، و (ل) : قد يتعسر.
(3) (ل) : طبخ.(1/162)
197- فأما النُّورَة والزرنيخ وما أشبههما، فلا يجوز التيمم به، ومعتمد المذهب أن الربَّ تعالى ذكر الصعيدَ، فقال: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] واختلف المفسّرون فيه، فقال بعضهم: الصعيد ما يصّعد عن وجه الأرض، وقال بعضهم: صعيداً طيباً، معناه تراباً طاهراً، فصار هذا اللفظ من المجملات، فعوّل الشافعي على الحديث، وهو ما روي أنه عليه السلام قال: " جُعلت لي الأرض مسجداًً وترابها لي طهوراً ".
فخصَّ التراب، وقال: " التراب كافيك "، فوقع الاعتماد على اسم التراب، وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الطّهور في نعت التراب، فصرّح باعتبار الطهارة.
فهذا هو عقد المذهب.
فرع:
198- اختلف نصّ الشافعي في التيمم بالرمل، والذي ذهب إليه جماهيرُ الأصحاب تنزيلُ النصّين على حالين، فحيث منع، أراد الرمل الخالص الذي لا تراب فيه، وحيث جوّز، أراد الرملَ الذي يشوبه التراب.
فإن قيل: قد ذكرتم أن التراب إذا خالطه شيء، فظهر عليه، لم يجز التيمم بذلك المختلط، فما وجه التيمم برمل غالبٍ على تراب؟ قلنا: الرمل ثقيلٌ راسب، والتراب خفيف، فإذا ضرب الضارب يدَه على رملٍ فيه تراب، علا الترابُ وعبق (1) باليد، ولم يرتفع معه الرمل، والزعفران خفيف كالتراب، فالذي يرتفع يكون مختلطاً لا محالة، وذكر المحاملي أن من أصحابنا من جعل التيمم بالرمل على قولين، وهذا ضعيف لا أصل له.
فصل
199- قال الله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا} [المائدة: 6] ، ومعناه فاقصدوا، والذي صار إليه الأئمة أن من يريد التيمم لو برز لمهبّ الرياح حتى سفت الرياحُ الترابَ على وجهه ويديه، ونوى استباحة الصلاة، لم يصح تيممه، فلا بد من نقل التراب قصداً إلى أعضاء التيمم.
__________
(1) عَبِق: من باب لعب، وعَبِق به الطيب: لزق (القاموس) ، (م) ، (ل) : علق.(1/163)
ولو نقل التراب من رأسه، أو جزءٍ آخر من أجزاء بدنه من الموضع الذي ليس محلَّ التيمم إلى محل التيمم، صح ذلك.
ولو نقل التراب من يديه إلى وجهه، ففي جواز ذلك وجهان: أحدهما - الجواز؛ لأن النقل والقصد إليه قد تحقق. والثاني - لا يجوز؛ لأن محلّ التيمم كالشيء الواحد، وينبغي أن يكون النقل من غيره إليه.
ولو كان على وجهه غبار، فاكتفى بتَرْدِيده على الوجه، لم يكفه ذلك أصلاً؛ لأنه لم ينقل.
ولو مسح وجهه وعليه تراب بيديه، فعبق التراب بيده، ثم ردّه إلى وجهه، فقد كان شيخي يقطع بأن ذلك لا يجوز، وقطع غيرهُ بتخريج ذلك على الوجهين، وهو الوجه؛ فإن التراب إذا عَبِق باليد، فقد انقطع حكم الوجه عنه، فهو الآن تراب على اليد، وفي نقل التراب الذي على اليد إلى الوجه وجهان.
ولو يمّمه غيره، فإن كان معذوراً، وقد أذن في ذلك، صحّ، وإن لم يكن معذوراً، فأذن لغيره حتى يَمّمه، ففي المسألة وجهان.
وإن يمّمه غيره من غير إذنه، لم يجز، وكان كما لو برز لمهبّ الرياح، كما مضى، وإن أمكنه أن يمتنع، فلم يمتنع، ولكن لم يأذن، فالوجه القطع بالمنع؛ لما ذكرناه. ولو نقل وجهه إلى التراب فمعَّك فيه، فقد كان [شيخي] (1) يذكر فيه وجهين، وذكرهما بعض المصنفين. وقطع الصيدلاني وغيرُه القول بالجواز؛ فإن الأصل قصدُ التراب أخذاً من لفظ التيمّم، وقد تحقق ذلك بنقل أعضاء التيمّم إلى التراب، فلست أرى لذكر الخلاف في ذلك وجهاً.
وقد ذكر صاحب التقريب (2) وجهاً أن من برز لمهبّ الرياح قصداً، حتى سفت
__________
(1) في الأصل: الشيخ، والمثبت تقدير منا. وقد صدقته (ل) .
(2) صاحب التقريب، هو أبو الحسن: القاسم بن محمد بن علي بن إسماعيل القفال الشاشي، ابن القفال الكبير، وكنية الكبير أبو بكر، مثل كنية القفال المروزي. قال ابن خلكان: "صاحب التقريب، الذي ينقل عنه في (النهاية) والوسيط والبسيط. وقد ذكره الغزالي في الباب الثاني من كتاب الرهن، لكنه قال: أبو القاسم. وهو غلط صوابه: (القاسم) وأما =(1/164)
الرياحُ التراب على أعضاء تيمّمه، جاز ذلك؛ فإن القصد قد تحقق، وليس في الكتاب (1) تعرضٌ للنقل، والقصد إليه، وهذا وإن أمكن توجيهه، فليس معدوداً من المذهب.
فصل
200- مقصود هذا الفصل، القول في كيفية النيّة في التيمم.
وأصل الفصل أن التيمم لا يرفع الحدث، ولكنه يبيح الصلاةَ، والدليل عليه أن من أحدث أو أجنب وتيمم، ثم وجد ماءً، فيلزمه التطهر بالماء، على حسب ما تقدم من حدثه، فإن كان حدثه ناقضاً للوضوءِ، توضأ، وإن كان جنابةً، اغتسل.
والسببُ في التيمم أن من وجد الماء، فهو مأمور باستعماله لرفع الحدث، فإن لم يجده، وظّف الشارع عليه التيمم، ليدوم مرونُه على إقامة الطهر؛ إذ قد يدوم انقطاعه عن الماء الذي يجب استعماله أياماً، فلو تمادى انكفافه عن الطهارة -وهي ثقيلة- لاستمرّت النفس على تركها، فالتيمم إذاً لاطراد الاعتياد في هذه الوظيفة، فإذا ثبت ذلك، فلا ينبغي للمتيمم أن ينوي بتيممه رفعَ الحدث، ولو نواه، لم يصح تيمّمه أصلاً.
وحُكي عن ابن سُريج أنه قال: التيمم يرفع الحدث في حق فريضة واحدةٍ، فلو نوى الرفعَ، صح على هذا التأويل.
وهذا ضعيفٌ معدُودٌ من الغلطات؛ فإن ارتفاع الحدث لا يتبعّض، فلينو المتيمّمُ استباحة الصلاة، لتوافق نيَّتُه موجبَ الشرع، فتصحّ، ثم الطرق متفقة على أنه لو نوى بالتيمم استباحةَ الفريضة والنوافل، صحَّ منه إقامتها جميعاً.
والمذهب المقطوع به في طرق المراوزة أن تعيين الفريضة لا يشترط في نيّة التيمم.
__________
= كنية صاحب التقريب، فهي: أبو الحسن، ت نحو 400 هـ. (تهذيب الأسماء: 2/278، طبقات الشافعية: 3/472، ووفيات الأعيان: 4/200، 201) .
(1) الكتاب: المراد به (التقريب) .(1/165)
وذكر العراقيون وجهاً بعيداً أن التيمم لا يصح، ما لم ينو المتيمم صلاةً معيّنةً من الفرائض، ثم لا تجوز الزيادة عليها. وذكر الشيخ في الشرح هذا الوجه، وهو مُطَّرحٌ، لا التفات إليه.
201- ولو نوى بالتيمم استباحةَ الفريضة، ولم يتعرض للنافِلة، فالذي قطع به الصيدلاني أنه يتنفَّل بعد الفريضة، ولا حرج.
وهل يتنفّل قبل الفريضة؟ فعلى قولين: أحدهما -وهو المنصوص عليه في الأم- أنه يتنفل، وهو القياس؛ فإن الجمع بين الفريضة والنوافل جائز إذا نواه، فليجز، وإن لم ينوه اعتباراً بالوضوء.
ونصّ في الإملاء على امتناع ذلك، فإن النوافل إنما تؤدّى تبعاً للفريضة؛ إذ هو طهارةُ ضرورة [ولا ضرورة] (1) في النوافل، فإن تبعت، لم يعتد بها، ولا تتحقّق التبعيّة مع التقدم على الفرض المتبوع.
وكان شيخي يحكي قولاً ثالثاً: أن التنفل بعد الفرض لا يجوز، إذا كان المتيمم نوى الفرض، ولم يتعرض للنوافل، وهذا بعيد، لا يخرّج إلا على الوجه المزيّف في اشتراط التعيين، فهذا إذا نوى استباحة الفرض.
202- فأما إذا نوى استباحة النفل، ولم يتعرض للفرض، فهل يصلّي الفرضَ؟ فعلى قولين مشهورين، وينتظم توجيههما بما قدّمناه.
ثم قال الشيخ أبو علي في شرح التلخيص: إذا قلنا: يؤدي الفرضَ، فلا كلام.
وإن قلنا: لا يؤدي الفرض، فهل يؤدِّي النفلَ أم لا؟ فعلى وجهين: أحدهما - يؤديه، وهو القياس.
والثاني - لا يؤدّيه؛ لأن الأصل أن التيمم لا يصلح إلا للفرض الذي لا بد منه؛ فإنه شُرع للضرورة، فلئن كان التيمم يصلح للنفل مع الفرض للتبعيّة، فلو جُرّد [للنفل] (2) ، لكان ذلك مناقضاً لقاعدة الضرورة بالكليّة.
__________
(1) زيادة من: (د 3) ، (م) ، (ل) .
(2) في الأصل: للتيمم، وواضح أنها سبق قلم. وفي (د 3) ، (م) : "جرد التيمم، =(1/166)
وهذا الذي ذكره إنما كان يتجه لو كان يمتنع إقامة النوافل بالتيمم أصلاً؛ لانعدام الضرورة.
فإن قيل: فما الاعتذار عن هذا؟ قلنا: الأسفار تكثر، وإعوَازُ الماء فيها يعمّ، والانقطاع عن النوافل عظيم الوقع عند ذوي الدين، وركعتان خفيفتان خير من الدنيا وما فيها، وغاية المسافر [سفراً مباحاً] (1) أرباح يرقبها على تجايره (2) ، وكيف تطيب مع الانقطاع عن النوافل!
وعلى الجملة (3) ليست الضرورة المذكورة في التيمم إلا حاجة ظاهرة، وهذا متحقق في إقامة النوافل.
والذي يعضد ذلك أن إقامة النوافل على الرواحل جائزةٌ في السفر، حيث توجهت، وذلك كَيْلا تتعطّل أوقات المُرفَق (4) ، فكيف يليق بمحاسن الشريعة انقطاع النوافل في الأسفار.
فهذا حاصل القول في ذلك.
فرع:
203- إذا فرعنا على أن من نوى الفرض يتنفّل بعد الفريضة، فلو انقضى وقتُ الفريضة، فهل يتنفل وراء وقت الفريضة؟ ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - المنع؛ فإن التبعية تنقطع بانقضاء الوقت، وهذا ضعيفٌ؛ فإن النوافل لا اختصاص لها بالوقت.
فرع:
204- إذا نوى المتيمم استباحة الصلاة، ولم يتعرض للفرض والنفل،
__________
= لكان ... " وفي (ل) : النفل.
(1) في الأصل: وغاية المسافر سفر مباح. وهو سبق قلم، ولا نقول خطأ، فإن مثل هذا لا يخطىء فيه أحد. وطبعاً كانت (د 3) صواباً، وصدقتنا (م) ، (ل) .
(2) تجايره: أي تجارته. وفي (د 3) محاره رجوعه (المعجم والقاموس) والمعنى عند عودته من سفره.
(3) هنا خلل في ترتيب نسخة (م) ، حيث أقحمت صفحات سبع في غير موضعها.
(4) في (م) : المؤمن، (ل) : الموفق. والمرفق من هو محل الإرفاق، اي الإعانة، والمساعدة، والتيسير. وهو هنا صاحب الرخصة.(1/167)
فالوجه القطع بأن هذا بمثابة ما لو نوى استباحة الفرض والنفل؛ فإن الصلاة اسمٌ للجنس، يتناول الفرض والنفل.
فإن قيل: لو نوى المتحرم بالصلاة الصلاةَ، لم تنعقد صلاته إلا نفلاً، فهلاّ كان الأمر في نيّة الصلاة كذلك؟ قلنا: لا يتأتى الجمع بين الفرض والنفل في تحريمةٍ واحدة، فحُمل ما جرى من ذكرِ الصلاة على الأقل، والجمع بين الفرض والنفل بتميمٍ واحد جائز، فحمل ذكر الصلاة فيه على الجنس.
وقد سمعتُ شيخي يقول: إن نوى المتيمم الفرضَ والنفل، وعناهما بإجرائه ذكر الصلاة، أداهما، وإن لم يجر ذكر النوعين، فالصلاة المطلقة محمولة على النفل.
وهذه الفروع مخرّجة على ظاهر المذهب، وهو أن صحّة التيمم لا تفتقر إلى تعيين الصلاة.
فرع:
205- إذا نوى المتيمم إقامة فرضين بتيمم واحدٍ، ففي صحّة تيممه وجهان: أحدهما - لا يصح أصلاً، ولا يصلح لفرضٍ واحدٍ؛ فإنه أتى بالنيّة على خلاف موجب الشريعة، ففسدت؛ إذ لا معنى للفساد إلا الخروج عن موافقة الشريعة، فكأنه لم ينو أصلاً.
والثاني - أن تيممه يصح، ويصلح لفريضةٍ واحدةٍ؛ فإنه تعرض لفريضةٍ وزاد، فتفسد نيّته في الزيادة، وتنحصر في الفريضة الواحدة.
وهذا الخلاف يقرب من الخلاف في أن المتوضىء إذا نوى بوضوئه إقامة صلاةٍ واحدةٍ، دون غيرها، ففي صحة الوضوء وجهان؛ فإنه في قصره النية في الوضوء مخالف، كما أنه في التعرض للزيادة على فريضةٍ واحدةٍ مخالف، ولكن التيمم أولى بالفساد لضعفه.
فرع:
206- قد ذكرنا فيما مضى أن المتوضىء لو نوى بوضوئه إقامة الوضوءِ المفروض، جاز، وارتفع الحدث، ولو نوى بتيممه إقامة التيمم المفروض، ففي صحة التيمم وجهان: أحدهما - الصحّة؛ اعتباراً بالوضوء. والثاني - لا يصح، والفرق أن الوضوء قُربةٌ مقصودةٌ في نفسها؛ ولذلك استُحب تجديدُ الوضوءِ، والتيمم غير مقصودٍ في نفسه؛ ولذلك لا يستحب تجديد التيمم.(1/168)
فصل
في كيفية التيمم
207- لو أخذ المتيمم كفّاً من التراب، ومسح به وجهه، ثم أخذ كفّاً أو كفين، ومسح يديه، واستوعب، جاز. ولكن قد نُقِل من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله اختيار إقلال التراب، ثم إن الاستيعابَ لا بد منه، كما سنصفه مع الإقلال، فلا بد من تأنقٍ (1) فيه، فينبغي أن يضرب يديه ضربةً لوجهه، ولا نكلِّفه في الضربة الأولى أن يفرّج بين الأصابع؛ فإنه إنما يلقى وجهُه بطنَ الكف والأصابع، ولا يتأدّى فرضُ جزءٍ من اليد ما بقي جزءٌ من فرض الوجه، ثم اليدان يقربان من مقدار سعة الوجه، ويهون ترديد اليدين على الوجه، ولا خلاف أنه لا يجب إيصال التراب إلى منابت شيءٍ من الشعور، سواء كانت خفيفةً، أو كثيفةً؛ فإن إيصال التراب إلى منابت الشعور الخفيفة أعسر من إيصال الماء اللطيف إلى منابت الشعور الكثيفة.
ثم يضرب يديه على التراب، أو على ما يثور منه التراب ضربة ثانيةً، ويفرّج في هذه الضربة أصابعه، ثم يُلصق ظهورَ أصابع يده اليمنى ببطون أصابع يده اليسرى، بحيث لا يجاوز أطرافَ أنامل يده اليمنى المسبِّحةُ من يده اليسرى، ولا يجاوز المسبِّحةُ من يده اليمنى أطرافَ أنامل يده اليسرى، ويمُرّ يده اليسرى حيث وضعَها على ظهر ساعده اليمنى ومرفقه، ثم يقلب بطنَ ساعده اليُمنى على بطن كفّه اليسرى، ويحتوي باليد اليسرى على بطن الساعد من اليمنى، إلى حيث ينتهي الكفّ وبطونُ الأصابع وُيمرّ يدَه اليسرى كذلك، ويجريها على ظهر الإبهام من اليمنى، ثم يصادف الترابَ على يده اليمنى عتيداً (2) ، فليلصق يده اليسرى بيده اليمنى، ويُجري اليدَ اليمنى على يده اليسرى كما أجرى اليسرى على اليمنى، ثم يخلّل بين أصابعه، بحيث ينتهي المسح إلى جميع خلل الأصابع. فهذا كيفية التيمم.
والذي ذكرناه ليس بمنصوصٍ عليه في توقيف الشارع، ولكن ثبت أنا مأمورون
__________
(1) تأنق في الشيء، أتقنه وجوَّده. (المعجم) .
(2) العتيد: المهيأ والحاضر (المعجم) .(1/169)
بالتقليل، واعتقدنا -مع التقليل والاقتصارِ على ضربتين- وجوبَ الاستيعاب، فكان [هذا] (1) أقربَ مسلك يجمع الاستيعابَ، والتقليلَ، والاكتفاء بغبرةٍ تلصق باليد، في ضربتين.
فهذا ما ذكره الأئمة.
208- ثم في الفصل غائلةٌ لا بد من التنبيه عليها، وهى أن الضربة الثانية إذا ألصقت غباراً بالكفين، فالظاهر أنه يصل ما لصق بالكف إلى مثل سعتها من الساعدين، ولست أرى أن ذلك الغبار ينبسط على الساعدين ظهراً وبطناً، ثم على ظهور الكفين. وقد ورد في الشرع الاقتصار على ضربتين، وهذا مشكل جداًً، ومنه ثار خلافٌ بين العلماء، واضطربت لأجله طرقُهم.
فأما أبو حنيفة (2) ، فإنه صار إلى أن المتيمم لو أغفل ربعاً من كل يدٍ، وربعاً من الوجه، جاز، ونظر إلى اقتصار الشارع على ضربتين، وعلم -فيما زعم- أن الاستيعاب لا يتأتى، ولا يحصل مع الاكتفاءِ بضربتين، فاعتقد جواز الإغفال، ثم ذكر الربعَ تقريباً.
وأما مالك، فإنه قال: الضربة الأولى قد تستوعب الوجه، والضربة الثانية تستوعب الكفين ظهراً وبطناً، ولا يجب مسح الساعدين أصلاً، وقد ذكرنا أن ذلك قولٌ للشافعي.
وأما ما اعتقده أبو حنيفة فغير مرضيّ من جهة أنه لا يوجب نقلَ شيءٍ إلى محل التيمم، بل يقول: لو ضرب يده على صخرة صماء، ولم يعبق شيء بيده، جاز، ولا يمتنع استيعاب الساعدين مسحاً باليد، وإنما الممتنعُ بسطُ غبارٍ عليهما، فإذا كان لا يوجب نقلَ شيء، فلا تفصيل في مُحاولة بسط ما لا يجب نقله، ثم الربع مقدارٌ تحكم به من غير توقيف.
__________
(1) مزيدة من (م) .
(2) هذه رواية عن أبي حنيفة، ر. المبسوط: 1/107، البحر الرائق شرح كنز الدقائق: 1/152. والبدائع: 1/46، وفتح القدير: 1/111.(1/170)
209- وأما ما ذكره الشافعي في الجديد، فمشكل جداًً؛ فإن الغبار لا ينبسط (1) على الساعدين قطعاًً، فلا يتجه إلا مذهبان: أحدهما - القول القديم الذي هو مذهب مالك، فيتأتى عليه تقدير بسط الغبار في الضربتين على الوجه والكفين.
والمسلك الثاني - أن نوجب إثارة الغبار، ثم نكتفي بإيصال جرم اليد مسحاً إلى الساعدين، من غير أن نتكلف بسطَ التراب في عينه. والذي ذكره الأصحاب أنه يجب إيصال التراب إلى جميع محل التيمم يقيناً، ولو تردّد المتيمم في ذلك، وأشكل عليه، وجب إيصال التراب إلى موضع الإشكال، حتى يتيقن انبساطَ التراب على جميع المحلّ، وهذا على القطع منافٍ للاقتصار على الضربة الثانية؛ فإن الاقتصار عليها يوجب عدم الانبساط ضرورة وقطعاً، وليس قصور التراب مع غاية [التأتي] (2) أمراً يتفق على ندور، بل هو أمر لا بد منه، فالذي يجب اعتقاده أن الواجب استيعاب جميع المحلّ بالمسح باليد المغبّرة، من غير ربط الفكر بانبساط الغبار.
وهذا شيء أظهرته (3) ، ولم أر بداً منه، وما عندي أن أحداً من الأصحاب يسمح بأنه لا يجب بسط التراب على الساعدين.
210- ثم قد ذكر المزني فيما نقله أنه يضرب يديه ضربة للوجه أولاً، ولا يفرق بين أصابعه، واتفق أئمتنا على أن تفريق الأصابع في الضربة الأولى لا معنى له؛ فإن التراب اللاصق بخلل الأصابع في الضربة الأولى لا يصير مستعملاً في الوجه، وإنما ينتهي إلى الوجه ما لصق بالكفين، فأما تفريق الأصابع في الضربة الثانية، فمفيد؛ فإنه قد دخل أوان إقامة فرض اليدين، ويجب إيصال المسح إلى خلل الأصابع.
ثم كان شيخي يحكي عن القفال: إنه إذا عبِق الغبارُ بخلل الأصابع في الضربة
__________
(1) انتهى الخلل في ترتيب (م) .
(2) تأتى للأمر: ترفق له، وأتاه من وجهه. (المعجم) وهي في النسختين (التأتّي) ولكنا قدرنا أن ذلك من تصحيف النُّساخ، وعدلنا إلى (التأتي) بالتاء، فهذا هو الأقرب لأسلوب إمام الحرمين، والأشبه بلغته. وهو قالها بالتاء إن شاء الله. ثم صدقتنا (ل) .
(3) يصرح إمام الحرمين بخروجه على المذهب، وأن أحداً من الأصحاب لا يسمح بما سمح به.(1/171)
الأولى، ثم لم ينفض حتى ركب ذلك الغبار غبارٌ في الضربة الثانية، فلا يصح التيمّم؛ فإن الغبار الأول يمنع الغبارَ الثاني، ولا يمكن الاكتفاء بذلك الغبار؛ فإنه في حكم غبار حصل على المحلّ، ثم رُدّد عليه من غير فرض نقل إليه، في أوان فرض النقل.
وهذا لم يذكره الصيدلاني وغيره من أصحاب القفال.
وهو عندي غلوٌّ ومجاوزة حدٍ، وليس بالمرضي اتباع شَعْب (1) الفكر، ودقائق النظر في الرخص، وقد تحقق من فعل الشارع ما يشعر بالتسامح فيه؛ ولم يوجب أحد من أئمتنا على الذي يَهُم بالتيمم أن ينفض الغبار عن وجهه ويديه أولاً، ثم يبتدئ بنقل التراب إليها، مع العلم أن المسافر في تقلباته لا يخلو عن غبار يرهَقه (2) ، فلنقتصر على أن تفريج الأصابع في الضربة الأولى ليس بشرط، وليس لاشتراطه معنىً.
211- وذكر الشيخُ وجهين في أن المتيمم إذا كان يُجري إحدى يديه على الأخرى، فرفع يده قبل استيعاب العضو، ثمَّ أراد أن يعيدها إلى موضعها لاستكمال الاستيعاب هل يجوز ذلك؟ وجهان: أحدهما - لا يجوز؛ لأن التراب الباقي على اليد يصير بالفصل (3) مستعملاً، فإذا ردّ اليدَ كان ما ردّه مستعملاً.
والثاني - يجوز، وهو الأصح؛ فإن المستعمل هو الذي بقي على العضو الممسوح، والباقي على اليد في حكم التراب الذي يضرب عليه اليد مرتين. وهذا ظاهر.
والذي أثار هذا الخلاف أن الذي يفضل [على] (4) اليد يُعلم أنه قد ينتثر مما اتصل بالعضو الممسوح شيءٌ، ويختلط بالباقي على اليد، فيكون قد اختلط المستعمَل بغير المستعمَل، والله أعلم.
__________
(1) الشعْبُ: التفَرّق، من شعَب الشيءُ يشعَب شعْباً: تفرّق. (المعجم) .
(2) رهِقه يرهَقه: غشيه. (المعجم) .
(3) في (د 3) و (ل) : "بالفضل" بالضاد المعجمة.
(4) زيادة من (ل) .(1/172)
فصل
قال: " ولو نَسي الجنابةَ، فتيمَّمَ للحَدَثِ أجْزَأَه [لأنَّه لو ذَكرَ الجَنَابةَ، لم يكنْ عليه أكثرُ من التيمُّم] ، فإذا تيمَّمَ ونوَى استباحةَ الصَّلاة من الحدَث، ثم تبيّن أنَّه كان جنباً، لم يضرّه الغلط ... إلى آخره " (1) .
212- وقد عللّ المزني ذلك بعلّةٍ غيرِ مَرضيّةٍ (2) ، وليس يتعلق ذكر غلطه بغرض فقهيّ؛ فلا نتعرض له.
والعلة السديدة أن التيمم لا يرفع الحدث، سواء ذكر على الصواب، أو على الخطأ، وإنما مقصود النيّة استباحة الصلاة، ولا احتفال بذكر غيرها بوجه من الوجوه.
وقد ذكرت هذا فيما جمعناه من كلام الأصحاب في باب النيّة للوضوء، فلا حاجة إلى إعادته.
فصل
213- المتيمم إذا وجد الماء خارج الصلاة، وتمكّن منه، بطل تيممه، وقال أبو سلمة بنُ عبد الرحمن (3) : لا يبطل تيممه ما لم يُحدث، والتيمم عنده رافع للأحداث.
وما ذهب إليه جماهيرُ العلماء بطلان التيمم، والدليل عليه ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: " فإذا وجدت الماء، فأمسِسْه جلدك " (4) ولم يقل: فإذا وجدت الماء وأحدثت، فأمسِسْه جلدَك.
__________
(1) مختصر المزني: 1/30. وما بين المعقفين زيادة من نص المختصر.
(2) علل المزني ذلك بأنه ليس على المحدث عندي معرفة أي الأحداث كان منه، ولا يضر الغلط في تعيينها (ر. المختصر: 1/30) .
(3) أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، من فقهاء المدينة، أخذ عن زيد بن ثابت، قال الزهري: أربعة وجدتهم بحوراً: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعبيد الله بن عتبة بن مسعود، مات سنة 94 هـ وقيل سنة 104 هـ وهو ابن ثنتين وسبعين.
(ر. تهذيب التهذيب: الكنى، وطبقات الشيرازي: 48، 61) .
(4) سبق ذكر هذا الحديث فقرة: 191.(1/173)
وإذا تيمم وصلَّى، ثم وجد الماء بعد الفراغ من الصلاة، لم يلزمه قضاء الصلاة.
وقال طاوس (1) : إن كان وقت الصلاة باقياً، فيلزمه إعادة الصلاة، فأما الصلاة التى مرت مواقيتُها في إعواز الماء، فلا تجب إعادتها.
وقد أرى في بعض الفصول حكايةَ مذاهب السلف لغرضين: أحدهما - أني أرى مذهبين في طرفي النفي والإثبات، ومذهب الشافعي يتوسّطهما.
والثاني - أن من الأحكام ما يظن معظم الناس أنه متفق عليه، فأحكي فيه خلافاًً أصادفه لمقصودٍ في التفريع (2) .
214- فأعود إلى تفصيل المذهب وأقول: لو رأى المتيمم ماءً خارج الصلاة، ورأى معه ما يمنع الوصولَ إليه من سبُع أو غيره، فالتيمم لا يبطل، ووجود الماء الذي رآه وعدَمُه بمثابةٍ واحدةٍ.
ولو رأى ماءً، وظنه مقدوراً عليه، ثم استبان مانعاً دونه، فقد بطل تيممه أولاً، فإذا ظهر له أن الماء غيرُ مقدورٍ عليه، لزمه إعادة التيمم، والطرق متفقة على هذا.
ولو طلع على المتيمم ركبٌ، فعليه طلبُ الماءِ منهم، وإن لم يجد، بطل تيممه، فيعيده.
ولو تراءى له سرابٌ، فحسبه ماء، ثم تبين له، بطل تيممه.
ولو رأى المتيمم ماءً في قعر بئرٍ، وعلم أنه [لا دلو معه، ولا رِشاء، لم يبطل تيممه؛ لأنه] (3) [كما رأى الماء علم أنه] (4) غيرُ متمكن منه.
ولو ظن أن في رحله دَلواً ورِشاءً، فلما طلب، لم يجد، بطل تيممه.
__________
(1) طاوس بن كيسان اليماني، أبو عبد الرحمن الحميري، مولاهم، وقيل الهَمْداني، مولاهم، كان يسكن الجند بفتح الجيم والنون بلدة معروفة باليمن، من كبار التابعين، تكرر ذكره في المختصر، وله ذكر في المهذب. توفي بمكة سنة ست ومائة (106 هـ) وكان له بضع وسبعون سنة (ر. تهذيب الأسماء واللغات: 1/251 رقم 269) .
(2) تنبه لطرف من منهج الإمام، وسرّ حكايته مذاهب السلف أحياناً.
(3) زيادة من: (د 3) ، (م) ، (ل) .
(4) زيادة من (ل) وحدها. و (كما) هنا بمعنى عندما.(1/174)
فإذاً عقدُ المذهب أن التمكن من استعمال الماء يُبطل التيمم، وكذلك حسبان التمكن يُبطله، وإِن تبين أن الأمر على خلاف ما ظن.
ولو وجب على المتيمم طلبُ الماء، ثم طلب، فلم يجد، بطل تيممه.
فأما بطلانه بالتمكن من استعمال الماء، فمستفاد من الحديث، كما سبق.
215- وأما تعليل البطلان بوجوب الطلب، وحسبان التمكن، فنقول: التيمم طهارة ضرورة، والذي يليق بالضرورة أن يحكم بصحة التيمم ابتداء ودواماً، إِذا كان المتيمم بحيث يصح منه الإِقدام على الصلاة بالتيمم، فإِذا وجب الطلب، لم يجز للمتيمم [أن يصلي في تلك الحالة، فإِذا لم يجد، وانكشف الظن، فقد بطل التيمم] (1) بطروء حالة امتنع فيها الصلاة بالتيمم.
وهذا له استناد إِلى أن التيمّم لا يصحّ من غير تقديم الطلب، كما سيأتي.
فلو تيمم ثم طلب الماء، لم يصح تيممه؛ فالأصل في ذلك أن بطلان التيمم لا يتوقف على طريان الحدث، وهو في نفسه غيرُ رافع للحدث، وهو طهارة ضعيفة منوطة بالحاجة.
فإِن قيل: المتيمم إِذا أصابته نجاسة، أو عدم ما يتستر به، ثم وجد ساتراً، أو ثوباً طاهراً؛ فقد امتنعت الصلاة بما طرأ، وإِذا أزال المانع، لم تجب إِعادة التيمم.
قلنا: المانع الذي فرضه السائل لا اختصاص له بالتيمم، ووجوب طلب الماء مختصٌّ بالتيمم، فقد سقط أثر التيمم بمعنىً مختصٍّ به، فكان سقوط أثره مبطلاً له.
ويقرب مما ذكرناه أن المسافر إِذا نوى القصر، ثم شك في صلاته، فلم يدرِ أنوى القصر أم لا، [ثم] (2) لم يَدُم الشك، بل كما (3) طرأ وخطر، زال، فيجب الإِتمام، ويبطل القصر بخَطْرةٍ زالت؛ لأن الأصل الإتمام. كذلك الأصل استعمال الماء، فإِذا وَهَت الرخصة بطريان تردُّدٍ، بطلت.
فهذا كله فيه إِذا رأى المتيمم الماء خارج الصلاة.
__________
(1) زيادة من نسخة أخرى بهامش الأصل، ومن نسخة: (د 3) ، (م) ، (ل) .
(2) زيادة من: (د 3) ، (م) ، (ل) .
(3) كما بمعنى عندما.(1/175)
216- فأمّا إذا تحرَّم بالصلاة، ورأى الماء فيها، فالذي نص عليه الشافعي أن التيمم لا يبطل، والصلاة لا تبطل (1) .
وذكر ابن سُريج وجهين في أن المستحاضة إذا شُفيت في أثناء الصلاة، فهل تبطل صلاتُها بانقطاعِ ضرورتها؟
ومذهب المزني أن التيمم يبطل برؤية الماء في أثناء الصلاة، وقد ذهب بعض أصحابنا إلى تخريج قولٍ موافقٍ لمذهب المزني من مسألة المستحاضة؛ فإنها إذا شفيت، فقد زالت ضرورتُها، كذلك المتيمم إِذا تمكن من استعمال الماء، والأظهر القطع بأن صلاة المتيمم لا تبطل.
وإِنما الخلاف في المستحاضة، والفرق أن المستحاضة تجددت عليها أحداثٌ بعد الطهارة، فإذا شُفيت، تعيّن عليها السعي في رفعها؛ إذ (2) تمكنت، والمتيمم لم يتجدد عليه حدث (3) ، والصلاة عاصمةٌ مضنون بها؛ ومن احتاج في تحصيل الماء خارج الصلاة إلى بذل درهمٍ، وهو مغبون فيها، لم يبطل تيممه، فبطلان الصلاة أحقّ بأن يُتوقّى، فكأن المتيمم غيرُ متمكنٍ من استعمال الماء.
217- ثم إِذا ثبت هذا، فإن أراد المتيمم أن يتمّم الصلاة المفروضة التي هو فيها، فعل، وإِن أراد أن يقلبها نفلاً، جاز، فيصلّي النفل، ثم يتوضّأ، ويفتتح الفريضة.
واختلف أصحابنا في أن الأوْلى ماذا؟ فمنهم من قال: الأولى إِتمامُ الفريضة؛ لأنه التزمها بالشروع فيها.
ومنهم من قال: الإضراب عن الفريضة أولى؛ للخروج عن الخلاف.
وقد رأيت للقاضي أبي الطيب الطبري (4) في كتابه المترجم بالمنهاج: أن من
__________
(1) ر. المختصر: 1/31.
(2) في (د 3) : أو، وفي (م) : إذا. ونصّ ابنُ مالك على أن (إِذ) تستعمل بمعنى (إذا) .
(3) في (د 3) : حدوث.
(4) القاضي أبو الطيب الطبري: طاهر بن عبد الله بن طاهر بن عمر: الإمام الجليل، أحد حملة المذهب ورفعائه، نسبته إلى طبرستان، ثم البغدادي، تفقه بأئمة عصره في آمل، ثم نيسابور، ثم بغداد، وفيها حضر مجلس الشيخ أبي حامد الإسفراييني. وعنه أخذ العلم خلق =(1/176)
أصحابنا من منع إِبطال الفريضة، وأوجب إِتمامها.
وهذا وإن كان يتجه في الخلاف، فلست أراه من المذهب، ولا أعتدّ به.
وكان شيخي يقول: لا ينبغي أن يخرج من الصلاة فيُحبطَ عملَه، بل ينبغي أن يقلبها نفلاً، ثم كان يردّ الخلاف في الأوْلى إِلى هذا، ويقول: من أصحابنا من قال: إِن إِتمامها على الفرضية أوْلى، ومنهم من يقول: قلبها نفلاً أولى.
وذكر العراقيون (1) هذا الخلاف في الخروج من الصلاة أصلاً، فقالوا: من أصحابنا من قال: الخروج من الصلاة أوْلى؛ فإِن من العلماء من حرّم الاستمرار على الصلاة بعد رؤية الماء، وهذا يطّرد في الفرض والنفل؛ فإِنهما لا يختلفان فيما يتعلق بالطهارة.
ومنهم من قال: إتمامها فرضاً أولى، ولم يتعرضوا لقلب الصلاة نفلاً.
والمراوزة لا يمنعون الخروج من الصلاة من غير قلب، في حق من رأى الماء في الصلاة.
وهذا [الفصل] (2) فيه أدنى استبهامٍ.
218-[وأنا] (3) وراء التنبيه، فليتخذ الناظر مسألة أذكرها أصلاً: وهو أن المسافر الذي يجوز له أن يفطر لو أصبح صائماً، ثم أراد أن يُفطر، فله ذلك؛ فإِن الشروع لا يُلزم عندنا شيئاًً إلا في الحج؛ ولهذا قلنا: الشارع في صوم التطوع، وصلاة التطوع، لا يلزمه إتمامُ ما شرع فيه.
__________
= كثير، وأخص تلاميذه وأشيعهم ذكراً الشيخ أبو إِسحاق الشيرازي. شرح مختصر المزني، وصنف في المذهب والخلاف، والأصول والجدل، مات عن سنتين ومائة، سنة 450 هـ، لم يختل عقله، ولا تغير فهمه، يفتي مع الفقهاء، ويستدرك عليهم، ويقضي ويشهد، ويحضر المواكب بدار الخلافة، وهو المعني في فن الفقه (بالقاضي) عند إطلاق الشيخ أبي إسحاق الشيرازي وغيره من العراقيين. والمعني بالقاضي عند المراوزة (الخراسانيين) هوالقاضي حسين (ر. تهذيب الأسماء واللغات: 2/246، طبقات الشيرازي: 127، طبقات السبكي: 5/12 وما بعدها) .
(1) في (م) : " ذكر العراقيون على هذا الخلاف ".
(2) مطموسة في الأصل. والمثبت من: (د 3) ، (م) ، (ل) .
(3) في الأصل: " وأما " والمثبت من: (د 3) ، (م) ، (ل) .(1/177)
وأنا أقول: من شرع في الصلاة في أول الوقت، فالذي أراه أنه لو أراد ان يقطعها، قطعها؛ فإنه لا تجب بأول الوقت وجوباً مضيَّقاً، فالأمر موسَّع بعد الشروع، كما كان موسّعاً قبل الشروع، اعتباراً بمسألة الفطر.
ومن لزمته فائتة غيرُ مضَيَّقة، فشرع فيها، فما قدمته من القياس يقتضي جوازَ الخروج من الفائتة؛ فإنّها على التراخي.
والذي أراه أن من شرعَ في صلاة الجنازة، فله التحلل منها، إذا كانت الصلاة لا تتعطّل بتحلّله، طرداً لما ذكرتُه.
ومصداق هذا من نص الشافعي أنه قال: " من تحرّم بصلاةٍ على الانفراد، ثم وجد جماعةً، فله أن يخرج عن صلاته، ليدرك الجماعة "، ولو كان الخروج ممتنعاً، لما جاز بسبب إِدراك فضيلةٍ.
نعم، لو شرع الإنسان في الصلاة المفروضة في آخر الوقت، فلا سبيل إلى الخروج أصلاً؛ فإن الواجب قد ضاق وقته؛ إِذ يجب البدارُ إِليه إقداماً (1) ؛ فلا يجوز الخروج منه.
والذي أراه أن المتيمم إذا رأى الماء في الصلاة في آخر الوقت، لم يجز له الخروج أصلاً.
219- وهذه فصولٌ رأيتها، فابتديتها (2) ، وما عندي أن الأصحاب يسمحون بهذا (3) ، ويجوّزون للشارع في فائتةٍ الخروجَ منها، من غير عذرٍ، إذا كانت الفائتة
__________
(1) أي مسرعاً. أقدم على العمل: أسرع في إنجازه، بدون توقف. (المعجم) .
(2) أي لم أسبق إليها.
(3) هكذا يعلن، ويؤكد أنه في هذا مخالف للمذهب، "وأن الأصحاب لا يسمحون بهذا".
وقد تبع الغزالي شيخه في الوسيط، فجزم بجواز قطع الفريضة، في أول وقتها، والمقضية على التراخي، وقد تعقبه النووي قائلاً: " أوهم الغزالي بعبارته أن هذا مذهب الشافعي والأصحاب، وليس كذلك، وإنما هو احتمال لإمام الحرمين، كما ذكرته" ثم قال: " إن الغزالي لم يتابع الإمام في البسيط، بل حكى كلام الإمام، ثم قال: وليس في الأصحاب من يسمح بذلك في القضاء، وصلاة الوقت، وإن كان في أول الوقت " ثم عقب النووي قائلاً: " وهذا الذي ذكره في البسيط هو الصواب، وليته قال في الوسيط مثله " ر. المجموع: =(1/178)
على التراخي، ولكن القياس [عندي ما ذكرته] (1) ولو نوقض فيه، ينتثر النظام، ولم يبق للمذهب رابط.
220- ولو رأى المتيمم الماء في الصلاة، وآثر إتمامها، فتلف الماء وهو في الصلاة، فإِن علم هو بتلفه وهو في الصلاة، فإِذا تحلّل منها، فهو على تيمّمه، (وإِن بقي الماء حتى تحلّل، بطل تيممه) (2) ، كما (3) تحلّل.
ولو أريق الماء الذي رآه في الصلاة، وهو لم يشعر، فلما تحلّل أخذ يطلبه، بطل تيمّمه؛ تخريجاً على القاعدة في أن المتيمم إِذا وجب عليه الطلب، بطل تيممه.
ولو تحرم المسافر بالصلاة بالتيمم، ثم نوى الإقامة في أثناء الصلاة، فإنه يتمّم الصلاة، ولكن حكمه حكم مقيمٍ، [يتيمّم] (4) في الحضر عند عدم الماء نادراً، ففي وجوب القضاء قولان، سيأتي ذكرهما. وهذا إذا لم ير الماء.
فأما إذا رأى الماء في خلال الصلاة المفروضة، ونوى مع ذلك الإقامة، فقد قال صاحب التلخيص: تبطل صلاتُه؛ لانضمام نية الإقامة إلى رؤية الماء.
ومن أصحابنا من قال: لا حكم لرؤية الماء، وهو كالمعدوم، فتجرّد حكمُ نية الإقامة، وقد مضى حكمها.
221- ولو رأى المتنفل الماء في صلاته، فالذي ذهب إليه المعظم أنه يتمّم إِذا أراد.
وقال ابن سريج: ينقطع النفل بخلاف الفرض.
فإن قلنا: لا ينقطع، فإن كان نوى ركعتين أتمهما، وإن كان نوى أربعاً، فهل
__________
= 2/315، 316، والوسيط: 2/451.
(1) في الأصل: ولكن القياس، ولو نوقض فيه عندي. والمثبت من (د 3) ، (م) ، (ل) .
(2) ما بين القوسين ساقط من (د 3) .
(3) أي (عندما) ، وهذا الاستعمال وارد كثيراً في لغة إمام الحرمين وغيره من الخراسانيين.
(4) في الأصل: تيمم. وفي (د 3) : ولكن حكمه مقيم في الحضر. والمثبت تقديرٌ منا، صدقته (م) ، (ل) .(1/179)
يتعيّن الاقتصار على ركعتين؟ فعلى وجهين، فإن قلنا: له أن يتمم أربعاً، [فلو رأى الماء، وكان نوى ركعتين، فنوى أن يتمم أربعاً] (1) فالمذهب أنه ليس له ذلك؛ فإنه في حكم مفتتح نفلاً مع وجود الماء، ولذلك تفتقر الزيادة إلى قصد إليها.
ومن أصحابنا من جوّز الزيادة، من حيث إن الزيادة مع المزيد عليها في حكم صلاةٍ واحدةٍ، وهي بمثابة تطويل الصلاة مع وجود الماء.
فصل (2)
222- ذكر الشيخ أبو علي في الشرح فصلاً في الرّدة، له أدنى تعلّق بما نحن فيه، فنَسردُه على وجهه. ونقول:
المتيمم إذا ارتدّ بعد فراغه عن التيمم، ثم عاد إِلى الإسلام، فهل تلزمه إِعادة التيمم؟ فعلى وجهين.
ووجه تعلق هذا بما قدّمناه أنه لما ارتدّ، فقد انتهى إلى حالةٍ يمتنع عليه الصلاةُ فيها، فأشبه ما لو طلع ركبٌ، فطلب الماء ولم يجد.
والثاني - لا يبطل تيمّمه؛ فإِنّ تعذّر الصلاة بالردّة لا اختصاص له بالتيمّم، وإنما هو لزوال الإيمان، وهو شرط صحة الصلاة.
والمتوضىء إذا ارتدّ بعد الفراغ من الوضوء، لم يبطل وضوؤه على ظاهر المذهب، وذكر الشيخ فيه وجهاً بعيداً، وهو غلط عندي، وقطع بأن الغُسل لا يبطل بطريان الردة بعده بلا خلاف، ولو ارتدّ المتوضىء في أثناء وضوئه، فإن أتى بشيء من الوضوء وهو مرتدّ لم يعتدّ به، وإِن لم يأتِ بشيءٍ، وعاد إِلى الإسلام، فإن قرب الزمان، ولم ينته إلى حد التفريق، ففيه وجهان مأخوذان من التفريق، فإن أوجبنا الموالاة، فقد حكمنا بأن الطهارة تحت رابطة جامعةٍ، فالردّة تنقضها، وإن حكمنا بأن الموالاة، ليست رُكناً في الطهارة، فكأن كل ركن منها عبادة على حيالها.
__________
(1) زيادة من (م) ، (ل) .
(2) في (م) فرع.(1/180)
ولو ارتد، وطال الزمان، فقد اجتمع التفريق وطريان الردة، فيخرّج على الخلاف مرتباً على ما تقدم.
وسنذكر نظير هذا في الأذان في كتاب الصلاة، إن شاء الله تعالى.
فصل
قال: " ولا يجمع بالتيمم بين [صلاتي فرض] " (1)
223- المتيمم لا يجمع [بين] (2) صلاتين مفروضتين بتيمم واحد.
وضبط المذهب فيه أن التيمّم طهارة ضرورة، فلا يؤدَّى به ما يؤدَّى إِلا على قياس اتباع الضرورة، ومساق هذا يقتضي أن يجدّد تيمماً لكل فريضة.
ثم مذهب الشافعي أن المتيمم يجمع بين فريضةٍ وما شاء من النوافل، وهذا يخرم الضبط من وجهين: أحدهما - أنه لو قيل: لا ضرورة في إقامة النوافل بالتيمم، فينبغي ألا يجوز إقامتها بالتيمم. فالجواب عن هذا سهل، وقد سبق من تقرير الجواب في ذلك ما فيه مقنع.
والثاني - أن النوافل فيما يتعلق بالطهارة كالفرائض، وكان لا يبعد في القياس أن يتيمّم لكل نافلة كما يتيمّم لكل فريضةٍ.
وقد ذكر بعض المصنفين رمزاً إلى ذكر خلاف؛ فإِنه قال: المذهب أنه يجمع بين فريضة ونوافل بتيمّم، وهذا إشعار بخلافٍ، ولا معوّل على هذا أصلاً.
فإذاً وجه التعليل فيه أن النوافل تابعةٌ للفريضة، فكأنها غيرُ منقطعةٍ عنها، وقد صح في الحديث أنها جبرانٌ لنقصان الفرائض، وهي بمثابة إكمال الفريضة بسنّتها وآدابها، والمتيمم لا يكلف أن يقتصر في الفريضة على ما لا بد منه، ثم النوافل بعضها مع بعض في حكم صلاةٍ واحدة؛ إذ لو أراد أن يجمع مائة ركعة تحت تحريمةٍ واحدةٍ، جاز،
__________
(1) ر. مختصر المزني: 1/33، وفي الأصل: بين صلاتين مفروضتين. والتصويب من نص المختصر ومن (م) ، (ل) ، (د 3) .
(2) زيادة من (د 3) ، (م) ، (ل) .(1/181)
فكأنها -وإن تفصّلت، وتعدّدت- في حكم صلاةٍ واحدةٍ. فهذا منتهى الإمكان.
224- وفي الجمع بين صلاتين منذورتين، وصلاةٍ مفروضةٍ وأخرى منذورة قولان [وهذا تخريج على أنَّ المنذور هل يقام مقام المفروض شرعاً، وفيه قولان] (1) ، سيأتي بيانهما في كتاب النذور - إن شاء الله تعالى.
والمقدار الذي يذكر للإيناس: أن من نذر صلاة، فأراد إقامتها قاعداً، مع القدرة على القيام، فهو يخرج على القولين.
ولو جمع بين مفروضة وصلاة جنازة، فقد نصَّ الشافعي على جواز ذلك (2) ، ونصّ على أن صلاة الجنازة لا تقام على الراحلة، ولا تقام قاعداً مع القدرة على القيام، فاضطرب الأئمة في هذين الأصلين، ونحن نذكر كلَّ حكم على حياله.
225- فأما الجمع، ففي الجمع بين فريضة، وصلاة جنازة، وبين صلاتي جنازة بتيمم واحدٍ أوجه: أصحها - جواز الجمع؛ فإن الصلاة على الميت، وإن كانت من فروض الكفاية؛ فهي كالنافلة، في أنه لا يجب الإقدام عليها، إذا قام بها من فيه كفاية.
والوجه الثاني - أنه لا يجوز الجمع؛ فإنها إذا تمت، تكون واقعةً فرضاً.
والثالث - أنها إن تعيّنت، بألا يكون مع الإنسان -إذا مات رفيقُه- أحدٌ، فيتعيّن الصلاة عليه، فإذا أراد والحالة هذه أن يجمع بين فريضة وصلاة الجنازة، لم يجز، وإن لم تتعين، فيجوز. فهذا حكم الجمع.
226- فأما إقامة صلاة الجنازة قاعداً، مع القدرة على القيام، وإقامتها على الراحلة، فقد اختلف أصحابنا فيها، فقال الأكثرون: لا يجوز، وهو الأصح؛ فإن الركن الأظهر في هذه الصلاة، بعد العقد - القيامُ؛ إذ لا ركوع ولا سجود فيها، فالإخلال بالقيام تغيير لوضع الصلاة.
وسنذكر في كتاب الصلاة أن المتنفل لو صلّى مضطجعاً، مع القدرة على القعود،
__________
(1) زيادة من: (م) ، (ل) ، (د 3) .
(2) ر. مختصر المزني: 1/33.(1/182)
لم يجز؛ من حيث إِن هذا إِخراجُ الصلاة عن وضعها.
ومن أصحابنا من أجاز إقامة هذه الصلاة قاعداً؛ من حيث إنها تضاهي النوافل، ومنهم من فصّل بين أن يتعيّن، وبين ألا يتعيّن، كما مضى.
227- والجمع بين صلاة مفروضة وبين الطواف المفروض بتيمم واحدٍ غير جائز.
فأمّا الجمع بين صلاةٍ مفروضةٍ وبين ركعتي الطواف، فيخرّج على أن ركعتي الطواف فرضٌ أم لا؟ وفيه خلاف. فإن حكمنا بأنهما فرض، لم يجز الجمع، وعلى هذا هل يجمع بين الطواف الفرض وبين ركعتي الطواف؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يجمع؛ لأنهما فرضان.
والثاني - يجمع؛ لأن ركعتي الطواف جزءٌ من الطواف، بمثابة شوط من الأشواط، فإذا طاف، وصلى ركعتي الطواف، كان كمن صلى صلاةً واحدةً.
وإِن قلنا: ركعتا الطواف نفل، فلا يخفى الحكم.
فرع:
228- من [نسي] (1) صلاةً، ولم يدْرِ عينَها، قضى خمسَ صلواتٍ حتى يخرج عما عليه. ثم هل يجمع بينها بتيَممٍ واحدٍ؟ ما ذهب إليه الأكثرون أنه يصلي الصلوات الخمس بتيمم واحدٍ؛ فإِن الفرض منها واحد.
وقال الخِضْري (2) : يتيمّم لكل صلاة من الصلوات الخمس؛ فإن كل صلاة منها
__________
(1) في الأصل قضى. والمثبت من (د 3) ، (م) ، (ل) .
(2) الخضري، محمد بن أحمد المروزي: أبو عبد الله، والخضري بالكسر نسبة إلى الخضر رجل من جدوده. إمام مرو وعالمها، وشيخها، وحبرها، من أقران الشيخ أبي زيد المروزي، وعنه أخذ القفال المروزي، أبو بكر عبد الله بن أحمد، قال السبكي: " وما أرى القفال إلا من المتفقهة على الخضري، وطالما قال القفال: سألت أبا زيد، وسألت الخضري "، وقال ابن خلكان: كان الخضري من أعيان تلامذة أبي بكر القفال الشاشي. ا. هـ. وقد علّق محققا سير أعلام النبلاء: 18/172 هامش رفم (4) بما يوحي بالشعور بشيء من التناقض بين عبارة السبكي وعبارة ابن خلكان. ولكن لا تناقض إن شاء الله، فهو (الخضري) تلميذ القفال، وأستاذ القفال فعلاً، تلميذ القفال (الشاشي) (أبو بكر) فخر الإسلام محمد بن علي المتوفى سنة 365 هـ وأستاذ القفال المروزي (أبو بكر) (أيضاً) عبد الله بن أحمد المتوفى سنة 417 هـ.
ثم شيخنا الخضري صاحب الترجمة اختلف في تاريخ وفاته، ففي الأنساب واللباب أنه =(1/183)
يتعين الإقدام عليها؛ فصارت في حكم صلوات مفروضة مقصودة.
وقد حكى العراقيون قولين في ذلك، فلو نسي صلاتين من يوم وليلة، أو نسي صلاتين مختلفتين من يومين وليلتين، فيكفيه أن يقضي صلوات يومٍ وليلة؛ فإِنها تشتمل على الصلاتين المختلفتين، فإِذا كان يتيمم، قال صاحب التلخيص: يصلي خمس صلوات بخمس تيمّماتٍ.
وقال ابن الحداد: يتيمم، فيصلي الصبح، والظهر، والعصر، والمغرب، بتيممٍ واحدٍ، ثم يتيمم، ويصلي الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، بتيمم آخر؛ فيكون خارجاً عمّا عليه؛ فإِنه لا يفرض على ما ذكره ابن الحداد صلاتان إلا وقد أداهما.
فإن قلت: لعلّ المفروض صلاة الصبح وصلاة المغرب، قلنا: فقد أدى صلاة الصبح بالتيمم الأول، ودخلت صلاة المغرب تحت ما أداه بالتيمم الثاني، وهكذا كيف فرضت صلاتان، فلا بدّ من اندراجهما تحت تيممين.
والذي ذكره صاحب التلخيص لا ينكره ابن الحداد، ولكن ليس فيه إعمال فكرٍ وتدقيق [نظر] (1) ، فمن لا يزيد في عدد الصلاة، يصلي صلوات يومٍ وليلةٍ، وقد نسي صلاتين، فلا طريق إلا ما ذكره صاحب التلخيص، ومن حاول الزيادة في الصلوات والنقصان من التيمم فأقرب الطرق ما ذكره ابنُ الحداد.
فلو صلى على طريقة ابن الحداد: الظهرَ، والعصرَ، والمغربَ، والعشاء، بتيممٍ واحد، ثم صلى الصبح، والظهر، والعصر، والمغرب، بتيمم آخر، فلا يخرج عمّا عليه، لجواز أن تكون الفائتةُ الظهرَ والعشاءَ، وقد أدىّ الظهرَ بالتيمم الأول، ولم ينته
__________
= توفي في حدود 400 هـ، وفي وفيات الأعيان وطبقات الإسنوي، توفي في عشر الثمانين وثلاثمائة. وفي الشذرات لابن العماد توفي في 373 هـ، وذكره السبكي فيمن توفي بين الثلاثمائة والأربعمائة، ولم يحدد السنة. راجع: طبقات السبكي: 3/71، 100، 101، 472، سير أعلام النبلاء: 16/313، 18/172، وطبقات الإسنو: 2/379، تهذيب الأسماء واللغات: 2/282، 283.
(1) زيادة من (م) ، (ل) .(1/184)
التيمم الثاني إلى العشاء، وإذا تبين أن المطلوب اليقين، وأشير إلى طلبه، لم يخف الغرض بعد ذلك.
ولو كان نسي صلاتين من جنس واحدٍ، وأشكلتا عليه، فلا بدّ من أن يصلي عشر صلواتٍ: صبحين، وظهرين، وعصرين، ومغربين، وعشاءين، ثم على مذهب الخِضْري يتيمم عشرَ مراتٍ، وعلى مذهب سائر الأصحاب، يتيمم، ويصلي صلوات يومٍ وليلةٍ، ثم يتيمم ويصلي صلوات يومٍ وليلةٍ، فيخرج عما لزمه.
229- ومما يتصل بهذا، أن من كان محبوساً في حُش، وموضعٍ نجس، أمرناه بالصلاة لإقامة حق الوقت، ثم أمرناه عند انقضاء ذلك السبب بالإعادة. ولو أدى وقضى بتيمم واحدٍ، هل يجوز أم لا؟ فعلى وجهين، يقرب مأخذهما مما ذكرناه، فيمن نسي صلاةً من خمس صلوات، لا بعينها.
وفي المسألة التي ذكرناها الآن سرّ، سنذكره في قضاء الصلوات، في الباب الذي بعد هذا. إن شاء الله تعالى.
230- ومن هذا الفن، أن من صلّى منفرداً بتيممٍ، ثم أدرك جماعةً، فأراد إعادتها في الجماعة بذلك التيمم بعينه، فإن قلنا: إن الصلاة المعادة سنّة؛ فيجوز إقامتها بالتيمم الأول، وإن قلنا: إذا أعيدت، فالفرض أحدهما لا بعينه؛ ففي إقامتها ثانية بذلك التيمّم بعينه وجهان، كما سبق، والاكتفاء بتيمم واحد في هذه الصورة أولى؛ فإنه لا يجب الإقدام على إعادة الصلاة ثانية، وإن كنّا نقول عند اتفاقها: الواجبة الأولى أو الثانية، ومن نسي صلاة من خمس تحتم عليه الإقدام على كل صلاةٍ من الصلوات الخمس.
فصل
231- شرطُ التيمم تقديمُ طلب الماء عليه، ولا فرق بين أن يظهر للماء علامات، من خُضرة، وانقضاض طيورٍ، وغيرهما، وبين ألا يظهر، وإنما يجب الطلب إذا كان يتوقع وجود الماء، على قربٍ أو استبعادٍ (1) ، فأما إذا كان المرء يقطع بأن لا ماء
__________
(1) على قرب أو استبعاد: أي قريباً كان أو بعيد كما فسرها بذلك الإمام النووي، قال في =(1/185)
بالقرب منه، وذلك بأن يكون في بعض رمال البوادي، فنعلم ضرورةً استحالة كون الماء، فلا نكلفه التردد للطلب، فإنّ طلبَ ما يعلم الطالب استحالةَ وجوده محال.
ثم قال الصيدلاني: لا يُكلَّف الطالب مشقة، بل يطلب على القرب واليسر.
وقال صاحب التقريب: لا نكلّفه أن يتردّد، ولكن يكفيه أن ينظر يمنةً ويسرةً، ويردّد الطرفَ حواليه.
وكان شيخي يقول: يتردّد قليلاً، ولا نكلّفه أن يبعد.
وليس هذا اختلافاً عندي، ولكن إن كان في مستوى الأرض، كفاه أن ينظر، إذا لم يكن ببصره كلال، وإن كان المكان غيرَ مستوٍ، وكان بحيث لا ينفذ فيه البصر، فيتردد قليلاً، وهذا الفصل فيه استبهام.
ومما أحرص عليه جهدي، أن أضبط مواقع الانتشار، وأوضحَ مقام الاستبهام على مبلغ الإمكان، وقد يتأتى ذلك بأن نقدم المعلومات، حتى يرجع موضع الإشكال إلى ما يقرب النظر فيه.
فلا نكلّفه أن يرتكب خطراً، في نفسه أو ماله بتردّده، ولا نكلّفه أيضاً -والطرق آمنة- أن يبعد عن مجثم (1) الرفقة، فرسخاً، أو نصف فرسخ، ولا نقول: لا يُفارق الأطلالَ، وطُنُبَ الخيام، فالوجه القصد في ذلك، أن يطلب الماء من موضعٍ، لو انتهى إليه، واستغاث بالرفقة، لم يبعد عنه غوثُهم، مع ما هم عليه من تشاغلهم بأشغالهم، وتفاوضهم بأقوالهم. فهذا أقرب معتبرٍ في ضبط ذلك.
ثم يختلف بأستواء الأرض، واختلافها صعوداً وهبوطاً، وإن كان ينسرح الطرف كفى، وإن احتاج إلى التردد قليلاً، تردد على الضبط الذي ذكرناه.
232- وتمام البيان في هذا: أن من رأى ماءً على نصف فرسخ، ولم يكن بينه وبينه مانع، فقد نكلّفه أن يحضر الماء، كما سنذكره في الباب الثاني، ولا نقول:
__________
= المجموع: 2/249 قال إمام الحرمين: "إنما يجب الطلب، إذا توقع وجود الماء توقعاً قريباً، أو مستبعد".
(1) في (م) ، (ل) : مخيم.(1/186)
يجب طلب الماء من الموضع الذي لو تيقن الماءَ فيه، يلزمه إِتيانه.
هذا أهون فصلٍ في الباب. وفيه من التردّد ما فيه. والله أعلم.
233- ولو نزل منزلاً،، طلب الماء عند صلاة الظهر، وتيمم وصلّى، ثم دخل وقت العصر، وهو غير بارحٍ، فإِن استيقن بالطلب الأول، أن لا ماء بالقرب منه، فلا يجب الطلب الثاني؛ لما قدّمناه، من أن الطلب مع استيقان الفقدان محال، وهذا إذا [لم يحدُس] (1) شيئاًً من إِطباق غمامة، أو إِمكان سيلان سيل، أو حضور ركب.
وإن لم يستيقن بالطلب الأول أن لا ماء، ولكن غلب على ظنه -وذلك يُكتفى به- فالأصح أنه يجب عليه تجديدُ طلب الماء للتيمم الثاني، ولكن الطلب الثاني يكون أخفَّ من الأول.
وقد سمعت شيخي يذكر وجهاً: أنه إذا لم يبرح، ولم يتجدد شيء آخر، لا يلزمه تجديدُ الطلب. والأصح الأول.
وذكر بعضُ المصنّفين وجهين فيه، إذا انتهى إلى موضع يغلب على الظنّ عدمُ الماء، فهل يجب عليه الطلب، والحالة هذه؟ وليس هذا فيه إذا استيقن عدمَ الماء، بل الوجهان مفروضان فيه إذا غلب على الظن عدمُ الماء، وذِكْرُ الخلاف في الطلب الأوّل بعيد جدّاً. وإنما ذكر الخلاف في الطلب للتيمم الثاني في المكان الواحد، كما حكيته عن شيخي، ولو كان ما حكاه هذا (2) الرجل موثوقاً، لكان وجهه، أنه بالطلب لا يستفيد إلا غلبة الظن، وهذا متحقق من غير طلبٍ.
__________
(1) من حدس الشيء يحدُس، إذا حزره أي قدره (المعجم) . ثم هي في الأصل، وفي (د 3) : يحدث (بالثاء) ، ومثلهما (م) ولكنها لا تستقيم مع نصب شيئاً، كما في النسختين أيضاً.
وقد آثرنا تقدير الخطأ في الإملاء (يحدث) على تقدير الخطأ في نصب (شيئاً) وهي في موضع الفاعل. ثم وجدناها في (ل) يحدث شيء. وآثرنا ما قدرناه أولاً؛ لأن التحريف يميل إلى اللفظة المألوفة كما هو معروف، بل المعنى هنا لا يستقيم مع (يحدث) .
(2) هذا الرجل. الإشارة إلى بعض المصنفين ويقصد به الإمام أبا القاسم الفوراني، فإنه كثير الحط عليه، وتضعيفه في النقل، كما أكد ذلك السبكي في طبقاته. ولعلنا أشرنا إلى هذا من قبل.(1/187)
فإذاً ينبغي أن يتخيّل على هذا ثلاث مراتبَ: إحداها - إذا كان للماء علامة، فالطلب يجب وفاقاً.
وإن لم تكن علامة، ولكن لم يغلب على الظن عدم الماء، فيجب الطلبُ في هذه الصورة عندنا، خلافاً لأبي حنيفة (1) .
وإن غلب على الظن فقدُ الماء، ففي وجوب الطلب الخلافُ الذي ذكره، ولست أثق بهذا في الطلب الأول.
***
__________
(1) ر. البدائع: 1/47، الهداية مع فتح القدير: 1/120، حاشية ابن عابدين: 1/164، 165.(1/188)
باب جامع التيمم (1)
234- أصل مذهب الشافعي أن تقديم التيمم للصلوات المفروضة على دخول وقتها غيرُ جائزٍ، فلنعتقد ذلك مذهباً إلى أن يتضح الغرض بالتفصيل.
235- والذي أرى ذكره مقدماً على تفريعه، أنّ أئمتنا اختلفوا في أن النافلة المؤقّتة، هل يجوز تقديم التيمم على دخول وقتها؟ فمنهم من جوّز ذلك في النوافل؛ فإن الأمر فيها أوسع، ولذلك جاز أداء نوافلَ بتيمّم واحدٍ، ولا يجوز ذلك في الفرائض.
ومنهم من قال: لا يجوز؛ لأن تعدُّدَ النوافل لا يتحقق، من جهة أن يُتصور جمع ركعاتٍ في تحريمة، وهي تبعٌ للفرائض، وجُبرانٌ لها، كما تقدم. وهذا المعنى لا يتحقق في التقديم على الوقت.
236- فإذا تقرّر ذلك، فنحن نذكر مواقيتَ الصلوات في غرضنا. فأما أوقات الفرائض فبيّنة، ووقت الفائتة تذكُّرُها، قال النبي عليه السلام: "من نام عن صلاةٍ أو نسيها، فليصلّها إذا ذكرها؛ فإن ذلك وقتُها، لا وقت لها غيره" (2) ووقت الصلاة على الميت يدخل بغُسلِ الميت، ووقت صلاة الكسوف يدخل بالكسوف، ووقت صلاة الاستسقاء ببروز الناس إلى الصحراء، ولا يكاد يخفى وقتُ صلاة العيد، فنعود الآن إلى التفريع، فنقول:
__________
(1) هذا الباب بهذا العنوان أثرٌ من آثار التزام الإمام ترتيب مختصر المزني، فعنه أخذ هذا العنوان، وسنرى التكرار في بعض مسائل التيمم واضحاً لهذا السبب.
(2) حديث: "من نام عن صلاةِ ... " متفق عليه، بلفظ: " فليصلها، إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك " (ر. البخاري: مواقيت الصلاة، باب من نسي صلاة فليصلِّ إذا ذكرها، ح 597، مسلم: المساجد، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، ح 684، تلخيص الحبير: 1/155 رقم 211)(1/189)
237- لو تذكّر فائتةً قبل الزوال، فتيمّم لها، ثم لم يقضها حتى دخل وقتُ الظهر، فإن أراد قضاء الفائتة، فعل.
وإن أراد إقامة فرض الوقت بدلاً عن الفائتة، ففي المسألة وجهان: أصحهما -وهو مذهب ابن الحداد- أن ذلك يجوز، وأن تيممه صالح لفرض، فيصلح لفرض آخر، وإنما الممتنع الجمع بينهما.
والثاني - لا يجوز، وهو اختيار أبي زيد (1) ؛ لأنه لمّا تيمم قبل الزوال، كان لا يتأتى منه إذ ذاك صلاةُ الظهر، وما لم يستعقب التيمّم جوازه، لم يجز بعده.
وما ذكرناه من الخلاف مفرّع على ظاهر المذهب، وهو أن التعيين ليس بشرطٍ في نيّة التيمم، فإن شرطنا التعيين، على الوجه الضعيف، الذي حكيناه، فإذا عيَّن الفائتة، لم يصلِّ بالتيمم غيرَها، وهذا الوجه لا تفريع عليه.
238- ولو زالت الشمس، فتيمم لصلاةِ الظهر، ثم تذكّر فائتةً، فأراد قضاء تلك الفائتة، بدلاً عن أداء وظيفة الوقت، ففي المسألة طريقان: من أصحابنا من ذكر هاهنا الوجهين المقدّمين فيه إذا تيمم لفائتةٍ، ثم زالت الشمس.
ومنهم من قطع بأنه يجوز قضاء الفائتة، في الصورة الأخيرة، وفرّق بينها وبين الصورة الأولى، بأنه لما تيمَّم لقضاء الفائتة، لم تكن صلاة الظهر واجبةً عليه، ولما تيمّم بعد الزوال، فقد كانت الفائتة واجبةً عليه، ولكنّه كان لا يذكر وجوبها، وهذا الفرق ظاهرٌ، ولكنّ مساقَه يقتضي أن من تيقم ضحوةً، قبل تذكر الفائتة، ثم تذكّرها أنه يجوز له قضاؤها، وليس الأمر كذلك.
__________
(1) أبو زيد المروزي: محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد. من أئمة الخراسانيين، أصحاب الوجوه، وأحد أئمة المسلمين، ومن أحفظ الناس لمذهب الشافعي، وأحسنهم نظراً، وهو صاحب أبي إسحاق المروزي، وتفقه عليه القفال أبو بكر المروزي، وفقهاء مرو، وسيأتي في فقرة: 284 قول إمام الحرمين عنه: كان أبو زيد من أذكى الأئمة قريحة. تكرر ذكره في الوسيط، والروضة، ولا ذكر له في المهذب. توفي بمرو سنة 371 هـ (ر. تهذيب الأسماء واللغات: 2/34، برقم 350، وطبقات السبكي: 3/71 وفيها ينسب إلى فاشان: بالفاء، والشين المعجمة، قرية من قرى مرو) .(1/190)
239- وقد قال الشيخ أبو علي في الشرح: لو تيمّم لنافلةٍ (1) قبل الزوال، ولم يكن عليه فائتة، فهل يتنفل بالتيمم أم لا؛ فيه وجهان: تقدم ذكر أصلهما؛ فإنه لا يتأتى له إقامة فرض به، فهل يتأتى إقامة النفل به؟
فعلى وجهين: أحدهما - يتنفل، وهو الصحيح، والثاني - لا يتنفل؛ فإن أداء النافلة إنما يجوز تبعا للفريضة، لا مقصوداً.
فإذا فرّعنا على الصحيح، فلو زالت الشمس، فتيممه صالح لأداءِ نافلةٍ، [وقد] (2) ذكرنا قولين في أن التيمم الصالح لأداء نافلة هل يصلح لأداء الفريضة؟ فإن قلنا: إنه يصلح، فيخرّج عليه الخلاف في أنه هل يؤدّي فريضة الوقت، كما ذكرناه في الفائتة، وفريضة الوقت في صورة مسألة ابن الحداد.
وهذا الذي ذكر بعيدٌ جداًً؛ فإن تيمّمه في صورة مسألة ابن الحداد استعقب جوازَ إقامة الفائتة، ثم دام إمكان أداء فرض به، حتى دخل وقت فريضةٍ أخرى.
وإذا تيمّم لنافلةٍ، ولم يكن عليه فائتة، فتيممه لم يستعقب إمكانَ إقامة فرض به، ولا يمتنع في الدوام أن يصلح التيمم لنفل [بعد الفرض] (3) ولا يصلح لفرضٍ؛ فإن من نوى بتيممه الفرضَ والنفلَ، وأدّى الفرضَ، فتيممه يصلح للنفل بعد الفرض، ولا يصلح لفرضٍ آخر.
نعم، لو تيمّم لنفلٍ قبل الزوال، وهو ذاكرٌ فائتةً، فتيممه يصلح لقضاء تلك الفائتة في قولٍ، فلو زالت الشمس، فأراد أن يؤدّي وظيفةَ الوقت بدلاً عن الفائتة، فهذا يعود إلى صورة مسألة ابن الحداد.
فإن قيل على طريقة الشيخ أبي علي: [نُقدّر] (4) صورةً يمتنع فيها تقديمُ التيمم على الوقت وجهاً واحداً.
قلنا: لعلّه يقول: إذا تيمّم قبل الزوال لأداء الظهر في وقته، فالتيمم باطل،
__________
(1) في (م) : لفائتة، وتذكّر ما سبق في فقرة: 201، 202.
(2) في الأصل: وإذا. والمثبت من: (د 3) ، (م) ، (ل) .
(3) مزيدة من: (د 3) .
(4) في الأصل: نقدم. والمثبت من: (د 3) ، (ل) ، وفي (م) : نقدم ضرورة.(1/191)
لا يؤدّى به الظهر بعد الزوال، ولا يصلح لأداء نافلةٍ أيضاً؛ فإن نيّته فاسدةٌ، وليس كما لو نوى بالتيمم إقامة فرضين؛ فإن تيمّمه يصح في وجهٍ؛ لأن الفساد في النية يؤول إلى الزيادة على الصلاة الأولى، فتميّز الفساد عن الصحة، فأما إذا تيمّم لصلاةٍ قبل وقتها، فأصل النية فاسدٌ، فهذا منتهى القول في ذلك.
فصل
قال: " والسَّفَرُ أَقلُّ ما يَقعُ عليه اسمُ سفرٍ، طال أو قصر ... إلى آخره " (1)
240- القول في السفر الطويل والقصير سيأتي -إن شاء الله تعالى- في كتاب الصلاة، والذي يليق بهذا الفصل أن الرخص تنقسم ثلاثة أقسام: قسم يختص بالسفر الطويل، وهو الفطر، والقصر، والمسح على الخّف ثلاثة أيام ولياليهنّ.
وقسم يتعلق بالسفر القصير والطويل، وهو ترك الجمعة على تفصيل يأتي.
وقسم اختلف القول فيه، وهو الجمع بين الصلاتين، وإقامة النافلة على الراحلة أينما توجّهت، وموضع استقصاء ذلك كتاب الصلاة.
وعدّ الأصحاب التيمم عند إعواز الماء، مما يجري في السفر القصير والطويل، وهذا مقصود الباب، [وعَنَوْا به] (2) أن من كان في سفر قصير، فدخل عليه وقت الفريضة، فتيمّم عند إعواز الماء وصلى، لم يلزمه إعادة تلك الصلاة.
241- والتحقيق في ذلك عندي أن التيمم لا ينبغي أن يُعدَّ متعلقاً بالسفر، قصر أو طال، ولكنه متعلق بعدم الماءِ وإعوازه، في مكانٍ يغلب إعوازُ الماء فيه، وإعواز الماء في الإقامة نادرٌ، فإن اتفق بأن تغور العيون، وتنقطع الأودية، فهو نادرٌ، وسنذكر حكمه.
والذي يُحقق ذلك أن من قَطَن في موضع من البادية يعم فيها عدمُ الماء، فهو مقيم يتيمم، ولا يقضي، فكان أبو ذرٍّ يسكن الرَّبَذَةَ، ويعدم الماء. فقال النبي صلى الله
__________
(1) المختصر: 1/33.
(2) في الأصل: وعنوانه.(1/192)
عليه وسلم: " التراب كافيك وإن لم تجد الماء عشر حجج " (1) الحديث.
وقد حكى شيخنا قولاً غريباً أن سقوط القضاء عن المتيمّم العادم للماء في السفر يختصّ بالسفر الطويل، فلو فرض عدم الماء في السفر القصير، وتيمّم المرء، خرج
__________
(1) حديث: " التراب كافيك ... " سبق الكلام عنه آنفاًً. والذي نضيفه هنا هو أن السياق بهذه الصورة يوحي بأن أبا ذر سكن الربذة منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، والمعروف المشهور، والموثق بحديث زيد بن وهب في البخاري، أنه خرج إلى الرّبذة في عهد عثمان رضي الله عنه، ويمكن الجمع بين هذا وذاك بأن الخروج تكرر، وأنه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، كان للرعي، وليس للإقامة، كما ورد في سياق الحديث الذي رواه أبو داود وأصحاب السنن عن أبي ذرّ: " اجتمعت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم غُنَيمة، فقال: يا أبا ذرّ ابدُ فيها [أي اذهب بها إلى البادية] ، فبدوت إلى الربذة ".
وهذا يمكن أن نعتبره دليلاً آخر أو قرينة على أن خروج أبي ذرّ إلى الربذة، في خلافة عثمان رضي الله عنهما، كان باختياره رضي الله عنه، وليس نفياً من عثمان، حيث إن الربذة كانت معهودة من أبي ذرّ، ومألوفة لديه.
وإن كان الأمر لا يحتاج إلى دليل، بعد أن جاء في حديث البخاري المشار إليه، ما نصه: عن زيد بن وهب قال: مررت بالربذة، فإذا أنا بأبي ذرّ رضي الله عنه، فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشام، فاختلفتُ أنا ومعاوية، في {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] ، فلما قدمت المدينة، كثر عليّ الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان، فقال لي: "إن شئت تنحيث، فكنت قريباً" فذلك الذي أنزلني هذا المنزل.
فهذا نصٌّ قاطع بأن أبا ذرّ اختار التنحي إلى الربذة باختياره.
قال الحافظ في شرح الحديث: "وإذا سأله زيد بن وهب عن ذلك لأن مبغضي عثمان كانوا يشنعون عليه أنه نفى أبا ذرّ، وقد بيّن أبو ذر أن نزوله هذا المكان كان باختياره " ا. هـ. بنصه.
وهنا إشكال آخر ننبه عليه، وهو أن (الربذة) كما حددها ياقوت ووصفها في معجمه، لم تكن صحراء عديمة الماء، بل هي - كما وصفها: "قرية من قرى المدينة، وكانت من أحسن منزل في طريق مكة، قريبة من ذات عرق" وهي التي كانت حمى لإبل الصدقة، حماها عمر بنُ الخطاب رضي الله عنه، فكيف يعدم أبو ذرّ فيها الماء؟ والجواب أنه كان يُبعد بغنم رسول الله صلى الله عليه وسلم، طلباً للكلأ، (ر. تلخيص الحبير: 1/154، فتح الباري: 3/271 ح 1406، ومعجم ما استعجم للبكري، ومعجم البلدان: مادة: ر. ب. ذ) .(1/193)
وجوب القضاء على قولين، سنذكرهما في المقيم إذا عدم الماء وتيمّم.
وهذا غريب جداًً.
وقد أشار إليه صاحب التقريب.
فصل
242- التيمّم في كتاب الله تعالى متعلق بشيئين: أحدهما - المرض. والثاني - عدم الماء في السفر قال الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] .
وهذا الفصلُ معقودٌ لبيان المرض الذي يباح التيمّم لأجله، فإذا مرض الإنسان مرضاً يخاف -لو استعمل الماءَ- على روحه، أو كان يخاف على عضوٍ من أعضائه؛ فإنه يتيمّم مقيماً كان أو مسافراً، وإذا برأ (1) ، لم يُعد صلاةً منها.
ولو كان يخاف -من استعمال الماءِ- مرضاً، ثم لو فرض وقوع ذلك المرض، لكان مخيفاً، ففي جواز التيمم قولان: قال العراقيون: نصّ في الأمّ على أنه لا يتيمّم، ونصّ في القديم على أنه يتيمّم، قالوا: قال أبو العباس (2) ، والإصطخري (3) : يجوز التيمّم
__________
(1) برأ، وبرىء، وبرُؤ: شفي. والمشهور برىء بكسر الراء. ولكنها مثلّثة، نص على ذلك النووي في المجموع في أكثر من موضوع وانظر القاموس.
(2) أبو العباس المقصود هنا هو ابن القاص. صاحب التلخيص، فهو الذي يعول عليه وعلى شرحه كثيراً، ثم يرجح ذلك أيضاً جمعه مع الإصطخري في إسناد القول إليهما، فالقول يسند عادة إلى من في طبقة واحدة، والإصطخري توفي سنة 328 هـ وابن القاص توفي سنة 335 هـ أما أبو العباس بن سريج، فقد توفي سنة 306 هـ ويذكر عادة بابن سريج. هذا والله أعلم. حيث لم نجد هذا القول منصوصاً في المجموع، ولا الشرح الكبير، ولا مختصر ابن أبي عصرون.
(3) الإصطخري: أبو سعيد: الحسن بن أحمد بن يزيد بن عيسى بن الفضل، بن بشار بن عبد الحميد بن عبد الله بن هانىء بن قبيصة بن عمرو بن عامر. الإمام القدوة العلامة، شيخ الإسلام، من أصحاب الوجوه في المذهب، فقيه العراق، ورفيق ابن سُريج، وممن تفقه على الأنماطي. كان ورعاً، زاهداً، متقللاً من الدنيا، له تصانيف مفيدة، منها كتاب أدب القضاء، تكرر ذكره في الكتب الكبار، منسوب إلى إصطخر، بلدة معروفة من بلاد فارس، توفي سنة 328 هـ (ر. السبكي - الطبقات الكبرى: 3/230، وسير أعلام النبلاء: 15/250، وتهذيب الأسماء واللغات: 2/237 ترجمة رقم 356، وله ترجمة في =(1/194)
قولاً واحداً. والمذكور في الأم محمول على ما إذا كان لا يخاف مرضاً، وهذا هو الصحيح؛ فإنه إذا كان يخاف مرضاًً، وذلك المرض مخيفٌ، فهو كما إذا كان يخاف الهلاك.
فإن قلنا: يتيمّم من يخاف مرضاًً، فلو كان يخاف لو استعمل الماء إبطاءَ بُرءٍ، أو شدةَ وجعٍ، فعلى هذا القول وجهان، وقد ذكر العراقيّون خوفَ المرض، وشدةَ الوجع، وإبطاءَ البُرْء في قرَنٍ، وطردوا القولين على الترتيب الذي ذكرناه، وعندي أنهم فهموا من إبطاء البُرْء، وشدة الوجع، المرضَ المخوف؛ فأجْرَوْا الكلامَ في الجميع مجرىً واحداً. والذي نحققه من الطرق يحويه الترتيبُ الذي ذكرته.
243- والوجه ذِكْرُ القولين كما قدّمنا فيه إذا كان يخاف مرضاًً مخيفاً، ثم ذكر الوجهين في إبطاء البرءِ وشدّة الوجع على أحد القولين.
وكأن حقيقة الخلاف يؤول إلى أن التيمم هل يستدعي جوازُه خوفَ الهلاك؟ أم يكفي فيه ضررٌ ظاهرٌ؟ وإن لم يكن فيه خوفُ الهلاك، وهذا مأخوذ من التردّد في شدة الوجع وإبطاء البرء، والوجع قد يشتدّ في جرح، وإن كان يبعد إفضاؤه إلى خوف رو، أو عُضوٍ.
244- ومما يتعلّق بهذا أنه لو كان يخاف لو استعمل الماء بقاءَ شَيْنٍ، فإن لم يكن الشَيْن على عضوٍ ظاهرٍ، فلا يجوز التيمم لأجله، وإن كان الشيْن المقدّر بحيث لو بقي، لم يكن قبيحاً، فلا ينتصب عذراً، وإن كان يخاف بقاء شيْن قبيح، على عضوٍ ظاهر، ففيه وجهان، ذكرهما العراقيون، وأشار إليهما شيخي، وهذا ملحق بما قدمّناه.
245- ومن تمام الكلام في هذا: أنه لو كان يخاف سقوطَ منفعةٍ من منافع عضوٍ مع بقاءِ منافع، فالظاهر عندي القطع بجواز التيمم؛ فإن سقوطَ منفعةٍ من المنافع، كسقوط أنملةٍ، أو إصبع من يدٍ، فهذا عذرٌ وفاقاً، وإن كان معظم منفعة اليد تبقى، عند سقوط أُنملةٍ وإصبع (1) .
__________
= الفهرست: 300، وتاريخ بغداد: 7/268، وطبقات الشيرازي: 111، والأنساب: 1/291، ووفيات الأعيان: 2/74، وشذرات الذهب: 2/312) .
(1) في هامش (ل) ما نصه: "مثلاً: لا يمكن حمل شيء ثقيل بيده، وتسقط هذه المنفعة خاصة مع بقاء المنافع".(1/195)
فهذا منتهى القول في ذلك.
246- وقد عنّ لي أن أجمع قول يتعلّق ببيان الحاجات والضرورات في الأحكام المختلفة: فمما يتعلق بالضرورة أكل الميتة، وتعاطي مال الغير، ومنها جواز الإفطار بعذر المرض، ومنها جواز القعود في الصلاة المفروضة:
فأما أكل الميتة، وطعام الغير من غير إذنٍ منه وإباحةٍ، فسيأتي تحقيق القول فيه في موضعه. ولكن أصل المذهب أنه يُشرط في جواز ابتداء الإقدام على أكل الميتة، وطعامِ الغير خوفُ الروح، والسبب فيه أنه تحليل محرّمِ، وقد علّقه الله تعالى بالاضطرار، قال الله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ} [المائدة: 3] .
وأما الإفطار بعذر المرض في الصوم المفروض، فلا يشترط فيه خوفُ الروح، ولا الخوفُ على فساد عضوٍ، والدليل عليه أن الإفطار جائز للمسافر الأيد القوي، لما يناله من مشاقّ السفر، ولما يتخلّف عنه من إمكان تهيئة المطاعم.
والمرض مقرون بالسفر؛ فلا يخفى على الفطن أن المرض المقرون به لا يشترط فيه خوف الهلاك، ولا يشترط أيضاً إفضاء الصوم إلى مرض مخيفٍ.
فإذا ثبت ذلك، فنقول: لا نكتفي أيضاً بما يسمى مرضاً، خلافاً لأصحاب الظاهر، فما ذكره الأصحاب فيه: أنه إن كان يخاف ضرراً ظاهراً، أو كان يزداد بالصوم، ولو أفطر، لوقفَ، أو خف، فإنه يُفطر، وهذا لا يُحصٍّل ضبطاً يُرجَع إليه.
247- وسأزيد فيه مباحثة، ثم أذكر الممكن في الضبط والترتيب، فأقول: الصوم إذا بلغ بالمكلف شدة الجوع والعطش، وكان لا يخافُ مرضاً، فيجبُ احتمال هذا الجهد؛ إذ الصومُ في نفسه ضررٌ ظاهر، وقد يؤدي أيضاً إلى اختلالِ في البنية، سيّما في حق النحفاء [الممْرورين] (1) فالضرر الظاهر أيضاً لا يُبيّن المقصود، وفي
__________
(1) في النسختين وكذا (م) ، (ل) : المحرورين، والمحرور هو المغيظ فيما رأيناه في المعاجم، ولعلها (الممرور) كما قدرنا، وهو من هاجت عليه المِرَّة، والمرة أخلاط يفرزها =(1/196)
الإضراب عن التقريب توريط المرضى في خوف الهلاك؛ فإنهم إذا علموا أنه لا يكتفى باسم المرض، واعتقدوا أن الصوم لا يترك إلا بثَبَت، فقد يصابرون إلى الإشفاء على الموت.
فالوجه في ذلك، أن المرض الذي يُفطَر لأجله مما يعمّ؛ إذ الصوم يعمّ المتمكنين، والمرض يُعدّ من الأعذار العامة في هذا الباب وفاقاً، كما أن عدم الماء في السفر يعد عذراً عاماً، وكل عذر نيط به تخفيفٌ، فلا يشترط فيه الانتهاء إلى خوف الهلاك، لسرٍّ خطيرٍ، نبهت عليه في الكتاب المترجم (بالغياثي) (1) وهو: أن الحرام لو عم في الزمان وعدِم الحلال، فلا نقول بتوقّف جواز الإقدام على الطعام على الضرورة التي تُشترط في استحلال الميتة؛ إذ لو شرطنا ذلك في حق الناس كافةً، لانقطعوا عن مكاسبهم ومعايشهم، ولانقطع بانقطاعهم الحِرفُ وأسبابُ بقاء العالمين، فالمرعيُّ إذاً والحالة هذه حاجةٌ لو تركوا الأكل عندها، لخيف أن ينقطعوا عن تصرُّفاتهم؛ فإن الحاجة في حق الكافة، تنزّل منزلة الضرورة، في حق الواحد.
ومن أراد شرح الفصل، فليطلبه من ذلك الكتاب (2) .
248- فنقول الآن: إذا كان المرض مما يعدّ عذراً عاماً، فالتقريب فيه أن كلَّ مرض يمنع من التصرف مع الصوم يجوز الإفطار بسببه، وهو المعني بالضرر الظاهر الذي ذكره الأصحاب. وهذا لطيفٌ حسن؛ فإنه جاز الإفطار لأجل السفر، حتى لا يتعذر على طوائف يُكثرون التقلب في أسفارهم.
فإن قيل: قد يتعذر بنفس الصوم -من غير مرضٍ- التصرّفُ. قلنا: هذا يندُر في آحاد الناس؛ فإن أغلب الناس الذين يتأتى منهم التصرف، لا يمتنع عليهم التصرف بالصوم نفسِه.
__________
= البدن، تؤثر على مزاج صاحبها (القاموس المحيط، والمعجم الوسيط، والأساس) وهذا هو المناسب للسياق والسباق، والله أعلم.
(1) الغياثي من كتب إمام الحرمين، واسمه الكامل (غياث الأمم في التياث الظُّلم) . وقد أعاننا الله على تحقيقه، وهو من أفضل وأهم ما كتب في السياسة الشرعية.
(2) انظر الفقرات: 738-753. واقرأ الفصل كله.(1/197)
والذي يحقق هذه اللطيفة أن السفر مُتعب، فقد يظهر أن نفس الصوم مع ضرورة الحركة، يمنع من تصرفات المسافرين؛ فلهذا أبيح للمسافرين الفطرُ، من غير مرض ينضمّ إليه، فالمرض المانع من التصرف في الإقامة، كالسفر مع الصوم.
فهذا أقصى الإمكان في ذلك.
249- فأما العذر الذي يجوز القعود لأجله في الصلاة المفروضة، فقد أجمع الأصحابُ على أن الضرورة ليست معتبرة فيه، ومن أطلق العجز عن القيام، لم يَعْنِ به عدمَ تصوّر القيام، فالذي اعتلقه حفظي من شيخي أن الصلاة لا تُعنى لصورتها، وإنما المقصود الظاهر منها تجديد العهد مراتٍ في اليوم والليلة بذكر الله تعالى، ثم حرم الكلام في الصلاة، وحرم الفعل الكثير، وأُمر المصلي بالاستداد (1) في صوب القبلة وكل ذلك [لجمع] (2) أسباب حضور القلب، والإكبابِ على الذكر، وقطع الملهيات.
فإذا كان المقصود ما ذكرناه، والضرورة ليست شرطاً وفاقاً، فأقربُ معتبر فيه أن يقال: إن كان المرض بحيث لو قام المريض، لألهته الآلام عن ذكر الله تعالى، وهذا إنما يكون عند شدّة الألم، فيقعد حينئذٍ، فهذا هو التقريبُ في ذلك.
فمن وجد مأخذاً أقرب وأضبط من هذا، فليلحقه بالكتاب. والله أعلم بالصواب.
فصل
250- إذا عم العذرُ البدنَ في الغُسل، أو جميعَ أعضاء الوضوء، انتقل المعذور إلى التيمم، كما سبق التفصيل، وإن تبغض العذر والصحة، فكان بعضُ البدن صحيحاً، وبعضه جريحاً، فيجبُ غَسْل الصحيح، والتيمم عن الجريح.
هذا أصل المذهب.
__________
(1) الاستداد: الاستقامة. (المعجم) .
(2) في النسختين: يجمع. واخترنا (جمع) للسياق مع (قطع) . وقد صدقتنا (م) ، (ل) .(1/198)
251- ولو وجد الرجل من الماء ما لا يكفيه لتمام طهارته، ففي وجوب استعمال ما وجد من الماء قولان سنذكرهما: أحدهما - أنه يجب استعمال الموجود، والتيمم عن باقي المحل.
والثاني - أنه يقتصر على التيمم، ولا يجب استعمال ما وجد من الماء.
ومن أصحابنا من خرّج تبعّض العذر والجرح في البدن على القولين في تبعّض الماء: أحد القولين: أنه يغسل الصحيح، ويتيمم عن الجريح.
والثاني - أنه يقتصر على التيمم، ولا يلزمه غسل الصحيح.
وهذا بعيدٌ، والأصح الذي ذهب إليه الجمهور القطعُ باستعمال الماء في الصحيح، والتيمم عن الجريح.
والفرق بين هذا وبين وجدانه ما لا يكفي من الماء، أن العذر فيمن بعض بدنه جريح في المحل والبدن، ولو قطعت يدُ الرجل، لم يسقط فرض الوضوء عن وجهه، ورأسه، ورجليه. فإذا كان سقوط اليد لا يُسقط فرض بقية الأعضاء، فاعتلال اليد كيف [يُسقطه] (1) .
فإن قيل: إذا سقط اليد، فليس عنها بدل، وإذا اعتلّت، وجب التيمم، والجمع بين البدل والأصل مستنكر.
قيل: التيمم بدلٌ عن اليد العليلة، ووجوب الغسل قارٌّ في الأعضاء الصحيحة.
فأما إذا وجد من الماء ما لا يكفيه لتمام الطهارة، فالفرض ثابت في جميع البدن على وجهٍ واحدٍ، فتأدية ذلك الفرض المتَّحد من وجهين، قد يضاهي إعتاق نصف رقبة، وإطعامَ خمسةٍ من المساكين في كفّارة اليمين.
ثم إذا ثبت أن الأصح غَسلُ الصحيح، والتيمم عن محل العذر، فلا فرق بين أن يكون المعظمُ جريحاً، أو على العكس، أو يستويان، ولا يختلف ترتيبُ المذهب
__________
(1) في النسخ كلها: يسقط، بدون هاء الضمير المفعول وقدرنا أن زيادة الضمير تكون أكثر وضوحاً.(1/199)
بالقلة والكثرة، وإنما نظر إلى القلّة والكثرة أبو حنيفة (1) .
252- ثم الكلام في هذا الفصل يتعلق بمن به جرح، وبمن ينخلع عضو منه، فتلقى عليه الجبائر.
فلتقع البداية بصاحب الجبيرة، ثم نذكر بعده حكم الجريح، ونحرص على تفصيل الصور؛ فإنها قد تلتبس.
فأما إذا انخلع عضوٌ، أو انكسر ومسّت الحاجةُ إلى إلقاء جبائر عليها، ليتقوم أو ينجبر، فإيصال الماء إلى ذلك العضو قبل إلقاء الجبائر غير مضرٍّ، فالوجه أن تلقى الجبيرة على طُهرٍ كامل، كما يلبس الخف على وضوء كاملٍ.
ثم لا ينبغي أن يعدو بالجبائر موضعَ الكسر والخلع، وقد تمس الحاجة إلى أخذ مقدارٍ من الصحيح المحيط بموضع الكسر، لاستمساك الجبائر، فلا بأس بأخذ ذلك المقدار للحاجة، ولا ينبغي أن يتعدى من موضع الحاجة، ثم يغسل الصحيح من أعضائه، ويمسح على الجبيرة.
وفي المسح مسائل نذكرها، ثم نذكر حكم التيمم، ثم نرمز إلى حكم إعادة الصلاة.
253- فأما مسحُ الجبيرة بالماء، فواجبٌ، لا اختلاف فيه. واختلف الأئمة في أنه هل يجب استيعابُ الجبيرة بالمسح؟ فقال بعضهم: لا يجب ذلك، بل يكتفى بما يسمى مسحاً كالخف؛ فإن المفروض من مسحه ما ينطلق عليه الاسم.
وقال آخرون: يجب الاستيعاب؛ فإن مسح الجبائر أقيم مقامَ غَسل ما تحته؛ فيجب استيعاب الساتر، وليس هذا كالمسح على الخفّ؛ فإنه أثبت رخصة، وتخفيفاً مع القدرة على غَسل القدم؛ فكان الاقتصار على مسح بعض الخف لائقاً به، والمسح على الجبائر ثابت للضرورة؛ فيجب فيه الإتيان بالممكن من الاستيعاب.
ومما يتعلق بذلك أن المسح على الخف متأقت بيومٍ وليلةٍ في حق المقيم، بثلاثةِ
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/152 مسألة: 57، المبسوط: 1/122 حاشية ابن عابدين: 1/171، 172.(1/200)
أيام ولياليهن في حق المسافر سفراً طويلاً. وهل يتأقت المسح على [الجبائر؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يتأقت كالمسح على الخف] (1) .
والثاني - لا يتأقت؛ فإن التأقيت ثبت في المسح على الخفين بتوقيفٍ، به نطق الخبر الصحيح، وأما المسح على الجبائر، فلم يرد فيه تأقيت، والسابق إلى الفهم أن مداه [و] (2) منتهاه البرء.
وهذا الاختلاف إنما يثبت إذا أمكن رفع الجبائر ووضعُها، من غير خلل يعود إلى العضو، فأما إذا كان رفعُ الجبائر يُخل بالعضو، فلا خلاف أنه لا يجب رفعه، وتصوير الخلاف فيه إذا كان يتأتى النزْع والرفع بعد انقضاء كل يوم وليلةٍ، وقد يكون كذلك.
فإن كان يتأتى نزعُه في أي وقت قدِّر وفُرض من غير خلل، فلا يجوز المسحُ، ولكن يجب نزعُ الجبائر وغسل ما تحتها، مهما توضّأ صاحب الواقعة.
فهذا ما أردنا ذكره في المسح على الجبيرة.
254- فأما التيمم، فإذا مسح على الجبيرة الملقاة على عضوٍ من أعضاء الطهارة، فهل يجب التيمم مع هذا؟ فعلى وجهين: أصحهما - وجوب التيمم؛ فإن المسح لم يقم مقام ما تعذر من الغَسل، فيثبت التيمم؛ فإنه الغاية المطلوبة، عند تعذر الأصل في الطهارة.
وقد أوضحنا أن ما نحن فيه ليس من قبيل الرخص المحضة، كالمسح على الخفين؛ فإن ذلك ثبت مع القدرة على غسل الرِجل. فلو كنا نبغي ثمة غايةً، لكُنَّا نوجب غَسل القدمين. فأمّا ما نحن فيه الآن، فالمرعيّ فيه الضرورة، وتحقق العجز، فالذي يليق بذلك أن نوجب أقصى الإمكان عند تعذر الأصل.
ومن أصحابنا من لم يوجب التيمم مع المسح على الجبيرة، وقال: في إيجابه جمعٌ بين بدلين مختلفين عن بدلٍ واحدٍ، وذلك بعيدٌ.
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، وأثبتناه من: (د 3) ، (م) ، (ل) .
(2) ساقطة من النسختين، (م) ، وزدناها رعاية للسياق، وقد وجدناها في (ل) .(1/201)
255- وهذه الفروع التي نجريها منشؤها، إما من ملاحظة أحكام الرخص، كالمسح على الخفين، فإذ ذاك نكتفي بأقل المسح، ولا نوجب التيمم، وقد نرى تأقت المسح إن أمكن النزع والإعادة كما سبق، وقد نرى القطعَ عن الرخص، فنبغي أقصى الممكن، فنوجب استيعابَ الجبيرة بالمسح، ونوجب معه التيمم كما ذكرناه، ثم متى لم نوجب الجمعَ، تعيّن المسحُ على الجبائر.
256- ثم إذا أوجبنا الجمع بين المسح والتيمم، فلو كانت الجبيرة على اليد مثلاً وقد مسحها بالماء، فإذا أخذ يتيمم، فمسح بالتراب وجهه، ومسح من يديه ما هو ظاهر، فهل يمسح على الجبيرة بالتراب؟ فعلى وجهين، ذكرهما شيخي في هذا الموضع: أحدهما - أنه يمسحها بالتراب، كما مسحها بالماء. والثاني - ليس عليه مسحُها؛ فإن التراب حكمه ضعيف، فلا يعمل على حائل بينه وبين البشرة. وسنذكر لفظةَ الشافعي في هذا في آخر الفصل.
257- ثم نشير الآن إلى إعادة الصلاة (1 في هذا الفصل على الخصوص دون غيرها، فإن تحقيق القول في إعادة الصلاة 1) نجمعه في فصلٍ مفردٍ، بعد هذا، على وجهٍ لا يبقى معه غموض إن شاء الله تعالى.
فترتيب الشافعي في الجديد أن صاحب الوثء (2) والخَلع إن ألقى الجبيرة على غير وضوء كامل، فإذا برأ (3) ، لزمه القضاءُ قولاً واحداً.
وإن أكمل الوضوءَ، ثم ألقاها، ففي وجوب القضاء قولان.
وترتيبه في القديم أنه: إن ألقاها على وضوءٍ كامل، وفعل ما أمرناه، ثم بَرَأ، فلا قضاء عليه، وإن ألقاها على غير وضوءٍ، ففي القضاء قولان، فيحصل من ترتيب الجديد والقديم ثلاثة أقوال: أحدها - وجوب القضاء عموماً.
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ل) .
(2) الوثء: توجُّعٌ في العظم من غير كسر، وشبه الفسخ في المفصل. (المعجم) وهي في الأصل: الوثي. بالياء.
(3) برَأ بفتح الراء، وكسرها، وضمها.(1/202)
والثاني - نفي وجوبه عموماً.
والثالث - الفصل بين أن يُلقيها على طهرٍ، أو على غير طهر، كما ذكرناه.
258- وقال شيخي: قد حصل مما ذكرناه اختلاف قولٍ [في] (1) أنّا هل نوجب تقديم الطهر على الإلقاء؛ فإن من لم يوجب القضاء، وإن لم يتقدم طهر كاملٌ، فقد صرح بأن تقديم الطهر غيرُ واجب، وهذا بيّنٌ بأدنى تأمّلٍ. ثم من يوجب تقديم الطهر يقول: إن ألقاها دون تقديمه، نُظر، فإن كان لا يضر النزع والتطهر، وإعادة الجبائر، فعل ذلك. وإن كان يضر النزع، فعل ما نأمره، ثم قضى.
259- ومما يتعلق بالفصل تفصيل القول في ترتيب التيمم، وغسل المقدور عليه، فنقول: إن كان الطهر الذي اشتغل به غُسلاً، ففي المسألة وجهان: أصحهما - أنه لا يجب رعاية الترتيب، فإن شاء أوصل الماءَ إلى ما يقدر عليه من بدنه أولاً، ثم يتيمم، وإن شاء تيمم أولاً، ثم استعمل الماء غُسلاً ومسحاً على الجبائر؛ وذلك أن سبب التيمم [علة] (2) كائنة ببدنه، وهي متحققة لا شك فيها، وليس كما إذا وجد من الماء ما لا يكفيه لتمام طهارته، وقلنا: إنه يستعمله، فإنه يتعين عليه استعمالُ الماء أولاً؛ إذ سبب التيمم ثَمَّ عدم الماء، ولا يتحقق عدمُ الماء ما لم يستعملْه.
والوجه الثاني - أنه يجب تقديم الغسل أولاً؛ فإنه الأصل كما ذكرناه فيمن وجد ما لا يكفيه من الماء.
هذا إذا كان الطهر غُسلاً.
فأما إذا كان وضوءاً، وكانت العلة باليد مثلاً، ففي ترتيب الغسل والتيمّم ثلاثة أوجه: أحدهما - أنه لا ترتيب أصلاً، والخِيَرةُ إليه، فإن شاء قدّم التيمم، وإن شاء أخّره، وإن شاء وسّطه.
والثاني - أنه يقدم من الوضوء ما يقدر عليه، وينهيه نهايته، ثم يتيمّم.
والثالث - أنه يرعى ترتيبَ الوضوء، فيغسل وجهه، وما يقدر عليه من
__________
(1) زيادة من (ل) .
(2) في الأصل، (د 3) ، (ل) عليه، والمثبت من (م) .(1/203)
[يديه] (1) ، ثم يتيمم، ثم يمسح برأسه، ويغسل رجليه؛ فإن التيمم بدلٌ عما تعذّر في اليدين، فليأت به حتى يكون مقيماً فرض اليدين أصلاً وبدلاً، ثم ينتقل إلى فرض الرأس؛ فإن الترتيب مستحق في الوضوء.
ثم تجديد التيمّم لا بدّ منه لكل فريضةٍ. ورأيت الأصحاب مجمعين على ذلك، وعلى أنه لا تجب إعادةُ الوضوءِ، وهذا وإن كان يتطرق إليه احتمال، فهو متَّفَق عليه.
هذا تفصيل القول في صاحب الجبائر.
260- فأما من به جرحٌ، فإن أَلقى عليه لصوقاً، فهو كالجبيرة في كل ترتيبٍ ذكرناه حرفاً بحرفٍ، وفيه زيادة، وهي أنه إذا كان عليه دمٌ، فيتأكّد فيه وجوب قضاء الصلاة من جهة الدم؛ فإن الدم لم يزل، ولم يقع عن إزالة النجاسة بدل، والعذر نادرٌ لا يدوم، وسنستقصي هذا في الفصل الجامع لأحكام القضاء إن شاء الله تعالى.
وإن كان الجرح بحيث لا يحتمل أن يُغطى بلصوق وعصابةٍ، فليس إلا غسل المغسول، والتيمم بسبب العجز عن غسل الجرح، ولا يجب مسح الجرح بالماء، وإن كان لا يضر ذلك وإنما يضر الغسل؛ فإن هذه الأشياء لا يجول فيها القياس، ومسح العصابة والجبائر مما ورد به الأثر والخبر، وأما مسح ما يتعذر غسله، فلا أصل له.
وإن كان يتمكن من إلقاء شيء على الجرح، فهل يجب عليه أن يلقيه للمسح عليه؟ كان شيخي يقطع بأنه يجب إلقاء حائل على الجرح، إذا أمكن لإقامة المسح؛ فإنه لو ألقاه، لوجب المسح عليه بدلاً عما تعذّر من الغسل، فيجب التسبب إليه إذا كان ممكناً، ولم أر هذا لأحدٍ من الأصحاب، وفي إيجاب إلقاء حائلٍ ليمسح عليه بُعدٌ، من حيث إنه لا يُلفى له نظير في الرخص، وليس للقياس مجالٌ في الرخص، ولو اتُّبع، لكان أولى شيء وأقربُه أن يمسح الجرحَ عند الإمكان، فإذا كان لا يجب ذلك وفاقاً؛ فإيجاب إلقاء خرقة لأجل المسح لا نظير له في الرخص.
__________
(1) في الأصل، (د 3) ، وكذا (م) : بدنه.(1/204)
وقد يترتب على ذلك مسألة، وهي أن من كان على طهارةٍ كاملةِ، وقد أرهقه حدثٌ، ووجد من الماء ما يكفي لوجهه و [يديه] (1) ورأسه، ونقص عن رجليه، ولو لبس الخف، لأمكنه أن يمسح على خفّيه، فهل يجب عليه أن يلبس الخف، ثم يمسح بعد الحدث على الخف؟ قياس ما ذكره شيخي إيجاب ذلك، وهو بعيدٌ عندي والله أعلم.
ولشيخي أن ينفصل عما ذكرته في المسح على الخف بما سبق، وهو أنه رخصة محضة، فلا يليق بها، إيجاب لبس الخف، وما نحن فيه من مسالك الضرورات، فيجب فيه الإتيان بالممكن، ومن الممكن إلقاء خرقةٍ يمسج عليها. والله أعلم.
ونحن الآن نرسم فروعاً اختلف أئمتنا فيها، ثم نعقد الفصل الموعود في قضاء الصلوات.
فرع:
261- العاري لو صلى قائماً، وأتمّ الركوع والسجود، لكان متناهياً في التكشف، ولو قعد وأومأ، لكان مخلاً بالأركان، ففي كيفية صلاة العاري وجهان مشهوران: أحدهما - أنه يتم الركوع والسجود والقيام؛ فإن الصلاة هي العبادة المقصودة، والشرائط تجب لها، فلا ينبغي أن يُخل بالأركان رعايةً لشرطٍ، ثم العري لا يزول كله بالقعود.
والثاني - أنه يصلي قاعداً، ويومىء بالركوع والسجود، وليس ذلك لرعاية الستر، وإنما هو لتحسين هيئة الصلاة على حسب الإمكان، ومن تمسّك بوجه من هذين الوجهين، يُبطل الصلاة على الوجه الآخر.
262- وكان شيخي يحكي وجهاً ثالثاً في هذه الصورة، وفي كلّ فرعٍ مما يليها، مما سنذكره. وهو أنه يتخير في إقامة الصلاة على الوجهين جميعاًً.
وقيل: هذا مذهب أبي حنيفة (2) ، ووجهه تعارض الأمرين، وتقابل الأصلين، ولا بدّ من احتمال اختلالٍ في الوجهين جميعاًً.
__________
(1) في الأصل: وبدنه. والمثبت من (م) ، (ل) .
(2) ر. رؤوس المسائل: 144 مسألة: 195، الهداية مع فتح القدير: 1/230، حاشية ابن عابدين: 1/275.(1/205)
ولما ذكرناه نظائرُ، منها أنه لو كان محبوساً في موضعٍ نجس، والنجاسة يابسة، فإنه يصلي، وهل يضع جبهته على الأرض أو يُدنيها؟ فعلى الأوجه الثلاثة. وكان يخصص الخلاف بالنجاسة اليابسة، ويقطع في الرطبة بأنه لا يضع جبهته، وغيره لم يفصلوا، بل أطلقوا، ووجه فصله أن النجاسة الرطبة تعلق بالجبهة، فيصير حاملاً للنجاسة ومصلِّياً معها.
فمن رأى إتمام السجود قال: إنه ركن، وهو أولى بالمراعاة، ومن قال يُدني، قال: قد يسقط الفرض عن المريض بالإيماء، ولا يسقط الفرض مع النجاسة، على ما سنذكره في فصل القضاء.
وفي هذا تلبيس سأذكره.
والنص فيما نقله العراقيون يُشير إلى الاقتصار على الإيماء (1) .
263- ولو كان محبوساً في موضع نجسٍ، ومعه إزارٌ طاهرٌ إن فرشه يعرى، وإن اتَّزر به، صلى على نجاسة، ففيه الأوً جه الثلاثة: أحدها - أن العري أولى؛ فإن في الناس أمماً يصلون عراةً، ولا قضاء عليهم لو اكتسَوْا، والثاني - الستر أولى؛ فإنه يجب عموماً في الصلاة وغيرها، فكان أولى بالمراعاة، ولا يخفى وجه التخيير في الصور.
ولو كان معه إزار نجسٌ، ولو ألقاه، لصلى عارياً، ولو تستر به، لكان حاملاً للنجاسة، ففيه الأوجه المقدمة.
فصل
264- مِن أغمض ما اختبط فيه نقلةُ المذهب، تفصيل القول فيما يجب قضاؤه من الصلوات المختلة، ومالا يجب قضاؤه، وذكر مواقع الوفاق والخلاف، وقد استاق صاحبُ التقريب في ذلك ترتيباً يحوي معظم الطرق، فنتخذه أصلاً، ونُلحق به ما يشذّ عنه إن شاء الله تعالى.
__________
(1) انظر المختصر: 1/34.(1/206)
فإذا اختلّ شرط من شرائط الصلاة، أو ركن من أركانها في ضرورةٍ أو حاجةٍ، نظر، فإن كان وجوب ما اختل لا يختصّ عند التمكن بالصلاة كستر العورة، فإذا لم يجد الرجل ما يستر به عورته، فصلّى عارياً، فقد أطلق صاحب التقريب أن الصلاة لا تجب إعادتها، من حيث إن الستر ليس من خصائص الصلاة، ولهذا ذهب مالك (1) إلى أن من صلى عارياً مع القدرة على الستر، لم تلزمه الإعادة، كمن يصلي في دارٍ مغصوبة.
ونحن نرى أن القضاء يجب لورود الأمر بالستر على الاختصاص بالصلاة، قال الله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] ، قيل: أراد سترَ العورة.
وكان شيخي يفصل القول في صلاة العاري تفصيلاً لا بدَّ منه، وساعده عليه كثير من الأصحاب، فيقول: إن صلّى عارياً في قومٍ يعمّ العريُ فيهم، فلا قضاء عليه، إذا تحول واكتسى. وإن اتفق العريُ نادراً في ناحية يندر ذلك فيها، فهذا يفرّع على أن العاري يُتم الركوع والسجودَ، أم يومىء؟ فإن قلنا: يتم، فظاهر المذهب أنه لا يجب القضاء، كما ذكره صاحب التقريب، ومن أصحابنا من أوجب القضاء؛ للندور، وعدم الدوام. وإن قلنا: يومىء، فالأصح أن القضاء يجب؛ فإنه اختلّت أركان الصلاة بأعذارٍ نادرةٍ لا تدوم.
وفي المسألة وجهٌ آخر، أن القضاء لا يجب، وسنبين أصله في أثناء الفصل.
والذي أراه أن العري إذا عمّ في قومٍ كما ذكرناه، فالوجه القطع بأنهم يُتممون الركوع والسجود؛ فإنهم يتصرفون في أمورهم لمسيس الحاجة عراةً، فيصلون كذلك، ولا يقضون، وجهاً واحداً.
فهذا مما لا يختص وجوبه بالصلاة.
265- فأما ما يختصّ وجوبُه بالصلاة، كطهارة الحدث، وإزالة النجاسة، وكالأركان في أنفسها، فإذا تطرق الخلل إلى شيء منها، لم يخل: إما أن يكون بعذر عام، أو بعذرٍ خاص، فإن كان السبب عذراً عاماً، فأدى المرء ما كلِّف في الوقت،
__________
(1) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/259 مسألة: 272، جواهر الإكليل 1/41.(1/207)
فلا قضاء عليه. وألحق الأئمة بذلك قعودَ المصلي في الفرض بعذر المرض؛ فإن المرض الذي يجوز القعودُ لأجله يعمُّ إذا أضيف إلى جملة الناس، على ما قربنا القولَ فيه. وعُدَّ من هذا القسم التيمّمُ في السفر، عند إعواز الماء؛ فإن ذلك مما لا يندر.
وفي هذا القسم [مزيد مع] (1) العموم، وهو أنه إن اختل الوضوء، أثبت الشرع عنه بدلاً، وهو التيمم، فقام في محلّه مقام المبدل.
266- فأما إذا كان العذر الذي هو سبب الاختلال نادراً، فهذا ينقسم قسمين: أحدهما - أنه يكون بحيث يدوم غالباً، وإن كان نادراً. والثاني - أن يكون نادراً غير دائم، فإن كان نادراً يدوم كالاستحاضة، وسلسل البول، واسترخاء الأُسْر، ونحوها.
فكل اختلال جرّه هذا الفن، فهو معفوٌّ عنه.
ثم لا فرق بين خللٍ اقتضى بدلاً، وبين ما لا بدل له أصلاً؛ فإن المستحاضة وإن كانت تتوضأ لكل صلاةٍ مفروضة، فليس للنجاسات الدائمة إزالة، ولا بدل عنه، ولكن لا خلاف في العفو.
267- فأما العذر النادر الذي لا يدوم، فإذا تضمن خللاً، لم يخْلُ إما أن يكون خللاً مع بدلٍ، أو لم يكن بدل، فإن كان البدل ثابتاً، كما إذا اتفق عدمُ الماء في بلدة، بأن غارت العيون، وانقطعت المياه، فهذا يندر ولا يدوم؛ فإن أهلها يتحولون ويسعَوْن على البدار في إنباط الماء، ثم يتيممون ويُصلون، فإذا وجدوا الماء، فهل يلزمهم القضاءُ؟ فعلى قولين مشهورين.
وكذلك إذا أصاب المسافرَ بردٌ وكان جنباً، ولم يتمكن من تسخين الماء الموجود، ولا من ثياب تُدفئه، ولو استعمل الماء البارد، لخاف على نفسه، فإنه يتيمّم، وفي وجوب القضاء قولان.
ويندرج تحت ذلك القضاء على صاحب الجبائر؛ فإن ذلك العذر نادرٌ لا يدوم.
__________
(1) في الأصل وحدها: " من يدفع العمومَ " وهو تحريف واضح.(1/208)
وقد أثبت الشارع عما تعذر من الغسل بدلاً كما سبق وصفه، فلا جرم اختلف القول في القضاء.
وكان شيخي يقول: قال الشافعي (1) : " إن صحّ ما روي عن علي رضي الله عنه أنه كان انكسر زنده؛ فالقى عليه الجبيرة، وكان يمسح عليها، فلم يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بقضاء الصلوات "؛ فإنقطع بإسقاط القضاء (2) .
وهذا توقف منه في صحة الحديث.
268- فأما إذا كان العذر نادراً غير دائم، وكان الخلل إلى غير بدل، فظاهر المذهب (3) إيجاب القضاء، وهو كما لو عدم الماء والتراب؛ فإن فقدان غبرة (4) تثور نادر جداًً غيرُ دائم.
فإذا صلى على حسب الإمكان، ثم وجد طهوراً، فالذي يوجد منصوصاً (5) للشافعي القطعُ بإيجاب القضاء؛ لندور العذر، ولانتفاء البدل، وعدم الدوام.
ومذهب المزني (6) أن كل من صلى على حسب ما أمر في الوقت، لم يلزمه القضاء أصلاً، طرداً للقياس.
ثم ظاهر مذهب الشافعي أن وقت الصلاة لا يصادفُ عاقلاً قط إلا يلزمه إقامة الصلاة على حسب الإمكان، وإنما يسقط فرضيةُ الصلاة بسقوط التكليف، أو بالحيض في حق المرأة (7) . وهذا هو مذهب المزني. ثم قال المزني مع اعتقاده ذلك: " من أقام
__________
(1) ر. المختصر: 1/35، والأم: 1/38.
(2) حديث علي رواه ابن ماجه والدارقطني، والبيهقي، قال النووي: اتفقوا على ضعف حديث علي هذا. (ر. سنن ابن ماجه: 1/215 ح 657، وتلخيص الحبير: 1/146 ح 250، والمجموع: 2/324) .
(3) في هامش (م) حاشية نصها: " هذا الذي ذكره ظاهر المذهب، وهو المعتمد عليه، وفيه وجه بعيد أنه لا يصلي في الوقت. والله أعلم " ا. هـ.
(4) عبارة (ل) : فإن فقدان عينهما عذر نادر جداًً.
(5) ر. الأم: 1/44.
(6) ر. المختصر: 1/35.
(7) ر. الأم: 81.(1/209)
الصلاة في الوقت على حسب الإمكان، لم يلزمه القضاء أصل " (1)
وقد أضاف كثير من أئمتنا في الطرق هذا القول إلى الشافعي، وسنذكر من كلام الشافعي في آخر الفصل ما يدل على هذا. إن شاء الله
269- ومن التبس عليه القبلة، ولم يتمكن من الاجتهاد، ولم يجد من يققده، فيصلي على ما يظنه، ويلزمه القضاء.
وقال المزني: لا قضاء عليه. وهو معزِيٌّ (2) إلى الشافعي على بعدٍ.
وقال أبو حنيفة: كل صلاةِ لو أقيمت على صفةٍ وجب قضاؤها، فلا يجب إقامة تلك الصلاة في الوقت أصلاً (3) . وهذا أضيف إلى الشافعي قول أيضاً. وفي كلام الشافعي ما يدل عليه، كما سنذكره، وإذ ذاك نُنبّه على سرٍّ إن شاء الله تعالى.
270- ومما يلحق بهذا القسم أن من صلى وعلى جرحه دم، فالدم ليس عنه بدل. فإذا كان العذر نادراً، غير دائم، فالظاهر القطعُ بوجوب القضاء إلحاقاً بما ذكرناه، وفيه الخلاف المذكور في نظائره.
قال صاحب التقريب: العذر الذي يترك المصلي القيام فيه يعدّ من الأعذار العامّة، والعذر الذي يصلي بسببه مضطجعاً من الأعذار النادرة، ولكنها إذا وقعت، دامت في الغالب، فلا قضاء على صاحب هذا.
271- ولا يخرج عن هذا الضبط الذي ذكرناه إلا الصلاة في شدة الخوف والمسايفة، كما سيأتي وصفها؛ فإنه اختلالٌ ظاهر، في الأفعال، والأركان، وسببه عذرٌ نادر لا يدوم، ثم لا يجب القضاء قول واحداً، وذلك رخصة مستثناة عن القواعد، متلقاةٌ من نص القرآن، قال الله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] .
272- ثم نختم الفصل بأقوالٍ حكاها معظم النقلة، واختص بدرك معناها خواص
__________
(1) المختصر: 1/35، 36.
(2) الفعل واوي ويائي: عزوته، وعزيته.
(3) ر. حاشية ابن عابدين: 1/168.(1/210)
الفقهاء، وهي أن من أقام صلاة في الوقت على اختلالها، مع بذل الإمكان، ثم أمرناه بالقضاء، فقضاها، فالواجب من الصلاتين أيتهما؟ فعلى أربعة أقوال:
أحدها - أن الواجبة هي الأولى.
والثاني - أن الواجبة هي الثانية.
والثالث - أنهما جميعاًً واجبتان.
والرابع - أن الواجبة إحداهما لا بعينها.
قال صاحب التقريب: إن قلنا: إن الواجبة هي الأولى، فهذا عينُ مذهب المزني؛ فإن الثانية قضاءٌ، فإذا لم تجب، فقد انتفى وجود القضاء صريحاً.
وإن قلنا: الواجبة هي الثانية، فهذا تصريح بأن إقامة الصلاة في وقتها لا يجب كما حُكي عن أبي حنيفة.
وإذا قلنا: هما واجبتان، فهذا جريان على ظاهر المذهب في إيجاب أداء حق الوقت، مع إيجاب القضاء.
وإذا قلنا: الواجبة إحداهما لا بعينها، فيجب حمل هذا على وجوب إقامتهما جميعاًً، حتى يتأدى بإقاتهما المفروضة منهما، كمن نسي صلاة من صلوات لا يدري عينَها؛ فإنه يلزمه قضاء الصلوات.
ويجوز حمل هذا القول على أن القضاء لا يجب؛ فإن من صلى منفرداً، ثم أدرك جماعة، فصلى مرةً أخرى، فقد قال الشافعي في قولٍ: إن المفروضة إحداهما لا بعينها، وإن كان لا يجب الإقدام على الصلاة الثانية المقامة في الجماعة.
فهذا ما وعدنا التنبيه عليه.
273- وأما السر الذي ذكرناه، فمذهب أبي حنيفة أن الصلاة التي لو أقيمت، لوجب قضاؤها، لا يجوز إقامتها في الوقت، بل يحرم الإقدام عليها مع الخلل، كما يحرم على المرأة إقامة الصلاة في حالة الحيض، وليس هذا مذهباً للشافعي.
وذكر بعض المصنفين أن هذا القول البعيد مثلُ مذهب أبي حنيفة، ومقتضى ذلك المنعُ من الصلاة، وتحريمُ الإقدام عليها، وهذا بعيدٌ جداً.(1/211)
ثم إذا قلنا: يقيم الصلاة في الوقت، ثم يجب قضاؤها، فالمذهب الظاهر أن ما يقيمه في الوقت صلاة، ولكن يجب تدارك النقص الذي فيها. ولا يتأتى استدراك ذلك النقص وحده؛ فيقيم صلاةً كاملةً عند زوال العذر.
ومن أصحابنا من قال: ما يقيمه في الوقت تشبُّهٌ بالصلاة، كالإمساك عن المفطرات في نهار رمضان، في حق من أفطر عامداً.
وهذا بعيد جداًً؛ لأن النية لا تجب في التشبه بالعبادات، والنية واجبة في الصلاة التي يقيمها في الوقت.
وممكن أن يقال: الممسك في رمضان قد فاته وقت النية، والذي يصلي على النقص بخلافه، فالنية كسائر الأركان التي يأتي تصورّها.
فإن قيل: هلاّ قلتم: الصلاة المقامة في الوقت فاسدة، كالحجة الفاسدة التي يجب المضيُّ فيها؟ قلنا: إيجاب الإقدام على الفاسد محال، وأما التشبُّه، فلا يبعد إيجابه، وإنما وجب المضي في فاسد الحج من حيث إنه لا يتصور التخلّي (1) منه.
فهذا مجموع ما أردناه.
274- ثم مما لا يخفى أن ما وصفناه بالدوام من الأعذار، وربطنا بها إسقاط القضاء، فلو اتفق زواله بسرعة، فهو كالدائم المتمادي، نظراً إلى الجنس، والذي وصفناه بأنه لا يدوم لو اتفق دوامه، [لم] (2) يلتحق بما يدوم في جنسه، بل حكمه حكم ما ينقطع على قرب، إِلحاقاً لما يشذّ عن الجنس بالجنس.
فهذا تمام القول فيما يتعلق بالقضاء. والله الموفق للصواب.
فرع:
275- قال الصيدلاني: من رُبط على خشبة، فأدركه وقتُ الصلاة. قال: إن كان وجهه إلى القبلة، فصلى على حسب حاله، [لم] (3) يلزمه القضاء، كما لو مرض، فصلى بالإيماء على جنْبٍ. وإن لم يكن وجهه إلى القبلة، فيلزمه القضاء.
__________
(1) تخلّى منه، وعنه: تركه (القاموس) وفي (م) : التحلل.
(2) في الأصل: ثم
(3) في الأصل: ثم. والمثبت من: (د 3) ، (ل) (م) .(1/212)
فأما إيجاب القضاء إذا لم يكن وجهه إلى القبلة، فجارٍ (1) على ظاهر المذهب، كما تقدم الكلام في نظائره، وأما قطعه القولَ بإسقاط القضاء عن المستقبِل المربوط، ففيه نظر؛ فإن سبب ذلك عذرٌ نادرٌ لا يدوم، وليس من جنس المرض، حتى يعدّ ملحقاً به.
فرع:
276- إذا ألقى الجبيرة، ثم توهم الاندمال، فبحث، فإذا العذر قائم، فالأصح أنه لا يلزمه تجديدُ التيمم. بخلاف ما لو ظنّ المتيمم العادم للماء أن بالقرب منه ماء، ثم طلب فلم يكن، فإنه يلزمه إعادة التيمم.
والفرق أنه يجب طلب الماء على من ظنه، ولا يجب طلب الاندمال.
ومن أصحابنا من أبطل تيمّم من ظنّ الاندمالَ، ثم أخلف ظنَّه، كالعادم للماء، ومن قال: لا يجب البحث عن الاندمال، عند إمكانه، وتعلّق الظنُّ به، فليس ما قاله نقيًّا عن الاحتمال.
ثم ذكر الشافعي أن المقيم السليم إذا كان واجداًً للماء، فحضرت جنازة، لم يتيمم. وقصد به الردّ على أبي حنيفة؛ فإنه جوّز التيمّم عند خوف فوات صلاة الجنازة (2) ، وأنكر الشافعي ذلك، واحتج بفصولٍ ظاهرة ليست من غرضنا.
فصل
277- إذا وجد المحدث في سفره من الماء ما لا يكفيه لتمام طهارته، فهل يلزمه استعمالُ الموجود، والتيمّم عن المفقود؟ فعلى قولين مشهورين: أحدهما - أنه لا يجب استعمال الماء، ويقتصر على التيمم؛ فإن الماء أصلٌ، والتيمم بدل، ووجود بعض الأصل بمثابة عدمه أصلاً، اعتباراً بمن وجد نصف رقبةٍ في الكفارة المرتَّبة.
__________
(1) في (ل) : فجاز.
(2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/148 مسألة: 50، المبسوط: 1/118، الهداية مع فتح القدير: 1/122، حاشية ابن عابدين: 1/161.(1/213)
والقول الثاني - يجب استعمال ما وَجدَ من الماء، والتيممُ بسبب الباقي، كما لو سقط بعضُ أعضاء وضوئه؛ فإنه يجب عليه أن يغسل ما بقي منها.
وهذا القول يلتفت توجيهه على جواز تفريق النيّة على أعضاء الوضوء، كما سبق تقريره في تفريع تفريق الوضوء فعلاً، فكأن كلَّ عضوٍ مقصودٌ بنفسه.
وتوجيه القولين مستقصىً في الخلاف (1) .
ثم إن أوجبنا استعمال ما وجده، فلا خلاف أنه يجب تقديم استعمال الماء الموجود أولاً؛ فإن سبب التيمم عدمُ الماء، وهذا لا يتحقق ما لم يستعمل ما وجده.
278- ومما يتفرع أن المتيمم إذا وجد ما لا يكفيه لوضوئه، وعلم مقدارَه، فإنْ كنا لا نوجب استعمالَه، لم يبطل تيممه، وإن كنا نوجب استعمالَه، فيبطل التيمم، فليغسل بما وجده ما قدر عليه، وليجدد التيمم.
وفرّعَ:
279- ابن سريج فرعاً، فقال: الجنب لو اغتسل، وأغفل لمعةً من أعضاء وضوئه ونفِد الماءُ، ثم أحدث، فإنه يتيمم.
فلو تيمّم، ثم وجد ماءً قليلاً، لا يستوعب أعضاء وضوئه، ويستوعب اللمعةَ المغفلة، فإنْ فرَّعنا على أنه يجب استعمالُ الماء القليل الذي لا يستوعب الطهرَ، فيبطل التيمم على ذلك. هكذا قال ابن سريج.
وعلّل بأن قال: لما أحدث، وتيمّم، وقع تيمّمه عن بقية الغسل، وعن الحدث المتجدد، فلما وجد الماء، تعين عليه صرفُه إلى بقية الغسل، فإذا فعل ذلك، فقد بطل تيممه، فإنه كان التيمم عن الغسل والحدث، ثم بطل ما وقع عن الغسل، والتيمم لا يتبعّض في البطلان؛ فلزمت إعادة التيمم بسبب الحدث الذي كان طراً (2) .
فأما إذا فرّعنا على أن الماء القليل الذي نقص عن الطهر لا يجب استعماله، فقد قال ابن سريج: لا يبطل التيمم على هذا القول؛ فإن التيمم من جهة وقوعه عن
__________
(1) لم يعرض لهذه القضية في الدّرة المضية، فلعله عرضها في كتاب آخر من كتبه في الخلاف.
(2) في (د 3) : طرداً.(1/214)
الحدث لا يبطل على هذا القول، فإن الماء الذي وجده قاصرٌ عن الوضوء، فلا يجب استعماله، ولا يؤثر وجودُه في التيمم الواقع عن الحدث، والغسل قد تم.
280- وهذا عندي غير صحيح؛ فإن التيمم أولاً وقع عن بقية الغسل والحدث، فإن كان لا يبطل بسبب الحدث لو تجرد على هذا القول، فوجب أن يبطل في حق الغسل، ثم لا يتبعض البطلان. ولو كان المعنى الذي ذكره صحيحاً، لوجب ألا يبطل التيمم على القول الأوّل [أيضاً] (1) ؛ فإن الماء القليل وإن أوجبنا استعماله في الوضوء، لو تجرّد الحدث، فإذا فرضنا بقية الغسل، فالماء مستغرق بها، متعيّن لها، وهو في حكم المفقود، في حق الوضوء، فكان يجب ألا يبطل التيمم لذلك، فإذا بطل فعله، لاستحالة التبعيض كما ذكرناه، وجب طردُ البطلان على القولين جميعاً.
وقد حكى الصيدلاني تفريعَ ابن سُريج، ولم يعترض عليه.
فصل
281- نقل شيخي وبعض المصنفين في المذهب: أن المسافرين إذا نزلوا، ودخل وقت الصلاة، وكان عن يمين المنزل أو يساره ماءٌ لو قصده وحصّله، لم يخَفْ على نفسه وماله، ولم ينقطع عن الرفقة، ولم يخرج وقت الصلاة - أنه يلزمه استعمال الماء، ولا يجوز له أن يصلي بالتيمم.
قال: وقال الشافعي: " لو كان الماء بين يدي المسافر (2) ، وهو يمرّ مرّاً، وعلم أنه ينتهي إلى الماء قبل انقضاء الوقت، لو اندفعت العوائق، فيجوز له أن يتيمّم في أول الوقت ".
فاختلف أئمتنا في النصّين، فمنهم من قال في المسألتين جميعاً قولان: أحدهما - يتيمّم في الموضعين سواء كان الماء المستيقن عن جانب المنزل، أو بين يديه؛ فإنه ليس واجداًً للماء في الحال؛ وقد علق الله تعالى رخصة التيمم بفقدان الماء حالة التيمم، وهذا المعنى يتحقق فيمن نزل على غير ماءٍ.
__________
(1) مزيدة من (ل) .
(2) في (ل) : " بين يدي المسافر في جهة صوبه، وهو يمرّ ... ".(1/215)
والثاني - لا يتيمم؛ لأنه متمكن من الوصول إلى الماء على يُسرٍ؛ فكان هذا كوجود الماء في الحال.
ومن أصحابنا من أقرَّ النصين قرارهما، وفرّق بأن الماء إذا كان على اليمين أو اليسار، فهو منسوب إلى المنزل، والنازل قد يتيامن ويتياسر وينتشر في حوائجه، ولا يمضي في صوب قصده، ثم يرجع القهقرى، فليس الماء بين أيدي المسافرين منسوباً إليهم، ويشهد لذلك ما روي أن عبد الله بن عمر قفل من سفرةٍ له إلى المدينة، فلما انتهى إلى الحرّة، دخل وقت العصر، فتيمم وصلّى، فقيل له: أتتيمّم وجدرانُ المدينة تنظر إليك، فقال: أو أحيا حتى أدخلها؛ ثم دخل المدينة والشمس حيّة، ولم يقض الصلاة (1) .
فإن قلنا: لا يتيمّم فالمرعيّ فيه الأوصاف التي ذكرناها، وهي الأمن الغالب على النفس والمال، [وألا] (2) ينقطع عن الرفقة، فإن كان الماء بمكانٍ لو قصده بمركوبه الذي هو عُدّته وعاد إليها، ثم ارتحل القوم، لتقاعدت دابّتُه، فهذا من الانقطاع عن الرفقة، والماء كالمعدوم في هذه الصورة.
ولو لم يكن عليه بأس لو انقطع، ولأمكنه (3) أن ينتهي إلى مقصد نفسه، فهذا فيه عُسر، والاحتمال يتطرق إليه.
282- وإن قلنا: يتيمم، فلو كان الماء على مسافةٍ يجب طلب الماء عند الإشكال (4) منه، فلا شكّ أنه يجب استعماله. وإن كان أبعد من مسافة الطلب قليلاً، فلا يبعد أن يقال: إن كان الماء على مسافة ينتشر إليها النازلون في الاحتطاب
__________
(1) حديث تيمم ابن عمر قبيل دخول المدينة، أصله عند الشافعي، ورواه الدارقطني، والحاكم، والبيهقي، وذكره البخاري في صحيحه تعليقاً. (ر. البخاري: 1/525 كتاب التيمم، باب التيمم في الحضر إذا لم يجد الماء ح 337، والأم: 1/41، والدارقطني: 1/186، ح 2، 3، 4، والحاكم: 1/180، والبيهقي: 1/233، تلخيص الحبير: 1/145، ح 196) .
(2) في الأصل: وإن كان لا ينقطع.
(3) في (د 3) : ولا يمكنه.
(4) كذا في النسختين وفي (م) ، (ل) أيضاًً، والإشكال بمعنى الالتباس.(1/216)
والاحتشاش، وينتهي إليها البهائم في الرعي، ولم يكن حائل، فيجب تحصيل الماء المستيقن في هذه الصورة، وهذه المسافة تزيد على مسافة الطلب عند الإشكال.
ثم إذا جوزنا التيمّم عند بعد الماء، فلا خلاف أن الأولى أن يؤخر الصلاة ليصلي بالوضوء، إذا كان الماء معلوماً، فأما إذا كان يرجو الماء في آخر الوقت، وهو يظنّ ولا يستيقنه، فدخل وقتُ الصلاة، فيجوز إقامة الصلاة بالتيمم في أول الوقت وفاقاً، ولكن اختلف القول في الأَولى، فأحد القولين: أن الأولى تعجيل الصلاة بالتيمم؛ فإن هذه فضيلة ناجزة، ووجود الماء مأمول غيرُ مستيقن.
والثاني - أن التأخير أفضل؛ لإقامة الصلاة مع ارتفاع الحدث.
ولو لم يغلب الظن في وجود الماء، فلا خلاف أن التعجيل بالتيمم أفضل، ثم إن عجل الصلاة بالتيمم إما في صورة القولين عند رجاء (1) الماء، وإما في الصورة الأخيرة، ثم وجد الماء قبل انقضاء الوقت، فلا يلزمه قضاء الصلاة أصلاً.
ثم ما ذكرناه من اختلاف القولين في استحباب التعجيل والتأخير فيه إذا كان يقتصر على صلاةٍ واحدةٍ، فإن تيمّم وصلى في أول الوقت، ثم صلى متوضئاً في آخر الوقت، فهو النهاية في إحراز الفضيلة.
ولو دخل أول وقت الصلاة، وكان الرجل يرتقب جماعةً في آخر الوقت، فلا خلاف أن تعجيل الصلاة مع الانفراد أولى، فإن الجماعة فضيلة محضة مرقوبة، والتعجيل فضيلةٌ ناجزة، وليس كالصلاة بالوضوء في آخر الوقت؛ فإن الوضوء عند وجود الماء والتمكن منه واجب، فقابل مظنون لو تحقق، لكان واجباً فضيلةً ناجزةً، فخرجت المسألة على قولين.
فصل
283- نصَّ الشافعي على أن طائفةً لو انتهَوْا في السفر إلى بئر، وكانت لا تحتمل إلا نازحاً واحداً، فكانوا يتناوبون عليها، فعلم واحد منهم أن النوبة لا تنتهي إليه إلا بعد
__________
(1) (د 3) : وجود الماء.(1/217)
انقضاء وقت الصلاة، لا يتيمم، ويصبر حتى تنتهي النوبةُ إليه، ثم يقضي الصلاة (1) .
وكذلك نصّ على أنه لو كان بينهم دَلوٌ واحدٌ، وكانت النوبة تنتهي إلى واحدٍ بعد فوات وقت الصلاة، أنه يصبر ولا يبالي بفوات الصلاة.
وكذلك لو كان بين طائفة من العراة ثوبٌ يتداولونه، فعلم واحدٌ أن الصلاة ينقضي وقتها قبل انتهاء النوبة إليه، قال: يصبر، ولا يصلي في الوقت عارياً.
ونص على أن جماعةً لو كانوا في بيت ضيق، أو سفينةٍ، وليس هناك إلا موضع واحد يتأتى فيه القيام في الصلاة، وكانوا يتناوبون عليه، فعلم واحد أن النوبة لا تنتهي إليه في الوقت قال: يصلي قاعداً في الوقت.
وهذا يخالف نصوصَه في المسائل المتقدمة.
284- وقد أُلقيت هذه النصوص على أبي زيد المروزي، وكان من أذكى الأئمة قريحة، فلم يلُح له فرق، ورأى تخريجَ المسائل كلها على قولين: أحدهما - أنه يصلي في الوقت على حسب الإمكان.
والثاني: أنه يصبر في المسائل كلها، حتى يتمكن من تمام الفرض.
وفرّق بعض الأصحاب بأن أمر القيام أهون، بدليل أنه لا يُشترط في النافلة.
وهذا فاسد، لا مبالاة به، مع القطع بأن القيام ركن في الصلاة.
285- ثم لو صلى بالتيمم في هذا المسائل وهي مفروضة في المسافر، فلا قضاء عليه، والماء كالمعدوم في الوقت.
وكذلك لو ضاق الوقت، ولاح للمسافر الماءُ، ولا عائق، وعلم أنه لو اشتغل به، لفاته الصلاة، فقد نص الشافعي في ذلك أيضاً على مثل ما نص عليه في الدلو والبئر. وهذه الصورة مندرجةٌ في الخلاف، وتصرّف الأصحاب.
ولو فرض ضيق الوقت، وخوف الفوات في المقيم، فلا خلاف أنه لا يتيمم.
وإذا قلنا: يصلي قاعداً، ففي وجوب القضاء احتمالٌ، من جهة أن ذلك عذرٌ
__________
(1) ر. الأم: 1/39، 40. وفي (م) : ثم يقضي الصلاة بعد الوقت بالوضوء.(1/218)
نادرٌ، فلنعرض ذلك على القواعد الممهّدة في إثبات القضاء ونفيه، كما سبق في الفصل الجامع.
فصل
قال: " ولو نَسي الماءَ في رَحْلِه ... إلى آخره " (1) .
286- المسافر إذا كان في رحله ماء، وقد علمه، ثم نسيه، وتيمّم على أنْ لا ماء معه، فظاهر المذهب أنه يلزمه إعادةُ الصلاة بالوضوء، إذا تذكر.
وقال أبو حنيفة لا تلزمه الإعادة (2) .
وقد خرّج بعضُ الأصحاب قولاً للشافعي، مثل مذهب أبي حنيفة، من قول قديم للشافعي: أن من نسي قراءة الفاتحة في صلاته، صحت صلاته. وأطلق بعضُ العراقيين حكايةَ القولين.
ولو لم يكن في رحله ماء، فأدرج إنسان فيه ماء، من حيث لا يشعر، فتيمم، على اعتقاد أن لا ماء معه، ثم اطلع، فقد ذكر الصيدلاني طريقين، قال: من أئمتنا من جعل هذا كما لو علم الماء، ثم نسيه في رحله.
والطريقة المرضيّة القطع أن لا يلزمه قضاء الصلاة.
وإن كان في رحله ماءٌ فأضلّه، فإن طلبه، فإنتهى في الطلب إلى غلبة الظن في أنه فاقدٌ للماء، ثم تيمم وصلى، ووجد الماء، فهذا خرّجه أئمة المذهب على القولين فيمن اجتهد في طلب جهة القبلة وصلى، ثم تبيّن له أنه مخطىءٌ، ففي وجوب القضاء قولان.
ولو أضلّ رحلَه في الرحال، ثم طلب، ولم يجده، وتيمّم، فهو كما لو أضل الماء في رحله.
__________
(1) ر. الأم: 1/40.
(2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/150 مسألة: 54، رؤوس المسائل: 118 مسألة: 24، الهداية مع فتح القدير: 1/124، حاشية ابن عابدين: 1/166.(1/219)
ومن أصحابنا من فرَّق بين أن يضل الماء في رحله، وبين أن يُضلّ رحلَه في الرحال، وقال: على من أضل الماء في رحله قضاء، ومن أضل رحله، لم يَقْضِ. وهذا أعدل الوجوه؛ والفرق أن من أضل الماء في رحله، ثم وجده، فالرحل أضبط للماء، من مخيم الرفقة لرحل واحدٍ، وأيضاًً فمن صلى في رحله، وقد أضل الماء فيه، فقد صلى على الماء، ومن صلى، وقد أضل رحله في الرحال، فقد صلى وليس على الماء.
ولو أضل الماء في رحله، أو أضل رحله في الرحال، ولم يطلب، أو لم يُمعن في الطلب، بحيث يحصل له غلبة الظن، يلزمه القضاء، قولاً واحداً.
ولو تيمّم، ثم رأى بالقرب منه بئراً فيها ماء، فإن كان قد عهد تلك البئر قديماً، ثم نسيها، فهو كما لو نسي في رحله ماء، وإن لم يكن عهد تلك البئر، فهو كما لو أُدرج ماءٌ في رحله، ولم يشعر.
وقد يكون للفقيه مزيّة نظرٍ فيه، إذا كان عَهِد البئر، وتقادم العهد، بحيث لا يكون الناسي في مثل ذلك الأمر منسوباً إلى الذهول.
فصل
287- إذا لم يكن مع المسافر ماء، وكان الماء يعرض على البيع، فإن لم يكن معه ما يشتريه به، أو كان، ولكنه مستغرَق بحاجة سفره في ذهابه وإيابه إلى وطنه، فهو كالمفقود، فيتيمم، وسبيل اعتبار الذهاب والرجوع إلى الوطن في ذلك كسبيله في بيان استطاعة الحج.
ولو وجد من يُقرضه، فإن كان يملك ما يفي بقضائه، لزمه القبول، فإن لم يكن في ملكه ما يفي بقضائه، لم يلزمه الاقتراض على توقع أن يجد ما يفي به.
ولو وهب منه ثمن الماء، لم يلزمه القبول إجماعاً؛ فإن المنّة تثقل فيه، ولو وهب منه الماء نفسه، يلزمه القبول؛ فإنه ممن (1) يهون تحمّله، وقد جرى العرف بالبذل والقبول فيه.
__________
(1) كذا في النسخ كلها. وله وجه يطلب في كتب النحو.(1/220)
ولو كان يحتاج إلى رشاءٍ أو دَلْو، فوهب منه، لم يلزمه قبوله. ولو أعير منه، لزمه قبول العارية.
وهل يلزمه استيهاب الماء، وطلب العارية في الدَّلو والرشاء؟ فعلى وجهين: أحدهما - يجب؛ لأنه [هيّن] (1) الطلب، والمنّة تخف.
والثاني - لا يجب؛ فإن التعرض للسؤال صعبٌ على ذوي المروءات، وإن هان قدر المسؤول.
ولو كان عليه دينٌ يستغرق ما في يده، فقد كان شيخي يقول: لا يجب شراء الماء؛ فإن من يعتبر في حقّه الاستطاعة في الحج، فنكلفه أن يحط قدر ديونه من ماله، ثم يرعى بعد ذلك الزاد والراحلة، وسائر الأُهب.
فإن قيل: إذا كان معه ما يزيد على أهبة السفر، ولا دين عليه، ولكن الماء كان يُباع بغبن، فهل يلزمه الشراء؟ قلنا: لا نكلفه بذلَ شيء، وإن قلّ بغبنٍ، بل يتيمم؛ وذلك أن ضياع المال نُزِّل منزلة الخوف على الروح، ولذلك يجوز الدفع عن المال، بما يجوز أن يُدفع به عن الروح.
288- ثم اختلف أصحابنا في ثمن مثل الماء، فقال الأكثرون: يُعتبر ثمن مثله في الزمان والمكان الذي مسّت الحاجة، وفي ثمن الماء في البوادي عند الإعواز تقريبٌ لا يكاد يخفى مُدركه، فإن زاد عليه صاحبُ الماء، كانت تلك الزيادة غبناً، فلا يعتبر ثمن الماء حالة الوجود والسلامة.
ومن أصحابنا من قال: الماء لا ثمن له، ولكن تعتبر فيه أجرة الناقل، وذلك يختلف بالبقاع، وطول المسافة وقصرها، وهؤلاء بنَوْا هذا الوجه على أن الماء لا يُملك. وهو وجهٌ سخيفٌ ضعيفٌ، نذكره في كتاب البيع. إن شاء الله تعالى.
وذكر بعضُ المصنفين وجهاً ثالثاً: وهو أن نعتبر ثمن المثل عند وجود الماء والسلامة، وهذا ليس بشيء، ولكن الذي يوجّه به هذا الوجه، أن غلوَّ ثمن الماء في البادية لا ضبط له، سيما إذا كثر العِطاشُ، وقد ينتهي الأمر إلى حالةٍ لا تغلو فيها
__________
(1) في الأصل، (م) : من.(1/221)
شربةُ ماءٍ بمالٍ عظيم، وقِيمُ الأشياء تغلو بكثرة الراغبين، ويبعد عن قياس الرخص والتخفيفات أن نوجب على المسافر شراء ماء وضوءٍ واحدٍ بدنانيرَ كثيرةٍ، ونحن لا نكلفه أن يتقلّد مِنَّةَ قبول درهمٍ واحدٍ.
وهذا عندي يُحوج الناظرَ إلى مزيد فكرٍ؛ فإن المُهَجَ إذا أشفت على الزهوق، لم تغل المياه على أصحابها، ويعد الكثير -من حيث إنه سِداد الروح- نَزراً قليلاً، وابتياع الماء بهذه الأثمان للاستعمال في المهنة يعد غَبناً.
فالأقرب عندي أن يقال: لا نعتبر ثمن الماء عند الحاجة إلى سدّ الرمق؛ فإن ذلك لا ينضبط، ولكن نعتبر المكان والزمان، من غير انتهاء الأمرِ إلى سدّ الرماق والمهج. والله أعلم.
289- ولو كان مع الرجل ماء وهو يحتاج إليه لسقيه، تيمّم.
ثم القول فيما يناله من الضرورة لو توضأ بالماء، كالقول في الخوف المعتبر في المرض.
ولو لم يكن به عطش في الحال، ولكن يخاف العطشَ بين يديه، فليتزوّد الماءَ، مستظهراً به، وليتيمم. ولو كان رفيقه يحتاج إلى الماء، تعين عليه تسليم الماء إليه بالثمن، فلا يحلّ له أن يتوضأ (1 قال شيخي: يتزود لرفقائه، ولا يتوضّأ 1) ، كما يتزوّد لنفسه.
وهذا فيه نظر (2) .
ولو كان هو محتاجاً، فهو أولى بمائه، وله أن يؤثر رفيقه على نفسه، فإن الإيثار من شيم الصالحين. ولو كان رفيقه يلهث عطشاً، وكان صاحب الماء يتزوّد لغَده في [محالّ] (3) الخوف، فهذا فيه احتمالٌ عظيم، وتردّد، سأذكره في كتاب الأطعمة، عند تفصيل القول في الضرورات وأكل الميتة، وطعام الغير.
__________
(1) ساقط من (د 3) .
(2) في (ل) : " وهذا فيه أدنى نظر ".
(3) في الأصل: مجال.(1/222)
290- ولو كان معه بهيمة هي عُدّته، ولو لم يسقها، عطبت، وانقطع هو، سقاها، وتيمّم.
ولو كان لا ينقطع بموتها عن سفره، ولكن البهيمة كانت تموت، فلرعاية حرمة الروح المحترمة يسقيها ويتيمم أم يتوضأ؟ فإن حرمة البهائم لا تبلغ مبلغ حرمة الآدميين - كان شيخي يقطع بأنه يسقيها ويتيمّم. والله أعلم.
291- ولو كان معه ما غيرُ مستغرَقٍ لحاجةٍ حاقَّةٍ، ولا متوقّعة، فصبّه هزلاً، نُظر: فإن كان ذلك قبل دخول وقت الصلاة، فإذا دخل وتيمّم، لم تلزمه إعادة الصلاة؛ فإنه صب الماء في وقت، كان لا يجب فيه الوضوء.
وإن صبّ الماء بعد دخول الوقت، فقد تعدّى وعصى، ولكنه يتيمّم، ويصلي، وهل يلزمه قضاءُ الصلاة؟ فعلى وجهين: أصحهما - أنه لا يجب؛ فإنه وإن عصى بما فعل، فلقد تيمّم، وهو فاقدٌ للماء حال التيمّم.
والوجه الثاني - أنه يلزمه القضاء لانتسابه إلى المعصية في سبب التيمم، والرخص لا تناط بالمعاصي، ولذلك لا يترخص العاصي بسفره برخص المسافرين.
وهذان الوجهان يقربان من مأخذ مسائلَ ستأتي (1) في الصلاة. منها أن يُرْدي الرجلُ نفسَه من شاهقٍ، فتنخلع قدماه، ويصلي قاعداً، فإذا برىء، ففي إيجاب القضاء خلافٌ، والأصح أنه لا يجب.
فإن قلنا: لا يجب القضاء على من صبّ ماءه، فلا كلام. وإن قلنا: يجب القضاء، فقد ذكر الأئمة وجهين: أحدهما - أنه لا يقضي إلا صلاةً واحدة. والثاني - يقضي أغلب ما كان يؤديه بوضوءٍ واحد في اعتدال حاله، ووسط أمره.
وهذا عندي في حكم الغفلة؛ فإنا قدّمنا أن من صبّ الماء قبل دخول الوقت، ثم تيمّم بعد دخول الوقت، لم يلزمه القضاء وجهاً واحداً. وإذا صب الماء في وقت الظهر، فكيف يجب قضاء العصر، والصب مقدم على دخول وقتها.
__________
(1) في (ل) : شتّى.(1/223)
292- ولو وَهَبَ الماءَ من إنسان من غير حاجة وعطشٍ، فهو كصب الماء، فإن كان قبل دخول الوقت، فهو كما مضى في الصب، وإن كان بعد دخول الوقت، فيحرم بذلُ الماء، فإذا بذلَ، ووهبَ، وسلَّم، فهل يملك المتهب؟ على وجهين: أقيسهما أنه يملك؛ فإن المالك نافذُ التصرّف في ملكه، وإن عصى بسببٍ لا اختصاص له بوضع التصرف.
وهذا الخلاف كالخلاف في أن الوالي إذا ارتشى، فوَهَبَ منه الخصم شيئاً طوعاً، فقد عصى المرتشي، وهل يملك ما أخذه؟ فعلى خلافٍ سيأتي في موضعه.
فإن قلنا: إنه يملك المتَّهَب الذي وهب منه، فحكم الواهب في القضاء، كحكم من يصب الماء. وإن قلنا: لا يملك المتّهب ما قبضه، فليستردّه الواهب إن قدر عليه، فإن لم يسترده مع القدرة، وتيمم وصلّى، لزمه الإعادة وجهاً واحداً، ما دام الماء موجوداً؛ فإنه تيمم مع التمكن من استعمال الماء.
وإن تلف الماء في يد المتّهب، فلا ضمان عليه أصلاً؛ فإن الهبة ليست من عقود الضمان، وما لا ضمان في صحيحه، لا ضمان في فاسده.
ثم من وَقْت فوات الماء على هذا الوجه الذي انتهى إليه التفريع، يكون التفصيل على ما مضى في صبّ الماء.
فصل
293- إذا كان مع الرجل ماءٌ فاضلٌ عن حاجته، واجتمع عليه أقوامٌ، وأراد أن يخصّ بالماء أحوجهم إليه، أو قال لوكيله: سلّم هذا الماء إلى أحوج من عليه طهارة.
أو فرضت وصية على هذه الصيغة.
فهذا تصوير المسألة.
ثم نصور اجتماع أصحاب الحاجات، فإن مات رجلٌ، وحضر جنب، وحائضٌ انقطعت حيضتُها، فالميت أولى بالماء؛ فإن هذا آخر عهده بالطهارة.(1/224)
ولو كان في الأحياء من أصابته نجاسة، فهو أولى من الجنب والحائض بالماء.
وفيه مع الميت وجهان: أحدهما - أن الميت أولى.
والثاني - أن من به نجاسة أولى؛ فإن التيمم لا يصير بدلاً عن واجب إزالة النجاسة في حقه، وإذا صلى، لزمته الإعادة على الرأي الظاهر، والتيمم في حق الميت والجنب والحائض بدلٌ عن واجبهم.
294- ولو اجتمع جنبٌ وحائضٌ انقطعت حيضتُها، فقد ذكر الصيدلاني فيه ثلاثة أوجه: أحدها - أن الحائض أولى؛ لأن حكم حدثها أغلظ.
والثاني - أن الجنب أولى؛ فإن الصحابة اختلفوا في تيمم الجنب، ولم يختلفوا في تيمم الحائض؛ فكان الجنب أحوج إلى الماء. هكذا ذكره الصيدلاني، وهو ضعيف جدّاً، ولم يصح عندي توقيف (1) يثبت في تيمم الحائض من مذهب الصحابة.
والوجه الثالث - أنهما سواء، فيُقرع بينهما.
قال بعض المصنفين: قول التسوية يخرّج على أن الحائض تقرأ القرآن، والجنب لا يقراً، فيختص الجنب بالمنع من القراءة، وتختص الحائض بتحريم الوطء، وغيره من وجوه التغليظ.
ثم ما ذكرناه من القرعة على الوجه الأخير، يظهر خروجه على قولنا: إن ما يقصر عن تمام الطهارة لا يجب استعماله، والماء المفروض مقدار غُسل واحدٍ وقد اجتمع عليه الجنب والحائض.
فإن قلنا، والتفريع على التسوية: الماء القاصر عن الطهر يجب استعماله. فلو قال أحدهما: اقسم الماء بيننا، وقال الثاني: أقرع؛ فإنّك إن قسمت، لم يرتفع حدثُ واحدٍ، فمن الذي يُجاب منهما؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يقسم بينهما؛ لأنا فرعنا على وجوب التسوية بينهما، فإيصال مقدار إلى كل واحدٍ أقرب.
والثاني - أنه يُقرع بينهما؛ ليرتفع حدثُ أحدهما.
295- ولو اجتمع محدث وجنب، والماء مقدار وضوء، وهو يقصر عن الغسل،
__________
(1) في (ل) : "ولم يصح عندي ثبثٌ".(1/225)
فإن حكمنا بأن الماء القاصر لا يجب أن يستعمل، فالمحدث أولى بالماء؛ فإن الجنبَ لا ينتفع به.
وإن قلنا: يجب استعمال الماء، وإن قصر عن تمام الطهر، ففي المسألة أوجه: أحدها - أن الجنب أولى؛ لغلظ حكم حدثه.
والثاني - أن المحدث أولى؛ لأنه يستفيد ارتفاع الحدث بتمامه.
والثالث - أنهما سواء، فيقرع بينهما.
ولو كان الماء مقدارَ الغُسل، وكان يفضل عن وضوء المحدِث، فإن قلنا: القدر الناقص عن الطهر لا يجب استعمالُه، ولو استعمل المحدث قدر حاجته، فالفاضل منه لا يستعمله الجنب، فعلى هذا الجنبُ أولى؛ لأن حدثه أشدُّ وأغلظ، ولئن قلنا: الناقص عن تمام الطهر يجب استعماله، فلو سلمنا [الماء] (1) إلى الجنب، كان فيه حرمانُ المحدِث. ولو توضأ المحدِث، وسلم الفاضل إلى الجنب، لكان جمعاً بين الحقين، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن الجنب أولى؛ لغلظ حكمه، والثاني - أنه يسلّم إلى المحدِث قدر وضوئه، ويسلم الباقي إلى الجنب. والأصح عندي الوجه الأول.
فهذا بيان الحاجات ومراتبها. وقد رتبتها على [التوكيل] (2) بالبذل للأحوج.
296- ثم قد جرى في طرق الأصحاب تصويرُ هذه المسائل فيه، إذا انتهى المحتاجون إلى ماءٍ مباحٍ، فمن يكون أولى به، وذكروا صور الخلاف والوفاق، على ما ذكرناه.
وهذا عندي غلط ظاهر، فإن الماء إذا كان مباحاً، وازدحم عليه أقوامٌ، فيجب أن يستووا في تملك ذلك الماء، ولا يتوقف جريان الملك على الحاجة، بل يجب القطع باستوائهم، ويقسم الماء بينهم بالسوية، من غير نظر إلى أحداثهم، وأحوالهم، ولا خفاء بما ذكرناه، من التنبيه على هذا الزلل.
297- ولو كان للرجل ماءٌ، فهو أولى بمائه من كل مُحدِث، وليس له أن يؤثر
__________
(1) زيادة لإيضاح المعنى.
(2) في الأصل: الوكيل.(1/226)
محدثاً على نفسه، ويتيمّم؛ فإن الإيثار إنما يسوغ في حظوظ الأنفس والمُهَج، لا فيما يتعلق بالقُرب والعبادات.
298- ثم قال الشافعي (1) : لو كان للرجل ماءٌ، فمات، ورفقاؤه يحتاجون إليه لسِقاههم (2) ، ولو غسلوا الميت بمائه، لخافوا، قال: شربوه، ويمموا الميت، وأدَّوْا ثمنَه في ميراثه.
فإن قيل: أليس الماء من ذوات الأمثال، فهلاَّ غرموا المثل لورثته؟ قلنا: المسألة مفروضةٌ فيه، إذا كان شربوا الماء في البادية، وله قيمة، وبلدةُ وَرَثَتِه لا قيمة للماء بها، فلو أدَّوْا الماءَ، كان ذلك إحباطاً لحقوقهم، فإذا كان كذلك، فإنهم يغرمون له قيمةَ البادية وقت الإتلاف.
والقول في أن ذوات الأمثال كيف تغرم، في غير مكان الإتلاف، من غوامض أحكام الغصوب، وسيأتي ذلك في موضعه. وهذا الرمز مثالٌ اشتمل عليه كلام الشافعي، وإلا كنّا لا نرى ذكره.
فرع:
299- الجنب إذا تيمم، وصلى الفرض، وقلنا: له أن يصلي من النفل ما شاء، فلو أحدث، ثم وجد من الماء ما يكفيه لوضوئه، فتوضأ به. قال العراقيون: له أن يتنفل؛ لأن التيمم المتقدِّم، كان أباح له النوافل، وانحسم التنفل بالحدث الطارىء، وقد ارتفع الحدث بالوضوء، فعاد بعد الوضوء إلى ما كان عليه قبل الحدث، وكان يسوغ له أن يتنفل إذ ذاك.
وهذا الذي [ذكروه] (3) فيه نظر.
والوجه في ذلك أن يقال: الوضوء مع الجنابة لا أثر له، ولا يتضمن رفعَ الحدث الطارىء، ووجوده وعدمه بمثابة، فإذا طرأ الحدث، ثم وجد ماء قليلاً، فيخرّج
__________
(1) ر. المختصر: 1/38 والكلام بمعناه.
(2) كذا في النسخ الأربع، ولعل لها وجهاً من لهجات العرب في قلب الهمزة هاءً، وإلا فكيف اتفقت النسخ كلها على هذا التصحيف؟ ثم هي من كلام الشافعي، والشافعي تؤخذ منه اللغة.
(3) في الأصل: " ذكره " والمثبت تقدير منا، وقد صدقتنا نسخة (م) ، (ل) .(1/227)
ذلك على أنه هل يجب استعمال الماء القاصر؟ ثم سواء استعمله أو أضرب عنه في القول الثاني، فلا بد من التيمم حتى يستفتح النافلة.
والذي ذكروه يقتضي إِفرادَ الوضوءِ بحكمه، مع وجوب الغسل، وفيه بُعدٌ. وهو يشير إلى أن الوضوء لا يندرج تحت الغسل، في حق من أحدث، وأجنب، والمذهب غيره.
وفي المسألة احتمال على الجملة.
***(1/228)
باب ما يفسد الماء
قال الشافعي: "وإذا وقع في الماء نقطة خمر أو بولٍ ... الفصل إلى آخره" (1) .
300- مضمون هذا الباب: الكلامُ فيما يُفسد الماءَ القليل الناقص عن حد الكثرة، وسيأتي القول في الماء البالغ حدّ الكثرة، في الباب الذي يلي هذا.
فمذهب الشافعي أن الماء القليل إذا ورد عليه نجاسةٌ، تنجس بها، تغيّر أوْ لم يتغيّر، ومعتمد المذهب خبران: أحدهما - ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل نجساً" (2) فأشعر الحديث بمفهومه أن القاصر عن هذا المبلغ ينجس.
والثاني - ما روي أنه (3) عليه السلام قال: "إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يغمس يده في الإناء، حتى يغسلها ثلاثاًً؛ فإنه لا يدري أين باتت يده" (4) فندب إلى
__________
(1) ر. المختصر: 1/39.
(2) حديث " إذا بلغ الماء قلّتين "، رواه الشافعي، وأحمد، والأربعة، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والدارقطني، والبيهقي من حديث ابن عمر (ر. الأم: 1/4، أحمد: 2/12، 38، أبو داود: الطهارة، باب ما ينجس الماء، ح 63، الترمذي: الطهارة، باب ما جاء أن الماء لا ينجسه شيء، ح 67، النسائي: الطهارة، باب التوقيت في الماء، ح 52، ابن ماجه: الطهارة، باب مقدار الماء الذي لا ينجس، ح 517، ابن خزيمة: 92، الحاكم: 1/132، البيهقي: 1/260، التلخيص: 1/16 ح 4) .
(3) آخر الموجود من (د 3) ، ولم يبق منها إلا أوراق متفرقة من كتاب البيوع.
(4) حديث " إذا استيقظ أحدكم ... " متفق عليه من حديث أبي هريرة، واللفظ لمسلم (ر. البخاري: الوضوء، باب الاستجمار وتراً، ح 162، مسلم: الطهارة، باب كراهة غمس المتوضىء وغيره يده المشكوك في نجاستها في الإناء قبل غسلها ثلاثاً، ح 278، التلخيص: 1/34 ح 25) .(1/229)
غسل اليدين، عند توقّع النجاسة، فكان ذلك نصّاً في أن النجاسة لو تحققت، لنجّست الماءَ، وإن لم تغيّره.
ثم مفهوم ما نقله المزني أن النجاسة إذا كانت بحيث لا يُدركها الطرفُ، لا ينجس الماء، ونصّه في الأمّ أن النجاسة إذا كانت بحيث يتيسر الاحتراز من جنسها -بخلاف دم البراغيث والبثرات- فإذا أصابت الثوبَ وققت بحيث لا يدركها الطرف لقلّتها، فلا يعفى عنها إذا كانت مستيقنةً (1) .
والطريقة المرضية ما ذكره الصيدلاني، فذكر وجهين في الثياب: أحدهما - أنه لا يعفى عن النجاسة، وهو القياس.
والثاني - يعفى عنها تمسكاً بسيرة السلف؛ فإنهم كانوا يبرزون لقضاء الحاجة، والذباب يقع على النجاسة، ثم يقع منها على ثيابهم، وكانوا لا يبالون بما يجري من ذلك.
301- ثم قال: إذا وقعت نجاسةٌ لا يدركها الطرف لقلّتها في ماءٍ قليل، فإنه ينجس وجهاً واحداً، والفرق بين الماء والثوب، والبدن شيئان: أحدهما - أنَّا نتوقع جفاف أرجل الذباب من وقت ارتفاعها من النجاسة إلى وقوعها على الثياب، ولا يتحقق ذلك في الماء؛ فإنه يرطب النجاسة اليابسة ويسيّلها.
والثاني - أن المياه القليلة يمكن صونها بالتخمير (2) عما يرد عليها، وذلك غير ممكن في الثياب.
302- وذكر العراقيون طرقاً مضطربة: منها طردُ الوجهين في الماء القليل، إذا كانت النجاسة غيرَ مُدركةٍ لقلّتها.
ومنها أن الماء لا ينجس بها، والثوب ينجس؛ لأن في الماء قوةً دافعةً.
__________
(1) ر. الأم: 1/47. والكلام هنا بمعنى كلام الشافعي لا بنصه. فهل هو بنصه في موضعٍ آخر؟.
(2) التخمير: التغطية. (المعجم) .(1/230)
وهذا من ركيك الكلام؛ فإن القوة الدافعة ليست أمراً محسوساً، وهي متلقاة من حكم الشارع بالقلتين.
فهذا ما يحوي ما ذكره الأصحاب في طرقهم. والصحيح ما حكيناه عن الصيدلاني.
فصل.
303- الماء المستعمل في طهارة الحدث طاهرٌ غيرُ طهورٍ في ظاهر مذهب الشافعي.
ومعتمد المذهب أن سلف الأمة في الأسفار وإعواز الماء كانوا لا يجمعون المياه التي يستعملونها في ظروفٍ؛ حتى يستعملوها ثانيةً، بل كانوا يبددّونها، ولا يرد على ذلك أنهم كانوا لا يشربونها مع طهارتها؛ فإن ذلك يُحمل على العيافة التي جُبلت النفوس عليها (1) ، ولا يجوز تركُ الاحتياط للطهارة الشرعية بمثل ذلك.
ومذهب مالك (2) أن المستعمل طهور يجوز استعماله، وحكى عيسى بن أبان (3) قولاً للشافعي مثل مذهب مالك.
وقد غلّطه بعضُ أصحابنا في نقله، وقالوا: لعل الشافعي، كان يذبّ عن مالك، ويرُدّ على من يحاول الرد عليه، وظن عيسى أن مذهبه ما ينصره. ثم إن صحّ هذا مذهباً له، فيجوز استعمال المستعمل ما لم يتغيّر، فهذا مذهب مالكٍ.
ثم كان شيخي يقول: أدنى تغيّر يخرجُه عن كونه طهوراً، وهذا جارٍ على قياسه في أن أدنى تغير بالزعفران وغيره يسلب طهوريّةَ الماءِ، ونحن إذا شرطنا تفاحشَ التغيّر وظهورَه، حتى يستجدّ الماءُ اسماً جديداً، فنقول: الماء لا يتغير بملاقاة البشرة
__________
(1) ر. الدّرّة المضية، مسألة: 24.
(2) ر. عيون المجالس للقاضي عبد الوهاب: 1/162 مسألة: 37، وحاشية الدسوقي: 1/41، جواهر الإكليل: 1/7.
(3) عيسى بن أبان بن صدقة: أبو موسى، القاضي، من كبار فقهاء الحنفية، توفي سنة 221 هـ، (ر. الجواهر المضية في طبقات الحنفية: 1/401) .(1/231)
النقيَّة، وإنما يتغيّر بوسخ أو غيره على محل الطهارة، فليعتبر المعتبر ورودَ شيءٍ طاهرٍ على المَحلِّ وتغيره به، كما سبق في الباب الأول. والتفريع على أن المستعمل ليس بطهورٍ وإن لم يتغيّر.
304- ثم ذكر أئمتنُا لفظين في ضبط المذهب خرّجوا عليهما المتفق في النفي، والإثبات، والمختلف.
فقال بعضهم: إنما لا يُستعمل؛ لأنه أُديَ به الفرض مرةً. وهذا ما ذكره المزني (1) .
وقال بعضهم: إنما لا يستعمل؛ لأنه أُدِّيت به العبادة مرةً (2) .
والمسلكان جميعاًً لا يصلحان لإثبات أصل المذهب لو نُوزعنا فيه، وإنما معتمد المذهب ما قدمناه [من] (3) التمسك بسيرة الماضين. ولكن ما كان فرضاً [و] (4) عبادة، فلا استرابة في أنه المستعمل الذي استَدْلَلْنا فيه بعادة الماضين، وما وُجد فيه أحد هذين المعنيين تردّد الأصحاب في أنه [معتبرٌ] (5) أم لا.
وليس منع استعمال المستعمل مما يربط بمعنى صحيح على السَّبْر، والأظهر عندنا
__________
(1) ر. المختصر: 1/39.
(2) واضح أن المراد بالعبادة أعم من الفرض، فالغسلة الثانية والثالثة، وتجديد الوضوء، أدي به عبادة، ولم يؤد به فرض، أما الغسلة الرابعة، فماؤها طاهر مطهر، لأنها لم يؤد بها عبادة، ولا فرض، وكذلك المستعمل في الوضوء وغُسل الجمعة وسائر المسنونات. وعبارة الغزالي في الوجيز: "لتأدي العبادة به، وانتقال المنع إليه"، ومثلها في الوسيط، وقال الرافعي في فتح العزيز شارحاً المقصود بتأدية الفرض به: " وأما تأدي الفرض به؛ فلأن المراد منه رفع الحدث به، أو رفع منعه، وذلك يقتضي تأثر الماء " وكأنه يعبر بهذا عن انتقال المنع إلى الماء، أما النووي، فقال عن (انتقال المنع) : "وهذه العبارة غريبة، قلّ أن توجد لغيره، وفيها تجوز، إذ ليس هنا انتقال محقق، ولكنها صحيحة في الجملة" ا. هـ. (ر. المجموع: 1/149 وما بعدها. ثم 161، وفتح العزيز: 1/98 ثم 106، 107، والوسيط: 1/301) .
(3) في الأصل: (أن) .
(4) في الأصل: أو.
(5) في الأصل: مُغنٍ.(1/232)
أن المستعمل في عبادة ليست فرضاً يمتنع استعماله، فتخرَّج المسائل على المسلكين.
305- فأما المنحدر عن الأعضاء في المرة الأولى، يمتنع (1) استعماله؛ لاجتماع الفرضيّة والعبادة، وإن استعمل الماء مرةً رابعةً من غير سببٍ يقتضيها، فقد عُدم المعنيان جميعاً، فليس الماء مستعملاً وهو طهور.
وما ينحدر عن الغسلة الثانية (2) يخرج على وجهين: أصحهما أنه مستعمل غير طهور، وكذلك الوجهان في الماء المستعمل في تجديد الوضوء.
وقد ذكرنا وجهين من كلام الشيخ أبي عليّ في أن تجديد الغسل هل يستحب؟ فإن قلنا: إنه غير مستحبٍ، فالماء المستعمل فيه طهورٌ، وإن قلنا: إنه مستحبٌ، فالقول فيه كالقول في تجديد الوضوء.
306- وإذا اغتسلت الذميّة عن الحيض تحت مسلم، وكانت طاهرة البدن، فغسلُها واجب، وفي الماء المنحدر عنها وجهان.
ووجه تخريجهما أنا إن قلنا: لو أسلمت لا تُعيد الغسل، فقد [تم] (3) الغسل في الكفر كما [تتم] (4) الكفارة من الكافر. فعلى هذا يكون الماء مستعملاً.
وإن قلنا: يجب عليها أن تُعيد الغسل إذا أسلمت، ففي الماء المستعمل في الكفر وجهان خارجان عن المعنيين، فمن اعتبر العبادة، فما أتت به ليس بعبادة، ومن اعتبر أداءَ مفروضِ، فقد أدت مفروضاً.
307- ومما يتعيّن الاعتناء به في الفصل أن الماء المصبوب على البدن لا يثبت له حكم الاستعمال ما دام متصلاً متردداً على البدن، وإنما يثبت له حكم الاستعمال عند الانفصال.
308- ولو انغمس جنب أو متوضىء في ماءٍ، غيرِ بالغٍ حدَّ الكثرة، فإذا انفصل عن
__________
(1) كذا " يمتنع " بدون الفاء في جواب "أما" على لغة الكوفيين، وهو جارٍ كثيراً عند إمام الحرمين.
(2) في (ل) : الثانية والثالثة.
(3) في الأصل: تمم، والمثبت من (ل)
(4) في الأصل: تتمم، والمثبت من (ل)(1/233)
الماء، فالماء مستعمل، لا شك فيه، ولا نقول: لو توضّأ، لكفاه مقدارٌ يسير، ولو صُبّ مثله على هذا الماء، لما صار مستعملاً، فإنه إذا انغمس في الماء، فقد اتصل به جميع الماء، ولم يختصّ الاتصال اسماً وإطلاقاً بما يلاقي بشرته.
309- ثم إذا انغمس وانفصل، فهل يرتفع الحدثُ؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يرتفع؛ لأن الماء صار مستعملاً بملاقاة أول جزء إياه، فيحصل الانغماس في ماءٍ مستعمل.
وهذا وإن كان مشهوراً، فهو غلط عندي؛ فإن الماء إنما يثبت له حكم الاستعمال، إذا انفصل المنغمس فيه عنه، كما أن الماء المصبوب على البدن لا يثبت له حكم الاستعمال، ما لم ينفصل عن البدن.
310- ولو غمس المتوضىء يده في الماء بعد غسل الوجه، فقد دخل وقتُ أداء فرض اليد، فإن قصد غسلَ يده، فيصير الماءُ القليلُ مستعملاً، وهل يرتفع الحدث عن اليد المغموسة؟ فعلى ما ذكرنا من الوجهين، وإن قصد بوضع اليد في الإناء رفعَ الماء، لم يصر مستعملاً.
وإن وضع اليدَ، ولم يخطر له أداءُ الفرض، ولا رفعُ الماء وتنحيتهُ، فهذا يعسر تصويره عندي؛ فإن من ينقل الماء من الإناء. فقصدُه التنحيةُ لا غسلُ اليد في الماء الذي في الإناء. فإن تُصور سقوط القصدين جميعاًً، فهو كما لو قصد غسلَ اليد؛ فإن من نوى وعَزَبت نيتُه، ثم غسل بقية أعضائه من غير قصدٍ، فيرتفع الحدث عن أعضائه. كذلك هذا.
311- ومن تمام البيان في هذا: أن من صب الماء على رأسه في الغُسل، فتقاذف من الرأس إلى البطن، وخرق الهواءَ إليه، فقد ذكر بعضُ المصنفين أن الماء يصير مستعملاً؛ فإنه انفصل واتصل بالهواء، وخرج في ذلك الوقت عن التردّد على البدن.
وهذا فيه فضل نظر؛ فالماء إذا كان يتردّد على البدن، ففي الأعضاء تفاوتٌ في الخِلْقة، وليس البدن سطحاً بسيطاً. وإذا كان كذلك، فيقع في جريان الماء بعضُ التقاذف من عضوٍ إلى عضوٍ، لا محالة. ولا يتأتى التحرز من هذا. كيف؟ ولم يَرد الشرعُ بالاعتناء بهذا أصلاً. فما كان من هذا الجنس، فهو محطوط، لا اعتبار به قطعاًً.(1/234)
وأما التقاذفُ الذي لا يقع إلا على ندور، فإن كان ذلك عن قصدٍ، فهو مُستعمل، كما قال هذا المصنف. وإن اتفق ذلك عن غير قصدٍ إليه، فلا يمتنع أن يُعذر صاحبُ الواقعة؛ فإن الغالب على الظن أنه كان يقع أمثال ذلك في الزمن الماضي، وما وقع عنه بحث من سائلٍ، ولا تنبية من مرشدٍ والله أعلم.
فصل (1)
312- إذا جمع من الماء المستعمل في مقرٍّ ماءٌ بلغ قلتين، ففي المسألة وجهان: أحدهما - وهو الأصح أنه يعود طهوراً؛ فإن الماء القليل النجس إذا جُمع إليه ماءٌ نجسٌ، فبلغ قلتين، وليس الماء متغيراً، فالكل طهورٌ، فليكن المستعمل كذلك.
313- ولو انغمس جنبٌ في ماءٍ كثيرٍ، لم يصر مستعملاً، كما لا يصير نجساً إذا وقعت فيه نجاسة. فإذا استويا في ذلك، فليستويا في بلوغ الماء حدَّ الكثرة إجزاءً.
والوجه الثاني - أنه لا يعود طهوراً؛ فإن حكم الاستعمال ثبت لكل جزء من الماء حكماً، فكأنه انقلب عن كونه ماء، وصار كمائعٍ من المائعات.
وهذا لا يتحقق مع ما ذكرناه من أن الكثير لا يصير مسلوبَ الطّهوريّة بانغماس جُنب أو محدِث.
فرع:
314- إذا تقاطرت قطرات من المنحدر عن أعضاء المُحدِث إلى ماء الإناء، فالمعتبر فيه أن يقال: إن بلغت في المقدار مبلغاً، لو كان لونُه مخالفاً للون الماء، لغيّره، فهذا يُفسد الماء. وعندي أني ذكرت ذلك في الباب الأول بما فيه إقناع.
فصل
315- مضمون هذا الفصل شيئان: أحدهما - في كيفيّة إزالة ما عدا نجاسة الكلب من النجاسات، مع ذكر ما يتعلق بطهارة الغُسالة ونجاستها.
__________
(1) في (ل) : فرع.(1/235)
والثاني - في نجاسة الكلب.
316- فأما ما سوى الكلب، فإن كانت النجاسة مُعايَنةً، وكانت عينُها ظاهرة، فإزالتها برفع عينها، وقطع أثرها بالماء الطهور، وليس فيها تعبّدٌ برعاية عددٍ. وإنما التعبد بالعدد في الاستنجاء بالأحجار [عند] (1) الاقتصار عليها.
ثم إن كان يبقى للنجاسة [طعمٌ، فالنجاسة] (2) باقية، وحكمها باقٍ. وإن بقي لونٌ يتيسّر إزالته، فالجواب كذلك. وإن كان اللون عسير الإزالة كلون الحناء، وما في معناه، فلا يضّر بقاؤه.
والشاهد فيه ما روي أن نسوة رسول الله صلى الله عليه وسلم سألنه عن دم الحيض يصيبُ الثوبَ، وذكرن له أن لون الدم يبقى، فقال عليه السلام " الْطَخْنه بزعفران " (3) ، ولم يكن ذلك تعبداً جازماً، ولكن أبان لهن أن اللون الباقي لا أثر له، أي فإن كرهتنّ رؤيته، فالطخنه بزعفران.
وأما الرائحة، فإن لم يكن للنجاسة رائحة قوية، وكانت سهلة الإزالة، فلا بد من إزالتها.
317- وإن كانت لها رائحة نافذة قويّة، كالخمر العتيقة، وبول المبَرْسَم (4) ، وما في معناهما، فبقيت مع الإمعان في الغَسل، ففيه قولان: أحدهما - أن حكم النجاسة باقٍ؛ فإن الرائحة في الغالب تزول، والحكم للغالب، والألوان منقسمة إلى ما يعسر زواله، وإلى ما يتيسّر.
__________
(1) في الأصل: بعد، وقد صدق حدسنا، كما في (م) ، (ل) .
(2) زيادة من (م) ، وعبارة (ل) : للنجاسة تطعم فالنجاسة وحكمها باق
(3) حديث: " الطخنه بزعفران " قال الحافظ: لا أعلم من أخرجه هكذا، لكن روي موقوفاً، رواه الدارمي عن عائشة، ورواه أبو داود عن عائشة، بلفظ: " فلتغيره بشيء من صفرة " ا. هـ. وصححه الألباني (ر. تلخيص الحبير: 1/36 ح 27، الدارمي: كتاب الوضوء، باب المرأة الحائض تصلي في ثوبها إذا طهرت، ح 1011، وأبو داود: الطهارة، باب المرأة تغسل ثوبها الذي تلبسه في حيضها، ح 357، والصحيح: ح 344) .
(4) المبرسم من أصابه البرسام، وهو ذات الجنب، وهي التهاب في الغشاء المحيط بالرئة (المعجم) .(1/236)
والثاني - أن الروائح تنزل منزلة الألوان، وهذا هو الأصح (1) ؛ [فإنا] (2) نراها في عسر الزوال، وتيسّره كالألوان.
واستقصاء القول في هذا الفن يأتي في كتاب الصلاة، إن شاء الله تعالى.
ولكننا نذكر هاهُنا ما نرى الحاجة ماسّة إليه.
318- وإن كانت النجاسة حُكميّة، وهي التي لا نعاينها لخفائها، وإن كنا نعلم قطعاً أنها عين، قال الأصحاب: يكفي فيها إمرار الماء مرّة واحدةً على موردها، ويُستحبّ غسله ثلاثاً.
319- ولو انقلعت النجاسةُ العينية بمرة واحدة، استحببنا الغَسل ثانيةً وثالثةً؛ فإن العينية لا تقصر عن الحكميّة، بل تزيد عليها.
320- وإذا صُبّ الماء على مورد النجاسة، وانقطعت آثارها، فهل يتوقفُ الحكم بطهارة المحلّ على عصر الثوب مما فيه من البلل؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - أنه لا بد من العصر، وهو مذهب أبي حنيفة (3) .
والثاني - لا يُشترط.
قال الشيخ أبو علي: الاختلاف في العصر مأخوذ من الاختلاف في طهارة الغُسالة ونجاستها، فإن حكمنا بطهارة الغسالة المنفصلة، فلا نوجب فصلَها؛ فإنها لو فُصلت، ثم رُدّت إلى الثوب، لم يضرّ؛ فلا معنى في العصر.
وإن حكمنا بنجاسة الغسالة لو انفصلت، فالغسالة نجسة ما دامت على المحلّ، فإن عصرت، فالبلل الباقي بعد العصر المعتاد طاهر.
وإن تُركت الغسالة حتى جفت، ففي المسألة وجهان: أصحّهما - أن الثوب طاهرٌ؛ فإن زوال البلل بالجفاف كزواله بالعصر، بل هو أبلغ. والثاني - أن الثوب
__________
(1) في (ل) : الصحيح.
(2) في الأصل: فإنها.
(3) ر. البدائع: 1/84، فتح القدير: 1/185، حاشية ابن عابدين: 1/221.(1/237)
لا يحكم بطهارته؛ فإن العصر المأمُورَ به قد تُرك أوّلاً، فبقيت النجاسة حكماً. وهذا ليس بشيء.
فهذا بيان حكم العصر.
321- وأما تفصيل [حكم] (1) الغُسالة، فكل ما ينفصل متغيراً، لم يُسْترَب في نجاسته.
وأما ما ينفصل غير متغيرٍ، فإنه ينقسم قسمين: أحدهما - أن ينفصل ويُعقب طهارةَ المحل.
والثاني - ألا يستعقبَ انفصالُه طهارةَ المحل.
فإن انفصل غيرَ متغيّرٍ، وطهُر المحل، فالمنصوص عليه للشافعيّ أن الغُسالةَ طاهرةٌ. وقال أبو القاسم الأنماطي (2) : إنها نجسة.
وخرَّج ذلك قولاً للشافعي، وهو مذهب أبي حنيفة (3) .
وإن انفصل الماء غيرَ متغيرٍ، والمحل بعدُ نجسٌ، ففي المنفصل طريقان: الأصح القطع بنجاسة المنفصل؛ فإنا إنما حكمنا بطهارة الغسالة في الصورة الأولى؛ [لأن] (4) البلل الباقي على المحل طاهر، والمتصل جزءٌ من المنفصل. وإلا، فالقياس الجليّ الحكم بنجاسة ما انفصل؛ فإن النجاسة التي انفصلت عن المحل كائنةٌ في الماء لا محالة. فأمّا إذا كان المحل نجساً بَعدُ، فإن نظرنا إلى ظاهر الاتصال،
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) أبو القاسم الأنماطي: عثمان بن سعيد بن بشار، الأنماطي الأصولي، حدث عن المزني والربيع، وهو أول من حمل علم المزني إلى بغداد، وللأنماطي جلالة بمن أخذ عنه العلم من شيوخ المذهب، فقد حمل عنه العلم أبو العباس بن سريج، وأبو سعيد الإصطخري، وأبو علي بن خيران، ومنصور التميمي، وأبو حفص بن الوكيل البابشامي. ت 288 هـ (طبقات السبكي: 2/301، 302) .
(3) ر. تحفة الفقهاء: 1/152. وعبارته: إذا وقعت الغسالة في الماء، أو أصابت الثوب أو البدن، ففي منع جواز الصلاة والوضوء المياه الثلاث على السواء؛ لأن الكل نجس. ا. هـ.
ويقصد بالمياه الثلاث الغسالة في المرة الأولى والثانية والثالثة.
(4) في الأصل: فإن.(1/238)
فذلك يقتضي الحكمَ بنجاسة المنفصل، وإن نظرنا إلى المحل، فهو نجسٌ بعدُ.
ومن أصحابنا من طرد القولين فيما انفصل والمحلّ بعدُ نجس، إذا لم يكن متغيراً.
وهذا عندي في حكم الخطأ الذي لا يعدّ من المذهب.
322- ولو غسل ثوباً من النجاسة مراراً، وكان يجمع الغسالات في إناء واحد، وكانت الغُسالة الأولى نجسة، إما لتغيّرها، وإما لانفصالها قبل الحكم بطهارة المحلّ، ثم كانت الغسالات المجتمعة غيرَ متغيرةٍ، فقد ذكر العراقيون وجهين بناءً على أن الغسالة طاهرة: [أحدهما] (1) - أن هذه الغُسالات نجسة؛ فإن بعضها انفصل عن البعض (2) ، وثبت لبعضها حكمُ النجاسة، فإذا اجتمعت وهي في حدّ القلّة، فهي نجسة.
والوجه الثاني - أنها طاهرة؛ فإنها في حكم غُسالةٍ واحدةٍ. وهذا ضعيفٌ جدّاً.
323- ولو طرح الرجل ثوباً نجساً في إجّانة (3) فيها ماء، وغسله فيها، فانقطعت آثار النجاسة، ففي المسألة وجهان: أحدهما -وهو الذي قطع به الصيدلاني- أن الثوب لا يطهر أصلاً، والماء ينجس، ولو رُد كذلك إلى الأجّانة وجدّد الماء مراراً، لم يطهر الثوب، ما لم يصب [الماء على الثوب، أو يغمس] (4) في ماء كثير.
والوجه الثاني - وهو اختيار ابن سُريج أن الثوب يطهر، فلا فرق بين ورود الماء القليل على النجاسة، وبين ورود الثوب النجس على الماء القليل. والغرض انقطاع آثار النجاسة، كيف فرض الأمر.
324- ثم نقل بعض النقلة عن ابن سُريج أنه يشترط النية في إزالة النجاسة، وهذا غلط صريح.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق، وقد صدقتنا (م) ، (ل) .
(2) في (ل) المحل.
(3) الإجّانة: إناء تُغسل فيه الثياب. (المعجم) .
(4) زيادة اقتضاها السياق، مكان عدة كلمات ممسوحة تماماًً، ونسجد لله شكراً؛ إذ صدقتنا (م) ، (ل) .(1/239)
ونحن نوضح مذهب ابن سُريج في ذلك، فنقول: مِن أصله أن الريح لو ألقت ثوباً نجساً في إجّانة فيها ماء، تنجس الماءُ، ولم يطهر الثوب، ولو طرحه الغاسل فيها على قصد الإزالة، حصلت الإزالة، ولم ينجس الماء، إن لم يتغيّر.
وظاهر المنقول عنه أن الماء لو انصبّ من غير قصدٍ على ثوبٍ نجسٍ، وكان ينحدر منه، ودُفَعُ الماء تتوالى، حتى زالت النجاسة، طهر الثوب من غير قصدِ قاصدٍ.
وما ذكره من القصد في الصورة الأولى، لم نعدم فيها مخالفاً من الأصحاب؛ فإن منهم من يقول: الغرض زوالُ النجاسة بالماء، فلا أثر للقصد، ولا يمتنع أن يراعى القصدُ في انصباب الماء القليل على الثوب. فهذا تمام ما أردناه: نقلاً واحتمالاً.
325- وحكى الشيخ أبو علي في الشرح من تفريع ابن سُريج أن الماء القليل لو وردت عليه نجاسة وغيّرته، فلو صبّ عليه ماءٌ على قصد تطهيره بالغمر والمكاثرة، فإن زال التغيّر، وبلغ الماء حدّ الكثرة، فلا شك في طهارة الماء، وإن انغمرت النجاسة، ولم يبلغ الماء حدَّ الكثرة، قال ابنُ سُريج يطهر الماءان، إذا قصد به الغَسْل.
ثم قال الشيخ: هذا تفريع منه على أن العصر لا يجب، ولا تُشترط إزالة الغُسالة، فأما إذا شرطنا ذلك -وهو غير ممكن- فإن الوارد لا يتميز عن المورود عليه، فالكل نجسٌ.
وهذا عندي -إن صح النقل- من هفوات ابن سُريج، فلا معنى لغسل الماء من غير جهةِ تبليغه قلتين.
فإن كان الغرض زوالَ التغيّر، فالماء القليل ينجس عندنا بورود النجاسة عليه، وإن لم يتغير، فليس مما يُتمارى في فساده.
ثم قال الشيخ: ينبغي أن يكون الوارد أكثر من المورود عليه، حتى يحصل الغسل بهذه الجهة. والتفريع على الفاسد فاسد.
326- ومما يتعلق بغُسالة النجاسة: أنا إذا حكمنا بطهارتها، جرياً على النص، فلا يجوز استعمالها ثانيةً، وهي كالماء المستعمل في طهارة الحدث. ثم المستعمل(1/240)
في الحدث لا يستعمل في الحدث مرة أخرى، وهل يستعمل في إزالة النجاسة؟ فعلى وجهين مشهورين: أصحهما - أنه لا يستعمل فيها، وهو كسائر المائعات.
والوجه الثاني - أنه يجوز إزالة النجاسة به؛ فإن الماء فيه قوتان: إحداهما إزالة الحدث، والثانية إزالة الخبث، وقد زالت إحداهما، فبقيت الأخرى.
ولولا اشتهار هذا الكلام وإلاّ [ما كنت] (1) أضمّن هذا الكتابَ مثلَه؛ فظهور فساده يُغني عن شرحه.
والخلاف في غُسالة النجاسة وأنها هل تستعمل في رفع الحدث على ما ذكرناه.
والوجهُ القطع بامتناع استعمال المستعمل عموماً.
فرع:
327- قال العراقيون: الماء الذي استُعمل في المرة الأولى في النجاسة لا يستعمل، كما لا يستعمل الماء المنحدر عن الوجه في الغسلة الأولى، والماء الذي يستعمل في الثوب بعد زوال النجاسات ثانية وثالثة هل يستعمل؛ فعلى وجهين كالوجهين فيما ينحدر عن غسل الوجه ثانيةً وثالثةً؛ فإن الثانية والثالثة مندوبٌ إليهما في غسل الثوب، فشابهتا الغسلةَ الثانيةَ والثالثة في الوجه.
وفي هذا فضل نظر عندي للفقيه؛ فإن الغسلة الثانية والثالثة في الوضوء معدودتان من العبادة. ثم قالوا: لو غسل الثوبَ بعد الطهارة غسلةً رابعة، فيجوز استعمال ذلك الماء وجهاً واحداً، كنظير ذلك في غسلات الوضوء.
فهذا منتهى ما أردنا أن نذكره في غسل النجاسة، وبيان حكم الغُسالة.
وفيه بقايا أخّرناها إلى كتاب الصلاة.
328- فأما تفصيلُ إزالة نجاسة الكلب، فإذا ولغ الكلب في إناءٍ فيه ماء قليل، أو مائع، ينجسُ الماء والإناء، ثم لا يطهر حتى يُغسل سبعاً، إحداهنّ بالتراب. ومعتمدُ المذهب الحديثُ: روى أبو هريرة عن النبي عليه السلام أنه قال: " إذا ولغ الكلبُ في إناء أحدكم، فليغسله سبعاً: إحداهنّ بالتراب " (2) .
__________
(1) في الأصل: فكنت، وأكدت هذا (ل) .
(2) أصل هذا الحديث في الصحيحين، ورواه أحمد، ومالك، وأبو عوانة، والنسائي، وابن =(1/241)
ثم لا يخفى على ذي بصيرة أن المعنى لا يتطرق إلى العدد، والحدّ بها، ولا إيجاب استعمال التراب، وإذا لم يكن المنصوص عليه معقولَ المعنى، فالوجه الاعتماد على مورد النص، ثم نُلحق به ما في معناه، مما لا يُحتاج فيه إلى استنباط معنىً جامع، وقد يَبْعُد الشيءُ بعضَ البعد عن المنصوص عليه، فيتردد المذهب فيه أولاً (1) .
وبول الكلب، ورجيعه (2) ، ودمه، وعرقه في معنى لعابه قطعاً؛ فإن اللعاب رشحٌ مما هو في حكم الطاهر فيما يتعلق بالطهارة والنجاسة، فلا فرق بينه وبين العرق، فإذا لاح هذا في العرق، فالبول والرجيع بهذا أولى.
ثم مذهب الشافعي أن الكلب إذا كرع (3) في ماء قليل، فهو كما لو ولغ فيه؛ فإنه إذا تقرر أنَّ داخل الفم كالظاهر، فالظواهر بجملتها على قضية واحدة.
329- واختلف قول الشافعي في الخنزير، فقطع بنجاسته، وردّد القولَ في إلحاقه بالكلب، حتى تزال نجاسته، بما تزال به نجاسة الكلب.
فالأصح عند العراقيين أنه كالكلب؛ فإنه منصوصٌ عليه في كتاب الله عز وجل تحريماً، وذلك مجمع عليه فيه، وليس منتفعاً به بوجهٍ، بخلاف الكلب، فإذا ثبت في الكلب التعبّد برعاية العدد والتعفير، فالخنزير أولى.
والقول الثاني - أن المنصوص عليه لا يتعدَّى، وقد ينقدح للناظر أن للشارع غرضاً في تخصيص الكلب بما ذكر من التغليظ، زجراً عن مخالطته؛ فإن زواجر الشرع تختصّ بما تألفه النفوس؛ ولذلك اختص الحد بشرب الخمر، دون غيره من المحرّمات. فهذا بيان القاعدة.
__________
= ماجة، وأبو داود، والترمذي، والدارمي، عن أبي هريرة، وعبد الله بن مغفل، وعبد الله بن عمر، وعلي بن أبي طالب، وبلغت طرقه عن أبي هريرة عشراً، كلها صحيحة، والاختلاف في "إحداهن بالتراب" (ر. إرواء الغليل: 1/60 ح 24، التلخيص: 1/23 ح 9) .
(1) أولاً: أي ثم يستقر بعد النظر. والمثبت عبارة (م) ففي الأصل ".. فيه ولا بول.." و (ل) : "أو لا بول".
(2) الرجيع: الروث.
(3) كرع يكرَع بالفتح: تناول بفيه، أما الولوغ، فيكون باللسان.(1/242)
330- ثم نبتدىء -بعد هذا- القولَ في التعفير. أما الغسل سبعاً، فمحتوم، وغير التراب هل يقوم مقام التراب مما يستعان به في إزالة النجاسات، كالأُشنان والصابون وغيرهما؟
محصول ما جمعه الأصحاب من النصوص، والتردد في تنزيلها أقوال:
أحدها - أن غير التراب لا يقوم مقام التراب أصلاً؛ فإنه المنصوص عليه، فلا معدل عنه، كما لا يعدل عن التراب في التيمم.
والثاني - أن غيره مما يُستعان به يقوم مقامه في الوجود والعدم؛ فإن الغرض بذكره إيجابُ استعمال مُعينٍ (1) على القلع.
والثالث - أن غيره لا يقوم مقامه مع وجوده؛ فإن عدم التراب ولم يوجد، قام في عدمه غيرُه مقامه.
ثم ذكر الأئمة في الطرق كلِّها وجهين في أن غسلة ثامنة هل تقوم مقام التعفير بالتراب أم لا؟ وهذا في نهاية الضعف؛ فإن الغسلة الثامنة لو كانت كافيةً، لما كان لذكر التراب معنى أصلاً، ولقال الرسول صلى الله عليه وسلم: فليغسله ثامنةً. فإن تخيّل متخيّل إقامة الأُشنان مقام التراب، فلا وجه لتخيّل ذلك في الغسلة الثامنة.
وممّا يجب الاعتناء به أن الوجه البالغ في الضعف إذا كان مشهوراً، فيتعيّن ذكر متعلق له على حسب الإمكان.
فأقول: أما إقامة الغسلة الثامنة مقام التراب، مع وجود التراب، فلا ينقدح له وجهٌ أصلاً، أما إذا عدم التراب، ففي إقامة الغسلة الثامنة مقامه احتمالٌ على بُعدٍ، فيتعين تخصيص الوجهين في الغسلة الثامنة بحالة عدم التراب.
وأما إقامة الأُشنان مقام التراب مع وجوده، فليس ببعيد: من حيث إنه معينٌ للماء كالتراب.
331- وذكر بعض المصنّفين خلافاً في أن استعمال التراب النجس هل يُسقط واجبَ
__________
(1) ضبطت في الأصل: بفتح الياء المشددة، وهو عكس السياق تماماً.(1/243)
التعفير؟ وهذا إن صح النقل فيه يلتفت إلى ما مضى، وهو أن غير التراب هل يقوم مقامه؟ فإن قلنا: لا يقوم غيره مقامه، فقد غلّبنا فيه معنى التعبد، ونزلنا التراب في ذلك منزلته في التيمم؛ فإن التراب النجس لا يصح التيممُ به، وإن أقمنا غير التراب مقامه، فكأنّا راعينا معنى إعانة الماء على قلع النجاسة، فلا يبعد الاكتفاء بالتراب النجس.
ومما ذكره هذا الرجل أن الكلب لو ولغ في حفرة محتفرة في التراب، فهل يجب استعمال التراب في محاولة تطهير الحفرة؟ فعلى وجهين.
وهذا قريب المأخذ مما ذكرناه؛ فإن الحَفِيرة قد تنجست تربتها، فإن كنا نجوّز التعفير بالتراب النجس، فلا معنى لاستعمال التراب في التراب، وإن منعنا استعمال التراب النجس، فيجب استعمال التراب الطاهر.
ومما يتعلق بذلك أن من غسل الإناء سبعاً، ثم ذرّ عليه تراباً، ثم نفضه، لم يُجْزه؛ وذلك لأنّا إن فهمنا معنى الإعانة، فهو غير موجود هاهنا. وإن تمسكنا بالحديث، فمقتضاه استعمال التراب في غسلةٍ من الغسلات السبع؛ فإنه عليه السلام قال: " إحداهنّ بالتراب "، ثم إذا مزج التراب بالماء في غسلة، فينبغي أن يتكدّر الماء بها ويتغيّر، وإلاّ لم يكن ما يأتي به تعفيراً.
ولو استعمل التراب في غسلة ثامنةٍ، فقد عفر وِفاقاً.
ولو مزج التراب بخلٍّ أو مائع سواه، واستعمله في الإناء، ففي المسألة وجهان - وهذا أيضاًً يلتفت على ما ذكرناه من تغليب التعبّد، أو النظر إلى قلع النجاسة.
هذه القواعدُ في إزالة نجاسة الكلب.
فرع:
332- إذا ولغ الكلب في إناء فيه ماء قليل، ثم صبّ عليه الماء وكوثر، حتى بلغ قلتين، فيطهر الماء، لبلوغه حدّ الكثرة، وهل يطهر الإناء؟ فيه ثلاثة أوجه مشهورة، ووجه رابع زاده الشيخ في الشرح.
أحد الوجوه - أن الإناء يطهر؛ لأنه صار إلى حالة أخرى لو كان عليها أولاً، لما تنجس؛ إذ الكلبُ لو ولغ في ماء بالغٍ قلتين في إناء، لم ينجس الماء والإناءُ.(1/244)
والثاني - أن الإناء لا يطهر؛ فإنا قد تُعبدنا في إزالة نجاسة الكلب بغسله سبعاً وتعفيره، ولم يتحقّق ذلك، وإذا ورد تعبد غيرُ معقول المعنى، لم يسقط بطريقٍ مأخذُه المعنى.
والأول أصح؛ فإنا بنينا الآخر على الأول كما قررناه، والتعبد لم يتضمّن تنجيس الإناء، وفيه قلتان. فليعُد الأمرُ آخراً إلى ما ذكرناه أولاً.
والوجه الثالث - أن الإناء إن تنجس تبعاًً للماء بأن كان ولغ في الماء، ولم يلق شيءٌ منه جِرْمَ الإناء، فإذا بلغ الماء قلتين، وطهر بالكثرة، طهر الإناء تبعاًً لطهارة الماء، كما ينجس ابتداء تبعاً، وإن كان لاقى شيءٌ من الكلب جِرمَ الإناء، فقد تنجس، وهو أصلٌ في النجاسة، فلا يتبع طهارة الماء في الطهارة. وهذا ضعيفٌ لا أصل له.
والوجه الرابع - الذي ذكره الشيخ: أنه إن مكث الماء الكثيرُ في الإناء لحظاتٍ يتأتى في مثلها تكريرُ الغسلات السبع، حُكم بطهارة الإناء، وإن لم يمض زمانٌ يتأتى فيه ما ذكرناه، لم نحكم بطهارة الإناء.
وهذه الأوجه تجري إذا غُمس الإناء النجس بنجاسة الكلب، أو الثوب النجس في ماءٍ كثير. فالأصح الوجه الأول، ويليه الثاني. والثالث، والرابع لا أصل لهما.
333- وللفرع غائلة أوْضَحها الشيخُ في الشرح، وهي تحتاج إلى مقدمةٍ. فالماء الكثير إذا وقعت فيه نجاسة جامدة، فهل يجب التباعد عن مورد النجاسة بقدر قلّتين؟
فعلى قولين سيأتي ذكرهما في الباب الذي يلي هذا، فإن حكمنا بوجوب التباعد، فلو كان في إناء من جلدٍ نجس قلتان، والتفريع على وجوب التباعد، فالماء كله نجس.
وسنوضح ذلك في موضعه إن شاء الله عزّ وجل.
فإذا ظهر ذلك، عدنا إلى غرضنا: فإذا بلغ الماء بعد ما ولغ الكلب فيه قلّتين، فإن حكمنا بأن الإناء طاهرٌ، فلا كلام.
وإن حكمنا بأن الإناء نجس، فنجاسة الإناء على هذا كنجاسةٍ حكميّة، أو كنجاسةٍ عينية؟ فعلى وجهين. وهذا تردُّدٌ لطيف.
فإن حكمنا بأن نجاسة الإناء كنجاسةٍ عينية، والماء قلتان بلا مزيد، وأوجبنا(1/245)
التباعد، فيخرج من ذلك أن الماء نجس أيضاًً، كما لو كان الإناءُ من جلدٍ نجسٍ.
وإن قلنا: نجاسة الإناء حكميّة، فلا نحكم بنجاسة الماء، ولا نوجب التباعد، وينزل ذلك منزلة ما لو وقع في الماء نقطة بولٍ. وإن نزح من الماء ما نقَصَه عن حدّ الكثرة، فإن جعلنا نجاسة الإناء عينية، فنحكم بنجاسة الماء الآن، سواء أوجبنا التباعد. أو لم نوجبه؛ فإن الماء ناقصٌ الآن، وهو ملاقٍ نجاسةً عينية.
وإن حكمنا بأن نجاسة الإناء حكميّة، فبنُقصان الماء لا يصير الباقي نجساً، وقد تناهى الشيخ وألطف (1) في ذلك، رضي الله عنه.
فرع:
334- إذا كنا نغسل إناءً، أو ثوباً من نجاسة الكلب، فتقاطرت قطرة من غسلةٍ من الغسلات إلى ثوب، والغُسالة غير متغيرة، فهذا ينبني على القواعد الممهّدة في غُسالة النجاسة، وقد ذكر الأئمة عباراتٍ قريبة تحوي الأصول المقدمة، ونزيد وجوهاً يقتضيها حكم الولوغ. فمن أصحابنا من قال: حكم الغُسالة في كل غسلةٍ كحكم الإناء قبيل تلك الغسلة. ومنهم من قال: حكمها حكم الإناء بعد انفصال تلك الغسالة، ومنهم من قال: هي طاهرة إذا لم تكن متغيرة، ومنهم من قال: لكل غسلة سُبْع حكم الإناء.
فالآن نخرّج على هذه العبارات أحكامَ الغسلات.
فلو تقاطرت من الغسلة الأولى، فإن قلنا: حكمها حكم الإناء قبيلها، فيغسل ما تقاطر إليه سبعاً إحداهن بالتراب، كالإناء قبل اتصال هذه الغسالة بها.
وإن قلنا: حكمها حكم الإناء بعد انفصال الغسالة، فالثوب الذي تقاطر إليه يُغسل ستًّا، وينظر: فإن كان استعمل التراب في الغسلة الأولى، فلا يجب استعماله في الثوب؛ نظراً إلى الإناء بعد الغسلة الأولى، وإن لم يستعمل، فيجب استعمالُه في الثوب نظراً إلى الإناء.
وإن حكمنا بطهارة الغسالة، فلا إشكال، وإن حكمنا بأن لها سُبعْ الحكم فيغسل الثوب مرةً واحدةً.
__________
(1) ألطف: أتحف، ومن مأثور كلام العرب: كم أتحف فلانٌ وألطف. (المعجم) .(1/246)
وإن تقطر من الغسلة الثالثة، ففي وجهٍ يغسل الثوب خمساً، وفي وجه أربعاً، وفي وجهٍ مرةً واحدةً، وفي وجهٍ لا يغسل أصلاً.
وإن تقاطر من الغسلة الأخيرة، فإن قلتَ: الغسالة كالإناء بعدَها، فلا ينجس الثوب. وإن قلت: كالإناء قبيلها فمرة، وينطبق عليه وجه السُّبع، فيعود إلى وجهين.
ولم أر لأحدٍ من الأصحاب يقول: كل غُسالة كولغة كلب، فلا قائل بذلك، وإن كان محتملاً على بُعدٍ.
فرع:
335- إذا ولغ في ماء قليل كلبان، أو أكثر، فقد ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنها ككلبٍ واحدٍ.
والثاني - أنه يثبت بسبب ولوغ كل كلب سبعُ غسلات وتعفير.
فرع:
336- حُكي في رواية حرملة عن الشافعي أنه [قال] (1) إذا ولغ الكلب في ماء قليل، ووردت عليه نجاسة أخرى، فلا يجب غسل الإناء أكثر من سبع مرّات مع التعفير، وهذا ظاهر مقطوع به (2) في الطرق.
فصل
337- النجس من الحيوان: الكلب والخنزير، والمتولّد منهما، أو من أحدهما، وحيوانٍ آخر طاهر، وما عداهما من الحيوانات كلها طاهرة العيون، واللعاب، والسؤور، والعرق، فلا فرق بين المأكول منها وبين المحرّم. ومعتمد المذهب الحديث: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنتوضّأ بما أفضلت الحمر؟ قال: نعم، وبما أفضلت السباع كلُّها" (3) .
__________
(1) زيادة من (م) .
(2) (م) : غير مقطوع به.
(3) حديث: "أنتوضأ بما أفضلت الحمر؟ " رواه الشافعي في الأم بهذا اللفظ نفسه، عن جابر، وفي مسنده أيضاً، ورواه عبد الرزاق في مصنفه، والبيهقي في السنن. (ر. الأم: 1/5، ومسند الشافعي: 8، ومصنف عبد الرزاق: 1/77 ح 252، والسنن الكبرى: 1/249، 250، والتلخيص: 1/29 ح 15) .(1/247)
وتخبّط أبو حنيفة في الأسآر (1) .
فرع:
338- سؤر الهّرة طاهر، فلو أكلت فأرة، أو تعاطت نجاسةً، فإن لم تغب عن أعيننا، وولغت في ماءٍ قليلٍ، تنجّس، [للقطع باتصال النجاسة به] (2) وإن غابت، وجوّزنا أنها ولغت في ماء كثير، أو ماء جارٍ، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه ينجس؛ لأنّا استيقنّا النجاسة، ولم نستيقن زوالها.
والوجه الثاني - أنه لا ينجس؛ لجواز طهارة فمِها، والأصل طهارة ما ولغت فيه، ويتأكد ذلك بتعذّر الاحتراز، وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ قال: "إنها من الطوافين عليكم والطوافات" (3) .
فصل
339- مضمون الفصل بيان نجاسة الميتات، وما ينجس منها وما [لا] (4) ،
ينجس منها: فأمّا السمك والجراد فميتتهما طاهر حلال، وإذا ماتت سمكة أو جرادة في ماء قليل، فهو طاهر.
وأما ما سواهما، فالمذهب أن الآدمي لا ينجس بالموت، ولا ينجس الماء الذي يموت فيه، إذا كان طاهر البدن.
وما سواه ينقسم: إلى ما له نفس سائلة، وإلى ما ليس له نفس سائلة [فأما ما له
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 16، الهداية مع فتح القدير: 1/94 وما بعدها، وحاشية ابن عابدين: 1/148.
(2) زيادة من (ل) .
(3) هذا جزء من حديث في قصة رواها مالك، والشافعي، وأحمد، والأربعة، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والدارقطني، والبيهقي، من حديث أبي قتادة. (ر. الموطأ: 1/22، ترتيب مسند الشافعي: 1/22، أحمد: 5/296، 303، 309، وأبو داود: الطهارة، باب سؤر الهرة، ح 75، والترمذي: الطهارة، باب ما جاء في سؤر الهرة، ح 92، النسائي: الطهارة، باب سؤر الهرة، ح 340، وابن ماجه: الطهارة، باب الوضوء بسؤر الهرة والرخصة في ذلك، ح 367، التلخيص: 1/41 ح 36) .
(4) ساقطة من الأصل، والمثبت تقدير منا رعاية للسياق، وصدقتنا (م) ، (ل) .(1/248)
نفس سائلة] (1) ، فإذا مات في ماء قليل، تنجس الماء القليل.
وإن لم تكن له نفسٌ سائلة -يعني الدم؛ إذ لا يخلو حيوانٌ عن بلةٍ ورطوبةٍ، ولسنا [نعنيها] (2) - فإذا مات شيء منها: كالذباب، والبعوض، والخنافس، والعقارب، وغيرها، في ماء قليل، ففي نجاسة الماء قولان للشافعي: أحدهما - وهو الجديد، ومذهب أيي حنيفة (3) أن الماء لا ينجس [بها.
والثاني - أنه ينجس] (4) قياساً على ما له دمٌ سائل.
وذكر صاحب التقريب قولاً ثالثاً مخرجاً من [قولٍ] (5) منصوص: أنه يفرق بين ما يكثر ويعم، وبين ما لا يكثر، فالذي يعم: كالذباب، والبعوض، وما في معناهما، والذي لا يعم: كالخنافس، والعقارب، والجُعلان. ووُجِّهَ هذا القول بأن المعتمد في توجيه قول الحكم بالطهارة تعذّر الاحتراز، وهذا إنما يتحقق فيما يكثر، فاقتضى ذلك تفصيلاً، [ولا فقهَ] (6) في النظر إلى عدم الدم.
التفريع على القولين:
340- إن حكمنا بنجاسة الماء، فلا كلام.
وإن حكمنا بأن الماء لا ينجس، فقد قطع العراقيون بأن ذلك الحيوان ينجس بالموت، ولكن لا ينجس الماء، لتعذّر التَّصوّن، والاحتراز.
__________
(1) ساقطة من الأصل، والمثبت تقدير منا رعاية للسياق، والحمد لله، فهكذا جاءت (م) ، (ل) .
(2) في الأصل: "نُعيّنها" بهذا الضبط، ولعّل الصواب: نعنيها كما أثبتناها. ثم وجدناها في (م) ، (ل) كما قدرناها، والحمد لله على توفيقه وإلهامه.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 16، المبسوط: 1/51، الهداية مع فتح القدير: 1/72، حاشية ابن عابدين: 1/123.
(4) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها، وهي ساقطة من الأصل بداهة، وقد وجدناها في (م) ، (ل) .
(5) زيادة من (م) ، وفي (ل) : مخرجاً غير منصوص.
(6) في الأصل: والأفقه عدم الدم. وهو تحريف ظاهر، عكس ما يقتضيه السياق، وقد صدقتنا (م) ، (ل) .(1/249)
وقال القفّال: لا ينجس هذا الصنف بالموت على هذا القول، ومأخذ القولين في نجاسة الماء من القولين في نجاسة الميتة.
وهذا التردّد عندي يُتلقى من أن المعتمد على قول طهارة الماء ماذا؟ وفيه مسلكان: أحدهما أن المعتمد تعذُّر الاحتراز [فعلى هذا] (1) يتجه [ما قال] (1) صاحب التقريب من الفرق بين ما يعم وبين ما لا يعم.
والثاني - أن الذي ليست له نفسٌ سائلة إذا مات، فكأنه حجر أو جماد؛ فإن البلى والعفن والإنتان يقع من انحصار الدم في تجاويف العروق واستحالتها، ثم يتمادى إلى الجثة، وهذا يقتضي الحكمَ بطهارتها في أنفسها، وسبب كون الموت علّة في جلب النجاسة أنه يقرّب الجثة من التغيّر، والحيوانات التي نتكلم فيها لا تستحيل بالموت، وهي حيّةٌ وميتةٌ على صفة واحدة. ثم إن حكمنا بأنها لا تنجس بالموت، فلا فرق بين أن تكثر في الماء أو تقل، فالماء طاهرٌ.
وإن حكمنا بأنها تنجس بالموت ولكن الماء لا ينجس لتعذر الاحتراز، فلو كثر حتى تغيّر الماء به، فقد ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أن الماء لا ينجس وإن تغيّر؛ فإن التغيّر غيرُ مرعي في الماء القليل، فلو كان ينجس إذا تغيّر، تنجَّس وإن لم يتغيّر.
والثاني - أنه ينجس؛ لأن الاحتراز إنما يتعذّر عما يقلّ من هذا الجنس؛ فإنه قد يلج شيء من طرف الأغطية، فأما الكثير، فمما يُتصوّن منه في العادة، والفرق بين القليل والكثير في الجنس الواحد، نظراً إلى إمكان الاحتراز وتعذره، يوجب الفرق بين الذباب والعقارب، كما قال صاحب التقريب.
341- فإن قيل: إذا حكمتم بأن هذه الميتات ليست بنجسة، وذكرتم أن كثيرها
__________
(1) امّحى تماماً من الأصل ما بين المعقفين، وقدرناه على هذا النحو في ضوء السياق، وقبلهما بنحو سطر، وبعدهما بثلاثة أسطر، قرأناها على ضوء ما بقي من أطراف الحروف وظلالها.
فنرجو أن نكون وفقنا للصواب. الحمد لله على توفيقه، فقد شهد بصحة تقديرنا (م) ، (ل) .(1/250)
وإن غيّر [الماء] (1) ، فالماء طاهر، فهل يجوز التوضؤ به؟ قلنا: أقرب معتبر فيه أن نجعل تغير الماء بها كتغيره بأوراق الأشجار؛ فإنها بمثابتها على هذا المسلك.
ثم وإن حكمنا بطهارة هذه الميتات، فهي محرمة؛ فإنها مستقذرةٌ، مندرجة تحت عموم تحريم الميتة، وقد قال عليه السلام: " أُحلت لنا ميتتان " (2) .
وأما الدود الذي نشْؤُه (3) في الماء، والطعام، والفواكه، فلا تنجس إذا ماتت؛ فإنّ نَشْأَها فيه، ولو انعصرت فيما يجري من تصرف وعصرٍ، أو اختلطت (4) من غير قصدٍ (5) ، فلا مبالاة به.
ولو جمع جامع شيئاً منها، واعتمد أكلَها، ففي جواز ذلك وجهان: أصحهما - التحريم.
والثاني - التحليل؛ فإن دود الخلّ بمثابة جزء من الخل، ودود الجبن كجزء من الجبن طبعاً وطعماً، فإن حرّمنا، فيعود فيها التردّد في النجاسة، لو سئلنا عنها، فإن نجّسناها [فلا كلام، وإن لم ننجسها] (6) ، فإنما لا تنجس لظهور تعذر الاحتراز؛ من حيث إن الرب تعالى يخلقها فيها.
فهذا تمام الكشف تصريحاً وتنبيهاً.
فرع:
342- كل حيوان حكمنا بنجاسة ميتته، فجزؤه نجس، وكل حيوان أبحنا
__________
(1) زيادة من المحقق، رعاية للسياق.
(2) حديث: "أحلت لنا ميتتان.." رواه الشافعي، وأحمد، وابن ماجة، والدارقطني، والبيهقي عن ابن عمر، ورواه الدارقطني في العلل عن زيد بن أسلم موقوفاً، قال: وهو أصح. وصححه الألباني، وضعف الشيخ شاكر سنده، ولكنه قال: إنه ثابت صحيح بغيره.
(ر. التلخيص: 1/25 ح 11، وأحمد: 2/97، 8/89 طبعة شاكر ح 5723، التعليق المغني على الدارقطني: 4/272، وارواء الغليل: 8/164 رقم 2526، وصحيح ابن ماجة: 2/232 ح 2679) .
(3) مصدر نَشَأ وزان: نفع ينفع. وهو وزن غير مشهور مثل نشوء، ونشأة. (المصباح) .
(4) في هامش (ل) : "اختلطت أي لانت واسترخت".
(5) (ل) : عصر.
(6) زيادة من (ل) فقط.(1/251)
ميتته، ففي جزئه وجهان، كالسمك والجراد.
وإن حكمنا بطهارة الميتة [التي لا نفس لها سائلة] (1) ولم ننجِّسها، ففي جزئها وجهان مرتبان على القسم الأول، وهذا أولى بالنجاسة.
وفي طهارة بيض الطيور التي ليست مأكولة اللحم خلافٌ، سيأتي في كتاب الصلاة، إن شاء الله تعالى.
وبيع دود القز [جائز] (2) كبيع النحل؛ فإنه حيوانٌ طاهر منتفع به، بخلاف سائِر الحشرات، وفي بيع بزره (3) خلاف، وهو بمثابة بيض الطير الذي لا يؤكل، وهو منتفع به.
فرع:
343- المسك طاهر وفاقاً، وهو أحبّ الطيب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الفأرة (4) التي تسقطها الظبية في حياتها وجهان: أحدهما - النجاسة؛ فإنه جزءٌ ذو روحٍ انفصل عن الحيوان.
والثاني - أنها طاهرة؛ فإنها تنفصل بطباعها، فكانت [كانفصال الجنين] (5) .
فرع:
344- إذا وقعت فأرةٌ في ماء قليل، وخرجت منه حيّة، فإن انغمست، فمنفذ النجاسة منها يكون نجساً، وقد لاقى الماءَ، ولكن اختلف أئمتنا، فمنهم من حكم بالنجاسة طرداً للقياس، ومنهم من عفا عن ذلك نظراً إلى اتباع الأوَّلين؛ فإنهم مع ظهور بصائرهم، واتقاد قرائحهم، لم يجعلوا لما ذكرنا وقعاً.
ولو اقتصر رجل في الاستنجاء على الأحجار، ثم انغمس في ماء قليلٍ، تنجس الماء وفاقاً؛ فإن لهذا الأثر أحكاماً مفصلة عند الفقهاء.
__________
(1) زيادة من (ل) .
(2) زيادة من (م) ، (ل) .
(3) المراد بيضه أو صغاره، وهي بالزاي والذال معاً.
(4) الفأرة: جراب المسك الذي يحويه قبل انفصاله من الظبية. (القاموس والمعجم) .
(5) ما بين المعقفين غير واضح أصلاً، وهذا تقدير منا على ضوء السياق، وما بقي من خيالات الحروف، وهو في (م) ، (ل) .(1/252)
ولو حمل رجل إنساناً، كان اقتصر على استعمال الأحجار، وصلى، ففي صحة صلاة الحامل وجهان: أقيسهما أنه تفسد صلاة الحامل؛ فإنّ جواز الاقتصار رخصة لا تعدو المترخص.
والثاني - تصح صلاة الحامل؛ فإن ذلك الأثر الباقي في حكم معدوم، وهذا ينقضه ما ذكرناه من انغماسه في ماءٍ قليل.
***(1/253)
باب الماء الذي ينجس والذي لا ينجس
345- قد ذكرنا أن الماء القليل إذا وردت عليه نجاسة نجّسته، تغيّر الماء أو لم يتغيّر، والماء إذا بلغ حدَّ الكثرة لم يتنجس ما لم يتغير.
والمعتمد والمرجوع إليه في حد الكثرة عند الشافعي ما روى عن النبي عليه السلام أنه قال: " إذا بلغ الماء قلتين، لم يحمل نجساً " وروى عن ابن جريج في طريقه "إذا بلغ الماء قلتين بقلال هجر، لم يحمل نجساً" (1) .
والناس على ثلاثة مذاهب: أحدها - أن النظر إلى تغيّر الماء قلّ أو كثر، وهذا مذهب مالك (2) رضي الله عنه. ولا يشك منصف أن السلف الصالحين لو رأوْا رطلاً، وقد قطرت فيه قطرات من بول أو خمر، كانوا لا يَروْن استعمالَه وإن لم يتغيّر، وحديث القلتين بمفهومه يردّ هذا المذهب.
ولم يستقرّ مذهب أبي حنيفة على حدّ. والذي تقرر عليه أنه إذا وقعت نجاسة في ماء، فمن اغتّرف الماء من موضعٍ يستيقين أن النجاسة لم تنتشر إليه، فهو طاهر (3) ، وهذا عماية لا يُهتدى إليها.
والشافعي لما لم يصح عنده مذهب مالك، ورأى مذهب أبي حنيفة خارجاً عما
__________
(1) رواية الشافعي لحديث: "إِذا بلغ الماء قلتين ... " في الأم: 1/4، والحديث سبق تخريجه، فقرة: 300. وأما التقييد بقلال هجر في رواية ابن جريج، فرواه الشافعي في الأم: 1/4، وانظر كلام الحافظ عليه بالتفصيل في التلخيص 1/20 ح 4.
(2) ر. عيون المجالس: 1/174 مسألة: 42، حاشية العدوي: 1/140، جواهر الإِكليل: 1/6.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 16، الهداية مع فتح القدير: 1/64 وما بعدها، بدائع الصنائع: 1/71، حاشية ابن عابدين: 1/128.(1/254)
يحويه الضبط، استمسك بتوقيفٍ وجده مرويّاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثُمْ رأى الشافعيُّ أن القلة هي الجرّة الكبيرة.
ثم روى عن ابن جُريج (1) أنه قال: " لقد رأيت قلال هجر، فرأيت القُلة تَسَع قربتين، أو قربتين وشيئاًً "، ثم رأى الشافعي أن يحمل الشيء الذي ذكره ابنُ جريج على نصف قربة، وقال: هو الأقصى، لوجهين: أحدهما - أنه لو كان أكثر من نصف قربة، لما كان يتشكك فيه، ويقول: أو قربتين وشيئاً.
والثاني - أنه لو كان أكثر من النصف، لكان يقول: ثلاث قرب إلاّ شيء.
ثم ظاهر كلام الشافعي أن القربة الحجازيّة تَسَعُ مائة رطلٍ، والرطل نصف مَن، فالمجموع خمسمائة رطل، وبالمن مائتان وخمسون مناً.
وذكر بعض أصحابنا أن القربة تَسَع مائة منّ، فالمجموع ألف رطل.
وهذا بعيد؛ فإن القربة لا تَسَع مائةَ مَنٍّ.
وذكر الزبيريّ، صاحب الكافي طريقةً [ارتضاها القفال (2) ، فحمل القلّة على ما يُقلّه حمارٌ أو بعير ضعيف، والوِقرُ (3) مائِة وستون مَناً، يُحط للظرف (4) ، والحبال عشرةُ أمناء (5) ، فتبقى مائةٌ وخمسون مَنّاً، فالقلتان ثلثمائة منٍّ، ولا يمتنع ما ذكره من التأويل في قلال هجر؛ فإن بها رَوايا لنقل الماء، والذي قاله أقرب من الحمل على الجرّات] (6) ، ولا يتحقق في هذا ضبط على ما نحاول.
__________
(1) ر. الأم: 1/4.
(2) ر. المجموع: 1/125، الوسيط للغزالي: 1/324.
(3) الوِقر: الحمل مطلقاً، والوسق حمل البعير خاصة، والوسق ستون صاعاً، والصاع خمسة أرطال وثلث فيكون الوقر (الوسق) = 1/3 5 × 60= 325 رطلاً. والرطل نصف منٍّ، فيكون الوقر مائة وستين منّاً. (القاموس والمعجم) .
(4) الظرف: المراد به الوعاء الذي ينقل فيه الماء.
(5) أمناء جمعٍ مَن مثل سبب وأسباب، والتثنية (منوان) . وعند تميم منٌّ بالتشديد، والجمع أمنان والتثنية منان. (مصباح) .
(6) ما بين المعقفين امّحى من الأصل، وقَدّرناه مستعينين بما بقي من خيالات الحروف، وبالسياق، وبالشروح والمختصرات، ونسجد شكراً لله، فقد صدّقتنا نسخة (م) ، (ل) .(1/255)
346- ومما ذكره الأصحاب الاختلاف في أن ما ذكره تقريبٌ أو تحديد، وقالوا: الأصح أنه تحديد.
قال الشيخ أبو بكر (1) في إيضاح التحديد: لو نقص إستارٌ (2) واحدٌ، كان الماء في حدّ القلة.
وهذا عندي إفراط؛ فإن هذا المقدار لا يبين، ولا يُحَسّ في القلتين، فالوجه في التفريع على التحديد أنه إذا نقص ما يظهر، ولا يحمل على تفاوت في كُرات الوزن، فهو الذي ينقُص الحدَّ.
347- فأما من قال: إنه تقريبٌ، فقد تخبطت فيه نقلة (3) ألفاظ أئمة المذهب:
فأما الصيدلاني، فإنه قال: لو نقص شيء قليل، لم يؤثر، على وجه التقريب، ولم يذكر إلا هذا.
وقال بعضُ المصنفين في بيان التقريب: لا يضر نقصان الرطل والمَنّ، ولست أرى لهذا أصلاً.
وسمعت شيخي يقول: لو نقص رطلان لا يضر، وكان لا يسمح بثلاثة أرطال.
وذكر الشيخ أبو علي في الشرح: أنه لو نقص ثلاثة أرطال لا يضر على وجه التقريب، ولا يزيد على ذلك.
ورأيت لصاحب التقريب إشارةً في معنى التقريب إلى حطّ نصف قربة من كل قُلةٍ؛ مصيراً منه إلى [إسقاط] (4) ما تردّد فيه ابن جريج؛ إذ قال: أو قربتين وشيئاً.
__________
(1) المقصود أبو بكر الصيدلاني، فقد سبق أن ذكره إِمام الحرمين بهذه الكنية، وكأنه يحكي عنه ما قيل في التحديد وما قيل في التقريب.
(2) الإِستار: وزن أربعة مثاقيل ونصف، والمثقال: درهم وثلاثة أسباع درهم (القاموس والمعجم) ، ووجدناها في هامش (ل) أيضاً، وزاد عليها قوله: "الإِستار بوزن الدرهم ستة ونصف، اصطلاحاً، لا تحقيقاً".
(3) في الأصل: تخبطت فيه ألفاظ نقلة أئمة المذهب.
(4) مزيدة من (ل) .(1/256)
وهذا بعيدٌ جداًً، وليس بياناً للتقريب، وكأنه يردّ القلّتين إلى أربعمائة (1) رطل، وأسقط محل التشكك، ثم يقع في الأربعمائة تقدير التقريب.
348- وبالجملة، فليس [فيما] (2) نقلته شفاءٌ، ولست أعدّ كلام صاحب التقريب من المذهب، وإنما هو خطأ ظاهر.
والذي أراه في تفسير ما ذكره الأئمة من أن القليل لا يضر نقصانه، أنا لو فرضنا مقداراً من الزعفران في القلتين، وكان يظهر عليه ظُهوراً مقَدَّراً في الفكر، فلو نقص مقدارٌ من الماء، وكان لو ألقي فيه المقدار الذي ذكرناه، لازداد ظهوره ازدياداً محسوساً، فهذا نقصان يَنقُص الحدّ، وإن كان النقصان بحيث لا يظهر بسببه في الحس تفاوت في ظهور ما يقع فيه، فهو القليل الذي لا يؤثر، ولو فرض هذا التقدير في النجاسة وتفاوت ظهورها، لكان سديداً.
والتحديد أسلم وأضبط.
والسبب فيه أن الماء القليل ينجس، وهذا الحكم [مستندٌ] (3) إلى ثبتٍ شرعي، فإن القياس لا يجول في ذلك.
فإن قيل: لم تذكروا في تفسير التقريب أمراً معلوماً؟ قلنا: هذا تعسف؛ فإن التقريب لا يقتضي الإعلامَ والتقديرَ، فمن طلب في بيانه تقديراً، فقد ذَهِل عن مأخذ الكلام، وأقرب مسلكٍ فيه ما ذكرناه.
فإن قيل: لو نقَصَ على وجه التقريب مقدارٌ تردَّدَ المرءُ في أنه يظهر أثره حسّاً أم لا، في دفع أثر ما يقع فيه. فهذا فيه احتمال عندي؛ فإنه من وجهٍ يلتفت على أن الأصل هو القلّة. وهذا هو الظاهر؛ ولأجله اخترنا التحديد. ومن وجهٍ يلتفت على أنَّ الأصل ألا يحسّ أثره في تفاوت الدّفع. فهذا أقصى الإمكان في ذلك.
فإذاً المعتمد على وجه التحديد النقصانُ المحسوسُ، وعلى وجه التقريب، المعتبرُ تفاوتٌ في تأثير الدفع محسوس.
__________
(1) على تقدير أن القربة تسعُ 100 منّ، أي 200 رطل.
(2) في الأصل: ما نقلته.
(3) في الأصل: مستدامٌ، والمثبت تقديرٌ منا. وهي في (م) و (ل) : كالأصل.(1/257)
349- ثم الماء الكثير إذا تغيّر بالنجاسة، صار نجساً، وقد ذكرنا في الزعفران الواقع في الماء أن الأظهر اعتبار تفاحش التغير، حتى يزول إطلاق اسم الماء، ولا يراعى في التغيّر بالنجاسة ظهور التغيّر، حتى يسقط اسمُ الماء، بل المرعي ألا تكون النجاسة مغمورة بالماء، ومهما ظهر في الماء صفة من صفات النجاسة، فقد تبين أنها ليست مغمورةً.
ولو وقعت نجاسةٌ جامدة في الماء، فتروّح الماء بها، ولم تخالط الماء، فالذي يدل عليه كلام الأئمة أن الماء الكثير ينجس بالتروّح بمجاورة ما وقع فيه.
وكان شيخي يحكي في المجاورة كلاماً، ويختار أن الماء لا ينجس بهذا؛ فإنه لو كان بالقرب من الماء جيفةٌ، فتروّح الماء بريحها، لم ينجس، فوقوع عين النجاسة في الماء الكثير غير مؤثّر.
والظاهر عندي ما نقلتُه من كلام الأصحاب؛ فإن هذا يعدُّ ظهورٌ لأثر النجاسة؛ فتعاف النفس الماء بسببه.
فهذا بيان حدّ الكثرة ومعنى التغيّر بالنجاسة، وهما قاعدتان إليهما استناد فصول الباب.
فصل
350- إذا وقع في الماء الكثير نجاسةٌ مائعة، ولم تغيّره، فالماء طهور، ولا أثر لتلك النجاسة أصلاً. وإن كانت النجاسة ماسكةً (1) جامدة، فوقعت في ماء كثيرٍ، فالذي نصّ عليه الشافعي في الجديد أنه يجب التباعد عن موضع النجاسة، بقدر قلّتين، ثم يكون الاغتراف وراءهما، والمنصوص عليه في القديم أنه لا يجب ذلك، وهو الأصح.
وفيما بلغنا من المسائل ثلاث مسائل في كل واحدة قولان، القديم فيها أصح من الجديد: إحداها - هذه، وستاتي الأخريان - إن شاء الله تعالى.
__________
(1) (ل) : جامدة مائلة.(1/258)
351- توجيه القولين: من قال يجب التباعد، استدلّ بأن أثرَ كثرة الماء دَفْعُ النجاسةِ ومغالبتُها، وإذا وقع الاغتراف من قرب النجاسة، فالماء الذي وراء المغترف لا أثر له في الدفع، وإذا كان بين المغترف وبين النجاسة قلتان، امتنع نفوذ النجاسة إلى موضع الاغتراف.
ومن قال بالقول القديم، قال: النجاسة في الماء الكثير الراكد لا أثر لها، ووجودها كعدمها، وهى مدفوعة الحكم، ولو حكمنا بنجاسة قلتين من كل جانب منها، فيكون الاغتراف متصلاً بماء محكوم بنجاسته، والماء يشيع في الماء، فإذا جاز الاغتراف من ماءٍ متصلٍ بماء نجس، فلأن يجوز من ماء قريب من نجاسةٍ جامدةٍ أولى.
352- ثم مما يتفرّع على القولين: أنا إذا أوجبنا التباعد بقدر قلّتين، فلا بد من رعاية التناسب في الأبعاد في صوب التباعد، فإذا كانت النجاسة على وجه ماء البحر، فتباعد المرء ذراعاً، فلا يحسب الماء إلى منتهى العمق، بل يحسب ذراعاً في ذراع طولاً وعرضاً وعمقاً، فلا يزال يتباعد على هذه النسبة حتى يبلغ ما يخلِّفه قلتين.
وإنما راعينا هذا؛ لأن العمقَ الخارج عن هذه النسبة لا يصلح أن يكون حاملاً، ولو كان الماء الكثير منبسطاً وعمقه شبراً (1) ، فإذا تباعدنا مقدار [أذرع] (2) ، اعتبرنا مثلها في العرض ولم نصادف عمقاً يناسب [الطول والعرض، فنحسب ما وجدنا] (3) ، فنقول: خمسة أذرع في مثلها في عمق شبرٍ [لا] (4) يكون قلتين، فلا نزال نزيد حتى يبلغ ما نخلِّفه قلتين، وعلى هذا ما يصوَّر من الصور.
353- ثم إذا كان الماء قلتين بلا مزيد، فوقعت فيه نجاسة قائمة، فالماء محكوم بنجاسته على قول وجوب التباعد، ولا يكون نجساً على القول الآخر.
__________
(1) كذا. وهي على تقدير وكان عمقه شبراً، فتقع (شبراً) خبر لكان المقدرة وفي (ل) : شبرٌ.
(2) في الأصل: ذراع، والمثبت من (ل) .
(3) ما بين المعقفين غير مقروء في الأصل، وقدرناه على ضوء السياق، وما بقي من ظلال الحروف، وقد وجدناها طبق الأصل في (م) و (ل) .
(4) غير مقروء في الأصل، والمثبت من (م) ، (ل) حيث كنا قدرناها (هل) .(1/259)
ولو نُحّيت النجاسة ورميت، والماء غير متغير، فهو طهور على القولين، ويتأتى استعمال جميعه.
وإن تركت النجاسة على الماء، واغترف منه، فقد فصله الشيخ أبو علي في الشرح أفضل تفصيل، وأنا أسوق كلامه على وجهه، بلا مزيد (1) : فإذا كان في بئرٍ قلتان من الماء، وفيه نجاسةٌ قائمة، فألقى النازح دَلوه، واغيّرف، فنُفرّع التفاصيل على قول وجوب التباعد، ثم نفزعها على القول الثاني.
فإذا أوجبنا التباعد، وقد ألقى دلوه، لم يَخْل إما أن يُلقي الدَّلو على وجه الماء، ثم يختطفها من غير أن يغمرها الماء، ثم يُخرجها. فإن ألقاها (2) على وجه الماء، وكان أسفل الدَّلو ثقيلاً يطلب الرسوبَ، بحيث ينحدر الماء من العَراقي (3) إلى الدلو، فلا يخلو إما أن تقع النجاسة في الدَّلو، أوَّلاً، ثم يتبعها دُفَع الماء، أو على العكس من هذا، فإن ابتدرت النجاسة، ثم تبعها الماء، فالماء عادَ طهوراً؛ لما [فَارقته] (4) النجاسة، ثم نقص الماء وهو طهور، فإذا اختطف الدَّلوَ، فالماء الذي في البئر طاهر؛ فإن النجاسة زايلته، وهو كاملٌ (5) ، والماء الذي في الدَّلو نجس؛ لأنه قليل وفيه نجاسة، وظاهر الدَّلو طاهر؛ لأنه لقي ماء البئر وهو محكوم بطهارته، فإن انفصل الدَّلو، ثم قطرت قطرةٌ مما في الدلو إلى البئر، صار الماء الذي في البئر نجساً؛ لأنه ناقصٌ عن القلتين وقعت فيه نجاسة.
354- وإن سبقت دُفَعٌ من الماء إلى الدَّلو، ثم تبعها النجاسة، واختطف الدَّلوَ، فالماء الذي في الدلو نجس؛ لأنه قليل وفيه نجاسة، والذي في البئر نجس أيضاً؛ لأنه نقص عن حدّ الكثرة بالدُّفع التي سبقت إلى الدَّلو، والنجاسة بعدُ في الماء، ثم
__________
(1) (ل) : فلا مزيد عليه.
(2) "ألقاها" أي الدلو، فتأنيثها أكثر من تذكيرها (مصباح) .
(3) قدرنا على ما فهمناه من التصوير أن المقصود بالعَراقي حوافي الدلو أو البئر، لمقابلتها بالصورة الأخرى، ولكن لم نر جمع عِراق -بمعنى شاطىء- على عَراقي، والذي وجدناه بهذا الوزن هو جمع عَرْقُوَه كتَرْقُوَة وهي الخشبة التي توضع معترضة على رأس الدلو. (القاموس والمعجم) .
(4) في الأصل: فارقتها، وهي كذلك في (ل) . وفي (م) فارقها.
(5) كامل: أي قلتان.(1/260)
فارقت، والماءُ القليل إذا فارقته النجاسة، لم يطهر، وظاهر الدلو نجس؛ لنجاسة ماء البئر. فهذا إذا اختطف الدَّلوَ على [الصورة] (1) التي ذكرناها من الماء.
فأما إذا انغمرت في الماء، وعلاها الماءُ، ثم أخرجها، والتفريع على قول وجوب التباعد، سواء وقعت النجاسة في الدَّلو، أو بقيت في البئر، فالماءان جميعاًً نجسان: أما الذي فيه النجاسة، فقليلٌ فيه عين نجسة، والآخر انفصل عن نجس، فكان الكل نجساً على قول وجوب التباعد.
فأما إذا فرّعنا على القول القديم، ولم نوجب التباعدَ، فالماء قبل اغتراف شيءٍ منه طاهر، فإذا اغترف منه، نُظر. فإن كان الاغتراف خطفاً، فالجواب فيه كما مضى في القول الأوّل، ولا يفترقان في ذلك، ولم نعدْه لوضوحه بأدنى تأمل.
فأما إذا انغمرت الدَّلو في الماء، ثم انتزحت، والتفريع على القديم، فإن وقعت النجاسة في الدلو، فلا شكّ في نجاسة الماء الذي فيه، وفي الماء الباقي في البئر وجهان.
ولو بقيت في البئر، فماء البئر نجس، وفي الذي في الدَّلو وجهان؛ لأن الماء قبل التفريق طاهرٌ، ثم يكون أحد الماءين نجساً وانفصاله عن ناقصٍ عن القلتين. ولكن كان قبل الانفصال طاهراً، وكما (2) نقص كان النقصان مقترناً بزوال النجاسة، فأشعر هذا بطهارة ما لا نجاسة فيه، ومن حيث إن المنفصل الذي فيه النجاسة نجس، وكان الكل على حكم واحدٍ، فإذا حكم بنجاسة البعض، أشعر ذلك بنجاسة الباقي.
فهذا منتهى البيان في ذلك.
فرع:
355- إذا كان في إناء قلةٌ نجسة نجاسة حكميّة، وفي إناء آخر قلة أخرى نجسة كذلك، ولا تغيّر، فضمت إحداهما إلى الأخرى، فالماء بجملته الآن طاهرٌ؛ لبلوغه حدّ الكثرة من غير تغيّر، فلو فُرِّق بعد ذلك لم يؤثّر؛ فإن النجاسة بالاجتماع اندفعت، وارتفع حكمها.
__________
(1) في الأصل: الفورة. والمثبت من (م) ، (ل) .
(2) كما: بمعنى عندما. وهذا وارد كثيراً في كلام الإِمام، وغيره من الخراسانيين.(1/261)
فرع:
356- إذا صب في ماء بالغٍ قلتين رطل بول، ولم يغيره، فالماء طهور، ويجوز استعمال كله، إلا رطلاً، وهو مقدار البول. ثم في ذلك الرطل وجهان: أصحهما - جواز الاستعمال؛ فإن البول صار مستهلكاً ساقط الحكم.
والثاني - لا يجوز استعماله؛ فإنه لو استعمل، لكان استعمل البول يقيناً. وليس بشيء؛ فإنه إذا لم يبق إلا مقدار رطل، فنحن على اضطرارٍ نعلم أنّا استعملنا معظم البول فيما استعملنا قبل، وليس في هذا الباقي إلا مقدار يسير من البول، إن كان.
ولو كان معه ماء ينقص عن قلتين برطل مثلاً، فكمّله برطلٍ من بول، فالماء نجس؛ فإنه لم يبلغ الماءُ قلتين، وفيه نجاسة، ولو كمله برطلٍ من ما ورد، ثم وقعت فيه نقطة بول، فينجس الكل؛ فإن الماء قليل، وقد وقعت فيه نجاسة.
فرع:
357- إذا وقف ماءٌ بالغٌ حدّ الكثرة على مستوٍ من الأرض، وانبسط عليها على عمق شبر أو فِتْرٍ (1) مثلاً، فليس للماء في مثل هذا المقر ترادٌّ وتدافع، ولا يتقوَّى البعض بالبعض، كما يتقوّى إذا كان للماء عمقٌ مناسبٌ للطول والعرض. فذا وقفت (2) نجاسة على طرفٍ من مثل الماء الذي وصفناه -والتفريع على القديم، وهو أنه لا يجب التباعد عن موضع النجاسة- فهل يجب التباعد في هذه الصورة؟ فعلى وجهين، ذكرهما المحاملي في (الوجهين والقولين) : أحدهما - لا يجبُ؛ طرداً للقياس.
والثاني - يجب؛ فإن أجزاء الماء، وإن كانت متواصلة، فهى ضعيفة، فإذا قرب المغترف من محل النجاسة، كان كالاغتراف من ماء قليل.
وهذا الذي ذكره يقتضي مساقه أن يقال: لو كان الماء ناقصاً عن القلتين بمقدارٍ يسيرٍ، وهو منبسطٌ، كما سبق، فلو وقع في طرف منه نجاسة، وجب ألا ينجس الطرف الأقصى على الفور؛ لأن النجاسة لا تَنْبثُّ بسرعةٍ مع انبساط الماء، وضعف ترادّه. وهذا لم يصر إليه أحد من الأئمة.
__________
(1) الفتر: ما بين الإِبهام، وطرف السبابة، بالتفريج المعتاد بينهما. (مصباح) .
(2) في (ل) : "وقعت".(1/262)
فصل
358- إذا وقعت نجاسة في ماء بئر، والماء قليل، ينجس. ثم ليس من الصواب نزحُ الماء، وإتعابُ النفس فيه، وقد يتنجس جوانب البئر والدَّلو والرِّشا، بل الوجه أن يكاثَر ماءُ البئر، ويبلغ حدَّ الكثرة، وإذا بلغه ولم يكن متغيراً، فهو طهور، وإن كان متغيراً، زِيد في الماء، حتى يزول التغيّر. ولو كان بالغاً قلتين وقد تغيّر، فالوجه الأيسر المكاثرة إلى زوال التغير.
فإن طُرح في الماء المسك أو غيره، مما له رائحة غلاّبة، فزال تغيّر الماء ظاهراً، لم يعد طهوراً؛ فإن هذا غمرٌ وليس بزالة.
ولو زال التغيّر على مرّ الزمان، أو بهبوب الرياح، والماء كثير، فهو طهور، وإن طرح في الماء تراب، فأزال أثر النجاسة، فللشافعي قولان: أحدهما - أنه لا يعود طهوراً، كالمسك إذا طرح، والثاني - أنه يعود طهوراً؛ فإن التراب ليست له رائحة فائحة تعم، ولكن له أثرٌ في الإزالة حقيقةً.
ومن أغمض ما يرفع في الفتاوى، ويبتلى الناس به النجاسة إذا وقعت في ماء بئر، وتهرأت وتفتتت، ولا يُنزح دلوٌ إلا وفيه جزء منه وإن لطف، فيتعذر استعمال الماء، وإن كان كثيراً غير متغير.
وكان شيخي يُسال عن ذلك، فلا يجد (1) جواباً، ويقول: الخلاص منه بطمّ (2) البئر واحتفار أخرى.
وقد رأيت لمحمد بن الحسن (3) فيه شيئاً ليس بعيداً عن قياسنا.
فأقول: إن أمكن نزف جَمّة (4) البئر، واقتلاع شيء من الطين الذي فيه مقرٌّ للماء،
__________
(1) في (ل) : يُحِير. والمراد لم يجد مخرجاً ووسيلةً لتطهير البئر، وإلا فقد أجاب بطمّ البئر.
(2) في هامش الأصل: "طمّ البئر بالتراب ملأها (مجمل اللغة) ".
(3) محمد بن الحسن الشيباني، صاحب الإِمام الأعظم أبي حنيفة، وناشر علمه، له آراؤه واجتهاداته التي استقل بها. ت 189 هـ (الجواهر المضية: 2/42، الأنساب للسمعاني: 7/333) .
(4) في هامش الأصل: "النزف نزح الماء من البئر شيئاً بعد شيء (مجمل) " والمراد مجمل =(1/263)
فهو الوجه، والماء الذي ينبع جديداً طهور.
وإن كانت العيون فوّارةً غزيرة، وكان لا يتأتى نزفُها، فالوجه الإمعان في نزف الدّلاء وِلاءً وتباعاً، بحيث لا تسكن الجمّة عن تحرّكها بالدلو الأولى حتى تلحقَها الثانية، ثم هكذا، حتى ينزح مثل جمّة البئر. هذا ما ذكره.
والاستظهار عندي في هذا المسلك أن يُنزحَ بهذا الطريق مثلُ ماء البئر مراراً، فيصير النزح المتدارك، مع حركة الماء ودفعه أجزاء النجاسة، كالماء الجاري، فالعيون تفور بمياه جديدة، فتدفع النجاسات وهي تنزح، فتطهر. وهذا مسلك بين في دفع النجاسة.
359- فإن أراد الإنسان أن يقف منه على حقيقةٍ، اتخذ طاساً مثقوباً وسدّ ثُقبته، وصبّ فيه مقداراً من الماء، ووضعه على ماء في مِركن (1) وفتت فيه شيئاً، وفتح الثُّقبة، وهي مثال العين الفوارة، ثم يتخذ آلةً في نزح الماء عن الطاس على مثال الدَّلو، بالإضافة إلى ماء البئر، فلا يزال ينزح، والماء يفور، وهو يقدّر ما يخرجه، وقد تقدر عنده ماء الطست (2) أولاً، فهو دائب كذلك، حتى لا يبقى مما فتته شيء، وقد صفا الماء، فيتخذ ذلك دستوره في ماء البئر. ويقيس فوران العيون وجَمّةَ البئر، وما ينزحه، بما ضربته مثلاً.
ولا يكاد يخفى على الفطن إتعابُنَا أنفسنا في تقريب مدارك الحق على طالبيه.
360- ثم يتم مقصود الفصل بشيء مأخذه الفقه، وهو أن الماء الذي فيه الكلام كثير، زائد مثلاً على قلل، وهو غير متغير في جوهره، فكل دَلْو يخرجه ولا نجاسة فيه، فهو طاهر، ولو غلب على ظنّه أنه لا يخلو دَلو عن شيء من النجاسة المتشَتِّتة، ولم يقطَعْ به، فعندي يخرج الماء على القولين المقدمين فيما يغلب على الظن نجاسته، فإذا أكثر النزحَ، زال غلبةُ الظن في النجاسة، فإذا كان لا يرى أثر النجاسة في المنتزح، فهذا ما لم يستيقن نجاستَه، ولم يغلب على الظن أيضاً نجاسته، فيجوز
__________
= اللغة لابن فارس، وفي الهامش أيضاً: " وجمة البئر المكان الذي يجتمع فيه ماؤه. (مجمل) ".
(1) المركن: وعاءٌ تغسل فيه الثياب. (المصباح والمعجم) .
(2) " الطست " المراد به " المركن " الذي ذكره آنفاً.(1/264)
استعماله. فهذا منتهى الإمكان في البيان، والله المستعان.
وكل ما ذكرناه في الماء الراكد. وقد بانت قواعد المذهب فيه، ونحن نذكر الآن تفصيل الماء الجاري، إذا وقعت فيه نجاسة، إن شاء الله تعالى.
فصل
361- حقيقة هذا الفصل يستدعي التنبيهَ على أمر يتعلّق بطباع الماء الراكد والجاري: فالماء الراكد المجتمع في مقرٍّ أجزاؤه مترادة متعاضدة، وإذا نال طرفاً من الماء ما يغير ذلك الطرف، انبثَّ في الماء، فإن كان بحيث لا يقوى على تغيير جميع الماء، صار مستهلكاً في الماء، كما لم ترد عليه النجاسة، كأنه يدرأ النجاسة عن موردها، وموردُ النجاسة يُشيع النجاسة بسبب ركود النجاسة في (1) الماء.
والماء الجاري لا ترادّ فيه، والجريان يمنع شيوعَ النجاسة وانبثاثَها؛ فإن جريان مورد النجاسة يمنع من الانبثاث، والجِرية التي تداني مورد النجاسة لا تدفع النجاسة عن موردها بجريانها؛ فلا النجاسة تشيع، ولا غير مورد النجاسة يؤثر في درء النجاسة عن موردها. فلما اختلف الأمر في وضع الماءين، فقد تختلف التفاصيل في أمر النجاسة.
362- فنبتدىء الآن القولَ في الماء الجاري.
ونقول: الماء الجاري ينقسم أولاً: إلى ما قد تغيره النجاسة المعتادة، وإلى ماء الأودية العظيمة التي لا تؤثر النجاسات المعتادة فيها: فأما الأنهار التي تغيّرها النجاسات في العادات إذا كثرت، فإذا وقعت فيها نجاسة، لم تخل: إما أن تكون قائمة، وإما أن تكون مائعة، فإن كانت قائمة، لم تخلُ: إما أن كانت تجري جَرْيَ الماء، وإما أن تقف والماء يجري عليها.
فإن كانت جاريةً مع جريان الماء، ولم يكن جريانها أثقل، فأول القول يأتي مع
__________
(1) كذا في الأصل، (م) وفي (ل) : " ركود الماء في الماء " ولعل الصواب: "بسبب ركود الماء" وما عداه مقحم في النسخ الثلاث.(1/265)