ـ[الفقه المنهجي على مذهب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى]ـ
اشترك في تأليف هذه السلسلة: الدكتور مُصطفى الخِنْ، الدكتور مُصطفى البُغا، علي الشّرْبجي
الناشر: دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق
الطبعة: الرابعة، 1413 هـ - 1992 م
عدد الأجزاء: 8
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي](/)
الفقه المنهجي
على مذهب الإمام الشافعي
رحمه الله تعالى
الجزء الأول
في الطهارة والصلاة
الدكتور مصطفى الخن ... الدكتور مصطفى البغا
علي الشربجي(/)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المقدمة
الحمد لله رب العالمين القائل في محكم كتابه المبين: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين}.
والصلاة والسلام على سيدنا محمد الرسول الأمين قائد الغر الميامين القائل: ... "من يرد الله به خيراً يفقه في الدين" وعلى آله الطاهرين وأصحابه الذين عملوا على نشر هذا الدين بالحجة والدليل الواضح المبين.
وبعد: فغن خير ما يشتغل به الإنسان معرفة الحلال والحرام من الأحكام، وعلم الصحيح من الفاسد من الأعمال؛ وعلم الفقه هو الذي أخذ على عاتقه بيان ذلك. ولقد ألف كثير من علمائنا الأقدمين كتبا في هذا الفن يكاد لا يحصيها العدّ، ولا شك أن كل واحد من هؤلاء المؤلفين الأفاضل قد لاحظ أن هناك ثغرة يوجب عليه دينه أن يقوم بسدها وحاجة يجب عليه أن يبذل كل ما في وسعه لقضائها؛ فمن مطول يجد أن هناك حاجة ماسة للتطويل، ومن مختصر يجد أن هناك طلباً ملحاً للاختصار، ومن ناظم ومن ناثر، ومن باحث في أمهات المسائل وما ينبثق منها من فروع، ومن مقتصر على بيان أمهات المسائل من غير تعرض لكثير من الفروع، وكلهم يقصد بما ألفه ملء فراغ يجب أن يملأ، وفرجة في المكتبة الإسلامية يجب أن تسد، لعل الله سبحانه أن يكون راضياً عنه بما عمل،(1/5)
ومسجلاً عمله في عداد الصدقات الجارية والعلم النافع التي لا ينقطع ثوابها إلى يوم القيامة.
ولقد لاحظنا أن هناك حاجة إلى سلسلة فقهية تذكر فيها أمهات المسائل مقرونة بأدلتها من الكتاب الكريم والسنة المطهرة، مشفوعة ببيان ما نستطيع أن نصل إليه بعقولنا من حكمة التشريع. مع سهولة في التعبير، وإكثار من العناوين المنبهة إلى ما تحتها من مسائل. ومع اعتقادنا بأننا لم نبلغ بعد درجة أسلافنا الفقهاء العظام فإننا شعرنا أن من الواجب علينا أن نقوم بالأمر، فاستعنّا بالله وقمنا بذلك على قدر استطاعتنا تاركين لأرباب الكفاءة الصحيحة تتميم ما نقص، وإصلاح ما اعوجَّ، وتصويب ما وقع فيه من الخطأ، إذ لا ندعي - ولن ندعي- أننا قد بلغنا الغاية مع إفراغ جميع ما لدينا من وسع.
وها نحن أولاء نقدم الحلقة الأولى من السلسة في موضوع الطهارة والصلاة الواجب على كل مسلم العلم به؛ وأسمينا هذه السلسة (الفقه المنهجي) على مذهب الإمام الشافعي، وما على إخواننا الذين يريدون الوصول إلى الأفضل-لا تسقُّط والتقاط العيوب- إلا أن يرشدونا إلى ما فاتنا مما هدفنا إليه.
اللهم أخلص نياتنا وأعمالنا، ووفقنا لما تحبه وترضاه، وانفع المسلمين بما عملنا، واهدنا سواء السبيل.
المؤلفون(1/6)
مدخل
في التعريف بعلم الفقه، ومصادره، وبعض مصطلحاته
معنى الفقه:
إن للفقه معنيين: أحدهما لغوي، والثاني اصطلاحي.
أما المعنى اللغوي: فالفقه معناه: الفهم. يقال: فقه يفقه: أي فهم يفهم.
قال تعالى: {فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا} [النساء: 78]. أي لا يفهمون. وقال تعالى: {ولكن لا تفقهون تسبيحهم} [الإسراء: 44]. أي لا تفهمون تسبيحهم.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن طولَ صّلاةِ الرَّجُلِ وقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌٌ مِنْ فٍقْهِهِ" (رواه مسلم: 869). أي علامة فهمه.
وأما المعنى الاصطلاحي؛ فالفقه يطلق على أمرين:
الأول: معرفة الأحكام الشرعية المتعلقة بأعمال المكلفين وأقوالهم، والمكتسبة من أدلتها التفصيلية: وهي نصوص من القرآن والسنة وما يتفرع عنهما من إجماع واجتهاد.
وذلك مثل معرفتنا أن النية في الوضوء واجبة أخذاً من قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إنَّما الأعْمالُ بِالنيَّات " (رواه البخاري: 1، ومسلم: 1907).(1/7)
وإن النية من الليل شرط في صحة الصوم أخذاً من قوله - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ لَم يبيَّتِ الصِّيَامَ قَبْلَ الفَجْرِ فلا صيام له" (رواه البيهقي: 4/ 202، الدارقطني: 2/ 172، وقال: رواته ثقات).
ومعرفتنا أنَّ صلاة الوتر مندوبة، أخذاً من حديث الأعرابي الذي سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الفرائض، ثم قال بعد ذلك: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُها؟ قال: "لا إلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ". (رواه البخاري: 1792/مسلم: 11).
وأن الصلاة بعد العصر مكروهة أخذاً من نهيه عليه الصلاة والسلام عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس. [رواه البخاري: 561، ومسلم: 827].
وأن مسح بعض الرأس واجب أخذاً من قوله تعالى: {وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6]. فمعرفتنا بهذه الأحكام الشرعية تسمى فقهاً اصطلاحاً.
والثاني: الأحكام الشرعية نفسها، وعلى هذا نقول: درست الفقه، وتعلمته: أي إنك درست الأحكام الفقهية الشرعية الموجودة في كتب الفقه، والمستمدة من كتاب الله تعالى وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، وإجماع علماء المسلمين، واجتهاداتهم.
وذلك مثل أحكام الوضوء، وأحكام الصلاة، وأحكام البيع والشراء، وأحكام الزواج والرضاع، والحرب والجهاد، وغيرها.
فهذه الأحكام الشرعية نفسها تسمى فقهاً اصطلاحاً.
والفرق بين المعنيين: أن الأول يطلق على معرفة الأحكام، والثاني يطلق على نفس الأحكام الشرعية.(1/8)
ارتباط الفقه بالعقيدة الإسلامية:
من خصائص الفقه الإسلامي - وهو كما قلنا: أحكامُ شرعية ناظمةُ لأفعال المكلفين وأقوالهم - أنه مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالإيمان بالله تعالى، ومشدود تماماً إلى أركان العقيدة الإسلامية، ولا سيما عقيدة الإيمان باليوم الآخر.
وذلك لأن عقدية الإيمان بالله تعالى هي التي تجعل المسلم متمسكاً بأحكام الدين منساقاً لتطبيقها طوعاً واختياراً.
ولأن من لم يؤمن بالله تعالى لا يتقيد بصلاةٍ ولا صيامٍ، ولا يراعي في أفعاله حلالاً ولا حراماً، فالتزام أحكام الشرع إنما هو فرعُ عن الإيمان بمن أنزلها وشرعها لعباده.
والأمثلة في القرآن الكريم التي تبيِّن ارتباط الفقه بالإيمان كثيرة جداً. وسنكتفي بذكر بعضها لنرى مدى هذا الارتباط بين الأحكام والإيمان وبين الشريعة والعقيدة:
1 - لقد أمر الله عز وجل بالطهارة وجعل ذلك من لوازم الإيمان به سبحانه وتعالى فقال: {يا أَيُّها الَّذينَ آمنوا إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فاغْسِلوا وُجُوهَكُمْ وأَيْدِيَكُمْ إلى المَرَافِقِ} [المائدة: 6].
2 - ذكر الله الصلاة والزكاة وقرن بينهما وبين الإيمان باليوم الآخر، قال تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [النمل: 3].
3 - فرض الله الصوم المفضي إلى التقوى، وربطه بالإيمان،(1/9)
قال تعالى: {يا أَيُّها الَّذينَ آمنوا كُتٍِبَ عَليْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ على الَّذينَ مِنْ قَبْلٍكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
4 - ذكر الله تعالى الصفات الحميدة التي يتحلى بها المسلم وربط ذلك بالإيمان به تعالى والتي يستحق بها دخول الجنة، فقال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 1 - 11].
اللغو: الباطل وما لا فائدة فيه من قول أو فعل. لفروجهم حافظون: جميع فرج وهو اسم لعضو التناسل من الذكر والأنثى.
وحفظها: صيانتها عن الحرام ومن الوقوع في الزنى خاصة. ما ملكت أيمانهم: النساء المملوكات وهن الإماء. غير ملومين: بوطئهن.
العادون: الظالمون والمجاوزون.
5 - أمر الله تعالى بحسن معاملة النساء ومهَّد لذلك بنداء المخاطبين فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء: 19]
تعضلوهن: تمنعوهن من الزواج. بفاحشة: سوء خلق أو نشوز أو زنى. ... مبينة: واضحة وظاهرة.(1/10)
6 - أمر المطلقة أن تعتدّ ثلاثة قروء وألا تكتم ما في رحمها إن كانت حاملاً وعلق ذلك على الإيمان بالله واليوم الآخر، قال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} ... [البقرة: 228].
7 - أمر الله سبحانه وتعالى باجتناب الخمر والميسر والأنصاب والأزلام بعد أن نادى المؤمنين بوصف الإيمان، مشعراَ بذلك اجتنابها مرتبط بخلوص إيمانهم، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90].
8 - حرَّم الله سبحانه وتعالى الربا وربط بين تركه وتحقيق التقوى والإيمان، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ... [آل عمران: 130]
وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} ... [البقرة: 278].
9 - حضَّ على العمل وأحاطه بسياج من الشعور بالمراقبة الإلهية والشعور بالمسؤولية، قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105].
وهكذا فقلَّما تجد حكماً من أحكام الدين في القرآن إلا وهو مقرون بالإيمان بالله تعالى ومرتبط بأركان العقيدة الإسلامية، وبهذا اكتسب الفقه الإسلامي قداسة دينية، وكان له سلطان روحي، لأنها(1/11)
أحكام شرعية صادرة عن الله تعالى موجبة لطاعته ورضاه، وفي مخالفتها خطر غضبه وسخطه، وليست أحكاماً قانونية مجردة لا يشعر الإنسان لها برابط يربطها في ضميره، أو يصلها بخالقه. قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النساء: 65].
شمول الفقه الإسلامي لكل ما يحتاج إليه الناس:
لا شك أن حياة الإنسان متعددة الجوانب، وأن سعادة الإنسان تقتضي رعاية هذه الجوانب كلها بالتنظيم والتشريع، ولمَّا كان الفقه الإسلامي هو عبارة عن الأحكام التي شرعها الله لعباده رعاية لمصالحهم ودرءاً للمفاسد عنهم، جاء هذا الفقه الإسلامي ملماً بكل هذه الجوانب، ومنظماً بأحكامه جميع ما يحتاجه الناي، وإليك بيان ذلك:
لو نظرنا إلى كتب الفقه التي تضمن الأحكام الشرعية المستمدة من كتاب الله وسنة رسوله وإجماع علماء المسلمين واجتهاداتهم، لوجدناها تنقسم إلى سبع زمر وتشكل بمجموعها القانون العام لحياة الناس أفراداً ومجتمعات:
الزمرة الأولى: الأحكام المتعلقة بعبادة الله من وضوء وصلاة وصيام وزكاة وحج وغير ذلك، وتسمى هذه الأحكام: العبادات.
الزمرة الثانية: الأحكام المتعلقة بالأسرة من زواج وطلاق، ونسب ورضاع، ونفقة وإرث، وغيرها، وتسمى هذه الأحكام: الأحوال الشخصية.
الزمرة الثالثة: الأحكام المتعلقة بأفعال الناس، ومعاملة بعضهم(1/12)
بعضاَ من شراء ورهن وإجارة، ودعاوي وبينات، وقضاء وغير ذلك، وتسمى هذه الأحكام: معاملات.
الزمرة الرابعة: الأحكام المتعلقة بواجبات الحاكم من إقامة العدل ودفع الظلم وتنفيذ الأحكام، وواجبات المحكوم من طاعة في غير معصية وغير ذلك، وتسمى هذه الأحكام: الأحكام السلطانية، أو السياسية الشرعية.
الزمرة الخامسة: الأحكام المتعلقة بعقاب المجرمين وحفظ الأمن والنظام مثل: عقوبة القاتل والسارق وشارب الخمر وغير ذلك، وتسمى هذه الأحكام: العقوبات.
الزمرة السابعة: الأحكام المتعلقة بالأخلاق والحشمة، والمحاسن والمساوئ وغير ذلك، وتسمى هذه الأحكام: الآداب والأخلاق.
وهكذا نجد أن الفقه الإسلامي شامل بأحكامه لكل ما يحتاج إليه الإنسان، وملمَّ بجميع مرافق حياة الأفراد والمجتمعات.
مراعاة الفقه الإسلامي اليسر ورفع الحرج:
معنى اليسر:
إن الإسلام راعي بتشريع الأحكام حاجة الناس، وتأمين سعادتهم، ولذلك كانت هذه الأحكام كلها في مقدور الإنسان، وضمن حدود طاقته، وليس فيها حكم يعجز الإنسان عن أدائه والقيام به، وإذا ما نال(1/13)
المكلف حرج خارج عن حدود قدرته أو متسبب بعنت ومشقة زائدة لحالة خاصة، فإن الدين يفتح أمامه باب الترخص والتخفيف.
الدليل على أن الإسلام دين اليسر:
وليس أدل على أن الإسلام دين يسر من قوله تعالى: {ومَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدَّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ومن قوله تعالى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} [البقرة: 185]. ومن قوله تعالى: {لا يُكَلَّفُ اللهُ نَفْساً إلآ وُسْعَها} [البقرة: 286]. ومن قوله عليه الصلاة والسلام: " إنَّ الدَّينَ يُسْرُ" (رواه البخاري: 39).
أمثلة على يسر الإسلام:
ومن الأمثلة على يسر الإسلام ما يلي:
1 - الصلاة قاعداً لمن يشق عليه القيام، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنبٍ" (رواه البخاري: 1066).
2 - قصر الصلاة الرباعية والجمع بين الصلاتين للمسافر، قال تعالى: {َإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِِ} [النساء: 101]
وروى البخاري (1056) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَجْمَعُ بَيْنَ صَلاةِ الظُّهْرِ وَالعَصْرِ إذا كانَ عَلىَ ظَهْرِ سَيْرٍ، وَيَجْمَعُ بَيْنَ المَغرِبِ وَالعِشَاءِ ".
[على ظهر سير: سائر في السفر].(1/14)
مصادر الفقه الإسلامي:
قلنا إن الفقه الإسلامي هو مجموعة الأحكام الشرعية التي أمر الله عباده بها، وهذه الأحكام ترجع بمجموعها إلى المصادر الأربعة التالية:
القرآن الكريم - السنة الشريفة - الإجماع - القياس.
القرآن الكريم:
القرآن: هو كلام الله تعالى: أنزله على سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وهو المكتوب في الصحف، والقرآن هو المصدر والمرجع لأحكام الفقه الإسلامي، فإذا عرضت مسألة رجعنا قبل كل شئ إلى كتاب الله عز وجل لنبحث عن حكمها فيه، فإن وجدنا فيه الحكم أخذنا به، ولم نرجع إلى غيره.
فإذا سئلنا عن حكم الخمر، والقمار، وتعظيم الأحجار، والاستقسام بالأزلام، رجعنا إلى كتاب الله عز وجل لنجد قول الله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90].
وإذا سئلنا عن البيع، والربا، وجدنا حكم ذلك في كتاب الله عز وجل، حيث قال عز من قائل: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275].
وإذا سئلنا عن الحجاب وجدنا حكمه في قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31]
بخمرهن: جمع خمار وهو غطاء الرأس. وجيوبهن: جمع جيب(1/15)
وهو شق الثوب من ناحية الرأس، والمراد بضرب الخمار على الجيب: أن تستر أعالي جسمها مع الرأس.
وكذلك في قوله تعالى: {أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} [الأحزاب: 59].
يدنين: يرخين ويغطين وجوههن وأعطافهن. جلابيبهن: جمع جلباب وهو الرداء الذي يستر كامل البدن أعاليه وأسافله. أدنى: أقرب لأن تُميَّز الشريفاتُ العفيفات من غيرهن. فلا يؤذين: بالتعرض لهن.
وهكذا يكون القرآن الكريم هو المصدر الأول لأحكام الفقه الإسلامي. لكن القرآن الكريم لم يقصد بآياته كل جزئيات المسائل وتبيين أحكامها والنص عليها، ولو فعل ذلك لكان يجب أن يكون أضعاف ما هو عليه الآن.
وإنما نص القرآن الكريم على العقائد تفصيلاً، والعبادات والمعاملات إجمالاً، ورسم الخطوط العامة لحياة المسلمين وجعل تفصيل ذلك للسنة النبوية. فمثلاً: أمر القرآن بالصلاة، ولم يبين كيفياتها، ولا عدد ركعاتها.
وأمر بالزكاة، ولم يبين مقدارها، ولا نصابها، ولا الأموال التي تجب تزكيتها. وأمر بالوفاء بالعقود، ولم يبين العقود الصحيحة التي يجب الوفاء بها. وغير ذلك من المسائل كثير.
لذلك كان القرآن مرتبطاَ بالسنة النبوية لتبيين تلك الخطوط العامة وتفاصيل ما فيه من المسائل المجملة.(1/16)
السنة الشريفة:
والسنّة هي كل ما نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول، أو فعل، أو تقرير.
فمثال القول: ما أخرجه البخاري (48) ومسلم (64) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " سِبَابُ الْمسْلِمِ فُسُوقٌ، وقِتالُهُ كُفْرٌ".
ومثال الفعل: ما رواه البخاري عائشة رضي الله عنها لما سئلت: "مَا كَانَ يَصْنَعُ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في بيته؟ قَالَتْ: كَانَ يَكونُ في مَهْنَةِ أَهْلَهِ، فَإذا حَضَرَتِ الصَّلاةُ قَامَ إلَيْها".
مهنة التقرير: ما رواه أبو داود (1267) أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يصلي بعد صلاة الصبح ركعتين، فقال: " صلاة الصبح ركعتان"، فقال الرجل: إني لم أكن صليت الركعتين التي قبلهما فصليتهما الآن، فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاعتبر سكوته إقراراً على مشروعية صلاة السنة القبلية بعد الفرض لمن لم يصلِّها قبله.
منزلة السنَّة:
والسنة تعدُّ في المنزلة الثانية بعد القرآن الكريم من حيث الرجوع إليها: أي إنما نرجع أولاً إلى القرآن، فإن لم نجد الحكم فيه رجعنا إلى السنة، فإذا وجدناه فيها عملنا به كما لو كان في القرآن الكريم، شريطة أن تكون ثابتة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بسند صحيح.
وظيفة السنة النبوية:
وظيفة السنة النبوية إنما هي توضح وبيان لما جاء في القرآن(1/17)
الكريم، فالقرآن - كما قلنا - نص على الصلاة بشكل مجمل، فجاءت السنة ففصلت كيفيات الصلاة القولية والعملية. وصح عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُوني أُصَلَّي" (رواه البخاري: 605).
وكذلك بينت السنة أعمال الحج ومناسكه، وقال - صلى الله عليه وسلم -: " خُذوا عَنِّي مَناسِكَكُمْ" (رواه البخاري).
وبينت العقود الجائزة، والعقود المحرَّمة في المعاملات، وغيرها.
كذلك شرعت السنة بعض ما سكت عنه القرآن ولم يبين حكمه؛ مثل: تحريم التختُّم بالذهب ولبس الحرير على الرجال.
وخلاصة القول: إن السنة هي المصدر الثاني بعد القرآن الكريم، وإن العمل بها واجب، وهي ضرورية لفهم القرآن والعمل به.
الإجماع:
والإجماع معناه: اتفاق جميع العلماء المجتهدين من أمة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - في عصر من العصور على حكم شرعيَّ، فإذا اتفق هؤلاء العلماء - سواء كانوا في عصر الصحابة أو بعدهم - على حكم من الأحكام الشرعية كان اتفاقهم هذا إجماعاً وكان العمل بما أجمعوا عليه واجباً. دليل ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن علماء المسلمين لا يجتمعون على ضلالة، فما اتفقوا عليه كان حقاً.
روى أحمد في مسنده (6/ 396) عن أبي بصرة الغفاري رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " سَأَلْتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لاَ يَجْمَعَ أُمَّتي عَلى ضَلالَةٍ فَأَعْطَانيها".(1/18)
ومثال ذلك: إجماع الصحابة رضي الله عنهم على أن الجد يأخذ سدس التركة مع الولد الذكر، عند عدم وجود الأب.
منزلة الإجماع:
والإجماع يأتي في المرتبة الثالثة من حيث الرجوع إليه، فإذا لم نجد الحكم في القرآن، ولا في السنة، نظرنا هل أجمع علماء المسلمين عليه، فإن وجدنا ذلك أخذنا وعملنا به.
القياس:
وهو إلحاق أمر ليس فيه حكم شرعي بآخر منصوص على حكمه لاتحاد العلة بينهما, وهذا القياس نرجع إليه إذا لم نجد نصاً على حكم مسألة من المسائل في القرآن ولا في السنة ولا في الإجماع.
منزلة القياس:
وأركان القياس أربعة: أصلُ مقيسٌ عليه، وفرعٌ مقيس، وحكم الأصل المنصوص عليه، وعلة تجمع بين الأصل والفرع.
مثال القياس:
إن الله حرَّم الخمر بنص القرآن الكريم، والعلة في تحريمه: هي أنه مسكر يذهب العقل، فإذا وجدنا شراباً آخر له اسم غير الخمر، ووجدنا هذا الشراب مسكراً حكمنا بتحريمه قياساً على الخمر، لأن علة التحريم- وهي الإسكار - موجودة في هذا الشراب، فيكون حراماً مثل الخمر.(1/19)
هذه هي المصادر التشريعية التي ترجع إليها أحكام الفقه الإٍسلامي ذكرناها تتميماً للفائدة، ومكان تفصيلها كتب أصول الفقه الإسلامي.
ضرورة التزام الفقه الإسلامي، والتمسك بأحكامه، وأدلة ذلك من القرآن والسنّة:
لقد أوجب الله على المسلمين التمسك بأحكام الفقه الإسلامي، وفرض عليهم التزامه في كل أوجه نشاط حياتهم وعلاقاتهم.
وإحكام الفقه الإسلامي كلها تستند إلى نصوص القرآن والسنة، والإجماع والقياس- في الحقيقة - يرجعان إلى القرآن والسنة.
فإذا استباح المسلمون ترك أحكام الفقه الإسلامي، فقد استباحوا ترك القرآن والسنة، وعطلوا بذلك مجموع الدين الإسلامي، ولم يعد ينفعهم أن يتسموَّا بالمسلمين أو يدَّعوا الإيمان، لأن الإيمان في حقيقته هو تصديق بالله تعالى، وبما أنزل في كتابه، وفي سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -.
والإسلام الحقيقي يعني الطاعة والامتثال لكل ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن ربه عز وجل مع الإذعان والرضا.
وأحكام الفقه الإسلامي ثابتة لا تتغير ولا تتبدل مهما تبدل الزمن وتغير، ولا يباح تركها بحال من الأحوال.
أدلة ذلك من القرآن والسنة:
والأدلة على وجوب التزام الفقه والتمسك بأحكامه كثيرة جداً في الكتاب والسنة:(1/20)
أما في الكتاب:
فقد قال الله تعالى: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء} [الأعراف: 3]. وقال: {َلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} [النساء: 65]. وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7]. وقال تعالى: {إنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً} [النساء: 105]
وبناءً على هذه النصوص الآمرة باتباع ما أنزل الله تعالى وتحكيم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسنته في كل ما ينشأ من معاملة بين الناس، والناهية عن كل مخالفة لله ورسوله.
بناءً على ذلك يعد من يختار من الأحكام غير ما اختاره الله ورسوله، قد ضلَّ ضلالاً بعيداً
قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً} [الأحزاب: 36].
وأما في السنة:
فالأحاديث كثيرة أيضاً، منها: ما روى البخاري (2797) ومسلم (1835) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ أَطَاعَني فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ، وَمَنْ عَصاني فَقَدْ عَصَى اللَّهَ". ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وَالَّذي نَفْسي بيَدِهِ لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبعاً لَما جِئْتُ بِهِ"
(ذكره الإمام النووي في متن الأربعين النووية: 41، وقال: حديث(1/21)
صحيح). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "عَلَيْكُمْ بِسُنتَّي" (رواه أبو داود: 4607، والترمذي: 2678). وقوله: "تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّو بَعْدِي: كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتي" (انظر: مسلم: 1218، وأبو داود: 1905، والموطأ: 2/ 899).
هذه الأدلة من القرآن والسنة واضحة في وجوب إتباع الأحكام التي شرعها الله عز وجل للعباد في كتابه، وعلى لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم -، قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].
التعريف ببعض المصطلحات الفقهية:
لا بد قبل البدء بأبواب الفقه ومسائله من التعريف ببعض المصطلحات الفقهية التي تدور عليها أحكام الفقه في جميع الأبواب وهذه المصطلحات هي:
1 - الفرض:
الفرض هو ما طلب الشرع فعله طلباً جازماً، بحيث يترتب على فعله الثواب، كما يترتب على تركه العقاب.
ومثاله الصوم، فإن الشرع الإسلامي طالبنا بفعله مطالبة جازمة، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]. أي فرض. فإذا صمنا ترتب على هذا الصيام الثواب في الجنة، وإذا لم نَصُمْ ترتب على ذلك العقاب في النار.
2 - الواجب:
والواجب مثل الفرض تماماً في مذهب الشافعي رحمه الله تعالى، لا فرق بينهما أبداً إلا في باب الحج.(1/22)
فالواجب في باب الحج: هو ما لا يتوقف عليه صحة الحج، وبعبارة أخرى: لا يلزم من فوته فوت الحج وبطلانه، وذلك مثل رمي الجمار، والإحرام من الميقات، وغير ذلك من واجبات الحج، فإذا لم يأت الحاج بهذه الواجبات صح حجه، ولكن كان مسيئاً، ووجب جبر ترك هذه الواجبات بفدية هي إراقة دم.
وأما الفرض في الحج فهو ما يتوقف عليه صحة الحج، وبعبارة أخرى: يلزم من فوته فوت الحج وبطلانه.
ومثال ذلك الوقوف بعرفة، وطواف الإفاضة، وغير ذلك من الفروض فإنه إذا لم يأت بها بطل حجه.
3 - الفرض العيني:
هو ما يطلب من كل فرد من أفراد المكلفين طلباً جازماً، مثل الصلاة والصيام، والحج على المستطيع، فإن هذه العبادات تجب على كل مكلف بعينه، ولا يكتفي بقيام بعض المكلفين بها دون الباقين.
4 - الفرض الكفائي:
هو ما كان مطالباً بفعله مجموع المسلمين، لا كل واحد منهم، بمعنى: أنه إذا قام به بعضهم كفى، وسقط الإثم عن الآخرين، وإذا لم يقم به أحد أثموا وعصَوا جميعاً.
ومثل ذلك: تجهيز الميت والصلاة عليه، فإن واجب المسلمين إذا مات فيهم ميت أن يغسلوه ويكفنوه، ويصلوا عليه، ثم يدفنوه، فإذا قام بهذا العمل بعض المسلمين حصل المقصود، وإذا لم يقم به أحد عصَوا جميعاً، وأثموا لتركهم هذا الفرض الكفائي.(1/23)
5 - الركن:
وهو ما وجب علينا فعله وكان جزءاً من حقيقة الفعل، وذلك مثل قراءة الفاتحة في الصلاة، والركوع، والسجود فيها، فهذه الأمور تسمى أركاناً.
6 - الشرط:
وهي ما وجب فعله، ولكنه ليس جزءاً من حقيقة الفعل، بل هو من مقدماته، وذلك مثل الوضوء، ودخول وقت الصلاة، واستقبال القبلة، فهذه الأمور كلها خارجة عن حقيقة الصلاة، ومقدمة عليها، ولا بد منها لصحة الصلاة، وتسمى شروطاً.
7 - المندوب:
والمندوب هو ما طلب الشرع فعله لكن طلباً عير جازم، حيث يترتب الثواب على فعله، ولا يترتب العقاب على تركه.
ومثال ذلك: صلاة الضحى، وقيام الليل، وصيام ستة أيام من شوال وغير ذلك، فهذه العبادات إن فعلناها أثبنا عليها، وإن لم نفعلها لم نعاقب على تركها.
ويسمى المندوب سنة، ومستحباً، وتطوعاً، ونفلاً.
8 - المباح:
وهو ما كان فعله وتركه سواءً، لأن الشرع لم يأمرنا بتركه، ولم يأمرنا بفعله، بل جعل لنا حرية الترك والعمل، ولذلك لم يترتب على فعل المباح أو تركه ثواب أو عقاب، ومثال ذلك قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10].(1/24)
أفادت هذه الآية أن العمل بعد صلاة الجمعة مباح، فمن شاء عمل، ومن شاء ترك.
9 - الحرام:
وهو ما طالبنا الشرع بتركه طلباً جازماً، بحيث يترتب على تركه امتثالاً لأمر الله ثوابٌ ويترتب على فعله عقاب، ومثال ذلك: القتل، قال الله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ} [الإسراء: 33]. وأكل أموال الناس بالباطل، قال تعالى: {وََلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]. فإذا فعل الإنسان شيئاً من هذه المحرَّمات أثم واستحق العذاب، وإذا تركها تقرباً إلى الله استحق على تركها الثواب.
ويسمى الحرام محظوراً، ومعصية، وذنباً.
10 - المكروه:
والمكروه قسمان: مكروهاً تحريمياً، ومكروهاً تنزيهياً.
المكروه تحريمياً: هو ما طالبنا الشرع بتركه طلباً جازماً لكن دون طلب ترك الحرام، بحيث يترتب على تركه امتثالاً لأمر الله تعالى الثواب، ويترتب على فعله العقاب، لكن دون عقاب الحرام. ومثال ذلك صلاة النفل المطلق عند طلوع الشمس، أو عند غروبها. فهذه الصلاة مكروهة تحريمياً.
المكروه تنزيهياً: هو ما طلب الشرع تركه طلباً غير جازم، بحيث إذا عرفة للحاج، فإن ترك الصوم امتثالاً لأمر الدين أثيب، وإن صام لم يعاقب.(1/25)
11 - الأداء:
وهو فعل العبادة في وقتها المحدد لها من قبل الشرع، وذلك كصيام رمضان في شهر رمضان، وكصلاة الظهر في وقتها المحدد شرعاً.
12 - القضاء:
وهو فعل العبادة التي وجبت خارج وقتها المحدد لها من قبل الشرع، وذلك كمن صام رمضان في غير رمضان بعد فواته، أو صلى الظهر في غير وقتها المحدد شرعاً بعد فواته.
والقضاء واجب، سواء فاتت العبادة بعذر، أو بغير عذر، والفرق بينهما: أن فوتها بغير عذر موجب للإثم، وفوتها بعذر غير موجب للإثم.
قال تعالى: {ِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185]. أي من أفطر لعذر مرض أو سفر، فعليه قضاء ما فاته بعد رمضان.
13 - الإعادة:
والإعادة هي فعل العبادة في وقتها مرة ثانية لزيادة فضيلة، وذلك كمن صلى الظهر منفرداً، ثم حضرت جماعة، فإنه يُسَنُّ له إعادتها تحصيلاَ لثواب الجماعة.
* * *(1/26)
أحكَام الطهَارَة
معنى الطهارة:
الطهارة لغة: النظافة والتخلص من الأدناس حسيَّة كانت كالنجس، أو معنوية كالعيوب. يقال تطهّر بالماء: أي تنظف من الدنس، وتطهر من الحسد: أي تخلص منه.
والطهارة شرعاً: فعل ما تستباح به الصلاة - أو ما في حكمها- كالوضوء لمن كان غير متوضئ، والغسل لمن وجب عليه الغسل، وإزالة النجاسة عن الثوب والبدن والمكان.
عناية الإسلام بالنظافة والطهارة:
لقد اعتنى الإسلام بالطهارة والنظافة عناية تامة، ويظهر ذلك مما يلي:
1 - الأمر بالوضوء لأجل الصلاة كل يوم عدت مرات. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ} م [المائدة: 6]
2 - الحضُّ على الغسل في كثير من المناسبات، قال تعالى: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ} [المائدة: 6]، وقال(1/27)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لِلهِ عَلَى كلَّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ فيِ كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامِ يَوْماً يَغْسِلُ فِيهِ رَأْسِهُ وَجَسَدَهُ" [رواه البخاري: 856، ومسلم: 849].
3 - الأمر بقص الأظفار، ونظافة الأسنان، وطهارة الثياب، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ... " خَمْسٌ مِنَ الفِطْرَةِ: الْخِتان، والاسْتِحْدَاد، َوَنْتفُ الإِبط، وَتَقْليمُ الأََْظافِر، وَقَصُّ الشَّاربِ" [رواه البخاري: 5550، ومسلم: 257]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: " لّوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلى أُمَّتي لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّواكِ عِنْدَ كلِّ صَلاَةٍ" [رواه البخاري: 847، ومسلم: 252]. وفي رواية عند أحمد ... [6/ 325]:
"مع كل وضوء".
[الاستحداد: هو استعمال الموسى في حلق العانة].
وقال تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4].
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه:
" إِنَّكُمْ قَادِمُونَ عَلى إِخْوَانِكُمْ، فَأَصْلِحوا رِحَالَكُمْ، وَاَصْلِحُوا لباسَكم، حتى تكونوا كأنكم شامةٌ في الناس، فإن اللهَ لا يحبّ الفُحْشَ وَلا َالتَّفَحُّشَ" (1)
[رواه أبو داود: 4089. وقال تعالى: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]، ولقد جعل الدين الطهارة نصف الإيمان، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " الطُّهور شَطْرُ الإيمان" [أخرجه مسلم: 223].
حكمة تشريع الطهارة:
لقد شرع الإسلام الطهارة لحكمٍ كثيرة نذكر منها ما يلي:
_________
(1) - رحالكم: جمع رحل وهو ما يوضع على ظهر البعير ونحوه للركوب عليه، وكل شئ يعدَ للرحيل من وعاء للمتاع وغيره.
شاملة: هي علامة في البدن يخالف لونها لون باقيه. والمراد: حتى تكونوا ظاهرين ومتميزين عن غيركم.
الفحش: القبيح من القول أو الفعل، والتفحش: تكلف الفحش والمبالغة فيه.(1/28)
1 - أن الطهارة من دواعي الفطرة، فالإنسان يميل إلى النظافة بفطرته وينفر بطبعه من الوساخة والقذارة، ولما كان الإسلام دين الفطرة كان طبيعياً أن يأمر بالطهارة والمحافظة على النظافة.
2 - المحافظة على كرامة المسلم، وعزته، فالناس يميلون بطبعهم إلى النظيف، ويرغبون بالاجتماع إليه، والجلوس معه، ويكرهون الوسِخ، ويحتقرونه، وينفرونه، وينفرون منه، ولا يرغبون بالجلوس إليه. ولما كان الإسلام حريصاَ على كرامة المؤمن وعزته أمره بالنظافة، ليكون بين إخوانه عزيزاً كريماً.
3 - المحافظة على الصحة، فالنظافة من أهم الأسباب التي تحفظ الإنسان من الأمراض، لأن الأمراض أكثر ما تنتشر بين الناس بسبب الأوساخ والأقذار.
فتنظيف الجسم، وغسل الوجه، واليدين، والأنف، والرجلين - وهذه الأعضاء التي تتعرض للوسخ كثيراً - عدة مرات كل يوم يجعل الجسم حصيناً من الأمراض.
4 - الوقوف بين يدي الله طاهراً نظيفاَ، لأن الإنسان في صلاته يخاطب ربه ويناجيه، فهو حرَ أن يكون طاهر الظاهر والباطن نظيف القلب والجسم، لأن الله تعالى يحب التوابين ويحب المتطهرين.
المياه التي يُطهر بها:
المياه: جمع ماء، وهي ماء السماء، وماء البحر، وماء البئر، وماء النهر، وماء العين، وماء الثلج.
وتندرج هذه المياه جميعها تحت قولنا: ما من السماء، أو نبع(1/29)
من الأرض، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} [الفرقان: 48]، وقال تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ} [الأنفال: 11]. وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: سأل رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يَا رَسولَ اللهِ، إنَّا نَرْكَبُ البَحْرَ، وَنَحمِلُ مَعَنا القَليلَ مِنَ المَاءِ، فَإنْ تَوَضَّأْنا بهِ عَطِشْنَا، أَفَتَوَضَّأُ بِماءِ البَحْرِ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " هُوَ الطَّهُورُ ماُؤهُ الحِلُّ مَيتَتُهُ" [رواه الخمسة، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح]
[الحل ميتته: أي يؤكل ما مات فيه من سمك ونحوه بدون ذبح شرعي].
الخمسة هم: أبو داود والترمذي والنَّسائي وابن ماجه وأحمد بن حنبل.
****(1/30)
أقسام المياه
وتنقسم المياه إلى أربعة أقسام: طاهر مطهر، وطاهر مطهر مكروه، وطاهر غير مطهر، ومتنجس.
الطاهر المطهر:
وهو الماء المطلق الباقي على وصف خلقته التي خلقه الله عليها، ولا يخرجه عن كونه ماء مطلقاً تغيره بطول مكث، أو بسبب تراب، أو طحلب ـ وهو شيء أخضر يعلو الماء من طول مكث ـ أو تغيره بسبب مقرّه أو ممرّه كوجوده في أرض كبريتية، أو مروره عليها، وذلك لتعذر صون الماء عن ذلك والأصل في طهورية الماء المطلق: ما رواه البخاري (217) وغيره: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قام أعرابي فبال في المسجد، فقام إليه الناس ليقعوا به، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " دَعُوهُ، وَهَريقُوا عَلى بَولِهِ سَجْلاً مِنْ ماءٍ ـ أَوْ ذَنُوباً مِنْ ماءٍ ـ فَإنَّما بُعُثُتْم مُسَيِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ ".
[ليقعوا به: ليزجروه بالقول أو الفعل. سجلاً: دلواً ملأى بالماء، ومثله الذنوب].
فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإراقة الماء على مكان البول دليل أنه فيه خاصية التطهير.(1/31)
الطاهر المطهر المكروه:
وهو الماء المشمس الذي سخنته الشمس، ويشترط لكراهيته ثلاثة شروط وهي:
1ـ أن يكون ببلاد حارة.
2ـ أن يكون موضوعاً بأوان منطبعة غير الذهب والفضة، كالحديد والنحاس، وكل معدن قابل للطرق.
3ـ أن يكون استعماله في البدن لأدمي ولو ميتاً أو حيوان يلحقه البرص كالخيل.
نقل الشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ عن عمر - رضي الله عنه -: أنه كان يكره الاغتسال به، وقال: ولا أكره الماء المشمس إلا من جهة الطب، ثم روى: أنه يورث البرص.
وذلك لأن الشمس بحدتها تفصل منه زهومة تعلو الماء، فأن لاقت البدن بسخونتها أمكن أن تضر به، فتورثه البرص، وهو مرض يصيب الجلد.
الطاهر غير المطهر:
وهو قسمان:
الأول: هو الماء القليل المستعمل في فرض الطهارة كالغسيل والوضوء. ودليل كونه طاهراً ما رواه البخاري (191) ومسلم (1616) عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني وأنا مريض لا أَعْقِلُ فَتَوَضَّأَ وَصَبَّ مِنْ وَضوئِهِ عَلي.(1/32)
[لا أعقل: أي في حالة غيبوبة من شدة المرض. من وضوئه: الماء الذي توضأ به] ولو كان غير طاهر لم يصبه عليه.
ودليل كونه غير مطهر ما رواه مسلم (283) وغيره: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لاَ يَغْتَسِلْ أَحدُكُمْ في المَاءِ الدَّاثِمِ ـ أي الراكد ـ وَهُوَ جُنُب " فقالوا: يا أبا هريرة، كيف نفعل؟ قال: يتناوله تناولاً وحكم الوضوء في هذا حكم الغسل لأن المعنى فيهما واحد، وهو رفع الحدث.
فقد أفاد الحديث: أن الاغتسال في الماء يخرجه عن طهوريته، وإلا لم ينه عنه، وهو محمول على الماء القليل لأدلة أخرى.
الثاني: هو الماء المطلق الذي خالطه شيء من الطاهرات التي يستغني عنها الماء عادة والتي لا يمكن فصلها عنه بعد المخالطة، فتغير بحيث لم يعد يطلق عليه أسم الماء المطلق: كالشاي والعرقسوس، أما إذا كان المخلط الطاهر موافقا للماء في صفاته من طعم ولون وريح كماء الورد الذي فقد صفاته فإنه يعمد عند ذلك إلى التقدير بالمخالف الوسط، وهو في الطعم عصير الرمان، وفي اللون عصير العنب، وفي الرائحة اللاذن (1)، فإن قدر تغيره بمخالطة ذلك صار الماء طاهراً غير مطهر، وكونه غير مطهر لأنه أصبح لا يسمى ماء في هذه الحالة والشارع اشترط التطهر بالماء.
الماء المتنجس:
هو الماء الذي وقعت فيه نجاسة وهو قسمان:
_________
(1) رطوبة تتعلق بشعر المعزى ولحاها إذا رعت نباتاً يعرف بقلسوس يستعمل للنزلات والسعال ووجع الأذن.(1/33)
الأول قليل: وهو ما كان دون القلتين. وهذا الماء ينجس بمجرد وقوع النجاسة، ولو كانت قليلة ولم يتغير فيه شيء من أوصافه كاللون والريح والطعم. والقلتان: خمسمائة رطل بغدادي وتساوي مائة وأثنين وتسعين كيلو غراماً وثمان مائة وسبعة وخمسين غراماً (857، 192 كلغ)، ويساوي بالمكعب ذراعاً وربعاً طولاً وعرضاً وعمقاً.
روى الخمسة عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يسأل عن الماء يكون بالفلاة من الأرض، وما ينوبه من السباع والدواب، فقال: " إذَا كَانَ الماءُ قلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الخَبَث "، وفي لفظ أبي أبي داود (65): " فَإَّنهُ لا يَنْجُسُ ".
[بالفلاة: الصحراء ونحوها. ينوبه: يرد عليه. السباع: كل ما له ناب يفترس به من الحيوانات].
ومفهوم الحديث: أنه إذا كان الماء أقل من قلتين بنجس ولو لم يتغير، ودل على هذا المفهوم ما رواه مسلم (278) عن أبي هري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَومِهِ فَلاَ يَغْمِسْ يَدَهُ في الإنَاءِ حَتَّى يَغْسلها ثَلاَثاً فَإنَّهُ لاَ يدْرِي أَيْنَ بَاَتت يدُهُ ". فقد نهى المستيقظ من نومه عن الغمس خشية تلوث يده بالنجاسة غير المرئية، ومعلوم أن النجاسة غير المرئية لا تغير الماء فلولا أنها تنجسه بمجرد الملاقاة لم ينهه عن ذلك.
والثاني كثير: وهو ما كان قلتين أو كثر، وهذا الماء لا ينجس بمجرد وقوع النجاسة فيه، وإنما ينجس إذا غيرت النجاسة أحد أوصافه. الثلاثة: اللون، أو الطعم، أو الريح. ودليله الإجماع. قال النووي في المجموع(1/34)
(1/ 160): قال ابن المنذر: أجمعوا أن الماء القليل أو الكثير إذا وقعت فيه نجاسة، فغيرت طعماً أو لوناً أو ريحاً، فهو نجس.
ما يصلح منها للتطهير:
وهذه المياه الأربعة ليست كلها صالحة للطهارة ـ أي لرفع الحديث وإزالة الخبث ـ كما علمت، بل إنما الذي يصلح منها هو النوع الأول والثاني، مع كراهة النوع الثاني في البدن.
أما النوع الثالث: فلا يصلح التطهر به، وإن كان طاهراً في ذاته بحيث يصح استعماله في غير الطهارة كالشرب، والطبخ وغير ذلك أما النوع الرابع: فهو متنجس لا يصلح لشيء.
* * *(1/35)
الأواني
الأواني: جمع آنية وهي الأوعية التي توضع فيها المائعات وغيرها وفيها أمور:
أولاً ـ حكم استعمال أواني الذهب والفضة:
يحرم استعمال أواني الذهب والفضة في جميع وجوه الاستعمال: كالوضوء والشرب، إلا لضرورة كأن لم يجد غيرها.
روى البخاري (5110) ومسلم (2067) عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة ".
[الديباج: نوع نفيس من ثياب الحرير. آنية: جمع إناه. صحافها: جمع صحفها وهي القصعة. لهم: أي الكفار].
ويقاس على الأكل والشرب غيرهما من وجوه الاستعمال، ويشمل التحريم الرجال والنساء.
وكالاستعمال الاتخاذ، فإن ما لا يجوز استعماله لا يجوز اتخاذه، أي اقتناؤه للتزيين ونحوه.(1/36)
ثانياً ـ حكم استعمال الأواني المضببة بالذهب أو الفضة:
يحرم استعمال ما ضبب بالذهب مطلقاً سواء كانت الضبة صغيرة أم كبيرة، وأما التضبيب بالفضة، فإن كانت ضبة صغيرة لغير زينه جاز، وإن كانت كبيرة لزينة فحرام، وإن كانت كبيرة لحاجة أو صغيرة لزينة كره، ودليل جواز ضبة الفضة الكبيرة لحاجة: ما رواه البخاري (5305) عن عاصم الأحول قال: رأيت قدح النبي - صلى الله عليه وسلم - عند أنس بن مالك وكان قد انصدع فسلسله بفضة، وقال أنس: لقد سقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا القدح أكثر من كذا وكذا.
ثالثاً ـ حكم استعمال الأواني المتخذة من المعادن النفيسة:
يجوز استعمال الأواني المتخذة من المعادن النفيسة من نحو الماس واللؤلؤ والمرجان وغيرها، لعدم ورود نص بالنهي عنها، والأصل الإباحة ما لم يرد دليل التحريم.
رابعاً ـ حكم استعمال أواني الكفار:
يجوز استعمال هذه الأواني، لما رواه البخاري (5161) عن أبي ثعلبه - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فاغسلوها وكلوا فيها". والأمر بغسلها للاستحباب لاحتمال تلوثها بسبب استعمال الكفار لها بخمر أو خنزير وغيرهما. ومثل الأواني استعمال ثيابهم ونحوها.
*****(1/37)
أنواع الطهارة
الطهارة نوعان:
أولاً ـ طهارة من النجس.
ثانياً ـ طهارة من الحدث.
الطهارة من النجس:
معنى النجس: النجس لغة: كل مستقذر. وشرعاً: مستقذر يمنع صحة الصلاة، كالدم والبول.
الأعيان النجسة:
والأعيان النجسة كثيرة نذكر أهمها في سبعة أشياء:
1ـ الخمر وكل مانع مسكر. قال تعالى: (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس) أي نجس [المائدة: 90]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كل مسكر خمر، وكل خمر حرام" [رواه مسلم: 2003، عن أبن عمر رضي الله عنهما].
2ـ الكلب والخنزير: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب" [رواه مسلم: 279]. وفي رواية للدارقطني (1/ 65): "إحداهن بالبطحاء".
[ولغ: شرب، البطحاء: صغار الحصى ويقصد به التراب].(1/38)
3ـ الميتة: وهي كل حيوان مات بغير زكاة شرعية، قال تعالى: (حرمت عليكم الميتة) [المائدة: 3). وتحريمها إنما كان من أجل نجاستها.
ويدخل في حكم الميتة ما ذبح على الأنصاب، وما ذكر عليه غير اسم الله، قال تعالى: (وما أهل لغير الله به) [المائدة: 3].
ما سيتثنى من نجاسة الميتة:
ويستثنى من نجاسة الميتة ثلاثة أشياء:
الأول- ميتة الإنسان: قال تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم) [الإسراء: 70]. ومقتضى تكريمه أن يكون الإنسان طاهراً حياً وميتاً. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سبحان الله إن المسلم لا ينجس" [رواه البخاري: 279]. وقال ابن عباس رضي الله عنهما " المسلم لا ينجس حياً وميتاً" [رواه البخاري تعليقا في الجنائز، باب غسل الميت ووضوئه].
والثاني والثالث ـ السمك والجراد: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أحلت لكم ميتتان ودمّان، فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال " [رواه ابن ماجه].
4ـ الدم السائل ومنه القيح: قال تعالى: (أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس) [سورة الأنعام: الآية 145].
ويستثنى من نجاسة الدم: الكبد والطحال للحديث السابق.
5ـ بول الإنسان وغائطه، وبول الحيوان وفرثه:(1/39)
روى البخاري (217) ومسلم (284) أن أعرابياً بال في المسجد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صًُبُّوا عليه ذنوباً من ماء" أي دلواً، والأمر يصب الماء عليه دليل نجاسته.
6ـ كل جزء انفصل من الحيوان حال حياته فإنه نجس. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما قطع من بهيمة فهو ميتة" [رواه الحاكم وصححه].
ويستثنى من ذلك شعر وريش الحيوانات المأكول اللحم فإنه طاهر. قال تعالى: (ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين) [سورة النحل: 80].
7ـ لبن الحيوان غير مأكول اللحم: كالحمار ونحوه، لأن لبنه كلحمه، ولحمه نجس.
النجاسة العينية والنجاسة الحكمية:
النجاسة العينية: هي كل نجاسة لها جرم مشاهد، أولها صفة ظاهرة من لون أو ريح، كالغائط أو البول أو الدم.
والنجاسة الحكمية: كل نجاسة جفت وذهب أثرها، ولم يبق لها أثر من لون أو ريح، وذلك مثل بول أصاب ثوباً ثم جف، ولم يظهر له أثر.
النجاسة المغلظة والمخففة والمتوسطة:
النجاسة المغلظة: وهي نجاسة الكلب والخنزير، ودليل تغليظها أنه لا يكفي غسلها بالماء مرة كباقي النجاسات، بل لا بد من غسلها سبع مرات إحداهن بالتراب، كما مر في حديث "ولوغ الكلب" وقيس عليه الخنزير لأنه أسوأ حالاً منه.(1/40)
النجاسة المخففة: وهي بول الصبي الذي لم يأكل إلا اللبن ولم يبلغ سنه حولين، ودليل كونها مخففة أنها يكفي رشها بالماء، بحيث يعم الرش جميع موضع النجاسة من غير سيلان.
روى البخاري (2021)، ومسلم (287) وغيرهما: عن أم قيس بنت مِحْصن رضي الله عنها: أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام، إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبال على ثوبه، فدعا بماء فنضحه ولم يغسله.
[فنضحه: رشه بحيث عم المحل بالماء وغمره بدون سيلان] ..
النجاسة المتوسطة: وهي غير الكلب والخنزير، وغير بول الصبي الذي لم يطعم إلا لبن، وذلك مثل بول الإنسان، وروث الحيوان، والدم. وسميت متوسطة لأنها لا تظهر بالرش، ولا يجب فيها تكرار الغسل إذا زالت عينها بغسلة واحدة.
روى البخاري (214) عن أنس - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا تبرز لحاجته أتيته بماء فيغسل به.
[تبرز لحاجته: خرج إلى البزار وهو الفضاء، ليقضي حاجته من بول أو غائط].
وروى البخاري (176)، ومسلم (303): عن على - رضي الله عنه - قال: كنت رجلاً مذاءً، فاستحييت أن أسال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمرت المقداد بن الأسود فسأله، فقال: "وفيه الوضوء". ولمسلم "يغسل ذكره ويتوضأ".
[مذاء كثير خروج المذي، وهو ماء أصفر رقيق يخرج غالباً عند ثوران الشهوة].(1/41)
وروى البخاري (155): عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - الغائط، فأمرني أن آتية بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أجده، فأخلت روثه فاتيته بها، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: "هذا ركس". والركس: النجس، والروثة براز الحيوان.
فدلت هذه الأحاديث على نجاسة الأشياء المذكورة، وقبس ما لم يذكر منها على ما ذكر.
كيفية التطير من النجاسات:
التطهر من النجاسة المغلطة: وهي نجاسة الكلب والخنزير، وهذه لا تطهر إلا إذا غسلت سبع مرات إحداهن بالتراب، سواء كانت النجاسة عينية أم حكمية، وسواء كانت على الجسم، أو الثوب، أو المكان.
التطهر من النجاسة المتوسطة: وهي نجاسة ما عدا الكلب والخنزير، والصبي الذي لم يطعم، وهذه النجاسة إنما تطهر إذا جرى الماء عليها وذهب بأثرها، فزالت عينها وذهبت صفاته من لون أو طعم أو ريح، سواء كانت عينية أم حكمية، وسواء كانت على ثوب أم جسم أم مكان، ولكن لا يضر بقاء لون عسر زواله، كالدم مثلاً.(1/42)
تطهير جلود الميتة غير الكلب والخنزير:
ويطهر جلد الحيوان غير الكلب والخنزير بالدباغ، والدباغ: نزع رطوبة الجلد التي يفسده إيقاؤها، بمادة لاذعة حِرِّيفة، بحيث لو تقع في الماء بعد إليه النتن والفساد.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دبغ الإهاب فقد طهر" [رواه مسلم: 366]، ويجب غسل الجلد بالماء بعد الدبغ لملاقاته للأدوية النجسة التي دبغ بها، أو الأدوية التي تنجست بملاقاته قبل طهر عينه.
بعض ما يعفى عنه من النجاسات:
الإسلام دين النظافة، لذلك أوجب إزالة النجاسة أينما كانت، والتحرز منها، وجعل الطهارة من النجاسة شرطاً لصحة الصلاة سواء في الثوب أم البدن أم المكان.
إلا أن الدين راعي اليسر، وعدم الحرج، فعفا عن بعض النجاسات لتعذر إزالتها، أو مشقة الاحتراز عنها، تسهيلاً على الناس، ورفعاً للحرج عنهم، وإليك بعض هذه المعفوات:
1ـ رشاش البول البسيط الذي لا يدركه الطرف المعتدل إذا أصاب الثوب أو البدن، سواء كانت النجاسة مغلظة أم مخففة أم متوسطة.
2ـ اليسير من الدم، والقيح، ودم البراغيث وونيم الذباب أي نجاسته ما لم يكن ذلك بفعل الإنسان وتعمده.
3ـ دم وقيح الجروح ولو كان كثيراً، شريطة أن يكون من الإنسان نفسه، وأن لا يكون بفعله وتعمده، وأن لا يجاوز محله المعتاد وصوله إليه.(1/43)
4ـ روث الدواب الذي يصيب الحبوب أثناء دراستها، وروث الأنعام الذي يصيب اللبن أثناء الحلب ما لم يكثر فيغير اللبن.
5ـ روث السمك في الماء ما لم يتغير، وذرق الطيور في الأماكن التي تتردد عليها كالحرم الملكي والحرم المدني والجامع الأموي، وذلك لعموم البلوى، وعسر الاحتراز عنه.
6ـ ما يصيب ثوب الجزار من الدم ما لم يكثر.
7ـ الدم الذي على اللحم.
8ـ فم الطفل المتنجس بالقي، إذا أخذ ثدي أمه.
9ـ ما يصيب الإنسان من طين الشارع.
10ـ الميتة التي لا نفس لها سائلة أي لا دم لها من نفسها إذا وقعت في مائع: كالذباب، والنحل، والنمل، شريطة أن تقع بنفسها، ولم تغير المائع الذي وقعت فيه.
روى البخاري (5445) وغيره: عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا وقع الذباب في إناء أحدكم، فليغمسه كله ثم يطرحه، فإن في أحد جناحيه شفاء وفي الآخر داء". ووجه الاستدلال: أنه لو كان ينجسه لم يأمر بغمسه. وقيس بالذباب كل ما في معناه من كل ميتة لا يسيل دمها.
*****(1/44)
الاسْتنجاء وآدابُه
معناه: هو إزالة النجاسة أو تخفيفها عن مخرج البول أو الغائط. مأخوذ من النَّجاء وهو الخلاص من الأذى، أو النجوة: وهي المرتفع عن الأرض، أو النجو: وهو الحُزْء، أي ما يخرج من الدبر. سمي بذلك شرعاً، لأن المستنجي يطلب الخلاص من الأذى ويعمل على إزالته عنه، وغالباً ما يستتر وراء مرتفع من الأرض، أو نحوها، ليقوم بذلك.
حكمه: وهو واجب، وقد دل على ذلك قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما سيأتي خلال البحث.
ما يستنجي به:
يجوز الاستنجاء بالماء المطلق، وهو الأصل في التطهير من النجاسة كما يجوز بكل جامد خشن يمكن أن يزيل النجاسة، كالحجر والورق ونحو ذلك.
والأفضل أن يستنجي أولاً بالحجر ونحوه، ثم يستعمل الماء، لأن الحجر يزيل عين النجاسة والماء بعده يزيل أثرها دون أن يخلطها. وأن أقتصر على أحدهما فالماء أفضل، لأنه يزيل العين والأثر، بخلاف غيره، وأن أقتصر على الحجر ونحوه، فيشترط أن يكون المستعمل جافاً، وأن يستعمل قبل أن يجف الخارج من القبل أو الدبر، وألا يجاوز الخارج(1/45)
صفحة الآلية أو حشفة الذكر وما يقابلها من مخرج البول عند الأنثى، وأن لا ينتقل عن المحل الذي أصابه أثناء خروجه. كما يشترط أن لا نقل المسحات عن ثلاثة أحجار أو ما ينوب منابها، فإن لم ينظف المحل زيد عليها، ويسن أن يجعل وتراً، أي منفردة: كخمسة أو سبعة، ونحوها.
روى البخاري (149)، ومسلم (271): عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله يدخل الخلاء، فأحمل أنا وغلام نحوي إدواة من ماء وعنزة، فيستجني بالماء.
[الخلاء: مكان قضاء الحاجة. إداوة: إناء صغير من جلد عنزة: الحربة القصيرة، تركز ليصلى إليها كسترة. يستنجي: يتخلص من أثر النجاسة].
وروى البخاري (155) وغيره، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - الغائط فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار.
[الغائط: المكان المنخفض من الأرض تقضى فيه الحاجة، ويطلق على ما يخرج من الدبر].
وروى أبو داود (40) وغيره، عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بهن، فإنها تجزئ عنه ".
[يستطيب: يستنجي، سمي بذلك لأن المستنجي يطيب نفسه بإزالة الخبث عن المخرج].(1/46)
وروى أبو داود (44)، والترمذي (3099)، وابن ماجه (357)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " نزلت هذه الآية في أهل قباء: (فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين) [التوبة: 108].
قال: كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية ".
روى مسلم (2622) عن سلمان - رضي الله عنه - عن(1/47)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار".
وروى البخاري (160)، ومسلم (237) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ومن استجمر فليوتر ".
[استجمر: مسح بالحجار وهي الأحجار الصغيرة].
ما لا يستنجي به:
لا يصح الاستنجاء بما كان نجس العين أو متنجساً لأنه ربما زاد في أثر النجاسة بدل تخفيفه.
روى البخاري (155) عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - الغائط فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أجدهن فأخذت روثة فاتيته بها فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: "هذا ركس ".
[الركس: النجس. روثة: براز الحيوان مأكول اللحم وغيره].
ـ ويحرم الاستنجاء بما كان مطعوماً لأدمي كالخبز وغيره، أو جني كالعظم.
روى مسلم (450) عن مسعود - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " أتاني داعي الجن، فذهبت معه، فقرات عليهم القرآن ". قال: وسألوه الزاد، فقال: " لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه، يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً، وكل بعرة علف لدوابكم ". فقال رسول - صلى الله عليه وسلم -: " فلا تستنجوا بهما، فإنهما طعام إخوانكم" وعند الترمذي (18): ولا تستنجوا بالروث ولا بالعظام، فإنه زاد إخوانكم من الجن".
فيقاس طعام الأدمي على غيره من باب أولي.
ـ يحرم الاستنجاء بكل محترم، كجزء حيوان متصل به، كبده ورجله، ومن الآدمي من باب أولى، لأنه يتنافى مع تكريمه، فإن كان جزء الحيوان منفصلا عنه، وكان طاهراً كشعر مأكول اللحم وجلد الميتة المدبوغ، جاز ذلك.
آداب الاستنجاء وقضاء الحاجة:
هناك آداب يطلب من المسلم أن يراعيها عند القيام بقضاء حاجته واستنجائه وهي:
1ـ ما يتعلق بالمكان الذي يقضي فيه حاجته: فإنه يجتنب التبول والتغوط في:
ـ طريق الناس أو المكان الذي يجلسون فيه، لما فيه من الأذى لهم.
روى مسلم (269) وغيره، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " اتقوا اللعانين". قالوا: وما اللعانان؟ قال: " الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم".(1/48)
[اللعين: الأمرين الجالبين اللعن].
ـ ثقب في الأرض أو جدار أو نحوه، لما قد ينتج عنه من أذى، فقد يكون فيه حيوان ضار كعقرب أو حيه، فيخرج عليه ويؤذيه، وقد يكون فيه حيوان ضعيف فيتأذى.
روى أبو داود (29) عن عبدالله بن سرجس قال: " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبال في الجحر". وهو الثقب في الأرض.
ـ تحت الشجرة المثمرة، صيانة للثمر عن التلويث عند وقوعه سواء كان مأكولاً أو منتفعاً به لئلا تعافه النفس.
ـ الماء الراكد: لما ينتج من تقزز النفس منه إن كان كثيراً لا تغيره النجاسة، ومن إضاعته إن كانت النجاسة تغيره، أو كان دون القلتين.
روى مسلم (281) وغيره، عن جابر - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه نهى أن يبال في الماء الراكد. والتغوط أقبح وأولى بالنهي، والنهي للكراهة، ونقل الإمام النووي أنه للتحرم.
[انظر شرح مسلم: 3/ 187].
2ـ ما يتعلق بالدخول إلى قضاء الحاجة والخروج منه، فيستحب لقاضي الحاجة: أن يقدم رجله اليسرى عند الدخول ويمناه عند الخروج لأنه الأليق بأماكن القذر والنجس.
ولا يحمل الله تعالى ومثله كل اسم معظم.(1/49)
كما يستحب له أنن يقول الأذكار والأدعية التي ثبتت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قبل دخول الخلاء وبعد الخروج منه:
فيقول قبل الدخول: "باسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث" [رواه البخاري 142، ومسلم: 375].
[الخبث: جمع خبيث. والخبائث: جمع خبيثة، والمراد ذكور الشياطين وإنائهم].
وبعد الخروج يقول: "غفرانك، الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافني، الحمد لله الذي أذاقني لذته، وأبقى من قوته، ودفع عنى أذاه" [رواه أبو داود: 30، والترمذي: 17 وابن ماجه: 301، والطبراني].
3ـ ما يتعلق بالجهة: يحرم على قاضي الحاجة أن يستقبل القبلة أو يستدبرها، إن كان في الفضاء ولا ساتر مرتفع يستر عورته حال قضاء حاجته، وكذلك إن كان في بناء غير معد لقضاء الحاجة، ولم تتحقق شروط الساتر المذكورة، ويشترط ألا يبعد عنه الساتر أكثر من ثلاثة أذرع بذارع الآدمي، أي ما يساوى 150سم تقريباً. فإن كان البناء معداً لقضاء الحاجة جاز الاستقبال والاستدبار.
روى البخاري (381) ومسلم (264)، عن أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببول أو غائط، ولكن شرقوا أو غربوا".
وخص ذلك بالصحراء وما في معناها من الأمكنة التي لا ساتر فيها، ودليل التخصيص: ما روى البخاري (148)، ومسلم (266)(1/50)
وغيرهما، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ارتقيت فوق ظهر بيت حفصة لبعض حاجتي، فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، مسدبر القبلة، مستقبل الشام. فحمل الأول على المكان غير المعد لقضاء الحاجة، وما في معناه من الاماكن التي لا ساتر فيها، وحمل الثاني على المكان المعد وما في معناه، جمعاً بين الأدلة، ولا يخلو الأمر معه عن كراهة في غير المعد مع وجود الساتر.
4ـ ما يتعلق بحال قاضي الحاجة: أن يعتمد على يساره وينصب يمناه. ولا ينظر إلى السماء ولا إلى فرجه ولا إلى ما يخرج منه لأنه لا يليق بحاله. ويكره القاضي الحاجة الكلام وغيره أثناء قضائها.
روى مسلم (370) وغيره، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رجلا مرّ ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبول، فسلم عليه فلم يرد عليه.
وروى أبو داود (15) وغيره، عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يخرج الرجلان يضربان الغائط، كشفين عن عورتهما يتحدثان، فإن الله عز وجل يمقت على ذلك".
[يضربان: يأتيان. يمقت: يغضب]
ويقاس على الكلام غيره كالأكل والشرب والعبث، ونحو ذلك
5ـ الاستنجاء باليسار: يستعمل قاضي الحاجة شماله لتنظيف المحل بالماء اليمنى لهذا، كما يكره له أن يمس بها ذكره. وإن احتاج أن يمسك الذكر لينظفه بالحجر ونحوه من الجامدات، أمسك الجامد بيده اليمنى دون أن يحركها، وأمسك الذكر باليسرى وحركها لينظف المحل.(1/51)
روى البخاري (153)، ومسلم (267)، عن أبي قتادة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا بال أحدكم فلا يأخذن ذكره بيمينه ولا يستنج بيمينه".
الطهارة من الحدث:
معنى الحدث: الحدث لغة: الشيء الحادث. وشرعاً: هو أم اعتباري يقوم بالأعضاء يمنع من صحة الصلاة وما في حكمها، حيث لا مرخص. ويطلق الحدث أيضاً على نواقض الوضوء التي سنتحدث عنا فيما بعد، وعلى موجبات الغسل.
أقسام الحدث:
والحدث يقسم إلى قسمين: حدث أصغر، وحدث أكبر.
الحدث الأصغر: هو أمر اعتباري يقوم بأعضاء الإنسان الأربعة، وهي: الوجه، واليدان، والرأس، والرجلان، فيمنع من صحة الصلاة ونحوها، ويرتفع هذا الحدث بالوضوء، فيصبح الإنسان مستعداً للصلاة ونحوها.
والحدث الأكبر: وهو أمر اعتباري يقوم بالجسم كله فيمنع من صحة الصلاة وما في حكمها، ويرتفع هذا الحدث بالغسل فيصبح الإنسان أهلاً لما كان ممنوعاً عنه.
*****(1/52)
الوضُوء
معناه:
الوضوء لغة: مأخوذة من الوضاءة وهي الحسن والبهجة، وشرعاً: اسم للفعل الذي هو استعمال الماء أعضاء معينة ما النية. والوضوء اسم للماء الذي يتوضأ به، وسمي بذلك لما يضفي على الأعضاء من وضاءة يغسلها وتنظيفها.
فروض الوضوء:
وفروض الوضوء ستة وهي: النية، وغسل الوجه، وغسل اليدين، مع المرفقين، ومسح بعض الرأس، وغسل الرجلين مع الكعبين، والترتيب. والأصل في مشروعية الوضوء وأركانه قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأمسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) [المائدة: 6].
1ـ النية: لأن الوضوء عبادة، وبالنية تتميز العبادة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" [رواه البخاري: 1، ومسلم: 1907]. أي لا تصح العبادة ولا يعتد بها شرعاً إلا إذا نويت، ولا يحصل للمكلف أجرها إلا إذا أخلص فيها.
تعريف النية: والنية معناها لغة: القصد، وشرعاً: قصد الشيء مقروناً بفعله.(1/53)
محل النية: ومحل النية القلب، ويسن التلفظ بها باللسان.
كيفية النية: وكيفيتها أن يقول بقلبه: نويت فرض الوضوء، أو رفع الحدث، أو استباحة الصلاة.
وقت النية: ووقتها عند غسل أول جزء من الوجه، لأنه أول الوضوء.
2ـ غسل جميع الوجه: لقوله تعالى: (فاغسلوا وجوهكم). وحدود الوجه من منبت الشعر إلى أسفل الذقن طولاً، ومن الأذن إلى الأذن عرضاً.
ويجب غسل كل ما على الوجه: من حاجب، وشارب، ولحية، ظاهرة وباطناً لأنها من أجزاء الوجه، إلا اللحية الكثيفة ـ وهي التي لا يرى ما تحتها ـ فإنه يكفى غسل ظاهرها دون باطنها.
3ـ غسل اليدين مع المرفقين: لقوله تعالى: (وأيديكم إلى المرافق). جمع مرفق وهو مجتمع الساعد مع العضد و"إلى" بمعنى مع، أي: مع المرافق، دل على ذلك ما رواه مسلم (246)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "أنه توضأ فغسل وجهه فاسبغ الوضوء، ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد، ثم يده اليسرى حتى أشرع في العضد، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق، ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق، ثم قال: هكذا رأيت الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ".
[أشرع في العضد وأشرع في الساق، معناه: أدخل الغسل فيهما].(1/54)
ويجب تعميم جميع الشعر والبشرة بالغسل، فلو كان تحت أظافره وسخ يمنع وصول الماء أو خاتم لم يصح الوضوء، لما رواه البخاري (161)، ومسلم (241) واللفظ له، عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: رجعنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة، حتى إذا كنا بماء بالطريق تعجل قوم عند العصر، فتوضأوا وهم عجال، فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسها ماء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ويل للأعقاب من النار، أسبغوا الوضوء". أي أتموه وأكملوه باستيعاب العضو بالغسل.
[عجال: مستعجلون].
وروى مسلم (243): أن رجلا توضأ فترك موضع ظفر على قدمه، فأبصره النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "أرجع فأحسن وضوءك". فرجع ثم صلى.
[فرجع: أي فأتم وضوءه وأحسنه].
فدل الحديثان: على أنه لا يجزئ الوضوء إذا بقي أدنى جزء من العضو المغسول دون غسل.
4ـ مسح بعض الرأس، ولو شعرة ما دامت في حدود الرأس، لقوله تعالى: (وامسحوا برؤوسكم). وروى المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ، ومسح بناصيته، وعلى عمامته. [رواه مسلم: 279].
ولو غسل رأسه أو بعضه يدل المسح جاز. والناصية: مقدم الرأس، وهي جزء منه، والاكتفاء، بالمسح عليها دليل على ان مسح الجزء هو المفروض ويحصل بأي جزء كان.
5ـ غسل الرجلين مع الكعبين: لقوله تعالى: (وأرجلكم إلى الكعبين). الكعبان مثنى الكعب: وهو العظم الناتئ من كل جانب عند(1/55)
مفصل الساق مع القدم، و "إلى": بمعنى مع، أي مع الكعبين، دل على ذلك: ما جاء في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - السابق وحتى أشرع في الساق".
ويجب تعميم الرجلين بالغسل بحيث لا يبقى منهما ولو موضع ظفر، أو تحت شعر لما مر في غسل اليدين.
6ـ الترتيب على الشكل الذي ذكرناه:
وهذا مستفاد من الآية التي ذكرت فروض الوضوء مرتبة، ومن فعله - صلى الله عليه وسلم - فإنه لم يتوضأ إلا مرتباً ـ كما جاء في الآية ـ ثبت ذلك بالأحاديث الصحيحة منها حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - السابق، وفيه العطف بثم، وهي الترتيب باتفاق. قال النووي في المجموع (1/ 484): واحتج الأصحاب من السنة بالأحاديث الصحيحة المستفيضة عن جماعات من الصحابة في صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكلهم وصفوه مرتباً، مع كثرتهم وكثرة المواطن التي رأوه فيها، وكثرة اختلافهم في صفاته في مرة ومرتين وثلاث وغير ذلك، ولم يثبت فيه ـ مع اختلاف أنواعه ـ صفة غير مرتبة، وفعله - صلى الله عليه وسلم - بيان للوضوء المأمور به، ولو جاز ترك الترتيب لتركه في بعض الأحوال لبيان الجواز، كما ترك التكرار في أوقات.
سنن الوضوء:
للوضوء سنن كثيرة نذكر أهمها وهي:
1ـ التسمية في ابتدائه: روى النسائي (1/ 61) بإسناد جيد، عن أنس - رضي الله عنه - قال: طلب بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وضوءاً(1/56)
فلم يجدوا ماء، فقال عليه الصلاة والسلام: "هل مع أحد منكم ماء"، فأتي بماء فوضع يده في الإناء الذي فيه الماء، ثم قال: "توضأوا بسم الله" أي قائلين ذلك عند الابتداء به. قال أنس - رضي الله عنه -: فرأيت الماء يفور من بين أصابعه، حتى توضأوا من عن آخرهم ـ أي جميعهم ـ وكانوا نحواً من سبعين.
2ـ غسل الكفين ثلاثاً قبل إدخالهما الإناء: روى البخاري (2183)، ومسلم (235)، من حديث عبدالله بن زيد - رضي الله عنه - وقد سئل عن وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فدعا بنور من ماء، فتوضأ لهم وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - فأكفأ على يده من التور، فغسل يديه ثلاثاً، ثم أدخل يده في الإناء ... ".
[التور: إناء من نحاس. فأكفأ: صب].
3ـ استعمال السواك: لما رواه البخاري (847)، ومسلم (252)، وغيرهما، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء". أي لأمرتهم أمر إيجاب، وهذا دليل الاستحباب المؤكد.
4 و 5 ـ المضمضة والاستنشاق باليد اليمنى والاستنثار باليد اليسرى، جاء في حديث عبد الله بن زيد - رضي الله عنه - السابق من غرفة واحدة، وكرر ذلك ثلاثاً.
[استنثر: أخرج الماء الذي أدخله في أنفه].
6ـ تخليل اللحية الكثة: روى أبو داود (145) عن أنس - رضي(1/57)
الله عنه - كان إذا توضأ أخذ كفاً من ماء، فأخله تحت حنكه، فخلل به لحيته، وقال: "هكذا أمرني ربي عز وجل"
7ـ مسح جميع الرأس: جاء في حديث عبد الله بن زيد - رضي الله عنه -: فمسح رأسه بيديه، فاقبل بهما وأدبر: بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما على قفاه ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه.
8ـ تخليل ما بين أصابع اليدين والرجلين بالماء: أما اليدين فبالتشبيك بينهما، وأما الرجلان فبخنصر اليد اليسرى: عن لقيط بن صبرة - رضي الله عنه - قلت: يا رسول الله أخبرني عن الوضوء؟ قال: "أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق، إلا أن تكون صائماً" [رواه أبو داود: 142، وصححه الترمذي: 788، وغيرهما]
[أسبغ: أكمله وأتمه بأركانه وسننه].
وعن المستورد قال: "رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ فخلل أصابع رجليه بخنصره، [رواه أبن ماجه: 446].
9ـ مسح الأذنين ظاهرهما وباطنهما بماء جديد غير ماء الرأس عن ابن عباس - رضي الله عنه -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما" [رواه الترمذي: 36، وصححه]. وعند النسائي (1/ 74): "مسح برأسه وأذنيه، باطنهما بالمسحتين، وظاهرهما بإبهاميه". وقال عبدالله بن زيد: "رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ، فأخذ ماء لأذنيه خلاف الماء الذي أخذه لرأسه" [رواه الحاكم: 1/ 151]، وقال عنه الحافظ الذهبي: صحيح.(1/58)
10ـ التثليث في جميع فرائض الوضوء وسننه. روى مسلم (230) أن عثمان - رضي الله عنه - قال: ألا أريكم وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ ثم توضأ ثلاثاً ثلاثاً.
11ـ تقديم اليمنى على اليسرى، في اليدين والرجلين: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله قال: "إذا توضأتم فابدءوا بميامنكم" [رواه ابن ماجه: 402]. ودلّ على ذلك حديثه السابق في فرائض الوضوء.
12ـ الدلك ـ وهو إمرار اليد على العضو عند غسله ـ: روى أحمد في مسنده (4/ 39) عن عبدالله بن زيد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ، فجعل يقول هكذا، يدلك.
[في المصباح: دلكت الشيء ـ من باب قتل ـ مرسته بيدك، ودلكت النعل بالأرض مسحتها بها. يقول: عبر عبدالله بالقول عن الفعل].
13ـ الموالاة: أي غسل الأعضاء بالتتابع من غير انقطاع، بحيث يغسل العضو الثاني قبل أن يجف الأول، أتباعاً للنبي - صلى الله عليه وسلم -، لما مر معك من أحاديث على ذلك.
14ـ إطالة الغرة والتحجيل: والغرة غسل جزء من مقدم الرأس والتحجيل غسل ما فوق المرفقين في اليدين، وما فوق الكعبين في الرجلين، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل" [رواه البخاري: 136، ومسلم: 246]. وفي رواية عند مسلم: " فليطل غرته وتحجيله".(1/59)
[غرّاًً: جمع أغر، أي ذو غرة، وهي بياض في الجبهة. محجلين: من التحجيل وهو بياض في اليدين والرجلين، وهذا تشبيه لأن الأصل في الغرة والتحجيل أن يكون في جهة الفرس وقوائمها، والمراد به هنا: النور الذي يسطع من المؤمنين يوم القيامة].
15ـ الاعتدال بالماء دون سرف أو تقتير: فقد روى البخاري (198) عن أنس - رضي الله عنه -: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ بالمد.
[والمد: إناء يساوي مكعباً طول حرفه 10 سم تقريباً].
16ـ استقبال القبلة عند الوضوء، لأنها أشرف الجهات.
17ـ أن لا يتكلم أثناء الوضوء، اتباعاً للرسول - صلى الله عليه وسلم -.
18ـ التشهد عند الانتهاء من الوضوء والدعاء، يقول: "أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله" [رواه مسلم: 234]. "اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين" [رواه الترمذي: 55]. "سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك". [رواه النسائي في أعمال اليوم والليلة، كما قال الإمام النووي في الأذكار].
مكروهات الوضوء:
ويكره في الوضوء الأمور التالية:
1ـ الإسراف في الماء، والتقتير فيه: لأن ذلك خلاف السنة، ولعموم قوله تعالى: (ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) [سورة الأعراف: 31]. والإسراف هو التجاوز عن الاعتدال المعروف والمألوف. روى أبو داود (96) أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنه سيكون في(1/60)
هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء". أي يفرطون فيهما، والإفراط في الدعاء: أن يسأل أشياء مخصوصة وبصفة معينة.
2ـ تقديم اليد اليسرى على اليمنى، وتقديم الرجل اليسرى على اليمنى: لأن هذا على خلاف ما مر من فعله - صلى الله عليه وسلم -.
3ـ التنشيف بمنديل إلا لعذر، كبرد شديد أو حر يؤذي معه بقاء الماء على العضو، أو خوف نجاسة أو غبارها، روى البخاري (256)، ومسلم (317): أنه - صلى الله عليه وسلم - أتي بمنديل فلم يمسه.
4ـ ضرب الوجه بالماء، لأن ذلك ينافي تكريمه.
5ـ الزيادة على ثلاث يقيناً بالغسل أو في المسح، أو النقص عنها، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدما توضأ ثلاثاً ثلاثاً: "هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا، أو نقص فقد أساء وظلم" [رواه أبو داود: 135]، وقال النووي في المجموع: إنه صحيح. معناه أن من اعتقد أن السنة أكثر من ثلاث أو أقل منها، فقد أساء وظلم، لأنه قد خالف السنة التي سنها النبي - صلى الله عليه وسلم -.
6ـ الاستعانة بمن يغسل له أعضاء من غير عذر، لأن فيه نوعاً من التكبر المنافي للعبودية.
7ـ المبالغة في المضمضة والاستنشاق للصائم خشية أن يسبقه الماء إلى حلقه فيفسد صومه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً" [رواه أبو داود: 142]. وتقاس المضمضة على الاستنشاق من باب أولى.(1/61)
نواقص الوضوء:
وينتقص الوضوء بخمسة أشياء:
1ـ كل ما خرج من أحد السبيلين من بول أو غائط أو دم أو ريح: قال تعالى: (لو جاء أحد منكم الغائط) [النساء: 42]. أي مكان قضاء الحاجة، وقد قضى حاجته من تبرز أو تبول. والغائط هو المكان المنخفض، وفي مثله تقضى الحاجة من تبرز أو تبول. والغائط هو المكان المنخفض، وفي مثله نقضى الحاجة غالباً وعادة.
وروى البخاري (135) ومسلم (225) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ولا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ". فقال رجل من أهل حضر موت ك ما الحدث يا أبا هريرة؟ قال فساء أو ضراط.
وقيس على ما ذكر كل خارج من القبل أو الدبر، ولو كان طاهراً.
2ـ النوم غير المتمكن: والتمكن أن يكون جالساً ومقعدته ملتصقة بالأرض، وغير التمكن أن يكون هناك نجاف بين مقعدته والأرض، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من نام فليتوضأ" [رواه أبو داود: 203 وغيره]. وأما من نام على هيئة المتمكن فلا ينقض وضوؤه، لأنه يشعر بما يخرج منه، ودل على هذا ما رواه مسلم (376) عن أنس - رضي الله عنه - قال: أقيمت الصلاة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يناجى رجلاً، فلم يزل يناجيه حتى نام أصحابه، ثم جاء فصلى بهم.
[يناجي: يتحدث معه على انفراد بحيث لا يسمعهما أحداً].
وعنه أيضاً قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينامون، ثم يصلون ولا يتوضأون [أنظر البخاري: 541، 544، 545].(1/62)
وواضح أنهم ناموا جالسين على هيئة التمكن، لأنهم كانوا في المسجد ينتظرون الصلاة، وعلى أمل أن يقطع حديثه - صلى الله عليه وسلم - فجأة ويصلي بهم.
3ـ زوال العقل بسكر أو إعماء أو مرض، أو جنون: لأن الإنسان إذا انتابه شيء من ذلك كان هذا مظنة أن يخرج منه شيء من غير ان يشعر، وقياساً على النوم، لأنه أبلغ منه في معناه.
4ـ لمس الرجل زوجته أو المرأة الأجنبية من غير حائل، فإنه ينتقض وضوؤه ووضوؤها. والأجنبية هي كل امرأة يحل له الزواج بها. قال تعالى في بيان موجبات الوضوء: (أو لامستم النساء) [النساء: 42]. أي لمستم كما في قراءة متواترة.
5ـ مس الفرج نفسه أو من غيره، قبلاً أو دبراً، بباطن الكف والأصابع من غير حائل.
الأمور التي يشترط لها الوضوء:
الأمور التي يجب الوضوء من أجلها هي:
1ـ الصلاة: قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) [سورة المائدة: 6].
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ" [رواه البخاري: 135، ومسلم: 225]. وعند مسلم (224): "ولا تقبل صلاة بغير طهور".
2ـ الطواف حول الكعبة: لأن الطواف كالصلاة تجب فيه(1/63)
الطهارة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الطواف حول البيت مثل الصلاة، إلا أنكم تتكلمون فيه، فمن تكلم فيه تلا يتكلمن إلا بخير". [رواه الترمذي: 960، والحاكم: 1/ 459، وصححه].
3ـ من المصحف وحمله: قال تعالى: (لا يمسه إلا المطهرين) [سورة الواقعة: 79]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يمس القرآن إلا طاهر" [رواه الدارقطني: 1/ 459].
صور كاملة لوضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - بفرائضه، وسننه
المؤكدة، وبيان فضله، وفضل الصلاة بعده:
روى البخاري في صحيحه (162) عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه -: أنه دعا بوضوء فأفرغ على يديه من إنائه فغسلهما ثلاث مرات، ثم تمضمض واستنشق واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاثاً ويديه إلى المرفقين ثلاثاً، [وفي رواية: ثم غسل يده اليمنى ثلاثاً، ثم غسل رجله اليسرى ثلاثاً]. ثم قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ نحو وضوئي هذا، وقال: "من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه، غفر الله له ما تقدم من ذنبه".
[بوضوء: هو الماء الذي يتوضأ به. لا يحدث: أي بشيء من أمور الدنيا].
*****(1/64)
المسَحُ عَلَى الخٌفَّين
تعريفهما:
الخُفّان: تثنية خف، وهما الحذاءان السائران للكعبين المصنوعان من جلد.
والكعبان كما مر: هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق.
حكم المسح عليهما:
ودليل جوازه فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال جرير بن عبدالله البجلي - رضي الله عنه -: "رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بال، ثم توضأ ومسح على خفيه". [رواه البخاري: 1478، ومسلم: 272].
شروط المسح عليهما:
ويشترط لجواز المسح عليهما خمسة شروط:
1ـ أن يُلبسا بعد وضوء كامل: عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فأهويت لأنزع خفيه، فقال " دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين"، فمسح عليهما. [رواه البخاري: 203، ومسلم: 274].(1/65)
2ـ أن يكونا سائرين لجمع محل غسل الفرض من القدمين، لأنهما لا يسميان خفين إلا إذا كانا كذلك.
3ـ أن يمنعا نفوذ الماء إلى القدمين من غير محل الخرز ـ أي الخياطة.
4ـ أن يكونا قويين يمكن تتابع المشي عليهما يوماً وليلة للمقيم، وثلاثة أيام بلياليهما للمسافر.
5ـ أن يكونا طاهرين، ولو كانا من جلد ميتة قد دبغ، لما مر من أن جلد الميتة يطهر بالدباغ.
مدة المسح عليهما:
مدة المسح علي الخفين: يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام بلياليهن للمسافر، روى مسلم (276) وغيره، عن شريح بن هانئ قال: أتيت عائشة رضى الله عنها أسألها عن المسح على الخفين، فقالت: ائت علياً فإنه أعلم بهذا منّي، كان يسافر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألته فقال: جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوماً وليلة للمقيم.
هذا ومن بدأ المسح في الحضر ثم سافر مسح يوماً وليلة، ومن بدأ المسح بالسفر ثم أقام أتم مسح مقيم، لأن الأصل الإقامة، والمسح رخصة، فيؤخذ فيه بالأحوط.
متى تبدأ المدة:
وتبدأ مدة المسح من الحدث بعد لبس الخفين، فإذا توضأ الصبح، ولبس خفيه، ثم أحدث عند طلوع الشمس، فإن المدة تحسب من طلوع الشمس.(1/66)
كيفية المسح عليهما:
الفرض: مسح شيء ولو قل من أعلى الخف (1)، فلا يكفي المسح على أسفلهما. ويسن مسح أعلاه وأسفله خطوطاً، بأن يضع أصابع يده اليمني مفرقة على مقدمة رجله لأعلى، وأصابع يده اليسرى على مؤخرة قدمه من الأسفل، ثم يذهب باليمنى إلى الخلف وباليسرى إلى الأمام.
مبطلات المسح:
ويبطل المسح ثلاثة أمور:
1ـ خلع الخفين أو خلع أحدهما، أو انخلاعهما أو أحدهما.
2ـ انقضاء مدة المسح: فإذا انقضت المدة وكان متوضئاً نزعهما وغسل رجليه هم أعادهما، وإن كان غير متوضئ توضأ، ثم لبسهما إن شاء.
3ـ حدوث ما يوجب الغسل: فإذا لزمه غسل خلعهما وغسل رجليه، لأن المسح عليهما بدل غسل الرجلين في الوضوء، لا في الغسل.
روى الترمذي (96)، والنسائي (1/ 83) ـ واللفظ له ـ عن صفوان بن عسال - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا إذا كنا مسافرين: أن نمسح على خفافنا، ولا ننزعها ثلاثة أيام، من غائط وبول ونوم، إلا من جنابة". وهي موجبات الغسل كما سيأتي.
*****
_________
(1) روى أبو داود (162) بإسناد صحصح عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وكرم الله وجهه أنه قال: لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولي بالمسح من أعلاه وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على ظاهر خفيه.(1/67)
الجبائر والعصائب
الجبائر: جمع جبيرة، وهي رباط يوضع على العضو المكسور ليجبر.
والعصائب: جمع عصابة، وهي رباط يوضع على الجرح ليحفظه من الأوساخ حتى يبرا.
ولما كان الإسلام دين اليسر، راعى هذه النواحي، وشرع لها الأحكام التي تضمن التوفيق بين أداء العبادة والمحافظة على سلامة الإنسان.
أحكام الجبائر والعصائب:
المريض المصاب بجرح أو كسر، قد يحتاج إلى وضع رباط ودواء على الجرح أو الكسر، وقد لا يحتاج.
فان احتاج إلى وضع رباط لزمه في هذه الحالة ثلاثة أمور:
1ـ أن يغسل الجزء السليم من العضو المصاب.
2ـ أن يمسح على نفس الرباط أي الجبيرة، أو العصابة، كلها.
3ـ أن يتيمم بدل غسل الجزء المريض عند وصوله إليه بالوضوء.(1/68)
وإن لم يحتج إلى وضع رباط على العضو المكسور أو المجروح، وجب عليه أن يغسل الصحيح ويتيمم عن الجريح إذا كان لا يستطيع غسل موضع العلة. ويجب إعادة التيمم لصلاة كل فرض وإن لم يحدث، لأن يجب عليه غسل باقي الأعضاء، إلا إذا أحدث.
دليل مشروعية المسح على الجبائر:
دلّ على مشروعية المسح على الجبائر، ما رواه أبو داود (336) عن جابر - رضي الله عنه - قال: خرجنا في سفر، فأصاب رجلاً منا حجر فشجه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه: هل تجدون في رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة، وأنت تقدر على الماء، فاغتسل عمات، فلما قدمنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بذلك، فقال: "قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر ـ أو يعصب ـ على جرحه خرقة، قم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده".
[العي: التحير في الكلام، وقيل: هو ضد البيان].
مدة المسح على الجيرة والعصبة:
ليس للمسح على الجبيرة أو العصابة مدة معينة، بل يظل يمسح عليها ما دام العذر موجوداً، فإذا زال العذرـ بأن اندمل الجرح، وانجبر الكسر ـ بطل المسح ووجب الغسل، فإذا كان متوضئاً، وبطل مسحه، وجب عليه إصابة العضو الممسوح وما بعده من أعضاء الوضوء، مسحاً أو علا حسب الواجب.(1/69)
وحكم الجبائر واحد، سواء كانت الطهارة من حدث أصغر أو حدث أكبر، إلا أنه في الحدث الأكبر، إذا بطل المسح، وجب غسل موضع العصابة أو الجبيرة فقط، ولا يجب غسل سواها من البدن.
ويجب على واضع الجبيرة القضاء في المواضع التالية:
1ـ إذا وضعها على غير طهر وتعذر نزعها.
2ـ أو كانت في أعضاء التيمم: الوجه أو اليدين.
3ـ إذا أخذت من الصحيح أكثر من قدر الاستمساك.
*****(1/70)
الغُسل وَأحْكامُه وَأنوَاعُه
معناه:
هو في اللغة: سيلان الماء على الشيء، أيا كان.
وشرعاً: جريان الماء على البدن بنية مخصوصة.
مشروعيته:
الغسل مشروع، سواء كان للنظافة، أم لرفع الحدث، سواء كان شرطاً لعبادة أم لا.
ودل على مشروعيته: الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب:
فآيات، منها قوله تعالى: (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) [سورة البقرة: الآية 222]. أي المتنزهين عن الحدث والأقدار المادية والمعنوية.
وأمَّا السنة:
فأحاديث، منها: ما رواه البخاري (85)، ومسلم (849) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوماً، يغسل فيه رأسه وجسده ". وعند مسلم: " حق الله ". والمراد بالحق هنا: أنه مما لا يليق بالمسلم تركه،(1/71)
وحمله العلماء على غسل يوم الجمعة. وسيأتي مزيد من الأدلة في مواضعها من البحث إن شاء الله.
وأما الإجماع:
فلقد أجمع الأئمة المجتهدون على أن الغسل للنظافة مستحب، والغسل لصحة العبادة واجب، ولا يغرف ف هذا مخالف.
حكمة مشروعيته:
للغسل حكم كثيرة وفوائد متعددة، ومنها:
1ـ حصول الثواب:
لان الغسل بالمعنى الشرعي عبادة، إذ فيه امتثال لأمر الشرع وعمل بحكمه، وفي هذا أجر عظيم، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: " الطهور شطر الإيمان " [رواه مسلم: 222]. أي نصفه أو جزء منه، وهو يشمل الوضوء والغسل.
2ـ حصول النظافة:
فإذا اغتسل المسلم تنظف جسمه مما أصابه من قذر، أو علق به من وسخ، أو أفرزه من عرق. وفي هذه النظافة وقاية من الجراثيم التي تسبب الأمراض، وتطييب الرائحة الجسم، مما يدعو لحصول الألفة والمحبة بين الناس.
روى البخاري (861)، ومسلم (847)، واللفظ له، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان الناس أهل عمل، ولم يكن لهم كفاة، فكان يكون لهم تفل، فقيل لهم: " لو اغتسلتم يوم الجمعة ". وفي رواية لهما: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا ".(1/72)
[كفاة: أي من يكفونهم العمل من خدم وأجراء. تقل: رائحة كريهة].
3ـ حصول النشاط:
فإذا الجسم يكتسب بالاغتسال حيوية نشاطاً، ويذهب عنه الفتور والخمول والكسل، ولا سيما إذا كان بعد أسبابه الموجبة، كالجماع، على ما سيأتي.
أقسام الغسل:
والغسل قسمان: غسل مفروض، وغسل مندوب.
أولاً ـ الغسل المفروض:
وهو الذي لا تصح العبادة المفتقرة إلى طهر بدونه، إذا وحدت أسبابه.
أسبابه: الجنابة والحيض والولادة والموت.
(1) الجنابة
معناها:
الجنابة: في الأصل معناها البعد، قال تعالى: (فبصرب به عن جنب) [سورة القصص: الآية 11]. أي: عن بعد. وتطلق الجنابة على المني المتدفق كما تطلق على الجماع.
وعليه فالجنب هو: غير الطاهر، من إنزال أو جماع. وسمي بذلك لأنه بالجنابة بعد عن أداء الصلاة ما دام على هذه الحالة. والجنب لفظ يستوي فيه المذكر جنب، ويقال للمؤنث جنب، ويقال للجمع جنب.(1/73)
أسبابها:
وللجنابة سببان:
الأول: نزول المني من الرجل أو المرأة بأي سبب من الأسباب: سواء كان نزوله بسبب احتلام، أو ملاعبة، أو فكر.
عن أم سلمة رضي الله عنهما قالت: جاءت أم سليم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق، فهل على المرأة غسل إذا احتلمت؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " نعم إذا رأت الماء " [رواه البخاري: 278، ومسلم 313].
[احتلمت: رأت في نومها أنها تجامع].
وروى أبو داود (236) وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاماً؟ فقال " يغتسل ". وعن الرجل يرى أن قد احتلم ولا يجد البلل؟ فقال: " لا غسل عليه ". فقالت أم سليم: المرأة ترى ذلك، أعليها غسل؟ قال " نعم " النساء شقائق الرجال ". أي نظائرهم في الخلق والطبع، فكأنهم شققن من الرجال.
الثاني: الجماع ولو من غير نزول المني.
روى البخاري (278)، ومسلم (348)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا جلس بين شعبها الأربع، ثم جهدها، فقد وجب عليه الغسل ". وفي رواية مسلم: " وإن لم ينزل ".
[شعبها: جمع شعبة، وهي القطعة من الشيء، والمراد هنا فخذا المرأة وساقاها. جهدها: كدها بحركته].(1/74)
وفي رواية عند مسلم (349)، عن عائشة رضي الله عنها: " ومس الختان الختان فقد وجب الغسل " أي على الرجل والمرأة لا شتراكهما في السبب.
والختان: موضع الختن، وهو عند الصبي: الجلدة التي تغطي رأس الذكر. والمراد بمماسة الختانين: تحاذيهما، وهو كناية عن الجماع.
ما يحرم بها:
ويحرم بالجنابة الأمور التالية:
1ـ الصلاة فرضاً، أو نفلاً، لقوله تعالى: (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا) [سورة النساء: الآية 43]. فالمراد بالصلاة هنا مواضعها، لأن العبور لا يكون في الصلاة، وهو نهي للجنب عن الصلاة من باب أولى.
وروى مسلم (224) وغيره، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لا تقبل صلاة بغير طهور ". وهو يشمل طهارة المحدث والجنب، ويدل على حرمة الصلاة منهما.
2ـ المكث في المسجد والجلوس فيه، أما المرور فقط من غير مكث ولا تردد فلا يحرم: قال تعالى: (ولا جنباً إلا عابري سبيل). أي لا تقربوا الصلاة موضع الصلاة ـ وهو المسجد ـ إذا كنتم جنباً إلا قرب مرور وعبور سبيل. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا أجل المسجد لحائض، ولا لجنب ".
[رواه أبو داود: 232]، وهو محمول على المكث كما علمت من الآية، ولما سيأتي في الحيض.(1/75)
3ـ الطواف حول الكعبة فرضاً، أو نفلاً، لأن الطواف بمنزلة الصلاة، فيشترط له الطهارة كالصلاة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ك " الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله أحل لكم فيه الكلام، فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير "
[رواه الحاكم: 1/ 459، وقال: صحيح الإسناد].
4ـ قراءة القرآن: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تقرا الحائض، ولا الجنب شيئا من القرآن ". [رواه الترمذي: 131، وغيره].
ملاحظة: يجوز للجنب إمرار القرآن على قلبه من غير بلفظ به، كما يجوز له النظر في المصحف. ويجوز له قراءة أذكار القرآن بقصد الذكر، لا يقصد القراءة، وذلك كأن يقول: (ربنا أتنا في الدنيا حسنه وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) [سورة البقرة: الآية 201]. بقصد الدعاء. وكأن يقول إذا ركب دابة: (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين) [الزخرف: 13]، بقصد الذكر لا بقصد القراءة.
5ـ مس المصحف وحمله أو مس ورقه، أو جلده، أو حمله في كيس أو صندوق: قال تعالى: (لا يمسه إلا المطهرون) [الواقعة: 79].
وقال - صلى الله عليه وسلم -: " لا يمس القرآن إلا طاهر " [رواه الدارقطني: 1/ 121، ومالك في الموطأ مرسلاً: 1/ 199].
ملاحظة: يجوز للجنب حمل المصحف إذا كان في أمتعة أو ثوب، ولم يقصد حمله بالذاب، بل كان حمله تبعاً لحمل الأمتعة من القرآن، لأن فاعل ذلك لا يسمى عرفاً حاملاً للقرآن.(1/76)
(2) الحيض
معناه:
حيض في اللغة: السيلان. يقال حاض الوادي إذا سال.
وفي الشرع: دم جبلة ـ أي خلقة وطبيعة ـ تقتضيه الطباع السليمة يخرج من أقصى رحم المرأة بعد بلوغها على سبيل الصحة، في أوقات معلومة.
دليله:
ودليل أن الحيض يوجب الغسل: القرآن والسنة.
أما القرآن: فقوله تعالى: (ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فأعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله) [سورة البقرة: الآية 222].
وأما السنة: فقوله - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنهما: " فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي " [رواه البخاري: 226، ومسلم 333].
سن البلوغ:
يقصد بالبلوغ السن التي إذا بلغها الإنسان ـ ذكراً أو أنثى ـ أصبح أهلاً لتوجه الخطاب إليه بالتكليف الشرعية: من صلاة، وصوم، وحج، وغيرها.
ويعرف البلوغ بأمور:
الأول: الاحتلام بخروج المني، بالنسبة للذكر والأنثى.(1/77)
الثاني: رؤية دم الحيض بالنسبة للأنثى. والوقت الذي يمكن أن يحصل فيه الاحتلام، أو الحيض، فيكون قد تحقق البلوغ، هو استكمال تسع سنين قمرية من العمر. ثم التأخر عن هذا الوقت أو عدم التأخر إنما يتبع طبيعة البلاد، وظروف الحياة.
الثالث: باستكمال الخامسة عشرة من العمر، بالسنين القمرية، إذا لم يحصل الاحتلام أو الحيض.
مدة الحيض:
وللحيض مدة دنيا، ومدى قصوى، ومدة غالبة:
فالمدة الدنيا ـ وهي أقل مدة الحيض ـ يوم وليلة.
والمدة القصوى ـ وهي أكثر مدة الحيض ـ خمسة عشر يوماً بلياليها.
والمدة الغالبة ـ ستة أيام أو سبعة.
وأقل طهر بين الحيضتين خمسة عشر يوماً، ولا حد لأكثر الطهر، فقد لا تحيض المرأة سنة أو سنتين أو سنين. وهذه التقادير مبناها الاستقراء، أي تتبع الحوادث ـ والوجود، وقد وجدت وقائع أثبتتها.
فإذا رأت المرأة دماً أقل من مدة الحيض ـ أي أقل من يوم وليلة ـ أو رأت الدم بعد مدة أكثر الحيض ـ أي أكثر من خمسة عشر يوماً بلياليها ـ، اعتبر هذا الدم دم استحاضة، لا دم حيض. وقد تميز دم الحيض عن دم الاستحاضة بلونه وشدته.(1/78)
والاستحاضة:
دم علة ومرض يخرج من عرق من أدنى الرحم يقال له العاذل، وهذا الدم ينقض الوضوء، ولا يوجب الغسل، ولا يوجب ترك الصلاة ولا الصوم، فالمستحاضة تغسل الدم، وتربط على موضعه، وتتوضأ لكل فرض، وتصلي.
روى أبو داود (268) وغيره عن فاطمة بنت أبي حبيش: أنها كانت تستحاض، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا كان دم الحيضة فإنه دم أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي، فإنما هو غرق".
[يعرف: يغرفه النساء عادة. عرق: أي ينزف. الآخر: الذي ليست صفته كذلك].
روى البخاري (236) ومسلم (333) عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالت: يا رسول الله، إني امرأة استحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لا، إنما ذلك عرق وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي".
ما يحرم بالحيض:
1ـ الصلاة: لأحاديث فاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها السابقة في الاستحاضة.
2ـ قراءة القرآن ومس المصحف وحمله لما مر ايضأ فيما يحرم بالجنابة رقم (4، 5).(1/79)
3 - المكث في المسجد لا العبور فيه: لما مرَّ معك فيما يحرم بالجنابة رقم (2). ومما يدل على أن مجرد العبور لا يحرم، بالإضافة لما سبق: ما رواه مسلم (298) وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " نَاولِيني الْخُمْرَة مِنَ المَسْجدِ". فَقُلْتُ: إنَّي حَائِضٌ، فقال: " إنَّ حَيْضَتَكِ لَيْسَتْ في يَدِكِ".
وعن النسائي (1/ 147) عن ميمونة رضي الله عنها قالت: تَقُومُ إحْدانا بِالخُمْرَةِ إلى المَسْجدِ فَتَبْسُطُها وهِيَ حَائِضٌ.
[الخمرة: هي السجدة أو الحصير الذي يضعه المصلي ليصلي عليه أو يسجد].
4 - الطواف: ودل على ذلك ما مَّر في الجنابة، رقم (3).
وما رواه البخاري (290)، ومسلم (1211)، عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا لا نُرى إلاَّ الحجَّ، فلمَّا كنَّا بسَرَفٍ حِضْتُ، فدخل علىَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي، قال: " مَا لَكِ أَنَفِسْتِ؟ " قُلْتُ: نعم، قال: " إنَّ هَذا أَمْرُ كَتَبَهُ اللهُ عَلى بَناتِ آدمَ، فاقضِي مَا يَقْضِي الحاجُّ، غير أن لا تطوفي بالبَيْتِ". وفي رواية " حتى تَطْهُري".
[لا نرى: لا نظن أنفسنا إلا محرمين بالحج. بسرف: مكان قرب مكة. أنفستِ: أحضتِ. فاقضي: افعلي ما يفعله الحاجُّ من المناسك].
ويحرم على الحائض زيادة على ذلك أمور أخرى وهي:
1 - عبور المسجد والمرور فيه إذا خافت تلويثه، لأن الدم نجس ويحرم تلويث المسجد بالنجاسة وغيرها من الأقذار، فإذا أمنت التلويث حلَّ لها المرور كما علمت.(1/80)
2 - الصوم: فلا يجوز للحائض أن تصوم فرضاً ولا نفلاً، ودليل ذلك ما رواه البخاري (298)، ومسلم (80)، عن أبي سعيد رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في المرأة وقد سئل عن معنى نقصان دينها: " أَلَيْسَ إذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ؟ ".
وعلى ذلك الإجماع.
وتقضي الحائض ما فاتها من صوم الفرض بعد طهرها، ولا تقضي الصلاة، وإذا طهرت- أي انتهى حيضها - وجب عليها الصوم، ولو لم تغتسل.
روى البخاري (315)، ومسلم (335) واللفظ له، عن معاذة قالت: سألت عائشة رضي الله عنها فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت: "كان يصيبنا ذلك مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة". ولعل الحكمة في ذلك أن الصلاة تكثر فيشق قضاؤها بخلاف الصوم.
3 - الوطء- أي الجماع - والاستمتاع والمباشرة بما بين السرة إلى الركبة: لقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}
[البقرة: 222]. والمراد باعتزالهنَّ ترك الوطء.
وروى أبو داود (212) عن عبدالله بن سعد - رضي الله عنه -: أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما يحلُّ لي من امرأتي وهي حائضُ؟ قال: "لَكَ مَا فّوقَ الإِزَارِ". والإزار الثوب الذي يستر وسط الجسم وما دون، وهو ما بين السرة إلى الركبة غالباً.(1/81)
(3) الولادة
الولادة، وهي وضع الحمل:
قد تكون الولادة ولا يعقب خروج الولد دم، فحكمها حينئذ حكم الجنابة، لأن الولد منعقد من ماء المرأة وماء الرجل. ولا يختلف الحكم مهما اختلف الحمل الموضوع، أو طريقة وضعه. وإذا أعقب خروج الولد دم - وهو الغالب - سمى نفاساً، به أحكام إليك بيانها.
النَّفاس
معناه:
النفاس لغة: الولادة. وشرعاً: الدم الخارج عقب الولادة. وسمي نفاساً، لأنه يخرج عقب خروج النفس، ويقال للمرأة نُفَساء.
والدم الذي يخرج أثناء الطلق، أو مع خروج الولد، لا يعتبر دم نفاس، لتقدمه على خروج الولد، بل يعتبر دم فساد، وعلى ذلك تجب الصلاة أثناء الطلق ولو رأت الدم، وإذا لم تتمكن من الصلاة، وجب قضاؤها.
مدته:
وأقل مدة النفاس لحظة، وقد يمتد أياماً، وغالبه أربعون يوماً وأكثره ستون، فما زاد عليا فهو استحاضة والأصل في هذا الاستقراء، كما علمت في مدة الحيض.
ما يحرم بالنفاس:
أجمع العلماء على أن النفاس كالحيض في جميع أحكامه.(1/82)
رؤية الدم حال الحمل:
إذا رأت الحامل دماً، وبلغت مدته أقل مدة الحيض - وهي يوم وليلة - ولم يتجاوز أكثر مدة الحيض - وهي خمسة عشر يوماً بلياليها- اعتبر هذا الدم حيضاً على الأظهر، فتدع الصلاة والصوم وكل ما يحرم على الحائض. أما إذا كان الدم الذي رأته أقل من مدة الحيض، أو أكثر من مدة أكثره، اعتبر الأقل والزائد دم استحاضة، وأخذ حكمه من حيث الصلاة وغيرها.
وقيل: الدم الذي تراه المرأة الحامل يعتبر دم استحاضة مطلقاً كيف كان، وليس دم حيض، لأن الحمل يسد مخرج الحيض، وهذا الغالب الأكثر، وحيض المرأة أثناء الحمل إن لم يكن ممتنعاً فهو نادر جداً.
مدة الحمل:
أقلُّها: وأقل مدة الحمل ستة أشهر أخذاً من الآيتين الكريمتين: قوله تعالى: {وَفِصَالُهُ في عَامَيْنِ} [لقمان: 14]. أي فطامه عن الرضاع.
فإذا كانت مدة مجموع الحمل والرضاع ثلاثين شهراً، وكانت مدة الرضاع وحده عامين، كانت مدة الحمل ستة أشهر، وهي أقل مدته، فإذا جاءت المرأة بولد بعد الزواج بأقل من ستة أشهر وهو حي، لا يثبت نسبه لأبيه.
غالبها: وغالب مدة الحمل تسعة أشهر، أخذاً من واقع الحال فإن(1/83)
عامة النساء يلدن بعد بدء الحمل بتسعة أشهر، أو يزيد على ذلك أياماً قليلة، أو ينقص.
أكثرها: وأكثر مدة الحمل عند الشافعي رحمه الله أربع سنين، وهي مدة أن لم تكن ممتنعة فيهي نادرة للغاية، ولكنها تقع، وقد وقعت بالفعل، وعلى وقوعها بني الشافعي رحمه الله تعالى قوله.
(4) الموت
إذا مات المسلم وجب على المسلمين تغسيله، وهو واجب كفائي، إذا قام به البعض من أقربائه أو غيرهم سقط الطلب عن الآخرين، وإذا لم يقم به أحد أثِمَ الجميع. وتجب نية الغسل على الغاسل. هذا في غير الشهيد، أما الشهيد فإنه لا يغسَّل، وسيأتي تفصيل أحكام الميت في بحر الجنائز.
ودليل وجوب غسل الميت ما رواه ابن عابس رضي الله عنهما: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال في المُحْرِمِ الَّذي وَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ: " اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ "
[رواه البخاري: 1208، ومسلم: 1206].
[وقصته: رمته وداست عنقه].
ثانياً - الغسل المندوب:
وبعبارة أخرى: الأغسال المسنونة، وهي التي تصح الصلاة بدونها، ولكن الشرع ندب إليها لاعتبارات كثيرة، وإليك بيانها:
1 - غسل الجمعة:
مشروعيته:
يُسنّ الغسل يوم الجمعة لمن يريد حضور الصلاة، وإن لم تجب(1/84)
عليه الجمعة: كمسافرٍ أو امرأةٍ، أو صغير، وقيل: يسن الغسل لكل أحد، حضر الجمعة أم لا - انظر مشروعية الغسل ص72 - ودليل ذلك، قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْتي الجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ" (رواه البخاري: 837، ومسلم: 844، واللفظ له). والأمر هنا للندب، بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الجُمُعَةَ فَبِها ونِعْمَتْ، وَمَنِ اغْتَسَلَ فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ". (رواه الترمذي: 497).
وقته:
ووقت الغسل يوم الجمعة يدخل بأذان الفجر الصادق، وتقريبه من ذهابه إلى الجمعة أفضل، لأنه أبلغ في حصول المقصود من الغسل وهو تطيب رائحة جسمه، وإزالة العرق والرائحة الكريهة، لأن الإسلام إنما سنَّ غسل الجمعة من أجل اجتماع الناس، لئلا يتأذى بعضهم لرائحة كريهة، لذلك نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أكل الثوم والبصل، لمن يريد حضور الصلوات في المساجد.
2 - غسل العيدين:
مشروعيته:
ويسن الغسل يوم عيد الفطر، ويم عيد الأضحى، لمن أراد أن يحضر الصلاة ولمن لم يحضر، لأن يوم العيد يوم زينة، فسنَّ الغسل له.
ودليله: ما رواه مالك في الموطأ (1/ 177) أن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما كانَ يَغْتَسِلُ يَوْمَ الفِطْرِ، قَبْلَ أَنْ يَغْدُو إلى المُصَلَّى.
وقيس بيوم الفطر يوم الأضحى.
ويَعْضُد عمل الصحابي هذا: قياس غسل العيدين على غسل الجمعة، لأن المعنى فيهما واحد، وهو التنظف لاجتماع الناس.(1/85)
وروى ابن ماجه (1315) بسند فيه ضعف، عن ابن عباس - رضي الله عنه - عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغتسل يوم الفطر، ويوم الأضحى ويقوي الحديث ما سبق من عمل الصحابي والقياس.
وقته:
ووقت غسل العيدين يبدأ ينصف الليل من ليلة العيد.
3ـ غسل الكسوفين: كسوف الشمس، وخسوف القمر:
مشروعيته:
ويسن الغسل لصلاة كسوف الشمس، وخسوف القمر.
ودليل ذلك القياس على الجمعة لأنها في معناها من حيث مشروعية الجماعة فيها، واجتمع الناس لها.
وقته:
ويدخل وقت الغسل للكسوفين ببدء الكسوفين، وينتهي بانجلائهما.
4ـ غسل الاستسقاء:
أي لصلاة الاستسقاء يسن الغسل قبل الخروج لصلاة الاستسقاء، قياساً على غسل الكسوفين.
5ـ الغسل من غسل الميت:
ويسن لمن غسل ميتاً أن يغتسل.
ودليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من غسل ميتاً فليغتسل". [رواه أحمد وأصحاب السنن وحسنه الترمذي (993)]. وصرفه عن الوجوب(1/86)
قوله - صلى الله عليه وسلم -: " وليس عليكم في غسل ميتكم غسل إذا غسلتموه" [رواه الحاكم: 1/ 386].
6ـ الأغسال المتعلقة بالحج:
(أ) الغسل للإحرام بالحج أو العمرة:
ودليله ما رواه الترمذي (830) عن زيد بن ثابت الأنصاري - رضي الله عنه -: أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - "تجرد لإهلاله واغتسل".
[تجرد لإهلاله: أي نزع ثياب للإحرام، والإهلال: رفع الصوت بالتلبية عند الإحرام، ويطلق على الإحرام نفسه].
(ب) الغسل لدخول مكة: ودليله: أن ابن عمر - رضي الله عنه - كان لا يقدم مكة إلا بات بذي طوى حتى يصبح ويغتسل، ثم يدخل مكة نهاراً، وكان يذكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فعله. (رواه البخاري: 1478، ومسلم: 1259، واللفظ له).
(ج) الغسل للوقوف بعرفة بعد الزوال:
والأفضل أن يكون بنمرة قرب عرفات.
ودليله: أن علياً - رضي الله عنه - كان يغتسل يوم العيدين ويوم الجمعة، ويوم عرفة، وإذا أراد أن يحرم (1)
وروى مالك في الموطأ (1/ 322) عن نافع: أن عبدالله بن عمر - رضي الله عنه - كان يغتسل لإحرامه قبل أن يحرم، ولدخوله مكة، ولوقوفه عشية عرفة.
_________
(1) رواه الشافعي في مسنده (الأم: 6/ 107).(1/87)
(د) الغسل لرمي الجمار في كل يوم من أيام التشريق الثلاثة بعد الزوال:
لآثار وردت في ذلك كله، ولأنها مواضع اجتماع الناس فأشبه الغسل لها غسل الجمعة.
والجمار: هي الواضع الني يرمى فيها الحصى بمنى، وتطلق أيضاً على الحصيات التي يرمى بهن.
(هـ) الغسل لدخول المدينة المنورة:
إن تيسر له ذلك، قياساً على استحبابه لدخول مكة، لأن كلاً منهما ببلد محرم، فإن لم يستطع اغتسل قبل دخول مكة، لأن كلاً منهما بلد محرم، فإن لم يستطع اغتسل قبل دخوله مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -.
كيفيته:
للغسل كيفية واجبة، وكيفية مسنونة:
الكيفية الواجبة:
هي عبارة عن أمرين، يعبر عنهما في الفقه بفرائض الغسل:
الأول: النية عند البدء يغسل الجسم، لحديث: "إنما الإعمال بالنيات".
وكيفيتها: أن يقول بقلبه ـ وإذا تلفظ بلسانه كان أفضل ـ: نويت فرض الغسل أو نويت رفع الجنابة، أو استباحة الصلاة، أو استباحة مفتقر إلى غسل.
الثاني: غسل جميع ظاهر الجسم بالماء، بشرة وشعراً، مع إيصال الماء إلى باطن الشعر وأصوله.
روى البخاري (253)، عن جابر - رضي الله عنه -، وقد سئل عن(1/88)
الغسل، فقال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأخذ ثلاثة أكف ويفضها على رأسه، ثم يفيض على سائر جسده.
[أكف: أي عرفات بكفيه، كما ورد في رواية عند مسلم (329): "ثلاث حفنات". [والحفنة: ملء الكفين. يفيضها: يصبها. سائر: باقي].
وعند مسلم (330) وغيره، عن على - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من ترك موضع شعره من جنابة لم يصيبها الماء فعل الله به كذا وكذا من النار". قال علي: فمن ثم عاديت شعري. وكان يجز شعره - رضي الله عنه - أي يحلقه.
الكيفية المسنونة:
ويعبر عنها في الفقه بسنن الغسل، وهي:
1ـ يغسل يده خارج إناء الماء ثم يغسل بيساره فرجه على بدنه من قذر، ثم يدلكها بمنظف.
روى البخاري (254)، ومسلم (317)، عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قالت ميمونة: وضعت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ماء للغسل فغسل يديه مرتين أو ثلاثاً ثم أفرغ على شماله، فغسل مذاكيره، ثم مسح يديه بالأرض.(1/89)
2ـ يتوضأ وضوءاً كاملاً، وأن أخر رجليه حتى نهاية الغسل فلا بأس.
3ـ يخلل شعر رأسه بماء، ثم يغسل رأسه ثلاثاً.
4ـ يغسل شقه الأيمن ثم الأيسر.
دل على هذه السنن ما رواه البخاري (245)، ومسلم (316)، عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه. وفي رواية عند مسلم: ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه. وعند البخاري (246) عن ميمونة رضي الله عنها: وغسل فرجه وما أصابه من الأذى، ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول شعره، ثم يصب على رأسه ثلاث غرف بيده ثم يفيض الماء على جلده كله.
ودل على استحباب البدء بالشق الأيمن ما رواه البخاري (166)، ومسلم (268)، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله. [ترجله: تسريح شعر رأسه. طهوره: وضوئه وغسله].
5ـ يدلك جسمه ويولي ـ أي بتتابع ـ بين غسل الأعضاء، خروجاً من خلاف من أوجب ذلك وهم الملكية.
6ـ يتعهد معاطفه بالغسل، وذلك بان يأخذ الماء فيغسل كل موضع من جسمه فيه انعطاف أو التواء، كالأذنين وطيات البطن وداخل السرة والإبط، وإن غلب على ظنه أن الماء لا يصل غليهما إلا بذلك كان واجباً.
7ـ تثليث أعمال الغسل قياساً على الوضوء.(1/90)
مكروهات الغسل:
1ـ الإسراف في الماء لما مر معك في مكروها الوضوء، ولأنه خلاف فعله - صلى الله عليه وسلم -.
روى البخاري (198)، ومسلم (325)، عن أنس - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد، ويتوضأ بالمد.
وروى البخاري (349)، ومسلم (327)، عن جابر - رضي الله عنه - وقد سئل عن الغسل فقال: يكفيك صاعاً، فقال رجل: ما يكفيني؟ فقال جابر كان نكفي من هو أوفي منك شعراً وخير منك.
[أوفي: أكثر، ويعني النبي - صلى الله عليه وسلم -. والصاع: أربعة أمداد، والمد: يساوي مكعباً طول حرفه 2، 9سم].
2ـ الاغتسال في الماء الراكد: لما رواه مسلم (283)، وغيره، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب". فقالوا: يا أبا هريرة. كيف يفعل؟ قال: يتناوله تناولاً. أي يأخذه بيده، أو بإناء صغير. وينوي الاغتراف إن كان الماء قليلاً، حتى لا يصير مستعملاً بمباشرته بجزء من بدنه. أو يأخذ قليلاً من الماء من الوعاء قبل أن ينوي رفع الجنابة، ثم ينوي ويغسل به يده، ثم يتناول بها الماء.
والحكمة من هذا النهي: أن النفس تتقزز من الانتفاع بالماء المغتسل فيه بأي وجه، إلى جانب إضاعة الماء، بخروجه عن صلاحيته للتطهير، إن كان أقل من قلتين، لأنه يصبح مستعملاً بمجرد الاغتسال فيه، والناس في الغالب يحتاجون إلى الانتفاع بالماء الراكد، فلذلك نهي عن الاغتسال فيه.
***(1/91)
التيَمّم
يسر الإسلام:
علمنا أن الوضوء شرط لصحة الصلاة، والطواف، ومس المصحف وحمله، والوضوء إنما يكون بالماء، إلا أن الإنسان قد يتعذر عليه استعمال الماء: إما لفقده، أو بعده، أو لمرض يمنع من استعماله، فمن يسر الإسلام وسماحته أنه شرع التيمم بالتراب الطاهر عوضاً عن الوضوء أو الغسل، حتى لا يحرم المسلم من بركة العبادة.
معنى التيمم:
والتيمم في اللغة: القصد، يقال: تيممت فلاناً أي قصدته.
والتيمم في الشرع: إيصال تراب طهور للوجه واليدين بنية، وعلى وجه مخصوص.
دليل مشروعيته الكتاب والسنة:
أما الكتاب فقوله تعالى: (وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه). (سورة المائدة: 6).
وأما السنة فقوله - صلى الله عليه وسلم -: " وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً، وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء " [رواه مسلم: 522].(1/92)
أسباب التيمم
1ـ فقد الماء حساً: كأن كان في سفر ولم يجد ماء، أو فقده شرعاً: وذلك كأن كان معه ماء ولكنه يحتاج إليه لشربه، قال تعالى: (فلم تجدوا ماء فتيمموا). والمحتاج إليه لشربه ونحوه في حكم المفقود بالنسبة للطهارة.
2 - بعد الماء عنه: فإذا كان بمكان لا ماء فيه، وبينه وبين الماء مسافة فوق نصف فرسخ - أي ما يساوي أكثر من كيلوين متر ونصف الكيلو متر (2. 5كم) - فإنه يتيمم ولا يجب عليه أن يسعى إلى الماء للمشقة.
3 - تعذر استعمال الماء: إما حساً، وذلك كأن الماء قريباً منه لكنه كان بقربه عدو يخاف منه.
وإما شرعاً: وذلك كأن يُخاف من استعمال الماء حدوث مرض، أو زيادته، أو تأخر الشفاء. ففي هذه الحالات يتيمم ولا يجب عليه استعمال الماء لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الذي شجَّ رأسه ثم اغتسل فمات: "إنّما كانَ يَكْفِيهِ أّن يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِبَ على جُرْحه خرقة ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْها وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ".
[انظر دليل مشروعية المسح على الجبيرة].
4 - البرد الشديد: الذي يخاف معه استعمال الماء، ولم يقدر على تسخينه، لأن عمرو بن العاص رضي الله عنه تيمم عن جنابة لخوف الهلاك من البرد، وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم -. [رواه أبو داود، وصححه الحاكم وابن حبان]. لكنه يقضي الصلاة في هذه الحالة عند وجود الماء.(1/93)
شرائط التيمم:
1 - العلم بدخول الوقت.
2 - طلب الماء بعد دخول الوقت.
3 - التراب الطهور الذي لا غبار ولا دقيق ولا جِصّ فيه.
4 - أن يزيل النجاسة أولاً.
5 - وأن يجتهد في القبلة قبله.
أركانه:
وأركان التيمم أربعة وهي:
1 - النية: ومحلها القلب كما علمت، فيقصد في قلبه فعل التيمم، ويسن أن يتلفظ بلسانه فيقول: نويت استباحة الصلاة، أو فرض الصلاة، أو نفلها، ونحو ذلك مما يقصد فعله، فإذا نوى استباحة الفرض جاز له فعل النوافل معه.
2 - مسح وجهه ويديه إلى المرافقين بضربتين وذلك بأن يضرب بكفيه على التراب الطاهر الذي له غبار ويمسح بهما جميع وجهه.
ويضرب بيديه ثانية على التراب، ويمسح بهما يديه إلى المرفقين ويمسح بيده اليسرى يده اليمنى، وبيده اليمنى يده اليسرى.
روى الدارقطني (1/ 256) عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "التيمُّم ضَرْبَتانِ: ضربةٌ للوجه وضربةٌ لليدين إلى المرفقين".
ويستوعب العضو بالمسح، فإذا كان في يده خاتم وجب نزعه في الضربة الثانية، حتى يصل التراب إلى موضعه.(1/94)
3 - الترتيب على هذا الشكل الذي ذكرنا: لأن التيمم بدل عن الوضوء، والترتيب ركن في الوضوء كما علمت، فهو ركن في بدله من بابٍ أولى.
سنن التيمم:
1 - يسن فيه ما يسن في الوضوء، من التسمية أوله، وأن يبدأ بأعلى الوجه، ويقدم اليد اليمنى بالمسح على اليسرى، كما علمت، وأن يمسح جزءاً من الرأس وجزءاً من العضد، وأن يوالي بين مسح الوجه واليدين، وأن يتشهد بعده ويدعو بالدعاء المأثور بعد الوضوء.
روى أبو داود (318) عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما: أنهم تمسحوا وهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصعيد لصلاة الفجر، فضربوا بأكفهم الصعيد مرة أخرى، فمسحوا بأيديهم كلها إلى المناكب والآباط من بطون أكفهم.
[المناكب: جمع منكب، وهو مجتمع العضد مع الكتف،
والآباط: جمع إبط، وهو ما تحت المنكب].
2 - تفريق الأصابع عند الضرب على التراب، إثارة للغبار، واستيعاب الوجه بضربة واحدة، وكذلك اليدين.
3 - تخفيف التراب، بنفض الكفين أو النفع فيهما، لما رواه البخاري من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: " إنَّما يَكْفيكَ أَنْ تصْنَعَ هَكَذَا" فضرب بكفيه ضربة على الأرض ثم نفضهما - وفي رواية أخرى: ونفخ فيهما - ثم مسح بهما.(1/95)
التيمم بعد دخول الوقت:
من توفرت فيه أسباب التيمم ليس له أن يتيمم لصلاة الفريضة إلا بعد دخول وقتها، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فَأَيُّما رَجُلٍ مِنْ أُمتي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاةُ فَلْيُصلِّ" [رواه البخاري: 328] وعند أحمد (2/ 222): "أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت" أي تيممت وصليت. فقد دلت الروايتان على أن التيمم يكون عند إدراك الصلاة، ولا يكون إدراك الصلاة إلا بعد دخول وقتها.
التيمم لكل فريضة:
ولا يصلي بالتيمم إلا فرضاً واحداً، ويصلي ما شاء من السنن وكذلك صلاة الجنازة، فإذا أراد أن يصلي فرضاً آخر تيمم، وإن لم يحدث بعدد تيممه الأول، وسواء كانت الصلاة أداءً أم قضاءً.
روى البيهقي (1/ 221) بإسناد صحيح، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: " يتيمم لكل صلاة وإن لم يحدث ".
التيمم بدل الغسل فريضة:
يكون التيمم - عند توفر أسبابه - بدل الغسل لمن كان في حاجة إليه، كما يكون بدل الوضوء.
قال تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا وأن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءً فتيمموا} [المائدة: 6]
[الغائط: مكان قضاء الحاجة. لامستم: لمستم].
وروى البخاري (341)، ومسلم (682)، عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: كنَّا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فصلى بالناس،(1/96)
فإذا هو برجل معتزل، فقال: "ما منعك أن تصلي"؟ قال: أصابتني جنابة ولا ماء، قال: "عليك بالصعيد فإنه يكفيك" والصعيد: ما صعد على وجه الأرض من التراب.
مبطلاته:
يبطل التيمم وينقضه أمور:
1 - كل ما يبطل الوضوء من النواقض التي ذكرت في الوضوء.
2 - وجود الماء بعد فقده: لأن التيمم بدل الماء، فإذا وجد الأصل بطل البدل.
روى أبو داود (332) وغيره، عن أبي ذر رضي الله عنه: أن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك خير".
[فليمسه بشرته: فليتطهر به، وهذا يدل على بطلان تيممه بوجود الماء].
ولوجود الماء بعد انقضاء الصلاة فقد صحُت صلاته، وليس عليه قضاؤها.
وكذلك لو وجده بعد شروعه في الصلاة فإنه يتمها وهي صحيحة، ولو قطعها ليتوضأ ويصلي بالوضوء كان أفضل.
3 - القدرة على استعمال الماء: كمن كان مريضاً فبريء.
4 - الردة عن الإسلام والعياذ بالله تعالى: لأن التيمم للاستباحة وهي منتفية مع الردة، بخلاف الوضوء والغسل فإنهما رفع للحدث.
****(1/97)
الصَّلاَة
معنى الصلاة:
تطلق كلمة الصلاة في اللغة العربية على الدعاء بخير. قال الله تعالى: {وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم} [التوبة: 103] أي ادع الله لهم بالمغفرة.
أما في اصطلاح الفقهاء: فتطلق كلمة الصلاة على أقوال وأفعال مخصوصة، تفتتح بالتكبير وتختتم بالتسليم. سميت صلاة لأنها تشتمل على الدعاء ولأنه الجزء الغالب فيها، إطلاقاً لاسم الجزء على الكل.
حكمتها:
للصلاة حِكمٌ وأسرار كثيرة تلخصها فيما يلي:
أولاً: أن ينتبه الإنسان إلى هويته الحقيقة، وعي أنه عبدٌ مملوك لله عز وجل، ثم أن يظل متذكراً لها، بحيث كلما أنسته مشاغل الدنيا وعلاقاته بالآخرين هذه الحقيقة جاءت الصلاة فذكرته من جديد بأنه عبد مملوك لله عز وجل.
ثانياً: أن يستقر في نفس الإنسان أنه لا يوجد معين ومنعم حقيقي إلا الله عز وجل وإن كان يرى في الدنيا وسائط وأسباباً كثيرة يبدو - في الظاهر- أنها هي التي تعين وتنعم، ولكن الحقيقة أن الله سخرها جميعاً(1/98)
للإنسان. فكلما غفل الإنسان واسترسل مع الوسائط الدنيوية الظاهرة، جاءت الصلاة تذكرة بأن المسبب هو الله وحده المعين والمنعم، والضار والنافع، والمحيي والمميت.
ثالثاً: أن يتخذ الإنسان منها ساعة توبة يتوب فيها عما يكون قد اقترفه من الآثام، إذ الإنسان معرَّض، في ساعات يومه وليله، لكثير من المعاصي التي قد يشعر بها وقد لا يشعر، فتكون صلاته المتكررة بين الحين والآخر تطهيراً له من تلك المعاصي والأوزار. وقد أوضح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك في الحديث الذي رواه مسلم (668)، عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار غَمْر على باب أحدكم، يغتسل منه كل يوم خمس مرات" قال: قال الحسن: وما يبقى ذلك من الدرن؟.
[غمر: كثير المياه. الدرن: الوسخ، والمراد هنا الدرن المعنوي وهو الذنوب، ويدل على ذلك رواية أبي هريرة - رضي الله عنه - عند مسلم أيضاً (667): "فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا"]
رابعاً: أن تكون غذاءً مستمراً لعقيدة الإيمان بالله تعالى في قلبه.
فإن ملهيات الدنيا ووساوس الشيطان من شأنها أن تنسى الإنسان هذه العقيدة وإن كانت مغروسة في قلبه، فإذا استمر في نسيانه بسبب انصرافه إلى ضجيج الأهواء والشهوات والأصدقاء تحوَّل النسيان إلى جحود وإنكار، كالشجرة التي قطع عنها الماء تذبل حيناً من الزمن ثم يتحول الذبول إلى موت وتتحول الشجرة إلى حطب يابس. ولكن المسلم إذا ما ثابر على الصلاة، كانت غذاءً لإيمانه، ولم تعد الدنيا وملهياتها قادرة على إضعاف الإيمان في قلبه أو أمانته.(1/99)
تاريخ مشروعيتها:
الصلاة من العبادات القديمة في مشروعيتها، فقد قال تعالى عن سيدنا إسماعيل عليه السلام: {وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضياً} [مريم: 55]، فقد عرفتها الحنيفية التي بعث بها إبراهيم، وعرفها أتباع موسى عليه السلام، وقال تعالى على لسان عيسى عليه السلام: {وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً} [مريم: 31]
وعندما بعث نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي ركعتين كل صباح ويصلي ركعتين كل مساء، قيل: وهما المقصودتان بقول الله تعالى خطاباً لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار} [المؤمن: 55]
الصلوات المكتوبة:
وهي الصلوات المفروضة على كل مسلم مكلف وهي: الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء. شرعت هذه الصلوات ليلة أسريَ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت المقدس ثم عرج به إلى السماوات، فقد فرض الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - وسائر المسلمين خمسين صلاة في اليوم والليلة، ثم خففها الله عز وجل إلى خمس صلوات، فهي خمسٌ في الأداء والفعل وخمسون في الأجر.
جاء في حديث الإسراء والمعراج الذي رواه البخاري (342)، ومسلم (163)، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "فرج عن سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل .. ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء ... ففرض الله(1/100)
على أمتي خمسين صلاة ... فراجعته فقال: هي خمس وهي خمسون لا يبدل القول لدي".
والصحيح أن حادثة الإسراء كانت قبل هجرة النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة بثمانية عشر شهراً، وإذا فإن الصلوات الخمس المكتوبة نسخت الركعتين اللتين كانتا في الصباح والمساء.
دليل مشروعيتها:
ثبتت مشروعية الصلاة بآيات كثيرة من كتاب الله، وبأحاديث كثيرة من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
فمن القرآن: قوله تعالى: {فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون*وله الحمد في السموات والأرض وعشياً وحين تظهرون} [الروم: 17و18]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: أراد بقوله: {حين تمسون}: صلاة المغرب والعشاء، {وحين تصبحون}: صلاة الصبح، {وعشياً}: صلاة العصر، {وحين تظهرون} صلاة الظهر.
وقوله تعالى: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً} [النساء: 103]. أي محتمة وموقتة بأوقات مخصوصة.
ومن السنة: حديث الإسراء السابق: وما رواه البخاري (1331)، ومسلم (19)، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث معاذاً - رضي الله عنه - إلى اليمن فقال: "ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني محمداً رسول الله، فإن هم(1/101)
أطاعوا لذلك فأعلمهم أن لله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة .. "
وقوله - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي الذي سأله عما يجب عليه من الصلاة: "خمس صلوات في اليوم والليلة" قال الأعرابي: هل علي غيرها؟ قال "لا إلا أن تطوع"" (رواه البخاري: 46، ومسلم: 11).
مكانتها في الدين:
الصلاة أفضل العبادات البدنية على الإطلاق، فقد جاء رجل يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أفضل الأعمال فقال له: "الصلاة" قال: ثم مه؟ قال: "ثم الصلاة" قال: ثم مه؟ قال: "الصلاة" قال: ثلاث مرات. (رواه ابن حبان: 258).
وقد ثبت في الصحيحين أن الصلاتين يؤديهما المسلم أداء سليماً تكونان كفارة لما بينهما من الذنوب، فعند البخاري (505)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الصلوات الخمس يمحو الله بها الخطايا".
وعند مسلم (231)، عن عثمان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من أتم الوضوء كما أمره الله تعالى فالصلوات المكتوبات كفارات لما بينهن".
كما أن التهاون في الصلاة تأخيراً أو تركاً، من شأنه أن يؤدي بصاحبه ـ إن هو استمر على ذلك ـ إلى الكفر. إذا الصلاة هي الغذاء الأول للإيمان كما قد علمت.
دوى الإمام أحمد (6/ 421)، عن أم أيمن رضي الله عنها أن(1/102)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تتركي الصلاة متعمداً، فإنه من ترك الصلاة متعمداً فقد برئت منه ذمه الله ورسوله". وروي مثله عن معاذ - رضي الله عنه - (5/ 238)
حكم تارك الصلاة:
تارك الصلاة إما أن يكون قد تركها كسلاً وتهاوناً، أو تركها جحوداً لها، أو استخفاً بها:
فأما من تركها جاحداً لوجوبها، أو مستهزئاً بها، فإنه يكفر بذلك ويرتد عن الإسلام، فيجب على الحاكم أن يأمره بالتوبة، فإن تاب وأقام الصلاة فذاك، وإلا قبل على أنه مرتد، ولا يجوز غسله ولا تكفينه ولا الصلاة عليه، كما لا يجوز دفنه في مقابر المسلمين، لأنه ليس منهم.
وأما إن تركها كسلاً، وهو يعتقد وجوبها، فإنه يكلف من قبل الحاكم بقضائها والتوبة عن معصية الترك. فإن لم ينهض إلى قضائها وجب قتله حداً، أي يعتبر قتله حداً من الحدود المشروعة لعصاة المسلمين، وعقوبة على تركه فريضة يقاتل عليها. ولكنه يعتبر مسلماً بعد قبله ويعامل في تجهيزه ودفنه وميراثه معاملة المسلمين لأنه منهم.
روى البخاري (25)، ومسلم (22)، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله".
دليل الحديث على أن من أقر بالشهادتين بقاتل إن لم يقم الصلاة،(1/103)
ولكنه لا يكفر، بدليل ما رواه أبو داود (1420) وغيره، عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: سمعت - صلى الله عليه وسلم - يقول: "خمس صلوات كتبهن الله على العباد، فمن جاء بهن، لم يضع منهن، شئ استخفافاً بحقهن، كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأتي بهن فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه، وإن شاء أدخله الجنة".
فقد دل على أن تارك الصلاة لا يكفر، لأنه لو كفر لم يدخل في قوله: "وإن شاء أدخله الجنة"، إذ الكافر لا يدخل الجنة قطعاً، فحمل على من تركها كسلاً، جمعاً بين الأدلة.
روى مسلم (82) وغيره، عن جابر - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة". وهو محمول على الترك جحوداً وإنكاراً لفريضتها، أو استهزاء بها واستخفافاً بشأنها.
أوقات الصلوات المفروضة:
الصلوات الخمس، كل منها لها وقت معين، ذو بداية لا تصح إذا قدمت عليها، وذو نهاية لا يجوز تخيرها عنها.
قال لله تعالى: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا ًموقوتاً} [النساء: 103].
أي كانت فريضة محددة بأوقات مخصوصة. وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن جبريل عليه السلام جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن فرضت الصلوات الخمس، يعرفه أوقاتها، ويضبط له وقت كل منها ابتداءً وانتهاءً.
[أنظر سنن أبي داود كتاب الصلاة، باب ما جاء في المواقيت رقم (393)، والترمذي أول كتاب الصلاة رقم (149)].(1/104)
كما بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك للمسلمين بالقول والفعل.
والحديث الذي يجمع مواقيت الصلوات الخمس ما رواه (مسلم: 614) وغيره، عن أبي موسى الأِشعري - رضي الله عنه -، عن الني - صلى الله عليه وسلم -: إنه أتاه سائل يسأله عن مواقيت الصلاة فلم يرد عليه شيئاً. وفي رواية أخرى قال: "اشهد معنى الصلاة. قال: فأقام الفجر حين أنشق الفجر، والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضاً، ثم أمره فأقام بالظهر حين زالت الشمس، والقائل يقول: قد انتصف النهار وهو كان أعلم منه، ثم أمره فأقام بالعصر والشمس مرتفعة ثم أمره فأقام بالمغرب حين وقعت الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق.
ثم أخّر الفجر من الغد، حتى انصرف منها والقائل يقول: قد طلعت الشمس أو كادت، ثم أخر الظهر حتى كان قريباً من وقت العصر بالأمس، ثم أخر العصر حتى أنصرف منها والقائل يقول: قد أحمرت الشمس، ثم أخّر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق، ثم أخر العشاء حتى كان ثلث الليل الأول ثم أصبح، فدعا السائل فقال: "الوقت بين هاذين".
[انشق الفجر: طلع ضوءه. زالت: مالت عن وسط السماء. الشفق: الحمرة التي تظهر بعض غروب الشمس. سقوط الشفق: غيابه".
وهناك أحاديث بينت بعض ما أجمل فيه، أو زادت عليه، كما سترى في تفصيل وقت كل صلاة، واليك بيانها:
" الفجر":
يدخل وقته ظهور الفجر الصادق ويمتد إلى طلوع الشمس، قال(1/105)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " وقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس" (رواه مسلم: 612).
" الظهر":
يبدأ وقته بانحراف الشمس عن منتصف السماء نحو الغروب ـ ويسمونه الزوال ـ حيث يظهر للشاخص عندئذ ظل يسير يبدأ بالامتداد نحو جهة الشرق- ويسمونه ظل الزوال-. ويمتد وقته إلى أن يصير طوال ظل الشئ مثله، علاوة على ظل الزوال الذي كان علامة على أول وقت الظهر.
روى مسلم (612) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "وقت الظهر إذ زالت الشمس، وكان ظل الرجل كطوله، ما لم يحضر العصر".
" العصر":
يبدئ وقته بنهاية وقت الظهر ويستمر حتى تغرب الشمس، دل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر" (رواه البخاري: 554، ومسلم 618).
ولكن الاختيار أن لا يؤخرها المصلي عن مصير ظل الشئ مثليه علاوة على ظل الزوال، لما مر معك في حديث المواقيت، ولقول - صلى الله عليه وسلم -: "ووقت العصر ما لم تصفر الشمس" (رواه مسلم: 612). وهو محمول على الوقت المختار.
"المغرب":
يبتدئ وقته بغروب الشمس، ويمتد حتى يغيب الشفق الأحمر ولا يبقى له أثر في جهة الغرب.(1/106)
والشفق الأحمر: وهو بقايا من آثار ضوء الشمس، يظهر في الأفق الشرقي عند وقت الغروب، ثم أن الظلام يطارده نحو الغروب شيئاَ فشيئاً.
فإذا أطبق الظلام وامتد إلى الأفق الغربي، وزوال أثر الشفق الأحمر، فذلك يعني انتهاء وقت المغرب ودخول وقت العشاء.
دل على ذلك حديث المواقيت، مع قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وقت المغرب ما لم يغب الشفق" (رواه مسلم 612).
"العشاء":
يدخل وقته بانتهاء وقت المغرب ويستمر إلى ظهور الفجر الصادق. والاختيار ألا تؤخر عن الثلث الأول من الليل.
والمقصود بالفجر الصادق ضياء ينتشر ممتداً مع الأفق الشرقي، وهو انعكاس لضوء الشمس تقبل من بعيد. ثم إن هذا الضياء يعلو نحو السماء شيئاً فشيئاً إلى أن يتكامل بطلوع الشمس. ودل على وقت العشاء ابتداءً وانتهاءً واختياراً: ما جاء في حديث المواقيت مع ما رواه مسلم (681) وغيره، عن أبي قتادة - رضي الله عنه - إنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "أما أنه ليس في النوم تفريط، وإنما التفريط على من يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى".
فدل على أن وقت الصلاة لا يخرج إلا بدخول غيرها وخروج الصبح من هذا العموم.
هذه هي أوقات الصلاة الخمس، ولكن ينبغي أن لا يتعمد المسلم تأخيرها إلى أواخر أوقاتها، محتجاً باتساعها، إذ ربما تسبب عن ذلك(1/107)
إخراجها عن وقتها، بل ربما تسبب عن هذا التهاون تركها، وإنما يسن تعجيل الصلوات لأول الوقت، وقد سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أفضل الأعمال؟ فقال: "الصلاة على وقتها"، أي عند أول وقتها. " (رواه البخاري: 504، ومسلم: 85)
وأعلم أن من وقع بعض صلاته في الوقت، وبعضها خارجه: فإنه إن وقع ركعة في الوقت كانت الصلاة أداء، وإلا كانت قضاءً، ودليل ذلك ما روه (البخاري: 554، ومسلم: 608)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أدرك أن الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر". وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة" (رواه البخاري: 555، ومسلم: 607).
الأوقات التي تكره فيها الصلاة:
تكره الصلاة كراهة التحريم:
1 - عند الاستواء إلاّ يوم الجمعة، وبعد صلاة الصبح حتى ترتفع الشمس كرمح في النظر.
2 - وبعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس.
ودليل ذلك ما رواه مسلم (831) عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: ثلاث ساعات كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهانا أن نصلي فيهن، وأن نقبر موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب.
[بازغة: المراد أول ظهور قرصها. وقائم الظهيرة: أصله أن البعير(1/108)
يكون باركاً فيقوم من شدة حر الأرض، فصار يكني به عند شدة الحر. تميل: عن وسط السماء. تضيف: تميل مصفرة وتقرب من الغروب].
وهذه الكراهة إلا لم يكن للصلاة سبب متقدم، أو تعمد الدفن فيها.
وأما إذا لم يتعمد فيها الدفن وجاء اتفاقاً، أو كان للصلاة سبب متقدم كسنة الوضوء وتحية المسجد وقضاء الفائتة، فأنه لا كراهة في ذلك.
ويدل على عدم الكراهة: ما رواه (البخاري: 572، ومسلم: 684)، عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: من نسى صلاة فليصلِّ إذا ذكرها لا كفارة لها إلا إذا: {وأقم الصلاة لذكري} [طه: 14].
فقوله: "إذا ذكرها": يدل على أن وقتها المشروع، والمطالب بصلاتها فيه، هو وقت الذكر، وقت يذكرها في أحد الأوقات المنهي عنها، فدل على استثناء ذلك من النهي.
وما رواه (البخاري: 1176، ومسلم: 834)، وعن أم سلمة رضي الله عنها: إنه - صلى الله عليه وسلم -: صلى ركعتين بعد العصر، فسألته عن ذلك فقال: "يا بنت أبي أمية، سألت عن الركعتين بعد العصر، وإنه آتاني ناس من عبد القيس، فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر، فهما هاتان".
وقيس على القضاء غيره مما له سبب متقدم من الصلوات.
ويستثنى من هذا النهي مطلقاً حرم مكة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " يا بني(1/109)
عبد مناف لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى أيَّة ساعة شاء من ليل أو نهار" (رواه الترمذي: 868، وأبو داود: 1894).
إعادة الصلاة المكتوبة وقضاءها:
أما الإعادة:
فهي أن يؤدي صلاة من الصلوات المكتوبة، ثم يرى فيها نقصاً أو خللً في الآداب أو المكملات، فيعيدها على وجه لا يكون فيها ذلك النقص أو الخلل.
وحكمها: الاستحباب. ومثال ذلك أن يكون قد صلى الظهر منفرداً، ثم يدرك من يؤدي هذه الصلاة جماعة، فيسن أن يعيدها معه. والفرض بالنسبة له هو الصلاة الأولى، وتقع الثانية نافلة.
روى الترمذي (219)، إنه - صلى الله عليه وسلم - صلى الصبح فرأى رجلين لم يصليا معه فقال: " ما منعكم أن تصليا معنا؟ ) فقال: " يا رسول الله، إنا كنا قد صلينا في رحالنا. قال: " فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة، فصليا معهم، فإنها لكما نافلة".
[رحالنا: منازلنا ومساكننا].
أما إذا لم يكن في الأولى خلل أو نقص، ولم تكن الصلاة أتم من الأولى، فلا تسن الإعادة.
وأما القضاء:
فهو تدارك الصلاة بعد خروج وقتها، أو بعد أن لا يبقى من وقتها ما يسع ركعة فأكثر وإلا فهي أداء كما قدمنا سابقاً.
وقد اتفق جمهور العلماء من مختلف المذاهب على أن تارك(1/110)
الصلاة يكلف بقضائها، سواء تركها نسياناً أم عمداً، مع الفارق التالي: وهو أن التارك لها بعذر كنسيان أو نوم لا يأثم، ولا يجب عليه المبادرة إلى قضائها فوراً، أما التارك لها بغير عذر- أي عمداً - فيجب عليه - مع حصول الإثم - المبادرة إلى قضائها في أول فرصة تسنح له.
ودليل وجوب القضاء للصلاة المتروكة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك" (رواه البخاري: 572، ومسلم: 684، وغيرهما).
فقوله: " لا كفارة لها إلا ذلك": يدل على أنه لا بد من قضاء الفرائض الفائتة، مهما كثر عددها أو بعد زمانها.
من تجب عليه الصلاة؟
تجب الصلاة على كل مسلم ذكراً أو أنثى، بالغ عاقل طاهر.
فلا تجب على كافر، وجوب مطالبة بها في الدنيا، لعدم صحتها منه، لكن تجب عليه وجوب عقاب عليها في الآخرة، لتمكنه من فعلها بالإسلام، ودليل ذلك قوله تعالى: {ما سلككم في سقر* قالوا لم نك من المصلين* ولم نك نطعم المسكين* وكنا نخوض مع الخائضين* وكنا نكذب بيوم الدين* حتى أتانا اليقين} (المدثر: 42 - 47).
[سلككم: أدخلكم وحبسكم. سقر: جهنم، يقال: سقرته الشمس لوحت جلده وغيرت لونه. نخوض: نتكلم الباطل ونفعله. اليقين: الموت، أو الإطلاع على الحقيقة بيوم القيامة].
ولا تجب على صبي صغير لعدم تكليفه، ولا على مجنون لعدم(1/111)
إدراكه، ولا على حائض أو نفساء لعدم صحتها منهما، لقيام المانع منها وهو الحدث فيهما.
وإذا أسلم الكافر فإنه لا يكلف قضاء ما فاته ترغيباً له في الدين، ولقوله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} (الأنفال: 38).
إلا المرتد فيلزمه قضاء ما فاته أيام ردته بعد إسلامه تغليظاً عليه.
ولا يجب قضاء ما فات الحائض والنفساء من الصلاة أيام الحيض والنفاس، أن في وجوب القضاء مشقة عليهما.
وكذلك لا يجب القضاء على المجنون والمغمى عليه إذا أفاقا من الجنون والإغماء، ودليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يعقل" (رواه أبو داود: 4403، وغيره). [يحتلم: يبلغ].
فالحديث ورد في المجنون، وقيس عليه كل من زال عقله بسبب عذر فيه، وإنما وجب القضاء على النائم بالحديث الذي مر سابقاً: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها". هذا ويجب أن يؤمر الصبي بالصلاة بعد استكماله سن السابعة، ويضرب على تركها إذا بلغ عشر سنين تعويداً له على الصلاة.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين وإذا بلغ عشراً فاضربوه عليها" (رواه أبو داود: 494، والترمذي: 407، ولفظه: "علموا الصبي". وقال: حديث حسن صحيح).
*****(1/112)
الأذَانُ وَالإِقامَة
الأذان:
أما الأذان فذِكرٌ مخصوص، شرعه الإسلام للإعلام بدخول وقت الصلاة المفروضة، ولدعوة المسلمين إلى الاجتماع إليها.
حكم الأذان:
والأذان سنة للصلاة الحاضرة والفائتة، سنة مؤكدة على الكفاية في حق الجماعة، أما بالنسبة للمنفرد فهو سنة عينية. وللأذان أهمية كبرى في إظهار شعيرة من شعائر الإسلام.
دليل تشريعه:
ودليل تشريع الأذان القرآن والسنّة:
فأما القرآن: فقوله تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} (الجمعة: 99).
وأما السنة: فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم". ... (رواه البخاري: 602، ومسلم: 674).
بدء تشريعه:
كان تشريع الأذان في السنة الأولى للهجرة، روى البخاري (579)، ومسلم (377)، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان(1/113)
المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة، ليس ينادي لها، فتكلموا يوماً في ذلك، فقال بعضهم: اتخذوا ناقوساً مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: بل بوقا مثل قرن اليهود، فقال عمر - رضي الله عنه -: أولاً تبعثون رجلاً ينادي بالصلاة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا بلال قم فناد بالصلاة".
[فيتحينون: من الحين وهو الوقت والزمن، أي يقدرون حينها ليأتوا إليها. قرن: هو البوق الذي له عنق يشبه القرن].
وصيغة الأذان: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداَ رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله.
ونضيف في أذان الفجر: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، بعد قوله: على الفلاح الثانية.
وقد ثبتت هذه الصيغة بالأحاديث الصحيحة، عند البخاري ومسلم وغيرهما.
شروط صحة الأذان:
ويشترط لصحة الأذان الأمور التالية:
1 - الإسلام: فلا يصح الأذان من كافر لعدم أهليته للعبادة.
2 - التمييز: فلا يصح من صبي غير مميز لعدم أهليته للعبادة أيضاً، وعدم ضبطه للوقت.(1/114)
3 - الذكورة: فلا يصح أذان المرأة للرجال، كما لا تصح إمامتها لهم.
4 - وترتيب كلمات الأذان للإتباع في ذلك، ولأن ترك الترتيب يوهم اللعب ويخل بالإعلام.
5 - والولاء بين كلماته، بحيث لا يقوم فاصل كبير بين الكلمة والأخرى.
6 - ورفع الصوت إذا كان يؤذن لجماعة، أما إذا كان يؤذن لمنفرد فيسن رفع الصوت في غير مسجد وقعت فيه جماعة، أما إذا أذن لمنفرد في مسجد وقعت فيه جماعة فيسن خفض الصوت لئلا يتوهم السامعون دخول الصلاة الأخرى.
روى البخاري (584) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: "إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت للصلاة، فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شئ إلا شهد له يوم القيامة".
أما جماعة النساء:
فلا يندب لهن الأذان: لأن في رفع صوتهن يخشى الفتنة، ويندب لهن الإقامة، لأنها لاستنهاض الحاضرين وليس فيها رفع صوت كالأذان.
7 - دخول الوقت، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا حضرت الصلاة فيؤذن لكم أحدكم " (رواه البخاري: 603، ومسلم: 674). ولا تحضر الصلاة إلا بدخول وقتها. ولأن الأذان للإعلام بدخول الوقت، فلا يصح قبله(1/115)
بالإجماع، إلا في الصٌّبح، فإنه يجوز من نصف الليل لما سيأتي في سنن الأذان.
سنن الأذان:
ويسنّ للأذان الأمور التالية:
1 - أن يتوجه المؤذن إلى القبلة، لأنها أشرف الجهات وهو المنقول سلفاً وخلفاً.
2 - وأن يكون طاهراً من الحدث الأصغر والأكبر، فيكره الأذان للمحدث، وأذان الجنب أشد كراهة.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كرهت أن أذكر الله عز وجل إلا على طهر" أو قال: "على طهارة" (رواه أبو داود: 17، وغيره).
3 - وأن يؤذن قائماً، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " يا بلال قم فناد للصلاة".
4 - أن يلتفت بعنقه - لا بصدره - يميناً في "حيَّ على الصَّلاة"، ويساراً في "حيَّ على الفَلاح".
روى البخاري (608) أن أبا جحيفة - رضي الله عنه - قال: رأيت بلالاً يؤذن، فجعلت أتتبع فاه هنا وهنا بالأذان يميناً وشمالاً: حتى على الصلاة حتى على الفلاح.
5 - أن يرتَّل كلمات الأذان، وهو التأني فيه، لأن الأذان إعلامٌ للغائبين، فكان الترتيل فيه أبلغ في الإعلام.
6 - الترجيع بالأذان، وهو أن يأتي المؤذن بالشهادتين سراً قبل أن يأتي بهما جهراً، لثبوت ذلك في حديث أبي محذورة - رضي الله عنه -(1/116)
الذي رواه مسلم (379) وفيه: "ثم يعود فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله".
7 - التثويب في أذان الصبح، وهو أن يقول بعد حيَّ على الفلاح: الصلاة خيرٌ من النوم مرتين، لورود ذلك في حديث أبي داود (500).
8 - أن يكون المؤذن صيَتاً حين الصوت، ليرقّ قلب السامع، ويميل إلى الإجابة، لقوله - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن زيد - رضي الله عنه -، الذي رأى الأذان في النوم: " فقم مع بلال، فألق عليه ما رأيت فليؤذن به، فإنه أندى صوتاً منك" (رواه أبو داود: 499، وغيره).
[قال في المصباح: أندى صوتاً منه كناية عن قوته وحسنه].
9 - أن يكون المؤذن معروفاً بين الناس بالخلق والعدالة، لأن ذلك أدعى لقبول خبره عن الأوقات، ولأن خبر الفاسق لا يقبل.
10 - عدم التمطيط بالأذان، أي تمديده والتغني به، بل يكره ذلك.
11 - ويسن مؤذنان في المسجد لأذان الفجر، يؤذن واحد قبل الفجر، والآخر بعده ودليل ذلك حديث البخاري (592) ومسلم (1092): " إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم".
12 - ويسن لسامع الأذان الإنصات، وأن يقول كما يقول المؤذن، ودليل ذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن" (رواه البخاري: 586، ومسلم: 383).(1/117)
لكن يقول في الحيعلتين: لا حول ولا قوة إلا بالله. ودليل ذلك حديث البخاري (588) ومسلم (385) واللفظ له: "وإذا قال حي على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، وإذا قال حي على الفلاح، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله" وجاء في آخر الحديث أن: "من قال ذلك من قلبه دخل الجنة". ويسن أن يقول في التثويب: صدقت وبررت أي صدقت بالدعوة إلى الطاعة، وأنها خير من النوم، وصرت باراً.
13 - الدعاء والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الأذان:
ويسن للمؤذن وللسامع، إذا انتهى المؤذن من أذانه أن يصليا على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويدعوا له لما ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - وحضنا عليه:
روى مسلم (384) وغيره، عن عبدالله بن عمرو - رضي الله عنه -: أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليّ، فإنه من صلى عليّ صلاة صلى الله بها عليه عشراً. ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة، لا تنبغي إلا لعبدٍ من عباد الله، وأرجو أن أكون هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة".
أي استحقها ووجبت له.
وروى البخاري (579) وغيره عن جابر رضي الله عنه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آتِ سيِّدنا محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة".
[الدعوة التامة " دعوة التوحيد التي لا ينالها تغيير ولا تبديل].
الفضيلة: المرتبة الزائدة على سائر الخلائق. مقاماً محموداً: يحمد(1/118)
القائم فيه. الذي وعدته: يقول سبحانه: {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً} (الإسراء: 22)
ويقول المؤذن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - والدعاء بصوت أخفض من الأذان ومنفصل عنه، حتى لا يتوهم أنها من ألفاظ الأذان.
الإقامة:
وأما الإقامة: فهي نفس الأذان مع ملاحظة الفوارق التالية:
1 - الأذان مثنى، والإقامة فرادى. ودليل ذلك حديث أنس - رضي الله عنه - عند البخاري (580)، ومسلم (378): أمر بلال أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة، إلا الإقامة - أي لفظ قد قامت الصلاة - فإنها تكرر مرتين.
وصيغة الإقامة كاملة: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حيَّ على الصلاة، حيّ على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله.
وقد ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة عند البخاري ومسلم وغيرهما.
2 - الترسل والتمهُّل في الأذان، والإسراع في الإقامة، لأن الأذان للغائبين، فكان الترتيل فيه أبلغ، والإقامة للحاضرين، فكان الإسراع فيها أنسب.
3 - من كان عليه فوائت وأراد أن يقضيها أذَّن للأولى فقط، وأقام لكل صلاة، ودليل ذلك أن الني - صلى الله عليه وسلم -: "جمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة بأذان واحد وإقامتين" (رواه مسلم: 1218).(1/119)
شروطها:
هي نفس شروط الأذان.
سنن الإقامة:
وسنن الإقامة هي أيضاً سنن الأذان، ويزاد استحباب أن يكون المؤذَّن هو المقيم.
ويسنُّ للسامع أن يقول: أقامها الله وأدامها (رواه أبو داود: 528).
النداء للصلوات غير المفروضة:
الأذان والإقامة سنة مؤكدة للصلوات المفروضة، أما غيرها مما تسنُّ فيه الجماعة كالعيدين والكسوفين والجنازة، فلا يسن فيها الأذان والإقامة، وإنما يقول فيها: الصلاة جامعة.
روى البخاري (1003)، ومسلم (910)، عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: لما انكسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نودي: "الصلاة جامعة".
وقيس على صلاة الكسوف ما في معناها من الصلوات المسنونة التي تشرع فيها الجماعة.
*****(1/120)
شرُوط صِحَّةِ الصَّلاَة
معنى الشرط:
شرط الشيء كل ما يتوقف عليه وجود ذلك الشيء، وهو ليس جزءاً منه.
مثاله: النبات: لا بد لوجوده على وجه الأرض من المطر، مع العلم بأن المطر ليس جزءاً من النبات، فالمطر إذاً شرط لوجود النبات.
والآن، ما هي شروط صحة الصلاة؟ تتلخص شروطها عند الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في الأمور الأربعة التالية:
1 - الطهارة:
وقد عرفت معنى الطهارة في باب الطهارة وهي تنقسم إلى أنواع، لابدَّ من توفر كل واحد منها لصحة الصلاة، وهي:
(أ) طهارة الجسم من الحدث: فالمُحدث لا تصح صلاته، سواءً كان الحدث أصغر - وهو فقد الوضوء- أو أكبر كالجنابة، لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: "لا تقبل صلاة بغير طهور" (رواه مسلم: 224).
(ب) طهارة البدن من النجاسة: وقد عرفت معنى النجاسة وأنواعها في باب الطهارة أيضاً. ودليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في اللذين يعذبان(1/121)
في قبرهما: "أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول" (رواه البخاري: 215، ومسلم: 292). وفي رواية لا يستتر، وأخرى: لا يستنزه، وكلها صحيحة ومعناها: لا يتجنبه ويتحرز منه.
ومثل البول كل النجاسات المختلفة الأخرى، قال - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها: "فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي" (رواه البخاري: 266، ومسلم: 333).
(ج) طهارة الثياب من النجاسة: فلا يكفي أن يكون الجسم نقياً عن النجاسة، بل لا بد أن تكون الثياب التي يرتديها المصلي نقية أيضاً عن جميع النجاسات، دليل ذلك قول الله جل جلاله: {وثيابك فطهر} [المدثر: 4]
وروى أبو داود (365)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن خولة بنت يسار أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إنه ليس لي إلا ثوب واحد، وأنا أحيض فيه، فكيف أصنع؟ قال: "إذا طهرت فاغسليه ثم صلى عليه" فقالت فإن لم يخرج الدم؟ قال: " يكفيك غسل الدم، ولا يضرك أثره".
(د) طهارة المكان عن النجاسة: ويقصد بالمكان الحيِّز الذي يشغله المصلي بصلاته فيدخل في المكان ما بين موطئ قدمه إلى مكان سجوده، مما يلامس شيئاً من بدنه أثناء الصلاة، فما لا يلامس البدن لا يضر أن يكون نجساً، مثل المكان الذي يحاذي صدره عند الركوع والسجود، ودليل هذا الشرط أمره - صلى الله عليه وسلم - بصب الماء على المكان الذي بال(1/122)
فيه الأعرابي في المسجد (رواه البخاري: 217)، وقياساً للمكان على الثوب، لأن المكان كالثوب في ملامسة البدن.
2 - العلم بدخول الوقت:
وقد عرفت أن لك من الصلوات المكتوبة وقتاً معيناً، يجب أن تقع فيه ... غير أنه لا يكفي أن تقع الصلاة في الوقت، بل لا بد أن يعلم المصلي ذلك قبل المباشرة بالصلاة، فلا تصح صلاة من لم يعلم دخول وقتها، وإن تبيَّن له بعد ذلك أنها صادفت وقتها المشروع.
* كيفية معرفة دخول الوقت:
ويعرف دخول وقت الصلاة بوسيلة من الوسائل الثلاثة الآتية:
العلم اليقيني: بأن يعتمد على دليل محسوس، كرؤية الشمس وهي تغرب في البحر.
الاجتهاد: بأن يعتمد على أدلة ظنية ذات دلالة غير مباشرة، كالظل، والقياس بالأعمال وطولها.
التقليد: إذا لم يمكن العلم اليقيني أو الاجتهاد، كجاهل بأوقات الصلاة ودلائلها، فيقلد إما العالم المعتمد على دليل محسوس، أو المجتهد المعتمد على الأدلة الظنية.
* حكم صلاة من صلى خارج الوقت:
إذا تبين للمصلي أن صلاته قد وقعت قبل دخول الوقت تعتبر باطلة وتجب إعادتها، سواء كان معتمداً على علم أو اجتهاد أو تقليد.(1/123)
3 - ستر العورة:
هذا هو الشرط الثالث من شروط صحة الصلاة، ولا بد لمعرفة هذا الشرط من بيان الأمور التالية:
(أ) معنى العورة:
يقصد بكلمة العورة شرعاً: كل ما يجب ستره أو يحرم النظر إليه.
(ب) حدود العورة في الصلاة:
حدودها بالنسبة للرجل: ما بين السرة والركبة، فيجب أن لا يبدوا شئ منه في الصلاة.
وحدودها بالنسبة للمرأة: كل البدن ما عدا الوجه والكفَّين، فيجب أن لا يبدو شئ مما عدا ذلك في الصلاة.
قال الله تعالى: {خذوا زينتكم عند كل مسجد} [الأعراف: 31].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: المراد به الثياب في الصلاة (مغني المحتاج: 1/ 184].
وروى الترمذي (277) وحسَّنه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقبل صلاة الحائض إلا بخمارٍ".
(والحائض: البالغ، لأنها بلغت سن الحيض. والخمار: ما تغطي به المرأة رأسها، وإذا وجب ستر الرأس فستر سائر البدن أولى].
(ج) حدود العورة خارج الصلاة:
*حدود عورة الرجل ما بين السرَّة والركبة بالنسبة للرجال أيَّاً كانوا، وبالنسبة لمحارمه من النساء.(1/124)
أما عند النساء الأجنبيات فما عدا الوجه والكفين على المعتمد (1).
أي لا يجوز للنساء الأجنبيات أن ينظرن إلى ماعدا وجه الرجل الأجنبي وكفيه، فإن كان النظر بشهوة حرم بالنسبة للوجه أيضاً.
قال الله تعالى: {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن} [النور: 31].
*وحدود عورة المرأة: عند النساء المسلمات ما بين سرتها وركبتها. أما عند النساء الكافرات، فما عدا الذي يظهر منها لضرورة القيام إلى عمل ما كخدمة البيت ونحوه.
وأما عند الرجال المحارم لها: فما بين السرة والركبة، أي فيجوز لها أن تبدي سائر أطراف جسمها أمامهم بشرط أمن الفتنة وإلا فلا يجوز ذلك أيضاً.
قال تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو بني أخواتهن أو نسائهن} [النور: 31].
وفسرت الزينة بمواضعها فوق السرة أو تحت الركبة.
(بعولتهن: أزواجهن. نسائهن: النساء المسلمات).
_________
(1) ودليله ما روته أم سلمة قالت:
كنت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده ميمونة فأقبل ابن أم مكتوم وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " احتجبا منه "، فقلنا: يا رسول الله أليس أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه؟ " (رواه أبو داود: 4112، والترمذي: 2778، وقال حسن صحيح).(1/125)
وأما عند الرجال الأجانب فجميعها عورة، فلا يجوز لها أن تكشف شيئاً من بدنها أمامهم إلا لعذر، كما لا يجوز لهم أن ينظروا إليها أن كشفت شيئاً من ذلك.
قال تعالى: {قل للمؤمنات يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم} [النور: 30]
وروى البخاري (365)، عن عائشة رضي الله عنها قالت: لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الفجر، فيشهد معه نساء من المؤمنات، ملتفعات في مروطهن، ثم يرجعن إلى بيتهن، ما يعرفهن أحد".
(ملتفعات في مروطهن: متلففات بأكسيتهن، واللفاع: ثوب يجلل به الجسد كله).
أما حالات جواز كشف العورة والنظر إليها لعذر:
1 - عند الخطبة لأجل النكاح، فيجوز النظر إلى الوجه والكفين، وسيأتي في باب النكاح.
2 - النظر للشهادة أو المعاملة، فيجوز النظر إلى الوجه خاصة، إذا كانت هناك حاجة لمعرفة تلك المرأة، ولم تعرف دون النظر إليها.
3 - من أجل التطيب والمداواة، فيجوز كشف العورة والنظر إليها بقدر الحاجة.
روى مسلم (2206)، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -: "أن أم سلمة رضي الله عنها استأذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحجامة، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا طيبة أن يحجمها".(1/126)
ويشترط أن يكون ذلك بوجود محرم أو زوج، وأن لا توجد امرأة تعالجها، وإذا وجد المسلم أو المسلمة لا يعدل إلى غيرهما.
4 - استقبال القبلة:
وهذا هو الشرط الرابع من شروط صحة الصلاة.
دليل وجوب استقبالها:
دليل هذا الشرط صريح قول الله تعالى: {فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره} [البقرة: 150].
وروى البخاري (5897)، ومسلم (397) أنه - صلى الله عليه وسلم - قال للذي علمه كيف يصلي: "إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر".
والمراد بالمسجد الحرام بالآية، وبالقبلة في الحديث: الكعبة.
تاريخ مشروعية استقبال القبلة:
روى البخاري (390)، ومسلم (525) عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهراً، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب أن يوجه نحو الكعبة، فأنزل الله: {قد نرى تقلب وجهك في السماء}. فتوجه نحو الكعبة.
وإذا فإن تاريخ مشروعية استقبال الكعبة يبدأ في أوائل هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة.(1/127)
كيفية الاستدلال على القبلة:
إما أن يكون المصلي قريباً من الكعبة بحيث يمكنه رؤيتها إذا شاء، أو أن يكون بعيداً عنها بحيث لا يمكن رؤيتها:
أما القريب منها: فيجب أن يستقبل عين الكعبة يقيناً.
وأما البعيد عنها: فيجب عليه أن يستقبل عين الكعبة معتمداً على الأدلة الظنية، إن لم يمكنه الدليل القطعي.
كيفية الصلاة
عدد ركعاتها:
عندما فرض الله على المسلمين الصلوات المكتوبة، جاء جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ كما مر معك ـ يضبط للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقت كل منها ابتداء وانتهاء، ويوضح له عدد ركعات كل منها، وهي كما يلي:
صلاة الفجر:
ركعتان، بقيامين وتشهد أخير.
صلاة الظهر:
أربع ركعات بتشهدين، أولهما على رأس ركعتين والثاني في آخر الصلاة.
صلاة العصر:
أربع ركعات كصلاة الظهر.
صلاة المغرب:
ثلاث ركعات بتشهدين، أولهما على رأس ركعتين والثاني في آخر الصلاة.
صلاة العشاء:
أربع ركعات مثل الظهر والعصر.
*****(1/128)
أركَان الصَّلاَة
معني الركن:
ركن الشيء ما كان جزءاً أساسياً منه، كالجدار من الغرفة، فأجزاء الصلاة إذا أركانها كالركوع والسجود ونحوهما. ولا يتكامل وجود الصلاة ولا تتوفر صحتها إلا بأن يتكامل فيها جميع أجزائها بالشكل والترتيب الواردين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عن جبريل عليه السلام. ويتلخص عدد أركان الصلاة في ثلاثة عشر ركناً. نشرح كل واحد منها على حدة:
1ـ النية:
وهي قصد الشيء مقترناً بأول أجزاء فعله، ومحلها القلب. ودليلها قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات" (رواه البخاري: 1، ومسلم: 1907).
ولا بد لصحتها أن تقترن بتكبيرة الإحرام، بحيث يكون قلبه متنبهاً أثناء التلفظ بالتكبير إلى قصد الصلاة، متذكراً نوعها وفرضيتها، ولا يشترط تحريك اللسان بها.
2ـ القيام مع القدرة في الصلاة المفروضة:
دليل هذا الركن ما رواه البخاري (1066) عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال: كانت بي بواسير، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن(1/129)
الصلاة؟ فقال: "صل قائماً، فإن لم تستطيع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب".
[بواسير: مرض في مخرج الدبر].
وإنما يعتبر الرجل قائماً إذا كان منتصب القامة، فإذا انحنى دون عذر بحيث أمكن أن تلامس راحة يده ركبته، بطلت صلاته، لأن ركن القيام فقد في جزء من صلاته. وإذا قدر المصلي على الوقوف في بعض صلاته وعجز في بعضها الآخر، وقف حيث يمكنه ذلك، وجلس في سائرها.
وخرج بقيد الصلاة المفروضة، الصلوات النافلة، فإن القيام بها مندوب مطلقاً، فله أن يجلس فيها سواء كان قادراً أم لا. روى البخاري (1065) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من صلى قائماً فهو أفضل، ومن صلى قاعداً فله نصف أجر القائم، ومن صلى نائماً فله نصف أجر القاعد "والمارد بالنائم: المضطجع.
3ـ تكبيرة الإحرام:
دليل ذلك ما رواه الترمذي (3) وأبو داود (61) وغيرهم أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم".
كيفيتها:
لا بد من لفظة "الله أكبر"، ولا تضر زيادة لا تمنع الاسم: كـ الله الأكبر، أو الله الجليل أكبر. فلو زاد كلمة ليست من صفات الله تعالى: كقوله: الله هو الأكبر أو غير الصيغة كأن قال: أكبر الله لم يصح التكبير. دليل ذلك ضرورة الاتباع لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - ملازماً في تكبيرة الإحرام لهذه الصيغة.(1/130)
شروطها:
يشترط الصحة تكبيرة الإحرام مراعاة الأمور التالية:
(أ) أن يتلفظ بها وهو قائم، فلو نطق بها أثناء القيام إلى الصلاة لم تصح.
(ب) أن ينطق بها حال استقبال القبلة.
(ج) أن تكون باللغة العربية، لكن من عجز عنها بالعربية، ولم يمكنه التعلم في الوقت ترجم وأتى بمدلول التكبير بأي لغة شاء، ووجب عليه التعلم إن قدر على ذلك.
(د) أن يسمع نفسه جمع حروفها إن كان صحيح السمع.
(هـ) مصاحبتها للنية كما مر ذكره.
4ـ قراءة الفاتحة:
وهي ركن في كل ركعة من الصلاة، أيا كان نوعها.
دليل ذلك:
ما رواه البخاري (723)، ومسلم (394): أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب".
والبسملة آية منها، فلا تصح الفاتحة التي لم يبدأها المصلي ببسم الله الرحمن الرحيم، لما روى ابن خزيمة بإسناد صحيح، عن أم سلمة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عد بسم الله الرحمن الرحيم آية.
شروط صحتها:
ولا بد في قراءة الفاتحة من مراعاة الشروط التالية:(1/131)
(أ) أن يسمع القارئ نفسه، إذا كان معتدل السمع.
(ب) أن يرتب القراءة حسب ترتيبها الوارد، مراعياً مخارج الحروف، وإبراز الشدّات فيها.
(ج) أن لا يلحن فيها لحناً يغير المعنى، فإن لحن لحنا لا يؤثر على سلامة المعنى لم تبطل.
(د) أن يقرأها بالعربية، فلا تصح ترجمتها، لأن ترجمتها ليست قرآنا.
(هـ) أن يقرأها المصلي وهو قائم، فلو ركع وهو لا يزال يتممها، بطلت القراءة ووجبت الإعادة. هذا وإن عجز المصلي لعجمة ونحوها عن قراءة الفاتحة، قرأ بدلها سبع آيات مما يحفظ من القرآن، فإن لم يحفظ منه شيئاً ذكر الله تعالى بمقدار طول الفاتحة ثم ركع.
5ـ الركوع:
وهو شرعاً: أن ينحني المصلي قدر ما يمكنه من بلوغ راحتيه لركبتيه، هذا أقله، وأما أكمله: فهو أن ينحني بحيث يستوي ظهره أفقيا.
دليله:
قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا} [الحج: 77].
وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمن علمه الصلاة: "ثم اركع حتى تطمئن راكعاً" (رواه البخاري: 724، ومسلم: 397].
وفعله - صلى الله عليه وسلم - الثابت بأحاديث صحيحة أكثر من أن تحصى.(1/132)
شروطه:
لا بد لصحة الركوع من التزام المصلي لما يلي:
(أ) الانحناء بالقدر المذكور، وهو بلوغ كفه إلى ركبته.
روى البخاري (794) عن أبي حميد الساعدي - رضي الله عنه -، في صفة صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وإذا ركع يديه من ركبته".
(ب) أن لا يقصد بانحنائه شيئاً آخر غير الركوع، فلو انحنى خوفاً من شيء، ثم استمر منحنياً قاصداً أن يجعله ركوعاً لم يصح ركوعه، بل يجب أن يعود قائما ثم ينحني بقصد الركوع.
(ج) الطمأنينة، أي أن يستقر في انحنائه قدر تسبيحة، وهذا أقلها، ودليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما سبق: "حتى تطمئن راكعاً". روى أحمد والطبراني وغيرهما بسند صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته" قالوا يا رسول الله، وكيف يسرق من صلاته؟ قال: "لا يتم ركوعها ولا سجودها".
وروى البخاري (758) عن حذيفة - رضي الله عنه -: رأى رجلاً لا يتم الركوع والسجود فقال: ما صليت، ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - عليها. أي ما صليت الصلاة المطلوبة، ولو أدركك الموت على هذه الحالة كنت على غير الطريقة التي جاء بها يسوي ظهره مع عنقه بشكل أفقي مستقيم غير مقوس، وأن ينصب ساقيه، وأن يمسك ركبته بيديه مفرقاً بين أصابعهما، ويستقر قائلاً: "سبحان ربي العظيم" ثلاث مرات.(1/133)
وروى مسلم (772) وغيره، عن حذيفة - رضي الله عنه - قال: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة ... وفيه: ثم ركع، فجعل يقول: "سبحان ربي العظيم"، ثم سجد فقال: "سبحان ربي الأعلى".
وروى الترمذي (261)، وأبو داود (886) وغيرهما، عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا ركع أحدكم فقال في ركوعه: سبحان ربي العظيم، ثلاث مرات، تم ركوعه وذلك أدناه". أي أقل الكمال والتمام.
جاء في حديث أبي حميد السابق: " ثم هصر ظهره ". أي أماله وثناه إلى الأرض.
6ـ الاعتدال بعد الركوع:
وهو وقوف يفصل الركوع عن السجود:
دليله:
ما رواه مسلم (498) عن عائشة رضي الله عنها، أنها وصفت صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: فكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائماً.
وقال - صلى الله عليه وسلم - لرجل أساء صلاته، فكان يعلمه كيفيتها: "ثم ارفع حتى تعتدل قائماً (رواه البخاري: 724، ومسلم: 397).
شروطه:
(أ) أن يقصد بالاعتدال من الركوع شيئاً آخر عير العبادة.
(ب) أن يطمئن في اعتداله قدر تسبيحة.(1/134)
(ج) أن لا يطيل الوقوف فيه تطويلاً فاحشاً، بأن يزيد على مدة قراءة الفاتحة، لأنه ركن قصير، لا يجوز تطويله.
7ـ السجود مرتين كل ركعة:
وتعريفه شرعاً: مباشرة جبهة المصلي موضع سجوده.
دليله:
قول الله عز وجل: {اركعوا واسجدوا} [الحج: 77]. وقوله - صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي أساء صلاته فأخذ بعلمه كيفيتها:: " .... ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ... ".
(انظر دليل الركوع والاعتدال).
شروطه:
يشترط لصحة السجود مراعاة الأمور التالية:
(أ) كشف الجبهة عند ملامستها الأرض.
(ب) أن يكون السجود على سبعة أعضاء، وهي التي عدها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة ـ وأشار بيده على أنفه ـ واليدين والركبتين وأطراف القدمين"
(رواه البخاري: 779، ومسلم: 490). ولكن لا يجب أن يكشف من هذه الأعضاء إلا الجبهة.
(ج) أن ترتفع أسافله على أعاليه، ما أمكن ذلك، اتباعاً لفعله - صلى الله عليه وسلم -.
(د) أن لا يسجد على ثوب متصل به بحيث يتحرك بحركته.(1/135)
(هـ) أن لا يقصد بالسجود شيئاً آخر غيره كخوف ونحوه.
(ز) أن يطمئن في السجود على هذه الحال بمقدار تسبيحة على الأقل.
وأكمل السجود أن يكبر لهويِّه، ويضع ركبتيه، ثم يديه، ثم جبهته وأنفه، ويضع يديه حذو منكبيه وينشر أصابعه مضمومة للقبلة، ويفرق بطنه عن فخذيه، ومرفقيه عن الأرض وعن جنبيه، ويقول "سبحان ربي الأعلى"، ثلاثاً.
روى البخاري (770)، ومسلم (292)، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في صفحة صلاته - صلى الله عليه وسلم -: "ثم يقول: الله أكبر، حين يهوي ساجداً".
وعند مسلم (494) عن البراء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سجدت فضع كفيك وارفع مرفقيك".
روى البخاري (383)، ومسلم (495)، عن عبد الله بن مالك بن بُحَينة - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى - صلى الله عليه وسلم - فرج بين يديه، حتى يبدو بياض إبطيه. وعند أبي داود (734)، والترمذي (270)، عن أبي حميد - رضي الله عنه -، ونحَّى يديه عن جنبيه، ووضع كفيه حذو منكبيه.
روى أبو داود (735)، عن أبي حميد - رضي الله عنه -، في صفة صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا سجد فرج بين فخذيه، غير حامل بطنه(1/136)
على شيء من فخذيه. وعند أبي داود (886)، والترمذي (261)، وغيرهما: "وإذا سجد فقال في سجوده: سبحان ربي الأعلى، ثلاث مرات، فقد تم سجوده، وذلك أدناه" أي أقل الكمال في السجود.
وتخالف المرأة الرجل في بعض ما سبق، فتضم بعضها إلى بعض أثناء السجود.
وروى البيهقي (2/ 223): أنه - صلى الله عليه وسلم - مرَّ على امرأتين تصليان فقال: "إذا سجدتما فضما بعض اللحم إلى الأرض، فإن المرأة ليست في ذلك كالرجل".
8 ـ الجلوس بين السجدتين:
ويحب أن يكون ذلك في كل ركعة.
دليل ذلك:
قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث السابق ذكره: " ..... ثم ارفع حتى تطمئن جالساً"
(انظر دليل السجود).
شروطه:
يشترط لصحته مراعاة الأمور التالية:
(أ) أن يقصد بجلوسه العبادة، ولا يحمله عليه شيء آخر كخوف ونحوه.
(ب) أن لا يطوله تطوله يطوله تطويلاً فاحشاً بحيث يزيد عن مدة أقل التشهد.
(ج) الطمأنينة بمقدار تسبيحة على الأقل.(1/137)
9ـ الجلوس الأخير:
ويقصد به الجلوس الذي يكون في آخر ركعة من ركعات الصلاة بحيث يعقبه السلام.
10ـ التشهد في الجلوس الأخير:
لما رواه البخاري (5806)، ومسلم (402) وغيرهما، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: كنا إذا صلينا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - قلنا ـ وعند البيهقي (2/ 138)، والدارقطني (1/ 350) كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد ـ: السلام على الله قبل عباده، السلام على جبريل، السلام على ميكائيل، السلام على فلان، فلما انصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - أقبل علينا بوجهه فقال: "إن الله هو السلام، فإذا جلس أحدكم في الصلاة فليقل: التحيات .. "
(هو السلام: أي هو اسم من أسماء الله تعالى، قيل: معناه سلامته مما يلحق الخلق من العيب والفناء. "النهاية").
وأقله: " التحيات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله".
وورد في صيغته روايات عدة كلها صحيحة، وصيغته الكاملة المفضلة لدى الشافعي رحمه الله تعالى ما رواه مسلم (403) وغيره عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن، فكان يقول: التحيات المباركات، الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمه الله وبركاته، السلام علينا(1/138)
وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله".
ينبغي في قراءة التشهد مراعاة ما يلي:
(أ) أن يسمع نفسه إذا كان سمعه معتدلاً.
(ب) موالاة القراءة، فلو فصلها بفاصل سكوت طويل أو ذكر آخر، بطلت ووجب أن يعيد.
(ج) أن يقرأ التشهد وهو قاعد، إلا أن يكون معذوراً فيجوز قراءته على الكيفية الممكنة.
(د) أن يكون باللغة العربية، فإن عجز بالعربية ترجم وأتى به بأي لغة شاء ووجب عليه التعلم.
(هـ) مراعاة المخارج والشدَّات، فلو غيّر مخرج حرف، أو تساهل في تشديدة، أو لحن في كلمة واستلزم ذلك تغير المعنى، بطل التشهد ووجبت الإعادة.
(و) ترتيب كلماته حسب النص الوارد.
11ـ الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد التشهد الأخير:
أي بعد إتمام صيغة التشهد السابق ذكرها، وقبل السلام.
دليلها:
قوله تعالى: {إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً} [الأحزاب: 56].
وقد أجمع العلماء على أنها لا تجب في غير الصلاة، فتعين(1/139)
وجوبها فيها، وقد أخرج ابن حبان (515)، والحاكم (1/ 268) وصححه، عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، في السؤال عن كيفية الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم -: كيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا؟ فقال: قولوا ...
وهذا يعين أن محل الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - الصلاة.
والمناسب لها آخر الصلاة فوجبت في الجلوس الأخير بعد التشهد.
وما رواه الترمذي (3475)، وأبو داود (1481)، وغيرهما بسند صحيح، أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه والثناء عليه، ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يدعو بعد بما شاء".
وأقل صيغ الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -: اللهم صل على محمد.
والصيغة الكاملة فيها: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى أل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.
وقد ثبت هذا بأحاديث صحيحة رواها البخاري ومسلم وغيرهم، وفي بعض طرقها زيادة على ذلك أو نقص.
[انظر البخاري (1390)، ومسلم (406)].
شروطها:
يشترط فيها مراعاة الأمور التالية:(1/140)
(أ) أن يسمع بها نفسه إذا كان معتدل السمع.
(ب) أن تكون بلفظ "محمد" أو بلفظ: رسول أو النبي. فلو قال على أحمد مثلاً لم تجزيء.
(ج) أن تكون بالعربية. فإن عجز عنها بالعربية ترجم وأتى بمعناها بأي لغة شاء، ووجب عليه أن يبادر إلى التعلم إن أمكنه ذلك.
(د) الترتيب في صيغة الصلاة، والترتيب بينها وبين التشهد، فلا يصح تقديم الصلاة على التشهد.
12ـ التسليمة الأولى:
وهي أن يقول المصلي ملتفتاً إلى يمينه: السلام عليكم ورحمة الله.
دليلها:
قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث السابق ذكره في تكبيرة الإحرام: "تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم".
وأقل صيغه: السلام عليكم. مرة واحدة. وأكمله: السلام عليكم ورحمة الله مرتين، الأولى عن يمينه عن يمينه والأخرى عن شماله.
روى مسلم (582)، عن سعد - رضي الله عنه - قال: كنت أرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلم عن يمينه والأخرى عن شماله.
روى مسلم (582)، عن سعد - رضي الله عنه - قال: كنت أرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلم عن يمينه وعن يساره، حتى أرى بياض خده.
وروى أبو داود (996) وغيره، عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم عن يمينه وعن شماله، حتى يرى بياض خده: "السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله" قال الترمذي (295): حديث ابن مسعود حديث حسن صحيح.(1/141)
13ـ ترتيب هذه الأركان حسب ورودها:
وذلك بأن يبدأ بالنية وتكبيرة الإحرام، ثم بالفاتحة، ثم الركوع، فالاعتدال، فالسجود .... وهكذا.
فإن قدم بعض هذه الأركان على محله المشروع فيه، بطلت صلاته إن تعتمد ذلك. أما إن فعل ذلك غير متعمد: بطلت صلاته بدءاً من أول الركن الذي فعله في غير موضعه، فيجب عليه أن يعيد ذلك كله.
وعلى هذا، فإن استمر في صلاته بعد أن غير الترتيب المطلوب، إلى أن وصل إلى مثل ذلك الموضع من الركعة السابقة، نزل الصحيح من الركعة التالية منزلة الفاسد من الركعة التي قبلها، فوجب عليه حينئذ أن يزيد على صلاته ركعة، بدلاً من الركعة التي فسدت بفساد الترتيب بين أركانها.
*****(1/142)
سُنَن الصَّلاَة
السَّنة:
هي ما يطلب من الإنسان فعله على غير سبيل الحتم، بحيث يثاب المسلم على فعله ولا يعاقب على تركه.
وللصلاة أركان وشروط لا بد من فعلها على سبيل الإلزام أو الحتم، كي تصح الصلاة، وقد ذكرناها فيما سبق.
وللصلاة أيضاً سنن يطلب من المصلي فعلها، ولكن لا على سبيل الحتم، بحيث يزداد ثواب الصلاة بفعلها ولا عقاب على تركها. وهذه السنن تؤدى في أثنائها، وسنن تؤدى عقبها.
(أ) السنن التي تؤدي قبل الصلاة:
وهي لا تزيد على الأمور الثلاثة التالية:
الأول ـ الأذان: قد مر تعريفه وبيان دليله وشروطه وما يتعلق بذلك.
الثاني ـ الإقامة: وقد مر أيضاً تعريفها وبيان شروطها والفرق بينها وبين الآذان.(1/143)
الثالث ـ اتخاذ سترة أمامه: تحول بينه وبين المارين، كجدار، وعموم، وعصا، أو كان يبسط أمامه مصلى كسجادة ونحوها. فإذ لم يجد خط خطاً.
روى البخاري (472)، ومسلم (501)، عن ابن عمر - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة، فتوضع بين يديه، فيصلي إليها والناس وراءه، كان يفعل ذلك في السفر.
[الحربة: رمح قصير عريض النصل. بين يديه: قدامه].
والأفضل أن تكون السترة قريبة من موضع سجوده، فقد روى البخاري (474)، ومسلم (508)، عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - كان بين مصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين الجذار ممر الشاة.
[مصلى: موضع السجود. ممر الشاة: سعة ما تمر منه الشاة].
(ب) السنن التي تؤدى أثناء الصلاة:
وهي أيضاً تنقسم إلى قسمين: أبعاض، وهيئات.
(فالأبعاض) كل ما يجبر تركه بسجود السهو في آخر الصلاة. (والهيئات) كل ما يجبر تركه بسجود السهو. وسنشرح سجود السهو وما يتعلق به من أبحاث آخر الكلام عن أعمال الصلاة.
ونبدأ بتعداد أبعاض الصلاة أولاً، ثم هيئاتها ثانياُ.
* الأبعاض:
1ـ التشهد الأول:
ويقصد به التشهد في الجلوس الذي لا يعقبه سلام، وهو الجلوس(1/144)
الذي يكون على رأس ركعتين في صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء فيسن التشهد فيه.
جاء في حديث المسيء صلاته عند أبي داود (1173) ومسلم (570) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام في صلاة الظهر وعليه جلوس فلما أتم صلاته سجد سجدتين. (أي تعويضاً عن التشهد الأول الذي تركه بترك الجلوس له، فلو كان ركناً لاضطر إلى الإتيان به، ولم ينجبر تركه بسجود السهو).
2ـ الصلاة على النبي عقب التشهد الأول.
هي أيضا سنة يجبر تركها بالسجود.
3ـ الجلوس للتشهد الأول:
أي فهي إذا ثلاث سنن مستقلة: سنة الجلوس، وسنة التشهد فيه، ثم سنة الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -.
4ـ الصلاة على آل النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد التشهد الأخير الذي هو ركن:
أي يسن عند أداء ركن التشهد في الجلسة الأخيرة، وركن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، الصلاة على آل النبي - صلى الله عليه وسلم -، لما مر معك من الصيغة الكاملة للصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -.
5ـ القنوت عند الاعتدال من الركعة الثانية في صلاة الفجر، وفي آخر ركعة من الوتر في النصف الثاني من رمضان، وفي اعتدال الركعة الأخيرة من أي صلاة بالنسبة لقنوت النازلة:(1/145)
روى أحمد وغيره، عن أنس - رضي الله عنه - قال: "ما زال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقنت في الصبح حتى فارق الدنيا".
وروى البخاري (956)، ومسلم (677)، عن أنس - رضي الله عنه -، قد سئل: أقنت النبي - صلى الله عليه وسلم - الصبح؟ قال: نعم، فقيل له: أوقنت قبل الركوع؟ قال: بعد الركوع يسيراً.
[ينظر البيهقي في الصبح وفي قنوات الوتر].
وتؤدي سنة القنوت بأن يثني المصلي على الله تعالى ويدعوه بأي لفظ شاء كأن يقول: "اللهم أغفر لي يا غفور" ولكن الكمال في أدائها يكون بالتزام الدعاء الوارد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك.
روى أبو داود (1425) عن الحسن بن على - رضي الله عنه - قال: علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلمات أقولهن في الوتر: "اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك في فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضي عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت" ويسن للإمام أن يأتي به بصيغة الجمع.
قال الترمذي (464): هذا حديث حسن وقال: ولا نعرف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قي القنوات في الوتر شيئاً أحسن منه.
وعند أبي داود (1428) أن أبي بن كعب - رضي الله عنه - أمهم ـ يعني في رمضان ـ وكان يقنت في الصنف الأخر من رمضان.
وروى الحاكم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رفع رأسه من الركوع من صلاة الصبح في الركعة الثانية، رفع يديه يدعو بهذا الدعاء: " اللهم أهدني فيمن هديت ... ".(1/146)
واستحب العلماء أن يزاد فيه: فلك الحمد على ما قضيت، نستغفرك اللهم ربنا ونتوب إليك، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم. للأخبار الصحيحة في الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الدعاء والذكر.
[مغني المحتاج (1/ 166 - 167)].
ويسنّ أن يرفع يديه أثناء هذا القنوت، ويجعل بطنها لجهة السماء.
* الهيئات:
وقد ذكرنا أن الهيئات هي: سنن الصلاة التي إن تركها المصلي لم يُسنَّ جبرها بسجود السهو، بخلاف الأبعاض. والهيئات تتلخص فيما يلي:
1 - رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام وعند الركوع والرفع منه: وكيفية أداء هذه السنَّة: أن يرفع كفيه مستقبلاً بهما القبلة، منشورتي الأصابع، محاذياً بإبهاميه لشحمتي الأذنين، على أن تكون كفَّاه مكشوفتين.
روي البخاري (705)، ومسلم (390)، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - افتتح التكبير في الصلاة، فرفع يديه حين يكبر، حتى يجعلهما حذو منكبيه، وإذا كبر للركوع فعل مثله، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فعل مثله وقال: ربنا ولك الحمد، ولا يفعل ذلك حين يسجد، ولا حين يرفع رأسه من السجود.(1/147)
2 - وضع يده اليمنى على ظهر يده اليسرى، وذلك في الوقوف:
وكيفية ذلك: أن يضع يده اليمنى على ظهر كف ورسغ اليسرى، ويقبض على اليسرى بأصبع يده اليمنى، ويكون محل ذلك تحت صدره وفوق سرَّته.
لخبر مسلم (401)، عن وائل بن حُجْر رضي الله عنه: أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه حين دخل في الصلاة ... ثم وضع يده اليمنى على اليسرى.
وعند النسائي (2/ 126): ثم وضع يده اليمنى على كفه اليسرى والرسغ والساعد.
3 - النظر إلى موضع السجود:
فيكره أن يتوزع نظره فيما حوله، أو أن ينظر إلى الأعلى أو إلى شئ أمامه حتى ولو كان الكعبة، بل يُسنُّ أن يجعل نظره الدائم إلى موضع سجوده، إلا عند التشهد، فليجعل نظره إلى سبابته التي يشير بها عند التشهد.
دليل ذلك: اتباع فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -.
4 - افتتاح الصلاة بعد التكبير بقراءة التوجه:
ولفظه، ما رواه مسلم (771)، عن علي - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان أذا قام إلى الصلاة قال: "وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين".(1/148)
[وجهت وجهي: قصدت بعبادتي. فطر: ابتدأ خلقها. حنيفاً: مائلاً إلى الدين الحق. نسكي: عبادتي وما أتقرب به إلى الله تعالى].
مكان استحباب التوجه:
تستحب قراءة التوجه في افتتاح المفروضة والنافلة، للمنفرد وللإمام والمأموم، بشرط أن لا يبدأ بقراءة الفاتحة بعد، فإن بدأ بها- وقد علمت أن البسملة جزء منها- أو بالتعوذ، فاتت سنية قراءة التوجه، فلا ينبغي أن يعود إليه ولو كان ناسياً.
ولا تستحب قراءة التوجه في صلاة الجنازة، ولا في صلاة الفريضة إذا ضاق وقتها، بحيث خشي إن اشتغل بقراءة التوجه أن يخرج الوقت.
5 - الاستعاذة بعد التوجه:
وهي أن يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. يبدأ بها قراءة الفتاحة، فإذا شرع في قراءة الفاتحة قبل أن يستعيذ، فاتت الاستعاذة وكره أن يعود إليها.
لقوله سبحانه: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [النحل: 98].
6 - الجهر بالقراءة في موضعه والإسراء في موضعه:
والمواضع التي يسنّ فيها الجهر بالقراءة هي: ركعتا صلاة الفجر، والركعتان الأوليتان من المغرب والعشاء، وصلاة الجمعة، والعيدين، وخسوف القمر، وصلاة الاستسقاء، والتراويح، ووتر رمضان، كل ذلك بالنسبة للإمام والمنفرد فقط. ويسنّ الإسرار فيما عدا ذلك.
دلّ على ذلك أحاديث منها:(1/149)
- ما روى البخاري (735)، ومسلم (463)، عن جبير بن مطعم - رضي الله عنه -: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ المغرب بالطور.
- ما رواه البخاري (733)، ومسلم (464)، عن البراء - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ: "والتين والزيتون" في العشاء، وما سمعت أحداً أحسن صوتاً منه، أو قراءة.
- ما رواه البخاري (739)، ومسلم (449)، من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - في حضور الجن واستماعهم القرآن من النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه: وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له.
روى البخاري (745)؛ ومسلم (451)، عن أبي قتادة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ بأمِّ الكتاب وسورة معها في الركعتين الأُّوْلَيَيْنِ من صلاة الظهر وصلاة العصر. وفي رواية: وهكذا يفعل في الصبح. مع ما سبق من أحاديث الجهر بالقراءة.
وروى أبو داود (823و824)؛ والنسائي (2/ 141) وغيرهما، عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: كنا خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الفجر فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف قال: "لعلكم تقرؤون خلف إمامكم" قال: قلنا يا رسول الله، أي والله، قال: "لا تفعلوا إلا بأمّ القرآن، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها". وفي رواية: "فلا تقرؤوا بشيء من القرآن إذا جهرت به إلا بأم القرآن". وفي حال عدم سماعه الإمام تعتبر الصلاة كأنها سرية في حقه.
فهذه الأحاديث تدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يجهر بقراءته بحيث يسمعها من حضر.(1/150)
ودل على السر في غير ما ذُكر، ما رواه البخاري (713)، عن خبّاب - رضي الله عنه -، وقد سأله سائلٌ: أكانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الظهر والعصر؟ قال: نعم، قلنا: بمَ كنتم تعرفون ذلك؟ قال: باضْطِرابِ لِحْيَتهِ.
روى البخاري (738)؛ ومسلم (396)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: في كل صلاة يقرأ، فما أسمعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسمعناكم وما أخفى عنا أخفينا عنكم.
ولم ينقل الصحابي رضي الله عنهم الجهر في غير تلك المواضع.
وستأتي أدلة الصلوات الخاصة في مواضعها.
ويتوسط في النفل المطلق في الليل بين السر والجهر، قال تعالى: {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلاً} [الإسراء: 10]. والمراد صلاة الليل.
7 - التأمين عند انتهاء الفاتحة:
وهو أن يتبع قوله تعالى: {ولا الضالين} بكلمة "أمين".
والتأمين سنّة لكل مصلِّ في كل صلاة، يجهر بها في الجهرية، ويسرّ بها في السرية، ويجهر بها المأموم تبعاً للإمام. ومعنى آمين: استجب يارب.
وروى البخاري (748)، ومسلم (410)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قال أحدكم - وفي رواية عند مسلم: في الصلاة - آمين، وقالت الملائكة في السماء: آمين، فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه".(1/151)
وروى البخاري (747)، ومسلم (410)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "إذا أمن الإمام فأمنوا، فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه".
روى أبو داود (934)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا تلا: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قال: آمين، حتى يسمع من يليه من الصف الأول.
وزاد ابن ماجه (853): فيرتج بها المسجد.
8 - قراءة شئ من القرآن بعد الفاتحة:
وتتحقق السنة بقراءة سورة من القرآن مهما قصرت، أو بقراءة ثلاثة آيات متواليات.
ومكان استحبابها الركعتان الأوليتان فقط من كل صلاة، بالنسبة للإمام، والمنفرد مطلقاً. وبالنسبة للمقتدي أيضاً في الصلاة السرّية، أو حيث يكون بعيداً لا يسمع قراءة الأمام.
ويسن أن يقرأ في الصبح والظهر من طوال المفصل، كالحجرات، والرحمن، وفي العصر والعشاء، من أواسطه، كالشمس وضحاها، والليل إذا يغشى، وفي المغرب من قصاره، كقل هو الله أحد. لحديث النسائي (2/ 167)، عن سليمان بن يسار، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: ما صليت وراء أحد أشبه صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فلان، فصلينا وراء ذلك الإنسان، وكان يطيل الأولين من الظهر ويخفف في الأخريين، ويخفف في العصر، ويقرأ في المغرب بقصار المفصل، ويقرأ في العشاء بالشمس وضحاها وأشباهها، ويقرأ في الصبح بسورتين طويلتين.(1/152)
ويسنّ أيضاً أن يقرأ في صبح الجمعة: {الم تنزيل} السجدة في الركعة الأولى، و {هل أتى} في الركعة الثانية.
لما روى البخاري (851)، ومسلم (880)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الجمعة، في صلاة الفجر: {الم تنزيل} - السجدة - و {هل أتى على الإنسان}.
ويسن تطويل الركعة الأولى على الثانية في جميع الصلوات، لما رواه البخاري (725)، ومسلم (451): كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ... يطول في الأولى ويقصر في الثانية.
9 - التكبير عند الانتقالات:
عرفنا أن تكبيرة الإحرام بالصلاة ركن لا تصح بدونه.
فإذا دَخلتَ في الصلاة وكبرتَ تكبيرة الإحرام، يسنّ لك أن تكبّر مثلها عند كل انتقال من الانتقالات، ما عدا الرفع من الركوع فيسن بدلاً من التكبير قول: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد، لما رواه البخاري (756)، ومسلم (392)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة، يكبر حين يقوم ويكبر حين يركع، ثم يقول: "سمع الله لمن حمده" حين يقيم صلبه من الركوع ثم يقول وهو قائم: "ربنا ولك الحمد" ثم يكبر حين يهوي للسجود، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبر حين يسجد، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يفعل ذلك في الصلاة كلها حتى يقضيها، ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس.
10 - التسبيح عند الركوع والسجود:
وكيفية ذلك أن يقول إذا أستقر راكعاً: سبحان ربي العظيم(1/153)
وبحمده (ثلاث مرات). وأن يقول إذا استقر ساجداً: سبحان ربي الأعلى وبحمده (ثلاث مرات). وهذا أدنى درجات الكمال، فإن زاد على الثلاث كان أفضل.
[أنظر الركوع في الأركان].
11 - وضع اليدين على أول الفخذين في جلستي التشهد:
وكيفية أن يبسط اليسرى، مع ضم الأصابع إلى بعضها، بحيث تكون رؤوس الأصابع مسامتة لأول الركبة، ويقبض يده اليمنى إلا الأصبع المسبِّحة، وهي التي تسمى السبَّابة، فإنه يمدها منخفضة عند أول التشهُّد حتى إذا وصل إلى قوله: إلا الله، أشار بها، إلى التوحيد ورفعها. ويسن أن تبقى مرفوعة دون أن يحركها إلى آخر الصلاة.
روى مسلم (580) عن ابن عمر رضي الله عنهما- في صفة جلوسه - صلى الله عليه وسلم - قال: كان إذا جلس في الصلاة، وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى، وقبض أصابعه كلها، وأشار بإصبعه التي تلي الإبهام، ووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى.
12 - التورّك في الجلسة الأخيرة والافتراش في غيرها:
التورُّك: هو أن يجلس المصلي على وركه الأيسر، وأن ينصب رجله اليمنى، ويخرج الرجل اليسرى من تحتها. والورك: هو الفخذ.
والافتراش هو أن يجلس المصلي على كعب رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى على رؤوس أصابعها.
روى البخاري (794) من حديث أبي حُمَيد الساعدي - رضي الله عنه - قال: أنا كنت أحفَظَكم لصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... وفيه: فإذا جَلَسَ(1/154)
في الرَّكْعَتَيْنِ جلس على رجله اليسرى، ونصب اليمنى، وإذا جلس في الركعة الآخرةِ قدَّم رجله اليسرى، ونصب الأخرى، وقعد على مقْعَدَتِهِ.
[قدم رجله اليسرى: أي من تحت رجله اليمنى منصوبة].
وعند مسلم (579)، عن عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قعد في الصلاة جعل قدمه اليسرى بين فخذيه وساقه، وفرض قدمه اليمنى.
13 - الصلوات الإبراهيمية ثم الدعاء بعد التشهد الأخير:
عرفت فيما مضى أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ركن في جلسة التشهد الأخيرة، ويتأدى الركن بأي صيغة من الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -.
أما اختيار الصلوات الإبراهيمية - وقد مضى ذكر نصَّها- فسنَّة. فإذا أتمها يسن أن يستعيذ من عذاب القبر، ومن عذاب النار، أو من عذاب النار، أو أن يدعو لنفسه بما شاء؛ على أن لا يطيل ذلك قدر قراءة التشهد والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وروى مسلم (558) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليتعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر المسيح الدجال".
14 - التسليمة الثانية:
ذكرنا أن التسليمة الأولى ركن، وهي التي تكون مع الالتفات إلى جهة اليمين.(1/155)
فإذا فعلها فقد انتهت أركان الصلاة وواجباتها، إلا أنه يسنَّ أن يضيف إليها تسليمة أخرى، ملتفتاً إلى جهة اليسار.
روى مسلم (582) عن سعد - رضي الله عنه - قال: كنت أرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلِّم عن يمينه وعن يساره حتى أري بياض خده.
وروى أبو داود (996) وغيره، عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسلّم عن يمينه وعن شماله حتى يُرى بياض خده: "السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله". قال الترمذي: حديث ابن مسعود حديث حسن صحيح.
15 - التزام الخشوع في سائر الصلاة:
معنى الخشوع: الخشوع يقظة القلب إلى ما يردّده اللسان من القراءات والأذكار والأدعية، بأن يتدبر كل ذلك ويتفاعل مع معانيه، ويشعر أنه يناجي ربه سبحانه وتعالى.
والصحيح أن الخشوع- بهذا المعنى- في جزء من أجزاء الصلاة أمرٌ لا بد منه؛ بحيث إذا كانت الغفلة مطبقة على صلاته كلها من أولها إلى آخرها، كانت صلاة باطلة.
أما استمرار الخشوع في سائر أجزاء الصلاة فهو سنَّة مكمّلة.
روى مسلم (228)، عن عثمان - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها، إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يؤت كبيرة، وذلك الدهر كله".
[يؤت: يعمل. كبيرة: ذنباً كبيراً كالتعامل بالربا وشرب الخمر(1/156)
ونحو ذلك. وذلك الدهر كله: أي تكفير الذنوب الصغيرة بسبب الصلاة مستمر طوال العمر لتكرر الصلاة كل يوم].
فهذه السنن كلها تسمى هيئات، فلو ترك المصلي شيئاً منها لم يسنّ جبره بالسجود للسهو، بخلاف القسم الأول وهو ما يسمى أبعاضاَ، فإن المصلي إذا ترك شيئاً منه يسن له أن يعوِّضه بالسجود للسهو.
(ج) السنن التي تؤدي عقب كل صلاة:
ويسنّ عقب الصلاة الأمور التالية:
1 - الاستغفار والذكر والدعاء:
وروى مسلم (591)، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا انصرف من صلاته استغفر الله ثلاثاً، وقال: "اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت ياذا الجلال والإكرام".
ولا مانع من رفع الصوت بذلك للإمام إذا أراد التعليم، فإذا تعلموا خفض، فقد روى البخاري (805)؛ ومسلم (583)، عن ابن عباس رضي الله عنهما أخبر: أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وروى مسلم (596)، عن كعب بن عجرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "معقبات لا يخيب قائلهن دبر كل صلاة مكتوبة: ثلاث وثلاثون تسبيحة، وثلاث وثلاثون تحميدة، وثلاث وثلاثون تكبيرة". ومن حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - (597) "وكبر الله ثلاثاً وثلاثين، فتلك تسعة وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له(1/157)
الملك وله الحمد، وهو على كل شئ قدير. غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر".
[خطاياه: الذنوب الصغيرة. زبد البحر: ما يعلو على وجه مائه عند هيجانه وتموجه والمراد: مهما كانت كثيرة].
وروى الترمذي (3470) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من قال دبر صلاة الفجر وهو ثان رجله قبل أن يتكلم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شئ قدير، عشر مرات، كتب له عشر حسنات، ومحي عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، وكان في يومه ذلك كله في حرز من كل مكروه وحرس من الشيطان".
وروى أبو داود (1522)، عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيده وقال: "يا معاذ، والله إني أحبك، فقال: أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك".
وهناك أدعية وأذكار كثيرة وردت عقب الصلوات عامة، وعقب كل صلاة خاصة، تعرف من كتب السنة وكتب الأذكار.
2 - أن ينتقل للنفل من موضع فرضه، لكثر مواضع السجود، فإنها تشهد له:
والأفضل إن صلى في المسجد أن ينتقل إلى بيته، ودليل ذلك ما رواه البخاري (698)؛ ومسلم (781)، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فصلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة".(1/158)
وروى مسلم (778) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا قضى أحدكم صلاته في مسجده، فليجعل لبيته نصيباً من صلاته، فإن الله جاعل من صلاته خيراً".
3 - وإذا صلوا في المسجد، وكان وراءهم نساء، فإنه يسن لهم أن يمكثوا في أماكنهم حتى ينصرفن لأن الاختلاط بهن مظنة الفساد:
روى البخاري (828)، عن أم سلمة رضي الله عنها: أن النساء في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كن إذا سلمن من المكتوبة قمن وثبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن صلى من الرجال ما شاء الله، فإذا قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام الرجال. وفي رواية عنها (832) قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سلم قام النساء حين يقضي تسليمه، ويمكث هو في مقامه يسيراً قبل أن يقوم قال ابن شهاب الزهري أحد الرواة: نرى - والله أعلم - أن ذلك كان لينصرف النساء قبل أن يدركهن أحد من الرجال.
* * *(1/159)
مَكروهَات الصَّلاَة
قاعدة:
كل مخالفة لسنة من السنن التي مضى بيانها، يدخل في نطاق المكروه.
والمكروه هو: كل ما يثاب المصلّي على تركه امتثالاً، ولا يعاقب على فعله.
فترك تكبيرات الانتقال مثلاً مكروه، لأن الإِتيان بها سنة، وترك الافتتاح بالتوجه أيضاً مكروه، لأن الافتتاح به سنة.
إلا أن ثمة تصرفات خاصة أخرى يسن اجتنابها، ويكره للمصلي أن يتلبس بها، نذكر منها الأمور التالية:
1 - الالتفات في الصلاة بالعنق إلا لحاجة:
روى أبو داود (909) وغيره، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يزال الله عز وجل مقبلاً على العبد في صلاته ما لم يلتفت، فإذا التفت انصرف عنه".
وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الالتفات إنما: " هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العيد". روى ذلك البخاري (718). ولأن هذا الالتفات ينافي الخشوع المطلوب في الصلاة.(1/160)
أما إذا كان هناك داع إلى الالتفات، كمراقبة عدو مثلاً فإنه لا يكره ودليل ذلك ما رواه أبو داود (916) بإسناد صحيح: عن سهل بن الحنظلية قال: ثوب بالصلاة - يعني صلاة الصبح- فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي وهو يلتفت إلى الشعب، قال أبو داود: وكان أرسل فارساً إلى الشعب من الليل يحرس.
[ثوب: من التثويب والمراد به هنا إقامة الصلاة].
وهذا إذا كان الالتفات بالعنق، أما إذا التفت بصدره فحوَّله عن القبلة؛ فإنه يبطل صلاته لتركه ركن الاستقبال. وأما اللمح بالعين دون الالتفات، فإنه لا بأس به، فقد ذكر ابن حبان في صحيحه (500) من حديث علي بن شيبان - رضي الله عنه - قال: قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلينا معه، فلمح بمؤخر عينه رجلاً لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، فقال: "لا صلاة لمن لا يقيم صلبه". أي لا يطمئن في ركوعه.
2 - رفع بصره إلى السماء:
وروى البخاري (717)، عن أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم؟ ثم قال: لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم" وروى مسلم مثله (428)، (429)، عن جابر بن سمرة وأبي هريرة رضي الله عنهما.
3 - كف الشعر وتشمير أطراف الثواب أثناء الصلاة:
روى البخاري (777)؛ ومسلم - واللفظ له - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم ولا أكف ثوباً ولا شعراً".
والسنة إرسال ثيابه على سجيتها.(1/161)
4 - الصلاة عند حضرة طعام تتوق نفسه إليه؛ لانشغال نفسه به مما يفوت عليه الخضوع في الصلاة:
روى البخاري (642)؛ ومسلم (559)، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا وضع عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة، فابدؤوا بالعشاء ولا يعجل حتى يفرغ منه".
5 - الصلاة عند حصر البول أو الغائط:
لأنه - والحالة هذه - لا يمكنه إعطاء الصلاة حقها من الخشوع والحضور. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة بحضرة طعام، ولا هو يدافعه الأخبثان". أي البول والغائط. (رواه مسلم: 560)، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا نعس أحدكم - وهو يصلي - فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس، لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه".
7 - الصلاة في الأماكن التالية:
الحمَّام، الطريق، السوق، المقبرة، الكنيسة، المزبلة، وأعطان الإبل، وهي مباركها، لمظِنَّة وجود النجاسة في بعضها، وانشغال القلب في بعضها الآخر.
وللنهي عن الصلاة في هذه المواضع روى الترمذي (346)، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة في المزبلة والمجزرة والمقبرة، وقارعة(1/162)
الطريق، وفي الحمَّام، وفي معاطن الإِبل، وفوق ظهر البيت. وقال الترمذي: إسناد هذا الحديث ليس بذاك القوي.
[المجزرة: مكان الجزر أي الذبح. قارعة الطريق: أعلاه ووسطه حيث يمر الناس. البيت: الكعبة].
وقد صح عند ابن حبان (338) حديث: "الأرض مسجد إلا المقبرة والحمام".
كما صح عنده أيضاً (336) حديث: "لا تصلوا في أعْطان الإبل". أي مباركها حول الماء. (رواه الترمذي: 348، وغيره).
* * *(1/163)
أمورٌ تخالِفُ فيهَا المَرأة الرجَّل
يُسنُّ للمرأة أن تخالف الرجل في خمسة أشياء، وهي:
أولاً:
تضم بعضها إلى بعض في السجود، بأن تضم مرفقيها إلى جنبيها أثناء السجود، وتلصق بطنها بفخذيها، بخلاف الرجل فإنه يُسنُّ أن يباعد مرفقيه عن جنبيه ويرفع بطنه عن فخذيه.
روى البيهقي (2/ 232): أنه - صلى الله عليه وسلم - مرَّ على امرأتين تصلِّيان، فقال: "إذا سجدتما فضما بعض اللحم إلى الأرض، فإن المرأة ليست في ذلك كالرجل".
ثانياً:
تخفض المرأة صوتها في حضرة الرجال الأجانب، فلا تجهر بالصلاة الجهرية خشية الفتنة، قال تعالى: {فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض} [الأحزاب: 32].
[تخضعن بالقول: تُلَيِّنَّ كلامكنَّ. مرض: فسوق وقلة ورع].
وهذا يدل على أن صوت المرأة قد يثير الفتنة، فيطلب منها خفض الصوت بحضرة الأجانب.(1/164)
بخلاف الرجل فإنه يسن أن يجهر في مواضع الجهر.
ثالثاً:
إذا ناب المرأة شئ أثناء الصلاة، وأرادت أن تنبه أحداً من حولها لأمر ما، فإنها تصفق بأن تضرب يدها اليمنى على ظهر كف اليسرى.
أما الرجل، فيسن إذا نابه شئ في الصلاة أن يسبَّح بصوت مرتفع سهل بن سعد - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من رابه شيء في صلاته فليسبح، فإنه إذ سبح التفت إليه، وإنما التصفيق للنساء".
[التصفيق هنا: ضرب ظاهر الكف اليسرى بباطن الكف اليمنى.
رابه: شك في أمر يحتاج إلى تنبيه. ولفظ مسلم (نابه): أي أصابه شئ يحتاج فيه إلى الإعلام].
رابعاً:
جميع بدن المرأة عورة ما عدا وجهها وكفيها، كما مر بيانه. لقوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} [النور: 31]
والمشهور عند الجمهور: أن المراد بالزينة مواضعها، وما ظهر منها هو الوجه والكفَّان (رواه ابن كثير: 3/ 283).
روى أبو داود (640) وغيره، عن أم سلمة رضي الله عنها، إنها سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -: أتصلي المرأة في درع وخمار وليس عليها إزار؟ قال: "إذا كان الدرع سابغاً، يغطي ظهور قدميها".
[الدرع: قميص المرأة الذي يغطي بدنها ورجليها. خمار: ما تغطي المرأة به رأسها. سابغ: طويل].(1/165)
وواضح: أنه إذا غطى ظهور قدميها حال القيام والركوع، انسدل أثناء السجود، غطى باطن القدمين، لانضمام بعضها إلى بعض.
[وانظر بحث شروط الصلاة].
أما الرجل فعورته ما بين سرته وركبته، فلو صلى والمستور من جسمه ما بين السرة والركبة فقط صحت صلاته.
روى الدارقطني (1/ 231)؛ والبيهقي (2/ 229)، مرفوعاً: "ما فوق الركبتين من العورة، وما أسفل من السرة من العورة".
وروى البخاري (346)، عن جابر - رضي الله عنه -: أنه صلى في ثوب واحد، وقال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في ثوب واحد. وفي رواية (345): صلى جابر في إزارٍ قد عقده من قبل قفاه.
[والإزار في الغالب ثوب يستر وسط الجسم، أي ما بين السرة والركبة وما قاربهما].
خامساً:
لا يسنُّ الأذان للمرأة ويسن لها الإقامة، فلو أذنت بصوت منخفض لم يكره، واعتبر لها ذلك من الذكر الذي يثاب عليه، أما إن رفعت صوتها به كره، فإن خيفت الفتنة حرم.
بخلاف الرجل فقد علمت أن الأذان سنَّة له عند القيام إلى كل مكتوبة.
*****(1/166)
مُبطلاَت الصَّلاَة
تبطل الصلاة إذا تلبَّس المصلي بواحد من الأمور التالية:
1 - الكلام العمد:
ويقصد به ما عدا القرآن والذكر والدعاء.
روى البخاري (4260)، ومسلم (539)، عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - قال: كنا نتكلم في الصلاة يكلم أحدنا أخاه في حاجته، حتى نزلت هذه الآية: {حافظوا على الصلوات الوسطى وقوموا لله قانتين} [البقرة: 238]، فأمرنا بالسكوت.
[قانتين: خاشعين].
وروى مسلم (537)، عن معاوية بن حكم السُّلَمي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له - وقد سمت عاطساً في صلاته-: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شئ من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن".
وعُدَّ الكلام الذي تبطل فيه الصلاة، ما كان مؤلفاً من حرفين فصاعداً، وإن لم يفهم منه معنى، أو كان يعبّر عنه بحرف واحد إذا كان له معنى، مثل كلمة "قِ" أمراً من الوقاية، و"عِ" من الوعي، و"فِ" من الوفاء.(1/167)
أما إن تكلم ناسياً أنه في الصلاة أو كان جاهلاً لتحريمه لقرب عهده بالإسلام، فيعفا عن سير الكلام، وهو ما لم يزد على ست كلمات.
2 - الفعل الكثير:
والمقصود به الفعل المخالف لأفعال الصلاة، بشرط أن يكثر ويتوالى، لأنه يتنافى مع نظام الصلاة، وضابط الكثرة ثلاث حركات فصاعداً، وضابط الموالاة أن تعدَّ الأعمال متتابعة بالعرف، فإن الصلاة تبطل.
3 - ملاقاة نجاسة لثوب أو بدن:
والمقصود بالملاقاة: أن تصيب النجاسة شيئاً منهما ثم لا يبادر المصلي إلى إلقائها فوراً، فعندئذ تبطل الصلاة، لأنه حدث ما يتنافى مع شرط من شروط الصلاة، وهو طهارة البدن والثوب من النجاسة.
فإن أصابته النجاسة بإلقاء ريح أو نحوه وتمكن من إلقائها عنه فوراً، بأن كانت يابسة؛ لم تبطل صلاته.
4 - انكشاف شيء من العورة:
وقد عرفت حد العورة بالنسبة لكل من المرأة والرجل في الصلاة أما إن انكشفت بدون قصده: فإن أسرع فسترها فوراً، لم تبطل، وإلا بطلت، لفقدان شرط من شروطها في جزء من أجزائها.
5 - الأكل أو الشرب:
لأنهما يتنافيان مع هيئة الصلاة ونظامها.(1/168)
وحد المبطل من ذلك للمعتمد؛ أيُّ قَدْرٍ من الطعام أو الشرب مهما كان قليلاً. أما بالنسبة لغير المعتمد، فيشترط أن يكون كثيراً في العرف. وقد قدر الفقهاء الكثير بما يبلغ مجموعه قدر حُمصه، فلو كان بين أسنانه بقايا من طعان لا يبلغ هذا القرار فبلعها مع الريق دون قصد لم تبطل.
ويدخل ف يحد الطعام المبطل للصلاة: ما لو كان في فمه سكرة فذاب شئ منها في فمه، فبلع ذلك الذوب.
6 - الحدث قبل التسليمة الأولى:
لا فرق بين أن يكون ذلك عمداً أو سهواً، لفقدان شرط من شروط الصلاة - وهو الطهارة من الحدث - قبل تمام أركانها.
أما إن أحدث بعد التسليمة الأولى وقبل الثانية، فقد تمت صلاته صحيحة. وهذا محل إجماع عند جميع المسلمين.
7 - التنحنح، والضحك، والبكاء، والأنين إن ظهر بكلٍّ من ذلك حرفان:
فضابط إبطال هذه الأمور الأربعة للصلاة: أن يظهر فيه حرفان، وأن لم يكونا مفهومين. أما إن كان قليلاً، بحيث لم يسمع فيه إلا حرفٌ واحد، أو لم يظهر فيه أي حرف لم تبطل. هذا إذا لم يكن مغلوباً على أمره، بأن تعمَّد ذلك، أما إذا غلب عليه، بأن فاجأه السعال أو غلب عليه الضحك، لم تبطل صلاته.
أما التبسم فلا تبطل به الصلاة.
وكذلك الذكر والدعاء إذا قصد به مخاطبة الناس، فإنها تبطل،(1/169)
كما إذا قال لإنسان: يرحمك الله. لأنه يعتبر عندئذ من كلام الناس، والصلاة لا تصلح له، كما علمت.
8 - تغير النيَّة:
ضابط ذلك: أن يعزم على الخروج من الصلاة، أو يعلِّق خروجه منها على أمر، كمجيء شخص ونحوه. فإن صلاته تبطل بمجرد طروء هذا القصد عليه.
وعلة بطلان الصلاة بذلك: أن الصلاة لا تصلح إلا بنية جازمة، وهذا القصد أو العزم يتنافى مع النية الجازمة.
9 - استدبار القبلة:
لأن استقبالها شرط أساسي من شروط الصلاة، سواء تعمَّد ذلك أو أداره شخص غصباً، إلا أنه في حالة العمد تبطل الصلاة فوراً، وفي حالة الإِكراه لا تبطل إلا إذا استقر مدة وهو مستدبر لها. فإن استدار إلى القبلة بسرعة لم تبطل صلاته، والاستقرار وعدمه يحددهما العرف.
*****(1/170)
سُجوُد السَّهُو
السهو لغة: نسيان الشيء والغفلة عنه.
والمقصود بالسهو هنا:
خلل يوقعه المصلي في صلاته، سواء كان عمداً أو نسياناً، ويكون السجود- ومحله في آخر الصلاة- جبراً لذلك الخلل.
حكم سجود السهو:
هو سنَّة عند حدوث سبب من أسبابه التي سنتحدث عنها، فإن لم يسجد لم تبطل صلاته. ولم يكن واجباً، لأنه لم يشرع لترك واجب كما سنرى.
ودليل مشروعيته ما روه البخاري (1169)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: صلَّى بنا النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر أو العصر، فسلَّم، فقال له ذو اليدين: الصلاة يا رسول الله، أنقصت؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أَحَقُّ ما يَقُولُ؟ ". قالوا: نعم، فَصلَّى ركعتين أُخْرَيَتَيْنِ، ثمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْن.
وأدلة أخرى تأتي فيما يلي:(1/171)
أسباب سجود السهو:
1 - أن يترك المصلي بعضاً من أبعاض الصلاة التي مرّ ذكرها كالتشهد الأول والقنوت:
روى البخاري (1166)؛ ومسلم (570)، عن عبدالله بن بُحَيْنَة - رضي الله عنه - أنه قال: صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رَكْعَتَيْن من بعض الصلوات- وفي رواية: قام من اثنتين من الظهر - ثم قام فلم يجلس، فقان الناس معه، فلما قضى صلاته ونظرنا تسليمه، كبَّر قبل التسليم، فسجد سجدتين وهو جالس، ثم سلم.
[نظرنا: انتظرنا].
وروى ابن ماجه (1208)؛ وأبو داود (1036) وغيرهما، عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا قام أحدكم من الركعتين، فلم يَسْتَتِمَّ قائماً فليجلس، وإذا اسْتَتَمَّ قائماً فلا يجلس، ويسجد سَجْدَتَي السَهْو".
2 - الشك في عدد ما أتى به من الركعات:
فيفرض العدد الأقل، ويتمم الباقي ثم يسجد للسهو، جبراً لاحتمال أنه قد زاد في صلاته. فلو شك هل هو صلى الظهر ثلاثاً أو أربعاً، فليطرح الشك، وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمساً شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتماماً لأربع كانتا تَرْغِيماً للشيطان".(1/172)
[شفعن: جعلنها زوجاً كما ينبغي أن تكون. ترغيماً: إغاظة وإذلالاً].
أما لو شك بعد الخروج من الصلاة، فإن هذه الشك لا يؤثر على صحة صلاته وتمامها إلا في النية وتكبيرة الإحرام، فتلزمه الإعادة.
وسهو المأموم حال قدوته بالإمام - وذلك كان سها عن التشهد الأول - يحمله الإمام، ولا يلزمه سجود السهو بعد سلام الإمام، ودليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الإِمام ضامن" (رواه ابن حبان وصححه: 362).
3 - ارتكاب فعل منهي عنه سهواً، إذا كان يبطل عمده الصلاة:
كما إذا تكلم بكلمات قليلة أو أتى بركعة زائدة سهواً، ثم تنبه إلى وذلك وهو في الصلاة، فيسجد للسهو.
4 - نقل شئ من أفعال الصلاة ركناً كان أو بعضاَ، أو سورة نقلها إلى غير محلها، وهو القيام:
مثاله: قرأ الفاتحة في جلوس التشهد، أو قرأ القنوت في الركوع، أو قرأ السورة التي يسنُّ قراءتها بعد الفاتحة في الاعتدال، فيسن أن يسجد لذلك سجود سهو في آخر الصلاة.
* كيفية السجود ومحله:
سجود السهو سجدتان كسجدات الصلاة، ينوي بهما المصلي سجود السهو، ومحله آخر صلاته قبل السلام؛ فلو سلَّم المصلي قبل السجود عامداً أو ناسياً وطال الفصل؛ فات السجود، وإلا بأن قصر الفصل فله أن يتدارك السجود بأن يسجد مرتين بنية السهو ثم يسلِّم مرة أخرى.
*****(1/173)
سَجدَاتُ التِّلاَوَة
يسنّ سجدات التلاوة للقارئ داخل الصلاة وخارجها، وللمستمع خارج الصلاة.
ودليل ذلك ما رواه البخاري (1025)، عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ علينا السورة فيها السجدة، فيسجد ونسجد، حتى ما يجد أحدنا موضع جبهته.
وروى مسلم (81) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد، اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا ويْلَهُ، أُمِرَ ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار".
وروى البخاري (1027) عن عمر - رضي الله عنه - قال: " يا أيها الناس إنا نَمُرُّ بالسجود، فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه ".
وفي رواية عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نَشَاء.(1/174)
عدد سجدات التلاوة:
وسجدات التلاوة في القرآن أربع عشر سجدة، وهي في السور التالية: سجدة في الأعراف، والرعد، والنحل، والإسراء، ومريم، وسجدتان في الحج، وسجدة في الفرقان، والنمل، وألم تنزيل، وحم السجدة، والنجم، والانشقاق، والعلق.
ومن أراد سجود التلاوة كبَّر للإحرام رافعاً يديه، ثم كبَّر للهوي بلا رفع، وسجد سجدة واحدة كسجدات الصلاة، ثم سلَّم. وتكبيرة الإحرام والسلام شرطان فيها، ويشترط فيها أيضاً ما يشترط في الصلاة من الطهارة، واستقبال القبلة، وغير ذلك.
*****(1/175)
صَلاَة الجَمَاعَة
تاريخ إقامتها:
أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - الجماعة بعد الهجرة الشريفة، فلقد مكث - صلى الله عليه وسلم - مدة مقامه في مكة ثلاث عشرة سنة يصلي بغير جماعة، لأن الصحابة كانوا مقهورين، يصلّون في بيوتهم، فلما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة أقام الجماعة وواظب عليها.
حكمها:
الصحيح أنها - فيما عدا صلاة الجمعة - فرض كفاية، لا تسقط فرضيتها عن أهل البلدة إلا حيث يظهر شعارها؛ فإن لم تُؤدَّ فيها مطلقاً أو أديت في خفاء أثم أهل البلدة كلهم، ووجب على الإِمام قتالهم.
والأصل في مشروعيتها قوله تعالى: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك} [النساء: 102]. وهذا في صلاة الخوف، وإذا ورد الأمر بإقامة الجماعة في الخوف كانت في الأمن أولى.
وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة الجماعة تفضل صلاة الفَذِّ بسبع وعشرين درجة" (رواه البخاري: 618؛ ومسلم: 650).
وكذلك ما رواه أبو داود (547)، وصحَّحه ابن حبان (425)(1/176)
وغيرهما: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما من ثلاثة في قرية أو بدو لا تقام فيهم الجماعة إلا استحوذ عليهم الشيطان فعليك بالجماعة، فإنما يأكل الذئب القاصية".
[استحوذ عليهم: غلبهم واستولى عليهم وحوَّلهم إليه. القاصية: الشاة البعيدة عن القطع].
حكمة مشروعيتها:
إنما ينهض عمود الإسلام على تعارف المسلمين وتآخيهم وتعاونهم لإحقاق الحق وإزهاق الباطل؛ ولا يتم هذا التعارف والتآخي في مجال أفضل من مجال المسجد عندما يتلاقى فيه المسلمون لأداء صلاة الجماعة كل يوم خمس مرات.
ومهما فرقت مصالح الدنيا بينهم وأورثت الأحقاد في نفوسهم، فإن في ثباتهم على التلاقي في صلوات الجماعة ما يمزق بينهم من حجب الفرقة ويذيب من قلوبهم الأحقاد والأضغان؛ إن كانوا حقاً مؤمنين بالله ولم يكونوا منافقين فيما يتظاهرون به من صلاة وعبادة وسعي إلى المساجد.
الأعذار المقبولة في التخلف عن صلاة الجماعة:
الأعذار قسمان: أعذار عامة، أعذار خاصة.
أما الأعذار العامة:
فكمطر، وريح عاصف بليل، ووحل شديد في الطريق.
روي أن أبن عمر رضي الله عنهما: أذَّن للصلاة في ليلة ذات بردٍ وريح، (رواه البخاري: 635؛ ومسلم: 697)، ثم قال: أَلاَ صَلوا في(1/177)
الرِّحَالِ، ثم قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يَأمر المُؤَذَّنَ إذَا كانَتْ لَيْلَةٌ ذات برد ومطر أن يقول: " ألا صلوا في رحالكم". أي منازلكم ومساكنكم.
وأنت تعلن أن هذه الأعذار قلما تتحقق اليوم إلا في القرى، بل في بعض القرى.
* وأما الأعذار الخاصة:
فكمرض وجوع وعطش شديدين، وكخوف من ظالم على نفس أو مال، ومدافعة حدث من بول أو غائط. لما رواه البخاري (643)؛ ومسلم (559): " إذا وُضِعَ عَشَاء أحدكم وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعِشاء، ولا يعجلن حتى يفرغ منه"، ولخبر مسلم (560): "لا صلاة بحضرة طعام، ولا هو يدافعه الأخبثان". وكملازمة غريم له إذا خرج إلى الجماعة وهو معسر، وأكل ذي ريح كريه، أو يكون مرتدياً ثياباً قذرة تؤذي بقذارتها أو ريحها. فكل واحدة من هذه الحالات تعتبر عذراً شرعياَ يسوغ لصاحبه التخلف عن حضور الجماعة.
روى البخاري (817)؛ ومسلم (564)، عن جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من أكل ثوماً - وقيس غيره من الأعذار عليه- فليعتزلن، أو قال: فليعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته".
شروط من يقتدى به:
لا بد فيمن يكون إماماً أن تتوفر فيه شروط معينة- أكثرها نسبية، حسب حال المأموم- ونلخصها في الأمور التالية:
1 - أن لا يعلم المقتدي بطلان صلاة إمامه أو يعتقد ذلك:
مثاله: أن يجتهد اثنان في جهة القبلة فاعتقد كل منهما أن القبلة في جهة غير التي اعتقدها الآخر، فلا يجوز أن يقتدي أحدهما بالآخر(1/178)
لأن كلاًّ منهما يعتقد أن الآخر مخطئ في اتجاهه وأن صلاته إلى تلك الجهة غير صحيحة.
2 - أن لا يكون أميّاً، والمقتدي قارئ:
والمقصود بالأمي هنا من لا يتقن قراءة الفاتحة بحيث يخل بقراءتها إخلالاً يفوّت حرفاً أو شدة أو نحو ذلك. فإن كان المقتدي مثله جاز اقتداء كل منهما بالآخر.
3 - أن لا يكون امرأة، والمقتدي رجل:
فإن كان المقتدي أيضاً امرأة جاز اقتداء كلٍّ منهما بالآخر لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تَؤُمَّنَّ امرأة رجلاً" (رواه ابن ماجه).
من الصفات التي يستحب أن يتحلى بها الإمام:
يجدر أن يكون إمام القوم أَفقهم، وأَقرأهم، وأصلحهم، وأَسَنََّهُم.
ومهما تحققت هذه الصفات في الإِمام كانت الصلاة خلفه أفضل وكان الثواب بذلك أرجى.
روى مسلم (613) عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواءً فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواءً فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواءً فأقدمهم سناً".
واعلم أنه لا يجوز اقتداء المتوضئ بالمتيمم وبماسح الخف، والقائم بالقاعد، والبالغ بالصبي، والحر بالعبد، والصحيح بالمسلس، والمؤدي بالقاضي، والمفترض بالمتنفل وبالعكس.(1/179)
كيفية الاقتداء:
لا يتحقق الاقتداء المشروع إلا بشروط وكيفيات ينبغي مراعاتها، وهي كثيرة نلخصها فيما يلي:
1 - أن لا يتقدم المأموم على الإمام في المكان:
فإن تقدَّم عليه بطل اقتداؤه، لقوله عليه الصلاة والسلام:
" إنما جعل الإمام ليؤتم به" (رواه البخاري: 657؛ ومسلم: 411).
والائتمام الاتباع، وهو لا يكون إلا حيث يكون التابع متأخراً، لكن لا تضر مساواته له في الموقف وإن كان ذلك مع الكراهة، وإنما يندب تخلفه عنه قليلاً، فإذا تقدم عليه بطلت صلاته، والاعتبار في التقدم والتأخر بالعقب، وهو مؤخر القدم. فإن كان المقتدي اثنين فأكثر، اصطفوا خلف الإمام وإن كان واحداً وقف عن يمينه، فإذا جاء ثانٍ وقف عن يساره، ثم رجعا أو تقدم الإمام.
روى مسلم عن جابر - رضي الله عنه - قال: صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقمت عن يمينه، ثم جاء جابر بن صخر فقام عن يساره، فأخذ بأيدينا جميعاً حتى أقامنا خلفه.
ويسن أن لا يزيد ما بين الإمام والمأموم على ثلاثة (1)، وهكذا بين كل صفِّين. وإذا صلى خلف الإِمام رجال ونساء صفَّ الرجال أولاً ثم النساء بعدهم، وإذا صلى رجل وامرأة صف الرجل عن يمين الإِمام، والمرأة خلف الرجل.
أما جماعة النساء، فتقف إمامتهن وسطهم لثبوت ذلك عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما. (رواه البيهقي بإسناد صحيح).
_________
(1) بذراع الرجل المعتاد، ويساوي 50 سم تقريباً.(1/180)
ويكره وقوف المأموم منفرداً في صف وحده، بل يدخل الصف إن وجد سعة، وإن لم يجد سعة، فإنه يندب أن يجر شخصاً واحداً من الصف إليه بعد الإحرام (1)، ويندب للمجرور أن يساعده ويرجع إليه لينال فضيلة المعاونة على البر.
2ـ أن يتابعه في انتقالاته وسائر أركان الصلاة الفعلية:
وذلك بأن يتأخر ابتداء فعل المأموم عن فعل الإمام، ويتقدم على فراعه. فإن تأخر المأموم عن الإمام قدر ركن كره ذلك، وإن تأخر عنه قدر ركنين طويلين: كأن ركع واعتدل ثم سجد ورفع ولا يزال المأموم واقفاً من دون عذر، بطلت صلاته.
وأما إذا كان لتأخره عذر بأن كان بطيئاً في القراءة، فله أن يتخلف عن الإمام بثلاثة أركان، فإن لم تكلف لمتابعته فيما بعد وجب عليه أن يقطع ما هو فيه ويتابع الإمام، ثم يتدارك الباقي بعد سلام إمامه.
3ـ العلم بانتقالات الإمام:
وذلك بأن يراه، أو يرى بعض صف، أو يسمع مبلغاً.
4ـ أن لا يكون بين الإمام والمأموم فاصل مكاني كبير:
إذا لم يكونا في المسجد، أما إذا جمعهما مسجد، فإن الاقتداء صحيح مهما بعدت المسافة بينهما، أو حالت أبنية نافذة.
أما إذا كانا في خارج المسجد أو كان الإمام في المسجد والمقتدي خارجه، فيشترط عندئذ أن لا تبتعد المسافة بين الإمام والمقتدي.
_________
(1) هذا إن رأي أنه يوافقه، وإلا فلا يجره بل يمتنع لخوف الفتنة.(1/181)
وضبط ذلك ما يلي:
أولاً: إذا كان الإمام والمقتدي في فضاء، كبيداء ونحوها، اشترط أن لا تزيد المسافة بينهما على ثلاثمائة ذراع هاشمي أي (150) متر تقريباً.
ثانياً: أن يكون كل منهما في بناء، مثل بيتين أو صحن وبيت، وجب ـ علاوة على الشرط المذكورـ اتصال صف من أحد البناءين بالآخر، إن كان بناء الإمام منحرفاً يميناً أو يساراً عن موقف المأموم أو المقتدي.
ثالثاً: أن يكون الإمام في المسجد وبعض المقتدين في خارج المسجد، فالشرط هو أن لا تزيد مسافة البعد ما بين طرف المسجد وأول مقتد يقف خارجه على ثلاثمائة ذراع هاشمي.
5ـ أن ينوي المقتدي الجماعة أو الاقتداء:
ويشترط أن تكون النية مع تكبيرة الإحرام. فلو ترك نية الاقتداء وتابعه مع ذلك في الانتقالات والأفعال، بطلت صلاته إن اقتضت متابعته أن ينتظره انتظاراً كثيراً عرفاً، أما إن وقعت المتابعة اتفاقاً بدون قصد أو كان انتظار للإمام انتظاراً يسيراً فلا تبطل صلاته بذلك. أما الإمام فلا يجب عليه أن ينوي الإمامة، بل يستحب له ذلك، لتحصل له فضيلة الجماعة، فإن لم ينو لم تحصل له، إذ ليس للمرء من عمله إلا ما نوى. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى". [رواه البخاري: 1، ومسلم: 1907].
ويحصل المأموم على فضيلة الجماعة ما لم يسلم الإمام، إدراك(1/182)
تكبيرة الإحرام مع الإمام فضيلة وتحصل بالاشتغال بالتحريم عقب تحريم الإمام.
ويدرك المأموم مع الإمام الركعة إذا أدركه في ركوعها، وإذا أدركه بعد الركوع فاتته الركعة، وكان عليه أن يتداركها أو يتدارك ما فاته، إن كان أكثر من ركعة بعد سلام الإمام.
***(1/183)
صلاة المسافر
القصر والجمع:
مقدمة:
يقول الله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج: 78]. أي إنه سبحانه وتعالى لم يشرع من أحكام الذين ما يوقعكم في الجهد والعنت، ويجعلكم في حيرة من أمركم. فحيثما يقع المسلم في ضيق يوسع الله له في أمر دينه، كي تظل أحكامه مقبولة متحملة.
والسفر قطعة من العذاب، يفقد فيه الإنسان استقراره وأسباب اجله، من أجل ذلك خفف الله تعالى عن المسافر كثيراً من أحكام دينه، وكيفية الاستفادة منه.
كيفية تكون صلاة المسافر:
رَخّص الله للمسافر في صلاته رخصتين:
أولاهما: اختصار في كمية الركعات، ويسمى " قصراً ".(1/184)
الثانية: ضم صلاتين إلى بعضهما في الأداء، ليكتسب المسافر أوسع وقت ممكن من الفراغ، ويسمى "الجمع بين الصلاتين".
أولاًـ القصر:
هو أن تؤدى الصلاة الرباعية، كالظهر والعصر والعشاء، ركعتين بدلاً من أربع، كما سنرى فيما يأتي من أدلة.
والأصل في مشروعية القصر قوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} [النساء: 101]. [ضربتم: سافرتم].
روى مسلم (686) وغيره، عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: {ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يقتنكم الذين كفروا} فقد أَمِنَ الناس؟ فقال: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته".
وهذا يدل على أن قصر الصلاة ليس خاصاً بحالة الخوف.
ولا بد لصحة القصر من مراعاة الشروط التالية:
1ـ أن تتعلق بذمته في السفر، ويؤديها أيضاً في السفر:
فخرج بهذا الشرط الصلاة التي دخل وقتها قبل أن يسافر، ثم سافر قبل أن يصليها، فلا يجوز أن يصليها قصراً، لأنه لم يكن مسافراً حين وجبت عليه وتعلقت بذمته.
وخرج أيضاً الصلاة التي دخل وقتها وهو مسافر، ولكنه لم يصلها(1/185)
حتى رجع إلى بلده، فلا يجوز أن يصليها أيضاً قصراً، لأنه حين أدائها ليس بمسافر، والقصر للمسافر.
2ـ أن يتجاوز سور البلد التي يسافر منها، أو يتجاوز عمرانها إن لم يكن لها سور:
لأن من كان داخل سور البلد أو عمرانها ليس بمسافر. أي فالسفر إنما يبدأ من لحظة هذا التجاوز، كما أنه ينتهي بالوصول رجوعاً إلى تلك المنطقة. وإذا فهو لا يقصر من الصلاة إلا ما تعلق بذمته وفعله وضمن هذه الفترة.
روى البخاري (1039)، ومسلم (690)، عن أنس - رضي الله عنه - قال: صليت الظهر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة أربعاً، والعصر بذي الحليف ركعتين. وذو الحليفة خارج عمران المدينة.
3ـ أن لا ينوي المسافر إقامة أربعة أيام غير يومي الدخول والرجوع، في المكان الذي يسافر إليه:
فإذا نوى ذلك، أصبحت البلدة التي يسافر إليها في حكم موطنه ومحل إقامته، فلم يعد يجوز له القصر فيها، ويبقى له حق القصر في الطريق فقط.
أما إذا كان ناوياً أن يقيم أقل من أربعة أيام، أو كان لا يعلم مدة بقائه فيها، لعمل يعالجه ولا يدري متى يتمه: وقصر في الحالة الثانية إلى ثمانية عشر يوماً غير يومي دخول وخروجه.
روى أبو داود (1229)، عن عمران بن حصين - رضي الله عنه -(1/186)
قال: "غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وشهدت معه الفتح، فأقام بمكة ثماني عشر ليلة، لا يصلي إلاّ ركعتين". لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام هذه المدة بمكة عام الفتح لحرب هوازن يقتصر الصلاة، ولم يكن يعلم المدة التي سيضطر لبقائها.
4ـ أن لا يقتدي بمقيم:
فإن اقتدى به وجب عليه أن يتابعه في الإتمام، ولم يجز له القصر.
أما العكس فلا مانع من القصر فيه، وهو أن يؤم المسافر مقيمين، فله أن يقصر. ويسن له إذا سلم على رأس ركعتين أن يبادر المقتدين فيقول لهم: أتموا صلاتكم فإني مسافر.
دليل ذلك ما رواه أحمد بسند صحيح عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه سئل: ما بال المسافر يصلي ركعتين إذا انفرد، وأربعاً إذا ائتم بمقيم؟ فقال: تلك هي السنة.
وجاء في حديث عمران - رضي الله عنه - السابق، ويقول: "يا أهل البلد صلوا أربعاً، فإنَّانَا قومٌ سَفَر".
ثانياً ـ الجمع:
وقد عرفت معناه قبل قليل.
روى البخاري (1056)، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين صلاة الظهر والعصر إذا كان على ظهر سير، ويجمع بين المغرب والعشاء.
[على ظهر سير: أي مسافراً].(1/187)
وروى مسلم (705) عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الصلاة في سفرة سافرناها في غزوة تبوك، فجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، قال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى: قلت لابن عباس - رضي الله عنه -: ما حمله على ذلك؟ قال أراد أن لا يُحْرِج أُمَّتَه.
وينقسم جمع الصلاة إلى قسمين:
جمع تقديم، بأن يقدم المتأخر إلى وقت الأولى، وجمع تأخير، بأن يؤخر المتقدمة إلى وقت الثانية.
روى أبو داود (1208)؛ والترمذي (553) وغيرهما، عن معاذ - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في غزوة تبوك، إذا ارتحل قبل أن ترتفع الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر يصليهما جميعاً. وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعاً ثم سار. وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء، فصلاها مع المغرب.
الصلوات التي يجمع بينها:
علم مما سبق أن الصلوات التي يصلح أن يجمع بينها: هي الظهر مع العصر، والمغرب مع العشاء. فلا يصح أن يجمع الصبح مع ما قبله أو بعده، كما لا يجمع بين العصر والمغرب.
هذا وإن لكل من جمع التقديم والتأخير شروطاً ينبغي مراعاتها.
فلنذكر شروط كل منهما.
شروط جمع التقديم:
أولاً: الترتيب منهما:(1/188)
بأن يبدأ الصلاة الأولى صاحبة الوقت، ثم يتبعها بالأخرى.
ثانياً: أن ينوي جمع الثانية مع الأولى قبل فراغه من الصلاة الأولى، ولكن يسن أن تكون النية مع تكبيرة الإحرام بها.
ثالثاً: الموالاة بينهما، بأن يبادر إلى الثانية فور فراغه من الأولى وتسليمه منها، لا يفرق بينهما بشيء من ذكر أو سنة أو غير ذلك؛ فإن فرق بينهما بشيء طويل عرفاً، أو أخر الثانية بدون أن يشغل نفسه بشيء بطل الجمع، ووجب تأخيرها إلى وقتها. اتباعاً للنبي - صلى الله عليه وسلم - في كل ذلك.
روى البخاري (1040)، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أعجله السير يؤخر المغرب فيصليهما ثلاثاً، ثم يسلم، ثم قلما يلبث حتى يقيم العشاء، فيصليهما ركعتين، ثم يسلم.
رابعاً: أن يدوم سفره إلى تلبسه إلى تلبسه بالثانية، أي فلا يضر أن يصل إلى بلده أثناءها.
شروط جمع التأخير:
أولاً: أن ينوي جمع الأولى تأخيراً خلال وقتها الأصلي، فلو خرج وقت الظهر وهو لم ينو جمعها مع العصر تأخيراً، أصبحت متعلقة بذمته على وجه القضاء، وأثم في التأخير.
ثانياً: أن يدوم سفره إلى أن يفرغ من الصلاتين معاً، فلو أقام قبل الفراغ النهائي منهما أصبحت المؤخرة قضاء.
ولا يرد هنا شرط الترتيب بينهما، بل يبدأ بما شاء منهما، كما أن الموالاة بينهما ـ هنا ـ سنة وليست شرطاً لصحة الجمع.(1/189)
شروط السفر الذي يباح فيه القصر والجمع:
الشرط الأول: أن يكون السفر طويلاً تبلغ مسافته 81 كم فصاعداً، فلا يعتد بالسفر الذي يكون دون ذلك.
روى البخاري تعليقاً في (تقصير الصلاة، باب: في كم تقصر الصلاة): وكان ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما يقصران ويفطران في أربعة برد، وهي ستة عشر فرسخاً، وتساوي 81 كم تقريباً. ومثلهما يفعلان توفيقاً، أي بعلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
الشرط الثاني: أن يكون السفر إلى جهة معينة مقصورة بذاتها، فلا يعتد بسفر رجل هائم على وجهه ليست له وجهة معينة، ولا بسفر من يتبع قائده مثلاً وهو لا يدري أين يذهب به. وهذا قبل بلوغه مسافة السفر الطويل، فإن قطعها قصر، لتيقن طول السفر.
الشرط الثالث: أن لا يكون الغرض من السفر الوصول إلى أي معصية، فإن كان كذلك لم يعتد بذلك السفر أيضاً، كمن يسافر ليتاجر بخمر أو ليُرَابي أو ليقطع طريقاً، لأن القصر رخصة، والرخصة إنما شرعت للأمانة، ولذلك لا تناط بالمعاصي، أي لا تتعلق بما فيه معصية.
* الجمع بين الصلاتين في المطر:
يجوز الجمع بين صلاتين تقديماً في المطر.
روى البخاري (518)، ومسلم (705)، عن ابن عباس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بالمدينة سبعاً وثمانياً: الظهر والعصر،(1/190)
والمغرب والعشاء. زاد مسلم: من غير خوف ولا سفر. وعند البخاري: فقال أيوب ـ أحد رواة الحديث ـ: لعله في ليلة مطيرة؟ قال: عَسَى. وعند مسلم: قال ابن عباس رضي الله عنهما: أراد أن لا يُحْرِج أحداً من أمته.
ولا يجوز جمعهما في وقت الثانية، لأنه ربما انقطع المطر، فيكون أخرج الصلاة عن وقتها بغير عذر.
ويشترط لهذا الجمع الشروط التالية:
1ـ أن تكون الصلاة جماعة بمسجد بعيد عرفاً، يتأذى المسلم بالمطر في طريقه إليه
2ـ استدامة المطر أول الصلاتين، وعند السلام من الأولى.
*****(1/191)
صَلاَة الخَوف
معناها والأصل في مشروعيتها:
الخوف ضد الأمن، والمقصود بصلاة الخوف: الصلاة التي تؤدي في ظروف القتال مع العدو، إذ تختص برخص وتسهيلات ـ لا سيما بالنسبة للجماعة ـ لا توجد الصلوات الأخرى.
والأصل في مشروعيتها: آيات وأحاديث تأتي في بيان حالاتها وكيفيتها.
حالاتها:
لصلاة الخوف حالتان حسب حالة القتال:
الحالة الأولى:
حالة المرابطة والحراسة وعدم التحام القتال: وفي هذه الحالة تأخذ الصلاة شكلاً معيناً، ويختلف بعض الشيء عن الصلاة في صورتها العامة، بسبب حرص المسلمين على أدائها جماعة، خلف إمامهم الأعظم أو قائدهم الأعلى، أو من ينوب منابه في إدارة القتال.
وقد دلّ على مشروعيتها في هذه الحالة قوله تعالى: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا معك فليصلوا معك(1/192)
وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهيناً} [النساء: 102].
(فإذا سجدوا: أي أتم الذين معك صلاتهم، فليذهبوا وليحرسوكم. فيميلون: فيحملون. جناح حرج وإثم).
ولهذه الصورة التي ذكرتها الآية لصلاة الخوف كيفيتان ـ بينها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بفعله ـ تختلفان بحسب اختلاف موقع العدو من المسلمين، وكونه في جهة القبلة أم في غير جهتها.
الكيفية الأولى:
وهي عندما يكون العدو رابضاً في جهة القبلة والقتال غير ملتحم: فإذا أراد الجنود أن يصلوا جماعة، ولم يرغبوا أن يجزئوا صلاتهم إلى عدة جماعات، تحقيقاً لفضيلة الجماعة الواحدة الكبرى، فليرتبهم إمامهم صفين أو أربعاً أو أكثر، ويصلي بهم، فإذا سجد فليسجد معه الصف الذي يليه فقط إن كان المصلون صفين، أو الصفان اللذان يليانه إن كانوا أربعة صفوف، وهكذا، وليقف الباقون يحرسون إخوانهم من إمامهم في قيام الركعة الثانية، فإذا سجد الإمام لركعة الثانية تبعه من تخلف في الأولى، وتخلف المتبعون له إذ ذاك، ثم يتلاحق الجميع في جلوس التشهد ويسلمون جميعاً.
وهذه الكيفية هي التي صلى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة من غزواته، وهي عزوة عسفان، فكانت سنة في كل حالة تشبهها.(1/193)
روى البخاري (902) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قام النبي - صلى الله عليه وسلم - وقام الناس معه، فكبر وكبّروا معه، وركع ناسٌ منهم، ثم سجد وسجدوا منه، ثم قام للثانية فقام الذين سجدوا وحرسوا لإخوانهم، وأتت الطائفة الأخرى، فركعوا وسجدوا معه والناس كلهم في صلاة، ولكن يحرس بعضهم بعضاً.
الكيفية الثانية:
وهي عندما يكون العدو منتشراً في غير جهة القبلة والقتال غير ملتحم، والكيفية المندوبة للصلاة في هذه الحالة هي:
1ـ ينقسم المصلون إلى فرقتين، تقف واحدة في وجه العدو ترقبه وتحرس المسلمين، وتذهب الأخرى لتؤدي الصلاة جماعة مع الإمام.
2ـ يصلي الإمام بهذه الفرقة الثانية ركعة، فإذا قام للثانية فارقته وأتمت الركعة الثانية بانفراد، وذهبوا إلى حيث ترابط الفرقة الأولى.
3ـ تأتي الفرقة الأولى فتقتدي بالإمام ـ وينبغي أن يطيل قيامه في الركعة الثانية ريثما تلحق به هذه الفرقة ـ فيصلي بها الإمام الركعة الثانية التي هي الأولى في حقهم، فإذا جلس للتشهد قاموا فأتموا الركعة الثانية، ثم لحقوا به وهو لا يزال في التشهد، فيسلم بهم.
وهذه الكيفية في صفة صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة ذات الرقاع.
روى البخاري (3900)، مسلم (842)، وغيرهما، عن صالح بن خوَّات عمن شهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى يوم ذات الرقاع صلاة الخوف: أن طائفة صفت معه، وطائفة وُجاه العدو، فصلى بالتي معه ركعة، ثم(1/194)
ثبت قائماً، وأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا، فصفوا وجاء العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالساً، وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم.
وأنت ترى أن في أداء الصلاة على هاتين الكيفيتين ـ والمسلمون في مواجهة العدو ـ صورة من صور المحافظة على الصلاة بجماعة، والمحافظة على حراسة المسلمين، والتنبه للعدو والصحو إلى مكايدهم.
ومزيتها الكبرى التأسي برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واكتساب أجر أداء الجميع صلاتهم في جماعة واحدة، مع الخليفة أو الإمام الأكبر، أو القائد في ميادين القتال.
الحالة الثانية:
وهي عندما يلتحم القتال مع العدو وتتداخل الصفوف ويشتد الخوف.
ولا توجد كيفية محددة للصلاة في هذه الحالة، بل يصلي كل منهم على النحو الذي يستطيع، راجلاً أو راكباً، ماشياً أو واقفاً، مستقبلاً القبلة أو منحرفاً عنها، ويركع ويسجد بإيماء، أي بتحريك رأسه مشيراً إلى الركوع والسجود، ويجعل إيماء السجود أبلغ من إيماءة الركوع. وإن أمكن اقتداء بعضهم ببعض وصلاتهم جماعة فهو أفضل، وإن اختلفت جهاتهم، أو تقدم المأموم على الإمام.
قال تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون} [البقرة: 238].(1/195)
[الوسطى: صلاة العصر. قانتين: خاشعين. كما علمكم: أي أعمال الصلاة].
روى البخاري (4261)، عن ابن عمر رضي الله عنهما، في وصفه صلاة الخوف وبعد ذكره الكيفيتين السابقتين، قال: وبعد فإن كان وصفه خوف هو أشد من ذلك، صلوا رجالاً قياماً على أقدامهم، أو ركباناً، مستقبلي القبلة، أو غير مستقبليها. قال مالك: قال نافع: لا أرى عبدالله بن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وعند مسلم (839): فصلً راكباً أو قائما، تومئ إيماء.
وبعذر في هذه الحالة في كل ما يقع منه من حركات تستدعيها ظروف القتال، إلا أنه لا يعذر في الكلام والصياح، إذ لا ضرورة تستدعي ذلك، وإذا أصابته نجاسة لا يعفا عنها كدم ونحوه، صحت صلاته ووجب عليه القضاء فيما بعد:
واعلم أن هذه الصلاة يرخص فيها بهذا الشكر عند كل قتال مشروع، وفي كل حالة يكون فيها المكلف في خوف شديد، كما إذا كان فاراً من عدو، أو حيوان مفترس، ونحو ذلك.
والمنظور إليه في مشروعية هذه الكيفية هو الحفاظ على أداء الصلاة في وقتها المحدد لها، امتثالاً لأمر الشارع حيث يقول: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً} [النساء 103].
حكمة مشروعية صلاة الخوف:
والحكمة من مشروعية هذه الكيفيات في الصلاة التيسر على المكلف، كي يتمكن من أداء هذه الفريضة، وهو أحوج ما يكون إلى(1/196)
الصلة بالله عز وجل، يستمد منه العون والنصرة، وهو يقارع الكفرة في ميادين القتال، فيطمئن قلبه بذكر ربه جل وعلا، وتزداد ثقته بنصره وتأييده، وثبت قدمه في أرض المعركة، حتى يندحر الباطل ويكتب لأهل الحق الفوز والفلاح، وصدق الله العظيم إذ يقول: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فأثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون} [الأنفال: 45].
ومن الجدير بالذكر أن صلاة الخوف، بكيفياتها السابقة تمكن الجندي المسلم من أقامة الصلاة دون حرج، مهما اختلفت أساليب القتال وتنوعت وسائل الحرب، على اختلاف الزمان والمكان، ولا سيما المتقاتلة، كما هو الحال في كثير من المواقف القتالية الحديثة.
الصلاة لا تسقط بأي حال:
يتبين مما سبق أن الصلاة لا تسقط بحال من الأحوال مهما اشتد العذر، ما دام التكليف قائماً، والحياة مستمرة. ولكن الله عز وجل رخص في تأخيرها كالجمع بين الصلاتين أو قصرها كصلاة المسافر، أو التسهيل في كيفية أدائها كصلاة الخوف وصلاة المريض، وذلك حسب الأسباب والظروف.
*****(1/197)
صَلاَة الجمُعَة
" مشروعيتها:
صلاة الجمعة مشروعة، وهي من الفضائل التي اختص الله تعالى بها هذه الأمة التي هديت للفوز بمكرمات هذه اليوم.
روى البخاري (836)، ومسلم (855)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلقوا فيه، فهدانا الله، فالناس لنا فيه تبع: اليهود غداً والنصارى بعد غد".
[الآخرون: وجوداً في الدنيا. السابقون: في الفصل والأجر ودخول الجنة. بيد: غير. الكتاب: الشريعة السماوية. هذا يوم الجمعة. فرض عليهم: أن يتقربوا إلى الله تعالى فيه].
وقد فرضت بمكة قبيل الهجرة، إلا أنها لم تقم في مكة لضعف أسعد بن زرارة - رضي الله عنه -. روى ذلك أبو داود (1069) وغيره، من كعب بن مالك - رضي الله عنه -.(1/198)
" دليل مشروعيها
دلّ على مشروعيتها الجمعة ووجوبها قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي إلى للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله ودروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} [الجمعة: 9].
وأحاديث كثيرة منها: ما رواه أبو داود (1067)، عن طارق بن شهاب - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الجمعة حق واجب على كل مسلم ... "
وما رواه مسلم (865) وغيره، عن أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهما، أنهما سمعا النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول على أعواد منبره: "لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين".
[ودعهم: تركهم].
" الحكمة من مشروعيتها:
لمشروعية صلاة الجمعة حكم وفوائد كثيرة، لا مجال لاستقصائها في هذا المكان، ومن أهمها تلاقي المسلمين على مستوى جميع أهل البلدة، في مكان واحد ـ هو المسجد الجامع ـ مرة كل أسبوع، يلتقون على نصيحة تجمع شمالهم وتزيدهم وحدة وتضامناً، كما تزيدهم ألفة وتعارفاً وتعاوناً، وتجعلهم واعين متنبهين للأحداث التي تجد من حولهم كل أسبوع، وتشدهم إلى إمامهم الأعظم الذي ينبغي أن يكون هو الخطيب فيهم، والواعظ لهم. فهي إذاً مؤتمر أسبوعي يتلاقى فيه المسلمون صفاً واحداً، وراء قائدهم الذي هو إمامهم وخطيبهم فيه. ولذلك أكثر الشارع من الحث على حضورها، والتحذير من تركها(1/199)
والتهاون في شانها، وقد مر بك شيء من هذا، وسيأتي بعض منها فيما يلي من كلام، وحسبنا في هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من ترك ثلاث جمع تهاوناً طبع الله على قلبه".
شرائط وجوبها:
تجب صلاة الجمعة على من وجدت فيه الشروط السبعة التالية:
الأول ـ الإسلام:
فلا تجب وجوب مطالبة في الدنيا على الكافر، إذ هو مطالب فيها بأساس العبادات والطاعات كلها ألا وهو الإسلام، أما في الآخرة فهو مطالب بها بمعنى أنه يعاقب عليها.
الثاني ـ البلوغ:
فلا تجب على الصبي لأنه غير مكلف.
الثالث ـ العقل:
إذ المجنون غير مكلف أيضاً.
الرابع ـ الحرية الكاملة:
فلا تجب صلاة الجمعة على الرقيق، لأنه مشغول بحق سيده، فكان مانعاً عن وجوبها في حقه.
الخامس ـ الذكورة:
فلا تجب على النساء، لانشغالهن في الأولاد وشؤون البيت، وحصول المشقة لهن بوجوب الحضور في وقت مخصوص ومكان معين.
السادس ـ الصحة الجسمية:
فلا تجب على المريض الذي يتألم بحضور المسجد أو بانحباسه(1/200)
فيه إلى انقضاء الصلاة، أو الذي يزداد مرضه شدة بحضوره، أو يزداد طولاً بأن يتأخر برؤه، ويلحق بالمريض الشخص الذي مرضه ويخدمه، ولا يوجد من يقوم مقامه خلال ذهابه إلى الصلاة، مع حاجة المرض إليه، سواء كان الممرض قريباً أم لا، فلا تجب عليه صلاة الجمعة.
السابع ـ الإقامة بمحل الجمعة:
فلا تجب على مسافر سفراً مباحاً ولو قصيراً، إذا كان قد بدأ سفره قبل فجر يوم الجمعة، وكان لا يسمع في المكان الذي هو فيه صوب الأذان من بلدته التي سافر منها. وكذلك المستوطن في محل لا تصح فيه الجمعة، كقرية ليس فيها أربعون مستوطنون خالون من الأعذار، إذا لم يسمع صوت الأذان من الطرف الذي يلي القرية من بلد الجمعة إلى الطرف الذي يقابله من القرية.
ودلّ على هذه الشروط قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: عبد مملوك، أو امرأة، أو صبي، أو مريض" [رواه أبو داود: 1067].
وخبر الدارقطني (2/ 3) وغيره، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من كان يؤمن بالله واليوم الأخر فعليه الجمعة إلا امرأة ومسافر وعبداً ومريضاً".
ولحديث أبي داود (1056): " الجمعة على كل من سمع النداء". أي الأذان.
شرائط صحتها:
فإذا توفرت هذه الشروط السبعة، وجبت صلاة الجمعة، إلا أنها لا تصح إلا بشروط أربعة:(1/201)
الشرط الأول:
أن تقام في خطة أبنية، سواء كانت هذه الخطة ضمن أبنية بلدة، أو قرية يستوطنها ما لا يقل عن أربعين رجلاً ممن نجب عليهم صلاة الجمعة.
والمقصود بالبلدة: ما اجتمع فيه قاضٍ وحاكم، وكان فيه أسواق للبيع والشراء. والمقصود بالقرية: ما لم يوجد فيه ذلك.
فلا تصح صلاة الجمعة في الصحراء وبين الخيام، ولا في قرية لا يوجد فيها أربعون رجلاً تجب في حقهم صلاة الجمعة. فإن سمعوا الأذان من البلدة المجاورة لهم، وجب عليهم الخروج إليها لصلاة الجمعة، وإلا سقطت عنهم، كما ذكرنا ذلك عند الحدوث في شروط وجوب صلاة الجمعة.
ودليل هذا الشرط: أنها لم تقم في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم -.
الشرط الثاني:
أن لا يقل العدد الذي تقام به صلاة الجمعة عن أربعين رجلاً من أهل الجمعة، أي ممن تنعقد بهم، وهم الذكور البالغون المستوطنون.
لما رواه البيهقي (1/ 177)، عن جابر عم عبدالله - رضي الله عنه - قال: مضت السنة أن في كل أربعين فما فوق ذلك جمعة. وجاء في حديث كعب بن مالك - رضي الله عنه -، وكانوا يومئذ أربعين.(1/202)
الشرط الثالث:
أن تقام في وقت الظهر، فلو ضاق وقت الظهر عنها، بأن لم يبق الجمعة، فخرج وقت الظهر وهم فيها، قلوبها ظهراً وأتموها أربع ركعات.
دل على هذا فعله - صلى الله عليه وسلم - لها في هذا الوقت.
روى البخاري (862)، عن أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس. أي إلى الغرب وهو الزوال.
وروى البخاري (3935)؛ ومسلم (860)، علن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - قال: كنا نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الجمعة، ثم ننصرف وليس للحيطان ظل نستظل فيه.
وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: ما كنا نقبل ولا نتغذى إلا بعد الجمعة. (رواه البخاري: 897؛ ومسلم: 859).
[نقبل: من القيلولة وهي النوم عند الظهيرة للاستراحة. نتغدى: نتناول طعام الغداء].
فالأحاديث تدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - ما كان يصليها إلا في وقت الظهر، بل وفي أول الوقت.
الشرط الرابع:
أن لا تعدد الجمعة في بلد واحد طالما كان ذلك ممكناً، بل يجب أن يجتمع أهل البلدة الواحدة في مكان واحد، فإن كثر الناس، وضاق المكان الواحد عن استيعابهم جاز التعدد بقدر الحاجة فقط.(1/203)
فلو تعددت الجمعات في البلدة الواحدة بدون حاجة، لم يصح منها إلا أسبقها، والعبرة بالسبق البداءة لا الانتهاء، فالجمعة التي بدأ إمامها بالصلاة قبلاً، هي الجمعة الصحيحة، ويعتبر أصحاب الجمعات الأخرى مقصرين إذا انفردوا بجمعات متعددة، ولم يلتقوا جميعاً في أول جمعة بدأت في البلدة، فتكون جمعاتهم لذلك باطلة ويصلون في مكانها ظهراً.
فإن لم تعلم الجمعة السابقة فالكل باطل، ويستأنفون جمعة جديدة في مكان واحد إن أمكن ذلك واتسع الوقت، وإلا صلى الجميع ظهراً، جبراً للخلل، بل تداركاً للبطلان.
ودليل هذا الشرط:
إن الجمعة لم تقم في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين وعصر التابعين، إلا في موضع واحد من البلدة، فقد كان في البلدة مسجد كبير يسمى المسجد الجامع، أي الذي تصلى فيه الجمعة، أما المساجد الأخرى فقد كانت مصليات للأوقات الخمسة الأخرى.
روى البخاري (860)؛ ومسلم (847)، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان الناس ينتابون يوم الجمعة من منازلهم والعوالي ...
[ينتابون: يأتون مرة بعد مرة. العوالي: مواضع شرق المدينة.
أقربها على بعد أربعة أميال أو ثلاثة من المدينة].
وروى البخاري (852)، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إن أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسجد عبدالقيس، بجواثي من البحرين.(1/204)
والحكمة من هذا الشرط: أن الانتصار على مكان واحد أفضى إلى المقصود، وهو إظهار شعار الاجتماع وتوحيد الكلمة، بل التناثر في أماكن متفرقة بدون حاجة ربما هيأ أسباب الفرقة والشقاق.
فرائض الجمعة:
تتكون شعيرة الجمعة من فرضين، هما أساس هذه الركن الإسلامي العظيم.
الفريضة الأولى - خطبتان، أولهما شروط هي:
1 - أن يقوم الخطيب فيهما إن استطاع، ويفصل بينهما بجلوس:
وذلك لما رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب خطبتين يجلس بينهما، وكان يخطب قائماً.
وروى البخاري (878) ومسلم (861) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب قائماً ثم يقعد، ثم يقوم كما تفعلون الآن.
2 - أن لا تؤخر عن الصلاة:
وذلك للاتباع المعلوم من مجموع الأحاديث الواردة في الجمعة، ولإجماع المسلمين على ذلك.
3 - أن يكون الخطيب طاهراً من الحدثين الأصغر والأكبر، ومن نجاسة غير معفو عنها في ثوبه وبدنه ومكانه، وأن يكون ساتر العورة:
إذ الخطبة كالصلاة، ولذلك كانت الخطبتان عوضاً عن ركعتين من فريضة الظهر، فاشترط لها ما يشترط للصلاة من الطهارة ونحوها.(1/205)
4 - أن تتلى أركان الخطبة باللغة العربية:
على الخطيب أن يخطب باللغة العربية وإن لم يفهمها الحاضرون فإن لم يكن ثمة من يعلم العربية، ومضى زمن أمكن خلاله تعلمها أثموا جميعاً، ولا جمعة لهم، بل يصلونها ظهراً.
أما إذا لم تمض مدة يمكن تعلم العربية خلالها، ترجم أركان الخطبة باللغة التي يشاء، وصحت بذلك الجمعة.
5 - الموالاة بين أركان الخطبة، وبين الخطبتين الأولى والثانية، وبين الثانية والصلاة:
فلو وقع فاصل طويل في العرف بين الخطبة الأولى والثانية، أو بين مجموع الخطبتين والصلاة، لم تصح الخطبة، فإن أمكن تداركها وجب ذلك، وإلا انقلبت الجمعة ظهراً.
6 - أن يسمع أركان الخطبتين أربعون من تنعقد بهم الجمعة.
* ثم إن للخطبتين أركاناً هي:
1 - حمد الله تعالى، بأي صيغة كان.
2 - الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بأي صيغة من الصلوات.
بشرط أن يذكر اسمه الصريح: كالنبي أو الرسول أو محمد، فلا يكفي ذكر الضمير بدلاً من الاسم الصريح.
3 - الوصية بالتقوى، بأي الألفاظ والأساليب كانت:
فهذه الأركان الثلاثة أركان لكلا الخطبتين، لا يصح كل منهما إلا بها.(1/206)
4 - قراءة آية من القرآن في إحدى الخطبتين:
ويشترط أن تكون الآية مفهمة وواضحة المعنى، فلا يكفي قراءة آية من الحروف المنقطة أوائل السور.
5 - الدعاء للمؤمنين في الخطبة الثانية، بما يقع عليه اسم الدعاء عرفاً.
الفريضة الثانية - صلاة ركعتين في جماعة:
روى النسائي (3/ 111)، عن عمر - رضي الله عنه - قال: صلاة الجمعة ركعتان .. على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وجاء حديث أبي داود السابق: "الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة .. " وعلى ذلك انعقد الإجماع.
وإنما يشترط إدراك الجماعة بركعة واحدة منها، فإن أدركها صحت وإلا وجب تحويلها ظهراً. ويجب أن لا يقل المقتدون عن أربعين ممن تنعقد بهم صلاة الجمعة.
وعلى ذلك، لو جاء مسبوق فاقتدى بالإمام في الركعة الثانية، أدركه بعد القيام من ركوع الركعة الثانية، لم تقع صلاة جمعة، وإنما يتم بعد سلام إمامه ظهراً.
وعلى ذلك أيضاً، لو اقتدى المصلون الإمام في الجمعة، وأتموا معه ركعة، ثم طرأ سبب اقتضى مفارقة المصلين أو بعضهم للإمام، وإتمام كل منهم صلاته لنفسه مفرداً، فإن جمعتهم صحيحة. أما لو طرأ(1/207)
هذا السبب قبل انتهاء الركعة الأولى، فإن صلاتهم لا تصح جمعة، وتنقلب في حقهم ظهراً.
ودليل ما سبق ما رواه النسائي وابن ماجه والدارقطني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أدرك ركعة من صلاة الجمعة وغيرها، فليضف إليها أخرى، وقد تمت صلاته".
آداب الجمعة وهيئاتها:
ليوم الجمعة وصلاتها آداب مسنونة، ينبغي الاهتمام بها والدأب عليها، وهي:
1 - الغسل:
لخبر: "إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل". (رواه البخاري: 387؛ ومسلم: 844).
وإنما صرف الأمر هنا عن الوجوب إلى الاستحباب للحديث الذي رواه الترمذي: "من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن أغتسل فالغسل أفضل".
[فبها ونعمت: أي فبالسنة عمل، ونعمت السنة].
2 - تنظيف الجسد من الأوساخ والروائح الكريهة والأدهان والتطيب:
ولذلك لئلا يتأذى به أحد من الناس، بل ليألفوه ويسروا باللقاء به.
وقد علمت أن من رخص ترك صلاة الجمعة أن يكون قد أكل ذا ريح كريه يتأذى به الناس.
روى البخاري (843)، عن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - قال:(1/208)
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يغتسل رجل يوم الجمعة، ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه أو يمس من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام، إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى".
3 - لبس أحسن الثياب:
روى أحمد (3/ 81)، وغيره، عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "من اغتسل يوم الجمعة، ثم لبس أحسن ثيابه، ومس طيباً إن كان عنده، ثم مشى إلى الجمعة وعليه السكينة، ولم يتخط أحداً ولم يؤذه، ثم ركع ما قضي له، ثم انتظر حتى ينصرف الإمام، غفر له ما بين الجمعتين"؟
والأفضل أن تكون الثياب بيضاً، لما رواه الترمذي (994) وغيره، أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "البسوا من ثيابكم البياض، فإنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم".
4 - أخذ الظفر وتهذيب الشعر:
لخبر البزار في مسنده: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقلم أظافره ويقص شاربه يوم الجمعة.
5 - التبكير إلى المسجد:
روى البخاري (841) ومسلم (850)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر".(1/209)
[غسل الجنابة: أي كغسل الجنابة من حيث الهيئة. راح: ذهب].
قرب: تصدق بها تقرباً إلى الله تعالى. بدنة: هي واحدة الإبل تهدي إلى بيت الله الحرام. أقرن: له قرنان، وهو أكمل وأحسن صورة، وقد ينتفع بقرنه. خرج الإمام: صعد المنبر للخطبة. الذكر: الموعظة وفيها من ذكر الله عز وجل].
6 - صلاة ركعتين عند دخول المسجد:
روى مسلم (875)، عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة، والإمام يخطب، فليركع ركعتين، وليتجوز فيهما". أي يخففهما مع الإتيان بهما كاملة الأركان والسنن والآداب.
هذا إذا لم يبلغ الخطيب أواخر الخطبة، وإلا فلينظر قيام الصلاة المكتوبة. وتفوت هاتان الركعتان بجلوسه، فإن جلس لم يصح منه بعد صلاة نافلة، بل يجب أن يظل جالساً ينصت إلى الخطبة حتى تقام الصلاة.
7 - الإنصات للخطبتين:
روى البخاري في صحيحه (892) ومسلم (851) وغيرهما، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت، والإمام يخطب، فقد لغوت". وعند أبي داود (1051) من رواية علي - رضي الله عنه -: "ومن لغا فليس له في جمعته تلك شئ". أي لم يحصل له الفضل المطلوب، والثواب المرجو.
واللغو: هو ما لا يحسن من الكلام.(1/210)
آداب عامة ليوم الجمعة:
يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، ولن سنن وآداب، ينبغي أن يكون المسلم على بينة منها، ليبق منها ما يمكنه تطبيقه، وإليك بعضاً منها:
أولاً: تسن قراءة سورة الكهف في يوم الجمعة وليلتها:
روى النسائي عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين".
ثانياً: يسن الإكثار من الدعاء يومها وليلتها:
لما روى البخاري (893) ومسلم (852) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر يوم الجمعة فقال: " فيها ساعة لا يوافقها عبد مسلم، وهو قائم يصلي، يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه إياه". وأشار بيده يقللها، أي يبين أنها فترة قصيرة من الزمن.
ثالثاً: يسن الإكثار من الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في يومها وليلتها: لحديث: "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي". (رواه أبو داود: 1047؛ وغيره بأسانيد صحيحه).
*****(1/211)
صلاة النّفْل
النّفْل لغة الزيادة، واصطلاحاً: ما عدا الفرائض.
وسمِّي بذلك، لأنه زائد على ما فرضه الله تعالى.
والنفل يُرادف السنة، والمندوب، والمستحب.
صلاة النَّفْل قسمان: قسم لا يسن فيه لجماعة، وقسم يسن فيه الجماعة.
القسم الأول ـ وهو الذي لا يسن فيه الجماعة، قسمان أيضاً:
قسم يعتبر تابعاً للصلوات المكتوبة، التي مضى بيانها.
وقسم يعتبر نافلة غير تابعة للفرائض. وسنشرح كلا منهما على حدة.
(أ) النفل التابع للفرائض:
هذا النفل قسمان مؤكد، وغير مؤكد.
أما المؤكد: فهو عبارة عن ركعتين قبل الصبح، وركعتين قبل الظهر، وركعتين بعده، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء.
روى البخاري (1126) ومسلم (729)، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: حفظت من النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر ركعات: ركعتين قبل الظهر،(1/212)
وركعتين بعدهما، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته، وركعتين قبل صلاة الصبح، كانت ساعة لا يدخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها.
وآكد هذه الركعات ركعتا الفجر، لما روى البخاري (1116) ومسلم (724)، عن عائشة رضي الله عنها قالت: لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - على شيء من النوافل أشد تعاهداً منه على ركعتي الفجر.
[النوافل: جمع نافلة، وهي ما زاد على الفرض. أشد تعاهداً: أكثر محافظة].
وأما غير المؤكد:
ـ فركعتان أخريان قبل الظهر، روى البخاري (1127)، عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يدع أربعاً قبل الظهر، وركعتين قبل الغداة، أي صلاة الفجر. ولمسلم (730): كان يصلي في بيتي قبل الظهر أربعاً، ثم يخرج فيصلي بالناس، ثم يدخل فيصلي ركعتين.
ويزيد ركعتين أيضاً بعدها، لما رواه الخمسة وصححه الترمذي (427، 428) عن أم حبيبة رضي الله عنها قالت: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من صلى أربع ركعات قبل الظهر، وأربعاً بعدها، حرمه الله على النار ".
والجمعة كالظهر فيما مر، لأنها بدل عنها، فيسن قبلها أربع ركعات، ركعتان مؤكدتان وركعتان غير مؤكدتان، كذلك بعدها.
روى مسلم (881)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا صلى أحكم الجمعة فليصل بعدها أربعاً ".(1/213)
وروى الترمذي (523) أن ابن مسعود - رضي الله عنه - كان يصلي قبل الجمعة أربعاً وبعدها أربعاً. والظاهر أنه توقيف، أي علمه من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ـ أربع ركعات قبل فريضة العصر، لما رواه الترمذي (430) وغيره، عن على - رضي الله عنه -: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي قبل العصر أربع ركعات يفصل بينهن بالتسليم.
ـ وركعتان خفيفتان قبل صلة المغرب، لما رواه البخاري (599) ومسلم (837) واللفظ له، عن أنس - رضي الله عنه - قال: كنا بالمدينة، فإذا أذن المؤذن لصلاة المغرب ابتدروا السواري فيركعون ركعتين ركعتين، حتى أن الغريب ليدخل فيحسب أن الصلاة قد صليت، من كثرة من يصليهما.
[ابتدروا السواري: جمع سارة وهي الدعامة التي يرفع عليها وغيرها السقف، وتسمى أسطوانة. وابتدروها: أي تسارعوا إليها ووفق كل واحد خلف واحدا منها. ركعتين ركعتين: أي كل واحد يصلي ركعتين لا يزيد عليهما].
ومعنى كونها خفيفتين: أنه لا يأتي زيادة على أدنى ما تتحقق به أركان الصلاة وسننها وآدابها.
ـ ويستحب ـ أيضاً ـ أن يصلي ركعتين خفيفتين قبل صلاة العشاء، لما رواه البخاري (601) ومسلم (838)، عن عبد الله بن مغفل(1/214)
- رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " بين كل أذانين صلاة، ثلاثاً لمن شاء " وفي رواية: " بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة، ثم قال في الثالثة: لمن شاء ".
[الأذانين: الأذان والإقامة].
(ب) النفل الذي لا يتبع الفرائض:
وهذا النفل ينقسم أيضاً إلى قسمين: نوافل مسماة ذات أوقات معينة، ونوافل مطلقة عن التسمية والوقت.
النوافل المسماة ذات الأوقات المعينة هي:
1ـ تحية المسجد:
وهي ركعتان قبل الجلوس لكل دخول إلى المسجد، ودليلها حديث البخاري (433) ومسلم (714): " فإذا دخل أحدكم المسجد، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين ".
وتحصل التحية بالفرض، أو بأي نفل آخر، لأن المقصود أن لا يبادر الإنسان الجلوس في المسجد بغير صلاة.
2ـ الوتر:
وهي سنة مؤكدة، وإنما سميت بذلك، لأنها تختم بركعة واحدة، على خلاف الصلوات الأخرى.
روى الترمذي (453) وغيره، عن علي - رضي الله عنه - قال: إن الوتر ليس بحتم كصلاتكم المكتوبة، ولكن سنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وعنده وعند أبي داود (1416) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يا أهل القرآن أوتروا، فإن الله وتر يحب الوتر ".(1/215)
وقت الوتر: ما بين صلاة العشاء وطلوع الفجر، والأفضل أن يؤخرها إلى آخر صلاة الليل. روى أبو داود (1418) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله عز وجل أمدكم بصلاة وهي خير لكم من حمر النعم، وهي الوتر، فجعلها لكم فيما بين العشاء إلى طلوع الفجر". وروى البخاري (953) ومسلم (749)، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إجعلوا آخر صلاتكم من الليل وتراً ".
هذا إن رجا الإنسان أن يقوم من آخر الليل، أما من خاف أن لا يقوم، فليوتر بعد فريضة العشاء وسنتها.
روى مسلم (755) عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من خاف أن لا يقوم آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل، فإن صلاة آخر الليل مشهودة، وذلك أفضل ". مشهودة: أي تحضرها الملائكة.
وروى البخاري (1880) ومسلم (721) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أوصاني خليلي بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أرقد. أي أصلي الوتر قبل أن أنام.
وأقل الوتر ركعة، لكن يكره الاقتصار عليها، وأقل الكمال ثلاث ركعات: ركعتان متصلتان، ثم ركعة منفردة. ومنتهى الكمال فيها إحدى عشر ركعة، يسلم على رأس كل ركعتين، ثم يختم بواحدة:
روى مسلم (752)، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الوتر ركعة من آخر الليل ".
وروى البخاري (1071) ومسلم (736) وغيرهما ـ واللفظ له ـ(1/216)
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي ما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، يسلم بين كل ركعتين، ويوتر بواحدة. فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر، وتبين له الفجر، وجاءه المؤذن، قام فركع ركعتين خفيفتين، ثم اضطجع على شقه الإيمان حتى يأتيه المؤذن للإقامة.
[ركعتين خفيفتين: هما سنة الفجر].
وروى أبو داود (1422)، عن أبي أيوب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الوتر حق على كل مسلم، فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل ".
[حق: مشروع ومطلوب].
3ـ قيام الليل:
وهو ما يسمى بالتهجد إن فعل بعد النوم، والتهجد: ترك الهجود، والهجود: النوم، أي ترك النوم.
وقيام الليل سنة غير محددة بعدد من الركعات، تؤدى بعد الاستيقاظ من النوم، وقبل أذان الفجر.
ودليل مشروعية قيام الليل قوله تعالى: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محمودا} (سورة الإسراء: 79) أي اترك الهجود ـ وهو النوم ـ وقم فَصلَّ واقرأ القرآن.
[نافلة لك: زيادة على الفرائض المفروضة عليك خاصة].
وروى مسلم (1163) وغيره، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال:(1/217)
سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ قال: " الصلاة في جوف الليل".
[المكتوبة: المفروضة. جوف الليل: باطنه وساعات التفرغ فيه للعبادة].
4 - صلاة الضحى:
وأقلها ركعتان، وأكملها ثماني ركعات.
روى البخاري (1880)؛ ومسلم (721)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أوصاني خليلي بثلاثٍ: صيام ثلاثة أيام من كلِّ شهر، وركعتي الضحى، وأن توتر قبل أن أرقد.
وروى البخاري (350)؛ ومسلم (336) واللفظ له، في حديث أم هاني رضي الله عنها: أنه لما كان عام الفتح، أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بأعلى مكة، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى غسله، فسترت عليه فاطمة، ثم أخذ ثوبه والتحق به، ثم صلى ثماني ركعات سُبْحَة الضحى. أي صلاة الضحى.
والأفضل أن يفصل بين ركعتين، لما جاء في رواية أبي داود (1290) عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى يوم الفتح سبحة الضحى ثماني ركعات، ويسلم من كل ركعتين.
ووقتها من ارتفاع الشمس حتى الزوال، والأفضل فعلها عند مُضي ربع النهار.
روى مسلم (784) وغيره، عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - قال: خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - على أهل قباء وهم يصلون الضحى، فقال: " صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال".(1/218)
[الأوابين: جمع أواب، وهو الراجع إلى الله تعالى. رمضت الفصال: احترقت من حر الرمضاء، أي وجدت حر الشمس، والرمضاء في الأصل الحجارة الحامية من حر الشمس، والمراد ارتفاع النهار.
والفصال: جمع فصيل، وهو ولد الناقة].
5 - صلاة الاستخارة:
وهي صلاة ركعتين في غير الأوقات المكروهة. وتسنّ لمن أراد أمراً من الأمور المباحة، ولم يعلم وجه الخير في ذلك، ويسنّ بعد الفراغ من الصلاة أن يدعو بالدعاء المأثور، فإن شرح الله صدره بعد ذلك للأمر فعل وإلا فلا.
روى البخاري (1109) وغيره، عن جابر بن عبدالله الأنصاري رضي الله عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلمنا السورة من القرآن يقول: " إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة"، ثم ليقل: " اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علاّم الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، فأقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به، قال: ويسمي حاجته ".
النوافل المطلقة عن التسمية والوقت:
وهي أن يصلي من النوافل ما شاء في أي وقت شاء، إلا في أوقات معينة يكره فيها الصلاة، وقد بيّناها فيما مضى.(1/219)
وروى ابن ماجه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي ذر - رضي الله عنه -: " الصلاة خير موضوع، استكثر أو أقل ".
هذا واعلم أنه يستحب في النفل المطلق أن يسِّم من كل ركعتين ليلاً كان أو نهاراً.
ودليل ذلك حديث البخاري (946)؛ ومسلم (749): " صَلاة الليل مثنى مثنى" (أخرجه أبو داود: 1295، وغيره). والمراد بالمثنى أن يسلم من كل ركعتين.
القسم الثاني - وهو الذي يسن فيه الجماعة:
كان ما ذكرنا كله فيما يتعلق بالنوافل التي لا تستحب فيها الجماعة، أما النوافل التي تستحب فيها الجماعة، فهي:
صلاة العيدين، صلاة التراويح، صلاة الكسوف والخسوف، صلاة الاستسقاء. وسنذكر كل واحدةٍ على حدة.
*****(1/220)
صَلاَة العيدَيْن
معنى العيد:
العيد مشتقِّ من العَوْد، وذلك إما لتكرره كل لعام، أو لعود السرور بعوده، أو لكثرة عوائد الله فيه على العباد.
زمن مشروعيتها والدليل عليها:
شرعت صلاة عيد الفطر وعيد الأضحى في السنة الثانية للهجرة، وأول عيدٍ صلاَّة النبي - صلى الله عليه وسلم - عيد الفطر من السنة الثانية للهجرة.
أما الأصل في مشروعيتها:
فقوله عز وجل خطاباً لنبيه عليه الصلاة والسلام: {فصل لربك وانحر} [الكوثر: 2]. قالوا: المقصود بالصلاة صلاة عيد الأضحى.
وروى البخاري (913)؛ ومسلم (889)، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، فأول شئ يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف، فيكون مقابل الناس، والناس جلوس على صفوفهم، فيعظم ويأمرهم، فإن كان يريد أن يقطع بعثاً قطعه، أو يأمر بشيءٍ أمر به، ثم ينصرف.
[يقطع بعثاً: يفرد جماعة من الناس ليبعثهم إلى الجهاد].(1/221)
حكم صلاة العيد:
هي سنَّة مؤكدة، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يتركها منذ شرعت حتى توفَّاه الله عز وجل، وواظب عليها أصحابه رضوان الله تعالى عليهم من بعده.
وتشرع جماعة، يدل على ذلك حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - السابق، وتصح فرادى.
ويخاطب بها كل مكلف رجلاً كان أو امرأة، مقيماً كان أو مسافراً، حراً كان أو رقيقاً، إلا للمرأة المتزينة، أو التي قد تثير الفتنة، فتصلي في بيتها.
ودلّ على عدم الوجوب قوله - صلى الله عليه وسلم - للسائل عن الصلاة المفروضة " خمس صلوات في اليوم والليلة"، قال: هل على غيرها؟ قال: " إلا أن تطوع " (رواه البخاري: 46؛ ومسلم: 11).
وعند أبي داود (1420): " خمس صلوات كتبهن الله على العباد، فمن جاء بهن، لم يضيع منهن شيئاً استخفافاً بحقهن، كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد؛ إن شاء عذبه، وإن شاء أدخله الجنة".
وروى البخاري (928)؛ ومسلم (890)، عن أم عطية الأنصارية رضي الله عنها: كنّا نؤْمرُ أن نخرُج يوم العِيد، حتى نُخرج البِكْرَ من خُدرها، حتى نخرج الحيض فَيكنَّ خَلفَ النّاس فيكبرن بتكبيرهم ويدعون بدعائهم، يرجون بركة ذلك اليوم وطُهْرَتَه. وفي رواية قالت امرأة: يا رسول الله، إحدانا ليس لها جلباب؟ قال: " لتلبسها صاحبتها من جلبابها ".(1/222)
[البكر: التي لم يسبق لها الزواج. خدرها: ناحية في البيت يترك عليها ستر، كانت تجلس في البكر استحياءً. الحُيَّض: جمع حائض. خلف الناس: أي غير مكان الصلاة، وفي رواية: ويعتزل الحُيّض عن مصلاَّهُنَّ. طهرته: ما فيه من تكفير الذنوب. جلباب: ملحفة تستر البدن أعلاه أو أسفله. لتلبسها: بأن تعيرها جلباباً من جلابيبها].
ولا يسنُّ لها أذانٌ ولا إقامة بل ينادي لها: " الصلاة جامعة ". روى البخاري (916)؛ ومسلم (886)، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه أرسل إلى ابن الزبير في أول ما بويع له: إنه لم يكن يؤذن بالصلاة يوم الفطر، وإنما الخطبة بعد الصلاة.
وعند البخاري (917)؛ ومسلم (886)، عن ابن عباس وجابر بن عبدالله رضي الله عنهم قالا: لم يكن يؤذن يوم الفطر ولا يوم الأضحى.
وقت صلاة العيد:
يبدأ وقتها بطلوع الشمس، ويستمر إلى زوالها، يدل على هذا ما رواه البخاري (908)، عن البراء - رضي الله عنه - قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب فقال: " إن أول ما نبدأ من يومنا هذا أن نصلي .. ". واليوم يبدأ بطلوع الفجر، والوقت مشغولاً بصلاة الفجر، قبل طلوع الشمس، وبصلاة الظهر بعد زوالها.
ووقتها المفضل عند ارتفاع الشمس قدر رمح، لمواظبة النبي - صلى الله عليه وسلم - على صلاتها في ذلك الوقت.
كيفيتها:
صلاة العيد ركعتان، يبدأهم بتكبيرة الإحرام، ثم يقرأ دعاء الافتتاح، ثم يكبر سبع تكبيرات يرفع عند كل منها يده إلى محاذاة كتفيه(1/223)
كتكبيرة الإحرام، يفصل بين كل اثنتين بقدر آية معتدلة، ويسن أن يقول بينهما: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. ثم يتعوذ ويقرأ الفاتحة ثم يضم إليها سورة أو بعض آيات. فإذا قام إلى الركعة الثانية كبر خمس تكبيرات، عدا تكبيرة الانتقال قبل أن يبدأ القراءة، وفصل بين كل تكبيرة وأخرى بما ذكرنا.
وهذه التكبيرات الزائدة على المعتاد سنة، فلو نسيها وشرع في القراءة فاتت وصحت صلاته.
والأصل فيما سبق: ما رواه النسائي (3/ 111) وغيره، من حديث عمر - رضي الله عنه - قال: صلاة الفطر ركعتان وصلاة الأضحى ركعتان .. ثم قال: على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى هذا الإجماع.
وروى عمرو بن عوف المزني - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كبّر في العيدين، في الأولى سبعاً قبل القراءة، وفي الآخرة خمساً قبل القراءة. (رواه الترمذي: 536). وقال: هو أحسن شيء في هذا الباب عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ...
الخطبة في العيد:
ويسن بعد الفراغ من صلاة العيد خطبتان، نوجز لك كيفيتهما فيما يلي:
1ـ ينبغي أن تليا صلاة العيد، أي بعكس خطبة الجمعة، وذلك تأسياً بالنبي عليه الصلاة والسلام.
روى البخاري (920)؛ ومسلم (888)، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما يصلون العيدين قبل الخطبة.(1/224)
وروى البخاري (932)، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرجت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم فطر وأضحى، فصلى ثم خطب.
فلو قدم الخطبة على الصلاة لم تعتد بها.
2 - كل ما ذكرناه من أركان خطبتي الجمعة وسنتهما، ينطبق على خطبة العيد أيضاً.
روى الشافعي رحمه الله تعالى، عن عبيد الله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود - رضي الله عنه - قال: السنة أن يخطب الإمام في العيدين خطبتين،، يفصل بينهما بجلوس.
3 - يسن أن يبدأ الخطبة الأولى بتسع تكبيرات، والخطبة الثانية سبع تكبيرات.
روى البيهقي عن عبدالله المذكور سابقاً قال: السنة أن تفتتح الخطبة بتسع تكبيرات تترى، والثانية بسبع تكبيرات تترى. أي متتالية.
أين تقام صلاة العيد؟
تقام صلاة العيد بالمسجد أو الصحراء، وأفضلها أكثرهما استيعاباً للمصلين، فإن تساويا كان المسجد أفضل لشرفه على غيره، إذ ينال المسلم بالصلاة فيه أجر العبادة وأجر المكث في المسجد.
وإنما صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصحراء لضيق مسجده إذ ذاك عن الاستيعاب، وقد علمت أنها تشرع جماعة للرجال والنساء وعام المكلفين.
فإذا كان المسجد متسعاً بحيث يستوعب جميع المصلين، برفق وراحة، لم يبق لأفضلية الصحراء معنى.(1/225)
التكبير في العيد:
يسن التكبير- لغير الحاج- بغروب الشمس ليلتي عيد الفطر والأضحى، في المنازل والطرق والمساجد والأسواق. بصوت مرتفع، إلى أن يحرم الإمام لصلاة العيد. وذلك لقوله تعالى: {ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون} [البقرة: 185]. قالوا: هذا في تكبير عيد الفطر، وقيس به الأضحى.
ثم يسن في عيد الأَضحى لكل من الحاج وغيره أن يكبر عقب الصلوات بأنواعها المختلفة بدءاً من صبح يوم عرفة إلى ما بعد عصر آخر يوم من أيام التشريق، وهي الأيام الثلاثة التي تلي يوم عيد الأضحى.
أما في عيد الأضحى فلا يسن التكبير عقب الصلوات، بل ينقطع استحبابه عندما يحرم الإمام لصلاة العيد كما قلنا.
ودليل ذلك كله لاتباع لفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وما واظب عليه أصحابه رضي الله عنهم. فعن علي وعمار رضي الله عنهما: أم النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكبر يوم عرفة، صلاة الغداة، ويقطعها صلاة العصر آخر أيام التشريق (رواه الحاكم: 1/ 229)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولا أعلم في رواته منسوباً إلى الجرح.
[صلاة الغداة: صلاة الفجر].
وكان ابن عمر رضي الله عنهما يكبر في قبته بمنى، فسمعه أهل المسجد يكبرون، ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج مني تكبيراً. وكان ابن عمر رضي الله عنهما يكبر بمنى تلك الأيام، وخلف الصلوات، وعلى فراشه في فسطاطه ومجلسه وممشاه، تلك الأيام جميعاً. (البخاري: كتاب العيدين، باب التكبير أيام منى).(1/226)
[فسطاطه: الفسطاط البيت المتخذ من شعر ونحوه].
صيغة التكبير المفضلة:
" الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد ".
من آداب العيد:
1 - أن يغتسل ويتطيب ويلبس الجديد من ثيابه، لما مرَّ في الجُمعة.
2 - يسنّ أن يُبَكِّر الناس بالحضور إلى المسجد صباح العيد.
3 - يسن في عيد الفطر أن يأكل شيئاً قبل خروجه إلى الصلاة.
أمَّا في عيد الأضحى فيُسنُّ له أن يمسك عن الطعام حتى يعود من الصلاة.
4 - يسن للمصلِّي أن يذهب ماشياً إلى المصلَّى أو المسجد في طريق، وأن يعود في طريق أخرى. روى البخاري (943)، عن جابر - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان يوم عيد خالف الطريق.
5 - يكره للإمام أن ينتقل قبل صلاة العيد، ولا يكره لغيره ذلك بعد طلوع الشمس.
روى البخاري (945)، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج يوم الفطر فصلى ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما.
*****(1/227)
زَكاةُ الفِّطْر
تعريفها:
هي قدر معين من المال، يجب إخراجه عند غروب الشمس آخر يوم من أيام رمضان، بشروط معينة، عن كل مكلف ومن تلزمه نفقته.
مشروعيتها:
المشهور في السنة أنها فرضت في السنة الثانية من الهجرة، في العام الذي فرض فيه صوم رمضان.
والأصل في وجوبها: ما رواه البخاري (1433)؛ ومسلم (984) واللفظ له، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرض زكاة الفطر من رمضان على الناس صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير، على كل حر أو عبد، ذكر أو أنثى من المسلمين.
شروط وجوبها:
تجب زكاة الفطر بثلاثة شروط:
الأول - الإسلام:
فلا تجب على الكافر الأصلي وجوب مطالبة في الدنيا، للحديث السابق ذكره عن ابن عمر رضي الله عنهما.
الثاني- غروب شمس آخر يوم من رمضان:
فمن مات بعد غروب ذلك اليوم، وجبت زكاة الفطر عنه، سواء(1/228)
مات بعد أن تمكن من إخراجها، أم مات قبله، بخلاف من ولد بعده.
ومن مات قبل غروب شمسه لم تجب في حقه، بخلاف من ولد قبله.
الثالث- أن يوجد لديه فضل من المال، يزيد عن قوته وقوت عياله ف يوم العيد وليلته، وعن مسكن، وخادم إن كان بحاجة إليه:
فلو كان ماله لا يكفي لنفقات يوم العيد وليلته، بالنسبة له ولمن تجب عليه نفقتهم، لم تلزمه زكاة الفكر، ولو كان لديه مال يكفي يوم العيد وليلته، ولكنه لا يكفي لما بعد ذلك، تجب عليه الزكاة ولا عبرة بما بعد يوم العيد وليلته.
الذين يجب على المكلف إخراج زكاة الفطر عنهم:
يجب على من توفرت لديه هذه الشرائط الثلاثة، أن يخرج زكاة الفطر عن نفسه، وعمن تلزمه نفقتهم، كأصوله وفروعه، وزوجته.
فلا يجب أن يخرجها عن ولده البالغ القادر على الاكتساب، ولا عن قريبه الذي لا يكلف بالإنفاق عليه، بل لا يصح أن يخرجها عنه إلا بأذنه وتوكيله.
فإذا أيسر بشئ لا يكفي عن جميع أقاربه الذي يكلف بنفقتهم، قدم نفسه، ثم زوجته، فولده الصغير، فأباه، فأمه، فولده الكبير العاجز عن الكسب.
زكاة الفطر جنساً وقدراً:
زكاة الفطر هي صاعً من غالب قوت البلد الذي يقيم فيه المكلف، بدليل حديث ابن عمر رضي الله عنهما السابق. وعند البخاري (1439) عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: كنَّا نخرج في عهد رسول(1/229)
الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفطر صاعاً من طعام، وكان طعامنا الشعير والزبيب والأَقِطُ والتمر.
والصاع الذي كان يستعمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما هو عبارة عن أربعة أمداد، أي حفنات، وهذه الحفنات الأربع مقدرة بثلاثة ألتار كيلاً، وتساوي بالوزن (2400) غراماً تقريباً.
فإذا كان غالب قوت بلدنا اليوم هو البُرُّ. فإن زكاة الفطر عن الشخص الواحد تساوي ثلاثة ألتار من الحنطة. ومذهب الإمام الشافعي أنه لا تجزئ القيمة، بل لا بدّ من إخراجها قوتاً من غالب أقوات ذلك البلد. إلا أنه لا بأس باتباع مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى في هذه المسألة في هذا العصر، وهو جواز دفع القيمة، ذلك لأن القيمة أنفع للفقير اليوم من الفقير نفسه، واقرب إلى تحقيق الغاية المرجوة.
وقت إخراج زكاة الفطر:
أما وقت الوجوب، فقد قلنا إنه يبدأ بغروب شمس آخر أيام رمضان.
وأما الوقت الذي يجوز فيه إخراجها، فهو جميع شهر رمضان واليوم الأول من العيد.
يسنّ أداؤها صباح يوم العيد قبل الخروج إلى الصلاة. فقد جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وفي رواية عند البخاري (1432): " وَأَمر بها أن تؤدَّي قبل خروج الناس إلى الصلاة ".
ويكره تأخيرها عن صلاة العيد إلى نهاية يوم العيد، فإن أخراها عنه أثِم ولزمه القضاء.
***(1/230)
الأضحية
معناها والأصل في مشروعيتها:
الأضحية: هي ما يذبح من الإبل أو البقر أو الغنم أو المعز، تقرباً إلى الله تعالى يوم العيد. والأصل في مشروعيتها قوله عز وجل: {فصل لربك وانحر} [الكوثر: 2]، فإن المقصود بالنحر على أصح الأقوال نحر الضحايا.
وما رواه البخاري (5245) ومسلم (1966): أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده، وسمى وكبر، ووضع رجله على صفاحهما.
[الأملح: من الضأن ما كان أبيض اللون أو كان البياض فيه هو الغالب، والأقرن: ذو القرنين العظيمين. صفاحهما: جمع صفحة، وهي جانب العنق].
الحكمة من مشروعيتها:
ينبغي أن تعلم أن الأضحية عبادة، وأن كل ما قد يكون لها من حكمة وفائدة يأتي بعد فائدة الخضوع للمعنى التعبدي الذي فيها، شأن كل عبادة من العبادات.
ثم إن من أبرز المعاني المتعلقة بالأَضحية إحياء معنى(1/231)
الضحية العظمى التي قام بها إبراهيم عليه الصلاة والسلام، إذ ابتلاء الله تعالى بالأمر بذبح ابنه، ثم فداه الله بذبح عظيم كان كبشاَ أنزله الله إليه وأمره بذبحه، بعد أن مضى كل من إبراهيم وابنه عليهما السلام، ساعياً بصدق لتحقيق أمره عز وجل.
أضف إلى ذلك: ما فيها من المواساة للفقراء والمعوزين وإدخال الشرور عليهم وعلى الأهل والعيال يوم العيد، وما ينتج عن ذلك من تمتين روابط الأخوة بين أفراد المجتمع المسلم، وغرس روح الجماعة والود في قلوبهم.
حكم الأضحية:
هي سنة مؤكدة، ولكنها قد تجب لسببين اثنين:
الأول: أن يشير إلى ما هو داخل في ملكه من الدواب الصالحة للأضحية، فيقول: هذه أضحيتي، أو سأضحي بهذه الشاة، مثلاً، فيجب حينئذ أن يضحي بها.
الثاني: أن يلتزم التقرب إلى الله بأضحيته، كأن يقول: لله تعالى علي أن أضحي، فيصبح ذلك واجباً عليه، كما لو التزم بأي عبادة من العبادات، إذ تصبح بذلك نذراً.
من هو المخاطب بالأضحية:
إنما تسن الأضحية في حق من وجدت فيه الشروط التالية:
1 - الإسلام، فلا يخاطب بها غير المسلم.
2 - البلوغ والعقل، إذ من لم يكن بالغاَ عاقلاً سقط عنه التكليف.(1/232)
3 - الاستطاعة، وتتحقق: بأن يملك قيمتها زائدة عن نفقته ونفقة من هو مسؤول عنهم، طعاماً وكسوة ومسكناً، خلال يوم العيد وأيام التشريق.
ما يشرع التضحية به:
لا تصح الأَضحية إلا أن تكون من إبل، أو بقر، أو غنم ومنه الماعز. لقوله تعالى: {ولكل أمة جعلنا منسكاً ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} [الحج: 34]، والأنعام لا ترج عن هذه الأصناف الثلاثة، ولأنه لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولاعن أحد من الصحابة التضحية بغيرها.
وأفضلها الإبل، ثم البقر، ثم الغنم.
ويجوز أن يضحي بالبعير والبقرة الواحدة عن سبعة. روى مسلم (1318) عن جابر - رضي الله عنه - قال: نحرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة.
[البدنة: واحدة الإبل ذكراً أم أنثى].
شروطها:
السن: وشرط الإبل أن يكون قد طعن في السادسة من العمر.
وشرط البقر والمعز أن يكون قد طعن في الثالثة.
أما شرط الضأن فهو أن يكون قد طعن في الثانية، أو أجدع - أي سقطت أسنانه الأمامية- ولو لم يبلغ سنة، لما رواه أحمد (2/ 245)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " نعمت الأضحية الجذع من الضأن ".(1/233)
السلامة: ثم يشترط بالنسبة لهذه الأصناف الثلاثة كلها: أن تكون سالمة من العيوب التي من شأنها أن تسبب نقصاناً في اللحم: فلا تجزئ شاة عجفاء - وهي التي ذهب مخها من شدة هزالها- ولا ذات عرج بيِّن، أو ذات عورٍ أو مرض، ولا مقطوعة بعد الأذن. ... لما رواه الترمذي وصححه (1497) وأبو داود (2802) عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أربع لا تجزئ في الأَضاحي: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين عرجها، والعجفاء التي لا تنقي ".
[لا تنقي: أي لا مخ لها، مأخوذة من النقي، بكسر النون وإسكان القاف، وهو المخ].
ويقاس على هذه العيوب الأربعة، كل ما يشبهها في التسبب في الهزال وإنقاص اللحم.
وقت الأَضحية:
يبتدئ وقتها بعد طلوع شمس يوم عيد الأضحى بمقدار ما يتسع لركعتين وخطبتين، ثم يستمر وقتها إلى غروب آخر أيام التشريق، وهي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة.
والوقت المفضَّل لذبحها، بعد الفراغ من صلاة العيد، لخبر البخاري (5225) ومسلم (1961): " أول ما نبدأ به يومنا هذا تصلي ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل ذلك فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء ". ومعنى قوله: ومن ذبح قبل ذلك، أي قبل دخول صلاة العيد، ومضي الزمن الذي يمكن(1/234)
صلاتها فيه. وروى ابن حبان (1008)، عن جبير بن مطعم - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " وكل أيام التشريق ذبح " أي وقت للذبح.
ماذا يصنع بالأضحية بعد ذبحها:
إن كانت الأَضحية واجبة: بأن كانت منذورة أو معينة على ما أوضحنا لم يجز للمضحي ولا لأحد من أهله الذين تجب عليه نفقتهم، الأكل منها، فإن أكل أحدهم منها شيئاً غرم بدله أو قيمته.
وإن كانت الأَضحية مسنونة: جاز له أن يأكل قليلاً منها للبركة، ويتصدق بالباقي، وله أن يأكل ثلثها، ويتصدق بثلثها، ويتصدق بثلثها على الفقراء، ويهدي ثلثها لأصحابه وجيرانه وإن كانوا أغنياء. إلا أنّ ما يعطي للغني منها ما يكون على سبيل الهدية للأكل، فليس لهم أن يبيعوها، وما يعطي للفقير يكون على وجه التمليك، يأكلها أو يتصرف بها كما يشاء.
والأصل فيما سبق قوله تعالى: {والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها واطعموا البائس الفقير} [الحج: 36]
[البدن: جمع بدنة، وهي ما يهدي المحرم من الإبل، وقيس عليها الأضاحي. شعائر الله: علائم دينه. صواف: قائمة على ثلاث قوائم. وجبت جنبوها: سقطت على الأرض. البائس: شديد الحاجة].
هذا، وللمضحي أن يتصدق بجلد أضحيته، أو ينتفع هو به. ولكن ليس له أن يبيعه أو أن يعطيه للجزار أجرة ذبحه، لأن ذلك نقصٌ من الأضحية يفسدها. ولما رواه البيهقي (9/ 294) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من باع جلد أضحيته فلا أضحية له ".(1/235)
سنن وآداب تتعلق بالأضحية:
أولاً: إذا دخل عشر ذي الحجة، وعزم خلاله على أن يضحي، ندب له أن لا يزيل شيئاً من شعره وأظافره إلى أن يضحين فليمسك عن شعره وأظافره. لما رواه مسلم (1977)، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا رأيتم هلال ذي الحجة، وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظافره ".
ثانياً: يسن له أن يتولى ذبحها بنفسه، فإن لم يفعل لعذر أو غيره، فليشهد ذبحها، لما رواه الحكام (4/ 222) بإسناد صحيح: إنه - صلى الله عليه وسلم - قال لفاطمة رضي الله عنها: " قومي إلى أضحيتك فاشهديها فإنه بأول قطرة من دمها يغفر لك ما سلف من ذنوبك" قالت: يا رسول الله، هذا لنا أهل البيت خاصة، أو لنا المسلمين عامة؟ قال: بل لنا وللمسلمين عامة ".
ثالثاً: يسنّ لحاكم المسلمين أو إمامهم أن يضحي من بيت المال عن المسلمين، فقد روى مسلم (1967) أنه - صلى الله عليه وسلم - ضحى بكبش، وقال عند ذبحه: " باسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد وأمة محمد ".
ويذبحه بالمصلى، حيث يجتمع الناس لصلاة العيد، وأن ينحر أو يذبح بنفسه، روى البخاري في صحيحه (5232) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذبح وينحر بالمصلي.
*****(1/236)
صََلاََة التّراويُح
وصلاة التراويح إنما تشرع في رمضان خاصة، وتسن فيها الجماعة وتصح فرادى.
وسميت بهذا الإسم لأنهم كانوا يتروحون عقب كل أربع ركعات، أي يستريحون. وتسمى قيام رمضان.
وهي عشرون ركعة في كل ليلة من ليالي رمضان، يصلي كل ركعتين بتسليمة، ووقتها بين صلاة العشاء وصلاة الفجر، وتصلى قبل الوتر.
ولو صلى أربعاً بتسليمة واحدة لم تصح، لأنه خلاف المشروع.
هذا ولا بد من النية من تعيين: ركعتين من التراويح، أو من قيام رمضان، ولا تصح بنية النفل المطلق.
والأصل في مشروعيتها على ما سبق:
ما رواه البخاري (37) ومسلم (759) وغيرهما، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ".
[إيماناً: تصديقاً بأنه حق. احتساباً: إخلاصاً لله تعالى].
وروى البخاري (882) ومسلم (761) واللفظ له عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد ذات ليلة، فصلى بصلاته.(1/237)
ناسٌ ثم صلّى من القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة- أو الرابعة - فلم يخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما أصبح قال: " رأيت الذي صنعتم، فلم يمنعني من الخروج إليكم، إلا أني خشيت أن تفرض عليكم". وذلك في رمضان.
[الذي صنعتم: أي اجتماعكم للصلاة وانتظاري].
وروى البخاري (906)، عن عبدالرحمن بن عبد القاري قال: خرجت مع عمر ابن الخطاب في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاعٌ متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط.
فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أُبيّ كعب - رضي الله عنه -، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، فقال عمر: نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون. يعني آخر الليل، وكان الناس يقومون أوله.
[أوزاع: جماعات. الرهط: ما دون العشرة من الرجال. نعمت البدعة هذه: حسن هذا الفعل. والبدعة: ما استحدث على غير مثالٍ مستحسن فيه، وذميمة مرفوضة إن خالفته، أو اندرجت تحت مستقبح فيه، وإن لم تخالف الشرع ولم تندرج تحت أصل فيه كانت مباحة].
وروى البيهقي وغيره بإسناد صحيح (2/ 496): أنهم كانوا يقومون على عهد عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه - شهر رمضان بعشرين ركعة. وروى مالك في الموطأ (1/ 115): كان الناس في زمن عمر - رضي الله عنه - يقومون في رمضان بثلاثٍ وعشرين ركعة. وجمع البيهقي بين الروايتين بأن الثلاث كانت وتراً.
*****(1/238)
صَلاَة الكسُوف وَالخسُوف
التعريف بهما وزمن مشروعيتهما:
تطلق كلمة الكسوف لغة على احتجاب ضوء الشمس احتجاباً جزئياً أو كلياً، وتطلق كلمة الخسوف على احتجاب نور القمر جزئياً أو كلياً، ويجوز إطلاق كل من الكلمتين على كل من المعنيين.
وصلاة الكسوف والخسوف من الصلوات المشروعة لسبب، يلتجئ فيها المسلم إلى الله عز وجل أن يكشف البلاء ويعيد الضياء.
وقد شرعت صلاة الكسوف في السنة الثانية للهجرة، أما صلاة خسوف القمر فقد شرعت في السنة الخامسة منها.
حكمها:
هي سنة مؤكدة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -، فيما رواه مسلم (904): " إن الشمس والقمر من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم " ولفعله - صلى الله عليه وسلم - لها، كما سيأتي. وإنما لم يفسر الأمر في هذا الحديث على وجه الوجوب، لخبر: إن أعرابياً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلوات الخمس فقال: هل عليّ غيرها؟
فقال عليه الصلاة والسلام: " لا، إلاّ أن تطوع". (البخاري: 46؛ ومسلم 11(1/239)
وتسن فيها الجماعة، وينادى لها: " الصلاة جامعة ".
كيفيتها:
صلاة الكسوف والخسوف ركعتان، ينوي بهما المصلي صلاة الكسوف أو الخسوف، ولها كيفيتان: أدنى ما تصح به، وأكمل الوجوه في أدائها.
" فأما الكيفية التي تتحقق بها أدنى درجات الصحة: فهي أن يكون في كل ركعة قيامان، وقراءتان، وركوعان، كالعادة بدون تطويل. ويصح أن يصلها ركعتين بقيامين وركوعين، كصلاة الجمعة، ويكون تاركاً للفضيلة، لمخالفته لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -.
" وأما الكيفية الكاملة: فهي أن يكون في كل ركعة منهما قيامان يطيل القراءة في كل منهما، بأن يقرأ في القيام الأول من الركعة الأولى بعد الفاتحة سورة البقرة أو مقدارها من السور الأخرى، وفي القيام الثاني ما يساوي مائتي آية، وفي القيام الأول من الركعة الثانية مقدار مائة وخمسين منها، وفي القيام الثاني منها ما يساوي مائة آية من سورة البقرة.
ثم إذا ركع أطال الركوع بما يساوي مائة آية تقريباً، فإذا ركع الركوع الثاني أطاله بمقدار ثمانين آية، والثالث بمقدار سبعين آية، والرابع بمقدار خمسين.
فإذا أتموا الصلاة خطب الإمام بعد خطبتين - كخطبتي الجمعة في الأركان والشروط - يحث الناس فيهما على التوبة وفعل الخير، ويحذرهم من الغفلة والاغترار.
روى الترمذي (562) وقال حسن صحيح، عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال: صلى بنا النبي - صلى الله عليه وسلم - في كسوف لا نسمع له صوتاً.(1/240)
وروى البخاري (1016)؛ (901)، عن عائشة رضي الله عنها: جهر النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الخسوف بقراءاته. فحمل الأول على صلاة كسوف الشمس لأنها نهارية، والثاني على خسوف القمر لأنها ليلية.
دليل ذلك ما رواه البخاري (947)؛ ومسلم (901)، عن عائشة رضي الله عنها قالت: خسفت الشمس في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المسجد، فقام فكبر وصف الناس وراءه، فاقترأ قراءة طويلة، ثم كبر فركع ركوعاً طويلاً، ثمر رفع رأسه فقال: ... " سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد"، ثم قام فاقترأ قراءة طويلة هي أدنى من القراءة الأولى ثم كبر فركع ركوعاً هو أدنى من الركوع الأول، ثم قال: " سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد". ثم سجد - وفي رواية أخرى فأطال السجود - ثم فعل بالركعة الأخرى مثل ذلك حتى استكمل أربع ركعات ... أي أربع ركوعات وأربع سجدات، وانجلت الشمس قبل أن ينصرف. ثم قام فخطب الناس، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: " إنما الشمس والقمر آيتان من آيات الله عز وجل، لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فافزعوا إلى الصلاة ". وفي رواية: " فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا ".
[في حياة ... وافق هذا يوم موت ولده إبراهيم عليه السلام، وقد كانوا في الجاهلية إذا خسف القمر أو كسفت الشمس، ظنوا أن عظيماً من العظماء قد مات، فزعموا ذلك لما وافق كسوف الشمس موت إبراهيم عليه السلام، فأبطل لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الزعم بقوله: " لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته ". انجلت: صفت وعاد نورها.
ينصرف: يفزع من الصلاة. أربع ركعات: أي أربع ركوعات.(1/241)
ثم إن كانت الصلاة لكسوف الشمس أسر القراءة، ويحذرهم من الغفلة والاغترار.
صلاة الكسوف والخسوف لا تقضيان:
إذا فات وقت صلاة الكسوف والخسوف، بأن انجلت الشمس أو انجلى القمر، قبل أن يصلي، لم يشرع قضاؤها، لأنها من الصلوات المقرونة بأسبابه، فإذا ذهب السبب فقد فات موجبها.
الغسل لصلاة الكسوف:
ويسن الاغتسال لصلاة الكسوف والخسوف، فيغتسل قبلهما كما يغتسل لصلاة الجمعة، لأنها في معناها من حيث الاجتماع وندب الجماعة.
*****(1/242)
صَلاَة الاسْتِسقَاء
التعريف بها:
هي صلاة تشرع عند احتباس مطر أو جفاف نبع، وهي مسنونة عند ظهور سببها، وتفوت بزوال السبب، كأن تنزل الأمطار، أو يجري النبع.
كيفيتها:
للاستسقاء المندوب ثلاث كيفيات:
أدناها: مطلق الدعاء في أي الأوقات أحب.
أوسطها: الدعاء بعد ركوع الركعة الأخيرة من الصلوات المكتوبة، وخلف الصلوات.
وأكملها: - وهو ما عقد باب صلاة الاستسقاء لبيانه- أن تتم على الكيفية التالية:
أولاً:
يبدأ الإمام أو نائبه فيأمر الناس بما يلي:
(أ) التوبة الصادقة.
(ب) الصدقة على الفقراء، والخروج عن المظالم، وإصلاح ذات البين.(1/243)
(ج) صيام أربعة أيام متتابعة.
واستحبت هذه الأمور لما لها من أثر في استجابة الدعاء، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة.
ثانياً:
يخرج الإمام بهم في اليوم الرابع من أيام صيامهم، وهم صائمون في ثياب بذلة وخشوع واستكانة، على الفلاة، فيصلي بهم الإمام أو نائبه ركعتين كركعتي صلاة العيد تماماً.
روى ابن ماجه (1266) وغيره، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متواضعاً متبذلاً متخشعاً مترسلاً متضرعاً فصلى ركعتين كما يصلي في العيد.
[متضرعاً: مظهراً للضراعة، وهي التذلل عند طلب الحاجة].
ثالثاً:
إذا أتموا الصلاة خطب الإمام فيهم خطبتين، كخطبتي العيد، غير أن ينبغي أن يفتحهما بالاستغفار تسعاً في الأولى، وسبعاً في الثانية، بدلاً عن التكبير.
لقوله تعالى: {استغفروا ربكم إنه كان غفاراً * يرسل السماء عليكم مدراراً} ... [نوح: 10,11] أي كثيرة الدر، والمراد المطر الكثير.
فإذا بدأ الخطبة الثانية، ومضى نحو ثلثها، استقبل الخطيب القبلة واستدبر المصلين، وحول رداءه بأن يجعل أعلاه أسفله وأسفله أعلاه،(1/244)
والأيمن على الأيسر، والأيسر على الأيمن، إظهاراً للمزيد من التذلل لله عز وجل.
روى ابن ماجه (1268)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً يستسقي، فصلى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة، ثم خطبنا ودعا الله، وحول وجهه نحو القبلة رافعاً يديه، ثم قلب رداءه: فجعل الأيمن على الأيسر والأيسر على الأيمن.
ويسن أن يفعل الناس مثله.
ويسن للخطيب أن يكثر من الاستغفار والدعاء والتوبة والتضرع، وأن يتوسلوا بأهل الصلاح والتقوى.
وروى البخاري (964) عن أنس - رضي الله عنه -. أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. قال: فيسقون.
رابعاً: يسن أن يخرجوا معهم إلى المصلى الأولاد الصغار والشيوخ والبهائم لأن المصيبة التي يخرجون من أجلها تعمهم جميعاً، ولا ينبغي أن يمنع أهل الذمة من حضورها.
بعض الأدعية الواردة في الاستسقاء:
اللهم اجعلها سقياً رحمة، ولا تجعلها سقياً عذاب، ولا محق ولا بلاء، ولا هدم ولا غرق. اللهم على الظراب والآكام، ومنابت الشجر وبطون الأودية، اللهم حوالينا ولا علينا. اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً، هنيئاً مريئاً مريعاً، سحاً عاماً غدقاً طبقاً مجللاً، دائماً إلى يوم الدين.(1/245)
اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إن بالعباد والبلاد من الجهد والجوع والضنك، ما لا نشكو إلا إليك. اللهم أنبت لنا الزرع وأدرّ لنا الضرع، وأنزل علينا من بركات السماء، وأنبت لنا من بركات الأرض، واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه غيرك، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً.
[الظراب: جمع ظرب وهو الجبل الصغير أو الرابية الصغيرة. الآكام: جمع أكمة وهي التراب المجتمع، أو الهضبة الضخمة. غيثاً: مطراً. مغيثاً: منقذاً من الشدة. هنيئاً: طيباً لا ينغصه شئ. مريئاً: محمود العاقبة منمياً. مريعاً: مخصباً فيه الريع وهو الزيادة. سحاً شديد الوقع على الأرض. غدقاً: كثيراً. طبقاً: مستوعباً لنواحي الأرض.
مجللاً: يجلل الأرض ويعمها. دائماً: مستمراً نفعه إلى انتهاء الحاجة إليه. القانطين: الآيسين بتأخير المطر. الجهد: المشقة. الضنك: الضيق والشدة، أدر: من الإدرار وهو الإكثار. الضرع: أضرعت الشاه أي نزل لبنها قبل النتاج، أي قبل وضعها حملها].
(رواه البخاري: 967؛ ومسلم: 897؛ وأبو داود 1169؛ والشافعي: " الأم 1/ 222"، وغيرهم).
*****(1/246)
أحْكَام الجَنَازَة
تذكر الموت:
اعلم أنه يسن لكل إنسان أن يكثر من ذكر الموت، لحديث " أكثروا من ذكر هاذم اللذات " أي الذي يقطعها بسرعة وهو الموت.
(رواه ابن حبان: 2559، وغيره)، وأن يستعد له بالتوبة والاستقامة مع الله تعالى، سواء كان شاباً أو كهلاً أو شيخاً مسناً، وسواء كان صحيحاً أو مريضاً، فإن الأجل محجوز في غيب الله تعالى، وليس الموت أقرب إلى الشيخ الكبير من الشاب الصغير، كما أنه ليس أقرب إلى المريض من الصحيح، فرب شاب اختطفه الموت بين يوم وآخر.
فإذا نزل المرض بالإنسان، كان تذكر الموت له آكد، وأخذ الاستعداد له ألزم وأهم.
ما يطلب فعله بالمسلم حين احتضاره:
الاحتضار: هو ظهور دلائل الموت على المريض، وبدء السكرات أي نزع الروح من جسده.
1 - فإذا وصل المريض إلى درجة الاحتضار، ندب لأله أن يضجعونه على جنبه الأيمن متجهاً بوجهه إلى القبلة، فإن صعب ذلك(1/247)
أضجعوه على قفاه وجعلوا وجهه مرفوعاً قليلاً بحيث يوجه إلى القبلة، وكذا أخمصاه، وهما أسفل الرجل، يسن توجيهها إلى القبلة.
2 - يسن أن يلقن الشهادة وهي كلمة " لا إله إلا الله " بشكل رفيق وبدون إلحاح، وذلك بأن يردد على سمعه كلمة لا إله إلا الله، دون أن يأمره بقولها، لخير مسلم (916، 917) " لقنوا موتاكم: لا إله إلا الله ".
3 - يسن أن يقرأ عنده سورة يس لحديث: " اقرءوا على موتاكم يس" (رواه أبو داود: 3121؛ وابن حبان: 720، وصححه)، والمقصود بموتاكم من قد حصره الموت.
4 - يسن للمريض الذي شعر بنذير الموت وسكراته ن يحسن ظنه بالله تعالى، وأن يلقي صور آثامه ومعاصيه وراء ظهره، متصوراً أنه يقبل على رب كريم يغفر له الذنوب كلها، ما دام محافظاً على إيمانه وتوحيده، له، للحديث الصحيح: " أنا عند ظن عبدي بي" (رواه البخاري: 6870؛ ومسلم: 2675).
ما يطلبه فعله بالمسلم عقب موته:
إذا مات وفاضت روحه، ندب تنفيذ الأمور التالية:
1 - تغميض عينيه، وشد لحييه بعصابة، ولئلا يبقى فمه مفتوحاً.
ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على أبي سلمة - رضي الله عنه - عنه وقد شق بصره - أي شخص فأغمضه. (رواه مسلم: 920).
2 - تليين مفاصله، ورد كل منها إلى مكانه، بأن يلين ساعده ثم يمده إلى عضده وكذلك رجليه وبقية أعضائه.(1/248)
3 - وضع شئ ثقيل على بطنه، كي لا ينتفخ، فيقبح منظره، كما يندب ستر جميع بدنه بثوب خفيف.
4 - يسن نزع جميع ثيابه منه، ووضعه على سريره ونحوه مما هو مرتفع عن الأرض، وتوجيهه للقبلة كساعة الاحتضار، وليتول فعل ذلك أرفق محارمه به.
ما يجب فعله إذا فارق الإنسان الحياة وتحقق موته:
يندب المبادرة فوراً إلى تجهيزه، أي إلى غسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه. وهذه الأربعة أجمع المسلمون على أنها فروض كفاية، تتعلق بجميع المسلمين من أهل البلدة، إذا لم يقم أحد منهم بها أثم الجميع.
1 - غسل الميت:
وأول أعمال التجهيز هو الغسل وله كيفيتان:
الكيفية الأولى:
وهي أقل ما يتحقق به معنى الغسل ويرتفع به الإثم، هي: أن يزال ما قد يكون على جسمه من النجاسة، ثم يعمم سائر بدنه بالماء.
الكيفية الثانية:
وهي أكمل ما تتحقق به السنة، أن يتبع غاسله ما يلي:
أولاً: يوضع الميت في مكان خال على مرتفع كلوح ونحوه، وتستر عورته بقميص أو نحوه.
ثانياً: يجلسه الغاسل على المغتسل مائلاً إلى الوراء، ويسند رأسه بيده اليمنى، ويمر بيده اليسرى على بطنه بتحامل وشده ليخرج ما قد(1/249)
يكون فيه، ثم يلف يده اليسرى بخرقة أو قفاز ويغسل سوأتيه، ثم يتعهد فمه ومنخريه فينظفها، ثم يوضئه كما يتوضأ الحي.
ثالثاً: يغسل رأسه ووجهه بصابون ونحوه من المنظفات، ويسرح شعره إن كان له شعر، فإن نتف منه شئ أعاده إليه ليدفنه معه.
رابعاً: يغسل كامل شقه الأيمن مما يلي وجهه، ثم شقه الأيسر مما يلي وجهه أيضاً، ثم يغسل شقه الأيمن مما يلي القفا ثم شقه الأيسر مما يلي القفا أيضاً، وبذلك يعمم جسمه كله بالماء. فهذه غسلة أولى، ويسن أن يكرر مثل هذه الغسلة مرتين أخريين، وبذلك يتم غسله ثلاث مرات، وليمزج بالماء شيئاً من الكافور في الغسلة الأخيرة، إذا كان الميت غير محرم.
والدليل على ما سبق: ما رواه البخاري (156)؛ ومسلم (939)، عن أم عطية الأنصارية رضي الله عنها قالت: دخل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نغسل ابنته فقال: " اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك إن رأيتن، بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافوراً، وشيئاً من كافور، وابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها".
[صدر: ورق مدقوق لنوع من الشجر يستعمل في التنظيف.
كافور: كمام النخل وهو زهره].
فإن كان محرماً، غسل كغيره، دون أن يمس كافوراً أو غيره مما له رائحة طيبة.
روى البخاري (1208)، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رجلاً وقصه بعيره، ونحن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:(1/250)
واغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبين، ولاتمسوه طيباً ولا تخمروا رأسه فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبداً وفي رواية ملبياً ".
[وقصه: رواه على الأرض وداس عنقه. تخمروا: تغطوا. ملبداً: من التلبيد، والتلبيد: هو أن يجعل في شعره شيئاً من صمغ ونحوه عند الإحرام، ليلتصق بعض ببعض، فلا يتساقط منه شئ، ولا ينشأ فيه شئ من الحشرات كالقمل ونحوه. ملبياً: أي وهو يلبي كما كان عند موته].
ويجب أن يغسل الرجل والمرأة، كما يؤخذ من الأحاديث السابقة، إلا أن الرجل أن يغسل زوجته، وللزوجة أن تغسل الرجل إلا امرأة أجنبيه سقط الغسل، واستعيض عنه بالتيمم.
واعلم أن غسل الميت إنما شرع تكريماً له وتنظيفاً، فهو واجب بالنسبة لكل ميت مسلم، إلا شهيد المعركة كما ستعلم.
2 - التكفين:
أقل التكفين المطلوب أن يلفّ الميت بثوب يستر جميع بدنه، ورأسه إن كان غير محرم، والواجب ثوب يستر العورة على الأصح.
وأكمله أن يُنْظر: فإن كان ذكراً، كفن في ثلاثة أثواب بيض، وتكون كلها لفائف طويلة على قدر طوله: عراضاً بحيث تلتف كل واحدة منها على جميع بدنه. فيكره أن يكفَّن بغير الأبيض كما يكره أن يكفن بما يشبه القميص، أو أن يستر رأْسه بما يشبه العمامة. لما رواه البخاري (1214)؛ ومسلم (941)، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كُفِّنَ(1/251)
رسول الله في ثلاثة أثوابٍ بيضٍ سحولية، ليس فيها قميص ولا عمامة.
[سحولية: ثياب بيض نقية لا تكون إلا من القطن، وقيل: منسوبة إلى بلد في اليمن].
ولما رواه الترمذي (994) وغيره: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " البسوا من ثيابكم البياض، فإنها خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم ".
وإن كانت أنثى: ندب أن تكفن في خمسة أثواب بيض هي: إزار يستر من سرتها إلى أدنى جسمها، وخمار يستر رأسها، وقميص يستر أعلى جسمها إلى ما دون الإزار، ولفافتان تحتوي كل منهما على جميع جسدها.
لما رواه أبو داود (3157) وغيره: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أن تكفن ابنته أم كلثوم رضي الله عنها في ذلك.
وهذا في غير المحرم كما علمت، فإن كان الميت محرماً وجب كشف رأْسه، لما مرّ من حديث الذي وقصته ناقته وهو محرم، ووجه المرأة المحرمة في هذا كرأْس الرجل.
ويجب أن يكون قماش الكفن من جنس ما يجوز للميت لبسه لو كان حياً، فلا يجوز أن يكفن الذكر بالحرير البلدي. وينبغي أن يجعل على منافذ جسمه وأعضاء سجوده قطن عليه حنوط أو كافور، وتشد خرق على اللفائف، ثم تحلّ في القبر.(1/252)
3 - الصلاة على الميت:
ودل على مشروعيتها: ما رواه البخاري (1188)؛ ومسلم (951)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، فخرج إلى المصلى، فصف بهم، وكبر أربعاً.
ولا تصح إلا بعد غسله، وكيفيتها كما يلي:
1 - يكبر تكبيرة الإحرام ناوياً الصلاة على الميت، وكيفية النية أن يخطر في باله: أن يصلي أربع تكبيرات على هذا الميت فرض كفاية.
2 - فإذا كبر، وضع يديه على صدره مثل الصلاة العادية، وقرأ الفاتحة.
3 - وإذا أتمّ الفاتحة كبر تكبيرة ثانية، رافعاً يديه إلى شحمة أذنيه، ثم وضع يديه مرة أخرى على صدره، وقرأ أي صيغة من صيغ الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأفضلها الصلاة الإبراهيمية التي مرت معك في أحكام الصلاة.
4 - ثم يكبر التكبيرة الثالثة، ويدعو للميت بعدها، وهو المقصود الأعظم من الصلاة على الميت. روى البخاري (1270)، عن طلحة بن عبدالله بن عوف قال: صليت خلف ابن عباس رضي الله عنهما على جنازةٍ، فقرأ بفاتحة الكتاب، فقال: ليعلموا أنها سنة.(1/253)
وروى النسائي (4/ 57)) بإسناد صحيح عن أبي أمامة بن سهل - رضي الله عنه - أنه أخبره رجل من اًصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام، ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سراً في نفسه، ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويخلص الدعاء للجنازة في التكبيرات، ولا يقرأ في شئ منهن، ثم يسلم سراً في نفسه.
وأقل الدعاء أن يقول: اللهم ارحمه أو اغفر له.
وأكمله أن يدعو له بالدعاء المأثور عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: فيدعو أولاً بهذا الدعاء: " اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان" (رواه الترمذي: 1024؛ وأبو داود: 3201).
ثم يقول: " اللهم هذا عبدك وابن عبديك .. وإن كانت أنثى قال: اللهم هذه أمتك وابنة أمتك، خرج من روح الدنيا وسعتها، ومحبوبه وأحبائه فيها، إلى ظلمة القبر وما هو لاقيه، كان يشهد أن لا إله إلا الله أنت وحدك وأن محمداً عبدك ورسولك، وأنت أعلم به منَّا. اللهم إنه نزل بك وأنت خير منزول به، وأصبح فقيراً إلى رحمتك، وأنت غني عن عذابه، وقد جئناك راغبين إليك، شفعاء له. اللهم إن كان محسناً فزد في إحسانه وإن كان مسيئاً فتجاوز عنه، ولقه برحمتك رضاك، وقه فتنة القبر وعذابه وأفسح له في قبره، وجاف الأرض عن جنبيه، ولقه برحمتك الأمن من عذابك، حتى تبعثه إلى جنتك يا أرحم الراحمين".
فإن كان الميت طفلاً قال بدلاً من هذا الدعاء الثاني: " اللهم(1/254)
اجعله فرطاً لأبويه وسلفاً وذخراً وعظة واعتباراً وشفيعاً. وثقل به موازينهما وأفرغ الصبر على قلوبهما ولا تفتنهما بعده ولا تحرمهما أجره".
وهذه الأدعية التقطها الشافعي رحمه الله تعالى من مجموع الأخبار، وربما ذكرها بالمعنى، واستحسنها أصحابه, وأصح حديث في الباب ما رواه مسلم (963) عن عوف بن مالك - رضي الله عنه - قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جنازة، فسمعته يقول: " اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه، وأكرم نزله ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما ينقي الثوب الأبيض من الدنس، وأبدل له داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة وقه فتنة القبر وعذاب النار". قال عوف: فتمنين أن لو كنت أنا الميت، لدعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - على هذا الميت.
[عافه: خلصه مما يكره].
5 - ثم يكبر التكبيرة الرابعة ويقول بعدها: " اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده واغفر لنا وله". (رواه أبو داود: 3201؛ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -).
6 - ثم يسلم تسليمتين عن يمينه ويساره كل تسليمة كتسليمة الصلوات الأخرى.
روى البيهقي (4/ 43) بإسناد جيد، عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل التسليم على الجنازة مثل التسليم في الصلاة.
وأنت تلاحظ مما ذكرنا أن الصلاة على الميت كلها من قيام، فلا ركوع فيها ولا سجود ولا جلوس.(1/255)
4 - دفن الميت:
أقل ما يجب في دفن الميت أن يدفن في حفرة تمنع انتشار رائحته وتمنع تسلط السباع عليه، مستقبلاً فيها القبلة.
وأكمل ذلك أن يتبع فيه ما يلي:
1 - أن يدفعن في قبر بعمق قدر قامة الرجل المعتدل وبسطة يديه إلى الأعلى، وأن يوسع قدر زراع وشبر.
روى أبو داود (3215) والترمذي (1713) وقال: حسن صحيح، عن هشام بن عامر - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في قتلى أحد: " احفروا وأوسعوا وأحسنوا ".
2 - يجب أن يضجع على يمينه وأن يوجه إلى القبلة، بحيث لو لم يوجه إلى القبلة وردم عليه التراب، وجب نبش القبر وتوجيهه إلى القبلة، إن لم يقدر أنه قد تغير. ويندب أن يلصق خده بالأرض.
3 - يسن أن يكون القبر لحدا إن كانت الأرض صلبة لخبر مسلم (966) عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أنه قال: في مرض موته: ألحدوا لي لحداً وانصبوا علي اللبن نصباً، كما صنع برسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
واللحد تجويف يفتح في الجدار القبلي للقبر، بمقدار ما يسع الميت، فيوضع الميت فيه، ثم يسدّ فم هذا التجويف بحجارة رقاق كي لا ينهال عليه التراب.
فإن كانت الأرض رخوة ندب أن يكون القبر شقًاَ. والمقصود به شقِّ في أسفل أرض القبر بمقدار ما يسع الميت، ويبني طرفاه بلبنٍ(1/256)
أو نحوه، فيوضع الميت فيه، ثم يسقف الشق من فوقه بحجارة رقاق، ثم يهال فوقه التراب.
4 - يسنّ أن يسلّ الميت من قبل رأسه، بعد أ، يوضع عند أسفل القبر، ويمدد برفق في القبر.
5 - روى أبو داود (3211) بإسناد صحيح أن عبدالله بن يزيد الخطميّ الصحابيّ - رضي الله عنه -، ادخل الحارث القبر من قبل رجلي القبر وقال: هذا من السنة.
ويسن أن يدخل القبر لتسويته أقرب الناس إليه من الذكور، وأن يقول الذي يلحده: " بسم الله وعلى سنَّة رسول الله " للإتباع. روى أبو داود (3213) والترمذي (1046) وحسَّنه: عن ابن عمر رضي عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا وضع الميت في القبر قال: " بسم الله، وعلى سنة رسول الله".(1/257)
تشييع الجنازة (آدابها وبدعها)
حكم تشييع الجنازة للرجال والنساء:
اتباع الجنازة وتشييعها إلى القبر مستحب للرجال، لما رواه البراء بن عازب قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باتباع الجنازة، وعيادة المريض، وتشميت العاطس، وإجابة الداعي، ونصرة المظلوم. (رواه البخاري: 1182). ويستحب أن لا ينصرف عائداً إلا بعد أن يدفن الميت، روى البخاري (1261) ومسلم (945) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من شهد الجنازة حتى يصلي عليها فله قيراط، ومن شهد حتى تدفن كان له قيراطان". قبل: وما القيراطان؟
قال: " مثل الجبلين العظيمين". أي من الأجر.
أما النساء فلا يستحب لهن ذلك، بل هو خلاف السنة، وخلاف وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
لما رواه البخاري (1219) ومسلم (938) عن أم عطية رضي الله عنها قالت: نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا. أي لم يشدد علينا في النهي ولم يحرم علينا الاتباع. ولما رواه ابن ماجه عن علي رضي الله عنه قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا نسوة جلوس، فقال: " ما يجلسكن"؟
قلن: ننتظر الجنازة. قال: " هل تغسلن "؟ قلن: لا. قال: " هل(1/258)
تحملن"؟ قلن: لا. قال: ... " هل تدلين فيمن يدلي؟ " - أي هل تنزلن الميت في القبر؟ - فلن: لا. قال: " فارجعن مأزورات غير مأجورات" أي عليكن إثم، وليس لكن أجر، في اتباعكنّ الجنازة وحضور الدفن.
ومن آداب تشييع الجنازة الأمور التالية:
1 - أن يشيعها ماشياً، فإن أحبَ أن يركب في العودة فلا بأس.
روى البخاري (3177) عن ثوبان - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى بدابة، وهو مع الجنازة، فأبى أن يركبها. فلما انصرف أتى بدابة فركب، فقيل له، فقال: " إن الملائكة كانت تمشي، فلما أكن لأركب وهم يمشون، فلما ذهبوا ركبت".
وحمل هذا على الندب، لما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه ركب في بعض أحيانه.
روى مسلم (965) عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: " صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ابن الدحداح، ثم أتى بفرس عري، فعقله رجل فركبه، فجعل يتوقص به ونحن نتبعه، نسعى خلفه.
[عري: لا سرج له. فعقله: أمسكه له. يتوقص: يتوثب. نسعى: نمشي بسرعة].
2 - يحرم حمل الجنازة على هيئة مزرية أو يخاف منها السقوط، ويسن ان تحمل في تابوت، لا سيما إذا كانت امرأة، رعاية لتكريم الله تعالى للإنسان.
3 - يكره اللغط اثناء تشييع الجنازة، بل يسنّ أن لا يرفع صوته بقراءة ولا بذكر ولا غيرهما، وليستعض عن ذلك بالتفكر في الموت(1/259)
والتأمل في عاقبة أمره. لحديث أبي داود (3171) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تتبع الجنازة بصوت ولا نار".
4 - الأفضل أن يمشي المشيعون أمام الجنازة على مقربة منها، لأنهم شفعاء لها عند الله عز وجل، فناسب أن يكونوا في مقدمتها. روى أبو داود (3179) وغيره، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر يمشون أمام الجنازة. وروى أيضاً (3180) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: الراكب يسير خلف الجنازة، والماشي خلفها وأمامها، وعن يمينها وعن يسارها، قريباً منها.
5 - لا مانع من أن يشيع المسلم جنازة قريبه الكافر، ولا كراهة في ذلك.
6 - تسن تعزية أهل الميت خلال ثلاث أيام من الموت، لما رواه ابن ماجه (1601) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما من مسلم يعزي أخاه بمصيبة إلا مساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة".
[يعزي أخاه: يحثه على الصبر ويواسيه بمثل قوله: أعظم الله أجرك].
وتكره بعد ثلاثة أيام إلا لمسافر، لأن الحزن ينتهي بها غالباً فلا يستحسن تجديده.
كما يكره تكرارها، والأولى أن تكون بعد الدفن لاشتغال أهل الميت بتجهيزه، إلا إن اشتد حزنهم فتقديمها أولى، مواساة لهم.
وصيغتها المندوبة: " أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك، وغفر لميتك، وعوضك الله عن مصيبتك خيراً ".(1/260)
بدع الجنائز:
1 - كل ما يخالف آداب التشييع التي ذكرناها فهي بدعّ ينبغي التحرز منها، كتشييع الجنازة راكباً، وكرفع الأصوات معها.
2 - حمل الأكاليل ونحوها مع الجنازة، فهي بدعةٌ محرمةٌ، تسللت إلى المسلمين تقليداً لعادات الكافرين في مراسيم جنائزهم، وفيها ما فيها من إضاعة المال دون فائدة، والمفاخرة والمباهاة.
3 - القبور التي تحفر وتبني بطريقة مخالفة لما ذكرناه من ضابط عمق القبر واتساعه، وأفضلية اللحد ثم الشقّ.
4 - يكره تشييد القبور، داخلها أو ظاهرها، بكل ما دخل فيه النار كالإسمنت والجص ونحوهما.
روى مسلم (970)، عن جابر - رضي الله عنه - قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجصص القبر. وهو أن يوضع عليه الجص، وهو ما يسمى بالجبصين، فإن بني الرخام ونحوه كان حراماً، لمخالفته الشديدة لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولما في ذلك من إضاعة المال المنهي عنه شرعاً، وما فيه من المباهاة والمفاخرة المقيتة في دين الله عز وجل.
5 - يكره كراهية تحريم تسنيم القبور والبناء عليها، على النحو الذي يفعله كثير من الناس اليوم، والسنَّة أن لا يرفع القبر عن الأرض أكثر من شبر واحد، للنهي عن كل ذلك.
روى مسلم (969) وغيره، أن على بن أبي طالي - رضي الله عنه - قال لأبي الهياج الأسدي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته.(1/261)
[تمثالاً: صورة، والمراد هنا ما كان لذي روح. طمسته: محوته أو درسته. مشرفاً: مرتفعاً. سويته: مع الأرض بارتفاع قليل].
6 - الندب على الميت بتعديل شمائله- كأن يقول: واكهفاه واعظيماه - والنياحة، وهي كل فعل أو قول يتضمن إظهار الجزع، كضرب الصدر وشق الجيب ونحو ذلك. فذلك كله حرام، نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه بأحاديث صحيحة وعبارات حاسمة، لما فيه من منافاة للانقياد والاستسلام لقضاء الله تعالى وقدره.
روى مسلم (935) عن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة، وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب ". أي يسلط على أعضائها الجرب والحكة بحيث يغطي بدنها تغطية الدرع وهو القميص. وفي معناه السربال. والقطران نوع من صمغ الأشجار، تطلي به الإبل إذا جربت.
وروى البخاري (1232) عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية ".
[لطم: ضرب. الجيوب: جمع جيب، وهو فتحة الثوب من جهة العنق، أي شق ثيابه من ناحية الجيب. بدعوى الجاهلية: قال ما كان يقوله أهل الجاهلية، مثل: واعضداه، يا سند البيت، ونحوها].
ولا بأس في البكاء الطبيعي الناشئ عن العاطفة ورقة القلب.
روى البخاري (1241) ومسلم (2315، 2316): أنه - صلى الله عليه وسلم - بكى على ولده إبراهيم قبل موته، لما رآه يجود بنفسه، وقال: " إن العين(1/262)
تدمع والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون".
وروى مسلم (976) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: زار النبي - صلى الله عليه وسلم - قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله.
7 - انشغال أهل الميت بصنع الطعام وجمع الناس عليه، كما هو المعتاد في هذا العصر، بدعة تناقض السنة وتخالفها مخالفة شديدة.
وإنما السنة عكس ذلك، أي أن يقوم بعض المشيعين بتحضير الطعام وإرساله إلى أهل الميت، أو جمعهم عليه في بيت الداعي، ويستحب أن يكون كثيراً بحيث يكفي أهل الميت يومهم وليلتهم. وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم - لما جاء خبر قتل جعفر بن أبي طالب: " اصنعوا لآل جعفر طعاماً فإنه قد جاءهم ما يشغلهم ". (رواه الترمذي: 998؛ وأبو داود: 3132 وغيرهما). ويحرم تهيئة الطعام للنائحات وأمثالهن، سواء كان ذلك من أهل الميت أم غيرهم، ذلك لأنه إعانة على معصية، وتحميس على الاستمرار فيها.
ومن البدع ما يفعله أهل الميت من جمع الناس على الطعام بمناسبة ما يسمونه بمرور الأربعين ونحوه. وإذا كانت نفقة هذه الأطعمة من مال الورثة وفيهم قاصرون - أي غير بالغين - كان هذا الفعل من أشد المحرمات؛ لأنه أكل لمال اليتيم وإضاعة له في غير مصلحته.
ويشترك في ارتكاب الحرمة كل من الداعي والآكل.
8 - قراءة القرآن في محافل رسمية للتعزية، على النحو الذي يتم اليوم، فهي أيضاً بدعة. وإنما تسن تعزية أهل الميت خلال ثلاثة أيام من موته اتفاقاً، أي دون أن يعد أقارب الميت العدة لها.(1/263)
حكم السقط والشهيد:
والسقط: هو الولد النازل قبل تمامه.
والشهيد: هو الذي يقتل في معركة تدار دفاعاً عن الإسلام، ولرفع لوائه.
* فأما السقط فله حالتان:
الحالة الأولى: أن لا يصيح عند الولادة، فإن لم يكن قد بلغ حمله أربعة أشهر بعد، لم يجب غسله ولا تكفيه ولا الصلاة عليه، ولكن يستحب تكفينه بخرقة والدفن دون الصلاة.
الحالة الثانية: أن يصيح عند الولادة، أو يتيقن حياته باختلاج ونحوه، فيجب في حقه الصلاة مع جميع ما ذكر، لا فرق بينه وبين الكبير.
روى الترمذي (1032) وغيره، عن جابر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا استهل السقط صلى عليه وورث ".
[استهل: من الاستهلال وهو الصياح أو العطاس أو حركة يعلم بها حياته].
* وأما الشهيد:
فلا يغسل، ولا يصلى عليه، ويسن تكفينه في ثيابه التي قتل بها.
لما روه البخاري (1278)، عن جابر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر في قتلى أحد بدفنهم في دمائهم، ولم يغسلوا ولم يصل عليهم.(1/264)
فإن جرح في المعركة، وبقيت فيه حياة مستقرة بعد انتهاء القتال، ثم ما لم يعتبر شهيداً من حيث المعاملة الدنيوية، وغسل وصلى عليه كالعادة، ولو كان موته بالسراية من الجرح.
والحكمة من أن التشهد لا يغسل ولا يصلى عليه: إبقاء أثر الشهادة عليهم، والتعظيم لهم باستغنائهم عن دعاء الناس لهم. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " والذي نفس محمد بيده، ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء كهيئته حين كلم: اللون لون الدم والريح ريح مسك" (رواه البخاري: 235؛ ومسلم:: 1876) واللفظ له.
[كلم: جرح. كهيئته: كحالته].
زيارة القبور:
زيارة القبور التي دفن فيها مسلمون، مندوبة للرجال بالإجماع، لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها". (رواه مسلم: 977)، وعند الترمذي (1054): " فإنها تذكر الآخرة". وقد مر معك حديث زيارته - صلى الله عليه وسلم - قبر أمه. ولا يندب لها وقت محدد.
أما النساء فيكره لهنّ زيارتها، لأنها مظنَّةٌ للتبرج والنواح ورفع الأصوات، روى أبو داود (3236) وغيره، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لعن الله زائرات القبور). ولكن يسن لهم زيارة قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وينبغي أن يلحق بذلك قبور بقية الأنبياء والصالحين، شريطة أن لا يكون تبرج واختلاط وازدحام والتصاق بالرجال، ورفع أصوات، مما هو مظنة الفتنة، وما أكثره في زيارتهن!!.(1/265)
من آداب زيارة القبور:
إذا دخل الزائر المقبرة، ندب له أن يسلم على الموتى قائلاً: " السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون". (رواه مسلم: 249). وليقرأ عندهم ما تيسر من القرآن، فإن الرحمة تنزل حيث يُقرأ القرآن، ثم ليدع لهم عقب القراءة، وليهدِ مثل ثواب تلاوته لأرواحهم، فإن الدعاء مرجو الإِجابة، وإذا استجيب الدعاء استفاد الميت من ثواب القراءة. والله أعلم.
تم بحمد الله
**********(1/266)
الفقه المنهجي
على مذهب الإمام الشافعي
رحمه الله تعالى
الجزء الثاني
في الزكاة والصيام والحج
تأليف
الدكتور مصطفي الخِنْ ... الدكتور مصطفي البُغا
على الشربجي
دار القلم
دمشق(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه، من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد:
فقد وعدنا فيما مضى أن نخرج الفقه الإسلامي في مختلف موضوعاته وأبوابه على شكل سلسلة، يضم كل جزء منها موضوعات متقاربة، وبعد أن أصدرنا الجزء الأول في أحكام (الطهارة والصلاة) رأينا من الإقبال عليه ـ ولله الحمد والمنة ـ ما شجعنا على متابعة عملنا، وزادنا حرصاً على بذل الجهد للوفاء بوعدنا. وها نحن أولاء نقدم للقراء الكرام من أبناء أمتنا الجزء الثاني ويحتوي على أحكام العبادات التالية (الزكاة ـ الصيام ـ الحج والعمرة)، ونرجوا الله سبحانه أن يوفقنا لإنجاز باقي أجزاء هذه السلسلة، التي سوف تنتظم الفقه الإسلامي في شتى موضوعاته إن شاء الله تعالى.
ومنه سبحانه نستمد العون والتوفيق، وهو نعم المولى ونعم النصير.
دمشق في غزة محرم 1402 هـ
المؤلفون(2/5)
{من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين}
" حديث شريف "(2/6)
الزكاة
أحكامها الفقهية وأدلتها وأسرارها(2/7)
الزكاة
تمهيد
1ـ الإسلام دين التعاون والتكافل:
إن الإسلام تنظيم كامل وشامل، أكرم الله الإنسان وشرفه به، لكي يعيش أياماً سعيدة في حياته على هذه الأرض، وسعادته إنما تتم بأن يهتدي إلى هويته أولاً، فيعرف أنه عبد مملوك لإله واحد متصف بكل صفات الكمال هو عز وجل، ثم بأن تتحقق من حوله أسباب عيش كريم يمكنه من ممارسة عبوديته له عز وجل، ولا تتوفر للإنسان أسباب عيش كريم إلا عن طريق التعاون والتكافل، على أساس من الاحترام المتبادل، ودون أن يكون ذلك ذريعة بيد أحد لظلم أو استغلال.
والإسلام ـ من دون الشرائع الوضعية كلها ـ هو التنظيم الذي يحقق هذه الحاجة الأساسية والخطيرة للإنسان، في التئام مع فطرته وتصعيد لمزاياه ونفسيته.
وهو يحقق هذه الحاجة من خلال نظام متكامل يبدأ بتقويم العقيدة، ثم تقويم النظرة إلى الكون والحياة، ثم تقويم الخلق، ثم وضع الضوابط المنظمة والمقومة للسلوك، ثم تغذية ذلك كله والدخول تحت سلطانه باقتناع وطواعية.
وليست شريعة الزكاة إلا ضابطاً من جملة الضوابط الكثيرة(2/9)
التي شرعا الله تعالى لتقويم السلوك الإنساني بما يتلاءم مع شروط السعادة للمجموعة الإنسانية بوصفها التركيبي المتآلف، وبوصفها أفراداً ينشد كل منهم كرامته وسعادته الشخصية في هذه الحياة.
إن وظيفة الزكاة ـ في نظرة كلية شاملة ـ هي مراقبة الدخل الفردي أن لا يطغى في نموه على ميزان العدالة بين الأفراد، وأن يظل نموه خاضعاً لأساس الاكتفاء الذاتي للجميع، نلاحظ هذا في قوله عليه الصلاة والسلام لأصحابه الذين كان يرسلهم إلى المدن والقبائل: " ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله " ... فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم " أخرجه البخاري (1331) ومسلم (19) وغيرهم.
وهكذا الشريعة الإسلامية، لا تكل الفرد إلى جهده وطاقته الشخصية وحدها في تدبير أمر نفسه وتوفير أسباب اكتفائه، كما لا تكله إلى ضميره الإنساني وحده في مد يد التعاون العادل والتناصر الإنساني إلى أيدي إخوانه، بل إنها ترسي القواعد والنظم التي تمد جهد الفرد ونشاطه الذاتي بعون يضمن له كرامة العيش ومستوى الاكتفاء، وترسي التشريعات الكافية لمراقبة الضمير الفردي أن لا يتمرد وتطغيه نوازع البغي والأنانية، ولضبطه ضمن خط العدل والاستقامة مع الآخرين، ولسوف تبدوا لك هذه الحقيقة إن شاء الله تعالى من خلال سيرك في معرفة أحكام الزكاة، وكيفية جمعها وسبل توزيعها، وما إلى ذلك من الأحكام المتعلقة بهذا الركن الإسلامي العظيم وذي الأهمية البالغة.
2ـ معنى الزكاة:
الزكاة: مأخوذة من زكا الشيء يزكو، أي زاد ونما، يقال:(2/10)
زكا الزرع وزكت التجارة، إذا زاد ونما كل منهما.
كما أنها تستعمل بمعنى الطهارة، ومنه قوله تعالى: "قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا " (الشمس: 9) أي من طهرها ـ يعني النفس ـ من الأخلاق الرديئة.
ثم استعملت الكلمة ـ في اصطلاح الشريعة الإسلامية ـ لقدر مخصوص من بعض أنواع المال، يجب صرفه لأصناف معينة من الناس، عند توفر شروط معينة سنتحدث عنها.
وسمي هذا المال زكاة، لأن المال الأصلي ينمو ببركة إخراجها ودعاء الآخذ لها، ولأنها تكون بمثابة تطهير لسائر المال الباقي من الشبهة، وتخليص له من الحقوق المتعلقة به، وبشكل خاص حقوق ذوي الحاجة والفاقة.
3ـ تاريخ مشروعيتها:
الصحيح أن مشروعية الزكاة كانت في السنة الثانية من هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، قُبَيْل فرض صوم رمضان.
4ـ حكمها ودليلها:
الزكاة ركن من أهم الأركان الإسلامية، ولها من الأدلة القطعية في دلالتها وثبوتها ما جعلها من الأحكام الواضحة، المعروفة من الدين بالضرورة، بحيث يكفر جاحدها:
فدليلها من الكتاب: قوله تعالى: {أَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ} (البقرة: 43) والأمر بها مكرر في القرآن في آيات كثيرة، كما ورد ذكرها في اثنين وثلاثين موضعاً.
ودليلها من السنة: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " بني الإسلام على خمس:(2/11)
شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان " رواه البخاري (8) ومسلم (16) وغيرهما.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه ـ الذي مر ذكره ـ لمعاذ - رضي الله عنه - عندما أرسله إلى اليمن: " ... فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ".
والأحاديث في هذا كثيرة أيضاً.
5ـ حكمتها وفوائدها:
للزكاة حكم وفوائد كثيرة يصعب حصرها جميعاً في هذا الكتاب الموجز، وهي في جملتها تعود لصالح المعطي والآخذ، لصالح الفرد والمجتمع، وإليك بعض هذه الحكم والفوائد:
أولاً: من شأن الزكاة أن تعود المعطي على الكرم والبذل، وأن تقتلع من نفسه جذور الشح وعوامل البخل، وخصوصاً عندما يلمس بنفسه ثمرات ذلك، ويتنبه إلى أن الزكاة تزيد في المال أكثر مما تنقص منه، وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول: " ما نقصت صدقة من مال " مسلم: (2588) وكيف تنقصه؟! والله سبحانه يبارك له بسبب الصدقة بدفع المضرة عنه وكف تطلع الناس إليه، وتهيئة سبل الانتفاع به وتكثيره، إلى جانب الثواب العظيم الذي يترتب على الإنفاق ابتغاء مرضاة الله عز وجل.
ثانيا: تقوي آصرة الأخوة والمحبة بينه وبين الآخرين، فإذا تصورت شيوع هذا الركن الإسلامي في المجتمع، وقيام كل مسلم وجبت الزكاة في ماله بأداء هذا الحق لمستحقيه، تصورت مدى الألفة التي يتكامل نسيجها بين فئات المسلمين وجماعاتهم(2/12)
وأفرادهم، وبدون هذه الألفة لا يتم أي تماسك بين لبنات المجتمع، الذي من شأنه أن يكون متماسكاً قوياً كالبنيان، بل أن يكون متعاطفاً متوادداً كالجسد الواحد.
ثالثا: من شأن الزكاة أن تحافظ على مستوى الكفاية لأفراد المجتمع، مهما وجدت ظروف وأسباب من شأنها تغذية الفوارق الاجتماعية، أو فتح منافذ الحاجة والفقر في المجتمع، إن الزكاة تعتبر بحق الضمانة الوحيدة لحماية المجتمع من أخطار الفوارق الاجتماعية الكبيرة بين أفراد الأمة، وأسباب الفقر والحاجة.
رابعا: من شأن الزكاة أن تقضي على كثير من عوامل البطالة وأسبابها، فإن من أهم أسبابها الفقر الذي لا يجد معه الفقير قدراً أدنى من المال، ليفتح به مشروع صناعة أو عمل، ولكن شريعة الزكاة عندما تكون مطبقة على وجهها، فإن من حق الفقير أن يأخذ من مال الزكاة ما يكفيه للقيام بمشروع عمل، يتلاءم مع خبراته وكفاءته.
خامساً: الزكاة هي السبيل الوحيد لتطهير القلوب من الأحقاد والحسد والضغائن، وهي أدران خطيرة لا تنتشر في المجتمع إلا عندما تختفي منه مظاهر التراحم والتعاون والتعاطف، وليست هذه المظاهر شعارات من الكلام، وإنما هي حقائق ينبغي أن يلمسها الشعور، وأن تتجلى ثمارها ملموسة بشكل مادي في المجتمع، فإذا طبقت الزكاة على وجهها برزت هذه الثمار جلية واضحة، وفعلت فعلها العجيب في تطهير النفوس من جميع الأحقاد والضغائن، وتآخي الناس على اختلاف درجاتهم في الثروة والغني، وصدق الله العظيم إذ يقول: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} (التوبة: 103)(2/13)
حكم مانع الزكاة:
أ - حكم من منعها منكراً لها: علمت أن الزكاة ركن من أركان الإسلام، فهي ثالث الأركان بعد الشهادتين والصلاة، ولذلك اجمع العلماء على أن من جحدها وأنكر فرضيتها فقد كفر وارتد عن الإسلام، وكان حلال الدم إن لم يتب، وذلك لأنها من الأمور التي علمت فرضيتها بالضرورة، أي يعلم ذلك الخاص والعام من المسلمين، ولا يحتاج في ذلك إلى حجة أو برهان.
قال النووي: رحمه الله تعالى: نقلاً عن الخطابي: (فإن من أنكر فرض الزكاة في هذه الأزمان كان كافراً بإجماع المسلمين) ... وقال (استفاض في المسلمين علم وجوب الزكاة، حتى عرفها الخاص والعام، واشترك فيه العالم والجاهل، فلا يعذر أحد بتأويل يتأوله في إنكارها، وكذلك الأمر في كل من أنكر شيئا مما أجمعت الأمة عليه من أمور الدين، إذا كان عمله منتشراً: كالصلوات الخمس، وصوم شهر رمضان، والاغتسال من الجنابة، وتحريم الزنا، ونكاح ذوات المحارم، ونحوها من الأحكام). (شرح مسلم: 1/ 205)
وقال ابن جحر العسقلاني ـ رحمه الله تعالى: (وأما أصل فرضية الزكاة فمن جحدها كفر) (فتح الباري: 3/ 262).
ب - حكم من منعها بخلاً وشحاً: وأما من منع الزكاة، وهو معتقد بوجوبها ومقر بفرضيتها، فهو فاسق آثم يناله شديد العقاب في الآخرة، وحسبنا في هذا:
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ) (التوبة: 34، 35)(2/14)
وقد ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما، موقوفاً ومرفوعاً إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كل ما أديت زكاته فليس بكنز ... وكل ما لا تؤدي زكاته فهو كنز "
وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه البخاري (1338) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان، يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه ـ يعني شدقيه ـ ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك. ثم تلا: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} الآية وتتمتها:
{ِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} / آل عمران: 180 /.
وفي هذا المعنى الكثير من الآيات والأحاديث.
[مثل له: صير له. شجاعاً: ثعباناً. أقرع: لا شعر على رأسه لكثرة سمه وطول عمره. زبيبتان: نابان يخرجان من فمه، أو نقطتان سوداوان فوق عينيه، وهو أوحش ما يكون من الحيات وأخبثه. يطوقه: يُجعل في عنقه كالطوق. شدقيه: جانبي فمه. هو: أي بخلهم وعدم إنفاقهم. ولله ميراث: ملك ما يتوارث أهل السماوات والأرض من مال وغيره والمعنى: لم يبخلون عليه بملكه ولا ينفقونها في سبيله؟ ].
وأما في الدنيا فإنه تؤخذ منه قهراً عنه، وإن تعنت في ذلك وتصدى لمن يأخذها نوصب القتال من قبل الحاكم المسلم الذي يقيم شرع الله عز وجل، وهو مؤتمن عليه.
والدليل على ما سبق من أحكام الزكاة:
ما رواه البخاري (1335) ومسلم (20) عن أبي هريرة - رضي(2/15)
الله عنه - قال: لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان أبو بكر - رضي الله عنه - وكفر من كفر من العرب، فقال عمر - رضي الله عنه -: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله". فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال. والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها. فقال عمر - رضي الله عنه -: فوالله ما هو إلا أن شرح الله صدر أبي بكر - رضي الله عنه - فعرفت أنه الحق.
[عناقاً: الأنثى من ولد المعز التي لم تبلغ سنة. شرح الله صدر أبي بكر: أي لقتالهم. فعرفت أنه الحق: بما ظهر لي من الدليل الذي أقامه أبو بكر - رضي الله عنه -].
من تجب عليه الزكاة
شروط وجوبها:
إنما تجب الزكاة على من توفرت فيه الشروط التالية:
1ـ الإسلام: فلا تجب وجوب مطالبة في الدنيا على الكافر. دليل ذلك حديث معاذ - رضي الله عنه - وفيه: " ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ... فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة ... ".
فقد رتب المطالبة بالزكاة على إجابتهم الدعوة ودخولهم في الإسلام أولاً، وكذلك: قول أبي بكر - رضي الله عنه - هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين. رواه البخاري (1386). فقوله: (على المسلمين) صريح في أن غير المسلم لا(2/16)
يطالب بها في الدنيا. وهذا في زكاة المال، وأما زكاة الفطر: فإنها تلزم الكافر لحق غيره من أقاربه المسلمين، الذين تجب عليه نفقتهم، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
2ـ ملكية النصاب: وهو حد أدني من المال سيأتي بيانه، وتفصيل القول فيه والدليل عليه، عند الكلام عن كل نوع من الأموال التي تجب فيها الزكاة.
3ـ مرور حول قمري كامل على ملكية النصاب:
فلا زكاة في المال مهما بلغ إلى بعد مرور عام كامل عليه، دلّ على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول " رواه أبو داود (1573). ويستثني من هذا الشرط الزروع والثمار والدفائن، فلا يشترط الحول من وجوب زكاة هذه الأموال، بل تجب فيها فور تحصيلها أو الحصول عليها، وسيأتي تفصيل القول في ذلك في مكانه إن شاء الله تعالى.
الزكاة في مال الصبي والمجنون:
من خلال بيان الشروط السابق ذكرها تعلم: أنه لا يشترط لوجوب الزكاة في المال بلوغ صاحبه ولا عقله ولا رشده.
معنى وجوب الزكاة في ماليهما:
وليس المعنى أن الصبي والمجنون مكلفان شرعاً بإخراج الزكاة من ماليهما بحيث لو لم يؤدها كل منهما عوقب يوم القيام، وإنما المعنى أن حق الزكاة متعلق بأموالهما إذا تكاملت فيها شرائطه، فيجب على ولي كل منهما أن يؤدي هذا الحق لأصحابه، بحيث لو قصر في ذلك الولي كان آثماً مستحقاً للعقوبة من الله عز(2/17)
وجل، فإن لم يكن له ولي، وجب ـ على الصبي بعد البلوغ، والمجنون بعد الإفاقة من الجنون ـ أن يخرج زكاة السنوات الماضية على أنها ذمة باقية لديه، إذا كانت شروط وجوبها متوفرة إذ ذاك.
دليل وجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون:
أولاً: قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} (التوبة: 103). قوله تعالى: [وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ] (المعارج: 24، 25) فقد دلت الآيات على أن الله تعالى ملك عباده المال، وجعل فيه حقا لمن حرم منه، وأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذ هذا الحق من المال في وقته، ليكون طُهْرة له وحفظاً وتحصيناً، ولم يفرق الله عز وجل بين مالك وآخر، كما أنه سبحانه لم يخص مالاً دون مال.
ثانيا: الحديث السابق ذكره، وهو ما رواه البخاري (1386) بسنده عن أبي بكر - رضي الله عنه - (هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين).
فالمسلمون كلمة عامة، وهي تشمل البالغين وغير البالغين، والعقلاء وغيرهم، والأصل بقاء العام على عمومه، ما لم يرد دليل عن الشارع بتخصيصه.
وأخرج الدارقطني في سننه (2/ 110) عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من وَلِيَ يتيماً له مال فليتجر له، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة ". [يتيما: هو من مات أبوه وهو دون البلوغ].
كما روى الشافعي رحمه الله تعالى في الأم [2/ 32 ـ 24] أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
{ابتغوا في أموال اليتامى حتى لا تذهبها أو تستهلكها الصدقة}. (ابتغوا: تاجروا).(2/18)
ووجه الاستدلال بالحديثين: أنهما يدلان على أن المال إذا ترك دون متاجرة أذهبته الصدقة واستهلكته، وإنما يكون ذلك بإخراج الصدقة منه، ولا يجوز إخراج الصدقة من مال الصبي إلا إذا كانت واجبة، إذ ليس لوليه أن يتبرع بماله، فدل ذلك على وجوب الصدقة ـ وهي الزكاة ـ في ماله.
ويقاس المجنون على الصبي في هذا لأنه في حكمه.
ثالثاً: روى مالك رحمه الله تعالى في الموطأ [1/ 251] عن عمر - رضي الله عنه - قال: (اتجروا في أموال اليتامى، لا تأكلها الصدقة). وروى الشافعي رحمه الله تعالى في الأم [2/ 23/ـ 24] عن عمر أيضاً: أنه قال لرجل: (إن عندنا مال يتيم قد أسرعت به الزكاة). ووجه الاستدلال بالأثرين هو وجه الاستدلال بالحديثين السابقين، ويؤيده ما رواه مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه قال: (كانت عائشة تليني وأخاً لي يتيمين في حجرها، فكانت تخرج من أموالنا الزكاة) [الزرقاني على الموطأ: 2/ 325].
رابعاً: القياس على زكاة الفطر، فإن الإجماع ثابت على وجوب زكاة الفطر عن الصغار والمجانين، فكما أن الصغر أو الجنون لم يمنع من وجوب زكاة الفطر عن بدن الصبي والمجنون، فينبغي أن لا يكون مانعاً في مال كل منهما، إذا تكاملت فيه شروط وجوب الزكاة.
خامساً: المقصود من الزكاة سدُّ حاجة الفقراء وتطهير المال، بفرز حقوق المستحقين لجزئه منه، بقطع النظر عن صفة صاحب المال، ما دام أنه مسلم خاضع للنظام الإسلامي عموماً، فاقتضى ذلك تعلق الزكاة بمال كل من الصبي والمجنون، لاسيما وأن مال كل منهما قابل، لتعلق غرامة ذلك الشيء بماله، فالزكاة(2/19)
مثلها، بجامع أن كلا منهما حق مالي يتعلق به.
سادساً: ليست الزكاة عبادة بدنية محضة حتى تنطبق عليها شرائط التكليف، أو يتأثر وجوبها بنقص أهليه المكلف، وإنما هي عبادة تغلب فيها الناحية المالية، وأنها ضبط لجانب من جوانب العدالة الاقتصادية، وتحقق شامل للكفاية، فينبغي أن يستوي في الخضوع لذلك كل متملك.(2/20)
الأموال التي تجب فيها الزكاة
الأساس الذي يراعى في ذلك:
إن الأساس الذي تتعلق بموجبه الزكاة بالأموال هو صفة النماء، فكل مال قابل للنمو والزيادة يتعلق به حق الزكاة، وكل ما لا يقبل النمو من الأموال الجامدة لا يتعلق به حق الزكاة.
والحكمة من مراعاة هذا الأساس واضحة، فإن المال الجامد إذا وجبت فيه الزكاة لابد أن تستفيده الزكاة تقريباً خلال أربعين عاماً، فيكون في ذلك ضرر للمالك.
أما المال القابل للنمو والزيادة: فإن الزكاة إنما تتعلق به تبعاً للنمو المتعلق به، فلا خوف على أصل المال من أن تقتضي عليه الزكاة، وإليك تعداد الأموال التي تجب فيها الزكاة بناءً على هذا الأصل.
1ـ النقدان:
1 - النقدان:
والمقصود بهما: الذهب، والفضة، سواء كانا مضروبين أو كانا سبائك، كما أن المقصود بهما ما دخل تحت الملك حقيقة أو اعتباراً، أي سواء كان التعامل الفعلي بهما أو بأوراقٍ تقم مقامها،(2/21)
وتعتبر سندات ذات ضمانة ثابتة بدفع ما ارتبطت به من القيمة الحقيقية، ذهباً أو فضة.
والدليل على وجوب الزكاة في النقدين:
قوله سبحانه وتعالى:
{َالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (التوبة: 34).
والمقصود بالكنز حبس ما يتعلق به من الزكاة، والمال المكنوز هو المال الذي لم تؤد زكاته، فقد روى البخاري في صحيحه (1339) عن ابن عمر رضي الله عنهما، في تفسير هذه الآية، قال: من كنزها فلم يؤد زكاتها فويل له.
وما رواه مسلم (987) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما من صاحب ذهب ولا فضة، لا يؤدي حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيري سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار ". [حقها: زكاتها].
أنواع الذهب والفضة التي تتعلق بها الزكاة:
بناء على ما قد عرفت من المقصود بالنقدين فإن الزكاة تتعلق بأنواع من الذهب والفضة، نبينها لك فيما يلي:
1ـ الدراهم الفضية والدنانير الذهبية، وما هو في حكم محل منهما من الذهب أو الفضة.
2ـ السبائك من كل من الذهب والفضة.
3ـ الأواني والقطع الفضية والذهبية المعدة للاستعمال أو الزينة.(2/22)
لا زكاة في الحُلِيِّ
ويستثني من النوع الثالث الحليي المباح، فلا زكاة فيه، كما إذا كان للمرأة حلى من ذهب أو فضة، ولم يكن بالغاً من الكثرة إلى حد السرف في عرف الناس، وكذلك خاتم الفضة للرجل، فلا تجب عليها الزكاة فيه , وذلك أن اعتبارهما حلياً يقضي على صفة النماء فيهما، ويحيلهما بإذن الشارع إلى مال جامد لا نمو فيه، وقد روى جابر - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا زكاة في الحلي ". [البيهقي: 4/ 138، الدارقطني: 2/ 107].
ويقوي هذا ما روي من آثار عن الصحابة رضي الله عنهم، فقد روى مالك رحمه الله تعالى في الموطأ [1/ 250] أن عائشة رضي الله عنها كانت تلي بنات أخيها ـ يتامى في حجرها لهن الحلي، فلا تخرج من حليهن الزكاة. وأن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما كان يحلي بناته وجواريه الذهب، ثم لا يخرج من حليهن الزكاة.
كما روى الشافعي رحمه الله تعالى في الأم [2/ 34 ـ 35]: أن رجلاً سأل جابر بن عبدالله رضي الله عنهما عن الحلي، أفيه زكاة؟ فقال: لا.
وهذا بخلاف ما يدخل منهما في الاستعمال المحرم، كحلي الرجل ـ ما عدا الخاتم من الفضة ـ وكأدوات استعمال أو زينة في المنزل، فإن صفة النماء ـ وإن تكن قد سقطت عنه بسبب ذلك ـ إلا أن هذا السبب لما كان محرماً لم يكن لسقوط النماء عنه أي اعتبار.
دليل التحريم:
ما رواه البخاري (5110) ومسلم (2067) عن حذيفة بن(2/23)
اليمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة ". [صحافها: جمع صحفة، وهي القصعة. لهم: الكفار]. وقيس على الأكل والشرب غيرهما من وجوه الاستعمال، كما يقاس على الاستعمال، كما يقاس على الاستعمال الاقتناء للزينة، لأنه يجر إلى الاستعمال، ولأنه أيضا لم يؤذن به، والأصل التحريم
كما يشمل المنع الرجال والنساء على حد سواء.
2ـ الأنعام:
وهي: الإبل، والبقر، والغنم، ويلحق بها المعز:
ودل على وجوب الزكاة في هذه الأجناس:
ما رواه البخاري (1386) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن أبا بكر - رضي الله عنه - كتب له كتاباً وبعثه به إلى البحرين، وفي أوله: (بسم اله الرحمن الرحيم، هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين، فمن سألها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سأل فوقها فلا يعط ... )
وهو حديث طويل فيه ذكر هذه الأجناس، وبيان أنصبتها، وما يجب فيها، وسيأتي بيان ذلك مفرقاً في مواضعه عند الكلام عن الأنصبة والنسبة التي تجب فيها.
3ـ الزروع والثمار:
وإنما تجب الزكاة فيها إذا كانت مما يقتاته الناس في أحوالهم العادية، ويمكن ادخاره دون أن يفسد , وذلك من الثمار: الرطب والعنب، ومن الزروع: الحنطة، والشعير، والأرز، والعدس،(2/24)
والحمص، والذرة ... . إلخ، ولا عبرة بما يقتات به في أيام الشدة والحذب.
دليل وجوب الزكاة فيها:
قول الله تعالى: "كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ " الأنعام: 141.
ونقل عن ابن عباس - رضي الله عنه - حقه: إخراج زكاته.
وقوله تعالى:
{أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ} / البقرة: 267 /، وهناك أدلة أخرى تأتي في مواضعها إن شاء الله تعالى. ودليل اختصاصها بما ذكر: ما رواه أبو داود (1603) وحسنه الترمذي (644) عن عتاب بن أسيد - رضي الله عنه - قال: " أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يخرص العنب كما يخرص النخل، وتؤخذ زكاته زبيباً، كما تؤخذ صدقة النخل تمراً " والخرص: تقدير ما يكون من الرطب تمراً، ومن العنب زبيباً.
وروى الحاكم بإسناد صحيح: عن أبي موسى الأشعري ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بعثها إلى اليمن يعلمان الناس أمر دينهم وقال لهما: " لا تأخذوا الصدقة إلا من هذه الأربعة: الشعير، والحنطة، والزبيب، والتمر ".
وروى أيضا عن معاذ - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: وأما القثاء، والبطيخ، والرمان، والقضب، فقد عفا عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: وهذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقد حكم الحافظ الذهبي أيضاً بصحته. [المستدرك: 1/ 401].
القضب: النبات الذي يقطع ويؤكل طربا ً.(2/25)
وقيس على الحنطة والشعير كل ما يقتات به غالباً، لأن الاقتيات ضروري للحياة، فجب فيها حق لأصحاب الضرورات والحاجات.
4ـ عروض التجارة:
والمقصود بالتجارة تقليب المال بالمعاوضة لغرض الربح، وهي لا تختص بنوع معين من المال، والعروض هي السلع التي تقلب الأيدي بغرض الربح.
دليل وجوب الزكاة في أموال عروض التجارة:
قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} / البقرة: 267 /، قال مجاهد: نزلت الآية في التجارة، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " في الإبل صدقتها، وفي البقر صدقتها، وفي الغنم صدقتها، وفي البز صدقتها " رواه الحاكم [المستدرك: 1/ 388] بإسناد صحيح على شرط الشيخين. (1)
والبز: هو الثياب المعدة للبيع عند البزازين، فتقاس عليه كل الأموال المعدة للتجارة.
وروى أبو داود (1562)، عن سمرة بن جندب قال: (أما بعد، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأمرنا أن نخرج الصدقة مما نعده للبيع). والمراد بالصدقة الزكاة.
_________
(1) قال النووي في المجموع: (وفي البز) هو بفتح الباء وبالزاي، هكذا رواه جميع الرواة، وصرح بالزاي الدارقطني والبيهقي. نقول، والذي رأيناه في المستدرك بالراء لا بالزاي، على أن النووي ذكره بالزاي وقال عنه: أخرجه الحاكم أبو عبدالله في المستدرك. فلعل هناك نسخاً أخرى برواية الزاي نقل عنها النووي رحمه الله تعالى.(2/26)
شروط وجوب الزكاة في العروض:
لا تصبح السلع المملوكة عروض تجارة تجب فيها الزكاة إلا بشرطين:
1ـ أن يملكه بعقد فيه عوض، كالبيع والإجازة والمهر ونحو ذلك، فلو ملكه بإرث أو وصية أو هبة، فلا يصير عرضا تجارياً.
2ـ أن ينوي عند تملكه المتاجرة به، وأن تستمر هذه النية، فإذا لم ينو عند تملكه المتاجرة لا يصبح عرضاً تجارياً حتى ولو نوى المتاجرة بعد ذلك، وكذلك إذا اشتراه بنية التجارة، ثم نوى أن يبقيه تحت ملكه ولا يتاجر به، أي أن يتخذه قنية، فإنه يسقط تعلق الزكاة به.
المعدن والركاز:
المقصود بهما الذهب والفضة المستخرجان من باطن الأرض.
فإن استخرج من معدنه تصفية واستخلاصاً مما قد علق به فهو المقصود بالمعدن، وإن كان دفيناً يرجع إلى ما قبل الإسلام فهو الركاز.
أما ما ثبت أنه مدفون في عهد الإسلام فهو من الأموال الضائعة، ولها أحكام خاصة بها تفصل في باب اللقطة.
دليل وجوب الزكاة في المعدن:
ما رواه البيهقي: أنه - صلى الله عليه وسلم - أخذ من المعادن القبلية الصدقة. والقبلية: نسبة إلى قبل ـ بفتح القاف ـ ناحية من قرية بين مكة والمدينة اسمها الفرع.(2/27)
قال النووي رحمه الله تعالى: قال أصبحنا: أجمعت الأمة على وجوب الزكاة في المعدن. [المجموع: 6/ 73، 74].
أما دليل وجوب الزكاة في الركاز:
فهو ما رواه البخاري (1428) ومسلم (1710) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "وفي الركاز الخمس ".
لفت نظر:
إن الركاز والمعدن ليسا ـ كما قد علمت ـ شيئاً آخر غير الذهب والفضة، ومع ذلك فقد اعتبرناهما نوعاً مستقلاً برأسه من أموال الزكاة بسبب ما يتعلق بهما من أحكام خاصة بهما، سواء بما يتعلق باشتراط الحول، أو بالنسبة المئوية التي يجب دفعها ـ وستعلم هذه الأحكام فيما بعد ـ فمن أجل ذلك اعتبرا نوعاً مستقلاً من أنواع الأموال الزكوية، وإن كانا داخلين في الحقيقة تحت الذهب والفضة.(2/28)
الأنصبة
وشروطها وما يجب فيها
قد عرفت الأموال الزكوية وعرفت أنواعها.
فأما الأنصبة: فهي جمع نصاب، والنصاب: هو الحد الأدني الذي يعتبر وجوده شرطاً لتعلق الزكاة بالمال. فإن لم تبلغ كميته في ملك المكلف هذا الحد لم تجب الزكاة عليه.
ولكل نوع من أنواع الزكاة نصاب خاص به، فلنستعرض هذه الأنصبة كلا على حدة:
أولاً: نصاب النقدين (الذهب والفضة):
لا زكاة في الذهب حتى يبلغ قدره عشرين مثقالاً، فهذا هو نصاب الذهب، ولا زكاة في الفضة حتى تبلغ مائتي درهم، فهذا هو نصاب الفضة.
ودليل ذلك:
ما رواه أبو داود (1573) عن على بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " إذا كانت لك مائتا درهم، وحال عليها الحول، ففيها خمسة دراهم، وليس عليك شيء ـ يعني في الذهب ـ حتى يكون لك عشرون ديناراً، فإذا كان لك عشرون(2/29)
ديناراً، وحال عليها الحول ففيها نصف دينار، فما زاد فبحساب ذلك ".
وقوله - صلى الله عليه وسلم - " ليس فيما دون خمس أوراق من الوَرِق صدقة " رواه البخاري (1413) ومسلم (980) واللفظ له. [الوَرِق: الفضة، وأواق: جمع أوقية، وهي أربعون درهماً]
ما هو المثقال:
إن المعروف لدينا الآن نوعان من المثاقيل:
أحدهما المثقال العجمي، وهو يساوي أربع غرامات وثمانية أعشار الغرام، والعشرون مثقالاً تساوي إذاً ستاً وتسعين غراماً.
وثانيهما المثقال العراقي: وهو يساوي خمسة غرامات، فالعشرون مثقالاً تساوي إذاً مائة غرام.
والاحتياط في الأمر أن نعتمد الأقل، وهو المقدار الأول، حرصاً على مصلحة الفقير، وبذلك يكون نصاب الذهب ستة وتسعين غراماً. فإذا كانت قيمة الغرام الواحد من الذهب اليوم خمس عشرة ليرة سورية مثلاً، فإن نصاب الزكاة من الذهب هو حاصل ضرب النصاب بسعر الغرام ن ويساوي: ألفاً وأربعمائة وأربعين ليرة سورية.
وهكذا إذا اختلف سعر الذهب اختلافا عادياً ننظر إلى سعره، ولا ينظر إلى سعره في الأحوال غير العادية.
ما هو الدرهم:
من المتفق عليه أن كل عشرة دراهم تساوي في الوزن سبعة مثاقيل، أي فهي تساوي ثلاثة وثلاثين غراماً وستة أعشار الغرام،(2/30)
على التقدير الأول الذي اعتمدناه، فمائتا درهم تساوي إذاً ستمائة واثنين وسبعين غراماً من الفضة.
ويبدو من التحقيق التاريخي أن قيمة مائتي درهم من الفضة كانت تساوي في صدر الإسلام عشرين مثقالاً من الذهب، وعلى هذا الأساس كان كل منهما نصاباً لوجوب الزكاة.
ثم إن التفاوت طرأ على قيمتها فيما بعد، بسبب اختلاف قيمة الذهب، فأصبحت قيمة عشرين مثقالاً من الذهب تزيد كثيراً على قيمة مائتي درهم من الفضة، كما هو الواقع الآن.
وعلى كل: فإن الذي يملك أوراقاً نقدية، له أن يعتبرها عوضا عن ذهب، فلا يتعلق حق الزكاة بها حتى تبلغ قيمة ستة وتسعين غراماً من الذهب. وله إذا شاء أن يعتبرها عوضاً عن فضة، فتتعلق بها الزكاة، بمجرد أن يبلغ ما في ملكة منها قيمة ستمائة واثنين وسبعين غراماً.
والاحتياط في الدين أن يأخذ بما هو أصلح للفقير، ويقدرها بالأقل قيمة، حتى يكون على يقين من براءة ذمته عند الله عز وجل، فإذا كان تقديرها بالفضة يجعل النصاب أقل من تقديرها بالذهب قدرها بها، حتى تجب عليه الزكاة ويؤديها.
شرط وجوب الزكاة في نصاب النقدين حَوَلان الحَوْل:
إذا تكامل نصاب الذهب أو الفضة، على نحو ما أوضحنا، اشترط في وجوب الزكاة فيه أن يمر على تملك المكلف له، حول قمري كامل دون أن ينزل المال عن الحد الأدني منه.
ودليل ذلك: قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو داود (1573) -" ليس(2/31)
في مال زكاة حتى يحول عليه الحول" أي حتى يمضي على تملكه عام قمري.
وحديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي ذكرنا نصه عند الكلام عن نصاب النقدين.
فإن هبطت كمية المال عن الحد الأدنى من النصاب المعتبر، ولو خلال يوم أو ساعة واحدة من السنة، ثم ازداد المال وارتفع مرة أخرى إلى حد النصاب، ألغي التاريخ السابق لملكية النصاب، وسجل تاريخ جديد لحصوله وتجمعه، واستؤنفت الحول من حين يكمل النصاب. (1)
النسبة الواجبة في زكاة النقدين:
إذا ملك المكلف نصاب أحد النقدين أو ما يزيد عليه، ومر عليه عام قمري بشرطه السابق، وجب عليه أن يخرج من مجموع المال الذي حال عليه الحول في ملكه رُبْع عُشْره، أي نسبة اثنين ونصف في المائة منه.
دليل ذلك:
حديث علي - رضي الله عنه - الذي مر ذكره.
ما جاء في كتاب أبي بكر - رضي الله عنه - في الرقة ربع العشر. والرقة: الفضة.
_________
(1) مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى: أن العبرة بوجود النصاب أول الحول وأخره، ولا يؤثر نقصه بينهما، ولعل الأنفع للمستحقين، والأورع للمالكين أن يأخذوا بهذا، ولا مخالفة فيه لمذهب الشافعي رحمه الله تعالى.(2/32)
استبدال أموال الزكاة أو التصرف فيها:
لا خلاف أن زكاة النقد إنما تخرج نقداً، ولا يصح للمالك أن يخرج بدلها سلعاً تساوي قيمتها المقدار الواجب فيها.
وإذا دفعها المالك لغيره، من حاكم أو وكيل أو غيره، فليس لهؤلاء أن يتصرفوا فيها تصرفاً يخرجها عن طبيعتها قبل إيصالها إلى مستحقيها. قال النووي رحمه الله تعالى: (قال أصحابنا: لا يجوز للإمام ولا للساعي بيع شيء من مال الزكاة من غير ضرورة، بل يوصلها إلى المستحقين بأعيانها، لأن أهل الزكاة أهل رشد لا ولاية عليهم، فلم يجز بيع ما لهم بغير إذنهم) المجموع [6: 176]
وهذه الضرورة التي ذكرها النووي رحمه الله تعالى: كما إذا خاف على الزكاة الواجبة تلفاً أو فساداً إذا أبقاها حتى تصل إلى مستحقيها، أو احتاج إلى مؤونة في نقلها، فباع جزءاً منها لذلك.
وعليه: تلفت نظر المشرفين المخلصين على الجمعيات الخيرية إلى أنه: لا يجوز لهم أن يتصرفوا بما يدفع إليهم من أموال على أنها زكاة فيشتروا بها سلعاً غذائية وغيرها، يعطونها للمستحقين، بحجة الإشفاق عليهم ورعاية مصلحتهم، حتى لا يأخذوا الأموال ويتصرفوا بها تصرفاً ليس في صالحهم وصالح أولادهم وعيالهم. ونحن ننصح لهؤلاء المخلصين، إذا كانوا حريصين على الأجر والثواب، أن لا ينصبوا أنفسهم مشرعين، وأن لا يصوروا المصلحة في شرع الله تعالى كما يبدو لهم، وأن لا يجعلوا من أنفسهم أولياء على من لم يجعل الله عز وجل لهم ولاية عليهم، وأن يلتزموا ما نقله النووي رحمه الله تعالى عن العلماء الأجلة: من أن أهل الزكاة أهل رشد لا ولاية عليهم، فلا يجوز(2/33)
التصرف فيما وكلنا بأدائه إليهم بغير إذنهم، وإنما يعتبر إذنهم بعد أن يدفع إليهم حقهم، ويحوزوه بأنفسهم، ويدخل في قبضة يدهم.
قال النووي رحمه الله تعالى: قال أصحابنا: ولو وجبت ناقة أو بقرة أو شاة واحدة، فليس للمالك بيعها وتفرقة ثمنها على الأصناف بلا خلاف، بل يجمعهم ويدفعها إليهم، وكذا حكم الأمام عند الجمهور. [المجموع: 6/ 178] وينبغي أن لا يغيب عن ذهننا أن الزكاة عبادة، والعبادة لا محل فيها للرأي والاجتهاد إلا بحدود ضيقة، ولذا يقف فيها الفقهاء عند النصوص، ولا ينظرون إلى ما قد يتوهم من مصلحة في مخالفتها.
قال النووي رحمه الله تعالى: (وقال إمام الحرمين: المعتمد في الدليل لأصحابنا أن الزكاة قربة لله تعالى، وكل ما كان ذلك فسبيله أن يتبع فيه أمر الله تعالى، ولو قال إنسان لوكيله: اشتر ثوباً، وعلم الوكيل أن غرضه التجارة، ولو وجد سلعة هي أنفع لموكله، لم يكن له مخالفته وإن رآه أنفع، فما يجب لله تعالى بأمره أولى بالاتباع) [المجموع: 5/ 403]: أي ليس لنا مخالفته بحجة الفائدة والنفع.
ثانياً: نصاب الأنعام ومقدار ما يجب فيها:
علمت فيما مضى أن الأنعام هي: الإبل، والبقر، والغنم.
فأما الإبل:
فإن أول نصابها أن يمتلك الرجل خمسة منها، فلا زكاة فيما دون ذلك، ثم إن الزكاة تزداد كلما ازداد عددها كثرة، طبق ضابط محدد إليك بيانه:(2/34)
النصاب ... القدر الواجب
من 5 ـ 9 ... شاة واحدة
من 10 إلى 14 ... شاتان ... والشاة: واحد الغنم، على أن تكون جذعة ضأن، أي لها سنة. أو ثنية معز، أي لها سنتان.
من 15 إلى 19 ... ثلاث شياه
من 20 إلى 24 ... أربع شياه
من 25 إلى 35 ... بنت مَخاض (وهي من الإبل ما دخلت فيها سنتها الثانية
من 36 إلى 45 ... بنت لَبُون (وهي من الإبل ما دخلت في الثالثة من عمرها)
من 46 إلى 60 ... حقة (وهي من الإبل الناقة التي دخلت عامها الرابع)
من 61 إلى 75 ... جذعة (وهي الناقة التي دخلت في الخامسة من العمر
من 76 إلى 90 ... بنتا لبون
من 91 إلى 120 ... حقتان
ثم إن زادت الإبل على ذلك: وجب في مقابل كل أربعين ابنه لبون، ومقابل كل خمسين حقة. فلو بلغت إبله مائه وسبعين وجب فيها بعد حَوَلان الحول ثلاث بنات لبون وحقه واحدة، لأن(2/35)
مائة وسبعين بعيراً تتضمن ثلاث أربعينات وخمسين واحدة.
دليل ما سبق:
ما رواه البخاري (1386) عن أنس - رضي الله عنه -: أن أبا بكر - رضي الله عنه - كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين لجمع الزكاة: بسم الله الرحمن الرحيم، هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين والتي أمر الله بها رسوله، فمن سألها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سأل فوقها فلا يعط،: (في أربع وعشرين من الإبل فما دونها ـ من الغنم ـ في كل خمس شاة، فإذا بلغت خمساً وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض أنثى، فإن لم يكن فيها بنت مخاض فابن لبون ذكر، فإذا بلغت ستاً وأربعين إلى ستين ففيها حقة طروقة الجمل، فإذا بلغت أحدى وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة، فإذا بلغت ستاً وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا لبون، فإذا بلغت أحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا الجمل، فإذا زادت على عشرين ومائة: ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة).
[من الغنم: أي تعطي زكاتها من الغنم، طروقة الجمل: أي أصبحت يمكن للفحل أن يعلوها لضرابها، والضراب للبهائم مثل الجماع للإنسان].
وأما البقر:
فإن أدنى درجات نصابه ثلاثون، فلا زكاة فيما دون ذلك، ثم إن ما يجب إخراجه يزداد حسب ضابط معين، كلما تكاثرت كمية البقر، وإليك بيان هذا الضابط:(2/36)
النصاب ... القدر الواجب
من 30 ـ 39 ... تبيع أو تبيعة (وهو من البقر ماله من العمر سنة)
من 40 ـ 59 ... مسنة (وهي من البقر ما لها سنتان).
من 60ـ 69 ... تبيعان
من 70 ـ 79 ... مسنة وتبيع
من 80 ـ 89 ... مسنتان
من 90 ـ 99 ... ثلاثة أتبعة
من 100 ـ 109 ... مسنة وتبيعان
من 110 ـ 119 ... مسنتان وتبيع
ثم إذا ازداد العدد على ذلك ففي كل ثلاثين منه تبيع، وفي كل أربعين منه مسنة.
دليل ذلك: ما رواه الترمذي (623) وأبوداود (1576) وغيرهما عن معاذ - رضي الله عنه - قال: (بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن، فأمرني أن آخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعاً أو تبيعة، ومن كل أربعين بقرة مسنة).(2/37)
وأما الغنم:
فلا زكاة فيها حتى تبلغ أربعين رأساً، فإذا بلغت أربعين رأسا وجب فيها واحدة منها، ثم إن القدر الواجب فيها يزداد كلما ازدادت الأغنام طبق ضابط معين نوضحه فيما يلي:
النصاب ... القدر الواجب
من 40 إلى 120 ... شاة واحدة، ذات عام واحد إن كانت من الضأن، وعامين إن كانت من المعز
من 121 إلى 200 ... شاتان
من 201 إلى 300 ... ثلاث شياه
ثم يتصاعد القدر الواجب على أساس مطرد، وهو: في كل مائة شاة، أي كلما ازدادت شياهه مائة زاد القدر الواجب فيها شاة.
دليل ذلك:
حديث البخاري (1386) عن أنس - رضي الله عنه -، وكتاب أبي بكر - رضي الله عنه - له وقد سبق ذكر أجزاء منه وفيه: (وفي صدقة الغنم ـ في سائمتها ـ إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة شاة، فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين ففيها شاتان، فإذا زادت على مائتين إلى ثلاثمائة ففيها ثلاث شياه، فإذا ازدادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاه، فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاة شاة واحدة، فليس فيها صدقة، إلا أن يشاء ربها ... .. )
[سائمتها: هي التي ترعى الكلاء المباح. ربهما: صاحبها].(2/38)
شروط خاصة لوجوب الزكاة في الأنعام.
مر بك بيان الشروط العامة لوجوب الزكاة، تحت عنوان (من تجب عليه الزكاة)، إلا أن لوجوب الزكاة في الأنعام شروطاً إضافية أخرى، علاوة على تلك الشروط العامة التي مر بيانها وهي:
1ـ أن تكون سائمة: أي ترعى الكلاء المباح أكثر من السنة، بحيث لا تتوقف حياتها وصحتها على أكثر من ذلك، لحديث البخاري السابق: (في سائمتها).
2ـ أن تتخذ الماشية للدر ـ أي الحليب ـ أو النسل أو التسمين لا للعمل، فلو اتخذها للعمل ـ كالحراثة والتحميل، ونضح الماء ـ لم تجب فيها الزكاة، ودليل ذلك: قوله - صلى الله عليه وسلم - في الخبر الصحيح: "ليس في البقر العوامل شيء" أخرجه الطبراني. ويقاس على البقر غيرها.
3ـ يستثني فيها من اشتراط الحول ـ وهو شرط فيها على العموم ـ ما توالد من الأصل أثناء الحول، فإنه لا يشترط لوجوب الزكاة فيه مرور عام جديد على ولادته، وإنما يزكي عنه مع الكبار عند تمام حولها، لأنها تبع للأصول، والتابع يأخذ حكم المتبوع.
ثالثا: نصاب الزروع والثمار ومقدار ما يجب فيها:
نصابها:
سبق بيان الأصناف التي تتعلق فيها الزكاة من الزروع والثمار، كما سبق بيان الدليل من القرآن والسنة على ذلك.
ونوضح لك الآن النصاب الذي يشترط أن يتوفر في الزروع والثمار حتى تجب الزكاة فيها، فنقول:
نصاب الثمار أو الزروع: ما لا يقل عن خمسة أوسق كيلاُ،(2/39)
وذلك بعد تصفيتها من نحو قشر وطين وتراب، وبعد أن يجف الثمر الجفاف المعتاد، فإذا بلغ الناتج خمسة أو ستة فما فوق تعلقت به الزكاة.
الدليل:
قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة "
رواه البخاري (1340) ومسلم (979) ولمسلم (979): " ليس في حب ولا تمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق " وفي رواية عنده (ثمر) ـ بالثاء المثلثة ـ بدل (تمر) بالتاء المثناه، وهي أشمل، إذ تشمل التمر والزبيب.
ما هو الوَسْق:
الوَسْق من المكاييل، وقد قدره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بستين صاعاً من صيعان المدينة في عهده عليه الصلاة والسلام. جاء في الحديث السابق عند ابن حبان: والوسق ستون صاعاً. والصاع يساوي أربعة أمداد، أي أربع حفنات كبار. وقد قدرت دائرة المعارف الإسلامية في (المجلد 14/ ص 105) الصاع بثلاثة ألتار، فيكون الوسق على هذا مائة وثمانين لتراً، ويكون نصاب الزروع والثمار، تسعمائة لتر كيلاً.
القدر الواجب فيها:
كل زرع أو ثمر يُسقى بماء المطر أو بماء الأنهار، دون الحاجة إلى بذل كلفة أو نفقة من صاحب الزرع والثمر، أو يشرب بعروقه ـ كالأشجار البعلية ـ يجب فيه العشر إذا بلغ نصاباً، فيجب(2/40)
في ثلاثمائة صاع ـ وهو أدنى النصاب ـ ثلاثون صاعاً، وفي تسعمائة لتراً تسعون لتراً.
أما إذا كان يسقى بالنواضح أو المحركات أو نحوها، مما يسبب للزراع كلفة ونفقة، فإن زكاته عندئذ نصف العشر، أي فيجب في ثلاثمائة صاع خمسة عشر صاعاً، وفي تسعمائة لتر خمسة وأربعون لتراً.
دليل ذلك:
ما رواه البخاري (1412) عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " فيما سقت السماء والعيون ـ أو كان عثرياً ـ العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر " والعثري من الشجر: ما سقته السماء أو امتص بعروقه، وهو ما يسمى بالبعل. وروى مسلم (981) عن جابر - رضي الله عنه -: أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " فيما سقت الأنهار والغيم العشور، وفيما سقي بالسانية نصف العشر " وعند أبي داود (1599) " أو كان بعلاً العشر ".
[الغيم: المطر. السانية: ما يستخرج بواسطته الماء من البئر ونحوه].
متى تجب زكاة الثمار والزروع:
لا يثبت وجوب الزكاة في الزروع ـ التي تجب فيها الزكاة ـ إلا بعد أن ينعقد الحب ويشتد. ولا يشترط اشتداد الجميع، بل اشتداد بعضه كاشتداد كله.
ولا تثبت في الثمار ـ التي تجب فيها ـ إلا بعد أن يبدو صلاحها، أي يظهر نضجها باحمرار أو اصفرار أو تلون، حسب(2/41)
المعهود في كل ثمر. ويعتبر ظهور الصلاح في البعض كظهوره في الكل.
وإنما اشترط بدو الصلاح في الثمار، والاشتداد في الحب، لأنها قبل هذه الحالة لا تعتبر أقواتاً، ولا يصلح للادخار.
وإذا ثبت الوجوب بالاشتداد وظهور الصلاح فلا يجب الأداء وإخراج المقدار المناسب في ذلك الوقت وإنما تخرج الثمار عندما يصبح العنب زبيباً والرطب تمراً، دل على ذلك حديث عتاب بن أسيد - رضي الله عنه -: " أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُخْرَصَ العنب كما يخرص النخل وتؤخذ زكاته زبيباً كما تؤخذ صدقة النخل تمراً " الترمذي (644).
وزكاة الزروع عند الحصول عليها بعد تصفيتا من القشر وغيره، لقوله تعالى: " وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) [الأنعام: 141]
بيع الثمار والزروع بعد وجوب الزكاة فيها:
إذا باع الزروع أو الثمار ـ بعدما وجبت الزكاة فيها ـ لم يصح البيع في المقدار الذي يجب إخراجه منها، إلا إذا خرص الجميع، أي قدر ما يكون من الثمار زبيباً أو تمراً، وقدر ما يكون من الزروع حبا صافيا، لأن الخرص تضمين للمالك قدر ما يستحق عليه من الزكاة.
ومثل البيع كل تصرف بأكل أو هبة أو إتلاف، فإذا تصرف بشيء من ذلك غرم مقدار الزكاة فيما تصرف فيه. وإن كان عالماً بالتحريم أثم وإلا فلا.
وعليه: فالمستحب للحاكم أن يبعث من يخرص الثمار والزروع حين تجب فيها الزكاة، لحديث عتاب - رضي الله عنه - الذي(2/42)
مر ذكره، وإذا لم يفعل الحاكم ذلك تحاكم المالك إلى عدلين خبيرين يخرصان له ما يتحصل له ما يتحمل عنده، ومقدار ما يجب عليه، وبعد ذلك يجوز له التصرف فيما عنده.
إخراج القيمة بدل العين:
علمنا أن الواجب في زكاة المواشي أعيان نص عليها الشارع في كل عدد مملوك منها، والزكاة حق لله تعالى يصرف لمستحقيه، وطالما أن الشارع علق هذا الحق بما نص عليه فلا يجوز نقله إلى غيره، وعليه: فالواجب إخراج زكاة المواشي من أعيانها كما بين فيما سبق مع أدلته، ولا يجوز إخراج القيمة بدل الأعيان.
وكذلك الأمر بالنسبة لزكاة الزروع والثمار، لأن الشارع علق الحق فيما يخرج منها، حين قال: " فيما سقت السماء ... "
ويستثنى من هذا بعض الحالات للضرورة، كما إذا وجبت عليه شاه في خمس من الإبل، وبحث عنها فلم يجدها، وكان الفقراء يتضررون بالتأخير حتى الوجود، ومثله لو امتنع المالك من أداء الواجب، وأخفى الأموال الواجب فيها، فوجد له الحاكم أموالاً أخرى فإنه يأخذ مما وجد.
رابعاً: الحول والنصاب في أموال التجارة ومقدار ما يجب فيها:
عرفت فيما مضى أن أموال التجارة ـ أو عروض التجارة ـ هي: تلك السلع التي تقلب بالمعاوضة لغرض الربح، أيا كانت هذه السلع، وتسمى عروض التجارة. فكل سلعة يتاجر فيها الإنسان، سواء كانت أصلاً من الأصناف التي تزكى: كالذهب والفضة والحبوب والثمار والماشية، أم كانت من غيرها: كالأقمشة والمصنوعات والأرض والعقارات والأسهم، نجب الزكاة فيها بشروطها.(2/43)
إذا عرفت هذا، فاعلم أن عروض التجارة معتبرة بالذهب والفضة من حيث النصاب، وحولان الحول، ومقدار ما يجب فيها.
أي تقوم الأموال التجارية بالنقد المتعارف عليه والمتعامل به، فإن بلغت قمتها ستة وتسعين غراماً من الذهب، أو قيمة مائتي درهم من الفضة، وجبت فيها الزكاة، وله الخيار أن يقدرها بقيمة الذهب أو قيمة الفضة، إلا إذا اشتريت في الأصل بأحدهما عيناً وجب تقديرها به.
والعبرة ببلوغ الأموال التجارية نصاباً آخر العام من البدء بالمتاجرة، فلا يشترط بلوغها نصاباً عند بدء التجارة، ولا بقاؤها كذلك خلال الحول، وبهذا يعلم أن المراد بالحول في زكاة التجارة مرور عام قمري على تملك السلع بنية التجارة، إلا إذا كان تملكها بنقد يبلغ نصاباً أو يزيد عليه فبدء الحول في هذه الحالة من تاريخ تملك النصاب من النقد الذي اشتريت به عروض التجارة.
وبناء على ما سبق فإن التاجر يُجري جرداً عاماً لكل ما هو تحت يده من هذه الأموال التي يتاجر بها، ويقدر قيمتها وقت الجرد بقيمة الذهب أو الفضة على ما مر، فإن بلغت نصاباً، وجب أن يخرج ربع عشر قيمة هذه الأموال زكاة، وإن لم تبلغ نصاباً لم يجب فيها شيء. ويلاحظ عند الجرد والتقويم ما يلي:
أولاً:
لا يدخل في الأمور التجارية التي يجب تقويمها الأثاث وما في معناه، والأجهزة الموجودة في المحل لقصد الاستعانة بها لا لقصد بيعها، فلا زكاة عليها مهما بلغت قيمتها.
ثانيا:
يدخل في الأموال التي يجب تقويمها كل من رأس المال(2/44)
والربح معاً، فيضمان إلى بعضهما، وتؤدي الزكاة عن الجميع، فلو بدأ تجارته بما قيمته ألفا ليرة سورية، وفي آخر العام بلغت خمسة آلاف ليرة سورية، وجبت الزكاة عن الكل.
الواجب إخراجه في زكاة التجارة:
علمنا أنه إذا حال الحول على التجارة قومت العروض بالنقد الغالب المتعامل به، فإذا بلغت نصاب الذهب أو الفضة وجبت فيها الزكاة بنسبة اثنين ونصف في المائة.
وهل تخرج هذه النسبة من عين عروض التجارة المقومة، أم من القيمة التي قومت به
في المذهب ثلاثة أقوال:
أـ يجب إخراج مما قومت به العروض، ولا يجزئ الإخراج من نفس العروض، لأن عروض التجارة ليست بأموال زكوية في الأصل، وإنما صارت كذلك بنية التجارة، وتعلقت بها الزكاة بالنظر إلى قيمتها بما قومت به، فوجب الإخراج منها.
وهذا هو القول الأصح الذي عليه العمل وبه الفتوى.
ب ـ يجب الإخراج من نفس السلع التجارية ولا تجزئ القيمة، لأن العروض هي سبب وجوب الزكاة.
ج ـ يخير بين الإخراج من القيمة أو من نفس العروض، لأن الزكاة تعلقت بهما، إذ أن كلا منهما سبب وجوبها.
تنبيه ولفت نظر:
هذا وينبغي التنبيه هنا إلى أنه إذا قلنا بجواز إخراج القدر الواجب في الزكاة من نفس عروض التجارة فيجب إخراج اثنين ونصف في المائة من كل نوع نملكه من العروض، ولا يجزئ أن نخرج بدل القدر الواجب من نوع بقيمته من نوع آخر، وكذلك(2/45)
يجب أن يخرج القدر الواجب من كل نوع من الصنف الوسط منه، ولا يجزئ أن نخرج الأقل قيمة، والمعيب، وما كسد سوقه، ونحو ذلك.
خامساً: نصاب المعدن والركاز وما يجب فيهما:
قد علمت معنى كل من المعدن والركاز، فلا نعيده الآن، وإنما المهم هنا أن تعلم النصاب الذي تتعلق به الزكاة من كل منهما، والنسبة التي يجب إخراجها.
فأما المعدن:
فنصابه نصب الذهب والفضة نفسه، إلا أنه لا يشترط لوجوب الزكاة فيه حولان الحول، بل تجب الزكاة فور استخراجه. فإذا استخرج الرجل ذهباً أو فضة من معدنه، وبلغ ما أخرجه من ذلك نصاباً، وجب عليه أن يخرج زكاته فوراً، بنسبة ربع العشر، أي اثنين ونصف في المائة من المجموع.
وأما الركاز:
فنصابه أيضاً نصاب النقدين، ولا يشترط لتعلق الزكاة به مرور حول بل يجب إخراج زكاته فوراً، إلا أن المقدار الذي يجب إخراجه هنا إنما هو الخمس، أي عشرون في المائة من مجموع ما قد استخرجه.
دليل ذلك:
ما رواه البخاري (1428) ومسلم (1710) عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " وفي الركاز الخمس "
وافترق عن الأنواع الزكوية الأخرى، لأن سبيل امتلاكه يكون(2/46)
بغير مؤونة أو كلفة ذات أهمية، فكان حق الفقراء فيه أكثر. ولم يشترط الحول في المعدن والركاز: لأن كلا منهما مستخرج من الأرض، فهو بمنزلة الزرع، فتؤخذ منه الزكاة كما تؤخذ من الزروع فور الحصول عليها، وبعد تنقيتها وتصفيتها من الشوائب الدخيلة عليها.(2/47)
زكاة الخليطين
المقصود بالخليطين:
يقصد بالخليطين في باب الزكاة: مالان زكويان لشخصين، خلطا ببعضهما، يقصد الشركة أو نحوها.
أقسام الخليطين:
يقسم هذا المال إلى قسمين
الأول:
يسمى خلطة عيان، أو خلطة شيوع: ويقصد به أن يكون بين شخصين من أهل الزكاة نصاب زكوي أو فوقه، ملكاه حولاً كاملاً بشراء أو إرث أو غيرهما، وكان من جنس واحد.
ويلاحظ أن المالين في هذا القسم ممتزجان امتزاج شيوع. أي أن ما يملكه كل واحد غير متميز عما يملكه الآخر، وإنما لكل مهما جزء غير متعين من المملوك بنسبة ما يملك. وذلك: كما لو ورث أخوان من أبيها أربعين رأسا من الغنم، أو اشترى اثنان معاً ذلك الغنم، فإن كلا منهما يملك من كل رأس نصفه.(2/48)
وكذلك لو كان الموروث أو المشترى سلعاً أو أرضاً، فكل واحد يملك النصف من كل جزء منها دون تعيين.
الثاني:
يسمى خلطة مجاورة أو خلطة أوصاف: ويقصد به أن يكون بين شخصين مثلاً من أهل الزكاة نصاب غير مشترك من المال، بل بينهما مجاورة مجردة. فيلاحظ أن المالين في هذا القسم غير ممتزجين، بل هما منفصلان متميزان.
كيف تؤدى زكاة الخليطين:
يعتبر الخليطان ـ من أي القسمين كانا ـ مالاً واحداً لرجل واحد، في تعلق الزكاة بهما. أي: فإذا بلغ مجموع الخليطين نصاباً، وحال عليه الحول، وهو كذلك، وجبت الزكاة فيهما، وإن كانت حصة كل من المالكين منفردة لا تبلغ نصاباً.
دليله: حديث البخاري عن أنس رضي الله عنه، وقد مرت بك فقرات منه، وفيه: " لا يجمع بين مفترق، ولا يفرق بين مجتمع، خشية الصدقة ".
ومعناه: إذا كان نصيب كل مالك مفترقاً أو متميزاً عن غيره، فلا يجمع معه ليصبح المجموع نصاباً، فتجنب فيه الزكاة، وإذا كان مختلطاً به، فلا يميز عنه حتى لا تجب فيه الزكاة، لأنه يصبح أقل من النصاب.
وهذا الحكم كما ترى من شأنه في بعض الأحيان: أن يوجب في المالين زكاة لم تكن واجبة فيهما لولا الاختلاط، كما أن من شأنه أيضا في أحيان أخرى أن يقلل نسبة الزكاة فيهما، وقد كانت أكثر فيهما لولا الاختلاط.(2/49)
مثال الأول:
أن يملك شخصان مدة حول كامل أربعين رأساً من الغنم فإن الزكاة تتعلق بها، مع العلم بأن كلاً منهما لو انفرد بنصيبه منها لما وجب على أحدهما فيها زكاة، لنقصان نصيب كل منهما عن النصاب.
ومثال الثاني:
أن يملكا ثمانين رأساً من الغنم، لكل منهما أربعون فلا يجب فيها بعد مرور الحول إلا شاة واحدة حال الاختلاط، مع العلم بأن كلا منهما لو انفرد بنصيبه استقلالاً لوجب فيهما شاتان، في كل أربعين شاة.
شروط اعتبار الخليطين مالاً واحداً:
لاعتبار الزكاة في الخليطين، كما لو كانا مالاً واحداً لرجل واحد، طائفتان من الشروط.
أما الطائفة الأولى:
فهي شروط للخليطين من أي القسمين كانا، أي سواء كانت الخلطة على سبيل الشيوع، أو كانت خلطة مجاورة، وهي:
1ـ أن يكون المالان من جنس واحد، فلو كان أحد المالين غنماً والآخر بقراً بقي كل منهما مستقلاً، مهما كانت الخلطة والشركة.
2ـ كون مجموع المالين نصاباً فأكثر، فلو كان المجموع خمسة وثلاثين رأساً من الغنم لم تجب فيها الزكاة، وإن كان كل منهما ـ أو أحدهما ـ يملك عدد آخر من الأغنام لو ضُمَّت إلى الخليط لبلغ نصاباً.
3ـ دوام الخلطة سنة إن كان المال مما يجب فيه الحول،(2/50)
فلو ملك كل منهما أربعين شاة في أول شهر محرم، وخلطاهما في أول صفر فإن الواجب إذا استدار العام وعاد شهر محرم أن يخرج كل منهما شاة، أي فلا عبرة بالخلطة. أما إذا لم يكن المال حوليا، كالزروع والثمار، فإنما يشترط بقاء الخلطة فيها إلى ظهور الثمر واشتداد الحب.
وأما الطائفة الثانية فهي شروط خاصة بخلطة الجوار وهي:
1) أن لا يتميز ـ بالنسبة للأنعام ـ مراحها ومسرحها ومرعاها وموضع حلبها.
فلو كان كل من المالكين يذهب بشياهه إلى مرعى مختلف عن الآخر، أو يعود بها إلى مراح، وهو محل المبيت ـ مختلف، وكذلك المسرح ـ وهو المكان الذي تسرح إليه لتجتمع وتساق إلى المرعى ـ أو كان منهما يمضي بشياهه إلى مكان مستقل للحلب، لم يكن لهذا الاختلاط أي أثر فيما ذكرنا.
2) أن يكون الراعي لها واحداً، والفحل الذي يطرقها واحداً، فلو كان لكل منهما راعٍ، أو فحل خاص، لم يعتبر المال مختلطاً.
3) يشترط إذا كان المال الزكوي زرعاً: أن لا يتميز الحارس، والجرين: أي المكان الذي يجفف فيه الثمر. ويشترط إذا كان عروض تجارة: أن لا يتميز الدكان ومحل التخزين، وأداة البيع من ميزان ونحوه.
فإذا توافرت هذه الشروط الثلاثة اعتبر الخليطان مالاً واحداً كأنهما لمالك واحد، ولا يضر أنهما ليسا ممتزجين امتزاج شيوع، بل تكفي ـ إذا وجدت هذه الشروط ـ المجاورة. أما إذا لم تتوفر،(2/51)
أو لم يوجد واحد منها، فإن كل مالك ينظر في ماله ويحسبه مستقلاً عن الآخر، ويخرج زكاته على هذا الأساس.
ما يلزم كل مالك من زكاة الخليطين:
إذا أخذت الزكاة من الخليط ـ على أنه مال واحد ـ كان على كل واحد من الشركاء بنسبة ما يملك من الخليط، فإن أخذ من عين ماله أكثر مما يلزمه استرد الزيادة من شركائه، وإن أخذ منه أقل مما يلزمه رد الفرق على شركائه.
فلو كان الخليط مائه شاة لزمت فيه شاه، فإن كان الخليط لثلاثة: وأحد الشركاء يملك خمسين شاة لزمه نصف شاة، والثاني يملك خمساً وعشرين لزمه ربع شاة، وكذلك الثالث.
دليل ما سبق: ما جاء في حديث أنس - رضي الله عنه -: " ما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية ".(2/52)
كيفية أداء الزكاة
عدم التأخير عن وقت الاستحقاق:
إذا كان المال نصاباً فما فوقه، وحال الحول عليه، فقد وجبت فيه الزكاة وثبتت لمستحقيها، ووجب على المالك إخراج القدر الواجب على الفور، إذا توفر شرطان اثنان:
الشرط الأول: أن يتمكن من إخراجها: وذلك بأن يكون المال حاضراً عنده. فإن كان غائباً عن المكان الذي هو فيه، بأن كان في بلدة أخرى، أو كان ديناً في ذمة بعض الناس، لم يكلف بإخراج الزكاة عنه فوراً. نعم إن توفر تحت يده المبلغ الذي يجب إخراجه عن المال المشغول بالدين، وجب إخراجه فوراً.
الشرط الثاني: حضور الأصناف المستحقين لها، أو حضور، الإمام أو وكيله الساعي على جمعها، فإن لم يحضر من يستحقها من الأصناف الثمانية المذكورة في القرآن، أو من ينوب عنهم، فله تأخيرها، بل لا بد من تأخيرها حتى يحضر المستحقون.
ما الذي يترتب على التأخير:
إذا توفر هذان الشرطان، وأخَّر المالك مع ذلك إخراج الزكاة، يترتب على ذلك أمران اثنان:(2/53)
الأول: الإثم، إذ هو في حكم من يحبس مال الفقراء عنده دون موجب، وهو حرام. ويستثنى من ذلك ما إذا اخر لانتظار قريب أو جار أو من هو أحوج من الحاضرين، شريطة أن لا يتضرر الحاضرون بهذا التأخير ضرراَ بليغاً، ويزداد جوعهم وعوزهم، فيأثم عند ذلك مطلقاً.
الثاني: الضمان، أي ينتقل حق الفقراء والمستحقين من التعلق بعين المال إلى التعلق بذمة المالك، فتصبح ذمته مشغولة بحقهم حتى وإن تلف جميع ماله، ذلك لأنه قصر بسبب التأخير الذي لم يكن له فيه عذر، فيتحمل مسؤولية تقصيره، حفظاً لمصلحة المستحقين، حتى ولو كان تأخيره لانتظار من ذكر آنفاً.
تأخير الوكيل صرف الزكاة للمستحقين:
مما مر يتبين لنا: أنه إذا وكل المالك غيره بصرف زكاة ماله، ودفع له المقدار الواجب، ووجد المستحقون لهذه الزكاة، فليس له تأخير دفعها إليهم، وإن أخر أثم وكان ضامناً.
وهنا نلفت أنظار المشرفين على الجمعيات الخيرية إلى هذا الأمر ونبين لهم أن إبقاء مبلغ الزكاة - التي تدفع إليهم من المالكين - كرصيد مدور لحساب الجمعية أو في صندوقها، وكذلك إبقاء مبالغ لتدفع للمستحقين خلال العام كأقساط شهرية، أمر غير مشروع، ومخالف لما ثبت في شرع الله تعالى، من وجوب أداء الحق لصاحبه فور استحقاقه، ومباين لحكمة تشريع الزكاة التي تهدف إلى إغناء الفقير ومن على شاكلته، بإعطائه مبلغاً من المال قد يساعده على تهيئة عمل شريف يكون مورد رزق دائم له، وبذلك يمحى اسمه من لائحة الفقراء والمعوزين، ليوضع في قائمة المنفقين والمحسنين المتصدقين. ونحن غير مسؤولين عن تصرف(2/54)
المكلف صاحب الاستحقاق، طالما أنه بالغ عاقل راشد من حيث الظاهر.
وعليه فإننا نهيب بالمشرفين المخلصين على الجمعيات أن لا يقعوا في هذه المخالفة، كي يسلم لهم الأجر عند الله عز وجل، ولا تحبط أعمالهم، أو تذهب جهودهم المبذولة في خدمة ذوي الحاجة سدى.
تعجيل الزكاة قبل وقت وجوبها:
أما إذا أراد المالك أن يستعجل بإخراج زكاته، قبل حلول وقتها، فينظر.
إن أخرجها قبل أن يمتلك نصاباً لم تجزئ، ولم يقع المال المدفوع زكاة، أي فإذا تكامل ماله بعد ذلك نصاباً، وحال عليه الحول، وجب أن يخرج الزكاة عنه، ولم يسد المال الذي كان قد عجل بإخراجه أي مسد عنه.
ذلك لأن سبب وجوب الزكاة- وهو النصاب- مفقود من أصله، فقسناه على التعجيل بأداء الثمن قبل شراء السلعة، فإنها لا تعتبر ثمناً، ولا تغني عن وجوب دفع الثمن بعد عقد الشراء.
أما إن أخرجها بعد أن امتلك النصاب وقبل أن يحول الحول، فهو مجزئ ويقع المال المدفوع زكاة عن ماله الزكوي، أي فلا يجب عليه أن يخرج زكاة ماله هذا بعد تكامل الحول عليه.
ودليل ذلك: ما رواه أبو داود (1624) والترمذي (678) وابن ماجه (1795): أن العباس - رضي الله عنه - سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تعجيل صدقته قبل أن تحل، فرخص له في ذلك.(2/55)
شروط صحة التعجيل:
إذا عجل زكاة ماله سقط عنه الواجب عند حولان الحول إذا وجدت الشروط التالية:
الشرط الأول: بقاء المالك أهلا لوجوب الزكاة عليه إلى آخر الحول، فلو سقطت عنه هذه الأهلية ـ بأن مات مثلاُ قبل مرور الحول ـ لم يعتبر المال المعجل زكاة. وفي هذه الحالة لورثته أن يستردوا ما دفع إن كان بين للقابض أنها زكاة معجلة.
الشرط الثاني: أن يبقى ماله كما هو إلى مرور الحول، فلو تلف ماله أو باعه في غير تجارة، لم يعتبر المعجل زكاة وكان له أن يسترد ما عجله إن بين للقابض أنه زكاة معجلة.
الشرط الثالث: أن يكون القابض للمال المعجل مستحقاً في آخر الحول ـ وإن مرت عليه ظروف خلال الحول جعلته غير مستحق، بسبب طروء غنى بغير ما دفع إليه من زكاة، أو ارتداد أو نحو ذلك ـ إذ العبرة إنما هي بآخر الحول، حيث تجب المبادرة بالإخراج.
وعلى هذا: لو أن القابض للزكاة المعجلة خرج عن الاستحقاق في آخر العام، لم يعتبر المدفوع له زكاة، وعلى المالك أن يدفع الزكاة ثانية. وينظر: فإن كان قال له عند الدفع: هذه زكاتي، كان له أن يسترد منه ما أعطاه. وإن لم يقل له ذلك فليس له الرجوع عليه بشيء.
دفع الزكاة عن طريق الإمام:
تنقسم الأموال الزكوية ـ بالنظر إلى المسألة ـ إلى قسمين أموال باطنة، وأموال ظاهرة.(2/56)
أما الأموال الباطنة: فهي النقدان، وعُروض التجارة، والركاز:
وللمالك أن يخرج زكاة هذه الأموال ويعطيها للمستحقين إذا شاء بنفسه، دون وساطة الإمام، وله أن لا يعطيها له وإن طلبها، بل لا يجوز للإمام أن يطلبها منه، لأنها أموال باطنة هو أدرى بها وبكميتها.
وأما الأموال الظاهرة: فهي الأنعام والزروع والثمار والمعادن، فإن طلب الإمام زكاة هذه الأمور وجب على المالك تسليمها إليه، لظاهر قوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا) التوبة: 103
وإن لم يطلبها الإمام كان المالك بالخيار: بين أن يتولى دفعها للمستحقين بنفسه، وأن يسلمها للإمام. ولكن الأفضل إعطاؤها له، لأنه ـ أي الإمام ـ اعرف بالمستحقين وأقدر على استيعابهم، ولأن توزيعها عن طريق الإمام أضمن لعدم إيذاء المستحقين بالتمنن أو الاستعلاء، إذ علاقة الحاكم بها كعلاقة الأب بأولاده، فلا مجال لشيوع معنى التمنن أو الاستعلاء بينهما، ولأن ذلك خير سبيل لإٍغناء المستحقين بالزكاة، مما يجعلهم يعتمدون على أنفسهم بشق سبل الكدح والارتزاق لأنفسهم.
هذا إذا كان الإمام عادلاً في قسمة الأموال وصرفها إلى المستحقين، فإن كان جائزا، بل غلب على الظن أنه لا يسلمها إلى المستحقين، فإن الأفضل أن يتولى المالك توزيع زكاته بنفسه، إلا أن يطلبها الإمام على وجه الحتم، وكانت أموالاً ظاهرة، فلا سبيل عندئذ للمالك إلى منعها عنه، إن كان جائزاً.
التوكيل بالزكاة:
الأفضل أن يخرج المالك زكاة ماله ويعطيها للمستحقين(2/57)
بنفسه، إلا ما قد علمت من حكم إعطائها للإمام بالتفصيل الذي ذكرناه.
ولكن هل له أن يوكل بها غيره؟
نعم، له أن يفعل ذلك، لأن الزكاة إنما تتعلق بحق مالي، والحقوق المالية يجوز التوكيل في أدائها، كالتوكيل في دفع الديون والأثمان، وإعادة الودائع والعواري إلى أصحابها.
فيجوز للمالك بها أن يوكل كل من يملك أن يفعل ذلك عن نفسه، فيدخل فيه الكافر والصبي المميز، ولكن يشترط إذا وكل بها كافراً وصبياً أن يعين له الشخص المدفوع إليه.
النية عند دفعها:
تجب النية عند إخراج الزكاة تميزاً لها عن الكفارات وبقية الصدقات، وللحديث المشهور: " إنما الأعمال بالنيات " البخاري (1) ومسلم (1907)
فإن تولى إخراج الزكاة بنفسه، استحضر نية ذلك عند الدفع للمستحق، أو عندما يعزل المبلغ الذي يريد إخراجه عن بقية ماله، أي فإن نوى عند العزل أن هذا المبلغ هو زكاة ماله، كان ذلك كافيا، ولم يجب استحضار النية مرة أخرى عند الدفع.
وإن وكل بها، نوى الزكاة عند تسليم المبلغ إلى الوكيل، ولا يجب على الوكيل بعد ذلك أن يستحضر أي نية عند إعطائه للمستحقين، ولكن الأفضل أن ينوي الوكيل أيضاً عند توزيع المبلغ عليهم، فإن لم ينو المالك عند تسليمها للوكيل لا تكفي نية الوكيل عند دفعها للمستحقين. وإن سلمها للإمام أو نائبه، نوى عند دفعها(2/58)
له، وكان ذلك كافياً، لأن الإمام نائب عن المستحقين، فكانت النية عند إعطائها له بمثابة النية عند إعطائها للمستحقين أنفسهم.
فإن لم يستحضر المالك النية عند إعطائها للإمام لم تفد نية الإمام عنه بعد ذلك، ولا يعتبر المال المدفوع له مجزئاً عن الزكاة، وذلك لأن الإمام ـ كما قلنا ـ نائب عن المستحقين، وليس نائباً عن المالك كما هو الشأن في الوكيل، لذلك فلا عبرة بنيته عن المالك. على أن نية الوكيل لا تكفي، إذا لم ينو المالك الموكل كما علمت.(2/59)
مصارف الزكاة
المستحقون للزكاة:
لقد ذكر الله تعالى المستحقين الذين تصرف إليهم الزكاة بقوله:
{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} التوبة/60
وإليك بيان هذه الأصناف:
1ـ الفقراء: جمع فقير، وهو: من لا مال له يقع موقعاً من كفاية مطعماً وملبساً ومسكناً، كمن يحتاج إلى عشرة فلا يقدر إلى على ثلاثة.
2ـ المساكين: جمع مسكين، وهو: من له شيء يسد مسداً من حاجته، ويقع موقعاً من كفايته، ولكنه لا يكفيه. كمن يحتاج إلى عشرة مثلاً فلا يجد إلى ثمانية. ويعطى هؤلاء ومن قبلهم كفاية العمر الغالب على الأصح.
هذا ومما ينبغي الانتباه إليه: أن الحاجة إلى النكاح من تمام الكفاية التي تؤخذ بعين الاعتبار، عند تقدير ما لديه وما يحتاج إليه.(2/60)
3ـ العاملون عليها: هم العمال الموظفون والجباة الذين يستعين بهم الإمام لجمع الزكاة وتوزيعها. وهؤلاء يعطون أجرة مثل عملهم الذي قاموا به، ولا يزاد لهم على ذلك، ولا يجوز إعطاؤهم نسبة معينة مما يجبون، إذ لا دليل على هذا في شرع الله تعالى، وإنما هم أجراء، فيعطون أجرة مثل عملهم لا غير.
4ـ المؤلفة قلوبهم: وهم مسلمون حديثو عهد الإسلام، يتوقع بإعطائهم أن يقوى إسلامهم. أو هم مسلمون ذوو وجاهة ومكانة في قومهم، يتوقع بإعطائهم إسلام أمثالهم. أو هم مسلمون يقومون على الثغور، يحمون المسلمين من هجمات الكفار وشر البغاة، أو يقومون بجبي الزكاة من قوم يتعذر إرسال عمال إليهم.
وإنما يعطى هؤلاء سهماً من الزكاة إذا كان المسلمون في حاجة إليهم، وإلا فلا يعطون شيئاً.
5ـ وفي الرقاب: أي في تحرير رقاب العبيد من الرق، والمراد المكاتبون، أي الذين تعاقدوا مع أسيادهم المالكين لهم على: أن يجلبوا إليهم أقساطاً من المال، فإذا أدوها صاروا أحراراً، فيعطون من الزكاة ما عجزوا عن سداده من هذه الأقساط.
6ـ الغارمون: وهم الذين أثقلتهم الديون وعجزوا عن وفائها. فيعطي هؤلاء ما يقدرون به على وفاء ديونهم التي حلت آجالها مع ما يكفيهم مطعماً وملبساً ومسكناً، شريطة أن يكونوا قد استدانو لأمر مشروع، فإذا كانت استدانتهم لأمر غير مشروع فلا يعطون من الزكاة، إلا إذا كانوا قد تابوا من المعصية، وغلب على الظن صدقهم في توبتهم.
هذا، ويدخل في هذا الصنف: من استدان لدفع فتنة بين(2/61)
متنازعين، فيعطى ما استدانه لهذا الغرض، وإن كان غنياً يملك ما يفي به ذاك الدين من ماله الخاص.
7ـ في سبيل الله تعالى: والمراد هنا الرجال الغراة المتطوعون بالجهاد دفاعاً عن الإسلام، ولا تعويض لهم ولا راتب في مال المسلمين. فيعطى كل من هؤلاء ما يكفيه ويكفي من تجب عليه نفقته إلى أن يرجع، مهما طالت غيبته، وإن كان غنياً. كما يعطى ما يساعده على الجهاد من وسائل نقل وحمل أمتعة وأدوات حرب، وما إلى ذلك.
8ـ ابن السبيل: هو المسافر سفراً مباحاً، أو المريد لسفر مباح، أي لا معصية فيه، ولو لنزهة، فيعطى ما يكفيه لسفره ـ أو في سفره ـ ذهاباً وإياباً إن كان يقصد الرجوع، نفقة ومركباً وحمولة إن عجز عن حمل أمتعته. فإن كان عاصياً بسفره، أو في سفره، لا يعطى من الزكاة إلا إذا تاب وغلب على الظن صدقه في توبته.
فهؤلاء الأصناف الثمانية هم المستحقون للزكاة، وهي محصورة فيهم فلا تصرف إلى غيرهم.
ودل على هذا الحصر قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء ... }
والمراد بالصدقات الزكاة المفروضة، بدليل قوله تعالى في آخر الآية {فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ} وأما غير الزكاة من الصدقات المتطوع بها فيجوز صرفها إلى غيرهم.
كيف توزع الزكاة على مستحقيها؟
تصرف الزكاة إلى من يوجد من هؤلاء الأصناف في محل الزكاة:(2/62)
ـ فإن وجدوا جميعاً وجب الصرف إليهم، ولا يجوز أن يحرم صنف منهم (1).
ـ فإن فقد أحد الأصناف رد نصيبه على باقي الأصناف
ـ وإن فضل نصيب أحد الأصناف عن حاجة أفراده ردت الزيادة على الأصناف الآخرين.
ـ تقسم الزكاة على الأصناف الموجودين بالتساوي وإن تفاوتت حاجاتهم، ماعدا العاملين عليها، فإنهم يعطون أجرهم على ما مر، قبل قسمة الزكاة.
ولا تشترط التسوية بين أفراد الصنف الواحد، بل تجوز المفاضلة بينهم. وإذا وزع المالك بنفسه أو بوكيله وجب أن يعطي ثلاثة من كل صنف على الأقل إن كان عددهم غير محصور، لأن كل صنف ذكر بصيغة الجمع في الآية، وأقل الجمع ثلاثة، فإن كان عددهم محصوراً، وتسهل معرفته وضبطه عادة، وجب أن يستوفي الجميع إذا وفت الزكاة بحاجتهم، فإن ترك واحداً منهم في الحالين ـ مع علمه به ـ ضمن له أقل متمول من مال.
نقل الزكاة من محل وجوبها:
لا يجوز نقل الزكاة إلى غير البلد التي وجبت فيه ـ وهو محل المال ـ طالماً أنه يوجد مستحقوها في ذلك البلد، وإن قربت المسافة، لأن في ذلك إيحاشاً وإيلاماً لمستحقيها في بلد وجوبها، إذ إن أطماعهم تمتد إليها، وآمالهم تتعلق بها. ولقوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ - رضي الله عنه - حين بعثه إلى اليمن: " فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ".
_________
(1) ويجوز عند غير الشافعية صرفها إلى صنف واحد، وإلى شخص واحد من احد الأصناف. وقال مالك: تصرف إلى أمسهم حاجة.(2/63)
فإذا فقد أحد الأصناف في بلد الوجوب، أو زاد نصيب أفرادهم عن حاجتهم، نقل نصيب ذاك الصنف، أو ما فضل عن حاجة أفراده، إلى نفس الصنف من أفراد بلد من بلد الزكاة.
شروط استحقاق الزكاة، ومن لا تدفع إليهم:
يشترط ـ فيمن كان أحد الأصناف الثمانية المذكورة ـ شروط، حتى يستحق الزكاة ويصح دفعها إليه، وإليك هذه الشروط:
1ـ الإسلام: فلا تدفع الزكاة الواجبة لغير مسلم، دل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ... . فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ". البخاري: 1331، مسلم: 19].
فواضح أن الزكاة تؤخذ من أغنياء المسلمين وتعطي لفقرائهم، فكما أنها لا تؤخذ من أغنياء غير المسلمين فلا تعطى لفقراء غيرهم، ويجوز أن يعطى غير المسلمين من الصدقات غير الواجبة.
2ـ عدم القدرة على الكسب: فإذا كان الفقير أو المسكين يقدر على الكسب من عمل يليق به، ويحصل به ما يكفيه، لا يصح دفع الزكاة إليه ولا يجوز له قبولها. لما رواه الترمذي (652) وأبو دواد (1634) من قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مِرَّة سَوِىٍّ " والمرة: القوة والقدرة على الكسب. وفي رواية عند أبي داود (1633): " ولا لذي قوة مكتسب ".
3ـ أن لا تكون نفقته واجبة على المزكي، لأن من كانت نفقته واجبة على المزكي كان مستغنياً بتلك النفقة، وكان دفع(2/64)
المزكي إليه دفعاً إلى نفسه، لأن فائدته تعود إليه، إذ إنه يوفر بذلك النفقة على نفسه أو يخففها.
فلا يجوز دفع الزكاة إلى الأب والأم أو الجد والجدة مهما علوا، لأن نفقتهم واجبة على الفروع، وكذلك لا يجوز دفع الزكاة إلى الأبناء والبنات وفروعهم إن كانوا صغاراً، أو كباراً مجانين أو مرضى مزمنين، لأن نفقة هؤلاء واجبة على آبائهم.
وأيضا: لا تعطى الزكاة للزوجة، لأن نفقتها واجبة على زوجها. هذا ومما ينبغي أن ينتبه إليه: أن هؤلاء لا يعطون من الزكاة بوصف المسكنة أو الفقراء، أما لو كان أحدهم من صنف غير صنف الفقراء والمساكين، كما إذا كان غارماً أو في سبيل الله، فإنه يجوز لمن تجب نفقته عليه أن يعطيه زكاة ماله لذاك الوصف.
إعطاء الزكاة لمن يكتفي بنفقة غيره عليه:
علمنا أن من وجبت عليه زكاة لا يصح أن يعطيها إلى من في نفقته ـ من زوجة، وأصل، وفرع ـ إن كان فقيراً أو مسكيناً. وهل يجوز لغير من يعوله أن يعطيه زكاة ماله؟
ـ فإن كان مكتفياً بنفقة من تجب نفقته عليه فلا يجزئ دفعها إليه، لأنه مستغنٍ بنفقة غيره عليه.
ـ وإن كان لا يكتفي بنفقةٍ جاز إعطاؤها إليه، لأنه في هذه الحالة مسكين أو فقير.
إعطاء الزوجة زكاة مالها لزوجها:
يسن للزوجة إذا كانت غنية، ووجبت في مالها الزكاة، أن تعطي زكاة مالها لزوجها إن كان فقيراً، وكذلك يستحب لها أن(2/65)
تنفقها على أولادها إن كانوا كذلك، لأن نفقة الزوج والأولاد غير واجبة على الأم والزوجة.
فقد روى البخاري (1397) ومسلم (1000) أن زينب امرأة عبدالله بن مسعود رضي الله عنهما سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيجزئ عني أن أنفق على زوجي وأيتام لي في حجري؟ فقال: لمن بلغه سؤالها: " نعم، لها أجران: أجر القرابة، وأجر الصدقة ".
وروى البخاري (1398) ومسلم (1001) عن أم سلمة رضي الله عنهما قالت: قلت يا رسول الله، إلي أجر أن أنفق على بني أبي سلمة، إنما هم بني؟ فقال: " أنفقي عليهم، فلك أجر ما أنفقت عليهم " وقد ذكر البخاري رحمه الله تعالى هاذين الحديثين تحت عنوان: الزكاة على الزوج والأيتام في الحجر.
الزكاة للأقارب الذي لا تجب نفقتهم:
وإذا كان للمالك الذي وجبت في ماله الزكاة أقارب لا تجب عليه نفقتهم، كالأخوة والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات وأبنائهم وغيرهم، وكانوا فقراء أو مساكين، أو غيرهم من أصناف المستحقين للزكاة، جاز صرف الزكاة إليهم، وكانوا هم أولى من غيرهم. ومثل من ذكر في جواز الزكاة إليهم: أبناؤه الكبار القادرون على الكسب ولا كسب يكفيهم.
روي الترمذي (658) والنسائي (5/ 92) وابن ماجه (1844) واللفظ له عن سلمان بن عامر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذى القرابة اثنتان: صدقة وصلة".
4ـ أن يكون غير هاشمي ولا مطلبي: من ثبت نسبه إلى بني هاشم أو بني المطلب فلا يعطى من الزكاة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن هذه(2/66)
الصدقات إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد) [مسلم: 1072].
وروي البخاري (1420) ومسلم (1069) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أخذ الحسن بن على تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " كخ كخ ـ ليطرحها ـ ثم قال: أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة ".
والمراد بآل محمد ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ بنو هاشم، وبنو المطلب.
رأي واجتهاد:
والذي نراه في هذه الأيام أن يعطى هؤلاء من الزكاة إن كانوا من أصناف المستحقين، وذلك أن في عدم إعطائهم تضييعاً لهم، طالماً أنهم لا يعطون ما جعله شرع الله تعالى: لهم من خمس الغنيمة مقابل منعهم من الزكاة. قال تعالى
{َاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} الأنفال: 41
وذوو القربى هم بنو هاشم وبنو المطلب، فقد روى البخاري (2971) عن جبير بن مطعم - رضي الله عنه - قال: مشيت أنا وعثمان بن عفان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلنا: يا رسول الله، أعطيت بني المطلب وتركتنا، ونحن وهم منك بمنزلة واحدة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد ".
[بمنزلة واحدة: من حيث القرابة، فعثمان من بني عبد شمس، وجبير من بني نوفل، وهما والمطلب وهاشم أبناء عبد مناف شيء واحد: من حيث المنزلة في الإسلام، لأنهم ناصروه - صلى الله عليه وسلم - جيمعاً قبل الإسلام وبعده].(2/67)
زكاة الدَّيْن
وجوب الزكاة فيه:
من كان له ديون تبلغ نصاباً، وحدها أو مع ما عنده، وجبت فيها الزكاة إذا حال عليها الحول، كما تجب على ما في يده من المال, وذلك لأنه مال بلغ نصاباً وحال عليه الحول، فوجبت فيه الزكاة. وكونه ليس في يده لا يمنع من وجوبها فيه، كالتجارة الغذائية والوديعة، فإن في كل منهما زكاة وإن كانت ليست في يده.
متى تخرج زكاة الدين:
أ-إذا كان الدين حالاً، وكان الدائن قادراً على أخذه من المدين، بأن كان المدين مليئاً يجد ما يفي به دينه، وجب على الدائن إخراج زكاته فور وجوبها وإن لم يقبضه، لأنه في حكم المال الذي تحت يده، فهو كالوديعة في يد المدين، يقدر على أخذه والتصرف فيه.
ب- إن كان الدين حالاً، وكان الدائن غير قادر على أخذه لعسر المدين أو إنكاره له ولا بنية للدائن عليه، فلا يجب على الدائن إخراج زكاته في الحال، لأنه غير قادر على أخذه والتصرف(2/68)
فيه. وإنما يحسب ويحفظ فترة بقائه في ذمة المدين، فإذا قبضه زكاه عما مضى عليه من السنين.
لأن زكاته كل سنة لزمته وثبتت في ذمته، كمال الغائب عنه، فوجب عليه وفاؤها حين قبضه له.
ج-كذلك إذا كان الدين مؤجلاً، فإنه لا يجب عليه إخراج الزكاة حتى يحل الأجل، فإذا حل الأجل وقبضه ـ أو لم يقبضه وكان قادراً على قبضه ـ زكاه عما مضى من السنين. وإن حل الأجل ولم يقبضه وكان غير قادر على قبضه انتظر، فإذا قبضه زكاه عما مضى من السنين.
وجوب الزكاة في مال من عليه دين:
من ملك نصاباً من الأموال الزكوية التي مر ذكرها، وحال عليه الحول في ملكه، وجبت فيه الزكاة، ولزمه إخراجها على ما مر، وإن كانت عليه ديون تستغرق ما لديه من مال أو تنقصه عن النصاب. وكذلك الحال بالنسبة لمن ملك عروضاَ للتجارة، وبلغت نصاباً بعد حول من ملكيتها، فإن الدين الذي عليه لا يمنع وجوب الزكاة في المال الذي تحت يديه، من عروض تجارة وغيرها. وذلك لأن الدين يتعلق بالذمة، والزكاة تتعلق بالمال الذي تحت يده وتجب فيه، وإذا وجبت الزكاة في المال أصبحت ملكاً لمن وجبت له، وهم المستحقون لها، وإن بقيت في يد صاحب المال، فوجب أداؤها إليهم.
ويؤيد هذا: ما رواه مالك في الموطأ (1/ 253) أن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - كان يقول: " هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دين فليؤد دينه، حتى تحصل أموالكم، فتؤدون منه الزكاة ".(2/69)
فقد نبه - رضي الله عنه - الناس حتى يؤدوا ما عليهم من ديون قبل أن يمضي الشهر الذي يحول فيه حول الزكاة، وتثبت الزكاة في أموالهم بمضيه، ولا يلتفت إلى ما عليهم من ديون. [انظر الأم للشافعي: 42 ـ 43] (1).
_________
(1) لا مانع من أن نشير هنا إلى أن مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى: أن من عليه دين لا تجب عليه الزكاة إلا إذا كان يملك ما يزيد عن دينه نصاباً أو أكثر، فإنه يزكي الزائد عن دينه لا غير. وأنت ترى أن الأورع في الدين والأحوط لمصلحة الفقير هو الأخذ بمذهب الشافعي رحمة الله تعالى على الجميع(2/70)
الصيام
أحكامه الفقهية وأدلته وأسراره(2/71)
الصيام
تعريفه، وتشريعه، وأسراره
تعريفه:
الصيام لغة: الإمساك عن الشيء، كلاماً كان أو طعاماً. ودليل ذلك قوله تعالى، حكاية عن مريم عليها السلام: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً} مريم: 26: أي إمساكاً وسكوتاً عن الكلام.
والصيام شرعاً: إمساك عن المفطرات، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس مع النية.
تاريخ تشريع الصيام:
فرض صيام شهر رمضان في شعبان من السنة الثانية للهجرة. وقد كان الصيام قبل ذلك معروفاً عند الأمم السابقة، وعند أهل الكتاب الذي عاصروا النبي - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} البقرة: 183.
إلا أن وجوب صوم رمضان لم يشرع من قبل، فهذه الأمة تلتقي مع الأمم السابقة في أصل مشروعية الصوم، وتختص أمة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - بفرضية شهر رمضان بالذات.(2/73)
دليل مشروعية صوم شهر رمضان:
الأصل في فرضية صوم شهر رمضان قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} البقرة: 185
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان " رواه البخاري (8) ومسلم (16) وغيرهما.
وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي الذي سأله: أخبرني ماذا فرض علي الله من الصوم؟ فقال: " صيام رمضان " رواه البخاري (1792) ومسلم (11).
حكم تارك صيام شهر رمضان من غير عذر:
لما كان صيام شهر رمضان ركناً من أركان الإسلام، ومن الفرائض المعلومة من الدين بالضرورة، كما جاحد وجوبه كافرا، أي يعامل معاملة المرتد، فيستتاب، فإن تاب قبل منه، وإلا قتل حداً. وذلك إن لم يكن قريب العهد بالإسلام، أو نشأ بعيدا عن العمران ـ كما يقول العلماء ـ أي بعيداً عن العلماء. أما من ترك صومه بغير عذر، وكان غير جاحد لوجوبه، وذلك كأن قال: الصوم واجب علي، ولكني لا أصوم فإنه يكون فاسقاً، وليس بكافر، ووجب على حاكم المسلمين حبسه ومنعه من الطعام والشراب نهاراً ليحصل له الصوم بذلك، ولو صورة.
من حكم الصيام وأسراره وفوائده:
ينبغي للمسلم أن يعلم قبل كل شيء: أن صيام شهر رمضان(2/74)
عبادة فرضها الله تعالى. ومعنى كونها عبادة: أن يقوم المسلم بأدائها استجابة لأمر الله تعالى، وقياماً بحق العبودية له، بقطع النظر عن أي نتيجة يمكن أن تنتج عن عبادة الصوم. فإذا فعل المسلم ذلك، فلا مانع أن يتطلع بعدئذ إلى الحكم والأسرار الإلهية الكامنة في تلك العبارة، من صيام وغيره، ومما لا شك فيه أن أحكام الله تعالى كلها قائمة على حكم وأسرار وفوائد للعباد، ولكن لا يشترط أن يكون العباد على علم بها.
ومما لا شك فيه أيضاً أن للصوم حكماً وفوائد كثيرة قد يطلع العباد على بعضها. ويبقى الكثير منها خافياً عليهم.
ومن هذه الحكم والفوائد التي يمكن أن يستشفها المسلم ويلمها في الصوم ما يلي:
1ـ إن الصيام من شأنه أن يوقظ قلب المؤمن لمراقبة الله عز وجل، ذلك لأن الصائم ما إن يستدبر جزءاً من نهاره حتى يحس بالجوع والعطش، وتهفو نفسه إلى الطعام والشراب، لكن شعوره بأنه صائم يحول دون تحقيقه لرغبات نفسه، تحقيقاً لأمر الله عز وجل، ومن خلال هذا التدافع يستيقظ القلب، وينمو فيه شعور المراقبة لله تعالى، ويظل على ذكر لربوبيته وعظيم سلطانه، كما يظل متنبهاً إلى أنه عبد خاضع لحكم الله تعالة، ومنقاد لإرادته.
2ـ إن شهر رمضان شهر قدسي بين أشهر السنة كلها، يريد الله عز وجل من عباده أن يملؤوه بالطاعات والقربات، ويحققوا فيه أسمى معاني عبوديتهم لله سبحانه وتعالى، وهيهات أن يتحقق ذلك أمام موائد الطعام، وفي مجالس الشراب، وبعد امتلاء المعدة، وتصاعد أبخرة الطعام إلى الفكر والدماغ، فكان في(2/75)
شريعة صيام هذا الشهر أيسر سبيل للقيام بحقه، وأداء واجب العبودية فيه.
3ـ إن استمرار حالة الشبع في حياة المسلم من شأنه أن يغمر مشاعره بأسباب القسوة، وينمي في نفسه عوامل الطغيان، وكلاهما مما يتنافي مع شأن المسلم، فكان في شريعة الصيام ما يهذب نفس المسلم، ويرهف مشاعره.
4ـ إن من أهم المبادئ التي ينهض عليها المجتمع الإسلامي تراحم المسلمين وتعاطفهم، وهيهات أن يرحم الغني الفقير رحمة صادقة من غير أن يتخلله شعور بآلام الفقر وشدته، ومرارة الجوع وضراوته. وشهر الصيام خير ما يكسب الغني شعور الفقير، ويجعله يعيش معه في آلامه وحرمانه، ومن ثم كان الصوم خير ما يثير في نفس الأغنياء دوافع العطف والرحمة والمواساة.(2/76)
ثبوت شهر رمضان
يثبت دخول شهر رمضان بأحد أمرين:
الأول: رؤية الهلال، ليلة الثلاثين من شعبان، وذلك بأن يشهد أمام القاضي شاهد عدل أنه قد رأى الهلال.
الثاني: إكمال شعبان ثلاثين يوماً: وذلك فيما إذا تعسرت رؤية الهلال بسبب غيوم، أو إذا لم يتقدم شاهد عدل يشهد بأنه قد رأى الهلال، فيتمم شهر شعبان ثلاثين يوماً، إذ هو الأصل ما لم يعارضه شيء.
ودليل هذين الأمرين: قوله - صلى الله عليه وسلم -: " صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً " رواه البخاري (1810) ومسلم (1080)
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: جاء أعرابي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إني رأيت هلال رمضان. فقال "أتشهد أن لا إله إلا الله " قال: نعم. قال: " أتشهد أن محمداً رسول الله " قال: نعم. قال: " يا بلال، أذن في الناس، فليصوموا غداً " صححه ابن حبان (موارد الظمآن 870) والحاكم (1/ 424)
هذا، وإذا رؤي الهلال ببلد لزم الصوم أهل البلاد القريبة من(2/77)
بلد الرؤية، دون أهل البلاد البعيدة، لأن البلاد القريبة ـ كدمشق وحمص وحلب ـ في حكم البلد الواحد، بخلاف البلاد البعيدة كدمشق، والقاهرة، ومكة
ويعتبر البعد باختلاف المطالع.
ودليل ما سبق:
ما رواه مسلم (1087) عن كريب قال: استهل عليَّ رمضان وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر، فسألني ابن عباس - رضي الله عنه -: متى رأيتم الهلال؟
فقلت: رأيناه ليلة الجمعة. قال: أنت رأيته؟ قلت: نعم. ورآه الناس، وصاموا وصام معاوية، فقال: كلنا رأيناه ليلة السبت. فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين، أو نراه. فقلت: أو لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ قال: لا، هكذا أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وعليه قال العلماء: إذا لم يجب الصوم على أهل بلد بعيد فسافر إليه شخص من بلد الرؤية فإنه يوافقهم في الصوم آخراً، وإن كان قد أتم ثلاثين يوماً، لأنه بالانتقال إلى بلدهم صار واحداً منهم، فيلزمه حكمهم، ومن سافر من البلد الذي لم ير فيه الهلال إلى بلد الرؤية أفطر معهم، سواء أصام ثمانية وعشرين يوماً، وذلك بأن كان رمضان عندهم ناقصاً فأفطر معهم في التاسع والعشرين، أم صام تسعة وعشرين، وذلك بأن كان رمضان عندهم تاماً لكنه يقضي يوماً إن صام ثمانية وعشرين، لأن الشهر لا يكون كذلك.
ومن أصبح في بلد معيداً، فسافر إلى بلد بعيد أهله صيام وجب عليه أن يمسك بقية اليوم موافقة لهم.(2/78)
شروط وجوب الصوم
وشروط صحته
يشترط لوجوب صيام رمضان أن تتوفر الأمور التالية:
1ـ الإسلام:
فلا يجب الصوم على الكافر، بمعنى أنه لا يطالب في دار الدنيا بالصيام، لأنه فرع عن دخوله في الإسلام، وما دام غير داخل في الإسلام لا معنى لصيامه، ولا معنى لمطالبته بالصوم. أما في الآخرة فالكافر يعاقب على كفره، وعلى تركه لفروع الإسلام أيضاً
2ـ التكليف:
ويقصد بالتكليف أن يكون المسلم بالغاً عاقلاً، فإن فقد أحد هذين الوصفين سقطت صفة التكليف عنه، وإذا سقطت صفة التكليف عنه لم يطالب بشيء من الوظائف الدينية.
ودليل ذلك: حديث علي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل " رواه أبوداود (4403) وغيره.(2/79)
3ـ الخلو عن الأعذار المانعة من الصوم، أو المبيحة للفطر:
أما الأعذار المانعة فهي:
أـ التلبس بالحيض، أو النفاس جزءاً من أجزاء النهار.
ب ـ الإغماء أو الجنون المطبق بياض اليوم كله، فإن أفاق ولو لحظة من النهار سقط العذر، ووجب إمساك بقية اليوم.
وأما الأعذار المبيحة للإفطار فهي:
1ـ المرض الذي يسبب لصاحبه ضرراَ شديداً، أو ألماً أو انزعاجاً شديدين. أما إن اشتد المرض أو الألم بحيث خشي معه على نفسه الهلاك وجب الفطر عندئذ.
2ـ السفر الطويل الذي لا يقل عن 83 كم بشرط أن يكون سفراً مباحاً، وبشرط أن يستغرق السفر سائر اليوم.
أما إن أصبح صائماً وهو مقيم، ثم أحدث سفراً أثناء النهار لم يجز الإفطار.
ودليل هذين العذرين قوله تعالى: {وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} البقرة: 185.
3ـ العجز عن الصيام: فلا يجب الصوم على من لا يطيقه لكبر، أو مرض لا يرجى برؤه، لأن الصوم إنما يجب على من يقدر عليه.
ودليل ذلك قوله تعالى {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} البقرة: 184.
وقرئ: " يطيقونه " أي يكلفونه فلا يطيقونه.
قال ابن عباس - رضي الله عنه -: هو الشيخ الكبير والمرأة(2/80)
الكبيرة، لا يستطيعان أن يصوما، فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً رواه البخاري (4235)
شروط صحة الصوم
يشترط لصحة الصوم الشروط التالية:
1ـ الإسلام، فلا يصح صوم الكافر بحال.
2ـ العقل: أي التمييز، فلا يصح صوم المجنون والطفل غير المميز، لفقدان النية، ويصح صوم الصبي المميز، ويؤمر به إذا أطاق الصوم متى بلغ السابعة من العمر ويضرب على تركه إذا بلغ العشر، كالصلاة.
3ـ الخلو من الأعذار المانعة من الصوم، وهي التلبس بحيض أو نفاس، والإغماء أو الجنون المطبقين بياض اليوم كله.(2/81)
أركان الصوم
يتكون الصيام من تحقيق ركنين أساسين، هما:
1ـ نية الصوم.
2ـ الإمساك عن المفطرات من الفجر إلى الغروب.
أولاً ـ النية:
وهي قصد الصيام، ومحلها القلب، ولا تكفي باللسان، ولا يشترط التلفظ بها، ودليل وجوب النية قوله - صلى الله عليه وسلم - " إنما الأعمال بالنيات " رواه البخاري (1) ومسلم (1907)
فإن كانت النية لصوم رمضان اشترط فيها تحقق الأمور التالية:
1ـ التبييت:
وهو أن يتوافر لديه القصد في الليل: أي قبل طلوع الفجر، فإن لم يقصد إلى الصيام إلا بعد طلوع الفجر بطلت النية. وبطل الصوم.
ودليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: {من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له} رواه الدارقطني (2/ 172) وقال: رواته ثقات. ورواه البيهقي (4/ 202)(2/82)
2ـ التعيين:
وذلك بأن يعين نوع الصوم، فيعزم في قلبه على صيام غد عن رمضان، فلو قصد في نفسه مطلق الصوم لم تصح نيته أيضا. لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث: إنما الأعمال بالنيات السابق:
{وإنما لكل امرئ ما نوى} أي ينصرف فعله إلى النوع الذي قصده بالفعل.
3ـ التكرار:
أي أن ينوي كل ليلة قبل الفجر عن صيام اليوم التالي، فلا تغني نية واحدة عن الشهر كله، لأن صيام شهر رمضان ليس عبادة واحدة، بل هي عبادات متكررة، وكل عبادة لابد أن تنفرد بنية مستقلة.
أما صوم النافلة فلا يشترط في نيتها تبييت ولا تعيين، فيصبح بنية قبل الزوال، ويصح بنية مطلقة.
ودليل ذلك حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها يوماً: " هل عندكم من غداء؟ قالت لا. قال: فإني إذاً أصوم ". رواه الدارقطني.
ثانياً ـ الإمساك عن المفطرات:
والمفطرات كل من الأمور التالية:
1ـ الأكل والشرب:
إذا كان ذلك عمداً، مهما كان المأكول أو المشروب قليلاً، فإن نسي أنه صائم، وأكل أو شرب لم يفطر مهما كثر الطعام، أو الشراب.
ودليل ذلك حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول(2/83)
الله - صلى الله عليه وسلم -: " من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه " رواه مسلم (1155) والبخاري (1813)
2ـ وصول عين إلى الجوف من منفذ مفتوح:
والمقصود بالعين: أي شيء تراه العين. والجوف: هو الدماغ أو ما وراء الحلق إلى المعدة والأمعاء.
والمنفذ المفتوح: هو الفم والأذن والقبل والدبر من الذكر والأنثى.
فالقطرة من الأذن مفطرة، لأنها منفذ مفتوح.
والقطرة في العين مفطرة، لأنه منفذ غير مفتوح.
والحقنة الشرجية مفطرة، لأن الشرج منفذ مفتوح.
والحقنة الوردية لا تفطر، لأن الوريد غير مفتوح. وهكذا.
وهذا كله أيضا بشرط التعمد، فإن فعل شيئاً من ذلك ناسياً لم يضر قياساً على الطعام والشراب.
ولو وصل جوفه ذباب أو بعوضة، أو غبار الطريق لم يفطر أيضاً، لما في الاحتراز عن ذلك من المشقة الشديدة.
ولو ابتلع ريقه لم يفطر لعسر التحرز عنه.
ولو ابتلع ريقه متنجساً ـ كمن دميت لثته، ولم يغسل فمه، وإن ابيض ريقه ـ افطر.
ولو تمضمض أو استنشق فسبق ماء المضمضة أو الاستنشاق إلى جوفه، فإنه لا يفطر إن لم يكن قد بالغ في ذلك أثناء الوضوء، فإن كان قد بالغ في ذلك أفطر، لأنه فعل ما هو منهي عنه أثناء الصوم.
ولو بقي طعام بين أسنانه فجرى به ريقه من غير قصد لم يفطر إن عجز عن تمييزه ومجه، لأنه معذور فيه وغير مقصر، فإن لم يعجز أفطر لتقصيره.(2/84)
ولو أكره حتى أكل أو شرب لم يفطر أيضاَ، لأن حكم اختياره ساقط.
3ـ القيء المتعمد فيه:
فهو مفطر، وإن تأكد الصائم أن شيئا لم يعد ثانية إلى جوفه، ولكن إذا غلبه القئ لم يضر، ولو علم أن بعضاً مما خرج قد عاد إلى جوفه بدون قصد منه. ودليل ذلك ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من ذرعه قئ ـ وهو صائم فليس عليه قضاء، وإن استقاء فليقض" أخرجه أبو داود (2380) والترمذي (720) وغيرهما.
ومعنى ذرعه: غلبه.
4ـ الوطء عمداً:
ولو من بغير إنزال. ودليل ذلك قوله تعالى: (وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) البقرة: 187.
والمراد بالخيط الأبيض: ضوء النهار. والخيط الأسود: ظلمة الليل. والفجر: ضوء يطلع معترضاَ في الأفق ينتهي بطلوعه الليل ويبدء النهار.
ومعنى تباشروهن: تجامعوهن.
وأنتم عاكفون: أي في حال اعتكاف.
أما لو وطئ ناسياً فإنه لا يفطر على الأكل والشرب ناسياً.(2/85)
5ـ الاستمناء:
وهو استخراج المني بمباشرة تقبيل ونحوه، أو بواسطة اليد، فإن تعمد ذلك الصائم أفطر. أما إن غلب على أمره فلا يفطر.
هذا وتكره القبلة في رمضان كراهة تحريم لمن حركت شهوته، رجلا كان أو امرأة، لأن في ذلك تعريضاَ لإفساد الصوم.
أما من لم تحرك شهوته، فالأولى له تركها حسماً للباب.
روى مسلم (1106) عن عائشة رضي الله عنهما قالت: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلني وهو صائم. وأيكم يملك إربه كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يملك إربه ".
قال العلماء: ومعنى كلام عائشة رضي الله عنهما: أنه ينبغي لكم الاحتراز عن القبلة، ولا تتوهموا من أنفسكم أنكم مثل النبي - صلى الله عليه وسلم - في استباحتها، لأنه يملك نفسه، ويأمن الوقوع في قبلة يتولد منها إنزال أو شهوة، أو هيجان نفس ونحو ذلك، وأنتم لا تأمنون ذلك.
6ـ الحيض والنفاس:
فإن كلا منهما عذر يمنع من صحة الصوم، فإذا طرأ على المرأة الصائمة حيض أو نفاس في جزء من النهار بطل صيامها، ووجب عليها قضاء ذلك اليوم. روى البخاري (298) ومسلم (80) عن أبي سعيد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في المرأة، وقد سئل عن نقصان دينها: " أليس إذا حاضت لم تصل، ولم تصم؟ ".
7ـ الجنون والردة:
وكلاهما مانع من صحة الصوم، لخروج من قام به ذلك عن أهليه العبادة.(2/86)
وهكذا يجب على الصائم الإمساك عن هذه المفطرات ليصح صومه، بدءاً من أول طلوع الفجر إلى تحقق غروب الشمس، فإن باشر الصائم شيئاً من هذه المفطرات ظانا أن الفجر لم يطلع بعد، فتبين خطؤه بطل صومه، وامسك النهار حرمة للشهر، وقضى بدلاً عنه.
وكذلك إذا أفطر في آخر النهار ظاناً غروب الشمس، ثم تبين أنها لم تكن قد غابت بعد بطل صيامه، ووجب عليه القضاء.(2/87)
آداب الصيام ومكروهاته
آداب الصيام
للصيام آداب كثيرة نوجزها فيما يلي
1ـ تعجيل الفطر:
ويكون ذلك إثر تحقق غروب الشمس. ودليل ذلك ما رواه البخاري (1856) ومسلم (1098) عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر ". والأفضل أن يفطر على رطب أو تمر، فإن لم يجد فعلى ماء.
روي الترمذي (696) وأبو داود (2356) أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " كان يفطر قبل أن يصلي على رطبات، فإن لم يكن فعلى تمرات، فإن لم يكن حسا حسوات من ماء، فإنه طهور ".
2ـ السَحور:
والسَحور يفتح السين ما يؤكل في السحر، وبضم السين: الأكل ودليل استحبابه ما رواه البخاري (823) ومسلم (1095) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " تسحروا فإن في السحور بركة " والحكمة من استحباب السحور التقوي على الصوم.(2/88)
روي الحاكم في مستدركه (1/ 425) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " واستعينوا بطعام السحر على صيام النهار "
ويدخل وقت السحور بنصف الليل. ويحصل فضل السحور بكثير المأكول، وقليله، وبالماء. روى ابن حبان في صحيحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " تسحروا ولو بجرعة ماء " (موارد الظمآن: 884).
3ـ تأخير السحور:
وذلك بحيث ينتهي من الطعام والشراب قبيل طلوع الفجر بقليل. ودليل ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده (5/ 147) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الإفطار وأخروا السحور ".
وروى البخاري (556) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وزيد بن ثابت تسحراً، فلما فرغا من سحورهما قام نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى قلنا لأنس: كم كان بين فراغهما من سحورهما ودخولهما في الصلاة؟ قال: قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية.
4ـ ترك الهجر من الكلام:
كالشتم والكذب، والغيبة والنميمة، وصون النفس عن الشهوات: كالنظر إلى النساء، وسماع الغناء روى البخاري (1804) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه " واعلم أن الشتم والكذب والغيبة والنميمة ونحو ذلك أمور محرمة بحد ذاتها، وإنما الجديد في الأمر بالنسبة للصائم أنها ـ علاوة على كونها إثماً ـ تحبط أجر صيام، وإن صح معها الصوم، وتم الواجب. ولذلك تعد هذه الأمور من آداب الصيام وسنته.(2/89)
5ـ الاغتسال عن الجنابة قبل الفجر:
ليكون على طهر من أول الصوم ـ ومعنى ذلك أن الجنابة لا تنافي الصيام، ولكن الأفضل إزالتها قبل الفجر.
ودليل ذلك ما رواه البخاري (1825، 1830): أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصبح جنباً من جماع غير احتلام، ثم يغتسل ويصوم.
وكذلك يستحب الغسل عن الحيض والنفاس قبل الفجر إذا تم الطهر ونقطع الدم قبل ذلك.
6ـ ترك الحجامة والفصد، ونحوهما:
لأن ذلك يضعف الصائم، وترك ذوق الطعام وعلكه، خوفاً من وصول شيء منه إلى جوفه، لأن وصوله إلى الجوف يفطر.
7ـ أن يقول عند فطره:
(اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت، ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله).
8ـ أن يفطر الصائمين:
وذلك بأن يطعمهم، فإن عجز عن إطعامهم فطرهم على تمرة أو شربة ماء.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من فطر صائماً كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئاً " رواه الترمذي (807) وصححه.
9ـ كثرة الصدقة:
وتلاوة القرآن ومدارسته. والاعتكاف في المسجد، لاسيما في العشر الأخير من رمضان.
عن أنس رضي الله عنه قيل: يا رسول الله فأي الصدقة أفضل؟ قال: صدقة في رمضان " رواه الترمذي (663) وروي البخاري (1803) ومسلم (2308) أن جبريل كان(2/90)
يلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - كل سنة في رمضان حتى ينسلخ فيعرض عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن. وسنتحدث عن الاعتكاف في آخر باب الصوم.
مكروهات الصيام:
مكروهات الصيام تتمثل في مخالفة الآداب المذكورة، فبعضها يدخل في المكروه التنزيهي: كتأخير الإفطار، وتعجيل السحور، وبعضها يدخل في المحرمات، كالغيبة والنميمة، وقول الزور.(2/91)
قضاء رمضان
والفدية والكفارة
1ـ المسافر والمريض:
من فاته شيء من رمضان ـ لسفر أو مرض ـ وجب عليه قضاؤه قبل حلول شهر رمضان من العام الذي يليه، فإن لم يقض تساهلاً حتى دخل رمضان آخر أثم، ولزمه مع القضاء فدية، وهي أن يطعم عن كل يوم مد، ومن غالب قوت البلد، يتصدق به على الفقراء، ويتكرر بتكرر السنين. والمد يساوي ملء حفنة، وبالوزن: رطل وثلث بالرطل البغدادي، وهو ما يساوي 600 غراماً تقريباً.
أما إن استمر عذره: كأن استمر مرضه حتى دخل عليه رمضان آخر فلا يجب عليه إلا القضاء، ولا فدية بهذا التأخير.
فإن مات ولم يقض فلا يخلو: إما أن يكون قد مات قبل أن يتمكن من القضاء، أو مات بعد التمكن، ولكنه لم يقض تقصيراً.
فإن مات قبل التمكن من القضاء فلا إثم عليه، ولا تدارك له، لعدم تقصيره.
ومن مات بعد التمكن من القضاء صام عنه وليه ـ ندباً ـ الأيام الباقات في ذمته.
والمقصود بالولي هنا أي قريب من أقاربه. ودليل ذلك ما رواه(2/92)
البخاري (1851) ومسلم (1147) عن عائشة رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من مات وعليه صيام صام عنه وليه ".
وروى البخاري (1852) أيضاً، ومسلم (1148) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، أفأقضيه؟ قال: " نعم فدين الله أحق أن يقضى ".
هذا ويصح صوم الأجنبي عنه إذا استأذن بذلك أحد أقاربه، فإن صام بغير إذن، ولا وصية من الميت لم يصح بدلاً عنه.
فإن لم يصم عنه أحد أطعم عنه لكل يوم مد، ويخرج هذا من التركة وجوباً كالديون، فإن لم يكن له مال جاز الإخراج عنه، وتبرأ ذمته.
روى الترمذي (817) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كل يوم مسكيناً)
وروى أبو داود (2401) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إذا مرض الرجل في رمضان، ثم مات ولم يصم أطعم عنه).
2ـ الكبير العاجز، والمريض الذي لا يرجى برؤه:
إذا اضطر الشيخ المسن إلى الفطر، وجب عليه أن يتصدق عن كل يوم بمد من غالب قوت البلد، ولا يجب عليه، ولا على أحد من أوليائه غير ذلك.
روى البخاري (4235) عن عطاء: سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقرأ
{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} البقرة 184. قال ابن عباس: ليست بمنسوخة، هو الشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة، لا يستطيعان أن يصوما، فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً.(2/93)
هذا، ومما يجب أن يعلم أن المريض الذي لا يرجى برؤه حكمه حكم المسن الذي لا يقدر على الصوم، فيفطر، ويتصدق عن كل يوم بمد من غالب قوت البلد.
3ـ الحامل والمرضع:
إذا أفطرت الحامل والمرضع، فهي إما أن تفطر خوفاً على نفسها، أو خوفاً على طفلها.
فإن أفطرت خوفاً من حصول ضرر بالصوم على نفسها وجب عليها القضاء فقط قبل حلول شهر رمضان آخر.
روى الترمذي (715) وأبو داود (2408) وغيرهما عن أنس الكعبي - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله تعالى وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة، وعن الحامل أو المرضع الصوم ".
أي خفف بتقصير الصلاة، ورخص في الفطر مع القضاء.
وإن أفطرت خوفاً على طفلها، وذلك بأن تخاف الحامل من إسقاطه إن صامت، أو تخاف المرضع أن يقل لبنها فيهلك الولد إن صامت، وجب عليها والحالة هذه القضاء والتصدق بمد من غالب قوت البلد عن كل يوم أفطرته.
ومثل هذه الصورة أن يفطر الصائم لإنقاذ مشرف على الهلاك، فيجب عليه مع القضاء التصدق بمد طعام.
روى أبو داود (2318) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) البقرة 184.
قال كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة، وهما يطيقان الصوم أن يفطرا ويطعماً كل يوم مسكيناً، والحبلى والمرضع إذا خافتا ـ يعني على أولادهما ـ أفطرتا وأطعمتا).(2/94)
كفارة الإفطار في رمضان
موجب الكفارة:
هو إفساد صوم يوم من أيام رمضان بجماع بشرط أن يكون المجامع ذاكراً لصومه، عالماً بالحرمة، غير مترخص بالسفر.
فمن فعل ذلك ناسياً للصوم، أو جاهلاً بالحرمة، أو أفسد به صوماً غير صوم رمضان، أو أفطر معتمداً ولكن بغير الجماع، أو كان مسافراً سفراً يخوله الإفطار فجامع، فلا كفارة عليه، وإنما عليه القضاء فقط.
من تجب عليه الكفارة:
إنما تجب الكفارة على الزوج المجامع، ولا تجب على الزوجة، أو المرأة الموطوءة وإن كانت صائمة، لأن جناية الواطئ أغلظ فناسب أن يكون هو المكلف بالكفارة.
ما هي الكفارة؟
الكفارة التي تجب بإفساد الصوم هي عتق رقبة مؤمنة، أي نفس رقيقة ذكراً كانت أم أنثى، فإن لم يجد، أو لم يستطيع، فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع أيضا فإطعام ستين مسكيناً لكل مسكين مد من غالب قوت البلد. فإن عجز عن الكل ثبتت الكفارة في ذمته حتى يقدر على خصلة منها.
ودليل ذلك ما رواه البخاري (1834) ومسلم (1111) وغيرهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: بينما نحن جلوس عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ جاء رجل فقال: يا رسول الله، هلكت. قال: " مالك؟ " قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم ـ في رواية: في رمضان ـ فقال(2/95)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " هل تجد رقبة تعتقها؟ " قال: لا. قال: " فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ " قال: لا. فقال: " فهل تجد إطعام ستين مسكيناً قال: لا. قال: فمكث النبي - صلى الله عليه وسلم - فبينا نحن على ذلك أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرق فيه تمر ـ وعاء ينسج من ورق النخل والعرق: المكتل ـ قال: " أين السائل؟ " فقال: أنا. قال: " خذ هذا فتصدق به". قال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها ـ يريد الحرتين ـ أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت أنيابه، ثم قال: " أطعمه أهلك ".
قال العلماء: ولا يجوز للفقير الذي قدر على الإطعام صرف ذلك الطعام إلى عياله، وكذلك غيرها من الكفارات، وما ذكر في الحديث فإنما هو خصوصية لذلك الرجل.
هذا ومما ينبغي أن يعلم أنه يجب على المجامع مع الكفارة قضاء اليوم الذي أفطره من رمضان بالجماع. وأن الكفارة تتكرر بتكرر الأيام التي أفطرها بالجماع. فإذا جامع في يومين من رمضان لزمه ـ مع القضاء ـ كفارتان، وإذا جامع في ثلاثة لزمه ثلاث كفارات، وهكذا.(2/96)
صوم التطوع
وهو الصوم المسنون. والتطوع: التقرب إلى الله تعالى بما ليس بفرض من العبادات.
ولا شك أن الصوم من أفضل العبادات. ففي البخاري (2685) ومسلم (153) عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من صام يوماً في سبيل الله باعد الله تعالى وجهه عن النار سبعين خريفاً ".
وحكمة تشريع الصوم المسنون زيادة التعبد والتقرب إلى الله، فما من عبادة إلا وتزيد المرء قرباً من ربه عز وجل، ولذلك جاء في الحديث " ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه " ولا شك أن محبة الله تعالى لعبده، وقرب العبد من ربه تقصيه عن معصيته، وتدنيه من طاعته، والمسارعة إلى فعل البر والمعروف، وبهذا يستقيم شأن الإنسان وتصلح حياته.
وسنذكر خلاصة عن صوم التطوع وأنواع الصوم المسنون:
1ـ صوم يوم عرفة:
وهو تاسع ذي الحجة، وذلك لغير الحاج. عن أبي قتادة(2/97)
- رضي الله عنه - قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صوم عرفة، فقال: " يكفر السنة الماضية والباقية " رواه مسلم (1162).
ويوم عرفة أفضل الأيام. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة " رواه مسلم (1338).
أما الحاج فلا يسن له صوم يوم عرفة، بل يسن له فطره اتباعاً للنبي - صلى الله عليه وسلم - وليقوى على الدعاء في ذلك اليوم.
2ـ صوم يوم عاشوراء وتاسوعاء:
وعاشوراء: هو عاشر المحرم، وتاسوعاء: هو التاسع منه ودليل استحباب صومهما ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صام يوم عاشوراء، وأمر بصيامه " رواه البخاري (1900) ومسلم (1130).
وعن أبي قتادة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن صيام يوم عاشوراء، فقال: " يكفر السنة الماضية " رواه مسلم (1162).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع " رواه مسلم (1134) لكنه - صلى الله عليه وسلم - مات قبله.
وحكمة صوم يوم تاسوعاء مع عاشوراء إنما هي الاحتياط لاحتمال الغلط في أول الشهر، ولمخالفة اليهود، فإنهم يصومون العاشر. لذلك استحب ان لم يصم مع عاشوراء تاسوعاء أن يصوم اليوم الحادي عشر.(2/98)
3ـ صوم يوم الاثنين والخميس:
ودليل ذلك: ما رواه الترمذي (745) عن عائشة رضي الله عنها قالت: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحرى صوم الاثنين والخميس " وروى أيضاً (747) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم ".
4ـ صوم ثلاثة أيام من كل شهر:
والأفضل أن تكون أيام الليالي البيض. وهي اليوم الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر من كل شهر قمري.
وسميت الأيام البيض، لأن ليالي تلك الأيام من كل شهر تكون مستنيرة بضياء القمر.
ودليل استحباب صيام ما ذكر ما رواه البخاري (1124) ومسلم (721) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "أوصاني خليلي - صلى الله عليه وسلم - بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام ".
وعن أبي قتادة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " صوم ثلاثة من كل شهر صوم الدهر " رواه مسلم (1162).
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا صمت من الشهر ثلاثاً، فصم ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة " رواه الترمذي (761) وقال: حديث حسن.
وروى أبو داود (2449) عن قتادة بن ملحان رضي الله عنه قال:
(كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا أن نصوم البيض: ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة) وقال: "هن كهيئة الدهر ".(2/99)
لكن يستثني صيام اليوم الثالث عشر من ذي الحجة، فإن صومه حرام كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
5ـ صوم ستة أيام من شوال:
والأفضل تتابعها عقب عيد الفطر مباشرة، ولكن لا يشترط، بل تحصل السنة بصيامها متفرقات.
روى مسلم (1164) عن أبي أيوب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من صام رمضان، ثم أتبعه ستاً من شوال، كان كصيام الدهر".
قطع الصيام المسنون:
إذا تلبس المسلم بصيام مسنون جاز له أن يقطعه بالإفطار متى شاء، ولا قضاء عليه، وإن كان يكره له ذلك. قال - صلى الله عليه وسلم - " الصائم المتطوع أمير نفسه، إن شاء صام، وإن شاء أفطر" رواه الحاكم (1/ 439).
أما إذا تلبس بصيام قضاء فرض فإنه يحرم عليه قطعه، لأن التلبس بالفرض يوجب إتمامه.(2/100)
الصوم المكروه والصوم المحرم
أولاً: الصوم المكروه
إن الإنسان عبد لله تعالى، ولله عز وجل أن يتعبده بما شاء فيتعبده بالصوم، كما يتعبده بالفطر، وليس لابن آدم أن يعترض، ولا أن يعارض، وكل ما يجب عليه أن يقول: (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)
والصيام المكروه هو الذي يترتب على تركه الثواب، ولا يترتب على فعله ثواب ولا عقاب.
ومن الصوم المكروه:
1ـ إفراد يوم الجمعة بالصوم:
ودليل ذلك ما رواه البخاري (1884) ومسلم (1144) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يصم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله أو يصوم بعده ".
2ـ إفراد يوم السبت بالصوم:
ودليل ذلك ما رواه الترمذي (744) ـ وحسنه ـ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض الله عليكم " وكذلك(2/101)
قال العلماء يكره إفراد الأحد بالصوم. لأن اليهود تعظم يوم السبت والنصارى يوم الأحد.
لكن لا يكره جمع السبت مع الأحد في الصيام، لأنه لا يعظمهما أحد مجتمعين.
روى أحمد (6/ 324) أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم يوم السبت ويوم الأحد أكثر مما يصوم من الأيام يقول: "إنهما يوما عيد المشركين " فأنا أحب أن أخالفهم ".
3ـ صيام الدهر:
وهذا خاص بمن خاف بهذا الصيام أن يلحقه ضرر أو يفوت حقا لغيره.
روى البخاري (1867) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - آخى بين سلمان وبين أبي الدرداء فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة، فقال لها ما شأنك؟ فقالت: أخوك أبوالدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فقال سلمان: يا أبا الدرداء: إن لربك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه، فذكر أبوالدرداء للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما قاله سلمان، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " صدق سلمان "
أما من لم يضر به صيام الدهر، ولم يفوت عليه حقاً لأحد، فإنه لا يكره له، بل يستحب، لأن الصوم من أفضل العبادات.
ثانياً: الصوم المحرم
يحرم صيام الأيام التالية:
1ـ صيام يومي عيد الفطر والأضحى:
ودليل ذلك ما رواه مسلم (1138) عن أبي هريرة - رضي الله(2/102)
عنه -: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن صيام يومين: يوم الأضحى، ويوم الفطر ".
2ـ صوم أيام التشريق الثلاثة:
وهي الأيام التي تلي يوم عيد الأضحى، ودليل تحريم صومها ما رواه مسلم (1142) عن كعب بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثه، وأوس بن الحدثان أيام التشريق، فنادى: " أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وأيام منى أيام أكل وشرب ".
وروى أبو داود (2418) عن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال: " فهذه الأيام التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا بإفطارها وينهانا عن صيامها " قال مالك: وهي أيام التشريق.
3ـ صوم يوم الشك:
وهو يوم الثلاثين من شعبان، حيث يشك فيه الناس: هل هو من شعبان، أو من رمضان؟ وحيث لم تثبت رؤية الهلال فيه. فلا يجوز صومه، بل ينبغي اعتباره يوماً متبقيا من شعبان.
ودليل تحريم صيامه ما رواه أبو داود (2334) والترمذي (686) وصححه ـ عن عمار بن ياسر - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من صام اليوم الذي يشك فيه الناس فقد عصى أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم -.
4ـ صوم النصف الثاني من شعبان.
ودليل ذلك ما رواه أبوداود (2337) والترمذي (738) ـ وصححه ـ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا انتصف شعبان فلا تصوموا ".(2/103)
وعند ابن ماجه (1651) " إذا كان النصف من شعبان فلا صوم حتى يجيء رمضان ".
لكن تنتفي حرمة صوم يوم الشك، والنصف الثاني من شعبان إذا وافق عادة للصائم، أو وصل صيامه بما قبل النصف الثاني من شعبان.
روى البخاري (1815) ومسلم (1082) واللفظ له عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه ".(2/104)
الاعتكاف
تعريفه:
الاعتكاف في اللغة: الإقامة على الشيء والملازمة له.
وشرعاً: اللبث في المسجد بنية مخصوصة.
دليل تشريعه:
والأصل في مشروعية الاعتكاف قول الله تعالى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} البقرة: 187.
وما رواه البخاري (1922) ومسلم (1172) عن عائشة رضي الله عنها " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف الأواخر من رمضان. ثم اعتكف أزواجه من بعده ".
والاعتكاف من الشرائع القديمة التي كانت معروفة قبل الإسلام، بدليل قوله تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} البقرة: 125
حكمة تشريعه:
لا بد للمسلم ـ بين الفينة والفينة ـ من محاولة لكفكفة النفس(2/105)
عن شهواتها المباحة، وحبسها على طاعة مولاها، والتفرغ لعبادته، كي ترتاض بحب الله تعالى، وإيثار رضاه على ترك ما هو محرم من شهواتها، وضار من أهوائها. والنفس أمارة بالسوء، تواقة إلى المعاصي.
قال الله تعالى: (إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي) يوسف: 53.
ومخامرة الدنيا يزيد من إقبالها عليها، وطلبها تلك الخلوات على حب الله تعالى والكف عن محارمه.
فمن ثم شرع الاعتكاف ليكون سبباً لجمع الخاطر، وتصفية القلب، وتربية النفس على الزهد بالشهوات المباحة، والتعاطي بها عن المخالفات والآثام.
حكم الاعتكاف:
الاعتكاف سنة في كل وقت، وهو في شهر رمضان أشد استحباباً، وفي العشر الأخيرة منه آكد، إلا أن ينذره على نفسه فيصبح واجباً. وبناء على ذلك، فإن الاعتكاف قد تكون له ثلاثة أحكام:
الأول: الاستحباب، وذلك في مطلق الازمنة.
الثاني: السنة المؤكدة، وذلك في العشر الأخير من رمضان.
وحكمة تأكده في العشر الأخير من رمضان إنما هي طلب ليلة القدر. فإنها أفضل ليالي السنة، قال تعالى: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ) أي خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر.
وجمهور العلماء على أنها في العشر الأخير من رمضان.
الثالث: الوجوب في حالة النذر.(2/106)
شرط صحة الاعتكاف:
وإنما يصح الاعتكاف بشرطين أساسيين:
الشرط الأول:
النية: وذلك عند ابتدائه، بان ينوي المكث في المسجد مدة معينة للتعبد، تحقيقاً للسنة، فلو دخل المسجد لغرض دنيوي، أو لم يخطر في باله أي قصد لم يعتبر لبثه في المسجد اعتكافاً شرعياً.
الشرط الثاني:
اللبث في المسجد: وينبغي أن يستمر اللبث إلى مدة تسمى في العرف اعتكافاً.
ويدخل في هذا الشرط شروط جواز اللبث في المسجد، وهي الطهارة من الجنابة، والطهارة من الحيض والنفاس، وخلو الثوب والبدن من نجاسة يحتمل أن يتلوث بها المسجد.
فإن خرج من المسجد لغير عذر انقطع اعتكافه، أي بطل، أما إذا خرج لعذر وعاد لم ينقطع، وكان في حكم المتتابع.
هذا، ولا يشترط لتحصيل سنة الاعتكاف الصوم، ولكن يسن، ودليل ذلك ما رواه الحاكم (1/ 439) عن ابن عباس رضي الله عنهما: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه ".
الاعتكاف المنذور:
وهو النوع الثالث من أنواع الاعتكاف المذكورة.
فإن نذر اعتكاف مدة معينة على سبيل التتابع لم يجز له الخروج من المسجد إلا لحاجة: كقضاء حاجة، ووضوء ونحوه،(2/107)
فإن خرج لذلك لم يحرم ولم ينقطع تتابع اعتكافه.
أما إن خرج لغير عذر كنزهة، وكأمر غير ضروري حرم عليه ذلك، وانقطع تتابع اعتكافه، ووجب عليه استئناف الاعتكاف.
ولو نذر أن يعتكف، وهو صائم لزمه ذلك، لأنه أفضل، فإذا التزمه بالنذر لزمه.
ولو عين الناذر لاعتكافه مسجداً من المساجد لم يتعين، وصح له أن يعتكف فيه غيره، وإن كان ما عينه أولى من غيره. إلا المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف، والمسجد الأقصى فإنه إذا عين واحداً منها تعين لزيادة فضلها، وتضاعف أجر العبادة فيها، لكن يقوم المسجد الحرام مقامها، ولا عكس، ويقو مسجد المدينة مكان المسجد الأقصى، ولا عكس أيضاً.
آداب الاعتكاف:
1ـ يستحب للمعتكف الاشتغال بطاعة الله تعالى، كذكر الله تعالى، وقراءة القرآن، ومذاكرة العلم، لأنه أدعى لحصول المقصود من الاعتكاف.
2ـ الصيام، فإن الاعتكاف مع الصيام أفضل. وأقوى على كسر شهوة النفس وجمع الخاطر وصفاء النفس.
3ـ أن يكون الاعتكاف في المسجد الجامع، وهو الذي تقام فيه الجمعة.
4ـ أن لا يتكلم إلا لخير، فلا يشتم، ولا ينطق بغيبة، ونميمة، أو لغو من الكلام.(2/108)
مكروهات الاعتكاف:
1ـ الحجامة والفصد: إذا أمن من تلويث المسجد، أما إذا خشي تلويثه حرم عليه.
2ـ الإكثار من تعاطي صنعة من الصنائع كنسج الصوف، والخياطة وغيرهما، والبيع والشراء، وإن قل.
مفسدات الاعتكاف:
1ـ الجماع عمداً، ولو بدون إنزال. قال تعالى: (وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) البقرة: 187.
أما المباشرة بغير الجماع: كاللمس والقبلة، فإنها لا تبطل الاعتكاف إلا إذا أنزل.
2 - الخروج عمداً من المسجد لغير حاجة.
3 - الردة والسكر، والجنون.
4 - الحيض والنفاس. لأن ذلك ينافي اللبث في المسجد.
هذا ويجوز للمعتكف أن يقطع اعتكافه المستحب، ويخرج من المسجد، إذا شاء، فإذا خرج وعاد جدد النية.(2/109)
الحج والعمرة
أحكامها الفقهية وأدلتها وأسرارهما(2/111)
الحج والعمرة
التعريف بهما ومشروعيتهما
1ـ التعريف بهما:
معنى الحج:
الحج لغة القصد: وقال الخليل: كثرة القصد إلى من يُعظم.
وشرعاً: القصد إلى بيت الله الحرام لأداء عبادة مخصوصة بشروط مخصوصة.
معنى العمرة:
العمرة لغة: الزيارة، يقال اعتمر فلاناً: أي زاره، وقيل: القصد إلى مكان عامر.
وشرعاً: القصد إلى بيت الله الحرام، في غير وقت الحج، لأداء عبادة مخصوصة بشروط مخصوصة.
الفرق بين الحج والعمرة:
الحج يختلف عن العمرة من حيث الزمان، وفي بعض الأحكام. أما من حيث الزمان، فالحج له أشهر معلومات لا يجوز بغيرها ولا تصح نية الحج إلا فيها، وهذه الأشهر: شوال، وذو القعدة، والعشر الأول من ذي الحجة. وأما العمرة فالسنة كلها زمان لأدائها، ما عدا أيام الحج لمن نوى به فيها.(2/113)
وأما من حيث الأحكام، فالحج فيه وقوف بعرفات ومبيت بالمزدلفة ومنى، وفيه رمي الجمار وأما العمرة فلا شيء فيها من هذا بل هي كما سيأتي:
نية، وطواف، وحلق أو تقصير فقط، ومن جهة أخرى، فإن الحج مجمع على وجوبه بين العلماء، أما العمرة فمختلف في وجوبها.
2ـ زمن مشروعيتهما:
لعل أرجح ما قيل في تحديد الزمن الذي شرع فيه الحج والعمرة، أنه العام التاسع من هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: فيما رواه الشيخان، لوفد عبد القيس الذين قدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - في أول العام التاسع للهجرة، وقد سألوه عن الأوامر التي يجب أن يأتمروا بها: " آمركم بالإيمان بالله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا الخمس من المغنم ".
فلو كان الحج مفروضاً قبل ذلك، لعده في جملة الأوامر التي وجهها إليهم.(2/114)
حكمهما ودليلهما
1ـ حكم الحج ودليله:
الحج فرض باتفاق المسلمين، وركن من أركان الإسلام، لم يخالف في ذلك، أحد من المسلمين، ودليله: الكتاب، السنة، الإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى في سورة آل عمران (96 ـ 97)
(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ* فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ).
وأما السنة: فقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: " بني الإسلام على خمسٍ: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً ".
وأما الإجماع: فقد اتفقت علماء المسلمين على فرضيته من غير أن يشذ منهم أحد، ولذلك حكموا بكفر جاحده لأنه إنكار لما ثبت بالقرآن، والسنة، والإجماع.(2/115)
2ـ حكم العمرة ودليلها:
العمرة فرض كالحج على الأظهر من قول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى. واستدل على ذلك بالكتاب والسنة:
أما الكتاب: فقوله تعالى في / سورة البقرة: 196: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} أي ائتوا بهما تامين.
وأما السنة: فقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما بأسانيد صحيحة عن عائشة رضي الله عنهما قالت: قلت يا رسول الله: هل على النساء جهاد؟ قال: " نعم جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة ".
ملاحظات
الأولى: كم مرة يجب الحج والعمرة على المستطيع؟
أجمع العلماء على أنه لا يجب الحج والعمرة على المستطيع إلا مرة واحدة في عمره كله إلا أن ينذر فيجب الوفاء بالنذر.
ودليلهم على ذلك حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " يا أيها الناس، قد فرض عليكم الحج فحجوا " فقال رجل، أفي كل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً، ثم قال: " ذروني ما تركتكم، ولو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم، وإنما أهلك من كمان قبلكم كثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ". رواه مسلم والنسائي.
وحديث جابر بن سراقة: أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن العمرة فقال: يا رسول الله، ألعامنا هذا أم للأبد؟ فشبك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصابعه(2/116)
واحدة في الأخرى وقال: " دخلت العمرة في الحج ـ مرتين ـ لا بل لأبدٍ أبدٍ " رواه مسلم (1218)
الثانية: هل يصح تأخير الحج والعمرة لمن وجبا عليه أم يجب أداؤهما فوراً:
مذهب الشافعي رحمه الله تعالى أن الحج والعمرة لا يجبان على الفور، بل، بل يصح تأخيرهما لأن العمر كله زمان لأدائهما، لكن بشرط العزم على الفعل في المستقبل، وهذا لا ينافي أنه يُسن أداؤهما عقب الوجوب فوراً مبادرة إلى براءة ذمته، ومسارعة في طاعة ربه، قال تعالى في / سورة المائدة: 48: (فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ).
الثالثة: كم عمرة اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكم حجة حج؟
عن قتادة قال: قلت لأنس: كم حج النبي - صلى الله عليه وسلم - " قال حجة واحدة، واعتمر أربع عمرت في ذي القعدة، وعمرة الحديبية، وعمرة مع حجته، وعمرة الجعرانة إذ قسم غنيمة حنين. رواه الترمذي وقال حسن صحيح ورواه البخاري ومسلم. قال النووي رحمه الله في شرحه لمسلم: كانت إحداهن في ذي القعدة عام الحديبية سنة ست من الهجرة وصدوا فيها فتحللوا وحسبت لهم عمرة، والثانية في ذي القعدة وهي سنة سبع وهي عمرة القضاء، والثالثة في ذي القعدة سنة ثمان وهي عام الفتح، والرابعة مع حجته - صلى الله عليه وسلم -.(2/117)
حكمة الحج والعمرة
وفوائدها
لقد شرع الله لعبادة الشرائع وفصل لهم الأحكام تحقيقاً لمصالحهم العاجلة والآجلة في الدين والدنيا. ولقد أشار القرآن الكريم عند ذكر الحج إلى وجود منافع للناس ومصالح لهم، فقال تعالى: {ِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} (الحج: 28).
قال بن عباس رضي الله عنهما: في تفسير هذه الآية: إنها منافع الدنيا والآخرة، أما منافع الآخرة: فرضوان الله تعالى، وأما منافع الدنيا، فما يصيبون من منافع البدن، والذبائح والتجارات. في الحقيقة لو أردنا تفصيل كلام ابن عباس وتعداد المنافع الدينية والدنيوية التي أشار إليها لتحصل لنا كثير من هذه المنافع، فمن هذه المنافع:
أولاً: اجتماع المسلمين: اعلم أن مبنى هذا الدين على الاجتماع والتآلف بين المسلمين. فلذلك جعل الله تعالى معظم عباداته المشروعة سبيلاً لألوان من التلاقي فيما بينهم. جعل لهم لقاء يتكرر كل يوم خمس مرات على مستوى الحي الواحد من البلدة، وشرع لتنظيم ذلك صلاة الجماعة.(2/118)
وجعل لهم لقاء آخر يتكرر في كل أسبوع مرة على مستوى البلدة الواحدة، وشرع لتنظيم ذلك صلاة الجمعة.
وجعل لهم لقاء آخر يتكرر فيم كل عام مرة، على مستوى البقاع الإسلامية كلها. وشرع لتنظيم ذلك الحج إلى بيته الحرام.
ثانيا: إحياء حقيقة الأخوة الإسلامية وإبرازها بشكل محسوس، بحيث لا تؤثر عليها حواجز اللغات وتباعد البلدان. وخير وسيلة لإحيائها تلاقيهم حول بيت الله العتيق، يلهجون بدعاء واحد لرب واحد باتجاه واحد.
ثالثاً: شد المسلمين جميعاً مهما تباعدت ديارهم إلى محور مكة المكرمة التي هي مشرق الإسلام في الأرض، والتي منها انبثق نور التوحيد إلى أقطار العالم، لتكون رمز وحدتهم وتجسيد مبدئهم.
رابعاً: هو مظهر من مظاهر المساواة بين المسلمين، تسقط فيه سائر الاعتبارات التي تميز الناس وتحملهم على التفاخر في الملبس والمسكن. ففي عرفات ومثلها في منى وعند رمي الجمار وفي الطواف يكاد يضيع الغني ولا يعرف الفقير، ويستوي السيد والمسود والخادم والمخدوم، وتغمر الجميع روحانية واحدة، وهي نشوة القرب من الله والتطلع لرضاه.
إنه مظهر رائع يذكر بالمبدأ حين يخرج الناس من بطون أمهاتهم سواء لا مزية لأحد على غيره، كما يذكر بالمعاد حين يقوم الناس لرب العباد حفاة عراة لا أحساب ولا أنساب.
خامساً: والحج كذلك أكبر مذكر يذكر المسلمين حال آبائهم وأسلافهم من الأنبياء والمرسلين، فكل موقف من مواقف الحج مرتبط بحدث يثير في مشاعر الحجاج كثيراً من الذكريات، فعند البيت يتجلى في خاطر المؤمن إبراهيم وإسماعيل وهما يبنيان البيت العتيق،(2/119)
وتتجلى صور المصطفي هو يقبل الحجر الأسود، ويطعن الأصنام لتهوي على رؤوسها مستخذية مهينة. وعند الصفا والمروة يتذكر المسلم هاجر عليها السلام وهي تسعى بينهما تطلب الماء لولدها إسماعيل. وفي منى عند الجمرات يستشعر مواقف إبراهيم وهو يعارض الشيطان ويخالف أوامره، ويرجمه بالحصباء ويقبل على امتثال أمر ربه، وينفذ ما أوحاه إليه في رؤياه من ذبح ابنه. وفي عرفات تثور في ضمير المؤمن بواعث التطلع إلى رحمة الله والأمل في مغفرته، ولا يغيب عن بصيرته ذلك الموقف الرائع الذي وقفه رسول الله في حجة الوداع وهو على ناقته يعظ المسلمين ويخطبم ويقرر لهم مبادئ الحياة الرائعة والمساواة العادلة والأخوة الصادقة، ويحذرهم من العودة إلى مساوئ الجاهلية: " أيها الناس إن ربكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، ألا لا تعودوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ".
سادساً: أضف إلى كل ذلك ما يناله فقراء تلك البلاد في ذلك الموسم المبارك من الرزق الذي يغني فقيرهم السنة كلها، تحقيقاً لدعوة إبراهيم عليه السلام حيث قال: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)
سابعاً: والحج تربية للجسم على الخشونة وتحمل المشاق والصبر على المكاره.
وتربية للخلق على التواضع والتسامح وحسن المعاشرة وطيب الملاطفة.
وتربية للنفس على البذل والتضحية والصدقة والإحسان.
وتربية للضمير على الطهارة والرقابة لله سبحانه، قال تعالى في سورة البقرة: 197:
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ(2/120)
فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ}.(2/121)
من يجب عليه الحج والعمرة
يجب الحج والعمرة على من توفرت فيه الشروط الستة الآتية:
1ـ الإسلام:
فلا يجب على غير المسلم وجوب مطالبة في الدنيا، لأن الحج والعمرة من العبادات التي لا يطالب بها غير المسلمين، ولا تصح من غيرهم، لأن شرط صحة العبادة الإسلام.
2ـ العقل:
فالمجنون لا يجب عليه الحج ولا العمرة لعدم التمييز عنده بين المأمور والمحظور، ولأن الله تعالى إذا أخذ ما وهب فقد أسقط ما أوجب، ولا يتم التكليف شرعاً إلا بالعقل.
3ـ البلوغ:
فلا يجب الحج والعمرة على غير البالغ لأنه غير مكلف، إذ التكليف شرعاً إنما يكون بالبلوغ، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: " رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يبرأ ". رواه ابن حبان والحاكم وصححاه.(2/122)
4ـ الحرية:
فلا يجب الحج والعمرة على العبد لأنه لا يملك مالاً، بل هو وماله ملك سيده.
5ـ أمن الطريق:
فلو خاف على نفسه أو ماله عدواً، أو كان الطريق خطراً لوجود حرب مثلاً، لا يجب عليه الحج ولا العمرة لحصول الضرر، والله تعالى يقول ف سورة البقرة: / 195:
{وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}.
6ـ الاستطاعة:
لقوله تعالى في سورة آل عمران / 98: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً).
ولحديث ابن عمر - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله ما يوجب الحج، قال: "الزاد والراحلة " رواه الترمذي، وقال حديث حسن. والزاد والراحلة في الحديث يفسران الاستطاعة الواردة في القرآن.
بم تتحقق الاستطاعة؟
والاستطاعة تتحقق بأن يملك الإنسان المال الذي يلزمه لأداء الحج والعمرة، من أجرة مركوب ونفقة ذهاباً وإياباً، بالإضافة لما تفرضه عليه اليوم الحكومات من نفقة جواز سفر، وأجرة مطوف، ويجب أن يكون هذا المال زائداً عن دينه وعن نفقة عياله مدة غيابه.(2/123)
أنواع الاستطاعة:
والاستطاعة نوعان: استطاعة مباشرة، واستطاعة غير مباشرة.
1ـ فالاستطاعة المباشرة: هي أن يتمكن الإنسان من الحج والاعتمار بنفسه، بأن يكون قادراً صحيح الجسم، يمكنه السفر، وأداء المناسك، من غير أن يناله ضرر كبير أو مشقة لا تحتمل.
2ـ الاستطاعة غير المباشرة: هي أن يملك المكلف من المال ما يمكنه إنابة غيره بالحج عنه في حياته أو بعد مماته، فيما إذا كان لا يستطيع الحج بنفسه لكبر أو مرض أو نحو ذلك.
روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة من جُهينة جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فماتت قبل أن تحج أفأحج عنها؟ قال: " نعم حُجي عنها. أرأيت إن كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم. قال: " اقضوا دين الله، فالله أحق بالوفاء ". ولفظ النسائي أن رجلاً قال يا رسول الله: إن أبي مات ولم يحج أفأحج عنه، قال: " أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه؟ " قال: نعم. قال: " فدين الله أحق بالوفاء ".
وروي في الصحيحين أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله، إن فريضة الله تعالى على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: " نعم ".
ملاحظات
الأولى: من كان له رأس مال تجارة وجب صرفه لأداء الحج والعمرة، ومن كان له أرض يحصل منها على نفقته وجب بيعها لأداء الحج والعمرة، وذلك أنه لو كان مديناً لآدمي وجب صرف مال تجارته، فكذلك الحج والعمرة وهذا هو القول الأصح، وقيل لا يلزمه بيع ذلك.(2/124)
الثانية: لا يجب بيع بيته الذي يسكنه ولا أثاثه الذي يستخدمه في حاجته لأداء الحج والعمرة، لأن هذه حوائج ضرورية لا يستغنى عنها فلا يكلف بيعها.
الثالثة: من كان بينه وبين مكة دون مرحلتين، وهو قوى على المشي وجب عليه الحج ماشياً إن كان لا يملك ثمن مركوب، والمرحلتان مسيرة يوم وليلة على الأقدام.
الرابعة: من كان مالكاً نفقة الحج فقط وأراد أن يتزوج بهذا المال، فهو لا يخلو من أحدى حالتين.
الأولى: أن يكون بحاجة إلى نكاح ولكنه قادر على ضبط نفسه، فهذا يجب عليه الحج، والأفضل تقديمه على الزواج.
الثانية: أن يخاف على نفسه العنت والوقوع في المعاصي، فهذا أيضاَ يجب عليه الحج، ولكن تقديم الزواج أفضل من الحج، والقاعدة في ذلك أن الحاجة إلى النكاح لا تمنع الوجوب.
الخامسة: يشترط في وجوب حج المرأة وعمرتها زائداً على الشروط التي تقدم ذكرها في الرجل شرطان: أحدهما:
أـ أن يكون مع المرأة زوج لها.
ب ـ أو أن يكون معها محرم بنسب أو غيره، وذلك لما ورد في الصحيحين: " لا تسافر المرأة يومين إلا ومعها زوجها أو ذو محرم " وفي رواية فيهما: " لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم ".
ج ـ أو أن يوجد معها نسوة ثقات مشهورات بالعفة والتدين، وأقل ذلك أن يكون معها امرأتان وهي الثالثة، ولا يشترط وجود محرم أو زوج لإحداهن معهن لأنه باجتماعهن وهن ثقات يحصل الأمن عليهن، والاطمئنان إلى عدم افتتان إحداهن، وإذا لم تجد(2/125)
المرأة محرماً يحج ويعتمر معها من ماله وجب عليها أجرة المحرم إذا كان معها تلك الأجرة. وهذا الشرط إنما هو لوجوب الخروج إلى الحج، أما لجواز الخروج فإنه يكتفى بامرأة واحدة، وكذا يجوز الخروج وحدها إذا أمن الطريق، وهذا خاص في أداء فريضة الحج، وأما في الحج غير المفروض وفي سائر الأسفار فلا بد من وجود محرم زوج أو غيره. والدليل على جواز سفر المرأة وحدها لحج الفريضة ما رواه البخاري عن عدي بن حاتم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: " فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحداً إلا الله ".
ثانيهما:
أن لا تكون معتدة من طلاق أو وفاة مدة إمكان السير للحج، وذلك لقوله تعالى في / سورة الطلاق: 1/: {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ}
السادسة:
ليس للمرأة السفر إلى الحج إلا بإذن زوجها، فإن منعها منه لم يجز لها الخروج، فإن ماتت في حال قدرتها ومنع الزوج لها، قضي الحج من تركتها ولا تعمد آثمة في ذلك.(2/126)
من يصح منه الحج
كانت الشروط السابقة، شروطاً لوجوب وثبوت فرضيته، فمن لم يتوفر عنده واحد منها لم يكن مكلفاً بهذه الفريضة.
غير أن هذه الشروط لا علاقة لها بصحة الحج وعدمها، بل ربما صح الحج مع عدم توفر شروط وجوبه، وربما لم يصح الحج رغم توفر هذه الشروط: فشروط من يصح منه الحج هي:
الشرط الأول: الإسلام:
فمن لم يكن مسلماً لم يصح حجه، بحيث إذا أسلم بعد ذلك وتوفرت لديه شروط الحج، لم يغن حجه السابق ووجب عليه الحج من جديد.
الشرط الثاني: التمييز:
فإذا لم يبلغ الطفل سن التمييز لم يصح حجه مباشرة.
والتمييز أن يبلغ الطفل سناً يتوفر لديه فيه من النباهة والوعي ما يجعله قادراً على أن يستقل بطهارته وإصلاح شأنه، وهي قد تختلف ما بين طفلٍ وآخر.(2/127)
الشرط الثالث: أن يحرم به في ميقاته الزمني:
والميقات الزمني للحج شهر شوال، وذي القعدة، والعشر الأول من ذي الحجة، فلا يصح الحج إلا إذا وقع ـ بدءاً من الإحرام به ـ في هذه الفترة، فإن أحرم بالحج خارج هذه الفترة لم يصح حجه، وتحول نسكه إلى عمرة على الصحيح.
الشرط الرابع: أن يكون وافي الأركان:
وسنحدثك عنها فيما بعد إن شاء الله.
فهذه هي شروط صحة الحج، فإذا توفرت صح الحج، بقطع النظر عن ثبوت وجوبه، ويتبين إذاً أن الطفل المميز إذا باشر الحج صح حجه، ولو لم يكن مكلفاً به بعد، بل يصح حجه إذا لم يكن مميزاً أيضاً فيما إذا أحرم عنه وليه، ثم طاف وسعى به، ورمى الجمار عنه، ووقف به في عرفة.
روى مسلم (1336) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقي ركباً بالروحاء، فقال: " من القوم؟ " قالوا: المسلمون. فقالوا: من أنت؟ قال: " رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " فرفعت إليه امرأة صبياً. فقالت ألهذا حج؟ قال: " نعم ولك أجر ".(2/128)
الإحرام
الإحرام: فاتحة أعمال الحج، والمدخل إلى نسكه ومختلف واجباته وأركانه. ولابد لفهم ما يتعلق به من أحكام من أن نحدثك عن ثلاثة أشياء: (المواقيت، كيفية الإحرام، محرمات الإحرام).
1ـ المواقيت: هو جمع ميقات وينقسم إلى: ميقات زماني وميقات مكاني.
أما الميقات الزماني: فيقصد به الفترة الزمنية التي يصح أن يقع فيها الإحرام في الحج.
وأما الميقات المكاني: فيقصد به الحدود المكانية التي يجب أن لا يتجاوزها قاصد الحج إلا وهو محرم، فلنبين لك ضابط كل منهما:
أـ الميقات الزماني:
هو عبارة عن شهر شوال وذي القعدة والعشر الأول من ذي الحجة، فهذه المدة الزمنية هي الفترة المفتوحة للإحرام بالحج، أي فلا نوى الحاج الحج قبل ذلك لم تصح نيته ولم يصح إحرامه. وهو معنى قوله عز وجل في سورة البقرة (197): {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ .... }.(2/129)
ب ـ الميقات المكاني:
وهو عبارة عن حدود تحيط بالحرم المكي من شتى جهاته. حددها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنسبة للقادمين إليه من الآفاق البعيدة، بحيث يجب عليهم إذا وصلوا ولم يكونوا محرمين أن يبدؤوا الإحرام ويلتزموا شروطه وواجباته التي سنتحدث عنها، منذ ذلك المكان. وتفصيل ذلك الحدود كما يلي:
1ـ (ذو الحُليفة) ميقات للمتوجه من المدينة المنورة. وهو ما يسمى الآن " بأبيار علي " - رضي الله عنه - ويندب أن يحرم من المسجد الذي أحرم منه النبي - صلى الله عليه وسلم -.
2ـ (الجُحفة) ميقات للمتوجه من الشام ومصر والمغرب، بحيث يجب عليه أن يحرم إذا وصل هذا المكان بعينه، أو إذا وصل إلى ما يسامته عن يساره أو يمينه.
3ـ (يلملم) ميقات للمتوجه من تهامة اليمن.
4ـ (قرن) ميقات للمتوجه من نجد الحجاز ونجد اليمن.
5ـ (ذات عرق) للمتوجه من جهة المشرق كالعراق والخليج ونحوه، بحيث يجب عليه كما قلنا أن يحرم من المكان ذاته، أو المكان الذي يسامته إذا لم يصل طريقه إليه مباشرة.
6ـ أما من كان منزله دون هذه المواقيت قرباً إلى مكة، فإن ميقاته منزله الذي هو فيه، فهو يحرم من حيث ينشئ سفره. ويدخل في هذا الضابط أهل مكة أيضاَ، فيحرمون من بيوتهم داخل مكة.
ودليل ذلك ما رواه الشيخان، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (وقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن، ولأهل اليمن يلملم. وقال: " هن لهن(2/130)
ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة، فمن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة).
وهذه المواقيت تعتبر مواقيت للحاج والمعتمر، ما داما قادمين من خارج الحرم، أما إذا كان المعتمر في داخل الحرم، سواء كان مكياً أو وافداً، فيجب عليه الخروج للإحرام بالعمرة إلى أدني الحل، وهو ما وراء حدود الحرم ولو بخطوة واحدة. فلو أحرم من مكة صحت عمرته ولزمه دم كما ستعلم فيما بعد.
ودليل الوجوب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل عائشة، كما في الحديث الصحيح، بعد قضاء الحج إلى " التنعيم " وهو مكان وراء حدود الحرم ـ فاعتمرت من هناك.
2ـ كيفية الإحرام بالحج والعمرة:
الإحرام هو نية الدخول في نسك الحج أو العمرة أو نسكهما معاً، مع ما يتبعه من الأعمال والآداب المتممة، فلنستعرض كيفية ذلك بإيجاز:
أولاً: إذا أراد الحاج أو المعتمر الدخول في النسك، قدم بين يدي ذلك هذه التمهيدات التالية:
أـ الاغتسال: وهو سنة، وينوي به غسل الإحرام، فإن عجز عن الاغتسال يتيمم.
ب ـ تطييب بدنه وهو سنة أيضاَ، ولا بأس بأن تبقى رائحته إلى ما بعد الدخول في الإحرام وأعمال النسك.
لما ورد في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها (كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم) والوبيص: البريق، والمفرق: وسط الرأس.(2/131)
ج ـ تجرد الرجل عن كل مخيط من الثياب، وهو واجب، ويستعيض عنه بإزار ورداء يسن أن يكونا أبيضين، أما المرأة فلا يجب عليها سوى كشف وجهها وكفيها لقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري وغيره: " لا تلثم المرأة ولا تلبس القفازين " جوابا على سؤال بعض الصحابة عما يجب أن تلبسه المرأة أثناء إحرامها بالحج، ويسن في حق المرأة أن تخضب كفيها بحناء قبل الإحرام لأنها تحتاج إلى كشفهما.
د ـ صلاة ركعتين: وهي سنة، ينوى بهما سنة الإحرام.
ثانيا: إذا أنجز هذه التمهيدات: وقد علمت أن الواجب منها هو الفقرة " ج " فقط، الباقي سنن وآداب، انتظر اللحظة التي يبدأ فيها المسير أيا كانت وسيلته، وعندئذ ينوي بقلبه الإحرام بالحج أو العمرة، حسب ما هو قاصد إليه، ويسن أن يلتفظ بلسانه، ثم يقول: (لبيك الهم لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك لبيك).
والواجب من ذلك كله إنما هو النية القلبية، أما التلفظ بها والتلبية فسنة.
فإذا فعل ذلك فقد دخل في مناسك الحج أو العمرة، وسرت عليه الأحكام والواجبات المتعلقة بهما مما سنذكره لك فيما بعد.
ثالثاً: للحاج أن يختار في عقد النية بالإحرام كيفية من الكيفيات التالية:
(أولها) ـ أن ينوي الإحرام بالحج فقط، فإذا فرغ من أعمال الحج، عاد إلى خارج حدود الحرم فاعتمر وأتى بأعمال العمرة.
وهذه الكيفية هي أفضل كيفيات الإحرام، لما صح من رواية جابر أنه عليه الصلاة والسلام أحرم كذلك. وتسمى هذه الكيفية " الإفراد ".(2/132)
(ثانيهما) ـ أن ينوي بإحرامه العمرة، حتى إذا فرغ منها حل ثم أحرم بالحج من مكة أو من الميقات الذي أحرم بالعمرة منه، وتسمى هذه الكيفية " تمتعاً " وهي تلي في الأفضلية الإفراد.
(ثالثهما) ـ أن ينوي حجاً وعمرة معاً، ثم يمضي في أعمال الحج، فتندرج تحتها العمرة أيضاً، ويستحق أجرهما معاً.
فهذه هي خلاصة كيفية الإحرام، وهو كما قد علمت المدخل إلى مناسك كل من الحج والعمرة.
3ـ محرمات الإحرام:
تحرم على المتلبس بالإحرام عشرة أشياء يجب أن يتجنبها سواء كان محرماً بحج أو بعمرة وهي:
1ـ لبس المخيط أو المحيط في جميع بدنه. وكالمخيط في الحرمة الحذاء المحيط بالرجل. بل يلبس في مكانة نعلاً لا يستر أطراف رجليه مما يلي الكعبين.
2ـ تغطية الرأس إلا من عذر، أو تغطية بعضه، سواء كانت وسيلة التغطية مخيطاً أو غيره كالعمامة والقلنسوة أو أي شيء ساتر. أما الاستظلال بجدر أو مظلة بحيث لا تلامس رأسه فلا مانع من ذلك.
وهذان الأمران يحرمان على الرجال خاصة دون النساء.
ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما يلبس المحرم من الثياب؟ فقال: " لا يلبس القميص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس،(2/133)
والخفاف إلا أحد لا يجد نعلين، فليس الخفين، وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا يلبس من الثياب ما مسه زعفران أو ورس ".
3ـ ترجيل الشعر، أي تسريحه، أيا كانت وسيلة ذلك مشطاً أو ظفراً أو نحوهما. هذا إن خيف سقوط شعر بسبب ذلك. فإن لم يخف فهو مكروه فقط.
4ـ حلق الشعر أو نتفه، إلا إذا اقتضت الضرورة ذلك ونحوه. ويدخل في الحرمة قص بعض شعرة وذلك لصريح قول الله تعالى: {َلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (البقرة: 196) وقاس الفقهاء على شعر الرأس شعر جميع البدن لسقوط موجب التفريق في الحكم بينهما.
5ـ تقليم الأظافر، والمراد الجنس الذي يصدق بظفرٍ واحد أو بعض ظفر. وذلك قياساً على الشعر إلا أن يكون من عذر كأن انكسر ظفره وتأذي به فاضطر إلى قطعه.
6ـ التطيب: وذلك باستعماله عمداً في أي جزء من أجزاء بدنه، ومثله أن يمزج الطيب بطعام أو شراب فيطعمه، وأن يجلس أو ينام على فراش أو أرض مطيبين من غير حائل، ومثله أيضاً الغسل بصابون مطيب.
وليس في حكم التطيب شم الورد، أو مائه في إنائه أو مغرسه. فلا يحرم ذلك.
ودليل الحرمة الإجماع، لأنه من أبرز مظاهر الترفُّه الذي تأباه حكمة الحج، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: " الحاج أشعت أغبر ".
7ـ قتل الصيد المأكول إذا كان برياً أو وحشيًا. ومثل القتل مجرد صيده بوضع اليد عليه والتعرض لشيء منه من جزء أو شعر(2/134)
أو ريش ونحو ذلك. وخرج بالبري صيد البحر، فلا يحرم على المحرم، لو فرض وجوده على شاطئ بحر، وخرج بالوحشي من المأكول، الإنسي منه كالنعم والدجاج وإن استوحش.
ودليل تحريم الصيد على المحرم قوله تعالى: {لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} (المائدة: 95).
8ـ عقد النكاح سواء فعل المحرم ذلك لنفسه أو غيره بتوكيل منه لقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم وغيره: " لا ينكح المحرم ولا ينكح " أي لا يتولى ذلك لنفسه، ولا لغيره. فإن فعل ذلك فالعقد باطل.
9ـ الجماع بأشكاله وأنواعه المختلفة، لصريح قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (البقرة: 197) والرفث مفسر بعدة أشياء من أبرزها وأهمها الجماع.
10ـ المباشرة بشهوة فيما دون الجماع، كلمس وقبلة ونحوهما، ومثلها الاستمناء باليد ونحوها، إذ كل ذلك داخل في الرفث الذي نهى الله تعالى عنه في الآية الكريمة المذكورة.
فهذه الأشياء يحرم مباشرتها في حال الإحرام بحج أو عمرة، إذا باشرها أو واحداً منها عالماً مختاراً بغير ضرورة. فإن لم يكن عالماً أو لم يكن مختاراً أو ألجأته إلى ذلك الضرورة، كمرض ألجأه إلى ستر رأسه أو حلق شعره، لم يحرم ووجبت الفدية التي سنحدثك عنها فيما بعد إن شاء الله.(2/135)
أعمال الحج والعمرة
أولاً: أعمال الحج
بعد أن عرفت شروط وجوب الحج وصحته، والمواقيت التي تبدأ منه أعمال الحج وكيفية الإحرام، نبدأ ببيان الأعمال التي يتحقق بها الحج.
وهذه الأعمال، منها ما هو واجب، ومنها ما هو ركن، ومنها ما هو سنة، ومنها توابع كالأدعية التي يستحب الدعاء بها، وكزيارة مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقبره. فلنفصل القول في كل منهما على حدة.
الواجبات:
الفرق بين الواجبات والأركان: الواجبات والأركان، كلاهما واجب لا بد منه إلا أن الفرق بينهما أن الواجبات يجبر تركها بإراقة دم، كما سنعلم.
أما الأركان فهي ما لا يتم ماهية الحج إلا به، ولا يجبر تركه بإراقة دم. وتتلخص واجبات الحج في الأمور التالية:
(الأول): الإحرام من الميقات:
فيجب على الحاج إذا أراد أن يدخل في الحج أن يحرم به(2/136)
في ميقاته سواء الزمان، والمكاني. وقد عرفت ضابط كل منها للحاج والمعتمر. فإذا مر بالميقات المكاني ولم يحرم حتى تجاوزه متغلغلاً داخل الحرم، فقد ترك واجباً من واجبات الحج.
أما إذا أحرم قبل أن يصل إليه فلا ضير في ذلك. وقد عرفت كلا من دليل الميقات الزماني والمكاني عند الحديث عن المواقيت.
(الثاني): المبيت بمزدلفة:
إذا نزل الحاج من عرفة بعد غروب الشمس، ووصل إلى مزدلفة ـ وهو مكان بين عرفة ومنى ـ وجب عليه المبيت فيه، بحيث يبقى هناك إلى ما بعد منتصف الليل. أي فلا يجب عليه أن يبقى فيه إلى الفجر. وذلك اتباعاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الطويل الذي رواه جابر - رضي الله عنه - عن كيفية حجة عليه الصلاة والسلام.
(الثالث): رمي الجمار:
يجب على الحاج إذا نزل من عرفة ثم بات بالمزدلفة أن يتجه إلى جمرة العقبة وهي في آخر منى مما يلي مكة، وأن يرمي تلك الجمرة بسبع حصيات، بحيث تقع كل حصاة في المكان المحدد لها. ويدخل وقت هذا الرمي بعد منتصف ليلة العيد. ويمتد إلى مغيب شمس يوم العيد، وهو يوم النحر، للحديث الطويل الذي رواه مسلم عن جابر في كيفية حج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيه: " ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى حصاة منها، كل حصاة مثل حصى الخذف " ثم يجب عليه في كل يوم من أيام التشريق ـ وهي التي تلي يوم العيد ـ أن يرمى سبع(2/137)
حصيات إلى كل من الجمرة الأولى، وهي التي تلي مسجد الخيف، ثم الوسطى، ثم جمرة العقبة، على هذا الترتيب، وأمكانها معروفة في منى ويبدأ وقت رمي الجمار بعد زوال الشمس عن وسط السماء ويمتد إلى الغروب. لكن إذا لم يدرك الرمي في هذا الوقت فله الرمي عقب الغروب، وله أن يؤخر الرمي إلى اليوم الثاني من غير فدية.
ملاحظة:
يسقط وجوب رمي الجمار يوم التشريق الثالث، إذا نفر الحاج من منى إلى مكة قبل غروب شمس اليوم الثاني من أيام التشريق، وهو رخصة للمتعجل نص عليه كتاب الله عز وجل في قوله: (فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ) فإذا غربت الشمس قبل أن ينفر من منى وجب عليه المبيت فيها ورمي الجمار في اليوم الثالث أيضاً.
(الرابع): المبيت بمنى ليلتي التشريق:
لا يكفي أن يرمى الحاج الجمرات الثلاث أيام التشريق ثم ينزل إلى مكة فيبيت فيها، بل يجب عليه أن يبيت بمنى ليلتي اليوم الأول واليوم الثاني، من أيام التشريق بحيث يمضي معظم الليل فيها. أما ليلة اليوم الثالث فقد رخص الله له عدم المبيت فيها بشرط أن لا تغرب عليه الشمس وهو لا يزال في منى. فإن غربت قبل أن ينفر منها وجب عليه مبيت تلك الليلة أيضاً، ورمي جمار اليوم الثالث كما قلنا، ودليل ذلك كله فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم وغيره من حديث جابر الطويل عن كيفية حجه عليه الصلاة والسلام.(2/138)
(الخامس): طواف الواداع:
إذا أتم مناسكه كلها، وأنهى أعماله، وأراد الخروج من مكة، وجب عليه أن يطوف بالكعبة طواف الوداع على الصحيح. لما رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - لما فرغ من أعمال الحج طاف للوداع. وهذا الطواف يسقط عن المرأة الحائض.
فإذا طاف طواف الوداع فلا يمكثن بعده، بل يبادر بالخروج من مكة، فإن مكث لغير الحاجة أو لحاجة لا تتعلق بالسفر كعيادة مريض وشراء متاع، وجب عليه إعادة الطواف.
فهذه الأمور الخمسة واجبات يأثم الحاج بتركها من غير عذر. ولكنها لا تدخل في الأجزاء الأساسية لحقيقة الحج. ولذلك فإن ترك شيء من هذه الواجبات لا يبطل الحج، بل يمكن أن يجبر تركه بدم كما سنوضحه لك فيما بعد إن شاء الله تعالى:
الأركان:
قد علمت الآن أن أركان الشيء، هي الأجزاء الأساسية التي يتكون منها ذلك الشيء. فأركان الحج إذاً هي تلك الأعمال التي إذا أهمل واحد منها بطل الحج، ولم يعد ينجبر بأي كفارة أو فدية وهي خمسة أشياء.
(الأول): الإحرام:
وقد علمت أن المقصود به نية الدخول في الحج، وقد ذكرنا كيفيته وآدابه وشروطه. فكما أن النية ركن أساسي من أركان الصلاة، فهي هنا ركن جوهري من أركان الحج.(2/139)
(الثاني): الوقوف بعرفة:
للحديث الصحيح: " الحج عرفة، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج " رواه أبو داود وغيره. أي الوقوف بعرفة هو لب أعمال الحج وأهمها، حتى لكأن الحج ليس إلا الوقوف بعرفة. وعرفة اسم لجبل يطل على منى، يقع على بعد 25 كم إلى الجنوب الشرقي من مكة.
وتتلخص شروط الوقوف بعرفة فيما يلي:
1ـ أن يكون الوقوف بها في جزء من أجزاء الفترة التي تبدأ بظهر اليوم التاسع من ذي الحجة إلى فجر يوم النحر. أي فلو وقف بعرفة قبل ذلك أو بعده لم يعتبر حجة. ويكفي أن يحضر من الوقت المحدد للوقوف لحظة واحدة من نهار أو ليل، ولكن الأفضل أن يجمع بين جزء من النهار وجزء من الليل، فإن خرج من عرفات قبل غروب الشمس أراق دماً استحباباً لا وجوباً لمخالفته عمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
2ـ أن يقف ضمن حدود عرفة، في أي مكان شاء للحديث الصحيح: " ها هنا وقفت وعرفة كلها موقف " رواه مسلم. فلا يكفي وقوفه بعُرنْة، وهو اسم مكان يسامت حدود عرفة، بينهما صخرات نصبت علامة على حدود عرفة. ويؤخر صلاة المغرب إلى العشاء جمعاً، يصليهما في المزدلفة في طريق العودة إلى منى، لفعله - صلى الله عليه وسلم - وأمره بذلك في الحديث المتفق عليه.
(الثالث): طواف الإفاضة:
لصريح قوله تعالى: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)، ولفعله - صلى الله عليه وسلم - ذلك في حديث جابر الذي رواه مسلم، ولصحة الطواف شروط نلخصها فيما يلي:(2/140)
1ـ أن يتوفر له ما يشترط لصحة الصلاة من النية، والطهارة من الحدث الأكبر والأصغر، ومن النجاسة على بدنه، أو ثوبه أو المكان الذي يطوف فيه، ويستر العورة. لما رواه الترمذي والدارقطني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " الطواف صلاة إلا أن الله تعالى أحل فيه الكلام، فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير ".
2ـ يشترط أن لا يدخل بشيء من جسمه أثناء الطواف إلى حدود الكعبة، فعليه إذاً أن يطوف بالبيت من خارج حدود الحِجْر (وهو عبارة عن مساحة إلى جانب الجدار الشمالي للكعبة محدود بجدار قصير على شكل نصف دائرة) لأن الحِجْر داخل ضمن حدود الكعبة. فلا يجوز الطواف من داخله.
3ـ يشترط أن يجعل البيت عن يساره أثناء طوافه بادئاً بالحجر الأسود فلو بدأ بما وراء حدود الحجر الأسود، لم تحسب طوفته حتى يصل إليه. وذلك للاتباع ولفعله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح.
4ـ يشترط أن يكمل طوافه سبعة أشواط، أي سبع طوفات. فعندئذ يتم ركن الطواف، ويعتبر ذلك كله طوافاً واحداً.
هذه شروط الطواف، وله من وراء ذلك سنن وآداب سنتحدث عنها فيما بعد إن شاء الله.
(الرابع): السعي بين الصفا والمروة:
والصفا والمروة رابيتان قرب البيت، والمراد من السعي بينهما أن يسير من الصفا إلى المروة ثم العكس سبع مرات: من الصفا إلى المروة مرة، والعكس مرة. وهكذا ... ودليل هذا الركن أنه - صلى الله عليه وسلم - استقبل القبلة في السعي وقال: " يا أيها الناس اسعوا " وحديث جابر(2/141)
الذي رواه مسلم عن كيفية حج النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه: " ثم خرج من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ قوله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللهِ) " أبدأ بما بدأ الله به " فرقى الصفا حتى رأى البيت ... . " الحديث.
وشروط السعي تتلخص فيما يلي:
1ـ أن يكون عقب طواف، سواء كان طواف القدوم، وهو الذي يستحب أن يفعله الحاج أول مقدمه مكة، أو كان طواف إفاضة، وهو طواف الركن. لفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدال على ذلك.
2ـ أن يكون مؤلفاً من سبعة أشواط مبدوءة بالصفا مختومة بالمروة، كل سعي بينهما محسوب شوطاً.
3ـ أن يقطع جميع المسافة التي بين الصفا والمروة، فلو ترك شبراً أو أقل منها لم يصح شوطه ذاك، ولذلك يجب أن يلصق عقبه بحائط الصفا، ومن ثم ينطق ساعياً إلى المروة، حتى إذا انتهى إليها ألصق رؤوس أصابع قدميه بحائط المروة ... . وهكذا.
4ـ أن يتابع ويوالي بين الأشواط السبعة، فلو فصل بينها بفاصل كبير عُرْفاً، وجب أن يستأنف السعي من جديد.
(الخامس): الحلق:
ويشمل مطلق ما يسمى قصا للشعر، فيدخل قص ثلاث شعرات فأكثر، ويدخل الحلق بمعنى استئصال شعر الرأس، كما يدخل التقصير مهما كان قدره وأيا كانت وسيلته. وهو ركن على الصحيح في مذهب الإمام الشافعي. دليل ذلك فعله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الشيخان وغيرهما.(2/142)
وشرط الحلق ما يلي:
1ـ ألا يسبق وقته، ووقته بعد منتصف ليلة النحر، فلو حلق قبل ذلك كان آثما ويستوجب الفدية.
2ـ ألا يقل عدد الشعرات حلقاً أو تقصيراً عن ثلاث شعرات على الصحيح لقوله تعالى عن المؤمنين: (مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) والرؤوس كناية عن الشعر لأن الرأس لا يحلق، قالوا: والشعر جمع وأقله ثلاث شعرات.
3ـ يشترط أن يكون الشعر المحلوق من حدود الرأس فلا يغني عنه حلق شعرات من اللحية والشاربين مثلاً. هذا، وأما المرأة فتقصر ولا تؤمر بالحلق إجماعاً.
ملاحظة: من ليس في رأسه شعر سن إمرار الموسى على رأسه ولا يجب.
الترتيب بين معظم هذه الأركان:
لابد من الترتيب بين معظم هذه الأركان، على الوجه التالي: الإحرام أولاً، الوقوف بعرفة ثانياً، الطواف ثالثاُ السعي رابعا، أما الحلق فله أن يؤخره إلى ما بعد الطواف، وله أن يؤخر الطواف عنه.
ولكن هل الترتيب ركن سادس، أم هو شرط لكيفية تنفيذ الأركان؟ جرى خلاف في مذهب الإمام الشافعي في ذلك.
والمهم أن تعلم بأن الترتيب لابد منه على النحو الذي ذكرنا.
ثانياً: أعمال العمرة:
أما أعمال العمرة فتتلخص كالتالي:(2/143)
1ـ الإحرام بها على طريقة الإحرام بالحج. وقد ذكرنا ميقات الإحرام للعمرة.
2ـ يدخل مكة فيطوف طواف العمرة مباشرة، أي بدون طواف قدوم.
3ـ يسعى بين الصفا والمروة.
4ـ يحلق أو يقصر من شعر رأسه.
وبذلك يتحلل المعتمر من أعمال العمرة والتزاماتها.(2/144)
سنن الحج
وهي عبارة عن الآداب والمكملات التي حرص عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نسكه تطبيقاً وتعلماً، دون أن تكون داخلة في جوهر أعمال الحج، أو أن تكون واجبة يستلزم تركها الإثم والفدية. وهي كثيرة موزعة على أعمال الحج المختلفة. فلنعد أهمها تبعاً لأعمالها المقرونة بها.
أولاً: سنن الإحرام:
يسن عند الإحرام بالحج القيام بالآداب التالية:
1ـ الاغتسال قبل الإحرام، فإن لم يمكن الاغتسال قام التيمم مقامه، ويتبع ذلك كل وجوه التنظيف وخصال الفترة. كإزالة شعر الإبط والعانة، وقص الأظافر، وإزالة الأوساخ، وهذا الغسل مسنون لكل حاج ذكراً أو أنثى طاهراً أو حائضاً أو نفساء.
2ـ التلفظ بالنية، وإجراء ألفاظها على اللسان، ثم إتباع ذلك بالتلبية وهي (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) ويرفع الرجل صوته بذلك، قائما وقاعداً وماشياً، وفي مختلف الحالات لما رواه مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن(2/145)
يرفعوا أصواتهم بالتلبية " ويستمر استحباب ذلك إلى رمي جمرة العقبة صباح يوم النحر. ويستقبل القبلة عند الإحرام ويقول: لها خفض صوتها في التلبية بحيث تسمع نفسها.
3 - الابتعاد عن أحاديث الدنيا وملهياتها المباحة فضلاً عن المكروهة والمحرمة، ما أمكن ذلك.
ثانياً: سنن دخول مكة:
فإذا شارف الحاج دخول مكة يسن له أن يلتزم الآداب التالية:
1ـ أن يدخل مكة قبل وقوفه بعرفة، ثم يذهب إلى عرفة منها.
2ـ أن يغتسل لدخول مكة عند بئر ذي طوى وهي بئر معروفة، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغتسل بمائها دائماً إذا دخل مكة.
3ـ أن يدخل مكة من ثنية (كداء) وهي طريق بأعلى مكة.
4ـ أن يتجه فور وصوله مكة إلى البيت قاصداً طواف القدوم، وهي تحية البيت الحرام التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحرص عليها.
5ـ أن يدخل المسجد من باب بني شيبة، فإذا أبصر الكعبة المشرفة رفع يديه ودعا بهذا الدعاء: "اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً وتكريماً ومهابة، وزد من شرفه وعظمه ممن حجه أو اعتمره تشريفاً وتعظيماً وتكريماً وبراً، اللهم أنت السلام ومنك السلام فحينا ربنا بالسلام ".
ثالثا: سنن الطواف:
علمت فيما مضى واجبات الطواف وشروط صحته، أما سننه فتتلخص فيما يلي:(2/146)
1ـ أن يطوف ماشياً رجلاً كان أو امرأة، إلا إن عاقه عن ذلك مرض ونحوه، فلا كراهة في أن يطوف راكباً. روى الشيخان أن أم سلمى قدمت مريضة، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " طوفي وراء الناس وأنت راكبة ".
2ـ أن يستلم الحجر الأسود أول طوافه ويقبله ويضع جبينه عليه. إذ كان ذلك دأب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الشيخان. فإن لم يتمكن أن يتلمسه بيده لازدحام ونحوه أشار إليه بيده عن بعد مكبراً ومهللاً. وهذه السنة خاصة بالرجال. أما المرأة فلا يسن لها استلام لا تقبيل، إلا إذا خلا المطاف أمامها. وإذا كان في الطواف ازدحام، بحيث كان استلام الحجر وتقبيله، يسبب إيذاء للناس سقط استحباب ذلك للرجل أيضا، بل ربما عاد ذلك مكروهاً أو محرماً، حسب درجة الإيذاء التي تأتي نتيجة ذلك. لما رواه الشافعي وأحمد عن عمر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: " يا عمر " إنك رجل قوي، لا تزاحم على الحجر، فتؤذي الضعيف. إن وجدت خلوة، وإلا فهلل وكبر ".
3ـ أن يكرر الاستلام والتقبيل للحجر الأسود عند كل شوط من طوافه، بالشروط التي ذكرناها، ويسن أيضا استلام الحجر بعد الطواف وصلاته.
4ـ أن يقول في أول طوافه: " بسم الله والله أكبر، اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاءً بعهدك، وإتباعا لسنة نبيك محمد عليه الصلاة والسلام " لاتفاق السلف من الأئمة على ذلك. وأن يقول قبالة باب الكعبة: اللهم إن البيت بيتك، والحرم حرمك، والأمن أمنك، وهذا مقام العائذ بك من النار.
وأن يقول عند الانتهاء إلى الركن العراقي: اللهم إني(2/147)
أعوذ بك من الشك والشرك، والنفاق والشقاق، وسوء الأخلاق، وسوء المنظر في الأهل والمال والولد.
وأن يقول عند الانتهاء إلى تحت الميزاب: اللهم أظلني في ظلك يوم لا ظل إلا ظلك، واسقني بكأس نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - شراباً هنيئا لا أظمأ بعده يا ذا الجلال والإكرام.
وأن يقول بين الركن الشامي واليماني: اللهم اجعله حجاً مبروراً، وذنباً مغفوراً، وسعياً مشكوراً، وعملاً مقبولاً، وتجارة لن تبور، يا عزيز يا غفور.
وأن يقول بين الركنين اليمانيين: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
ويدعو بما شاء من الأدعية، والدعاء المأثور الوارد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الطواف أفضل من القراءة، والقراءة أفضل من غير المأثور.
5ـ أن يرمل في الأشواط الثلاثة الأولى، بأن يسرع مشيه مقارباً خطاه، ويمشي على هيئته في الأشواط الأربعة الأخرى، إذا كان سيعقب طوافه سعي، وإلا بأن كان قد سعى بعد طواف سابق، فلا يسن الرمل فيه، ويسن الرمل أن يجعل وسط ردائه تحت منكبه الأيمن، ويلقي طرفيه فوق منكبه الأيسر. ويسمى ذلك اضطباعاً. وذلك لما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه لما دخل مكة لعمرة القضاء فعل ذلك وأمر أصحابه بذلك، وقال: " رحم الله امرءاً أراهم اليوم من نفسه قوة ".
6ـ أن يصلى بعد أن يتم طوافه، ركعتين خلف مقام إبراهيم يقرأ في الأولى بقل يا أيها الكافرون وفي الثانية بقل هو الله أحد.(2/148)
لما صح من رواية مسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك وندب الناس إليه وهو يقرأ قول الله تعالى: " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ".
رابعاً: سنن السعي:
1ـ يسن إذا سعى بعد طواف ألا يعيد السعي بعد طواف آخر. فإذا سعى بعد طواف القدوم (وهو سنة كما علمت) يكره أن يعيده بعد طواف الإفاضة الذي هو ركن في الحج.
2ـ يستحب أن يرقى في أول سعيه على الصفا، بحيث يشاهد البيت لو لم يكن دونه حجاب، ثم يستقبل القبلة قائلاً: " الله اكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد. الله أكبر على ما هدانا، والحمد لله على ما أولانا. لا إله إلا الله وحده لا شريك له. له الملك وله الحمد يحي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير " فإذا وصل بعد ذلك إلى المروة رقى عليها وقال مثل ذلك.
3ـ أن يسعى ماشياً ما أمكنه ذلك، فإذا وصل إلى ما بين الميلين المعروفين سن له أن يعدو ويهرول. ويدعوا أثناء ذلك وعند صعوده على الصفا والمروة كل مرة بما يجب لنفسه ولإخوانه وللمؤمنين.
خامساً: سنن الخروج إلى عرفة:
الوقوف بعرفة ـ كما قد عرفت ـ ركن من أهم أركان الحج. ويمكن تحقيقه بأن يذهب إليه الحاج رأساً، دون مرور بمكة. ولكن إذا أراد اتباع السنة، وتطبيق المراحل التي اجتازها النبي - صلى الله عليه وسلم - في الذهاب إلى عرفة، كان عليه أن يراعي الخطوات التالية:
1ـ أن يجعل صعوده إلى عرفة بعد دخوله مكة وأدائه طواف القدوم كما ذكرنا.(2/149)
2ـ أن يخطب إمام المسلمين أو كبير قدوة فيهم، في مكة، في سابع ذي الحجة، بعد صلاة الظهر يوجههم إلى الصعود إلى منى صباح اليوم التالي، وما يلي ذلك من خطوات المناسك. ليكونوا على بينة من الأعمال التي هم مقبلون عليها.
3ـ أن يخرجوا صباح اليوم الثامن إلى منى فيقيموا هناك إلى صباح اليوم التاسع. يصلون فرائضهم الخمسة في مسجد الخيف، حيث كان يصلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
4ـ أن يتجهوا صباح اليوم التاسع بعد شروق الشمس إلى عرفات. ويسن أن لا يدخلوها إذا وصلوا إلى قريب من حدودها، بل يقيمون بنمرة (مكان قريب عرفات) إلى أن تزول الشمس، حيث يصلون الظهر والعصر جمع تقديم، ثم يدخلون عرفات ويقفون بها إلى الغروب، يذكرون الله تعالى ويدعون ويكثرون التهليل والإنابة والتضرع إلى الله عز وجل. هكذا فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه أصحابه، فيما صح عنه، في حجة الإسلام التي أداها قبيل وفاته.
سادساً: سن المبيت بالمزدلفة:
فإذا وصلوا إلى مزدلفة (وقد عرفت أن المبيت بها واجب، بحيث يوجد فيها ولو دقيقة بعد منتصف الليل) استحب مراعاة الأمور التالية:
أـ البقاء في المزدلفة إلى أذان الفجر، حيث يصلون الصبح فيها مغلسين أي في أول وقتها
ب ـ الاتجاه إلى منى بعد أن يأخذوا من المزدلفة حصى الجمار: سبع حصيات كل منها أكبر من الحمصة، ودون حبة الفول.
لما رواه النسائي والبيهقي عن الفضل بن العباس رضي الله عنهما:(2/150)
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له غداة النحر: " التقط لي حصى ". قال فلقطت له حصيات مثل حصى الخزف.
ج ـ الوقوف عند المشعر الحرام (وهو جبل صغير في آخر المزدلفة) إذا وصلوا إليه، والدعاء هناك إلى الإسفار، مع الإكثار من قول: " ربنا أتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار ". وذلك لصريح قوله تعالى: {فَاذْكُرُواْ اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ} ثم يواصلون سيرهم إلى منى، شعارهم التلبية والذكر، بحيث يصلونها بعد طلوع الشمس.
سابعاً: سنن الرجم
يسن في رجم جمرة العقبة اتباع الآداب التالية:
1ـ أن لا يبتدئ إذا وصل إلى منى بشيء غير رمي الجمار، إذ هو تحية منى ذلك اليوم.
2ـ أن يقطع التلبية عند ابتداء الرمي لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يزل ملبياً حتى إذا رمى قطع التلبية، واستبدل بها التكبير.
3ـ أن يكبر مع قذف كل حصاه، وأن يرمي بيده اليمنى، رافعاً لها حتى يري بياض إبطه. أما المرأة فلا ترفع، وأن تكون الحصاة في قدر الباقلاء.
ويسن في رمي الجمار أيام التشريق اتباع ما يلي:
1ـ أن يرمي الجمار إذا زالت الشمس وقبل أن يصلي الظهر، إلا إذا حال ازدحام شديد دون ذلك فلا مانع من التأخير.
2ـ أن يقف من الجمرة الأولى والثانية موقفاً بحيث يتجه إلى(2/151)
القبلة، ثم يرمي إليها الجمار واحدة إثر أخرى على النحو الذي ذكرناه في جمرة العقبة.
3ـ أن ينحرف بعد الرمي قليلاً بحيث لا يناله حصى الناس أثناء الرمي، ويجعل الجمرة خلفه، ويستقبل القبلة، ويدعوا الله بخشوع وتضرع بما شاء لنفسه ولإخوانه، ويسن أن يطيل ذلك قدر قراءة سورة البقرة. فإذا أتى الجمرة الثانية فعل مثل ذلك ودعا بعد الرمي بدون أي فرق بينهما، حتى إذا وصل إلى جمره العقبة، وهي التي كان قد رماها يوم النحر، رمى الجمار كما فعل في السابق. ولا يدعو بعد ذلك، ولا يقف عندها. دليل ذلك كله فعله - صلى الله عليه وسلم - فيما صح في الحديث الصحيح.(2/152)
كيفية التحلل من الحج
عرفت فيما مضى أن الدخول في مناسك الحج يستلزم تلبس الداخل في التزامات معينة، وحرمة تلبسه بطائفة من التصرفات والأعمال لتي سبق بيانها.
فمتى يتحلل الإنسان من الحج والتزاماته، ومن الحظر المفروض عليه. وكيف يكون ذلك؟
يبدأ وقت التحلل من بعد منتصف ليلة عيد النحر، عندما يكون قد دفع من عرفات وبات البيتوتة الواجبة في المزدلفة واتجه عائداً إلى منى. هنالك تكون أمامه ثلاثة أعمال هامة من مناسك الحج في انتظاره وهي: رمي جمرة العقبة، الحلق، الطواف، فإذا أنجز الحاج اثنين من هذه الأعمال الثلاثة، أيا كانت، فقد تحلل من الحج التحلل الأول، ويسمونه: التحلل الأصغر، فيجوز له مباشرة جميع المحرمات العشرة السابق ذكرها ما عدا النساء: وطأ، ومباشرة، عقد نكاح. أي فيلبس ثيابه ويتطيب. الخ فإذا أنجز الحاج العمل الثالث الباقي من تلك الأعمال الثلاثة، فقد تحلل من الحج تحللا كاملاً، ويسمونه: التحلل الأكبر، أي فيجوز له مباشرة النساء وتوابعها أيضا. دليل ذلك ما رواه أحمد وأبوداود من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب وكل شيء إلا النساء ".(2/153)
أدعية الحج
تمهيد:
1ـ الدعاء عبادة بل هو مخ العبادة، وهو في الحقيقة تعبير عملي عن يقظة الضمير، والشعور بالحاجة إلى تأييد الله وعونه.
2ـ ذلك ورد الأمر به في القرآن والسنة، قال تعالى: {ادعوا ربكم تضرعاً وخفية} وقال: {وَقَالَ
رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}، وقال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}
وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لا يرد القضاء إلا الدعاء " وقال: " الدعاء هو العبادة ".
3ـ ولا شك أنه من أعظم دواعي إجابة الدعاء: إخلاص القلب، وطهارة النفس، وطيب الكسب، والإعراض عن الدنيا والإقبال على الله.
والإنسان في أيام الحج وقت أداء المناسك يكون أكثر استعداداً للاتصاف بالأوصاف التي ذكرناها، مما يجعل الإنسان أكثر تعرضاً لرحمة الله وإجابة دعائه.
4ـ لذلك كله شرع الدعاء في أيام الحج واستحب الإكثار منه رغبة ورهبة خوفاً وطمعاً.(2/154)
5ـ ولا شك أن أفضل الدعاء ما كان مأثوراً، في كتاب الله مثل قوله تعالى: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} أو في السنة، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا استوي على بعيره خارجاً إلى سفر، كبر ثلاثاً ثم قال: (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون، اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا سفرنا هذا واطو عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل).
6ـ واعلم أنه قد أثرت أدعية كثيرة، في مناسك الحج ولكنها ليست كلها مما يصح نسبتها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل أكثرها لم يصح عنه، وإنما استحبها السلف الصالح ورويت عن كثير من العلماء، والصالحين، فيستحب للإنسان أن يدعو بها على أنها دعاء، أو أن يدعوا بغيرها مما ينشرح له صدره وتطيب له نفسه غير ملتزم بدعاءٍ معين، وقد مر بك بعض الأدعية أثناء دراستك لفقرات أبحاث الحج مخرجة، أما ما سنذكره الآن فسنذكره من غير نسبة لأحد.
الأدعية في الحج
1ـ عند الإحرام:
قال الإمام الرازي: لو قال الحاج بعد التلبية: (اللهم لك أحرم نفسي وشعري وبشري، ولحمي ودمي) كان حسناً.
2ـ إذا رأى شيئاً أعجبه:
وإذا رأى شيئاً أعجبه بعد إحرامه قال: (لبيك إن العيش عيش الآخرة) اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم -.(2/155)
3ـ إذا وصل إلى حرم مكة:
وإذا وصل الحاج إلى مكة استحب له أن يقول: (اللهم هذا حرمك وأمنك، فحرمني على النار، وآمني من عذابك يوم تبعث عبادك، واجعلني من أوليائك وأهل طاعتك).
4ـ إذا دخل مكة ووقع بصره على الكعبة:
وإذا دخل مكة ووقع بصره على الكعبة استحب أن يقول:
(اللهم زد البيت تشريفاً وتعظيماً وتكريماً ومهابةً وزد من شرفه وكرمه ممن حجه، أو اعتمره تشريفاً وتكريماً وتعظيماً وبراً، اللهم أنت السلام ومنك السلام، فحينا ربنا بالسلام).
5ـ عند الطواف:
ويقول عند البدء بالطواف: (باسم الله والله أكبر، اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاءً بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك عليه الصلاة والسلام).
ويقول في رمله في الأشواط الثلاثة: (اللهم اجعله حجاً مبروراً، وذنباً مغفوراً، وسعياً مشكوراً)
ويقول في الأشواط الأربعة الباقية: (اللهم اغفر وارحم، واعف عما تعلم، وأنت الأعز الأكرم، اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار).
6ـ عند السعي:
يستحب على الصفا أن يستقبل القبلة ويقول: (الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا، والحمد لله على ما أولانا، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير، لا إله(2/156)
إلا الله وحده أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، اللهم إنك قلت ادعوني أستجب لكم، وإنك لا تخلف الميعاد، وإني أسألك كما هديتني إلى الإسلام أن لا تنزعه مني حتى تتوفاني وأنا مسلم). ويقول ذلك على المروة أيضاً.
ومن الأدعية المستحبة في السعي أيضاً: (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، اللهم إني أسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والفوز بالجنة والسلامة من كل إثم، والنجاة من النار، اللهم إني أسألك التقى والعفاف والغنى).
7ـ في عرفات:
يستحب الإكثار من الدعاء يوم عرفة لحديث: " خير الدعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ".
روى الترمذي عن علي - رضي الله عنه - قال: أكثر دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة في الموقف: " اللهم لك الحمد كالذي نقول وخيراً مما نقول، اللهم لك صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي، وإليك مآبي، ولك رب تراثي، اللهم إني أعوذ بك من شر ما تجيء به الريح ".
8ـ في المزدلفة والمشعر الحرام:
قال تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ}.
ويستحب أن يقول: (اللهم إني أسألك أن ترزقني في هذا المكان(2/157)
جوامع الخير كله، وأن تصلح شأني كله، وأن تصرف عني الشر كله، فإنه لا يفعل ذلك غيرك ولا يجود به إلا أنت).
9 - بمنى يوم النحر:
يستحب أن يقول إذا انصرف من المشعر الحرام ووصل منى (الحمد لله الذي بلغنيها سالماً معافى، اللهم هذي مني قد أتيتها وأنا عبدك، وفي قبضتك، أسألك أن تمن عليَّ بما مننت به على أوليائك، اللهم إني أعوذ بك من الحرمان والمصيبة في ديني يا أرحم الراحمين.
10ـ بمنى أيام التشريق:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أيام التشريق أيام كلها أكل وشرب وذكر لله تعالى " فيستحب الإكثار من الأذكار، وأفضلها قراءة القرآن، ويستحب أن يقف عند الجمرة الأولى مستقبلاً الكعبة، ويحمد الله ويكبره ويهلل ويسبح، ويدعو مع حضور القلب وخشوع الجوارح.
11ـ عند شرب ماء زمزم:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ماء زمزم لما شرب له " ويستحب أن يقول: (اللهم إنه قد بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ماء زمزم لما شرب له " اللهم إني أشربه لتغفر لي ولتفعل كذا وكذا ـ مما يحب أن يدعوا به ـ).
الخلاصة:
هذه بعض أدعية اخترناها من كتاب الأذكار للإمام النووي رحمه الله تعالى، وأكثرها كما يظهر لك من أقوال السلف الصالح،(2/158)
وأدعية العلماء المؤمنين دعوا بها وأرادوا أن يعلموها الناس على الأخص العوام منها، ليدعوا بها في تلك الأماكن الطاهرة وفي تلك الحالات الخاشعة، علماً بأن المأثور عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك قليل، ولا يصح أن يعتقد الإنسان أن هذه الأدعية هي سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقواله، بل هي أدعية مرسلة يصح أن يدعو بها الإنسان ويدعو بغيرها مما يشاء والله نسأل أن يلهمنا الدعاء الذي يرضاه وأن يرزقنا الإجابة كما يحب ويرضى.(2/159)
الإخلال بالحج
اعلم أن الإخلال بالحج يكون بسبب من الأسباب التالية:
السبب الأول:
ترك مأمور به أذن الشارع للحاج بتركه بشرط الفدية.
السبب الثاني:
ترك واجب من الواجبات الخمسة التي سبق ذكرها.
السبب الثالث:
ترك ركن من أركان الحج وهو إما أن يكون الوقوف بعرفة أو غيره من بقية الأركان ولكل منا حكم.
السبب الرابع:
ارتكاب شيء من محرمات الإحرام التي مضى ذكرها ..
فالإخلال بالحج إنما يكون بسبب من الأسباب الأربعة، وهي أسباب متفاوتة فيما تترك من أثر، فالبعض منها يجبر بفدية، والبعض لا يجبر بشيء. ولنبدأ بتفصيل القول في كل منها.(2/160)
السبب الأول:
أن يترك مأموراً به ولكن أذن الشارع للحاج بتركه بشرط الفدية وهذا السبب محصور في أن يحج متمتعاً أو قارناً فإن المأمورية في الأصل إنما هو الإفراد في مذهب الشافعي. ولكن لا مانع من أن يحرم متمتعاً أو قارناً، بشرط أن يذبح لقاء ذلك هدياً وهو شاة مما تجزىء به الأضحية. فإن لم يجد الشاة أو ثمنها صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع لقوله تعالى: {َمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} فإن لم يصم في الحج ثلاثة أيام صامها إذا رجع إلى أهله وفرق بينهما وبين السبعة بقدر أربعة أيام ومدة إمكان السير إلى أهله.
السبب الثاني:
أن يترك شيئاً من الواجبات التي سبق ذكرها، بأن لا يحرم من الميقات، أو يترك الرمي، أو المبيت، بمزدلفة، أو بمنى، أو يترك طواف الوداع.
فمن ترك واحداً من هذه الواجبات التي سبق ذكرها، فقد أخل بالحج، وعليه ليجبر هذا الإخلال أن يذبح شاة إن تيسر له ذلك، فإن لم يتيسر وجب عليه في الأصح أن يصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله.
السبب الثالث:
ترك ركن من أركان الحج، وهو إما يكون تركاً للوقوف بعرفة أو تركاً لواحد من بقية الأركان الأخرى.
فالأول: وهو ترك الوقوف بعرفة يترتب عليه وجوب ما يلي:(2/161)
أـ ذبح دم. كدم المتمتع أو الصيام إن لم يتيسر الدم.
ب ـ التحلل بعمرة، بأن يعمل أعمال العمرة ثم يتحلل، ومع ذلك فهي لا تحسب له عمرة مسقطة للواجب.
ج ـ قضاء هذا الحج، سواء قد أحرم به عن حجة الفرض أو أحرم به متطوعاً، وذلك على الفور أي السنة المقبلة، ولا يجوز التأخير عنها إلا لعذر.
ولا فرق في هذا بين أن يترك الوقوف بعرفة بعذر كنوم ونسيان ونحو ذلك. أو بغير عذر.
والثاني: وهو ترك واحد من الأركان، كأن يترك طواف الإفاضة والسعي، أو الحلق فهذه لا مدخل للجبران فيها، ولا يرتفع الإخلال، إلا يفعل المتروك نفسه، أي فيبقي الحج معلقاً حتى يتدارك، مهما تطاول الزمن ومضى الوقت.
السبب الرابع:
أن يرتكب شيئاً من محرمات الإحرام التي مضى بيانها: كأن يحلق شعراً، أو يقلم ظفراً، أو يلبس مخيطاً ... إلى آخرة، فمن ارتكب شيئاً من المحرمات، وجب عليه جبر الإخلال الذي نتج عن ذلك على الوجه التالي:
أولاً: إن كان المحرم الذي ارتكبه: حلقاً لشعر، أو قلماً لأظافر، أو لبساً لمخيط، أو تطيباً، أو ستراً للرأس، أو مباشرة فيما دون الجماع، وجب عليه واحد من الأمور التالية:
أـ ذبح شاة مما تجزئ به الأضحية.
ب ـ إطعام ستة مساكين كل مسكين ما يساوي نصف صاع.(2/162)
ج ـ صيام ثلاثة أيام.
فهو مخير فعل واحد من هذه الأمور الثلاثة، بشرط ألا يقل المحلوق عن ثلاث شعرات، أو ثلاثة أظافر. فإن كان دون ذلك، ففي الشعرة الواحدة أو الظفر الواحد مد طعام وفي الشعرتين أو الظفرين مدين.
ثانياً: إن كان المحرم الذي ارتكبه الحاج جماعاً وجب أن يذبح بدنة، فإن لم يجد قومت البدنة دراهم (وتعتبر القيمة بسعر مكة) وقومت الدراهم طعاماً يتصدق به، فإن لم يجد قيمة البدنة أيضاً، قدر الطعام أمداداً (والمد ملء حفنة) عن كل مد يوماً.
ثالثاُ: أما إن كان المحرم اصطياداً، فينظر:
1ـ إن كان الحيوان الذي اصطيد، له مثل في الأنعام، وجب ذبح مثله من الأنعام. ففي صيد النعامة بدنة، وفي بقر الوحش وحماره بقرة، وفي الغزل عنز ... . إلخ.
2ـ إن كان الحيوان لا نقل فيه عن الصحابة وجُهل المماثل له من الأنعام، وجب الرجوع في ذلك إلى قرار عدلين، من ذوي الخبرة لقوله تعالى: {لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ}.
3ـ أما إذا كان الحيوان مما لا مثيل له، فيجب إخراج القيمة. عندئذ والتصدق بها على الفقراء ويرجع في تحديد القيمة إلى قرار عدلين من ذوي الخبرة.
4ـ يستثنى من ذلك كله الحمام ونحوه مما يهدر، ففي الواحد شاة من ضأن أو معز نقل ذلك عن الصحابة رضوان الله عليهم، والصحيح أن مستندهم في ذلك هو التوقيف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك هو أصل الفدية في الصيد. ثم إن كان الحيوان مثلياً(2/163)
تخير الصائد في جزاء الإتلاف بين أن يذبح مثله من النعم، كما ذكرنا ويتصدق به على فقراء الحرم خاصة، وبين أن يقوم ذلك المثل بالدراهم ويتصدق بما يسويها طعاماً عليهم وبين أن يصوم عن كل مد يوماً. دليل ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} المائدة 95.
أما غير المثلي، فيتصدق بالقيمة التي يقررها العدلان الخبيران، أو يصوم عن كل مد من ذلك يوماً. يتبين لك مما ذكرنا: أن فدية ترك الواجب فدية مرتبة: الذبح أولاً، فإن عجز فالتصدق، فإن عجز فالصيام، وأن فدية ارتكاب محرم فدية محيرة. إن شاء ذبح، أو أطعم، أو صام. وذلك طبقاً للتفصيل الذي ذكرناه والله أعلم.
هذا ولابد من بيان أن الأضحية سنة للحاج كغيره. وأن وقتها من بعد الرمي إلى آخر أيام التشريق.
الدماء الواجبة في الحج وما يقوم مقامها:
الدماء الواجبة في الحج على هذا خمسة أقسام:
القسم الأول: الدم المرتب المقدر: وهذا يجب عند ترك واجب من واجبات الحج التي مر ذكرها. فإذا ترك واجباً مما ذكر وجب عليه أولاً ذبح شاة مجزئة في الأضحية، أو سُبُع بقرة أو سُبُع بدنة. فإن لم يجد شيئاً من ذلك وجب عليه أن يصوم بدلها عشرة أيام، ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله. ويدخل في هذا القسم دم التمتع ودم الفوات للوقوف، بعد التحلل لعمرة.
القسم الثاني: مخير مقدر: وهذا يجب عند فعل محظور كحلق(2/164)
شعر وقلم ظفر وما شابه ذلك، فيجب على من فعل ذلك ذبح شاة أو صيام ثلاثة أيام أو ثلاثة آصع من طعام بر أو شعير يدفعها إلى ستة من مساكين الحرم، لكل مسكين نصف صاع. ويكفي في وجوب هذه الفدية إزالة ثلاث شعرات، أو قلم ثلاثة أظافر.
القسم الثالث: مخير معدل: وهذا ما يجب عند قطع نبت أو بقتل صيد، فمن فعل ذلك وجب في حقه إن كان للصيد مثل أو شبه صوري أن يذبح المثل في الحرم، أو يشتري لأهل الحرم حباً بقدر قيمته يوزعه عليهم، أو يصوم عن كل مد يوماً.
وإن لم يكن لذلك مثل فهو مخير بين الإطعام والصيام. إلا الحمام فيجب في الحمامة شاة.
القسم الرابع: مرتب معدل: وهو الدم الواجب بالإحصار، فمن منع من الحج بعد إحرامه وجب عليه أولاً أن يذبح شاة حيث أحصر، فإن لم يستطع فليطعم بقدر ثمن الدم يوزعه على الفقراء، فإن عجز عن الإطعام صام عن كل مد يوماً.
القسم الخامس: مرتب معدل أيضاً: وهذا يجب على المجامع خاصة، فمن جامع قبل الإحلال وجب أن يذبح بعيراً، فإن عجز وجب عليه أن يذبح بقرة، فإن عجز وجب عيه أن يذبح سبع شياه، فإن عجز عن ذلك أطعم بقيمة البعير أهل الحرم، فإن عجز عن الإطعام، صام عن كل مد يوماً.
هذا ولا يجزئ الذبح والإطعام إلا في الحرم، وأما الصيام فيصوم حيث شاء، هذا والمراد بالترتيب في هذه الدماء أنه لا يجوز أن ينتقل إلى الثاني إلا عند عجزه عن الأول، وهو ضد التخيير فهو مفوض إليه أن يفعل ما يختاره. ومعني التقدير أن الشرع قد قدر البدل المعدول إليه سواء أكان ترتيباً أم تخبيراً، ويقابله التعديل ومعناه(2/165)
أنه أمر فيه بالتقويم والعدول إلى الغير بحسب القيمة، ولقد جمع الشيخ العمريطي شرف الدين يحي في منظومته "نظم الغاية والتقريب" الكلام عن تلك الدماء فقال:
وسائر الدماء في الإحرام ... محصورة في خمسة أقسام
فالأول المرتب المقدر ... بترك أمر واجب ويجبر
بذبح شاةٍ أولاً وصاما ... للعجز عنه عشرة أيام
ثلاثة في الحج في محله ... وسبعة إذا أتى لأهله
ثاني الدما مخيري مقدر ... بنحو حلق من أمور تخطرُ
فالشاة أو ثلاثة أيام ... يصومها أو آصع طعام
لستةٍ هم من مساكين الحرم ... لكل شخص نصف صاع منه تم
ثالثها مخير معدل ... يقطع نبت أو بصيد يقتل
فإن يكن للصيد مثل في النعم ... فليذبح المثل ابتداء في الحرم
أو يشتري لأهل ذلك الحرم ... حبا بقدر ما له من القيم
أو يعدل الأمداد منه صوما ... يصومه عن كل مد يوما
وخيروا في الصوم والإطعام في ... إتلاف صيد حيث مثله تفي
رابعها مرتب معدل ... فواجب بالحصر حيث يحصل
دم فإن لم يستطع فليطعم ... قوتا يرى بقدر قيمة الدم
وصام عند العجز عن إطعام ... ما يعدل الأمداد من أيام
خامسها يختص بالمجامع ... مرتب معدل كالرابع
لكن هنا البعير قبل معتبر ... وبعده للعجز رأس من بقر
وعند عجز عن سبع من غنم ... ثم الطعام يشترى عند العدم
بقيمة البعير حيثما وجد ... وعدله من الصيام إن فقد
ولم يجب كون الصيام في الحرم ... والهدي والإطعام فيه ملتزم(2/166)
حجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
هذا وقد أحببنا أن نضع لك في ختام بحث الحج حديث جابر - رضي الله عنه - في حجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنقف بذاكرتك بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحبه الكرام وهم يؤدون هذه الفريضة عبر الزمان الطويل.
روى مسلم عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكث تسع سنين لم يحج، ثم أُذِّن في الناس في العاشرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاج، فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويعمل مثل عمله. فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحُليفة، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كيف أصنع؟ قال: اغتسلي، استثفري (1) بثوبٍ وأحرمي، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد ثم ركب القصواء (2)، حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماشٍ وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيء عملنا به، فأهل (3)
_________
(1) استثفري من الاستفثار وهو أن تشد المرأة في وسطها شيئا، وتأخذ خرقة عريضة تجعلها على محل الدم وتشد طرفيها من قدامها ومن وراءها لمنع سيلان الدم
(2) القصواء: اسم ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(3) أهل: من الإهلال وهو رفع الصوت بالتلبية.(2/167)
بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك لبيك.
وأهل الناس بهذا الذي يهلون به، فلم يرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهم شيئاً منه، ولزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلبيته. قال جابر لسنا ننوي إلا الحج، لسنا نعرف العمرة، حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن، فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم، فقرأ:
{وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} فجعل المقام بينه وبين البيت، فكان يقرأ في الركعتين:
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ثم رجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللهِ} أبدأ بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا فرقي عليه حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة، فوحد الله وكبره، وقال: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده " ثم دعا بين ذلك قال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة، ففعل على المروة كما فعل على الصفا، حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي، سعى حتى إذا صعدنا مشى حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا، حتى إذا كان آخر طوافه على المروة فقال: " لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي، وجعلها عمرة. فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل، وليجعلها عمرة " فقام سراقة بن مالك بن جعشم، فقال: يا رسول الله ألعامنا هذا أم لأبد، فشبك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصابعة واحدة في الأخرى وقال: " دخلت العمرة في الحج، مرتين، لا بل لابد أبد " وقدم علي من اليمن ببدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجد فاطمة ممن حل، ولبست ثياباً صبيغاً واكتحلت، فأنكر ذلك عليها، فقالت: إن أبي أمرني بهذا. قال: فكان علي يقول بالعراق: ذهبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متحرشا (1)
على فاطمة للذي صنعت مستفتياً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -
_________
(1) التحريش: الإغراء، والمراد هنا أن يذكر له ما يقتضي عتابها ولومها ..(2/168)
فيما ذكرت عنه، فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها، فقال: " صدقت صدقت، ماذا قلت حين فرضت الحج؟ " قال: قلت: " اللهم إني أهل بما أهل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ": قال " فإن معي الهدي فلا تحل ".
قال فكان جماعة الهدي الذي قام به علي من اليمن، والذي أتي به النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة. قال فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن كان معه هَدْي، فلما كان يوم التروية (1) توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج، وركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلاً حتى طلع الشمس، وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة. فسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام (2) كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس، أمر بالقصواء فرحلت له (3)، فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال:
" إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دماءنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته
_________
(1) يوم التروية: هو اليوم الثامن من ذي الحجة.
(2) كانت قريش في الجاهلية تقف في المشعر الحرام، وهو جبل بالمزدلفة يقال له قزح، وقيل: أن المشعر الحرام كل المزدلفة، وكان سائر العرب يتجاوزون المزدلفة ويقفون بعرفات، فظنت قريش أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقف في المشعر الحرام على عاداتهم ولا يتجاوزه، ولكن رسول الله تجاوزه إلى عرفات تنفيذا لأمر الله تعالى، في قوله: (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) أي سائر العرب غير قريش، وإنما كانت قريش تقف بالمزدلفة لأنها من الحرم ويقولون نحن أهل حرم الله فلا نخرج منه.
(3) رحلت: وضع عليها الرحل.(2/169)
هذيل، وربا الجاهلية موضوع (1)، وأول ربا أضع ربا عمي العباس بن عبدالمطلب، فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت، وأديت ونصحت، فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى الناس ينكتها (2) إلى الناس، اللهم أشهد، اللهم أشهد ثلاث مرات، ثم أذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئاً، ثم ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل المشاة (3) بين يديه، واستقبل القبلة، فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص، ولم وأردف أسامة خلفه، ودفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد شنق (4) للقصواء الزمام،
حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله (5) ويقول بيده اليمنى (6) أيها الناس السكينة السكينة، كلما أتى حبلاً من الجبال أرخى لها قليلاً حتى تصعد، حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذن واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئاً، ثم اضطجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى طلع الفجر، وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعاه وكبره.
_________
(1) أي باطل ومردود.
(2) ينكتها: يقلب أصبعه ويرددها إلى الناس مشيراً إليهم.
(3) حبل المشاة: أي مجتمعهم.
(4) شنق: ضم وضيق.
(5) المورك: الموضع الذي يثني الراكب رجله عليه أمام واسطة الرجل إذا مل من الركوب.
(6) يقول بيده: أي يشير بها قائلا أيها الناس ألزموا السكينة، وهي الرفق والطمأنينة.(2/170)
وهلله ووحده، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً، فدفع قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضل بن عباس وكان رجلاً حسن الشعر أبيض وسيماً (1)، فلما دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرت به ظعن
يجرين (2)، فطفق الفضل ينظر إليهن فوضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده على وجه الفضل، فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر، فحول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده من الشق الآخر على وجه الفضل يصرف وجهه من الشق الآخر ينظر، حتى أتى بطن محسر. فحرك قليلاً ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاه منها، مثل حصى الخذف رمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثاً وستين بيده (3)، ثم أعطى علياً فنحر ما غبر (4)، وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكل من لحمها وشرب من مرقها. ثم ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأفاض إلى البيت (5)، فصلى بمكة الظهر.
فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم فقال: انزعوا (6) بني عبدالمطلب فلولا أن يغلبكم الناس (7) على سقايتكم لنزعت، فناولوه دلواً فشرب منه.
_________
(1) وسيما: جميلاً.
(2) الظعن: جمع ظعينة، وهي البعير الذي عليه امرأة، ثم سميت به المرأة مجازاً لملابستها البعير.
(3) فنحر ثلاثاً ستين بيده: فيه دليل على استحباب تكثير الهدي، وكان هدي النبي مائة بدنة.
(4) ما غبر: ما بقي.
(5) أفاض إلى البيت أي طاف بالبيت طواف الإفاضة ثم صلى الظهر.
(6) انزعوا: استقيموا بالدلاء وانزعها بالرشاء (الحبال).
(7) فلولا أن يغلبكم الناس: لولا خوفي أن يعتقد الناس أن ذلك من مناسك الحج فيزدحموا عليه بحيث يغلبونكم ويدفعونكم عن الاستقاء لاستقيت معكم لكثرة فضيلة هذا الاستقاء.(2/171)
زيارة مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقبره الشريف
أهمية ذلك ودليله:
أما مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد دل على استحباب زيارته قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى ".
وأما قبره - صلى الله عليه وسلم - فقد دل على استحباب زيارته وعظم الأجر المنوط بها، إجماع الصحابة كلهم والتابعين من بعدهم على زيارة قبره - صلى الله عليه وسلم - كما يدل على ذلك ما ثبت من استحباب زيارة القبور عامة بقوله - صلى الله عليه وسلم - " كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها " وبفعله إذ كان يزور البقيع بين حين وأخر. ولا ريب أن الاستحباب يتضاعف إذا كان القبر قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. كما يدل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ، عندما أرسله إلى اليمن: " يا معاذ، عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمر بمسجدي هذا وقبري " رواه أحمد بسند صحيح. ومعلوم أن (لعلك) هنا بمعنى الطلب والرجاء.
آداب زيارة مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
فإذا أدركت مدى أهمية زيارة مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقبره الشريف، فلتعلم أن على الحاج إذا فرغ من نسك حجه وعمرته،(2/172)
كان عليه حين يتجه إلى مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لينال شرف زيارته وزيارة مسجده التزام الآداب التالية:
أولاً: يستحب أن يعقد العزم ـ لدى اتجاهه إلى المدينة المنورة ـ على زيارة النبي - صلى الله عليه وسلم - وزيارة مسجده، حتى يكتب له أجرهما معاً. وأن يكثر في طريقه من الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ثانياً: يستحب أن يغتسل قبيل دخوله المدينة إن تيسر له ذلك، وإلا فليغتسل قبل دخوله المسجد، ويلبس أنظف ثيابه.
ثالثاً: إذا وصل إلى باب مسجده - صلى الله عليه وسلم - فليقدم رجله اليمنى في الدخول قائلاً: " أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وبسلطانه القديم من الشيطان الرجيم، بسم الله، والحمد لله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وسلم. اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك " قال الإمام النووي: هذا الذكر والدعاء مستحب في كل مسجد، وقد وردت فيه أحاديث في الصحيح وغيره، ثم يدخل فيتجه إلى الروضة الكريمة، وهي ما بين المنبر والبيت، فيصلى تحية المسجد يجنب المنبر. إذ يظن أن يكون موقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
رابعاً: إذا صلى التحية في الروضة، فليأت إلى القبر الكريم، فيستدبر القبلة ويستقبل جدار القبر، ويبعد عن رأس القبر نحو أربعة أذرع. ويقف ناظراً إلى أسفل ما يستقبله من جدار القبر، وقد أفرغ قلبه من علائق الدنيا واستحضر جلالة موقفه ومنزلة من هو في حضرته. ثم يسلم بصوت خفيض قائلاً:
السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا نبي الله، السلام عليك يا خيرة الله، السلام عليك يا خيرة رب العالمين، جزاك الله يا رسول الله عنا أفضل ما جزى نبياً وسولاً عن أمته. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أنك عبده ورسوله من خلقه،(2/173)
وأشهد أنك قد بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، وجاهدت في الله حق جهاده.
ثم ينحرف قليلاً نحو اليمين حيث قبر أبي بكر - رضي الله عنه - فيقول: السلام عليك يا أبا بكر الصديق، ثم ينحرف إلى اليمين أيضا حيث قبر عمر بن الخطاب فيقول: السلام عليك يا عمر بن الخطاب.
ثم يعود إلى مكانه الأول، ويتجه إلى القبلة فيدعوا لنفسه وللمؤمنين بما يشاء، فإنها ساعة تُرجى فيها الاستجابة إن شاء الله.
خامساً: لا يجوز الطواف بقبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما قال الإمام النووي، ويكره أن يلصق نفسه بجدار القبر، كما يكره التمسح به وتقبيله، كما هو شأن من الجهال، بل الأدب أن يبتعد عن القبر كما يبتعد عنه - صلى الله عليه وسلم - في حضرته أثناء حياته.
سادساً: ينبغي له مدة إقامته في المدينة المنورة أن يصلي الصلوات كلها في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن يخرج كل يوم إلى زيارة البقيع، وأن يزور قبور شهداء أحد، كما يستحب استحباباً مؤكداً أن يأتي مسجد قباء، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يأتي مسجد قباء في كل يوم سبت ورد ذلك في الصحيحين وغيرهما.(2/174)
حكم من أحصر
أو فاته الوقوف بعرفة
المحصر من منعه مانع دون الوصول إلى مكة والقيام بأعمال الحج فإذا أحرم شخص بالحج أو العمرة، ثم منعه عدو من الوصول إلى مكة أو حبس وسد عليه منافذ الطريق تحلل في مكانه.
والتحلل أن يذبح شاة في مكانه الذي أحصر فيه مع نية التحلل، ثم يحلق رأسه أو يقصر من شعره.
قال الله سبحانه وتعالى:
{َإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}.
وهذه الآية نزلت بالحديبية حين صد المشركون النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عن البيت، وكان معتمراً، فنحر ثم حلق، وقال لأصحابه: (قوموا فانحروا ثم احلقوا).
فإذا فقد الدم فلم يقدر على الذبح قومت الشاة وأخرج طعاماً بقيمتها، فإن عجز عن الطعام صام عن كل مد يوماً.
ويتحلل هذا في الحال ولا ينتظر إلى انتهاء الصيام.
ومن الموانع التي تحول دون إتمام الحج أو العمرة عدم إذن الزوج، فإذا أحرمت المرأة بالحج أو العمرة من غير إذن الزوج، سواء أكان نسكها فرضاً أو نفلاَ، فللزوج تحليلها، فإذا طلب منها ذلك.(2/175)
وجب عليها الإحلال إذا كان زوجها حلالاً، لأن في استمرارها تفويتاً لحق الزوج، ويكون إحلالها كإحلال المحصر الآنف الذكر. وعلى هؤلاء الحج فيما بعد:
ومن فاته الوقوف بعرفة بعذر أو بغير عذر تحلل بطواف وسعي وحلق ويجب عليه دم، ويجب عليه أيضا القضاء فوراً في العام المقابل.
فلقد روى مالك في الموطأ بإسناد صحيح: أن هبَّار بن الأسود جاء يوم النحر وعمر بن الخطاب ينحر هديه، فقال: يا أمير المؤمنين أخطأنا العدد وكنا نظن أن هذا اليوم يوم عرفة. فقال له عمر - رضي الله عنه -: أذهب إلى مكة فطف بالبيت أنت ومن معك، واسعوا بين الصفا والمروة، وانحروا هديكم إن كان معكم، ثم احلقوا أو قصروا، ثم ارجعوا فإذا كان عام قابل فحجوا واهدوا، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع.
ملاحظة: للحاج أو المعتمر أن يشترط أنه إذا مرض أو وقع به نحو ذلك فقد حل، فإذا وقع به ما اشترط جاز له أن يتحلل.
روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: " دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ضباعة بنت الزبير، فقال لها: أردت الحج؟ فقالت: والله ما أجدني إلا وجعة، فقال: حجي واشترطي، وقولي اللهم محلي حيث حبستني".
والإحلال في هذه الحال يكون بالنية والحلق، ولا دم عليه إلا إذا كان قد شرط التحلل بالهدي.
من مات ولم يحج
إذا وجب على الإنسان الحج أو العمرة، ولكنه تراخى عن(2/176)
أدائها فلم يؤدهما حتى مات، مات عاصياً، ووجب تكليف من يحج عنه أو يعتمر، وتدفع النفقة من رأس مال المتوفى، وتعد هذه من الديون، فلا تقسم التركة إلا بعد أداء الديون.
روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما " أن امرأة من جهينة جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن أمي نذرت أن تحج أفأحج عنها؟ قال: نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضية؟ قالت نعم، قال: اقضوا دين الله، فالله أحق بالوفاء" فشبه الحج بالدين الذي لا يسقط بالموت.(2/177)
أحكام منثورة
يلزم المرأة أجرة المحرم إن كان لا يخرج معها إلا بأجرة، وكانت قادرة على دفعها، فإن لم تكن قادرة على ذلك خرجت عن حدود الاستطاعة فلا يجب عليها الحج.
القائد للأعمى كالمحرم للمرأة، فإن لم يجد قائداً إلا بأجرة وجب عليه دفعها.
العاجز عن الحج بنفسه ـ وهو المعضوب ـ يجب عليه استئجار من يحج عنه بأجرة المثل، فإن لم يجد من يحج عنه إلا بأكثر من أجرة المثل لم يلزمه.
إذا بذل ولده مالاً أو أجنبي ليدفعه أجرة لمن يحج عنه لم يلزمه قبوله.
لو تبرع هؤلاء أن يحجوا عنه بأنفسهم وجب عليه قبول ذلك والإذن لهم.
إذا وقف الحجاج يوم العاشر غلطاً بدل اليوم التاسع أجزأهم الوقوف ولم يجب عليهم القضاء لقوله عليه الصلاة والسلام: " يوم عرفة اليوم الذي يعرف فيه الناس ".
المرأة الحائض يجوز لها أن تسافر من غير طواف وداع، لما ورد(2/178)
في الصحيحين عن ابن عباس: " أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه قد خفف عن المرأة الحائض ".
كما يحرم على الحاج الصيد يحرم عليه قطع نبات الحرم الذي لا يستنبت، وتجب فيه الفدية، ففي الشجرة الكبيرة بدنة، وفي الشجرة الصغيرة شاة، وفي النبات القيمة.
صيد المدينة حرام كصيد الحرم إلا أنه لا ضمان فيه.
إذا حج الصبي صح حجه ولكنه لا يقع عن حجة الإسلام، فإذا بلغ وجب عليه أن يحج حجة الإسلام إن كانت توجد فيه شروط الاستطاعة.(2/179)
كيف تحج؟
لقد تحدثنا فيما مضى عن الحج والعمرة وشروط وجوبهما، وعن أركانهما، وعن الواجبات فيهما، وعن مفسداتهما وعن حجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن أمور كثيرة تتعلق بالحج والعمرة.
والآن نريد أن تستعرض أفعال الحج بشكل متسلسل، كي يسهل على المرء المسلم أداء هذه الفريضة العظيمة.
يبدأ المسلم رحلة الحج بأن يؤدي ما عليه من واجبات، فإن كان عليه دين أداه إلى صاحبه، أو استأذن منه في السفر إلى الحج، وإن كان قد آذى مسلماً تحلل منه، وطلب منه المسامحة.
يختار في الحج الرفقة الصالحة، ولاسيما الفقهاء في الدين، فإن ذلك ضروري لأداء فريضة الحج على أكمل وجه.
يتعلم قبل سفره ما لا بد منه من أحكام الحج، وقد عد الإمام الغزالي هذا التعلم فرض عين على كل من أراد أداء هذه الفريضة ,.
إذا بدأ بالسفر إلى الحج جاز له أن يحرم من بيته، وجاز له أن يؤجل الإحرام إلى الميقات.
إذا أراد أن يحرم سواء أكان من بيته أم من الميقات يغتسل أولا، ً ثم يلبس ثياب الإحرام وهي إزار ورداء غير مخيطين ثم يصلي(2/180)
ركعتين سنة الإحرام، ثم يتوجه إلى القبلة ويقول: لبيك اللهم بحج ناوياً ذلك بقلبه أيضاً، هذا إذا أراد الدخول في الحج، وإذا أراد الدخول في العمرة قال: لبيك الهم بعمرة، فإذا فعل ذلك صار محرماً بالنسك وحرم عليه الأشياء التي ذكرناها فيما مضى تحت عنوان محرمات الإحرام.
فإن فعل شيئاً من هذه المحرمات ترتب عليه الفدية التي ذكرناها فيما مضى، وأما الجماع منها فإنه مفسد للحج وموجب للفدية كما ذكرنا.
إذا كان سفره بالطائرة استحسن أن يبدأ بالإحرام عند قيام الطائرة، خشية أن تكون لسرعتها تتجاوز الميقات من غير إحرام، فيلزم الإنسان دم ذلك.
إذا أحرم بالنسك سن له أن يقول: اللهم أحرم لك شعري وبشري ولحمي ودمي، وسن له التلبية، وخاصة إذا صعد مرتفعاً أو هبط وادياً أو التقى برفقة، والتلبية أن يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
والمرأة في ذلك كالرجل، إلا أنها لا يجب عليها خلع المخيط، ولا ترفع صوتها بالتلبية. ونذكر هنا أن المرأة يجب عليها كشف وجهها وكفيها، ويسن خضبهما بحناء كما مر.
إذا شارف المحرم دخول مكة سن له أن يغتسل لدخول مكة، والأفضل الاغتسال عند بئر ذي طوى كما مر.
أن يتجه فور وصوله مكة إلى البيت الحرام قاصداً طواف القدوم، إن كان قد نوى الحج، وإن كان معتمراً نوى بالطواف طواف العمرة، وعند مشاهدته الكعبة المشرفة يرفع يديه مكبراً وداعياً بهذا الدعاء: " اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً وتكريماً ومهابة،(2/181)
وزد من شرفه وعظمه ممن حجه أو اعتمره تشريفاً وتعظيماً وتكريماً وبراً، اللهم أنت السلام ومنك السلام، فحينا ربنا بالسلام ". ثم يدعوا بما شاء ويستحب أن يدخل المسجد من باب بني شيبة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل منه.
ثم يتقدم إلى الكعبة المشرفة ويبتدئ بالطواف من عند الحجر الأسود ويستلمه بيده أو يقبله إن استطاع وهذا سنة، فإذا قبله وجب عليه أن يرفع رأسه ويرجع قليلاً حتى يخرج عن سمت بناء البيت، وإن لم يستطع أشار إليه من بعيد.
ثم يستمر بالطواف من عند الحجر الأسود جاعلاً الكعبة عن يساره، وكلما وصل إلى الحجر الأسود فقد أتم طوفة. وهكذا يفعل ذلك سبع مراتٍ، لأن الطواف سبعة أشواط.
ويجب في الطواف ستر العورة، والطهارة من الحدث والنجس، فلو أحدث في أثناء الطواف تطهر وبنى، ويجب أن يكون الطواف خارج البيت الحرام، فلو دخل من إحدى فتحتي حجر إسماعيل ـ وهو المحوط بجدار قصير ـ وخرج من الفتحة الأخرى لم تحسب له الطوفة، لأن الحجر من البيت الحرام.
ويسن في الطواف أن يقول في أول طوافه " بسم الله والله أكبر، اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك، ووفاء بعهدك، وإتباعا لسنة نبيك - صلى الله عليه وسلم - وليقل قبالة باب الكعبة. " اللهم إن البيت بيتك، والحرم حرمك، والأمن أمنك، وهذا مقام العائذ بك من النار " وليقل بين الركنين اليمانيين: " ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار " ثم يدعوا أثناء طوافه بما شاء.
ويسن أن يرمل في الأشواط الثلاثة الأول إن كان يعقب هذا الطواف سعي ـ والرمل الإسراع في المشي مع تقارب الخطو ـ ويمشي في(2/182)
الأشواط الأربعة الباقية، وليقل في رمله: " اللهم اجعله حجاً مبروراً وذنباً مغفوراً وسعياً مشكوراً ".
ويسن أيضاً أن يضطبع في جميع طواف يعقبه سعي، والاضطباع هو أن يجعل وسط ردائه تحت منكبه الأيمن مع كشفه، ويجعل طرفيه على منكبه الأيسر.
والرمل والاضطباع خاص بالذكر، أما المرأة فلا ترمل ولا تضطبع.
ويسن في الطواف أن يكون قريباً من البيت الحرام بأن يجعل بينه وبين البيت ثلاث خطوات، إلا أن يتأذى بالقرب فالبعد أفضل.
أما المرأة فيسن لها أن تكون في حاشية المطاف إن كان ازدحام.
ويسن استلام الركن اليماني إن أمكن وإلا اكتفي بالإشارة من بعيد، ولم يرد في الركن اليماني سنة في تقبيله، لكن إذا قبله لم يكره.
هذا وأركان الكعبة أربعة: الركن الذي فيه الحجر الأسود ـ يليه حال الطواف الركن العراقي ـ ثم الشامي ـ ثم اليماني. ويطلق على هذا والركن الذي فيه الحجر اسم الركنين اليمانيين.
إذ انتهى من طوافه صلى خلف مقام إبراهيم ركعتين سنة الطواف، يقرأ في أولاهما:
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ويقرأ في الثانية {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ... }
وبعد الانتهاء من الركعتين يأتي فيقبل الحجر الأسود أو يستلمه إن أمكن ذلك.
ثم يخرج من باب الصفا للسعي ويصعد على الصفا مبتدئاً بالسعي، فإذا ارتقى على الصفا قال: "الله أكبر الله أكبر الله اكبر ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا، والحمد لله على ما أولاناً، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحي ويميت بيده الخير(2/183)
وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون " ثم يدعوا بما شاء من أمور الدين والدنيا.
ويسن أن يعيد الذكر والدعاء ثانياً وثالثاً.
ثم ينحدر من الصفا ويمشي حتى يأتي العلم الأخضر فيرمل حتى يصل إلى العلم الثاني فيمشي حتى يصل إلى المروة فهذا شوط.
ثم يعود من المروة إلى الصفا وهذا شوط ثانٍ، والفرض أن يسعى سبعة أشواط. والرمل في السعي سنة للرجل أما المرأة فلا يسن في حقها الرمل كالطواف.
ويسن أن يقول الساعي أثناء سعيه: " رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم، إنك أنت الأعز الأكرم ".
ومما مر علم أن الواجب الافتتاح بالصفا والاختتام بالمروة.
ومما يجدر ملاحظته أن السعي لا يكون إلا بعد طواف قدوم أو طواف ركن.
إذ انتهى من السعي فإن كان قد أحرم بالعمرة حلق شعره أو قصره، وقد انتهى من عمرته.
وإن كان قد أحرم بالحج لم يتحلل بل يبقى محرماً، ويمكث في مكة هكذا إلى يوم الثامن من ذي الحجة وهو يوم التروية.
إذا كان هذا اليوم ـ يوم التروية ـ أحرم بالحج إن لم يكن محرماً ـ ثم مضى الحجاج جميعهم إلى منى ليبيتوا في منى تلك الليلة. والخروج إلى منى يوم الثامن سنة لا يضر تركها بالحج.
إذا كان صباح يوم التاسع بعد طلوع الشمس توجه الحاج من منى إلى عرفات، والسنة أن لا يدخل الحاج عرفات إلا بعد زوال(2/184)
الشمس، بل السنة أن يقيم بنمرة إلى ما بعد دخول وقت الظهر، ويصلي الظهر مع العصر مجموعة جمع تقديم.
ثم يدخل عرفه ويمكث فيها إلى غروب الشمس، وفي عرفات يذكر الحاج ربه ويدعوه بما يشاء، ويكثر من التهليل، والوقوف بعرفة ركن لابد منه كما مر.
وقد ورد أدعية كثيرة يدعى بها في ذلك اليوم العظيم الذي هو أعظم الأيام. منها: " اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، اللهم اشرح لي صدري ويسر لي أمري " ومنها: " ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت. فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم. اللهم انقلني من ذل المعصية إلى عز الطاعة. واكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك، ونور قلبي وقبري، واهدني وأعذني من الشر كله، واجمع لي الخير، اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى" ومنها: " اللهم إنك ترى مكاني، وتسمع كلامي، وتعلم سري وعلانيتي ولا يخفى عليك شيء من أمري، أنا البائس الفقير المستغيث المستجير، الوجل المشفق، المقر المعترف بذنبه، أسألك مسألة المسكين، وابتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، من خشعت لك رقبته وذل لك جسده، وفاضت لك عينه، ورغم لك أنفه ".
إذا غربت الشمس قصدوا مزدلفة، ويكفي في الوقوف بعرفة حضور لحظة من زوال الشمس إلى فجر يوم العيد ففي أي وقت من ذلك وقف كفاه، ولكن الأفضل الجمع بين جزء من النهار وجزء من الليل.
إذا وصل الحاج إلى مزدلفة صلى فيها المغرب والعشاء مقصورة(2/185)
مجموعة جمع تأخير، ويجب أن يبقى فيها إلى ما بعد منتصف الليل، فإن خرج منها قبل منتصف الليل وجب عليه دم. ويسن أن يلتقط من منى حصى الرمي، وهي حصى صغير، ثم يصلي الفجر، ثم يأتي حتى يقف عند المشعر الحرام ـ وهو جبل صغير آخر المزدلفة، ثم يدعو الله عنده، ويكون من جمله دعائه " اللهم كما أوقفتنا فيه وأريتنا إياه، فوفقنا لذكرك كما هديتنا، واغفر لنا وارحمنا كما وعدتنا بقولك وقولك الحق: {َإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} والوقوف عند المشعر الحرام سنة.
ويسن أن يبقى واقفاً عند المشعر الحرام مستقبل القبلة إلى الإسفار ـ وهو طلوع الضوء من المشرق بمقدار ما تتعارف الوجوه ـ ثم يسيرون ليصلوا إلى منى بعد طلوع الشمس.
إذا وصل الحاج إلى منى وجب عليه أن يرمى جمرة العقبة، وهي الجمرة الكبرى التي في غرب منى عند فم الطريق إلى مكة.
ويسن أن يقف عند الرمي مستقبل الجمرة ومنى عن يمينه ومكة عن يساره، ويقطع التلبية عند الرمي.
ويسن أن يكبر مع كل حصاة، فيقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر والله اكبر ولله الحمد. ويسن أن يرمي بيده اليمنى رافعاً حتى يبدو بياض إبطيه، أما المرأة فلا ترفع يدها.
ويجب أن يصيب الحصى المرمى، فإن لم تصب حصاة المرمى لم تحسب.
إذا انتهى الحاج من الرمي ذبح هديه إن كان معه هدي,(2/186)
والهدي ما يسوقه الحاج من النعم ليهديه لمكة وحرمها تقريباً إلى الله تعالى.
ثم يحلق شعره أو يقصر، والأفضل للرجل الحلق، وللمرأة التقصير، والحلق أو التقصير ركن من أركان الحج.
فإذا رمى وحلق فقد تحلل الأول، وحل له ما كان محرماً عليه من لبس ثياب وتطيب وما أشبه ذلك، ولم يبق محرماً عليه إلا النساء.
ثم بعد الحلق يأتي مكة ويطوف حول البيت سبع مرات طواف الإفاضة، وهذا الطواف ركن لا يتم الحج إلا به.
ثم يسعى إن لم يكن قد سعى الحج بعد طواف القدوم. فإذا رمى الحاج وحلق وطاف طواف الإفاضة فقد حل له جميع ما كان محرماً عليه للإحرام، حتى النساء وعقد الزواج.
ثم يرجع إلى منى ليبيت فيها، والمبيت بمنى واجب عليه دم إن تركه.
وبعد زوال الشمس عن وسط السماء أي عند دخول وقت الظهر، يدخل وقت الرمي، فيرمي الجمرة الأولى بسبع حصيات، ثم الجمرة الوسطى، ثم جمرة العقبة ويجب ترتيب الجمرات في الرمي.
ثم يبيت في منى الليلة الثانية، فإذا دخل وقت الظهر، دخل وقت الرمي، فيرمي الجمرة الأولى ثم الجمرة الثانية ثم جمرة العقبة.
فإذا انتهي من هذا الرمي رمي اليوم الثاني من أيام التشريق جاز له أن يتعجل وينزل إلى مكة وقد انتهت أعمال الحاج.
لكن يجب عليه في هذا الحال أن يغادر منى قبل غروب الشمس، فإن غربت وهو في منى وجب عليه أن يبيت الليلة الثالثة، فإذا كان وقت الظهر رمى ثم نزل إلى مكة.(2/187)
إذا أراد الحاج الرجوع إلى أهله طاف بالبيت الحرام طواف الوداع، وهذا الطواف واجب، إن تركه كان عليه دم. إلا الحائض فإنها تنفر بلا طواف وداع فهو ساقط عنها، ويجب أن لا يتأخر عن السفر بعد طواف الوداع، فإن مكث في مكة بعده كان عليه أن يعيده.
ويسن شرب ماء زمزم وينوي عند شربه ما يريد من خير، ويسن استقبال القبلة عند شربه.(2/188)
الفقه المنهجي
على مذهب الإمام الشافعي
رحمه الله تعالى
الجزء الثالث
الأيمان والنذور، الصيد والذبائح، العقيقة، الأطعمة والأشربة
اللباس والزينة، الكفارات
تأليف
الدكتور مصطفى الخن ... الدكتور مصطفى البغا
علي الشربجي
دار القلم
دمشق(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، حمداً يوافي نعمه، ويدفع نقمه، ويكافئ مزيده، سبحانك يا ربنا، لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد،
فهذا هو الجزء الثالث في سلسلة الفقه المنهجي، الذي وعدنا، بعون الله تعالى ـ أن نخرج أجزاءه تباعاً.
ولقد وضعنا في هذا الجزء أحكام الأيْمان والنذور، وأحكام الصيد والذبائح، وأحكام العقيقة، وما يحل وما يحرم من الأطعمة والأشربة، وأحكام اللباس والزينة، وختمناه بأحكام الكفارات. شاكرين الله عزّ وجلّ على ما وفق به وأنعم.
هذا ولقد فاتنا أن ننبه في الأجزاء السابقة على أننا قد عزونا غالباً الأحاديث الواردة في هذا الفقه إلى مواضعها في مراجعها، وأشرنا إلى أرقامها في تلك المراجع إن كانت ذات أرقام، وإلا فإننا نشير إلى الجزء، والصفحة من تلك المراجع.
ولقد اعتمدنا في أحاديث البخاري على طبعة (الدكتور مصطفى البغا)، وفي أحاديث مسلم على طبعة (محمد فؤاد عبد الباقي)، وفي أحاديث الترمذي وأبي داود على طبعة (عزت عبيد الدعاس)، وفي أحاديث ابن ماجه على طبعة (محمد فواد عبد الباقي).(3/5)
والله عزّ وجلّ نسأل أن يجعل عملنا هذا خالصاً لوجهه الكريم، وأن يتقبله، ويجعله في عداد الأعمال النافعة المبرورة، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ..
السابع من محرم 1404 هـ
المؤلفون(3/6)
الأيمان والنذور(3/7)
الأيمان
تعريف الأيْمان:
الأيْمان: جمع يمين، واليمين في اللغة: القوة.
ومنه قول الله عزّ وجلّ: [لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ] (الحاقة: 45) [أي: بالقوة].
وقول الشاعر:
إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين
[أي: بالقوة]
وتطلق اليمين على اليد اليمنى، وذلك لتوفر القوة فيها.
وتطلق اليمين أيضاً على الحَلِف بمعظم.
وسمى الحلف يميناً، لأن العرب كانوا إذا تحالفوا أخذ كل واحد منهم بيمين صاحبه.
وأما اليمين اصطلاحاً:
فهي توثيق كلام غير ثابت المضمون بذكر أحد أسماء الله عزّ وجلّ، أو ذكر صفة من صفاته، بصياغة مخصوصة.
فخرج بقيد ـ التوثيق ـ اليمين اللغو؛ وهي اليمين الدارجة على اللسان بدون قصد تحقيق أمر، ولا توثيقه:(3/9)
وذلك كقول الرجل: لا والله، وبلى والله.
فلا يُعد هذا يميناً منعقدة شرعاً.
قال الله تعالى: [لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ] (المائدة: 89). [ومعنى عقدتم: قصدتم].
قالت عائشة رضي الله عنها: نزلت في قوله: (لا والله، وبلى والله). رواه البخاري في [الأيمان والنذور ـ باب ـ لا يؤاخذكم الله .. ، رقم: 6286]. وروى أبو داود في [الأيمان والنذور ـ باب ـ لغو اليمين، رقم: 3254]، قال: قالت عائشة رضي الله عنها: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " هو كلامُ الرجل في بيته: كلا والله، وبلى والله" [الحديث صححه ابن حبان. انظر: موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان رقم 1187].
وخرج بقيد ـ غير ثابت المضمون ـ توثيق كلامٍ ثابت المضمون، لا محالة، كقول القائل: والله لأموتنَّ، أو والله إن الشمس طالعة، وهي طالعة فعلاً.
فهذه ليست يميناً شرعية، لتحققها في نفسها، ولأنه لا يتصور فيها الحِنْث: أي عدم الوفاء باليمين.
وتكون اليمين على الماضي، كقول القائل: والله ما فعلت كذا، أو والله لقد فعلته.
ويستدل لذلك بقول الله عزّ وجلّ:(3/10)
[يحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُواْ] (التوبة: 74).
كما تكون اليمين على المستقبل، كقوله: والله لأفعلن.
ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " والله لأغزون قريشاً". أخرجه أبو داود في [الأيمان والنذور ـ باب ـ الاستثناء في اليمين بعد السكوت، رقم: 3285].
حكم اليمين شرعاً:
يكره التلفظ باليمين في أعمّ الأحوال، ودليل هذا قول الله عزّ وجلّ: [وَلاَ تَجْعَلُواْ اللهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ] (البقرة: 224) [أي لا تكثروا الحلف بالله تعالى]. وسبب ذلك أنه ربما يعجز الحالف عن الوفاء به.
قال حرملة رحمه الله تعالى: سمعت الشافعي رحمه الله تعالى يقول: (ما حلفت بالله صادقاً، ولا كاذباً).
إلا أن أحكاماً أخرى قد تعرض لليمين، حسب الدوافع والنتائج، فتكون بناءً على ذلك:
1 - حراماً: وذلك إذا كانت على فعل حرام، أو ترك واجب، أو على شيء كاذب، لا أصل له.
2 - واجبة: وذلك إذا كانت اليمين هي السبيل التي لا يوجد غيرها لإنصاف مظلوم، أو بيان حق: كما لو كان شخص مُدَّعى عليه، فطلب منه اليمين، وعلم أنه لو نكل [أي امتنع عن الحلف] حلف المدّعي كذباً، وظُلِم بذلك إنسان بريء.
3 - مباحةً: وذلك إذا كانت على فعل طاعة، أو تجنّب معصية، أو إرشاد إلى حق، أو تحذير من باطل.
ومن هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " فواللهِ لا يَملُّ اللهُ حتى تَملوا". أخرجه البخاري في [الأيمان ـ باب ـ أحبّ الدين إلى الله أدومه، رقم: 43] [ومعناه: لا يترك الله إثابتكم على العمل، إلا إذا انقطعتم عنه، بسبب إفراطكم فيه، ومللكم منه].
4 - مندوبة: وذلك إذا كانت اليمين وسيلة للتأثير على السامعين، وسبباً في تصديقهم لموعظة، أو نصيحة.
التحذير من اتخاذ اليمين معتمداً في المكالمات والمعاملات:
إن أهم مظاهر سوء الأدب مع الله عزّ وجلّ، أن يجعل الإنسان من اسمه سبحانه وتعالى، تكأة في مكالماته، ووسائل إقناعه، وتأثيراته على(3/11)
الآخرين، غير مبال بقوله سبحانه وتعالى، وهو يحذر من هذه العادة السيئة: [وَلاَ تَجْعَلُواْ اللهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] (البقرة: 224).
ذلك لأن من شأن المؤمن أن يكون معظماً لله عزّ وجلّ، يفيض قلبه خشية منه، ومهابة له.
والتعظيم والخشية يتنافيان مع هذه الاستهانة باسم الله عزّ وجلّ. ومن أخطر نتائج هذه العادة، أن صاحبها قد يستسيغ تعمّد الكذب في الحلف باسم الله عزّ وجلّ، وهي اليمين الغموس التي من شأنها أن تغمس صاحبها في النار، إن لم يتب منها، وتكون سبباً في محق البركة والخير، في كسبه وماله.
روى البخاري في [البيوع ـ باب ـ الربا، رقم 1981] ومسلم في [المساقاة ـ باب ـ النهي عن الحلف في البيع، رقم 1606] عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " الحلفُ منفقة للسلعةِ مَمْحقةٌ للبركة".
وروى البخاري في [الأيمان والنذور ـ باب ـ اليمين الغموس، رقم: 6298] عن عبدالله بن عمرو - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " الكبائرُ: الإشراكُ باللهِ، وعقوقُ الوالدينِ، وقتلُ النفسِ، واليمينُ الغموسُ" [ا] التي تغمس صاحبها في النار، لتعمّد الكذب فيها].
شروط انعقاد اليمين:
يشترط لانعقاد اليمين تحقّق الأمور التالية:
1 - أن يكون الحالف بالغاً عاقلاً:
وذلك لرفع القلم والمؤاخذة عن غير البالغ العاقل، والدليل في ذلك ما رواه أبو داود [في الحدود ـ باب ـ في المجنون يسرق، أو يصيب حدّاً، رقم: 4403] وغيره، عن علي - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: رُفعَ(3/12)
القلمُ عن ثلاثة: عن النائمِ حتى يستيقظ، وعن الصبيِّ حتى يحتلمَ، وعن المجنون حتى يعقل ".
[يحتلم: يبلغ].
2 - أن لا يكون اليمين لغواً:
وذلك كقولهم: بلى والله، ولا والله، ونحو ذلك مما يدرج على ألسنة الناس، بغير قصد، ويشيع في العُرْف ذلك.
وقد سبق دليل من الكتاب والسنّة عند الكلام عن تعريف اليمين اصطلاحاً.
3 - أن يكون القَسَم بواحد مما يلي:
أ) ذات الله عزّ وجلّ:
كقول الشخص: أقسم بذات الله تعالى، أو أقسم بالله عزّ وجلّ.
ب) أحد أسمائه تعالى الخاصة به:
كقول القائل: أقسم بربّ العالمين، أو بمالك يوم الدين، أو أقسم بالرحمن.
ج) صفة من صفاته تعالى:
وذلك مثل قول الإنسان: أقسم بعزة الله، أو بعلمه، أو بإرادته، أو بقدرته.
والأصل في كل ما ذكر ما جاء في السنة الصحيحة على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
روى البخاري [في الأيمان والنذور ـ باب ـ لا تحلفوا بآبائكم، رقم: 6270] ومسلم [في الأيمان ـ باب ـ النهي عن الحلف بغير الله تعالى، رقم: 1646] عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أدرك عمر بن الخطاب، وهو يسير في ركب، يحلف بأبيه، فقال " ألا إنَّ اللهَ(3/13)
ينهاكم أن تَحلفوا بآبائِكم، من كان حالفاً فليحلفْ باللهِ، أو ليَصْمُتٍُ".
وروى البخاري [في الأيمان النذور ـ باب ـ كيف كان يمين النبي - صلى الله عليه وسلم - رقم 6253] عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: كانت يمين النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا ومقلِّبِ القلوبِ ".
وثبت في أكثر من حديث عند البخاري وغيره، أنه - صلى الله عليه وسلم - قال في حَلِفه: " والذي نفسي بيدِهِ"، " والذي نفسُ محمدٍ بيدِهِ". [البخاري، في كتاب الأيمان والنذور ـ باب ـ كيف كانت يمين النبي - صلى الله عليه وسلم -، رقم 6254، 6255].
فلو أن أحداً أقسم بغير ما ذكر لم ينعقد يمينه، لسببين:
أولهما: حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السابق: " مَن كان حالفاً، فليحلفْ بالله، أو ليَصمتْ".
ثانيهما: فَقْدُ كمال العظمة في غير ما ذُكر، والمؤمن منهيّ عن تعظيم غير الله عزّ وجلّ تعظيماً ذاتياً.
اليمين صريح وكناية:
ثم إن اليمين ينقسم إلى قسمين: صريح، وكناية.
1 - الصريح:
واليمين الصريح: هو كل ما أقسم فيه الشخص باسم من أسماء الله تعالى الخاصة به، كقول القائل: أُقسم بالله، أو أُقسم بربّ العالمين.
2 - الكناية:
وهو أن يقسم بما ينصرف إليه ـ سبحانه وتعالى ـ عند الإطلاق، كقوله: أُقسم بالخالق، أو أُقسم بالرازق، أو الرب.
أو أن يُقسِم بما من شأنه أن يُستعمل في التعبير عن ذات الله تعالى وعن غيره، على حدٍّ سواء، كقول القائل: أقسم بالموجود، أو العالِم، أو الحي.(3/14)
أو يقسم بصفة من صفات الله عزّ وجلّ: كقدرة الله تعالى، وعلمه، وكلامه.
حكم كل من الصريح والكناية:
1 - حكم اليمين الصريح:
اليمين الصريح يتم انعقاده بمجرّد التلفّظ به، ولا يُقبل قول الحالف: لم أُرِد به اليمين، لأن هذه الألفاظ لا تحتمل غير اليمين.
فلو قال: قصدت بلفظ (الله) غير ذات الله عزّ وجلّ، لم يُقبل منه قوله، ولكن لابدّ فيه من إرادة اليمين المنعقدة.
فلو سبق هذا اللفظ إلى لسانه من غير أن يقصد اليمين، كان لغواً، كما سبق بيانه.
2 - حكم اليمين الكناية:
أما اليمين الكناية، فحكمه أنه لا ينعقد إلا بالنيّة والقصد، فيقبل قول الحالف: لم أقصد اليمين.
فإن قال: أقسم بالخالق، أو الرازق، أو الرب، انعقد يمينه إلا إن أراد بهذه الألفاظ غير ذات الله عزّ وجلّ، فينصرف إلى المعنى الذي أراده، ولا ينعقد كلامه عندئذ يميناً، لأنه قد يستعمل هذا الكلام في غير الله تعالى مقَّيداّ.
قال الله عزّ وجلّ: [وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً] (العنكبوت: 17). [أي تقولون كذباً، وتصنعون أصناماً بأيديكم، وتسمونها آلهة].
وقال عز من قائل: [فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ] (النساء: 8).
وقال جل جلاله: [ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ] (يوسف: 50).
وإن قال: أقسم بالموجود، أو العالم، أو الحي، لم ينعقد كلامه يميناً بمثل هذه الألفاظ، إلا بشرط أن ينوي بها ذات الله عزّ وجلّ، لأنها(3/15)
لما كانت تستعمل للدلالة على ذات الله تعالى، وعلى غيره على حدٍّ سواء لم يتعين يميناً إلا بالنية.
وإن قال: أقسم بقدرة الله تعالى، أو علمه، أو كلامه انعقد كلامه يميناً بشرط أن لا يقصد بالعلم: المعلوم، وبالقدرة، المقدور، وبالكلام: الحروف والأصوات.
فإن قصد ذلك لم ينعقد كلامه يميناً، لأن معلوم الله ومقدوره والحروف والأصوات، ليس شيء منها داخلاً في ذات الله عزّ وجلّ، أو إحدى صفاته.
البِرّ باليمين والحنث بها: معناهما وحكمهما:
1 - معنى البِرّ باليمين والحنث بها:
إذا أقسم الإنسان بالله عزّ وجلّ، أو بإحدى صفاته، وكان قَسَمه معقوداً: أي مستوفياً الشروط التي مرّ ذكرها، فلابدّ أن يَؤُول أمره بالنسبة لهذا القسم إلى البِرّ بيمينه، أو الحِنْث به.
فالبِرّ باليمين: هو أن يحقّق ما التزمه بيمينه، إن كان وعداً. وأن يكون صادقاً فيها إن كان إخباراً عن شيء ثابت.
والحنث فيه: أن لا يحقّق ما قد التزمه، إن كان وعداً والتزاماً. أو يكون كاذباً فيه إن كان إخباراً.
والحنث في الأصل: الذنب، وأطلق على ما ذكر، لأنه سبب له.
2 - حكم البِرِّ باليمين والحنث فيها:
حكم البر باليمين: أنه يرفع عُهدة المسئولية عن صاحبها.
وأما حكم الحنث فيها: فهو ذو حالتين، لكل حالة منهما حكم خاص بها:(3/16)
الحالة الأولى:
أن يكون الحنث باليمين عبارة عن عدم تحقيق المقسِم لما التزمه بيمينه؛ كأن أقسم بالله تعالى ليتصدقنّ على فقير في يوم كذا، فلم يتصدّق في اليوم المحدود. وحكم هذا الحنث: هو وجوب تكفير الحانث عن يمينه. وسيأتي بيان كفّارة اليمين بعد قليل، إن شاء الله تعالى.
الحالة الثانية:
أن يكون الحنث باليمين عبارة عن الكذب في إخباره، الذي أبى إلا أن يوثّقه باليمين، كأن يقول: والله إن هذا المتاع ملكي، وهو يعلم أنه ليس ملكه، ويسمى مثل هذا اليمين يميناً غموساً، كما سبق بيانه.
وحكم هذا الحنث استحقاق صاحبه العقاب الكبير من الله عزّ وجلّ مع وجوب الكفارة، لأنه من اليمين المنعقدة.
والفرق بين الحالتين: أن صاحب الحالة الثانية أكثر استهتاراً باسم الله عزّ وجلّ، إذ هو يُقسِم بالله في الوقت الذي يعلم أنه يقسم بالله كذباً.
أما صاحب الحالة الأولى، فربما كان عازماً عند النطق باليمين على البِرّ باليمين، والعمل بموجبها، لكنه حالَ بينه وبين الوفاء بها حائل، أو أنه تنبّه بعد ذلك إلى شيء هو خير مما التزمه باليمين، فعمل بوصية النبي - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ حلفَ على يمينٍ، فرأى غيرَها خيراً منها، فليأتِ الذي هو خيرٌ، وليكفِّرْ عن يمينه". أخرجه مسلم
[في الأيمان ـ باب ـ ندب مَن حلف يميناً فرأى غيرها .. ، رقم: 1650].
كفّارة اليمين:
ومَنْ حنث في يمين غموس، أو غير غموس، وجبت عليه كفارة. وهو مخيَّر فيها أولاً بين ثلاثة أشياء:
1 - عِتق رقبة مؤمنة، والمراد بالرقبة: عبد أو أَمَة. وإنما يكون هذا حيث يوجد الرقيق.(3/17)
2 - إطعام عشرة مساكين، لكل مسكين مُدُّ حَبٍّ من غالب قوت بلده. والمدّ: مكيال معروف يتسع: 600 غراماً تقريباً.
ويجب تمليك كل مسكين ما ذكر، فلا يكفي دعوتهم لتناول طعام غداء، أو عشاء، ونحو ذلك.
3 - كِسْوَة عشرة مساكين مما يُعتاد لُبْسه، ويسمى في العُرْف كسوة: فالقميص، والسراويل، والجَوْرب، وغطاء الرأس على أي شكل كان، كله يسمى كسوة.
فإن عجز عن تحقيق شيء من هذه الأمور الثلاثة: بأن كان مُعْسِراً، وجب عليه صيام ثلاثة أيام، ولا يشترط فيها التتابع، بل يجوز له تفريقها.
دليل كفارة اليمين:
ودليل هذه الكفّارة قول الله عزّ وجلّ: [لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] (المائدة: 89).
خاتمة في بعض أحكام اليمين:
1 - لو قال شخص: أقسمتُ بالله، أو أُقسِم بالله، لأفعلنّ كذا، فهو يمين، إن نوى اليمين، أو أطلق، لكثرة استعمال هذا اللفظ في الأيمان.
قال الله تبارك تعالى: [وَأَقْسَمُواْ بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ] (النحل:: 38). وإن لم يقصد اليمين، بل قصد خبراً ماضياً، أو مستقبلاً، فليس بيمين، لاحتمال اللفظ ما نواه.
2 - لو قال شخص لغيره: أُقسِم عليك بالله، أو أسألك بالله، لتفعلنّ كذا، فهو يمين إن أراد به يمين نفسه، لاشتهار ذلك شرعاً، ويسنّ عندئذ(3/18)
للمخاطب إبرار الحالف، إن لم يكن في إبراره ارتكاب محرَّم، أو مكروه.
ودليل ذلك ما رواه البخاري في [الجنائز ـ باب ـ الأمر بإتباع الجنائز، رقم: 1182] عن البراء - رضي الله عنه - قال: (أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - بسبع ... وعدّ منها: إبرار القسم).
أما إن أراد بقوله: أُقسم عليك بالله، أو أسألك بالله، أو أسألك بالله يمين المخاطب، أو لم يردّ يميناً، وإنما أراد التشفُّع إليه، فإنه لا يكون يميناً عندئذٍ، لأنه لم يقصد اليمين هو، ولم يحلف المخاطب أيضاً، ولذلك قالوا: يُكره السؤال بوجه الله عزّ وجلّ.
ودليل ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يُسأل بوجه الله إلا الجنة). أخرجه أبو داود في [الزكاة ـ باب ـ كراهية المسألة بوجه الله تعالى، رقم: 1671].
3 - مَن حلف على ترك واجب من الواجبات: كترك الصلاة والصيام مثلاً، أو حلف على فعل محرَّم: كالسرقة، أو القتل، فإنه قد عصى الله عزّ وجلّ، في الحالتين، ولزمه الحنث فيهما، لأن الإقامة على هذه الحالة معصية، كما تلزمه الكفارة أيضاً.
4 - إذا حلف أن لا يفعل شيئاً: كبيع، وشراء، ونحو ذلك، فوكَّل غيره بفعله، فإنه لا يحنث بفعل وكيله، لأن العبرة بما يدل عليه اللفظ، فإنه حلف على فعل نفسه، فلا يحنث بفعل غيره، والفعل إنما ينسب إلى من باشره.
نعم إن أراد عند التلفّظ باليمين ما يشمل فعله المباشر، وفعل الوكيل عنه حنث.
5 - إذا حلف أن لا يتزوج فلانة، فوكّل من يقبل له العقد عليها عوضاً عنه(3/19)
حنث، لأن الزواج لا يطلق على العقد وحده، بل يطلق عليه وعلى نتائجه، وهو الوطء، والحالف وإن لم يكن مباشراً للعقد، فهو مباشر لنتائجه.
6 - مَن حلف على ترك أمرين، ففعل أحدهما لم يحنث، كأن قال: والله لا ألبس هذين الثوبين، أو لا أُكلّم هذين الرجلين، فلبس أحد الثوبين، أو كلّم أحد الرجلين، فإنه لم يحنث بذلك، لأن يمينه واحدة على مجموع الأمرين.
أما لو قال: والله لا ألبس هذا الثوب، ولا هذا، أو لا أُكلّم هذا الرجل، ولا هذا، فإنه يحنث بلبس أحد الثوبين، أو تكليم أحد الرجلين، لأن إعادة حرف النفي جعلت كلاً منهما مقصوداً باليمين على انفراد.
7 - مَن حلف على فعل أمرين اثنين، كأن قال: والله لآكلنّ هذين الرغيفين، أو لأُكلمنّ هذين الشخصين لم يبِرّ بقسَمَه بفعل أحدهما، بل لابدّ لكي يبرّ بقسمه، وينجو من الحنث من أكل الرغيفين، ومكالمة كِلا الشخصين، والله سبحانه وتعالى أعلم.(3/20)
النُّذُور
تعريف النذور:
النذور: جمع نذر، والنذر في اللغة: الوعد بخير أو شر.
وشرعاً: الوعد بخير خاصة.
والنذر في اصطلاح الفقهاء: التزام قُرْبة غير واجبة في الشرع، مطلقاً، أو معلقاً على شيء.
أدلة تشريع النذر:
يدلّ على مشروعية النذر، ولزوم الوفاء به:
القرآن والسُنّة.
أما القرآن، فقول الله عزّ وجلّ في صفات الأبرار: [يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً] (الدهر: 7).
وقوله تبارك وتعالى: [وليوفوا نذورهم] (الحج: 29).
وأما السُنّة فقوله - صلى الله عليه وسلم -، فيما رواه البخاري في [الأيمان والنذور ـ باب ـ النذر في الطاعة، رقم: 6318] عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يَعْصِيه".
وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الذين لا يوفّون بنذورهم: " إن بعدَكم قوماً يخونون ولا(3/21)
يُؤتمنون، ويَشهدون ولا يُستشهدون، ويَنذُرون ولا يَفُون، ويظهر فيهم السِّمنُ". رواه البخاري في [الشهادات ـ باب ـ لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد، رقم: 2508] ومسلم في [فضائل الصحابة ـ باب ـ فضل الصحابة ثم الذين يلونهم، رقم: 2535] عن عمران بن حصين رضي الله عنهما.
[يظهر فيهم السمن: أي بسبب كثرة المآكل مع الخلود إلى الراحة، وترك الجهاد، وقيل: هو كناية عن التفاخر بمتاع الدنيا].
حكم النذر:
إن النذر مشروع، وهو من نوع القربات، ولذلك قال الفقهاء: إنه لا يصحّ من الكافر.
إلا أن الأفضل أن يباشر الإنسان القربة التي يريدها بدون أن يلزم نفسه بها، ويجعلها عليه نذراً.
فالصدقة التي يتقرّب بها الإنسان إلى الله تعالى اختياراً، أفضل من الصدقة التي يلتزمها نذراً.
ودليل ذلك ما رواه البخاري في [القدر ـ باب ـ إلقاء العبد النذر إلى القدر، رقم: 6234] ومسلم في [النذر ـ باب ـ النهي عن النذر، وأنه لا يردّ شيئاً، رقم 1639] أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النذر، وقال: " إنه لا يردُّ شيئاً، وإنما يُستخرج به من النخيل ".
أي إن النذور المعلّقة لا تغيِّر من قضاء الله شيئاً، وهو ليس إلا وسيلة يلزم بها البخيل نفسه بالإنفاق والصدقة، لعلمه أنها لو لم تصبح واجبة عليه بالنذر والالتزام، فإنه لن يستطيع أن يتغلب على نفسه في إخراجها.
أنواع النذر:
ينقسم النذر إلى ثلاثة أنواع:(3/22)
النوع الأول: نذر اللَّجاج:
وهو ما يقع حال الخصومة، بسائق من الغضب، كأن يقول أثناء خصومته: إن كلمتُ فلاناً، فلله عَلَيَّ صيام شهر.
النوع الثاني: نذر المجازاة: أي المكافأة:
وهو أن يعلّق التزامه بقربةٍ ما على حصول غرض للناذر، دون أن يكون مدفوعاً إلى ذلك بخصومة، أو لجاج، وذلك كأن يقول: إن شفي الله مريضي، فلله عليّ أن أتصدق بشاة.
النوع الثالث: النذر المطلق:
وهو أن يلتزم قربةً ما لله تعالى دون تعليق على حصول غرض له، ودون دافع خصومة، أو غضب، كأن يقول: لله عليّ صيام يوم الخميس.
ويسمى كلٍّ من النوعين: الثاني والثالث، نذر التبرّر، وسمي بذلك، لأن الناذر طلب به البِرّ، والتقرّب إلى الله تعالى.
أحكام كل نوع من أنواع النذر:
أما النوع الأول: وهو نذر اللجاج، فحكمه أن المعلّق عليه إذا وقع وجب على الناذر إنجاز ما التزمه، أو إخراج كفّارة يمين، يختار واحداً منهما، لأن هذا النوع يشبه النذر من جانب كونه التزاماً، ويشبه اليمين من جانب كونه وسيلة امتناع عن أمر.
ودليل ذلك ما رواه مسلم في [النذر ـ باب ـ كفارة النذر، رقم 1645] عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " كفارةُ النذرِ كفارةُ اليمينِ ".
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: حمله جمهور أصحابنا على نذر اللجاج.
أما النوع الثاني: وهو نذر المجازاة، فحكمه أن المعلق عليه إذا وقع؛ كأن شفى الله مريضه، أو قَدِم غائبه، وجَبَ على الناذر إنجاز ما قد(3/23)
التزمه، لا يغنيه عن ذلك شيء.
ودليل ذلك قول الله عزّ وجلّ: [وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ] (النحل: 91). وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من نذر أن يطيع الله فليُطِعه". رواه البخاري في [الأيمان والنذور ـ باب ـ النذر في الطاعة، رقم 6318] عن عائشة رضي الله عنها.
وأما النوع الثالث: وهو النذر المطلق، وهو القسم الثاني من نذر التبرّر، فحكمه أنه يجب على الناذر تحقيق ما التزمه مطلقاً، أي دون أيّ تعليق على شيء.
ودليل ذلك عموم الأدلة المتقدمة، إلا أن له أن يتأخَّر في الوفاء به ما لم يصل إلى زمن يغلب فيه على ظنه أنه لن يتمكن من الوفاء.
وليس له أن يستبدل به كفّارة يمين، لأن معنى اليمين مفقودة في هذا النوع من النذور.
شروط النذر:
للنذر شروط من حيث هو نذر: أي بقطع النظر عن أنواعه الثلاثة.
وتتلخص هذه الشروط فيما يلي:
أولاً: من حيث الناذر: ويشترط فيه ثلاثة شروط:
1 - الإسلام:
فلا يصحّ النذر من كافر، لأن الكافر ليس أهلاً لاكتساب القربات، إذ لا تصح منه ما دام كافراً.
2 - التكليف:
فلا يصح النذر من الصبي والمجنون، لأن كلاً منهما ليس أهلاً للالتزام، فمهما ألزم كل واحد منهما نفسه بقربة، أو أوجبها على نفسه،(3/24)
فإنها لا تصبح بذلك واجبة عليه، لأنه ليس أهلاً لذلك، لكونه غير مكلف شرعاً.
3 - الاختيار:
فلا يصحّ النذر من المُكرَه، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه " رواه ابن ماجه في [الطلاق ـ باب ـ طلاق المكره والناسي، رقم 2045] وصحّحه ابن حبّان والحاكم، عن ابن عباس - رضي الله عنه -.
أي وضع عنهم حكم ذلك، وما ينتج عنه.
ثانياً: من حيث المنذور: ويشترط فيه الشرطان التاليان:
1 - أن يكون المنذور قربه:
فلا نذر في المباحات، وهي الأمور التي لا يترتب على فعلها أو تركها ثواب أو عقاب، فلو نذر فعل مُباح، أو تركه: كأكل، ونوم لم يلزمه الفعل، ولا الترك، وليس عليه شيء.
ودليل ذلك ما رواه البخاري في [الأيمان والنذور ـ باب ـ النذر فيما لا يملك وفي معصية، رقم: 6326] عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب، إذ هو برجل قائم، فسأل عنه، فقالوا: أبو إسرائيل، نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " مره فليتكلم، وليستظل، وليقعد، وليتمّ صومه".
وإنما أمره بإتمام الصوم، لأن الصوم طاعة، ويلزمه الوفاء بها إذا نذرها.
وكذلك لا نذر في المحرمات: كالقتل، والزنى ...
ولا في المكروهات: كأن نذر أن يترك السُنن الرواتب مثلاً، لأن فعل(3/25)
المحرم، أو المكروه ليس مما يبتغي به وجه الله عزّ وجلّ.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا نذر في معصية الله ". رواه مسلم في [النذر ـ باب ـ لا وفاء لنذر في معصية الله، رقم: 1641] وقد سبق ما رواه البخاري في [الأيمان والنذور ـ باب ـ النذر في الطاعة، رقم: 6318] عن عائشة رضي الله عنها: " ... ومن نذر أن يَعصِيَه، فلا يعصِهْ".
وقال عليه الصلاة والسلام: " لا نذر إلا فيما ابُتغِيَ به وجه الله ". رواه أبو داود في [الأيمان والنذور ـ باب ـ اليمين في قطيعة الرحم، رقم: 3273].
2 - أن لا يكون المنذور من الواجبات العينية ابتداءاً:
فلو نذر أن يصلي صلاة الظهر، أو أن يُخرج زكاة ماله، كان ذلك النذر باطلاً، إذ ليس له من أثر جديد على المنذور، لكونه واجباً في حق الناذر ابتداءاً دون حاجة إلى النذر، فلا معنى لإيجابه.
وخرج بالواجبات العينية الواجبات الكفائية، فيجوز النذر بها، كما لو نذر الصلاة على جنازة، أو تعَلُّمَ علمٍ مما يجب على المسلمين تعلّمه على سبيل الكفاية كالطب، والصناعات.
ذلك لأن النذر يُخرِج هذا المنذور من مستوى الفرض الكفائي، إلى الفرض العيني، في حق الناذر.
الآثار المترتبة على النذر الصحيح:
إذا صحّ النذر: بأن توفرت فيه الشرائط التي ذكرناها، وجب على الناذر تحقيق ما التزم به، عند حصول الشيء المعلّق به في النذر المعلّق، ومطلقاً، في النذر الناجز، أي المطلق.
ويجب عليه من ذلك ما يقع عليه الاسم شرعاً، سواء كان المنذور صلاة، أو صياماً، أو صدقة، أو غير ذلك.(3/26)
فلو نذر صلاة، ولم يقيدها بكيفية، أو عدد وجب عليه ركعتان من قيام إذا كان قادراً على القيام، وذلك حملاً على أقل واجب الشرع.
أما لو نذر عدداً من الركعات، أو نذر الصلاة من قعود وجب عليه التزام القدر الذي حدّده، والكيفية التي حدّدها، لكن لو صلاها من قيام كان أفضل.
ولو نذر صوماً مطلقاً، فأقل ما يقع عليه الاسم من ذلك صوم يوم واحد.
أما إن نذر صوم أيام دون تحديد لعدد هذه الأيام، فأقل ما يجب عليه الصوم ثلاثة أيام، لأنها أقل الجمع.
ولو نذر صدقة، وجب عليه أن يتصدق بأقل مُتَمَوِّل من ممتلكاته، على مَن هو أهل للزكاة، كالفقراء، والمساكين.
أما إن قيّد القربة التي التزمها بحال معينة، أو زمن معين، أو عدد معين، فالأصل عندئذٍ وجوب ما قد التزمه، على الكيفية والحال التي نصّ عليها.
فإن نذر التصدّق على أهل بلد معينة، وجب عليه التصدّق عليهم بأعيانهم، ولم يَجُزْ له صرف صدقته إلى أهل بلدة أخرى.
أو نذر الاعتكاف في مسجد معين، فإن كان أحد المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى، وجب عليه الاعتكاف في المسجد الذي عيّنه منها، وذلك لفضيلة هذه المساجد على غيرها.
ودليل فضيلتها على غيرها قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " لا تُشدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومسجد الأقصى ". أخرجه البخاري في
[أبواب التطوّع ـ باب ـ فضل الصلاة في مسجد مكة(3/27)
والمدينة، رقم 1132] ومسلم في [الحج ـ باب ـ فضل الصلاة بمسجد مكة والمدينة، رقم: 1394].
وإن عيّن في نذره مسجداً غير هذه المساجد الثلاثة، وجب عليه أن يعتكف في أيّ المساجد شاء، لأن أجر الاعتكاف لا يختلف بين بلدة وأخرى، أو مسجد وآخر.
وإن نذر حجاً، أو عمرة، لزمه أن يفعل ذلك بنفسه، إن كان قادراً على ذلك بنفسه، فإن كان عاجزاً عن الحج أو العمرة بنفسه استناب من يحج عنه، أو يعتمر، ولو بأجرة، كما يجب عليه ذلك في حجة الفريضة إذا عجز عن أدائها بنفسه، استناب من يحج عنه.
ويندب تعجيله بالوفاء بما نذره، في أول فرصة تسنح له، مبادرة إلى براءة ذمته.
فإن تمكن من الحج أو العمرة فأخّر أداءها فمات حُجَّ عنه أو اعتمر من ماله، لتقصيره بعد حصول التمكّن.
أما إذا مات قبل التمكّن من الحج أو العمرة فلا شيء عليه، لعدم تقصيره حينئذٍ.
وإن نذر أن يحج، أو يعتمر ماشياً لزمه المشي إن كان قادراً على المشي، لأنه التزم جعل المشي وصفاً للعبادة، فهو كما لو نذر أن يصوم متتابعاً.
أما إذا لم يكن قادراً على المشي، فإنه لا يلزمه المشي، بل يجوز له الركوب، لعجزه عن المشي.
عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله، وأمرتني أن أستفتي لها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاستفتيته، فقال عليه الصلاة(3/28)
والسلام: " لتمشِ، ولتركبْ".
أخرجه البخاري في [الإحصار، وجزاء الصيد ـ باب ـ من نذر المشي إلى الكعبة، رقم: 1767] ومسلم في [النذر ـباب ـ من نذر أن يمشي إلى الكعبة، رقم: 1644].
ولو نذر أن يهدي شيئاً من نَعَم: وهي الإبل والبقر والغنم والمَعِز، أو مالٍ إلى مكة لزمه حمله إليه، ولزمه التصدّق به على مَن بها من الفقراء والمساكين، سواء أكانوا من أهلها، أم من الوافدين إليها.
ولو نذر أن يذبح شاة في بلد غير مكة ويفرقها فيها، لزمه الذبح في تلك البلد، وتفريق لحمها على مساكينها، ما دام قد نوى الذبح والتفرقة فيها، لأن الذبح وسيلة إلى التفرقة المقصودة، فلما جعل مكان الذبح مكان التفرقة، اقتضى تعيين الذبح فيها تبعاً لتفريق لحمها فيها.
ولو نذر شمعاً، لتوقد في المشاهد التي بُنيت على قبور الصالحين والأولياء، فإن قصد الناذر بذلك التنوير على من يسكن هناك من الناس، أو يتردد إليها صحّ نَذْره، ولزمه ذلك، وإن قصد به الإيقاد على القبر، ولو مع قصد التنوير على الناس، فلا يصح نذره.
وإن قصد به تعظيم البقعة، أو القبر، أو التقرّب إلى مَن دُفن فيها، أو نسبت إليه، فهذا نذر باطل غير منعقد.
النذر المطلق لا يتحدد بوقت:
إذا كان النذر مطلقاً عن تحديد الزمان، فإن وجوبه يكون من نوع الواجب الموسّع، أي فللناذر أن يتأخر في الوفاء بنذره ما دامت الفرصة سانحة له، ولم يغلب على ظنه أن التراخي سيحول دون قدرته على الوفاء بالنذر.
إلا أن يسنّ تعجيل الوفاء بالنذر، وإن كانت الفرصة لا تزال سانحة ومتّسعة، وذلك مسارعة إلى براءة ذمته من النذر. أما إذا كان النذر مقيداً(3/29)
بزمن مخصوص، وجب التقيد بذلك الزمن، فإن أخّر الوفاء به عن ذلك الزمن بدون عذر أثم، ووجب عليه القضاء، وإن أخّر لعذر، لم يأثم، ووجب عليه القضاء أيضاً في أيّ فرصة ممكنة.
والله تعالى اعلم.(3/30)
الصَّيْد وَالذّبَائِح(3/31)
الصَّيْد
تعريف الصيد:
الصيد في الأصل: مصدر صاد يصيد صيداً: أي قنصه، وأخذه خِلْسة، وبحيلة، سواء أكان مأكولاً، أم غير مأكول.
ثم أريد به اسم المفعول، أي المصيد.
قال الله تبارك وتعالى: [لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ] (المائدة: 95). [أي: المصيد].
والصيد في اصطلاح الفقهاء خاص بما كان مأكولاً.
مشروعية الصيد:
الصيد مشروع، والأصل الدّال على مشروعيته، قول الله عزّ وجلّ: [ُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ] (المائدة: 1).
وقوله سبحانه وتعالى: [وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ] (المائدة: 2).
فإن الآية الأولى حصرت المنع من الصيد في حالة الإحرام، والآية الثانية صرّحت بإباحة الصيد بعد التحلّل من الإحرام.
وقوله تبارك وتعالى: [يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ].
(المائدة: 4).(3/33)
[مكلبين: معلمين لها الصيد، وسمي التعليم هنا تكليباً، لأنه أكثر ما يكون في الكلاب].
الحكمة من مشروعية الصيد:
اعلم أن الوسائل التي حدّدها الشارع لحل أكل الحيوانات، من تذكية: أي ذبح، وصيد ونحوهما داخلة في قسم التعبدات المحضة، وليست قائمة على شيء من العلل والمصالح التي تقوم على أمثالها أحكام المعاملات. غير أن للباحث أن يستجلي بعض الحِكَم من حلِّ أكل بعض الحيوانات دون بعضها الآخر، ومن مشروعية الصيد إلى جانب مشروعية التذكية بالذبح، فإن كثيراً من العبادات يمكن للباحث الوقوف على بعض أسرارها وحكمها.
وحكمة مشروعية الصيد تشبه الحكمة من مشروعية ذكاة الضرورة، أي التذكية الاضطرارية، التي سنتحدث عنها فيما بعد.
إذ لمّا كان في الحيوانات التي استطابتها العرب، وأقرّت الشريعة الإسلامية أكلها، ما هو وحشي، وغير أليف، يصعب إخضاعه للتذكية العادية يسّر الله سبحانه وتعالى على الناس سبيل الحصول على هذه الحيوانات عن طريق القنص والصيد، وأقام ذلك مقام التذكية الأصلية، إن لم يتمكن الصائد منها.
وفي ذلك من التيسير على الناس ما لا يخفى ألطافه وفوائده على أي متأمِّل وباحث.
ما يحلّ من الصيد وما لا يحلّ:
الأصل حلّ الصيد بأنواعه، مهما كان نوع الحيوانات المُصادة، ودليل ذلك عموم ما يدل عليه قول الله تعالى: [وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ] (المائدة: 2).
إلا أنه يستثنى من عموم ذلك ما يلي:(3/34)
1 - صيد الحيوانات التي لا يحلّ أكلها، ولا يجوز قتلها، مما لا يعدّ ضارّاً، ولا مؤذياً، إذا كانت وسيلة الصيد من شأنها أن تؤذي الحيوان، أو تعطبه، أو تقتله.
فإن كانت وسيلة الصيد غير مؤذية: كشباك ونحوه، لم يحرم.
2 - كل صيد يُبتغي منه مجرد العبث إذا كان بقتل، أو إعطاب، سواء كان الحيوان مما يحلّ أكله، أو مما يحرّم: كمن خرج لصيد الطيور لا يريد من ذلك إلا التسلية والعبث، وليس له في الأكل منها أيّ غرض، أو قصد.
3 - صيد الحيوانات البرية المأكولة بالنسبة للمُحِرم، سواء كان ذلك بالقتل، أو الإعطاب، أو بمجرد وضع اليد عليه.
ودليل ذلك قول الله عزّ وجلّ: [لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ] (المائدة: 95). كما يحرّم أيضاً الصيد في الحرم، ولو كان الصائد غير مُحِرم.
ودليل ذلك ما رواه البخاري في [كتاب الحج ـ باب ـ فضل الحرم، رقم: 1510] وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة: " إن هذا البلد حرمه الله، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها".
[هذا البلد: مكة المكرمة.
حرمه الله: جعله الله حراماً، يحرم فيه ما ذكر في الحديث، وجعل له أيضاً حرمة وتعظيماً.
لا يعضد: لا يقطع ويكسر.
لا ينفر صيده: لا يزعج من مكانه، ولا يحل صيده.
لا يلتقط: لا يأخذ.(3/35)
لقطته: ما سقط فيه.
عرفها: نادى عليها، حتى يجيء صاحبها، ولا يأخذها ليتملكها].
أما صيد ما لا يؤكل لحمه، فلا إثم فيه على المُحرِم إذا كان مؤذياً، أو لم يكن مؤذياً، وكان صيده مجرد وضع اليد عليه.
والمقصود بحُرمة صيد الحيوان في هذه الحالات الثلاث المذكورة استلزامه الإثم، بقطع النظر عن أثر ذلك في تحريم أكله، إذ ليس بينهما أي تلازم.
الوسيلة المشروعة في الاصطياد:
ويقصد بالوسيلة المشروعة في الاصطياد، ما يترتب على اصطياد الحيوان بها جواز أكله، وبالوسيلة غير المشروعة ما لا يترتب على الاصطياد بها جواز ذلك.
ووسيلة الاصطياد المشروعة تكون بواحدة من السببين التاليين:
الأول: كل ما يجرح من محدَّد:
سواء كان حديداً، أو رصاصاً، أو قصباً، أو زجاجاً، أو غير ذلك مما يجرح الحيوان.
ودليل ذلك ما رواه رافع بن خديج - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما أنهر الدَّمَ، وذكر اسم الله عليه فكُلُوه". أخرجه البخاري في [الشركة ـ باب ـ قسمة الغنم، رقم: 2356] ومسلم في [الأضاحي ـ باب ـ جواز الذبح بكل ما انهر الدم، رقم: 1968]. [ومعنى أنهر الدم: أي أساله].
فلو كان ما يُصاد به شيئاً لا حدّ له، وإنما يقتل بضغطه، وأو بثقلة: كحجر لا حدّ فيه، أو كان شيئاً يقتل بالحرق، ومات الحيوان بسببه لم يجز أكله.(3/36)
أما إذا لم يمت الحيوان به: كأن أصاب منه جناحاً، أو قدماً، ثم أدركه الصائد حياً، فذكاه الذكاة المشروعة، التي سنتحدث عنها، أو رماه بشيء يقتل بحدِّه: كسكّين وسهم، ونحوهما، فإنه يجوز أكله.
الثاني: إرسال جارحة من سباع البهائم أو جوارح الطير:
فلو أرسل جارحة من سباع البهائم، أو أرسل جارحة من جوارح الطير على الحيوان الذي يُراد اصطياده ـ بالشروط التي سنذكرها ـ فجرحته، ومات بجرحه جاز وحلّ أكله.
ومثال سباع البهائم: الكلب، والفهد، والنمر، ونحوها.
ومثال جوارح الطير: الصقر، والباز، والشاهين، ونحوها.
شروط الاصطياد بسباع البهائم وجوارح الطير:
وإنما تعتبر الاستعانة بسباع البهائم، وجوارح الطير وسيلة مشروعة للاصطياد، إذا تحققت فيها الشروط الأربعة التالية:
الشرط الأول:
أن تندفع إلى الحيوان الذي يُراد صيده إذا أرسلت إليه، بحيث تتجه إليه، ولا تقصد شيئاً غيره.
فلو هاجت واندفعت، ثم تحوّلت عن الحيوان الذي أرسلت نحوه إلى شيء آخر، اتجهت إليه بدافع من الغزيرة، لم يحلّ صيدها لذلك الحيوان الذي لم ترسل إليه إلا بالتذكية.
الشرط الثاني:
أن تنزجر إذا زجرت: أي تتوقف إذا استوقفها صاحبها في أيّ مرحلة من مراحل عَدْوِها، واتجاها نحو الصيد.
الشرط الثالث:
أن لا تأكل شيئاً من الصيد إذا قتلته قبل أن تصل به إلى صاحبها الذي أرسلها.(3/37)
فأما إذا أكلت منه بعد أن وضعته بين يديه، وانصرفت عنه، فلا بأس بذلك.
الشرط الرابع:
أن يتكرّر ذلك منها: (أي هذه الشروط الثلاثة) مرّتين فأكثر، بحيث يغلب على الظن تعوّدها، وتعلمها ذلك.
والعبرة في كونها قد اعتادت ذلك، وتعلمته بظن أهل الخبرة في الصيد والجوارح.
والأصل في اعتبار هذه الشروط لحلّ الصيد بهذه الجوارح هو قول الله عزّ وجلّ: [قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ... ] (المائدة: 4).
[مكلبين: من التكليب، وهو تأديب الحيوان وترويضه، وذلك بأن يسترسل إذا أغري بالصيد وسلّط عليه].
وقال الشافعي رحمه الله تعالى في بيان معنى " مكلبين": (إذا أمرت الكلب فأتمر، وإذا نهيته فانتهى، فهو كلب مكلّب).
ومعنى: " أمسكن عليكم" أي أمسكنه من أجلكم، وإنما يتحقق ذلك بالمحافظة على الصيد وعدم الأكل منه.
ومفهوم المخالفة يقتضي أنه إذا لم يمسك على صاحبه، بأن أكل منه، فإنه لا يحلّ، ولا يعتبر الاصطياد به عندئذٍ شرعياً.
ويدل على هذا من السنّة ما رواه عديّ بن حاتم - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا أرسلت كلبك المعلّم، وسمَّيت، فأمسكَ وقتلَ فكُلْ، وإن أكلَ فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه".
أخرجه البخاري في [الذبائح والصيد ـ باب ـ الصيد إذا غاب عنه يومين أو ثلاثة، رقم: 5167] ومسلم في [الصيد والذبائح ـ باب ـ الصيد(3/38)
بالكلاب المعلمة، رقم: 1929].
متى ينزل الصيد وحده منزلة التذكية ومتى لا ينزل؟
إذا كانت وسيلة الصيد مشروعة، ووافية بالشروط التي ذكرناها، وصاد بها الصائد:
فإما أن يستطيع الصائد إدراك ما اصطاده، وفيه حياة مستقرة، أو لا.
فأما في الحالة الأولى:
وهي ما إذا كان في الحيوان المصيد حياة مستقرة، فإن الصيد لا ينزل منزلة التذكية، بل لابدّ من تذكيته بذبح شرعي، على النحو الذي سنذكره فيما بعد.
فإن أهمل الصائد ذلك، وترك الصيد فلم يذبحه حتى مات، كان نجساً ولم يَجُزْ أكله.
وأما في الحالة الثانية:
وهي ما إذا لم يتمكن الصائد من إدراك الصيد حيّاً، وذلك بأن أسرع محاوِلاً اللِّحاق به، فمات قبل أن يصل إليه، فإن موته بمجرد الصيد في هذه الحالة ينزل منزلة تذكيته، ويجوز أكله، وتسمى تذكية ضرورة.
ودليل هذه الحالة الثانية ما رواه البخاري في [الذبائح والصيد ـ باب ـ ما ندّ من البهائم فهو بمنزلة الوحش، رقم: 5190] ومسلم في [الأضاحي ـ باب ـ جواز الذبح بكل ما أنهر الدم، رقم: 1968] عن رافع بن خديج - رضي الله عنه -، قال: أصبنا نهب إبل وغنم ـ وفي رواية، وفي القوم خيل يسير ـ فندّ منها بعير، فرماه رجل بسهم فحبسه ـ أي مات ـ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش، فما فعل منها هكذا، فافعلوا به مثل ذلك ".
[النهب: الغنيمة، وكانت هذه الغنيمة إبلاً وغنماً.(3/39)
ندّ: نفر، وذهب شارداً.
أوابد: جمع آبدة، وهي الحيوانات التي تأبّدت، أي نفرت وتوحشت].
وروى البخاري في [الذبائح والصيد ـ باب ـ ما جاء في التصيد، رقم 5170] ومسلم في [الصيد والذبائح ـ باب ـ الصيد بالكلاب المعلّمة، رقم: 1930] عن أبي ثعلبة الخُشَني - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له، لمّا قال: إني أصيد بكلبي المعلّم، وغيره: " ما صدت بكلبك المعلّم، فاذكر اسم الله عليه، ثم كُلْ، وما صدت بكلبك الذي ليس معلماً، فأدركت ذكاته فكُل".
ويلاحظ أن هذا الحديث الثاني قد دلّ على حكم كلاً الحالتين.(3/40)
الذّبَائِح
تعريف الذبائح:
الذبائح: جمع ذبيحة، بمعنى: مذبوحة.
والمقصود به: الحيوان الذي تمت تذكيته على وجه شرعي، بالشروط التي سنذكرها، وكان مما يجوز أكله.
الفرق بين الذبح والتذكية:
التذكية: هي ذبح الحيوان في حلقه، أو في لَبَّته، إن كان مقدوراً عليه، أو بأيّ عقر مُذهِق للروح، إن لم يكن مقدوراً عليه، كصيد.
أما الذبح: فهو قطع ما يسبب الموت من العنق، سواء توفرت فيه الشروط الشرعية التي سنتحدث عنها، أم لا.
إذاً فالذبح نوع من أنواع التذكية، غير مقيَّد بكونه شرعياً صحيحاً.
والتذكية: تشمل الذبح وغيره، مما تتوفر فيه الشروط الشرعية التي لابدّ منها لحلِّ أكل الحيوان المذكّي.
الحكمة من اشتراط التذكية:
عرفت أن تذكية الحيوان لحلِّ أكله تقوم على معنى تعبّدي، كما أوضحنا ذلك في حكمة مشروعية الصيد.
إلا أن هناك حِكَماً زيادة على المعنى التعبدي، تتعلق باشتراط التذكية نذكر منها ما يلي:(3/41)
1 - جاءت الشرائع والمِلل كلها بتحريم الميتة من الحيوانات، والحكم بنجاستها، ولابدّ من تفريق بين الحيوان الميت الذي تنجس بالموت، وغيره، فكانت التذكية في حكم الشرع هي الفارق الأساسي بينهما.
2 - قضت الشريعة الإسلامية بنجاسة الدم، ووجوب اجتنابه، لما فيه من أضرار، والذبح تطهير للحيوان من الدم ـ كما ستعلم ـ والموت للحيوان بالخنق ونحوه تضميخ للحيوان بالدم.
أنواع التذكية:
والتذكية تنقسم إلى ثلاثة أنواع:
الذبح، والنحر، والعقر.
1 - أما الذبح: فهو قطع الحلق من الحيوان، بالشروط التي سنذكرها فيما بعد. [والحلق: أعلى العنق].
والذبح: هو تذكية سائر الحيوانات التي يتمكن الإنسان من تذكيتها؛ بأن كان قادراً عليها.
2 - وأما النحر: فهو قطع لبَّة الحيوان، وهي أسفل العنق.
والنحر: هو التذكية المسنونة بالنسبة للإبل.
قال الله عزّ وجلّ: [فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ] (الكوثر: 2).
قال الفقهاء: والمعنى الملاحظ في ذلك أن النحر بالنسبة للإبل أسرع لخروج الروح، لطول أعناقها.
وهذان النوعان (الذبح، والنحر) يقوم أحدهما مقام الآخر بالنسبة لأصل التذكية.
ودليل ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ألا إن الذكاة في الحلق واللبّة". رواه الدارقطني [4/ 283] والبخاري تعليقاً في [الذبائح والصيد ـ باب ـ(3/42)
النحر والذبائح] عن ابن عباس رضي الله عنهما.
إلا أن المسنون نحر الإبل، وذبح سائر الحيوانات الأخرى: كالبقر والغنم، وغيرهما.
2 - وأما العقر: ـ وهو ما يسمى بذكاة الضرورة ـ فهو جرح الحيوان، أي جرح مُزهِق للروح، في أيّ جهة من جسمه.
والعقر: تذكية الحيوان المأكول إذا ندّ، ولم يتمكن صاحبه من القدرة عليه، كما أنه تذكية الحيوان الذي يُراد اصطياده، كما أوضحنا ذلك فيما مضى.
ودليل ذلك: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعير ندّ، فضربه رجل بسهم فحبسه: " إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش، فإذا غلبكم منها شيء فاصنعوا به هكذا". رواه البخاري في [الذبائح والصيد ـ باب ـ ما ندّ من البهائم فهو بمنزلة الوحش، رقم: 5190] ومسلم في [الأضاحي ـ باب ـ جواز الذبح بكل ما أنهر الدم، رقم: 1968] عن رافع بن خديج - رضي الله عنه -.
شروط صحة الذبح:
ونقصد بهذه الشروط: الأمور التي لابدّ من توفرها، ليسمى الذبح تذكية، وليكون الحيوان المذبوح مذكَّى.
وهذه الأمور بجملتها تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
أ- شروط تتعلق بالذابح.
ب- شروط تتعلق بالمذبوح.
ج- شروط تتعلق بآلة الذبح.
أ) الشروط المتعلقة بالذابح:
والشروط التي تتعلق بالذابح نلخصها فيما يلي:(3/43)
الشرط الأول: أن يكون الذابح مسلماً أو كتابياً:
والكتابي يُقصد به اليهودي والنصراني.
فإن كان الذابح غير مسلم، وغير كتابي، وذلك بأن كان مرتداً، أو وثنياً أو ملحداً، أو مجوسياً، لم تحلّ ذبيحته.
أما دليل حلّ ذبيحة المسلم، فقول الله عزّ وجلّ: [إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ] (المائدة: 3).
وهو خطاب للمسلمين.
وأما دليل حلّ ذبيحة الكتابي، فقول الله تبارك وتعالى: [وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ] (المائدة: 5).
والمراد بالطعام هنا الذبائح.
أما دليل عدم حلّ ذبيحة الكفار من غير الكتابيين، فما رُوي أنه - صلى الله عليه وسلم -: كتب إلى مجوس هَجَر يعرض عليهم الإسلام، فمن أسلم قُبل منه، ومن أبي ضُربت عليه الجزية، على أن لا تؤكل لهم ذبيحة، ولا تنكح لهم امرأة".
رواه البيهقي [9/ 285] وقال: هذا مُرسل، وإجماع أكثر الأمة عليه يؤكده.
[مرسل: الحديث المرسل: هو الذي يرفعه التابعي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - دون أن يذكر اسم الصحابي الذي روى عنه الحديث].
فإذا كان هذا هو الحكم بالنسبة للمجوس، فإن المرتدين والوثنيين والملحدين أَوْلى بذلك منهم، لأنهم أوغل في الكفر.
الشرط الثاني: أن لا يكون الكتابي ممّن أصبح هو، أو واحد من آبائه، كتابياً بعد التحريف أو النسخ.(3/44)
فالملحد إذا تنصّر اليوم لا تحل ذبيحته. وكذلك النصراني، أو اليهودي الذي عرف أن أجداده الأقدمين كانوا وثنيين مثلاً، ثم تنصروا بعد التحريف، أو بعد بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -، لا تحلّ ذبيحته.
ودليل ذلك ما رواه شهر بن حوشب، أنه - صلى الله عليه وسلم -: " نهى عن ذبح نصارى العرب" وهم: بهراء، وتنوخ، وتغلب.
وعلّة النهي أنهم إنما دخلوا النصرانية بعد التحريف الذي طرأ عليها.
الشرط الثالث: أن لا يذبح لغير الله عزّ وجلّ، أو على غير اسمه.
فلو ذبح لصنم، أو مسلم، أو نبي، لم تحلّ الذبيحة.
ودليل ذلك قول الله تبارك وتعالى في معرض ذكر ما حرم أكله: [وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ] (المائدة: 3).
أي ما ذبح لغير الله تعالى، أو ذُكِر عند ذبحه غير اسم الله تعالى.
فإذا توفّرت هذه الشروط الثلاثة في الذابح حلّت ذبيحته، من غير فرق بين أن يكون رجلاً أو امرأة، كبيراً أو صغيراً، بل لا فرق بين المميِّز وغيره، والسكران والمجنون، وغيرهما، ما دامت طاقة الذبح موجودة وما دام القصد متوفراً في الذابح، ولو في الجملة.
ب) الشروط المتعلقة بالمذبوح:
وهنا أيضاً شروط نُ جملها فيما يلي:
الشرط الأول: أن يدرك الذابح الحيوان قبل الذبح، وفيه حياة مستقرة, والمقصود بالحياة المستقرة: أن لا ينتهي الحيوان بسبب مرض، أو جرح، أو نحوهما إلى سياق الموت، بحيث تصبح حركته اضطرابا كاضطراب المذبوح.
فإن كان الحيوان قبل الذبح قد فقد الحياة المستقرة، فإن ذبحه(3/45)
عندئذٍ لا يعتبر تذكية، ولا يحلّ الذبيحة، إلا إذا ذُكِي قبل ذلك ذكاة الضرورة التي تحدّثنا عنها.
ولا يعتبر سيلان الدم من عروقه بعد ذبحه دليل وجود الحياة المستقرة.
الشرط الثاني: قطع كلِّ من الحلقوم، والمريء.
والحلقوم: هو مجرى النَّفَس.
والمريء: هو مجرى الطعام.
فلو بقى شيء من أحدهما، ولو يسيراً لم تحلّ الذبيحة.
ودليل ذلك ما رواه البخاري في [الشركة ـ باب ـ قسمة الغنم، رقم: 2356] ومسلم في [الأضاحي ـ باب ـ جواز الذبح بكل ما أنهر الدم، رقم: 1968] عن رافع بن خديج - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه، فكُلُوه، ليس السنّ والظفر".
فقد شرط في الذبح ما ينهر الدم، وإنما يكون ذلك بقطع كلٍّ من الحلقوم والمريء، فإن الحياة تفقد بقطعهما، وتوجد بسلامتهما غالباً.
الشرط الثالث: الإسراع بالقطع، وبدفعة واحدة، بحيث لو تأنّى، فبلغ الحيوان حركة المذبوح قبل قطع جميع الحلقوم والمريء، بطلت التذكية، ولم تحمل الذبيحة.
وتعرف الحياة المستقرة في الذبيحة بشدة الحركة بعد الذبح.
فلو تأنى بالذبح، وأبطأ في محاولة القطع، فلما انتهى من الذبح، لم يجد حركة في الحيوان، كان ذلك دليلاً على أنه قد فقد الحياة المستقرة قبل تمام الذبح، وبذلك يتبين أن الذبيحة لم تُذَكّ، ولا يحل أكلها.
ج) الشروط المتعلقة بآلة الذبح:
وهذه الآلة لها شروط نجملها في الشرطين التاليين:(3/46)
الشرط الأول: أن تكون الآلة مما يجرح بحدِّه، من حديد ونحاس ورصاص، وقصب وزجاج، وحجر، وغير ذلك.
فلا تتم التذكية بما يقتل رضخاً بثقله، كحجر غير محدَّد.
ودليل ذلك حديث البخاري ومسلم السابق: " ما أنهر الدم وذكر عليه اسم الله عليه فكُلُوه".
وإنما ينهر الدم ـ أي يسيله بشدة ـ ما يجرح بحدِّه، أما ما يقتل رضخاً بثقله، فليس من شأنه أن ينهر الدم.
الشرط الثاني: أن تكون آلة الذبح سنّاً، ولا ظفراً.
فلا تحلّ الذبيحة التي ذبحت بأحدهما، ولو كان جارحاً، بما له من حدّ، واستنزف الدم كله.
وذلك لأن الذبح بأحدهما مستثنى بنص الحديث من عموم ما يجوز الذبح به، وهو قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخر حديث رافع بن خديج - رضي الله عنه -، عند الشيخين، السابق ذكره: " ... ليس السن والظفر".
ويدخل في حكم السن والظفر سائر أنواع العظام، سواء كانت من آدمي، أو غيره.
أما الحكمة من هذا الاستثناء، فهي كما قال بعض العلماء: التعبّد المحض. وقد عرفت أن أحكام الذبائح قائمة في جملتها على التعبّد، وليست قائمة على شيء من العلل والمصالح، التي تُدار عليها الأحكام المصلحية.
فالأفضل في معرفة سبب الاستثناء الوقوف عند هذا القول. والله أعلم.(3/47)
ملاحظات
الأولى:
ذكاة الجنين بذكاة أمِّه، إلا أن يوجد حيّاً فيذكّى: أي يعتبر ذبح أمه ذبحاً له، إذا خرج من بطنها ميتاً بعد ذبحها.
أما إن خرج حيّاً، فلابدّ حينئذٍ من ذكاته.
ودليل ذلك ما رواه أبو داود في [الأضاحي ـ باب ـ ما جاء في ذكاة الجنين، رقم: 2827] عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، قال: سألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجنين، فقال: " كُلُوه إن شئتم، فإن ذكاته ذكاة أمه".
الثانية:
ما قطع من الحيوان حال حياته، فإن له حكم ميتة ذلك الحيوان، إلا الشعور المُنتفع بها في مفارش والملابس، وغيرهما، وسيأتي بيانها. أي إن للجزء المنقطع من الحيوان حكم ميتة ذلك الحيوان، من حيث حلِّ الأكل وعدمه، ومن حيث الطهارة والنجاسة.
فما قطع من السمك حال حياته، فإنه يؤكل، وذلك لحلّ ميتة السمك.
وما قطع من شاة حال حياتها، فإنه لا يؤكل لنجاسة ميتتها.
وما قطع من إنسان حال حياته، فهو طاهر، لطهارة الإنسان حال موته.(3/48)
وما قطع من دابّة حال حياتها، فهو نجس، لنجاسة ميتتها.
ودليل ذلك ما رواه الحاكم وصحّحه، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن جِباب أسنمة الإبل، وأَلْيَات الغنم، فقال: " ما قطع من حيّ فهو ميت" [المستدرك: كتاب الذبائح ـ باب ـ ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت: 4/ 239].
جباب: مصدر جَبَّ يُجبّ، إذا قطع.
وروى أبو داود في [الصيد ـ باب ـ في صيد قطع منه قطعة، رقم: 2858] والترمذي في [الصيد ـ باب ـ ما قطع من الحي فهو ميت، رقم: 1480] واللفظ له وحسّنه، عن أبي واقد الليثي - رضي الله عنه - قال: قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وهم يجبّون أسنمة الإِبل، ويقطعون أليات الغنم، فقال: " ما قُطع من البهيمة وهي حيَّةٌ، فهي ميتة" ورواه الحاكم وصحّحه [4/ 239].
ما يستثنى من ذلك:
إلا أنه استثنى من حكم ما ذُكر سابقاً الأصواف، والأشعار والأوبار ضمن الشروط التالية:
الشرط الأول: أن تكون من حيوان مأكول اللحم شرعاً.
الشرط الثاني: أن تقص منه حال حياته، أو بعد ذبحه ذبحاً شرعياً.
الشرط الثالث: أن لا تنفصل من الحيوان الحيّ على العضو انفصل منه.
أما شعر الحيوان الميت غير الآدمي فهو نجس، ولا يطهر، لأنه لا يُدبغ. والأصل في طهارة ما ذكر قول الله عزّ وجلّ: [وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ] (النحل: 80).(3/49)
[يوم ظعنكم: يوم سيركم في أسفاركم.
أثاثاً: الأثاث متاع البيت من الفرش والأكسية].
فلقد دلّت الآية على جواز استعمال الأصواف والأوبار والأشعار، وذلك دليل طهارتها.
والحق فيما ذكر ما يقوم مقام الشعر من كل حيوان مأكول اللحم: كالريش ونحوه، بالشروط السابق ذكرها.
الثالثة:
يحرم أكل الميتة كيفما كان موتها، والميتة: هي ما أزهقت روحه بغير ذكاة شرعية، سواء ماتت حتف أنفها، أو ماتت بفعل غيرها: كضرب، وخنق، وغرق، وغير ذلك.
كما يحرم أكل الدم المسفوح من أيّ حيوان كان.
ودليل ذلك، قول الله تبارك تعالى: [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ] (المائدة: 3).
[المنخنقة: التي ماتت خنقاً بحبل ونحوه.
الموقوذة: التي ماتت بضرب بعصاً أو حجر، أو نحوهما.
المتردية: التي ماتت بالسقوط من مكان عالٍ.
النطيحة: التي ماتت بالنطح من غيرها من الدواب.
ما أكل السبع: التي ماتت بافتراس حيوان لها.
إلا ما ذكيتم: إلا ما أدركتموه حياً مما ذُكر فذكيتموه، فإنه يحلّ ويؤكل].
دلت الآية على حرمة أكل كلٍّ من الدم، والميتة، وما ذكر معهما من أكل لحم الخنزير، وما أُهِلّ لغير الله به، وما ذبح على النصب: أي(3/50)
الأحجار التي كانوا يذبحون عليها لآلهتهم.
ما يستثنى من الميتة والدم:
لقد استثنى من ميتة الحيوان: السمك والجراد.
واستثنى من الدم: الكبد والطحال.
ودليل ذلك ما رواه أحمد [2/ 27] وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أحلت لنا ميتتان، ودمان، فأما الميتتان: فالحوت والجراد، وأما الدمان: فالكبد والطحال".
خاتمة في بعض سُنن الذبح:
تسنّ عند الذبح مراعاة الأمور التالية:
1 - ذكر اسم الله عزّ وجلّ عند الذبح؛ بأن يقول الذابح: باسم الله.
ودليل ذلك قول الله تبارك وتعالى: [فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ] (الأنعام: 118).
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث السابق: " ما أنهر الدم، وذُكر اسم الله عليه فكلوا".
كما تسنّ التسمية عند إرسال السهم، أو بعث الجارحة إلى الصيد. فلو لم يذكر الذابح اسم الله عزّ وجلّ عند الذبح، وكانت سائر شروط التذكية متوفرة، لم يضرّ ذلك شيئاً، لأن التسمية في الآية والحديث محمولة على الندب عند الشافعية.
2 - قطع الوَدجَيْن عند الذبح: والودجان عرقان في صفحتَيْ العنق، محيطان بالحلقوم، يسمى كل منهما بالوريد، لأن ذلك أدعى لزهوق الروح.
3 - أن يحد الذابح شفرته: لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله كتب الإحسانَ على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلةَ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبِحَ، وليحدَّ أحدُكم شفرتَه، فليُرحْ ذبيحته" رواه مسلم في [الصيد والذبائح ـ باب ـ(3/51)
الأمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة، رقم: 1955].
4 - أن يُضجِع الدابّة لجنبها الأيسر، ويترك رجلها اليمنى تتحرك بعد الذبح لتستريح يتحريكها، إلا الإِبل، فإن الأفضل أن تُنحر قائمة معقولة ركبتها اليسرى، ودليل ذلك قول الله عزّ وجلّ [فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ]
(الحج: 36).
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (قياماً على ثلاث) رواه الحاكم في [المستدرك، أول كتاب الذبائح: 4/ 233].
5 - استقبال القبلة عند الذبح: لأن القبلة أشرف الجهات. وإذا استُقبِلت القبلة بالذبيحة، استقبلها الذابح أيضاً.(3/52)
العَقيقَة(3/53)
العَقيقَة
تعريف العقيقة:
العقيقة في اللغة: مشتقة من العَقِّ، وهو القطع، وتطلق في الأصل على الشعر الذي يكون على رأس المولود حين ولادته، سمي بذلك، لأنه يُحلق ويقطع.
والعقيقة شرعاً: ما يذبح للمولود عند حلق شعره، وسميت هذه الذبيحة بهذا الاسم، لأنها تقطع مذابحها وتشق، حين الحلق. ويستحبّ تسمية العقيقة نسيكة، أو ذبيحة.
ودليل ذلك ما رواه أبو داود في [الأضاحي، ـ باب ـ في العقيقة، رقم: 2842] أنه سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن العقيقة، فقال: " لا يحب الله العقوق" فكأنه كره الاسم، وقال: " من وُلد له ولد، فأحبَّ أن يَنسُك عنه فليَنْسُك".
حكم العقيقة:
العقيقة سُنّة مؤكدة، يطالب وليّ المولود الذي ينفق عليه.
ودليل استحبابها فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - لها، وفعل الصحابة رضي الله عنهم.
عن سليمان بن عامر الضَّبِّي - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: " مع الغلام عقيقته، فأهريقوا عنه دماً، وأميطوا عنه الأذى". [أي أزيلوا عنه القذارة والنجاسة].(3/55)
أخرجه البخاري في [العقيقة ـ باب ـ إماطة الأذى عن الصبي في العقيقة، رقم: 5154].
وإنما لم يقل العلماء بوجوب العقيقة، لأنها إراقة دم بغير جناية، ولا نذر، فلم تجب كالأضحية.
ودلّ على عدم وجوبها أيضاً حديث أبي داود السابق" من وُلد له مولود فأحب أن ينسك عنه فلينسك".
وقت العقيقة:
يدخل وقت جواز ذبح العقيقة بانفصال جميع المولود من بطن أمه، فلو ذبحت قبل تمام خروجه، لا تحسب عقيقة، بل تكون لحماً، ليس له حكم سنّة العقيقة.
ويستمر وقت استحبابها إلى البلوغ، ثم بعد البلوغ يسقط الطلب عن نحو الأب، والأحسن عندئذٍ أن يعقَّ عن نفسه تداركاً لما فات.
لكن يسنّ أن يعقّ عن المولود في اليوم السابع من ولادته.
ودليل ذلك ما رواه أبو داود في [الأضاحي ـ باب ـ ما جاء في العقيقة، رقم: 1522] وغيره عن سمرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الغلام مرتهن بعقيقته، يذبح عنه يوم السابع، ويسمى ويحلق رأسه".
ومعنى مرتهن بعقيقته: أي أن تنشئته تنشئة صالحة، وحفظه حفظاً كاملاً مرهون بالذبح عنه.
وقيل المعنى: لا يشفع بوالديه يوم القيامة إن لم يُعق عنه.
حكمة تشريع العقيقة:
في تشريع العقيقة أسرار بديعة، ومصالح جمّة، وفوائد كثيرة نذكر منها ما يلي:(3/56)
1 - الاستبشار بنعمة الله عزّ وجلّ، حيث يَسّر الوضع، ورزق الوالدين الولد، والولد محبَّب للوالدين، فينبغي شكر واهبه، والمنعِم به.
قال الله عزّ وجلّ: [وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ] (الزمر: 7).
وقال سبحانه وتعالى [لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] (إبراهيم: 7).
وقال تبارك وتعالى: [لْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا] (الكهف: 46).
وقال عز من قائل: [زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ] (آل عمران: 14).
2 - التلطف بإشاعة نسب الولد ونشره، إذ لابدّ من نشر ذلك وإشاعته، لئلا يقال فيه ما لا يحب، فكانت العقيقة أحسن وسيلة لذلك.
3 - إنماء مُلْكة السخاء والكرم عند الإنسان، وعصيان داعية الشح الذي أحضرته النفوس.
قال الله تعالى: [وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ] (النساء: 128).
وقال جل جلاله: [وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] (الحشر: 9).
4 - تطيب قلوب الأهل والأقارب والأصدقاء والفقراء، وذلك بجمعهم على الطعام، وبالتقائهم حوله تكون المودّة والمحبة والألفة، والإسلام دين ألفة ومحبّة واجتماع.
ما يذبح عن الغلام والجارية:
تتحقق السنة في العقيقة بأن يذبح الوليّ شاة عن الغلام، وشاة عن الجارية.
ودليل ذلك ما رواه الترمذي في [الأضاحي ـ باب ـ ما جاء في العقيقة(3/57)
بشاة، رقم: 1519] عن علي - رضي الله عنه -، قال: (عق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحسن بشاة).
ولكن الأفضل أن يذبح الوليّ عن الصبي شاتين، وعن البنت شاة.
ودليل ذلك ما رواه الترمذي في [الأضاحي ـ باب ـ ما جاء في العقيقة، رقم: 1513] وغيره عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أمرهم: عن الغلام شاتان متكافئتان، وعن الجارية شاة).
[الغلام: الذكر.
الجارية: الأنثى.
متكافئتان: متساويتان].
تعدد العقيقة بتعدّد الأولاد:
هذا ولا يكفي في تحصيل سنة العقيقة أن يذبح شاة واحدة عن أكثر من مولود واحد.
بل السنة تعدادها بتعدد الأولاد، فللولد شاة وللولدين شاتان، وللثلاثة ثلاث شياه، وهكذا.
فلو ولد له توأمان كان عليه عقيقتان، ولا يكفي واحدة عنهما.
روي أبو داود في [الأضاحي ـ باب ـ في العقيقة، رقم: 2841] عن ابن عباس رضي الله عنهما (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عق عن الحسن والحسين كبشاً كبشاً).
وعند الحاكم في المستدرك [كتاب الذبائح ـ باب ـ عقّ النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحسن والحسين، 4/ 237] أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عَقَّ عن الحسن والحسين عن كل واحد منهما، كبشين اثنين مثلين متكافئين.
شروط العقيقة:
ويشترط في العقيقة حتى تكون مجزئة، ما يشترط في الأضحية: من(3/58)
حيث الجنس، والسن، والسلامة من العيوب التي تسبب نقصاً في اللحم، وذلك: لأن العقيقة ذبيحة مندوب إليها، فأشبهت الأضحية.
روى الترمذي وصحّحه في [الأضاحي ـ باب ـ ما لا يجوز في الأضاحي، رقم: 1497] وأبو داود، واللفظ له، في [الضحايا ـ باب ـ ما يكره من الضحايا، رقم: 2802] عن البراء بن عازب - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: " أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين عرجها، والكسير التي لا تُنْقَى".
[لا تنقى: لا مخ لها، مأخوذة من النِّقْي، وهو المخي].
ويقاس على هذه العيوب الأربعة كل ما يشبهها في التسبّب في الهزال، وإنقاص اللحم.
انظر الأضحية في الجزء الأول [ص127].
ما تخالف به العقيقة الأُضحية:
إذا قلنا: إنه يشترط في العقيقة ما يشترط في الأُضحية، فليس يعني هذا أنها تشبهها من كل الوجوه، بل هناك أوجه اختلاف بينهما نجملها فيما يلي:
1 - يسن أن تطبخ العقيقة، كسائر الولائم، ويتصدق بها مطبوخة، ولا يتصدق بلحمها نيئاً، وهذا بخلاف الأضحية.
ويستحبّ أن تطبخ العقيقة بحلوى، تفاؤلاً بحلاوة أخلاق المولود. والأفضل أن يتصدق بلحمها ومرقها على المساكين، بالعبث بهما إليهم، كما يستحب أن يأكل منها ويهدي.
2 - يستحبّ أن لا يكسر منها عظماً، ما أمكن ذلك، بل يقطع كل عظم من مفصله تفاؤلاً بسلامة أعضاء المولود.
3 - يستحب أن يهدي القابِلة رِجْل العقيقة نِيْئة غير مطبوخة، لأن فاطمة(3/59)
رضي الله عنها فعلت ذلك بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -. رواه الحاكم.
تسمية المولود يوم سابعه وحلق شعره والتصدّق بوزنه ذهباً أو فضة:
يُسنّ تسمية المولود في اليوم السابع من ولادته، كما يسنّ أن يُختار له من الأسماء ما كان حسناً.
ودليل ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إنكم تُدْعَوْن يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم، فأحسنوا أسماءكم". أخرجه أبو داود في [كتاب الأدب ـ باب ـ في تغيير الأسماء، رقم: 4948].
وروى مسلم في [الأدب ـ باب ـ النهي عن التكنّى بأبي القاسم وبيان ما يستحبّ من الأسماء، رقم: 2132] عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن أحبَّ أسمائكم إلى الله عبدالله وعبد الرحمن".
كما يسنّ حلق رأس المولود، ذَكَراً كان أو أنثى، يوم سابعه بعد ذبح العقيقة، ويتصدق بزِنة شعره ذهباً أو فضة.
ودليل ذلك ما رواه الترمذي في [الأضاحي ـ باب ـ ما جاء في العقيقة بشاة، رقم: 1519] وغيره عن عليّ - رضي الله عنه -، قال: عقّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحسن بشاة، وقال: " يا فاطمة، احلقي رأسه، وتصدقي بزنة شعره فضة".
قال: فوزنته، فكان وزنه درهماً، أو بعض درهم.
التأذين في أذن المولود:
ويُسنّ أن يُؤذَّن أذان الصلاة في أذن المولود اليمنى، حين يولد، وتُقام الصلاة في أذنه اليسرى، ليكون إعلامه بالتوحيد أول ما يقرع سمعه عند قدومه إلى الدنيا.
روى الترمذي في [الأضاحي ـ باب ـ الأذان في أذن المولود، رقم:(3/60)
1514] وغيره عن عبيدالله بن أبي رافع عن أبيه قال: (رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
أَذَّن في أُذُن بن علي حين ولدته فاطمة بالصلاة).
تحنيك المولود:
ويستحبّ أن يُحَنَّك المولود بتمر، سواء كان ذكراً، أم أنثى.
والتحنيك: أن يُمضغ التمر، ويُدلك به حَنَك المولود، حتى ينزل إلى جوفه شيء منه، فإن لم يكن هناك تمر، حُنِّك بشيء حلو.
ويستدلّ لاستحباب هذا التحنيك بما رواه مسلم في [الأدب ـ باب ـ استحباب تحنيك المولود عند ولادته، رقم: 2144] وغيره عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: ذهبت بعبدالله بن أبي طلحة الأنصاري - رضي الله عنه - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حين ولد، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عباءة يهنأ بعيراً له، فقال: " هل معك تمر"؟ قلت: نعم. فناولته تمرات، فألقاهنّ في فيه، فلاكهنّ، ثم فَغَرَ فَاْ الصبي فمجَّه في فيه، فجعل الصبي يتلمَّظُه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " حِبُّ الأنصار التمر". وسماه عبدالله.
[يهنأ: يطليه بالقطران.
فلاكهن: مضغهن.
فغر فا الصبي: فتح فمه.
مجه: طرحه وألقاه في فمه.
يتلمظه: يحرك لسانه به ليبتلع ما فيه من الحلاوة.
حب الأنصار التمر: محبوب الأنصار التمر].
وروى مسلم أيضاً [في نفس الباب، رقم: 2145] عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: (ولد لي غلام، فأتيت به النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسماه إبراهيم، وحنكه بتمر).
وروى مسلم في [نفس الباب أيضاً، رقم: 2147] عن عائشة رضي الله عنها؛ (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤتى بالصبيان، فيبرك عليهم ويحنكهم).(3/61)
وبناء على ما ذكرنا، قال العلماء: يستحبّ حمل المولود بعد ولادته إلى أهل الصلاح والتقوى، لتحنيكهم، والدعاء لهم بالخير والبركة.
ختان الطفل:
الختان: مصدر ختن: أي قطع.
والختان: اسم لفعل الخاتن، ولموضع الختان.
وختان الذكر: قطع الجلدة التي تغطي الحشفة.
حكم الختان:
الختان واجب عند الشافعية على الذكور والإناث.
ثم إن الواجب في حقّ الذكر قطع الجلدة التي تغطي الحشفة.
وفي حقّ الإناث قطع أدنى جزء من الجلدة التي في أعلى الفرج.
وقيل: الختان واجب على الذكور، دون النساء.
دليل مشروعية الختان:
ويستدل على وجوب الختان بما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " الفطرة خمس، أو خمس من الفطرة: الختان، والاستحداد، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وقصّ الشارب"أخرجه البخاري في [اللباس ـ باب ـ تقليم الأظفار، رقم: 5552] ومسلم في [الطهارة ـ باب ـ خصال الفطرة، رقم: 257].
[الفطرة: الخلقة المبتدأة، والمراد بها هنا: السنّة القديمة التي اختارها الأنبياء، واتفقت عليها الشرائع.
الاستحداد: حلق العانة، وهي الشعر الذي حول فرج الرجل والمرأة.
تقليم الأظفار: قطع رؤوسها المستطيلة عن أصلها].(3/62)
وقت الختان:
الختان كما قلنا واجب، ولكن لا يشترط أن يكون في حال الصِّغَر، بل يجوز في الصغر، والكبر.
ولكن يسنّ لوليّ الطفل أن يختنه في اليوم السابع من ولادته، إن رأى الخاتن أن الطفل يطيق ذلك، ولم يكن مريضاً.
ولقد كان العرب قبل الإسلام يختتنون إتباعا لسنة أبيهم إبراهيم عليه السلام.
حكمة مشروعية الختان:
والحكمة من مشروعية الختان إنما هي المبالغة في الطهارة، والنظافة، ولا شك أن إزالة القُلْفة أضمن لذلك، وأعون عليه.
وفي نظافة الظاهر إشعار بالحقّ على نظافة الباطن.
قال الله عزّ وجلّ: [إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ] (البقرة: 222).
ولا شك أن التوبة إنما هي شعار لنظافة الباطن من الذنوب والعيوب.
التهنئة بالمولود:
ويستحبّ أن يهنئ الرجال الوالد، والنساء الوالدة بالمولود، يقولون له: بارك الله لك في الموهوب لك، وشكرت الواهب، وبلغ أشُدَّه، ورُزقت بِرَّه.
ويستحب للوالد أن يجيبهم بقوله: بارك الله لكم، وبارك عليكم، وأجزل ثوابكم.
وكذلك يقال للمرأة الوالدة، وتقول هي لهنّ، ما يقول الرجل للرجال. والله تعالى أعلم.(3/63)
الأطعِمَة والأشربَة(3/65)
الأطعِمَة والأشربَة
- ما يحلّ من الأطعمة وما يحرم -
تنطلق القاعدة الشرعية في معرفة ما يحلّ من الأطعمة، وما يحرم منها من قول الله عزّ وجلّ: [قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ] (الأنعام: 145).
ومن قوله سبحانه وتعالى: [وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ] (الأعراف: 157).
ومن قوله جل جلاله: [يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ] (المائدة: 4).
والمراد بالطيبات: ما تستطيبه النفس السليمة وتشتهيه.
وانطلاقاً من هذه الآيات قام حكم الأطعمة حلاًّ وحرمة على المبادئ الثلاثة التالية:
المبدأ الأول:
كل حيوان استطابته العرب في حال الخصب والرفاهية، وفي عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو حلال.(3/67)
ويدخل في هذا الباب:
ا- كل حيوان لا يعيش إلا في البحر، وهو السمك بكل أنواعه، وأسمائه، فهو حلال، لأنه العرب استطابت كل ذلك، وجاء الشرع، مؤكِّداّ حلَّه وجواز أكله.
روى الترمذي في [أبواب الطهارة ـ باب ـ ما جاء في ماء البحر أنه طهور، رقم: 69] وغيره عن أبي هريرة - رضي الله عنه - يقول: سأل رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، إنّا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ من ماء البحر؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " هو الطهور ماؤه الحلّ ميتته".
وقال الله عزّ وجلّ في محكم كتابه العزيز: [أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ] (المائدة: 96).
[فصيد البحر: هو مَصِيده.
وطعامه: أي مطعومه].
وفسّر جمهور العلماء طعام البحر بما طفا على وجه الماء من السمك بعد موته، ما لم يفسد.
ب - الأنعام: وهي الإبل، والبقر، والغنم، والمعز، والخيل، وبقر وحُمُر الوحش، والظباء والأرانب، وغيرها مما استطابه العرب، وقد جاء الشرع بحلِّها.
لكن يستثنى من عموم ما استطابته العرب ما ورد الشرع بتحريمه، فلا يباح أكله: كالبغال والحُمُر الأهلية.
روى البخاري في [كتاب الذبائح والصيد ـ باب ـ لحوم الحمر الإنسية، رقم: 5204] عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال (نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر عن لحوم الحُمُر، ورخص في لحوم الخيل).(3/68)
وروى الترمذي في [كتاب الأطعمة ـ باب ـ ما جاء في أكل لحوم الخيل، رقم: 1794] عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - قال: (أطعَمَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لحوم الخيل، ونهانا عن لحوم الحُمُر).
والبغال ملحقة بالحمر في الحرمة للنهي عن أكلها في خبر أبي داود بإسناد على شرط مسلم، ولأنها متولِّدة بين حلال، وحرام، فهي متولِّدة بين الخيل، والحمير، فغُلِّب جانب الحرمة على جانب الحلّ.
وكل حيوان استخبثه العرب في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - كالحشرات ونحوها، فهو حرام إلا ما ورد الشرع بإباحته خصوصاً: كاليربوع، والضَّبّ، والسمُّور، والقنفذ، والوبر، وابن عرس، وغيرها.
اليربوع: دابّة نحو الفأرة، لكن ذنبه أطول، وكذلك أُذُناه، ورجلاه أطول من يديه.
الضَّبّ: دابّة تشبه الجرذون، ولكنه أكبر منه قليلاً.
السمُّور: وهو حيوان يشبه السنور، وهو من ثعالب الترك.
الوَبْر: دابة أصغر من الهر كحلاء العين لا ذنب لها.
ابن عرس: دابّة رقيقة تعادي الفأر، وتدخل حجره وتخرجه.
وقد روى البخاري ما جاء في حلِّ الضب في [الصيد والذبائح ـ باب ـ الضبّ، رقم: 5216] عن ابن عمر رضي الله عنهما: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الضبّ لست آكله ولا أُحرمه".
وإنما اعتبر عُرْف العرب في هذا التحليل والتحريم، لأنهم الذين خوطبوا بالشرع أولاً، وفيهم بعث النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونزل القرآن الكريم.
المبدأ الثاني:
يحرّم من السباع كل ما له ناب قويّ يفترس به: كالكلب، والخنزير، والذئب، والدب، والهرّة، وابن آوى ـ وهو حيوان فوق الثعلب ودون(3/69)
الكلب، طويل المخالب ـ والفيل، والسبع، والنمر، والفهد، والقرد، وأمثالها مما ناب قوي يفترس به.
فإن كان نابه ضعيفاً، لا يبلغ أن يفترس به، لم يحرّم أكله؛ كالضبع والثعلب.
روى الترمذي في [الأطعمة ـ باب ـ ما جاء في أكل الضبع، رقم: 1792] وغيره عن ابن أبي عمّار، قال: قلت لجابر - رضي الله عنه -: (الضَّبُع صيد هي؟ قال: نعم. قال: قلت: آكله؟ قال: نعم. قال: قلت له: أقاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم).
ويحرّم من الطيور كل ما له مخلب؛ أي ظفر قوي يجرح به: كالنسر، والصقر، والباز، والشاهين، والعقاب.
ودليل ذلك ما رواه البخاري في [الذبائح والصيد ـ باب ـ أكل كل ذي ناب من السباع، رقم: 5210] ومسلم في [الصيد والذبائح ـ باب ـ تحريم أكل كل ذي ناب، رقم: 1932] عن أبي ثعلبة الخشني - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن كل ذي ناب من السباع).
وروى مسلم في [الصيد والذبائح ـ باب ـ تحريم أكل كل ذي ناب، رقم: 1934] وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كل ذي ناب من السباع، وعن كل ذي مخلب من الطيور).
ولأن هذه الحيوانات من السباع، والطيور من شأنها أن تأكل الجيف، بسبب طبيعة الافتراس التي فيها، فتكون بسبب ذلك من الحيوانات المتخبثة.
المبدأ الثالث:
يحرّم كل حيوان ندب قتله: كحية، وعقرب، وغراب، وحدأة، وفأر، وكل ما ثبت ضرره.(3/70)
فهذه الحيوانات ونحوها يحرم أكلها سواء استطابتها العرب، أم لا، لأنه ثبت ندب قتلها بالسنّة، على أن معظمها مما تعافه العرب.
عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " خمس من الدواب كلهنّ فاسق، يقتلن في الحرم: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور". أخرجه البخاري في [الإحصار وجزاء الصيد ـ باب ـ ما يقتل المحرم من الدواب، رقم: 1732] ومسلم في [الحج ـ باب ـ ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب، رقم: 1198].
[فاسق: من الفسق، وهو الخروج، ووصفت هذه الدواب بذلك، لخروجها عن حكم غيرها بالإيذاء والإفساد، وعدم الانتفاع.
العقور: الجارح الذي يتعرض للناس، ويعضّهم].
حالة الضرورة:
يستثنى من عموم الحكم الذي اقتضته هذه المبادئ الثلاثة حال ضرورة تلبّست بإنسان، فيحلّ له إذا اضطر أن يأكل من الميتة المحرمة، ومن الحيوانات التي ثبتت حُرمة أكلها، يأكل ما يسدُّ رمقه، ويبقى عليه حياته، وذلك عملاً بقول الله عزّ وجلّ: [وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً] (النساء: 29).
وقوله سبحانه وتعالى: [فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ] (المائدة: 3).
[المخمصة: الجوع الشديد.
متجانف لإثم: مائل إليه].
وبقوله جلّ وشأنه: [فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ] (البقرة: 173).
[غير باغ: غير طالب الأكل تشهياً.(3/71)
ولا عاد: ولا معتد؛ أي متجاوز القدر المسموح به، وهو ما يسدّ الرمق، ويحفظ الحياة].
خاتمة في بعض ما يحلّ وما يحرم:
نذكر، ـ إتماماً للفائدة، وإضافة لما ذكرنا سابقاً ـ بعض ما يحرم أكله، وما يحلّ على سبيل التعداد فقط.
1 - ما يحرم:
ا- تحرّم الحشرات كلها؛ وهي صغار دواب الأرض، وصغار هوامّها: كالنمل والذباب، والخنافس، والحيات، والدود، والبقّ، والقمل، والصُّرصُر، والوزغ: وهو سامُّ أبرصَ، وغيرها.
وذوات الإبر والسموم: كالنحل، والزنبور، والعقرب، وغيرها. إلا ما استثنى من ذلك: كالجراد، والقنفذ، والضَّبّ، واليربوع. ويعفى عن دود الخلّ، والفاكهة إذا أكل معهما.
ب- يحرم من الطيور:
الببَّغا: وهو طائر أخضر، له قوة حكاية الأصوات، وقبول التلقين.
والطاووس: وهو طائر: يحبّ الزهو بنفسه، والخيلاء، والإعجاب بريشه.
والرَّخَمَة: وهي طائر يشبه النسر في الخلقة.
والبُغَاثة: طائر أبيض بطئ الطيران أصغر من الحدأة، له مخلب ضعيف.
والخُطَّاف: وهو طائر أسود الظهر، أبيض البطن يأوي إلى البيوت في الربيع.(3/72)
والخُفَّاش، ويقال له الوطواط: وهو طائر صغير، لا ريش له، يشبه الفأرة، يطير بين المغرب والعشاء.
ج- كل متنجس لا يمكن تطهيره: وهو كل مائع وقعت فيه نجاسة: كخل، وزيت، ودبس، وغيرها.
د- ما يضرّ البدن: كالأحجار، والتراب، والزجاج، والسم، والأفيون وغيرها.
2 - ما يحلّ:
ا- ويحلّ: النعامة، والبط، والإوَز، والدجاج، وغراب الزرع، والقطا، والحجل، والحمام ـ وهو كل ما عَبَّ وهَدَر ـ وما على شكل عصفور، وإن اختلف لونه ونوعه: كعندليب، وزرزور، وبلبل، وغيرها.
[معنى عَبَّ: شرب الماء من غير تنفس، بأن شرب جرعة بعد جرعة من غير مص.
وهدر: رجع الصوت].
ب- كل طاهر لا ضرر فيه، ولا هو مما تعافه الأنفس، وتستقذره: كالزهور، والثمار، والحبوب، والبيض، والجبن، وغيرها. أما ما تعافه الأنفس، وتستقذره فحرام، كالمخاط، والمِني وغيرهما.
ج- ألبان الحيوانات المأكولة اللحم، أما ألبان غير مأكول اللحم فحرام، إلا لبن الإنسان فطاهر، ويحلّ أكله، وشربه,
والله تعالى أعلم.(3/73)
الأشربة المحرّمة والمخدرات
الأصل في الأشربة الحلّ:
الأشربة - مثلها مثلُ المأكولات والأطعمة - الأصل فيها الإِباحة والحلّ: لعموم قول الله عزّ وجلّ: [هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً] (البقرة: 29).
فكل ما نزل من السماء، أو نبع من الأرض، وكلما عُصر من ثمر، أو زهر، أو غير ذلك فهو حلال.
قال الله تبارك وتعالى: [وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً] (الفرقان: 48 - 49).
لكن يستثنى من عموم ما ذكر، ما دلَّ الدليل على حرمته.
ما يحرم من الأشربة:
وإنما يحرم من الأشربة:
1 - ما كان منها ضاراً، كالسم، وغيره، لأن ذلك يفسد الجسم، ويُتلفه.
والله عزّ وجلّ يقول: [وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ] (البقرة: 195).
ويقول سبحانه وتعالى: [وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً] (النساء: 29).(3/74)
2 - ما كان نجساً كالدم المسفوح، والبول، أو لبن ما لا يؤكل لحمه من الحيوانات، غير الإنسان، أو كان متنجساً كالمائع إذا وقعت فيه نجاسة، لما في ذلك من الضرر على الجسم، ولأنه مما تعافه الأنفس وتستقذره.
قال الله عزّ وجلّ في ذكر المحرمات: [أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً] (الأنعام: 145).
وروى البخاري في [الوضوء ـ باب ـ ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - والناس الأعرابي حتى فرغ من بوله في المسجد، رقم: 216] ومسلم في [الطهارة ـ باب ـ وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد وأن الأرض تطهر بالماء من غير حاجة إلى حفرها، رقم: 484] عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى أعرابياً يبول في المسجد، فقال: " دعوه حتى إذا فرغ دعا بماء فصبّه عليه".
وفي رواية مسلم: (أمر رسول الله بذَنوب فصب على بوله).
والأمر بصبّ الماء على بوله دليل نجاسته.
والذنوب: الدلو المملوءة ماء.
3 - ما كان مُسكِراً، سواء كان خمراً، وهو المتخذ من العنب، أو كان غير خمر، وهو المتخذ مما سوى ذلك.
وذلك لما ورد من نصوص ثابتة في تحريم كل مُسكِر.
دليل تحريم المُسكِر:
والأصل في تحريم المُسكِرات قول الله عزّ وجلّ: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (المائدة: 90).
فالتعبير بالاجتناب أبلغ في النهي والتحريم من التعبير بتحريم(3/75)
الشرب، لأن تحريم الشرب، لا يتناول النهي عن التعامل به تحضيراً وشراءً وبيعاً. أما الأمر بالاجتناب، فهو تحذير من جميع وجوه التعامل به، بما في ذلك الشرب وغيره.
كل مُسكِر حرام:
والآية وإن كانت نصاً على الخمرة وحدها، وهي ما كانت متخذة من العنب، إلا أن سائر المُسكِرات الأخرى، داخلة في مضمون النص، وذلك لما يلي:
1 - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " كلّ شراب أسكر فهو حرام". رواه البخاري في [الأشربة ـ باب ـ الخمر من العسل، وهو البتع، رقم: 5263] ومسلم في [الأشربة ـ باب ـ بيان أن كل مُسكِر خمر، رقم: 2001].
2 - ولقوله عليه الصلاة والسلام، شارحاً المعنى المراد بكلمة (الخمر) في الآية: "كل مُسكِر خمر، وكل خمر حرام". رواه مسلم في [الأشربة ـ باب ـ بيان أن كل مُسكِر خمر].
فاختلاف الأسماء لا يُخرِج المُسكِرات عن حكم الخمر، وهو التحريم.
3 - لأن المعنى المسبِّب لتحريم الخمر، إنما هو وصف بالإسكار فيها، بإجماع المسلمين. فوجب أن يشترك معها في التحريم كل الأشربة المُسكِرة، أيّاً كان أصلها دون أيّ تفريق.
روى أبو داود في [الأشربة ـ باب ـ في الداذي، رقم: 3688] وابن ماجه في
[الفتن ـ باب ـ العقوبات رقم: 4020] عن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه -، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " ليشربَنَّ ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها".
[الداذي: حبّ يلقى في العصير فيشتدّ ويُسرع إسكاره].(3/76)
تحديد معنى السكر:
المراد بالسُكْر: شدّة مُطْربة، تستر فاعليّة العقل، بنشوة تبعث على عدم الانضباط بمقتضيات الرشد واللياقة.
والمراد المُسكِر: ما ثبت أن جنسه يسبّب الإسكار، بقطع النظر عن الكمية المشروطة لذلك.
فكل ما ثبت أن شرب كمية منه يورث السُكْر، فلا يجوز تناول شيء منه مطلقاً، أي سواء كان القدر المتناوَل منه داخلاً في حدود الكمية المُسكِرة فعلاً، أو أقل منها. ولا عبرة أيضاً بالشارب، سواء سكر بذلك، أم لا.
ويعبّر الفقهاء عن هذا المعنى، بالقاعدة المشهورة: (ما أسكر كثيره فقليله حرام)؛ وهي نص حديث، رواه أبو داود في [الأشربة ـ باب ـ النهي عن المُسكِر، رقم: 3681] والترمذي في [الأشربة ـ باب ـ ما أسكر كثيره فقليله حرام، رقم: 1866] وابن ماجه في [الأشربة ـ باب ـ ما أسكر كثيره فقليله حرام، رقم: 3393] عن جابر - رضي الله عنه -.
وروى الترمذي في [الأشربة ـ باب ـ ما أسكر كثيره، فقليله حرام، رقم: 1867] وأبو داود في [الأشربة ـ باب ـ النهي عن المُسكِر، رقم: 3687] عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كلّ مُسكِر حرام، ما أسكَر الفَرَق منه، فَمَلْءُ الكفّ منه حرام".
[والفرق: مكيال كان معروفاً لديهم يسع ستة عشر رِطْلاً].
نجاسة المُسكِر:
الخمر، وكل مائع مُسكِر، نجس في مذهب الشافعية.
ودليل ذلك قول الله عزّ وجلّ: [إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ]
(المائدة: 90).(3/77)
[والرجس في اللغة: القذر والنجس].
الحكمة من تحريم المسكرات:
أنعم الله عزّ وجلّ على الإنسان بنعم كثيرة، في مقدمتها: نعمة العقل التي ميّزه، بل شرّفه بها على سائر الحيوانات الأخرى، وإنما تستقيم حياة الإنسان في معناها الشخصي، وصورتها الاجتماعية بواسطة العقل، وتكامله وسلطانه.
والمُسكِرات ـ كما قد علمت ـ من شأنها أن تُؤدي بهذه النعمة، وتُفقِد الإنسان الكثير من فوائدها وثمراتها.
فإذا غابت ضوابط العقل، ظهرت من ورائه رعونة النفس، وساد طيش الشهوات والأهواء، فثارت الشحناء والبغضاء، وانتشرت أسباب العداوة بين المسلمين، وتقطعت روابط الأخوة والمحبة بينهم.
أضف إلى ذلك ما في الخمر من صدٍّ عن ذكر الله تعالى، وابتعاد عن أبواب رحمته، ومواطن فضله وإحسانه.
وإلى هذا وذاك يشير قول الله عزّ وجلّ في كتابه العزيز: [إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ] (المائدة: 91).
وهذا ما أكده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قال: " اجتنبوا الخمر، فإنها مفتاح كل شر". أخرجه الحاكم في المستدرك [كتاب الأشربة ـ باب ـ اجتنبوا الخمر، 4/ 145].
وروى النسائي في [الأشربة ـ باب ـ ذكر الآثام المتولدة عن شرب الخمر، 8/ 315] عن عثمان - رضي الله عنه - موقوفاً: " اجتنبوا الخمر، فإنها أمّ الخبائث". أي أصل كل شر، ومنبع كل فساد.
فتلك هي بعض الحكم من تحريم وسائر أنواع المُسكِرات.(3/78)
ما يترتب على شرب المُسكِر:
بعدما تبيّن لك المعنى المقصود بالمُسكِر، وعرفت حكم المُسكِرات على اختلافها، ودليل ذلك، والحكمة منه، فما هي الأحكام التي تترتب على شرب المسكر؟
يترتب على شرب المُسكِر حكمان اثنان:
أحدهما: قضائي، يتحقق أثره في دار الدنيا.
والثاني: دياني، لا يظهر أثره إلا يوم القيامة.
فأما الأول: وهو حكم شرب المُسكِر قضاء: فهو استحقاق الشارب للحدّ.
وأما الثاني: وهو حكمه ديانة: فهو الإثم الذي يستوجبه على ذلك. ولا نطيل في الحديث عن هذا الحكم الثاني، وهو الإثم، فإنه عائد إلى ما بين العبد وربّه جلّ جلاله، ولا يعود الأمر في ذلك إلى شيء من أقضية الدنيا وأحكامها، وإنما هو مرهون بقضاء أمر الله وحكمه. غير أنه من المتّفق عليه أن شرب المُسكِر عمداً من كبائر الإِثم، وعقوبته يوم القيامة عقوبة شديدة، ما لم يتدارك الله عبده بالمغفرة والصفح.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن على الله عزّ وجلّ عهداً لمن شرب المُسكِر أن يسقيه من طينة الخبال" قالوا يا رسول الله، وما طينة الخبال؟ قال: " عرق أهل النار، أو عصارة أهل النار" رواه مسلم عن جابر - رضي الله عنه - في [كتاب الأشربة ـ باب ـ بيان أن كل مُسكِر خمر وأن كل خمر حرام، رقم: 2002].
حدّ شرب المُسكِر:
حدّ شرب المُسكِر، خمراً كان أو غيره، أربعون جلدة، بالشروط التي سنذكرها. ويجوز أن يزيد الإمام إذا رأى ذلك، إلى أن يبلغ به ثمانين جلدة، ويكون ما زاد على الأربعين تعزيراً.(3/79)
ودليل ذلك ما رواه مسلم في [الحدود ـ باب ـ حدّ الخمر، رقم: 1706] عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -) كان يضرب في الخمر بالجريدة والنعال أربعين).
[والجريد: أغضان النخيل إذا جُرِّدت من الورق].
وروى مسلم أيضاً في [نفس الموضع الذي سبق] عن أنس - رضي الله عنه -: أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - جلد في الخمر بالجريد والنعال أربعين، ثم جلد أبو بكر - رضي الله عنه - أربعين، فلما كان عمر - رضي الله عنه -، ودنا الناس من الريف والقرى، قال: ما تَرَوْن في جلد الخمر؟ فقال عبدالرحمن بن عوف - رضي الله عنه -: أرى أن تجعلها كأخفّ الحدود، قال: فجلد عمر ثمانين.
ودل على أن الزيادة على الأربعين تعزيز، وليس بحدّ: ما رواه مسلم في
[الأشربة ـ باب ـ حدّ الخمر، رقم: 1707] أن عثمان - رضي الله عنه -: (أمر بجلد الوليد بن عقبة بن أبي مُعَيْط، فجلده عبدالله بن جعفر رضي الله عنهما، وعلي - رضي الله عنه - يعدُّ، حتى إذا بلغ أربعين، فقال أمسك، ثم قال: جلد النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكلٌّ سُنّة، وهذا أحبُّ إلي) أي الاكتفاء بالأربعين، لأنه الذي فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو أحوط في باب العقوبة، من أن يزيد فيها عن القدر المستحق، فيكون ظلماً.
قال الفقهاء: فأما الأربعون الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهي الحدُّ الأساسي، وأما خبر أن عمر - رضي الله عنه - جلد ثمانين، فوجهه كما قال علي لعمر رضي الله عنهما: (نرى أن تجلد ثمانين، فإنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذي وإذا هذي افترى). رواه مالك في [الموطأ، كتاب الأشربة ـ باب ـ الحدّ في الخمر].
[وحدّ افتراء ثمانون، ومثل هذا الحكم إنما يتم تعزيراً.
هذي: تكلم بما لا ينبغي.(3/80)
افترى: كذب واتهم غيره بالزنى].
لذلك كان المذهب على أن الأفضل الاقتصار على الأربعين، إذ هو الوارد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ولا يقام الحدّ على مَن شرب الخمر حال سكره، لأنه لا يحصل به عندئذ المزجر، وإنما ينتظر ليستفيق من سكره، فيحدُّ، ليحصل به الانزجار عن تعاطي المُسكِر مرة أخرى.
شروط ثبوت حدّ شرب المُسكِر:
لا يثبت الحدّ على المتهم بشرب المُسكِر إلا بأحد أمرين اثنين:
الأول: البينة الكاملة:
وهي شهادة رجلين عدلين، فلا يثبت الحد بشهادة رجل وامرأتين، ولا بعلم الحاكم.
بل لابد من شهادة رجلين اثنين عدلين.
ودليل ذلك ما جاء في حديث مسلم في جلد عثمان - رضي الله عنه - للوليد بن عقبة: (فشهد عليه رجلان) [الأشربة ـ باب ـ حد الخمر، رقم: 1707].
الثاني: الإقرار:
وذلك بأن يعترف أنه شرب مُسكِراً أو خمراً. والإقرار حجة تقوم مقام البينة.
هذا، ويكفي الإطلاق في كل من الإقرار والشهادة، أي فيكفي في إقراره أن يقول: شربت مسكراً.
ويكفي في الشهادة، أن يقول الشاهدان: إنه شرب مسكراً.
فلا يشترط أن يقول هو: شربته عالماً مختاراً، أو يقول الشاهدان شربه عالماً مختاراً.(3/81)
إذ الأصل أنه لم يشربه إلا وهو عالم بكونه مسكراً، ومختاراً، فإن تبين أنه أُكره على شربه بتهديد أو جرت الخمر في حلقه، وتبين أنه لم يعلم أنها خمر، لم يجز حده.
ودليل ذلك عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه" رواه ابن ماجه في [الطلاق ـ باب ـ طلاق المُكره، والناسي، رقم: 2045] عن ابن عباس رضي الله عنهما.
ولا يدخل في حكم شيء من البيّنات، أو الإقرار: القيء، ولا الإستكناه؛ وهو شم رائحة المسكر من الفم، لاحتمال عذر، من نحو غلط، أو إكراه. وإذا وقع الاحتمال، لم يجز الحد.
لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلّوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة".
أخرجه أبو داود في [الحدود ـ باب ـ ما جاء في درء الحدود، رقم: 1424].
من يتولى تنفيذ الحدّ:
حد الشرب ـ كغيره من الحدود ـ إنما يتولى تنفيذه الحاكم.
فلو لم يعلم الحاكم بالأمر، أو لم يثبت عنده موجب الحد، لم يجُزْ لغيره من عامّة الناس أن يتولى عنه إقامة الحدّ، درءاً للفتنة.
ولا يكلف شارب الخمر، أو مستحق الحدّ، أياً كان أن يعرض نفسه للحدّ أمام القضاء. بل يكفيه أن يتوب توبة صادقة بينه وبين ربه سبحانه وتعالى.
روى البخاري في [المحاربين ـ باب ـ إذا أقرّ بالحدّ ولم يبين، رقم: 6437] ومسلم في [التوبة ـ باب ـ قوله إن الحسنات يذهبن السيئات،(3/82)
رقم: 2764] عن أنس - رضي الله عنه - قال: كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجاءه رجل، فقال: يا رسول الله، إني أصبت حداً، فأقمه عليّ، قال: ولم يسأل عنه، قال: وحضرت الصلاة، فصلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة، قام إليه الرجل، فقال: يا رسول الله، إني أصبت حداً فأقم فيَّ كتاب الله، قال: قال: " أليس قد صلّيت معنا"؟ قال: نعم، قال: " فإن الله قد غفر لك ذنبك، أو قال: حدَّك".
وفي حديث مشابه عند مسلم، [رقم: 2763] قال عمر - رضي الله عنه - للرجل: (لقد سترك الله لو سترت نفسك)، قال ذلك على مسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم ينكره عليه.
فدل على أن هذا هو المطلوب في شرع الله عزّ وجلّ، أن يستر الإنسان على نفسه، ويتوب بينه وبين ربه تبارك وتعالى.(3/83)
المخدرات المختلفة
معنى التخدير:
الخَدَرُ: مأخوذ من الخِدْر، وهو السِّتر من بيت ونحوه.
والمراد بالتخدير هنا: الحالة التي تغشي العقل والفكر من الكسل والثقل والفتور، فكأنه يستتر بشيء.
والمخدرات: كل ما يسبب هذه الحالة للعقل: من بنج، وأفيون وحشيشة، ونحوها.
حكم المخدرات:
يحرّم تعاطي المخدرات على اختلافها، كيفما كان تعاطيها، لما فيها من الإضرار بالعقل والجسم، ولما تستلزم من الأمراض والنتائج الضارّة المختلفة، التي لم تعد خافية على أحد، فهي داخلة ـ من حيث التحريم ـ في حكم المُسكِرات التي مرّ ذكرها.
روى أبو داود في [الأشربة ـ باب ـ النهي عن المُسكِر، رقم: 3686 عن أم سلمة رضي الله عنها، قالت: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كل مُسكِر، ومفتر) وأخرجه أحمد في المسند [6/ 309].
عقوبة تناول المخدرات:
إن عقوبة المخدرات الدنيوية لا تتجاوز التعزير.
وعقوبة التعزير مفوَّضة من حيث نوعها وشدتها، إلى ما يراه القضاء(3/84)
الإسلامي العادل؛ من سجن أو ضرب، أو تقريع أو نحو ذلك، بشرط أن لا يبلغ به الضرب أدنى حدّ من الحدود الشرعية.
حالات استثنائية:
هناك حالات استثنائية تخرج من عموم حكم الخمر والمخدر، نذكرها فيما يلي:
الحالة الأولى: حالة الضرورة:
غصّ بلقمة طعام، وليس حوله ما يسيغها به إلا جرعة خمر، أو نحوها من المسكرات، جاز له أن يسيغ لقمته تلك، بجرعة الخمر، اتقاء الهلاك.
قال الله عزّ وجلّ: [فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ] (الأنعام: 145).
الحالة الثانية: التداوي:
وصف الطبيب دواء للمريض، وكان ممزوجاً بمُسكِر مزجاً استهلك صفات المسكر، وخصائصه، وليس في الظاهر دواء آخر يقوم مقامه، جاز للمريض تناوله للضرورة، والحاجة لذلك.
أما المُسكِر الذي لم يستهلك في غيره من الأدوية، فلا يجوز تناوله للاستشفاء، وإن أشار به الطبيب، أو أمر بذلك.
وقد ثبت أن المُسكِر الصافي لا يمكن أن يكون الدواءَ الذي لا يقوم مقامه غيره لمرض ما.
بل إن الأضرار الكامنة فيه تزيد على ما قد يُظن فيه من فائدة وخير.
روى ابن ماجه في [الطب ـ باب ـ النهي أن يتداوى بالخمر، رقم: 3500] عن طارق بن سويد الحضرمي - رضي الله عنه - قال: قلت يا رسول الله، إن بأرضنا أعناباً نعتصرها، فنشرب منها؟ قال: " لا " فراجعته،(3/85)
قلت إنا نستشفي به للمريض؟ قال: " إن ذلك ليس بشفاء، ولكنه داء".
وأخرجه أيضاً أحمد في مسنده: [4/ 311، 5/ 293].
وروى البخاري تعليقاً عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: (إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرّم عليكم). [الأشربة ـ باب ـ شراب الحلوى والعسل].
الحالة الثالثة: العمليات الجراحية:
اضطر الطبيب إلى الاستعانة بمخدر من أجل إجراء عملية جراحية، ونحوها للمريض، بمعنى أن المريض لا يكاد يتحمّل ألم الجراحة بدون مخدر: (والآلام الشديدة تنزل منزلة الضرورة) فلا مانع في مثل هذه الحالة من الاستعانة بالمخدر سواء كان على كيفية حقنة، أو شرب، أو ابتلاع.
والله تعالى أعلم.(3/86)
اللِّبَاسُ والزّينَة(3/87)
اللِّبَاسُ والزّينَة
الأصل في أحكام اللباس والزينة الحلّ:
إن الأصل في أحكام اللباس والزينة، سواء كان في البدن، أو في الثياب، أو المكان، إنما هو الحلّ والإباحة.
وذلك عملاً بعموم الأدلة التي تحمل منَّة الله تعالى على عباده، فيما خلق لهم، وأنعم به عليهم، لينتفعوا به في حياتهم الدنيا، لباساً، وتزيناً واستعمالاً، وتنعماً.
قال الله تبارك وتعالى: [هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً] (البقرة: 29).
وقال عزّ وجلّ: [وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا] (إبراهيم: 34).
وقال الله سبحانه وتعالى: [قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ] (الأعراف: 32).
وقال عزّ من قائل: [يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ] (الأعراف: 26).
[يواري سوآتكم: يستر عوراتكم.(3/89)
وريشاً: قال ابن عباس رضي الله عنهما: كل ما ظهر من الثياب والمتاع مما يلبس ويفرش].
وقال جل جلاله، ممتناً على عباده بما خلق لهم: [وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ * وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ] (النحل: 80 - 81).
[سكناً: بيوتاً تسكنون إليها.
يوم ظعنكم: يوم سيركم في أسفاركم.
أثاثاً: الأثاث متاع البيت من الفرش والأكسية.
أكناناً: جمع كِنّ: وهو ما يستكنّ فيه من شدة الحر والبرد: كالكهوف والأسراب.
سرابيل: جمع سربال، وهي القُمُص والثياب.
وسرابيل تقيكم بأسكم: هي الدروع تردّ عنكم سلاح عدوكم وتقيكم الجراح].
من هذه الأدلة وغيرها نعلم أن الأصل في كل ما كان من قبيل اللباس والزينة إنما هو الحلّ والإباحة، إلا ما استثنى من ذلك بنصوص خاصة.
ما استثنى من عموم الحل:
لقد استثنى من هذا العموم ما قامت الأدلة على تحريمه، ومنعت من استعماله.
وسنقتصر على بعض ما استثنى من عموم الحل، وأَخَذ حكماً آخر وهو الحرمة، والمنع.(3/90)
1 - تحريم الذهب والفضة في غير البيع والشراء ونحوهما
لا يجوز استعمال الذهب والفضة في أي نوع من أنواع الاستعمال، ما عدا البيع والشراء، ونحوهما، فلا يجوز أن يتخذ منهما أواني للأكل والشرب، ولا أن يجعل منهما أدوات الكتابة، أو الاكتحال، أو تزيين البيوت، والمجالس، والمساجد، والحوانيت وغيرها، سواء كانت هذه الأشياء المستعملة من الذهب والفضة صغيرة أو كبيرة.
وكما يحرّم استعمال الذهب والفضة فيما ذكر، يحرم اتخاذهما أيضاً في ذلك، ولو من غير استعمال، لأن ما حرم استعماله حرم اتخاذه.
أدلة تحريم استعمال الذهب والفضة:
وأدلة هذا التحريم كثيرة في صحاح السنّة، منها:
ما رواه مسلم في [اللباس والزينة ـ باب ـ تحريم استعمال أواني الذهب، رقم: 2065] عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من شرب في إناء من ذهب أو فضة، فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم".
وروى مسلم في [اللباس والزينة ـ باب ـ تحريم استعمال إناء الذهب، رقم: 2067] عن حذيفة - رضي الله عنه -، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صِحافها، فإنها لهم في الدنيا" أي للكفار.
حكم استعمال الأواني المضببة بالذهب والفضة:
يحرم استعمال ما ضبب من الأواني بالذهب مطلقاً، سواء كانت الضبة كبيرة، أم صغيرة. وسواء ضبب في موضع الاستعمال، أو غيره.
وأما التضبيب بالفضة، فإن كانت الضبة كبيرة لغير حاجة حرمت،(3/91)
وإن كانت صغيرة، أو كبيرة لحاجة جازت، سواء كانت الضبة في موضع الاستعمال، أو في غيره.
ودليل هذا الجواز ما رواه البخاري في [الأشربة ـ باب ـ الشرب من قدح النبي - صلى الله عليه وسلم - وآنيته] عن عاصم الأحول قال: رأيت قدح النبي - صلى الله عليه وسلم - عند أنس بن مالك - رضي الله عنه -، وكان قد انصدع، فسلسله بفضة، قال: وهو قدح جيد عريض من نُضَار، قال: قال أنس - رضي الله عنه -: (لقد سقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا القدح أكثر من كذا وكذا).
[نضار: خشب جيد للآنية].
حكم استعمال الأواني المموَّهة بالذهب والفضة:
التمويه ـ وهو الطلي ـ بالذهب والفضة، إن كان قليلاً بحيث إذا عُرِض على النار لم يتحصّل منه شيء، حلّ وإن كان كثيراً، بحيث يتحصّل منه شيء إذا عرض على النار حرم، ولم يجُز عندئذٍ استعمال الإناء المموّه، ولا اتخاذه.
ويحرم تمويه وطلي سُقف البيوت، وجدرانها بالذهب والفضة، ولو كان ذلك قليلاً، لا يتحصّل منه شيء إذا عرض على النار.
حكم استعمال الأواني المتخذة من المعادن النفيسة:
يجوز استعمال الأواني المتخذة من المعادن النفيسة، غير النقدين - كالماس واللؤلؤ، والمرجان، والياقوت، والزمرد، والزجاج وغيرها - لعدم ورود نص بالنهي عنها، والأصل في هذه الأشياء الإباحة، ما لم يرد دليل التحريم، وليس ثمة من دليل. وقياسها على الذهب والفضة غير صحيح.
الحكمة من تحريم أواني الذهب والفضة:
قلنا سابقاً: إن من أعظم الحكم في هذا الموضوع، وأمثاله محض التعبّد والاختبار للناس. ومع هذا فقد يجد الباحث وراء ذلك حِكَماً أخرى نذكر منها:(3/92)
أ- إن الله عزّ وجلّ جعل النقدين أثماناً للناس، وربط بهما سهولة التعامل بينهم، فلم يُبِحْ لذلك تعطيلهما عن هذه الوظيفة، واتخاذهما أواني وتحفاً تجمد في المنازل والبيوت، وتضيّق أوجه التعامل بهما.
ب- ما في ذلك من جرح لشعور الفقراء، وكسر لقلوبهم، حين يرون الأغنياء -من دونهم- يتخذون الذهب والفضة حلياً وزينة، يفخرون بهما ويتكبرون، ويختالون بهما، ويزهون.
ج- منع الناس من الانكباب على هذه المعادن النفيسة، واتخاذها غاية يتنافسون في تكديسها، والتزين بها، ورصفها في بيوتهم، ومجالسهم وينسون أنها وسيلة وضعت في أيديهم، لقضاء حوائجهم، ومصالحهم الدنيوية.
د- معارضة الكفار، ومخالفتهم، فيما هو من شأنهم، فإن من شأن الكفار الإعراض عن الآخرة، والانكباب على الدنيا ونعيمها. وقد جاء في الحديث: " وإياكم والتنعم، وزِيَّ أهل الشرك" رواه مسلم في [اللباس والزينة - باب - تحريم استعمال إناء الذهب، رقم: 2069] عن عمر - رضي الله عنه -.
وقد ذكرنا حديث مسلم السابق: " ... فإنها لهم في الدنيا" أي للكفار.
ما يستثنى من هذا التحريم:
يستثنى من هذا التحريم أمور ثلاثة:
الأول:
اتخاذ النساء من الذهب والفضة حلياً للزينة، بالقدر المعتاد، من غير سرف ولا شطط. سواء كانت المرأة متزوجة، أم غير متزوجة، وسواء كانت صغيرة أم كبيرة، غنية أم فقيرة.(3/93)
ودليل ذلك ما رواه الترمذي في أول [كتاب اللباس -باب - ما جاء في الحرير والذهب، رقم: 1720] بسند حسن صحيح، عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: " حُرِّم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي، وأُحِلَّ لإناثهم".
وقد أجاز العلماء أيضاً إلباس الصبيان الصغار الحلي والحرير في الأعياد وغيرها، لأنه لا تكليف عليهم.
الثاني:
اتخاذ خاتم من فضة، فقد صحّ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخذ خاتماً من فضة.
روى مسلم في [اللباس والزينة -باب- في خاتم الورق فصه حبشي، رقم: 2094] والترمذي في [اللباس -باب- ما جاء في خاتم الفضة، رقم: 1739] عن أنس - رضي الله عنه -، قال: (كان خاتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ورِق، وكان فصُّه حبشياً).
[ورق: فضة.
فصه حبشياً: حجراً من خرز في بياض وسواد، أو من عقيق معدنه من الحبشة، وقيل لونه حبشيّ].
وروى البخاري ومسلم عن أنس - رضي الله عنه -: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان خاتمه من فضة، وكان فصه منه).
ورويا عنه أيضاً: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اتخذ خاتماً من فضة، ونقش فيه: محمد رسول الله، وقال: " إني اتخذت خاتماً من وَرِق، ونقشت فيه: محمد رسول الله، فلا ينقُشنَّ أحد على نقشه".
وعند البخاري: (وكان نقش الخاتم ثلاثة أسطر: محمد سطر، ورسول سطر، والله سطر). البخاري في [اللباس- باب- قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينقش على نقش خاتمه،
وباب- هل يجعل نقش الخاتم ثلاثة أسطر،(3/94)
رقم: 5539، 5540] ومسلم في [اللباس والزينة -باب- تحريم خاتم الذهب على الرجال، رقم: 2092] والترمذي في [اللباس -باب- ما جاء في نقش الخاتم، رقم: 1748].
أما خاتم الذهب للرجال فحرام مطلقاً.
ودليل ذلك ما رواه مسلم في [نفس الموضع السابق: 2090] عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى خاتماً من ذهب في يد رجل، فنزعه فطرحه، وقال: " يعمد أحدكم إلى جمرة من نار، فيجعلها في يده" فقيل للرجل بعدما ذهب رسول الله: خذ خاتمك انتفع به، قال: لا آخذه أبداً وقد حرّمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الثالث:
حالة الضرورة، وذلك إذا لم يجد غير آنية من ذهب أو فضة فإنه يباح له عندئذٍ استعمالها للضرورة.
ومثل هذا ما لو جدع أنفه، فاستعاض عنه أنفاً من ذهب، أو احتاج أن يشد أسنانه بالذهب، فإنه يباح في هذا وأمثاله من حالات الضرورة استعمال الذهب.
ودليل ذلك ما رواه الترمذي، بسند حسن غريب في [أبواب اللباس -باب- ما جاء في شدّ الأسنان بالذهب، رقم: 1770] عن عَرْفَجَة بن أسعد - رضي الله عنه -، قال: (أصيب أنفي يوم الكُلاب في الجاهلية، فاتخذت أنفاً من وَرِق فأنتن عليَّ، فأمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن اتخذ أنفاً من ذهب). وأخرجه أبو داود أيضاً في [كتاب الخاتم -باب- ربط الأسنان بالذهب، رقم: 4232].
تهاون في حكم الله عزّ وجلّ:
لقد تهاون كثير من المسلمين في حكم الله عزّ وجلّ في تحريم الذهب والفضة.(3/95)
فاستباحوا لأنفسهم هذه المخالفة لحكم الدين، ولم يروا حرجاً في اقتحامهم جدران هذه المحرمات فلبس كثير منهم الذهب في أيديهم، ووضعوا سلاسل الذهب في أعناقهم، ولم يستشعروا أنهم إنما يضعون جمراً من النار في أيديهم وأعناقهم. ويستمطرون غضب الله تبارك وتعالى بأعمالهم هذه، ولم يدركوا أنهم ضحية التقليد الأعمى للكافرين والمشركين. إن لبس خاتم الذهب بدعوى إظهار الخطبة، أو إعلان الزواج أمر باطل لا يقرّه الدين، ولا دليل، وليس لهؤلاء من سند إلا التقليد السخيف، والتبعية العمياء، كما أن كثيراً من الأغنياء والمترفين أبوا إلا أن يكونوا أرقاء للمظاهر الفارغة، والسرف الممقوت، فاستعملوا أواني الذهب والفضة في مطاعمهم ومشاربهم وموائدهم، وحفلاتهم، ونسوا أن الله عزّ وجلّ قد حرّم هذا، وتوعدهم عليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
2 - تحريم لبس الحرير للرجال
والحرير أيضاً حرام على الرجال لبساً، واستعمالاً في أي وجه من وجوه الاستعمال: كالجلوس عليه، والتستر، والتدثر به، لكنه حلّ للنساء والصغار، ودليل ذلك ما رواه أبو داود في [اللباس -باب- في الحرير للنساء، رقم: 4057] وابن ماجه في [اللباس -باب - لبس الحرير والذهب للنساء، رقم: 3595] وغيرهما عن علي - رضي الله عنه -، قال: أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - حريراً فجعله في يمينه، وأخذ ذهباً فجعله في شماله، ثم قال "إن هذين حرام على ذكور أمتي".
وروى الترمذي بسند حسن صحيح في أول [كتاب اللباس -باب- ما جاء في الحرير والذهب، رقم: 1720] عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " حُرِّم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي، وأُحلّ لإناثهم".(3/96)
الحكمة من تحريم الحرير على الرجال:
ولعلّ الحكمة من هذا التحريم- عدا التعبّد - ما في لبس الحرير من الخيلاء والكِبَر، وما فيه من التأنّث والتخنّث، والبعد عن صفات الرجولة، فإن الرجل لم يخلق لينشأ في الحلية، ويختال بأثواب الزينة، ويظهر بمظهر النعومة والليونة، المُفْضية إلى التشبّه بالنساء، والقعود عن عظائم الأمور، وإنما خُلِق للحياة، يعارك الصعاب، ويقوم بالمهمات، ويصبر في الملمّات، وهذا يتطلب نوعاً من الخشونة، والبعد عن الليونة، والترف والتخنث والميوعة.
ما استثنى من هذا التحريم:
يستثنى من هذا التحريم للحرير على الرجال حالتان:
الحالة الأولى:
حالة الضرورة، وهي ما إذا كان لم يجد غيره، لستر عورته، أو وقاية جسمه من الحر، أو البرد، فإنه عندئذٍ يُباح لبس الحرير، ريثما يجد غيره، لأن الضرورات تُبيح المحظورات، والضرورة تقدر بقدرها.
الحالة الثانية:
الحاجة إلى لبسه، لدفع ضرر، كما إذا كان في الإنسان مرض، وكان لبس الحرير يُسارع في شفائه، أو يخفف من آلامه.
ودليل ذلك ما رواه البخاري في [اللباس- باب - ما يرخص للرجال من الحرير للحكّة، رقم: 5501] ومسلم في [اللباس والزينة -باب - إباحة لبس الحرير للرجل إذا كان به حكّة أو نحوها، رقم: 2076] واللفظ له، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (رخّص لعبدالرحمن بن عوف، والزبير بن العوّام رضي الله عنهما في القُمُص الحرير في السفر من حكّة كانت بهما، أو وجع كان بهما).(3/97)
حكم لبس الحرير إذا كان مخلوطاً بغيره:
إذا رُكِّب ثوب أو لباس من حرير وغيره، فإنه ينظر عندئذٍ للوزن بين الحرير وغيره.
فإن كان الحرير في الثوب أكثر وزناً من غيره حرم لبس هذا الثوب واستعماله على الرجال، وإن كان وزن غير الحرير أكثر حلّ لبسه واستعماله. لأن الحكم إنما يدار على الأكثر منهما، فيُسمى باسمه، ويعطى حكمه. فإن استوى وزن الحرير وغيره، حَلّ لبسه واستعماله، ترجيحاً لجانب الحل، لأنه الأصل.
وبناءً على هذا، فإنه يحلّ تطريف الثوب بالحرير، أي جعل طرفه مسجفاً بالحرير، بالقدر المعتاد، كما يجوز ترقيع الثوب، وتطريزه بحرير شريطة أن لا يجاوز ذلك قدر أربع أصابع مضمومة، أما إذا جاوزها فإنه لا يحل. ودليل ذلك ما جاء في مسلم في [اللباس والزينة - باب - تحريم إناء الذهب والفضة ... ، رقم: 2069] أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أخرجت جُبَّة طَيَالِسَة كِسْرَوانيّة، لها لبنة ديباج، وفرجيها مكفوفين بالديباج، فقالت: هذه كانت عند عائشة رضي الله عنها، حتى قبضت، فلما قبضت، قبضْتُها، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يلبسها، فنحن نغسلها للمرضى يستشفى بها).
[كسروانية: نسبة إلى كسرى ملك الفرس.
لبنة ديباج: رقعة حرير في جيبها.
وفرجيها مكفوفين: أي جعل لهما كفة، وهي ما يكفّ به جوانبها، ويعطف عليها، ويكون ذلك في الذل، وفي الفرجين، وفي الكمين].
وروى مسلم عن سويد بن غفلة، أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، خطب بالجابية، فقال: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبس الحرير، إلا موضع إصبعين أو ثلاث، أو أربع).(3/98)
تعليق ستائر الحرير على الأبواب والجدران:
يحرم تعليق ستائر الحرير على الأبواب، والجدران، وغيرهما ويستوي في هذا التحريم الرجال والنساء، لما في ذلك من الكبر والخيلاء.
ولكن العلماء استثنوا من ذلك الكعبة المشرفة، فأجازوا كسوتها بالحرير، لفعل السلف والخلف لذلك من غير نكير. ولا يلحق بها غيرها من سائر المساجد والبيوت.
3 - تحريم الخضاب بالسواد
يرحم صبغ شعر الرأس واللحية بالسواد للرجال والنساء. ويستحب خضاب الشيب، وصبغ الشعر بغير السواد للرجال والنساء، بصفرة، أو حمرة.
ودليل ذلك ما رواه مسلم في [اللباس والزينة - باب - استحباب خضاب الشيب بصفرة أو حمرة، وتحريمه بالسواد، رقم 2102] وغيره عن جابر - رضي الله عنه -، قال: أتي بأبي قحافة يوم الفتح، ورأسه ولحيته كالثغامة بياضاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " غيروا هذا بشيء واجتنبوا السواد".
[الثغامة: نبت له زهر أبيض، شبه بياض الشيب به.
أبو قحافة: والد أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، واسمه عثمان أسلم عام الفتح].
وروى الترمذي في [اللباس -باب - ما جاء في الخضاب، رقم: 1752] عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " غيروا الشيب، ولا تشبهوا باليهود".
وروى البخاري في [اللباس - باب - الخضاب، رقم: 5559] ومسلم في [اللباس والزينة -باب - في مخالفة اليهود في الصبغ، رقم: 2103](3/99)
عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم".
[الخضاب: الصبغ].
حكمة تحريم الخضاب بالسواد:
ولعل الحكمة من تحريم الصبغ بالسواد إنما تعود لِما في الخضاب به من التزوير، وتغيير الواقع، فإن السواد يجعل من الكبير صغيراً، ومن المسنّة شابة، في أعين الناس، فيظنون أمرهما على خلاف ما هو عليه في الواقع.
أما ما عدا السواد، فقد لا يصل إلى هذا الحد من التغير، والتغرير، والتزوير.
ونقول بعد هذا: إن عامة هذه الموضوعات، إنما تقوم أحكامها على محض التعبد، وعلى الامتثال، والاختبار الخالصين.
4 - تحريم مواصلة الشعر
وصل الشعر بشعر آخر حرام على الرجال والنساء، أيامى أو متزوجين، للتجمّل أو غيره، وهو كبيرة من الكبائر، لورود اللعن لفاعِله، والمعاون فيه.
لذلك قال الفقهاء: إن وصلت المرأة شعرها بشعر آدمي، امرأة كان أو رجلاً، محرماً أو زوجاً، فهو حرام، لعموم الأدلة، ولأنه يحرم الانتفاع بشعر الآدمي وسائر أجزائه لكرامته، بل يدفن شعره وظفره، وسائر أجزائه إن فصلت منه حال الحياة. وإن وصلته بشعر غير الآدمي، فإن كان شعراً نجساً، وهو شعر الميتة، أو شعر ما لا يؤكل لحمه إذا انفصل في حال حياته، فهو حرام أيضاً لعموم النهي عن ذلك، ولأنه حمل نجاسة في الصلاة، وغيرها.(3/100)
وأما الشعر الطاهر من غير الآدمي، فإن لم يكن لها زوج فهو حرام، وإن كان لها زوج، فإن فعلته بإذنه جاز، وإن فعلته بغير إذنه لم يجز.
أما تحمير الوجه، وتطريف الأصابع، فإن أذن به الزوج جاز، وإن لم يأذن لم يجز.
أما وصل الشعر بخيوط من الحرير، ونحوه، مما لا يشبه الشعر فجائز، وليس منهياً عنه، لأنه ليس له حكم الوصل، إنما هو مجرد الزينة.
دليل تحريم الوصل:
ويدل على حرمة الوصل ما رواه البخاري في [اللباس -باب - الوصل في الشعر، رقم: 5591] ومسلم في [اللباس والزينة - باب - تحريم فعل الواصلة والمستوصلة، رقم: 2122] عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، قالت: جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله، إن لي ابنة عُرَيِّساً، أصابتها حَصْبة فتمرَّق شعرها، أفأصِله؟ فقال: " لعن الله الواصلة والمستوصلة".
[عريساً: تصغير عروس.
حصبة: مرض.
تمرق شعرها: تساقط من مرض الحصبة.
الواصلة: التي تصل الشعر بشعر آخر.
المستوصلة: التي تطلب أن يفعل بها ذلك].
حكمة تحريم الوصل:
ولعل الحكمة في تحريم الوصل في الشعر إنما هي التزوير في الحقيقة، والتغير للخلقة، والتظاهر بغير ما عليه الحل في الواقع.
روى البخاري في [اللباس - باب- الوصل في الشعر، رقم: 5594] ومسلم في [اللباس والزينة - باب - تحريم فعل الواصلة والمستوصلة، رقم: 2127] عن سعيد بن المسيب - رضي الله عنه -، قال: قدم معاوية - رضي الله(3/101)
عنه - آخر قدمة قدمها، فخطبنا، فأخرج كبة من شعر، قال: ما كنت أرى أحداً يفعل هذا غير اليهود، (إن النبي - صلى الله عليه وسلم - سماه الزور). يعني الواصلة في الشعر. فالحديث واضح في علة التحريم، وهي التزوير والتغرير، وتغير الحقيقة.
5 - تحريم الوشم، والنمص، والتفليج
الوشم: هو أن تغرز إبرة، أو نحوها في ظهر الكف، أو المعصم، أو الوجه، أو الشفة، أو غير ذلك من البدن، حتى يسيل الدم، ثم يحشى محل الغرز بكحل، ونحوه، فيخضرّ.
النمص: نتف الشعر من الوجه.
التفليج: تفريق ما بين الثنايا والرباعيات من الأسنان بالمبرد، ونحوه.
وهذه الثلاثة - الوشم، والنمص، والتفليج - حرام على الرجال والنساء، لا فرق بين الفاعل والمفعول به، ذلك لورود اللعن عليه، ولا يلعن إلا على فعل محرّم، بل على كبيرة من الكبائر.
قال الفقهاء: والموضع الذي وشم يصير متنجساً، لانحباس الدم فيه. فإن أمكن إزالته بالعلاج، وجب، وإن لم يمكن إلا بالجرح، فإن خيف منه حدوث ضرر، أو عيب فاحش في عضو ظاهر، كالوجه، والكفين، وغيرهما، لم تجِب إزالته وتكفي التوبة في سقوط الإثم، وإن لم يخف شيء من ذلك، لزم إزالته، ويعصي بتأخيره.
دليل تحريم الوشم، والنمص، والتفليج:
ويستدل على تحريم كلٍّ من الوشم، والنمص، والتفليج بما رواه البخاري في [اللباس - باب - المتفلجات للحسن، رقم: 5587] ومسلم في [اللباس والزينة - باب -تحريم فعل الواصلة والمتوصلة، رقم: 2122] عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -، قال: (لعن الله الواشمات(3/102)
والمُستوشمات، والمتنمِّصات والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله، ما لي لا ألعن من لعنه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في كتاب الله " [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا].
وروى البخاري في [اللباس - باب - الوصل في الشعر، رقم: 5593] ومسلم في [اللباس والزينة - باب - تحريم فعل الواصلة والمستوصلة، رقم: 2124] عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لعن الله الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة".
ما يستثنى من تحريم ما سبق:
يستثنى من تحريم النمص، إزالة ما نبت في وجه المرأة، من لحية، وشارب، فلا يحرم إزالتهما، بل يستحب، لأن النهي إنما هو لما في الحواجب، وما في أطراف الوجه.
وكذلك إذا احتيج إليه لعلاج، أو عيب في السن، فلا بأس به، لأن المحرّم إنما هو المفعول لطلب الحسن، والتجميل، والتغيير لخلق الله عزّ وجلّ.
حكمة تحريم الوشم والنمص والتفليج:
والحكمة من هذا التحريم لكلٍّ من الوشم، والنمص والتفليج، إنما هي ما جاء مصرَّحاً به في الحديث السابق، وهو تغيير خلق الله سبحانه وتعالى، ولأنه تزوير، وتدليس، وإبهام بغير ما عليه الأمر في واقع الحال.
6 - تشبه الرجال بالنساء، والنساء بالرجال:
تشبّه الرجال بالنساء إنما يكون في اللباس والزينة، مثل لبس الأساور والأقراط، والأطواق.
وكذلك في الكلام والمشي: كتكلّف التثني والتكسر، وترقيق(3/103)
الصوت، وتليين الكلام، وغير ذلك مما تكون عليه النساء في العادة.
وتشبّه النساء في الرجال إنما يكون بالزي، وبعض الصفات: كتكلف الخشونة والرجولة، وحلق الشعر، ونحو ذلك مما عليه الرجال في العادة.
حكم هذا التشبّه:
وهذا التشبّه من كلٍّ من الجنسين بالآخر حرام، بل هو كبيرة من الكبائر، لورود اللعن لفاعله.
وهو أيضاً من المنكرات التي انتشرت وشاعت بين المسلمين - ولا حول ولا قوة إلا بالله -.
وهو في الحقيقة مسخ لحقيقة الأمة، وانحطاط عمّا تقتضيه حياته، من العزّة والكرامة، ولاسيما أيام محنة الأمة، وتكالب الأعداء عليها، وتربصهم بها.
دليل تحريم هذا التشبّه:
ويدلّ على حرمة تشبّه كلٍّ من الرجال بالنساء، والنساء بالرجال، ما رواه البخاري في [اللباس - باب - المتشبهين بالنساء والمتشبهات بالرجال، رقم: 5546] عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال).
وروى البخاري أيضاًُ في [اللباس - باب - إخراج المتشبهين بالنساء من البيوت، رقم: 5547] عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (لعن النبي - صلى الله عليه وسلم -: المخنثين من الرجال، والمترجِّلات من النساء، وقال أخرجوهم من بيوتكم).
[المخنثين: جمع مخنث، وهو الذي في مِشْيته تثنٍّ وتكسُّر، وفي كلامه رقة ولين.
وإن كان ذلك خلقة، من غير تصنّع ولا تكلّف، فلا يلام عليه،(3/104)
ولكن عليه أن يتكلف إزالة ذلك عن نفسه. وإن كان بقصد، وتكلّف، فهو المحرّم المذموم.
المترجلات: النساء المتكلفات التشبّه بالرجال].
7 - تحريم التصوير
تصوير الإنسان والحيوان، وكلّ ما فيه روح حرام، وهو من كبائر الإثم، لأنه متوعَّد عليه بوعيد شديد في صريح السنّة الشريفة.
لا فرق في هذا التحريم بين ما إذا كان هذا التصوير على ما يمتهن ويُهان أو على ما يعظم ويكرم.
ولا فرق بين ما كان منه على بساط، أو ثوب، أو درهم، أو دينار، أو ورق، أو إناء، أو حائط، أو على غير ذلك.
ولا فرق بين ما له ظل وما لا ظل له. فتصوير كل ما فيه روح حرام، كيفما كان، وعلى أي شيء كان.
ويستوي في الحرمة المصوِّر، ومن تقدم إلى المصوِّر ليصوره، لأنه معاون له على المعصية، وإن كان عذاب المصور أكبر، وإثمه أعظم.
أما تصوير ما لا روح فيه، كالشجر، والنبات، والجماد، فليس بحرام، ولا إثم في فعله.
هذا حكم نفس التصوير.
وأما اتخاذ ما فيه صورة حيوان، أو إنسان واقتناؤه، فنقول: إن كانت هذه الصور معلَّقة على حائط، أو منقوشة في ثوب مما لا يعدّ ممتهناً، فاتخاذها حرام، ولا يجوز إبقاؤها، بل يجب نزعها، وإزالتها من مكانها.
وإن كانت في بساط يداس، أو وسادة ومخدّة يُتّكأ ويُجلس عليهما، ونحوهما مما يُمتهن، فليس بحرام.(3/105)
ما يستثنى من تحريم اتخاذ الصور:
يستثنى من عموم تحريم اتخاذ الصور أمران:
الأول: الترخيص لصغار البنات والصبيان في لِعَب الأولاد.
ودليل ذلك ما رواه مسلم في [كتاب فضائل الصحابة - باب - في فضل عائشة رضي الله عنها، رقم: 2440] عن عائشة رضي الله عنها، أنها كانت تلعب بالبنات عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت: وكانت تأتيني صواحبي، فكن يَنْقَمِعْنَ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت: فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُسرِّبُهنَّ إليَّ.
[ينقمعن: يتغيبن حياء من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهيبة.
يسربهن: يرسلهن].
أي إن عائشة رضي الله عنها كانت تلعب بصور البنات، ومعها صواحبها، فإذا دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استترن واختفين حياءً منه وهيبة، فكان - صلى الله عليه وسلم - يأمرهنّ بالذهاب لعائشة رضي الله عنها يعلبن معها.
الثاني: حالة الضرورة، فإذا دعت ضرورة، أو حاجة أمنية إلى اتخاذ صورة، جاز اتخاذها، ولكن بقدر الضرورة، والحاجة، لأن الضرورة، أو الحاجة تقدّر بقدرها.
أدلة تحريم التصوير:
ويستدل لحرمة تصوير الحيوان مطلقاً، بأدلة كثيرة من السنة الشريفة نذكر منها:
ما رواه الترمذي في [اللباس -باب - ما جاء في الصورة، رقم: 1749] عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنه -، قال: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصورة في البيت، ونهى أن يصنع ذلك).
وروى البخاري في [اللباس -باب - عذاب المصورين يوم القيامة، رقم 5606] ومسلم في [اللباس والزينة - باب- لا تدخل الملائكة بيتاً فيه(3/106)
كلب ولا صورة، رقم 2109] عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال - رضي الله عنه - رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن أشدَّ الناس عذاباً يوم القيامة المصورون".
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة يقال لهم: أحيوا ما خلقتم".
رواه البخاري في [اللباس - باب - عذاب المصورين يوم القيامة، رقم: 5607] ومسلم في [اللباس والزينة - باب - لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة، رقم: 2108] عن ابن عمر رضي الله عنهما.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: سمعت محمداً - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من صَوّر صورة في الدنيا، كُلِّف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ".
رواه البخاري في [اللباس - باب - من صوّر صورة كُلِّف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح، رقم: 5618] ومسلم في [اللباس والزينة - باب لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة، رقم: 2110].
وروى البخاري ومسلم في [نفس الموضع السابق] عن سعيد بن أبي الحسن، قال: جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما، فقال: إني رجل أصور هذه الصور، فأفتني فيها، فقال: ادْنُ مني، فدنا منه، ثم قال له ادْنُ مني، فدنا منه حتى وضع يده على رأسه، قال: أنبئك بما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " كل مصوِّر في النار يجعل له بكل صورة صوّرها نفساً، فتعذبه في جهنم". وقال إن كنت لابد فاعلاً، فاصنع الشجر، وما لا نفس له.
وعن أبي طلحة - رضي الله عنه -، صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: " إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة تماثيل".
أخرجه البخاري في [بدء الخلق - باب - إذا قال أحدكم آمين، رقم:(3/107)
3053] ومسلم في [اللباس والزينة - باب - لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة، رقم: 2106].
حكمة تحريم الصور:
إن تحريم التصوير، والنهي عنه أمر تعبدي في جملته، تعبد الله عزّ وجلّ به عباده، فليس لهم - إن أرادوا الخير لأنفسهم - إلا أن يقولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير.
ومع ذلك فقد نجد بعض الحِكَم لهذا التحريم:
أذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الحكمة من النهي أن المصوّر يضاهي بعمله هذا خلق الله عزّ وجلّ من حيث الشكل والصورة، لذلك يقال له: أحْيِ ما خلقت، وليس بقادر على ذلك.
ب إن هذه الصور والأصنام والتماثيل كانت تعبد من دون الله عزّ وجلّ، فلما جاء الإسلام بعقيدة التوحيد، وحرّم الشرك وحاربه، أغلق كل الأبواب التي قد يتسرب منها شيء من الشرك، وتعظيم غير الله سبحانه وتعالى إلى نفوس المؤمنين، ومن ذلك التصوير، سداً للذرائع، وعملاً بالأحوط.
ج- إن ملائكة الله عزّ وجلّ لا يدخلون بيتاً فيه تلك الصور والتماثيل، فيحرم بهذا من يتخذ هذه الصور من بركة دخول الملائكة إلى بيته، ومن دعائهم واستغفارهم له، وصلاتهم عليه.
وكفى بهذا الخسران حكمة موجبة، لتحريم هذه الصور، واتخاذها.
حسرة وأسف:
بعد هذا الذي ذكرناه، ونقلناه عن النبي المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، من تحريم التصوير، والنهي عن اتخاذ الصور، نجد المسلمين - بكل حسرة وأسف - منغمسين في هذا الحرام، ومسترسلين في هذا المنكر، غير مبالين(3/108)
بصرخات الدين، ولا مهتمين بذلك الوعيد الشديد.
فقلما تدخل بيتاً، أو حانوتاً إلا وتجد فيه صنماً مزخرفاً، أو صورة منمقة، معلقة، إما لأب أو لجد، أو لصاحب وصديق قد علقت في صدور المجالس، وأعالي الجدران.
تجد هذا عند الرجال، وعند النساء، وعند الأغنياء، وعند الفقراء، عند من يسمون: بالمحافظين، وعند من لا يسمون بذلك، إلا من رحم ربك وقليل ما هم.
يحتالون لذلك بفتاوى من هنا وهناك. وبأعذار، ما أنزل الله بها من سلطان، باسم الفن تارة، وباسم الذكرى تارة أخرى، وباسم الحب والتعظيم حيناً آخر، كأن الدين حينما حرم ذلك كان غافلاً عن هذه الأعذار والأوهام نسأل الله اللطف والسلامة ولا حول ولا قوة إلا بالله.(3/109)
الكَفّارَات(3/111)
الكَفّارَات
تعريف الكفارات:
الكفارات لغة: جمع كفارة، والكفارة مأخوذة من الكَفْر، وهو الستر، وسميت الكفارة، بهذا الاسم لسترها الذنب، تخفيفاً من الله تعالى.
والكفارة اصطلاحاً: فعل ما من شأنه أن يمحو الذنب: من عتق، وصدقة، وصيام، بشرائط مخصوصة.
أدلة تشريع الكفارات:
الكفارات مشروعة، وأدلة تشريعها من القرآن والسنة كثيرة: ففي القرآن الكريم، قال الله عزّ وجلّ في كفارة اليمين: [فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ .. ] (المائدة: 89).
وقال تبارك وتعالى في شأن الإحصار في الحج: [أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ .. ] (البقرة: 196).
وفي القتل الخطأ، قال الله عزّ وجلّ [وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ .. ]
(النساء: 92).
وقال سبحانه وتعالى في الظهار: [وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ .. ] (النساء: 92).
وأما في السنة، فقد روى مسلم في [النذر - باب - في كفارة النذر،(3/113)
رقم: 1645] عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " كفارة النذر، كفارة اليمين".
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من حلف على يمين، فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه".
رواه مسلم في [الأيمان - باب - ندب من حلف يميناً .. ، رقم: 165] عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.
وسيأتي مزيد من الأدلة عند البحث عن الكفارات إن شاء الله تعالى.
حكمة تشريع الكفارات:
الكفارات شرعاً هي جوابر للخلل الذي أوقعه الإنسان في تصرفاته. فهي ترميم لما قد أفسده وإصلاح لما قد أخطأ به، وإزالة لآثار ما قد ترتب على فعله.
فكفارة القتل الخطأ مثلاً، فيها تعويض على المجتمع عما أزهق الإنسان من النفس، بإحياء نفس غيرها، وتخليصها من الرقّ، إذ الرقّ أشبه ما يكون حكماً بالموت.
وفي الإطعام تخليص نفوس من الجوع والعوز والحرمات.
والصيام تخليص للنفس من أدران السيئات، وسموٌّ بها إلى درجة التقوى، والبعد عن المنكرات.
وكفارة الظهار مثلاً إحباط للزور الذي ارتكبه المُظاهر حين شبّه زوجته بأمه، واعتدى على حرمة خليلته.
وكفارة اليمين محو لآثارها المترتبة على الحنث من لحوق الذنب به، وحصول الإثم منه.
وهكذا نجد أن الكفارات فيها بعض التعويض عمّا فات، وإحداث(3/114)
ترميم لما وقع من المفاسد والخطيئات، وفتح باب القُرْب إلى الله عزّ وجلّ، والله أعلم.
أنواع الكفارات:
والكفارات شرعاً متعددة، ومتنوعة، وسنتناولها هنا بالتفصيل، وإن كان قد ذكر بعضها في بابه، وسيأتي ذكر بعضها الآخر في بابه أيضاً.
ولقد رأينا أن نجمعها جميعاً هنا في بحث مستقل، تحت عنوان (الكفارات) تيسيراً على القارئ إذا أراد معرفتها، والوقوف على أحاكمها في مكان واحد، والله الموفق.
1 - كفارة إفساد الصوم بالجماع في رمضان
الكفارة التي تَجِب بإفساد الصوم هي:
1 - عتق رقبة مؤمنة، أي نفس رقيقة، ذكراً كانت، أم أنثى، وهذا إنما يكون حيث يوجد الرقيق.
وشرط هذه الرقبة - لتصح كفارة -:
أ- أن تكون مؤمنة.
ب- أن تكون خالية من العيوب التي تخل بالعمل والكسب: كالعمى والشلل، ونحوهما.
2 - الصوم إن لم يجد الرقبة، أو لم يقدر عليها، لنحو فقر، وغيره. ويجب صوم شهرين متتابعين.
3 - الإطعام إن لم يستطع الصوم، فيجب أن يُطعِم ستين مسكيناً، لكل مسكين مدّ من غالب قوت البلد.
وهذه الكفارة مرتبة على الشكل الذي ذكرناه، فلا ينتقل إلى خصلة منها حتى يعجز عن التي قبلها.(3/115)
فإن عجز عن الكل، ثبتت الكفارة في ذمته حتى يقدر على خصلة منها.
على من تجب كفارة إفساد الصوم:
إنما تجب كفارة إفساد الصوم بالجماع في رمضان على الزوج المجامع، ولا تجب على الزوجة الموطوءة، وإن كانت صائمة، لأن جناية الواطئ أغلظ وأفحش، فناسب أن يكون الزوج هو المكلف بالكفارة.
موجب هذه الكفارة:
وموجب هذه الكفارة: هو إفساد صوم يوم من أيام رمضان بجماع بشرط أن يكون المجامع:
أ- ذاكراً لصومه.
ب- عالماً بالحرمة.
ج- غير مترخص بسفر أو مرض.
فمن فعل ذلك ناسياً، أو جاهلاً بالحرمة، أو أفسد صوماً غير صوم رمضان، أو أفطر متعمداً، ولكن بغير الجماع، أو كان مسافراً سفراً يخوله الإفطار فجامع فلا كفارة عليه في كل ذلك، وإنما يجب عليه القضاء فقط.
النية عند أداء الكفارة:
ويشترط عند أداء الكفارة النية، وذلك بأن ينوي العتق، أو الصوم، أو الإطعام عن الكفارة، لأنها حقٌّ مالي، أو بدني، يجب تطهيراً، كالزكاة والصيام، فلابدّ لصحتها من النية، لأن الأعمال بالنيات.
فلا يكفي عند الأداء أن ينوي مُطلَق العتق، أو الصوم، أو الإطعام الواجب، لأن هذه الأشياء قد تجب عليه بالنذر، فلابد من تعينها.
وجوب القضاء مع الكفارة:
ومما ينبغي أن يعلم أنه يجب على المجامع في رمضان مع الكفارة القضاء لليوم الذي أفطره بالجماع.(3/116)
وكذلك يجب القضاء على الزوجة الموطوءة، وإن كانت لا تجب عليها الكفارة.
تعدد الكفارة:
وكذلك يجب أن يعلم أن الكفارة، تتعدد، وتتكرر بتكرر الأيام التي أفطرها في رمضان بالجماع.
فإذا جامع في يومين من رمضان لزمه - مع القضاء - كفارتان، وإذا جامع في ثلاثة أيام، لزمه، مع القضاء، ثلاث كفارات، وهكذا.
دليل وجوب كفارة إفساد الصوم بالجماع في رمضان:
ودليل وجوب هذه الكفارة ما رواه مسلم في [الصيام - باب - تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان، رقم: 1111] والبخاري في [الصوم، باب - إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء، رقم 1834] وغيرهما، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: بينما نحن جلوس عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ جاءه رجل فقال يا رسول الله هلكت. قال: " ما لك؟ " قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، في رواية في رمضان.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا، قال فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال لا. قال: فهل تجد إطعام ستين مسكيناً؟ قال: لا فمكث النبي - صلى الله عليه وسلم -، فبينما نحن على ذلك، أُتيَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بفَرْق من تمر. قال أين السائل؟ فقال أنا، قال: فخذ هذا فتصدق به. فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله، فوالله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت أنيابه، ثم قال: أطعمه أهلك".
[الفرق: وعاء ينسج من ورق النخل، وهو المكتل.
لابتيها: حرتيها، وفي المدينة حرتان: شرقية، وغربية، والحرة الأرض ذات الحجارة].(3/117)
قال العلماء: ولا يجوز للفقير الذي قدر على الإطعام، صرف ذلك الطعام إلى عياله، وكذلك غيرها من الكفارات.
وما ذكر في هذا الحديث، فإنما هو خصوصية لذلك الرجل.
2 - كفارة المسافر والمريض إذا لم يقضيا الصوم من عامهما
من فاته شيء من رمضان بسبب سفر، أو مرض، وجب عليه قضاؤه، في نفس العام الذي أفطر فيه، قبل حلول شهر رمضان من العام الذي يليه.
قال الله عزّ وجلّ: [فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ] (البقرة: 184).
[أي فعليه صيام أيام أخر بعدد ما أفطر].
فإن لم يقض ما أفطر تساهلاً، حتى دخل عليه رمضان آخر، أثم ولزمه مع ذلك كفارة. وهذه الكفارة: هي: أن يُطعِم عن كل يوم مداً من غالب قوت البلد، يتصدق به على الفقراء.
وتتكرر الكفارة بتكرّر السنين، فإذا أخّر القضاء حتى دخل رمضان ثانٍ لزمه مُدّان عن كل يوم مع القضاء، وهكذا.
أما إن استمر عذره حتى دخل رمضان آخر، فلا شيء عليه إلا القضاء.
فإن مات قبل أن يتمكن من القضاء، فلا شيء عليه.
وإن مات بعد التمكّن من القضاء، ولم يقضِ صام عنه وليّه ندباً الأيام الباقية في ذمته، فإن لم يصم عنه وليه، أطعم من تركته وجوباً كل يوم مداً من غالب قوت البلد، وتبرأ ذمته عند الله عزّ وجلّ.
ودليل ذلك ما رواه الترمذي في [أبواب الزكاة - باب - ما جاء في(3/118)
الكفارة، رقم: 718] عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: (من مات وعليه صيام شهر، فليطعم عنه مكان كل يوم مسكيناً).
وعن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من مات وعليه صيام صام عنه وليه".
رواه البخاري في [الصوم - باب -من مات وعليه صوم، رقم: 1851] ومسلم في [الصيام - باب - قضاء الصوم عن الميت، رقم: 1147].
3 - كفارة الكبير العاجز عن الصوم
إذا اضطر الكبير العاجز عن الصوم إلى الفطر، كان له ذلك، ووجب عليه أن يتصدق عن كل يوم بمد من غالب قوت البلد، ولا يجب عليه ولا على أحد من أوليائه غير ذلك.
ودليل ذلك ما رواه البخاري في [تفسير سورة البقرة - باب - قوله أياماً معدودات .. ، رقم: 4235] عن عطاء، أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقرأ: [وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ] (البقرة: 184).
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ليست بمنسوخه، هو الشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة، لا يستطيعان الصوم، فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً).
4 - كفّارة الحامل والمُرضِع إذا أفطرتا خوفاً على طفلهما
إذا أفطرتا الحامل والمُرضِع خوفاً على طفلهما، وذلك بأن تخاف الحامل من إسقاط الحمل إن هي صامت، أو تخاف المرضع أن يقل لبنها، فيهلك الولد إن هي صامت، وجب عليها القضاء والكفارة:
وهي أن تتصدق بمد من غالب قوت البلد عن كل يوم أفطرته، تعطيه للفقراء.(3/119)
أما إذا أفطرتا خوفاً على نفسيهما، سواء خافتا مع ذلك على الولد أم لا، فلا يلزمهما إلا القضاء فقط، ولا كفارة حينئذٍ عليهما.
5 - كفارات الحج
الكفارات في الحج على خمسة أقسام.
وهي عبارة عن دماء واجبة، أو ما يقوم مقامها.
وإليك هذه الكفارات بأقسامها الخمسة:
القسم الأول: الدم المترتب المقدر:
وهذا الدم إنما يجب بترك واجب من واجبات الحج: كالإحرام من الميقات، أو رمي الجمار، وغيرهما من واجبات الحج المعروفة.
فإذا ترك واجباً مما ذكر، وجب عليه أولاً:
ذبح شاة مجزئة في الأضحية.
أو سُبع بقرة، أو سُبع بدنة.
فإن لم يجد شيئاً من ذلك، وجب عليه أن يصوم عشرة أيام: ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله.
ويدخل في هذا القسم - وهو الدم المرتب المقدّر - دم التمتّع، ودم الفوات للوقوف بعرفة، بعد التحلل بعمرة.
قال الله تبارك وتعالى: [فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ] (البقرة: 196).
والتمتع: أن يُحرِم أولاً بالعمرة، ثم إذا أداها تحلل منها، ومكث حلالاً، فإذا أحرم بالحج أحرم به من مكة.(3/120)
القسم الثاني: الدم المخير المقدّر:
وهذا يجب عند فعل محظور من محظورات الحج: كحلق شعر، وتقليم ظفر، ولبس مخيط، وغير ذلك من محظورات الإحرام.
ويجب على من فعل شيئاً من ذلك:
ذبح شاة، أو صيام ثلاثة أيام، أو التصدق بثلاثة آصع على ستة من مساكين الحرم، لكل مسكين نصف صاع من بُر، أو شعير.
ويكفي لوجوب هذه الكفارة، إزالة ثلاث شعرات، أو تقليم ثلاثة أظفار.
ودليل هذا الدم قول الله عزّ وجلّ: [وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ] (البقرة: 196).
[أي: فليحلق، وليَفْدِ.
محله: مكان ذبحه، وهو منى، ووقته العاشر من ذي الحجة].
والآية السابقة نزلت في كعب بن عُجرة - رضي الله عنه -، قال: رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديبية، وقد تناثر القمل على وجهي، فقال: " أيؤذيك هوام رأسك"؟ قال نعم. قال.: " احلق رأسك، وانسك شاة، أو صم ثلاثة أيام، أو أطعم فَرَقاً من الطعام على ستة مساكين".
رواه البخاري في [الإحصار وجزاء الصيد - باب - قول الله تعالى فمن كان منكم مريضاً، رقم: 1719] ومسلم في [الحج، - باب- جواز حلق الرأس للمُحرِم إن كان به أذى، رقم: 1201].(3/121)
[والفَرَق: ثلاثة آصع. والصاع: (2400) غراماً تقريباً.
انسك شاة: اذبح شاة].
القسم الثالث: الدم المخير المعدل:
وهو الدم الواجب بقتل صيد حالة الإحرام بحج أو عمرة، أو في الحرم، ولو من حلال.
فمن فعل شيئاً من ذلك، وجب في حقه - إن كان للصيد مِثْل، أو شبه صوري-:
أن يذبح المثل في الحرم من النعم.
أو يشتري لأهل الحرم حباً بقدر قيمته، يوزعه على فقرائهم.
أو يصوم عن كل مد يوماً.
وإن لم يكن للصيد مثل، فهو مخير بين أمرين:
الإطعام،
أو الصيام.
إلا الحمام، فيجب في الحمامة شاة.
ودليل هذا القسم قول الله عزّ وجلّ: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ] (المائدة: 95).
القسم الرابع: الدم المرتب المعدل:
وهو الدم الواجب بالإحصار، فمن مُنع من الحج بعد إحرامه، تحلل(3/122)
بذبح شاة في مكانه الذي أحصر فيه مع نية التحلل، ثم يحلق رأسه، أو يقصر شعره.
فإن لم يستطع، فليطعم بقدر ثمن الدم يوزعه على الفقراء.
فإن عجز عن الإطعام صام عن كل مد يوماً.
قال الله تبارك وتعالى: [وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ] (البقرة: 196).
وفي الصحيحين: (إن النبي - صلى الله عليه وسلم - تحلل في الحديبية لمّا صده المشركون، وكان محرماً بالعمرة). رواه البخاري في [كتاب الحج - باب - طواف القارن، رقم 1558] ومسلم في [الحج - باب - بيان جواز التحلل بالإحصار، رقم: 1230].
ولابد من تقديم الذبح على الحلق، لقوله عزّ وجلّ في نفس الآية السابقة: [وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ].
لكنه لا ينتظر إلى انتهاء الصيام إن عجز عن ذبح الشاة، وعن الإطعام.
القسم الخامس: الدم المرتب المعدل أيضاً:
وهذا الدم هو الواجب بالوطء قبل الإحلال الأول، ويجب عليه أن: يذبح بعيراً،
فإن عجز ذبح بقرة،
فإن عجز ذبح سبع شياه،
فإن عجز عن ذلك كله، قُوِّم البعير، واشترى بقيمته طعاماً، وتصدق به على فقراء الحرم.
فإن عجز عن الإطعام صام عن كل مد يوماً.(3/123)
هذا ولا يجزئ الذبح والإطعام إلا في الحرم، وأما الصيام فيصوم حيث شاء.
والمراد بالترتيب في هذه الدماء: أنه لا يجوز أن ينتقل إلى الثاني إلا عند عجزه عن الأول، وهو ضد التخيير، فهو مفوّض إليه، أن يفعل ما يختاره والمراد بالتقدير فيها: أن الشرع قد قدر البدل المعدول إليه سواء كان ترتيباً أو تخييراً.
ويقابله التعديل، ومعناه، أنه أمر فيه بالتقويم، والعدول إلى الغير بحسب القيمة.
وإن أردت المزيد في هذا الموضوع، فارجع إلى الجزء الثاني، موضوع: (الإخلال بالحج) صفحة: 160.
6 - كفارة اليمين
ومن حنث في يمين غموس، أو غير غموس، وجب عليه كفارة، وهو مخير فيها أولاً بين ثلاثة أشياء:
1 - عتق رقبة مؤمنة، ويكون هذا حيث يوجد الرقيق.
2 - إطعام عشرة مساكين طعاماً مشبعاً، من أوسط ما يطعم الإنسان أهله.
3 - كسوة عشرة مساكين، بما يسمى في العُرْف كسوة، فالمئزر، والجورب، وغطاء الرأس على أي شكل كان، كله يسمى كسوة.
فإن عجز عن واحدة من هذه الأشياء الثلاثة التي هو مخير فيها، وجب عليه صيام ثلاثة أيام، ولا يشترط تتابعها.
ودليل هذه الكفارة قول الله عزّ وجلّ: [لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ(3/124)
ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] (المائدة: 89).
7 - كفارة النذر
والنذر الذي تجب فيه الكفارة، إنما هو نذر اللجاج، وهو النذر الذي يقع حال الخصومة، وذلك أن يقول شخص، يريد الامتناع من كلام أحد من الناس، أثناء خصومة بينهما.
يقول: إن كلمته فلله علي حجة.
وحكم هذا النذر أن المعلق عليه إذا وقع، وجب على الناذر إنجاز ما نذره والتزمه، وهو الحج مثلاً، أو إخراج كفارة يمين، يختار واحداً منهما.
وكفارة اليمين: عتق رقبة مؤمنة، أو إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم بما يسمى في العرف كسوة، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، ولا يشترط فيها التتابع، وقد مر دليل ذلك في كفارة اليمين.
أما ما عدا ذلك من أنواع النذر، فالواجب على الناذر تحقيق ما التزمه، لا يغنيه عن ذلك شيء.
دليل كفارة نذر اللجاج:
ودليل كفارة هذا النذر، وهو نذر اللجاج، ما رواه مسلم في [النذر - باب - كفارة النذر، رقم: 1645] عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " كفارة النذر كفارة اليمين".
8 - كفارة الظهار
والظهار: لغة، مأخوذة من الظهر.
واصطلاحاً: أن يشبه الزوج زوجته في الحرمة بإحدى محارمه: كأمه وأخته، فيقول لزوجته: أنت علي كظهر أمي.(3/125)
وقد كان العرب في الجاهلية يعتبرون الظهار أسلوباً من أساليب الطلاق.
لكن الشريعة الإسلامية أعطت الظهار حكماً آخر، وبنت عليه أحكاماً أخرى غير الطلاق.
والذي يعنينا في هذا المكان، إنما هو كفارة الظهار، أما أحكامه الأخرى، فستجدها في مكانها من بحث الظهار، في باب الطلاق.
موجب كفارة الظهار:
إذا نطق الزوج بلفظ الظهار، وهو تشبيهه زوجته بأحد محارمه، فإنه يُنظر:
فإن اتبع كلامه هذا بالطلاق، فإن حكم الظهار يندرج في الطلاق، ولا يبقى للظهار أثر.
أما إن لم يتبع الظهار بالطلاق، ولم يحصل منه ما يقطع النكاح، فإنه يعتبر عائداً في كلامه، مخالفاً لمقتضاه، وعندئذٍ تلزمه كفارة، يكلف بإخراجها على الفور.
كفارة الظهار:
وهي حسب الإمكان وفق ما يلي:
1 - عتق رقبة مؤمنة سليمة من العيوب التي تمنع من الكسب والعمل.
2 - صيام شهرين متتابعين، وذلك إن لم يكن هناك رقيق كعصرنا اليوم، أو كان ولم يستطع ذلك.
3 - إطعام ستين مسكيناً، وذلك إذا لم يستطع الصوم، أو لم يستطع الصبر على تتابع الصوم؛ لهرم أو مرض.
وهذه الخصال الثلاثة مرتبة على نحو ما ذكرنا، فلا ينتقل إلى واحدة منها، حتى يعجز عن التي قبلها.(3/126)
ومعنى كون المظاهر مطالباً بالكفارة على الفور، أنه لا يحلّ له وطء زوجته قبل التكفير بأي الأنواع الثلاثة المذكورة.
دليل وجوب كفارة الظهار:
ودليل وجوب هذه الكفارة، ما رواه أبو داود في [كتاب الطلاق - باب -في الظهار] وابن ماجه في [كتاب الطلاق - باب - الظهار] وغيرهما أن امرأة أوس بن الصامت - رضي الله عنه -، جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، تشكو إليه أن زوجها ظاهر منها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما أراك إلا طلقت منه"، فقالت له: يا رسول الله، إن لي منه صبية، إن ضممتهم إلي جاعوا، وإن تركتهم إليه ضاعوا، وأخذت تجادله في الأمر، ولا يزيد على قوله: " ما أراك إلا قد طلقت"، فأنزل الله عزّ وجلّ أوائل سورة المجادلة:
[قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ * وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ] (المجادلة: 1 - 4).
9 - كفارة القتل
يجب على قاتل النفس المحرمة كفارة لحق الله عزّ وجلّ، سواء كان القتل عمداً، أو شبه عمد، أو خطأ، وسواء عفي أولياء المقتول عن الدية المستحقة، أو لم يعفوا، وسواء كان القاتل رشيداً، أو صبياً أو مجنوناً.
وهذه الكفارة هي:(3/127)
1 - عتق رقبة مؤمنة، سليمة من العيوب التي تضرّ بالعمل، أو الكسب.
2 - فإن لم يتمكن من عتق الرقبة، لعدم وجود الرقيق، أو لعدم قدرته على الإعتاق، فصيام شهرين متتابعين.
فإن عجز عن الصيام، فإنه لا يجب عليه الإطعام لعدم وروده، بل تبقى الكفارة في ذمته حتى يقدر عليها.
دليل وجوب كفّارة القتل:
ودليل وجوب هذه الكفارة قول الله تبارك وتعالى: [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً] (النساء: 92).
فإذا وجبت الكفارة في القتل الخطأ، فوجوبها بالقتل العمد وشبه العمد أولى.
وروى أبو داود في [كتاب العتق - باب - في ثواب العتق، رقم: 3964] وغيره، عن واثلة بن الأسقع - رضي الله عنه - قال: أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في صاحب لنا أوجب - يعني النار - بالقتل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أعتقوا عنه رقبة يعتق الله بكل عضو منه عضواً منه من النار".
10 - الكفارة بإقامة الحد
من ارتكب ذنباً من الذنوب التي قدرت في الدين عقوباتها وحدودها: كالقتل والسرقة، والقذف، والزنى، وشرب الخمر، ثم أقيم عليه حد ذلك الذنب في الدنيا، فإن إقامة هذا الحد عليه يكون كفارة لذلك الذنب، ولو لم يتب منه، ولا يعاتب الله عزّ وجلّ عليه في الآخرة.(3/128)
دليل هذه الكفارة:
ويستدل للتكفير بإقامة الحد على مرتكب الذنب بما رواه البخاري في [الأيمان - باب - علامة الإيمان حب الأنصار، رقم: 18] ومسلم في [الحدود - باب - الحدود كفارات لأهلها، رقم: 1709] عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال - وحوله عصابة من أصحابه-: " بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم، فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به في الدنيا، فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً، ثم ستره الله، فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه، فبايعناه على ذلك".
وروى الترمذي في [الإيمان - باب - ما جاء لا يزني الزاني وهو مؤمن، رقم: 2628] عن علي - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: " من أصاب حداً فعجل عقوبته في الدنيا، فالله أعدل من أن يثني على عبده العقوبة في الآخرة، ومن أصاب حداً فستره الله عليه، وعفا عنه، فالله أكرم من أن يعود إلى شيء قد عفا عنه".
والله سبحانه وتعالى أعلم
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين(3/129)
الفقه المنهجي
على مذهب الإمام الشافعي
رحمه الله تعالى
الجزء الرابع
الأحوال الشخصية
(أحكام الأسرة)
الدكتور مصطفى الخن الدكتور مصطفى البغا
علي الشربجي
دار القلم
دمشق(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله ربّ العالمين، حمداً يوافي نعمه، ويكافئ مزيده، سبحانك يا ربّنا لا نُحصي ثناء عليك أنَت كما أثنيت على نفسك.
صل وسلم وبارك على عبدك ونبيك سيدنا محمد صلاة تُرضيك وترضيه وترضى لها عنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
وارضَ اللَّهَم عن أصحاب نبيّك الذين اخترتهم لحمل هذه الشريعة، واصطفيتهم لتبليغ هذه الرسالة، فكانوا لذلك أهلاً، وغدوا لمن بعدهم قدوة صالحة، ونبراساً يُهتدى بنوره، ويُستضاء به. وارحم يا إلَهنا كل من سار على هداهم، واستنّ بسنتهم.
اللَّهَم وفِّقنا للإقتداء، بنبيك - صلى الله عليه وسلم - والتمسك بسنّته، واحفظنا يا ربنا من الزلل، والعلل، والرياء، واجعل عملنا هذا خالصاً لوجهك الكريم، وأجُرنا عليه بما أنت له أهل، برحمتك وفضلك يا أرحم الراحمين.
وبعد، فهذا هو الجزء الرابع في سلسة (الفقه المنهجي) على مذهب الإمام الشافعي، أودعنا فيه ما يتعلق بأحكام الأُسرة.
وجعلناه سبعة أقسام:
1 - النكاح، وما يتعلق به.
2 - الطلاق وما يتعلق به، وما يشبهه من ظهار وإيلاء ولعان.(4/5)
3 - النفقات وما يتعلق بها.
4 - الحضانة وأحكامها.
5 - الرضاع وأحكامه.
6 - النسب وأحكامه. ... 7 - اللقيط وأحكامه.
والله نسأل أن نكون قد وُفِّقنا للصواب، وتقريب هذا التراث العظيم من الفقه الإسلامي للقرّاء الأكارم وعلى الله توكلنا، وهو حسبنا ونِعَم الوكيل.
المؤلفون(4/6)
أولاً: النكاح وما يتعلق به وما يشبهه(4/7)
تمهيد:
معنى الأحوال الشخصية:
يقصد بالأحوال الشخصية: الأوضاع التي تكون بين الإنسان وأُسرته، وما يترتب عليه هذه الأوضاع من آثار حقوقية، والتزامات مادية أو أدبية.
وإطلاق هذا الاصطلاح على هذا المعنى إطلاق حديث، أُطلق في مقابلة الأحوال المدنية، التي تنظّم علاقات الإنسان بأفراد المجتمع خارج حدود الأُسرة.
أما الفقهاء قديماً، فلم يكونوا يطلقون هذا الاسم (الأحوال الشخصية) على المبادئ والأحكام الشاملة للأسرة ومتعلقاتها، وإنما كانوا يطلقون على كل باب اسماً خاصاً: مثل: كتاب النكاح. كتاب الصداق. كتاب النفقات. كتاب الطلاق. كتاب الفرائض. وهكذا.(4/9)
النكاح
تعريف النكاح:
النكاح لغة: الضم والجمع. يقال: تناكحت الأشجار، إذا تمايلت وانضم بعضها إلى بعض.
والنكاح شرعاً: عقد يتضمن إباحة استمتاع كل من الزوجين بالآخر على الوجه المشروع.
وسُمي بذلك لأنه يجمع بين شخصين، ويضمّ أحدهما إلى الآخر.
والعرب تستعمل لفظ النكاح بمعنى العقد، وبمعنى الوطء والاستمتاع.
لكن النكاح حقيقة يطلق علي العقد، ويستعمل مجازاً في الوطء.
وعامة استعمال القرآن للفظ النكاح إنما هو في العقد، لا في الوطء.
ومنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا .. } (الأحزاب: 49).
ومعنى {نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} عقدتم عليهن. بدليل قوله: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} فمعناه: طلقتموهن قبل المسيس وهو الوطء والدخول.(4/11)
مشروعية النكاح:
لقد شرع الإسلام الزواج، وضع له نظاماً محكماً يقوم على أقوى المبادئ وأضمنها لصيانة المجتمع، وسعادة الأسرة، وانتشار الفضيلة، وحفظ الأخلاق، وبقاء النوع الإنساني.
دليل مشروعية النكاح:
ويستدل لمشروعية النكاح بالقرآن الكريم، والسنّة النبوية، وإجماع الأمة.
أما القرآن: فآيات كثيرة منها:
قوله تعالى: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} (النساء: 4)
وقوله تعالى: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ... } النور: 32
الأيامى: جمع أيِّم، وهو من لا زوج له من الرجال، ومَن لا زوج لها من النساء.
عبادكم: الرجال المملوكين.
إمائكم: النساء المملوكات.
وأما السنة: فأحاديث كثيرة أيضا، منها.
قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن ثم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاءٌ ".
رواه البخاري (في كتاب النكاح، باب: الترغيب في النكاح، رقم: 4779) ومسلم (في النكاح، باب: استحباب الترغيب في النكاح لمن تاقت نفسه إليه ... ، رقم: 1400) عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -.(4/12)
الباءة: القدرة على الجماع بتوفر القدرة على مؤن الزواج.
وجاء: قاطع لشهوة الجماع.
وأما الإجماع: فقد اتفقت كلمة العلماء في كل العصور على مشروعيه.
الترغيب بالزواج:
لقد رغب الإسلام في الزواج، وحضّ عليه، لما فيه من المصالح والفوائد، التي تعود على الفرد والمجتمع.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الدنيا متاع وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة " رواه مسلم في كتاب الرضاع، باب: خير متاع الدنيا المرأة الصالحة، 1467) عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما.
(متاع: شيء ينتفع به ويتمتع به إلى أمدٍ قليل).
وروى الترمذي (كتاب النكاح، باب: ما جاء في فضل التزويج والحثّ عليه، رقم: 1080) عن أبي أيوب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أربع من سنن المرسلين: الحياءُ، والتَّعَطُر، والسِّواكُ، والنكاح ".
الحكمة من مشروعية النكاح:
إن لتسريع الزواج حكماً جمّة، وفوائد كثيرة، نذكر بعضاً منها:
1 - الاستجابة لنداء الفطرة التي فطر الله الإنسان عليها:
فلقد خلق الله هذا الإنسان، وغرز في كيانه الغريزة الجنسية، وركّز فيه ذلك التطلّع إلى المرأة، والرغبة فيها، كما جعل مثل ذلك في كيان المرأة وفطرتها.
ولمّا كان الإسلام دين الفطرة يستجيب لها، وينظِّم مجراها، شَرع الزواج تلبية لهذا النداء العميق المستقر في أعماق هذا الإنسان وكيانه، وجعل الزواج هو الطريق الوحيد الذي يعبّر عن إشباع هذه الرغبة وإروائها.(4/13)
فلم يكبت الإسلام هذه الغريزة، ويحطم كيان هذا الإنسان بتشريع الحرمان من الزواج، والدعوة إلى الرهبنة والتبتل.
روى الترمذي (النكاح، باب: ما جاء في النهي عن التبتّل، رقم: 1082) عن سمرة - رضي الله عنه -: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن التبتّل).
والتبتّل: الانقطاع عن النساء، وترك الزواج انصرافاً إلى العبادة.
وروى مسلم (النكاح باب: استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه .. ، رقم: 1402) والترمذي (النكاح، باب: ما جاء في النهي عن التبتل، رقم: 1083) عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: (ردّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عثمان بن مظعون التبتّل، ولو أذن له لاختصينا).
لكن الإسلام لم يُلْق حبل هذه الغريزة على غاربها، ولم يترك الإنسان حراً طليقاً في إشباع نهمه الجنسي، بحيث يفسد نفسه وغيره، ويضرّ بالأخلاق، ويهدم البيوت والأُسر، ويفتح الباب واسعاً لغواية الشيطان ووساوسه. وإنما وقف الموقف المتوسط المعتدل، فاستجاب لنداء الفطرة ونظمها، بحيث تؤدي دورها النافع البنّاء في إيجاد هذا النوع، واستمرار بقائه.
2ـ إمداد المجتمع الإسلامي بنسل صالح، ونشء مهذب:
لقد دعا الإسلام إلى كثره النَسْل، وجعله من بين أهدافه، في إنشاء المجتمع الإسلامي المُهيب المرهوب، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " تزوَّجوا الوَلُوَد الودود فإني مُكاثر بكم الأمم يوم القيامة ". (أخرجه أبو داود في سننه: كتاب النكاح، باب: النهي عن تزويج من لم يلد من النساء، رقم: 2050.
والنسائي في النكاح أيضاً، باب: كراهية تزويج العقيم: 6/ 65].
ولذلك دعا القرآن إلى الزواج، ووجّه نظر الأولياء إلى تزويج أبنائهم وبناتهم.(4/14)
قال تعالى: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} (النور: 23).
وإمداد المجتمع بنشئ يولدون في ظلال أبوين حانيين عطوفين، يعرفان كيف تُصاغ عقول هذا النشئ، وكيف تُربى مواهبه، أفضل النزوات المحّرمة الطائشة من السفاح والزنى، فهؤلاء لا يعرفون أبا يرعاهم، ولا أُمَاً تحنو عليهم، فينشؤون وفي أنفسهم عقد الكراهية والحقد على أمتهم ومجتمعهم، وعلى الناس جميعاً.
3ـ إيجاد السكن النفسي والاستقرار الروحي:
وفي هذا الزواج الشرعي الشريف تحصل هذه الطمأنينة، والسكينة والهدوء النفسي.
قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم: 21).
وانظر إلى التعبير القرآني ما أروعه في إبراز معنى الحاجة للزواج، وحصول الستر والسعادة والاستقرار فيه.
قال تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} (البقرة: 117).
فالآية شبهت كلا من الزوجين باللباس للآخر، لأن كلاً منهما يستر الآخر.
فحاجة كلِّ من الزوجين للآخر كحاجته إلى اللباس، فإذا كان اللباس يستر معايب الجسد، وبقية عاديات الأذى، فإن كلاً من الزوجين يحفظ على صاحبه شرفه، ويصون عرضه، ويوفّر له راحته وأُنسه.
4ـ الحفاظ على الأخلاق من الهبوط والانهيار:
فالإنسان إذا منع من الزواج المشروع تاقت نفسه إلى تحصيل حاجته(4/15)
من الطريق الممنوع، ولا يخفى على عاقل ما في السفاح والزنى من فساد الأخلاق، وخراب الأُسر، وهتك الأعراض، وانتشار الأمراض، وقلق النفوس والأرواح.
وللمحافظة على الأخلاق، وللوقاية من الفساد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا جاءكم من تَرْضَوْنَ دينَه وخُلُقَه فأنْكحُوه، إلاّ تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفَسَادُ " رواه الترمذي (في النكاح، باب: ما جاء إذا جاءكم من ترضون دينه فزوجوه، رقم: 1085) عن أبي حاتم المزني - رضي الله عنه -.
5ـ المحافظة على النوع البشري سوياً سليماً:
لقد جرت عادة الله سبحانه وتعالى أن لا يكون إنسان إلا من أبوين: رجل وامرأة، فإذا علمنا أن الإسلام قد حرّم اقتران رجل بامرأة إلا على أساس زواج شرعي، فإن ذلك يعنى أن الإسلام قد حصر حفظ النوع البشري بالزواج، فلو حرم الزواج لانقرض البشر، ولو أباح السفاح لكان هذا البشر شقيّاً مريضاً، والله سبحانه وتعالى يريد بعباده الخير، ولا يحب لهم الشر. قال تعالى: {إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (البقرة: 114).
6ـ توسيع دائرة القرابة وبناء دعائم التعاون:
ففي الزواج تمتد رقعة القرابة، فتلقي عائلتان، ويجمع شمل أسرتين، وتنشأ بينهما بسبب المصاهرة روابط جديدة، ومحبة متبادلة.
وبالزواج يتم التعاون بين الزوجين، فالزوجة تُعين زوجها في شؤونه: في مأكله وملبسه ومسكنه، وتربية أولادة، ورعاية بيته. والزوج يعاونها في تأمين حاجاتها، وتحصيل نفقتها، والدفاع عنها، وحمايتها، والمحافظة على عرضها.
والإسلام دين التعاون والتكافل، ولقد شرع الزواج لتحقيق هذه المصالح كلها.(4/16)
حُكم النِكَاحِ شَرْعُا
للنكاح أحكام متعددة، وليس حكماً واحداً، وذلك تبعاً للحالة التي يكون عليها الشخص، وإليك بيان ذلك:
1ـ مستحب:
وذلك إذا كان الشخص محتاجاً إلى الزواج: بمعنى أن نفسه تتوق إليه، وترغب فيه، وكان يملك مؤنته ونفقته، من مهر، ونفقة معيشة له ولزوجته، وهو في نفس الوقت لا يخشى على نفسه الوقوع في الفاحشة إن لم يتزوج.
ففي هذه الحالة يكون النكاح مستحبّاً، لما فيه من بقاء النَسْل وحفظ النسب، والاستعانة على قضاء المصالح.
ويستدل لذلك بحديث البخاري ومسلم: عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - شباباً لا نجد شيئاً، فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يا معشر الشباب مَن استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغضّ للبصر وأحصن لفرج، ومَن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وِجاء " (1).
والزواج في هذه الحالة أفضل من التفرغ للعبادة، والانقطاع لها.
وعلى هذا يحمل توجيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأولئك النفر من أصحابه الذين تعاهدوا على الانقطاع للعبادة، وترك الزواج.
روى مسلم (في النكاح، باب: استحباب لمن تاقت نفسه إليه ... ، رقم 1401) وغيره عن أنس - رضي الله عنه -: أن نفراً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - سألوا أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عمله في السرّ، فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش، فحمد الله وأثنى عليه، فقال: " ما بالُ أقوامٍ قالوا: كذا وكذا،
_________
(1) انظر تخريجه وشرح ألفاظه (ص: 12 عند الكلام عن مشروعية النكاح)(4/17)
لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساءَ فم رغب عن سُنّتي فليسَ منّي ".
ومعنى " فمن رغب عن سُنتي فليس مني " أي من تركها إعراضاً عنها، غير معتقد لها على ما هي عليه.
والمرأة في هذا الحكم مثل الرجل، فإذا كانت محتاجة للزواج لصيانة نفسها، وحفظ دينها، وتحصيل نفقتها، استحبّ لها الزواج أيضاً.
2ـ مستحب تركه (أي مكروه وفعله خلاف الأولى):
وذلك إذا كان محتاجاً للزواج، لكنه لا يملك أُهبة النكاح ونفقاته.
وعليه في هذه الحالة أن يعفّ ويستعين على ذلك بالعبادة والصوم، لأن الانشغال بالعبادة والصوم، يشغله عن التفكير في الزواج، واستشارة الرغبة فيه، ريثما يغنيه الله من فضله.
ودليل ذلك قوله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِه ِ} (النور: 33).
ويُفهم هذا الحكم أيضاً من مفهوم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " مَن استطاع منكم الباءة فليتزوج " فإنه إذا لم يملك الباءة كان ترك الزواج مستحّباً له.
3ـ مكروه:
وذلك إذا كان غير محتاج إلى الزواج: كأن لا يجد الرغبة فيه، أما فطرة، أو لمرض، أو علّة، ولا يجد أُهبه له، وذلك لما فيه من التزام مالا يقدر على القيام به، لأن النكاح يترتب عليه المهر، والنفقة، وهو لا يقدر على ذلك، فيُكره النكاح له.
4ـ الأفضل تركه:
وذلك إذا كان يجد الأُهبة، ولكنه ليس محتاجاً إلى النكاح، لأن نفسه لا تتوق إليه، وكان منشغلاً بالعبادة، أو منقطعاً لطلب العلم، فإن(4/18)
التفرغ للعبادة وطلب العلم أفضل من النكاح في هذه الحالة، لأن النكاح ربما يشغله عن ذلك.
5ـ الأفضل فعله:
فإذا كان ليس منشغلاً بالعبادة، ولا متفرغاً لطلب العلم، وهو يجد الأُهبة للنكاح، لكنه غير محتاج إليه، فالنكاح في هذه الحالة أفضل، حتى لا تقضي به البطالة والفراغ إلى الفواحش، وبالزواج يحصل له الاستعانة على قضاء المصالح، وإنجاب الذرية، وزيادة النسل.(4/19)
مَكانَة الأُسْرَة في الإسلاَم وَرعَايتَهِ لَهَا
تعريف الأسرة:
الأسرة لغة: الرَّهْط ـ أي الأشخاص ـ الأدَنْون من الرجل.
ويقصد بالأُسلام اصطلاحاً في نظام الإسلام: تلك الخليّة التي تضم الآباء والأُمهات، والأجداد والجدّات، والبنات والأبناء، وأبناء الأبناء.
الأسرة دعامة أساسية في المجتمع:
إذا كان الفرد هو اللبنة الأساسية في بناء المجتمع، فإن الأُسرة هي الخليّة الحيّة في كيانه.
والفرد جزء من الأُسرة يأخذ خصائصه الأُولى منها. قال تعالى:
{ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} (آل عمران: 34) وينطبع بطابعها، ويتأثر بتربيتها.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، وينصرانه، ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟ " رواه مسلم (في كتاب القدر، باب: معنى كل مولود يولد على الفطرة .. ، رقم: 2658) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -
الفطرة: الحالة المتهيئة للخير، وهي حالة أصل الخلقة البشرية. كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء: أي كما تلد البهيمة بهيمة كاملة الأعضاء لا نقص فيها.(4/20)
جدعاء: مقطوعة الأُذن. أي إنما يحدث فيها الجدع والنقص بعد ولادتها، بتأثير من البيئة المحيطة بها من إنسان وغيره. وكذلك حال الإنسان، تكون استقامته أو انحرافه رهن البيئة التي ينشأ ويترعرع فيها.
وبناءً على ما سبق نقول: إن الفرد جزء من الأُسرة، والأسرة جزء من المجتمع، ودعامة أساسية فيه، فإذا صلُحَتَ الأُسرة صَلُح الفرد، وإذا صلُح الفرد صلحت الأُسرة، وصلح المجتمع.
ولذلك أولى الإسلام الأسرة رعاية بالغة، وعناية فائقة، وشغلت الأُسرة حّيزاً كبيراً من أحكام القرآن والسنّة.
مظاهر عناية الإسلام بالأسرة:
وتتبدى مظاهر عناية الإسلام بالأُسرة من تلك التشريعات والأحكام التي صاغها لتنظيم الأُسرة، وترتيب شؤونها. ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر:
أـ الأمر بالزواج:
لتشييد دعائم الأُسرة، لأنه لا أُسرة بغير زواج، وكل علاقة جنسية بين رجل وامرأة لا تقوم على أساس الزواج، فهي زنى وسفاح.
والله تعالى يقول: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} (الإسراء: 32)
ويقول عز وجل: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} (المائدة: 5)
ب ـ تشريع حقوق الزوجين وواجباتهما:
فقد أوجب الإسلام على الزوج لزوجته:
1ـ المهر: قال تعالى: {وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (النساء: 4)
2ـ النفقة: قال تعالى: {وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (البقرة: 233).(4/21)
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ولهنَّ عليكم رزقُهنَّ وكسوتُهُنَّ بالمعروفِ ".
رواه مسلم (كتاب الحج، باب حجّه النبي - صلى الله عليه وسلم - رقم: 1218) في حديث طويل.
3ـ المعاشرة بالمعروف: قال الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوف ِ} (النساء: 19)
كما أوجب الإسلام على الزوجة لزوجها:
1ـ الطاعة في غير معصية: قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء} (النساء: 34).
والقوامة إنما هي: القيادة، وحقّ الطاعة.
2ـ أن لا تُدخل بيته أحداً بغير إذنه ورضاه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ولكم عليهنّ أن لا يوطئن فُرُشكم أحداً تكرهونه " رواه مسلم (1218) من حديث طويل.
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: لا يأذنَّ لأحد تكرهونه في دخول بيوتكم، والجلوس في منازلكم.
3ـ أن تحفظ شرفه، وتصون عرضه، وتحافظ على ماله: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ألا أدُلكم على خير ما يّكْنِزُ الرَّجُُلُ؟ المرأةُ الصالحةُ، التي إذا نظر إليها سرَّتْه، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظْته في نفسها ومَالِهِ ". رواه أبو داود (الزكاة، باب: في حقوق المال، رقم: 1664) وصححه الحاكم في مستدركه.
ج ـ تشريع حقوق الأولاد والوالدين:
فقد أوجب الإسلام على الآباء لأولادهم:
1 - النفقة: قال الله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (الطلاق: 6)(4/22)
فقد أوجب الله عزّ وجلّ أُجره المُرضع لنفقة الولد.
2ـ حُسن التربية والتأديب على العبادات والأخلاق: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أدّبوا أولادَكم على ثلاث خصالٍ: حُب نبيَّكم، وآل بيته، وقراءة القرآن " رواه الديلمي [انظر الجامع الصغير للسيوطي].
وقال عليه الصلاة والسلام: " ألا كُلُّكم راع ومسؤول عن رعيته، فالأميرُ الذي على الناس راع ومسؤول عن رعّيته، والرجلُ راع على أهل بيته، وهو مسئولّ عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده هي مسؤولة عنهم، والعبد راعٍ على مال سيده وهو مسؤول عنه، ألا فكُلكم راعٍ، وكلّكم مسؤول عن رعيَّته ".
[أخرجه البخاري في الجمعة، باب: الجمة في القرى والمدن، رقم: 853. ومسلم في الإمارة، باب: فضيلة الإمام العادل ... ، رقم: 1829] وغيرهما.
كما أوجب الإسلام على الأولاد:
1ـ طاعة الوالدين في غير معصية الله تعالى، والإحسان إليهما:
قال الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء: 23].
وقال تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان: 15].
2ـ النفقة للوالدين إن كانا فقيرين، والولد موسراً، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن من أطيب ما أكل الرجلُ من كسْبه، وولَدُهُ مْن كَسْبَه ". وقال - صلى الله عليه وسلم -: " أنت ومَالُك لوالدك، إن أولادكم من أطيب كسبكم، فكلوا من كسب أولادكم " [أبو داود: البيوت والإجازات، باب: في الرجل يأكل من مال والده، رقم: 3528، 3530. الترمذي: أبواب الأحكام، باب: ما(4/23)
جاء أن الوالد يأخذ من مال ولده رقم: 1358].
وهناك أحكام أخرى كثيرة تتعلق بتنظيم حياة الأُسرة، وترتيب أمورها، ومن هذه الأحكام والتشريعات يتبين مدى اهتمام الإسلام بالأُسرة ورعايته لها.(4/24)
النساء اللاتي يحرم نكاحهن
تمهيد:
لما شرع الإسلام الزواج، وحثّ عليه، حرّم على الإنسان نكاح بعض النساء:
أما لفرض الاحترام والتقدير: كتحريم نكاح الأُم.
وإما لأن الطبع السليم لا يستسيغ ذلك: كنكاح البنت والأُخت.
أو لأن غرض الزواج ـ وهو الإحصان ـ قد لا يتحقق على أتمّ وجه في نكاح القريبات جداً: كنكاح بنات الإخوة والأخوات، وبنات الأبناء والبنات، وذلك لكثرة الخلطة بينهم، وظهور بعضهم على بعض.
وأما لغرض تنظيمي ترتيبي في بناء الأُسرة: كنكاح الأخت وبنات الأخ من الرضاع.
فلهذه الأغراض وغيرها من الحكم حرم الإسلام نكاح بعض النساء على بعض الرجال، كما حرم بعض الرجال على بعض النساء، وإليك بيان ذلك.
أقسام الحرمة في النكاح:
والحرمة في نكاح بعض النساء على قسمين:
حُرمة مؤبدة.
وحُرمة مؤقتة.(4/25)
الحُرمة المؤبدة:
ويقصد بها النساء اللاتي لا يجوز للرجل أن يتزوج بواحدة منهنّ أبداً، مهما كانت الظروف والأحوال.
أسباب الحُرمة المؤبدة:
والحرمة المؤبدة لها ثلاثة أسباب، وهي:
القرابة.
المصاهرة.
الرضاع.
المُحرّمات بالقرابة:
والمُحرّمات بسبب القرابة سبع، وهنّ:
1ـ الأُم، وأُم الأُم، وأُم الأب، ويعبّر عنهنّ بأُصول الإنسان، فلا يجوز نكاح واحدة منهُن.
2ـ البنت، وبنت الابن، وبنت البنت، ويعبّر عنهنّ بفروع الإِنسان، فلا يجوز نكاح واحدة منهن.
3ـ الأخت، شقيقة كانت، أو لأب، أو لأم، ويعبّر عنهنّ بفروع الأبوين، فلا يجوز نكاح واحدة منهنّ أبداً.
4ـ بنت الأخ الشقيق، وبنت الأخ لأب، أو لأم، فلا يجوز نكاحهنّ.
5ـ بنت الأخت، شقيقة كانت، أو لأب، أو لأم، فهنّ حرام لا يجوز نكاحهنّ أبداً.
6ـ العمّة، وهي أُخت الأب، ومثلها عمّة الأب، وعمّة الأم، ويعبّر عنهنّ بفروع الجدين من جهة الأب، فلا يجوز نكاحهنّ بحال.
7ـ الخالة، وهي أخت الأم، ومثلها خالة الأم وخالة الأب ويعبّر عنهنّ بفروع الجدّين من جهة الأم، فلا يجوز نكاحهنّ أبداً.(4/26)
وفي حُرمة هؤلاء كلهنّ نزل قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ ... .. } [النساء: 23]
فإذا عقد على واحدة منهنّ كان العقد باطلاً، فإن استحلّ ذلك كان كافراً.
هذا، ويحرم على المرأة أبوها، وأبو أبيها، وأبو أُمها، وجميع أُصولها. ويحرم عليها ابنها وابن ابنها وابن بنتها، وجميع فروعها. ويحرُم عليها أخوها شقيقاً كان أو لأب أو لأم، وكذلك يحرُم عليها أبناء إخوتها، وأبناء أخواتها، كما يحرم عليها أعمامها، وأخوالها، وأعمال أبيها، وأعمام أمها، وأخوال أبيها وأخوال أمها.
المحرمات بالمصاهرة:
والمُحرمات بالمصاهرة أربع، وهنّ:
1ـ زوجة الأب، ومثلها زوجة الجد أب الأب، وزوجة الجد أب الأم، ويعبّر عن ذلك بزوجات الأصول، فلا يجوز نكاح واحدة منهن أبداً.
قال تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاء سَبِيلاً} [النساء: 22]
2ـ زوجة الابن، وزوجة ابن الابن، وابن البنت، وهكذا زوجات الفروع، فلا يجوز نكاحهنّ بحال.
قال تعالى: {وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ} [النساء: 23].
وخرج بقوله تعالى: {الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ} زوجة الابن المتبنّى، فإنهم كانوا في الجاهلية يتبنّون، ويحرمون زوجة المتبنى، فأبطل الإسلام التبني، وأحلّ الزواج من زوجة المتبنّى.(4/27)
قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4].
وقال تعالى: {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} [الأحزاب: 37]
[قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً: أي انتهت حاجتهم منهنّ ولم يبق لهم رغبة فيهنّ].
3ـ أم الزوجة، فلا يجوز نكاحها، قال الله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ} [النساء: 23] ومثل أمها جميع أصولها من النساء.
وهؤلاء الثلاثة يحرمن بمجرد العقد، سواء تبع ذلك دخول، أو لم يتبعه، وإذا عقد على واحدة منهن كان العقد باطلاً.
4ـ بنت الزوجة، وهي الربيبة، فهي حرام على زوج أُمها، ولكن ليس بمجرد العقد، بل لا تنشأ الحُرمة إلا بالدخول على أُمها.
قال تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23].
هذا ولا يشترط لحرمة الربيبة أن تكون في حجر زوج أُمها، بل هي حرام عليه، سواء كانت في حجره أو كانت تعيش بعيدة عنه.
وإنما ذكر القيد في الآية لبيان الحالة الغالبة، فإن الغالب على الربيبة أن تكون في رعاية زوج أمها وحجره وكنفه. وكذلك يحرم على المرأة زوج أمها، وزوج بنتها، وابن زوجها، وأبو زوجها.
المحرمات بالرضاع:
ويحرم بسبب الرضاع أيضاَ سبع من النسوة، ذكر القرآن الكريم منهّن اثنين وألحقت السنة بقية السبع بهما، وهؤلاء السبع هّن:(4/28)
1ـ الأُم بالرضاع، وهي المرأة التي أرضعتك، ويلحق بها أُمها، وأُم أُمها وأُم أُبيها، فلا يجوز نكاح واحدة منهنّ.
2ـ الأخت بالرضاع، وهي التي رضعت من أُمك، أو رضعت من أُمها، أو رضعت أنت وهي من امرأة واحدة.
فإذا رضعت من أُمك صارت حراماً عليك، وعلى جميع إخوتك. ويحلّ لك أخواتها، لأنهنّ لم يرضعن من أُمك.
وإذا رضعت أنت من أُمها صرت حراماً عليها، وعلى جميع أخواتها، وحلّت هي وأخواتها لإخوتك، لأنها لم ترضع من أمك، ولا رضع أخواتك من أمها.
وفي تحرم الأم والأخت من الرضاع نزل قوله تعالى: {َأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23]
3ـ بنت الأخ من الرضاع.
4ـ بنت الأخت من الرضاع.
5ـ العمّة من الرضاع: وهي التي رضعت مع أبيك.
6ـ الخالة من الرضاع: وهي التي رضعت مع أمك.
7ـ البنت من الرضاع: وهي التي رضعت من زوجتك، فتكون أنت أباها من الرضاع.
وفي هؤلاء يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: " إن الرَّضاعة تُحرّمُ ما يَحرُم من الولادة " رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها.
وروى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في بنت حمزة رضي الله عنها: " لا تَحِلُّ لي، يحْرُم من الرضاع ما يحرُم من النسب، هي بنت أخي من الرضاعة ".(4/29)
(البخاري: الشهادات، باب: الشهادة على الأنساب والرضاع.، رقم: 2502، 2503 مسلم: الرضاع، باب: يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة، وباب: تحريم ابنة الأخ من الرضاعة، رقم: 1444، 1447).
وكذلك يحرم على المرأة أبوها بالرضاع، وابنها من الرضاع، وأخوها وابن أخيها من الرضاع، وعمّها وخالها من الرضاع.
وكذلك يحرم بالمصاهرة من الرضاع:
1ـ أم الزوجة من الرضاع، وهي التي أرضعت زوجتك.
2ـ بنبت الزوجة من الرضاع، وهي التي رضعت من زوجتك، لكن من لبن زوج غيرك.
3ـ زوجة الأب من الرضاع، وهي زوجة الأب التي رضعت من زوجته الثانية.
4ـ زوجة الابن من الرضاع، وهي زوجة من رضع من زوجتك.
الحرمة المؤقتة:
والنساء المحرمات حرمة مؤقتة: هن اللاتي حُرِّمن على الإنسان لسبب من الأسباب،
فإذا زال هذا السبب زالت الحُرمة، وعاد الحل، فإذا عقد على واحدة منهنّ قبل زوال سبب
الحرمة كان العقد باطلاً.
وهؤلاء النساء هنّ:
1ـ الجمع بين الأختين:
سواء كانتا من النسب، أو من الرضاع. وسواء عقد عليهما معاً أو في وقتين.
فإذا عقد عليهما معاً بطل العقد فيهما، وإذا عقد عليهما واحده بعد الأخرى بطل عقد الثانية.(4/30)
فإذا ماتت الأولى، أو طُلِّقت، وانقضت عدّتها حلّ له أن يعقد على أختها. قال الله عزّ وجلّ:
{وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 23]
2ـ الجمع بين المرأة وعمّتها، وبين المرأة وخالتها، وبين المرأة وبنت أختها، أو بنت أخيها، أو بنت ابنها، أو بنت بنتها:
وقد وضع الفقهاء قاعدة بضبط من يحرم الجمع بينهنّ، فقالوا (يحرم الجمع بين كل امرأتين لو فرضت إحداهما ذكراً لما جاز له أن يتزوج الأخرى). وهي تشمل جميع من ذكرنا.
ودليل ذلك: ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يُجمعُ بين المرأة وعَمَّتها، ولا بين المرأة وخالتها ".
(البخاري: النكاح، باب: لا تنكح المرأة على عمّتها، رقم: 4820. مسلم: النكاح، باب: تحريم الجمع بين المرأة وعمّتها ... ، رقم: 1408.
الحكمة من هذا التحريم:
والحكمة من تحريم الجمع بين مَن ذكرنَ ما في هذا الجمع من إيقاع الضغائن بين الأرحام، بسبب ما يحدث بين الضرائر من الغيرة.
روى ابن حبان: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تُزوّج المرأة على العمّة والخالة، وقال: إنّكنّ إذا فعلتنّ ذلك قطعتنّ أرحامكم).
وأخرج أبو داود في المراسيل عن عيسى بن طلحة قال: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تنكح المرأة على قرابتها مخافة القطيعة). [نيل الأوطار: 6/ 157]. فإذا ماتت واحدة منهنّ أو طٌلِّقت، وانقضت عدّتها حلّت الأخرى.(4/31)
3ـ الزائدة على أربع نسوة:
فلا يجوز أن يضم زوجة خامسة إلى نسائه الأربع الموجودات عنده حتى يطلق واحدة منهنّ، وتنقضي عدّتها، أو تموت، فإذا ماتت، أو طُلِّقت، حلت له الخامسة. قال الله عز وجلّ: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3].
وروى أبو داود وغيره عن قيس بن الحارث - رضي الله عنه - قال: أسلمت وعندي ثمان نسوة فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " اخْتَر منهنّ أربعاً ".
(سُنن أبي داود: الطلاق، باب: في مَن أسلم وعنده نساء أكثر من أربع أو أُختان).
4ـ المشركة الوثنية:
وهي التي ليس لها كتاب سماوي، فإذا أسلمت حلّت، وجاز الزواج بها، قال الله تعالى:
{وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [البقرة " 221]
تنبيهان:
الأول: لا يجوز للمرأة المسلمة أن تتزوج برجل غير مسلم، مهما كانت ديانته، لأن للزوج ولاية على الزوجة، ولا ولاية لكافر على مسلم، ولأنها لا تأمن عنده على دينها، لأنه لا يؤمن به؟ قال الله عز وجل: {وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141] وقال سبحانه وتعالى: {وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [البقرة: 221].
فإذا أسلم حلت له، وإذا عقد عليها قبل إسلامه كان العقد باطلاً، ووجب التفريق بينهما فوراً فإذا حصل وطء كان ذلك زناً.(4/32)
الثاني: يجوز للمسلم أن يتزوج يهودية أو نصرانية، لأنه ربما يكون ذلك سبباً لإسلامها، وإسلام أهلها، وإطّلاعهم على الإسلام، وترغيبهم فيه.
ولا يجوز لزوجها المسلم أن يٌُكرهها على تغيير دينها، أو يضايقها في أداء عبادتها. قال الله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} [المائدة: 5].
[المحصنات: العفيفات، أو الحرائر. أجورهنّ: مُهورهنّ. محصنين: متعففين بالزواج بهنّ عن الزنى. غير مُسافحين: غير مجاهرين بالزنى. متخذي آخذان: مُصاحبي خليلات للزنى سراً].
5ـ المرأة المتزوجة:
فلا يجوز لرجل أن يعقد على امرأة لها زوج، وهي لا تزال على عصمته، حتى يموت أو يطلقها وتنقضي عدّتها، فإذا مات أو طّلقها وانقضت عدّتها حل الزواج بها. قال الله تعالى في تعداد المحرمات في الزواج: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء} [النساء: 24]. أي المتزوجات من النساء حرام عليكم.
6ـ المرأة المعتدّة:
فلا يجوز لرجل أن ينكح امرأة ما تزال في عدّتها، سواء كانت هذه العدة من طلاق أو وفاة، فإذا انتهت عدّتها، جاز الزواج بها. قال الله تعالى: {وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235].
أي لا تقصدوا إلى عقد النكاح لتعقدوه حتى تبلغ المرأة تمام عدّتها المكتوبة لها في كتاب الله عزّ وجل.(4/33)
7ـ المرأة المطلقة ثلاثاً:
فلا يجوز لزوجها أن يعود إليها حتى تنكح زوجاً غيره، نكاحاً شرعياً صحيحاً، ثم يطلّقها الزوج الثاني، وتنقضي عدّتها منه، فإذا حصل ذلك جاز لزوجها الأول أن يعود إليها، ويعقد عليها عقد زواج جديد. قال الله تعالى: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 230].
وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها: جاءت امرأة رفاعة القرظي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: كنت عند رفاعة فطلّقني، فأبت طلاقي، فتزوجت عبدالله بن الزَّبير، إنما معه مثل هُدبَة الثوب، فقال: (أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عُسيلته، ويذوق عُسيلتك).
(البخاري: الشهادات، باب: شهادة المختبي، رقم: 2469. مسلم: النكاح، باب: لا تحلّ المطلقة ثلاثاُ لمطلّقها حتى تنكح ... .. ، رقم: 1432).
أبَتَّ طلاقي: من البتّ وهو القطع، أي قطع طلاقي قطعاً كلياً، والمراد أنه طلّقها الطلقة الثالثة التي تحصل بها البينونة الكبرى. هدبة الثوب: حاشيته، وهو كناية عن عدم قدرته على الجماع. تذوقي عسيلته: كناية عن الجماع. وعُسيلة: قطعة صغيرة من العسل، شبّه لذّة الجماع بلذة ذوق العسل.(4/34)
حكم تعدد الزوجات والحكمة من مشروعيته
1ـ حكم تعد الزوجات:
تعدّد الزوجات مُباح في أصله، قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3].
ومعنى الآية: إن خفتم إذا نكحتم اليتيمات أن لا تعدلوا في معاملتهنّ، فقد أُبيح لكم أن تنكحوا غيرهن، مثنى وثلاث ورُباع.
ولكن قد يطرأ على التعدّد ما يجعله مندوباً، أو مكروهاً، أو محرماً، وذلك تبعاً لاعتبارات وأحوال تتعلق بالشخص الذي يريد تعدد الزوجات:
أـ فإذا كان الرجل بحاجة لزوجة أخرى: كأن كان لا تعفّه زوجة واحدة، أو كانت زوجته الأولى مريضة، أو عقيماً، وهو يرغب بالولد، وغلب على ظنه أن يقدر على العدل بينهما، كان هذا التعدد مندوباً، لأن فيه مصلحة مشروعة، وقد تزوج كثير من الصحابة رضي الله عنهم بأكثر من زوجة واحدة.
ب ـ إذا كان التعدّد لغير حاجة، وإنما لزيادة التنعّم والترفيه، وشك في قدرته على إقامة العدل بين زوجاته، فإن هذا التعدد يكون مكروهاً، لأنه لغير حاجة، ولأنه ربما لحق بسببه ضرر في الزوجات من عدم قدرته على العدل بينهنّ.(4/35)
والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " دْع ما يريبُك إلى ما لا يَريبُك "، أي دع ما تشك فيه إلى ما لا تشك فيه.
رواه الترمذي (أبواب صفة القيامة، باب: أعقلها وتوكل، رقم: 2520) عن حسن بن علي رضي الله عنهما.
ج ـ وإذا غلب على ظنه، أو تأكد أنه لا يستطيع إن تزوج أكثر من واحدة أن يعدل بينهنّ: إما لفقره، أو لضعفه، أو لعدم الوثوق من نفسه في الميل والحيف، فإن التعدد عندئذ يكون حراماً، لأن فيه إضراراً بغيره، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لا ضرر ولا ضرَارَ ".
(ابن ماجه: كتاب الأحكام، باب: من بني في حقه ما يضرّ جاره. موطأ مالك: الأقضية، باب: القضاء في المرفق).
وقال الله عز وجل: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ} [النساء: 3].
[فواحدة: أي فانكحوا واحدة فقط. ذلك أدنى أن لا تعولوا: أي أقرب إلى عدم الميل والجور، لأن أصل العول: الميل].
ويجب أن يعلم أنه لو عدّد الزوج في الحالتين الأخيرتين، وعقد على ثانية، أو ثالثة، كان العقد صحيحاً، وترتبت على آثاره: من حلّ المعاشرة، ووجوب المهر، والنفقة وغيرها، وإن كان مكروهاً في الثانية، وحراماً في الثالثة، فالحُرمة توجب الإثم، ولا تبطل العقد.
ما هو العدل المطلوب حصوله بين الزوجات؟
والعدل الذي أوجبه الإسلام على الرجل الذي يجمع بين أكثر من زوجة، إنما هو العدل والمساواة في الإنفاق، والإسكان، والمبيت، وحُسن المعاشرة، والقيام بواجبات الزوجة.
أما المحبة القلبية التي لا تولّد ظلماً عملياً لإحداهنّ فليست من(4/36)
مقوِّمات العدالة المفروض تحصيلها بين الزوجات، لأنه لا سلطان للإنسان على قلبه في موضوع المحبة، ولعلّ هذا هو الذي عناه القرآن الكريم بقوله تعالى: {وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ}. [النساء: 129]. أي لا تستطيعون أن تمسكوا بزمام قلوبكم في تحقيق المساواة في المحبة، فلا يحملنكم الميل القلبي إلى إحداهما أكثر من الأخرى على الظلم والإضرار.
أما العدل فيما ذكرنا من النفقة والإسكان، والمبيت وحُسن المعاشرة، فهذا أمر ممكن لكثير من الناس.
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول ـ بعد عدله في القسمة والمعاملة بين نسائه ـ: " اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ".
رواه أبو داود (في النكاح، باب: في القسم بين النساء، رقم: 2134) والترمذي (في النكاح، باب: التسوية بين الضرائر، رقم: 1140) وغيرهما عن عائشة رضي الله عنهما.
وذلك فيما يتعلق بأمر الحب وميل القلب، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يحب عائشة أكثر من بقية نسائه.
2 ـ الحكمة من مشروعية التعدّد.
إن الإسلام أباح تعدد الزوجات من حيث الأصل، ولم يجعله فرضاً لازماً، ولقد أباح الإسلام هذا التعدّد، لأنه يرمي إلى أهداف بعيدة الغور في الإصلاح الاجتماعي، لا يدركها إلا نافذ البصيرة. وإليك بعض هذه الحكم:
أـ ليحمي من لا يمكن أن تعفّهم زوجة واحدة، وهذا أمر فطري، فيمكن أن يجرهم ذلك إلى ما ليس بمشروع.
فخير لهم وللمجتمع أن يتزوجوا امرأة أخرى في ظل سياج من(4/37)
الرعاية، وتشريع من الحقوق الملزمة، والكرامة اللائقة، من أن يقعوا في الزنى.
ب ـ وشرعه أيضاً ليحمي المرأة من أن يلهث وراءها أصحاب الشهوات، لا بعقد يضمن ويحمي أبناءها، وإنما عن طريق المسافحة والمخادنة، مما يجعل تلك المرأة عُرضة للطرد والحرمان من كل حق، ويجعل أولادها محرومين من حقوق النسب، وعطف الأبوة.
فلأن تكون زوجة ثانية محفوظة الحقوق والكرامة خير لها ألف مرة من أن تظل أيِّما، أو تعيش خدينة أو عشيقة، مما يعرضها في النتيجة للبؤس والشقاء، وحماية المجتمع من الانحلال والفساد، والفوضى الخلقية.
مبررات تعدد الزواج:
وهناك مبررات تجعل تشريع تعدّد الزواج أمراً بادي الحكمة، واضح الفائدة، وسنضرب لذلك بعض الأمثلة:
1ـ رجل عنده نهم في النساء، وعنده امرأة عزوف عن الرجال، إما فطرة، أو لمرض.
فهل الأفضل أن يزني هذا الرجل، فيضيع الدين والمال والصحة؟ أو يبقى منطوياً على حاجته، معذباً نفسه، أو أن يتزوج امرأة أخرى، بشرط القدرة على الإعالة والعدالة، وعدم الظلم في المعاملة؟
ولا شك أن الحل الثالث هو الأفضل لهذا الرجل، وأنفع للمجتمع وأطهر.
2ـ اندلعت نار الحروب ـ والحروب أصبحت اليوم سنّة الحياة ـ فأبادت(4/38)
الكثير من الرجال، أو شوّهتهم، وأصبح عدد النساء وافراً يزيد على عدد الرجال كثيراً. فهل من الخير للنساء أن يقتصر كل رجل على زوجة واحدة، وتبقى كثرة كاثرة من النساء محرومة من عطف الرجل المُعيل، ومحرومة من إنجاب الولد الذي لا تجد غيره معيناً ومعيلاً عند كبرها، مما قد يضطرها ـ إرواء لحاجتها ـ إلى ارتكاب الإثم والفواحش؟.
أم الأفضل أن نبيح للرجل أن يضمّ إليه أكثر من زوجة في ظل رعاية شرعية كاملة؟.
إننا لا نظلم المنطق والحق في شيء إذا قلنا: إن التعدد في مثل هذه الظروف يعتبر عملاً إنسانياً تفرضه المروءة والغيرة.
ولا نخالف الواقع إذا قلنا: إن زواج الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأكثر من واحدة من نسائه كان معظمه من هذا النوع الإنساني الشريف.
لقد هاجر بعضهنّ وحيدة، وتركت أهلها، أو مات عنها زوجها شهيداً، وتركها أرملة من غير مُعيل، فخفّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى نجدتها، وضمّها إلى بيته، فكان لها خير مُعيل، وكان لها شرف أمومة المؤمنين، وفضيلة الاقتران بسيد المرسلين عليه أفضل الصلاة والتسليم. ولما حرمت أوربه المسيحية التعدّد، فماذا جنت غير الخيانات الزوجية، أو العذاب النفسي، أو الحرمان لكثير من الزواج؟
3ـ إنسان متزوج من امرأة تحبه ويحبها، لكنها عقيم لا تنجب، وهو يتوق إلى الولد، ويحنّ إليه.
فهل من الأفضل أن نحرم هذا الإنسان الزواج من ثانية، وندعه مظلوم الفؤاد محروم الولد؟
أم نأمره بأن يطلق زوجته التي يحبها، أم نبيح له الزواج بامرأة أخرى، مع حماية الأولى من الظلم؟(4/39)
إن هذا الحل هو الأفضل من كل ما سبق، فقد راعى مصالح الرجل والمرأة على السواء.
4ـ إن الشعوب التي حرمّت تعدد الزوجات وقعت بما هو أشدّ خطراً، وأكثر ضرراً من ضرر التعدّد المزعوم. لقد كثر فيهم الفساد، وانتشرت فيهم الخيانات الزوجية، والمخادنات السريّة، مما يجعل عُقلاءهم يصرخون مُطالبين بتشريع يحل التعدّد، ويقضي على تلك المفاسد المدمرة لحياتهم الاجتماعية.
تنبيه:
إن إساءة استعمال بعض الجَهَلة لحق التعدّد لا يغضّ من حكمة الإسلام، ولا يحمِّله تبعة رعونة وسفاهة أولئك الجاهلين، وسوء تصرفهم.
فالإسلام، ما أباح التعدّد ليكون سلاحاً للجرح، أو الذبح، أو سوء المعاملة، وإنما شرعة تلبية للحاجة، ووقاية للمجتمع، ورعاية للأفراد، وقضاء على الرزيلة.
لكن تلك المبررات، وبتلك الشروط الشرعية أباح الإسلام التعدّد، ولم يوجبه، وأحاطه بسياج من الضمانات الأخلاقية الحقوقية.
فالإسلام أشبه (بصيدلية) وَعَت جميع الأدوية التي تفي بحاجة الناس جميعهم، يأخذ كل فرد الدواء الذي يتفق وحاجته ومرضه، ليس معقولاً أن نقلِّل من أهمية هذه (الصيدلية) أو نقلِّص من موادها بحيث لا تفي بالحاجة العامة لجميع الأفراد، أو نُبيح جميع ما فيها لكل فرد، ولو بغير حاجة.
هذا وإذا كان أعداد الإسلام لا يعجبهم هذا التشريع، لأنه لا يتفق وأمزجتهم المنحرفة، وأذواقهم الفاسدة، وشهواتهم الرخيصة، فليموتوا بغيظهم، والله من ورائهم محيط.(4/40)
مقدمات الزواج
تمهيد:
إن سعادة الأسرة، ونجابة الأولاد، واستمرار الحياة الزوجية تتوقف على حسن اختيار كل من الزوجين للآخر، اختياراً واعياً، غير متأثر بعاطفة هوجاء، أو مصلحة مؤقتة، وإنما يكون قائما على أساس يبقى، ويقوى مع مرور الزمن؛ ولما كان عقد الزواج عقداً خطير الأثر، طويل الأمد، كثير التكاليف، كان لابدّ قبل إجراء هذا العقد من خطوات تتخذ من قِبَل كل من الخاطب والمخطوبة، حتى إذا أقدما على عقد الزواج كانا قد أقدما عليه، وقد اطمأن كل منهما إلى الصفات والمؤهلات التي تحقق أغراضه، وتطمئن نفسه إلى مستقبل ارتباطه مع زوجه.
وهذه الخطوات هي:
أولاً: البحث عن الصفات التي تطلب في كل من الزوجين.
ثانيا: رؤية المخطوبة والنظر إليها.
ثالثاً: الخطبة.
أولاً: البحث عن الصفات التي ينبغي أن تطلب في كل من الزوجين:
لقد أرشد الإسلام إلى عدة من الصفات تكون في المخطوبة، كما تكون في الخاطب، وحث على تلمسها، والبحث عنه، وهذه الصفات هي:(4/41)
1ـ الدين الصحيح والخلق القويم:
يُطلب في الزوج يُختار أن يكون ديناً، ذا خلق حسن، كما يطلب في الزوجة أن تكون دينة، وذات خلق حسن، وإلى ذلك أرشد النبي الأعظم عليه الصلاة والسلام حين قال: " إذا خطب إليكم من ترْضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض "
(رواه الترمذي في النكاح، باب: ما جاء إذا جاءكم مَن ترضون دينه فزوِّجوه، رقم: 1084)
وقال - صلى الله عليه وسلم -: " تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تَرِبَتْ يداك ".
رواه البخاري (النكاح، باب: الأكفاء في الدين، رقم: 4802) ومسلم (الرضاع، باب: استحباب نكاح ذات الدين رقم: 1466)
[تربت يداك: افتقرت، وهذه كلمة جارية على ألسنة العرب لا يريدون بها الدعاء على المخاطب، ولكن يريدون بها الحثّ والتحريض، والمراد بالدين والأخلاق: فعل الطاعات، والأعمال الصالحات، والعفّة عن المحرمات، والقيام بحقوق الزوجية].
2ـ الحكمة من تفصيل ذات الدين والخلق:
إن الحكمة من ذلك هي أن الدين يقوى على مرور الزمن، والخلق يستقيم مع توالي الأيام وتجارب الحياة.
فإذا اختار كلِّ من الزوجين الآخر لدينه وخلقه، كان ذلك أضمن لاستمرار الحب، ودوام المودّة.
ولا يُفهم مما ذكرنا أن على الإنسان أن يعزف عن الحَسَب والجمال، وإنما يجب أن يفهم أنّ هذه الصفات إذا انفردت في المخطوبة، كان الدين أفضلها، وإذا اجتمعت كانت نوراً على نور.(4/42)
3ـ النسب في كل من الزوجين:
ومعنى النسب: طيب الأصل، وكرم المنبت، ودليل ذلك ما جاء في حديث الصحيحين السابق تنكح المرأة لأربع، وذكر منها: (ولحسبها).
كذلك يسنّ في الزوج أن يكون ذا حسب، وأصل طيب، لأن ذلك أعون على استدامة الحياة الزوجية، وأقرب إلى طيب العشرة، لأن صاحب الأصل الطيب لا يصدر عنه إلا العِشْرة الكريمة، إذا أحبّ أكرم، وإذا أبغض لا يظلم.
4ـ أن لا يكون بين الزوجين قرابة قريبة:
وقد نصّ الشافعي رحمة الله تعالى على أنه لا يتزوج الرجل من عشيرتيه: أي الأقربين.
وقد علل الزنجاني ذلك بقوله: إن من مقاصد النكاح اتصال القبائل، لأجل التعاضد والمعاونة، وهذا حاصل في القرابة القريبة من غير زواج.
وقد روى: (لا تنكحوا القرابة القريبة، فإن الولد يُخلق ضاوياً) أي نحيفاً، وذلك لضعف الشهوة بين القرابة. ذكر هذا الشربيني في شرحه لمنهاج النووي.
لكن ذكر ابن الصلاح أنه لم يجد لهذا الحديث أصلاً معتمداّ، وقد ذكره ابن الأثير في كتابه [النهاية في غريب الحديث والأثر].
ولا يطعن في هذا الحكم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد زوّج فاطمة من على رضي الله عنهما، لأنه فعل ذلك لبيان الجواز، أو لأنه ليس بينهما قرابة قريبة جداً، ففاطمة هي بنت ابن عم علي، فهي بعيده عنه بالجملة.
5ـ الكفاءة:
ويقصد بالكفاءة: مساواة حال الرجل لحال المرأة اليوم في عدة وجوه:
أـ الدين والصلاح، فليس الفاسق كفؤاً لعفيفة صالحة، قال تعالى:(4/43)
{أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18].
ب ـ الحرفة، فصاحب حرفه دنيئة، ككنّاس وحجّام وراع وقيِّم حمام، ليس كفؤا لبت عالم وقاض وتاجر.
ج ـ السلامة من العيوب المثبتة للخيار في فسخ النكاح، فمَن به جنون أو برص ليس كفؤاً للسليمة منها.
والكفاءة في الزواج من حق الزوجة وأوليائها، وهي وإن لم تكن شرطاً في صحة النكاح، لكن مطلوبة ومقررة دفعاً للعار عن الزوجة وأوليائهما، وضماناً لاستقامة الحياة بين الزوجين، وذلك لأن أسلوب حياتهما، ونوع معيشتهما يكونان متقاربين، ومألوفين لهما، فلا يضطر أحدهما لتغيير مألوفة.
فللزوجة وأوليائها إسقاط حق الكفاءة، فلو زوَّجها وليها غير كفء برضاها صحّ الزواج، لأن الكفاءة حقها وحق الأولياء، فإن رضوا بإسقاطها، فلا اعتراض عليهم. ويشير إلى مراعاة الكفاءة، قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " تخيروا لنطفكم وانكحوا الأكفاءَ وانكحوا إليهم ".
رواه الحاكم (النكاح، باب: تخيروا لنطفكم .. ، رقم: 2/ 163) وصححه.
6 - البكارة:
والبكر: هي التي لم يسبق لها أن تزوجت، وقد بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - سبب اختيار الزوجة البكر، حين قال: " عليكم بالأبكارَ، فإنهنّ أعْذَُبُ أفواهاً، وأنتقُ أرحاماً، وأرضى باليسير ".
رواه ابن ماجه في (النكاح، باب: تزوج الأبكار، رقم: 1860).
[أعذب أفواهاً: ألين كلاماً، فهو كناية عن حُسن كلامها وقلّه بذائها(4/44)
وفحشها مع زوجها، لبقاء حيائها، لأنها لم تُخالط زوجاً قبله. أنتق أرحاماً: أكثر أولاداً].
وروى البخاري ومسلم واللفظ له:
عن جابر - رضي الله عنه - قال: تزوجت امرأة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: " يا جابر، تزوجت؟ قلت: نعم. قال: بكر أم ثِّيب؟ قلت: ثِّيب. قال: فهلاِّ بكراً تلاعبها؟ قلتْ: يا رسول الله: إن لي أخوات، فخشيت أن تدخل بيني وبينهنّ. قال فذاك إذاً، إن المرأة تنكح على دينها ومالها وجمالها، فعليك بذات الدين تربت يداك ".
(البخاري: النكاح، باب: تزويج الثيِّبات. ومسلم: الرضاع، باب: استحباب نكاح ذات نكاح ذات اليدين).
وكذلك يستحبّ أن يكون الزوج بكراً، لم يسبق له أن تزوج، لأن النفوس جُبِلت على الاستئناس بأول مألوف.
الولود: وتُعرف البكر الولود بأقاربها، كأختها، وعمتها، وخالتها , ويُعرف الرجل الولود أيضاً بأقربائه.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " تزوجوا الولود الودود فإني مُكاثر بكم الأمم يوم القيامة ".
رواه أحمد، وابن حبّان، والحاكم، وصحّح إسناده. (المستدرك: النكاح، باب، تزوّجوا الودود الولود: 2/ 162)
ثانياً: رؤية المخطوبة والنظر إليها:
ومن الأمور المستحبّة التي رغّب فيها الإسلام أن ينظر الخاطب إلى المخطوبة قبل الخطبة، إذا قصد نكاحها، ورجا رجاء طاهراً أن يجاب إلى طلبه، وإن لم تأذن له، أو لم تعلم بنظره، اكتفاء بإذن الشرع له، ولئلا تتزين له، فيفوت غرضه.(4/45)
وله تكرير النظر ثانياً وثالثاً إن احتاج إليه، ليتبين هيئتها، فلا يندم بعد النكاح، إذ لا يحصل الغرض غالباً بأول نظرة.
روى الأمام الترمذي وحسّنه (النكاح، باب: ما جاء في النظر إلى المخطوبة، رقم: 1087)، وابن ماجه (النكاح، باب: النظر إلى المرأة إذا أراد أن يتزوجها، رق: 1865) وغيرهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للمغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - وقد خطب امرأة ـ أي عزم على خطبتها ـ: " انظر إليها فإنه أحرى أنْ يؤدَمَ بينكما ".
ومعنى يؤدم بينكما: أن تدوم المودّة والألفة بينكما.
وروى البخاري (النكاح، باب: النظر إلى المرأة قبل التزويج، رقم: 4833)، ومسلم (النكاح، باب: الصداق وجواز كونه تعليم قرآن .. ، رقم: 1524) عن سهل بن سعد - رضي الله عنه -: أن امرأة جاءت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، جئت لأهبَ لك نفسي، فصعَّد النظر إليها وصَّوبه، ثم طأطأ رأسه.
[لأهب لك: أجعل أمري لك: تتزوجني بدون مهر، أو تزوِّجني لمن ترى. فصعد النظر إليها وصوبه: نظر إلى أعلاها وأسفلها وتأملها. طأطأ رأسه: خفض رأسه، ولم يُعد النظر إليها].
وروى مسلم (النكاح، باب: ندب النظر إلى وجه المرأة وكفّيها لمن يريد تزوجها، رقم: 1434) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتاه رجل، فأخبره أن تزوج امرأة من الأنصار فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أنظرتَ إليها؟ " قال: لا. قال: " فاذهب فانظر إليها، فإنَّ في أعين الأنصار شيئاً " أي يختلفن عن أعين غيرهنّ ربما لا يعجبك.
وعن أبي حُميد الساعدي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا خطب أحدكم امرأة فلا جُناح عليه أن ينظر منها، إذا كان إنما ينظر إليها لخطبته، وإن كانت لا تعلم ".(4/46)
رواه أحمد (5/ 424)
هذا ويحق لها أيضاً أن تراه، إذا أرادت الزواج منه، لتتبين هيئته، ولا تندم بعد النكاح، فإنها يعجبها منه ما يعجبه منها.
حدود النظر:
ولا يجوز للخاطب أن ينظر من المخطوبة إلاّ وجهها وكفّيها ظهراً وبطناً، لأنها مواضع ما يظهر من الزينة المُشار إليها، في قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31]
والحكمة من الاقتصار على الوجه والكفّين، أن الوجه يستدل به على الجمال، واليدين يستدل بهما على خصب البدن ولينه.
وإن لم يتيسر له أن ينظر إليها، أرسل امرأة تتأملها، وتصفها له.
لأنه - صلى الله عليه وسلم - بعث أم سليم إلى امرأة، وقال: " انظري عرقوبيها، وشمي عوارضها ".
رواه الحاكم (في النكاح: 2/ 166) وصححه.
[العرقرب: عصب غليظ فوق عقب الإنسان. وشمّي عوارضها: أي رائحة جسمها "
ويؤخذ من الحديث أن للمبعوث أن يصف للباعث زائداً على ما ينظره بنفسه، فيستفيد بالبعث ما لا يستفيده بنظره.
حكم نظر الأجنبي إلى المرأة:
ويحرم نظر رجل بالغ عاقل مختار ـ ولو شيخاً، أو عاجزاً، وكذلك المراهق وهو مَن قارب البلوغ ـ إلى أيّ جزء من جسم المرأة أجنبية كبيرة. والكبيرة هي من بلغت حدّاً تشتهى فيه، ولو كانت غير بالغة، ولو كان ذلك الجزء الوجه والكفّين، ولو لم تكن هناك فتنة على الصحيح في المذهب.
وكذلك يحرم على المرأة أن تنظر إلى الرجل لغير حاجة. قال الله(4/47)
تعالى:
{قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ {30} وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 3 - 31].
وروي عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كنت عند ميمونة رضي الله عنها ـ عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ إذ أقبل ابن أمّ مكتوم - رضي الله عنه - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " احتجبا منه، فقلت: يا رسول الله: أليس هو أعمى لا يبصر ولا يعرفنا؟ فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه "
رواه الترمذي (الأب، باب: ما جاء في احتجاب النساء من الرجال، رقم: 2779) وقال: حديث حسن صحيح.
هذا، وحيث حرّم النظر فيما ذكر حرّم المسّ، لأنه أبلغ منه في التلذذ وإثارة الشهوة.
أما النظر إلى الصغيرة التي لا تُشتهى، والصغير الذي هو دون المراهقة، فإنه لا يحرم النظر إلا إلى الفرج منهما. لأن النظر إليهما ليس في مظنة شهوة، فلا يحرم ذلك.
النظر إلى المحارم:
ويجوز نظر الرجل إلى محارمه من النساء إلا ما بين السرّة والركبة.
وكذلك المرأة تنظر إلى محارمها من الرجال ما عدا ما بين السرّة إلى الركبة.
متى يباح النظر إلى الأجنبية؟
واعلم أن ما تقدم من حُرمة النظر إلى المرأة الأجنبية، والمسّ لهما، إنما هو حيث لا تدعوا الحاجة إليهما، وأما إذا دعت الحاجة إلى النظر، أو المسّ، فإن ذلك يُباح، وليس فيه حرج.
والحاجة تظهر في الأمور الآتية:(4/48)
1ـ عند المداواة، لأن في التحريم حرجاً، والإسلام دين اليُسْر ورفع الحرج. قال تعالى:
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحرج: 78]. فيُنظر إلى المواضع التي يحتاج إليها.
روى مسلم (السلام، باب: لكل داء ودواء واستحباب التداوي، رقم: 2206) عن جابر - رضي الله عنه -: (أن أم سلمة رضي الله عنهما استأذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحجامة، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا طيبة أن يحجمها). فللرجل مداواة المرأة إذا كانت الضرورة تتطلب ذلك، ولم توجد امرأة تعالجها، وكذلك للمرأة مداواة الرجل إذا لم يوجد رجل يعالجه، ودعت الضرورة إلى ذلك، لكن لا يعالج الرجل المرأة إلا بحضرة مَحرَم، أو زوج، أ, امرأة ثقة.
وإذا وجد الطبيب المسلم، لا يعدل إلى غيره.
2ـ عند المعاملة من بيع وشراء، إذا كانت هناك حاجة لمعرفة تلك المرأة، ولم تعرف دون النظر إليها.
3ـ عند الشهادة تحملاً وأداء، لأن الحاجة تدعوا إلى النظر إلى المشهود عليه، أو المشهود له
4ـ عند التعليم: وذلك فيما ذكر، فإنما يُباح بقدر الحاجة فقط، لأن النظر إنما أبيح للضرورة أو الحاجة، والضرورة والحاجة تقدر بقدّر ما يرفع الحرج ويحقق الغرض.
ثالثاً: الخطبة:
فإذا تمّ الوثوق من الصفات الحسنة، وتحقق بالرؤية والنظر الرضا والرغبة، جاء دور الخطبة.(4/49)
والخطبة ـ بكسر الخاء ـ هي التماس الخاطب النكاح من جهة المخطوبة.
متى تحل الخطبة، ومتى تحرم:
1ـ تحل الخطبة تصريحاً وتعرضاً، إذا كانت المخطوبة خليَّة من نكاح، وعدة، ومن كل موانع النكاح التي مر ذكرها في المحرمات.
2ـ تحل الخطبة تعريضاً فقط لا تصريحاً، إذ كانت المرأة معتدّة من وفاة، أو طلاق بائن. قال الله تعالى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة " 235]
[لا جُناح: لا إثم ولا حرج. أكننتم: أخفيتم. لا تواعدوهنّ سرّاً: لا تعدوهن بالنكاح خفية. قولاً معروفاً: موافقاً للشرع، وهو التعريض. ولا تعزموا عقدة النكاح: لا تحققوا العزم على عقد الزواج. حتى يبلغ الكتاب أجَلَه: حتى تنقضي العدّة، وهي المدة التي فرضها الله على المعتدّة في كتابه أن لا تتزوج خلالها].
3ـ وتحرم الخطبة تعريضاً وتصريحاً فيما عدا ما ذكر، في الفقرة الأولى والثانية.
فتحرم خطبة امرأة ما تزال على عصمة زوجها. كما تحرم خطبة كل امرأة ذكرت في محرمات النكاح، سواء كانت محرمة مؤبدة أم محرمة مؤقتة.
وتحرم خطبة المرأة المعتدّة من طلاق رجعي، سواء كان ذلك بالتعريض أم بالتصريح، لأنها زوجة، أو في معنى الزوجة، لأن لزوجها الحق في مراجعتها، قال تعالى:
{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحاً ً} [البقرة: 228].(4/50)
معنى التصريح بالخطبة:
والتصريح في الخطبة معناه: كل لفظ يقطع بالرغبة في النكاح: كأُريد أن أنكحك، أو: إذا انقضت عدتك تزوجتك.
معنى التعريض بالخطبة:
والتعريض بالخطبة معناه: أن يستعمل لفظاً يحتمل الرغبة في النكاح، وعدمها، كأن يقول للمعتدّة: أنت جميلة، أو: ربّ راغب فيك، مَن يجد مثلك، أو نحو ذلك.
الخطبة على الخطبة:
وتحرم خطبة إنسان على خطبة أخيه، إذا كان قد صرح له بالإجابة، إلا بإذنه.
فإن لم يجب ولم يرد لم تحرم الخطبة.
وهذه الحرمة حرمة توجب الإثم، ولا توجب بطلان العقد، فيما إذا خطب على خطبة أخيه، وعقد عقد الزواج.
ودليل هذا التحريم: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبله، أو يأذن له الخاطب ".
رواه البخاري (النكاح، باب: لا يخطب على خطبة أخيه .. ... ، رقم: 4848)، ومسلم (النكاح، باب: تحريم الخطبة على خطبة أخيه .. ، رقم: 1412) عن ابن عمر - رضي الله عنه -
حكم الاستشارة في خاطب أو مخطوبة:
مَن استُشير في خاطب أو مخطوبة وجب عليه أن يذكر من العيوب والمساوئ ما يعرف بصدق، ليحذر، وذلك بذلاً للنصيحة، ولا يعدّ ذلك من الغيبة المحرّمة. هذا إذا احتيج إلى ذكر العيوب، أما إذا اندفع بدون ذكر ذلك، كقوله مثلاُ: هذا لا يصلح لك، أو هذه لا تصلح لك، وجب الاقتصار على ذلك. دليل هذا الحكم حديث فاطمة بنت قيس رضي الله(4/51)
عنهما عند مسلم (الطلاق، باب: المطلّقة ثلاثاً لا نفقة لها، رقم: 1480)، والترمذي (النكاح، بباب: ما جاء في أن الرجل لا يخطب على خطبة أخيه، رقم: 1135) أنها قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن معاوية بن أبي سفيان، وأبا جهم خطباني، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أما أبو جهم فلا يَضَعُ عصاه عن عاتقه، وأما معاويةُ فصعلوكّ لا مال له، انكحي أسامة بن زيد، فكرهته، ثم قال: انكحي أسامة، فنكحته، فجل الله فيه خيراً، واغتبطتْ ".
عرض الوليّ موليته على ذوي الصلاح والتقوى:
ويسن لولي المرأة التي يرغب في تزويجها أن يعرض زواجها على أهل الصلاح والتقوى، تأسياً بما فعل شعيب عليه الصلاة والسلام مع موسى - صلى الله عليه وسلم - حين عرض بنته عليه، لما عُرِف من أمانته وعفافه. قال تعالى حاكياً قصتهما:
{قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ {26} قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ {27} قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص: 26 ـ 28] .. وتأسياً أيضاً بما فعل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عندما عرض ابنته حفصة رضي الله عنها على عثمان، ثم على أبي بكر، وتزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(البخاري: النكاح، باب: عرض الإنسان ابنته أو أُخته على أهل الخير).
سنن الخطبة:
ويستحبّ للخاطب، أو وكيله، تقديم خُطبة ـ بضم الخاء ـ قبل الخطبة ـ بكسر الخاء ـ وقبل العقد، يبدؤها بحمد الله والصلاة والسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - لحديث: " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أبتر ".(4/52)
(ابن ماجه: النكاح، باب: خطبة النكاح، رقم: 1849).
ثم يوصي بتقوى الله عز وجل، ثم يظهر رغبته، فيقول: جئتكم خاطباً كريمتكم.
ويستحب أيضا لوليّ المخطوبة أن يخطب، ويقول: بعد حمد الله والصلاة والسلام على النبي وآله والوصية بقوى الله عز وجل: ليس بمرغوب عنك.
والخُطبة قبل العقد آكد من الخُطبة قبل الخِطبة، لورود ذلك عن السلف الصالح - رضي الله عنه -.
وقد تبرك الأئمة رضي الله عنهم بما روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - موقوفاً ومرفوعاً قال: إذا أراد أحدكم أن يخطب لحاجة من نكاح وغيره، فليقل: (إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلّ له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً {70} يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب: 70ـ 71]
(انظر شرح الشربيني على المنهاج: كتاب النكاح: 3/ 138).
حكم الخلوة بالمخطوبة والاختلاط بها قبل العقد:
لقد شاع وانتشر في بعض الأوساط المسلمة، البعيدة عن روح الإسلام في الزواج، أن الخاطب بمجرد أن يعلن خطبته يبدأ بالاختلاط(4/53)
بخطيبته، والخلوة بها، مدعياً أنه يفعل ذلك ليتعرف أخلاقها وطباعها، وهو مقتنع في قرارة نفسه أنه لن يستطيع أن يكشف من حقيقة أخلاقها شيئاً، لأنه كان يفكر هو بأن أمامها ـ تصنعاً ـ بأنه فارس أحلامها المنشود في كرمه، وتسامحه، وكياسته، فإنها هي أيضاً تتصنع له أكثر مما يتصنع لها، وتحاول أن تفهمه أنها هي الفتاة التي رسمها في خيالها رقة وأنوثة، وذوقاً، وأدباً وأخلاقاً وسلوكاً.
إن اختلاط الخاطب بالمخطوبة وخلوته بها قبل عقد الزواج أمر حرام لا يقره شرع الله عز وجل، ولا يرضى به. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يخلون رجل بامرأة إلا ومعهما ذو محرم ".
رواه البخاري (النكاح، باب: لا يخلون رجل بامرأة ... ، رقم: 4935) ومسلم (الحج، باب: فرض الحج والعمرة مرة في العمر، رقم: 1314).
عن ابن عباس رضي الله عنهما. والخطيبة قبل العقد تعتبر امرأة أجنبية.
إن الفتاة العاقلة هي التي تمتنع عن الظهور أما خطيبها بعد أن رآها رؤية الخطبة حتى يتم العقد، لأن من الواجب عليها أن تفكر في مستقبلها، وتحسب الحساب للعواقب التي يمكن أن تواجهها، وتفكر بأن هذا الخاطب إذا فسخ خطبته لها فلن يتقدم شاب آخر لخطبتها، وهو يعلم علاقتها بخطيبها السابق.
أما إذا تم العقد، فقد حلّت الخلوة والخلطة لأنها أصبحت زوجة له، يرى منها وترى منه ما بدا لهما، من غير إثم ولا حرج.(4/54)
أركان عقد النكاح
والتعريف بكل ركن، وبيان شروطه
للنكاح أركان خمسة: وهي:
صيغة، وزوجة، وزوج، ووليّ، وشاهدان.
الركن الأول: الصيغة:
والصيغة: هي الإيجاب من وليّ الزوجة، كقوله: زوجتك، أو: أنكحتك ابنتي.
والقبول من الزوج كقوله: تزوجت، أو نكحت ابنتك، ويصحّ تقدّم لفظ الزوج على لفظ الوليّ، لأن التقدم والتأخر سواء في إفادة المقصود.
الحكمة من تشريع الصيغة:
والحكمة: هي أنه لما كان عقد الزواج من العقود التي لا بدّ فيها من رضا العاقدين، والرضا أمر خفي لا يُطلع عليه، اعتبر الشرع الصيغة ـ وهي الإيجاب والقبول ـ دليلاً ظاهراً على الرضا في نفس كل من العاقدين.
شروط الصيغة:
ويشترط في الصيغة الشروط التالية:
1ـ أن تكون بلفظ التزويج، أو الإنكاح:
وما يشتق منهما؛ كزوّجتك وأنكحتك، وقبلت تزويجا، أو قبلت نكاحها.(4/55)
وإنما اشترط لفظ التزويج الإيجابي، وما اشتق منهما، لأنهما اللفظان الموضوعان في اللغة والشرع، للدلالة على عقد الزواج، وهما المستعملان في نصوص القرآن والسنة. ففي القرآن قال تعالى:
{فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] وقال تعالى:
{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ ... .. ... } [الأحزاب: 37]
[وطراً: حاجة، ولم تبق له رغبة فيها. أدعيائهم: الذين ادّعوا أنهم أبناؤهم وهم ليسوا كذلك].
وفي السنّة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ... . ".
(انظر دليل مشروعية النكاح).
2ـ التصريح بلفظ الزواج، أو النكاح في الإيجاب وفي القبول:
فلو قال الوليّ: زوجتك ابني، فقال الزوج: قبلت، لم ينعقد النكاح. ولو قال الزوج: زوِّجني ابنتك، فقال الوليّ: قبلت، لم ينعقد النكاح أيضاَ، لأنهما لم يصرحاً بلفظ الزواج، أو النكاح.
عقد النكاح بغير العربية:
ويصحّ عقد النكاح باللغات العجمية، وهي مساعد اللغة العربية. فلو وجد الإيجاب والقبول بلغة عجمية صح عقد النكاح، ولو كان الزواج ووليّ الزوجة يعرفان اللغة العربية، اعتباراً بالمعنى، لأن لفظ الزواج أو النكاح لا يتعلق بهما إعجاز، فاكتفي بترجمتهما.
عقد النكاح بألفاظ الكناية:
لا يصحّ عقد الزواج بألفاظ الكناية بأيّ لغة كانت.
وألفاظ الكناية: هي التي تحتمل الزواج وغيره: كأحللتك ابنتي، أو(4/56)
وهبتها لك، لأن ألفاظ الكناية تحتاج إلى النّية، والنّية محلّها القلب.
وعقد النكاح يشترط فيه الشهود، والشهود لا يطّلعون على ما في القلوب، حتى يشهدوا: إن كان العاقدان قد نويا النكاح، أو غيره.
عقد النكاح بالكتابة:
وكذلك لا ينعقد النكاح بالكتابة، سواء كان المتعاقدان حاضرين أو غائبين.
فلو كتب وليّ الزوجة إلى غائب، أو حاضر: زوجّتك ابنتي، فوصل الكتاب إلى الزوج، فقرأه، وقال: قبلت زواج ابنتك، لم يصحّ العقد، لأن الكتابة من الكناية، والنكاح لا ينعقد بالكناية.
إشارة الأخرس المفهمة:
أما إشارة الأخرس المفهمة، وهي التي لا يختص بفهم المراد منها الفطنون الأذكياء، فإنها ينعقد بها عقد النكاح لأنها تنزل منزلة اللفظ الصريح.
أما إذا كانت إشارته خفية، لا يفهمها إلا الأذكياء الفطنون، فلا ينعقد بها الزواج، لأنها عندئذ تنزل منزلة الكناية، والكناية لا ينعقد بها الزواج.
3ـ اتصال الإيجاب بالقبول:
ومن شروط الصيغة أيضا أن يتصل الإيجاب من الولي بالقبول من الزوج، فلو قال ولي الزوجة: زوّجتك ابنتي، فسكت الزوج مدة طويلة، ثم قال: قبلت زواجها، لم يصح العقد، لوجود الفاصل الطويل بين الإيجاب والقبول، مما يجعل أمر رجوع الوليّ في هذه المدة عن الزواج أمراً محتملاً، أما السكوت اليسير: كتنفس، وعطاس، فإنه لا يضرّ في صحة العقد.
4ـ بقاء أهلية العاقدين إلى أن يتم القبول:
فلو قال وليّ الزوجة: زوّجتك ابنتي ولكن قبل أن يصدر القبول من(4/57)
الزوج جنّ الولي، أو أغمي عليه، فقبل الزوج، لم يصح النكاح.
وكذلك لو قال الزوج: زوِّجني ابنتك، ثم أغمي عليه قبل أن يقول وليّ الزوجة: زوّجتك، بطل الإيجاب، ولم يصحّ العقد ولو وجد القبول، لفقدان أهليّة أحد العاقدين قبل تمام العقد.
5ـ أن تكون الصيغة منجزة:
فلا تصح إضافة عقد الزواج إلى المستقبل، ولا تعليقه على شروط.
فلو قال ولي الزوجة: إذا جاء رمضان فقد زوّجتك ابنتي، فقال الزوج: تزوجتها، لم يصح العقد.
ولو قال وليّ الزوجة: إن كانت ابنتي قد نجحت في الامتحان فقد زوّجتك إياها، فقال الزوج: قبلت زواجها، لم يصح الزواج أيضاً، لأن عقد الزواج يجب أن يكون منجزاً، تترتب عليه آثاره من حين إنشائه، فإضافته إلى المستقبل، أو تعليقه على شروط يقتضي تأخير أحكام العقد إلى المستقبل، أو إلى وجود الشرط، وهذا يُنافي مقتضى العقد.
6ـ أن تكون الصيغة مطلقة:
فلا يصحّ توقيت النكاح بمدة معلومة: كشهر، أو سنة، أو مجهولة: كقدوم غائب، فلو قال وليّ الزوجة: زوّجتك ابنتي شهراً، أو سنة، أو إلى قدوم فلان، فقال الزوج: قبلت زواجها، لم ينعقد الزواج في هذه الصور، لأن هذا من نكاح المتعة المحرّمة.
روى مسلم (النكاح، باب: نكاح المتعة وبيان أنه أُبيح ثم نسخ ... .، رقم: 1406) وغيره عن سَبْرَة الجهني - رضي الله عنه - أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " يا أيّها الناس، إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرّم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهنّ شيء فليخلِّ سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهنّ شيئاً ".(4/58)
نكاح الشغار:
لا يصحّ نكاح الشغار، وهو: أن يقول وليّ الزوجة لرجل: زوّجتك ابنتي على أن تُزوِّجني ابنتك، ويضع كل واحدة منهما صداق للأُخرى. فيقول الآخر: تزوجت ابنتك، وزوجتك ابنتي على ما ذكرت.
وسبب بطلان هذا الزواج هو تعليق زواج كلِّ من الزوجين على الأخرى، والتعليق مفسد للعقد كما سبق.
وأيضاً، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن نكاح الشغار.
روى البخاري (النكاح، باب: الشغار، رقم: 4822) ومسلم (النكاح، باب: تحريم نكاح الشغار وبطلانه، رقم: 1415) وغيرهما عن ابن عمر - رضي الله عنه -: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهي عن الشِّغار، والشغار: أن يزوّج الرجل ابنته على أن يزوجه ابنته، وليس بينهما صداق.
وسمي هذا الزواج شغاراً أخذاً من قولهم: شغر البلد من السلطان: إذا خلا عنه.
وهذا الزواج قد خلا هو أيضاً من المهر، فأشبه البلد الشاغر من السلطان.
الركن الثاني: الزوجة:
ويشترط في الزوجة ليصحّ نكاحها الشروط التالية:
1ـ خلوّها من موانع النكاح التي مر ذكرها في محرمات النكاح والخطبة.
2ـ أن تكون الزوجة معينة، فلو قال وليّ الزوجة لرجل: زوّجتك إحدى بناتي، لم يصحّ العقد، لعدم تعيين البنت التي يزوجها.
3ـ أن لا تكون الزوجة مُحْرِمَةً بحج أو عمرة.
روى مسلم (النكاح، باب: تحريم نكاح المحرم وكراهة خطبته، رقم: 1409) وغيره عن عثمان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(4/59)
" لا يُنكَح المحرم، ولا يُنكَح، ولا يَخْطب " أي لا يتزوج المحرم، ومثله المحرَمَة، ولا يزوّجه غيره امرأة محرمة، أو غير محرمة، سواء كان بولاية، أو وكالة، ولا يطلب امرأة للتزويج.
الركن الرابع: الزوج:
ويشترط فيه الشروط التالية:
1ـ أن يكون ممّن يحل للزوجة التزوّج به، وذلك بأن لا يكون من المحرمين عليها.
2ـ أن يكون الزوج معيناً، فلو قال الوليّ: زوّجت ابنتي إلى أحدكما، لم يصحّ الزواج، لعدم تعيين الزوج.
3ـ أن يكون الزوج حلالاً، أي ليس محرماً بحج أو عمرة، للحديث السابق " لا يَنْكِح المحرم، ولا يُنكَح، ولا يخطب ".
الركن الرابع: الوالي:
معنى الولاية:
الولاية في اللغة: تأتي بمعنى المحبة والنصرة. وعليه قوله تعالى:
{وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 56].
والولاية في الشرع: هي تنفيذ القول على الغير، والإشراف على شؤونه.
والمراد بالغير: القاصر والمجنون، والبالغة في ولاية الاختبار.
ويعرّفها بعضهم: بأنها تنفيذ القول على الغير، شاء أو أبى، فتشمل على هذا ولاية الإجبار.
ويسمى مَن أعطته الشريعة حق الولاية: ولياً.
قال الله تعالى: {فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ(4/60)
يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282].
حكمة مشروعية الولاية:
والحكمة من مشروعية الولاية على الصغار والقاصرين إنما هي رعاية مصالحهم، حتى لا تضيع هدراً، وحفظ حقوقهم، وتدبير شؤونهم.
وجود الولي واجب في عقد الزواج:
لابد في تزويج المرأة بالغة كانت أو صغيرة، ثيّباً كانت أو بكراً، من وليّ يلي عقد زواجها.
فلا يجوز لامرأة تُزوَّج نفسها، ولا أن تزوَّج غيرها، بإذن أو بغير إذن سواء صدر منها الإيجاب، أو القبول.
ودليل ذلك ما رواه الدارقطني (في النكاح 3/ 227) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تزوَّج المرأةُ المرأة، ولا تزوَّج نفسها " وكنا نقول: التي تزوِّج نفسها هي الفاجرة. وفي رواية: هي الزانية.
الحكمة من اشتراط الولي في زواج المرأة:
والحكمة من اشتراط الوليّ أنه لا يليق بمحاسن العادات دخول المرأة في مباشرة عقد الزواج، وذلك لما يجب أن تكون عليه من الحياء.
5ـ دليل وجوب الوليّ في عقد زواج المرأة:
واستُدل على وجوب الوليّ في عقد زواج المرأة بالقرآن الكريم، والسنّة النبوية:
أما القرآن الكريم: فقوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ... . } [البقرة: 232.
قال الشافعي رحمة الله تعالى: هذه الآية أصرح دليل على اعتبار الوليّ، إذ لو لم يكن معتبراً لما كان لعضله معنى.(4/61)
والعضل: منع المرأة من الزواج.
وأما السنّة: فما رواه ابن حبّان: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا نكاحَ إلا بَوِلّي وشاهدَيْ عدْل، وما كان من نكاح على غير ذلك فهو باطل ".
(موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان: النكاح، باب: ما جاء في الوليّ والشهود). وروى أبو داود (النكاح، باب: في الوليّ، رقم: 2085)، والترمذي (النكاح، باب: لا نكاح إلا بوليّ، رقم: 1101) عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا نِكَاح إلا بوَليّ ".
6ـ حكم الزواج بغير وليّ وما يترتب عليه:
فإذا زوجت المرأة نفسها من غير وليّ اعتبر زواجها باطلاً، ثم إن أعقب هذا الزواج دخول وجب التفريق بينهما، لبطلان العقد، ووجب للمرأة مهر المثل، سواء سمي لها في العقد مهر، أم لم يُسَمّ.
ودليل ذلك: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أيُّما امرأُة نكحت بغير إذْن وليِّها فنكاحُها باطلّ ـ ثلاثاً ـ فإن دخل بها فلها المهر بما استحلّ من فرجها، فإن تشاجروا، فالسلطانُ وليّ من لا وليَّ له).
رواه أبو داود (النكاح، باب: في والولي، رقم: 2083) وابن ماجه (النكاح، باب: لا نكاح إلا بوليّ، رقم (1881)، والترمذي (النكاح، باب: إلا بوليّ، رقم: 1102) عن عائشة رضي الله عنها.
ولا يجب على الواطئ في هذا النكاح الباطل ـ الذي تمّ بغير وليّ. حدّ الزنى، لشبهة اختلاف العلماء في صحة النكاح بغير وليّ.
والحدود تدرأ بالشبهات، لكن فيه التعزيز.
والتعزيز عقوبة دون الحدّ يقدّرها القاضي بما يراه رادعاً ومؤدباً.
7ـ الأولياء في الزواج حسب ترتيبهم:
والأولياء في الزواج هي على الترتيب الآتي:(4/62)
الأب.
ثم الجد أبو الأب.
ثم الأخ الشقيق.
ثم الأخ من الأب.
ثم ابن الأخ الشقيق.
ثم ابن الأخ من الأب.
ثم العم الشقيق.
ثم العم من الأب.
ثم ابن العم الشقيق.
ثم ابن العم من الأب.
وهكذا سائر العصبات، فإن عُدمت العصبات فالقاضي، لما سبق من قوله - صلى الله عليه وسلم -:
" فالسلطان وليّ من لا وليّ له ".
8ـ ولاية الابن في الزواج:
هذا ولا ولاية للابن، ولا لابن الابن في الزواج، فلا يزوج ابن أمه بولاية البنوة، لأنها لا مشاركة بينه وبينها في النسب، إذ انتسابها إلى أبيها، وانتساب الابن إلى أبيه. إلا أن يكون من أبناء العمومة لأُمه، فإن كان ابن ابن عمّها، ولم يوجد وليّ أقرب منها جاز له أن يزوِّجها.
9ـ شروط الولي:
ويشترط في الوليّ، أبا كان أو غيره، الشروط التالية:
أـ الإسلام:
فلا يزوّج الكافر المسلمة، لأنه لا ولاية لكافر على مسلم. قال الله تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 1401].
ولأن ولاية الزوج مبنية على التعصب في الإرث، ولا توارث بين مسلم وكافر.(4/63)
ويزوج كافر كافرة، ولو اختلف اعتقادها، فيزوج اليهودي نصرانية، والنصراني يهودية، لأن الكفر كله ملة واحدة. قال الله تعالى: {وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} [الأنفال: 73].
ب ـ العدالة:
والمقصود بالعدالة: عدم ارتكاب الكبائر من الذنوب، وعدم الإصرار على الصغائر، وعدم فعل ما يخلّ بالمروءة: كالبول في الطرقات، والمشي حافيا، وغير ذلك.
فلا يُزوّج الفاسق مؤمنة، بل ينتقل حق تزويجها إلى الوليّ الذي يليه، إن كان عدلاً.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا نكاحَ إلا بوَليّ مُرْشِد " رواه الشافعي في مسنده بسند صحيح.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى: المراد بالمرشد في الحديث: العدل.
ولأن الفسق نقص يقدح في الشهادة، فيمنع الولاية في الزواج.
وفي قول: لا تشترط العدالة في الزواج، لأن الولاية في الزواج مبنية على التعصب، والعصبة تحمله وفرة الشفقة على تحرّي مصلحة موليته، وهذه الشفقة لا تختلف بين العدل وغيره.
ولأن اشتراط العدالة قد يؤدي إلى حرج كبير لقلّة العدول، ولاسيما في هذه الأيام، ولم يعرف أن الفسقة كانوا يُمنعون من تزويج بناتهم في أيّ عصر من العصور.
ج ـ البلوغ:
فلا ولاية لصبي على غيره من الزواج، لأنه لا ولاية له على نفسه، فلا ولاية له على غيره من باب أولى.(4/64)
د ـ العقل:
فلا ولاية لمجنون، لأنه لا ولاية له على نفسه، فأولى أن لا يكون له ولاية على غيره
هـ ـ السلامة من الآفاق المُخلّة بالنظر:
فلا ولاية لمختلِّ النظر بسبب هرم، أو خبل، لعجز هؤلاء عن اختيار الأكفّاء، فإن كان مريضاً يغمى عليه انتظرت إفاقته، لأن الإغماء قريب الزوال كالنوم.
وـ أن لا يكون محجوراً عليه بسفه:
والمحجور عليه بسفه: هو الذي يبذر ماله، لأن السفيه لا ولاية له على نفسه، فأولى أن لا يكون له ولاية على غيره.
زـ أن يكون حلالاً:
فلا يزوّج المُحْرمُ بحج أو عمرة غيره، وهو محرم، لما سبق من قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا ينكح المحرم ولا ينكح ".
رواه مسلم (النكاح، باب: تحريم نكاح المحرم وكراهة خطبته، رقم: 1409).
تنبيه:
إذا فقدت هذه الشروط التي ذكرت في وليّ قريب من الأولياء، انتقل حق الولاية إلى الوليّ الذي يليه، ممّن توفرت فيه شروط الولاية كاملة، إلا المُحرم، فإنه لا تنتقل الولاية عنه إلى الأبعد منه، لأن الإحرام لا يسلب الولاية، لبقاء الرشد والنظر، وإنما يمنع النكاح، ولكن ينتقل حق التزويج إلى السلطان عند إحرام الوليّ القريب.
10ـ أقسام الولاية:
تنقسم الولاية في الزواج إلى قسمين:
الأول: ولاية إجبار.
والثاني: ولاية اختيار.(4/65)
ولاية الأَجبار:
وولاية الإجبار ثابتة للأب، والجد أبي فقط، ولا ولاية إجبار لغيرهما.
وولاية الإجبار إنما تكون في تزويج البنت البكر، صغيرة كانت أو كبيرة، عاقلة أو مجنونة.
فلأبيها ـ وكذلك لجدها أبي أبيها ـ أن يزوِّجها بغير إذنها ورضاها، لأنه أدرى بمصلحتها، ولوفرة شفقته عليها لا يختار لها إلا ما فيه مصلحة لها.
واحتجّوا لهذا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " الأيّم أحقّ بنفسها من وليِّها ... " وسيأتي بعد قليل ـ فإنه يدل بمفهومه أن البكر وليّها أحق بها من نفسها، لأن الأيم هي الثيب، وهي غير البكر.
لكن شرطوا لصحة هذا الإجبار ثلاثة شروط:
أـ أن لا يكون بينه وبينها عداوة ظاهرة.
ب ـ أن يكون الزوج كفؤاً.
ج ـ أن يكون الزوج موسراً بمعجل المهر.
الترغيب في استئذان البكر في الزواج:
إذا قلنا إن ولاية الأب ـ ومثله أبو الأب ـ هي ولاية إجبار، فليس معنى ذلك أن الأفضل أن يجبرها على الزواج، ويمهل رأيها، بل الأفضل والمستحب أن يستأذنها في تزويجها، تقديراً لها، وتطبيقاً لقلبها.
ودليل ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا تٌُنْكحٌ الأيم حتى تستأمر، ولا تنكحُ البكرُ حتى تستأذنُ، قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنُها؟ قال: أن تسكُت ".
رواه مسلم (النكاح، باب: استئذان الثّيب في النكاح بالنطق والبكر بالسكوت، رقم: 1419) والترمذي (النكاح، باب: ما جاء في استئذان البكر والثيب، رقم: 2107) وروى مسلم (النكاح، باب استئذان الثّيب(4/66)
في النكاح بالنطق والبكر بالسكوت، رقم: 1421) عن ابن عباس - رضي الله عنه -: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكرُ تستأذنُ في نفسها، وإذنُها صُماتُها ". ورواه الترمذي أيضاً (النكاح، باب: ما جاء في استئذان البكر والثيّب، رقم: 1108).
[والأيّم في الحديثين: هي الثيّب].
والحديثان محمولان على الندب في حق البكر.
ولاية الاختيار:
ولاية الاختيار: فهي ثابتة لكل الأولياء الذين ذكرناهم، وعلى الترتيب الذي قدّمناه.
وولاية الاختيار إنما تكون في تزويج المرأة الثيب، فلا يصح تزويجها من قبل أي من أوليائها ـ ولو كان أباً ـ إلا بإذنها ورضاها.
ودليل ذلك حديث مسلم والترمذي السابق: (لا تنكح الأيم حتى تستأمر).
وحديث مسلم والترمذي أيضاً: (الأيم أحق بنفسها من وليها).
والثيِّب: هي التي زالت بكارتها بوطء حلال أو حرام، ولا بمرض أو سقطة، أو غير ذلك.
الحكمة من استئمار الثِّيب:
والحكمة من استئمار الثيب، وعدم تزويجها إلا برضاها هي أنها عرفت مقصود النكاح، فلا يجبر عليه، ولأنها لممارستها الزواج لا تستحي من التصريح به، بخلاف البكر فإنها تستحي من التصريح به.
تزويج الثيب الصغيرة:
الثَّيب الصغيرة التي هي دون البلوغ، لا يجوز لأبيها، ولا لأي ولي من(4/67)
أوليائها تزويجها حتى تبلغ، لأن إذن الصغيرة غير معتبر، فامتنع تزويجها حتى تبلغ، فيكون إذنها معتبراً.
عضل الولّي:
العضل: منع المرأة من الزواج.
فإذا طلبت امرأة بالغة عاقلة الزواج من كفء، وجب علي وليِّها أن يزوجها، فإذا امتنع الولي ـ ولو أبا ـ من تزويجها، زوّجها السلطان، لأن تزويجها حق على أوليائها إذا طلبها الكفؤ، فإذا امتنعوا من وفاته لها، وفّاه الحاكم.
ودليل ... ذلك: ما رواه أبو داود (النكاح، باب: في الولي، رقم 2038)، والترمذي (النكاح، باب: ما جاء لا نكاح إلا بولي، رقم 1102) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " السلطان ولي من لا ولي له ".
لكن إذا عيّنت هو كفؤاً، وعّين الولي كفؤاً غيره، كان له أن يمنعها من الكفء الذي عيّنته، ويزوجها من الكفء الذي عيّنه، إذا كانت بكراً، لأنه أكمل نظراً منها.
غيبة الولّي:
إذا تعدد الأولياء، وغاب الوليّ الأقرب، فإن كان مكان غيبته بعيداً ـ مرحلتين فأكثر، والمرحلتان مسيرة يوم وليلة ـ فإنه لا ينتقل حق الولاية إلى الولي الأبعد منه، وإنما يزوجها سلطان بلده، لأن الغائب وليّ، والتزويج حق له، فإن تعذر استيفاء حق الزوجة منه لغيبته، ناب عنه الحاكم.
أما إذا كان مكان غيبته قريباً ـ أي أقل من مرحلتين ـ فلا يزوج السلطان إلا بإذنه، لقصر المسافة، وإمكان مراجعته، فإما أن يحضر، أو يوكِّل، كما لو كان مقيماً.
اجتماع أولياء في درجة واحدة.
إذا اجتمع أولياء المرأة وكانوا في درجة واحدة من النسب، كإخوة(4/68)
أشقاء أو لأب، استحب أن يزوِّجها أفقههم بباب النكاح، لأنه أعلم بشرائطه.
وبعده يزوجها أورعهم، لأنه أشق وأحرص على طلب الأغبط لها.
ثم أسنّهم لزيادة تجربته.
ويزوَّجها كل واحد من هؤلاء برضا الآخرين، لتجتمع الآراء، ولا بتشوش بعضهم باستئثار بعض بالعقد. فإن اختلف الأولياء، وقال كل واحد منهم أنا أزوِّج، أقرع بينهم وجوباً قطعاً للنزاع، فمن خرجت قرعته زوَّجها.
فلو زوجها المفضول، أو غير مَن خرجت قرعته، وكانت قد أذنت لكل منهم أن يزوجها، صح تزويجه لها للإذن فيه، أما لو كانت أذنت لواحد منهم، فزوّجها غيره، فإنه لا يصحّ لعدم إذنها ورضاها.
فقدان الأولياء:
إذا انعدم الأولياء انتقلت الولاية إلى القاضي، لأنه منصوب لتحقيق مصالح المسلمين.
وفي تزويج مَن لا ولي لها مصلحة يجب تحقيقها، وقد تقدم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " السلطان ولي من لا ولي له ".
رواه الترمذي (النكاح، باب: ما جاء لا نكاح إلا بولي، رقم: 1102).
الوكالة في الزواج:
يصحّ للوليّ المجبرـ وهو الأب والجد أبو الأب ـ في تزويج البكر، التوكيل في تزويجها بغير إذنها.
ولا يشترط في صحة هذه الوكالة أن يعين الولي للوكيل الزوج، لأن الولي يملك التعيين في التوكيل، فيملك الإطلاق به، وإذا أطلق الولي الوكالة، وجب على الوكيل أن يحتاط لمصلحة الزوجة، فلا يزوِّجها من غير(4/69)
كفء، لأن التوكل عند الإطلاق يحمل على الكفء.
أما غير المجبر من الأولياء ـ وهو غير الأب والجد أبي الأب ـ فلا يجوز له التوكيل في التزويج إلا بإذن المرأة، لأنه لا يملك تزويجها بغير إذنها، فأولى أن لا يملك أن يوكل من يزوّجها بغير إذنها.
الركن الخامس: الشاهدان:
تمهيد:
إن عقد الزواج، وإن كان كغيره من العقود التي يشترط فيها الرضا والإيجاب والقبول، لكن الإسلام أحاط هذا العقد بهالة من التعظيم والتفخيم، وطبعه بطابع ديني، وصبغه صبغة تعبدية، فجعل الإقدام عليه طاعة لله عز وجل، وقربة من القربات التي يثاب عليها.
ولما كان لعقد النكاح نتائج خطيرة تترتب عليه ـ من حل المعاشرة بين الزوجين، ووجوب المهر والنفقة، وثبوت نسب الأولاد، واستحقاق الإرث، ووجوب المتابعة، ولزوم الطاعة، وكانت هذه النتائج عرضة للجحود والكنود من كل من الزوجين ـ احتاط الدين لها، وأوجب حضور شاهدين ـ على الأقل ـ يشهدان عقد الزواج، وشرط فيهما شروطاً تجعلهما مكان الثقة والاطمئنان لإثبات تلك النتائج، إذا ما دعت الحاجة إلى شهادتهما، فيما إذا دبّ شقاق بين الزوجين، أو تنكر منهما أحد لحقوق هذا العقد ونتائجه.
دليل وجوب الشاهدين في عقد النكاح:
والدليل على وجوب شاهدين في عقد النكاح قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل، وما كان غير ذلك فهو باطل ".
رواه ابن حبان في صحيحه. انظر موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان (النكاح، باب: ما جاء في الولي والشهود، رقم: 1247).
شروط الشاهدين:
يشترط في الشاهدين الشروط التالية:(4/70)
أـ الإسلام:
فلا يصح عقد النساء بشهادة غير المسلمين، لأن لعقد الزواج اعتباراً دينياً، فلابدّ أن يشهده من يدين بدين الإسلام، ولأن غير المسلم لا يوفّق بشهادته على المسلمين.
أضف إلى ذلك أن الشهادة ولاية، فلا تقبل شهادة غير المسلم على المسلم، لأنه لا ولاية له عليه. قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} [التوبة: 71] وقال تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141].
ب ـ الذكورة:
فلا ينعقد عقد الزواج بشهادة النساء، ولا برجل وامرأتين. قال الزهري رحمه الله:
(مضت السنّة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -: أنه لا تجوز شهادة النساء في الحدود، والنكاح والطلاق) والزهري تابعي، ومثل هذا القول من التابعي في حكم الحديث المرفوع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما قرره العلماء.
ج ـ العقل والبلوغ:
فلا ينعقد عقد الزواج بحضور المجانين والصبيان فحسب، لأن عقد الزواج له مكانته الخطيرة، فالاقتصار على حضور المجانين والصبيان استخفاف به.
د ـ العدالة ولو ظاهراً:
يجب أن يكون الشاهدان عدلين، ولو من حيث الظاهر، أي بأن يكونا مستوري الحال، غير ظاهري الفسق.
فلا ينعقد الزواج بشهادة الفاسقين المُجاهرين بفسقهم لعدم الوثوق بشهادتهم.
هـ ـ السمع:
فلا ينعقد الزواج بشهادة أصمّين، أو نائمين، لأن الغرض من الشهادة(4/71)
لا يتحقق بأمثالها، ولأن المشهود عليه قول، فلابدّ من سماعه.
وـ البصر:
فلا ينعقد بشهادة العميان، لأن الأقوال لا تثبت إلا بالمعاينة والسماع.
الإشهاد على رضا الزوجة:
يستحبّ الإشهاد على رضا الزوجة بعقد النكاح، وذلك بأن يسمع شاهدان ـ الشروط المذكورة في شروط الشاهدين ـ إذنَ المرأة ورضاها: بأن تقول: رضيت بهذا العقد، أو أذنت فيه، وذلك احتياطاً، ليؤمن إنكارها بعد ذلك.
إعفاف الأب أو الجد:
يجب على الولد، سواء كان ذكراً أم أنثى، مسلماً أم كافراً، إعفاف الأب، ومثله الجد، سواء كان من جهة الأب، أو من جهة الأم، وسواء كان مسلماً أم كافراً: وذلك بأن يعطيه مهر امرأة حرّة، أو يقول له: تزوج وأنا أُعطيك المهر.
لكن يشترط لوجوب ذلك على الولد ثلاثة شروط:
أـ أن يكون الولد موسراً بالمهر.
ب ـ أن يكون الأب ـ ومثله الجد ـ معسراً بالمهر.
ج ـ أن يكون الأب، أو الجد محتاجاً إلى الزواج، وذلك بأن كانت نفسه تتوق إليه.
ووجهه: أن هذا الإعفاف للأب ـ أو الجد ـ من وجوه حاجاته المهمة: كالنفقة والكسوة.
ولئلا يعرّضه للزنى المفضي إلى الهلاك، وذلك لا يليق بحرمة الأبوة، وليس هو من وجوه المصاحبة بالمعروف، المأمور بها بقوله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً}
[لقمان: 15].(4/72)
أنكحة الكفار:
نكاح الكفار فيما بينهم صحيح، ودليل ذلك حديث غيلان وغيره، ممّن أسلم وعنده أكثر من أربعة نسوة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يمسك أربعاً ويفارق سائرهنّ.
فلم يسأله - صلى الله عليه وسلم - عن شرائط نكاحهنّ، فلا يجب البحث عن ذلك.
ولو ترافعوا إلينا لم نبطل أنكحتهم، ولو أسلموا أقررنا نكاحهم.
إسلام الكفّار بعد زواجهم:
إذا كان الرجل كافراً، وكان عنده امرأة كافرة، فأسلما معاً، دام نكاحهما. وذلك لأن الفرقة إنما تقع باختلاف الدين، ولم يختلف دينهما في الكفر ولا في الإسلام.
روى الترمذي (النكاح، باب: ما جاء في الزوجين المشركين يسلم أحدهما، رقم: 1144)، وأبو داود (الطلاق، باب: إذا أسلم أحد الزوجين، رقم: 2283) عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رجلاً جاء مسلماً على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم جاءت امرأته مسلمة، فقال: يا رسول الله، إنها كانت أسلمت معي فرُدَّها عليّ، فردها عليه.
أما إذا أسلم هو، وأصرّت هي على الكفر:
فإن كانت الزوجة كتابية دام نكاحه لها، لجواز نكاح المسلم الكتابية.
وإن كانت وثنية، أو ملحدة، ولم تسلم أثناء عدّتها، تنجزت الفرقة بينهما من حين إسلام زوجها.
أما إذا أسلمت في العدّة، فإنه يبقى النكاح بينهما.
ولو أسلمت المرأة، وأصرّ الزوج على الكفر، فإنه يفرّق بينهما من حين إسلامها، إلا أن يسلم، وهي ما تزال في العدّة، فإنها ترُدّ إليه بنفس النكاح السابق.(4/73)
أما إن عاد وأسلم بعد انقضاء عدّتها، فإنها لا ترجع إليه إلا بعقد جديد.
روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ردّ بنته زينب على أبي العاص بن الربيع بمهر جديد ونكاح جديد.
أخرجه الترمذي (النكاح، باب: ما جاء في الزوجين المشركين يسلم أحدهما، رقم: 1142).
قال الترمذي: هذا حديث في إسناده مقال، والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم: أن المرأة إذا أسلمت قبل زوجها ثم أسلم ز وجها وهي في العدّة، أن زوجها أحقّ بها ما كانت في العدّة.(4/74)
الصَّدَاق
أحكامه ـ المغالاة في المهور
تعريف الصداق:
الصداق هو المال الذي وجب على الزوج دفعه لزوجته بسبب عقد النكاح.
وسمي صداقاً، لإشعاره بصدق رغبة باذله في النكاح.
أحكام الصداق:
للصداق عدة أحكام نذكرها فيما يلي:
أـ حكمه:
الصداق واجب على الزوج بمجرد تمام عقد الزواج، سواء سمي في العقد بمقدار معين من المال: كألف ليرة سورية مثلاُ، أو لم يسمِّ، حتى لو اتفق على نفيه، أو عدم تسميته، فالاتفاق باطل، والمهر لازم.
ب ـ دليل وجوبه:
ودليل وجوب الصداق القرآن، والسنّة، والإجماع.
أما القرآن: فقوله تعالى: {وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] أي عطية، والمخاطب بذلك هم الأزواج. وقوله عزّ وجلّ: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء: 24] أي مهورهن. وقال تعالى: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236] أي تعينوا لهن مهراً.(4/75)
وأما السنّة: فما رواه البخاري (فضائل القرآن، باب: خيركم مَن تعلم القرآن وعلمه، رقم: 4741)، ومسلم (النكاح، باب: الصداق وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد وغير ذلك من قليل وكثير واستحباب كونه خمسمائة درهم لمن لا يجحف به، رقم: 1425) عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قالت: " ما لي في النساء من حاجة " فقال رجل: زوِّجنيها، قال: " أعطها ثوباً " قال: لا أجدْ. قال: " أعطها ولو خاتماً من حديد "، فاعْتَلَّ له. فقال: " ما معك من القرآن؟ " قال: كذا وكذا. قال: " فقد زوَّجتُكَها بما معك من القرآن. "
[وهبت نفسها: جعلت له أمرها. فاعتلّ له: تعلل أنه لا يجده].
وأما الإجماع: فقد اتفقت كلمة العلماء على وجوبه من غير نكير من أحد.
ج ـ حكمة تشريع الصداق:
والحكمة من تشريع المهر إنما هي إظهار صدق رغبة الزوج في معاشرة زوجته معاشرة شريفة، وبناءً على حياة زوجية كريمة.
كما أنه فيه تمكين للمرأة من أن تتهيأ للزواج بما تحتاجه من لباس، ونفقات.
وإنما جعل الإسلام الصداق على الزوج، رغبة منه في صيانة المرأة، من أن تمتهن كرامتها في سبيل جمع المال، الذي تقدمه مهراً للرجل.
د ـ تسمية الصداق في العقد:
يسنّ تسمية المهر ـ أي تحديد مقداره ـ في عقد الزواج، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يُخلِ نكاحاً من تسمية المهر فيه، ولأن في تسميه دفعاً للخصومة بين الزوجين.
وإنما لم يحملوا فعله - صلى الله عليه وسلم - على الوجوب، للاجتماع على جواز إخلاء(4/76)
عقد الزواج من تسمية المهر، وإن كان مع الكراهة، لمخالفة فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -.
هـ ـ ملكية المهر:
والمهر ملك الزوجة وحدها، لا حق لأحد فيه من أوليائها، وإن كان لهم حق قبضه، لكنهم يقبضونه لحسابهم وملكها. قال الله تعالى: {فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} [النساء: 20] وقال عز وجل: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً} [النساء: 4].
وـ حدّ المهر:
لا حدّ لأقل المهر، ولا لأكثره، فكلّ ما صحّ عليه اسم المال، أو كان مقابلاً بمال، جاز أن يكون مهراً، قليلاً كان أو كثيراً، عيناً أو ديناً، أو منفعة: كسجادة، أو ألف ليرة، أو سكنى دار، أو تعليم حرفة.
ودليل ذلك قول الله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم ... } [النساء: 24].
فإنه أطلق المال، ولم يقدره بحدّ معين.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: " أعطها ولو خاتماً من حَديد ".
رواه البخاري (فضائل القرآن، باب: خيركم مَن تعلم القرآن وعلمه، رقم: 4741)، ومسلم (النكاح، باب: الصداق وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد وغير ذلك من قليل وكثير واستحباب كونه خمسمائة درهم لمن لا يجحف به، رقم: 1425)، وروى الترمذي
(النكاح، باب: ما جاء في مهور النساء، رقم: 113) عن عامر بن ربيعة - رضي الله عنه -: " أرضيت من نفسك ومالك بنعلين "؟ قالت: نعم، فأجازه. وقال تعالى: {وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاًً} [النساء: 20]. فقد(4/77)
أباح أن يقدم الزوج لزوجته قنطاراً. والقنطار: المال الكثير فدلّ على أنه لا حدّ للمهر في الكثرة.
لكن يستحب أن لا يقل المهر عن عشرة دراهم، خروجاً من خلاف من أوجب ذلك، وهم الحنفية.
وكذلك يستحب أن لا يزيد عن خمسمائة درهم، لأنه الوارد في مهور بناته وزوجاته، عليه الصلاة والسلام.
روى أحمد وأصحاب السنن ـ وصححه الترمذي (النكاح، باب: ما جاء في مهور النساء، رقم: 1114) ـ عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: (لا تغلوا صدق النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا، أو تقوى في الآخرة، لكان أولاكم بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ما أصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة من نسائه، ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من ثني عشرة أوقية).
والأوقية: أربعون درهماً، فيكون مجموع المهر: أربعمائة وثمانين درهماً. وهذا المقدار يساوي نصابين ونصف للزكاة تقريباً كما هو معلوم في نصاب الزكاة الذي تجب فيه الزكاة من الفضة، وذلك يختلف حسب نقد البلد وتقويم هذا المقدار من الفضة.
ز ـ تعجيل المهر وتأجيله:
لا يشترط تعجيل المهر، بل يصحّ تعجيله كله قبل الدخول، ويصحّ تأجيله كله، أو تأجيل بعضه إلى ما بعد الدخول، ولكن يشترط أن يكون الأجل محدداً، وذلك لأن المهر ملْك الزوجة، فلها الحق في تعجيل وتأجيل ما شاءت منه.
وإذا كان المهر معجّلاً، كان للزوجة الحق في حبس نفسها عن زوجها حتى تقبض معجّل مهرها.
أما إذا كان المهر مؤجلاً، فلا حق لها في حبس نفسها عن زوجها، لأنها رضيت بالتأجيل، فسقط حقها في حبس نفسها.(4/78)
ح ـ استقرار المهر، أو نصفه، وسقوطه:
تبين مما ذكرنا سابقاً أن المهر يجب للزوجة على لزوج بالعقد الصحيح.
وسنذكر الآن الحالات التي يستقر بها المهر على الزوج كله، أو نصفه، والحالات التي يسقط فيها المهر:
1ـ استقرار كل المهر:
ويستقر المهر كله في حالتين:
الأولى: فيما دخل الزوج بزوجته، سواء كان ذلك الدخول في حال حل: كما إذا كانت المرأة طاهرة من حيض، أو كان في حال حُرمه: كما إذا كانت حائضاً. فإذا دخل بها لزمه المهر كله، لأنه استوفى المعقود عليه وهو الاستمتاع، فلزمه العَوَض.
دلّ على ذلك قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً}
[النساء: 24] والمراد بالاستمتاع هنا الدخول والتلذّذ بالجماع، والمراد بالأجور المهور، وسمي المهر أجراً لأنه استحقّ بمقابل المنفعة، وهي ما ذكر من التلذّذ والاستمتاع.
وروى مالك في الموطأ (النكاح، باب: ما جاء في الصداق والحياء: 2/ 526) عن عمر - رضي الله عنه -: (أيُّما رجل تزوج امرأة ... . فمسَّها فلها صداقها كاملاً). فمسّها أي دخل بها ووطئها.
الثانية: موت أحد الزوجين، سواء حصل الموت قبل الدخول، أو بعده.
ودليل ذلك إجماع الصحابة رضي الله عنهم.
2ـاستقرار نصف المهر:
ويستقر على الزوج نصف مهر زوجته في حالة واحدة، وهي:(4/79)
ما إذا طلقها بعد عقد صحيح، سمي المهر فيه تسمية صحيحة، وكان هذا الطلاق قبل أن يدخل بها.
ودليل هذا الحكم قول الله عزّ وجلّ: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237].
ومعنى من قبل أن تمسُّوهن: أي من قبل أن تدخلوا بهنّ. ومعنى فرضتم: أي سمّيتم لهن مهراً.
3ـ سقوط المهر كله:
ويسقط المهر كله عن الزوج إذا فارقت الزوجة زوجها قبل الدخول بها، وكان هذا الفراق ناشئاً بسبب منها، كما إذا أسلمت، فانفسخ النكاح، أو ارتدّت، أو فسخت النكاح لعيب في الزوج، أو فسخ الزوج النكاح لعيب فيه، فإنه يسقط المهر في هذه الحالات كلها، لأنها هي السبب في هذه الفرقة، وهي المختارة لها، فكأنها أتلفت المعوّض قبل التسليم، فسقط العوَض.
والمعرض: هنا: هو تمكينها زوجها من نفسها. والعوض: هو المهر.
ط ـ مهر المثل:
تعريف مهر المثل:
ومهر المثل: هو المال الذي يطلب في الزواج لمثل الزوجة عادة.
تقديره:
ويقدّر مهر المثل بالنظر لأقرباء المرأة بالنسب من جهة أبيها.
فيراعي في المرأة المطلوب مهر مثلها أقرب مَن تنتسب إليه من نساء العصبة.
وأقربهنّ: أخت لأبوين، ثم لأب، ثم بنات أخ، ثم عمّات.
كما يراعى كونهنّ مساويات لها في الصفات التي سيأتي ذكرها.(4/80)
فإن فقدَ نساء العصبة، أو لم ينكحن، اعتبر مهر الأقرب فالأقرب من أرحامها، وهنّ أقرباؤها من جهة أمها، كأم، وجدّة، وخالة، وبنات أخوات، لأنهنّ أولى من الأجنبيات.
فإن فقدت القريبات من جهة الأم أعتبر مثلها من الأجنبيات في بلدها، ممّن يساويها في الصفات الآتية.
الصفات المعتبرة في تقدير مهر المثل:
ثم يعتبر في تقدير مهر المثل مع النسب المساواة في الصفات التالية:
السن، والعقل، والجمال، واليسار، والعفّة، والدين، والتقوى، والعلم، والبكارة، والثيوبة، وكل ما اختلف به غرض صحيح، لأن المهور تختلف باختلاف هذه الصفات.
دليل مشروعية مهر المثل:
ويستدل لثبوت مهر المثل وتقريره: بما رواه أبو داود (النكاح، باب: فيمن تزوج ولم يسمِّ صداقاً حتى مات، رقم: 2114)، والترمذي (النكاح، باب: ما جاء في الرجل يتزوج المرأة فيموت عنه قبل أن يفرض لها، رقم: 1145) بسند حسن صحيح، وغيرهما: عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه سئل عن رجل تزوج امرأة، ولم يفرض لها مثل صداقاً ولم نسائها، ولا وَكْسَ، ولا شَطَطَ، وعليها العدَّةُ، ولها الميراثُ، فقام معقل بن منّا، مثل الذي قضيتَ، ففرح بها ابن مسعود - رضي الله عنه -.
موجبات مهر المثل:
ويجب مهر المثل للأسباب التالية:
أـ إذا كان عقد النكاح فاسداً، وذلك كأن فَقَدَ العقد شرطاً من شروط صحته، كأن تزوجت من غير شهود، أو من غير وليّ. ثم تبع ذلك(4/81)
العقد الفاسد دخول بالزوجة. فإنه يجب لها مهر المثل، لفساد العقد والمسمى، مع وجوب التفريق بينهما.
ويقدّر مهر المثل وقت الدخول بها، لا وقت العقد عليها، لأن العقد الفاسد لا اعتبار له
ب ـ إذا فسخ المهر بسبب الخلاف بين الزوجين في تسميته، أو مقداره. فإذا اختلف الزوج والزوجة في تسمية المهر، فقالت الزوجة: سمّيت لي مهراً في العقد، وقال الزوج: لم أسَم مهراً، حلفت الزوجة على ما تدّعي، وحلف الزوج على ما يدّعي، ثم يفسخ المهر، ويجب مهر المثل.
كذلك إذا اختلفا في مقدار المهر، فقالت الزوجة: إن ألفان، وقال الزوج: إنه ألف، فإنهما يتحالفان، ويفسخ المهر، ويجب مهر المثل.
ج ـ إذا سمي المهر تسمية فاسدة:
ويكون فساد في مسائل نذكر منها ما يلي:
المسألة الأولى: أن يكون المهر المسمى غير مال شرعاً: كخمر، وخنزير، وآلة لهو، ونحو ذلك مما لا يُعدّ مالاً في عُرف الشرع، لأن الشرع أوجب أن يكون المهر مالاً، أو مقابلاً بمال، وهذه ليست مالاً شرعاً.
المسألة الثانية: أن يكون المال الذي سمّاه مهراً غير مملوك له: كأن أصدقها سجادة مغصوبة
المسألة الثالثة: أن ينكح امرأتين أو أكثر بمهر واحد، فإن النكاح صحيح، والمهر فاسد، ويجب مهر المثل لكل واحدة، للجهل بما يخصّ كل واحدة من المهر عند العقد.(4/82)
المسألة الرابعة: أن يزوّج الوليّ صغيراً بأكثر من مهر المثل من مال الصبي، أو أن يزوّج صغيرة، أو بكراً كبيرة بغير إذنها بأقل من مهل المثل، فإن المهر يفسد في ذلك، ويجب مهر المثل، لأن الوليّ مأمور بفعل ما فيه المصلحة لهما، والمصلحة منتقية هنا.
المسألة الخامسة: المفّوضة: وهي أن تقول امرأة رشيدة ـ بكراً كانت أو ثيباً ـ لوليّها: زوِّجني بلا مهر، فزوجها وليها ونفي المهر، أو زوجها وسكت عن المهر، فإنه يجب لها مهر المثل، ولكن لا بنفس العقد، وإنما بالدخول بها، لأن الدخول بها لا يُباح بالإباحة، لما فيه من حق الله عز وجل، ويعتبر مهر المثل عند العقد، لا عند الدخول.
ولها أن تطالب الزوج أن يفرض لها مهراً قبل الدخول، وأن تحبس نفسها عنه حتى يفرض لها مهر مثلها.
المسألة السادسة: أن يشترط في عقد الزواج أن يكون جزء من المهر لغير الزوجة: كأبيها، أو أخيها، فإن النكاح صحيح، والمهر فاسد، ويجب لها مهر المثل.
تنبيه:
الشروط في عقد النكاح على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يكون الشرط موافقاً لمقتضى النكاح: كأن شرطت عليه أن ينفق عليها، وأن يقسم لها.
فهذا الشرط لغو، وعقد النكاح والمهر المسمى صحيحان.
القسم الثاني: أن يكون الشرط مخالفاً لمقتضى النكاح، لكنه غير مُخلّ بمقصود النكاح الأصلي وهو الوطء، كأن تشترط عليه في عقد الزواج أن لا يتزوج عليها، أو يشترط عليها أن لا ينفق عليها.
فإن عقد النكاح صحيح لعدم الإخلال بمقصوده الأصلي، والشرط(4/83)
فاسد، سواء كان له، أو لها. لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل.
رواه البخاري (المساجد، باب: ذكر البيع والشراء على المنبر في المسجد، رقم: 444).
ويفسد المهر أيضاً تبعاً لفساد الشرط، لأن الرضا بالمهر قد علِّق على شرط، فلما فسد الشرط فسد المهر، لانتقاء الرضا بالمهر بغير ما شُرط فيه.
القسم الثالث: أن يكون الشرط مخلاً بمقصود النكاح الأصلي، وهو الوطء: كأن شرطت عليه في العقد أن لا يطأها، أو أن يطلقها بعد النكاح.
فالنكاح باطل، لأن هذا الشرط ينافي مقصود النكاح، فيبطله.(4/84)
المتعة
تعريف المتعة:
المتعة ـ بضم الميم ـ مشتقة من المتاع، وهو ما يستمتع به وينتفع به.
والمراد بها هنا: مال يجب على الزوج دفعه لامرأته المُفارِقة له بطلاق، أو فراق.
لمن تجب المتعة:
المتعة واجبة للمرأة في الحالات التالية:
أـ إذا طُلٌَّقت بعد الدخول بها.
ب ـ إذا طُلَّقت قبل الدخول بها، ولم يكن سمّي لها مهر في عقد الزواج.
ج ـ إذا حكم بفراقها لزوجها، وكان الفراق بسبب منه، كردّته، ولعانه، وكان هذا الفراق قد وقع بعد الدخول ولكن بشرط أن لا يكون قد سمي لها مهر في عقد الزواج.
أما المرأة المطلّقة قبل الدخول، وقد سمي لها مهر في عقد الزواج، فلا متعة لها، لأنها قد نالت نصف المهر، وهي لم تبذل لزوجها شيئاً بعد.
دليل وجوب المتعة:
أما دليل المتعة ذكرنا فهو قوله عزّ وجلّ: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن(4/85)
طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236] وقال تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ}
[البقرة: 241].
مقدار المتعة:
عند تقدر المتعة إما أن يتفق الزوجان على مقدارها، وإما أن يختلفاً:
فإن اتفقنا على مقدار معين من المال ـ قل ذلك المال أو كثر ـ كان ذلك لها، وصحّت المتعة على ما اتفقنا عليه.
وإن اختلفا في تقديرها، فإن القاضي هو الذي يتولى تقديرها، معتبراً حالهما: من يسار الزوج وإعساره، ونسب الزوجة وصفاتها. قال الله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ} [البقرة: 236] وقال عزّ وجل: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 241]
لكن يستحبّ في المتعة أن لا تنقص علن ثلاثين درهماً، أو ما قيمته ذلك، وأن لا تلغ نصف مهر المثل.
الحكمة من تشريع المتعة:
والحكمة من تشريع المتعة تطييب قلب المرأة المطلقة، عند مفارقتها بيت الزوجية، والتخفيف من استيحاشها بسبب ما يلحقها من مفارقة زوجها، وكسر حدّة الألم والكراهية التي قد يسببهما هذا الفراق.
ثانياً ـ المغالاة في المهور
يجعل كثير من الناس المهر كثمن للمرأة، ويظن أن المغالاة فيه إشعار برفعة أُسرتها، وعظيم منزلتها، فذلك يشتطّون في مقدار المهر، ويغالون في تكبيره وتكثيره إظهاراً منهم لقيمة المخطوبة، وتعزيزاً لمكانة(4/86)
أسرتها، ومفاخرة على أمثالها في تجهيزها، وأثاث بيتها.
لقد غاب عن خاطر هؤلاء أن المهر لا يعني شيئاً من هذا أبداً. وإنما هو رمز لصدق الرغبة في الزواج، وعطِيّة لتكريم المرأة والتودّد إليها في بناء الحياة الزوجية الكريمة.
كما غاب عن خاطرهم المفاسد الاجتماعية التي تنجم عن هذا الشَطط الممقوت، والضرر الذي يصيب المجتمع، والرجل والمرأة نفسها، كنتيجة لهذا الغلو البشع.
وغاب عن خاطرهم أيضاً: أنهم يخالفون سنّة النبي - صلى الله عليه وسلم - يسلكون غير طريق البَركَة التي يسببّها يُسْر المهر وبساطته.
ـ أما المفاسد الاجتماعية التي تنجم عن المغالاة في المهور فكثيرة نذكر بعضاً منها:
إن المغالاة في المهور تصرف الشباب عن الزواج، ولاسيما الفقراء منهم، وتحول بينهم وبين الزواج، مما يجعلهم يسيرون في طريق الشيطان، ويلجؤون إلى الفاحشة، ويبحثون عن الرذيلة، فيتبدل الصلاح فساداً، والطمأنينة ثورة، فتتلوّث الأغراض، وتختلط الأنساب، وتكثر الأمراض.
ولو كان للشباب أزواج يعففنهم لحفظوا أخلاقهم، وحصّنوا دينهم، وضمنوا لمجتمعهم السلامة من الإثم والفجور.
ـ وأما المفاسد التي تصيب المرأة نفسها كنتيجة للمغالاة فيكفي أن نذكر منها:
إن كثيراً من النساء سوف يبقين عوانس محرومات من أخص ما تتطلبه فطرتهنّ، وتهفوا نحوه نفوسهنّ، وسيظللن يشعر بفراغ مؤرق يقض مضاجعهنّ، ويشتقن إلى البيت الذي يقضي على وساوسهنّ، ويُشعرهنّ(4/87)
بنعمة الهدوء والاستقرار، فلا يجدنه، ولا يظفرن به، لان آباءهن طلبوا مهوراً أعجز الكثير من خّطابهنّ.
هذا إذا لم يخرجن إلى الطرقات يعرضن فتنتهنّ، ويفسدن مجتمعهنّ.
أما إذا خرجن ـ كما هو الغالب على هؤلاء العوانس ـ فالضرر عليهنّ أبلغ، والكارثة أعمّ وأفدح.
ـ أما مخالفة السنّة النبوية، فلنستمع إلى ما يقوله النبي - صلى الله عليه وسلم - في المهر:
روى أحمد (6/ 82) عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن أعظم النكاح بركة أيسره مَؤونةً ".
وروى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " خيرُ النكاح أيسَرُه " رواه أبو داود (النكاح، باب: في التزويج على العمل يعمل، رقم: 2117) والحاكم وصححه.
فلا بركة إذاً ولا خير إذا أصبح المهر تجارة يطلب من ورائها الثراء، ووسيلة للمكاثرة والمفاخرة بين الأقران.
وروى البخاري (النكاح، باب: كيف يدعى للمتزوج، رقم: 4860) ومسلم (النكاح، باب: الصداق وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد وغير ذلك من قليل وكثير واستحباب كونه خمسمائة درهم لمن لا يجحف به، رقم: 1427) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أثر صُفوة، فقال: " ما هذا "؟ قال: تزوجت امرأة على وزن نواة من ذهب، قال: " بارك الله لك، أولِمْ ولو بشاة ".
[أثر صفوة: أي صبغ على ثوبه. نواة: بزرة التمر].(4/88)
لقد دعا له بالبركة كثرة الخير ـ والبركة كثرة الخير - في هذا الزواج وما كان المهر فيه إلا وزن نواة من التمر.
فما هو نصيب هؤلاء المُغالين من هذه البركة؟
وعن أبي العوجاء قال: سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: لا تغلو صُدُقَ النساء، فإنها لو كانت مكرُمة في الدنيا، أو تقوى في الآخرة، لكان أولاكم بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة من نسائه، ولا أصْدِقت امرأة من بناته، أكثر من ثنتي عشرة أُوقية.
رواه الخمسة، وصححه الترمذي (النكاح، باب: ما جاء في مهور النساء، رقم: 1114).
والخلاصة: أن المغالاة في المهور مكروهة شرعاً، وأن اليُسْر في المهور مندوب، ومن أسباب البركة والخير للرجال والنساء، والمجتمع.(4/89)
عقد الزواج وما يترتب عليه
معنى الزواج:
الزواج في اللغة: هو الاقتران، والاختلاط. يقال: زوج فلان إبله: أي قرن بعضها ببعض. ويقال: زوجه النوم: أي خالطه. ومنه قول الله عز وجل: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصدقات: 22] أي قرناءهم.
والزواج في الشرع: عقد يتضمن إباحة استمتاع كلِّ من الزوجين بالآخر على وجه مشروع.
أنواع الزواج:
الزواج نوعان: زواج باطل، وزواج صحيح.
أما الزواج الباطل: فهو الذي فقدَ ركناً من أركانه، أو شرطاً من شروط صحته.
وهذا الزواج لا حكم له إلا الحرمة، ولا يترتب عليه أيّ أثر من آثار الزواج، اللَّهمّ إلا مهر المثل في بعض صور البُطلان.
كما إذا تزوج من غير وليِّ للزوجة، ودخل بها.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أيما امرأة نكحت بغير إذن وليِّها فنكاحُها باطل ـ ثلاثاً ـ فإن دخل بها فهلا مهر المثل بما اسحل من فرجها ".(4/90)
رواه الترمذي (النكاح، باب: ما جاء لا نكاح إلى بولي، رقم 1102)
وأما الزواج الصحيح: فهو الذي استوفى أركانه، وشروط صحته، وهذا الزواج هو الذي تترتب عليه آثاره الآتي ذكرها.
أحكام عقد الزواج:
لعقد الزواج أحكام كثيرة، وقد مرّت عند بحثنا عن النكاح وأركانه، فلتُراجع هناك.
ما يترتب على عقد الزواج الصحيح من حقوق وواجبات:
إذا وقع عقد الزواج صحيحاً تترتب عليه كثر من الحقوق والواجبات المتقابلة بين الزوجين.
وهذه الحقوق والواجبات لكل واحد منها بحث خاص به يُذكر في مكانه.
ولكنّا نكتفي هنا أن نعدُّها مع ذكر الدليل لكل واحد منها، ونُحيل تفاصيلها إلى مواضعها الخاصة بها.
وهذه الحقوق والواجبات هي:
أـ حلّ استمتاع كلِّ من الزوجين بالآخر على الوجه المشروع، قال الله تعالى:
{نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223].
ب ـ وجوب متابعة المرأة لزوجها، وطاعتها له، وتمكينها له من نفسها، ومحافظتها على بيته.
روى مسلم (النكاح، باب: تحريم امتناعها من فراش زوجها، رقم 1436)، والبخاري (النكاح باب: إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها، رقم: 4879) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -(4/91)
قال: " إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح).
وفي رواية أخرى: (إذا دعا الرجل امرأتَه إلى فراشه، فلم تأته، فبات غضبان عليها، لعنتها الملائكةُ حتى تُصبِح).
وقال - صلى الله عليه وسلم - في خطبة حجة الوداع: " ولكم عليهنّ ألا يوطئن فُرُشكم أحداً تكرهونه ".
رواه مسلم من حديث طويل (الحج، باب: حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - رقم: 1218) وغيره.
ج ـ المهر، وهو حق للزوجة على زوجها. قال الله تعالى: {وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً}
[النساء: 4].
د ـ النفقة، وقد أجمع المسلمون على أن نفقة الزوجة واجبة على زوجها. قال الله عز جل:
{وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 223]. وقال تعالى:
{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنّ َ} [الطلاق: 6]
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خطبة حجة الوداع: " ولهنّ عليكم رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف ". رواه مسلم 1218) وغيره والنفقة تشمل الطعام والشراب، والكسوة والمسكن، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى:
هـ ـ القسم بين الزوجات، إن كان للزوج أكثر من زوجة واحدة، كما سيأتي.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا كان الرجل امرأتان، فلم يعدل بينهما، جاء يوم القيامة وشقه ساقط ".
رواه الترمذي (النكاح، باب: ما جاء في التسوية بين الضرائر،(4/92)
رقم: 1141)، وابن ماجه (النكاح، باب: القسمة بين النساء، رقم: 1969)، وأبو داود (النكاح، باب: في القسم بين النساء، رقم: 2123)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.
وروى الترمذي (النكاح، باب: ما جاء في التسوية بين الضرائر، رقم: 1140) وأبو داود (النكاح، باب: في القسم بين النساء، رقم: 2134) وغيرهما: عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقسم بين نسائه، فيعدل، ويقول: " اللهمّ هذه قسمتي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ".
[هذه قسمتي: أي في المبيت والنفقة. فلا تلمني فيما تملك ولا أملك: أي في الحب والمودّة].
وـ النسب، ويثبت بالزواج بعد الدخول تسب الأولاد إلى أبيهم، إذا جاءت بهم الزوجة ضمن مدة الحمل المعروفة: وأقلها ستة أشهر، وأكثرها أربع سنين. كما مرّ. فولد كل زوجة في زواج صحيح ينسب إلى زوجها. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الولد للفراش، وللعاهر الحجر"
رواه مسلم (الرضاع، باب: الولد للفراش وتوقي الشبهات، رقم: 1457).
[والمراد بالفراش: حالة قيام الزوجية. وللعاهر الحجر: أي الزاني له الخيبة، ولا حقّ له في الولد].
ز ـ التوارث بين الزوجين بشروطه المعروفة في باب الإرث، قال الله تعالى:
{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12].(4/93)
سنن عقد النكاح:
ولعقد الزواج سنن يستحبّ الإتيان بها تعظيماً لهذا العقد، وإظهاراً له.
ومن هذه السنن ما يلي:
أـ الخطبة قُبيل عقد الزواج، وهذه الخطبة مستحبة من قبل الزوج أو نائبه، وذلك لما روي عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - موقوفاً ومرفوعاً قال: (إذا أراد أحدُكم أن يخطُب لحاجة من نكاح وغيره فليقل ... ) إلى آخر الحديث، وقد مرّ في بحث الخطبة، فارجع إليه هناك
ب ـ الدعاء للزوجين، ويسنّ الدعاء للزوجين عند الزواج، وذلك لما روى أبو هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رفَّأ إنساناً إذا تزوج قال: " بارك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في الخير ".
رواه الترمذي (النكاح، باب: ما جاء فيما يُقال للمتزوج، رقم: 1091) وأبو داود
(النكاح، باب: ما يُقال للمتزوج، رقم: 2130) وابن ماجه (النكاح، باب: تهنئة النكاح، رقم: 1905).
[ومعنى رفَّأ: دعا له بالرَّفاء، أي الالتئام وجمع الشمل].
ج ـ إعلان عقد الزواج، وإظهار الفرح فيه بضرب الدف، ويستحب إعلان عقد الزواج، واجتماع الناس عليه، ويكره إسراره.
كما يستحب إظهار الفرح، وضرب الدف، والغناء الطيب الذي يتضمن المعنى الحسن الكريم.
روى ابن ماجه (النكاح، باب: إعلان النكاح، رقم: 1895) عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أعلنوا هذا(4/94)
النكاح، واضربوا عليه بالغُربال " أي الدف.
وروى الترمذي (النكاح، باب: ما جاء في إعلان النكاح، رقم: 1088) وغيره: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " فصل ما بين الحرام والحلال الدفّ والصوت ".
وقال - صلى الله عليه وسلم -: " أعلنوا هذا النكاح، واجعلوه في المساجد واضربوا عليه بالدفوف ".
رواه الترمذي (الموضع السابق، رقم: 1089).
وكذلك يسنّ الفرح، وإظهار البهجة، واللهو الشريف البريء.
روى البخاري (النكاح، باب: النسوة اللاتي يهدين المرأة إلى زوجها، رقم: 4867) عن عائشة رضي الله عنهما: أنها زَفَّت امرأة إلى رجل من الأنصار، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " يا عائشة، ما كان معكم من لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو ".
أما الغناء الذي فيه مجون، وفجور وشرور، ووصف للمحاسن والفاتن، وإثارة للشهوات والغرائز، فإنه حرام بلا شك، في الأعراس وغيرها.
د ـ الدعاء عند الدخول على الزوجة، ويستحب عند الدخول على الزوجة، والعزم على جماعها، بأن يقول: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا.
روى البخاري (الوضوء، باب: التسمية على كل حال وعند الوقاع، رقم: 141) مسلم (النكاح، باب: ما يستحب أن يقول عند الجماع، رقم: 1434) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لو أن أحدهم إذا أراد أنْ يأتيَ أهلَه قال: بسم الله، اللَّهم جنِّبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يُقَدَّر بينهما ولد في ذلك لم يضرهّ شيطان أبداً ".(4/95)
هـ ـ الوليمة، وهي مسنونة، وسنتحدّث عنها بشيء من التفصيل.
معنى الوليمة: الوليمة مشتقة من الوَلْم، وهو الاجتماع، وسمِّيت بذلك لأن الزوجين يجتمعان فيها.
قال في القاموس: الوليمة طعام العرس، أو كل طعام صنع لدعوة وغيرها، وأولم: صنع الوليمة.
حكم الوليمة: الوليمة للعرس سنّة مؤكدة، لثبوتها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قولاً وفعلاً.
فقد روى البخاري (النكاح، باب: من أولم بأقل من شاة، رقم: 4877) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أولم على بعض نسائه بمدين من شعير.
وروى الترمذي (النكاح، باب: ما جاء في الوليمة، رقم: 1095) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أولَمَ على صفية بنت حُيي رضي الله عنها بسويق وتمر. رواه داود (الأطعمة، باب: في استحباب الوليمة عند النكاح، رقم: 3744)، وابن ماجه (النكاح، باب: الوليمة، رقم: 1909).
وروى مسلم (النكاح، باب: زواج زينب .. وإثبات وليمة العرس، رقم: 1428) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أولم على زينب رضي الله عنها بخبز ولحم. وأنه - صلى الله عليه وسلم - قال لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: " أولم ولو بشاة "، رواه البخاري (النكاح، باب: الوليمة ولو بشاة، رقم: 4872)، ومسلم (النكاح، باب: الصداق وجواز كونه تصليح قرآن ... ، رقم 1472).
وقد حمل العلماء فعله - صلى الله عليه وسلم - وقوله على الندب.
مقدار الوليمة: وأقل الوليمة للموسر شاة، ولا حدّ لأكثرها، ولغيره ما قدر عليه من الطعام.(4/96)
وقت الوليمة: ووقت وليمة العرس موسّع من حين العقد إلى ما بعد الدخول، وإن كان الأفضل فعلها بعد الدخول، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوِلْم على نسائه إلا بعد الدخول، فقد جاء في أحاديث زواجه - صلى الله عليه وسلم -: أصبح النبي - صلى الله عليه وسلم - بها عروساً، فدعا القوم .. وهكذا.
انظر البخاري (النكاح، باب: الوليمة حق)، ومسلم (النكاح، باب: فضيلة إعتاقه أمة ثم يتزوجها).
حكمة تشريع الوليمة: وحكمة تشريع وليمة العرس شكر الله عزّ وجل على ما وُفِّق به من الزواج. واجتماع الناس عليه، حيث إن هذا الاجتماع يدعو إلى التحابب والتآلف. وإظهار الزواج من السرّية إلى العلنية، ليظهر الفرق بين النكاح المشروع، والسفاح الممنوع.
حكم إجابة الدعوة إلى وليمة العرس: وإجابة دعوة وليمة العرس فرض عين على مَن دعي إليها.
ودليل ذلك ما رواه البخاري (النكاح، باب: حق إجابة الوليمة والدعوة ... .. ، رقم: 4878) ومسلم (النكاح، باب: الأمر بإجابة الداعي إلى دعوة، رقم: 1429) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا دُعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها ".
وفي رواية عند مسلم (النكاح، باب: الأمر بإجابة الداعي إلى دعوة، رقم: 1432) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - (ومَن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله).
شروط وجوب إجابة دعوة وليمة العرس: لقد شرط العلماء لوجوب إجابة دعوة وليمة العرس شروطاً منها:
أـ أن لا يخصّ صاحب الدعوة بها الأغنياء وحدهم، فإذا خصّهم لا تجِب إجابتها.(4/97)
روى مسلم (النكاح، باب: الأمر بإجابة الداعي إلى دعوة، رقم: 1432) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه كان يقول: (بئس الطعام طعام الوليمة، يُدعى إليه الأغنياء، ويُترك المساكين، فمَن لم يأت الدعوة فقد عصى الله ورسوله).
ومعنى الحديث الإخبار بما يقع من الناس بعده - صلى الله عليه وسلم - من مراعاة الأغنياء في الولائم، وتخصيصهم بالدعوة، وإيثارهم بطيب الطعام مما هو غالب في الولائم اليوم.
ب ـ أن يكون الداعي مسلماً، والمدعو مسلماً، فإن كان غير ذلك فلا تجب إجابة الدعوة إليها
ج ـ أن يدعوه في اليوم الأول، إذا أولم في أكثر من يوم، فإذا دعاه في اليوم الثاني استحبت الإجابة، وفي اليوم الثالث تُكره إجابتها.
روى الترمذي (النكاح، باب: ما جاء في الوليمة، رقم: 1079) عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " طعام أول يوم حق، وطعام يوم الثاني سنة، وطعام يوم الثالث سُمعة، ومن سمَّع سمَّع الله به " أي تفاخر وليسمع الناس به.
وروى أحمد (5/ 28) وغيره: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " الوليمة في اليوم الأول حق، وفي الثاني معروف، وفي الثالث رياء وسُمعة ".
د ـ أن يدعوا للتودّد والتقرّب، فإن دعاه لخوف منه، أو طمع في جاهه لا تجب إجابتها.
هـ ـ أن لا يكون الداعي ظالماً أو شريراً، أو صاحب مال حرام، فإن كان كذلك لا تَجِب إجابتها.(4/98)
وـ أن لا يكون هناك منكر: كخمر، واختلاط بين الرجال والنساء، أو صور إنسان، أو حيوان معلقة على الجدران.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعدن على مائدة يُدار عليها الخمر " أخرجه الحاكم وصححه.
(المستدرك: الأدب، باب: لا تجلسوا على مائدة يُدار عليها الخمر: 4/ 288).
فإن كان يزول المنكر بحضوره، وجب حضوره، وإجابة الدعوة، وإزالة المنكر.
الأكل من طعام الوليمة: لا يجب على مُجيب دعوة الوليمة أن يأكل منها، بل الواجب عليه أن يحضر، ثم إن شاء أكل، وإن شاء ترك.
روى مسلم (النكاح، باب: الأمر بإجابة الداعي إلى دعوة، رقم: 1430) عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إذا دُعي أحدكم إلى طعام فلُيجب، فإن شاء طَعِم، وإن شاء ترك
وقيل: يجب أن يأكل إلا إذا كان صائماً.
ودليل ذلك، ما رواه مسلم (الموضع السابق، رقم: 1431) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا دُعي أحدكم فليُجب، فإن كان صائماَ فليُصل، وإن كان مفطراً فليطعم ".
ومعنى (فلْيُصل) فلْيَدْع لأهل الطعام بالمغفرة والبركة. والصلاة في اللغة: الدعاء. قال تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} [التوبة: 103] أي ادع لهم.
ويستحّب لمُجيب الدعوة أن يأكل مما قُدِّم له، ولا يتصرف فيه إلا بالأكل.(4/99)
وله أن يأخذ منه إن علم رضا صاحب الدعوة.
ويحل نَثْر سكر وغيره: كجوز ولوز ودنانير ودراهم على المرأة في النكاح، ويحلّ التقاطه، وتركه أولى.(4/100)
القسم بين الزوجات وما يتعلق بذلك
تعريف القسم:
القسم ـ في اللغة ـ مصدر قسم يقسم، والقسْم بكسر القاف: النصيب.
والقَسْم اصطلاحاً: أن مَن كان له أكثر من زوجه، وبات عند واحدة منهنّ لزمه المبيت عند باقيهنّ.
حكم القسم بين الزوجات:
القسم ابتداء بين الزوجات مندوب، وليس بواجب، فمن كان له نسوة استحبّ أن يقسم لهنّ، ويبيت عندهنّ، ولا يطلهنّ، وإنما لم يجب ذلك عليه، لأن المبيت حقه، فجاز له تركه. أما إذا بات عند واحدة منهنّ بقرعة، أو غيرها، لزمه المبيت عند الباقيات، وأصبح القسم لهّن واجباً تحقيقاً للعدل بينهنّ.
دليل وجوب العدل في القسم وغيره:
ودليل وجوب العدل في القَسْم وغيره بين النساء: القرآن والسنّة.
أما القرآن: فقول الله عزّ وجل: {َإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}
[النساء: 3] أي إن خفتم أن لا تعدلوا في القَسْم والإنفاق فاقتصروا على تزوّجكم واحدة.
فلقد أشعرت الآية بوجوب العدل في القَسْم بينهنّ.(4/101)
وأما السنة: فما رواه أبو داود (2133) والترمذي (1141) وغيرهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (مَن كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما ـ وعند الترمذي: فلم يعدل بينهما ـ جاء يوم القيامة وشقّه مائل ـ وعند الترمذي: وشقّه ساقط). وهذه عقوبة لا تكون إلا على ترك واجب.
وروى أبو داود (2134)، والترمذي (1140) عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسم فيعدل، ويقول: (اللِّهمّ هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك).
أبو داود (النكاح، باب: في القَسْم بين النساء)، والترمذي (النكاح، باب: ما جاء في التسوية بين الضرائر).
من يستحق القَسْم:
ويختص بالقَسْم الزوجات، ولو كانت إحداهنَ مريضة، أو حائضاً أو نفساء، ما دمن من طائعات لزوجهنّ.
أما إذا كانت المرأة ناشزاً فلا تستحق القَسْم، لإسقاطها حقها بنشوزها، وسيأتي بيان النشوز وحكمه.
كيفية القَسْم بين الزوجات:
ويجوز للزوج أن يجعل لكل زوجة ليلة ويوماً قبلها، أو بعدها.
والأصل الليل، والنهار تبع له، إلا إذا كان الزوج يعمل ليلاً: كحارس، فإن الأصل النهار، والليل تبع له.
ثم إذا كان الزوج يبيت في بيت وحده جاز له أن يدعوهنّ إليه، كل واحدة في ليلتها ويومها.
والأفضل أن يدور عليهنّ في بيوتهنّ.(4/102)
وإن كان يبيت عند واحدة منهنّ، وجب عليه أن يدور عليهنّ في بيوتهنّ، كل واحدة في ليلتها ويومها.
ويحرم عليه أن يبيت عند واحدة منهنّ، ثم يدعوا الباقيات إليه، لأن إتيان بيت الضرائر شاق على النفس.
كما يحرم عليه أن يجمعهنّ في مسكن واحد بغير رضاهنّ، لما يسبّبه ذلك من التباغض بينهنّ.
ويجوز أن يجعل مدة القَسْم يومين، أو ثلاثة أيام.
ويحرم أكثر من ذلك، لما في طول المدة من الوحشة عليهنّ، وتجب القرعة للبدء بالمبيت عند واحدة منهن، تجنباً لترجيح إحداهنّ على الأخرى، ثم يقرع بين الباقيات.
ويجوز أن يدخل نهاراً على غير مَن لها النوبة إذا كان دخوله لحاجة، وينبغي ألاّ يطول مكثه.
روى أبو داود (النكاح، باب: في القَسْم بين النساء، رقم: ك 2135)، والحاكم
(النكاح، باب: التشديد في العدل بين النساء رقم: 2/ 186) وقال صحيح الإسناد: عن عائشة رضي الله عنها قالت: وكان ـ أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم إلا وهو يطوف علينا جميعاً، فيدنوا من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ إلى التي هو يومها، فيبيت عندها.
ولا يجوز أن يدخل ليلاً إلى غير مَن لها النوبة إلا لضرورة: كمرض مخوف، أو حريق، أو نحو ذلك.
وتختصّ بكر جديدة بسبع ليال متواليات وجوباً.
كما تختص ثيِّب جديدة بثلاث ليال متواليات وجوباً أيضاً.
روى البخاري (النكاح، باب: إذا تزوج الثِّيب على البكر، رقم: 4916) ومسلم
(الرضاع، باب: قدر ما تستحقه البكر والثِّيب من إقامة(4/103)
الزوج ... ، رقم: 1461) عن أنس - رضي الله عنه - قال: من السنّة إذا تزوج البكر على الثِّيب أقام عندها سبعاً ثم قسم، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثاً ثم قسم. قال: أبو قلابة ـ أحد رواة الحديث ـ لو شئت لقلت: إن أنساً رضي الله رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وروى مسلم (الموضع السابق، رقم: 1460) عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " للبكر سبع، وللثيِّب ثلاث ".
ولو وهبت إحداهنّ ليلتها لضرّتها بات عند الموهوب لها ليلتيهما، كل ليلة في وقتها الذي كان لها، فإن كانت متتابعين تابع بينهما، وإن كانتا متفرقين، فرق بينهما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما وهبت سَوْدة بنت زمعة نوبتها لعائشة رضي الله عنهما.
روى البخاري (النكاح، باب: المرأة الثيِّب تَهب يومها من زوجها لضرّتها، رقم: 4941) ومسلم (الرضاع، باب: جواز هبتها نوبتها لضرتها، رقم: 1463) - واللفظ لمسلم - عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت امرأة أحبَّ إلىَّ أن أكون في مسْلاخِها من سودة بنت زمعة من امرأة فيها حدة، قالت: فلما كبرت جعلت يومها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة، قالت: يا رسول الله: قد جعلت يومي منك لعائشة، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقسم لعائشة يومين: يومها، ويوم سودة.
[مسلاخها: المسلاخ: هو الجلد، ومعناه أن أكون أن هي. فيها حدّة: أي شدة ولم ترد عائشة بذلك عيب سودة، بل وضفتها بقوة النفس، وجودة القريحة، وهي الحدّة].
وإذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، واستصحب معه من خرجت قرعتها، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك.
روى البخاري (المغازي، باب: حديث الإفك، رقم: 3910)،(4/104)
ومسلم (التوبة، باب: في حديث الإفك وقبول توبة القاذف، رقم: 2770) عن عائشة رضي الله عنهما أنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد السفر أقرع بين نسائه، فأتيتهنّ خرج سهمها خرج بها.(4/105)
النشوز
تعريف النشوز:
النشوز: العصيان، وهو مأخوذ من النِّشْز، بسكون الشين، وفتحها.
ونشوز المرأة: عصيانها زوجها، وتعاليها عمّا أوجب الله عليها من طاعته.
قال ابن فارس: نشزت المرأة: استعصت على بعلها. قال تعالى:
{وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ .. } [النساء: 33]. أي تخافون عصيانهنّ.
حكم النشوز:
ونشوز المرأة حرام، وهو كبيرة من الكبائر.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا دعا الرجل امرأتَه إلى فراشه، فلم تأتِه، فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبحَ " رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.
وفي رواية لمسلم: " والذي نفسي بيده ما من رجلٍ يدعو امرأته إلى فراشها، فتأبى عليه، إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها حتى يرضى عنها ".
رواه البخاري (النكاح، باب: إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها)، ومسلم
(النكاح، باب: تحريم امتناعها عن فراش زوجها).(4/106)
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " والذي نفسي بيده لا تؤدي المرأة حق ربّها حتى تؤديَ حقّ زوجِها ".
رواه أحمد (4/ 381)، وابن ماجه (النكاح، باب: حق الزواج على المرأة، رقم: 1853).
بم يكون النشوز:
ويكون نشوز المرأة بخروجها عن طاعة زوجها، وعصيانها له، وذلك كأن خرجت من بيته بغير عذر من غير إذنه، أو سافرت بغير إذنه ورضاه، أو لم تفتح له الباب ليدخل، أو لم تمكِّنه من نفسها بلا عذر: كمرض، أو دعاها فاشتغلت بحاجاتها، وغير ذلك.
معالجة النشوز:
إذا ظهرت من المرأة علامات النشوز: كأن وجد منها زوجها إعراضاً وعبوساً، بعد لُطف وطلاقة وجه، أو سمع منها كلاماً خشناً على خلاف عادتها استحب له أن يعظها بكتاب الله عز وجل، ويذكِّرها بما أوجب الله عليها. ويحذرها غضب الله سبحانه وتعالى وعقوبته. ويستحبّ أن يقول لها: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: " أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة
رواه الترمذي (الرضاع، باب: ما جاء في حق الزواج على المرأة، رقم: 1161)، وابن ماجه (النكاح، باب: حق الزوج على المرأة، رقم: 1854).
ويقول لها: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تُصبِح ".
رواه البخاري (النكاح، باب: إذا باتت المرأة مُهاجرة فراش زوجها)،(4/107)
ومسلم
(النكاح، باب: تحريم امتناعها من فراش زوجها). فإن استقامت فبها ونعمت.
وإن تحقّق نشوزها، وأصرّت على إعراضها، هجرها في المضجع، لأن في الهجر أثراً ظاهراً في تأديبها.
والمراد بالهجر: أن يهجر فراشها، فلا يضاجعها فيه. فإن صَلُحت فذاك، وإن تكرر نشوزها، وأصرّت على عصيانها، كان له أن يضربها ضرب تأديب غير مبرح، لا يجرح لحماً، ويكسر عظماً، ولا يضرب وجهاً ولا موضع مهلكة.
وهذا الضرب إنما يُصار إليه إذا رجا صلاحها به، وغلب على ظنه أن تعود إلى رشدها.
فإن علم أن الضرب لا يصلحها، بل يزيد في نفرتها، فإنه ينبغي ألا يضربها.
ودليل هذه الأحكام التي ذكرناها قول الله عز وجل:
{وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} [النساء: 34].
فإن استحكم الخلاف بينهما، وتعذرت إزالته بواسطة الزوجين، ورُفعَ الأمر إلى الحاكم، وجب عليه أن يوسّط للإصلاح بينهما حكمين مسلمين عدلين عارفين بطرق الإصلاح.
ويندب أن يكون أحدهما من أهل الزوج، والآخر من أهل الزوجة.
وهذان الحَكَمان وكيلان للزوجين، فيشترط رضا كل من الزوجين بوكيله. فيشرع الحَكََمان في الصلح بين الزوجين، ويبذلان وسعهما للوصول إليه، فإن أفلحا فبها ونعمت، وإن أخفقا، وكّل الزوج حكمه بطلاقها، وقبول عوَضَ الخلع منها.(4/108)
ووكّلت هي أيضاً حَكَمها ببذل العوَض، إن كانت رشيدة، وقبول الطلاق به.
ويفرّق الحكمان بينهما إن رأياه صواباً.
وإذا اختلف الحَكَمان، ولم يتوصلا إلى رأي واحد، بعث القاضي حَكَمين غيرهما حتى تجتمعا على شيء واحد. فإن لم يرضَ الزوجان ببعث الحكمين، ولم يتفقا على شيء أدّب القاضي الظالم منهما، واستوفى للمظلوم حقه، وعمل بشهادة الحكمين , قال الله تعالى:
{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً} [النساء: 34].
نشوز المرأة:
وإذا كان الإجحاف والإعراض من قَبل الزوج: وذلك كأن منعها حقها في القسم، أو النفقة، أو أغلظ عليها بالقول، أو الفعل، وعظته وذكّرته بحقها عليه، بمثل قول الله عز وجل
{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً}
[النساء: 19].
وذكّرته بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " خيرُكم خيركم لأهله وأنا خيرُكم لأهلي ".
رواه الترمذي (المناقب، باب: في فضل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، رقم: 3829) عن عائشة رضي الله عنهما.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " استوصوا بالنساء خيراً ".
رواه البخاري (النكاح، باب: الوصاة بالنساء، رقم: 4890، ومسلم (الرضاع، باب: الوصية بالنساء، رقم 1468) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.
وحذّرته من عواقب ظلمها، فإن صلح فذاك، وإن لم يصلح رفعت أمرها إلى القاضي ليستخلص لها حقها لأنه منصوب لردّ الحقوق إلى أصحابها، ولأنها لا يمكنها أن تأخذ حقها بنفسها.(4/109)
ويجب على القاضي أن يلزمه بالقسم لها، وأداء حقوقها، وكفّ الظلم عنها.
فإن ساء خلقه، وآذاها بضربها، أو بسبها بغير سبب نهاه القاضي عن ذلك، فإن عاد إليه، وطلبت الزوجة من القاضي تعزيره، عزره بما يراه سبيلاً إلى إصلاحه.
فإن اشتد الخلاف أرسل حكمين كما سبق ليصلحا بينهما، أو يفرقا بينهما بطلقة إن عسر الإصلاح. قال الله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 127].(4/110)
العيوب التي يترتب عليها فسخ النكاح
والآثار المترتبة على ذلك
أولاً: العيوب:
العيوب التي يثبت فيها فسخ الزواج قسمان:
القسم الأول: عيوب تمنع من الدخول: كالجب، والعنّة في الزواج. والقرن، والرتق في الزوجة.
والجب: قطع عضو التناسل عند الرجل. والعنّة: العجز عن الوطء في القُبُل خاصة، لعدم انتشار الذكر. والقرن: انسداد محل الجماع لدى المرأة بعظم. والرتق: انسداد محل الجماع لدى المرأة بلحم.
القسم الثاني: عيوب لا تمنع الدخول، ولكنها أمراض مُنفرة، أو ضارّه، بحيث لا يمكن لا مقام معها إلا بضرر: كالجذام، والبرص، والجنون.
والجذام: علّة يحمرّ منها العضو، ثم يسودّ، ثم ينقطع ويتناثر.
والبرص: بياض شديد يبقع الجلد، ويذهب بدمويته.
أقسام هذه العيوب بالنسبة للزوجين:
هذه العيوب بالنسبة للزوجين على ثلاثة أقسام:
1ـ قسم مشترك بين الزوجين: وهو الجذام، والبرص، والجنون.
2ـ قسم خاص في الزوجة: كالرتق والقرن.(4/111)
3ـ قسم خاص في الزواج: كالجبّ والعنّة.
العيوب المشتركة:
إذا وجد أحد الزوجين في الآخر جنوناً، أو جذاماً، أو برصاً، ثبت له الخيار في فسخ الزواج. سواء كان هو الآخر مصاباً به، أو لم يكن، لأن الإنسان يعاف من غيره ما لا يعاف من نفسه.
دليل ثبوت الخيار بهذه العيوب:
ودليل ثبوت الخيار بهذه العيوب ما رواه والبيهقي (7/ 214) من رواية ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج امرأة من غفار، فلما أُدخلت عليه رأى بكشحها بياضاً، فقال: (البسي ثيابك، والحقي بأهلك). وقال لأهلها: (دلستم علي).
[الكشح: الجنب. والمراد بالبياض: البرص. دلستم: أخفيتم العيب].
وروى الشافعي رحمه الله عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أنه فرّق بين الزوجين للجذام، والبرص، والجنون.
ومثل هذا لا يكون إلا عن توقيف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد ثبت في الحديث الصحيح: " فِرّ من المجذوم كما تفرّ من الأسد ".
البخاري (الطب، باب: الجذام، رقم: 5380).
قال الشافعي رحمة الله تعالى في كتابه الأم: وأما الجذام والبرص، فإن كلا منهما يُعدي الزوج، ولا تكاد النفس أحد تطيب أن تجامع من هو فيه.
العيوب في الزوجة:
إذا وجد الزوج زوجته رتقاء، أو قرناء، ثبت له فسخ الزواج، لأن هذه العلة مانعة من مقصود الزواج، وهو الدخول بالزوجة.(4/112)
العيوب في الزوج:
إذا وجدت الزوجة زوجها مجبوباً، أو عنيناً ثبت لها حق فسخ الزواج.
وقد حكى المارودي الإجماع على ثبوت الخيار بالجب والعنّة، لأنه يفوت بهما مقصود النكاح، كما قلنا بالرتق والقرن.
حدوث العيب بعد عقد النكاح:
إذا حدث شيء من العيوب السابقة بعد عقد النكاح في أيَّ من الزوجين، سواء كان ذلك بعد الدخول، أو قبله، وسواء أكان العيب مانعاً من الدخول كالجبّ والعنّة في الزوج، والرتق والقرن في الزوجة، أو غير مانع، كالجذام والبرص والجنون، فإنه يثبت حق الخيار في فسخ الزواج، كما لو كان العيب قديماً.
لكن يستثنى من ذلك العنّة فقط، فإنها إذا حدثت بعد الدخول، فإنه يسقط حق الزوجة في فسخ الزواج، لحصول مقصود الزواج بالنسبة لها، وهو المهر، والوطء، وقد يتم ذلك قبل حدوث العنّة.
إزالة العيب:
إذا أمكن إزالة الرتق والقرن بنحو عملية جراحية، ورضيت بها الزوجة، فلا خيار للزوج حينئذ، لعدم وجود المقتضي للفسخ.
وكذلك إذا زال الجنون والبرص والجذام بالتداوي، فإن حقّ الفسخ يسقط، لزوال ما يدعوا إليه.
حق ولي الزوجة في فسخ النكاح:
ولوليِّ المرأة حق فسخ نكاحها بكل عيب وجد في الزوج قبل عقد النكاح، سواء رضيت الزوجة بهذا الفسخ أو لم ترضَ، وذلك لما يلحق الوليَّ من العار من ذلك العيب.(4/113)
وليس لوليِّ الزوجة حق الفسخ بعيب حادث بعد الدخول إذ لا عار عليه في العُرْف، بخلاف ذلك في الابتداء.
وكذلك لا خيار للولي بعيب جب وعنّة حدثا مقارنين للعقد، لاختصاص الزوجة بالضرر، ورضاها به، ولا عار عليه في العُرْف.
الفسخ على الفور:
والخيار في فسخ النكاح بهذه العيوب إذا ثبتت إنما يكون على الفور، لأنه خيار عيب، يجب المسارعة إلى الإعراب عن عدم الرضا به.
فتسرع الزوجة فوراً، ويسرع الزوج أيضاً , إلي الرفع إلى الحاكم، والمطالبة بفسخ النكاح. فلو علم أحدهما العيب بصاحبه، ثم سكت عنه سقط حقه في الفسخ، إلا إذا كان جاهلاً أن له حق الفسخ، فإنه لا يسقط حقه في الفسخ.
الفسخ يحتاج إلى الرفع إلى القاضي:
لا يستقل الزوج، أو الزوجة في فسخ النكاح بسبب عيب من العيوب المذكورة، بل لا بدّ من الرفع إلى القاضي، وطلب الفسخ عنده، فإذا تحقق العيب عنده حكم القاضي بفسخ الزواج.
ضرب الأجل في العنّة:
وإذا ثبت عند القاضي العنة في الزوج، ضرب له القاضي سنة قمرية، لاحتمال زوال العنة باختلاف الفصول، فإذا زال عيبه فذاك، وإلا فسخ النكاح.
ودليل ذلك ما رواه والبيهقي (النكاح، باب: أجل العنين، رقم: 7/ 226) عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أنه قال في العنين: يؤجّل سنة، فإن قدر عليها، وإلا فرّق بينهما، ولها المهر، وعليها العدّة.
كيف تثبت العنّة؟
سائر العيوب تثبت بالإقرار، أو إخبار الطبيب، أما العنّة، فلا تثبت(4/114)
إلا بإقرار الزوج عند الحاكم. أو يمين الزوجة عند نكول الزوج عن اليمين، إذا طلب منه القاضي أن يحلف على عدم العنّة.
ثانيا: ما يترتب على فسخ النكاح بهذه العيوب من الآثار:
إذا تم فسخ الزواج من قبل الزوج، أو من قِبَل الزوجة، بسبب عيب من العيوب السابقة
فلا يخلو أن يكون الفسخ قبل الدخول، أو بعده. ولا يخلو أن يكون العيب قد حدث قبل الدخول، أو بعده.
أـ فإن كان الفسخ قبل الدخول سقط المهر، ولا متعة للزوجة، لأنه إن كان العيب بالزوج فهي الفاسخة، وعليه فلا شيء لها.
وإن كان العيب بها فلا شيء أيضاً، لأن الفسخ إنما كان لسبب فيها، فكانت كأنها هي الفاسخة.
ب ـ وإن كان الفسخ قد حصل بعد الدخول، لكن بعيب قارن للعقد، أو بعيب حادث بين العقد والدخول جهله الواطئ، فإنه يجب لها مهر المثل.
ج ـ وإن كان الفسخ قد حصل بعد الدخول، والعيب إنما حدث أيضاً بعده، فإنه يجب للزوجة كامل المهر المسمى، لأن المهر قد استقر بالدخول قبل وجود سبب الخيار في الفسخ، فلا يغير.
عدم رجوع الزوج بالمهر على من غره:
ولا يرجع الزوج بالمهر على من غرّه من وليّ أو زوجة، لاستيفاء منفعة البضع المتقوم عليه بالعقد. وصورة التغرير: أن تسكت هي أو وليها عن بيان عيبها للزواج، ما دام العيب قد حدث قبل الدخول.
والله عز وجل أعلم(4/115)
ثانياً: الطلاق وما يتعلق به وما يشبهه(4/117)
الطلاق
تعريف الطلاق:
الطلاق في اللغة: الحلّ والانحلال. يقال: أطلقت الأسير: إذا حلَلْتَ إساره، وخلّيت عنه، وأطلقت الناقة من عقالها: أرسلتها ترعى حيث تشاء. ودابة طالق: مُرسلَة بلا قيد.
والطلاق شرعاً: حلّ عقدة النكاح بلفظ الطلاق ونحوه.
دليل مشروعية الطلاق:
والأصل في مشروعية الطلاق: الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب: فقول الله عز وجل: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}
[البقرة: 229] وقوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1].
وأما السنّة: فقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق ".
[أبو داود: الطلاق، باب: في كراهية الطلاق، رقم: 2178)، وابن ماجه: أول كتاب الطلاق، رقم: 2018].
روى الترمذي (في أبواب الطلاق، باب: ما جاء في الرجل يسأله أبوه أن يطلّق زوجته، رقم: 1189)، وابن ماجه (في الطلاق، باب: الرجل يأمره أبوه بطلاق امرأته، رقم: (2088)، وأبو داود (في الأدب، باب: في برّ الوالدين، رقم: 5138)، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:(4/119)
كانت تحتي امرأة أحبّها، وكان أبي يكرهها، فأمرني أبي أن أُطلقها، فأبيت، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: " يا عبد الله بن عمر، طلِّق امرأتك
أما الإجماع: فقد اتفقت كلمة العلماء على مشروعيته، ولم يخالف منهم أحد.
حكمة مشروعية الطلاق:
الأصل في الزواج هو استمرار الحياة الزوجية بين الزوجين. وقد شرع الله سبحانه وتعالى أحكاماً كثيرة، وآداباً جمة للزواج، لاستمرار وضمان بقائه، ونمو العلاقة الزوجية بين الزوجين. غير أن هذه الآداب والأحكام قد لا تكون مرعيّة من قبل الزوجين أو احدهما: كأن لا يهتم الزوج بحُسْن الاختيار، أو بأن لا يلتزم الزوجان أو أحدهما آداب العشْرة حتى لا يبقى مجال لإصلاح، ولا وسيلة لتفاهم وتعايش بين الزوجين. فكن لا بدّ ـ والحالة هذه - من تشريع قانون احتياطي، يهرع إليه في مثل هذه الحالة، لحلّ عقدة الزواج على نحو لا تُهدر فيه حقوق أحد الطرفين، ما دامت أسباب التعايش قد باتت معدومة فيما بينهما. وقد قال الله عزّ وجلّ: {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللهُ وَاسِعاً حَكِيماً ً} [النساء: 130].
فإن استعلمه الزوج وسيلة أخيرة عند مثل هذه الضرورة فذلك علاج ضروري، لا غِنى عنه، وإن جاء مُرّاً في كثير من الأحيان. وأما إن استعمله لتحقيق رعوناته، وتنفيذ أهوائه، فهو بالنسبة له أبغض الحلال إلى الله عزّ وجلّ.
والله تعالى يعلم المُصلح من المفسد، وإليه مرجع هذا وذاك.
شرعة الطلاق من مفاخر الشريعة الإسلامية:
ومن خلال ما ذكرنا يتأكد لنا أن مشروعية الطلاق على النحو الذي(4/120)
نظمت الشريعة الإسلامية أحكامه ونتائجه، تُعدّ من مفاخر الشريعة الإسلامية، ويُعدّ من أكبر الأدلة على أن أحكام هذه الشريعة متسقة تمام الاتّساق مع الفطرة الإنسانية، والحاجات الطبيعية عند الإنسان.
وقد تجلّت هذه الحقيقة عندما رأينا الأمم المختلفة، وهي تتراجع عمّا كانت تلزم نفسها به من حّرمة الطلاق، واعتبار عقد الزواج سجناً أبدياً، يقرن فيه الزوجان إلى بعضهما، كرها ذلك أو رضيا، وذلك بعد أن رأت هذه الأُمم أن هذا الحظر لا يقدّم للمجتمع إلا أسوأ النتائج، وأخطر مظاهر الإجرام، وبعد أن تنبهت إلى أن اقتران اثنين ببعضهما لا يمكن أن يتم بالإكراه، إلا إذا أُريد أن يكون الإكراه ينبوع تعاسة وشقاء للأُسرة كلها، أو بركان دمار وقتل وفتك.
ولقد اهتمت الشريعة الإسلامية بإيجاد أسباب التفاهم، والوداد والتعايش المستمر بين الزوجين.
ولكنها لم تعالج ذلك بربط جسد كل ِّمنهما بالآخر، وإنما عالجته بالتنبيه والإرشاد إلى الضمانات الإيجابية المختلفة التي تغذي الوداد بينهما، وتشبع أسباب التفاهم، وتطرد من بينهما موجبات المشاكسة والتنافر، ولقد كان من أهم هذه الضمانات التي أرشد إليها توفر الدين الصحيح في الزوجين، وقيام كلّ منهما بالواجبات المنوطة به، والتزام كلّ من الزوجين بالسلوك الأخلاقي السليم، على النحو الذي نظمته شرعة الله عزّ وجلّ.
هذه الضمانات هي التي تحمي بيت الزوجية عن أن يتهدم، وهي التي تجعل من شرعة الطلاق قانوناً موضوعاً على الرف، يستنجد به عند الضرورة، أي عندما يقصر أحد الزوجين عن تحقيق الضمانات والآداب التي شرعها الله تعالى حفاظاً على الحياة الزوجية، ورعاية للمودّة والألفة بين الزوجين.
والدليل على هذا الذي نقول: أن حوادث الطلاق لا تكاد ترى لها(4/121)
وجوداً في البيوت والأُسر الصالحة يتقيد أهلها بأحكام الإسلام وآدابه.
وإنما تبصر، أو تسمع بأكثر هذه الحوادث في الأُسر المتحلِّلة من قيود الإسلام، الخارجة على نُظُمه وآدابه.
أنواع الطلاق:
الطلاق له ثلاث تقسيمات، باعتبارات مختلفة:
فباعتبار وضوح اللفظ في الدلالة عليه، وعدم وضوحه ينقسم إلى: صريح وكناية.
وباعتبار حال الزوجة، من طُهر وحيض، وكبر وصغر، ينقسم إلى:
بدْعي، وسُنّي، وإلى ما لا يوصف بسنّي، ولا بِدعي.
وباعتبار كونه على بدل من المال، وبدون بدل: ينقسم إلى خلع، وطلاق عادي.
فلنشرح كلاًُ من هذه التقسيمات الثلاثة على حدة:
التقسيم الأول: (الصريح، والكناية):
إذا لاحظت الألفاظ التي تستعمل للدلالة على الطلاق وجدت أن هذه الألفاظ:
إما أن تكون ذات دلالة قاطعة على الطلاق، بحيث لا تحتمل غيره، فهذه الألفاظ تسمى: صريحة.
وإما أن تكون قاطعة في دلالتها، بحيث تحتمل غير الطلاق، فهذه الألفاظ تسمى: كناية.
إذاً فالطلاق ينقسم إلى القسمين التاليين: 1 - صريح. 2 - كناية.
1ـ فالطلاق الصريح: هو ما لا يحتمل ظاهر اللفظ إلا الطلاق، وألفاظه(4/122)
ثلاثة: هي: الطلاق، والسراح، والفراق، وما اشتق من هذه الألفاظ.
كقوله: أنتِ طالق، أو مسرّحة، أو طلّقتك، أو فارقتك، أو سرّحتك.
وإنما كانت هذه الألفاظ صريحة في دلالتها على الطلاق لورودها في الشرع كثيراً، وتكرارها في القرآن الكريم بمعنى الطلاق. قال الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1].
وقال عز وجل: {وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [الأحزاب: 28]. وقال سبحانه وتعالى:
{أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2].
ومن الصريح: ترجمة لفظ الطلاق بالعجمية ـ أي غير اللغة العربية ـ لشُهرة استعمال هذه اللغات عند أهلها، كشهوة استعمال العربية عند أهلها.
2ـ والكناية: وهي كل لفظ يحتمل الطلاق وغيره. وألفاظها كثيرة: كقوله:
ـ أنت خلية: أي خالية مني.
ـ أنت بريّة: أي منفصلة عني.
ـ أنت بتّة: أي مقطوعة الوصلة عني.
ـ الحقي بأهلك.
ـ اذهبي حيث شئت.
ـ اعزُبي: أي تباعدي عني.
ـ اغرُبي: أي صيري غريبة عني.
ـ حبلك على غاربك: أي خلّيت سبيلك، كما يخلّى البعير.
والغارب: ما تقدم من الظهر، وارتفع من العنق.
ـ أنت عليَّ حرام.
فكلّ هذه الألفاظ ـ وغيرها كثير ـ تعتبر كناية في دلالتها على الطلاق، لاحتمالها الطلاق وغيره.(4/123)
دليل استعمال ألفاظ الكناية في الطلاق:
ودليل استعمال ألفاظ الكناية في الطلاق:
ما رواه البخاري (في الطلاق، باب: من طلّق وهل يواجه الرجل امرأته بالطلاق، رقم: 4955) عن عائشة، رضي الله عنهما أن ابنه الجون، لما أُدخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودنا منها، قالت: أعوذ بالله منك، فقال: " لقد عذت بعظيم، الحقي بأهلك ".
حكمُ كلّ من ألفاظ الصريح والكناية:
إذا عرفت ما ذكر، فاعلم أن الطلاق بالألفاظ الصريحة يقع، سواء توفرت فيه نيّه الطلاق أم لا. لأن صراحة اللفظ، وقطعية دلالته على المعنى، يغنيان عن اشتراط النيّة، عند التلفظ به.
أما ألفاظ الكناية ـ ولو اشتهرت على ألسنة الناس في الطلاق: كعليّ الحرام، وأنت عليّ حرام، فلا يقع الطلاق بها إلا إذا قصد بها الزوج الطلاق.
فإذا قصد بها شيئاً آخر غير الطلاق، أو لم يقصد بها شيئاً، لم يقع بها شيء.
ودليل ذلك ما رواه البخاري (في المغازي، باب: حديث كعب بن مالك رضي الله عنه ... رقم: 4156) ومسلم (في التوبة، باب: حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه، رقم: 2769) في توبة كعب بن مالك - رضي الله عنه - حينما تخلّف عن غزوة تبوك، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يعتزل امرأته، فقال أُطلقها، أم ماذا؟ قال: بل اعتزلها، فلا تقربنّها، قال: فقلت لامرأتي: الحق بأهلك.
فلما نزلت توبته رجعت زوجته إليه، ولم يؤمر بأن يعقد عليها من جديد. فدلّ ذلك على أن (الحقي بأهلك) لا يقع به الطلاق إلا بالنيّة(4/124)
وحيث إن كعباً - رضي الله عنه - لم ينو به الطلاق، فإنه لم يقع به شيء، ورجعت زوجته إليه.
التقسيم الثاني (السنّي البدعي ,غيرهما):
المرأة التي يقع عليها الطلاق لا تخلو من واحد من أحوال ثلاثة:
الحالة الأولى: أن تكون المرأة طاهرة عن الحيض والنفاس، ولم يقربها زوجها في ذلك الطهر بعد.
الحالة الثانية: أن تكون متلبسة ـ بعد دخول الزوج بها ـ بحيض أو نفاس، أو تكون في طُهر جامعها فيه زوجها.
الحالة الثالثة: أن تكون صغيرة لم تَحِضْ بعد، أو آيسة تجاوزت سن المحيض، أو حاملاً ظهر حملها، أو غير مدخول بها بعد، أو طالبة للخلع.
فإن وقع الطلاق في الحالة الأولى، سمي: (طلاقاً سنّياً).
وإن وقع في الحالة الثانية سمي: (طلاقاً بدعياً).
وإن وقع في الحالة الثالثة لم يكن: (سنياً، ولا بدعياً).
فأقسام الطلاق بهذا الاعتبار إذاً ثلاثة:
1ـ طلاق سني.
2ـ طلاق بدعي.
3ـ طلاق لا يوصف بسنّي، ولا بدعي.
حكم كل نوع من هذه الأنواع الثلاثة:
1ـ الطلاق السني: إن الطلاق السني جائز وواقع، وهو الشكل المطابق للتعاليم الشرعية في كيفية الطلاق، إذا كان الزواج، ولابدّ مطلقاً، سواء أوْقَع الزوج طلقة واحدة، أم أوقع ثلاث طلقات مجتمعات.
ولكن يسنّ أن يقتصر على طلقة، أو طلقتين في الطهر الواحد كي يتمكن من إرجاعها إذا ندم.(4/125)
ودليل الطلاق السني: قوله عز وجل {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}
[الطلاق: 1]. أي في الوقت الذي يشرعن فيه في العدّة، وهو الطهر، إذ زمن الحيض لا يحسب من العدة.
2ـ الطلاق البدعي: إن الطلاق البدعي محرم، ولكنه واقع، ويلزم وقوعه الإثم، لمخالفته للصورة المشروعة للطلاق التي وردت في قوله تعالى: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]
ويسنّ له الرجعة، فقد روي البخاري (في أول كتاب الطلاق، رقم 4953)، ومسلم
(في الطلاق، باب: تحريم طلاق الحائض بغير رضاها، رقم: 1471) عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أنه طلّق امرأته، هي حائض، على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " مُرْهُ فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلّق قبل يمسّ، فتلك العدّة التي أمر اله أن تطلقّ لها النساء ". أي بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أي لاستقبال عدّتهن.
والمعنى: ليتركها بعد الرجعة حتى تطهر، وعندئذ يوقع طلقة واحدة إذا شاء، فإذا حاضت ثم طهرت أوقع طلقه أُخرى إذا شاء، فإذا طهرت للمرة الثالثة فلينظر: إن شاء أمسكها بعد الرجعة، وإن شاء أوقع طلقة ثالثة، وتكون قد بانت بذلك منه.
سبب تحريم الطلاق البدعي:
وسبب تحريم الطلاق البدعي ما يستلزمه من الإضرار بالمرأة، إذ يطول بذلك أجل عدّتها، لأن حيضتها لا تحسب من العدّة.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا ضرر ولا ضرار ".(4/126)
أخرجه مالك في الموطأ (الأقضية، باب: القضاء في المرفق، رقم: 2/ 745)، وابن ماجه في سننه (الأحكام، باب: مَن بني في حقه ما يضرّ بجاره، رقم: 188، 2340، 2341).
أما حرمة الطلاق في طهر جامع زوجته فيه: فلاحتمال الحمل فيه، وهو لا يرغب في تطليق الحامل، فيكون في ذلك الندم.
3ـ الطلاق الذي لا يوصف بسنّة ولا بدعة: إن الطلاق الذي لا يوصف بسنّة ولا بدعة جائز، وواقع، وليس حراماً، إذ لا ضرر يلحق الزوجة بسببه، إذ الصغيرة والآيسة تعتدّان بالأشهر، فلا يلحقهما ضرر إطالة العدّة، وكذلك الحامل، فإن عدّتها على كل حال بوضع الحمل، وكذلك طالبة الخلع، لأن افتدائها نفسها من الزوج بالمال دليل على حاجتها إلى الخلاص منه، ورضاها بطول التربص.
التقسيم الثالث: (الطلاق العادي والخلع).
1ـ الطلاق العادي: وهو الطلاق الذي يقع برغبة من الزوج، وهذا الطلاق ينطبق عليه الأحكام التي ذكرناها قبل.
2ـ الخلع: وهو الطلاق الذي يقع برغبة من الزوجة وإصرار منها على ذلك، وقد شرع لذلك سبيل الخلع، وهو أن تفتدي نفسها من زوجها بشئ يتفقان عليه من مهرها تعطيه إياه.
فالخلع إذا قسم من الطلاق: وهو كل فُرْقةٍ جرت على عوض تدفعه الزوجة للزوج.
دليل مشروعية الخلع:
ويستدل لمشروعية الخلع: بالكتاب، والسنّة.
أما الكتاب: فقول الله عزّ وجل: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} البقرة: 229].(4/127)
وأما السنّة: فما رواه البخاري (في الطلاق، باب: الخلع وكيف الطلاق، رقم: 4971) عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن امرأة ثابت بن قس أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس، ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أتردّين عليه حديقته " قالت: نعم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " اقبل الحديقة، وطلِّقها تطليقة ".
[لا أعتب عليه: لا أعيب عليه. أكره الكفر في الإسلام: أكره جحود حقوق الزوج وأنا مسلمة]
أحكام الخلع:
للخلع أحكام نلخصها فيما يلي:
1ـ الخلع جائز، ولا يقع إلا بعوَض مالي تفرضه الزوجة للزوج. ثم إن كان العَوَض في الخلع معلوماً مذكوراً في الخلع وجب ذلك العَوَض المعلَوم، وإن لم يكن مذكوراً على وجه التحديد صحّ الخلع، ووجب مهر المثل للزوج.
أما إن استعمل الزوج لفظ الخلع، ولم ينص علي عوَض، ولم يخطر بباله العوض أيضاَ، فهو طلاق عاديّ جرى بلفظ الخلع كناية. أي فهو كنايات الطلاق، ويقع به الطلاق رجعياً.
2ـ لا يقع الخلع من غير الزوجة الرشيدة، لأن غير الرشيدة لا تتمتع بأهلية الالتزام، فلا تملك التصرّف، فإن خالعها الزوج وقع طلاقاً رجعياً عادياً، ولا يثبت له به شيء من مهرها.
3ـ إذا خالع الرجل امرأته، ملكت المرأة بذلك أمر نفسها، ولم يبق للزوج عليها من سلطان، فلا رجعة له عليها أثناء العدّة، كما هو الشأن ف الطلاق العادي، لأن الخلع طلاق بائن، إنما السبيل إلى ذلك عقد جديد تملك فيه المرأة كامل اختيارها، وبمهر جديد أيضاً.(4/128)
4ـ لا يلحق المرأة المُخالعة أي طلاق، أو ظهار، أو إيلاء ـ أثناء العدّة ـ من زوجها الذي خالعها، أي لا أثر لشيء من ذلك عليها، لأنها أصبحت بالخلع أجنبية عن الزوج، فلا يسرى إليها تطليق، ولا ظهار، ولا إيلاء. بخلاف المطلّقة طلاقاً عادياً رجعياً، فإن الزوج يملك أن يطلّقها طاقة ثانية، أو يظاهر منها أثناء العدة، ويسري أثر ذلك عليها.
5ـ يجوز أن يُخالع الرجل زوجته في الحيض والطهر الذي جامعها فيه، ما دامت رشيدة. ذلك لأنها لا تتضرر بذلك، إذ الخلع إنما هو تحقيق لرغبتها في التخلّص من الزوج، فلا يرِد فيه ما يمكن إيراده على الطلاق العادي الذي يكون برغبة من الزوج، من الإضرار بالزوجة.
ما يملكه الزوج من الطلقات:
من المعلوم أن الطلاق حقُ للزوج في الأصل. ودليل ذلك قول الله عز وجل:
{أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237]. والذي بيده عقدة النكاح إنما هو الزوج.
غير أن الزوجة أيضاً تصبح صاحبة حق في ذلك، في حالات خاصة، من أهمها:
ـ أن ينالها ضرر من الزوج.
ـ أن يقصر في أداء شيء من حقوقها، ثم تعذّر إصلاح الأمر بينهما. فعندئذ يُوقع عنها القاضي طلقة بناءً على رغبتها.
بعد هذا نقول:
كَم هي الطلقات التي يملكها الزوج، ما دام هو صاحب هذا الحق في الأصل؟
لقد أجاب القرآن على ذلك، وقرر عدد الطلقات التي يملكها الزوج: قال الله عز وجل:
{الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ(4/129)
بِإِحْسَانٍ}. [البقرة: 229]. ثم قال سبحانه وتعالى: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230].
أي إن الزوج يملك أن يطلّق زوجته ثلاث تطليقات، اثنتان منهما رجعيتان، والثالثة تسريح لا رجعة بعده، إلا بشرط سنذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى.
روى أبو داود (في الطلاق، باب: نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث، رقم: 2159)، والنسائي (في الطلاق، باب: نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث: رقم: 6/ 212) عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: إن الرجل كان إذا طلق امرأته، فهو أحقّ برجعتها، وإن طلّقها ثلاثاً، فَنَسخ ذلك، وقال: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] أي الطلاق الذي يملك الزوج فيه الرجعة مرتان فقط. ومن ثم فقد انعقد الإجماع على أن الزوج يملك ثلاث تطليقات، ثالثتها بائنة لا رجعة بعدها، إلا بما سنذكره من الشروط إن شاء الله تعالى.
شروط صحة الطلاق ووقوعه:
لابدّ لكي يملك الزوج ما ذكرنا من الطلقات، ولابد لكي يقع ذلك منه، من أن تتوفر في الزوج المطلِّق الشروط التالية:
الشرط الأول: ثبوت عقد النكاح:
فلا يقع طلاق الرجل من المرأة التي لم يعقد نكاحه عليها، ولا من التي سيعقد نكاحه عليها، سواء كان ذلك بأسلوب التنجيز، أو التعليق: كأن يقول لامرأة لم يعقد عليها: أنت طالق، أو يقول: إن تزوجتك فأنت طالق.
ودليل ذلك من القرآن الكريم قول الله عزّ وجلّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49].(4/130)
فقد علّق سبحانه وتعالى نتائج الطلاق وأحكامه على ثبوت النكاح أولاً.
والدليل من السنة أيضاً: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " لا طلاق قبلَ نكاح ".
رواه الحاكم (في الطلاق، باب: لا طلاق لمن لم يملك، رقم: 2/ 205) وصححه.
وروى أبو داود (الطلاق، باب: في الطلاق قبل النكاح، رقم: 2190)، والترمذي
(الطلاق، باب: ما جاء لا طلاق قبل نكاح، رقم: 1181) عن عبدالله بن عمرو - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا نذر لابن آدم فيما يملكُ، ولا عِتْقَ له فيما لا يملكُ، ولا طلاقَ له فيما لا يملكُ ".
الشرط الثاني: تكامل الرشد:
فالصبي والمجنون والنائم لا يقع طلاقهم.
ودليل ذلك: ما رواه أبو داود (في الحدود، باب: في المجنون يسرق أو يصيب حدّا، رقم: 4403) وغيره عن على - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - رضي الله عنه -: " رُفِع القلمُ عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبيّ حتى يحتِلم َ، وعن المجنون حتى يْعقِلَ " والاحتلام هو البلوغ والكبر.
ويدخل في حكم هؤلاء الثلاثة: الساهي، والجاهل بمعنى الكلام الذي يقوله: ولكن لا تقبل دعواه أنه ساهٍ، أو جاهل بمعنى ما يقول إلا بقرينة أو بيِّنة.
طلاق السكران:
أما السكران، فإن سكر بدواء لا مندوحة له عن استعماله، وغاب من جرّائه عقله، أو أُكره على شرب مُسكِر، بالتهديد، أو صُبَّ المُسِكر في جوفه، فإن حكمه كالصبي والنائم والساهي، بجامع العذر في كلَّ.
أما إن سكر متعدياً ـ أي عن قصد واختيار وبدون عذر ـ فإن طلاقه(4/131)
يقع، ويعتبر كالرشيد حكماً، وعقوبة له على تعدّيه بشرب المُسكر، لأن السكران مكلّف، ولأنه بإجماع الصحابة مؤاخذ بما يتلفظ به حال سكره، من عبارات القذف، ونحوه.
الشرط الثالث تكامل الاختيار:
فلا يقع طلاق المكره. لكن مع مراعاة الشروط التالية في الإكراه:
1ـ أن يكون الإكراه بغير حق، فإن أُكره على الطلاق بحق ـ كأن كان مُضاراً لزوجته، فأكرهه الحاكم على تطليقها ـ فإن الطلاق يقع.
2ـ أن يكون الإكراه معتمداً على التهديد له مباشرة، بما يحصل منه ضرر شديد: كالقتل، والقطع، والضرب المبرح، ومثله الضرب القليل والإيذاء البسيط بالنسبة لمن هو من ذوي الأقدار.
3ـ وأن يكون المكره قادراً على تنفيذ ما هدد به.
ودليل ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا طلاق ولا عتاق في إغْلاَقٍ ".
رواه ابن ماجه (في الطلاق، باب: طلاق المكره والناسي، رقم: 2046) أي في إكراه، لأن المكره يغلق عليه أمره، وتصرّفه.
وروى ابن ماجه (في الطلاق، باب: طلاق المكره والناسي، رقم: 2045) وغيره: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله وضع عن أُمّتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ". أي وضع عنهم حكم ذلك، لا نفس هذه الأمور، لأنها واقعة.
4ـ أن لا يصدر من الزوج المُكْرَه إلا القدر الذي أُكره عليه، فلو أُكره على الطلاق مرة، أو مطلقاً، فطلق طلقتين، أو ثلاثاً، وقع الطلاق.
طلاق الهازل واللاعب:
إذا تأملت في الشروط التي ذكرناها لوقوع المكره علمت أن(4/132)
طلاق الهازل واللاعب واقع، إذا كان رشيداً بالغاً عاقلاً مختاراً، ولا يُعدّ لعبه وهزله عذراً في عدم وقوع الطلاق.
ودليل ذلك: ما رواه الترمذي (في الطلاق، باب: ما جاء في الجدّ والهزل في الطلاق، رقم: 1184)، وأبو داود (في الطلاق، باب: في الطلاق على الهزل، رقم: 2149)، وابن ماجه (في الطلاق، باب: من طلّق أو نكح أو راجع لاعباً، رقم: 2039) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ثلاث جدّهنّ جد، وهزلهنّ جد: النكاح، والطلاق، والرجعة ".
الكيفيات المشروعة للطلاق:
يمكن إيقاع الطلاق على كيفيات مختلفة:
ـ كالجمع بين الطلقات بلفظ واحد، أو التفريق بينها.
ـ أو إيقاع الطلاق منجزاً، أو معلقاً على شرط، أو مع استثناء.
الكيفية الأولي للطلاق:
واعلم أن الكيفية التي هي أفضل في الطلاق شرعاً، والمتفقة مع الحكمة من جعل الشّارع طلاق الرجل زوجته موزعاً على ثلاث مراحل، هي: أن يطلّق طلقة واحدة في طهر لم يجامع الرجل زوجته فيه، فإذا بدا له وندم أرجعها إليه أثناء العدّة.
فإن عاودته الرغبة في الطلاق طلاقها طلّقة ثانية، وكان في يده بعد ذلك طلقة واحدة، تبين بها زوجته عنه بينونة كبرى، ولا ترجع إليه إلا بعد أن تنكح زوجاً غيره نكاحاً شرعياً كاملاً، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى.
وهذه الكيفية هي المفهومة من صريح قول الله عزّ وجلّ: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229].(4/133)
حكم الطلاق الثلاث بلفظ واحد:
إذا لم يلتزم بالكيفية المفضلة للطلاق، فلا يعني أن الطلاق لا يقع، بل يقع كيفما كان، ما دامت الشروط التي تحدّثنا عنها مجتمعة في الشخص المطلق.
وعلى ذلك، فلو جمع الطلقات الثلاث بلفظ واحد في وقت واحد، فقال: أنتِ طالق ثلاثاً، بانت منه بثلاث طلقات، كما لو نطق بهنّ متفرقات.
ولا يعتبر ذلك محرماً، بل هو خلاف السنة، وجنوح عن الطريقة المفضلة.
ودليل ذلك ما رواه الترمذي (الطلاق، باب: ما جاء في الرجل يطلق امرأته البتّة، رقم: 1177)، وأبو داود (في الطلاق، باب: في البتّة، رقم: 2208)، وابن ماجه (في الطلاق، باب: طلاق البتة رقم: 20511) أن ركانة طلّق زوجته البتَّة ـ أي قال لها أنت طالق البتّة ـ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ـ وقد سأله ركانة عن سبيل لرجعتها ـ (آلله ما أردت إلا واحدة).
قال: الله ما أردت إلا واحدة فردّها إليه.
فالحديث دليل على أن ركانة لو أراد بقوله (البتَّة) ثلاثاً لوقعن، ولما أذن له النبي - صلى الله عليه وسلم - بردها، وإلا لم يكن لسؤاله وتحليفه له أيّ معنى.
تعليق الطلاق بصفة أو شرط:
كما يصح الطلاق ويقع منجزاً، فإنه يصحّ معلقاً.
ومعنى تعليق الطلاق: أن يعلّق الزوج وقوع الطلاق على حدوث صفة، أو شرط، سواء مما قد تتلبس به الزوجة أو غيرها، كتعليقه طلاقها على قدوم غائب، أو على تصرّف معين قد تقوم به الزوجة أو غيرها.
مثال تعليق طلاقها على صفة: أن يقول: أنت طالق عند قدوم أبيك،(4/134)
أو أنت طالق في شهر رمضان فتطلق إذا قَدِم أبوها أو إذا دخل شهر رمضان.
ومثال تعليقه بالشرط أن يقول لها: أنت طالق إن خرجت من الدار، أو أنت طالق إن دخل أخوك الدار، فتطلق إن هي خرجت من الدار، أو إن دخل أخوها الدار.
ودليل صحة تعليق الطلاق على صفة أو شرط، ووقوعه إذا تحقق ذلك الشرط، أو تلك الصفة، قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " المسلمون عند شروطهم ".
رواه الحاكم (البيوع، باب: المسلمون على شروطهم والصلح جائز: 2/ 49.
إذ يُفهم من الحديث أن الشروط التي يعلّق الإنسان عليها إبرام شيء تكون محل اعتبار وتقدير من الشارع، ما لم تكن تحرم حلالاً، أو تحلّ حراماً.
الآثار التي يترتب على الطلاق المعلق:
ويترتب على الطلاق المعلّق ما يلي:
1ـ عدم وقوع الطلاق ما دام الشيء الذي عُلق الطلاق به لم يحصل بعد.
2ـ تظل الحياة الزوجية مستمرة بكامل أحكامها ومستلزماتها، ما دام الشرط المعلّق عليه لم يتحقق بعد، وإن كان حصوله على حكم المحقّق. كقوله: إذا جاء شهر رمضان فأنت طالق.
3ـ يقع الطلاق بمجرد حصول الشرط الذي علّق الزوج الطلاق به، دون حاجة إلى أن ينطق نطقاً جديداً بالطلاق.
الاستثناء في الطلاق:
وكما يصحّ الطلاق المعلّق بصفة، أو شرط، كما ذكرنا يصحّ الطلاق الذي دخله الاستثناء.(4/135)
والمقصود بالاستثناء في الطلاق: أن يجمع بلفظ واحد أكثر من طلقة واحدة، ثم يطرح بعضاً منها بأداة الاستثناء، وهي (إلاّ) بأن يقول: أنت طالق ثلاثاً، إلا طلقة واحدة، أو إلا طلقتين.
وذلك لأن الاستثناء من المعدود أسلوب عربي متّبع، ومستعمل في كلّ من الكتاب والسنة، للتعبير عن المعاني، وضبط الكميات والأعداد.
قال الله تعالى حكاية عن نوح عليه السلام: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت: 14]
لذلك جاز استعمال الاستثناء في التعبير عن الطلاق، وضبط عدد الطلقات المراد إيقاعها
شروط صحة الاستثناء في الطلاق:
يشترط لصحة الاستثناء في الطلاق مراعاة الشروط التالية:
1ـأن ينوي المطلّق إلحاق الاستثناء بكلامه قبل فراغه من النطق بالكلام الأصلي المستثنى منه. فلو أتمّ كلامه الأصلي، ثم طرأ على باله أن يستثني منه شيئاً، لم يصح الاستثناء، ووقع الطلاق كما يقتضيه كلامه الأصلي قبل تعليق الاستثناء به.
2ـ أن يتصل لفظ الاستثناء بلفظ المستثنى منه عُرفاً.
فلو فصل بينهما بفاصل زمني يعتبره العُرْف فاصلاً: كدقيقة مثلاً، بطل استثناؤه، ووقع الطلاق كما يقتضيه لفظ المستثنى منه.
3ـ أن لا يكون الاستثناء مستغرقاً لكمية المستثنى منه: كأن يقول: أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاث طلقات، فمثل هذا الاستثناء يعتبر لاغياً، ويستقر الحكم على ما يقتضيه لفظ المستثنى منه.
وينبغي أن تعلم بعد هذا أن الاستثناء من الكلام المثبت يعتبر نفياً، وأن الاستثناء من الكلام المنفي يعتبر إثباتاً، لأن الاستثناء يعطي نقيض(4/136)
الحكم الأصلي للمستثنى، فلو قال: ما طلّقتك إلا طلقتين، وقعت طلقتان.
دليل صحة الاستثناء في الطلاق:
ويستدل لصحة الاستثناء في الطلاق بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " مَن أعتق، أو طلّق واستثنى فله ثنياه: ".
أي استثناؤه. ذكر ابن الأثير في النهاية مادة: (ثنا).
تفويض الطلاق إلى الزوجة:
يصحّ للزوج أن يفوِّض إيقاع الطلاق إلى زوجته، وهذا التفويض إنما هو بمثابة تمليك الطلاق لها.
شروط وقوع طلاق التفويض:
يشترط لوقوع هذا الطلاق الشروط التالية:
1ـ أن يكون الطلاق منجزاً، فلا يصحّ تعليقه على شيء: كإذا جاء الغد فطلَّقي نفسك.
2ـ أن يكون الزوج المفوَّض مكلفاً، فلا يصحّ تفويض الصغير والمجنون.
3ـ أن تكون الزوجة أيضاً مكلفة، فلا يصحّ تفويض صغيرة أو مجنونة.
4ـ أن تُطلَّق نفسها على الفور، بعد تفويضها مباشرة، فلو أخّرت بقدر ما ينقطع به القبول من الإيجاب، لم يصحّ طلاقها.
دليل جواز تفويض الطلاق إلى الزوجة:
ويستدلّ على جواز ذلك، بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خيّر نساءه من بين المقام معه، وبين مفارقته، وذلك لمّا نزل قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [الأحزاب: 28].
فلو لم يكن لاختيارهنَّ الفرقة لم يكن لتخييرهنّ معنى.(4/137)
خاتمة في بعض مسائل الطلاق:
1ـ إذا تلفظ بالطلاق باللغة العربية رجل غير عربي، وهو لا يدري معناه، فإنه لا يقع طلاقه، لانتفاء قصده، ولو تلفظ به بلغته وقع، ولو لم ينوه إذا كان اللفظ الذي استعمله في الطلاق صريحاً في لغته، أي لا يحتمل إلا الطلاق، وإذا كان غير صريح اشترط لوقوع الطلاق النية، كما هو الشأن في اللغة العربية.
2ـ قال رجل لزوجته: أنا منكِ طالق , فإن نوى تطليقها طلقت , وإن لم ينو لم تطلق , لأن اللفظ خرج عن الصراحة إلى الكناية , بإضافته إلى غير محله , فشرط فيه ما شرط في الكناية من قصد إيقاع الطلاق.
3ـ قال رجل لزوجته: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق.
فإن تخلل سكوت بين هذه الجمل بما يعد فاصلا عرفا، وقعت ثلاث طلقات، ولا يقبل قضاء قوله أردت التأكيد، لأنه خلاف الظاهر، وإن لم يتخلل هذه الجمل فاصل، فإن نوى التأكيد وقعت طلقة واحدة، فإن نوى الثلاث وقعت ثلاثاُ، وإن أطلق، ولم ينو شيئاً، وقعت أيضاً ثلاثاً. عملاً بظاهر اللفظ.
4ـ إذا قال لزوجته: إن شاء الله فأنت طالق: لم تطلق إن قصد التعليق بمشيئة الله عز وجل، لأن المعلق عليه من مشيئة الله تعالى غير معلوم. فإن لم يقصد بالمشيئة التعليق، وإنما قصد بها التبرك، أو لم يقصد شيئاً، فإن الطلاق يقع.
5ـ لو خاطبت الزوجة زوجها بمكروه، فقالت له يا سفيه، أو يا خسيس، فقال لها: إن كنتُ كما تقولين فأنت طالق.
فإن قصد بذلك مكافأتها بإسماعها ما تكره، وإغاظتها بالطلاق كما أغاظته بالشتم، فإن الطلاق يقع، وإن لم يكن سفيهاً، ولا خسيساً. وكأنه قال: إن كنت بزعمك كذلك فأنت طالق.(4/138)
أما إذا أراد تعليق الطلاق على وجود السفه والخسّة، أو أطلق، ولم يرد شيئاً اعتبرت الصفة المعلّق عليها كما هو سبيل التعليقات، فإن لم يكن سفيهاً أو خسيساً، لم يقع الطلاق، وإن كانت كذلك، وقع.
والسفيه: هو من يستحق الحَجْر عليه لسوء تصرفه بأمواله.
والخسيس: قيل هو: مَن باع دينه بدنياه. وقيل: هو مَن يتعاطى غير لائق به بخلاً.
أحكام الرجعة
اعلم أن الرجل إذا طلق زوجته، فلابدّ أن يقع الطلاق على واحد من الأحوال التالية:
أولاً: أن يطلّقها قبل الدخول.
ثانياً: أن يطلّقها على وجه المخالفة، سواء كان ذلك قبل الدخول أم بعده.
ثالثاً: أن يطلّقها طلاقاً عادياً بعد الدخول طلقه، أو طلقتين.
رابعاً: أن يطلّقها طلاقاً عادياً ثلاث تطليقات.
هذه هي الكيفيات التي يمكن أن يقع عليها الطلاق، فلنشرح ما يترتب على كل حالة من أحكام الرجعة إذا أراد الزوج أن يراجع زوجته بعدها
أولاً: إذا طلقها قبل أن يدخل بها:
إذا طلّق الرجل زوجته قبل أن يدخل بها، بانت منه، ولم يجز له أن يراجعا، إذا لا يجب عليها أن تعتدّ منه، لصريح قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] لذلك ينتهي بها الطلاق إلى البينونة رأساً.(4/139)
ثم إذا كان طلّقها في هذه الحالة طلقة واحدة، أو طلقتين، لم تحلّ له إلا بعقد ومهر جديدين، بناء على اختيارها ورضاها.
وإن كان قد طلّقها ثلاث تطليقات، لم تحلّ له إلا بعد أن تنكح زوجاً غيره، ويدخل بها الزوج الثاني، ثم يطلّقها، ثم تعتدّ منه، ثم يتزوجها هو بعقد ومهر جديدين.
ثانياً: إذا خالعها على مال:
إذا خالع الزوج زوجته (وقد مرّ بك بيان الخلع) بانت منه، ولم يجز له أن يراجعها بموجب العقد والمهر جديدين، كزوج جديد، سواء كان ذلك الخلع قبل الدخول بها، أو بعده.
ثالثاً: إذا طلّقها بعد الدخول طلقة أو طلقتين:
إذا طلّق الزوج زوجته بعد الدخول بها طلقة واحدة، أو طلقتين، جاز له أن يراجعها بموجب العقد والمهر الثابتين، بناءً على رغبته المنفردة، إذا كانت عدّتها لم تنقض بعد. ودليل ذلك صريح قول الله عزّ وجلّ: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحاً} [البقرة: 228].
والمراد بالردّ: الرجعة. وقال الله تعالى: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229].
فإن الإمساك بمعروف بعد الطلاق لا يكون إلا بناءً على الرجعة.
ودليل ذلك من السنّة: ما رواه أبو داود (الطلاق، باب: في المراجعة، رقم: 2283) عن عمر - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طلق حفصة رضي الله عنها، ثم راجعها.
كيفية الرجعة:
ويكفي لإرجاعها إلى عصمة نكاحه أن يقول: أرجعتك إلى عصمتي، وعقد نكاحي.(4/140)
ويسنّ أن يشهد على كلامه هذا شاهدين. واستدلّ لهذا بقوله تعالى:
{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} [الطلاق: 2].
فإن أرجعها عادت إليه بما بقي له من الطلاق، فإن كان قد طلّقها طلقة، بقيت له اثنان، وإن كان قد طلقها طلقتين، بقيت له طلقة واحدة فقط.
فأما إذا لم يراجعها حتى انقضت عدّتها، فإنها تصبح بذلك بائنة منه، وعندئذ سبيل إليها إلا بعقد ومهر جديدين، باختيار منها، كزوج جديد.
ودليل ذلك: قول الله عزّ وجلّ {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 232].
فلو كان حق الرجعة ثابتاً لزوجها الأول، لما أباح لها النكاح ممن تشاء من الأزواج.
رابعاً: إذا طلقها ثلاث تطليقات:
إذا طلق الزوج زوجته ثلاث تطليقات، سواء كنّ متفرقات، أم مجتمعات بلفظ واحد، وسواء كان الطلاق قبل الدخول، أو بعد الدخول، بانت منه الزوجة، ولم يعد له من سبيل إليها، سواء أثناء العدّة أو بعدها، إلا بعد اجتيازها خمس مراحل من الشروط:
1ـ أن تنقضي عدّتها من زوجها.
2ـ أن يعقد نكاحها بعد انقضاء عدّتها على زوج غير الأول عقداً طبيعياً صحيحاً.
3ـ أن يدخل بها هذا الزواج الثاني دخولاً حقيقياً.
4ـ أن يطلّقها بعد ذلك.
5ـ أن تنقضي عدّتها منه.(4/141)
ثم إذا أراد بعد ذلك زوجها الأول أن يعود إليها كان له ذلك، لكن بناءً على رضاها، وبعقد ومهر جديدين. قال الله تعالى: {َإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ} [البقرة: 230]
وروى البخاري (الشهادات، باب: شهادة المختبي، رقم: 2496)، ومسلم (في النكاح، باب: لا تحل المطلقة ثلاثاً لمطلّقها حتى تنكح ... .، رقم: 1433) عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت امرأة رفاعة القرظي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: كنت عند رفاعة، فطلقني فأبتّ طلاقي، فتزوجت عبد الرحمن بن الزَّبير، إنما معه مثل هُدْبة الثوب، فقال: (أتريدين أن ترجعي إلاّ رفاعة؟، حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك).
[أبتّ طلاقها: طلّقها ثلاثاً. هدبة الثوب: حاشيته، شبّهت به استرخاء ذكره، وأنه لا يقدر على الوطء. تذوقي عسيلته: هذا كناية عن الجماع. وعسيلة: قطعة صغيرة من العسل، شبّه لذة الجماع بلذة ذوق العسل].
الحكمة من توقف حل المطلقة ثلاثاً على هذه الشروط:
ولعلّ الحكمة في إلزام المطلّقة بكل هذه الشروط التي ذكرنا لتحلّ لزوجها الأول هي:
التنفير من الطلاق الثلاث، وحمل الأزواج بذلك على أن لا يتورطوا في الطلاق الثلاث.
الخلاصة في الرجعة:
اعلم أن المطلّقة بالنسبة لإمكان رجوعها إلى زوجها تسمى:
(رجعية) إن طلِّقت طلقة واحدة أو طلقتين، بعد الدخول بها، وعدّتها لم تنقضِ بعد.(4/142)
وحكمها: جواز مراجعة زوجها لها، بعقدها ومهرها السابقين وبموجب إرادته المنفردة
(بائنة بينونة صغرى): وهي:
1ـ المطلّقة طلقة واحدة أو طلقتين قبل الدخول بها.
2ـ المطلّقة طلقة واحدة أو طلقتين بعد الدخول بها، وقد انقضت عدّتها.
3ـ المخالعة على بَدَلَ مالي، كما سبق بيانه.
وحكمها: لا سبيل للزوج إليها إلا بعقد ومهر جديدين، وباختيارها ورضاها.
(بائنة بينونة كبرى): وهي التي طلّقها زوجها ثلاث تطليقات، سواء قبل الدخول بها، أو بعده.
وحكمها: لا تحلّ له إلا بعد أن تنكح زوجاً غيره، على نحو ما قد سبق إيضاحه.(4/143)
مشبهات الطلاق
هنا ثلاث مسائل، تشبه في نتائجها الطلاق، أو هي قد تؤول إلى الطلاق. وهذه المسائل هي: الإيلاء، الظهار، اللعان. لذلك جمعناها إلى بعضها تحت هذا العنوان:
(مشبّهات الطلاق) ثم لنشرح كلاً منها على حدة:
أولاً ـ الإيلاء
تعريف الإيلاء:
الإيلاء في اللغة من الأليَّة، بمعنى اليمين. يقال: آلى فلان: أي أقسم، وعليه قول الله عزّ وجلّ: {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ ... } [النور: 22] أي لا يحلف.
والإيلاء اصطلاحاً: فهو أن يقسم الزوج المالك لحق الطلاق ألاّ يجامع زوجته مطلقاً، أو مدة تزيد على أربعة أشهر.
حكم الإيلاء:
إذا أقسم الزوج على أن يجامع زوجته مطلقاً، أو مدة تزيد على أربعة أشهر، فهو مولٍ بذلك من زوجته. ويترتب على الزوج من الأحكام الشرعية ما يلي:
يمهله الحاكم أربعة بدءاً من اليوم الذي أقسم فيه أن لا يطأ(4/144)
زوجته، كفرصة يمكنه من الرجوع والتكفير عنها، أو من تطليقها إن لم يرد الرجوع والتفكير.
فإذا انتهت الأشهر الأربعة، وهو ملتزم يمينه، فهو عندئذ مضار لزوجته، ويلزمه الحاكم بسبب ذلك ـ بناءً على طلب الزوجة ـ بأحد أمرين:
1ـ الرجوع عن يمينه، والاتصال بزوجته، ويكفّر عن يمينه، إن كان قد أقسم بالله، أو بعض صفاته، أو يأتي بما أقسم به إن كان قد حلف على أن يفعل عملاً، أو يتصدق بصدقة.
2ـ أو الطلاق إن أبى إلا التمسك بيمينه.
فإن أبى الزوج، ورفض سلوك أحد هذين السبيلين، أوقع القاضي عنه طلقة واحدة، لأنه حق توجه عليه لرفع الضرر عن الغير، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتطليق عليه. وتقع النيابة فيه، كقضاء الدين، وأداء الحقوق العينية.
هذا إذا لم يكن بالزوج عذر يمنعه من الوطء، فأما إن كان عذر من مرض ونحوه، طولب بالرجوع عن إيلائه بلسانه، بأن يقول: إذا قدرت رجعت عن التزامي ويميني
دليل أحكام الإيلاء:
ودليل أحكام الإيلاء التي ذكرناها قول الله عز وجل: {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآؤُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {226} وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
[البقرة: 226 ـ 227].
[يؤلون: يحلفون. تربص: انتظار. فاؤوا: رجعوا عن الحلف إلى الوطء. عزموا الطلاق: أوقعوه].
وروى مالك رحمه الله تعالى في كتابه المؤطأ (الطلاق، باب: الإيلاء 2/ 556) عن علي - رضي الله عنه - أنه كان يقول: إذا آلى الرجل من(4/145)
امرأته، لم يقع عليه طلاق، وإن مضت الأربعة أشهر، حتى يوقف: فإما أن يطلّق، وإما أن يفيء.
وروى ... مثل ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما.
ومثل هذا الحكم لا يقال من قبل الرأي، لذلك كان لهذا الحديث حكم المرفوع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ثانياً ـ الظهار:
تعريف الظهار:
الظهار ـ لغة ـ مأخوذ من الظهر، لأن صورته الأصلية أن يقول الرجل لزوجته: أنت عليّ كظهر أمي.
وتعريف الظهار في الاصطلاح: أن تشبّه الزوج زوجته في الحرمة بإحدى محارمه: كأمه، وأخته.
وكان العرب في الجاهلية يعتبرون الظهار أسلوباً من أساليب الطلاق. ولكن الشريعة الإسلامية أعطته اعتباراً آخر، وبَنَت عليه أحكاماً أخرى غير الطلاق.
حكم الظهار من حيث الحلّ والحرمة:
الظهار حرام بإجماع المسلمين، وهو كبيرة من الكبائر، بدليل أن الله عز وجل سماه منكراً من القول وزوراً، قال تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} [المجادلة: 2]
ألفاظ الظهار:
تنقسم الألفاظ التي تعتبر دالّة على الظهار إلى قسمين: صريح، وكناية.
أما اللفظ الصريح: وهو الذي لا يحتمل غير الظهار ـ فهو أن يقول(4/146)
لزوجته: أنت عليّ كظهر أمي. أو أنت عندي - كظهر أُمي. فإذا تلفظ بهذا الكلام، فهو مظاهر من زوجته، سواء وجت نيّة ذلك لديه أم لم توجد، مادام ممّن يصحّ منهم الطلاق، أما دام رشيداً واعياً لمعنى ما يقول.
أما اللفظ الكنائي ـ وهو ما يحتمل الظهار وغيره ـ فهو مثل أن يقول لزوجته: أنت عليّ كأمي وأختي، أو: أنت عندي مثل أمي وأختي.
فإذا نطق بمثل هذه الألفاظ، فإنها تنصرف إلى المعنى الذي أراده عند التلفّظ بها.
فإن كان قصد بها الظهار كان مظاهراً، وإن كان قصد بها تشبيه زوجته بأمه أو أخته في الكرامة والتقدير لم يكن مظاهراً، وليس عليه شئ أبداً.
أحكام الظهار:
إذا نطق الزوج بلفظ الظهار الصريح، أو بشيء من ألفاظه الكنائية، وأراد بذلك معنى الظهار، وهو تشبه الزوجة بمحارمه في الحرمة عليه، فإنه ينظر:
ـ فإن أتبع كلامه هذا بالطلاق، فإن حكم الظهار يندرج في الطلاق، ولا يبقى له من أثر، إذ يأتي الطلاق بمثابة تفسير للفظ الظهار، فيلغو حكم الظهار، ويستقر الطلاق.
ـ أما إن لم يتبع ذلك بالطلاق، ولم يحصل ما يقطع النكاح، فإنه يعتبر عائداً في كلامه، مخالفاً لما قاله، فإن عدم انفصاله عن زوجته، وقد شبّهها في الحرمة بمحاربة ـ يعتبر نقضاً منه لهذا التشبيه، ومخالفة لمقتضاه. وعندئذ تلزمه كفّارة، يُكلف بإخراجها على الفور.
كفارة الظهار:
وكفّارة الظهار مرتبة ـ حسب الإمكان ـ وفق ما يلي:(4/147)
1ـ عتق رقبة مؤمنة سليمة من العيوب المُخلّة بالكسب والعمل، كالزمانة، أو فَقْد عضو، كرجْل مثلاً.
2ـ فإن لم يكن رقيق كعصرنا اليوم، أو كان، ولكنه عجز عنه، فصيام شهرين قمريين متتابعين.
3ـ فإن لم يستطيع الصوم، أو لم يستطيع الصبر على تتابع الصوم، لمرض، أو هرم، فإطعام ستين مسكيناً، لكل مسكين مدّ من غالب قوت البلد.
دليل ترتيب الكفّارة:
والدليل على هذا الترتيب في كفّارة الظهار ـ ما سيأتي في أحكام الظهار عامة ـ وما رواه الترمذي (الطلاق، باب: ما جاء في كفارة الظهار، رقم: 1200) وغيره: أن سلمان بن صخر الأنصاري، أحد بني بياضة، جعل امرأته عليه كظهر أُمه، حتى يمضي رمضان، فلما مضى نصف من رمضان، وقع عليها ليلاً، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر ذلك له، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أعتق رقبة ". قال: لا أجدها، قال: " فصم شهرين متتابعين ". قال: لا أجد. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لفروة بن عمرو: " أعطه ذلك العرق " وهو مكتل يأخذ خمسة عشر صاعاً، أو ستة عشر، إطعام ستين مسكيناً.
كفارة الظهار تخرج فوراً:
إن كفّارة الظهار يُطالب بها الزوج على الفور، أي إنه لا يحلّ له وطء زوجته قبل التفكير بأيّ الأنواع الثلاثة التي سبق ذكرها، فإذا وطىء زوجته قبل التفكير، فقد عصى، ولزمته الكفّارة، لأن الوطء قبل التفكير حرام. لقول الله عزّ وجل: {مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا}
[المجادلة: 3].
روى الترمذي (الطلاق، باب: ما جاء في المظاهر يواقع قبل أن يكفر، رقم: 1199)، وابن ماجه (الطلاق، باب: المظاهر يجامع قبل أن يكفر، رقم: 2065) وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رجلاً(4/148)
أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ظاهر من امرأته، فوقع عليها، فقال: يا رسول الله، إني قد ظاهرت من زوجتي، فوقعت عليها قبل أن أُكفّر، فقال: " وما حملك على ذلك، يرحمك الله "؟ يرحمك الله "؟ قال: رأيت خلخالها في ضوء القمر، قال: " فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله به ".
دليل أحكام الظهار عامة:
ويستدل لأحكام الظهار جملة: بما جاء عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة أوس بن الصامت ـ رضي الله عنها ـ جاءت تشتكي زوجها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي تقول: يا رسول الله، أكل شبابي ونثرت له بطني، حتى إذا كبرت سنّي وانقطع ولدي ظاهر مني، اللَّهمّ إني أشكو إليك، فما برحت حتى نزل جبرائيل بهؤلاء الآيات: {قَدْ سَمِعَ}
رواه ابن ماجه (الطلاق، باب: الظهار، رقم: 2063)، وأبو داود (الطلاق، باب: في الظهار، رقم: 2214)، والحاكم (في المستدرك: التفسير، تفسير سورة المجادلة: 2/ 481) ..
والآيات هي:
{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ {1} الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ {2} وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ {3} فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المجادلة: 1 - 4].(4/149)
ثالثاً ـ اللعان
تعريف اللعان:
اللعان ـ لغة ـ مصدر لاعن، وهو الطرد، والإبعاد.
منه: لعنه الله، أي طرده وأبعده.
وسمي بذلك لبعد الزوجين كلّ منهما عن الآخر.
وأما اللعان شرعاً: فهو كلمات معينة، جعلت حجة للمضطر إلى قذف من لطّخ فراشة، وألحق العار به.
وسمي لعاناً، لاشتمال هذه الكلمات على لفظ اللعن، ولأن كلا من المتلاعنين يبتعد عن الآخر باللعان.
الحكمة من مشروعية اللعان:
أعلم أن حكم اللعان جاء مخالفاً لما يقتضيه عموم حكم القذف، من استحقاق القاذف الحدّ، وبراءة المقذوف حكماً مما قد رماه به القاذف.
فما هي حكمة هذه المخالفة؟ ولماذا لم تنطبق أحكام القذف على مَن جاء بقذف زوجته بالفاحشة؟
والجواب: أن غير الزوج بالنسبة لزوجته غير مضطر إلى أن يرمي أحداً من الناس بالفاحشة، صادقاً كان في ذلك أم كاذباً.
بل الأدب الإسلامي يقضي بأن يستر المسلم ما قد ينكشف له من عيوب الآخرين، ويكتفي بالنصح لهم، في ستر ونَجْوة من الناس.
أما الزوج بالنسبة لزوجته، فإنه يشبه أن يكون مضطراً إلى الكشف عن حقيقتها، وواقع أمرها في ارتكاب الفاحشة، لأن ارتكابها ذلك تلطيخ لفراشه، وإلحاق للعار به. وهو عذر شرعي يعطيه حق الانفصال عنها.
ولو انفصل عنها بطلاق لاستلزم ذلك أن يقع في ظلم آخر يلحقه(4/150)
بنفسه، وهو الحكم لها بكامل المهر، دون أن تستحق شيئاً منه بسبب سوء سلوكها.
لذلك كان لابدّ ـ لإنصافه ـ من أن يشرع حكم خاص بهذه الحالة، يضمن بقاء كل من الزوجين في كنف العدالة، دون أن يذهب واحد منهما ضحّية لظلم الآخر.
وكان هذا الحكم هو: حكم اللعان، الذي سنقف على موجز لتفاصيله.
وبهذا تدرك الحكمة من أن قذف الزوج لزوجته، إذا جاء على النحو الذي رسمته الشريعة الإسلامية، لا يستوجب حدّاً أبد له، فإن القاذف إنما يُحدّ لاتهامه بالكذب من جانب، ولعدم اهتمامه بستر حال المسلمين من جانب آخر.
أما الزوج فإنه يبعد جداً أ، يقذف زوجته كاذباً، لم يلحقه بسبب هذا الكذب من العار، وسوء السمعة، وهو معذور في أن لا يستر حال زوجته، لأن ستره لها إلحاق للعار به، وهو إسقاط لمروءته وحُسن سيرته بين الناس.
حكم قذف الزوجة:
القذف: هو أن يرمي زوجته بالزنى، وللزوج الحق في أن يرميها بذلك إذا علم زناها، أو ظنه ظناً مؤكداً: كظهور زناها بفلان من الناس، مع رؤيتهما في خلوة منفردين. هذا الحكم ـ وهو إباحة رمي الزوجة بالزنى ـ إذا لم يكن هناك ولد، أما إذا كان هناك ولد، والزوج يعلم أنه ليس منه، فإنه والحالة هذه يجب عليه أن يرمي زوجته، وينفي الولد عن نفسه، لأن ترك نفسي الولد عن نفسه يتضمن استلحاقه، واستلحاق من ليس منه حرام، كحرمة نفي مَن هو منه، لكن كيف يعلم أن هذا الولد ليس منه.
طريق العلم بذلك أن يكون لم يطأ زوجته، أو أن زوجته قد أتت(4/151)
بالولد لدون ستة أشهر من الوطء، التي هي أقل مدة الحمل، أو ولدته لأكثر من أربع سنين من الوطء، التي هي أكثر مدة الحمل، ففي هذه الحالات يثبت أن الولد ليس من هذا الزوج، وعندئذ يجب نفيه عن نفسه، لئلا يلحق به.
كيفية لعان الزوج:
إذا رمى الرجل زوجته بالزنى فعليه حدّ القذف، إلا أن يقيم البيّنة، والبيّنة أربعة شهداء، بما فيهم الزوج.
وهذا هو الحكم العام لمقتضى القذف، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لهلال بن أُمية - رضي الله عنه - لما قذف امرأته عند النبي - صلى الله عليه وسلم -: " البينّة أو حدّ في ظهرك " فقال هلال: والذي نعثك بالحق إني صادق، فَلْينزلنّ الله ما يبرئ ظهري من الحدّ.
وقد نزل حكم اللعان، فكان السبيل الذي يدرأ به الزوج عن نفسه حدّ القذف، إذا قذف زوجته بالزنى، فكيف تكون الملاعنة إذاً؟
الملاعنة: أن يقول الزوج عند الحاكم أمام جَمْع من الناس، يسنّ أن يكونوا من وُجهائهم، وصالحيهم، وأن يكون ذلك في المسجد، فوق مكان مرتفع، كمنبر وغيره، يقول
أشهد بالله إنني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي فلانة من الزنى، وأن هذا الولد
(إن كان لها ولد، أو حمل) من الزنى وليس منّي.
يقول ذلك أربع مرات، يشير في كل مرة بيده إلى زوجته، إن كانت حاضرة.
ثم يقول في المرة الخامسة: بعد أن يعظه الحاكم، ويحذّره من الكذب، يقول: وعلىّ لعنة الله إن كنت من الكاذبين.(4/152)
دليل هذا اللعان:
ويستدلّ على تشريع اللعان بالنسبة للزوج يقول الله عزّ وجلّ:
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ {6} وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 6 - 7]
ويستدل من السنة بما رواه البخاري (الطلاق، باب: التلاعن في المسجد، رقم: 5003) ومسلم (أول كتاب اللعان، رقم: 1429) عن سهل بن سعد - رضي الله عنه -: أن رجلاً من الأنصار جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله. أرأيتَ رجلاً وجد من امرأته رجلاً، أيقتله، أم كيف يفعل؟ فأنزل الله في شأنه ما ذُكرَ في القرآن من أمر المتلاعنين، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " قد قضى الله فيك وفي امرأتك ". قال فتلاعنا في المسجد وأنا شاهد.
وفي رواية: فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الأحكام التي تترتب على لعان الزوج:
إذا لاعَنَ الزوج زوجته، على الكيفية التي ذكرناها، ترتب على ذلك خمسة أحكام:
1ـ سقوط حدّ القذف عن الزوج.
2ـ وجوب حدّ الزنى على الزوجة، إلا أن تلاعن هي أيضاً.
3ـ زوال الفراش، أي انقطاع النكاح بينهما.
4ـ نفي الولد، وانقطاع نسبه عن الزوج إن نفاه في لعانه، وإلحاقه بالزوجة.
5ـ حُرمة كلّ من الزوجين على الآخر إلى الأبد.
روى البخاري (الطلاق، باب: يلحق الولد بالملاعنة، رقم: 5559)، ومسلم (في اللعان، رقم: 1494) عن ابن عمر رضي الله(4/153)
عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لاعَنَ بين رجل وامرأته، فانتفى مَن ولدها، ففرق بينهما، وألحق الولد بالمرأة.
وروى أبو داود (الطلاق، باب: في اللعان، رقم: 2250) عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: مضت السنّة بعدُ في المتلاعنين أن يفرّق بينهما، ثم لا يجتمعان أبداً.
كيفية لعان الزوجة:
كما أن لعان الزوج هو السبيل الذي يدرأ عنه حدّ القذف، فإن لعان الزوجة هو السبيل الذي يدرأ عنها حدّ الزنى، الذي يتعلق بها بسبب لعان الزوج.
إما كيفية لعان الزوجة، فهو أن تقول:
أشهد بالله أن فلاناً من الكاذبين فيما رماني به من الزنى. تقول ذلك أربع مرات، ثم تقول في المرة الخامسة: وعلىّ غضب الله إن كان من الصادقين. فإذا قالت ذلك سقط عنها حدّ الزنى
دليل لعان الزوجة:
والدليل على ذلك قول الله عز وجلّ: {وَيَدْرَأُ {7} عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ {8} وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 8ـ9].
من أهم شرائط اللعان:
1ـ أن يتقدم القذف على اللعان.
2ـ أن يتقدم لعان الزوج على لعان الزوجة.
3ـ أن يلتزم كل من الزوج والزوجة نصّ الكلمات التي ذكرناها، فلو أبدل أحد الزوجين لفظ الشهادة بغيرها: كالحلف، أو القسم، أو أبدل لفظ(4/154)
الغضب باللعن، أو العكس، لم يصحّ اللعان. لأن ألفاظ اللعان وردت بنصّها في صريح كتاب الله عزّ وجلّ، فيجب المحافظة عليها في صيغة الملاعنة.
4ـ أن يكون بين الشهادات الخمس التي يشهدها كل من الزوجين موالاة وتتابع، فلا يجوز أن يقع ما يعدّ في العُرف فاصلاً بينهما.
5ـ يجب على الحاكم أن ينصح كلاً من الزوجين، ويحذره الكذب ومغبّته، وأن يقول لهما: حسابكما على الله، أحدكما كاذب، فهل منكما من تائب.
روى الترمذي (الطلاق، باب: ما جاء في اللعان، رقم: 1202) عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا الرجل، فتلا عليه الآيات، ووعظه وذكره، وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فقال: لا والذي بعثك بالحق ما كذبت عليها.
ثم ثنى بالمرأة فوعظها وذكرها، وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فقالت: لا والذي بعثك بالحق ما صدق.
قال فبدأ بالرجل فشهد أربع شهادات إنه لمن الصادقين، والخامسة إن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين.
ثم ثنى بالمرأة، فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين. ثم فرّق بينهما.
وفي رواية عند البخاري (الطلاق، باب: قول الإمام للمتلاعنين: أحدكما كاذب ... .، رقم: 5006) قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لهما " حسابكما على الله، أحدكما كاذب، لا سبيل لك عليها ".
وروى البخاري (الطلاق، باب: يبدأ الرجل بالتلاعن، رقم: 5001) عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن هلال بن أمّية قذف امرأته، فجاء(4/155)
فشهد، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إن الله أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب ".
وروى أبو داود (الطلاق، باب: التغليظ في الانتفاء، رقم 2263) وغيره عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول حين نزلت آية المتلاعبين: " أيّما امرأة أدخلت على قوم مَن ليس منهم، فليست من الله في شيء ولن يدخلها الله جنته. وأيما رجل جحد ولده، وهو ينظر إليه احتجب الله منه، وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين ".
نسأل الله تعالى اللطف في الدنيا والآخرة.(4/156)
العدَّة
تعريف العدة:
العدّة ـ لغة ـ اسم مصدر عدّ يعدّ، أما المصدر: فهو (عدّ) والعدّة: مأخوذة من العدد، لاشتمالها عليه، من الأقراء، والأشهر.
والعدة اصطلاحاً: اسم لمدة معينة تتربصها المرأة، تعبداً لله عزّ وجلّ، أو تفجعاً على زوج، أو تأكداّ من براءة الرحم.
دليل مشروعية العدة:
لقد ثبتت مشروعية العدّة بعدد من آيات القرآن الكريم، وبكثير من أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وانعقد إجماع الأمة على مشروعيتها.
وسيأتي ـ أثناء البحث ـ الكثير من أدلة الكتاب والسنّة التي تفصل أحكام العدّة وتبيِّنها، وتدل على مشروعيتها.
الحكمة من مشروعية العدة:
ـ أما المتوفى عنها زوجها، فقد شرعت العدة في حقها، للمعاني التالية:
أولاً: للوفاء بحق زوجها الراحل، فإن ما قد فرضه الله عليها من التقدير والوفاء وحُسن المعاملة له، لا يتناسب مع إعراضها عنه بمجرد وفاته، ورحيله عنها.
ثانياً: للتعويض عن العُرْف الجاهلي، الذي كان يفرض على الزوجة(4/157)
إذا مات زوجها أن تحبس نفسها في وكر مظلم عاماً كاملاً، وأن تضمخ نفسها خلال ذلك بالسواد، وتلبس البشع المستقذر من ثيابها.
ذلك لأن القضاء على عادة متطرفة في المجتمع، لا يتم إلا إذا ملىء مكان تلك العادة بمبدأ معتدل سليم، يحقّق محاسن العادة الأولى دون أن يجرّ على الناس شيئاً من مساوئها.
ـ وأما المفارقة بفسخ أو طلاق:
فإن كانت الزوجة من ذوات الحيض، أو كانت حاملاً: فإن الحكمة من وجوب العدّة في حقها: ضبط الأنساب، وحفظ المسؤوليات، والتأكد من براءة الرحم، والأمر في ذلك واضح.
أما إن كانت الزوجة صغيرة، أو آيسة لا تحيض، فالحكمة من وجوب العدّة عليها تظهر فيما يلي.
1ـ المعنى التعبدي، الذي يتضمن الانصياع لأمر الله عزّ وجلّ، وهذا في الحقيقة معنى جدير بالوقوف عنده، وهو يتناول العدّة بكل أنواعها.
2ـ تفخيم أمر النكاح، وإعطاؤه الأهمية الشرعية التي تناسبه. وواضح أنه لا يتناسب مع شيء من هذا التفخيم والأهمية أن تتحول الزوجة في اليوم التالي من فراقها إلى زوج آخر، وإن كانت صغيرة، أو آيسة مقطوعاً ببراءة رحمها من الحمل من زوجها. إن هذه السرعة في التنقل تُذيب أهمية النكاح، وهيبته أمام الأنظار، وتثير في النفس والخيال شأن السفاح وصورته، وكيف تنتقل البغي من شخص إلى آخر دون أي انتظار
3ـ مزيد من الحيطة للتأكد من براءة الرحم، إذ لا يؤمن عدم وقوع أحوال ووقائع شاذة عن القانون والعُرْف الطبيعي، بين كل حين وآخر من الزمن.(4/158)
أنواع العدّة:
تنقسم العدّة التي تلزم بها المرأة إلى قسمين:
1ـ عدة وفاة.
2ـ وعدة فراق.
أولاً: عدّة الوفاة:
أما عدّة الوفاة، فهي التي تجب على من مات عنها زوجها:
أـ فإن كانت حاملاً منه أثناء الوفاة فعدّتها تنتهي بوضع الحمل، طالت المدة أو قصرت.
ب ـ وإن كانت المرأة غير حامل، أو كانت حاملاً بحمل لا يمكن أن يكون من زوجها المتوفى عنها، كأن يكون زوجها غير بالغ، أو ثبت غيابه عنها منذ أكثر من أربع سنوات، فعدّتها تنتهي بنهاية أربعة أشهر وعشرة أيام، سواء دخل بها الزوج، أو لم يدخل.
دليل ذلك:
والدليل على ما ذكر قول الله عز وجل: {وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]. وقوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 234].
[يتربصن: ينتظرن. بلغن أجلهنّ: انقضت عدّتهنّ ومدّتهنّ المذكورة. فلا جناح: لا خرج ولا إثم. فيما فعلن في أنفسهنّ: أي من التزين، والتعرّض للخطاب، وللزواج. بالمعروف: بالوجه الذي يقرّه الشرع، ولا ينكره].
فالآية الثانية من الآيتين عامّة تشمل المرأة الحامل وغيرها، أما الأولى منهما فقد أخرجت من ذلك العموم النساء الحوامل، وجعلت لهنّ(4/159)
حكماً خاصاً بهنّ، فكان هذا هو دليل التفريق بين عدّة المرأة التي توفي عنها زوجها وهي حامل منه، وبين عدّة المرأة التي توفي عنها زوجها وهي غير حامل.
والدليل من السنة أن الحامل تنتهي عدّتها بوضع الحمل: ما رواه البخاري (الطلاق، باب: {وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ ... . }، رقم: 5014) عن المسور بن مخرمة - رضي الله عنه -: أن سُبيْعة الأسلمية رضي الله عنها نُفسَتْ بعد وفاة زوجها بليال، فجاءت النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستأذنه أن تنكح، فأذن لها، فنكحت. [نفست: ولدت].
ثانياً: عدة الفراق:
وأما عدّة الفراق فهي التي تجب على المرأة التي فارقت زوجها، بفسخ أو طلاق، بعد وطئها:
أـ فإن كانت حاملاً فعدّتها تنتهي بوضع الحمل. ودليل ذلك عموم قول الله عزّ وجل:
{وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4].
ب ـ وإن كانت حامل، وهي من ذوات الحيض، فعدّتها بمرور ثلاثة أطهار من بعد الفراق.
ودليل ذلك قول الله سبحانه وتعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة: 228]
ج ـ وإن كانت لا ترى حيضاً: بأن كانت صغيرة، أو آيسة، أي متجاوزة سن الحيض ذلك قول الله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن(4/160)
نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4].
[واللائي لم يحضن: الصغيرات، فعدّتُهنّ أيضاً ثلاثة أشهر. إن ارتبتم: شككتم في حكمهنّ، ولم تعرفوا كيف يعتدن].
المطلّقة قبل الدخول بها:
أما المرأة التي فارقها زوجها بفسخ، أو طلاق، قبل الدخول بها، فلا يجب عليها أن تلتزم بأيّ عدّة.
ودليل ذلك قول الله عزّ وجل ّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [الأحزاب: 49].
أحكام العدة وما تفرضه من التزامات:
هناك أحكام والتزامات تفرضها العدّة، وسنبيّنها فيما يلي:
أولاً عدّة الطلاق:
إذا كانت المرأة معتدّة من زوجها عدّة طلاق، فإما أن يكون طلاقها: رجعياً، أو بائناً
الأول: فإن كانت معتدّة من طلاق رجعي ترتب على عدّتها الأحكام التالية:
أـ وجوب المسكن لها مع الزوج، والأفضل أن يكون مسكن طلاقها، إن كان لائقاً بها، ولم يمنع منه مانع شرعي، ونحوه.
ب ـ وجوب النفقة لها بسائر أصنافها: من مؤنة، وكسوة، وغير ذلك، سواء كانت حاملاً، أو حائلاً، وذلك لبقاء سلطان الزوج عليها، وانحباسها تحت حكمه، حيث يمكنه أن يرجعها ما دامت في العدّة.
ج ـ يجب عليها ملازمة مسكنها، فلا تفارقه إلا لضرورة. ودليل هذه(4/161)
الأحكام الثلاثة قول الله عزّ وجلّ: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] وقال الله تعالى:
{َا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1].
د ـ يحرّم عليها التعرّض لخطبة الرجال، إذ هي لا تزال حبيسة على زوجها، وهو الأحقّ والأولى من سائر الرجال. قال الله عز وجل: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحاً} [البقرة: 228].
الثاني:
إن كانت معتدّة بفراق بائن، وهي عندئذ: إما أن تكون حاملاً، وإما أن تكون حائلاً، أي غير حامل:
فإن كانت حاملاً: ترتب على ذلك الأحكام التالية:
أـ وجوب المسكن لها على الزوج، ودليل ذلك قوله تعالى في الآية السابقة: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1]. والآية هذه عامّة في المطلّقة الرجعية والبائنة.
ب - النفقة بأنواعها المختلفة، ودليل ذلك قول الله تعالى: {وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6)
ج - ملازمة البيت الذي تعتدّ فيه، فلا تخرج منه إلا لحاجة، كأن تحتاج إلى طعام ونحوه، أو تحتاج إلى بيع متاع لها تتكسب منه، وليس ثمة مَن يقوم مقامها في ذلك، أو كانت موظفة في عمل، ولا يسمح لها بالبقاء في بيتها مدة عدّتها، أو كانت تضطر - إزالة لوحشتها - أن تسمر عند جارة لها، فلا يحرم خروجها من بيتها لمثل ذلك.(4/162)
أما دليل المنع من الخروج لغير حاجة، فقول الله تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: 1)
أما دليل جواز الخروج للحاجة: فما رواه مسلم (الطلاق، باب: جواز خروج المعتدّة البائن .. لحاجتها، رقم: 1483) عن جابر - رضي الله عنه - قال: طلّقت خالتي، فأرادت أن تجُدَّ نخلها، فزجرها رجل أن تخرج، فأتت النبي - رضي الله عنه - فقال: " بلى اخرجي، فجُدّي نخلك، فإنك عسى أن تَصَدَّقَي، أو تفعلي معروفاً ".
وإن كانت حائلاً: ترتب كل ما ذكر في الفقرة السابقة، إلا النفقة بأنواعها المختلفة من مؤنة، وملبس، وغير ذلك. فلا تثبت لها، وإنما يجب لها المسكن، وتجب عليها ملازمته.
ودليل ذلك: ما رواه أبو داود (الطلاق، باب: في نفقة المبتوتة، رقم: (229) في قصة فاطمة بنت قيس، حين طلّقها زوجها تطليقة كانت بقيت لها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: " لا نفقة لك إلا أن تكوي حاملاً
ثانياً: عدّة الوفاة:
وإن كانت المرأة معتدّة من وفاة، وجبت في حقّها الأحكام التالية:
أـ الإحداد على الزوج: بأن تمتنع عن مظاهر الزينة والطيب، فلا تلبس ثياباً ذات ألوان زاهية، ولا تكتحل، ولا تستعمل شيئاً من الأصباغ، ولا تتزين بشيء من الحلي: ذهباً أو فضة، أو غيرهما، فإن فعلت شيئاً من ذلك فهي آثمة.
ودليل ذلك: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحدّ على ميت فوق ثلاث ليال، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً ".
رواه البخاري (الطلاق، باب: تحدُ المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشراً، رقم: 5024)، ومسلم (الطلاق، باب: وجوب الإحداد(4/163)
في عدّة الوفاة رقم: 1486ـ 1489) عن أُم حبيبة رضي الله عنها.
دلّ هذا الحديث على حرمة إحداد المرأة على غير الزوج، ووجوبها على الزوج أربعة أشهر وعشرة أيام. ورخّص - صلى الله عليه وسلم - في إظهار الحزن، وأمر بالتعزية خلال ثلاثة أيام فقط، لأن النفوس لا تستطيع فيها الصبر، وإخفاء الحزن.
وروى البخاري (الحيض، باب: الطيب للمرأة عند غسلها من المحيض، رقم 307) ومسلم (الجنائز، باب: نهي النساء عن اتباع الجنائز، رقم: 938) عن أُم عطية الأنصارية، رضي الله عنها قالت: كنا نُنهى أن نحدّ على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً، ولا نكتحل، ولا نتطيب، ولا نلبس ثوباً مصبوغاً، إلا ثوب عَصْب، وقد رخص لنا عند الطهر، إذا اغتسلت إحدانا من محيضها، في نُبْذة من كست أظفار، وكنا ننهى عن اتّباع الجنائز.
[ثوباً مصبوغاً: مما يعدّ لبسه زينة في العادة. ثوب عَصْب: نوع من الثياب، تشدّ خيوطها، وتصبغ قبل نسجها. نبذة: قطعة صغيرة كُسْت أظفار: نوع من الطيب].
ب ـ يجب عليها ملازمة بيتها الذي تعتدّ فيه، فلا تخرج إلا لحاجة، كالتي ذكرناها بالنسبة للمعتدّة من الطلاق.
روى الترمذي (الطلاق، باب: أين تعتدّ المتوفى عنها زوجها، رقم: 1204) وأبو داود (الطلاق، باب: في المتوفى عنها تنتقل، رقم: 2300) وغيرهما، عن زينب بنت كعب بن عجرة: أن الفُريْعة بنت مالك بن سنان ـ وهي أُخت أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أخبرتها أنها جاءت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خُدْرة، وأن زوجها خرج في طلب أعبد له أبَقُوا، حتى إذا كان بطوف القدوم لحقهم، فقتلوه. قالت: فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أرجع إلى(4/164)
أهلي، فإن زوجي لم يترك لي مسكناً يملكه، ولا نفقة. قالت: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " نعم ". قالت: فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة (أو في المسجد) ناداني رسول الله ـ أو أمر بي فنوديت له ـ فقال: زوجني. قال: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً.
قالت: فلما كان عثمان - رضي الله عنه -، أرسل إلي فسألنيّ عن ذلك، فأخبرته، فاتبعه وقضى به.
أما ما يتصوره كثير من العوّام من أنه لا يجوز للمعتدّة أن تكلم أحداً، وأن أحداً من الناس لا يجوز أن يسمع صوتها، فلا أصل له، وإنما حكمه أثناء العدة وخارج العدة سواء.
خلاصة في أحكام العدة:
والحاصل أن جميع أنواع العدّة تخضع لقدر مشترك من الحكم، وهو:
ـ حُرمة الخروج من المسكن الذي تعتدّ فيه المرأة إلا لحاجة. ثم تختصّ المعتدّة بالوفاة بحكم مستقل، وهو: وجوب الإحداد على الزوج، وذلك بأن تمتنع عن الطيب والزينة، على نحو ما قدّمنا.
كما تختصّ المعتدّة بالطلاق الرجعي مطلقاً، والطلاق البائن إن كانت حاملاً بوجوب المسكن، وجميع أنواع النفقة لها.
وتختصّ المعتدّة بالطلاق البائن - إن لم تكن حاملاً - بوجوب المسكن فقط، دون سائر أنواع النفقات ..
خاتمة:
ونختم هذا البحث ببيان أمر هام، ألا وهو حُرمة إحداد النساء على(4/165)
مَن عدا الزوج من أقاربهنّ، نساءً وذكوراً، وهو إحداد بشع يتخذ شكلاً من أشكال الجاهلية العتيقة، حيث تلزم المرأة التي توفي لها قريب أو قريبة لبس السواد، أو ما يشبهه، إعلاناً عن حزنها، وتتجنب حضور الأماكن العامة، والظهور في مواسم الأفراح ومناسباتها، وتظل على ذلك عاماً، أو يزيد، وربما كانت نفسها خلال أكثر العام لا تنطوي على أيّ حزن أو كرب، ولكنها تتصنع ذلك أمام أبصار الناس، وتتكلفه، وتتباهى به أمامهم.
إن هذا الالتزام ليس إلا معارضة صريحة وحادة لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديثة الواضح الصحيح: " لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله وباليوم الآخر أن تُحدّ على ميت فوق ثلاث ليال، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً ".
رواه البخاري (الطلاق، باب: تحدُّ المتوف عنها زوجها.، رقم: 5024) ومسلم
(الطلاق، باب: وجوب الإحداد في عدّة الوفاة، رقم: (1486ـ 1498) عن أم حبيبة رضي الله عنها.
وقد روى البخاري ومسلم، عن زينب بنت أبي سلمة قالت: دخلت على زينب بنت جحش رضي الله عنهما حين توفي أخوها، فدعت بطيب فمست منه ثم قالت: والله ما لي في الطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لا يحل لمرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً " (البخاري ومسلم المواضع السابقة).
ولا فرق في هذا الحكم بين هذا التصنّع المتكلَّف الممجوج الذي تلتزمه النساء فيما بينهنّ، وما يفعله الرجال من التزام شعارات الحزن، في ربطة العنق، ونحوها، وهو تقليد أجنبي بشع مغموس في الحُرمة والإثم.
نسأل الله تعالى أن يحقّقنا بمعنى العبودية الخالصة له، وأن يلبسنا كسوة الرضى بحكمه، والتجمّل بشرعه، وهدي نبيّه، عليه الصلاة والسلام.(4/166)
ثالثاً: النفقات وما يتعلق بها(4/167)
النفقات
تعرف النفقات:
النفقات: جمع نفقه، والنفقة لغة: مأخوذة من الإنفاق.
وهو في الأصل بمعنى الإخراج، والنفاد، ولا يستعمل الإنفاق إلا في الخير.
والنفقة اصطلاحاً: كلُّ ما يحتاجه الإنسان، من طعام وشراب، وكسوة ومسكن.
وسمي نفقة، لأنه ينفد ويزول، في سبيل هذه الحاجات.
أنواع النفقات:
للنفقات أنواع خمسة نذكرها فيما يلي:
1ـ نفقة الإنسان على نفسه.
2ـ نفقة الفروع على الأصول.
3ـ نفقة الأصول على الفروع.
4ـ نفقة الزوجة على الزوج.
5ـ نفقات أخرى.
ولنبدأ بشرح أحكام كل نوع من هذه الأنواع على هذا الترتيب.(4/169)
1ـ نفقة الإنسان على نفسه:
إن أدنى ما يجب على الإنسان من الإنفاق أن يبدأ بنفسه، إذا قدر على ذلك، وهي مقدمة على نفقة غيرة.
وتشمل هذه النفقة كل ما يحتاجه المرء من مسكن، ولباس، وطعام، وشراب، وغير ذلك.
ودليل ذلك ما رواه البخاري (الأحكام، باب: بيع الإمام على الناس أموالهم وضياعهم، رقم: 6763)، ومسلم (الزكاة، باب: الابتداء في النفقة بالنفس ... .، رقم: 997) وغيره عن جابر - رضي الله عنه - قال: أعتق رجل من بني عُذْرَة عبدّ له عن دُبُر، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال: " ألك ما غيره". فقال: لا. فقال: - صلى الله عليه وسلم -: " مَن يشتريه مني "؟ فاشتراه نُعيم بن عبدالله العدوي رضي الله عنه بثمانمائة درهم، فجاء بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدفعها إليه، ثم قال: " ابدأ بنفسك فتصدّق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فَلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء، فهكذا وهكذا ".
يقول: فبين يديك، وعن يمينك، وعن شمالك.
معنى قوله: " عن دُبُر " أي علق عتقه بموته، فقال: أنت حر يوم أموت.
2ـ نفقة الفروع على الأصول:
يجب على الوالد ـ وإن علا ـ نفقة ولده، وإن سفل.
فالأب مكلف بالإنفاق ـ على اختلاف أنواع النفقة ـ على أولاده ذكوراً وإناثاً، فإن لم يكن لهم أب، كلَّف بالإنفاق عليهم الجد أبو الأب القريب، ثم الذي يليه.(4/170)
ودليل ذلك من الكتاب قول الله عز وجل: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]
فإيجاب الأُجرة على الزوج لرضاعة أولاده، يقتضي إيجاب مؤونتهم المباشرة من باب أولى. وقال الله سبحانه وتعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233].
فإن نسبة الولد إلى أبيه بلام الاختصاص، وهي (له) تقتضي مسؤولية صاحب الاختصاص، وهو الأب، عن نفقة ولده ومؤونته. وكذلك وجوب نفقة المُرضِعة للوليد وكسوتها تدلّ على وجوب نفقة الولد وكسوته من باب أولى كما علمت.
وأما دليل ذلك من السنّة: فما رواه البخاري (النفقات، باب: إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ.، رقم: 5049)، ومسلم (الأقضية، باب: قضية هند، رقم: 1714) عن عائشة رضي الله عنها، أن هند بنت عتبة قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي، إلا ما أخذت منه، وهو لا يعلم، فقال، " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ".
يقصد: خذي من مال أبي سفيان.
هذا، ويلحق الأحفاد بالأولاد بجامع النسبة والحاجة في كل.
شروط وجوب نفقة الفروع على الأصول:
ويشترط لوجوب نفقة الفروع على الأصول تحقّق الشروط التالية:
أولاً: أن يكون الأصل موسراً بما يزيد عن قوت نفسه، وقوت زوجته مدّة يوم وليلة.
فلو كان الذي يملكه لا يكفي - خلال هذه المدة - غير نفسه هو، أو(4/171)
غير نفسه وزوجته، لم يكن مكلفاً بالإنفاق على فروعة.
ودليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ابدأ بنفسك ".
رواه مسلم (الزكاة، باب: الابتداء في النفقة بالنفس ... ، رقم 997).
ثانياً: أن يكون الفرع فقيراً، ويشترط مع فقره، واحد من الأوصاف الثلاثة:
1ـ فقر، وصغر.
2ـ فقر، وزمانة.
3ـ فقر، وجنون.
فالصغير الفقير يكلّف أبوه، بالإنفاق عليه، فإن لم يكن أبوه فجده.
وكذلك الفقير الزمن، وهو العاجز عن العمل.
وكذلك الفقير المجنون.
والمقصود بالفقر: العجز عن الاكتساب.
فلو كان الولد صحيحاً بالغاً، قادراً على الاكتساب، لم تجب نفقته على أبيه، وإن لم يكن مكتسباً بالفعل.
فإن عاقه عن الاكتساب اشتغال بالعلم مثلاُ، فإنه ينظر:
فإن كان العلم متعلقاً بواجباته الشخصية: كأمور العقيدة، والعبادة، فذلك يُعدّ عجزاً عن الكسب، وتجب نفقته على أبيه.
أما إن كان العلم الذي يشتغل به من العلوم الكفائية التي يحتاج إليها المجتمع، كالطب، والصناعة، وغيرهما، فلا يخرج الولد بالاشتغال بها عن كونه قادراً على الكسب، والأب عندئذ مخيّر: بين أن يمكِّنه من العكوف على ذلك العلم الذي يشتغل به وينفق عليه، وبين أن يقطع عنه النفقة، ويلجئه بذلك إلى الكسب والعمل:(4/172)
مقدار النفقة:
ليس لهذه النفقة حدّ تقدّر به إلا الكفاية، والكفاية تكون حسب العُرْف، ضمن طاقة المنفق، قال الله عزّ وجل: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} [الطلاق: 7]
هل تصير هذه النفقة ديناً على الأصل إذا فات وقتها:
لا تصير نفقة الفروع بمضي الزمان ديناً على المنفق، لأنها مواساة من الأصل لفرعه، فهي ليست تمليكاً لحق معين، ولكنها تمكين له بدافع صلة القربى.
أي يتناول حاجته من النفقة، فإذا مرّت الحاجة، ولم يشأ أن يسّدها بما قد مكّنة الأصل منه، تعففاً، أو نسياناً، أو غير ذلك، فإن ذمّة أبيه لا يعقل أن تنشغل بدين لولده مقابل الحاجة التي تعفّف ولده عنها، أو شغل عنها، أو نسيها حتى فات وقتها.
هذا هو الأصل، وهو الحكم، عندما تكون الأمور بين الأولاد وأبيهم جارية على سَننها الطبيعي.
فأما إذا وقع خلاف، تدخل القاضي بسببه فيما بينهم، وفرض القاضي على الأب نفقة معينة، أو أذِنَ للأولاد أن يستقرضوا على ذمّة أبيهم ديناً معيناً من المال، أو القدر الذي يحتاجون إليه، فإن هذه النفقة تصبح ديناً بذمة الوالد، إذا فات وقتها، ولا تسقط بمضي الزمن، لأنها قد آلت، بحكم القاضي، إلى تمليك، بعد أن كانت مجرد مواساة وتمكين.
3ـ نفقة الأصول على الفروع:
كما تجب نفقة الفروع على أصولهم بالأدلة والشروط التي أوضحناها.
كذلك تجب نفقة الأصول ـ أي الأب والأم، والجدّ والجدّة، وإن(4/173)
علاَ كل منهما ـ على فروعهم، بناءً على الأدلة التالية، وطبقاً للشروط التي سنذكرها.
الأدلة على وجوب هذه النفقة:
ويستدل لوجوب النفقة على الأصول، بأدلة من الكتاب والسنّة، والقياس:
ـ أما من الكتاب: فقول الله عزّ وجلّ: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان: 15] وقوله سبحانه وتعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء: 23].
والمعروف الذي يقدّمه الولد لوالديه، والإحسان الذي يحسنه إليهما، لا يكون إلاّ بنهوض الولد بمسؤولية نفقتهما عند الاحتياج.
ـ وأما من السنّة: فما رواه أبو داود (البيوع والإجارات، باب: في الرجل يأكل من مال ولده، رقم: (3528) والترمذي (الأحكام، باب: الوالد يأخذ من مال ولده، رقم:
(1358) وغيرهما، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن من أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وولده من كسبه ". وقال - صلى الله عليه وسلم -: " أنت ومالك لوالدك، إن أولادكم من أطيب كسبكم، فكلوا من كسب أولادكم ".
رواه أبو داود (البيوع والإجازات، باب: في الرجل يأكل من مال ولده، رقم: 3530).
وروى النسائي (الزكاة، باب: أيّتهما اليد العليا: 5/ 61) عن طارق المحاربي - رضي الله عنه - قال: قَدِمت المدينة، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم على المنبر يخطب الناس، وهو يقول: " يد المُعطي العليا، وابدأ بمن تعول، أُمك وأباك، وأُختك وأخاك، ثم أدناك أدناك ".
وروى أبو داود (الأدب، باب: في برِّ الوالدين، رقم: 5140) عن(4/174)
كليب بن منفعة عن جده - رضي الله عنه -: أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، مَن أبر؟ قال: " أُمك وأباك، وأختك وأخاك، ومولاك الذي يلي ذاك، حق واجب، ورحم موصولة ".
ـ أما دليل القياس والاجتهاد: فقياس الأصول على الفروع، إذ كما وجبت نفقة الفروع ـ عند العجز ـ على الأصول كذلك تجب نفقة الأصول عند العجز على الفروع، بجامع شيوع البعضية بينهما، وهي أساس القرابة التي هي ثابتة الأصول والفروع.
شروط وجوب نفقة الأصول على الفروع:
أولاً: أن يكون الفرع موسراً بما يزيد عن الضروري من نفقته، ونفقة زوجته، يومه وليلته، فلو كان الذي عنده من النفقة لا يكفي لأكثر من حاجته، وحاجة زوجته، مدة يوم وليلة، لم يكلّف الإنفاق على أبيه وأُمه، لأن نفقة الفقير لا تجب على فقير مثله، فإن أيسر بجزء من نفقتهما الضرورية تقدم بها إليهما، فإن ضاقت عنهما قدّم أمه على أبيه، ذلك لأن ما لا يدرك كله لا ينبغي أن يترك كله.
ثانياً: أن يكون الأصل فقيراً، والمراد بالفقر هنا: أن لا يكتسب ما يسدّ حاجته الضرورية، سواء كان قادراً على الكسب، أم لا. بخلاف ما مرّ الزمانة، أو الجنون، أي مع صفة العجز.
والفرق بينهما: أن الأصل لا يقبح منه تكليف الفرع القادر على الاكتساب.
ولكن الفرع يقبح منه أن يكلف أصله ـ الذي طالما اكتسب وجدّ من أجله ـ بالاكتساب، ولا سيما مع كبر السن.
ثالثاً: أن لا تكون الأم مكفيّة بنفقة زوجها فعلاً، أو حكماً. ومعنى(4/175)
هذا الشرط: أن نفقة الأُم تجب على ولدها في حالتين:
الحالة الأولى: أن يكون والده عاجزاً عن الإنفاق عليها.
الحالة الثانية: أن يكون والده متوفى، وهي خليّة على الزوج. وقدرتها على النكاح لا يلغي هذا الواجب أي يجب على ولدها أن ينفق عليها حتى ولو كان ثمّة كفء يتقدم بطلب الزواج منها.
كما أن معنى هذا الشرط أن نفقتها تسقط في حالتين:
الحالة الأولى: أن يكون والده قادراً على الإنفاق عليها.
الحالة الثانية: أن تكون متزوجة من غير أبيه، سواء كان زوجها موسراً بنفقتها، أو مسعراً بها.
فإذا طالبت الأم في حالة إعسار زوجها بالفسخ، وفسخ النكاح، وجب حينئذ أن ينفق عليها ابنها.
لا تتأثر نفقة الفروع والأصول باختلاف الدين:
إذا لاحظت هذه الشروط، سواء ما شرط منها لنفقة الأصول على الفروع، وما شرط منها لنفقة الفروع على الأصول، أدركت أن وحدة الدين بين الأصول والفروع لا تعتبر شرطاً لوجوب هذه النفقة.
إذاً فإن وجوب هذه النفقة من الأصل والفرع، ومن الفرع للأصل لا يتأثر باختلاف الدين].
فيكلف الولد المسلم بالإنفاق على والديه غير المسلمين، ويكلُف الوالد المسلم بالإنفاق على أولاده غير المسلمين، إذا تحققت باقي الشروط التي ذكرناها.
ولكن يستثنى من ذلك المرتد، فلا تجري النفقة عليه، سواء كان أصلاً للمنفق، أو فرعاً له.(4/176)
ودليل جواز النفقة على الأصل، ولو كان مشركاً: ما رواه البخاري (الأب، باب: صلة الوالد المشرك، رقم: 5633)، ومسلم (الزكاة، باب: فضل النفقة والصدقة على الأقربين ... ، رقم: 1003) وغيره عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، قالت: قدمت عليّ أُمي، وهي مشركة، في عهد قريش إذ عاهَدَهُم، فاستفتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله، قدمت عليّ أمي، وهي راغبة، أفأصلُ أمي؟ قال: " نعم، صِلِي أُمك ".
[وهي راغبة: أي راغبة بالصلة، أو راغبة عن الإسلام. في عهد قريش: أي ما بين صلح الحديبية وفتح مكة].
مقدار نفقة الأصول على الفروع:
هذه النفقة أيضا ليست مقّدرة بحد معين، وإنما هي مقدرة بالعرف المتبع.
وهي أيضاً لا تصبح ديناً في ذمة الفرع إذا مرّ وقتها، ولم يتمتع الأصل بها. إلا إذا وقع خلاف بين الأصل والفرع، ففرض القاضي بموجبه جراية معينة على الفرع، فإنها تصبح حينئذ ـ كما قلنا سالفاً ـ ديناً في ذمته بمرور الوقت.
ترتيب الأصول والفروع في الإنفاق:
إذا كان الوالدين فقيرين، وكان لهما فروع، واستووا في القُرب، أنفقوا عليهما، لأن عّلة إيجاب النفقة تشملهم جميعاً. وتكون حصة الأُنثى من النفقة كنصف حصة الذكر، كالإرث. وإن اختلفوا في درجة القُرب، كابن، وابن ابن، فإن النفقة إنما تجب على الأقرب، وارثاً كان أو غير وارث، ذَكَراً كان أو أُنثى، لأن القُرْب أولى بالاعتبار.
ومَن كان فقيراً، وله أبوان موسران فنفقته على الأب، لأنه هو(4/177)
المكلف بالإنفاق على ولده الصغير، بدليل قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6].
وأما نفقة على الكبير الفقير، فاستصحاباً لما كان في الصغر. ومن كان فقيراً، وله أًصل وفرع غنيّان، قدم الفرع في وجوب النفقة، وإن بعد، لأن عصوبة الفرع أقوى من عصوبة الأصل، وهو أولى بالقيام بشأن أبيه، لعظم حرمته.
وإذا تعدّد المحتاجون من أُصول وفروع وغيرهم، وكان ما يفضل عن حاجته لا يتسع لنفقة جميعهم، فإنه يقدّم بعضهم على بعض وفق الترتيب التالي:
يقدم بعد نفسه:
أـ زوجته، لأن نفقتها آكد، فإنها لا تسقط بمضي الزمان، بخلاف نفقة الأصول والفروع، فإنها تسقط بمضي الوقت، كما ذكرنا سابقاً.
ب ـ ولده الصغير، ومثله البالغ المجنون، وذلك لشدّة عجزهما عن الكسب.
ج ـ الأُم، لعجزها أيضاً، ولتأكيد حقها بالحمل والوضع، والإرضاع والتربية.
د ـ الأب، لعظيم فضله أيضاً.
هـ ـ الابن الكبير الفقير، لقربه من أبيه، وللقرب مزية فضيلة.
وـ الجد وإن علا، لأن حرمته من حرمة الأب، وهو أصل تجب رعاية حقوقه.
4ـ نفقة الزوجة على الزوج:
تجب نفقة الزوجة على الزوج بالإجماع، بشرط معينة سنذكرها، فيما بعد.(4/178)
دليل وجوب هذه النفقة على الزوج:
ويستدل لوجوب نفقة الزوجة على الزوج: بالكتاب، والسنّة.
أما دليل الكتاب: فقول الله عز وجل: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34].
فقد دلّت هذه الآية على أن الزوج هو المسئول عن النفقة. وقوله الله سبحانه وتعالى:
{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233].
والمولود له في الآية هو الزوج، والضميري في {رِزْقُهُنَّ} عائد إلى الوالدات، وهن الزوجات.
والمعنى إذاً: وعلى الأزواج تَجِب نفقة الزوجات.
وأما دليل السنة: فما رواه مسلم (الحج، باب: حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، رقم: 1218) عن جابر - رضي الله عنه - في حديث حجة الوداع الطويل:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله، ولكم عليهنّ أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب الله ".
الحكمة من إيجاب نفقة الزوجة على الزوج:
إن الحياة الزوجية لابُدّ أن تنهض على أحد أُسس ثلاثة:
الأساس الأول: أن يتولى الزوج الإشراف على بيت الزوجية، وأن يكون هو المسئول عن النفقة على الزوجة والأولاد.(4/179)
الأساس الثاني: أن تتولى الزوجة ذلك كله بدلاً من الزوج.
الأساس الثالث: أن يتعاون الزوجان في النهوض بالمسئوليات المادية، وتقديم النفقة.
فما الذي يحدث لو استبعدنا الأساس الأول: الذي هو حكم الشريعة الإسلامية، واستعضنا عنه بأحد الأساسين الثاني، أو الثالث؟.
تحدث عندئذ مجموعة النتائج التالية:
الأول: لابد أن ينعكس ذلك على المهر أيضاً.
فأما أن تتقدم المرأة بالمهر كله إلى الرجل، أو أن يلزما بالاشتراك في تقديمه.
ومن النتائج الحتمية لهذا الواقع أن تتحول المرأة، فتصبح طالبة للزوج بعد أن شرّفها الله عز وجل، فجعلها مطلوبة. ذلك لأن الذي يتقدم بالمال يكون هو الطالب لمن يأخذ المال. وإذا أصبحت الزوجة هي الساعية بحثاً عن زوجها، فإنها لن تعثر على الزوج الذي تستطيع أن تركن إليه، حتى تسقط السقطات المتتالية، بخِداع الرجال، وأكاذيبهم عليها.
ثانياً: لابدّ أن تتجه المرأة هي الأخرى إلى سبل الكدح، والعمل من أجل الرزق، وأن تناكب الرجال سعياً وراء الأعمال المختلفة.
وإذا فعلت المرأة ذلك، أصبحت ـ لا محالة ـ عرضة للسوء والانحراف.
والواقع المشاهد أكبر دليل على ذلك.
كما أن البيت يعوزه عندئذ مَن يدبر شأنه، ويرعى حاله، ويربي صغاره، إذ يصبح عندئذ فارغاً موحشاً، ومصدراً للفوضى، والقلق والاضطراب بدلاً من أن يكون موئلا للسعادة، ومنبعاً للأنس وملجأ للراحة والاستجمام.(4/180)
والواقع المشاهد أيضاً أكبر دليل على ذلك.
ثالثاً: إذا قامت الحياة الزوجية على أحد من الأساسين المذكورين، فلا بد أن يكون حق الطلاق بيدها، على سبيل المشاركة، أو الاستقلال. ذلك لأن القانون الاقتصادي والاجتماعي يقول: (مَن ينفق يشرف).
وقد علمت في باب الطلاق الحكمة الباهرة من كون الطلاق ـ في أعم الأحوال ـ حقا للزوج.
فمن أجل أن يكون كل من الزوجين عنصر إسعاد للآخر، ومن أجل أن يكون بيت الزوجية عامراً بالرعاية والتهذيب والأنس، ومن أجل أن تظل المرأة عزيزة يطلبها الرجال، ولا تصبح مهينة تلحق الرجال، وهو عنها مُعرض، أو لها مُخادع. من أجل ذلك كله كان الإنفاق على بيت الزوجية واجباً على الزوج دون الزوجة.
شروط وجوب نفقة الزوجة على الزوج:
إنما تجب نفقة الزوجة على الزوج بالشروط التالية:
أولاً: تمكين الزوجة نفسها من الزوج، بأن لا تمنعه من وجوه الاستمتاع المشروع بها. فلو منعته، ولو عن بعض ذلك فقط، لم تجب نفقتها على الزوج.
أما إن أرادها على وجه مُحرّم من الاستمتاع، كأن أراد أن يأتيها وهي في المحيض، فإن امتناعها لا يسقط حقّها في النفقة عليها.
ثانياً: أن تتبعه في المكان والبيت الذي يختاره، ويستقر فيه، ما لم يكن المكان أو البيت غير صالح للسكن، أو البقاء فيه شرعاً. فلو كان يقيم في بلدة لا يلحقها ضرر شرعي صحيح بالإقامة معه فيها، أو في بيت مستوف للشروط الشرعية المعتبرة، ولم تقبل بالإقامة معه فيها، أو في بيت مستوف للشروط الشرعية المعتبرة، ولم تقبل بالإقامة معه في تلك البلدة، أو ذلك المنزل، لم يكلّف بالإنفاق عليها، لأنها تُعدّ ناشزة حينئذ.(4/181)
إذا توفرت هذه الشروط وجب على الزوج أن يقدّم للزوجة جميع النفقات التي تحتاجها، مما سيأتي تفصيله. وبذلك تعلم أن النفقة لا تجب على الزوج لمجرد العقد وحده.
النفقة على الزوجة تقدّر حسب حال الزوج:
اعلم أن النفقة على الزوجة مقدّرة، ولكنها تتفاوت كّماِّ ونوعاً، حسب تفاوت حال الزوج، في العسر والُيسر.
أما اختلاف حال الزوجة في ذلك فلا أثر له في هذا التفاوت.
ذلك لأن التفاوت إنما يخضع لنسبة الاستطاعة، وهي عائدة إلى حال المنفق، لا إلى حال المنفق عليه.
والدليل على هذا: قول الله عزّ وجلّ: لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} [الطلاق: 7]
فقد جعل ميزان الإنفاق تابعاً إلى حالة الزوج سعة وضيقاً، لا إلى مستوى الزوجة ومكانتها. إذا عرفت هذا، فاعلم أن حالة الزوج تصنّف شرعاً ضمن ثلاث درجات:
1ـ درجة اليُسْر: (الغنى). 2ـ درجة التوسط. 3ـ درجة الفقر.
والعُرف العام هو المحكم في تحديد ما يكون الإنسان به موسراً، أو متوسط الحال، أو فقيراً.
أـ فأما الزوج الموسر، فيكلف من النفقة ما يلي:
أولاً: ما يساوي مد (حفنتين كبيرتين) كل يوم غالب قوت البلد التي هي فيها، مع تكلفة طحنه وخبزه، وما يتبع ذلك، أو يقدم ذلك خبزاً جاهزاً.(4/182)
ثانياً: يقدم من الأدم ما اعتاده أهل تلك البلدة، وما يقدّمه عادة أمثاله من أهل اليُسْر والغنى.
وقد أطال الفقهاء في تفصيل ذلك، ولكن المدار فيه على كل حال إنما هو عرف أهل البلدة.
ثالثاً: الكسوة اللائقة بزوجات الموسرين في تلك البلدة، ويظهر أثر العُرف في الكسوة، في نوعها جودة ورداءة، أما العدد والكمية، فإنما يتبع ذلك الحاجة لا العُرْف. ويدخل في حكم الكسوة ما يتبعها من أثاث وفراش، وأدوات مطبخ ونحو ذلك.
واعلم أن دليل العُرْف في ذلك كله، هو قول الله عزّ وجلّ: {وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233].
ب ـ أما الزوج المتوسط فيكلف من النفقة بما يلي:
أولاً: ما يساوي مدّاً ونصف مدّ من غالب قوت البلد التي هي فيه كل يوم.
مع مراعاة ما ذكرنا بالنسبة لحال الموسر.
ثانياً: الأدم الذي جرت به عادة أهل تلك البلدة بالنسبة لأوساط الناس، نوعاً وكماً.
ثالثاً: الكسوة اللائقة لزوجات أمثاله في ذلك المكان، وما يتبعها من بقية حاجات المنزل المختلفة.
ج ـ أما الزوج الفقير فيكلّف من النفقة بما يلي:
أولاً: ما يساوي مدّاً واحداً من غالب قوت البلد كل يوم.
ثانياً: الأدم الذي جرت به عادة الفقراء على اختلافه في تلك البلدة.
ثالثاً: الكسوة اللائقة لزوجات أمثاله في ذلك المكان.(4/183)
ويستدل لمراعاة حال الزوج في كل ما سبق بما رواه أبو داود (النكاح، باب: في حق المرأة على زوجها، رقم 2144) عن معاوية القشيري - رضي الله عنه - قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: ما تقول في نسائنا. قال:: " أطعموهنّ مما تأكلون، واكسوهنّ مما تكتسون، ولا تضربوهنّ، ولا تقبِّحوهنّ.
مما يدخل في نفقة الزوجة إضافة لما سبق:
ويدخل في نفقة الزوجة على اختلاف حال الزوج إضافة لما سبق ما يلي:
أولاً: منزل مناسب لحال الزوج يسكن في زوجته، على أن تتوفر فيه الضرورات التي لابدّ منها.
ثانياً: كلّ ما لابدّ منه للنظافة والتنزه من الأدران والأوساخ، وأدوات الزينة، إذا كان الزوج طالباً منها أو تتزين له.
ثالثاً: الخادم إذا كانت الزوجة ممّن يخدم مثلها في بيت أبيها، سواء كان الزوج موسراً، أو متوسط الحال، أ, كان فقيراً، فيجب عليه أن يقدم لها مَن يخدمها بالقدر الذي تندفع به الحاجة.
وينبغي أن يكون هذا الخادم أُنثى، أو طفلاً مميزاً غير بالغ، أو محرماً لها. وأُجره هذا الخادم إنما هي على الزوج.
هل نفقة الزوجة تمليك أم تمكين؟
لقد عرفت الفرق بين التمليك والتمكين، عند حديثنا عن نفقة الأصول على الفروع، ونفقة الفروع على الأصول.
ونقول الآن:
إذا كانت الزوجة تأكل مع زوجها ـ كما هي الغالبة في أيامنا ـ وتسكن معه دون أن يتفقا على قدر معين من القوت والأدم، يلتزم به(4/184)
الزوج، فهذه النفقة، تُعد من قبيل التمكين، لا التمليك، وتسقط بمضي الزمن.
ـ أما إذا كانت الزوجة قد اتفقت مع زوجها على قدر معين من النفقة يُجريه عليها، أو كان القاضي قد ألزمه بقدر معين من النفقة لها، فهي عندئذ مقدّرة، تطالب بها، حتى بعد مرور وقتها، لأنها تُعدّ ـ والحالة هذه ـ من قبيل التمليك، لا التمكين، ولها أن تعتاض عنها بما تحب.
أثر العُرْف في تقدير النفقة:
مما سبق تعلم أن القوت الأساسي الذي لابدّ منه في الطعام، لا أثر للعْرف في تقدير كميته.
وإنما هو محدّد ـ كما علمت ـ في سائر الظروف والأحوال:
بمدّين، للموسر.
ومدّ ونصف المدّ، للمتوسط.
ومدّ واحد، للفقير.
يقدّمه كل منهم لزوجته خبزاً، أو حبّاً مع تقديم كلفة طحنه وخبزه.
وذلك لأن قوت ضروري لا يتأثر باختلاف العُرْف.
أما ما زاد عليه من الأدم والكساء ونحوهما، فإنما يحدده العرف، أي العُرف السائد في تلك البلدة، في ذلك العصر، بشرط أن لا يكون العُرف مخالفاً لشيء من الأحكام الشرعية.
فلا أثر لعُرف يقضي بالبذخ والتبذير بالنسبة لبعض النفقات، أو بالنظر لبعض المناسبات، كما هو واقع، وكثير، ومرهق في هذه الأزمان.
ما يترتب على إعسار الزوج بالنفقة:
إذا أعسر الزوج، فإن كان إعبساره نزولاً عن درجة اليُسْر إلى الدرجة(4/185)
الوسطى، أو إلى الدرجة الدنيا، وهي درجة الفقر، فلا يترتب على هذا الإعسار شيء، وتلزم بمتابعته، والرضا بحالته التي آل إليها أمره.
أما إذا أعسر الزوج حتى عن نفقة الدرجة الثالثة بكاملها، فللزوجة عندئذ أن تُطالب بفسخ النكاح.
وإذا طلبت ذلك وجب على القاضي أن يلبّي طلبها ويفرّق بينهما، ولكن يجب أن يكون ذلك، بعد عجز الزوج عن النفقة بثلاثة أيام على أقل تقدير، لكي يتحقق عجزه، إذ قد يكون العجز لعارض، ثم يزول.
روى الدارقطني (في النكاح، باب: المهر: 3/ 297) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته: " يفرّق بينهما ".
وإذا رضيت بالبقاء مع زوجها على عجزه، فلها أن تطلب فسخ النكاح بعد ذلك، لأن الضرر بعجز الزوج عن النفقة بتجدّد كل يوم، ولكل يوم حكم مستقل.
ولكن لا يجوز لها الفسخ إذا أعسر ببعض نفقة الدرجة الثالثة، كأن أعسر عن تقديم الأدم، لأنه تابع، وبالإمكان أن تقوم النفس بدونه، أو كأن عجز عن نفقة الخادم، لأن الخدمة من المكمِّلات التي يمكن للبدن أن يقوم بدونها.
أما إذا أعسر بمجموع نفقة هذه الدرجة، فعندئذ يحقّ لها أن تطلب الفسخ.
5ـ نفقات أخرى:
هذا ويكلّف الإنسان بنفقات أخرى ـ غير ما ذكر ـ وذلك نحو ممتلكاته، التي يملكها:
أولاً نفقة البهائم:
تنقسم البهائم إلى الأصناف الثلاثة التالية:(4/186)
1ـ بهائم مأكولة.
2ـ بهائم محترمة غير مأكولة.
3ـ بهائم غير محترمة.
الصنف الأول (البهائم المأكولة):
وهذا الصنف، كالأنعام ونحوها من كل ما هو مأكول، يخيّر مالكها بين أن يعلفها، ويسقيها، بما يحفظ عليها حياتها بشكل سوي، وبين أن يذبحها للأكل، أو أن يبيعها، أو يهبها للآخرين، فإن لم يذبح، أو لم يفعل شيئاً غير الذبح مما ذكر، فإنه يجبر على نفقتها من علف وسقي، بالقدر الكافي لحفظ حياتها، فإن لم يفعل أُجبر على بيعها، فإن لم يفعل بِيعت عليه غضباً.
الصنف الثاني (البهائم المحترمة غير المأكولة):
وهذه البهائم المحترمة، ككلب صيد غير عقور، وهرّة، وصقر، ونحل، ودود قز، ونحو ذلك، فإن مالكها يلزم ببيعها، فإن لم يفعل، أو لم يوجد مَن يشتريها، وجب عليه أن يدفعها لمن قد ينتفع بها، صوناً لها عن الهلاك.
الصنف الثالث (البهائم غير المحترمة):
وهذه البهائم غير المحترمة، كالكلب العقور، ومختلف الحيوانات المؤذية، فلا يلزم الإنسان بشيء مما ذكرنا نحوها، إذ لا حَرَج في قتلها ما دامت كذلك.
الدليل على نفقة الحيوانات المحترمة، والمأكولة:
ويستدل لذلك كله بحديث مسلم (البرَ والصلة والآدب، باب: تحريم تعذيب الهرة ونحوها ... ، رقم: 2619) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " دخلت امرأة النار في هرّة، ربطتها، فلا هي أطعمتها، ولا هي أرسلتها تأكل من خَشَاش الأرض، حتى ماتت(4/187)
هزلاً " وأخرجه البخاري (المساقاة، باب سقي الماء، رقم: 2236)، ومسلم (السلام، باب: تحريم قتل الهرة، رقم: 2242) والهرّة مثال لكل حيوان محترم، مأكولاً كان أو غير مأكول، ويخرج بذلك ما هو غير محترم، كالفواسق الخمس التي ذكرت في الحديث.
روى البخاري (الإحصار وجزاء الصيد، باب: ما يقتل المحرم من الدواب، رقم: 1732)، ومسلم (الحج، باب: ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب ... ، رقم: 1198) وغيرها عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " خمس فواسق، يقتلن في الحلّ والحرم: الحيّة، والغراب الأبقع، والفأرة، والكلب العقور، والحُديَّا ".
[فواسق: الفاسق: الخارج عن الطاعة، وسميت هذه الدواب الخمس فواسق، لخروجها بالإيذاء والإفساد عن طريق معظم الدواب.
الغراب الأبقع: هو الذي في ظهره وبطنه بياض. الحُديّا: تصغير: الحدأة، وهو طائر خبيث، بله هو أخس الطير، يخطف الأفراخ، وصغار أولاد الكلاب].
ثانياً: نفقة الزروع والأشجار:
والمقصود بنفقة الزروع والأشجار، سقيها ورعايتها، فإن لم يكن بصاحبها رغبة في اقتلاعها، لعمارة، ونحوها، فإنه ينبغي عليه سقيها ورعايتها، لأن إهمالها يدخل في دائرة إضاعة المال، بدون مسوَّغ شرعي، وهو لا يجوز.
أما إذا كان يريد اقتلاع الشجر أو الزرع ليستفيد منهما، أو ليستفيد من الأرض في عمارة، أو نحوها، فإن له قطع الأشجار والزرع، أو إهمالها إلى أن ييبسا، لأن له في ذلك غرضاً شرعياً سليماً.
والله سبحانه وتعالى أعلم ..(4/188)
رَابعاً: الحَصَاَنة وَأَحْكَامُهَا(4/189)
الحَضَاَنة:
تعريف الحصانة:
الحصانة لغة: مأخوذة من الحِضْن، وهو الجنب، لأن الحاضنة من شأنها أن تردّ المحضون إلى جنبها.
والحضانة في اصطلاح الشريعة الإسلامية: هي حفظ مَن لا يستقل بأمر نفسه، ... وتربيته بمختلف وجوه التنمية والإصلاح، وتنتهي بالنسبة للصغير إلى سن التمييز.
أما رعايته بعد ذلك إلى سن البلوغ، فتسمى: كفالة، لا حضانة.
حكمة مشروعية الحضانة:
إن الحكمة من مشروعية الحضانة، إنما هي تنظيم المسؤوليات المتعلقة برعاية الصغار، وتربيتهم.
إذ ربما تفارق الزوجان، أو اختلفاً، أو تعاسرا فيما يتعلق بالنظر لتربية صغارهما.
فلو ترك الأمر لما ينتهي إليه شقاقهما، أو لما يقرره المتغلب من الطرفين في الخصومة، كان في ذلك ظلم كبير للصغار، وإهدار لمصلحتهم. وربما كان في ذلك رج بهم في أسباب الشقاء والهلاك.
لذلك كان لابدّ من وضع ضوابط تحدد أصناف المسؤولين عن(4/191)
حضانة الصغار، ورعايتهم، وتصنفهم حسب الأولوية، بحيث لا تتأثر مصلحة الصغار، بأيّ شقاق، أو خلاف يقع بين أولياء أُمورهم.
من هو الأحق بالحضانة؟
إذا فارق الرجل زوجته، وكان له منها ولد، ذكر أو أنثى، وكان دون سن التمييز، فإن الأم أحق من الأدب بحضانته.
أسباب تقديم الأم في الحضانة على الأب:
إن الأم أحق بالحضانة من الأب، للأسباب التالية:
1ـ لوفور شفقتها، وصبرها على أعباء الرعاية والتربية.
2ـ لأنها ألين بحضانة الأطفال، ورعايتهم، وأقدر على بذل ما يحتاجون إليه من العاطفة والحنو.
الدليل على حق الأُم في الحضانة:
والدليل على أن الحضانة من حق الأُم، وأن حقها مقدّم على حق الأب في ذلك: ما رواه أبو داود (الطلاق، باب: مَن أحقّ بالولد، رقم: 2276) عن عبدالله بن عمرو - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، جاءته امرأة، فقالت: يا رسول الله، إن ابني هذا، كان بطني له وعاءً، وثديي له سقاءً، وحجري له حواءً، وإن أباه طلّقني، وأراد أن ينزعه منّي، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أنت أحق به ما لم تنكحي ".
[حواء: الحواء اسم للمكان الذي يحوي الشيء ويضمه].
مَن أحقّ بالحضانة بعد الأم؟
إذا لم توجد أم الطفل، أو وجدت، ولكنها رفضت أن تحضنه، كان الحق في الحضانة لمن بعد الأُم، وكانت الأفضلية لأم الأم. والمقصود بها: جدّة تدلي إلى الطفل بأنثى، تقدّم القربى، فالقربى.
ثم لأم الأب. ثم أُمهاتها، تقدم القربى فالقربى.
ثم للأخت الشقيقة. ثم للأخت من الأب. ثم للأخت من الأم.(4/192)
ثم الخالة. ثم العمّة.
ثم بنات الأخ، ثم بنات الأُخت.
الحكمة في تقديم الإناث في الحضانة:
والحكمة في هذا التقديم للإناث في حق الحضانة هي ما قلناه في الأُم، فإن الإناث غالباً ما يكن ألين بحضانة الأطفال، ورعايتهم، وأصبر على مشاكلهم، وأقدر على بذل ما يحتاجون إليه من الحنو والعاطفة.
حضانة الرجال:
قلنا إن حق النساء في الحضانة مقدّم، لأنهن أليق بها، ولكن إذا لم يكن هناك امرأة قريبة للطفل، أو كانت، وأبت أن تحضنه، فهل ينتقل هذا الحق إلى الرجال؟ نعم ينتقل حق الحضانة إلى الرجال، فيقدّم منهم المحرم الوارث، على ترتيب الإرث، إلا الجد فإنه يقدّم على الإخوة، ثم الوارث غير المحرم، على ترتيب الإرث أيضاً. فيقدم:
الأب، ثم الجد، وإن علا.
ثم الأخ الشقيق، ثم الأخ لأب، ثم ابن الأخ الشقيق، فابن الأخ لأب، ثم العمّ الشقيق، ثم العم لأب. ثم ابن العم الشقيق، ثم ابن العم لأب.
وإنما قدّم الأقرب فالأقرب في حق الحضانة، لأن الأقرب أوفر شفقة على الغالب من الأبعد، وأكثر حرصاً على حق الرعاية، وحُسن التربية؛ ومصلحة الصغار.
اجتماع الرجال والنساء من أقرباء الأطفال:
إذا اجتمع ذكور وإناث من أقارب الطفل، وتنازعوا في الحضانة، قدّمت:
الأم، لحديث أبي داود السابق، ولأنها ـ كما قلنا ـ أوفرهم شفقة على الطفل.(4/193)
ثم أُمهات الأم، المدليات بإناث، كما ذكرنا، لأنهنّ في معنى الأم في الشفقة، تقدم القربى، فالقربى.
ثم يقدّم الأب، لأنه الأصل.
ثم الجدّة أُم الأب، ثم الجد أبو الأب.
ثم الأخت الشقيقة، ثم الأخ الشقيق، وهكذا.
فإذا استووا في القرب، وكانوا ذكوراً وإناثاً: كإخوة أشقاء وأخوات شقيقات، قدّم الإناث على الذكور، لما قلنا، من أن الحضانة بهنّ أليق، وهنّ لها أفضل.
وإن كانوا ذكوراً فقط، أو كنّ إناثاً فقط، وتنازعوا في الحضانة، أقرع بينهم، فأيّهم خرجت قرعته، سُلَّم إليه الطفل.
إلى متى تستمر الحضانة للطفل:
تستمر فترة الحضانة شرعاً إلى أن تتكامل في الطفل التمييز، والمقصود بالتمييز أن يستقل الطفل بشؤونه الخاصة، دون الحاجة إلى معونة أحد.
والمراد بشؤونه الخاصة: تناول الطعام والشراب، وقضاء الحاجة، والتنزّه من الأدران، والقيام بأعمال الطهارة، من وضوء ونحوه. وقد حدّد سن التمييز بسبع سنين، إذ يتكامل التمييز عنده غالباً. فإذا أتمّ الطفل السابعة من عمره، وكان مميزاً، فإن مدّة الحضانة تنتهي عند ذلك.
وتبدأ مرحلة أخرى من الرعاية تسمي: كفالة.
فإذا أتمّ الطفل، سن السابعة، وكان مميزاً، فإنه يخيّر إذ ذاك بين أبويه، فأيّهما اختار سلّم إليه.
ودليل ذلك: ما رواه الترمذي (الأحكام، باب: ما جاء في تخيير(4/194)
الغلام بين أبويه إذا اقترفا، رقم 1357) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خير غلاماً بين أبيه وأمه.
وفي رواية عند أبي داود (الطلاق، باب: مَن أحق بالولد، رقم: 2277) وغيره: أن امرأة جاءت، فقالت: يا رسول الله، إن زوجي يريد أن يذهب بابني، وقد سقاني من بئر أبي عنبة، وقد نفعني. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " استهما عليه " فقال زوجها: من يحاقني في ولدي،
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " هذا أبوك، وهذه أُمك، فخذ بيد أيّهما شئت " فأخذ بيد أُمه، فانطلقت به.
[بئر أبي عنبة: بئر معين، والظاهر أنه كان في مكان بعيد. وهي تغني: أن ولدها قد كبر، وأصبح يستطيع القيام بما ينفعها، بعد أن قامت بتربيته، حيث كان صغيراً، لا ينفعها بشيء. استهما: أي اقترعا. يحاقني: يخاصمني].
ثم إن اختار المميز أباه، ففقد الأب، أو سقطت أهليته، نزل الجد منزلته، وإن علا، ومثله الأخ والعم، ومثلهما ابن العم عند فَقْد الأخ والعم، على الترتيب الذي ذكرناه سابقاً.
إلا أن تكون فتاة مُشتهاة، أو في سن المراهقة، فلا يجوز بقاؤها في كفالة ابن عمّها، فإن لم يكن غيره، وجي أن تكون عند امرأة موثوقة يعينها ابن العم.
حكمة تخيير الطفل بين أبويه عند بلوغه التمييز:
علمنا سبب تقديم حق الأم في الحضانة على الأب، كما علمنا السبب في انتهاء مدة الحضانة بتكامل التمييز عند الطفل، أو الطفلة، وذلك، لأن فترة ما قبل التمييز عند الطفل، أو الطفلة، وذلك، لأن فترة ما قبل التمييز، لا يستغني فيها الصغير عن رعاية الأم، ولا يكاد يقوم مقامها الأب، أو غيره من الرجال.
غير أن الكفالة، إنما هي رعاية عامة، قد يستوي في القدرة عليها(4/195)
كلّ من الأب والأم، وذلك بسبب قدرة الطفل على أن يستقل بالكثير من شؤونه، وبسبب توفر الطاقة العقلية عنده في الجملة.
فناسب بعد هذا كله، أن يعطى الطفل الخيار بين أبويه، أو مَن يقوم مقامهما، يختار أيّهما شاء.
شروط الحضانة:
يشترط للحضانة أن يتوفر فيها الشروط التالية:
أولاً: العقل:
فلا حضانة لمجنون، أو مجنونة، ولو كان جنوناً متقطعاً، لأن الحضانة ولاية، وليس المجنون من أهل الولاية، إذ يتأتى منه الحفظ والرعاية، بل هو نفسه محتاج إلى الرعاية والحفظ.
ثانياً: الإسلام:
وذلك إذا كان المحضون مسلماً، ولو حكماً، بأن كان أحد أبويه مسلماً، فإنه يتبع أشرف الأبوين في الدين.
فلا تجوز حضانة الكافر للمسلم، ذلك لأن الحضانة، ولاية ـ كما قلنا ـ ولا ولاية للكافر على المسلم.
ولأن الكافر، ربما يفتن الصغير عن دينه، بشتى الوسائل والأساليب.
لكن إذا كان المحضون كافراً، كان لكلّ من المسلم والكافر حضانته.
ثالثاً: العفة والأمانة:
والمراد بالعفة والأمانة: أن لا يكون الحاضن فاسقاً، إذ الفاسق لا يلي، ولا يؤتمن على شيء، وإنما ينبغي أن يكون عدلاً ذا عفّة ودين.
ثم إن العدالة تثبت بالظاهر المشاهد، ولا يشترط لثبوتها شهادة وبيِّنات، إلا إذا وقع نزاع في أهلية الحاضن، وعدالته، فلا بدّ عندئذ من(4/196)
ثبوت عدالته عند القاضي بناءً على الأدلة والبيِّنات.
رابعاً: الإقامة:
وذلك بأن يكون صاحب الحق في الحضانة مقيماً في بلد الطفل.
فلو سافرت الأم ـ وهي صاحبة الحق في حضانة طفلها ـ سفر حاجة:
كحج، وتجارة ونزهة ونحوها، لم تمكن من أخذ الطفل معها، وكان المقيم عنده أولى منها إلى أن تعود من السفر، فيسلّم الولد إلى جدته إلى أن تعود الأم.
أما السفر الذي يكون انتقالاً إلى بلدة أخرى، بدون قصد العودة، فإنه لا يستوجب سقوط حق الحضانة، إذا كان الطريق آمناً، وكانت البلدة التي تقصد الحاضن الاستيطان فيها آمنة أيضاً:
فإذا اضطر كل من الأبوين إلى السفر لحاجة، بقي حق الأُم، ولم يعد السفر عندئذ مانعاً من الحضانة:
خامساً: الخلو من زوج أجنبي:
فإذا تزوجت الأم سقط حقها في الحضانة، وإن لم يدخل بها الزوج بعد، أو رضي زوجها أن يدخل الولد داره.
والدليل على ذلك من السنة: فما رواه أبو داود (2276) وذكرناه سابقاً " أنت أحقّ به ما لم تنكحي " (1).
والدليل من المعقول على سقوط حق الأم في الحضانة إذا تزوجت، هو أن الأم إذا تزوجت شغلت عن ولدها بحق الزوج، فلا توجد ضمانة لرعاية شأن الطفل، والنظر في أمره
لكن يستثنى من ذلك حالتان:
_________
(1) انظر الدليل على حق الأم في الحضانة (صفحة 192).(4/197)
الحالة الأولى: أن يتراضى والد الطفل مع زوج الأم أن يبقى الولد عند أمه، فإن ذلك يبقي حقّها في الحضانة، ويسقط حق الجدّة.
الحالة الثانية: أن يكون زوج الأُم الجديد قريباً للطفل، ممّن له حق حضانته، وإن كانت درجته بعيدة، فإن الأم في حضانة ولدها لا يسقط حينئذ إذا رضي زوجها بحضانته.
ذلك لأن له حقاً في رعايته، ولأن له من الشفقة عليه ما يحمله على التعاون مع أُمه على كفالته، والاهتمام بشأنه.
سادساً: الخلو من الأمراض الدائمة والعادات المؤثرة:
فلو كانت الأُم تعاني من مرض عضال: كالسل، والفالج، أو كانت عمياء، أو صّماء، لم يكن لها حق في حضانته، لأن من شأنها ما يشغلها عن القيام بحق الطفل.
ما يترتب على فَقْد شيء من شروط الحضانة:
إذا فُقِدَ شرط من هذه الشروط الستة التي ذكرناها لاستحقاق الحضانة، سقط حق الحاضنة، وانتقل هذا الحق من يليها، مَن جدة، ثم أخت، ثم خالة، وهكذا.
كيف يتم التأكد من فوات شرط من شروط الحضانة:
يعتمد في التأكد من فوات شرط من شروط الحضانة على واحد من الأمور الثلاثة التالية
الأمر الأول: إقرار الحاضنة:
فإذا أقرّت الأم بأنها متزوجة، أو أنها تعاني من مرض عضال دائم العلّة، سقط حقها في الحضانة.
الأمر الثاني: دعوى المعارض:
إذا ادّعى المعارض في الحضانة: أن الحاضنة فقدت شرطاً من(4/198)
شروط الحضانة، وكانت دعواه تلك مصحوبة بالبيِّنات المعتمدة، فإن حقها في الحضانة يسقط عندئذ.
ثالثاً: تحقيق القاضي:
تحقيق القاضي، أو الحاكم، وذلك عندما يرتاب ويشكّ في توفر الشروط عند الحاضنة، فإذا ثبت لديه بموجب تحرياته فقدان شرط من شروط الحضانة، فإنه يسقط الحضانة عندئذ في الحضانة.
والله سبحانه وتعالى أعلم ... .(4/199)
خامساً: الرضاع وأحكامه(4/201)
الرضاع
تعريف الرضاع:
الرِّضاع، والرِّضاعة ـ بفتح الراء ويجوز كسرها فيهما ـ معناه في اللغة: اسم لمصّ الثدي وشرب لبنه.
والرضاع شرعاً: اسم لحصول لبن امرأة، أو ما حصل منه في معدة طفل، أو دماغه
دليل تشريع الرضاع:
إرضاع الولد من غير أُمه التي ولدته جائز شرعاً، ولقد كان أمراً معروفاً قبل الإسلام. ولما جاء في الإسلام أقرّه ولم يحرمه، لما فيه أحياناً من المصلحة، والحاجة الملجئة؛ كأن تموت أُم الطفل، مثلاً، أو يكون بها علّة تمنعها الإرضاع، فلا بدّ والحالة هذه من امرأة أخرى ترضعه حفاظاً على حياته.
دليل هذا الجواز:
ويستدل على جواز الإرضاع بقول الله عز وجل: {وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى}
[الطلاق: 6].
تعاسرتم: اختلفتم في إرضاع الولد، فسترضع الولد امرأة أخرى غير أمه.(4/203)
وقوله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 233].
هل الرضاع واجب على الأم أم هو حق لها؟
إن قلت: الرضاع واجب على الأم، كان معنى ذلك، أنها ملزمة بإرضاع طفلها، سواء رضيت بذلك، أو لم ترضَ، مادامت قادرة على الإرضاع، غير معذورة بأيّ سبب شرعي. وإن قلت: الرضاع حق للأم، كان معنى ذلك الأمر عائد إلى اختيارها.
فإن رغبت في الإرضاع لم يكن للزوج، ولا لغيره أن يصدّها عن حقها.
أما إن لم ترغب في إرضاعه، فإن الزوج يصبح عندئذ ملزماً بتدبر مُرضعة أخرى لطفله.
إذا عرفت الفرق بين الواجب عليها، والحق لها، فما هي علاقة الأُم بإرضاع ولدها؟.
هل هي علاقة حق لها؟ أم هي علاقة واجب عليها؟
المفتي به في مذهب الإمام الشافعي رحمة الله تعالى: أن الرضاع حق للأم، تطالب به عندما تشاء، وليس واجباً عليها.
فلا تلزم به إلا إذا لم يوجد مَن يقوم مقامها، فيصبح الإرضاع واجباً عليها للضرورة.
دليل أن الرضاع حق للأم وليس واجباً عليها:
ودليل كون الإرضاع حقا للأم، وليس واجباً عليها: قول الله عز وجل: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة:: 233] مع قوله سبحانه تعالى: {وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى}. وقوله جلّ جلاله: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6].(4/204)
وبيان وجه الدليل في هذه الآيات على أن الإرضاع حق للأم وليس واجباً عليها: أن الله عزّ وجلّ، عندما قال: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ} احتمل أن يكون المعنى: الوالدات يلزمن بإرضاع أولادهن.
ولو قال سبحانه وتعالى: وعلى الوالدات إرضاع أولادهنّ: لسقط الاحتمال الثاني، وتعين الاحتمال الأول. فلما قرأنا قول الله عز وجل {وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} ترجح المعنى الثاني في الآية الأولى، وهو كان الرضاع حقاً لها. إذ لو كان واجباً عليها، لما قال سبحانه وتعالى: {فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى}. ولما كان من سبيل إلى التعاسر والاختلاف مع الزوج، ولما كان لها الامتناع عن الإرضاع.
ولما قرأنا قول الله سبحانه وتعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ازداد المعنى الثاني للآية رجحاناً، بل تعين ذلك المعنى، لأن الرضاع لو كان واجباً على الأم، لما استحقّت عليه أجراً، إذ لا أجر على واجب، فلما أمر سبحانه وتعالى بإعطائهنّ الأجر على الرضاع إن طلبنه، دلّ ذلك على أنهنّ مخيّرات في الإرضاع، لا مجبرات عليه.
والخلاصة:
أن الرضاع حق للأم تجاب إليها، إن طالبت به. وليس واجباً عليها، فلا تلزم به إن رفضته، إلا إن تعينت له، فعندئذ يجب عليها للضرورة.
ما يترتب على كون الرضاع حقاً لا واجباً:
لعلك أدركت مما أوضحنا، الأمور التي تترتب على كون الرضاع مجرد حق للأم، وأنه ليس واجباً عليها.
وهذه الأمور، تتلخص فيما يلي:
أولاً: لا يجوز للزوج إجبار زوجته على إرضاع طفلها، فإن أجبرها،(4/205)
فلم تستجب لإجباره وأمره، فهي ليست بعاصية، ولا تُعدّ ناشزة.
يستثنى من ذلك، ما لو لم يكن ثَمة من يصلح لإرضاع الطفل غيرها. فإن الضرورة عندئذ تقضي بقسرها على الإرضاع، وهي المحافظة على حياة الطفل.
ثانياً:
يجب على الزوج أن يعطي زوجته الأجر حسب العُرف، على ما تقوم من إرضاع الطفل، إذا طلبت على ذلك أجراً.
فإن لم تطالب بالأجر ـ كما هو السائد في أعراف الناس اليوم ـ لم يلزم الزوج بدفع الأجر، وسقط حقها في المطالبة، إن كانت تبرعت به وأظهرت له عدم الرغبة فيه.
ما يترتب على الرضاع من القرابة:
إذا أرضعت المرأة طفلاً أجنبياً عنها، صار الطفل ابنها بالرضاع، وصار زوجها صاحب اللبن أباً لذلك الطفل، وترتب على هذا الرضاع الأمور التالية:
أولاً: يحرم على الرضيع التزوج ممّن أرضعته، ومن كل أنسبائها اللائي يحرم عليه التزوج منهنّ لو كانت أُمه من النسب.
فيدخل في هذا التحريم:
-أُخت مرضعته، لأنها خالته من الرضاعة.
-وبنت مرضعته، لأنها أُخته من الرضاعة.
-وبنات أولاد مرضعته، ذُكوراً كانوا أو إناثاً، لأنهنّ بنات إخوته، أو بنات أخواته من الرضاعة.
-أم مرضعته، لأنها جدّته من الرضاعة.
وكذلك يحرم على هذا الرضيع التزويج من هؤلاء أنفسهم، إذا كانوا أنسباء والده من الرضاعة، وهو زوج المرضعة، صاحب اللبن.(4/206)
فتحرم عليه:
-أُخت والده من الرضاعة، لأنها عمّة الرضيع.
-وبنت والده من الرضاعة، ولو من زوجة أخرى، لأنها أُخت هذا الرضيع.
-وبنات أولاد أبيه من الرضاعة، ذكوراً كانوا أم إناثاً، لأنهنّ بنات أخوة الرضيع أو بنات أخواته.
-وأم أبيه من الرضاعة، لأنها جدّة الرضيع.
ثانياً: يحرم على المرضع، وعلى هؤلاء الأنسباء للمرضع جميعاً التزويج من الرضيع، كما أوضحنا، والتزويج من فروعه، لأنك لو قدّرت أمومة المرضعة للطفل أُمومة نسب، كان هؤلاء الأنسباء محرّمات عليه فكذلك أُمومة الرضاع.
فكما لا يتزوج الرضيع من بنت مرضعته، لأنها أخته من الرضاع، فكذلك لا يتزوج ابن الرضيع منها لأنها عمّته من الرضاعة. وهكذا إلى آخرة.
ثالثاً: يجوز للمرضع، وأنسبائها اللائي عدّدنا أسماءهنّ التزوج من حواشي الرضيع: كأخيه، ومن أصوله، كأبيه، وكعمّه، لأنهم أجانب عن المرضع وأنسبائها.
الدليل على حرمة الرضاع:
الأصل في كل ما ذكرنا: القرآن، والسنّة:
أما القرآن الكريم: فقول الله عز وجل: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ}
[النساء: 23]
وأما السنّة: فقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: فيما رواه البخاري (2553) ومسلم (4144) عن عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الرضاعة تُحرِّم ما يَحرُم من الولادة ".(4/207)
وفي رواية عند البخاري (الشهادات، باب: الشهادة على الأنساب ... ، رقم: 2502) ومسلم (الرضاع، باب: تحريم ابنة الأخ من الرضاعة، رقم: 1447) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في بنت حمزة رضي الله عنه: " لا تحلّ لي، يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، هي بنت أخي من الرضاعة ".
فقد دلّت الآية على أن المرضع تصبح بسبب الرضاعة أُمّاً للرضيع، وأن ابنتها، تصبح أُختاً له.
وأما الحديثان فقد أوضحنا النتائج المترتبة على ذلك، وهي: أن أُمومة الرضاع بمنزلة أُمومة النسب.
فكلّ مَن تحرم على الولد من أقارب أمه وأخته نسبياً، تحرم عليه من أقارب أمه أو أخته رضاعاً.
شروط الرضاع المحّرم:
لا يعتبر الرضاع موجباً للقرابة، ومحرماً للزواج، إلا إذا يؤثر فيه الشرطان التاليان:
الشرط الأول: أن يكون الرضيع لم يتم سنتين من عمره عند الرضاع. فإن أرضعته بعد أن تجاوز الستين من العمر، لم يُؤثر هذا الرضاع في التحريم، ولم يُفد في القرابة شيئاً.
ودليل ذلك قول الله عزّ وجلّ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]. وقول الله عزّ وجلّ: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14].
[والفصال: هو الفطام، لأنه يفصل فيه الرضيع عن أُمه].
ويستدل لذلك من السنّة أيضاً: بما رواه الدارقطني (الرضاع 4/ 174) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا رضاعَ إلا ما كان في الحَوْليْن ".(4/208)
وروى الترمذي (الرضاع، باب: ما جاء [ما ذكر] أن الرضاعة لا تحرم إلا في الصغر ... .، رقم: 1152) عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يُحرِّم من الرضاعة إلا فتقَ الأمعاء في الثدي، وكان قبل الفطام ".
فتق الأمعاء: شقها وسلك فيها. في الثدي: في الثدي، في زمن الرضاع، قبل الفطام. والفطام يكون في تمام الحولين، كما في قوله تعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14]
وروى البخاري (النكاح، باب: مَن قال لا رضاع بعد حولين ... .، رقم: 4814)، ومسلم (الرضاع، باب: إن الرضاعة من المجاعة، رقم: 1455) عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها وعندها رجل، فكأنه تغير وجهه، كأنه كره ذلك، فقالت: أنه أخي، فقال: (انظرن من إ خوانكن، إنما الراضعة من المجاعة).
أي تحرم الرضاعة إذا كانت في الزمن الذي يجوع فيه الطفل لفقدها، ويشبع بها، وهذا لا يكون إلا للصغير.
الشرط الثاني: أن ترضعه خمس رضعات متفرقات.
وتعتبر الرضاعة منفصلة، أو غير منفصلة عن الأخرى بالعُرف. فلو قطع الطفل الرضاع إعراضاً وشبعاً، كان ذلك رضعة مستقلة، ولو قطعه للهو، مثلاً، وعاد في الحال، أو تحول من ثدي إلى ثدي، عُدّ ذلك رضعة واحدة.
دليل هذا الحكم: والدليل على ذلك: ما رواه مسلم (الرضاع، باب: التحريم بخمس رضعات، رقم: 1452) عن عائشة رضي الله عنها: كان فيما نزل من القرآن: عشر رضعات معلومات يحرمن. ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهنّ فيما يقرأ من القرآن.(4/209)
أي إن نسخها كان متأخراً، حتى إنه توفي - صلى الله عليه وسلم -، وبعض الناس مازال يتلوها قرآناً، لأنه لم يبلغه النسخ بعد.
وروى مسلم (الرضاع، باب: في المصّة والمصّتان، رقم: 1451) عن أم الفضل رضي الله عنها: أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تحرم الرضعة أو الرضعتان، أو المصّة أو المصّتان ".
ما يترتب على قرابة الرضاع من أحكام:
يترتب على القرابة الناشئة من الرضاع حكمان اثنان:
1ـ حكم يتعلق بالحُرمة. 2ـ حكم يتعلق بالحل.
أما الحرمة: فتتعلق بالنكاح.
وأما الحل: فيتعلق بالخلوة والنظر.
فإذا نشأت قرابة الرضاع بين طرفين، كان لهذه القرابة من التأثير على حرمة النكاح مثل ما لقرابة النسب، ويتفرع عنها كل ما يتفرع عن قرابة النسب من الآثار. فأُمك وإن عَلَت، وبنتك وإن سَفلت، وأُختك لأبويك، أو لأحدهما، وعمتك وإن بعدت، وبنت الأخ لأبوين، أو لأحدهما، وبنت الأخت لأبوين، أو لأحدهما، محرّمات عليك بسبب هذه القرابة التي جاءت عن طريق النسب.
فإن تولدت هذه القرابات عن طريق الرضاع، ترتب عليها أيضاً التحريم دون أيّ فرق بينهما.
وقد مضى بيان ذلك فلا نعيده.
وتتفرع عن قرابة النسب حُرمة المصاهرة، كما هو معلوم. فأم الزوجة نسباً تحرم على صهرها، الذي هو زوج ابنتها.
وكذلك بنت الزوجة نسباً، وزوجة الأب نسباً، وزوجة الابن نسباً.(4/210)
كلهنّ يحرمن على الزوج في المثال الأول، وعلى الابن في المثال الثاني، وعلى الأب في المثال الثالث. والسبب هو المصاهرة.
فإذا نشأت هذه القرابات نفسها من رضاع، أورثت الحكم ذاته، بالنسبة للمصاهرة.
أي فأم الزوجة من رضاع تحرم على الزوج.
وبنتها من رضاع تحرم عليه أيضاً.
وزوجة أبيك من رضاع، وزوجة ابنك من رضاع محرّمتان عليك.
والسبب المصاهرة التي ترتبت على قرابة الرضاع. واعلم أن دليل ذلك كله: هو قول النبي - صلى الله عليه وسلم - السابق (1): " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ".
رواه البخاري (2502)، ومسلم (1447) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
هذا ما يتعلق بأثر التحريم المترتب على قرابة الرضاع.
أما ما يتعلق بأثر الحل:
فبيان ذلك: أن كل ما يحّل بينك وبين قريبة لك نسباً ممّن مضى ذكرهم، يحلّ بينك وبين مَن بينك وبينها رضاعة: فيحلّ بينهما النظر، كما يحلّ ذلك بين الأخ والأخت من النسب، وتحلّ بينهما الخلوة المحّرمة بين الأجنبيين، ويحلّ لها أن تسافر معه فوق ثلاث ليالٍ.
غير أن هذا الحكم لا يسوغ نظر القريب رضاعة إليها بشهوة، أو نظرها إليه كذلك.
لأن هذا النظر محّرم حتى بين أقارب النسب.
_________
(1) انظر الدليل على حرمة الرضاع (صفحة: 207).(4/211)
ولذلك فقد كره متأخرو الفقهاء إرضاع المرأة لغير طفلها بدون ضرورة وحاجة.
كما أنهم كرهوا اختلاط الذكور والإناث الذي جمعتهم قرابة الرضاع، وذلك بسبب ما قد يتوصل به إلى شرور ومحّرمات مختلفة، لضعف الوازع الديني، ولعدم وجود الوازع الفطري الذي يكون بين القريب والقريبة.(4/212)
سادساً: ثبوت النسب(4/213)
النَّسَبُ
تمهيد:
النسب: القرابة. والنسب أساس هام لأحكام كثيرة متنوعة:
كالإرث، والنكاح حلاَّ وحرمة، والولاية، والوصية، وغير ذلك. من أجل ذلك كان لابدّ من بيان الدلائل التي يثبت بها النسب، وضبطها بما لا يدع مجالاً لريبة، أو اضطراب في طريق إثباتها. فكيف يثبت النسب بين شخصين ثبوتاً ِشرعياً، تترتب بموجبه الأحكام الشرعية المتعلقة به؟.
مثبتات النسب: يثبت النسب شرعاً بواحد من الموجبات التالية:
الأول: الشهادة: ويشترط في الشهادة رجلان ممّن توافرت فيهم شروط صحة الشهادة تحملاً وأداء، وقد مّرت هذه الشروط في النكاح، فلا يثبت النسب بشهادة النساء، ولا بشهادة رجل وامرأتين، لأن النسب فرع من النكاح، والنكاح مما لا يطّلع عليه في الغالب إلا الرجال. فلا تقبل شهادة النساء فيه.
الثاني: الإقرار: وذلك بأن يقرّ الرجل أنه والد زيد مثلاً، أو أن يقرّ زيد بأنه ابن ذلك الرجل
شروط صحة الإقرار:
وإنما يعتبر هذا الكلام من كلَّ منهما، ويعُدّ إقراراً، إذا توفرت في الشروط التالية:(4/215)
1ـ أن لا يكذب هذا الإقرار الحسنَُ، وذلك بأن يكونا في سن يمكن أن يكون هذا الابن من ذلك الأب.
فلو كان في سن لا يتصور أن يكون منه، كأن كان مساوياً له في السن لم يصحّ هذا الإقرار، ولم يثبت به نسب، لتكذيب الحسّن له.
2ـ أن لا يكذب هذا الإقرار الشرعُ. وتكذيب الشرع له: أن الولد المستلحق بالإقرار معروف النسب من غير المقَّر، لأن النسب الثابت من شخص لا ينقل إلى غيره بالإقرار، سواء صدّقة المستلحق أم غيره.
3ـ أن يصدّق المستحلقُ المقرٌَ، إن كان هذا المستلحق أهلاً للتصديق، بأن يكون مكلفاً، لأن له حقاً في نسبه، وهو أعرف به من غيره.
4ـ أن لا يجّر المقر بهذا الإقرار نفعاً إلى نفسه، أو يدفع عنها به ضرراً، فإن استلزم واحداً منهما، لم يُعد يسمى كلامه إقراراً، بل هو ادّعاء، ولا يقبل الادعاء إلا إذا ثبت ببينه من شهادة ونحوها.
مثال ذلك:
أن يقول عن شاب مات عن ثروة من المال: إنه ابني، فلا يقبل كلامه، ولا يعتبر إقراراً، ولا شهادة، لأن الإقرار من شأنه أن يجرّ مَغْرماً، أو مسؤولية على المقرّ.
ولأن الشهادة إنما تعتبر حيث لا تستلزم نفعاً للشاهد، ولا تدفع عنه ضرراً.
ودليل ذلك ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه لا تجوز شهادة الظِّنين.
الترمذي (الشهادات، باب: ما جاء فيمن لا تجوز شهادته، رقم: 2299).
والظنِّين: المتهم. والجارّ إلى نفسه نفعاً، والدافع عنها ضرراً متهمان.(4/216)
وإنما يدخل هذا الكلام عندئذ في الاّدعاء، والاّدعاء لا يقبل إلا إذا عزّرته البيَّنة المعتبرة شرعاً.
ومنها: أن يشهد شاهدان عدلان بصدق كلامه.
الثالث: الاستفاضة: وصورة الاستفاضة: أن ينتسب الشخص إلى رجل، أو قبيلة، والناس في تلك البلدة ينسبونه إلى ذلك الشخص، أو تلك القبيلة، دون وجود مخالف، ودون أن يُحدّ ذلك في فترة قصيرة من الزمن.
فهذه الاستفاضة تنزل منزلة الشهادة الصحيحة، وتعتبر دليلاً شرعياً على صحة الأمر.
بشرط أن يكون الناس ـ الذين استفاض عنهم وبينهم ذلك ـ قد بلغوا من الكثرة مبلغاً، يحيل العقل اتفاقهم على الكذب.
والسبب في تنزيل الاستفاضة في ثبوت النسب منزلة الشهادة الصحيحة: أن النسب من الأمور الثابتة المستمرة مع توالي الأجيال، فإذا طالت مدتها عَسُرَ إقامة البيَّنة على ابتدائها، فمسّت الحاجة إلى إثباتها بالاستفاضة.
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم ينتسبون عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قبائلهم، وأجدادهم، فما كان ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ يطالبهم بالشهود الذي يثبتون النكاح رؤية بالعين. بل كان يكتفي باستفاضة الخير بين الناس، دون وجود مخالف. وكانت الأحكام تبنى على ذلك.
ثبوت الرضاعة:
لقد علمت سابقاً أن الرضاعة لها حكم النسب في التحريم. فكذلك لها حكم النسب في طرق الثبوت. فتثبت الرضاعة من المثبتات الثلاثة السابقة:
الشهادة، الإقرار، الاستفاضة.(4/217)
غير أن شهود الرضاعة، لا يشترط فيهم أن يكونوا ذكوراً، كشهود النسب.
بل تجوز في الرضاع شهادة النساء فقط، لأن الرضاعة مما يغلب أن تطلع عليها النساء
وبناءً على ذلك، فالشهادة المقبولة في ثبوت الرضاع هي:
أـ شهادة رجلين عدلين.
ب ـ شهادة رجل عدل، وامرأتين عادلتين.
ج ـ شهادة أربع نسوة عادلات.
الأحكام المتعلقة بالنسب:
إذا عرفت ما تقدم، فاعلم أن هناك أحكاماً كثيرة تترتب على ثبوت النسب بين شخصين
نذكر منها ما يلي:
أولاً: أحكام النكاح حلاًّ وحرمة
ثانياً: أحكام الفقه، وتنسيق المسؤوليات المتعلقة بها.
ثالثاً: الولاية ودرجاتها.
رابعاً: الميراث، وتوزيع الأنصباء، وتنسيق درجات الوارثين.
خامساً: الوصية وأحكامها من صحة وبطلان، فإن كثيراً من أسباب ذلك إنما يعود إلى النسب، وإلى معرفة: هل الموصى له وارث، أو غير موروث.
هذا عرض مختصر لأهم الأحكام المترتبة على ثبوت النسب. ومثل النسب في بعض هذه الأحكام الرضاع.
أما مجال تفصيل هذه الأحكام، فإن لكلِّ منا باباً خاصاً به، بعض هذه الأبواب قد مرّ ذكرها، وبعضها يأتي بحثه إن شاء الله تعالى، وإننا نحيل إليه تفصيل القول في ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.(4/218)
سَابعًا: أَحْكَامُ اللّقِيط(4/219)
اللّقِيطُ
تعريف اللقيط:
اللقيط: على وزن فعيل، بمعنى مفعول: كقتيل بمعنى مقتول.
واللقيط، والملقوط، والمنبوذ: أسماء تطلق على الطفل الموجود مطروحاً في شارع ونحوه، وليس ثَمّة من يَدّعيه.
الأدلة على تشريع أخذ اللقيط:
الأصل في التقاطه وأخذه، وتشريع أحكامه دلائل عامة كثيرة في القرآن والسنة:
أما القرآن: فقول اله عزّ وجلّ: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]. وقوله سبحانه وتعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] وقوله جلّ جلاله في النفس البشرية: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة: 32].
وأما السنّة: فما رواه مسلم (الذِكْر والدعاء والتوبة، باب: فضل الاجتماع على تلاوة القرآن .. ، رقم: 2699) وغيره عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومَن يسّر على معُسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومَن ستر مسلماً، ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ".(4/221)
وروى البخاري (الأدب، باب: فضل مَن يعول يتيماً، رقم: 5679) عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا " وأشار بإصبعيه: السبّابة والوسطى إشارة إلى شدّة القرب بينهما.
وروى الترمذي (البّر والصلة، باب: ما جاء في رحمة الناس، رقم: 1923) وغيره عن جرير بن عبدالله - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " مَن لا يرحمِ الناس لا يرحمْه الله ".
حكم أخذ اللقيط:
إذا وجد لقيط بقارعة الطريق، ولا كافل معلوم له، فأخذه وتربيته وكفالته، فرض على الكفاية، على كلّ مَن وجده.
فإذا أهمل، وبقي في مكانه الذي وجد فيه، أثم جميع أهل تلك البلدة، أو المنطقة، أو القرية الذي عملوا بوجوده.
وإذا التقطه أحدهم، واهتم بتربيته، والنظر في شأنه، ارتفع الإثم عن الجميع.
ودليل ذلك قول الله عزّ وجلّ: {أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة: 32] وقتل النفس كما يكون بالاعتداء الإيجابي على حياتها، فإنه يكون بمنع المسعفات عنها، مع قدرته على ذلك.
الإشهاد على أخذ اللقيط:
ومَن وجد طفلاً مطروحاً في مكان، وأخذه ليكفله ويربيّه، وجب عليه أن يشهد على التقاطه، وأخذه، حفاظاً على حريته، ونسبه، ويجب الإشهاد أيضاً على ما معه من مال، إن وجد الملتقط معه مالاً. دفعاً للتهمة، وضماناً لحقّ اللقيط في ماله، ولو كان الملتقط عدلاً أميناً(4/222)
شروط بقاء اللقيط مع ملتقطه:
كان ما ذكرنا سابقاً هو حكم أخذ اللقيط، وقد علمت أنه فرض كفاية على جميع المسلمين حيث وجد اللقيط، دون قيد أو شرط.
فإذا أخذ اللقيط واحد من الناس أياً كان، فقد ارتفع بذلك الفرض الكفائي عن سائرهم.
إلا أنه لا يجوز إبقاء اللقيط عند هذا الذي التقطه إلا بشروط أربعة:
الشرط الأول: الإسلام: فلا يقّر اللقيط عند الكافر، إلا إذا كان اللقيط محكوماً بكفره، كأن عرف بطريقة ما أن أبويه كافران، فلا مانع عندئذ من إبقائه عنده.
الشرط الثاني: العدالة: فلا يجوز إبقاء اللقيط عند مَن عُرف بالفسق، ويعطى لمن ثبتت عدالته وأمانته.
الشرط الثالث: الرشد: فلو التقطه غير رشيد، بأن كان دون سن الرشد، انتزع منه. ومنه السفيه الذي طرأ عليه السفه بعد الرشد، إذا كان محجوراً عليه، فلا يجوز إقرار اللقيط عنده.
الشرط الرابع: الإقامة: فلو عزم الملتقط على السفر به إلى مكان ما، وجب انتزاعه منه، إذ لا يؤمن أن يسترقّه، أو يغدر به.
وإنما يراعي هذه الشروط، ويُبقى أو ينتزع اللقيط على أساسها القاضي أو الحاكم وليّ له.
فلابدّ أن يكون هو المُحكَّم في ولاية الملتقط، والنظر في صلاحيته لذلك.
نفقات اللقيط:
إذا أخذ أحد اللقيط، وأُقر في يده، لتوفر الشروط التي ذكرناها فيه، فإنه ينظر:(4/223)
1ـ فإما أن يكون في حوزة اللقيط مال.
2ـ أو ليس في حوزته مال.
فإن وجد في حوزته مال، اعتبر هذا المال ملكاً له، لأنه صاحب اليد عليه، ولا يوجد منازع فيه، وأنفق عليه من ماله. وعندئذ ينفق الحاكم عليه من ذلك المال، وذلك بأن يأذن للملتقط الذي يرعى شأنه، بأن يصرف منه على مصالحه، واحتياجاته. فلو استقل الملتقط بالإنفاق على اللقيط من ذلك المال، دون إذن للحاكم، أو القاضي، ضمن ذلك المال، وكلِّف برد قدره إلى حوزة الطفل.
كما لو كان لليتيم وديعة عند الولي، فصرف الوليّ الوديعة عليه بدون إذن الحاكم، فإنه يضمنها، ويكلّف بإعادة مثلها، أو قيمتها إلى حوزة اليتيم.
وإنما توقف صرف هذا المال على إذن الحاكم، لأن ولاية المال لا تثبت لقريب، غير الأب والجد، فضلاً عن الأجنبي الذي لا تربطه بالطفل أي قرابة.
ولما كان الحاكم هو الوليّ المطلق لكل مَن لا وليّ له، كان هو المرجع في التصرفات المختلفة بماله.
فإما أن ينفق هو عليه مباشرة، أو يأذن بالإنفاق منه للملتقط الذي استحق الولاية عليه.
نفقة اللقيط في بيت المال إن لم يكن لديه مال:
وإن لم يوجد في حوزة اللقيط مال، فنفقة، وجوباً في بيت مال المسلمين، من سهم المصالح العامة، لأن بيت المال مرصود لذلك.
وقد روي: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استشار الصحابة في نفقة اللقيط، فأجمعوا على أنها في بيت المال.(4/224)
ويدخل اللقيط ـ إذا لم يكن له مال ـ في عموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من ترك مالاً فلورثته، ومن ترك كلا فإلي ". وفي رواية: " ومن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني، فأنا مولاه ".
رواه البخاري (الاستقراض، باب: الصلاة على مَن ترك ديناً، رقم: 2268ـ2269)، ومسلم (الفرائض، باب: من ترك مالاً فلورثته، رقم: 1619) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.
[والمراد بالكل: العيال الفقراء. ضياعاً: ضائعاً ليس له شيء. فإلّي: أنا أعوله وأُنفق عليه].
هل يرجع الحاكم بالنفقة على اللقيط إذا كبر؟
هذا، ولا يرجع الحاكم بهذه النفقة التي أنفقها على اللقيط من بيت مال المسلمين، عند كبر اللقيط وغناه، لأنه هذه النفق لا تُصرف عليه ديناً، بل استحقاقاً، كما ينفق الزوج على زوجته، والوالد على أولاده ".
حكم النفقة على اللقيط إذا لم يكن في بيت المال مال:
وإذا لم يكن في بيت مال المسلمين ما يكفي لنفقات اللقيط، لكثرة اللقطاء مثلاً، أو لوجود مصارف أهم من الإنفاق على اللقطاء، وجب على الحاكم أن يستقرض من الأغنياء، على ذمة الدولة، ما يكفي لسدّ حاجات اللقيط، ويسدّد القرض لأصحابه عند اليسر.
الاهتمام باللقيط:
لاحظت من خلال الأحكام التي ذكرناها، أن الشّارع جلّ جلاله، يضع مسؤولية رعاية اللقطاء، وتربيتهم والعناية بهم في أعلى درجات الخطورة والأهمية.
فالمسلمون كلهم آثمون إن ضُيع بينهم لقيط واحد.
والدولة آثمة أيضاً، إن هي أهملت النظر في أمره، ولم تعوضَّه عن رعاية الوالد، وحنان الأم، بالقدر الممكن، ويفرض الدَّين على الدولة أن(4/225)
تستقرض من أغنياء المسلمين، إن هي أعسرت، ولم تجد سبيلاً للإنفاق عليه.
تربية اللقيط لا تسوّغ تبنَيه:
هذا الترغيب في تربية اللقيط، والاهتمام به لا يسوّغ تبنّيه، واختلاقَ نسب بين اللقيط، وأي رجل أو امرأة من الناس، مربياً كان أو غيره.
لقد فصل الشّارع بين الأمرين فصلاً حاسماً:
أما الرعاية، والعناية، والتربية، فكل ذلك واجب، ومصدر ذلك الأخوة الإسلامية، والرحم الإنساني. وأما التبني، وهو ما نعبر عنه: باختلاق النسب، فمحرم باطل. لأن مصدر النسب ولادة أو نكاح، وليس بين اللقيط ومن يريد أن يتبناه شيء من ذلك.
ولأن البنّوة لها حق في الميراث، وعليها واجب في ذلك، ولها حق في الإنفاق، وعليها واجب في ذلك.
ولأنها أساس في تحريم النكاح، وحلّ النظر والخلوة والاختلاط. فإذا قيس التبني عليها، وجاز اعتبار اللقيط ابناً لمن تبناه، كان في ذلك ظلم لمن سيشركهم في ميراثهم، وظلم له ولورثته الحقيقيين عندما يتقاسم أقاربه المزيفون ميراثه من دونهم، أو يشاركونهم فيه.
وكان في ذلك ظلم للخُلق والفضيلة عندما يفرض قانون الأخوة بينه وبين من ليست أختاً له بحال، أن يخالطها مخالطة الشقيق، وهو أجنبي عنها، ويمنع حقّه في الزواج منها، وهي غير محّرمة عليه.
من أجل ذلك كله حرّم الله تعالى التبنّي، الذي هو اختلاق نسب غير موجود، ثم إعطاؤه جميع الحقوق والأحكام الثابتة لرابطة النسب.
وشرّع الدين ما يُعني عن التبنّي , ويحقّق مصلحة اللقيط، وهو مبدأ الرعاية والعناية، والتربية له.(4/226)
وحمل المسلمين في ذلك أخطر المسؤوليات، وأهمها.
دليل حُرمة التبنّي:
ويدّل على حُرمة التبنّي، قول الله عزّ وجلّ: {مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ {4} ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} [الأحزاب: 4ـ5].
انحراف وعود إلى الجاهلية:
هذا ولقد عاد الناس أدراجهم إلى الجاهلية، فنجد بعض أولئك الذين لم يولد لهم يذهبون إلى دور اللقطاء، فيختارون لقيطاً يدعونه ولداً، ويثبتون نسبه لهم في السجلات المدنية، فيقعون في معصية الله عزّ وجلّ ويرتكبون أسوء ما نهى الله عنه من تحليل الحرام وتحريم الحلال، إذ يخالفون صريح القرآن وصحيح السنّة في تحريم التبني ومنعه، بل إن ما يفعله هؤلاء أشد مما كان يفعله أهل الجاهلية لأن أولئك كانا يعلنون أن هذا متبنى وليس بولد حقيقي، بينما هؤلاء الناس يطمسون الحقيقة ويدّعون أنه ولد حقيقي لهم، وبهذا يُدخلون على الأسرة من ليس منها، فيخالط هذا الدعي النساء الأجنبيات في الأسرة المدعية على أنهنّ محارم له، ويمنع من الزواج منهنّ على أساس ذلك، ينما هنّ حلال له، وإنما يحرم عليه مخالطتهنّ العيش معهنّ كمحارم.
وأيضاً بسببه يُحرم من الميراث مستحقّه، ويأخذ هو مال غيره بالباطل، وما إلى ذلك من مفاسد يقع فيا هؤلاء الجهّال العصاة، عن سوء قصد أو بدون قصد، فيقعون في غضب الله تعالى، ويستحقون شديد عقابه يوم القيامة، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
والله تعالى المسؤول أن يسدّد خطانا لما فيه مرضاته، والحمد لله ربّ العالمين.(4/227)
الفقه المنهجي
على مذهب الإمام الشافعي
رحمهُ الله تعالى
الجُزء الخامس
في الوقف والوصية والفرائض
الدكتوُر مُصطفى الخِنْ ... الدّكتور مُصطفى البُغا
علي الشْربجَي
دار القلم
دمشق(/)
بسْم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، حمداً يوافي نِعمة، ويكافئ مزيده، لك الحمد، سبحانك، لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك. صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ونبيك سيدنا محمد نبيّ الهدى والرحمة، وعلى آله، وأصحابه، ومَن تبعهم، وسلِّم تسليماً كثيراً دائماً إلى يوم الدين.
وبعد،،،
فهذا هو الجزء الخامس في سلسلة: الفقه المنهجي، على مذهب الإمام الشافعي، رحمه الله تعالى، رسمنا فيه، أحكام الوقف، والوصية، والمواريث
وقد رغبنا أن يكون ذلك بأسلوب سهل مبسط، وقفنا فيه عند أٌمهات الأحكام والمسائل من غير افتراض ولا تطويل.
وقرنَّا الأحكام بأدلتها ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، وأرشدنا إلى مواضع تلك الأدلة في مصادرها، تيسيراً لمن أراد الرجوع إليها، والوقف عليها. فقد جاء بحمد الله هذا الكتاب - كسابقيه - وافياً بما توخَّينا، وملمَّاً بما أردنا.
ولا ندَّعي أننا بلغنا الكمال، فدون ذلك خَرْط القَتاد، ولكن حسبنا أنّا(5/5)
بذلنا في سبيل ذلك جهداً، ونسأل الله أن يتقبله منّا، ويثبتنا عليه، وينفع به طلاب علوم الدين، وسائر المسلمين.
غير أننا في أبحاث الفرائض، زدنا في التبسيط، وأسهبنا في التعبير، وعُدْنا للأحكام بأكثر من أسلوب، لأن هذا الفن، لصعوبته، قد أعرض عنه كثير من المتعلمين، وأهمله في زماننا عامّة المتفقِّهين، فأردنا بكثرة الردّ تسهيلَه، وبتلوين العبارات تقريبه.
وعليه فنحن نستمح القارئين عذراً إن وجدوا فيه بعض الإسهاب والتطويل، وضايقهم كثرة الإعادة والتكرار، فعذرنا ما ذكرنا. والله حسبنا ونِعمَ الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم.
المؤلفون(5/6)
الوَقْفُ(5/7)
الوَقْفُ
تعريف الوقف:
الوقف - ويُجمع على وقوف، وأوقاف -: هو في اللغة: الحبس، تقول: وقفت كذا إذا حبسته. ولا تقول: أوقفته إلا في لغة رديئة. وهذا على عكس حبس، فإن الفصيح فيه أن تقول: أحبست كذا، ولا تقول: حبسته إلا في لغة رديئة. والوقف شرعاً: حبس مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه بقطع التصرف في رقبته على مصرف مباح موجود.
وهذه القيود في هذا التعريف سوف تستبين لك وأنت تقرأ فقرات هذا البحث إن شاء الله تعالى.
دليل مشروعيه الوقف:
الوقف مشروع، بل هو قُربة، وأمر مرغَّب فيه شرعاً، ولقد قامت أدلة الكتاب والسنّة على تقريره، وبيان مشروعيته:
- أما الكتاب، فقول الله تبارك وتعالى: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ}. [آل عمران: 92].
فإن أبا طلحة رضي الله عنه لما سمع هذه الآية الكريمة رغب في الوقف، وأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستشيره.
روى البخاري (607) في (كتاب الوصايا)، باب (مَن تصدَّق إلى(5/9)
وكيله ثم ردّ الوكيل إليه)، عن أنس رضي الله عنه قال: لمّا نزلت: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ .. } جاء أبو طلحة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، يقول الله تبارك وتعالى في كتابه: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ}، وإن أحبَّ أموالي إلى بَيْرَحاءُ - قال: وكانت حديقة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخلها ويستظل بها، ويشرب من مائها - فهي إلى الله عز وجل وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أرجو بِرَّهُ وذُخْرَهُ، فَضَعْها أيْ رَسولَ الله حَيث أراكَ اللهُ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " بخ أبا طلحة، وذلك مال رابح، قبلناه منك، ورددناه عليك، فاجعله في الأقربين ". فتصدَّقَ به أبو طلحةَ على ذوي رحِمِهِ، قال: وكان منهم: أبي وحسانُ.
[بخْ: بوزن بل، كلمة تقال عند المدح والرضا بالشئ، وتُكرِّر للمبالغة، فيقال: بخْ بخْ، فإن وصلت خفضت ونوِّنت، فقلت: بخ بخ].
وكذلك قوله تعالى: {وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 115].
فلفظ {مِنْ خَيْرٍ} عام يشمل وجوه الخير كلها، ومنها الوقف.
- وأما السنّة، فأحاديث كثيرة، منها:
ما رواه مسلم (1631) في (كتاب الوصية)، باب (ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته)، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا مات الإنسانُ انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له ".
والصدقة الجارية محمولة عند العلماء على الوقف. والولد الصالح، هو القائم بحقوق الله تعالى، وحقوق العباد.
ومنها ما رواه البخاري (2586) في (كتاب الشروط)، باب
(الشروط في الوقف)، ومسلم (1632) في (كتاب الوصية)، باب
(الوقف)، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أصاب أرضاً(5/10)
بخيبر، فأتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله، إنَّي أصبتُ أرْضَاً بخيبر، لم أُصب مالا قط أنفسَ عندي منه، فما تأمرني به؟ قال: " إن شئْت حبست أصْلَها وتصدَّقت بها ". قال: فتصدق بها عمر: أنه لا يُباُع ولا يوهب ولا يُورَثُ، وتصدقَ بها في الفقراء، وفي القُرْبى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف، ولا جُناحَ على من وَلِيَها أن يأكلَ منها بالمعروف، ويُطعَمَ غيرَ متموِّل.
قال ابن سيرين رحمه الله: غير متأثل مالاً.
[أصاب أرضا: أخذها وصارت إليه بالقَسْم حين فُتحت خيبر، وقسمت أرضها.
يستأمره: يستشيره.
أنفس: أجود، والنفيس: الجيد.
حبَّست: وقفت.
في الرقاب: تحرير العبيد.
لا جناح: لا إثم.
ولِيَهَا: قام بأمرها.
غير متمول: غير مدخر للمال.
غير متأثل: غير جامع للمال. وكل شئ له أصل قديم، أو جمع حتى يصير له أصل، فهو مؤثل].
والمشهور أن وقف عمر رضي الله عنه هذا كان هو أول وقف في
الإسلام.
وقد اشتهر الوقف بين الصحابة وانتشر، حتى قال جابر رضي الله عنه: ما بقى أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له مقدرة إلا وقف. وقال الشافعي رحمه الله تعالى: بلغني أن ثمانين صحابياً من الأنصار تصدّقوا بصدقات محرمات. والشافعي رحمه الله يطلق هذا التعبير (صدقات محرمات) على الوقف.(5/11)
حكمة مشروعية الوقف:
قلنا فيما سبق: إن الوقف مشروع، بل هو قُربة يُثاب عليها المؤمن، لذلك كان هناك من غير شك فوائد وحِكَم كثيرة لتشريع الوقف، نلمح منها:
1 - فتح باب التقرّب إلى الله تعالى في تسبيل المال في سبيل الله وتحصيل المزيد من الأجر والثواب، فليس شئ أحبَّ إلى قلب المؤمن، من عمل خير يزلفه إلى الله تعالى، ويزيده حّباً منه.
2 - تحقيق رغبة الإنسان المؤمن، وهو يبرهن على إظهار عبوديته لله تعالى، وحبّه له، فمحبة الله تعالى لا تظهر واضحة إلا في مجال العمل والتطبيق. قال تعالى: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92].
3 - تحقيق رغبة المؤمن أيضاً في بقاء الخير جارياً بعد وفاته، ووصول الثواب منهمراً إليه، وهو في قبره، حين ينقطع عمله من الدنيا، ولا يبقى له إلا ما حسبه ووقفه في سبيل الله حال حياته، أو كان سبباً في وجوده من ولد صالح، أو علم يُنتفع به.
4 - تحقيق كثير من المصالح الإسلامية، فإن أموال الأوقاف إذا أُحسن التصرّف فيها كان لها أثر كبير وفوائد جمّة في تحقيق كثير من مصالح المسلمين: كبناء المساجد، والمدارس، وإحياء العلم، وإقامة الشعائر مثل الأذان والإمامة، وغيرها من المصالح والشعائر.
5 - سدّ حاجة كثير من الفقراء والمساكين والأيتام وأبناء السبيل، والذين أقعدتهم بعض الظروف عن كسب حاجاتهم. فإن في أموال الأوقاف ما يقوم بسدّ حاجاتهم، وتطييب قلوبهم. والله أعلم ..
أركان الوقف:
للوقف أربعة أركان، وهي:(5/12)
الواقف، والموقوف، والموقوف عليه، والصيغة. ولكل ركن من هذه الأركان الأربعة شروط، فإذا تحققت هذه الشروط، فإذا تحققت هذه الشروط كان الوقف على أكمل وجه، وهذه هي الشروط كل ركن:
1 - شروط الواقف:
يشترط في الواقف حتى يصحّ وقفه شرعاً الشروط التالية:
أصحة عبارته، وذلك بأن يكون حّراً بالغاً عاقلاً، فلا يصحّ وقف الرقيق، لأنه لا ملك له بل هو وماله لسيده، وكذلك لا يصح وقف الصبي والمجنون، ولو كان الوقف بمباشرة أوليائهم، فلو وقف الصبي - ولو ميِّزاً - شيئاً، وكذلك المجنون، كان الوقف باطلاً، ولو أجاز ذلك وليّهما، لأن الصبي والمجنون لا عبارة لهما شرعاً، فلا يصحّ الوقف منهما، ولا يجوز للوليّ التبرّع بشئ من أموالهما.
ب أهليّة التبّرع، فلا يصح الوقف من المحجور عليه بسفه، أو فلس، لأن هؤلاء ممنوعون من التصرّف بأموالهم، فلا يصح منهم التبرّع، ولا يجوز أن تسلّم إليهم أموالهم.
أما السفيه فلمصلحته، أما المفلس فلمصلحة غُرمائه.
قال الله تعالى: {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَاماً} [النساء: 5].
[السفهاء: جمع سفيه، وهو هنا من لا يحسن التصرّف في ماله. وأصل السفه الخفّة].
وقد فسر الشافعي رحمه الله تعالى السفيه بالمبذر الذي ينفق ماله في المحرَّمات.
ومعنى قوله تعالى: {الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَاماً} أي جعل الله في تلك الأموال صَلاَحَ معاشكم.(5/13)
وأضاف المال إلى الأولياء - وإن كانت في الحقيقة أموال السفهاء - لأنها بأيديهم، وهم الناظرون فيها. والقيام، والقوام: ما يقيمك. يقال: فلان قيام أهله، وقِوَام بيته، أي هو الذي يقيم شأنه، ويصلحه.
روى الحاكم (2/ 58) في (البيوع)، باب (الرهن محلوب ومركوب)، ورواه الدارقطني وغيره أيضاً، عن كعب بن مالك: أن كانَ عَليه، فقسمه بين غرمائه، فأصابهم خَمسة أسْبَاع حقوقهم، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ليس لكم إلا ذلك ".
ج- الاختيار، فلا يصحّ وقف المكره، لأن الاختبار شرط من شروط التكليف
وقف المريض مرض الموت:
المريض إذا كان في حالة من المرض يغلب فيها الهلاك، وتُفضي على الموت غالباً، فإنه لا يجوز وقفه فيما زاد على ثلث ماله، رعاية لحق الورثة في التركة، أما في الثلث فما دونه، فإنه يجوز وقفه رعاية لمصلحته، في الحصول الأجر والثواب له بعد موته. دلّ على ذلك ما رواه البخاري (1233) في (كتاب الجنائز)، باب (رثي النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - سعد بن خَوْلة)، ومسلم (1628) في (كتاب الوصية)، باب (الوصية بالثلث)، عن سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه قال: كانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَعودُني عام حَجَّةَ الوَداع، منْ وَجَع اشتد بي، فقلت: إني قد بلغ بي من الوجع، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة، أفأتصدَّق بثلثي مالي، قال: " لا "، فقلت: بالشطر، فقال: " لا " ثم قال: " الثلث، والثلثُ كبير، أو كثير، إنَّك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ".
[الشطر: النصف.
عالة: فقراء.(5/14)
يتكففون: يسألون بأكُفِّهم، أو يطلبون ما في أكفّ الناس].
وقف الكافر:
قال علماء الشافعية: يصحّ وقف الكافر ولو لمسجد، وإن لم يعتقده قُربة، اعتباراً باعتقادنا، ولأنه من أهل التبّرع، ومثل هذه التبرعات لا تحتاج في صحتها إلى نيّة، والنيّة معلوم أن شرطها الإسلام. والكافر يُثاب على نفقاته وصدقاته في الدنيا، أما في الآخرة فلا حظّ له بشئ من الثواب.
روى مسلم (2808) في (كتاب صفات المنافقين وأحكامهم)، باب
(جزاء المؤمن بحسناته في الدنيا والآخرة وتعجيل حسنات الكافر في الدنيا)، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله لا يَظلمُ مؤمنا حَسنةً، يعطي بها في الدنيا، ويُجزَى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها الله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يُجزى بها ".
[أفضى إلى الآخرة: صار إليها].
2 - شروط الموقوف:
وللموقوف شروط نذكرها فيما يلي:
أ - أن يكون الموقوف عيناً معيَّنة، فلا يصح وقف المنافع وحدها دون أعيانها، سواء كانت هذه المنافع مؤقتة، كأن سكنى داره سنة، أم كانت مؤبدة، كأن وقفها أبداً، وذلك أن الرقبة هي الأصل، والمنفعة فرع، والفرع يتبع الأصل، فما دام الأصل باقياً على ملك الواقف كانت المنفعة كذلك باقية على ملكه، فلا تنفصل وحدها بالوقف.
وكذلك لا يصح الوقف إذا لم يكن العين الموقوفة معيَّنة، فلو أنه وقف إحدى دارَية، أو إحدى سيّارتَيه من غير تعيين للموقوف، فإن(5/15)
هذا الوقف غير صحيح لعدم بيان العين الموقوفة، وكان قوله هذا أشبه بالعبث، لا بالجدّ.
ب-أن يكون الموقوف مملوكاً للواقف ملكاً يقبل النقل، ويحصل منه فائدة، أو منفعة.
وعلى هذا لا يصحّ أن يقف الإنسان شيئاً لا يملكه، لأن في الوقف نقلاً لملكية الموقوف من حَوْزة المالك. وما لا يملكه كيف تُنقل ملكيته منه. لذلك كان وقْفُ ما لا يملك لا غياً.
ومن هذا القبيل عدم صحة أن يقف الإنسان الحرّ نفسه، لأن رقبته ليست مملوكة له، حتى يخرجها بالوقف عن ملكه، بل ملكيتها لله تعالى.
وكذلك لا يصحّ وقف حمل الدواب وحدها دون أُمهاتها، لأن الحمل وحده لا يصحّ نقل ملكيته ما دام في بطن أُمه، نعم إذا وُقفت الأُم صحّ وقف الحمل تبعاً لها.
وكذلك يجب أن يكون الموقوف ذا منفعة تُرجى وفائدة تُقصد، فلو أنه وقف أرضاً لا تصلح لزرع أو بناء، أو ثياباً ممزقة لا تنفع في شئ، فإن هذا الوقف غير صحيح، لأن مقصود الوقف حصول المنفعة، وهذا لا فائدة منه لا منفعة فيه.
ج- دوام الانتفاع بالموقوف، فلا يجوز وقف الطعام ونحوه ممّا لا تكون فائدته إلا باستهلاك عينه.
والمقصود بدوام الانتفاع بالموقوف الدوام النسبي لا الأبدي، أي إنه يبقى مدة يصحّ الاستئجار فيها، أي تقابل تلك المنفعة بأُجرة، فلو وقف سيارة، أو دابّة صحّ هذا الوقف وإن كانت السيارة لا تبقى منفعتها أبداً، بل قد يصيبها التلف والعطب، وكذلك الدابة. هذا، ولا(5/16)
يشترط الانتفاع بالموقوف حالاً، بل يُكتفى بالانتفاع به ولو مالاً، فلو وقف دابة صغيرة صحّ الوقف، لأنه يمكن الانتفاع بها في المال.
د- أن تكون منفعة الموقوف مباحة، لا حُرمة فيها، وعليه فلا يصحّ وقف ما كانت منافعه محرّمة كآلات اللهو، وما أشبهها، لأن الوقف قُربة والمعصية تنافيه.
وقف إمام المسلمين وخليفتهم
من بيت مال المسلمين
ولقد أجاز علماء الشافعية لإمام المسلمين وخليفتهم أن يقف شيئاً من أرض بيت مال المسلمين، إذا رأى في ذلك مصلحة لهم، واستثنوا هذا من شرط ملكية الواقف للوقف، فإن الخلفية لا يملك أموال بيت مال المسلمين، ومع ذلك صحَّحوا وقفه هذا، واستدلوا لذلك بوقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه سواد العراق. قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في " الروضة ": (لو رأى الإمام وقف أرض الغنيمة، كما فعل عمر رضي الله عنه، جاز إذا استطاب قلوب الغانمين في النزول عنها بِعوضَ أو بغيره).
وقف العقارات
يجوز وقف العقارات من أرض، أو دور، أو متاجر أو آبار، أو عيون ماء: أيّاً كانت تلك الأرض، أو تلك الدور، والمتاجر والآبار والعيون، ما دامت صالحة للانتفاع بها حالاً، أو مآلاً.
دلّ على ذلك الكتاب والسنّة، وعمل الصحابة رضي الله عنهم، فقد سبق أن نقلنا ما قاله جابر رضي الله عنه: (ما بقى أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له مقدرة إلا وقف)، وقول الشافعي رحمه الله تعالى: (بلغني أن ثمانين صحابياً من الأنصار تصدَّقوا بصدقات محرمات)، أي وقفوا أوقافاً.
ومعلوم أن أكثر ما كانوا يقفونه إنما هو الأراضي، والدور، والآبار.(5/17)
وقف الأموال المنقولة
وكذلك يصحّ وقف الأموال لمنقولة: كالدواب، والسيارات، والآت الحرب، والثياب، والفرش، والأواني، والكتب النافعة.
ودليل ذلك ما رواه البخاري (2698) في (الجهاد)، باب (مَن احتبس فرساً)، والنسائي (6/ 225) في (الخيل)، باب (علف الخيل)، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " مَن احْتبس فرساً في سبيل الله إيماناً بالله وتصديقاً بوعده، فإن شِعَبَةُ ورية وروْثه وبوله في ميزانه يوم القيامة ".
[احتبس: وقف].
وروى البخاري (1399) في (كتاب الزكاة)، باب (قول الله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ ........... وَفِي سَبِيلِ اللهِ}، ومسلم (987) في (كتاب الزكاة)، باب (تقديم الزكاة ومنعها)، عن أبي هريرة رضي الله عنه: (وأما خالد، فإنكم تظلمون خالداً، فقد احتبس أدراعه وأعتدة في سبيل الله).
[احتبس: وقف. أدراعه: جمع درع، وهو الزرد. أعتده: جمع عتاد، وهو ما أعدّه الرجل من السلاح والدواب، والآت الحرب].
وقف المشاع
المشاع هو الشئ المملوك المختلط بغيره بحيث لا يتميَّز بعضه عن بعض
والمشاع أيضاً يصحّ وقفه، سواء كان من المنقولات، أم من العقارات، سواء وقف الشخص الواحد جزءاً شائعاً، أم وقف الجماعة أجزاء شائعة، لا فرق بين هذا وذاك، فكل جائز شرعاً.
ودليل ذلك ما رواه النسائي (6/ 230، 231) في (الاحتباس)، باب
(كيف يكتب المحتبس)، عن ابن عمر رضي الله عنهما: قال عمر(5/18)
رضي الله عنه للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن المائة السهم التي لي بخيبر لم أصب مالاً قط أعجب إلى منها قد أردت أن أتصدق بها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " احبس أصلها وسبل ثمرتها ".
وروى البخاري (2619) في (كتاب الوصايا)، باب (إذا أوقف جماعة أرضاً مشاعاً فهو جائز)، عن أنس رضي الله عنه قال: أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ببناء المسجد، فقال: " يا بني النجار، ثامنوني بحائطكم هذا "، قالوا: لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله.
[ثامنوني بحائطكم: ساوموني ببستانكم وخذوا ثمنه].
قال الخطيب الشَّربيني في كتابه " مغنى المحتاج، إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج " للإمام النووي رحمه الله تعالى: (واتفقت الأمة في الأعصار على وقف الحُصر والقناديل في المساجد من غير نكير).
3 - شروط الموقوف عليه:
الموقوف عليه قسمان:
معَّين، واحداً فأكثر.
غير معَّين، كالوقف على الجهات، كالفقراء مثلاً. ولكل قسم منهما شروط.
شروط الموقوف عليه المعَّين
إذا كان الموقوف عليه معيناً، واحداً فأكثر، اشترط فيه الشرط التالي:
إمكان تمليكه عند الوقف عليه، وذلك بأن يكون موجوداً في واقع الحال.
فلا يصحّ الوقف على ولد له، والواقع أنه ليس له ولد. وكذلك لو وقف على الفقراء من أولاد فلان، ولا فقير فيهم عند الوقف، فإن هذا الوقف غير صحيح. ولا يصحّ الوقف أيضاً على جنين، ولا على ميت، ولا(5/19)
على دابة، ولا على دار. وغير ذلك مما لا يتصور صحة تملكهم في حال الوقف عليهم.
وعليه فلا يصحّ وقف المصحف وكتب العلم الشرعية على غير مسلم لعدم جواز تمليكه إيّاها. ولا يصحُ وقف من الواقف على نفسه أصالة، لعدم الفائدة في ذلك، لأنه من باب تحصيل الحاصل، فهو ملكه قبل الوقف، ولم يحدث بعد الوقف شئ جديد.
الوقف على الكافر
أجاز علماء الشافعية والوقف على كافر إذا كان ذمياً معيّناً ما دام الواقف لا يقصد بوقفه عليه معصية، وذلك لأن الصدقة تجوز على الذمِّي، فكذلك الوقف جائز عليه.
فإذا لوحظ عند الوقف عليه مراعاة معصية، كما لو وقف على خادم كنيسة لخدمته الكنيسة، فإن هذا الوقف غير صحيح، وذلك لمنافاة المعصية المشروعية الوقف.
والمُعاهَد والمستأمن في صحة الوقف عليهما كالذميّ، وما داما حالِّيْن في ديار المسلمين، سارية عليهما عهودهم.
أما الكافر الحربي والمرتد، فلا يصحّ الوقف عليهما، لأنهما ما داما كذلك، فلا دوام لهما، ولا يُقرِّان على كفرهما، والوقف صَدَقَة جارية فكما لا يصحّ وقف ما لا دوام له، لا يصح أيضاً الوقف على من لا دوام له. فقد ورد الشرع بقتالهما وقتلهما.
روى البخاري (25) في (كتاب الإيمان)، باب (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلّوا سبيلهم)، ومسلم (22) في (كتاب الإيمان)، باب (الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله)، عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أمرت أن أُقاتلَ الناس حَتَّى يشهدُوا أن لا إله إلا الله، وأنَّ مُحمداً رسولُ(5/20)
الله، ويُقيموا الصلاة، ويُؤتُوا الزكاة، فإذا فَعلُوا ذلك عَصَمُوا مّني دماءهم إلا بحقِّ الإسلام، وحسابهم على الله ".
[عصموا مني دماءهم: حفظوها وحقنوها. إلا بحق الإسلام: أي إلا إذا فعلوا ما يستوجب عقوبة مالية أو بدنّية في الإسلام، فإنهم يؤاخذون بذلك قصاصاً. وحسابهم على الله: أي فيما يتعلق بسرائرهم، وما يضمرون].
وروى البخاري (2795) في (كتاب الجهاد)، باب (لا يعذَّب بعذاب الله)، والترمذي (1458) في (كتاب الحدود)، باب (ما جاء في المرتد)، وغيرهما، عن عكرمة رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " مَن بدّل دينه فاقتلوه"
شروط الموقوف عليه غير المعين:
يشترط في الموقوف عليه غير المعين: كالفقراء، والمساجد والمدارس وغيرها، حتى يكون الوقف عليه صحيحاً شرعاً شرط واحد، وهو:
أن لا يكون في ذلك الوقف وقف على معصية من المعاصي، لأن الوقف عندئذ إنما يكون إعانة على فعل المعاصي، وتثبيتاً لوجودها، والوقف إنما شُرِّع للتقرب إلى الله تعالى، فهو والمعصية إذاً ضدّان لا يجتمعان.
وبناءً على ما سبق، فإنه لا يصحّ وقف يكون ريعه لمعابد الكفّار، كالكنائس والبيعّ، ولا على خدمتها، وفرشها وقناديلها، ولا على تأسيسها أو ترميمها، وغير ذلك مما يتعلق بها.
ومثل هذا وقف السلاح على أصحاب الفتن وقّطاع الطرق، فإن ذلك لا يجوز أيضاً، لأن فيه الإعانة على المعاصي، كما سبق أن ذكرنا.
يتضح مما سبق أن الوقف على الفقراء، والعلماء والقرّاء(5/21)
والمجاهدين، والكعبة والمساجد والمدارس والثغور، والمستشفيات، وتكفين الموتى، كل ذلك جائز شرعاً، بل هو قربة مستحبة، دعا الدين إليها، ووعد بالثواب عليها، ودليل ذلك عموم تلك الأدلة التي دلّت على مشروعية الوقف، والترغيب فيه، وقد مرّ ذكرها.
الوقف على الأغنياء
هذا ويجوز شرعاً الوقف على الأغنياء لأن الصدقة تجوز عليهم، وليس في الوقف عليهم معصية لله تعالى، وكذلك فالوقف، تمليك، وهم أهل لهذا التمليك.
حدّ الفقر والغني:
لو وقف إنسان داراً، وقال فيه: وقفتها ليكون ريعها للفقراء، أو الأغنياء، فمَن هو الفقير الذي يتناوله اللفظ، ومن هو الغني أيضاً؟
الفقير:
قالوا في تحديد الفقير في الوقف: إنه الفقير في الزكاة، فما صحّت له الزكاة لفقره، صحّ له الوقف لفقره أيضاً، وما لا فلا.
وعليه يجوز صرف الوقف على المساكين، وهم أحسن حالاً من الفقراء لجواز صرف الزكاة إليهم، ولا يجوز صرف الوقف إلى زوجة فقيرة لها زوج يَمُوْنها وينفق عليها، ولا على أولاد مكفيِّين بنفقة أبيهم، لأن الزكاة لا يجوز صرفها إليهم.
الغنيّ:
قالوا في تحديده: إنه مَن تحرم عليه الزكاة، إما لملكه، أو لقوّته وكسبه، أو كفايته بنفقة غيره.
الوقف على سبيل الخير، أو سبيل الله
لو قال الواقف في وقفة: وقفت أرضي ليكون ريعها في سبيل البِّر أو الخير، أو الثواب، فمن يستحق ريع هذا الوقف؟(5/22)
وجوابه: أن الذي يستحق ريع هذا الوقف إنما هم أقرباء الواقف، فإن لم يوجدوا، فأهل الزكاة ما عدا العاملين والمؤلّفة قلوبهم.
أما لو قال: في سبيل الله، فإنما يستحق ذلك الريع الغزاة الذين هم " أهل الزكاة
فإن جمع في وقفه بين سبيل الله وسبيل البر وسبيل الثواب، كان ثلث هذا الوقف للغزاة، وثلثه لأقرباء الواقف، والثلث الأخير لأصناف الزكاة ماعدا العاملين عليها والمؤلّفة قلوبهم.
الوقف على زخرفة المساجد
وعمارة القبور
قال الفقهاء: لا يصحّ الوقف على تزويق المسجد أو نقشه، ولا على عمارة القبور، لأن الموتى صائرون إلى البلى فلا يليق بهم العمارة، ولا يجوز إضاعة المال وإتلافه في غير منفعة.
أين هذا الذي قاله العلماء، مما يفعله عّوام المسلمين اليوم، وربما أقرّهم على ذلك علماؤهم، أو سكتوا عليهم؟!.
فكم جمعوا أموالاً، من الفقراء والأغنياء، ومن غلاّت الأوقاف، أو هبات الناس ليزوّقوا مسجداً، أو ينقشوا فيه جداراً أو قُبَّة، أو يضخِّموا فيه محراباً أو منبراً، جاهلين أو متجاهلين أن ذلك سرف ممقوت، وإضاعة مال في افتتان قلوب الناس في صلاتهم، وشغل أفكارهم بهذه الزخارف عن عباداتهم!! كأنهم لم يقرؤوا قول الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ {1} الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1 - 2]. ومن أين يأتي الخشوع، وبين يدي المصلى وفي قبلته وعن يمينه وشماله من الزخارف والنقوش ما يأخذ بقلبه ولُبّه؟ ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ومثل هذا السَرَف في المساجد السرف أيضاً في عمارة القبور،(5/23)
وتسنيمها وتجصيصها، وبناء القباب والقناطر عليها، حتى ليخيَّل إليك أنها قصور وليست بقبور، وكأن أصحابها أحياء ينعمون بتلك المباني!!.
إن بعض الناس لينفقون من أموالهم على بناء قبورهم، ويوصون أن تُجعل لهم قبور ضخمة فخمة يُوضعون فيها بعد موتهم، فهذه وصايا باطلة شرعاً، وأوقاف لاغية. قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في متن " المنهاج ": (ويكره تجصيص القبور والبناء والكتابة عليه، ولو بني في مقبرة مُسَبَّلة هُدم).
قال الخطيب الشربيني في " مغني المحتاج ": (يهدم البناء لأنه يضيق على الناس، ولا فرق بين أن يبني قبة أو بيتاً أو مسجداً أو غير ذلك).
وقف الكفّار على معابدهم
قلنا فيما سبق: لا يجوز وقف المسلم مالاً على الكنيسة ونحوها، لوجود المعصية في ذلك.
وهنا نقول: لا نجوِّز للذمِّي أيضاً أن يقف لكنيسة أو معبد من معابدهم، عملاً بشرعنا واعتقادنا، هذا حين يترافعون إلينا، ويطلبون منّا بيان الحكم في ذلك، فإننا نقضي ببطلان أوقافهم على تلك الكنائس والبِيَع.
أما إذا لم يترافعوا إلينا، ولم يستفتونا في ذلك فإننا لا نتعرّض لهم، ونتركهم وما يدينون به.
أما ما وقفوه قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - على كنائسهم القديمة، فلا نُبطله، بل نقرّه حيث نقرّها.
4 - صيغة الوقف:
(1) تعريف الصيغة:
الصيغة: هي اللفظ المشعر بالمقصود، أما ما يقوم مقام اللفظ،(5/24)
كإشارة الأخرس المفهمة، أو كتابته. ولا بدّ من الصيغة لصحة الوقف وإنشائه
(2) أقسام الصيغة:
الصيغة قسمان:
أ - صريحة: وهي التي لا تحتمل إلا المعنى المراد، مثل أن يقول وقفت داري على الفقراء، أو هي موقوفة عليهم، أو يقول: حبستها لهم، أو سبّلتها لهم.
ومثل هذه الألفاظ الصريحة الواضحة في الدلالة على المقصود لا تحتاج إلى نيّة لصحة الوقف، شأنها شأن كل لفظ صريح في العقود، بل يكفي فيها النطق بها.
ب كناية: وهي اللفظ الذي يحتمل مع المعنى المراد غيره، كأن يقول: مالي صدقة على الفقراء، أو حرمته لهم، أو أبّدته عليهم، وهكذا.
ومن كناية أيضاً كتابة الناطق.
والكناية لا بدّ فيها من النّية مع اللفظ، شأنها شأن كل ألفاظ الكناية في العقود، حتى تنشأ العقود صحيحة.
(3) شروط صيغة الوقف:
لصيغة الوقف - صريحة كانت، أم كناية - شروط نذكرها فيما يلي:
أ - أن تكون لفظاً من ناطق يشعر بالمراد، أو كتابة من أخرس مُفصحة عن المقصود.
ب-أن تكون الصيغة خالية من التوقيف، فإن قال: وقفت أرضي على طلاب العلم سنة، بَطُلَ الوقف، لعدم صحة هذه الصيغة، لوجود التوقيف فيها، وذلك لأن مقتضى الوقف التأبيد، والتوقيت يُنافيه.(5/25)
ما يُستثنى من شرط التوقيت:
لقد استثنى العلماء من هذا الشرط - شرط التوقيت - المساجد، والرُبُط والمقابر، وما يجري مجراها مما يشبه تحرير الرقاب، ويضاهيه، فحكموا بصحة الوقف، على التأبيد، وألغْوا الشرط. رغبة في تصحيح الصيغة ما أمكن. فلو قال: وقفت أرضي هذه مسجداً، أو مقبرة أو رباطاً سنة، صحّ الوقف مؤبداً وأُلغي الوقت.
ج- بيان مصرف الوقف، فلو قال وقفت، أو سبّلت كذا ولم يبيّن المصرف لم ينعقد الوقف، لعدم معرفة الجهة التي وقف عليها.
د- عدم التعليق، فإن الوقف عقد يقتضي الملك في الحال، فلا يصحّ تعليقه على شرط.
فإذا قال. وقفت داري على الفقراء إذا جاء زيد، وسبّلت سيارتي لهم إن رضيت زوجتي، فالوقف باطل، لمنافاة مقتضى العقد لمثل هذه الشروط كما سبق أن قلنا. ويستثنى من هذا الشرط أيضاً ما يشبه تحرير الرقاب كما سبق وذكرنا. فلو قال إذا جاء رمضان فقد وقفت داري مسجداً، وصحّ الوقف.
هـ - الإلزام، فلا يصح فيه خيار شرط له، أو لغيره، وكذلك خيار المجلس. فلو قال: وقفت دابتي على الفقراء، ولي الخيار ثلاثة أيام، أو لي خَيار بيعها متى شئت، بطل هذا الوقف لعدم تنجيز الوقف في الحال حسب مقتضى الوقف.
اشتراط قبول الموقوف عليه المعَّين الوقف:
إذا كان الوقف على معين، مثل أن يقف داراً على خالد مثلاً، اشترط لصحة هذا الوقف قبول الموقوف عليه المعيّن الوقف، ويجب أن يكون هذا القبول متصلاً بالإيجاب، وهو قول الواقف: وقفت داري هذه على خالد. فإذا قبل خالد بهذا الوقف صحّ، وإذا ردّه بَطل.(5/26)
أما إذا كان الوقف على غير معين: كالوقف على الفقراء، أو على المسجد، فلا يشترط لصحة هذا الوقف القبول، لتعذّر ذلك.
انتفاع الواقف من وقفه:
ليس للواقف أن ينتفع بشئ من وقفه - كما سبق وقلنا: ليس له أن يقف على نفسه - لأن الوقف إخراج لملكية الموقوف من ملك الواقف، وكذلك منافعه، ولكن العلماء استْثَنْوا من هذا، ما لو وقف مُلكه مسجداً أو مقبرة، أو بئراً، فله أن يكون كباقي المسلمين في الانتفاع من هذا الموقوف. وعليه يصحّ له أن يصلّي في ذلك المسجد الذي وقفه، وأن يشب من ماء تلك البئر، وأن يُدفن في المقبرة أيضاً.
ودليل هذا حديث عثمان - رضي الله عنه -، قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدم المدينة، وليس بها ماء يستعذب، غير بئر رُومة، فقال: " من يشتري بئر رومة فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة " فاشتريتها من صلب مالي.
رواه الترمذي (3704) بسند حسن، في (المناقف)، باب (مناقب عثمان)، ورواه النسائي (6/ 235) في (الأحباس)، باب (وقف المساجد)، ورواه البخاري (2626) تعليقاً في (كتاب الوصايا)، باب (إذا وقف أرضاً أو بئراً، أو اشترط لنفسه مثل دِلاء المسلمين).
وبئر رومة: كانت ليهودي في المدينة يبيع ماءها للمسلمين، كل قربة بدرهم، فاشتراها عثمان - رضي الله عنه -، ووقفها على المسلمين، على أن له أن يشرب منها، كما يشربون.
لزوم الوقف، وما يترتب عليه من أحكام:
الوقف من العقود اللازمة، التي يترتب عليها آثارها بمجرد إنشاء العقد الصحيح، وليس هو كالوصية، فإنها عقد جائز.
ويترتب على لزوم عقد الوقف الأحكام التالية:(5/27)
أعدم ثبوت الخيار في عقد الوقف، فإذا وقف صحيحاً، فليس له خيار مجلس، كما أنه ليس له خيار شرط أيضاً.
ب انتقال ملكية الموقوف إلى الله سبحانه وتعالى، فلا يحق للمالك الأصلي التصرّف في الوقف على سبيل الملكية لا بيع ولا هبة، ولا غير ذلك.
ج- انتقال حق الانتفاع بالوقف إلى الجهة التي كان لها الوقف، خاصّة كانت، ... أو عامّة.
ملكية الموقوف:
إذا وقف الواقف عيناً، عقاراً، أو سيارة، أو سلاحاً، أو غير ذلك انتقل مُلك رقبة الموقوف إلى الله تعالى، فلا يكون الموقوف للواقف، ولا للموقوف عليه.
منافع الموقوف:
منافع العين الموقوفة مُلك للموقوف عليه إذا كان الموقوف عليه معيَّناً، وله أن يستوفي هذه المنافع بنفسه، أو بغيره، بإعارة وإجارة.
ويملك أيضاً فوائد الوقف الحاصلة بعده، كثمر الأشجار الموقوفة عليه وصوف ولبن وأولاد الدواب الموقوفة عليه أيضاً.
أما إذا كان الموقوف عليه غير معين، وإنما هو جهة من الجهات كالفقراء مثلاً، فإنهم لا يملكون منفعة الموقوف، بل يملكون حق الانتفاع بها.
التصرّف بالموقوف:
لا يجوز التصرّف برقية العين الموقوفة بيعاً أو شراءً أو إرثاً، لا من قبل الواقف، ولا من قبل الموقوف عليه، معيناً كان الموقوف عليه، أو غير معين، بل تبقى على ملكية الله تبارك وتعالى، تصرف منافعها إلى مَن وُقفت عليه، ويعمل بها ما أمكن بما نصّ عليه الواقف.(5/28)
دلّ على ذلك وقْف عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإنه نصّ في وقفه:
(أنه لا يباع ولا يوهب ولا يورث) رواه البخاري (2586)، ومسلم
(1632).
نفقة الموقوف:
إذا كان للموقوف نفقة يحتاجها: كطعام الدواب، أو ترميم المباني، أو إصلاح الآلات، فإن هذه النفقة على الوقف تكون من حيث شرطها الواقف من ماله، أو من مال الوقف، فإن لم يشترط الواقف شيئاً كانت النفقة من غلاّت الوقف إن كان له غلّة، فإن لم يكن للموقوف غلّة، أو تعطّلت منافعه، فالنفقة تَجِبْ في بيت مال المسلمين، لأنه مرصود لمصالحهم، وفي النفقة على الموقوف مصلحة لهم.
هلاك الموقوف والأحكام المتعلقة به:
قد يهلك الموقوف، فتتعلق به عند هلاكه أحكام، تختلف باختلاف العين الموقوفة الهالكة، وباختلاف نوعية الهلاك، وهذه الأحكام هي:
أإذا كان الموقوف بهيمة غير مأكولة فماتت اختصّ بجلدها الموقوف عليه، لأنه أولى به من غيره، فإن دُبغ الجلد عاد وقفاً عليه ينتفع به، ولا يجوز له بيعه حفظاً على مقصد الواقف ما أمكن.
ب إذا كان الموقوف بهيمة مأكولة، وقطع الموقوف عليه بأنها ستموت من شئ نزل بها جاز ذبحها للضرورة، ويُباع لحمها ويُشترى به دابة من جنسها وتوقف مكانها، وقيل يُترك أمر لحمها للحاكم يفعل فيه ما يراه مصلحة.
ج- إذا أُتلفت العين الموقوفة، فإن على مُتلفها ضمان قيمتها، وذلك كأن أتلفها أحد تعدِّياً، لم يملك الموقوف عليه قيمة العين الموقوفة التالفة، بل يُشتري بالقيمة عين مماثلة لها، وتصبح وقفاً مكانها، وذلك مراعاة لغرض الواقف من استمرار الثواب، وتعلّق حق البطن الثاني وما(5/29)
بعده بها، فإن تعذّر شراء عين كاملة، فبعض عين، لأنه أقرب إلى مقصود الواقف، فإن تعذّر شراء البعض، فإن الموقوف يعود إلى أقرب الناس إلى الواقف، وأما إذا تلفت العين الموقوفة من غير ضمان، أو تلفت بنفسها، فقد انتهى الوقف بزوال العين الموقوفة.
د- إذا تعطّلت منفعة العين الموقوفة بسبب غير مضمون، كأن وقف أشجاراً فجفّت، أو قلعها الريح أو السَّيْل، ولم يمكن إعادتها إلى مغرسها قبل جفافها، لم ينقطع الوقف، بل تبقى موقوفة ينتفع بها جذوعاً بإجارة ونحوها، إدامة للوقف في عينها، ولا تُباع ولا تُوهب، فإن لم يمكن الانتفاع بها إلا باستهلاكها بإحراق ونحوه جاز للوقوف عليه ذلك، إلا أنه لا يجوز بيعها ولا هبتها.
هـ - إذا كان الموقوف حُصُر مسجد ونحوها فبليت، أو جذوعاً فانكسرت، ولم تصلح إلا للإحراق جاز بيعها، لئلا تضيع، أو يضيق المكان بها من غير فائدة، وتحصيل مال يسير من ثمنها يعود إلى الوقف أولى من ضياعها، وعلى هذا، فإن ثمنها يُصرف في مصالح المسجد، ويقدم شراء مثيل للتالف إن أمكن
أما إذا صلحت لغير الإحراق، لم يجز بيعها، محافظة على استيفاء عينها، تمشياً مع غرض الواقف.
وإذا انهدم مسجد وتعذّرت إعادته لم يجز بيعه بحال، لإمكان إعادته في وقت ما، فإن كان لهذا المسجد غلّة تُصرف على مصالحه، فإن توقعنا عوده حفظت غلّته، وإن لم نتوقع عوده جار صرف غلّته إلى أقرب المساجد إليه.
ز- إذا خيف على مسجد جاز للحاكم نقضه، وبنى بحجارته مسجداً آخر، ولا يبني بحجارته وأنقاضه شيئاً آخر مراعاة لغرض الواقف.
وبناؤه قريباً من المسجد المنقوض أولى.(5/30)
ح- ولو وقف أحد مالاً على قنطرة منصوبة على واد، فانخرق الوادي وتعطلت القنطرة، واحتاج الناس إلى قنطرة أخرى، جاز نقل تلك القنطرة إلى محل الحاجة، استبقاءً لمقصود الواقف ما أمكن.
موت الموقوف عليه:
أإذا مات الموقوف عليه، فإن عيِّن الواقف مصرفاً آخر غير ذلك الشخص الذي مات ينتقل إليه الوقف عند موته، انتقل إلى الذي عيِّنه، وذلك كأن يقول الواقف: وقفت هذه الدار، أو السيارة على ولدي، ثم على الفقراء. وإن لم يعيِّن مصرفاً آخر ينتقل إليه الوقف بقي الموقوف وقفاً، وصرف إلى أقرب الناس للواقف يوم موت الموقوف عليه الأول.
ب إذا وقف على شخصين، ثم الفقراء: كأن قال وقفت أرضي على زيد وعمر، ثم الفقراء، فمات أحدهما ذهب نصيبه من الوقف إلى الشخص الآخر، لأن الواقف شرط انتقال الوقف إلى الفقراء بموت الشخصين، ولم يوجد ذلك.
ج- إذا وقف شخصين، وفصَّل بأن قال: وقفت على كل واحد منهما نصف هذه الدار، ثم على الفقراء، فهو وقفان، فلا ينتقل نصيب أحدهما إلى الآخر، بل ينتقل إلى الفقراء.
حكم الوقف ابتداءً ودواماً:
للوقف من حيث الابتداء والدوام أحكام متنوعة أهمها:
أإذا كان الوقف على موجود إلا إنه منقطع الآخر، وذلك مثل قوله:
وقفت هذه المكتبة على أولادي، أو على زيد، ثم نسله، ولم يزد على ذلك، صحّ الوقف، لأن مقصود الوقف القربة والدوام، فإذا بَّين مصرفه ابتداء سهَل إدامته على سبيل الخير، فإذا انقرض المذكور بقي وقفاً، ويصرف الوقف إلى أقرب الناس للواقف يوم انقراض المذكور، لأن الصدقة على الأقارب من أفضل القربات، فإن الصدقة على(5/31)
الأقارب، صدقة وصلة، كما جاء في حديث: رواه الترمذي (658) بسند حسن في (كتاب الزكاة)، باب (ما جاء في الصدقة على ذي القرابة) والنسائي 8 (5/ 92) في (الزكاة)، (باب الصدقة على الأقارب)، وابن ماجه (1844) في (الزكاة)، باب (فضل الصدقة)، كلهم عن سلمان بن عامر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان: صدقة وصلة ". ويختصّ الوقف عندئذ بفقراء قرابة الرحم، لا الإرث، فيقدم ابن بنت على ابن عم.
ب إذا كان الوقف منقطع الأول، كأن قال الواقف: هذه الدار على مَن سيولد لي، ثم على الفقراء، بطل هذا الوقف في الأول، لعدم إمكان تمليكه في الحال، كما مرّ بيانه، وبطل في الثاني، لأنه مرتب على الأول.
ج- إذا كان الوقف منقطع الوسط، كأن قال الواقف: وقفت هذا المتجر على أولاد خالد، ثم على رجل، ثم على الفقراء، صحّ هذا الوقف، لوجود المصرف في الحال، والمآل، ويصرف بعد أولاد خالد إلى الفقراء، لا لأقرب الناس إلى الواقف، لعدم معرفة أمد الانقطاع.
الولاية على الموقوف:
لا بدّ في الوقف من ناظر ينظر في أمره، ويقوم على مصالحه، والمحافظة عليه، وإنفاق موارده في الجهات التي نصّ عليها الواقف.
أحقّ الناس بالولاية على الوقف:
أحقّ الناس بالولاية على الموقوف هو من يعيّنه الواقف نفسه.
فإن شرط النظر على الوقف لنفسه، كان له النظر عليه، وكان أولى الناس به، وإن شرطه لغيره واحداً كان أو أكثر اتُبع شرطه، سواء فوّض الناظر بهذا النظر على الوقف حال حياته، أم أوصى له به، لأنه المتقرِّب(5/32)
إلى الله تعالى بالصدقة، فيتبع شرطه في النظر كما يتبع في المصارف وغيرها. فإن جعل الولاية لفلان، فإن مات فلفلان، جاز تحقيقاً لرغبته في النظر على وقفه.
وقد كان عمر - رضي الله عنه - يلي أمر صدقته، ثم جعله لحفصة بنته رضي الله عنها تليه ما عاشت، ثم يليه أولو الرأي من أهلها. رواه أبو داود (2879) في
(الوصايا)، باب (ما جاء في الرجل يوقف الوقف) وإن لم يشترط الواقف النظر على الوقف لأحد، فالنظر عندئذ للقاضي، لأن له النظر العام، فكان أولى بالنظر في الوقف.
شروط الوالي على الوقف:
للناظر في الوقف شروط، حتى يصح أن يكون ناظراً، وهذه الشروط
هي:
1 - العدالة، وهي الاستقامة في أمور الدين، وشرطت العدالة في الناظر، لأن النظر ولاية، والولاية لا تصح من غير عدل.
2 - الكفاية، والمراد بها قوة الشخص وقدرته على التصرف فيما هو ناظر عليه، واهتداؤه إلى محاسن أوجه التصرف.
فإذا اختلّ في الناظر أحد هذين الشرطين نزع الحاكم الوقف منه، ووليه هو بنفسه، أو يوليه مَن أراد.
فإن زال اختلاله، وتحققت فيه شروط الولاية من جديد عاد إليه النظر على الوقف إن كان مشروطاً نظره في الوقت، منصوصاً عليه بعينه من قبل الواقف نفسه.
ولا يتصرف الناظر إلا في وجوه المصلحة، والاحتياط، لأنه ينظر في مصالح الغير، فأشبه وليّ اليتيم.
وظيفة الناظر على الوقف:
للناظر على الوقف وظيفة نُجمِلها فيما يلي:(5/33)
أالقيام بشؤون الوقف من عمارة، وإجارة وتحصيل غلّة، وقسمتها على مستحقيها، وحفظ الأصول والغلاّت على الاحتياط، لأنه المعهود في مثله. وهذا التصرف إنما يتولاّه الناظر إذا أطلق الواقف له النظر، أو فوّضه في جميع الأمور، فإذا فوّض إليه النظر في بعض هذه الأمر لم يتعدّه اتباعاً لشرط الواقف، شأنه في ذلك شأن الوكيل يتصرف في حدود ما وُكِّل به.
ب إذا شرط الواقف النظر لاثنين لم يستقل أحدهما بالتصرّف، ما لم ينصّ عليه، فإن نصّ عليه جاز له التصرّف.
أُجرة الناظر على الوقف:
إذا شرط الواقف للناظر شيئاً من الريع جاز، وكان له أخذه، فإن لم يذكر الواقف للناظر أجرة، فلا أجرة له.
فلو رفع الناظر الأمور إلى الحاكم، وطالب أن يقرِّر له أُجرة، جاز للحاكم أن يقرِّر له الأجرة التي يراها مناسبة لعمله، وهذا إذا لم يجد متبرعاً يقوم بالنظر على الوقف من غير أجر، وللناظر أن يأكل من ثمرة الموقوف بالمعروف، كما قال عمر - رضي الله عنه -: (لا جُناح على مَن وليها أن يأكل منها بالمعروف).
اختلاف الناظر والموقوف عليهم في النفقة:
إذا ادّعى الناظر على الوقف صرف الريع إلى مستحقِّيه، فأنكروا ذلك، فإن كانوا معيِّنين، فالقول قولهم، ولهم مطالبته بالحساب، وإن كان الموقوف عليهم غير معينين، فللحاكم مطالبته بالحساب، ويصَّدق في قدر ما أنفق عند الاحتمال، فإن اتهمه الحاكم حلّفه.
عزل الناظر:
يُعزل الناظر بزوال أهليته كما مرّ، وينعزل أيضاً بالإضافة إلى ذلك بعزل الواقف له، ويصحّ الواقف له، ويصحّ له عندئذ تولية غيره مكانه، وذلك أن الناظر وكيل،(5/34)
وللموكِّل عزل الوكيل متى شاء، إلا أن يشرط الواقف نظره حال الوقف، فلا يجوز له عزله، ولو لمصلحة، لأنه لا تغيير لما شرطه حال العقد، كما لو وقف على أولاده الفقراء، فلا يجوز تبديلهم بالأغنياء. لأنه كما قلنا لا تغيير لما شرطه في العقد.
بعض مسائل الوقف:
1 - لو قال الواقف في وقفه: وقفت هذه الدار على أولادي، وأولاد أولادي، استحقّ الوقف جميعهم، وقسم منافعه بينهم بالسوية، لا فرق بين ذكر وأنثى، وبين ولد وولد ولد، لأن الواو لمطلق الجمع، لا للترتيب، كما هو الصحيح عند علماء الأصول.
2 - لو قال: وقفت هذه الدار على أولادي، فإنه لا يدخل أولاد الأولاد في الوقف، لأنه لا يقع عليهم اسم الولد حقيقة، هذا إذا كان له أولاد، وأولاد أولاد، أما إذا لم يكن له إلا أولاد أولاد، فإنهم يدخلون في اللفظ، ويستحقّون الوقف، لوجود القرينة، وصيانة لكلام المكلّف عن الإلغاء.
3 - لو قال هذه الحديقة وَقْف على ذريتي، أو نسلي، أو عقبي: دخل فيه أولاد البنات، وأولاد الأولاد، قريبهم وبعيدهم، وذكرهم وأنثاهم، لأن اللفظ يشملهم.
4 - لو قال: وقَفْتُ أموالي على فقراء قرابتي، دخل كل من اجتمع في النسب مع الواقف، من فقراء قرابته، سواء كان قريباً أم بعيداً، ذَكَرَاً أم أنثى، وارثاً أو غير وارث، محرماً أو غير محرم.
5 - الصفة المتقدمة على جمل معطوفة تعتبر في الكل، كما لو قال: وقفت هذه الأرض على محتاجي أولادي، وأحفادي، وإخوتي، فصفة الحاجة مشروطة فيهم جميعاً، وكذلك الصفة المتأخرة عليها، كما لو قال، وقفْتُ هذه الدار على أولادي، وأحفادي، وإخوتي الفقراء.(5/35)
6 - لقد عُرف الوقف على القرابة والأولاد والأحفاد والذرية بالوقف الذري أو الأهلي.
كما عرف الوقف على المصالح والجهات، كالمساجد والمدارس، والعلماء والفقراء بالوقف الخيري.(5/36)
الوقف
من مفاخر المسلمين ومآثرهم الحميدة
الوقف قربة من القربات، وعبادة من العبادات، والوقف يدل على صدق إيمان الواقف، ورغبته في الخير، وحرصه على مصالح المسلمين، وحبّة لهم ولأجيالهم المتعاقبة. ومنافعهم المتلاحقة. ولقد ضرب المسلمون منذ عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم الأمثلة في ميادين الوقف، فوقفوا أوقافاً لا تُحصى، وسبّلوا أموالاً لا تُعدّ، شملت أوقافهم جوانب كثيرة من جوانب الخير، ونواحي المعروف، ومرافق الحياة: مدارس، مساجد، مشافي، أراضي، مباني، آبار، مكاتب، سلاح على الذراري، على الفقراء، على المجاهدين، على العلماء، وغير هذا كثير.
فما تركوا ناحية من نواحي الحياة إلا وقفوا لها وقفاً، وما من حاجة من حاجات المجتمع إلا حبسوا لها أموالاً، ونظرة سريعة في ربوع العالم الإسلامي تنبئك عن أوقافهم التي وقفوها، وأموالهم التي حبسوها في سبيل الله تبارك وتعالى، اشترك في ذلك حاكمهم ومحكومهم، قوّادهم وجنودهم، تجّارهم وصنّاعهم، ورجالهم ونساؤهم، حتى غدا في كل بلد من بلدان المسلمين أوقاف يقدَّر ريعها بمئات الملايين، وأصبح لهذه الأوقاف في كل قطر أقطارهم وزارة، تدير تلك الأموال، وتقوم عليها، وهناك آلاف من الأُسر تعيش من ثمرات هذه الأوقاف وغلاّتها وهناك أيضاً مرافق كثيرة، ومصالح عديدة، استمرت ونَمَت في أحضان هذه الأوقاف، وفي(5/37)
ربوع خيراتها. فجزي الله أولئك الصالحين خيراً، وأجزل لهم الأجر والمثوبة. والأمر المؤسف والمُحزن، أن الرغبة في أيامنا، منذ أزمان قريبة قد قلت عند كثير من المسلمين في الوقف، وشحّت نفوس كثيرين منهم في مثل هذه الصدقات الجارية، والمَبَرَّات النافعة.
وهذا مظهر مُحزن، إن دلّ على شئ فإنما يدل على قلّة الرغبة في الأجر والثواب، وضعف الإيمان بالآخرة ونعيمها، وشدة الحب للدنيا وشهواتها، وانشغال الناس بهذه الفانية، وتفضيلها على الآخرة ونعيمها، حتى صدق فينا قول الله تعالى {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [الأعلى: 16]. وكأننا لم نسمع قوله تعالى: {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 17]. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(5/38)
الوصية(5/39)
تعريف الوصية:
الوصية في اللغة: الإيصال، مأخوذة من: وصيت الشئ أصيه إذا وصلته
والوصية، والإيصاء في اللغة بمعنى واحد، تقول: أوصيت لفلان بكذا، أو أوصيت إلى فلان بكذا، بمعنى عهدت إليه.
وتكون الوصية اسم مفعول بمعنى المُوصى به، ومنه قول الله تعالى:
{مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا} [النساء: 12]. وتكون مصدراً بمعنى: الإيصاء، ومنه قول الله عز وجل: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ} [المائدة: 106].
لكن الفقهاء فرقوا بين اللفظين، فقالوا: إن معنى أوصيت إليه: عهدت إليه بالإشراف على شؤون القاصرين مثلاً. وخصّوا هذا بالوصاية والإيصاء. ومعنى أوصيت له: تبرّعت له وملِّكته مالاً وغيره. وخصّوه بالوصية.
والوصية شرعاً: تبرّع بحق مضاف لما بعد الموت. وسمي هذا التبرع بالوصية، لأن المُوصي قد وصل به خير عُقْباه بخير دنياه.(5/41)
الفرق بين الوصية وبين أنواع التمليك الأخرى:
يتبيَّن من تعريف الوصية، وبين غيرها من أنواع التمليك الأخرى، إذ إن التمليك في الوصية مضاف إلى ما بعد الموت، بينما هو في العقود الأخرى كالهبة مثلاً تمليك في حال الحياة.
دليل مشروعية الوصية:
الوصية مشروعة ويدل على مشروعيتها الكتاب الكريم، والسنّة النبوية الشريفة، وعمل الصحابة رضي الله عنهم، وإجماع علماء المسلمين.
- أما الكتاب فقول الله عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180].
[كتب: فرض. خيراً: مالاً. بالمعروف: بالعدل، الذي ليس فيه ظلم للورثة].
وقوله تبارك وتعالى: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11].
وقوله عز من قائل: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ} [المائدة: 106].
- أما السنّة فأحاديث عدّة:
منها ما رواه البخاري (2587) في كتاب (الوصايا)، باب (الوصايا، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " وصية الرجل مكتوبة عنده ")، ومسلم (1627) في أول كتاب الوصية، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
" ما حق امرئ مسلم، له شئ يوصى فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده ".
[ما حق: لا ينبغي له، وليس من حقه. إذ الحزم والاحتياط أن تكون(5/42)
وصيته مكتوبة عنده، لأنه لا يدري متى يأتيه الموت، فيحول بينه وبين ما يريد].
ومن السنّة أيضاً ما رواه ابن ماجه (2700) في (الوصايا)، باب
(الحث على الوصية)، عن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
" المحروم من حُرم الوصية "، وقال عليه الصلاة والسلام: " من ماتَ على وصية مات على سبيل وسُنَّة ومات على تُقَىً وشهادة، ومات مغفوراً له " رواه ابن ماجه (2701) في (الوصايا)، باب (الحث على الوصية).
- أما الصحابة رضي الله عنهم، فقد كانوا يوصون ببعض أموالهم تقرباً الله تعالى.
أخرج عبد الرزاق بسند صحيح: أن أنساً رضي الله عنه قال: (كانوا - أي الصحابة - يكتبون في صدور وصاياهم: بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما أوصى به فلان بن فلان، أن يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ويشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأوصى من ترك من أهله أن يتقوا الله ويصلحوا ذات بينهم، ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين، وأوصاهم بما أوصى به إبراهيم بنيه ويعقوب: {إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [البقرة: 132].
- أما الإجماع، فقد انعقد إجماع فقهاء المسلمين منذ عصر الصحابة رضي الله عنهم على جواز الوصية، ولم يؤثر عن أحد منهم منعها.
الصدقة في حال الحياة أفضل من الوصية:
الصدقة المُنجزة في حال الحياة، أفضل، وأكثر ثواباً، وأعظم أجراً من تلك الصدقة التي يتصدّق بها الإنسان بعد موته، وهي الوصية، لأن الصدقة في الحياة، أسبق في تحصيل الأجر والثواب، وأكثر دلالة على صدق المؤمن في إيمانه، ورغبته في الخير والإحسان، وحبه لهما.(5/43)
قال تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ} [المائدة: 48]، وقال تبارك وتعالى: {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [المنافقون: 10]
روى البخاري (1353) في (الزكاة)، باب (أيّ الصدقة أفضل .. )، ومسلم (1032) في (الزكاة)، باب (أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح)، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجراً؟ قال: " أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر، وتأمل الغني، ولا تمهل حتى، إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان ".
[شحيح: أي من شأنك الشح، وهو البخل مع الحرص. بلغت الحلقوم: قاربت الروح الحلق، والمراد شعرت بقرب الموت. لفلان كذا: أي أخذت توصي وتتصدق. وقد كان لفلان: أي أصبح مالك ملكاً لغيرك، وهم الورثة].
وروى الترمذي (2124) في (الوصايا)، باب (ما جاء في الرجل يتصدق أو يعتق عند الموت)، عن أبي الدرداء، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " مثل الذي يعتق عند الموت كمثل الذي يُهدي إذا شبع ".
حكمة مشروعية الوصية:
مقتضى القواعد الشرعية أن تكون الوصية غير جائزة، لأنها مضافة إلى زمن قد انقطع فيه حق الموصي في ماله، إذ الموت مُزيل للمُلك، ولكن الشرع الحكيم أجاز الوصية، لما فيها من مصلحة للموصي، ولأقربائه وللمجتمع، أما مصلحة الموصي، فهي ما يناله من الأجر والثواب على وصيته، والذكر الحسن الجميل بعد مماته.
وأما مصلحة أقربائه فإن الغالب في الوصايا أن تكون للأقرباء الذين لا يرثون بموجب نظام الإرث في الشريعة الإسلامية، فيستحقون بالوصية قدراً من المال، وهم - غالباً - ممُن يحتاجون إليه.(5/44)
وأما مصلحة المجتمع، فإن الوصية باب من أبواب الإنفاق في وجوه الخير العامة، كالمساجد والمدارس والمكتبات، والمستشفيات وغيرها، وفي الجهات العامة كذلك كالفقراء، والأيتام والعلماء.
وبهذا كانت الوصية من قوانين التكافل الاجتماعي في نظام الإسلام، ولا يخفى ما في ذلك من خير وفائدة.
حكم الوصية:
كانت الوصية في أول الإسلام واجبة بكل المال للوالدين والأقربين.
وذلك بدليل قوله تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180].
[كتب: فرض. خيراً: مالاً].
لكن هذا الوجوب نسخ، بآيات المواريث، وبالنسّبة أيضاً، وبقي استحبابها في وجوه الخير، في الثلث فما دونه لغير الوارث.
روى أبو داود (2869) في (الوصايا)، باب (ما جاء في نسخ الوصية للوالدين والأقربين)، والترمذي (2118) في (الوصايا)، باب: رقم 2، عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: {إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ} فكانت الوصية كذلك، حتى نسختها آية المواريث.
وروى عمرو بن خارجة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، خطب على ناقته، وأنا تحت جرَانها، وهي تقصع بجرتها، وإن لعابها يسيل بين كتفي، فسمعته يقول: " إن الله عز وجل أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث)، والولد للفراش، وللعاهر الحجر ".
رواه الترمذي (2122) في (الوصايا)، باب (ما جاء لا وصية لوارث)، ورواه النسائي (6/ 247) في (الوصايا)، باب (إبطال الوصية للوارث).(5/45)
[جرانها: باطن عنقها مما يلي الأرض. بجرتها: ما تخرجه من بطنها لتجتره. تقصع: تمضغه بشدة. العاهر: الزاني. وإنما قال: له الحجر، لأنه لا شئ له في الولد. أو أنه يرجم بالحجر].
وروى أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه، قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث ".
أخرجه أبو داود (2870) في (الوصايا)، باب (ما جاء في الوصية للوارث)
أحكام أخرى للوصية:
قلنا: إن الوصية مندوبة في وجوه الخير، ولغير وارث، لكنها قد يعتريها أحوال أخرى تُخرِجها عن الندب إلى:
أ- الوجوب:
فتجنب الوصية فيما إذا كان الإنسان حق شرعي لله تعالى، كزكاة وحج، وخشي أن يضيع إن لم يوص به. وكذلك حق لآدمي، كوديعة ودين، إذا لم يعلم بذلك من يثبت هذا الحق بقوله.
ب- الحرمة:
وتحرم الوصية إذا كانت بما حرّم الشرع فعله، كالوصية بخمر، أو إنفاق في مشاريع مؤذية للأخلاق العامة، وهذه الوصية مع حرمتها باطلة، لا تنفذ.
ومن الوصية المحرمة، الوصية بقصد الإضرار بالورثة، ومنعهم من أخذ نصيبهم المقدر لهم شرعاً.
وقد نهى الله تبارك وتعالى عن الإضرار بالوصية، فقال عز من قائل:
{غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} [النساء: 12].
روى أبو هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الرجل(5/46)
ليعمل والمرأة بطاعة الله ستين سنة، ثم يحضرهما الموت، فيضاران في الوصية، فتجب لهما النار، ثم قرأ أبو هريرة: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللهِ} إلى قوله تعالى {وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ".
وتمام الآيتين: {وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ {12} تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [النساء: 12: 13].
أخرجه أبو داود (2867) في (الوصايا)، باب (الإضرار في الوصية).
ج- الإباحة:
وهي الوصية لصديق، أو لغني لم يوصفا بالعلم أو الصلاح، فإن نوى في الوصية إليهما البر والصلة كانت الوصية مندوبة، لما فيها من معنى الطاعة
د- الكراهة:
وتكره الوصية، إذا كان الموصي قليل المال، وكان له ورثة فقراء يحتاجون إلى المال، كما تكره لأهل الفسق والمعاصي، إذا غلب على ظن الموصي أنهم يستعينون بها على معاصيهم.
أركان الوصية، وشروط كل ركن:
للوصية أربعة أركان، وهي:
الموصى، والموصى له، والموصي به، الصيغة.
ولكل ركن من هذه الأركان شروط، لا بدّ من تحققها، وإليك بيان ذلك:
شروط الموصي:
تصحّ الوصية ممّن اجتمعت فيه الشروط التالية:(5/47)
أالعقل، وهو شرط لا بد منه، وخاصة في الهبات والتبرعات، فلا تصح الوصية من مجنون ومعتوه، ولا من مغمى عليه، ولا من سكران غير متعد بسكره، لفقد هؤلاء العقل الذي هو مناط التكليف، ففقدوا بذلك أهلية التبرع.
ب- البلوغ، وهو مناط التكليف كما قلنا، وعليه فلا تصح الوصية من صبي، ولو كان مميزاً، لأنه ليس أهلاً للتبرع.
ج- الاختبار، فلا تصح من مكره، لأن الوصية تبرّع بحق، فلا بدّ فيه من رضا المتبرع واختباره.
د - الحرية، فلا تصح وصية من رقيق، قنا كان، أم مدبراً، أم مكاتباً، لأن الرقيق ليس بمالك، بل هو وما معه مُلك لسيده.
والشرع جعل الوصية حيث التوارث، والرقيق لا يورث، فلا يدخل في الأمر بالوصية.
وبناءً على ما ذكر من شروط في الموصي، فإنه تصح وصية:
1 - الكافر، لأنه أهل للتبرع.
2 - المحجور عليه بسفه، لصحة عبارته، واحتياجه للثواب بعد موته.
شروط الموصي له:
الموصي له قسمان: معين، وغير معين.
ولكل منهما شروط تخصه:
شروط الموصي له المعيَّن:
يشترط في الموصى له المعين الشروط التالية:
أأن يكون ممن يتصور له الملك عند موت الموصي، فلا تصح الوصية ليمت، ولا الدابة، لأن الميت ليس أهلاً للملك، وكذلك الدابة، هذا إذا لم يفصل الوصية للدابة، فلو فصَّلها، بأن أوصى بالصرف على(5/48)
علفها صحت الوصية، وتكون عندئذ لمالكها، لأن علفها عليه، ويُلزم بصرف الوصية على علف الدابة، رعاية لغرض الموصي.
بناءً على ما ذكر، فإنه تصح الوصية لحمل موجود عند الوصية، وتنفذ إن انفصل عن أمه حياً حياة مستقرة لأقل من ستة أشهر، لأنها أقل مدة الحمل.
ب- عدم المعصية، فلا تصح لكافر بعبد مسلم، ولا بمصحف أيضاً، كما لا تجوز الوصية لأهل الحرب بسلاح أو مال لوجود المعصية في كل ذلك.
ج- أن يكون معيناً، فلا تصح الوصية لأحد هذين الرجلين، لأن الموصي له مجهول، والجهالة تمنع من تسليم الموصي به إلى الموصي له، فلا تفيد الوصية.
د- أن يكون موجوداً عند الوصية فلا تصح لحمل سيوجد، ولا لمسجد سيبني.
ومما يلحق بالوصية لمعين الوصية لعمارة مسجد، إنشاءً وترميماً، أو لمصالحه.
وفي معنى المسجد المدرسة، والرباط، والمستشفى، لأن في ذلك قربة، ولهذه الأشياء شخصية اعتبارية، فالوصية لها مثل الوقف عليها.
ولو أطلق لفظ الوصية، بأن قال: أوصيت لهذا المسجد، ولم يذكر عمارة ولا غيرها من مصالحه، صحت الوصية، وصرفت لمصالح المسجد، لأن العرف يقضي بذلك.
ومن خلال ما ذكر من الشروط يتبين أنه تصح الوصية للقاتل، لأنها تمليك بعقد فأشبه الهبة. وكذلك تصح لوارث إن أجاز باقي الورثة، كما سيأتي(5/49)
شروط الموصي له غير المعين:
يشترط في الوصية لغير المعين، كجهة من الجهات العامة مثل الفقراء والعلماء، والمساجد والمدارس، أن لا تكون الوصية لجهة معصية، أو مكروه، فلا تصحّ الوصية لإقامة معبد لغير المسلمين، أو بناء ملهى تضيع فيه أوقاتهم، ويتلهون فيه عن مصالحهم، وأداء واجباتهم.
ومن الجهات العامة التي تجوز الوصية لها الجهات التالية:
أفي سبيل الله، فلو قال: أوصيت بثلث مالي في سبيل الله، صحّت وصيته، لأن النفقة في سبيل الله قربة، وتُصرف هذه الوصية إلى الغزاة من أهل الزكاة، الوارد ذكرهم في قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60].
لأن هذا الاسم قد ثبت لهم في عرف الشرع فيحمل عليهم.
ب العلماء، فلو أوصى بمائة ألف من ماله إلى العلماء، صحت وصيته أيضاً، لأن العلماء أهل للملك، والنفقة عليهم قربة في ميزان الشرع، لكن هذه الوصية تصرف إلى علماء الشرع الإسلامي، من تفسير، وحديث، وفقه، وأصول فقه، وعقيدة، وغير ذلك من علوم الدين، لاشتهار لفظ العلماء عرفاً بهؤلاء، فلا يعطي من هذه الوصية الأدباء والمهندسون والأطباء، وأمثالهم من علماء المواد الدنيوية، عملاً بالعرف كما قلنا، فإذا تغير العرف، وأصبحت كلمة: (العلماء) يراد بها عند عموم الناس، كل متعلم يحمل إجازة في فن من فنون العلم، فإن الوصية للعلماء تصرف عندئذ لجميع العلماء على اختلاف علومهم.
ج- الفقراء، ويدخل معهم المساكين، وكذلك لو أوصى للمساكين، فإنه يدخل معهم الفقراء، ويجوز الاكتفاء بإعطاء ثلاثة منهم، لأنه أقل الجمع.
د- آل البيت، فلو قال أوصيت بثلث مالي لآل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه(5/50)
يعطي من الوصية من كان من بني هاشم، وبني المطلب، ويجوز الاكتفاء بإعطاء ثلاثة منهم أيضاً.
هـ - الأقارب ويدخل فيه كل قرابة للموصي من جهة الأب، وجهة الأم، ولا يدخل معهم من يرث من القرابة.
والحج والعمرة: فلو قال: أوصيت بمائة ألف من مالي للحج والعمرة، فإن الوصية تصح، لأن الحج والعمرة قربة، ويعطي من هذا المال من يحج ويعتمر.
وكذلك لو أوصى أن يحج عنه، فإن وصيته تصح ويحج عنه من بلده، أو من الميقات، كما قيده بوصيته، فإن أطلق ولم يعين مكاناً، فإنه يحج عنه من الميقات، حملاً على أقل الدرجات، ولأن الغالب من عمل الناس الحج من الميقات، فإذا تغير هذا الغالب، وتبدل هذا العرف، فإن الحج يكون من بلد الموصي عملاً بهذا العرف الطارئ، كما هو الحال في أيامنا.
شروط الموصي به:
وللموصي به شروط إذا تحققت صحت الوصية، وإذا لم تتحقق، لغت، وهذه الشروط هي:
أأن يكون الموصي به مما يحل الانتفاع به، فلا تصح الوصية بما يحرم الانتفاع به، كآلة لهو، وقمار.
ب- أن يكون قابلاً للنقل، فلا يصح الوصية بالقصاص، ولا بحق الشفعة، لأنها لا تقبل النقل، لأن مستحقها لا يمكن من نقلها.
وبناءً على الشرطين السابقين، فإن الوصية تصح في الأمور التالية:
أتصح الوصية بالمال المجهول، كالحمل في البطن، واللبن في الضرع، والصوف على ظهر الغنم، لأن الوارث يخلف المورث في هذه الأشياء، فكذلك الموصي له، ولأن الوصية تحتمل الجهالة.(5/51)
ب- تصح الوصية بالشئ المعدوم عند الوصية، كأن يوصي بثمرة ستحدث، أو حمل سيكون، لأن الوصية احتمل فيها وجوه من الغرر، رفقاً بالناس، وتوسعة عليهم، فتصح بالمعدوم، كما تصح بالمجهول، ولأن المعدود يصح تملكه بعقد السلم، والمساقاة والإجارة، فكذلك الوصية.
ج- تصح الوصية بالمبهم، كأن يقول: أوصيت بأحد ثوبي، لن الوصية تحتمل الجهالة، فلا يؤثر فيها الإبهام، ويعينه الوارث.
د- تصح الوصية بالمنافع وحدها مؤقتة ومؤبدة، لأنها أموال مقابلة بالأعواض، كالأعيان، كما أنه تصح الوصية بالأعيان وحدها دون المنافع لإمكان صيرورة المنافع إلى بإجارة، أو إعارة، أو إباحة، أو نحو ذلك، وعلى هذا تصح الوصية بالعين لواحد، وبالمنفعة لآخر. كأن يوصي برقبة داره لزيد، وبسكناها لخالد.
هـ- تصح الوصية بنجاسة يحل الانتفاع بها ككلب معلم، وزبل، وخمر محترمة، وهي ما عُصرت بقصد الخلية، لثبوت الاختصاص فيها وانتقالها بالإرث.
شروط الصيغة:
وللصيغة في الوصية شروط أيضاً نذكرها فيما يلي:
أأن يكون الوصية بلفظ صريح، أو كناية.
فالصريح: كأوصيت له ألف، أو ادفعوا له بعد موتي ألفاً، أو أعطوه بعد موتي، أو هو له بعد موتي، واللفظ الصريح تنعقد به الوصية وتصح بمجرد اللفظ، ولا يقبل قول القائل إنه لم ينو به الوصية.
ومثل هذا الإشارة المفهومة من الأخرس.
والكناية لا بد من النية، ومع اللفظ، لا حتمال اللفظ غير(5/52)
الوصية، فيحدد المراد من اللفظ بالنية. ومن الكناية: كتابي هذا لزيد. والكتابة من الناطق كناية تنعقد بها الوصية مع النية، كما في البيع.
ب-قبول الموصي له، إن كانت الوصية لمعين، فإن كانت الوصية لجهة عامة، كالفقراء، أو العلماء، لم يشترط القبول، لتعذره، وتلزم عندئذ بموت الموصي.
ج- أن يكون قبول الموصي له بعد موت الموصي، فلا عبرة بقوله أو ردِّه في حياة الموصي، إذ لا حق له قبل الموت، فأشبه إسقاط حق الشفعة قبل البيع.
وبناءً على هذا، فإنه يصح للموصي له - إن قبل الوصية في الحياة الموصي - الردّ بعد موته، وكذلك له القبول بعد موته، إن كان ردّ الوصية في حياته، لأن العبرة في القبول والرد أن يكون بعد الموت الموصي، كما قدمنا.
وعلى هذا إذا مات الموصي له قبل موت الموصي بطلت الوصية، لأنها قبل موت الموصي غير لازمة، فإن مات الموصي له بعد موت الموصي، ولكن قبول الوصية، صحّت الوصية، وقام ورثته مقامه في القبول، أو الرد، لأنهم فرعه، فيقومون مقامه في ذلك.
حدود الوصية:
أينبغي للموصي، ويطلب منه ندباً ألا يزيد وصيته عن ثلث ماله، عملاً بحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال: عادني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع، من وجع أشفيت منه على الموت، فقلت: يا رسول الله، بلغني ما ترى من الوجع، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: " لا " قلت: أفأتصدق بشطره؟ قال: " لا "، الثلث، والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، ولست تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها، حتى اللقمة تجعلها في في امرأتك ".(5/53)
هذا لفظ مسلم (1628) في (كتاب الوصايا)، باب (الوصية بالثلث)، ورواه البخاري (2591) بمثله في (كتاب الوصايا)، باب (أن يترك ورثته أغنياء خير من أن يتكففوا الناس).
[أشفيت منه: أشرفت عليه. أن تذر: أن تترك. يتكففون الناس: يسألون ما بأكف الناس، أو يسألون الناس بأكفّهم].
لكن الموصي لو خالف وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأوصى بأكثر من ثلث ماله، فما حكم هذه الوصية؟
قال الشافعية: الوصية بأكثر من الثلث مكروهة شرعاً، ولكنها صحيحة، بيد أن الزيادة على الثلث لا تنفذ إلا بإجازة الورثة، فإن ردوا هذه الزيادة، بطلت، بالإجماع، لأن هذا القدر الزائد على الثلث حقهم، وإن أجازوه نفذت الوصية، إمضاء لتصرف الموصي بالزيادة.
أما إذا لم يكن للموصي ورثة، وأوصى بأكثر من الثلث، فالوصية بالزائد على الثلث لغو، لأنه حق المسلمين، فلا مُجيز له.
ولذلك قالوا: يستحب أن تنقص الوصية عن الثلث المال أخذاً من قوله عليه الصلاة والسلام، في الحديث السابق: " الثلث والثلث كثير "، وأخذاً أيضاً من التعليل الوارد فيه: " إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ".
ب- يعتبر المال عند الموت الموصي، لا عند وصيته، لأن الوصية تمليك بعد الموت.
فلو أوصى بألف ليرة، وكان ماله عند الوصية ثلاثة آلاف، إلا أنه لم يبق معه عند الموت إلا ألفان، ثبتت الوصية في ثلث الألفين، وتوقف الباقي على إجازة الورثة، فإن أجازوه نفذ، وإن ردّوه بطل.
ج- يعتبر ثلث المال وفاء الديون المتعلقة بمال الميت، أو بذمته.(5/54)
فلو أوصى بثلث ماله، فإنما تنفذ الوصية من ثلث ما بقي له بعد وفاء ديونه.
قال الله تعالى في شأن الميراث {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}
[النساء: 11]. والدين مقدّم على الوصية بالإجماع. فلو كان عليه دين مستغرق كل ماله، لم تنفذ وصيته في شئ من ماله.
إذا كان للموصي وصايا وتبرعات في مرض موته تزيد على ثلث ماله، ولم يجز الورثة الزائد، روعي في إخراجها الترتيب التالي:
1 - إذا كان بعض هذه التبرعات منجزاً، وبعضها معلقاً، قدم المنجز على المعلق، لأن المنجز لازم لا يمكن الرجوع عنه، بخلاف المعلّق، فلو وقف داراً بألف ليرة، وأوصى بعد موته بألف ليرة، وكانت تركته عند الموت ثلاثة آلاف، قدم الوقف، ولغت الوصية، إلا أن يجيزها الورثة، لأن التبرع في مرض الموت يعتبر من ثلث التركة.
2 - إذا كانت تبرعاته كلها متعلقة بما بعد الموت، وكانت تزيد عن الثلث، ولم يجز الورثة تلك الزيادة، قسط الثلث بين الجميع على حسب مقاديرهم.
فلو أوصى لزيد بمائة، ولخالد بخمسين، ولعمرو بخمسين وكان ثلث ماله مائة، أعطى زيد خمسين، وأعطى خالد خمساً وعشرين، وكذلك عمرو خمساً وعشرين.
3 - إذا اجتمعت في مرض الموت تبرعات منجزة، كوقف، وصدقة، وكان مجموعها يزيد على ثلث المال، قدم الأول فالأول منها، حتى يتم ثلث المال، وتقديم الأول على الثاني، لقوته، لأنه لا يفتقر إلى إجارة الورثة.
4 - إذا اجتمعت تبرعات منجزة في مرض الموت، وكانت دفعة واحدة،(5/55)
قسط بينها ثلث التركة بالقيمة، لعدم استحقاق تقديم بعضها على بعض
الوصية للوارث:
أ- الأصل في الوصية أن تكون لغير وارث، لأن المقصود بها القربة، وتحصيل الثواب، واستدراك ما فات حال الحياة، والوارث قد أخذ نصيبه من التركة.
إلا أن الموصي، قد يخالف ذلك، ويوصي لوارث من ورثته، فما هو حكم هذه الوصية؟
الأظهر في مذهب الشافعي أن الوصية جائزة، ولكنها لا تنفذ في حق هذا الوارث، إلا إذا أجازها الورثة الآخرون، فتكون إجازتهم تنفيذاً لوصية الموصي
وهذا الحكم مستفاد من قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث ".
رواه الترمذي (2141) في (كتاب الوصايا)، باب (ما جاء لا وصية لوارث)، ورواه أبو داود (2870) أيضاً، كلاهما عن أبي أمامة رضي الله عنه.
وروى الدارقطني (4/ 152) عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تجوزُ وصية لوارث إلا أن يشاء الورثة ".
وكذلك قاسوا الوصية للوارث، على الوصية للأجنبي بالزائد على الثلث. وقد قلنا هناك: إن الزيادة على الثلث موقوفة على إجارة الورثة، هنا كذلك.
ب- لا عبرة لقبول الورثة وردهم - إذا ما أوصى إلى أحد ورثته - في حياة الموصي، إذ لا استحقاق لهم في حياة الموصي بشئ من التركة. كما أنه لا استحقاق للموصي له أيضاً.(5/56)
فلمن قبل من الورثة بالوصية للوارث في حال حياته، أن يرجع عن ذلك بعد موت الموصي، ولمن رد في حياته، أن يقبل بعد موته.
ج- العبرة بكون الموصي له وارثاً وقت الموت، لا وقت الوصية، فلو أوصى لأخيه، ولم يكن له ولد عند الوصية، ثم ولد له ولد قبل أن يموت، صحت الوصية ونفذت، لأنها تبينت أنها لغير وارث، لوجود الولد للموصي عند الموت، والولد كما هو معلوم يحجب الإخوة إذا كان ذكراً.
د- إذا أجاز الوصية للوارث بعض الورثة وردّها بعضهم بعد الموت، كان لكل منهم حكمه، فتردّ الوصية في حصة من رد، وتنفّذ في حصة من أجاز، وذلك على مقدار حصصهم من التركة.
هـ - في معنى الوصية للوارث، والوقف عليه، والهبة له، وإبراؤه من دين عليه لمورثة، فإن ذلك كله يحتاج إلى إجازة الورثة، بعد موت المورث، إذا كان ذلك التصرف من الموصي للوارث إنما تم في مرض الموت.
الرجوع عن الوصية:
الوصية من العقود الجائزة، وليست من العقود اللازمة، كعقد البيع، وعقد النكاح، وبناءً على هذا، فإنَّه يصح للموصي أن يرجع عن وصيته، جميعها، كما يصحّ له أن يرجع عن بعضها، ويحق لع أيضاً أن يعدّل فيها، ويدخل عليها شروطاً، وقيوداً، لأن المال الذي أوصى به، لم يخرج من ملكه، ما دام على قيد الحياة، فله حرية التصرف فيه كما يشاء.
كيف يكون الرجوع عن الوصية؟
يصح الرجوع عن الوصية باللفظ الذي يدل على ذلك، مثل أن يقول: نقضت الوصية، أو أبطلتها، أو رجعت عنها، أو فسختها، أو هي لورثتي.(5/57)
كما يكون الرجوع بالوصية بتصرف في الموصي به يشعر بإبطال الوصية، والإعراض عنها، وذلك: كأن يبيع الموصي به، أو يجعله صداقاً، أو يهبه لأحد ويدفعه إليه، أو يرهنه بدين ويسلمه للمرتَهن، كل هذه التصرفات في الوصية تعني، إلغائها، والرجوع عنها، وذلك لزوال ملكه في بعض هذه التصرفات عن عيون الوصية، وتعريض الموصي به للبيع في البعض الآخر، كما في حالة الرهن، وبناءً على ما سبق نقول:
1 - لو أوصى بحنطة معينة، ثم خلطها بحنطة أخرى، اعتبر هذا رجوعاً عن الوصية، لتعذر تسليم الموصي به بعدما أحدثَه من الخلط.
2 - إذا أوصى بصاع حنطة من صبرة، ثم خلطها بأجود منها، عد هذا منه رجوعاً عن الوصية، لأنه أحداث بالخلط زيادة، لم يرض بتسليمها، ولا يمكن تسليمها بغير هذه الزيادة.
3 - إذا أوصى بصاع حنطة من صُبرة ثم خلطها بمثلها فلا يُعدّ هذا رجوعاً عن الوصية، لأنه لم يحدث تغييراً، وكذلك إذا خلطها بأردأ منها، لأنه مثل إحداث عيب في الموصي به، فلا يضرّ.
4 - إذا أوصى بحنطة فطحنها أو بذرها، أو أوصى بدقيق فعجنه، أو بقطن فغزله، أو بغزل فنسجه، أو بثياب فخاطها، أو بعرصة فبناها، أو غرسها، عُدّ جميع ذلك رجوعاً عن الوصية، وذلك لأمرين:
أحدهما: زوال الاسم قبل استحقاق الموصي له الوصية، فكان كتلف الموصي به.
ثانيهما: الإشعار بالإعراض عن الوصية، في هذه التصرفات وأمثالها.(5/58)
الإيصَاء
تعريف الإيصاء:
قلنا فيما سبق عند بحثنا عن تعريف الوصية، قلنا: إن الوصية، والإيصاء بمعنى واحد، لكن الفقهاء خصّوا الإيصاء، بموضوع الإشراف على شؤون القاصرين مثلاً.
وعليه فالإيصاء: أن يعهد الرجل قبل موته إلى مَن يثق به بالإشراف على أولاده، وتنفيذ وصيته، وقضاء ديونه، وردّ ودائعه، ونحو ذلك.
تعريف الوصي:
ومما سبق يتبّين معنى الوصيّ، فإنه هو الشخص الذي يقوم بالإشراف على شؤون الأولاد، وردّ الودائع وقضاء الديون، نيابة عن الميت، وذلك بتكليف منه.
حكم الإيصاء:
الأصل في الإيصاء أنه مندوب إليه، لكنه قد يعتريه ما يجعله واجباً.
قال الأذرعي: (يظهر أنه يجب على الآباء الوصية في أمر الأطفال - إذا لم يكن لهم جد أهل للولاية - إلى ثقة كاف وجيه، إذا وجده، وغلب على ظنه أنه إن ترك الوصية استولى على ماله خائن، من قاض، أو غيره من الظلمة، إذ قد يجب عليه حفظ مال ولده من الضياع).(5/59)
وقال الباجوري في حاشيته: (الإيصاء المذكور سنة، إلا في قضاء حق عجز عنه حالاً، وليس به شهود، فإنه يجب حينئذ، لأن ترك الإيصاء به يؤدي إلى ضياعه).
مما ذكر يتبين أن الإيصاء واجب فيما إذا كان على الموصي، أو له، حقوق يغلب على الظن أنها تضيع إذا لم يعهد بأمر كشفهما، وإظهار أمرها إلى من يقوم مقامه.
وكذلك إذا خيف على الأولاد الصغار الضياع، أو التعرّض للضرر، فإنه يجب على أبيهم الإيصاء إلى مَن يثق به ليُشرف على شؤونهم، ويرعى مصالحهم.
أما إذا لم يكن شئ مما سبق، فإن الإيصاء يبقى أمراً مندوباً، وعملاً مستحباً.
حكمة مشروعية الإيصاء:
الحكمة من تشريع الإيصاء، الحاجة إليه، وتحقيق مصالح للناس فيه.
فقد يشرف الإنسان على الموت، وبينه وبين الناس علاقات مادية، كودائع، وعواري، وقد يكون عليه ديون يحتاج لمن يشرف على وفائها بعد موته، وقد يكون له أولاد قاصرون ليس لهم القدرة على التصرّف بشؤون المال فاقتضت المصلحة أن يُنصب إنسان له كفاية في هذه الأمور ليشرف على ذلك كله، فكان من ذلك أن شرّع الإسلام الإيصاء، وحثّ عليه، ورغب فيه.
شروط الوصي:
قلنا: إن الموصي هو ذلك الإنسان الذي يُعهد إليه بثبوت التصرّف بعد وفاة الموصي، ولكي يستطيع هذا الوصي أن يقوم بما كُلِّف به على أحسن وجه، كان لا بدّ فيه من الشروط التالية:(5/60)
أ- أن يكون مكلفاً: أي بالغاً عاقلاً، لأن غير البالغ العاقل يستحق مَن يلي بأمره، ويقوم على شؤونه، فكيف يصحّ توليه، ليلى أمر غيره؟!
ب أن يكون حراً، لأن الرقيق لا يتصرف في مال أبيه، فلا يصلح وصياً يتصرف في مال غيره، ولو أذنَ له سيده.
ج- مسلماً، وذلك في الولاية على مسلم، فلا يَصحّ الإيصاء إلى كافر، ليلى أمور المسلمين، لأنه متّهم، ولم يجعل الله له ولاية عليهم.
وقال سبحانه وتعالى: {وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141].
وقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [آل عمران: 118].
[بطانة: أولياء يتدخلون في شؤونكم. وبطانة الرجل: خاصته وأهله. لا يألونكم خبالاً: لا يقصِِّرون في إفسادكم، والخبال: الفساد].
لكن يصح الإيصاء من ذميّ إلى ذميّ، وكذلك من ذميّ إلى مسلم.
د- أن يكون عدلاً، لا ينغمس في كبائر الذنوب، ولا يصرّ على صغائرها، وتكفي فيه العدالة الظاهرة، أي أن يكون ظاهر حاله هكذا. فلا يصحّ الإيصاء إلى فاسق، لأن الوصاية ولاية وائتمان، والفاسق غير مؤتمن. .
هـ- أهلاً للتصرف بالموصي به، وقادراً عليه فلا يصح الإيصاء إلى سفيه، أو مريض، أو هرم، أو مختل، أو ذي غفلة، إذا لا مصلحة في تولية من هذه حاله.
هذا ويؤخذ من الشروط السابقة في الوصي، أنه يجوز الإيصاء إلى:
أالأعمى، لأنه يمكنه التوكيل، فيما يتمكّن من معرفته بنفسه.(5/61)
ب- المرأة، لأنها صالحة للتصرّف.
وقد أوصى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند وفاته إلى ابنته حفصة رضي الله عنها. رواه أبو داود (2789) في (الوصايا)، باب (ما جاء في الرجل يوقف الوقف) بل هي أولى من غيرها في الوصاية إذا اجتمعت فيها شروط الوصي، لوفور شفقتها على أولادها.
أحكام تتعلق بالوصي والإيصاء:
هناك مجموعة من الأحكام تتعلق بالوصي والإيصاء. ونذكرها في العجالة التالية:
أليس للوصي إيصاء إلى غيره، لأن الموصي اختاره هو، ولم يرض بتصرف غيره، وهذا إذا أطلق الموصي الإيصاء، أو نصّ على عدم التوكيل، أما إذا أذنَ له بذلك، فإنه لا يُمنع منه.
ب يجوز في الإيصاء التوقيت والتعليق، فو قال: أوصيت إلى فلان إلى بلوغ ابني، أو إلى قدوم أخي، جاز ذلك، وكذلك لو قال: إذا متّ فقد أوصيت إليك، فإنه يجوز، لأن الإيصاء يحتمل الجهالة والأخطار، كالوصية، ولأن الإيصاء مثل الإمارة، وقد أمّر النبي - صلى الله عليه وسلم -: زيد بن حارثة رضي الله عنه في غزوة مؤتة وقال: إن أصيب زيد، فجعفر، وإن أصيب جعفر، فعبد الله بن رواحة.
رواه البخاري (4013) في (المغازي)، باب (غزوة مؤتة).
ج- لو أوصى إلى اثنين، ولم يجعل لكل واحد منهما الانفراد بالتصرّف، بل شرط اجتماعهما فيه، أو أطلق، فقال: أوصيت إلى زيد وعمرو، لم يكن لأحدهما أن ينفرد بالتصرّف وحده، عملاً بالشرط في الأول، واحتياطاً في الثاني، ولكن لو صرّح الموصي عند الإيصاء بانفراد كل منهما بالتصرّف، كأن قال: أوصيت على كل منكما، أو كل واحد منكما وصي، جاز لكل واحد منهما أن يتصرف وحده منفرداً عن صاحبه، لوجود الإذن في ذلك من الموصي.(5/62)
د- عقد الإيصاء عقد جائز من كلا الطرفين، فللوصي أن يعزل نفسه عن الإيصاء متى شاء، كالوكالة، إذ هو وكيل عن الموصي، لكن هذا العزل يصحّ إذ لم يتعين عليه القيام بالوصية، ولم يغلب على ظنه، تلف مال الموصي عليهم، باستيلاء ظالم من قاض وغيره على مالهم. فإذا خاف شيئاً من ذلك لم يجز له أن يعزل نفسه، ولا ينفذ عزله، رعاية لمصالح الأيتام، ودفعاً للخطر عنهم، أو عن أموالهم.
هـ - يشترط في الوصاية بأمر الأطفال أن تكون ممن له ولاية عليهم، كالأب والجد.
ولا يجوز للأب نصب وصي على الأطفال والجدّ حيّ بصفة الولاية، لأن ولايته ثابتة شرعاً، فليس له نقل الولاية عنه، كولاية التزويج.
وإذا بلغ الطفل، ونازع الوصي في الإنفاق، وادعى أنه أسرف فيه، صدق الوصي بيمينه، لأنه مؤتمن.
ولو نازعه دفع المال إليه بعد البلوغ، صُدِّق الولد بيمينه، وذلك لمفهوم قوله تعالى: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيباً} [النساء: 6]، ولأنه لا يشق على الوصي أن يقيم البينة على أداء المال إلى الولد. والله أعلم.(5/63)
الفرائض(5/65)
علم الفرائض
تعريف علم الفرائض:
العلم: هو إدراك الشئ على ما هو عليه في الواقع.
ويطلق العلم كذلك على حكم الذهن الجازم المطابق للواقع. كما يطلق أيضاً على القواعد المدوَّنة، والفنون المبيّنة.
الفرائض: جمع فريضة، بمعنى مفروضة: أي مقدَّرة وذلك لما فيها من السهام المقدّرة شرعاً
الفرض: لغة التقدير. ومنه قول الله تبارك وتعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}
[البقرة: 237]. أي نصف ما قدرتم.
والفرض شرعاً: نصيب مقدر في الشرع للوارث.
وعلم الفرائض: شرعاً: هو فقه المواريث، وعلم الحساب الموصل لمعرفة ما يخص كل ذي حق من التركة. وقيل هو: علم بقواعد فقهية وحسابية يعرف بها نصيب كل وارث من التركة.
ويقال لعلم الفرائض: علم المواريث. جمع ميراث، ويقال: تراث، وإرث، وهو اسم لما يورث عن الميت، مأخوذ من قولهم: ورث فلان غيره، إذا ناله شئ من تركته، أو خلفه في أمر من الأمور بعد وفاته، ومنه(5/67)
قول الله تبارك وتعالى: {وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران: 180]. ولا شك أن الوارث يخلف المتوفى في ملك أمواله.
مشروعية الإرث:
لا شك أن الإرث مشروع في الإسلام، ومقرر بنص القرآن والسنة، وإجماع الأمة، ولا شك أيضاً أن من أنكر مشروعيته فهو كافر مرتد عن الإسلام. قال الله تعالى: {لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً} [النساء: 7]
وآيات المواريث معروفة، وواضحة في تقرير مشروعية الإرث.
وأحاديث المصطفى أيضاً كثيرة في نفس الموضوع، ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: " ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقى فلأولى رجل ذكر ".
رواه البخاري (6351) في (الفرائض)، باب (ميراث الولد من أبيه وأمه)، ورواه مسلم (1615) في (الفرائض)، باب (ألحقوا الفرائض بأهلها). ومنها أيضاً قوله عليه الصلاة والسلام: " تعلموا الفرائض وعلموها الناس " رواه الحاكم (4/ 333) في (كتاب الفرائض)، باب (تعلموا الفرائض وعلموه الناس).
والإجماع منعقد على تشريع الإرث، لم يخالف في ذلك أحد من المسلمين
مكانة علم الفرائض في الدين:
تحتل أحكام المواريث في الشريعة الإسلامية مكاناً بارزاً، لأنها جزء كبير من نظام الإسلام في المال، وتكاد تكون الكثيرة الغالبة من أحكامه واردة في القرآن الكريم. حتى قال بعضهم: علم الفرائض أفضل العلوم، أي بعد علم أصول الدين، وهو علم التوحيد، وما يتعلق به من معرفة العقيدة الإسلامية.(5/68)
الترغيب في تعلم علم الفرائض وتعليمه:
لقد حث النبي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - المسلمين على تعلم علم المواريث، ورغبهم فيه، وحذر من إهماله والإعراض عنه.
روى الحاكم (4/ 333) وصححه في (كتاب الفرائض)، باب
(تعلموا الفرائض وعلموه الناس) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " تعلموا الفرائض وعلموها الناس، فإني امرؤ مقبوض، وإن هذا العلم سيقبض، وتظهر الفتنُ، حتى يختلف الرجلان في الفريضة، فلا يجدون من يفصل بينهما ".
وروى ابن ماجه (2719) بسند حسن في (كتاب الفرائض)، باب
(الحث على تعلم الفرائض) عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " تعلموا الفرائض فإنها من دينكم، وإنها نصف العلم، وإنه أول علم ينزع من أمتي ".
قيل: إنه نصف العلم، باعتبار أن للإنسان حالتين:
حالة حياة، وحالة موت، فحالة الحياة تتعلق بالصلاة، والزكاة وغيرهما، وحالة الموت تتعلق بقسمة التركة، والوصايا وغيرهما.
عناية الصحابة والفقهاء بعلم المواريث:
لقد تتابعت عناية الصحابة رضوان الله عليهم بعلم الفرائض تعلّماً وتعليماً، حتى قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (تعلموا الفرائض فإنها من دينكم)
وقد اشتهر بين الصحابة رجال أتقنوا هذا العلم، وفاقوا فيه غيرهم، كعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، عبدالله بن مسعود، وزيد بن ثابت، رضي الله عنهم جميعاً، وقد شهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لزيد بن ثابت بالتقدم بهذا العلم، والتفوق فيه. فقال: (أفرضكم زيد بن ثابت) رواه الترمذي(5/69)
(3794) في
(المناقب)، ورواه ابن ماجه (154) أيضاً في المقدمة، باب (فضائل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)، ورواه أحمد في مسنده (3/ 281).
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (من يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت).
وروي عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال يوم موت زيد:
(اليوم مات عالم المدينة).
وحَذَا التابعون رضي الله عنهم حذو الصحابة في إكبار هذا العلم، والإقبال عليه، وتعلمه وتعليمه، واشتهر من بينهم الفقهاء السبعة المعروفون رحمهم الله تعالى، وهم: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وخارجة بن زيد، وأبو بكر بن حارث بن هشام، وسليمان بن يسار، وعبيد الله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود.
ومن بعد هؤلاء كثير من علماء أتباع التابعين ومن بعدهم. فرحم الله الجميع وأسكنهم فسيح جنّاته، ووفقنا للسير على نهجهم، والأخذ بهديهم.
حكمة تشريع الميراث:
إن لتشريع الميراث، وتوزيع تركة الميت بين ورثته حكماً واضحة جلية، نذكر منها:
أإرضاء فطرة الإنسان، فلقد فطر الإنسان، وخلق فيه حب الولد الذي يرى فيه زينة حياته، وامتداد عمره، ومظهر بقائه، فلذلك تراه يكدّ ويتعب من أجل ولده، وبهذا الجدّ والعمل تنتعش الحياة، ويكثر فيها الخير، ولو حرم الدين الميراث لزوت رغبة العمل في كيان الإنسان، وضاقت نفسه، وأظلمت حياته، ورأى أن جهده ضائع، وثمرة عمله سوف تذهب - ربما - إلى مَن لا يحب. وفي هذا ما يناقض فطرته التي فطرة الله عليه، ويذهب بسعادته.
قال تعالى {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}(5/70)
[الكهف: 46]، وقال
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ} [آل عمران: 14].
ب تحقيق التكافل الاجتماعي في دائرة الأسرة، وذلك بما يأتيهم من المال عن طريق الميراث، وفي هذا ما فيه من المصلحة.
ج - صلة الرحم بعد انقطاع أجل المورث، وذلك بما يكون لأقرباء الميت كأخيه، وغيرهما من نصيب في المال الموروث.
استمداد علم الفرائض:
يستمد علم الفرائض أصوله، وأدلته وأحكامه من أربعة مصادر، وهي: القرآن الكريم، والسنة النبوية، والإجماع، واجتهاد الصحابة رضي الله عنهم.
غاية علم الفرائض:
إن الغاية من علم الفرائض: معرفة ما يخصّ كل وارث من التَرِكَة.
موضوع علم الفرائض:
إن موضوع علم الفرائض هي التركة.
تعريف التركة:
التركة: هي جميع ما يخلفه الميت بعد موته، من أموال منقولة، كالذهب والفضة وسائر النقود والأثاث، أو غير منقولة كالأراضي والدور وغيرها. فجميع ذلك داخل في مفهوم التركة، ويجب إعطاؤه لمن يستحقه.
وجوب العمل بأحكام المواريث:
نظام الميراث نظام شرعي ثابت بنصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة، شأنه في ذلك شأن أحكام الصلاة والزكاة، والمعاملات، والحدود. يجب تطبيقه، والعمل به، ولا يجوز تغييره، والخروج عليه، مهما تطاول(5/71)
الزمن، وامتدت الأيام، فهو تشريع من حكيم حميد، روعي فيه المصلحة الخاصة والعامة. ومهما ظن الناس بأفكارهم خيراً، فتشريع الله خير لهم، وأنفع.
قال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {13} وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [النساء 13 - 14]، وقال جل شأنه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً}
[الأحزاب: 36].
الحقوق المتعلقة بتركة الميت:
يتعلق بتركة الميت خمسة حقوق، مرتب بعضها على بعض، وهذه الحقوق هي:
1 - الديون المتعلقة بأعيان من التركة، قبل الوفاة: مثل الرهن، فمن رهن شيئاً وسلمه، ولم يترك غيره، ثم مات، فدين المرتهن مقدم على كل شئ، حتى تجهيز الميت وتكفينه.
وكذلك، من اشترى شيئاً، ولم يقبضه ولم يدفع ثمنه، ثم مات، فالبائع أحق به من تجهيز الميت وتكفينه. ومثل البيع والرهن، حق الزكاة، أي المال الذي وجبت فيه الزكاة، لأنه كالمرهون بالزكاة. فيقدم على مؤن التجهيز.
2 - تجهيز الميت: فإن تجهيزه مقدم على بقية الديون، وعلى إنفاذ الوصية، وعلى حق الورثة، لأنه من الأشياء الضرورية، التي تتعلق بحق الميت كإنسان له كرامته لتحتم مواراته في لحده.
والتجهيز المطلوب هو كل ما ينفق على الميت منذ وفاته إلى أن(5/72)
يوارى في لحده، من غير سرف ولا تقتير، ضمن دائرة الأمور المشروعة.
ويُلحق بتجهيز الميت، تجهيز من تلزمه نفقته من زوجة وولد، فلو ماتت زوجته قبل موته بدقائق، أو مات ولده الصغير كذلك، وجب أن يكفنا ويجهزا من ماله، كما كان يجب أن ينفق عليهما في حال حياتهما.
فإن كان الميت فقيراً، لا يملك ما يجهز به، فنفقة تجهيزه على من عليه نفقته في حال الحياة، كما قلنا في الصغير، والزوجة، فإن تعذر ذلك، ففي بيت مال المسلمين، فإن تعذر، فعلى أغنياء المسلمين.
3 - الديون المتعلقة في ذمة الميت: فإنها مؤخرة عن مؤن التجهيز، ومقدمة على الوصية، وحق الورثة، سواء كانت هذه الديون من حق الله تعالى، كالزكاة، والنذور والكفارات، أو كانت من حقوق العباد، مثل القرض، وغيره.
غير أن حق الله تعالى مقدم في الوفاء على حق العباد.
4 - الوصية من ثلث ما يقي من ماله: وهي مؤخرة عن الدين بالإجماع، ومقدمه على حق الورثة.
وتقديمها في القرآن، كما في قوله تعالى: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11]، لا يدل على وجوب تقديمها على الدين، بل قدمت للعناية بها، وحث الورثة على إنفاذها، لأنها مظنة التساهل من قبل الورثة، باعتبارها تبرعاً من مورثهم، قد يرون فيها مزاحمة لحقهم في الميراث.
روى الترمذي (2123) في (الوصايا)، باب (ما جاء يبدأ بالدين(5/73)
قبل الوصية)، عن علي رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بالدين قبل الوصية، وأنتم تقرؤون الوصية قبل الدين.
5 - الإرث: وهو آخر الحقوق المتعلقة بالتركة، ويقسم بين أفراد الورثة حسب أنصبائهم.
شروط الإرث:
للإرث أربعة شروط:
1 - تحقق موت المورث، أو إلحاقه بالموتى تقديراً، وذلك كجنين انفصل ميتاً في حياة أمه، أو بعد موتها، بجناية على أمه، موجبة للغرة، فيقدر أن الجنين كان حياً قبل الجناية، ويقدر أيضاً أن الموت قد عرض له بالجنابة على أمه، لتورث عنه الغرة.
أو إلحاق المورث بالموتى، حكماً، كما في حكم القاضي بموت المفقود اجتهاداً.
[والغرة: عبد، أو أمه. والغرة في الأصل: بياض في الوجه].
2 - تحقق حياة الوارث بعد موت مورثه، ولو لحظة.
3 - معرفة إدلاء الوارث للميت، بقرابة، أو النكاح، أو ولاء.
4 - الجهة المقتضية للإرث تفصيلاً، وهذا يختص بالقاضي، فلا تقبل شهادة الإرث مطلقاً، كقول الشاهد للقاضي: هذا وارث. بل لا بد في شهادته من بيان الجهة التي اقتضت إرثه منه. ولا يكفي أيضاً قول الشاهد: هذا ابن عمه، بل لا بد من العلم بالقرب والدرجة التي اجتمعا فيها.
أركان الإرث:
أركان الإرث ثلاثة:
1 - المورِّث، وهو الميت الذي يستحق غيره أن يرثه.(5/74)
2 - الوارث: وهو مَن ينتمي إلى الميت بسبب من أسباب الإرث الآتي بيانها
3 - الموروث: وهي الترِكَة التي يخلِّفها الميت بعد موته.
أسباب الميراث:
تعريف السبب:
السبب في اللغة: ما يتوصل به إلى غيره، واصطلاحاً: ما يلزم من وجوده الوجود، ومن عدم العدم لذاته.
تعريف الميراث:
الميراث، والإرث بمعنى واحد، وهو لغة: البقاء، وانتقال الشئ من قوم إلى قوم آخرين، وهو مصدر ورث الشئ وراثة، وميراثاً، وإرثاً.
ويستعمل الإرث بمعنى الموروث، والتراث، وهو لغة: الأصل والبقية، ومنه قول الله عز وجل: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً} [الفجر: 19].
وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ابقوا على مشاعركم، فإنكم على إرث أبيكم إبراهيم ". أي على أصله، وبقية من دينه.
رواه أبو داود (1919) في (المناسك)، باب (موضع الوقوف بعرفة)، والترمذي (883) في (الحج)، باب (الوقوف بعرفات والدعاء بها)، والنسائي (5/ 255) في الحج، باب (رفع اليدين في الدعاء بعرفة)، وابن ماجه (3011) في (المناسك)، باب (الموقف بعرفات).
والإرث شرعاً: حقا قابل للتجزي يثبت لمستحقه بعد موت من كان له ذلك، لقرابة بينهما، أو نحوها: كالزوجية والولاء.
وأسباب الميراث أربعة:
1 - النسب: وهو القرابة، ويرث به الأبوان ومن أدلى بهما، كالأخوة والأخوات، وبنو الإخوة الأشقاء، أو لأب.(5/75)
والأولاد ومن أدلى بهم: كالبنين والبنات، وأولاد الأبناء الذكور والإناث.
2 - النكاح: وهو عقد الزوجية الصحيح، وإن لم يحصل به دخول، أو خلوة، ويتوارث به الزوجان.
ويتوارثان أيضاً في عدة الطلاق الرجعي.
هذا ولا توارث في نكاح فاسد، ولو أعقبة دخول أو خلوة: كالنكاح بغير ولي أو بغير شهود، وكذلك نكاح المتعة.
3 - الولاء: وهو في اللغة القرابة، والمراد هنا: ولاء العتاقة. وهو: عصوبة سببها نعمة المعتق على عتقيه، ويرث به المعتق ذكراً كان أو أنثى، وعصبة المعتق المتعصبون بأنفسهم.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الولاء لحمه كلحمة النسب " رواه أحمد في المسند (1/ 191، 194). هذا ولا يرث العتيق من معتقه شيئاً.
4 - الإسلام: فتصرف تركة المسلم، إذا مات وليس له وارث بالأسباب السابقة، لبيت مال المسلمين إرثاً، ودليل ذلك ما رواه أبو داود
(2956) بسند صحيح في (الخراج والإمارة)، باب (في أرزاق الذرية)، وعن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من ترك كلا فإلي، ومن ترك مالاً فلورثته، وأنا وارث من لا وارث له، أعقل عنه وأرثه ".
[كلا: عيالاً. أعقل عنه: أعطى عنه الدية، والعقل: الدية].
ومعلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يرث لنفسه شيئاً، وإنما ينفق ذلك في مصالح المسلمين، لأنهم يعقلون عن الميت، كالعصبة من القرابة، فيضع الإمام تركة الميت الذي لا وارث له، في بيت مال المسلمين، أو يخص بها من يشاء. وعلى هذا فبيت مال المسلمين، مقدم على الرد وعلى ذوي الأرحام.(5/76)
موقف المتأخرين من علماء الشافعية
من بيت المال
أفتى متأخرو الشافعية بعدم توريث بيت المال، لأن الشرط في توريثه أن يكون منتظماً، والمراد بانتظامه: أن يصرف التركة في مصارفها الشرعية.
وهو الآن غير منتظم، بل إنه ميؤوس من انتظامه حتى ينزل عيسى عليه السلام.
ولذلك حكموا بالرد على ذوي الفروض غير الزوجين، فإن لم يكن هناك من يرد عليه من أصحاب الفروض ورثوا ذوي الأرحام. وبناءً على ذلك لم يذكر كثير من علماء الفرائض بيت المال بين أسباب الميراث.
يقول الإمام أبو عبدالله محمد بن على بن محمد بن حسين الرحبي، المعروف (بابن موفق الدين)، في منظومته المسمّاة بالرَّحَيبة:
أسباب ميراث الورى ثلاثة ... كل يفيد ربه الوارثه (1) ... وهي نكاح وولاء ونسب ... ما بعدهن للمواريث سبب
موانع الإرث
تعريف المانع:
المانع في اللغة: الحائل. واصطلاحاً: ما يلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم لذاته، ومثاله: الرق، فأنه يلزم من وجوده في الشخص عدم الإرث، ولا يلزم من عدمه وجود الإرث ولا عدمه.
وموانع الإرث ثلاثة:
_________
(1) الورى: الخلق، والمراد هنا: الآدميون. ربه: صاحبه. الوارثة: الإرث.(5/77)
1 - الرق بكل أنواعه، وهو عجز حكمي يقوم بالإنسان بسبب الكفر.
وهو مانع من الجانبين، فالرقيق لا يرث، لأنه لو ورث لكان ما يرثه لسيده، وهو أجنبي من المورث.
وهو لا يورث أيضاً، لأنه لا ملك له، بل هو وما معه ملك لسيده.
غير أن المبعَّض، وهو ما بعضه حر، وبعضه رقيق، فإنه يورث عنه ما ملكه ببعضه الحر، ويكون لورثته.
2 - القتل: فلا يرث القاتل من المقتول شيئاً، سواء قتله عمداً، أو خطأ، بحق أو بغير حق، أو حكم بقتله، أو شهد عليه بما يوجب القتل، أو زكي من شهد عليه. لأن القتل: قطع الموالاة، والمولاة هي سبب الإرث.
روى أبو داود (4564) في (الديات)، باب (ديات الأعضاء)، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ليس للقاتل شئ ". أي من الميراث. وقال أيضاً: " ولا يرث القاتل ".
لكن المقتول يرث من قاتله، كما إذا جرح الولد أباه جرحاً أفضى به إلى الموت، ثم مات الولد الجارح قبل أبيه المجروح، فأن الأب يرث من الولد القاتل، لأنه لا مانع يمنعه من الميراث.
3 - اختلاف الدين بالإسلام والكفر: فلا يرث كافر مسلماً، ولا يرث مسلم كافراً، لا نقطاع الموالاة بينهما.
روى البخاري (6383) في (الفرائض)، باب (لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم)، ومسلم (1614) في أول كتاب الفرائض، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم ".
هذا، والمرتد عن الإسلام كافر، لا يرث من أحد شيئاً، ولا يرثه(5/78)
أحد، بال ماله يكون فيئاً لبيت مال المسلمين، سواء اكتسب ذلك المال في الإسلام، أم في الردّة.
أما الكفار فيتوارثون على اختلاف مللهم، فيرث نصراني من يهودي، ويهودي من مجوسي ومجوسي من وثني، وكذلك العكس في جميعهم. لأن الكفر كله ملة واحدة، في الإرث.
قال الله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 22].
لكن الفقهاء استثنوا من التوارث بين الكفار، والتوارث بين الذمي والحربي، فقالوا لا توارث بينهما، وإن كانا من ملة واحدة كيهوديين مثلاً، لا نقطاع المولاة بينهما.
قال الرحبي رحمه الله، في رحبيته:
ويمنع الشخص من الميراث ... واحدة من علل ثلاث (1)
رق وقتل واختلاف دين ... فافهم فليس الشك كاليقين (2)
الوارثون من الرجال:
الوارثون من الذكور، بالأسباب الثلاثة السابقة: النسب، والنكاح والولاء، عشرة، وهم:
1 - الابن.
2 - ابن الابن وإن سفل.
_________
(1) علل: جمع علة: وهي لغة: المرض، واصطلاحاً: ما يورث في الشخص الحرمان من الإرث بعد تحقق سببه.
(2) الشك: هو التردد بين أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر.
واليقين: هو علم الشئ بحقيقته.
والظن: هو إدراك الطرف الراجح.
والوهم: هو إدراك الطرف المرجوح.(5/79)
3 - الأب.
4 - الجد أبو الأب، وإن علا.
5 - الأخ، سواء كان شقيقاً للميت، أو كان أخاً له من أبيه فقط، أو من أمه فقط.
فإن القرآن العظيم قد نزل بتوريث الإخوة مطلقاً، وإن اختلف نصيب بعضهم عن بعض باختلاف جهاتهم.
6 - ابن الأخ الشقيق، وابن الأخ من الأب، أما ابن الأخ من الأم، فهو من ذوي الأرحام، فلا يرث بالفرض.
7 - العم الشقيق، والعم من الأب، أما العم من جهة الأم فهو أيضاُ من ذوي الأرحام.
8 - ابن العم الشقيق، وابن العم من الأب. أما ابن العم من جهة الأم فلا يرث بالفرض، بل هو من ذوي الأرحام.
9 - الزوج.
10 - المعتق، وعصبته المتعصبون بأنفسهم.
ومعلوم أنك لو أردت عد هؤلاء على طريقة البسط لوجدتهم خمسة عشر
لأن النوع الخامس يشتمل على ثلاثة أصناف، والنوع السادس يشتمل على صنفين، والنوع السابع يشتمل على صنفين، والنوع الثامن يشتمل على صنفين أيضاً.
قال الإمام الرحبي، في الرحيبة:
والوارثون من الرجال عشره ... أسماؤهم معروفة مشتهره
الابن وابن الابن مهما نزلا ... والأب والجد له وإن علا(5/80)
والأخ من أي الجهات كانا ... قد أنزل الله به القرآنا
وابن الأخ المدلى إليه بالأب ... فاسمع مقالاً ليس بالمكذب (1)
والعم وابن العم من أبيه ... فاشكر لذي الإيجاز والتنبيه (2)
والزوج والمعتق ذو الولاء ... فجملة الذكور هؤلاء
الوارثات من النساء:
الوارثات من الإناث، بالأسباب السابقة: النسب والنكاح، والولاء، سبع بالاختصار، وعشر بالبسط، وهن:
1 - البنت.
2 - بنت الابن، وإن نزل أبوها.
3 - الأم.
4 - الجدة من قبل الأم، أو الأب، وإن علت.
5 - الأخت، من أي الجهات كانت، شقيقة، أو لأب، أو لأم.
6 - الزوجة، أو الزوجات.
7 - المعتقة.
قال في الرحبية:
والوارثات من النساء سبع ... لم يعط أنثى غيرهن الشرع
بنت وبنت ابن وأم مشفقه ... وزوجة وجدة ومعتقه
والأخت من أي الجهات كانت ... فهذه عدتهن بانت (3)
الوارثون من الرجال إذا اجتمعوا جميعاً:
إذا اجتمع كل الرجال الذين مر ذكرهم عند فقد مورثهم ورث منهم
_________
(1) المدلى: المنتسب.
مقالاً: قولاً
(2) الشكر: عرفان الجميل، ونشره، والثناء عل المحسن
الإيجاز: الاختصار في كل أمر.
التنبيه: الإيقاظ.
(3) بانت: ظهرت.(5/81)
ثلاثة فقط، لأنهم لا يحجبون حجب حرمان بحال، وسقط الباقون، بالإجماع، لأنهم محجوبون.
وهؤلاء الثلاثة هم: الأب، والابن، والزوج.
الوارثات من النساء إذا اجتمعن جميعاً:
وإذا اجتمع كل النساء، فالوارثات منهن خمس فقط، وهن: البنت وبنت الابن، والأم، والأخت الشقيقة، والزوجة.
اجتماع الرجال والنساء:
وإذا اجتمع الصنفان: الذكور والإناث عند فقد مورثهم ورث خمسة منهم، وسقط الباقون، والوارثون هم: الابن، والبنت، والأب، والأم، وأحد الزوجين.
ملاحظة:
قال الفقهاء: كل من انفراد من الذكور حاز جميع التركة إلا الزوج، والأخ لأم.
وكل من انفراد من الإناث لا يحوز جميع المال إلا المعتقة.
أنواع الإرث:
الإرث نوعان: إرث بالفرض، وإرث بالتعصيب.
معنى الفرض لغة واصطلاحاً:
الفرض في اللغة يقال لمعان: منها: الحز، والقطع، والتقدير.
والفرض اصطلاحاً: هو النصيب المقدر شرعاً للوارث، ولا يزيد إلا بالردّ، ولا ينقص إلا بالعَوْل.
الفروض المقدرة في كتاب الله عز وجل:
الفروض المقدرة في كتاب الله عز وجل ستة:
النصف، والربع، والثمن، والثلثان، والثلث، والسدس.(5/82)
ويقال فيها: النصف والثلثان، ونصفهما، ونصف نصفهما.
ويقال أيضاً: الربع والثلث، وضعف كل، ونصف كل، ويقال غير هذا أيضاً.
الفرض المقدر في الاجتهاد:
لقد أثبت العلماء - اجتهاداً - زيادة على الفروض الستة المذكورة في القرآن الكريم، فرضاً سابعاً، وهو ثلث الباقي، وذلك في ميراث الجد مع الإخوة وميراث الأم مع الأب وأحد الزوجين، وسيأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.
معنى التعصيب:
التعصيب: مصدر عصب، يعصب، فهو عاصب، ويجمع العاصب على عصبة.
والعصبة لغة: قرابة الرجل لأبيه، سموا بهذا الاسم، لأنهم عصبوا به، أي أحاطوا به، وكل مل استدار حول شئ فقد عصب به، ومنه العصائب، أي العمائم.
وقيل سموا عصبة، لتقوي بعضهم ببعض، من العصب، وهو الشد والمنع.
والعصبة اصطلاحاً: هو من يأخذ كل المال إذا انفرد، أو يأخذ ما أبقاه أصحاب الفروض إذا لم ينفرد، ويسقط إذا لم يبق له شئ بعد أصحاب الفروض.
قال الإمام الرحبي في الرحبية:
واعلم بأن الإرث نوعان هما ... فرض وتعصيب على ما قسما
فالفرض في نص الكتاب سته ... لا فرض في الإرث سواها البته (1)
_________
(1) البتة: أي قطعاً. والبت: القطع.(5/83)
نصف وربع ثم نصف الربع ... والثلث والسدس بنص الشرع
والثلثان وهما التمام ... فا حفظ فكل حافظ إمام (1)
تقديم أصحاب الفروض في الإرث:
إذا اجتمع في الورثة عصبات، وأصحاب فروض، قدم في الإرث أصحاب الفروض على العصبات، عملاً بقوله عليه الصلاة والسلام: " الحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر " رواه البخاري (6351) في (الفرائض)، باب (ميراث الولد مع أبيه وأمه)، ومسلم (1651) في (الفرائض)، باب (ألحقوا الفرائض بأهلها)، كلاهما عن ابن عباس رضي الله عنه.
[الفرائض: السهام المقدرة. بأهلها: بأصحابها].
أصحاب النصف وشروط إرثهم له:
يرث النصف خمسة من أفراد الورثة، ولكل واحد منهم شروط لإرثه النصف، وهؤلاء هم:
1 - الزوج:
ويشترط لإرثه النصف من تركة زوجته شرط واحد، وهو أن لا يكون لها ولد، ولا ولد ابن، سواء كان هذا الولد منه، أو من غيره، حتى ولو كان الولد من زنى. ودليل ذلك قول الله تبارك وتعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ} [النساء: 12].
وولد الابن كالابن إجماعاً. ولفظ الولد يشمل الابن وولده، إعمالاً للفظ في حقيقته ومجازه.
2 - البنت:
ويشترط حتى ترث البنت النصف شرطان:
_________
(1) لإمام: مقدم على غيره.(5/84)
أ- أن تكون واحدة.
ب أن لا يكون معها أخ لها يعصبها.
ودليل ذلك قول الله تعالى: {وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11].
3 - بنت الابن:
وترث النصف بثلاثة شروط:
أأن تكون واحدة.
ب أن لا يكون معها أخ لها يعصبها.
ج- أن لا يكون معها أحد من ولد الميت، كابن، أو بنت.
ودليل إرث بنت الابن النصف، عند تحقق الشروط السابقة، الإجماع، قالوا: إن ولد الابن ذكراً كان أو أنثى قائم مقام الولد في الإرث.
4 - الأخت الشقيقة
وهي ترث النصف بأربعة شروط:
أعام الفرع الوارث للميت، كابن أو بنت، أو ابن ابن، أو بنت ابن.
ب عدم وجود الأصل الوارث، كالأب، والجدّ.
ج أن تكون واحدة.
د- أن لا يكون معها أخ لها يعصبها.
ودليل إرث الأخت النصف قول الله تعالى {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176].
5 - الأخت من الأب:
وتستحق النصف بخمسة شروط: الأربعة السابقة في الأخت الشقيقة، والخامس عدم وجود أخ، شقيق للميت، أو أخت شقيقة. ودليل(5/85)
إرث الأخت من الأب النصف، نفس الآية التي دلت على توريث الشقيقة النصف، لأن المقصود بالأخت في الآية، الشقيقة، أو لأب بإجماع العلماء.
قال الإمام الرحبي في أصحاب النصف:
والنصف فرض خمسة أفراد ... الزوج والأنثى من الأولاد
وبنت الابن عند فقد البنت ... والأخت في مذهب كل مفتي
وبعدها الأخت التي من الأب ... عند انفرادهن عن معصب
أصحاب الربع وشروط إرثهم له:
يستحق ربع التركة اثنان من أصناف الورثة. إذا تحققت فيهما الشروط المقررة، وهذان هما:
1 - الزوج:
ويشترط لإرثه الربع من تركة زوجته، أن يكون لها ولد، أو ولد ابن، سواء كان الولد منه، أم من غيره، وسواء كان ذكراً، أو أنثى.
ودليل ذلك قول الله تبارك وتعالى: {فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ}. [النساء: 12].
ولقد سبق وقلنا: إن ولد الابن، كالولد، في الإرث والحجب والتعصيب.
2 - الزوجة أو الزوجات:
وهي، أو هن، تستحق الربع، إذا لم يكن للزوج ولد، أو ولد ابن، منها، أو منهن، أم من غيرها، أو غيرهن.
ودليل ذلك قول الله تعالى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ} [النساء: 12].
قال في الرحبية:(5/86)
والربع فرض الزوج إن كان معه ... من ولد الزوجة من قد منعة
وهو لكل زوجة أو أكثرا ... من عدم الأولاد فيما قدرا
وذكر أولاد البنين يعتمد ... حيث اعتمدنا القول في ذكر الولد
أصحاب الثمن وشروط إرثهم له:
ويرث الثمن من تركة الميت الزوجة فقط، أو الزوجات، ويشترط لذلك أن يكون للزوج ولد، أو ولد ابن، ذكراً كان، أو أنثى، وذلك بإجماع العلماء. وبدليل قول الله تعالى: {فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم} [النساء: 12].
قال في الرحبية:
والثمن للزوجة والزوجات ... مع البنين أو مع البنات
أو مع أولاد البنين فاعلم ... ولا تظن الجمع شرطاً فاعلم
أصحاب الثلثين وشروط إرثهم له:
يرث الثلثين من الورثة أربعة أصناف، ولكل صنف منهم شروط نذكرها فيما يلي:
1 - البنتان فأكثر من أولاد الميت:
ويشترط لإرثهما الثلثين شرط واحد، وهو عدم وجود معصب لهن، وهو ابن الميت، ودليل إرثهن الثلثين قول الله تعالى: {فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11] أي اثنتين فما فوق.
وقد قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - لبنتي سعد بالثلثين من تركة أبيهما، أخرجه الترمذي (2093) في (الفرائض)، باب (ما جاء في ميراث البنات)، والحاكم
(4/ 334) في أول الفرائض.
2 - بنتا الابن، فأكثر:
وترثان الثلثين بشرطين:(5/87)
أعدم المعصب لهن.
ب عدم وجود ولد للميت ذكراً كان أو أنثى.
ودليل إرث بنات الابن الثلثين إنما هو القياس على بنات، أو دخولهما في لفظ البنات، بناءً على أن اللفظ يستعمل في حقيقته ومجازه.
3 - الأختان الشقيقتان فأكثر:
وهما ترثان الثلثين بثلاثة شروط:
أعدم المعصب لهن كأخ.
ب عدم وجود فرع وارث للميت ذكراً كان أو أنثى.
ج- عدم وجود الأصل الوارث للميت من أب أو جدّ.
ودليل إرثهن الثلثين: قول الله تعالى: {فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} [النساء: 176].
4 - الأختان لأب فأكثر:
ويرثان الثلثين بأربعة شروط، الثلاثة السابقة في الشقيقتين، والشرط الرابع عدم وجود أخ شقيق للميت أو أخت شقيقة.
ودليل إرث الأختين لأب الثلثين الإجماع، فإنه منعقد على أن الآية السابقة، إنما نزلت في الأختين الشقيقتين، والأختين لأب، دون الأخوات لأم.
روى الترمذي (2098) في الفرائض، باب (ميراث الأخوات)، عن جابر بن عبدالله قال: مرضت، فأتاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني، فوجدني قد أغمى على، فأتى ومعه أبو بكر وعمر، وهما ماشيان، فتوضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصب علي من وضوئه فأفقت، فقلت: يا رسول الله، كيف أقضي في مالي؟ أو كيف أصنع في مالي؟ فلم يجبني شيئاً، وكان له تسع أخوات، حتى نزلت آية الميراث، {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ} الآية، وتمامها {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا(5/88)
نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء: 176].
قال جابر رضي الله عنه: في نزلت.
قال في الرحبية:
والثلثان للبنات جمعا ... ما زاد عن واحدة فسمعا
وهو كذاك لبنات الابن ... فافهم مقالي فهم صافي الذهن (1)
وهو للأختين فما يزيد ... قضى به الأحرار والعبيد (2)
هذا إذا كن لأم وأب ... أو لأب فاعمل بهذا تصب
أصحاب الثلث وشروط إرثهم له:
وأصحاب الثلث صنفان من الورثة، هما:
1 - الأم:
وترث الأم الثلث بشرطين:
أعدم وجود الفرع الوارث للميت، وذكراً كان أو أنثى، مثل الابن، أو البنت، وابن الابن، وبنت الابن.
ب عدم وجود الإخوة، أو الأخوات للميت، اثنين فأكثر، أشقاء، أو لأب، أو لأم.
ودليل إرث الأم الثلث بالشروط السابقة قول الله عز وجل: {فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11].
3 - العدد من الإخوة لأم:
إخوة الميت من أمه يرثون الثلث، ماداموا أكثر من واحد، سواء كانوا
_________
(1) صافي الذهن: خالصة من كدورات الشكوك، والذهن: الفطنة، والعقل.
(2) قضى به: أفتى به.(5/89)
ذكوراً، أو إناثاً، أو مختلفين، يقسم الثلث على عدد رؤوسهم بالسوية، لا فرق بين ذكرهم وأنثاهم.
والإخوة للأم يستحقون الثلث بشرطين:
أعدم وجود الفرع الوارث للميت: كالابن والبنت، وابن الابن، وبنت الابن.
ب عدم وجود الأصل الوارث، كالأب، والجد.
ودليل إرثهم الثلث قول الله تبارك وتعالى: {فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12]. وظاهر التشريك يقتضي التسوية بينهم، كما قلنا.
هذا، ويرث الجد الثلث في بعض حالاته مع الإخوة، وسيأتي تفصيل ذلك في باب الجد والإخوة، إن شاء الله تعالى.
قال في الرحبية:
والثلث فرض الأم حيث لا ولد ... ولا من الإخوة جمع ذو عدد
كاثنين أو ثنتين أو ثلاث ... حكم الذكور فيه كالإناث
ولا ابن إبن معها أو بنته ... ففرضها الثلث كما بينته
وهو للاثنين أو ثنتين ... من ولد الأم بغير مين (1)
وهكذا إن كثروا أو زادوا ... فما لهم فيما سواه زاد (2)
وتستوي الإٌناث والذكور ... فيه كما قد أوضح المسطور (3)
أصحاب السدس وشروط إرثهم له:
يرث سدس التركة سبعة أصناف من الورثة، بشروط في كل صنف
_________
(1) بغير مين: بغير كذب.
(2) زاد: الزاد: الطعام في السفر، والمراد هنا: الشئ الزائد.
(3) المسطور: المكتوب. وهو القرآن الكريم.(5/90)
منهم:
1 - الأب:
ويرث الأب السدس بشرط واحد، وهو وجود الفرع الوارث للميت: كابنه وابنته، وابن ابنه وبنت ابنه.
لكنه مع البنت، وبنت الابن يرث السدس بالفرض، وإذا بقي شئ بعد أصحاب الفروض أخذه بالتعصيب، كما سنبينه إن شاء الله تعالى، في موضعه.
2 - الأم:
وتأخذ السدس بشرطين:
أوجود الفرع الوارث للميت، كما قلنا في الأب.
ب وجود عدد من الإخوة، كيف ما كانوا.
ودليل إرث الأب والأم للسدس بالشروط المذكورة قول الله عز وجل:
{وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11]
3 - الجد أبو الأب:
ويرث السدس بالشروط التالية:
أوجود الفرع الوارث، كما قلنا في الأب.
ب عدم وجود الأب، إذ الأب يحجبه لكونه أقرب إلى الميت منه.
ويستدل لتوريث الجد السدس بالإجماع، وبالآية التي دلت على توريث الأب السدس. إذ الجد يسمى أباً.(5/91)
4 - الجدة، أو الجدات الوارثات:
وتستحق الجدة سواء كانت من جهة الأب، أو من جهة الأم السدس، بشرط واحد، وهو أن لا يكون دونها أم.
وكذلك تستحق السدس الجدات إذا كن وارثات: فلو مات شخص وخلف جدته أم أبيه، وجدته أم أمه، استحقت الجدتان السدس، ويقتسمانه بينهما بالسويّة.
وتزيد الجدة أم الأب أنها يحجبها ابنها، وهو أبو الميت إذا كان حياً، عملاً بالقاعدة (من أدلى إلى الميت بواسطة حجبته تلك الواسطة).
ودليل توريث الجدة أو الجدات السدس ما رواه الحاكم (4/ 340) على شرط الشيخين في المستدرك، في (الفرائض)، باب (للجدتين السدس بينهما بالسوية)، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى للجدتين في الميراث بالسدس.
وروى الترمذي (2102) في (الفرائض)، باب (ما جاء في ميراث الجدة)، وغيره، عن قبيصة بن ذؤيب قال: جاءت الجدة إلى أبي بكر تسأله ميراثها، قال: فقال لها: ما لك في كتاب الله شئ، وما لك في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شئ، فارجعي حتى أسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأعطاها السدس، فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة الأنصاري فقال مثل ما قال المغيرة بن شعبة، فأنقذه لها أبو بكر، قال: ثم جاءت الجدة جاءت الجدة الأخرى إلى عمر بن الخطاب تسأله ميراثها، فقال: ما لك في كتاب الله شئ، ولكن هو ذاك السدس، فإن اجتمعتما فيه، فهو بينكما، وأيّتكما خلت به فهو لها.
هذا وقد أجمع العلماء أن للجدة السدس إذا انفردت، وإذا اجتمعن، فليس لهن إلا السدس أيضاً.(5/92)
5 - بنت الابن، فأكثر:
وترث بنت الابن، أو بنات الابن السدس إذا توفرت ثلاثة شروط:
أأن تكون، أو يكن مع البنت الواحدة، من أولاد الميت.
ب أن لا يكون للميت ولد ذكر.
ج- أن لا يكون معها أو معهن ابن ابن يعصبها، أو يعصبهن، فإذا تحققت هذه الشروط ورثت بنت الابن، أو بنات الابن السدس تكملة الثلثين.
ودليل ذلك ما رواه البخاري (6355) في (كتاب الفرائض)، باب
(ميراث ابنة ابن مع ابنة)، قال: سئل أبو موسى عن ابنة وابنة ابن وأخت، فقال: للابنة النصف، وللأخت النصف، وات ابن مسعود فسيتابعني، فسئل ابن مسعود، وأخبر بقول أبي موسى، فقال: لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين، أقضي فيها بما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم -: للابنة النصف، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت. فأتينا أبا موسى، فأخبرنا بقول ابن مسعود، فقال: (لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم).
6 - الأخت من الأب فأكثر:
ترث الأخت من الأب أو الأخوات من الأب السدس بالشروط التالية:
أأن لا يكون للميت فرع وارث، كالابن وابن الابن، وبنت الابن.
ب أن لا يكون له أصل وارث، كالأب والجد أبي الأب.
ج- أن لا يكون للميت أخ شقيق.
د- أن تكون معها شقيقة واحدة.
هـ- أن لا يكون معها أخ لأب يعصبها.
فإذا توفرت هذه الشروط ورثت الأخت من الأب، أو الأخوات من الأب السدس، ودليل هذا الحكم الإجماع، والقياس على بنات الابن مع البنت الواحدة(5/93)
7 - الأخ من الأم، أو الأخت من الأم:
كذلك يرث الأخ لأم أو الأخت لأم السدس بشرطين:
أ- أن لا يوجد معه أو معها من يحجبه أو يحجبها من أصل، أو فرع للميت. ب- أن ينفرد وحده، أو تنفرد وحدها، فإذا تعدد ورث الثلث كما سبق بيانه
قال تعالى في توريث الأخ لأم أو الأخت لأم السدس: {دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 12]
قال الإمام الرحبي في أصحاب السدس:
والسدس فرض سبعة من العدد ... أب وأم ثم بنت ابن وجد
والأخت بنت الأب ثم الجده ... وولد الأم تمام العدة (1)
فالأب يستحقه مع الولد ... وهكذا الأم بتنزيل الصمد (2)
وهكذا مع ولد الابن الذي ... ما زال يقفو إثره ويحتذى (3)
وهو لها أيضاً مع الإثنين ... من إخوة الميت فقس هذين (4)
والجد مثل الأب عند فقده ... في حوز ما يصيبه ومده (5)
وبنت الابن تأخذ السدس إذا ... كانت مع البنت مثالاً يحتذى (6)
_________
(1) العدة: مقدار ما يعد، ومبلغه.
(2) الصمد: اسم من أسماء الله تعالى، وهو لغة: السيد الذي يصمد إليه في الحوائج، أي يقصد.
(3) يقفو إثره: يتبع حكمه. وجاء في إثره: تبعه عن قرب. ويحتذي: يقتدي به.
(4) فقس هذين: أي فقس على الاثنين من الإخوة ما زاد على اثنين.
(5) في حوز ما يصيبه: في آخذ ما يخصه. ومدة: ورزقه الموسع. فهو مصدر بمعنى اسم المفعول: أي ممدوده.
(6) يحتذى: يقتدي به، ويقاس عليه.(5/94)
وهكذا الأخت مع الأخت التي ... بالأبوين يا أخي أدلت
والسدس فرض جدة في النسب ... واحدة كانت لأم أو أب
وولد تساوي نسب الجدات ... وكن كلهن وارثات
فالسدس بينهن بالسوية ... في القسمة العادلة الشرعية
أصحاب ثلث الباقي:
ويأخذ ثلث الباقي من التركة صنفان من الورثة وهما:
1 - الجد أبو الأب:
وذلك في بعض حالاته إذا مع الإخوة الأشقاء، أو الأب، ذكوراً كانوا أو إناثاً.
ويأتي هذا الموضوع مفصلاً في مكانه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
2 - الأم
وذلك في المسألتين لعمريتين، أو الغراويتين وسميتا عمرتين، لقضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيهما بثلث الباقي للأم.
وسميتا غراويتين، لشهرتهما كالكوكب الأغر.
والمسألتان العمريتان هما:
زوج ... و ... زوجة
وأم ... وأم
وأب ... وأب
فإن الزوج في المسألة الأولى يأخذ النصف، وتأخذ الأم ثلث النصف الباقي، ويأخذ الأب ما بقي.(5/95)
فإذا كانت التركة ست ليرات مثلاً أخذ الزوج ثلاثاً، والأم ليرة، والأب ليرتين.
أما في المسألة الثانية، فإن الزوجة تأخذ الربع، والأم ثلث ما بقي، والأب يأخذ الباقي. فلو كانت التركة اثنتي عشرة ليرة مثلاً، أخذت الزوجة ثلاث ليرات، والأم ثلاث ليرات أيضاً وهي ثلث الباقي، والأب ست ليرات، وهي الباقية.
ويلاحظ أن الأم أخذت في المسألة الأولى: السدس، وفي المسألة الثانية الربع، ولكن الفقهاء عبروا عن ذلك بثلث الباقي تأدباً مع القرآن الكريم، فإن الله عز وجل قال: {فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11].
والحكمة من إعطاء الأم ثلث الباقي في هاتين المسألتين: أنها لو أعطيت الثلث كاملاً لزم تفضيلها على الأب في المسألة الأولى، إذ تأخذ سهمين، وهو الثلث، ويأخذ الأب سهماً واحداً، وهو الباقي. أما في المسألة الثانية فإن الأب يفضلها قليلاً، إذ تأخذ الأم أربعة، وهو ثلث التركة، ويأخذ الأب خمسة أسهم، وهي الباقي.
والمعهود في الشريعة أن الرجل والمرأة إذا تساويا في الدرجة كان للمرأة في الميراث نصف نصيب الرجل غالباُ، كالبنت مع الابن، والأخت مع الأخ، وهكذا. وبناءً عليه، وتمشياً مع هذه القاعدة أعطيت الأم ثلث الباقي كما قضى عمر رضي الله عنه بذلك، ووافقه جمهور الصحابة.
قال الإمام الرحبي في المسألتين العمريتين:
وإن يكن زوج وأم وأب ... فثلث الباقي لها مرتب
وهكذا مع زوجة فصاعداً ... فلا تكن عن العلوم قاعداً(5/96)
الإرث بالتعصيب:
قلنا فيما سبق عند تعريف العصبة: إن العصبة، هم قرابة الرجل الذكور، سموا بذلك لإحاطتهم به، وقوته بهم.
وقلنا أيضاً: إن العصبة شرعاً: هو من يستحق كل المال إذا انفراد، ويأخذ ما أبقاه أصحاب الفروض بعد أخذهم فروضهم، وإذا لم يبق شئ بعد أصحاب الفروض سقط ولم يستحق شيئاً.
والعصبة في اللغة: جمع عاصب، لكن الفقهاء أطلقوا هذا اللفظ على الواحد، لأنه يقوم مقام الجماعة في إحراز جميع المال.
قال في الرحبية في تعريف العصبة:
فكل من أحرز كل مال ... من القرابات أو الموالي
أو كان ما يفضل بعد الفرض له ... فهو أخو العصوبة المفضلة
مشروعية الإرث بالتعصيب:
لقد دل القرآن الكريم، والسنة الشريفة على مشروعية الإرث بالتعصيب.
أما القرآن الكريم فقول الله عز وجل {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [لنساء: 11].
وقوله عز من قائل: {وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء: 11].
دلت الآيتان على أن الابن، والأخ يرثان بالتعصيب، وأن كل واحد منهما يعصب أخته.
وأما السنة الشريفة، فما رواه ابن عباس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر ".
رواه البخاري (6351) في (الفرائض)، باب (ميراث الولد مع أبيه وأمه)، ومسلم (1615) في (الفرائض)، باب (ألحقوا الفرائض بأهلها)(5/97)
فالحديث يثبت التعصيب لكل قريب من الرجال، ويدل أيضاً على أنه إذا تعددت العصبات قدم الأقرب منهم إلى الميت.
أقسام العصبة:
العصبة قسمان
عصبة نسبية، وعصبة سببية.
أما العصبة السببية:
فهم المعتق ذكراً كان أو أنثى، وعصبته المتعصبون بأنفسهم، وهم أقرباء المعتق الذكور، الذين لا يدخل في نسبهم إليه أنثى. ولن نخوض في هذا الموضوع، لأنه لم يعد له وجود في مثل أيامنا، بل أصبح موضوعاً تاريخياً، لا يحتاج إليه كثير من الناس.
العصبة النسبية:
العصبة بالنسب هم كل الذكور، الذين مر ذكرهم في بحث (الوارثون من الرجال)، ولا يستثنى منهم إلا الزوج، والأخ من الأم، فإنهما من أصحاب الفروض فقط، ولا يكونان عصبة.
فالأب، والجد، والابن، وابن الابن، والأخ الشقيق، ومن الأب، وابن الأخ الشقيق، ومن الأب، والعم الشقيق، ومن الأب، وابن العم الشقيق، ومن الأب، فهؤلاء كلهم عصبات، يرث كل واحد منهم بالتعصيب، وإن كان بعضهم يأخذ بالفرض أحياناً، كالأب والجدّ.
قال في الرحيبة عند تعداد العصبات من النسب والسبب:
كالأب والجد وجد الجد ... والإبن عند فربه والعبد
والأخ وابن الأخ والأعمام ... والسيد المعتق ذي الإنعام
وهكذا بنوهم جميعاً ... فكن لما أذكره سميعاً
أقسام العصبة النسبية:
العصبات من جهة النسب ثلاثة أقسام:(5/98)
العصبة بالنفس.
العصبة بالغير.
العصبة مع الغير.
وسنذكر كل قسم من هذه الأقسام ببحث مستقل.
1 - العصبة بالنفس:
والعصبة بالنفس، هم كل ذي نسب ليس بينه وبين الميت أنثى، ومر ذكرهم، وعددهم نثراً، وشعراً بقول صاحب الرحبية.
- جهات العصبة بالنفس:
وللعصبة بالنفس أربع جهات:
أجهة البنوّة: وهم فروع المورِّث، كالابن وابن الابن، وإن نزل.
ب جهة الأبوة: وهم أصول المورث، كالأب والجد أبي الأب.
ج- جهة الأخوة: وهم فروع أبي الميت الذين لا يدخل في نسبهم إلى الميت ... أنثى: كالأخ الشقيق والأخ لأب، وابن الأخ الشقيق وابن الأخ لأب.
د- جهة العمومة: وهم فروع جد الميت الذكور الذين لا تتوسط بينهم وبين الميت أنثى: كالعم الشقيق، والعم لأب، ابن العم الشقيق، وابن العم لأب.
قاعدة توريث العصبة بالنفس:
توريث العصبات بالنفس يرتكز على القواعد التالية:
ألا يرث فرد من أفراد الجهة المتأخرة، ما دام هناك فرد من أفراد الجهة التي قبله، فلا يرث الآباء بالتعصيب مع وجود الأبناء أو أبناء الابن، ولا يرث الإخوة مع وجود الآباء، ولا الأعمام مع وجود الإخوة.
ب إذا اتّحدت جهة القرابة، وكانوا كلهم من جهة واحدة، كالأب والجد،(5/99)
أو الابن وابن الابن، أو الأخ وابن الأخ، أو العم وابن العم، فلا يرث الأبعد مع وجود الأقرب، فلا يرث الجدّ مع وجود الأب، ولا ابن الابن مع وجود الابن وهكذا. وبعبارة أخرى لا يرث من أدلى إلى الميت بواسطة مع وجود تلك الواسطة.
ج- إذا اتحدت جهة القرابة، واستوي العصبة في الدرجة، ولكن اختلفوا في قوة القرابة من الميت، قدِّم في الإرث الأقوى على الأضعف، فالأخ الشقيق مقدم على الأخ لأب، والعم الشقيق مقدَّم على العم لأب، وهكذا.
وقد ذكر الجعبري رحمه الله هذه القواعد بقوله:
فبالجهة التقديم ثم بقربه ... وبعدهما التقديم بالقوة اجعلا
د- إذا اتحد الورثة في الجهة، والدرجة، والقوة، استحقوا جميعاً الميراث، واقتسموه بينهم بالسوية: كثلاثة أبناء، أو أربعة إخوة، وهكذا.
قال الإمام الرحبي:
وما لذي البعدى مع القريب ... في الإرث من حظ ولا نصيب
والأخ والعم لأم وأب ... أولى من المدلي بشطر النسب
2 - العصبة بالغير:
العصبة بالغير، هي كل أثنى ذات فرض إذا وجد معها أخوها، فإنها تصير عصبة به، كالبنت مع الابن، والأخت الشقيقة مع الأخ الشقيق، وهكذا
ويستثنى من هذه القاعدة أولاد الأم، فإن الأخ منهم ليس عصبة بالنفس، ولا يعصب أخته.
ويشترط في العصبة بالغير، اتحاد الدرجة وقوة القرابة، فلا تكون(5/100)
الأخت الشقيقة عصبة مع الأخ لأب، لأنها أقوى منه، ولا تكون البنت عصبة مع من ابن الابن، لأنها أقرب منه.
واستثني من قاعدة اتحاد الدرجة بنات الابن، مع ابن ابن ابن أنزل منهن، فإنه يعصبهن، في حالة واحدة، وهي ما إذا احتجن إليه، ويكون ذلك فيما إذا كان للميت بنتان، وبنات ابن، فإن البنتين تأخذان الثلثين، ولا شئ لبنات الابن، فإذا وجد في هذه الحالة بنات ابن، وابن ابن ابن فإنه يعصب بنات الابن، ويأخذ معهن ما بقي من التركة.
والعصبة بالغير محصورة في أصحاب الثلثين والنصف مع إخوتهن. وهن:
البنات مع الابن.
ب بنات الابن مع ابن الابن.
ج- الأخوات الشقيقات مع الأخ الشقيق.
د- الأخوات لأب مع الأخ لأب.
دليل العصبة بالغير:
ودليل هذا التعصيب قول الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء: 11].
وقوله تعالى: {وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء: 176].
وقاسوا بنات الابن على البنات، والأخوة رجالاً ونساءً، تشمل الأشقاء، ومن الأب.
قال في الرحبية:
والابن والأخ مع الإناث ... يعصبانهن في الميراث
3 - العصبة مع الغير:
العصبة مع الغير هي الأخت الشقيقة، أو الأخت من الأب، مع البنت، أو بنت الابن.(5/101)
فإذا ترك الميت بنتين، أختا شقيقة أو لأب، ورثت البنتان الثلثين بالفرض كما سبق، وأخذت الأخت الشقيقة، أو لأب، الثلث الباقي بالتعصيب.
ومثل هذا الأخوات الشقيقات أو لأب مع بنت الابن أو بنات الابن.
ودليل هذا التعصيب حديث ابن مسعود رضي الله عنه ' فإنه سئل عن بنت، وبنت ابن، وأخت فقال، لأقضين فيها بقضاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: للبنت النصف، ولبنت الابن السدس، وللأخت ما بقي، رواه البخاري (6355) في
(الفرائض)، باب (ميراث ابنة ابن مع ابنة).
قال الرحبي:
والأخوات إن تكن بنات ... فهن معهن معصبات
حالات الأب في الميراث:
ذكرنا الأب في الميراث بين أصحاب الفروض، كما ذكرناه أيضاً بين العصبات، لذلك كان له حالات في الميراث نذكرها فيما يلي:
الحالة الأولى: الإرث بالفرض وحده:
وهذا إذا كان للميت فرع وارث من الذكور، كالابن، أو ابن الابن.
الحالة الثانية: الإرث بالتعصيب وحده:
وذلك إذا لم يكن للميت فرع وارث أبداً، ذكراً كان، أو أنثى، كابن أو بنت، أو ابن ابن، أو بنت ابن.
ودليل الحالة الأولى قول الله تعالى: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11].
ودليل الحالة الثانية قول الله عز وجل: {فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11].(5/102)
أي ولأبيه الباقي، لأن القرآن لما سكت عن نصيب الأب، تبين أنه يأخذ ما بقي بعد نصيب الأم، وذلك بالتعصيب.
الحالة الثالثة: الجمع بين الفرض والتعصيب:
وذلك إذا كان معه من ولد الميت أنثى وارثة، كبنت الميت، أو بنت ابنه، واحدة كانت، أو أكثر. فإنه يأخذ السدس بالفرض أولا، ثم يأخذ الباقي بالتعصيب، إن بقي بعد الفروض شئ.
ودليل ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي، فهو لأولى رجل ذكر ". رواه البخاري (6351) في (الفرائض)، باب (ميراث الولد مع أبيه وأمه)، ومسلم (1615) في (الفرائض)، باب (ألحقوا الفرائض بأهلها).
الأب في مسألتنا أقرب رجل ذكر، حيث يأخذ السدس أولاً بالفرض، تأخذ الأنثى من ولد الميت نصيبها، ويأخذ الأب ثانية الباقي بالتعصيب.
حالات الجد في الميراث:
ذكرنا أيضاً الجد بين أصحاب الفروض، كما ذكرناه مع العصبات لذلك كان له نفس حالات الأب، فهو يرث بالفرض وحده، كما يرث بالتعصيب وحده، ويجمع بين الفرض والتعصيب كالأب تماماً، لكنه يخالف الأب في بعض الحالات.
الحالات التي يخالف فيها الجد الأب:
يختلف الجد عن الأب في الميراث في الحالات الثلاث التالية:
الأولى: وهي ما إذا كان مع الجد أخوة للميت، أشقاء، أو الأب، ذكوراً، أم إناثاً، فإن الأب يحجبهم جميعاً، أما الجدّ، فإنه يشاركهم في الميراث، على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.(5/103)
الثانية: في المسألتين العمريتين، فإنه لو كان مكان الأب جد، فإن الأم تأخذ ثلث المال كاملاً، لا ثلث الباقي، كما تأخذ مع الأب.
الثالثة: وهي أن الأب يحجب أم نفسه، والجد لا يحجبها.
فلو كان للميت أب، وجدّة هي أم الأب، فإن هذه الجدّة محجوبة من الميراث بالأب، ولا يحجبها الجد، لأنها لم تدل به إلى الميت.
نعم هو كالأب، في انه يحجب أم نفسه، لأنها تدلى به، كما أدلت أم الأب بالأب. والله أعلم.(5/104)
الحَجبُ
تعريف الحجب:
الحجب لغة: المنع، تقول حجبه إذا منعه من الدخول، ومنه: حاجب الملك، لمنعه الناس من الدخول عليه.
والمحجوب، والممنوع، ومنه قول الله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15]. والحجب شرعاً: منع من قام به سبب الإرث من الإرث بالكلية، أو من أوفر حظية.
وبناء على هذا التعريف، فإن منع من لم يقم به سبب الإرث من الإرث لا يسمى حجباً اصطلاحاً.
أقسام الحجب:
ينقسم الحجب إلى قسمين: حجب بالأوصاف، وحجب بالأشخاص.
1 - الحجب بالأوصاف:
الحجب بالأوصاف، ويعني منع من قام به سبب الإرث، من الإرث بالكلية، بسبب وصف قام به فمنعه من الإرث.
والأوصاف التي تمنع من الإرث، وهي تلك الأوصاف التي مرّ ذكرها(5/105)
في بحث موانع الميراث، وهي: الرِّقّ، والقتل، والكفر، وقد سبقت مستوفاة بأدلتها، ويسمى المحجوب بالوصف، محروماً.
2 - الحجب بالأشخاص:
الحجب بالأشخاص يعني شخص من الميراث أو من بعضه لقيام شخص أقرب منه إلى الميت.
أقسام الحجب بالأشخاص:
الحجب بالأشخاص قسمان: حجب حرمان، وحجب نقصان.
1 - حجب الحرمان:
حجب الحرمان: هو منع الشخص من الميراث بالكلية، مثل حجب ابن الابن بالابن.
2 - حجب النقصان:
وحجب النقصان: هو منع الشخص من أوفر حظيه. مثل حجب الزوج من النصف على الربع، لوجود ولد للزوجة.
الأشخاص الذين لا يحجبون حجب حرمان:
لا يحجب حجب حرمان ستة من الورثة، وهم: الأب، والأم، والابن، والبنت، والزوج، والزوجة.
ومن عدا هؤلاء فإنهم يحجبون حجب حرمان.
من يحجب حجب حرمان من الورثة؟
قلنا: إن من عدا الستة الذين ذكرناهم من الورثة يحجبون حجب حرمان، وإليك بيان حجبهم:
1 - الجد، وهو محجوب عن الميراث بالأب مطلقاً، أي سواء كان هذا الجد وإرثاً بالفرض، أو بالتعصيب، أو بهما. وذلك أن الأب أقرب إلى الميت، من الجد، والجد إنما أدلى إلى الميت بالأب، ومن أدلى إلى الميت بواسطة حجبته تلك الواسطة.(5/106)
2 - الجدة، فإنها تحجب بالأم، سواء كانت جدة من جهة الأب، أو جدة من قبل الأم.
أضف إلى ذلك أن الجدة أم الأب تحجب أيضاً بالأب، لأنها أدلت إلى الميت به.
3 - الجدة البعيدة من جهة الأب، إذا كان للميت جدتان، وقد اختلف نسبهما من حيث الجهة، والدرجة، وذلك بأن كانت إحداهما من جهة الأب، والأخرى من جهة الأم، وكانت إحداهما أقرب إلى الميت من الأخرى، كأم أم، وأم أم أب، فإن القريبة من جهة الأم تحجب البعيدة من جهة الأب قطعاً، وتأخذ السدس وحدها، لأن لها قوتين، قرب الدرجة، وكونها من جهة الأم، لأن الأم هي الأصل، والجدّات فرع لها.
وإن كانت الجدة من جهة الأب، هي القريبة، والتي من جهة الأم هي بعيدة: كأم أب، وأم أم أم، فإن الأظهر في مذهب الشافعي أنها لا تحجبها، بل ترثان معاً السدس، لأن الأب لا يحجبها في هذه الحالة، فالجدّة التي تدلي به أولى أن لا تحجبها.
قال في الرحيبة:
وإن تكن قربي لأم حجبت ... أم أب بعدى وسدساً سلبت
وإن تكن بالعكس فالقولان ... في كتب أهل العلم منصوبان
لا تسقط البعدى على الصحيح ... واتفق الجل على التصحيح (1)
4 - ولد الابن، ويحجب أولاد الابن ذكوراً كانوا أم أناثاً، بالابن، سواء كان أباهم، أو عماً لهم، لإدلائهم به، أو لأنه عصبة أقرب منهم. وهذا حكم مجمع عليه بين العلماء.
_________
(1) الجل: المعظم من أصحاب الشافعي رحمه الله تعالى.(5/107)
وهكذا كل ولد ابن، يحجب من هو أبعد منه. وتزيد بنات الابن أنهن يحجبن بالبنتين إلا إذا كان معهن من يعصبهن من أبناء الابن سواء كان في درجتهن، أو هو أسفل منهنّ.
5 - الإخوة والأخوات من كل الجهات، ويحجب الإخوة والأخوات سواء كانوا من الأبوين، أو من الأب، أم من الأم:
أبالأب.
ب والابن.
ج- وابن الابن.
وهذا حكم ثابت بإجماع العلماء، لأن جهة البنوة والأبوة مقدمة على جهة الأخوة.
ويستثنى من هذا الجدّ، فإنه لا يحجب الأخوة الأشقاء والأخوات الشقيقات، وكذلك الأخوة لأب، والأخوات لأب، بل يرث وإياهم، لكونهم سواء في القرب إلى الميت، وهم أيضاً لم يدلوا به إلى الميت.
وهذا ويزيد الأخوة لأب، والأخوات لأب أنهم يحجبون أيضاً بالأخ الشقيق، وبالأخت الشقيقة إذا كانت مع البنت أو بنت الابن، لأنها تصير عصبة مع الغير، وتصبح كالأخ الشقيق.
والأخوات لأب يحجبن أيضاً، بالأختين الشقيقتين، إلا إذا كان معهن أخ لأب، فإنه يعصبهن ويرثن معه.
أما الأخ لأم، فإنه يحجب، إضافة إلى الأب، والابن، وابن الابن
أبالبنت.
ب وبنت الابن(5/108)
ج- والجد.
وكل هذا بالإجماع.
أما الأم فلا تحجب الأخ لأم، وإن أدلى بها، لأن شرط حجب المدلي بالمدلي به: إما اتحاد جهتهما، كجدّ مع الأب، والجدّة مع الأم، أو استحقاق المدلي به كل التركة لو انفرد، كالأخ من الأم يرث بالأخوة، والأم لا تستحق جميع التركة إذا انفردت، بل تأخذ الثلث فقط.
6 - أبناء الإخوة الأشقاء أو الأب، وأبناء الأخوة سواء كانوا أشقاء، أو لأب فإنهم يحجبون:
أ- بالأب، لأنه يحجب آباءهم، فحجبه لهم أولى.
ب- الجد، لأنه في درجة آبائهم.
ج- الابن، لأنه يحجب آباءهم فحجبه لهم أولى.
د- ابن الابن، كذلك.
هـ- الأخ الشقيق، لكونه أقرب منهم.
والأخ لأب، أيضاً لكونه أقرب منهم.
وابن الأخ لأب يزيد على هذا أنه يحجبه ابن الأخ الشقيق، لكونه أقوى منه.
أما أولاد الإخوة من الأم، فإنهم من ذوي الأرحام، لا يرثون بالفرض.
7 - العم الشقيق، أو الأب، والأعمام الأشقاء أو الأب يحجبهم:
أ - الأب.
ب- الجد.
ج- الابن.(5/109)
د- ابن الابن وإن سفل.
هـ- الأخ الشقيق.
والأخ لأب.
ز- ابن الأخ الشقيق.
ح- ابن الأخ لأب.
ط- الأخت الشقيقة، إذا كانت مع البنت أو بنت الابن، لأنها عصبة مع ... الغير، بمنزلة الأخ الشقيق.
ي- الأخت لأب، إذا كانت أيضاً مع البنت أو بنت الابن، لكونها عصبة ... مع الغير، كما قلنا في الأخت الشقيقة.
8 - أولاد العم أشقاء كانوا أو لأب، فإنهم يحجبون بكل من ذكرنا، وزيارة على ذلك:
أ- العم، سواء كان شقيقاً، أو لأب، وابن العم لأب يحجبه أيضاً ابن ... العم الشقيق.
قال الإمام الرحبي في الرحبية:
والجد محجوب عن الميراث ... بالأب في أحواله الثلاث
وتسقط الجدات من كل جهة ... بالأم فافهمه وقس ما أشبهه
وهكذا ابن الإبن بالإبن فلا ... تبغ عن الحكم الصحيح معدلا (1)
وتسقط الإخوة بالبنينا ... وبالأب الأدنى كما روينا
وببني البنين كيف كانوا ... سيان فيه الجمع والوحدان (2)
ويفضل ابن الأم بالإسقاط ... بالجد فافهمه على احتياط (3)
وبالبنات وبنات الإبن ... جمعاً ووحداناً فقل لي زدني
_________
(1) معدلاً: ميلاً
(2) سيان: سواء
(3) احتياط: تثبيت.(5/110)
ثم بنات الإبن يسقطن متى ... حاز البنات الثلثين يا فتى
إلا إذا عصبن الذكر ... من ولد الابن على ما ذكروا
ومثلهن الأخوات اللاتي ... يدلين بالقرب من الجهات
إذا أخذن فرضهن وافياً ... أسقطن أولاد الأب البواكيا (1)
وإن يكن أخ لهن حاضراً ... عصبهن باطناً وظاهراً
ابن الأخ لا يعصب أحداً
ومما ينبغي أن يعلم أن ابن الأخ لا يعصب أخته، سواء كان ابن أخ شقيق، أو ابن أخ لأب، لأن بنت الأخ ليست من الوارثات بالفرض، فلا ترث أيضاً بالتعصيب، بل هي من ذوات الأرحام.
قال في الرحبية:
وليس ابن الأخ بالمعصب ... من مثله أو فوقه بالنسب
الأشخاص الذين يحجبون حجب نقصان:
حجب النقصان يصيب كل الورثة:
فالزوج يحجب من النصف إلى الربع لوجود الولد. والزوجة تحجب من الربع إلى الثمن لوجود الولد أيضاً، والأم تحجب من الثلث إلى السدس لوجود الولد، أو العدد من الإخوة.
وبنت الابن تحجب مع البنت من النصف إلى السدس، والأخت لأب تحجب من النصف إلى السدس مع الأخت الشقيقة، والابن يحجب نقصاناً بمزاحمة ابن آخر له، وهكذا باقي الورثة.
المحجوب حجب حرمان يحجب غيره نقصاناً:
ومما ينبغي أن يُعلم أن المحجوب حجب حرمان يعد بالنسبة لغيره كأنه موجود، ويحجب غيره حجب نقصان. فلو ترك الميت جداً، وأماً،
_________
(1) وافياً: كاملاً(5/111)
وأخوين لأم فإن الأخوين لأم محجوبان بالجد، ومع ذلك، فإنهما يحجبان الأم من الثلث إلى السدس.
ومثل ذلك لو مات عن أخ شقيق، وأخ لأب وأم، فإن الأم تأخذ السدس، لوجود عدد من الإخوة، ولو كان الأخ لأب محجوباً بالأخ الشقيق.
المحجوب بالوصف وجوده كعدمه:
أما المحجوب بالوصف، كالقاتل، أو الكافر، أو الرقيق، فإنه لا يحجب أحداً حجب حرمان، ولا حجب نقصان، بل وجوده وعدم وجوده سواء.
فلو كان للميت ابن قاتل وأم، فإن الأم تأخذ الثلث، مع وجود هذا الابن القاتل، لأنه محروم من الميراث، ولذلك لا يحجب أحداً.
المسألة المشرَّكة
المشركة بفتح الراء، وقيل بكسرها، وقيل فيها المشتركة.
سميت بهذا الاسم، لما فيها من التشريك بين الإخوة الأشقاء والإخوة للأم في فرض واحد، وهو الثلث، كما سيأتي بيانه.
وأركان هذه المسألة: أربعة:
زوج، أم - أو جدة -، أخوة لأم - اثنان فأكثر، ذكور، أو إناث، أو مختلفون - أخ شقيق، فأكثر، ولو كان معه أخت شقيقة، أو أكثر. ومقتضى القواعد التي مر ذكرها، في بحث أصحاب الفروض، وفي بحث العصبات:
أن يأخذ الزوج نصف التركة.
وتأخذ الأم سدس التركة.
ويأخذ أولاد الأم ثلث التركة.(5/112)
والأخ الشقيق عصبة حسب القواعد المعروفة.
وواضح أن أصحاب الفروض قد استغرقوا التركة بفروضهم، ولم يبق للشقيق شئ من التركة، يستحقه بالتعصيب. فالقاعدة أنه يسقط، لأنه لم يبق شئ من التركة، ولقد مر وذكرنا في تعريف العصبة: أنه يأخذ كل المال إذا انفراد، ويأخذ ما أبقت الفروض إذا لم ينفرد، وإذا لم يبق شئ بعد أصحاب الفروض سقط، وبهذا قضى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لما عرضت عليه هذه المسألة.
لكن الورثة راجعوا معترضين، وقالوا له: يا أمير المؤمنين هبْ أن أبانا كان حجراً ملقى في اليم، أليست أمنا نحن الإخوة واحدة. وقيل إن الذي قال ذلك لعمر رضي الله عنه هو زيد بن ثابت رضي الله عنه، فقنع عمر بهذا القول، وقضى بالتشريك بين الإخوة الأشقاء، والإخوة للأم في ثلث التركة، وقسمة عليهم بالسوية كأنهم جميعاً إخوة لأم فقط. ووافق عمر رضي الله عنه جماعة من الصحابة، منهم زيد بن ثابت رضي الله عنه وبهذا المذهب أخذ الإمام الشافعي رضي الله عنه، وهو كما ترى مذهب مقبول يقول به العقل، وتقتضيه العدالة.
ولقد أطلق على هذه المسألة اسم اليمية والحجرية أيضاً، لقول الورثة: هب أن أبانا كان حجراً ملقى في اليم.
قال في الرحبية:
وإن تجد زوجاً وأما ورثا ... وإخوة للأم حازوا الثلثا (1)
وإخوة أيضاً لأم وأب ... واستغرقوا المال بفرض النصب (2)
فاجعلهم كلهم لأم ... واجعل أباهم حجراً في اليم (3)
_________
(1) حازوا: ضموا وأخذوا.
(2) النصب: جمع نصيب. أي بالنصيب المفروض لهم.
(3) اليم: البحر.(5/113)
واقسم على الإخوة ثلث التركة ... فهذه المسألة المشتركة
ميراث الجد والإخوة:
لقد مر معنا سابقاً حكم الجد، إذا كان منفرداً عن الإخوة الأشقاء، والأخوات الشقيقات، وعن الإخوة من الأب، والأخوات من الأب.
كما مر معنا أيضاً حكم الإخوة، إذا لم يكن معهم الجد.
وهنا نذكر حكم الجد والإخوة في الميراث، في حالة الاجتماع.
إن الجد والإخوة، مجتمعين لم يرد في حكمهم نص من الكتاب، ولا من السنة. وإنما ثبت حكمهم باجتهاد الصحابة رضي الله عنهم.
لذلك اختلفت أقوال الصحابة فيهم، وتبعهم في هذا الخلاف أصحاب المذاهب رحمهم الله.
ولقد كان الصحابة رضي الله عنهم يتهيبون الفتيا في ميراث الجد والإخوة، ويتوقون القول فيه.
روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه قال: (من سره أن يقتحم جراثيم جهنم، فليقض بين الجد والإخوة).
[يقتحم: يدخل. جراثيم جهنم: أصول جهنم، وجرثومة الشئ: أصله].
وروي عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (سلونا عن عضلكم، واتركونا من الجد، لا حياة الله ولا بياه).
[عضلكم: مشكلات أموركم، جمع عضلة. لا حياة الله: لا ملكه لا بياه: لا أبقاء، ولا اعتمده].
والغرض من ذلك: التضجر من صعوبة حكمه، لا حقيقة الدعاء عليه.(5/114)
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: بعد أن طعنه أبو لؤلؤة، وحضرته الوفاة: (أحفظوا عني ثلاثة أشياء: لا أقول في الجد شيئاً، ولا أقول في الكلالة شيئاً، ولا أولي عليكم أحداً).
وأما نحن فلن نخوض في حكم الجد والإخوة مجتهدين، ولا مقتحمين، وإنما نقول ذلك، متبعين مذهب الإمام الشافعي رحمة الله تعالى عليه، وما تقرر عند علماء مذهبه رحمهم الله تعالى أجمعين.
فنقول وبالله التوفيق:
حالات الجد مع الإخوة في الميراث:
للجد مع الإخوة الأشقاء، أو لأب، ذكوراً كانوا أو إناثاً حالتان:
الحالة الأولى:
أن لا يكون معه ومعهم صاحب فرض، كزوجة، وبنت، أو زوج، وجدة، مثلاً.
الحالة الثانية:
أن يكون معهم صاحب فرض، كزوجة، وبنت، ونحوهما.
أحكام الحالة الأولى:
للجد في هذه الحالة، مع الإخوة حكمان، يأخذ بالأفضل له منهما.
الأول: ثلث جميع التركة، إذا كان خيراً له.
الثاني: المقاسمة، إذا كان ذلك خيراً له من ثلث المال
والجد يقاسم الإخوة، كأخ ذكر، ويأخذ معهم مثل حظ الأنثيين. وهذا إذا كانوا أشقاء، أو لأب، ذكروا، أو إناثاً.
أما الإخوة من الأم فلا حظ لهم مع الجد في الميراث، بل يحجبهم، وقد مر بيان ذلك في موضوع الحجب.(5/115)
أفضلية المقاسمة للجد:
وتكون المقاسمة أفضل للجد، وأنفع له من الثلث، وذلك فيما إذا كان الإخوة أقل من مثليه، ويصدق هذا في صور، هي:
1 - جد، وأخ، فنصب المال له: ونصفه للأخ.
2 - جد وأخت: له الثلثان، ولها الثلث.
3 - جد وأختان: له النصف، وللأختين النصف.
4 - جد وثلاث أخوات: له خمسان، ولكل واحدة من الأخوات خمس
5 - جد وأخ وأخت: للجد سهمان، وللأخ سهمان، وللأخت سهم واحد.
أفضلية الثلث للجدّ:
ويكون ثلث التركة أفضل للجد، وأنفع له من المقاسمة، إذا كان الإخوة أكثر من مثليه.
ولهذا الحالة صور كثيرة منها:
1 - جد، وثلاثة إخوة، فلو أخذ بالمقاسمة، لكن حظه ربع التركة، وهو أقل من الثلث، فيأخذ الثلث، لأنه أنفع له.
2 - جد وأخ وثلاث أخوات، وكذلك في هذه الصورة يكون الثلث أنفع له، لأنه لو أخذ بالمقاسمة لكان له سبعان من التركة، والثلث أكثر منهما.
3 - جد وخمس أخوات، فالثلث هنا أيضاً أنفع من المقاسمة.
والصور في هذا الحكم كثيرة غير منحصرة.
استواء المقاسمة وثلث التركة:
وهذا إنما يكون حيثما يكون الأخوة مثلي الجد، ويصح هذا في ثلاث صور فقط:
1 - جد وأخوان، فلو أخذ بالقاسمة لكان له ثلث التركة، ولو أخذ بالفرض لأخذ الثلث أيضاً.(5/116)
2 - جد وأربع أخوات، أيضاً في هذه الصورة يستوي ثلث المال مع المقاسمة.
3 - جد وأخ وأختان، للجد في المقاسمة سهمان، وثلث المال سهمان أيضاً، فالمقاسمة إذا وثلث المال سيان.
وحين يستوي ثلث المال مع المقاسمة، فالأولى أن يأخذ الثلث بالفرض، لقوة الفرض وتقديمه على العصبة في الميراث. وقيل يرث بالمقاسمة، وقيل يتخير المفتي فيورثه بأيهما شاء.
أحكام الحالة الثانية:
وهي كما قلنا إذا كان مع الجد والأخوة صاحب فرض، وللجد في هذه الحالة: ثلاثة أحكام، يأخذ منها بالأفضل له:
الأول: المقاسمة، إذا كانت أنفع له.
الثاني: ثلث الباقي بعد فرض صاحب الفرض وذلك إذا كان أنفع له.
الثلث: سدس التركة، إذا كان أفضل له من المقاسمة وثلث الباقي. ولا ينزل نصيب الجد عن السدس ولو اسماً، لا حقيقة.
صورة المقاسمة:
زوج، وجد، وأخ.
فللزوج النصف، ويبقى بعده نصف التركة، فيأخذه الأخ والجد بالتساوي، ويكون نصيب كل واحد منهما ربع التركة، ومعلوم في هذه الصورة أن المقاسمة أنفع للجد من ثلث الباقي بعد فرض الزوج، وأنفع أيضاً من سدس جميع التركة.
ولو كان مكان الزوج، زوجة، ومكان الأخ أختين، لكانت المقاسمة أنفع للجد أيضاًُ من ثلث الباقي، ومن سدس المال.(5/117)
صورة ثلث الباقي:
أم، جد، خمسة إخوة.
وفي هذه المسألة يتضح أن ثلث الباقي بعد فرض الأم أنفع للجد، لأن الأم إذا أخذت سدساً، وهو فرضها، أي سهم واحد، لبقي خمسة أسهم، فلو أخذ الجد بالمقاسمة لكان له أقل من سهم، ولو أخذ السدس، كان له سهم واحد، لكنه إذا أخذ ثلث الباقي كان له سهم وثلثاً سهم، وواضح أنه أنفع للجدّ وأحسن.
صورة السدس:
زوج، أم، جد، أخوان.
ومعلوم هنا في هذه الصورة أن سدس التركة أنفع للجد وأكثر من المقاسمة، ومن ثلث الباقي.
فالزوج له في هذه الصورة نصف التركة، والأم لها السدس، والباقي بعد فرض الزوج والأم هو الثلث، فلو ورث الجد بالمقاسمة لكان له ثلث الثلث، ولو ورث ثلث الباقي لكان له أيضاً ثلث الثلث، ونصيبه في الحالتين يكون أقل من السدس، ولذلك يفرض له السدس، ويبقى السدس الباقي بين الأخوين لكل واحد منهما نصف السدس.
صورة استواء المقاسمة وثلث الباقي:
بالإضافة إلى الصورة السابقة، يمكن أن تستوي بالنسبة للجد المقاسمة وثلث الباقي في الصورة التالية أيضاً، وهي: أم، جد، أخوان.
فللأم السدس، وللجد ثلث الباقي، وللأخوين الباقي. فلو فرضنا التركة ثمانية عشر، لكان نصيب الأم ثلاثة أسهم، والباقي خمسة عشر سهماً، فلو أعطينا الجد ثلثها لكان نصيبه خمسة أسهم، ولو أعطيناه بالمقاسمة لكان أيضاً خمسة أسهم، فهنا إذاً يستوي في هذه الصورة بالنسبة للجد المقاسمة وثلث الباقي(5/118)
صورة استواء المقاسمة والسدس:
زوج، جدة، جد، أخ.
فللزوج النصف، وللجدة السدس، والباقي بعد فرضهما ثلث التركة، وهو سهمان من ستة أسهم، فلو أعطيناه بالمقاسمة، لكان نصيبه سهماً وللأخ سهم، ولو أعطيناه سدس التركة، لكان نصيبه سهماً أيضاً، فاستوي إذا السدس والمقاسمة.
صورة استواء السدس وثلث الباقي:
زوج، جد، ثلاثة أخوة.
فللزوج النصف، والباقي بعد فرضه النصف، فلو فرضنا المسألة من ستة، كان نصيب الزوج ثلاثة، والباقي ثلاثة، فلو أعطينا الجد السدس، لكان نصيبه واحداً، ولو أعطيناه ثلث الباقي، لكان نصيبه واحداً أيضاً، فاستوي بالنسبة له في هذه الصورة السدس وثلث الباقي كما هو واضح.
صورة استواء السدس وثلث الباقي والمقاسمة:
زوج، جد، أخوان.
فللزوج النصف، وللجد من الأخوين النصف الآخر، فلو أعطينا الجد بالمقاسمة لكان نصيبه واحداُ، لو فرضنا المسألة من ستة أسهم، ولو أعطيناه السدس لكان نصيبه أيضاً واحداً، ولو أعطيناه ثلث الباقي لأخذ واحداً أيضاً.
الجد لا ينزل عن السدس:
لقد قلنا سابقاً إن الجد مع الإخوة لا ينزل نصيبه عن السدس، فلو أنه لم يبق بعد أصحاب الفروض إلا السدس لأخذه الجد، وسقط الإخوة. وصورة ذلك: بنتان، أم، جد، أخ.
ففي هذه الصورة تأخذ البنتان الثلثين، وتأخذ الأم السدس، ويأخذ الجد السدس الباقي، ويسقط الأخ.(5/119)
ولو بقي بعد أصحاب الفروض أقل من السدس، أخذ الجد أيضاً السدس اسماً، وتعول المسألة، وصورة ذلك:
زوج، بنتان، جد، أخ.
فللزوج الربع، وللبنتين الثلثان، ويبقى بعدهما أقل من السدس، فيأخذ الجد سدسه عائلاً، كما يأخذ كل واحد من أصحاب الفروض فرضه عائلاً. والعول سيأتي معنا إن شاء الله تعالى.
وهو زيادة في سهام أصل المسألة، ولكن يلزم منه نقص في نصيب كل وارث.
فإذا لم يبق شئ من التركة بعد أصحاب الفروض، فرض أيضاً للجد سدس التركة، وتعول المسألة، ويسقط الأخ.
وصورة ذلك: بنتان، زوج، أم، جد، أخ.
وللبنتين الثلثان، وللزوج الربع، وللأم السدس، وللجد السدس، وليس للأخ شئ، والمٍسألة أيضاً عائلة، فيأخذ كل وارث نصيبه من المسألة عائلاً أيضاً.
اختلاف الجد عن الإخوة:
قلنا فيما سبق: إن الجد مع الإخوة أشقاء أو الأب ذكوراً وإناثاً يعتبر كأخ في الحكم، ويعصب الإناث، ويأخذ مثل حظ الأثنيين إذا كان ذلك خيراً له. لكنه يخالف الأخوة في حالة واحدة، وهي ما إذا كان معه أم وأخ، فإن الأم هذه الصورة تأخذ ثلث التركة، لا سدسها، كما لو كان بدل الجد أخ.
فالأخوان يحجبان الأم من الثلث إلى السدس، ولا يحجبها من الثلث إلى السدس جد وأخ، فالجد إذا في هذه الصورة، لا يشبه الأخ، بل يختلف عنه.(5/120)
وكذلك: زوجة، وأم، وجد، وأخت.
تأخذ الزوجة الربع، والأم الثلث كاملاً، والباقي يأخذه الجد والأخت مقاسمة للذكر مثل حظ الأثنيين.
اجتماع الإخوة الأشقاء والإخوة لأب مع الجد:
قد يجتمع في المسألة مع الجد، أخوة أشقاء، وأخوة لأب، سواء كان معهم صاحب فرض، أو لم يكن. فالحكم في هذه الحالة: أن يعد الإخوة الأشقاء إلى جانبهم الإخوة لأب، لينقصوا بذلك نصيب الجد، ثم يعود الأشقاء إلى الإخوة لأب، فيحجبونهم، كما لو لما يكن معهم جد، وتسمى هذه المسائل، بمسائل المعادة.
ومثال ذلك: جد، أخ شقيق، أخ لأب.
فالأخ الشقيق، يعد إلى جانبه الأخ الأب، فينقص بذلك نصيب الجد من النصف بالمقاسمة إلى الثلث. ثم يحجب الأخ الشقيق الأخ لأب، لقوته ويأخذ نصيبه.
ومثل تلك الصورة، صورة ما إذا كان في المسألة مع الجد والأخوة صاحب فرض، وصورة ذلك: جد، وزوجة، وأخ شقيق، وأخ لأب.
فللزوجة الربع، ويعد الأخ الشقيق الأخ لأب على الجد، فيأخذ الجد ثلث الباقي، لا ستوائه مع المقاسمة، ويأخذ الباقي الأخ الشقيق، ولا شئ للأخ لأب
وإذا كان مع الجد أخت شقيقة، أو أخوات شقيقات، أخوة أو أخوات لأب، فالحكم كذلك، أن الشقيقة، أو الشقيقات، وتعد الأخوة والأخوات لأب على الجد.
لكن الأمر يختلف هنا عما سبق أن الأخت الشقيقة تأخذ إلى النصف، والأخوات الشقيقات يأخذن إلى الثلثين، فإن بقي بعد ذلك شيء(5/121)
أخذه الإخوة لأب، وإذا لم يبق سقط الأخوة لأب، سواء كانوا ذكوراً، أو إناثاً.
مثال ما إذا لم يبق بعد الشقيقات شئ للأخوة لأب: جد، أختان شقيقتان، أخ لأب.
للجد في هذه المسألة ثلث المال، وهو يستوي مع المقاسمة، ويبقى الثلثان، تأخذهما الشقيقتان، ويسقط الأخ للأب، لأنه لم يبق له شئ.
مثال آخر: زوجة، جد، أخت شقيقة، أخوان لأب.
وللزوجة في هذه المسألة الربع، والأحظ للجد فيها ثلث الباقي، فيبقى بعد الربع وثلث الباقي نصف المال، فتأخذه الشقيقة، ولا شئ للأخوين للأب.
وإذا بقي للشقيقة بعد نصيب الجد، أقل من نصف التركة، أخذته، ولا شئ لها.
مثال ذلك: زوج، جد، أخت شقيقة، أخوان لأب.
للزوج هنا النصف، وإذا عدت الأخت الشقيقة الأخوين لأب على الجد، كان الأحظ للجد السدس، أو ثلث الباقي، ويبقى بعد النصف، والسدس ثلث المال، فتأخذه الشقيقة، وهو اقل من النصف، أما الأخوان لأب، فيسقطان، لأنه لم يبق لهما شئ من التركة.
هذا، وقد يبقى للأخوة للأب شئ، بعد نصيب الشقيقة، أو الشقيقات، فيأخذونه.
مثال ذلك: الزيديات الأربع نسبة لزيد بن ثابت رضي الله عنه: وهي:
الأولى: وتسمي المسألة العشرية، لصحتها من عشرة:
جد، أخت شقيقة، أخ لأب.(5/122)
والأحظ للجد في هذه المسألة المقاسمة، فيأخذ سهمين، والأخ للأب يأخذ أيضاً سهمين، وتأخذ الشقيقة سهماً، لكن الشقيقة ترجع إلى الأخ لأب، وتسلبه نصيبه بعد أن عدته على الجد، ولا تبقي له منه إلا ما فضل عن نصف التركة.
فإذا فرضنا التركة عشرة، أخذ الجد أربعة أسهم، والشقيقة خمسة أسهم، وهي النصف، وبقي للأخ لأب سهم واحد، بعد نصف الشقيقة، فيأخذه.
الثانية: المسألة العشرينية، لصحتها من عشرين. وهي:
جد، وأخت شقيقة، وأختان لأب.
وفي هذه المسألة، المقاسمة خير للجد، فيأخذ به. والأخت الشقيقة بعد عد الأختين لأب على الجد تأخذ النصف والباقي للأختين للأب، فلو فرضنا المسألة من عشرين، لكان نصيب الجد ثمانية أسهم، ونصيب الشقيقة عشرة أسهم، ويبقى سهمان، لكل أخت من الأب سهم واحد.
الثالثة: وتسمى مختصرة زيد، وهي:
أم، جد، أخت شقيقة، أخ لأب، أخت لأب.
فالأم تأخذ سدس المال، لوجود عدد من الأخوة، والجد يستوي في حقه المقاسمة، وثلث الباقي بعد نصيب الأم، فيأخذ ثلث الباقي، وتعد الشقيقة الأخ والأخت للأب على الجد، ثم تأخذ النصف، والباقي للأخ والأخت للأب: للذكر مثل حظ الأنثيين.
فلو فرضا المسألة (54) سهماً، لكان نصيب الأم (9) أسهم، وهي السدس، ونصيب الجد (15) سهماً، وهي ثلث(5/123)
الباقي، ونصيب الشقيقة بعد عد الأخ لأب والأخت لأب (27) سهماً هي نصف التركة، ويبقى بعد نصيب الأم، والجد، والشقيقة، (3) أسهم، للأخ لأب سهمان، وللأخت لأب سهم واحد.
الرابعة: وتسمى تسعينية زيد، لصحتها من تسعين، وهي:
أم، جد، أخت شقيقة، أخوان لأب، أخت لأب.
وللأم السدس، وللجد ثلث الباقي بعد فرض الأم، فهو أحظ له من المقاسمة ومن السدس. وتعد الأخت الشقيقة الإخوة لأب إلى جانبها، كما قلنا، ثم تأخذ النصف، وتترك الباقي للإخوة للأب، فلو فرضنا المسألة (90) سهماً، لكان نصيب الأم (15) سهماً، وهي السدس، ونصيب الجد (25) سهماً هي الثلث الباقي بعد نصيب الأم، ونصيب الأخت الشقيقة (45) سهماً، هي نصف التركة، والباقي خمسة أسهم، يأخذ كل أخ لأب سهمين، وتأخذ الأخت لأب سهماً واحداً.
قال الإمام الرحبي رحمه الله تعالى في الجد والإخوة:
واعلم بأن الجد ذو أحوال ... أنبيك عنهن على التوالي (1)
يقاسم الإخوة فيهن إذا ... لم يعد القسم عليه بالأذى (2)
فتارة يأخذ ثلثاً كاملاً ... إن كان بالقسمة عنه نازلا
إن لم يكن هناك ذو سهام ... فاقنع بإيضاحي عن استفهام
هذا إذا ما كانت المقاسمة ... تنقصه عن ذاك بالمزاحمه
_________
(1) أنبيك: أخبرك.
(2) بالأذى: بالنقص.(5/124)
وتارة يأخذ ثلث الباقي ... بعد ذوي الفروض والأرزاق (1)
وتارة يأخذ سدس المال ... وليس عنه نازلاً بحال
وهو مع الإناث عند القسم ... مثل أخ في سهمه والحكم
إلا مع الأم فلا يحجبها ... بل ثلث المال لها يصحبها
واحسب بني الأب مع الأعداد ... وارفض بني الأم مع الأجداد (2)
واحكم على الإخوة بعد العد ... حكمك فيهم عند فقد الجد
المسألة الأكدرية
قال العلماء: إن الأخت، شقيقة كانت أم لأب، لا يفرض لها مع الجد في غير مسائل المعادة التي سبق ذكرها، إلا في المسألة الأكدرية.
وصورة هذه المٍسألة: هي:
زوج، أم، أخت، - شقيقة، أم لأب -، جد.
وسميت هذه المسألة بهذا الاسم، قيل: لأنها كدرت على زيد بن ثابت رضي الله عنه مذهبه، وقيل: لأن الميتة كانت من أكدر. والله اعلم.
ففي هذه المٍسألة، يأخذ الزوج النصف، وهو فرضه، وتأخذ الأم الثلث، وهو فرضها أيضاً، ويبقى بعد فرض الزوج، والأم، السدس، فينبغي أن يأخذه الجد، لأنه - كما قلنا سابقاً - لا ينزل عن السدس.
وكان القياس بعد هذا أن تسقط الأخت، لأنها لم يبق لها شئ، شأنها في ذلك شأن الشقيق، لو كان مكان الأخت الشقيقة.
لكن علماء الشافعية، فرضوا للأخت في المسألة النصف، لأنها بطلت عصوبتها بالجد، ولا حاجب يحجبها، غير أنهم رأوا بعد هذا أن يضموا نصيبها إلى نصيب الجد، ثم يقسموا النصيبين بينهما، لها، الثلث، وله الثلثان. عملاً بمبدأ التعصيب بينهما. وإنما حكموا بهذا كي لا تأخذ
_________
(1) الأرزاق: جمع رزق، وهو ما ينتفع به.
(2) وارفض: واترك.(5/125)
الأخت ثلاثة أمثال الجد. وهذا أمر ممتنع، لأنهما في درجة واحدة بالنسبة للميت، فعلوا ذلك رعاية للجانبين.
وعلى هذا، يأخذ الزوج النصف، والأم الثلث، والجد السدس، والأخت النصف، وبهذه الفروض تعول المسألة، ويزاد في سهامها.
فالنصف للزوج ثلاثة أسهم، والثلث للأم سهمان، والسدس للجد سهم واحد، والنصف للأخت ثلاثة أسهم، وبهذا تبلغ الأسهم تسعة. ثم يعود الجد والأخت إلى المقاسمة، فيقتسمان الأربعة أسهم بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين. فإذا صححنا المسالة من سبعة وعشرين، كان نصيب الزوج نصفاً عائلاً، وهو تسعة أسهم، وللأم ثلث عائل، وهو ستة أسهم، والباقي اثنا عشر سهماً، أربعة للأخت، وثمانية للجد، عملاً بمبدأ التعصيب، وهو أصل ميراث الأخت مع الجد. والله أعلم.
قال في الرحبية:
والأخت لا فرض مع الجد لها ... فيما عدا مسالة كملها
زوج وأم وهما تمامها ... فاعلم فخير أمة علامها (1)
تعرف يا صاح بالأكدريه ... وهي بأن تعرفها حرية (2)
فيفرض النصف لها والسدس له ... حتى تعول بالفروض المجمله (3)
ثم يعودان إلى المقاسمة ... كما مضى فاحفظة واشكر ناظمه
_________
(1) خير أمة: أكمل جماعة. علامها: أعلمها.
(2) يا صاح: يا صحبي. حرية: حقيقة وجديرة.
(3) المجملة: المجتمعة.(5/126)
ميراث الخنثى المشكل
تعريف الخنثى المشكل:
الخنثى لغة مأخوذ من الانخناث، وهو: التثني والتكسر، أو من: خنث الطعام إذا اشتبه أمره، فلم يخلص طعمه.
والمشكل: مأخوذ من شكل الأمر شكولاً، وأشكل: إذا التبس.
والخنثى المشكل اصطلاحاً: هو آدمي له ألة ذكورة، وألة أنوثة، أو له ثقبة لا تشبه واحدة منهما، يخرج منها البول.
أقسام الخنثى:
الخنثى: قسمان: خنثى مشكل، خنثى غير مشكل.
الخنثى غير المشكل هو من ترجحت فيه صفة الذكورة، أو صفة الأنوثة، وذلك كأن تزوج فولد له ولد، فهذا رجل قطعاً، أو تزوج فحملت، فهي أنثى قطعاً.
أما الخنثى المشكل فهو الذي لم تتضح ذكورته، من أنوثته. والفقهاء يذكرون في الخنثى علامات يترجح بها ذكورته، أو أنوثته، ولو كان ذلك بعد البلوغ.
فإذا أمنى مثلاً تبين أنه ذكر، وإذا حاض علم أنه أنثى.(5/127)
وإن ظهر ميله للنساء، ترجح أنه ذكر، وإن غلب ميله إلى الرجال، كان أنثى غالباً.
واليوم وبعد أن تقدم الطب، قل احتمالات أن يبقى أحد خنثى مشكلاً، وأصبح باستطاعة الطب غالباً أن يكشف أمره.
لكن لنفرض أن الخنثى كان من الإشكال بحيث أعجز الأطباء، فهذا إذا هو الخنثى المشكل.
حكم الخنثى المشكل في الميراث:
والخنثى ما دام مشكلاً لا يكون أباً ولا أماً، ولا جداً ولا جدة، لأنه لو كان واحداً من هؤلاء، لكان واضحاً، ونحن نفرض أنه مشكل.
وكذلك لا يكون زوجاً ولا زوجة، لأنه لا تصح مناكحته ما دام مشكلاً.
فالخنثى المشكل إذاً منحصر في أربع جهات: هي:
البنوة، والأخوة، والعمومة، والولاء.
وإليك بيان ذلك:
1 - الخنثى المشكل إن كان لا يختلف نصيبه من الميراث على اعتبار ذكورته، وأنوثته، ولا يختلف أيضاً نصيب الورثة معه على كلا الاعتبارين، فإن التركة تجري قسمتها على طبيعتها، كما مر معنا.
وصورة ذلك: أن يكون الورثة:
أما، أخاً شقيقاً ن أخا لأم خنثى.
ففي هذه الصورة يجري تقسيم التركة، كأن لم يكن فيها خنثى، لأن الخنثى، لا يختلف نصيبه، سواء كان ذكراً، أو أنثى. فيأخذ السدس على كل حال، لأن ولد الأم له السدس، سواء كان ذكراً أو أنثى.(5/128)