وتأخذ الأم السدس، لوجود عدد من الإخوة، ويأخذ الأخ الشقيق الباقي بالتعصيب.
2 - وإذا كان الخنثى يرث على فرض ذكورته، أو أنوثته، ولا يرث على الفرض الآخر، فإنه والحالة هذه لا يعطى من التركة شيئاً حتى يستبين حاله، أو يتصالح مع الورثة.
وكذلك إذا كان بعض الورثة يرث على فرض دون فرض، فإنه أيضاً لا يعطي شيئاً من التركة.
فلو ترك الميت: زوجة، وعماً، وولد أخ خنثى.
ففي هذه المسألة تأخذ الزوجة الربع، وهي في نصيبها هذا لا تتأثر فالخنثى كيفما كان حاله.
أما العم، فلا يعطي شيئاً الآن، لاحتمال أن يكون ولد الأخ ذكراً، فيحجب العم.
ولا يعطى ولد الأخ الخنثى شيئاً أيضاً لاحتمال أن يكون أنثى، فلا ترث، لأن بنت الأخ ساقطة.
وهكذا يتضح أنه يوقف في هذه المسألة ثلاثة أرباع التركة، فإن ظهر الخنثى ذكراً أخذه، وإن ظهر أنثى أخذه العم.
3 - وإذا اختلف نصيب الخنثى بين الذكورة والأنوثة، وكذلك أيضاً اختلف نصيب الورثة معه، وعلى كلا التقديرين، فالحكم أن يعامل الخنثى، ومن معه من الورثة بالأضر، والأقل من ذكورة الخنثى وأنوثته، فيعطى كل واحد الأقل المتيقن، عملاً باليقين، ويوقف الباقي، إلى أن يتضح حال الخنثى المشكل، فيعمل بحسبه، أو إلى أن يصطلح هو والورثة. فلو مات شخص عن، ابن، وولد خنثى مشكل.
فإنه بتقدير ذكورة الخنثى، يكون المال بينه وبين الابن بالسوية،(5/129)
لكل واحد منهما نصف المال لأنهما أخوان ذكران، وبتقدير أنوثته، يكون للخنثى الثلث، وللابن الثلثان، فيقدر الخنثى أنثى في حق نفسه، فيأخذ الثلث فقط، ويقدر ذكراً في حق الابن، فيأخذ الابن النصف، لأنه متيقن به، ويوقف السدس الباقي بينهما حتى يتضح حال الخنثى المشكل، فإن ظهر ذكراً أخذه، وإن ظهر أنه أنثى أخذه الابن، وإن لم يظهر أمره اصطلح هو والابن عليه.
قال صاحب الرحبية رحمه الله تعالى:
وإن يكن في مستحق المال ... خنثى صحيح بين الإشكال (1)
فاقسم على الأقل واليقين ... تحظ بالقسمة والتبيين (2)
_________
(1) بين: ظاهر. الإشكال: الالتباس، وأشكل الأمر: التبس.
(2) اليقين: المتيقن، وهو الأقل. تحظ: تنل. والتبيين: التوضيح.(5/130)
المفقود
تعريف المفقود:
المفقود في اللغة: مأخوذ من: فقدت الشئ، إذا عدمته. وهو في الاصطلاح: من غاب عن وطنه، وطالت غيبته، وانقطع خبره، وجهل حاله، فلا يعرف أحي هو، أو ميت؟
أحكام المفقود:
للمفقود أحكام مختلفة بحسب النواحي المتعلقة به:
الناحية الأولى: بالنسبة لزوجته.
الناحية الثانية: بالنسبة لأمواله الثابتة له.
الناحية الثالثة: بالنسبة لإرثه من غيره.
أما الناحية الأولى: فإنه ليس لزوجة المفقود أن تنكح غيره، حتى يتيقن موته، لأن الأصل بقاء حياته، ولا يصار إلى غيره إلا بيقين.
روى الشافعي رحمه الله عن على رضي الله عنه قال: (امرأة المفقود ابتليت فلتصبر، ولا تنكح حتى يأتيها) يعني موته.
ومثل هذا لا يقال إلا عن توقيف.
أما الناحية الثانية: وهي بالنسبة لأمواله الثابتة له قبل غيابه أو ما جد أثناء ذلك.
فالحكم أنه لا يقسم شئ من ماله حتى تقوم بينة بموته، أو تمضي مدة، يعلم أو يغلب على الظن أن المفقود لا يعيش فوقها، وهي مدة ليست(5/131)
مقدرة بأمد معين، وعندها يجتهد القاضي، ويحكم بموته اجتهاداً.
أما قبل ذلك، فلا يصح التصرف بشئ من ماله، لأن الأصل بقاء الحياة، فلا يورث إلا بيقين.
فإذا حكم القاضي بموته، فإنه يعطي ماله إلى من يرثه عند إقامة البينة بموته، أو عند الحكم بموته، فمن مات من أقربائه قبل ذلك، ولو بلحظة لم يرث منه شيئاً، لجواز موته في تلك اللحظة.
أما الناحية الثالثة: فهي المقصودة في أبحاث الفرائض، وهي ما يتعلق بإرثه من غيره، ممن يموت أثناء غيابه.
أحكام المفقود في الميراث:
إن المفقود يعتبر حياً، ما لم تقم بينة على موته، أو يقض قاض بموته، بعد مرور وقت يغلب على الظن موته فيه، وبناءً على ذلك، يفرز له نصيبه من تركة مورثه، حتى يتبين خلاف ذلك.
وأحكام المفقود في الميراث، ومن حيث إرثه، وإرث من معه من ورثة الميت تشبه إلى حد كبير أحكام الخنثى المشكل.
1 - فمن كان من الورثة، يرث بكل من تقديري حياة المفقود، وموته، ولا يتأثر نصيبه أيضاً بحياته، أو موته، أعطى نصيبه كاملاً، بقطع النظر عن حكم المفقود.
فلو ترك الميت: زوجة، وأباً، وابناً، وأخاً مفقوداً.
فإن الورثة يأخذون أنصباءهم، لأن المفقود هنا محجوب بالأب والابن، ولا يتأثر أحد من الورثة به حياً، أو ميتاً.
فتأخذ الزوجة الثمن، والأب السدس، ويأخذ الابن ما بقي تعصيباً.
ولو مات عن: زوجة، ابن، وابن مفقود.
فإن الزوجة تأخذ نصيبها، وهو الثمن، لأنها لا تتجاوزه سواء كان(5/132)
المفقود حياً، أو ميتاً، لوجود ابن آخر للميت، أما الابن فيأخذ نصف الباقي بعد الزوجة، ويوقف للمفقود النصف الآخر منه.
2 - وإن كان في الورثة من لا يرث في أحد التقديرين، فإنه لا يعطى شيئاً، لاحتمال كون المفقود حياً.
ومثال ذلك، ما لو مات أحد عن: عم، ابن مفقود.
فإن العم في هذه الصور، لا يرث، بتقدير حياة المفقود، لأنه محجوب به، ويوقف المال حتى يظهر الحال. وكذلك لو ترك الميت:
بنتين، وبنت ابن، وابن ابن مفقود.
فإن بنت الابن لا تعطى شيئاً، لا حتمال أن يكون المفقود ميتاً، فتحجب بنت الابن بالبنتين، فتأخذ البنتان الثلثين، ويبقى الثلث موقوفاً، حتى يتبين الحال.
3 - ومن كان يختلف نصيبه من الورثة باعتبار حياة المفقود وموته، فإنه يعطي الأقل عملاً بالأحوط. وصورة ذلك، ما لو مات شخص عن:
أم، أخ حاضر، أخ مفقود.
فإن الأم في هذه الصورة تعطى السدس، لاحتمال أن يكون الأخ المفقود حياً.
فلو فرضنا التركة ستة أسهم، فإن الأم تأخذ سهماً واحداً، عملاً بالأحوط، وهو الأقل في حقها، ويأخذ الأخ الحاضر سهمين، وهو الأقل في حقه أيضاً، ويوقف ثلاثة أسهم، فإن ظهر أنه ميت، أخذت الأم سهماً آخر، وأخذ الأخ الحاضر سهمين آخرين، وإن ظهر أنه حي، لم يأخذ الأم شيئاً زائداً على السهم الذي أخذته، وإنما يأخذ الأخ الحاضر، نصف سهم، ويأخذ المفقود سهمين، ونصف السهم.
قال في الرحبية:(5/133)
واحكم على المفقود حكم الخنثى ... إن ذكراً كان أو هو أنثى
ميراث الحمل
إن الميت إذا كان من ورثته حمل، فلا شك أنه يحسب حسابه في الميراث، فيوقف له نصيبه من التركة حتى يظهر حاله، لانفصاله حياً، أو ميتاً ويعامل الورثة بالأضر، من تقادير وجود الحمل، وعدم وجوده، وموته وحياته، وذكورته وأنوثته، وإفراده وتعدده، فيعطى كل واحد من الورثة المتقين من نصيبه، ويوقف الباقي إلى ظهور حال الحمل.
مثال ذلك، ما لو خلف الميت: زوجة حاملاً.
فلها بتقدير عدم الحمل، وانفصاله ميتاً الربع، ولها بتقدير انفصاله حياً، سواء كان ذكراً أو أنثى، واحداً أو متعدداً، الثمن، فتعطى الزوجة الثمن، لأنه المتقين أنه لها، ويوقف الباقي إلى ظهور حال الحمل.
فإن ظهر الحمل ذكراً، أخذ الباقي، بالتعصيب. وإن ظهر أنه أنثى أخذت النصف، ورد عليها الباقي إن لم يكن بيت المال منتظماً، وإن كان منتظماً ورث بيت المال الباقي بعد فرضها وفرض الزوجة، وإن ظهر الحمل ذكراً أو أنثى، استحقا الباقي مثل حظ الأنثيين.
وفي كل هذه الاحتمالات، لا يتغير نصيب الزوجة، حيث تظل على ثمن التركة، ما دام الحمل قد انفصل عن أمه، وبه حياة مستقرة فإن ظهر أن الحمل ميت، أو مات قبل تمام انفصاله، أو انفصل وفيه حياة غير مستقرة، لم يرث الحمل شيئاً، لأن من شرط إرثه، أن ينفصل حياً، حياة مستقرة، وعندئذ يكمل للزوجة نصيبها، وهو الربع، لعدم وجود الفرع الوارث للميت، ويكون الباقي لذوي الأرحام إن كان بيت المال غير منتظم أو يكون الباقي بعد فرض الزوجة لبيت المال إن كان منتظماً.
ولو خلف: زوجة حاملاً، وأباً، وأماً.
فالأضر في حق لزوجة والأبوين أن يكون الحمل عدداً من الإناث،(5/134)
حتى يدخل عليهم العول، فتنقص فروضهم بسبب هذا العول، فتنقص فروضهم بسبب هذا العول، فتعطى الزوجة ثمناً عائلاً، وهو ثلاثة أسهم من سبعة وعشرين سهماً، ويعطي الأب سدساً عائلاً، وهو أربعة أسهم، ومن سبعة وعشرين سهماً، وتعطي الأم مثل الأب.
ويبقى ستة عشر سهماً إلى ظهور الحمل.
قال في الرحبية:
وهكذا حكم ذوات الحمل ... فابن على اليقين والأقل
ميراث الغرقى ونحوهم
إذا مات متوارثان، فأكثر، بحادث مفاجئ، كهدم أو غرق، أو حرق، أو حرب، أو غير ذلك، ولم يعلم عين السابق منهما موتاً، فلا توارث بينهما، بل يعاملون في الميراث كأنهم أجانب، لا قرابة بينهم، ولا توارث، وإنما يرث كل واحد منهم باقي ورثته، لأن شرط الإرث تحقق حياة الوارث بعد موت المورث، ولم يوجد هذا الشرط، في هؤلاء الذين ماتوا في مثل تلك الحوادث.
فلو مات أخوان شقيقان غرقاً، أو تحت هدم، ولم يعلم أيهما مات أولاً، وترك أحدهما: زوجة، وبنتاً، وعمّاً.
وترك الآخر: بنتين، وعما، هو نفسه في المسألة السابقة.
فلا يرث أحد الأخوين من الآخر شيئاً، بل تقسم تركة الأول على ورثته، فتعطى زوجته الثمن، وبنته النصف، ويعطى عمه الباقي.
وتقسم تركة الأخ الثاني بين ورثته أيضاً، فتعطى لبنتيه الثلثين، ولعمه الباقي.
هذا الحكم إنما هو فيمن ماتوا، ولم يعلم السابق منهم، أو علم - أنهم ماتوا معاً. أو علم سبق أحدهما لا بعينه.(5/135)
أما إذا علم عين السابق موتاً منهما، ثم نسي، فإن المال يوقف، ولا تقسم التركة حتى تذكر عين السابق، لأن ذلك ممكن، وليس ميؤوساً من تذكره، أو يوقف المال إلى أن يتم التصالح بين الورثة.
قال في الرحبية:
وإن يمت قوم بهدم أو غرق ... أو حادث عم الجميع كالحرق (1)
ولم يكن يعلم عين السابق ... فلا تورث زاهقاً من زاهق (2)
وعدهم كأنهم أجانب ... فهكذا القول السديد الصائب (3)
ميراث ولد الزنى
العلماء متفقون على أن ولد الزنى يثبت نسبه من أمه قطعاً، ولا يثبت نسبه من أبيه الزاني، لأن نسبه منه غير مقطوع به، ولأن الشرع الحنيف، لم يعتبر الزنى طريقاً مشروعاً لاتصال الرجل بالمرأة، وثبوت النسب إليه.
وعلى هذا فلا توارث بين ولد الزنى وبين أبيه، وقرابة أبيه.
أما بالنسبة لأمه، فقد ذهب جمهور العلماء إلى ثبوت التوارث بينه وبينها، وكذلك بينه، وبين قرابة أمه.
فإذا مات ولد الزنى، ورثته أمه، وأقرباؤها، وهو أيضاًً يرث من أمه ومن أقربائها، لأن صلته بأمه مؤكدة، لاشك فيها، والأمومة - ولو كانت غير مشروعة - تثبت الجزئية بين الأم وولدها، وثبوت الجزئية يؤدى إلى ثبوت التوارث.
إرث ولد اللعان
اللعان: بالنسبة للولد أن ينفي الزوج نسب ولد زوجته منه، بالأيمان المعروفة.
_________
(1) الهدم: بفتح فسكون، السقوط. تقول: هدمت البنتان هدماً: أسقطته. وبفتح الدال: اسم للبناء المهدوم. الغرق: الهلاك بالماء. يقال غرق في الماء غرقاً. الحرق: النار.
(2) زاهقاً: ذاهباً وهالكاً.
(3) السديد: الصواب. الصائب: المصيب.(5/136)
وهي أن يقول أربع مرات: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي هذه من الزنى، وإن هذا الولد الذي ولدته هو من الزنى، وليس مني.
ويقول في الخامسة: إن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رماها به من الزنى، وفي نفيه الولد عن نفسه.
ودليل هذا اللعان، قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ {6} وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 6 - 7].
وإذا تم اللعان، ونفي الولد، فقد انقطع نسب هذا الولد من هذا الزوج.
فلا توارث بينهما، وحكمه في ذلك حكم ولد الزنى.
أما نسبه من أمه، فثابت قطعاً. وحكم إرثه منها، ومن أقربائها حكم ولد الزنى، فلو ماتت ورثها، وإذا مات، ورثت منه هي وأقاربها.(5/137)
علم الحساب في الفرائض
قلنا في أول بحث الفرائض: إن تعريف الفرائض اصطلاحاً: هو فقه المواريث، وعلم الحساب الموصل لمعرفة ما يخص كل ذي حق من التركة. وكان كل ما سبق من أبحاثنا في هذا العلم إنما هو في فقه المواريث؛ من أصحاب الفروض، والعصبات، والحجب وغير ذلك من المباحث التي مرت في هذا العلم.
أما الآن، فإننا سننتقل إلى الجزء الثاني من التعريف، وعلم الحساب الذي نتوصل به لمعرفة ما يخص كل ذي حق من التركة.
تعريف الحساب:
الحساب في اللغة: مصدر حسب يحسب، بفتح السين بالماضي، وضمها بالمضارع، تقول: حسب الشيء يحسبه إذا عده، ويأتي مصدره على وزن فعلان: كحسبان. ومنه قوله تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5] أي: بحساب دقيق.
والعاد هو الحاسب، والمعدود: هو المحسوب. وأما حسب يحسب، بكسر السين في الماضي، وكسرها وفتحها في المضارع، فهو بمعنى ظن.
والحساب اصطلاحاً: علم بأصول يتوصل بها إلى استخراج المجهولات العددية.
والمراد بالحساب في علم الفرائض: معرفة تأصيل المسائل وتصحيحها، ومعرفة قسمة التركة بين الورثة.(5/138)
وأصل كل مسألة؛ هو أقل عدد يصح منه فرضها، أو فروضها.
وتصحيح كل مسألة؛ هو أقل عدد يتأتى منه نصيب كل واحد من الورثة صحيحاً من غير كسر.
أصول المسائل:
علمت فيما مضى أن الفروض المقدرة في كتاب الله تعالى، ستة، وهي قسمان:
1 - النصف ... 4 - الثلثان
2 - الربع ... 5 - الثلث
3 - الثمن ... 6 - السدس.
ومخرج كل فرض من هذه الفروض سميه:
فمخرج الثلث ... : 3
ومخرج الربع ... : 6
ومخرج الربع ... : 4
ومخرج الثمن ... : 8
إلا النصف فمخرجه ... : 2
ونبحث الآن؛ بعد هذا التقديم، في أصول المسائل، لمعرفة سهام كل وارث، من التركة من غير كسر.
قلنا فيما سبق: إن أصل كل مسألة، هو أقل عدد يصح منه فرضها، أو فروضها.
هذا إذا كان في المسألة صاحب فرض، أو أصحاب فروض.
أما إذا تمحضوا ذكوراً، وكانوا كلهم عصبات، قسم المال بينهم بالسوية، وكانت المسألة من عدد رؤوسهم، وإذا اجتمعوا ذكوراً وإناثاً: كابنين وبنتين، قدر كل ذكر أنثيين، وعدد رؤوسهم بعد هذا التقدير هو(5/139)
أصل مسألتهم، وعلى هذا المبدأ يقسم المال بينهم، للذكر مثل حظ الأنثيين، عملاً بقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء: 11].
نقول بعد هذا: إن أصول المسائل المتفق عليها في الفرائض سبعة: هي: اثنان، ثلاثة، أربعة، ستة، ثمانية، اثنا عشر، أربعة وعشرون.
- فكل مسألة فيها سدس (6/ 1) وما بقي: أصلها ستة، مثال هذا:
6
6/ 1 ... أم ... 1
ع ... ابن ... 5
فالأم فرضها السدس، لوجود الفرع الوارث، فتأخذ سهماً واحداً من ستة.
والابن عصبة يأخذ الباقي وهو خمسة أسهم من ستة.
ومعلوم أن علماء الفرائض يرمزون للعصبة بحرف العين (ع).
ومثال آخر:
6
6/ 1 ... أم ... 1
6/ 1 ... أب ... 1
ع ... ابن ... 4(5/140)
وشرح هذه المسألة كسابقتها.
وإذا كان مع السدس (6/ 1): نصف (2/ 1)، أو ثلث (3/ 1)، أو ثلثان (3/ 2) كان أصلها كذلك ستة، وصورتها:
6
6/ 1 ... أم ... 1
2/ 1 ... بنت ... 3
ع ... عم ... 2
فالأم لها السدس، وهو واحد من ستة، والبنت لها النصف، وهو ثلاثة من ستة، والعم يأخذ الباقي تعصيباً، وهو اثنان.
6
6/ 1 ... أم ... 1
3/ 2 ... بنتان ... 4
ع ... عم ... 1
6
6/ 1 ... أم ... 1
3/ 1 ... أخوان لأم ... 2
ع ... عم ... 3
مثال آخر:
- وكذلك إذا كان في المسألة نصف، وثلث، فهي أيضاً أصلها من ستة، مثالها:(5/141)
6
2/ 1 ... زوج ... 3
3/ 1 ... أم ... 2
ع ... عم ... 1
هذه المسائل الستة أصلها كلها ستة، كما رأيت. فكل مسألة إذا فيها سدس، أو سدس ونصف، أو سدس وثلث، أو سدس وثلثان، أو سدس ونصف وثلث أصلها ستة.
- وكل مسألة فيها ربع (4/ 1)، وسدس (6/ 1)، فأصلها من اثني عشر (12). وصورة ذلك:
12
4/ 1 ... زوج ... 3
6/ 1 ... أم ... 2
ع ... ابن ... 7
الزوج أخذ الربع لوجود الفرع الوارث للميت، والربع: (3) أسهم من (12) سهماً أصل المسألة، وأخذت الأم السدس، سهمين، وأخذ الابن الباقي بالتعصيب، وهو (7) أسهم.
- وكذلك إذا كان مع الربع ثلث، أو ثلثان، فأصلها من اثني عشر.(5/142)
مثال الثلث مع الربع:
12
4/ 1 ... زوجة ... 3
3/ 1 ... أم ... 4
ع ... عم ... 5
ومثال الثلثين مع الربع:
12
4/ 1 ... زوج ... 3
3/ 2 ... بنتان ... 8
ع ... عم ... 1
نصيب الزوج في هذه المسألة الربع لوجود البنتين، ونصيب البنتين الثلثان، والعم يأخذ الباقي بالتعصيب.
- وكل مسألة فيها ثمن (8/ 1)، وسدس (6/ 1)، فأصلها من أربعة وعشرين (24). وصورة ذلك.(5/143)
24
8/ 1 ... زوجة ... 3
6/ 1 ... أم ... 4
ع ... ابن ... 17
- وكل مسألة فيها نصف، وما بقي، فأصلها اثنان، مثالها:
2
2/ 1 ... زوج ... 1
ع ... عم ... 1
وكذلك إذا كان فيها، نصف، ونصف، فأصلها اثنان، مثالها:
2
2/ 1 ... زوج ... 1
2/ 1 ... أخت شقيقة ... 1
- وكل مسألة فيها ثلث، وما بقي، فأصلها ثلاثة، مثالها.(5/144)
3
3/ 1 ... أم ... 1
ع ... عم ... 2
أو فيها ثلثان، وما بقي، فأصلها أيضاً ثلاثة، وصورة ذلك:
3
3/ 2 ... بنتان ... 2
ع ... عم ... 1
أو فيها ثلث، وثلثان، فأصلها ثلاثة، مثال ذلك:
3
3/ 1 ... أختان لأم ... 1
3/ 2 ... أختان لأب ... 2
- وكل مسألة فيها ربع (4/ 1)، وما بقي فأصلها من أربعة، ومثالها:(5/145)
4
4/ 1 ... زوج ... 1
ع ... ابن ... 3
أو فيها ربع ونصف، فهي أيضاً من أربعة، مثال ذلك:
4
4/ 1 ... زوج ... 1
2/ 1 ... بنت ... 2
ع ... عم ... 1
- وكل مسألة فيها ثمن (8/ 1)، وما بقي، فأصلها من ثمانية، مثال ذلك:
8
8/ 1 ... زوجة ... 1
ع ... ابن ... 7
أو فيها ثمن (8/ 1)، ونصف (2/ 1)، وما بقي، فأصلها أيضاً ثمانية، مثال ذلك:(5/146)
8
8/ 1 ... زوجة ... 1
2/ 1 ... بنت ... 4
ع ... عم ... 3
أقسام أصول المسائل:
ينقسم أصول المسائل السبعة التي عرفتها إلى قسمين:
الأول: يطرأ عليه العول.
والأصول التي تعول هي: (6)، (12) (24).
والثاني: لا يدخله عول أبداً.
والأصول التي لا تعول هي: (2)، (3)، (4)، (8).
ودليل عول تلك، وعدم عول هذه إنما هو استقراء المسائل، فبعد استقراء العلماء لمسائل الفرائض تبين لهم ذلك، فحكموا به.
تعريف العول:
العول في اللغة، يأتي بمعنى الارتفاع، والزيادة، كما يأتي بمعنى الميل والجور، وتجاوز الحد، ومنه قول الله تبارك وتعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ} [النساء: 3]. أي أقرب إلى عدم الجور والظلم.
والعول اصطلاحاً: زيادة مجموع السهام عن أصل المسألة، ويلزم منه نقصان من مقادير أنصباء الورثة من التركة.
دليل مشروعية العول:
لم يقع العول في مسائل الفرائض في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا في زمان أبي بكر - رضي الله عنه -.(5/147)
وأول من قال بالعول، ووقع في زمانه، عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.
فقد وقعت في عهده مسألة ضاق أصلها عن فروضها، فشاور - رضي الله عنه - الصحابة فيها، فأشار عليه زيد بن ثابت - رضي الله عنه - بالعول فوافق ذلك رأي عمر - رضي الله عنه -، وقال: (والله ما أدري أيكم قدم الله، وأيكم أخر، وما أجد شيئاً هو أوسع لي أن أقسم المال عليكم بالحصص).
فأدخل على كل ذي حق ما دخل عليه من عول الفريضة، وقد وافقه الصحابة رضي الله عنهم، وبه أخذ جمهور العلماء، ومنهم الشافعي رحمه الله تعالى، وسيأتي كثير من صور المسائل التي فيها عول إن شاء الله تعالى.
الأصول التي تعول، ومدى عولها:
قلنا: إن أصول المسائل التي تعول هي: 6، 12، 24.
عول الستة:
تعول الستة، إلى (7، 8، 9، 10).
مثال عولها إلى سبعة:
7 عول
6
2/ 1 ... زوج ... 3
3/ 2 ... أختان شقيقتان ... 4(5/148)
فالزوج له النصف، والشقيقتان لهما الثلثان، فأصل المسألة ستة، وتعول إلى سبعة.
ومثال عولها إلى ثمانية:
8 عول
6
2/ 1 ... زوج ... 3
3/ 2 ... شقيقتان ... 4
6/ 1 ... أم ... 1
للزوج النصف ثلاثة، وللشقيقتين الثلثان أربعة، وللأم السدس واحد.
فأصل المسألة ستة، وقد عالت فروضها إلى ثمانية.
ومثال عولها إلى تسعة:
9 عول
6
2/ 1 ... زوج ... 3
3/ 2 ... أختان لأب ... 4
3/ 1 ... أختان لأم ... 2(5/149)
للزوج النصف ثلاثة، وللأختين لأب الثلثان أربعة، وللأختين لأم الثلث اثنان، فأصل المسألة من ستة، وتعول إلى تسعة.
مثال عولها إلى عشرة:
10 عول
6
2/ 1 ... زوج ... 3
3/ 2 ... شقيقتان ... 4
3/ 1 ... أختان لأم ... 2
6/ 1 ... أم ... 1
للزوج النصف، وللشقيقتين الثلثان، وللأختين لأم الثلث، وللأم السدس، فأصل المسألة ستة، وتعول إلى عشرة.
عول الاثنى عشر:
ويعول الأصل الإثنا عشر إلى (13 - 15 - 17).
ومثال عولها إلى (13):
13 عول
12
4/ 1 ... زوجة ... 3
3/ 2 ... شقيقتان ... 8
6/ 1 ... أخت لأم ... 2(5/150)
للزوجة الربع، وللشقيقتين الثلثان، وللأخت لأم السدس، أصل المسألة (12)، وتعول إلى (13).
مثال عولها إلى (15):
15 عول
12
4/ 1 ... زوجة ... 3
3/ 2 ... شقيقتان ... 8
3/ 1 ... أختان لأم ... 4
مثال عولها إلى (17):
17 عول
12
4/ 1 ... زوجة ... 3
3/ 2 ... شقيقتان ... 8
3/ 1 ... أخوان لأم ... 4
6/ 1 ... أم ... 2(5/151)
للزوجة الربع (3)، وللشقيقتين الثلثان (8)، وللأخوين لأم الثلث (4)، وللأم السدس (2). وأصل المسألة (12)، وتعول إلى (17).
عول الأربعة والعشرين:
ويعول هذا الأصل إلى (27) فقط. مثال ذلك:
27 عول
24
8/ 1 ... زوجة ... 3
3/ 2 ... بنتان ... 16
6/ 1 ... أب ... 4
6/ 1 ... أم ... 4
للزوجة الثمن (3)، وللبنتين الثلثان (16)، وللأب السدس (4)، وللأم السدس (4)، فأصل المسألة (24)، وقد عالت إلى (27).
القاعدة في استخراج أصول المسائل:
الطريقة العملية لاستخراج أصول المسائل إنما تتم، وفق الترتيب التالي:
1 - أن تكون المخارج في المسألة متماثلة، مثل (6/ 1، 6/ 1) كأب، وأم، وابن.
فيؤخذ أحد المتماثلات، ويجعل أصلاً للمسألة.(5/152)
6
6/ 1 ... أب ... 1
6/ 1 ... أم ... 1
ع ... ابن ... 4
2 - أن تكون المخارج في المسألة متداخلة، وذلك، بأن يكون بعضها أكبر من بعض، ويكون الأكبر منها ينقسم على الأصغر، مثل (3/ 1 - 2/ 1 - 6/ 1)، فإن الثلاثة، والاثنين، تدخلان في الستة.
وكذلك مثل (2/ 1 - 8/ 1)، فإن الاثنين تدخل في الثمانية.
8
8/ 1 ... زوجة ... 1
2/ 1 ... بنت ... 4
ع ... عم ... 3
ففي حالة التداخل، يؤخذ المخرج الأكبر، ويجعل أصلاً للمسألة:
6
3/ 1 ... أخوان لأم ... 2
2/ 1 ... أخت لأب ... 3
6/ 1 ... أم ... 1
8
1/ 8 ... زوجة ... 1
1/ 2 ... بنت ... 4
ع ... عم ... 3(5/153)
3 - أن تكون المخارج في المسألة متوافقة، وذلك بأن تكون تقبل القسمة على عدد معين مثل: 8/ 1، 6/ 1، بينهما توافق بالنصف، لأن كلاً منهما يقبل القسمة على اثنين.
ففي حالة التوافق يؤخذ وفق أحد المخرجين، وهو نصفه مثلاً في المثال السابق، ويضرب بكامل المخرج الآخر، ويكون الحاصل هو أصل المسألة، ففي مثالنا السابق يضرب نصف الثمانية بكامل الستة، أو نصف الستة بكامل الثمانية، والحاصل وهو: (24) يكون أثل المسألة، وصورة ذلك:
24
6/ 1 ... أم ... 4
8/ 1 ... زوجة ... 3
2/ 1 ... بنت ... 12
ع ... عم ... 5
فالمخرج اثنان يدخل في كل من الستة، والثمانية، فنتركه، ونأخذ الأكبر منه.
والمخرج ستة وثمانية ليسا متداخلين، بل هما متوافقان،(5/154)
بالنصف، فيؤخذ نصف أحدهما ويضرب به كامل الآخر، فيكون الناتج هو أصل المسألة، كما هو موضح في صورة المسألة السابقة.
4 - أن تكون المخارج متباينة، وذلك بأن تكون غير متماثلة، ولا متداخلة، ولا متوافقة، مثل (4/ 1 - 3/ 1)، فبين المخرجين 3 - 4 تباين، لأنهما غير متماثلين، ولا يقبل أحدهما القسمة على الآخر، ولا يقبلان القسمة على عدد واحد.
ففي هذه الحالة يضرب كامل أحدهما بكامل الآخر، ويكون الحاصل هو أصل المسألة. وصورة هذا:
12
4/ 1 ... زوجة ... 3
3/ 1 ... أم ... 4
ع ... عم ... 5
فبين الربع نصيب الزوجة، وبين الثل نصيب الأم تباين، فيضرب أحدهما بالآخر، ويكون الحاصل أصل المسألة، كما هو مبين في صورة المسألة السابقة.
تصحيح المسائل، وطريقة ذلك:
قلنا فيما سبق: إن تصحيح المسألة: هو أقل عدد يتأتى منه نصيب كل واحد من الورثة صحيحاً دون كسر.(5/155)
وهنا نقول: إذا كانت المسألة تصح من أصلها، وذلك بأن كان نصيب كل فريق من الورثة منقسماً على عدد رؤوسهم، فإنه والحالة هذه، يقتصر في القسمة على أصل المسألة، ولا تحتاج إلى تصحيح، بل يعطى كل وارث سهمه كاملاً من أصل المسألة، إن لم تكن المسألة عائلة، أ, يعطي نصيبه من عولها، إذا كانت عائلة.
فلو كان لدينا مثلاً مسألة فيها:
12
4/ 1 ... ثلاث زوجات ... 3
3/ 1 ... أم ... 4
ع ... خمسة أعمام ... 5
فأصل هذه المسألة (12)، وذلك بضرب مخرج الربع بمخرج الثلث، لأنهما متباينان، فيضرب ثلاثة في أربعة، فيتحصل اثنا عشر، هو أصل المسألة، وهذه المسألة، تصح من أصلها، إذ ينقسم نصيب كل فريق من الورثة على عدد رؤوسهم من غير كسر.
فتأخذ الزوجات الربع ثلاثة أسهم، وهي منقسمة عليهم، إذ لكل زوجة سهم.
وتأخذ الأم الثلث، أربعة أسهم.
ويأخذ الأعمام الباقي تعصيباً، وهو خمسة أسهم، وهي منقسمة عليهم، إذ يأخذ كل عم سهماً واحداً.
وهكذا كل مسألة تصح من أصلها، لا تحتاج إلى تصحيح، لأن(5/156)
التصحيح عندئذ تطويل من غير فائدة. وكذلك إذا عالت المسألة، وانقسم عولها على الورثة، فإنها لا تحتاج إلى تصحيح أيضاً. وصورة ذلك:
17 عول
12
6/ 1 ... جدتان ... 2
4/ 1 ... ثلاث زوجات ... 3
3/ 1 ... أربع أخوات لأم ... 4
3/ 2 ... ثمان أخوات لأب ... 8
فهذه المسألة أصلها من (12) أخذاً من ضرب نصف مخرج الربع، وهو اثنان، بكامل مخرج السدس، وهو ستة، لأن بين المخرجين توافقاً في النصف، وتعول المسألة إلى سبعة عشر.
فتأخذ الجدتان السدس عائلاً، وهو سهمان من سبعة عشر سهماً، لكل جدة سهم.
وتأخذ الزوجات الربع عائلاً، وهو ثلاثة أسهم من سبعة عشر سهماً، لكل زوجة سهم.
وتأخذ الأخوات لأم الثلث عائلاً، وهو أربعة أسهم من سبعة عشر سهماً، لكل أخت سهم.
وتأخذ الأخوات لأب الثلثين عائلاً، وهو ثمانية أسهم من سبعة عشر سهماً، لكل واحدة منهن سهم. وتعرف هذه المسألة في الفرائض: (بأم الأرامل).(5/157)
أما إذا كانت سهام كل فريق من أصل المسألة، أو من عولها، لا تنقسم على عدد رؤوسهم قسمة صحيحة من غير كسر، فإن المسألة - والحالة هذه - يجب تصحيحها، وذلك برفع أصلها إلى أقل عدد يتأتى منه نصيب كل فريق من الورثة صحيحاً من غير كسر.
وتصحيح المسألة إنما يتم وفق الترتيب التالي:
1 - أن يكون الانكسار في المسألة على فريق واحد من الورثة، مثال ذلك:
(جزء السهم) ... (أصل) ... (تصحيح)
3× ... 6 ... 18
6/ 1 ... أم ... 1 ... 3
6/ 1 ... أب ... 1 ... 3
ع ... ثلاثة أبناء ... 4 ... 12
فإن المسألة من ستة، لتماثل مخرجيها، للأب السدس واحد، وللأم السدس واحد، والباقي للأبناء، وهو أربعة أسهم وهي غير منقسمة على ثلاثة أبناء قسمة صحيحة من غير كسر، وعندئذ نحتاج إلى تصحيح المسألة، وذلك بأن ننظر بين سهام هذا الفريق، وعدد رؤوسهم. فإما أن يكون بين عدد الرؤوس والسهام تباين، أو توافق. ولا اعتبار هنا للتداخل، والتماثل، لأن السهام عندئذ تكن منقسمة.
فإذا كان بين عدد الرؤوس والسهام تباين، فإننا نضرب أصل المسألة بعدد الرؤوس، وحاصل الضرب يكون هو تصحيح المسألة، كما في المسألة السابقة، ضربنا أصل المسألة (6) بعدد رؤوس الأبناء الثلاثة (6×3=18) = هو تصحيح المسألة.(5/158)
ويسمى عدد الرؤوس جزء السهم.
ثم نضرب بجزء السهم هذا نصيب كل فريق من الورثة، ومنه ينقسم نصيب ذلك الفريق على عدد رؤوسه.
فلما كان نصيب الأبناء الثلاثة في المسألة (4) وهي غير منقسمة عليهم، فإننا نضربها بجزء السهم، وهو ثلاثة عدد الرؤوس، وحاصل الضرب، يساوي (12) وهي منقسمة عليهم، إذ يكون نصيب كل ابن (4) أسهم.
أما إذا كان بين عدد الرؤوس، وبين السهام توافق فإننا نأخذ وفق الرؤوس، ونضرب به أصل المسألة، فمنه تصح المسألة.
ثم نضرب بذلك الوفق نصيب كل فريق من الورثة، فينقسم على عدد رؤوسهم.
ومثال ذلك:
(جزء السهم) ... (أصل) ... (تصحيح)
2× ... 6 ... 12
2/ 1 ... زوج ... 3 ... 6
6/ 1 ... جدة ... 1 ... 2
ع ... أربعة أعمام ... 2 ... 4
ففي هذا المثال كان أصل المسألة (6) لأن بين مخرجي النصف والسدس تداخلاً، فنأخذ المخرج الأكبر وهو (6) ونجعله أصل المسألة.
ونصيب الزوج (3) أسهم من ستة، وهي النصف، ونصيب الجدة(5/159)
السدس، وهو سهم واحد، ونصيب الأعمام السهمان الباقيان، تعصيباً، وهما غير منقسمين على رؤوس الأعمام الأربعة، لذلك صححنا المسألة، بضربها بوفق رؤوس الأعمام (2)؛ إذ بين الرؤوس وبين السهام توافق ضربنا بجزء السهم، وهو وفق الرؤوس، نصيب كل فريق من الورثة، فانقسمت بذلك السهام على عدد الرؤوس.
2 - أن يكون الانكسار في المسألة على أكثر من فريق أي على فريقين من الورثة، أو ثلاثة، أو أربعة، ولا يكون الانكسار في مسائل الفرائض على أكثر من ذلك.
وهنا من أجل تصحيح المسألة، لابد من النظر بين رؤوس كل فريق، وسهامه. ثم نحفظ رؤوس كل فريق عند المباينة، أو وفقها عند الموافقة.
ثم بعد هذا ننظر بين هذه المحفوظات بالنسب الأربع: التماثل، والتداخل، والتوافق، والتباين، فإن تماثلت أخذنا مثلاً واحداً، وضربنا به أصل المسألة وإن تداخلت أخذنا الأكبر منها، وضربنا به أصل المسألة.
وإن توافقت، أخذنا الوفق وضربنا به كامل العدد الآخر، وضربنا بالحاصل أصل المسألة.
وإذا تباينت ضربنا الرؤوس بعضها ببعض، ثم ضربنا بالحاصل أصل المسألة، ومنه تصح تلك المسألة.
ونذكر لهذه الصور أمثلة توضحها:(5/160)
المثال الأول: تماثل عدد الرؤوس:
(جزء السهم) ... (أصل) ... (تصحيح)
5× ... 6 ... 30
6/ 1 ... أم ... 1 ... 5
3/ 1 ... خمسة أخوة لأم ... 2 ... 10
ع ... خمسة أعمام ... 3 ... 15
ففي هذه المسألة، كان الانكسار على فريقين: الإخوة لأم، والأعمام.
أصل المسألة من ستة، وذلك لتداخل مخرجيها (3/ 1 - 6/ 1). نصيب الأم السدس (1)، ونصيب الإخوة لأم الثلث (2) وهو غير منقسم عليهم، ونصيب الأعمام الباقي تعصيباً (3) وهو أيضاً غير منقسم عليهم.
وبعد هذا ننظر بين سهام الإخوة لأم، وبين عدد رؤوسهم، وظاهر أن بينهما تبايناً. فنأخذ عدد الرؤوس، وهي خمسة، ونحفظها.
ثم ننظر أيضاً بين عدد رؤوس الأعمام وبين سهامهم، وبينهما أيضاً تباين، فنحفظ عدد الرؤوس.
ثم ننظر بين عدد الرؤوس المحفوظة، وبينها كما هو واضح تماثل، إذ الأخوة لأم خمسة، والأعمام خمسة أيضاً.
فنأخذ مثلاً واحداً، ونضرب به أصل المسألة (12)، فيكون الحاصل (30) وهو تصحيح المسألة.(5/161)
ثم نضرب بذلك المثل، وهو عدد الرؤوس، وهو ما نسميه جزء السهم - كما قلنا من قبل - نصيب كل فريق من الورثة، وبذلك تنقسم سهام كل فريق على عدد رؤوسهم، كما هو موضح في صورة المسألة السابقة.
المثال الثاني: تداخل عدد الرؤوس:
(جزء السهم) ... (أصل) ... (تصحيح)
4× ... 6 ... 24
6/ 1 ... أم ... 1 ... 4
3/ 1 ... أربعة أخوة لأم ... 2 ... 8
ع ... أربعة أعمام ... 3 ... 12
أصل هذه المسألة (6) لتداخل مخرجيها: (6/ 1 - 3/ 1).
ونصيب الأم منها السدس (1)، ونصيب الإخوة لأم الثلث، وهو سهمان، وهما غير منقسمين عليهم، لكن بين السهام وعدد الرؤوس توافق بالنصف، فنأخذ وفق الرؤوس (2) ونحفظها. ونصيب الأعمام الباقي، تعصيباً، وهو (3) أسهم وهي غير منقسمة على الأعمام الأربعة، وبينهما تباين فنحفظ عدد الرؤوس، وهي أربعة.
ثم ننظر بين رؤوس الأعمام (4)، وبين وفق رؤوس الإخوة لأم (2)، فنجد بينهما تداخلاً، إذ العدد (2) يدخل في العدد (4).
فنأخذ العدد الأكبر، وهو (4) ونضرب به أصل المسألة السابقة (6)، فيكون الناتج (24) وهو تصحيح المسألة.(5/162)
ثم نضرب بجزء السهم، وهو الأربعة، عدد رؤوس الأعمام، سهام كل فرق، فيكون الناتج منقسماً على عدد رؤوس كل فريق.
كما هو موضح في صورة المسألة السابقة.
المثال الثالث: توافق الرؤوس:
(جزء السهم) ... (أصل) ... (تصحيح)
30× ... 6 ... 180
6/ 1 ... أم ... 1 ... 30
3/ 1 ... 15 أخ لأم ... 2 ... 60
ع ... 10 أعمام ... 3 ... 90
أصل هذه المسألة (6). نصيب الأم سهم واحد، ونصيب الإخوة لأم سهمان، وهي غير منقسمة على عدد رؤوس الإخوة الخمسة عشر، وبين السهام وعد الرؤوس تباين، فنحفظ عدد الرؤوس (15)، ونصيب الأعمام الباقي، تعصيباً وهي ثلاثة أسهم، وهي غير منقسمة على الأعمام العشرة، وبين السهام وبين عدد الرؤوس تباين أيضاً، فنحفظ عدد الرؤوس (10).
ثم ننظر بين رؤوس الإخوة لأم الخمسة وبين رؤوس الأعمام العشرة، فنجد بينها توافقاً في الخمس، فنأخذ وفق رؤوس أحدهما، ونضرب به كامل عدد الرؤوس الآخر، والحاصل نضرب به أصل المسألة فما بلغ فهو تصحيح المسألة:
أي نضرب أصل المسألة (6) بحاصل ضرب (2×15=30)،(5/163)
والبالغ (180) هو تصحيح المسألة. ثم نضرب بجزء السهم (30) نصيب كل وارث، فيكون الحاصل لكل فريق، منقسماً على عدد رؤوسهم، وهذا موضح في صورة المسألة السابقة.
المثال الرابع: تباين الرؤوس:
(جزء السهم) ... (أصل) ... (تصحيح)
6× ... 6 ... 36
6/ 1 ... أم ... 1 ... 6
3/ 1 ... 3 أخوة لأم ... 2 ... 12
ع ... 2 عمان ... 3 ... 18
أصل المسألة ستة.
نصيب الأم سهم واحد، ونصيب الإخوة لأم سهمان، وهما غير منقسمين على الإخوة لأم الثلاثة، وبين الرؤوس والسهام تباين، فنحفظ عدد الرؤوس (3)، ونصيب العمين، ثلاثة أسهم، وهي غير منقسمة على العمين، وبين الرؤوس والسهام تباين، فنحفظ عدد الرؤوس (2)، ثم ننظر بين الرؤوس (2، 3) فنجد بينها تبايناً فنضرب كامل بعضها بكامل البعض الآخر (2×3=6)، وحاصل الضرب، وهو (6)، يكون جزء السهم، نضرب به أصل المسألة (6×6=36)، وهذا هو تصحيح المسألة.
ثم نضرب بجزء السهم (6) نصيب كل فريق من الورثة ويكون حاصل ضرب سهام كل فريق منقسماً على عدد رؤوسهم، كما هو مبين في المسألة السابقة.(5/164)
قال الإمام الرحبي في (باب الحساب):
وإن ترد معرفة الحساب ... لتهتدي فيه إلى الصواب
وتعرف القسمة والتفصيلا ... وتعلم التصحيح والتأصيلا
فاستخرج الأصول في المسائل ... ولا تكن عن حفظها بذاهل (1)
فإنهن سبعة أصول ... ثلاثة منهن قد تعول
وبعدها أربعة تمام ... لا عول يعروها ولا انثلام (2)
فالسدس من ستة أسهم يرى ... والسدس والربع من اثنى عشرا
والثمن إن ضم إليه السدس ... فأصله الصادق فيه الحدس (3)
أربعة يتبعها عشرونا ... يعرفها الحساب أجمعونا
فهذه الثلاثة الأصول ... إن كثرت فروضها تعول
فتبلغ الستة عقد العشرة ... في صورة معروفة مشتهره وتلحق التي تليها في الأثر ... بالعول إفراداً إلى سبع عشر
والعدد الثالث قد يعول ... بثمنه فاعمل بما أقول
والنصف والباقي أو النصفان ... أصلهما في حكمهم إثنان
والثلث من ثلاثة يكون ... والربع من أربعة مسنون
والثمن إن كان فمن ثمانية ... فهذه هي الأصول الثانيه
لا يدخل العول عليها فاعلم ... ثم اسلك التصحيح فيها تسلم
وإن تكن من أصلها تصح ... فترك تطويل الحساب ربح
فأعط كلاً سهمه من أصلها ... مكملاً أو عائلاً من عولها
وإن تر السهام ليست تنقسم ... على ذوي الميراث فاتبع ما رسم
واطلب طريق الاختصار في العمل ... بالوفق والضرب يجانبك الزلل (4)
_________
(1) بذاهل: متشاغل: تقول: ذهلت عن الشيء: تناسيته، وشغلت عنه.
(2) يعروها: يغشاها وينزل بها. ولا انثلام: كسر وخلل.
(3) الحدس: الظن والتخمين.
(4) الزلل: الخطأ.(5/165)
واردد إلى الوفق الذي يوافق ... واضربه في الأصل فأنت الحاذق (1)
إن كان جنساً واحداً فأكثرا ... فاحفظ ودع عنك الجدال والمرا (2)
وإن تر الكسر على أجناس ... فإنها في الحكم عند الناس
تحصر في أربعة أقسام ... يعرفها الماهر في الأحكام (3)
مماثل من بعده مناسب ... وبعده موافق مصاحب
والرابع المباين المخالف ... ينبيك عن تفصيلهن العارف
فخذ من المماثلين واحداً ... وخذ من المناسبين الزائدا
واضرب جميع الوفق بالموافق ... واسلك بذاك أنهج الطرائق (4)
وخذ جميع العدد المباين ... واضربه في الثاني ولا تداهن (5)
فذاك جزء السهم فاعلمنه ... واحذر هديت أن تضل عنه
واضربه في الأصل الذي تأصلا ... وأحص ما انضم وما تحصلاً (6)
واقسمه فالقسم إذاً صحيح ... يعرفه الأعجم والفصيح (7)
فهذه من الحساب جمل ... يأتي على مثالهن العمل (8)
من غير تطويل ولا اعتساف (9) ... فاقنع بما بين فهو كاف
_________
(1) الحاذق: العارف.
(2) المرا: الجدال والمخاصمة.
(3) الماهر: الحاذق
(4) أنهج الطرائق: أوضح الطرق.
(5) لا تداهن: لا تصانع. والمداهنة: المصانعة، وهي نوع من النفاق.
(6) تأصلا: تأكد. وأحص: واضبط.
(7) الأعجم: الذي لا يقدر على الكلام أصلاً، والذي لا يفصح ولا يبين كلامه، والذي في لسانه عجمة. والفصيح: البليغ.
(8) جمل: جمع جملة، وهي الكلام.
(9) اعتساف: الأخذ على غير الطريق المستقيم.(5/166)
الرَّدّ
تعريف الرد:
الرد في اللغة: يطلق على معان؛ منها: الرجوع، والصرف، وعدم القبول.
تقول: رد إليه جواباً: أي رجع.
ورده عن وجهه: أي صرفه.
ورد عليه الشيء، إذا لم يقبله.
والرد اصطلاحاً: نقصان في سهام المسألة، وزيادة في أنصباء الورثة: فهو إذا ضد العول.
فإذا أخذ ذوو الفروض حقوقهم، وبقي شيء من السهام، لا مستحق له، فإنه يرد على جميع ذوي الفروض بقدر حقوقهم، إلا الزوجين، فإنه لا يرد عليهما.
حكم الرد شرعاً:
قلنا سابقاً: إذا كان بيت المال منتظماً بحيث يؤدي الحقوق إلى أصحابها، ويصرف التركة في وجوهها، فإنه لا يرد على أحد من أصحاب الفروض، بل يورث بيت المال، ويقدم على الرد، وعلى ذوي الأرحام، عملاً بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من ترك كلاً فإلي، ومن ترك مالاً فلورثته، وأنا وارث من لا وارث له، أعقل عنه وأرثه" رواه أبو داود (2956) بسند(5/167)
صحيح في (الخراج والإمارة)، باب (في أرزاق الذرية) عن المقدام بن معدي كرب - رضي الله عنه -.
ومعلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يرث لنفسه شيئاً، وإنما ينفق ذلك في مصالح المسلمين.
ومن هنا أفتوا بتوريث بيت المال، وجعلوا مرتبته بعد أصحاب الفروض والعصبات. فإذا لم يكن عصبة، ولم يكن صاحب فرض، أو لم يستغرق أصحاب الفروض بسهامهم جميع التركة، كانت التركة، أو ما فضل منها، من نصيب بيت المال، عملاً بالقاعدة المعروفة: (الغُرْم بالغُنْم).
أما إذا كان بيت المال غير منتظم، فإنه لا حق له في الميراث.
وعندئذ يعمل بالرد على أصحاب الفروض، فإن لم يكونوا، ورث ذوو الأرحام تركة الميت.
هذا وقد أفتى المتأخرون من العلماء، بعدم انتظام بيت المال، بل قالوا: إنه ميئوس من انتظامه حتى ينزل عيسى عليه السلام.
دليل مشروعية الرد:
يستدل على مشروعية الرد - بالجملة - بعموم الأولوية، في الأدلة التي قضت بولاية الأرحام بعضهم لبعض. قال تعالى: {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ} [الأنفال: 75].
ولذلك لم يردوا على الزوجين، لأنهما ليسا من ذوي الأرحام ن حيث الزوجية، لأن وصلتهما سببية، وقد انقطعت بالموت.
ومن الأدلة أيضاً في توريث ذوي الأرحام، حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -، لما أراد أن يوصي بثلثي ماله، فرده النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الثلث وقال له: " إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس" أخرجه البخاري (1233) في (الجنائز)، باب (رثى النبي سعد بن خولة)؛ ومسلم (1628) في (الوصية)، باب (الوصية بالثلث). وقد أخبر(5/168)
سعد - رضي الله عنه - النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يرثه إلا ابنة له، والبنت فرضها النصف، كما هو معلوم.
فدل ذلك على أن لها حقاً في المال، فيما فوق الفرض، حين لا يوجد معها من يزاحمها، ولا يكون ذلك إلا بالرد.
شروط الرد:
يشترط في الرد، ثلاثة شروط:
1 - وجود صاحب فرض من ورثة الميت، غير الزوجين.
2 - بقاء شيء من التركة، بعد أصحاب الفروض.
3 - عدم وجود عصبة بين الورثة، لأن العصبة يستحق، كل المال بالتعصيب إذا انفرد، أو يأخذ كل ما أبقاه أصحاب الفروض، فلا يتصور الرد مع وجوده.
قاعدة الرد:
لا يخلو حال أصحاب الفروض من أن لا يكون معهم أحد الزوجين، أو أن يكون معهم أحد الزوجين، وإذا فإن موضوع الرد ينقسم إلى حالتين:
الحالة الأولى: أن لا يكون مع من يرد عليه أحد الزوجين:
وفي هذه الحالة نقول:
أ) إذا كان من يرد عليه شخصاً واحداً، كأن مات وخلف بنتاً فقط، فلها كل المال فرضاً، ورداً.
ب) إذا كان من يرد عليه أكثر من واحد، وكانوا صنفاً واحداً، كأن مات، وخلف خمس بنات، فإن المسألة تكون من عدد رؤوسهن، ويقتسمن المال بالسوية.
ج) إذا كان الورثة الذين يرد عليهم صنفين، فأكثر، كان أصل المسألة من مجموع سهامهم.
وذلك كأن مات شخص، وخلف:(5/169)
(أصل) ... (رد)
6 ... 5
6/ 1 ... أماً ... 1 ... 1
2/ 1 ... شقيقة ... 3 ... 3
6/ 1 ... أختاً لأب ... 1 ... 1
فإن أصل هذه المسألة من ستة، لتداخل مخارجها، لكن مجموع سهام الورثة خمسة، فترد المسألة إلى خمسة، ويأخذ كل وارث سهامه من خمسة، فرضاً ورداً، كما هو مرسوم في المسألة السابقة.
الحالة الثانية: أن يكون مع من يرد عليه أحد الزوجين:
وفي هذه الحالة نقول:
نبدأ أولاً بإعطاء الزوج، أو الزوجة فرضه، ونجعل المسألة من مخرج فرض الزوج، أو الزوجة، وهو: اثنان، أو أربعة، أو ثمانية.
ثم يقسم الباقي على من يرد عليه، وفق الترتيب التالي:
1 - إذا كان من يرد عليه شخصاً واحداً، كان الباقي بعد فرض الزوجية له. مثاله، ما له خلف شخص:
8
8/ 1 ... زوجة ... 1
2/ 1 ... بنتاً ... 7
فالمسألة من ثمانية. للزوجة الثمن، سهم واحد، وللبنت سبعة أسهم، أربعة فرضًا، وثلاثة ردًّا.(5/170)
2 - إذا كان من يرد عليه شخصين، فأكثر، وكانوا من صنف واحد.
فالمسألة كذلك، تكون من مخرج فرض الزوجية، ثم إن انقسم الباقي بعد فرض الزوجية، ثم إن انقسم الباقي بعد فرض الزوجية عليهم فذاك كمن خلفت.
4
4/ 1 ... زوجاً ... 1
3/ 2 ... ثلاث بنات ... 3
فأصل المسألة من أربعة، مخرج فرض الزوج، فيأخذ الزوج سهماً واحداً، ويبقى ثلاثة أسهم للبنات، لكل واحدة سهم فرضاً ورداً.
أما إذا لم ينقسم الباقي بعد فرض الزوجية على من يرد عليهم، فلابد والحالة هذه من تصحيح المسألة، وفق القواعد السابقة في التصحيح.
فيضرب أصل المسألة بعدد الرؤوس، إذا كان بين الرؤوس والسهام تباين.
أو يضرب أصل المسألة بوفق الرؤوس إذا كان بين الرؤوس والسهام توافق.
مثال الأول:
(جزء السهم) ... (أصل) ... (تصحيح)
3× ... 8 ... 24
8/ 1 ... زوجة ... 1 ... 3
3/ 2 ... ثلاث بنات ... 7 ... 21(5/171)
فأصل هذه المسألة ثمانية، مخرج فرض الزوجة، للزوجة الثمن، وهو سهم واحد، وللبنات الباقي فرضاً ورداً، وهو سبعة أسهم، وهي غير منقسمة على البنات الثلاث.
فيضرب أصل المسألة بعدد رؤوس البنات، ثلاثة لتباينها مع سهامهن، فتصبح المسألة من (24) ثم يضرب نصيب كل وارث، بجزء السهم، وهو ثلاثة، عدد رؤوس البنات، والحاصل يكون منقسماً على عدد الرؤوس، كما هو مبين في المسألة السابقة.
مثال التوافق:
(جزء السهم) ... (أصل) ... (تصحيح)
2× ... 4 ... 8
4/ 1 ... زوج ... 1 ... 2
3/ 2 ... ست بنات ... 3 ... 6
أصل هذه المسألة (4)، مخرج فرض الزوج، للزوج الربع، سهم واحد، وللبنات الباقي، ثلاثة أسهم، فرضاً ورداً، وهو غير منقسم عليهن، ولكن بينه وبين عدد رؤوسهن توافق في الثلث، فيؤخذ وفق الرؤوس، وهو اثنان، ويضرب به أصل المسألة، فتصح من ثمانية، ثم يضرب بجزء السهم نصيب كل وارث، فيكون الحاصل منقسماً على عدد الرؤوس. كما بيناه في المسألة السابقة.
3 - إذا كان من يرد عليه أكثر من صنف واحد، فإن كان الباقي بعد فرض(5/172)
الزوجية منقسماً على من يرد عليهن، فذاك، وتصح المسألة من مخرج فرض الزوجية.
مثال ذلك، ما لو مات شخص عن:
4
4/ 1 ... زوجة ... 1
6/ 1 ... وأم ... 1
3/ 1 ... وأخوين لأم ... 2
فالمسألة من أربعة، مخرج فرض من لا يرد عليه، وهي الزوجة، ونصيبها سهم واحد.
ويبقى بعد هذا ثلاثة أسهم، للأم سهم، وللأخوين لأم سهمان، لكل واحد منهما سهم واحد.
أما إذا كان الباقي بعد فرض الزوجية لا ينقسم على من يرد عليهم، فإننا والحالة هذه، نجعل لمن يرد عليهم مسألة مستقلة، ثم ننظر بين مسألتهم، وبين سهامهم من المسألة الأولى، فإن تباينت، ضربنا مسألة الرد، بمسألة الزوجية، فما بلغ فهو الجامعة للمسألتين، ثم نضرب سهام الزوجية بجزء السهم، وهو مسألة الرد، ونضرب سهام من يرد عليهم بجزء السهم، الذي هو نصيب من يرد عليهم من مسألة الزوجية.
ولنضرب لذلك كله مثلاً: مات شخص عن:(5/173)
جزء السهم ... جزء السهم
(4) ... (3)
مسألة الزوجية ... مسألة الرد ... الجامعة
4 ... 4 ... 16
4/ 1 ... زوجة ... 1 ... 0 ... 4
2/ 1 ... شقيقة ... 3 ... 3 ... 9
6/ 1 ... أخت لأب ... 1 ... 3
واضح في هذه المسألة أننا ضربنا مسألة الزوجية بمسألة الرد، فكانت الجامعة (16).
ثم ضربنا نصيب الزوجة، بجزء السهم، وهو مسألة الرد.
ثم ضربنا نصيب من يرد عليهم بجزء السهم (3) وهو نصيبهم من مسألة الزوجية.
هذا كله إذا بين مسألة من يرد عليهم وبين نصيبهم من مسألة الزوجية تباين.
أما إذا كان بين مسألتهم، ونصيبهم تماثل، فإن مسألة الزوجية هي الجامعة للمسألتين، لأن نصيب من يرد عليهم من مسألة الزوجية ينقسم عليهم. مثال ذلك: مات رجل عن:(5/174)
مسألة الزوجية ... مسألة الرد ... الجامعة
4 ... 3 ... 4
4/ 1 ... زوجة ... 1 ... 0 ... 1
6/ 1 ... أم ... 3 ... 1 ... 1
3/ 1 ... أختين لأم ... 2 ... 2
وقد تحتاج مسألة الرد إلى تصحيح، فيجري تصحيحها، ثم يجري بعد التصحيح ما سبق وذكرناه. مثال ذلك: مات شخص عن:
(جزء السهم)
(3)
مسألة الزوجية ... مسألة الرد ... الجامعة ... التصحيح
4 ... 3 ... 4 ... 12
4/ 1 ... زوجة ... 1 ... 0 ... 1 ... 3
6/ 1 ... أم ... 3 ... 1 ... 1 ... 3
3/ 1 ... ثلاث أخوات لأم ... 2 ... 2 ... 6(5/175)
واضح في المسألة أن نصيب من يرد عليهم من مسألة الزوجية منقسم عليهم، لذلك جعلنا الجامعة هي مسألة الزوجية.
لكن نصيب الأخوات لأم، وهو (2) من الجامعة غير منقسم على عدد رؤوسهن، وهو (3)، فصححنا الجامعة، وذلك بضرب الجامعة بعدد رؤوس الأخوات لأم، لأن نصيبهن، وهو (2) يباين عدد رؤوسهن، فكان نصيبهن بعد التصحيح منقسماً عليهن، وهو لكل أخت سهمان.(5/176)
المناسخات
تعريف المناسخات:
المناسخات في اللغة: جمع مناسخة، ومناسخة مصدر، وإنما جمع لاختلاف أنواع المناسخة، والأصل في المصدر، انه لا يثني، ولا يجمع.
والمناسخة مأخوذة من النسخ.
والنسخ لغة يطبق على معان، منها:
الإزالة، تقول: نسخت الشمس الظل، وانتسخته: أي إزالته.
والتغيير، يقال: نسخت الريح آثار الديار، إذا غيرتها.
والنقل، تقول: نسخت الكتاب، وانتسخته، واستنسخته إذا نقلت ما فيه باللفظ والمعنى نقلاً صحيحاً.
والنسخ شرعاً: رفع حكم شرعي، فإثبات حكم آخر مكانه، كنسخ استقبال بيت المقدس في الصلاة، باستقبال الكعبة.
والمناسخة في اصطلاح علم الفرائض: أن يموت من ورثة الميت الأول واحد، أو أكثر، قبل قسمة التركة، سميت مناسخة، لأن المسألة الأولى، انتسخت بالثانية، أو لأن المال ينتقل فيها من وارث إلى وارث.
ومن هنا يظهر لك مناسبة المعنى الاصطلاحي، للمعنى اللغوي.(5/177)
تقسيم التركة في مسائل المناسخات:
إذا مات شخص، ثم مات من ورثته شخص آخر قبل قسمة تركته، لزم اتباع الخطوات التالية:
أ) يجعل للميت الأول مسألة مستقلة، يحصى فيها ورثته، ونصيب كل وارث منهم، حسب ما تقدم في عمل المسائل.
ب) تصحيح مسألة الميت الأول، إن احتاجت إلى تصحيح، وفق القواعد السابقة في تصحيح المسائل.
ج) يجعل للميت الثاني مسألة مستقلة، يحصى فيها ورثته، سواء كانوا من ورثة الميت الأول، أو من غيرهم، ويحصى نصيب كل واحد منهم من تركة الميت الثاني.
د) تصحيح مسألة الميت الثاني إن احتاجت إلى تصحيح.
هـ) النظر بين سهام الميت الثاني التي ورثها من الميت الأول، وبين أصل مسألته، أو تصحيحها.
- فإن ما ثلث سهامه أصل مسألته، أو تصحيحها، صحت الجامعة للمسألتين مما صحت منه المسألة الأولى.
- وإن وافقت سهامه التي ورثها من المسألة الأولى أصل مسألته، أو تصحيحها، أخذنا وفق مسألته وضربنا به أصل المسألة الأولى، أو تصحيحها، فما بلغ فهو الجامعة للمسألتين.
- وإذا باينت سهام الميت الثاني أصل مسألته، أو تصحيحها، ضربنا أصل المسألة الأولى، أو تصحيحها، بأصل المسألة الثانية أو تصحيحها، وكان هذا الضرب هو الجامعة للمسألتين.
و) النظر إلى الورثة في المسألتين:
- فمن ورث منهم من المسألة الأولى فقط، أخذ نصيبه مضروباً بوفق المسألة الثانية، عند التوافق، أو بكاملها عند التباين.(5/178)
- ومن ورث منهم من المسألة الثانية فقط، أخذ نصيبه مضروباً، بوفق سهام الميت الثاني عند التوافق، أو بكاملها عند التباين.
- ومن ورث منهم من المسألتين، أخذه مضروباً في الأولى بوفق الثانية عند التوافق، أو بكاملها عند التباين، وأخذ نصيبه من الثانية، مضروباً بوفق سهام الميت الثاني عند الموافقة، أو بكاملها عند التباين، ثم يجمع له النصيبان، ويأخذهما من الجامعة.
وإليك الأمثلة الموضحة لهذه القواعد
المثال الأول: إذا كانت سهام الميت الثاني مماثلة لمسألته:
ماتت امرأة عن زوج، وأم، وعم، ثم مات الزوج قبل قسمة التركة عن ثلاثة أبناء.
الحل:
أصل ... أصل ... الجامعة
المسألة الأولى ... المسألة الثانية
6 ... 3 ... 6
2/ 1 ... زوج ... 3 ... ت
3/ 1 ... أم ... 2 ... غريبة ... 2
ع ... عم ... 1 ... غريب ... 1
ع ثلاثة أبناء ... 3(5/179)
واضح في هذه المسألة أن الزوج ورث من زوجته النصف لعدم وجود الفرع الوارث لها، وأن الأم ورثت الثلث لعدم الفرع الوارث، وعدم العدد من الإخوة، وأن العم ورث الباقي بالتعصيب.
وواضح أيضاً أن أصل المسألة (6) لأن مخرجيها: (2و3) متباينان، فضرب أحدهما بالآخر، فكان أصل المسألة، وهو (6).
وعليه فإن نصيب الزوج (3) أسهم، ونصيب الأم (2) ونصيب العم (1).
أما المسألة الثانية، فإن الميت إنما هو الزوج، وقد خلف ثلاثة بنين. هم ورثته بالتعصيب، وأصل مسألتهم (3) من عدد رؤوسهم.
ولما نظرنا بين مسألة الميت الثاني وهو الزوج وبين سهامه التي ورثها من الميت الأول رأينا بينهما تماثلاً.
وعليه فقد صححنا الجامعة من أصل المسألة الأولى وأعطينا كل وارث نصيبه منها، كما هو موضح في المسألة السابقة.
مثال آخر:
ماتت امرأة عن زوج وأختين لأب، ثم ماتت إحدى الأختين، عمن ذكر، وعن بنت.(5/180)
الحل:
أصل ... أصل ... الجامعة
المسألة الأولى ... المسألة الثانية
7 (عول) ... 2 ... 7
6
2/ 1 ... زوج ... 3 ... 3
3/ 2 ... أخت لأب ... 2 ... ع ... أخت لأب ... 1 ... 3
أخت لأب ... 2 ... ت
2/ 1 ... بنت ... 1 ... 1
هذه المسألة مثل سابقتها، كانت سهام الميت الثاني، وهي الأخت، مماثلة لمسألتها، فصحت الجامعة مما صحت منه المسألة الأولى.
غير أن هذه المسألة فيها عول، وأن إحدى الأختين ورثت من أختها الأولى، ومن أختها الثانية.
ومعلوم أن الأخت مع البنت تعتبر عصبة مع الغير، كما هو مبين في المسألة الثانية.
المثال الثاني: إذا كانت سهام الميت الثاني موافقة لمسألته:
ماتت امرأة عن زوج، وأم، وعم، ثم مات الزوج عن أم، وأخوين لأم، وأخ لأب.(5/181)
الحل:
المسألة الأولى ... المسألة الثانية ... الجامعة
6 ... 6 ... 12
2/ 1 ... زوج ... 3 ... ت
3/ 1 ... أم ... 2 ... غريبة ... 4
ع ... عم ... 1 ... غريب ... 2
6/ 1 ... أم ... 1 ... 1
3/ 1 ... أخوان لأم ... 2 ... 2
ع ... أخ لأب ... 3 ... 3
لقد قسمنا سهام المسألة الأولى على ورثتها، وقسمنا سهم المسألة الثانية أيضاً على ورثتها، ثم نظرنا بين سهام الميت الثاني، وهو الزوج، وبين مسألته، فإذا هما متوافقان في الثلث، فأخذنا ثلث المسألة الثانية (2)، وهو وفقها، وضربنا به كامل المسألة الأولى (6) فكانت الجامعة (12)، ثم من ورث من المسألة الأولى، ضربنا نصيبه بوفق الثانية، فكان نصيب الأم (2×2=4)، ونصيب العم (1×2=2)، ووضعنا ذلك تحت الجامعة.(5/182)
ومن ورث من المسألة الثانية ضربنا نصيبه بوفق سهام الميت، وهو (1)، فكان نصيب الأم في المسألة الثانية (1×1=1)، ونصيب الأخوين لأم (2×1=2)، ونصيب الأخ لأب (3×1=3)، ووضعنا ذلك تحت الجامعة أيضاً، ولو جمعنا سهام الورثة في الجامعة، لوجدناها مساوية للجامعة، وهذا دليل صحة عملنا.
مثال آخر:
مات رجل عن أب، وأم، وبنت، وابن، ثم مات الابن قبل قسمة التركة عن المذكورين وعن زوجة، وابن.
الحل:
أصل ... تصحيح ... المسألة الثانية ... الجامعة
6 ... 18 ... 24 ... 54
6/ 1 ... أب ... 1 ... 3 ... 6/ 1 ... جد ... 4 ... 13
6/ 1 ... أم ... 1 ... 3 ... 6/ 1 ... جدة ... 4 ... 13
ع ... بنت ... 4 ... 4 ... م ... شقيقة ... 0 ... 12
ابن ... 8 ... ت
8/ 1 ... زوجة ... 3 ... 3
ع ... ابن ... 13 ... 13(5/183)
في هذه المسألة، نجد أن الأب ورث من المسألة الأولى السدس، والأم ورثت أيضاً السدس، وورث الابن والبنت الباقي تعصيباً، فكان أصل المسألة (6) لتماثل مخرج فرض الأب والأم، للأب سهم واحد، وللأم سهم، وللبنت والابن الباقي وهو أربعة أسهم، للذكر مثل حظ الأنثيين، صرنا إلى تصحيح المسألة.
ولما كان بين عدد الرؤوس والسهام تباين المسألة (6) بعدد الرؤوس (3) فكان تصحيح المسألة (18). أما المسألة الثانية، فقد أصبح الأب فيها جداً، وأصبحت الأم جدة، والبنت أختاً شقيقة، ثم ورث الجد السدس، والجدة السدس، والأخت الشقيقة محجوبة بالابن، والزوجة ورثت الثمن، والابن أخذ الباقي بالتعصيب.
وأصل المسألة الثانية (24) لأن بين مخرج فرض الزوجة، ومخرج فرض الأب، أو الأم توافقاً بالنصف، فضربنا وفق أحدهما بكامل الآجر: (4×6=24) فكان أصل المسألة.
للجد (4) أسهم، وللجدة (4) أسهم، وللزوجة (3) أسهم، وللابن (13) سهماً.
ثم بعد كل هذا يأتي دور الجامعة للمسألتين وهنا يجب أن ننظر بين سهام الميت الثاني التي ورثها من الميت الأول، وبين مسألته، وعندئذ سنجدهما متوافقين في الثمن.
فإذا أخذنا ثمن المسألة الثانية، وضربنا به تصحيح المسألة الأولى،
كان الحاصل (54) هو الجامعة: (15×3=54).
ثم نأخذ وفق المسألة الثانية، ونجعله جزء سهم عند الأولى لنضرب به نصيب كل وارث من المسألة الأولى ونأخذ وفق سهام الميت الثاني ونجعله جزء سهم عند المسألة الثانية، لنضرب به نصيب كل وارث من(5/184)
المسألة الثانية، ومن ورث من المسألتين جمعنا له نصيبه منهما، ووضعناه تحت الجامعة.
وبهذا نكون قد وصلنا إلى حل لهذه المسألة، وأخذ كل وارث نصيبه، كما هو مبين في المسألة.
المثال الثالث: إذا كانت سهام الميت الثاني مباينة لمسألته:
ماتت امرأة عن زوج، وأم، وعم، ثم مات الزوج عن بنت، وخمسة أشقاء.
المسألة الأولى ... المسألة الثانية ... تصحيح الثانية ... الجامعة
6 ... 2 ... 10 ... 60
2/ 1 ... زوج ... 3 ... ت
3/ 1 ... أم ... 2 ... - ... 20
ع ... عم ... 1 ... - ... 10
2/ 1 ... بنت ... 1 ... 5 ... 15
ع ... 5 أشقاء ... 1 ... 5 ... 15
يتضح لنا في هذه المسألة، أن بين سهام الميت الثاني من المسألة(5/185)
الأولى، وهي (3) وبين مسألته، وهي (10)، تبايناً، لذلك ضربنا أصل المسألة الأولى بتصحيح المسألة الثانية، فكانت الجامعة: (6×10=60).
ويلاحظ في المسألة الثانية أننا قد أجرينا فيها تصحيحاً، وذلك لأن سهام الإخوة لا تنقسم عليهم، وبين سهامهم ورؤوسهم تباين، فضربنا أصل المسألة (2) بعدد الرؤوس (5) فكان التصحيح (10)، ثم إنه من كان له نصيب في المسألة الأولى أخذه مضروباً بتصحيح المسألة الثانية، فنصيب الأم (2×10=20)، ونصيب العم (1×10=10)، فوضعناه تحت الجامعة. ومن كان له نصيب في المسألة الثانية أخذه مضروباً بسهام الميت الثاني التي ورثها من الميت الأول، فكان نصيب البنت (5×3=15)، ونصيب الأشقاء (5×3=15)، فوضعنا ذلك تحت الجامعة أيضاً.
وعند مراجعة السهام كلها في الجامعة، وجمعها مع بعضها وجدناها مساوية للجامعة، وهذا دليل صحة التقسيم في هذه المسألة.
مثال آخر:
مات رجل عن زوجة، وثلاثة أبناء، وبنت، ثم ماتت البنت، عن الورثة في المسألة السابقة.
المسألة الأولى ... المسألة الثانية ... تصحيح الثانية ... الجامعة(5/186)
8 ... 6 ... 18 ... 144
8/ 1 ... زوجة ... 1 ... 6/ 1 ... أم ... 1 ... 3 ... 21
ع ... ابن ... 2 ... ع ... شقيق ... 5 ... 5 ... 41
ابن ... 2 ... شقيق ... 5 ... 41
ابن ... 2 ... شقيق ... 5 ... 41
بنت ... 1 ... ت
واضح من حل هذه المسألة أن الأولى صحت من (8) والثانية من (18)، ونصيب الميت الثاني من المسألة الأولى سهم واحد، وهو يباين مسألته، فنضرب المسألة الثانية في الأولى، فتبلغ (144) هي الجامعة للمسألتين.
للزوجة من المسألة الأولى (1) يضرب في (18) يساوي (18)، ولها من الثانية، باعتبارها أماً، (3) تضرب بواحد، وهو نصيب الميت الثاني من الأولى، يساوي ثلاثة. ولكل ابن من المسألة الأولى سهمان، يضربان بـ (18) فيحصل لكل واحد (36) سهماً من الأولى، ولكل واحد منهم(5/187)
باعتبارهم أخوة أشقاء من المسألة الثانية (5) أسهم تضرب بواحد، تساوي خمسة، ثم يجمع نصيب كل واحد من المسألتين، فيكون الناتج هكذا:
الأم: (18 + 3 = 21)
الابن: (36 + 5 = 41)
الابن: (36 + 5 = 41)
الابن: (36 + 5 = 41)
كما هو مبين في المسألة السابقة.
كان ما مر في المناسخات كله إنما هو فيما إذا مات من ورثة الميت الأول شخص واحد.
فإذا مات شخص ثان قبل قسمة التركة، فإن العمل أن نجعل الجامعة الأولى كمسألة أولى، ونجعل للميت الثالث مسألة جديدة وتطبق بين مسألة الميت الثالث والجامعة نفس القواعد التي مر ذكرها في الميت الأول والثاني، فلا حاجة لإعادتها.
هذا ومما ينبغي أن يعلم أنه إذا كان لا يرث الميت الثاني إلا الباقون من ورثة الميت الأول، وكان إرثهم من الميت الثاني كإرثهم من الميت الأول، جعل كأن الميت الثاني لم يكن من ورثة الميت الأول، وقسم المال المتروك بين الباقين من الورثة، لأنه صار إليهم بطريق واحد.
مثال هذا:
ما لو مات شخص عن أربعة إخوة أشقاء، ثم مات واحد منهم عن الباقين من الإخوة، ثم مات ثالث عن الباقين أنفسهم، فإننا نعتبر الذين ماتوا بعد الأول كأنهم لم يكونوا، وتقسم التركة على الباقين منهم.
قال الإمام الرحبي رحمه الله تعالى، في (المناسخات):
وإن يمت آخر قبل القسمة ... فصحح الحساب واعرف سهمه(5/188)
واجعل له مسالة أخرى كما ... قد بين التفصيل فيما قدما
وإن تكن ليست عليها تنقسم ... فارجع إلى الوفق بهذا قد حكم
وانظر فإن وافقت السهاما ... فخذ هديت وفقها تماما (1)
واضربه أو جميعها في السابقة ... إن لم تكن بينهما موافقة
وكل سهم في جميع الثانية ... يضرب أو في وفقها علانية (2)
وأسهم الأخرى ففي السهام ... تضرب أو في وفقها تمام
فهذه طريقة المناسخة ... فارق بها رتبة فضل شامخة (3)
_________
(1) هديت جملة دعائية. والهداية: الدلالة على الخير.
(2) علانية: جهراً.
(3) شامخة: مرتفعة عالية.(5/189)
توريث ذوي الأرحام
تعريف ذوي الأرحام:
الأرحام: جمع رحم، والرحم لغة: القرابة، وذو الأرحام: أصحاب القرابات.
وذوو الأرحام في اصطلاح علم الفرائض هم: كل قريب لا يرث بفرض، ولا تعصيب، أي هم من عدا الأقارب المجمع على توريثهم، ممن سبق ذكرهم في هذا الكتاب.
شروط توريث ذوي الأرحام:
يشترط في إرث ذوي الأرحام الشروط التالية:
أ- أن لا يوجد للميت وارث بفرض أو تعصيب، ما عدا الزوجين.
فإذا كان له وارث من أصحاب الفروض، أو العصبات، فهو مقدم على ذوي الأرحام، بالفرض، والتعصيب والرد.
أما وجود أحد الزوجين، فلا يمنع من توريث ذوي الأرحام، إذا لم يكن وارث غيره، لأنه لا يرد على الزوجين، كما سبق بيانه.
ب- أن لا يكون بيت المال منتظماً، فإذا كان بيت المال منتظماً، فإنه مقدم على ذوي الأرحام في الميراث، كما هو مقدم على الرد على ذوي الفروض، وقد سبق بيان ذلك.(5/190)
دليل عدم توريثهم إذا كان بيت المال منتظماً:
استدل الشافعي رحمه الله تعالى على عدم توريثهم أنه لم يرد لهم نصيب معين من الميراث، في القرآن ولا في السنة، ولو كان لهم حق في التركة لبينه الله عز وجل، ورسوله عليه الصلاة والسلام، كما هو الشأن في أصحاب الفروض، والعصبات.
وأيضاً فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله عز وجل أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث" رواه الترمذي (2122) في (الوصايا)، باب (ما جاء لا وصية لوارث)؛ ورواه النسائي (6/ 247) في (الوصايا)، باب (إبطال الوصية للوارث)، كلاهما عن عمرو بن خارجة - رضي الله عنه -، فلو كان لهم شيء من التركة لأعطاهم الله إياه.
لكن المتأخرين من الشافعية رحمهم الله، قد أفتوا بتوريث ذويي الأرحام، وذلك منذ القرن الرابع الهجري، انطلاقاً من أن بيت المال لم يعد منتظماً، ولم يعد يصل لذوي الحقوق منه حقوقهم، فلأن يرجع مال الميت لأرحامه، وغير الوارثين من أقاربه، أولى من أن يذهب إلى غير ذي حق من الأباعد.
أصناف ذوي الأرحام:
يمكن حصر ذوي الأرحام في أربعة أصناف هي:
الأول: من ينتمي إلى الميت، لكون الميت أصلاً له، وهم:
- أولاد البنات، مهما نزلوا.
- أولاد بنات الابن، وإن نزلوا أيضاً.
الثاني: من ينتمي إليهم الميت لكونهم أصولاً له، وهم:
- الأجداد والجدات الرحميون، الذين هم غير من سبق ذكرهم. فالجد الرحمي: هو كل من توسطت بينه وبين الميت أنثى، كالجد أبي الأم، وأبوه، وإن علا.(5/191)
- والجدة الرحمية: هي أيضاً من توسط بينها وبين الميت جد رحمي، كأم أبي الأم، وأمها، وإن علت.
الثالث: من ينتمي إلى أبوي الميت، لكونهما أصلاً جامعاً له وللميت، وهم:
- أولاد الأخوات مطلقاً، أي ذكوراً كانوا أم إناثاُ، سواء كانت الأخوات شقيقات أم لأب، أم لأم.
- بنات الإخوة الأشقاء، أو لأب، أو لأم.
- أولاد الإخوة لأم، ذكوراً كانوا أم إناثاً.
- وكل من يدلي إلى الميت بواحد من هؤلاء.
الرابع: من ينتمي إلى أجداد الميت وجداته، لكون هؤلاء الأجداد والجدات أصلاً جامعاً له وللميت، وهم:
- الأعمام للأم، والعمات مطلقاً، وبنات الأعمام مطلقاً.
- الأخوال والخالات مطلقاً، وإن تباعدوا، وأولادهم وإن تنازلوا.
كيفية توريث ذوي الأرحام:
قلنا: عن ذوي الأرحام يرثون حين لا يوجد من يرث بفرض- غير الزوجين - أو بتعصيب، فإذا لم يوجد أحد من الورثة، كان الميراث جميعه لذوي الأرحام.
وإن وجد أحد الزوجين، كان ما بقي، بعد فرضه، لهم.
فإن انفرد واحد من ذوي الأرحام، كان المال جميعه له: كمن خلف بنت، استحق كل التركة. وإن اجتمع أكثر من واحد من ذوي الأرحام، كان توريثهم على النحو التالي:
1 - ينزل كل واحد من ذوي الأرحام- ما عدا الأخوال والخالات، والأعمام لأم والعمات- منزلة من يدلي به إلى الميت.(5/192)
فينزل كل فرع منزلة أصله، وأصله منزلة أصله، وهكذا درجة درجة إلى أن تصل إلى أصل وارث. وكل من نزل منزلة شخص يأخذ ما كان يأخذه ذلك الشخص، فيفرض موت ذلك الشخص، وأن هذا المنزل منزلته وارثه، كابن البنت فإنه ينزل منزلة أمه، وهي البنت، وبنت الأخ تنزل منزلة أبيها، وهو الأخ، وهكذا.
وهذا - كما قلنا- في غير الأخوال والخالات، والأعمام لأم، والعمات.
فالأخوال والخالات ينزلون منزلة الأم، فما يثبت لها، من كل المال عند الانفراد، أو ثلثه، أو سدسه عند عدم الانفراد، يثبت لهم.
أما الأعمام لأم، والعمات، فإنهم ينزلون منزلة الأب، ويرثون ما كان يرثه هو.
2 - بعد أن ينزل كل واحد من ذوي الأرحام منزلته - على النحو السابق - يقدم من سبق إلى وارث، سواء قربت رجته إلى الميت، أم بعدت.
فلو اجتمع: بنت بنت البنت، وبنت بنت ابن الابن:
كان المال كله، للثانية، وهي بنت بنت ابن الابن، وإن كانت الأولى، وهي بنت بنت البنت أقرب إلى الميت منها، لأن الثانية سبقت الأولى إلى وارث، إذ الثانية ليس بينها وبين من أدلت به أحد غير وارث.
بينما الأولى بينها وبين من أدلت به من الوارثين شخص غير وارث، وهو بين البنت.
3 - إذا استوى الموجودون من ذوي الأرحام في الإدلاء، فرض أن الميت خلف الوارثين الذين ينتسب إليهم ذوو الأرحام، وقسم المال - أو الباقي بعد فرض أحد الزوجين - بين هؤلاء المفروضين، كأنهم(5/193)
موجودون، فمن يحجب منهم لا شيء لمن يدلي به، وما أصاب كل واحد منهم قسم على من نزل منزلته، كأنه مات وخلفهم وصورة ذلك: أن يموت شخص ويخلف:
7 (عول)
6
6/ 1 ... أبا أم ... 1
3/ 1 ... بنتي أختين لأم ... 2
2/ 1 ... بنت أخت شقيقة ... 3
6/ 1 ... بنت أخت لأب ... 1
لأبي الأم السدس، لأنه ينزل منزلة الأم التي أدلى بها.
لبنتي الأختين لأم الثلث، لأنهما بمنزلة الأختين لأم اللتين أدلتا بهما.
لبنت الأخت الشقيقة النصف، لأنها بمنزلة الأخت الشقيقة التي أدلت بها.
ولبنت الأخت لأب السدس، لأنها بمنزلة الأخت لأب مع الشقيقة.
ويجب أن يلاحظ هنا أن العول لا يصيب نصيب الزوج، أو الزوجة، فيما لو وجد أحدهما مع ذوي الأرحام، بل يعطي أحد الزوجين نصيبه أولاً، ثم يوزع ما بقي على ذوي الأرحام.
فلو ماتت امرأة وخلفت:(5/194)
2 ... 4
2/ 1 ... زوجاً ... 1 ... 2
ع ... وبنتي أختين ... 1 ... 2
لكان للزوج النصف، واحد من اثنين، ويبقى واحد لبنتي الأختين، لكل واحدة نصفه، ولما كان الواحد لا ينقسم عليهما، فسوف نصير إلى تصحيح المسألة، وعندها نأخذ عدد الرؤوس لتباينها مع السهام، ويضرب به أصل المسألة، فما بلغ فمنه تصح: (2×2=4).
فيأخذ الزوج نصيبه مضروباً باثنين (1×2=2)، وتأخذ بنتي الأختين نصيبهما مضروباً (1×2=2) لكل واحد منهما سهم من أربعة أسهم.
ولو كان بدل بنتي الأختين أختان، لكان لهما الثلثان، لعالت المسألة بسهامها على الأختين، وعلى الزوج، ولم يبق للزوج نصف سالم، بل يكون له ثلاثة أسهم من سبعة، بخلاف ما لو كان مع ذوي الأرحام. فإنه يأخذه نصفاً سالماً.
ويستثنى من الضابط السابق - وهو أن ما يصيب كل واحد من المفروضين يقسم على من نزل منزلته كأنه مات وخلفهم، - ما يلي:
أ- أولاد الإخوة لأم، فيقسم بينهم ما يصيب من يدلون به- وهو الأخ لأم- بالسوية، دون تفريق بين ذكورهم وإناثهم، كما يرث مورثهم كذلك.
مع أن الأخ لأم، أو الأخت لأم، لو مات أحدها وخلف أولاداً، ذكوراً وإناثاً، قسم ميراثه بينهم، للذكر مثل حظ الأنثيين.(5/195)
ب- الأخوال والخالات الذين من جهة الأم، يقسم بينهم ما يصيب من ينزلون منزلته - وهو الأم- للذكر مثل حظ الأنثيين.
مع أنه لو مات من ينزلون منزلته- وهو الأم - وخلفتهم كانوا إخوة لأم، وكان الميراث بينهم بالسوية.(5/196)
قسمة التركة
إن قسمة التركة بين الورثة، هي الثمرة المقصودة بالذات من علم الفرائض، وما تقدم كله وسيلة لها. ولتقسيم التركة عدة طرق، وأبسط هذه الطرق أن تقسم التركة على أصل المسألة، ثم يضرب الناتج بسهام كل وارث. مثال ذلك: مات رجل عن:
24
8/ 1 ... زوجة ... 3
3/ 2 ... بنتين ... 16
6/ 1 ... أم ... 4
ع ... أخ شقيق ... 1
واضح أن المسألة من أربعة وعشرين لتوافق مخرجي الثمن والسدس. فللزوجة الثمن (3)، وللبنتين الثلثان (16) لكل بنت (8)، وللأم السدس (4)، وللأخ الشقيق الباقي تعصيباً، وهو سهم واحد.
فإذا كانت التركة: (4800) ليرة مثلاً، فالعمل أن تقسم التركة على(5/197)
أصل المسألة، ثم نضرب الناتج بنصيب كل وارث:
4800÷24=200 ليرة قيمة السهم الواحد.
فللزوجة إذاً = 200×3=600 ليرة.
للبنين ... = 200×16=3200 ليرة.
للأم ... = 200×4= 800 ليرة.
للأخ ... = 200×1= 200 ليرة. ويكون المجموع 4800 ليرة، وهو قيمة التركة.
وهناك طريقة أخرى، وهي:
أن نضرب نصيب كل وارث بالتركة، ثم نقسم الحاصل على أصل المسألةز
مثال ذلك: مات رجل عن:
12
3/ 1 ... أم ... 4
4/ 1 ... زوجة ... 3
ع ... عم ... 5
المسألة من (12) لتباين مخرجي فرض الأم والزوجة، للأم أربعة، وهي الثلث، وللزوجة الربع ثلاثة، والباقي تعصيباً، وهو خمسة.
فلو فرضنا أن التركة كانت (100) دينار،
فيكون نصيب الأم: ... = 3/ 1 = 33.(5/198)
فيكون نصيب الزوجة: ... =25.
ويكون نصيب العم: ... = 3/ 2 41.
مثال آخر: ماتت امرأة عن:
4
4/ 1 ... زوج ... 1
ع ... أخت شقيقة ... 1
2/ 1 ... بنت ابن ... 2
للزوج الربع (1)، وللبنت النصف (2)، وللأخت الشقيقة الباقي تعصيباً، وهو (1)، لأنها عصبة مع الغير.
وأصل المسألة من أربعة، لتداخل مخرج فرض البنت بمخرج فرض الزوج. فلو فرضنا أن التركة كانت (44) ألف ليرة:
لكان نصيب الزوج: ... = 11 ألف ليرة.
نصيب الشقيقة: ... = 11 ألف ليرة.
نصيب البنت: ... = 22 ألف ليرة(5/199)
المسائل المشهورة في المواريث
لقد اشتهر في المواريث مسائل أخذت ألقاباً معينة، عرفت بها بين علماء الفرائض:
إما لحدوث خلاف فيها، وإما نسبة إلى من سئل عنها، أو قضى فيها.
ولقد مر بعضها أثناء أبحاثنا، في قواعد هذا العلم، وفي ثنايا أحكامه.
وها نحن نذكر تحت هذا العنوان أشهر هذه المسائل، ليعرفها من يدرس هذا الكتاب، ويطلع عليها من لم يتح له أن يرجع إلى المطولات من أمهات كتب هذا الفن العظيم.
1 - المشركة.
وتسمى أيضاً المشتركة، والحمارية.
وقد مرت معنا في بحث الإخوة، وهي كما تعلم:(5/200)
6 ... 18
2/ 1 ... زوج ... 3 ... 9
6/ 1 ... أم ... 1 ... 3
3/ 1 ... أخوان لأم فأكثر ... 2 ... 4
أخ شقيق، فأكثر ... 2
وعرفت أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قضى فيها أولاً، فأسقط الإخوة الأشقاء، لكونهم عصبة، ولم يبق لهم شيء بعد الفروض.
ثم عاد ثانياُ وقضى بالتشريك بين الأشقاء والأخوة لأم، فألغى الأب، وجعلهم جميعاً إخوة لأم.
2 - العمريتان.
سمينا بذلك لقضاء عمر - رضي الله عنه - فيهما، كما مر معنا، وعرفت أنه أعطى الأم فيهما ثلث الباقي بعد فرض أحد الزوجين. وهما
6
2/ 1 ... زوج ... 3
3/ 1 با ... أم ... 1
ع ... أب ... 2
12
4/ 1 ... زوجة ... 3
3/ 1 با ... أم ... 3
ع ... أب ... 6(5/201)
3 - المباهلة. وهي:
8 (عول)
6
2/ 1 ... زوج ... 3
3/ 1 ... أم ... 2
2/ 1 ... أخت شقيقة ... 3
للزوج النصف (3) وللأم الثلث (2)، وللأخت الشقيقة النصف (3). وأصل المسألة من (6) وقد عالت إلى (8). وهي أول مسألة عالت في الإسلام.
وقد مرت معنا أيضاً، من غير أن نطلق عليها هذا اللقب في حينها.
وقد وقعت هذه المسألة في صدر خلافة عمر - رضي الله عنه -، فاستشار الصحابة فيها فأشار العباس - رضي الله عنه -، أن يقسم عليهم بقدر سهامهم، فصاروا إلى ذلك.
وفي رواية أن عمر قال لهؤلاء الورثة: (لا أجد فرضاً في كتاب الله، ولا أدري من قدمه الله تعالى، فأقدمه، ولا من أخره فأؤخره، ولكن رأيت رأياً، فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأ فمني، أرى أن أدخل النقص على الكل)، فقسم بالعول، ولم يخالفه أحد، على أن ولي الخلافة عثمان - رضي الله عنه -. فأظهر عبدالله بن عباس رضي الله عنهما مخالفته(5/202)
لما فعل عمر، وقال: لو قدموا من قدمه الله، وأخروا من أخره الله، ما عالت فريضة قط، فقيل له: من قدمه الله، ومن أخره؟ قال: الزوج والزوجة والأم والجدة ممن قدمه الله، أما من أخره الله، فالبنات، وبنات الابن، والأخوات لأب وأم، والأخوات لأب، فتارة يفرض لهن، وتارة يكن عصبة، ويدخل النقص على هؤلاء الأربع.
فلما ناقشوه في هذا الرأي، قال من شاء باهلته، إن الذي أحصى رمل عالج لم يجعل في المال نصفاً، ونصفاً، وثلثا، فقيل له: هلا ذكرت ذلك في زمن عمر؟ فقال: كان مهيباً فهبته.
[عالج: موضع في البادية كثير الرمل. وقوله باهلته: هو من قول الله تعالى: {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61].
ومن هنا سميت هذه المسألة بالمباهلة.
4 - المنبرية.
وهي:
27 (عول)
24
8/ 1 ... زوجة ... 3
6/ 1 ... أب ... 4
6/ 1 ... أم ... 4
3/ 2 ... بنتان ... 16(5/203)
المسألة من (24) لوجود التوافق بين مخرجي الثمن والسدس، وقد عالت إلى (27).
للزوجة الثمن (3)، وللأب السدس (4)، وللأم السدس (4)، وللبنتين الثلثان (16).
وسميت هذه المسألة بالمنبرية، لأن علياً - رضي الله عنه - كان يخطب على المنبر، وكان قد بدأ خطابه بقوله: الحمد لله الذي يجزي كل نفس بما تسعى، ثم سئل عن هذه المسألة، فأجاب على الفور؛ والمرأة قد صار ثمنها تسعاً، ثم استمر في خطبته، فكان ذلك من نباهته، وحضور بديهته.
3 ... 9
3/ 1 ... أم ... 1 ... 3
ع ... جد ... 2 ... 4
أخت شقيقة ... 2
5 - الخرقاء.
وهي:
للأم الثلث، والباقي للجد والأخت مقاسمة للذكر مثل حظ الأنثيين.
المسألة من ثلاثة، وتصح من تسعة، للأم (3)، وللجد (4)، وللأخت (2).
وسميت هذه المسألة الخرقاء، كأن أقوال الصحابة خرقتها، أو أنها خرقت اتفاقهم، فقد اختلفوا فيها على سبعة أقوال، وما ذكرناه هو مذهبنا.(5/204)
6 - الأكدرية.
9 (عول) ... 27
6
2/ 1 ... زوج ... 3 ... 9
3/ 1 ... أم ... 2 ... 6
6/ 1 ... جد ... 1 ... 8
2/ 1 ... أخت شقيقة، أو لأب ... 3 ... 4
وقد مرت معنا وهي:
للزوج النصف عائلاً، وللأم الثلث عائلاً، وللجد السدس عائلاً، وللأخت النصف عائلاً. فالمسألة من ستة، وتعول إلى تسعة. ثم بعد هذا يعود الجد إلى الأخت فيقاسمها الفريضة، ويأخذ معها للذكر مثل حظ الأنثيين، ولما كان نصيبه، وهو (1) من تسعة، ونصيبها (3) من تسعة لا ينقسمان عليهما للذكر مثل حظ الأنثيين أخذنا عدد الرؤوس، لتباينها مع السهام، وضربنا بها أصل المسألة، فكان تصحيح المسألة من (27)، للزوج (9)، وللأم (6)، وللجد (8)، وللأخت (4). وسميت هذه المسألة بالأكدرية، لأنها كدرت على زيد بن ثابت مذهبه من ثلاثة أوجه، أعال بالجد، وفرض للأخت، وجمع سهام الفرض وقسمها على التعصيب.
وإنما فرض للأخت، ولما يجعلها عصبة، لأنه لم يبق لها شيء، ولا وجه إلى القسمة، لأنه ينقص نصيب الجد عن السدس.(5/205)
7 - اليتيمتان.
وهما مسألتان: ... الأولى: ... الثانية
2
2/ 1 ... زوج ... 1
2/ 1 ... أخت لأب ... 1
2
2/ 1 ... زوج ... 1
2/ 1 ... أخت شقيقة ... 1
ففي هاتين المسألتين يأخذ الزوج النصف، والأخت النصف، وليس في الفرائض كلها مسألة يورث فيها المال بفريضتين، متساويتين، إلا في هاتين المسألتين، ولذلك سميتا اليتيمتين.
8 - أم الفروخ. وهي:
10 (عول)
6
2/ 1 ... زوج ... 3
6/ 1 ... أم ... 1
3/ 1 ... أختان لأم ... 2
3/ 2 ... أختان لأبوين ... 4(5/206)
للزوج النصف، وللأم السدس، وللأختين للأم الثلث، وللأختين للأبوين الثلثان.
أصل المسألة (6)، وتعول إلى (10).
وسميت هذه المسألة بأم الفروخ، لأنها أكثر المسائل عولاً، فشبهت الأربعة الزوائد بالفروخ، وتسمى أيضاً الشريحية، لأن القاضي شريحاً أول من قضى فيها.
9 - أم الأرامل.
وهي:
17 (عول)
12
4/ 1 ... ثلاث زوجات ... 3
6/ 1 ... جدتان ... 2
3/ 1 ... أربع أخوات لأم ... 4
3/ 2 ... ثمان أخوات شقيقات ... 8
للزوجات الربع (3)، لكل زوجة سهم، وللجدتين السدس (2)، لكل جدة (1)، وللأخوات لأم الثلث (4)، لكل أخت (1)، وللأخوات الشقيقات الثلثان (8)، لكل أخت (1). أصل المسألة (12) وتعول إلى (17) سميت أم الأرامل، لأن الورثة فيها كلهن إناث. وفي هذه المسألة(5/207)
يلغز، أيضاً، فيقال: رجل مات وترك سبعة عشر ديناراً، وسبع عشرة امرأة، أصاب كل امرأة دينار واحد.
10 - المروانية.
وهي:
9 (عول)
6
2/ 1 ... زوج ... 3
3/ 2 ... أختان شقيقتان ... 4
م ... أختان لأب
3/ 1 ... أختان لأم ... 2
للزوج النصف عائلاً (3)، وللأختين لأبوين الثلثان عائلاً (4)، والأختان لأب محجوبتان بالأختين الشقيقتين، لاستغراقهما الثلثين. وللأختين لأم الثلث عائلاً (2).
أصل المسألة من (6) وتعول إلى (9).
سميت مروانية، لوقوعها في زمن مروان بن الحكم.
وتسمى الغراء، لاشتهارها بين العلماء.(5/208)
11 - الحمزية.
وهي:
6 ... 72
6/ 1 ... ثلاث جدات متحاذيات ... 1 ... 12
ع ... جد ... 5 ... 30
أخت شقيقة ... 30
أخت لأب ... 0
م ... أخت لأم ... 0
هذه المسألة على مذهب الشافعي من مسائل المعادة، فإن الشقيقة، تعد الأخت لأب على الجد، ثم تأخذ نصيبها.
هذه المسألة من (6)، للجدات السدس (1)، وللجد والأختين الباقي (5)، والأخت لأم محجوبة بالجد.
ونصيب الجدات، لا ينقسم عليهن، وبين عدد رؤوسهن وسهامهن تباين، فنحفظ عدد الرؤوس.
ونصيب الجد والأختين (5) وعدد رؤوسهن أربعة، باعتبار الجد يعد كأختين، فبين الرؤوس وبين السهام أيضاً تباين، فنحفظ عدد الرؤوس، ثم ننظر بين عدد رؤوس الجدات (3) وبين عدد رؤوس الجد والأختين (4) فنجد أنهما متباينان، فنضرب عدد الرؤوس ببعضهما (3×4=12)، ونضرب بالحاصل أصل المسألة (6×12=72). للجدات (1×12=12)،(5/209)
لكل جدة (4) أسهم، للجد والأختين (5×12=60)، للجد نصفها (30)، وللأخت الشقيقة نصفها (30) أيضاً، وهو نصيبها ونصيب الأخت لأب.
وسميت هذه المسألة بهذا الاسم، لأن حمزة الزيات سئل عنها فأجاب بهذا الجواب.
12 - الدينارية.
وهي:
24 ... 600
8/ 1 ... زوجة ... 3 ... 75
6/ 1 ... جدة ... 4 ... 100
3/ 2 ... بنتان ... 16 ... 400
ع ... اثنا عشر أخأ لأب ... 1 ... 24
أخت لأب ... 1
والتركة في هذه المسألة كانت (600) دينار. المسألة من أربعة وعشرين، وتصح، من ستمائة، لأن بين نصيب الأخوة والأخت، وعدد رؤوسهن تبايناً: فنضرب أصل المسألة، بعدد الرؤوس (24×25=600) فيخرج تصحيح المسألة. للزوجة الثمن (75) ديناراً، وللجدة السدس (100) دينار، وللبنتين الثلثان (400) دينار، وللأخوة لأب والأخت لأب الباقي (25) ديناراً، لكل اخ ديناران، وللأخت دينار واحد.(5/210)
ولهذا سميت هذه المسألة بالدينارية، وفيها يلغز، فيقال: رجل خلف ستمائة دينار، وسبعة عشر وارثاً ذكوراً وإناثاً، فأصاب أحدهم دينار واحد.
13 - الامتحان.
أصل ... تصحيح
24 ... 30240
8/ 1 ... 4 زوجات ... 3 ... 3780
6/ 1 ... 5 جدات ... 4 ... 5040
3/ 2 ... 7بنات ... 16 ... 20160
ع ... 9 أخوات لأب ... 1 ... 1260
وهي:
هذه المسألة تصح من (24)، للزوجات الثمن (3)، وللجدات السدس (4)، وللبنات الثلثان (16)، وللأخوات الباقي بالتعصيب (1)، فإن الأخوات مع البنات عصبات مع الغير. وسهام كل فريق من الورثة لا ينقسم على عدد رؤوسهم، وبين كل فريق وسهامهم تباين، لذلك نضرب الرؤوس بعضها ببعض، وحاصل الضرب، وهو (1260)، هو جزء السهم، يضرب به أصل المسألة، فيكون الناتج تصحيح المسألة: (24×1260=30240). ثم نضرب نصيب كل وارث بجزء السهم، هكذا:(5/211)
الزوجات: (3 × 1260) = (03780)
الجدات: (4 × 1260) = (05040)
البنات: ... (16 × 1260) = (20160)
الأخوات: (1 × 1260) = ... (01260)
(30240)
وفي هذه المسألة يلغز ويمتحن، فيقال: رجل خلف أصنافاً عدد كل صنف أقل من عشرة، ولا تصح المسألة إلا مما يزيد على ثلاثين ألفاً.(5/212)
مسائل محلولة في شتى أبواب الفرائض
لقد سردنا معظم أحكام الفرائض قبل أبحاث الحساب، عارية عن رسم مسائل حسابية، اصطلح علماء الفرائض أن يرسموها في كل باب من أبواب المواريث، تقريراً لأحكامه، وتبياناً لطرقه في توزيع الشركة على أصحابها.
والذي حملنا على تأخير ذكر تلك المسائل، إلى ما بعد أبحاث الحساب، إنما هو خوفنا أن يكون عملنا مبيناً على قواعد مجهولة غالباً للدارسين لهذا الفن، قبل أن يصلوا إلى قواعد الحساب، وحل المسائل.
أما الآن، وبعد دراستنا لمسائل الحساب، يبدو ذكرنا لتلك المسائل أمراً معقولاً ومقبولاً، بل هو لازم وضروري.
وها نحن نذكر- إضافة لما مر معنا - نماذج من المسائل المحلولة، والمشروحة في شتى أبواب المواريث، زيادة في الإيضاح، وتقريباً لقواعد هذا العلم، وأحكامه ومسائله، إلى أذهان الراغبين في معرفته، والمحبين لدراسته، سائلين المولى عز وجل النفع لنا ولهم، والهداية إلى سواء السبيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الطريقة العامة التي اصطلح عليها العلماء في حل مسائل هذا الفن:
هناك خطوات ينبغي معرفتها، والسير عليها في حل المسائل:(5/213)
1 - كتابة الورثة بشكل عامودي.
2 - وضع استحقاق كل وارث من فرض أو تعصيب أو حجب إلى جانب الورثة على يمين العامود الخاص بهم.
3 - وضع أصل المسألة على يسار عامود الورثة في الأعلى. وقد مر بك - في بحث الحساب- طريقة استخراج أصول المسائل.
4 - وضع العول إذا ما عالت المسألة فوق أصلها.
5 - وضع تصحيح المسألة إذا احتاجت إلى تصحيح على يسار عامود أصل المسألة في الأعلى، وقد مر بك طريقة تصحيح المسائل.
6 - وضع سهام كل وارث في مساواته تحت أصل المسألة، ووضع سهامه من تصحيحها تحت تصحيحيها أيضاً.
7 - وضع جزء السهم في الأعلى على يمين أصل المسألة.
8 - يشير علماء الفرائض كثيراً إلى العصبة بحرف (ع)، وإلى الشخص المحجوب بحرف (م).(5/214)
مسائل في أصحاب الفروض والعصبات
6
2/ 1 ... زوج ... 3
3/ 1 ... أم ... 2
ع ... أخ شقيق ... 1
الشرح:
يستحق الزوج في هذه المسألة نصف التركة (2/ 1)، لعدم وجود فرع وارث للميت، كما تستحق الأم ثلثها (3/ 1)، لعدم وجود الفرع الوارث أيضاً، ولعدم وجود عدد من الأخوة، أما الشقيق، فيأخذ ما بقي تعصيباً، لأنه أولى رجل ذكر في هذه المسألة، ولأنه لا يوجد من يحجبه.
وأصل هذه المسألة من (6) حاصل ضرب مخرج النصف بمخرج الثلث، لأن المخرجين متباينان. فمجموع سهام التركة إذاً (6) موزعة كما هو مبين في المسألة.
- - -(5/215)
24
2/ 1 ... بنت ... 12
6/ 1 ... أم ... 4
8/ 1 ... زوجة ... 3
ع ... أخ شقيق ... 5
الشرح:
نصيب البنت في هذه المسألة النصف (2/ 1)، لكونها وحدها، ولا يوجد من يعصبها، ونصيب الأم السدس (6/ 1)، لوجود الفرع الوارث للميت، وهي البنت، ونصيب الزوجة الثمن (8/ 1)، لوجود الفرع الوارث أيضاً، أما الأخ الشقيق، فيستحق الباقي بالتعصيب.
أصل المسألة (24)، لتوافق مخرجي الثمن والسدس، بالنصف، فيضرب نصف أحدها بكامل الآخر، والحاصل هو أصل المسألة.
أما مخرج النصف، فإنه يدخل في مخرجي الثمن والسدس، فيترك.
فمجموع سهام التركة كما هو واضح (24) وتوزيعها مبين في المسألة.
- - -(5/216)
12
2/ 1 ... بنت ابن ... 6
4/ 1 ... زوج ... 3
6/ 1 ... أم ... 2
ع ... أخ لأب ... 1
الشرح:
لبنت الابن النصف (2/ 1)، لعدم وجود ولد للميت، ولانفرادها عن معصب، وللزوج الربع (4/ 1)، لوجود الفرع الوارث، وللأم السدس (6/ 1)، لوجود الفرع الوارث أيضاً، وللأخ لأب الباقي تعصيباً.
أصل المسألة (12) لتوافق مخرجي الربع والسدس، بالنصف، فيضرب نصف أحدهما بكامل الآخر، فما حصل فهو أصل المسألة.
وسهام المسألة إذاً (12)، وتوزيعها واضح في المسألة.
- - -
12
2/ 1 ... أخت شقيقة ... 6
4/ 1 ... زوجة ... 3
6/ 1 ... أخ لأم ... 2
ع ... ابن أخ شقيق ... 1(5/217)
الشرح:
تستحق الشقيقة في هذه المسألة نصف التركة (2/ 1) لكونها وحدها، فلا حاجب، ولا معصب لها. وتستحق الزوجة الربع (4/ 1) لعدم وجود فرع وارث للميت، وتستحق الأم السدس (6/ 1) لوجود عدد من الأخوة.
أما ابن الأخ الشقيق فهو عصبة، يستحق الباقي من التركة.
أصل المسألة (12) لوجود التوافق بين مخرجي الربع والسدس، فيضرب نصف أحدها بكامل الآخر، والحاصل هو أصل المسألة. مجموع سهام التركة (12) موزعة كما هو مبين في المسألة.
- - -
6
2/ 1 ... أخت لأب ... 3
6/ 1 ... أم ... 1
6/ 1 ... أخت لأم ... 1
ع ... عم شقيق ... 1
الشرح:
للأخت لأب النصف (2/ 1)، لانفرادها، وعدم وجود من يحجبها أو يعصبها، وللأم السدس (6/ 1)، لوجود عدد من الإخوة، وللأخت لأم السدس (6/ 1) لكونها وحدها، ولعدم وجود من يحجبها، أما العم الشقيق، فله الباقي تعصيباً.
أصل المسألة (6) أحد مخرجي فرض الأم والأخت لأم، لأن المخرجين متماثلان، ودخول مخرج النصف، وهو نصيب الأخت فيه.(5/218)
فمجموع سهام التركة إذاً ستة، موزعة كما هو مبين في المسألة.
- - -
12
4/ 1 ... زوج ... 3
ع ... ابن ... 7
6/ 1 ... أب ... 2
الشرح:
للزوج في هذه المسألة ربع التركة (4/ 1)، لوجود الفرع الوارث للميت، وللأب السدس (6/ 1)، لوجود الفرع الوارث المذكر، والباقي للابن يستحقه بالتعصيب، أصل المسألة (12) لتوافق مخرجي الربع والسدس، بالنصف، فيضرب نصف أحدهما بكامل الآخر، وسهام هذه المسألة إذاً (12)، وتوزيعها على الورثة لا يخفى عليك، وهو واضح في المسألة.
- - -
12
4/ 1 ... زوجة ... 3
6/ 1 ... أم ... 2
6/ 1 ... أخت لأم ... 2
ع ... أخ شقيق ... 5(5/219)
الشرح:
الزوجة لها من هذه المسألة ربع التركة (4/ 1)، لعدم وجود الفرع الوارث، أما الأم فتستحق السدس (6/ 1)، لوجود عدد من الأخوة، وللأخت لأم السدس (6/ 1)، لأنها واحدة، ولعدم وجود من يحجبها. أما الأخ الشقيق فيستحق الباقي بالتعصيب. وأصل المسألة (12) لتوافق مخرجي السدس والربع.
ومجموع سهام التركة إذاً (12)، وتوزيعها على الورثة واضح، كما هم مبين في المسألة.
- - -
12
4/ 1 ... زوج ... 3
2/ 1 ... بنت ... 6
6/ 1 ... أم ... 2
ع ... أخ لأب ... 1
الشرح:
للزوج الربع (4/ 1)، لوجود الفرع الوارث وهو البنت، وللبنت النصف (2/ 1)، لكونها وحدها وليس معها معصب، وللأم السدس، لوجود الفرع الوارث، والأخ لأب عصبة يستحق الباقي من التركة بعد أصحاب الفروض.
أصل المسألة (12) لتوافق مخرجي الربع والسدس، فيضرب نصف أحدهما بكامل الآخر، والحاصل هو أصل المسألة، ومجموع سهام التركة (12) كما هو واضح، وتوزيعها على الورثة بين، لا يحتاج إلى توضيح.
- - -(5/220)
4
4/ 1 ... زوج ... 1
2/ 1 ... بنت ابن ... 2
ع ... ابن أخ شقيق ... 1
الشرح:
للزوج الربع (4/ 1)، لوجود الفرع الوارث للميت، وهو بنت الابن، ولبنت الابن النصف (2/ 1)، لعدم وجود من يعصبها، أو يحجبها، ولبن الأخ الشقيق الباقي، لأنه عصبة.
أصل المسألة من (4)، لتداخل مخرجي الربع والنصف، فتأخذ المخرج الأكبر، وندع الأصغر.
فسهام المسألة إذاً (4)، وتوزيعها واضح.
- - -
12
4/ 1 ... زوج ... 3
ع ... ابن ابن ... 5
6/ 1 ... أم ... 2
6/ 1 ... أب ... 2(5/221)
الشرح:
للزوج الربع (4/ 1)، لوجود الفرع الوارث للميت، وللأم السدس (6/ 1)، لوجود الفرع الوارث أيضاً، وللأب السدس (6/ 1)، لنفس السبب، أما ابن الابن فهو عصبة يستحق الباقي.
وأصل المسألة (12) لتوافق مخرجي السدس والربع. فيضرب نصف أحدهما بكامل الآخر، والحاصل أصل المسألة. ومجموع سهامها (12) وتوزيعها معروف كما في المسألة.
- - -
24
8/ 1 ... زوجة ... 3
ع ... ابن ... 13
6/ 1 ... أب ... 4
6/ 1 ... أم ... 4
الشرح:
للزوجة الثمن (8/ 1)، لوجود الفرع الوارث، وللأب السدس (6/ 1) لوجود الفرع الوارث المذكر، وللأم السدس أيضاً لنفس السبب، والابن له الباقي تعصيباً.
أصل المسألة من (24) لوجود التوافق بين مخرجي الثمن والسدس، وحاصل ضرب وفق أحدهما الآخر، يساوي (24) هو سهام المسألة. وتوزيعها على الورثة واضح.
- - -(5/222)
24
8/ 1 ... زوجة ... 3
2/ 1 ... بنت ... 12
6/ 1 ... أم ... 4
6/ 1+ ع ... أب ... 4+1=5
الشرح:
ترث الزوجة في هذه المسألة الثمن (8/ 1) ثلاثة أسهم، لوجود الفرع الوارث، وترث البنت النصف (2/ 1) اثني عشر سهماً، لكونها وحدها، ولم يوجد لها معصب، وتأخذ الأم السدس (6/ 1) أربعة أسهم، أم الأب، فيرث السدس (6/ 1) فرضاً، ويأخذ الباقي بالتعصيب، لوجوده مع البنت، فيكون نصيبه (4+1=5).
أصل المسألة من أربعة وعشرين (24) لتوافق مخرجي الثمن والسدس
- - -
24
8/ 1 ... ثلاث زوجات ... 3
ع ... ابن ابن ... 13
6/ 1 ... أب ... 4
6/ 1 ... أم ... 4(5/223)
الشرح:
للزوجات الثلاث الثمن (8/ 1)، لوجود الفرع الوارث، وللأب السدس (6/ 1)، لوجود الفرع الوارث المذكر، وللأم السدس (6/ 1)، لوجود الفرع الوارث، ولابن الابن الباقي تعصيباً.
أصل المسألة (24) حاصل ضرب نصف مخرج الثمن بكامل مخرج السدس، وهي سهام الترك، وتوزيعها على الورثة واضح في المسألة.
- - -
6
3/ 2 ... بنتان ... 4
6/ 1 ... أب ... 1
6/ 1 ... أم ... 1
الشرح:
للبنتين الثلثان (3/ 2)، لتعددهن وعدم وجود من يعصبهن، ولكل واحد من الأبوين السدس 06/ 1)، لوجود الفرع الوارث.
وسهام المسألة (6) لتداخل مخرجي الثلثين، والسدس، فنأخذ الأكبر، وندع الأصغر. وتوزيعها على الورثة واضح.
- - -(5/224)
24
3/ 2 ... بنتا ابن ... 16
6/ 1 ... أم ... 4
8/ 1 ... زوجة ... 3
ع ... أخ لأب ... 1
الشرح:
لبنتي الابن الثلثان (3/ 2) لتعددهن وعدم وجود من يحجبهن أو يعصبهن، وللأم السدس (6/ 1)، لوجود الفرع الوارث، وللزوجة الثمن (8/ 1)، لوجود الفرع الوارث، وللأخ للأب الباقي تعصيباً، لعدم وجود من يحجبه.
أصل المسألة (24)، لدخول الثلاثة مخرج الثلثين في الستة، مخرج السدس، وبين الستة والثمانية توافق بالنصف، فيضرب نصف أحدهما وتوزيعها على الورثة واضح، كما هو مبين في المسألة.
- - -
6
3/ 2 ... أختان شقيقتان ... 4
6/ 1 ... أم ... 1
6/ 1 ... أخت لأم ... 1(5/225)
الشرح:
للشقيقتين الثلثان (3/ 2)، لتعددهن وعدم وجود ن يحجبهن أو يعصبهن، وللأم السدس (6/ 1)، لوجود العدد من الأخوات، وللأخت لأم السدس (6/ 1) لانفرادها عن مثيلتها وعدم وجود من يحجبها.
أصل المسألة (6)، لدخول مخرج الثلثين، في الستة مخرج السدس، ولتماثل مخرجي فرضي الأم والأخت لأم، فيكون أحدهما وهو الستة مجموع سهام المسألة.
للشقيقتين الثلثان (4)، وللأم السدس (1)، وللأخت لأم السدس (1).
- - -
6
3/ 2 ... أختان لأب ... 4
6/ 1 ... جدة ... 1
6/ 1 ... أخ لأم ... 1
المسألة من (6) لتماثل فرضي الجدة والأخ لأم، ودخول مخرج الثلين فيهما.
للأختين لأب الثلثان (3/ 2) أربعة أسهم، وللجدة السدس (6/ 1) سهم واحد، وللأخ لأم السدس (6/ 1) سهم واحد أيضاً.
- - -(5/226)
12
3/ 1 ... أم ... 4
4/ 1 ... زوجة ... 3
ع ... أخ شقيق ... 5
الشرح:
أصل المسألة (12) حاصل ضرب مخرج الثلث بمخرج الربع، لأنهما متباينان.
للأم الثلث (3/ 1) أربعة أسهم، لعدم وجود الفرع الوارث والعدد من الإخوة، وللزوجة الربع (4/ 1) ثلاثة أسهم، لعدم وجود الفرع الوارث، وللأخ الشقيق الباقي تعصيباً، وخمسة أسهم.
- - -
12
3/ 1 ... أختان لأم ... 2
أخوان لأم ... 2
6/ 1 ... أم ... 2
4/ 1 ... زوجة ... 3
ع ... أخ شقيق ... 3(5/227)
الشرح:
أصل المسألة (12) حاصل ضرب نصف الأربعة بكامل الستة، لتوافق مخرجي السدس والربع بالنصف، أما مخرج الثلث، فهو داخل في مخرج السدس.
يأخذ الأخوان لأم، والأختان لأم ثلث التركة (3/ 1) أربعة أسهم، لكل واحد منهم سهم واحد، لأنهم يرثون بالتساوي.
وللأم السدس (6/ 1) وهو سهمان، لوجود العدد من الأخوة والأخوات، وللزوجة الربع (4/ 1) ثلاثة أسهم، لعدم وجود الفرع الوارث، وللأخ الشقيق الباقي تعصيباً، وهو ثلاثة أسهم.
- - -
6
6/ 1 ... جد ... 1
6/ 1 ... جدة ... 1
2/ 1 ... بنت ... 3
6/ 1 ... بنت ابن ... 1
الشرح:
أصل المسألة (6) لتماثل مخارج السدس، ودخول مخرج النصف فيها.(5/228)
للجد السدس (6/ 1) سهم واحد، لوجود الفرع الوارث، وللجدة السدس (6/ 1) أيضاً سهم واحد، وللبنت النصف (2/ 1) ثلاثة أسهم، لانفرادها وعدم وجود من يعصبها، ولبنت الابن السدس (6/ 1) سهم واحد لوجودها مع البنت وعدم وجود من يعصبها.
- - -
6
6/ 1 ... أم ... 1
2/ 1 ... شقيقة ... 3
6/ 1 ... أخت لأب ... 1
6/ 1 ... أخت لأم ... 1
الشرح:
أصل المسألة (6) لتساوي مخارج فروض الأم والأخت لأب والأخت لأم، ودخول مخرج فرض النصف بمخرج فرض السدس.
للأم السدس (6/ 1) سهم واحد، لوجود العدد من الأخوات، وللأخت الشقيقة النصف (2/ 1) وهو ثلاثة أسهم لانفرادها وعدم وجود من يحجبها أو يعصبها، وللأخت لأب السدس (6/ 1) سهم واحد، تكملة الثلثين، لعدم وجود من يحجبها أو يعصبها، وللأخت لأم السدس (6/ 1) لانفرادها وعدم وجود من يحجبها.
- - -(5/229)
24
6/ 1 ... أب ... 4
م ... جد ... 0
ع ... ابن ... 17
م ... ابن ابن ... 0
م ... جدة: أم أب ... 0
8/ 1 ... زوجة ... 3
الشرح:
أصل المسألة (24) حاصل ضرب نصف مخرج السدس بكامل مخرج الثمن، لتوافقهما في النصف.
يستحق الأب سدس التركة (6/ 1) أربعة أسهم، لوجود الفرع الوارث، وتستحق الزوجة الثمن (8/ 1) ثلاثة أسهم، ويأخذ الابن الباقي بالتعصيب، وهو (17) سهماً، أما الجد فهو محجوب عن الميراث بالأب، لأنه أقرب منه إلى الميت، ولأنه أدلى به إليه ومن أدلى بواسطة حجبته تلك الواسطة.
وابن الابن محجوب بالابن، لكونه أقرب منه إلى الميت.
والجدة أم الأب محجوبة بالأب، لأنها أدلت به إلى الميت، ومن أدلى إلى الميت بواسطة حجبته تلك الواسطة.
- - -(5/230)
6
6/ 1 ... أب ... 1
6/ 1 ... أم ... 1
3/ 2 ... بنتان ... 4
م ... بنتاً ابن ... 0
الشرح:
أصل المسألة (6) لتماثل مخرجي فرضي الأب والأم، ودخول مخرج فرض البنتين فيهما.
للأب سدس التركة (6/ 1) سهم واحد، لوجود الفرع الوارث، وللأم السدس (6/ 1) أيضاً سهم واحد، لنفس السبب السابق، وللبنتين الثلثان (3/ 2) أربعة أسهم، لكل بنت سهمان من التركة، لعدم وجود من يعصبهما.
أما بنتا الابن فمحجوبتان، لأنه لم يبق لهما من الثلثين شيء. إذ الثلثان نصيب البنات، فإن فضل منه شيء أخذه أولاد الابن.
- - -
2
ع ... أخ شقيق ... 1
م ... أخ لأب ... 0
م ... أخ لأم ... 0
2/ 1 ... بنت ... 1(5/231)
الشرح:
أصل المسألة (2) مخرج فرض البنت.
تأخذ البنت النصف (2/ 1) سهم واحد، لانفرادها عن معصب، ويأخذ الأخ الشقيق الباقي بالتعصيب، وهو سهم واحد، أما الأخ لأب، فهو محجوب بالأخ الشقيق، لأن الأخ الشقيق أقوى منه، لإدلائه إلى الميت بالأب والأم، بينما يدلي الأخ لأب إليه بالأب فقط.
أما الأخ لأم فهو محجوب بالبنت.
- - -
2
2/ 1 ... بنت ... 1
ع ... أخت شقيقة ... 1
م ... أخ لأب ... 0
الشرح:
المسألة من (2) مخرج فرض البنت.
للبنت النصف (2/ 1) سهم واحد، لانفرادها عن ابن يعصبها، والأخت الشقيقة عصبة مع الغير، تأخذ الباقي وهو سهم واحد، عملاً بالقاعدة المعروفة: (الأخوات مع البنات عصبات).
أم الأخ لأب، فهو محجوب بالأخت الشقيقة، لأنها لما صارت عصبة مع الغير، صارت في قوة الأخ الشقيق، فحجبت الأخ لأب.
- - -(5/232)
6
ع ... ابن أخ شقيق ... 2
6/ 1 ... أخ لأم ... 1
م ... عم ... 0
2/ 1 ... أخت شقيقة ... 3
الشرح:
أصل المسألة (6)، لتداخل مخرجي النصف والسدس.
للأخ لأم السدس (6/ 1) سهم واحد، وللأخت الشقيقة النصف (2/ 1) ثلاثة أسهم، والباقي لابن الأخ الشقيق، لأنه أقرب ذكر للميت.
أما العم، فهو محجوب من الميراث بابن الأخ الشقيق، لأن جهة الأخوة مقدمة - كما عملت - على جهة العمومة في الميراث.
- - -
6
6/ 1 ... جدة ... 1
3/ 2 ... أختان شقيقتان ... 4
م ... أختان لأب ... 0
6/ 1 ... أخت لأم ... 1(5/233)
الشرح:
أصل المسألة (6) مخرج السدس.
للجدة السدس (6/ 1) سهم واحد، للأختين الشقيقتين الثلثان (3/ 2) أربعة أسهم، للأخت لأم السدس (6/ 1) سهم واحد.
أما الأخت لأب فهي محجوبة بالأختين الشقيقتين، لاستغراقهما الثلثين نصيب الأخوات.
- - -
6
2/ 1 ... بنت ... 3
6/ 1 ... بنت ابن ... 1
ع ... أخت شقيقة ... 2
م ... أخ لأب ... 0
م ... عم ... 0
الشرح:
أصل المسألة (6) لتداخل مخرجي فرضي البنت وبنت الابن.
للبنت النصف (2/ 1) ثلاثة أسهم، ولبنت الابن السدس (6/ 1) سهم واحد تكملة الثلثين، وللشقيقة الباقي، لأنها عصبة مع الغير، عملاً بالقاعدة المشهورة: (الأخوات مع البنات عصبات).(5/234)
أما الأخ لأب والعم، فهما محجوبان بالأخت الشقيقة، لأنها لما صارت عصبة مع الغير صارت بقوة الأخ الشقيق.
- - -
6
6/ 1 ... أم ... 1
6/ 1 ... أب ... 1
م ... أخ شقيق ... 0
3/ 2 ... بنتان ... 4
ع ... بنت ابن ... 0
ابن ابن ... 0
الشرح:
أصل المسألة (6) لتماثل مخرجي فرضي الأب والأم، ودخول مخرج الثلثين فيهما.
للأب السدس (6/ 1) سهم واحد لوجود الفرع الوارث، وللأم السدس (6/ 1) سهم واحد لنفس السبب السابق. والأخ الشقيق محجوب بالأب، وابن الابن.
وللبنتين الثلثان (3/ 2) أربعة أسهم، لتعددهما وانفرادهما عن معصب، أما بنت الابن، وابن ابن، فهما عصبة، وقد سقطا لعدم بقاء شيء لهما بعد أصحاب الفروض، وهذا هو حكم العصبة.
- - -(5/235)
24
3/ 2 ... بنتان ... 16
ع ... ثلاث بنات ابن ... 3
ابن ابن ابن ... 2
8/ 1 ... زوجة ... 3
م ... أخ شقيق ... 0
الشرح:
أصل المسألة (24) حاصل ضرب مخرج الثلثين بمخرج الثمن لتباينهما.
للبنتين الثلثان (3/ 2) ستة عشر سهماً، لتعددهما وانفرادهما عن معصب، وللزوجة الثمن (8/ 1) ثلاثة أسهم، لوجود الفرع الوارث، وبنات الابن مع ابن ابن الابن عصبة، وإنما عصبهما - مع انه أنزل منهما درجة- لاحتياجهن إليه، إذا لولا تعصيبه لهن، لكن سقطن، لاستغراق البنات فرض الثلثين.
أما الأخ الشقيق، فهو محجوب عن الميراث بابن ابن الابن، لكون جهته مقدمة في الميراث على جهة الأخوة.
- - -(5/236)
6
2/ 1 ... زوج ... 3
3/ 1 با ... أم ... 1
ع ... أب ... 2
الشرح:
هذه المسألة إحدى العمريتين.
أصلها من ستة (6) للزوج النصف ثلاثة أسهم، وللأم ثلث الباقي سهم واحدة، وللأب الباقي بالتعصيب، سهمان.
- - -
12
4/ 1 ... زوجة ... 3
3/ 1 با ... أم ... 3
ع ... أب ... 9
الشرح:
المسألة من (12) حاصل ضرب مخرج فرض الزوجة بمخرج فرض الأم لتباينهما.(5/237)
للزوجة الربع (4/ 1) ثلاثة أسهم، وللأم ثلث الباقي (3) أسهم، وللأب الباقي تعصيباً، وهو ستة أسهم. وهذه المسألة هي العمرية الثانية.
- - -
6 ... 18
2/ 1 ... زوج ... 3 ... 9
6/ 1 ... أم ... 1 ... 3
3/ 1 ... أخوان لأم ... 4
أخ شقيق ... 2
الشرح:
هذه المسألة هي التي تسمى بالمشركة.
وأصلها من (6) لتداخل مخارجها في مخرج فرض الأم.
للزوج النصف (2/ 1) ثلاثة، وللأم السدس (6/ 1) سهم واحد.
وكان مقتضى قواعد التعصيب أن يأخذ الأخوان لأم الثلث، ويسقط الأخ الشقيق لكونه عصبة.
لكن سيدنا عمر - رضي الله عنه - قضى أن يشترك الأخ الشقيق مع الإخوة لأم في الثلث يقتسمونه بينهم بالسوية.
ولما كان ثلث التركة يساوي سهمين، والرؤوس ثلاثة احتجنا إلى(5/238)
تصحيح المسألة. فأخذنا عدد الرؤوس لتباينهم مع سهامهم، وضربنا به أصل المسألة فصحت من (18) حاصل ضرب (3×6=18).
ثم ضربنا بالثلاثة، التي نسميها جزء السهم، نصيب كل وارث.
فأصاب الزوج (9) أسهم، والأم (3) أسهم، والأخوين لأم (4) أسهم، والأخ الشقيق (2) سهمين.(5/239)
مسائل الجد مع الإخوة
المراد بالإخوة هنا الأشقاء، ولأب ذكوراً وإناثاً.
أما الإخوة لأم ذكوراً وإناثاُ، فإن الجد يحجبهم ولا يرثون معه.
لقد ذكرنا أحكام الجد مع الإخوة بالتفصيل في مكانها من هذا الكتاب، ومثلنا بأمثلة مشروحة، لكنها غير محلولة بشكلها الحسابي المعروف.
وها نحن نعود إليها تارة أخرى لنذكرها محلولة بشكلها الاصطلاحي، مع شيء من الشرح والتعليق، رغبة في زيادة الإيضاح والتبيين.
أولاً: إذا لم يكن مع الجد والإخوة صاحب فرض:
2
ع ... جد ... 1
أخ شقيق ... 1
3
ع ... جد ... 2
أخت شقيقة ... 1(5/240)
5
ع ... جد ... 2
ثلاث أخوات ... 9
4
ع ... جد ... 2
أختان شقيقتان ... 2
5
ع ... جد ... 2
أخ شقيق ... 2
أخت شقيقة ... 1
هذه المسائل الخمس يقاسم الجد فيها الأخوة والأخوات، لأن المقاسمة أفضل له، ويرث كما يرث أخ ذكر، أي مثل نصيب أختين.
ويكون أصل المسألة فيها كلها من عدد الرؤوس، مع عد كل ذكر بأنثيين.
3 ... 9
3/ 1 ... جد ... 1 ... 3
ع ... ثلاثة أخوة ... 2 ... 6(5/241)
3 ... 15
3/ 1 ... جد ... 1 ... 5
ع ... أخ ... 2 ... 4
ثلاث أخوات ... 6
3 ... 15
3/ 1 ... جد ... 1 ... 5
3/ 2 ... خمس أخوات ... 2 ... 10
في هذه المسائل الثلاث يأخذ الجد ثلث التركة، لأنها أنفع له من المقاسمة. ويأخذ الأخوة الباقي.
وأصل هذه المسائل (3) مخرج فرض الجد.
غير أن نصيب الأخوة لا ينقسم على عدد رؤوسهم، فنأخذ عدد الرؤوس، لتباينها مع سهامها، ونضرب بها أصل المسائل، فما بلغ فمنه تصح هذه المسائل، ثم نضرب بجزء السهم ذاك نصيب كل وارث، ليكون الناتج منقسماً على ورثته.(5/242)
3
3/ 1 ... جد ... 1
ع ... أخوان ... 2
3 ... 3
3/ 1 ... جد ... 1 ... 2
3/ 2 ... أربع أخوات ... 2 ... 4
3 ... 6
3/ 1 ... جد ... 1 ... 2
ع ... أخ ... 2 ... 2
أختان ... 2
في هذه المسائل الثلاث، يستوي بالنسبة للجد المقاسمة مع الثلث فيأخذ الثلث، ويترك الباقي للأخوة والأخوات، للذكر مثل حظ الأنثيين.
وأصل هذه المسائل (3) مخرج فرض الجد، فيأخذ هو الثلث والباقي للأخوة.
وواضح أن المسألة الثانية والثالثة، لا ينقسم فيهما نصب الأخوة على عدد رؤوسهم، فنحتاج عندئذ إلى التصحيح.
وواضح أن بين الرؤوس والسهام في المسألتين توافق بالنصف، فضربنا أصل المسألة بوفق الرؤوس لتصح المسألة فيهما من (6)، ثم ضربنا نصيب كل وارث بجزء السهم (2)، فما بلغ فهو منقسم على الورثة، كما هو بين في المسائل.(5/243)
ثانياً: إذا كان مع الجد والأخوة صاحب فرض:
2 ... 4
2/ 1 ... زوج ... 1 ... 2
ع ... جد ... 1 ... 1
أخ ... 1
4 ... 16
4/ 1 ... زوجة ... 1 ... 4
ع ... جد ... 3 ... 6
أختان ... 6
في هاتين المسألتين يأخذ الجد بالمقاسمة لأنه أنفع له.
أصل المسألة الأولى (2) مخرج فرض الزوج.
يأخذ الزوج سهماً واحداً، ويبقى سهم بين الجد والأخ، وهو غير منقسم عليهما، فنضرب أصل المسألة بعدد الرؤوس (2)، فتبلغ (4) تصحيح المسألة، ثم نضرب كل وارث بجزء السهم (2)، فيكون الناتج منقسماً على الورثة.
أما المسألة الثانية، فأصلها (4) مخرج فرض الزوجة.
تأخذ الزوجة سهماً واحداً، والباقي (3) للجد والأختين، وهو غير منقسم عليهما، فتصح المسألة من (16)، وذلك بضرب أصلها بعدد رؤوس الجد والأختين، لتباين الرؤوس مع السهام.
ثم نضرب نصيب كل وارث بجزء السهم (4)، والناتج منقسم على الورثة، كما هو مبين في المسألتين.(5/244)
18
6/ 1 ... أم ... 3
3/ 1 با ... جد ... 5
ع ... خمسة أخوة ... 10
أصل هذه المسألة (18) حاصل ضرب مخرج السدس، بمخرج ثلث الباقي.
للأم السدس (6/ 1) ثلاثة أسهم، وللجد ثلث الباقي (3/ 1 با) خمسة أسهم، لأنه انفع له من المقاسمة، ومن السدسن والباقي للأخوة بالتعصيب، وهو (10) أسهم، لكل أخ سهمان.
- - -
18
6/ 1 ... أم ... 3
3/ 1 با ... جد ... 5
ع ... أخوان ... 10
في هذه المسألة تستوي المقاسمة مع ثلث الباقي بالنسبة للجد، فيأخذ ثلث الباقي.
أصل المسألة من (18) حاصل ضرب مخرج السدس بمخرج ثلث الباقي.(5/245)
للأم السدس 06/ 1) ثلاثة أسهم، وللجد ثلث الباقي (3/ 1با) خمسة أسهم، والباقي للأخوين.
- - -
6
2/ 1 ... زوج ... 3
6/ 1 ... جدة ... 1
6/ 1 ... جد ... 1
ع ... أخ ... 1
في هذه المسألة يستوي بالنسبة للجد السدس مع المقاسمة، فأعطيناه السدس.
أصل المسألة (6) مخرج السدس.
للزوج النصف (2/ 1) ثلاثة، وللجدة السدس (6/ 1) سهم واحد، وللجد السدس (6/ 1) سهم واحد، والباقي بالتعصيب، وهو سهم واحد.
- - -
6 ... 18
2/ 1 ... زوج ... 3 ... 9
6/ 1 ... جد ... 1 ... 3
ع ... ثلاثة أخوة ... 2 ... 6(5/246)
في هذه المسألة يستوي بالنسبة للجد السدس وثلث الباقي، فأعطيناه السدس.
أصل المسألة (6) مخرج فرض الجد، وتصح من (18) حاصل ضرب أصل المسألة بعدد رؤوس الأخوة لوجود التباين بين الرؤوس والسهام. وتوزيع التركة بعد هذا واضح، كما هو مبين في المسألة.
- - -
6
2/ 1 ... زوج ... 3
6/ 1 ... جد ... 1
ع ... أخوان ... 2
في هذه المسألة نجد أن ثلث الباقي، والسدس، والمقاسمة سواء بالنسبة للجد، فأعطيناه السدس.
أصل المسألة (6) مخرج فرض الجد، ومخرج فرض الزوج يدخل فيه.
للزوج النصف (2/ 1) ثلاثة أسهم، وللجد السدس (6/ 1) سهم واحد، وللأخوين الباقي بالتعصيب، وهو سهمان، لكل واحد سهم واحد.
- - -(5/247)
6
3/ 2 ... بنتان ... 4
6/ 1 ... أم ... 1
6/ 1 ... جد ... 1
ع ... أخ ... 0
هذه المسألة أصلها (6) مخرج فرض الأم، أو الجد، لتماثلهما، ومخرج فرض البنتين داخل فيهما.
للبنتين الثلثان (3/ 2) أربعة أسهم، وللأم السدس (6/ 1) سهم واحد، وللجد السدس (6/ 1) سهم واحد.
ولم يبق للأخ شيء من التركة، فسقط، ولم يقاسم الجد، لأن الجد لا ينزل مع الأخوة عن السدس، ولو اسماً.
- - -
13 (عول)
12
4/ 1 ... زوج ... 3
3/ 2 ... بنتان ... 8
6/ 1 ... جد ... 2
ع ... أخ ... 0(5/248)
أصل المسألة (12) وقد عالت بفروضها إلى (13).
وقد سقط الأخ فيها، لأنه لم يبق له شيء بعد أصحاب الفروض، وأخذ الجد سدسه عائلاً.
- - -
15 (عول)
12
3/ 2 ... بنتان ... 8
4/ 1 ... زوج ... 3
6/ 1 ... أم ... 2
6/ 1 ... جد ... 2
ع ... أخ ... 0
هذه المسألة كسابقتها، أصلها (12) وعالت بفروضها إلى (15)، ولم يبق للأخ بعد أصحاب الفروض شيء، وأخذ الجد سدسه عائلاً، كما أخذ كل وارث نصيبه عائلاَ.
- - -(5/249)
6
2/ 1 ... زوج ... 3
3/ 1 ... أم ... 2
6/ 1 ... جد ... 1
ع ... أخ ... 0
في هذه المسألة سقط الأخ أيضاً، لأنه لم يبق له شيء بعد أصحاب الفروض.
وتختلف هذه المسألة عن سابقتها أن الجد مع الأخ لم يحجب الأم من الثلث إلى السدس بل أخذت الأم معهما ثلثاً كاملاً. كما هو مبين في حل المسألة.
- - -
3
3/ 1 ... جد ... 1
ع ... أخ شقيق ... 2
م ... أخ لأب ... 0(5/250)
في هذه المسألة عدّ الأخ الشقيق معه الأخ لأب على الجد، ثم حجبه وأخذ نصيبه، وبذلك أنقص نصيب الجد من النصف إلى الثلث. المسألة من ثلاثة مخرج فرض الجد.
واحد للجد، وسهمان للأخ الشقيق، ولا شيء للأخ لأب، لأنه محجوب.
- - -
12
3/ 1 با ... جد ... 3
4/ 1 ... زوجة ... 3
ع ... أخ شقيق ... 6
م ... أخ لأب ... 0
المسألة من (12) حاصل ضرب مخرج فرض الجد بمخرج فرض الزوجة.
للجد ثلث الباقي (3/ 1 با) ثلاثة أسهم، لاستوائه مع المقاسمة، وللزوجة الربع (4/ 1) ثلاثة أسهم، والباقي للأخ الشقيق، وأخذ نصيبه ونصيب الأخ لأب بعد أن عدّه على الجد.
والأخ لأب محجوب بالأخ الشقيق لأنه أقوى منه.
- - -(5/251)
3
3/ 1 ... جد ... 1
3/ 2 ... أختان شقيقتان ... 2
م ... أخ لأب ... 0
المسألة من (3) مخرج فرض الجد.
للجد الثلث (3/ 1) سهم واحد، وهو يستوي مع المقاسمة، للأختين الشقيقتين الباقي، وهو الثلثان (3/ 2). وسقط الأخ لأب، لأنه لم يبق له شيء. وقد عدت الأختان الشقيقتان الأخ لأب على الجد، فأنقصتا نصيبه من النصف إلى الثلث.
- - -
6
2/ 1 ... زوج ... 3
6/ 1 ... جد ... 1
2/ 1 ... أخت شقيقة ... 2
ع ... أخوان لأب ... 0(5/252)
أصل المسألة (6) مخرج فرض الجدّ، ومخرج فرض النصف داخل فيه.
للزوج النصف (2/ 1) ثلاثة أسهم.
وإذا عدت الأخت الشقيقة الأخوين لأب على الجد كان الأحظ له السدس، وهو يستوي مع ثلث الباقي.
ويبقى بعد النصف والسدس ثلث سهام المسألة فتأخذه الأخت الشقيقة، وهو أقل من النصف.
أما الأخوان لأب فيسقطان، لأنه لم يبق لهما شيء من التركة.
- - -
2 ... 10
ع ... جد ... 2 ... 4
أخت شقيقة ... 5
أخ لأب ... 1
هذه المسألة تسمى عشرية زيد لصحتها من عشرة؛ وتفصيلها: أن الأحظ للجد هنا المقاسمة، فيأخذ نصيبه به.
والشقيقة تعد الأخ لأب معها على الجد، ثم تعود وتأخذ من نصيب الأخ لأب ما يكمل لها نصف التركة، والباقي يبقى للأخ لأب.(5/253)
أصل المسألة (2) مخرج فرض الأخت الشقيقة المقدر لها ذهناً، وهو غير منقسم على الورثة، فتصحح المسألة إلى (10) حاصل ضرب عدد الرؤوس، وهم بعد عدّ كل ذكر أنثيين.
فيكون للجد أربعة أسهم من عشرة، وللأخت الشقيقة خمسة أسهم، ويبقى للأخ لأب سهم واحد.
- - -
10 ... 20
ع ... جد ... 4 ... 8
أخت شقيقة ... 5 ... 10
أختان لأب ... 1 ... 2
هذه المسألة أيضاً تسمى العشرينية، لصحتها من عشرين.
لقد قدرنا أنها من عشرة: حاصل ضرب الرؤوس بمخرج النصف المقدر ذهناً للأخت الشقيقة. ثم صحت من عشرين حاصل ضرب رؤوس الأختين لأب بأصل المسألة.
للجد ثمانية لأسهم من عشرين، وللشقيقة النصف وهو عشرة أسهم من عشرين سهماً. ويبقى سهمان لكل أخت لأب سهم واحد.
- - -(5/254)
18 ... 54
6/ 1 ... أم ... 3 ... 9
3/ 1با ... جد ... 5 ... 15
2/ 1 ... أخت شقيقة ... 9 ... 27
الباقي ... أخ لأب ... 1 ... 2
أخت لأب ... 1
هذه المسألة تسمى مختصرة زيد.
المسألة من (18) حاصل ضرب مخرج فرض السدس بمخرج فرض ثلث الباقي.
تأخذ الأم السدس (6/ 1) ثلاثة أسهم، لوجود عدد من الأخوة، ويأخذ الجد ثلث الباقي (3/ 1با) خمسة أسهم، وهو يستوي مع المقاسمة، ثم تأخذ الشقيقة، بعد أن تعد الأخ لأب والأخت لأب على الجد، النصف (2/ 1) تسعة أسهم، والباقي سهم واحد، للأخ لأب والأخت لأب، لا ينقسم عليهما، وبينه وبين الرؤوس تباين، فنأخذ عدد الرؤوس ثلاثة - وذلك بجعل الذكر مثل أنثيين - فيكون تصحيح المسألة (54).
ثم نضرب بجزء السهم (3) نصيب كل وارث، كما هو مبين في المسألة.
- - -(5/255)
18 ... 90
6/ 1 ... أم ... 3 ... 15
3/ 1با ... جد ... 5 ... 25
2/ 1 ... أخت شقيقة ... 9 ... 45
الباقي ... أخوان لأب ... 1 ... 4
أخ لأب ... 1
أصل المسألة من (18)، وتصح من (90).
وذلك واضح من صورة حلها، وبالله التوفيق.
- - -
9 ... 27
6
2/ 1 ... زوج ... 3 ... 9
3/ 1 ... أم ... 2 ... 6
6/ 1 ... جد ... 4 ... 8
2/ 1 ... أخت ... 4(5/256)
هذه المسألة هي التي تسمى الأكدرية، وقد مرت معنا في بحث الجد والأخوة.
أصلها من (6) مخرج فرض السدس، وما عداه داخل به، وتعول بفروضها إلى (9).
للزوج النصف (2/ 1) ثلاثة أسهم، لعدم وجود فرع وارث، وللأم الثلث (3/ 1) سهمان، لعدم وجود فرع وارث وعدد من الإخوة، والجد يفرض له السدس (6/ 1) سهم واحد، ويفرض للأخت النصف (2/ 1) ثلاثة أسهم.
لكن العلماء قضَوْا بعد هذا أن يعود الجد إلى الأخت، فيضم نصيبه إلى نصيبها، ويقاسمها النصيبين، للذكر مثل حظ الأنثيين.
ولما كان نصيبه ونصيبها (4) أسهم، لا تنقسم عليهما للذكر مثل حظ الأنثيين، أخذنا عدد الرؤوس (3) لتباينها مع السهام (4)، وضربنا بها أصل المسألة، فكان حاصل الضرب (27) هو تصحيح المسألة، ثم ضربنا بجزء السهم (3) نصيب كل وارث، فكان الحاصل منقسماً على عدد الرؤوس، كمما هو مبين في أصل المسألة.(5/257)
مسألة في المناسخات
أصل ... أصل الثانية ... الجامعة ... أصل الثالثة ... الجامعة الثانية ... أصل ... الجامعة
الأولى ... الأولى ... الثالثة
6 ... 5 ... 30 ... 4 ... 60 ... 10 ... 60
2/ 1 ... زوج ... 3 ... ت ... - ... - ... -
3/ 1 ... أم ... 2 ... غريبة ... - ... 10 ... ت ... -
ع ... عم ... 1 ... غريب ... - ... 5 ... غريب ... 10 ... ت
ع5 أبناء ... 5 ... 15 ... غرباء ... - ... 30 ... غرباء ... 30
ع 4إخوة لأب ... 4 ... 20 ... غرباء ... 20
ع 10 أبناء ... 10 ... 10
الشرح:
هذه مناسخة مات فيها عدد من الأشخاص، كما هو مبين في الصورة.
للزوج في الأولى النصف لعدم وجود الفرع الوارث، وللأم الثلث، لعدم وجود الفرع الوارث والعدد من الأخوة، والعم عصبة بنفسه، ولا يوجد من يحجبه، فله الباقي.(5/258)
أصل المسألة (6)، للزوج النصف (3) أسهم، وللأم الثلث (2) سهمان، وللعم الباقي وهو سهم واحد.
مات الزوج عن خمسة أبناء، فنعمل له مسألة مستقلة أصلها (5) عدد رؤوس الأبناء، لكل منهم سهم واحد.
ثم ننظر بين سهام الزوج من المسألة الأولى وهي (3)، وبين أصل مسألته (5) فنجدهما متباينين.
فنضرب أصل المسألة الأولى (6) بأصل المسألة الثانية (5) فتكون الجامعة (30)، وهي مسألة المناسخة الأولى.
للأم منها (10) حاصل ضرب سهمها من المسألة الأولى (2) بأصل المسالة الثانية (5)، وللعم منها (5) حاصل ضرب سهمه في الأولى (1) بأصل الثانية (5)، وللأبناء (15) حاصل ضرب سهمهم في الثانية (5) بسهام ميتهم من الأولى (3).
ثم ماتت الأم من ورثة الميت الأول عن أربعة إخوة لأب، فنعمل مسألتها. وأصلها (4) عدد رؤوس الإخوة لأب، لكل واحد منهم سهم واحد.
ننظر الآن بين سهام الميت الثالث - وهو الأم - من مسألة المناسخة الجامعة الأولى، وهي (10)، وبين أصل مسألته (4) فنجدهما متوافقين بالنصف، لأن كلاً منهما يقبل القسمة على اثنين، فنضرب المسألة الجامعة الأولى بـ (2) نصف سهام مسألة الميت الثالث وهو وفقها، فتكون سهام مسألة المناسخة الجامعة الثانية (60).
للعم في مسألة الميت الأول منها (10) حاصل ضرب سهمه في الجامعة الأولى (5) باثنين.
وللأبناء في مسألة الميت الثاني منها (30) حاصل ضرب سهمهم في الجامعة الأولى (15) بـ (2).(5/259)
وللأخوة لأب في مسألة الميت الثالث (20) حاصل ضرب سهمهم في مسألتهم (4) بوفق سهام ميتهم في المسألة الجامعة الثانية، وهو نصف العشرة (5).
ثم مات العم من ورثة الميت الأول عن (10) أبناء، فتعمل مسألته، وأصلها (10) مجموع رؤوسهم، لكل واحد منهم سهم واحد.
ننظر الآن بين سهام الميت الرابع في مسألة المناسخة الثانية، وهي (10)، وبين أصل مسألته، فنجدها متماثلة معها، ومنقسمة عليها، فيكون أصل المسألة المناسخة الجامعة الثالثة هو أصل الجامعة الثانية (60).
للأبناء في مسألة الميت الثاني منها (30) مجموع سهامهم السابقة، لكل منهم ستة أسهم، وللأخوة لأب في مسألة الميت الثالث منها (20) مجموع سهامهم في المناسخة السابقة، لكل منهم خمسة أسهم، وللأبناء في مسألة الميت الرابع (10) مجموع سهام ميتهم من المناسخة الثانية السابقة، لكل منهم سهمان.
- - -(5/260)
مسائل في الخنثى
2 ... /أنثى ... 3 ... 6
ع ... ابن ... 1 ... 2 ... 3
ولد خنثى / ذكر ... 1 ... 1 ... 2
الشرح:
قدرنا في المسألة الأولى أن الخنثى ذكر، فيكون مساوياً للابن، وهما وحدهما الورثة، فالتركة بينهما، وأصل المسألة (2) عدد رؤوسهما، لكل واحد منهما سهم واحد. وفي المسالة الثانية قدرنا أن الحنثى أنثى، فتكون المسالة من (3) عدد رؤوسهما، للذكر مثل حظ الأنثيين، للابن سهمان، وللخنثى سهم واحد.
بين أصل المسألتين تباين، فنضرب كلاً منهما بأصل الأخرى، ويكون الحاصل هو الجامعة للمسألتين (6)، يعطى منها لكل من الخنثى وأخيه الأقل على الفرضين.(5/261)
فعلى تقدير أن الخنثى ذكر، يكون للابن ثلاثة أسهم، وهي سهمه من المسألة الأولى مضروباً بأصل الثانية.
ويكون للخنثى ثلاثة، لما سبق.
وعلى تقدير أنوثة الخنثى يكون للابن (4) أسهم، هي سهمه من الثانية مضروباً بأصل المسألة الأولى.
ويكون للخنثى (2)، هي سهمه من الثانية مضروباً بأصل الأولى.
فيعطى الابن (3)، وهو الأقل، ويعطى الخنثى (2)، وهو الأقل أيضاً، ويوقف سهم واحد، إلى أن يتبين حال الخنثى، أو يصطلح مع أخيه عليه، فإن ظهر الخنثى ذكراً أخذ ذلك السهم، وإن ظهر أنثى، أخذه أخوه.
- - -
2
2/ 1 ... بنت ... 1
ع ... أخ شقيق/ خنثى ... 1
الشرح:
تأخذ البنت النصف، لأنه نصيبها، والخنثى يأخذ الباقي تعصيباً، على كل حال، لأنه إن كان ذكراً، فهو عصبة بنفسه، وإن كان أنثى، فهو عصبة مع غيره.
ولا يوقف في هذه المسألة شيء، لأن البنت والخنثى لا يختلف نصيبهما على تقدير أنوثة الخنثى وذكورته.
فأصل المسألة (2) مخرج فرض النصف، لكل سهم واحد منها.(5/262)
2× ... 24 ... 48 ... 72 ... 144
8/ 1 ... زوجة ... 3 ... 6 ... 9 ... 18
6/ 1 ... أم ... 4 ... 8 ... 12 ... 24
ع ... ابن ... 17 ... 17 ... 34 ... 51
ولد خنثى / ذكر ... 17 ... / أنثى ... 17 ... 34
الشرح:
للزوجة في هذه المسألة الثمن (8/ 1)، لوجود الفرع الوارث للميت، وللأم السدس (6/ 1) لنفس ذلك السبب.
والخنثى إن كان ذكراً فهو عصبة بنفسه، وإن كان أنثى فهو عصبة بالابن، الذي هو عصبة بنفسه، وعلى كل فإنهما يرثان الباقي بالتعصيب.
أصل المسألة (24)، حاصل ضرب وفق مخرج السدس بكامل مخرج الثمن، لنهما متوافقان بالنصف.
للزوجة (3) أسهم هي الثمن، وللأم (4) أسهم هي السدس. ويبقى (17) سهماً للعصبة: الابن والخنثى، لا تنقسم عليهما. فإن كان الخنثى ذكراً صحت المسألة بضربها باثنين فتصبح (48) - (24×2=48) -: للزوجة منها (6)، وللأم (8)، وللخنثى (17)، وللابن (17).
وإن فرض الخنثى أنثى، صحت المسألة بضربها بثلاثة، فتصبح(5/263)
(72) - (24×3=72) -: للزوجة منها (9)، وللأم (12)، وللخنثى (17)، (34).
ثم ننظر بين أصل المسألتين، فنجد أن بينهما توافقاً بثلث الثمن، لأن ثمن (48): ستة، وثلث الستة: (2)، وثمن (72): تسعة، وثلث التسعة: (3)، فتصبح المسألة الجامعة (144)، حاصل ضرب (48) بـ (3) جزء سهم مسألة الذكورة، أو (72) بـ (2) جزء سهم الأنوثة.
للزوجة منها (18) تعطاها، لأنها لا يختلف نصيبها في الحالين، وللأم (24)، تعطاها أيضاً، لأن نصيبها لا يختلف على كلا التقديرين، وللخنثى (34) على فرض أنه انثى، لأنها الأقل، وللابن (51) على فرض أن الخنثى ذكر، لأنها الأقل أيضاً.
ويوقف (17) سهماً حتى يتبين الحال.
فإن تبينت أنوثته، أعطيت للابن، وإن تبينت ذكورته أعطيت له.
- - -
1 ... 2 ... 2
ع ... ولد خنثى/ ذكر ... 1 ... 2/ 1 أنثى ... 1 ... 1
م ... عم ... 0 ... ع ... 1 ... 0
الشرح:
على تقدير أن الخنثى ذكر، فهو ابن، وهو عصبة بنفسه، وهو أقرب من العم، فيحجبه، ويكون المال كله له.
وعلى تقدير أنه أنثى، فهو بنت، فلها نصف التركة، لانفرادها عن(5/264)
مثيلاتها، وعدم وجود من يعصبها. والعم على هذا التقدير عصبة بنفسه ولا يوجد من يحجبه.
فأصل المسألة الأولى (1)، وأصل الثانية (2)، والجامعة (2) حاصل ضرب المسألتين بعضهما، لأنهما متباينان.
فيعطى الخنثى من الجامعة (1) على فرض أنه أنثى، لأنه الأقل المتيقن في حق نفسه.
ولا ييعطى العم شيئاً، لاحتمال أن يكون الخنثى ذكراً، ويوقف (1) إلى أن يظهر حال الخنثى. فإن ظهر ذكراً، أخذه، وإن ظهر أنثى، أخذه العم، وإن لم يظهر حاله تصالح عليه هو والعم.
- - -
2 ... 2 ... 2
2/ 1 ... زوج ... 1 ... 1 ... 1
ع ... ولد أخ خنثى / ذكر ... 1 ... رحم انثى ... 0 ... 0
م ... عم ... 0 ... ع ... 1 ... 0
الشرح:
المسألة الأولى من (2) مخرج فرض الزوج، والمسألة الثانية كذلك، والجامعة أيضاً من (2) لتوافق المسألتين بالنصف، (2×1=2).
للزوج النصف على كل حال، لأنه لا يوجد للميت فرع وارث، ثم(5/265)
إن فُرض الخنثى ذكراً كان ولد أخ يرث الباقي بالتعصيب وحجب العم، لأنه أقرب منه.
وإن فرض انه أنثى كان من ذوي الأرحام، وأخذ العم الباقي بالتعصيب.
وعملاً بالأحوط، والأقل في حق الخنثى والعم، فإن كلاً منهما لا يعطى شيئاً ويوقف نصف التركة حتى يتبين حال الخنثى، فإن ظهر ذكراً أخذه، وإن ظهر أنثى أخذه العم، أو يتصالحا عليه إن لم يظهر حاله. والله أعلم.(5/266)
مسائل فيها مفقود
6 ... 6 ... 6
2/ 1 ... زوج ... 3 ... 3 ... 3
6/ 1 ... أم ... 1 ... 3/ 1 للأم ... 2 ... 1
6/ 1 ... أخ لأم ... 1 ... 1 ... 1
ع ... أخ شقيق مفقود / حي ... 1 ... / ميت ... 0 ... 0
الشرح:
للزوج النصف، لعدم وجود الفرع الوارث للميت، وللأم السدس لوجود عدد من الأخوة، على تقدير أن المفقود حيّ، وللأخ لأم السدس، والشقيق عصبة يأخذ الباقي، وهو سهم واحد.
المسألة الأولى من (6) مخرج فرض السدس، ومخرج النصف يدخل فيه. ثلاثة للزوج، وواحد للأم، وواحد للأخ لأم، وواحد للشقيق باعتباره حياً.(5/267)
أما المسألة الثانية، فنقدر أن المفقود ميت، فيأخذ الزوج النصف، والأم الثلث، والأخ لأم السدس.
أصل المسألة (6) مخرج فرض السدس.
للزوج ثلاثة، وللأم اثنان، وللأخ لأم سهم واحد، ولا شيء للشقيق، على اعتباره ميتاً.
وإذا نظرنا إلى أصل المسألتين وجدناهما متماثلتين، فتكون الجامعة أيضلً (6).
للزوج (3) أسهم، وللأخ لأم سهم واحد، وهما لا يختلف نصيبهما، سواء كان المفقود حياً، أم ميتاً. أم الأم، فيفرض لها السدس، سهم واحد، لأنه الأقل، ويبقى سهم واحد، موقوفاً، ليتبين حال الشقيق المفقود، فإن ظهر أنه حي أخذه، وإن ظهر أنه ميت، أخذته الأم.
24 ... 72 ... 24 ... 72
8/ 1 ... زوجة ... 3 ... 9 ... 3 ... 9
6/ 1 ... أب ... 4 ... 12 ... ع + 6/ 1 ... 4+1 ... 12
6/ 1 ... أم ... 4 ... 12 ... 4 ... 12
ع ... بنت ... 13 ... 13 ... 2/ 1 ... 12 ... 13
ابن مفقود / حي ... 26 ... ميت ... 0 ... 0(5/268)
الشرح:
أصل المسألة الأولى، التي قدرنا فيها المفقود، (24) حاصل ضرب وفق مخرج الثمن بكامل مخرج السدس، لتوافقهما بالنصف.
للزوجة منها الثمن (8/ 1) ثلاثة أسهم، وللأب السدس (6/ 1) أربعة أسهم، وللأم السدس (6/ 1) أربعة أسهم.
والباقي (13) سهماً: للبنت والابن المفقود للذكر مثل حظ الأنثيين.
ولما كان نصيبهما لا ينقسم عليهما من غير كسر، فإننا نصحح المسألة، فتصح من (72) حاصل ضرب أصل المسألة بعدد الرؤوس، لوجود التباين بينهما.
فيكون للزوج (9) أسهم، وللأب (12)، وللأم (12)، وللبنت (13)، وللابن المفقود (26).
أما المسألة الثانية، وهي تقدير المفقود ميتاً، فهي أيضاً من (24) كالتي قبلها.
للزوجة (3) أسهم، وللأم (4) أسهم، ونصيب الزوجة والأم لا يختلف على كلا التقديرين، وللبنت (12)، وللأب (5)، أربعة بالفرض وسهم بالتعصيب. ولا شيء للابن المفقود على اعتباره ميتاً.
بقي أن ننظر في أصل المسألتين، كي نصل إلى الجامعة لهما، وواضح أن الجامعة تصح من (72)، لأن تصحيح المسألة الأولى من (72) وأصل الثانية (24) وكلاً منهما ينقسم على أربعة وعشرين، فتكون الجامعة (72) حاصل ضرب المسألة الأولى بواحد، ثم نقسم، فنعطى كل وارث الأقل، لأنه الأحوط، ونحفظ الباقي.
فالزوج والأم لا يختلف نصيبهما، فيأخذانه كاملاً.
أما الأب فيأخذ الأقل، (12) سهماً.(5/269)
والبنت تأخذ الأقل (13) سهماً.
والباقي (26) سهماً تبقى موقوفة حتى يظهر حال المفقود، فإن ظهر انه حي أخذها، وإن ظهر انه ميت رد منها إلى الأب (3)، وإلى البنت (23). والله أعلم.
لقد تم ما وفقنا الله لوضعه في هذا الكتاب، والحمد لله أولاً وآخراً.(5/270)
الفقه المنهجي
على مذهب الإمام الشافعي
رحمهُ الله تعالى
الجُزء السادس
في المعاوضات
البيع والهبة والإجارة والصلح والحوالة وما يلحق بها
الدكتوُر مُصطفى الخِنْ ... الدّكتور مُصطفى البُغا
علي الشْربجَي
دار القلم
دمشق(/)
" بسم الله الرحمن الرحيم "
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فهذه حلقة جديدة من سلسلة كتابنا (الفقه المنهجي) تضم أبحاثاً فيها نفائس من التشريع الإسلامي، تنير للناس طريقهم في تعاملهم: بيعاً وشراءاً وإجارة ونحو ذلك. سرنا فيها على طريقتنا في هذه السلسلة: من سهولة اللفظ ووضوح المعنى وواقعية الموضوع، دون عرض للمسائل المفترضة، أو تعقيد في تصور الأمور، وإنما عرضنا فيها الأمور الأساسية في كل باب، من تعريف وبيان للمشروعية وحكمة التشريع، وعرض للأركان والشروط والأحكام، مع ذكر الدليل أو التعليل للحكم حيث أمكن ذلك أو وجد. ولم يفتنا أن نتعرض لتعامل الناس في هذه الأيام، ووزنه بقواعد الشرع وأُسسه وضوابطه، ثم الحكم عليه بالصحة أو الفساد بناء على ذلك، وبيان ما هو الصواب الموافق لشرع الله تعالى والموصل إلى رضوانه.
هذا ومن المعلوم أن عمدتنا في هذه السلسلة هو الفقه الشافعي، ولكننا لم نستنكف في حلقتنا هذه عن الاستفادة من الآراء الفقهية الأخرى، إذا وجدنا أنها أقرب إلى واقع تعامل المسلمين، تيسيراً على الناس، واعتقاداً منّا أن الأئمة الفقهاء المعتمدين كلهم يسعى أن يصل إلى ما هو الصواب والموافق للحق عند الله عز وجل.
ولقد تكلمنا في هذا الجزء عن الأبواب التالية:(6/5)
1 - البيع. ... 6 - الهبة.
2 - السلم. ... 7 - الإجارة.
3 - الربا. ... 8 - الجعالة.
4 - الصرف. ... 9 - الصلح.
5 - القرض. ... 10 - الحوالة.
وسميّنا هذا القسم من الفقه (فقه المعاوضات) لأن المعاوضة هي الأصل في هذه الأبواب، وهي مادية واضحة في أكثرها كالبيع والسلم والربا والصرف، وكذلك الإجارة والجعالة، معنوية في بعضها كالقرض والهبة، إذ المقصود منها التعاون وتمتين الصلة وتعميق الحب والمودّة بين المكلفين، وهذا عوض يفوق العوض المادي منفعة وربحاً. وهي - أي المعاوضة - حقيقية خفية في بعض هذه الأبواب، كالصلح والحوالة، كما سنرى إن شاء الله تعالى.
والله تعالى وحده نسأل أن يقبل منّا عملنا هذا، وأن يجعله حسنة في سجل أعمالنا الصالحة، وأن يجزل الأجر لوالدينا الذين جهدوا في حُسْن تربيتنا، وشيوخنا الذين بذلوا أغلى ما عندهم في سبيل تعليمنا شرعة الله تعالى، وتسليكنا طرق الهداية، وهو سبحانه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله تعالى وسلم على نبي الهدى والرحمة ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
المؤلفون(6/6)
البَاب الأوَّل
البَيع(6/7)
البيع
تعريفه: هو في اللغة:
مقابلة شيء بشيء، سواء أكانا مالين أم لا، قال تعالى {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ}. ثم قال: {فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ} التوبة111.
والشراء والبيع من الأضداد، أي يستعمل كل منهما بمعنى الآخر، قال تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} (يوسف20)، أي: باعوه. وفي الحديث " لا يبع الرجل على بيع أخيه " (1) أي لا يشتر، قال في مختار الصحاح: (فإنما وقع النهي على المشترى لا على البائع). ويطلق على البائع والمشتري البيعان، كما جاء في الحديث، وسيأتي عند الكلام عن خيار المجلس إن شاء الله تعالى.
وفي اصطلاح الفقهاء:
عقد يرد على مبادلة مال بمال تمليكاً على التأبيد. وذلك يعني: أنه لا بدّ في تبادل الأموال على سبيل التملّك من العقد، وكذلك لا يكون البيع والشراء إلا بما يُعتبر مالاً في عُرْف الشرع، وأيضاً لا بد في البيع من الملك والمليك، وأن لا يكون ذلك محدداً بوقت، وكل هذا سنعرفه مفصلاً فيما يأتي من فقرات البحث.
مشروعيته:
عقد البيع عقد مشروع، دلّ على مشروعيته الكتاب والسنّة، وحصل على ذلك الإجماع.
_________
(1) - انظر تخريجه صفحة [43] فقرة [6](6/9)
أما القرآن:
فقد صرّح بحِلّ البيع في معرض الرد على أولئك المتعنتين، الذين أرادوا أن يحتّجوا لتعاملهم بالربا بأنه شبيه بالبيع، فقال سبحانه: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة275) كما قال تعالى في معرض الكلام عن تبادل الأموال: {لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} (النساء29) فالأكل المراد به الأخذ، وعبّر بالأكل عنه لأنه هو المقصود غالباً من أخذ المال، والباطل أي بغير حق، والتجارة هي البيع والشراء.
وهناك آيات أخرى تأتي خلال البحث عند الاستدلال بها في مواضعها.
وأما السنة:
ففي ذلك أحاديث كثيرة من قوله - صلى الله عليه وسلم - وفعله وإقراره لعمل أصحابه، كلها تدل على مشروعية البيع، منها:
- ما رواه الزبير بن العوام رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لأن يأخذ أحدكم حبله، فيأتي بحزمة الحطب على ظهره، فيبيعها، فيكف الله بها وجهه، خير له من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه " (أخرجه البخاري في الزكاة، باب: الاستعفاف عن المسألة، رقم: 1402).
[فيكف الله بها وجهه: أي يحميه بسببها من ذلّ السؤال وإراقة ماء الوجه].
- وأما فعله - صلى الله عليه وسلم -: فمن ذلك ما روته عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشترى طعاماً من يهودي إلى أجل، ورهنَه درعاً من حديد. (أخرجه البخاري في البيوع، باب: شراء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنسيئة، رقم: 1962. ومسلم في المساقاة، باب: الرهن وجوازه في الحضر والسفر، رقم: (1603).
[والنسيئة: هي التأخير، أي تأخير الثمن إلى أجل].
- وقد كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتبايعون على مشهد منه ومسمع، أو يعلم بذلك، فيقرّهم ولا ينكر عليهم، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى. (انظر البخاري: كتاب البيوع، باب: ما قيل في الصواغ، وباب: بيع السلاح في الفتنة وغيرها).
وسيأتي معنا خلال البحث أحاديث كثيرة، نستدل بها في مواضعها، كلها تدل على جواز البيع ومشروعيته في الإسلام.(6/10)
وهذا الذي ثبت في الكتاب والسنّة أجمعت عليه الأمة في مختلف العصور والأزمان.
حكمة التشريع:
إن الناس في حاجة إلى كثير من السلع، ولا يستطيع كلّ منهم أن ينتج جميع ما يحتاج إليه منها، فكان لا بدّ من أن يبادل بعضهم بعضاً بهذه السلع، وهذا التبادل لا يحصل إذا لم يكن هناك تراضٍ عليه، وهذا التراضي هو عقد البيع. وكذلك ربما ملك بعضهم النقد ولم يملك سلعاً، وعكس ذلك يقع، فيحتاج ذو النقد إلى السلع، وذو السلع إلى النقد، وكل ذلك لا يحصل غالباً إلا بالبيع. وأيضاً من شأن الإنسان أن يسعى إلى الربح، والبيع والشراء هو الطريق السليم لتحصيل ذلك، والله تعالى أعلم.
أركان عقد البيع:
علمنا أن البيع عقد، وكل عقد لا بدّ فيه من أركان حتى يوجد، ولا بدّ لهذه الأركان من شروط حتى يصحّ العقد، وبالتالي تترتب عليه آثاره، وهي ما قرره شرع الله تعالى له من أحكام، ولنتكلم عن ذلك كله بعون الله تعالى فنقول: أركان عقد البيع ثلاثة:
الركن الأول: العاقدان
هما البائع والمشتري اللذان يقوم العقد بتوافق إرادتيهما، ويشترط في كل منهما:
1 - أن يكون رشيداً، أي بالغاً عاقلاً يحسن التصرف في المال. فلا يصح بيع ولا شراء الصبي والمجنون، وكذلك المحجور عليه لسفه، أي لسوء تصرفه بالمال: إما بإنفاقه في المحرمات، أو تبديده في المباحات، أو لغفلة وعدم خبرة.
ودليل هذا:
قوله تعالى: {وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (النساء6) فقد أمر الله تعالى الأولياء باختبار مَن كانوا تحت ولايتهم من اليتامى بالمعاملة حين يبلغون، فإن ظهر منهم حسن تصرف بالمال دفعت إليهم وسلطوا عليها، فدلّ ذلك على أن(6/11)
الرشد شرط للتسليط على المال وصحة التصرّف فيه، والبيع والشراء تصرف بالمال، فاشترط فيه الرشد.
وكذلك كل من الصبي والمجنون ليس أهلاً للتصرف، لأنه غير مكلف، قال - صلى الله عليه وسلم -: " رفع القلم عن ثلاثةٍ: عن المجنون المغلوب على عقله حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم - أي يبلغ " (أبو داود: الحدود، باب: في المجنون يسرق أو يصيب حداً، رقم: 4401).
ورفع القلم يعني عدم المؤاخذة، والعقود تترتب عليها أحكام، ومن كان غير مؤاخذ عن تصرفاته فليس أهلاً لإنشائها.
2 - أن يكون مختاراً مريداً للتعاقد: أي أن يبيع أو يشتري وهو قاصد لما يقوم به من تصرف بملء حريته ورغبته، راضياً بالتعامل الذي ينشئه.
ودليل ذلك قوله تعالى: {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} (النساء29). وقوله - صلى الله عليه وسلم - "إنما البيع عن تراض" (أخرجه ابن ماجه في التجارات، باب: بيع الخيار، رقم: 2185). أي إنما يعتبر ويصح إذا كان عن تراضٍ من المتعاقدين.
فعلى هذا لا يصح بيع المكروه ولا شراؤه، لعدم تحقق الرضا منه، وذلك أن الرضا أمر خفيّ، يدل عليه التصرف القولي أو الفعلي حال عدم الإكراه، وأما حال الإكراه فلم يبق القول الظاهر مظنة للرضا الخفي، وإنما أصبح مشكوكاً فيه أو مقطوعاً بعدم وجوده، فلم تعتبر الأقوال، ولم يصح البيع.
ومثل المكره من تلفّظ بالبيع أو الشراء هازلاً، لأنه في معنى المكره، من حيث عدم الرضا بهذا التعامل وعدم القصد إليه.
ويستثنى من عدم صحة بيع المكره ما لو كان الإكراه بحق، كأن يكون على إنسان ديون يماطل في وفائها، ولديه سلع يمتنع عن بيعها، فللقاضي أن يجبره على بيعها لأداء الحقوق لأصحابها، ويكون البيع هنا صحيحاً إقامة لرضا الشارع مقام رضا العاقد.
3 - تعدّد طرفي العقد: أي أن يوجد عاقدان بأن يكون البائع غير المشتري(6/12)
وذلك لأن مصالح كل منهما تتعارض مع مصالح الآخر، فالبائع يرغب بثمن أكبر وشروط أقل، والمشتري يرغب بشروط في المبيع أفضل وبثمن أقل، وهكذا. كما أن للبيع أحكاماً تتعلق بقبض المبيع وأحكاماً تتعلق بقبض الثمن، وكل منها تترتب عليه مسؤوليات قد تعارض الأخرى، فلا يمكن أن يكون الجميع من مسؤولية شخص واحد.
وعلى هذا فلو وكَل أحداً ببيع بعض أمواله فليس لهذا الوكيل أن يشتريها لنفسه، ولو وكَّلَ أحداً بشراء سلع ما، وكان الوكيل يملك هذه السلع فليس له أن يشتريها من نفسه لموكِّله. وكذِّلك لو كان رجل وكيلاً عن شخصين: فليس له أن يشتري من مال أحدهما للآخر، للمعنى الذي سبق، ولأن حقوق البيع من قبض وتسليم وغيرها تتعلق بالوكيل، وقد تحتاج إلى الخصومة والتقاضي، فلا يمكن أن يكون الشخص الواحد خصماً ومخاصماً في آن واحد
ويستثنى من ذلك: بيع الولي - وهو الأب - مال ابنه القاصر من نفسه: لأنه لا يُتَّهم بغَبْنه لمزيد شفقته عليه. وكذلك بيع القاضي أموال القاصرين الذين تحت ولايته بعضهم من بعض، لأن ولايته عامة، وقد يضطر إلى مثل هذا البيع.
4 - البصر: فلا يصح بيع الأعمى ولا شراؤه، لأن في ذلك جهالة فاحشة، فيوكل مَن يشتري له أو يبيع.
الركن الثاني: الصيغة:
وهي اللفظ الذي يصدر من المتعاقدين، معَّبراً عن رغبتهما في التعاقد ورضاهما به وقصدهما إليه. فقد علمنا أن الرضا شرط لصحة عقد البيع، وأن الرضا أمر خفيّ أُقيم مقامه ما هو مظِنّة له، وهو التصرف الذي يعتّبر به العاقدان عن رضاهما بالبيع، وهذا التصرف هو الصيغة، وتشمل الإيجاب من البائع، كقوله: بعتك هذا الثوب بكذا، والقبول من المشتري، كقوله: قبلته، أو اشتريته، وما إلى ذلك.(6/13)
والصيغة قد تكون صريحة وقد تكون كناية:
فالصريحة: كل لفظ تكون دلالته ظاهرة على البيع والشراء، كقوله: بعتك وملّكتك، وقول المشتري: اشتريت وتملّكت، ويكفي في القبول أن يقول: قبلت.
والكناية: هي اللفظ الذي يحتمل البيع كما يحتمل غيره، كقول البائع: جعلتُه لك بكذا، أو: خذه بكذا، أو تسلَّمه بكذا، وقول المشتري: أخذته أو تسلّمته.
فالصيغة الصريحة ينعقد بها البيع - إذا توفّرت شروطها - بمجرد التلفظ بها، ولا تحتاج إلى نيّة. بينما ألفاظ الكناية لا ينعقد فيها البيع إلا إذا اقترنت بنيته، أو دلّت القرائن على إرادته.
وهل ينعقد البيع بالمعاطاة؟ كأن يُقبض البائع المبيع ويُقبضه المشتري الثمن، من غير أن يتلفظ واحد منهما بشيء، أو يتلفظ أحدهما ويسكت الآخر.
المشهور في المذهب: أنه لا بدَّ من التلفظ من العاقدين، وأن البيع لا يصح بالمعاطاة. وبعض فقهاء المذهب صحَّح البيع بالمعاطاة في غير النفيس من الأشياء كرطل خبز وحزمة بصل ونحو ذلك، ولم يصححه في النفائس من السَّلَع والمبيعات ذات القيمة العالية.
وأجاز ذلك مطلقاً المتأخرون من فقهاء المذهب - كالنووي رحمه الله تعالى - إذا جرى به العرف. وهذا أيسر للناس وأرحم، وأبعد عن إيقاعهم في الإثم وإبطال بياعاتهم، ولا سيما في هذه الأيام التي أصبح البيع بالمعاطاة فيها هو الشائع والغالب، وقلما تجد متبايعين يتلفظان بإيجاب أو قبول.
وما سبق بالنسبة لمن يستطيع النطق، وأما الأخرس: فيُكتفى منه بإشارته المفهمة، المعهودة عنه في مثل هذا التصرف، فإنها تنوب منه مناب النطق للضرورة، لأنها تدل على ما في نفسه كما يدل اللفظ عما في نفس الناطق. وتقوم الكتابة منه مقام الإشارة، بل هي أولى، لأنها أقوى في الدلالة على الإرادة والرضا.(6/14)
ويشترط في صيغة العقد ما يلي:
1 - أن لا يطول الفصل بين الإيجاب والقبول بما يُشعر عرفاً بالإعراض عن القبول، وهو ما يسمى باتحاد مجلس العقد، فلو أوجب البائع البيع، ثم حصل سكوت طويل، أو كلام أجنبي عن العقد ولا صلة له به، ولو قصر الزمن، ثم قبل المشتري، لم يصح العقد. فلو استمر الحديث عن البيع دار حوله، ثم قبل بعد، صحّ العقد وإن طال الفصل.
2 - أن يكون القبول موافقاً للإيجاب ومطابقاً له في كل جوانبه، فلو قال: بعتك بمائة، فقال: اشتريت بخمسين. أو قال: بعتك هذه الدار بألف، فقال: اشتريت نصفها بخمسين. أو قال: بعتك بألف معجَّلة، فقال: اشتريت بألف مؤجلة. لم ينعقد البيع في جميع هذه الصور، لعدم توافق القبول مع الإيجاب، إلا إذا قبل الموجب ثانيةً بما قبله القابل أولاً، فيصير الإيجاب الأول لاغياً، والقبول الأول إيجاباً، والقبول الثاني هو القبول الذي وافق الإيجاب.
3 - عدم التعليق على شرط أو التقييد بوقت، بأن تكون الصيغة تدل على التنجيز في العقد والتأبيد في التمليك، فلو قال: بعتك هذه الدار إن جاء فلان أو شهر كذا، فقال: قبلت، لم يصح العقد، لوجود الشرط. وذلك لأن التعليق يدل على عدم الجزم بإرادة البيع والرضا به، وقد علمنا أن الرضا شرط في صحته. وكذلك لو قال: بعتك هذه السيارة سنة مثلاً، فقال: اشتريت، لم ينعقد البيع، لوجود التقييد بالوقت. وذلك لأن ملكية الأعيان لا تقبل التوقيت.
وهذا إذا كان التوقيت أو التعليق في المبيع، أما لو كان في الثمن، كما لو باعه على أن يوفيه الثمن أول شهر كذا أو بعد شهرين مثلاً، فإن البيع صحيح، لأن الثمن دين يثبت في الذمة، فيقبل التوقيت والتعليق، بخلاف الأعيان.
فإذا كان البيع مقايضة، أي بيع سلعة بسلعة كبيع سيارة بسيارة مثلاً أو دار، فلا تقبل التعليق أيضاً.(6/15)
الركن الثالث: المعقود عليه:
وهو ما يسمى محل العقد، وهو في عقد البيع: المبيع والثمن، ويشترط في كلِّ منهما شروط، وإليك بيانها:
1 - أن يكون المبيع موجوداً عند العقد: فلا يجوز بيع ما هو معدوم، كبيع ما ستثمره أشجاره، وما ستحمل به أغنامه. وكذلك ما كان في حكم المعدوم، كبيع ما تحمله الأغنام ونحوها، أو ما في الضرع من اللبن ونحوه.
ودليل ذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان، فقد روى نهى أصحاب السنن عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله، يأتيني الرجل فيسألني عن بيع ما ليس عندي ما أبيعه منه، ثم أبتاعه من السوق؟ فقال: " لا تبع ما ليس عندك " (انظر: سنن أبي داود: البيوع والإجارات، باب: في الرجل بيع ما ليس عنده، رقم: 3503).
وكذلك: فإن في هذا النوع من البيع غرراً، لأنه على خطر الوجود وعدمه، ولما فيه من الجهالة، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغَرَر. (مسلم: البيوع، باب: بطلان بيع الحصاة والبيع الذي فيه غرر، رقم 1513).
2 - أن يكون مالاً متقوماً شرعاً: وذلك شرط في المبيع والثمن، ويخرج بذلك جميع الأعيان النجسة والمحرمة شرعاً، فلا يصح كون المبيع أو الثمن خمراً أو ميتةً أو دماً أو زبْلاً أو كلباً.
ودليل ذلك: ما رواه جابر بن عبدالله رضي الله عنها: أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول " إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام " فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة، فإنه يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: " لا، هو حرامُ " ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك " قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم شحومها جملوه، ثم باعوه فأكلوا ثمنه ". (أخرجه البخاري في البيوع، باب: بيع الميتة والأصنام، رقم: 2121. ومسلم في المساقاة، باب: تحريم بيع الخمر والميتة ... ، رقم: 1581). [يستصبح: أي يوقدونها في المصباح ليستضيئوا بها. جملوه: أذابوه.(6/16)
شحومها: شحوم البقر والغنم، كما ذكر القرآن في (الأنعام: 146)].
وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ثمن الكلب. (أخرجه البخاري في البيوع، باب: ثمن الكلب، رقم 2122. ومسلم: المساقاة، باب تحريم ثمن الكلب. رقم: 1567).
ويقاس على ما ذكر كل ما في معناه من الأعيان النجسة والمحرمة.
ويلحق بها الأعيان المتنجسة التي لا يمكن تطهيرها، كالخل واللبن والزيت والسمن المائع ونحوه.
أما الأعيان التي يمكن تطهيرها إذا تنجست فلا مانع من بيعها أو جعلها ثمناً لأنها في حكم الأعيان الطاهرة.
3 - أن يكون منتفعاً به شرعاً وعرفاً: أي أن تكون له منفعة مقصودة عرفاً ومباحة شرعاً، فلا يصح بيع الحشرات أو الحيوانات المؤذية التي لا يمكن الانتفاع بها أو لا تقصد منفعتها عادة، وكذلك آلات اللهو التي يمتنع الانتفاع بها شرعاً، لأن بذل البدل مقابل مالا نفع به إضاعة للمال، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن إضاعة المال. (البخاري: الاستقراض، باب: ما ينهى عن إضاعة المال، رقم: 2277).
ويجوز بيع الفهد للصيد، والفيل للقتال، والقرد للحراسة، والنحل للعسل، ونحو ذلك، لأن فيها منفعة مقصودة عرفاً ومباحة شرعاً، ولم يرد نهي عن شيء منها بخصوصه كالكلب مثلاً.
وكما لا يصح بيع ما ذكر من الأشياء لا يصح جعلها ثمناً.
ولو كان المبيع أو الثمن لا نفع فيه عند العقد، ولكن ينتفع به مستقبلاً - كالمُهْر الصغير - جاز بيعه أو جعله ثمناً.
4 - أن يكون مقدوراً على تسليمه حساً وشرعاً: فإن كان العاقد عاجزاً عن تسليم المبيع أو الثمن - عن كان معيناً - وقت لعقد فلا ينعقد البيع، لأن العاقد الآخر ليس على يقين في هذه الحالة أنه سيحصل على عوض عما يبذله، وبالتالي يكون في بذله له إضاعة للمال، وهو منهي عنه كما علمت.(6/17)
وعليه: فلا يصح بيع سيارة ضائعة، أو طائر في الهواء أو سمك في الماء، ونحو ذلك لعدم القدرة على تسليمها حسّاً.
كما لا يصحّ بيع جزء معَّين من مبيع لا يقبل القسمة، أي إن قسمته تنقص قيمته وتجعله غير صالح للانتفاع به ككتاب أو سيف أو بيت صغير ونحو ذلك، لأنه غير مقدور على تسليمه شرعاً، إذ إن تسليمه لا يكون إلا بقسمته وتمييزه، وفي ذلك نقصه وذهاب منفعته، وهو تضييع للمال، وهو منهي عنه كما علمت.
أما لو بيع جزء منه غير معين - أي على سبيل الشيوع - فإن ذلك جائز، لأن المشتري لا يحق له أن يطالب بقسمته، ويكون الانتفاع به على التناوب.
5 - أن يكون للعاقد سلطان عليه بولاية أو ملك: فيصح بيع المالك لمال نفسه وشراؤه به، لأن الشرع جعل له سلطاناً على ماله. وكذلك يصح بيع الولي أو الوصيّ لما مَنْ تحت ولايته من القاصرين وشراؤه به، كما يصح بيع الوكيل لمال موكَّله وشراؤه به، لأن لهؤلاء جميعاً سلطاناً على المال، إما بتسليط الشرع كالأولياء والأوصياء، وإما بتسليط المالك نفسه كالوكلاء. فإذا تصرف بالمال بيعاً أو شراءً من لا سلطان له عليه - وهو الذي يسمى في رف الفقهاء الفضولي - كان تصرفه باطلاً، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا بيع إلا فيما تملك " (أخرجه أبو داود في البيوع، باب: في الرجل يبيع ما ليس عنده، رقم 3503. وكذا الترمذي والنسائي وابن ماجه).
ويستثنى من ذلك ما لو باع مال مَن يرث منه ظاناً حياته، فتبين أن المورِّث كان ميتاً عند العقد، فيُصحَّح البيع وتترتب علي آثاره، لأنه تبيّن خطأ ظنه، وأنه في الحقيقة مالك لما تصرف فيه وليس فضولياً، والعبرة في العقود بما في حقيقة الأمر، لا بما في ظن العاقد.
6 - أن يكون معلوماً للعاقدَيْن: فلا يصح البيع إذا كان في المبيع أو الثمن جهالة لدى العاقدين أو أحدهما، تقضي في الغالي إلى النزاع والخصومة، لأن في(6/18)
ذلك غرراً، وقد علمت أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الغَرَرِ. فلا يصح بيع ما يجهله العاقدان أو أحدهما، ولا جعله ثمناً.
كما لا يصح بيع واحد من أشياء دون تعيينه، ولا البيع به.
ولا يصح بيع شيء معين بألف مثلاً، دون بيان المراد من الألف، ولا عرف في مكان البيع يحدد المراد منها، فإن كان عرف فسِّرت به، كما لو باع في سورية مثلاً مبيعاً وقال ثمنه ألف، فالعرف يحدد أنه ألف ليرة سورية.
ولا يصح أن يبيع سلعةً ما أو داراً مثلاً بما باع به فلان داره، دون أن يكون العاقدان على علم بما باع به، وهكذا.
ويمكن أن يحصل العلم بالأمور التالية:
1 - إن كان العوض حاضراً ومشاهداً صح بيعه ولو لم يبيّن مقداره ولا صفته الظاهرة، كما لو باع سيارة مشاهدة ومشاراً إليها بثمن معين، ولم يبّين نوع السيارة وطرازها. وكذلك لو باع صُبْرة من قمح مثلاً بألف ليرة سورية، دون أن يبيِّن مقدارها. وكذلك لو باعه سلعة حاضرة بهذه الدراهم مثلاً، فكل ذلك صحيح، لقيام المشاهدة والتعيين مقام العلم.
2 - إذا رأى المتعاقدان البدل قبل العقد، وكانا ذاكرَيْن لأوصافه، وكان مما لا يتغيّر غالباً خلال المدة التي كانت بين الرؤية والعقد، كالثوب والدار ونحو ذلك.
فإن كان مما يتغيّر غالباً في تلك المدة فلا يكفي ذلك.
3 - رؤية بعض العوض إذا كانت تغني عن رؤية باقية، كرؤية جزء من القماش الذي يدل على باقي الثوب، أو رؤية أنموذج من الأشياء المتماثلة.
4 - رؤية ظاهر العوض الذي يُعتبر حافظاً لباقية، كالبطيخ والرمان والبيض، فيُكتفى برؤية قشره، كما يُكتفى برؤية القشرة السفلى من الجوز واللوز إذا تم نضجه، لأن بقاء هذه القشور من مصلحة هذه الأشياء.
فإذا كان مما يؤكل مع قشره الخارجي كفت رؤية قشرته الخارجية وصحّ بيعه.(6/19)
ومما يتعلق هنا بمعلومية العوضين: العلم بالأجل إذا كان الثمن مؤجلاً، فلو كان غير معلوم، كما إذا باع إلى الحصاد أو قدوم فلان من سفره، فإنه لا يصح.
وكذلك العلم بوسائل التوثيق، كالرهن والكفيل، إذا شرط ذلك في العقد، فلو باعه بشرط أن يأتيه بكفيل أو رهن بالثمن، دون أن يعيّن الكفيل أو الرهن، فلا يصح العقد.
قبض المبيع وضمانه
إذا تم عقد البيع بتوفر أركانه وتحقق شروطه، والمبيع لا يزال في يد البائع، فهو من ضمانه، بمعنى أنه إن تلف أو أتلفه البائع انفسخ البيع، ولا يلزم المشتري شيء، ويسترد الثمن إن كان قد دفعه. فإذا قبضه المشتري دخل في ضمانه، فإن هلك يهلك عليه.
ويختلف القبض باختلاف المبيع، إذ إن قبض كل شيء بحسبه:
فقبض المنقول: يكون إما بالتناول إذا كان يُتناول باليد، كالثوب والكتاب ونحوهما، وإما بالنقل إذا كان لا يُتناول باليد كالسيارة والدابة وما إلى ذلك.
وأما غير المنقول: كالدار والأرض فقبضه بالتخلية بينه وبين المشتري وتمكينه منه، وإزالة الموانع من تسلّمه، وتسليم مفتاحه إن كان داراً ونحو ذلك.
ولا بد في القبض من إذن البائع، لأن الأصل أنه ملكه، ولا يخرج من يده إلا بإذن منه.(6/20)
الخيارات في البيع
الأصل في عقد البيع أنه إذا وُجدت أركانه وتحققت شروط أن ينعقد مبرماً، بحيث تنتقل ملكية المبيع إلى المشترى وملكية الثمن إلى البائع، وليس لأحدهما الخيار في نقض ما أبرم. إلا أن الشارع راعى مصالح المكلَّفين، وأن المتعاقد قد يكون استعجل بعض الشيء ولم يتروَّ في الأمر، ولذلك اعتبر انعقاد البيع لوجود أركانه وتحقق شروطه غير لازم، وأثبت لكل عاقد حق الخيار في إمضاء العقد أو فسخه، وذلك رفقاً به وحفاظاً على تمام رضاه بالعقد ورغبته به.
وقد أثبت الشّارع هذا الخيار للعاقد في أحوال ثلاثة اعتبرت أنواعاً للخيارات المشروعة، وهي: خيار المجلس، وخيار الشرط، وخيار العيب. وإليك بيانها مفصلة:
1 - خيار المجلس:
والمراد به أن المتعاقدين كلاِّ منهما له حق الرجوع عن البيع - بعدما تم وانعقد صحيحاً - ما داما في المجلس الذي حصل فيه عقد البيع، ولم يتفرّقا عنه بأبدانهما.
فإذا تفرّقا عن مجلس العقد سقط الخيار وأصبح العقد لازماً، ويكفي في ذلك ما يسمى تفرقاً في العرف:
فلو كانا في دار كبيرة وخرج أحدهما من الغرفة إلى الصحن، أو بالعكس حصل التفرّق.
ولو كانا فيدار صغيرة كفى خروج أحدهما منها.(6/21)
وإن كانا في سوق، أو صحراء، أو على ظهر سفينة ونحو ذلك، كفى أن يولِّي أحدهما ظهره للآخر ويمشي خطوات.
أما لو خرجا جميعاً أو تماشيا معاً فيبقى المجلس مستمراً، ولا يسقط الخيار.
وكذلك يسقط الخيار إذا اختار أحدهما أو كلاهما إبرام العقد ولزومه، بأن يقولا: أمضينا العقد أو اخترنا لزومه، وكذلك إذا خيَّر أحدهما الآخر كأن يقول له: اختر إمضاء البيع أو فسخه، فيكون ذلك إسقاطاً لخياره، فإذا اختار الآخر سقط خيار المجلس، لأنهما أسقطا حقاً أعطاهما الشارع إياه. فإن اختار أحدهما ولم يختر الآخر سقط الخيار في حق من اختار، وبقي في حق من لم يختر.
والأصل في كل ما سبق: قوله - صلى الله عليه وسلم - " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعاً، أو يخير أحدهما الآخر " (أخرجه البخاري في البيوع، باب: إذا لم يوقت في الخيار .. ، رقم 2003. ومسلم في البيوع، باب: ثبوت خيار المجلس للمتبايعين، رقم: 1531).
ودلّ على أن المقصود بالتفرّق التفرق بالأبدان - على ما ذكرنا - تفسير ابن عمر - رضي الله عنهما - له بفعله، وهو راوي الحديث، فقد روى مالك عن نافع رحمه الله تعالى قال: وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا اشترى شيئاً يُعجبه فارق صاحبه. (انظر البخاري: البيوع، باب: كم يجوز الخيار، رقم: 2001)
وعنه رضي الله عنه قال: بِعْتُ من أمير المؤمنين عثمان مالاً بالوادي بمالٍ له بخيبر، فلما تبايعنا رجعت على عقبي حتى خرجت من بيته، خشية أن يرادني البيع، وكانت السُّنَّةُ أنّ المتبايعين بالخيار حتى يتفرقا (انظر: البخاري: البيوع، باب: إذا اشترى شيئاً فوهب من ساعته ... ، رقم: 2010).
2 - خيار الشرط:
وهو أن يشترط بأحد المتعاقدين أو كُلُّ منهما: أن له الخيار - أي حق فسخ العقد - خلال مدة معلومة. ويمكن أن يشترط ذلك مع العقد، ويمكن أن يشترط بعده، ولكن قبل مفارقة مجلس التعاقد. وسمي خيار الشرط لأن سببه اشتراط العاقد.
ويشترط فيه:
1 - أن يكون لمدة معلومة، فإن قال: لي الخيار، ولم يحدد مدة لم يصح، وكذلك(6/22)
لو حدّد مدة مجهولة، كقوله: بعض يوم، أو: إلى مجيء فلان، ونحو ذلك.
والصحيح أنه يبطل البيع في هذه الحالة، لما في ذلك من الغرر والجهالة.
2 - أن لا تزيد المدة على ثلاثة أيام، إذا كان المبيع لا يفسد خلالها، لأن الحاجة لا تدعو إلى التروِّي أكثر من هذه المدة غالباً. فإن زاد على ذلك ولو لحظة بطل البيع، وكذلك يبطل البيع إذا كانت المدة يفسد المبيع خلالها، ولو كانت أقل من ثلاثة أيام.
3 - أن تكون المدة متوالية ومتصلة بالعقد، فلو شرط الخيار ابتداءً من التفرق، أو في أيام معينة غير متوالية أو غير مبتدأة من العقد لم يصح الشرط، وبطل العقد، لأنه شرط فيه ما ليس من مقتضاه، وما لم يرد به الشرع.
والدليل على ما سبق: حديث حِبّان بن منقذ رضي الله عنه، وقد شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يُخدع في البيوع، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا بايعت فقلْ: لا خلابة " وفي رواية: " ولي الخيار ثلاثة أيام ". (انظر: البخاري: البيوع، باب: ما يكره من الخداع في البيع، رقم: 2011. والبيهقي: 5/ 273).
[والخلابة: معناها الغبن والخداع].
قال العلماء: الحديث صريح في إثبات الخيار لحبّان رضي الله عنه، بائعاً كان أو مشترياً، ولا دليل فيه على أنه خاص به وإن كان ورد بسببه، والعلماء يقولون: العبرة بعموم الفظ لا بخصوص السبب، فيكون الحديث عاماً يتناول كلَّ بيع، وكلَّ بائع ومشترٍ، إلا ما دلّ دليل آخر على عدم جواز الخيار فيه من البيوع، كبيوع الربا والسلم، كما ستعرف إن شاء الله تعالى في أبوابها.
اشتراط الخيار لأجنبي:
هذا وكما يصح للعاقد أن يشترط الخيار لنفسه يصحّ له أن يشترطه لأجنبي، أي لغيره ممّن لا صلة له بالعقد. وذلك لأن الخيار شُرع للحاجة والمصلحة، لدفع الغبن والضرر عن العاقد، وربما لا يتحقق ذلك لو كان الخيار له، لعدم خبرته، بينما يكون غيره أعرف بالمبيع، فتدعو الحاجة أن يشترط الخيار له. والصحيح في هذه الحالة أن الخيار يثبت لمن شُرِط له وهو الأجنبي، ولا يثبت للعاقد الذي شرطه.(6/23)
متى يسقط الخيار؟
إذا اختار مَن له الخيار فسخ العقد، كأن يقول: فسخت البيع، أو قال البائع إذا كان الخيار له: استرجعت المبيع، أو قال المشتري: استرجعت الثمن، ونحو ذلك، انفسخ العقد عقد البيع.
بينما يلزم البيع إذا سقط الخيار، ويسقط خيار الشرط بالأمور التالية:
1 - بانتهاء المدة المشروطة، فإذا انتهت المدة المشروطة ولم يفسخ العقد مَن له الخيار، سواء أكان البائع أو المشتري أو كليهما، فقد لزم العقد وسقط الخيار، ولا يحق لأحد فسخه بعد ذلك.
2 - بإمضاء البيع وإجازته في مدة الخيار، كأن يقول مَن له الخيار: أجزت العقد، أو أمضيته، أو اخترت البيع.
3 - بتصرّف من له الخيار بالمبيع تصرفاً لا ينفذ عادة من غير المالك، فيكون ذلك إجازة للبيع وإمضاءً له، وبالتالي إسقاطاً لخياره. وهذا إذا كان مَن له الخيار المشتري، فإذا كان المتصرف هو البائع كان تصرفه فسخاً للعقد.
حكم المبيع زمن الخيار:
1 - ملكية المبيع زمن الخيار:
إذا كان الخيار للمتبايعين كانت ملكية المبيع موقوفة حتى يتبين الحال من فسخ العقد أو إمضائه، فإذا فسخ العقد تبيّن أن الملكية لم تنتقل من البائع. وإذا أمضي البيع وأُجيز تبين أن المبيع ملك للمشتري من تاريخ العقد، وأن الثمن ملك للبائع كذلك. وبالتالي يملك كل واحد منهما زوائد ومنافع ما تبين أنه ملكه من تاريخ العقد. والزوائد كثمر الشجر ولبن المواشي، والمنافع كأُجرة الدار والسيارة ونحو ذلك. وبالمقابل يكون على كل واحد منهما نفقة ومؤونة ما تبيّن أنه ملكه من تاريخ العقد، كعلف الدابة وإصلاح السيارة ونحو ذلك.
وإذا كان الخيار لواحد منهما كان المُلْك له، لأنه هو الذي يملك التصرّف دون غيره. وبالتالي كانت له المنافع والثمرات، وكانت عليه المؤونة والنفقات.(6/24)
2 - هلاك المبيع زمن الخيار:
إذا تلف المبيع في زمن الخيار يُنظر:
فإن كان قبل القبض، أي أن المبيع لا يزال في يد البائع، فإن البيع ينفسخ ويسقط الخيار، سواء أكان الخيار للمشتري أم للبائع، لعدم القدرة على تسليم المبيع، ويكون من ضمان البائع.
وإن كان الهلاك بعد القبض، أي في يد المشتري، فإن البيع لا ينفسخ، لدخوله في ضمان المشتري بقبضه له. كما أن الخيار لا يزال باقياً، سواء أكان للبائع أم للمشتري، لأن الحاجة التي دعت إليه - وهي الحفظ من الغبن - لا تزال باقية، فلمَن له الخيار حق إمضاء البيع وفسخه. فإذا أُمضى العقد وأُجيز وجب على المشتري ثمنه للبائع، لأنه تبين أنه ملكه. وإذا فسخ العقد وجب عليه رد مثله أو قيمته يوم التلف، ويسترد المشتري الثمن، لأنه تبيّن أنه لم يدخل في ملكه.
3 - خيار العيب:
الأصل في تعامل المسلم مع غيره النصح وعدم الغش، لأن في ذلك أكلاً لأموال الناس بالباطل، وقد حذر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الغش أشد تحذير حين قال: " من غش فليس منّا " ومن الغش أن يكون في المبيع عيب يعلمه البائع، فيكتمه عن المشتري ولا يبيِّنه له. يدل على ذلك سبب ورود الحديث المذكور، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرّ في السوق على صُبَرةِ طعام، فأدخل يدَه فيها، فنالت أصابعه بلَلاً، فقال: " ما هذا يا صاحب الطعام؟ " قال: يا رسول الله أصابْتُه السماءُ، فقال: " ألا جعلته فوق الطعام كيْ يراه الناسُ؟ من غش فليس مني " (أخرجه مسلم في الإيمان ن باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: من غشّنا فليس منا، رقم: 102. ولفظ " فليس منا " أخرجه في نفس الباب، رقم: 101).
[صبرة طعام: كومة من قمح ونحوه. أصابته السماء: أي المطر النازل من السماء]
فقد دلّ الحديث أن عدم بيان العيب غش، وأنّ من واجب البائع أن يظهر العيب الذي في المبيع ويبيّنه للناس، يؤكد هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: " المسلمُ أخو المسلم، ولا يحلُّ لمسلم باَع من أخيه بيعاً فيه عيب إلا بينه لهُ " (أخرجه ابن ماجه عن(6/25)
عقبة بن عامر رضي الله عنه في التجارات، باب: مَن باع عيباً فليبَّينه، رقم: 2246).
ويلحق غير المسلم به استدلالاً بعموم الحديث الذي قبله، ولأن الأخلاق في الإسلام أخلاق ذاتية إنسانية، يجب التخلق بها مع المسلم وغيره.
وكما يجب على البائع بيان العيب يجب بيانه أيضاً على كل من علم به ولو كان غير المتعاقدين، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يحلُّ لأحدٍ يبيع شيئاً إلا بَيَّنَ ما فيه، ولا يَحلُّ لمنْ يَعْلَمُ ذلك إلا بَيَّنَهُ ". (أخرجه الإمام أحمد في مسنده [3/ 491] عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه).
فإذا حصل عقد البيع ولزم، وقبض المشتري المبيع ولم يُذكر له فيه عيب، ثم اطّلع بعد ذلك على عيب فيه كان البيع صحيحاً، وإنما يثبت للمشتري حق الخيار: بين أن يرضى بالمبيع على ما فيه، وبين أن يردّه على البائع فيفسخ البيع ويستردّ الثمن، طالما أنه لم يكن على علم بهذا العيب، لا عند العقد ولا عند القبض. ودليل ذلك:
1 - حديث عائشة رضي الله عنها: أن رجلاً ابتاع غلاماً، فاسْتغَلََّهُ، ثم وجد به عيباً فردّه بالعيب، فقال البائع: غَلّةُ عبدي؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الغلة بالضَّمانِ " (أخرجه أحمد في مسنده [6/ 80]).
[ابتاع: اشترى. غلاماً: أي عبداً مملوكاً. غلّة عبدي: أي كسبه وأُجرة ما قام به من عمل. بالضمان: أي يستحقها ويملكها مَن كان ضامناً للسلعة حين حصلت].
ويُستدل لهذا أيضاً بحديث المصراة، وسيأتي عند الكلام عن بيع المصراة.
2 - وكذلك يُستدل لهذا بالمعقول: فإن الأصل في البيع أنه على شرط السلامة، وأن المشتري ما بذل كامل الثمن إلا ليسلم له كامل المبيع، لتحصل المقابلة بين الثمن والمثمن، وتلك رغبة المشتري الذي رضي بالبيع. فإذا اختلّ شيء من ذلك بسبب العيب فقد فات مقصوده ولم يتحقق رضاه، فتثبت له حق الفسخ وردُّ المبيع واسترداد الثمن.(6/26)
ويشترط لثبوت خيار العيب:
1 - أن يثبت أن العيب قديم، أي قد حدث في المبيع قبل أن يقبضه المشتري، سواء أكان ذلك قبل العقد أم بعده، لأن المبيع قبل قبضه من ضمان البائع.
فلو حدث العيب بعد القبض فليس له حق الخيار، إلا إذا كان مستنداً إلى سبب سابق على القبض، كما إذا اشترى سلعة فظهر عليها الصدأ ثم تبين أنها قد تبللت بالماء قبل القبض، فللمشتري حق الرد، لأن العيب ترتب على سبب حدث عند البائع، فكأن العيب حدث عنده.
2 - أن يكون العيب منقصاً لقيمة المبيع في عُرف التجّار، سواء أنقصت العين أم لم تنقص، لأن البيع معاوضة، والعبرة فيها للقيمة، والمرجع في اعتبارها التجار أصحاب الخبرة.
فإذا كان العيب ينقص العين ولا ينقص القيمة فلا يثبت حق الرد، إلا إذا كان النقص يفوت به غرض مقصود للمشتري، كمن اشترى شاة للأضحية، ثم تبيّن له أن بعض أُذنها مقطوع، فإنه يثبت له حق الرد، لأنها لا تجزئ في الأضحية. أما لو اشتراها لغير ذبح واجب عليه، أي للحمها، فلا يُعتبر العيب ولا يثبت له حق الرد، لأن قيمتها لا تنقص بذلك، ونقص عينها لا يفوِّت عليه غرضاً مقصوداً.
3 - أن يغلب في جنس المبيع عدمه، كَمن اشترى سيارة من وكالتها، ثم تبين له اهتراء عجلاتها، فيثبت له حق الرد والفسخ بالعيب. أما لو اشتراها مستعملة ثم اطّلع على ذلك فلا يثبت له خيار العيب، لأن الغالب في المستعمل منها ذلك.
متى يكون الرد بخيار العيب؟
يثبت حق الرد بخيار العيب فور الاطّلاع على العيب، حسب العُرْف والعادة. فإذا علم به وهو يأكل أو يصلي فله تأخير الرد حتى الفراغ، أو في الليل فله التأخير حتى الصباح، فإذا أخَّر عن الوقت الذي كان يستطيع فيه ردُّه سقط خياره.
كذلك يسقط خياره لو استعمله بعد الاطلاع على العيب وقبل التمكّن من(6/27)
ردّه. وذلك لأن تأخيره عن الوقت الذي تم فيه من ردّه، وكذلك استعماله له قبل التمكّن من الرد، دليل على اختياره للمبيع ورضاه به على ما فيه من العيب.
الزيادة في المبيع المعيب:
إذا قبض المشتري المبيع، ثم اطّلع على عيب قديم فيه بالشروط السابقة، وكان المبيع قد زاد عنده عمّا كان عليه عند العقد، فإن هذه الزيادة لا تمنع الردّ بالعيب. وإنما يُنظر:
فإن كانت الزيادة متصلة - كالسِّمَن للدابة والخياطة للثوب مثلاً - فإن شاء أمسكه وإن شاء ردّه، ولا شيء له في الحالين، لأن هذه الزيادة تبع للأصل ونماء للملك.
وإن كانت الزيادة منفصلة: فله ردّ الأصل دون الزيادة، لأنها حدثت على ملْكه وفي ضمانه، وقد مر بك قوله - صلى الله عليه وسلم -: " الغلة بالضمان " والغلة الزيادة مطلقاً من كسب وغيره.
العيب الطارئ على العيب القديم:
إذا اطّلع المشتري على عيب قديم في المبيع، وكان قد طرأ عليه عيب جديد بعد قبضه، سقط حقه في الرد القهري لى البائع، أي ليس له أن يجبره على الرد، وإنما ينظر: فإن رضي البائع بردّه على حاله ردّه، ورضي المشتري به على ما فيه أمسكه.
وإن لم يتراضيا: فإما أن يدفع المشتري عوضاً عن العيب الحادث ويردّه على البائع، وإما أن يدفع البائع عوضاً عن نقص العيب القديم للمشتري. فأيّهما اتفقا عليه ورضيا به جاز، لأن الحق لهما، فيعمل برضاهما.
فإن اختلفا - بأن طلب البائع الرد مع التعويض عن العيب الحادث، وطلب المشتري الإمساك بالمبيع مع التعويض عن العيب القديم، أو طلب المشتري الرد ويدفع العوض عن العيب الحادث، وطلب البائع إبقاء المبيع عند المشتري ويدفع العوض عن العيب القديم - فإنه يُجاب منهما مَن كان في طلبه إقرار العقد وإبقاؤه،(6/28)
ففي الصورة الأولى يُجاب المشتري إلى طلبه، وفي الصورة الثانية يُجاب البائع.
ويستثنى من سقوط الرد القهري بالعيب الطارئ ما إذا كان العيب القديم لا يُعرف إلا به، كمَن اشترى ما مأكولٌه داخل قشره - كالبطيخ والرمان ونحوهما - وشرط سلامته والاطّلاع على ما في داخله، فإن له رد المبيع إذا ظهر فيه عيب قديم رغم العيب الجديد، إذا لم يكن زائداً عن الحاجة لمعرفته، لأن البائع قد سلّطه على إحداث هذه العيب.
شرط البراءة من العيوب:
لو شرط البائع على المشتري عند العقد: أنه بريء من كل عيب يظهر في المبيع صحّ عقد البيع، لأنه شرط يؤكد العقد ويقرره، إذ ينفي الرد والفسخ، كما يوافق ظاهر الحال من سلامة المبيع من العيوب.
وهل يسقط هذا الشرط خيار العيب، وبالتالي ليس للمشتري ردّ المبيع وفسخ العقد إذا ظهر فيه عيب قديم على ما قد علمنا؟.
والجواب أنه يُنظر:
فإن كان المبيع غير حيوان: فإن هذا الشرط لاغٍ، ولا يسقط حق الرد، ولا يبرأ البائع من أيّ عيب يظهر في المبيع ويُثْبت الخيار على ما سبق.
وإن كان المبيع حيواناً: فإنه يبرأ من كل عيب باطن في الحيوان، موجود عند العقد، ولم يعلمه البائع.
وذلك لأن الحيوان لا يخلوا غالباً من وجود عيوب خفية فيه، فكان للبائع الحق في أن يحترز عن المسؤولية عنها بشرط البراءة. وقد صح عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه باع عبداً له بثمانمائة درهم بالبراءة، فقال له المشتري: به داء لم تسمَّه لي، فاختصما إلى عثمان رضي الله عنه، فقضي على ابن عمر أن يحلف: لقد باعه العبد وما به داء يعلمه، فأبى أن يحلف وارتجع العبد، فباعه بألف وخمسمائة. وروى أن المشتري زيد بن ثابت رضي الله عنه وأن ابن عمر كان يقول: تركت يميناً لله، فعوضني الله عنها.(6/29)
فدلّ قضاء عثمان رضي الله عنه على صحة البراءة في صورة الحيوان المذكورة، واشتهر قضاؤه بين الصحابة رضي الله عنهم ولم ينكره عليه أحد، فكان إجماعاً.
فإذا كان العيب ظاهراً لم يبرأ منه لسهولة الاطّلاع عليه.
وكذلك إذا علمه البائع، لأن الواجب بيانه، وإلا كان غشّاً، ومثله لو جهله ولكن كان من السهل الاطلاع عليه.
كما لا يبرأ عما حدث بعد العقد وقبل بالقبض، لأن الشرط ينصرف إلى ما كان موجوداً عند العقد، ولو شرط البراءة عما يحدث لم يبرأ، لأنه إسقاط للشيء قبل ثبوته.(6/30)
البيوع الخاصة
ما تقدم من كلام عن عقد البيع إنما هو في البيع على وجه العموم، وهو عقد البيع الذي ليس له تسمية خاصة، والذي يتعامل به غالب الناس، والصورة الغالبة والعامة في بياعات الناس وتجاراتهم ومعاوضاتهم.
وهناك حالات وصور لعقد البيع تأخذ أسماءً خاصة بهم، وتقع في أحوال نادرة، منها ما هو جائز ومنها ما هو ممنوع، والممنوع منها: بعض منه صحيح مع الإثم والحرمة، وبعض منه باطل، وإليك بيان هذه البيوع:
أ - البيوع الجائزة:
هي بيوع تختلف بعض الشيء عن صورة البيع العامة، وقد يوهم اختلافها ذلك عدم جوازها، ولذلك ينص عليها الفقهاء بخصوصها دفعاً لتوهم عدم صحتها، وهي:
1 - التولية: وهي أن يبيع ما اشتراه وقبضه بالثمن الذي اشتراه به دون أن يذكر هذا الثمن، أو يقو للمشتري: وليتك هذا العقد.
2 - الإشراك: وهو كالتولية، ولكنه على جزء من المبيع لا على جميعه، كأن يقول له: أشركتك في هذا العقد نصفه بنصف الثمن، ونحو ذلك.
ويشترط أن يبين هذا الجزء الذي يشركه فيه، فإن ذكر جزءاً ولم يبينه، كأن قال: أشركتك في بعض العقد، لم يصح العقد للجهالة. فإن أطلق الإشراك كأن يقول: أشركتك في هذا العقد، صح وكان مناصفة.(6/31)
3 - المرابحة: وهي أن يبيعه ما اشتراه وقبضه بما اشتراه به مع ربح معلوم محدد، كأن يقول: بعتك هذه الدار بما اشتريتها به وربح عشرة في المائة مثلاً، أو: وربح هذه السيارة مثلاً، وهكذا، فيجوز أن يكون الربح ليس من جنس الثمن.
4 - المحاططة (الوضعية): وهي أن يبيعه ما اشتراه وقبضه بما اشتراه به مع حط - أو وضع، أو خسارة - قدر معين من الثمن، كعشرة في المائة مثلاً ونحو ذلك. فالمحاططة والوضعية بعكس المرابحة كما ترى.
فهذه البيوع الأربعة جائزة ومشروعة، ودليل لك:
1 - أنها بيوع مستوفية لأركان عقد البيع وشروطه، فهي داخله في عموم قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} البقرة275.
2 - قد يستدل لبعضها بما جاء في حديث الهجرة الطويل عن عائشة رضي الله عنها: أن أبا بكر رضي الله عنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: خذ - بأبي أنت وأمي - إحدى راحلتي هاتين، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " بالثمن ". فالظاهر أنه عقد تولية، والله تعالى أعلم. (أخرج الحديث البخاري في فضائل الصحابة، باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة، رقم 3692).
ويشترط لصحة هذه البيوع: أن يكون المتبايعان على علم بالثمن الأول عند العقد، فإن كانا يجهلان الثمن عند العقد، أو كان أحدهما يجهله، لم ينعقد البيع، حتى ولو حصل العلم بذلك في مجلس التعاقد وقبل التفرق.
وكون المشتري الثاني يجهل الثمن الأول غير بعيد التصور، وكذلك البائع له، فقد يكون قد نسي الثمن، أو ما إلى ذلك.
وينبغي التنبيه هنا: إلى أنه إن قال بعتك بما اشتريت - في جميع الصور- لم يدخل في ذلك غير الثمن المشتري به أولاً، ولا يدخل فيه شيء آخر من النفقات إن وجدت.
وإن قال بعتك: بما قام علي، دخل في ذلك كل ما أنفقه على المبيع، من أجرة نقل ومخزن ونحو ذلك.(6/32)
وهناك بيوع خاصة جائزة، كالسلم وبيوع الربا والصرف، سنتكم عنها بالتفصيل بعد الكلام عن البيوع المنهي عنها.
ب - البيوع المنهي عنها:
هناك صور من البيوع نهى عنها الشارع لخللٍ فيها أو لأمر اقترن بها، ولذلك كانت على نوعين: باطلة، وصحيحة مع الحرمة.
أولاً: البيوع المحرمة والباطلة:
وهي البيوع التي نهى عنها الشارع لخلل في أركانها أو نقص في شروطها، وقد سمى الشارع أنواعاً من هذه البيوع ونهى عنها، وحكم الفقهاء ببطلانها، وهي:
1 - بيع اللبن في الضرع قبل أن يحلب، والصوف على ظهر الدابة قبل أن يُجَزّ أي يُقَصّ، وكذلك بيع الثمار قبل بدوّ صلاحها. فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يباع ثمر حتى يطعم، أو صوف على ظهر، أو لبن في ضرعٍ، أو سمن في لبن" أي قبل أن يمخض ويستخرج منه. (أخرجه الدارقطني في البيوع، رقم الحديث: 42).
وسبب البطلان هنا الجهالة في المعقود عليه وهو المبيع، فالثمر قبل بدو صلاحه - أي نضجه - لا يعرف كم سيكون مقداره بعد النضج، وقد يختلف اختلافاً كبيراً. وكذلك اللبن في الضرع، والصوف أيضاً: إذا قصّ من أُصوله كان في ذلك ضرر بالحيوان لا يجوز، وإن ترك منه شيء كي لا يؤذي الحيوان لا يعلم مقدار ما يترك منه، وفي ذلك كله غرر وجهالة تبطل البيع.
ونريد أن نتوسع في الكلام عن بيع الثمر قبل نضجه، لكثرة وقوع الناس في هذه المخالفة في هذه الأيام.
بيع الثمار قبل بدوّ صلاحها (الضمان)
وضعنا كلمة الضمان بين قوسين في العنوان لأن الناس في هذه الأيام يسّمون هذا النوع من البيع بهذه التسمية (الضمان). وتعنينا التسمية ـ فهي(6/33)
خاطئة على كل حال - وإنما يعنينا المضمون، فهو بيع للثمار قبل ظهور نضجها وصلاحها للأكل، بل لقد ذهب الناس أكثر من ذلك فأصبحوا يشترون الثمار قبل وجودها، وبمجرد ظهور الطَّلْع أي الزهر، وهذا خلل أكبر يجعل هذا البيع أكثر بطلاناً واشد إثماً، لأنه بيع المعدوم الذي قد لا يوجد.
وعلى كل حال علينا البيان، وعلى مَن آمن بالله تعالى وصدق برسوله - صلى الله عليه وسلم - وآمن بالوقوف بين يدي الله عزّ وجل، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، أن يسمع ويذعن ويخضع لأمر الشرع، فيبتعد عمّا نهى عنه، ولو كان يظنّ في ذلك مصلحة له، على أن الضرر كل الضرر كامِن فيما يخالف أمر الله تعالى أو أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
نقول: إن بيع الثمار قبل بدو صلاحها - بالإضافة إلى ما ذكرناه من الجهالة بمقدار المبيع - فيه غرر كبير، إذ قد تأتي آفة عليه من صقيع أو مرض أو ما إلى ذلك فلا يخرج، وهنا يأخذ صاحب الشجر مالاً بدون عوض يبذله مقابل ما زعمه ثمناً لثمر أشجاره، فيكون أكلاً لأموال الناس بالباطل، وهذا ما صرح به حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ قال: " أرأيْت إذا منع الله الثمرة، بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟ " وفي رواية فبم تستحل مال أخيك؟ (رواه البخاري في البيوع، باب: إذا باع الثمار قبل أن يبدوا صلاحها ... رقم: 2086. ومسلم: المساقاة، باب: وضع الجوائح، رقم: 1555)
فبيع الثمار قبل بدوّ الصلاح حرام وباطل، وقد جاء النهي عنه صريحاً، ويحتمل الإثم البائع والمشتري. فعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمار حتى يَبْدُوَ صَلاحُها، نهى البائعَ والمبتاعَ - أي المشتري " (البخاري: البيوع، باب: بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، رقم: 2082. ومسلم: البيوع، باب: النهي عن بيع الثمار قبل بدوّ صلاحها، رقم: 1534).
وحكمة التشريع واضحة في واقع الناس، فقلّما تجد المتعاملين بهذا، أي الذين يَضْمَنُون ويُضمِّنون بلغة العامة، إلا ويختلفون ويختصمون، وربما(6/34)
أدّى ذلك إلى إراقة الدماء أحياناً، نتيجة مخالفتهم لشرع الله عزّ وجل وإعراضهم عن نهيه - صلى الله عليه وسلم - وبيان حكمته، فأحرى بالمؤمنين، بل وبالناس أجمعين، أن يلتزموا شرع الله تعالى، لتكون لهم السعادة والرضا، ومَن ترك شيئاً لله عزّ وجل عوّضه الله تعالى خيراً منه.
وأما بيعه بعد بدوّ صلاحه وظهور نضجه فجائز، ودلّ على ذلك مفهوم الحديث السابق وغيره من الأحاديث التي سيأتي بعضها، فالنهى عن بيعها قبل بدوّ صلاحها يُفهم منه جواز بيعها بعد بدوّ صلاحها، والحكمة في ذلك واضحة: فإن آفات الثمار تصبح مأمونة غالباً بعد ذلك، لغلَظ الثمرة وكبر نواها، وأما قبله فتسرع إليها الآفات لضعف الثمر وصغَر نواه، ونحو ذلك.
فإذا بيع الثمر بعد نضجه كان للمشتري أن يُبْقيه على الشجر إلى أوان قطفه وقطعه، حسب العُرف الجاري والعادة المعمول بها، إلا إذا شرط البائع قطعه في الحال.
وضابط بدوّ الصلاح وظهور النضج:
فيما كان يتلوّن: أن يحمرّ أو يصفّر أو تظهر عليه علامات نضجه المعهودة.
وفي غير المتلوّن: أن تظهر عليه مبادئ النضج، ويتحقق فيه ما يُقصد منه، كحموضة أو حلاوة ولين تين، ونحو ذلك.
وفي الحديث: " نهى أن تُباع ثمرة النخل حتى تزهو، أو: يزهو. قيل: وما يزهو؟ قال: يَحْمَارُّ أو يصفارّ " وفيه: " حتى تُشْقِحَ. فقيل: ما تُشْقِحَ؟ قال: تحمارُّ وتصفارُّ ويُؤكَلُ منها ". (البخاري ومسلم: المواضع المشار إليها قبل قليل).
هذا ويجوز بيع الثمار قبل نضجها بشرط القطع، إذا كانت يُنتفع بها، كحصرم مثلاً، لانتفاء المانع من البيع وهو الغرر بإبقائها، وتحقق شرط المبيع وهو أن يكون منتفعاً به. فإذا كان المقطوع لا ينتفع به لم يصحّ، وكذلك إذا بيعت بشرط الإبقاء لما سبق، ومثل شرط الإبقاء إذا بيعت بدون شرط وكان(6/35)
العرف جارياً بإبقائها، فهو باطل، لأن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، فيٌقام جريان العرف بإبقائه مقام شرط إبقائه فيبطل.
ومثل الثمر في كل ما سبق الزرع، لأنه في معناه، إذ المقصود منهما واحد، والله تعالى أعلم.
2 - البيوع التي فيها معنى المقامرة: وهي بيوع إما فيها جهالة بالمبيع أو خلل في إرادة العاقدين، ومما نُصًّ عليه من هذه البيوع:
بيع المنابذة أو الملامسة: وهو أن يتبايعا أحد المبيعات دون تعيين، فإذا نبذ - أي ألقى - البائع أحدها ولمس المشتري أحدها كان هو المبيع. ومنها أن يبيعه الثوب - مثلاً - في الظلمة، فيلمسه دون أن يراه.
أو أن يتبايعا مبيعاً معيناً، على أنه متى نبذه البائع أو لمسه المشتري فقد وجب البيع ولزم. وواضح أن في الصورة الأولى جهالة في المبيع، وفي الصورة الثانية خللاً في إرادة المتبايعين، لأنه لا يُدرى متى يلقي ذاك أو يلمس هذا ليُلزم الآخر بالبيع.
وقد روى أبو سعيد الخدري رضي اله عنه قال: " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المُلاَمَسَةِ والمنابَذَةِ في البيع ".
وقد جاء تفسيرهما عن راوي الحديث إذ قال: (والملامسة: لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنهار، ولا يقلِبُهُ إلا بذلك. المنابذة: أن ينبذ الرجل إلى الرجل بثوبه، وينبذ الآخر إليه ثوبه، ويكون ذلك بيعهما من غير نظر ولا تراضٍ).
(رواه البخاري في اللباس، باب: اشتمال الصمّاء، رقم: 5482. ومسلم: البيوع، باب: إبطال بيع الملامسة والمنابذة، رقم: 1512).
ومثل المنابذة الملامسة في المعنى: بيع الحصاة، وهو أن يتبايعا إحدى السلع، على أن يلقي أحدهما حصاة، فعلى أيّها وقعت كان هو المبيع، وقد ورد النهي عنه وحكم الفقهاء ببطلانه لما فيه من الجهالة والخلل في إرادة العاقدين.(6/36)
فعن أبي هريرة رضي الله عنه: " أنّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بَيْع الحَصَاةِ" (أخرجه مسلم في البيوع، باب: بطلان بيع الحصاة والبيع الذي فيه غرر، رقم: 1513).
ومثله ما يجري الآن من وضع أشياء في أماكن، وتدار عليها خشبة أو حديدة، فأيّ شيء وقفت عنده الحديدة أو الخشبة ثبت بيعه للمشتري بقيمة معينة. وكذلك إذا وضع للأشياء أرقام، وأديرت دواليب ذات أرقام، فإذا وقفت عند أرقام يحملها أحد الأشياء كان هو المبيع، ولزم البيع.
3 - بيعتان في بيعة: وهو أن يذكر في صيغة العقد عقدان في آن واحد، كأن يقول البائع: بعتك هذه الدار - مثلاً - بألف نقداً وبألفين تقسيطاً أو إلى سنة. فيقبل المشتري البيع بالنقد أو بالتقسيط. أو أن يقول: بعتك هذه السيارة - مثلاً بألف - على أن تبيعني دارك بألفين. فهذا النوع من البيوع منهيُّ عنه وباطل، للجهل بالثمن في الصورة الأولى، والتعليق على الشرط في الصورة الثانية.
روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بّيْعَتَيْنِ في بَيْعَةٍ ".
(أخرجه الترمذي في البيوع، باب: ما جاء في النهي عن بيعتين في بيعه، رقم: 1231، كما أخرجه النسائي وأحمد).
البيع بالتقسيط
وبالمناسبة نبيِّن أن البيع بالتقسيط لا مانع منه وهو صحيح، شريطة أن لا يذكر في صيغة العقد السعران، كما سبق، فيكون بيعتين في بيعة، وهو باطل كما علمت. أما لو تساوم المتبايعان على السعر قبل إجراء العقد، ثم اتفقا في نهاية المساومة على البيع تقسيطاً، وعقد العقد على ذلك، فإن العقد صحيح، ولا حرمة فيه ولا إثم، حتى ولو ذكر السعر نقداً أثناء المساومة، طالما أنه لم يتعرض له أثناء إنشاء العقد.
وينبغي أن ينتفي من الأذهان أن في هذا العقد رِباً، لأن الفارق بين السعرين هو في مقابل الأجل. لأننا نقول: إن الربا هو الزيادة التي يأخذها أحد(6/37)
المتعاملين من الآخر من جنس ما أعطاه، مقابل الأجل. كأن يقرضه ألف درهم مثلا، على أن يأخذها منه بعد شهر ألفاً ومائة، أو أن يبيعه ألف صاع حنطة مثلاً بألف صاع ومائة من الحنطة، يعطيها له الآن أو بعد أجل، كما ستعلم في باب الربا. أما أن يعطيه سلعة قيمتها الآن ألف، فيبيعها له بألف ومائة إلى أجل أو تقسيطاً، فهذا ليس من الربا في شيء، بل هو نوع من التسامح في التعامل والتيسير، لأنه أعطاه سلعة ولم يعطه دراهم أو غيرها، ولم يأخذ منه زيادة من جنس ما أعطاه، ولا شك أن للحلول فضلاً على الأجل، فكل الناس يؤثر الأقل الحال - أي الذي يُدفع الآن - على الكثير الذي يُدفع بعد حين.
4 - بيع العُرْبون: وهو أن يبيعه شيئاً على أن يعطيه جزءاً من الثمن، يكون هبة للبائع إن لم يتم البيع، وإن تم البيع حُسب من الثمن. فهو منهي عنه وباطل لأن فيه شرطاً فاسداً، وهو الهبة للبائع.
روى عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع العُرْبان ".
(أخرجه أبو داود في البيوع والإجارات، باب: في العُربان، رقم: 3502 كما أخرجه ابن ماجه في التجارات).
[والعُرْبان لغة في العُرْبون].
هذا وينبغي التنبيه على أن المحرم والباطل هو الذي شرط فيه ذلك أثناء العقد، أما لو لم يشرط ذلك في العقد، ويعد تمام العقد طالب البائع بقسط من الثمن عربوناً فلا بأس، ولكن لا يحلّ له إذا فُسخ العقد فيما بعد إلا برضا المشتري.
5 - بيع الدّيْن بالدَّيْن: وهو أن يكون - مثلاً - لشخص دين على آخر، ولثالث دين على الأول، فيبيع أحد الدائِنَيْن دَيْنه من الآخر بالدَّيْن الذي له على الثالث فهذا البيع وأمثاله منهيُّ عنه وباطل، لعدم القدرة على تسليم المبيع.
وروى ابن عمر رضي الله عنهما: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيعِ الكَالِئِ بالكَالِئ " (أخرجه الدارقطني في البيع، رقم الحديث: 269).(6/38)
[والكالئ هو الدَّيْن، من كلأ يكلأ إذا تأخر، فهو كالئ]
وفسره بعضهم بأن يشتري أحد سلعة يستلمها بعد أجل معين، ويسلم ثمنها الآن، فإذا حلّ الأجل وعجز البائع عن تسليم السلعة قال للمشتري: بعني هذه السلعة بكذا إلى أجل. وهذا باطل أيضاً.
ومن صور بيع الدَّيْن بالدَّيْن: أن يبيعه لمن عليه الدَّيْن أيضاً بدين.
وكذلك لو باع الدين الذي له على شخص بعين - أي سلعة حاضرة، أو قدر من المال يبرزه ويدفعه - لشخص آخر غر مَنْ عليه الدين، فهو باطل أيضاً، لعدم القدرة على تسليم المبيع.
أما لو باع الدين بعين لمن هو عليه الدين، كأن باعه الألف التي له في ذمّته بسجادة مثلاً، أو خمسمائة يخرجها مَنْ عليه الدين ويدفعها، صحّ هذا البيع، لأنه في معنى الصلح، وهو جائز كما ستعلم إن شاء الله تعالى.
ويستدل أيضاً لهذه الصورة بحديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: إني أبيع الإبل بالبَقِيعِ، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ بالدنانير؟ فقال: " لا بأسَ أنْ تَأخُذّ بسعرِ يومِها، ما لم تَفْتَرِقا وبينَكُما شيءٌ " (انظر: الترمذي: البيوع، باب: في اقتضاء الذهب من الورق، رقم: 3354 كما أخرجه باقي أصحاب السنن والإمام أحمد).
فقوله: (أبيع بالدنانير ... ) أي ديناً، لأنه لم يقبضها، ثم يستبدل بها دراهم يقبضها، فهذا بيع للدين بعين ممّن عليه الدين. والبقيع: اسم موضع فيه قبور أهل المدينة، وكان سوقاً للتجار.
6 - بيع المبيع قبل قبضه: وذلك بأن يشتري إنسان سلعة أو بضاعة، ثم يبيعها قبل أن يقبضها. فهو بيع منهي عنه وباطل، لما علمنا أن المبيع لم يدخل في ضمان المشتري قبل قبضه، فلا يملك أن يبيعه. روى ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من ابْتَاعَ طعاماً فلا يَبِعْهُ حتَّى يَقْبِضَهُ ".(6/39)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أما الذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو الطعام أن يُبَاع حتى يُقبَضَ). قال ابن عباس: (ولا أحسَبُ كلّ شيء إلا مثْلَهُ). (البخاري: البيوع، باب: بيع الطعام قبل أن يقبض وبيع ما ليس عندك 2028، 2029. مسلم: البيوع، باب: بطلان بيع المبيع قبل القبض، رقم: 1525، 1527).
وهذا إذا كان البيع لغير البائع الأول، فإذا كان البيع لنفس البائع الأول كان باطلاً أيضاً إذا كان بغير الثمن الأول أو بمثله، لأنه بيع يدخل في عموم النهي.
أما إذا باعه للبائع الأول بنفس الثمن الذي اشتراه به، أو بمثله إن تلف الثمن الأول، كان صحيحاً، لأنه في الحقيقة إقالة من البيع الأول وليس بيعاً جديداً، وإن كان على صورة البيع.
ثانياً - البيوع المحرّمة غير الباطلة:
وهي البيوع التي ورد النهي عنها لا لنقص في أركانها ولا لخلل في شروطها، وإنما لأمر خارج عنها، ولذا يحكم بصحتها مع ثبوت التحريم لها والإثم على فاعلها. وهذه البيوع هي:
1 - بيع المُصَرّاة:
وهي الناقة أو البقرة أو الشاة، يترك حلبها عمداً أياماً ليجتمع اللبن في ضَرعها، فيتوهم المشتري كثرة اللبن فيها على الدوام، فيرغب بشرائها، وربما زاد في ثمنها.
فإذا وقع الشراء كان العقد صحيحاً، ولكن مع الحرمة، لما فيه من الغش والتدليس. فإذا علم المشتري بذلك ثبت له خيار الرد على الفور، لأنه في حكم خيار الرد بالعيب، فإذا ردّها وكان قد حلبها ردّ معها صاعاً من تمر بدل اللبن الذي أخذه، أو ردّ البن نفسه إذا رضي البائع بذلك.
وإن رضي بالشاة مع العلم بالتصرية لم يكن له شيء.
ودليل ما سبق: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تُصَرُّوا الإبل والغنم، فمن ابْتَاعها بعدَ ذلك فهو بخير النَّظَرّيْنِ بعد أن يَحْلُبها: إن(6/40)
رضيها أمسكَها، وإن سَخِطَها ردّها وصاعاً من تمر". (أخرجه البخاري في البيوع، باب: النهي أن لا يحفل الإبل .. ، رقم: 2041. ومسلم في البيوع، باب: تحريم بيع حبل الحبلة، رقم 1515).
ويقاس على الإبل الغنم غيرهما مما يتحقق فيه هذا المعنى، ولا سيما الحيوان المأكول اللحم.
2 - النَّجْش:
وهو أن يزيد شخص في ثمن السلعة وهو لا يقصد الشراء، وإنما ليوهم غيره نفاستها، فيشتريها بأكثر من ثمنها. واصل النجش الاستتار، لأنه يستر قصده.
وهذا العمل حرام، لما رواه عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: " نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النَّجْش ". (أخرجه البخاري في البيوع، باب: النجش، رقم: 2035. ومسلم في البيوع، باب: تحريم بيع الرجل على بيع أخيه ... ، رقم: 1516) فإذا حصل الشراء كان صحيحاً.
فإذا قام الدليل على أن ذلك كان بتواطؤ بين البائع والناجش كانت الحرمة عليهما، وكان البائع غارّاً وغاشّاً للمشتري ومدلِّساً عليه، فيثبت له بذلك حق الخيار. وإن لم يثبت أن ذلك كان بتواطؤ منهما لم يكن للمشتري الخيار، لأنه مقصِّر في التحرِّي والبحث.
3 - بيع الحاضر للبادي:
وهو أن يَقْدَم رجل من سفر - من بادية أو غيرها - ومعه متاع يريد بيعه، وأهل البلد في حاجة إليه، فيقول له من آخر من أهل البلد: لا تبع حتى أبيع لك هذه البضاعة شيئاً فشيئاً، ويزداد الثمن.
فمثل هذا العمل حرام، لما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يَبْع حاضِرٌ لبادٍ ". فقيل لابن عباس: ما قوله: " لا يبع حاضر لبادٍ"؟ قال: (لا يكون سمساراً) (أخرجه البخاري في البيوع، باب: هل يبيع حاضر لبادٍ بغير أجر ... ، رقم: 2050. ومسلم في البيوع، باب: تحريم بيع الحاضر للبادي، رقم: 1521).(6/41)
وسبب النهي والتحريم ما في ذلك من تضييق على الناس.
وينبغي التنبيه إلى أن هذا لا ينطبق على ما يفعله اليوم الوسطاء، حين يقومون ببيع البضائع لمن يجلبونها إلى البلد، لأن معنى التضييق لأهل البلد غير وارد، بل ربما كان عملهم تسهيلاً وتيسيراً على المنتج والمستهلك.
4 - تلقَّي الركبان:
وهو أن يخرج التاجر إلى خارج البلد، فيستقبل القادمين بالبضائع، ويوهمهم أن ما معهم من السِّلَع كاسد في البلد، وأن أسعارها بخسة، ليشتريها منهم بأقل من ثمنها.
فإذا اشترى منهم هذه البضائع كان البيع صحيحاً مع حرمته، لما فيه من الخداع، وقد دل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس رضي الله عنهما السابق: " لا تَتَلَقَّوْا الرُّكْبَان ".
فإذا نزل أصحاب البضائع السوق وعرفوا الأسعار، وبانَ لهم أنهم مغبونون بالثمن، ثبت لهم خيار فسخ البيع.
روى أبو هريرة رضي الله عنه قال " نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُتَلَقَّى الجَلَبُ، فإن تلقاه إنسانٌ فابتاعَهُ فصاحب السلعةِ فيها بالخيارِ إذا ورد السوق ". (انظر مسلم: البيوع، باب: تحريم تلقي الجلب، كما أخرجه أصحاب السنن).
5 - الاحتكار:
وهو أن يشتري البضائع التي تعتبر أقواتاً للناس من الأسواق، ولا سيما عند حاجة الناس إليها، فيجمعها عنده ولا يظهرها، ليرتفع ثمنها أكثر فأكثر، فيبيعها شيئاً فشيئا مستغلاً حاجة الناس.
فمثل هذا التصرف حرام، لما رواه معمر بن عبدالله العدوي رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يحتكر إلى خاطئ" (أخرجه مسلم في المساقاة، باب تحريم الاحتكار في الأقوات، رقم 1605).
[والخاطئ هو المذنب العاصي].(6/42)
فإذا صار الناس في حاجة شديدة إلى هذه الأقوات، أو ضرورة، أُجبر المحتكر على بيعها بالسعر المناسب، فإن أبى باعها القاضي عليه وأدى له ثمنها.
وهذا ينبغي أن يعلم أن شراء مثل هذه البضائع في المواسم وحال توفرها في الأسواق، من أجل ادّخارها لتباع وقت الحاجة إليها، كما يفعل الكثيرون من التجّار حين يشترون الجبن مثلاً، وكما تفعل المعامل حين تُصَنِّع بعض الأغذية وتحفظها من الفساد، لينتفع الناس بها حين عدم توفرها، كل ذلك ليس باحتكار، وإنما هو تجارة مشروعة وعمل نافع، وقد يكون في ذلك خير العباد والبلاد، ويؤجر هؤلاء الذين يحفظون الفائض عن الحاجة في موسمه ليتوفر في أوقات أخرى، لا سيما لأولئك الناس الذين قد لا يتمكنون من ادّخار الأقوات، وما يسمى (المونة) في بعض البلدان اليوم.
6 - البيع على بيع أخيه أو السوم على سومه:
أما البيع: فهو أن يجئ إلى من اشترى شيئاً وهو مدة الخيار فيقول له: أنا أبيعك أجود مما اشتريت بنفس الثمن، أو أبيعك مثله بأقل من هذا الثمن.
وأما السَّوْم: فأن يكون رجل يسوم سلعة، وربما اتفق مع صاحبها على ثمن، فيأتي آخر ويعرض على صاحب السلعة ثمناً أكبر ليبيعها له. أو أن يعرض على المشتري سلعة مثلها بثمن أقل، أو أنفس منها بنفس الثمن.
فكل ذلك حرام، لما رواه أبو هريرة وابن عمر رضي الله عنهما من قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا بيع الرجُلُ على بيع أخيه ". وقوله: " لا يَسُم المسلمُ على سَوْمِ أخيه " (البخاري: البيوع، باب: لا يبيع على بيع أخيه ... ، رقم: 2023. ومسلم: البيوع، باب: تحريم بيع الرجل على بيع أخيه .. ، رقم: 1515).
والحكمة من تحريم هذه الأمور: ما فيها من إخلال بالمروءة، وإيغار للصدور، وزرع للبغضاء وإثارة للنزاع والشحناء، وإفساد للمجتمعات بقطع الصلات وإلقاء العداوة بين الناس، مما يتنافى مع حرص الإسلام على تآلف المجتمعات، وتمتين الروابط بين الناس وتحسين الصلات.(6/43)
7 - مبايعة من يعلم أن جميع ماله حرام:
إذا علم أن فلاناً من الناس كل ماله حرام، كأن كان ثمن محرم بيعه كخمرٍ أو خنزير أو ميتة أو كلب، أو كسبه بطريق غير مشروع، كاليانصيب مثلاً أو رشوة، أو أُجرة على محرم ونحو ذلك، فإنه يحرم بيعه كما يحرم الشراء منه، وكذلك كل أنواع التعامل معه كإجارة أو عارية أو نحو ذلك. كما يحرم الأكل من طعامه.
فإذا لم يكن كل ماله حراماً، بل كان مخلوطاً من حرام وحلال، كره التعامل معه بجميع الأوجه التي سبقت.
دلّ على ذلك: ما رواه النعمانُ بن بشير رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " الحلال بَيِّنٌ والحرامُ بَيِّنٌ، وبينهما أمورٌ مشتبهاتٌ لا يعلمُها كثيرُ من الناس فمَن اتَّقَى الشبهات فقد اسْتَبْرَأَ لدينه وعرضْه، ومَن وقَع في الشبهات وقع في الحرامِ " (أخرجه البخاري في الإيمان، باب فضل مَن استبرأ لدينه، رقم: 152. ومسلم: المساقاة، باب: أخذ الحلال وترك الشبهات، رقم: 1599).
ومن آداب البيع:
1 - السماحة في البيع والشراء: وذلك بأن يتساهل البائع في الثمن فينقص منه، والمشتري في المبيع فلا يتشدد في الشروط، وفي الثمن فيزيد فيه، وأن يتساهل مع المعسر بالثمن فيؤجله إلى وقت يساره، وإذا طالبه بدينه فلا يشدد عليه ولا يحرجه. روى جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " رحم الله رجلاً سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقْتضى - أي طالب بدينه - " (أخرجه البخاري في البيوع، باب: السهولة والسماحة في الشراء والبيع .. ، رقم: 1970).
2 - الصدق في المعاملة: بأن لا يكذب في إخباره عن نوع البضاعة ونفاستها، أو مصدر صنعها ونحو ذلك، وكذلك لا يدّعي ن تكاليفها أو رأس مالها أكثر مما يعطيه المشتري من الثمن، إلى غير ذلك، بل يصدق في كل هذا فيما لو سئل وينصح.
عن رفاعة رضي الله عنه: أنه خرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المصلى، فرأى الناس يتابعون، فقال: " يا معشر التُّجار ". فاستجابوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورفعوا(6/44)
أعناقهم وأبصارهم إليه، فقال: الترمذي " إنّ التجارّ وصححه، يُبعثُون يومَ القيامة فُجّاراً، إلا اتقى الله وَبَرّ وصَدَقَ " (أخرجه الترمذي في البيوع وصححه، باب: ما جاء من في التجار وتسمية النبي - صلى الله عليه وسلم - إياهم، رقم: 1210).
[بَرّ: أحسن في المعاملة].
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " التّاجرُ الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء " (الترمذي: البيوع، باب: ما جاء في التجار وتسمية النبي - صلى الله عليه وسلم - إياهم، رقم: 1208).
وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " البَيِّعان بالخيار ما لم يتفرِّقا - أو قال " حتى يتفرّقا - فإنْ صَدَقا وبيِّنا بُورك لهما في بيعهما، وإنْ كتَما وكَذَبا مُحقَتْ بركة بيعهما " (البخاري: البيوع، باب: ما يمحق الكذب والكتمان في البيع، رقم: 1976. ومسلم: البيوع، باب: الصدق في البيع والبيان، رقم: 1532).
3 - عدم الحلف ولو كان صادقاً: ومن آداب البيع والشراء ودلائل الصدق فيه عدم الإكثار من الحلف، بل عدم الحلف مطلقاً، حال كونه صادقاً في البيع، لأن في ذلك امتهاناً لاسم الله تعالى، وقد قال جلّ وعلا: {وَلاَ تَجْعَلُواْ اللهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ} (البقرة224).
وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " الحلفُ مَنفْقَة للسلعة، ممحقة للبركة " (البخاري: البيوع، باب: (يمحق الله الربا ويربى الصدقات ... ) رقم: 1981. مسلم: المساقاة، باب: النهي عن الحلف في البيع، رقم: 1606).
وليحذر كل الحذر أولئك الذين يروِّجون بضائعهم ويغرون زبائنهم بالأيمان الكاذبة، فعن أبي ذر رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ". قلنا: من هم يا رسول الله فقد خاُبوا وخسرُوا؟ فقال: " المنَّان، والمُسْبل إزارهُ، والمُنفق سلْعته بالحَلف الكاذب " (أخرجه مسلم في الإيمان، باب: غلظ تحريم إسبال الإزار ... رقم: 106) [وإسبال الإزار: المراد به إطالة الثياب تكبراً وتعالياً](6/45)
4 - الإكثار من الصدقات في الأسواق وحال البياعات: عسى أن يكون ذلك تكفيراً لما قد يقع من حلف لم ينتبه إليه، أو غش بسبب عيب لم يفطن البائع إلى بيانه، أو غبن في السعر، أو سوء خلق أو ما إلى ذلك.
روى قيس بن أبي غرزة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نسمَّي السماسرة، فقال: " يا معشَرَ التجار، إنَّ الشيطان والإثْم يحْضُرَانِ البيع، فشُوبُوا بيعكُم بالصدقة " (أخرجه الترمذي في البيوع، باب: ما جاء في التجار وتسمية النبي - صلى الله عليه وسلم - إياهم، رقم 1208. كما أخرجه أبو داود وابن ماجه).
[وقوله: " شوبوا " أي اخلطوا]
5 - الكتابة والإشهاد: إذا كان البيع بالنسيئة - أي أن الثمن مؤخر إلى أجل - استحب كتابة العقد وبيان مقدار هذا الدين وأصله وما يتعلق بذلك مما ينفي المنازعة، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (البقرة282)
ففي ذلك مزيد من الضمان للحق، وتمتين للثقة والتعاون بين المسلمين، قال تعالى: {وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ} أي أقرب إلى الحق وأعدل بين الناس، والتبديل للحق، الذي يغلب أن يؤدي إلى فقد الثقة وعدم التداين بين الناس، وفي ذلك من التضييق ما فيه.
وكذلك يستحب الإشهاد على التبايع ولو لم يكن في ذلك تداين، وكان البيع مع نقد الثمن وتسليم المبيع، كي لا يقع إنكار للعقد أو شيء من شروطه، فيحصل النزاع والتخاصم، وامتثالاً لأمر الله عز وجل إذ يقول: {وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ}.(6/46)
الإقالة
تعريفها:
الإقالة - في اللغة - معناها الرفع، واستعمالها في العقود يعني: رفع أحكام العقد وآثاره.
فهي في اصطلاح الفقهاء: توافق المتعاقدين على رفع العقد القابل للفسخ بخيار.
فمن التعريف نعلم أن الإقالة إنما تكون في العقود اللازمة، أي التي إذا تمّت - بتحقق شروطها وكما أركانها - لم يكن للمتعاقد فسخها إلا بموافقة الطرف الآخر. أما العقود الجائزة - وهي التي لكلِّ من العاقدين فسخها متى شاء، ولو لم يرض الطرف الآخر - فلا داعي فيها للإقالة.
وكذلك نعلم من التعريف أن الإقالة إنما تكون في العقود التي تقبل الفسخ، كالبيع والإجارة ونحو ذلك. أما العقود التي لا تقبل الفسخ - كالنكاح - فلا إقالة فيها.
مشروعيتها:
والإقالة مشروعة، بل هي مندوبة إذا طلبها أحد المتعاقدين، لما فيها من التيسير على الناس، وتخليصهم مما يظنون أنه ورطة يندمون على الوقوع فيها، فقد يعقد أحدهم عقداً ثم يرى أنه مغبون فيه، أو أنه ليس بحاجة إليه، فيبقى في غمِّ وكرب، ويكون في إقالته منه تنفيس لكربه وتفريج لغمّه وفي ذلك من الأجر ما فيه.(6/47)
ودل على مشروعيتها: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من أقال مسلماً بيعته أقال الله عثرته ". وفي لفظ: " من أقال مسلماً أقال الله عثرته يوم القيام ". وفي لفظ: " من أقال نادماً ". (أخرجه أبو داود في البيوع، باب: في فضل الإقالة، رقم: 3460. كما أخرجه ابن ماجه، وصححه ابن حبان والحاكم، وغير هؤلاء).
ركن الإقالة:
لا بدّ في الإقالة من صيغة هي ركن الإقالة، وهي الإيجاب: كأقلني بيعتي، والقبول: كأقلتك. وتصح بلفظ الفسخ والترك والرفع.
ويُشترط فيها اتحاد المجلس بين الإيجاب والقبول، كغيرها من العقود، لأنها عقد.
شروطها:
1 - رضا المتقايلَيْن بها، كما عُلم من قولنا في التعريف: (بخيار). فلو كان أحدهما مكَرهاً لم تصح، لأنها فسخ للعقد، فيلزم لها ما يلزم له من الرضا والاختيار.
2 - أن لا يكون فيها زيادة ولا نقصان عن أصل العقد، فلا يُزاد في أحد البدلين ولا يُنقص منه، لأنها - كما قلنا - فسخ، أي رفع للعقد الذي جرى، وعودة بالمتعاقدين إلى ما كانا عليه قبل العقد.
ولذا لو كانت الإقالة في البيع، وزاد المبيع زيادة منفصلة متولِّدة من الأصل، كأن يكون المبيع شاة فتلد، امتنعت الإقالة.
وبناء على ذلك تصحّ على الزيادة والنقصان.
وهذا ما يجري عليه أكثر الناس في أيامنا هذه، إذ إنهم لا يرضَوْن بالإقالة ما لم يكن من طالبها تنازل عن شيء من حقه، أو أن يعطي الطرف الثاني ما يرضيه ليرجع عن العقد ويقبل برفعه.(6/48)
الباب الثاني
السلم(6/49)
السلم
تعريفه:
هو - في اللغة - السلف، أي التقديم.
وشرعاً: هو بيع شيء موصوف في الذمة بلفظ السلم أو السلف.
وهو نوع من البيوع، وهو مستثنى من بيع المعدوم وما ليس عند الإنسان.
مشروعيته:
قلنا: إن عقد السلم مستثنى من بيع المعدوم، وقد علمنا أنه لا يصحّ بيع المعدوم، وإنما استُثني السلم من ذلك لحاجة الناس إلى مثل هذا العقد.
روى عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَدِمَ المدينةَ وهم يُسْلِفُونَ في الثمار السنة والسنتين، فقال: " من أسْلَفَ فَلْيُسلفْ في كيل معلوم، ووزْن معلم، إلى أجل معلوم " (البخاري: السلم، باب: السلم في وزن معلوم، رقم: 2125. مسلم في المساقاة، باب: السلم، رقم: 1604).
وعن عبد الرحمن بن أبزي وعبدالله بن أبي أوفى رضي الله عنهما قالا: كنّا نصيب المغانم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان يأتينا من أنْبًاطِ الشام، فنسلفهم في الحنطة والشعير والزيت إلى أجَل مسمى. قبل: أكان لهم زرع أو لم يكن؟ قالا: ما كنا نسألُهم عن ذلك (البخاري: السلم، باب: السلم إلى من ليس عنده أصل، رقم: 2128).(6/51)
وقد روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أشهد أن الله تعالى أحلّ السلف المضمون، وأنزل فيه أطول آية في كتابه، وتلا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ .. } البقرة282 وانظر تفسير الآية عند ابن كثير.
ووجه دلالة الآية على مشروعية السلم أنه نوع ديْن، والآية أقرت الدين وأجازته، فيكون السلم جائزاً.
حكمة تشريعه:
أشرنا أن القياس في السلم أن يكون غير مشروع، لأنه بيع المعدوم وما ليس عند الإنسان، وإنما شرع لحاجة الناس إليه. وهذه الحاجة تظهر في أن أصحاب الصناعات والأعمال، وكذلك أصحاب الأراضي والأشجار، كثيراً ما يحتاجون إلى المال من اجل تأمين السلع الأولية لمنتجاتهم، أو تهيئة الآلات والأدوات لمصانعهم، وكذلك الزرّاع ربما احتاجوا للمال من رجل رعاية أراضيهم وحفظ بساتينهم. وقد لا يجد هؤلاء المال لدى مَن يمكن أن يقدّمه لهم قرضاً، وقد لا يرضى بذلك، فيسّر لهم الشرع أن يستلفوا هذا المال على أساس أن يقدموا بدله منتجاتهم من زرع أو ثمر أو سلع ونحو ذلك.
وكذلك التجار الذين يرغبون بتأمين السلع والبضائع في الوقت المناسب، قد لا يجدون مَن يبيعهم ذلك في حينه، ويكون المال متوفراً لديهم، فيسّر لهم الشرع أن يسلفوا هذا المال في البضائع التي يرغبون.
وهكذا نجد أن تشريع السلم حقّق مصالح عدّة، إذ يسّر المال لمن لا يجده والبضاعة لمن يرغب بها، وفتح الطريق أمام المال ليقوم بوظيفته الأساسية، ألا وهي قوام عيش الناس، فلم يبق مخزوناً مكنوزاً. وتلافي أخطار بيع المعدوم بالشروط والقيود التي أحاط بها هذا العقد، والتي ستراها خلال البحث.
أركانه وشروطه:
أركان عقد السلم أربعة: عاقدان وصيغة ورأس مال السلم والمُسلَم فيه، ولكلِّ منها شروط.(6/52)
1 - الركن الأول: العاقدان:
وهما المشتري الذي يسلف ماله مقابل السلعة التي يرغب بها، ويسمى المُسلم.
والبائع الذي يستسلف المال ليقدم السلعة بمقابله، ويسمى المسلَم إليه. ويشترط فيهما ما يشترط في البائع والمشتري في عقد البيع، من العقل والبلوغ والاختيار ونحو ذلك.
ويستثنى شرط البصر، فإن الأعمى يصحّ السلم منه بينما لا يصح بيعه كما علمنا، لأن البيع يُشترط فيه رؤية المبيع من المتعاقدين، وفي السلم المبيع موصوف في الذمّة، فيمكن معرفة صفاته بالسماع، وعند القبض يوكل مَن يقوم بذلك ليتحقق من وجود الصفات المشروطة.
2 - الركن الثاني: الصيغة:
وهي الإيجاب والقبول، كأن يقول صاحب المال: أسلفتك أو أسلمتك هذه الألف دينار في ألف ثوب صفتها كذا مثلاً، فيقول المسلَم إليه: قبلت، أو استلفت، أو استسلمت، ونحو ذلك.
ويشترط فيها ما يشترط في الصيغة في البيع من اتحاد المجلس وموافقة الإيجاب للقبول ونحو ذلك.
ويضاف إلى ما سبق: أن تكون الصيغة بلفظ السلم أو السلف، فلا تصحّ بغيرهما.
وكذلك يشترط خلو العقد عن خيار الشرط، أي أن يكون العقد باتاً، لأن خيار الشرط شُرع استثناءً في عقد البيع المطلق، فلا يُقاس على البيع غيره، فيبقى شرط الخيار فيه على أصل المنع.
وكذلك يشترط في السلم تسليم رأس المال في مجلس العقد - كما ستعلم - وخيار الشرط في العقد بمنع تحقّق ذلك، لأن شرط الخيار يمنع ثبوت الملْك للمسلَم إليه في الثمن، فيكون قبضه صورة، ويؤدي ذلك إلى افتراق العاقدين قبل تمام العقد، وذلك لا يجوز، فيكون العقد الذي شرط فيه الخيار باطلاً.(6/53)
أما خيار المجلس: فإنه يثبت في عقد السلم، لأنه ينقضي بالتفرّق، فيكون تفرّق العاقدين عن تمام العقد، فلا تعارض بين خيار المجلس وشروط عقد السلم.
3 - الركن الثالث: رأس المال:
وهو الثمن الذي يدفعه المشتري سلفاً إلى البائع، ويشترط فيه:
أ - أن يكون معلوماً للعاقدين قدراً وصفة، بأن يكون - مثلاً - ألف دينارٍ أو ألفي درهم، وإذا كان الثمن مما يُباع بالكيل أو الوزن، كأن يكون حنطة أو سكراً ونحو ذلك، يشترط بيان قدره كيلاً ووزناً، كألف مدّ أو ألف رطل، وكذلك يشترط عندها بيان صفته من حيث الجودة والرداءة.
فإن كان مشاهداً، كأن يسلفه كومة من الحنطة في سلعة ما، أو هذه الدراهم، اشترط بيان القدر، ويستغنى عن ذكر الصفة والجنس والنوع، لأن المشاهدة تنوب مناب ذلك في البيان.
ب - تسليم رأس المال من رب المال في مجلس العقد وقبض المسلَم إليه له، وذلك قبل تفرق أبدانهما، لأن التسليم هو أصل معنى السلم، فإذا لم يوجد ذلك لم يوجد العقد، ولأنه يصير في معنى بيع الدين بالدَّيْن، وهو منهي عنه كما علمت.
ويشترط فيه القبض الحقيقي، فلو أحال برأس مال السلم ليقبضه المسلم إليه لم يصح، لأن الحوالة ليست بقبض.
4 - الركن الرابع: المسلم فيه:
وهو الشيء المبيع محل العقد، الذي تعهّد البائع بتأديته إلى المشتري، مقابل رأس مال السلم المدفوع سلفاً. ويشترط فيه:
أ - أن يكون مما يمكن ضبطه بالوصف، الذي تختلف به الأغراض، بحيث تنتفي الجهالة عنه، ولا يبقى إمكان للاختلاف بين أفراد جنسه إلا بتفاوت يسير يتساهل الناس به عادة.(6/54)
ودليل ذلك: ما رواه عبدالله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: إنّا كنّا نُسْلف على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما في الحنطة والشعير والزبيب والتَّمْر (أخرجه البخاري في المسلم، باب: السلم إلى مَن ليس عنده أصل، رقم: 2128).
وهذه الأصناف كلها مما يمكن ضبطه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في السلم في الكرابيس: إذا كان ذَرْعاً معلوماً إلى أجلِ معلوم فلا بَأْسَ.
والكرابيس: ثياب تتخذ من القطن الأبيض، فهي مما يضبط بالوصف
وعن أبي النضر رضي الله عنه قال: سئل عمر رضي الله عنه عن السلم في السّرَق، قال: لا بأس. والسّرَقة: الشقة من الحرير، وهو مما يمكن ضبطه.
ويقاس على هذه الأشياء المذكورة غيرها مما لم يذكر، سواء أكان موجوداً قديماً أم وجد الآن أو يوجد في المستقبل، طالما أنه في معناها، أي مما يمكن ضبطه بالوصف، ولو لم يكن مثلياً.
فإذا كان لا يمكن ضبطه بالوصف فلا يجوز السلم فيه ولا يصح، لأنه عقد على ما فيه جهالة فاحشة تؤدي إلى النزاع. ويذكر الفقهاء هنا أمثلة كالجلود، فإنها تختلف رقّة وثخونة، وتلك أغراض مقصودة. وكالجواهر النفيسة، فإن قيمتها تختلف باختلاف صفائها، وذلك مما لا يمكن ضبطه. ويلحق بهذا في أيامنا كل ما كان في معناه لدى التجار.
ويدخل في مالا ينضبط ولا يصح السلم فيه: كل ما أثَّرت فيه النار شيّاً أو قلياً أو طبخاً، لأن تأثير النار فيه مختلف، فلا يمكن ضبطه.
أما ما أثرت فيه النار للتمييز، كالسمن ليميز منه اللبن، والعسل ليميز منه الشمع، فإنه يصح السلم فيه، لضعف تأثير النار فيه في هذه الحالة.
ب - أن يكون معلوم الجنس والنوع والقدر والصفة للمتعاقدين، أما الجنس كأن يكون قمحاً أو شعيراً. والنوع كأن يكون بلدياً أو جلباً (أي مستورداً من بلد معين). والقدر كألف صاع إن كان مكيلاً، أو بالوزن كان موزوناً، أو بالعدد(6/55)
إن كان معدوداً، أو بالذَّرْع - أي بالقياس - إن كان مذروعاً. والصفة كأن يذكر لونه أو نقشه أو شكله، ورقته أو ثخونته، وغير ذلك من الأوصاف التي تختلف بها الأغراض، كما ذكرنا.
ودليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: (مَن أسلفَ فلسْلفْ في كيلٍ معلومٍ ووزنٍ معلومٍ) ويقاس على القدر غيره من الأمور التي تحدد العلم بالمبيع.
ج - أن لا يكون مختلطاً من أجناس مختلفة، كعلف مخلوط من شعير وغيره مثلاً، أو طيب مخلوط من مسك وعنبر وغيرهما، ونسبة كل جنس في الخليط مجهولة.
فإن عُلمت مقادير الأجناس المختلطة، ونسبة كل جنس في الخليط، وأمكن ضبطها بالوصف، صحّ السلم فيها، كثياب مصنوعة من صوف وقطن - مثلاً - ونسبة كلّ من الصوف والقطن محددة معلومة.
وكذلك يصحّ السلم في الجنس الذي اختلط به غيره إذا كان خلطه فيه لمصلحته وحفظه، كالجبن - مثلاً - يخالط اللبن فيه الملح والأنفحة، وهي لمصلحته، فيجوز السلم فيه.
د - أن يكون المسلم فيه ديناً، أي شيئاً موصوفاً في الذمّة غير معين، كأن يسلمه ألف دينار - مثلاً - في مائة ثوب مضبوط بالوصف. فإذا قال أسلمتك ألف دينار بهذه الأثواب المائة، وهي موجودة معينة، لم يصح السلم، لأن السلم شُرع لبيع شئ موصوف في الذمة، ولفظه يدل على هذا المعنى. لأن ينعقد بيعاً، لأن لفظ السلم يقتضي أن يكون المبيع ديناً، ولفظ هذه الأثواب يقتضي أن يكون المبيع عيناً، فصار تناقض بين اللفظين، فلم يصح العقد.
هـ - أن يكون مقدوراً على تسليمه، من حيث الأجل والنوع، بأن يغلب على الظن وجود نوعه عندما يحين وقت استحقاقه، ولو بالنقل من بلد إلى آخر، إذا كان من المعتاد نقله منه للبيع ونحوه. فلو أسلم فيما ينقطع وجوده غالباً وقت حلول الأجل، كعنب في الشتاء أو رطب ونحو ذلك، لم يصح السلم. وكذلك لو أسلم فيما يندر وجوده من حيث نوعه، كبطيخ بحجم معين، أو من موضع(6/56)
معين يقلّ فيه إنتاجه لصغر البلد مثلاً، لأن الغالب عدم القدرة على تسليم ذلك، فربما جاءت آفة أو طرأ حادث على إنتاج ذلك البلد، فيفقد.
ولو أسلم فيما يغلب وجوده، فلم يتوفر عند حلول وقت الاستحقاق، لم ينفسخ العقد، بل يخيَّر المسلم صاحب المال: بين أن ينتظر حتى يتوفر المسلم فيه، وبين أن يفسخ العقد ويسترد رأس المال الذي دفعه دون زيادة أو نقصان.
وينبغي الانتباه هنا إلى أنه لا يجوز أن يُسْتَبْدَل المسلم فيه بغيره، كأن يستبدل البر مثلاً بسمن، أو يستبدل الثياب بحديد، أو نحو ذلك. بل يفسخ عقد السلم أولاً إذا لم يرغب بالانتظار، وبعدها: إما أن يسترد رأس المال فيشتري به ما شاء من المسلم إليه أو غيره. أو أن يبقى رأس المال في ذمته، والمسلم إليه له الخيار أن يبيعه به ما يشاء من سلع عنده، أو يردّه إليه.
وكذلك ينبغي الانتباه هنا إلى أنه ليس للمسلم رب المال: أن يبيع المسلم فيه إلى أحد قبل أن يقبضه، على خلاف ما يفعل الكثير من التجار اليوم، حيث إنهم يبيعون السلع المستوردة قبل وصولها واستلامها. وطريق تصحيح ذلك أن يبيعوها سلماً بالشروط التي سبقت، وعندها يكون البائع ملزماً بتسليم المبيع المسلم فيه حسب الشروط، سواء من تلك البضاعة المستوردة أم من غيرها، وله أن يسلمها من غيرها إذا وافقت الشروط المتفق عليها، ولو سلمت بضاعته واستلمها.
وتعيين الأجل الذي يجب عنده تسليمه، وأن يكون الأجل محدداً معلوماً، كأن يقول: أسلمتك ألف درهم في عشرة أثواب صفتها كذا، على أن تسلمني إياها بعد شهر من تاريخ العقد، أو أول شهر كذا. فإن لم يذكر أجلاً، أو ذكر أجلاً غير محدد، كأن يقول: إلى قدوم فلان من سفره، أو إلى الحصاد مثلاً، لم يصح، لأن الأجل مجهول، فلا يُدرى متى يقدم فلان، والحصاد يستمر مدة، فيقع الخلاف والنزاع في الوقت المقصود
ودليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إلى أجل معلوم).(6/57)
وينبغي التنبيه هنا إلى أنه: لو أحضر المسلم إليه المسلم فيه قبل الأجل المسمى أجبر المسلم رب المال على قبوله، إن لم يكن له نفقة وكلفة خلال المدة الباقية، ولم يكن للمسلم غرض مقصود معتبر شرعاً بالأجل المعين أو بالامتناع من قبوله. فإن كان له مؤنة كحيوان مثلاً، أو كان له غرض صحيح، كأن يكون اشتراه لمناسبة معينة، أو كان المجيء به في وقت نهب مثلاً، كان له أن يمتنع، ولا يجبر على قبوله. ومثل ذلك ما لو كان يحتاج إلى تخزين ليباع في موسمه، ولا مستودع عنده.
ز - أن يعيّن موضع تسليمه، إذا كان الموضع الذي جرى فيه العقد لا يصلح لذلك، أو كان يصلح للتسليم ولكن لنقل المسلم فيه إليه كلفة ونفقة. فإذا كان الموضع صالحاً للتسليم ولا كلفة لنقله إليه: كان هو موضع التسليم، إذا لم يُنصّ في العقد على موضع آخر له، فإن اتفق على موضع معين غيره صالح للتسليم تعين ذلك. ويرجع في هذا إلى العرف عند الاختلاف.(6/58)
عقد الاستصناع
هو أن يطلب إنسان ممّن له صنعة: أن يصنع له شيئاً مما له علاقة بصنعته على وجه مخصوص، وتكون مادة الصنعة من الصانع.
وهو عقد ينتشر انتشاراً واسعاً في هذا الزمن، مما يجعلنا في حاجة أن نبيّن حكم هذا العقد. وقبل بيان حكمه نذكر أمثلة عليه:
- أن يطلب من حذَّاء أن يصنع له حذاء أو أحذية، والجلد وما يحتاج إليه من الصانع لا من المستصنع.
- يدخل في هذا اليوم عمل النجّارين، حيث يطلب صاحب بناء أو نحوه من النجّار أن يصنع له نجارة معينة، من خشب أو ألمنيوم، والمادة من الصانع، وقد يدخل فيها الزجاج وغيره من أقفال ومفاتيح ومغاليق.
- ويدخل في هذا صنع الأثاث المنزلي من مفروشات وغيرها، حيث يتفق المستصنع مع الصانع على صنع غرفة نوم مثلاً، أو مقاعد، وما يتركب منه المصنوع كله من الصانع، حسب نموذج معين يطلع المستصنع عليه ويحصل الاتفاق.
إلى غير ذلك من أسئلة في معنى ما ذكرنا.
إن هذا العقد موضع اختلاف لدى الفقهاء، ونستطيع أن نقول:
إذا انطبقت عليه شروط عقد السلم التي مرّ ذكرها: من ضبطه بالوصف، وضبط ما يدخل فيه من مواد، ومن تحديد الأجل لتسليمه، وتسليم ثمنه في مجلس(6/59)
العقد، إلى غير ذلك من شروط، استطعنا أن نحكم بصحته على أنه عقد سلم، وإن جرى بلفظ البيع، لأن العبرة في العقود للمقاصد والمعاني، لا للألفاظ والمباني.
وإذا لم تنطبق عليه شروط السلم السابقة الذكر، وهذا هو الغالب في تعامل الناس بهذا العقد، فإن أكثر المستصنعين يدفعون للصانع قسطاً من الثمن عند التعاقد، وقد لا يدفعون شيئاً بالكلية، ثم يؤدون باقي الثمن أقساطاً، أو عند الانتهاء من الصنعة، وربما بقي للصانع شيء من الثمن يتقاضاه فيما بعد، هذا هو الغالب في تعامل الناس، وعليه فلا يعتبر هذا سَلماً، وبالتالي فهو غير صحيح عند الشافعية رحمهم الله تعالى.
وقد قال بصحة هذا التعاقد السادة الحنفية رحمهم الله تعالى فيما جرى به العرف وِتعامَل الناس به، لحاجة الناس إليه. شريطة أن يبيّن في العقد ما يزيل عن المستصنَع الجهالة المفضية إلى التنازع بين المتعاقدين، كأن تذكر مادة الصنع ومصدرها، وصفتها وقدرها، وما إلى ذلك.
هذا ولا نرى مانعاً من الأخذ برأي السادة الحنفية رحمهم الله تعالى، والحكم بصحة هذا التعامل، تيسيراً على الناس، إذ أن الحاجة ماسّة إليه، والناس يتعاملونه - كما ذكرنا - في أكثر صناعاتهم، وكل من الأئمة والفقهاء يسعى وراء الحق، ويلتمس المصلحة لعباد الله تعالى على ما يرضي الله عزّ وجل، ويوافق سنّة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، والله تعالى أعلم.
بيع المنازل على الخارطة
ونرى أنه يدخل في هذا الموضوع بيع الشقق على الخارطة:
فإنها إذا كانت منضبطة الأوصاف، معلومة المقادير الداخلة في الصنع للمتعاقدين، كالإسمنت والحديد ونحو ذلك، وسلم الثمن كله في مجلس العقد، صحّ العقد والبيع من باب السلم.(6/60)
وإذا لم تنطبق شروط السلم على العقد - وهذا هو الغالب في تعامل الناس، إذ أننا لا نجد مَن يدفع الثمن كله عند التعاقد، ولا يعرف أحد عنده أيضاً ما يدخل في البناء من مواد الصنع - كان ذلك عقد استصناع، واعتبر العقد صحيحاً، طالما أن الناس يتعاملون بهذا، شريطة أن توضّح مواصفات البناء عند التعاقد بحيث لا تبقى جهالة تؤدي إلى النزاع، أن لا يكون في ذلك شيء من الشروط الباطلة والفاسدة التي لا توافق شرع الله تعالى، وقد تعود على العقد بالبطلان.(6/61)
الباب الثالث
الرّبا(6/63)
الربا
تعريف الربا:
- في اللغة: هو مصدر: ربا يربو، إذا زاد ونما، فهو بمعنى الفضل والزيادة والنماء، ومنه: قوله تعالى: {َتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ} الحج5 أي تحركت وارتفعت وزادت عمّا كانت عليه قبل نزول الماء.
وقوله تعالى: {أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} النحل92 أي أكثر عدداً وقوة.
وقوله تعالى: {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ} الروم39 أي وكل ما تعطونه لأكلة الربا من زيادة على رؤوس أموالهم، لتزيد أموالهم وتنمو بها، فإن الله تعالى يمحقه ولا يبارك فيه.
- وفي اصطلاح الفقهاء: عقد على عوض مخصوص، غير معلوم التماثل في معيار الشرع حالة العقد، أو مع تأخير في البدلين أو أحدهما.
والمراد بالعوض المخصوص: الأموال الربوية التي سيأتي بيانها.
وغير معلوم التماثل: كأن يكون أحد العوضين متفاضلاً مع العوض الآخر أو مجهول التساوي معه.
ومعيار الشرع هو: الكيل في المكيلات، والوزن في الموزونات.
والتقييد بحالة العقد احتراز عمّا لو علم التماثل بين البلدين بعد العقد. كما لو باعه كومة من قمح بكومة أخرى، ولا يعلم قدرهما، فهو عقد ربوي، تنطبق عليه(6/65)
أحكام الربا الآتية، حتى ولو كيلت الكومتان بعد العقد وخرجتا متماثلتين، لأن التماثل كان مجهولاً حالة العقد.
والمراد بالتأخير في البدلين أو أحدهما: عدم التقابض في المجلس بين المتعاقدين، أو اشتراط الأجل في العقد.
الأموال التي يجري فيها الربا:
يجري الربا في الأموال الستة التالية، وهي:
الذهب، والفضة، والقمح، والشعير، والتمر، والملح. وذلك لورود النص صريحاً فيها.
روى البخاري ومسلم وغيرهما: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء " وفي رواية: " الورق بالذهب ربا إلا هاء وهاء " البخاري في البيوع، باب: ما يذكر في بيع الطعام والحكرة (1)، رقم: 2027 ومسلم في المساقاة، باب: الصرف وبيع الذهب بالورق نقداً، رقم: 1586).
[هاء وهاء: اسم فعل بمعنى خذ، والمراد: أن يعطي كل من المتعاقدين ما في يده من العوض، ويحصل التقايض في المجلس. البر: الحنطة. الورق: الفضة].
وقد جاء النص على هذه الأشياء، بالإضافة إلى الملح، في أحاديث كثيرة ستأتي معنا خلال البحث.
وكما يجري الربا في تلك الأموال الستة يجري في غيرها، وذلك أن الحكم فيها معلّل، فُيقاس عليها كل مالٍ توجد فيه العلة المعتبرة في تحقق وصف الربا.
علة الربا:
المراد بعلة الربا الوصف الذي إذا وجد في المال كان مالاً ربوياً، وإذا وجد نفسه في العوضين كانت المعاملة ربوية.
_________
(1) الحكرة: حبس السلع عن البيع، كالاحتكار.(6/66)
وهذا الوصف غير منصوص عليه فيما ورد من نصوص في الباب، وإنما استنتجه الفقهاء من تلك النصوص فقالوا:
إن الأشياء المنصوص عليها في الأحاديث إما أثمان كالذهب والفضة، وإما مطعومات للآدميين كالبر والشعير والتمر والملح. وعليه: فالعلة المعتبرة في كون المال ربوياً هي الثمنية أو الطعم، دون النظر إلى الكيل أو الوزن. فكأن الشّارع قال: ما كان ثمناً أو مطعوماً فلا يُباع بجنسه إلا بشروط.
وإذا ثبت هذا:
فكلّ ما يجري التعامل به من الأثمان، ويقوم مقام الذهب والفضة، كالعملات الرائجة الآن، يُعتبر مالاً ربوياً ويجري فيه الربا إلحاقاً بالذهب والفضة. وكل مطعوم يطعمه الآدميون غالباً فهو مال ربوي يجري فيه الربا، سواء أكان يُتناول قُوتاً كالأرز والذرة إلحاقاً بالبر والشعير، أو تفكّهاً كالزبيب والتين ونحوهما إلحاقاً بالتمر، أو تداوياً وإصلاحاً للغذاء أو البدن كالزنجبيل والمصطكي ونحوهما إلحاقاً بالملح.
وكل ما ليس بثمن أو مطعوم للآدميين من الأشياء فليس بمال ربوي. ومن ذلك سائر المعادن غير الذهب والفضة، والأقمشة وغيرها، وما كان في الغالب قوتاً لغير الآدميين. فلا يعتبر التعامل في كل ذلك تعاملاً ربوياً.
ولا فرق في كل ما سبق بين أن يكون مقدراً بكيل أو وزن أو غير ذلك.
أنواع الربا وحكم كلّ منها:
حين يبحث الفقهاء في التعامل الربوي يبحثون - غالباً - في بيع الأموال الربوية التي مرّ ذكرها بعضها ببعض: من حيث زيادة أحد البدلين على الآخر، ومن حيث وجود الأجل في التعامل وعدمه، كما يعلم من تعريفهم السابق للربا. وبناء على ذلك يقسمون الربا إلى أنواع:
1 - ربا الفضل: أي الزيادة، وهو بيع المال الربوي بجنسه مع زيادة في أحد العوضين. كأن يبيعه مُدّ قمح بمُدَّيْن منه، أو: مائة غرام من ذهب بمائة وعشرة منه، أو أقل أو أكثر.(6/67)
ومعنى الربا في هذا النوع - وهو الزيادة - ظاهر وواضح.
وهذا النوع من التعامل محرم وممنوع، للنهي عنه في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تبيُعوا الذهبَ بالذهب إلاّ مثلاً بمثلِ، ولا تُشفُّوا بعضَها على بعضٍ. ولا تبيعوا الورِق بالوَرِق إلا مثلاً بمثل، ولا تُشفُّوا بعضها على بعض " (أخرجه البخاري في البيوع، باب: بيع الفضة بالفضة، رقم: 2068. ومسلم في المساقاة، باب: الربا، رقم: 1584)
[الورق: الفضة. لا تشفوا: لا تفضلوا، والشف يطلق على الزيادة والنقصان، فهو من الأضداد].
وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الذهبُ بالذهب والفضَّة بالفضة، والبُرُّ بالبُر والشعيرُ بالشعير، والملحُ بالملح: مثلاً بمثلٍ يداً بيدٍ، فمن زادَ أو استزاد فقد أرْبى، الآخذ والمطعِى فيه سواءٌ ". وروى مثله عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه (انظر: صحيح مسلم: كتاب المساقاة، باب: الصرف وبيع الذهب بالورق نقداً).
ولا عبرة في هذا لجودة النوع أو رداءته، لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تشفوا بعضَها على بعض ". ولما رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جاء بلال إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بتمر بُرْنيّ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من أين هذا؟ " قال بلال رضي الله عنه: كان عندنا تمر رديء، فبعت منه صاعين بصاع لنُطْعم النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك "أوَّه أوَّه، عيُن الربا عين الربا لا تَفْعَلْ " (البخاري في الوكالة، باب: إذا باع الوكيل شيئاً فاسداً فبيعه مردود، رقم: 2188. ومسلم في المساقاة باب: بيع الطعام مثلاً بمثل، رقم: 1594).
[بُرْني: نوع من التمر هو أجود. أوّه: كلمة توجّع وتحزّن. عين الربا: أي هذا حقيقة الربا الممنوع].(6/68)
وكذلك لا عبرة للصنعة في هذا، فلو باعه ذهباً مصوغاً بسبائك وجب التماثل في الوزن بين البدلين، وامتنع أن يكون أحدهما أنقص من الآخر، لما دلّ عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ولا تبيعوا الوَرقَ بالوَرِقِ إلا مثلاً بمثل " فإن الورق يتناول الفضة المضروبة وغير المضروبة " وضربها صنعة لها.
2 - ربا النساء: أي التأخير، وهو بيع المال الربوي بمال ربوي آخر فيه نفس العلة إلى أجل. ولا فرق في هذا بين أن يكون المالان من جنس واحد أم من جنسين مختلفين، وسواء أكانا متفاضلين أم متساويين.
ومثال ذلك: أن يبيعه مُدّ حنطة بمدّ حنطة - أو بمدّ شعير أو بمدّين إلى شهر. أو يبيعه عشر غرامات من الذهب بعشر غرامات من الذهب أو الفضة أو أكثر أو أقل، إلى يوم مثلاً أو أكثر.
وهذا التعامل أيضاً محرم وممنوع، لوجود معنى الربا فيه حقيقة، وإن لم يكن ظاهراً، فإن للحلول فضلاً على الأجل، فيكون في ذلك زيادة في أحد العوضين، وهو المدفوع حالاً.
وقد دل على هذا المنع قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي سعيد رضي الله عنه السابق: " ولا تبيعُوا منها غائباً بنَاجز ".
والغائب هو المؤجل والناجز هو الحاضر، وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآخر: " مثلاً بمثل، يداً بيد " وجاء أيضاً في حديث عباده رضي الله عنه: " فإذا اختلفتْ هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتُم، إذا كان يدً بيدٍ ".
[ومعنى قوله: " يداً بيد " أي مقابضة، بحيث يسلم كلِّ من المتعاقدين البدل الذي في يده في مجلس العقد، وهذا يستلزم الحلول غالباً].
3 - ربا اليد: وهو أن يبيع المال الربوي بآخر فيه نفس العلة، دون أن يشترط في ذلك أجل بنفس العقد، ولكن يحصل التأخير في قبض البدلين أو أحدهما عن مجلس العقد بالفعل.
ودليل هذا: ما جاء في حديث عمر رضي الله عنه السابق: " إلا هاءَ وهاءَ " أي خذ وخذ، وهذا يعني وجوب التقابض فعلاً في المجلس.(6/69)
ما يعتبر جنساً واحداً وما لا يعتبر:
وضع الفقهاء قاعدة لمعرفة ما هو جنس واحد، وما ليس بجنس واحد، فقالوا: كل شيئين اتفقا في الاسم الخاص من أصل الخلقة فهما جنس واحد، وكل شيئين اختلفا في الاسم من أصل الخلقة فهما جنسان.
والمراد بالاسم الخاص ما يميز الشيء عن الاسم العام المشترك، فكلمة تمر اسم خاص، يميز نوعاً من الفاكهة والثمر عن غيره، مما يشاركه في الاسم العام، وهو فاكهة أو ثمر
والمراد بأصل الخلقة هيئته التي خلق عليها، فلا يكفي الاتفاق بالاسم بعد الصنعة أو التحويل.
- فالذهب بأنواعه جنس واحد، وكذلك الفضة.
- والتمر بأنواعه جنس واحد، وكذلك الزبيب.
- والحنطة بأنواعها جنس واحد، وكذلك الشعير.
- وكل ماله رطب ويابس، كالعنب والزبيب والرُّطَب والتمر، فرطبه ويابسه جنس واحد.
- وما تفرغ عن أصل يعتبر مع أصله جنساً واحداً، فالحنطة ودقيقها والمجروش منها - كالبرغل - كلها جنس واحد.
- ولحوم الحيوانات أجناس مختلفة: فالضأن جنس والمعز منه، والبقر جنس والجواميس منه، ولحوم الإبل كلها جنس واحد.
ولا فرق بين أن يكون اللحم أحمر أم أبيض، فهما جنس واحد، ويدخل فيه ما خالطه من دهن أو لاصقه، كدهن الظهور والجوانب والصدر.
وأما الشحم الذي يكون في البطن فهو جنس آخر غير اللحم، وكذلك الآلية، فهي جنس غير الشحم واللحم، وكذلك سنام البعير جنس مستقل.
وكذلك الأحشاء - كالكبد والطحال والكرش - فهي أجناس مختلفة فيما بينها، ومختلفة عمّا سبق من اللحم والشحم والآلية.
- وفروع الأصول المختلفة الأجناس أجناس مختلفة كأُصولها:(6/70)
- فدقيق الحنطة جنس، ودقيق الشعير جنس آخر.
- وخلّ العنب جنس، وخل التمر جنس آخر.
- وكذلك الأدهان التي تُعدّ للأكل أو الدواء، فهي أجناس كأُصولها المأخوذة منها.
- وكذلك الألبان أجناس مختلفة: فلبن الضأن والمعز جنس واحد، ولبن البقر والجاموس جنس واحد، وألبان الإبل جنس واحد.
- وبيض الطيور أجناس مختلفة حسب أُصولها.
تبايع الأموال الربوية وشروط صحته:
إن الأموال الربوية التي ذكرناها - وبيّنّا علّتها ومعيارها، وصنفنا أجناسها - كثيراً ما يحتاج الناس إلى التعامل بها وتبادلها فيما بينهم عن طريق معاوضة بعضها ببعض. وشرع الله عزّ وجل إنما جاء بالتيسير ورفع الحرج عن المكلفين، قال تعالى {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} البقرة185 وقال: {جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} الحج78 ولذلك شرع الله تعالى للناس أن يتبايعوا هذه الأموال ويتعاوضوها بشروط، إذا توفرت صحّ تعاملهم وجاز بيعهم، إذ من شأن تلك الشروط أن تخرج التعامل عن معنى الربا المحرم، الذي يوقع المتعاقدين في الإثم.
وهذه الشروط نستنتجها من خلال ما سبق من الكلام عن علّة الربا وأنواع الربا، ونلخصها مرتّبة فيما يلي:
1 - عند اتحاد الجنس:
إذا بيع مال ربوي بجنسه - وواضح في هذه الحالة أن العلة فيهما واحدة - كحنطة بحنطة، وسكر بسكر، وفضة بفضة، اشترط في هذا البيع ثلاثة شروط ليخرج عن كونه عقداً ربوياً، وهي:
أ - المماثلة في البدلين: كيلاً في المكيلات كمدّ بمدّ ولتر بلتر، ووزناً في الموزونات كرطل برطل، وكيلو غرام، وعدداً في العدديات، كخمسة بخمسة ونحو ذلك.(6/71)
ب - أن يكون العقد حالاً: وذلك بأن لا يذكر في العقد أي اجل لتسليم أحد البدلين، مهما قصر ذلك الأجل.
جـ - التقابض: بأن يقبض كلُّ من المتعاقدين البدل من الآخر قبل أن يتفرقا بأبدانهما من مجلس العقد.
وهذه الشروط الثلاثة مأخوذة:
- من قوله - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث السابقة " مثلاً بمثل " فقد دلّ على جواز بيع الربوي بجنسه عند المماثلة، وعدم جوازه عند عدمها.
- ومن قوله - صلى الله عليه وسلم - " يداً بيد " وقوله: " هاءَ وهاءَ " فقد دلاّ على صحة البيع عند التقابض والحلول، وعدم صحته عند التأجيل، أو عدم التقابض.
2 - عند اختلاف الجنس واتحاد العلة:
إذا بيع مال ربوي بمال ربوي آخر من غير جنسه، ولكن العلة فيهما واحدة - كما إذا كانا ثمنين أو مطعومين - اشترط لصحة البيع وخروجه عن معنى الربا شرطان:
أ - أن يكون العقد حالاً، كما مر في اتحاد الجنس.
ب - أن يجري التقابض في مجلس العقد.
ولا يشترط التماثل بين البدلين في هذه الحالة، بل يجوز أن يبيعه مدّ حنطة بمدّيْ شعير، وغراماً من ذهب بخمسة من فضة، ويصحّ العقد وتترتب عليه آثاره، إذا لم يكن فيه أجل، وحصل التقابض على ما علمت
ودل على هذا: ما جاء في حديث عباده رضي الله عنه السابق: "فإذا اختلفتْ هذه الأصنافُ فبيعُوا كيف شئتُم، إذا كان يداً بيد ".
والمراد بالأصناف أجناس الأموال الربوية المذكورة من الأحاديث وما يلحق بها. والمراد باختلاف كون الثمن في البيع من غير جنس المبيع.
ومعنى قوله " فبيعوا كيف شئتم " أي جاز لكم أن تتبايعوا هذه الأموال عند الاختلاف دون شرط التماثل بين البدلين].(6/72)
3 - عند اختلاف العلة:
علمنا أن العلة في اعتبار المال ربوياً عند الفقهاء كونه ثمناً أو مطعوماً، وعليه: فلا يتصور اختلاف العلة في البدلين في العقد الربوي إلا أن يكون أحدهما من الأثمان والآخر مطعوماً، وفي هذه الحالة فلا يشترط لصحة البيع وجواز التعاقد أي شرط من الشروط السابقة، فيصحّ بيع عشرين مددّاً من القمح بعشر غرامات من الذهب مثلاً، حصل التقابض أو لم يحصل، اشترط الأجل أو لم يشترط.
ودليل هذا: ما رواه البخاري ومسلم: عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمل رجلاً على خيبر، فجاء بتمر جنيب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أكل تمر خيبر هكذا؟ " فقال: لا والله يا رسول الله، إنّا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم اتبع بالدراهم جنيباً " (البخاري في الوكالة، باب: الوكالة في الصرف والميزان، رقم: 2180 ومسلم في المساقاة، باب: بيع الطعام مثلاً بمثل، رقم 1593).
[والجنب: التمر الجيد، والجمع التمر الرديء أو المختلط].
فقد دلّ هذا الحديث على جواز البيع مطلقاً حين يكون أحد البدلين من الأثمان، والبدل الثاني من غيرها، سواء أكان مطعوماً أم غير مطعوم.
4 - عند المبادلة بمال غير ربوي:
إذا بيع مال ربوي بمال آخر غير ربوي صحّ البيع مطلقاً، بدون أيّ شرط من شروط جواز التعامل الربوي، فلا يشترط تماثل ولا حلول ولا تقابض، لأن العقد خرج عن كونه عقداً ربوياً طالما أن أحد البدلين مال غير ربوي.
فإذا بيع الطعام على اختلاف أنواعه بغير طعام، كثوب مثلاً، جاز مطلقاً، كما لو كان أحد البدلين ثمناً كما علمت. فالبيع جائز وصحيح سواء أكان البدلان متماثلين أم متفاضلين، وسواء أكان البيع حالاً أم مؤجلاً، وسواء أكان البدلان من جنس واحد أم من جنسين مختلفين.(6/73)
المماثلة: تحقّقها واعتباره وما يمنع منها:
قد علمت أنه إذا بيع مال ربوي بآخر من جنسه اشترط تحقق المماثلة بين البدلين حتى يصحّ البيع ويخرج عن معنى الربا، إلى جانب الشروط الأخرى التى مّرت بك.
والذي نريد بيانه الآن هو: ما تتحقق به هذه المماثلة، ومتى تعتبر؟ وما الذي يمنع من تحققها؟
أ - ما تتحقق به المماثلة:
حتى تتحقق المماثلة بين البدلين لابدّ من كونهما متساويين في القدر المعتبر شرعاً لكل مال من الأموال الربوية. والمعتبر في هذا: الكيل في المكيلات وإن تفاوت الوزن، والوزن في الموزونات وإن تفاوت كيلها. فما يُباع بالكيل لا يصحّ بيعه بجنسه إلا بما يماثله كيلاً، فإذا بيع بما يساويه وزناً لم يجز. وما يُباع بالوزن لا يُباع بجنسه إلا بما يساويه وزناً، فإذا بيع بما يساويه كيلاً لم يجز.
فالمماثلة تتحقق إذن: في المكيل كيلاً، وفي الموزون وزناً.
والعبرة في كون المال مما يكال أو يوزن هو:
غالب عادة أهل الحجاز - مكة والمدينة - في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأن الغالب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اطّلع على ذلك واقرّه، ولما رواه أبو داود والنسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " الوزْنُ وزْنُ أهل مكة، والمكيال مكْيَالُ أهل المدينة " (أبو داود: البيوع والإجارات، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " المكيالُ مكَيالُ المدينة " رقم: 3340. والنسائي: البيوع، باب: الرجحان في الوزن: 7/ 284).
فما نقل فيه عرف لأهل الحجاز في ذلك الوقت فالمعتبر فيه عرفهم، وإن أحدث الناس خلافه في بلدانهم.
وما لم يكن في عه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كالبن مثلاً - أو كان وجُهل حاله، ينظر:
- فإن كان مما لا يمكن كيله، بأن كانت حبّاته كباراً تتجافى عن جوانب المكيال، أو تترك فرجاً فيما بينها، كالسفرجل والرمان والباذنجان، فالمعتبر فيه الوزن.(6/74)
- وإن كان مما يمكن كيله، ففيه وجهان:
- الوجه الأول: يعتبر بأشبه الأشياء به في الحجاز.
- الوجه الثاني: يعتبر فيه عرف بلد البيع وعادتهم. وهذا هو الأرجح.
قال أبو يوسف رحمه الله تعالى من الحنفية: المعتبر في كون الشيء مكيلاً أو موزوناً هو العرف مطلقاً، فما تعارف الناس في بلد البيع بيعه كيلاً فهو مكيل، وما تعارف الناس بيعه وزناً فهو موزون.
وقال: إن النص ورد جرياً على العرف، وإنما نصّ الشارع على كيل بعض الأشياء ووزن بعضها لأن العرف كان جارياً بذلك، ولو كان العرف جارياً على خلافة لورد النص على خلافه.
ورجح بعض المتأخرين من الحنفية العمل بهذا القول، ولعله أقرب إلى التيسير على الناس وإخراجهم من الإثم وإلا حُكم على تعاملهم في أكثر البلدان بالفساد والبطلان، ووصفوا بالفسوق والعصيان. ولذا لا نرى مانعاً من العمل به، والله تعالى أعلم.
ب - متى تعتبر المماثلة:
1 - إذا كان المبيع الربوي مما يختلف كيلاً أو وزناً من حال إلى حال، وله وقت رطوبة ووقت جفاف، فالمماثلة فيه تعتبر وقت الجفاف الذي هو حال الكمال في نضجه:
- فلا يباع الحب بعضه ببعض إلا بعد أن ييبس ويشتد، ويشترط فيه تنقيته من قشره، حتى تتحقق المماثلة.
- ولا يباع الرُّطَب حتى يصبح تمراً، فلا يباع الرطب بالرطب ولا الرطب بالتمر.
- ولا يباع العنب بالعنب ولا العنب بالزبيب، إذ الكمال فيه أن يصبح زبيباً.
- وكذلك لا يباع أي جنس من الفاكهة - كالتين والمشمش - بشيء من جنسه حتى ييبس، فلا يباع منه رطب برطب، ولا رطب بيابس.(6/75)
والعمدة في هذا ما رواه الترمذي: عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُسْأل عن اشتراء التمر بالرُّطَب، فقال لمن حوله: " أيَنْقُصُ الرَّطَب إذا يبس؟ " قالوا: نعم، فنهى عن ذلك. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم. (سنن الترمذي: البيوع، باب: ما جاء في كراهية بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، رقم: 1225 وأخرجه أبو داود في البيوع والإجارات، باب: في التمر بالتمر، رقم 3359. والنسائي في البيوع، باب: اشتراء التمر بالرطب: 7/ 268. وابن ماجه في التجارات، باب: بيع الرطب بالتمر، رقم: 2264. والموطأ في البيوع باب: ما يكره من بيع التمر: 2/ 624).
2 - وإذا كان المكيل أو الموزون من الأموال الربوية مما جفاف له، كالقثاء، والعنب الذي لا يتزبب، والرطب الذي لا يتتمر، والزيتون، فإنه تكفي مماثلته رطباً، ويباع وزناً وإن كان مما يُكال.
3 - ولا يكفي تماثل ما يتخذ من الحب، كالدقيق والبرغل والنشاء ونحوها، فلا يباع شيء منها بمثله من جنسه ولا بالحب الذي اتخذ منه، لخروجها عن حالة الكمال، وعدم إمكان العلم بالمماثلة في هذه الحالة، لاختلافها في النعومة والخشونة، وهي مكيلة، فما يتركه بعضاً من فراغ في الكيل يختلف عمّا يتركه الآخر.
أما إذا بيع شيء منها بغير جنسه، كأن يُباع دقيق الحنطة بدقيق الشعير ونحو ذلك متماثلاً أو متفاضلاً فلا مانع، لاختلاف الجنس، ولكن يُشترط الحلول التقابض كما علمت.
4 - وتعتبر المماثلة في حبوب الأدهان - كالسمسم - حال كونها حبّاً، وحال كونها دهناً، ولكن لا يُباع حبها بدهنها، لعدم تحقق المماثلة.
5 - وتتحقق المماثلة في العنب زبيباً، كما تتحقق فيه خلاً أو عصيراً على الأصح وكذلك الرطب: تتحقق فيه المماثلة تمراً أو خلاًَّ أو عصيراً.
6 - وتتحقق المماثلة في اللبن: لبناً خالصاً - أي غير مشوب بماء أو غيره - فيُباع(6/76)
الحليب بالحليب ولكن بعد سكون رغوته، وكذلك يباع الرائب بمثله وبالحليب.
كما تتحقق المماثلة فيه سمناً خالصاً مصفّى بشمس أو نار، فيجوز بيع بعضه ببعض.
ولا تكفي المماثلة في أحواله الأخرى كأن يكون جبناً أو أقطاً أو زبداً، لأنها لا تخلو في هذه الأحوال عن مخالطة غيرها، فالجبن يخالطه الإنفحة، والأقط يخالطه الملح، والزبد لا يخلو من قليل من المخيض، فلا تتحقق فيها المماثلة، وعليه: فلا يباع بعض كلَّ منها بعض، ولا يباع بعضها ببعض، ولا يباع الزبد بالسمن، كما لا يباع اللبن بما يتخذ منه كالسمن وغيره.
ج - ما يمنع من المماثلة:
يمنع من المماثلة بين المتجانسين:
1 - تأثير النار: فإذا أثّرت النار على مال ربوي، شَياً أو قلْياً أو طبخاً، كاللبن المغلي واللحم المشوي والحمص المُحَمَّص، فلا يباع شيء منه بمثله من جنسه، لامتناع تحقّق المماثلة فيه، لأن تأثير النار لا غاية له ولا حدّ، فيختلف من شيء إلى شيء فلا تتحقق المماثلة.
ولا يضر تأثير تمييز: كتمييز العسل من الشمع، والسمن من اللبن، والذهب والفضة مما خالطهما من غش.
2 - المخالطة: فإذا خالط المال الربوي شيء آخر من غير جنسه، سواء أكان المخالط ربوياً أم غير ربوي، امتنع تحقق المماثلة فيه، لعدم التحقّق من نسبة الخليط وبالتالي لا يُباع شيء منه بآخر من جنسه، سواء كان مخالطاً أم لا.
ولذلك لم تعتبر المماثلة في الجبن والأقط كما علمت.
المماثلة تحقيقاً لا ظناً وتخميناً:
علمنا أنه إذا بيع المال الربوي بمال ربوي من جنسه اشترطت المماثلة بالكيل أو الوزن بين البدلين، حتى يصحّ البيع.(6/77)
وهذه المماثلة لا بدّ من وجودها تحقيقاً ويقيناً حين العقد، بأن يكال كلُّ من البدلين أو يوزن قبل التعاقد، أو يكون قدر كلِّ منهما معلوماً للمتعاقدين.
فلا تكفي المماثلة ظناً وتخميناً، كان يبيعه صبرة حنطة مجازفة، أي بدون كيل أو وزن، على تقدير أنهما متساويتان. أو يبيعه مائة صاع من حنطة بصبرة منها تساويها تقديراً، فهذا البيع في الحالين ممنوع، لاحتمال التفاضل بين البدلين، وشرط صحة البيع في الربويات عند اتحاد الجنس: الخلو عن احتمال التفاضل، لأن احتمال التفاضل مثل تحققه.
ويدل لهذا المنع حديث جابر رضي الله عنه قال " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الصُّبْرََة من التَّمْر، لا يعلم مكيلَتُها، بالكيل المسمَّى من التمر". (أخرجه مسلم في البيوع، باب: تحريم بيع صبرة التمر المجهولة القدر بتمر، رقم 1530). [والصبرة هي الكومة].
ويشهد لهذا أيضاً قول ابن مسعود رضي الله عنه: ما اجتمع الحلال والحرام في شيء إلا وقد غلب الحرام. أي إذا توارد أمران على شيء: أحدهما يقتضى حله والآخر يقتضي حرمته، قدم ما يقتضي حرمته ومنع منه، احتياطاً في الدين وبُعداً عن الوقوع في الشبهات. وهنا احتمال عدم التفاضل يقتضي حلّ بيع الصبرة بغيرها، واحتمال التفاضل يقتضي المنع من ذلك، فقدّم المنع.
المزابنة والمحاقلة:
ومما لا يخلو عن احتمال التفاضل في بيع الربويات: المحاقلة والمزابنة.
والمحاقلة: أن يبيع الحب في سنبله بما يساويه خرصاً، أي تقديراً وتخميناً لكيله أو وزنه.
والمزابنة: أن يبيع الرُّطَب على رؤوس الشجر بما يساويه خرصاً من التمر المجذوذ، أي المقطوع والمقطوف. ومثل الرطب والتمر العنب والزبيب.
فكلُّ من المحاقلة والمزابنة ممنوع شرعاً، لعدم الجزم بتساوي البدلين، أو عدم تحقّق المماثلة يقيناً.(6/78)
وقد ثبت النهي عن ذلك في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد روى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المزابنة: أن يبيع ثمرَ حائطه: إن كان نخلاً بتمر كيلاً، وإن كان كرماً: أن يبيعه بزبيب كيلاً، أو كان الزرع بالطعام كيلاً، رقم: 2091 ومسلم في البيوع، باب: تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا، رقم: 1542).
[حائطه: بستانه. كرماً: الكرم شجر العنب].
العرايا:
العرايا - في اللغة - جمع عريه، وهي الشجرة التي يفردها مالكها للأكل، سمِّيت بذلك لأنها عريت عن حكم جميع البستان.
وفي الشرع: أن يبيع الرطب على النخل بخرصه تمراً، أو العنب بخرصه زبيباً، فيما دون خمسة أوسق، أي ما يساوي سبعمائة كيلوغرام تقريباً.
وذلك أنه لمّا ورد النهي عن بيع التمر رطباً بما يساويه من جنسه يابساً، وكان في الناس مَن يرغب أن يأكل الرطب أو العنب من على الشجر، وليس لديه نخيل أو كرم، رخص الشّرع فيما ذكر، تلبية لحاجة الناس وتخفيفاً عليهم وتيسيراً.
وقد جاء في مشروعية ذلك أحاديث كثيرة منها:
ما رواه البخاري ومسلم عن سهل بن أبي حَثْمة رضي الله عنه، " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الثمر بالتمر، ورخص في العرية أنْ تُبَاع بخَرْصها، يأكلها أهلها رطباً ".
[أهلها: الذين اشتروها]
وما رواه البخاري ومسلم - أيضاً - عن أبي هريرة رضي الله عنه: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخص في بيع العَرَايا، في خمسة أوْسقٍ، أو دون خمسة أوسق ".
وكذلك ما روياه عن رافع بن خديج وسهل بن أبي حثمة رضي الله عنهما: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المزابنة: بيع الثمر بالتمر، إلا أصحاب العرايا، فإنه أذن(6/79)
لهم " (البخاري: البيوع، باب: بيع الثمر على رؤوس النخل .. ، رقم: 2078، 2079، والمساقاة، باب: الرجل يكون له ممر أو يشرب .. ، رقم: 2254. ومسلم: البيوع، باب: تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا، 1540، 1541).
والأحاديث كما ترى رخّصت بثمر النخيل رُطَباً وتمراً، وقيس به ثمر الكرم: العنب والزبيب، بجامع أن كلاَّ منهما مال زكوي يمكن خرصه ويُدّخر يابسه.
بيع اللحم باللحم، وبيع اللحم بالحيوان، والحيوان بالحيوان:
- بيع اللحم باللحم:
مرّ معنا أن اللحوم أجناس حسب أصولها، وأنها من الأموال الربوية، فيجوز بيع بعضها ببعض بشرط التماثل والحلول والتقابض - على ما مرّ- إن كانت من جنس واحد. فإن اختلف الجنس، كلحم ضأن بلحم بقر مثلاً، جاز التفاضل واشترط الحلول والتقابض.
ونريد أن نعرف هنا حكم بيع الحيوان بالحيوان، وحكم بيع اللحم بالحيوان:
- بيع الحيوان بالحيوان:
من خلال ما سبق من كلام نعلم أن الحيوان ليس بمال ربوي لأنه غير مطعوم على حاله وهيئته، وواضح أنه ليس من جنس الأثمان.
وعليه: فيجوز بيع الحيوان بالحيوان متفاضلاً، سواء أكانا من نوع واحد أم من نوعين، فيجوز بيع شاة بشاتين، وبيع شاة ببعير، وبيع بعير بثلاث شياه، وهكذا. ولا فرق بين أن يكون يصلح للركوب والحمل، والأكل والنتاج، أم للأكل خاصة.
وكذلك يجوز بيعه حالاً ومؤجلاً، حصل التقابض في مجلس العقد أم لم يحصل، سواء أكان البدلان من جنس واحد أم من جنسين مختلفين.
ودليل ذلك: ما رواه عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: " أن(6/80)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يجهز جيشاً، فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ في قِلاَصِ الصدقة، فكان يأخذ البعير بالبعيرَيْن إلى إبل الصدقة " (أخرجه أبو داود في البيوع والإجارات، باب: في الرخصة في ذلكَ، بعد باب: في الحيوان بالحيوان نسيئة، رقم: 3357).
قال النووي رحمه الله تعالى في المجموع (9/ 454): حديث ابن عمرو بن العاص رواه أبو داود وسكت عنه، فيقتضي أنه عنده حسن كما سبق تقريره، وإن كان في إسناده نظر، لكن قال البيهقي: له شاهد صحيح، فذكره بإسناده الصحيح.
- بيع اللحم بالحيوان:
لا يجوز بيع اللحم بالحيوان مطلقاً لا نقداً ولا نسيئة، وسواء أكان اللحم من جنس الحيوان أم من غير جنسه، وسواء أكان الحيوان مأكول اللحم - كشاة بلحم بقر - أم غير مأكول اللحم - كلحم بقر بحمار - فلا يجوز مطلقاً.
ومثل اللحم ما في معناه: كالشحم والألية والكبد والقلب والكلية والطحال، وكذلك جميع أجزائه المأكولة.
وأجازوا بيع الحيوان بالجلد بعد دبغه، لخروجه عن كونه لحماً أو ما في معناه. أما قبل الدبغ فلا يجوز أيضاً، لأنه يُعتبر لحماً.
وعمدتهم في هذا المنع:
- حديث سمرة رضي الله عنه: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الشَّاة باللحم " (رواه الحاكم وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، رواته عن آخرهم أئمة حفّاظ ثقات انظر: المستدرك: البيوع، باب: النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الشاة باللحم: 2/ 35).
- وما رواه مالك في الموطأ مرسلاً: عن سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الحيوان باللحم " (الموطأ: البيوع، باب: بيع الحيوان باللحم: 2/ 655)
حكم التعامل الربوي من حيث ما يترتب عليه:
إذا بيع المال الربوي بمال ربوي آخر، ولم تتوفر الشروط التي تخرج هذا العقد عن معنى الربا وتصححه، كما إذا اتحد الجنس وكان التفاضل وهو ربا(6/81)
الفضل، أو اختلف الجنس واتحدت العلة وكان التأخير وهو ربا النساء، فما حكم هذا العقد؟
قال الفقهاء: إنه عقد باطل، فلا يترتب عليه أي أثر، وكأنه لم يكن، وذلك أن الربا في المعاوضات مبطل لها.
ومعنى ذلك أن على المتعاقدين أن يترادَّا البدلين، فيسترد كل منهما ما دفعه للآخر، ثم يعودان إلى التعاقد من جديد، بعد أن تتوفر شروط صحة العقد الربوي على ما سبق، وإلا وقعا في الإثم واستحقا العقاب الأليم من الله عزّ وجل، وكان كسبهما حراماً خبيثاً.(6/82)
ربا القرض
هو أن يستدين إنسان من آخر مقداراً من المال إلى أجل، على أن يردّه له مع زيادة معينة، أو يعطيه أقساطاً معينة كفائدة وربح، إلى حين استرداد ذلك المال.
وهذا النوع من التعامل هو الذي جاءت نصوص الشريعة أولاً وبالذات لإبطاله ومنعه.
فالربا الذي كان أهل الجاهلية يتعاطونه فيما بينهم لا يختلف عن هذا التعامل في قليل ولا كثير، ولذا رغب فريق من الناس في تلبيس الأمر - كما يرغب الكثيرون في ذلك هذه الأيام فقالوا: الربا وسيلة من وسائل الربح، لا فرق بينه وبين البيع في ذلك، فجاء القرآن يؤنبهم على هذا التلبيس ويصفهم بالخبال وشيء من الجنون على هذا الفهم السقيم والقول الأثيم وذلك القياس مع الفارق، وتوعّدهم على ذلك بأليم العقاب والخلود في النار فقال الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} البقرة275
وهكذا قررت الآية بصراحة ووضوح حرمة الربا مطلقاً، ولم تفرق بين قليل منه أو كثير وحرضت على الانتهاء عنه وتوعدت على العودة إليه. وهي في مضمونها تقرر الفارق الكبير بينه وبين البيع، وحسبه أنه الفارق بين الحلال والحرام.
ثم توجهت الآيات إلى أولئكم الذين صدقوا بإيمانهم، وكان لكلمة التقوى(6/83)
أثر في نفوسهم، فأمرتهم بترك الربا على الإطلاق دون مواربة أو تعنّت، وجعلت ذلك شرطاً لصحة الإيمان ودليلاً عليه، وتوعّدت على الإصرار على التعامل بالربا بما لم تتوعّد به على فعل منكر من المنكرات. ثم أرشدت إلى التعامل الأمثل والسلوك الأفضل إلى تشييد صرح التعاون والحب والودّ في المجتمعات، فقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ. َإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ. وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 278 - 280). قال الإمام ابن كثير في تفسيره
(يقول تعالى - آمراً عباده المؤمنين بتقواه، ناهياً لهم عمّا يقرّبهم إلى سخطه ويبعدهم عن رضاه - فقال: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله} أي خافوه وراقبوه فيما تفعلون {وذَرُوا ما بقى من الربا} أي اتركوا ما لكم على الناس من الزيادة على رؤوس الأموال بعد هذا الإنذار {إن كنتم مؤمنينَ} أي بما شرع الله لكم من تحليل البيع وتحريم الربا وغير ذلك.
وقد ذكر زيد بن أسلم وابن جريج ومقاتل بن حيان والسدي: أن هذا السياق نزل في بني عمرو بن عمير من ثقيف، وبني المغيرة من بني مخزوم، كان بينهم رباً في الجاهلية، فلما جاء الإسلام ودخلوا فيه طلبت ثقيف أن تأخذه منهم، فتشاوروا، وقالت بنو المغيرة: لا نؤدي الربا في الإسلام. فكتب في ذلك عتّاب بن أسيد نائب مكة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنزلت هذه الآية، فكتب بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ. َإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ} فقالوا: نتوب إلى الله ونذر ما بقي من الربا، فتركوه كلهم.
وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد، لمن استمر على تعاطي الربا بعد الإنذار. قال ابن جريج: قال ابن عباس: {فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ} أي: استيقنوا بحرب من الله ورسوله. وتقدم من رواية ربيعه بن كلثوم، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب: ثم قرأ: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ}.(6/84)
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ}: فمن كان مقيماً على الربا لا ينزع فحقُ على إمام المسلمين أن يستتيبه، فإن نزع وإلا ضرب عنقه.
وقال قتادة: أوعدهم الله بالقتل كما تسمعون، وجعلهم بهرجاً (1) أينما أتوا، فإياكم وما خالط هذه البيوع من الربا، فإن الله قد أوسع الحلال وأطابه، فلا تلجئنكم إلى معصيته فاقة. رواه ابن أبي حاتم.
وقال الربيع بن أنس: أوعد الله آكل الربا بالقتل. رواه ابن جرير انتهى كلام ابن كثير.
وهذا الذي ذكره هذا الحافظ الجليل رحمه الله تعالى محل اتفاق المفسرين فيما اشتمل عليه من المعاني عن السلف رضوان الله عنهم أجمعين، وهو واضح في فهم هذه الأُمة تحريم قليل الربا وكثيره من الآية منذ عصر النبوّة جيلاً بعد جيل وعصراً بعد عصر، فهماً يقيناً لا يتطرق إليه احتمال، وأن ذلك هو معناها عند المسلمين، ومنذ عصر النبوّة جيلاً بعد جيل وعصراً بعد عصر.
والآية ناطقة بذلك نطقاً قاطعاً حاسماً يفهمه كلُّ من له سمع يدرك وعقل يعي، فقد نادى القرآن داعية الامتثال، ومهد بالأمر بالتقوى ثم قال {َذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} وكلمة {ما} هذه عند مَن يفهم اللغة العربية تشمل كل ربا مهما كان قليلاً، ولو كان درهماً لمليون درهم. وكذلك يعلم أهل لغة القرآن أن قوله تعالى {فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} لم يبح شيئاً زائداً عن رأسمال الدائن مهما كان قليلاً، لأنه لم يجعل له شيئاً سوى رأسماله. هذا وقد زاد النص القرآني هذا المعنى تقريراً وتأكيداً فقال: {لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} قال المفسرون: لا تظلمون بأخذ زيادة على رأس المال، ولا تُظلمون بنقص شيء من رؤوس الأموال، بل لكم ما دفعتم من غير زيادة عليه ولا نقص منه.
ولقد انطوت الآية على مواعظ في ترك الربا تلين لها الصم الصِّلاب، فوجهت الخطاب بـ {يا أيها الذين آمنوا} ثم بقوله {اتقوا الله} ثم بقوله {إن
_________
(1) - البهرج: الرديء من الشيء، والباطل المزيف، والمباح غير المحمي.(6/85)
كنتم مؤمنين} وختمت الزجر عن الربا ببيان أعظم العقوبات وأخطرها لمن أصرّ على الربا، ذلك أن عليه أن يأذن بحرب من الله ورسوله.
وإلى جانب هذه النصوص القرآنية وما صرّحت به، وما دلت عليه: فقد تضافرت نصوص السنّة على تأكيد ما جاء في القرآن من حرمة الربا، وأنه من أفظع الذنوب وأكبر الآثام، التي تؤدي بفاعلها إلى الهلاك والدمار، وتنذر المجتمع الذي تتفشى فيه بالاضمحلال والضياع. ومن هذه الأحاديث:
- ما رواه جابر - رضي الله عنه - قال: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آكلَ الربا ومُوكِلَهُ، وكاتبَه وشاهدَيْه، وقال:
" هم سواء ". (أخرجه مسلم في المساقاة، باب: لعن الله آكل الربا وموكله).
- ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " اجتنبوا السبعَ المُوبقَات " قالوا: يا رسول الله، وما هُنَّ؟ قال: " الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتَّولي يوم الزحْف، وقذْف المحصنات المؤمنات الغافلات ". (أخرجه البخاري في الوصايا، باب: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً}، رقم: 2615. ومسلم في الإيمان، باب: بيان الكبائر وأكبرها، رقم 89).
[الموبقات: المهلكات. إلا بالحق: سبب جناية يعاقب عليها الشرع بالقتل. التولّي يوم الزحف: الفرار من المعركة في قتال الكفّار. قذف المحصنات المؤمنات: اتهام العفيفات عن الفواحش اللواتي يحجزهن إيمانهن عن الفجور، ورميهن بالزنا. الغافلات: اللواتي يجهلن ما أتُّهمن به ولا يعرفن طرقه ولا يسلكنها].
- ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا ظهر الزّنا والربا في قرية فقد أحلُّوا بأنفسهم عذاب الله عز وجل " وفي رواية: " إذا ظهر الزنا والربا في قرية أذن الله بهلاكها ". (أخرج الرواية الأولى الحاكم في مستدركه: البيوع، باب: إذا ظهر لزنا والربا في قرية: (2/ 37) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وأخرجه أيضاً أحمد في مسنده، والطبراني، وأخرج الرواية الثانية الطبراني أيضاً).(6/86)
فهذه النصوص كافية عمّا سواها في بيان فظاعة الربا وشدة نكارته. وحسبنا في هذا أن نصيب اللعن - هو الطرد من رحمة الله تعالى - على كل من ساهم في التعامل الربوي، وأن يُعَدّ أكل الربا في جملة تلك الجرائم التي لا يُدانيها غيرها إثماً واعتداءً، وزوراً وبهتاناُ، من شرك بالله تعالى - وهو نهاية الزور والباطل والافتراء - ومن سحر - وهو دجل وتحريف وتمويه وإيذاء - إلى غير ذلك من الآثام الشنيعة.
وليس أدل على أن الربا من أفحش ما يأتيه الإنسان أنه قرن بالزنا - الذي لا يساويه شئ في الاعتداء على الحرمات، وفساد الأفراد والمجتمعات - وجُعل معه سبباً لا ستحقاق عذاب الاستئصال.
من أجل ذلك كله أجمع المسلمون على حرمة الربا، وأنه من أكبر الكبائر التي يفسق فاعلها، ولا يقبل الله تعالى منه عملاً صالحاً حتى يتوب توبة نصوحاً من تعاطي الربا.
بل لقد أجمعت الشرائع السماوية على حرمة الربا والتعامل به، وأخبرنا القرآن - وهو الكتاب المنزل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه - أن بني إسرائيل استحقّوا اللعن والعذاب والشدة والنكال، بسبب ما اقترفته أيديهم من الآثام، وفي طليعتها الربا وقد نهوا عنه. قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً. وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} (النساء 160 - 161).
بيان وتنبيه:
جمهور الفقهاء على أن التعامل الربوي يجري، وتحرم المعاوضة، متى وجدت علّة الربا فيه، سواء أكان التعامل مع مسلم أم ذمّي أم حربي
وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى: شرط جريان الربا أن يكون بَدَلا المعاوضة التي يتحقق فيها الربا معصومَيْن، أي: مملوكين ملكاً لا يجوز الاعتداء عليه وأخذه من صاحبه بغير وجه مشروع. وعليه فلو كان أحد البدلين مالاً غير معصوم، كأن يكون ملكاً لحربي - وهو غير مسلم الذي بين المسلمين وبين أهل(6/87)
بلاده غير المسلمين حرب - فإن الربا لا يجري فيه إذا كان المسلم هو الآخذ للزيادة.
فلو دخل تاجر مسلم دار الحرب بعقد أمان منهم، وتعامل مع أهلها وكسب منهم مالأً عن طريق الربا، فإنه يجوز له ذلك عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى.
أما الذميّ - وهو المواطن غير المسلم في بلاد الإسلامية - فإن ماله معصوم باتفاق، وكذلك المستأمن - وهو الحربي الذي يدخل بلد المسلمين بعقد أمان وإذن من حاكم المسلمين - فلا يجوز التعامل بالربا معهما، ولا عبرة باختلاف الدين، لأن اتحاد الدين ليس شرطاً من شروط جريان الربا بالاتفاق.
وحجه الجمهور: أن حرمة الربا ثابتة في حق المسلمين وغير المسلمين، لأن غير المسلمين مخاطبون بفروع الشريعة على الصحيح.
وكذلك النصوص الواردة في التعامل الربوي عامة، ولا مخصص لها، فتبقى على عمومها.
وحجة أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى: أن مال الحربي غير معصوم، بل هو مباح في نفسه، إلا أن المسلم المستأمن في دار الحرب مُنع من تملكه من غير رضاه، لما فيه من الغدر والخيانة، فإذا بذله الحربي باختياره ورضاه فقد زال المنع لزوال موجبه، كالاستيلاء على الحطب والحشيش غير المحرز من قبل أحد.
والذي ينبغي التنبيه إليه هو: أن هذا القول لا مجال للعمل به في هذه الأيام، لأن المسلم لا يتمكن من العمل والمتاجرة في دار الحرب أو مع الحربي، حسب القوانين والأعراف القائمة، لذلك نرى من الأولى أن لا يتعرض الفقهاء والمفترون لهذا القول والبحث فيه.
وإنما خالفنا ما نراه الأولى وذكرناه من كثرة ما نسمع من استغلال له من قبل أولئك الناس الذين يتمسكون بخيوط العنكبوت ليتوصلوا إلى تحليل الحرام،(6/88)
وذلك أن الكثير من هؤلاء من يتعاملون بالربا مع المصارف الأجنبية، فيأكلون الربا وربما أطعموها، مدّعين أنهم استفتوا فأفتوا بجواز ذلك، فذكرنا هذا القول لننبّه على الحق فيه، وهو أن القول خاص بالحربي، والحربي هو الذي بيننا وبين بلدة حرب قائمة بالمعنى الشرعي والعرفي لهذا، ولا ينطبق ذلك الآن إلا على ما بيننا وبين اليهود المغتصبين لأرضنا ومقدساتنا في فلسطين، أما بلاد الغرب أو الشرق من غير المسلمين فليسوا بحربيين بالمعنى الشرعي، وأن كان فريق منهم وأعواناً ومناصرين للصهاينة في الحقيقة، إلا أنهم لا ينطبق عليهم الحكم الذي ذكره أبو حنيفة وصاحبه رحمهما الله تعالى، ولذلك نقول:
إن التعامل بالربا مع أي مصرف من المصارف الأجنبية أو الأفراد منهم حرام وممنوع، كما لو كان في بلاد المسلمين، هذا إذا لم يكن أشد حرمة ومنعاً، لما فيه من إخراج الأموال من بلاد المسلمين وتسخيرها لمصلحة غيرهم، مما يكون فيه كبير ضرر في كثير من الأحيان على مصالح البلاد الإسلامية، ووقوعها في أزمات اقتصادية. لأننا ندخل بلادهم ويدخلون بلادنا دون عائق، والذين قالوا بهذا القول بينوا أنه لا ينطبق على التعامل مع من دخل بلاد المسلمين بأمان من أهل الحرب، فضلاً عمن دخلها من غيرهم.(6/89)
الباب الرّابع
الَصَرْف(6/91)
الصرف
معناه:
أ - في اللغة: يقع الصرف على معانٍ عدة، منها:
- الفضل والزيادة، ومنه سميّت النافلة صرفاً، لأنها زيادة على الفريضة. جاء في الحديث: " ذمّة المسلمين واحدةّ، يَسْعى بها أدناهم، فمن أخْفَرَ مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ". (أخرجه البخاري في الاعتصام باب: ما يكره من التعمّق والتنازع في العلم والغلّو في الدين والبدع، رقم 6870. ومسلم في الحج، باب: فضل المدينة ودعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها بالبركة، رقم 1370).
[ذمة المسلمين: إعطاؤهم الأمان لغير المسلم. يسعى بها أدناهم: عهدهم صحيح ومعتبر وينبغي أن يراعى ولو صدر من أقل واحد منهم. أخفر مسلماً: نقض عهده واعتدى على مَن أعطاه الأمان].
فالصرف النافلة، والعدل الفريضة. والمعنى: لا يرضى الله تعالى من فعله لهما ولا يثيبه عليهما.
- الرد والدفع، والنقل، والنقل والتحويل، جاء في القرآن قوله تعالى (فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ) (يوسف 34) أي دفعه وردّه، وقوله تعالى: (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون) (التوبة 127) أي حوّلها ونقلها عن الحق.
وقوله تعالى (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) (الأحقاف 29) أي نقلناهم إليك وحوّلناهم نحوك.(6/93)
ب - وفي الاصطلاح: بيع كلُّ واحد من عوضيه من جنس الأثمان، أو: هو بيع النقد بالنقد
والمراد بالأثمان والنقد الدراهم والدنانير أو ما كان من جنسهما، وهو الذهب والفضة مطلقاً، سواء أكانت مضروبة أم مصوغة أم غير ذلك. ويدخل في هذا العملات المتعارفة في هذه الأيام، لأن لها رصيداً ذهبياً محفوظاً، وكل قطعة منها عبارة عن وثيقة بيع أو شراء ما يقابلها من هذا الرصيد المحفوظ. ومن الواضح أن التعامل بها في هذه الأيام يقوم مقام التعامل بالدراهم والدنانير في الأيام السالفة، فوجب أن تنزل منزلتها في الحكم الشرعي.
ويصحّ بلفظ البيع والفظ الصرف.
حكم عقد الصرف من حيث مشروعيته:
عقد الصرف عقد جائز ومشروع، وحكمه من هذه الحيثية كحكم عقد البيع المطلق، مع زيادة شروط سيأتي بيانها.
ودلّ على مشروعية الصرف أحاديث كثيرة وآثار عن الصحابة رضي الله عنهم سيأتي بعضها في الباب، وعلي ذلك إجماع المسلمين.
الشروط الخاصة لصحة عقد الصرف:
من خلال تعريفنا لعقد الصرف يتبين لنا أنه عقد ربوي، لأن كلاً من البدلين فيه مال ربوي تتحقق فيه علة الربا، وهي الثمنية، إذ كل من الذهب والفضة ثمن من الأثمان. وإنما أفرد هذا العقد بالكلام عنه تحت هذا العنوان لأنه خاص بما يكثر تداوله والتعامل به وهو النقد، ولهذا كانت شروطه الخاصة به هي شروط صحة العقد الربوي، وقد مرّت بك مفصّلة، وسنعيدها لك موجزة هنا حسب تعلقها بعقد الصرف. وهي:
1 - المماثلة عند اتحاد الجنس:
فإذا بيع الذهب بالذهب، أو الفضة بالفضة، فلا بد من تساوي العوضين في الوزن، سواء أكانا مضروبين أو مصوغين أم غير ذلك، أو كان أحدهما مصوغاً أو(6/94)
مضروباً والآخر غير ذلك، وسواء أكان أحدهما جيداً والآخر رديئاً أم لا.
فإذا كان الدبلان مختلفين في الجنس، كما إذا كان أحدهما فضة والآخر ذهباً، جاز التفاضل بينهما وبيعهما مجازفة، أي بدون وزن، كما لو قال له: بعنك هذا الذهب بهذه الفضة فيجوز.
وكّل ذلك مرّ معك بأدلته في باب الربا، فارجع إليه. وكل ما يقال في الدراهم والدنانير يقال في العملات الرائجة الآن، والتساوي بينها حسب نوعها المتعامل به.
2 - التنجير في العقد:
فيشترط في عقد الصرف استبعاد الأجل في العوضين أو أحدهما فلو قال: اصرف لي ديناراً بعشرة دراهم، على أن أعطيك الدينار بعد ساعة، فقال له: صرفت لك، وقال الأول: قبلت، لم يصح العقد.
ودلّ على اشتراط عدم التأجيل - بالإضافة إلى ما سبق في باب الربا - ما رواه البخاري ومسلم واللفظ له - عن أبي المنهال قال: باع شريك لي ورقاً بنسيئة إلى الموسم، أو إلى الحج، فجاء إليّ فأخبرني، فقلت: هذا أمر لا يصلح قال: قد بعته في السوق فلم ينكر ذلك عليّ أحد. فأتيت البراء بن عازب فسألته، فقال: قدمَ النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة ونحن نبيع هذا البيع، فقال: " ما كان يداً بيد فلا بأس به " وما كان نسيئة فهو رباً " وائت زيد بن أرقم، فإنه أعظم تجارة مني. فأتيته، فسألته فقال مثل ذلك.
وفي لفظ لدى البخاري ومسلم: سألت البراء بن عازب عن الصرف؟ فقال: سَلْ زيد ابن أرقم، فهو أعلم، فسألت زيداً، فقال: سَلِ البراء فإنَّه أعلمُ. ثم قالا: " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الورق بالذهب ديناً " (البخاري: البيوع، باب: بيع الورق بالذهب نسيئة، رقم: 2070 ومسلم: المساقاة باب: النهي عن بيع الورق بالذهب ديناً، رقم: 1589).
[الورق: الفضة. نسيئة: أي ديناً إلى أجل].(6/95)
3 - التقابض في مجلس العقد:
وذلك بأن يسلم كل من المتعاقدين البدل الذي في يده للآخر في مجلس العقد قبل التفرّق، سواء أكان البدلان جنساً واحداً كالذهب بذهب أو فضة بفضة، أم كانا جنسين مختلفين كذهب بفضة.
والمراد بالتقابض هنا التقابض الفعلي، فلا بدّ من أن يسلم كل من المتعاقدين ما في يده بحيث يقبضه الآخر، فلو خلّى بينه وبينه ولم يقبضه إياه لم يصح، لأن الشرط القبض الكامل، والتخلية ليست قبضاً كاملاً.
والمراد بالمجلس هنا مجلس الأبدان، وبالتفرّق تفرّق الأبدان، فلو تماشيا معاًً في جهة واحدة لم ينقطع المجلس، حتى يذهب كل منهما في جهة. فإذا افترقا بأبدانهما ولم يقبض أحدهما البدل الذي في يده للآخر لم يصحّ العقد، وكان باطلاً.
ودلّ على اشتراط التقابض قوله - صلى الله عليه وسلم - " ولا تبيعوا منها غائباً بناجز " والناجز الحاضر، وقوله " إلا هاءَ وهاءَ " أي خذ وخذ. وقد مرّ هذا عند الكلام عن أنواع الربا.
وروى مالك مثله عن عمر رضي الله عنه موقوفاً، وفيه زيادة " وإن استنظرك إلى أن يلج بيته فلا تُنْظرْه " إني أخاف عليكم الرّماء " (الموطأ: البيوع، باب: بيع الذهب بالفضة تيراً وعيناً (1): 2/ 632).
[والرماء: هو الربا. يلج: يدخل].
وعن مالك بن أوس بن الحدثان: أنه التمس صرفاً بمائة دينار، قال: فدعاني طلحة بن عبيد الله فتراوضْنا حتى اصْطَرَف منِّي، وأخذ الذهب يقلِّبُها في يده ثم قال: حتى يأتيَنِي خازني من الغابَةِ وعمر بن الخطاب يسمع، فقال عمر: والله لا تفارقه حتى تأخذ منه. ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الذهب بالوَرِق رباً إلا هاءَ وهاءَ، والبُرّ بالبُرّ إلا هاءَ وهاءَ والتمرُ بالتمر إلا هاء وهاء، والشعيرُ بالشعير رباً إلا هاءَ وهاءَ (البخاري: البيوع، باب: بيع الشعير بالشعير، رقم: 2065.
_________
(1) التبر: الذهب غير المضروب. العين: الذهب المضروب.(6/96)
ومسلم المساقاة:، باب الرف وبيع الذهب بالورق نقداً، رقم: 1586. ومالك في الموطأ: البيوع باب: ما جاء في الصرف: 2/ 636. واللفظ لمالك رحمه الله تعالى).
وبهذا يُعلم أن ما يجري بين الكثير من الناس من عقود صرف - أي بيع العملات بعضها ببعض - بدون تقابض، وربما كان بالهاتف، فهي عقود باطلة، والكسب بها كسب خبيث.
استبدال بدل الصرف بغيره أو التصرف به قبل قبضه:
لا يصحّ استبدال بدل الصرف بغيره قبل قبضه، فلو تصارفا مائة درهم من فضة مثلاً بسوار من ذهب، وقبل أن يقبض كل منهما أو أحدهما البدل من الآخر استبدل بما استحقه من بدل شيئاً آخر، فإنه لا يصحّ ذلك، لأنه لم يحصل التقابض في البدلين اللذين جرى عليهما التعاقد. فإذا ردّ ما استبدل به بدل الصرف في نفس المجلس، وقبض البدل الذي جرى عليه التعاقد قبل التفرق، صحّ العقد.
وكذلك ليس لأحد المتعاقدين التصرّف بما استحقه من بدل قبل قبضه، كأن يبيعه أو يهبه، لأن في ذلك تفويتاً للقبض الذي هو شرط صحة عقد الصرف.
وبهذا يتبين - أيضاً - بطلان ما يجري من تبايع للنقد، من مُشترٍ إلى مشترٍ آخر .. وهكذا، دون أن يقبض أحدهما ما باعه ممن اشتراه منه، بل ربما حصل التبايع من واحدٍ لآخر ولثالث على الهاتف، فكل هذه العقود باطلة، والكسب بها كسب خبيث.
4 - أن يكون العقد باتاً:
أي ليس فيه شرط الخيار لأحد المتعاقدين أو لهما، فلو تصارفا على أنهما - أو أحدهما - بالخيار يوماً أو يومين، أو أكثر أو أقل، لم يصحّ الصرف، لأن الشرط صحته التقابض كما علمت، والخيار يمنع ثبوت الملك، فينعدم التقابض حقيقة بانعدام المالك، فلم يصحّ الصرف لعدم تحقق شرط من شروطه.
خيار الرؤية وخيار العيب:
عقد الصرف يصحّ على مُعَيَّنَيْن، كما لو قال: بعتك أو صارفتك هذا الدينار(6/97)
بهذه الدراهم. وعلى موصوفين في الذمة، كما لو قال: بعتك عقْداً من الذهب صفته كذا في ذمتي بمائة غرام من الذهب في ذمتك، أو بسوار من الفضة يصفه له الآخر في ذمته، فإن ذلك جائز إذا أخرجا البدلين وتقابضا قبل التفرّق على ما علمت.
وعلى هذا: فللعاقد الذي لم يرَ البدل الذي تعاقد عليه أن يأخذه حين يخرج له ويراه، وأن يردّه إن وجد على غير الصفة التي وصف بها، ويلزمه قبوله إن وجد على الصفة التي وصف به.
وكذلك إذا قبض كل من المتصارفين بدله من الآخر، سواء أكان معيناً أم موصوفاً في الذمة، ثم وجد فيه عيباً: فله ردّه بالعيب وفسخ الصرف واسترداد ما دفعه للآخر من بدل. وله الرضا به وإمضاء العقد وعدم فسخه.
وبهذا يعلم أن خيار الرؤية وخيار العيب يثبتان في عقد الصرف ولا يمنعان من صحته، لأنهما لا يمنعان من الملك، فلا يمنعان من التقابض الذي هو شرط صحة هذا العقد.(6/98)
البَاب الخَامس
القرض(6/99)
القرض
تعريفه:
هو في اللغة: القطع، قال في " المصباح المنير ": (قرضت الشيء قرضاً قطعته. ويطلق اسماً على ما تعطيه غيرك من المال لتُقضاه، وسمي بذلك لما فيه من قطع يد مالكه عنه).
وهو في اصطلاح الفقهاء: تمليك شيء مالي للغير على أن يردّ بدله من غير زيادة.
وسمي قرضاً، لأن المقرض يقطع جزءاً من ماله ليعطيه إلى المقترض، ففيه معنى القرض الغوي.
ويسميه أهل الحجاز سلفاً، ولذلك يصحّ بلفظ أسلفت، كما سيأتي.
مشروعيته:
القرض جائز ومشروع، ويجوز سؤاله لمحتاجه ولا نقص عليه، بل وهو مندوب إليه في حق من سُئِلَه. دل على ذلك الكتاب وصريح السنّة وإجماع الأُمة:
أما الكتاب:
فقوله تعالى: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} البقرة 245. والقرض لله تعالى يتناول الصدقات كما يتناول القرض للعباد.(6/101)
وأما السنة:
- فما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يتقاضاه دَيْناً كان علْيه، فاشْتَدَّ عليه حتّى قال له: أُحَرَّجُ عليك إلاّ قضَيْتني. فاْنَتَهرهُ أصحابُه وقالوا: ويْحَكَ، تدري مع من تَكَلَّمَ؟ قال: إني اطلبُ حقي. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " هلا مع صاحب الحق كنتم " ثم أرسل إلى خولة بنت قيس فقال لها: " إن كان عندَك تمرّ فأقرضينا حتى يأتينا تَمْر فنقضيك " فقالت: نعم، بأبي أنت يا رسولَ الله. قال: فأقَرضته، فقضى الأعرابي وأطعمه، فقال: أوفيتَ أوفى الله لك. فقال " أولئك خيارُ النّاس، إنه لا قُدِّسَتْ أمّة لا يأخُذُ الضعيفُ فيها حقَّه غير مُتَعْتَع " (أخرجه ابن ماجه في كتاب الصدقات، باب: لصاحب الحق سلطان، رقم: 2426).
[أُحّرج عليك: أضيِّق عليك؟ غير متعتَع: من غير أن يصيبه أذى يقلقه ويزعجه].
- ما رواه ابن مسعود رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " ما من مسلمٍ يُقْرضُ مسلماً قرضاً مرتين إلاّ كان كصدقَتها مَرَّةْ " (أخرجه ابن ماجه في الصدقات، باب: القرض، رقم: 2430. وابن حبّان: الزوائد: البيوع، باب: ما جاء في القرض، رقم: 1115).
- ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من أخذ أموال الناس يريدُ أداءها أدّى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله " (أخرجه البخاري في الاستقراض وأداء الديون، باب: من أخذ أموال الناس .. ، رقم: 2257).
وأما الإجماع:
فإن الأمة لا تزال تتعامل به من عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عصرنا هذا، والعلماء يُقِرّونه، من غير أن ينكر ذلك واحد منهم.
حكمة تشريعه:
إن الحكمة من تشريع القرض واضحة جليّة، وهي تحقيق ما أراده الله تعالى من التعاون على البرّ والتقوى بين المسلمين، وتمتين روابط الأخوّة بينهم بالتنادي إلى مدّ يد العون إلى مَن ألمّت به فاقه أو وقع في شدة، والمسارعة إلى تفريج(6/102)
بعضهم كربة بعض، فلربما تلكأ الناس عن دفع المال على وجه الهبة أو الصدقة، فيكون القرض هو الوسيلة الناجحة في تحقيق التعاون وفعل الخير، والله تبارك وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} الحج77
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " المسلم أخو المسلم: لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرّج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة " (أخرجه البخاري في المظالم، باب: لا يظلم المسلم ولا يسلمه، رقم: 2310. ومسلم في البرّ والصلة والآداب، باب: تحريم الظلم، رقم: 2580). ويقول " والله في عَوْن العبد ما كان العبدُ في عون أخيه " (أخرجه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة، باب: فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، رقم: 2699).
وأبلغ حكمة لتشريع القرض هو القضاء على استغلال عوز المعوزين وحاجة المحتاجين، إذ الغالب أن المكلّف لا يقترض إلا وهو في حاجة، فإذا لم يكن القرض الحسن كان الربا وكان الاستغلال - كما هو الحال لدى مَن لا يتعاطون القرض الحسن - ولهذا جاء في الحديث أن أجر القرض يفوق أجر الصدقة. فقد روى أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "رأيت ليلة أسري بي على باب الجنة مكتوباً: الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر. فقلت: يا جبريل: ما بالُ القرض أفضلُ من الصدقة؟ قال لأن السائل يسأل وعنده، والمستقرضُ لا يستقرض إلا من حاجة " (أخرجه ابن ماجه في الصدقات، باب: القرض، رقم: 2431).
حكم القرض من حيث الوصف الشرعي القائم به:
مما سبق من أدلة على مشروعية القرض نعلم أنه مندوب في حق المُقْرض، مباح في حق المقترض. وهذا حكمه في حالته العادية، وقد تعتريه حالات يتغيّر فيها حكمه حسب الغرض الذي يقترض من أجله، فيكون:
- حراماً: إذا أقرضه وهو يعلم أنه يقترض لينفق المال في محرم، كشرب خمر أو لعب قمار ونحو ذلك.(6/103)
- مكروهاً: إذ كان يعلم أن يفترض المال ليصرفه في غير مصلحة، أو ليبذخ فيه ويبدِّدَه. أو كان المستقرض يعلم من نفسه العجز عن وفاء ما يستقرضه.
- واجباً: كأن يعلم أن المقترض يحتاج إليه لينفقه على نفسه وعلى أهله وعياله في القدر المشروع، لا طريق له لتحصيل هذه النفقة إلا اقتراضه منه.
أركان القرض:
للقرض أركان ثلاثة، وهي: صيغة، وعاقد، ومعقود عليه.
1 - الصيغة:
وهي إيجاب وقبول، كأقرضتك واقترضت. ولا يشترط لفظ القرض، بل يصحّ بكل لفظ يؤدي معناه كأسلفتك وملكتكه ببدله وخذه بمثله، وقول المقترض: استلفت وتملّكته ببدله، ونحو ذلك.
ويصحّ أيضاً بلفظ الماضي والأمر، كقوله: أقرضني وأسلفني، واقترض منّي واستلف، ونحوها، لما اعتاده الناس فيه من المسامحة.
ولابدّ من الصيغة، أي الإيجاب من المقرض والقبول من المقترض، لأنها عنوان التراضي، وهو المبدأ الذي تقوم عليه العقود ولا تكفي المعاطاة، كأن يقول: أقرضني، فيعطيه المطلوب ويأخذه.
2 - العاقد، وهو المقرض والمقترض، ويشترط فيهما:
أ - الرشد، وهو الاتّصاف بالبلوغ والصلاح في الدِّين والمال، لأن القرض عقد معاوضة مالية، والرشد في العاقد شرط في صحة عقود المعاوضة، فلا يصحّ الإقراض ولا الاستقراض من صبي ولا مجنون ولا محجور عليه لسفه، لأن كلاً منهم غير جائز التصرّف في المال.
ب - الاختيار: فلا يصحّ من مكرَهٍ لأن الإكراه يفقد الرضا.
ج - أهلية التبرع في المقرض فيما يقرضه: لأن القرض فيه شائبة تبرع، فيجب أن يكون المقرض أهلاً له، فلا يصحّ من الولي أن يقرض من مال من تحت ولايته لغير حاجة أو ضرورة.(6/104)
3 - المعقود عليه وهو المال المقرض محل القرض:
لا تُُشترط في المال المقرض أن يكون مثلياً، بل يجوز قرض كل مال يُملك بالبيع، ويضبط بالوصف على وجه لا يبقى معه إلا تفاوت يسير، ويصح أن يُسْلَم فيه.
وعلى هذا: يصحّ القرض في الدراهم والدنانير، والقمح والشعير، والبيض واللحم وغير ذلك من المثليات. ويصحّ القرض في الحيوانات والعقارات وغيرها من القيميات التي تنضبط بالوصف. ولا تثبت في الذمة، ففي صحة القرض فيها قولان: والأصح أنه لا يجوز، لأن ما لا ينضبط بالوصف يتعذر أو يعسر رد بدله.
والدليل على ما ذكر:
أ - حديث أبي رافع، مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اسْتَلَفَ من رجل بَكْرَاًُ، فقدمت عليه إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضيَ الرجل بكره، فقال: لا أجد إلا خياراً رباعياً؟ فقال: " أعطه إياه فإن خيار الناس أحسنهم قضاءً ". (أخرجه مسلم في المساقاة، باب: من استلف شيئاً فقضى خيراً منه، رقم: 1600. وأخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه في الوكالة، باب: الوكالة في قضاء الديون، رقم: 2183، مع اختلاف في بعض الألفاظ).
[بكراً: البكر الفتي من الإبل. خياراً: مختاراً جيداً. رباعياً: هو ما أتى عليه ست سنين من الإبل ودخل في السابعة، وهو الذي طلعت رباعيته، وهي السِّنّ التي بين الثنية والناب، والثنية إحدى السِّنَّيْنِ اللتين في مقدمة الأسنان].
وواضح أن البكر ليس مثلياً، فدل ذلك على عدم اشتراط المثلية في المال المقَرض محل القرض.
ب - أن ما أمكن ضبطه بالوصف يعطي حكم المثلي لشبهه به، فيصح القرض به لذلك.(6/105)
ويشترط في محل القرض:
أ - أن يكون معلوم القدر عند القرض - كيلاً أو وزناً أو عدداً أو ذرعاً - ليتمكن من رد بدله
فلو أقرضه دراهم لا يعلم عددها، أو طعاماً لا يعلم كيله أو وزنه، لم يصحّ القرض، وكذلك لو أقرضه مطبوخاً لم يصحّ القرض، لاختلاف كميته بالنضج وجهل مقدار نضجه.
والعبرة في كون الشيء مكيلاً أو غيره تحديد الشرع، فإن لم يوجد فالمرجع العرف، على ما علمت في باب الربا.
ب - أن يكون المال المقرض جنساً لم يختلط به غيره، لأن يتعذر في هذه الحالة رد بدله، ولاسيما إذا جهلت مقادير الخليط. فلا يجوز قرض قمح مخلوط بشعير، ولا لبن بماءٍ.
اقتراض الخبز:
أجاز العلماء اقتراض الخبز وزناً وعدداً، لجريان العرف بذلك في جميع العصور من غير إنكار. واستثنوا ذلك من منع ما اختلط بغيره وما لا ينضبط.
حكم القرض من حيث الأثر الذي يترتب عليه:
إذا صح القرض ترتب عليه حكمه، وهو: انتقال ملكية المال المقترَض من المقرض إلى المستقرض على وجه يلتزم معه بردّ بدله حال طلب المقرض له. وهل تنتقل هذه الملكية بقبض العين المستقرضة أو بالتصرف فيها؟
والقول الأصح: أن المستقرض يملك العين المستقرضة بالقبض، لأنه يجوز له التصرّف فيه بعد القبض باتفاق، فدل على ثبوت ملكيته له قبله، إذ لو لم يملكه بالقبض لما جاز له التصرّف فيه.
وعلى هذا: إذا تم عقد القرض، وقبض المستقرض العين المستقرضة: فعلى قول: ليس للمقرض استردادها منه إلا برضاه، ولكن له استرداد بدله، لأنه الواجب بعقد القرض.
والأصح: أن للمقرض الرجوع بالعين المستقرضة ما دامت باقية على حالها،(6/106)
ولم تتعلق بها حقوق لازمة للغير، ولا يمنع ذلك من القول بملكية المستقرض لها بالقبض. لأن للمقرض المطالبة ببدل المستقرَض عند فقده، فالمطالبة بعينه - إذا كان قائماً - أولى، لأنه أقرب منه، فيلزم المستقرض رده إذا طالب به المقرض.
- أما إذا كانت العين قائمة، ولكنها لم تبق على حالها - كما لو كانت شاة فذبحت، أو حنطة فطحنت - أو تعلق بها حق زم للغير - كأن رهنها المستقرض - فليس للمقرض حق الرجوع بها واستردادها بعينها.
أما لو أجر المستقرض العين المستقرضة فللمقرض الرجوع بها واستردادها، بخلاف الرهن، لأن للمرتهن حقاً لازماً يتعلق بالعين المرهونة، أما المستأجر فليس له ذلك.
وكذلك له استردادها ولو زادت زيادة متصلة أو منفصلة، لأن المتصلة تبع للأصل، وأما المنفصلة: فإنها لا تمنع استرداد الأصل، وإن كان المستقرض يملكها، لأنها حصلت على ملكه.
ولا خلاف أن للمستقرض ردّ عين القرض على المقرض، وليس للمقرض أن يطالبه برد بدله من مثل أو قيمة.
والقول الثاني في وقت انتقال الملكية: إن المستقرض لا يملك المقال المقترَض إلا بالتصرّف المزيل للملك، كالهبة أو البيع أو الَهلاك أو الاستهلاك، لأن الملك يتبين به، ولأن للمقترض الرجوع بها قبل ذلك، كما أن للمستقرض أن يردّها، ولو ملكها المستقرض بالقبض لم يملك واحد منهما فسخ ذلك الملك، ولم يكن لهما حق الرد أو الاسترداد.
وعلى هذا القول: للمقرض استرداد العين المستقرضة ما دامت في يد المستقرض - على النحو السابق - قولاً واحداً، لأنها ما زالت على ملكه، ولم تدخل في ملك المستقرض.
وتظهر فائدة الخلاف بين القولين فيما إذا كان للمال المستقرض نفقة أو منفعة: - فعلى القول بثبوت الملك بالقبض يكون على المستقِرض نفقته، وله منفعته من حين القبض، ولو لم يتصرف فيه.(6/107)
- وعلى القول بثبوت الملك بالتصرف تكون نفقته على المقرض، وله منفعته من حين القبض على وقت التصرف.
ما يجب رده بدل القرض:
علمنا أن المال المقترض ينبغي أن يكون مثلياً أو أن يكون قيمياً ينضبط بالوصف، وعليه:
فيجب ردّ المثل إذا كان محل القرض مالاً مثلياً وكان موجوداً، فإذا انعدم وجب ردُّ قيمته
وإن كان محل القرض مالاً قيمياً وجب ردّ مثله صورة، كما لو اقترض شاة، فإنه يردّ شاة بدلها بنفس أوصافها، لحديث أبي رافع رضي الله عنه الذي مرّ معنا، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يقضي الرجل بكراً بدل بَكْره.
وقيل: يجب ردّ القيمة في القيمي، لأن ما يضمن بالمثل إن كان له مثل يضمن بالقيمة إذا لم يكن له مثل.
وعلى القول بوجوب القيمة:
- فالواجب القيمة يوم القبض، على القول بأن العين المستقرَضة تُملك بالقبض، وهو الأصح.
- وعلى القول بأنه يُملك بالتصرف: فالواجب أكثر القيم من يوم القبض إلى يوم التصرف.
وإن اختلف المقرض والمقترض في قدر القيمة أو صفة المثل: فالقول قول المقترض مع يمينه، لأنه هو المدَّعي عليه الذي سيُغَرَّم القيمة أو المثل.
متى يطالب بردّ بدل القرض؟
للمقرِض أن يطالب المستقرض بدفع المال المقترض في أي وقت شاء، بعد قبض المستقرض له، لأن حكم القرض - كما تقدم - يوجب على المستقرض ردّ المال المقترض حال طلب المقرض له، وكذلك: لأنه عقد يمتنع فيه التفاضل فامتنع فيه الأجل.(6/108)
وسواء في ذلك أحدِّد أجل معين في العقد للوفاء أم لم يحدَّد وسواء أوُجد في ذلك عُرْف معين أم لم يوجد.
الشروط في القرض:
قد يقترن عقد القرض بشروط، فبعض هذه الشروط تفسده، وبعضها يلغو ولا يؤثر على القرض، وبعضها يلزم الوفاء به، وإليك بيان ذلك:
1 - الشروط المفسدة:
هي كل شرط ليس من ملائمات العقد، وفيه منفعة للمقرض، كما لو أقرضه بشرط ردّ زيادة في البدل، أو بشرط رد صحيح بدل مَعيب، أو بشرط أن يبيعه داره مثلاً. فمثل هذا الشرط فاسد ومفسد للعقد. لقوله - صلى الله عليه وسلم - " كل قرضٍ ير منفعة فهو ربا (1) " قال في " مغني المحتاج ": وهو وإن كان ضعيفاً، فقد روى البيهقي معناه عن جمع من الصحابة. وذكر في " المهذَّب ": أنه روي عن أبي بن كعب وعبدالله بن مسعود وعبدالله بن عباس - رضي الله عنهم - أنهم نَهْوا عن قرضٍ جر منفعة.
والمعنى في هذا: أن موضوع القرض قائم على الإرفاق والعون للمقترض، فإذا شرط فيه المقرض لنفسه منفعة زائدة على حقه فقد خرج العقد عن موضوعه، ولم يؤدِّ غرضه، فلم يصح.
وكذلك روى عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " لا يحل سلف وبيع " (أخرجه الحاكم في المستدرك: البيوع، باب لا يجوز بيعان في بيع .. (2/ 17)، وانظر زوائد ابن حبان: البيوع، باب: ما نهي عنه في البيع من الشروط وغيرها).
وقد مّر معنا في تعريف القرض: أنه السف في لغة أهل الحجاز.
هذا ومن المعلوم أن فساد العقد يعني بطلانه أصلاً، وأنه لا يترتب عليه شيء من الآثار.
_________
(1) أخرجه الطبراني في المعجم الكير [انظر: الجامع الصغير](6/109)
المنفعة أو الزيادة غير المشروطة:
إذا ردّ المستقرض زيادة عن بدل القرض، أو قدم هدية للمقرض، دون أن يشرط المقرض ذلك في العقد ولم يجر به عرف، فما حكم ذلك؟ يُنظر:
- فإن كانت تلك المنفعة المقدَّمة قبل وفاء بدل القرض: فالأولى التنزّه عنها إلا إذا كان تبادل تلك المنفعة معتاداً بينهما قبل القرض.
لما روي عن أنس رضي الله عنه، وقد سئل: الرجل منّا يقرض أخاه المال، فيهدي إليه؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أقْرَض أحدُكم قرضاً، فأهْدى إليه، أو حملَه على الدابَّةِ، فلا يَرْكَبْهُا ولا يَقْبَلْهُ، إلاَّ أنْ يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك ". (أخرجه ابن ماجه في الصدقات، باب: القرض، رقم: 2432).
وكذلك تزول الكراهة إذا كافأه المقرض عليها.
- وإذا كانت المنفعة المقدمة - من زيادة أو هدية أو غيرها - بعد وفاء القرض: فلا بأس بها، ولا يكره للمقرض أخذها، لانتهاء حكم القرض بالوفاء. بل يستحب للمستقرض أن يفعل ذلك، اقتداءً بفعله صلى الله عليه وسلم، وامتثالاً لأمره بحسن الوفاء، وهذا من حسن الوفاء.
روى البخاري ومسلم عن جابر رضي الله عنه قال: أتيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان لي عليه دينُ، فقضاني وزادني (البخاري في الاستقراض، باب: حسن القضاء، رقم2264. ومسلم في المساقاة، باب: بيع البعير واستثناء ركوبه).
وقد مرّ بنا أمره - صلى الله عليه وسلم - بإعطاء المقرض خياراً رباعياً بدل بَكْره، وقوله في ذلك: "فإن خيار الناس أحسنهم قضاءً ".
وهذا إذا لم يجر عُرف بين الناس بردّ المستقرض زيادة عن بدل القرض أو تقديم منفعة للمقرض، وكذلك إذا لم يكن المستقرض قد تَعَوّد هذا وعرف به. فإن كان معتاداً في عُرف الناس، أو كان المستقرض معروفاً به: فالأوجه كراهة قبول هذه المنفعة، لأن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً.
2 - الشروط اللاغية غير المفسدة للعقد:
وهي كل شرط ليس من ملائمات العقد، ولكنه لا مصلحة فيه لأحد(6/110)
المتعاقدين، أو كان مصلحة للمستقرض، وذلك كما لو شرط عليه أن يردّ معيباً بدل صحيح، أو رديئاً بدل جيد، وكذلك لو شرط عليه أن يقرضه غيره.
فمثل هذه لاغيه لا يلزم الوفاء بها.
والأصح أنها لا تفسد العقد، لأن فيها تأكيداً لموضوعه وهو الإرفاق، إذ ليس فيها جرّ منفعة للمقرض، وإنما فيها جرّ منفعة للمقترض، فكأن المقرض يزيد في الإرفاق والعون للمقترض.
شرط الأجل في القرض:
ذكرنا أن للمقرض أن يطالب ببدل القرض متى شاء، سواء أَشُرط أجل في العقد أم لم يُشرط. وعليه: إذا شرط اجل في العقد فلا يلزم الوفاء به، ويعتبر لاغياً. وهل يؤثر على العقد؟ ينظر:
- فإن كان في شرط الأجل غير للمقرض - كما لو كان الزمن زمن نهب، وشرط له أجلاً للوفاء يغلب على ظنه الأمن فيه - فإنه يفسد العقد، لما فيه من جر المنفعة للمقرض، فصار كشرط زيادة في العقد.
- وإن لم يكن في شرط الأجل غير للمقرض فلا يفسد العقد، ولا يلزم الأجل على الصحيح، وإن كان يُندب الوفاء به، لأنه وعد بالإحسان.
3 - ما يلزم الوفاء به من الشروط:
هي كل شرط فيه توثيق للعقد وإثبات للحق وتأكيد له. كما لو اشترط رهناً بمال القرض، أو كفيلاً، أو إشهاداً على العقد، أو إقراراً به عند حاكم، أو كتابة للدين. فإن ذلك كله جائز، ويحقّ للمقرض أن يشرطه، لأنه توثيق - كما قلنا - ولا زيادة فيه.
ولقد روى البخاري عن أنس رضي الله عنه: ولقد رهن النبي - صلى الله عليه وسلم - درعاً له بالمدينة عند يهودي، وأخذ منه شعيراً لأهله (البخاري: البيوع، باب: شراء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنسيئة، رقم: 1963).
ويلزم المستقرض الوفاء بهذه الشروط، فإن لم يوف بها كان للمقرض أن يفسخ العقد.(6/111)
الباب السادس
الهبة(6/113)
الهبَة
تعريفها:
هي في اللغة: العطية التي لم يسبقها استحقاق، وفيها نفع للمعطَى له. وبهذا المعنى تكون في الأعيان وغيرها.
- فمن ورودها في الأعيان: قوله تعالى {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ} (الشورى49).
وقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء} (إبراهيم39).
- ومن ورودها في غير الأعيان: قوله تعالى: {وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً} (آل عمران8).
وقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا} (الأحزاب50) أي يحلّ لك يا محمد - صلى الله عليه وسلم - أن تتزوج بالمرأة المؤمنة التي فوّضت أمرها إليك، ورضيت أن تتزوجها بغير مهر، فيحلّ لك ذلك.
قيل: أصل معناها من هبوب الريح، لما في ذلك من العطاء.
وقيل: مَن هبَّ من نومه، إذا استيقظ، فكأن فاعلها استيقظ وانتبه للعطاء.
وهي في الاصطلاح الشرعي: عقد يفيد تمليك العين بلا عوُض، حال الحياة، تطوعاً.
أي إن عقد الهبة يرد على تمليك ذات الشيء الموهوب للموهوب له، دون(6/115)
أن يتوجب عليه ردّ بدل لهذا الشيء، فهو بهذا يختلف عن البيع الذي هو تمليك بعوض.
وكذلك هذا التمليك يكون حال الحياة، وبهذا تختلف الهبة عن الوصية، التي هي تمليك بلا عوض، ولكن بعد الموت.
كما تختلف الهبة عن الزكاة التي هي تمليك واجب على المزكّي، بينما الهبة تمليك على سبيل التطوع والتبرع.
والهبة بهذا المعنى تشمل الهدية والصدقة، فإن كلاً منهما تمليك للعين بلا عوض في حال الحياة تطوعاً، وإن كان بين هذه الثلاثة شيء من الاختلاف في المعنى والحكم:
- فالهبة: بالمعنى الذي سبق عامّةُ، سواء أكانت من غني لفقير أم لا، وقصد بها الثواب في الآخرة أم لا، نُقلت العين الموهوبة للموهوب أم لا.
- أما الصدقة: فالظاهر أنها تمليك للمحتاج، تقرباً إلى الله تعالى وقصداً للثواب في الآخرة غالباً.
- وأما الهدية: فالظاهر أنها تمليك لمن يرغب بالتقرّب والتحبّب إليه من الناس، وغالباً ما يكون مع ذلك نقل للموهوب إلى مكان الموهوب له.
وهذا الفارق بين الصدقة والهدية يظهر في قوله - صلى الله عليه وسلم - حين طلب أن يُطْعَم من اللحم - الذي رآه يطبخ وقيل له: إنه لحم تُصُدِّق به على بريرة فقال: " هو عليها صدقةُ، وهو لنا هديَّةّ " (أخرجه البخاري في الزكاة، باب: إذا تحولت الصدقة، رقم: 1424. ومسلم في الزكاة باب: إباحة الهدية للنبي - صلى الله عليه وسلم -، رقم: 1074) أي فقد اختلف القصد في العطاء، فاختلف الاسم والحكم.
ولهذا المعنى كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبل الهدية ويأكل منها، بينما كان لا يأكل من الصدقات. فقد روى البخاري ومسلم - واللفظ لمسلم - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أُتِىَ بطعام يسأل عنه: فإن قيل هدية أكل منها، وإن قيل صدقة لم يأكل منها. (البخاري: كتاب الهبة، باب: قبول الهدية، رقم: 2437. ومسلم في الزكاة، باب: قبول النبي - صلى الله عليه وسلم - الهدية وردّه الصدقة، رقم: 1077).(6/116)
- وكذلك لابدّ في الهبة من الإيجاب والقبول، كما سيأتي، بينما لا يشترط هذا في الصدقة أو الهدية:
أما الصدقة: فما أكثر ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتصدق، وكذلك أصحابه رضوان الله عليهم، ولم يُعهد أو يُنقل أنه كان يَجري إيجاب وقبول بين المتصدِّق ومن يتصدّق عليه.
وأما الهدية: فقد ثبت أن الناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يتحرون بهداياهم يوم وجود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند عائشة رضي الله عنها. ولم يُنقل أنه كن يحصل إيجاب وقبول بينهم وبينها، أو بينهم وبينه (انظر البخاري: كتاب الهبة، باب: قبول الهدية، رقم، 2435. ومسلم: فضائل الصحابة، باب: في فضل عائشة رضي الله تعالى عنها، رقم: 2441).
مشروعيتها:
الهبة - بالمعنى العام الشامل الذي سبق بيانه - مستحبة ومندوب إليها، دلّ على ذلك: الكتاب، والسنّة، والإجماع.
أما الكتاب:
- فمن ذلك قوله تعالى: {وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً} (النساء4) أي إذا وهبكم أزواجكم شيئاً من مهورهن - بعد إعطائهنّ ذلك المهر حقاً مفروضاً لهنّ - وكانت نفوسهنّ راضية بتلك الهبة، فما وهبنه لكم كسب طيب حلال، فكلوه سائغاً لذيذاً، ولا حرج عليكم في أكله ولا مؤاخذة عليكم في أخذه.
- ومنه قوله تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} (1) (البقرة177)
_________
(1) البر: كلمة جامعة لكل خير. تولوا وجوهكم: تديروها وتتوجهوا وتستقبلوا بها. قِبَل: نحو وجهة.
آتى: أعطى. على حبه: أي أعطى المال مع حبه له وتعلق قلبه به. أو: أعطاه ونفسه راضية بهذا العطاء غير كارهة له. في الرقاب: في تحرير العبيد(6/117)
فقد شملت الآية بالعطاء المحتاجين وغيرهم، وإعطاء المحتاجين صدقة، وإعطاء غيرهم هبة.
وأما السنة:
فإن الأحاديث في مشروعية الهبة كثيرة، سيأتي بعض منها خلال البحث، ومنها:
- وما رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قد كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - جيران من الأنصار، كانت لهم منائحُ، وكانوا يمْنَحُون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ألبانِهم فيسقينا (البخاري: الهبة، باب: فضلها والتحريض عليها، رقم: 2428. مسلم في الزهد والرقائق، رقم: 2972).
[والمنائح جمع منيحة، وهي العطية، والمراد بها هنا الناقة أو الشاة التي فيها لبن. ويمنحون: أي يجعلون ذلك منحة له، أي عطية].
- ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " يا نساء المسلمات، لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة " (البخاري في الهبة، باب: فضلها والتحريض عليها، رقم: 2427. ومسلم في الزكاة، باب: الحث على الصدقة ولو بالقليل، رقم: 1030).
[أي لا تستصغرن جارة شيئاً يتقدمه لها جارتها عطية وهبة، فتمتنع من قبوله، ولو كان المقدم والمعطى فرسن شاة، وهو ما دون الرسغ من يدها، وقيل: عظم قليل اللحم. أو المراد لا تستصغر ذلك فتمتنع عن هبته لجارتها، بل لتقدّمه لها، فإن في ذلك جلباً للمحبة والألفة].
- ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو دعيت إلى ذراع أو كراع لأجبت، ولو أهدي إلى ذراع أو كراع لقبلت " (أخرجه البخاري في الهبة، باب: القليل من الهبة، رقم: 2429).
[ذراع: هو اليد من كل حيوان. كراع: هو ما استدق من ساق الحيوان].(6/118)
وأما الإجماع:
فقد اجمع فقهاء المسلمين في جميع العصور على استحباب الهبة بكل أنواعها لأنها من باب التعاون، والله تعالى يقول: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى} (المائدة2).
الهبة للأقارب:
وإذا كانت الهبة مشروعة ومندوباً إليها، مطلقاً، فهي للأقارب أشد استحباباً وأكثر ندباً وأفضل ثواباً وأجراً، لما يكون فيها - إلى جانب البّر والتعاون - من صلة الرحم. وقد حثّنا الله تعالى في كتابه على صلة الرحم فقال سبحانه: {وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} (النساء1) أي اتقوا الأرحام من أن تقطعوها.
وكذلك فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ قال: " من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه " (أخرجه البخاري في البيوع، باب: من أحب البسط في الرزق، رقم: 1961. ومسلم في البر والصلة والآداب، باب: صلة الرحم وتحريم قطيعتها، رقم: 2557).
[يُبسط له: يوسَّع عليه ويبارك له فيه. ينسأ له في أثره: يطيل الله عمره ويؤخر له فيه].
المكافأة على الهبة:
ويستحب لمن وهب له شيء أن يكافئ الواهب على هبته إن تيسر له ذلك، اقتداءً برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل الهدية ويثبت عليها (أخرجه البخاري في الهبة، باب: المكافأة في الهبة، رقم: 2445)
حكمة مشروعيتها:
يهدف الإسلام لإقامة المجتمع المثالي المتكامل، الذي يقوم على أساس من المحبة والوّد، والصلة والقرْب. ولذا يشرع كل ما من شأنه أن يقوّي روابط القرب بين الأفراد، ويحقق التوادد والألفة بين الناس. والهبة من الوسائل الناجعة التي تحقق هذا المعنى، لما فيها من تعبير عن الإكرام والودّ والاحترام. والإنسان مفطور على حب من أكرمه وأحسن إليه، واظهر له ودّه واحترامه.(6/119)
وحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صريح في هذا المعنى إذ يقول: " تهادَوْا تحابَّوا " (أخرجه مالك مرسلاً في كتاب حسن الخلق، باب: ما جاء في المهاجرة: 2/ 908) ويقول " تهادوا، فإنّ الهديَّة تُذْهبُ وحَرَ الصّدْر " أي غلَّه والحقد الذي قد يكون فيه. (أخرجه الترمذي في أبواب الولاء، باب: ما جاء في حثّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على التهادي، رقم: 2131).
وحتى يتحقق هذا المعنى كاملاً نجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحثّ من وُهِبَ له شيء أن يقبله ولا يردّه، لما في الرد على الواهب من إيذاء له، إذ قد يشعر باستصغاره وعدم الاكتراث به. وقد مرّ بك قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تحقرن جارة لجارتها ولو فْرِسِنَ شاة " وروى الإمام أحمد في مسنده: عن خالد بن عدي رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من بلغه معروف عن أخيه، من غير مسألة ولا إشراف نفس، فليقبله ولا يردّه، فإنما هو رزق ساقه الله عز وجل إليه ". (مسند أحمد: 4/ 221).
وإذا كان هناك سبب شرعي معتبر لعدم القبول ينبغي أن يبيِّنه، حتى لا يبقى في نفس الواهب شيء، كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أُهدي له صيد وهو محرم.
فقد أخرج البخاري ومسلم عن الصعب بن جثامة الليثي رضي الله عنه: أنه أهدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حماراً وحشياً، وهو بالأبواء أو بودّان، فردّه عليه، فلما رأى ما في وجهه، قال: " أما إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم " ( ... البخاري: الإحصار وجزاء الصيد، باب: إذا أهدى للمحرم حماراً وحشياً حياً لم يقبل، رقم: 1729. ومسلم في الحج، باب: تحريم الصيد للمحرم، رقم: 1193).
[حماراً وحشياً: هو الحمار المخطط المعروف، وهو من الأنعام المأكولة اللحم. الأبواء وودّان: اسما موضعين بين مكة والمدينة. ما في وجهة: أي من الحزن والكراهية لردّه - صلى الله عليه وسلم -، لأنه قد يكون سبب غضب منه وعدم رضا عنه. حرم: محرومون: يمتنع علينا أخذ ما صِيدَ لنا].
أركان الهبة وشروطها:
للهبة أركان ثلاثة، وهي: عاقدان، وصيغة، وموهوب. ولكلَّ من هذه الأركان شروطها نبينها فيما يلي:(6/120)
1"- العاقدان: وهما الواهب والموهوب له:
ويشترط في الواهب: أن يكون مالكاً للموهوب، وأن يكون أهلاً للتبرع، مطلق التصرف في ماله، فلا تصحّ هبة ما لا يملكه، كما لا تصح هبة الصغير والمجنون، لأنها ليسا أهلاً للتبرع ولا يملكانه، لأنه ضرر محض. ولهذا لا يملك وليُّهما أيضاً هبه شيء من مالهما، لأنهما تبرع لا يقابله نفع دنيوي، فهي لذلك ضرر محض لا يملكه الولي، لأن ولايته قاصرة على وجوه النفع لمن تحت ولايته.
وكذلك لا تصحّ الهبة من المحجور عليه في ماله، لسفه أو فلس.
ويشترط في الموهوب له: أن يكون أهلاً لتملك ما وهب له، فتصح الهبة لكل إنسان مولود، وغير المكلف - كالصبي والمجنون - يقبل عنه وليّه. ولا تصح الهبة للحمل لأنه لا يملك ملكاً اختيارياً.
2"- الصيغة: وهي الإيجاب والقبول:
فمن الإيجاب أن يقول: وهبتك، ونحلتك، وملّكتك بلا ثمن، وأعطيتك. وكذلك: أطعمتك هذا الطعام، وجعلت هذا الثواب لك.
فهذه ألفاظ بعضها صريح في الهبة لاستعمالها فيها، وبعضها يجري مجري الصريح لدلالته على التمليك في الحال بلا عوض، وهو معنى الهبة. فهذه الألفاظ لا تحتاج إلى نيّة، ولو ادّعى قائلها وعدم إرادة الهبة به فلا يُصدق بدعواه.
وهناك ألفاظ في الإيجاب ليست صريحة في الهبة ولا تجري مجرى الصريح فيها، وفتحتاج إلى نيّة مثل قوله كسوتك هذا الثوب، وحملتك على هذه الدابة، فمثل هذه الألفاظ كناية في الهبة، فإن نواها انعقدت بها، وإن قال: لم أرد بها الهبة صدق في ذلك وكانت عارية وإنها تحتمل العارية وتصلح لها، كما تحتمل الهبة.
ولو قال: منحتك هذا الشيء، أو هذا الشيء لك منحه، فهو هبة، لأن هذا اللفظ مستعمل في الهبة صراحة.
وأما القبول فأن يقول: قبلت، أو رضيت، أو اتهبت.(6/121)
ويشترط في الصيغة:
1 - اتصال القبول بالإيجاب، بحيث لا يفصل بينهما فاصل معتبر عرفاً.
2 - عدم تقيدها بشرط: كان يقول: إن قدم زيد فقد وهبتك هذا الثوب، لأن الهبة تمليك، والتمليكات لا تحتمل التعليق بما له خطر الوجود والعدم، فلم يصحّ الإيجاب.
3 - عدم تقيدها بوقت: كوهبتك هذا الكتاب شهراً أو سنة، لأنه شرط منافٍ لمقتضى العقد، الذي هو التمليك المطلق للحال.
العمري والرقبي
1 - العمري:
مأخوذة من العُمُر، وهي أن يقول الواهب للموهب له: أعمرتك هذه الدار، أو جعلت هذه الدار لك عمري، أو عمَرك، أو حياتك أو حياتي، فإذا متّ فهي لورثتي.
وهذه صيغ من صيغ الهبة كما ترى، ولكنها مقيدة بوقت وهو عمر الواهب أو الموهوب له. وقد علمت أن من شرط صيغة الهبة عدم التقييد بوقت، ومع ذلك فالهبة صحيحة والشرط باطل ولاغٍ، استثناء من المنع السابق، لما صحّ في ذلك من أحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
فقد روى البخاري ومسلم: عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((العمرى جائزة)).
ورويا أيضاً عن جابر رضي الله عنه قال: قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعمري أنها لمن وهبت له، وفي رواية عند مسلم: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((العُمري لمن وهبت له)).
(أنظر البخاري: الهبة، باب: ما قيل في العمري والرقبي ومسلم: الهبات، باب: العمري).
وروى مسلم أيضاً عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
((أمسكوا عليكم أموالكم ولا تُفْسدُوها، فإنَّه من أعْمَرَ عُمْري فهي للذي أعمرها، حياً وميتاً، ولا عقبه)) (مسلم: الهبات، باب: العمري).(6/122)
قال النووي رحمه الله تعالى في شرح صحيح مسلم: (المراد به إعلامهم أن العمري هبة صحيحة ماضية، يملكها الموهوب له ملكاً تاماً لا يعود إلى الواهب أبدأ، فإذا علموا ذلك: فمن شاء أعمر ودخل على بصيرة، ومن شاء ترك لأنهم كانوا يتوهمون أنها كالعارية ويرجع فيها).
2 - الرقبي:
وهي أن يقول الواهب لغيرة: داري لك رقبي، أو: أرقبتك هذه الدار، أو: جعلتها رقبي. ومعناها: إن متَّ قبلي عادت إليّ، وإن مت قبلك استقرت لك. فهي مأخوذة من الرقوب والترقب وهو الانتظار، لأن كل واحد منهما يرقب موت صاحبه وينتظره. وهذه الصيغة أيضاً من صيغ الهبة المعتبرة شرعاً، رغم تقييدها بشرط فهي هبة صحيحة، والشرط لاغٍ، لورود السنّة بصحتها كالعمري.
روى جابر رضي الله عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((العُمْرَي جائزةّ لأهْلها والرُّقْبي جائزة لأهلها)): أي نافذة وماضية. (أخرجه الترمذي في الأحكام، باب: ما جاء في الرقبي، رقم: 1351، وقال: هذا حديث حسن. وأبو داود في البيوع، باب الرقبي، رقم: 3558. وإبن ماجه في الهبات، باب: الرقبي، رقم: 2383).
وهذا استثناء أيضاً من بطلان الهبة المقيدة بشرط كما علمت.
جاء في ((مغني المحتاج)): قال السبكي: وصحة العمرى والرقبي بعيد عن القياس، لكن الحديث مقدَّم على كل أصل وكل قياس.
3"- الموهوب:
الركن الثالث من أركان الهبة محل العقد وهو الموهوب، والقاعدة في هذا أن ما جاز بيعه جازت هبته، ومنها تستخرج شروط الموهوب، وهي:
أأن يكون موجوداً وقت الهبة: فلا تصح هبة ما كان مفقوداً حال العقد، لأن مقتضي الهبة التمليك للحال , وتملك المعدوم على هذا مُحال، فتبطل الهبة.
ومثاله: ما لو وهبة ما ستثمر نخيله هذه العام، أو ما ستلد أغنامه هذه السنة.
ومثل المفقود حقيقة المفقود حكماً، كما لو وهبه ما في بطن هذه الشاة(6/123)
أو ما ضرعها، فلا تصح الهبة وإن سلطه على القبض عنده الولادة والحلب، لأنه لا وجه لتصحيح الملك للحال لأن اللبن والحمل في حكم المفقود حال العقد، لاحتمال وجودة وعدمه، لأن انتفاخ البطن قد يكون للحمل وغيره، وكذلك انتفاخ الضرع قد يكون باللبن وبغيره.
ولا وجه لتصحيح الملك بالإضافة إلى ما بعد الحدوث، لأن التمليك بالهبة مما يحتمل الإضافة إلى الوقت.
ب أن يكون مالاً متقوماً: فلا تصح هبة الميتة، ولا الدم، ولا الخنزير ولا الخمر، ولا صيد المحرم أو الحَرَم، لأن هذه الأشياء ليست أموالاً متقوّمة شرعاً.
ت أن يكون مملوكاً للواهب: فلا تصح هبة ما ليس مملوكاً بنفسه كالمباحات (1) كما لا تصح هبة مال غيرة بغير إذنه، لأن الهبة تمليك، وتمليك ما ليس بمملوك محال.
هبة ما كان مشغولاً بغيرة أو متصلاً به:
حسب القاعدة السابقة: أن ما جاز بيعه جازت هبته، ينظر:
-فإن كان الموهوب المتصل بغيره يمكن تمييزه عنه دون إلحاق ضرر به، ولا غرر في هذا، صحت الهبة فيه، يجوز بيعه. كما لو وهبه ذراعاً من أرض أو ثوب لا تنقص قيمته بقطعة منه.
ـ وإن كان الموهوب المتصل بغيره لا يمكن تمييزه عنه إلا بضرر، كما لو وهبه نصف سيفه، أو كان في تمييزه عسر أو كان في ذلك غرر، كما لو وهبه الصوف على ظهر الغنم، فإنه يعسر تمييزه الموهوب عن غيره، لأنه ينبغي جزّه من أصله، وهو غير ممكن، وكذلك قد يحدث شعر جديد، فيختلط بالذي كان حال الهبة، ولا يمكن تمييزه، ويكون في ذلك غرر أيضاً، فلا تصح الهبة لأن بيع ذلك غير صحيح.
_________
(1) المباحات: هي ما يباح لكل إنسان أن يتملكه بالإحراز، كالحيوانات البرية والبحرية غير المملوكة، والعشب ونحوه فلا تصحّ هبته قبل حيازته وإحرازه، لأنه غير مملوك قبلها.(6/124)
فإذا وهبه ثمراً على رأس الشجر: فإن كان مما يغلب تلاحقه واختلاط حادثة بالموجود فلا يصح، لتعذر تمييزه. وإن لم يكن كذلك فإنه يصح.
هذا فيما كان متصلاً بغيره.
أما إن كان مشغولاً بغيره، كدار فيها متاع للواهب أو دابة عليها حمل له، أو شجر عليه ثمر، فإن هبة ذلك كله جائزة وصحيحة، لأن تمييز الموهوب على غيره ممكن، ولا عصر فيه ولا ضرر ولا غرر. ولأن بيع ذلك جائز وصحيح.
هبه المشاع
وذلك: بأن يكون لإنسان حصة غير معينه في شيء، فيهبها لآخر. أو يكون مالكاً لشيء فيهبه لأثنين أو أكثر. فالهبة جائزة وصحيحة، ويكون القبض في الموهوب بقبض الموهوب له جميع العين، فيستوفي حقه بمقدار حصته منها، ويكون باقيها أمامها في يده كالوديعة والحجة بهذا:
أ- ما رواه البخاري ومسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: كنت يوماً جالساً مع أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في منزل في طريق في مكة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - نازل أمامنا، والقوم محرمون وأنا غير محرم، فأبصروا حماراً وحشياً، وأنا مشغول أخصف نعلي فلم يؤذنني به، وأحبّوا لو أني أبصرته، والتفت فأبصرته، فقمت إلى الفرس فأسرجته، ثم ركبت ونسيت السوط والرمح، فقلت لهم: ناولوني السوط والرمح، فقالوا: لا والله لا نعينك عليه بشيء فغضبت فنزلت فأخذتهما، ثم ركبت فشددت على الحمار فعقرته، ثم جئت به وقد مات، فوقعوا فيه يأكلونه، ثم إنهم شكّوا في أكلهم إياه وهم حُرُم، فرحنا، وخبأت العضد معي، فأدركنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألناه عن ذلك، فقال: (معكم منه شيء؟ ) فقلت: نعم، فناولته العضد، فأكلها حتى نفدها، وهو محرم (البخاري: الهبة، باب، من استوهب من أصحابه شيئاً، رقم: 2431. ومسلم: الحج، باب: تحريم الصيد للمحرم، رقم: 1196).
فهذا الحديث دليل على جواز هبة المشاع، لأن أبا قتادة هو الذي ملك الصيد، ووهب أصحابه حصصاً شائعة منه، وأقراهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فعلهم.(6/125)
ب - ما رواه مالك والنسائي وأحمد عن عمير بن سَلَمه الضمري عن البهريّ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج يريد مكة وهو محرم، حتى إذا كان بالروحاء، إذا كان بالروحاء، إذا حمارُ وحشي عقير، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: " دعُوهُ، فإنّه يُوشكُ أنْ يأتيَ صاحبُه " فجاء البهري وهو صاحبه، إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله شأنَكُمْ بهذا الحمار. فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر، فقسمه بين الرفاق. (انظر الموطأ: الحج، باب: ما يجوز للمحرم أكله من الصيد. والنسائي: مناسك الحج، باب: ما يجوز للمحروم أكله من الصيد).
قالوا: وهذا الخبر صريح في صحة هبة المشاع، إذ وهب الواحدُ للجميع.
ج - وقالوا أيضاً: القصد من الهبة التمليك، والملك يثبت في المشاع كما يثبت في المُفْرَز المقسوم، بدليل صحة بيعه.
لزوم الهبة بالقبض:
عقد الهبة لا يكمل ولا يلزم بمجرد الإيجاب والقبول، بل يبقى عقداً غير لازم من قبل الواهب، فيحقّ له الرجوع بالهبة والتصرف بالموهوب ما دام في يده. وعليه فلا يستقر ملك الموهوب للموهوب له إلا بعد القبض.
فإذا حصل القبض بشروطه الآتية فقد تم عقد الهبة وكمل، وأصبح عقداً لازماً، واستقرت فيه ملكية الموهوب له للعين الموهوبة. والدليل على أن الهبة لا تملك ملكاً تاماً إلا بالقبض:
أ - ما رواه الحاكم وصحح إسناده: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما تزوج أُم سلمة رضي الله عنها قال لها: " إنّي أهديتُ إلى النجاشيِّ أوَاقاً من مسْك وحُلة، وإني لا أراه إلا قد مات، ولا أرى الهدية التي أهديت إليه إلا سترد، فإذا ردت إلى فهو أو لكن ". فكان كما قال، هلك النجاشي، فلما ردّت الهدية أعطى كل امرأة من نسائه أوقيَّة من ذلك المسك، وأعطى سائرَه أم سلمة، وأعطاها الحُلَْةَ.
(المستدرك: كتاب النكاح، باب: حق الزوجة على الزوج 2/ 188).
فلو كانت الهبة تلزم بدون قبض - والهدية منها - لما رضي - صلى الله عليه وسلم - برجوعها(6/126)
إليه، بل كان يردّها إلى ورثة النجاشي، لأنها تعتبر من تركته حينئذ. فقبوله - صلى الله عليه وسلم - لردّها دليل على أنها لم تثبت ملكيتها للمُهدى له قبل قبضها.
ب - ما رواه مالك في الموطأ: عن عائشة رضي الله عنها - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت: إن أبا بكر الصديق كان نَحَلَها جادَّ عشرينَ وَسْقا من ماله بالغابة، فلما حضرته الوفاة قال: والله - يا بُنَّيُه - ما من الناس أحد أحبَّ إلى غنى بعدي مْنك، ولا أعَزَّ عليَّ فقراً بعدي منك، وإني كنتُ نحلتك جادَّ عشرين وسْقاً، فلو كنت جددتيه، واحتزتيه كان لك، وإنما هو اليوم مال وارثٍ، وإنّما هما أخواك وأُختاك، فاقتسموه على كتاب الله. قالت عائشة رضي الله عنها: فقلت: يا أبت، والله لو كان كذا وكذا بتركته، إنما هي أسماءُ، فمن الأُخرى؟ فقال أبو بكر: ذو بَطْن بنت خارجة، أراها جارية (1).
[نحلها: أعطاها بلا عوض، وهي الهبة. جادّ عشرين وسقاً: أي ما يقطع منه هذا القدر، والوسق مكيال يتسع لما يزن (140) كيلوغرام تقريباً. بالغابة: موضع قريب من المدينة على طريق الشام. أعزّ: أشقّ وأصعب. احتزتيه: قبضتيه وجعلتيه في حوزتك. ذو بطن: الحمل الذي في بطنها. أُراها جارية: أظنها بنتاً].
وهذا صريح في أن الهبة لا تملك إلا بالقبض.
ج - روى مالك أيضاً: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ما بال رجال يَنْحَلُونَ أبناءهم نحلاً ثم يمسكُونها، فإن مات ابن أحدهم قال: مالي بيدي لم أعطه أحداً، وإن مات هو قال: هو لابني، قد كنت أعطيته إياه؟ من نحل نحْلَةً، فلم يَحُزْها الذي نُحِلَها، حتى يكونَ إن مات لورثته، فهي باطلة (2).
شروط القبض:
حتى يصح القبض وتلزم الهبة لابدّ من تحقق شروط فيه، وهي:
أ - إذن الواهب: يشترط لصحة القبض أن يكون بإذن من الواهب، فلو
_________
(1) (الموطأ: كتاب الأقضية، باب: مالا يجوز من النحل).
(2) المرجع المذكور في الحاشية السابقة.
[إن مات هو: أي حضرته أسباب الموت وأيقن به].(6/127)
قبضها الموهوب له قبل إذنه لم يصحّ القبض ولم تتم الهبة ولم تلزم. أي تبقى ملكية الموهوب للواهب، ويضمنه الموهوب له بقبضه بغير إذن.
ويشترط أن يكون الإذن بالقبض صراحة، أو أن يُْقبض الواهب الموهوب بيده للموهوب له، سواء أكان ذلك في مجلس عقد الهبة أم بعده، وسواء أكان الموهوب في يد الموهوب له أم لا. فلو قبضه بلا إذن صريح أو إقباض لم يصح القبض، ولو رأى ذلك الواهب وسكت عنه.
ب - أن لا يكون الموهوب مشغولاً بما ليس بموهوب، لأن الفراغ شرط صحة التسليم والقبض ولم يوجد. ولأن معنى القبض التمكّن من التصرّف في المقبوض، وهو لا يتحقق مع الشغل بغيره. فإذا فرغ الموهوب من الشغل بغيره وسلم صحّ القبض.
وكذلك لو كان الموهوب متصلاً بغيره اتصال خلقه، كأرض فيها زرع، أو شجر عليه ثمر، فإذا ميز الموهوب عن غيره وسُلِّم صح القبض. وقد مرّ بك كلام نحو هذا في شروط الموهوب، وأنه يشترط فيه أن يكون متميزاً عن غيره غير متصل ولا مشغول به، على النحو الذي فُصِّل وبين.
ج - أهلية القبض: يشترط فيمن يقبض الهبة أن يكون أهلاً للقبض، وهو البالغ العاقل، فلا يصح قبض الصبي والمجنون، لأن القبض من باب الولاية، وغير البالغ والعاقل لا ولاية له على نفس أو مال، فلا يصحّ قبضه.
القبض بطريق النيابة:
وهو القبض لمن لا يصحّ قبضه كالصبي والمجنون، فيشترط في صحة هذا القبض أن يكون للقابض ولاية على المقبوض له، أو عيلة: بأن يكون الصبي أو غيره في حجر وعيال من يقبض له، أي في رعايته وتربيته.
ويجوز قبض الزوج عن زوجته الصغيرة بعد الزفاف، لأنها صارت في عياله. ويملك ذلك مع وجود وليّها على الصحيح ولو كان أباها، لأنه فوض أمورها إليه بزفافها، بخلاف ما قبل الزفاف، لأن هذا المعنى لم يحصل، ولأنها لم تدخل في عياله.
وإذا وهب أحد من الأولياء شيئاً لمن تحت ولايته صحّت الهبة، وملكه(6/128)
الموهوب له بمجرد العقد، لأن الموهوب في قبض الولي فينوب عن قبض الهبة. ويكفي أن يعلم بما وهبه له، وإن أشهد على ذلك فهو أولى، تحرزاً من إنكاره لذلك فيما بعد، أو إنكار الورثة بعد موته.
ومثل الأولياء مَن يكون الصبي وغيره في عياله وحجره ولو كان أجنبياً، فإنه إذا وهبه شيئاً ملكه بالعقد واعتبر وجود الموهوب في يده قبضاً له عن الهبة.
حكم الهبة:
إذا تم عقد الهبة، بتوفر شروطه: في الواهب والموهوب له والصيغة، والموهوب، وتم القبض للعين الموهوبة بشروطه السابقة، ترتب على ذلك حكم الهبة، وهو: ثبوت الملك للموهوب له في الموهوب من غير عوض. لأن الهبة تمليك العين بلا عوض - كما مرّ معنا - فكان حكمها ملك الموهوب من غير عوض.
صفة حكم الهبة، وحكم الرجوع فيها:
إن حكم الهبة الذي سبق ذكره يثبت على سبيل اللزوم، بمعنى أنه ليس للواهب أن يرجع بالهبة بعد ثبوت حكمها على النحو الذي سبق.
ويستثنى من ذلك: هبة الأصل للفرع، فإن له حق الرجوع فيها بعد ثبوت حكمها. دلّ على ذلك:
- قوله - صلى الله عليه وسلم -: " العائدُ في هبته كالعائد في قيئه ". وفي رواية: " ليس لنا مثل السوء: الذي يعود في هبته كالكلب يرجع في قيئه " (البخاري في الهبة، باب: لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته، رقم: 2478، 2479. ومسلم في الهبات، باب: تحريم الرجوع في الصدقة والهبة بعد القبض، رقم: 1622).
وجه الاستدلال بالحديث: أن الرجوع في القيء حرام، فكذلك ما شبه به وهو الرجوع بالهبة. وذكر الكلب في الرواية الأخرى مبالغة في الزجر والمنع.
ويؤكد هذا أيضاً قوله: " ليس لنا مثل السوء " أي ليس هذا التصرّف من شأننا ولا خلقاً من أخلاقنا، أي فهو محرم علينا.
- وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يحل لرجل أن يعطي عطية، أو يهب هبة، فيرجع فيها، إلا الوالد فيما يعطي ولده ". قال الترمذي: وهذا حديث حسن صحيح. (أخرجه(6/129)
الترمذي في الولاء، باب: ما جاء في كراهية الرجوع في الهبة , رقم: 2133. وأبو داود في البيوع والإجارات، باب: الرجوع في الهبة، رقم: 3539).
وقيس على الوالد سائر الأصل بهبته لفرعه: إذا خرج الموهوب من سلطانه وزال ملكه عنه، كما لو باعه أو وقفه أو وهبه لأحد وقبضه الموهوب له.
أما لو أجره، أو وهبه لأحد ولم يقبضه الموهوب له، فإن ذلك لا يمنع الرجوع، لأنه ما زال في سلطانه، ولم يزل ملكه عنه.
وكذلك إذا زاد الموهوب زيادة متصلة أو منفصلة، فإن هذا لا يمنع الرجوع، بل يرجع الواهب بالموهوب والزيادة المتصلة، كسمن دابة وحراثة أرض، لأن الزيادة المتصلة تبع للأصل.
أما الزيادة المنفصلة، كالولد والثمرة، فإن كانت موجودة عند الهبة رجع بهاء وإن حدثت بعد الهبة فإنه لا يرجع بها بل تبقى للموهوب له، لأنها حدثت على ملكه.
وكذلك لو وهبه دابة غير حامل، أو شجراً لا ثمر عليه، ثم حملت الدابة أو أثمر الشجر قبل الرجوع، فإنه لا يرجع بالحمل أو الثمر، ولو لم ينفصل عند الرجوع، وإنما يرجع بالأصل، وتبقى الثمرة ملكاً للموهوب له، لأنها معلومة، وقد حدثت على ملكه.
ولو زال ملك الولد عن الموهوب، ثم عاد إليه بسبب آخر، كشراء أو هبة أو ميراث، لم يكن للوالد الرجوع فيه، لقيام تبدل سبب الملك مقام تبدل العين، فكأن الذي عاد غير عين الأول فلا حق له فيه.
الهبة المطلقة والهبة بثواب:
إذا وهب إنسان لآخر شيئاً، ولم يشترط في ذلك إثابة على هبته أو تعويضاً عنها، فإنه لا يستحق شيئاً من ذلك، ولا يلزم الموهوب له بالتعويض، لأنه الهبة المطلقة لا تقتضي إثابة ولا تعويضاً، سواء أكان الواهب أعلى من الموهوب له، أم مثله، أم دونه.(6/130)
وإن كانت الهبة بثواب، أي بشرط العوض، كأن يقول: وهبتك هذا على أن تثيبني كذا، أو وهبتك هذا الكتاب على أن تعوضني هذا الثوب، أو تهبني كذا، ونحوه، ينظر:
فإن كان العوض المشروط معلوماً: صح العقد وكان بيعاً على الصحيح، نظراً للمعنى، فإنه عقد معاوضة بمال معلوم فيصح، كما لو قال: بعتك كذا بكذا، إذ العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني. ولذا تثبت فيه أحكام البيع، فيثبت فيه خيار المجلس، وخيار الشرط، والرد بالعيب، وغير ذلك من أحكام البيع.
وإن كان العوض المشروط مجهولاً: كأن يقول: وهبتك هذا الكتاب على أن تعوضني ثوباً، دون بيان لهذا الثوب أو تعيين له، أو: على أن تعوضني شيئاً، فالعوض المشروط في هذه الحالة مجهول، فيكون العقد باطلاً، إذ لا يمكن اعتباره بيعاً لجهالة العوض، كما لا يمكن اعتباره هبة لذكر العوض، والهبة لا تقتضيه.
التسوية في الهبة للأولاد وعطاياهم:
المراد بالهبات والعطايا هنا غير النفقة الواجبة، فيستحب للوالد - إذا أراد أن يهب أولاده ويعطيهم - أن يسوّي بينهم في الهبة والعطاء ذكوراً كانوا أم إناثاً، كباراً أم صغاراً، وذلك تمتيناً للمحبة فيما بينهم. ويكره له أن يميز بينهم، وأن يفضل بعضهم على بعض، بزيادة أو خصوصية، لما يؤدي إليه ذلك من الحسد بينهم وبغض بعضهم بعضاً، وتفكك روابط الأسرة.
روى البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: أعطاني أبي عطية، فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضي حتى تُشْهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية، فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله، فقال: " أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟ " قال لا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم" قال: فرجع فرد عطيته (البخاري في الهبة، باب الإشهاد في الهبة، رقم: 2447. ومسلم في الهبات، باب: كراهية تفضيل بعض الأولاد في الهبة، رقم: 1623).(6/131)
وهذا محل اتفاق بين العلماء، فقد أجمعوا على استحباب التسوية وإن اختلفوا في المراد منها وكيفيتها:
فجمهور الشافعية والحنفية على أن المراد بها أن تعطى الأُنثى مثل ما يعطى الذكر لظاهر الحديث.
ونقل عن محمد رحمه الله تعالى - من الحنفية - أن التسوية كقسمة الميراث، وإن كان نقل صاحب البدائع عنه ما يقتضي ظاهرة موافقة الجمهور وقال: وهو الصحيح.
وحبذا لو أخذ الناس بهذا وعملوا به ولو كان قولاً مرجوجاً، إذا لكان منهم بعض الإنصاف لبناتهم، ولم ينكصوا على أعقابهم، ويعودوا إلى ما كان عليه أهل الجاهلية من حرمان الأُنثى من كل شيء، بحجة أن الذكر يتعب معهم، وأن ما يعطى للأنثى يذهب للغريب عن الأسرة، وهو زوجها وأولادها.
وهذا إذا كانوا متساوين في الحاجة، أو لم يرضوا بالتفضيل، أما لو كان أحدهم أكثر حاجة من الآخرين أو رضي الآخرون بإعطائه زيادة، فلا بأس ولا كراهية بأن يخصّ بعضهم بزيادة عن غيره.
ولو فضل الوالد بعض لده على بعض، أو أعطى بعضاً ومنع بعضاً، صحّت هبته، وملكها الولد الموهوب له، وإن كان الأب قد ارتكب مخالفة الشرع، وفعل غير المطلوب والمندوب.
المساواة بين الوالدين في العطايا:
من واجب الوالد البرّ بوالديه والإحسان لهما:
قال الله تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} النساء36.
وقال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} الإسراء23 والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة.(6/132)
ومن جملة البرّ والإحسان النفقة عليهما، وتقديم الهدايا والهبات والعطايا في المناسبات، ولاسيما في العيدين: الفطر والأضحى.
وكما تسنّ التسوية بين الأولاد في العطايا، تسنّ أيضاً بالنسبة للوالدين ولا بأس أن يفضل الأُم أحياناً ويخصّها بشيء من العطاء والإكرام، عملاً بما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: " أمك " قال: ثم من؟ قال: " أمك " قال: ثم من؟ قال: " أبوك " (أخرجه البخاري في الأدب، باب: من أحق الناس بحسن الصحبة، رقم: 5626. ومسلم في البر والصلة والآداب، باب: برّ الوالدين وأنهما أحق به، رقم: 2548).
المساواة بين الإخوة في الهبات:
وممن يجب على المسلم البرّ بهم والإحسان إليهم الإخوة والأخوات، قال الله تعالى (وَذِي الْقُرْبَى) (النساء 36). وقال (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى) (البقرة: 177).
وأقرب الناس إلى الإنسان بعد أولاده وأبويه: إخوته وأخواته، فينبغي أن يقدم لهم الهبات والهدايا، وخاصة في المناسبات.؟ وإذا فعل ذلك فيستحب له أيضاً أن يسوّي بينهم إذا كانوا في درجة واحدة من الحاجة، وإن أراد أن يخصّ بعضهم بشيء فليكن ذلك للأكبر، وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " حق كبير الإخوة على صغيرهم كحقّ الوالد على ولده " وفي رواية " الأكبر من الإخوة بمنزلة الأب " (رواه البيهقي في شعب الإيمان).(6/133)
البَاب السابع
الإجارة(6/135)
الإجارة
تعريفها:
في اللغة: اسم لما يُعطي من كراء لمن قام بعمل ما، جزاءً له علي عمله، فيقال له أجر وأجرة وإجارة. وأُجره وآجره إذا أثابه علي عمله، ولا يقال إلا في النفع دون الضُّر.
ويغلب الأجر في الثواب الأخروي، والأُجرة في الثواب الدنيوي.
وفي الاصطلاح: عرّفها صاحب " مغني المحتاج" بقوله: (عقد علي منفعة مقصودة معلومة، قابلة للبذل والإباحة، بعوض معلوم).
والمراد بالعقد علي المنفعة أو المنافع تمليكها، كما جاء في بعض التعريفات لها: تمليك المنافع بعوض.
وقد نصّ التعريف علي شروط المنفعة، وسيأتي بيان ذلك عند الكلام عن المنفعة وشروطها كركن من أركان الإجارة.
مشروعيتها:
أجمع المسلمون علي أن الإجارة جائزة ومشروعة، وعمدتهم في هذا الكتاب والسنّة
1 - أما الكتاب: فيقوله تعالي: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} الطلاق6.
فقد أمر الله تعالي الآباء بإعطاء الأجر علي الإرضاع، فدلّ علي أن الأجر حق للمرضعة، وهي لا تستحقه إلا بالعقد، إذ لو أرضعت بدون عقد كانت متبرعة، والمتبرع لا يستحق شيئاً، فكان ذلك دليلاً علي مشروعية العقد.(6/137)
ويُستأنس لها أيضاً بقوله تعالي علي لسان شعيب عليه السلام وبناته: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ. قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} القصص: 26ـ 27): أي أن تكون أجيراً لي ثماني سنين.
وقلنا: يُستأنس بهذا استئناساً، لأنه وارد في شرع من قبلنا، وشرع مَن قبلنا - علي الأصح - ليس شرعاً لنا، حتى يكون هذا دليلاً علي الحكم في شرعنا.
2 - وأما السنّة: فقد ورد فيها أحاديث كثيرة، منها:
- ما رواه البخاري وغيره عن عائشة رضي الله عنها ـ في حديث الهجرة الطويل ـ قالت: واستأجر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر رجلاً من بني الدَّيْل ثم من بني عبد بن عديّ، هادياً خرَّيتاً ـ الخرِّيت الماهر بالهداية ـ وهو علي دين كفّار قريش، فأمناه، فدفعا إليه راحلَتَيْهما، ووعداه غار ثَوْر بعد ثلاث ليال، فأتاهما براحلتيهما صبيحة ليال ثلاث، فارتحلا. (البخاري: الإجارة، باب استئجار المشركين عند الضرورة، رقم: 2144).
ـ ما رواه مسلم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهي عن المزارعة، وأمر بالمؤاجرة وقال: " لا بأس بها ".
وروي أيضاً: عن رافع بن خَديج رضي الله عنه قال: (كنّا أكثر الأنصار حقلاً، قال: كنا نُكْري الأرض علي أن لنا هذه ولهم هذه، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه، فنهانا عن ذلك، وأما الورق فلم يَنْهََنا). وفي رواية: (أما بالذهب والورق فلا بأس به). (مسلم: البيوع، باب، كراء الأرض بالذهب والورق، وباب: في المزارعة والمؤاجرة، رقم: 1547، 1549).
[قوله: (فلم ينهنا): أي فلم ينهنا عن كراء الأرض بالورق، وهو الفضة المضروبة. وقوله: (لنا هذه ولهم هذه): أي لنا ما تخرجه هذه القطعة من الأرض من زرع، ولهم ما تخرجه قطعة أخري].
ـ وما رواه البخاري أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -(6/138)
قال: " قال الله تعالي: ثلاثةُ أنا خصمُهم يوم القيامة: رجلّ أعطي بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفي منه ولم يعطه أجْرَه ُ".
(البخاري: الإجارة، باب: إثم مَن منع أجر الأجير، رقم: 2150).
[أعطي بي: عاهد باسمي أو حلف. غدر: نقض العهد ولم يف به، أو: لم يبر بقسمه. باع حرّاً: أي ادّعي أنه عبد مملوك فأعطاه مقابل ثمن وأخذ الثمن. فاستوفي منه: أي استوفي منه العمل الذي استأجره للقيام به].
أركان الإجارة وشروطها:
للإجارة أركان أربعة، وهي: عاقدان، وصيغة، ومنفعة، وأُجرة.
1 - الركن الأول: العاقدان: وهما المؤجر والمستأجر.
ويُشترط في كلَّ منهما أن يكون أهلا للتعاقد، بأن يكون بالغاً عاقلاً، فلا يصح عقد الإجارة من مجنون ولا صبي، لأن كلاً منهما لا ولاية له على نفسه ولا على ماله. وأن يكون غير محجور التصرف في المال، لأنها عقد يُقصد به المال، فلا يصحّ إلا من جائز التصرف فيه.
2 - الركن الثاني: الصيغة: وهي الإيجاب والقبول.
فالإيجاب: كلُّ لفظ يصدر من المؤجر ويدل علي تمليك المنفعة بعوض دلالة ظاهرة، سواء أكان صريحاً أم كناية.
فمن الصريح: آجرتك هذا أو أكريتك، أو ملكتك منافعه سنة بكذا.
ومن الكناية: اسكن داري شهراً بكذا، أو جعلت لك منفعة هذا الشيء بكذا.
والقبول: كل لفظ يصدر من المستأجر ويدل علي الرضا بتملك المنفعة دلالة ظاهرة، كقوله: قبلت أو استأجرت أو اكتريت أو استكريت، ونحو ذلك.
ويقوم مقام الصيغة التعاطي إن جري العرف بذلك، كأن يدخل سيارة لنقل الركاب إلي مكان معلوم، دون أن يجري عقداً، ويعطي الأُجرة عند وصوله أو قبله، فإن ذلك صحيح، لأن التعاطي له حكم الإيجاب والقبول في الدلالة علي الرضا بالعقد إن جري به العرف.(6/139)
ويشترط في الصيغة:
أ - موافقة الإيجاب والقبول، فلو قال: آجرتك داري بمائة شهراً، فقال: قبلت بتسعين، لم يصح العقد للمخالفة بين الإيجاب والقبول، وذلك عنوان عدم الرضا الذي جُعلت الصيغة دليلاً عليه، وهو شرط صحة العقد.
ب - أن لا يطول الفصل بين الإيجاب والقبول بسكوت أو كلام أجنبي عن العقد، لأن ذلك مُشعر بالإعراض عن العقد.
جـ - عدم تعليقها علي شرط: كإذا جاء زيد فقد أجرتكها بكذا.
3 - الركن الثالث: المنفعة: ويشترط فيها شروط عدة، منها:
أ - أن تكون متقوّمة، أي معتبرة ومقصودة شرعاً أو عرفاً، ليحسن بذل المال في مقابلتها، كاستئجار دار للسكن، أو دابة أو سيارة للركوب، لأنها إذا لم تكن ذات قيمة شرعاً كان بذل المال في مقابلها سفهاً وتضييعاً، وقد نهي الشرع عن إضاعة المال:
ـ فلا يصح استئجار آلات اللهو، لحرمة منفعتها. وكذلك لا يصح استئجار لتصوير ذي روح، أو من تغنِّي أمام الأجانب، لحرمة ذلك.
ـ ولا يصحّ استئجار كلب لصيد أو حراسة، لأن عينه لا قيمة لها شرعاً، فلا قيمة لمنفعته.
ـ ولا يصح استئجار رجل ليقول كلمة لا تُتعب، وإن روّجت سلعة أو حصلت منفعة، وكذلك استئجار دراهم أو دنانير للتزيين بها.
لأن مثل هذه المنفعة غير مقصود عرفاً، ولم يعتد الناس استيفاءه بعقد الإجارة.
ب ـ أن يكون في مقدور المؤجر تسليمها، ليتمكن المستأجر من استيفائها. فلو كان المؤجر عاجزاً عن تسليم المنفعة، حساً أو شرعاً، لم تصح الإجارة.
ـ فلا تصحّ إجارة مغصوب لغير مَنْ في يده، ولا يقدر علي انتزاعه مَمن في يده عقب العقد.(6/140)
ـ ولا يصحّ تأجير سيارة مفقودة أو ضائعة.
ـ ولا يصح استئجار أرض للزراعة، ليس لها ماء دائم، ولا يكفيها المطر المعتاد أو ما في معناه كالثلوج والنداوة.
لعدم القدرة علي تسليم المنفعة في هذه الأشياء حسَاً.
ومما لا تصح إجارته لعدم القدرة علي تسليم منفعة شرعاً:
ـ استئجار المرأة الحائض أو النفساء لخدمة المسجد، لأن الخدمة تقتضي مكثها وترددها في المسجد، ولا يجوز لها ذلك، وإن أمنت تلويثه، لأنه أجيز لها العبور فيه، ولا التردّد والمكث. فهي لا تقدر علي تسليم المنفعة شرعاً.
ولو استؤجرت غير الحائض لهذا، فحاضت أو نفست، انفسخت الإجارة، فإذا دخلت المسجد حال حيضها وقامت بالخدمة كانت آثمة، ولم تستحق الأجرة. ومثل خدمة المسجد تعليم القرآن.
ـ وكذلك لا تصح إجارة امرأة متزوجة، لرضاع أو خدمة بغير إذن الزوج، لأن أوقاتها مستغرقة بحقه، فلا يجوز لها شرعاً شغل شيء من وقتها بغير حقه إلا بإذنه. فهي عاجزة إذن ـ شرعاً ـ عن تسليم المنفعة التي استؤجرت لها.
ـ وكذلك لا يجوز إجارة امرأة مطلقاً للقيام بعمل يقتضي سفراً من غير صحبة زوج أو ذي رحم محرم، أو يقتضي خلوة بأجنبي، للحرمة الثابتة بالنهي الصريح والصحيح عن ذلك، فهي إذن غير قادرة شرعاً علي تسليم مثل هذه المنفعة.
جـ - الشرط الثالث للمنفعة: أن يكون حصولها للمستأجر، لا للمؤجر: فلا تصح الإجارة علي القُرب التي تحتاج إلي نيّة ولا تدخلها النيابة كالصلاة والصوم، لأن منفعتها ـ وهي الثواب ـ تعود علي المؤجر لا المستأجر، ولأن القصد منها امتحان المكلف بالامتثال وكسر النفس، ولا يقوم غيره مقامه في هذا.
وتصحّ الإجارة علي كل قربة وعبادة تدخلها النيابة وإن كانت تحتاج إلي(6/141)
نيّة. فتصحّ الإجارة علي الحج عن العاجز والميت، وكذلك الصوم عن الميت، ولذبح أُضحية، ونحر هدي، وتفرقة زكاة. لأن هذه العبادات ثبت في الشرع النيابة فيها عن غير المكلّف بها أصلاً
وأما القرب والعبادات التي لا تحتاج إلي نيّة كفروض الكفالة:
ـ فإذا كانت شائعة في الأصل ـ أي أن كل مسلم مخاطب بها، ولكنها إذا فعلها بعض المسلمين سقطت عن الباقين ـ كالجهاد، فلا يصحّ الاستئجار عليها، لأن المسلم الذي أجّر نفسه للجهاد إذا حضر المعركة تعيّن عليه الجهاد، فيقع جهاده عن نفسه لا عمّن استأجره، فلا تعود المنفعة علي المستأجر، وإنما تعود علي المؤجر، فلا تصحّ الإجارة.
ـ وإن لم تكن شائعة في الأصل صحت الإجارة عليها، كتجهيز الميت من غسل وتكفين ودفن، فإنه يختص في الأصل بتركته، فإن لم تكن تركة فبمَن تجب عليه نفقته، فإن لم يكن، وجب علي أغنَياء المسلمين القيام به.
وكذلك تعليم القرآن أو بعضه، لأن الأصل في التعليم أنه يختص بمال المتعلم أو مَن تلزمه نفقته. وقد ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن أحقَّ ما أخذتم عليه أجراً كتابُ الله ". (أخرجه البخاري في الطب، باب: الشرط في الرقية بقطيع من الغنم، عن ابن عباس رضي الله عنهما رقم: 5405).
ومثل القرآن تعليم مسائل العلم والقضاء ونحو ذلك من فروض الكفاية، التي لا يقصد في الأصل كل مكلّف، فإذا استؤجر عليها وقام بها لم تقع عنه، لأنه غير مقصود بفعله، فلا تعود منفعته عليه.
وكذلك الشعائر غير الواجبة كالأذان، فإنه تصح الإجارة عليه.
د ـ الشرط الرابع: أن لا يكون في المنفعة استيفاء عين قصداً: فلا تصحّ إجارة البستان لاستيفاء ثمرته، ولا الشاة لاستيفاء صوفها أو لبنها أو نتَاجها، لأن الأصل في عقد الإجارة تمليك المنافع، فلا تملك الأعيان بعقدها قصداً. ولأن هذا في الحقيقة استهلاك لا انتفاع، وموضوع الإجارة في الأصل الانتفاع لا الاستهلاك.(6/142)
فإذا تضمن عقد الإجارة استيفاء منفعة تبعاً لا قصداً جاز، كما إذا استأجر امرأة للحضانة والإرضاع، أو للإرضاع فقط، فإن ذلك يستتبع استيفاء لبن المرضع وهو عين، فيصحّ ذلك للضرورة أو الحاجة الداعية إليه.
قال تعالي: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} الطلاق6.
ومثل هذا لو استأجر داراً للسكني، ولها حديقة فيها أشجار مثمرة، جاز، لأن استهلاك الثمر تبع لاستيفاء المنفعة.
هـ ـ الشرط الخامس من شروط المنفعة: أن تكون معلومة للعاقدين عيناً وصفة وقدراً. فيشترط لصحة الإجارة:
- العلم بعين المنفعة: ويكون ذلك ببيان محلها، فلا تصحّ إجارة إحدى الدارين داراً دون تعيين، لجهالة عين المنفعة بجهالة محلها. وكذلك لو قال: أجرتك داراً، دون بيان أوصافها أو الإشارة إليها. وذلك أن المنفعة هي محل العقد في الإجارة، فلا بدّ من تعيينها ليصحّ العقد، ولما كانت المنفعة ليست شيئاً مادياً يمكن تجسيده وتعيينه، استُعيض عن ذلك ببيان محلها للضرورة، فيقوم بيان محل المنفعة مقام بيانها.
- العلم بنوع المنفعة وصفتها: وذلك حين يكون المستأجَر يختلف الناس في الانتفاع به اختلافاً ظاهراً لا يُتسامح به عادة.
فلا تصحّ إجارة أرض للزراعة دون أن تُعيَّن المزروعات التي ستزرع فيها، لأن أثر المزروعات علي الأرض يختلف من النوع إلي نوع، فإذا ذكر المستأجر أنه يستأجرها ليزرع فيها ما يشاء صحّ العقد، لأنه يُحمل علي الأشد، فإذا انتفع فيها بالأخف كان له ذلك من باب أولي.
فإذا كانت المنفعة المرادة مما لا يختلف الناس فيها اختلافاً ظاهراً يؤدي إلي المنازعة صحت الإجارة دون بيان نوعها، وذلك كاستئجار الدور للسكني، فلا يشترط بيان مَن سيسكن معه من أُسرته، أو بيان ما سيضع في البيت من أثاث وأمتعة، لأن ذلك مما يتسامح الناس فيه عادة.
فإذا انتفع بها بخلاف الغالب والمعتاد لم يكن له ذلك، كما إذا انتفع بالدار بصناعة أو تجارة.(6/143)
وعليه: يشترط لصحة إجازة الدار إذا كانت في محلة ينتفع الناس فيها بالدور بالسكني وغيرها، أن يبيِّن نوع المنفعة من سكني أو تجارة أو صناعة، كما ذكرنا، وأن يبيّن نوع التجارة أو الصناعة كذلك.
وكذلك يشترط لصحة الإجارة علي عمل: أن يبيّن نوع العمل الذي سيقوم به الأجير.
- العلم بقدر المنفعة: ويختلف تقدير المنفعة باختلاف نوعها: فمنها ما يُقدَّر بالزمن، ومنها ما يقدر بالعمل، ومنها ما يصحّ فيه الأمران.
أـ فما تقدر فيه المنافع بالزمن: هو كل منفعة لا يمكن ضبطها بغيره وتقلّ وتكثر، أو تطول وتقصر، كإجارة الدور للسكني، فإن سكني الدار تطول وتقصر، وكالإجارة للإرضاع، فإن ما يشربه الرضيع من اللبن يقلّ ويكثر، وكالإجارة لتطيين جدار، فإن التطيين لا ينضبط رقّة وسماكة.
فمثل هذه المنافع لا يمكن تقديرها بغير الزمن، لأن تحصيلها لا ينضبط بغير ذلك. ولهذا جاء علي لسان شعيب عليه السلام: (عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ) فقد قدّر منفعة استئجار موسي عليه السلام بالزمن، وإنما استأجره للرعي ونحوه، والرعي من هذا النوع من المنافع.
ما تجوز عليه الإجارة من الزمن:
وإذا قدرت المنفعة بالزمن وجب أن يكون مدة معلومة، تبقي فيها العين المؤجرة غالباً، ليتمكن المستأجر من استيفاء المنفعة المعقود عليها.
والمرجع في معرفة المدة التي تبقي فيها كل عين غالباً إنما هو العرف وأهل الخبرة. ويختلف ذلك من عين إلي عين:
ـ فالأرض ـ مثلاً ـ تصح إجارتها مائة سنة أو أكثر.
ـ والدار: تصح إجارتها ثلاثين سنة.
ـ والدابة: تصح إجارتها عشر سنين.
وهكذا كل شيء علي ما يليق به، ويقدر أهل الخبرة أنه يبقي هذه المدة.(6/144)
ما يستثني من زمن الإجارة:
ويستثني من الزمن المستأجر عليه الزمن الذي تستغرقه العبادات الواجبة التي لا تؤدَّي إلا في المدة المستأجر عليها، وكذلك أوقات الطعام المعتادة لدي الإُجراء والمستأجرين. وكذلك إذا كانت المدة مقدرة بزمن طويل: استُثني أيام الأعياد الثابتة بالشرع، وأيام التعطيل الثابتة بالعُرْف، فإن الأجير يستحق الأجر علي هذه الأيام وتلك الأوقات ولو لم ينص عليها في العقد، فلا ينقصه المستأجر شيئاً من الأجر المتفق عليه لليوم أو الشهر أو السنة.
ب ـ ما تقدر فيه المنافع بالعمل: وذلك إذا كانت المنفعة معلومة في ذاتها ولكنها قد تستغرق زمناً يقصر أو يطول، فلا يمكن ضبطها به.
وذلك كالاستئجار لخياطة ثوب، وطلاء جدار، وطبخ طعام، ونحو ذلك.
فإن مثل هذه المنافع تقدّر بالعمل ولا تقدّر بالزمن، لأن الزمن فيها قد يطول وقد يقصر، بينما العمل فيها منضبط ومحدد.
جـ ما يصحّ تقدير المنفعة فيه بالزمن أو العمل: وذلك كاستئجار شخص لخياطة أو سيارة للركوب، فيصحّ تقدير المنفعة بالزمن كأن يستأجر يوماً ليخيط هذا الثوب. ويصحّ أن يستأجر السيارة لتوصله من دمشق إلي مكة مثلاً، فيكون تقدير المنفعة بالعمل، ولا ينظر إلي ما يستغرق من الوقت، كما يصحّ أن يستأجر السيارة يوماً أو يومين، فتكون المنفعة مقدرة بالزمن، سواء قطع بها المسفة أم لا، وركبها أم لا.
ولا يصح أن تقدر المنفعة بالزمن والعمل معاً، كما إذا استأجره ليخيط له هذا الثوب بيوم، أو ليبني له هذا الجدار بيومين، أو ليوصله من دمشق إلي مكة بثلاثة أيام، لأن العمل قد لا يستغرق الوقت المحدد، وقد يزيد عنه، فيكون في ذلك غرر، فلا يصح العقد.(6/145)
4 - الركن الرابع: الُأجرة: ويشترط في الأجرة ما يشترط في الثمن في العقد البيع، لأن الأجرة في الحقيقة هي ثمن المنفعة المملوكة بعقد الإجارة. فيشترط فيها:
أ - أن تكون طاهرة: فلا يصحّ عقد الإجارة إذا كانت الأُجرة كلباً أو خنزيراً أو جلد ميتة لم يُدبغ أو خمراً، لأن هذه الأشياء نجسة العين. ففي الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهي عن ثمن الكلب. وفيهما أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام ". (البخاري: البيوع، باب: بيع الميتة والأصنام. وباب: ثمن الكلب، رقم: 2121، 2122. ومسلم في المساقاة، باب: تحريم ثمن الكلب وحلوان الكاهن ومهر البغي، وباب: تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، رقم: 1567، 1581).
وكذلك إذا كانت عيناً متنجسة لا يمكن تطهيرها، كالخل واللبن والدهن المائع والزيت والسمن، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بإراقة السمن المائع إذا تنجس. روي ابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الفأرة تقع في السمن فتموت؟ قال: " إنْ كان جامداً ألقي ما حَوْلَها وأكَلَهُ، وإن كان مائعاً لم يقربه ". وفي رواية: " فأريقوه". (انظر: موارد الظمآن إلي زوائد ابن حبان: الأطعمة، باب: في الفأرة تقع في السمن، رقم: 331).
فالأمر بإراقته والنهي عن قربه دليل علي أنه لا يمكن تطهيره، وبالتالي لا يجوز بيعه.
ولما كانت هذه الأشياء لا يصحّ بيعها لنجاستها لم يصحّ جعلها أُجرة.
وقيس علي ما ذُكر غيرها من الأعيان النجسة التي لم تذكر، وهي في معناها.
ب - أن تكون منتفعاً بها: فلا يصحّ جعل الأجرة شيئاً لا يُنتفع به: إما لخسْته كالحشرات وكحبَّتي حنطة، وإما لإيذائه كالحيوانات المفترسة، وإما لحرمة استعماله شرعاً كآلات اللهو والأصنام والصور. وذلك لأن هذه الأشياء وأمثالها مما لا نفع فيه لا يُعََد مالاً، فلا يصحّ أخذ المال في مقابلته. والمنفعة التي هي محل عقد الإجارة مال متقوم كما ذكرنا، فلا يصح بذلها في مقابلة ما لا يُعدّ مالاً.(6/146)
جـ - أن تكون نقدوراً علي تسليمها: فلا يصحّ أن تكون الأجرة طيراً في الهواء، ولا سمكاً في الماء، كما لا يصحّ أن تكون مالاً مغصوباً إلا إذا كانت لمن في يده المغصوب، أو لقادر علي انتزاعه منه.
د - أن يكون للعاقد ولاية علي دفعها: بملك أو وكالة، فإن كانت الأُجرة لا ولاية للعاقد عليها بما ذُكر لم تصح الإجارة.
هـ - أن تكون معلومة للعاقدين: فلا تصحّ إجارة الدار بما تحتاجه من عمارة، ولا إجارة سيارة بوقودها، أو دابة بعلفها، لجهالة الأُجرة في هذه الحالات.
ومن الجهالة في الأُجرة أن تجعل جُزءاً من المأجور يحصل بعمل الأجير، كما إذا استأجره ليذبح شاة ويسلخها بجلدها أو جزء منها، للجهالة بثخن الجلد أو قدر الجزء.
وكذلك إذا استأجره ليطحن له قدراً معيناً من القمح بجزء مما يخرج من دقيقه، كربعه أو خمسه، للجهالة بقدر الدقيق. ولأن الأجير ينتفع هنا بعمله، فيكون عاملاً لنفسه من وجه، فلا يستحق الُأجرة علي عمله. وقد روي الدارقطني (البيوع / الحديث: 195): أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهي عن قَفيز الطَّحَّان. وقد فسر بأن تُجعل أُجرة الطحن قفيزاً مطحوناً مما استؤجر لطحنه.
[القفيز: مكيال كان معروفاً].
فلو استأجره بجزء من الحنطة ليطحن باقيها صحّ، لانتفاء المعني الذي مُنع من أجله، وهو الجهالة وكون الأجير عاملاً لنفسه.
ويدخل في هذا المنع من باب أولي:
- أن يعطي من يقوم بحصاد الزرع ـ بنفسه أو بواسطة الآلات ـ جزءاً من المحصول ـ كالعشر أو نحوه ـ أُجرة علي الحصاد.
- أن يعطي جباة الأموال، للجمعيات ونحوها، جزءاً مما يجبونه من الأموال كاثنين في المائة ونحو ذلك.(6/147)
- أن يعطي سماسرة الدور ونحوها أيضاً جزءاً بنسبة معينة من قيمة ما يَبيعونه كاثنين في المائة أو ثلاثة.
فهذه الأنواع الثلاثة من الإجارة غير صحيحة، لأن الأُجرة فيها مجهولة، وينبغي أن يعلم أن أخذ هذه الأموال بهذه الطريقة كسب خبيث غير مشروع، يُؤاخذ عليه من يأخذ ومَن يعطيه، فليحذر الذين يخالفون شرع الله تعالي، ولا سيما جباة أموال الجمعيات الذين كثيراً ما تكون الأموال التي يجبونها حقاً للفقراء والمساكين، فيأكلون جزءاً منها ظلماً وزوراً، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، فليحذر هؤلاء سخط الله تعالي وعقابه.
أقسام الإجارة وشروطها:
الإجارة قسمان: إجارة عين وإجارة ذمة.
1 - فإجارة العين: هي الإجارة الواردة علي منفعة متعلقة بعين معينة. كما لو قال: أجرتك هذه الدار، أو السيارة الفلانية ـ لسيارة معينة يعرفها المتعاقدان ـ أو أن يستأجر شخصاً معيناً لعمل ما، أو ليخيط له هذا الثوب.
2 - وإجارة الذمة: هي الإجارة الواردة علي منفعة متعلقة بالذمة، كأن يستأجره ليوصله بسيارة موصوفة في ذمته إلي مكان معين، أو يؤجره سيارة موصوفة في ذمته مدة معينة، وكأن يلزم المستأجر المؤجر عملاً في ذمته كبناء أو خياطة أو نحو ذلك، فيقبل.
ومن هذا النوع ما يحصل في هذه الأيام من استئجار وسائل النقل المختلفة، فإن الإجارة ترد علي منفعة موصوفة في الذمة، لا علي منفعة متعلقة بعين معينة.
شروط إجارة العين:
1 - أن تكون العين المؤجرة معينة، فلا يصح أن يؤجره إحدى هاتين السيارتين، كما مرّ
2 - أن تكون العين المؤجرة حاضرة ومشاهدة من المتعاقدين، عند عقد الإجارة.
فلو قال: أجرتك داري أو سيارتي أو ثوبي، وهما غائبان عن الدار، أو السيارة(6/148)
والثوب ليسا في مجلس العقد، لم تصحّ الإجارة، إلا إذا كان المتعاقدان قد شاهدا العين المؤجرة قبل العقد بمدة لا تتغير فيها غالباً فتصحّ الإجارة.
3 - أن لا يؤجل استيفاء المنفعة عن العقد، كأن يؤجره داره السنة المقبلة، أو يؤجره نفسه علي أن يبدأ العمل أول الشهر، أو يؤجره سيارته غداً، أو أن يؤجره داره سنة أو شهراً اعتباراًُ من أول الشهر القادم، وهكذا، إلاّ إذا كانت الإجارة للمستقبل لمن هو مستأجر للعين وقت العقد، لمدة تنتهي ببدء مدة الإجارة الجديدة فتصحّ الإجارة، لاتصال المدتين مع اتحاد المستأجر، فصار كما لو استأجر العين في المدتين في عقد واحد.
شروط إجارة الذمة:
1 - أن تكون الأُجرة حالة، وأن تسلَّم في مجلس العقد، لأن هذه الإجارة سََلم في المنافع، فيشترط تسليم رأس مال السلم ـ وهو الأجرة ـ في مجلس العقد، واشتراط التأجيل كعدم التسليم.
فلو اتفقا في العقد علي تأجيل الأُجرة لم تصحّ الإجارة حتى ولو سلمت في المجلس. وكذلك إذا لم يتفقا علي التأجيل ولم تسلم الأُجرة بالفعل في مجلس العقد.
2 - بيان جنس العين التي تُستوفي منها المنفعة ونوعها وصفتها. كما إذا عقد إجارة مع مكتب نقل لينقله إلي بلد معين، فينبغي بيان الوسيلة التي سينقله فيها: هل هي وسيلة جوية أو بحرية أو برية؟ وهل هي سيارة كبيرة أو صغيرة؟ وهل هي حديثة أو قديمة؟ وما إلي ذلك من أُمور تتفاوت فيها الأغراض.
حكم الإجارة:
إذا تم عقد الإجارة بتوفر أركانه وشروطه انعقد صحيحاً، وترتب عليه حكمه ـ أي أثره الشرعي ـ بمجرد انعقاده، وهو:
- ثبوت الملك للمستأجر في منفعة المؤجَّر، وجواز تصرفه فيها واستيفائه لها.
- ثبوت الملك للمؤجَّر في الأُجرة التي هي قيمة المنفعة التي ملكها(6/149)
المستأجر من حين العقد. ويراعي في هذا الملك: أنه كلما مضي جزء من الزمن، والعين المستأجرة سليمة في يد المستأجر، بأن أنه استقر ملكه في جزء من الأُجرة يقابل ما استوفي أو فات من المنفعة في ذلك الزمن الذي مضي. فإذا استوفي المنفعة كاملة، أو مضت مدة الإجارة، استقر ملكه في كامل الأُجرة حتى ولو لم ينتفع بالعين المؤجرة، طالما أنها سليمة في يده وسلطانه، لأن منافعها تلفت تحت يده فاستقر عليه بدلها، كما لو تلف المبيع في يد المشتري، فإنه يستقر عليه ثمنه.
وإذا هلكت العين المستأجرة بعد استيفاء جزء من المنفعة أو تمكنه من ذلك ينظر: فإن كان هذا الجزء منتفعاً به عادة استقر للمؤجر ملك ما يقابله من الأُجرة، كما لو استأجر سيارة لتوصله إلى مكان معين، فعطبت قبل الوصول إليه، فإنه يستحق أجرة المسافة التي قطعت إن كان يمكن متابعة السفر دون مشقة من المكان الذي عطبت فيه السيارة، أو كان للمستأجر غرض بذلك المكان.
وإن كان الجزء المستوفى من المنفعة لا ينتفع به عادة، كما لو كان مكان عطب السيارة لا يُقصد عادة، أو يصعب متابعة السفر منه، لم يستقر شيء من الأُجرة للمؤجر، وكان كهلاك العين المؤجرة قبل استلامها، أو قبل استيفاء شيء من منفعتها أو التمكّن منه.
ويثبت الملك في الأُجرة سواء أكانت معجلة أم مؤجلة.
وقد علمت إنه إذا كانت الإجارة ذمة لم يجز تأجيل الأُجرة، واشتُرط تسليمها في مجلس العقد.
أما إذا كانت الإجارة إجارة عين:
- فإن كانت الأُجرة معينة، كما إذا أجّره داره سنة بهذه الدراهم أو بهذه السجادة، وجب تعجيلها ولم يجز تأجيلها، لأن الأعيان لا تقبل التأجيل.
- وإن كانت الأُجرة في الذمة، كما إذا أجّره داره سنة بألف درهم، جاز تعجيلها وتأجيلها، كما يجوز تعجيل بعضها وتأجيل بعض، وتقسيطها على الشهور حسب اتفاق المتعاقدين.
فإذا لم ينص في العقد على التعجبل أو التأجيل كانت معجلة.(6/150)
حق استيفاء المنفعة:
علمنا أنه إذا تم عقد الإجارة صحيحاً ملك المستأجر منفعة العين المؤجرة، وبالتالي يثبت له حق استيفائها.
وللمستأجر أن يستوفي المنفعة بنفسه، كما أن له أن يستوفيها بغيره. فإذا استأجر داراً كان له أن يسكنها بنفسه ومع غيره، وأن يسكنها غيره: إعارة أو إجارة. فلو شرط المؤجر على المستأجر أن يستوفي المنفعة بنفسه لم تصحّ الإجارة، وكان كما لو باعه شيئاً وشرط عليه أن لا يبيعه، فلا يصح عقد البيع.
ويشترط لصحة استيفاء المنفعة بغير المستأجر:
1 - أن يكون مَنْ سٌلِّمت إليه العين المؤجَّرة ليستوفي منفعتها أميناً.
2 - أن يكون مساوياً للمستأجر في استيفاء المنفعة، أو أقل منه إضراراً بالعين المستأجرة
فإذا استأجر داراً للسكنى فليس له أن يسلمها لمن يستعملها للصناعة أو التجارة.
وإذا أجّره سيارة للركوب ليس له أن يسلمها لمن يستعملها للحمل ونحوه، إذا كان ذلك يضرّ بها أكثر من الركوب.
وإذا أجرّه ثوباً ليَلْبَسه ليس له أن يُلْبَسَه مَن هو أضخم منه، وهكذا.
الإجارة الفاسدة وأُجرة المثل:
إذا اختلّ شرط من شروط الإجارة كانت الإجارة فاسدة، ووجب على المستأجر أن يردّ العين المؤجرة إذا كان قد استلمها.
فإذا كان قد استوفى منافعها، أو مضى وقت يمكنه فيه الاستيفاء، وجب عليه أجرة المثل كاملة، سواء أكانت مساوية للأجرة المسمّاة أم أكثر منها أم أقل.
وجمهور الحنفية قالوا: لا يزاد بأُجرة المثل على الأُجرة المسمّاة، لاتفاق المتعاقدين على حطّ ما فوقها.
وكذلك إذا استوفي بعض المنفعة، ثم فُسخ العقد لفساده، وجبت أُجرة مثل المقدار المستوفى من المنافع وسقط الباقي.(6/151)
ومثل المنفعة العين ما إذا كانت الإجارة على عمل، وعمل الأجير العمل المستأجَر عليه أو بعضه، فإنه يستحق أُجرة مثل ما عمل، كُلاًّ أو بعضاً، على الخلاف المذكور.
وأُجرة المثل: هي الأُجرة التي يقدرها أهل الخبرة عادة لمثل العين المستأجرة أو العمل المستأجر عليه.
والأُجرة المسماة: هي الأُجرة المتفق عليها بين المتعاقدين، وقد تزيد على أجرة المثل وقد تنقص.
وإنما وجبت أجرة المثل في الإجارة الفاسدة لأن الإجازة بيع المنافع كما علمت، فإذا فسد العقد كان ما سمّياه من الأُجرة غير لازم، لأنه إنما يلزم بالعقد ولا عقد، والمنفعة كالعين المبيعة، فإذا استوفيت وجب بدلها، وهو أجرة المثل.
ضمان العين المستأجرة:
إن يد المستأجر على العين المستأجرة يد أمانة، فلا يضمن ما أصابها من تلف أو تعييب، سواء أكان ذلك أثناء استيفاء المنفعة أم قبلها أم بعدها. وذلك لأن قبضة لها قبض بحق، إذ لا يمكن استيفاء المنفعة - التي هي محل العقد في الإجارة - إلا بقبضها ووضع اليد عليها
وتبقى العين المستأجرة غير مضمونة في يد المستأجر ما دام لم يتعدّ في استعمالها أو يقصر في حفظها.
فإذا استأجر داراً للسكنى فسكنها، ثم أصابها حريق - مثلا - بسبب ما يستعمل عادة في الدار من وسائل الوقود وبدون إهمال أو تقصير، فلا يضمن ما نتج من أضرار عن ذلك الحريق.
أما لو حدث الحريق بسبب لا يكون عادة في دور السكن، كما لو استعمل فيها النار لصناعة حدادة ونحو ذلك، فإنه يضمن، لأنه تعدّى بالاستعمال حيث استعمل الدار لغير ما استأجرها من اجله.
وكذلك لو نتج الحريق بسبب إهمال أو تقصير، كما لو ترك المدفأة موقدة أثناء النوم، فنتج عن ذلك حريق، فإنه يضمن ما نتج عن ذلك من أضرار بالدار،(6/152)
لأن تركه لها موقدة أثناء النوم تقصير أو إهمال، ولأنه خلاف المعتاد لدى الغالبية العظمى من الناس، ولأنه منهي عنه شرعاً أيضاً، فإنه - صلى الله عليه وسلم - قال " لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون " وبلغه أنه احترق بيت بالمدينة على أهله من الليل، فقال: " إن هذه النار إنما هي عدو لكم، فإذا نمتم فأطفئوها عنكم " (البخاري الاستئذان، باب: لا تُترك النار في البيت عند النوم، رقم: 5935، 5936. ومسلم: الأشربة، باب: الأمر بتغطية الإناء وإيكاء السقاء ... وإطفاء السراج والنار عند النوم .... ، ورقم: 2015، 2016).
وكذلك لو كان ذلك بسبب ترك وسائل الإيقاد في أيدي الصغار ونحوهم.
وهكذا أيّ ضرر يصيب العين المستأجرة بسبب سوء الاستعمال، كما لو استأجر سيارة للركوب وأسرع بها في السير في الأماكن المزدحمة أو الطرقات الوعرة، فنتج عن ذلك ضرر لها.
وكذلك إذا قصر في الحفظ، كأن يضع العين المستأجرة في مكان لا توضع فيه عادة، كما إذا وضع السيارة في منتصف الطريق، أو مكان غير مأمون دون حراسة، فإنه يضمن ما يطرأ عليها من حوادث. أما لو وضعها في مكان مأمون يعتاد الناس وضعها فيه، ثم أصابها شيء، فإنه لا يضمنه.
وكذلك يضمن المستأجر العين المؤجرة إذا استعملها بعد انتهاء مدة الإجارة، أو لم يستعملها ولكنه لم يخل بينها وبين مالكها. أما لم يستعملها، وأصابها شيء قبل التمكّن من ردّها أو التخلية بينها وبين مالكها، فإنه لا يضمن، استصحاباً لما كان قبل انتهاء المدة من عدم الضمان.
ضمان الأجير:
الأجراء نوعان:
أ - أجير خاص: وهو الذي يتعاقد معه المستأجر علي القيام بعمل ما مدةً من الزمن، يستحق المستأجر نفعه فيها جميع الوقت، ويستحق الأجير فيها الأجر ولو لم يقم بعمل، أو يتعاقد معه المستأجر ليقوم له بعمل معيَّن دون أن يتقبل عملاًً آخر لغيره قبل انتهائه، كالعمال في المعامل، والأجراء في الحوانيت(6/153)
ودور الصناعة كالخياطين وغيرهم، وكذلك الدهّان في البيت والبنّاء والنجار، ومَن إلي مَمن يعملون في حوزة المستأجر أو بحضوره، فأمثال هؤلاء الأجراء لا يضمنون ما استؤجروا عليه وما تحت أيديهم أو تعيَّب، كما إذا تعمد الإتلاف، أو تساهل وقصر بأسباب الحفظ وأُصول العمل. وذلك لأن يد المستأجر ثابتة حكماً علي ما استأجر عليه الأجير، وإنما استعان بالأجير لشغله وتصنيعه، فصار كالمستعين بالوكيل.
ب - أجير مشترك: وهو الذي يتعاقد معه المستأجر علي عمل معين يقوم به، ويستحق الأجر بانتهائه، ويمكن أن يتعاقد مع كثيرين علي مثل هذا العمل أو غيره في زمن واحد، ولا يكون عمله غالياً في حوزة المستأجر أو حضوره، وإنما يستقل بعمله في منزله أو دكانه أو معمله، كالخياط والصبّاغ والكوّاء والحمّال إذا حمل لاثنين فأكثر، ومصلحي السيارات ونحو ذلك.
فهؤلاء الأُجراء أيضاً ـ ويسمَّوْن لدي الفقهاء أحياناً: الصُّنّاع ـ لا يضمنون إلا بالتعدي. والعين أمانة في يد الأجير، لأنه متطوع بالحفظ إذ الأُجرة مقابل العمل، ولأن قبضه للعين إنما هو لمصلحة المستأجر، فلا يضمن إلا إذا تعدَّي أو قصر.
وذهب أبو يوسف ومحمد ـ من أصحاب أبي حنيفة ـ رحمهم الله تعالي إلي: أن الأجير المشترك يضمن ما هلك تحت يده، إلا إذا كان الهلاك بسبب عام لا يمكن الاحتراز عنه كالحريق والغرق الغالب، فإذا كان الهلاك أو التلف بسبب يمكن الاحتراز عنه غالباً، كالسرقة ونحوها، فإنه يضمن.
وحجتهم في هذا: الحفاظ علي مصالح الناس، لأن أمثال هؤلاء الأُجراء إذا لم يضمنوا ما تحت أيديهم من الصناعات استهانوا بأمتعة المستأجرين وأموالهم، وتقبلوا أعمالاً تفوق إمكاناتهم وقدرتهم علي حفظها، والناس في حاجة شديدة إلي صناعاتهم، فكانت المصلحة في تضمينهم، ضرورة حملهم علي الحرص والمحافظة علي ما في أيديهم من أموال الناس (1).
_________
(1) انظر المسألة مفصلة بأدلتها لدى المذاهب الفقهية في كتاب (أثر الأدلة المختلف فيها في الفقه الإسلامي) للدكتور مصطفى البغا، ص 71.(6/154)
ونري أن العمل بهذا هو الأرجح في أيامنا هذه.
انتهاء الإجارة:
تنتهي الإجارة وتنقضي أحكامها بأمور، هي:
1 ـ الفسخ:
عقد الإجارة عقد لازم من الطرفين، أي بعد انعقاده صحيحاً ليس للمؤجر أو المستأجر فسخه متى شاء، ولا يفسخ إلا بعذر، وإذا فسخ فقد انتهت الإجارة.
ومن الأعذار التي تنفسخ بها الإجارة:
أهلاك العين المؤجرة في إجارة العين، فإذا استأجر داراً معينة أو سيارة معينة، ثم تهدمت الدار أو عطبت السيارة استيفاء شيء من المنفعة فقد انفسخت الإجارة، لفوات المحلّ المعقود عليه.
ومثل تلف العين تعيبها بحيث يتعذر استيفاء المنفعة المقصودة منها. فإذا حصل التلف أو العيب بعد استيفاء شئ من المنفعة: انفسخت الإجارة بالنسبة للمستقبل من حين الهلاك، ويستحق المؤجر أجرة ما استوفي من المنفعة بقسطه من الأجرة المتفق عليها في العقد.
فإذا كانت الإجارة إجارة ذمة، كما إذا استأجره ليوصله بسيارة موصوفة في الذمة إلي مكان كذا، فأحضر سيارة ثم عطبت أو تعيبت، فإن الإجارة لا تنفسخ، بل علي المؤجر أن يأتي ببدلها، سواء أكان ذلك قبل استيفاء شيء من المنفعة أم بعد استيفاء بعض منها، لأن المعقود عليه لم يفت بهلاك السيارة المحضرة، لأن العقد لم يرد علي سيارة معينة، وإنما علي سيارة موصوفة في الذمة، فيمكن استبدالها.
ومثل العين المستأجرة في كل ما سبق: الأجير، فإذا استأجر شخصاً معيناً ليقوم بعمل، ثم مات أو مرض مرضاً يتعذر معه القيام بالعمل المستأجر عليه، انفسخت الإجارة. وإذا كانت إجارة ذمة، فأحضر له مَن يعمل فحصل الموت أو المرض، لم تنفسخ الإجارة، لأن استيفاء المنفعة يمكن أن يكون بغيره.(6/155)
ب - عدم تسليم العين المؤجرة في المدة: إذا كانت الإجارة إجارة عين، وكانت المنفعة محددة بمدة من الزمن، وانقضت تلك المدة ولم يسلم المؤجر العين المؤجر ة، فقد انفسخت الإجارة لفوات المعقود عليه قبل قبضه.
وكذلك إذا كانت الإجارة إجارة ذمة، ولم يُحضر المؤجَّر ما تُستوفي منه المنفعة في الوقت المتفق عليه. فإذا لم يُحدد وقت لاستيفاء المنفعة ولم يتعلق به غرض أصلي للمستأجر، ولم يُحضر المؤجِّر ما تُستوفي منه المنفعة حتى مضي وقت يمكن استيفاؤها فيه، فلا فسخ ولا انفساخ، لأنه دين تأخر وفاؤه.
فإذا سلم المؤجر العين المؤجرة أو أحضرها بعد مضيّ بعض مدة الإجارة الفسخ العقد فيما مضي، وكان المستأجر بالخيار فيما بقي.
وإذا كانت المنفعة محددة بعمل، وتأخر تسليم العين حتى مضي وقت يمكن فيه إنجاز العمل، لم تنفسخ الإجارة، لأن العقد تعلق بالمنفعة لا بالزمن، فلم يتعذر الاستيفاء حتى تنفسخ الإجارة.
ما لا تنفسخ به الإجارة:
أ - لا تنفسخ الإجارة بخروج العين المؤجرة من ملك المؤجر، كما إذا أجر داراً ثم وهبها أو باعها، لأن عقد الإجارة يرد علي المنفعة فلا يمنع بيع الرقبة. وتنتقل ملكية العين حين عقد البيع أو الهبة إلي المشتري أو الموهوب له دون المنفعة، لأن البائع أو الواهب ما كان يملكها حين العقد. وتبقي في يد المستأجر إلي انتهاء مدة الإجارة، ولكن يثبت للمشتري الخيار إن كان يجهل الإجارة، أو كان يعلمها ويجهل مدتها.
ب - وكذلك لا تنفسخ الإجارة بموت أحد المتعاقدين المؤجر أو المستأجر ولا بموتهما، بل تبقي إلي انقضاء المدة، لأنها عقد لازم فلا ينفسخ بالموت كالبيع، ويخلف المستأجرَ في استيفاء المنفعة وارثُه.
جـ - وكذلك لا تنفسخ الإجارة بعذر طرأ في غير المعقود عليه:
- كما أجر سيارة وهو سائق لها، فمرض وعجز عن الخروج مع المستأجر، لأنه يمكن استيفاء منفعة العين المؤجرة بغيره.(6/156)
- وكذلك لو استأجر سيارة للسفر عليها، ثم مرض المستأجر وتعذر عليه السفر، أو استأجر داراً للسكني، ثم اضطر إلي السفر.
2 ـ استيفاء المنفعة المعقود عليها:
ينتهي عقد الإجارة حكماً باستيفاء المنفعة المعقود عليها: فإن كانت مقدرة بعمل انتهت الإجارة بإتمام العمل، وإن كانت مقدّرة بزمن انتهت الإجارة بمضي ذلك الزمن.
فإذا استعمل المستأجر العين المؤجرة بعد انتهاء الإجارة وجب عليه أُجرة المثل، مقابل ما استوفاه من المنفعة بعد استيفاء المعقود عليه، وكان ضامناً للعين المؤجرة، لأنه تعدي باستعمالها بغير عقد.
وكذلك إن استأجر أرضاً مدة لزراعة معينة، وانقضت المدة ولم يستحصد الزرع، فإنه لا يُجبر علي قلعه، لما في ذلك من ضرر عليه، وإنما يجب عليه أُجرة المثل للمدة التي شغل بها الأرض بعد انتهاء مدة الإجارة، ولكنه لا يكون ضامناً الأرض، لأنه لم يكن متعدياً بالاستعمال.
الخيارات في عقد الإجارة
1 ـ خيار المجلس وخيار الشرط: لا يثبت في عقد الإجارة خيار المجلس ولا خيار الشرط، لأن عقد الإجارة من عقود الغرر، لأنها عقد علي معدوم، وهي المنافع، فإنها معدومة عند العقد، وإنما شرعت تيسيراً لحاجة الناس إليها.
والخيار أيضاً غرر، فلا يكون فيها، لأنه يصير عندئذ ضم غرر إلي غرر، ولا يصحّ التعاقد حال وجود الغرر الكثير.
2 ـ خيار العيب: أما خيار العيب فإنه يثبت في إجارة العين، فإذا حدث عيب بالعين المؤجرة، وأثّر في منفعتها تأثيراً يظهر في تفاوت أُجرتها حال كونها سليمة وحال كونها معيبة بذلك العيب، كما لو استأجر أرضاً للزراعة فانقطع(6/157)
ماؤها، أو سيارة للركوب فعطبت عجلاتها ولم يبادر المؤجِّر إلي إصلاح ذلك العيب، كان المستأجر بالخيار بين إمضاء الإجارة أو فسخها، ولا شيء عليه حال الفسخ إن كان قبل مضي شيء من الوقت، فإن كان بعد مضي شيء من الوقت لمثله أُجرة: ثبت عليه قسطه من الأجرة المسماة في العقد.
ولا يثبت خيار العيب في إجارة الذمة، فإذا أحضر المؤجر عيناً تُستوفي منها المنفعة المعقود عليها في الذمة، ثم تعيَّبت تلك العين المحضرة، وجب علي المؤجر أن يُحضر بدلها، لأن المعقود عليه في الذمة مقَّيد بوصف السلامة، وما أحضره غير سليم، فإذا لم يرض به المستأجر رجع إلي ما في الذمة، فلا ينفسخ عقد الإجارة.
اختلاف المؤجر والمستأجر في دعوي الرد أو التلف
أـ دعوي التلف: إذا تلفت العين المؤجرة أو تعيّبت في يد المستأجر، وادعي المستأجر أنه لم يتعدّ بذلك، وإنما حدث بآفة سماوية أي بسبب قهري خارج عن إرادته، أو حدث بسبب الاستعمال المأذون به عادة، وادّعي المؤجر أن ذلك حصل بتعدّ من المستأجر، من تجاوز في الاستعمال أو تفريط وعدم حفظ للعين المؤجرة.
فالذي يُقبل قوله هو المستأجر، فيُصدَّق بيمينه، لأن المؤجر يدّعي التعدّي والمستأجر ينكره ويدّعي عدمه، والأصل عدم التعدي وبراءة الذمة من الضمان، فالقول قول مدعي الأصل بيمينه.
ب ـ دعوي الرد: وإذا اختلف المؤجر والمستأجر: فادعي المستأجر أنه ردّ العين المستأجرة إلي المؤجر، وأنكر ذلك المؤجر فقال: إنك لم تردّها عليّ. فيقبل قول المؤجر بيمينه، لأن المستأجر قبض العين المؤجرة لمنفعته، والأصل عدم الرد، والمستأجر يدّعيه، فالقول قول المنكر بيمينه، فيُقبل قول المؤجرة، لأنه ينكر الرد ويدّعي الأصل وهو عدم الرد.(6/158)
البَاب الثَامن
الجعَالة(6/159)
الجعالة
تعريفها:
الجعالة - في اللغة - بفتح الجيم وكسرها وضمها، وهي اسم لما يجعله الإنسان لغيره على شيء يفعله، ويقال لها جُعْل وجعيلة.
وشرعاً: هي التزام عوض معلوم على عمل معَّين، معلوم أو مجهول، بمعين أو مجهول. أي يحصل هذا العمل من عامل معين أو مجهول، وسيتضح لنا معنى التعريف عند الكلام عن أركانها.
مشروعيتها:
الجعالة مشروعة، وقد دلّ على مشروعيتها: ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: انطلق نفر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفرة سافروها، حتى نزلوا على حيَّ من أحياء العرب، فاستضافوهم فأبَوْا أن يضيِّفوهم، فلُدغ سيد ذلك الحيّ، فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا، لعله أن يكون عند بعضهم شيء، فأتَوْهم فقالوا: يا أيها الرهط، إن سيدنا لدغ، وسعَيْنا له بكل شيء لا ينفعه، فهل عند أحد منكم من شيء؟ فقال بعضهم: نعم والله إني لأرقي، ولكن والله لقد استضفناكم فلم يضيَّفونا، فما أنا براقٍ لكم حتى تجعلوا لنا جعلاً. فصالحوهم على قطيع من الغنم، فانطلق يتفل عليه ويقرأ: (الحمد لله رب العالمين) فكأنما نشط من عقال، فانطلق يمشي وما به قلبة. قال: فأوفَوْهم جعلهم الذي صالحوهم عليه، فقال بعضهم: اقسموا، فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فنذكر له الذي كان، فننظر ما يأمرنا. فقدموا(6/161)
على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكروا له، فقال: "وما يدريك أنها رقية؟! ". ثم قال. " قد أصبتم، اقسموا واضربوا لي معكم سهماً " فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (البخاري الإجارة، باب: ما يُعطى في الرقية .. , رقم: 2156. مسلم: السلام، باب: جواز أخذ الأُجرة على الرقية ... ، رقم: 2201).
فقوله - صلى الله عليه وسلم - تقرير لفعلهم، وهو دليل على مشروعية الجُعْل.
[فلدغ: لسعته حية أو عقرب. الرهط: جماعة الرجال ما دون العشرة. لأرقى: من الرقية، وهي كل كلام يُستشفى به من وجع أو غيره. جعلاً: عطاءً على ما أفعله. فصالحوهم: اتفقوا معهم. قطيع: قبل القطيع ثلاثون من الغنم. يتفل: ينفخ مع بصاق قليل. نشط من عقال: فُك من حبل كان مشدوداً به. قَلَبَة: علة. اضربوا لي: اجعلوا لي منه نصيباً].
واستؤنس لها بقوله تعالى: (قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ) (يوسف: 72). فهو وإن كان ورد في شرع من قبلنا، فقد جاء في شرعنا ما يقرره، كما علمت من الحديث السابق، فيُستأنس به للمشروعية، وإن كان لا يعتبر دليلاً.
[صُواع: مكيال خاص. زعيم: ضامن وكفيل].
حكمتها:
وحكمة مشروعيتها أن الحاجة داعية إلى مثل ذلك، فقد يفقد الإنسان شيئاً ولا يجد من يتطوع له بالبحث عنه وردّه عليه، وقد يعجز عن عمل لا تصحّ الإجارة عليه للجهالة فيه، فيستعين على تحصيل ذلك بمَن يقوم به على جُعْل يلتزمه، فشُرعت تحقيقاً لهذه المصلحة وتلبية لتلك الحاجة.
أركانها:
لها أربعة أركان: عاقدان، وصيغة، وعمل، وعوض.
1 - العاقدان: وهما:
* الجاعل: صاحب العمل الذي يلتزم بالجعل، ويُشترط فيه أن يكون مكلفاً أي بالغاً عاقلاً رشيداً.(6/162)
* والعامل: وهو الذي يقوم بالعمل، ويستحق الجعل عليه. ولا يُشترط أن يكون معَّيناً، كأن يقول: مَن ردّ علي سيارتي فله كذا، ولأنه قد يكون له عمل يحتاج إلى إنجازه، ولا يعرف من يقوم به، فجاز أن يجعل جعلاً لمن يقوم به ولو كان مجهولاً.
2 - الصيغة: وهي لفظ يدل على الإذن في العمل المطلوب بعوض ملتزم، كقول الجاعل: مَن ردّ علي سيارتي - مثلاً - فله كذا. أو أن يقول لطبيب: إن عالجتَ مريضي فبرأ فلك كذا، أو أن يقول لمعلِّم: إن علّمت ولدي القراءة والكتابة فلك كذا، ونحو ذلك.
لا يُشترط قبول من يقوم بالعمل، ولو كان معِّيناً، لأنها تجوز من إبهام العامل وجهالته، فيكفي العمل.
3 - العمل: وهو ما شرطه صاحب المال لاستحقاق الجعل، من ردّ ضالة، أو تعليم صبيّ، أو معالجة مريض، وما إلى ذلك.
ولا يُشترط أن يكون العمل معلوماً كالمنفعة في الإجارة، التي قد علمنا أنها تحدَّد بعمل أو زمن، فتصحّ الجعالة ولو كان العمل مجهولاً، أي غير محدّد بفعل أو زمن، فقد يستغرق ردّ الضالة أو تعليم الصبي - مثلاً - زمناً طويلاً أو قصيراً، وقد يكلفه الكثير من الجهد وقد لا يكلفه، فكل ذلك جهالة في العمل، وهي مغتفرة للحاجة إلى ذلك.
4 - العوض: وهو ما يلتزمه صاحب المال للعامل، ويشترط أن يكون معلوماً، لأنه عقد معاوضة، فلا تجوز بعوض مجهول. فلو شرط جعلاً مجهولاً كان العقد فاسداً، فإذا قام العامل بالعمل استحق أُجرة المثل، لأن كل عقد وجب المسمى والمعين في صحيحه وجب المثل في فاسده.
أحكامها:
للجعالة أحكام عدّة، وهي:
1 - هي عقد جائز أي غير لازم، بل هو قابل للفسخ من صاحب العمل متى شاء، كما أن للعامل أن يرجع عن عمله من شاء، رضي الطرف الآخر أو لم يرض،(6/163)
علم بذلك أو لم يعلم. وذلك لأنها عقد على عمل مجهول بعرض، فجاز لكل واحد من المتعاقدين فسخه.
فإن فسخه العامل لم يستحق شيئاً، ولو قام بشيء من العمل، لأنه لا يستحق الجعل إلا بالفراغ من العمل - كما ستعلم - وقد تركه، فسقط حقه.
وإن فسخ صاحب العمل: فإن كان قبل الشروع بالعمل لم يلزمه شيء، لأنه فسخ قبل أن يستهلك شيئاً من منفعة العامل، فلم يلزمه شيء. وإن كان بعد الشروع بالعمل لزمه أجرة المثل لمل عُمِل، لأنه استهلك شيئاً من منفعته بشرط العوض، فلزمته أُجرته.
2 - لا يستحق الجعل إلا بإذن صاحب العمل، كأن يقول: مَن وجد لي ضالّتي الفلانية فله كذا. فإذا عمل عامل بدون إذن لم يستحق شيئاً، كما إذا وجد إنسان ضالة لآخر فردّها عليه، أو علّم ولده دون إذن منه، لأنه بذل منفعته من غير عوض، فلم يستحقه.
فإن أذن له بالعمل ولم يشرط له جعلاً: فالمذهب أنه لا يستحق شيئاً، وقيل: تلزمه أُجرة مثل عمله، إن كان العامل معروفاً أنه يقوم بمثل هذا العمل بالأُجرة.
وإن أذن لشخص بالعمل، فعمل غيره فلا شي له، وإن كان معروفاً بالقيام بهذا العمل بعوض، لأنه لم يلتزم له بعوض، فوقع عمله تبرعاً.
3 - لا يستحق العامل الجعل إلا بالفراغ من العمل، كالبرء من المرض إن كان الجعل على الشفاء، أو الحذق بالقراءة والكتابة إن كان على التعليم مثلاً، أو تسليم الضالة إن كان على ردّها، وهكذا.
وإن اشترك في العمل أكثر من واحد اشتركوا في الجعل بالتساوي وإن تفاوت عملهم، لأن العمل لا ينضبط حتى يوزَّع الجعل بنسبة ما قام به كل منهم.
4 - تجوز الزيادة والنقص في الجعل قبل الفراغ من العمل، فلو قال لشخص: اعمل كذا ولك عشرة، ثم قال: اعمله ولك عشرون أو: ولك خمسة لزمه(6/164)
بالفراغ منه ما قاله أخيراً من العشرين أو الخمسة، إن كان قاله قبل الشروع بالعمل، وقد علم به العامل إن كان معيناً، أو أعلنه صاحب العمل إن كان العامل غير معين.
وإن كان ذلك بعد الشروع بالعمل وجبت أُجرة المثل للعامل، لأن الالتزام الثاني فسخ للأول، والفسخ أثناء العمل يقتضي الرجوع إلى أُجرة المثل.
وكذلك الحال إذا كان قبل الشروع ولم يعلم به العامل المعين، أو لم يعلنه الملتزم، استحق أُجرة المثل على الراجح.
5 - إذا اختلف العامل وصاحب المال: فإن اختلفا في شرط الجعل: فقال العامل شرطت جعلاً على هذا العمل، وقال صاحب المال: لم أشرط، فيقبل قول صاحب المال بيمينه، لأن الأصل عدم الشرط، ولأن العامل يدّعى عليه الضمان والالتزام، والأصل عدمه، والقول المعتبر هو قول مَن يتمسك بالأصل مع يمينه.
و ... كذلك لو اختلفا في العمل الذي شرط له الجعل: كأن يقول صاحب المال: شرطت الجعل لردّ سيارتي الضائعة، ويقول العامل: بل شرطته لرد متاعك الفلاني الضائع. أو اختلفا فيمن قام بالعمل: فقال زيد من الناس: أنا الذي قمت بهذا، وقال صاحب العمل: بل قام به فلان غيرك.
ففي الصورتين يُصدِّق صاحب العمل بيمينه، لأن العامل يدعى عليه شرط الجعل في عقد الأصل عدمه، كما أنه يدّعي عليه شغل ذمته، والأصل براءة ذمته.
وإن اختلفا في قدر الجعل أو صفته أو جنسه، كأن قال العامل: شرطت لي ألف درهم، فقال صاحب المال: بل شرطت خمسمائة، أو قال: شرطت عشرة دنانير، فقال: بل عشرة دراهم، ونحو ذلك، تحالفا، أي حلف كل منهما على إثبات قوله ونفي قول الآخر. فإذا حلفا تساقطت أقوالهما، واستحق العامل أجرة المثل.(6/165)
وكذلك لو اختلفا في العمل: فقال العامل: شرطت لي كذا على هذا العمل وحده، وقال صاحب العمل: بل شرطته على هذا العمل وذاك.
ما تختلف به الجعالة عن الإجارة:
تختلف الجعالة عن الإجارة من أوجه هي:
1 - جواز الجعالة على عمل مجهول، بينما لا تصح الإجارة إلا على عمل معلوم.
2 - تصحّ الجعالة مع عامل غير معيّن، ولا تصحّ الإجارة مع مجهول.
3 - في الإجارة لا بدّ من قبول الأجير القائم بالعمل، وفي الجعالة لا يشترط قبول العامل.
4 - في الجعالة لا يستحق الجعل إلا بالفراغ من العمل، ولو شرط تعجيله فسد العقد. وفي الإجارة له أن يشرط تعجيل الأجرة.
5 - الجعالة عقد جائز كما علمنا، بينما الإجارة عقد لازم، ليس لأحدهما أن يفسخه إلا برضا الآخر.(6/166)
البَاب التَاسِع
الصُلح(6/167)
الصلح
تعريفه:
هو - في اللغة - قطع النزاع والتوفيق بين الخصوم وإحلال السلم بينهم.
وشرعاً: عقد يحصل به التوفيق ورفع النزاع.
مشروعيته: -
الصلح جائز ومشروع، وربما كان مندوباً إليه، وقد وصفه القرآن بأنه خير، قال تعالى: {والصُّلْحُ خَيْرٌ} (النساء: 128) وذلك دليل على مشروعيته، لأن كل ما كان خيراً فهو مشروع، وكل ما كان شراً فهو في شرع الله تعالى ممنوع.
وقال تعالى: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} (النساء: 114)
[نجواهم: حديث الناس وكلامهم]
وستأتي أدلة أُخرى من القرآن على مشروعيته.
وقد تثبتت مشروعيته أيضاً في السنة.
روى عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً)). أخرجه الترمذي في أبواب الأحكام، باب: ما ذكر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلح بين الناس، رقم 1352. وأبو داود في الأقضية، باب: الصلح رقم: 3594. وابن ماجه في الأحكام، باب: في الصلح، رقم 2353).
وخُصَ المسلمون بالذكر لأنهم المقصودون غالباً في الخطاب، ولأنهم ألأكثر انقياداً لشرع الله تعالى، وإلا فغير المسلمين في هذا كالمسلمين.
وقد أجمع المسلمون في كل العصور على مشروعية الصلح، وقد ورد عن(6/169)
عمر رضي الله عنه أنه قال: (ردّوا الخصوم حتى يصطلحوا، فإن فصل القضاء يورث الضغائن). قال ذلك في حضور الصحابة رضي الله عنهم، ولم ينكر عليه أحد منهم، فكان ذلك إجماعاً ذلك منهم على مشروعية الصلح.
حكمة مشروعيته:
الإسلام دين الوحدة والأُخوة، والتعاون والتضامن، ونبذ التفرقة وأسبابها وما يؤدي إليها، قال تعالى: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ) (آل عمران: 103).
ولذا نجد شرع الله تعالى يحثّ الناس على أداء الحقوق لأصحابها، لأن الإخلال بذلك هو الغالب في إثارة الخصومة والنزاع، فقال تعالى: (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة: 188). وفي موضع آخر قرن بين ذلك وقتل النفس بغير حق، لأنه غالباً ما يؤدي إليها، قال تعالى
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً) (النساء: 29) ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحذر من التباغض والتنازع، لأن نتيجة ذلك التقاتل الذي قد يعود بالناس إلى الكفر، فيقول: ((لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخواناً))، ويقول: ((لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)).
(البخاري: العلم، باب: الإنصات للعلماء، رقم: 121، والأدب، باب: ما ينهي عن التحاسد والتدابر، رقم 5718. مسلم: الإيمان، باب: بيان معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ولا ترجعوا بعدي كفاراً .. ، رقم 65، والبر والصلة والآداب، باب: تحريم التحاسد والتباغض والتدابر، رقم 2559).
ويحثَ الناس على ما يمتِّن عرى المحبة بينهم ويزيل بواغث الشقاق، فيحثّهم على التسامح بدل التشاحح، وعلى التواصل بدل التقاطع، فيقول عليه الصلاة والسلام: ((رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع وإذا اشترى، وإذا قضى أقتضى)) أحرجة البخاري في البيوع، باب: السهولة والسماحة في الشراء والبيع، رقم 1970).(6/170)
ولما كان الصلح بين الناس، والسعي في رفع الخصومات من بينهم في طليعة ما يحقّق الأهداف الإسلامية المشار إليها، شرعه الإسلام وحثّ عليه وجعله من الخير - بل هو الخير - الذي تتطلع إليه القلوب، وتهواه النفوس السليمة السامية، التي كانت كبحت جماح الهوى وتغلبت على الشح فيها، وارتقت فوق المطامع والدنِيِّ من الرغبات، فكان في ذلك خير للأُمة في كل زمان ومكان، وكل حادثة وحال.
ونجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبيح للمسلم في سبيل الإصلاح أن يقول كلاماً لم يقل، طالماً أنه من شأنه أن يزيل النزاع ويحل بدله الوفاق، فيقول: ((ليس الكذِّابُ الذي يُصْلحُ بينَ الناس، فيَنْمي خيْراً ويقول خيراً)). (البخاري: الصلح، باب: ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس، رقم: 2546. مسلم: البرّ والصلة والآداب، باب: تحريم الكذب وبيان المباح منه، رقم: 2605).
[ينمي خيراً: من نمي الحديث إذا رفعه وبلغه ونقله بين المتخاصمين].
أنواع الصلح:
الصلح في الشرع أنواع، وكلها مشروعه، ومنها:
1 - الصلح بين دولة المسلمين وغيرهم، قال تعالى: (وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) (الأنفال: 61). ومن ذلك صلح الحديبية، وأمثله كثيرة في سيرته - صلى الله عليه وسلم -.
2 - الصلح بين أهل العدل من المسلمين وأهل البغي منهم، قال تعالى: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) (الحجرات: 9).
3 - الصلح بين الزوجين عند حصول النزاع بينهما، قال تعالى (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً) (النساء: 128).
4 - الصلح بين المتخاصمين في غير الأمور المالية وليس منهم بغاة، فقد روى سهل بن سعد رضي الله عنه: أن أهل قباء اقتتلوا حتى ترامَوْا بالحجارة، فأخبر(6/171)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال: (اذهبُوا بنا نُصْلحْ بينهم)). البخاري: الصلح، باب قول الإمام لأصحابه: اذهبوا بنا نصلح، رقم: 2547).
5 - الصلح في المعاملة التي لها علاقة بالمال، وهو المقصود بالباب لدى الفقهاء عند عنونتهم للصلح، وأما أنواع الصلح الأُخرى فتبحث ضمن أبوابها.
الصلح في المعاملة:
قد يجري الصلح في المعاملة بين المتداعيين، وقد يجري بين المدعي وأجنبي، ولكل من الحالين أحكام.
*الصلح بين المدعي والمدعى عليه:
قد يجري الصلح بين المدعي والمدَّعى عليه، والمدّعى عليه مقرّ بهذا الحق، الذي ادُّعى عليه به، ويسمى: الصلح مع الإقرار. وقد يجري الصلح والمدَّعى عليه منكر وغير مقر بما ادُّعى عليه به، ويسمى، الصلح مع الإنكار فما حكم كلِّ منهما؟
الصلح مع الإنكار:
وهو أن يدّعي إنسان على آخر حقاً - من دَْين كألف درهم مثلاً، أو عين كسجادة أو دار - فلا يقر المدعي عليه بذلك، وينكر أن للمدّعي عليه حقاً، أو يسكت، ثم يطلب من المدعي أن يصالحه عمّا أدّعاه، فما حكم هذا الصلح لو وقع؟
والجواب: أن هذا الصلح غير جائز وغير مشروع، ولو حصل وقع باطلاً لا يترتب عليه أيّ أثر أو حكم من أحكام الصلح التي سنعرفها إن شاء الله تعالى.
والحجة فيه بطلانه: أنه صلح يحلّ حراماً أو يحرّم حلالاً، وهو غير جائز بنص الحديث السابق الذكر، إذ قال - صلى الله عليه وسلم - (الصُّلحُ جائز بين المسلمين، إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً)) (1).
وبيان ذلك:
_________
(1) انظر: مشروعية الصلح، صفحة: 169.(6/172)
إن المدّعي - إن كان كاذباً في دعواه - يكون بالصلح قد استحل مال غيره، وهو حرام عليه، فذلك صلح أحلّ حراماً، وهو ممنوع.
وإن كان صادقاً، فقد حرّم على نفسه جزء من ماله، وهو حلالا عليه، لأن المدَّعَي عليه اضطره بإنكاره إلى التنازل عنه، فيكون صلحاً حرّم حلالاً، وهو ممنوع.
الصلح مع الإقرار:
وهو أن يدّعي إنسان حقاً على أخر، من دين أو عين، فيعترف المدّعي عليه ويقرّ بهذا الحق، ثم يطلب المصالحة عن ذلك. فإذا حصل الصلح كان جائزاً ووقع صحيحاً، وترتبت عليه آثار الصلح وأحكامه، لأنه مما يدخل في أدلة مشروعيته الصلح دخولاً أوليّاً.
وفي هذه الحالة إما أن يكون الحق المدعى المصالَح عنه عيناً، وإما أن يكون ديناً، ولكل أحكامه.
أالصلح عن العين:
قد يكون المصالح عليه عن العين بعضها، ويسمىَ صلح الحَطيِطة، وقد يكون عيناً أخرى غيرها أو منفعة، فيسمى صلح المعاوضة.
- صلح الحَطيِطة:
إذا كان الحق المدعى والمصالح عنه عيناً، وجرى الصلح بين المدّعي والمدّعَى عليه على جزء من هذا العين، كأن كان داراً فجري الصلح على أن يأخذ المدَّعي نصفها مثلاً، كان ذلك هبة للنصف الثاني من صاحب الحق المدَّعي لمن العين في يده وهو المدّعَي عليه، وتأخذ هذه الصورة من الصلح أحكام الهبة التي عرفتها في بابها، والتي من جملتها اشتراط القبول من المدّعي عليه ونحو ذلك.
ويسمى هذا النوع من الصلح: صلح الحَطيِطة، لأن صاحب الحق قد حط جزءا عن المدّعي عليه.(6/173)
- صلح المعاوضة:
وإذا كان حق المدَّعَي المصالح عنه عيناً، وجرى الصلح بين المدّعي والمدّعَى عليه على أن يدفع المدَّعَى عليه - الذي في يده العين - عيناً أخرى غير المدعاة بدلاً عنه، كما لو كان المدعي - مثلاً - داراً، فجرى الصلح على أن يعطيه عوضاً عنها سيارة، فإن ذلك جائز وصحيح، ويكون في الحقيقة بيعاً للعين المدعاة بهذه العين المدفوعة، فيثبت فيه جميع أحكام البيع التي عرفتها: من العلم بالثمن، وكونه مالاً منتفعاً به شرعاً مثلاً، كما يثبت فيه خيار المجلس وخيار الشرط وخيار الرد بالعيب، ويفسده ما يفسد البيع من الشروط على ما علمت، ويحرم فيه ما يحرم في البيع من الغرر ونحو ذلك.
ويسمى هذا النوع من الصلح في كل صورة: صلح المعاوضة، لأن صاحب الحق قد استعاض عن حقه بشيء أخر رضي به، عيناً كان أم منفعة.
وإن جرى الصلح على منفعة عين أُخرى، كان صالحه عن الدار على استعمال سيارته سنه مثلاً، كان ذلك الصلح عقد إجارة، فيثبت فيه أحكام الإجارة لأنه فيه معناها. ... وإن جرى الصلح على منفعة نفس العين المدّعاة، كأن صالحه على أن يسكن المدّعي الدار المدعاة مثلاً عشر سنوات ثم يردّها إليه، فهو إعارة، تثبت فيه أحكامها، لأنه في معناها.
ب الصلح عن الدين: -
وهو أن يدّعي إنسان على أخر دَيْناً، ألف درهم مثلاً، فيقر المدّعي عليه بذلك ويتصالحان عنه، وقد يكون المصالح عليه بعض الدين فيكون صلحه الحَطيِطة، أو عيناً أو منفعة فيكون صلح المعاوضة.
1 - صلح الحَطيِطة: أن يختصم مع المدين وهو مقرّ بالدين، ثم يتصالحا على أن يحطّ عنه قسماً معيناً من الدين، كان يصالحه عن الألف التي له عليه بخمسمائة.
فهذا صلح صحيح، ويكون إبراءاً للمدين من بقية الدَّيْن.(6/174)
روى كعب بن مالك رضي اله عنه: أنه تقاضى عبد الله بن أبي حدرد راضي الله عنه ديناً كان له عليه , في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد , فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في بيت، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهما، وحتى كشف سجْفَ حُجْرته، فنادى كعب بن مالك فقال: ((يا كعبُ)) فقال: لبَّيك يا رسولَ الله، فأشار بيده: أنا ضَعِ الشطر، فقال كعب: قد فعلت يا رسول الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((قم فأقضه)). البخاري: باب الصلح، باب: الصلح بالدَّيْن والعين، رقم: 2563. مسلم: المساقاة، باب: استحباب الوضع من الدين، رقم: 1558).
[تقاضي: طالب بالوفاء. سِجْف حجرته: ستر باب غرفته].
ويصح هذا الصلح بلفظ الصلح كما يصح بلفظ الإبراء والحطّ والإسقاط.
فإذا كان بلفظ الإبراء ونحوه لم يشترط فيه القبول، واشترط فيه تحقق شروط الإبراء، وهي:
1 - أن يكون المبرئ من أهل التبرع فيما أبرأ منه، فلا يصحّ من الولي عن الصبي، لأنه ليس من أهل التبرع بماله.
2 - أن يكون عاماً بما أبرأ منه، فلا يصح أن يقول، أبرأتك من جزء الدَّيْن، وكذلك لا يصح لو قال: من ربع الدين وهو يجهل قدره.
3 - أن يكون الإبراء عن دين، فإذا كان الصلح عن عين فلا يصحّ بلفظ الإبراء.
4 - أن يكون معلقاً على شرط ولا مؤقتاً بزمن.
وإذا جرى بلفظ الصلح اشترط فيه القبول كباقي أنواع الصلح.
إذا لم يؤدي المبرأ بقية الدين:
إذا أبرأ الدائن المدين من جزء من الدين ليؤدَّيَ له الباقي، ثم امتنع المدين عن أداء ذلك فهل يعود الدين كما كان، وللدائن أن يطالب بجميعه؟(6/175)
والجواب: الأصح أنه لا يعود الدين كما كان، وليس للدائن أن يطالب إلا بما بقي بعد الإبراء، لأن الإبراء إسقاط للحق من الذمة، فبه سقط جزء من الدين من ذمة المدين، والقاعدة الفقهية تقول: (الساقط لا يعود).
ولذا ينبغي على أصحاب الديون أن ينتبهوا إلى هذا فلا يتلفظوا بالإبراء ونحوه من الألفاظ التي معناه كسامحتك - مثلاً - بما لي عليك، فإن ديوانهم تسقط من ذمة المدين، وليس للدائن بعد ذلك مطالبة بها، سواء أَقبل ذلك الإبراء أم لا، وسواء أقبل ذلك الإبراء أم لا، وسواء أكان ذلك في حالة غضب أو نشوة سرور - كما تفعل الزوجات أحياناً حين تبرئ إحداهنّ الزوج مما لها من مؤخَّر في ذمته - أم لا.
2 - وأما صلح المعاوضة في الدين: فهو أن يدّعي ديناً على أخر، كألف مثلاً ويقّر له المدَّعَى عليه بذلك، ثم يصالحه عنها أن يعطيه سلعه معَّينة، غسالة مثلاً فهذا معاوضة وبيع، تجري عليه أحكام البيع، وإذا صالحه على منفعة عين - كأن يسكنه داراً سنة مثلاً - فهو إجارة، تجري عليها أحكام الإجارة، كما علمنا عن الصلح في العين.
*الصلح بين المدَّعي وأجنبي:
وذلك بأن يدّعي إنساناً حقاً على أخر، فيأتي شخص ثالث غير المدَّعَي عليه ويصالح المدَّعي عمّا أدّعاه. ولهذا الصلح صور حسب حال المدََّعَى عليه وموقف الأجنبي من ذلك، ولكل صورة حكمها، إليك بيان ذلك:
1 - أن يدّعي الأجنبي الوكالة عن المدّعي عليه ويصالح له، كأن يقول: وكّلني المدّعي عليه أن أصالحك، وهو مقر لك بما أدّعيت، ولم ينكر المدَّعي عليه الوكالة بعد ذلك، وصالح، كان الصلح صحيحاً، وصار المصالَح عنه - وهو الحق المدّعى - ملْكاً للمدّعي عليه موكِّل الأجنبي. وإن كان أنكر المدعى عليه الوكالة بعد ذلك كان الصلح باطلاً.
2 - أن يصالح الأجنبي لنفسه، بأن يقول: إن فلاناً الذي ادّعيت عليه الحق مقرّ لك به، وأنا أُصالحك عنه علة كذا، دون دعوى الوكالة، فهو كشراء الفضولي، أي شراء الإنسان لغيرة، والصحيح أنه باطل.(6/176)
3 - أن يكون المدعى علبه منكراً ويقول الأجنبي: هو مبطل في إنكاره، ويصالح عن الحق المدعى لنفسه، فهو في حكم بيع المغضوب لغير الغاضب: فإن كان قادراً على انتزاعه من يد المدعى عليه صحّ الصلح، وإن لم تكن قادراً على ذلك لم يصح.
4 - أن يكون المدّعى عليه منكراً، ولم يعرف الأجنبي ببطلان إنكاره، وصالح المدّعي عن الحق المدعى لنفسه، فالصلح في هذه الحالة باطل، ولأنه في حكم شراءه للمدّعي ما لم يثبت له ملكه، فلا يصح.
أركان الصلح وشروطها:
للصلح أركان، لأنه عقد، ولكن عقد أركانه، وأركان عقد الصلح أربعه:
عاقدان، وصيغة، ومصالح عنه، ومصالح عليه.
الركن الأول: العاقدان:
وهما: المدّعي المصالَح، والمدَّعَي عليه المصالح، ويشترط في كل منهما شروط، هي:
1 - التكليف، أي أن يكون كلا منهما عاقلاً بالغاً، فلا يصحّ الصلح من الصبي ولو كان مميزاً، ولا من المجنون، لأن الصلح نقد وتصرّف، وتصرفاتهما غير معتبرة شرعاً وعقودها باطله، كما علمت مراراً.
2 - ولاية التصرف في المال، إذا كان الصلح عن الصغير، وذلك كالأب والجدّ والوصيّ، لأن الصلح تصرّف في المال، ولا يملك التصرّف في مال الصغيرين من الأولياء غير هؤلاء.
3 - أن لا يكون في الصلح ضرر ظاهر، إذا كان الصلح من وليّ الصغير عنه، سواء أكان مدّعياً أو مدّعي عليه.
- فلو كان الصبي مدّعي عليه، وصالح وليّه عماً ادعي به على شيء به من مال الصبي:
- فإن كان المدّعي بيِّنه على مدعاه، وكان ما صالح عليه الولي مثل الحق المدعي به، أو بزيادة يتغابن الناس بمثلها عادة، فالصلح جائز. لأن الصلح في معنى(6/177)
المعاوضة، والولي يلمك المعاوضة لمن تحت ولايته بالغبن اليسر المألوف عادة.
- وإن لم يكن للمدّعي بيِّنة على مدعاه، أو كان ما صالح عليه الولي أكثر من الحق المدّعي بزيادة فاحشة لا يتغابن الناس بمثلها عادة، فالصلح باطل. لأن في مل التبرع بمال الصبي، والتبرع ضرر محض في حقه، فلا يملكه الولي.
فلو صالح الوليّ من ماله الخاص جاز، لأنه ما أضرّ الصغير بل نفعه، حيث قطع الخصومة عنه.
- ولو كان ولي الصبي هو المدِّعي له، وصالحه المدَّعَي عليه على حق بعض المدَّعي به وأخذ الباقي:
- فإن كان للولي المدعي بيِّنه على الدين لم يصحّ الصلح، لأن الحطّ من الدِّيْن تبرع، وهو لا يملك التبرع للمال الصبي.
- وإن لم يكن للولي المدّعي، وصالحه على مثل قيمة الحق المدعي به، أو مع غبن يسير، صحّ الصلح، لأنه في معنى البيع من مال الصبي - كما سبق - وهو يملكه فإن كان مع غبن فاحش لم يصح، لأنه تبرع لا يملكه كما علمت.
الركن الثاني: الصيغة:
وهي الإيجاب والقبول من المتصالحَيْن، وكما يقول المدّعي عليه المصالح: صالحتك عن كذا على كذا، أو: من دعواك كذا على كذا. ويقول الآخر: قبلت، أو رضيت، أو صالحت، ونحو ذلك مما يدل على رضاه وقبوله بهذا الصلح.
وقد مّر معنا أنه يصحّ في بعض أنواعه بلفظ الإبراء والحط وما في معناه.
الركن الثالث: المصالح عنه:
وهو الحق الذي يدّعيه، ويطلب منه أن يصالح عنه على عين أو دين أو منفعة، على ما سبق، ويشترط فيه شروط:
1 - أن يكون حقاً لآدمي، مالاً أم ليس بمال كالقصاص، فإنه يصحّ الصلح عنه، فلو استحق إنسان على أخر القصاص، فصالحه على مال بدل القصاص جاز،(6/178)
سواء أكان البدل المصالح عليه عيناً - كدار مثلاً - أم ديناً - كألف دينار مثلاً - فإذا كان ديناً اشترط التقابض في مجلس الصلح، حتى لا يكون دَيْناً بدَيْن.
وتصح المصالحة عن القصاص، سواء أكان في النفس أم فيما دون النفس من ألأعضاء والجراح.
عن أنس رضي الله عنه: أن الرُّبَيّع - وهي ابنة النضر - كسرت ثِنَيّة جارية، فطلبوا الأرش وطلبوا العفو فأبوا، فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمرهم بالقصاص، فقال أنس بن النضر: أتُكْسَر ثَنِيِّة الربيع يا رسول الله؟ لا والذي بعث بالحق لا تكسر ثنيتها. فقال: ((يا أنسُ، كتاب الله القصاصَ)). فرضي القوم وعفوا- وفي الرواية وقبلوا الأرش - فقال - صلى الله عليه وسلم - ((إنَّ من عباد الله مَن لو أقْسم على الله لأبَرَّه)) البخاري: الصلح، باب: الصلح في الدية، رقم: 2556. مسلم: القسامة، باب: إثبات القصاص في الأسنان وما في معناها، رقم: 1675).
[ابنة النضر: أي عمّة أنس بن مالك بن النضر، رضي الله عنه وعن عمّه وعمته. ثنية: هي إحدى السنين التي في مقدّم الأسنان. جارية: امرأة شابة أو بنتاً صغيرة. فطلبوا: أي أهل الجانية. الأرش: أن يصالحوا على أن يدفعوا مالاً يقابل الجناية، القصاص: لكثر سنها. كتاب الله القصاص: أي حكم كتاب الله تعالى يقضي بالقصاص، فكيف تقول ذلك. لأبرَّه: لحقق له ما أقسم عليه كي لا يقع في الإثم، لعلمه بصدقه وإخلاصه).
فلو كان المصالح عنه حقاً من حقوق الله تعالى، كان يصالح زانياً على ما يأخذه منه على أن يرفع أمره إلى القضاء - مثلاً - كي لا يقيم عليه الحد، لم يصح الصلح، لأن الحدّ حق الله تعالى، ولا يصح الاعتياض عن حق الغير على أن الصلح من الحدود صلح يحلّ الحرام فلا يجوز.
عن أبي هريرة رضي الله عنه وزيد بن خالد الجهني رض الله عنهما قالا: جاء أعرابي فقال: يا رسول الله، اقض بيننا بكتاب الله، فقام خصمه فقال: صدق، أقض بيننا بكتاب الله - وفي راوية وائذن لي - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (قل). فقال: إن ابني كان عَسِيفاً على هذا، فزني بامراته، فقالوا(6/179)
لي: على ابنك الرجم، ففديتُ ابني منه بمائة من الغنم ووليدة، ثم سألت أهل العلم فقالوا: إنما على ابنك الجلد مائة وتغريب عام. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " لأقْضيَنَّ بينكما بكتاب الله، أما الوليدةُ والغنمُ فردِّ عليك، وعلى ابنك الجلد مائة وتغريب عام، وأما أنَت يا أُنَسْ ُ- لرجل - فأغْد على امرأة هذا فارْجُمها (رواه البخاري في الصلح، باب: إذا اصطلحوا على صلح جَوْر فالصلح مردود، رقم: 2549 مسلم في الحدود، باب: مَن اعترف على نفسه بالزنا، رقم: 1697).
(عسيفاً: أجيراً. وليدة: امرأة مملوكة. أهل العلم: الصحابة العلماء رضي الله عنهم).
فقوله - صلى الله عليه وسلم -: " أما الوليدة والغنم فردّ عليك " دليل صريح في بطلان هذا الصلح الذي جرى على حق من حقوق الله تعالى، والذي مقتضاه تحليل حرّم الله عز وجل، وهذا ما صرّح به البخاري رحمه الله تعالى لترجمته للحديث.
ويقاس على حدّ الزنا جميع الحدود التي تغلب فيها حق الله تعالى، كحدّ السرقة وحدّ القذف، وإن كان فيها حق للعبد، ولكن الغالب حق الله تعالى، وحق العبد مغلوب، والمغلوب تابع للغالب، فلا يلتفت إليه شرعاً.
وكذلك لا يصحّ الصلح على ألا شهد عليه، أي أن يعطيه مالاً كي لا يؤدي الشهادة التي تحمّلها عليه، لأن الشهادة حق الله تعالى، قال جلّ وعلا: (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ)
(الطلاق: 2). وقال: (كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ) (النساء: 135).
فالصلح عن هذه الحقوق صلح باطل، ويجب على مَن أخذ المال بدلاً عنها ردّه إلى مَن أخذه منه، لأنه أخذ بغير حق وكسب خبيث، وهو فسوق تردّ به الشهادة عند القاضي إذا علم به.
2 - أن يكون حقاً للمصالح، فإن لم يكن حقاً له لم يصح الصلح، إلا إن كان الصالح عن الذي تحت ولايته وفي حجرة كما علمت.(6/180)
فلو ادّعت امرأة مطلقة أن الولد الذي في يدها ابن زوجها المطلق، فأنكر زوجها ذلك، فصالحته عن النسب إليه على شيء، فالصلح باطل. لأن النسب حق الصبي لا حقها، فلا تملك المعاوضة عنه.
3 - أن يكون حقاً ثابتاً للمصالح في محل الصلح، أي ما يرد عليه عقد الصلح. فلو صالح الشفيع - أي الشريك في العقار ونحوه، الذي باع شريكه حصته لغيره دون علمه، فإن يحقّ له أخذ هذه الحصة من المشتري بثمنها، كما ستعلم في باب الشفعة - فلو صالح هذا الشفيع المشتري عن حق الشفعة الذي ثبت له بالشرع على مال معلوم يأخذه منه، على أن يترك الحصة لهذا المشتري، فإن الصلح باطل، لأن الشريك الشفيع لا حق له في محل الصلح - وهو حصة شريكه المباعة - حتى يحق له أن يصالح عنها، وإنما أثبت له الشرع حق التملك القهري لما اشتراه المشتري، دفعاً لما يتوهم من ضرر الشريك الجديد عليه، فإذا رضي به فقد سقط حقه، فليس له أخذ المال منه، لأنه أخذ لمال غيره بغير عوض.
4 - أن يكون معلوماً، فلو كان المصالح عنه مجهولاً للمتصالحين أو أحدهما كان الصلح باطلاً، لما فيه من الغرر المنهي عنه، فيكون داخلاً في معنى الصلح الذي أحلّ حراماً
الركن الرابع: المصالح عليه:
وهو البدل الذي يأخذه المدّعي من المدّعى عليه مقابل ما ادّعاه من الحق، ويُشترط فيه
1 - أن يكون مالاً شرعاً، فلو صالح من الحق الذي ادّعاه على خمر أو خنزير أو أداة لهوِ - مثلاً - لم يصحّ الصلح، لأن هذه الأشياء ليست بمال شرعاً، وعقد الصلح فيه معنى المعاوضة، فالمصالح عنه والمصالح عليه كالمبيع والثمن في عقد البيع، وما ليس بمال شرعاً لا يصلح عوضاً في البيع، وما لا يصلح عوضاً في البيع لا يصلح بدلاً في الصلح.
ولا مانع أن يكون المال المصالح عليه عيناً كسجادة مثلاً، أو ديناً كألف دينار، أو منفعة كسكنى دار سنة مثلاً، لأن مثل ذلك يكون عوضاً في المبايعات(6/181)
وعقود المعاوضة، فيصح أن يكون بدلاً في الصلح، وقد مرّ معنا أمثلة كثيرة على ذلك.
2 - أن يكون مملوكاً للمصالح، فلو صالح على شيء ثم تبين أنه لا يملكه، كما لو كان خرج مسروقاً أو مغصوباً أو نحو ذلك، فإن الصلح يبطل حتى ولو كان المصالَح قد قبضه، لأنه تبيّن أنه صالح على ما لا يملك، فتبين أنه لا صلح، لأنه لا يملك أن يصالح على مال غيره.
3 - أن يكون المصالح عليه معلوماً للعاقدين، لأن جهالة البدل تؤدي إلى المنازعة، وذلك من شأنه أن يفسد العقد.
التزاحم على الحقوق المشتركة
جرت عادة الفقهاء أن يعقدوا في كتاب الصلح فصلاً للتزاحم على الحقوق المشتركة، ويبينوا ما يجوز فيه الصلح منها وما لا يجوز، ونحن نذكر فيما يلي طرفاً من هذه الحقوق المشتركة:
1 - بناء الروشن والساباط والميزات:
الروشن: هو الخشب الخارج من الحائط الممتد في الهواء، ويسمى جناحاً تشبيهاً بجناح الطائر، ويسمى شرفة أيضاً.
الساباط: هو السقيفة على حائطين والطريق بينهما.
الميزاب: مسيل الماء من السطح، وهو المز راب.
وهذه الأشياء الثلاثة إما أن تنشأ في طريق نافذ، أو في طريق غير نافذ، ولكلّ منهما تفاصيل وأحكام نوجزها فيما يلي:
أ - إنشاء هذه الأشياء في الطريق النافذ:
الطريق النافذ: هو ما يستحق المرور فيه كل إنسان، ولا يختص به واحد دون آخر. هذا الطريق لا يجوز أن يُتصرف فيه بما يضر المارّة، كإشراع جناح وبناء ساباط ووضع ميزاب. لأن الحق ليس له بل هو للمارة، فإن فعل ما هو ممنوع منه وجبت إزالته، لقوله عليه الصلاة والسلام: " لا ضرر ولا ضرار "
(أخرجه ابن ماجه في الأحكام، باب: مَن بني في حقه ما يضرّ بجاره، رقم: 2340، 2341.(6/182)
ومالك في الموطأ: الأقضية، باب القضاء في المرفق: 2/ 745).
والذي يقوم بإزالته الحاكم خوفاً من وقوع فتنة، لكن لكل واحد المطالبة بإزالته لأنه منكر. فإن كان إنشاء ما ذكر غير ضارّ بالمارة، وكان الطريق خاصاً بالمشاة اشترُط ارتفاعه بحيث إذا مرّ الماشي الطويل وهو حامل على رأسه أو ظهره شيئاً لم يتضرّر به عادة، واشترط أيضاً أن لا يكون حاجباً للنور بحيث يظلم المكان إظلاماً لا يحتمل.
وإن كان الطريق غير خاص بالمشاة، بل هو ممر للفرسان والقوافل ومثلها السيارات في عصرنا هذا، فيشترط أن يرفع بناء الروشن والساباط بحيث يمر تحته المحمل على البعير مع أخشاب المظلة التي فوق المحمل ومثلها حمولة الشاحنات الكبيرة على اختلافها.
والأصل في جواز البناء حيث لا ضرر حديث " نصب بيده الكريمة - صلى الله عليه وسلم - ميزاباً في دار عمه العباس وكان شارعاً إلى مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - (ذكر في نيل الأوطار [5/ 278] في كتاب الصلح، باب: إخراج ميازيب المطر إلى الشارع: أنه أخرجه أحمد والبيهقي والحاكم).
فورد النص في الميزاب وقيس عليه الباقي.
وهذه الأشياء يحرم الصلح عليها سواء أكان الصلح من جانب الإمام أم من غيره، لأن الهواء لا يفرد بالعقد وإنما هو تابع للقرار، وهو الأرض الموازية له، ولأنه إن ضرّ لم يجز فعله بعوض أو غير عوض، وإن لم يضرّ فالباني مستحق له، وما يستحقه الإنسان في الطريق لا يجوز أخذ العوض عنه كالمرور.
ب - إنشاء هذه الأشياء في الطريق غير النافذ:
الطريق غير النافذ إن كان لواحد فقط فهو ملك له، وإن كان مشتركاً بين جماعة فلا يجوز له بناء شيء مما ذكر إلا بإذن بقية الشركاء، ولا يصحّ الصلح على ذلك.
هذا ويعدّ شريكاً فيما بين رأس الدرب كلُّ مَن نفذ باب داره إليه، لاَ مَن لاصق جداره الدرب، ويكون شريكاً فيما بين رأس الدرب وباب داره فقط. أما ما يلي باب داره إلى آخر الدرب فلا حق له فيه، ولا يعتبر إذنه في البناء أو عدم إذنه.(6/183)
2 - فتح باب جديد في الدرب:
يحق لمن كان شريكاً في الدرب أن يفتح باباً جديداً إذا كان الباب المفتوح أقرب على رأس الدرب، لأنه تنازل منه عن بعض حقه بشرط سدّ القديم. أما إذا كان أبعد من القديم عن رأس الدرب وأقرب إلى نهايته فلا يجوز له فتحه إلا بإذن الشركاء. وكذلك الحكم إذا فتح باباً ثانياً ولم يسدّ الأول. وحيث منع من فتح الباب فصالحه أهل الدرب على مالٍ صح، لأنه انتفاع بالأرض.
3 - بناء دكة وغرس شجرة في الطريق:
يحرم أن يبني في الطريق دكة - مصطبة - أو دعامة لجدار وأن يغرس شجرة، ولو اتسع الطريق ولم يضرّ بالمارّة وأذن به الإمام، لأنه قد تزدحم المارة فيتعثرون ويضيق الطريق عليهم، ولأنه إذا طالت المدة أشبه موضعهما الأملاك وانقطع أثر الاستحقاق في الطروق فيه.
وعلى هذا فلا يجوز المصالحة على ذلك، إذا كان غرس الأشجار للتملّك الفردي. أما إذا كان الغرس لعموم المسلمين ولمصلحتهم فلا مانع من ذلك حيث لا ضرر.
4 - وضع خشبة على جدار غيره:
قد يكون الجدار الملاصق ملكاً لشخص آخر، وعلى هذا فلا يجوز وضع خشبة على هذا الجدار أو غرزها فيه إلا برضا مالكه في المذهب الجديد، ولا يجبر المالك له إن امتنع، لقوله عليه الصلاة والسلام: " لا يحلُّ لامرئ من مال أخيه إلاّ ما أعطاه عن طِيبِ نفْس " (مسند أحمد: 5/ 113) ولقوله: " لا ضررَ ولا ضرارَ " (1)
وفي المذهب القديم يجوز ذلك، ويجبر المالك إن امتنع، لما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يَمْنَعَنَّ جار جارَه أن يضعَ خشبهً في جِداره " ثم قال أبو هريرة: ما لي أراكم عنها معرضين؟! والله لأرْمِيَنّ بها بين أكتافكم
(أخرجه البخاري في المظالم، باب لا يمنع جار جاره أن
_________
(1) انظر تخريجه في الفقرة: أ، ص 182(6/184)
يغرز خشبة في جداره، رقم: 2331. ومسلم في المساقاة، باب: غرز الخشب في جدار الجار، رقم: 1609).
فلو رضي المالك بوضع الخشبة بلا عوض كان ذلك عارية، تثبت فيها أحكام العارية فيستفيد بها المستعير مرةِّ واحدة، حتى لو رفع جذوعه أو سقطت بنفسها، سقط الجدار، فبناه صاحبه بتلك الآلة لم يكن له الوضع ثانياً في الأصح، لأن الإذن يتناول مرة واحدة.
ولو رضي بوضع الجذوع والبناء عليها بعوض، فإن أجّر رأس الجدار للبناء فإجارة، وإن قال بعته للبناء أو بعته حق البناء عليه فالأصح أن هذا العقد فيه شوب بيع وشوب إجارة، لأن المستحق به منفعة فقط فهو إجارة، ولكون مؤيداً فهو بيع.
مبطلات الصلح:
ويبطل الصلح بأشياء غير ما سبق في مواضعه، منها:
1 - الإقالة في غير الصلح عن القصاص، فلو قال أحد المتصالحين للآخر بعد الصلح: أقلني عن هذا الصلح، أي أحب فسخ هذا العقد، وقبل الآخر انفسخ الصلح، لأنه عقد فيه معنى معاوضة المال بالمال، فكان محتملاً للفسخ كالبيع.
فلو كان الصلح عن القصاص فإنه لا ينفسخ، لأن الصلح عن القصاص إسقاط محض لحض وليّ الدم في استيفاء القصاص من القاتل، لأنه عفو عنه، وقد علمت أن الساقط لا يعود بعد إسقاطه، فلا يحتمل الفسخ. وفي هذه الحالة يرجع المدّعي على القاتل بالدية، لا بما صالح عليه، لأن القصاص سقط لشبهة الصلح، فيسقط إلى بدله المشروع وهو الدية.
2 - الرد بخيار العيب، كما لو صالحه على شيء ثم قبضه المصالح، فوجد فيه عيباً ينقص قيمته عرفاً - على ما عرفت في عقد البيع - فإن له الخيار أن يردّه، فإذا ردّه انفسخ الصلح وبطل.(6/185)
حكم الصلح بعد بطلانه:
إذا بطل عقد الصلح يرجع المدّعي إلى أصل دعواه إن كان الصلح عن إنكار، وقد علمت أن الصلح مع الإنكار باطل أصلاً.
وإذا كان الصلح مع الإقرار: رجع المدَّعي على المدَّعى عليه بالمدَّعى به لا غيره، لأن بطلان الصلح جعله كأن لم يكن، وعاد الأمر إلى ما كان عليه قبل الصلح.(6/186)
الباب العاشر
الحوالة(6/187)
الحوالة
تعريفها:
في اللغة: هي النقل أو الانتقال، قال في المصباح المنير: (تحول من مكانه انتقل عنه، وحوّلته تحويلاً نقلته من موضع إلى موضع ... وحوّلت الرداء نقلت كل طرف إلى موضع الآخر، والحَوالة - بالفتح - مأخوذة من هذا، فأحلته بديَنْه نقلته إلى ذمة غير ذمتك، وأحلت الشيء إحالة نقلته أيضاً. ويقال: حال عن العهد أي انتقل عنه وتغيّر).
وفي الاصطلاح: عقد يقتضي نقل دَيْن من ذمة إلى أخرى. قال في "مغني المحتاج ":
(ويُطلق على انتقاله من ذمة إلى أُخرى، والأول هو غالب الاستعمال).
مشروعيتها:
دلّ على مشروعية الحوالة وجوازها: ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " مَطْلُ الغنيِّ ظُلْم، فإذا أُتْبع أحدُكم على مليء فلْيَتْبَع " وفي رواية عند أحمد: " ومنْ أُِحِيل على مليء فليَحْتَل " (البخاري في كتاب الحوالة، باب: في الحوالة وهل يرجع في الحوالة، رقم: 2166. ومسلم في المساقاة، باب: فضل إنظار المعسر رقم: 1564. وأحمد في مسنده [2/ 463]).
[مطل الغني: تأخيره ما استحق عليه أداؤه، والغني: المستدين الذي يجد لديه ما يفي به دينه. ظلم: تعدّ على حق غيره وهو محرّم عليه. أتبع أحدكم: أحيل مَن كان منكم له دين على غيره. مليء: غني قادر يجد ما يقتضي به الدين فليحتل: فليقبل الحوالة].
وقد أجمع المسلمون في مختلف العصور على مشروعية الحوالة وجوازها، ولم يُعلم مخالف في هذا.(6/189)
وجمهور العلماء على أن الأمر المذكور في الحديث بقوله " فليتبع " وقوله " فليحتل " أمر ندب واستحباب لا أمر فرض وإيجاب. وعليه: فمَن كان له دين على آخر، فأحاله المستدين على غيره استحبّ له أن يقبل هذه الحوالة ولم يجب عليه ذلك. بل ويعتبر في هذا الاستحباب أن يكون من أُحيل عليه لديه ما يفي بدين المحال، وان لا يكون في ماله شبهة. فإذا لم يكن لديه وفاء بدين المحال، أو كان في ماله شبهة لم يكن قبول الحوالة مستحباً في حق المُحال.
أركان الحوالة وشروطها:
للحوالة أركان تقوم عليها وتتألف منها، وكلّ من هذه الأركان له شروط تتعلق به. وإليك بيان هذه الأركان مع بيان ما يتعلق بكلّ منها من شروط:
1 - المُحيل: هو المَدين الذي يحيل دائنه بدَيْنه على غيره. ويُشترط فيه: أن يكون أهلاً للعقد، أي أن يكون عاقلاً بالغاً، فلا تصح الحوالة من المجنون والصبي غير المميِّز، لأنه في حكم الذي لا يعقل، والعقل شرط لصحة ممارسة التصرفات.
2 - المُحال: وهو الدائن الذي يحال بدينه ليستوفيه من غير مدينه، أي هو الدائن للمحيل الذي أحاله ليستوفي دينه من غيره، ويقال له أيضاً: المحتال، أي طالب الإحالة.
ويشترط فيه أيضاً: أن يكون أهلاً للعقد، أي أن يكون عاقلاً، لأن قبول المحال من أركان عقد الحوالة، وغير العاقل ليس من أهل القبول. وأن يكون بالغاً أيضاً، لأن قبول الصبي غير صحيح، لعدم اعتبار أقواله في المعاملات شرعاً.
3 - المُحال عليه: وهو الذي يلتزم بأداء الدَّيْن للمحال.
ويشترط فيه: العقل والبلوغ، فلا تصحّ الحوالة على المجنون ولا على الصبي ولو كان عاقلاً مميزاً، لأن التزام الدَّيْن وأداءه فيه معنى التبرّع، وغير البالغ العاقل لا يصح منه التبرع.(6/190)
4 - المُحال به: وهو الحق الذي يكون للمحال على المحيل، ويحيله به على المحال عليه.
ويشترط فيه:
أ - يكون ديناً: فلا تصحّ الحوالة بالأعيان القائمة، لأن الحوالة نَقْل حكمي، لأنها نقل لما في الذمة إلى ذمة أُخرى، والنقل في الأعيان القائمة نقل حقيقي لا حكمي، لأنها لا تثبت في الذمة، فلا حوالة فيها.
فإذا أحاله ليستوفي عيناً قائمة - كسجادة مثلاً أو غسالة - كانت وكالة لا حوالة، وتثبت في هذه الحالة أحكام الوكالة لا أحكام الحوالة.
ب - أن يكون الدين لازماً: كالثمن بعد تسليم المبيع وانتهاء مدة الخيار، أو آيلاً إلى اللزوم: كالثمن في زمن الخيار، لأنه يؤول إلى اللزوم بانتهاء مدة الخيار. وهذا هو الأصح، فلو أحال البائع أحداً على المشتري ليقبض منه الثمن، صحّت الحوالة.
وقيل: لا تصح الحوالة بالثمن زمن الخيار، لأنه دين غير لازم.
وتصحّ الحوالة بالدَّيْن وإن لم يستقر بعد، كالصداق قبل الدخول، والأجرة قبل مضي مدة الإجارة، والثمن قبل قبض البيع.
5 - الصيغة: وهي الإيجاب والقبول، فالإيجاب أن يقول المحيل: أحلتك على فلان، والقبول أن يقول المحال: قبلت أو رضيت.
ويشترط في الإيجاب والقبول أن يكونا في مجلس العقد.
خيار الشرط وخيار المجلس:
ويشترط في عقد الحوالة أن يكونا باتاً، فلا يثبت فيه خيار المجلس ولا خيار الشرط:
أما خيار الشرط: فلأن الأصل فيه أن يثبت في العقود لحماية المتعاقدَيْن من الغبن، وعقد الحوالة لم يُبْنَ على المغابنة، وإنما هو عقد للإرفاق والمعاونة.(6/191)
وأما خيار المجلس: فلأنه يثبت في بيع الأعيان، والحوالة بيع دين بدين على الأصح.
شروط صحة الحوالة:
1 - وجود دين للمحيل على المحال عليه:
فلا تصح الحوالة إلا على مَن كان عليه دَيْن للمحيل، لأن الأصح أنها بيع دين بدين أُجيز للحاجة، فلا بدّ أن يكون للمحيل على المحال عليه شيء يكون عوضاً عن حق المحال.
ويشترط في الدين للمحال عليه:
أ - أن يكون دَيْناً لازماً أو آيلاً إلى اللزوم، كما هو الحال في الحق المحال به.
ب - أن يكون متساوياً مع الدين المحال به: حلولاً وأجلاً، وجنساً وقدراً وصفة. فإذا اختلف الحقان في شيء من هذا لم تصحّ الحوالة، لأن الحوالة عقد معاوضة للارتفاق، أُجيزت للحاجة والتعاون، فاعتبر فيها الاتفاق كما هو الحال في القرض، فإذا اختلف الحقان صار في طلب زيادة على الحق، فلا يجوز.
وكذلك الحوالة تجري مجرى المقاصّة، لأنه يسقط بها ما في ذمة المحيل بمقابل ماله في ذمة المحال عليه، والمقاصة لا تصح حال الاختلاف بين الحقَّيْن.
2 - رضا أطراف الحوالة: المحيل والمحال والمحال عليه.
أما المحيل: فلآن له إيفاء الحق الذي في ذمته من حيث شاء، فله أن يوفي دائنه بنفسه، وله أن يوفيه بواسطة مدينه الذي هو المحال عليه، فلا يُلزم بجهة معينة سواء كانت نفسه أو مدينَه، فإذا رغب دائنه أن يستوفي حقه من جهة غيره فلا بد أن يكون ذلك برضاه.
وأما المحال: فقد اشتُرط رضاه حتى تصحّ الحوالة، لأنه هو صاحب(6/192)
الحق الذي سينتقل بالحوالة من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، وحقه إنما ثبت له في ذمة المحيل لا في ذمة غيره، فلا يصح أن ينتقل إلا برضاه، لأن الذمم تتفاوت في حسن القضاء أو المماطلة، فإذا انتقل حقه بدون رضاه كان في ذلك ضرر عليه، بإلزامه أن يتبع مَن لا يُحسن وفاءه لحقه.
وأما المحال عليه: فلا يشترط رضاه لأن الحق عليه لا له، والمحيل صاحب الحق له أن يستوفيه بنفسه وأن يستوفيه بغيره، كما لو وكّل غيره بالاستيفاء وقبض الدين، فلا يعتبر رضا مَن عليه.
3 - يُشترط لصحة الحوالة أن يعلم المحيل والمحال بالدَّيْن المحال به والدين المحال عليه، قدراً وجنساً وصفة، لأن الحوالة بيع - كما ذكرنا - والجهالة في الثمن أو المبيع تمنع صحة البيع.
حكم الحوالة:
هو انتقال الحق من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، فإذا صحّت الحوالة باستكمال أركانها وتوفر شروطها ترتب عليه حكمها، وهو: براءة ذمة المحيل من دين المحال، وانتقال الحق من ذمته إلى ذمة المحال عليه. وبالتالي: يسقط دينه عن المحال عليه، مقابل نظيره الذي صار في ذمته وأصبح محالاً عليه، ليوفيه إلى المحتال.
انتهاء الحوالة:
علمنا أن حكم الحوالة انتقال الحق من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه بصورة تبرأ بها ذمة المحيل من الدين.
وبهذا تنتهي الحوالة، ولا تبقى أية علاقة بين المحيل والمحال، وإنما تصبح العلاقة بين المحال والمحال عليه، وليس للمحال عودة على المحيل حتى ولو لم يستطع الحصول على الدَّيْن من المحال عليه بسبب من الأسباب، كما لو وجده مُفْلساً، أو أنكر المحال عليه الدين
وذلك لأن الحق تحول بالحوالة من موضعه الأول إلى غيره، وما تحوّل من موضعه لا يعود إليه إلا بتجديد عودته.(6/193)
وكذلك بالحوالة سقط الحق من ذمة المحيل، وهو سقط لا يعود بإعسار ولا بغيره، كما لو قبل عوضاً من حقه لا تلف في يده، فإنه لا يعود عليه بشيء لسقوط الحق من ذمته، وتعذُّرُ الحصول على الحق كتلفه في يده.
وسواء في ذلك أعلم بإعسار المحال عليه عند الحوالة أم لا. وسواء أشرط يساره أم لا. فيكون كمَن أشترى شيئاً هو مغبون فيه، فإنه لا يرجع بشيء ولو شرط عدم الغبن، لأنه مقصَّر بترك البحث عن حال المحال عليه عند الحوالة، ولا عبره بشرطه.
ولو شرط المحال الرجوع المحيل عند تعذّر الإستيفاء بسبب من الأسباب بطلت الحوالة، لأن هذا الشرط منافٍ صراحة لمضمون الحوالة، وهو تحوّل الحق وانتقاله.
اختلاف الحيل والمحال في الحوالة:
إذا قبض المحال الدَّيْن من المحال عليه، ثم اختلف مع المحيل: فقال المحيل: لم يكن لك علىّ دَيْن، وإنما أنت وكيلي في القبض، والقبض لي، وقال المحال بل أحلتني بما لي عليك من دين فقبضته. فالقول قول المحيل مع يمينه، لأن المحال يدّعي عليه ديناً، المحيل ينكر، والقول قول المنكر عند عدم البينة مع يمينه.
وكذلك لو أقرّ المحيل بالدَّيْن، ولكن قال: وكّلتك لتقبض لي، وقال الآخر: بل أحلتني أو قال المحيل: أردت بقوله أحلتك الوكالة، فقال المحال: بل أردت الحوالة، صُدِّق المحيل بيمينه، لأنه أعرف بإرادته وقوله. ولأن ألأصل بقاء كل حق على حاله والمحال يدّعي خلاف ذلك.
ولو قال: أردت قولي: (أحلتك بالمائة التي لي على فلان) الوكالة، لم يُقبل قوله، لأن اللفظ لا يحتمل إلا حقيقة الحوالة، فيُقبل قول مدّعيها مع يمينه.
حوالة المحال أو المحال عليه:
إذا صحّت الحوالة كان للمحال أن يُحيل غيرة من دائنية على المحال عليه ' ليقبض دينه منه.(6/194)
وكذلك للمحال عليه أن يحيل المحال على غيره من مدينيه، ليقبض دينه منه.
الحوالة البريدية:
إذا أعطى إنسان أخر مبلغاً ليدفعه مبلغاً من المال ليدفعه إلى فلان من الناس في بلد كذا:
- فإن أعطاه إياه أمانة جاز بلا كراهة، ولا يضمنه الناقل إذا لم يقصر في حفظه ولا يخلطه مع ماله، فإن خلطه بماله كان ضامناً له.
ومن هذا القبيل ما يسمى الآن بالحوالة البريدية، فإن المبالغ التي يدفعها الناس لمؤسسة البريد، لتوصيلها إلى أشخاص معينين، يُخلط بعضها ببعض وبغيرها، ولا تُدفع هي بذاتها للمحمولة إليه. ولذلك فهي مضمونة إلى المؤسسة.
- وإذا أعطاه إياه قرضاً، دون أن يشرط عليه دفعها إلى فلان في بلد كذا، ثم طلب منه ذلك بعض القرض جاز أيضاً ولا كراهة.
فإذا أعطاه إياه قرضاً بشرط أن يدفعها إلى فلان في بلد كذا، كانت كشرط الأجل في القرض:
إن لم يكن للمقرض فيه غرض صحّ القرض ولغا الشرط، وإن كان يندب الوفاء به،
- وإن كان للمقرض فيه غرض صحّ القرض ولغا الشرط، وإن كان يندب الوفاء به.
- وإن كان للمقرض غرض فيه، كما إذا كان في طريق خطر محقق، بطل العقد، لما فيه من جرّ المنفعة للمقرض.
تم الجزء السادس من هذه السلسة بعون الله وتوفيقه ويأتي الجزء السابع - إن شاء الله تعالى - في المعاملات، ونسأل الله تعالى حسن القبول.(6/195)
الفقه المنهجي
على مذهب الإمام الشافعي
رحمه الله تعالى
الجزء السابع
في المعاملات
الشفعة، المساقاة، العارية، الشركة، المضاربة، الوديعة
اللقطة، الرهن، الكفالة، الوكالة، الإكراه، الغصب
تأليف
الدكتور مصطفى الخن ... الدكتور مصطفى البغا
على الشربجي
دار القلم
دمشق(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان الى يوم الدين.
أما بعد، فهذا الجزء السابع من كتابنا (الفقه المنهجي) نقدمه لطلاب العلم ورواد الفقه في دين الله عز وجل، ولكل من اراد ان تستقيم معاملته في الدنيا ليكون ناجيا يوم القيامة، بينا فيه احكام المعاملات التي تكثر في حياة الناس، والتي كثيرا ما يؤدي الجهل في احكامها الى نزاعات وخلافات، تجر الى دور القضاء، وربما كان ذلك في كثير من الأحيان سببا لإراقة الدماء او ضياع الحقوق، فتناولنا في هذا الجزء المواضيع التالية:
1 -
الشفعة. ... 7 - اللقطة.
2 - المساقاة وما يلحق بها من المزارعة ونحوها. ... 8 - الرهن.
3 - العارية. ... 9 - الكفالة والضمان.
4 - الشركة ... 10 - الوكالة.
5 - المضاربة [القراض]. ... 11 - الإكراه.
6 - الوديعة. ... 12 - الغصب.
وكانت طريقتنا في بحث هذه الموضوعات كما اعتدنا في الأجزاء السابقة، من بسط الحكم وبيان دليله وتعليله، من غير تعقيد ولا مناقشات لفظية، مع كثرة التقسيمات وتعداد الفقرات، كي لا تتداخل الأحكام بعضها في بعض.(7/5)
ومعلوم أن سلسلتنا هذه في فقه الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، ولما كانت المعاملات متشعبة الوجوه، فقد يضيق حكم المذهب بتصرفات الناس احيانا، وهي احيانا قليلة، ولذا فقد اشرنا في بعض المواضع الى رأي المذاهب الأخرى تسهيلا وتيسيرا، لا إعراضا عن حكم المذهب ولا نقدا او تضعيفا.
والله تعالى نسأل ان يمن بالقبول، ويجزل الأجر والمثوبة ويجعل ذلك حسنة في سجل اعمالنا، واعمال والدنيا ومعلمينا، انه اكرم مسؤول.
المؤلفون(7/6)
الباب الأول
الشفعة(7/7)
الشفعة
تعريفها:
الشفعة - بضم الشين وسكون الفاء - هي في اللغة: من الشفع بمعنى الضم.
وفي اصطلاح الفقهاء: حق تملك قهري، يثبت للشريك القديم على الحادث، فيما ملك بعِوض، بما ملك به، لدفع الضرر.
فالشفعة حق اثبته الشرع، يتملك به الشريك الأول ما باعه شريكه لغيره، كما اذا كان اثنان شريكين في دار، فباع احدهما حصته لغير شريكه، فلشريكه الحق ان يأخذ هذه الحصة من المشتري - الذي صار شريكا جديدا له - بغير رضاه، بمثل الثمن الذي دفعه وهذا خلاف الاصل الثابت في التملك شرعا: ان يكون برضا المالك.
وسمى هذا الحق شفعة لأن الشريك يضم به نصيب شريكه الى نصيبه.
مشروعيتها:
الشفعة جائزة ومشروعة، دل على مشروعيتها احاديث كثيرة، منها:
ما رواه جابر بن عبدالله الانصاري رضى الله عنه قال: قضي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة. (اخرجه البخاري: اول كتاب الشفعة، باب: الشفعة في ما لم يقسم .. ، رقم: 2138، ومسلم: المساقاة، باب: الشفعة، رقم: 1608).(7/9)
[ومعنى وقعت الحدود: صارت الأرض مقسومة وحددت الأقسام. صرفت الطرق: ميزت وبينت].
وسيأتي خلال البحث احاديث في هذا المعنى.
وما دل عليه الحديث اجمع على العمل به علماء المسلمين في كل عصر.
حكمة المشروعية:
ان التشريع الاسلامي يهدف الى تحقيق مصالح الناس بجلب النفع له ودفع الضرر عنهم، والمرء قد يكون على وفاق وتعاون مع من كان يشاركه في دار او ارض، وقد يحتاج احد الشريكين الى بيع نصيبه ويكون في ذلك تحقيق مصلحته، فلا يحول الشرع بينه وبين ذلك، وانما يحوط تصرفه وتحقيق نفعه بما لا يضر بشريكه، وانما يصون مصلحته ايضا ويحميه من الضرر الذي قد يلحق به، من جراء البيع الى اجنبي عن الشركاء، فقد يبادر هذا الشريك الجديد الى طلب القسمة، او يكون منه سوء خلق ومعاملة، فيضطرهم الى ذلك اوطلبه فينال شركاءه بذلك ضرر احداث مرافق جديدة ونحو ذلك، ويكلفهم اعباء القسمة ونفقتها، فيحل محل الوئام الشقاق والنزاع بين الجيران، وتفوت المصالح ويكثر الضرر بين الأنام.
ولذا وجه شرع الله عز وجل هذا الراغب ببيع نصيبه ان يعرض هذا اولا على شركائه، فإن رغبوا بشرائه كانوا هم اولى واحق، فإن لم يرغبوا بذلك كان له الحق ان يبيعه لمن يشاء.
فعن جابر رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان له شريك في ربعة او نخل فليس له ان يبيع حتى يؤذن حتى يؤذن شريكه، فإن رضى اخذ وإن كره ترك". (اخرجه مسلم في المساقاة، باب: الشفعة، رقم: 1608).
وعن عمرو بن الشريد رضى الله عنه قال: وقفت على سعد بن ابي وقاص - رضى الله عنه - فجاء المسور بن مخرمة - رضى الله عنه - فوضع يده على احدى منكبي اذ جاء ابو رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنه - فقال: يا سعد، ابتع مني بيتي في دارك، فقال سعد: والله لا ازيدك على اربعة الاف منجمة او مقطعة.(7/10)
فقال ابو رافع: لقد اعطيت بها خمسمائة دينار، ولوا اني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "الجار أحق بسبقه" ما اعطيتكها بأربعة آلاف، وأنا اعطي بها خمسمائة دينار. فأعطاها إياه. (البخاري: الشفعة، باب: عرض الشفعة على صاحبها قبل البيع، رقم: 2139).
[منجمة: مؤجلة ومفرقة تعطى جزءا بعد جزء. اربعة آلاف: أي درهم، وكانت تساوي اربعمائة دينار. بسبقه: ما قرب من داره].
وهكذا نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسم الطريق واضحا لحفظ الود والوئام بين الناس، ويوجه الى أمثل خلق في التعامل، ونجد اصحابه - رضوان الله تعالى عليهم اجمعين - يلتزمون هديه فلا يحيدون عنه، ولو كان في ذلك خسارة مادية ظاهرة، فيأبون إلا ان يقولوا: سمعنا واطعنا.
فإذا ما خالف المرء ما وجه اليه، ولم ينظر في مصلحة غيره ولم يبادر الى استشارة شركائه، فباع الى اجنبي عنهم، بادر الشرع لدفع ما قد يكون من خطر وما قد يقع من ضرر، فانتقل من التوجيه الى التشريع، فجعل الحق لهؤلاء الشركاء: ان يتملكوا حصة شريكهم رغما عن المالك الجديد لها، بمثل ما قامت عليه من ثمن. وبهذا تحقق مصالح الجميع، وتلبي حاجات الناس، ويندفع الضرر عنهم، وتتلاشى اسباب البغضاء والشحناء، ويكون المسلمون مثل الجسد الواحد في الوئام والوفاق وكالبنيان في التماسك والتعاون والإحسان.
أركان الشفعة:
للشفعة اركان نبينها فيما يلي:
1 - الشفيع (أي الذي له حق الشفعة):
علمنا من حكمة التشريع ان الشفعة شرعت لدفع الضرر المتوقع، وهذا المعنى قد يكون في الشريك، وقد يكون في غيره كالجار الملاصق مثلا، ولكن الشرع خصه في الشريك الذي لم يقاسم، وهو الذي يشترك مع غيره في الأصل وملحقاته، كأن يكون شريكا في الدار - مثلا - ومرافقها وطريقها، او في الأرض وحق شربها وحظائرها ونحو ذلك، كما صرح به الحديث: "في كل ما لم يقسم".
وصاحب الحق هذا يسمى: الشفيع.(7/11)
فإذا قسمت الدار او الأرض، واصبح كل من الشركاء مستقلا بنصيبه، فباع احدهم ما يملكه لأجنبي، أي غير واحد من الشركاء السابقين، فليس لهم ان يأخذوا هذا النصيب بحق الشفعة، حتى ولو كانت المرافق - كالممر وحق الشرب ونحو ذلك - مشتركة، لما جاء في الحديث: "فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" وهؤلاء المستقلون بحصصهم، والمشتركون بالمرافق، يسمى كل منهم بالشريك المخالط.
واذا لم تثبت الشفعة للشريك المخالط فلا تثبت للجار الملاصق وغيره من باب أولى. ولم تثبت الشفعة لغير الشريك الذي لم يقاسم - مع ان المعنى الذي شرعت من اجله، وهو دفع الضرر المتوقع، قد يوجد في غيره - لأنها شرعت كما علمت على خلاف الأصل، اذ الأصل ان لا يتملك احد شيئا قهرا عمن ملكه، وقد علمت ان الشفيع يتملك الحصة قهرا عن المشترى الذي ملكها بالشراء من الشريك القديم الشفيع.
والمراد بالأصل هنا: المعنى الذي يراعيه التشريع في غالب احكامه، وهو الذي يسميه العلماء: علة الحكم، وقد يطلقون عليه كلمة: القياس.
والقاعدة في التشريع الاسلامي: ان كل ما ثبت على خلاف الأصل يقتصر فيه على ما ورد بالنص، ولا يلحق به غيره، وقد يعبرون عن هذا بقولهم: ما ثبت على خلاف القياس فغيره عليه لا يقاس. وقد ورد النص الصحيح الصريح هنا بثبوت الشفعة للشريك الذي لم يقاسم، فلا يلحق به غيره من شريك مقاسم اوجار ولا يقاس عليه. وما جاء من قوله صلى الله عليه وسلم: "الجار احق بسبقه" ليس صريحا في ثبوت حق الشفعة، انما هو من باب الحث على تحصيل النفع للجار وانه اولى بالإحسان من غيره. على ان كلمة الجار عامة في اللغة، فتشمل الشريك وغيره. والأولى تفسيرها في الحديث بالشريك الذي ذكرناه، لأن ابا رافع رضى الله عنه اورده بهذا المعنى حين طلب من شريكه ان يشتري بيتيه - أي غرفتيه - اللتين في داره، وواضح ان الدار لم تكن مقسومة، والله تعالى اعلم.(7/12)
تزاحم الشفعاء:
علمنا ان الشفيع هو الشريك، فقد يكون للشريك البائع حصته اكثر من شريك، فيكون اصحاب الحق في الشفعة متعددين، وقد تكون حصصهم متساوية - كما لو كانوا يملكون الدار المبيعة اثلاثا مثلا - وقد تكون متفاوتة، كما لو كان احدهم يملك الربع والثاني الربع والثالث النصف مثلا، فاذا باع احدهم حصته، وليكن صاحب الربع مثلا، واراد شركاؤه جميعا اخذ نصيبه بالشفعة، فهل يأخذونه بالسوية حسب عددهم، ام ان كلا منهم يأخذ بنسبة حصته؟
والجواب: ان كلا منهم يأخذ بنسبة حصته، فمن كان له الربع يأخذ ثلث الحصة، ومن كان له النصف يأخذ ثلثيها، لأن سبب الاستحقاق هو الملك وهم متفاوتون فيه، فيتفاوتون في الاستحقاق.
? تجزئة الشفعة:
حق الشفعة من الأمور التي لا تتجزأ، فالشفيع: اما ان يأخذ نصيب شريكه المباع جميعه، واما ان يتركه.
فاذا كان هناك اكثر من شفيع - كما سبق - ولم يرد بعضهم الأخذ بالشفعة، واسقط حقه: فالأصح ان باقي الشفعاء - او الشفيع الآخر - يخير بين اخذ الجميع او ترك الجميع، كما لو كان شفيع واحد، وليس لمن لم يسقط حقه ان يأخذ بقدر حصته. وذلك لكي لا تفرق الصفقة وتبعض على المشتري، فيناله بذلك ضرر، لأن مصلحته قد تكون في الجميع، ولا يتحق غرضه في البعض.
? غيبة بعض الشفعاء:
اذا كان احد الشفعاء او بعضهم غائبا كان للحاضرين طلب الشفعة والأخذ بها، وتقسم بينهم على قدر حصصهم كما علمنا، لأن الغائب في حكم من اسقط حقه، فلم يبق للحاضرين مزاحم، فلهم ان يأخذوا الكل، وليس لهم الاقتصار على قدر حصصهم كما علمنا، اذ من المحتمل ان لا يأخذ الغائب حصته اذا حضر فتتفرق الصفقة على المشتري:
فإذا اخذ الحاضرون الكل ثم حضر الغائب، كان له الحق ان يطالب بنصيبه، وقاسم الشركاء فيما اخذوا بنسبة ما كان يملك.(7/13)
والأصح: ان لمن حضر من الشفعاء ان يؤخر الأخذ بالشفعة حتى يحضر الغائب، وذلك لأنه قد يكون له غرض ظاهر في هذا، فقد يكون غير قادر على اخذ الجميع، او لا يرغب ان يأخذ ما قد يؤخذ منه اذا حضر الغائب.
2 - المشفوع عليه:
وهو الذي انتقل اليه ملك نصيب الشريك القديم، والذي هو محل الشفعة.
ويشترط ان يكون انتقل الملك اليه بعوض: وقد يكون هذا العوض مالا، كما اذا انتقل الملك اليه بالشراء، او بالصلح عن جناية موجبة للمال، كما اذا صالحه من الدية التي تثبتت عليه على نصف العقار الذي يملكه، فلشريك المصالح ان يأخذ هذا الشِّقص بالشفعة.
وقد يكون العوض غير مال، كما اذا جعل نصيبه من العقار مهراً، او جعلته بدل الخُلع، ونحو ذلك، فللشريك ايضا اخذ هذا النصيب ممن انتقل اليه بالشفعة. وذلك لأنه مملوك بعقد معاوضة فأشبه البيع.
ويأخذ الشفيع هذا الشقص بالثمن الذي ملك به اذا كانا مثليا، وبقيمته يوم البيع ان كان قيميا كثوب مثلا، وبمهر المثل في النكاح والخلع يوم النكاح ويوم الخلع سواء أنقص عن قيمة النصيب او زاد.
فإذا انتقل الملك الى الشريك الجديد بغير عوض لم يكن للشريك القديم ان يأخذ الشقص بالشفعة، وذلك كما انتقل الملك اليه بهبة بغير عوض، او صدقة، او وصية، او انتقل اليه بواسطة الإرث، ونحو ذلك.
3 - المشفوع فيه:
وهو الشئ الذي يريد الشفيع ان يتملكه بالشفعة.
ويشترط فيه ان يكون غير منقول، كالدور والأراضي ونحوها، ولا تثبت في المنقول كالحيوان والأمتعة ونحو ذلك.(7/14)
ودليل هذا:
1 - ما رواه جابر رضى الله عنه: ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الشفعة في كل شِرْك: في ارض او ربع او حائط .. " (اخرجه مسلم في المساقاة، باب: الشفعة، رقم: 1608).
[شرك: شئ مشترك. ربع: دار. حائط: بستان]
2 - ان الأخذ بالشفعة ثبت بالنص على خلاف القياس في العقار، فلا يلحق به غيره ولا يُقاس عليه ما ليس في معناه، لأن الشفعة شرعت لدفع ضرر سوء الجِوار على الدوام، وما ينقل ويحول لا يدوم الضرر فيه.
ويلحق بالعقار البناء والشجر اذا بيعا مع الأرض تبعا للأرض.
ويشترط في العقار ونحوه حتى تثبت فيه الشفعة: ان يكون قابلا للقسمة.
والعقار القابل للقسمة هو الذي إذا قسم كان قسم منه صالحا لتحقيق المنفعة المقصودة منه، فإذا ابطلت القسمة منفعته كان غير قابل للقسمة، وبالتالي لا يثبت فيه حق الشفعة، وذلك كحمام صغير وطاحون صغيرة ونحو ذلك.
ودليل ذلك:
انه صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم، فاذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة. وهذا يدل على ان الشفعة فيما يمكن ان يقسم ما دام لم يقسم.
وكذلك: الشفعة انما ثبتت لدفع ضرر مؤنة القسمة واستحداث المرافق، وذلك لا يوجد الا فيما يقبل القسمة.
وقيل: تثبت الشفعة في العقار ونحوه فيما لم يقسم، ولو كان غير قابل للقسمة، لعموم قوله: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يقسم، ولأن الشفعة شُرعت لإزالة ضرر المشاركة، وهذا المعنى في الذي لا يقسم آكد، لأن الضرر فيه يتأبد عند ذلك.
شروط الأخذ بالشفعة:
علمت اركان الشفعة وما يشترط في كل ركن منها، ونذكر لك الآن بعض الشروط الأخرى التي لابد منها حتى يثبت حق الأخذ بالشفعة، وهي:(7/15)
1 - ان يزول مِلْك الشريك الأول عن المشفوع فيه ويزول حقه فيه، فلو باع الشريك حصته لغير شريكه، وشرط لنفسه الخيار، فلا تثبت الشفعة مدة الخيار، وكذلك لو شرط الخيار للبائع والمشتري، لأن المبيع لم يخرج من ملك البائع في هذه المدة، فإذا انتهت المدة ولم يختر فسخ البيع فقد تم البيع وثبتت الشفعة.
اما لو شرط الخيار للمشتري وحده فإن الشفيع له ان يأخذ الشقص بالشفعة فور عقد البيع، لأن البيع قد خرج من ملك الشريك الأول بمجرد العقد وعدم شرط الخيار لنفسه.
وكذلك لا يثبت الأخذ بالشفعة اذا تبين فساد عقد التمليك وبطلانه، لأن ملك البائع ايضا لم يزل عن البيع.
2 - ان يكون الشفيع مالكا لما يشفع به عند عقد تمليك الشريك الجديد، وان يستمر ملْكه ذلك الى ان يقضي له بالشفعة على الأصح.
فلو اخرج الشفيع الشقص عن ملكه ببيع او هبة او نحو ذلك، قبل ان يقضي له بالشفعة، بطل حقه، سواء اكان عالما بهذا ام جاهلا وسواء اطالب بالشفعة ام لم يطالب، لزوال سبب الأخذ بالشفعة وهو الشركة.
وفي هذه الحالة لو طالب الشريك الجديد - وهو المتملك من الشفيع - ان يأخذ هو بالشفعة ما كان للشفيع ان يأخذه، فليس له ذلك، لأنه لم يكن مالكا لما يشفع به عند عقد التمليك الأول.
ويستثنى من هذا: ما اذا مات الشفيع قبل القضاء له بالشفعة، فإن لوارثه ان يأخذ بها، مع انه لم يكن مالكا لما يشفع به عند البيع ونحوه، لأن الشفعة من الحقوق التي تورث وسواء اكان ذلك قبل طلب المورث الشفيع للشفعة ام بعدها.
3 - ان لا يظهر من الشفيع ما يدل على اعراضه عن الأخذ بالشفعة، وذلك بأن يعلن رضاه بتمليك الشريك الجديد، او يكون منه ما يدل على عدم رغبته بالشفعة من قول او فعل او سكوت، كأن يحصل عقد البيع امامه، فيقوم ويغادر المجلس(7/16)
دون ان يطالب بالشفعة، او يبلغه خبر التمليك فلا يطالب بالشفعة زمنا طويلا من غير عذر ففي هذه الحالات ليس له ان يعود ويطالب بالشفعة.
إلا ان هناك حالات له ان يطالب فيها بالشفعة رغم ظهور الاعراض منه، وهي:
أ- ... ان لا يُخبر بحقيقة العوض الذي حصل به التمليك، كما لو اخبر انه مائة الف مثلا، فأعرض عن الطلب ثم تبين له بعد ذلك انه تسعون مثلا، لأن اعراضه اولا لم يكن عن رضا منه، وانما لارتفاع العوض فلم يكن اعراضه دليل الرضا بالشريك الجديد.
ب- ان يخبر ان المشتري فلان، فلا يطالب بالشفعة، ثم يتبين له انه غير، فله ان يطالب بها، لأنه قد يرغب في مشاركة انسان ولا يرغب بمشاركة آخر، ولهذا لم يطلب اولا، ولم يكن ذلك بتقصير منه.
ج- ان يخبر بأن العوض معجل، ثم يتبين له انه مؤجل، فله ان يطالب بالشفعة ولو ظهر منه إعراض اولا، اذ قد يقدر على اخذ الشقص بمؤجل، ولا يقدر على اخذه بمعجل.
د- ان لا يخبر بقدر المبيع حقيقة، كما لو اخبر ان المبيع نصف الشقص فتبين انه جميعه، او ان المبيع الشقص كله فتبين انه جزء منه، فإذا ظهر منه الإعراض اولا حق له ان يطالب بعد تبين الحقيقة، لأنه قد يرغب بتملك قدر معين ولا يرغب بتملك قدر غيره.
4 - ان يبادر الشفيع الى الطلب بالشفعة بحسب الإمكان، وذلك ان حق الشفعة حق فوري، لأنه ثبت على خلاف القياس كما علمت، فهو حق ضعيف وقد جاء في الحديث: "الشفعة كحل العقال" (اخرجه ابن ماجه في الشفعة، باب: طلب الشفعة، رقم: 2500).
ومعناه: انها تفوت ان لم يبادر الى طلبها، كما ان البعير يشرد فورا اذا حل عقاله، أي رباطه، ولذا يجب على الشفيع المبادرة الى الطلب بها عند علمه بانتقال الملك من شريكه الى غيره حسب العادة وقدر الإمكان، فلو علم(7/17)
ليلا كان له تأخير ذلك الى النهار، وان كان مريضا او غائبا عن البلد فليوكل بذلك او ليشهد على طلبه، فإن قصر فيما هو قادر عليه سقط حقه على الأظهر.
ولا يشترط لثبوت الحق حكم حاكم ولا حضور المشتري ولا رضاه، واحضار الثمن، وانما يشترط طلبها بلفظ يدل على الأخذ بها، كتملكت او اخذت بالشفعة.
ويشترط تسليم العوض الى المشتري، او رضاه بأن يكون في ذمة الشفيع، واذا لم يحصل هذا وقضى له القاضي بالشفعة ملك بها في الأصح.
أحكام الشفعة:
1 - سقوط حق الشفعة:
علمنا أن حق الشُفعة حق ضعيف، ولذا يتعرض للسقوط بأقل الأسباب، ومن هذه الأسباب ما علم مما مر: كالإعراض عن الطلب بها، وكذلك عدم المبادرة اليها، وخروج الشقص عن ملكه قبل الحكم بها، ونحو ذلك.
ومن ذلك ايضا: الصلح عن الشفعة على عوض، كما لو صالح الشفيع المشتري على شئ من مال ليترك له الشقص الذي اشتراه، فإن الصلح باطل، ولا يستحق شيئا من العوض، وبالتالي سقط حقه في الشفعة.
2 - تصرف المشتري في المشفوع فيه:
على من اشترى شقصا من عقار او دار ان يتريث في التصرف فيما اشتراه، حتى يتبين له موقف الشفيع من حيث المطالبة بالشفعة او التنازل عنها، لأن حق الشفيع متقدم على حقه، واستقرار ملكه فيما اشتراه متوقف على اسقاط الشفيع حقه في الشفعة.
فإذا تصرف المشتري قبل طلب الشفيع او تبين الحال كان تصرفه صحيحا ونافذا، لأنه يتصرف في ملكه وان لم يلزم ويستقر. ولكن هل يبطل تصرفه ذلك حق الشفيع؟
والجواب: ان ذلك لا يبطل حقه، بل للشفيع ان ينقض كل تصرف لا شفعة(7/18)
فيه لو وجد ابتداء، كالهبة والوقف والاجارة، وان يأخذ الشقص بالشُفعة، لأن حقه سابق على هذه التصرفات، فلا يبطل بها.
واما اذا كان التصرف الجديد مما تثبت به الشُفعة ايضا، كالبيع مثلا ونحوه من التمليك بعوض، كان له الخيار: بين ان يأخذ الشقص بالشُفعة بناء على التصرف الجديد، وبين ان ينقضه ويأخذ بالحق الثابت له اولا.
وفائدة هذا التخيير: ان العوض قد يكون في أحدهما اقل او ايسر في جنسه عليه، فيختار ما فيه مصلحته.
ولو تصرف المشتري في الشقص تصرفا يزيد فيه او ينقص منه:
- كما لو زرع الأرض او غرس فيها او بنى، كان للشفيع ان يكلفه قلع ما فعل وتسوية الأرض، لأنه متعد في فعله، وله ان يأخذ الغراس او البناء بقيمته مقلوعا.
- ولو كان في الأرض بناء او شجر، فهدم البناء او قطع الشجر، فللشفيع اخذ الشقص بما يخصه من الثمن، بعد نقص قيمة البناء او الشجر يوم العقد، لأنهما - وان كانا تابعين للأرض - صارا مقابلين بشئ من الثمن لأنه قصد اتلافهما.
وكذلك الحال لو تلف بعض الأرض بغرق أوانهيار، فإنه يسقط من الثمن ما يقابل القسم التالف منها، لأنه بعض الأصل.
اما لو تلف البناء او الشجر بغير صنع احد: كان للشفيع ان يأخذ الأرض بكل الثمن او يدعها، ولا يسقط شئ من الثمن، لأن البناء والشجر تابع للأرض، ويدخلان معها في البيع ولو لم يذكر في العقد، فلا يقابلهما شئ من الثمن بخصوصهما.
3 - نقص الثمن على المشتري او الزيادة فيه:
إذ حط البائع بعض الثمن عن المشتري او زاد فيه، وأراد الشفيع الأخذ بالشفعة، فهل يستفيد من هذا النقص او تلزمه تلك الزيادة؟ والجواب:
- اذا كانت الزيادة او النقص بعد لزوم البيع واستقراره، كما اذا كان البيع باتا لا خيار فيه، وتفرق العاقدان من المجلس، او كان ذلك بعد انتهاء مدة الخيار إن(7/19)
كان مشروطا، لم يلحق ذلك الشفيع، لأن نقص الثمن في هذه الحال يكون بمثابة هبة من البائع للمشتري، والزيادة فيه بمثابة هبة من المشتري للبائع، ولا صلة لهذا بالثمن لأن العقد قد تم قبل ذلك.
- واذا كانت الزيادة او النقص قبل لزوم البيع واستقراره، كما لو كانت في مجلس العقد وقبل التفرق، او كانت في مدة الخيار ان كان مشروطا، لحق ذلك الشفيع، فينحط عنه من الثمن ما حطه البائع، كما يلزمه ما زاد فيه المشتري، لأن ذلك يعتبر لاحقا للعقد وجزءا منه، طالما انه وقع قبل لزوم العقد واستقراره.
4 - أخذ ما بيع مؤجلا:
اذا باع الشريك نصيبه بثمن الى اجل، وطلب الشفيع ان يأخذ بالشفعة، فهل يستفيد من تأجيل الثمن؟ والجواب:
ان الشفيع في هذه الحالة يخير: بين ان يأخذ بالشفعة في الحال ويعجل الثمن، وبين ان يؤجل الأخذ بالشفعة الى حلول الاجل، فإذا حل الأجل، دفع الثمن وأخذ المبيع، ولا يسقط حقه بهذا التأخير لأنه معذور به، لأننا لو ألزمناه الأخذ في الحال مع تعجيل الثمن كان في ذلك إضرار به، لأن الأجل غالبا ما يقابل بقسط من الثمن، فما بيع مؤجلا يغلب ان يكون ثمنه اكثر مما بيع حالا. ولو اجزنا له ان يأخذ الشقص المبيع في الحال بالثمن المؤجل كان في ذلك إضرار وقد لا يرضى المشتري - الذي سيدفع هو الثمن للبائع، ويأخذ الثمن من الشفيع - قد لا يرضى ان يبيعه الى اجل باختياره، فإذا الزمناه بذلك اضررنا به، فكان في تخييره على ما ذكر دفع للضرر عن الجانبين.
ولو رضى المشتري ان ياخذ الشفيع الشفعة في الحال، وان يؤجل الثمن الى وقت حلوله، فأبى الشفيع الا ان يؤجل الأخذ الى وقت الحلول، بطل حقه في الشفعة على الأصح.
5 - اختلاف المشتري والشفيع:
قد يختلف الشفيع والمشتري في قدر الثمن، فيقول الشفيع: اشتريته بألف مثلا، ويقول المشتري: اشتريته بألف ومائة، ولا بينة على ذلك، يصدق المشتري(7/20)
بيمينه، لأنه اعلم بما باشره من الشراء وما دفعه من الثمن، ولأن الشفيع يدعي عليه الاستحقاق بالأقل وهو ينكر ذلك، والقول دائما قول المنكر بيمينه، فإذا نكل المشتري في اليمين - أي امتنع من الحلف - حلف الشفيع على مدعاه، واخذ الشقص بما حلف عليه.
واذا اختلفا في البيع اصلا، فأنكر المشتري الشراء والشفيع يدعيه، فيصدق المشتري بيمينه، لأن الأصل عدم الشراء، إلا اذا اعترف الشريك القديم بالبيع.
وكذلك الحال لو انكر المشتري كون الشفيع الطالب شريكا، فيحلف على نفي العلم بشركته، لأن الأصل عدمها والقول قول من يتمسك بالأصل.
**********(7/21)
الباب الثاني
المساقاة والمزارعة والمخابرة(7/23)
المسَاقَاة
تعريفها:
هي - في اللغة - مأخوذة من السَّقْي.
وشرعا: هي ان يتعاقد صاحب الشجر مع غيره، على ان يقوم بإصلاحه وتعهده وما يحتاج إليه من عمل، ويأخذ جزءا معينا مما يخرج منه من ثمر.
وسميت مساقاة: لأن هذا العمل يحتاج الى السقي بالماء ونضحه ونقله أكثر من غيره، فهو أكثر الأعمال مشقة على العامل، وأنفعها للمتعاقد من اجله وهو الشجر.
وتسمى معاملة، وتسميتها مساقاة أولى، لما ذكر.
مشروعيتها:
المساقاة مشروعة وجائزة، وقد دل على مشروعيتها:
1 - السنّة: ومن ذلك ما رواه عبدالله بن عمر رضى الله عنهما: ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر او زرع، وفي رواية: عامل اهل خيبر .. (اخرجه البخاري: المزارعة، باب: المزارعة بالشطر ونحوه، رقم: 2203، ومسلم: المساقاة، باب: المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع، رقم: 1551).
2 - إجماع الصحابة رضى الله عنهم، فقد استمروا على ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم خلافة ابي بكر وعمر رضى الله عنهما، ولم ينكر ذلك احد منهم. (انظر البخاري ومسلم الموضع المذكور قبل).(7/25)
حكمة مشروعيتها:
إن الحكمة من مشروعية المساقاة هي تلبية الحاجة الداعية الى ذلك، والتيسير على الناس في تحقيق مصالحهم المشتركة من غير ضرر ولا ضرار، فقد يكون للرجل الأرض والشجر ولا قدرة له على تعهدها والانتفاع بها، ويكون غيره لا ارض له ولا شجر، ولديه القدرة البدنية والخبرة العملية لإصلاح الشجر واستثماره. وفي استئجار من يقوم بالعمل احتمال ضرر بالغ بالمالك، فقد يهمل الأجير العمل، فلا يخرج شئ من الثمر، او يخرج قليل منه لا يقابل الأجر الذي غرمه المالك، وربما غرمه فور التعاقد على العمل. فبهذا العقد ينشط العامل ويندفع للعمل، فربما كان الثمر كثيرا، فينتفع هو مقابل جهده، وينتفع المالك من ثمرة ملكه دون ان يقع عليه ضرر، فتتحقق مصلحة الطرفين، بل مصلحة المجتمع بالانتفاع برزق الله عز وجل، الذي يكون ثمرة الكسب والعمل والبذل، مع الصدق والأمانة والحفظ.
أركانها:
للمساقاة أركان ستة: مالك، وعامل، وصيغة، ومورد، وعمل، وثمر، ولكل منها شروط، وسنبينها مع شروطها بعون الله تعالى.
1 - المالك:
ويشترط فيه أن يكون كامل الأهلية، إن قام بالتعاقد لنفسه، فإن كان المالك غير اهل للتعاقد - كالصبي والمجنون والمحجور عليه لسفه - ودعت الحاجة والمصلحة الى هذا التعاقد، قام بالتعاقد من له ولاية على المالك، او من له ولاية على المِلْك كأن كان المالك غير معين - كمال بيت المال والوقف - قام بذلك ناظر الوقف والحاكم او نائبه.
2 - العامل:
ويشترط فيه ما يشترط في المالك من الأهلية، فلا تصح اذا كان صبيا او مجنونا.
3 - الصيغة:
لابد في المساقاة من ايجاب وقبول، فالإيجاب قد يكون بلفظ صريح: كأن يقول ساقيتك على هذا النخيل - مثلا - بكذا من الثمرة، وبلفظ الكناية: كقوله(7/26)
سلمت اليك هذا الشجر لتتعهده بكذا، او اعمل على هذا الشجر بكذا، ونحو ذلك من الألفاظ التي يتعارفها الناس في هذا التعاقد، فإذا قبل العامل بلفظ يدل على رضاه بما اوجبه المالك صحت المساقاة.
ولا تنعقد بلفظ الإجارة على الأصح، فلو قال: استأجرتك لتقوم بتعهدها بكذا من ثمرتها، لم تنعقد مساقاة، لأن لفظ الإجارة صريح في عقد آخر، ولم تنعقد إجارة لجهالة الأجرة في هذه الحالة.
ولا بد لصحة الانعقاد من القبول على ما ذكرنا، وان يكون لفظا متصلا بالإيجاب عرفا، وتقوم الإشارة والكتابة من الأخرس مقام اللفظ.
4 - موردها:
أي ما ترد عليه صيغة المساقاة، وما يصح ان يحصل التعاقد على اصلاحه وتعهده من الشجر، وهو شجر النخيل والعنب.
وذلك لأن النص قد ورد في النخيل صراحة، فقد جاء في رواية من حديث ابن عمر رضى الله عنهما: "دفع الى اهل خيبر نخلها وارضها .. ".
وقيس شجر العنب على النخيل لأنه في معناه، لأن ثمر كل منهما تجب فيه الزكاة باتفاق الفقهاء، ويتأتي فيه الخرص - أي تقدير ما يكون في رطبه من يابس - ولكل منهما رطب ويابس يدخر ويقتات به، فالنخيل يؤكل ثمره رُطبا ويصير تمرا، وشجر العنب يؤكل ثمره عنبا كما يصبح زبيبا.
واختار بعض أئمة المذهب ومرجحيه صحة ورودها على جميع الاشجار المثمرة، قياسا على النخيل والعنب، ولعموم قوله "من ثمر .. ".
ولعل هذا الذي اختاره هو الأرجح والأوفق لحكمة التشريع، من رعاية المصالح والتيسير على الناس، ولاسيما في هذه الأزمان التي كثر فيها تنوع الاشجار المثمرة، فصارت الحاجة ملحة لصحة المساقاة في كل شجر، ولعل سبب ورود النص على النخيل انه كان الأكثر والغالب في بلاد العرب ولاسيما الحجاز، وخصوصا خيبر، يدل على هذا اختلاف روايات الحديث، وان الأكثر منها لم يذكر فيه النخيل، والله تعالى اعلم.(7/27)
وصحتها في كل الأشجار المثمرة هو قول الشافعي رحمه الله تعالى القديم، ومذهب اكثر الفقهاء غير الشافعية
5 - العمل:
وهو ما يقوم به العامل من جهد لرعاية الشجر واصلاحه.
وعلى العامل ان يقوم بكل عمل يحتاج اليه لصلاح الثمر واستزادته، مما يتكرر كل سنة:
- فعليه السقي وما يتعلق به: من اصلاح طرق الماء، وفتح رأس الساقية وسدها عند السقي، وتنقية مجرى الماء من طين وعشب ونحوه، واصلاح الحفر حول اصول الشجر ليستقر فيها الماء.
- وعليه تلقيح الأشجار ونحوه.
- وكذلك إزالة قضبان مضرّة وتنحية اعشاب وحشائش قد تؤثر على الشجر.
- وعليه - ايضا - تعريش ما جرت العادة بتعريشه من الأشجار في تلك البقاع، ووضع حشائش ونحوها على الثمار لصيانتها من الشمس، حسب العادة والحاجة.
- والأصح أن عليه حفظ الثمر وصيانته من السرّاق، وكذلك عليه حفظه من الحشرات بالرش بالمبيدات ونحو ذلك، كما ان عليه قطعه وتجفيفه إن كان مما يجفف، كثمر النخيل والعنب والتين.
فإن عجز عن بعض هذه الأعمال - لكثرة الشجر مثلا او كبر البستان - استعان عليها، وكانت نفقتها عليه.
وليس عليه ان يقوم بأي عمل يقصد به حفظ الشجر، ولا يتكرر كل سنة.
فليس عليه بناء حيطان، ولا حفر نهر جديد او بئر، ولا نصب باب، ولا ادوات حراثة، ولا ما يستخرج به الماء كمحرّك، ونحو ذلك، بل ذلك كله ونفقاته على المالك.
ولو شرط المالك على العامل القيام بما ليس عليه لم تصحّ المساقاة، وكذلك لو شرط العامل على المالك القيام بما هو من واجب العامل.(7/28)
ويشترط في صحة المساقاة:
- ان ينفرد العامل بالعمل وباليد، أي في التخلية بينه وبين المعقود عليه وان يسلم اليه، ليتمكن من العمل متى شاء. فلو شرط بقاء البستان في يد المالك، او اشتراكهما في اليد لم تصح المساقاة، ولو شرط المالك وجود اجير له، ليقوم عنه بما يترتب عليه ويخصه من اعمال، صحّ.
- كما يشترط معرفة قدر العمل إجمالا، وذلك بذكر مدة تثمر فيها الأشجار المعقود عليها غالبا وتبقى صالحة للاستغلال.
فلا تصحّ مطلقة عن المدة، أو مقيدة بزمن لا تثمر فيه تلك الأشجار غالباً، لخلوّها عن العوض بالنسبة للعامل، ولا مقّيدة بزمن لا تبقي فيه الأشجار صالحة للأستغلال.
ولا يصح توقيتها بإدراك الثمر على الأصح، لجهالة المدة، لأن إدراكه قد يتقدم وقد يتأخر.
6 - الثمرة:
أي ثمرة الأشجار التي ورد عقد المساقاة على تعهدها، ويشترط في هذا:
1 - أن تكون مختصّة بهما، أي المالك والعامل، فلا يجوز ان يشترط جزء منها لغيرهما، فلو شرط شئ من ذلك فسد عقد المساقاة.
2 - ان يشتركا في الثمر، فلو شرط ان كون الثمر كله لواحد منهما كانت مساقاة فاسدة.
3 - ان يكون نصيب كل منهما معلوما بالجزئية، كربع وثلث ونصف ونحو ذلك، فلو قال: على ان الثمر بيننا، كان مناصفة، فلو شرط لواحد منهما نصيب معين - كألف صاع مثلا، أو الف رطل من الثمرة - لم يصح، لأنه ربما ما أثمرت ذلك، او لم تثمر غيره، فيخلو العاقد الثاني عن العوض، ومثل هذا لو شرط لواحد منهما قدر معين من النقد.
ويثبت حق العامل في الثمرة بظهورها، فإذا اطلعت قبل انقضاء المدة - أي ظهر اول حملها ولو لم يظهر تماما - ثبت حقه فيها.(7/29)
ويصح عقد المساقاة قبل ان يكون الثمر بالكلية، كما تصح بعد وجوده وظهوره - لكن قبل بدء صلاحه - على الأظهر، لبقاء اكثر العمل.
وصف عقد المساقاة:
عقد المساقاة عقد لازم من العاقدين، فإذا وجدت اركانه بشروطها أصبح كل منهما ملزما بتنفيذه وليس له فسخه والرجوع عنه الا برضا العاقد الآخر، سواء أكان ذلك قبل العمل ام بعده، لأن العمل المعقود عليه يكون في أعيان قائمة بحالها، فيلزمه إتمام أعمالها ولو تلفت الثمرة كلها بآفة ونحوها.
ووجه لزومها مراعاة مصلحة العاقدين:
اذ لو كان للعامل فسخها قبل تمام العمل لتضرّر المالك بفوات الثمرة او بعضها، لعدم تمكن المالك من إتمامه، لكونه لا يحسنه او لا يتفرغ له.
ولو كان للمالك فسخها لتضرر العامل بفوات نصيبه من الثمرة، لأن الغالب ان يكون أكثر من اجرة مثله.
حكم المساقاة الفاسدة:
كل ما سبق من أحكام يترتب على المساقاة الصحيحة، وهي التي استوفت اركانها بكامل شروطها. فإذا اختل ركن من الأركان او شرط من الشروط كانت المساقاة فاسدة، كما بينا ذلك في مواضعه، وذلك في كل موضع قلنا فيه: لا تصلح المساقاة: كأن شرط على احدهما ما ليس من عمله، او يكون نصيبه مجهولا او غير معلوم بالجزئية، او كان موردها شجرا غير مثمر، ونحو ذلك.
فإذا تبين فساد المساقاة: كان الثمر لصاحب الشجر، لأن نماء ملكه، وكان للعامل اجرة مثله لمثل عمله الذي قام به، لأنه بذلك منفعته على ان تقابل بعوض، ولم يكن متبرع بعمله.
يد العامل:
يد العامل يد أمانة، فإن ادعى هلاك شئ تحت يده - من شجر او ثمر او غير ذلك - بغير تقصير منه ولا تعد، كان القول قوله، فيصدق بيمينه. وكذلك فيما اذا(7/30)
ادعى المالك خيانته وانكر هو، فإنه يصدق بيمينه، لأن المالك قد ائتمنه، والقول دائما قول المؤتمن بيمينه.
انتهاء المساقاة:
تنتهي المساقاة اذا انتهت المدة المتعاقد عليها، اذا كان الثمر قد نضج وقطف. فإذا انتهت المدة وكان الثمر قد ظهر طله - أي بدء وجوده - فقد تعلق به حل العامل كما علمت، فتستمر المساقاة حتى ينضج ويقطف، وعلى العامل ان يستمر بالعمل حتى يتمه.
ولا تنتهي الماساقة بموت احدهما: فإذا مات المالك استمر العامل بعمله وأخذ حصته عند تمام العمل.
واذا مات العامل كان للوارث ان يتم العمل بنفسه، وعلى المالك ان يمكنه من ذلك اذا كان ثقة عارفا بالعمل، وان كان لم يكن كذلك استأجر المالك بإذن الحاكم من يقوم بالعمل من تركة العامل. ولا يجبر الوارث على العمل، بل له ان يتمه من تركة الوارث او من ماله.
ويجبر على اتمام العمل، اذا ترك العامل تركة، لأنه حق قد وجب عليه، فيلزم أداؤه من التكرة كغيره من الحقوق. فإذا لم يترك العامل تركة لم يجبر الوارث على اتمام العمل لا بنفسه ولا من ماله. ولا يقترض على العامل. بل للمالك ان يفسخ المساقاة لتعذر استيفاء المعقود عليه وهو العمل، ويستحق ورثة العامل اجرة المثل لما مضى ان لم يظهر الثمر، وان ظهرت الثمرة كان للورثة قيمة نصيب العامل على تلك الحالة، والله تعالى أعلم.
ولا تنتهي المساقاة بخيانة العامل، اذا ثبتت بإقراره او ببينة ونحو ذلك، وانما يضم اليه مشرف ليمتنع عن الخيانة، ولا ترفع يده عن العمل لأنه واجب عليه، ويمكن استيفاؤه منه بهذا. وتكون اجرة المشرف عليه لأنها استحقت بسببه.
فإذا لم يتحفظ عن الخيانة رغم وجود المشرف ازيلت يده بالكلية، واستؤجر عليه من ماله من يقوم بالعمل ويتمه، لتعذر الاستيفاء منه مع لزومه له.
وكذلك الحال فيما لو هرب العامل - او حبس او مرض- قبل تمام العمل(7/31)
والفراغ منه، فلا تنفسخ المساقاة، بل يستأجر عليه الحاكم من يقوم بالعمل ويتمه، الا اذا تبرع عنه المالك وغيره، فيبقى استحقاقه فيما اتفق عليه من نصيب من الثمر.
وفي حال عدم التمكن من الرجوع الى الحاكم - او عدم استجابته لذلك - يستأجر المالك من يقوم بالعمل، ويشهد في ذلك على ما ينفقه من اجله، وانه ينفق ليرجع على العامل، فإذا اشهد كان له الرجوع على العامل بما انفق، والا كان متبرعا.
واذا لم يجد الحاكم ولا المالك من يقوم بالعمل عن العامل - ولم يشأ المالك التبرع عنه - كان للمالك ان يفسخ المساقاة، لتعذر استيفاء المعقود عليه وهو العمل. وكان للعامل اجرة مثل ما سبق من عمله ان لم تظهر الثمرة، وقيمة نصيبه على تلك الحالة ان كانت قد ظهرت.
اختلاف العامل والمالك:
اذا اختلف العامل وصاحب الشجر في العوض المشروط، فقال المالك: شرطت لك ثلث الثمرة، وقال العامل: شرطت لي نصفها، يحلف كل منهما على اثبات دعواه ونفي دعوى خصمه، لأن كلا منهما منكر لدعوى الآخر، فإذا تحالفا انفسخ عقد المساقاة، وكان الثمر كله للمالك، وللعامل اجرة مثله.(7/32)
المزارعة والمخابرة
تعريفهما:
المزارعة - في اللغة - على وزن مفاعلة من الزرع.
وهي في الاصطلاح: ان يتعاقد مالك الأرض مع غيره ليقوم بزراعة الأرض وتعهد الزرع ويكون الخارج بينهما حسب الاتفاق، والبذر على المالك.
والمخابرة - في اللغة - من الخبار، وهو الارض اللينة، ومن قولهم خبرت الأرض اذا شققتها للزراعة، واصطلاحا: هي مثل المزارعة، وانما البذار فيها على العامل.
مشروعيتهما:
وكل من المزارعة والمخابرة باطلة اذا كانت هي المقصودة بالعقد، كأن كانت الأرض لا شجر فيها، او كان فيها شجر وجرى التعاقد على زراعة الأرض دون المساقاة على الشجر.
ودليل بطلانهما: حديث رافع بن خديج رضى الله عنه قال: كنا نحاقل الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنكريها بالثلث والربع والطعام المسمى، فجاءنا ذات يوم رجل من عمومتي فقال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن امر كان لنا نافعا، وطواعية الله ورسوله انفع لنا، نهانا ان نحاقل بالأرض فنكريها على الثلث والربع والطعام المسمى، وامر رب الأرض ان يَزرعها اويُزرعها، وكره كراءها وما سوى ذلك. (البخاري: المزارعة، باب: ما كان اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يواسي بعضهم بعضا في الزراعة والثمرة. مسلم: البيوع، باب: كراء الأرض بالطعام).(7/33)
[نحاقل: من الحقل وهي الأرض التي لا شجر بها. الطعام: القمح ونحوه. المسمى: المعين والمحدّد قدره].
وروى جابر رضى الله عنه: ان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة (البخاري: المساقاة، باب: الرجل يكون له ممر او شرب في حائط او في نخل، رقم: 2252. ومسلم في البيوع، باب: النهي عن المحاقلة والمزابنة، رقم: 1536).
جواز المزارعة تبعا للمساقاة:
إذا كان بين الأشجار ارض لا شجر فيها صحّت المزارعة عليها مع التعاقد على مساقاة الشجر تبعا، لما جاء في حديث ابن عمر رضى الله عنهما: انه صلى الله عليه وسلم دفع ارض خيبر الى اهلها بشطر ما يخرج من ثمر او زرع.
ويشترط في هذا:
1 - اتحاد العامل، أي أن يكون من تعاقد معه المالك على مساقاة الشجر هو الذي تعاقد معه على مزارعة الأرض.
2 - ان يعسر إفراد الشجر بالسقي ونحوه عن الأرض، فإذا كان هذا ممكنا لم تصح المزارعة.
3 - أن لا تكن اصلاً مقصوداً في التعاقد، وذلك بأن يحصل التعاقد على المساقاة والمزارعة معا، فلو تعاقدا على المساقاة، ثم تعاقدا على المزارعة، لم تصح، لأن تعدد القصد ينفي التبعية.
ولذا يشترط - في الأصح - ان لا تقدّم المزارعة في العقد على المساقاة، فلو قال: زارعتك على هذه الأرض وساقيتك على هذا الشجر، لم يصح، لأن، المزارعة يجب ان تكون تبعا، والتبع لا يكون متقدما على متبوعه.
ولا فرق - في الأصح - بين ان تكون الأرض بين الأشجار قليلة او كثيرة، لأن السبب عسر إفرادها بالتعهد، فالحاجة الى جوازها تبعا لا تختلف بين القليل والكثير.
ولا يشترط ايضا ان يكون الجزء المخصص لكل منهما متساويا في المزارعة(7/34)
والمساقاة، بل يمكن ان يختلف، فيكون في المساقاة - مثلاً - شطرين، وفي المزارعة اثلاثاً: لأن المزارعة - وان كانت تابعة - فهي في حكم عقد مستقل.
المخابرة باطلة مطلقا:
هذا ولا تصح المخابرة مطلقا ولو كانت تبعا للمساقاة، لأنها لم يرد بها الشرع، بخلاف المزارعة، بالاضافة الى ان المزارعة في معنى المساقة، لأن كلا منهما ليس فيها على العامل الا العمل، بينما في المخابرة عليه البذر إلى جانب العمل.
حكم المخابرة والمزارعة الفاسدة:
علمنا ان المخابرة فاسدة مطلقا، وكذلك المزارعة اذا لم تتحقق شروط صحتها، فإذا تعاقد صاحب الأرض مع العامل مزارعة او مخابرة، وقام العامل بالعمل وسلّم الزرع:
- فإن كانت مزارعة: كان الحاصل ملكا لصاحب الأرض، لأنه نماء ملكه وهو البذار الذي بذله في ارضه. وعليه للعامل اجرة مثل عمله ودوابه وآلاته ان كانت منه.
- وان كانت مخابرة: كان الحاصل للعامل، لأن البذر منه، والغلّة تبع للبذر. وعليه لصاحب الأرض او مستحقها اجرة مثلها.
فإن كان البذار منهما: كان الحاصل بينهما، بنسبة ما لكل منهما من البذر. ويرجع كل منهما على الآخر بأجرة ما صرفه من المنافع على حصته فلو كان البذر مناصفة منهما: رجع صاحب الأرض بنصف اجر مثلها على العامل، ورجع العامل على صاحب الأرض بنصف اجر مثل عمله، وهكذا.
طريقة حلّ المحصول في المزارعة والمخابرة مشتركاً بين المالك والعامل:
لما كان شرع الله تعالى يسراً لا عسر فيه ولا حرج، والحكمة من احكامه ضمان الحقوق وإبعاد الناس عن الضرر والمنازعة وما الى ذلك، جهد الفقهاء في ان يجدوا مخرجا للناس، حين توقعهم ظواهر النصوص في شئ من الحرج، ولا سيما عندما يؤمن الضرر وتنتفي الجهالة وتصان الحقوق، حرصاً على هيبة الشرع وإبقاء الناس تحت سلطان احكامه، مع تحقيق مصالحهم وتيسير امورهم، طالما ان ذلك ممكن ولو بوجه من الوجوه.(7/35)
وتحقيقاً لهذا المعنى وجد الفقهاء طريقة لتحقيق ما في المزارعة والمخابرة من مصلحة في بعض الأحيان، إذ قد توجد الأرض لدى من لا يُحسن استخدامها او لا يستطيع الاستفادة منها، ويفقدها من لديه الخبرة على استخراج ما أودعه الله تعالى فيها من خيرات، وفي نفس الوقت ليس لديه المال ليستأجرها ويستثمرها.
وذلك: بأن يستأجر المالك العامل بجزء معلوم من البذر وشائع فيه، أي كربعه او نصفه دون تمييز له، ليزرع له النصف الآخر في الأرض، ويعيره - في نفس الوقت - جزءا شائعاً من الأرض بقدر ما استأجره به من البذر، وهكذا يقوم العامل بالعمل في الأرض، ويكون الحاصل بينهما بنسبة ما ملك كل منهما من البذر.
او يستأجره بنصف البذر شائعاً - مثلا - ونصف منفعة الأرض كذلك، ليزرع له النصف الآخر من البذر في النصف الآخر من الأرض.
وهكذا يشتركان في الغلة، ولا يكون لأحدهما أُجرة على الآخر، لأن العامل يستحق من منفعة الأرض بقدر نصيبه من الزرع، والمالك يستحق من منفعة العامل بقدر نصيبه من الزرع ايضا.
وهذا اذا كان البذر من المالك.
فإذا كان البذر من العامل: استأجر من المالك جزءا معينا شائعا من الأرض كنصفها - مثلا - بنصف شائع من البذر وبعمله في النصف الآخر منها. او يستأجر نصفها بنصف البذر، ويتبرع له بالعمل بنصفها الآخر.
وهكذا ايضا يملك كل منهما من الغلة بنسبة ما ملك من البذر ومنفعة الأرض، ولا يكون لأحدهما اجر على الآخر.
هذا على أن كثيراً من الفقهاء غير الشافعية - رحمة الله تعالى على الجميع - قالوا بجواز المزارعة استقلالاً، بدليل معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر، واعتبروا المخابرة في معنى المزارعة، لأن كلاًّ منهما وارد على منفعة، فإذا كن البذر من صاحب الأرض فالمنفعة عمل العامل، وإن كان البذر من العامل فالمنفعة هي منفعة الأرض.(7/36)
الباب الثالث
العَاريَّة(7/37)
العارية
تعريفها:
العاريّة - بتشديد الياء أفصح من تخفيفها - وهي في اللغة: اسم لما يعطيه الرجل لغيره لينتفع به ثم يرده عليه، كما تطلق على العقد الذي يتضمن هذا. مشتقة من التعاور وهو التداول وانتقال الشئ من يد الى يد.
وهي في الاصطلاح الشرعي: إباحة الانتفاع بما يحل الانتفاع به مع بقاء عينه.
فعقد العاريَّة يتضمن اباحة الانتفاع للمستعير، فهو لا يملك المنفعة وانما يباح له ان ينتفع بالعين، أي الشئ المستعار على ما سيأتي، ولذا لا يملك ان يؤجر العين المستعارة لأحد، كما لا يملك ان يعيرها لغيره.
وإنما تصحّ اعارة ما يحلّ الانتفاع به، فلا تصحّ اعارة خنزير او آلات لهو، كما لا تصح اعارة مصحف لحائض ونفساء، لأنه لا يجوز لهما مسّه والقراءة فيه.
والإعارة تكون في الأعيان التي لا تستهلك بالاستعمال، كما سيأتي بيانه عند الكلام عن أركان العارية، فإذا كانت تستهلك بالاستعمال - كالصابون مثلا - فلا تصح اعارتها.
مشروعيتها:
الإعارة مشروعة، وقد دلّ على مشروعيتها نصوص من الكتاب والسنّة، وانعقد على ذلك الإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى: "فويل للمصلّين. الذين هم عن صلاتهم ساهون. الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون" "الماعون: 4 - 6".(7/39)
فقد ذكر الله تعالى ان منع الماعون من صفات المكذب بيوم الدين والمهدَّد بالويل - وهو العذاب والهلاك - يوم القيامة، فدلّ ذلك على انّ بذل الماعون امر مشروع ومطلوب. وجمهور المفسرين على ان المراد بالماعون ما يستعيره الجيران بعضهم من بعض، كالدلو والإبرة والقِدْر ونحو ذلك، ويلحق به كل ما في معناه.
وأما السنّة: - فما رواه انس رضى الله عنه، ان النبي صلى الله عليه وسلم استعار فرساً من ابي طلحة فركبه. (اخرجه البخاري في الهبة، باب: من استعار من الناس الفرس، رقم: 2484. ومسلم في الفضائل، باب: في شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم وتقدمه للحرب، رقم: 2307).
- وما رواه جابر بن عبدالله رضى الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "مَن كانت له ارض فليهبها أو ليُعرْها" (اخرجه مسلم في البيوع، باب: كراء الأرض، رقم: 1536).
وسيأتي معنا احاديث أُخرى خلال البحث، فيها دلالة على مشروعية العاريَّة مع بيان احكامها.
وما دلّ عليه القرآن والسنّة من مشروعية الإعارة عامة: انعقد عليه اجماع علماء المسلمين في كل العصور.
حكمة مشروعيتها:
إن حكمة التشريع في العاريّة هي تحقيق التعاون الذي ندب الله تعالى المسلمين اليه اذ قال: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) (المائدة: 2). فكثير من الناس لا يتمكن من اقتناء كل ما يحتاج اليه من متاع او ملبس او مسكن او عقار: إما لقلة ذات يده، او لفقدانه في الأسواق، أو ندرة وجوده، او لكثرة مشاغل بعض الناس التي تنسيهم بعض حاجاتهم، وعندها قد يجد المرء نفسه في ساعة من ليل او نهار في حاجة ماسة لأن يطرق باب جيرانه، فيطلب منهم استعارة بعض الأشياء، او يتوجه بالطلب الى صديقه في سفر او حضر ان يستعين ببعض متاعه لقضاء حاجته، ولا سيما اولئك الكثيرات من ربّات البيوت، اللواتي قد يكون رجالهنّ في سفر، او غائبين عن البيت لانهماكهم في العمل، والمرأة مضطرة لأن تهيئ الطعام او تقوم بشؤون الأولاد، فتحتاج الى(7/40)
اشياء كثيرة لا تتمكن من تهيئتها بنفسها، فلا بد من ان تستعين بمتاع من يساكنها في دارها او يجاورها. ولما كان الاسلام دين التيسير والتعاون - كما ذكرنا - يسّر على الناس وشرع لهم ان ينتفع بعضهم بأمتعة بعض، بإذن منه ورضا، جلبا للمصلحة ودفعا للمضرة، ورفعا للحرج، وحفظا من الارهاق والعنت، كي تسود الألفة والمودة، ويكون الله عز وجل في عون الجميع، طالما ان كلا منهم يسعى ان يكون في عون غيره، مستجيبين لتوجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم اذ يقول: "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه".
وبهذا يحمون أنفسهم من العقاب والعتاب، في يوم عصيب لا ينفع المرء فيه الإ ما قدّم من احسان في هذه الدار، ورعاية للحقوق واداء للواجب. روى جابر بن عبدالله رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من صاحب ابل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي حقها، الا أُقعد لها يوم القيامة بقاعٍ قَرْقَرٍ، تطؤه ذات الظِّلْفَّ بظِلْفها، وتنَطحُهُ ذات القرن بقرنها، ليس فيها يومئذً جمّاء ولا مكسورة القرن". قلنا: يا رسول الله، وما حقّها؟ قال: "اطراقُ فحلها، واعارة دلوها، ومنيحتُها، وحلبها على الماء، وحملٌ عليها في سبيل الله". (اخرجه مسلم في الزكاة، باب: اثم مانع الزكاة، رقم: 988).
[قاع قرقر: ارض مستوية. تطؤه: تدوسه. الظلف: ما يكون في نهاية القدم من البقر والغنم ونحوها، جماء: لا قرن لها. اطراق فحلها: اعارة الذكر منها لينزو على اناثها. منيحتها: المنيحة هي الشاة او البقرة او الناقة، يعطيها مالكها لغيره لينتفع بلبنها ونحوه زمانا، ثم يردها لمالكها].
حكم العاريَّة:
العاريَّة مستحبة ومندوب اليها، لما سبق من أدلة في بيان مشروعيتها وحكمة التشريع، وقد كانت واجبة في اول التشريع، للتهديد الشديد لمانعها كما علمت، ولكن هذا الوجوب نسخ بالإجماع، وبقى الحكم على الاستحباب، وهذا هو الاصل في حكمها الآن.
وقد تصبح واجبة، اذا توقف عليها انقاذ حياة انسان معصوم، أي غير(7/41)
حربي، كإعارة ثوب لدفع حرٍّ او بردٍّ شديدين مهلِكَيْن، واعارة حبل لإنقاذ غريق، واعارة ضماد لعصب جرح بليغ ونحو ذلك.
ومن الواجب اعارة ما فيه حفظ مال محترم ايضا، كإعارة سكّين لذبح حيوان مأكول اللحم يخشى موته اذا لم يذبح، لأن عدم ذبحه إضاعة مال، وهو منهي عنه شرعا.
وقد تكون العاريَّة محرمة، كإعارة آلة قاتلة لمن غلب على ظنه انه سيقتل بها، وكإعارة مصحف لحائض او نفساء كما علمت.
وقد تكون مكروهة، كما لو كان فيها مساعدة على مكروه.(7/42)
أركان عقد الإعارة
للإعارة أركان اربعة، وهي: المُعير، والمستعير، والصيغة، والشئ المستعار، ولكلٍّ منها شروط، واليك بيانها:
1 - المعير:
وهو الذي يبيح لغيره الانتفاع بالعين التي في حوزته، ويشترط فيه:
أ- أن يكون مالكاً للمنفعة في العين المُعارة، سواء أكان يملك العين ام لا يملكها، كالمستأجر - مثلا- والموصى له او الموقوفة عليه، فكل منهم له ان يعير العين المستأجر لها او الموصي له بمنفعتها او الموقوفة عليه، لأنه يملك منفعتها، والإعارة ترد على المنفعة لا على العين، ولذا ليس للمستعير ان يعير العين التي استعارها، لأنه لا يملك منفعتها، وانما ابيح له الانتفاع بها.
ب- أن يكون ممن يصح تبرعه، فلا تصح الإعارة من الصبي ولا من المجنون، كما لا تصحّ من المحجور عليه بسفه أو فلس اذا كانت المنفعة تقابل بعوَض، وذلك لأن الإعارة تبّرع بالمنفعة، وهؤلاء ليسوا من اهل التبرع.
ج- أن يكون مختاراً، فلا تصحّ الإعارة من مُكرَه عليها، لأن المنفعة المبذولة مال، لأنها تقابل بعوض، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحلّ مال امرئ مسلم الا عن طيب نفس" (اخرجه الدارقطني في البيوع، الحديث: 91).
2 - المستعير:
وهو الذي أُبيح له الانتفاع بالعين المُعارة، ويشترط فيه شرطان:
أ - ان يكون أهلا للتبرع عليه بعقد، أي تصحّ عبارته شرعا ويعتدّ بها وهو البالغ(7/43)
العاقل، فلا تصحّ الإعارة لصبي او مجنون، لأن كلاٍّ منهما لا يعتبر قوله شرعا، فإذا احتيج الى اعارتهما تولى ذلك عنهما وليُّهما.
ب- ان يكون معيّناً، فلو قال لإثنين: أعرتُ احدكما كتابي، او قال لجماعة: اعرت احدكم كتابي، لم تصحّ الإعارة، لأن المستعير غير معين.
3 - صيغة عقد العاريَّة:
وهي العبارة التي تدل على هذا العقد من الإيجاب والقبول، ولا يُشترط اللفظ من المعير والمستعير، بل يكفي اللفظ من أحدهما والفعل من الآخر، بما يدل على إذن مالك المنفعة بإباحتها لغيره، فلو قال المالك: خذ هذا الكتاب واقرأ به، او: اعرتك هذا الكتاب، فاستلمه المستعير، صحّت الإعارة، وكذلك لو قال المستعير: اعرني كذا، فسلّمه اليه المالك، صحّ العقد.
ولابد فيها من اللفظ من احد المتعاقدين، فلو اخذ المستعير المتاع دون كلام، وسكت المعير، لم تصح الإعارة، ولم يترتب عليها إباحة الانتفاع للمتسعير.
ولا يشترط التتابع بين طرفي الصيغة، فلو قال: اعرني كذا، ودفعه اليه بعد زمن، صح ذلك، ما لم يوجد ما يدل على الرجوع من المعير او الرد من المستعير.
وتصح الإعارة مطلقة عن الوقت والشرط، كما تصح معلقة على شرط ومقيدة بوقت، كما لو قال له: اعرتك داري هذه لتسكنها سنة، او ان خرج منها فلان الذي يسكنها، وذلك لأن الاعارة ليست بعقد تمليك حتى لا تقبل التعليق والتوقيت، وانما هي اباحة انتفاع كما علمت.
4 - المستعار:
وهو العين التي تُباح منفعتها للمتسعير، ويشترط فيها:
أ - ان تكون منفعتها ملْكاً للمُعير كما علمت، فلا تصحّ اعارة المستعير لغير.
ب- ان تكون يمكن الانتفاع بها، فلا تصحّ اعارة ثياب لا تقي من حرٍّ ولا برد او لا تستر عورة، كما لا تصح اعارة دابّة مريضة مرضاً مزمناً للركوب، وكذلك(7/44)
سيارة لا محرّك فيها، لأن عقد العاريَّة يرد على المنفعة، ولا منفعة في مثل ذلك، فيكون عقدا على غير معقود عليه.
ولا يشترط وجود النفع عند العقد على الصحيح، فلو اعاره مهرا صغيرا للركوب صح ذلك، ان كانت الاعارة مطلقة، او مقيدة بزمن يمكن ان يصبح المهر فيه صالحا للركوب. وكذلك لو اعاره ثوبا غير صالح للبس ولكن يمكن اصلاحه، ونحو ذلك.
ج- ان يكون الانتفاع بها مباحا شرعا، فلا تصح اعارة آلات اللهو، ولا اعارة حلي لامرأة تتزين به امام الأجانب، ولا اناء ليصنع فيه خمر، او سكين ليذبح بها خنزير للأكل، او سلاح لمن يعتدي به على معصوم الدم، ونحو ذلك، لأن، مثل هذا الانتفاع حرام وممنوع شرعاً.
د- ان يكون الانتفاع بها لا ينقص عينها، كالثياب والدور والأواني ونحو ذلك. فإذا كان الانتفاع بها ينقصها لم تصح اعارتها، وعليه: فلا اعارة لشمعة ليستضاء بها، او صابون للتنظيف ونحو ذلك، لأن الانتفاع بها يكون باستهلاكها وتلف عينها شيئا فشيئا.(7/45)
أحكام تتعلق بالعاريَّة
1 - حدود الانتفاع بالعين المستعارة:
للمستعير ان ينتفع بالعين المستعارة ضمن الحدود التي أذن فيها المالك، لرضاه بهذا، وليس له ان ينتفع بغير ما اذن به، لأنه لم يرض بذلك، الا اذا كان اقل تأثيرا على العين من الذي اذن به، فإن اطلق الاذن بالانتفاع، بأن اعاره مطلقا دون التقييد بوجه من وجوه الانتفاع، كان له ان ينتفع من العين بما ينتفع بها عادة، وان نهاه عن الانتفاع بوجه من الوجوه امتنع عليه ذلك الوجه، ولو كان اقل تأثيرا على العين، وذلك كله لأن المعير مالك للمنفعة ومتبرع بها، فله تحديد وجه الانتفاع بما شاء، وعليه:
- فلو اعاره ارضا لينتفع بها، جاز له ان يبني فيها وأن يغرس شجراً أو يزرع زرعا، لأنه اطلق الإذن بالانتفاع، فلو قال: اعرتك هذه الأرض، دون ان يقول لتنتفع بها، فالصحيح ان الإعارة غير صحيحة.
- وان أعاره للبناء او الغراس جاز له ان يزرع، لأن الزرع اقل ضررا من الغراس او البناء، فرضاه بالأشد دليل رضاه بالأقل، الا ان نهاه عن ذلك فليس له فعله.
- وإن أعاره للزرع فليس له ان يبني او يغرس، لأن البناء والغراس كل منهما اكثر ضررا على الأرض من الزرع، ورضاه بالأقل لا يدل على رضاه بالأشد.
- وان اعاره للزراعة مطلقا زرع ما شاء، فإن اعاره لزراعة نوع معين كان له زرعه وزرع ما هو مثله او اقل منه تأثيرا، وليس له زراعة ما هو اشد منه ضررا على الأرض.(7/46)
وهكذا القول في كل عين مستعارة:
فلو استعار سيارة للركوب فليس له ان يستعملها لحمل الأمتعة مثلا، وان استعارها لحمل امتعة خفيفة - كخشب مثلا ونحوه - فليس له ان يحمل فيها اشياء ثقيلة كحديد او اسمنت ونحو ذلك.
وللمستعير ان يستوفي المنفعة او بمن ينوب منابه - كوكيله مثلا - لأن الانتفاع يعود عليه ويرجع اليه، شريطة ان يكون مثله او دونه في استيفاء المنفعة من حيث التأثير على العين المستعارة، فلو استعار دراجة وأراد ان يركب عليها أجيره أو وكيله للقيام بعمله لمصلحته، كان له ذلك، الا اذا كان يزيد عنه في وزنه وثقله، وهكذا.
2 - يد المستعير على العين المستعارة:
إن يد المستعير على العين المستعارة يد ضمان، فإذا قبض المستعير العين المستعارة دخلت في ضمانه، ومعنى هذا ان المستعير العين المستعارة إذا تلفت، سواء أتعدى باستعمالها أم لم يتعدّ، وقصّر في حفظها ام لم يقصّر، لأنه قبض مال غيره لمصلحة نفسه.
وقد دلّ على ذلك حديث أُمية بن صفوان بن أُمية عن ابيه صفوان رضى الله عنه: ان رسول الله صلى الله عليه وسلم استعار منه دروعاً يوم حنين، فقال: أغصب يا محمد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "لا، بل عاريَّة مضمونة" (اخرجه ابو داود في البيوع والإجارات، باب: في تضمين العارية، رقم: 3562).
ويضمن المستعير العين المستعارة بقيمتها يوم تلفها، اذا تلفت وذهبت ولو بآفة سماوية، ولا يضمن ما بَلِيَ منها او نقص من قيمتها بسبب الاستعمال المأذون فيه، فإذا استعملها في غير ما أذن له به، فنقصت، فإنه يضمن.
وكذلك يضمن ما نقص منها بسبب الاستعمال ان استعملها فيما لا تستعمل فيه عادة، كأن استعمل الدار او النجارة، او استعمل اوعية الطعام لنقل الرمل او الحجارة.
ويضمنها ايضا اذا استعملها بعد رجوع المُعير بالاعارة وطلبه ردّ العين(7/47)
المستعارة، حتى ولو استعملها فيما هو مألوف في استعمالها، او ما اذن له المعير سابقا باستعمالها فيه، لأنه استعمال غير مأذون فيه، وكذلك الحال لو كانت العارية مؤقتة واستعملها بعد انتهاء المدة.
شرط الضمان فيما لا ضمان فيه، وعدم الضمان فيما فيه الضمان: علمنا أنه لا ضمان فيما تلف او نقص من عين العارية بالاستعمال المأذون فيه، وكذلك تضمن العارية اذا تلفت بغير الاستعمال المأذون فيه مطلقا، فلو شرط في العقد خلاف هذا كان الشرط لاغيا لا يلزم الوفاء به، ويبقى عقد العارية صحيحا كما لو يشرط فيه هذا الشرط، وقيل: تفسد الإعارة أيضا.
3 - نفقة المستعار ومؤونة رده:
إذا كان للمستعار نفقة - كما لو كان دابة فتحتاج الى علف، او مسكنا فيحتاج الى ترميم - فهذه النفقة على مالك العين، سواء أكان المعير هو المالك للعين أم المستأجر لها، لأن النفقة تبع للملك، والإعارة تبرع بالمنفعة من مالكها لينتفع بها المستعير، فلا يجب عليه في مقابلها شئ.
فإذا انتهت الاعارة او فسخت، ووجب على المستعير رد العين المستعارة الى المعير، وكان لردها عليه مؤونة ونفقة، كأجرة دابة او سيارة نقل مثلا، كان ذلك على المستعير، لأن الرد واجب عليه، إذ انه قبض العين لمنفعة نفسه، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والرد الواجب عليه لا يتم الا بالنفقة، فهي واجبة عليه.
وقد دل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه".
وجاء في رواية من حديث صفوان بن امية رضى الله عنه: انه صلى الله عليه وسلم قال له: "عاريّة مؤدّاة". (الترمذي: البيوع، باب: ما جاء في أن العارية مؤداة، ابو داود: البيوع، باب: ما جاء ان العارية مؤداة. ابن ماجة: الصدقات، باب: العارية).
وهذا اذا رد العين المستعارة الى المعير نفسه، فإذا استعار من مستأجر، ورد العارية الى المالك المؤجر، فالمؤونة حينئذ على المالك، لأن المستعير يقوم في هذا مقام المستأجر في رد العين المستأجرة الى المؤجر، ومؤونة الرد في الإجارة على المالك لا على المستأجر.(7/48)
4 - الرجوع بالعاريّة وردّها:
عقد العاريَّة عقد جائز من الطرفين، أي يحقّ لكِّل من المعير والمستعير فسخه متى شاء ولو بغير علم الآخر ولا رضاه، فيحق للمعير ان يرجع بالعارية ويسترد العين المستعارة متى شاء، حتى ولو كانت الإعارة مؤقتة بوقت لم ينته بعد. وكذلك يحق للمستعير ان يردها ايضا متى شاء. ولا يلزم أي منهما باستمرار الإعارة، لأنها مبرة من المعير وارتفاق من المستعير، فلا يناسبها الإلزام لأي منهما.
ويستثنى من ذلك ما اذا استعار ارضاً لدفن ميت، فليس لأحدهما فسخ الإعارة في الأرض المدفون فيها، فلا يحق للمعير استرداد الأرض ولا للمستعير ردها، حتى يبلى المدفون ويندرس أثره، بأن يصير ترابا ولا يبقى منه شئ ظاهر. وذلك لأن الدفن كان بإذن. وفي النبش هتك حرمة الإنسان، ولا يلزمه اجرة على أي حال في هذا.
وكذلك يستثنى ما إذا أذن المعير في شغل المستعار بشئ يتضرر المستعير بالرجوع فيه، كما لو اعاره سفينة لنقل بضاعة وطالبه بها في لجّة البحر، او أعارة سيارة لذلك وطالبه بها في موضع لا يستطيع فيه تحصيل غيرها، كالصحراء مثلا، ففي هذه الأحوال لا يلزم المستعير رد العين المستعارة، وله ان يستمر بالانتفاع بها حتى يتمكن من ردها بغير ضرر، ولكن يلزمه في هذا وامثاله اجرة المثل من حين الطلب الى حين الرد.
الرجوع بالأرض المعارة واستردادها:
إعارة الأرض إما أن تكون للبناء والغراس، وإما أن تكون للزراعة:
فإن اعاره للبناء او الغراس: ثم رجع المعير عن الإعارة بعد البناء او الغراس، يُنظر:
- فإن كان المعير قد شرط على المستعير ان يقلع ما بناه او غرسه عند الرجوع بالإعارة وجب عليه ذلك عملا بالشرط، لقوله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون على شروطهم". فإن امتنع من ذلك قلعه المعير.(7/49)
- وان كان شرط عليه تسوية الأرض بعد القلع لزمه ذلك في الحالين، وان لم يشرطه فلا يلزمه.
- وان كان المعير لم يشترط على المستعير القلع يُخَيّر المستعير بين القلع وعدمه:
فإن اختار القلع قلع، ولا يستحق شيئا اذا نقصت قيمة البناء او الغراس بالقلع، لأنه ملكه وقد رضى بنقصانه حين اختار قلعه، ويلزمه تسوية الأرض على الأصح، ليصبح ما استعاره كما كان عليه حين أخذه، ليرده كما اخذه. وانما لزمته التسوية لأنه قلع باختياره، ولو امتنع من القلع لم يجبر عليه.
وان لم يختر المستعير القلع: فالمعير مخير بين امور ثلاثة، وهي:
1 - ان يبقى البناء او الغراس ويأخذ اجرة المثل.
2 - ان يقلع الغراس او يهدم البناء، ويضمن للمستعير ما ينقص من قيمة ذلك ما بين حاله قائما وحاله مقلوعا، كما انه يلزم بأجرة القلع او الهدم.
3 - ان يتملّك البناء او الغراس بقيمته مستحق القلع، ولا بدّ ان يكون ذلك بعقد مشتمل على إيجاب وقبول.
وانما كان التخيير للمعير لأنه هو المُحسن، ولأنه هو مالك الأرض التي هي الأصل، فإن اختار واحدة منها اجبر المستعير عليها.
وان لم يختر المعير واحدة منها: فالأصح ان القاضي يعرض عنهما حتى يصطلحها او يختار امعير، وقيل: ان الحاكم يبيع الأرض وما فيها، ويقسم الثمن بينهما بنسبة قيمة ما لكل منهما، فصلا للخصومة.
ولا فرق في كل ما سبق: بين ان تكون الإعارة مطلقة او مقيدة بوقت على الأصح، الا انه في الاعارة المطلقة: اذا بنى او غرس ثم قلع فليس له ان يبني او يغرس الا بإذن جديد، فإن فعل ذلك بلا اذن كان للمعير ان يجبره على القلع وتسوية الأرض مطلقا، والله تعالى أعلم، واما في الإعارة المؤقتة: فله ان يبني او يغرس مرة بعد اخرى، طالما ان المدة لم تنته ولم يرجع المعير في الإعارة، وعند الرجوع تطبق الأحكام المذكورة اولا.(7/50)
وإن اعاره للزراعة: ثم رجع المعير عن الإعارة قبل ان يدرك الزرع: فالصحيح ان للمستعير ان يبقيه الى ان يدرك ان كان ينقص قيمته بالقلع قبله، لأنه مال محترم، وله امد يدرك فيه بالعادة فينتظر، وللمعير اجرة المثل في هذه الحال على الصحيح.
ولا فرق في هذا بين ان تكون الإعارة مطلقة او مقيدة بمدة، الا انه في حال التقييد بمدة: اذا لم يدرك الزرع قبل انتهائها، لتقصير المستعير: كأن يتأخر بالزراعة، او يكون هناك مانع منها من ثلج او سيل ونحو ذلك، ثم يزرع في الأرض بعد زوال المانع ما لا يدرك غابا في المدة المتبقية، او يزرع غير ما استعار من اجله مما يبطئ اكثر منه، ففي هذه الحالات: للمعير ان يجبر المستعير على قلع الزرع وتسوية الأرض، وان نقص بسبب ذلك، لأنه متعد وظالم بفعله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس لعرق ظالم حق" (اخرجه ابو داود في الخراج والامارة والفئ، باب: في احياء الموات، رقم: 3073، والترمذي في الأحكام، باب: احياء ارض الموات، رقم: 1378).
5 - كيفية رد العين المستعارة:
يكون رد العين المستعارة الى المعير بحسب الشئ المستعار عرفا وعادة: فالأشياء المنقولة لابد من نقلها وتسليمها للمعير، ولاسيما اذا كانت نفيسة، فيختلف التسليم باختلاف نفاستها، كالجواهر والمعادن الثمينة، فربما اشترط تسليمها ليد المعير بنفسه، وربما اكتفى بردها الى منزله وتسليمها الى من ينوب منابه في قبضها، كالأوعية ونحوها.
واذا كانت العين المستعارة غير منقولة، كالأرض والدور ونحو ذلك، كفى فيها التخلية وازالة الموانع من استلامها والانتفاع منها.
6 - الاختلاف بين المعير والمستعير:
قد يختلف المعير مع المستعير في أُمور، من ذلك:
أ- الاختلاف في الرد: كأن يدعي المستعير انه رد العين على المعير، وينكر المعير ذلك ويقول: لم تردها على، فيُحلّف المعير على قوله ويصدّق(7/51)
بيمينه، لأنه المنكر، والقاعدة في هذا: أّن البيَّنة - أي الشهود - على المدعي واليمين على من انكر. لأن الأصل عدم الرد اذ ثبت كون العارية في يد المستعير، فالأصل انها لا تزال في يده، فالمعير متمسك بالأصل بقوله، والقول المصدق هو قول من يتمسك بالأصل.
ب- الاختلاف في حال التلف: لو تلفت العين المستعارة، وادعى المستعير انها تلفت بالاستعمال المأذون فيه، وانكر المعير ذلك وقال: بل تلفت بغير الاستعمال، او باستعمال غير مأذون فيه، يصدق هنا المستعير بيمينه، لأنه من الصعب عليه ان يقيم بينة على قوله، اذ ليس من العادة ان يستعمل المستعار على ملأ من الناس حتى يشهدهم على التلف. ولأن الأصل براءة ذمته من الضمان، والمعير هنا يدعي الضمان وهو ينكره تمسكا بالأصل، والقول قول المنكر والمتمسك بالأصل بيمينه كما علمت، فيحلف المستعير على قوله ويبرأ من الضمان.
ج- الاختلاف في اصل العقد: كأن يدعي المالك الإجارة، ويدعي المنتفع الاستعارة. او ان يقول المنتفع: اعرتني، ويقول المالك: بل غصبته مني. فالأصح انه يصدق المالك بيمينه. فيحلف انه ما اعاره وانما اجره، او يحلف انه ما اعاره وانما غصب منه.
وانما كان القوم قول المالك لأن الأصل ان لا يأذن بالانتفاع فيما يملك الا بمقابل. فإذا حلف استحق اجرة المثل ان مضت مدة لها اجرة. فاذا كانت العين قائمة ردها، وان تلفت قبل الرد ضمنها المنتفع في دعوى الغصب. فإن كان ما يدعيه المالك من التضمين اكثر مما يدعيه المنتفع حلف المالك على الزيادة. وبيان ذلك ان العارية تضمن بقيمتها يوم التلف، والمغصوب يضمن بأعلى قيمه من يوم الغصب الى يوم التلف، فإذا كانت القيمة متساوية فقد اتفقا، والا حلف المالك على الزيادة، لأنهما لم يتفقا عليها.(7/52)
7 - انتهاء عقد العاريّة:
ينتهي عقد الإعارة بأمور، وهي:
أ - طلب المعير للعاريَّة ورجوعه عن الاعارة، سواء اكان ذلك قبل انتهاء مدة الإعارة ام بعدها، لأنها عقد جائز من طرفه كما علمنا.
ب- رد المستعير للعين المستعارة على المعير، بعد انتهاء مدة الإعارة ام قبلهان لأنها عقد جائز ايضا من طرفه.
ج- جنون احد المتعاقدين او اغماؤه، لاختلال شروط المعير والمستعير على ما علمت، اذ يشترط في المعير اهلية التبرع وفي المستعير اهلية التبرع عليه، والمجنون والمغمى عليه ليسا اهلا لذلك.
د- موت المعير او المستعير، لأنها عقد اباحة الانتفاع بالإذن، وبموت المعير لم يبق صاحب الإذن، وبموت المستعير لم يبق المأذون له.
هـ- الحجر بالسفه على المعير او المستعير، لأنه لم يبق المحجور عليه اهلا للتبرع، فلا تصح الإعارة، فتفسخ.
والحجر بالفلس على المالك، لأنه يمتنع عليه التبرع بمنافع امواله، حفظا لمصحلة دائنيه.(7/53)
الباب الرابع
الشركة(7/55)
الشركة
تعريفها:
الشركة: بكسر الشين وسكون الراء هو الأفصح، ويصحّ بفتح الشين وكسر الراء او سكونها.
وهي في اللغة: الاختلاط بعقد أم بغير عقد.
وتطلق على الاختلاط في الأموال، ومنه قوله تعالى: "وإنْ كان رجلٌ يُورَثُ كلالةً او امرأةٌ وله اخٌ او أُختٌ فلكلِّ واحدٍ منهما السُّدُس فإن كانوا اكثرَ من ذلك فهم شركاءُ في الثلث" (النساء: 12).
[يورث كلالة: أي يرثه كلالة، وهم الورثة غير الفروع مطلقاً وغير الأصول من الذكور. والمراد بهم هنا اخوة الميت من أُمه].
كما تُطلق على الخلطة في غير الأموال، ومنه قوله تعالى: "هارونَ اخي. اشدُدْ به أَزْري. وأَشْرِكْه في امري". (طه: 32)
وهي في اصطلاح الفقهاء: ثبوت الحق في شئ واحد، لاثنين فأكثر، على جهة الشيوع، لا على جهة التعيين، كأن يملك اثنان فأكثر ارضا، دون ان تعَّين منها حصة كل واحد منهم، وهذا تعريف الشركة بمعناها العام، الذي يتناول ما كان منها بعقد وما كان بغير عقد. واما تعريفها بالمعنى الخاص:
فهي عقد يحدث بالاختيار بقصد التصرف وتحصيل الربح.
اقسامها:
من التعريف يتبين لنا ان الشركة قد تكون بقصد الربح، وقد تكون لغير ذلك، ولهذا جعلها العلماء قسمين: شركة املاك، وشركة عقد.(7/57)
فشركة الأملاك: ان يملك اثنان فأكثر شيئاً واحداً، وقد يكون ذلك قهراً عنهما، أي بغير فعلهما ولا إرادتهم، كما لو ورثاه معاً، وقد يكون اختيارياً، أي بفعل منهما ورغبتهما، كأن يشتريا شيئا واحدا معا، او يقبلا هبته لهما من احد ونحو ذلك.
وحكم هذه الشركة: ان كل واحد من الشريكين اجنبي في نصيب الآخر، فلا يجوز له ان يتصرف فيه الا بإذنه، اذ لا ولاية لأحدهما على مال الآخر.
وهذه الشركة ليست هي المقصودة بالكلام في باب الشركة لدى الفقهاء، وانما تبحث كل صورة منها في موضعها من الباب الفقهي المتعلقة به، من هبة او إرث أو وصية ونحو ذلك.
وأما شركة العقد: فهي المقصودة بالبحث في باب الشركة هنا، وقد مرّ بك تعريفها، وهي أنواع، منها ما هو مشروع ومنها ما ليس بمشروع، وسنتكلم عن هذا بالتفصيل - ان شاء الله تعالى - بعد الكلام عن مشروعية الشركة وحكمة مشروعيتها.
مشروعيتها:
الشركة على العموم مشروعة وجائزة، ودلَ على هذه المشروعية:
القرآن: ومن ذلك آية الميراث التي مرَت بك، وفيها: "فهم شركاءُ في الثلث" في صريحة في جواز الشركة، اذ ن الله تعالى جعل الإخوة للأم شركاء في الثلث، يقتسمونه بينهم بالسوية، ويستأنس لها ايضا بما جاء على لسان داود عليه السلام من قوله تعالى: "وإن كثيراً من الخُلَطاء لَيَبغْي بعضُهم على بعض" (ص: 44) والخلطاء هم الشركاء، وقلنا يستأنس ولم نقل يستدل لأن هذا واردٌ في شرع من قبلنا، والأصح انه ليس بشرع لنا.
السنة: وفي ذلك احاديث كثيرة، منها:
1 - ما رواه ابو هريرة رضى الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله تعالى: انا ثالث الشريكين ما لم يخُنْ احدهما صاحبه، فاذا خانه خرجتُ من بينهما" (ابو داود في البيوع والاجارات، باب: في الشركة، رقم: 3383).(7/58)
ومعنى الحديث: ان الله تعالى يشمل الشريكين - او الشركاء - بالحفظ والمعونة فيمدّهما بالبركة في أموالهما وتجارتهما، طالما أنهما على الصدق والامانة فاذا زاغا عن الصدق وعدلا عن الأمانة رفعت البركة من تجارتهما، وحجبت الإعانة عنهما، فيكون النزاع والخصام والفشل والخسران.
2 - حديث السائب بن ابي السائب رضى الله عنه: انه كان شريك النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة في التجارة، فلما جاء يوم الفتح قال: "مرحبا بأخي وشريكي، لا يداري ولا يماري" (اخرجه ابو داود في الأدب، باب: في كراهية المراء، رقم: 4836). فقوله: "شريكي" اقرار منه صلى الله عليه وسلم لمشروعية الشركة، وان كان من قوله صلى الله عليه وسلم، وان كان من قول السائب رضى الله عنه فسكوته صلى الله عليه وسلم اقرار منه له.
[يداي: اصله يدارئ بالهمز، وجاء بالياء تسهيلا ليوافق لفظ يماري، ويدارئ من درأ بمعنى دفع، ويماري: من المراء وهو الجدال].
ومعنى الحديث: كنت شريكا متسامحا، توافقني في عملي، فلا تخالفني ولا تنازعني.
3 - ما رواه البراء بن عازب رضى الله عنه: انه كان وزيد بن ارقم رضى الله عنه شريكين، فاشتريا فضة بنقد ونسيئة، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرهما: "ان ما كان بنقد بأجيزوه، وما كان نيسئة فردوه" (مسند احمد: 4/ 371).
[نسيئة: أي الى اجل].
وهذا ايضا اقرار منه صلى الله عليه وسلم لجواز الشركة.
كما كان الناس يتعاملون بالشركة فيما بينهم، ولم ينكر عليهم صلى الله عليه وسلم وعلى هذا جرى التعامل بين المسلمين في كل العصور دون انكار من احد فكان ذلك اجماعا.
حكمة تشريع الشركة:
الناس متكاملون في قدراتهم ومواهبهم وامكانياتهم خلقهم الله عزّ وجل متفاوتين في هذا كله، لا يستطيع احد منهم ان يتسقل بكل ما تتطلبه الحياة، ولكنه يكمل ذلك بالتعاون مع غيره، ليستقيم العيش، ويكون الرزق الحلال،(7/59)
وصدق الله عز وجل اذ قال: "نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون" (الزخرف: 32).
فقد يوجد من لديه المال الوفير، ولكن ليس لديه الخبرة الكافية في إدارة الامور، ويوجد من لديه الخبرة، ولكن ليس عنده القدرة الجسدية اللازمة، اولا يلك المال الكافي للقيام بعمل ما، فيضم بعضهم ما لديه من قدرات الى ما عند غيره، فتتوفر دعائم العمل، وتتيسر اسباب التجارة التجارة الرابحة، فيكون التكامل، ويتحقق التعاون. وهذا ما تحققه الشركة بين الشركاء فتقدم للمجتمع منافع جمة ربما حرم منها لو بقى كل فرد مستقلا بجهوده ومواهبه وممتلكاته، فكانت الحاجة ماسة والمصحلة ملحة لتشريع الشركة، وشرع الله تعالى الذي جاء للتيسير على الناس ورفع الحرج عنهم، على اسس سليمة وقواعد اخلاقية قويمة، ما كان ليقف دون تلبية تلك الحاجة او تحقيق هذه المصلحة، فكان من سمو تشريعه وكمال تقنينه ان شرع الشركة واجزها، ووضع لها الضوابط والاحكام التي من شأنها ان تجلب ما فيها من نفع وخير، وتدفع ما قد يكون فيها من مفسدة وشر.(7/60)
أنواع الشركة والمشروع منها
شركة العقد يمكن ان تحصل على صور متعددة يحصرها الفقهاء في اربعة انواع، وهي: شركة العنان، وشركة المفاوضة، وشركة الأبدان، وشركة الوجوه.
1 - اما شركة العنان: فهي ان يشترك شخصان او اكثر في التجارة بأموال لهم، على ان يكون الربح بينهم. وهذا النوع من الشركة جائز ومشروع باتفاق الفقهاء، وسنتكلم عنه بالتفصيل بعد الكلام عن الأنواع الثلاثة الأخرى.
2 - واما شركة المفاوضة: فهي أن يشترك اثنان فأكثر في اموالهم عامة، ويكونوا شركاء في كل ما لدي كل منهم، وكل منهم وكيل عن الآخر وكفيل له، يشاركه في كل مغنم وعليه ما يصيبه من كل غرم.
وهذا النوع من الشركة باطل عند الشافعية رحمهم الله تعالى، لما تنطوي عليه من الغرر الكبير، لما فيها من الوكالة بالمجهول والكفالة به، وكل منهما باطل لو انفرد فكيف اذا اجتمعا؟ ولذا قال الشافعي رحمه الله تعالى: إن لم تكن شركة المفاوضة باطلة، فلا باطل أعرفه في الدنيا.
وقد اجازها غير الشافعية رحمهم الله تعالى بقيود وشروط تكاد تجعلها لا وجود لها اصلا في الواقع، والله تعالى أعلم.
3 - وأما شركة الأبدان (وتسمى شركة الأعمال): فهي أن يشترك اثنان أوأكثر - لا مال لهم - على أن يتقبلوا أعمالا ويوقوموا بها، سواء أكانوا متفقين في الحِرْفة أم مختلفين - على أن يكون الربح بينهم متساوياً او متفاوتاً، وذلك كالحمّالين والخيّاطين وغيرهم من اصحاب الصناعات والحِرَف المشروعة.(7/61)
وهذا النوع من الشركة باطل ايضاً، لما فيه من الضرر المنهي عنه شرعاً، لأنه ربما قام بعضهم بأعمال تفوق ما قام به غيره بكثير، وربما قام أحدهم بالعمل كله ولم يقم غيره بشئ، فيكون في ذلك غبن حين يتقاسم الشركاء ثمار العمل، ولا تطمئن نفس مَن قام بالجهد ان يبذل نتاج جهده لغيره بدون مقابل.
وقد أجازها الأئمة غير الشافعية - رحم الله تعالى الجميع - للحاجة الداعية اليها، إذ إن الحكمة من مشروعية الشركة تنمية المال كما علمت، وهذا النوع من الشركة يكون به تحصيل أصل المال للشركاء، وربما كانت الحاجة لتحصيل أصل المال فوق الحاجة إلى تنمية ما هو موجود منه، والله تعالى أعلم.
4 - وأما شركة الوجوه: فهي ان يشترك اثنان فأكثر ممّن لهم وجاهة عند الناس وحُسْن سمعة، على أن يشتروا السلع في الذمة إلى أجل، مشترِكِين أم منفردين، ويكون المشتري مشتركاً بينهم، ثم يبيعوا تلك السلع، فما كان من ربح كان بين الشركاء، يقتسمونه بالسويّة او حسب الاتفاق.
وهذا النوع باطل ايضاً، لعدم وجود المال المشترك بينهم، والأصل في الشركة المال، ولوجود الضرر فيها ايضا، لأن كلا من الشركاء يعاوض صاحبه بكسب غير مقابل بعمل او صنعة او ما الى ذلك، فلم يكن الربح هنا نماء للمال، ولا مقابلا للعمل، فلا يستحق.
وكذلك اجاز هذه الشركة غير الشافعية رحمهمالله تعالى جميعا، للحاجة اليها على ما سبق في التي قبلها، والله تعالى اعلم.(7/62)
شركة العِنان
علمنا مما سبق ان شركة العِنان هي النوع المشروع من الشركة باتفاق الفقهاء، وهي - في الحقيقة - النوع الشائع والمتعارف لدى الناس في الشركات، وهو الأصل فيها، لما فيه من معنى الاشتراك فعلا، إذ إن مال الشركة في الأصل مشترك بين الشركاء، وهذا هو الأصل في الشركة، سواء اكان الاشتراك بالعمل ام لم يكن، وان كان الغالب هو الاشتراك به ايضاً.
وقد علمت أنها اتفاق اثنين فأكثر على ان يشتركوا بمال من الجميع، يتاجرون به، على أن يكون الربح لهم.
وسمِّيت شركة عِنان تشبيهاً لكلٍّ من الشركاء براكب الدابة، الذي يمسك بإحدى يديه عنانها ويعمل بالأُخرى، وذلك أن كل شريك يجعل للشركاء غيره أمر التصرّف - الذي يشبه بالعنان - في بعض ماله، بينما يستقل هو بالعمل في بعضه الآخر، او لأن كلا من الشركاء يملك بها ان يتصرف بمال شريكه في الشركة كما يملك الراكب التصرّف بالدابة بواسطة عنانها.
شروطها:
يُشترط لصحة هذا النوع من الشركة شروط هي:
1 - الصيغة: وهي لفظ صريح من كلٍّ من الشركاء للآخرين، يدل على الإذن في التصرف بالبيع والشراء ونحوهما من متعلقات التجارة، ويكفي في ذلك ما يدلّ على هذا المعنى ويشعر به، مما تعارفه التجار فيما بينهم من ألفاظ.(7/63)
والأصح أنه لا يكفي الاقتصار على قولهم اشتركنا، لاحتمال ان يكون هذا إخبار عمّا حصل لهما من الشركة في المال كشركة الأملاك، كما لو ورثا مالا من مورِّث واحد، فلا يلزم من ذلك جواز التصرّف.
وقيل يكفي ذلك، لدلالته على الشركة وفهم المقصود منه عرفا.
2 - أهلية الوكالة في الشركاء: بأن يكون كل منهما عاقلاً بالغاً غير محجوز عليه التصرّف في ماله، لأن كل واحد من الشركاء يتصرف بمال الشركة: أصالة في ماله ووكالة - أي بالإذن - في مال غيره، فكل منهم وكيل وموكل.
3 - أن يكون مال الشركة مثليا: بحيث إذا خلطت الأموال لا يتميز بعضها عن بعض، كالعملات المتعارفة اليوم، وكالموزونات والمكيلات اذا كان مال كل من الشركاء من جنس مال الآخرين، كالبرّ والشعير والحديد اذا كانت الأموال على صفة واحدة.
فإذا كان رأس مال الشركة - او مال احد الشركاء - عروضاً، أي اعياناً متميزة غير مثلية لم تصحّ الشركة، لأنها لا يمكن خلطها بحيث لا تتميز، وقد يتلف مال أحدهم او ينقص فلا يمكن ان يعوض عنه من مال الآخرين.
وطريقة تصحيح الشركة في حال كون راس مالها عروضا: ان يبيع كل منهم جزءا من عروضه للآخر بجزء من عروضه، فيصيرا شركاء في العروض كلهم، فيأذن كل منهم للآخر بالتصرّف، فاذا باعها كان الثمن بينهما.
وكذلك اذا كان مال أحدهما نقداً ومال الآخر عروضا: باع صاحب العروض جزءاً منها بجزء من نقد الآخر واشتركا في الجميع.
وعلى هذا لو ملكا عرضاً - إرثاً أو شراءً أو غيرهما - واذن كلٌ منهما للآخر بالتصرف في نصيبه تجارة تمت الشركة بينهما.
4 - خلط اموال الشركة: بعدما يتفق الشركاء على الشركة، لا بدّ وان يحضروا الأموال التي تصح فيها الشركة على النحو الذي سبق، وأن تخلط هذه الأموال - إن لم تكن مشتركة - بحيث لا يتميز بعضها عن بعض، ثم يجري عقد الشركة بعد ذلك، فإن جرى العقد قبل خلط المال لم تصح الشركة ولو خُطلت(7/64)
الأموال في مجلس العقد بعد اجرائه، ولابدّ من إعادة التعاقد بعد الخلط لتصحّ الشركة.
وهذا إذا أخرج كلٌ من الشركاء مالاً وحصل العقد على ذلك، فإذا ملك الشركاء قبل عقد الشركة مالاً بالإشتراك بينهم - إرثا او شراء او هبة او نحو ذلك - ثم حصل عقد الشركة فإنه يصح، ولا يشترط اقتسامهم له ثم خلطه، لأن المقصود من الخلط - وهو عدم تمييز مال كلٍّ منهم على حدة - حاصل.
5 - أن يكون الربح والخسران على قدر المال: لأن الربح نماء المال، وكذلك الخسارة نقصان له بمقابل الربح. فلا يصح ان يشرط لأحد الشركاء زيادة في الربح عن قدر نسبة ماله من رأس المال، كما لا يصح ان يشرط عليه زيادة في الخسارة أو نقص عن ذلك، ولا يشترط التساوي في المال لكل الشركاء، فلو اشترك أحدهم بالربع والآخر بالنصف والثالث بالربع صح، وكان الربح ربعه للأول ونصفه للثاني وربعه للثالث، وكذلك توزع الخسارة، سواء أشترك الجميع بالعمل أم لم يشترك بعضهم، وسواء تساوَوْا في العمل حين الاشتراك أم اختلفوا.
فإن شُرِط تفاوت في الخسارة كانت الشركة باطلة باتفاق الفقهاء، وان اشترط تفاوت في الربح عن قدر رأس المال لم تصحّ الشركة ايضاً، فلو حصل البيع والشراء من الشركاء نفذت تصرفاتهم لوجود الإذن منهم بالتصرّف، وكان لكل منهم الربح بقدر نسبة رأس ماله، ويرجع على الآخرين بأجرة المثل.
وأجاز الحنفية والحنابلة رحمهم الله تعالى ان يكون للشريك ربح اكثر من نسبة ماله من رأس مال الشركة، وذلك في الصور التالية:
1 - أن تتساوى اموال الشركاء، كأن يكون من كلٍّ منهم الثلث مثلا، ويكونوا جميعا قائمين بالعمل، فيصحّ أن يشرط لأحدهم زيادة في الربح عن نسبة رأس ماله، لأنه قد يكون مهارة في عمله من غيره، فتكون الزيادة مقابل عمله ومهارته.(7/65)
2 - أن يتساوى الشركاء في المال ويكون العمل على بعضهم، ويكون للقائمين بالعمل زيادة في نسبة الربح عن نسبة أموالهم.
3 - ان يتفاوت الشركاء في نسبة الاشتراك بالمال، كأن يكون من احدهم الثلث ومن الآخر الثلثان مثلا، ويشتركا في العمل، جاز ان يكون لأحدهما زيادة في نسبة الربح عن نسبة ماله، كأن يتساويا في الربح او يزيد احدهما عن الآخر، لاحتمال ان يكون عمله اكثر ومهارته افضل، فتكون الزيادة مقابل ذلك.
4 - ان يتفاوتا في رأس المال كما سبق في الصورة قبلها، ويكون العمل على مَن كان رأس ماله أقل، على ان يتساويا في الربح او تزيد نسبة ربح من كان قائما في العمل، فيصح ايضا، وتكون الزيادة مقابل عمله.
وينبغي ان ينتبه الى ان الزيادة تصحّ لمن صحّت له اذا كانت في ضمن نسبة الربح المخصَّصة له، كأن يكون نصيبه كله نسبة مئوية من الربح العام، خمسين بالمائة مثلا او ستين او اكثر او اقلّ، أما أن يعطي نسبة مستقلة من الربح مقابل عمله، او ان يعطي قدراً معيناً - كألف مثلا كل شهر ونحو ذلك - فلا يصح باتفاق الفقهاء.
وعلى هذا يتبين لنا فساد الكثير من عقود الشركات التي يقوم بها الناس، والتي يخصِّصون فيها لبعض الشركاء - سواء أكان مستقلاً بالعمل أم شريكا مع غيره من الشركاء - راتباً شهرياً مقطوعاً من الشركة غير نصيبه من الربح، او نسبة متميزة من الربح، كالربع - مثلا - او النصف مقابل عمله، ثم يقاسم بعد ذلك الشركاء فيما تبقى بنسبة رأس ماله. وليحذر هؤلاء المخالفون من عقاب الله تعالى، وليعلموا ان الكسب من عقد فاسد كسب خبيث لا يبارك الله تعالى فيه.
هذا ولا نرى مانعا من العمل بما قاله الحنفية والحنابلة رحمهم الله تعالى، لاسيما في هذه الأزمان التي اصبح الناس لا يرضون فيها بالقليل، ولا يقنعون بربح يتوافق وما آتاهم الله تعالى من مال، وان كان الأورع ان يكون العمل متفقا عليه لدى فقهاء الأمة، وهو الأحوط في دين الله عزّ وجل.(7/66)
ما يترتب على صحة العقد من آثار:
إذا توفرت شروط شركة العِنان صحّت وترتب على ذلك الآثار التالية:
1 - تُطلق يد كل من الشركاء في مال الشركة، لأنه وكيل عن شركائه واصيل عن نفسه، ولكن يتقيد هذا الإطلاق بالعُرف وعدم الإضرار بالشركاء.
2 - وعليه: فلا يبيع بالنسيئة - أي بتأجيل الثمن الى زمن معين - ولا بغير النقد الغالب في البلد كما لا يبيع ولا يشتري بغبن فاحش، ولا يسافر بمال الشركة، إلا إذا أذن له الشركاء في شئ مما ذُكر فإنه يصح تصرفه فيه، فإذا لم يأذنوا له به كان تصرفه باطلا.
3 - يجب العمل على الشركاء حسب الاتفاق.
4 - إذا اشترى أحدهم شيئاً بمال الشركة - بالشرط المذكور سابقا - كان الشراء للجميع، لأنه وكيل عنهم، الا ان البائع يطالب المشتري وحده، لأن الشركاء الآخرين غير كافلين له.
فساد الشركة وما يترتب عليه:
علمنا ان للشركة شروطا اذا تحققت كان العقد صحيحا، وترتبت عليه آثاره السابقة، واذا اختلّ شئ منها كانت الشركة فاسدة.
فإذا علم فسادها قبل البدء بأعمال الشركة لم يترتب على ذلك شئ من آثار العقد وينبغي تجديد العقد على وجه صحيح اذا اريد الاستمرار بالشركة.
واذا تبين الخلل بعد البدء بأعمال الشركة وجب التوقف عن الاستمرار بذلك، وتجديد العقد على وجه صحيح إذا أريد الاستمرار بها وترتب على تبين فساد الشركة فيما مضى الأمور التالية:
1 - يقسم ما ظهر من ربح على الشركاء بمقدار ما لكل من رأس المال، لأن الربح استفيد من المال، وقد تبين بطلان الشركة، فيرجع الى الأصل وهو المال، فتكون نسبة ربح كلٍّ من الشركاء بنسبة مشاركته بالمال.
2 - يرجع كل شريك على الشركاء الآخرين بأُجرة عمله من اموالهم الخاصة، لأنه تبّين انه كان اجيرا لهم وليس شريكا.(7/67)
3 - كلُّ ما قام به الشركاء من تصرفات تعتبر نافذة، لأن كلاً منهم تصرف بإذن من الآخرين.
انتهاء عقد الشركة الصحيحة:
ينتهي عقد الشركة بأمور، هي:
1 - فسخ عقد الشركة من قبل الشركاء أو بعضهم، فإن عقد الشركة عقد جائز، أي لكل من الشركاء ان يفسخه متى شاء، والفسخ إنهاء لها، فإذا كانا شريكين فقد انتهت الشركة بينهما، وان كانوا اكثر وفسخ احدهم بقيت الشركة في حق من لم يفسخ.
2 - موت الشركاء، فإذا مات الشركاء فقد انتهت الشركة، لزوال المُلْك عن المتعاقدين وخروجهم عن اهلية التصرف، لأن الشركة تتضمن الوكالة كما علمنا ولا تنتقل الى الورثة، لأن الورثة لم يتعاقدوا على الشركة، فإذا مات احد الشركاء: فإن كانا شريكين فقد انتهت الشركة ايضا، وان كانوا اكثر من اثنين انتهت الشركة في حق من مات وحده، وبقيت قائمة بين الشركاء الآخرين، لأن الوكالة في حقهم باقية، وتصرفهم جائز وصحيح.
ويكون الفسخ والانتهاء من تاريخ وفاة الشريك ولو لم يعلم الشركاء الآخرون، لأن الموت عزل حكمي عن الوكالة بالتصرف
3 - الجنون او الإغماء: فإذا جن احد الشركاء او اغمي عليه فقد انفسخت الشركة في حقه وانتهت، لزوال العقل الذي هو مناط التكليف، لكن يشترط في الإغماء ان يستغرق وقت فرض صلاة حتى تنفسخ به الشركة، فإن لم يستغرق ذلك لم يؤثر.
وفي حال الجنون ينتقل الحكم الى الوليّ: فإن شاء اختار قسمة المال، وان شاء اختار استئناف الشركة بعقد جديد.
واما في حال الإغماء: فإن رُجي زواله عن قرب لم ينتقل الحكم الى وليه، لأنه لا يولي عليه في هذه الحالة. فإذا افاق: فإن شاء اختار القسمة، وان شاء استأنف الشركة بعقد جديد ولو بلفظ التقرير. فإن أُيس من افاقته عن قرب، او استمر اغماؤه ثلاثة ايام فأكثر انتقل الحكم الى وليّه كما في الجنون، فإن شاء اختار قسمة المال، وان شاء استأنف الشركة.(7/68)
الباب الخامس
القراض
"المضاربة"(7/69)
القراض
تعريفه:
القراض: مشتق من القرض وهو القطع، سمى به هذا العقد لأن مالك المال يقطع من ماله جزءاً يعطيه للعامل يتصرف فيه، كما يقطع له جزءاً من ربح هذا المال، ويسمى مقارضة، وهو المساواة، لتساويهما في الربح.
والمضاربة: مشتقة من الضرب في الأرض وهو السفر، سمِّيت به هذه الشركة لأن الغالب فيها السفر لجلب البضاعة وتسويقها وجلب الربح ونحو ذلك.
وهذه الشركة في عُرْف الفقهاء: ان يدفع مالك المال مالا لغيره ليعمل به ويتجر فيه، على أن يكون الربح مشتركاً بينهما، ومن هنا سميت شركة، لاشتراكهما في الربح.
مشروعيته:
هذا النوع من الشركة جائز ومشروع، دّل على مشروعيته السنّة، وانعقد عليه إجماع المسلمين.
- فقد روي عبدالله بن عباس رضى الله عنهما عن أبيه العباس بن عبدالمطلب رضى الله عنه: أنه كان إذا دفع مالاً مضاربة اشترط على صاحبه: أن لا يسلك به بحراً، ولا ينزل به وادياً، ولا يشترى به دابة ذات كبد رطبة، فإن فعل ذلك ضمن. فبلغ شرطه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجازه. (اخرجه البيهقي في كتاب القراض: 6/ 111).(7/71)
- وعن صهيب رضى الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث فيهنّ البركة: البيع إلى أجل، والمقارضة، وخلط البُرّ بالشعير للبيت لا للبيع". (اخرجه ابن ماجه في التجارات، باب: الشركة والمضاربة، رقم: 2289).
وهذه الأحاديث وان كان في سند كل منها ضعف، لكنها بمجموعها تقوي فتصبح مقبولة صالحة للاحتجاج بها، ولاسيما وقد ايدها عمل الصحابة رضى الله عنهم وإجماعهم على مشروعية هذا العمل.
وإليك نماذج من هذا العمل:
روى زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال: خرج عبدلله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب - رضى الله عنهم - في جيش الى العراق، فلما قفل مرّا على ابي موسى الأشعري رضى الله عنه - وهو أمير البصرة - فرحب بهما وسهّل، ثم قال: لو أقدر لكما على أمر أنفعكما به لفعلت. ثم قال: بلى، هاهنا مال من مال الله أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين، فأسلفكماه، فتبتاعان به متاعاً من متاع العراق، ثم تبيعانه بالمدينة، فتؤديان رأس المال الى أمير المؤمنين ويكون الربح لكما. فقالا: وددنا ذلك. ففعل، وكتب الى عمر بن الخطاب أن يأخذ منهما المال. فلما قدما باعا فأربحا، فلما دفعا ذلك الى عمر قال: أكل الجيش أسلفه مثل ما أسلفكما؟ قالا: لا، فقال عمر بن الخطاب: أبنا أمير المؤمنين فأسلفكما، أدّيا المال وربحه. فأما عبدالله فسكت، واما عبيد الله فقال: ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين هذا، لو نقص هذا المال او هلك لضمناه. فقال عمر: أدّياه، فسكت عبدالله وراجعه عبيدالله، فقال رجل من جلساء عمر: يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضاً، فقال عمر: قد جعلته قراضاً، فأخذ عمر رأس المال ونصف ربحه، واخذ عبدالله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب نصف ربح المال.
- وعن العلاء بن عبدالرحمن عن ابيه عن جدّه: ان عثمان - رضى الله عنه - اعطاه مالا قراضاً يعمل فيه، على أن الربح بينهما.
(اخرجهما مالك في الموطأ: اول كتاب القراض، باب: ما جاء في القراض: 2/ 687. والبيهقي في السنن: كتاب القراض: 6/ 111).
- وعن حكيم بن حزام رضى الله عنه: أنه كان يشرط على الرجل إذا اعطاه(7/72)
مالاً مقارضة يضرب له به: ان لا تجعل مالي في كبد رطبة، ولا تحمله في بحر، ولا تنزل به بطن مسيل، فإن فعلت شيئا من ذلك فقد ضمنت مالي. (اخرجه البيهقي في السنن: القراض: 6/ 111).
فهذه الآثار عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على تعاملهم بالقراض، وجرت منهم على علم ومسمع من غيرهم، ولم ينقل عن أحد منهم إنكار لها، فصار ذلك إجماعاً على مشروعيته.
وعلى هذا أجمعت الأمة في جميع الأعصار.
حكمة مشروعيته:
علمنا ان حكمة مشروعية الشركة عامة هو تنمية المال، وتحقيق التعاون بين أفراد المجتمع، وتحقيق التكامل بين القدرات والإمكانيات والكفايات، بالاستفادة ممّن لديه المال الكثير وقد تكون الخبرة لديه قليلة، والاستفادة ممّن لديه الخبرة الواسعة وربما كان المال لديه قليلاً، الى غير ذلك من الصور.
وهذا المعنى في الشركة عامة يوجد في المضاربة على اتمّ وجه وأعلى نسبة، لما فيها من تحصيل المال اصلاً لمن لا يوجد لديه غالبا، وتحقيق الفائدة لمن عنده المال ولا خبرة عنده اصلاً، فكانت الحاجة ماسة الى هذا النوع من الشركة، لتحقيق التعاون والنفع بين هذين الصنفين من الناس، ورعاية للمصلحة العامة في الاستفادة من وظيفة المال التي هي قوام معاش الناس، والخبرة التي وهبها الله عز وجل لتسخر في أمور الناس: "ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا". (الزخرف: 32).
حكم عقد القراض:
عقد القراض والمضاربة وعقد جائز، أي غير لازم، بمعنى ان كلا من المتعاقدين - أي صاحب المال والعامل - له الحق ان يفسخ هذا العقد، سواء ابدأ العامل بالتصرّف - أي الشراء والبيع ونحو ذلك - ام لم يبدأ.
فإذا كان الفسخ قبل الشروع بالعمل لم يجز للعامل ان يتصرف بشئ من راس المال، لأنه تصرف في غير ملكه بغير اذن مالكه.(7/73)
وإذا كان الفسخ بعد الشروع بالعمل توقف العامل - أي الشريك المضارب - عن شراء شئ جديد، ووجب عليه بيع ما لديه من سلع بالنقد المتعامل به في البلد، واستيفاء الديون العائدة الى هذه الشركة، ثم يجري الحساب، ويسترد صاحب المال رأس ماله، ويتقاسمان الربح بينهما حسب اتفاقهما.
أركان عقد المضاربة:
أركان عقد المضاربة ثلاثة: صيغة، وعاقدان، ورأس مال.
1 - الصيغة: وهي الإيجاب والقبول بألفاظ تدل على الرضا بهذا العقد وهذه الشركة.
فالإيجاب: كقوله: ضاربتك وقارضتك وعاملتك، وما يؤدي هذه المعاني من الألفاظ كقوله: خذ هذه الدراهم واتجر فيها، وما يحصل من ربح بيننا مناصفة، او ثلث لي وثلثان لك، ونحو ذلك.
والقبول: أن يقول العامل المضارب: قبلت ذلك، أو رضيت أو نحو ذلك مما يدل على الرضا بهذا.
ويشترط في الصيغة: ان تكون منجزة، فلا يصح تعليقها على شرط، كإذا جاء رمضان فقد قارضتك، ونحو ذلك.
كما يشترط ن يكون القبول متصلا بالإيجاب عرفا، فلو فصل بينهما سكت طويل او كلام لا علاقة له بالعقد لم يصح.
2 - العاقدان: وهما صاحب المال والعامل.
ويشترط فيهما أهلية الوكالة والتوكيل، لأن المالك كالموكِّل، والعامل كالوكيل، إذ أن العامل يتصرف في مال صاحب المال بإذن منه، فلو كان أحدهما محجوراً عليه لسفه - أي لسوء تصرفه بالمال - لم يصحّ العقد، وكذلك لو كان العامل أعمى، لأنه ليس أهلاً لأن يكون وكيلاً في البيع والشراء وأعمال التجارة. أما لو كان صاحب المال أعمى لم يضرّ ذلك، لأنه يصح منه أن يوكل غيره بذلك.(7/74)
3 - رأس المال: ويشترط فيه:
1) أن يكون من النقود، كالدراهم والعملات المتعارفة اليوم، ولا يصحّ أن يكون عروضاً - أي سِلَعاً - تجارية، لأن في ذلك غرراً فاحشاً، إذ يصبح كل من الربح ورأس المال مجهولاً، لأن العرض تختلف قيمته بين يوم قبضه ويوم بيعه او ردّه. والأصل في عقد القراض أنه فيه غرر، لأن العمل فيه غير مضبوط، والربح غير موثوق به، وإنما جاز لحاجة الناس إليه كما بينا، فلا يضاف إليه غرر آخر، ولذا يقتصر فيه على ما يروج بكل الأحوال وتسهل التجارة به، وهو النقود.
2) ويشترط أن يكون رأس المال معلوم المقدار، فلا تصحّ المضاربة على مال مجهول القدر، كي لا يكون الربح مجهولاً.
3) ان يكون معيناً، فلا تصحّ المضاربة على مال في الذمّة، إلا إذا أخرجه في مجلس العقد وعينه، وكذلك لا تصح على دين له في ذمة العامل، إلا إذا نقده في المجلس ايضاً.
4) ان يكون مسلَّماً الى العامل، أي أن يكون في يد العامل وهو وحده الذي يتصرف فيه، فلا يصح اشتراط أن يكون المال في يد المالك أو غيره، ليعطى العامل منه ثمن ما يشتريه في كل صفقة، كما لا يصح ان يشترط عليه مراجعة صاحب المال في كل تصرف، لأنه قد لا يجده عند الحاجة الى ذلك، فيكون في ذلك تضييق عليه وإضرار به.
شروط عقد المضاربة:
1 - الإطلاق وعدم التقييد:
يشترط في المضاربة أن تكون مطلقة، أي لا تصحّ المضاربة فيما اذا قيّد صاحب المال العامل بشراء شئ معين كهذه السجادة مثلاً، أو نوع معين من شخص معين كحنطة زيد، أو من بلد صغير، كحنطة هذه القرية وهي صغيرة قليلة الإنتاج، أو معاملة شخص بعينه، كالشراء من عمرو وبيعه، أو المتاجرة بشئ يندر وجوده.(7/75)
ولا يشترط تعيين مدة للقراض، فإن عيّن مدة لا يتحقق فيها الغرض أي لا يتمكن فيها من الشراء للبضاعة المطلوب المتاجرة فيها، وكذلك بيعها وتسويقها ليحصل الربح الذي هو المقصود من هذا التعامل، فسدت هذه الشركة.
وإن عيَّنَ مّدةً يتمكن فيها من الشراء، ومنعه من الشراء بعدها ولم يمنعه من البيع صحّ ذلك، لحصول الاسترباح بالبيع الذي له فعله بعد تلك المدة.
2 - اشتراكهما في الربح واختصاصهما به:
يشترط ان يكون الربح مشتركا بين صاحب المال والعامل، ليأخذ المالك نماء ماله والعامل ثمرة جهده، فيملك صاحب المال الربح بملكه والعامل بعمله، فلو شرط الربح لأحدهما خاصة فسدت الشركة، لمخالفة هذا الشرط لمقتضى العقد.
ولو شرط ان يكون الربح كله للعامل فسد العقد، وكان الربح كله لصاحب المال، واستحق العامل اجرة مثله، لأنه عمل طامعاً في المنفعة والربح.
ولو شرط ان يكون الربح كله لصاحب المال فسد العقد ايضاً، ولم يكن للعامل شئ، لأنه يعتبر متبرعاً في هذه الحالة بالعمل، إذ لم يكن لديه طمع في أن يحصل على شئ من الربح.
ويشترط ان يكون نصيب كل منهما من الربح معلوم القدر بالجزئية، أي ان يكون نصيبا شائعا معلوما، كالربع مثلا، او خمسين في المائة، او اكثر او اقل.
فلا يصح العقد اذا لم يكن نصيب كل منهما من الربح معلوما، لأن الربح في هذا العقد هو المقصود، فهو محل العقد، أي المعقود عليه، وجهالة المعقود عليه توجب فساد العقد، كجهالة المبيع في البيع.
وكذلك لا يصحّ العقد إذا كان الربح المشروط لأحدهما قدراً معينا بالعدد، كأن يشرط ان يكون لأحدهما ألف مثلا من الربح، او اكثر او اقل، لاحتمال ان لا يكون الربح كله اكثر من هذا المقدار، فيختص به من شرط له، فلا يتحقق اشتراكهما في الربح، فلا تكون شركة، ولا يكون التصرّف قراضا او مضاربة، فيفسد العقد، وفي هذه الحالة يكون الربح كله لصاحب المال، ويكون للعامل اجرة مثله.(7/76)
وكذلك الحال لو شرط للعامل نصيب جزئي من الربح ومقدار معين منه، كأن يشرط له راتب شهري قدره الف - مثلا - وخمسة في المائة من الربح، للمعنى المذكور قبله، واحتمال أن لا يكون الربح أكثر مما عيّن له.
وعليه يتبّين فساد الكثير من تصرفات الناس في هذا الزمن، حيث يتعاقدون مع من يعمل بأموالهم، على ان يتقاضى راتبا شهريا معينا، ويكون له نسبة معينة من الارباح عند الجرد السنوي او غيره.
وكذلك يشترط أن يكون الربح خاصا بهما، أي بصاحب المال والعامل، ولا يجوز ان يشرط جزء منه لغيرهما، الا اذا شرط عليه ان يعمل مع العامل، فيكون قراضا بين صاحب المال وعامِلَيْن أو أكثر.
3 - استقلال العامل بالتصرّف والعمل:
فلا تصحّ المضاربة إذا شرط فيها ان أيشارك صاحب المال العامل ي العمل والتصرف، لأن شرط ذلك يعني بقاء المال على يد صاحب المال، وقد علمنا انه يشترط ان يكون المال في يد العامل.
فإذا لم يشرط ذلك، واستعان العامل بصاحب المال في العمل، جاز ذلك، لأن الاستعانة به لا توجب خروج المال من العامل إليه.
يد العامل المضارب:
العامل المضارب يده يد أمانة على المال الذي استلمه، وكذلك السلع التي اشتراها به أو بجزء منه، والمراد بيد الأمانة: انه لا يضمن ما تلف في يده من اموال المضاربة الا اذا تعدّى أو قصر في واجبه، وذلك بخلاف من كانت يده يد الضمان على ما في يده، فإنه يضمن مطلقا، سواء اقصر ام لم يقصر، تعدى ام لم يتعد.
ومن التعدّي أن يفعل ما ليس له فعله، مما سنذكره بعد قليل.
الخسارة على صاحب المال:
ولما كانت يد المضارب يد أمانة كانت الخسارة عند انتهاء المضاربة على صاحب المال وحده، وليس على العامل منها شئ، لأنها في حكم تلف بعض مال المضاربة، وهو غير ضامن لذلك طالما انه لم يتعد ولم يقصر.(7/77)
ما ليس للمضارب فعله:
هناك أُمور لا بدّ للمضارب من التزامها وعدم مخالفتها، ومنها:
1 - أن لا يشتري للقراض بأكثر من رأس المال المدفوع إليه وما يحصل معه من ربح، لأن المالك لم يرضَ ان يشغل ذمته بأكثر من ذلك.
2 - لا يسافر بالمال إلا بإذن من صاحبه، لأن السفر يغلب فيه الخطر على المال، فإن اذن له جاز بحسب الإذن ان قيّده، وإن أطلق الإذن سافر الى البلاد المأمونة بحسب ما جرت به عادة التجار.
3 - لا يبيع بالنسيئة، أي بتأجيل الثمن الى أجل، إلا إذا أذن له المالك بذلك، لاحتمال تلف المال في هذا.
4 - لا يجوز له ان يقارض عاملاً آخر ليشاركه في العمل والربح على الأصح، حتى ولو أذن له صاحب المال بذلك، لأن موضوع القراض: أن يكون أحد العاقدين مالكاً لا عمل له، والآخر عاملاً لا ملك له، ومقارضة العامل لآخر على خلاف ذلك، إذ إنه يجري بين عاملين لا ملك لهما.
فإذا حصل مثل ذلك كان العقد الثاني باطلاً، وبقى العقد الأول على صحته، فإن تصرّف العامل الثاني بما دفع له من مال كان له أُجرة مثله من صاحب المال، وكأن ربح المال الذي دفع له كله لصاحب المال، وليس للعامل الأول منه شئ لأنه لم يعمل شيئا لتحصيله.
5 - لا ينفق على نفسه مال المضاربة حال الإقامة في بلده قولاً واحداً، لأن العرف لا يقضي بذلك، ولأن النفقة قد تستغرق الربح كله، فيلزم من ذلك انفراد العامل به دون صاحب المال، وهذا ينافي شروط هذا العقد، وإذا لم تستغرقه لزم أن يختصّ بجزء معين من الربح، وهذا ينافيه ايضاً.
والأظهر أنه ليس له الإنفاق ايضا حال السفر، للمعنى المذكور. وقيل: له ان يأخذ ما يزيد على النفقة بسبب السفر إذا أنفق بالمعروف.
وقال الحنفية رحمهم الله تعالى: له ان يأخذ جميع نفقته من مال المضاربة إذا سافر، لأنه اصبح بالسفر محبوساً لها، فاستحق النفقة مقابل احتباسه.(7/78)
ولا نرى مانعاً من الأخذ بهذا الرأي إذا دعت الحاجة إليه، على أن يشرط ذلك في العقد، لأن شرط مثل ذلك في العقد يفسده.
ما على العامل فعله:
على العامل ان يقوم بكل عمل يلزم للمضاربة إذا كان من عادة أمثاله القيام به، أو كان من عادة التجّار ونحوهم القيام به بأنفسهم، حتى ولو لم يعتد هو بالذات فعل ذلك.
فإذا استأجر على القيام بما يلزمه عرفاً كانت الأُجرة في ماله خاصة، لا في مال القراض ولو شرط على المالك الاستئجار عليه من مال المضاربة لم يصحّ العقد، لأنه شرط ينافي مقتضى العقد، إذ أن مقتضاه أن غير المالك للمال هو الذي يقوم بالعمل، وما لا يلزمه القيام به من العمل حسب العُرْف له ان يستأجر عليه من مال المضاربة، لأنه من تتمة التجارة ومصالحها، والعُرْف لا يلزمه بالقيام به، حى ولو اعتاد فعله، ولكن لو قام به بنفسه كان متبرعاً، ولم يجز له ان يأخذ اجرة مثله من مال المضاربة، لأنه يكون قد استأجر نفسه، وذلك غير صحيح.
متى يملك العامل حصته من الربح؟
إذا أستلم العامل رأس مال المضاربة وتصرّف به في البيع والشراء، وظهر فيه ربح بهذا التصرف، فالأظهر أن العامل لا يملك حصته من هذا الربح حتى ينض جميع المال، أي تباع السلع جميعها ويعود المال نقداً، ثم يتقاسم المالك والعامل الربح بعد تمييز راس مال المضاربة منه، لأنه من المحتمل ان تحصل خسارة قبل القسمة، فتُجبر من الربح، لأن الربح في هذه الشركة وقاية للمال.
على أن حق العامل في هذا قبل القسمة مؤكد، ولذا لو أتلف المالك مال المضاربة او استردّه قبل القسمة غرم للعامل نصيبه من الربح الذي ظهر، ولو مات العامل كذلك قبل القسمة ورث عنه هذا النصيب.
ما يطرأ على رأس المال من النقص:
إذا طرأ على رأس مال المضاربة بعد العقد نقص، فمّن يتحمل هذا النقص؟(7/79)
للجواب على ذلك نقول: يُنظر:
- فإن كان النقص قد طرأ قبل تصرف العامل به ودون تعٍّد منه أو تقصير: فالأصح أنه يكون من رأس المال، ويتحمله المالك، لأن عقد المضاربة يتأكد بالعمل والتصرف، وذلك لم يحصل بعد.
- وان طرأ النقص بعد التصرف يُنظر:
- فإن كان ذلك بسبب رخص الأسعار بعد الشراء به، او عيب حدث كمرض في الحيوان او فساد في الثمار مثلا، فهو محسوب من الربح ومجبور به ما امكن قولاً واحداً، لاقتضاء العُرْف ذلك، ولأن الربح وقاية للمال كما علمنا.
- وان كان ذلك النقص حصل بسبب آفة سماوية كحريق او غريق ونحو ذلك، او غصب او سرقة، فالأصح - أيضاً - أنه يحسب من الربح ويُجبر به.
انتهاء عقد المضاربة:
ينتهي عقد المضاربة بأمور، هي:
1 - الفسخ: فقد علمنا ان عقد القراض عقد جائز، لكلٍّ من المالك والعامل فسخة متى شاء، قبل تصرّف العامل او بعده، وسواء اكان الطرف الآخر حاضراً ام غائباً، رضى او لم يرضَ.
فإذا فسخه احدهما او كلاهما فقد انتهت المضاربة من تاريخ الفسخ، ولو لم يعمل الآخر بذلك، ويحصل بقول المالك: فسخت القراض أو أبطلته، او لا تتصرف بعد الآن، ونحو ذلك.
وليس للعامل بعد الفسخ ان يشتري شيئاً من مال المضاربة، ولو اشترى شيئا به قبل العلم لم ينفذ شراؤه، ولو ان يبيع ما عنده من عروض اذا توقع فيها ربحا ظاهرا، وعيله ان يبيعها ليصبح رأس المال نقودا ويظهر الربح، ان طلب المالك منه ذلك كما يلزمه استيفاء الديون الراجعة لمال القراض.
2 - موت أحد المتعاقدين: لأن من شرطها اهلية التوكيل كما علمت، وبالموت تبطل الوكالة، ولكن لو مات المالك كان للعامل بيع ما في يده لينضّ المال،(7/80)
أي يصبح نقودا، بغير إذن ورثة المالك، استصحابا لإذن المالك السابق، وليظهر الربح. بخلاف ما لو مات العامل، فإنه ليس لورثته تنضيض المال الا بإذن المالك، لأنه لم يرض بتصرفهم، وانما رضى بتصرف مورثهم.
3 - جنون أحد العاقدين أو إغماؤه، وإن زال ذلك عن قرب، لأن كلا منهما لو قارن العقد لم يصح، فكذلك اذا طرأ عليه قطعه. ويقوم العامل بتنضيض المال لو كان الذي جن أو أغمى عليه المال، وولى العامل بإذن المالك لو كان الذي جن أو أغمي عليه العامل.
4 - هلاك رأس مال المضاربة: لأنه محل العقد، فإذا هلك لم يبق معنى للعقد، وسواء أكان ذلك التلف بآفة سماوية كالحريق والغريق، ام بإتلاف المالك، ام العامل، ولكن يستقر نصيب العامل فيما اذا كان المُتْلِف هو المالك.
فإذا كان المتلف هو العامل: فإذا لم يُؤخذ منه البدل انتهت المضاربة، وأن أُخذ منه البدل استمرت. وكذلك الأمر إذا اتلفه غيرهما: إن لم يؤخذ منه بدل انتهت المضاربة، وإن أُخذ منه بدل لم تنته.
والمطالب بالبدل في هذه الحالة: المالك إن لم يكن ربح، فإن كان ربح كانت المطالبة للمالك والعامل، لأنهما مشتركان في البدل.
اختلاف العامل والمالك:
1 - لو اختلف العامل والمالك في الربح، فقال العامل لم أربح شيئاً، أو: لم أربح إلا كذا، صُدّق العامل بيمينه، لأن الأصل عدم الربح. فإذا اقرّ بربح قدر معين، ثم أدّعى غلطاً في الحساب، لم يقبل قوله، لأنه رجوع عمّا أقرّ به من حق لغيره، فلا يقبل.
2 - ولو اختلفا في شئ: فقال المالك: اشتريته للقراض، وقال العامل: اشتريته لنفسي، او بالعكس، صُدِّق العامل ايضا بيمينه ان كان الشراء في الذمة، لأنه مؤتمن، وهو أدرى بقصده، ولو كان الشراء بعين مال القراض: فإنه لا يقبل قوله ولو نواه لنفسه، فيقع المشتري للقراض.(7/81)
3 - ولو أختلفا في قدر رأس المال أو جنسه، فالمصدَّق العامل ايضا بيمينه، لأن الأصل عدم دفع زيادة عليه.
4 - ولو أختلفا في دعوى تلف رأس المال: فقال المالك: تلف بتعدٍّ او تقصير، وقال العامل: بل بلا تعدٍّ ولا تقصير، صدِّق العامل بيمينه، لأنه مؤتمن، والأصل عدم الخيانة والضمان.
5 - ولو اختلفا في ردّ رأس المال: فادّعى العامل ردّه، والمالك عدم ردّه، صدق العامل بيمينه، لأنه مؤتمن، وكل امين ادعى الرد على من ائتمنه صُدق بيمينه.
6 - ولو ادعى المالك بعد تلف المال انه قرض، وادعى العامل انه قراض، صدق المالك بيمينه، لأن العامل اعترف بالقبض وادعى سقوط الضمان، والأصل عدم سقوطه.
ومثله: لو ادعى العامل القراض، وادعى المالك التوكيل، صدق المالك بيمينه، لأنه اعلم بقصده. ولا اجرة للعامل، لأنه مقر بعدم استحقاق الأجر.
7 - ولو اختلفا في المشروط له: أهو الربع أم الثلث ونحو ذلك؟ تحالفا، أي حلف كل منهما على ما ادّعاه، لاختلافهما في عِوَض العقد مع اتفاقهما على صحته، فكل منهما مدَّعٍ ومدّعى عليه، فيحلف كل منهما على إثبات دعواه ونفى دعوى الآخر، فإذا حلفا كان للمالك جميع الربح لأنه نماء ملْكه، وللعامل اجرة مثل عمله، لأنه لا يمكن رجوعه بعمله، فيرجع بقيمته، وهي أُجرة المثل.(7/82)
الباب السادس
الوديعة(7/83)
الوَديعَة
تعريفها:
هي - في اللغة - ترك الشئ عند غير صاحبه ليحفظه، وتطلق على الشئ المتروك. مشتقة من الوَدْع وهو التَرْك، ورد في الحديث: "لينتهينّ أقوام عن ودعهم الجُمُعات، او ليختمنّ الله على قلوبهم، ثم ليكونُنْ من الغافلين". (مسلم: في الجمعة، باب: التغليظ في ترك الجمعة، رقم: 865).
والمراد بقوله: "ودعهم الجمعات" أي صلاة الجمعة، وتكرار ذلك منهم.
وهي في الاصطلاح الشرعي: تطلق ويراد بها الشئ المودوع، كما تطلق بمعنى العقد وهو الإيداع، وهذا هو المقصود في الباب غالباً، وهي بهذا المعنى: توكيل في حفظ مملوك، او محترم مخصوص، على وجه مخصوص.
والمراد بالمملوك: ما يصحّ تملكه شرّعا، كالأعيان الطاهرة والمباحة الاستعمال، وبالمحترم المخصوص: ما لا يصحّ تملّكه شرعاً، ولكن يصح وضع اليد عليه والاختصاص به، كالكلب المعلّم، ومعنى محترم: أي غير مأمور بإتلافه.
وسنوضح هذا عند الكلام عن أركان الوديعة.
مشروعيتها:
الوديعة مشروعة، وقد دلّ على مشروعيتها القرآن والسنة والإجماع:
اما القرآن:
فقوله تعالى: (إن الله يأمركم ان تؤدوا الأمانات الى اهلها) (النساء: 58) وقوله تعالى: "فإن أمِنَ بعضُكم بعضاً فليؤد الذي اؤتمن امانته". (البقرة: 283).(7/85)
والأمانة لفظ عام، يتناول كل ما استُحفظ عليه الإنسان من دين او عين، والائتمان على العين هو الوديعة. وأداؤها يعني: ان يكون المؤتمن موضع حسن ظن من ائتمنه، فيحفظ ما استودع عنده او اؤتمن عليه، ويرده على صاحبه.
والأمر بردّ الأمانات وحفظها يتضمن الإخبار بمشروعيتها.
وأما السنّة:
فما رواه ابو هريرة رضى الله عنه: ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أدّ الأمانة الى مَن ائتمنك، ولا تُخن مَن خانك". (اخرجه ابو داود في البيوع والاجارات، باب: في الرجل يأخذ حقه من تحت يده، رقم: 3535. والترمذي في البيوع، باب: حدثنا ابو كريب .. ، رقم: 1264).
ووجه الاستدلال بالحديث هو نفس الاستدلال بالآيتين.
وروى انه صلى الله عليه وسلم كانت عنده ودائع لأهل مكة، فلما أراد الهجرة اودعها عند ام ايمن بركة الحبشية رضى الله عنها، وامر عليا ان يردّها على أصحابها.
وأما الإجماع:
فقد اتفق علماء المسلمين في كل عصر - من لدن الصحابة رضى الله عنهم الى يومنا هذا - على ان الوديعة جائزة ومشروعة.
حكمة مشروعيتها:
واضح ان الحكمة من مشروعية الوديعة هي التيسير على المسلمين، وتحقيق مصلحتهم ودفع الحرج والضرر عنهم، فهم في حاجة شديدة لأن يستعين بعضهم ببعض لحفظ امواله، وصيانة امتعته:
فقد يكون لدى أحدهم مال، ولا يكون عنده موضع امين يحفظه فيه، او يكون عاجزاً عن دفع الأيدي الآثمة عنه، ويكون هناك مَن عنده حرز لحفظ هذا المال، ولا يُصطلي له بنار، فلا يجرؤ أحد من السفهاء أن يقترب من داره او مخزنه، فيستودعه ماله.
وقد يكون أحدهم يريد سفراً لقضاء مصالحه، ولا يأمن أن يترك ماله وما لديه دون رعاية أو اشراف.(7/86)
وكذلك قد يكون المرء في السوق، فيشتري من السلع ما يحتاج اليه من مواضع متعدّدة، ولا يتمكن من حمل هذه الأمتعة والتجوّل بها من مكان لآخر، فيستودعها مَن يحفظها له ألى أن يقضي عمله.
وكثيرا ما يقتني الناس سلعا، قد لا يحتاجونها الآن، وإنما يحتاجون اليها في مستقبل الأيام، ولا يجدون المكان الذي يحفظونها فيه في دورهم ونحوها.
فالحاجة داعية في كل ما سبق الى الإيداع والاستيداع، والله تعالى يقول: "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" (البقرة: 185). فمشروعية الوديعة تيسير ومنعها عسر، وهو سبحانه يقول: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) (المائدة: 2). وفي مشروعيتها تعاون على البر، ومنع من الإثم والعدوان، والله تعالى أعلم.
حكمها:
يتناول الوديعة الأحكام الخمسة، وهي:
1 - الاستحباب: فالأصل في الوديعة انها مستحبة، أي مندوبة، وذلك إذا كان الوديع قادراً على حفظها، واثقا من أمانة نفسه، وكان يوجد غيره ممّن هو مثله في الأمانة والقدرة على الحفظ، وذلك لما فيها من عون المسلم لأخيه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: والله في عون العبد ما دام العبد في عون اخيه". (مسلم: الذكر والدعاء، باب: فضل الاجتماع على تلاوة القرآن .. ، رقم: 2699).
2 - الوجوب: ويصبح قبول الوديعة واجباً على الوديع، اذا عُرضت عليه وكان امينا واثقا من امانة نفسه وقدرته على حفظها، ولا يوجد غيره مثله، لأن في عدم قبوله لها تضييعا للمال، وفي قبولها صيانة لمال غيره، ورسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن اضاعة المال، وبيّن حرمة مال المسلم فقال: "حرمة مال المؤمن كحرمة دمه". فكما يجب على المسلم ان يدافع عن اخيه ويصونه من ان يسفك(7/87)
دمه كذلك يجب عليه ان يحافظ على ماله ان خاف ضياعه.
3 - الكراهة: وقد يكون قبول الوديعة مكروها في حق الوديع، وذلك اذا كان امينا وقت عرضها عليه، ولكنه لا يثق ان يبقى امينا في المستقبل، فيكره له قبولها خشية الخيانة فيها وتضييعها على مالكها.
4 - التحريم: أي يحرم على الوديع قبول ايداع ما عرض عليه ايداعه، وذلك اذا كان يعلم من نفسه العجز عن حفظها، لأن في قبوله للوديعة - والحالة هذه - تضييعا لها، وتعريضها للتلف، فيدخل تحت النهي عن اضاعة المال.
5 - الإباحة: بمعنى ان للوديع ان يقبل الإيداع وله ان لا يقبل، ويستوى الحال بالنسبة اليه، وذلك في حال انه لا يثق بأمانته في المستقبل، او كان عاجزا عن حفظ الوديعة، وعلم المالك المودع بحاله، ورضى بإيداعها عنده.(7/88)
أركان الوديعة وشروطها
لعقد الوديعة أركان ثلاثة هي: العاقدان، والصيغة، والشئ المودع، ولكل منها شروط:
1 - العاقدان: وهما المودع المالك للشئ المودَع، والوديع وهو الذي تعرض عليه الوديعة ويُتْستَحْفَظُ عليها.
ويشترط في كلٍّ منهما: اهلية التوكيل، لأن الوديعة وكالة في الحفظ فكلّ مَن صحّ توكيله صحّ دفع الوديعة إليه، وكلّ مَن صحّ أن يوكِّل غيره صحّ إيداعه عند غيره.
وسيأتي معنا في باب الوكالة: أنه يشترط في الموكل والوكيل أن يكون كل منهما عاقلاً بالغاً، تصحّ مباشرته التصرّف الذي وَكَّل فيه إن كان موكِّلاً، والذي وُكِّل فيه إن كان وكيلاً.
فلا يصحّ أن يكون الصبي أو المجنون مودِعاً أو وديعاً، لأن كلاًّ منهما ليس من أهل الوكالة لأنه غير مكلف، وكذلك لا يصحّ أن يكون المحجور عليه لسفه وديعاً، لأن الوديعة تصرّف مالي، وهو محجور عليه فيه.
وكذلك لا يصحّ استيداع غير المسلم مصحفاً، لأنه لا يمكِّن من حمله ومسِّه، فلو أودَعَ أحد شيئا عند واحد من هؤلاء فتلف، لم يضمن، وإن قصّر الوديع في الحفظ، لأن المودِع قد قصّر في الإيداع عنده.
2 - الصيغة: وهي الإيجاب والقبول: وذلك بأن يقول المالك المودِع: أودعتك(7/89)
هذا الثوب، ويقول الوديع: قبلت، ويمكن ان يتقدّم كلام الوديع على كلام المودِع، كأن يقول: أودِع عندي ثوبك هذا، فيقول: أودعت.
ولا يشترط ان يكون لفظ من العاقدين، بل يكفي ان يكون لفظ من أحدهما وفعل من الآخر. فلو قال المودع: أودعت كتابي هذا عندك، فأستلمه الوديع كفى. وكذلك لو قال الودِيع: أودع عندي متاعك هذا، فدفعه إليه المودع المالك ولم يتكلم، صحّت الوديعة.
ولا يشترط ايضاً أن يكون صريحاً في الوديعة، بل يكفي ان يكون اللفظ كناية، مع نيّة الوديعة ووجود قرينة تدل عليها. كأن يقول: ضع لي هذا عندك، او خذه أمانة، او أنَبْتُك في حفظه، ويقبضه الوديع.
3 - الشئ المودَع: ويطلق عليه لفظ الوديعة في اكثر الأحيان.
ويشترط فيه أن يكون محترماً، أي مملوكاً أو محرزاً، ولو لم يكن مالاً، أي غير متموّل شرعاً، كحبات قليلة من الحنطة مثلاً، أو كان نجساً، ككلب صيد أو زبل.
فلو كان غير محترم شرعاً، كخنزير او آلة لهو، فلا يجوز إيداعه ولا استيداعه، ولا تنطبق عليه أحكام الوديعة.
ما يترتب على عقد الوديعة:
إذا حصل الإيداع وصحّ عقد الوديعة ترتّب عليه الأحكام التالية:
1 - وجوب حفظ الوديع لما أُودع عنده، لأن الإيداع من جانب المالك استحفاظ وائتمان، ومن جانب الوديع التزام بالحفظ، فيلزمه ذلك لأنه في حكم اشتراطه عليه، والحديث يقول: "المسلمون على شروطهم" (الترمذي: الأحكام، باب: ما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلح .. ، رقم: 1352).
وعلى الوديع أن يحفظ الوديعة في حرزِ مثلها، في مكان امين تُحفظ فيه عادةً. وكذلك عليه ان يحفظها بنفسه، وليس له أن يحفظها بغيره كولده أو زوجته أو أجيره، لأن المودِع قد رضى بأمانته وان يجعل متاعه تحت يده، ولم(7/90)
يرضَ بأمانة غيره ويده. فإذا أذن له المالك بحفظه بغيره جاز له ذلك، وكذلك إذا كان له عذر في هذا، كما اذا طرأ له سفر او وقع حريق، ولم يستطع ردّ الوديعة إلى المالك، أو وكيله أو القاضي، فله ان يدفعها الى من يحفظها.
2 - عقد الوديعة عقد جائز: أي لكلٍّ من العاقِدِيْن فسخه متى شاء دون إذن العاقد الآخر، فللمودِع ان يستردّ الوديعة متى شاَء، وللوديع ان يردّها عليه ايضا متى شاء.
فإذا طلبها المالك وجب على الوديع ردُّها له عند طلبه قدر الإمكان، لقوله تعالى: "إن الله يأمركم ان تؤدوا الأمانات الى اهلها" (النساء: 58) ولا يعني ردُّها حملَها إلى صاحبها، وانما المراد ان يخلي بينه وبينها.
3 - صفة يد الوديع: يد الوديع على الوديعة يد امانة، أي لا يضمنها اذا تلفت عنده لا اذا فرط في حفظها او تعدى عليها، ودليل ذلك:
- قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس على المستودَع غير المُغِلّ ضمان". (اخرجه الدارقطني في البيوع، رقم: 167).
- ولأنه لو كان ضامناً لامتنع الناس عن قبول الودائع، فيكون في ذلك حرج على الأمة.
- ولأن الوديع متبرع بالحفظ ومُحسِن - وان كان قد التزمه - والله تعالى يقول: (ما على المحسنين من سبيل) (التوبة: 91).
- ولأن يده على الوديعة تقوم مقام يد المالك، فكان هلاكها من يد المالك.
وعلى هذا: لو أودعه على انه ضامن مطلقاً، أو أنه غير ضامن مطلقاً، لم يصحّ الإيداع.
متى تُضمن الوديعة؟
علمنا أن الوديعة أمانة في يد الوديع، لا يضمنها اذا تلفت بدون تعدٍّ منه عليها، او تقصير في حفظها، هذا هو الأصل، وقد تصبح مضمونة عليه في الحالات التالية:(7/91)
1. إذا أودعها عند غيره، بلا اذن من المودع ولا عذر، كما سبق، فإنها تصبح مضمونة عليه.
فإذا أودعها - في هذه الحالة - عند مَن لا يصحّ إيداعها عنده، فهلكت، كان للمالك ان يُضمِّن أيهما شاء، فإن ضمّن الثاني وكان جاهلاً بالحال رجع على الأول بما ضمن، لأنه وديع غير متعدٍّ، فلا يضمن. وأن كان عالماً أن الذي أودع عنده ليس بمالك، وإنما يودع عنده وديعة غيره وبدون إذنه، لم يرجع عليه بما ضمن، لأنه في هذه الحلة غاصب لا وديع.
2. ترك الحفظ: علمنا أن واجب الوديع حفظ الوديعة، فإذا ترك ذلك، ثم هلكت الوديعة كان ضامناً لها، ويكون ترك الحفظ بما يلي:
أ- ... بنقل الوديعة من مكان الى مكان آخر دونه في الحرز، لأن في ذلك تعريضا لها للتلف، فإذا كان ما نلت اليه مساوياً لما نقلت منه في الحرز، او أحرز منه، فلا ضمان عليه، لأن مَن رضى بحرز رضي بمثله، ورضى بما هو احرز منه من باب أولى، إلا إذا نهاه المودع عن نقلها، أو كان الطريق فيه خطر عليها، فإنه يضمن في الحالتين ان نقلها وتلفت، لأن ذلك تعدٍّ منه وتقصير.
ب- ويكون ترك الحفظ ايضاً: بترك دفع الأخطار عنها وما يتلفها، لأن دفع مثل ذلك عن الوديعة واجب ما أمكن، لأنه من جملة حفظها، وذلك كما لو أودعه حيواناً، فترك علفه أو سقيه مدّة يموت مثله فيها، فمات فإنه يضمنه، سواء أمره المالك بعلفه وسقيه أم سكت، لن ذلك واجب عليه حقا لله تعالى، وبه يحصل الحفظ الذي التزمه بقبوله الإيداع.
وكذلك لو كانت الوديعة مما يحتاج الى تعريض للشمس والريح كالصوف مثلاً، او وضع عقاقير لتحفظه. فإن نهاه المالك عن دفع ما يسبّب إتلاف الوديعة، فترك ذلك وتلفت، فإنه لا يضمن على الصحيح، لأن المالك هو الذي أذن في إتلاف ما يملك. واذا كانت الوديعة حيوانا أثم بدفع التلف عنه ان امره المالك بهذا، لحُرمة الروح ولم يضمن.(7/92)
3. استعمال الوديعة والانتفاع بها: بأيّ وجه من وجوه الاستعمال والانتفاع، فيضمنها إذا تلفت ولو بعد ترك الاستعمال والانتفاع، لأنه تعدّى باستعماله ملْك غيره بغير إذنه، وبالتعدّي ارتفع الحكم الأصلي للوديعة وهو كونها أمانة في يده، فلا يعود الا بتجديد للعقد، فإذا تلفت قبل تجديد العقد كانت مضمونة عليه.
4. السفر بالوديعة: اذا طرأ للوديع سفر من بلد الإيداع فليس له أن يسافر بالوديعة، لأن واجبه حفظها في الحرز والسفر ليس من مواضعه، فيجب عليه - في هذه الحالة - ردّها على مالكها أو وكيله إن كان غائباً، فإن كانا غائبَيْن وجب عليه ان يدفعها الى الحاكم ان كان يؤتمن عليها، والا دفعها الى أمين يحفظها.
فإن سافر بها مع وجود مَن يمكن دفعها اليه ممّن ذُكر كان ضامناً لها، وإن لم يجد احدا منهم كان معذوراً أن يسافر بها، لأن السفر بها أحوط في حفظها من تركها عند مَن لا يؤتمن عليها.
وهذا الذي ذكر في حق مَن طرأ له السفر هو حكم مَن مرض مرضاً يخاف منه الموت، ومن حَضَرَتْهٌ أسباب الوفاة، فإن لم يجد مَن يدفعها إليه أوصى بها، وإلا كان ضامناً لها إذا تلفت بعد الموت لأنه يعرّضها للفوات على مالكها بترك ما ذكر، إذ قد يدّعي الوارث أنها ملك مورِّثه، اعتماداً على الظاهر، لأنها تحت يده وفي حَوْزته.
5. انكار الوديعة بغير عذر: فإذا طلب المودع الوديعة، فأنكر الوديع أن له وديعة عنده، ثم تلفت، فإنه يضمنها حتى ولو عاد فاعترف بها بعد الإنكار، لأنه بإنكاره صار غاصباً لها، ويد الغاصب يد ضمان، وقد ارتفع عقد الوديعة بالإنكار، فلا يعود الا بالتجديد.
فإن كان له عذر بالإنكار فإنه لا يرتفع به عقد الوديعة، وتبقى امانة في يده، فإذا تلفت لا يضمنها، وذلك كما إذا أجبر المالك على طلبها غاصب او ظالم، وعلم الوديع أنه إن اعترف بها استردّها الملك وانتزعها منه غير المحق(7/93)
بأخذها، فأنكرها ظاهراً دفعاً للضرر عن المالك، ثم تلفت بعد هذا، فإنه لا يضمنها، لأنه غير متعدٍّ.
6. الامتناع من ردّها بعد الطلب: علمنا ان الوديعة عقد جائز، ويترتب على ذلك: أن المودع له ان يفسخه ويطلب ردّ الوديعة، وفي هذه الحالة يجب على الوديع ان يردّها عليه فوراً، أي أن يخلّي بينه وبينها كما علمنا. فإن امتنع عن ردّها او أخّره من غير عذر ضمن، لأنه تعدّى بحبس ملك غيره بغير عذر ولا رضاّ منه فإن أخّر ذلك لعذر،: كأن طلبها في وقت لا يتمكن فيه من الردّ، او خشى إن ردّها عليه أن يغصبها منه متسلِّط، ونحو ذلك، فإنه لا يضمن.
7. خلط الوديعة بغيرها: على الوديع أن يحفظ الوديعة في حرز مثلها، دون أن يخلطها بماله او متاعه الذي لا تتميز عنه إذا خلطت به، فإذا خلطها - او اختلطت بنفسها دون قصد منه - فإنه يضمنها، لأنه تعدّى بخلطها، والمالك لم يرضَ باختلاطها بغيرها. فإذا كانت تتميّز عمّا اختلطت به او خلطت، كأن كانت دراهم فاختلطت بدنانير، او نقود سورية اختلطت بغيرها، فإنه لا يضمنها، لسهولة تمييزها، فإن كان تمييزها صعباً- كما لو كانت قمحا فاختلطت بشعير - فإنه يضمنها، لعسر تمييزها، فهو في حكم عدم التمييز.
وفي حال الضمان: يضمن مثلها ان كانت مثلية، أو قيمتها إذا لم تكن مثلية، ولكن يضمنها بأغلى القيم من يوم الإيداع الى وقت التلف كالمغصوب، وتصبح ملكاً له.
8. مخالفة شرط المودِع: كما إذا أمره أن يحفظ الوديعة بمكان معين أو بطريقة معينة، فخالف في هذا وحفظها في مكان غيره، أو بطريقة أُخرى، فتلفت بسبب هذا التغيير، فإنه يضمنها، لأن التلف حصل من جهة مخالفته.
ومن ذلك ما إذا خالف ما هو المعتاد في الحفظ، كما لو وضع على الصندوق قفلين، وقد كان يضع قفلاً واحداً، فسُرقت، فقيل: إنه يضمن، لانه بذلك اغرى السارق بنفاسة ما فيه، والأصح أنه لا يضمن، لان ما فعله مزيد احتياط في الحفظ.(7/94)
الوديعة عند اثنين:
إذا أودع رجل وديعة عند اثنين:
فإن كانت مما يُقسم - كالنقود مثلاً - فلهما أن يقسماها، ويأخذ كل واحد منهما نصفه ويحفظه عنده، فإن دفعها أحدهما للآخر كاملة ضَمِنَ نصفها، لأن المالك رضى بحفظهما للجميع ولم يرض بواحد منهما، وقيل: لا يضمن لأن المالك رضى بأمانتهما، فكان لكل واحد منهما ان يدفعها للآخر.
وإن كانت مما لا يقسم: جاز لكل واحد منهما أن يدفعها الى الآخر، ولا ضمان عليه قولاً واحداً، لنه لا يمكن حفظها الا في مكان واحد، والمالك يعلم أنهما لا يجتمعان على حفظها دائماً، فكان دفعه لها دليلا على رضاه بحفظ احدهما.
إيداع الأثنين عند واحد:
إذا أودع اثنان وديعةً عند وديع واحد، ثم جاء أحدهما يطلب استردادها، او استرداد نصيبه منها، فهل للوديع ان يجيبه الى طلبه؟
والجواب: انه ليس للوديع ان يدفع اليه شيئا منها، لأنهما اتفقا على الإيداع، فينبغي ان يتفقا في الاسترداد، فإذا اراد ان يسترد نصيبه خاصة رفع الأمر الى القاضي، ليقسم الوديعة ويرد اليه نصيبه.
انتهاء الوديعة:
تنتهي الوديعة باسترداد المودَع للشئ المودع، كما تنتهي بردّ الوديع له على المودع، وان كان يحرم على الوديع ردها حيث وجب القبول ولم يرد المالك الرد، كما يكره حيث ندب القبول ولم يرد المالك الرد.
كما تنتهي بموت المودع او الوديع، لأن العقد جرى بينهما.
وكذلك تنتهي بجنون احدهما او اغمائه، وبالحَجْر على المودع لسفه، وكذلك بالحجر على الوديع لفلس.
وتنتهي ايضاً بنقل المالك ملكيتها إلى غيره ببيع او هبة او نحو ذلك.(7/95)
وبانتهاء الوديعة يرتفع حكمها، وفي حال انتهائها بغير الرد او الاسترداد تصبح أمانة شرعية في يده كالضاّلة، فيجب عليه ردّها لمالكها او وليّه - ان عرفه - فورا عند تمكّنه من ذلك، وان لم يطلبها، والمراد بالردّ هنا الإعلام بها أو بمحلّها، فإن غاب من ذُكر ردّها للقاضي الأمين، فإن قصّر في هذا ضمنها، ان تلفت في يده بعد إنتهاء الوديعة.(7/96)
الباب السابع
اللقطَة(7/97)
اللقطَة
تعريفها:
اللقطة في اللغة - بضم اللام وفتح القاف - هي الشئ الملتَقَط أي المأخوذ من الأرض، قال تعالى في شأن موسى عليه السلام: (فالتقطه آل فرعون ... ) (القصص: 8)
وفي اصطلاح الشرع: هي مال أو اختصاص محترم، وجد في مكان غير مملوك، لم يحرز ولا عرف الواجد مستحقه.
فقولنا: (اختصاص) أي شئ لا يملك شرعاً، ولكن يمكن أن يدخل تحت اليد ويختصّ به مكلَّفٌ ما، كالكلب مثلاً.
وقولنا: (محترم) صفة للمال والاختصاص، أي أن يكون المال محترماً، أي معتبراً شرعاً، فنحو آلات اللهو والخمر والخنزير ليس بمال محترم، وكذلك مال الحربي. والاختصاص المحترم نحو كلب صيد او حراسة، فإذا لم يكن كذلك فليس بمحترم.
وقولنا: (لم يحرز) أي ليس عليه علامات الحفظ والإحراز، وأنه وضع في هذا المكان لحفظه، أو أن المكان غير محرز، أي ليس مُحاطاً ولم يتخذ لحفظ الأشياء فيه.
مشروعية الالتقاط:
الالتقاط مشروع، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم حين سئل عن ذلك: "اعرف وكاءها وعفاصها، ثم عرِّفها سنة، فإن لم تعرف فاستنفقها، ولتكن وديعة عندك، فإن جاء(7/99)
طالبها يوماً من الدهر فأدِّها إليه". (البخاري: اللقطة، باب: ضالة الإبل، رقم: 2295. ومسلم: اول كتاب اللقطة، رقم: 1722).
[وكاءها: هو ما يُربط به فم الكيس ونحوه. عفاصها: وعاءها الموضوعة فيه. عرفها: ناد عليها واخبر الناس بأنك وجدت لقطة. لم تعرف: أي صاحبها. فاستنفقها: تملكها وتصرف بها. ولتكن: أي قيمتها: طالبها: صاحب اللقطة].
وهناك أحاديث أخرى تأتي خلال البحث.
حكمة التشريع:
لا شك أن من فقد شيئاً يملكه او يختصّ به يصيبه شئ من الكرب على فقده، وقد يصعب على هذا الانسان أن يتعرّف على مكان وجوده، ويغيب عن ذهنه أين نسيه، وقد لا يعلم أين فقده، وربما تعرّض لهذا الشئ مَن لا أمانة عنده فأخذه وضاع على صاحبه، وربما أسرع إليه التلف وذهب سُدّى دون ان ينتفع به. ففي تشريع الالتقاط تيسير على الناس وتلبية حاجة ملحّة لديهم، فالملتقط يُعين صاحب الشئ على العثور عليه، ويتعاون معه على كفّ الأيدي الآثمة عن أموال الناس، تحقيقاً لقول الله عزّ وجل: (وتعاونوا على البرّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) (المائدة: 2). واستجابة لتوجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه".
وإذا تعرّف صاحب الشئ الضائع عليه سُرَّ به وزال غمّه وذهب كربه، فيكون للملتقط اجر عند الله عزّ وجل، كما اخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم اذ قال: "من نفّس عن مسلم كُرْبة من كُرَب الدنيا نفّس الله عنه كًرْبةً من كربات يوم القيامة".
وبهذا يعيش الناس آمنين مطمئنين، يعلمون أن أموالهم مصونة، حتى ولو فُقدت منهم فستعود اليهم، تحملها النفوس الأبيّة والأيدي الأمينة، لتوصيلها الى مستحقّيها أوفر ما كانت، فيسود الحب، ويكون الإخاء والود.
حكمها:
إذا وجد المسلم لقطة - أي شيئا ساقطاً على النحو الذي عرفت - فهل يلتقطه او يتركه؟ والجواب:(7/100)
يستحبَ له الالتقاط إذا كان واثقاً من أمانة نفسه، ويخشى ان يضيع هذا الشئ على صاحبه إن لم يلتقطه، حفظاً لمال أخيه كما علمت.
فإن لم يخف عليها الضياع كان التقاطها مباحاً، له أن يأخذها وله ان يدعها.
وإن تيقن ضياعها، لمعرفته بعدم وجود أمين غيره في ذاك الموضع، وجب عليه التقاطها، لأن حفظ مال المسلم واجب.
وإن لم يثق بأمانة نفسه مستقبلاً، وخشي ان تسوّل له نفسه أكلها، كره له التقاطها، وإن علم من نفسه الخيانة، وأنه إن التقطها سيلتقطها لنفسه، لا ليحفظها على مالكها ومستحقها، حرم عليه التقاطها. وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم: "لا يأوى الضالة إلا ضال، ما لم يعرفها" (مسند احمد: 4/ 360، من حديث جرير بن عبدالله رضى الله عنه).
[والضالة: هي الشئ الضائع، وإيواؤها التقاطها].
لقطة الحيوان ولقطة غير الحيوان:
الشئ الضائع قد يكون حيواناً، وقد يكون غير حيوان:
1 - فإن كان حيواناً يُنظر:
أفإن كان مما يمتنع بنفسه - أي يحمي نفسه - من صغار السباع: اما لقوته كالفرس والبعير، او لسرعة جريه كالغزال والأرنب.
فإن وجدها في صحراء لم يجز له التقاطها، فقد جاء في حديث خالد بن زيد رضى الله عنه: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ضالة الإبل؟ فقال: "ما لك ولها، دعها فإن معها حذاءها وسقاءها، ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربُّها". (البخاري: اللقطة، باب: ضالة الغنم، رقم: 2296). أي تقوى بخفها على قطع الصحراء، كما انها تملأ كرشها ماء بما يكفيها اياما، يتمكن فيها صاحبها من العثور عليها.
وقيسَ على الإبل ما في معناها من الحيوانات التي تقدر على الامتناع بنفسها من عدوها.(7/101)
وحمل العلماء قوله صلى الله عليه وسلم هذا على التقاطها للتملّك، وفي حال غلبة الظن ان صاحبها سيعثر عليها، لأن الغالب على أصحاب الإبل ونحوها إرسالها لترعى في الصحراء بلا راع، فالغالب أنها ليست بضائعة، فلا ينبغي التقاطها، ولذا أجازوا التقاطها للحفظ لا للتملّك زمن الأمن، أي يلتقطها بقصد ان يحفظها على صاحبها، لا ليتملكها ولو بعد تعريفها المدة المطلوبة.
وان وجدها في بنيان من مدينة او قرية جاز له التقاطها مطلقاً، لاختلاف حالها في البنيان عن الصحراء، إذ لم يعتد الناس إرسالها في القرى والمدن لترعى وحدها، ولأن من يمر بها هنا كثير فيخشى عليها، بخلاف الصحراء فإن المجتازين فيها قلة.
وقد دل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربّها" فإن سياقه يدلّ على ان ذلك يكون في الصحراء، حيث يوجد الماء والشجر ولا يوجد من الناس من يتعرض لها، وهذا المعنى لا يتحقق في المدن والقرى.
ب وإن كان الحيوان لا يمتنع بنفسه: إما لضعف ذاتي فيه كالغنم ونحوها، وإما لعجز طارئ كبعير مريض او فرس مكسور، جاز التقاطه في الصحراء وغيرها، وللتملّك وغيره.
وقد دلّ على ذلك: ما جاء في حديث خالد بن زيد رضى الله عنه انه صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن ضالة الغنم؟ فقال: "خذها، فإنما هي لك، أو لأخيك، أو للذئب" أي إما أن تأخذها أنت وإما أن يأخذها غيرك وإما أن يأكلها الذئب.
وقيسَ على الغنم غيرها مما في معناها من الحيوان الذي لا يمتنع بنفسه.
2 - وإن كان الشئ الضائع غير حيوان: جاز التقاطه مطلقاً كالحيوان غير الممتنع، على التفصيل الذي عرفته في حكم اللقطة من حيث الوجوب وعدمه.(7/102)
وقد دلّ على ذلك أحاديث: منها حديث زيد بن خالد رضى الله عنه، وقد جاء فيه انه صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن اللقطة: الذهب او الوَرِق؟ فقال: "اعرف وكاءها وعفاصها .. " وقد مّر بك في مشروعية الالتقاط.
ومنها: حديث أُبيّ بن كعب رضى الله عنه قال: اخذت صُرة فيها مائة دينا، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "عرفها حولا" فعرفتها حولا فلم اجد من يعرفها، ثم أتيته فقال: "عرفها حولا" فعرفتها فم اجد، ثم اتيته ثلاثا فقال: "احفظ وعاءها وعددها ووكاءها، فإن جاء صاحبها والا فاستمتع بها " فاستمتعت. (البخاري: اول كتاب اللقطة، باب: واذا اخبره رب اللقطة بالعلامة دفع اليه، رقم: 2294. ومسلم في اوائل كتاب اللقطة، رقم: 1723).
لُقّطة الحرم:
المراد بالحرم: مكة وما حولها من الأماكن التي تُعرَف بالحرم، والتي لا يحلّ الصيد فيها ولا قطع شجرها ونحو ذلك.
فإذا وجد المسلم فيها شيئاً ساقطاً - ينطبق عليه تعريف اللقطة - لم يحلّ له التقاطه الا بقصد الحفظ على مالكه، ولا يحلّ له تملّكه ابد الدهر، لأن الغالب ان يعود صاحبه الى مكة ولو بعد حين.
وقد دلّ على ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم في مكة يوم الفتح: "ولا تحلّ لقطتها الا لمنشد" أي معرِّف على الدوام. (البخاري: اللقطة، باب: كيف تعرف لقطة اهل مكة، رقم: 2301. ومسلم: الحج، باب: تحريم مكة وصيدها ... ولقطتها، رقم: 1355).
وتلزمه الإقامة لتعريفها، فإن أراد الارتحال عن مكة دفعها الى الحاكم او مَن ينوب منابه، ليقوم بتعريفها ويحفظها لمالكها.
الإشهاد على الالتقاط:
الأصح أن الإشهاد على الالتقاط غير واجب، لأنه لم يرد الأمر به في أكثر أحاديث اللقطة، وإنما هو مستحب ولو كان الملتقط عدلاً، ليقطع على نفسه طريق الخيانة مستقبلاً، ودرءاً من أن يأخذها وارثُه بعد موته بحجة أنها كانت في يده.(7/103)
وقد دلّ على الاستحباب قوله صلى الله عليه وسلم: "مَن التقط لقطة فليُشهد عليها ذا عدل او ذوَيْ عدل" (ابو داود: اللقطة، باب: التعريف باللقطة، رقم: 1709).
فالتخيير في ان يُشهد عدلاً أو عدلين يقتضي عدم الوجوب، ولو كان الإشهاد واجباً لما اكتُفى بعدل واحد.
ويذكر للشهود بعض صفاتها ولا يستوعبها، ويكره له ان يزيد في البيان، وإن خشي من الإشهاد ان يعلم بها غير أمين، فيأخذها منه ظلماً، امتنع عليه الإشهاد.
تعريف اللقطة:
إذا وَجد المرء شيئا ضائعا بمعنى اللقطة الذي عرفت، يُنظر:
فإن كان شيئاً تافهاً: أي ليس من شأن الناس عادة - إذا فقدوه - ان يطلبوه ويبحثوا عنه، كاللقمة والتمرة ونحو ذلك، حسب عُرْف كل مكان وزمان، فإن الملتقط يتملك ذلك دون ان يعرف به او يتعرف عليه.
وقد دلّ على ذلك: حديث أنس رضى الله عنه قال: مّر النبي صلى الله عليه وسلم بتمرة في الطريق، قال: "لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها". (البخاري: اللقطة، باب: اذا وجد تمرة في الطريق، رقم: 2299. ومسلم: الزكاة، باب: تحريم الزكاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم: 1071).
وإن كان شيئا ذا قيمة: أي من شان الناس أن يطلبوه إذا فقدوه ويبحثوا عنه، كان على الملتقط تعريفه، دلّ على ذلك صريح الأحاديث التي سبقت.
والأصح أن التعريف واجب، سواء أكان الالتقاط بقصد الحفظ فقط أم بقصد الحفظ ثم التملّك.
كيفية التعريف ومدته ومكانه:
اولاً: يتعرف على العين الملتقطة بما يميِّزها عن غيرها من الصفات، بحيث إذا جاء مَن يدعيها وسأله عن صفاتها استطاع ان يعرف هل هو صاحبها أمْ لا؟ فإذا دفعها كان على يقين انه دفعها لمستحقِّها.
فيتعرف على وعائها إن كان لها وعاء، وعلى رباطه إن كان له رباط، وهي(7/104)
العفاص، والوكاء، كما يعرف عددها إن كانت ذات عدد، وجنسها ونوعها، وما الى ذلك من صفات كما ذكرت، تختلف باختلاف الشئ.
دلّ على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "اعرف وكاءها وعفاصها وعدّتها" وذلك انه سُئل عن لقطة الذهب والفضة، ومن شأنها أن تكون في وعاء مربوط ولها عدد، فيقاس على ذلك غيره من الصفات التي تتميز بها الأشياء وتتّضح.
ثانياً: إذا عرف صفاتها وميِّزاتها نادى عليها، ذاكراً بعض صفاتها التي من شأنها ان تنبّه فاقدها إليها، ولا يتوسع بذلك كي لا يعرف صفاتها مَن لا يستحقها فيدّعيها، وربما اخذها ظلماً وباطلاً.
ثالثاً: إذا كان الشئ ذا بال كبير، يتأسف عليه فاقده زمناً طويلاً، عرفه سنة كما ثبت في النص، لأنها لو كانت لمسافر يغلب أن لا يغيب عن مكان فقده اكثر من سنة. يعرفه كل يوم مرتين لمدة أسبوع، ثم كل يوم مرة اسبوعاً آخر، ثم كل اسبوع مرة ليتمّ سبعة اسابيع، ثم في كل شهر مرة.
وزيد في الأيام الأولى لأن الطلب يكون فيها أشد، وهذا التحديد اجتهاد استحبّه العلماء، وإلا فالمطلوب تعريف حسب العادة، بحيث ينتبه صاحب الحق الى حقه ويصل إليه.
فإذا كان الشئ ليس ذا بال كبير: فإنه يُعرَّف فترة يغلب على الظن أن صاحبه يكفّ عن طلبه، دلّ على ذلك قرائن الأحوال التي وردت فيها الأحاديث، فسؤال عن صرّة فيها مائة دينار، وسؤال عن ذهب وفضة، وسؤال عن ضالة الغنم والإبل ونحو ذلك، فكلها اشياء ذات قيمة، لا يكف فاقدها عن طلبها غالبا في اقل من سنة، والله تعالى اعلم.
رابعاً: يكون التعريف في الأماكن العامة والأسواق وعلى أبواب المساجد(7/105)
نحوها حيث يجتمع الناس، ويكثر منه في موضع وجودها، لأن الغالب ان يطلبها فاقدها فيه.
ويكره ان يعرفها في المسجد، لما فيه من رفع الصوت والتشويش على المصلّين والذاكرين فيه، وقد ورد الزجر عن هذا بقوله صلى الله عليه وسلم: "مَن سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا ردّها الله عليك، فإن المساجد لم تُُبّنْ لهذا". (اخرجه مسلم: في المساجد، باب: النهي عن نشد الضالة في المسجد ... ، رقم: 568).
ويستثنى من هذا المسجد الحرام، فإنه يجوز فيه، لأن من ينشدها في غيره متّهم انه يفعل ذلك من اجل ان يتملك اللقطة بعد تعريفها، وهذا المعنى غير موجود فيمن ينشد لقطة المسجد الحرام، لأن تعريفها لمصلحة مالكها وحفظها، اذ ان الملتقط ليس له تملّكها كما علمت.
هذا والذي نراه أن هذا الكلام لا ينطبق على النداء على الضالة بالمكبرات الصوتية في هذه الأيام، التي ينادي بها للصلوات، لأن الصوت لا يكون في المسجد، وكل ما هنالك هو استعانة بهذه المكبرات لأنها توصل النداء الى أمكنة لا تصل إليها أصوات الناس، ولعل الحاجة داعية الى ذلك ولاسيما في المدن التي اتّسعت رقعتها، وكثر ساكنوها، مع كثرة الانتقال بين احيائها وبقاعها. فلا داعي لاستنكار هذا النداء وان كان الأوْلى الاستغناء عنه، اللَّهمّ إلا إذا كان نداءً من أجل ضياع طفل او طفلة، فإننا نرى أنه قد يكون واجباً، لما فيه من إحياء النفس، ودفع ترويع اهله عليه، وكفكفة دمعه الذي قد يطول حتى يعثر عليه اهله لولا هذا النداء، والله تعالى أعلم.
نفقة التعريف:
للملتقط ان يقوم بالتعريف بنفسه وله ان يقوم به بغيره، فإن احتاج الى نفقة كانت هذه النفقة على المالك، لأنه لمصلحة ملكه، فإما أن يدفعها القاضي من بيت المال، وإما أن يقترض من الملتقط أو غيره على المالك، أو يأمر الملتقط بدفعها ليرجع بها على المالك، او يبيع جزءاً منها في ذلك، فإن أنفق الملتقط من ماله دون إذن الحاكم كان ذلك تبرعاً منه، لا يلزم به المالك إن ظهر.(7/106)
أنواع ما يلتقط وكيفية التصرّف به:
اللقطة قد تكون حيواناً وقد تكون غير حيوان، وغير الحيوان قد يكون مما يبقى وقد يكون مما يفسد، ولكلٍّ حكم:
1 - فإن كان حيواناً: فإن شاء أبقاه وأنفق عليه بإذن الحاكم، ليرجع على صاحبه عند ظهوره بما أنفق، فإن لم يجد حاكماً أشهد على ذلك، فإن انفق دون إذن ولا إشهاد كان متبرعاً، ليس له أن يرجع بما أنفق.
وإن شاء باعه بإذن الحاكم وحفظ ثمنه.
وله - إن أخذه في مكان لا يتسير فيه البيع - أن يتملكه حالاً ثم يأكله، ويغرم قيمته - يوم تملكه - لصاحبه إن ظهر.
2 - وإن كان غير حيوان مما يسرع اليه الفساد: فهو مخيّر بين أن يأكله ويغرّم قيمته، أو يبيعه بإذن الحاكم ويحفظ ثمنه.
3 - وإن كان يبقى بعلاج: - كتجفيف ونحوه - كرطب يجفّف، ولبن يصنع أقطاً: وجب على الملتق أن يفعل ما هو الأصلح للمالك والأنفع من الأمور التالية: أن يبيعه كله بإذن الحاكم ويحفظ ثمنه، أو يعالجه ليبقى متبرّعاً بعلاجه، فإن لم يتبرع بذلك بيع بعضه - بإذن الحاكم - بقدر ما يعالج به الباقي.
4 - وان كان مما يبقى ابداً بدون علاج: وجب عليه حفظه مدة التعريف اللازمة. ويبنغي ان ينتبه الى انه: في الحالات التي تُباع فيها العين الملتقطة، ويحفظ فيها ثمنها، لابد من استمرار التعريف بها المدة اللازمة، ويكون التعريف للعين الملتقطة لا للثمن.
تملّك اللقطة:
للملتقط ان يتملّك العين الملتقطة إن كانت باقية - أو ثمنها حال بيعها كما في الصور السابقة - بعد انتهاء مدة تعريفها اللازمة، فإذا تملّكها صارت مضمونة عليه، ويغرَّم قيمتها لصاحبها إن ظهر يوم تملّكها، اخذاً من النصوص السابقة: "ثم عرّفها سنة، فإن لم تعرف فاستنفقها ... ".(7/107)
ويتملكها بلفظ صريح كقوله تملكت هذه، او كناية - كأخذت ونحوه - مع النّية، وقيل: يتملّكها بمضيّ مدّة التعريف اكتفاء بقصد التملّك، ولا يحتاج إلى لفظ يد الملتقط وحفظ اللقطة:
على الملتقط أن يحفظ اللقطة في حرز مثلها، وكذلك ثمنها في حال بيعها، وهو غير ضامن لما يصيبها دون تعدٍّ أو تقصير، لأنه متبرّع بالحفظ، وهذا م صرّحت به الأحاديث: "ولتكن وديعة عندك".
فهي غير مضمونة عليه خلال مدة التعريف وكذلك بعده إن لم يتملكها، فإذا تملكها أو تملك ثمنها صار ضامناً، وعليه - كما سبق - ان يغرَّم قيمتها يوم التملك إن ظهر صاحبها.
دفع اللقطة الى مدّعيها:
إذا جاء مَن يدّعي اللقطة وأنها ملكه سأله الملتقط عن أوصافها، فإن وصفها وأحاط بجميع أوصافها، وغلب على ظن الملتقط صدقه جاز له أن يدفعها إليه عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن جاء صاحبها، وعرف عفاصها ووكاءها وعددها، فأعطها إياه". (مسلم: في اوائل كتاب اللقطة، في رواية من حديث زيد بن خالد رضى الله عنه).
فإذا دفعها اليه برئت ذمته، ولا يضمن فيما لو ظهر كاذبا.
والأصح أنه لا يجب عليه أن يدفعها إليه حتى ولو وصفها بدقة، وغلب على ظنه صدقه، إلا إذا أقام بيَّنة عند القاضي وحكم بها على الملتقط، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لو يعطي الناس بدعواهم لادّعى رجال اموال قوم ودماءهم، لكن البينَّة على المدّعي واليمين على مَن أنكر". (البخاري: التفسير/ آل عمران، باب: "ان الذين يشترون بعهد الله .. " رقم: 4277. ومسلم: الأقضية، باب: اليمين على المدعي عليه، رقم: 1711).
فلا يعطي أحد شيئاً بمجرّد دعواه أنه لا، حتى يثبت ذلك بالبيِّنة أو ما يقوم مقامها حسب الدعوى.
تنبيه: في كل موضع ذكر إذن القاضي أو إخباره وما إلى ذلك: في حال إمكان ذلك، وعدم خوفه اخذها ظلماً وضياعها على مالكها، فإن خاف شيئا من ذلك لم يرجع إليه، والله تعالى أعلم.(7/108)
الباب الثامن
الرَّهن(7/109)
الرَّهن
تعريفه:
هو - في اللغة - الحبس، ومنه قوله تعالى: "كلُّ نفسٍ بما كسبتْ رهينة" (المدَثر: 38): أي محتسبة وممنوعة من دخول الجنة يوم القيامة، بسبب ما كسبته في الدنيا، حتى تحاسب عيه.
ويأتي أيضاً بمعنى الثبوت والدوام، جاء في مختار الصحاح: أرهنتُ لهم الطعام والشراب أدمته لهم، ويقال: الأحوال الراهنة، أي الحاضرة والدائمة.
وهو في الاصطلاح الشرعي: يُطلق على عقد الرهن، وهذا هو الأصل والغالب في إطلاق الفقهاء، وقد يُطلق ويُراد به الشئ المرهون، ومن ذلك قوله تعالى: (وان كنُتم على سفرٍ ولم تجدوا كاتباً فرهانٌ مقبوضة) (البقرة: 283). فرهان هنا جمع رهن، لأنها وصفت بأنها مقبوضة، والقبض يكون في الأشياء ولا يكون في المعاني، والعقد معنى فلا يتأتّى فيه القبض.
فالرهن بمعنى العقد: هو جعل عين متمولة وثيقة بدَيْن، يُستوفى منها عند تعذّر الوفاء.
فالجعل يكون بالعقد، والجاعل هو الراهن، والمجعول عنده هو المرتهن، والمجعول هو العين المرهونة، والعين تطلق على كل ذي حجم، وكون هذه العين متمولة أي تعتبر مالا في عُرف الشرع، وهذا الجعل انما هو للتوثّق، أي ليستوثق الدائن من ان دَيْنه لن يذهب ويضيع، بل يطمئن إلى انه سيعود اليه، فالعين تجعل مرهونة مقابل الدَّيْن، بحيث اذا تعذّر - أي صعب او استحال - على المدين إن(7/111)
يوفى دَيْنه في أجله، استطاع الدائن أن يستوفي دَيْنه من هذه العين، بأن تُباع ويأخذ دَيْنه من ثمنها.
وهكذا نجد أن التعريف قد شمل بإيجاز أركان عقد الرهن واحكامه وحكمته، التي سنتعرّض لبيانها بالتفصيل ان شاء الله تعالى.
مشروعية الرهن:
الرهن جائز ومشروع، بإجماع المسلمين في كل العصور والأزمان، ومستند هذا الإجماع ما ثبت من نصوص صريحة في كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم تدل على ذلك:
أما الكتاب: فقوله تعالى: "وان كنتُم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهانٌ مقبوضة" (البقرة: 283). جاء ذلك بعد قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اذا تداينتُم بدَيْن الى اجل مسمّى فاكتبوه .. " فدلّ على أن الرهان تقوم مقام الكتابة في التوثيق للدَيْن، وذلك عنوان المشروعية.
وأما السنة: فأحاديث كثيرة، منها حديث عائشة رضى الله عنه قالت: "توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من شعير".
(البخاري: الجهاد، باب: ما قيل في درع النبي صلى الله عليه وسلم والقميص في الحرب، رقم: 2759).
وسيأتي معنا مزيد من الأدلة على المشروعية خلال البحث ان شاء الله تعالى.
الرهن في الحضر وحال وجود الكاتب:
جاء في الآية الآنفة الذكر قوله: "وان كنتم على سفرٍ ولم تجدوا كاتباً فرهان .. " وظاهر ذلك: أن الرهن إنما يشرع حال السفر وفي الحضر، وحال وجود الكاتب وحال عدمه، دلّ على ذلك حديث عائشة رضى الله عنها وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاماً الى أجل، ورهنه درعاً من حديد.
(البخاري: البيوع، باب: شراء النبي صلى الله عليه وسلم بالنسيئة، رقم: 1962. مسلم: المساقاة، باب: الرهن وجوازه في الحضر والسفر، رقم: 1603).(7/112)
والظاهر أنهما كانا في المدينة، فهما غير مسافِرَيْن، والكُتَّاب في المدينة ايضاً كُثُر، فدلّ على أنه لا يشترط لصحة الرهن أيٌّ من هذين الأمرين.
وأجاب العلماء عن حكمة ذكر السفر وعدم الكاتب في الآية: بأنه بيان للغالب في واقع الأمر، إذ الغالب أن يحتاج إلى الارتهان في السفر، الذي كثيراً ما يُعدم فيه الشهود ويفتقد الكاتب، لاسيما في تلك الأزمان التي كانت فيها القراءة والكتابة قليلة، وذلك من اسلوب الكلام العربي الذي جاء القرآن على ارقى مستوى منه.
حكم الرهن:
ظاهر الآية التي تدل على مشروعيته ان ذلك واجب، اذ قالت: "فرهان مقبوضة" وهذه صيغة من صَيِغ الأمر، إذ المعنى فليكن منكم رهان ... ، والأمر للوجوب، ولكن العلماء اتفقوا على أن الرهن ليس بواجب، وأنه أمر جائز، للمكلّف ان يفعله وان لا يفعله، لأنه شرع لتوثيق الحق، وللانسان ان يوثّق حقه وأن لا يوثقه، وقد أكد معنى الجواز قوله تعالى في الآية: "فإن أمَن بعضُكم بعضاً فليؤدِّ الذي اؤتمن امانته": أي فليكن المدين المؤتمن على الدَّيْن دون توثق اهلاً لهذا الائتمان، وليؤدِّ الأمانة دون اساءة، وواضح ان الائتمان لا يكون إلا إذا لم يكن ارتهان، لأن طلب الارتهان دليل الشك في الأمانة.
وقال العلماء ايضاً: إن الرهن بدل عن الكتابة، فيأخذ حكمها، والكتابة ليست واجبة، بدليل قوله تعالى: "ولا تَسْأمو ان تكتبوه صغيراً او كبيراً إلى أجله ذلكم أقسطُ عند الله وأقومُ للشهادة وأدني ألاّترتابوا " أي لا تملّوا من كتابة الدَّيْن قلّ أو كثر، فإن كتابته أقرب إلى العدل وعدم ضياع الحقوق، واسهل لإقامة الشهادة عند الاختلاف، وابعد عن الشك في قدر الدَّيْن أو صفته أو اجله.
قالوا: هذه المعاني تدل على ان الامر بالكتابة أمر إرشاد وتوجيه، وليس امر إيجاب وتحتيم.
على أننا نقول: إذا لم تكن الكتابة أو الرهن واجباً، فذاك لا يعني ان نتساهل في الأمر، ثم يجرّ بعضنا بعضاً الى دُور القضاء، او يتخذ ذلك بعض من رق دينهم ذريعة الى أكل اموال الناس بالباطل، فأقل ما قاله العلماء انه امر ارشاد وذلك(7/113)
يعني الندب والاستحباب، فالأولى الكتابة على أيّ حال، والرهن اذا لم تتيسر الكتابة، كي لا يترك الناس فعل الخير خشية ضياع اموالهم وذهاب حقوقهم، اللهم الا اذا كانت الثقة بالأمانة والدين والخلق اقرب الى اليقين، والله تعالى الموفق.
حكمة مشروعية الرهن:
تكرر معنا ان شرع الله تعالى مِلةّ التيسير ورفع الحرج ورعاية مصالح الناس، والناس يتعاملون فيما بينهم، وكثيراً ما يحتاجون الى النقد فلا يجدونه، وهم محتاجون الى بعض السلع، فيحتاجون الى استقراض النقد أو تأجيل الثمن، ولا يجدون مَن يثق بهم ليعطيهم المال أو السلعة دون وثيقة، ويرغب صاحب المال أو السلعة بما يوثّق حقه ويطئمنه الى أنه سيعود اليه كاملاً موفوراً، ولا يرغب ان يقع في مخاصمات ومرافعات، فلا يرضى بالكفالة ولا يكتفي بالكتابة والإشهاد، فيطلب سلعة تكون وثيقة في يده مقابل حقه، ويرضى صاحب الحاجة الى النقد او تأجيل الثمن بهذا التوثيق، فيدفع متاعاً يستطيع ان يستغنى عن منفعته لطالب الوثيقة، وهنا تتحقق مصلحة الطرفين، ويسهل التعامل بين الناس.(7/114)
أركان عقد الرهن
علمنا مما سبق أن لعقد الرهن أركانا كغيره من العقود، لا يوجد ولا يقوم إلا بوجودها، كما أن لتلك الأركان شروطاً، لا يصحّ العقد ولا تترتّب عليه آثاره المعتبرة شرعاً إلا بتوفرها، وأركان عقد الرهن هي:
1 - العاقدان، وهما اللذان يقومان بإنشاء هذا العقد، وهما الراهن والمرتهن.
2 - الصيغة، أي الكلام الذي يصدر عن العاقِدَيْن ليدل على إنشاء هذا العقد.
3 - الدَّيْن، الذي هو سبب هذا العقد، والذي يكون في ذمّة الراهن للمرتهن.
4 - المرهون، وهو العين التي توضع لدى المرتهن وثيقة بدّيْنه.
وسنتكلم بالتفصيل - ان شاء الله تعالى - عن هذه الأركان مع شروط كلٍّ منها.
الركن الأول: العاقدان:
وهما الراهن والمرتهن: فالراهن هو المدين، أي الذي عليه الدَّيْن، وذمته مشغولة به تجاه المرتهن، والمرتهن: هو الدائن الذي له الدَّيْن في ذمة الراهن، والذي توضع العين المرهونة تحت يده وسلطانه.
ويشترط في كلًّ منهما:
1 - ان يكون مكَّلفاً: أي عاقلاً بالغاً غير محجور عليه في تصرفاته المالية.
فالصبي - ولو كان ممِّيزاً - لا يصلح ان يكون راهناً ولا مرتهناً، فلو رهن شيئاً من ممتلكاته عند أحد فلا يصحّ منه هذا الرهن، والمرتهن ضامن لما أخذه(7/115)
منه في هذه الحالة. وكذلك لو رهن احد عنده متاعا، فلا يعتبر ذلك رهنا، والا تثبت له احكامه، ومثل الصبي المجنون الذي غلب على عقله.
وذلك لأن الرهن عقد تترتب عليه أحكام ومسؤوليّات، وكل من الصبي والمجنون ليس اهلاً لذلك، فالشرع لم يعتبر أقوالهما وتصرفاتهما في العقود، لأنهما ليسا اهلا للمؤاخذة كما علمت في كثير من المواضع. قال صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم" أي يبلغ. (ابو داود: الحدود، باب: في المجنون يسرق او يصيب حدا، رقم: 4401). والمراد برفع القلم عدم المؤاخذة والمسؤولية.
وأما المحجور عليه في تصرفاته المالية - وهو السفيه في عُرْف الشرع - وهو الذي لا يحسن التصرّف بالمال: إما بإنفاقه في المحرّمات، أو إسرافه في المباحات، او لطيش فيه: فلأنه تصرّف مالي، وهو ممنوع منه، كما علمت في (باب الحجر).
2 - أن يكون غير مُكْرَه: أي أن يرهن الراهن ما يرهن باختياره، وكذلك المرتهن، فلو أُكره الراهن على الرهن، أو المرتهن على الارتهان، فلا يصحّ الرهن، ولا تترتب عليه آثاره واحكامه التي ستعرفها، بمعنى أنه إذا زال الإكراه عن العاقد رجع الحال إلى ما كان عليه قبل الإكراه، ووجب على الراهن ان يستردّ العين إن كان المكره هو المرتهن، وعلى المرتهن ان يردّ العين إن كان المكرَه هو الراهن، ثم إذا رغبا في الرهن أنشآه من جديد.
وذلك لأن الرهن من التصرفات الشرعية الإنشائية، والإكراه عليها يؤثر فيها ويذهب أثرها، كما ستعلم ذلك مفصلا في (باب الإكراه) ان شاء الله تعالى.
3 - ان يكون من أهل التبرّع فيما يرهنه أو يرتهن به: كأن يكون مالكا للعين التي يرهنها مثلا، وان يكون مالكا للدين الذي يرتهن به.
رهن الولي والوصي وارتهانهما:
والمراد بهذا الشرط بيان: أنه ليس لأحد أن يرهن شيئاً من مال مَنْ(7/116)
له عليه ولاية مالية كالوليّ والوصي، كما انه ليس له ان يرتهن شيئا لهم بشئ من اموالهم، لأن الولي والوصي - كلاًّ منهما - ليس اهلاً للتبرّع من أموال مَن تحت ولايته أو وصايته، والرهن والارتهان كلٌّ منهما فيه معنى التبرع.
فالبرهن يُمنع الراهن من التصرّف في المرهون - إلا بشروط كما سيأتي - وذلك حبس لمال القاصر وتفويت للمنفعة بغير عوض، فهو تبرع.
وبالارتهان تأجيل للمال الذي يستحقه القاصر، وذلك تفويت لمنفعة التعجيل بغير عوض، إذ ليس للمرتهن أن ينتفع بالعين المرهونة كما ستعلم، وذلك تبرع ولذا قال الفقهاء: ليس لوليّ القاصر أن يبيع شيئاً من ماله - في الأحوال العادية - إلا بحالٍّ مقبوض قبل أن يسلم المبيع، وبالتالي فلا ارتهان بماله.
على أن الفقهاء قد استثنوا حالتين، يجوز فيهما للوليّ والوصي الرهن والارتهان، لما في ذلك من مصلحة ظاهرة لمن كان تحت ولايتهما، وهما:
1 - حالة الضرورة:
كأن يحتاج إلى النفقة على مَن تحت ولايته، ولا يكن له مال ينفق عليه منه، فيرهن شيئاً من أمتعتهم مقابل مال يأخذه لينفقه عليهم، وهو يرجو أن يوفيه من غلّة ينتظر خروجها لهم، او دَيْن لهم سيحلّ أجَله، او بيع متاع لهم كاسد الآن يرجى نفاقه.
وكذلك له أن يرتهن بمال لهم، يخشى عليه السرقة أو النهب فيبيعه الى أجل أو يقرضه، ويرتهن بذلك متاعاً لهم حفظاً واستيثاقاً لدَيْنهم.
2 - أن يكون الرهن والارتهان لمصلحة ظاهرة:
وذلك كأن يجد سلعة تساوي مائتين مثلاً، تباع بمائة، ولا مال لهم، فيشتريها على أن يرهن بها شيئاً من متاعهم يساوي مائة.
ويشترط في هذه الحالة ان يكن هذا المتاع المرهون عند امين موسر، وان يشهد على ذلك، وان يكون الى اجل غير طويل عُرفاً، فإن فقد شرط من ذلك لم يصحّ الرهن.(7/117)
ومثل الرهن الارتهان، وذلك كأن يبيع شيئا من متاعهم يساوي مائة بمائتين، ويرتهن لهم بذلك متاعاً يساوي مائتين.
فالمصلحة هنا ظاهرة والمنفعة بالغة لهؤلاء القاصرين، ولذا صحّ الرهن والارتهان لهم.
الركن الثاني: الصيغة:
وهي الإيجاب والقبول: وهما كل كلام يدل على الرهن والقبول به، من الراهن والمرتهن، كأن يقول الراهن: رهنتك داري هذه بما لَك علىّ من الدَّين، أو خذ هذا - لسلعة في يده - رهناً بثمن هذا، لشئ اشتراه، فيقول صاحب الدين في الحالين: قبلت، أو ارتهنت، ونحو ذلك.
والأصل في اشتراط الصيغة في الرهن - وغيره من العقود - أنه عقد فيه تبادل مالي، فيشترط فيه الرضا، لأنه لا يحلّ مال امرئ إلا عن طيب نفس منه، والرضا أمر خفيّ، فيُكتفي بما يدل عليه وهو اللفظ من المتعاقِدَيْن، وذلك يكون بالإيجاب والقبول.
وهل يكتفي فيه بالمعاطاة؟ كأن يقول له: يعني هذه السلعة بكذا الى أجل، وخذ منيّ هذه الساعة مثلاً رهناً بالثمن، فيقول: بعتك، ويقبضه السلعة وذلك يعطيه الساعة.
الأصلح أن هذا الرهن لا ينعقد، ولا بدّ من صيغة خاصة به، تدل على الرهن والارتهان.
هذا بالنسبة لمن يستطيع النطق، وأما الأخرس: فيكتفي منه بإشارته المعهودة المفهمة رضاه بالرهن أو الارتهان، فتقوم مقام نطقه للضرورة، لأنها تدل على ما في نفسه من الرضا أو عدمه، وكذلك كتابته فيما اذا كان يحسن الكتابة.
الركن الثالث: المرهون:
وهو العين التي يضعها الراهن عند المرتهن ليحتبسها وثيقة بدَيْنه، وقد اشترط الفقهاء فيها شروطاً ليصح ارتهانها، منها:
1 - أن يكون عيناً: فلا يصحّ رهن المنفعة، كأن يرهنه سكنى دار، لأن المنفعة(7/118)
تتلف بمرور الزمن، فلا يحصل بها توثّق ولا تثبت عليها يد الحبس.
2 - أن يكون قابلاً للبيع: أي تتوفر فيه شروط المبيع التي مرّت بك في عقد البيع، بأن يكون موجوداً وقت العقد، وأن يكون مالاً متقوِّماً شرعاً، وأن يكون مقدوراً على تسليمه، وأن يكون قد وقع عليه التملّك من الراهن أو دخل في سلطانه.
فلا يصحّ رهن ما ستلده أغنامه، لأنه غير موجود عند العقد.
ولا يصحّ رهن كلب وخنزير، لأنهما ليسا بمال ذي قيمة شرعاً، ومثلهما صيد المرحم بحج او عمرة وصيد الحرم المكّي، لأن كلاًّ منهما في حكم الميتة، وهي ليست بمال شرعاً.
كما لا يصحّ أن يرهن طيراً في الهواء، لأنه غير مقدور على تسليمه.
ومثله أن يرهن ما له في ذمّة فلان من الدَّيْن، لأنه غير قادر على تسليمه ايضاً.
وكذلك لا يصحّ رهن ما يسومه ليشتريه، او ما يريد ان يجمعه من المُباحات كالحطب والكلأ - أي الحشيش - غير المملوكين، لأن هذه الأشياء لم يقع عليها التملّك بعد، ولم تدخل في سلطانه.
وهل يشترط ان يكون الراهن مالكاً للعين المرهونة، أم يكفي أن تكون في سلطانه؟ الجواب: أنه لا تشترط ملكية الراهن للمرهون، بل له أن يستعير شيئاً ليرهنه، بشروط وأحكام، سيأتي بيانها في فقرة مستقلة تحت عنوان: العين المستعارة للرهن.
وكذلك لا يشترط ان يكون مالكاً لجميع العين المرهونة، بل يصح ان يكون مالكاً لجزء منها، فيرهن ما هو ملْك له، كما لو كان يملك نصف سيارة أو نصف الدار أو العقار، فله ان يرهن حصته مقابل ما عليه من الدَّيْن، وهذا ما يسمى عند الفقهاء: رهن المشاع، وذلك لأن المشاع قابل للبيع، فمّن كان يملك حصة شائعة في شئ - أي غير مقسومة ولا معزولة - له ان يبيعها، فكذلك يصح له ان يرهنها، لأن الغاية من الرهن الاستيثاق والتمكن من الاستيفاء منه عند تعذر وفاء الدَّيْن، وذلك يحصل برهن المشاع، لأنه يمكن بيعه عند حلول الأجل واستيفاء الدَّيْن من ثمنه.(7/119)
وسيأتي بيان كيفية قبض المرهون المشاع عند الكلام عن القبض في الرهن إن شاء الله تعالى.
الركن الرابع: المرهون به:
وهو الحق الذي للمرتهن في ذمة الراهن، والذي يوضع الرهن بمقابله، ويشترط فيه أمور، وهي:
1 - أن يكون دَيْناً: أي مما يثبت في الذمة كالدراهم والدنانير ونحوها من العملات المتداولة، والتي تقوَّم بها الأشياء، لأن مقصود الرهن استيفاء المرهون به من قيمة المرهون وثمنه عند تعذّر الوفاء، وهذا ممكن في الدَّيْن.
ولا عبرة بسبب الدَّين سواء أكان ثمن مبيع اشتراه الراهن إلى أجل، أم كان قرضاً، أم كان ضماناً بسبب إتلافه شيئاً ما للمرتهن.
وعليه: فلا يصحّ أن يكون الحق المرهون به عيناً، كما لو غصب انسان متاعاً من آخر، فطالبه المغصوب منه به، وطلب منه ان يرهنه شيئاً مقابله الى ان يأتيه به، وكذلك لو استعار احد شيئا، فطلب المعير من المستعير ان يرهنه شيئا ما - متاعا او نقودا مثلا - مقابله حتى يأتيه به، فلا يصح مثل هذا الرهن، وهذا يقع كثيراً في هذه الأيام.
قال صاحب كتاب [مغني المحتاج]: ومن هنا يؤخذ بطلان ما جرت به عادة بعض الناس من كونه يقف كتابا، ويشرط ان لا يعار او يخرج من مكان يحسبه فيه الا برهن.
وانما لم يصح الرهن مقابل الأعيان لأنها لا يمكن استيفاؤها من ثمن المرهون عند تعذر الوفاء وبيع العين المرهونة، اذ كيف تستوفى مثلا ساعة من ليرات ونحوها، واذا قلنا تستوفى قيمتها، فإن القيمة تختلف باختلاف المقومين، فيؤدي ذلك الى التنازع.
على ان الرهن انما شرع وذكر في كتاب الله تعالى في الدين - كما علمت عند الكلام عن مشروعيته - فلا يثبت في غيره.(7/120)
2 - ان يكون الدَّيْن ثابتاً في ذمّة الراهن للمرتهن: كثمن مبيع بعدما أبرم البيع ولو قبل تسليم المبيع، أو نفقة زوجة عن زمن مضى، أو مال اقترضه الراهن وقبضه أو قبل قبضه، ونحو ذلك، فيصحّ الرهن.
وإنما صحّ الرهن في هذه الحالات لأن الحق قد ثبت، فصارت الحاجة داعية لأخذ الوثيقة به، فصار الرهن ضماناً للدَّيْن، فجاز أخذه به.
وكذلك يصحّ الرهن لو وقع مع العقد الموجب للدَّيْن، كما لو قال: بِعْني هذا الثوب بمائة إلى شهر، وأرهنك بها هذه الساعة، فقال البائع: قبلت، أو بعتك وارتهنت، أو قال: أقرضني ألفاً الى سنة، وأرهنك بها هذه السجادة، فقال: قبلت، أو أقرضتك وارتهنت، لأن الحاجة تدعو الى ذلك، فلو لم يعقد ذلك ويشترطه مع ثبوت الدَّيْن ربما لم يتمكن من إلزام المشتري أو المقترض بعقد الرهن بعد ثبوت الدَّيْن، فيفوت حقه في التوثّق من دَيْنه.
أما إذا حصل عقد الرهن قبل ثبوت الحق أو العقد الذي يوجبه فإنه لا يصحّ، كما لو ارتهنت الزوجة متاعاً مقابل ما سيثبت لها من نفقة في ايام مقبلة، او ارتهن شيئاً بما سيقرضه إياه، أو بثمن ما سيشتريه منه، فإن الرهن في هذه الحالات لا يصحّ ولا ينعقد.
وذلك لأن الرهن وثيقة بالحق فلا تقدم على ثبوته، وتابع فلا يسبقه، كالشهادة فلا تقدّم قبل ثبوت المشهود عليه ولا تسبقه.
3 - أن يكون الدَّيْن معلوماً للعاقِدَيْن قدراً وصفة: فلو ثبت أن للمرتهن دَيْناً في ذمة الراهن، لكنه يجهل ما هو: أليرات سورية ام غير ذلك؟ أو يجهل قدرها، أهي الف ام الفان؟ فارتهنه شيئاً بها، فإن الرهن لا يصح، سواء أعلم العاقد الثاني قدرها وصفتها أم لا. وذلك لتعذّر استيفاء هذا الدَّيْن المجهول من ثمن العين المرهونة إذا بيعت عند عدم الوفاء.
لزوم عقد الرهن:
إذا وجدت أركان عقد الرهن بشروطها فقد انعقد صحيحاً، ولكن هل لزم العقد؟ بمعنى أنه ليس للراهن أن يرجع عنه، ويلزمه دفع العين المرهونة للمرتهن،(7/121)
ام لا يزال له الخيار في ذلك، ان شاء دفع وان شاء رجع؟
والجواب: أن عقد الرهن عقد جائز قبل القبض، وأن القبض من تمامه، وشرط لا يلزم إلا به، فما دامت العين المرهونة بيد الراهن كان له الرجوع عن رهنها، فإذا دفعها للمرتهن، وقبضها المرتهن قبضاً صحيحا لزم العقد، وصار من حق المرتهن احتباسه، وليس للراهن واسترداد العين المرهونة إلا برضاه.
ودليل ذلك:
قوله تعالى: "وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كتابا فرهان مقبوضة". فالفاء المقرونة بكلمة رهان هي جواب للشرط "وإن كنتم" وجزاء له، ومثل هذه الصيغة من صيغ الأمر، فهو أمر إذن بالرهان التي وصفت بأنها "مقبوضة" والأمر بالشئ الموصوف بصفة يقتضي أن يكون ذلك الوصف من تمامه وشرطاً فيه، لأن المشروع بصفة لا يوجد إلا إذا وُجدت تلك الصفة، فدلّ ذلك على أن عقد الرهن لم يتم إذا لم يحصل القبض، فإذا حصل القبض تمّ، وإذا تمّ فقد لزم.
وكذلك: لو كان الرهن يلزم بدون قبض لم يكن لقوله: "مقبوضة" أية فائدة، وكلام الشارع يُصان عن اللغو وعدم الفائدة، فكان لابدّ من إعتبار هذا الوصف الذي قيِّدت به الرهان ليلزم العقد.
وأيضاً: عقد الرهن فيه معنى التبرّع من جهة الراهن - كما مرّ معنا عند الكلام عن شروط العاقِدَيْن - لأنه لا يستوجب على المرتهن بمقابلة حبس العين شيئا، وعقد التبرّع لا يُجبر عليه القائم به، فلو كان الرهن يلزم بمجرد انعقاده لكان مجبراً على إمضائه، ولذا لابدّ من إمضائه باختياره، وذلك يكون بالإقباض منه والقبض من المرتهن، فإذا حصل إمضاء العقد باختياره صار ملزماً به، وامتنع عليه الرجوع عنه.(7/122)
كيفية قبض الرهن:
إذا كان القبض شرطاً لتمام عقد الرهن ولزومه، فكيف يكون هذا القبض؟ نقول: إن العين المرهونة قد تكون غير منقولة كالأرض والعقار، وقد تكون منقولة كالسيارة وغيرها من السلع.
فإذا كانت غير منقولة: كفى فيها ان يخلِّى الراهن بينها وبين المرتهن، والتخلية تكون برفع الموانع التي تحول دون استلامها، كما لو كانت مشغولة بأمتعة، او بمَن يسكن الدار مثلاً، وما إلى ذلك، فإقباضها وقبضها يكون بتفريغها وعدم الحيلولة دون استلامها.
وإذا كانت العين المرهونة منقولة: فلا يكفي فيها التخلية، بل لا بدّ فيها من التناول والنقل حسب العُرْف بالنسبة للشئ المنقول، وما يسمى قبضاً له في العادة، فإذا لم يحصل ذلك لا يعتبر القبض.
وهذا إذا كانت العين المنقولة أو غير المنقولة كلها رهناً، فإذا كان بعضها هو المرهون، وهو رهن المشاع الذي أشرنا إليه عند الكلام عن المرهون، فكيف يكون القبض فيه؟
والجواب: أنه إن كانت العين منقولة كان قبضها بتسليمها كلها للمرتهن، وذلك بعد إذن الشريك بالقبض، لأنه لا يحصل إلا بالنقل كما علمت، فإن أبى الشريك ذلك ولم يأذن بالنقل: فإما أن يرضى المرتهن بوضعها في يد الشريك كلها، ويعتبر الشريك نائباً عن المرتهن في قبض الحصة المرهونة، فيجوز ذلك ويتمّ العقد، وإذا لم يرضَ المرتهن بذلك رفع الأمر الى القضاء، وعندها ينصب الحاكم عدلاً تكون العين في يده لهما، أي للمرتهن والشريك.
وللشريك ان ينتفع بالعين المرهونة بنسبة ملْكه منها، وبإذن من المرتهن او القاضي.(7/123)
أحكام عقد الرهن
علمنا ان لكل عقد من العقود الشرعية احكاماً، وهي الآثار التي يرتبها الشارع على وجود ذلك التصرف بين المتعاقِدَيْن، وانعقاده صحيحاً بوجود أركانه وتحقّق شروطه، وعقد الرهن مثل غيره من العقود: إذا صحّ ولزم، على المعنى الذي علمتَ، ترتّبت عليه آثاره وثبتت له أحكامه، فما هي هذه الأحكام؟
سنتكلم عن هذه الأحكام، ولتسهيل البحث نجعلها أقساماً أربعةً:
* القسم الأول: الأحكام التي تتعلق بالمرهون حال بقائه في يد المرتهن.
* القسم الثاني: الأحكام التي تتعلق بالمرهون حال هلاكه.
* القسم الثالث: الأحكام التي تتعلق بنماء المرهون وهو في يد المرتهن.
* القسم الرابع: احكام فرعية تتعلق بالرهن.
- القسم الأول: ما يتعلق بالمرهون حال بقائه في يد المرتهن:
بعدما يدفع الراهن العين المرهونة الى المرتهن، قد تكاملت أركان الرهن وشروطها، يترتب على ذلك آثار وأحكام من حيث: حبس المرهون، وحفظ العين المرهونة ومؤونتها، وما هي حقيقة يد المرتهن على المرهون؟ وهي ينتفع بالعين المرهونة في هذه الحالة؟ وما حكم التصرّف بهذه العين؟ وفكاك الرهن وتسلمه وردّه بوفاء الدين، ومتى يُباع المرهون وكيف؟ وإليك الكلام عن هذه الامور:
- أولاً: حبس المرهون:
علمنا أن عقد الرهن لا يتم ولا يلزم إلا بقبض العين المرهونة، فإذا قبضها المرتهن تم العقد ولزم، وليس للراهن الرجوع عنه واسترداد المرهون إلا بفكاكه(7/124)
بوفاء الدَّيْن، وبالتالي صار للمرتهن حق في ان يحتبس العين المرهونة عنده، وليس للراهن ان يُخرجها من يده.
ويكفي لتمام الرهن القبض الأول، فلا يشترط استدامة هذا القبض، كما لا يشترط أن تبقى العين المرهونة محبوسة على الاستمرار لدى المرتهن حتى يبقى عقد الرهن مستمراً، ولذا كان للمرتهن ان يخرج المرهون من يده برضاً منه وإذن ويدفعه للراهن، ولا يبطل بذلك الرهن ولا ينقطع، ويبقي حق المرتهن متعلقاً، بالمرهون له أن يعيده إلى يده ويحتبسه متى شاء.
وذلك: لأن القصد من الرهن الاستيفاء، وذلك ممكن بدون استمرار الحبس، ولأن الراهن يملك منافع الرهن كما سيأتي بيانه، فله ان يستوفى هذه المنافع بإذن المرتهن، وذلك لا يكون إلا باستخراج المرهون من يده.
- ثانياً: حفظ الرهن ومؤونته:
حفظ الرهن يعني: مراقبته ورعايته والابقاء عليه من ان يناله ضرر أو تلف كأن يسرق مثلا، وذلك من مصلحة المرتهن، لأن مصلحته أن يبقى الرهن سالماً كي يستوفي حقه منه إذا تعذّر على الراهن وفاء الدَّيْن. ولذا كان حفظه عليه ومن واجبه لأنه من مصلحته، ولأنه تحت يده ورعايته، وكَلَ مَن كانت له يد على شئ كان عليه حفظه ورعايته، وعليه ان يحفظه بنفسه حسب العُرف والعادة، لأنه هو العاقد الملتزم بالحفظ بمقتضى العقد.
فإذا احتاج الحفظ الى مستودع مثلاً كانت عليه أُجرته، أو إلى خزانة كان عليه إيجادها، أو أجرة حارس، وهكذا.
وأما مؤونة الرهن، وهي: كل ما تحتاجه العين من نفقة لبقائها، كعلف الدابة وسقي الاشجار، وترميم الدار مثلاً، فهو على الراهن، لأنه لابدّ منه لبقاء العين التي هي ملكه، ويُجبر عليها كي لا تهلك العين، محفظة على حق المرتهن.
ودلّ على ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يَغلق الرهن، الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غُنَمه وعليه غُرْمه" ومن غُرْمه نفقته ومؤونته، (رواه الشافعي في الام: كتاب(7/125)
الرهن، باب: ضمان الرهن: 3/ 147. والدارقطني: البيوع، رقم الحديث: 133).
- ثالثاً: يد المرتهن:
علمنا أنه إذا تحقق شروط بعد وجود أركانه فقد انعقد صحيحاً، وللمرتهن الحق في أن يقبض العين المرهونة إذا لم يرجع الراهن عن الرهن، فإذا قبض المرتهن العين صار له الحق في احتباسها عنده حتى يؤدي الدَّيْن، وليس للراهن أن يخرجها من يده إلا بإذن منه وهذا هو معنى اليد، أي أن العين المرهونة في يده وتحت سلطانه.
والذي نريد أن نعلمه الآن: هي يد المرتهن على العين يد أمانة أم يد ضمان؟
ويد الأمانة تعني: أن صاحبها لا يغرَّم بسبب ما هلك تحت يده شيئاً إلا إذا تعدّى أو قصر في مسؤوليته.
ويد الضمان تعني: أن صاحبها يغرّم بسبب ما هلك تحت يده، سواء أتعدّى بالهلاك أم لا، قصّر في مسؤوليته أم لا.
والجواب: أن يد المرتهن على العين المرهونة يد أمانة، فلا يغرّم شيئاً إذا هلكت، ولا يسقط عن الراهن شئ من الدَّيْن بمقابل بعض هلاك العين المرهونة او كلِّها، إلا إذا تعدّى في هذا الهلاك أو قصر، كما ستعلمه مفصّلاً عند الكلام عن هلاك المرهون.
ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "له غُنْمه وعليه غُرْمه" ومن غُرْمه هلاكه وتلفه، واذا كان هلاكه على الراهن فمعناه أنه هو الضامن له، وبالتالي المرتهن غير ضامن، وتكون يده يد أمانة.
- رابعاً: الانتفاع بالمرهون:
أ - انتفاع الراهن بالمرهون:
قد علمنا أنه لا يشترط لبقاء عقد الرهن استمرار حبس المرهون في يد المرتهن، بل له أن يخرجه من يده بإذنٍ منه ورضاه كما علمنا من خلال ما مرّ أن(7/126)
منافع المرهون لمالكه وهو الراهن، لقوله صلى الله عليه وسلم: " له غُنْمه" ومن غنمه منافعه، ولكنه محجوز عنها لحق المرتهن طالما أن المرهون محبوس عنده، فإذا أذن للراهن باسترداده والانتفاع به جاز له ذلك.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة" والذي يركب يشرب هو المالك للمنفعة وهو الراهن، فله الانتفاع وعليه النفقة.
ولكن يشترط في ذلك:
? أن يكون الانتفاع بالعين المرهونة لا يُلحق بها ضرراً من نقص او تلف.
? أن لا يسافر الراهن بالعين المرهونة، لأن السفر مظنة الخطر، ولا ضرورة له، فإذا أذن المرتهن بما يُمنع منه الراهن جاز له ذلك.
وكذلك: ان امكن الانتفاع بالمرهون وهو في يد المرتهن دون اخراجه واسترداده انتفع به عنده، وان لم يمكن ذلك الا باستخراجه من يده استخراجه، والأولى ان يشهد المرتهن على ذلك رجلين او رجلا وامرأتين، لأنه امر مالي.
وعلى الراهن رد العين المرهونة بعد استيفائه المنفعة منها الى يد المرتهن.
ب- انتفاع المرتهن بالمرهون:
علمنا أن عقد الرهن يُقصد به التوثق للدْين، وذلك بثبوت يد المرتهن على العين المرهونة، ليمكن بيعها واستيفاء الدَّيْن من قيمتها عند تعذّر وفائه على الراهن.
وعليه: فإن عقد الرهن لا يعني امتلاك المرتهن للعين المرهونة، ولا استباحته لمنفعة من منافعها، بل تبقى ملكية رقبتها ومنافعها للراهن، المالك الأصلي لها، وبالتالي: فليس للمرتهن أن ينتفع بالعين المرهونة بدون إذن الراهن مطلقاً، فإذا فعل ذلك كان متعدِّياً وضامناً للمرهون.
وهل له أن ينتفع به إذا أذن له الراهن بذلك؟
ينبغي ان نفرِّق هنا بين أن يكون الإذن بالانتفاع لاحقاً لعقد الرهن وبعد تمامه ودون شرط له، وبين أن يكون مع العقد ومشروطاً فيه:(7/127)
فإن كان مع العقد ومشروطاً فيه كان شرطاً فاسداً، ويفسد معه عقد الرهن على الأظهر، وذلك لأنه شرط يخالف مقتضى العقد، إذ مقتضى العقد التوثّق - كما علمت - لا استباحة المنفعة، وكذلك هو شرط فيه منفعة لأحد المتعاقِدَيْن وإضرار بالآخر، إذ به منفعة للمرتهن وإضرار بمصلحة الراهن.
ومقابل الأظهر: أن الشرط فاسد لا يُلتفت إليه، والعقد صحيح، وقول ضعيف.
وأما إذا لم يكن الانتفاع للمرتهن مشروطاً في العقد فهو جائز، ويملكه المرتهن، لأن الراهن مالك، وله أن يأذن بالتصرّف في ملكه بما لا يضيّع حقوق الآخرين فيه، وقد أذن له بذلك، وليس في ذلك تضييع لحقه في المرهون، لأنه بانتفاعه به لا يخرج من يده، ويبقى محتبساً عنده لحقه.
- خامسا: التصرّف بالمرهون:
المراد بالتصرف هنا: التصرّف الذي يُنشئ التزاماً وينتج أثراً شرعياً، كالهبة والبيع ونحو ذلك.
وهذا التصرّف إما أن يكون من الراهن وإما أن يكون من المرتهن، وإما ان يكون بإذن من الطرف الآخر وإما أن يكون بغير إذن.
أ-تصرّف الراهن بالعين المرهونة:
إذا تصرف الراهن بالعين المرهونة تصرفاً يُزيل ملكه عنها، كالبيع والهبة والوقف، كان تصرفه باطلاً إذا كان بغير إذن المرتهن، ولم يترتب عليه أيّ أثر شرعي، وبقى الرهن على حاله.
وذلك: لأن المرهون وثيقة بيد المرتهن مقابل دينه، فإذا أُجيز تصرّف الراهن هذا فيه فاتت الوثيقة وذهب حقّه، ولذا كان باطلا محافظة على حقه.
وكما لا يصحّ التصرّف الذي يُزيل الملْك لا يصح التصرّف الذي ينقص العين المرهونة حِسّاً أو مَعّنىً، كأن يعيره الى مَن يستعمله استعمالاً يَبْليه، أو يؤجّره الى مدة يحلّ الدَّيْن قبل انتهائها، فإن ذلك ينقصه مَعْنىً، إذ أن الرغبة تقلّ في شراء العين المؤجرة، وعندها إذا احتيج الى بيع العين لوفاء الدَّيْن: إما أن لا تُباع،(7/128)
وإما أن تُباع بأبخس من قيمتها، فإذا كانت المدة تنتهي مع حلول الدَّيْن أو قبله جاز ذلك وصحّ، لأنه لا ضرر فيه.
وكذلك لا يصحّ له رهنه عند مرتهن آخر، لأنه يُنشئ له بذلك حقاً يزاحم فيه حق المرتهن الأول، فيفوت مقصود الرهن.
فإذا كان التصرّف لا يتحقق فيه ما سبق كان صحيحاً ونافذاً، كالإعارة ونحوها.
كلُّ ذلك إذا كان التصرّف بغير إذن المرتهن كما علمت، فإذا كان التصرّف بإذنه: صحّت كلّ تلك التصرّفات ونفذت، وترتبت عليها آثارها المعتبرة شرعاً، لأن المنع من صحتها لحقْ المرتهن، وقد تنازل عن حقه بإذنه فيها.
لكن للمرتهن حق الرجوع عن إذنه قبل تصرّف الراهن، لأن حقَّه باقٍ طالما أن التصرف المأذون فيه لم يحصل.
فإذا لم يرجع عن إذنه وتصرّف الراهن نفذ التصرّف، وبطل الرهن إذا كان التصرّف يُزيل الملْك كالهبة ونحوها، وإذا لم يكن كذلك - كالإجارة ونحوها مما لا يزيل الملْك - بقى الرهن على حاله.
ب- تصرّف المرتهن:
لا يعدو تصرّف المرتهن بالعين المرهونة: أن يكون بإذن الراهن، أو بغير إذنه:
? فإذا كان تصرّف المرتهن بغير إذن الراهن، كان تصرّفه باطلاً لا يترتب عليه أيّ أثر شرعي، مهما كان نوع ذلك التصرّف، وإذا سلم العين المرهونة بسبب تصرّفه كان في ذلك متعدّياً، وصارت العين المرهونة مضمونة عليه، وذلك لأنه تصرّف بغير ملكه وبغير إذن المالك، لأن المرتهن لا يملك العين المرهونة، كما أنه لا يملك منفعتها.
? وإذا كان تصرّف المرتهن بالعين المرهونة بإذن الراهن: صحّ تصرّفه ونفذ، لأنه(7/129)
تصرف بإذن المالك في ملكه، وإنما ينظر:
- فإن كان التصرّف يُزيل الملْك كالهبة والبيع بطل الرهن، لأن الوثيقة قد ذهبت.
- وإن كان لا يُزيل الملْك - كالإعارة والإجارة - لم يبطل الرهن، لأن عين الوثيقة - وهي المرهون - لا تزال قائمة.
- سادسا: فِكاك الرهن وتسليمه وردّه بوفاء الدَّيْن:
إذا سَدَّد الرهن ما عليه من الدَّيْن كاملاً انفكّ المرهون وانتهى عقد الرهن، ووجب على المرتهن ردّ العين المرهونة على الراهن وتسليمها له، سواء أكان ذلك عند انتهاء الأجَلْ للدَّيْن أم قبله، وإذا لم يفعل ذلك، وقصّر في الرد أو امتنع دون عذر، كان ضامناً للعين، لأنه صار في حكم الغاصب، إذ لم يبق له حق في احتباس العين المرهونة، فإذا كان له عذر، كأن كانت العين غائبة في مكان لا يتمكن من إحضارها إلا بعد زمن، لم يكن ضامناً، وكذلك لو امتنع من تسليمها لعلمه أن هناك مَن سيغصبها من الراهن إذا دفعها إليه، والله تعالى أعلم.
وإذا دفع الراهن دَيْنه على أقساط: فإنه لا ينفك شئ من الرهن حتى يؤدي الدَّيْن كله، أو يبرئه المرتهن مما بقى له من أقساط وليس له أن يطالب بفك جزء من العين المرهونة لو كانت قابلة للتجزّؤ، مقابل ما دفعه من أقساط.
وذلك: لأن الرهن وثيقة بجميع أجزاء الدَّيْن، فلا ينفك جزء منه إلا بأداء جميع الدَّيْن وعلي ذلك أجمع الفقهاء.
فلو شرط الراهين في العقد: أنه كلما قضي من الدَّنْن قسطاً انفكّمن الرهن بقدره فسد الرهن، لاشتراط ما ينافيه.
- سابعاً: بيع المرهون:
إذا حلّ أجل الدَّيْن، ولم يكن عند الراهن وفاء له، وطالب المرتهن به، بِِيع المرهون ليُستوفى الدَّيْن من قيمته.
والذي له حق بيعه هو الراهن أو وكيله، لأنه هو المالك له ووكيله نائب عنه، وأنما يُشترط في هذا إذن المرتهن، لأن له حقاً في ماليّته، أي في قيمته، ليستوفى دَيْنه منها.
فإن لم يأذن المرتهن في بيعه رُفع الأمر إلى القضاء، وامره القاضي بالإذن(7/130)
ببيعه او إبراء الراهن من الدَّيْن، فإن لم يفعل شيئاً من ذلك باعه الحاكم رغماً عنه، ووفاه دينه من ثمنه، دفعاً للضرر عن الراهن.
وكذلك لو امتنع الراهن من بيع المرهون في هذه الحالة: فإن القاضي يلزمه بقضاء الدَّيْن أو بيع المرهون، فإنْ أبي باعه الحاكم رغماً عنه، ووفّى المرتهن دَيْنه من ثمنه، دفعاً للضرر عنه.
فإذا كان للراهن متاع آخر يمكن ان يُباع ويوفّى الدَّيْن من ثمنه لم يُجبر على بيع المرهون، إذا رغب ببيع غيره والوفاء منه، لأن المرهون لم يتعيّن للوفاء، لأن الواجب وفاء الدَّيْن من مال المدين، فلا فرق بين المرهون وغيره، كما لو لم يكن بالدَّيْن رهن، فإنه لا يتعين لوفائه مال دون مال.
وإذا أذِنَ الراهن للمرتهن أن يبيع العين المرهونة: فالأصح أنه إذا باعها في حضرة الراهن صحّ ذلك، لأن الراهن يستطيع ان يرجع عن الإذن قبل إبرام العقد إذا وجد أن في البيع عبناً له. أما إذا باع المرتهن في غَيْبة الراهين فلا يصحّ البيع، لأن بيعه لغرض نفسه، وهو استيفاء دَيْنه، فيتّهم حال غَيْبة الراهن بالاستعجال وعدم التروَّي والتحفّظ لمصلحة الراهن، مما لا يحصل في حال حضوره.
- القسم الثاني: ما يتعلق بهلاك العين المرهونة واستهلاكها:
قد تتعرض العين المرهونة الى التَّلَف: إما بهلاكها بنفسها أو بآفة سماوية، أي بدون أي فعل يقع عليها من أحد، وإما باستهلاكها من قِبَل الراهن او المرتهن او غيرهما، ولكل حال حكمها.
1. هلاكها بنفسها:
وذلك لا يخلو من ان يكون الهلاك بتعدَّ أو تقصير او لا يكون بتعدَّ او تقصير:
فإن كان الهلاك بتعدَّ أو تقصير: كانت العين المرهونة مضمونة على المتعدَّي أو المقصّر، سواء أكان الراهن أو المرتهن أو غيرهما، لأن المتعدّي والمقصّر ضامن على أيّ حال، والضمان يكون بمثلها إن كانت لها مثل، أو بقيمتها إن لم يكن لها مثل، ويكون المثل أو القيمة رهناً بدلها في يد المرتهن.
وإن كان الهلاك بلا تعدَّ أو تقصير: فلا ضمان على المرتهن إن كانت في(7/131)
يده وإنما تهلك من مال الراهن، ولا يسقط شئ من الدَّين بهلاكها، لأن يد المرتهن عليها يد أمانة.
ودليل ذلك:
قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يغلق الرهن، الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غُنْمه وعليه غُرْمه". (اخرجه الشافعي في الأم: كتاب الرهن، باب: ضمان الرهن: 3/ 147).
ومعنى أن الرهن من صاحبه أن هلاكه يكون من ماله، بدليل قوله: "له غنمه وعليه غرمه". وغنمه: سلامته وزيادته ومنافعه، وغرمه: نفقته ونقصه وهلاكه. فكان هلاكه من مال مالكه وهو الراهن، ولكن لا يضمن بدله ليوضع رهناً، لأنه لم يتعدَّ بهلاكه.
? ومما يؤكد ما سبق من فهم الحديث: أن الرهن وثيقة بالدَّين، فإذا هلك بدون تعدَّ كان كهلاك غيره من الوثائق كالصّك الذي كُتب فيه الدَّيْن والشاهِدَيْن والكفيل، ولا يسقط شئ من الدَّيْن بهلاك شئ من هذه الوثائق، فكذلك لا يسقط شئ منه بهلاك العين المرهونة.
2. استهلاك العين المرهونة:
استهلاك العين المرهونة: إما أن يكون من قبل الراهن، أو من قبل المرتهن، أو من قبل غيرهما، وهو ما نسمّيه بالأجنبي، أي الذي لا علاقة له بعقد الرهن، وأيّاً منهم كان المستهلِك كان ضامناً لقيمة العين المرهونة، ولكن لكلٍّ حالة أحكامها:
1 - فإذا كان المستهلك هو الراهن ترتبت الأحكام التالية:
أ - إذا كان الدَّيْن قد حلّ أجله يطالب الراهن بالدَّيْن، ولا يطالب بالضمان، أي بقيمة المرهون لتكون رهناً جديداً، إذ لا فائدة في ذلك طالما أن الأجل قد انتهى.
ب- فإذا كان الدَّيْن لم يحلّ أجلهُ بعد طولب بالمثل أو القيمة، ليكون ذلك رهناً في يد المرتهن بدل العين الهالكة حتى يحل أجَل الدَّيْن، لقيام الضمان مقام العين المضمونة.(7/132)
ج- الذي يخاصم الراهن في التضمين ويرافعه لدى القضاء هو المرتهن، لأنه صاحب الحق في مالية العين المرهونة، اذ من حقه حبسها ليستوفى منها دينه عند حلول الأجل اذا تعذّر على الراهن وفاؤه.
2 - وإن كان المستهلك هو المرتهن: ترتب ما يلي من الأحكام:
أ - فهو ضامن لمثله أو قيمته يوم قبضه له، لأن قبضه هو المعتبر في ضمانه، إذ به دخل في ضمانه، لأنه قبض لمصلحته لاستيفاء الدَّيْن منه.
وإنما كان ضامناً - رغم أن يد المرتهن على الرهن يد أمانة - لأنه أتلف مال غيره بغير حق.
ب- فإن كان الدَّيْن لم يحلّ أجَله بعدُ كان المثل أو القيمة رهناً في يد المرتهن حتى يحلّ الأجل، لأن ذلك بدل العين المرهونة فيأخذ حكمها.
ج- وإن كان الدَّيْن قد حلّ أجله، وكان الضمان من جنس الدَّيْن استردّ المرتهن منه حقه، وردّ الزيادة إن فضل شئ عن الدَّيْن، وإن كان الدَّيْن أكثر رجع على الراهن بالنقص، وإن كانا متساوِيَيْن حصلت المقاصّة، ولا شئ على واحد منهما.
3 - وإن كان المستهلك أجنبياً ترتب ما يلي من الأحكام:
أ- يضمن قيمة الرهن يوم الاستهلاك إن لم يكن له مثل، فإن كان له مثل ضمن مثله، ويكون المثل أو القيمة رهناً عند المرتهن بدل العين المستهلكة.
ب- الذي يخاصم في الضمان هو الراهن، لأنه هو المالك للعين المستهلكة ومنفعتها، وللمرتهن أن يحضر الخصومة لتعلّق حقّه بالبدل الذي سيكون رهناً عنده، فإن لم يخاصم الراهن فليس للمرتهن أن يخاصم على الأصح.
- القسم الثالث: ما يتعلق بنمَاء الرهن:
نمَاء الرهن هو ثمرة المرهون وغلّته وزيادته، متصلاً كان كالسِّمَن أو منفصلاً(7/133)
كالولد، وسواء أكان متولِّداً من الأصل كالثمرة والولد والسِّمَن، أم غير متولِّدٍ منه كأجرة الدار وكسب السيارة.
إذا حصل هذا النماء للعين المرهونة كان ملكاً للراهن، لأنه نماء ملْكه، فهو تبع للأصل في الملْك، ولكن هل يدخل هذا النماء في عقد الرهن تبعاً للأصل، ويكون للمرتهن حق احتباسها معه حتى يفكّ المرهون، أم للراهن أخذها، لأنها لم يجرِ عليها عقد الرهن؟
والجواب: أنه من الواضح دخول الزيادة المتصلة كالسَّمْن ونحوه في الرهن، لأنه لا يمكن انفصالها او تمييزها عن الأصل.
وأما الزيادة المنفصلة: كالولد واللبن والثمرة وما أشبه ذلك، فلا تدخل في الرهن، وليس للمرتهن أن يحبسها عن الراهن، لأنها ملْكه ولم يجر عليها عقد الرهن، دلّ على ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: "له غنمه .. " ومن غنمه: زوائده ونماؤه.
- القسم الرابع: أحكام فرعية تتعلق بالرهن:
هناك أحكام فرعية غير ما سبق تتعلق بالرهن، وهي:
أولاً: وضع المرهون على يد عدْل:
قد يطلب المرتهن رهناً بدَيْنه، ولا يطئمن الراهن الى وضعه في يده، فيتفقان على وضعه عند إنسان يثقان به ويرضيانه، لعدالته وحُسْن سيرته وامانته وحرصه على رعاية مصالح الناس.
فالعدل: هو الثقة الأمين الذي يرضى به كل من الراهن والمرتهن، ليضعا عنده العين المرهونة.
وحكم ذلك: أنه جائز ومشروع إذا شرطاه أو اتفقا عليه، فإذا قبض العين بالمرهونة صحّ قبضه وتمّ عقد الرهن، وكان في ذلك وكيلاً عن المرتهن في القبض.
ويتعلق بوضع المرهون على يد العدل أحكام، وهي:
1 - ليس للعدل أن يدفع العين المرهونة إلى الراهن أو المرتهن بلا إذن الآخر، لأن(7/134)
كلاًّ منهما لم يرض بوضعه في يد صاحبه اولاً، ولأن كل واحد منهما قد تعلّق حقه بالمرهون: فحق الراهن حفظ ملْكه في يد مَن ائتمنه، وحق المرتهن التوثّق من أجل استيفاء الدَّيْن، فليس له ان يبطل حق واحد منهما بدفعه الى الآخر بغير إذنه، فإذا اذن في ذلك جاز.
فإذا دفعه الى أحدهما بدون إذن الآخر كان متعدِّياً، وصار ضامناً للعين المرهونة، يضمن قيمتها إذا تلفت.
2 - إذا هلكت العين المرهونة في يده بلا تعدًّ ولا تقصير لم يضمن، لأن يده يد المرتهن هنا، ويد المرتهن يد أمانة كما علمت، فإذا تعدّى أو قصّر ضمن، كالمرتهن.
3 - ليس للعدل أن يبيع العين المرهونة عند حلول أجَل الدَّيْن وتعذّر وفائه، لأنهما جعلا له حق الإمساك لا التصرّف، إلا إذا سلّطاه على ذلك، أو شرطا في العقد أن يبيعه العدل، وعندها يجوز له بيعه، ولا يجب عليه مراجعة الراهن في الأصح، فإن عزله الراهن عن البيع صحّ عزله، ولم يملك البيع عندئذ. وكذلك للعدل ان يعزل نفسه عن ذلك، ويترك أمر البيع لهما.
4 - إذا ضمن العدل قيمة الرهن - بسبب تعدّيه في إتلافه، أو دفعه إلى أحد المتراهنين بدون إذن الآخر وتلف في يده - أخذت منه القيمة ثم جعلت رهناً من جديد عنده، أو جعلت عند غيره.
ثانياً: رهن العين المستعارة للرهن:
قد مّر معنا عند الكلام عن شروط المرهون أنه لا يشترط أن يكون الراهن مالكاً للعين المرهونة، بل يصحّ أن يستعير عيناً ليرهنها.
وإنما جاز ذلك: لأن الرهن توثيق للدَّيْن، وهو يحصل بما يملكه المدين وما لا يملكه كالشهود والكفالة، وكذلك الرهن بمعنى وفاء الدَّيْن وقضائه، والانسان يملك أن يقضي دينه بمال غيره إذا أذن له بذلك.
ويتعلق بذلك أحكام:
1 - تقييد الإعارة: بمعنى أنه يشترط في ذلك ان يبيِّن الراهن المستعير للمعير:(7/135)
جنس الدَّيْن وقدره وصفته والمرهون عنده، لأن الأغراض تختلف باختلاف هذه الأشياء، فقد يرضى برهن متاعه عند شخص ولا يرضى بذلك عند آخر، لاختلاف الناس في حُسْن المعاملة وعدمها، وقد يرضى برهن متاعه بدَيْن معيّن من اليسير على الراهن وفاؤه، بينما لا يرضى برهنه مقابل دَيْن قد يتعذّر عليه وفاؤه، فيُباع في ذلك متاعه، وهكذا.
2 - موافقة الراهن المستعير شروط المعير ومخالفته لها: اذا وافق الراهن شروط المعير في رهن العين التي استعارها منه كان الرهن صحيحاً، فإذا قبض المرتهن العين المرهونة تمّ عقد الرهن ولزم، وليس للمعير ولا للراهن المستعير الرجوع عنه، وترتبت على ذلك جميع أحكام الرهن السابقة التي من جملتها: أنه إذا هلكت العين المرهونة في المرتهن بلاتعدِّولا تقصير فلا ضمان عليه كما أن الراهن المستعير لا يضمن شيئاً لأنه لم يسقط عنه بهلاكها شيء من الدَّيْن الذي في ذمته، وهو لم يخالف ما شرط عليه.
أما إذا خالف الراهن المستعير شروط المعير، كأن أعاره ليرهنه عند شخص معين فرهنه عند غيره، بطل الرهن. وكذلك لو خالف في جنس الدَّيْن كأن يرهنه بنقد سوري فرهنه بغيره مثلاً، ومثله المخالفة في القدر،: كأن أعاره ليرهنه بألفٍ فرهنه بألفين. أما لو كانت المخالفة في القدر الى أقل، كأن اعاره ليرهنه بألفين فرهنه بألف، لأنه أيسر في الوفاء، فهي مخالفة لمصحلة المعير.
3 - هلك العين المستعارة للرهن في يد المستعير: قد علمنا أنه إذا هلكت العين المستعارة في يد المرتهن بلا تعدٍّ أو تقصير فلا ضمان، أما إذا هلكت أو تعيِّبت في يد المستعير فإنه ضامن لها، سواء أكان ذلك قبل دفعها للمرتهن أم بعد فكاك الرهن، وسواء تعدّى في ذلك أم لم يتعدّ، لأنها تلفت في غير الاستعمال الذي استعارها من أجله، وهو الرهن هنا، والعاريّة مضمونة مطلقاً اذا هلكت بغير الاستعمال، كما علمت في باب العاريّة.
4 - فك المعير للعين المستعارة للرهن: إذا عجز الراهن عن وفاء الدَّيْن وافتكاك العين المرهونة عند حلول اجل الدَّيْن، وأراد المعير مالك العين وفاء الدَّيْن(7/136)
ليفتك ملْكه كان له ذلك، وأُجبر المرتهن على قبول الوفاء منه، لأنه غير متبرِّع بقضاء دَيْن الراهن، لأنه يسعى في تخليص ملْكه، فلا مِنَّة له في ذلك، ولذا يُجبر الدائن على القبول، بخلاف ما لو كان الذي يقضي الدين متبرعاً، فإن الدائن لا يجبر على القبول، لما في ذلك من المِنّة.
وفي هذه الحالة يرجع المعير على الراهن المستعير بجميع ما قضي عنه من الدين.
5 - موت المعير أو المستعير: إذا مات الراهن المستعير، ولم يترك مالاً يؤدَّي منه الدَّيْن، بقى الرهن على حاله، ولا يباع المرهون المستعار إلا برضا المعير لأنه ملكه، فإذا رضى ببيعه - وكان في ثمنه وفاء للدَّيْن - بيع ولو لم يرض المرتهن، لأن حقه - وهو استيفاء الدَّيْن - يحصل بالبيع. وإذا لم يكن في ثمنه وفاء الدَّيْن لم يبع إلا برضا المرتهن، لأن في حبسه منفعة له، فقد يحتاجه المالك المعير فيسعى لتخليصه بوفاء الدَّيْن كاملاً، كما أنه قد ترتفع قيمته فيكون في بيعه عندها وفاء دينه.
وإذا مات المعير وكان عليه دين، ولم يترك ما يفي به إلا العين المستعارة للرهن، أمر الراهن المستعير بفكاك الرهن، ليعود الى ورثة المعير فيفوا منه دَيْنه، ويصل كلّ ذي حقٍّ إلى حقه. فإن عجز الراهن عن فك الرهن بقى على حاله، ولورثة المعير عندها أن يأخذوا العين المرهونة إن قضوا ما عليه من دَيْن، فإن لم يقضوا دَيْن المعير، وطالبوا هم والغرماء أصحاب الديون ببيع العين المرهونة بيعت إن كان في ثمنها وفاء لدين المرتهن ولو بغير رضاه، فإن لم يكن فيها وفاء لا تُباع الا برضاه، لمصلحته في حبسه، فلعلّهم يفكّوه بوفاء الدين أو يزداد السعر.
ثالثاً: الزيادة في المرهون أو الدَّيْن بعد تمام عقد الرهن:
أ - الزيادة في المرهون: لو رهن شخص شيئاً ما بدَيْن، وبعد قبض المرتهن المرهون أراد الراهن أن يزيد في المرهون ويضع عيناً أُخرى، لتكون رهناً مع العين الأولى بذلك الدَّيْن نفسه صحّ ذلك، لأنه زيادة توثيق لحق المرتهن، كما لو كان له عليه دَيْن بلا رهن، ثم رهنه شيئاً به.(7/137)
فإذا قبض المرتهن تلك الزيادة صارت مرهونة قصداً لا تبعاً، وجرت عليها جميع أحكام الرهن كما تجرى على المرهون الأول، وصارت معه رهناً واحداً.
ب- الزيادة في الدَّيْن: وذلك بأن يرهن شخص متاعاً بألف مثلاً، ويتم عقد الرهن بالقبض، ثم يرغب أن يأخذ الفاً ثانية، على أن يكون المتاع المرهون رهناً بالألفين. فإن ذلك لا يصحّ، لأنه نقص في الوثيقة، على خلاف ما سبق من الزيادة في المرهون، لأن بعض المرهون الأول هنا جعل رهناً بالدَّيْن الثاني، فنقصت الوثيقة بالدَّيْن الأول.
وكذلك فإن العين المرهونة مشغولة بالدَّيْن الأول، فالزيادة في الدَّيْن شغل لما هو مشغول، فلا يصح، بخلاف الزيادة في المرهون، فإنها شغل لما هو غير مشغول، وهو المرهون الثاني فإنه فارغ من الشغل بدَيْن، فتصح.
رابعاً: تعدد أطراف الرهن:
يمكن ان يجري عقد الرهن اولا مع اكثر من عاقدين، وان يكون على مرهونين فأكثر، واليك بيان ذلك:
1 - تعدّد الراهنين:
وذلك بأن يكون لرجل واحد دَيْن على شخصين او اكثر، فيرهن هؤلاء جميعاً عنده شيئاً ما، سجادة او داراً أو نحو ذلك، بهذا الدَّيْن كله في عقد واحد، ولا فرق أن يكون الدَّيْن ثبت على الجميع في صفقة واحدة، أم كان ثبوت كل جزء منه على كل واحد منهم على حدة.
ان هذا الرهن صحيح، لأن المرتهن كالمشتري والراهن كالبائع، ويصح ان يشتري انسان واحد سلعة واحدة من عدة بائعين.
وهل اذا دفع احدهم نصيبه من الدين انفك قسطه الذي يقابله من المرهون، ام يبقى كله رهنا حتى يؤدي الجميع؟
والجواب: ان الصفقة متعددة لتعدد العاقدين، فصار عقد الرهن كأنه متعدد والعين المرهونة كأنها متعددة، ولذا ينفك من الرهن نصيب كل منهم اذا وفى(7/138)
ما عليه من الدين.
2 - تعدد المرتهنين:
وذلك بأن يكون لاثنين أو أكثر ديون على شخص، فيرهن عندهم جميعاً متاعاً ما أو داراً مثلاً بتلك الديون، ويقبل هؤلاء.
ان هذا الرهن صحيح، سواء أكان هؤلاء شركاء في الديون التي عليه، أم لم يكونوا كذلك.
وإذا وفي الراهن دين أحد المرتهنين انفك من المرهون قسطه الذي يقابله من الدين، وذلك لتعدد الصفقة بتعدد المستحقين، وهم الدائنون، فصار كأنه عقد مع كل واحد منهم على حدة.
3 - تعدد العين المرهونة:
وذلك بأن يقول الراهن للمرتهن: رهنتك هاتين السيارتين - مثلاً - بمائتي ألف، ويقبل المرتهن ويقبض السيارتين. ان هذا الرهن صحيح.
وهل ينفك احد الرهنين إذا أدى قسطه من المال؟ ينظر:
? فإن كان رهن العينين مقابل الدَّيْن بدون تفريق: لم يكن له الحق بقبض شئ من الأعيان المرهونة حتى يوفى الدَّيْن كله، لأن الأعيان المرهونة رهن بكل الدَّيْن، فتكون جميعها محبوسة بكل جزء من اجزائه، فلا ينفكّ شئ منها حتى تؤدَّي جميع الأجزاءن ويصير ذلك كحبس كل المبيع في يد البائع حتى يقبض كل الثمن.
? وإن كان فرّق عند الرهن فقال: كل واحدة بألف مثلاً، كان له الحق أن يقبض إحداهما إذا أدّى ما عيّن لها من الدَّيْن، لأن العقد صار في حكم عقدين حين عيّن حصة كل من المرهونين.(7/139)
الباب التاسع
الكفالة والضمان(7/141)
الكفَالة
تعريفها:
هي - في اللغة - الالتزام والضم، ومنه قوله تعالى: "وكفّلها زكريا" "آل عمران: 37": أي ضمّها إليه والتزم برعايتها.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا" وأشار بالسبّابة والوسطى وفرّج بينهما شيئاً. (اخرجه البخاري في الطلاق، باب: اللعان، رقم 4998).
وكافل اليتيم: هو الذي يضمّه إليه ويلتزم رعايته والنفقة عليه.
وشرعاً: هي التزام حقّ ثابت في ذمة غيره، أو إحضار مَن عليه حق لغيره أو عين مضمونة.
أي هي عقد يلتزم فيه العاقد - وهو المسمى الكفيل أو الضامن - حقاً ثابتاً لشخص في ذمة غيره، بحيث إذا لم يؤدِّه مَن عليه الحق أدّاه ذلك الملتزم. أو أن يلتزم أن يحضر الشخص الذي عليه الحق إلى مجلس القضاء أو إلى صاحب الحق. أو أن يلتزم لشخص أن يحضر له عيناً - هي حقّ له - من يد غيره التي هي في يده مضمونة عليه، كأن تكون مغصوبة.
مشروعيتها:
هي مشروعة، وربما كانت مندوبة، إذا كان القائم بها واثقاً بنفسه، ويأمن من أن يناله ضرر بسببها، وقد دلّ على مشروعيتها نصوص كثيرة، منها:(7/143)
ما رواه سلمة بن الأكْوَع رضى الله عنه قال: كناً جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتى بجنازة، فقالوا: صلِّ عليها فقال: "هل عليه دَيْن؟ " قالوا: لا، قال: "فهل ترك شيئاً؟ " قالوا: لا، فصلى عليه، ثم أتى بجنازة أُخرى، فقالوا: يا رسول الله صلِّ عليها، قال " هل عليه دين؟ " قيل: نعم، قال: " فهل ترك شيئاً؟ ". قالوا: ثلاثة دنانير، فصلى عليها. ثم أُتي بالثالثة، فقالوا صلِّ عليها، قال" هل ترك شيئاً؟ " قالوا: لا قال " فهل عليه دين؟ " قالوا: ثلاثة دنانير، قال " صلّوا على صاحبكم " قال أبو قتادة: صلِّ عليه يا رسول الله وعلىَّ دينُه فصلى عليه. (البخاري: الحوالات، باب: ان احال دين الميت على رجل جاز، رقم: 2168)
ومنها: انه صلى الله عليه وسلم تحمّل عن رجل عشرة دنانير. (اخرجه الحاكم).
وسيأتي معنا مزيد من النصوص خلال فقرات البحث.
ويُستأنس لمشروعيتها أيضاً بقوله تعالى - على لسان يوسف عليه السلام: "ولمَن جاء به حِمْلُ بعير وأنا به زعيم" (يوسف: 72). قال ابن عباس رضى الله عنهما: الزعيم: الكفيل.
وقلنا يستأنس ولم نقل يُستدل، لأن هذا وارد في شرع مَن قبلنا، والصحيح أن شرع مَن قبلنا ليس بشرع لنا.
وهذا الذي دلتّ عليه النصوص موضع إجماع المسلمين في كل الأزمان والعصور.
حكمة مشروعيتها:
هي التيسير على المسلمين وتحقيق التعاون فيما بينهم، فقد يشتري إنسان سلعة هو في حاجة إليها، ولا يجد الثمن، ولا يطئمن البائع إليه فلا يرضى بإنظاره به، ولا يتيسر له رهن يضعه به، وقد لا يرضى البائع بالرهن، فيحتاج في هذه الحالة الى كفيل، وقد يستقرض مالاً هو في حاجة إليه، ويطلب المقرض كفيلاً، وقد يقع في جناية يعاقب عليها، وهو بعيد عن بلده، وعليه حقوق وتَبِعات يضطر الى أجَلٍ للقيام بها، فيحتاج الى مَن يكفله حتى يذهب ويعود. وقد يضطر إنسان إلى(7/144)
استعارة عين، ولا يرضى صاحبها بإعارتها له إلا بكفيل يضمن له ردّها سالمة. وقد تكون في يده عين مغصوبة، يحتاج إلى أجل لإحضارها، فيأبى صاحبها أن يفلته إلا بكفيل، وهكذا، فالمصلحة في تشريع الكفالة واضحة، والحاجة إليها أكيدة، وشرع الله تعالى إنما جاء لرعاية مصالح العباد، وتخليصهم من الحرج.
قال الله تعالى: "يريدُ الله بكُمُ اليُسْر ولا يريد بكُمُ العُسْر" (البقرة: 185) وقال: "ما جَعَلَ عليكم في الدَّيْن من حَرَج" (الحج: 78).
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الدَّيْن يُسَر" وقال: "يسّروا ولا تعسّروا".
(اخرجهما البخاري: في الايمان، باب: الدين يسر، رقم: 39، وفي العلم، باب: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم .. ، رقم: 69).
أنواع الكفالة:
الكفالة نوعان:
فهي إما أن يتكفل بدَيْن ثبت في ذمّة إنسان، يلتزم الكفيل اداءه اذا لم يؤدِّه مَن هو عليه في أجله، وتسمى: الكفالة بالدَّيْن، كما تسمى: الضمان.
وإما أن يتكفّل باحضار مَن لزمه حق، من دَيْن أو غيره كقصاص مثلاً، دون أن يتكفّل بأداء الدَّيْن، وتسمى: كفالة بالنفس.(7/145)
أركان الكفالة
للكفالة أركان خمسة، سواء أكانت كفالة مال أم كفالة نفس، وهي: الكفيل، والمكفول له، والمكفول عنه، والمكفول به، والصيغة، ولكلٍّ منها شروط نبيِّنها فيما يلي إن شاء الله تعالى.
الركن الأول: الكفيل:
وهو الضامن الذي يلتزم بأداء الحق المضمون، أو إحضار الشخص المكفول ويشترط فيه:
أن يكون اهلاً للتبرّع، بأن يكون عاقلاً بالغاً رشيداً، لأن الكفالة تبّرع، فيشترط أن يكون الكفيل أهلاً له، فلا تصحّ كفالة المجنون ولا الصبي، لأنهما ليسا من أهل التبرّع، ولا سلطان لهما على أنفسهما ومالهما، فلا سلطان لهما على غيرهما من باب أولى، وكذلك لا تصحّ الكفالة بالمال ممّن كان محجوراً عليه بسفه، لأنه تصرّف مالي، وهو محجور عليه في التصرفات المالية، لأنه لا يحسنها.
ويتفرّع على ذلك: انه مَن كان مريضاً مرضاً يخاف معه موته ليس له ان يكفل الا في حدود ثلث ما يملك، لانه محجور عليه التصرفات المالية التي هي من قبيل التبرّع في أكثر من ثلث ماله، أما في حدود الثلث فجائز.
الركن الثاني: المكفول له:
وهو مستحق الحق، الذي يلتزم الكفيل بما التزم به حفظاً لحقه، ويشترط(7/146)
أن يكون معروفاً لدى الضامن معرفة عينية، أي أن يعرف شخصه، فلا يكفي أن يعرف نسبه مثلاً، واشتُرطت معرفته لأنه هو صاحب الحق الذي سيُطالب الكفيل به، والناس يتفاوتون في المطالبة بحقوقهم شدَّة ويُسراً، فلا بدّ لمن يلتزم بالأداء أن يعرف مَن سيطالبه وكذلك إذا كان مجهولاً لا يتحقق ما شرعت له الكفالة، وهو التوثّق لصاحب الحق. واكتفى بمعرفة شخصه لأن الظاهر غالباً عنوان الباطن.
ويُشترط معرفة وكيله إن كان له وكيل، لأن الغالب في الناس أن يوكّل مَن هو اشدّ منه في المطالبة، ولهذا تغنى معرفة الوكيل عن معرفة الأصيل.
ولا يُشترط حضور المكفول له، كما لا يُشترط قبوله الكفالة أو رضاه بها، لأنها التزام وضمان لصالحه لا يرتب عليه شيئاً، ودليله حديث أبي قتادة رضى الله عنه، إذ لم يتعرّض فيه إلى المكفول له، وقيل: يشترط رضاه دون التلفّظ بقبوله.
الركن الثالث: المكفول عنه:
وهو المطالَب بالحق من قِبَل المكفول له، ويعبَّر عنه أحياناً بالأصيل مقابل الكفيل، ويشترط فيه أن يكون ثَبَت في ذمته حقٌّ مِنْ دَيْن أو نحوه، مما يصحّ ضمانه.
ولا يشترط رضا المضمون عنه في المال قولاً واحداً، لأن قضاء دَيْن غيره بغير إذنه جائز، فالتزامه جائز من باب أولى، ولذا صحّ الضمان عن الميت وإن ولم يخلف وفاءً وكذلك ضمانه عنه معروف، والمعروف يُصنع مع مَن يعرفه ومَن لا يعرفه، وسواء أكان اهلاً له أم لا. ولا تشترط معرفته في الأصح، لأنه ليس هناك معاملة بين الكفيل والمكفول عنه.
الركن الرابع: المكفول به:
وهو الحق الذي وقع عليه الضمان والكفالة من دَيْن أو غيره، ويشترط فيه:
1 - أن يكون حقاً ثابتاً حال العقد، فلا يصحّ ضمان ما لم يثبت، سواء أجرى سبب وجوبه كنفقة الزوجة المستقبلة، أم لم يجر كضمان ما سيقرضه لفلان، لأن الضمان وثيقة بالحق فلا يتقدم عليه، كالشهادة.(7/147)
ويكفي في ثبوت الحق اعتراف الضامن به وإن لم يثبت على المضمون شئ. فلو قال: لزيد على عمرو مائة دينار وأنا ضامن لها، فأنكر عمر الدَّيْن، فلزيد مطالبة الضامن به.
وقيل: يصحّ ضمان ما سيجب، كما لو قال: أقْرِضه مائة وأنا ضامنها، ففعل، صحّ ذلك، لأن الحاجة ماسّة إليه.
ولا يصحّ ضمان النفقة المستقبلة عن القريب ونحوه قولاً واحداً، لأن سبيلها البرّ والإحسان، لا الدَّيْن.
ويستثنى من هذا ضمان الدَّرَك، وهو أن يلتزم لمن يشتري سلعة أن يردّ له ثمنها، إن خرجت السلعة معيبة أو ناقصة أو مستحقة، أي مغصوبة أو مسروقة أو ضائعة، ووجدها صاحبها، فإنه يقيم البيِّنة عليها ويأخذها، لأنه احقّ بها. ففي هذه الحالة يعود المشتري على الضامن بثمنها. وإنما صحّ هذا الضمان - وهو ضمان لدَيْن لم يثبت، لأنه يثبت عند استحقاق المبيع من يد المشتري - لأن الحاجة تدعو إليه، وخاصة عند التعامل مع الغريب الذي يخشى ان يكون ما يبيعه مستحقا لأحد، ولا يظفر به عند الاستحقاق ونحوه، فاحتيج الى الضمان ليتوثق المشتري لما يدفعه من ثمن.
ويشترط أن يكون هذا الضمان بعد قبض البائع الثمن، لأن الضامن يضمن ما دخل في يد البائع، والثمن لا يدخل في ضمانه الا بقبضه.
2 - ان يكون لازما: سواء أكان مستقراً كثمن البيع بعد القبض وانتهاء مدة الخيار، والمَهْر بعد الدخول، ام غير مستقر كثمن المبيع قبل القبض والمهر قبل الدخول.
ويصحّ أيضا ضمان ما هو آيل الى اللزوم، أي ما يلزم بنفسه ولا يتوقف لزومه على شئ، كالثمن في مدة الخيار، فإنه يلزم بنفسه بانتهاء مدة الخيار، فيصح ضمانه وان لم يلزم بعد.
والمراد باللازم والآيل الى اللزوم ما لا يملك فسخه بلا سبب كالأمثلة السابقة، فلو كان الدين غير لازم ولا آيل الى اللزوم، بأن كان يستطيع من هو(7/148)
عليه فسخه بدون سبب كجعل الجعالة - وهو ان يلتزم دفع مال معين لمن يأتي له بضالته - فهو يملك الرجوع عن ذلك قبل ان يأتيه احد بها، فهو دين غير لازم ولا آيل الى اللزوم، فلا يصحّ ضمانه، لأنه لا يثبت الا بعد الفراغ من العمل، كما علمت في باب الجعالة.
3 - أن يكون معلوماً للضامن، جنساً وقدراً وصفة، فالجنس كأن يكون دراهم أو دنانير أو غيرهما، والقدر كألف أو أكثر أو أقل، والصفة كجيد أو ردئ فيما لو كان يوصف بذلك، وأن يعلم عينه إذا كان ضمان عين كالمغصوب.
وإنما اشترط العلم به لأنه إثبات مال في الذمة لآدمي بعقد، كالثمن في البيع والأجرة في الإجارة، فلا بدّ من العلم به، أو تعيينه إن كان عيناً، وقد دلّ على هذا ما جاء في حديث أبي قتادة رضى الله عنه حيث بيّن الدَّيْن وأنه ثلاثة دنانير.
وعليه فلا يصحّ ضمان المجهول، كضمنت مالك عليه من دين، أو أحد الدَّيْنين، أو أحد المغصوبَيْن، وهكذا.
4 - أن يكون الحق المضمون قابلاً للتبرّع به، أي أن يكون قابلاً للانتقال لغير مَن هو له بغير عوض، كالحقوق التي ذكرت أمثلة فيما مضى، فلو كان غير قابل لذلك فلا يصحّ الضمان به، كحق الشفعة مثلاً، فهو حق للشفيع، أي للشريك الذي يملك حصة مع البائع، فإذا باع شريكه حصته لغيره كان له الحق ان يأخذها بالثمن، ولكن ليس له أن ينقل هذا الحق لغيره، فلا يصح الضمان به.
الركن الخامس: الصيغة:
وهي الإيجاب من الضامن الكفيل، والقبول من المكفول له.
ويكفي في تحقيق الكفالة إيجاب الكفيل الضامن، ولا يشترط فيها قبول المكفول له ولا رضاه، كما مرّ معنا عند الكلام عن المكفول له.(7/149)
ويشترط فيها:
1 - أن تكون بلفظ يدلّ على الالتزام، صريحاً كان أم كناية:
فمن الصريح أن يقول: ضمنت دَيْنك على فلان، أو تحملته، أو تكفّلت به، أو تكفلت ببدن فلان، أو أنا كفيل أو ضامن بإحضار فلان ونحو ذلك.
ومن الكناية أن يقول: خلِّ عن فلان والدين الذي لك عليه هو عليَّ، ونحو ذلك.
فإن كان اللفظ لا يدل على الالتزام فلا تصحّ الكفالة، كما لو قال: أؤدي المال الذي على فلان، أو: أحضر فلاناً، ونحو ذلك. فإن مثل هذه الصيغة لا يدل على الالتزام ولا يشعر به، فهو وعد لا يلزم الوفاء به، إلا إن صحبه قرينة تصرفه إلى ذلك، كما إذا رأى صاحب الحق يريد حبس المدين، فقال: أنا أؤدي المال الذي عليه، فهذا قرينة على أنه يريد الضمان، فكأنه يقول: أنا ضامن له، فدعه ولا تتعرض له.
ويقوم مقام اللفظ من الناطق ما يدل عليه من كتابة الأخرس أو إشارته المفهمة والمعهودة.
2 - التنجيز في العقد، أي عدم التعليق على الشرط، سوءا أكانت كفالة مال أم كفالة بدن، فالأصح أنه لو قال: إن قَدِمَ زيد فأنا كفيل لك بما على فلان، لم يصحّ الضمان، وكذلك لو قال: إن فعلت كذا تكفّلت لك بإحضار فلان، لم تصحّ الكفالة، لأن الكفالة عقد، والعقود لا تقبل التعليق.
3 - عدم التوقيت في كفالة المال قولاً واحداً، لأن المقصود منه الأداء، فلا يصحّ تأقيته، وكذلك كفالة البدن على الأصح، لأن المقصود الإحضار ايضاً.
فلو نجز الكفالة وشرط تأخير إحضار المكفول إلى أجل معين جاز، كما لو قال: ضمنت إحضاره، ولكن أحضره بعد شهر مثلا، لأنه التزم بعمل في الذمة، فصار كالإجارة على عمل، يجوز حالاًّ ومؤجلاً.
وكذلك يصحّ ان يضمن الدَّيْن الحال على ان يؤدّيه بعد أجل معلوم، لأن(7/150)
الضامن متبرع، وقد لا يكون متيسراً له الأداء حالاً، والحاجة داعية إلى الضمان، فيكون على حسب ما التزمه، ويثبت الأجل في حق الضامن وحده، بمعنى ان المكفول له ليس له حق مطالبته الآن، وأما المكفول عنه - وهو الأصيل - فلا يثبت الأجل في حقه، ويبقى لصاحب الحق ان يطالبه بالوفاء الآن.
دل على ذلك: ما رواه ابن عباس رضى الله عنهما: إن رجلاً لزم غريماً له بعشرة دنانير على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما عندي شئ اعطيكه، فقال: والله لا افارقك حتى تقضيني او تأتيني بحميل، فجره الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كم تستنظره؟ " قال: شهرا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فان احمل له". فجاءه في الوقت الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من اين اصبت هذا؟ ". قال: من معدن. قال: "لا خير فيها" وقضاها عنه. (اخرجه ابن ماجه في الصدقات. باب: الكفالة، رقم: 2406).
وكذلك له أن يضمن الدَّيْن المؤجل حالا، لأنه تبرع بالتزام التعجيل، فصحّ ذلك منه، ولكن لا يلزمه التعجيل على الأصح، بل يثبت في حقه الأجل تبعاً للأصيل الذي عليه الدَّيْن.
وإذا قضاه حالاً لا يرجع بما قضاه على الأصيل قبل حلول الأجل، لأن تعجيله تبرع به، لا يسقط حق الأصيل في الأجل.(7/151)
أحكام الكفالة بالنفس
1 - علمنا أن الكفالة بالنفس نوع من الكفالة، وهي أن يلتزم الكفيل إحضار المكفول إلى المكفول له.
كما علمنا أنها مشروعة، لأنها تدخل في عموم الأدلة التي تدل على مشروعية الكفالة، ويؤيد ذلك ما جاء في خصوصها من آثار عن الصحابة رضى الله عنهم، منها:
ما رواه أبو اسحاق السَّبيعي عن حارثة بن مضرب قال: صلّيت مع عبدالله بن مسعود رضى الله عنه الغداة، فلما سلّم قام رجل فحمد الله وأثنى عليه، وقال: أما بعد، فوالله لقد بتّ البارحة وما في نفسي على أحد إِحْنَة، وإني كنت استطرقت رجلاً من بني حنيفة، مسجد عبدالله بن النواحة، فسمعت مؤذّنهم يشهد ان لا اله الا الله وان مسيلمة رسول الله، فكذبت سمعي، وكففت فرسي حتى سمعت أهل المسجد قد تواطؤوا على ذلك، فقال عبدالله بن مسعود رضى الله عنه: علىَّ بعبد الله بن النواحة، فحضر وأعترف، فقال له عبدالله بن مسعود: أين ما تقرأ من القرآن؟! قال: كنت أتقيكم به، فقال له: تُبْ. فأبى، فأمر به فأُخرج الى السوق فجُزَّ رأسه. ثم شاور أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في بقية القوم، فقال عديّ بن حاتم رضى الله عنه: ثؤلول كفر، قد أطلع رأسه، فاحسمه، وقال جرير بن عبدالله والأشعث بن قيس رضى الله عنهما: استتبهم، فإن تابوا كفلهم عشائرهم، فاستتابهم فتابوا، وكفلهم عشائرهم. (اخرجه البيهقي في(7/152)
كتاب المرتد، باب: من قال في المرتد يستتاب مكانه فإن تاب والا قتل: 8/ 206. وذكر البخاري جزءا منه تعليقا في صحيحه: الكفالة، باب: الكفالة في القرض والديون بالأبدان وغيرها).
[إحنة: حقد او بغض. استطرقت: أتيتُ ليلاً. بغلس: الغلس ظلمة آخر الليل. كففت فرسي: منعته عن الجري. تواطؤوا: توافقوا واجتمعوا في قولهم. فجز: فقطع. ثؤلول كفر: الثؤلول هو ما يخرج على الجلد من حَبّات زائدة عنه، فشبّه به لشذوذه وخروجه عن الاستقامة. أطلع رأسه: أظهر كفره. فاحسمه: فاقطعه واقطع به دابر الشرّ].
وقد يستأنس لها بقوله تعالى على لسان يعقوب عليه السلام: (لن ارسله معكم حتى تُؤُْتوني مَوْثقاً مِنَ الله لتأتُينَّي به) (يوسف: 66).
2 - والكفالة بالبدن قد تكون كفالة ببدن مَن عليه مال، وقد تكون كفالة ببدن مَن عليه عقوبة.
أما كفالة بدن مَن عليه مال: فهي صحيحة مطلقاً إذا كانت تكفّلاً بإحضار مَنْ عليه مال، سواء أعلم بمقدار المال ام لا، لأنه تكفّل بالبدن ولم يتكفل بالمال، ولهذا لا يُطالَب بالمال، وإنما يطالب بإحضار المكفول، وإنما يشترط أن يكون المال الذي في ذمّة المكفول مما يصحّ ضمانه على ما علمت عند الكلام عن المكفول به.
وأما كفالة بدن مَن عليه عقوبة: فيُنظر:
فإن كانت العقوبة حقاً لآدمي، كقصاص وحدّ قذف - فإنهما حق للآدمي، لأن القصاص بدل النفس وحدّ القذف لدفع العار عنه - فإنها صحيحة، لأنها كفالة بحق لازم، فأشبهت الكفالة بالمال.
وإن كانت العقوبة حقاً لله تعالى، كحدّ الخمر والسرقة والزنا، فلا تصحّ، لأن الحدود مبناها على الدرء - أي الدفع - والإسقاط، طالما أنها حقوق لله تعالى، فالمطلوب منّا سترها والسعي في دفعها ما أمكن، وقطع الوسائل المؤدية إليها، والكفالة بها إظهار لها وسعي في تأكيدها وتوسيعها فلا تصحّ.(7/153)
3 - أحكام أُخرى تتعلق بالكفالة بالبدن، منها:
1= مكان تسليم المكفول ووقته: فإذا شرط الكفيل وقتاً معيناً لتسليم المكفول لزمه احضاره فيه اذا طالب المكفول له بإحضاره، وفاء بما التزمه، فإذا احضره فقد وفى ما عليه، وان لم يحضره حبسه الحاكم لامتناعه عن إيفاء ما استحق عليه.
فإن غاب المكفول - وجهل الكفيل مكانه - لم يلزمه إحضاره، لعذره في ذلك، ويقبل قوله في دعوى جهالة مكانه بيمينه.
وإن علم مكانه لزمه إحضاره، إن أمِنَ على نفسه في الطريق وغلبت السلامة، ويُمهل مدة الذهاب والإياب حسب العادة والإمكان.
فإن مضت المدة التي أمهله إياها ولم يحضر المكفول حبسه ايضاً إلا إذا أدّى ما على المكفول من الدَّيْن، لأنه مقصِّر في تسليم ما وجب عليه تسليمه وهو المكفول.
وإذا حبسه استمر بحبسه إلى أن يتعذر إحضار الغائب، بموت أو جهل بموضعه أو بإقامته عند مَن يحميه ويمنعه من أن يصل إليه أحد.
وإذا أدى الدين حتى لا يُحبس، ثم جاء الغائب المكفول، كان له استرداد ما أدّاه إن كان باقياً على حاله، أو بدله إن كان قد استهلك، لأنه ليس متبرعاً بأدائه، هذا من حيث الزمان.
وأما من حيث مكان التسليم: فإن كان الكفيل قد عَيَّن مكاناً لتسليم المكفول تعيّن إن كان صالحاً للتسليم، تبعاً لشرطه، فإن لم يكن صالحا لذلك، أو كان له مؤونة حُمل على اقرب مكان اليه، ويشترط في هذا إذن المكفول، فإن لم يأذن فسدت، وإذا لم يعيّن مكاناً للتسليم فمكانه مكان الكفالة إن كان صالحاً لذلك، وإن لم يكن صالحاً تعيَّن أقرب مكان لمكان الكفالة يصلح لهذا.(7/154)
2 - يبرأ الكفيل إذا سلم المكفول في مكان التسليم على ما علمت، ويُشترط أن لا يكون هناك حائل يمنع المكفول له من الوصول الى حقه، لقيام الكفيل بما التزمه، فإذا سلّمه في موضع التسليم، وكان هناك حائل يمنعه من الوصول الى حقه، كذى منعة يمنعه منه، فلا يبرأ الكفيل، لعدم حصول المقصود بتسليمه.
فإذا سلّمه في غير مكان التسليم، ولم يرضَ المكفول له ان يتسلمه، فلا يجبر على استلامه اذا امتنع لغرض، كأن يكون له في مكان التسليم بيِّنة أو مَن يعينه على الوصول إلى حقه فإن لم يكن له غرض في امتناعه أجبره الحاكم على استلامه، فإن أبى استلمه عنه، فإن فقد الحاكم اشهد الكفيل على تسليمه له، وبرئ.
وكما يبرأ الكفيل إذا سلم المكفول بالشروط السابقة يبرأ أيضاً إذا سلم المكفول نفسه، فإن أبى استلامه أجبر على ذلك على ما سبق من تفصيل في تسليم الكفيل له. ولا يكفي مجرد حضور المكفول، بل لا بدّ من أن يقول: سّلمت نفسي عن فلان.
3= ويبرأ الكفيل فيما إذا مات المكفول ودُفن، أو توارى ولم يعرف محله، ولا يُطالب بما عليه من حق، لأنه التزم إحضار المكفول، ولم يضمن ما عليه من حقوق.
4= لو شرط في الكفالة بالنفس: أنه إن عجز الكفيل عن إحضار المكفول ضمن ما عليه من الحق بطلت الكفالة على الاصح. لأنه شرط ينافي مقتضى الكفالة بالنفس، لأن مقتضاها عدم الغرم بالمال، لأنها ليست ضماناً بالمال.
5= يبرأ الكفيل من المطالبة بإحضار المكفول اذا أبرأه المكفول له من ذلك، لأنه ملتزم بإحضره لحق المكفول له، وقد تنازل عن حقه، فلا مطالبة.
6= يشترط في الكفالة بالنفس رضا المكفول على الأصح، لأن الكفيل فيها لا(7/155)
يغرم المال عند العجز، فلا فائدة لها إذن إلا احضار المكفول ولا يلزمه الحضور مع الكفيل إذا لم يكن راضياً بكفالته له.
والأصح أنه لا يشترط رضا المكفول له، لأنها وثيقة له فتصحّ من غير رضاه كالشهادة، وكذلك هي التزام حق له من غير عوض يدفعه، فلا يعتبر رضاه فيها.(7/156)
أحكام الكفالة بالمال
الكفالة بالمال هي ما يسمى بالضمان، وهي: أن يلتزم إنسان أداء ما في ذمة من مال إذا لم يؤدّه المدين. وهي أحد نوعي الكفالة كما سبق.
وهي مشروعة كما علمنا، لما ذكرنا من الأدلة عند الكلام عن مشروعية الكفالة العامة، فيدخل فيها الضمان دخولاً أولياً، وقد أجمع المسلمون في كل العصور على مشروعيتها.
ولقد علمت الصيغة التي تنعقد بها هذه الكفالة، كما علمت أركانها وشروطها فيما سبق، وإليك الآن بعض أحكامها:
1 - مطالبة الكفيل والمكفول عنه:
إذا ضمن شخص ما في ذمة غيره ثبت لصاحب هذا الدَّيْن حق مطالبته به، ولا يعني ذلك براءة ذمة المدين الأصيل المكفول عنه، بل لصاحب الحق مطالبته أيضاً، لأن ذمته هي المشغولة بالدَّيْن أصلاً، وانضم إليها انشغال ذمة الضامن به، ولأن الضمان وثيقة للدَّيْن كالرهن والصك، فلا يتحول من ذمّة المدين الى الوثيقة إذا وجدت.
ولهذا لو شرط في عقد الضمان أن يبرأ الأصيل من الدين لم يصحّ الضمان، لأن الضمان توثيق للدَّيْن، وهذا الشرط ينافيه، لأن التوثيق يحصل بضمّ ذمّة أُخرى إلى ذمّة الأصيل، لا ببراءتها.
وقد دلّ على هذا ما جاء في حديث أبي قتادة رضى الله عنه: فتحملهما أبو قتادة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بيوم: "ما فعل الديناران؟ " قال: إنما مات(7/157)
امس، ثم أعاد عليه بالغد، قال: قد قضيته. قال: "الآن بردت عليه جلده". (اخرجه احمد في مسنده: 3/ 330 من حديث جابر رضى الله عنه).
فقوله: "الآن بردت عليه جلده" يدل على ان الدَّيْن لم يتحوّل عن المدين ولم تبرأ منه ذمته بمجرد الضمان، ولو كان كذلك لبردت عليه جلده من حين الضمان. وإذا لم تبرأ ذمة المدين الأصيل من الدين فلصاحبه مطالبته به، كما يطالب الضامن لأنه التزم ذلك، فإذا حضر الكفيل الضامن والأصيل المضمون عنه، وكلاهما موسر، فلصاحب الدَّيْن أن يطلبه ويأخذه من أيّهما شاء، لأن الأصيل الدَّيْن ثابت في ذمته أصلاً، وأما الكفيل: فلقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الزعيم غارم". والزعيم هو الكفيل، فيغرم الدين ويطالب به اذا لم يؤدّه المدين: (الحديث اخرجه الترمذي في البيوع، باب: ما جاء في ان العارية مؤداة، رقم: 1265 وغيره).
2 - براءة الكفيل ببراءة الأصيل:
إذا أبرأ صاحب الحق المدين الأصيل من الدَّيْن برئ الضامن من المطالبة به، لأنه تبع للأصيل، وضمانه توثيق للدَّيْن، فإذا سقط الدَّيْن بالإبراء فقد سقطت الوثيقة.
وأما إذا أبرأ صاحب الحق الكفيل من ضمانه، أو من الدَّيْن والمطالبة به، فإنه لا تبرأ بذلك ذمة المدين الأصيل، وإنما تبرأ ذمة الضاضمن وحده. لأن إبراء الكفيل إسقاط لوثيقة الدين من غير قبض له، فلا يسقط الدَّيْن بإسقاط الوثيقة، كتمزيق الصك وفسخ الرهن.
ويتعلق بهذا ما إذا ضمن الضامن ضامن آخر، وهو ضمان صحيح، لأن الدين المضمون لازم وثابت في ذمته، فصحّ ضمانه، وعليه: يعتبر الدين ثابتاً في ذمم ثلاثة: الأصيل والضامن الأول والضامن الثاني، ولصاحب الحق أن يطالب أيّهم شاء.
فإذا أبرأ الاصيل برئت ذمم الجميع، وإذا أبرأ الضامن الأول برئت ذمة الضامن الثاني أيضاً معها ولم تبرأ ذمة الأصيل، وإذا أبرأ الضامن الثاني برئ وحده، ولم تبرأ ذمة الضامن الأول ولا ذمّة الأصيل.(7/158)
3 - مطالبة الكفيل الاصيل بتخليصه:
إذا طالب الدائنُ صاحب الحق الكفيلَ بالدَّيْن، فهل للكفيل أن يطالب الأصيل المكفول بأداء الدين، ليخلصه من المطالبة؟ يُنظر:
فإن كان الضمان بإذن الاصيل المضمون عنه كان للكفيل الحق في أن يطالبه بتخليصه من المطالبة بأداء الدَّيْن، لأنه لزمته المطالبة والأداء عنه بإذنه وأمره، فكان له حق مطالبته بتبرئة ذمته.
وإن كان الضمان بغير إذن الأصيل لم يكن للضامن الكفيل حق مطالبته بذلك، لأنه لم يلتزم ما غرِّم به بإذنه، فلا يلزمه تبرئته وتخليصه منه.
هذا إذا طالب صاحب الحق الكفيل بالدَّيْن، فأما إذا لم يطالبه به: فالأصح أنه ليس له مطالبة الاصيل بتخليصه من التزاه طالما أنه لم يطالب بذلك.
4 - حلول الدَّيْن المؤجل بالموت:
إذا مات الكفيل أو المكفول عنه حلّ الدَّيْن المؤجّل في حقه، وبقى الأجل في حق الطرف الثاني، لأن الموت مبطل للأجل، وقد وجد في حق أحدهما ولم يوجد في حق الآخر، والأجل منفعة له فلا يبطل في حق.
فإن كان المتوفّي هو الأصيل: فللضامن الكفيل أن يطالب صاحب الدَّيْن بأخذ الدَّيْن من تَرِكَته قبل أن يقتسمها الورثة، أو إبرائه من الكفالة، لأن التَرِكَة قد تذهب إلى أن يحين الأجل، فيغرّم هو.
وإن كان الميت هو الكفيل، وأخذ صاحب الدَّيْن دينه من تَركَته، فليس لورثته الرجوع على المكفول عنه قبل حلول أجل الدَّيْن، لأن الأجل باقٍ في حقه.
5 - رجوع الكفيل على المكفول بما أدى عنه:
إذا أدّى المكفول عنه الدَّيْن برئت ذمته منه، كما تبرأ ذمة الكفيل، لأن ذمته شُغلت وثيقة بحق صاحب الدَّيْن، فانتهت الوثيقة بقبض الحق.
وكذلك تبرأ ذمتهما من حق المكفول له صاحب الدَّيْن إذا قضاه الكفيل، لأن صاحب الحق قد استوفاه من الوثيقة وهو الكفيل، فبرئت ذمة مَن عليه الحق وهو الأصيل، وتبرأ ذمة الكفيل تبعاً له، كما علمت.(7/159)
وفي هذه الحالة: هل يرجع الكفيل على الاصيل بماأداه عنه ام لا؟ يُنظر:
أ- فإن كان الضمان والأداء بإذن المضمون عنه رجع الكفيل عليه، لأنه ضمن وغرم بإذنه.
ب- وإن كان الضمان بإذن من المضمون عنه، والأداء بغير إذنه: فالأصح - ايضاً - أنه يرجع عليه بما أدّاه عنه، لأن الضمان سبب الأداء، وقد أذن فيه.
ج- وإن كان الضمان والأداء بغير إذن المضمون عنه لم يرجع الكفيل عليه بشئ مما أدّاه عنه، لأنه قضى دَيْن غيره بغير إذنه، فهو متبرِّع، والمتبرِّع لا يرجع مبما تبرّع به.
د- وإن كان الضمان بغير إذن من المضمون عنه، وكان الأداء بإذن منه: فالأصح أنه لا يرجع الكفيل على الأصيل بما أدّى عنه، لأن سبب وجوب الأداء هو الضمان، وهو لم يأذن فيه، فكان في معنى المتبرّع بوفاء دَيْن غيره.
وفي حال الرجوع على المكفول عنه، فبماذا يرجع عليه؟
لا شك أنه لو أدى عنه الدَّيْن الذي كان في ذمته بنفس صفته فإنه يرجع به عليه، لأنه هو الذي برئت به ذمّة المكفول عنه، وهو الذي غرمه الكفيل في نفس الوقت.
وإذا أدّى عنه غير ما ثبت في ذمته: فالأصح أنه يرجع عليه بما أدّاه إذا كان أقل من الدَّيْن، لأنه هو الذي غرمه وبذله، فإن كان أكثر من الدَّيْن رجع بمقدار الدَّيْن، لأنه هو الذي كان ثابتاً في ذمة الأصيل، وبرئت منه بالأداء عنه، فلو كان له في ذمته ألف صحيحة مثلاً، فأدى عنها ألفاً معيبة، رجع بالمعيبة، ولو صالح عن الألف بخمسمائة رجع بخمسمائة فقط.
ولو صالح عن الألف بسلعة تساوي ثمانمائة رجع بها أيضاً.
ولو كان الشئ الذي صالح عليه يساوي الفاً ومائة - مثلاً - رجع بالألف وحده.(7/160)
6 - دعوى الضامن قضاء الدَّيْن:
إذا ادّعى الكفيل الضامن قضاء الدَّيْن عن الأصيل، فإما أن يقرّ بذلك المكفول له أو ينكر ذلك:
فإن أقرّ المكفول له بذلك رجع الضامن بما أدّاه على الأصيل المكفول عنه، لتبرئته لذمته وسقوط المطالبة عنه بإقرار صاحب الحق، ولو أنكر المضمون عنه ذلك لم يُلتفت إلى إنكاره، لأن ما في ذمته حق للمضمون له، فإذا اعترف بالقبض من الضامن فقد اعترف بأن الحق الذي كان له قد صار حقاً للضامن، فيقبل إقراره لكونه في حق نفسه.
وإن أنكر المكفول له ذلك ينظر:
- فإن كان للضامن بيّنة على الأداء قضى بها، ورجع على المضمون عنه بما أدّاه.
- وإن لم يكن له بيِّنة على الأداء فالقول قول المكفول له بيمينه، لأنه منكر للقبض، والأصل عدمه، والكفيل مقصِّر بترك الإشهاد، فإذا حلف كان له أن يطالب مَن شاء من الضامن أو الأصيل، لأن حقه ثابت في ذمّتهما، فإذا طالب الكفيل وقضاه الدَّيْن يُنظر:
- فإن كان قضاه في غَيْبة المكفول عنه: فلا رجوع له على الأصيل قولاً واحداً إنْ كذّبه في دعواه، لأنه منكر للأداء، والأصل عدمه، وكذلك إنْ صدّقه، فلا رجوع له عليه في الأصح، لأنه لم ينتفع بأدائه عنه، ولم تسقط المطالبة، فلا رجوع عليه طالما أنه لم يُبرئ ذمته، لأنه هو المقصّر في عدم إشهاده على القضاء.
- وإن كان قضاءه في حضور المكفول عنه رجع عليه في الأصح، وإن كان قضاء الكفيل لم يبرئ ذمته من الدَّيْن ولم يسقط المطالبة عنه، لأنه في هذه الحالة هو المقصِّر في ترك التحفّظ لحقه وطلب الإشهاد على الدفع، فكان عليه ان يحتاط لنفسه، فهو المقصّر إذن دون الضامن.(7/161)
ضمان الأعيان
إذا ضمن شخص لآخر ان يردّ له العين التي يملكها من يد غيره، يُنظر:
- فإن كانت العين أمانة في يد مَن هي بيده - كالوديعة - لم يصح ضمانها، لأنها إذا لم يجب ضمانها على من هي عنده فمن باب أولى أن لا يجب ضمانها على غيره الذي يضمنها.
- وإن كانت العين مضمونة على مَن هي في يده - كالعين المغصوبة، والمستعارة، والمقبوضة على سوم الشراء، والمبيع قبل قبض المشتري له من البائع - صحّ ضمانها.
- ويشترط في هذا الضمان: أن يأذنه فيه مَن كانت العين تحت يده، أو أن يكون الضامن قادراً على انتزاع العين منه.
- فإذا صحّ الضمان: برئت ذمة الضامن بردّ العين للمضمون له.
- وإن ضمن أن يردّ القيمة إن تلفت العين لم يصحّ الضمان، لأنه ضمان لدَيْن لم يثبت، وقد علمت أن من شرط صحة الضمان أن يكون المضمون ديناً ثابتاً، وقيمة العين لا تثبت إلا بهلاك العين، فإذا ضمنها والعين قائمة لم يصحّ، لأنها لم تثبت بعد، فكان ضماناً لدَيْن لم يثبت، فلم يصح.(7/162)
الباب العاشر
الوكَالَة(7/163)
الوكَالَة
تعريفها:
الوكالة - في اللغة - بفتح الواو وكسرها، وتطلق على معانٍ، منها:
- الحفظ، ومن ذلك قوله تعالى: "حسبُنا الله ونعم الوكيل" (آل عمران: 173): أي الحافظ.
- التفويض، ومنه قوله تعالى: (وتوكّل على الله) (الأنفال: 61) أي فوِّض أمرك إليه.
وفي اصطلاح الفقهاء: هي تفويض شخص ما له فعله، مما يقبل النيابة، إلى غيره، بصيغ، ليفعله في حياته.
أي ان يفوّض المرء غيره بالقيام بتصرّف يملك هذا المفَوِّض القيام به بنفسه، ليقوم به عنه في حال حياته، أي حياة المفوِّض، على أن يكون هذا الفعل تصحّ النيابة فيه، وسيتضح معنا التعريف على وجهه الكامل من خلال الكلام عن أركان الوكالة وشروطها وأحكامها.
مشروعية الوكالة:
الوكالة مشروعة، وقد ثبتت مشروعيتها بالكتاب والسنّة وحصل على ذلك الإجماع:
أما الكتاب: فقوله تعالى: (وإن خِفْتُم شِقاقَ بينهما فابعثوا حَكَماً من أهله وحَكَماً من أهلها) (النساء: 35) أي إذا حصل نزاع بين الزوجين واشتدّ، ولم يتوافقا، فيُعيِّن حَكَمان يكونان وكيلين عنهما ينظران في الأمر، وهذا النص وإن كان خاصاً بشأن الزوجين - فهو عام في مشروعية الوكالة.(7/165)
ويُستأنس لهذا أيضاً بقوله تعالى: "فأبعثوا أحَدَكُم بِوَرِقِكُم هذه إلى المدينة فلينظر أيُّها أزكى طعاماً فليأتِكُمْ برزقٍ منه" "الكهف: 19": فبعثُ واحد من الجماعة توكيل له منهم.
[بِورِقِكم: هي الفضة المصكوكة. أزكى: أطيب وأمتع. برزق: بطعام ونحوه].
وكذلك قوله تعالى: "اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه ابي يأت بصيرا" (يوسف: 93) فقد وكلهم بالذهاب بالقميص والقائه على وجه ابيه.
وقلنا: يستأنس بهاتين الآيتين لأنهما واردتان في القرآن حكاية عن شرع من قبلنا، وقد تكرر منا القول: ان شرع من قبلنا ليس بشرع لنا.
وأما السنّة: فأحاديث كثيرة، منها:
ما رواه أصحاب السِّيَر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكّل عمرو بن أُمية الضمري رضى الله عنه في قبول نكاح أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان رضى الله عنهما.
ما رواه رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة حلالاً، وبنى بها حلالا، وكنت السفير بينهما. (اخرجه الترمذي في ابواب الحج، باب: ما جاء في كراهية تزويج المحرم، رقم: 841).
[حللاً: أي غير محرم بحج أو عمرة، بنى بها: أي دخل. السفير: هو الذي يقوم بالاصلاح وتحقيق الوفاق بين اثنين ونحوهما].
وما رواه عروة البارقي رضى الله عنه قال: دفع إلىَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ديناراً لأشتري له شاة، فاشتريت له شاتين، فبعت إحداهما بدينار، وجئت بالشاة والدينار الى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر له ما كان من أمره، فقال له: "بارك الله لك في صفقة يمينك". (أخرجه البخاري في المناقب، باب: سؤال المشركين ان يُريهم النبي صلى الله عليه وسلم آية .. ، رقم: 3443. والترمذي في أبواب البيوع، باب: حدثنا ابو كريب، رقم: 1258).
وسيأي مزيد من الأحاديث خلال البحث.
وهذا الذي دلتّ عليه الآيات والأحاديث هو موضع إجماع علماء الأمة في كل عصر من العصور.(7/166)
حكمة تشريع الوكالة:
إن الله تعالى خلق الناس متفاوتين في المواهب والقدرات، وفتح لهم أبوب الرزق، ويسّر لكلٍّ منهم سبيلاً أو أكثر من سبل الكسب والمعاش.
فمن الناس مَن أوتي القدرة والكفاءة التي تجعله على استعداد لأن يباشر جميع أعماله بنفسه، إلا أنه قد تتوالى عليه الشواغل وتتزاحم عليه الأعمال، فيضطر إلى مساعدة الآخرين والاستعانة بهم.
ومن الناس مَن لم يؤتَ من القدرة والكفاءة ما يؤهله للقيام بأعمال قد يكون وبأمسِّ الحاجة إليها.
وقد تكون لديه القدرة والكفاءة، ولكن تنقصه الخبرة في عمل من الأعمال أو مصلحة من المصالح.
ومنهم مَن يكون صاحب حق، ولكنه لم يؤتَ من الحجة واللسن، والفصاحة والبيان، ما يجعله قادراً على أن يظهر حقه ويدافع عن نفسه، وقد يكون خصمه الحن منه في حجته، فيقلب باطله حقاً.
من اجل ذلك كله كانت الحجة ماسة لكثير من الناس ان يعتمد على غيره، ويستفيد من خبراته في بعض اعماله، قليلة كانت ام كثيرة، فكانت المصلحة في تشريع الوكالة، سدا للحاجة وتيسيرا للمعاملة، ورفعا للحرج الذي جاء شرع الله تعالى برفعه اذ قال: "ما جعل عليكم في الدين من حرج" (الحج: 78).
حكمها:
قلنا: إن الوكالة جائزة ومشروعة، والأصل فيها الإباحة.
وقد تكون مندوبة: إن كانت إعانة على مندوب.
وقد تكون مكروهة: إن كان فيها إعانة على مكروه.
وقد تكون حراما: إن كان فيها إعانة على أمر محرم.
وقد تكون واجبة: إن توقف عليها دفع ضرر عن الموكل، كما إذا وكله بشراء طعام مضطر إليه، وهو عاجز عن شرائه.(7/167)
أركان الوكالة
للوكالة أركان أربعة، هي: الموكِّل والوكيل وصيغة العقد، والموكِّل فيه.
الركن الأول: الموكِّل:
وهو الذي يستعين بغيره، ليقوم ببعض التصرفات نيابة عنه. ويُشترط فيه: صحة مباشرته للتصرّف الذي وكل فيه بملك أو ولاية.
أي أن يكون له شرعاً حق التصرّف فيما أذن لغيره أن يقوم به، ويعتبر الشرع تصرّفه صحيحاً ويبني عليه آثاره وأحكامه.
فإذا كان لا تصحّ مباشرته لما أذن بالتصرّف فيه لم يصحّ توكيله، لأنه الأصل، وإذا كان الأصل غير قادر على التصرّف، فنائبه غير قادر عليه من باب أولى.
فلمالك المال أن يوكِّل في التصرّف فيه، إذا كان بالغاً عاقلاً نافذ التصرف، أي غير محجور عليه، لأنه يتصرّف في ملكه.
وكذلك لولىّ المال - كالأب والجدّ والوصي - أن يوكل غيره ليتصرف بمال من تحته ولايته، لأنه يملك هو مباشرة ذلك بسبب الولاية.
وللرجل البالغ العاقل أن يوكل أحداً في تزويجه، لأنه يملك مباشرة ذلك بنفسه.
ولوليّ البكر العدل أن يوكِّل في نكاح ابنته أو غيرها ممّن تحت ولايته، لأنه يصحّ منه مباشرة ذلك بنفسه.(7/168)
وعليه:
فلا يصحّ توكيل الصبي أو المجنون أو المغمى عليه مطلقاً، لأنهم لا تصحّ منهم مباشرة التصرفات شرعاً.
ولا يصحّ توكيل المحجور عليه لسفه في تصرّف مالي، لأنه لا يملك مباشرته.
ولا يصحّ للأب الفاسق أن يوكل في تزويج ابنته، لأنه لا يملك مباشرة ذلك بنفسه، وكذلك غيره من الأولياء.
والمرأة لا يصحّ منها أن تباشر عقد زواجها بنفسها، فكذلك لا يصحّ توكيلها فيه.
والمحرم بحج أو عمرة لا يجوز له أن يعقد زواج لنفسه، فكذلك لا يصحّ أن يوكِّل مَن يعقد له ذلك حال إحرامه، فلو وكّله ليعقد له بعد الإحرام صحّ.
ويستثنى من هذا الشرط:
الأعمى، فإنه لا يصحّ أن يباشر البيع والشراء ونحوهما مما يتوقف على الرؤية كما علمت، ويصح أن يوكّل في ذلك للضرورة، لأنه لو لم يصحّ توكيله فيها - والحال أنه لا تصحّ مباشرته لها - لكان في ذلك حرج عليه شديد.
الركن الثاني: الوكيل:
وهو الذي يقوم بالتصرّف نيابة عن غيره، بإذن منه وتوكيل.
ويشترط فيه ايضاً: أن تصحّ مباشره للتصرّف المأذون فيه لنفسه: فإذا كان التصرّف الموكِّل فيه لا يصحّ أن يباشره لنفسه لم يصحّ توكيله فيه، لأن تصرّف الإنسان لنفسه أقوى من تصرفه لغيره، لأنه يتصرّف لنفسه بطريق الأصالة، ويتصرف لغيره بطريق النيابة، والأصالة أقوى من النيابة، فإذا كان غير قادر على التصرّف بالأقوى، فهو غير قادر عليه بالأضعف من باب أولى.
وبناءاً عليه:
فلا تصحّ الوكالة للصبي والمجنون والمغمى عليه، لعدم صحة مباشرتهم التصرفات كما علمت، ويصحّ توكيل الصبي المميِّز في حج تطوع وذبح أُضحية(7/169)
وتفرقة زكاة، لأن هذه التصرفات تصحّ منه لنفسه.
والسفيه، لا يكون وكيلاً في التصرفات المالية.
والأعمى، لا يصحّ أن يكون وكيلاً في تصرّف تتوقف صحته على الرؤية.
والمحرم بحج أو عمرة لا يصح أن يوكِّل في عقد نكاح، وكذلك المرأة، لأنهما لا تصحّ منهما مباشرة ذلك لأنفسهما.
ويستثنى من هذا: توكيل الصبي المميز المأمون في الإذن بدخول الدار وإيصال هدية ونحوها على الصحيح، لتسامح السلف في ذلك، فيعتمد قوله فيها.
وكذلك يعتمد قوله في إخباره بدعوة صاحب الوليمة، والفاسق وغير المسلم في هذا كالصبي، قال النووي رحمه الله تعالى: لا أعلم في جواز اعتمادهما خلافاً.
ويُشترط في الوكيل أيضاً: أن يكون معيّناً، فلو قال لاثنين: وكّلت أحدكما ببيع داري، لم يصح، وكذلك لو قال: وكّلت ببيع داري كلّ من أراد بيعها.
ويشترط في الوكيل أيضاً أن يكون عدلاً، إذا كان وكيلاً عن القاضي، أو كان وكيلاً عن الولىَّ في بيع مال مَن كان تحت ولايته.
الركن الثالث: صيغة عقد الوكالة:
وهي الإيجاب والقبول، ويشترط فيها شرطان، وهما:
1 - أن يكون من الموكِّل لفظ يدل على رضاه بالتوكيل، صراحة أو كناية، لأن المكلَّف ممنوع من التصرّف في حق غيره الا برضاه.
فالصريح: كقوله: وكّلتك ببيع داري، أو فوّضت إليك أمر بيعه.
والكناية: كقوله: أقمتك مقامي في ببيعه، أو أنبتك.
وينوب في الوكالة الكتابة والرسالة مناب النطق.
ويكفي من الوكيل ما يدل على القبول، ولا يشترط فيه اللفظ، بل يكفي الفعل، لأن التوكل إباحة للتصرّف ورفع للحجر الذي كان قبلها، فأشبه إباحة الطعام للضيف، فلا يشترط فيها القبول لفظاً.(7/170)
2 - عدم تعليقها بشرط على الأصح، كأن يقول: إن جاء زيد من سفره فأنت وكيلي بكذا، أو: إذا جاء شهر رمضان فقد وكّلتك بكذا، وذلك لأن في التعليق جهالة فاحشة، فلا تصحّ الوكالة معه.
فإذا تصرّف الوكيل في هذه الحالة عند وجود الشرط صحّ تصرّفه، لوجود الإذن في التصرّف.
ولا مانع من تعليق التصرّف إذا كانت الوكالة منجزة، كما إذا قال له: وكّلتك في بيع داري، على أن تبيعه عند قدوم فلان، أو إذا جاء شهر كذا.
وكذلك لا مانع من تقييدها بوقت، كأن يقول له: أنت وكيلي لمدة شهر، فتصحّ الوكالة، وتنتهي بانتهاء الشهر، وليس للوكيل أن يتصرف بعده.
الركن الرابع: الموكَّل فيه:
وهو التصرف الذي يقوم به الوكيل نيابة عن الموكِّل.
ويشترط فيه شروط هي:
1 - أن يكون حق التصرف فيه ثابتاً للموكل عند التوكيل، كما لو وكّله ببيع ما يملكه عند التوكيل، أو وكّله بما لا ولاية عليه كتأجير دار الصبي الذي تحت ولايته، والتي يملكها الصبي عند عقد الوكالة، فإن الولي يملك التصرّف في ذلك. وعليه: فلا يصحّ أن يوكّل بالتصرّف فيما لا يملكه، أو فيما سيملكه، كما لو وكّل ببيع دار صديقه - مثلاً - وهو لا يملكها، أو وكّل ببيع دار زيد التي سيشتريها منه، أو وكّل بطلاق فلانة التي سيتزوجها، فإن الوكالة غير صحيحة في ذلك كله، لأنه لا يحقّ له ان يباشر ذلك بنفسه حين التوكيل، فكيف يستنيب غيره فيه.
أما لو وكّله في التصرّف فيما سيملكه بعد التوكيل تبعاً لما يملكه حال التوكيل: فإن الوكالة صحيحة، كما لو وكّله ببيع ما ستثمره أشجاره، فيصحّ ذلك، لأنه يملك الأصل وهي الأشجار، وكذلك لو وكّله ببيع ما عنده من أثواب وما سيشتريه أيضاً منها، صحّ توكيله في بيع ما لم يملكه عند التوكيل(7/171)
تبعاً لما كان يملكه. ولو وكّله ببيع متاع، وأن يشتري له بثمنه شيئاً، صحّ التوكيل بالشراء على الأشْهَرِ.
2 - أن يكون الموكِّل فيه معلوماً ولو من بعض الوجوه، فإن الضرر بذلك يقلّ والجهالة ترتفع نوعاً ما. ولا يشترط العلم به من كل الوجوه، لصعوبة ذلك، ولأن الوكالة شرعت للحاجة، وذلك يقتضي المسامحة فيها.
فلو قال: وكّلتك في بيع أموالي، واستيفاء ديوني، واسترداد ودائعي - مثلاً - صحّ ذلك، وإن جهل الأموال، والديون ومَن هي عليه، والودائع ومَن هي عنده، لأن الضرر فيها قليل، والموكِّل فيه صار معلوماً من بعض الوجوه.
وأما لو قال: وكّلتك في كل قليل وكثير من أُموري، أو فوّضت إليك كل شئ، أو أنت وكيلي فتصرف كيف شئت، لم يصحّ التوكيل، لكثرة الضرر، وجهالة الموكِّل فيه من كل وجه.
وعليه فلا يصحّ ما يسمى اليوم بالوكالة العامة، وإن أضرارها ظاهرة، حيث يتصرف الوكيل احياناً في أشياء لا يرغب الموكّل تصرفه فيها.
وكذلك لو قال: وكّلتك ببيع بعض مالي، دون أن يعيّن هذا البعض، لكثرة الجهالة وفحش الغرر.
3 - أن يكون الموكِّل فيه قابلاً للنيابة، فلا يصحّ التوكيل فيما لا يقبل النيابة، ولذا لا تصح الوكالة في العبادات البدنية المحضة كالصلاة والصوم، لأن حكمة تشريعها الابتلاء والاختبار بمجاهدة النفس، وذلك لا يحصل بفعل غير المكلف بها.
ويصح التوكيل في العبادات التي تشترط القدرة البدنية لأدائها لا لوجوبها كالحج والعمرة، عند العجز عن القيام بها.
وكذلك يصحّ التوكيل فيما هو من تمام العبادات المالية والإعانة عليها، كتوزيع الزكاة على مستحقّيها، وتفرقة مال منذور أو كفّارة وكذلك ذبح الأضحية والهَدْى وشاة الوليمة ونحو ذلك.(7/172)
ونفصّل القول هنا فيما يصحّ التوكيل فيه وما لا يصحّ فنقول:
الوكالة يمكن أن تكون في حق من حقوق العباد، ويمكن أن تكون في حق من حقوق الله تعالى.
الوكالة في حقوق الله تعالى:
وحقّ الله تعالى: هو ما شرع حكمه للمصلحة العامة لا لمصلحة فرد معين، فهو من النظام العام الذي يتعلق به حقّ كل فرد من الناس، ولذلك نسب لرب الناس جمعيهم، لعظم خطره وشموله نفعه، وسمى حق الله تعالى لأنه هو المستحق له وحده، فلا يملك أحد من الناس إسقاطه.
ومن حقوق الله تعالى العبادات المحضة، وقد علمنا انه لا يصحّ التوكيل فيها.
ومنها العقوبات الكاملة وهي الحدود، والوكالة فيها:
إما في إثباتها وإما في استيفائها.
فإذا كانت الوكالة في إثباتها فلا تصحّ، لأن مبنى الحدود على الدرء، أي إن الشارع يرجّح فيه جانب الدفع والإسقاط، فيسقطها لأقل شبهةٍ، والتوكيل في إثباتها يخالف ذلك لأنه يوصل إلى إيجابها وتنفيذها.
وإذا كانت في استيفاء الحدود فهي جائزة وصحيحة، لما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم وكّل في رجم مَن ثبت زناه، وجلد مَن ثبت شربه المسكر. (انظر البخاري: الوكالة، باب: الوكالة في الحدود).
الوكالة في حقوق العباد:
حقوق العباد هي كل ما يتعلق بأفرادهم على أنهم أفراد لا جماعة، كالبيع والشراء والزواج والطلاق والشركة والصلح ونحو ذلك.
فمثل هذه الحقوق تصحّ الوكالة فيها باتفاق العلماء، وقد مرّ معنا عند الكلام عن مشروعية الوكالة أدلة ذلك.
ومن هذه الحقوق الخصومة في إثبات هذه الحقوق، والوكالة فيها جائزة أيضاً.(7/173)
ودليل ذلك:
أن علياً رضى الله عنه وكّل عقيلاً عند أبي بكر - رضى الله عنهما - وقال: ما قضى له فلي، وما قضى عليه فعليّ، ووكّل عند عثمان رضى الله عنه عبدالله بن جعفر رضى الله عنهما، وقال: إن للخصومة قُحَماً وإن الشيطان ليحضرها، وإني لأكره أن أحضرها. (البيهقي: الوكالة، باب: التوكيل في الخصومات .. : 6/ 81)
[قحماً: جمع قُحْمة، وهي الأمر الشاقّ الذي لا يكاد يحتمل، وقحم الخصومات ما يحمل الإنسان على ما يكرهه].
الوكالة في القصاص:
تصحّ الوكالة في إثبات القصاص واستيفائه، لأن الغالب فيه حق العبد، وهم أولياء المقتول، ولذا يملكون إسقاطه، كما يملكون استبداله بالدية.
الوكالة في الشهادة والأيْمان والنذور:
لا تصحّ الوكالة في الشهادة، كأن يقول له: وكّلتك أن تشهد عنّي بكذا، لأن حكمها متعلّق بعلم الشاهد، لأنها إخبار عما رآه أو سمعه، وهذا غير حاصل للوكيل، فتعلقت الشهادة بعين الشاهد، فلا تقبل التوكيل، فإن وكّل فيها كان الوكيل شاهداً على الشهادة.
وكذلك لا تصحّ الوكالة في النذور والأيمان، كأن يقول: وكّلتك أن تحلف عنّي أو تنذر عنّي، لأن فيها تعظيم الله تعالى، فأشبهت العبادة المحضة، وتعلقت بعين الحالف والناذر.
الوكالة في الإيلاء واللعان والقسامة والظهار:
وكذلك لا تصحّ الوكالة في الإيلاء واللعان والقسامة، لأنها أيمان، وقيل: إن اللعان شهادة، وكلٌّ من الشهادة والأيمان لا تصحّ فيه الوكالة.(7/174)
والأصح أن الوكالة لا تصحّ في الظهار، لأن الغالب فيه معنى اليمين، لتعلّقه بألفاظ وخصائص كاليمين.
وقيل: تصحّ الوكالة فيه، لأنه ملحق بالطلاق، لأن الغاية فيه تحريم الاستمتاع بزوجته، وهذا ما يثبت بالطلاق، وصورته أن يقول: أنتِ على موكِّلي كظهر أُمه، أو جعلتُ موكِّلي مظاهراً منك.
الوكالة في الإقرار:
وذلك بأن يقول له: وكّلتك لتقرّ عنّي لفلان بألف دينار له علىَّ، ونحو ذلك. فالأصح أن الوكالة في ذلك غير صحيحة، ولو أقرّ عنه لا يلزمه ما أقرّ به عليه، لأن الإقرار إخبار عن إثبات حق - كالشهادة - فل يقبل التوكيل.
الوكالة في تملّك المباحات كالاصطياد والاحتطاب:
فلو وكّله أن يحتطب له أو أن يصطاد له: فالأصح صحة الوكالة، وأن ما يجمعه الوكيل من الحطب أو يمسك به من الصيد، بنيّة الموكّل، يكون ملكاً للموكّل، لأن تملّك المباحات أحد أسباب الملْك، فأشبه الشراء ونحوه، فصحّت الوكالة به.
الوكالة في المحرّم:
وذلك بأن يوكِّله في غصب شئ أو سرقته، أو فعل جناية، فإن الوكالة غير صحيحة، وإن فعل الوكيل شيئاً من ذلك كان هو الضامن والإثم عليه، لأن حكم المحرّمات مختصٌّ بمرتكبها، ولأن الشارع قصد بالامتناع عنها كل شخص بعينه.(7/175)
حدود تصرفات الوكيل
إذا وقعت الوكالة مستوفية لأركانها وشروطها ثبت للوكيل حق التصرّف فيما وكّل فيه، ولكن ما هي حدود هذا التصرّف؟ هذا ما سنبيِّنه فيما يلي بحسب موضوع الوكالة التي أسندت إليه.
1 - الوكالة في الخصومة:
وهي توكيل بالدعوى والمرافعة أمام القضاء وهي المشهور في أيامنا بعمل المحاماة، فإذا وُكِّل المحامي وغيره بالخصومة فهو يملك أن يتصرف بكل ما يتعلق بإثبات الحق لموكِّله أو دفعه عنه إذا كان خصمه يدّعيه.
وهل يملك الإقرار بالحق على موكِّله؟
والجواب: هو أنه لا يملك ذلك، لأنه وكيل في المنازعة والإقرار بخلاف ذلك لأنه مسالمة، فلا يتناوله التوكيل بالخصومة، فلا يملكه الوكيل.
وإذا أثبت الوكيل بالخصومة بالمال الحق لموكِّله وقُضى له به، فهل يملك قبضه؟
والجواب: أنه لا يملك ذلك، لأن الإذن في إثبات الحق ليس إذناً في قبضه، لا من جهة النطق ولا من جهة العُرْف، إذ ليس في العُرْف أن مَن يرضاه لتثبيت الحق يرضاه لقبضه، بل الغالب أن يختار لتثبيت الحق ألدّ الناس خصومة. وأكثرهم حيلة ودهاءً، وقد يكون أقل الناس دِيناً وحياءً، بينما يختار للقبض مَن هو أوفى الناس أمانة وأكثرهم ورعاً، فمَن يصلح للخصومة قد لا يصلح للقبض، وتوكيله بالخصومة لا يدلّ على الرضا به للقبض.(7/176)
2 - الوكيل بالقبض:
إذا وكّل إنسان آخر بقبض حق له من فلان، فأنكر فلان أن للموكّل عليه حقاً، فهل يملك الوكيل بالقبض المخاصمة في إثبات ذلك الحق الذي يدّعيه الموكّل؟ فيه وجهان:
أحدهما: يملك ذلك لأنه بالمخاصمة يتوصل إلى إثبات الحق وقبضه، فيكون الإذن بالقبض إذناً في المخاصمة.
والثاني: أنه لا يملك المخاصمة في تثبيت الحق، لأن الإذن في القبض ليس إذناً في التثبيت، لا لفظاً ولا عُرْفاً، ومَن يرضاه في قبض حقه قد لا يرضاه في تثبيته، لأنه يختار للقبض مَن كان ذا أمانة ودين وورع، وقد يكون أقل الناس حيلة وأضعفهم حج ومخاصمة، وعليه لو رافع في الأمر إلى القضاء، وقضي على موكِّله، فلا يمضي عليه هذا القضاء، ولعلّ هذا الوجه هو الارجح، والله تعالى أعلم.
3 - الوكيل بالبيع والشراء:
الوكالة بالبيع:
إذا وكّله ببيع شئ له، فلا يخلوا من أن تكون هذه الوكالة مطلقة أو مقيّدة، ولكلٍّ منهما حكم يتعلق بها:
- الوكالة المطلقة بالبيع:
وهي أن يوكّلَه ببيبع شئ دون أيّ تقييد، ففي هذه الحالة يتقيد الوكيل بما يلي:
1 - لا يبيع بغير نقد البلد، لأن العُرْف يقيده به عند الإطلاق، فإن كان فيه نقدان يتعامل بهما أهله باع بالغالب منهما، فإن استويا في التعامل باع بأنفعهما للموكِّل، وإن استويا بالنفع باع بأيّهما شاء.
2 - لا يبيع بالنسيئة أي بتأجيل الثمن إلى زمن معين، وإن كان البيع بأكثر من ثمن مثله حالاًّ، لأن مقتضى الإطلاق الحلول، إذ هو المعتاد في البيع غالباً.
فلو وكّله ليبيع مؤجلاً: فإن قدّر له أجَلاً معيناً جاز أن يبيع إلى ذلك(7/177)
الأجل ولا يزيد عليه، فإن نقص عنه أو باع حالاًّ صحّ البيع، فإن كان في التعجيل ضرر على الموكِّل- كنقص ثمن أو خوف على الثمن ونحو ذلك - لم يصحّ.
وإن أطلق الأجل صحّ التوكيل على الأصح، وحمل الأجل على المتعارف في مثله، فإن لم يكن فيه عُرْف راعي الأنفع للموكل.
3 - ولا يبيع بغبن فاحش، وهو ما لا يُحتمل غالباً، وضبطوه بما يخرج عن تقدير المقدِّرين، كأن يقدِّره المقدِّرون بما بين السبعة والعشرة مثلاً، فيبيعه بخمسة أو ستة.
فإذا خالف أحد هذه القيود الثلاثة وباع لم يصحّ بيعه على الأصح، وإذا سلم المبيع للمشتري كان ضامناً له، لأنه تعدّى في تصرفه، فإن كان المبيع موجوداً استردّه، وإلا غرَّم الموكِّل قيمته من شاء من الوكل أو المشتري، ويستقر الضمان على المشتري، أي هو الذي يغرم القيمة في النهاية، ويعود على الوكيل بالثمن إن كان قد دفعه إليه.
- الوكالة المقيدة بالبيع:
وذلك بأن يوكِّله ببيع شئ يملكه، ويقيده بشخص أو زمن أو مكان أو ثمن.
? فإن قيّده بشخص، كأن قال: بِعْ هذا لفلان، تعيّن عليه البيع له، لأن تخصيصه قد يكون لغرض يقصده، كأن يكون ماله أبعد عن الشبهة، فإن دلّت قرينة على أن مراده الربح، وأنه لا غرض له في التعيين إلا ذلك، جاز بيعه لغير ذلك الشخص الذي عيّنه.
? وإن قيّده بزمن، كأن قال: بِعْه يوم الجمعة مثلاً، تعيّن هذا، ولم يجز أن يبيع قبله ولا بعده، لأنه قد يُؤثر البيع في زمان لحاجة خاصة فيه، ولا يؤثره في غيره.
? وإن قيّده بمكان، كسوق كذا، يُنظر:
? فإن كان له في التعيين غرض صحيح، كأن يكون الثمن فيه أكثر، أو النقد فيه أجود، لم يجز البيع في غيره، لأنه لا يجوز تفويت غرضه عليه.(7/178)
وإن لم يكن في التعيين غرض صحيح، كأن يكون الثمن فيه وفي غيره واحداً، فالراجح أن له البيع فيه وفي غيره، لأن مقصوده يتحقق في أيّ مكان، فكان الإذن بالبيع بمكان إذناً بالبيع في غيره.
? وإن قيده بثمن، كأن قال له: بِعْ بمائة مثلاً، فليس له أن يبيع بأقل منها، ولو كان ثمن المثل أو كان النقص قليلاً، لأنه مخالف للإذن.
والأصح أنَ له أن يبيع بأكثر منها، لأن المفهوم من ذلك عُرْفاً هو عدم النقص، بل لا يجوز له أن يبيع بالمائة إن وجد مَن يرغب شراءه بأكثر منها، لانه مأمور بالأنفع للموكِّل، حتى لو وجد الراغب بالزيادة زمن الخيار لزمه الفسخ، وإذا لم يفسخه هو انفسخ بنفسه.
فإذا صرّح له بالمنع من البيع بزيادة عمّا قيده به، كأن قال له: بِعْه بمائة، ولا تَبعْ بأكثر من ذلك، لم يصحّ بيعه بزيادة، لأنه لا عبرة للدلالة مع التصريح، فقد أبطل النطق دلالة العُرْف.
- البيع لمن يتهم فيه بالمحاباة:
الوكيل بالبيع لا يصحّ أن يشتري الموكَّل ببيعه لنفسه كما لا يصحّ أن يشتريه لولده الصغير ولا لكل مَن هو في حَجْره وتحت ولايته، لأن العُرْف في مثل هذا أن يبيع الوكيل لغيره، لا لنفسه، وبيعه لولده الصغير ومن في حجره كبيعه لنفسه، فلم يصحّ ذلك كله، حتى ولو أذن له فيه الموكَّل، لتعارض أغراض البائع والمشتري، فالمشتري يرغب السلعة بأرخص الأثمان، ووكيل البائع عليه ان يحصل لموكله اغلاها واعلاها، وهنا المشتري والبائع واحد، فلا تتحقق اغراض البيع.
واما غير هؤلاء - ممّن يتهم في محاباتهم من ذوي قرباه - فلا مانع من بيعهم، فيبيع لزوجته واخوته ونحوهم، لأن العاقد ليس واحدا، فالأغراض غير متنافية.
والاصح انه يبيع لأبيه وسائر أصوله، كما أنه يبيع لابنه البالغ وسائر فروعه المستقلِّين عنه، طالما أنه يبيعهم بالثمن الذي لو باع به لأجنبي لصحّ، فتنتفي التهمة ويصحّ البيع، كما لو باع لصديق له، ليس بينه وبينه قرابة.(7/179)
- التوكيل ببيع فاسد:
لو وكّله أن يبيع بعقد فاسد - كما لو وكّله ببيع المال الربوي بجنسه متفاضلاً، كصاع حنطة بصاعين، أو أن يبيع المبيع بثمن محرم كآلة لهو مثلا - فلا يجوز أن يعقد هذا العقد، لأن الله تعالى لم يأذن فيه، فلم يملكه الموكِّل أصلاً حتى يملكه الوكيل.
وهل يملك أن يبيعه بعقد صحيح؟ والجواب: لا يملك ذلك، لأن الموكّل لم يأذن فيه.
ب الوكالة بالشراء:
? الوكالة المطلقة بالشراء:
وذلك بأن يوكِّله بشراء شئ موصوف أو معين دون أن يقيده بنوع أو ثمن، كأن يقول: وكّلتك أن تشتري لي سيارة، فهنا يتقيد الوكيل بما يلي:
1 - لا يشتري معيباً، لأن الإطلاق يقتضي الوصف بالسلامة من العيب، فإن اشترى ما فيه عيب يُنظر:
? فإن كان الوكيل يعلم العيب:
وقع الشراء له ولم يقع للموكل، حتى ولو كان المشتري يساوي الثمن الذي اشترى به مع العيب على الأصح، لأنه لم يأذن له بشراء المعيب، فهو مقصِّر بشرائه، وقد لا يتمكن الموكّل من ردّه لهروب البائع فيتضرر بذلك، ولا سيما حين يكون لا يساوي الثمن.
? وإن كان الوكيل لا يعلم العيب:
فإن كان المشتري يساوي الثمن مع العيب وقع الشراء للموكِّل، إذ لا ضرر عليه، لأنه يملك الاختيار بين إمساكه - ولا خسارة عندها لأنه يساوي الثمن - وأن يردّه على البائع، والوكيل غير مقصّر بهذا، لأنه جهل العيب، ولم يشتره بأكثر من ثمن مثله.
وكذلك الحال أن كان المشتري لا يساوي الثمن مع العيب في الأصح، كما لو اشتراه الموكّل بنفسه جاهلاً للعيب.(7/180)
وفي هذه الحالة:
يكون للموكّل وحده خيار الرد بالعيب إن اشتُرى بعين ماله، لأنه هو المتضرِّر بذلك، فإن رضى به فليس للوكيل حق ردّه، لأن العقد لا يمكن أن يقع له، فلا يتضرر به.
وإن كان الوكيل قد اشتراه بالذمة: ثبت حق الرد له أيضاً، لأنها ظلامة حصلت بعقده فجاز له رفعها، كما لو اشتراه لنفسه، ولأنه لو لم يجز له الردّ. فربما لا يرضى به المالك، فتنقلب ملكيته للوكيل، ويتعذر ردّه لكون الرد فورياً، فيتضرر الوكيل بذلك.
2 - لا يشتري إلا بثمن المثل، أو بزيادة يسيرة يقبل الناس التغابن فيها عادة، فإن اشترى بزيادة لا يتغابن فيها الناس عادة - على ما سبق - فيا يقع البيع للموكِّل.
? الوكالة المقيَّدة بالشراء:
إذا وكّله أن يشتري له شيئاً، وقيّده بنوع أو ثمن، لزمه مراعاة القيد، فإذا خالف الوكيل في هذا وقع الشراء للوكيل، ولم يقع للموكل إلا إذا خالف إلى خير.
ومثال التقييد بالنوع من المشتري أن يقول له: اشتر لي سيارة من نوع كذا صنع سنة كذا، فإذا اشتراها مع هذا الوصف كان الشراء للموكِّل، وإن خالف في هذا فاشتراها من نوع آخر أو من صنع سنة غير المذكورة في العقد، كان الشراء للوكيل وليس للموكل، لأنه خالف قيداً معتبراً قد يكون للموكل مصلحة فيه.
ومثال التقييد في الثمن، أن يقول: اشتر لي سيارة - مثلاً - أو داراً بمائة ألف، فاشتراها بمائتي ألف، فلا يلزم هذا الشراء الموكِّل، وإنما يلزم الوكيل لمخالفة قيد الثمن.
ومثال المخالفة الى خير: أن يشتري ما وكّله بشرائه بألف - بصفة معينة - بثمانمائة بنفس الصفقة والقيد، فهذا الشراء يلزم الموكِّل - وإن خالف فيه الوكيل - لانها مخالفة إلى خيره وصالحه.
ومن هذا ما لو وكّله بشراء سلعة موصوفة بثمن معين، فاشترى اثنتين منها(7/181)
بالثمن نفسه، كلٌّ منهما تساوي الثمن المعين، صحّ الشراء للموكل، لأنه مخالفة إلى ما هو أنفع. ودلّ على ذلك كله حديث عروة رضى الله عنه السابق.
? أشتراط الوكيل الخيار:
ليس للوكيل بالبيع أن يشرط الخيار للمشتري، كما أنه ليس للوكيل بالشراء أن يشرط الخيار للبائع، لأنه - في الحالين - شرط لا مصلحة فيه للموكِّل، فإن أذن به الموكَّل جاز.
وللوكيل أن يشرط الخيار لنفسه او للموكِّل، لأن في ذلك مصلحة للموكّل واحتياطاً له.(7/182)
حقوق العقد بالوكالة وحكمه
المراد بحقوق العقد: التصرفات التي لا بدّ منها للحصول على الغاية والقصد من العقد، مثل تسليم المبيع وقبض الثمن في البيع، والمطالبة بالمهر في النكاح، ونحو ذلك. وحكم العقد: هو الغرض منه والمقصود، كثبوت الملكية في المبيع للمشتري، وحل الاستمتاع بالزوجة في عقد النكاح ونحو ذلك. وبحثنا الآن: لمن تثبت حقوق العقد وحكمه، للوكيل أم للموكل؟ والجواب هو:
أما حكم العقد:
فقد اتفق الفقهاء على أنه يقع ويثبت للموكِّل لا للوكيل، لأن الوكيل واسطة وسفير في هذا، وهو يتكلم باسم الموكّل ويعقد له، فولايته على العقد مستمدَّة منه فكأنّ العاقد في الحقيقة هو الموكَّل، ولذلك يثبت حكم العقد له مباشرة، بمجرد تمام العقد وصحته من قِبَل الوكيل.
وأما حقوق العقد:
فهي نوعان بحسب العقود التي تترتب عليها، فإن العقود التي يمكن ان يقوم بها الوكيل نوعان:
? عقود يضيفها الوكيل إلى نفسه.
? وعقود يضيفها الوكيل إلى موكِّله.
فالعقود التي يضيفها إلى نفسه:
هي كالبيع والشراء والإجارة ونحوها، فإن الوكيل يقول عند التعاقد: بعت واشتريت وأجَّرْتُ، دون أن يقول: عن موكِّلي، أو لموكِّلي.(7/183)
فمثل هذه العقود تتعلق أحكامها بالوكيل لا بالموكِّل، فهو المعتبر في رؤية المبيع قبل العقد، ويلزم العقد بمفارقته المجلس، وهو الذي يطالب بالثمن أو المبيع، وهو الذي يستلم البدل من العاقد الآخر ونحو ذلك.
وإنما رجعت إليه هذه الحقوق لأنه أصل في التعاقد، بدليل استغنائه عن إضافة العقد إلى الموكّل.
وأما العقود التي يضيفها الوكيل للموكّل:
فهي كالزواج والخلع والصلح عن دم ونحو ذلك، فإن الوكيل يقول عندها: قبلت زواج ابنتك لموكِّلي فلان مثلا، ويقول: خالعتك عن زوجتك فلانة، وما الى ذلك.
فمثل هذه العقود تتعلق أحكامها بالموكل لا بالوكيل فلا يطالب الوكيل بالمهر وإنما يطالب به الموكّل، ولا يطالب وكيل الزوجة المخالع عنها ببدل الخلع وإنما تطالب به الزوجة الموكلة، وهكذا.(7/184)
أحكام تتعلق بالوكالة
1 - توكيل الوكيل:
إذا كان الوكيل يمكنه القيام بما وُكِّل فيه، وكان مما يليق بأمثاله القيام به، فليس له أن يوكّل غيره بدون إذن الموكِّل، لأن الموكِّل رضى بتصرفه ولم يرضَ بتصرّف غيره، ولا ضرورة لذلك.
فإن كان لا يتأتى منه القيام بما وُكِّل فيه، إما لأنه لا يحسنه وإما لأنه لا يليق به، فله عندئذ أن يوكّل غيره بالقيام بذلك، لأن تفويض مثل ذلك إليه من الموكّل بقصد منه إنابته عنه في توكيل مَن يقوم بما أسنده إليه.
وإذا كان الموكل فيه مما يحسنه ويليق به، ولكنه كثر حتى عجز الوكيل عن الإتيان بكله، جاز له أن يوكّل فيما زاد من قدرته على الأصح، لأن الضرورة دعت إليه.
وحيث جّوزنا للوكيل أن يوكِّل - عن نفسه أو عن الموكّل - اشترط أن يوكِّل اميناً رعاية لمصلحة الموكِّل، إلا إن عين الموكّل أحداً غير أمين، فله توكيله اتباعاً لتعيين الموكّل.
وهل الوكيل الثاني وكيل الموكِّل، أو وكيل الوكيل الاول؟ والجواب:
? إذا قال: وكِّل عن نفسك، فالثاني وكيل الوكيل، فللأول أن يعزله، كما أنه ينعزل بعزل الموكل للوكيل الأول، أو بعزل الوكيل الأول لنفسه، لأنه تبع له.
? وإن قال: وكِّل عنّي، أو أذن له بالتوكيل مطلقاً، فالوكيل الثاني وكيل للموكل، فلا يملك أحد الوكيلين عزل الآخر، وللموكّل عزل أيّهما شاء فلا ينعزل الثاني بانعزاله.(7/185)
2 - التوكيل بجُعْل:
الوكالة صحيحة سواء أجعل الموكِّل شيئاً مقابل ذلك أم لم يجعل. فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم وكَّل ولم يعط شيئاً على العمل، كما أنه كان يوكِّل السُعاة بجمع الزكاة ويعطيهم على ذلك أجراً يجعله لهم مقابل عملهم. وفي حال كونها بجعل يشترط أن يكون الجعل معلوماً، فلا يصح ما يفعله الناس اليوم من إعطاء المحامين نسبة مئوية من مال القضية التي يربحونها كأتعاب لهم. كما لا يصح اعطاء جباة الجمعيات ونحوها نسبة مئوية مما يجبونه من اموال، وكذلك إعطاء أصحاب المكاتب العقارية نسبة مئوية من قيمة ما يبيعونه. والمشروع في ذلك كله تحديد جُعْل يُتّفق عليه قبل بدء العمل وعند التوكيل. ويستحق هذا الجعل عند الانتهاء من العمل الموكل فيه.
3 - صفة يد الوكيل:
يد الوكيل على ما وكّل فيه يد أمانة، فلا يضمن إلا بالتعدِّي، حتى ولو كانت الوكالة بجُعْل، لأن الوكيل نائب عن الموكِّل في التصرّف فيما تحت يده، فكانت يده كيده، فكما ان المالك لا يضمن ما تلف في يده من ملكه فكذلك وكيله.
وأيضاً فإن الوكالة إرفاق وتعاون من الوكيل، والضمان ينافي ذلك وينفّر عنه، ويجعل الناس يمتنعون عنها، فيكون في ذلك حرج، فإذا تعدَى - كأن استعمل ما وكل ببيعه او شرائه، او ضاع منه ولم يدر كيف ضاع، او وضعه في مكان ثم نسيه، او خالف الموكل - فإنه يضمن في ذلك كله.
4 - دعوى الوكالة:
إذا جاء إنسان ألى مَن عليه حق لآخر، وادّعى أنه وكيل صاحب الحق، وأنه وكّله في قبض الحق منه، وصدّقه مَن عليه الحق في ذلك، فهل يجب دفع الحق إليه؟
والجواب: إنه لا يجب عليه ذلك، لأن هذا الدفع لا يبرئه من الحق، فلا يؤمر به لا أن أقام بينة على دعواه.
فإذا دفع اليه وقبضه جاز، فإذا حضر صاحب الحق وصدقه بالوكالة فقد ظهر(7/186)
أنه كان وكيلا له، وان قبضه صحيح، فتبرأ ذمة من كان عليه الحق منه.
وإن أنكر صاحب الحق التوكيل صُدّق بيمينه أنه ما وكّل، لأن الأصل عدم التوكيل، فإذا حلف يُنظر:
فإن كان الحق عيناً: أخذها إن كانت باقية أو أخذ بدلها إن كانت تالفة. وله أن يطالب أيّهما شاء: مَن كان عليه الحق ودفعه، ومَن أدعى الوكالة وقبض. لأن الدافع دفع إلى مَن لم يثبت له إذن صاحب الحق له بالقبض، والقابض قبض ما لم يكن له حق في قبضه.
وإذا ضمّن واحدً منهما لم يكن له أن يرجع بما ضمنه على الآخر، لأن كلاًّ منهما يرى أن ما يأخذه صاحب الحق منه ظلم، فليس له أن يرجع على غيره لدفع الظلم عن نفسه.
وإن كان الحق دَيْناً: فله أن يطالب به الذي كان عليه، لأن حقه - على رأيه - لا يزال في ذمته ولم ينتقل الى ذمة غيره. وليس له أن يطالب القابض على قول الأكثر، لأن ما قبضه لم يتعين حقا له، فليس له أن يطالب به.
5 - الوكالة في قضاء الدَّيْن:
إذا وكّل رجلاً في قضاء دينه لزم الوكيل أن يشهد على القضاء، لأنه مأمور بما هو الأحوط لمصلحة الموكِّل، ومن مصلحته أن يشهد على قضاء دينه، كي لا يرجع عليه الدائن وينكر القضاء.
فإذا دفع الوكيل الدَّيْن دون إشهاد، وأنكر صاحب الدَّيْن الوفاء، لم يُقبل قول الوكيل عليه، وبقى دينه في ذمة الموكّل. وهو للموكّل ان يضمِّن الوكيل ما دفعه إليه؟ والجواب: يُنظر:
? فإن كان دفع إليه في غَيْبة الموكِّل ضمن للموكل ما دفعه إليه، لأنه فرّط في ترك الإشهاد على الدفع.
? وإن كان في حضوره لا يضمن، لأن المفرّط هو الْموكَِل، إذ كان عليه أن يشهد على الدفع، لأن الإشهاد لمصلحته ولحقه.(7/187)
6 - الوكالة لإثنين:
إذا وكّل وكيلين في تصرّف، فهل للواحد منهما أن يتصرّف فيما وُكِّلا فيه منفرداًَ عن الآخر؟
فإن كان قد نصّ في الوكالة على أن لكِّل منهما أن يتصرّف دون الآخر صحّ له ذلك، وكذلك إذا كان توكيلهما على التعاقب أو على انفراد، ولم يكن بلفظ واحد، جاز لكلٍّ منهما أن يتصرّف دون أن يرجع إلى صاحبه.
وإن كان التوكيل بلفظ واحد ينظر:
فإن كان يتعلق بأمر فيه بدل مالي، كالبيع والشراء وقبض الدَّيْن والنكاح والطلاق على مال، لم ينفرد أحدهما عن الآخر، ولو تصرّف توقف تصرّفه على إجازة الآخر، لأن هذه التصرفات تحتاج الى مزيد من الرأي، والموكِّل رضى برأيهما ولم يرضَ برأي أحدهما، واجتماعهما ممكن، فلا ينفذ تصرّف أحدهما دون الرجوع الى الآخر، لأن الموكّل لم يأذن به.
وإن كان التصرّف لا يتعلق بأمرٍ فيه بدل مالي، كالطلاق على غير مال وتسليم الهبة وقضاء الدَّيْن ونحو ذلك، فلكل واحد منهما أن ينفرد بالتصرّف، لأن هذه التصرفات لا تحتاج الى مزيد نظر ورأي، فتكون إضافة التوكيل إليهما تفويضاً بالتصرّف إلى كل واحد منهما على انفراده. وكذلك التوكيل بالخصومة لاثنين، لأن القصد منها إعلام القاضي بحق الموكِّل والمرافعة أمامه، وقد يكون في حضورهما معاً إخلال بذلك.
7 - اختلاف الموكِّل مع الوكيل:
قد يختلف الموكِّل مع الوكيل في بعض الأمور، فما هو الحكم عند الاختلاف؟ وأبرز هذه الأمور الاحوال التالية:
أ-الاختلاف في تلف ما في يد الوكيل:
علمنا أن الوكيل أمين، وأنه لا يضمن ما تلف في يده إلا إذا فرّط أو تعدّى. فإذا ادّعى الوكيل أنه تلف في يده ما وكّله ببيعه مثلاً، أو الثمن الذي وكّله بالشراء به، أو الثمن الذي قبضه له ونحو ذلك، فكذّبه الموكِّل بدعواه وقال: لم يتلف(7/188)
شئ في يدك، فيصدَّق الوكيل بدعواه مع يمينه، لأنه أمين، والأصل عدم تضمينه، والتلف مما يتعذر إقامة البيِّنة عليه فلا يكلّف بها.
إلا إذا ادّعى أن التلف حصل بأمر ظاهر لا يخفى، كحريق أو غرق أو نهب، فيكلّف إقامة البيّنة على هذا الأمر، لأنه ليس مما يتعذّر إقامة البيّنة عليه، فإن لم يقم بيِّنة على ذلك كان ضامناً لما كان في يده.
ب- الاختلاف في التعدِّي أو التفريط:
إذا توافق الموكِّل والوكيل في دعوى التلف، ولكن اختلفا في التعدِّي وعدمه، كأن يدّعى الموكِّل مخالفة الوكيل شروطه، أو التقصير في الحفظ، أو الاستعمال لنفسه ونحو ذلك، مما يُعتبر تعدّياً من الوكيل أو تقصيراً منه، والوكيل ينكر ذلك ويدّعي أنه ما تعدّى ولا قصّر، فالمعتبر قول الوكيل مع يمينه، لأن الموكِّل يدّعى عليه الضمان وهو ينكره، والقول دائماً قول المنكر مع يمينه، فإذا حلف فلا ضمان عليه.
ج- الاختلاف في التصرف:
كأن يدّعي الوكيل أنه باع ما وُكِّل ببيعه وينكر الموكِّل البيع، أو يقول الوكيل: بعتُ وقبضتُ الثمن وتلف، ويقول الموكّل: بعتَ ولم تقبض الثمن. فالقول - أيضاً - قول الوكيل مع يمينه، لأنه يملك التصرّف بالبيع والقبض بالإذن، ومَن ملك تصرفاً ملك الإقرار به.
د- الاختلاف في الردّ:
أي ادّعى الوكيل أنه ردّ ما في يده من حقوق الموكِّل إليه، كما لو ادّعى ردّ العين التي وكَّله ببيعها، أو ردّ الثمن الذي باع به، وأنكر الموكِّل ذلك:
- فإن كانت الوكالة بغير جُعْل فالقول قول الوكيل بغير جعل فالقول قول الوكيل بيمينه، لأن قبضه للمال كان لصالح مالكه، فيُقبل قوله في ردّه.
- وإن كانت الوكالة بجُعْل: فوجهان: قيل: لا يقبل قوله، لأن قبضه للمال كان لصالح نفسه، وقيل: يُقبل قوله، لأن منفعته كانت بعمله لا بقبضه لمال الموكِّل، وهذا القول هو الأرجح.(7/189)
هـ- الاختلاف في التوكيل:
إذا اختلف الوكيل مع الموكِّل في أصل الوكالة، فقال: وكّلتني بكذا، وقال الأصيل: لم أُوكِّلك:
- فإن كان قبل التصرّف: فلا خصومة، أي يُرَدُّ ترافعهما أمام القضاء، إذ لا فائدة من ذلك، لأن إنكار الموكِّل في هذه الحالة الوكالة عزل للوكيل لو حصل التوكيل.
- وإن كان بعد التصرّف: فالقول قول الموكِّل بيمينه، لأن الأصل عدم الإذن وعدم التوكيل، والوكَّيل يدّعيه والموكِّل ينكره، والمعتبر - كما علمنا - قول المنكِر بيمينه.
وتسمية الطرفين هنا وكيلاً وموكِّلاً مجاز، حسب دعوى مدّعي التوكيل.
والاختلاف في صفة الوكالة:
إذا توافق الموكِّل والوكيل على الوكالة، ولكن اختلفا في صفتها، كأن قال الوكيل مثلاً: وكّلتني بالبيع إلى أجل، وقال الموكِّل: بل نقداً، أو قال الوكيل: وكّلتني أن أشتري لك كذا بألف، فقال الموكّل: بل بخمسمائة، أو قال الوكيل: وكّلتني بشراء سيارة، فقال الموكِّل: بل بشراء دار، وهكذا.
فالقول قول الموكِّل مع يمينه، لأنه أعرف بحال الإذن الصادر منه، وأعلم بالعبارة التي نطق بها.(7/190)
انتهاء عقد الوكالة
ينتهي عقد الوكالة بأُمور، هي:
1 - الفسخ:
عقد الوكالة عقد جائز من الطرفين:
أي إن الموكِّلَ له فسخُ عقد الوكالة وعزل الوكيل عن التصرف متى شاء، لأنه قد يرى أن مصلحته في ترك التوكيل، أو يرى مصلحته في توكيل شخص آخر، والتوكيل إذن منه للتصرّف في ملْكه، فله أن يرجع عنه متى شاء.
وكذلك للوكيل أن يفسخ الوكالة ويعزل نفسه عن التصرّف متى شاء، لأنه قد لا يتفرّغ للقيام بما وُكِّل به، أو قد يكون التوكيل في غير مصلحته، فلو كان ملزَماً بها لكان في ذلك إضرار به.
ولا يختلف الحال سواء أكانت الوكالة بجُعْل أم بغير جٌعْل.
وبناءً عليه:
فلو عزل الموكِّل الوكيل فقد انتهت الوكالة، ويكون ذلك بقوله: رفعت الوكالة، أو أخرجتك منها، أو عزلت وكيلي عن التصرّف، أو أرسل إليه رسولاً يخبره بذلك، أو كتب إليه بعزله، ونحو ذلك.
وإذا وقع العزل من الموكِّل فقد انعزل الوكيل في الحال، وخرج عن الإذن السابق له بالتصرّف، سواء أكان حاضراً أم غائباً، وبلغة خبر العزل أم لم يبلغه، لأن العزل رفع للعقد فلا يُشترط فيه الرضا، ولا يحتاج إلى العلم.(7/191)
فلو تصرّف بعد العزل وقبل العلم به فتصرّفه باطل.
وكذلك الحال إذا عزل الوكيل نفسه، بأن قال: عزلت نفسي عن الوكالة، أو: رددتٌ الوكالة ونحو ذلك، فإنه ينعزل للحال وتنتهي الوكالة، ولو كان الموكِّل غائباً ولم يبلغه علم العزل.
2 - خروج أحد العاقدين عن أهلية التصرّف:
علمنا أنه يشترط في الموكِّل والوكيل شروط حتى تصحّ الوكالة، فإذا اختلّ شرط من هذه الشروط في الموكِّل أو الوكيل فقد خرج عن أهلية التصرّف، وبالتالي بطلت الوكالة وانتهت، لأن اختلال هذه الشروط وعدم توفرها لو قارن العقد لما صحّت الوكالة، فكذلك إذا طرأ عليها فإنه يبطلها، وذلك مثل الجنون والإغماء والسفه والفلس.
وكذلك تنتهي الوكالة بموت أحدهما: الوكيل أوالموكِّل، سواء أعلم الآخر بموته أم لم يعلم، لأن الموكّل يخرج عن أهلية الإذن بالتصرّف بموته، وكذلك الوكيل يفقد بالموت أهلية التصرّف.
3 - خروج محل التصرّف عن ملك الموكِّل أو ولايته:
ومما تنتهي به الوكالة خروج محل التصرّف - أي محلّ التوكيل - عن ملْك الموكِّل أو ولايته، فينعزل الوكيل.
ومثال خروجه عن ملْكه: ما لو باع العين التي وكَّله ببيعها أو وهبها، ونحو ذلك.
ومثال خروج محل الوكالة عن ولاية الموكِّل: بما لو وكّله ببيع مال للصبي الذي تحت ولايته، ثم بلغ الصبي رشيداً، فيرتفع عنه الحَجْر، وتنتهي ولاية الموكِّل عليه، فيبطل إذنه في التصرف بأمواله بعد بلوغه، فتبطل الوكالة.
ومثل خروج محل الوكالة عن ملْك الموكِّل أو ولايته هلاكه، كما لو وكّله ببيع سيارة فسُرقت، أو دار فهُدمت، أو وكّله بنكاح ابنته فماتت، فينعزل الوكيل في كل هذه الصور وتنتهي الوكالة، لأن محل التصرف لم يبق.(7/192)
4 - قيام الوكيل بما وُكّل به:
من الواضح أنه إذا قام الوكيل بالتصرّف الذي أذن له الموكِّل فيه وفوّض إليه القيام به فقد انتهت الوكالة، كما لو وكّله ببيع داره فباعها، أو بشراء سلعة معيّنة فاشتراها، أو بتزويجها من فلان فقبل زواجها له من وليّها، وهكذا، لأن توكيله بعد ذلك يصبح غير ذي موضوع، ولا محل فيه للتصرّف.(7/193)
الباب الحادي عشر
الإكَراه(7/195)
الإكَراه
حقيقته ومعناه:
في المصباح المنير: كَرُه الأمرُ والمنظرُ كراهةً فهو كريه، مثل قُبح قباحة فهو قبيح، وزناً ومعنىً، وكرهته أكرهه كرهاً - بضم الكاف وفتحها - ضد أحببته، فهو مكروه.
والكَره - بالفتح - المشقة، وبالضم: القهر، وقيل: بالفتح الإكراه، وبالضم المشقة.
وأكرهته على الأمر إكراهاً حملته عليه قهراً، يقال: فعلته كَرهاً - بالفتح - أي إكراهاً، وعليه قوله تعالى: (طوعاً أوكَرْهاً) (فصّلت: 11) فقابل بين الضدّين.
والخلاصة: أن الإكراه في اللغة: حمل الغير على أمر يكرهه، أي إثبات الكره في نفس المكرَه، أي قيام معنى في نفسه ينافي المحبة والرضا، فالكره ضد لهما ويستعمل في مقابليهما، قال تعالى: (وعسى أن تَكْرَهُوا شيئاً وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحِبُّوا شيئاً وهو شَرٌ لكم) (البقرة: 216).
ويسمى الإغلاق، فكأن المكرَه أُغلق عليه باب ومنع من الخروج منه إلا بما أُكره عليه.
وفي الاصطلاح: هو الإلجاء إلى فعل الشئ قهراً.
وعرّفه الشافعي رحمه الله تعالى في "الأُم" بقوله: أن يصير الرجل في يدَيْ مَن لا يقدر على الامتناع عنه.(7/197)
ويحصل ذلك بالتخويف بمحذور كضرب وحبس وإتلاف مال، ويختلف ذلك باختلاف أحوال الناس:
فالتهديد بالاستخفاف للوجيه بين الملأ، والحبس القصير له، إكراه بالنسبة إليه، وقد لا يكون إكراهاً بالنسبة لغيره.
والتهديد بالضرف اليسير لمن كان من أهل المروءات والهيئات إكراه بالنسبة إليه، بينما قد لا يكون إكراهاً بالنسبة لغيره.
والمعتبر بالتهديد بإتلاف المال التضييق على المكره في ماله، فما يعتبر تهديداً للفقير في ماله غير ما يعتبر في الغني.
هذا وما يكون إكراهاً في حق نفسه يكون إكراها إذا كان في حق غيره، من الناس الذين يهمّه أمرهم ويغتمّ لإلحاق الأذى بهم، كالأُصول والفروع، والإخوة والأخوات ونحو هؤلاء، فلو هدِّد بقتل واحد منهم كان كالتهديد بقتل نفسه.
شروط تحقّق الإكراه:
حتى يتحقق الإكراه وتترتب عليه آثاره شرعاً فلا بد أن توجد فيه بعض الشروط وهي:
1 - أن يكون المكره قادراً على تنفيذ ما هدَّد به، وإلا كان هذياناً، لأن الضرورة الملجئة الى فعَل ما أُكره عليه لا تتحقق إلا عند قدرة المكرِه.
2 - أن يغلب على ظن المستكرَه أن المكرِه سيحقّق ما أَوْعد به وهدّد، إذا لم يُجب الى ما دُعى إليه ولم يقم بما طُلّب منه.
3 - أن يعجز المستكرَه عن التخلص من المكرِه وما أكره عليه، بهرب أو مقاومة أو استغاثة، أو نحو ذلك.
4 - أن يكون المستكرَه ممتنعاً عن فعل ما أُكره عليه قبل الإكراه لحقٍّ ما، أي لحق نفسه كإتلاف ماله، أو لحق شخص آخر كإتلاف مال غيره، أو لحق الشرع كشرب الخمر والزنا ونحو ذلك.
5 - أن يكون المهدِّد به أشد خطراً على المستكرَه مما أُكره عليه، فلو هدد إنسان(7/198)
بصفع وجهه إن لم يتلف ماله، وكان صفع الوجه بالنسبة إليه أقل خطراً من إتلاف المال، فلا يُعدّ هذا إكراهاً.
أما لو هدده بالقتل إن لم يقطع يده، فإن هذا إكراه، لأن القتل المهدد به أشد خطراً مما أُكره عليه وهو قطع اليد، فله أن يختار الأهون، وقد ثبت عن عائشة رضى الله عنها قالت: "ما خُيَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين أحدهما أيسر من الآخر إلا اختار أيسرهما" (البخاري في المناقب، باب: صفة النبي صلى الله عليه وسلم. ومسلم في الفضائل، باب: مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام واختياره من المباح أسهله).
6 - أن يترتب على فعل المكرَه به الخلاص من المهدد به:
فلو قال انسان لآخر: اقتل نفسك وإلا قتلتك، لا يُعد هذا إكراهاً، لأنه لا يترتب على قتل النفس الخلاص مما هدِّد به.
وكذلك لو هدَّد بقطع يده ما لم يقطعها بنفسه.
فلا يصحّ للمستكرَه أن يقدم على ما أُكره عليه لأنه لا يسمى مكرَهاً حقيقة، لأن المكره حقيقة هو ما ينجو مما هدَّد به بالإقدام على ما طُلب منه. بل هو اذا قتل نفسه او قطع يده كان الخطر متيقِّناً، لأنه يفعله بنفسه. ولو لم يُقدم على ذلك لم يكن متيقِّناً مما هدِّد به، فربما كان الكره يخوِّفه بما لا يحقّقه.
7 - أن يكون المهدَّد به عاجلاً: فلو كان آجلاً لم يتحقق الإكراه، لأن التأجيل مظنة التخلّص مما هدِّد به بالاستغاثة والاحتماء بالسلطان، وما إلى ذلك.
8 - أن لا يخالف المستكرَه المكره بفعل غير ما أُكره عليه، أو بالزيادة عليه أو النقصان، لأنه في هذه الأحوال الثلاثة يكون طائعاً فيما أتى به، فلا يكون مكرهاً.
فلو أكره إنسان شخصاً على طلاق امرأته، فباع داره، أو أكرهه على طلقة واحدة رجعية فطلّقها ثلاثاً، أو أكرهه على طلاق امرأته ثلاثاً، فطلّقها(7/199)
واحدة، فهذه الصور الثلاثة نافذة، أي تترتب أحكامها على المكلّف كما لو فعلها باختياره، لأنها ليست من الإكراه في شئ.
9 - أن يكون المكرَه عليه معيّناً، بأن يكون شيئاً واحداً، فلو أُكره إنسان على طلاق إحدى امرأتيه، أو على قتل زيد أو عمرو، فلا يعدّ هذا إكراهاً.
10 - ألاّ يكون المكره عليه أو المخوف به مستحَقّاً عليه: كما لو هُدِّد المفلسُ المحجورُ عليه ببيع ماله، أو هدِّد المُولى بالتطليق عليه، أو القاتل عمداً بالقصاص، فليس هذا بإكراه، لأن هذه الأمور المهدِّد بها مستحَقّه على المستكره.
11 - ألاّ يكون المهدِّد به حقاً للمكره، يتوصل به إلى ما ليس حقاً له ولا واجباً، كتهديد الزوج زوجته بطلاقها إن لم تُبرئه من دَيْنها، فلا يكون إكراهاً، فإذا أبرأته فقد سقط الدَّيْن من ذمته، وليس لها أن تطالبه بعد ذلك.
وقال بعضهم: يُعتبر إكراهاً، لأن الزوج سلطان زوجته، فيتحقق منه الإكراه، وعلى هذا القول: لو أبرأته لتخلص من هذا التهديد لا تبرأ ذمته من الدَّيْن، وكان لها أن تطالبه به بعد ذلك.(7/200)
ما يقع عليه الإكراه من التصرفات وأثره فيها
التصرفات التي يمكن أن يقع الإكراه على فعلها أو تركها نوعان:
تصرفات حسيّة: أي أُمور تُعرف بالحواس، قولية كانت أم فعلية، كالأكل والشرب، والقتل والإتلاف، والشتم والكفر.
تصرفات شرعية: أي أُمور عرفت بالشرع، حيث أعطاها اسماءً خاصة، ورتب عليها احكاماً معينة، كالبيع والنكاح والطلاق، وما إلى ذلك من عقود أو فسوخ.
أولاً: التصرفات الحسيّة وأثر الإكراه عليها:
يتعلق بالتصرفات الحسيّة نوعان من الأحكام: نوع يرجع إلى الآخرة من حيث المؤاخذة وعدمها، ونوع يرجع إلى الدنيا من حيث الضمان وترتّب العقوبة وعدم ذلك.
فما هو أثر الإكراه على هذه التصرفات في أحكامها الأخروية أو الدنيوية؟
يختلف أثر الإكراه على التصرفات الحسيّة بحسب نوع التصرّف المكرَه عليه، فقد يصبح التصرّف مباحاً بعد أن كان حراماً ومحظوراً، وقد يرخّص به مع بقاء أصل المنع، وقد يبى على حُرمته فلا يُباح ولا يرخَّص به. وإليك بيانَ هذه الأنواع الثلاثة وأحكامها:
النوع الأول: ما يُباح بالإكراه من التصرفات الحسيّة:
من هذا النوع أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وشرب الخمر، ونحو ذلك من المحظورات.(7/201)
فإذا أُكره المسلم على تعاطي شئ منها أُبيح له ذلك، لأن الله تعالى أباحها عند الاضطرار، فإنه سبحانه قال بعد تحريمها: "إلا ما اضْطُرِرْتم إليه" (الانعام: 119)، والاستثناء من التحريم دليل الإباحة.
وقال جلّ وعلا: (فمَن اضْطُرّ غيرَ باغٍ ولا عادٍ فلا إثَم عليه) (البقرة: 173). ونفى الإثم دلل الإباحة ايضاً.
والمستكرَه على تعاطيها مضطر، فيشمله الحكم.
فلو امتنع من تعاطيها حتى ناله الأذى كان مؤاخَذاً، لأنه بامتناعه يُلقي بنفسه الى التهلكة، وقد نهى الله تعالى عن ذلك إذ قال: "ولا تُلْقوا بايديكم الى التهلكة" (البقرة: 195)
هذا من حيث المؤاخذة الأُخروية.
وأما من حيث الأحكام الدنيوية: فقد بحث الفقهاء في أثر الإكراه على شرب الخمر: هل يُحَدّ شاربه أوْ لا؟ وما حكم تصرّفاته حال سكره؟ فقالوا: إن مَن أُكره على شرب الخمر لا يُقام عليه الحدّ، لأن الحدّ شُرع زجراً عن فعل هذه الجناية في المستقبل، والمستكره على شرب الخمر لم يكن فعله جناية، لأنه أُبيح له، بل صار واجباً عليه، طالما أنه يأثم إذا لم يفعله حتى وقع عليه ما هدِّد به.
وكذلك قالوا: لا تنفذ تصرفات من أُكره على الشرب حال سكره، لأن نفاذ تصرفات السكران تكون حال إثمه بسكره - أي عند شربه المُسكر باختياره دون عذر - تغليظاً عليه وزجراً له عن فعله، ولا معنى لهذا التغليظ حال الإكراه على السُكْر، لأن الغرض منه غير متحقِّق، إذ لم يقدم المستكرَه على الفعل باختياره، وهو غير آثم به كما علمت.
والعمدة في هذا والذي سبقه: عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله وضع عن أُمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". (اخرجه ابن ماجه في الطلاق، باب: طلاق المكرَه والناسي، وقد جاء الحديث من طرق عند غيره، مع اختلاف في بعض الألفاظ).
والمعنى: وضع عنهم حكم ذلك وما يترتب عليه، لا نفس هذه الأمور، لأنها واقعة.(7/202)
وعليه: فما يترتب على الإكراه موضوع، أي غير معتبر، والحديث يشمل الحكم الدنيوي والحكم الأُخروي.
النوع الثاني: ما يرخَّص فيه بالإكراه من التصرفات الحسيّة:
أ- قول أو فعلُ ما ظاهره الكفر:
كأن يُجْري ألفاظ الكفر على لسانه، أو يسبّ النبي صلى الله عليه وسلم أو يسجد لصنم أو يعظّم ما يعظِّمه الكفّار تعظيم عبادة وتقديس، فمثل هذه الأقوال أو الأفعال يرخَّص له الإقدام عليها - وقلبه مطمئن بالإيمان - بسبب الإكراه.
ودليل ذلك قوله تعالى: "مَنْ كفر بالله من بعد إيمانه إلا مَن أُكره وقلبُهُ مطئمنُّ بالإيمان ولكن مَنْ شَرَح بالكفر صدراً فعليهم غضبٌ من الله ولهم عذاب عظيم" "النحل: 106".
وروى الحاكم عن محمد بن عمّار بن ياسر، عن أبيه رضى الله عنه قال: أخذ المشركون عمّار بن ياسر، فلم يتركوه حتى سبّ النبي صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير، ثم تركوه، فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما وراءك؟. قال: شرٌ يا رسول الله، ما تُركت حتى نلتُ منك وذكرتُ آلهتهم بخير. قال: "كيف تجد قلبك؟ ". قال: مطئمنٌّ بالإيمان. قال: "إن عادوا فعد" قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. (المستدرك: كتاب التفسير - تفسير سورة النحل - باب: حكاية اسارة عمار بن ياسر بيد الكفار: 2/ 357).
وإنما رُخّص بذلك ولم يُبَحْ لأن الكفر لا يحتمل الإباحة بحال، فالحُرمة قائمة، إلا أن المؤاخذة سقطت بسبب الإكراه، فأَثَرُ الرخصة في تغيّر حكم الفعل - أي ما يترتب عليه من المؤاخذة وغيرها - لا في تغيّر وصفه وهو الحرمة.
ولما كانت الحرمة قائمة، وكان التصرّف في هذا مرخّصاً فيه وليس مباحاً، كان الامتناع عن ذلك أفضل.
وإن أدى امتناع المستكرَه عنها الى قتله أُثيب ثواب المجاهد في سبيل الله تعالى، لأنه جاد بنفسه في سبيل إعلاء كلمة الله عزّ وجل، وإظهاراً لإعزاز دينه.(7/203)
وقد دلّ على ذلك:
? ما روى البخاري عن خباب بن الأرتّ رضى الله عنه قال:
شكَوْنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو متوسِّدٌ بردة له في ظل الكعبة - قلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ قال: "كان الرجل فيمن قبلكم يُحفر له في الأرض فيُجعل فيها، فيُجاء بالمنشار فيُوضع على رأسه فيشقّ باثنين، وما يصدُّه ذلك عن دينه. ويمشَطُ بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم او عصب، وما يصدّه ذلك عن دينه، والله لَيَتَّمَّنَّ هذا الأمرُ حتى يسير الراكب من صنعاء الى حضرموت لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون". (اخرجه البخاري في المناقب، باب: علامات النبوة، رقم: 3416).
ووجه الاستدلال بالحديث: أنه صلى الله عليه وسلم وصف الأُمم السالفة بالصبر على المكروه في ذات الله تعالى حتى أصابهم ما أصابهم، وأنهم لم يتظاهروا بالكفر ليدفعوا عن أنفسهم العذاب والقتل، وصفهم بذلك على سبيل المدح لهم وبيان فضيلتهم ومقامهم عند الله عزّ وجل، فدلّ ذلك على أن الصبر والاحتمال أفضل من التخلّص بالرخصة.
? وروى ان مسيلمة الكذّاب أخذ اثنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لأحدهما: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله، قال: فما تقول فيَّ؟ قال: وأنت ايضاً، فخلّى سبيله وقال للآخر: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله، قال: فما تقول فيَّ؟ قال: أنا أصم، لا أسمع، فأعاد عليه ثلاث مرات، فأعاد جوابه، فقتله، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أما الأول فقد أخذ برخصة الله تعالى، وأما الثاني فقد صدع بالحق، فهنيئاً له".
? وكذلك ما ثبت من قصة خبيب رضى الله عنه، وأنه حين أخذه الكفار وباعوه لأهل مكة، أخذوا يعذِّبونه ليذكر النبي صلى الله عليه وسلم بالسوء فلم يفعل، فقتلوه، فبلغ(7/204)
ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكر صبره وعدم ترخّصه، بل روى أنه قال فيه: "هو سيد الشهداء وهو رفيقي في الجنة".
والذي سبق فيما يتعلق بأحكام الآخرة.
وأما ما يتعلق بأحكام الدنيا من أثر الإكراه على الكفر: فإن المستكرَه على ذلك لا يُحكم بكفره، ولا يُعامل معاملة المرتد. قال الشافعي رحمه الله تعالى في معرض الكلام عن قوله تعالى: "إلاِّ مَن أُكره .. ": وللكفر أحكام، كفِراق الزوجة، وأن يُقتل الكافر ويُغنم ماله، فلما وضع الله عنه سقطت عنه أحكام الإكراه على القول كله، لأن الأعظم إذا سقط عن الناس ما هو أصغر منه وما يكون حكمه بثبته عليه.
الإكراه على الإسلام:
إذا أُكره إنسان على الإسلام فأسلم اعتُبر إسلامه صحيحاً، وعومل معاملة المسلمين، لأنه إكراه بحق، ولا سيما في المرتد والحربي، وإن احتمل الكفر في قلبه، ترجيحاً لجانب الإسلام، لأن في ذلك إعلاءً للدين الحق، وإعلاء الدين الحق واجب.
ب-إتلاف مال المسلم أو النَّيْل من عرضه:
فلو أُكره على إتلاف مال المسلم رُخص له بذلك، ولا يأثم بالإقدام عليه، لأن مال غيره يرخص له باستهلاكه حال الاضطرار إليه، لدفع الهلاك عند شدة الجوع ونحوه، فكذلك حال الإكراه لأنه نوع اضطرار.
وكذلك لو أُكره على شتم المسلم والطعن في عرضه وما إلى ذلك.
ولو امتنع المستكرَه على الإتلاف أو الطعن كان أفضل، وإذا أصابه أذى في سبيل ذلك أُثيب عليه، لأن حُرمة مال المسلم وعرضه ثابتة بقوله صلى الله عليه وسلم: "كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه". (اخرجه مسلم في البرّ والصلة والآداب،(7/205)
باب: تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وماله وعرضه، رقم: 2564). فلا يجوز التعرّض لها على كل حال، إلا أنه رخص بذلك بسبب الإكراه، والرخصة - كما سبق وعلمنا - تؤثر في سقوط المؤاخذة لا رفع الحرمة، فإذا امتنع عن الرخصة كان ذلك إيثاراً لحفظ حق حُرمة أخيه المسلم على حق نفسه، فكن مأجوراً غير مأزور.
ويؤكد هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "مَن قتل دون ماله فهو شهيد": أي مَن قاتل دفاعاً عن ماله فقُتل كان له أجر الشهيد. (اخرجه أبو داود في كتاب السنّة، باب: في قتال اللصوص، رقم: 4771. والترمذي في أبواب الديات، باب: ما جاء فيمن قُتل دون ماله فهو شهيد، رقم: 1418).
وهذا يدل على أنه إذا أُكره على إتلاف مال نفسه فامتنع كان أفضل، وإذا كان الامتناع في حق مال نفسه أفضل، كان في حق مال غيره من باب أولى.
ومن حيث الحكم الدنيوي:
فقد قال الفقهاء: إذا أُكره إنسان على اتلاف مال غيره فأتلفه، كان لصاحب المال تضمين المكرِه أو المستكرَه، بمعنى أن له أن يطالب أيّهما شاء، لأن المكرِه تسبب بالإتلاف، والمستكرَه هو الذي باشره، والتسبّب بالفعل ومباشرته سواء. ولكن الضمان يستقر في النهاية على المكرِه، أي إذا ضمن المستكرَه رجع بما غرمه على المكره في الأصح.
النوع الثالث: ما لا يُباح ولا يرخّص فيه بالإكراه من التصرفات الحسيّة:
هناك تصرفات محظورة شرعاً، وحرمتها ثابتة بالعقل كما هي ثابتة بالشرع، ولذلك لا تُباح ولا يرخّص بها في حالٍ من الأحوال، من ذلك:
أ-قتل المسلم بغير حق:
لأن القتل حرام محض، ولا يُستباح للضرورة ولا يرخص فيه.
قال تعالى: "ولا تقتلوا النفس التي حرَّم اللهُ إلا بالحق" (الانعام: 151).
وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يحلّ دم امرءٍ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثَيب الزاني، والمفارق لدينه التارك(7/206)
للجماعة". (أخرجه البخاري في الديات، باب: قوله تعالى: "وأن النفس بالنفس"، رقم: 6484. ومسلم في القسامة، باب: ما يُباح به دم المسلم، رقم: 1676).
[النفس بالنفس: أي القاتل عمداً وعدواناً يقتل. الثَّيب الزاني: المتزوج الذي ارتكب الفاحشة، المفارق لدينه: المرتد عن الإسلام. التارك للجماعة: الخارج على جماعة المسلمين وعامّتهم، والمخالف لمنهجهم وطريقتهم].
ومثل القتل من حيث الحرمة وعدم الترخيص بالإكراه قطع عضو من أعضائه، أو الضرب المهلك الذي يُلحق به أذىً شديداً، لأنه اعتداء، والاعتداء حرام.
قال تعالى: "والذي يُؤْذُون المؤمنين والمؤمنات بغيرِ ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً" (الاحزاب: 58).
وعليه: فمَن أُكره على شئ مما سبق فأقدم عليه كان آثماً عند الله عزّ وجل باتفاق الفقهاء، سواء أكان الإكراه تاماً أم ناقصاً.
وأما من حيث الأحكام الدنيوية:
? فالأصح عند الفقهاء: أنه يُقتص من المكرِه والمستكرَه، لأن المستكره باشر القتل ووُجد منه حقيقة، والمكرِه متسبِّب بالقتل وحامل عليه، والمتسبِّب كالمباشر، فيُقتص منهما، تغليظاً لأمر الدماء وزجراً عن الاعتداء.
ب-الزنا:
فهو من المحرّمات التي لا تُباح ولا تُرخّص في حال من الأحوال، لاتفاق الشرائع والعقل على حرمتها، لفحشها ونكارتها.
قال تعالى: (ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشةً وساء سبيلاً) (الاسراء: 32).
فإذا لأُكره إنسان على الزنا لم يرخَّص له بالإقدام عليه، رجلاً كان أم امرأة، فإن أقدم عليه كان آثماً ومؤاخذاً عند الله عزّ وجل.(7/207)
وأما من حيث إقامة الحدّ على المستكرَه على الزنا:
فقد قال الفقهاء: لا حدّ على المستكرَه على الزنا، رجلاً كان أم امرأة، لوجود الشبهة، والحدود تدرأ بالشبهات، أي تُدفع وتُسقط إذا لابَسَتْها شبهة، والشبهة هنا قائمة بسبب الإكراه.
ثانياً: التصرفات الشرعية وأثر الإكراه فيها:
التصرفات الشرعية إما أن تكون إنشاءً أو إقراراً.
والتصرفات الإنشائية نوعان:
نوع لا يحتمل الفسخ والردّ: كالطلاق، والنكاح، والرضاع، والرجعة، واليمين، والنذر، والظهار، والإيلاء، والفئ في الإيلاء، والعفو عن القصاص. فهي تصرفات لازمة تلزم بمجرد انعقادها، ولا تقبل فسخاً ولا ردّاً.
ونوع يحتمل الفسخ والردّ: كالبيع والشراء، والإجارة، والهبة، ونحو ذلك. فإنها تصرفات لا تلزم بمجرد انعقادها، فهي تقبل الفسخ أو الرد.
أثر الإكراه في التصرفات الإنشائية التي لا تحتمل الفسخ:
قال الفقهاء: إن الإكراه على إيقاع شئ من هذه التصرفات يفسدها ويجعلها غير معتبرة، فلا يترتب عليها شئ من آثارها المعتبرة شرعاً، فالإكراه يجعلها كأنها لم تكن، ولو وقعت من المستكرَه عليها.
واستدلوا على ذلك عموماً: بأن التلفّظ بالكفر حالة الإكراه لم يعتبره الشرع، ولم يترتب عليه أثراً من الآثار، وهو أشد من أيّ قول شرعاً، وإذا سقط حكم الأشد سقط حكم الأخف من باب أولى، فلا يترتب أثر على أيّ تصرّف قولي مع الإكراه.
فلو أكره على النكاح: فإن العقد لا يثبت، ولا يترتب عليه آثاره: من وجوب المهر، وحِلّ الاستمتاع وما الى ذلك، لما ذكرناه.
وذلك على هذا أيضاً: ما رواه البخاري عن خنساء بنت خذام الأنصارية رضى الله عنها: أن أباها زوّجها وهي ثِّيب، فكرهت ذلك، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فردّ نكاحها، (أخرجه البخاري في النكاح، باب: إذا زوّج الرجل ابنته وهي كارهة(7/208)
فنكاحه مردود، رقم: 4845. واخرجه النسائي ايضا في النكاح، باب: الثيب يزوجها ابوها وهي كارهة: 6/ 86).
ويؤيده ايضاً: ما رواه النسائي عن عائشة رضى الله عنها: أن فتاة دخلت عليها فقالت: إن أبي زوّجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته وأنا كارهة، قالت: اجلسي حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته: فأرسل إلى أبيها فدعاه، فجعل الأمر إليها. (أخرجه النسائي في النكاح، باب: البكر يزوِّجها أبوها وهي كارهة: 6/ 86).
[ليرفع بي خسيسته: ليُزيل بسب تزويجي منه دناءته].
وكذلك لو أُكره على الطلاق، فإنه لا يقع طلاقه.
روى ابو داود عن عائشة رضى الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا طلاقَ ولا عتاقَ في غَلاق" وعند ابن ماجه والحاكم: "في إغلاق" وفُسِّر الإغلاق بالإكراه، لأن المكرِه كأنه أغلق عليه أمره وتصرفه. (ابو داود في الطلاق، باب: في الطلاق على غلط، رقم: 2193. وابن ماجه في الطلاق، باب: طلاق المكره والناسي، رقم: 2046. والحاكم في المستدرك: الطلاق، باب: لا طلاق ولا عتاق في الإغلاق: 2/ 198).
وهكذا سائر هذه التصرفات لا تُعتبر مع الإكراه، ولا يترتب عليها أيّ أثر من آثارها الشرعية، للأدلة الخاصة والعامة، ومنها ما سبق من قوله صلى الله عليه وسلم: "وما استُكرهوا عليه" الذي دلّ على رفع حكم الإكراه، ورفعه لا يكون إلا بانعدام ما يتعلق بالتصرّف المكرَه عليه من أحكام.
ويُستثنى مما سبق: ما لو أُكرهت المرأة على الرضاع، أو أُكره الرجل على الوطء، فإنه لا أثر للإكراه هنا، بل يترتب على ذلك ما يتعلق به من أحكام شرعية: فتثبت بالرضاع الحُرمة، إذا وُجدت شروطها، كما يترتب على الوطء كامل المهر بعد العقد وغير ذلك من أحكام.
أثر الإكراه في التصرفات الانشائية التي تحتمل الفسخ:
قال الفقهاء: إذا وقع الإكراه على شئ من هذه التصرفات أبطلها، فلا(7/209)
يترتب عليها شئ من آثارها المعتبرة شرعاً، لأن شرط صحة هذه التصرفات الرضا، وهو معدوم حالة الإكراه، فلم تصحّ ولم تُعتبر شرعاً، لعدم تحقّق شرطها. قال في [مغني المحتاج]: فلا يصحّ عقد مكرَه في ماله بغير حق، لقوله تعالى: "إلا أن تكونَ تجارةٌ عن تراضٍ منكم" (النساء: 9).
والعقد المالي يشمل البيع والإجارة والهبة والحوالة والوكالة، وغير ذلك من العقود التي لها علاقة بالمال.
أثر الإكراه على الإقرارات من التصرفات الشرعية:
اتفق الفقهاء على أن الإكراه على الإقرار يُلغيه، ولا يرتب عليه أي اثر، سواء أكان المقرّ به:
تصرفًا حسيّاً، كمن أُكره ليقرّ بالزنا، أو شرب الخمر، أو القتل، أو غير ذلك.
أو كان تصرفاً إنشائياً لا يحتمل الفسخ، كالنكاح والطلاق ونحوهما.
أو كان تصرفاً إنشائياً يحتمل الفسخ، كالبيع والإجارة ونحوهما.
والعمدة في هذا:
1 - أن الإقرار بالكفر لم يُعتبر حال الإكراه، ولم يترتّب عليه أيّ أثر، فمن باب أولى أن لا يُعبتر الإقرار بغيره ولا يترتب عليه أثر ما.
2 - عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "وما استُكرهوا عليه" فإنه يدل على رفع حكم كل تصرف أُكره عليه، والإقرار تصرّف من التصرفات، فالإكراه عليه يرفع حكمه، فلا يترتب عليه أيّ أثر من آثاره.
3 - الإقرار خبر يحتمل الصدق والكذب، ورُجِّح جانب الصدق حالةَ الاختبار وصحّ الإقرار، لأن الإنسان لا يُتّهم بالكذب على نفسه.
وحالةَ الإكراه يترجح جانب الكذب بسبب التهديد القائم، فلا يصحّ الإقرار.
4 - الإقرار من باب الشهادة، قال تعالى: "ياأيّها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم" (النساء: 135). والشهادة على النفس ليست إلا إقراراً، فكان الإقرار في حكم الشهادة، والشهادة تردّ بالتهمة ولا تصح، والمقرّ حالة الإكراه متهم في شهادته على نفسه، فلا يقبل إقراره.(7/210)
أثر الإكراه على التصرفات المخير فيها:
ما سبق من كلام عن أثر الإكراه في التصرفات إنما هو حال كون المكرَه عليه أمراً واحداً معيناً.
فإذا كان الإكراه على امر غير معين، كأن يكرهه على شرب الخمر او إتلاف المال، او يكرهه على الطلاق او الإيلاء، أو يكرهه على البيع أو الإجارة، ثم يقدم المستكره على أحد الأمرين، ويوقعه، فما هو أثر الإكراه على هذا التصرف؟
والجواب: أنك قد علمت أن من شروط تحقّق الإكراه أن يكون المكره عليه معيناً، فإذا كان مخيَّراً فيه لم يتحقق الإكراه، وبالتالي لا أثر للإكراه على التصرف المخير فيه، أي على احد أمرين دون تعيين، فإذا أقدم المستكرَه على تصرّفٍ ما في هذه الحالة كان تصرفه صحيحاً، وترتبت عليه آثاره المعتبرة شرعاً كما لو فعله مختاراً، لأن إقدامه عليه مع التخيير بينه وبين غيره على أنه فعله مختاراً غير مستكره.
ويستوي في هذا ما إذا كان الأمران من التصرفات الحسيّة أو الشرعية أو غيرها.(7/211)
الباب الثاني عشر
الغَصَب(7/213)
الغَصَب
تعريفه:
الغصب - في اللغة - أخذ الشئ ظلماً.
وشرعاً: هو الإستيلاء على حق غيره عُدْواناً.
والمراد بحق غيره: ما كان عيناً كدار ونحوها، أو منفعة كسكنى الدار بغير رضاه، أو اختصاصاً ككلب صيد ونحوه، وكحق الشرب ونحوه.
وقولنا: (عدواناً) أي على جهة التعدّي والظلم، أي بغير رضاً من صاحب الحق، بل قهراً عنه.
فلو أكل طعام غيره بغير إباحة منه ولا عقد فهو غصب.
ولو سكن دار غيره بغير رضاه، فهو غاصب، ولو أعطاه أُجرة.
ولو جلس على فراشه بغير إذن منه فهو غاصب أيضاً، وهكذا.
وهنا ننبّه إلى ما يفعله الكثير من الناس في هذا الزمن من سكنى دور غيرهم، أو استخدام حوانيتهم، بأُجور لا يرضَوْن بها، فإن هؤلاء غاصبون، وتنطبق عليهم جميع أحكام الغصب الدنيوية والأُخروية، وإن كانوا يظنون أنهم يحسنون صنعاً حين يدّعون أنهم مستأجرون وأنهم يدفعون أُجوراً حسب الاتفاق القديم، فلا تنطبق عليهم أحكام الإجارة، لأنهم في الحقيقة غاصبون وليسوا بمستأجرين.
تحريمه:
الغصب حرام شرعاً، وهو من الكبائر، لما ورد من زجر عن التعدِّي على الأموال، ووعيد على أخذها بغير حق، ومن ذلك آيات في القرآن وأحاديث من السنة.(7/215)
أما آيات القرآن:
فمنها قوله تعالى: "ولا تأكلوا اموالَكم بينكم بالباطل وتُدْلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون" (البقرة: 188).
? ومنها قوله تعالى: "إنَّ الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيَصْلَوْن سعيرا" (النساء: 10)
? وأما الأحاديث:
? فمنها قوله صلى الله عليه وسلم: "إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام .. " (اخرجه البخاري في العلم، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: رب مبلغ اوعى من سامع، رقم: 67. ومسلم: القسامة، باب: تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، رقم: 1679).
? ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحلّ مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه" (اخرجه الدارقطني في البيوع، الحديث: 91، ج3، صفحة 26).
? ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "من أخذ شبراً من الأرض ظلماً فإنه يُطَوَّقُه يوم القيامة من سبع أرضين". (البخاري: بدء الخلق، باب: ما جاء في سبع ارضين، رقم: 3026. ومسلم: المساقاة، باب: تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها، رقم: 1610).
وقد أجمع المسلمون على تحريم الغصب - بكل أشكاله وألوانه - في كل العصور، من لدن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا.(7/216)
أحكام الغصب
يترتب على الغصب حكم أُخروي وحكم دنيوي:
أما الحكم الأُخروي: فهو الإثم واستحقاق المؤاخذة والعقاب في الآخرة، إذا تعدى على حقوق غيره عالماً متعمداً، لأن ذلك معصية كبيرة كما علمت، وفعل المعصية عالماً متعمداً يستوجب العقاب والمؤاخذة عند الله عزّ وجل إذا لم يتب منها قبل فوات أوان التوبة.
وأما الحكم الدنيوي: فإنه يتناول ما يلي:
1 - تأديب الحاكم للغاصب:
وتعزيره بما يراه رادعاً له ولغيره عن مثل هذه المعصية، بالضرب أو السجن ونحو ذلك، حتى ولو عفا المغصوب منه عن الغاصب. لأن ذلك حق لله تعالى، وحسم للشرّ، وإغلاق لباب الظلم والاعتداء.
2 - الكف عن الغصب فوراً:
وذلك بردّ المغصوب - إذا كان عنياً - ما دام قائماً، لأن الغصب معصة كما علمنا والخروج عن المعصية واجب فوري قدر الإمكان.
ودليل ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يأخذنّ أحدكم متاع أخيه جادّاً ولا لاعباً، وإذا أخذ أحدكم عصا أخيه فليردّها عليه" (أخرجه الترمذي في الفتن، باب: ما جاء لا يحلّ لمسلم أن يروِّع مسلماً، رقم: 2161. وأبو داود في الأدب: باب: مَن يأخذ الشئ على المزاح، رقم: 5003).(7/217)
وترد العين المغصوبة إلى مكان غصبها، وكلفة الرد ونفقته إنما كون على الغاصب، لأن الردّ واجب عليه، وإذا كان لا يتم إلا بالنفقة كانت النفقة واجبة، إذ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، كما هو معلوم.
وإنما يحصل الردّ في العين المغصوبة بوضعها بين يَدَيْ من غُصبت منه، بحيث يتمكن من أخذها وإثبات يده عليها، ويخرج عن الغصب في الحقوق الأُخرى بتمكين صاحب الحق مما غصب منه، وإزالة الموانع من إثبات يده عليه والاستفادة منه.
وإذا حصل الرد للمغصوب خرج الغاصب من حكم الغصب وبرئ من الضمان.
3 - ضمان المغصوب إذا تلف في يد الغاصب:
إذا تلف المغصوب في يد الغاصب ضمنه، سواء أتلفه هو أم تلف بنفسه أو بآفة سماوية أو غير ذلك، لأنه متعدٍّ في إثبات يده عليه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "على اليد ما أخذت حتى تؤدِّيه". وهذا صريح في أنه مسؤول عن أداء ما أثبت يده عليه وردّه، فإذا عجز عن ردّه لهلاكه كان ضامناً له، وعليه أن يردّ بدله من مثل أو قيمة.
كيفية ضمان المغصوب:
إذا تلف المغصوب في يد الغاصب كان عليه أن يرد بدلاً عنه ما هو أقرب إليه وأشبه به:
فإن كان مثلياً وجب عليه ردّ المثل، لقوله تعالى: "وإن عاقبْتُم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به" (النحل: 126) أي بمثل ما وقع عليكم من الفعل الذي يستحق العقاب.(7/218)
والمثلى من الأعيان: هو ما يوجد له في الأسواق مثيل لا يتفاوت عنه تفاوتاً يُلتفت إليه، والمثليات في هذه الأزمان كثيرة، لاسيما المصنوعات، لأنها تُصنع بآلة واحدة، ومن المثليات ما يُباع كيلاً كالزيت ونحوه، أو وزناً كالسكر ونحوه، وكذلك العدديات المتقاربة كالبيض والجوز، والذرعيات، وهي ما يباع بالذرع بالمقاييس المتعارفة كالثياب ونحوها، إذا كانت من نوع واحد.
فإذا كان المغصوب قيمياً، وهو ما لا مثيل له على النحو السابق، أو كان مثلياً ولكن تعذّر ردّ المثل، وجب ردّ القيمة بدلاً عن المغصوب نفسه، الذي وجب ردّه بذاه ما دام قائماً، دفعاً للضرر ما أمكن عن المغصوب منه.
ومن الاشياء القيمية الحيوانات، فكل واحد منها من نوعه يختلف عن الآخر في قيمته، لاختلاف الصفات المميزة له عن غيره.
وكذلك السيارات والدور وغيرها من الأمتعة التي تختلف قيمتها باختلاف مزاياها وصفاتها.
وإنما يتعذّر ردّ المثل في المثليات: إذا انقطع المثل من الأسواق، فلم يوجد بعد البحث عنه والسعي لتحصيله، أو وجد بثمن يزيد زيادة فاحشة عن مثله عادة، فلا يكلّف شراءه في هذه الحالة، وإنما يتوجب عليه ردّ القيمة.
القيمة الواجب ردّها:
إذا حكِم على الغاصب بقيمة المغصوب، لكونه قيمياً أو لتعذّر المثل، فما هي القيمة المقدّرة؟ والجواب:
- إذا كان المغصوب مثليا: وجب ردّ أقصى قيمة له من يوم الغصب إلى يوم تعذّر وجوده، إن كان موجوداً وقت التلف، فإن كان مفقوداً يوم التلف وجب ردّ أقصى قيمة له من يوم الغصب إلى يوم التلف.
- وإن كان قيمياً: وجب ردّ أقصى قيمة له من وقت الغصب إلى وقت التلف. فلو كان عند الغصب قيمته الفاً، ونزل سعره بعد ذلك، وجب الألف.
ولو كان عند الغصب خمسمائة، وارتفع في يوم من الأيام إلى ألف، ثم نزل الى سبعمائة، وجب الألف ايضاً، وهكذا.(7/219)
وإنما وجبت القيمة بأقصى ما بلغت إليه: لأنه كان غاصباً له في الوقت الذي زادت فيه قيمته، فلزمه ضمان قيمته في ذلك الوقت الذي غصبه فيه.
ما يترتب على ضمان المغصوب:
إذا ضمن الغاصب العين المغصوبة لمالكها، ودفع له البدل، ترتب على ذلك:
أ- ان المغصوب منه يملك البدل الذي دفع له، فتصحّ جميع تصرفاته فيه من بيع وهبة وإجارة ونحو ذلك.
ب-لا يملك الغاصب العين المغصوبة بضمانها، فلو ظن هلاك العين المغصوبة - كما لو ضاعت أو سرقت - ضمنها الغاصب ووجب عليه ردّ بدلها للمغصوب منه، لأنه حيلَ بينه وبين ملْكه، فاستحق بدله، فإذا وُجد بعد ذلك وعاد إلى يد الغاصب فإنه لا يملكه بضمانه، بل عليه ردّه إلى المغصوب منه، لأن الأصل أن الواجب ردّ عين المغصوب، فحين تعذّر ذلك عُدل الى البدل، وحيث تمكّن من ردّ الأصل لا يعدل عنه، فيجب ردّه، وبهذا يتبين أنه لم يملكه.
فإذا ردّ العين المغصوبة الى المغصوبة منه جب عليه ردّ البدل الذي أخذه على الغاصب، فإن كان قد زاد زيادة متصلة - كالسِّمَن مثلاً - رُدّت مع البدل ضرورة، وإن كانت الزيادة منفصلة - كالولد أو أُجرة الدار - لم يردّها مع البدل، لأنها حدثت على ملكه.
4 - تصرفات الغاصب بالعين المغصوبة:
إذا تصرّف الغاصب بالعين المغصوبة - بيعاً أو هبة أو إجارة أو إعارة أو وديعة ونحو ذلك - كان تصرفه باطلاً، لا يترتب عليه أيّ أثر شرعي له، وسرى حكم الغصب على مَن انتقلت العين إلى يده فكان ضامناً للعين المغصوبة كما لو كانت في يد الغاصب، لأن كلاًّ من هؤلاء قد وضع يده على ملْك غيره بغير إذنه، ولو كان يجهل أنها مغصوبة، لن الجهل يُسقط الإِثم ولا يسقط الضمان، كما لو أتلف مال غيره بغير قصد أو علم، فإنه يضمن وإن كان لا يأثم.
وعليه: إذا تلف المغصوب كان للمغصوب منه أن يطالب مَن شاء من(7/220)
الغاصب ومَن انتقلت إليه العين بالضمان، فإذا طالب غير الغاصب وغرمه رجع على الغاصب بما غرم، إن كان لا يعلم الغصب وكانت يده في تصرفه يد أمانة كالمودَع والمستأجر، أما إن كانت يده في الأصل يد ضمان كالمستعير والمشتري والمقترض ونحوهم، فلا يرجعون، لأنهم تعاملوا مع الغاصب على أنهم ضامنون، فلا تغرير من الغاصب بهم. وإن كان على علم بالغصب فليس له أن يرجع عليه، لأنه لم يغرر به، وهو يعلم أنه غاصب.
5 - تغيّر العين المغصوبة:
إذا تغيرت العين المغصوبة في يد الغاصب يُنظر:
- فإن كان تغيّرها بنفسها - كما لو غصب بيضاً فصار فرخاً، أو غصب زرعاً فصار حبّاً - فللمغصوب منه الرجوع به، لأنه عين ماله، وإن نقصت قيمته بالتغيّر كان له أن يطالب الغاصب بقيمة هذا النقص، لأنه حدث في يده، وإن زادت القيمة فليس للغاصب شئ، لأن الزيادة نماء الأصل وتبع له، فهي ملْك لمالك الأصل.
- وإن كان التغيّر بوصف العين المغصوبة بسبب عمل عمله الغاصب فيها يُنظر:
فإن كان التغيّر بالعمل وحده، دون إدخال عين أُخرى على المغصوب - كما لو كان ثوباً فقصّره، أو غزلاً فنسجه، أو خشباً فصنعه باباً - ردّه أيضاً على المالك لأنه عين ملكه، وليس للغاصب شئ بدل عمله وإن زادت قيمته، لأنه عمل بدون إذن، فهو متبرع بعمله، فلا يستحق بدلاً عنه.
? وإن كان التغيّر بإضافة عين له - كما لو كان ثوباً فصبغه، أو داراً فطلاها أو طيّنها - ينظر:
! إن لم تزد قيمة المغصوب مع التغيير استردّه المغصوب منه وليس للغاصب شئ، لأن قيمة ما أضافه استهلكت بفعله.
! وإن نقصت قيمته مع التغيير عمّا كانت عليه قبله: وجب على الغاصب ضمان ما نقص، لأن النقص حصل بفعله.
? وإن زادت القيمة بعد التغيير يُنظر:(7/221)
فإن صارت القيمة تساوي قيمة المغصوب وقيمة العين المضافة: اشتركا في ثمنه بنسبة ما لكل واحد منهما، فلو كانت قيمة المغصوب مائة، وقيمة المضاف إليه خمسين، كان ثمنه بينهما أثلاثاً، وإن كانت قيمة كل منهما مائة كان الثمن بينهما نصفين، وهكذا.
وإن لم تساوِ القيمة قيمة المغصوب والعين المضافة، كما لو صارت القيمة مائة وخمسين، وكانت قيمة المغصوب مائة وقيمة المضاف مائة، كان للمغصوب منه قيمة ملكه - وهو مائة مثلاً - وللغاصب خمسون، وهو فرق زيادة القيمة بفعله وما أضافه.
وإن زادت القيمة عن قيمة المغصوب والمضاف إليه - كما لو صارت القيمة ثلاثمائة في المثال السابق - كان لكلٍّ منهما من الزيادة - بالإضافة إلى قيمة عينه - بنسبة ملْكه. فإذا كان ملْك كلٍّ منهما مائة كانت الزيادة مناصفة بينهما، وإن كانت قيمة ملْك أحدهما ضعف قيمة ملْك الآخر مثلاً، كانت الزيادة بينها اثلاثاً، وهكذا.
وإن كان التغيّر في ذات المغصوب واسمه بفعل - كما لو كان حنطة فطحنها، أو شاة فذبحها - لم ينقطع ملْك المالك عنه، وكان له استرداده، فإن نقصت قيمته بذلك كان له أن يطالب بأرش النقص، لأنه نقصان في عين المغصوب حصل في يد الغاصب وفعله، فوجب ضمانه.
ولو طالب المغصوب منه ببدله لم يكن له ذلك، لأن عين ماله باقية، فلا يملك المطالبة ببدلها.
6 - نقص المغصوب:
النقص في المغصوب قد يكون نقصاً حسياً، وقد يكون معنوياً:
فالنقص الحسي: إن كان له بدل مقدّر يضمن به، كنقص جزء من العين فإنه مضمون على الغاصب حتى ولو لم تنقص قيمة العين، كما لو غصب أشياء مثلية فتلف بعضها، وكانت قيمة ما بقى تساوي قيمة الجميع، أو غصب شاة فذهبت عينها، ولم تنقص قيمتها بذلك، فعليه ردّ مثل ما تلف أو قيمة ما نقص.(7/222)
وإن لم يكن للنقص الحسيّ بدل مقدّر يضمن به، ولا يضمن إلا بنقص القيمة، كما لو كانت الشاة سمينة فهزلت، فإن نقصت قيمتها ضمن ذلك النقص، وإن لم تنقص قيمتها لم يلزمه شئ.
والنقص المعنوي: أن تنقص القيمة دون أن تنقص العين، ذلك بسبب انخفاض الأسعار، فإن الغاصب لا يضمن هذا النقص إذا ردّ العين المغصوبة كما غصبها، لبقاء المغصوب على حاله، والذي فات هو رغبات الناس. أما لو تلفت أو تلف جزء منها: فإنه يضمن قيمتها أو قيمة ما تلف منها بأرفع ما وصلت إليه القيمة كما علمت.
7 - زوائد المغصوب:
إذا زادت العين المغصوبة في يد الغاصب كانت تلك الزيادة ملكاً للمغصوب منه، لأنها نماء ملكه، ودخلت تلك الزيادة في حكم الغصب كالأصل، وكانت مضمونة على الغاصب كأصلها، لأنها تبع له، والتابع في الوجود تابع في الحكم.
ولا فرق في ذلك بين أن تكون الزيادة متصلة كالسِّمَن، أو منفصلة كالثمرة للشجر والولد للحيوان.
فإذا تلفت الزيادة المنفصلة في يد الغاصب ضمنها كما يضمن أصلها لو تلف، وكذلك لو هزلت الدابة بعدما سمنت عنده ضمن الفرق بين قيمتها سمينة وقيمتها هزيلة.
8 - منافع المغصوب:
إذا كان للعين المغصوبة منفعة، كسكنى الدار وركوب الدابة أو السيارة ونحو ذلك، فإنها تدخل في ضمان الغاصب، سواء استوفاها بنفسه أم بغيره أم لم يستوفها، فيلزمه أُجرة المثل أقصى ما كانت، من حين الغصب إلى حين ردّ العين المغصوبة، أو تلفها في يده، إذا كانت المدة مما يقابل بأُجرة عادية، وذلك لأن المنافع أموال، وقد عطلها على مالكها بغصبه لأصلها، فهو غاصب لها أيضاً، فيلزمه ردّ بدلها وهو أُجرة المثل، ويلزمه أقصى أُجرة لها لأنه معتدٍ وغاصب، وقد فوّتها على المالك حين ارتفع أجْرها وهو غاصب لها.(7/223)
وهذه الأُجرة التي تلزمه هي بدل المنافع، فإذا تلفت العين في يده لزمه ضمانها أيضاً.
9 - البناء على الأرض المغصوبة وغرسها أو زرعها:
إذا غصب أرضاً وبنى عليها بناءً أو غرس فيها أشجاراً كلِّف بنقض البناء وقلع الغراس، وتسوية الأرض كما كانت، ووجب عليه أرش نقص قيمة الأرض إن نقصت بذلك، وأُجرة مثل الأرض إن مضت مدة لمثلها أُجرة، لأنه متعدٍّ في ذلك كله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس لعرق ظالم حق". (انظر تخريجه صفحة: 51).
ولو أراد المالك تملك البناء أو الغراس بقيمته لم يُلزم الغاصب بذلك، لأن البناء والغراس ملكه، فلا يتملك منه بغير رضاه، فإن توافقا على ذلك صحّ.
ولوكان البناء والغراس مغصوبين أيضاً من صاحب الأرض، ورضى المالك ببقائهما، لم يكن للغاصب هدم البناء أو قلع الغراس، ولا شئ له على عمله لأنه لم يؤذن له به، ولا شئ عليه أن لم تنقص قيمة الجميع بفعله، وإلا لزمه النقص.
وإذا زرع الغاصب الأرض كان للمالك أن يجبره على إخراج البذر وتسوية الأرض، ويلزمه أرش النقص وأُجرة المثل.
وإذا رضى المالك بإبقاء البذر في الأرض بقيمته امتنع على الغاصب إخراجه، لأنه لا ينتفع به في الغالب.
10 - خلط المغصوب بغيره:
إذا اختلط المغصوب بغيره أو خلط: فإن أمكن تمييزه وجب ذلك على الغاصب وإن شقّ عليه، وإن لم يكن تمييزه فقد تعذّره ردّه أبداً، فأشبه التالف، فللمالك تغريمه بدله من مثل أو قيمة على النحو الذي علمت.
وللغاصب أن يعطيه من المخلوط، إن خطله بجنسه وكان المخلوط به مثله أو أجود منه، فإن خلطه بأقل منه فليس له ذلك إلا أن رضى المالك به.
11 - ردّ المغصوب وإن تضرر الغاصب:
علمنا أن الواجب على الغاصب ردّ العين المغصوبة فوراً، وأنه لا يبرأ من الإثم وعُهدة الضمان إلا بالرد، فلو كان يترتب على ردّه العين المغصوبة ضرر بالغ(7/224)
به كلِّف بذلك، ولا يلتفت إلى ما يناله من ضرر، لأنه ظالم ومتعدٍّ بغصبه.
فلو غصب خشبة، فوضعت في بناء أو سفينة، وجب نزعها وردّها، وإن تهدم البناء أو غرقت السفينة، ويلزم الغاصب أرش النقص للمغصوب منه ولصاحب البناء أو السفينة إن كان غير الغاصب ويجهل الغصب، كما يلزمه أُجرة المثل إن كان لمثلها أُجرة.
فإن كان يترتب على ردّه هلاك آدمي معصوم الدم، أو حيوان محترم أي غير مأمور بقتله شرعاً ويجوز تملكه أو حيازته، أو إتلاف مال مسلم أو ذمّي، فإنه لا يجب ردّه، فيعدل الى تضمين البدل من مثل أو قيمة.
12 - اختلاف الغاصب والمغصوب منه:
قد يقع اختلاف بين الغاصب والمغصوب منه في أُمور، هي:
أ- تلف المغصب وبقاؤه: كأن يدّعي الغاصب أن العين المغصوبة قد تلفت فعليه بدلها، ويدّعي المغصوب منه أنها لا تزال قائمة عنده فعليه ردّها.
فالصحيح أنه يصدق الغاصب بيمينه، لاحتمال صدقه وعجزه عن إقامة البيِّنة على دعواه - إذ الغالب عدم البيِّنة على التلف - فإذا لم يصدّق أدّى ذلك إلى تخليده في الحبس.
فإذا حلف غرم للمالك بدل المغصوب من مثل أو قيمة على الأصح، لعجز المالك عن الوصول إلى عين ماله بيمين الغاصب.
ب- قيمة المغصوب: وذلك يعني أنهما اتفقا على تلفه، ولكنهما اختلفا في قيمته، فقال المالك: قيمته ألف، وقال الغاصب: قيمته ثمانمائة، صدق الغاصب بيمينه، لأن المالك يدّعي عليه الزيادة عمّا اتفقا عليه - فقد اتفقا في قولهما في المثال المذكور على الثمانمائة واختلفا في الزيادة، فالمالك يدّعيها والغاصب ينكرها - والأصل براءة ذمته منها، فيكون القول المصدِّق قوله بيمينه.
فإذا أقام المالك بيِّنة على أن القيمة أكثر مما قاله الغاصب سمعت بيِّنته، وكلّف الغاصب الزيادة عمّا ادّعاه هو إلى حدٍّ لا تقطع البيِّنة بالزيادة(7/225)
عليه بأن تجوز الزيادة عليه وعدمها، كأن تفيد البيِّنة أن قيمته - مثلاً - ألف أو تسعمائة، مع احتمال أن تكون أكثر أو أقل.
ج- صفة المغصوب أو قدره: كأن يدّعي المغصوب منه أن الدار المغصوبة كانت مطليّة مثلاً، ويدّعي الغاصب أنها لم تكن كذلك، أو يدّعي المالك أنه غصبه عشرين رطلاً قمحاً، ويقول الغاصب: بل عشرة أرطال. ونحو ذلك من الاختلاف في القدر أو الصفة التي هي صفة زيادة.
فالمصدّق هو الغاصب بيمينه في ذلك، لأنه هو الذي سيغرم، والأصل براءة ذمته، وهو منكر لشغلها، فالقول قوله بيمينه.
وإن اختلفا في عيبٍ حادث: وهو الاختلاف في صفة نقص، كأن ادّعى المالك أن المغصوب كان سليماً من العيوب، وأدعى الغاصب أنه كان معيباً.
فإن كانت اليعن تالفة صدّق المالك بيمينه على الصحيح، لأن الأصل والغالب السلامة من العيوب، والقول قول مَن يتمسك بالأصل.
وإن كانت العين باقية، وردّها الغاصب معيبة كما ادّعى، صُدِّق الغاصب بيمينه، لأن الأصل براءة ذمته من ضمان ما يزيد على تلك الصفة القائمة.
د- ردّ العين المغصوبة: فلو ادّعى الغاصب أنه ردّ العين المغصوبة على المغصوب منه، وأنكر المغصوب منه ذلك، فالقول قول المالك بيمينه، فيصدّق انه ما ردّ عليه المغصوب، لأن العين المغصوبة كانت في يده، والاصل عدم الردّ، فيصدَّق مَن يتمسك به وهو المغصوب منه، فإما أن يردّه الغاصب عليه، وإما أن يضمن له بدله.
تم الجزء السابع من كتاب الفقه المنهجي بعون الله تعالى وتوفيقه، ويليه - إن شاء الله تعالى - الجزء الثامن في الجنايات والجهاد والقضاء وما يتعلق بها، والله تعالى ولي التوفيق.(7/226)
الفقه المنهجي
على مذهب الإمام الشافعي
رحمه الله تعالى
الجزء الثامن
الجنايات والحدود وتوابعها، الجهاد وتوابعه، الفتوة وأحكامها
أنواع اللهو، القضاء، الدعاوى والبينات والشهادات واليمين
والقسمة، والإقرار، والحجر، والإمامة العظمي
تأليف
الدكتور مصطفي الخن ... الدكتور مصطفي البغا
علي الشربجي
دار القلم
دمشق(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم وسار على هديهم إلي يوم الدين، وبعد:
فهذا هو الكتاب الثامن في سلسلة الفقه المنهجي على مذهب الإمام الشافعي رحمه الله تعالي، أودعنا فيه عدداً من الأبواب والمباحث الفقهية: الجنايات والحدود وتوابعها، الجهاد وتوابعه، الفتوة وأحكامها، أنواع اللهو الجائز والمحرم، القضاء الدعاوى والبينات والشهادات واليمين، والقسمة، والإقرار، والحجر، وأحكام الإمامة العظمى.
وقد بذلنا ما نستطيع لتجلية هذه الأحكام، وصياغتها بأسلوب يرى فيه القارئ السهولة في التعبير، والوضوح في الأداء.
والله تعالى نسأل أن يجعل عملنا هذا خالصاً لوجهه الكريم، وأن يجعله في عداد الصدقات الجارية والأعمال المبرورة، إنه كريم مجيب، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المؤلفون(8/5)
الباب الأول
الجنايات والحدود وتوابعها(8/7)
الجنايات
تعريف الجنايات لغة واصطلاحاً:
الجنايات: جمع جناية، وهي في اللغة مصدر جنى يجني، إذا أذنب، وجني على نفسه: أساء إليها، وجني على قومه: أذنب ذنباً يؤخذ به.
وتطلق الجناية على التعدي على بدن، أو مال، أو عرض.
وأما الجناية في الاصطلاح: فهي التعدي على البدن بما يوجب قصاصاً، أو مالاً.
فالجناية إذا في اصطلاح الفقهاء أخص مما هي في اللغة.
حكم الجناية شرعاً، ودليله:
الجناية على البدن حرام شرعاً ومنهي عنها، فلا يجوز التعدي علي الأبدان، ولا توجيه الأذى إليها.
وقد انعقد إجماع المسلمين على تحريم القتل بغير حق، ولم يخالف بذلك أحد.
ودليل هذا الإجماع الكتاب والسنة:
أما الكتاب: فقول الله تبارك وتعالي: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} (الإسراء33).
[لوليه: لوارثه. سلطاناً: تسلطاً على القاتل. فلا يسرف في القتل: فلا(8/9)
يتجاوز الحد، فيقتل غير قاتل مورثه. منصوراً: معاناً على أخذ حقه].
وقول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً} (النساء: 92) أي: ما ينبغي أن يصدر منه قتل له.
وقوله ـ أيضاً _ عز من قائل: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} (النساء93).
وأما الأدلة من السنة فكثيرة:
منها: ما رواه عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة". (رواه البخاري [6484] في الديات. باب: قول الله تعالى {أن النفس بالنفس. . }؛ ومسلم [1676] في القسامة، باب: ما يباح به دم المسلم).
[الثيب الزاني: هو من سبق له زاج، ذكراً كان أم أنثى. المفارق لدينه: التارك له، وهو المرتد].
ومنها: أيضاً ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اجتنبوا السبع الموبقات، قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات". (أخرجه البخاري [2615] في الوصايا، باب: قول الله تعالى {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً. . }؛ ومسلم [89] في كتاب الإيمان، باب: تحريم الكبائر وبيانه. ورواه أيضاً أبو داود [2874] في الوصايا، باب: ما جاء في التشديد في أكل مال اليتيم؛ والنسائي [6/ 257] في الوصايا، باب: اجتناب أكل مال اليتيم).
[الموبقات: المهلكات. التولي يوم الزحف: الفرار عن القتال عند لقاء الأعداء. قذف المحصنات: اتهام العفيفات بالزنى].
هذا ولا خلاف بين الأمة في تحريم القتل بغير حق، وأنه من أكبر الكبائر بعد الشرك، وفاعله المستحل له كافر من غير خلاف، ومخلد في نار جهنم. أما إذا(8/10)
قتل متعمداً، وهو غير مستحل لذلك: فإنه يحكم عليه بالفسق والفجور، ولا يحكم عليه بالكفر. وأمره بعدئذ إلى الله تعالى إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه، وتوبته إذا تاب توبة نصوحاً مقبولة عند الله تعالى ولا يستلزم إثمه التخليد في نار جهنم.
ودليل ذلك: قول الله عز وجل: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} (النساء48).
وقول الله تبارك وتعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} (الزمر: 53).
ويدل على ذلك أيضاً: ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على راهب، فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله فكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل عالم، فقال: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلي أرض كذا وكذا، فإن بها أناساً يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلي أرضك فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة ". (أخرجه البخاري [3283] في الأنبياء، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل؛ ومسلم [2766] في التوبة، باب: قبول توبة القاتل).
هذا، وإذا كانت التوبة تصح وتقبل من الكافر، فقبولها من الفاسق والعاصي أولى.
وأما قوله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا .. } (النساء: 93).(8/11)
فمحمول على من استحل القتل عمداً بغير حق، أو على أن هذا جزاؤه لو لم يتب، أو لم يغفر الله له.
وقيل: هذا من باب المطلق الذي قيده قوله عز وجل: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (النساء: 48).
أقسام الجناية:
قلنا فيما سبق: إن الجناية شرعاً هي التعدي علي البدن، وهذا التعدي:
- إما أن يكون بإزهاق الروح، وهو القتل.
- وإما أن يكون واقعاً على عضو من الأعضاء، دون إزهاق روح: كقطع يد، أو قلع عين، أو قطع أذن أو أنف، أو ما شابه ذلك.
ولكل قسم من هذين القسمين أحكام تتعلق به، سنبينها إن شاء الله تعالى.
الجناية علي النفس:
ويقصد بالجناية على النفس هنا القتل وإزهاق الروح، وهي أنواع ثلاثة، لكل نوع منها حكم يبين في حينه.
أنواع القتل:
القتل ثلاثة أنواع: القتل العمد، القتل شبه العمد، القتل الخطأ. ولكل نوع من هذه الأنواع الثلاثة حقيقة وحكم يتعلق به.
1 - القتل العمد:
وحقيقة القتل العمد: أن يقصد قتل شخص بما يقتل غالباً. ومن هذا التعريف لحقيقة القتل العمد يتبين أنه لا يسمى قتل عمد، إلا إذا تحقق فيه أمران:
أحدهما: قصد الشخص بالقتل، فلو كان غير قاصد لقتله، فإنه لا يسمي عمداً: ... كمن رمي سهماً يريد صيداً، فأصاب شخصاً، فقتله.
ثانيهما: أن تكون الوسيلة في القتل مما يقتل غالباً. فلو أنه ضربه بعصاً صغيرة، أو بحصاة صغيرة في غير مقتل، فمات من ذلك الضرب، فإنه لا يسمى ذلك القتل قتل عمد، لأن تلك الوسيلة لا تقتل في الغالب.(8/12)
صور من القتل العمد:
وللقتل العمد صور كثيرة يتحقق فيها كلها الأمران المذكوران آنفاً، ومن هذه الصور:
أ - ضربه بحد سيف فمات من ذلك الضرب، أو أطلق عليه رصاصاً، فأصابه فمات منه.
ب - غرز إبرة في مقتل: كدماغ، وعين، وخاصرة، ومثانة وما أشبه ذلك، مما يقول عنه أهل الاختصاص: إنه مقتل، فإذا مات بسبب شئ من ذلك كان قتله عمداً.
جـ - ضربه بمثقل كبير يقتل مثله غالباً، سواء كان من حديد، كمطرقة وشبهها، أم كان من غير الحديد، كالحجر الكبير، والخشبة الكبيرة. ويدل لهذا كله ما رواه أنس رضي الله عنه؛ أن جارية وجد رأسها قد رض بين حجرين، فسألوها: من صنع بك هذا؟ فلان فلان؟ حتى ذكروا يهودياً، فأومأت برأسها، فأخذ اليهودي فأقر، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يرض رأسه بين حجرين. وفي رواية: فجيء بها، وبها رمق. (أخرجه البخاري [2595] في الوصايا، باب: إذا أومأ المريض برأسه إشارة بينة جازت؛ ومسلم [1672] في القسامة، باب: ثبوت القصاص في القتل بالحجر وغيره؛ وأبو داود [4528، 4527] في الديات، باب: يقاد من القاتل، وباب: القود بغير حديد؛ والترمذي [1394] في الديات، باب: فيمن رضخ رأسه بحجر؛ والنسائي [22/ 8] في القسامة، باب: القود من الرجل للمرأة).
[[رض رأسها: دق رأسها. والرض: دق الشيء بين حجرين وما جري مجراهما. فأومأت برأسها: أشارت به].
د - حرقه بالنار، أو هدم عليه حائطاً، أو سقفاً، أو وطأه بدابة أو سيارة، أو دفنه حياً، أو عصر خصيتيه عصراً شديداً فمات، وكذلك أمثال هذه الحالات؛ فإن قتله بها يكون عمداً.
هـ - خنقه: بأن وضع يده على فمه، أو وضع مخدة على فمه حتى مات من انقطاع النفس.(8/13)
فإن خلاه قبل أن يموت، فإن انتهي إلي حركة المذبوح، أو ضعف وبقي متألماً حتى مات، فذلك كله من قبيل القتل العمد.
وأوجره سماً قاتلاً، أو حسب ومنعه الطعام والشراب حتى مات، أو سحره، وكان السحر مما يقتل غالباً، فكل هذا من القتل العمد.
ز - ضربه بعصاً صغيرة، أو رماه بحجر صغير، إلا أنه والى بين الضرب أو الرمي حتى مات، أو اشتد به الألم وبقي متألماً حتى مات، فهذا أيضاً قتل عمد.
حـ - شهد رجلان عند القاضي على شخص بأنه قتل عمداً، فقتل، ثم رجعا عن الشهادة، وقالا تعمدنا الكذب لزمهما القصاص، لأنهما تسببا بإهلاكه، فكان ذلك بمنزلة القتل العمد منهما.
وهناك صور أخرى للقتل العمد مذكورة في كتب الفقه المطولة.
2 - القتل شبه العمد:
وحقيقة القتل شبه العمد: أن يستعمل في القتل أداة لا تقتل غالباً، قاصداً بها الشخص عدواناً من غير حق، إلا أن الشخص قد مات بذلك الفعل.
وللقتل شبه العمد صور كثيرة، نذكر منها:
أ - ضربه بعصا صغيرة ضرباً خفيفاً، فأصاب منه مقتلاً فمات من ذلك الضرب.
ب - ألقاه في ماء مغرق إلا أن ذلك الشخص يحسن السباحة، ولكنه فاجأه ريح شديد، أو موج، فغرق ومات. أما إذا كان لا يحسن السباحة، فإنه عندئذ يكون قتل عمد.
جـ - أن يربطه ويلقيه إلي جانب ماء، قد يزيد، فزاد الماء، ومات الشخص. أما إذا كانت الزيادة متيقنة، فحصلت، ومات، كان ذلك قتل عمد.
وهناك صور كثير أمسكنا عنها خشية الإطالة، وسوف تجدها إن شئت في المطولات من كتب الفقه.(8/14)
3 - القتل الخطأ:
وحقيقة القتل الخطأ: أن يقع من الشخص من غير أن يقصده، ولا يريده؛ وذلك: كمن زلقت رجله فوقع على إنسان فقتله، أو رمى صيداً، فأصاب إنساناً، الخطأ، الذي لم توجد فيه حقيقة القتل العمد، ولا شبه العمد.
حكم أنواع القتل الثلاثة:
قلنا: إن لكل نوع من أنواع القتل حكماً يخصه، بل أحكام، هذا ما سنتحدث عنه في العجالة الآتية:
حكم النوع الأول، وهو القتل العمد:
القتل العمد له حكمان: حكم دياني (أي في الآخرة)، وحكم قضائي (أي في الدنيا).
أما حكمه الديني الأخروي: فهو التحريم، ويترتب عليه إثم عظيم يلي درجة الكفر، والعياذ بالله، والعذاب الأليم في جهنم، إن لم يلجأ ذلك القاتل إلى التوبة، وتتداركه عناية الله بالعفو والرحمة. وإلى هذا تشير الآية الكريمة:: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} (سورة النساء: 93). ولقد مرت هذه الآية، ومر القول فيها.
وأما الحكم القضائي الدنيوي، فهو القصاص "القود"، ويسمى القصاص قوداً، لأنهم كانوا يقودون الجاني بحبل ونحوه إلى موضع قتله والقصاص منه.
ودليل هذا الحكم الذي هو القصاص قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ. وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (سورة البقرة: 178 - 179).
[كتب: فرض. القصاص: الجزاء على الذنب، وهو أن يفعل بالفاعل مثل ما فعل، وسمي قصاصاً لأن المقتص يتتبع جناية الجاني ليأخذ مثلها. عفي له من(8/15)
أخيه: ترك القصاص منه، وفي ذكر "أخيه" تعطف داع إلى العفو. فاتباع بالمعروف: مطالبة القاتل بالدية من غير عنف. وأداء إليه بإحسان: على القاتل أداء الدية إلى الوارث بلا مطل ولا بخس. ذلك تخفيف: العفو عن القصاص إلى الدية تيسير من الله ورحمة بعباده حيث لم يضيق عليهم بتشريع حكم واحد وهو القصاص. فمن اعتدي بعد ذلك: أي ظلم القاتل، واعتدي عليه بالقتل بعد العفو، فله عذاب أليم في الآخرة بالنار، أو في الدنيا بالقتل].
ترك القصاص والعفو عنه:
القصاص هو الحكم الأصلي المترتب على القتل العمد، وهو حق أولياء القتيل، فإن شاؤوا استوفوه، وعلى القاضي مساعدتهم، وتمكينهم من نيل حقهم، كما قال عز وجل: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} (سورة الإسراء: 33) أي: معاناً من قبل القضاء. وإن شاؤوا عفوا عن القصاص، أو عفا بعضهم إلى الدية، فإن فعلوا، أو فعل بعضهم ذلك، وجبت لهم الدية حالة في مال القاتل، وكان عليه أداؤها إليهم دون مماطلة أو بخس. وإلى هذا الحكم: وهو وجوب الدية، يشير قول الله تبارك وتعالى: {َمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} (سورة البقرة: 178).
قال عبدالله بن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية: (فالعفو أن يقبل الدية في العمد، قال: {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} يتبع هذا بالمعروف، ويؤدي هذا بإحسان). (أخرجه البخاري [4228] عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير سورة البقرة، باب: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ}؛ والنسائي [8/ 37] في القسامة، باب: تأويل قوله عز وجل: {َمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ}).
وقد مرت الآية مستوفاة.
وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن للولي الحق في القصاص، أو العفو عنه إلي الدية: روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يعفو وإما أن يقتل". وفي رواية: " إما أن يقاد وإما أن يفدى". (أخرج الترمذي الأولي [1405] في الديات، باب: ما جاء في حكم ولي القتيل(8/16)
في القصاص والعفو؛ وأخرج الثانية النسائي [8/ 38] في القسامة، باب: هل يؤخذ من قاتل العمد الدية إذا عفا ولي المقتول عن القود؟ ).
ومما ينبغي أن يعلم أن عفو بعض أولياء القتيل عن القصاص كعفو جميعهم لأن القصاص لا يتجزأ، فإذا عفا بعضهم انتقل حق الجميع إلى الدية، وليس لأحدهم أن يطالب بالقصاص.
تغليظ الدية:
قلنا فيما سبق إن أولياء القتيل إذا تركوا القصاص، ورضوا بالدية، وجبت لهم على القاتل، وكانت مغلظة، تشديداً على القاتل.
وتغليظ الدية يكون من ثلاثة أوجه:
أ - كون الدية علي ثلاثة أنواع من الإبل من حيث أسنانها، لا على خمسة أنواع، كما هي في قتل الخطأ، وسيأتي بيانها.
ب - كون الدية حالة.
جـ - كونها في مال الجاني وحده، فلا تجب على أحد من أوليائه. ودليل ذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تعقل العاقلة عمداً ولا صلحاً. . ". (رواه البيهقي [8/ 104]، عن ابن عباس رضي الله عنهما).
وروي مالك في الموطأ [2/ 865] عن ابن شهاب أنه قال: (مضت السنة أن العاقلة لا تحمل شيئاً من دية العمد إلا أن يشاؤوا).
دليل تغليظ الدية:
ودليل تغليظ الدية في القتل العمد، مارواه الترمذي (رقم [1387] في الديات، باب: كمهي من الإبل؟ )، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قتل متعمداً دفع إلى أولياء المقتول، فإن شاؤوا قتلوه، وإن شاؤوا أخذوا الدية، وهي ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة، وما صالحوا عليه فهو لهم، وذلك لتشديد العقل.
[حقة: الحقة من الإبل ما استكملت ثلاث سنين، ودخلت في الرابعة، سميت بذلك، لأنها استحقت أن تركب ويحمل عليها. جذعة: الجذعة ما(8/17)
استكملت أربع سنين، ودخلت في الخامسة، سميت بذلك، لأنها أجذعت مقدم أسنانها، أي أسقطته. خلفة: الخلفة هي التي تكون أولادها في بطونها].
العفو عن الدية:
لولي المقتول أن يعفو عن القصاص، وينتقل إلي الدية، كما قلنا، وكذلك له أن يعفو عن الدية، أو يعفو عن بعضها، فإذا عفا عنها، أو عن بعضها سقط المعفو عنه من الدية، لأن الله عز وجل، شرع الدية حقاً للعبد، وتسوية للعلاقات الإنسانية حتى لا يتهددها الخطر والضغائن والأحقاد، فإذا عفا صاحب الحق عن حقه، كان ذلك له، بل هو الأفضل والأنفع له ولغيره. قال الله عز وجل: {وأن تعفوا أقرب للتقوى} (سورة البقرة: 237).
حكم النوع الثاني، وهو القتل شبه العمد:
وللقتل شبه العمد ـ وقد عرفت حقيقته ـ أيضاً حكمان، ديني أخروي، وهو الحرمة، والإثم، واستحقاق العذاب في الآخرة، لأنه قتل بقصد، لكن عقابه دون عقاب القتل العمد.
وأما حكمه القضائي الدنيوي، فهو الدية مغلظة من بعض الوجوه، وقد مر معنا معنى تغليظ الدية.
فإن هذا النوع من القتل لا يستوجب قصاصاً، كالقتل العمد، وإن طالب به ولي المقتول. وإنما تثبت به الدية على عاقلة القاتل مؤجلة، تستوفى خلال ثلاث سنوات. فكونها على العاقلة ومؤجلة تخالف دية العمد العدوان، وكونها مثلثة ذات أعمار معينة تشبه دية العمد، فهي مغلظة من هذين الوجهين.
ودليل هذا الحكم ما رواه أبو داود [4547] في الديات، باب: في الخطأ شبه العمد، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " عقل شبه العمد مغلظة مثل عقل العمد، ولا يقتل صاحبه".
[العقل: الدية. وأصلها أن القاتل كان إذا قتل قتيلاً جمع الدية من الإبل، فعقلها بفناء أولياء المقتول ليقبلوها منه، فسميت الدية عقلاً. والعاقلة: هم العصبة والأقارب من قبل الأب الذين يعطون دية قتيل الخطأ، وشبه العمد].(8/18)
وروي النسائي [8/ 40] في القسامة، باب: كم دية شبه العمد؟، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " شبه العمد قتيل السوط والعصا، فيه مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها".
وأما كون الدية في قتل شبه العمد علي العاقلة، فلما رواه مسلم [1681] في القسامة، باب: دية الجنين، عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، قال: ضربت امرأة ضرة لها بعمود فسطاط، وهي حبلى فقتلتها، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دية المقتولة على عصبة القاتلة.
وروى البخاري [6521] في الديات، باب: جنين المرأة. .؛ ومسلم [1681] في القسامة، باب: دية الجنين ووجوب الدية في قتل الخطأ عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى أن دية المرأة على عاقلتها.
هذا ولقد قلنا: إن العاقلة هم عصبة الإنسان وأقاربه من جهة أبيه، ونقول هنا: إن المقصود بالعاقلة الذين يلزمهم أداء الدية إلي ولي المقتول إنما هم عصبة الجاني الذكور، ما عدا الأصول والفروعـ أما هم، فلا يتحملون من الدية شيئاً.
ويقدم الأقرب فالأقرب من عصبة الجاني، في تحمل الدية.
والدليل على أن الأصول والفروع لا يدخلون في العاقلة، ولا يتحملون من الدية شيئاً: ما رواه أبو رمثة رضي الله عنه، قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعي ابني، فقال: " من هذا "؟ فقلت: ابني وأشهد به، قال: "أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه". (أخرجه أبو دادو [4206] في الترجل، باب: في الخضاب، والنسائي [8/ 53] في القسامة، باب: هل يؤخذ أحد بجريرة غيره؟ ).
[لا يجني عليك ولا تجني عليه: أي الوالد لا يضمن من جناية ابنه شيئاً، ولا يضمن الولد من جناية أبيه شيئاً [.
وروي النسائي [7/ 176] في تحريم الدم، باب: تحريم القتل، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يؤخذ الرجل بجناية أبيه".
وقد روى أبو داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - برأ الولد من عقل أبيه.(8/19)
حكم النوع الثالث، وهو القتل الخطأ:
وللقتل الخطأ ـ وقد عرفت حقيقته ـ حكمان: الأول ديني أخروي، والثاني دنيوي قضائي.
أما حكمه الديني الأخروي فعفو لا إثم فيه ولا عقاب، لأنه عمل وقع خطأ من غير قصد، وقد جاء في الحديث: "إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه". رواه ابن ماجه [2045] في الطلاق، باب طلاق المكره والناسي عن ابن عباس.
وأما حكمه في الدنيا فهو وجوب الدية على عاقلة القاتل، مؤجلة إلى ثلاث سنوات، ومخففة: أي مقسمة إلى خمسة أنواع: عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة.
أما وجوب الدية في القتل الخطأ، فيدل عليه قول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} (سورة النساء: 92).
أما كون الدية في القتل الخطأ على العاقلة فلما قلنا إنها في القتل شبه العمد على العاقلة، فهي في الخطأ أولي أن تكون عليهم.
وأما كون الدية مخففة: أي في خمسة أسنان، فلما رواه الدارقطني [3/ 172] عن ابن مسعود رضي الله عنه، موقوفاً، أنه قال: (دية الخطأ أخماساً: عشرون جذعة، وعشرون حقة، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون، وعشرون بنت مخاض).
ومثل هذا الكلام من ابن مسعود رضي الله عنه، له حكم الحديث المرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأنه من المقدرات، وهي ليست مما يقال بالرأي.
وأما كون الدية في قتل الخطأ مقسطة في ثلاث سنوات، فلما روي عن عمر وعلي وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم، أنهم قضوا بذلك ولم ينكر عليهم أحد من الصحابة، فكان إجماعاً، وهم رضي الله عنهم لا يقولون مثل هذا إلا بتوقيف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل قال الشافعي رحمه الله تعالى: ولم أعلم مخالفاً أن(8/20)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالدية قضى بالدية على العاقلة في ثلاث سنين. وقال الترمذي [1386] في أول كتاب الديات، باب: ما جاء في الدية كم هي؟: وقد أجمع أهل العلم على أن الدية تؤخذ في ثلاث سنين في كل سنة ثلث الدية، ورأوا أن دية الخطأ على العاقلة.
بنت مخاض: هي التي لها سنة من الإبل، وطعنت في السنة الثانية، وسميت بنت مخاض، لأن أمها بعد سنة تحمل مرة أخري، فتصير من المخاض: أي الحوامل.
بنت لبون: هي التي لها سنتان من الإبل وطعنت في الثالثة، سميت بنت لبون، لأن أمها آن لها أن تلد فتصير لبوناً.
وقد مر بيان الحقة والجذعة.
الحكمة في تخفيف الدية في القتل الخطأ وجعلها على العاقلة:
قلنا إن القتل الخطأ وقع بغير قصد، ولم يكن مراداً للقاتل، فلذلك ناسب أن تخفف الدية فيه، ولا يكلف المخطئ ما يكلفه المعتدي، الذي باشر القتل قصداً.
ولما كان هذا شأن المخطئ، كان من الحكمة أن يواسيه الأدنون من عصباته، ويحملون عنه هذا الغرم الموجع، ويكفيه هو ما يحمله من الكفارة، وهي عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين. قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ. . } ثم قال عز وجل: {َمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً} (سورة النساء: 92).
تغليظ الدية في القتل الخطأ في بعض الأحوال:
ذكر علماء الشافعية أن الدية في القتل الخطأ تغلظ في بعض الحالات، ويكون تغليظها من حيث وجوب التثليث فيها فقط (ثلاثون حقة، ثلاثون جذعة، أربعون خلفة).
وهذه الحالات التي تغلظ فيها هي:
أ - إذا وقع القتل في حرم مكة، وحدود الحرم مذكورة في كتاب الحج، وهي الحدود التي يحرم الاصطياد داخلها، وذلك احتراماً لهذا البيت، ورعاية لزيادة الأمن فيه. قال الله عز وجل: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ(8/21)
أَلِيمٍ} (سورة الحج: 25).
[بإلحاد بظلم: ميل عن الحق بسبب الظلم].
ب - إذا وقع القتل في الأشهر الحرم، وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، لحرمة هذه الأشهر، ومنع ابتداء القتال فيها.
قال الله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِير} (سورة البقرة: 217) أي: كبير إثمه.
وقال تبارك وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام} (سورة المائدة: 2).
[ى تحلوا: لا تستحلوا وتجيزوا. شعائر الله: جمع شعيرة، أي معالم دينه، وأحكام شرعه، مثل الصيد في الحرم. ولا الشهر الحرام: أي بالقتال فيه].
جـ - إذا وقع القتل الخطأ على محرم ذي رحم، كالأم، والأخت، والعم، والخال، ونحوهم من كل ذي رحم محرم.
ودليل التغليظ في هذه المواضع عمل الصحابة رضي الله عنهم، وإن اختلفوا في كيفية التغليظ ـ وقد عرفت مذهب الشافعي في ذلك ـ ومثل هذا الحكم منهم لا يدرك بالاجتهاد، بل بالتوقيف من النبي - صلى الله عليه وسلم -.
اشتراك جماعة بقتل شخص واحد:
إذا اشترك جماعة ـ اثنان أو أكثر ـ في قتل شخص واحد من المسلمين، وذلك بأن كان عمل كل واحد منهم ـ لو انفرد ـ مزهقاً للروح وقاتلاً، ثبت القصاص على كل واحد من أولئك المشتركين في قتله.
أما إذا جرحه واحد منهم، وكان الجرح غير قاتل، ثم قتله الآخر، فأجهز عليه، كان الثاني هو القاتل، وثبت عليه القصاص، وأما الجارح الأول، فعليه ما يستحق من قصاص جرح، أوديته. ولو جرحه أحدهم جرحاً، فأنهاه إلى حركة مذبوح، وذلك بأن لم يبق معها إبصار، ولا نطق ولا حركة اختبار، وأصبح يقطع بموته من ذلك الجرح، ولو بعد أيام، ثم جنى عليه شخص(8/22)
آخر، فالأول هو القاتل، لأنه صيره إلى حالة الموت. ويعزر الثاني لهتكه حرمة الميت، كما لو قطع عضواً من ميت.
ويستدل على ثبوت القصاص في حق الجماعة بقتل شخص واحد بالأدلة الآتية:
أ - روى البخاري تعليقاً، في الديات، باب: إذا أصاب قوم من رجل، هل يعاقب أو يقتص منهم كلهم؟، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن غلاماً قتل غيلة، فقال عمر رضي الله عنه: (لو اشترك فيها أهل صنعاء لقتلتهم). وفي البخاري في نفس الباب؛ قال مغيرة بن حكيم عن أبيه: إن أربعة قتلوا صبياً، فقال عمر مثله.
ب - روي مالك رحمه الله في الموطأ [2/ 871] عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل نفراً ـ خمسة أو سبعة ـ برجل واحد قتلوه غلية، وقال: (لو تمالا عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعاُ).
[قتل غيلة: خديعة ومكراً من غير أن يعلم. تمالأ: اتفق وتواطأ على قتله].
وهناك قصة ذكرها الطحاوي والبيهقي في سبب هذه الأحاديث، وهي أن المغيرة بن حكيم الصنعاني حدث عن أبيه أن امرأة بصنعاء غاب عنها زوجها، وترك في حجرها ابنا له من غيرها غلاماً يقال له أصيل، فاتخذت المرأة بعد زوجها خليلاً، فقالت له: إن هذا الغلام يفضحنا فاقتله فأبي، فامتنعت منه فطاوعها، فاجتمع على قتل الغلام الرجل ورجل آخر والمرأة وخادمها، فقتلوه ثم قطعوه أعضاء، وجعلوه في عيبة (وعاء من أدم) فطر حوه في ركية ـ البئر التي لم تطو ـ ليس فيها ماء، فذكر القصة، وفيه فأخذ خليلها فاعترف، ثم اعترف الباقون، فكتب يعلى ـ وهو يومئذ أمير ـ بشأنهم إلى عمر، فكتب إليه عمر بقتلهم جميعاً، قال: والله لو أن أهل صنعاء اشتركوا في قتله لقتلتهم أجمعين.
جـ - إن حد القذف يثبت للواحد على الجماعة إذا اشتركوا في قذفه، فكذلك(8/23)
ينبغي أن يثبت قصاص القتل للواحد على الجماعة إذا صدر من كل منهم من العدوان عليه ما لو انفرد به لكان قاتلاً بحسب الظاهر، لعدم الفرق بين الصورتين.
د - يتعين القصاص من الجميع سداً للذرائع، فإن المعتدي إذا علم أن الشركة في العدوان تنجيه وتنجي المشتركين من القصاص التجأ إليها لإنفاذ جريمته، والفرار بعد ذلك من القصاص.
قال ابن قدامة: ولأن القصاص لو سقط بالاشتراك أدى إلى التسارع إلى القتل به، فيؤدي إلى إسقاط حكمة الردع والزجر.
اجتماع المباشرة والسبب في القتل:
إذا اجتمع في القتل الواحد المباشرة والسبب، فتارة يقدم السبب على المباشرة فيقتص من المتسبب، وتارة تقدم المباشرة على السبب فيقتص من المباشرة. وقد يستوي السبب والمباشرة، فهذه ثلاثة أنواع:
النوع الأول: أن يشهد على الرجل شهود زور بأنه قاتل، فيقتله القاضي، فاعترف الشهود بتعمد الكذب وأنهم شهدوا زوراً، فعليهم القصاص دون القاضي أو الولي إذا باشر القصاص وكان جاهلاً بكذب الشهود. فهنا قدم السبب على المباشرة.
النوع الثاني: غلبة المباشرة على السبب، وذلك كأن يرميه رام من شاهق فيتلقاه آخر بسيف فيقده نصفين، أو يضرب رقبته قبل وصوله إلى الأرض، فالقصاص على القاد، ولا شيء على الملقي سوى التعزيز، سواء عرف الحال أم لم يعرف.
ومثل ذلك إذا أمسكه شخص فقتله آخر، فالقصاص على القاتل، وليس على الممسك قصاص أو دية، وإنما عليه التعزير.
روى الدارقطني [3/ 140] عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أمسك الرجل الرجل وقتله الآخر، يقتل الذي قتل ويحبس الذي أمسك|.
قال في بلوغ المرام: رجاله ثقات وصححه ابن القطان.(8/24)
ويشترط في حال الإمساك هذه أن يكون القاتل مكلفاً، أما إذا كان القاتل صبياً أو مجنوناً فإن القصاص على الممسك، وكذلك إذا عرضه لسبع ضار، ومثل ذلك لو ألقاه في ماء مغرق كلجة بحر، فالتقمه حوت، سواء أكان الا لتقام قبل الوصول إلى الماء أو بعده، فالقصاص على الملقي. أما ألقاه في ماء غير مغرق فالتقمه حوت، فلا قصاص في هذه الحالة، لكن تجب عليه في هذه الحالة دية شبه العمد.
النوع الثالث: أن يتساوى السبب والمباشرة، كأن أكره إنساناً على قتل آخر، وجب القصاص عليهما، أما وجوب القصاص على المكره فلأنه أهلكه بما يقصد به الإهلاك غالباً، فأشبه ما لو رماه بسهم فقتله، وأما وجوب القصاص على المكره لأنه قتله عمداً عدواناً لاستبقاء نفسه.
هذا ولا فرق بين أن يكون المكره هو الإمام أو غيره.
أما لو أمره بقتل نفسه بأن قال له: اقتل نفسك وإلا قتلتك، فقتل نفسه لم يجب القصاص في هذه الحالة، لأن هذا لا يعد إكراهاً حقيقة، لاتحاد المأمور به والمخوف منه، فصار كأنه مختار له. أما لو خوفه بشيء أشد من القتل كالإحراق بالنار مثلاً فهو إكراه يجب فيه القصاص على المكره.
وكذلك إذا قال له اقتلني وإلا قتلتك فلا قصاص إذا قتله، لأن الإكراه شبهة يدرأ بها الحد.
هذا ولو أمر السلطان شخصاً بقتل آخر بغير حق، والمأمور لا يعلم ظلم السلطان ولا خطأه وجب القود أو الدية والكفارة على السلطان، ولا شيء على المأمور، لأنه آلته ولا بد منه في السياسة، فلو ضمناه لم يتول تنفيذ الحد أحد، ولأن الظاهر أن الإمام لا يأمر إلا بالحق، ولأن طاعته واجبة فيما لا يعلم أنه معصيته، وليس للمأمور أن يكفر لمباشرة القتل.
وإن علم بظلمه أو خطئه وجب القود على المأمور، إن لم يخف قهر السلطان بالبطش بما يحصل به الإكراه، لأنه لا يجوز طاعته حينئذ لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف" (رواه(8/25)
البخاري [4085] في المغازي، باب: سرية عبدالله بن حذافة السهمي؛ ومسلم [1840] في الإمارة، باب: وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية). فصار كما لو قتله بغير إذن، ولا شيء على السلطان إلا الإثم فقط فيما إذا كان ظالماً، وأما إن اعتقد وجوب طاعته في المعصية فالضمان على الإمام لا عليه، لأن ذلك مما يخفي. فإن خاف قهره فكالمكره فالضمان بالقصاص وغيره عليهما.
فائدة: فيما يباح بالإكراه:
ذكر النووي في كتابه " روضة الطالبين" فصلاً يوضح فيه ما يباح بالإكراه وما لا يباح، فقال رحمه الله تعالى:
(فصل: الإكراه على القتل المحرم لا يبيحه، بل يأثم بالاتفاق إذا قتل، وكذا لا يباح الزنى بالإكراه. ويباح بالإكراه شرب الخمر، والإفطار في رمضان، والخروج من صلاة الفرض، وإتلاف مال الغير، ويباح أيضاً كلمة الكفر، وفي وجوب التلفظ بها وجهان، أحدهما: وهو الصحيح، لا يجب للأحاديث الصحيحة في الحث على الصبر على الدين، واقتداءً بالسلف، فعلى هذا الأفضل أن يثبت ولا يتلفظ وإن قتل، وقيل: إن كان ممن يتوقع منه النكاية في العدو أو القيام بأحكام الشرع؛ فالأفضل أن يتلفظ، وإلا فالأفضل الامتناع.
ولا يجب شرب الخمر عند الإكراه على الصحيح، ويمكن أن يجيء مثله في الإفطار في رمضان، ولا يكاد يجيء في الإكراه على إتلاف المال.
ثم إذا أتلف مال غيره بالإكراه؛ فللمالك مطالبة المكره الآمر بالضمان، وفي مطالبة المأمور وجهان، أحدهما: لا يطالب لأنه إتلاف مباح له بالإكراه، وأصحهما يطالب، لكنه يرجع بالمعزوم على الآمر، هذا هو المذهب، وقيل: إن الضمان على المأمور ولا رجوع له، وقيل: يتقرر الضمان عليهما بالسوية كالشريكين، والقول في جزاء الصيد إذا قتله المحرم مكرها كالقول في ضمان المال).
حكم شريك من لا يقتص منه:
إذا قتل شخص شخصاً وكان شريكاً في القتل لمن لا يقتص منه، فما الحكم في ذلك أيقتص منه أم لا؟ لهذه المسألة صور كثيرة نوضحها فيما يلي:(8/26)
الصورة الأولى: أن يكون شريكاً لمخطئ أو شريكاً لقاتل شبه عمد، فهذا لا يقتص منه، لأن الزهوق حصل بفعلين أحدهما يوجبه والآخر ينفيه، فغلب المسقط، ولكنه يجب عليه في هذه الحال نصف الدية، دية العمد.
الصور الثانية: أن يكون القاتل شريكاً للأب في القتل، فعلى القاتل هنا القصاص وعلى الأب نصف الدية مغلظة، لأن الأب لا يقتص منه.
الصورة الثالثة: أن يشارك عبد حراً في قتل عبد، فيقتص من العبد، لأنه لو انفرد بالقتل لاقتص منه، وأما الحر فلا يقتص منه.
الصورة الرابعة: أن يشارك دمي مسلماً في قتل ذمي، فهنا يقتص من الذمي، لأنه لو انفرد في قتله لاقتص منه، وأما المسلم فعليه نصف دية الذمي، وسيأتي مقدار دية الذمي.
الصورة الخامسة: أن يقطع شخص يد شخص قصاصاً أو حداً، فجرحه شخص آخر فمات بهما، فعلي الجارح الثاني القصاص.
الصورة السادسة: أن يشترك في القتل مع صبي أو مجنون، فعليه القصاص، وأما الصبي والمجنون فلا قصاص عليهما.
وهناك صور أخري كثيرة تطلب في المطولات من الكتب.
الجناية على ما دون النفس:
لقد مر بنا أن الجناية على البدن إما أن تكون بإزهاق الروح، وهو القتل، وهذا هو الذي سبق الحديث عنه، وإما أن تكون فيما دون ذلك من قطع يد أو قلع عين أو قطع أنف وأذن وما شاكل ذلك، وهذا هو الذي نريد أن نتحدث عنه فيما يلي:
أنواع الجناية على ما دون النفس:
الجناية على ما دون النفس على ثلاثة أنواع:
الأول: الجناية بالجرح.
الثاني: قطع الطرف.(8/27)
الثالث: إبطال المنافع.
النوع الأول: الجناية بالجرح:
الجراح الواقعة على البدن على ضربين:
أحدهما: الواقعة على الوجه والرأس، وتسمى الشجاع.
والثاني: الجراحات في سائر البدن.
وفيما يلي نوضح كل ضرب من هذين، ونبين ما يتعلق به من أحكام.
أ - الشجاج الواقعة على الرأس والوجه، وهي عشر:
إحداها: الحارصة، وهي التي تشق الجلد قليلاً كالخدش، وتسمى القاشرة.
ثانيها: الدامية، وهي التي تدمي موضعها من الشق والخدش، ولا يقطر منها دم، فإن سال فهي دامعة، وهذه قسم آخر يزيد على العشر.
الثالثة: الباضعة، وهي التي تبضع اللحم بعد الجلد، أي تشق اللحم بعد الجلد شقاً خفيفاً، مأخوذ من البضع وهو القطع.
الرابعة: المتلاحمة، وهي التي تغوص في اللحم ولا تبلغ الجلدة بين اللحم والعظم، سميت بذلك تفاؤلاً بما يؤول إليه من الالتحام. وتسمي أيضا اللاحمة.
الخامسة: السمحاق، وهي التي تبلغ تلك الجلدة، وتسمي تلك الجلدة السمحاق.
السادسة: الموضحة، وهي التي تخرق السمحاق، وتوضح العظم، أي تكشفه، بحيث يقرع بالمرود، وإن لم يشاهد العظم من أجل الدم الذي يستره.
السابعة: الهاشمة، وهي التي تهشم العظم أي تكسره، سواء أوضحته أم لا.
الثامنة: المنقلة، وهي التي تنقل العظم من موضع إلى موضع، سواء أوضحته وهشمته أو لا.
التاسعة: المأمومة، وهي التي تبلغ أم الرأس، وهي خريطة الدماغ(8/28)
المحيطة به، ويقال لها الآمة.
العاشرة: الدامغة، وهي التي تخرق خريطة الدماغ، وتصل إليه، وهي مذففة غالباً.
إذا علمت ذلك فالعلم أن القصاص يجب في الموضحة فقط، لتيسر ضبطها واستيفاء مثلها، ولا قصاص فيما عداها من الهاشمة والمنقلة وغيرهما إذ لا يؤمن فيها الزيادة والنقصان في طول الجراحة وعرضها، ولا يوثق باستيفاء المثل.
ب - الجراحات في سائر البدن: فما لا قصاص فيه إذا كان في الرأس أو الوجه، لا قصاص فيه إذا كان على غيرهما، فالموضحة التي تقع في جزء من أجزاء البدن كالصدر والعنق والساعد والأصابع هي التي يكون فيها القصاص، وما لا فلا قصاص فيه لما ذكرنا آنفاً من صعوبة الحصول على المماثلة.
النوع الثاني: الجناية بقطع الطرف:
أقسام قطع الطرف ثلاثة أقسام كالقتل، فكما أن القتل ثلاثة أقسام عمد وشبه عمد وخطأ، كذلك ينقسم قطع الطرف إلى ثلاثة أقسام عمد وشبه عمد وخطأ، وكما أنه لا يجب القصاص في النفس إلا بالعمد فكذلك قطع الطرف لا يجب إلا بالعمد، وأما شبه العمد بقطع الطرف والخطأ به فلا يجب فيه القصاص.
شروط القصاص بالطرف:
يجري القصاص بقطع الطرف بشرط إمكان المماثلة وأمن استيفاء الزيادة، ويحصل ذلك بطريقتين:
أحدهما: أن يكون للعضو مفصل توضع عليه الحديدة وبيان، والمفصل موضع اتصال عضو بعضو على منقطع عظمين، وقد يكون ذلك بمجاورة محضة وقد يكون مع دخول عضو في عضو، كالمرفق والركبة، فمن المفاصل: الأنامل، والكوع وهو مفصل الكف، والمرفق، ومفصل القدم، والركبة، فإذا وقع القطع على بعضها، اقتص من الجاني، ومن المفاصل أصل الفخذ والمنكب.
الطريق الثاني، أن يكون للعضو حد مضبوط ينقاد لآلة الإبانة، فيجب(8/29)
القصاص من فقء العين، وفي الأذن، وفي الجفن، وفي المارن وهو ما لان من الأنف، وفي الذكر، وفي الأنثيين، وفي الشفة، وفي الشفرين إذا كان القطع من امرأة ـ والشفران طرفا الفرج ـ، وفي الأليين، وفي اللسان.
وعلى هذا لو قطع بعض الأذن أو بعض المارن من غير إبانة وجب القصاص لإحاطة الهواء بهما وإمكان الاطلاع عليهما من الجانبين، ويقدر المقطوع بالجزئية كالثلث والربع، لا بالمساحة.
ولو قطع الكوع أو بعض مفصل الساق والقدم ولم يبن فلا القصاص لأنها تجمع العروق والأعصاب، وهي مختلفة الوضع تسفلاً وتصعداً، فلا يوثق بالمماثلة فيها بخلاف المارن.
القصاص بكسر العظام:
لا قصاص بكسر العظام لعدم الوثوق بالمماثلة، بل عليه الدية كما سيأتي، لكن لو كسر عظماً وأبانه فللمجني عليه قطع أقرب مفصل إلى المكسور، وأخذ حكومة عن الباقي ـ والحكومة هي مال مقدر على حسب الجناية يقدره الخبراء وأصحاب المعرفة بهذا الشأن ـ وعلى هذا فلو كسر يده من العضد كان له أن يقطع يده من المرفق، وله على الباقي حكومة. ولو كسر يده من الساعد فله قطع اليد من الكف، وله على الباقي حكومة، وهكذا.
النوع الثالث: إبطال منافع العضو:
قد تكون الجناية بإبطال منفعة عضو من الأعضاء، أو قسم منها، فعند ذلك يجب فيها دية، على حسب ما يلي:
أولاً: إزالة العقل، فإذا أزال إنسان عقل إنسان بسبب ما، وجب كمال الدية في ذلك، وسيأتي بيان كمال الدية. ولا يجب فيه قصاص لعدم إمكان ذلك، ولو نقص عقله ولم تستقم أحواله نظر في ذلك، فإن أمكن الضبط، وجب قسط الزائل، والضبط قد يأتي بالزمان بأن يجن يوماً ويفيق يوماً، فيجب نصف الدية، أو يجن يوماً ويفيق يومين فيجب ثلث الدية، وقد يتأتي الضبط بغير الزمان، بأن يقابل صواب قوله ومنظوم فعله بالخطأ المطروح منهما، وتعرف النسبة بينهما، فيجب قسط الزائل.(8/30)
وإن لم يمكن الضبط بأن كان يفزع أحياناً مما يفزع، أو يستوحش إذا خلا وجبت حكومة يقدرها الحاكم باجتهاده.
وهذا الحكم إذا قال أهل الخبرة إن هذا العارض لا يتوقع زواله، أما إذا ذكر أهل الخبرة أن هذا العارض قد يزول، فيتوقف في الدية، فإن عاد إليه عقله سقطت الدية، وإن لم يعد وجبت الدية.
ثانياً: السمع، فإذا أبطل السمع من الأذنين وجب كمال الدية، وإن أبطله من أذن واحدة وجب نصف الدية، ولو قطع الأذن وأبطل السمع وجب ديتان، دية للقطع ودية لإبطال السمع. وذلك لأن السمع ليس في الأذن.
ولو قال أهل الخبرة: لطيفة السمع باقية في مقرها، ولكن ارتتق داخل الأذن بالجناية، وامتنع نفوذ الصوت، ولم يتوقعوا زوال الارتتاق فالواجب حكومة، وقيل دية.
هذا إذا ذهب السمع، أما إذا نقص السمع من الأذنين أو من أحدهما، نظر فإن عرف مقدار النقص وجب قسطه من الدية، وإن لم يعلم وجب في ذلك حكومة يقدرها الحاكم باجتهاده.
ثالثاً: البصر، ففي إذهابه من العينين دية كاملة، وفي إذهابه من واحدة منهما يجب نصف الدية، سواء في ذلك ضعيف البصر وغيره، وسواء في ذلك الأحول والأخفش وغيرهم (والخفش صغر في العين وضعف البصر خلقة). ولو فقأ عينيه لم يجب إلا دية واحدة، كما لو قطع يديه، وهذا بخلاف الأذن كما مر. ويمتحنه أهل الخبرة لمعرفة زوال البصر إذا ادعي ذلك المجني عليه، وأنكر ذلك الجاني.
هذا إذا ذهب البصر بالكلية، وأما إذا نقص ولم يذهب، فإن عرف قدره بأن كان يرى الشخص من مسافة فصار لا يراه إلا من بعضها، وجب ممن الدية قسط الذاهب، وإن لم يعرف قدره وجب في ذلك حكومة يقدرها الحاكم باجتهاده.
هذا وإذا كان الجني عليه أعشى ـ وهو من يبصر بالنهار دون الليل ـ فذهب ضوء عينيه، وجبت الدية كاملة، وفي ذهاب ضوء إحداهما نصف الدية، ولو جنى عليه فصار أعشى وجب نصف الدية.(8/31)
رابعاً: إبطال الشم، وفي إبطال بالكلية الدية كاملة، وأن أبطال الشم من أحد المنخرين وجب نصف الدية، وإن نقص الشم وأمكن ضبطه وجب قسط الناقص من الدية، وإن لم يمكن ضبطه وجب فيه حكومة يقدرها الحاكم باجتهاده، كما مر مثل ذلك في السمع والبصر.
خامساً: ذهاب النطق، إذا جنى على لسانه فأبطل كلامه، وجبت الدية كاملة هذا إذا قال أهل الخبرة إنه لا يعود نطقه. ولو بطل بالجناية بعض الحروف وزعت الدية عليها، وسواء في ذلك ما خف على اللسان من الحروف وما ثقل. والحروف مختلفة في اللغات، فكل من تكلم بلغة فالنظر عند التوزيع إلي حروف تلك اللغة فإن تكلم بلغتين فبطل بالجناية حروف من هذه، وحروف من تلك، وجب التوزيع على أكثرهما حروفاً.
هذا إذا ذهب بعض الحروف، وبقي في البقية كلام مفهوم، أما إذا لم يبق في البقية كلام مفهوم كان ذلك كذهاب جميع النطق، فيجب في ذلك الدية كاملة.
وإذا جنى عليه جناية فصار يبدل حرفاً بحرف وجب قسط الحرف الذي أبطله، ولو ثقل لسانه بالجناية أ, حدث به عيب فالواجب حكومة لبقاء المنفعة.
وإن كان لا يحسن بعض الحروف كالأرت والألثغ الذي لا يتكلم إلا بعشرين حرفاً مثلاً إذا ذهب بالجناية كلامه وجبت الدية كاملة.
سادساً: ذهاب الصوت، فإذا جنى على شخص فأبطل صوته وبقي اللسان على اعتداله ويمكنه من التقطيع والترديد، لزمه لإبطال الصوت كمال الدية، فإن أبطل معه حركة اللسان حتى عجز عن التقطيع والترديد وجب ديتان: دية للصوت ودية للسان.
سابعاً: ذهاب الذوق، فإذا أذهبه شخص بجناية وجبت الدية كاملة. والمدرك بالذوق خمسة أشياء: الحلاوة والحموضة والمرارة والملوحة والعذوبة، والدية تتوزع عليها، فإذا أبطل إدراك واحد منها، وجب فيه خمس الدية، ولو نقص الإحساس فلم يدرك الطعوم على كمالها، فالواجب حينذاك حكومة يقدرها الحاكم. ولو ضربه ضربة فزال بها ذوقه ونطقه وجب ديتان.(8/32)
ثامناً: زوال المضغ، فإذا زال مضغه بالجناية وجبت الدية كاملة.
تاسعاً: زوال الإمناء، فإذا كسر صلبه فأبطل قوة إمنائه وجبت الدية كاملة، ولو قطع أنثييه فذهب ماؤه وجب في ذلك ديتان: إحداهما للماء والأخرى للأنثيين، لما سيأتي في الديات من أن قطع الأنثيين يوجب الدية.
العاشر: إبطال قوة الإحبال، إذا أبطل في المرأة قوة الإحبال لزمه ديتها، ولو جنى على ثديها فانقطع لبنها لزمه حكومة، فإن نقص وجب حكومة تليق به، وإن لم يكن لها لبن عند الجناية، ثم ولدت ولم يدر لها لبن، وامتنع به الإرضاع وجبت حكومة إذا قال أهل الخبرة إن الانقطاع بجنايته، أو جوزوا أن يكون هو سببها.
الحادي عشر: إبطال الجماع، إذا جنى جناية على صلبه فذهب جماعه وجبت الدية، لأن الجماع من المنافع المقصودة.
الثاني عشر: إفضاء المرأة، وهو إزالة الحاجز بين مسلك الجماع والدبر، وقيل رفع الحاجز بين مسلك الجماع ومخرج البول. والواقع أ، كلا منهما إفضاء، وفي هذا الإفضاء كمال الدية.
الثالث عشر: زوال البطش والمشي، فإذا ضرب يديه فشلتا وجبت الدية كاملة، ولو ضرب رجليه فزال المشي وجبت الدية كاملة أيضاً.
ولو ضربه فبطلت منفعة أصبع وجب دية الأصبع، وهو عشر الدية كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وأما إذا نقص مشيه ففي ذلك حكومة يحكم بها الحاكم بالاجتهاد.
هذا ولا بد من الإشارة هنا أنه قد يجب على الجاني أكثر من دية، وذلك فيما إذا كانت الجناية على أكثر من موضع.(8/33)
القصاص
معنى القصاص:
القصاص مصدر قص يقص، من قص أثره إذا تتبع مواطئ أقدامه في المسير، والمقصود به أن يفعل بالشخص مثل ما فعل بغيره من وجوه الأذى الجسمي، سواء أكان الفعل قتلاً أو دونه من الأضرار الجسمية.
شروط القصاص:
يشترط في القصاص بالنفس شروط أربعة وهي:
الشرط الأول: أن يكون المقتص منه مكلفاً، أي بالغاً عاقلاً، فلا قصاص على صبي ولا مجنون وإن صدر منهما ما يستوجب القصاص، لأن البلوغ والعقل أساس التكليف. والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يعقل، وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق" (رواه أبو داود [4399] في الحدود، باب: في المجنون يسرق أو يصيب حداً). ولأن القصاص عقوبة مغلظة فلم يجب على الصبي والمجنون كالحدود، ولأنهم ليس لهم قصد صحيح فهم كالقاتل خطاً. والشرط أن يكون الصبا والجنون حال فعل الجناية، وعلى هذا لو قتل وهو صبي ثم بلغ فلا يقتص منه، ولو جنى وهو مجنون ثم أفاق فلا يقتص منه، أما لو جنى وهو عاقل ثم جن فإنه يقتص منه ولو أثناء جنونه. أما من قتل وهو سكران فإنه يقتص منه إذا كان متعدياً بسكره.
الشرط الثاني: أن لا يكون أصلاً للمقتول بأن كان أباً أو أماً أو جداً أو جدة مهما علا الفرق بينهما، فلو قتل شخص ابنه لم يقتص من الأب القاتل.
دليل ذلك:(8/35)
أولاً: ما رواه الترمذي [1399] في الديات، باب: ما جاء في الرجل يقتل ابنه يقاد منه أم لا؟، عن سراقة بن مالك رضي الله عنه، قال: حضرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقيد الأب من ابنه، ولا يقيد الابن من أبيه.
وروي الترمذي أيضاً [1401] في الديات، في نفس الباب السابق، عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تقام الحدود في المساجد، ولا يقتل الوالد بولده".
وروى الترميذي [1400] في الديات، في نفس الباب السابق عن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يقاد الوالد بالولد".
وهذه الأحاديث الثلاثة وإن كان كل واحد منها ضعيف السند، إلا أن بعضها يشهد لبعض، فيقوي به. ولها شاهد عند البيهقي [8/ 38] بإسناد حسن عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
قال الشافعي رحمه الله تعالى: (حفظت عن عدد من أهل العلم لقيتهم: أنه لا يقتل الوالد بالولد، وبذلك أقول).
وثانياً: رعاية حرمة الأب، فإنه كان سبباً في وجود ابنه، فما ينبغي أن يكون الابن سبباً في إعدام أبيه.
الشرط الثالث: أن يكون المقتول معصوم الدم بإسلام، أو عهد ذمة، أو أمان، أما الحربي فيهدر دمه، وكذلك المرتد، فإنه حلال الدم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من بدل دينه فاقتلوه" (رواه البخاري [2854] في الجهاد، باب: قتل النساء في الحرب). ويدل عليه أيضاً عموم قول الله تبارك وتعالى: {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً} (التوبة: 36). فيدخل في هذا الحربي والمرتد.
الشرط الرابع: التكافؤ بين القاتل والمقتول، وذلك بأن لا يكون المقتول أنقص من القاتل بكفر أو رق، فلا يقتل مسلم بكافر، سواء كان ذمياً أو معاهداً أو حربياً أو لم تبلغه دعوة الإسلام، ولا يقتل حر بعيد أيضاً سواء كان مدبراً أو مكاتباً أو قنأ أو مبعضاً.
ودليل ذلك ما رواه البخاري [6507] في الديات، باب: العاقلة، عن علي(8/36)
رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (نهى أن يقتل مسلم بكافر). ورواه الترميذي [1412] في الديات، باب: ما جاء لا يقتل مسلم بكافر، عن علي رضي الله عنه، وأبو دواد [4531] في الديات، باب: يقاد المسلم بالكافر؟. وفي رواية لأبي داود [4517]: " لا يقتل حر بعبد".
وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ. . . } (سورة البقرة: 78). فالآية تفيد أن الحر لا يقتل بالعبد. هذا والمعتبر في المكافأة المشروطة ساعة العدوان، فلا عبرة بما يطرأ بعد ذلك من تفاوت المتكافئين، أو تكافؤ المتفاوتين.
شرائط القصاص بالأطراف:
ما مر يتعلق في القصاص بالنفس، أما القصاص في الأطراف كاليد والرجل والأذن ونحو ذلك؛ فيشترط منه ما ذكر في قصاص النفس دون أي فرق، ويضاف إلى ما مر من الشروط الشروط التالية:
الشرط الأول: اشتراك العضو الذي يراد قطعة قصاصاً، مع العضو الذي قطع عدواناً في الاسم الخاص لكل منهما، بأن تقطع اليمنى واليسرى باليسرى، والخنصر بالخنصر، فلا يجوز يسار بيمين أو عكسه، ولا يجوز إبهام بخنصر، أو أنملة بأنملة أصبع أخرى، وذلك لعدم تحقق معنى القصاص، الذي هو التساوي الدقيق في الأمر. ولا يضر تفاوت بكبر أو طول أو قوة بطش.
الشرط الثاني: أن لا يكون بأحد الطرفين شلل مع صحة الطرف الآخر، فلا تقطع صحيحة بشلاء، وإن رضي بذلك الجاني، لكن يجوز قطع اليد الشلاء بصحيحة أو بما كان دونها شللاً، لأن هذه الصورة لا تضر بملاحظة المساواة التي هي أساس معنى القصاص.
الشرط الثالث: أن يكون العضو الذي يراد القصاص عنه قد قطع من مفصل كمرفق وكوع، أو من حدود منضبطة كأذن، فلو لم يكن ذلك بأن كان خدشاً أو جرحاً أو قطعاً ولكن من غير مفصل وحدود معروفة؛ لم يجز القصاص فيه، لعدم إمكان التماثل الذي هو شرط أساسي في القصاص.(8/37)
روى ابن ماجه [2636] في الديات، باب ما لا قود فيه عن نمران بن جارية عن أبيه أن رجلاً ضرب على ساعده بالسيف فقطعها من غير مفصل، فاستعدي عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأمر له بالدية، قال: إني أريد القصاص، قال: "خذ الدية بارك الله لك فيها" ولم يقض له بالقصاص.
ملاحظة: لا يكون القصاص سواء أكان في النفس أم الطرف إلا بالعمد، وأما شبه العمد والخطأ؛ فلا قصاص فيه، بل يثبت فيه الدية.
وإن اشترك جماعة في قطع طرف من شخص قطعوا جميعاً كما في اشتراك جماعة في قتل شخص واحد.
كيفية القصاص:
الأصل في القصاص أن تتحقق فيه المساواة التامة للعمل العدواني، في كل من الشكل والمضمون.
أما المساواة بينهما في المضمون فواجب أساسي لا بد منه، حتى إذا لم يمكن تحققها سقط القصاص. فقطع العضو قصاصه قطع عضو مثله من المكان الذي قطع، فإذا لم يتيسر تحقيق هذه المساواة سقط القصاص، اللهم إلا إذا كسر عضده وأبانه قطع من المرفق لأنه أقرب مفصل إلى الجناية، وله حكومة الباقي، وهكذا له القطع من كل مفصل هو أقرب إلى موضع الكسر وحكومة في الباقي.
وأما المساواة بينهما في الشكل فحق ثابت لولي المقتول، يطالب بتحقيقها إذا شاء، وهي أن يقتص من القاتل بنفس الأداة وبنفس الطريقة اللتين مارس المعتدي بهما عدوانه على المقتول، فإن قتل بسيف فالمساواة الشكلية هي أن يقتص منه بالسيف، أو قتله برصاص أو بحرق أو بخنق؛ فمن حق ولي المقتول أن يطالب بقتل الجاني بنفس الطريقة التي مارسها، وعلى الحاكم أن يستجيب لطلبه.
هذا إذا كانت الوسيلة إلى القتل مما يجوز استعماله، أما إذا كانت لا يجوز استعمالها كأن قتله بسحر أو بأي عمل محرم، فعند ذلك لا يكون القصاص إلا بالسيف.(8/38)
من يقوم بتنفيذ القصاص؟
إذا نظر الحاكم في جناية الجاني؛ قتلاً كانت الجناية أو دون ذلك كالقطع ونحوه، ثم حكم عليه بالقصاص؛ فلولي المقتول أن يطلب من الحاكم تمكينه من استيفاء القصاص بنفسه، وعلى الحاكم أن يمكنه من ذلك، ليشفي ولي المقتول غليله بالقصاص. ويشترط لاستيفاء ولي المقتول القصاص بنفسه شرطان اثنان:
الشرط الأول: أن يكون ذلك بإذن من الإمام، فلو بادر واقتص من الجاني دون أن يستأذن الإمام أو الحاكم أثم، وعلى الحاكم أن يعزره بالعقوبة التي يراها من حبس أو ضرب، ولكن لا يجوز له أن يقتص منه.
هذا إذا كان في البلدة إمام أو حاكم، أما إذا وقعت الجناية حيث لا يوجد إمام أو حاكم، وكان بوسع ولي المقتول أن يقتص منه دون اندلاع فتنة فله ذلك.
الشرط الثاني: أن يكون القصاص في قتل النفس، فأما إذا كان في الأطراف والأعضاء، فالصحيح أنه لا يجوز أن يستوفيها إلا الحاكم بنفسه، أو بنائب عنه مفوض من قبله، وعلة ذلك أنه لا يؤمن من مباشرة ولي المقتول لذلك أن يقع حيف وظلم عند الاقتصاص من الجاني، بسبب جهالته بأصول القطع وتحري المماثلة فيه. أما القتل فلا ترد فيه هذه المخاوف.
تعدد أولياء المقتول:
وإذا كان المقتول أولياء متعددون، وأبوا إلا أن يستوفوا القصاص بأنفسهم وجب عليهم أن يفوضوا واحدا منهم بذلك نيابة عنهم، فإن اختلفوا وجب المصير إلى القرعة، ويقوم بتنفيذ القصاص من خرجت عليه القرعة من بينهم.
هذا ولا بد من البيان هنا أنه إذا كان أحد أولياء الدم غائباً ينتظر حتى يأتي، وإذا كان الجاني امرأة حاملاً انتظرها حتى تضع حملها وترضعه من لبنها حتى يستطيع الاستغناء عنها. وكذلك إذا كان في الورثة صغير ينتظر حتى يبلغ، أو كان هناك مجنون ينتظر حتى يفيق من جنونه، ويحبس القاتل حتى يبلغ الصبي ويفيق المجنون.(8/39)
الديات
معني الدية:
الدية لغة: اسم مصدر من ودى يدي، وأصلها ودية على وزن فعلة، وهو دفع الدية. قال في مختار الصحاح: والدية واحدة الديات، والهاء عوض عن الواو، ووديت القتيل أدية دية: أعطيت ديته، واتديت أخذت ديته، وإذا أمرت منه قلت دفلاناً، وللاثنين ديا، وللجماعة دوا فلاناً.
والدية شرعاً: اسم للمال الواجب دفعه بسبب جناية على النفس أو ما دونها، وتكون من الإبل أصالة، أو قيمتها بدلاً.
أنواع الدية:
تنقسم الدية من حيث نوع العدوان إلى النوعين التاليين:
أ - دية نفس، وهي التي تكون في مقابل إزهاق للنفس عدواناً.
ب - دية أطراف أو أعضاء، وهي التي تكون في مقابل قطع طرف أو عضو.
وتنقسم من حيث النظر إلى درجة القصد وعدمه في العدوان إلى النوعين التاليين:
أ - دية مغلظة، وهي دية العمد أو شبه العمد.
ب - دية مخففة، وهي دية القتل الخطأ.
مقدار الدية:
الدية كما قلنا إما أن تكون في مقابل العدوان على النفس، أي إزهاق الروح، وإما أن تكون في مقابل العدوان على ما دون ذلك من الأعضاء والأطراف، أو في مقابل ما دون ذلك أيضاً ممن الجروح ونحوها.(8/40)
دية النفس:
لقد ذكرنا فيما مضى أنواع القتل وهي: العمد، وشبه العمد، والقتل الخطأ. وهذه الأنواع الثلاثة ديتها مائة من الإبل، إلا أن دفعها إلى أولياء القتيل يختلف من حيث الكيف، ولا يختلف من حيث الكم، وإليك بيان ذلك:
أولاً: دية العمد:
الأصل في القتل العمد القصاص، وبما أن القصاص من حق أولياء القتيل، فلهم أن يعفوا عن القصاص إلى الدية، فإن عفوا إلى الدية، وجب أن تكون الدية مقسمة على ثلاثة أنواع: ثلاثون حقة، وهي ما لها ثلاث سنوات ودخلت في الرابعة، وثلاثون جذعة، وهي ما لها أربع سنوات وطعنت في الخامسة، وأربعون خلفة، أي حوامل.
فان لم يكن هناك إبل، وجب أن تدفع قيمتها بالغة ما بلغت، ويجب أن تكون في مال الجاني، وتكون معجلة غير مؤجلة.
ثانياً: دية شبه التعمد:
وهي مائة من إبل كما قلنا، وتقسم أثلاثاً: ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة، والفرق بين العمد وشبه العمد، أن الدية في العمد على الجاني، أما دية شبه العمد فهي على العاقلة. وتدفع على ثلاث سنوات، في كل سنة ثلث الدية. والعاقلة هم عصبة الجاني ما عدا الأصول والفروع.
ثالثاً: دية القتل الخطأ:
وهي مائة من الإبل مقسمة على خمسة أنواع: عشرون بنت مخاض، وهي ما لها سنة ودخلت في الثانية، وعشرون بنت لبون، وهي ما لها سنتان ودخلت في الثانية، وعشرون ابن لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة. وهي أيضاً على العاقلة، وموزعة على ثلاث سنوات.
العفو عن الدية:
هذا ولا بد من البيان هنا أن الدية بما أنها حق لأولياء القتيل فلهم العفو عنها كلاً أو جزءاً، لأن الله تعالى شرعها حقاً للعبد، وتسوية للعلاقات الإنسانية أن لا يتهددها الضغائن والأحقاد، فإذا عفا صاحب الحق عن حقه؛ فذلك هو الأفضل،(8/41)
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ. وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (سورة البقرة: 178 - 179).
وقال سبحانه: {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (سورة البقرة: 237).
دية الأعضاء والأطراف:
في مقدار الدية ينظر إلى خطورة العضو المقطوع وأهميته، وهي بالنظر إلى ذلك إما أن تكون دية كاملة، أو بعضاً من الدية.
فأما وجوب الدية كاملة فتثبت في قطع كلتا اليدين من مفصليهما، والرجلين، والأنف، أي قطع ما لان منه وهو المنخران والحاجز بينهما، والأنثيين، والعينين، والجفون الأربعة، واللسان، والشفتين، وقد مر بك إذهاب منافع الأعضاء وحكم ذلك.
عن أبي بكر بن محمد عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى أهل اليمن وفيه: " أن من اعتبط مؤمناً قتلاً عن بينة، فإنه قود إلا أن يرضى أولياء المقتول، وإن في النفس الدية مائة من الإبل، وفي الأنف إذا أوعب جدعه الدية، وفي اللسان الدية، وفي الشفتين الدية، وفي الذكر الدية، وفي البيضتين الدية، وفي الصلب الدية، وفي العينين الدية، وفي الرجل الواحدة نصف الدية، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة ثلث الدية، وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل، وفي كل أصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل، وفي السن خمس من الإبل، وفي كل أصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل، وفي السن خمس من الإبل، وفي الموضحة خمس من الإبل، وإن الرجل يقتل بالمرأة'، وعلى أهل الذهب ألف دينار" (سنن النسائي [8/ 57] كتاب القسامة، باب: ذكر حديث عمرو بن حزم في العقول واختلاف الناقلين له، مسند الإمام أحمد [2/ 217] عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما).
وأما وجوب بعض الدية فما ذكر بعضه في الحديث الأنف الذكر، فاليد(8/42)
الواحدة، والرجل الواحدة، والعين الواحدة، والأذن الواحدة، والجفنان، في كل واحد كما ذكر نصف الدية خمسون من الإبل. وفي كل أصبع من أصابع اليدين والرجلين عشر من الإبل، كما مر. وفي كل جفن ربع الدية خمسة وعشرون من الإبل. وفي الموضحة خمس من الإبل، وفي قلع السن الواحدة الأصلية الثابتة خمس من الإبل أيضاً. وأما دية الجروح ونحوها مما لا ضابط له، كقطع عضو لا منفعة فيه، مثل اليد الزائدة ففي ذلك حكومة كما مر.
معنى الحكومة:
لقد مر بنا أن بعض الجنايات يترتب عليها حكومة، فما هي الحكومة؟
الحكومة: هي جزء من الدية يدفع للمجني عليه، وتقدير هذا الجزء يكون بأن يقوم المجني عليه بتقديره رقيقاً بصفاته التي هو عليها، ويقوم بعد الاندمال مع الجناية، فما نقص ممن ذلك وجب بقسطه من الدية، لأن الجملة مضمونة بجميع الدية، فتضمن الأجزاء بالأجزاء.
فلو كانت قيمته قبل الجناية مائة، فيقال: كم قيمته بعد الجناية؟ فإذا قيل تسعون، فالتفاوت العشر، فيجب عشر دية النفس، وهو عشر من الإبل، إذا كان المجني عليه بلغت نقص القاضي منها شيئاً، وإن لم يكن مقدراً اشترط أن لا يبلغ بها مبلغ دية النفس.
وإنما سمي ذلك حكومة لاستقرارها بحكم الحاكم دون غيره، حتى لو اجتهد غيره بذلك لم يكن له أثر.
دية المرأة:
إن دية المرأة في كل ما ذكر على النصف من دية الرجل، سواء أكان ذلك في دية النفس أم كان ذلك في دية الأعضاء والأطراف، أم كان في الجروح والمنافع.
دليل ذلك: حديث البيهقي [8/ 95] في الديات، باب ما جاء في دية المرأة: "دية المرأة نصف دية الرجل".
وعن ابن شهاب وعن مكحول وعطاء قالوا: (أدركنا الناس على أن دية(8/43)
المسلم الحر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة من الإبل، فقوم عمر بن الخطاب تلك الدية على أهل القرى ألف دينار، أو اثني عشر ألف درهم، ودية الحرة المسلمة إذا كانت من أهل القرى خمسمائة دينار أو ستة آلاف درهم، فإذا كان الذي أصابها من الأعراب فديتها خمسون من الإبل، لا يكلف الأعرابي الذهب ولا الورق) (سنن البيهقي [8/ 95] كتاب الديات، باب: ما جاء في دية المرأة، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه). والحكمة في كون دية المرأة نصف دية الرجل، أن الدية منفعة مالية، والشرع قد اعتبر المنافع المالية بالنسبة للمرأة على النصف من الرجل، كالميراث مثلاً، وهذا عدل يتلاءم مع واقع كل من الرجل والمرأة وطبيعتهما.
دية الجنين:
الجنين هو الحمل الذي في بطن الأم قبل الولادة، إذا بدأ بمرحلة التصور والتخلق، فإن جنى الجاني على جنين حر مسلم سواء أكان ذكراً أو أنثى، بأن ضرب بطن الأم فانفصل الجنين ميتاً بسبب الجناية على أمه، وجب على الجاني غرة، وهي عبد أو أمة، أو نصف عشر الدية، وهي خمس من الإبل، فإن لم يجد الإبل وجب دفع قيمتها، وقيل يدفع خمسين ديناراً.
ودليل وجوب دية الجنين ما رواه الشيخان أنه - صلى الله عليه وسلم - قضى في الجنين بغرة. (رواه البخاري [6511] في الديات، باب: جنين المرأة؛ ورواه مسلم [1681] في القسامة، باب: دية الجنين).
[والغرة: عبد أو أمة تساوي قيمته نصف عشر الدية، وهو خمس من الإبل].
وفي البخاري أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر قتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقضى أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة، وقضى دية المرأة على عاقلتها. (رواه البخاري [6511] في الديات، باب: جنين المرأة).
وفي البخاري أيضاً [6509] في الديات، باب: جنين المرأة، عن المغيرة بن شعبة عن رضي الله عنه: أنه استشارهم في إملاص المرأة فقال المغيرة: قضي النبي - صلى الله عليه وسلم - بالغرة عبد أو أمة، قال: ائت من يشهد معك، فشهد محمد بن مسلمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى به.(8/44)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها، وورثها ولدها ومن معهم. فقال حمل بن النابغة الهذلي: يا رسول الله كيف أغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل؟ فمثل ذلك يطل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما هذا من إخوان الكهان" من أجل سجعه الذي سجع. (أخرجه البخاري [5426] في الطب، باب: الكهانة؛ ومسلم [1681] في القسام، باب: دية الجنين).
وقد مر بك أن عمر رضي الله عنه قوم الدية بألف دينار، فيكون نصف عشر الدية مساوياً لخمسين ديناراً.
ومثل الضرب التخويف والإرعاب، فقد ورد أن عمر بن الخطاب استدعى امرأة فخافت، وكانت حاملاً فأسقطت منم الخوف، فاستشار الصحابة في ذلك، فأفتاه بعضهم بأنه لا يجب عليه شيء وقال له: أنت مؤدب، ولكن علي بن أبي طالب أفتاه بوجوب الدية فعمل عمر برأي علي رضي الله عنهما. وإذا فعلت الأم بنفسها ما سبب موت الجنين، بأن تناولت بعض الأدوية المسقطة للجنين من غير ضرورة وجب عليها نصف عشر الدية تدفعه لورثته، ولا تشترك معهم فيه لأنها قاتلة والقاتل لا يرث. وكذلك الطبيب الذي يسقط الجنين من غير ضرورة.
هذا ولا بد من البيان أنه يجب إلى جانب الدية الكفارة كما سيأتي.
شروط وجوب دية الجنين:
يشترط لوجوب الدية في الجنين شروط هي:
أولاً: أن تكون الجناية مما يؤثر في الجنين كضرب وإيجار دواء ونحوهما، ولا أثر للطمة خفيفة ونحوها.
ثانياً: الانفصال، فلو ماتت الأم ولم ينفصل جنين على الضارب شيء من دية الجنين. ويعد الانفصال بانفصال جزء منه لتحقق وجوده.
ثالثاً: كون المنفصل ميتاً، فلو انفصل حياً نظر، فإن بقي سالماً زماناً غير(8/45)
متألم ثم مات فلا ضمان على الضارب، لأن الظاهر أنه مات بسبب آخر، وإن مات عند خروجه أو بقي متألماً حتى مات؛ وجبت فيه دية كاملة لأنا تيقنا حياته، فأشبه سائر الأحياء، وسواء استهل أو وجد ما يدل على حياته كتنفس وامتصاص ثدي وحركة قوية.
ولو انفصل ميتاً بعد موت الأم من الضرب وجبت دية الجنين.
دية الكتابي:
الكتابي هو اليهودي والنصراني، فإذا كان الكتابي معصوم الدم بذمة أو عهد أو أمان فقتل فديته ثلث دية المسلم في النفس فما دونها.
ودليل ذلك ما رواه عبد الرزاق في مصنفه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه - صلى الله عليه وسلم - " فرض على كل مسلم قتل رجلاً من أهل الكتاب أربعة آلاف درهم" وقد كانت مقدرة إذ ذاك بثلث كامل دية المسلم. وقد روي ذلك عن عمر وعثمان.
وروى الشافعي في الأم [6/ 92] قال: قضى عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما في دية اليهودي والنصراني بثلث دية المسلم، وانظر: سنن أبي داود [4542].
ومما يجب أن يعلم أن العدوان على الذمي حرام، وهو معصية كبيرة، روي الترمذي [1403] في الديات، باب: ما جاء فيمن يقتل نفساً معاهدة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ألا من قتل نفساً معاهدة له ذمة الله وذمة رسوله فقد أخفر بذمة الله فلا يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفاً".
[أخفر ذمة الله: نقض عهده، وغدر به].
دية المجوسي:
ودية المجوسي وكذلك الوثني المستأمن ثلثا عشر دية المسلم وهي تساوي 1/ 15 من دية المسلم، وهي تساوي أيضاً ثمانمائة درهم من اثني عشر ألف درهم، وذلك لما روي عن عمر أنه قال: دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف، ودية المجوسي ثمانمائة درهم.(8/46)
قال الشافعي في الأم [6/ 92] وقضى عمر في دية المجوسي بثمانمائة درهم. وذلك ثلثا عشر دية المسلم، لأنه كان يقول: تقوم الدية اثني عشر ألف درهم. وروي مثل ذلك عن عثمان وابن مسعود، وانتشر ذلك في الصحابة، فكان إجماعاً. (تكملة المجموع: [17/ 375].
بم يثبت موجب القصاص؟
إنما يثبت موجب القصاص بأحد أمرين:
الأول: الإقرار فإذا أقر الشخص بما يوجب قصاصاً ثبت القصاص في حقه، سواء أكان موجب القصاص قتلاً أو جرحاً.
الثاني: البينة، وذلك يكون بشهادة عدلين ذكرين، ولا يكتفي في ذلك بشهادة رجل وامرأتين.
بم يثبت موجب المال؟
يثبت موجب المال بأمور:
أحدها: الإقرار فإن أقر بقتل شبه عمد أو خطأ أو جرح لا قصاص فيه ثبت ذلك في حقه.
الثاني: شهادة عدلين ذكرين كما سبق.
الثالث: شهادة رجل وامرأتين، لأن النساء تقبل شهادتهن في الأموال ويكون شهادة امرأتين تقوم مقام شهادة عدل واحد.
الرابع: شهادة رجل ويمين المدعي، وذلك لأن الرسول علية الصلاة والسلام قضي بيمين وشاهد. (رواه مسلم [1712] في الأقضية، باب: القضاء باليمين والشاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما).
الخامس: علم القاضي فإذا علم القاضي بذلك جاز حكمه وثبت على المدعي عليه ما يستحق من المال.(8/47)
أحكام القسامة
معنى القسامة: بفتح القاف: اسم للأيمان التي تقسم على أولياء الدم، مأخوذة من القسم وهو اليمين، وقيل تطلق على الأولياء أنفسهم.
والمقصود بها هنا خمسون يميناً يقسمها ولي المقتول عندما يتهم شخصاً بقتله، مع وجود قرينة ما تقرب احتمال صدقه، أو يقسمها المدعي عليه عندما لا يكون ثمة قرينة لاتهامه.
وقد كانت القسامة معروفة في الجاهلية، وأول من قضى بها الوليد بن المغيرة، ثم جاء الإسلام فأقرها بقيود وضوابط وشروط نبينها فيما يلي:
دليل تشريع القسامة:
القسامة واردة على خلاف الأصل، إذ الأصل أن تكون البينة على المدعي واليمين على من أنكر، كما جاء في الحديث "البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه". روى البخاري [4277] في التفسير، باب: اليمين على المدعي عليه، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه".
وروى مسلم [138] في الإيمان، باب: وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار، عن الأشعث بن قيس رضي الله عنه، قال: كان بيني وبين رجل أرض باليمن، فخاصمته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "هل لك بين'"؟ فقلت: لا. قال: "فيمينه"، وفي رواية: "شاهداك أو يمينه".(8/48)
والدليل الذي اقتضي التخصيص ما رواه البخاري ومسلم عن رافع بن خديج وسهل بن أبي حثمة أنهما حدثا أن عبدالله بن سهل ومحيصة بن مسعود أتيا خيبر فتفرقا في النخل، فقتل عبدالله بن سهل، فجاء عبدالرحمن بن سهل وخويصة ومحيصة ابنا مسعود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فتكلموا في أمر صاحبهم، فبدأ عبدالرحمن وكان أصغر القوم، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: " كبر الكبر" قال يحيى: يعني ليل الكلام الأكبر، فتكلموا في أمر صاحبهم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أتستحقون قتيلكم أو قال صاحبكم بأيمان خمسين منهم؟ " قالوا: يا رسول الله قوم كفار، ففداهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قبله، قال سهل: فأدركت ناقة من تلك الإبل فدخلت مربدا لهم فركضتني برجلها. (رواه البخاري [5791] في الأدب، باب إكرام الكبير؛ ومسلم [1669] في القسامة، باب: القسامة).
ولهذا الحديث روايات أخرى وألفاظ أخري ولكنها كلها تتفق على غرض واحد.
فكان هذا الحديث مخصصاً لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: "البينة على المدعي. . " فقد أجاز النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعوى الدم الاعتماد على أيمان المدعي، إن لم يكن معه بينة، وكان ثمة لوث يقوي دليل الاتهام.
كيفية القسامة:
يثبت حكم القسامة في ظل الأمور التالية:
أولا: أن يوجد قتيل في مكان، ولم يتيسر معرفة قاتله بيقين.
ثانياً: أن يدعي أولياؤه أن رجلاً معيناً أو جماعة معينة قتلوه، وليس مع أوليائه بينة تثبت صحة دعواهم.
ثالثاً: أن يكون هناك لوث (أي قرينة) يقرب احتمال الصدق في دعوى أولياء المقتول، كأن وجد قتيلاً بين أعدائه وليس فيهم غيرهم، أو وجد على ثوب المتهم رشاش دم، أو عثر في يده على سكين ملوثة بالدم، أو اجتمع قوم في بيت أو صحراء وتفرقوا عن قتيل، أو شهد عدل واحد أن فلاناً قتله، أو قاله جماعة من(8/49)
العبيد والنسوان جاؤوا متفرقين بحيث يؤمن تواطؤهم على الكذب أو نحو ذلك من أمارات وعلامات يغلب على القلب صدق المدعي بما ادعاه.
فعندئذ يستغني عن البينة التي يطالب بها المدعي، بأن يحلف خمسين يميناً أن هذا هو القاتل، أو هؤلاء هم القتلة لفلان، يسمي كلاً باسمه أو يشير إليه باسم الإشارة.
فإذا حلف المدعي ـ وهو ولي المقتول ـ هذه الأيمان استحق الدية من المدعى عليه، وكانت هذه الأيمان بمثابة البينة.
وإذا كان للقتيل أولياء متعددون يرثون منه، واتهموا شخصاً أو جماعة بالقتل ووجد لوث يؤيدهم في اتهامهم؛ اشتركوا جميعاً في الحلف ووزعت الأيمان بينهم على حسب ميراثهم من المقتول، لأن ما يثبت بأيمانهم من الدية يوزع عليهم، فوجب على كل منهم من الأيمان بقدر نسبة ما يرثه من المقتول.
فأما إن اتهم ولي المقتول شخصاً أو جماعة، ولم يكن هناك لوث يرجح صدق المدعي في اتهامه؛ فاليمين تحول إلى المدعى عليه ـ أي المتهم ـ عملاً بالفقرة الثانية من قاعدة "البينة على المدعى واليمين على من أنكر". فيحلف المدعى عليه خمسين يميناً أنه لم يقتل فلاناً، ويسميه باسمه أو يشير إليه معبراً عنه باسم الإشارة.
فإن حلف الأيمان برئت ساحته، وإن لم يحلف أعيدت الأيمان إلى المدعى فحلفها بدلاً عنه، واستحق بذلك الدية.
وعلى المدعى وهو يحلف أن يبين نوع القتل هل كان خطأ أو عمداً أو شبه عمد، فإن لم يبين ذلك لم يعتد بأيمانه.
ولا يثبت بالقسامة القصاص، لقيام نوع من الشبهة فيها، بل تثبت بها الدية، فإن كان القتل عمداً استحقها المدعي في مال المدعى عليه، وإن كان القتل خطاً أو شبه عمد استحقها المدعى على عاقلة المدعى عليه.(8/50)
كفارة القتل
حكمها ودليله:
يجب على قاتل النفس المحرمة ولو جنيناً، كفارة لحق الله عز وجل، سواء أكان القاتل عمداً أو خطأ أو شبه عمد، وسواء عفي عن الدية المستحقة عليه أم لا، وسواء كان القاتل صبياً أو مجنوناً أو راشداً.
دليل وجوبها قوله تعالى: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً} (سورة النساء: 92).
ولخبر أبي داود [3964] في العتق، باب: في ثواب العتق، وصححه الحاكم وغيره عن واثلة بن الأسقع قال: أتينا النبي - صلى الله عليه وسلم - في صاحب لنا قد استوجب النار بالقتل، فقال: "أعتقوا عنه رقبة يعتق الله بكل عضو منها عضو منها عضواً من النار". فدل هذا الحديث على أن الكفارة تجب في القتل العمد، لأنه لا يستوجب القاتل النار إلا إذا كان عامداً، أخذاً من قوله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} (سورة النساء: 93).
وإذا دلت الآية السابقة على وجوب الكفارة على قاتل الخطأ فمن الأولى أن تجب على قاتل العمد وشبهه، لأن الكفارة للجبر وهؤلاء أحوج إليها.(8/51)
كيفية كفارة القتل:
يجب على القاتل عتق رقبة مؤمنة تفضل عن كفايته من تلزمه نفقته كما نصت الآية الآنفة الذكر، ويشترط في هذه الرقبة أن تكون سليمة من العيوب، كما في كفارة الظهار.
فإن لم يتمكن من عتق رقبة لفقره أو لعدم وجود رقيق وجب عليه أن يصوم شهرين متتابعين، أخذاً من الآية السابقة: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللهِ}.
فإن عجز عن صيام شهرين لمرض، بقيت الكفارة متعلقة بذمته حتى وجود القدرة على واحد مما سبق، ولا ينتقل عند العجز إلى الإطعام، كما ينتقل في كفارة الإفطار بالجماع في نهار رمضان، وكما ينتقل أيضاً في كفارة الظهار، لأن ذلك قياس، والقياس غير جائز في الكفارات.
ملاحظة: لا تجب الكفارة على قاتل الباغي والصائل، لأنها لا يضمنان فأشبها الحربي والمرتد والزاني المحصن، وكذلك لا تجب على قتل من يقتص منه لأنه مباح الدم بالنسبة إليه.(8/52)
الحدود
تمهيد:
لقد كرم الله الإنسان، وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (سورة الإسراء: 70).
ومن مظاهر هذا التكريم أنه أقامه خليفة في إعمار هذه الأرض، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (سورة البقرة: 30). وقال جل وعز: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} (سورة الأنعام: 165). {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} (سورة هود: 61).
هذا الاستخلاف لا يتحقق ولا يتم إلا بتأمين المصالح لبني الإنسان ودرء المفاسد عنهم، ولا يكون هذا إلا بالمحافظة على الضروريات الخمس التي هي: الدين والنفس والعقل والنسل والمال، التي هي ضرورية لبقاء هذا النوع الإنساني على ظهر الأرض، وقيامه بالمهمة التي وكلها الله إليه.
والدين الإسلامي جاء للمحافظة على هذه الضروريات الخمس ولدرء المفاسد عنها، ومن هنا قالوا: الإسلام جاء لجلب المصالح ودرء المفاسد، فشرع لذلك التشريعات، ومن هذه التشريعات الحدود والتعزيرات أقامها لكل من تسول(8/53)
له نفسه الاعتداء على هذه الضروريات الخمس. وإليك بيان هذه الحدود والتعزيرات، وبيان حرص الإسلام على إقامتها كي يحقق لبني الإنسان السعادة المنشودة.
أقسام العقوبات:
تنقسم العقوبات إلى قسمين: حدود وتعزيرات.
تعريف الحد: الحد عقوبة مقدرة من قبل الشارع، فلا يجوز الزيادة عليها باسم الحد ولا النقصان منها.
تعريف التعزير: التعزير عقوبة غير محددة من قبل الشارع، بل هي متروكة لرأي الحاكم، وسنتحدث عن التعزير إن شاء الله عقيب الانتهاء من الحديث عن الحدود.
الحدود المفروضة:
العقوبات المقدرة التي هي الحدود ستة وهي: حد الزنى ـ حد القذف ـ حد السرقة ـ حد شرب المسكر ـ حد الحرابة ـ حد الردة.(8/54)
حد الزنى
أنواع الزنى:
الزاني إما أن يكون مدفوعاً إلى الفاحشة، بشبهة مسوغ شرعي، أو مدفوعاً إليها بمحض رعونة ورغبة، وكل منهما إما أن يكون محصناً أو غير محصن، فالأنواع إذا أربعة.
أما المدفوع إلى الزنى بشبهة مسوغ شرعي، كأن ظنها زوجته فتبين أنها أجنبية، أو توهم أ، ها خلية أو غير محرم له فعقد نكاحه عليها، فتبين فيما بعد أنها ليست خلية، بل هي على عصمة زوج، أو تبين أنها أخته في الرضاع.
فحكم الزنى في هذه الحال أن لا يستلزم إثماً لصاحب الشبهة ولا يستوجب حداً، سواء أكان الفاعل محصناً أو غير محصن، لمكان الشبه في ذلك، إلا أنه يترتب على فعله آثار وأحكام قضائية تذكر في مكان آخر إن شاء الله تعالى. وهناك صور للشبهة تستلزم الإثم ولكنها لا تستوجب الحد.
وأما المدفوع إلى الفاحشة برغبة لا شبهة فيها، فينظر في وضعه، وهو أنه أما أن يكون محصناً أو غير محصن.
فأما المحصن فهو من توافرت فيه الصفات التالية:
1 - أن يكون مكلفاً، أي بالغاً عاقلاً، فلا تنطبق صفة الإحصان على الصبي ولو كان مميزاً، ولا على المجنون جنوناً مطبقاً، وأما إن كان جنونه متقطعاً، وفعل ذلك في حال الصحو فيدخل في نطاق التكليف.(8/55)
2 - أن يكون حراً، وأما العبد فينصف في حقه الجلد، كما سيأتي سواء أكان محصناً أم غير محصن.
3 - وجود الوطء منه في نكاح صحيح، سواء أكان له زوجة عند الزنى أم لم يكن.
أما لو مارس الوطء بشكل غير مشروع فلا يعد محصناً.
فإذا وجدت فيه هذه الصفات الثلاث طبق عليه حكم الزاني المحصن.
وهذه الصفات تنطبق على الإناث كما تنطبق على الذكور.
وأما غير المحصن، فهو من لم تتكامل فيه هذه الصفات، بأن كان غير مكلف، أو لم يمارس الجماع بطريقه المشروع بناءً على عقد صحيح، كما مر ذلك آنفاً.
حكم كل من هذه الأنواع:
لقد مر بك آنفاً أن الزنى الذي يتم بسبب شبهة مسوغ شرعي، لا يستوجب الحد، وقد لا يستلزم الإثم أيضاً، سواء كان الزاني محصناً أم غير محصن.
أمام من لم يكن فعله مستنداً إلى شبهة، فهو يستلزم الإثم ويستوجب الحد، ويختلف الحد على حسب صفة الزاني بالنظر إلى وجود الإحصان وعدمه، ويكون الحد على ما يلي:
حد الزاني المحصن:
إذا ثبتت صفة الإحصان بالنسبة للزاني، طبق في حقه حد الزاني المحصن، وهو: الرجم بالحجارة حتى الموت. ثبت ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قولاً وفعلاً، كما ثبت أن هذا الحكم كان متلواً في القرآن ثم نسخت تلاوته.
روى الشيخان عن عمر رضي الله عنه أنه خطب فقال: (إن الله بعث محمداً بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل الله عليه آية الرجم، قرأناها ووعيناها وعقلناها، فرجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وإن الرجم حق في كتاب الله على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف) (رواه البخاري [6442] في المحاربين، باب:(8/56)
رجم الحبلى في الزنى إذا أحصنت؛ ومسلم [1691] في الحدود، باب: رجم الثيب في الزنى).
والآية التي نسخت تلاوتها هي: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم".
وروى البخاري [6430] في المحاربين، باب: لا يرجم المجنون. والمجنونة؛ ومسلم [1691] في الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنى، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى رجل من المسلمين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في المسجد فناداه فقال: يا رسول الله إني زنيت، فأعرض عنه حتى ثنى ذلك عليه أربع مرات، فقال: "أبك جنون"؟ قال: لا، قال: "فهل أحصنت"؟ قال: نعم، فقال النبي صلي الله عليه وآله وسلم: "اذهبوا به فارجموه".
وفي مسلم [1696] في الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنى، عن عمران بن حصين رضي الله عنهما: أن امرأة من جهينة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي حبلى من الزنى، فقالت: يانبي الله أصبت حداً فأقمه علي، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليها فقال: "أحسن إليها فإذا وضعت فأتني بها"، ففعل فأمر بها فشكت عليها ثيابها، ثم أمر بها فرجمت ثم صلى عليها، فقال عمر: أتصلي عليها يا نبي الله وقد زنت؟! فقال: "لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لو سعتهم، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله؟ ".
حد الزاني غير المحصن:
إذا زنى شخص وهو غير محصن بالمعنى الذي سبق ذكره أقيم عليه الحد، وحد غير المحصن مائة جلدة وتغريب عام.
أما جلده مائة جلدة فقد ثبت بالقرآن الكريم، قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} (سورة النور: 2).
وكذلك ثبتت بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الآتي ذكره.(8/57)
وأما تغريب العام فقد ثبت في أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الثابتة الصحيحة.
روي مسلم [1690] في الحدود باب: حد الزني؛ عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " خذوا عني، خذوا عني، فقد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم".
وروى البخاري [6467] في المحاربين، باب: هل يأمر الإمام رجلاً فيضرب الحد غائباً عنه؛ ومسلم [1697] في الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنى، عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما: أن رجلاً من الأعراب أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله، فقال الآخر ـ وهو أفقه منه ـ: نعم فاقض بيننا بكتاب الله وأذن لي، فقال: "قل". قال: إن ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته، وإني أخبرت أن على ابني الرجم، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني أن علي ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله، الوليدة والغنم رد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها".
وقد غرب عمر رضي الله عنه إلى الشام، وغرب عثمان رضي الله عنه إلى مصر، وغرب علي رضي الله عنه إلى البصرة، ولم ينكر عليهم أحد فكان ذلك إجماعاً.
وروى الترمذي [1438] في الحدود، باب: ما جاء في النفي، عن ابن عمر رضي الله عنهما: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضرب وغرب، وأن أبا بكر ضرب وغرب، وأن عمر ضرب وغرب".
والتغريب يكون بحكم القاضي، فلو تغرب بنفسه عاماً كاملاً لم يكف، ولو كان التغريب إلى ما دون مسافة القصر لم يكف أيضاً.
ويستوي كل من الرجل والمرأة في وجوب التغريب، غير أنه يشترط في تغريب المرأة أن يكون معها محرم، فلو لم يوجد المحرم لم يجز تغريبها، لأن المرأة لا يجوز أن تسافر إلا ومعها ذو محرم.(8/58)
شروط إقامة الحد:
لا بد لإقامة الحد على المحصن وغيره، من توافر الشروط التالية:
الشرط الأول: التكليف، وهو أن يكون الزاني بالغاً عاقلاً، فلا يحد غير المكلف من صبي وفاقد العقل، أما السكران فإن كان متعمداً في سكره جرى عليه حكم التكليف، وطبق في حقه الحد إذا توافرت فيه الشروط الأخرى، وأما إذا كان غير معتمد بسكره، كأن شرب مسكراً يظنه ماء فسكر، فهذا يعد الآن غير مكلف.
الشرط الثاني: عدم الإكراه، فلو أكره أو أكرهت على الزنى، بأن هدد أو هددت بالقتل، فقام بهذا الأمر؛ لم يقم عليه حد، لما جاء في الحديث: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ". رواه ابن ماجه [2045] في الطلاق باب: طلاق المكره والناسي عن ابن عباس.
الشرط الثالث: خلو الزنى عن شبهة مسوغ شرعي، فلا حد على الزنى الذي وقع في ظروف شبهة.
مثاله: أن يجد على فراشه امرأة فيظنها زوجته، فيطأها ثم يتبين أنها أجنبية، أو أن يعقد نكاحه على فتاة بلا شهود ثم يجامعها؛ إذ يوجد من العلماء من لم يشترط الشهود في النكاح، وهذا مثل للشبهة التي تستلزم إثماً، ولكنها لا تستوجب حداً، أما الإثم فلا تباعه القول الشاذ الذي لا سند له، بل الدليل قائم على اشتراط الشهود في العقد، إذ يقول عليه الصلاة والسلام: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل" (رواه ابن حبان [1247]). وأما الشبهة فترجيحاً لجانب المعذرة للجاني، وعملاً بقوله عليه الصلاة والسلام: "ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم" (رواه الترمذي [1424] في الحدود، باب: ما جاء في درء الحدود، عن عائشة رضي الله عنها).
الشرط الرابع: ثبوت الزنى إما بإقراره أو بقيام بينة.
أما الإقرار فينبغي أن يقر الزاني بعمله بعبارة واضحة جازمة لا تقبل احتمالاً، ويكفي عند ذلك إقرار واحد، ولا يشترط تكرار الإقرار، فإن رجع عن الإقرار سقط عنه الحد، وبطل إقراره.(8/59)
دليل ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجم ماعزاً والغامدية بإقرارهما. (أخرجه مسلم [1695] في الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنى).
ودليل صحة الرجوع عن الإقرار، وسقوط الحد بالرجوع عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - عرض لماعز بالرجوع عن الإقرار.
روى البخاري [6438] في المحاربين، باب: هل يقول الإمام للمقر: لعلك لمست أو غمزت، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أتى ماعز بن مالك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت"، قال: لا يا رسول الله.
فلو لم يسقط الحد بالرجوع عن الإقرار؛ لما كان لهذا القول أي معنى.
وأما البينة فهي شهادة أربعة رجال عدول على الزنى، بتعبير صريح غير قابل للاحتمال، مع تعيين المكان الذي جرى فيه، واتفاقهم جميعاً عليه، فلو لم يذكروا المكان، أو اختلفوا في تعيينه لم تثبت البينة ويقام الحد على هؤلاء الشهود، حد القذف الذي يأتي الحديث عنه.
والدليل على اشتراط شهود أربعة قوله تعالى: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ} (سورة النساء: 15)، وقوله تعالى: {لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (سورة النور: 13).
حد الأمة والرقيق:
إذ زنت الأمة أو العبد وثبت ذلك في حقهما أقيم عليهما الحد، وحد الأمة والعبد خمسون جلدة وتغريب نصف عام، سواء كانا محصنين أم غير محصنين، وذلك لقوله تعالى في حق الإماء: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} (سورة النساء: 25) وقيس العبد على الأمة في ذلك بجامع الرق فيهما.
حكم ما يتبع الزنى اللواط ونحوه:
اللواط هو الإتيان في الدبر، سواء أكان المأتي ذكراً أم أنثى، والصحيح من المذهب أن حكمه حكم الزنى، بالنسبة إلى الفاعل، فإن قامت البينة أو أقر، فإن(8/60)
كان محصناً رجم حتى الموت، وإن كان غير محصن جلد مائة جلدة، وغرب عن بلده عاماً كاملاً.
ودليل ذلك العموم في قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً}. مع قوله سبحانه في عمل لوط: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ} (سورة الأعراف: 80).
وقد ورد في الحديث تسمية من يفعل ذلك زانياً. فقد روى البيهقي [8/ 233] في الحدود، باب ما جاء في حد اللوطي عن أبي موسى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أتى الرجل فهما زانيان".
أما المفعول به غير الزوجة فيجلد ويغرب كالبكر وإن كان محصناً، سواء أكان ذكراً أم أنثى، لأن المحل لا يتصور فيه إحصان. وقيل ترجم المرأة المحصنة.
وفي قول للشافعي أن من يفعل ذلك يقتل، أخذاً من الحديث الذي رواه أصحاب السنن عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به" (أخرجه الترمذي [1456] في الحدود، باب: في حد اللواط؛ وأبو داود [2561] في الحدود، باب: من عمل عمل قوم لوط).
وهناك رأي لغير الشافعية أنه يحرق بالنار لما أخرجه البيهقي "أنه اجتمع رأي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على تحريق الفاعل والمفعول به" (سنن البيهقي [8/ 233] كتاب الحدود، باب: ما جاء في حد اللوطي).
وقال الحافظ المنذري: حرق اللوطية بالنار أربعة من الخلفاء: أبو بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن الزبير، وهشام بن عبد الملك (الترغيب والترهيب [3/ 289]).
هذا وأما إتيان الزوجة في الدبر فهو حرام ومن الكبائر لما ورد فيه من الأحاديث الكثيرة التي تلعن من يفعل ذلك:
فمن هذه الأحاديث التي وردت في التنفير من ذلك ما روي عن أبي هريرة(8/61)
وابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا ينظر الله إلى رجل جامع امرأته في دبرها" (أخرجه الترمذي [1176] في الرضاع، باب: ما جاء في كراهية إتيان النساء في أدبارهن).
وما روي عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أتي حائضاً في فرجها أو امرأة في دبرها أو كاهناً فقد كفر بما أنزل على محمد" (أخرجه الترمذي [135] في الطهارة، باب: في كراهية إتيان الحائض).
وما روي عن أبي هريرة أيضاً أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ملعون من أتى امرأة في دبرها" (أخرجه أبو داود [2162] في النكاح، باب: جامع النكاح).
لكن إن فعل ذلك مع زوجته وارتكب هذا المحرم عزره القاضي بما يراه مناسباً من العقوبات المختلفة، بشرط أن لا تصل إلى أدنى الحدود المقررة. ودليل ذلك ما رواه البيهقي [8/ 327] عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من بلغ حداً في غير حد فهو من المعتدين".
حكم إتيان البهائم:
من أتى بهيمة, فإنه يعزر، ولا حد عليه على القول الراجح في الذهب، لأن فعله مما لا يشتهى عند أصحاب الأذواق السليمة، بل هو مما ينفر منه الطبع الصحيح ولا تميل إليه النفس السليمة، فلا يحتاج إلى زجر، والحد إنما شرع زجراً للنفوس عن مقاربة ما يشتهى طبعاً على وجه غير مشروع.
والتعزير إنما هو عقوبة غير مقدرة، يفرضها القاضي المسلم العادل حسبما يراه رادعاً لمثل هؤلاء عن مثل هذه الدنايا، من ضرب أو نفي أو حبس أو توبيخ، لأنه فعل معصية لا حد لها ولا كفارة، وإذا انتفي الحد وجب التعزير.
روى الترمذي [1455] في الحدود، باب: ما جاء فيمن يقع على البهيمة؛ وأبو داود [4465] في الحدود، باب: فيمن أتى بهيمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ليس على الذي يأتي البهيمة حد).
من يتولى إقامة الحد:
إنما يستوفي الحد الإمام أو نائبه، ولا يتولى ذلك أحد غير ما ذكر، إلا الرقيق(8/62)
ذكراً كان أو أثنى فللسيد إقامة الحد عليهما، وذلك لما ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إن زنت فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر". (أخرجه الترمذي [2045] في البيوع، باب: بيع العبد الزاني؛ ومسلم [1703] في الحدود، باب: رجم اليهود أهل الذمة في الزنى).
وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أقيموا الحدود على أرقائكم من أحصن منهن ومن لم يحصن". (رواه مسلم [1705] في الحدود، باب: تأخير الحد عن النفساء؛ والترمذي [1441] في الحدود، باب: ما جاء في إقامة الحد على الإماء).
إقامة الحد على الضعيف:
إذا استحق الزاني الرجم وكان ضعيفاً أو مريضاً أو كان هناك حر أو برد مفرطان لا يؤخر الرجم، لأن النفس مستوفاة، ولا فرق بينه وبين الصحيح. وأما إن كان مستحقاً للجلد فيؤخر إلى أن يقوي أو يذهب الحر أو البرد، لكن إذا جلد الإمام في هذه الحالة فمات المجلود فلا ضمان عليه، لأن التلف حصل من واجب أقيم عليه.
ويجلد الضعيف بعثكال عليه مائة غصن، فإن كان به خمسون غصناً ضرب به مرتين، وتمسه الأغصان، أو ينكبس بعضها على بعض ليناله بعض الألم، أو يضرب بالنعال أو بالثياب.
فقد روى أحمد والنسائي وابن ماجه عن ماجه عن سعيد بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما قال: كان بين أبياتنا رويجل ضعيف فخبث بأمة من إمائهم، فذكر ذلك سعد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "اضربوه حده"، فقالوا: يا رسول الله إنه أضعف من ذلك، قال: "خذوا عثكالاً فيه مائة شمراخ ثم اضربوه ضربة واحدة، ففعلوا". (سنن أبي داود [4472] كتاب الحدود، باب: في إقامة الحد على المريض؛ سنن ابن ماجه [2574] كتاب الحدود، باب: الكبير والمريض يجب عليه الحد؛ مسند الإمام أحمد [5/ 212]، عن سعيد بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما).(8/63)
كيفية الرجم:
يستحب أن يحفر للمرأة حفرة إن ثبت زناها ببينة، وأما إن كان ثبت زناها بإقرار فلا يحفر لها كي تتمكن من الهرب إن رجعت عن الإقرار.
أما الرجل فلا يحفر له حفرة.
وجميع بدن المحصن محل للرجم: المقاتل وغيرها، ولكن يختار أن يتوقى الوجه، لورود بعض الأحاديث بتجنبه.
ويكون موقف الرامي بحيث لا يبعد عنه فيخطئه، ولا يدنو منه فيؤلمه. والأولي لمن حضره أن يشارك في رجمه إن ثبت زناه ببينة، وأن يمسك إن رجم بالإقرار، ويجب أن تستر عورة الرجل وجميع بدن الحرة عند الرجم، ولا يربط ولا يقيد.
ويكون الرجم بمدر أي طين متحجر، وبحجارة معتدلة أي ملء الكف لا بحصيات خفيفة لئلا يطول تعذيبه، ولا بصخرات تذففه وتجهز عليه، فيفوت التنكيل المقصود.
ويستحب حضور الإمام وشهود الزنى، وحضور جمع من المسلمين الأحرار، لقوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} (سورة النور: 2).
والسنة أن يبدأ الإمام بالرجم ثم الناس إن ثبت الزنى بالإقرار، فإن ثبت بالبينة فالسنة أن يبدأ الشهود بالرجم ثم الإمام ثم الناس، وتعرض عليه التوبة ـ كما قال الماوردي ـ قبل رجمه، لتكون خاتمة أمره، وإن حضر وقت صلاة أمره بها، وإن أراد التطوع مكنه من صلاة ركعتين، وإن استسقى ماء سقي، وإن استطعم لم يطعم، لأن الشرب لعطش سابق، والأكل لشبع مستقبل.(8/64)
حد القذف
لقد ذكرنا فيما مضى أن الإسلام حريص على صيانة الضروريات الخمس، وهي: حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال. ولذلك شرع الحدود والعقوبة لمن يريد أن يعتدي على واحدة منها، ومن الحدود التي شرعها الإسلام صيانة للعرض ومحافظة على النسب عقوبة القذف، فما القذف وما عقوبته؟ إليك بيان ذلك فيما يلي:
معنى القذف في اللغة:
القذف في اللغة معناه الرمي، ومنه قذف الحجارة وقذف الجمار، قال في مختار الصحاح: القذف بالحجارة الرمي بها.
معنى القذف في اصطلاح الشرع:
القذف في الشرع هو الرمي بالزنى في معرض الشتم والتعيير، والمقصود بقولنا: في معرض الشتم والتعيير، إخراج كلام الطبيب مثلاً عندما يفحص حال فتاة، فيقرر أنها قد مارست الزنى، وإخراج الشهادة بالزنى، فلا حد في ذلك، إلا أن يشهد به دون أربعة من الشهود، فيحدون كما سيأتي.
حكم القذف:
يحرم على المسلم أن يرمي أخاه المسلم بالفاحشة، سواء كان صادقاً عند نفسه في اتهامه أم كاذباً، أما في حالة الكذب فلأنه بهتان وظلم، والكذب من أقبح المحرمات، وأما في حالة كونه صادقاً عند نفسه فلأنه كشف للأسرار، وهتك للأعراض، وفضح لما أمره الله بالستر عليه، إذا انزلقت نفسه في فاحشة أو معصية، ونشر لمقالة السوء في المجتمع.(8/65)
ولهذا عد الشرع الشريف القذف من الكبائر فقال عليه الصلاة والسلام: " اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات". (أخرجه البخاري [2615] في الوصايا، باب: قول الله تعالى: إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً؛ ومسلم [89] في الإيمان، باب: تحريم الكبائر؛ وأبو داود [2874] في الوصايا، باب: ما جاء في التشديد في أكل مال اليتيم؛ والنسائي [6/ 257] في الوصايا، باب: اجتناب أكل مال اليتيم).
حد القذف ودليله:
الحد في الشرع هو عقوبة مقدرة، وجبت حقاً لله كحد الزنى، أو حقاً لآدمي كحد القذف.
وحد القذف إذا استوفى شروطه: ثمانون جلدة، وكذلك إسقاط شهادته، إلا إذا تاب فتعود إليه شهادته. قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ. إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (سورة النور: 4 - 5).
شروط حد القذف:
لا يقام حد القذف على القاذف إلا بعشرة شروط، خمسة منها يجب أن تتحقق في القاذف، وخمسة منها يجب أن تتحقق في المقذوف.
- الشروط الخمسة في القاذف هي:
الأول: البلوغ، فلا يقام حد على من دون البلوغ، لأنه غير مكلف لحديث: "رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم". (رواه أبو داود [4399] في الحدود، باب: في المجنون يسرق أو يصيب حداً، عن ابن عباس رضي الله عنهما).
وأما إذا كان مميزاً فيعزر.
الثاني: العقل، فلا يقام الحد على قاذف مجنون، لأنه رفع القلم عنه كما مر(8/66)
في الحديث السابق، والحكمة من عدم إقامة الحد على الصبي والمجنون أنه لا إيذاء في قذفهما. وأما السكران المتعدي بسكره فهو كالمكلف، فإنه يقام عليه الحد.
الثالث: أن لا يكون أصلاً للمقذوف، كالأب والجد مهما ارتفع، وكالأم والجدة مهما علت، فلا يحد هؤلاء بقذف الولد وإن سفل، كما أنهم لا يقتلون به كما مر ذلك في مبحث الجنايات، وكذلك لا يحدون بقذف من ورثه الولد، ولم يشاركه فيه غيره، كما لو قذف امرأة له منها ولد ثم ماتت، لأنه إذا لم يثبت له ابتداء لم يثبت له انتهاء كالقصاص.
أما لو كان لها ولد من غيره، فإنه لا يسقط عنه حد القذف، وحيث قلنا إنه لا يجب فيحقه حد القذف، لا يسقط ذلك عنه عقوبة التعزير، بل يعزر بما يراه الحاكم عقوبة لذلك.
الرابع: أن يكون مختاراً، فلا حد على من أكره على القذف، لقوله عليه الصلاة والسلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه|. (سنن ابن ماجه [2043 - 2045] الطلاق، باب: طلاق المكره والناسي). ولأنه لم يقصد الأذى بذلك لإجباره عليه، وكذلك لا يجب على المكره لأنه لا يسمي قاذفاً.
الخامس: أن يكون عالماً بالتحريم، فلا حد على جاهل بحكم القذف، لقرب عهده بالإسلام، أو لبعده عن العلماء، أما لو كان عالماً بالتحريم، ولكنه يجهل وجوب الحد، فلا يعفيه جهله هذا من إقامة الحد عليه.
- الشروط الخمسة في المقذوف هي:
الأول: أن يكون المقذوف مسلماً.
الثاني: أن يكون بالغاً.
الثالث: أن يكون عاقلاً.
الرابع: أن يكون عفيفاً، بأن لا يكون قد ثبت عليه الزنى من قبل.
الخامس: أن لا يكون قد أذن المقذوف بقذفه. فإن الإذن وإن كان لا يسوغ القذف ولا يبيحه، إلا أنه يجعل في القذف شبهة، وفي الحديث "ادرؤوا الحدود(8/67)
عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطىء في العفو خير من أن يخطىء في العقوبة". (رواه الترمذي [1424] في الحدود، باب: ما جاء في درء الحدود).
وجوب التعزير إذا لم تتكامل الشروط:
إذا لم تتحقق هذه الشروط العشرة أو لم يتحقق واحد منها، سقط الحد. وليس معنى سقوط الحد أنه لا عقوبة على القاذف، بل هناك عقوبة التعزير، وكان للحاكم أن يعزره بعقوبة يراها صالحة، من حبس وضرب، شريطة أن لا يبلغ في التعزير أدنى الحدود إذا كان من جنسها. روى البيهقي [8/ 327] عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من بلغ حداً في غير حد فهو من المعتدين".
بعض ألفاظ القذف:
من ألفاظ القذف أن يقول: زنيت، أو يا زاني، أو يا مخنث، أو لطت، أو لاط بك فلان، أو يا لائط، أو يا لوطي، أو للمرأة يا قحبة، أو يقول لابنها من زيد لست ابنه أو لست منه، أو ما أشبه ذلك من ألفاظ تدل على هذه المعاني.
مسقطات حد القذف:
يسقط حد القذف على القاذف بثلاثة أشياء:
أحدها: إقامة البينة على ثبوت الزنى، أو إقرار المقذوف بذلك، فإذا انضم إلى القاذف ثلاثة شهود، وكانوا جميعاً ممن تصح شهادتهم، وشهدوا على الزنى بصريح القول، أو أقر المقذوف بما قذف به سقط بذلك حد القذف، وتحول الحد على المقذوف.
فإن شهد أقل من ثلاثة معه، لم تثبت البينة وكانوا جميعاً قذفة يتعلق بهم حد القذف جميعاً.
ففي البخاري، (كتاب الشهادات، باب: شهادة القاذف والسارق والزاني)، أن عمر جلد أبا بكرة وشبل بن معبد ونافعاً بقذف المغيرة بن شعبة، ثم استتابهم وقال: من تاب قبلت شهادته.(8/68)
ثانيا: عفو المقذوف عن القاذف، كعفو ولي المقتول عن القصاص، لأن هذا الحد حق من حقوق العباد فيسقط بالإسقاط. فإذا عفا المقذوف عن القاذف أمام القضاء؛ سقط الحد بذلك عن القاذف.
ثالثا: أداء اللعان إذا كان القاذف زوجاً، والمقذوفة الزوجة، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ {6} وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} (سورة النور: 6 - 7).
والحكمة من أن يكون هذا المسقط خاصاً بالزوج إذا قذف زوجه، هي أن الزوج قلما يتهم زوجته بالزنى أمام الحاكم إلا وهو صادق فيما فعل، وفي تكليفه بإحضار شهود على زناها إحراج له، وجرح لكرامته ومنافاة لما تقتضيه المحافظة على عرضه، وبينهما من التعايش ما لا يسمح بتغاضيه عن الأمر، كما لو كانت أجنبية عنه، من أجل كل ذلك شرع الله اللعان بكل أحكامه التي مرت بك وعرفتها؛ حلا لهذه المشكلة.
روى البخاري عن ابن عباس: أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي - صلى الله عليه وسلم -: " البينة أو حد في ظهرك"، فقال: يا رسول الله إذا رأي أحدنا على امرأته رجلاً ينطق يلتمس البينة؟! فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "البينة وإلا حد في ظهرك"، فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، فلينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد، فنزل جبريل وأنزل عليه: {والذين يرمون أزواجهم. . . } فقرأ حتى بلغ:: {إن كان من الصادقين} فانصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - فأرسل إليها، فجاء هلال فشهد والنبي ... - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إن الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب"، ثم قامت فشهدت، فلما كانت عند الخامسة وقفوهها وقالوا: إنها موجبة، قال ابن عباس: فتلكأت ونكصت حى ظننا أنها ترجع، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فمضت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين، سابغ الأليتين، خدلج الساقين فهو لشريك بن سحماء"، فجاءت به كذلك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن". (رواه البخاري [4470] تفسير سورة النور باب: ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين).(8/69)
شروط الشهود:
يشترط في كل شاهد أن يكون ذكراً، فلو شهد أربع نسوة، لم تقبل شهادتهن وأقيم عليهن حد القذف. وكذلك يجب أن يكونوا أحراراً فلو شهد عبيد أقيم عليهم الحد، وكذلك يشترط أن يكونوا من المسلمين، فإن كانوا كفرة لم تقبل شهادتهم، ويقام عليهم الحد، وليعلم أن حد العبد على النصف من حد الحر، فيجلد أربعين جلدة.(8/70)
حد شرب الخمر
لقد مر هذا البحث كاملاً في الجزء الثالث، عند البحث في الأشربة المحرمة.
ونكتفي هنا بهذه العجالة، ليكون هذا البحث في مكانه بين الحدود.
من شرب خمراً، أو مسكراً مهما كان منشؤه، ومهما اختلف اسمه، أقيم عليه حد الشرب، سواء حصل الإسكار بقليل منه، أو كثير. فقد سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن البتع، وهو شراب يصنع من العسل، والمزر وهو شراب يصنع من الشعير أو الذرة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أو مسكر هو"؟ قال: نعم. قال: "كل مسكر حرام، إن على الله عز وجل عهداً لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال"، قالوا: يا رسول الله، وما طينة الخبال؟ قال: "عرق أهل النار، أو عصارة أهل النار" (رواه مسلم [2001، 2002] في الأشربة، باب: بيان أن كل مسكر خمر وكل خمر حرام).
وحد شرب الخمر أربعون جلدة أربعون جلدة، ويجوز أن يبلغ به ثمانين جلدة، على وجه التعزير لا الحد. روى مسلم [1706] في الحدود، باب: حد الخمر، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يضرب في الخمر بالنعال والجريد أربعين.
[الجريد: أغصان النخل إذا جردت من الورق].
وإنما يزيد الإمام على الأربعين جلدة تعزيراً إن رأى مصلحة في ذلك، لا سيما إذا فشا شرب الخمر، وانتشر شرها، ليحصل الردع والزجر.
ودليل أن الزيادة على الأربعين جلدة تعزير وليس بحد، ما رواه مسلم(8/71)
[1707] في الحدود، باب: حدد الخمر، أن عثمان رضي الله عنه أمر بجلد الوليد بن ابي معيط، فجلده عبدالله بن جعفر رضي الله عنهما، وعلي رضي الله عنه يعد، حتى بلغ أربعين، فقال: (أمسك، ثم قال: جلد النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكل سنة، وهذا أحب إلى). أي الاكتفاء بأربعين، لأنه الذي فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو أحوط في باب العقوبة، من أن يزيد فيها عن المستحق، فيكون ظلماً.
بم يثبت الحد؟
يثبت حد شرب المسكر، ويجب عليه بأمرين:
الأول: البينة: أي شهادة رجلين مسلمين عدلين.
الثاني: الإقرار، وذلك بأن أقر على نفسه بشرب مسكر. ولا شك أن الإقرار حجة يقوم مقام البينة.
هذا ولا يثبت الحد بالقيء، والاستنكاه ـ وهو شم رائحة الفم ـ لاحتمال أن يكون شربه مكرهاً، أو مخطئاً، والحدود تسقط بالشبهات.(8/72)
المخدرات
معنى التخدير: التخدير هنا يقصد به الحالة التي تغشى العقل والفكر من الكسل والثقل والفتور.
والمخدرات كل ما يسبب هذه الحالة للعقل، من بنج وأفيون وحشيشة ونحوها.
حكم المخدرات:
المخدرات حرام كيفما كان تعاطيها، لما فيها من الأضرار بالعقل والجسم.
روى أبو داود [3686] في الأشربة، باب: النهي عن المسكر، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كل مسكر ومفتر).
عقوبة تناول المخدرات:
عقوبة المخدرات عقوبة تعزيرية، مفوضة من حيث نوعها وشدتها إلى ما يراه القضاء الإسلامي العادل من سجن، أو ضرب، أو تقريع، بشرط أن لا يبلغ به أدنى حد من الحدود الشرعية.
وبحث المخدرات قد مر مفصلاً في الجزء الثالث من بحث الأشربة المحرمة. ولذلك نكتفي هنا بهذه الخلاصة، والله الموفق.(8/73)
حد السرقة
كما جاء الإسلام بالمحافظة على الأنفس والأعراض، كذلك جاء بالمحافظة على الأموال، فشرع حد السرقة لمن يعتدي على الأموال صيانة لها. فما هي السرقة وما حدها؟ إليك بيان ذلك فيما يلي:
ما هي السرقة؟
السرقة في اللغة أخذ المال خفية، وشرعاً: أخذ مال الغير خفية ظلماً من حرز مثله بشروط معينة.
فخرج بقولنا خفية الغصب، فالغاصب يستلب المال جهراً، فلا يسمى سارقاً، ولا يدخل في عقوبة السرقة.
وخرج بقيد مال الغير النباش وهو الذي يسرق ما في القبور من أكفان الموتى، فإنها لا تدخل في تعريف السرقة، لعدم وجود مالك لها، وإن كانت حرمة الميت تمنع من جواز العدوان عليها. إلا إن كان القبر في بيت أو بمقبرة بطرف عمارة فإن النباش عندئذ يعد سارقاً، ويقام عليه حد السرقة. روى الترمذي [1448] في الحدود، باب: ما جاء في الخائن ولا منتهب ولا مختلس والمنتهب، عن جابر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع".
[الخائن: الذي يأخذ المال خفية، ويظهر النصح للمالك. والمنتهب: هو الذي يأخذ المال على وجه القهر والغلبة. والمختلس: هو الذي يأخذ المال على سبيل الخلسة].(8/74)
حد السرقة:
إذا ثبتت السرقة بالشروط الآتي ذكرها أمام القضاء، وجب إقامة الحد على هذا السارق، والحد هو قطع اليد من مفصل الكوع ـ والكوع طرف الزند الذي يلي الإبهام ـ أي تقطع اليد من مفصل الكف، ودليل ذلك قوله تعالى:: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (سورة المائدة: 38). وحديث عمرو بن شعيب: أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بسارق فقطع يده من مفصل الكف. (رواه الطبراني، انظر: مغني المحتاج [4/ 77]).
وروى البخاري ومسلم واللفظ لمسلم عن عائشة رضي الله عنها: أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكلمه أسامة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتشفع في حد من حدود الله؟! ثم قام فاختطب فقال: أيها الناس إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها، ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها". (رواه البخاري [6406] في الحدود، باب: كراهية الشفاعة في الحدود إذا رفع إلى السلطان؛ ومسلم [1688] في الحدود، باب: قطع السارق الشريف، عن عائشة رضي الله عنها).
تقطع يد السارق اليمنى ـ كما قلنا ـ إن سرق أول مرة، فإن سرق ثانية بعد قطع اليمنى تقطع رجله اليسرى، فإن سرق ثالثة بعد قطع رجله اليسرى قطعت يده اليسرى، فإن سرق رابعة بعد قطع يده اليسرى قطعت رجله اليمنى، فإن سرق بعد ذلك يعزر، فيعاقبه الحاكم بما يراه رادعاً.
روى الشافعي في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في السارق: "إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله، ثم إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله". (الأم [6/ 138]).
شروط إقامة الحد على السارق:
ليس كل سارق تقطع يده، بل لا بد لإقامة حد القطع من استيفاء ثمانية شروط:(8/75)
الأول: البلوغ، فلا تقطع يد الصبي الذي لم يبلغ، لأنه رفع التكليف عنه، لحديث "رفع القلم عن ثلاثة. . . " ومنها الصبي حتى يحتلم. (رواه ابن ماجه [2045] في الطلاق، باب: طلاق المكره).
الثاني: العقل، فلا تقطع يد المجنون، لأنه رفع التكليف عنه للحديث السابق أما السكران الذي زال عقله بسبب السكر، فإنه يقام عليه إن كان متعدياً في سكره، وإلا فلا.
الثالث: أن لا يكون مكرهاً، لأن المكره رفع القلم عنه كما في الحديث.
الرابع: أن يبلغ المال الذي سرقه نصاباً، والنصاب ما يساوي ربع دينار فصاعداً، والدينار الواحد يساوي ثلاثة دراهم، لأن صرف الدينار على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان اثني عشر درهماً، فربع الدينار يساوي ثلاثة دراهم.
روى البخاري [6407] في الحدود، باب: قول الله {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا}؛ ومسلم [1684] في الحدود، باب: حد السرقة ونصابها ـ واللفظ لمسلم ـ عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً".
وروى البخاري [6411] في الحدود، باب: وفي كم يقطع؛ ومسلم [1686] في الحدود، باب: حد السرقة ونصابها، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم.
[والمجن: الترس].
الخامس: أن يؤخذ المال المسروق من حرز مثله، وحرز المثل هو المكان الذي يحفظ فيه أو في مثله عادة المال المسروق، فالنقود إنما تحفظ في الصناديق وما على شاكلتها، والثياب تحفظ في الخزائن ونحوها، ومرجع ذلك كله إلى العرف وأهله.
فلو سرق المال من مكان لم يجر العرف والعادة بوضعه فيه وجعله حرزاً له، لم يجز معاقبة السارق بالقطع، دليل ذلك خبر أبي داود [4390] في الحدود، باب: ما لا قطع فيه، عن عبدالله بن العاص رضي الله عنهما؛ وغيره،(8/76)
مرفوعاً: "لا قطع في شيء من الماشية إلا فيما آواه المراح، ومن سرق شيئاً من التمر بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع".
السادس: أن لا يكون للسارق ملك أو شبهة ملك، فإن كان شريكاً فيه لم يقطع، لأن له ملكاً، ولو سرق الولد من مال أبيه، أو العبد من مال سيده، أو أحد الناس من مال الدولة وهو فقير، أو في وقت مجاعة، فلا قطع في ذلك، لقيام شبهة ملكية ما في المال المسروق.
دليل ذلك حديث عائشة: "ادرؤوا الحدود ما استطعتم، فإن الحاكم لأن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة". (رواه الترمذي [1424] في الحدود، باب: ما جاء في درء الحدود).
السابع: أن يكون السارق عالماً بالتحريم، فلو تناول رجل من متجر جاره بضاعة أو طعاماً، وهو لا يعلم أن ما أقدم عليه محرم، لجهله بأصول الإسلام أو لقرب عهده بالدخول في الإسلام، لم يعاقب بقطع اليد، وعوقب بالتعزيز مع الضمان.
الشرط الثامن: أن يكون المال المسروق طاهراً، فلو سرق خمراً أو خنزيراً أو كلباً أو جلد ميتة بلا دبغ فلا قطع.
وكذلك يجب أن يكون مباح الاستعمال، فلو سرق طنبوراً أو عوداً أو مزماراً أو ضمناً أو صليباً لا يقطع، لأن التوصل إلى إزالة المعصية مندوب إليه، فصار شبهة كإراقة الخمر.
واعلم أن هذه الشروط كلها إنما هي شروط لمعاقبة السارق بالقطع، وليست شروطاً لأصل العقوبة، فإذا فقد شرط منها سقط القطع، لكن تخير الحاكم من العقوبات التعزيرية إلى جانب الغرامة ما يراه زاجراً للسارق.
ثبوت السرقة:
تثبت السرقة بواحد من الأمور التالية:(8/77)
الأول: الإقرار فإذا أقر ثبت في حقه السرقة وما يستحق عليها من عقوبة، لكن إذا رجع بعد الإقرار قبل رجوعه، وللقاضي أن يعرض له بالرجوع كما في الإقرار بالزنى، لكن هنا لا يقبل إقراره إلا بعد حضور المالك وطلبه.
الثاني: البينة وتكون بشهادة رجلين عدلين قد استوفيا شروط الشهادة، فإن شهد رجل وامرأتان ثبت المال، ولا يثبت بهذه الشهادة القطع.
الثالث: حلف المدعي اليمين، بعد نكول المدعى عليه عن حلف اليمين.
ضمان السارق المال المسروق:
إذا ثبتت السرقة وقطعت يد السارق، وجب عليه أيضاً أن يرد ما سرق إن كان المسروق لا يزال موجوداً، فإن كان قد تلف ضمنه.
ودليل ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه". (أخرجه أبو داود [3561] في البيوع، باب: في تضمين العارية، والترمذي [1266] في البيوع، باب: ما جاء في أن العارية مؤداة، عن سمرة بن جندب رضي الله عنه).
القطع حق الله تعالى:
إذا ثبتت السرقة ورفع الأمر إلى القاضي وجب تنفيذ العقوبة ولا يجوز التوسط في إسقاط الحد، ودليه ما سبق من حديث المخزومية التي سرقت، أما إذا لم يصل الأمر إلى القاضي فيجوز إسقاطه والتوسط في إسقاطه ففي الحديث: بينما صفوان بن أمية مضطجع بالبطحاء إذ جاء إنسان فأخذ بردة من تحت رأسه، فأتي به النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمر بقطعه فقال: إني أعفو وأتجاوز، فقال: هلا قبل أن تأتيني به؟.
(سنن النسائي [8/ 68] كتاب قطع السارق، باب: الرجل يتجاوز للسارق؛ مسند أحمد [3/ 401]، عن صفوان بن أمية رضي الله عنه).
الرد على خصوم الإسلام في تقولهم عن مشروعية الحدود:
لا شك أنك تسمع من خصوم الإسلام وأعداء تشريعه، عبارات تنبىء عن الاشمئزاز من أن تكون عقوبة السارق قطعاً لليد، وعقوبة الزاني المحصن الرجم.
وإن لنا كلمة ينبغي أن تستوعبها في الرد على هؤلاء في ذلك.
أولاً: إن سبب اشمئزاز خصوم الإسلام وأعدائه من عقوبة القطع والرجم؛(8/78)
هو كونهم خصوماً للإسلام قبل كل شيء، فلا يريدون أن يحكموا عقولهم في حقيقة هذه الحدود، وأسبابها وأهدافها ونتائجها، ودوافعها وشروطها، إذ إن من المعلوم بداهة أن الخصم حينما يمارس خصومته؛ إنما ينطلق من دافع أنه خصم، قبل أن ينظر فيما يقتضيه المنطق والحق والتفكير السليم، وإلا لم يكن اسمه خصماً.
وهذه الحقيقة تجعل النقاش مع أمثال هؤلاء الناس في جزئية من جزئيات الإسلام الذي هم خصومه ـ كجزئية الحدود مثلاً ـ سعياً عابثاً لا طائل من ورائه، ولا يؤدي إلى النتيجة المطلوبة.
ولكننا إذا ناقشنا وبحثنا في أمثال ذلك، فلكي لا يعلق شيء من انتقاداتهم الفكرية المصطنعة في عقول وأذهان المسلمين الصادقين في إسلامهم، ممن يعوزهم التعمق في فهم الإسلام وسبر حكمه وأهدافه.
ثانيا: إن المنهج المنطقي الذي نسير على أساسه في تقبل هذه الأحكام والإيمان بها، والتعيين بأنها الدواء الذي لا بديل له للمجتمع؛ هو إيماننا بأن القرآن الكريم الذي تضمن هذه الأحكام وغيرها؛ إنما هو كلام الله المنزل على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - وحياً، وإذا كان إيماننا بالله وكتابه حقيقة مفروغاً منها؛ فلا سبيل إلى تسرب أي شك أو وسواس في روعة هذه الأحكام ودقة فائدتها وضرورة التشبث بها.
ومحال أن يتشكك في شيء من هذه الأحكام إلا من تشكك قبل ذلك بالله عز وجل، وبأ، هذا القرآن كلامه، وبأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - نبيه، وإنما يناقش هذا الإنسان في الأصل الذي تفرع عنه هذا الشك، لا في الفرع الصغير الذي هو ثمرة الكفر الكبير.
ثالثاً: نتجاوز ما يقوله علماء النفس عن خطورة السرقة واليد التي تعتاد عليها، ومن أن مثل هذه الجرائم تنقلب في كيان أصحابها إلى أمراض متأصلة، لا يجدي في علاجها شيء من العقوبات التقليدية المألوفة، ونتجاوز الحديث عن خطورة الزنى وسوء عاقبته في المجتمع من كل الجوانب، ولا سيما إصابته بمرض(8/79)
الإيدز الذي أخذ ينتشر في المجتمع الذي يبيح الزنى، والذي أصبح يهدده بالخراب والدمار.
إذا أعرضنا عن ذلك كله ولفتنا النظر إلى ما هو واقع مشاهد في المجتمعات التي أعرضت عن شرع الله عز وجل، وقارنا بينها وبين الأوساط التي تقييم حدود الله، وجدنا الفرق واضحاً جلياً.
إن اللصوص في هذه المجتمعات المعرضة عن أحكام الله، يتمتعون بكيانات لا يتمتع بها كثير من أرباب الشركات وأعضاء النقابات، وعصاباتهم تستعصي على كل إرهاب أو عقاب، وإن الأمراض التناسلية فيها تفتك بشيبها وشبابها وصغارها وكبارها، وتفعل بهم أضعاف بهم أضعاف أضعاف ما يفعله عقاب جلد أو رجم.
بينما ننظر إلى الأمة التي تقيم فيما بينها حدود الله تعالى وأحكامه، فنجدها أمة تنعم بالأمن والرفاهية والخلو من هذه الأمراض التي تعصف بحياة البشر، وتؤدي إلى دمارهم وهلاكهم.
إن في هذا لبلاغاً وذكرى لكل عاقل منصف، آمن بالله وبرسوله أولاً، ثم تمتع بحرية الفكر والبحث ثانياً، والله الهادي إلى طريق الرشاد.
هذا ولا بد هنا ـ ونحن بصدد الحديث عن الحدود ـ لا بد من الإشارة إلى أمرين هامين في هذا الموضوع:
أحدهما: أن الإسلام حينما شرع هذه الحدود الزاجرة، شرع إلى جانبها تشريعات تقي من الوقوع في أعمال تؤدي إلى إقامة الحد.
ففي موضوع حد السرقة شرع تأمين حاجيات الفرد، فإن كان الفرد عاملاً فرض له من بيت مال المسلمين ما يهمىء له فرص العمل من رأس مال وأدوات، وما يتصل بذلك، فيصبح الفرد بعد زمن قليل منتجاً مستغنياً عن مساعدة غيره، بل يصبح مساعداً غيره في تهيئة فرص العمل، فيكون المجتمع كله مساعداً متضامناً متكافلاً.
وفي موضوع حد الزنى أمر الإسلام بالستر والحجاب وعدم اختلاط الرجال(8/80)
بالنساء، وعدم خلوة الرجل بالمرأة، وحث على ترخيص المهور، وعلى تزويج من يرضى خلقه ودينه، من غير تفتيش معه على المال والثروة، "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد" (أخرجه الترمذي [1085] في النكاح، باب: إذا جاءكم من ترضون دينه فزوجوه، عن أبي هريرة رضي الله عنه). هذا إلى كثير من الأحكام التي يجدها الباحث مبثوثة في كتب الفقه.
الأمر الثاني: هو أن الهدف من العقوبة في الإسلام، ليس هو تعذيب الجاني، بل الهدف سلامة المجتمع، فيجب أن تكون العقوبة مؤدية إلى الهدف المنشود، وأما كيفية العقوبة فهي وسيلة لا غاية، فما كان من الوسائل مؤدياً إلى الهدف فهذا هو المطلوب. ولقد ثبت أن هذه العقوبات التي شرعها الإسلام قد أدت إلى الغاية المنشودة، وسجل التاريخ يتحدث عن ذلك عبر العصور الماضية والحاضرة، فهي إذا الدواء الناجح الناجع. بينما نري القوانين الوضعية في أرقى الدول لم تؤد إلى هذه الغاية، وهي سلامة المجتمع وأمنه واستقراره والأحداث التي تنشرها الصحف اليومية والنشرات والإحصاءات التي تنشر بين حين وآخر تتحدث عن ذلك بما لا يقبل الشك.(8/81)
الحرابة وحدها
معنى الحرابة:
الحرابة في اصطلاح الشريعة: هي البروز لأخذ مال أو لقتل أو لإرعاب مكابرة، اعتماداً على الشوكة، مع البعد عن مسافة الغوث، من كل مكلف ملتزم للأحكام، ولو كان ذمياً أو مرتداً.
فخرج بقيد " اعتماداً على الشوكة" ما لو كان الاعتماد على المغافلة والهرب، أو على ضعف المجني عليه، فلا يسمي ذلك في الاصطلاح الشرعي حرابة، وإنما هو من قبيل النهبة ونحوها، وله حكمه الخاص به.
خرج بقيد "البعد عن مسافة الغوث" ـ وهي المسافة القريبة من المدينة أو القرية، بحيث لو استغاث الإنسان منها لبلغ صوته أهلها ـ ما لو كانت المسافة داخلة في حدود الغوث، فلا يسمي العدوان حينئذ حرابة.
وخرج بقيد " ملتزم للأحكام " الكافر الحربي، فهو وإن قتل وأخذ المال، لا يدخل في هذا الباب، وإنما هو كافر حربي مهدر الدم على كل حال، فإن دخل في الإسلام لم يؤاخذ بجناية جناها من قبل، لأن الإسلام يجب ما قبله.
ويدخل في التعريف العبد والمرأة والسكران المتعدي بسكره، لأنهم جميعاً مكلفون.
ويدخل في ذلك أيضاً الواحد والجماعة، إذا تحققت بهم بقية الصفات.
ويطلق على أرباب هذا الشأن: قطاع الطريق، وسموا بذلك لأن الناس(8/82)
يمتنعون من سلوك الطريق التي يكون بها هؤلاء، فكأنهم قد قطعوها حقيقة.
أقسام أهل الحرابة "قطاع الطريق".
ينقسم أهل الحرابة "قطاع الطريق" إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: من يقتلون من يمر بهم، ويستلبون أموالهم.
القسم الثاني: من يقتلون من يمر بهم ولا يأخذون أموالهم أو شيئاً منها.
القسم الثالث: من يأخذون الأموال، ولا يعتدون على الحياة.
القسم الرابع: من يخيفون المارين بهم، من دون أن يعتدوا على حياتهم، أو أن يسلبوهم شيئاً من أموالهم.
فهؤلاء أربعة أقسام، أشدهم خطراً من يقتل النفس ويسلب المال، وأخفهم شأناً من يخيف، ولا يعتدي على حياة ولا مال، ولهذا تنوعت عقوبتهم على حسب ما يقومون به من أعمال، وبيان ذلك فيما يلي:
حكم كل قسم من هذه الأقسام:
أما القسم الأول ـ وهم من يمارسون القتل ويستلبون المال ـ فيجب قتلهم ثم صلبهم ثلاثاً على مرتفع كخشبة ونحوها، زيادة في التنكيل بهم، وليشتهر حالهم، وإنما يصلبون بعد الغسل والتكفين والصلاة عليهم، لأنهم لم يخرجوا بعملهم هذا عن كونهم مسلمين، والمسلم واجب غسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه.
وأما القسم الثاني ـ وهم الذين يقتلون فقط ـ فجزاؤهم القتل دون صلب، ولا أثر هنا لعفو أولياء الدم في إسقاط القصاص لأنه أصبح من حقوق الله.
والفرق بين هذا الباب وباب القصاص أن القاتل هنا يضيف إلى القتل الإخافة وقطع الطريق على السابلة، والاعتماد على القوة والشوكة، وعدم الترصد لشخص واحد بذاته، بل يفتك بكل من مر به، فقد أصبح حده من حقوق الله تعالى، ولذلك لم يكن لعفو الولي عن القصاص أثر.
وأما القسم الثالث ـ وهم من يأخذون المال فقط ـ فجزاؤهم قطع يدهم ورجلهم من خلاف، أي قطع اليد اليمنى من مفصل الكف، وقطع الرجل اليسرى من مفصل القدم، فإن عاد قطعت يده اليسرى ورجله اليمنى الباقيتان.(8/83)
ولا بد من اشتراط كون المأخوذ من المال بالغاً نصاب السرقة، وهو ربع دينار فصاعداً، أو ما يساوي ذلك ذلك، فإن لم يبلغ هذا المقدار عزره القاضي بما يراه مناسباً من عقوبات التعزير.
والفرق بين المحارب والسارق أن السارق يأخذ المال خفية، أما هذا فيضيف إلى ذلك قطع الطريق والتخويف، معتمداً على القوة والشوكة، وعلى بعد الضحية عن المدينة والناس.
وأما القسم الرابع ـ وهم الذين يخيفون المارة، دون أن يأخذوا منهم مالاً أو أن يعتدوا منهم على حياة ـ فجزاؤهم عقوبة من عقوبات التعزير من نفي أو حبس أو غير ذلك، والأمر في ذلك راجع إلى الإمام، ولا يقدر الحبس بمدة، وللإمام أ، يعفو عن هؤلاء إن رأي مصلحة في العفو عنهم.
الدليل على حكم هذه الأقسام:
الأصل في أحكام باب الحرابة، والدليل على ما ذكرناه قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (المائدة: 33).
فالقتل وحده منصرف إلى الحالة الثانية، وهي ما إذا كان هناك قتل ولم يكن استلاب للمال، والقتل مع الصلب منصرف إلى الحالة الأولى، وهي ما إذا كان قتل واستلاب مال، وقطع اليد والرجل منصرف إلى الحالة الثالثة، وهي ما إذا كان هناك أخذ مال ولم يكن اعتداء على حياة، والنفي من الأرض منصرف إلى الحالة الرابعة، وهي ما أذا كان هناك إخافة دون قتل واستلاب مال.
متى يسقط حد الحرابة؟
هذه العقوبات التي ذكرناها تسقط في حالة واحد، وهي أن يتوب الجاني المحارب قبل أن تمتد إليه يد الحاكم، لهرب أو اختفاء أو لعدم شعور الحاكم به، فإذا تاب هذا الجاني قبل أن يقع في قبضة القضاء، سقطت عنه العقوبات المختصة بقطاع الطريق "أي الحرابة" وهي تحتم القتل والصلب وقطع اليد والرجل(8/84)
معاً، ودليل قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (المائدة: 34).
ويؤول أمره عندئذ إلى كونه مجرد قاتل أو غاصب، فيؤخذ بما قد ترتب عليه من حقوق القتل والغصب والنهب، كل على حسب قواعده وأحكامه المعروفة، ولا تسقط التوبة شيئاً مما جناه قبل الحرابة.
فالقتل التائب قبل أن يقبض عليه الحاكم يؤخذ بعقوبة القصاص، إلا إذا عفا عنه ولي المقتول إلى الدية أو إلى غير شيء، والغاصب يؤخذ بضمان المال الذي أخذ مع التعزيرات التي قد يراها الحاكم.
وبهذا نعلم أن قاطع الطريق إذا كان قد سرق مثلاً أو شرب خمراً أثناء ممارسته للحرابة وقطع الطريق، أو قبل ذلك؛ فإن توبته لا تسقط عنه حد السرقة والشرب، لأن مثل هذه الحدود لا تسقطها التوبة.(8/85)
بيان موجز للحدود التي تسقط بالتوبة، والتي لا تسقط بها
وأثر الفرق بين كونها حقاً لله أو حقاً للإنسان في ذلك
الحقوق المتعلقة بالإنسان أنواع، منها ما هو خالص حق الله تعالى، ومنها ما هو خالص حق الإنسان، فما كان خالص حق الله قد يسقط بالتوبة، وما كان خالص حق الإنسان فإنه لا يسقط بالتوبة أو العفو عن الجاني، وإليك بيان ما يسقط منها بالتوبة وما لا يسقط.
ما يسقط من الحدود بالتوبة أو العفو:
1 - حد تارك الصلاة: فإنه إذا تاب توبة صادقة نصوحاً، سقط عنه الحد ولو بعد رفعه إلى الحاكم؛ لأن موجبه الإصرار على الترك، لا الترك الماضي.
2 - حد القذف: إذا عفا المقذوف عن القاذف أمام الحاكم، ذلك لأن حد القذف حق شرعه الله للإنسان، فإذا أسقط صاحب الحق حقه؛ سقط الحد المترتب عليه.
3 - حد الحرابة: إذا تاب صاحبها قبل وقوعه في قبضة القضاء، ولكنه يلاحق بما عدا ذلك من حقوق الأشخاص وحقوق الله تعالى، من قتل وسرقة وشرب وغصب ونحو ذلك، كما مر آنفاً.
ما لا يسقط من الحدود بالتوبة:
ما عدا هذه الحدود الثلاثة الآنفة الذكر، من سائر الحدود الأخرى، لا تسقك بعد الثبوت بالتوبة، كحد السرقة والشرب والزنى.
ففي البخاري [6406] في الحدود، باب: كراهية الشفاعة في الحدود. .، عن عائشة رضي الله عنها: أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت.(8/86)
قالوا: من يكلم فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أتشفع في حد من حدود الله؟! ثم قام فاختطب فقال: يا أيها الناس إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها، ثم أمر بها فقطعت يدها". (ورواه مسلم أيضاً [1688] في الحدود، باب: قطع السارق الشريف).
وروى أصحاب السنن الأربعة عن صفوان بن أمية رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لما أمر بقطع الذي سرق رداءه فشفع فيه: "هلا كان ذلك قبل أن تأتيني به؟ ". [مر تخريجه في الصفحة 78].
وذلك لعموم أدلة هذه الحدود من غير تفصيل ولا استثناء، ولأن حق الله فيها هو المتغلب.
ومعنى أن التوبة لا تسقطها، أي لا تسقط وجوب تنفيذ هذه الحدود في دار الدنيا أمام القضاء، أما ما بين مستحق الحد وربه، فان التوبة الصادقة تسقط جميع تبعات ذلك الجرم، وآثار تلك المعصية يوم القيامة. قال الله تعالى: {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدي} (سورة طه: 82)، وقال سبحانه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} (سورة الزمر: 53).
وفي الصحيح عن عبادة بن الصامت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه، فبايعناه على ذلك". (رواه البخاري [18] في الإيمان، باب: علامة الإيمان حب الأنصار؛ ومسلم [1709] في الحدود، باب: الحدود كفارة لأهلها).
هذا والفرق بين هذا وذاك أن الحدود القضائية في الدنيا تقام من أجل(8/87)
التسويات الحقوقية، وحراسة النظام والوضع الاجتماعي، ولا شأن للتوبة في ذلك.
أما التبعات والآثام الأخروية المترتبة على المعاصي أيا كان نوعها، فهي بسبب تفريطه في جنب الله عز وجل، إذ لم يلتزم أوامره ونواهيه، والتوبة الصادقة تمحو كل ذلك كما أسلفنا.(8/88)
الصيال
تعريفه:
الصيال لغة: مصدر من صال يصول صولاً وصيالاً، وهي الاستطالة والمواثبة.
والصائل شرعاً: كل من قصد مسلماً بأذى في جسمه أو عرضه أو ماله.
دليل الصيال:
والأصل في حكم الصيال قوله تعالي: {فمن اعتدي عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدي عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين} (سورة البقرة: 194)، وقوله عليه الصلاة والسلام: " من قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد". (رواه أبو داود [4771] في السنة، باب: قتال اللصوص؛ والترمذي [1421] في الديات، باب: ما جاء فيمن قتل دون ماله فهو شهيد).
أنواع الصائل:
يتنوع الصائل حسب تنوع ما يهدف إليه في عدوانه، فهو ينقسم بناء على ذلك إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: الصائل على النفس، وهو الذي يستطيل بالظلم على غيره بقصد القتل أو الإضرار بالجسم بجرح ونحوه.
القسم الثاني: الصائل على العرض، وهو الذي يتجه بالعدوان إلى امرأة ليست زوجته، قريبة كانت له أو أجنبية عنه، بقصد ارتكاب الزنى أو ارتكاب ما(8/89)
يتيسر له من مقدماته، وكالمرأة في ذلك الذكر.
القسم الثالث: الصائل على مال الغير، والمال كل ما يتمول ويتقوم شرعاً، سواء في ذلك ما يمتلك بوجه من وجوه التملك الشرعي، أو بوضع اليد عليه مثل كلب الصيد والحراسة والأسمدة النجسة ونحوها.
فيدخل في المال النقد والمتقومات المختلفة من أرض ودور ومنتفعات سواء أكانت طاهرة أم نجسة.
حكم الصائل:
مر بنا آنفاً أن الأصل في باب الصيال قوله تعالى: {فمن اعتدي عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدي عليكم} (سورة البقرة: 194). فهذه الآية توضح لنا حكم الصائل، وهو جواز مقابلة اعتدائه بالمثل، أي بالرد والصد، وإن استلزم ذلك قتله.
ويدخل في معنى الاعتداء الاستطالة بالأذى على كل من النفس والمال والعرض. فإذا قصد إنسان إلى أذى المسلم في نفسه أو عرضه أو ماله؛ فهو صائل، ويشرع للمسلم المصول عليه رده، وإن كان الصائل مساماً أو قريباً، إلا أن يكون والداً يصول على ابنه من أجل المال فلا يجوز رده بالمقاومة والعنف.
متى يجب رد الصائل ومتى يجوز ذلك؟
قلنا إن رد الصائل مشروع، وقد عرفت دليل ذلك من القرآن الكريم والسنة النبوية، ولكن هل يجب على المصول عليه أن يقاوم ويرد عنه صائله في كل الأحوال أو يجب عليه في بعض الأحوال ويجوز له في بعض الآخر؟
الواقع أنه يجب عليه الدفع في بعض الأحوال ويجوز له في البعض الآخر، وإليك بيان ذلك.
الصيال على المال:
إن الصيال إن كان على المال وكان المصول عليه هو المالك له فالمقاومة(8/90)
في مثل هذه الحال لا تعدو أن تكون جائزة، فإن شاء أن يستسلم ويترك للصائل المال، فله ذلك، وإن شاء أن يدفع الصائل فله ذلك أيضاً.
هذا إذا كان المصول عليه مالكاً لهذا المال، وأما إذا لم يكن مالكاً له، بل كان أميناً عليه لأصحابه، كرئيس الدولة ونوابه والقائمين على حراسة أراضي المسلمين وممتلكاتهم، كالجيش والجند، فيجب عليهم مقاومة الصائل ورده، لأن الأمين على مال غيره ملزم بالمحافظة عليه، ولا يملك التبرع به.
الصيال على البضع:
وإن كان الصيال على بضع، فإن الرد والمقاومة ودفع الصائل تجب عندئذ أيا كان الصائل، مسلماً أو كافراً، قريباً أو غريباً، لأنه لا سبيل إلى إباحته، ومثل البضع مقدماته.
الصيال على النفس:
وإن كان الصيال على النفس نظر، فإن كان الصائل كافراً وجب رده، فإن تراخى عن ذلك باء بالإثم والعصيان، لأن الاستسلام للكافر ذل في الدين.
وكذلك يجب الدفع إذا كان الصائل بهيمة، لأنها تذبح لاستبقاء الآدمي، فلا وجه للاستسلام لها.
وكذلك يجب الدفع إن كان الصيال على عضو أو على منفعة عضو.
وأما إن كان الصائل مسلماً وكان المصول عليه هو المقصود بالإيذاء والقتل، فإن الرد والمقاومة تكون عند ذاك جائزة ليست بواجبة، إذ له أن يضحي بحياته في سبيل أن يحقن دم أخيه المسلم ولو كان معتدياً عليه، بل استحب بعض الفقهاء ذلك لما رواه أبو داود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فليكن كخير ابني آدم". (سنن أبي داود [4259] في الفتن والملاحم، باب: في النهي عن السعي في الفتنة؛ كما أخرجه الترمذي وابن ماجه في الفتن أيضاً). يعني قابيل وهابيل، أي كن كالذي لم يبسط يده إلى أخيه بالقتل وهو هابيل، ولا تكن كالمعتدي القاتل وهو قابيل، ولقد قص الله علينا قصتهما في القرآن الكريم إذ قال: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ(8/91)
الْمُتَّقِينَ. لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ. إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ. فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (سورة المائة: 27 - 30).
ولأن عثمان رضي الله عنه يوم الدار منع عبيده من الدفاع عنه، وكانوا أربعمائة، وقال لهم: من ألقى سلاحه فهو حر، واشتهر ذلك في الصحابة فلم ينكره أحد منهم.
وأما إن كان المصول عليه غير مقصود بالإيذاء أو القتل، بل كان المعتدي يهدف إلى أسرته وأولاده، أو يهدف إلى رعيته وشعبه، فإن المقاومة حينذاك واجبة، لأن المعتدي عليه أمين على أرواح الآخرين، لكونه رب أسرة، أو حاكم أمة.
كيف يدفع الصائل ومتى يذهب دمه هدراً؟
الصائل إما أن يكون معصوم الدم كالمسلم، أو غير معصوم الدم كالمرتد والزاني المحصن، فإن كان غير معصوم الدم، فللطرف المعتدى عليه أن يبدأ مباشرة بقتله، وليس عليه أن ينذر أو يبدأ بالأخف ثم الأشد.
وأما إن كان معصوم الدم كمسلم وذمي ومعاهد، فإن تنبه المعتدى عليه إليه وهو يباشر الجريمة، كتلبسه بالفاحشة، أو قتل بريء فله أن يباشر القتل دون أية مقدمات، وإذا قتل الصائل في هذه الحالة فدمه هدر، لا قصاص فيه ولا دية.
وأما إن تنبه إليه المعتدى عليه وهو يحاول الوصول إلى غايته العدوانية، من قتل أو سرقة أو فاحشة أو نحو ذلك؛ وجب عليه أن يدفع الصائل بالأخف فالأخف، على حسب غلبة الظن، فان أمكن دفعه بكلام واستغاثة حرم الضرب، وإن أمكن بضرب بيد حرم الضرب بسوط، وإن أمكن بالضرب بسوط حرم الضرب بعصا، وإن أمكن بقطع عضو حرم القتل، لأن ذلك جوز للضرورة، ولا ضرورة للأثقل متى ما أمكن بالأخف.
فإن لم يندفع إلا بالقتل فقتله كان دمه هدراً لا قصاص فيه ولا دية، أما إذا(8/92)
أمكن دفعه بالأخف فقتله لزمه القصاص، لأنه حينذاك معتد فهو ضامن.
صور من الصيال وأحكامها:
أولاً: من نظر إلى حرم رجل في داره، من كوة أو ثقب عمداً، فرماه صاحب الدار بخفيف كحصاة ونحوها، فأعماه أو أصاب قرب عينه فمات فهدر، ودليل ذلك ما ورد في الصحيحين: "لو اطلع أحد في بيتك، ولم تأذن له فخذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك جناح". (رواه البخاري [2158] في الآداب، باب: تحريم النظر في بيت غيره، عن أبي هريرة رضي الله عنه). وهذا مشروط بأن لا يكون للناظر محرم وزوجة، لأن له في النظر شبهة، كما لا يقطع بشركة المال المشترك.
ثانياً: لو عزر ولي ووال من تحت أيديهما: زوج زوجته، ومعلم صغيراً يتعلم منه؛ فإذا حصل به هلاك، فإن كان بضرب يقتل غالباً فالقصاص ما لم يكن ذلك من أصل، وإذا لم يكن الضرب قاتلاً فمات فعليهم دية شبه العمد تدفعها العاقلة، لأن ذلك مشروط بسلامة العاقبة، إذ المقصود التأديب لا الهلاك، فإذا حصل هلاك تبين أنه جاوز الحد المشروع.
ثالثاً: لو حد الإمام أو نائبه الحد المقدر من غير زيادة فمات المحدود فلا ضمان، لأن الإمام بما يجب عليه، وسواء أكان ذلك الحد جلداً أو قطعاً، وسواء جلده في حر أو برد مفرطين أم لا، وسواء أكان في مرض يرجى برؤه أم لا.
رابعاً: للبالغ العاقل الحر إذا ظهر في بدنه سلعة أي خراج كهيئة الغدة أن يقطعها إذا لم تكن مخوفة، أما إذا كانت مخوفة ولا خطر في تركها فلا يجوز له قطعها، وكذلك الحكم إذا كان الخطر في قطعها أكثر.
ولأب وجد قطع السلعة من صبي ومجنون مع الخطر إن زاد خطر الترك على خطر القطع، لأنها يليان صون مالهما عن الضياع، فصون بدنهما أولى.
ومثل قطع السلعة ما يجري من العمليات الجراحية كقطع عضو متآكل، وقطع العروق والكي وما أشبه ذلك.(8/93)
وللسلطان فعل ذلك بلا خطر، ويجوز للسلطان والأب والجد وبقية الأولياء فصد وحجامة بلا خطر، إذا أشار الأطباء بذلك، للمصلحة مع عدم الضرر، ولا يجوز ذلك للأجنبي، لأنه لا ولاية له عليهما. فلو فعل هؤلاء ما يجوز لهم فمات الشخص فلا ضمان عليهم.
خامساً: إذا قتل جلاد أو ضرب بأمر الإمام، فإن جهل ظلم الإمام وخطأه لم يضمن هو، وكان الضمان على إمام قوداً ومالاً لا على الجلاد، أما إذا علم ظلمه وخطأه فالقصاص والضمان على الجلاد وحده، هذا إذا لم يكن إكراه من جهة الإمام، فإن كان إكراه فالضمان عليهما بالمال قطعاً.
سادساً: لو عضت يده خلصها بالأسهل من فك لحييه فضرب شدقيه فإن عجز فسلها فسقطت أسنانه فهدر ولا ضمان، وذلك لما في الصحيحين: أن رجلاً عض يد رجل فنزع يده من فيه، فوقعت ثناياه، فاختصما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " أيعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل، لا دية لك ". (رواه البخاري [6497] في الديات، باب: إذا عض رجلاً فوقعت ثناياه، ومسلم [1673] في القسامة، باب: الصائل على نفس الإنسان أو عضوه، عن عمران بن حصين رضي الله عنه).
ولأن النفس لا تضمن بالدفع، فالأجزاء أولى.
" تنبيه ":
يحرم على المتألم تعجيل الموت وإن عظم ألمه ولم يطقه، لأن برءه مرجو.
وذكر الخطيب الشربيني أن الشخص إذا ألقى نفسه في محرق علم أنه لا ينجو منه إلا إلى مائع مغرق ورآه أهون عليه من الصبر على لفحات المحرق، جاز لأنه أهون عليه.(8/94)
المسؤولية التقصيرية
المقصود بالمسؤولية التقصيرية:
المسؤولية التي تقع على عاتق المكلف، لا تعدو أن تكون لأحد سببين:
الأول: قصد عدواني كمسؤولية القاتل عمداً، والسارق، والمغتصب، والقاذف، وقاطع الطريق.
الثاني: إهمال وتقصير في الرعاية والحذر، تسبب عنها ضرر مالي أو جسمي أصاب بريئاً محترماً معصوم الدم، كدابة رجل أتلفت زرعاً لصاحب بستان.
فالمسؤولية التقصيرية: هي الحكم الشرعي الناتج عن تقصير الإنسان في تقدير الظروف، أو القيام بالرعاية والحذر المطلوبين، من ضمان ونحوه.
الأثر الشرعي المترتب على المسؤولية التقصيرية:
إذا أمكن تصور التقصير في ميزان النظر الشرعي؛ ثبتت المسؤولية المترتبة عليه، وإنما يظهر أثر هذه المسؤولية بضمان المقصر للمثل أو القيمة، أو بتكليفه بما ينزل منزلة الضمان كالدية والأرش ونحوهما.
واعلم أن التقصير في نظر الشرع يثبت حكماً إذا كانت الواقعة تحتمله، سواء أكان صاحب الواقعة مقصراً في الحقيقة أم لا، فلا يشترط لتكليفه بالضمان أن يقوم تحقيق لبيان الدليل على تقصيره، بل الشرط الوحيد أن يكون الواقعة مما يتصور إمكان التفريط والتقصير فيها، فيحكم على صاحبها بالضمان جبراً للضرر، وحيطة في الأمر، وتسوية للحقوق بين الناس.(8/95)
أمثلة تطبيقية للمسؤولية التقصيرية:
1 - القتل الخطأ ـ وقد مر بك تعريفه ـ يستوجب الدية، ولا شك أن القاتل لا يتحملها لذنب ارتكبه، أو لعدوان بدر منه، ولكنه يتحملها لتصور تقصيره في أخذ الحيطة، حتى وإن لم يكن مقصراً في الواقع ونفس الأمر.
2 - أقام جدار بيته مائلاً، فانقض بدون قصد منه، فهلك تحته إنسان معصوم الدم، أو تلف تحته مال، وجبت على عاقلته دية الإنسان، وعلى صاحب الجدار ضمان المال لصاحبه، لا زجراً له عن عدوان أو معصية ارتكبها، بل جبراً لمصيبة وقعت على أخيه، لسبب يتصور أن لتقصيره دخلاً فيه.
3 - أتلفت الدابة أو السيارة مالاً، كزرع ونحوه، أو أهلكت أو جرحت إنساناً معصوم الدم؛ وجب على راكبها أو سائقها أو قائدها مالكاً كان أو مستأجراً ضمان الزرع والمال، ووجبت الدية على العاقلة، لأن جناية الدابة أو السيارة ونحوها تعتبر في الحكم جناية من هي في يده، أيا كان صاحب اليد.
صور احترازية لا مسؤولية فيها:
1 - سقطت الدابة ميتة أو مات سائق السيارة أثناء قيادتها، فأهلكت الدابة أثناء وقوعها أو السيارة أثناء اقتحامها مالاً، أو قضت على إنسان، فلا مسؤولية على سائق الدابة، ولا على أحد من ورثة سائق السيارة، إذ لا مجال لتصور التقصير على أحد.
2 - نخس الدابة إنسان بغير إذن صاحبها أو مستأجرها الذي يضمن جنايتها، فجمحت فأتلفت مالاً، فليس من ضمان على من هي في يده، لعدم تصور أي تقصير منه في الأمر، وإنما الضمان على الناخس، إذ هو المتسبب المباشر.
ومثل ذلك ما إذا سلم أجنبي سيارة شخص إلي مجنون؛ فساقها فأتلفت شيئاً فإن صاحب السيارة ـ وهو صاحب اليد ـ لا يعد ضامناً، إذ لا مجال لإسناد أي تقصير إليه، وإنما الضمان على الأجنبي.
3 - أرسل الدابة نهاراً وأسلمها إلى طريقها الذي ألفته وعرفته، فأتلفت زرعاً أو(8/96)
نحوه في طريقها؛ لا يضمن صاحبها ما أتلفت، إذ لا مجال لإسناد أي تقصير إليه.
بخلاف ما لو أرسلها ليلاً فأتلفت شيئاً؛ فإنه لتقصيره في إرسالها في وقت غير صالح لذلك.
وتحقيقاً لهذا الفرق قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ فيما رواه أبو داود [3570] وغيره ـ على أهل الحوائط "أي البساتين" حفظ بساتينهم بالنهار، وعلى أهل المواشي ما أصابت ماشيتهم بالليل.
ذلك لأن العرف جار على حفظ الزر وع ونحوها نهاراً، وحفظ الأنعام ليلاً، فلو اختلف العرف اختلف الحكم تبعاً له.
القاعدة المستخلصة للمسؤولية وعدمها:
نستخلص من الأمثلة السابقة القاعدة المعتمدة التالية:
أ - تناط المسؤولية بمن باشر إحداث ضرر بالغير، أو تسبب لما ينتهي بإحداث ضرر بالغير قصداً أو بغير قصد، وهي إما أن تكون مسؤولية عدوان أو مسؤولية تقصير.
ب - لا تناط المسؤولية بالمتسبب غير المباشر، إذا انقطعت فاعلية تسببه، لتدخل عنصر أجنبي، كأن حفر رجل بئراً في الطريق، فألقى آخر بنفسه فيها متعمداً، فلا يضمن الحافر، لأن تسببه قد انقطع أثره بتدخل هذا الذي ألقي بنفسه في البئر عمداً. وكأن ترك رجل دابته أمام زرع بدون أن يوثقها، فجاء آخر فنخسها فجمحت فأتلفت بذلك شيئاً، فإن المسؤولية تزول عن صاحبها المتسبب، لانتساخ تسببه ذاك بفعل هذا الأجنبي.
جـ - لا تحمل المسؤولية لأحد في ضرر نجم عن قوة قاهرة لا يستطيع الإنسان دفعها، كمثال موت الدابة، وموت سائق السيارة، وكما لو وضع حجراً في مكان آمن، فأقبل سيل داهم جرف الحجر من مكانه، وألقي به حيث أتلف شيئاً، إذ لا مجال لتصور التقصير في ذلك.(8/97)
البغاة وأحكامهم
من هم البغاة؟
البغاة: جمع باغ، وهو كل متجاوز للحد الذي ينبغي أن يلتزمه. والبغي في أصل اللغة الظلم.
والمقصود بالبغاة هنا: جماعة من المسلمين خرجوا على أمام المسلمين، وتمردوا على أوامره، أو منعوا حقاً من الحقوق، سواء أكان هذا الحق لله أم للناس.
حكمهم:
يجب على أمام المسلمين إذا بدرت بادرة البغي بالمعني الذي ذكرناه، من أي فئة من فئات المسلمين؛ أ، يبادر فيبعث إليهم من يسألهم عن مطالبهم، وما قد يكرهونه من أمره، فإن ذكروا علة يمكن إزالتها دون أن تترك أثراً سيئاً أو تستلزم ضرراً؛ وجب إجابتهم إلى ما يريدون، وإن لم يكن ذلك أو لم يذكروا علة وجيهة لبغيهم، وعظهم وخوفهم بالقتال، وأمرهم بالعود إلى الطاعة، فإن لم يتعظوا أعلمهم بالقتال، فإن أبوا وأصروا على ما هم عليه قاتلهم وجوباً.
شروط قتال البغاة:
يشترط لقتال البغاة الشروط التالية:
أولاً: أن يكونوا في شوكة ومنعة، لكثرة أو قوة، ولو بحصن بحيث يمكنهم معها مقاومة الإمام، فيحتاج في ردهم إلى الطاعة لكلفة من بذل مال وتحصيل رجال.(8/98)
ثانياً: أن يخرجوا بشكل فعلي عن قبضة الإمام بسبب المنعة التي ذكرناها، إذ لو كانوا في قبضته وتحت سلطانه؛ لكان في غنى عن أن يناصبهم القتال، ولأمكن أن يكتفي بمعاقبتهم بما يراه من حبس وغيره.
ثالثاً: أن يعتمدوا تأويلاً سائغاً له مجال في النظر والاجتهاد، يسوغون به تمردهم عليه، وإن كان هذا التأويل فاسداً إلا أنه لا يقطع بفساده، وذلك كتأويل الذين خرجوا على علي رضي الله عنه من أهل الجمل وصفين، بأنه يعرف قتلة عثمان رضي الله عنه، ويقدر عليهم ولا يقتص منهم لمواطأته إياهم.
فلو لم يكن لهم تأويل أو اجتهاد يعتمدون عليه في عصيانهم للأمام؛ لم يترتب عليهم حكم البغاة، ووجب قتالهم بوصف كونهم فسقة، بل ربما يكفرون إذا استحلوا عصيان إمام المسلمين، والخروج على أمره دون معتمد شرعي يستندون إليه.
رابعاً: أن يكون لهم مطاع فيهم يحصل به قوة لشوكنهم، وإن لم يكن إماماً منصوباً فيهم، يصدرون عن رأيه، إذ لا قوة لمن لا يجمع كلمتهم مطاع.
هذا ومن المهم أن تعرف أن البغاة لا يفسقون ولا يكفرون، وإن وجب على الإمام قتالهم؛ لأن لهم من وجهة النظر الشرعي ما يعتبر عذراً لهم بزعمهم هم.
دليل حكم قتالهم وحكمته:
أما دليل وجوب قتالهم فقوله عز وجل: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الحجرات: 9).
قال العلماء: هذه الآية وإن لم يكن فيها ذكر الخروج على الإمام، لكنها تشمله لعمومها، أو تقتضيه قياساً، لأنه إذا طلب القتال لبغي طائفة على طائفة فلأن يطلب ذلك للبغي على الإمام من باب أولي.
وكالآية حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة(8/99)
الإسلام من عنقه ". (أخرجه أبو داود [4758] في السنة، باب: في القتل الخوارج، عن أبي ذر رضي الله عنه).
وأما الحكمة من وجوب قتالهم ـ رغم ما قلنا من أنهم يعتمدون في عصيانهم على شبهة شرعية ـ فهي أن استتباب الأمر للإمام بعد صحة إمامته على المسلمين وشرعيتها، أساس كلي هام لاجتماع شمل المسلمين وبقاء وحدتهم، وخوف الأعداء منهم، وهو ما أمر الله المسلمين بالدخول في بيعة أمام لهم من أجله، وذلك كان من الواجب على عامة المسلمين طاعة الإمام ولو كان جائرا، لكن الطاعة مشروطة بما لا معصية فيه، وذلك لأن عصيان العامة للإمام أخطر على المسلمين من وجوره في حقهم.
فمن أجل ذلك أمر الله الحاكم بقتال أهل البغي، دون أن يشفع لهم اجتهادهم ومعتمدهم الذي يستندون إليه، إذ إن خضوعهم لأمره أعظم خيراً للمسلمين من تمسكهم باجتهادهم.
طبيعة قتال البغاة ومظاهر الفرق بينه وبين غيره:
يمتاز قتال البغاة عن القتال غيرهم من الكفار والفسقة والأعداء بمظاهر هامة، نظراً إلى أن البغاة لا يفسقون كما قلنا، ولا ينسبون إلى أي بدعة، وإنما الضرورة هي التي تدعو إلى قتالهم حفظاً للأمن، ووقاية لوحدة المسلمين أن لا تصدعها الفتن، وإليك خلاصة هذه المظاهر:
أ - يجب أن يسبق القتال نصح وحوار بينهم وبين ممثلي الإمام، كما فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه مع الذين خرجوا عليه، فقد بعث إليهم عبد الله بن عباس رضي الله عنه ليناظرهم فيما يدعون. فلعلهم يرجعون إلي الحق أو يرجع بعضهم.
ففي الحلية لأبي نعيم عن ابن عباس قال: لما اعتزلت الحرورية قلت لعلي: يا أمير المؤمنين أبرد عني الصلاة لعلي آتي هؤلاء القوم فأكلمهم، قال: أني أتخوفهم عليك، قال قلت كلا إن شاء الله، فليست أحسن ما أقدر عليه من هذه اليمانية ثم دخلت عليهم وهم قائلون في نحر الظهيرة، فدخلت علي قوم لم أر قوماً أشد اجتهاداً منهم، أيديهم كأنها ثفن إبل ـ جمع ثفنة وهي(8/100)
ركبة البعير وما مس الأرض من كركرته ـ ووجوههم مقلبة من آثار السجود، قال: فدخلت فقالوا: مرحباً بك يا ابن عباس، ما جاء بك؟ قال؟ جئت أحدثكم، على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نزل الوحي، وهم أعلم بتأويله، فقال بعضهم: لا تحدثوه، وقال بعضهم: لنحدثنه. قال: فقلت أخبروني ما تنقمون على ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وختنه وأول ممن آمن به، وأصحاب رسول الله معه؟ قالوا: أولاهن أنه حكم الرجال في دين الله، وقد قال الله عز وجل: {إن الحكم إلا الله} (سورة الأنعام: 57)، قال: قلت: وماذا؟ قالوا: قاتل ولم يسب ولم يغنم، لئن كانوا كفاراً لقد حلت له أموالهم، وإن كانوا مؤمنين لقد حرمت عليه دماؤهم، قال: قلت: ثم ماذا؟ قالوا: ومحا نفسه من أمير المؤمنين فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين.
قال: قلت أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب الله المحكم، وحدثتكم من سنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - ما لا تنكرون أترجعون؟ قالوا: نعم، قال: قلت أما قولكم إنه حكم الرجال في دين الله فإنه يقولك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ} ... (سورة المائدة: 95). وقال في المرأة وزوجها: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا} (سورة النساء: 35). أنشدكم الله أفحكم الرجال في حقن دمائهم وأنفسهم وصلاح ذات بينهم أحق، أم في أرنب ثمنها ربع درهم؟ فقالوا: اللهم في حقن دمائهم وصلاح ذات بينهم، فقال: أخرجت من هذه؟ قالوا: اللهم نعم.
قال: وأما قولكم إنه قاتل ولم يسب ولم يغنم، أتسبون أمكم ثم تستحلون منها ما تستحلون من غيرها؟ فقد كفرتم، وإن زعمتم أنها ليست بأمكم فقد كفرتم وخرجتم من الإسلام، أن الله عز وجل يقول: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (سورة الأحزاب: 6)، فأنتم تترددون بين ضلالتين، فاختاروا أيتهما شئتم، أخرجت من هذه؟ قالوا: اللهم نعم.
قال: وأما قولكم محا نفسه من أمير المؤمنين؛ فإن، رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا قريشاً يوم الحديبية على أن يكتب بينه وبينهم كتاباً، فقال: اكتب هذا ما(8/101)
قاضي عليه محمد رسول الله، فقالوا: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبدالله، فقال: والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب يا على محمد بن عبدالله. فرسول الله كان أفضل من علي، أخرجت من هذه؟ قالوا: اللهم نعم، فرجع منهم عشرون ألفاً، وبقي منهم أربعة آلاف فقتلوا. (انظر كتاب الحلية لأبي نعيم [1/ 318 ـ 320]).
وفي البداية والنهاية لابن كثير: أن علياً بعث إلى الخوارج عبدالله بن عباس، حتى إذا توسط عسكرهم، فقام ابن الكوا فخطب الناس فقال: يا حملة القرآن، هذا عبدالله بن عباس، فمن لم يكن يعرفه فإني أعرفه، ممن يخاصم في كتاب الله بما لا يعرفه، هذا ممن نزل فيه وفي قومه: {بل هم قوم خصمون} فردوه إلى صاحبه ولا تواضعوه كتاب الله، فقال بعضهم: والله لنواضعنه، فإن جاء بحق نعرفه لنتبعنه، وإن جاء بباطل لنكبتنه بباطلة، فواضعوا عبدالله الكتاب ثلاثة أيام، فرجع منهم أربعة آلاف كلهم تائب، فيهم ابن الكوا، حتى أدخلهم على علي الكوفة (1).
فإن لم يجد الحوار والنصح بينهم وبين ممثلي الإمام؛ يتل ذلك التحذير والتخويف من عاقبة الاستمرار على العصيان، ثم يتبع ذلك الإنذار بالقتال، حتى إذا لم تجد هذه الأسباب كلها شيئاً؛ وجب القتال. وقد مر بيان هذا غي أول البحث.
ب - لا يجوز بعد بدء القتال ملاحقة المدبرين منهم، ولا القضاء على المثحنين بالجراح منهم، وإنما يحصر القتال في مواجهة من يواجه القتال بمثله.
جـ - لا يجوز قتل كم يؤسر منهم، لصريح ما ورد من النهي عن ذلك في حديث البيهقي [8/ 182] عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لابن مسعود: يا ابن أم عبد ما حكم من بغي من أمتي؟ قال: الله ورسوله أعلم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يتبع مدبرهم، ولا يجهز على جريحهم، ولا يقتل جريحهم، وزاد البيهقي:
_________
(1) البداية والنهاية: [7/ 281]. لنواضعنه: في القاموس: المواضعة المراهنة ومشاركة البيع والموافقة في الأمر. وهلم أواضعك الرأي: أطلعك على رأيي وتطلعني على رأيك.(8/102)
ولا يغنم فيئهم. وروى ابن أبي شيبة ـ مغني المحتاج [4/ 127]ـ أن علياً رضي الله عنه أمر مناديه يوم الجمل فنادي: لا يتبع مدبر، ولا يذفف على جريح، ولا يقتل أسير، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن.
نعم يجب حبسه إن لم يذعن للمبايعة والاحتفاظ به، إلى أن تنقضي الحرب ويتفرق جمع البغاة، ليكفى شره، ثم يطلق سراحه بعد أن يأخذ عليه العهد أن لا يعود إلى القتال، فإن خيف من نكثه العهد جاز إبقاؤه في السجن، حتى يغلب على الظن صدقه في العهد.
أما إذا أذعن للطاعة قبل انقضاء الحرب؛ وظهرت علائم الصدق عليه، فيجب المبادرة إلى إطلاق سراحه.
د - لا يجوز امتلاك شيء من أموالهم على وجه الغنيمة، بل ينظر:
فما كان منها آلات حرب فيحتفظ بها إلى أن تضع الحرب أوزارها، ويطمئن الحاكم إلى أنهم لم يعودوا إلى القتال، فتعاد إليهم عند ذاك، فإن بقي الخوف قائماً من عودهم إلى القتال لم تسلم إليهم، وبقيت تحت يد الدولة على وجه الاحتفاظ لا الامتلاك.
وما كان منها أموالاً عادية؛ فيجب إعادته إلى أصحابه عند انقضاء الحرب، وإن خفنا عودهم إلى القتال.
الآثار المترتبة على قتال البغاة:
1 - إذا بدأ الإمام قتال البغاة بالشروط التي ذكرناها، وبعد المقدمات التي أوضحناها، فمن قتل منهم أثناء المعركة فدمه هدر، لا يتابع قاتله بقصاص ولا دية، لما عرفت من مشروعية هذا القتال ووجوبه.
2 - إذا انقضت الحرب وقتل جنود الإمام أحد البغاة، فإن كان قد بايع على السمع والطاعة اقتص من القاتل، إلا أن يحلف القاتل أنه ظنه باغياً أي مصراً على العصيان، فيطالب بالدية ويسقط القصاص.
3 - إذا قتل الأسير أو ذفف الجريح وجبت ديته على القاتل، وسقط القصاص لوجود الشبهة في جواز قتله، وقد مر بك حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ادرؤوا الحدود ما استطعتم".(8/103)
أحكام الردة
معنى الردة:
الردة في اللغة: الرجوع عن الشيء إلى غيره، وهي في اصطلاح الشريعة الإسلامية: الرجوع عن الإسلام بعد اعتناقه إلى أي دين من الأديان، أو عقيدة من العقائد.
والردة أفحش أنواع الكفر، وأغلظه حكماً وأثراً، ومن الأدلة على ذلك قول الله تبارك وتعالى: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (سورة البقرة: 217).
ضابط ما تكون به الردة:
تقع الردة عن الإسلام بواحد من ثلاثة أشياء:
الأول: إنكار حكم مجمع عليه، معروف في الدين بالضرورة: كإنكار وجوب الزكاة والصوم والحج، وكإنكار حرمة شرب الخمر، أو أكل الربا، وإنكار أن القرآن كلام الله عز وجل، فهذه أحكام معروفة بالضرورة لكل مسلم، يستوي فيها علماء الدين وغيرهم، ولذلك كان الجحود بها من أسباب الردة.
أما إن أنكر حكماً غير مجمع عليه، أو مجمع عليه ولكنه خفي عن كثير من الناس، فإن إنكاره لا يستلزم الردة، كما أنكر مشروعية صلاة الضحي، أو أنكر حرمة زواج المطلقة قبل انقضاء عدتها.
الثاني: أن يفعل فعلاً من خصائص الكفار: كالسجود لصنم، وممارسة(8/104)
شيء من عبادات الكفار، أو أن يفعل فعلاً يتنافي مع التزامه لدين الإسلام: كأن يلقي مصحفاً في قاذورة متعمداً، وكالمصحف كتب الحديث والتفسير، بشرط أن يفعل ذلك مختاراً لا مكرهاً.
الثالث: أن ينطق بقول يتنافى مع التزامه الإسلام، سواء صدر ذلك عنه اعتقاداً، أو عناداً، أو استهزاء؛ مثاله: أن يسب الدين، أو الإله، أو أحد الأنبياء، أو أن يقول مثلاً: الإسلام لا يتلاءم مع الرقي الإنساني، أو الخالق غير موجود، أو الزكاة تتنافى مع المجتمع الاشتراكي، أو إن إلزام المرأة بالحجاب مظهر من مظاهر التخلف.
فمثل هذه الأقوال مستوجبة للردة، سواء كان الدافع إلى النطق بها اعتقاداً، أو غضباً، أو عناداً: كأكثر الذين يسبون الدين، أو يشتمون الإله عز وجل في ظروف غضب أو مشاكسة، أو استهزاء لمجرد إثارة الضحك وأسباب اللهو والسخرية: كمن يقول لزميله الذي يعظه: إذا دخلت الجنة غداً فأغلق الباب خلفك، ولا تدخلني معك.
التحذير من الوقوع في الردة:
لاحظت مما مضي بيانه أن الردة قد تكون بكلمة يتلفظ بها القائل، أو بتصرف يراه بسيطاً غير ذي مدلول، أو بتكذيب لحقيقة يظن صاحبه أنه لا يعبر بذلك عن أكثر من حرية الرأي والتفكير.
غير أن هذا التصرف أو الكلام الذي يراه صاحبه أمراً غير ذي بال، ينبني عليه انقلاب كلي خطير في مصير صاحبه بعد الموت، فهو بعد أن كان في حكم الله تعالى من المسلمين الذين يجوز أن يتجاوز الله عن جميع سيآتهم، ويجعل ذلك كله داخلاً في شفاعة إسلامهم، أصبح من الكافرين الذين يئسوا من رحمة الله تعالى مهما جاؤوا بد من الأعمال الإنسانية المبرورة.
كما ينبني عليه انقلاب خطير في حكم النظر إليه، والتعامل معه، في نطاق المجتمع الإسلامي في دار الدنيا، حيث تسلب منه الحقوق التالية:
أ - حق الحياة، إذ يجب إعدامه.
ب - حق الامتلاك، حيث تسقط ملكيته.(8/105)
جـ - تلغى سائر أوضاعه الشرعية بالنسبة لحالته الشخصية من زواج وميراث وغير ذلك. وسنذكر تفصيل ذلك فيما يلي.
إذا علمت هذا، فيجب على المسلم أن يحجز لسانه عن التفوه بالكلمات التي تستوجب الردة، مهما ثار به غضبه، وليجهد جهده أن يعبر عن غضبه وثورته بأي شيء أخر غير الكلمات التي تستوجب الردة، فتستوجب على أثر ذلك خراب داره في الدنيا والآخرة.
حد الردة:
وحد الردة يشمل الرجل والمرأة على السواء دون بينهما، فإذا صدر من الرجل أو المرأة ما يستوجب الردة مما مر ضابطه آنفاً، وكان كل منهما بالغاً عاقلاً، ترتيب الأحكام التالية:
أولاً: وجوب استتابته فوراً، إذ يفرض أنه لم يرتد إلا لشبهة اعترضته، أو لغضب أفقده الرشد والضبط أفقده الرشد والضبط، فينبه إلى الحق والرشد، عن طريق الاستتابة والنصح، والتنبيه إلى بطلان ما ارتد إليه، وخطورة ما انقلب إليه.
ثانياً: التحذير من عواقب الإصرار على ردته إن لم يستجب لطلب التوبة، حيث يوضح له أنه سيقتل إن هو أصر على كفره، عناداً كان، أو اعتقاداً، أو استهزاءً.
ثالثاً: وجوب القتل إن أصر على ردته، ولم يتب، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " من بدل دينه فاقتلوه ". (رواه البخاري [2854] في الجهاد، باب: لا يعذب بعذاب الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما).
وروى البخاري [6484] في الديات، باب: قول الله تعالى: أن النفس بالنفس؛ ومسلم [1676] في كتاب القسامة، باب: ما يباح بد دم المسلم، عن عبدالله رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا أله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة ".
وروى الدارقطني [3/ 118] عن جابر رضي الله عنه: أن امرأة يقال لها أم(8/106)
رومان ارتدت، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعرض عليها الإسلام، فإن تابت وإلا قتلت.
شروط إقامة الحد على المرتد:
قلنا فيما سبق: إن حد الردة هو القتل فوراً، ولكن لا يقام حد الردة ألا إذا توفرت الشروط التالية:
1 - البلوغ والعقل، فلا عبرة بردة الصبي والمجنون، لأنهما غير مكلفين، إلا أن على ولي الصبي تأديبه وزجره واستتابته مما تصرف أو تفوه به.
2 - الاستتابة، فلا يجوز قتل المرتد قبل أن يستتاب، ولكنه بعد الاستتابة يقتل فوراً، ولا يمهل إن لم يتب.
روى البخاري [6525] في كتاب استتابة المرتدين، باب: حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم: حديث تولية أبي موسى الأشعري رضي الله عنه على اليمن، فيه: ثم اتبعه معاذ بن جبل رضي الله عنه، فلما قدم عليه ألقى له وسادة، قال: انزل، وإذا رجل عنده موثق، قال: ما هذا؟ قال: كان يهودياً فأسلم، ثم تهود، قال: اجلس، قال: لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله، ثلاث مرات، فأمر به فقتل.
[قضاء الله: أي هذا قضاء الله. ثلاث مرات: أي كرر قوله ثلاثاً].
3 - ثبوت ردته بإقرار أو شهادة صحيحة متوفرة الشروط.
الآثار المترتبة على الارتداد:
إذا ارتد المسلم، وثبت على ردته، ولم يتب، ترتبت، آثار هامة على ذلك، علاوة على ما ذكرنا من وجوب إقامة الحد عليه قتلاً، وهذه الآثار هي:
1 - الحجر التام على سائر أمواله، حيث توضع تحت إشراف الإمام الأكبر، أو من يرفع الحجر عنها، ويتبين أنه كان خلال ارتداده مالكاً لها. وإن لم يتب وقتل، تبين أن ملكيته عليها زالت منذ ارتداده.
ومعنى ذلك أن الحكم بمصير ملكيته يكون موقوفاً على معرفة نتيجة أمره من توبة، أو إصرار يعقبه قتل.(8/107)
2 - بطلان سائر تصرفاته وعقوده المدنية من بيع وشراء وهبة ورهن، ونحو ذلك، إذ يفقد بالردة أهليته لذلك كله.
3 - انقطاع حق التوارث فيما بينه وبين أقاربه. فلو مات قريب له مسلم أثناء ردته، لم يرث منه شيئاً، وإن كان في الأصل معدوداً من الورثة له، لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم". (رواه البخاري [6383] في الفرائض، باب: لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم؛ ومسلم [1614] في الفرائض، في فاتحته، عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما).
4 - يفصل بينه وبين زوجته، ويعتبر عقد الزواج ببينهما موقوفاً، فإن تاب ورجع إلى الإسلام خلال مدة العدة، عادت إليه زوجته بدون عقد، ولا رجعة، ويتبين استمرار عقده الأصلي صحيحاً، وإن لم يتب خلال مدة العدة، فسخ العقد، وتبين أن فسخه كان منذ ساعة ارتداده، فإذا تاب بعد ذلك لم يكن له أن يعود إليها إلا بعقد ومهر جديدين.
الآثار المترتبة على قتل المرتد:
وهي غير الآثار المترتبة على ردته بقطع النظر عن القتل، وهي تتلخص فيما يلي:
1 - حرمة تغسيله وتكفينه والصلاة عليه، إذ لم يستوجب القتل إلا لخروجه عن دارة الإسلام وحكمه، وإنما يغسل ويكفن ويصلي عليه من كان خاضعاً لدين الإسلام ملتزماً لحكمه، قال الله عز وجل: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌَ} (سورة البقرة: 217).
2 - لا يدفن في مقابر المسلمين، بل تحفر له حفرة في مكان ما بعيداً عن مقابر المسلمين، ويوارى فيها.
3 - لا يرثه أحد من أقاربه، لانقطاع الأساس الذي تقوم عليه القرابة المعتبرة في الإسلام، وهو وحدة الدين، للحديث السابق ذكره، ولأن ملكيته تزول عن الأموال التي في حوزته بالردة، غير أنه لا يقضي بذلك إلا بعد موته مرتداً، إذ يتبين بذلك أنه منذ اللحظة التي ارتد فيها عن الإسلام لم يعد مالكاً لشيء مما تمتد يده عليه.(8/108)
أحكام ترك الصلاة
أهمية الصلاة في الإسلام:
الصلاة أول مظهر من مظاهر الإسلام في حياة المسلم، وأهم تعبير عن عبودية الإنسان لله عز وجل، وحسبك من أهميتها خطورة أمرها قول الله عز وجل: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً} (سورة النساء: 103)، وقوله تبارك وتعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} (سورة طه: 132).
فإذا ترك المسلم الصلاة، فقد قطع بذلك شوطاً كبيراً إلى الكفر، وقلما يواظب المرء على ترك الصلاة، ثم تسلم في قلبه عقيدة الإسلام، فقد قال عليه الصلاة والسلام: "إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة". (رواه مسلم [82] في الإيمان، باب: إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة).
وإذا واظب المسلم على الصلاة جعل الله له منها كفارة لآثامه، وطهوراً لأدرانه، وكان له منها نسب موصول إلى الله عز وجل يري أثره عند الموت، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " مثل الصلوات الخمس كمثل نهر عذب غمر بباب أحدكم يقتحم فيه كل يوم خمس مرات، فما ترون ذلك يبقي من درنه؟ "، قالوا: لا شيء، قال - صلى الله عليه وسلم -: "فإن الصلوات الخمس تذهب الذنوب كما يذهب الماء الدرن". (رواه البخاري [505] في مواقيت الصلاة، باب: الصلوات الخمس كفارة؛ ومسلم [668] في المساجد، باب: المشي إلى الصلاة تمحى به الخطايا وترفع به الدرجات).
حكم تارك الصلاة:
ينقسم تارك الصلاة إلى ضربين:
الأول: من يتركها غير معتقد بوجوبها، أو مستخفاً بشأنها، فهو بذلك يكون(8/109)
مرتداً، وقد مر بيان حكمه وحده، إذ إنه أنكر أمراً معروفاً من الدين بالضرورة.
الثاني: من يتركها موقناً بوجوبها، كأن كان الحامل على تركها الكسل أو نحوه، فهذا المسلم مرتكب لجرم كبير يستوجب ـ إن هو أصر على ذلك ـ حداً من حدود الإسلام.
فيؤمر أولاً بالتوبة، والنهوض إلى الصلاة، وينبغي أن يقوم بذلك الحاكم، أو من ينوب منآبه، فإن لم يقم بذلك كان على أي مسلم أن يقوم مقامه، في أمره بالتوبة، وهو أمر إلزامي علي سبيل الوجوب، يتحتم القيام به فوراً.
فإن لم يتب، ولم ينهض إلى الصلاة، وجب إقامة الحد عليه.
حد تارك الصلاة:
يحد تارك الصلاة ـ بعد استتابته ـ بالقتل، بضرب عنقه بالسيف، ولو على صلاة واحدة، حداً من حدود الإسلام، لا كفراً. ودليل ذلك ما روى البخاري [25] في الإيمان، باب: فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم، ومسلم [22] في الإيمان، باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله. .، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله ".
وقال - صلى الله عليه وسلم -: " خمس صلوات كتبهن الله على العباد، فمن جاء بهن لم يضيع منهن شيئاً استخفافاً بحقهن، كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن، فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة". (رواه مالك في الموطأ [1/ 123] في صلاة الليل، باب: الأمر بالوتر؛ وأبو داود [425] في الصلاة، باب: في المحافظة على وقت الصلاة).
فدل الحديث على أن تارك الصلاة لا يكفر، لأنه لو كفر لم يدخل في قوله: "إن شاء أدخله الجنة" لأن الكافر لا يدخل الجنة قطعاً. فحمل الحديث على تركها كسلاً جمعاً بين الأدلة.(8/110)
كم يمهل تارك الصلاة قبل تنفيذ الحد؟
يجب أولاً استتابة تارك الصلاة كما قلنا.
فإن لم يتب أنذره الحاكم بتنفيذ حد القتل فيه، ثم أمهله، وهو موضوع تحت المراقبة، وفي متناول الحاكم، وإلى أن تخرج الصلاة عن وقت الضرورة والعذر.
ووقت العذر للصلاة، هو آخر وقت لجمعها جمع تأخير مع غيرها. فيقتل على تركه صلاة الظهر عند مغيب الشمس، ودخول وقت المغرب، ومثلها صلاة العصر، لأنهما يجمعان جمع تأخير لأرباب الأعذار، وآخر وقت جمعهما مغيب الشمس، ويقتل على تركه صلاة المغرب والعشاء عند بزوغ الفجر، لأنهما يجمعان جمع تأخير عند العذر، ويمتد وقتهما على هذا الأساس إلى أول وقت الفجر.
فإذا خرج وقت الضرورة الذي هو وقت الجمع تأخيراً للصلاة المتروكة، وهو مصر بعد على الترك بدون عذر، رغم الاستتابة والتهديد بالقتل، نفذ فيه الحد الذي ذكرنا.
الآثار المترتبة على إقامة الحد:
حكم تارك الصلاة كسلاً ـ أو لدافع نحوه ـ بعد القتل حداً، حكم باقي المسلمين، فيجب دفنه حسب الطرق المشروعة، وغسله وتكفينه، والصلاة عليه، كغيره من المسلمين.
ولا تتأثر علاقة القرابة بينه وبين ذوي قرباه بهذا الحد، فيرث منه أقاربه، وتستمر أحكام الزوجية من عدة وإحداد وغير ذلك بالنسبة لزوجته.
خاتمة:
لو زعم زاعم أن بينه وبين الله حالة من القرب أسقطت عنه الصلاة، وأحلت له بعض المحرمات، فلا شك في وجوب قتله، كأي رجل جاحد للصلاة، ومثل ذلك ما لو ادعى أنه يصلي في الكعبة وهو بعيد عنها، كما نقل عن بعض مدعي التصوف.
قال الفقهاء: وقتل هؤلاء أفضل من قتل مائة كافر، لأن ضرره أشد.(8/111)
الباب الثاني
أحكام الجَهاد(8/113)
أحكام الجهاد
معني الجهاد:
الجهاد في اللغة مصدر جاهد، أي بذل جهداً في سبيل الوصول إلي غاية ما. والجهاد في اصطلاح الشريعة الإسلامية: بذل الجهد في سبيل إقامة المجتمع الإسلامي، وأن تكون كلمة الله هي العليا، وأن تسود شريعة الله العالم كله.
أنواع الجهاد:
من التعريف الذي ذكرناه للجهاد، يتضح أن الجهاد أنواع، منها:
1 - الجهاد بالتعليم، ونشر الوعي الإسلامي، وردّ الشبه الفكرية التي تعترض سبيل الإيمان به، وتفهم حقائقه.
2 - الجهاد ببذل المال لتأمين ما يحتاج إليه المسلمون في إقامة مجتمعهم الإسلامي المنشود.
3 - القتال الدفاعي: وهو الذي يتصدي به المسلمون لمن يريد أن ينال من شأن المسلمين في دينهم.
4 - القتال الهجومي: وهو الذي يبدؤه المسلمون عندما يتجهون بالدعوة الإسلامية إلي الأُمم الأخرى في بلادها، فيصدّهم حكامها عن أن يَبْلُغوا بكلمة الحق سمع الناس.
5 - حالة النفير العام، وذلك عندما يقتحم أعداء المسلمين ديارهم معتدين بذلك على دينهم وأرضهم، وحرية اعتقادهم.(8/115)
والتعريف الشامل لكل هذه الأنواع أنه: بذل الوسع انتصاراً لشريعة الله، ورفعاً لكلمته في الأرض.
الترغيب في الجهاد وبيان فضله:
لقد جاءت الآيات كثيرة، تأمر بالجهاد وتحضّ عليه، وتبيّن مكانته وتذكر فضل المجاهدين، والشهداء عند الله عزّ وجل. وكذلك جاءت السنّة النبوية المشرّفة فأغنت هذا الموضوع، وزادته وضوحاً، ودعت إليه ورغّبت فيه، وبيّنت فضله ومكانته عند الله تبارك وتعالى.
قال الله عزّ وجل:
{وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ} (البقرة190).
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (سورة التوبة: 123)
" {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} " (سورة التوبة: 111)
" {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعاً} (سورة النساء: 71)
" {انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (سورة التوبة: 41)
" {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (سورة البقرة: 216)
" {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى(8/116)
الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (سورة التوبة: 38 - 39).
{وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ} (سورة البقرة: 154).
وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ " (سورة آل عمران: 169 - 170)
وأما الأحاديث فكثيرة منها:
حديث أبي داود {2533} في الجهاد، باب: الغزو مع أئمة الجَوْر، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: الجهادُ واجبٌ عليكم مَعَ كلِّ أميرِ، بَرَّاً كان أو فاجِراً "
وقال عليه الصلاة والسلام: " جاهدُوا المشركينَ بأموالكم وأنفسكُم وألسنتِكُم ". (رواه أبو داود {2504} في الجهاد، باب: كراهية ترك الغزو، والنسائي {6/ 8} في الجهاد، باب وجوب الجهاد، عن أنس رضي الله عنه).
وقال - صلى الله عليه وسلم -: {يا أيُها النَّاسُ، لا تَتَمَنَّوا لقاءَ العدُوَّ واسألوا الله العافِية، فإذا لقيتُموهمْ فاصبرُوا واعلمُوا أنَّ الجنةَ تحتَ ظلالِ السيوفِ}. (رواه البخاري [2861، 2862] في الجهاد، باب: لا تمنّوا لقاء العدو، ومسلم [1742] في الجهاد باب: كراهية تمنّي لقاء العدو، عن عبدالله بن أبي أوفي رضي الله عنه).
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - {لَغدْوةٌ في سبيل الله أو رَوْحهُ خيرٌ من الدُّنيا وما فيها} (رواه البخاري [2639] في الجهاد، باب: الغدوة والروحة في سبيل الله، ومسلم [1880] في الإمارة، باب: فضل الغدوة والروحة في سبيل الله، عن أنس رضي الله عنه).
[الغدوة: زمن ما بين طلوع الشمس إلي الزوال. والروحة: زمن ما بين الزوال إلي الليل].(8/117)
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: {ما من عبد يموت، له عند الله خير، يسره أن يرجع إلي الدنيا، وأن له الدنيا وما فيها إلا الشهيد، لما يري من فضل الشهادة، فإنه يسره أن يرجع إلي الدنيا فيقتل مرة أخري} (رواه البخاري [2642] في الجهاد، باب: الحور العين ... ) والأحاديث في الباب كثيرة جداً.
حكم الجهاد:
الجهاد فرض كفاية بالنظر لأنواعه الأربعة التي سبق ذكرها، فإذا قام به من فيهم كفاية سقطت المسؤولية عن الباقين. ومن هذه الأنواع ـ كما قد علمت ـ إقامة الحجج ورد الشبه والمشكلات عن الدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونشر المعارف والعلوم الدينية الإسلامية.
والجهاد فرض عين: بالنظر لنوعه الخامس والأخير ـ وقد مر بك ـ وهو ما يسمي بالنفير العام، فيجب على جميع المكلفين من أهل البلدة التي اقتحمها العدو، رجالاً ونساءً ـ إن اقتضي الأمر ـ أن يهبوا للذود عن أرض الإسلام وحكمه.
الفرق بين الحرب والجهاد:
وبهذا الذي ذكرناه يتضح لك الفرق جلياً بين الحرب والجهاد.
فالحرب حالة من حالات الجهاد، أو نوع من أنواعه، وليس كل جهاد حرباً. أي فكلمة الجهاد أعم من كلمة الحرب في المفهوم والمعني.
تحديد الفرق بين الجهاد وأنواع أخري من القتال:
كما يتضح لك بما قد ذكرناه أن ثمة فرقاً كبيراً بين القتال الذي يكون جهاداً في سبيل الله وغيره مما قد مر بك بيان بعض منه.
ـ فقتال الصائل: قائم على رد عدوان دنيوي، يستهدف حياةً أو مالاً أو بضعاً، ومشروعيته ليست من أجل إعلاء كلمة الله من حيث هي، بل للمحافظة على المصالح التي جاء الإسلام من أجل رعايتها والمحافظة عليها للناس.
ـ وقتال البغاة قائم على رد أسباب الفوضى، والتصدي لنذير الشر، وتصديع الوحدة الإسلامية داخل الدولة الإسلامية الواحدة، وليس قائماً على(8/118)
الدافع الكلي الذي يدخل في قوام معني الجهاد، وهو إعلاء كلمة الله تعالي، ونشر الشريعة الإسلامية، ورفع لوائها في الأرض.
غير أنه قد يلتقي الجهاد في سبيل الله مع قتال الصائل في صورة واحدة:
وهي أن يعتدي عدو للمسلمين على قطعة من ديارهم ابتغاء الانتقاص من أرضهم والقضاء على دينهم، فيقاتلهم المسلمون من أجل ردهم عن كلا الغرضين، فهو قتال جهاد، ورد صيال معاً.
زمن مشروعية الجهاد والتدرج الذي تم في تشريعه:
أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مكة ثلاث عشر عاماً، يدعو إلي الله سلماً لا يقابل العدوان بمثله، فلما هاجر عليه الصلاة والسلام إلي المدينة شرع الله المرحلة الأولي من مراحل الجهاد، وهي التصدّي لرد عدوان المعتدين، أي القتال الدفاعي، ونزل في تشريع ذلك قوله عزّ وجل: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} (سورة الحج: 39 - 40)، وقوله عز وجل: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ (سورة البقرة: 190).
ثم شرع الله تبارك وتعالي لنبيه جهاد المشركين ابتداء بالقتال، إذا اقتضي الأمر ذلك إلا في الأشهر الحرم، ونزل في ذلك قوله عز وجل: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} التوبة5 وذلك بعد صلح الحديبية.
ثم شرع الله تبارك وتعالى لنبيه جهاداً من غير تقيد بشرط زمان ولا مكان، ونزل في ذلك قوله عز جل {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ} البقرة191
فالشأن في مشروعية الجهاد يشبه الشأن في حكم تحريم الخمر، فقد تكامل الحكم في كل منهما على مراحل، غير أن أول مشروعيته إنما كان عقب هجرة المصطفي - صلى الله عليه وسلم - إلي المدينة المنورة.(8/119)
الحكمة من مشروعية الجهاد:
لقد علمت أن القتال في سبيل الله نوع من أنواع الجهاد الذي يطلق على بذل الوسع بكل أنواعه في سبيل إعلاء كلمة الله.
والجهاد له حكمة تتعلق بالمسلمين الذين يكلفون بالجهاد، وله حكمة أخري تتعلق بأولئك الذين يجاهدهم المسلمون من الكافرين وأعوانهم.
فأما حكمة تكليف الله المسلمين بالجهاد، فهي أن يتبين صدق إيمانهم وأن يمارسوا حقيقة العبودية التي لا تتجلي إلا بتحمل المشاق والتضحية بالنفيس في سبيل الله عز وجل، من نفس وراحة ومال. يدل على ذلك قوله تعالي: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} (سورة آل عمران: 142).
وأما حكمة وقوع الجهاد بالقتال ونحوه على الكافرين، ففيه ما فيه من الجبر لهم والضغط عليهم، وتكليفهم في دين الله طوعاً أو كرهاً، فهي تتمثل في الأمور التالية:
1 - تحرير عامة الناس ودَهْمائهم من الوقوع تحت سلطة الطغاة والمستعبدين، فإن الأمة التي لا تدين بالعبودية لله عز وجل، لا بد أن يستبد الأقوياء منها بالضعفاء، ويسوقهم بعصا الاستعباد في الطريق التي ترسمها لهم أهواؤهم.
أما إذا دخل الإيمان في قلوب تلك الأمة، فإن أقوياءهم يستشعرون الضعف والمسؤولية تجاه فاطرهم العزيز جل جلاله، فيقلعون عن الظلم والاستعباد، وإن ضعفاءهم يستشعرون القوة والعزة بإيمانهم، وأن لا نافع ولا ضار إلا الله، فيتحررون عن التبعية لأسيادهم، حيث لا يذلهم تهديد ولا يخوفهم بطش أو وعيد، فتتقارب عندئذ الطبقات، وتتساوي الفئات ويستشعر الكل أنهم إخوة في ظلال العبودية لله تعالي.
والجهاد هو وسيلة كبرى لتحقيق هذا الأمر.
2 - إشعار الناس بكل فئاتهم وأنواعهم أن الأرض أرض الله والدولة دولة الله فالحكم فيها لا ينبغي أن يكون إلا له عز وجل فمن دخل في حكم الله طوعاً(8/120)
فقد أرضي بذلك ربه، وأسعد حياته ومن لم يقبل بالدخول فيه طوعاً كان لابد أن يحمل عليه كرهاً، وإنما سبيل ذلك الجهاد.
فمن قال لك: إن الناس أحرار يدينون بما يشاؤون، ويحكمون بما يريدون، فقل،: أي دولة من دول الأرض تقبل هذا المنطق من رعاياها عندما تلزمهم بقانونها المصنوع، وتشريعها الموضوع، وكيف جاز لهذه الدول أن تهدد المتمردين إن تمردوا ثم تقتلهم وتسوي بهم الأرض إن هم أصروا وعاندوا، ثم لا يجوز لرب هذه الأمم والدول كلها أن يلزمهم بتشريعه، وأن يحكمهم بقانونه؟!
3 - درء أسباب الشقاق والخصومات الناتجة عن الإعراض عن تشريع الله وحكمه، والاستعاضة عنهما بتشريعات البشر وأحكامهم، فإن الناس إذا لم يدخلوا خاضعين تحت حكم خالقهم الفرد الصمد جل جلاله، اضطروا إلي أن يتواضعوا فيما بينهم على تشريعات هم الذين يؤلفونها، ولا بد أن تتدخل في الخلاف، وتتصارع الاتهامات، ثم لابد أن يتحول الشقاق إلي حرب مستمرة وشقاق لا نهاية له، وإنما المفر من ذلك تحكيم شرع الله، وليس من سبيل لذلك في كثير من الظروف إلا الجهاد وقد عبر البيان الآلهي عن هذه الحكمة أروع تعبير في هذه الآية: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} (سورة البقرة: 193).
شروط وجوب الجهاد:
هناك شروط تتعلق بالمجاهدين، وشروط تتعلق بالكفار.
أولاً: الشروط التي تتعلق بالمجاهدين:
إنما يجب الجهاد (عندما يكون فرض كفاية) على من توفرت فيه الشروط التالية:
1 - الإسلام: فلا يجب على كافر أصلي وجوب مطالبة في دار الدنيا، لأن الجهاد عبادة وهي لا تصح من كافر، شأنه في ذلك كشأن الصلاة والصوم ونحوهما.(8/121)
2 - التكليف: فلا يجب الجهاد على صبي، ولا علي مجنون وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرد صغاراً لم يصلوا إلي سن التكليف عن الاشتراك في الغزو.
روي البخاري [2521] في الشهادات، باب: بلوغ الصبيان وشهادتهم، ومسلم [1868] في الإمارة، باب: بيان سن البلوغ، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنه، قال: (عرضني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد في القتال، وأنا ابن أربع عشرة سنة، فلم يجزني، وعرضني يوم الخندق، وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني) أي فأذن لي بالخروج والاشتراك في القتال.
3 - الذكورة: فلا يجب الجهاد على أنثي، لضعفها عن القتال، ولأن الأمر فيه سعة، بسبب كونه فرض كفاية، فيكفي أن يقوم به الرجال، وهم أقدر عليه من النساء بغير شك.
روي البخاري [1762] في الإحصار وجزاء الصيد، باب: حج النساء عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قلت: يا رسول الله، ألا نغزوا ونجاهد معكم؟ فقال: لكن أحسن الجهاد وأجمله، حج مبرور.
وروي ابن خزيمة [3074] في الحج، باب الدليل على أن جهاد النساء الحج والعمرة، وغيره بأسانيد صحيحة عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: يا رسول الله، هل على النساء جهاد؟ قال: نعم، جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة.
4 - الاستطاعة: وتشمل الاستطاعة الجسمية مطلقاً، والاستطاعة المالية إذا لم يكن لدي الدولة ما تغني به المجاهدين من ركوب وعتاد ونفقة، ونحو ذلك، فلا يجب الجهاد على من ليس مستطيعاً على نحو ما ذكرنا كالأعمى والأعرج، وفاقد النفقة، ودليل ذلك قول الله تبارك وتعالى: {لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ* وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ} (سورة التوبة: 91 - 92).
[الحرج: الإثم والذنب، ونفي الحرج نفي للإثم والذنب، وهو يتضمن نفي الوجوب](8/122)
5 - رضا الوالدين: فلو لم يرض أبوه وأمه بخروجه للجهاد لم يجز له مخالفتهما، لأن حقهما عند الضرورة والحاجة إلي المساعدة ألزم إذ هو فرض عين بينما الجهاد في الحالة التي نذكرها فرض كفاية.
جاء في الصحيحين: أن رجلاً استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجهاد، فقال: {ألك والدان؟ } قال: نعم، قال: {ففيهما فجاهد}.
وفي رواية: أقبل رجل إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد، أبتغي الأجر من الله، فقال: هل من والديك أحد حي؟ قال: نعم، بل كلاهما حي، قال: فتبتغي الأجر من الله؟ قال: نعم قال: فأرجع إلي والديك فأحسن صحبتهما.
وفي رواية لأبي داود والنسائي: قال: جاء رجل إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: جئت أبايعك على الهجرة، وتركت أبواي يبكيان، قال: {ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما} (رواه البخاري [2842] في الجهاد، باب: الجهاد بإذن الأبوين، ومسلم [2549] في البر والصلة، باب: بر الوالدين، وأبو داود [2530] في الجهاد، باب: في الرجل يغزو وأبواه كارهان، والترمذي [1671] في الجهاد، باب: فيمن خرج في الغزو وترك أبويه، والنسائي [6/ 10] في الجهاد، باب: الرخصة في التخلف لمن له والدان، كلهم عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما).
وكالوالدين في ذلك الغريم صاحب الدين الذي حل أجله مع يسر المدين به، فلا يجوز له الخروج إلي الجهاد إلا بإذن غريمه، وأنت تعلم أن هذا كله في الجهاد الذي هو فرض كفاية.
ثانياً: الشروط التي تتعلق بالكفار:
إنما يجب على المسلمين الخروج لقتال الكفار على وجه الجهاد بعد ملاحظة الشروط التالية:
1 - أن يكون الكفار مستأمنين، أو معاهدين، أو من أهل الذمة وذلك لقوله عز وجل في حق المستأمنين: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى(8/123)
يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} (سورة التوبة: 6).
وقال تبارك وتعالي في حق المعاهدين: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ} (سورة الأنفال: 58)، فإذا لم يجد بوادر الخيانة فلا يجوز نكث العهد وخرقه، ومقاتلة أصحاب تلك العهود.
وقال عليه الصلاة والسلام في حرمة قتال أهل الذمة وقتلهم: {من قتل رجلاً من أهل الذمة لم يجد ريح الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين عاماً} (رواه أبو داود [2760] في الجهاد، باب: في الوفاء للمعاهد، وحرمة ذمته، عن أبي بكر رضي الله عنه).
وروي الترمذي [1403] في الديات، باب: ما جاء فيمن يقتل نفساً معاهدة، وابن ماجه [2687] في الديات، باب: من قتل معاهداً، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ألا من قتل نفساً معاهدة له ذمة الله ورسوله، فقد أخفر بذمة الله، فلا يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفاً ". [أخفر بذمة الله: نقض العهد وغدر به].
2 - أن يسبق القتال تعريف لهم بالإسلام، وشرح لحقيقته، ورد لما قد يكون من شبه لهم فيه، حتى إذا قامت بذلك عليهم الحجة، ولم يتحولوا عن عنادهم على الكفر، قوتلوا على ذلك، ودليل ذلك إرساله عليه الصلاة والسلام الرسائل والكتب إلي الملوك والأمراء في العالم يومئذ يعرفهم فيها بالإسلام، ويشرح لهم جوهر رسالته التي أرسله الله بها إلي العالمين، ويأمرهم بالخضوع لهذا الإسلام والدخول فيه، ولقد كان ذلك منه عليه الصلاة والسلام مقدمة لابد منها بين يدي جهادهم، وليس أدل على هذا الشرط من كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي قال فيه: " بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبدالله ورسوله إلي هرقل عظيم الروم: سلام على من اتبع الهدي، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم(8/124)
الأريسيين، و {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (سورة آل عمران: 64). (الحديث رواه البخاري [7] في بدء الوحي، باب: كيف كان بدء الوحي إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومسلم [1773] في الجهاد، باب: كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلي هرقل).
[بدعاية الإسلام: بدعوته وهي كلمة الشهادة التي يدعي إلي النطق بها أهل الملل الكافرة. توليت: أعرضت عن الإسلام، ورفضت الدخول فيه. إثم الأريسيين: إثم استمرارهم على الباطل والكفر أتباعاً لك، والمراد بالأريسيين الأتباع من أهل مملكته، وهي في الأصل جمعي أريسي، وهو الحارث والفلاح كلمة سواء بيننا وبينكم: مستوية لا تختلف فيها الكتب المنزلة، ولا الأنبياء المرسلون]
فإذا توفر هذان الشرطان، كان لإمام المسلمين أن يقاتلهم إذا اقتضته مصلحة الدعوة الإسلامية، حتى وإن كان ذلك بدون سابق إنذار.(8/125)
مراحل الجهاد وآدابه
الدعوة أولاً:
اعلم أن قتال الكفار وسيلة وليس غاية، فإذا تحقق الهدف المقصود بدون قتال، فذلك هو المطلوب، ولا يشرع القتال حينئذ، وإنما الهدف نزول الكفار الحاكمين عن عروش طغيانهم، والخضوع لحكم الله تعالي في سياسة شعوبهم ورعاياهم، وترك الحقائق الدينية تنتشر على سجيتها في أفكار الناس وعقولهم.
والوسيلة الأولي إلي ذلك إنما هي الدعوة القائمة على المنطق والحوار واستنهاض كوامن الإنسانية والإنصاف والحذر من العواقب في نفوسهم.
فإذا قطع المسلمون الشوط الكافي في سبيل هذه الدعوة بالشرح والبيان ورد الشبه، والكشف عن الغوامض، وبيان المعروف، والأمر به وبيان المنكر والنهي عنه، فإن تحقق الهدف المطلوب بذلك وحده فتلك هي النهاية التي يجب على المسلمين أن يقفوا عندها، لا يطمعون بعدها منهم بأرض ولا مال، ولا حكم ولا سلطان.
وإن لم يتحقق الهدف المطلوب، بأن قوبلت الدعوة بالاستنكار والعناد والصد والمنع، حتى لم يكن من سبيل لإبلاغها دهماء الناس عامتهم، فإن على المسلمين حينئذ أن يتبعوا هذه المرحلة بالمرحلة الثانية التي تليها، بأمر من الحاكم المسلم وبشرط أن يأنس القدرة على ذلك، وهي القتال والمناجزة.
الجزية ثانياً:
قلنا: إن الخطوة الثانية التي تلي مرحلة الدعوة إلي الله بالحكمة والموعظة الحسنة، هي القتال والمناجزة.(8/126)
غير أنه إذا أمكن تفادي القتال والمناجزة بوسيلة وسطي بين العناد على الكفر بعد وضوح الأدلة على بطلانه، وبين الدخول في الإسلام تديناً به، وهذه الوسيلة الوسطى، هي الدخول في حكم الدولة الإسلامية والانسجام مع أحكامه التشريعية المتعلقة بالنظام الاجتماعي، وجب المصير إليها، وإقامة سلم بينهم وبين المسلمين على أساسها، على أن يخضع الكافرون لضريبة تدفع إلي إمام المسلمين، تنزل منزلة الزكاة التي يدفعها المسلمون إليه تسمى: الجزية وذلك بناء على شروط معينة سنذكرها بعد قليل إن شاء الله تعالي.
القتال ثالثاً:
فإن رفض الكفار بعد إجراء كل ما سبق، الدخول في الإسلام، ورفضوا الانضواء تحت سلطانه قانوناً ونظاماً، كانت المرحلة الثالثة، وهي القتال، وذلك لصريح قول الله تبارك وتعالي: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ,لا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} (سورة التوبة: 29)
ولقول ربعي بن عامر لقائد الجيش الفارسي: إن مما سنهُ لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن لا نمهل الأعداء أكثر من ثلاث، فانظر في أمرك، واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل: الإسلام وندعك وأرضك، أو الجزاء ـ أي الجزية ـ ونقبل ونكف عنك وإن احتجت إلينا نصرناك، أو المنابذة ـ أي القتال ـ في اليوم الرابع.
من هم الذين يخيرون بين الإسلام والجزية؟
تنقسم فئات الكفار، من حيث الخضوع لحكم الجزية وعدمه إلي طائفتين:
الطائفة الأولي: هم أهل الكتاب هم أهل الكتاب، ومن في حكمهم، فأما أهل الكتاب فهم اليهود والنصارى، وأما الذين هم في حكمهم، فالمجوس، وزاعمو التمسك بصحف إبراهيم وزبور داود عليهما الصلاة والسلام.
الطائفة الثانية: وهم من عدا أولئك الذين ذكرناهم، من سائر الكفار، سواء كانوا ملا حدة، أو عبدة أوثان، أو غير ذلك.
فالطائفة الأولي هي التي تقبل منها الجزية، حين تخير بينها وبين الإسلام وذلك لدلالة الآية السابقة، وحديث ربعي بن عامر المار ذكره.(8/127)
وأما المجوس، فقد جاء الأمر من النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعاملتهم في الجزية معاملة أهل الكتاب.
روي مالك في الموطأ [1/ 278] في الزكاة، باب: جزية أهل الكتاب والمجوس، عن جعفر بن محمد رحمه الله، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذكر المجوس، فقال: ما أدري كيف أصنع في أمرهم؟ فقال عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه: أشهد لقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: {سنوا بهم سنة أهل الكتاب}.
وروي البخاري [2988] في الجزية، باب: ما جاء في أخذ الجزية من اليهود والنصارى والمجوس والعجم، ومسلم [2961] في أول كتاب الزهد والرقائق، عن عمرو بن عوف الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بعث أبا عبيدة بن الجراح إلي البحرين يأتي بجزيتها.
أما الطائفة الأخرى، وهم سائر الفئات الأخرى من الكفار، على اختلافهم، فلا يقبل منهم إلا الإسلام، وذلك عملاً بدلالة النصوص الواردة، ولأن من عدا الكتابيين من الكفار، ومن في حكمهم، لا يتصلون مع المسلمين بأي علاقة أو سبب، فانضواؤهم في منهج النظام الإسلامي غير ذي معنى ولا فائدة.
وعليهم ينطبق قول الله تبارك وتعالي: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (سورة التوبة: 5)
وفيهم يصدق أيضاً قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دمائهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله " (رواه البخاري [25] في كتاب الإيمان، باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، عن عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما).(8/128)
بيان الحكمة من التفريق بين الطائفتين من الكفار:
ولعلك تسأل: فما الحكمة التي قامت عليها مشروعية قبول الكتابيين على حالهم، مع أخذ الجزية منهم؟ وهلا كان سائر الكفار مثلهم؟ والجواب أن التفريق بين هاتين الطائفتين قائم على حقيقتين اثنتين:
الحقيقة الأولي: ومفادها أن الكتابي يشترك مع المسلمين في إيمانه بالله والنبيين، وإن لم يؤمن بوحدانية الله، ولا بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، أو آمن بنبوته إلي العرب فقط، فكان له سبيل سائغة للانضواء تحت نظام الحكم الإسلامي، كشرعة وقانون، وكان له من إيمانه هذا ما يجعله متمكناً من الانسجام مع نظامه، ثم إنه بعد ذلك سيجد مجالاً رحباً للنظر بإمعان وحرية فكرية مطلقة في حقيقة الإسلام وواقعه، ولسوف يظهر له مع الزمن ـ إن كان يتمتع بحرية فكرية تامة ـ أن الإسلام دين حق لا مرية فيه. أما الجزية التي تؤخذ منه، فهي كما قلنا آنفاً: ليست إلا عوضاً عن الزكاة التي تؤخذ من أغنياء المسلمين، لتحقيق نفس الفائدة بواسطتها، وهي إعادتها على فقرائهم، ونهوض الدولة بالمسؤولية التامة تجاههم.
الحقيقة الثانية: أن بقية فئات الكفر لا تجمعهم مع المسلمين أي جامعة، ومن ثم فليس من سبيل لانضوائهم في نظام الحكم الإسلامي، ولتجاوبهم معه، وهم بعد ذلك ـ فيما يحملون من عقائد الجحود بالله، وإنكار الصانع جل جلاله ـ جراثيم ضارة فتاكة بالمجتمع الذي يحلون فيه، وهم في واقعهم هذا يشكلون شذوذ الإنسانية عن منهجها الفطري الطبيعي، فكان أمراً سليماً أن لا يقبل منهم إلا الإسلام.(8/129)
الآثار المترتبة على الجهاد
تترتب على الجهاد آثار ونتائج كثيرة ذات أهمية، ولكل منها أحكام خاصة بها. فلنستعرض هذه الآثار واحدة إثر أخري، موضحين خلاصة الأحكام المتعلقة بكل منها:
1 - الأسر:
من أبرز نتائج الجهاد وقوع أسري من الكفار تحت سلطان المسلمين، وفي أيديهم.
فهؤلاء الأسري: إن كانوا أطفالاً أو نساءً أصبحوا بمجرد الأسر أرقاء حكماً أما إن كانوا رجالاً بالغين، فلا يعتبرون أرقاء بمجرد الأسر، وإنما يتبع ذلك حكم الإمام، فإن ضرب عليهم الرق أصبحوا أرقاء، وإلا فهم أحرار.
مصير الأسري:
ثم إن الإمام يختار لمصير الأسرى واحدة من خصال أربعة: القتل، والمن والفداء بالمال، والاسترقاق.
يختار ما شاء متبعاً في ذلك مصلحة المسلمين وخيرهم.
أما المن والفداء، فقد جاء مصرحاً بهما في قول الله عز وجل: {َإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} (سورة محمد: 4)
[أثخنتموهم: أثقلتموهم بالقتل والجراح. فشدوا الوثاق: فأسروهم، وشدوا(8/130)
رباطهم حتى لا يفلتوا منكم. مناً: أي تمنون منا، والمن: هو الإنعام على الأسير وإطلاق سراحه من غير فدية. تضع الحرب أوزارها: تنتهي الحرب وذلك بوضع المحاربين أسلحتهم]
وأما ما يدل على قتل الأسري، فقول الله عز وجل: {َا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (سورة الأنفال: 67)
[حتى يثخن في الأرض: حتى يبالغ في قتل الكفار]
وأما الاسترقاق، فقد ثبت بدلالة السنة، وفعل النبي $، فقد استرق أسرى في غزوة خيبر وقريظة، وفي غزوة حنين.
روي البخاري [3804] في المغازي، باب: حديث بني النضير .. ، ومسلم [1766] في الجهاد، باب: إجلاء اليهود من الحجاز، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: حاربت النضير وقريظة، فأجلي بني النضير، وأقر قريظة، ومن عليهم، حتى حاربت قريظة، فقتل رجالهم وقسم نساءهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين.
واسترق - صلى الله عليه وسلم - أسرى هوازن، ثم تشفع فيهم لدي المسلمين بعد أن قسموا بينهم، عندما جاء وفد هوازن مسلمين، وطلبوا منه - صلى الله عليه وسلم - أن يرد إليهم سبيهم وأموالهم، فمنوا عليه. (رواه البخاري [2963] في الخمس، باب: الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين)
وروي مسلم [1755] في الجهاد والسير، باب: التنفيل وفداء المسلمين بالأسارى، عن إياس بن سلمة عن أبيه أن سرية من المسلمين أتوا بأسري، فيهم امرأة من بني فزارة، فبعث بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلي أهل مكة، ففدي بها ناساً من المسلمين، كانوا أسروا بمكة. وروي مسلم [1763] أيضاً أنه - صلى الله عليه وسلم - أخذ الفداء من أسري بدر.
2 - الرق:
الرق في اصطلاح الشريعة الإسلامية: عجز حكمي يتلبس الإنسان بسبب(8/131)
الكفر في الأصل، ويظهر هذا العجز الحكمي، بفقدان أهليه التملك، وفقدان الحقوق المدنية.
الحكمة من مشروعية الرق:
عرفت أن حكم الاسترقاق والمن والفداء داخل في أحكام السياسة الشرعية، ومنوط برأي الحاكم المسلم، يراعي فيه المصلحة العامة للمسلمين.
والحكمة في أن يتخذ الاسترقاق محله بين هذه الخصال التي يخير بينها هي أنه سلاح موجود في أيدي الأعداء بالنسبة لأسرانا عندهم.
فكان من أسس العدالة أن يملك المسلمون هذا السلاح نفسه، ثم يعطي الحاكم صلاحية استعماله، بمجرد أن يري ضرورة لذلك، كأن يجد أعداءنا قد استرقوا أسرانا، وأنت تعلم أن القانون الدولي يقر مبدأ التعامل بالمثل فيما يتعلق بالأسري.
وكان من الإجحاف أن ينسخ هذا السلاح (الاسترقاق الناتج عن الحرب) نسخاً شاملاً، مع استعمال الأعداء له، وشعورهم بالسعادة لكونهم وحدهم الذين يملكون هذا السلاح.
مصير حكم الاسترقاق اليوم:
لا يزال ضرب الرق على أسري الحرب إلي اليوم، حكماً شرعياً من أحكام الإمامة، أي أن الإمام يرى في ذلك رأيه، بناءً على المصلحة العامة للمسلمين.
غير أنه منذ حين بعيد، أبعد هذا الحكم عن التنفيذ، وذلك لعدم وجود مصلحة تدعو إلي ذلك، ولأن دول العالم اتفقت فيما بينها على عدم استرقاق الأسري، فكان في هذا الاتفاق ما أبعد المصلحة الإسلامية عن ضرب الرق عليهم.
واعلم أن أحكام السياسة الشرعية المتعلقة بأبواب الجهاد أشبه ما يكون بما يسمي بأحكام الطوارئ، فكما يجوز لرئيس الدولة أن يعلق القانون، ويعلن حالة الطوارئ، ويقرر ما يشاء تحت هذا العنوان، فكذلك يجوز لإمام المسلمين أن يمارس صلاحيات معينة، وضعها الشارع تحت يده ليستفيد منها عند الضرورة(8/132)
واللزوم كحكم الرق، وقتل الأسري، وقطع أشجار الكفار وتحريق بيوتهم، ونحو هذا مما يري فيه مصلحة المسلمين.
ومما يجب أن يعلم أن من أسلم من الكفار قبل الأسر، ولو بعد الهزيمة فقد أحرز دمه من القتل، ونفسه من الرق، وصغر أولاده من السبي والاسترقاق، يدل على ذلك قول الله عز وجل: {َإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (سورة التوبة: 5) وقول الله عز وجل: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ {(سورة التوبة: 11).
ولا شك أن هذه الأخوة تستلزم المحافظة على أرواحهم وأموالهم وأولادهم ما داموا قد أسلموا قبل وقوعهم أسرى في أيدي المسلمين.
ويدل على هذا أيضاً قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله " (رواه البخاري [25] في الإيمان، باب: فإن تابوا ... ، ومسلم [22] في الإيمان، باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، عن ابن عمر رضي الله عنهما).
وهذا ويُحكم على الصغر من الأولاد بالإسلام عند وجود ثلاثة أسباب:
1 - إسلام أحد أبويهم، فإنه يتبع أشرف أبويه في الدين، تغليباً لجانب الإسلام، وترجيحاً لمصلحة الصغير، وما هو أنفع له، فإن الإسلام صفة كمال وشرف وعلو، قال عليه الصلاة والسلام: " الإسلام يعلو ولا يعلي ". (رواه الدارقطني في سننه، كتاب النكاح، ورواه البخاري تعليقاً في الجنائز، باب: إذا اسلم الصبي. انظر العيني [8/ 169]).
2 - أن يسبيه مسلم وهو منفرد عن أبويه، فيحكم عندئذ بإسلامه تبعاً لدين من سباه، ترجيحاً لمصلحته كما قلنا.
3 - أن يوجد لقيطاً في دار الإسلام، فيحكم بإسلامه تبعاً للمكان الذي وجد فيه وتغليباً لجانب الخير بالنسبة له.(8/133)
3 - الغنائم والأسلاب:
الغنيمة: هي المال المأخوذ من أهل الحرب قهراً، سواء كانت منقولة، أو غير منقولة، وسواء أخذت، والحرب قائمة، أو أخذت عند مطاردة الأعداء وفرارهم، والأسلاب: جمع سلب، وسلب القتيل: ما وجد معه وفي حوزته من المال والسلاح.
حكم الغنائم:
يجب تقسيم الغنائم خمسة أقسام، فأما أربعة أخماسهم، فتوزع بين المقاتلين، وكان من هدى النبي - صلى الله عليه وسلم - في عصره أن المقاتل راجلاً، يأخذ سهماً واحداً يفرضه له الحاكم، والمقاتل فارساً يأخذ ثلاثة أسهم. روي البيهقي [9/ 62] أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ما تقول في الغنيمة؟ قال: " لله خمسها، وأربعة أخماسها للجيش " وروي البخاري [2708] في الجهاد، باب: سهام الفرس عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله $ جعل للفرس سهمين، ولصاحبه سهماً. وفي رواية عند البخاري [3988] في المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم [1762] في الجهاد والسير، باب: كيفية قسمة الغنيمة بين الحاضرين، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: قسم رسول الله $ يوم خيبر: للفرس سهمين، وللراجل سهماً.
وإذا كان هذا التقسيم بذاته غير وارد اليوم لاختلاف أساليب الحرب، وأدواتها، فإن المطلوب الآن ملاحظة جنس التفاوت بين المقاتلين، بالقدر الذي يتناسب والفرق ما بين الفارس والراجل فيما مضي، فيعطي للأدنى 1/ 3 مما يأخذه الأعلى.
فيجب على كل حال حجز أربعة أخماس الغنائم، وقصرها على الجند والمقاتلين، بنفس الطريقة التي كان يسلكها رسول الله $، مع ملاحظة ما تطورت إليه وسائل القتال، وطرائقه، وأثرها في تفاوت درجات المقاتلين.
ولا مانع من أن توزع عليهم حصصهم على شكل علاوات، أو مرتبات متلاحقة، إنما المهم أن الدولة لا يجوز لها أن تستمسك بشيء من هذه الأموال المغنومة لنفسها.(8/134)
هذا لا يسهم على الشكل الذي ذكرنا من الغنيمة إلا لمن اجتمعت فيه الشروط التالية:
الإسلام، والبلوغ، والعقل والحرية، والذكورة، فإن اختل شرط من هذه الشروط، رضخ له الإمام، أي أعطاه شيئاً من الغنيمة قبل قسمتها ويجتهد في قدره حسب ما قدم من نفع، على أن لا يبلغ ما يعطيه سهم الراجل ولك لأن هؤلاء الذين لم تتكامل فيهم تلك الشروط، كالصغار والنساء والعبيد، ليسوا من أهل الجهاد الذي يفرض عليهم حضوره.
وأما الخمس الخامس من الغنيمة، فيوزع أخماساً كما نصت عليهم الآية القرآنية: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} (سورة الأنفال: 41).
[لله خمسه: أي يحكم فيه كما يشاء. وللرسول أي قسمته وتوزيعه، وله فيه نصيب، وهو خمسه. اليتامى: جمع يتيم، وهو كل صغير لا أب له، فإذا بلغ لم يبق يتيماً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يتم بعد احتلام ". (رواه أبو داود [2873] في الوصايا باب: ما جاء متى ينقطع اليتم، عن على بن أبي طالب رضي الله عنه). ابن السبيل: المسافر الذي فقد النفقة، وهو بعيد عن ماله. ولذي القربى: هم أقارب الرسول الذين لا تحل لهم الصدقة، وهم بنو هاشم والمطلب، روي البخاري [2981] في الخمس، باب: الدليل على أن الخمس للإمام، وأنه يعطي بعض قرابته دون بعض، عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: مشيت أنا وعثمان بن عفان إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلنا: يا رسول الله، أعطيت بني المطلب وتركتنا، ونحن وهم منك بمنزلة واحدة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد ".
بمنزلة واحدة: أي من حيث القرابة، لأن الجميع ينو عبد مناف، شيء واحد: لأنهم ناصروه قبل إسلامهم وبعده]
حكم الأسلاب:
وقد عرفت الأسلاب، والفرق بينها وبين الغنائم، وحكمها أن سلب القتيل يكون ملكاً لقاتله إذا أخذه وكان ممن يستحق الغنيمة.
ودليل ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " من قتل قتيلاً له عليه بينه، فله سلبه ". (رواه(8/135)
البخاري [2973] في الخمس، باب: من لم يخمس الأسلاب، ومن قتل قتيلاً فله سلبه، ومسلم [1851] في الجهاد والسير، باب: استحقاق القاتل سلب القتيل، عن أبي قتادة رضي الله عنه).
تنبيه:
يري الإمام الشافعي رحمه الله تعالى أن حكم الأسلاب ـ على نحو ما ذكرنا ـ هو حكم تبليغي، أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فه ثابت إلي ويم القيامة.
وذهب مالك وأبو حنيفة رحمهما الله تعالى إلي أنه حكم قضائي، قضي به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوصف كونه حاكماً، ولم يخبر به عن الله عز وجل بوصف كونه نبياً، وعليه يجوز للحكام بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يخالفوه إلي ما هو مصلحة في عصرهم، وظروفهم.
4 - الفيء:
تعريف الفيء:
الفيء هو ما أخذه المسلمون من أعدائهم بدون قتال، ومن أموال منقولة، وغير منقولة، قال الله عز وجل في أموال يهود بني النضير: {وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (سورة الحشر: 6).
[أوجفتم: أسرعتم. ولا ركاب: ولا أبل، أي لم تقاسموا فيه مشقة]
فالفرق إذاً بين الفيء والغنائم، أن الغنائم مال وصل إلي المسلمين في أعقاب حرب، والفيء: مال وصل إلي المسلمين من أعدائهم بدون حرب ولا قتال.
حكم الفيء:
يقسم الفيء أخماساً، فيجعل خمسه في أصحاب خمس الغنيمة وخم خمس فئات كما مر في الغنيمة.
1 - رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد كان يأخذ من خمس الخمس ما يحتاج إليه من نفقته ونفقة عياله، وما فضل كان يضعه في مصالح المسلمين: كالثغور، والمشاريع(8/136)
المختلفة. وسهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته يصرف في مصالح المسلمين.
روي البخاري [2748] في الجهاد، باب: المجن ومن يترس بترس صاحبه، ومسلم [1757] في الجهاد والسير، باب: حكم الفيء، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله $ خاصة، وكان ينفق على أهله نفقة سنته، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع، عدة في سبيل الله.
2 - ذوو القربى، وهم بنو هاشم والمطلب أقرباء رسول الله $، وقد مر دليل ذلك.
3 - اليتامى، وهم من مات آباؤهم وهم صغار دون سن البلوغ.
4 - المساكين، ويدخل في زمرتهم الفقراء، لأن الفقراء أسوأ حالاً من المساكين.
5 - أبناء السبيل، وهم المسافرون الذين فقدوا نفقتهم، وهم بعيدون عن أموالهم.
وأما الأربعة الأخماس الأخرى فتصرف في مصالح المسلمين، بشرط أن يكون في مقدمتها رفع مستوي العاملين في الجيش، وهم الأجناد المرصود ون للجهاد.
فإن كانت أموال الفيء منقولة وزعت عليهم أعيانها.
وإن كانت غير منقولة كالعقارات، وقفت لمصالح بيت مال المسلمين، ووزع ريعها على من ذكرناهم.
ويدل على كل ما ذكر قول الله تبارك وتعالي: {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}.
وهذه الآية مطلقة لم يذكر فيها التخميس، كما هو واضح، لكنها تحمل على آية الغنيمة المقيدة بالتخميس، فتخمس كما ذكرنا. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {ما لي مما أفاء الله إلا الخمس، والخمس مردود فيكم}. (رواه البيهقي [نهاية: 3/ 272])
[والمراد بالخمس: خمس الخمس، كما علمت. وقوله: مردود فيكم: أي يصرف في مصالحكم. وذلك بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم -](8/137)
هذا، ومن جملة مصارف الفيء: النفقة على أسر من يموت من المجاهدين الذين سبق ذكرهم، ويسمون المرتزقة، ولو في غير قتال، أو العلماء ونحوهم، ممن تحتاج الأمة إلي أعمالهم، فيعطي ورثتهم الذين كانت تلزمهم نفقتهم في حياتهم ما يسد حاجتهم. قال في النهاية: ومن مات من المرتزقة دفع إلي من كان تلزمه نفقته من أربعة أخماس الفيء كفايته، لا ما كان يأخذه هو، فتعطي الزوجة وإن تعددت، والبنات حتى ينكحن، أو يستغنين بكسب أو بغيره، والذكور حتى يستقلوا بالكسب، أو المقدرة على الغزو، لئلا يشتغل الناس بالكسب عن الجهاد، إذا علموا ضياع عيالهم بعدهم، ومن بلغ من الأبناء عاجزاً، فكمن لم يبلغ وقال: ويعطي أولاد العالم من أموال المصالح إلي أن يستقلوا، وللزوجة حتى تنكح ترغيباً في العلم [3/ 74]
5 - الجزية:
تعريف الجزية:
الجزية: من الجزاء، وهو الثواب والعقاب، والمراد منها شرعاً: المال الذي يدفعه الكتابي، ومن في حكمه، لبيت مال المسلمين جزاء كف اليد عنهم، ودخولهم تحت الحماية والرعاية، والتزام الدولة الإسلامية النظر في شؤونهم وذلك ضمن ضوابط وشروط معينة.
دليل مشروعية الجزية:
قلنا سابقاً بأن الجزية شرعت، لأهل الكتاب، ومن في حكمهم، ويدل على مشروعيتها قول الله عز وجل، في أهل الكتاب: {حتي يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} (سورة التوبة: 29).
[عن يد: أي طائعتين غير ممتنعين. وهم صاغرون: قال الشافعي رحمه الله تعالى: الصغار: جريان أحكام المسلمين عليهم وقد سبق بيان ذلك]
حكمة تشريع الجزية:
قلنا سابقاً: إن الكتابي يملك من الإيمان بالله تعالي ما يفسح مجالاً لتعايش المسلمين معه ضمن حدود وضوابط مرسومة.
ومن فوائد هذا التعايش القائم على حرية النظر والفكر، أن تتلاقح الأفكار.(8/138)
ويطلع الكتابيون على ما لم يكونوا يعلمونه من حقائق الإسلام، وتذوب أسباب العصبية، فيجتمع الكل على الحق.
إلا أن هذا التعايش لا يتم إلا بتحمل الدولة الإسلامية مسؤولياتها تجاههم، والنظر في شؤونهم، لا سيما المعيشية والاقتصادية، فكان لابد من أخذ ضريبة مالية محددة، لتيسير أسباب القيام بهذه المسؤوليات.
شروط الجزية:
يشترط لعقد الجزية الشروط التالية:
1 - أن يكون أصحابها من أهل الكتاب ـ نصارى أو يهوداً ـ أو من هم في حكمهم، وهم المجوس، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " سنُّوا بهم سنة أهل الكتاب ". (رواه مالك في الموطأ [1/ 278] في الزكاة، باب: جزية أهل الكتاب والمجوس). ومثل المجوس في الحكم من يزعمون التمسك بمصحف إبراهيم، أو زبور داود عليهما السلام.
وروي البخاري [2987] في الجزية، باب: أخذ الجزية من اليهود والنصارى والمجوس والعجم، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لم يكن ليأخذ من المجوس، حتى شهد عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه أن النبي $ أخذها من مجوس هجر.
2 - أن يجري بذلك عقد إيجاب وقبول بينهم وبين إمام المسلمين، فيقول الإمام، أو من ينوب منابه: أقربكم بدار الإسلام على أن تبذلوا جزية قدرها كذا وكذا، وتنقادوا لحكم الإسلام، ثم يقول ممثل الطرف الآخر من أهل الكتاب: قبلنا بذلك.
3 - أن يذكر قدر الجزية محددة، ومصنفة بالنسبة لأغنيائهم وفقرائهم، وأن يتم القبول بناء على ذلك.
4 - أن لا يؤقت عقد الجزية بفترة زمنية محدودة، كعام ونحوه، لأنه عقد يحقن به الدم، فلا يجوز أن يكون مؤقتاً، كعقد الإسلام.(8/139)
شروط من تأخذ الجزية منهم:
يشترط فيمن تؤخذ منهم الجزية خمس صفات: العقل، والبلوغ، والحرية، والذكورية، وأن يكون من أهل الكتاب ومن في حكمهم.
ويدل على اعتبار هذه الشروط قول الله تعالي: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (سورة التوبة: 29) ,
فقد دلت هذه الآية على أن الجزية تؤخذ من المكلفين أهل القتال، فخرج النساء، لأنهن لسن من أهل القتال، وكذلك العبيد، وخرج الصبيان والمجانين، لأنهم غير مكلفين.
وروي البيهقي [9/ 195] أن عمر رضي الله عنه كتب إلي عماله أن لا يضربوا الجزية على النساء والصبيان.
حدود الجزية:
أقل الجزية دينار على كل رجل في كل عام، فيؤخذ الدينار ممن كانوا دون المرتبة الوسط في المعيشة واليسر.
ويؤخذ ديناران كل عام من المتوسط الحال.
ويؤخذ أربعة دنانير من أصحاب الغني.
واعلم أن الزيادة على الدينار مستحبة عند اليسر، بالشكل الذي ذكرناه، أما الواجب فهو دينار واحد، فلو أبي الغني أو المتوسط عقدها إلا بدينار واحد أجيب، لأنه القدر المنصوص عليه وجوباً.
ويجوز للإمام أن يشترط على أهل الجزية الضيافة فضلاً عن مقدار الجزية وقد جاءت الأحاديث، ووردت السنة بكل ما ذكرنا.
روي أبو داود [3038] في الإمارة، باب: في أخذ الجزية، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما وجهه إلي اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم ديناراً أو عدله من المعافري.(8/140)
[حالم: محتلم، أي بالغ. عدله: ما يعادله ويساويه. من المعافري: نسبة إلي معافر، موضع باليمن، تنسب إليه الثياب، وتكون به]
وروي مالك في الموطأ [1/ 279] في الزكاة، باب: جزية أهل الكتاب والمجوس، عن أسلم رحمه الله تعالى: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير، وعلى أهل الورق أربعين درهماً مع ذلك أرزاق المسلمين، وضيافة ثلاثة أيام.
[الورق: الفضة].
وروي البيهقي [9/ 195] أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صالح أهل أيله على ثلاثمائة دينار، وكانوا ثلاثمائة رجل، وعلى ضيافة من مر بهم من المسلمين.
وروي البيهقي أيضاً [9/ 196] أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وضع على الغني ثمانمائة وأربعين درهماً، وعلى المتوسط أربعة وعشرين درهماً، وعلى الفقير اثني عشر درهماً.
وكان صرف الدينار باثني عشر درهماً.
الآثار التي تترتب على عقد الجزية من حقوق للمسلمين:
يتضمن عقد الجزية أربعة أشياء يلزم بها أهل الجزية:
1 - أداء الجزية حسب الاتفاق الذي تم بينهم وبين المسلمين، ديناراً فأكثر.
2 - أن يجري عليهم حكم الإسلام فيما يقرون ـ ولو ضمناً ـ بحكم الإسلام فيه، كحرمة الزني مثلاً، وبناءًَ على ذلك رجم النبي - صلى الله عليه وسلم - يهودياً ويهودية زنيا. (رواه البخاري [6433] في المحاربين، باب: الرجم في البلاط، ومسلم [1699] في الحدود، باب: رجم اليهود أهل الذمة في الزني، عن ابن عمر رضي الله عنهما).
وعليه، فإنهم يمنعون من التعامل بالربا، ومن ارتكاب الفواحش، وأسباب الفسوق، لأنهم يعرفون حرمة ذلك في دينهم ودين المسلمين، بخلاف ما لا يقرون بحكمه في الإسلام، كشرف الخمر مثلاً فإنهم لا يقرون بحرمته في شريعتهم، فلا تجري عليهم أحكامنا فيه، إلا إن ترافعوا إلي قاضي(8/141)
المسلمين، فإنه يحكم بينهم بشرعنا.
3 - أن لا يذكروا دين الإسلام إلا بخير، فلو تعرضوا للقرآن، أو ذكروا الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما لا يليق، أو طعنوا في شرع الله عز وجل، عزروا، وإن كان شرط انتفاض العهد بذلك نقض. ولو عثر على أنهم يكيدون للإسلام في الخفاء بقول أو فعل، فسخ عقد الذمة بيننا وبينهم، إلا ما كان من ذلك تعبيراً عن عقيدتهم مثل قولهم: إن محمداً - صلى الله عليه وسلم - ليس برسول، وإن القرآن ليس بكلام الله تعالي، فلا تنقض الذمة بيننا وبينهم، لأنهم يعبرون بذلك عن عقيدتهم، وإن كنا نعلم بطلانها.
4 - أن لا يفعلوا ما فيه ضرر بالمسلمين: كأن يؤووا جاسوساً للكفار، أو يتواطؤوا مع أهل الحرب علي إيذاء المسلمين. فلو امتنعوا من أداء الجزية المتفق عليها، ولو كانت أكثر دينار، أو ذكروا الله ورسوله بسوء، أو عثر على أنهم متواطئون مع أهل الحرب ضد المسلمين انتقضت ذمتهم.
بيان ما يجب لهم من الرعاية والحماية بعقد الذمّة:
إن عقد الذمة بيننا وبين أهل الكتاب يتضمن أربعة أشياء يلزم بها المسلمون تجاه أهل الذمة:
1 - إنهاء الحرب معهم، وعودة العلاقات السلمية بيننا وبينهم، ودليل ذلك ما رواه مسلم [1731] في الجهاد، باب: تأمير الإمام الأمراء على البعوث، وغيره عن بُريدة رضي الله عنه، وفيه: " فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ".
2 - وجوب حمايتهم، والمحافظة عليهم، وعلى أموالهم وحرماتهم إزاء أي اعتداء عليهم، أو عليها، من المسلمين، أو من غيرهم.
روي البخاري [2887] في الجهاد، باب: يقاتل عن أهل الذمة ولا يسترقون عن عمر بن ميمون، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (وأوصيه بذمة الله، وذمة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أن يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل من وراءهم، ولا يكلفوا إلا طاقتهم).(8/142)
3 - عدم التعرض لكنائسهم القائمة، وما يتبعها من شعائرهم الدينية، وخمورهم وخنازيرهم، ما لم يظهروها أو يتباهوا بها.
جاء في كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لنصارى نجران:
" ... ولنجران وحاشيتها وملتهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وبيعهم وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير، لا يغير أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ولا كاهن من كهانته، وليس عليه دية ولا دم جاهلية، ولا يخسرون ولا يعسرون، ولا يطأ أرضهم جيش، ومن سأل منهم حقاً، فبينهم النصف غير ظالمين ولا مظلومين ".
4 - لزوم عقد الذمة في حق المسلمين واستمراره، فلا يملك إمام المسلمين، أو احد منهم نقضه بحال، لأنه عقد مؤبد، ما لم يصدر من أهل الذمة شيء يستوجب نقض العهد مما قد سبق بيانه.(8/143)
الهدنة والاستئمان
معني الهدنة:
الهدنة، وتسمي الموادعة والمعاهدة والمسالمة، وهي في اللغة: بمعني المصالحة.
والهدنة شرعاً: مصالحة أهل الحرب على ترك القتال مدة معينة، والأصل في تشريعها، قبل الإجماع، قول الله عز وجل: {بَرَاءةٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ} (سورة التوبة: 1)، وقوله تبارك وتعالي: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (سورة الأنفال: 61).
ومهادنة النبي - صلى الله عليه وسلم - قريشاً عام الحديبية. (رواه البخاري [3945] في المغازي، باب: غزوة الحديبية، ومسلم [1783] في الجهاد والسير، باب: صلح الحديبية في الحديبية).
معني الاستئمان:
والاستئمان: أن يطلب أي فرد من أهل الحرب الأمان من أي واحد من أفراد المسلمين، فيعطيه هذا الأمان، ولكل من المسلمين أن يعطي الأمان لمن طلبه من الأعداء، حاكماً كان المعطي، أو واحداً من عامة الناس، ذكراً كان أو أنثي، فإذا أعطاه الأمان حقن بذلك دمه، وحرم على سائر المسلمين أن تمتد إليه أيديهم بأي أذي. قال الله تعالي: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} (سورة التوبة: 6)(8/144)
الفرق بين الهدنة والاستئمان:
نلاحظ من التعريفين السابقين لكل من الهدنة والاستئمان الفروق التالية:
أولاً: أن الهدنة صلح جماعي يمثله من طرف المسلمين الحاكم الأعلى أو نائبه، ويمثله من طرف الأعداء قائدهم، أو من ينوب عنه، بينما الاستئمان يكون للآحاد والجماعات من الكفار، ويقوم بإعطائه لهم، أو لأي فرد منهم أي شخص من المسلمين، حاكماً أو غيره، رجلاً أو امرأة.
ثانياً: أن الهدنة طريقة من طرق إنهاء الحرب بين المسلمين وعدوهم، فلا يمكن أن تجتمع الحرب مع الهدنة، أما الاستئمان، فيمكن أن يتم أثناء الحرب، بأن يستأمن أحد الجنود من أهل الحرب مسلماً رآه أمامه، فأعطاه الأمان، فإنه يصبح عندئذ محقون الدم، لا يجوز لأحد علم بذلك أن يمسه بأذى، مع أن الحرب دائرة، بين المسلمين والكافرين.
حكم كل من الهدنة والاستئمان:
حكم الهدنة: أما الهدنة، فلها حالتان:
الحالة الأولي: أن يطلبها الأعداء، فيجب على إمام المسلمين الاستجابة لهم مع الحذر، وأخذ الحيطة، ولا يجوز أن يمتد أجلها أكثر من أربعة أشهر.
الحالة الثانية: أن يبادر إليها المسلمون، وإنما تجوز بناء على ظهور مصلحة للمسلمين فيها، فإن كانت اعتباطاً، أي بدون مصلحة داعية لها، لم تصح ولم تنعقد.
ثم إن كانت المصلحة الداعية إلي الهدنة رجاء التخلص من ضعف في ظلال السلم، وطمأنينة الأمن، جاز أن يمتد أجلها إلي عشرة أعوام فقط، ودليل ذلك صلح الحديبية، فقد تم بسبب ما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - من ضعف المسلمين، وتألب الأعداء عليهم، وكان أجله في العقد المتفق عليه بين المسلمين ومشركي مكة عشرة أعوام. أما إن كانت المصلحة شيئاً آخر غير الضعف، كتوقع إسلام الأعداء، أو خضوعهم للجزية، فلا يجوز والحالة هذه أن تزيد الهدنة عندئذ عن أربعة أشهر، وذلك تمسكاً بمفهوم قول الله تعالي: {فسيحوا في الأرض أربعة(8/145)
وأعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين} (سورة التوبة: 2).
حكم الاستئمان:
وأما الاستئمان، فالإجابة إليه واجبة، إن لوحظت في ذلك مصلحة للمسلمين، أو مصلحة للمستأمن، ذلك لصريح قول الله عز وجل: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} (سورة التوبة: 6) ويجوز أن يخاطب بالاستئمان الحاكم، أو نائبه، أو أي شخص من المسلمين، ويجري في حقهم جميعاً الحكم الذي ذكرناه، وهو وجوب الاستجابة مهما لوحظت في ذلك المصلحة.
ويعتد بأمان المسلم أيا كان ذكراً أو أنثي، لقوله عليه الصلاة والسلام: " المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعي بذمتهم أدناهم " (أخرجه أو داود [4530] في الديات، باب: إيقاد المسلم بالكافر، وابن ماجه [2683] في الديات، باب: المسلمون تتكافأ دماؤهم، وأحمد في المسند [1/ 119]، عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنه).
وروي البخاري [3000] في الجزية، باب: أمان النساء وجوارهن، ومسلم [336] في الحيض، باب: تستر المغتسل بثوب ونحوه، وغيرهما، عن أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها، أنها ذهبت إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح، فوجدته يغتسل، وفاطمة ابنته تستره، فسلمت عليه، فقال: من هذه؟ فقلت: أنا أم هانئ بنت أبي طالب، فقال: " مرحباً بأم هانئ "، فلما فرغ من غسله قام فصلي ثماني ركعات ملتحفاً في ثوب واحد فقلت: يا رسول الله، زعم ابن أمي على، أنه قاتل رجلاً قد أجرته، فلان بن هبيرة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ " قالت أم هانئ: وذلك ضحي.
[فلان ابن هبيرة: قيل هو جعدة، ولد زوجها من غيرها. وذلك ضحي: أي وقت الضحى](8/146)
شروط مشروعية كل من الهدنة والاستئمان:
أولاً: شروط الهدنة:
لا تتم الهدنة إلا بالشروط التالية:
الشرط الأول: أن يعقد الهدنة الإمام أو نائبه، فلا تصح هدنة بين المسلمين وأعدائهم يعقدها واحد من عامة المسلمين، أو من أولي الحل والعقد فيهم، وذلك لما فيها من الخطورة والأهمية، إذ يترتب عليها إنهاء الحرب مع العدو، والانتقال إلي حال السلم، ولو كان السلم مؤقتاً بزمن معين، وإنما يملك إعلان السلم، وتقريره من يملك إعلان الحرب وقيادتها، وهو الحاكم، أو نائبه الأعلى.
الشرط الثاني: أن تنطوي الهدنة مع العدو على مصلحة أكيدة للمسلمين، أيا كان نوع تلك المصلحة، فإن لم ترج مصلحة ما منها للمسلمين، لم تصح ولم تشرع.
الشرط الثالث: أن لا تزيد الهدنة بين المسلمين وعدوهم على عشرة أعوام، إن كان المصلحة منها رجاء تخلص المسلمين من ضعف يعانونه، وأن لا تزيد عن أربعة أشهر إن كانت المصلحة شيئاً آخر غير متعلق بضعفهم.
فلو عقدها لهم الإمام مطلقاً، أي دون تقيد بزمان فسدت، ولم تصح ودليل هذا الشرط ما سبق وذكرنا من صلحه عليه الصلاة والسلام في الحديبية مع قريش، وكان أمد ذلك الصلح عشر سنين وكذلك قول الله عز وجل للمشركين: {فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} (سورة التوبة: 2).
الشرط الرابع: أن لا يشترط أن لا يشترط الكفار لأنفسهم على المسلمين شرطاً باطلاً. فإن شرطوا لأنفسهم ذلك، ووافقهم الإمام عليه فسدت الهدنة وذلك كان يطلب المسلمون الهدنة، فيشترط الكفار لأنفسهم حق الاحتفاظ بأسري المسلمين، أو يشترطوا على المسلمين التنازل عن بعض أموالهم المنقولة أو غير المنقولة، أو التنازل عن بعض واجباتهم الإسلامية، فإن إقحام شرط من هذا القبيل في عقد الهدنة يفسدها، ويجعلها لاغية لا صحة لها.(8/147)
ثانياً: شروط الاستئمان:
ويشترط لتأمين أحد من الكفار الشروط التالية:
الشرط الأول: أن يكون الأمان، بناءً على طلب من أهل الحرب، شخصاً كان أو جماعة، فلا يعطي الكافر الحربي أماناً بدون طلب منه، وهذا الشرط واضح في الآية السابقة: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره} أي طلب منك الأمان.
الشرط الثاني: أن يكون المجير أهلاً للإجارة، وإنما يكون أهلاً لها بالإسلام، فلو أجار ذمي حربياً وأعطاه أماناً، فلا أمان له، ولا اعتبار بكلامه، ولا يجب على المسلمين احترام ذمته، لأنه لا يجير على المسلمين إلا واحد منهم.
الشرط الثالث: أن يعلم به ولي الأمر، أو قائد الجيش فيقره، فلو لم يعلم به، أو علم به ولكنه لم يقره، بل ألغاه، إذا ثبت له مثلاً أنه عين على المسلمين وجاسوس لأعدائهم، فلا عبرة بالأمان المعطي لذلك الشخص، أو لتلك الجماعة.
أما إذا علم ولي الأمر، أو قائد الجيش بالأمان الذي أعطاه أحد المسلمين لواحد من الحربيين، وبحث فلم يجد ما يمنع الموافقة على أمانه، فليس له أن يلغيه أو يهمله، بل يجب عليه أن يعلن الأمان له ليسري ذلك على جماعة المسلمين كلهم.
الآثار والالتزامات التي تترتب على عقد الهدنة والاستئمان:
إذا تم عقد الهدنة بين المسلمين وعدوهم، وتكاملت فيه الشروط المذكورة، وأعطي الحربي المستأمن الأمان ممن طلبه منه بشروطه المذكورة أيضاً، ترتب على كل منهما آثار والتزامات يجب الوفاء بها.
أولاً: الآثار والالتزامات المترتبة على عقد الهدنة:
يترتب على عقد الهدنة آثار والتزامات نلخصها فيما يلي:
أ- يجب الكف عمن هودنوا، ويحرم مسهم بأي أذي أو سوء، ولكن لا يجب المحافظة عليهم ضد الآخرين، ويستمر هذا الحكم إلي إحدى غايتين:
الغاية الأولي: انقضاء مدة الهدنة.(8/148)
الغاية الثانية: أن يبدر منهم ما ستوجب نقضها، وذلك بان يصرحوا بنقضهم لها، ويكون ذلك بتصريحهم جميعاً، أو بتصريح ولي أمرهم عنهم بذلك أو بأن يبادروا إلي القتال، أو بأن يكاتبوا أعدائنا بكشف بعض أسرارنا، أو بأن يقتل مسلم على أيديهم.
فإن تضامنوا جميعاً بنقض الهدنة بسبب من هذه الأسباب، وما يشبهها فلا جرم أن المسلمين يصبحون بمجرد ذلك في حل من معاهداتهم ومسالمتهم. أما إن استقل بعضهم بارتكاب واحد من هذه الأسباب فينظر:
_ أن أنكر الباقون، بأن اعتزلوهم، أو ضربوا على أيديهم، أو أعلموا الإمام باستنكارهم فعل إخوانهم، وأعلنوا بقائهم على العهد، لم يؤثر شيء من ذلك على الهدنة، وبقيت أحكامها مستمرة، في حق من لم يبدر منهم سؤ.
ـ وإن لم ينكروا بقول ولا فعل مع علمهم بذلك، انتقضت الهدنة في حقهم جميعاً.
وإذا استشم إمام المسلمين بوادر الخيانة في صفوف المهادنين، أي لاحظ مجرد مقدمات لها، دون أن يعثر على خيانة مادية يمكن الاعتماد عليها في إنهاء عقد الهدنة، لم يكن له نقض الهدنة إلا بعد أن يعلن عليهم جميعاً أن المسلمين مقدمون على إلغاء الهدنة التي بينهم وبين المسلمين، بسبب ما قد بدر من دلائل الخيانة في صفوفهم.
ويستدل على ما ذكرنا بقول الله عز وجل: {َمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (سورة التوبة: 7)، وقلوه تبارك وتعالي: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ} (سورة الأنفال: 58).
[فانبذ إليهم على سواء: أي اطرح إليهم عهدهم على علم منك ومنهم].
فإذا أعلمهم ببوادر خيانتهم، وطرح لهم عهدهم حل للمسلمين قتالهم(8/149)
على الشكل الذي أرشدهم الله عز وجل إليه. قال الله تعالي: {{الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} (الأنفال 56 - 57)
[تثقفنهم: تجدنهم وتدركنهم. فشرد بهم من خلفهم: فرق بهم من خلفهم من المحاربين بالتنكيل بهم والعقوبة لهم]
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها، أو ينبذ إليهم على سواء ". (رواه الترمذي [1580] في السير، باب: ما جاء في الغدر، وأبو داود [2759] في الجهاد باب: في الإمام يكون بينه وبين العدو عهد فيسير إليه).
ب- يجب على المسلمين الوفاء كل شرط تحملوه للطرف الآخر، إلا شرطاً أحل حراماً، أو حرم حلالاً، فلا يجوز الوفاء به، بل لا يجوز إقحامه في عقد الهدنة
مثال الشروط الصحيحة التي يجب الوفاء بها: أن يشترط العدو على المسلمين إيواء من يصل إليهم من المرتدين الذين كانوا عندنا مسلمين، أو نرد إليهم من جاءنا مسلماً منهم لأن سهيل بن عمرو شرط ذلك على المسلمين في صلح الحديبية فوافقه النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، وقد سبق تخريج حديث صلح الحديبية.
ومثال الشروط الباطلة: أن يشترطوا على المسلمين إعادة النساء المسلمات اللائي يأتين إلينا من قبلهم، لأن الله عز وجل، نهى عن ذلك بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} (سورة الممتحنة: 10).
ج- عقد الهدنة يصبح عقداً لازماً بعد وجوده مستوفي الشروط والأركان فلا يجوز للمسلمين نقضه بدون موجب إلي أن تنتهي المدة المضروبة له.(8/150)
ثانياً: الآثار والالتزامات المترتبة على إعطاء الأمان:
وهذه الالتزامات نُجملها فيما يلي:
أيجب على المسلمين جميعاً كف الأذى عمن أعطي الأمان، بقطع النظر ـ كما قلنا ـ عن الشخص الذي أجاره وأعطاه الأمان، ودون تفريق بين كونه ذكراً أو أنثي، بشرط أن يكون مسلماً، إلا إذا علم أنه عين للكافرين علينا، أو غلب على الظن ذلك فيلغي أمانه.
ب - إذا انتهت مدة الأمان، أو أراد المستأمن أن يخرج عن جوار المسلمين قبل انتهائها، وجب على الحاكم أن يبلغه مأمنه، أي المكان الذي يطمئن فيه من العدوان على حياته وماله، ويستطيع أن يأخذ فيه حذره من أي شر قد يصيبه، وذلك لصريح قول الله تعالي: {َإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} (سورة التوبة: 6).
ج - إذا أصبح الكافر الحربي مستأمناً في جوار المسلمين، كان ذلك بمثابة العقد اللازم، فليس لمن أجاره وأمنه أن يعود، فكيف عن ذلك بدافع ندم، أو نحوه ما لم يصدر من المستأمن ما يستدعي إلغاء جواره.(8/151)
الباب الثالث
الفتوة وأحكامها(8/153)
المسابقة
تعريف المسابقة:
المسابقة لغة: مفاعلة من السبق، وهو التقدم على الغير، والمسابقة أيضاً: اختبار يجري لأشخاص للحصول على عمل ينتقي أفضلهم.
والمقصود بالمسابقة هنا أن يتباري اثنان فأكثر في ركض الدواب التي تصلح للكر والفر: كالخيل والإبل، على أن تكون من نوع واحد.
والسبق: اسم للمال الذي يرصد للمسابقة.
حكم المسابقة ودليل مشروعيتها:
المسابقة سنة موروثة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وعمل مشروع، والأصل الأول في مشروعيتها واستحبابها: قول الله تبارك وتعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُون} (سورة الأنفال: 60).
وخبر ابن عمر رضي الله عنه: " وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سابق الخيل التي قد ضمرت، من الحيفاء إلي ثنية الوداع، وبين الخيل التي لم تضمر، من الثنية إلي مسجد بني زريق ". (رواه البخاري [410] في المساجد، باب: هل يقال مسجد بني فلان، ومسلم [1870] في الإمارة، باب: المسابقة بين الخيل وتضميرها، عن ابن عمر رضي الله عنهما).
[أضمرت، وضمرت: سمنت أولاً، ثم قلل علفها وأدخلت مكاناً وجللت حتى يكثر عرقها ويجف فيذهب رهلها ويقوي لحمها ويشتد. الحيفاء: موضع قرب المدينة. الثنية: ثنية الوداع في المدينة].(8/155)
هذا إذا قصد بالمسابقة التأهب للجهاد، وإعداد القوة له، أما إذا قصد بها الفخر والخيلاء كانت حراماً، لأن الأمور بمقاصدها، أما إذا لم يقصد بها هذا ولا ذاك فهي مباحة ولأنها من الرياضيات المفيدة للجسم، والمقوية للشكيمة.
أنواع المسابقة:
للمسابقة صور مختلفة، بعضها مشروع وبعضها محرم، ونحن نستعرض أولاً هذه الصور كلها، ثم نوضح المحرم والمشروع منها:
الصورة الأولي: أن يتسابق الطرفان، ويقرر مال معين للسابق منهما، على أن يكون الدفع من الحاكم، أو من شخص آخر، خارج عن الاشتراك في عملية السباق، بأن يقول هذا الشخص: من سبق منكما فله مني كذا .. ، ويجوز أن يقوم بالتسابق أكثر من اثنين.
الصورة الثانية: أن يلتزم أحد المتسابقين دفع المال لزميله إن هو سبقه، ولا يلتزم زميله شيئاً عن هو سبق، بأن يقول الأول: أن سبقتني فلك على كذا، أو سبقتك، فلا شيء لي عليك.
الصورة الثالثة: أن يلتزم كل منهما دفع مبلغ من المال لمن سبقه، فأيهما تخلف يلتزم بإعطاء المبلغ المتفق عليه للسابق.
الصورة الرابعة: كالصورة الثالثة، على أن يضاف إليهما محلل، وهو عنصر ثالث مسابق، فرسه كفء لفرسيهما. فإن سبقهما أخذ المالين من كل منهما، وإن سبقاه، وجاءا معاً، فلا شيء لأحد على الآخر، لأن المتراهنين وصلا معاً، ولأن المحلل لم يلتزم شيئاً عن التخلف، وإن وصل المحلل مع أحدهما أولاً، وتخلف الثاني عنهما، فمال الأول منهما مع المحلل يبقي له، ومال المتأخر منهما يوزع بالتساوي بين المحلل والذي وصل معه.
بيان الجائز والمحرم من هذه الأنواع:
إذا تصورت هذه الأنواع من المسابقة، وأدركت الفرق بينها، فأعلم أن صورة واحدة منها هي المحرمة، لها حكم الميسر، وهو القمار، وهي الصورة الثالثة، أما الصور: الأولي والثانية والرابعة فهي مشروعة لا مانع منها.(8/156)
وإنما سمي العنصر الثالث في الصورة الرابعة محللاً، لأنه إذا دخل في الصورة الثالثة مشتركاً بالشكل الذي ذكرناه حولها من الحرمة إلي الحل. فالصورة الرابعة هي عين الثالثة مضافاً إليها هذا المحلل.
شروط المسابقة:
وأيا كانت صورة المسابقة، فلا بد فيها من توفر شروط معينة، نلخصها فيما يلي:
الشرط الأول: علم المتسابقين بالمنطلق الذي يبدؤون منه الجري، وبالغاية التي يتوقف الجري عندها، ولا بد أن يكون المبدأ والمنتهي للجميع واحداً.
الشرط الثاني: تعيين الأفراس، أو الإبل مثلاً، فإذا تعينت وعرفت، لم يجز استبدال فرس بأخر، فإن استبدل أحدهم بفرسه غيره فسدت المسابقة.
الشرط الثالث: أن تكون الأفراس بحالة يمكن معها السبق والتخلف، فإن كان فيها ضعيف يقطع العقل بتخلفه، أو فاره يجزم العقل بتقدمه لم يجز السباق.
الشرط الرابع: أن يعلم الكل مبلغ المال المشروط للسابق الأول، والثاني، وهكذا. فلو كان فيهم من لم يعلم بالمال، أو كميته لم يصح السباق.
الشرط الخامس: أن يكون المال من يد أجنبي غير مشتركة بالسباق، بأن يكون من الدولة، أو من أحد الأثرياء مثلاً، فإن كان من أحد المشتركين جاز بشرط أن لا يلزم الآخرون بالدفع عند تخلفهم، فإن ألزموا بذلك كان لابد من أن يشترك معهما أو معهم عنصر محلل، ينسق بينهم المال بالطريقة التي شرحناها.
أثر دخول عنصر المال في السباق:
مما ذكرنا يتبين لك أن دخول عنصر المال في السباق لا يمنع مشروعيته ولا يؤثر فيه بأي فساد، بل هو مما يرغب فيه، لتحقيق المزيد من التشجيع.
إلا أن عنصر المال يفسد السباق في حكم الشريعة الإسلامية، عندما يكون أخذاً وعطاءً من الطرفين، بأن يقال: السابق منكما يأخذ، والمتخلف منكما يدفع. وسبب الفساد أن عنصر المال بهذه الصورة يأخذ، والمتخلف منكما يدفع.
وسبب الفساد أن عنصر المال بهذه الصورة يأخذ محور الميسر تماماً، وقد(8/157)
حرمه الله تعالي بصريح تبيانه قال عز وجل: {اأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (سورة المائدة: 90).
[الخمر: كل مسكر. الميسر: القمار. الأنصاب: الأصنام. الأزلام: قداح الاستقسام، التي كانوا يطلبون معرفة ما هو مقسوم لهم بواسطتها. رجس: خبيث مستقذر].
ما تجوز به المسابقة:
وتجوز المسابقة بكل الدواب التي تصلح للحرب والكر والفر، مثل الخيل والبغال والجمال، وما لا يصلح شيء منها لذلك، فلا تجوز المسابقة به كالبقر، والطيور وغيرها.
ودليل ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا سبق إلا في خف، او حافر، أو نصل " (رواه أبو داود [2574] في الجهاد، باب: في السبق، والترمذي [700] في الجهاد، باب: ما جاء في الرهان والسبق).
[خف: أي ذي خف، والمراد الإبل. حافر: أي ذي حافر، والمراد الخيل وما يلحق بها. نصل: القسم الذي يخرج من السيف والرمح والسهم ونحوها والمراد الرمي بها]
وقد كانت هذه هي آلة الحرب وعدته يومها، فيلحق بها كل ما كان كذلك حسب الزمان والمكان، مما يصلح في الحرب، ويستعمل في نكاية العدو.(8/158)
المناضلة بالسهام والأسلحة المختلفة
تعريف المناضلة:
المناضلة: مفاعلة، من النضل، وهو الرمي، وتناضل القوم: تراموا لتظهر مهارة كل منهم في الرمي، وهي والمكافحة والمقاومة بمعني واحد.
والنضال بالسهام أو السلاح، يراد به استعمالها على الوجه الصحيح في نضال الأعداء.
والمناضلة شرعاً: تنافس متشاركين فأكثر على البراعة في استعمال السلاح، ورمي الهدف على مال بشروط معينة.
حكم المناضلة، ودليله:
المناضلة سنة، كما قلنا في المسابقة، مادام الغرض منها الإعداد للجهاد، ومقارعة الأعداء، فإذا كان الغرض منها المفاخرة، أو العدوان على الأبرياء انقلبت إلي معصية عملاً بالقاعدة: الأمور بمقاصدها. ويستدل على مشروعية المناضلة، والترغيب فيها، بقول الله عز وجل: {َأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (سورة الأنفال: 60).
فقد فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - القوة في الآية بالرمي، فقال: " ألا إن القوة الرمي " (رواه مسلم [1917] في كتاب الإمارة، باب: فضل الرمي والحث عليه، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه).
وروي البخاري [2743] في الجهاد، باب: التحريض على الرمي، عن سلمة بن الأكوع رض الله عنه قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - على نفر من أسلم ينتضلون،(8/159)
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان رامياً، ارموا وأنا مع بني فلان "، قا: فأمسك أحد الفريقين بأيديهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما لكم لا ترمون "؟ قالوا: كيف نرمي وأنت معهم؟ قال " ارموا، فأنا معكم كلكم ".
وروي أبو داود [2574] والترمذي [1700] وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل ". وقد سبق تخريج الحديث في المسابقة.
فأما الخف والحافر، فكناية عن البعير والفرس، وأما النصل، فكناية عن السهام، وما يدخل في حكمها من الأسلحة الأخرى المختلفة.
أنواع المناضلة:
تتنوع المناضلة بالسلاح، كما تنوعت المسابقة على الخيل، إلي الصور الأربعة المذكورة.
وتبطل منها هنا الصورة الثالثة أيضاً، وهي أن يتراهن المتناضلان كل منهما يدفع المال للأول في الإصابة، فهي قمار باطل، وهي من الميسر الذي نهي الله عنه وسماه رجساً.
شروط المناضلة:
يشترط في المناضلة مراعاة الأمور التالية:
أولاً: إذا كان النضال بالسهام ونحوها، فإنه يشترط أن يبين المتناضلان كون الرمي المطلوب مجرد قرع للهدف، أو خرقاً، فإن أطلقا، ولم يبينا صحت المناضلة على الوجه الصحيح، وحمل الرمي المطلوب على القرع.
ثانياً: يشترط اتحاد جنس السلاح من بندقية وغيرها، فلا تصح المناضلة ببندقيتين مختلفتي الجنس ولو رضي الطرفان بذلك.
ثالثاً: يشترط تعيين الرماة والهدف المطلوب تعييناً دقيقاً، وتعيين الموقف الذي يلتزمونه، وتعيين عدد الرشقات.
رابعاً: العلم بالمال وقدره، ووجود محلل إن كانت المناضلة من النوع الثالث المحرم الذي مر ذكره في المسابقة.(8/160)
ما لا تجوز المناضلة فيه:
اعلم أن القاعدة العامة فيما تجوز فيه المناضلة (أي المناضلة على مال) كل أداة نافعة في الحرب، فكل ما لم يكن له فائدة أو شأن في الحرب لا تجوز المناضلة به على مال.
فلا تجوز المناضلة على الكرة بأشكالها وأنواعها المختلفة، ولا علي سباحة ولعب شطرنج، ووقوف على رجل واحدة مثلاً، والسباق الزوارق الصغيرة التي لا شأن لها بالحرب.
ذلك لأن شيئاً من هذه الألعاب لا تفيد بالحرب، فهي وإن كانت جائزة، بل منها ما هو مستحب ومندوب إليه كالسباحة، إلا أنه لا يجوز النضال بها على مال.
عقد المسابقة والمناضلة عقد لازم:
إذا تم التعاقد على مسابقة أو مناضلة على مال مشروط، بالنحو الذي ذكرناه، فإن العقد يصبح عندئذ لازماً في حق من التزم العوض، فليس له أن يفسخه أو أن يترك العمل.
ومعني العقد اللازم أنه لا يملك طرف واحد فسخه إلا بموافقة الآخر، كالبيع والإجارة.
فإن لم تقم المسابقة والمناضلة على مال مشروط، فهي عقد جائز كل من الطرفين أن يستقل بفسخه.(8/161)
الباب الرابع
أصْنَاف اللهو الجَائِزةَ والمحرمَة(8/163)
أصناف اللهو الجائزة والمحرمة
معني اللهو:
اللهو: هو كل ما يشغل الإنسان عن المزعجات، والأفكار، والمؤرقات المختلفة، دون أن تكون له حقيقة ثابتة، كاللعب، وأحاديث الفكاهة والأسمار، والغناء ونحو ذلك.
أصناف اللهو:
ثم أن اللهو، إما أن ينقضي دون أن يترك وراءه أثراً من نفع أو ضرر، إلا أنه يشغل الفكر عن الجد في الأمور، والمهمات من الشؤون، وإما أن يترك ـ علاوة على ذلك ـ أثراً ضاراً في النفس: كأن يتعود على الدعة والانصراف عن القيام بواجبات الحياة، وعزائم الأمور، وإما أن يترك أثراً مفيداً فيها: كأن يعودها على بعض أعمال الخير، ويسهل عليها اقتحام بعض الشدائد.
فاللهو إذا يتفرع حسب ما ذكرنا إلي ثلاثة أصناف.
حكم كل صنف من هذه الأصناف:
ـ أما الصنف الأول: وهو ما لا يترك أثراً في الحياة نافعاً أو ضاراً، فهو مكروه: كالاسترسال في المجالس التي يشيع فيها المزاح والفكاهات التي لا فائدة منها، بحيث ينقضي الوقت فيها دون فائدة.
ـ وأما الصنف الثاني: وهو ما يعقب أثاراً ضارة في النفس والمجتمع، فهو محرم، ولا يجوز تعاطيه مقاله: الصنف الأول ذاته، إذا زاد استرسال الإنسان فيه، بحيث أصبح يفوت عليه واجباته، من عبادات مفروضة، أو سعي من أجل(8/165)
المعيشة، أو يوجد في طبيعة سيئة: كالكذب، والتهاون في علاقاته الأخلاقية مع الناس.
ومثاله أيضاً: مجالس الغناء المقرونة بالمعازف والآلات المحرمة، أو المقرونة بنساء، أو غلمان.
- وأما الصنف الثالث: وهو ما أعقب فائدة للنفس والمجتمع، فهو مباح وقد يسمو إلي درجة الاستحباب، حسب مدي أهمية الفائدة الناجمة عنه.
مثاله: ما ذكرناه من السباق والرمي، والألعاب المفيدة للحرب ولغيرها مما يعتد به في ميزان الحكم الإنساني.
تطبيق هذه الأحكام على مزيد من الأمثلة:
أولاً: الألعاب الهادئة الشائعة بين الناس، كالشطرنج، والنرد، وما يسمى بالشدة، أي الورق، ونحوها وهذه الألعاب تقوم أحكامها على أساس القاعدة التالية:
? كل ما كان من هذه الألعاب قائماً على التفكير والتدبير والنظر في العواقب، فهو جائز، ثم هو يدور بين الإباحة والكراهة حسب مدى انصراف اللاعب إليها، وانشغاله بها. من هذه الألعاب الشطرنج، فهو قائم على تشغيل الذهن، وتحريك العقل والفكر. ولا ريب أنه لا يخلو عن فائدة للذهن والعقل، فإن عكف عليه زيادة عما تقتضيه هذه الفائدة، فهو مكروه، فإن زاد عكوفه حتى فوت بسببه بعض الواجبات عاد محرماً.
? وكل ما كان قائماً على المصادفة، وإغماض الفكر والعقل، كالنرد، والورق، ونحوهما فهو محرم، وذلك لأن مثل هذه الألعاب يعود النفس على الركون إلي معني المصادفة في تقلبات الأحوال والأمور، ويجعل العقل يتخيل المصادفة هي العامل الأول في الكون وحركته، فهو من اللهو الذي يترك أثراً ضاراً في النفس.
ثانياً: اللهو بالحيوانات: كتحريش الديكة على بعضها، ودفع المواشي إلي التناطح وكالذي يسمي اليوم بمصارعة الثيران، فهو محرم، قولاً واحداً، لما يترك(8/166)
من الآثار الضارة على حياة البهائم أو الإنسان.
ثالثاً: المصارعة، وهي كما تعلم أصناف كثيرة:
? فكل ما لم يعقب أثراً ضاراًَ في الجسم، وكان من شأنه أن يعود الإنسان على القوة، وفنون القتال، والدفاع عن النفس، فهو مباح، وربما مستحباً ود صارع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركانة وغلبه.
وكل ما كان من شأنه أن يعقب أثراً ضاراً في الجسم، كجرح أو تهشيم عظم أو تشويه طرف، فهو محرم: كالمصارعة الحرة، والملائكة، ونحوهما، إلا أن تكون المصارعة على نحو وبوسائل تضمن عدم الإضرار بأحد الطرفين، فيصبح حكمها حكم النوع الذي قبلها: مباحاً أو مستحباً، حسب ما بينا.
لا يجوز شيء من اللهو على مال مشروط:
ثم أعلم أن شيئاً من أصناف اللهو واللعب التي ذكرناها، لا يجوز على المال، سواء كان من طرف واحد أو طرفين، أو من أجنبي عنهما. وكل مال يدخل في شيء من اللهو الذي ذكرنا، فهو من الميسر الذي يحرم تعاطيه، إلا أن في شرط المال في المصارعة المباحة، وجهاً عند الشافعية، فهي ـ على هذا الوجه ـ تتبع السباق والرمي اللذين مضي حكمهما.
دليل هذا الوجه: ما رواه أو داود في مراسليه: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صارع ركانة، إذ كان مشركاً، على شياه ". والصحيح في المذهب أنه لا يجوز شرط المال في شيء غير السباق والرمي، من أصناف اللعب واللهو المباحة، وإن كان مصارعة.
أما الاستدلال بحديث أبي داود، فيجاب عنه بما يلي:
أولاً: الحديث ضعيف لكونه مرسلاً.
ثانياً: على فرض صحته فإنما كان ذلك قبل إسلام ركانة. ولتلك الحالة شأن آخر، والدليل على ذلك أن ركانة لما أسلم بعد ذلك أعاد إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - الشياه.(8/167)
البَاب الخامس
القًضَاء(8/169)
القضاء
تعريف القضاء:
القضاء في اللغة له معانٍ عدة، منها:
1 - الحكم، يقال: قضى قضاء: أي حكم حكماً. ومنه قول الله تبارك وتعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} (الإسراء: 32) أي: حكم.
2 - الفراغ والانتهاء من الشيء، يقال: قضى حاجته إذا فرغ منها. ومن ذلك قوله تبارك وتعالى: {فوكزه موسى فقضي عليه} (القصص: 15) أي: قتله وفرغ منه. [وكزه: ضربه بجمع كفه].
3 - الأداء والانتهاء، يقال: قضى دينه إذا أداه، وأنهي ما عليه قال تعالى: {وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين} (الحجر: 66). [أي أدينا إليه، وأنهينا إلي عمله. دابر هؤلاء: آخرهم. مقطوع مصبحين: مستأصل في الصباح].
4 - الصنع والتقدير، يقال: هذا شيء قضاه: أي صنعه. وعليه قول الله تبارك وتعالي: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} (فصلت: 12)
[أي صنعهن وقدرهن وسواهن].
والقضاء شرعاً: فصل الخصومة بين اثنين فأكثر بحكم الله عز وجل.(8/171)
فالقضاء إذاً هو الحكم بين الناس، وتسوية الخلاف بينهم. بإعادة الحقوق إلي أصحابها.
وسمي القضاء حكماً لما فيه من الحكمة التي هي وضع الشيء في محله فهو يكف الظالم عن ظلمه وينصف المظلوم من ظالمه.
مشروعية القضاء:
القضاء مشروع في الإسلام ومطلوب، ويدل على مشروعيته الكتاب، والسنة والإجماع، والعقل.
أما الكتاب الكريم فآيات، منها:
قول الله عز وجل: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ} (المائدة: 49).
وقوله تبارك وتعالي: {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} (النساء: 58)
وقوله سبحانه وتعالي: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً} (النساء: 105).
[خصيماً: مخاصماً ومدافعاً عنهم].
وأما السنة المطهرة فأحاديث كثيرة منها:
ما رواه أبو داود [3582] في الأقضية، باب: كيف القضاء، عن على بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلي اليمن قاضياً، فقلت يا رسول الله، ترسلني وأنا حدث السن، ولا علم لي بالقضاء؟ فقال: " إن الله سيهدي قلبك، ويثبت لسانك، فإذا جلس بين يديك الخصمان، فلا تقضين حتى تسمع من الآخر، كما سمعت من الأول، فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء " قال: فما زلت قاضياً، أو ما شككت في قضاء بعد.
[حديث السن: صغير السن. أحرى: أجدر وأعون]
ومنها أيضاً: ما رواه البخاري [6919] في الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، ومسلم [1716] في الأقضية، باب:(8/172)
بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر ".
[اجتهد: بذل وسعه للتعرف على القضية، ومعرفة الحق فيها. أصاب: وافق الواقع في حكمه. أخطأ: لم يصب الحق في حكمه].
أما الإجماع، فهو منعقد على مشروعية القضاء، وعلى فعله، سلفاً وخلفاً لم يخالف في ذلك أحد، وقد استقضي النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعده من الخلفاء إلي يومنا هذا من غير نكير من أحد.
وأما العقل، فهو قاض بمشروعية القضاء وضرورته، فطبائع البشر مختلفة، والتظالم ومنع الحقوق واقع منهم، وقل من ينصف من نفسه، ولا يقدر الإمام أن يتولي فصل الخصومة بين كل الناس بنفسه، فلذلك كانت الحاجة ماسة إلي تشريع القضاء، ونصب القضاة، ليحكموا بين الناس، ويفصلوا في الخصومات.
حكمة تشريع القضاء:
وحكمة تشريع القضاء، وجود الحاجة إليه، وقيام المصالح به، فالإنسان اجتماعي بطبعه، وليس قادراً أن يعيش وحده، بل لا بد أن يعيش مع الناس لينال حاجاته الضرورية، بالتعاون معهم، وإذا كان التعامل مع الناس، والتعاون معهم أمراً ضرورياً، كان لاجرم أنه ستقوم بين الناس خصومات ومنازعات بسبب تعارض مصالحهم، وتضارب أهوائهم، وطغيان بعضهم على بعض، ومن هنا نشأت الحاجة إلي القضاء، وكان لابد من قاض يرجع إليه الناس عند الاختلاف والنزاع، والإسلام دين الفطرة السوية يدعو إلي رعايتها، والمحافظة على نظافتها وحسن سيرها. قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (الروم: 30).
[أقم وجهك للدين: ألزمه ولا تحد عنه. حنيفاً: مائلاً إليه. فطرة الله خلقته. القيم: المستقيم].(8/173)
أهمية منصب القضاء:
القضاء منصب عظيم تدعو إليه الحاجة، وله مكانة عظيمة بين شرائع الإسلام، وهو وظيفة الأنبياء والخلفاء والعلماء، قال الله تبارك وتعالى لنبيه داود عليه السلام: {َا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} (ص: 26).
فمن ولي هذا المنصب فعدل وبر كان في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله.
وقد ولي هذا المنصب رجال عظام من سلف هذه الأمة، أمثال عمر وعلى ومعاذ وأبي موسى الأشعري، وشريح وأبي يوسف، رضي الله عنهم جمعياً، وضربوا أروع الأمثلة في العدل والورع والعلم والذكاء.
روي أبو داود [3592] في الأقضية، باب: اجتهاد الرأي في القضاء، والترمذي [1327] في الأحكام، باب: ما جاء في القاضي كيف يقضي، عن معاذاً إلي اليمن، قال له: " كيف تقضي إذا عرض له قضاءٌ؟ " قال " أقضي بكتاب الله. قال " فإن لم تجد في كتاب الله؟ " قال أقضي بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال " فإن لم تجد في سنة رسول الله؟ " قال: أجتهد رأيي، ولا آلُوا قال: فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدره، وقال: " الحمد الله الذي وفق رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما يرضي رسول الله ".
[اجتهد رأيي: أبذل طاقتي ووسعي في طلب الحق والتعرف عليه. ولا آلوا: ولا أقصر في طلب الحق والبحث عنه].
خطورة منصب القضاء:
مع أهمية منصب القضاء، فإنه منصب خطر في نفسه، وفيه مسالك وعرة، ومزالق صعبة، والناجي فيه قليل، والهالك كثير، والمعصوم من عصمة الله تعالي.
روي أبو داود [3573] في الأقضية، باب: في القاضي يخطيء، عن بريدة بن الخصيب رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " القضاة ثلاثة: واحدٌ في(8/174)
الجنة واثنان في النار، فأما الذي في الجنة، فرجل عرف الحق وقضي به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم، فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار ".
وروي أبو داود [3571] في الأقضية باب: في طلب القضاء، والترمذي [1325] في الأحكام، باب: ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القاضي، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من جعل قاضياً بين الناس، فقد ذبح بغير سكين "
[ذبح بغير سكين: المراد به: التحرز من طلب القضاء، والإشفاق منه]
وقال الله عز وجل: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} (الجن: 15)
[القاسطون: الجائرون في حكمهم].
لذلك خشي هذا المنصب كثير من الصحابة والعلماء، ,أعرضوا عنه، خشية التقصير فيه.
حكم تولي القضاء:
وجود قاض في كل ناحية، يقضي ين المتخاصمين ويرفع التظالم بينهم، فرض كفاية في حق الصالحين له. أما كونه فرضاً، فلوجود الأمر به في كتاب الله عز وجل. قال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} (النساء: 135).
[قوامين: دائمي القيام. بالقسط: بالعدل].
وأما كونه فرض كفاية فلأنه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما من فروض الكفاية.
وقد بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - علياً رضي الله عنه قاضياً إلي اليمن، كما ولي معاذ بن جبل أيضاً قضاء اليمن، واستخلف عليه الصلاة والسلام عتاب بن أسيد على مكة والياً وقاضياً، وقد بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبا موسي الأشعري إلي البصرة قاضياً.(8/175)
فلو كان القضاء فرض عين على كل من يصلح له لم يكف قاض واحد في كل ناحية.
فإذا قام بهذا الفرض من يصلح له سقط الفرض عن الباقين، وإن امتنعوا ولم يقم به أحد أثموا جميعاً، ووجب على الإمام أن يجبر أحد الصالحين للقضاء على تولي هذا المنصب، والقيام بهذا الفرض.
لذلك قال علماء الشافعية: يجب على الإمام أن يولي في كل مسافة عدوي قاضياً، كما يجب عليه أن يجعل في كل مسافة قصر مفتياً. ومسافة العدوى، هي التي يرجع منها مبكر إلي موضعه ليلاً، أي: إذا خرج من بيته في الصباح الباكر رجع إليه في الليل.
أما إذا تعين للقضاء واحد في ناحية، وذلك بأن لم يصلح غيره، وجب عليه، وكان فرض عيه بالنسبة له، ولزمه طلبه، إن لم يدع إليه لوجود الحاجة إليه، ولا يعذر في رفضه لخوف ميل منه، بل يلزمه، وتحرز من الميل والجور، كسائر فروض الأعيان.
هذا، وإذا عرض القضاء على من يصلح له ليتولاه، وكان في ناحيته من هو أولي منه وأصلح، ورضي أن يتولاه جاز له، وإن كان هناك من هو أولي منه، ما دام قد دعي إليه من غير طلب منه، لأن وجود الأفضل لا يمنع تولي المفضول، ما دام أهلاً له ن وقد ولي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عتاب بن أسيد قضاء مكة، ولم يكن أفضل الصحابة رضي الله عنهم.
طلب القضاء:
يكره طلب القضاء، إذا كان في الناحية من هو مثله، أو أفضل منه، لورود النهي فيه، والتحذير منه.
روي أبو داود [3578] في الأقضية، باب: في طلب القضاء والتسرع إليه، والترمذي [1324] في الأحكام، باب: ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القاضي، عن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من ابتغي القضاء وسأل فيه شفعاء وكل إلي نفسه ومن أكره عليه أنزل الله عليه ملكاً يسدده ".(8/176)
وروي مسلم [1733] في الإمارة، باب [النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها] عن أبي موسي الأشعري رضي الله عنه، قال: دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا ورجلان من بني عمي، فقال أحد الرجلين: يا رسول الله أمرنا على بعض ما ولاك الله عز وجل، وقال الآخر مثل ذلك. فقال: " إنا والله لا نولي هذا العمل أحداً سأله، ولا أحداً حرص عليه ".
هذا ولقد استثني علماء الشافعية من هذه الكراهة ثلاث صور، حكموا باستحباب طلب القضاء فيها:
الأولي: ما إذا كان العالم خاملاً غير مشهور بين الناس، وكان يرجو في طلبه القضاء نشر العلم، لتحصل المنفعة بنشره إذا عرف الناس فضله وعلمه، فيكون لهم به نفع.
الثانية: أن يكون فقيراً محتاجاً إلي الرزق، فإذا ولي القضاء حصل له كفايته من بيت مال المسلمين، بسبب هو طاعة، لما في العدل بين الناس من جزيل الأجر والثواب.
الثالثة: أن تكون الحقوق مضاعة لجور القضاة، أو عجزهم عن إحقاق الحق، فيقصد بطلبه القضاء تدارك ذلك.
وقد أخبر الله تبارك وتعالي عن نبيه يوسف عليه السلام أنه طلب الولاية على الأموال، شفقة على الناس، وإنصافاً لهم، لا لحظ نفسه، ولا لمنفعة تخصه. قال تعالي عنه: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} (يوسف: 55).
أما إذا كان قصده بطلب القضاء الانتقام من الأعداء، أو التكسب بالارتشاء، أو المباهاة والاستعلاء، فإن طلب القضاء، والحالة هذه حرام، لكونه وسيلة إلي الظلم، وفعل الحرام، وللوسائل حكم المقاصد، كما هو معروف.
روي الترمذي [1336] في الإحكام، باب: ما جاء في الراشي والمرتشي في الحكم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الراشي والمرتشي في الحكم ".(8/177)
شروط القاضي:
يشترط فيمن يتولي القضاء حتى تصح توليته الشروط التالية:
1 - الإسلام، فلا يجوز شرعاً تولية الكافر القضاء: قال الله تعالى " {وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (النساء: 141) ولا سبيل أعظم من القضاء، لأنه ولاية وحكم وسبيل وسلطان على المسلمين.
وكذلك لا يجوز أن يلي القضاء كافر، ليقضي بين الكفار في ديار المسلمين، لأن الغرض من القضاء فصل الأحكام بين الناس بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام والكافر جاهل بهما، وغير مأمون عليهما
2 - التكليف، أي أن يكون القاضي بالغاً عاقلاً، فلا يجوز تولية صبي ولا مجنون، وإن كان جنونه متقطعاً، لنقص من وجدت فيه هذه الصفات.
ولا يكفي مجرد وجود العقل الذي يتعلق به التكليف، بل يجب أن يكون القاضي صحيح الفكر، جيد الفطنة، بعيداً عن السهو والغفلة، يتوصل بذكائه إلي وضوح المشكل، وحل المعضل، لأن عمله يتطلب كل هذا.
3 - الحرية، فلا يولي القضاء رقيق، كله أو بعضه، لفقدان ولايته أو نقصها.
4 - الذكورة، فلا يجوز أن تتولي امرأة القضاء مهما كانت كفاءتها.
روي البخاري [4163] في المغازي، باب: كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلي كسري وقيصر، عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة "
ولأن القضاء يتطلب الاجتماع بالرجال، وفي اجتماع الرجال بالنساء لا تؤمن الفتنة.
وأيضاً في تولي النساء القضاء صرف لهن عن مهمتهن الأصلية، وهي القيام بشؤون البيت والأولاد، وكذلك يشترط للقضاء القوة والسطوة حتى لا يطمع الناس بجانب القاضي، والمرأة قد يعوزها هذا الجانب.(8/178)
5 - العدالة، فلا يولي فاسق القضاء، لأنه لا يوق بقوله، ولا يؤمن الجور في حكمه.
قال الله عز وجل: {َا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (الحجرات: 6).
والعدالة تعني:
? تجنب الكبائر من الذنوب والكبائر: كل ما ورد فيه وعيد شديد في كتاب الله تعال أو سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ودل ارتكابه على تهاون في الدين: كشرف الخمر، والتعامل بالربا.
? وان يكون غير مصر على القليل من الصغائر، والصغائر: هي ما لم ينطبق عليه تعريف الكبيرة: كالنظر المحرم، وهجر المسلم فوق ثلاث، ونحوهما.
? وأن يكون سليم السريرة، أي العقيدة محافظاً على مروءة مثله، لأن من لا مروءة له لا حياء له، ومن لا حياء له قال ما شاء. ومروءة مثله: أن يتخلق بأخلاق أمثاله من أبناء عصره ممن يراعون مناهج الشرع وآدابه في الزمان والمكان، ويرجع في هذا غالباً إلي العرف.
? وأن يكون مأموناً غير متهم من أن يتخذ منصبه لجر منفعة لنفسه أو دفع مصرة عنها من وجه شرعي.
هذا وقد قال علماء الشافعية: إنه لا يولي القضاء مبتدع ترد شهادته، ولا من ينكر حجية الإجماع، ولا من ينكر العمل بخبر الآحاد، ولا من ينكر الاجتهاد المتضمن إنكاره إنكار القياس.
6 - السمع، ولو بصياح في أذنه، فلا يجوز أن يتولي القضاء أصم لا يسمع أصلاً، لأنه لا يمكنه والحالة هذه أن يفرق بين إقرار الخصوم وإنكارهم.
7 - البصر، فلا يولي أعمي قد فقد البصر كلياً، ولا من يري الأشباح، ولا يعرف الصور، لأن الأعمى لا يستطيع أن يميز بين الخصوم، ولا يعرف الطالب من(8/179)
المطلوب، وهو إن ميز بين الناس فإنما يميز بينهم بالصوت، والصوت قد يشتبه عليه.
أما ما قيل من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولي عبدالله بن أم مكتوم على المدينة، وهو أعمي، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يوله الحكم والقضاء وإنما استخلفه ليؤم الناس في الصلاة.
8 - النطق، فلا يجوز تولية الأخرس، وإن فهمت إشارته، لعجزه عن تنفيذ الأحكام.
9 - الكفاية للقيام بأمور القضاء، فلا يولي مغفل مختل نظر، بسبب كبر أو مرض.
وفسر بعض العلماء الكفاية اللائقة بالقضاء بأن يكون في القاضي قوة على تنفيذ الحق بنفسه، فلا يكون ضعيف النفس جباناً، فإن كثيراً من الناس يكون عالماً ديناً، ونفسه ضعيفة عن التنفيذ والإلزام والسطوة فيطمع بعض الناس في جانبه بسبب ذلك.
قال ابن عبد السلام رحمه الله تعالى: للولاية شرطان: العلم بأحكامها، والقدرة على تحصيل مصالحها وترك مفاسدها. فإذا فقد الشرطان حرمت الولاية.
روي مسلم [1826] في الإمارة، باب: كراهة الإمارة بغير ضرورة، عن أبي ذر رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين ما يتيم ".
وروي مسلم أيضاً [1825] في نفس الكتاب والباب السابقين عن أبي ذر رضي الله عنه قال ك قلت: يا رسول الله، ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال: " يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدي الذي عليه فيها ".
10 - الاجتهاد، فلا يولي القضاء الجاهل بالأحكام الشرعية، ولا المقلد فيها، وهو من حفظ مذهب إمامه، لكونه غير عارف بغوامضه، وقاصر عن تقرير أدلته، ولأن المقلد لا يصلح للفتوي، فعدم صلاحيته للقضاء أولي.(8/180)
والمجتهد هو من يعرف من الكتاب والسنة ما يتعلق بالأحكام ما يتعلق الأحكام، ولا يشترط حفظ تلك الأدلة عن ظهر قلب، بل يكفي ان يعرف مظانها في أبوابها، فيراجعها وقت الحاجة، ويعرف خاص الأدلة وعامها، ومجملها ومبينها، وناسخها ومنسوخها، ومتواتر السنة وآحادها، والمتصل والمرسل، وحال الرواة قوة وضعفاً، ويعرف لسان العرب لغة ونحواً، وما لا بد منه في فهم الكتاب والسنة، لأنه لسان الشرع الذي نزل به الكتاب، ونطقت به السنة. ويعرف أقوال العلماء من الصحابة ومن بعدهم إجماعاً واختلافاً، ويعرف القياس بأنواعه.
هذا في المجتهد المطلق، أما المجتهد المقيد، فيشترط فيه معرفة مذهب إمامه.
والأصل في هذا الشرط ـ الاجتهاد ـ ما رواه أبو داود [3573] في الأقضية، باب: القاضي يخطيء، عن بريدة بن الخصيب رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق وقضي به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم، فهو في النار، ورجل قضي للناس على جهل فهو في النار ".
ويدل على هذا الشرط أيضاً ما رواه البخاري [6919] في الاعتصام بالكتاب والسنة باب: أجر الحاكم إذا الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، ومسلم [1716] في الأقضية: باب: بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب، أو أخطأ، ومسلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران ن وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر ".
فقد دل هذا الحديث على أن القاضي الذي يصح أن يحكم بين الناس، ويمضي حكمه هو الذي لديه أهلية الاجتهاد ولا تتوفر تلك الأهلية إلا إذ تحقق الشرط السابق الذي ذكرناه بكل تفصيلاته.
قال الإمام النووي رحمه الله تعالي في " شرحه على مسلم " [12/ 13] " (قال العلماء: أجمع المسلمون على أن هذا الحديث في حاكم عالم أهل للحكم، فإن أصاب فله أجران: أجر باجتهاده، وأجر بإصابته، وإن أخطأ فله أجر اجتهاده، فأما(8/181)
من ليس بأهل الحكم، فا يحل له الحكم، فإن حكم فلا أجر له ن بل هو آثم، ولا ينفذ حكمه، سواء وافق الحق أم لا، لأن إصابته اتفاقية ـ أي عن غير قصد ـ وليست صادرة عن أصل شرعي، فهو عاص في جميع أحكامه، سواء وافق الصواب أم لا، وهي مردودة كلها، ولا يعذر في شيء من ذلك، وقد جاء في السنن: القضاة ثلاثة) ... ثم ساق حديث أبي داود السابق ز
فإن تعذر في رجل جمع تلك الشروط السابقة في القاضي، فولي سلطان له شوكة قاضياً مسلماً فاسقاً أو مقلداً، نفذ قضاؤه للضرورة، لئلا تتعطل مصالح الناس.
وواجب الإمام أن يبحث عن حال القاضي قبل توليته، ويسأله ليعرف أهليته للقضاء، كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينما ولي معاذ بن جبل رضي الله عنه قضاء اليمن. فقال له: " كيف تقضي إذا عرض لك قضاءٌ "؟ قال: أقضي بكتاب الله قال " فإن لم تجد في كتاب الله "؟ قال " أقضي بسنة رسول الله. قال: " فإن لم تجد في سنة رسول الله "؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو. قال: فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدره، وقال: " الحمد الله الذي وفق رسول رسول الله ". (رواه ابو داود [3592] في الاقضية، باب: اجتهاد الرأي في القضاء، والترمذي [1327] في الأحكام، باب: ما جاء في القاضي كيف يقضي).
فإذا ولي الإمام من لا يصلح للقضاء مع وجود الصالح له والعلم بالحال أثم المولي والمولي، ولا ينفذ قضاؤه وإن أصاب فيه.
ما يستحب أن يكون عليه القاضي من الصفات:
ويندب أن يكون من يتولي القضاء من قريش، ومراعاة العلم والتقي أولي من مراعاة النسب، وأن يكون ذا حلم وتثبت ولين وفطنة ويقظة، وصحة حواس وأعضاء، وأن يكون عارفاً بلغة البلد الذي يقضي لأهله، قنوعاً سليماً من الشحناء، صدوقاً وافر العقل ذا وقار وسكينة.
قال مزاحم بن زافر: قال لنا عمر بن عبدالعزيز: خمس إذا أخطأ القاضي منهن خطة كانت فيه وصمة: أن يكون فهماً حليماً عفيفاً صليباً عالماً سؤولاً عن العلم. (رواه البخاري في الأحكام، باب: متي يستوجب الرجل القضاء) لأن هذه الصفات تزيده بصيرة في القضاء، ومحبة من العامة وثقة في نفوس الناس.(8/182)
ثبوت تولية القاضي:
إذا نصب الإمام قاضياً ثبتت توليته بشهادة شاهدين يخرجان معه إلي محل ولايته يخبران بتنصيبه قاضياً، وكذلك تثبت توليته باستفاضة خبر تعينه، واشتهار تنصيبه. ويسن أن يكتب له الإمام كتاباً بالتولية، إتباعا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد كتب لعمرو بن حزم لما بعثه إلي اليمن كتاباً، وهو ابن سبع عشرة سنة، رواه مالك في الموطأ [1545] في كتاب العقول. وكتب أبو بكر رضي الله عنه كتاباً لأنس لما بعثه إلي البحرين، وختمه بخاتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (رواه البخاري [1318] في الزكاة، باب: العرض في الزكاة).
ويستحب أن يكتب إليه في كتاب التولية ما يحتاج إلي القيام به، ويعظه فيه ويوصيه بتقوى الله تعالى، ومشاورة أهل العلم، وتفقد الشهود، وغير ذلك وإنما لم يكتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ رضي الله عنه، لما أرسله إلي اليمن، لبيان الجواز وعدم الوجوب.
ولا شك أن ولاية القاضي تثبت اليوم بالطرق المتبعة لدي الحكومات، من إصدار قرار بتوظيفه ونشره في الصحف وتسليمه نسخة منه.
وتبدأ وظيفته ويستحق الأجر على عمله من حين مباشرته مهام عمله ويسن للقاضي أن يدخل بلد قضائه يوم الاثنين، فإن تعذر، فالخميس، فإن تعذر فالسبت للإتباع في ذلك.
كما يسن له أيضا أن يبحث عن علماء البلد الذي عين فيه، وعن عدوله قبل دخوله إليه، ليدخل على بصيرة بحال من فيه من الناس.
وظيفة القاضي:
وظيفة القاضي كبيرة، وكثيرة الجوانب والواجبات، فهو يقضي في فصل الخصومات بين الناس بالحكم، أو بالإصلاح عن تراض، والحبس والتعزيز وإقامة الحدود، وتزويج من لا ولي لها، والولاية على مال الصغار والمجانين والسفهاء، وبيع التركة للدين وحفظ مال الغائب، وبيع مال لا يتعين تاركه وحفظ ثمنه، او صرفه في المصالح، والنظر في الوقف وإيصال غلته إلي مصارفه والنظر في الوصايا، والمنع من التعدي بالأبنية، ونصب المفتين والمحتسبين،(8/183)
وأخذ الزكاة وقسمة التركات، ونصب الأئمة في المساجد، وغير ذلك مما هو داخل في اختصاصه.
وواجب القاضي أن يحكم في كل ما ذكر وغيره بكتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبما أجمع عليه المسلمون، ويقيس الأمور بعضها على بعض، فيحكم بأقربها إلي الحق، ويبذل جهده في معرفة حكم الله تعالى في كل قضية ومستند ذلك حديث معاذ رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث معاذاً إلي اليمن، فقال: كيف تقضي؟ فقال أقضي بما في كتاب الله، قال: فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال فبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدره، وقال: " الحمد الله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله ". (رواه أبو داود [3592، 3593] في الأقضية، باب: اجتهاد الرأي في القضاء، والترمذي [1327، 1328] في الأحكام باب: ما جاء في القاضي كيف يقضي).
وروي النسائي [8/ 320] في القضاء، باب: الحكم باتفاق أهل العلم، عن عبد الرحمن بن زيد، قال: أكثروا على عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ذات يوم ن فقال عبدالله: إنه آتي علينا زمان، ولسنا نقضي، ولسنا هنالك، ثم إن الله عز وجل قدر علينا أن بلغنا ما ترون، فمن عرض له منكم قضاء بعد اليوم، فليقض بما في كتاب الله فإن جاء أمر ليس في كتاب فليقض بما في سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فإن جاء أمراً ليس في كتاب الله ولا قضي به نبيه - صلى الله عليه وسلم - فليقض بما قضي به الصالحون، فإن جاء أمر ليس في كتاب الله، ولا قضي به نبيه ولا قضي به الصالحون فليجتهد رايه ن ولا يقل: إني أخاف، فالحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور متشابهات، فدع ما يريبك إلي ما لا يريبك.
وروي النسائي أيضا [8/ 231] في القضاء باب: الحكم باتفاق أهل العلم، عن عبدالرحمن بن زيد قال: أكثروا على عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ذات يوم، فقال عبدالله: إنه قد أتي علينا زمان، ولسنا نقضي، ولسنا هنالك، ثم إن الله عز وجل قدر علينا أن بلغنا ما ترون، فمن عرض له منكم قضاء بعد اليوم، فليقض بما في كتاب الله فإن جاء أمر ليس في كتاب الله، فإن جاء أمر ليس في كتاب، فليقض بما في سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فإن جاء أمر ليس في كتاب الله ولا قضي به نبيه - صلى الله عليه وسلم - فليقض بما قضي به الصالحون فإن جاء أمر ليس في كتاب الله، ولا قضي به نبيه، ولا قضي به الصالحون فليجتهد رأيه، ولا يقل: إني أخاف فالحلال بين والحرام بين، وبين ذلك أمور متشابهات فدع ما يريبك إلي ما لا يريبك.
وروي النسائي أيضا [8/ 231] في القضاء باب: الحكم باتفاق أهل العلم عن شُريح أنه كتب إلي عمر رضي الله عنه يسأله، فكتب إليه: (أن اقض بما في كتاب الله، فإن لم يكن في كتاب الله فبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن لم يكن في كتاب الله تعالي ولا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاقض بما قضي به الصالحون فإن لم يكن في كتاب الله تعالى، ولا في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقض به(8/184)
الصالحون، فإن شئت فتقدم وإن شئت فتأخر ولا أري التأخر إلا خيراً لك والسلام)
[فتقدم: أي اقض. باجتهادك. فتأخر: توقف لتراجعني وتري رأيي]
والأحاديث واضحة في أن القاضي يلتزم في قضائه بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله، وما أجمع عليه علماء المسلمين، ثم يعم رأيه بعد ذلك لاستخراج الحكم الصحيح والوصول إلي الحق الواضح.
مكان جلوس القاضي ونزوله:
ويستحب للقاضي أن ينزل وسط البلد إذا ما وصل إليه، ليتساوي أهله في القرب إليه، ويسهل عليهم الرجوع إليه، إذا كان هناك متسع لذلك، وإلا نزل حيث تيسر له، هذا إذا لم يكن في البلد موضع معين لنزول القاضي، والجلوس فيه.
كما يسن للقاضي أن يدخل البلد نهاراًَ ويقصد الجامع فيصلي فيه ركعتين، ثم يذهب إلي مكان عمله، ويرسل منادياً ينادي: من كانت له حاجة فإن القاضي قد حضر، فينظر بعدئذ ما يرفع إليه من الأمور، وبهذا يكون قد أخذ في العمل واستحق رزقه.
فيم ينظر القاضي أولاً؟
ـ ينظر القاضي أولاً في أمر المسجونين، لأن الحبس والسجن عذاب، فينظر في أمرهم هل يستحقون السجن، أو لا؟
وكيفية النظر في أمر المسجونين أن يعلم الناس أنه ينظر في أمرهم يوم كذا، وقد كان قديماً يرسل منادياً ينادي في البلد: ألا إن القاضي فلاناً ينظر في أمر المسجونين يوم كذا، فمن كان له محبوس فليحضر.
فمن قال من أهل الحبس: حبست بحق، أو ثبت له أنه حبس حق، فعل به ما يقتضي ذلك الحق، فإن كان الحق حداً أقامه عليه، وأطلق سراحه، وإن كان تعزيزاً فعل به ما يري، وإن كان مالاً أمره بأدائه.
ومن قال حُبست ظلماً طلب من خصمه الحجة، فإن لم يقم الحجة صدق(8/185)
المحبوس بيمينه وأطلق سراحه.
ـ ثم ينظر في حال الأوصياء على الأطفال، والمجانين والسفهاء، لأنهم يتصرفون في حق من لا يملك المطالبة ماله، فكان تقديمهم أولي مما بعدهم فمن وجده منهم عدلاً قوياً اقره، ومن وجده فاسقاً أخذ المال منه وجوباً ووضعه عند غيره ومن وجده عدلاً ضعيفاً عضده وقواه بمعين.
ـ ثم يبحث عن أمناء القاضي المنصوبين على الأطفال وتفرقة الوصايا فيعزل من فسق منهم، وبعين الضعيف بآخر.
ـ ثم يبحث عن الأوقاف العامة وعن متوليها، وعن الأوقاف الخاصة أيضا.
ـ ويرتب بعد هذا أموره، ويقدم من القضايا الأهم فالأهم، والقاضي بعد هذا مؤتمن على مصالح الناس وحقوقهم على أن يبذل جهده، ويقوم بمهام عمله على وجه السرعة، والعدل وليحذر من الإهمال والتسويف والظلم والتساهل في حقوق الناس ومصالحهم. روي الترمذي [1330] في الأحكام، باب: ما جاء في الإمام العادل، عن عبدالله بن أبي أوفي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إن الله مع القاضي ما لم يجر، فإذا جار تخلي عنه ولزمه الشيطان ".
وروي البخاري [6731] في الأحكام، باب: من استرعي رعية فلم ينصح، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما من عبد يسترعيه الله رعية، فلم يحطها بنصحه إلا لم يجد رائحة الجنة ".
اتخاذ القاضي مزكيين:
ويتخذ القاضي ندباً مزكيين، ليعرفاه حال من يجهل من الشهود، لأنه لا يمكنه البحث عنهم بنفسه، فاحتاج إلي من يعاونه في ذلك ويشترط في المزكي:
- أن يكون عارفاً بالجرح والتعديل، لئلا يجرح العدل، ويزكي الفاسق.
- معرفة ماضي من يزكيه بصحبة أو جوار أو معاملة.
- كما يشترط في المزكي أيضاً أن يكون مسلماً عاقلاً بالغاً عدلاً، حتى يورث قوله طمأنينة، ويوثق بقوله وتزكيته.(8/186)
اتخاذ كاتب:
ويسن للقاضي أن يتخذ كاتباً، لوجود الحاجة إليه إذ القاضي مشغول بالحكم والاجتهاد، والكتابة تشغله عن ذلك، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - كتاب يكتبون له ن وربما زادوا على الأربعين.
شروط الكاتب:
ويشترط في الكاتب أن يكون:
أمسلماً عدلاً حراً ذكراً، لتؤمن خيانته، ويوثق بكتابته، إذ قد يغفل القاضي أو يشغل عن قراءة ما يكتبه.
ب عارفاً بكتابة المحاضر: هي ما يكتب فيها ما جري للمتحاكمين في المجلس والسجلات،: وهي ما كتب فيها الحكم وتنفيذه زيادة على ما كتب في المحاضر.
ما يستحب في الكاتب:
ويستحب أن يكون الكاتب:
أفقيهاً، لئلا يؤتي من قبل جهله.
ب موفور العقل، لئلا يخدع ويدلس عليه.
ت جيد الخط، لئلا يقع في الغلط والالتباس. قال على رضي الله عنه: الخط الحسن يزيد الحق وضوحاً.
ث حاسباً، للحاجة لذلك في قسمة المواريث، وتوزيع الوصايا.
ج فصيحاً عالماً بلغات المتخاصمين.
وينبغي للقاضي أن يجعل الكاتب بين يديه ليملي عليه ما يريد، ويري ما يكتبه، فيكون على علم به.
اتخاذ مترجم:
ويندب للقاضي أن يتخذ مترجماً يفسر له لغة المتخاصمين، لأن القاضي قد لا يعرف لغاتهم، فيحتاج إلي من يطلعه على ذلك.
قال خارجه بن زيد بن ثابت: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يتعلم(8/187)
كتاب اليهود حتى كتبت للنبي - صلى الله عليه وسلم - كتبه، وأقرأته كتبهم إذا كتبوا. وقال أبو جمرة: كنت أترجم بين ابن عباس رضي الله عنه، وبين الناس. (رواه البخاري في الأحكام، باب: ترجمة الحكام).
شروط المترجم:
ويشترط في المترجم: الإسلام والحرية، والعدالة، ليحصل الاطمئنان لما يقول.
اتخاذ درة وسجن:
ويتخذ القاضي درة للتأديب، اقتداء بعمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد كان يتخذ درة، وقيل هو أو من اتخذها.
قال الشعبي رحمه الله تعالي: كانت درة عمر أهيب من سيف الحجاج. ويتخذ سجناً أيضاً، لأداء حق الله، أو حق الناس، أو لتعزيز من يستحق ذلك، لأن عمر رضي الله عنه اشترى داراً بمكة بأربعة آلاف درهم، وجعلها سجناً. رواه البيهقي. وفي البخاري: بأربع مائة [2/ 853] في الخصومات، باب: الربط والحبس في الحرم.
مجلس القاضي:
ويستحب أن يكون مجلس القاضي فسيحاً، لأن الضيق يتأذي منه الخصوم، وأن يكون بارزاً ظاهراً ليعرفه من أراده من مستوطن وغريب، مصوناً من أذي حر وبرد، لائقاً بالوقت والقضاء، فيجلس في كل فصل من الصيف والشتاء بما يناسبه، كيلا يتأذي القاضي والخصوم.
كراهة الجلوس للقضاء في المسجد:
يكره للقاضي أن يجلس للقضاء في المسجد صوناً له عن الصياح واللغط والخصومات، إذ مجلس القاضي لا يخلو غالباً من ذلك، على أنه قد يحتاج أن يحضر مجلس القضاء من ليس لهم أن يمكثوا في المسجد، كالحيض، ومن لا يليق دخولهم بالمسجد: كالصغار والمجانين والكفار.
ومن الأدب أن يجلس القاضي على مكان مرتفع كمنصة ليسهل عليه(8/188)
النظر إلي الناس، وأن يستقبل القبلة، لأنها اشرف الجهات، وأن يدعو عقب جلوسه بالتوفيق والتسديد، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج من بيته قال: " بسم الله توكلت على الله، اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أزل أو أظلم أو أظلم أو أجهل أو يجهل علي ". (رواه الترمذي [3423] في الدعوات، باب: التعوذ من أن نجهل أو يجهل علينا، وغيره، عن أم سلمه رضي الله عنها).
كراهة اتخاذ الحاجب، وجواز اتخاذ المحضر:
الحاجب: هو البواب الذي يحجب الناس عن القاضي، ويمنعهم من الدخول إليه في وقت جلوسه للحكم، فيكره للقاضي ان يتخذ هذا الحاجب، بل يترك بابه مفتوحاً للمراجعين، إلا أن يكون هناك ازدحام على بابه، فلا مانع أن يقف هذا البواب لينظم دخول الناس على القاضي.
روي أبو داود [2948] في الخراج والإمارة، باب: فيما يلزم الإمام من أمر الرعية، عن أبي مريم رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من ولاه الله شيئاً من أمور المسلمين، فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة ".
وروي الترمذي [1332، 1333] في الأحكام، باب: ما جاء في إمام الرعية، عن عمرو بن مرة الجهني رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " ما من إمام يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة والمسكنة إلا أغلق الله أبوب السماء دون خلته وحاجته ومسكنته ".
أما المحضر، فهو الذي يرتب الخصوم، وينادي عليهم، وكان يسمي النقيب، فلا بأس أن يتخذه القاضي لوجود الحاجة إليه.
مشاورة الفقهاء:
ويندب للقاضي عند اختلاف وجهات النظر، وتعارض الأدلة في الحكم أن يشاور أهل الفقه والبصر بالدين، لقول الله عز وجل: {وشاورهم في الأمر} (سورة آل عمران: 519)
التسوية بين الخصوم:
ويسوي القاضي وجوباً بين الخصمين في أمور ثلاثة:(8/189)
أفي الدخول عليه، فلا يجوز أن يقوم لأحدهما، ولا يقوم للآخر، لأن ذلك ينافي العدل، ويكسر قلب من لم يقم له، فإما أن يقوم لهما، أو لا يقوم لأحد.
ب في الاستماع لهما، وطلاقة الوجه معهما، ورد السلام عليهما، وذلك لتحقيق العدل معهما، ولئلا ينكسر قلب أحدهما، إذا ما خص أحدهما بلفظ أو لحظ لم يعامل الثاني منهما بمثله.
ت وفي المجلس بين يديه، وذلك بأن يجلسهما أمامه، وبين يديه، أو أحدهما عن يمينه، والآخر عن شماله، ليطيب بذلك قلبهما، ويعدل بينهما.
والأصل في هذا ما رواه الدارقطني [4/ 205] عن أم سلمه رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من ابتلي بالقضاء بين الناس فليعدل بينهم في لحظه وإشارته ومقعده، ولا يرفعن صوته على أحد الخصمين، مالا يعرفه على الأخر"
وروي أبو داود [3588] في الأقضية: باب كيف يجلس الخصمان بين يدي القاضي، عن عبدالله بن الزبير رضي الله عنه قال: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الخصمين يقعدان بين يدي الحكم.
هذا ولا يجوز للقاضي أن يسال المدعى عليه، إلا بعد فراغ المدعي من بيان دعواه، ولا يحلف المدعي عليه إلا بعد أن يطلب المدعي من القاضي أن يحلفه لأن استيفاء اليمين من المدعي عليه حق للمدعي فيتوقف على إذنه وطلبه، ولا يلقن خصماً حجة، ولا يفهمه كلاماً يعرف به كيفية الدعوى أو الجواب، أو كيف ينكر أو يقر، لما في ذلك من إظهار الميل له والإضرار بخصمه، وهذا حرام، ولا يتعنت بالشهداء فيشق عليهم، ولا يؤذيهم بالقول ونحوه، كأن يهزأ بهم أو يعارضهم في أقوالهم، لأن مثل هذا ينفر من الشهادة وتحملها وأدائها، والناس في حاجة إليها، قال الله تعالى: {وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} (سورة البقرة: 282). ولا يقبل الشهادة إلا ممن ثبتت عدالته، بمعرفة القاضي له، أو بتزكية عدلين له عنده، ولا يقبل شهادة عدو على عدوه، ولا شهادة والد لولده، ولا ولد لوالده، وذلك لوجود تهمة التحامل على العدو، والمحاباة للوالد، أو الولد، والأصل في رد مثل هذه الشهادة ما رواه الترمذي [2299] في(8/190)
الشهادات، باب: فيمن لا تجوز شهادته، عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلا: " لا تجوز شهادة خائن ولا خائنه ولا زانٍ ولا زانية ولا ذي عمر على أخيه ".
[الغمر: الحقد والغل والشحناء]
وروي مالك في الموطأ [2/ 720] في الأقضية، باب: ما جاء في الشهادات، قال: بلغني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين)
[الظنين: المتهم]
الحالات التي يتجنب فيها القاضي القضاء:
ويتجنب القاضي القضاء في عشرة مواضع: عند الغضب، والجوع والعطش، وشدة الشهوة، والحزن والفرح المفرط، وعند المرض، ومدافعة الأخبثين ـ البول والغائط وعند النعاس، وشدة البرد والحر. ويلحق بهذه الأحوال ما كان مثلها من كل ما يورث اضطراباً في النفس وسواء في الخلق، وخللاً في الفكر.
والأصل في هذا ما رواه البخاري [6739] في الأحكام، باب: هل يقضى القاضي أو يفتي وهو غضبان، ومسلم [1717] في الأقضية، باب: كراهة قضاء القاضي وهو غضبان، عن أبي بكرة رضي الله عنه قال ِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِ: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " ولا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان].
والنهي في الحديث محمول على الكراهة فلو قضي في حال منها نفذ حكمه
شراء وبيع القاضي بنفسه:
يندب للقاضي أن لا يشتري، وأن لا يبيع بنفسه، لئلا يشتغل قلبه عما هو بصدده، ولأنه قد يحابي، فيميل قلبه إلي من يحابيه، إذا وقع بينه وبين غيره خصومة.(8/191)
حكم القاضي لنفسه أو شريكه وأصله وفرعه:
ألا يجوز للقاضي أن يحكم لنفسه، ولا ينفذ حكمه في ذلك لوجود التهمة في حكمه، وخوف الميل لمصلحته.
ب ولا يحكم أيضاً لشريكه في المال المشترك بينهما، للتهمة أيضاً، وخشية الميل والمحاباة.
ت وكذلك لا يجوز له أن يحكم لأصله، ولا لفرعه، ولا ينفذ حكمه لكل منهما، لاحتمال التهمة والمحاباة.
أما إذا حكم على من ذكرنا سابقاً، فإنه يجوز حكمه، وينفذ، لعدم التهمة في ذلك.
هـ ولا يجوز للقاضي أيضاً أن يحكم على عدون، لوجود التهمة، ويجوز أن يحكم له لانتفائها.
وإذا امتنع حكم القاضي لمن ذكرنا سابقاً، فإنه يحكم لهم الإمام، أو يحكم لهم قاضٍ آخر، لانتفاء التهمة في حكمه.
الهدية إلي القاضي:
ـ لا يجوز للقاضي أن يقبل الهدية من الذين يرجعون إليه في حل خصوماتهم والفصل في منازعاتهم، مهما قلت تلك الهدية، أو زادت، وسواء كانوا يهدون إليه قبل ولاية القضاء، أو لم يكونوا، وسواء كانوا من محل ولايته، أو كانوا من غيرها، لأن قبول مثل هذه الهدايا من أولئك الذين لهم خصومات عنده يدعو إلي الميل والمحاباة غالباً. وقد أمر الدين بسد الذرائع التي قد يفضي الولوج منها إلي محرم.
ـ وكذلك لا يجوز له قبول الهدية من كل شخص لم يعتد أن يهدي إليه قبل ولايته القضاء، ولو لم يكن له عنده خصومة، لاحتمال حصول الخصومة في المستقبل، وليس من عادته أن يهدى إليه قبل الولاية، فيحمل عمله ذلك على أن سببه القضاء غالباً.
والأصل في هذا ما رواه البخاري [6260] في الإيمان والنذور، باب: كيف(8/192)
كانت يمين النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومسلم [1832] في الإمارة، باب: تحريم هدايا العمال، عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمل عاملاً، فجاءه العامل حين فرغ من عمله، فقال: يا رسول الله، هذا لكم وهذا أهدي لي، فقال له: " أفلا قعدت في بيت أبيك وأمك، فنظرت أيهدي لك أم لا؟! " ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشية بعد الصلاة، فتشهد وأثني على الله بما هو أهله، ثم قال: " أما بعد فما بال العامل نستعمله، فيأتينا فيقول: هذا من عملكم، وهذا أهدى لي، أفلا قعد في بيت أبيه وأمه فنظر: هل يهدي له أم لا؟! فو الذي نفس محمد بيده، لا يغل أحدكم منا شيئاً إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه: إن كان بعيراً جاء به له رغاء، وإن كانت بقرة جاء بها لها خوار، وإن كانت شاة جاء بها تيعر، قد بلغت " ثم رفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه حتى إنا للنظر إلي عُفرة إبطيه.
وفي رواية عند أحمد [5/ 424] عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " هدايا العمال غُلُولٌ ".
[استعمل: وظفه على جمع الزكاة. لا يغل: من الغلول، والغلول في الأصل: الأخذ من الغنيمة قبل قسمتها، وسميت هدية العامل غولاً، بجامع أن كلاً منهما فيه خيانة، وإخلال بالأمانة، لأن الهدية غالباً ما تحمل العامل على ذلك ولذلك هي حرام كالغلول. رغاء: صوت الإبل. خوار: صوت البقر تيعر: من اليعار وهو صوت الغنم والمعز عُفرة إبطيه: باطنهما، من شدة رفعه ليديه، والعفرة في الأصل: بياض يخالطه لون كلون التراب، وكذلك لون باطن الإبط]
هذا كله إذا كانت الهدية للقاضي ممن له عنده خصومة، أو قضية ينظر فيها أو ممن لم تسبق له عادة في إهدائه قبل توليته القضاء، فإن كانت ممن له عادة في إهدائه وليس له خصومة عنده، جاز له قبولها، إن لم يزد فيها عن القدر المعتاد، كماً وكيفاً، فإن زاد فيها نظر، فإن كانت الزيادة لها أثر ظاهر لم تقبل، وإلا قبلت ومما ينبغي الانتباه إليه: هو أن الكلام في الهدية إذا لم يكن هناك قصد ظاهر، فإن كانت بقصد أن يحكم بغير الحق، أو ليمتنع من الحكم بالحق، فهي رشوة، وهي من الكبائر، ويأثم القاضي بقبولها، كما يأثم الباذل لها والساعي في شأنها.
روي الترمذي [2336] في الأحكام، باب: ما جاء في الراشي والمرتشي(8/193)
في الحكم، وأبو داود [3580] في الأقضية، باب: في كراهية الرشوة، عن ابي هريرة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن الراشي والمرتشي في الحكم. وعند أحمد [5/ 279] عن ثويان رضي الله عنه، قال: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الراشي والمرتشي، والرائش بينهما.
[الرائش: الذي يمشي بين الراشي والمرتشي].
ملك الهدية:
إذا قبل القاضي الهدية، في الصور المحرمة التي مر ذكرها، فإنه لا يملكها، ويجب عليه ردها إلي صحابها، فإن تعذر ردها إلي صاحبها وضعها في بيت مال المسلمين، لأنها كسب غير مشروع، فلا يملكها.
حضور الولائم:
- لا يجوز للقاضي حضور وليمة أحد الخصمين، حال الخصومة، ولا يقبل ضيافة أحد منهما ولو كانا في غير محل ولايته، لخوف الميل والمحاباة.
- ويجوز له حضور وليمة غير المتخاصمين، إذا جرت عادته قبل الولاية، لعدم التهمة في ذلك.
- ويندب له إجابة دعوة غير المتخاصمين، ولو من غير عادة، إذا كانت وليمة عامة، كوليمة العرس، والختان، وقد عمم صاحبها الدعوة، لانتفاء التهمة في ذلك، ولأن فيها تطيب قلوب أصحاب الدعوة، شريطة أن لا يشغله ذلك عن أعمال القضاء.
- يجوز للقاضي عيادة المريض، وشهود الجنائز، لأن في ذلك قربة، ولا تهمة فيه.
رجوع القاضي عن الاجتهاد الذي قضى به، وما يترتب عليه:
إذا قضي القاضي في قضية من القضايا، ثم تغير اجتهاده فيها، فهل ينقض الحكم الأول، أم ينفذ حكمه على ما قضاه، ويكون رجوعه سارياً فيما يجد من القضايا والأحكام؟
في الإجابة على ذلك تفصيل نذكره فيما يلي:
1 - إذا حكم القاضي باجتهاده، ثم بان له أن حكمه كان خلاف نص الكتاب أو(8/194)
خلاف السنة المتواترة أو الآحاد الصحيحة، أو كان خلاف الإجماع، أو القياس الجلي، وهو ما يقطع فيه بنفي الفارق بين الأصل والفرع، نقول: إذا كان حكمه خلاف أصل من هذه الأصول، وجب نقضه من قبل القاضي نفسه، أو من قبل غيره.
ويترتب على ذلك رد ما قضى به، وإعادته إلي ما يوافق الكتاب والسنة، أو الإجماع والقياس، وتصحيح الآثار التي ترتبت على ذلك الحكم. ودليل ذلك قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: " من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد ". (أخرجه البخاري [2550] في البيوع، باب: النجش، تعليقاً ووصله في الصلح باب: إذا اصطلحوا علي صلح جور فالصلح مرود، ومسلم [1718] في الاقضية، باب: نقض الأحكام الباطلة، ورواه غيرهما عن عائشة رضي الله عنها).
والأمثلة على ذلك كثيرة في أقضية الصحابة ومن بعدهم، منها:
أكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يفاضل بين الأصابع في الدية، لتفاوت منافعها، حتى روي له الخبر في التسوية بينها، فنقض حكمه، ورجع عنه. رواه الخطابي في "المعالم ".
ب قضى عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه فيمن رد عبداً بعيب، أنه يرد خراجه معه، فأخبره عروة عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى أن الخراج بالضمان، فرجع عن حكمه، وقضى بأخذ الخراج من الذي أخذه. رواه الشافعي في مسنده.
ت ونقض على رضي الله عنه قضاء شُريح في ابني عم، أحدهما أخ لأم، بأن المال للأخ، متمسكاً بقوله تعالى: {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} (سورة الأنفال: 75} قال له على رضي الله عنه: قال اله تعالي: {وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحدٍ منهما السدس}.
2 - أما إذا كان حكمه الأول، إنما بناه على اجتهاد، أو على مقتضي قياس خفي، ثم تغير اجتهاده، فإنه لا ينتقض حكمه الأول، بل ينفذ على ما مضى، ويتغير(8/195)
الحكم بناء على الاجتهاد الجديد بما سيأتي من أقضية، لأن الظنون المتعادلة، ليس بعضها أولي من بعض، ولو جاز أن ينقض بعضها بعضاً، لما استمر حكم، ولما استقر تشريع، ولشق الأمر على الناس، ومن هنا نشأت القاعدة المعروفة: (لا ينقض الاجتهاد بمثله).
ويترتب على ذلك أن الحكم الأول يمضي على حاله ولا يرد، وقد روي عن عمر رضي الله عنه مثل هذا: روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حكم بحرمان الأخ الشقيق من الميراث، في المسألة المعروفة بالمشتركة، وهي أن يموت الميت عن زوج وأم وإخوة لأم وأخ شقيق. ومقتضي القواعد أن يأخذ الزوج النصف، والأم السدس، والإخوة لأم الثلث، ولا شيء للأخ الشقيق، لأنه عصبة، ولم يبق له شيء بعد أصحاب الفروض، وهكذا قضى عمر رضي الله عنه أولاً.
ثم رجع عن ذلك، وقضي بالتشريك بين الأخ الشقيق والإخوة لأم في الثلث، على أنهم أخوة لأم، وقال رضي الله عنه لما قيل له: قد قضيت بغير هذا: (ذلك على ما قضينا، وهذا على ما نقضي) ولم ينتقض حكمه الأول.
حكم القاضي نافذٌ قضاءَ لا ديانة:
إذا قضي القاضي في قضية، بناء على بينة صحيحة شرعاً نفذ حكمه قضاءً وظاهراً، واستحق المحكوم له ما حكم له به القاضي ن فإن كان المدعى صادقاً في دعواه استحق المدعي به، وحل له قضاء وديانة، ظاهراً وباطناً.
أما إذا كان المدعى كاذباً، وحكم له القاضي ببينته، فإن هذا الحكم وإن نفذ قضاءٌ وظاهراً وباطناً.
أما إذا كان المدعى كاذباً، وحكم له القاضي ببينته فإن الحكم وإن نفذ قضاءٌ، واستحق المدعي والمحكوم له به، إلا أنه ديانة وعند الله عز وجل حكم باطل لا يحل به الحرام، ولا يستحق هذا المدعى ما حكم له به ن وعليه أن يتوب غلي الله تعالى، ويرد الحق إلي صاحبه. ودليل ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إنما أنا بشرٌ وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون الحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه، فإنما أقطع له قطعة من النار ".
(رواه البخاري [6748] في الأحكام، باب: موعظة الإمام للخصوم، ورواه أيضا ي غر هذا الباب، ومسلم [1713] في الأقضية، باب: الحكم بالظاهر واللحن بالحجة عن أم سلمه رضي الله عنها).(8/196)
[ألحن بحجته: أقوم بها، وأقدر عليها]
وقد أخذ العلماء من هذا الحديث أحكاماً منها:
1 - إثم من خاصم في باطل ن فاستحق به في الظاهر شيئاً، وما استحقه بهذه الطريقة حرام لا يحل له ديانة عند الله تعالى.
2 - أن من احتال لأمر باطل بوجه من وجوه الحيل، حتى يصير حقاً له في الظاهر ويحكم له هـ، فإنه لا يحل له تناوله في الباطن، ولا يرتفع عنه الإثم بالحكم.
3 - أن المجتهد إذا أخطأ في الحكم، لا يلحقه إثم، بل يؤجر عند الله، وإن كان حكمه هذا لا يحل حراماً في حقيقة الأمر، وعند الله تعالى. جاء في الحديث: " إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب، فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجرٌ" (رواه الترمذي [1326] في الأحكام، باب: ما جاء في القاضي يصيب ويخطيء، والنسائي [8/ 224] في القضاء، باب: الإصابة في الحكم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه البخاري [6919] في الاعتصام، باب: أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، ومسلم [1716] في الأقضية، باب: أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما).
ما يترتب على هذه القاعدة (حكم القاضي نافذ قضاء لا ديانة) من المسائل:
لقد رتب العلماء على هذه القاعدة أحكاماً كثيرة في أبواب متعددة، نذكر منها بعض المسائل:
1 - إذا ادعى رجل على امرأة أنها زوجته، وأقام البينة، وقضى له القاضي بذلك، وكان المدعى كاذباً، فإنه لا يحل له الاستمتاع بها بذلك الحكم، ويجب على المرأة الامتناع منه، وعدم تمكينه منها.
2 - إذا ادعى رجل مالاً على غيره، وحكم له به القاضي، وكان المدعى كاذباً، فلا يحل له هذا المال، ولا يملكه ديانة، ويجب رده إلي صاحبه.
3 - إذا قضى القاضي لشريك بالشفعة، وكان قد أسقط حقه فيه، ثم أنكر وأقام البينة، فإنه لا يستحق الشفعة ديانة، وإن استحقها قضاءً.(8/197)
انعزال القاضي وعزله
أولاً: انعزال القاضي:
ينعزل القاضي بنفسه من غير عزل الإمام له إذا اتصف بواحدة من الصفات التالية:
أالردة، لأنه بذلك يخرج من الإسلام، ويصبح كافراً، والكافر لا ولاية له على المسلمين، قال الله تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (سورة النساء: 141).
ب زوال الأهلية، وذلك كأن يعتريه جنون أو إغماء أو عمى أو خرس أو صمم، أو ذهبت أهليه اجتهاده وضبطه للأمور، بنحو غفلة أو نسيان. فإذا انعزل بذلك لم ينفذ حكمه، لفقدان أهليه القضاء في كل ذلك. ومثل ذلك المرض المعجز عن القيام بواجب القضاء.
ت الفسق وكذلك لو فسق القاضي فإنه ينعزل ولا ينفذ حكمه لوجود المنافي للولاية، وهذا في غير قاضي الضرورة وهو القاضي الفاسق الذي يعينه سلطان ذو شوكة.
وإذا زالت هذه العوارض التي ذكرناها، والأحوال اتي بيناها عن القاضي، لم تعد ولايته، لأنه خرج عن منصبه، ولا يعود إليه إلا بتنصيب جديد، ولأن الشيء إذا بطل لم ينقلب إلي الصحة نفسه.
ثانياً: عزل القاضي من قبل الإمام:
أويجوز للإمام عزل القاضي إذا ظهر منه خلل لا يقتضي انعزاله: كما إذا كثرت(8/198)
الشكاوي منه، وقد روى أبو داود في باب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عزل إماماً يصلى بقوم بصق في القبلة، وقال: " لا يصلي بهم بعدها أبداً ". فإذا جاز هذا في إمام الصلاة، جاز هذا في القاضي، بل هو أولي.
ب ويجوز للإمام عزله أيضاً إذا وجد من هو أفضل منه تحصيلاً لتلك المزية للمسلمين.
ت ويجوز عزله إن كان هناك مثله، أو دونه وكان في عزلة مصلحة للمسلمين: كتسكين فتنة، لما فيه من دفع الضرر عن المسلمين بالقضاء علي الفتنة.
ث فإن لم يكن شيء من ذلك حرم عزله، لأن ذلك عبث منهي عنه، لكنه إن فعل ينفذ عزله إن وجد صالح للقضاء مكانه، مراعاة لطاعة الإمام، فإن لم يوجد مكانه من يصلح للقضاء، فإنه لا ينفذ العزل، لشدة الضرر في ذلك على مصالح المسلمين.
متى يتم عزل القاضي؟
ألا ينعزل القاضي قبل بلوغه خبر عزله، لعدم عمه بذلك، وإنما يتم عزله حين يبلغه خبر العزل.
ب وإذا كتب الإمام إليه: إذا قرأت كتابي فأنت معزول، فقرأه انعزل، وكذلك إذا قرئ عليه، لأنه بكل ذلك قد بلغه خبر العزل، ولا ولاية له بعد العزل.
عزل القاضي نفسه:
ويجوز للقاضي أن يعزل نفسه، لأنه كالوكيل عن الإمام، والوكيل يصح له أن يعزل نفسه عن الوكالة، وكذلك القاضي. هذا إذا لم يتعين للقضاء، أما إذا تعين للقضاء، ولم يوجد مكانه قاض آخر صالح للقضاء، فإنه لا يجوز له عزل نفسه، ولا ينعزل في هذه الحال، لأن القضاء في الحالة هذه فرض عليه، ولا يجوز له تركه.
عدم انعزال القاضي بموت الإمام:
وإذا مات الإمام، أو خرج من ولايته، فإن القاضي لا ينعزل، لشدة الضرر، في تعطل القضاء.(8/199)
الباب السادس
الدّعَاوى والبَيِّنات والشهَادَات(8/201)
الدّعَاوى والبَيِّنات
تعريف الدعاوى:
الدعاوَي بفتح الواو، والدعاوي بكسر الواو، جمع دعوى. والدعوى لغة: الطلب. قال الله تعالى: {ولم ما يدعون} (سورة يس: 57) أي: لهم ما يطلبون.
والدعوى شرعاً: إخبار عن وجوب حق على الغير عند الحاكم
تعريف البيِّنات:
البيِّنات: جمع بينة، وهي: الحجة الواضحة، من البيان، وهو الإيضاح والكشف.
والبيئة شرعاً: هم الشهود سُمُّوا بذلك لأن بهم يظهر الحق ويتضح.
دليل مشروعية الدعاوي والبيِّنات:
يستدل على تشريع الدعوى والبينات بالقرآن والسنة.
أما القرآن فقول الله عز وجل: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ} (سورة النور: 48).
وقوله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ} (سورة آل عمران: 23).
وأما الحديث، فقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لو يعطي الناس بدعواهم لادعى ناس دماء(8/203)
رجالٍ وأموالهم، ولكن اليمين على المدعي عليه " (رواه البخاري [4277] في التفسير، باب: إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً ومسلم [1711] في الأقضية، باب: اليمين على المدى عليه، عن عبدالله ن عباس رضي الله عنهما).
وروي مسلم [138] في الإيمان، باب: وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار، عن الأشعث بن قيس رضي الله عنه، قال: كان بيني وبين رجل أرض باليمن، فخاصمته إلي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: " هل لك بينة؟ " فقلت لا. قال " فيمينه ". وفي رواية " شاهداك أو يمينه "
وروي الترمذي [1341] في الأحكام، باب: ما جاء في أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته: " البينة على المدعى، واليمين على المدعي عليه ".
تعريف المدعي والمدعي عليه والفرق بينهما:
المدعى: هو من خالف فوله الظاهر.
والمدعى عليه: هو من وافق قوله الظاهر.
والفرق بينهما أن المدعي يدعى حقاً على المدعى عليه، وقوله هذا مخالف للظاهر، وهو البراءة، والمدعى عيه ينكر ذلك الحق، والأصل ـ وهو البراءة ـ معه.
حكمه كون البينة على المدعى واليمين على المدعى عليه:
الحكمة في ذلك: هي أن جانب المدعى ضعيف، لكون دعواه خلاف الأصل، فكلف الحجة القوية، وهي البينة، وأن جانب المدعى عليه قوي، لأنه متمسك بالأصل، وهو البراءة، فاكتفي منه بالحجة الضعيفة، وهي اليمين.
وإنما كانت البينة قوية، واليمين ضعيفة، لأن الحالف متهم في يمينه بالكذب، لأنه يدفع عن نفسه، بخلاف الشاهد، فإنه غير متهم، لأنه يشهد لغيره كما جاء في الحديث الذي تقدم ذكره: " فأقضي له على نحو ما أسمع ".(8/204)
شروط صحة الدعوى:
يشترط لصحة كل دعوى أمام القاضي، سواء كانت دعوي دم، أو غيره: كغصب وسرقة وإتلاف ستة شروط:
الشرط الأول: أن تكون الدعوى معلومة، وذلك بأن يفصل المدعى ما يدعيه، كأن يقول المدعى: إن فلاناً قتل قريبي عمداً، أو يقول: قتله خطأ وحده أو اشترك مع فلان، فلو أطلق، وقال: هذا قتل قريبي لا تقبل دعواه، لكن يسن للقاضي أن يطلب منه أن يفصل دعواه.
وإنما وجب عليه أن يفصل دعواه، لأن الأحكام تختلف باختلاف الحالات، فحكم العمد غير حكم الخطأ مثلاً.
الشرط الثاني: أن تكون الدعوى ملزمة، فلا تسمع دعوى هبة مطلقة من غير دعوى الإقباض، كأن يقول المدعى: وهبني فلان مالاً، لأن الهبة لا تلزم إلا بالقبض فلو قال المدعي: وهبني وقبضته بإذن الواهب ـ والهبة تلزم بالقبض ـ فإن الدعوى تسمع عندئذ، ويقبلها القاضي.
الشرط الثالث: أن يعين المدعى في دعواه المدعي عليه، واحداً كان أو جمعاً فلو قال عند القاضي: قتل قريبي أحد هؤلاء الثلاثة، لا يقبل القاضي دعواه حتى يعين المدعى عليه، لوجود الإبهام في دعواه من غير تعيين. فلو طلب المدعي من القاضي أن يحلفهم لا يحلفهم القاضي لعدم صحة الدعوي.
الشرط الرابع: أن يكون المدعى مكلفاً: أي بالغاً عاقلاً، فلا تسمع دعوى صبي ولا مجنون.
الشرط الخامس: أن لا يكون المدعي أو المدعى عليه حربياً، لا أمان له، فإن الحربي لا يستحق قصاصاً ولا غيره، لأن حقوقه مهدورة.
الشرط السادس: أن لا تناقض الدعوى دعوى أخري، فلو ادعى على شخص أنه انفرد وحده بالقتل، ثم ادعى على آخر انه شريكه، أو انفرد وحده أيضاً بالقتل، لم تسمع الدعوى الثانية، لما فيها من تكذيب الدعوى الأولي ومناقضتها، إلا إذا صدقه المدعى عليه الثاني، فإنه يؤخذ بإقراره، وتسمع الدعوى عليه، فإذا(8/205)
استوفت الدعوى هذه الشروط كلها صحت وسمعها القاضي، ثم سأل المدى البينة بعد ذلك على صحة دعواه، فإن أثبتها حكم له بمدعاه.
ما يتوقف فيه الحكم على الدعوى وما لا يتوقف:
أفعال المكلفين من حيث تعلق الأحكام الشرعية بها أربعة أقسام:
القسم الأول: أحكام شرعت والمقصود بها مصلحة المجتمع، فحكمها أنها حق خالص لله تعالى، وليس للمكلف فيها خيار، وتنفيذ هذه الأحكام عائد إلي ولي الأمر، ولا يتوقف الحكم فيها على دعوى عند القاضي. ومثالها:
1 - العبادات المحضة كالصلاة والصيام والحج وما تستند إليه هذه العبادات، من الإيمان والإسلام، فإن هذه العبادات إنما قصد بتشريعها إقامة الدين، وإقامته ضروري لنظام المجتمع.
2 - العبادات التي فيها معنى المؤونة، كالزكاة وصدقة الفطر، فإنها عبادة من جهة أن المكلف يتقرب بها إلي الله تعالى، وفيها معنى الضريبة على المال أو النفس من جهة أخري.
3 - الضرائب التي فرضت على الأرض الزراعية، سواء كانت عشرية أو خراجية، فإن المقصود من هذه الضرائب صرفها في مصالح المجتمع.
4 - الضرائب التي فرضت فيما يغنم بالجهاد، أو فيما يوجد في باطن الأرض من الكنوز والمعادن.
5 - أنواع من العقوبات الكاملة، وهو حد الزنى، وحد السرقة، وحد البغاة الذين يحاربون الله ورسوله، ويسعون في الأرض فساداً.
6 - نوع من العقوبات القاصرة، وهي حرمان القاتل من الميراث، وسميت قاصرة، لأنها ليست بعقوبات جسدية، ولا مالية، وإنما هي منع له من حق كان يستحقه لو لم يقتل.
7 - عقوبات فيها معنى العبادة: ككفارة اليمين والظهار والقتل الخطأ، فإن فيها معنى العبادة، لأنها تؤدي بما هو عبادة من صوم وصدقة وتحرير رقبة.(8/206)
فهذه الأنواع حق خالص لله تعالى، وإنما كان تشريعها لتحقيق مصالح الناس العامة، فلا يملك المكلف أن يسقط منها شيئاً، لان المكلف لا يملك أن يسقط إلا حق نفسه، وهذه ليست له، وإنما هي من حقوق الله تعالى، ولا يتوقف الحكم فيها على دعوى من المكلف أمام القضاء، كما أسلفنا.
القسم الثاني: أحكام شرعت وكان المقصود بها مصلحة المجتمع والمكلف معاً، غير أن مصلحة المجتمع فيها أظهر، فحق الله فيها غالب.
وحكم هذا القسم، كحكم ما هو حق خالص لله تعالى، لا يملك المكلف إسقاطه، ولا يتوقف الحكم فيه على دعوي أمام القضاء.
القسم الثالث: أحكام شرعت، وكان المقصود بها مصلحة المكلف خاصة، فحكمها حق خالص لمكلف، مثال ذلك تضمين من أتلف مالاً بمثله أو قيمته، وهذا حق خالص لصاحب المال. وحبس العين المرهونة حق خالص للمرتهن. واقتضاء الدين حق خالص للدائن.
فالشارع الحكيم أثبت هذه الحقوق لأصحابها، وجعل لهم الخيرة في أمرها، فإن شاؤوا استوفوها، وإن شاؤوا أسقطوها ويتوقف الحكم فيها على دعوى عند القاضي، وليس للقاضي أن يتبرع بإقامة الدعوى نيابة عنهم بغير دعواهم.
القسم الرابع: أحكام شرعت وكان المقصود بها مصلحة المكلف والمجتمع غير أن مصلحة المكلف فيها أظهر وأغلب. وحكم هذا القسم كحكم القسم الثالث، وهو ما كان حقاً خالصاً للمكلف، ومثاله القصاص من القاتل عمداً، وحدٌ القذف من القاذف، فلا بد لاستيفائها والحكم بهما من إقامة دعوى عند القاضي.
يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى، في متن المنهاج: (تشترط الدعوى عند قاض في عقوبة كقصاص وقذف، فلولي الدم أن يعفو عن القصاص، وله أن يسامح بالدية. وكذلك للمقذوف أو المقذوفة أن يسقط حقه في الحد ويسامح به).
وبعض العلماء يجعل حد القذف مما غلب فيه حق الله تعالى، فلا يتوقف(8/207)
فيه الحكم على دعوى، ولا يملك المقذوف أو المقذوفة حق إسقاطه والعفو عن القاذف إذا ثبت القذف عند القاضي لا يشترط لإقامة حده دعوى عنده.
بيان أن البينة علي المدعى واليمين على من أنكر:
قلنا: إن البينة إنما هي الشهود وسموا بذلك لأن الحق يستبين بشهادتهم ويظهر، وإنما يكلف بإقامة البينة المدعى، الذي يدعي حقاً على غيره ليثبت دعواه، وإنما جعلت البينة عليه لأن جانبه ضعيف، إذ إنه يدعى خلاف الأصل، إذ الأصل في الناس براءة ذممهم حتى تثبت إدانتهم. لذلك كلف المدعى بالبينة، وهي حجته في ثبوت حقه.
واليمين وهو الحلف بالله تعالى، أو بصفة من صفاته، وقد جعله الدين على المدعى عليه، ينفي به الدعوى عن نفسه، وإنما كلف المدعى عله باليمين، لأن جانبه قوي، إذ هو مؤيد بالبراءة الأصلية: كما قلنا، فاكتفي منه باليمين، وهو حجة ضعيفة.
ودليل هذا التوزيع بين المدعى والمدعى عليه، قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " البينة على المدعى واليمين علي من أنكر ". (رواه البيهقي) [8/ 123] في القسامة.
وقد سبق حديث البخاري [4277] ومسلم [1711] عن ابن عباس رضي الله عنهما: " ... ولكن اليمين على المدعى عليه ".
وحديث مسلم [138] عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: " البينة على المدعى واليمين على المدعى عليه ". وقد مر تخريج هذه الأحاديث.
فإذا أقام المدعى البينة على دعواه، حكم له القاضي، وليس له أن يطلب من المدعى عليه أن يحلف على نفي الدعوى، وليس للمدعي عليه أن يطلب من القاضي أن يحلف المدعى بعد إقامة البينة، لأن في ذلك تكليف المدعى أن يقيم حجة بعد حجة.(8/208)
عجز المدعي عن إقامة البينة:
إذا عجز المدعى أن يقيم البينة على ما يدعيه، بأن لم يكن له بينة، أو أن الشهود ماتوا مثلاً، فإن القاضي يطلب من المدعى عليه أن يحلف على نفي ما يدعيه المدعى، فإن حلف حكم القاضي ببراءته.
امتناع المدعى عليه من حلف اليمين:
إذا لم يكن للمدعى بينة، وامتنع المدعى عليه من اليمين، ردت اليمين على المدعى، فيطلب منه القاضي، أن يحلف على مدعاه، فإذا حلف استوجب ما يدعيه وحكم له به القاضي عملاً بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد رد اليمين إلي المدعى. روي الحاكم [4/ 100] عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - رد اليمين على طالب الحق.
حكم يمين الرد كالإقرار:
ويمين الرد، وهي ـ كما قلنا ـ يمين المدعي بعد نكول خصمه، كإقرار الخصم، لا كالبينة، لأنه قد توصل باليمين بعد نكول المدعى عليه إلي الحق، فأشبه إقراره به، فيجب الحق للمدعى بعد فراغه من اليمين من غير افتقار إلي حكم كالإقرار، ولا تسمع بعدها حجة بمسقط، أو إبراء، لتكذيبه لها بنكوله عن اليمين، لأن نكوله كالإقرار، كما مر.
امتناع المدعي عن اليمين:
إذا امتنع المدعى عن اليمين بعد إذ ردها إليه القاضي ولا عذر له سقط حقه، لإعراضه عن اليمين.
ويسن للقاضي أن يبين حكم النكول للجاهل له، فيقول له: إن نكلت عن اليمين حلف المدعى وأخذ منك الحق، أو يقول للمدعى إن امتنعت عن يمين الرد سقط حقك، فإن لم يبين لهما وحكم لمجرد النكول نفذ حكمه، وكان المدعى أو المدعى عليه مقصراً بترك البحث عن حكم النكول.
سكوت المدعى عليه:
إذا أصر المدعي عليه على السكوت عن جواب الدعوى لغير عذر، جعل كمنكر للمدعى به، وجعل أيضاً ناكلاً عن اليمين، وترد اليمين على المدعى.(8/209)
بيان النكول:
النكول لغة: مأخوذ من نكل عن العدو، وعن اليمين إذا جبن.
والنكول شرعاً: أن يقول المدعى عليه: أنا ناكل، أو يقول له القاضي: احلف فيقول: لا أحلف، أو يصر على السكوت، كما مر.
إذا ادعى اثنان شيئاً:
إذا ادعى شخصان شيئاً، كأرض مثلاً، فادعى كل واحد منهما أنها له، ولا بينة لأحدهما، فإن كانت الأرض في يد أحدهما، فالقول قول صاحب اليد بيمينه، فيحلف على أنها له، ويستحقها، عملاً بالأصل، واستصحاب الحال، فإن وجودها بيده يرجح أنها ملكه، حيث لا بينة تخالفه، لأن الأصل أن لا تدخل في يديه إلا بسبب مشروع، وإن كانت في أيديهما، ولا بينة كما قلنا لأحدهما، تحالفا، وجعلت الأرض بينهما.
ومعنى تحالفا: أي حلف كل منهما على نفي أن تكون الأرض ملكاً للآخر، ودليل ذلك ما رواه أبو داود [3613] عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما: أن رجلين ادعيا بعيراً أو دابة إلي النبي - صلى الله عليه وسلم -، ليست لواحد منهما بينة، فجعله النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما، ورواه الحاكم أيضاً [4/ 95] وقال: هذا حديث صحيح.
البينات وأنواعها:
لقد سبق تعريف البينات، ودليل مشروعيتها، في أول بحث الدعاوي والبينات.
والبينات أنواع: فقد تكون البينة شاهدين ذكرين، وقد تكون رجلاً وامرأتين، وقد تكون شاهداً ويميناً، وقد تكون أربع نسوة، وقد تكون أربعة جال، وسنفصل هذا في بحث الشهادات.(8/210)
الشهادات
تعريف الشهادات:
الشهادات جمع شهادة، من الشهود بمعني الحضور.
والشهادة لغة: الخبر القاطع.
والشهادة شرعاً: إخبار عن شيء بلفظ خاص.
دليل مشروعية الشهادة:
الشهادة مشروعة بنص القرآن والسنة، وإجماع الأمة.
أما القرآن فقول الله عز وجل: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} (سورة البقرة: 282) وقوله تبارك وتعالى: {ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه} (سورة البقرة: 283).
وأما السنة، فما رواه مسلم [138] في الإيمان، باب: وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار، عن الأشعث بن قيس رضي الله عنه قال: كان بيني وبين رجل خصومة في بئر فاختصمنا إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " شاهداك أو يمينه ".
وأما الإجماع، فهو منعقد علي مشروعية الشهادة، واستحبابها، ولم يخالف بذلك أحد من العلماء.
حكمة تشريع الشهادة:
والحكمة من تشريع الشهادة صيانة الحقوق، وإثباتها، فلو لم تشرع الشهادة لأمكن أن يضيع كثير من الحقوق، ويتعذر إثباتها لأصحابها، وهذا(8/211)
ينافي غرض الإسلام وحرصه على أن يصل كل إنسان إلي حقه، من غير نزاع ولا صراع، فكان تشريع الشهادة تلبية إذاً لحاجة مقصودة، ومصلحة أكيدة.
اختلاف الشهادات من حيث عدد الشهود:
الحقوق المشهود بها نوعان: حق الله، وحق العباد.
النوع الأول: حق الله تعالي:
وهذا النوع من الحقوق لا يقبل فيه شهادة النساء، بل لا بد فيه من شهادة الرجال، لأن شهادة النساء لا تخلو من شبهة النسيان والخطأ، وهذه حقوق يؤخذ فيها بالاحتياط.
وحقوق الله هذه ثلاثة أضرب:
الضرب الأول: لا يقبل فيه أقل من أربعة شهود، وهو الزنى. قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (سورة النور: 4) فقد رتب سبحانه وتعالى الجلد على عدم الإتيان بأربعة شهداء، فدل بذلك على أن الزني لا يثبت بأقل منهم.
وقال تعالى: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ} (سورة النساء: 15).
وقال عز من قائل، في حادثة الإفك: {َوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (سورة النور: 13).
دل ذلك على أن نصاب الشهادة في الزني أربعة من الذكور.
وبيّن هذا حديث مسلم [1498] في كتاب اللعان، أن سعد بن عبادة رضي الله عنه، قال: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " نعم "، قال: كلا والذي بعثك بالحق، إن كنت لأعاجلنه بالسيف قبل ذلك، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " اسمعوا إلي ما يقول سيدكم، إنه لغيور، وأنا أغير منه، والله أغير مني ". وقال ذلك عندما نزل: {والذين يرمون المحصنات .... } ثم نزلت آيات اللعان فسحة للأزواج.(8/212)
الحكمة من وجود أربعة شهداء في الزنى:
الحكمة من طلب أربعة شهداء على ثبوت حد الزني، أن الزني لما كان يقوم بين اثنين: الرجل والمرأة، صار كالشهادة على فعلين، فاحتاج إلي أربعة من الشهود.
وكذلك فإن الزني من أغلظ الفواحش، فغلظت الشهادة فيه ليكون أستر على الناس. وإنما تقبل شهادة الشهود في الزني، إذا قالوا: حانت منا التفاته فرأينا ذلك كاملاً، أو قالوا: إنا تعمدنا النظر لأداء الشهادة.
الضرب الثاني: وهذا يقبل فيه رجلان اثنان، وهو ما سوى الزني من حقوق الله عز وجل، مثل الردة، وقطع الطريق، وقتل النفس، والسرقة، وشرب الخمر.
ودليل ذلك عموم قوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} (سورة البقرة: 282). وقوله عز وجل: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} (سورة الطلاق: 2). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " شاهداك أو يمينه ". (رواه مسلم: [138]).
وقول الزهري: (مضت السنة بأنه لا يجوز شهادة النساء في الحدود).
الضرب الثالث: وهذا يقبل فيه شهادة رجل واحد، وهو هلال رمضان بالنسبة للصوم، وذلك احتياطاً له. إذ الخطأ في فعل العبادة أقل مفسدة من الخطأ في تركها، ولذلك لا يقبل في هلال شوال أقل من شاهدين رجلين.
روي أبو داود [2342] في الصوم، باب: شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان، عن أبي عمر رضي الله عنهما، قال: تراءي الناس الهلال، فأخبرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني رايته فصامه وأمر الناس بصيامه.
النوع الثاني: حق العباد:
وهذا النوع أيضاً على ثلاثة أضرب:
الضرب الأول: لا يقبل فيه إلا شهادة رجلين، وهو مالا يقصد منه المال، ويكون مما يطلع عليه الرجال: كالطلاق، والرجعة، والإسلام والردة، والجرح، والتعديل، والوقف والوصية، ونحو ذلك.(8/213)
ودليل ذلك أن الشريعة نصت علي شهادة الرجلين في النكاح والطلاق والوصية، وقيس عليها ما لم يذكر فيها نص، مما هو مثلها من كل حق لآدمي لا يقصد به المال. قال تعالى، في الطلاق: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} (سورة الطلاق: 2)
وقال عز وجل في الوصية: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ} (سورة المائدة: 106).
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الزواج: " لا نكاح إلا بولي، وشاهدي عدل ". (رواه الشافعي في مسنده، وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: إنه اصح شيء في الباب ـ انظر: مغني المحتاج 3/ 155 ـ ورواه ابن حبان [1247] وقال: لا يصح في ذكر الشاهدين غيره).
وقال الزهري رحمه الله: مضت السنّة بأن لا يجوز شهادة النساء في الحدود ولا في النكاح والطلاق.
الضرب الثاني: يقبل فيه شاهدان رجلان، أو رجل وامرأتان، أو شاهد ويمين المدعى، وهو كل حق كان القصد منه المال، من عين أو دين أو منفعة، كالبيع، والإقالة، والحوالة، والضمان، والإجارة، والرهن، والشفعة، ونحوهما.
ودليل ذلك قول الله عز وجل: {وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} (سورة البقرة: 282).
وروي مسلم [1712] في الأقضية، باب: القضاء باليمين والشاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بيمين وشاهد. وفي مسند الشافعي: قال عمرو ـ أي ابن دينار راويه عن ابن عباس ـ: في الأموال. [الأم: 6/ 156 هامش]. وقيس ما ذكر غيرها من كل حق فيه مال.
الضرب الثالث: يقبل فيه شهادة رجلين، أو شهادة رجل وامرأتين، أو أربع نسوة، وذلك في كل حق للآدمي لا يطلع عليه الرجال غالباً، وذلك مثل الولادة، والرضاعة، والبكارة، وعيوب النساء.(8/214)
ودليل ذلك ما رواه ابن أبي شيبة عن الزهري رحمه الله تعالى، قال: مضت السنة بأنه يجوز شهادة النساء فيما لا يطلع عليه غيرهن، من ولادة النساء وعيوبهن. [الإقناع: 2/ 297].
ومثل هذا القول من التابعي حجة، لأنه في حكم الحديث المرفوع، إذ لا يقال مثله من قبيل الرأي والاجتهاد. وقيس بما ذكر غيره مما يشاركه في معناه وضابطه، واشترط العدد لأن الشارع جعل شهادة المرأتين بشهادة رجل واحد، وإذا قبلت شهادة النساء منفردات في شؤونهن، فقبولها مع اشتراك رجل، وامرأتين أولي، لأن الأصل في الشهادة الرجال، وكذلك إذا انفرد الرجال بالشهادة.
تنبيه:
قال العلماء: لا تقبل شهادة على فعل من الأفعال، كالزنى وشرب الخمر ونحوهما، إلا بالإبصار والمعاينة لذلك الفعل مع فاعله، لأنه بذلك يصل به إلي العلم اليقين، فلا يكفي فيه السماع من الغير، قال الله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (سورة الإسراء: 36).
إلا أنه في الحقوق اكتفي فيها بالنظر المؤكد، لتعذر اليقين فيها، والحاجة تدعو إلي إثباتها، كالعدالة والإعسار، فلا سبيل لمعرفة ذلك يقيناً، فاكتفي فيه بغلبة الظن.
شروط الشهادة:
الشهادة قسمان: شهادة تحمل، وشهادة أداء.
أولاً: شروط تحمل الشهادة:
لا يشترط عند تحمل الشهادة إلا شرط واحد، ألا وهو التمييز، لأنه به يعي الإنسان ما شاهده، ويحفظ ما يراه.
ثانياً: شروط أداء الشهادة:
يشترط في الشاهد عند أداء الشهادة الشروط التالية:
1 - الإسلام، فلا تقبل شهادة كافر على مسلم، ولا على كافر. ودليل ذلك قول الله(8/215)
تعالي: {وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ} (سورة البقرة: 282) والكافر ليس من رجالنا. وقال تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} (سورة الطلاق: 2) والكافر ليس بعدل، كما أنه ليس منا أيضاً، لأنه لا يؤمن كذبه، وأيضا فالشهادة ولاية، ولا ولاية للكافر.
2 - البلوغ، فلا تقبل شهادة الصبي، ولو مميزاً، لأن الله عز وجل قال: {من رجالكم} والصبي لم يبلغ مبلغ الرجال، ولأنه لا يؤمن كذبه، لأنه غير مكلف.
3 - العقل، فلا تقبل الشهادة من مجنون، لعدم معرفته بما يقول، وللإجماع أيضاً على عدم جواز شهادته.
4 - الحرية، فلا تقبل شهادة العبد، لأن الشهادة فيها معنى الولاية، والعبد مسلوب الولاية.
5 - العدالة، فلا تقبل شهادة الفاسق، لقوله تعالي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} (سورة الحجرات: 6)، ولقوله عز وجل: {واستشهدوا ذوي عدل منكم} (سورة الطلاق: 2)، وقوله تبارك وتعالى: {ممن ترضون من الشهداء} (سورة البقرة: 282) وغير العدل ممن لا يرضي ولا يؤمن كذبه.
6 - أن يكون غير متهم في شهادته، لقول الله عز وجل: {ذلكم اقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدني أن لا ترتابوا} (سورة البقرة: 282) والريبة حاصلة بالمتهم.
وبناء على ذلك لا تقبل شهادة عدو على عدوه، ولا شهادة والد لولده، ولا والد لوالده، لتهمة التحامل على العدو، والمحاباة للوالد، أو الولد.
روي أبو داود [3600] في الأقضية، باب: من ترد شهادته، عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تجوز شهادة خائن، ولا خائنة، ولا زان ولا زانية، ولا ذي غمر على أخيه ".
وفي رواية عند الترمذي [2299] في الشهادات، باب: ما جاء فيمن لا تجوز عن عائشة رضي الله عنها: " ولا(8/216)
ظنين في ولاء ولا قرابة".
وعند مالك [2/ 720] في الأقضية، باب: ما جاء في الشهادات، عن أنس رضي الله عنه بلاغاً: " لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين ".
[الغمر: الحقد والغل والشحناء. الظنين: المتهم]
7 - أن يكون ناطقاً، فلا تقبل شهادة الأخرس، وإن كانت إشارته مفهمة، احتياطياً في إثبات الحقوق.
8 - أن يكون الشاهد يقظاً، فلا تقبل شهادة المغفل لاحتمال الخطأ والغلط في شهادته
شروط العدالة في الشهادة:
للعدالة في الشاهد خمسة شروط:
1 - أن يكون مجتنباً للكبائر.
2 - غير مصر على القليل من الصغائر.
3 - سليم السريرة.
4 - مأموناً عند الغضب.
5 - محافظاً على مروءة مثله.
فالكبائر من الذنوب: هي كل ما ورد فيه وعيد شديد في كتاب أو سنة، ودل ارتكابه على تهاون في الدين: كشرب الخمر، والتعامل بالربا، وقذف المؤمنات بالزنى: قال الله تعالي: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (سورة النور: 4).
والصغائر: هي ما لم ينطبق عليه تعريف الكبيرة، كالنظر المحرم، وهجر المسلم فوق ثلاثة أيام، ونحو ذلك.
ومعني سليم السريرة: أي سليم العقيدة، فلا تقبل شهادة من يعتقد جواز سب الصحابة رضي الله عنهم.
ومعنى مأموناً عند الغضب، أي لا يتجاوز الحد في تصرفه إذا غضب، ولا(8/217)
يقع في الباطل والزور، إذا ما استثير.
ومعني مروءة مثله: أي متخلقاً بأخلاق أمثاله من أبناء عصره، ممن يراعون آداب الشرع ومناهجه في الزمان والمكان، ويرجع في هذا غالباً إلي العرف. فإذا قلت مروءة الشخص، قل حياؤه، ومن قل حياؤه قال ما شاء.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إذا لم تستح فاصنع ما شئت " (أخرجه البخاري). [3296] في الأنبياء.
وكذلك لا تقبل شهادة من يجر لنفسه نفعاً بشهادته، أو يدفع عنها ضرراً:
مثال الأول: أن يشهد الوارث أن مورثه مثلاً قد مات قبل أن يندمل جرحه، وغرضه من هذه الشهادة أخذ الدية، فلا تقبل.
ومثال الثاني: أن تشهد العاقلة مثلاً في قتل الخطأ أن الشهود الذين شهدوا على القتل كانوا فسقة، حتى لا يتحملوا الدية.
والأصل في رد هذه الشهادات وجود التهمة.
شهادة الأعمى:
الأصل في شهادة الأعمى أنها لا تجوز، لأنه لا يستطيع أن يميز بين الخصوم، ولكن العلماء جوزوا شهادته في خمسة مواضع:
1 - الموت.
2 - النسب.
3 - الملك المطلق: وذلك كأن يدعي شخص ملك شيء، ولا منازع له فيه، فيشهد الأعمى،: أن هذا الشيء مملوك، دون أن ينسبه لمالك معين.
وإنما قبلت شهادة الأعمى في هذه الأمور، لأنها مما يثبت بتسامع الناس لها وتناقلها بينهم، واستفاضتها فيهم، ولا تفتقر إلي مشاهدة وسماع خاص، لأنها تدوم مدة طويلة، يعسر فيها إقامة البينة على ابتدائها لذهاب من حضرها في غالب الأحيان.
4 - الترجمة: أي بيان كلام الخصوم والشهود وتوضيحها، لأن ذلك يعتمد على(8/218)
اللفظ لا على الرؤية.
5 - على المضبوط: أي على الممسوك، وذلك: كأن يقول أحد في أذن الأعمى قولاً من إقرار، أو طلاق، ونحوه، فيمسكه ويذهب به إلي القاضي ويشهد عليه بما قاله في أذنه.
حكم الرجوع عن الشهادة وما يترتب على ذلك:
أولاً: حكم الرجوع عن الشهادة:
الرجوع عن الشهادة حرام، إن كان الشهود صادقين في شهادتهم، لأن في رجوعهم تضييعاً للحقوق، ويعتبر رجوعهم كتماناً للشهادة. والله عز وجل يقول: {َلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} (سورة البقرة: 283)
أما إذا كان الشهود كاذبين فرجوعهم عن الشهادة واجب، لأنها شهادة زور، وهي كبيرة من الكبائر.
ثانياً: ما يترتب على رجوعهم عن الشهادة:
وإذا رجع الشهود عن الشهادة التي كانوا قد شهدوا بها، فإما أن يكون رجوعهم عنها قبل الحكم، أو بعده.
وإذا كان رجوعهم عنها بعد الحكم، فإما أن يكون ذلك الرجوع قبل استيفاء الحقوق من مال أو عقوبة، أو بعد استيفائها، فهذه حالات ثلاث نذكرها فيما يلي:
أ) رجوعهم عن الشهادة قبل الحكم:
فإن كان رجوعهم عن الشهادة قبل حكم الحاكم به امتنع الحكم بشهادتهم، سواء شهدوا شهادة غيرها، أم لم يشهدوا، وسواء كانت شهادتهم مال، أو بعقوبة، لأن الحاكم لا يدري: اصدقوا في الأولي، أو في الثانية، أم صدقوا في الشهادة أو في الرجوع، فينتفي ظن الصدق بشهادتهم، وأيضاً فإن كذبهم ثابت لا محالة، إما في الشهادة الأولي، أو في الشهادة الثانية، وفي الشهادة أو في الرجوع عنها ولا يجوز الحكم بشهادة الكاذب.
وإن رجعوا عن شهادة في زني حدوا حد القذف، لأن شهادتهم قذف للمقذوف.(8/219)
ب) رجوعهم عن الشهادة بعد الحكم وقبل استيفاء الحق:
وإن كان رجوع الشهود عن الشهادة بعد حكم القاضي بها، ولكن ذلك
الرجوع كان قبل استيفاء الحق ممن هو عليه:
ـ فإن كان المشهود به مالاً نفذ الحكم به، واستوفي المال ممن هو عليه، لأن القضاء قد تم، وليس الحكم بالمال مما يسقط بالشبهة، حتى يتأثر بالرجوع، فينفذ الحكم، ويستوفي المال، مادام الحكم قد صدر قبل رجوعهم.
ـ وإن كان الحق المشهود به عقوبة، سواء كانت لله تعالي: كالزني، أم كانت لآدمي: كالقذف، فلا تستوفي العقوبة، مادام الشهود قد رجعوا عن شهادتهم قبل استيفائها، لأنها تسقط بالشبهة، والرجوع عن الشهادة شبهة.
روي الترمذي [1424] في الحدود، باب: ما جاء في درء الحدود، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الأمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة ".
ج) رجوعهم عن الشهادة بعد الحكم وبعد استيفاء الحق:
وإن كان رجوع الشهود عن الشهادة بعد الحكم بها، وبعد الاستيفاء للمحكوم به، لم ينقض الحكم، لتأكد الأمر، ولجواز صدقهم في الشهادة، وكذبهم في الرجوع، أو العكس ذلك.
وليس أحدهما بأولي من الآخر، فلا ينقض الحكم بأمر مختلف ومشكوك فيه يترتب على رجوعهم هذا:
ـ أنه إن كان الحق المستوفي من المشهود عليه عقوبة: كأن كان قصاصاً في نفس أو طرف، أو قتلاً في ردة أو رجماً في زني، ومات المشهود عليه، ثم رجعوا عن الشهادة، وقالوا: تعمدنا الشهادة، ولا نعلم حال المشهود عليه، أو قالوا: تعمدنا الكذب في الشهادة، فعليهم القصاص، أو دية مغلظة في مالهم موزعة على عدد رؤوسهم، لتسببهم إلي إهلاك المشهود عليه.
ـ ولو شهدوا بطلاق بائن، أو لعان، وفرق القاضي بين الزوجين، فرجعا عن(8/220)
الشهادة دام الفراق، لأن قولهما في الرجوع محتمل الكذب والصدق، فلا يرد الحكم بقول محتمل، وعلي هؤلاء الشهود الراجعين عن الشهادة مهر مثل للزوج، لأنه بدل ما فوتوه عليه.
ـ ولو رجع شهود شهدوا على مال بعد الحكم واستيفاء المال غرموا المال الذي استوفي من المحكوم عليه، لأنه بدل ما فوتوه عليه.(8/221)
اليمين، وآدابه، وكيفيته، وحكم النكول
تعريف اليمين:
اليمين في اللغة، تطلق على اليد اليمنى، وإنما أطلقت اليمين على الحلف لأنهم كانوا إذا تحالوا، يأخذ كل واحد منهم بيمين صاحبه.
وسميت اليد اليمنى بهذا الاسم لوفور قوتها. قال الله تعالى: {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} (سورة الحاقة: 45) أي بالقوة.
واليمين شرعاً: توثيق أمر غير ثابت المضمون ـ ماضياً أو مستقبلاً، نفياً أو إثباتاً ـ بذكر اسم من أسماء الله عز وجل، أو صفة من صفاته.
ما يصح به اليمين:
واليمين لا تصح ولا تنعقد إلا بذات الله عز وجل، أو صفة من صفاته.
روي البخاري [6270] في الإيمان والنذور، باب: النهى عن الحلف بغير الله تعالى عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أدرك عمر بن الخطاب، وهو يسير في ركب، يحلف بأبيه: فقال: " ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت.
فاليمين إذاً لا يصح ولا ينعقد إلا بما ذكر، وهو بغير ذلك معصية يأثم الحالف بها.
روي الترمذي [1535] في الأيمان والنذور، باب: ما جاء في كراهية(8/222)
الحلف بغير الله، عن سعد بن عبيدة، أن ابن عمر رضي الله عنهما سمع رجلاً يقول: لا والكعبة، فقال له: لا تحلف بغير الله، فإن سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك " قال الترمذي: هذا حديث حسن، وقال: هذا على التغليظ.
آداب اليمين:
لليمين آداب ينبغي مراعاتها، منها ما هو واجب، ومنها ما هو دون ذلك، ومن هذه الآداب:
1 - تعظيم القاضي لأمر اليمين، حيث يستحب له أن يعظ الحالف قبل الحلف، ويعظم له حرمة اليمين، ويخوفه من اليمين الفاجرة، أي الكاذبة، ويقرأ عليه من الآيات والأخبار ما فيه عظة ومزدجر.
2 - الحلف حال الصدق، فإذا توجهت اليمين إلي المدعى عليه، وهو يعلم من نفسه، أنه لو حلف كان صادقاً، فإنه يباح له أن يحلف، ولا شيء عليه من إثم ولا غيره، لأن الله عز وجل شرع اليمين، ولا يشرع ما فيه إثم، بل إن حلفه ربما كأن أولي من تركه، وذلك لأمرين:
الأمر الأول: حفظ حقه من الضياع، وقد نهى الشرع عن إضاعته.
الأمر الثاني: تخليص أخيه الظالم من ظلمه، وأكله مال غيره بغير حق، وهذا من باب النصح النصر له، وذلك بكفه عن ظلمه.
وهذا من باب النصح والنصر له، وذلك بكفه عن ظلمه.
ويؤيد هذا ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أشار على رجل أن يحلف، ويأخذ حقه، وقد حلف عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبي رضي الله عنه على نخل، ثم وهبه له.
3 - التورع عن الحلف حال الكذب، إذ الحلف الكاذب الذي يقتطع به حق الغير، ويؤكل به مال الناس بالباطل جريمة نكراء، وإثم كبير، فإذا كان المدعي عليه يعلم من نفسه الكذب، فينبغي له ن ويجب عليه أن يترك اليمين، ويتورع عنه، ويعترف بالحق على نفسه، ويرده إلي صاحبه، ولا يوقع نفسه في الإثم، ومعصية الله تعالي، والحرمان من رحمته.(8/223)
قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (سورة آل عمران: 77).
[لا خلاق لهم: لا نصيب لهم من الثوب في الآخرة، ولا يزكيهم: ولا يطهرهم من رجس الذنوب].
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر، لقي الله وهو عليه غضبان ". (رواه البخاري [6299] في الإيمان، باب: قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} ومسلم [138] في الإيمان، باب: وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة، عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه)
[يمين صبر: أصل الصبر: الحبس، وقتل فلان صبراً: أي حبساً على القتل، ويمين الصبر: أن يلزم الحاكم الخصم اليمين حتى يحلف. يقتطع: يأخذ بغير حق].
وروي البخاري [6298] في الأيمان والنذور: باب: اليمين الغموس، عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس".
[اليمين الغموس: اليمين التي يتعمد صاحبها فيها الكذب، سميت غموساً، لأن صاحبها يستحق أن يغمس في النار].
كيفية اليمين:
وكيفية الحلف، أن الحالف إما أن يحلف على فعل نفسه، أو على فعل غيره:
- فإن أراد أن يحلف على فعل نفسه، فليحلف على البت والقطع، إثباتاً كان أو نفياً، لأنه يعلم حال نفسه، ويطلع عليها، فيقول في البيع والشراء مثلاً: ولله لقعد بعت بكذا، أو يقول في النفي: والله ما بعت بكذا.
- وإن أراد أن يحلف على فعل غيره: فإن كان في الإثبات: كالبيع والشراء(8/224)
والغصب ونحوها، فليحلف أيضاً على البت والقطع، لأنه يسهل معرفة ذلك والوقوف عليه فيقول: والله لقد باع بكذا، أو اشتري بكذا، أو والله لقد اغتصب كذا.
وإن كان يحلف على النفي، فليحلف على نفي العلم، لأن النفي المطلق يعسر الوقوف عليه، فيقول مثلاً: والله ما علمت أن فلاناً سدد ما عليه.
حكم النكول عن اليمين:
مر معنا بيان النكول، وقلنا: هو أن يمتنع المدعى عليه من الحلف بعد أن يعرضها عليه القاضي، وهنا نبين حكم النكول في اليمين.
قال الشيخ عز الدين رحمه الله تعالى: إذا كان المدعى كاذباً في دعواه، وكان المدعى به ـ أي الذي يدعيه المدعى ـ مما لا يباح بالإباحة: كالدماء والأبضاع:
فإن علم المدعى عليه أن خصمه لا يحلف على ما يدعيه، إن هو نكل عن اليمين، فإنه يتخير إن شاء حلف، وإن شاء نكل.
وإن علم أو غلب على ظنه أنه يحلف، وجب عليه أن يحلف حتى لا تستحل الدماء والأبضاع باليمين الكاذبة.
فإن كان المدعى به مما يباح بالإباحة كالأموال، وعلم المدعى عليه أو ظن أن المدعي لا يحلف إذا نكل فيتخير أيضاً، وإن علم أو غلب على ظنه أنه يحلف فالذي أراه وجوب الحلف دفعاً لمفسدة كذب الخصم.
أما ما يترتب علي امتناع المدعى عليه عن الحلف وحلف المدعى فقد مر في بحث البينة: البينة على المدعى واليمين على من أنكر، وهو أنه يرد اليمين على المدعى، فإن أبي سقطت الدعوى. والله أعلم.(8/225)
الباب السابع
القسمة(8/227)
القسمة
تعريف القسمة:
القسمة: لغة مأخوذة، من قسم الشيء يقسمه، إذا فصله إلي أجزاء.
والقسمة شرعاً: تمييز بعض الأنصباء عن بعض تبعاً لمصلحة الشركاء، وطبقاً لشروط مخصوصة، وكيفيات معينة.
مشروعية القسمة:
القسمة مشروعة نص الكتاب والسنة، ودليل الاجتهاد والنظر. أما الكتاب، فقول الله عز وجل: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} (سورة النساء: 8).
فقد علق الأمر بإكرام اليتيم وأولي القربى على حضورهم قسمة المال، فدل ذلك على مشروعيتها، وعدم وجود ما يمنع منها، إذا جرت على أصولها المشروعة.
وأما السنة، فقد روي البخاري [2138] في الشفعة: باب: الشفعة فيما لم يقسم، ومسلم [1608] في المساقاة، باب: الشفعة، عن جابر رضي الله عنه قال: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة.
فتعليق حق الشفعة على عدم القسمة فرع عن مشروعيتها، ودليل على جوازها، كما دلت الآية المذكورة سابقاً.(8/229)
وأما دليل النظر والاجتهاد، فهو أن الشركة لما كانت عقداً جائزاً من الشريكين، أي لكل منهما فسخها متى شاء كان لابد للقسمة أن تكون مشروعة استجابة لرغبة كل منهما، إذ لا معنى لانفساخ الشركة، إذا لم يكن سبيل إلي القسمة، ولأن في القسمة مصلحة صاحب الحق عندما يرى مصلحته في ذلك.
أنواع القسمة:
تنحصر القسمة المشروعة في ثلاثة أنواع، وذلك بالنظر إلي طبيعة المال الذي تعلقت به القسمة.
النوع الأول:
القسمة بالأجزاء ـ وتسمى أيضاً: قسمة المتشابهات ـ: وهي التي تتعلق بمال لا تحتاج قسمته إلي رد، ولا إلي تقويم، ولا إلي التجاء لسبيل من سبل التسوية بين الأقسام: كالمثليات من حبوب، ورداهم، وأقمشة، ونحوها، وكأرض مستوية القيمة والأجزاء.
ويمتاز هذا النوع من القسمة بسهولة تقسيمه، وإن تفاوتت الحصص.
النوع الثاني:
قسمة التعديل: وهي تطلق على تقسيم كل متمول تختلف قيمة أجزائه: كأرض تختلف قيمة أجزائها بسبب اختلافها في قوة الإنبات، وخصوبة التربة، أو القرب من الماء، أو نحو ذلك، بحيث تكون قيمة ثلثها كقيمة ثلثيها مثلاً.
ويمتاز هذا النوع من القسمة بضرورة ملاحظة القيمة دون الاقتصار على المساحة أو الشكل أو الكيل وحده.
النوع الثالث:
القسمة بالرد: وهي أن تتعلق بمتمول يمتاز ببعض أجزائه بشيء غير قابل للقسمة، ولا يوجد نظيره في الطرف الآخر، أو الأجزاء الأخرى، كأن يكون في أحد جانبي الأرض بئر أو شجر، وليس في الجان الآخر ما يعادله، إلا بواسطة ضميمة خارجية إليه.(8/230)
ويمتاز هذا النوع بضرورة إدخال الجبر على التقسيم فيه ن كي تتحقق العدالة في القسمة.
فإذا تأملت في هذه الأنواع الثلاثة للقسمة أدركت أن بينها قدراً مشتركاً من الشبه، وهو أنها جميعاً تتعلق بأموال قابلة للقسمة من حيث المبدأ، أي لا ضرر في قسمتها، وإن اختلفت هذه الأنواع عن بعضها في طريق القسمة: أي يقع ضرر بالمالك بسبب قسمته: كالجوهرة، والثوب، والرحى، والبئر، والسيارة، ونحو ذلك.
فلا يدخل في القسمة المشروعة، ولا يجبر الطرف الممتنع عن القسمة على القسمة، لأن فيه إضاعة للمال، وإضراراً بالمالك، بل يحرم التقسيم وإن رضي الطرفان، إذا كان فيه نقص بين للمنفعة، أو إهدار لها، لأنه من التبذير الذي نص الله عز وجل على وجوب اجتنابه.
أحكام القسمة:
للقسمة أحكام نذكرها فيما يلي:
أولاً: شأن القسمة أن يتولاها الشركاء، أو من يرتضونه، أو من يحكمونه عند الاختلاف، أو من ينصبه الحاكم.
فأما في الحالتين الأوليين، فلا يشترط أكثر من التراضي وموافقة الأطراف،.
وأما في الحالتين الأخيرتين، فيشترط في القاسم أن يكون:
ذكراً، مسلماً، بالغاً، عاقلاً، حراً، عدلاً، عالماً، بالحساب والمساحة، وذلك لأن القاسم له ولاية على من يقسم لهم، لأن قسمته ملزمة، ومن لم تتوفر فيه هذه الشروط، فليس من أهل الولاية.
وأما معرفة الحساب والمساحة، وما يحتاج إليه القاسم حسب نوع المقسوم، فلأن ذلك آلة القسمة، كما أن معرفة أحكام الشرع آلة القضاء، فالقاسم في الحالتين الأخيرتين، يتولى إذا منصباً سواء جاء عن طريق الحاكم، أو عن طريق الشركاء، ولا بد لتوليه هذا المنصب من توفر شروط الكفاءة فيه، وهي ما ذكرنا.(8/231)
أما في حالة ارتضاء الشركاء بمن يقسم بينهم، فإنه ليس أكثر من وكيل عنهم، ولهم أن يوكلوا عنهم في ذلك من يشاؤون، إذا كانت شروط الوكالة كالعقل والبلوغ ونحوها متوفرة في القاسم.
ثانياً: كل ما عظم الضرر في قسمته، لا يجبر الطرف الممتنع على قبول قسمته، ولا يجب الحاكم الأطراف، وإن اتفقوا ـ في تعيين خبير يتولى القسمة بينهم.
فإن تولوا هم بأنفسهم التقسيم بناء على رضي الجميع، جاز لهم ذلك إن لم تبطل منفعة المقسوم بالكلية، وليس للحاكم أن يمنعهم من القسمة، ولم يجز لهم ذلك إن بطلت بسبب تلك القسمة منفعة المقسوم بطلاناً تاماً، وللحاكم أن يمنعهم من المضي في تلك القسمة: ككسر سيف، وتجزيء سيارة، ونحو ذلك.
ثالثاً: كلا ما لا ضرر في قسمته من الأنواع الثلاثة التي ذكرناها يستجاب فيها لرأي طالب القسمة، فيجبر الممتنع من الشركاء عليها، إذ لا ضرر عليه فيها، وفي الاستجابة لتعنته إضرار بشركائه الآخرين، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لا ضرر ولا ضرار ". (رواه مالك مرسلاً [2/ 745] في الاقضية، باب: القضاء في المرفق، وغيره، بأسانيد يقوي بعضها بعضاً).
فإن كان المال من النوع الأول (وهو قسمة الأجزاء) عدلت السهام حسب نصيب كل من الشركاء، كيلا في المكيل، ووزناً في الموزون، وذرعاً في المذروع كالأرض، فإن استوت الحصص: كأرباع، مثلاً، أو نصفين، وجب اعتماد القرعة في توزيع هذه الحصص على أصحابها.
وإن كانت القسمة من النوع الثاني (وهو قسمة التعديل) كأرض تختلف قيمة أجزائها حسب تفاوت منافعها، أو اختلاف خصائصها: كبستان بعضه نخل، وبعضه عنب، أو بعضه أقوي في الإثبات والخصوبة من بعض وجب التعديل في أجزائها، بحيث تتساوي قيمة الأقسام إذا كانت متساوية: كأرباع وأثلاث، أو بحيث يكون لكل جزء من القيمة ما يتفق مع نسبته إلي الكل.
فالذي يملك السدس يجتزأ له من الأرض ما يساوي سدس مجموع القيمة،(8/232)
والذي يملك الربع يجتزأ منها ما يساوي ربع مجموع القيمة، بقطع النظر عن مساحة أجزاء الأرض، ثم تعين الحصص لأربابها، إذا كانت متساوية عن طريق الاقتراع.
وإن كانت القسمة من النوع الثالث (وهو قسمة الرد) وهو ما كان في أحد أجزائه شيء له قيمة ماليه خاصة به ولا يمكن قسمته: كأرض في بعض جوانبها بئر أو دار وجب جعل البئر، أو الدار ضمن أحد الأنصبة، ورد نسبة حصص الآخرين من قيمتها عليهم، فإن كانت الأرض بين اثنين مثلاً أخذ البئر أحدهما وأعاد نصف قيمتها إلي شريكه، وإنما يأخذ البئر، أو نحوها من خرجت له القرعة.
رابعاً: لا بد من التراضي بعد تحقيق ما سلف ذكره من الأسباب، وبعد الاعتماد على وسيلة الاقتراع فإن لم يقع التراضي لم تصح القسمة.
خامساً: قسمة الأجزاء (وهو النوع الأول) من قبيل الإفراز، أما النوعان الآخران (وهما قسمة التعديل، وقسمة الرد) فبيع على الصحيح، لنقابل المال بالمال فيه وقيل: هو بيع في القدر الذي يتم فيه التعديل والرد.
وعلى كل فهو بيع ضمني وليس بيعاً صريحاً، فهو لا يتوقف في صحته على إيجاب وقبول نحوهما.
سادساً: كل قسمة تتضمن تقويماً ـ كقسمة الرد ـ لابد لصحتها من الاعتماد على قاسمين اثنين. إذ هي تتضمن شهادة تعيين قيمة لشيء متمول ومثل هذه الشهادة لا بد فيها من شاهدين اثنين. أما ما لا يعتمد منها على تقوم، فيكتفي فيه بقاسم واحد، سواء كان من قبل الحاكم أو من قبل الشريكين.(8/233)
الباب الثامن
الإقرار(8/235)
الإقرار
تعريف الإقرار:
الإقرار لغة: الإثبات، مأخوذ من: قر الشيء، إذا ثبت.
والإقرار شرعاً: إخبار عن حق ثابت على المخبر. ويسمى الإقرار اعترافاً.
دليل مشروعية الإقرار:
الإقرار مشروع، وقد ثبتت مشروعيته، بنص الكتاب، والسنة وإجماع الأُمة
أما الكتاب فقول الله عز وجل: {َأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} (سورة آل عمران: 81).
[إصري: عهدي]
وقوله تبارك وتعالي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} (سورة النساء: 135)
[قوامين بالقسط: دائمي القيام بالعدل].
قال العلماء: شهادة الإنسان على نفسه، معناها الإقرار.
وأما في السنة فما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " اغد يا أنيس إلي امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها " فغدا عليها فاعترفت، فأمر بها رسول اله - صلى الله عليه وسلم - فرُجمت (رواه البخاري [2575] في الشروط، باب: الشروط التي لا تحل في(8/237)
الحدود، ومسلم [1697] في الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنى، عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما).
أما الإجماع، فقد نقل عن العلماء أنه منعقد على مشروعيته، وأن المقر مؤاخذ بإقراره.
حكمة تشريع الإقرار:
والحكمة من تشريع الإقرار، وجود الحاجة إليه، وما أكثر ما تشرع الأحكام تلبية لمقتضي حاجة الناس إليها. فقد يكون على المرء حق لا بينه لصاحبه عليه، فلو لم يكن الإقرار مشروعاً، ولا حجة على المقر لضاع كثير من هذه الحقوق، والإسلام ـ كما هو معلوم ـ حريص على إثبات الحقوق إلي أصحابها، وإيصالها إليهم ـ كما هو معلوم ـ حريص على إثبات الحقوق إلي أصحابها، وإيصالها إليهم. وهو دائماً يسعى إلي حفظ الأموال وصيانتها من الضياع، فكان طبيعياً إذا أن يشرع الإقرار ويعتد به.
وكذلك إن كانت الحقوق غير أموال، سواء كانت الله، أو لآدمي، فإنها تظهر بالإقرار، وتتضح، فيؤخذ حق الآدمي، وتؤدى حقوق الله عز وجل.
فقد اعترف ماعز بن مالك رضي الله عنه أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالزنى، واقر به وطلب من الرسول أن يطهره منه ويقيم الحد عليه أداء الحق الله تعالى، فأمر - صلى الله عليه وسلم - برجمه حتى مات.
وكذلك أقرت امرأة من غامد بالزني، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجمت. جاء هذا في البخاري [2575] ومسلم [1695].
وهذا يدل على مشروعية الإقرار، وبيان الحكمة من تشريع وانه حجة يؤخذ به المقر ولو كان الحق لله تعالى.
المقر به من الحقوق وحكم الرجوع فيه:
المقر به من الحقوق نوعان:
حق الله عز وجل، وحق العباد.
النوع الأول: حق الله تعالى:
حق الله تعالى، مثل حد الزني، وحد السرقة، وحد الردة، وشرب الخمر،(8/238)
والزكاة والكفارة ونحوها، فهذه الحقوق إنما شرعت إقامة للدين، وتحقيق مصالح المجتمع.
وحكم حق الله عز وجل أنه تنفع فيه التوبة فيما بين العبد وربه، ويصح الرجوع عنه بعد الإقرار فيه، لأن مبنى حق الله عز وجل على الدرء والستر.
ودليل ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرض لماعز بن مالك بالرجوع عندما أقر على نفسه بالزني فقال له " لعلك قبلت، أو غمزت ". ومعنى هذا الكلام الإشارة على تلقينه الرجوع عن الإقرار بالزني، واعتذاره بشبهة يتعلق بها.
وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة ". (أخرجه الترمذي [1424] في الحدود، باب: ما جاء في درء الحدود).
ولا شك أن الرجوع عن الإقرار شبهة تسقط الحدود.
ويندب للقاضي أن يعرض للمقر بالرجوع، ولا يقول له: ارجع، فيكون أمراً له بالكذب.
فلو رجع المقر بعد إقراره بحقوق بالله وجل، صح رجوعه، وزال عنه حكم ما كان أقر به.
يدل على ذلك، ما جاء في قصة رجم ماعز بن مالك رضي الله عنه، أنه لما وجد مس الحجارة فر، فأدركوه ورجموه، وأخبر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " هلا تركتموه ". (رواه البخاري [4670]، ومسلم [1691] في نفس الأبواب السابقة، كما رواه الترمذي [1428] في الحدود، باب: ما جاء في درء الحد عن المعترف إذا رجع)
النوع الثاني: حق العباد:
وهذا الحق لا يصح الرجوع فيه عن الإقرار، لتعلق حق المقر له بالحق المقر به إلا إذا كذبه المقر له به، فحينئذ يصح له الرجوع به.
فلو أنه بدين لزيد، أو إتلاف، أو قذف، فإنه لا يصح الرجوع عنه، ويلزمه ما أقر به، إلا كذبه المقر له، كما قلنا.(8/239)
شروط المقر:
للمقر شروط حتى يصح إقراره أمام القضاء، ويعتد به. وهذه الشروط هي:
1 - البلوغ، فلا يصح إقرار صبي دون البلوغ، ولو كان مميزاً، لامتناع تصرفه، ولرفع القلم عنه.
2 - العقل، فلا يحص إقرار مجنون أو مغمي عليه، أو من زال عقله بعذر، لامتناع تصرفهم، وعدم تمييزهم، ولرفع القلم عنهم. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل ". (رواه أبو داود [4403]، وغيره، عن على رضي الله عنه).
3 - الاختيار، فلا يعتد بإقرار المكره بما أكره عليه. روي ابن ماجه [2044] عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " " إن الله تجاوز لأمتي عما توسوس به صدورها، ما لم تعمل به أو تتكلم به، وما استكرهوا عليه " أي أنه سبحانه وتعالى أسقط التكليف عن المكره فيما استكره عليه، فلا يصح إقراره فيما أكره على الإقرار به، بل إن الله تعالى الغي اعتبار الإقرار بالكفر حال الإكراه مع طمأنينة القلب، فقال تعالى: {إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان} (سورة النحل: 106) فلا اعتبار للإقرار بغيره من باب أولي.
4 - أن لا يكون محجوراً عليه، فإن كان محجوراً عليه فإنه لا يصح إقراره بدين في معاملة أسند وجوب الدين إليها قبل الحجر أو بعده، وكذلك لا يصح إقراره بإتلاف مال قبل الحجر، أو بعده، لأن المحجور عليه ممنوع من التصرف بماله.
ويصح إقرار المحجور عليه بالحد والقصاص، لعدم تعلقها بالمال، ولبعد التهمة، فإذا كان الحد قطع سرقة قطع، ولا يلزمه المال المسروق الذي اقر به.
شروط المقر له:
يشترط في المقر له الشروط التالية:
1 - أن يكون المقر له معيناً نوع تعيين بحيث يتوقع منه الدعوى والطلب.
فلو قال: لإنسان أو لواحد من بني آدم على ألف، لم يصح إقراره لأنه(8/240)
إقرار لمبهم، والإبهام مبطل للإقرار.
ولو قال: لأحد هؤلاء الثلاثة على ألف صح إقراره لوجود التعيين ولو بالجملة، فإذا قل واحد منهم أنا المراد بالإقرار صدق بيمينه إن لم يكذبه المقر، لاحتمال أن يكون هو المراد، ويمينه يؤكد ذلك، أضف إلي ذلك عدم تكذيب المقر له.
2 - أن يكون المقر له فيه أهلية استحقاق المقر به، لأن الإقرار حينئذ يصادف محله، وصدقه محتمل. فلو قال: لهذه الدابة على ألف لم يصح إقراره، لأن الدابة ليست أهلاً للاستحقاق، فإنها غير قابلة للملك في الحال ولا في المآل.
3 - الا يكذب المقر له المقر، فلو كذبه في إقراره بطل إقراراه، وبقي المال المقر به في يده، أن يده تشعر بأنه مالك للمال ولو ظاهراً، والإقرار الطارئ عارضه التكذيب فسقط.
شروط الصيغة:
يشترط في صيغة الإقرار لفظ صريح أو كناية تشعر بالتزام، وتدل عليه، وفي معنى اللفظ الصريح الكتابة مع النية، وإشارة الأخرس المفهمة.
ـ فلو قال: لزيد على ألف، أو له في ذمتي ألف، كان ذلك إقراراً، وحمل على الدين الملتزم بالذمة، لأنه المتبادر من الصيغة عرفاً.
ـ ولو قال: لزيد معي أو عندي ألف كان ذلك أيضاً إقراراً، وحمل على العين، لأنهما ظرفان، فيحمل كل منهما عند الإطلاق على عين له بيده.
ـ ولو قال له إنسان: لي عليك ألف ليرة فقال: بلى، أو نعم، أو صدقت، فإقرار لأن هذه الألفاظ موضوعة للتصديق.
ـ ولو قال له: أبرأتني منه أو قضيته له، فهو إقرار أيضاً، لأنه قد اعترف بشغل ذمته بالحق، ثم ادعى الإسقاط والأصل عدمه.
شروط المقر به:
1 - يشترط في الحق المقر به أن لا يكون ملكاً للمقر حين يقر به، لأن الإقرار ليس إزالة عن الملك، وإنما هو إخبار عن كونه مملوكاً للمقر له.(8/241)
فلو قال: ثوبي لزيد، أو ديني الذي لي على زيد لعمر لم يصح هذا الإقرار، لأن إضافة هذه الحقوق لنفسه تقتضي أنه مالكها، فينا في ذلك إقراره بها لغيره.
2 - أن يكون الحق المقر به في يد المقر، ليسلمه بالإقرار إلي المقر له، لأنه إذا لم يكن في يده كان إقراره إما دعوى عن الغير بغير إذنه، أو شهادة بغير لفظها فلا تقبل.
فلو أقر بحق ولم يكن في يده، ثم صار في يده عمل بمقتضي الإقرار لوجود شرط العمل فيسلم للمقر له.
الإقرار بمجهول:
يصح الإقرار بالمجهول، لأن الإقرار إخبار عن حق سابق، والشيء يخبر عنه مفصلاً تارة، ومجملاً تارة أخري.
- فإذا قال: لزيد على مال صح إقراره، ورجع إليه في تفسيره، ويقبل تفسيره بكل ما يتمول وإن قل كدرهم مثلاً، لأن اسم المال صادق عليه.
- وإذا أقر بمجهول وامتنع من تفسيره حبس حتى يبين قدر الحق الذي أقر به ن لأن البيان واجب عليه، فإذا امتنع منه حبس كالممتنع من أداء الدين.
الاستثناء في الإقرار وحكمه:
يصح الاستثناء في الإقرار، لكثرة وروده في القرآن الكريم وغيره من السنة النبوية، وكلام العرب في نثرهم وأشعارهم.
فلو قال: على ألف إلا مائة صح إقراراه ولزمه تسعمائة.
شروط صحة الاستثناء في الإقرار:
ويشترط في الاستثناء شروط حتى يكون صحيحاً منها:
أ- أن يتصل المستثني المستثنى منه في الكلام، بحيث يعد معه كلاماً واحداً عرفاً، فلا يضر الفصل اليسير بسكتة تنفس أو تذكر.
أما لو طال الفصل ن وانقطع الكلام الأول عن الثاني، بحيث لم يعد(8/242)
عرفا متصلاً به فإن الاستثناء لا يصح، ويثبت كامل الحق المقر به قبل الاستثناء.
ب ـ أن لا يستغرق المستثني منه، كأن يقول: له على خمسة إلا أربعة فإن الاستثناء يصح ويلزمه واحد فقط.
أما إذا قال: له على خمسة إلا خمسة، فاستثناؤه باطل، وتلزمه الخمسة كاملة، لأنه قد أقر بها.
الاستثناء المنقطع:
ويصح الاستثناء من غير جنس المستثني منه، ويسمى استثناءً منقطعاً، لوروده في القرآن الكريم وغيره، ومنه قوله تعالي: {أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ. أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ. فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} (سورة الشعراء: 75 - 77).
فلو قال: له على ألف ليرة إلا ثوباًَ صح إقراره، ويجب أن يبين بثوب قيمته أقل من ألف ليرة، حتى لا يستغرق المستثني المستثنى منه، فإن فسره بثوب قيمته ألف بطل تفسيره والاستثناء، ولزمه ألف ليرة.
الاستثناء من معين:
يصح أيضاً الاستثناء من معين، كأن يقول: لزيد هذه الدار إلا هذا البيت، لأنه إقرار وإخراج بلفظ متصل، فهو كالتخصيص.
الإقرار في حال المرض:
يصح الإقرار في حال المرض، ولو مرض موت، ويكون حكمه حكم الإقرار في حالة الصحة، فلو اقر في صحته بدين لإنسان، وفي مرضه بدين لآخر صح إقراره بدين المرض، ولم يقدم عليه دين الصحة. وكذلك يقبل إقراره في مرض موته لوارثه كالأجنبي، لأن الظاهر أنه محق، لأنه انتهي إلي حالة يصدق فيها الكاذب ويتوب فيها الفاجر.(8/243)
الباب التاسع
الحجر(8/245)
الحجر
تعريف الحجر:
الحجر في اللغة: المنع. والحجر في اصطلاح الشريعة الإسلامية: هو المنع من التصرفات المالية لسبب يخل بها شرعاً.
والأسباب التي تخل بالتصرفات فتستوجب الحجر كثيرة ومتنوعة، ويتنوع الحجر تبعاً لها. فمن أنواعه الحجر على المفلس لحق الغرماء، والحجر على المريض مرض الموت لحق الورثة، والحجر على الصغير والمجنون محافظة على مالهما، والحجر على الراهن في التصرف في المرهون لحق المرتهن. وأكثر هذه الأنواع موزعة في أبواب فقهية مختلفة، كباب الرهن، والوصية، والردة، وسنتحدث في هذا الباب عن أهم هذه الأنواع، ونحيل علم الأنواع الأخرى إلي الأبواب التي تذكر فيها، وسوف تجد أحكامها في هذه السلسلة الفقهية.
دليل مشروع الحجر:
الحجر بالمعني الذي ذكرناه مشروع، ومقرر في الفقه، ودليل تشريعه القرآن والسنة والإجماع.
أما القرآن فقول الله عز وجل: {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَاماً} (سورة النساء: 5).
[السفهاء: جمع سفيه، وهو الذي لا يحسن التصرف بالمال ن ويضعه في غير مواضعه، أموالكم: نسب المال إلي الجميع، لأنه مال الله تعالى، وللأمة حق(8/247)
فيه وإن كان ملكاً خالصاً للفرد. قياماً: فيه قيام معايشكم وقضاء مصالحكم].
ووجه الاستدلال بالآية أن الله عز وجل نهى الأولياء أن يضعوا الأموال بين أيدي السفهاء، وهذا هو الحجر عليهم.
وقال تبارك وتعالى: {فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} (سورة البقرة: 281).
[الذي عليه الحق: المستدين. ضعيفاً: لصغر، أو اختلال عقل. لا يستطيع أن يمل: لا يحسن الإملاء لعقدة في لسانه ونحوه، والإملاء هنا: أن يقرأ على الكاتب عقد الدين ليكتبه]
ووجه الاستدلال بالآية: أن الله تعالى أخبر أن هؤلاء ينوب عنهم أولياؤهم في التصرف وهو معنى الحجر عليهم.
وقال عز وجل أيضاً: {وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (سورة النساء: 6).
[ابتلوا: اختبروا. اليتامى: جمع يتيم، وهو الصغير الذي مات والده. بلغوا النكاح: أصبحوا أهلاً للزواج، والمراد به البلوغ. آنستم: لمستم وعرفتم. رشداً: سلامة عقل وحسن تصرف وصلاح دين]
دلت الآية على أن الذي لم يلمس منه الرشد، لا يجوز أن يدفع له ماله، بل يحجر عليه حتى يرشد.
وأما دليل السنة، فما رواه عبدالرحمن بن كعب عن أبيه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حجر على معاذ ماله، وباعه على دين كان عليه. رواه البيهقي [6/ 48] والحاكم [4/ 101] في الأحكام وصححه.
وروي ابن عمر رضي الله عنه، قال: عرضت على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني. (أخرجه البخاري [3871] في المغازي، باب: غزوة الخندق، ومسلم [1868] في الإمارة، باب: بيان سن البلوغ).
وروي مالك [1456] في الوصية عن عمر رضي الله عنه قال: ألا إن(8/248)
الأسيفع ـ أسيفع جُهينة ـ رضي من دينه وأمانته: أن يقال: سبق الحاج، فأدان معرضاً عن الوفاء، فأصبح وقد رين به ن فمن كان له عنده شيء فليحضر غداً، فإنا: بائعوا ماله وقاسموه بين غرمائه، ثم إياكم والدين، فإن أوله هم، وآخره حزن.
[فادان: استدان. رين به: تراكمت عليه الديون. غرماؤه: جمع غريم وهو صاحب الدين].
وأما الإجماع فمنعقد على مشروعية الحجر وجوازه، من غير نكير من أحد من العلماء، وكيف ينكره أحد، وقد دلت عليه النصوص الثابتة في القرآن والسنة.
الحكمة من تشريع الحجر:
الحجر عمل سلبي احتياطي، يستهدف تحقيق مصلحة المحجور عليه إن كان طفلاً أو سفيهاً أو نحوهما، ويستهدف مصلحة غيره من ذوي الحقوق إذا كان مفلساً، ذلك لأن الطفل والسفيه ومن في حكمهما كالمجنون، لا تسقط أهلية التملك والاحتياز في حقهم، وإنما ثمرة الملكة ما يتبعها من سياسة التصرف كالبيع والشراء والإيجار، ونحو ذلك، وهي لا تستقيم إلا على رشد كامل ونباهه تامة في شؤون المال والدنيا، فكان لا بد من كف يد هؤلاء الذين لم يتكامل فيهم الرشد والوعي الدنيوي عن التصرف بأموالهم، على أن ينوب عنهم في ذلك من توفرت لديهم هذه البصيرة الدنيوية ريثما يبلغون أشدهم، ويصبحون قادرين على إصلاح أمرهم.
أما المفلس الذي تراكمت عليه الديون، فيغلب عليه أن يتناسى ـ في غمرة الضيق الذي ينتابه ـ حقوق الآخرين، فيتصرف بماله الباقي عنده على نحو يضر أصحاب الحقوق ويفوت عليهم حقوقهم، أو ما يمكن أن يحصلوا منها، فكان في الحجر عليه عن طريق الرقابة العادلة ما يضمن توفير حق الغرماء مع عدم الإضرار به، مهما أمكن ذلك.
أنواع الحجر:
قلنا: إن الحجر أنواع مختلفة، ولكن الكثير من هذه الأنواع منتثر في أماكنه من أبواب متفرقة في الفقه، ولذا فلن نتعرض لها ههنا.(8/249)
أما الأنواع الرئيسية التي سوف نتناولها في هذا الباب، فهي الأنواع التالية:
1 - الحجر على الصبي ومن في حكمه، كالسفيه والمجنون.
2 - الحجر على المفلس.
3 - الحجر على المريض المخوف عليه الموت.
وسندرس فيما يلي كل نوع من هذه الأنواع الثلاثة على حدة مع إيضاح الأحكام المتعلقة به.
أحكام الحجر على الصبي ومن هو في حكمه:
ونقصد بمن كان في حكم الصبي كلاً من السفيه والمجنون.
فأما الصبي:
فهو من لم يحتلم، أو يبلغ سن الحلم، وهو خمس عشرة سنة.
وأما السفيه:
فهو من لم يكن رشيداً، بحيث لا يقيم مصالح دينه ودنياه: بأن يكون مبذراً لا يبالي أن يغبن غبناً فاحشاً في معاملاته، أو أن يرمي ماله في غير طائل، أو أن ينفقه في المحرمات التي لا وجه لها.
وأما المجنون:
فهو فاقد التمييز سواء كان بشكل جزئي أو كلي، إذا كان ذلك يسرى بالاضطراب إلي تصرفاته المالية.
أهم الأحكام المتعلقة بالحجر على هؤلاء:
هناك أحكام تعلق بالحجر على هؤلاء الأصناف الثلاثة من الناس نجملها فيما يلي:
أولاً: لا يصح تصرف الصبي ولا السفيه ولا المجنون في بيع أو شراء أو رهن، أو هبه أو نكاح ونحوها، أي لا يصح أن يكون أحدهم طرفاً مستقلاً في أي عقد من العقود، إذ هو ثمرة الحجر الذي دل عليه نص الكتاب الكريم والسنة المشرفة. وترتب علي هذا الحكم:(8/250)
أأنه لو اشتري أو اقترض مثلاً، وقبض المال، ثم تلف تحت يديه بآفة، أو أتلفه بتقصير منه، لم يضمنه المحجور عليه، ولم يكن للبائع، او لمقرض حق في تضمينه ومطالبته، سواء علم حاله أم لم يعلم، لأن عليه ان يتحرى لمصلحته، ولأنه هو المفرط في حق نفسه، إذ هو الذي سلط المحجور عليه على إتلافه بإقباضه إياه.
نعم يضمن المحجور عليه في ثلاث حالات:
الحالة الأولي: أن يقبضه ممن هو مثله في عدم الرشد.
الحالة الثانية: أن يقبضه من رشيد، ولكن بدون إذنه.
الحالة الثالثة: أن يطالبه البائع، أو المقرض بالتسليم، فلا يستجيب المحجور عليه ثم يتلف المال المقبوض بعد ذلك.
ففي هذه الحالات الثلاث يضمن المحجور عليه، أي يثبت في ذمته قيمة المتلف، لعدم وقوع أي تقصير من جانب المقبض.
ب ـ وترتب على ذلك أيضاً أنه لا يعتد بشيء من إقراراته المتعلقة بالمال، سواء كانت عائدة إلي ما قبل الحجر، أو بعده، كإقراره بدين، أو إتلاف مال، إذ إن المحجور عليه بما ذكرنا لا يتمتع بأهلية تمكنه من أن يتعلق به أي التزامات ماليه، بخلاف ما إذا اقر بموجب حد أو قصاص، فهو إقرار صحيح تترتب عليه أحكامه، لأنه غير مستوجب لأي التزام مالي من حيث الأصل.
نعم إذا أقر بعد رشده بأي التزام مالي كان قد لزمه أثناء الحجر صح إقراره قطعاً، وكلف بدفعه.
ثانياً: يعتد بجميع التصرفات التي لا تتعلق بالمال، ولا تترتب عليها ذمم مالية، من الصبي ومن في حكمه، وهو السفيه والمجنون. فتصح عباداتهم على اختلافها، إلا المجنون المطبق فيما يشترط فيه التمييز. ولكن ليس لهؤلاء أن يتولوا(8/251)
تفريق زكاة أموالهم بأنفسهم، إذ هو تصرف مالي لا ينفذ إلا ممن كان ذا أهلية ورشد، وإنما يتولي ذلك عنه وليه، أو يأذن له وليه، ويعين له الأشخاص الذين ينبغي أن يدفع زكاته إليهم، على أن يدفع المحجور عليه إليهم بحضرة الولي وإشرافه، خشية أن يتلف المال إذا خلا به.
ثالثاً: إذا كان مصدر السفه هو الصغر، أي بحيث لم يكن مسبوقاً برشد، ترتبت الأحكام المذكورة عليه بدون الحاجة إلي أدعاء، ولا إلي حكم قاض بذلك، فإذا ارتفع السفه، وتحقق الرشد، وانتهي الحجر بموجب ذلك، ثم عاد السفه لسبب عارض، لم تعد هذه الأحكام المذكورة إلا بموجب حكم يصدره القاضي، ومثل السفه في ذلك الجنون.
رابعاً: ولي الصبي ومن في حكمه، ممن لم يطرأ موجب الحجر عليه عرضاً، بل نشأ معه منذ صغره، وهو الأب، ثم الجد للأب وإن علا، ثم وصيهما، بشرط العدالة في كل منهما، فإن فسق الولي بعد أن كان عدلاً نزع القاضي الولاية منه، واختار لها من يراه، أو باشرها بذاته، وذلك لما رواه الترمذي [1102] في النكاح، باب: ما جاء لا نكاح إلا بولي، بسند حسن، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " السلطان ولي من لا ولي له ".
أما من طرأ عليه السفه أو الجنون بعد رشد، فإن وليه القاضي، أو من ينيبه عنه، إذ هو الذي يملك ضرب الحجر عليه، فكان حق الولاية له.
خامساً: يجب على الولي أيا كان أن يتصرف بمال المحجور عليه حسب ما تقتضيه المصلحة، بأن يحفظه عن التلف، وينميه بالوسائل الممكنة، التي لا مقامرة فيها، فيتاجر به، أو يبتاع به عقاراً، أو يسخره في غير ذلك من وجوه التنمية التي يغلب فيها احتمال الغبطة والربح، وذلك لقوله تعالى: {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} (سورة النساء: 5).
ومكان الاستدلال في الآية: قوله تعالى: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا} فقد عدى الفعل (بفي) ولم يعده (بمن) تنبيهاً إلي أن على الولي أن ينفق على موليه من ريع(8/252)
ماله، لا من عينه بحيث يبقي ماله بذلك أشبه ببيت يستقر فيه، لا يأتي عليه نقصان ولا تلف.
فإن راعي الولي وجه الغبطة والحيطة في تنمية مال موليه، فخسر المال لسبب لا بد له فيه، لم يضمن، ويصدق الولي بيمينه، إن وقع خلاف بينه وبين المحجور عليه بعد الرشد.
وهل يجوز للولي أن يأخذ أجراً على رعايته لمال المحجور؟ الصحيح أنه إن كان غنياً لم يجز له ذلك، ,إن كان فقيراً، وشغلته هذه الرعاية عن كسبه والتفرغ لشأن نفسه، جاز له أن يأخذ أجراً على ذلك بالمعروف. وإنما يعين القدر الذي يقضي به العرف الحاكم أو من يقوم مقامه. ودليل هذا الحكم قول الله عز وجل: {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيباً} (سورة النساء: 6).
أحكام الحجر على المفلس:
المفلس في اللغة، مأخوذ من الفلس، وهو أقل النقود قيمة، ويقصد به من تحولت أمواله إلي فلوس، كناية عن افتقاره.
أما المفلس في اصطلاح الشريعة الإسلامية، فهو من تراكمت عليه ديون حالة زائدة على ماله.
وللحجر على المفلس أحكام مختلفة نجمل أهمها فيما يلي:
أولاً: لا يجوز الحجر علي المفلس إلا إذا زادت الديون التي عليه عن الأموال التي يملكها، فإذا تساويا، أو زادت ممتلكاته عليها لم يجز الحجر عليه، سواء كانت نفقاته من هذه الأموال ذاتها، أم من كسب يومي يكتسبه، لأن الأدلة التي دلت على مشروعية الحجر على المفلس خاصة بما إذا زادت الديون التي عليه على ممتلكاته، ومنها حديث حجره عليه الصلاة والسلام على معاذ بن جبل السابق ذكره، عند عرض الأدلة.
ثانياً: لا يحجر على المفلس إلا بسؤال الغرماء ذلك، فإن اختلفوا فيما بينهم استجيب لرغبة طالبي الحجر يشرط أن تزيد ديونهم بمفردها على مجموع ماله.(8/253)
ذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حجر على معاذ طلب غرماؤه ذلك، ولأن الحجر إنما هو لمصلحة الغرماء، فإذا لم يصرحوا بطلب الحجر، فإن ذلك يعني أنه لم يتبين لهم مصلحة في الحجر، فلا يضار المفلس بذلك.
ثالثاً: إذا أوقع الحاكم الحجر على المفلس، تحولت حقوق الغرماء من التعلق بذمته إلي التعلق بأمواله: أي إن شأنها يصبح كشأن العين المرهونة التي يتعلق بها حق المرتهن.
ولذلك يعطيهم الشارع حق التسلط على هذه الأموال، باستيفاء حقوقهم وديونهم منها.
رابعاً: يسن للحاكم أن يشهر قرار الحجر على المفلس حتى يتقلي الناس من التعامل المطلق معه.
خامساً: يجيب على الحاكم أو من ينيبه عنه أن يبيع ماله، ثم يقسم القيمة بين الغرماء حسب دين كل منهم، ويسن أن يبادر بذلك قدر الإمكان، وعليه أن يتبع مصلحة المحجور عليه في طريقة البيع وكيفيته، كأن يقدم أولاً بيع ما يسرع فساده، كالطعام ونحوه، ثم المنقول، ثم العقار، وكأن يبيع كل شيء في سوقه وثمنه الذي يستحقه ويسن أن يكون ذلك بمشهد من المحجور عليه، وأصحاب الحقوق.
ويجب أن يبقي له الحاكم حاجاته، وحاجات أهله الضرورية بالمستوي اللائق به، من ثياب وقوت ومسكن، فإن كان يمتع نفسه من ذلك ما يزيد على اللائق به نزل به إلي الحد الذي يرى أنه اللائق به
سادساً: إذا قسم المال أو ثمنه على الغارمين، كل منهم بنسبة وجب عليهم أن يمهلوه فيما بقي لهم عليه، إلي أن تحل عقدة عسرته، وذلك عملاً بقول الله عز وجل: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (سورة البقرة: 280)، ولما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: أصيب رجل في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثمار ابتاعها، فكثرت ديونه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " تصدقوا عليه "، فتصدق الناس عليه، ولم يبلغ ذلك وفاء دينه،(8/254)
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك ".
ويترتب على ذلك أن المحجور عليه لا يطالب بعد تقسيم ماله بين الغرماء، أن يكتسب لحسابهم، أو أن يؤجر نفسه لهم، كي يوفي بقية حقوقهم عليه.
تصرف المفلس بعد الحجر عليه:
يترتب على الحجر على المفلس، وما يتعلق به من الأحكام التي ذكرناها، كف يد المحجور عليه عن التصرفات المالية المختلفة، إذ تنحسر علاقته عن أمواله عد الحجر، لتحل محلها حقوق الغارمين، وإن كانت ملكيته باقية.
ويمكن أن نجمل لك خلاصة الأحكام المتعلقة بتصرفات المفلس بعد الحجر عليه فيما يلي:
ألا يصح من المفلس المحجور عليه أن تصرف مالي: كالبيع والرهن والهبة والإيجار، أذا كان متعلقاً بعين ماله وهو القول الصحيح في مذهب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، والرأي المقابل له ـ وهو ضعيف ـ يرى أنه تصرف موقوف، فإن تبين أنه قد زاد عن ديون الغارمين نفذ، وإلا فلا.
ب ـ يصح من المفلس المحجور عليه جميع التصرفات المالية إذا كانت متعلقة بذمته، كما لو باع على وجه السلم، أو باع موصوفاً بالذمة، إذ لا ضرر على الغرماء في ذلك.
ج ـ يصح منه جميع التصرفات التي لا تتعلق بشيء من أمواله العينية ن سواء تعلق بالذمة، كما ذكرنا في الفقرة (ب) السابقة، أو لم يتعلق بمال قط، فيصح نكاحه وطلاقه، وخلعه، واقتصاصه ممن ثبت له عليه حق القصاص، أو إسقاطه ذلك، سواء تحول عنه إلى الدية، أو عفا عن الدية أيضاً.
نعم إذا كانت الزوجة هي المحجور عليها، لم يصح لها أن تخالع نفسها، لأنه تصرف يتعلق ببعض مالها الذي تعلقه به حق الغرماء.
د- يصح منه كل إقرار بحق أو مال، يعود وجوبه إلى ما قبل الحجر عليه، ويترتب عليه خضوع أمواله العينية التي وقع الحجر عليها لما يقتضيه ذلك الإقرار من تعلق حقوق أخري بها، واشتراك آخرين مع الغرماء في قسمتها بينهم.(8/255)
أما إن أقر بحقوق ترتبت على ماله بعد الحجر، فهو إقرار مرفوض ليس على الغرماء أن يخضعوا له. ومن ثم فليس للأشخاص الذين اقر المفلس لمصلحتهم أن يشركوهم في تقاسم أمواله، بل ينتظرون فك الحجر عنه.
أحكام تصرف المريض المخوف عليه من الموت:
تعريفه:
المريض المخوف عليه من الموت: هو من أصيب بمرض من شأنه أن ينتهي بالموت إذا اشتد، ثم برح به هذا المرض إلى درجة جعلت الطبيب وأصحاب الخبرة يحذرون عليه من الموت.
ويقاس على هذا المريض من هم في حكمه، مثل حالة التحام القتال، أو تموج البحر واشتداد العاصفة به، أو اشتداد طلق الولادة.
وخرج بما ذكرنا وجع الضرس مثلاً، فإنه لا يدخل في حكم المرض المخوف منهما كان شديداً، إذ ليس من شأنه عادة أن ينتهي بالموت.
الأحكام المتعلقة به:
وإليك أهم الأحكام المتعلقة بهذا المريض:
أولاً: إذا لم يكن له وارث خاص، أو كان له وارث غير جائز التصرف كطفل صغير مثلاً، لم يجز له أن يتصرف فيما يزيد على ثلث ماله، سواء كان تصرفاً ناجزاً، أو تصرفاً معلقاً على الموت، كالوصية، فإن تصرف غير ملتزم بهذا الحد نفذ منها ما كان داخلاً في الثلث وطل الزائد.
هذا إذا جاءت تصرفاته متتابعة، فإن وقعت دفعة واحدة، قسم الثلث عليها حسب نسبة كل منها إن أمكن، وإلا بطل جميعها.
ثانياً: إذا كان له وارث خاص، وكان جائز التصرف توقفت تصرفاته فيما زاد على ثلث ماله على إجازة وارثه، فإن أجازها صحت، وإلا آلت إلى البطلان.
والعبرة بإجازته لها أو عدم أجازته بعد الموت.
ودليل ما سبق ما رواه البخاري [1233] في الجنائز، باب: رثاء النبي - صلى الله عليه وسلم -(8/256)
سعد بن خولة؛ ومسلم [1628] في الوصية، باب: الوصية بالثلث، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي، فقلت: يا رسول الله إني قد بلغ بي من الوجع، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال " لا " فقلت: بالشطر؟ فقال: " لا " ثم قال " الثلث، والثلث كبير، أو كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ".
ثالثاً: محل هذا الحكم السابق الذي ذكرناه إذا لم يكن على المريض دين يستغرق جميع تركته، فإن كان عليه ذلك حجر عليه في الجميع دون نظر إلي الثلث وغيره.
رابعاً: ينبغي أن نفرق فيما ذكرناه بين التبرعات والتصرفات، أو النفقات الواجبة.
فأما التبرعات فينطبق عليه ما ذكرناه في البنود الثلاثة الماضية.
وأما التصرفات، أو النفقات الواجبة، فإن أنجزها في حياته، فهي من رأس المال كله، وإن أوصي بها إلي ما بعد موته، كما لو أوصي بأداء دين، أو حج واجب عليه، أو زكاة، فإن أطلق الوصية بها فهي من رأس ماله، وإن قيدها بالثلث اعتبرت منه، ولكن يجب أن تتمم ما زاد عليه إن لم يف بها الثلث.
وما الفائدة إذاَ من التقيد بالثلث؟
الفائدة تظهر فيما لو كان قد أوصى بتبرعات غيرها، فإن هذه الواجبات تزاحمها عندئذ، حتى إذا لم يتسع الثلث للجميع أُلغيت التبرعات، أو أُلغي منها بالقدر الذي يكفي لتنفيذ الواجبات، وهكذا فإن فائدة التقيد بالثلث تؤول إلى النظر في مصلحة الورثة كي لا تستهلك الوصايا قدراً كبيراً من التركة.
البلوغ والرشد وطريقة معرفة كل منهما:
علق الله تعالى انتهاء الحجر على الصغار، بظهور صفتين فيهم، وهما البلوغ والرشد.
قال تبارك وتعالى: {وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ(8/257)
رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (سورة النساء: 6).
فما معنى كل منهما، وكيف السبيل إلى التحقق منهما؟
أما البلوغ: فالمقصود به بلوغ السن التي يتأهل فيها الإنسان للتكليفات الإلهية، إذ كان سوياً في نشأته الإنسانية العامة. وسن البلوغ يعرف بواحد من هذه الأشياء:
1 - استكمال الخامسة عشرة من العمر، سواء كان ذكراً أم أنثي.
2 - الاحتلام، بخروج المنى من الذكر أو الأنثى.
3 - رؤية دم الحيض بالنسبة للأنثى.
والوقت الذي يمكن أن يحصل فيه الاحتلام، أو الحيض يبدأ من استكمال تسع سنين من العمر.
ثم إن التأخر وعدمه عن سن الإمكان هذه يتبع طبيعة الأقاليم، وظروف الحياة.
وأما الرشد: فالمقصود به الاهتداء إلي سبيل حفظ الأموال ورعايتها، ويتضح ذلك بالاختبار والتجربة، وهل يشترط أن يضم ذلك إلى صلاح في الدين أيضاً؟
مذهب جمهور من أصحاب الشافعي رحمهم الله تعالى أنه يشترط ذلك، فلا يسمى رشيداً إلا من اهتدي إلى سبيل الخير في دينه ودنياه، وذهب فريق من علماء المذهب إلي أن المطلوب هنا الرشد في شؤون المال والدنيا ن إ ذ هو محل البحث في هذا المقام.
إذا علمت هذا، فلتعلم أنه لا بد لرفع الحجر عن الصغير من تحقق كل من وصفي: البلوغ والرشد.
فلو لوحظ في تصرفاته الرشد، وهو دون البلوغ، لم يكن له أي أثر، ولو بلغ الحلم ولم يلاحظ فيه الرشد لم يكن لبلوغه أيضاً أي أثر مهما تطاول به العمر. نلاحظ هذا في قول الله عز وجل: {وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (سورة النساء: 6).(8/258)
فقد جعل الرشد شرطاً للبلوغ المستلزم رفع الحجر.
الفسق بعد البلوغ وما يترتب عليه:
والفسق: أن يتجاوز الرجل حدود أوامر الله تعالى: بأن يرتكب كبيرة من الكبائر، ولا يتوب عنها، أو أن يثابر على ارتكاب بعض الصغائر من المحرمات. وقد عرفت فيما سبق ضابط كل من الكبائر، والصغائر من المعاصي.
فإذا رفع الحجر عن البالغ الراشد، ثم فسق في سلوكه مع صلاح تصرفاته الدنيوية، فهل يعود الحجر عليه؟
الصحيح في المذهب، أنه لا يُعاد الحجر عليه بسبب ذلك، إذا لم يؤثر في عهد الصحابة، ولا في عهد التابعين أنهم كانوا يعيدون الحجر على من انحرف إلي الفسوق بعد الاستقامة.
والفرق بين هذه الصورة، وصورة بلوغه فاسقاً عند الجمهور القائلين بأن الرشد هو الهداية إلي صلاح الدين والدنيا معاً، أن الحجر هناك مستمر ن فلا يرتفع إلا بزوال مجموع أسبابه، إذ الأصل بقاء ما كان على حاله، فإذا ارتفع بعد ذلك لم يجز أن يعود ثانية إلا بوجود مجموع أسبابه أيضاً، وإنما الفسق سبب واحد فقط.
أما إذا صاحبه سفه جديد، أي سوء تصرف في شؤونه المالية، فإن ذلك يستوجب عود الحجر عليه، ولكن بشرط أن يقضي بذلك الحاكم أو نائبه. ولا عبرة بولاية أقاربه حينئذ على الصحيح.(8/259)
الباب العاشر
الإمَامَة العظمَي(8/261)
الإمامة العظمي
مقدمة في بيان أهمية الإمامة، وقيام الحكم والمجتمع الإسلامي على سلامتها
الإمامة العظمي منصب ديني يخلف النبوة، بحيث يكون الإمام خليفة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في إدارة شؤون المسلمين، مع ملاحظة فارق واحد، هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يتلقي الأحكام التي يلزم بها أمته وحياً من عند الله عز وجل، أما الإمام فهو يتلقاها نصوصاً ثابتة من الكتاب والسنة، أو إجماعاً التقى عليه المسلمون، أو يجتهد في شأنها طبق الأدلة العامة، والقواعد الثابتة، إن لم يجد فيها نصاً ولم يتعلق بها إجماع.
ومنصب الإمامة، ذو أهمية قصوى في تحقيق الوجود المعنوي للمسلمين، فكان لا بد من إيجاد إمام لهم، وتنصيبه عليهم، للأسباب التالية:
أمن أعظم الواجبات التي أمر الله بها عباده المسلمين أن يجتمعوا على حبل الله عز وجل، ولا يتفرقوا أو يتنازعوا فيما بينهم، ولا يمكن لأي أمة أن تنجوا من بلاء التفرق والتنازع إلا إذا أسلمت مقادتها لكبير فيها، تجتمع الكلمة على رأيه، وتخضع الآراء لحكمه، ويكون من سائر أفراد الأمة كالقطب من الدائرة، يجسد وحدتهم، ويرعى بقيادته قوتهم، وهى حاجة ماسة في استقامة النظام، واتساق الأوضاع، يشعر بها حتى عالم الحيوانات والبهائم.
ب ـ إن شطراً كبيراً من أحكام الشريعة الإسلامية منوطة ـ من الناحية التنفيذية ـ بسلطة الإمام، بحيث لا عبرة في تنفيذها والقيام بشأنها إلا بواسطته وإشرافه:(8/263)
كالفصل في الخصومات، وتعيين الأولياء، وإعلان الحجر، والحرب وإقرار الصلح ... إلخ، فكان لا بد، لكي تنزل الأحكام الشرعية منزلتها الصحيحة المقبولة عند الله عز وجل من وجود إمام يقوم بشأنها، ويرعى تنفيذها.
جـ- في الشريعة الإسلامية طائفة كبيرة من الأحكام المعلقة التي لم يجزم الشارع بوجه معين ثابت فيها، بل وكل أمر البت فيها إلى بصيرة الإمام أو اجتهاده طبقاً لما تقتضيه مصالح المسلمين وظروفهم التي يمرون فيها، مثل كثير من التنظيمات المالية، وكتسيير الجيوش، وسياسة الأسرى، فإذا لم يكن ثمة إمام يتبوأ منصبة الإمامة عن كفاءة وجدارة، بقيت هذه الأمور معلقة لا مجال للبت فيها بحكم.
د- الأمة الإسلامية معرضة في كل وقت لظهور طائفة فيها تبغي وتشق عصا المسلمين بسائق من الأهواء أو الأفكار الجانحة باسم الدين والإصلاح.
ولا سبيل إلى إطفاء نار مثل هذه الفتنة إلا بواسطة إمام مسلم عادل، يوضح للأمة المنهج السليم، ويحذرها من الانصياع للسبل الأخرى، فإن الأمة عندئذ لا يمكن أن تقع ـ بسبب الجهالة ـ في الحيرة أو اللبس، لأن ما يأمر به الإمام هو الذي يجب العمل به في حكم الله عز وجل.
أما عند غياب هذا الإمام، فإن أصحاب الدعوات المختلفة من شأنهم أن يوقعوا أشتات المسلمين في حيرة مهلكة، لا مناص منها، إذ سرعان ما ينقسم المسلمون شيعاً وأحزاباً متطاحنة، وما هو إلا أن يفنيها الشقاق، ويهلكها الخلاف.
شروط الإمامة:
يشترط لمن يتبوأ منصب الإمامة أن تتوفر فيه الصفات التالية:
أولاً: الإسلام، فلا تصح إمامة غير المسلم، لأنها من الأحكام الشرعية المتعلقة بتنظيم شؤون المسلمين، فلا يمكن أن تسند إلى من لا يؤمن بهذه الأحكام.
ثانياً: الذكورة، فلا تصح إمامة الأنثى، لما ثبت في الحديث الصحيح أن(8/264)
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لن يفلح قوم ولوا أمورهم امرأة ". (أخرجه البخاري [4163] في المغازي، باب: كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى كسري وقيصر، عن أبي بكرة رضي الله عنه)، ولأن الإمامة العظمي من شأنها أن تستوعب حل المشكلات المختلفة التي قد يتعرض لها المسلمون، وفي هذا المشكلات ما لا تقوي المرأة على مجابهتها وحلها.
ثالثاً: الرشد، فلا تصح إمامة الصبي والسفيه ونحوهما، وإن توفر مستشارون من حولهما، وقد روي الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: تعوذوا بالله من إمارة الصبيان ". [2/ 326].
رابعاً: العدالة، والعدل: هو من لم يرتكب كبيرة، كالقتل والزنى وأكل الربا، ولم يلازم ارتكاب صغيرة من الصغائر، فلا يصح تنصيب الفاسق، وهو من لم تتوفر فيه شروط العدالة.
خامساً: أن يكون لديه من العلم بأحكام الدين وأدلتها ما يجعله ذا بصيرة نافذة تمكنه من الاجتهاد فيها عندما تقتضي الحاجة. إذ إن في الشريعة الإسلامية مسائل كثيرة، لا يجوز أن يبت في أحكامها ـ بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ إلا إمام المسلمين، وإنما يبت فيها اجتهاداً ونظراً إلى ما تقتضيه مصالح المسلمين.
سادساً: سلامة كلٍّ من حاسة السمع والبصر واللسان، بحيث لا يكون مصاباً بعاهة في واحدة منها، إذ من شأن ذلك أن يعيقه عن فصل الأمور، والنظر فيها على وجه الدقة المطلوبة.
سابعاً: النباهة والوعي العام، بحيث يتوفر له من ذلك ما يجعله كفؤاً لإدارة الحكم وحراسة البلاد والأمة من أي شر قد يتهددها. وإنما يدرك هذه النباهة ويقدرها أصحاب النظر وأهل الشورى، ومن كان له سبق معاناة لهذا الأمور.
ثامناً: أن يكون قرشي النسب، وذلك لما رواه أحمد في مسنده [3/ 129] عن انس رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " الأئمة من قريش ".
وقد روي البخاري [3309] في الأنبياء: مناقب قريش، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " إن هذا الأمر في قريش ".(8/265)
وروي مسلم [1818] في الإمارة، باب: الناس تبع لقريش، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " الناس تبع لقريش في هذا الشأن ".
وليس مع هذه النصوص كما يقال الماوردي ـ المسلم بها ـ شبهة لمنازع فيه، ولا قول لمخالف له.
هذا إذا توفر القرشي الجامع لهذه الصفات السابقة، فإن لم يتوفر فليكن عربياً في النسب، أي من أصل عربي قديم، فإن لم يوجد عربي أيضاً له ما ذكرنا من الصفات، اقتصر على اشتراط الصفات السبع السابقة، أيا كان نسبة.
أما إذا فقد بعض تلك الشرائط أيضاً، فيجب عندئذ تقديم صفات الكفاءة على صفات الصلاح الشخصي، فيقدم مثلاً البصير بشؤون الحكم البارع في إدارة الأمور، وإن كان مجروح العدالة بسبب سلوك شخصي فيه، علي الذي لم تتوفر فيه تلك الكفاءة وإن كان صالحاً مستقيماً في شخصه، إلا أن شرط الإسلام لابد أن يكون متحققاً فيه.
كيفية انعقاد الإمامة:
تنعقد الإمام بواحدة من الطرق التالية:
الطريقة الأولي:
البيعة، وسنتكلم بعد قليل عن كيفيتها وشروطها.
الطريقة الثانية:
الاستخلاف، يعنى استخلاف الإمام لشخص يخلفه من بعده، وتُعتبر هذه الطريقة شرعية صحيحة، إذا توفر فيها الشرطان التاليان:
الشرط الأول: أن يكون المستخلفُ جامعاً لشروط الإمامة التي سبق ذكرها، بحيث لا يوجد من يفوقه في التمتع بها فإن كانت تلك الشروط غير متوفرة لديه، أو كان غيره أغني بها منه لم تنعقد إمامته.
الشرط الثاني: أن يصرح المستخلف بقبول الإمامة وأن يكون هذا التصريح ـ على أصح الأقوال ـ في حياة الإمام الذي استخلفه، ولا مانع في أن(8/266)
يتراخي ويتمهل في إبداء رأيه، ولا حدود مشروطة في تمهله، إلا أن يقع القبول في حياة الإمام، وقبل وفاته.
فإذا توفر هذان الشرطان انعقدت إمامه المستخلف بموت الإمام الذي قبله، ولا يُشترط لذلك رضي أهل الحل والعقد، لا في حياة الإمام السابق، ولا بعد موته.
ودليل ذلك إجماع المسلمين على صحة عهد أبي بكر رضي الله عنه إلي عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بقوله المشهور: (هذا ما عهد أبو بكر خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند آخر عهده من الدنيا وأول عهده بالآخرة، في الحالة التي يؤمن فيها الكافر، ويتقي فيها الفاجر: أني استعملت عليكم عمر بن الخطاب، فإن بر وعدل فذالك علمي به، وإن جار وبدل فلا علم بالغيب والخير أردت).
هذا إذا استخلف الإمام واحداً بعينه، فأما إذا جعل الأمر شورى بين جمع من الناس، وجب عليهم أن يختاروا فيما بينهم واحداً منهم بعد موت الإمام بشرط أن تتوفر فيه الشروط التي سبق ذكرها. ودليل ذلك ما أجمع عليه المسلمون من صحة العهد الذي عهده عمر رضي الله عنه إلى واحد من ستة، فقال " هذا الأمر إلى على وبإزائه الزبير، وإلى عثمان وبإزائه عبدالرحمن بن عوف، وإلى طلحة وبإزائه سعد بن أبي وقاص).
الطريقة الثالثة:
الاستيلاء بالقوة والغلبة، ولانعقاد الإمامة بذلك شرطان اثنان:
الشرط الأول: أن يكون المستولي جامعاً لشروط الإمامة التي سبق ذكرها، أو أن يكون أغني بهذه الشروط أو بعضها من الآخرين.
وفي عدم توفر العدالة في المستولي خلاف، والصحيح أن إمامته تنعقد بالتغلب، ولكنه يكون عاصياً بما فعل.
الشرط الثاني: أن يكون الاستيلاء بعد موت الإمام الذي قبله، أو بعد عزله، بموجب شرعي صحيح، أما إذا استولي على الأمر في حال حياته، فإن كانت إمامة من قبله منعقدة هي الأخرى بالاستيلاء والغلبة انعقدت للغالب منهما، وإن كانت(8/267)
منعقدة بالبيعة أو العهد، لم تنعقد إمامة هذا الثاني عندئذ بالاستيلاء والغلبة، مهما تغلب على خصمه، أو استتب له الأمر، وعليه يحمل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما ". (رواه مسلم [1853] في الإمارة، باب: إذا بويع لخليفتين، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه).
وروي عرفجة بن شريح رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم فاقتلوه ". (أخرجه مسلم [1853] في الإمارة، باب: حكم من فرق أمر المسلمين وهو مجتمع).
البيعة: شروطها وكيفيتها:
قلنا فيما سبق: إن البيعة هي الطريقة الأولي لانعقاد الإمامة، والبيعة: هي العقد الذي يكون بين الخليفة وعامة الناس، ولا يكون هذا إلا بعد شوري أهل الحل والعقد، وأن يقع الاختيار على من استكمل صفات الإمامة تحقيقاً، وذلك لقوله عز وجل: {وأمرهم شوري بينهم} (سورة الشورى: 38).
وقد كان الناس في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل أحدهم في الإسلام، مد يده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وبايعه على السمع والطاعة بوصفة نبياً، وبوصفه حاكماً، ولعلك تذكر من ذلك بيعة العقبة الأولي والثانية في مكة، وبيعة آحاد الصحابة رضي الله عنهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - عند دخولهم في الإسلام. ومن هذا قول عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال: (بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثره علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم). (رواه البخاري [6774] في الأحكام، باب: كيف يبايع الإمام الناس، ومسلم [1709] في الإمارة، باب: وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، ومالك في الموطأ [2/ 445، 446] في الجهاد، باب: الترغيب في الجهاد، والنسائي [7/ 138، 137] في البيعة باب: البيعة على السمع والطاعة، وابن ماجه [2866] في الجهاد، باب: البيعة).
[المنشط: الأمر الذي ننشط له، ونخف إليه، ونؤثر فعله. المكره: الأمر الذي نكرهه، ونتثاقل عنه. أثره علينا: الأثرة: الاستئثار بالشيء، والانفراد به،(8/268)
والمراد بالحديث: أنا نؤثر غيرنا على أنفسنا، ونفضلهم عليها].
فلما توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لابد أن يبايع الناس من ينوب منابه، - صلى الله عليه وسلم - في إدارة أمور المسلمين، ورعاية شؤونهم، وتصريف أمور الدولة الإسلامية، تعبيراً بذلك عن استمرار بيعتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - واستمرار طاعتهم له، بطاعة خلفائه من بعده.
شروط البيعة:
وشروط البيعة لتنعقد بها الخلافة والإمامة ثلاثة أمور:
الأمر الأول: أن تصدر من أهل الحل والعقد، من شتي الأقطار والبلاد.
وأهل الحل والعقد هم: العلماء، والزعماء، ووجوه الناس الذين يهرع إليهم عادة في حل المشكلات، وتدبير الأمور، ولا يشترط أن يجتمع على البيعة جميع أهل الحل والعقد من سائر البلدان، كما لا يُشترط لذلك عدد معين، بل يُكتفي بمبايعة جماهيرهم من كل بلدة، سيان في ذلك الرجال والنساء، سوى أن بيعة النساء تختلف عن بيعة الرجال، بأن الأولي لا مصافحة فيها، بل يقتصر فيها على المعاهدة باللسان، دليل ذلك: مبايعة أهل مكة للنبي - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة، فقد بايعه الرجال والنساء، لكنه أحجم عن مصافحة النساء.
فإذا بايع أهل الحل والعقد، أو جماهيرهم، رجلاً ممن توفرت لديه شروط الإمامة، انعقدت له الإمامة بذلك، وكان على سائر المسلمين أن يدخلوا في بيعته حقيقة أو حكماً، بأن يبايعه مباشرة، أو يعقد العزم على السمع والطاعة له ضمن الحدود المشروعة التي سوف نتحدث عنها. وإنما لم يشترط مبايعة جميع الناس له، واكتفي بأهل الحل والعقد منهم، لأن أهل الحل والعقد هم الذين ينعقد بهم الإجماع الذي هو مصدر من مصادر الشريعة وإذا قام الإجماع بهم، لم يسع بقية الناس إلا الدخول فيما اتفقوا وأجمعوا عليه، إذ الإجماع دليل قطعي لا تجوز مخالفته.
الأمر الثاني: أن يتوفر في المبايعين من أهل الحل والعقد كل من:
أدرجة الاجتهاد في موضوع الإمامة وأحكامها.
ب - وصفة الشهود من العدالة وتوابعها.(8/269)
فإن لم يكونوا كذلك لم تكن بيعتهم نافذة، ولم تنعقد الإمامة بموجبها.
الأمر الثالث: أن يجيبهم إليها من وقع الاختيار على مبايعته، بأن يظهر الموافقة بصريح العبارة أو كنايتها، فإن امتنع عنها، فليس لهم أن يُكرهوه عليها، ذلك لأنها عقد مراضاة واختيار، لا يصلح أن يدخله إجبار ولا إكراه.
آثار البيعة:
فإن استقرت الإمامة لمن تقلدها، إما ببيعة، أو عهد، أو استيلاء مع توفر الشروط التي ذكرناها، فقد أصبح ولياً لأمور المسلمين، وترتبت على ذلك الواجبات التالية:
أولاً: أن يُشاع بين الناس والأمة كافة أن الإمامة قد أفضت إليه، وأن يعرف لهم بصفاته ومزاياه، ,إن لم يعرفوه بعينه واسمه.
ثانياً: أن ينهض الإمام بالأمور التالية:
1 - حفظ الدين على أصوله التي جاء بها الكتاب والسنة، وأجمع عليها سلف هذه الأمة، بحيث إذا زاغ ذو شبهة، أو نجم مبتدع أوضح له الحجة، وبين له الصواب، وأخذه بما يراه من الحقوق والحدود.
2 - تنفيذ أحكام الله تعالى المتعلقة بالمعاملات المالية والمدنية والأحوال الشخصية والجنايات وغيرها.
3 - العمل على نشر الطمأنينة والأمن في البلدان والأقطار الإسلامية، والطرق الموصلة بعضها ببعض، وتحقيق المصالح الإنسانية المختلفة وحمايتها، من اقتصادية واجتماعية وثقافية.
4 - تحصين الحدود والثغور بالعدة الكافية، والقوة المانعة، وتحقيق كل ما يلزم لذلك.
5 - النهوض بأمر الدعوة الإسلامية في شتى أقطار العالم، وجهاد من عاند سبيل الدعوة الإسلامية، ووقف عقبة في وجهها.
وله في سبيل تحقيق هذه الواجبات أن يستعين بما يراه من أشكال التنظيم(8/270)
للجهاز التنفيذي الذي يستعين به، وبما يراه من تنصيب الولاة والقضاة والوزراء وعزلهم، وتكون أحكامه في ذلك كله نافذة.
ثالثاً: أن تدخل ألأُمة كافة في طاعته، والانصياع لأوامره، فيما لا معصية فيه، لقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (سورة النساء: 59) ولقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: " على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة " (رواه البخاري [6725] في الأحكام، باب: السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية، ومسلم [1839] في الإمارة، باب: وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وغيرهما عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما).
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: (أجمع العلماء على وجوبا ـ أي الطاعة ـ في غير معصية، وعلى تحريمها في المعصية).
ولا فرق في وجوب الطاعة له بين أن يكون عادلاً أو جائراً، ما دامت الطاعة بذاتها ليست في معصية.
فإذا أمر بمعصية حرمت طاعته فيها، ووجب الجهر بالحق حيثما كان، أما الخروج عليه بمحاولة خلعه أو قتاله، فلا يجوز بإجماع المسلمين، لما فيه من تعريض وحدة المسلمين للتصدع والفتنة. وكالأمر بالمعصية تلبسه بها، يجب على المسلمين ـ إذا كان مجاهراً بها ـ بيان الحق والجهر بالإنكار عليه، دون قتاله والخروج عليه.
هذا إذا لم يتلبس بكفر أو يأمر به، فأما إذا فعل ذلك فإن إمامته تُلغي، ويصبح المسلمون في حل من بيعتهم له.
وسنذكر تفصيل ذلك عند البحث في عزل الإمام.
حكم الشورى، والأحكام التي تشرع فيها الشورى:
الشورى، والمشورة: هي الاستعانة بآراء الآخرين للوصول إلى الحقيقة، وحل المشكلات على أساسها.
وتنقسم أحكام الشورى الإسلامية إلي طائفتين:(8/271)
الطائفة الأولي:
أحكام ترتبط بنصوص بينة واضحة من الكتاب أو السنة، أو تعتمد على دليل الإجماع.
فهذه الأحكام لا شأن لها بالشورى، ولا يستطيع أحد من الناس أيا كان في مستواه أو علمه أن يغير منها، أو يطور فيها، وإنما وظيفة الحاكم أن يسهر على تنفيذها، كما جاءت بها النصوص، أو كما استقر عليه الإجماع.
الطائفة الثانية:
أحكام اجتهادية، وهي تنقسم إلي قسمين:
القسم الأول: أحكام مقررة في علم الله تعالى، تستوعبها أدلة التشريع من القرآن، أو السنة، أو الإجماع، أو القياس، ولكنها خفية تحتاج في استنباطها من أدلتها إلى بحث وجهد، فهذه أحكام تبليغية من الله عز وجل في جملتها وتفصيلها، يبرم في أمرها المجتهدون من علماء المسلمين، سواء كانوا حكاماً أو رعايا.
القسم الثاني: أحكام أنزل الله تعالى كلياتها، ووكل أمر تفاصيلها، وكيفية تطبيقاتها إلي مصلحة المسلمين، وما تقتضيه ظروفهم وأوضاعهم المتطورة، عن طريق ما يراه الحاكم المسلم ببصيرته الواعية، وإخلاصه في خدمة المسلمين.
فهذه الأحكام تسمي أحكام الإمامة، أو أحكام السياسة الشرعية، لا يبرم في شأنها إلا الحاكم المجتهد، وقد مر بك في أول هذا الباب أمثلة لهذه الأحكام.
فالطائفة الثانية بقسميها خاضعة للشورى، بحيث لا يجوز أن يبرم الإمام الحكم في شيء منها إلا بعد الرجوع إلي مشورة نخبة صالحة من علماء المسلمين ومجتهد يهم.
ودليل هذا من القرآن الكريم، قول الله عز وجل لرسوله عليه الصلاة والسلام: {وشاورهم في الأمر} (سورة آل عمران: 159)، وقوله تبارك وتعالى ـ في معرض مدح الجماعة المسلمة ـ: {وأمرهم شوري بينهم} (سورة الشورى: 38).(8/272)
ومن السنة النبوية ما ثبت من استشارته - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه في مختلف شؤون المسلمين، مما ليس فيه وحي جازم، كاستشارته إياهم في غزوة بدر، وغزوة أُحد، والخندق، واستشارته لهم في أساري بدر، وفي صلح الحديبية، والأمثلة كثيرة كثيرة.
والدليل على أن الطائفة الأولي من الأحكام لا مجال للشورى فيها، قول الله عز وجل: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً} (سورة الأحزاب: 36) وأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يستشير في شيء من هذه الأحكام أصحابه، بل كان يلزم نفسه وإياهم بها كما وردت.
ولكن ينبغي أن تعلم أنه لا يوجد للشورى أي أثر ملزم للإمام الذي يستشير: أي أن الإمام ليس ملزماً أن يأخذ رأي الأكثرية مثلاً من مجلس شوراه، كما هو الشأن بالنسبة لكثير من النظم الديموقراطية. بل إن واجب الإمام أن يستعين بما عند أهل العلم والبصيرة من وجوه الرأي، وأن يتبصر بما عندهم من العلم والنظر، لعل لديهم من ذلك ما لم يتنبه هو إليه، فإذا استعرض وجوه النظر والاجتهادات كلها، كان عليه بعد ذلك أن يتخير أقربها إلي الصحة، وأشبهها بالحكم الإلهي الثابت في علم الله عز وجل، وقد علمت أن الحديث إنما هو عن الإمام الذي توفرت فيه شروط الإمامة من علم وصل إلي درجة الاجتهاد، وإخلاص في الدين، وأمانة في الخلق.
وخلاصة الفرق أن مجلس الشورى في النظم الوضعية مشرع، ومن ثم فإن رأي الأكثرية ملزم، ومجلس الشورى في الشريعة الإسلامية ناقب وباحث عن حكم الله عز وجل، فهو ليس مشرع، ولذلك يستوي فيه القلة والكثرة الغالبة، إذ قد يهتدي إلى حكم الله عز وجل واحد منهم، أو كثرة ساحقة فيهم. فأيهم ظهر الحق على لسانه وجب إتباعه، وإنما يفوقهم الإمام بمزيد من البصيرة الدالة على حكم الله عز وجل، بدليل ما وقع عليه إجماعهم من مبايعته وارتضائه حاكماً فيهم مقدماً بينهم، فكان في اختياره لواحد من الآراء ما يدل على رجحانه على غيره، ومن ثم فإنه يجب على كافة المسلمين إتباعه، والاجتماع عليه.(8/273)
الأُسس التي ينبغي أن تنهض عليها علاقة الإمام بالأُمة:
ليس الإمام ـ بعد أن علمت أهم أحكام الإمامة وشروطها ـ أكثر من خليفة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حراسة أحكام الله تعالى عن أن تضيع أو تبدل، وفي الإشراف على سلامة تنفيذها، ولا ريب أن سلامة تنفيذ هذه الأحكام هي الضمانة لانتشار الأمن والطمأنينة، وأسباب الخير والسعادة في أفراد الأمة. ولذلك:
1 - فالإمام إذاً، لا يتمتع بأي سلطة تشريعية، إذ إن سلطة التشريع خصيصة محصورة في ذات الله عز وجل، وحتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس إلا مبلغاً عن حكم الله تعالى، فإذا اجتهد في حكم وقضي به فإن المعول في نفاذه ومشروعيته على إقرار الله له عن طريق الوحي.
2 - ومن ثم فإن الإمام لا يتمتع ـ بسبب كونه إماماً ـ بأي امتيازات يعلو بها على بقية الناس في نطاق الأحكام الشرعية المختلفة، من قضاء وعقود وعقوبات وغيرها.
فشهادته مثلاً، لا تعلو في قيمتها القضائية عن شهادة غيره، لا في العدد ولا في الأهمية المعنوية. بل ليس له ـ وهو حاكم ـ أن يحكم بين أحد من الناس بموجب علمه فيه، أي لا يجوز أن يكون حاكماً وشاهداً بآنٍ واحد. بل هو إما حاكم، فلا قيمة لشهادته، وإنما يستند في حكمه إلي شهادة الشهود الصالحين، وإما شاهد، فينبغي عندئذ أن يتخلي عن حاكميته، ويقف شاهداً في الموضوع أمام حاكم آخر يُنيبه عنه.
وقد ترافع اثنان إلي عمر بن الخطاب رضي الله عنه أثناء خلافته، فقال له المدعى: إن هذا ظلمني (وذكر له ظلامته) ثم قال: وأنت يا أمير المؤمنين أعرف الناس بذلك. فقال له عمر رضي الله عنه: إن شئت قضيت بينكما ولا اشهد، وإن شئت شهدت لك، ولا أقضي.
وليس له من منصبه الذي يتمتع به ما ينجيه من أي حد، أو قصاص، أو عقوبة يستوجبها بفعل صدر منه، أو ما يخفف عنه من العقوبة التي استحقها كغيره، لأمر ما صدر عنه.
ويقدر له من الأجر على قيامه بالمهام التي وكلت إليه، ما يقرره مجلس الشورى بالعرف، وحسب ما تقتضيه متطلبات الحياة الكريمة المشروعة.(8/274)
وإذاً فإن علاقة الإمام بالناس قائمة على الأُسس التالية:
1 - الإمام مستخلف فيهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن خلفائه من بعده، مع ملاحظة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يُوحي إليه، وكانت آراؤه الاجتهادية أحكاماً شرعية إذا أقرها الوحي ولم يردها أما خلفاؤه من بعده فليس أمامهم إلا كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وما أجمع عليه المسلمون، وما أمره الله بأن يجتهد فيه، وهو داخل في عموم دلالة السنة.
2 - الإمام ولىّ لأمور المسلمين العامة، وهو التي لا تغني فيها ولاية الأفراد بعضهم على بعض. ومن ثمّ فتصرفاته في أمورهم منوطة بالمصلحة، أي لا تعتبر عنها أحكام الله عز وجل، لا لسيادة يتمتع بها عليهم، بل ليمكنوه من العمل على تحقيق مصالحهم العامة، والتنسيق بينهما وبين مصالح الأفراد.
3 - الإمام هو الذي يباشر الإشراف على عمل من دونه من الولاة والوزراء والقضاة، فيما وكّل إليهم من الخدمات المختلفة للأُمة، فهو مرجعها فيما قد يكون لها من شكوى أو ظلامة عند أحد من ولاته أو موظفيه، وليس له أن يفوّض الأمور إلى من دونه، ثم ينصرف إلى شؤونه وملاذه، أو مصالحه الخاصة.
يقول الإمام الماوردي في الأحكام السلطانية: (عليه أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور، وتصفّح الأحوال، لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملّة، ولا يعّول على التفويض تشاغلاً بلذة أو عبادة، فقد يخون الأمين، ويغش الناصح).
4 - وعلاقة الإمام بالأمة بناءً على ذلك كله، هي علاقة خادم أمين بمخدومه، ورب الأسرة الرحيم بأفراد أسرته، ويبذل جهده لإسعادها، ولا يدّخر وسعاً لنشر الأمن والرخاء في ربوعها، ينساق لتحقيق ذلك كله بروح من الرحمة والإخلاص، لا بدافع من الوظيفة أو الإكراه.
ما ينعزل به الإمام:
ينعزل الإمام عن الإمامة بواحد من الأسباب التالية:(8/275)
السبب الأول: الكفر، سواء كان صريح القول، أو بأي فعل أو قول يستلزم الكفر، فإذا صدر من الإمام ذلك بطلت إمامته، وخرجت الأُمة عن بيعته، ووجب عليهم الخروج عليه وخلعه.
أما موجبات الفسق، سواء بارتكاب المحظورات، أو باعتناق بعض البدع غير المكفرة، فلا يستوجب العزل.
قال الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم: (أجمع أهل السنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق)، ذلك لأن ضرر الفتنة التي قد تنشأ عن عزله يفوق في الغالب ضرر بقائه متلبساً بالفسق.
فقد علمت سابقاً أن الإمامة لا تنعقد لفاسق ابتداءً، فأما الفسق الطارئ بعد انعقاد الإمامة، فلا نعزل به الإمام لما قد علمت. وإن كان الفسق منه معصية وحراماً.
السبب الثاني: طروء نقص جسمي في شيء من أعضائه أو حواسه، بحيث يقعده عن القيام بواجبات الإمامة، كزوال البصر، أو السمع، أو كانقطاع يده أو رجله أو نحو ذلك. والعبرة ليست بشكل النقص، بل بما يترتب عليه من تعذر القيام بمهام الإمامة والحكم، فإن كان بحيث لا يضير في شيء من ذلك فلا يستوجب العزل، ولا يعتبر مجرد الشين في الجسم موجباً للعزل.
ومثل نقص شيء من الحواس والأعضاء فيما ذكرنا طروء خبل أو جنون ولو كان متقطعاً، فإذا كان من الشدة والكثرة بحيث يؤثر على نهوضه بواجبات الحكم عُزل وإلا فلا.
السبب الثالث: طروء نقص في إمكان التصرف، وهو يكون لأحد سببين:
أحدهما: الحجر: كأن يستولي عليه من أعوانه من يستبد بتنفيذ الأمور، فهذا الحجر لا يكون سبباً لانعزاله، ولا يقدح في استمرار إمامته، ولكن يُنظر في حكم المستولي وسياسته، فإن كان جاريين وفقاً لأحكام الدين ومقتضي العدل، وجب إقراره عليها، مع استمرار حكم الإمامة للإمام الأصلي، أما إن كانت أحكام المستولي خارجة عن حكم الدين ومقتضي العدالة، فلا يجوز إقراره عليها، بل يجب على المسلمين كف يده، وبذل كل ما في الوسع لإزالة تغلبه.(8/276)
ثانيهما: القهر: ويقصد به أن يقع الإمام في قبضة عدوٌّ قاهر لا سبيل للخلاص منه، ففي هذه الحالة يجب على الأمة كافة العمل بكل الوسائل على استنفاذه، وهو مستمر حكماً في إمامته، ما كان مرجو الخلاص، مأمول الفكاك، فإذا وقع اليأس من إمكان استنقاذه، فإن إمامته تُلغي عن الاعتبار، وعلى أهل الحل والعقد المبادرة باختيار غيره، فإن كُتب للأول الخلاص بعد مبايعة الثاني لم يعد إلى الإمامة، أو قبل مبايعته عاد إلى الإمامة دون الحاجة إلى عقد أو بيعة جديدة له.
السبب الرابع: أن ينعزل الإمام نفسه: بأن يستقيل عن الحكم لأمر ما، فإن كان في المسلمين من يمكن أن يقوم مقامه، ممن تتوفر فيه شروط الإمامة، وإن كان دونه في الكفاءة والمقدرة، صحت استقالته، وعُزل بذلك عن الحكم، وإن لم يكن في المسلمين من يقوم مقامه، أو يسد مسده لم تقبل استقالته، ولم يكن لعزله نفسه أي أثر شرعي صحيح، إذ إن للمسلمين حينئذ أن يحملوه حملاً على الإمامة، وعليه أن يقبلها راضياً أو كارهاً.
والإمامة وإن كانت ـ كما قلنا فيما مضى ـ عقد تراض بين طرفين، إلا أنها في مثل هذه الحالة تصبح عقد إجبار، شأنها كشأن كثير من العقود الرضائية التي تصبح عقوداً جبرية لأسباب استثنائية طارئة ـ وشأنها في ذلك شأن فروض الكفاية عند تعين من يقوم بها، فإنها تصبح فرض عين بالنسبة إليه.
فإذا عزل الإمام لسبب من هذه الأسباب الأربعة، أصبح المسلمون كافة في حل من طاعته وبيعته، وعاد في أهليته ووضعه المدني كشأن أي فرد عادي من المسلمين.
فإن ذهب السبب الموجب للعزل قبل أن ينصب غيره لم يكن ذلك موجباً لأن يعود إلي الإمامة بشكل آلي، بل لا بد من بيعة جديدة له من أهل الحل والعقد.
خاتمة:
تنصيب الإمام بهذا الشكل الذي رأيت، ولتحقيق المهام التي تحدثنا عنها واجب متعلق بأعناق المسلمين حيثما كانوا، فإن لم ينهضوا به تحقيقاً لأمر الله عز(8/277)
وجل باؤوا جميعاً بإثم كبير، إذ هو ـ بالإضافة إلي الضرورات الدينية والاجتماعية والسياسية المختلفة ـ شعيرة كبري من شعائر الإسلام التي يجب أن تكون بارزة حية في بلاد المسلمين.
ولا يجوز تعدد الإمام في وقت واحد، إذ إن من مهام الإمامة تجميع شمل المسلمين كافة في كافة أقطارهم وبلدانهم، وتعدد الأئمة ينافي ذلك منافاة واضحة.
والله سبحانه وتعالى أعلم وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين.(8/278)