وَرَوَى الْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّ رَجُلًا أَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: هل لك فيما صنعت نفسك في المتعة حتى صارت به الركاب، وقال الشَّاعِرُ:
(أَقُولُ لِلشَّيْخِ لَمَّا طَالَ مَجْلِسُهُ ... يَا صَاحِ هَلْ لَكَ فِي فُتْيَا ابْنِ عَبَّاسْ)
(يَا صَاحِ هَلْ لَكَ فِي بَيْضَاءَ بَهْكَنَةٍ ... تكون مثواك حتى يصدر النَّاسْ)
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا إِلَى هَذَا ذهبت، وقام يوم عرفة فقال: يأيها النَّاسُ إِنَّهَا وَاللَّهِ لَا تَحِلُّ لَكُمْ إِلَّا ما تَحِلُّ لَكُمُ الْمَيَّتَةُ وَالدَّمُ، وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ، يَعْنِي إِذَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهَا، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهَا فَصَارَ الْإِجْمَاعُ بِرُجُوعِهِ مُنْعَقِدًا وَالْخِلَافُ بِهِ مُرْتَفِعًا وَانْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ ظُهُورِ الْخِلَافِ أَوْكَدُ، لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى حُجَّةٍ قَاطِعَةٍ وَدَلِيلٍ قَاهِرٍ.
وَمِنَ الْقِيَاسِ: أنه حل عقد جاز مطلقاً مُؤَقَّتًا كَالْبَيْعِ طَرْدًا وَالْإِجَارَةِ عَكْسًا، وَلِأَنَّ لِلنِّكَاحِ أَحْكَامًا تَتَعَلَّقُ بِصِحَّتِهَا وَيَنْتَفِي عَنْ فَاسِدِهَا، وَهِيَ الطَّلَاقُ، وَالظِّهَارُ، وَالْعِدَّةُ، وَالْمِيرَاثُ، فَلَمَّا انْتَفَتْ عَنِ الْمُتْعَةِ هَذِهِ الْأَحْكَامُ دَلَّ عَلَى فَسَادِهِ كَسَائِرِ الْمَنَاكِحِ الْفَاسِدَةِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) {النساء: 3) فَهُوَ إِنَّ الْمُتْعَةَ غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي النِّكَاحِ، لِأَنَّ اسْمَ النِّكَاحِ يَنْطَلِقُ عَلَى مَا اخْتَصَّ بالدوام لذلك قيل: قد استنكحه المدى لمن دام به، فلم يدخل فِيهِ الْمُتْعَةُ الْمُؤَقَّتَةُ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ عَامًّا لَخُصَّ بِمَا ذَكَرْنَا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَأْتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (النساء: 24) فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَلِيًّا وَابْنَ مَسْعُودٍ رَوَيَا أَنَّهَا نُسِخَتْ بِالطَّلَاقِ، وَالْعِدَّةِ، وَالْمِيرَاثِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ فِي النِّكَاحِ، وَقَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى يَعْنِي بِهِ الْمَهْرَ دُونَ الْعَقْدِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ فَالْإِبَاحَةُ فِيهِ مَنْسُوخَةٌ بِمَا رَوَيْنَاهُ مِنَ التَّحْرِيمِ الْوَارِدِ بَعْدَهُ.
وَأَمَّا تَفَرُّدُ عُمَرَ بِالنَّهْيِ عَنْهَا فَمَا تَفَرَّدَ بِهِ، وقد وافقه عليه الصَّحَابَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ إِمَامًا فَاخْتَصَّ بِالْإِعْلَانِ وَالتَّأْدِيبِ وَلَمْ يَكُنْ بِالَّذِي يُقْدِمُ عَلَى تَحْرِيمٍ بِغَيْرِ دليل، ولكانوا قد أقدموا عليه بمسكون عَنْهُ، أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: لَا تغالوا في صدقات النساء فلو كانت تكرمة لَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَوْلَاكُمْ بِهَا، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: أَعْطَانَا اللَّهُ وَيَمْنَعُنَا ابْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ عُمْرُ: وَأَيْنَ أَعْطَاكُنَّ فَقَالَتْ: بقوله: {وَءاتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) {النساء: 20) فَقَالَ عُمَرُ: كُلُّ النَّاسِ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ حتى امرأة. .(9/331)
ووري أَنَّ عُمَرَ قَالَ يَوْمًا عَلَى الْمِنْبَرِ: أَيُّهَا النَّاسُ اسْتَمِعُوا فَقَالَ سَلْمَانُ: لَا نَسْمَعُ، فَقَالَ عُمْرُ: وَلِمَ ذَاكَ، فَقَالَ سَلْمَانُ: لِأَنَّ الثِّيَابَ لَمَّا قَدِمَتْ مِنَ الْعِرَاقِ، وَفَرَّقْتَهَا عَلَيْنَا ثَوْبًا وأخذت ثوبين لنفسك فَقَالَ عُمَرُ: أَمَّا هَذَا فَثَوْبِي وَأَمَّا الْآخَرُ فاستعرته من ابني ثم دعى ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ، وَقَالَ: أَيْنَ ثَوْبُكَ، فَقَالَ: هُوَ عَلَيْكَ، فَقَالَ سَلْمَانُ: قُلِ الْآنَ مَا شِئْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَكَيْفَ يَجُوزُ مَعَ اعْتِرَاضِهِمْ عَلَيْهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ أَنْ يُمْسِكُوا عَنْهُ فِي تَحْرِيمِ مَا قَدْ أَحَلَّهُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَا يُنْكِرُونَهُ لَوْلَا اعْتِرَافُهُمْ بِصِحَّتِهِ وَوِفَاقُهُمْ عَلَى تَحْرِيمِهِ فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ أَنَّهُمَا قَالَا: سَمِعْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُحِلُّ الْمُتْعَةَ وَسَمِعْنَا عُمَرَ يَنْهَى عَنْهَا فَتَبِعْنَا عُمَرَ قِيلِ مَعْنَاهُ: تَبِعْنَا عُمَرَ فِيمَا رَوَاهُ في التَّحْرِيمِ، لِأَنَّهُ رَوَى لَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَبَاحَ الْمُتْعَةَ ثَلَاثًا ثُمَّ حَرَّمَهَا، فَكَيْفَ يَجُوزُ لَوْلَا مَا ذَكَرْنَا أَنْ يُضَافَ إِلَى جَابِرٍ وَأَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُمَا خَالَفَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَتَبِعَا عُمَرَ، وَلَوْ تَبِعَاهُ لَمَا تَبِعَهُ غَيْرُهُمَا مِنَ الصَّحَابَةِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْإِجَارَةِ فَالْمَعْنَى فيهما: أَنَّهَا لَا تَصِحُّ مُؤَبَّدَةً فَصَحَّتْ مُؤَقَّتَةً، وَالنِّكَاحُ لما صح مؤبداً لم يصح مؤقتاً.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمَا بِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ إِبَاحَتُهَا بِالْإِجْمَاعِ فَلَمْ يُعْدَلْ إِلَى تَحْرِيمِهَا إِلَّا بالإجماع فمن وجهين:
أحدهما: أنه مَا ثَبَتَ بِهِ إِبَاحَتُهَا هُوَ الَّذِي ثَبَتَ بِهِ تَحْرِيمُهَا، فَإِنْ كَانَ دَلِيلًا فِي الْإِبَاحَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا فِي التَّحْرِيمِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِبَاحَةَ الثَّابِتَةَ بِالْإِجْمَاعِ هِيَ إِبَاحَةٌ مُؤَقَّتَةٌ تعقبها نسخ، وهم يدعون إباحة مؤبدة لم يتعقبها نَسْخٌ فَلَمْ يَكُنْ فِيمَا قَالُوهُ إِجْمَاعٌ.
فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ تَحْرِيمِ الْمُتْعَةِ فَلَا حَدَّ فِيهَا لِمَكَانِ الشُّبْهَةِ. وَيُعَزَّرَانِ أَدَبًا إِنْ عَلِمَا بِالتَّحْرِيمِ وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا بِالْإِصَابَةِ دُونَ الْمُسَمَّى وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لحق بالوطء، ولأنها صَارَتْ بِإِصَابَةِ الشُّبْهَةِ فِرَاشًا، وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ طَلَاقٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا نِكَاحٌ يُلْزِمُ، وَيَثْبُتُ بهذا الإصابة تحريم المصاهرة - وبالله التوفيق -.
مسألة
ونكاح المحلل باطل.
قال الماوردي: وصورتها فِي امْرَأَةٍ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ثَلَاثًا حَرُمَتْ بِهِنَّ عَلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ فَنَكَحَتْ بَعْدَهُ زَوْجًا ليحلها للأول فيرجع إلى نكاحها فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَشْتَرِطَا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَحَلَّهَا بِإِصَابَةٍ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ فَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا فَهَذَا نِكَاحٌ بَاطِلٌ.
وَقَالَ أبو حنيفة: النِّكَاحُ صَحِيحٌ والشرط باطل.(9/332)
وَالدَّلِيلُ عَلَى بُطْلَانِهِ مَا رَوَاهُ الْحَارِثُ الْأَعْوَرُ عَنْ عَلِيٍّ وَرَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ورواه أبو هريرة كلهم بروايته عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ ".
وَرَوَى عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ؟ قَالُوا: بلى يا رسول الله، قال: هو الحلل وَالْمُحَلَّلُ لَهُ "، وَلِأَنَّهُ نِكَاحٌ عَلَى شَرْطٍ إِلَى مدة فكان أغلظ فساد مِنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: جَهَالَةُ مُدَّتِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِصَابَةَ فِيهِ مَشْرُوطَةٌ لِغَيْرِهِ فَكَانَ بِالْفَسَادِ أَخَصَّ، وَلِأَنَّهُ نِكَاحٌ شُرِطَ فِيهِ انْقِطَاعُهُ قَبْلَ غَايَتِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا.
أَصْلُهُ: إِذَا تَزَوَّجَهَا شَهْرًا، أَوْ حَتَّى يَطَأَ أو يباشر.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَيَشْتَرِطَ فِي الْعَقْدِ أَنَّهُ إِذَا أَحَلَّهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ طَلَّقَهَا فَفِي النِّكَاحِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ، " وَالْإِمْلَاءِ " - أن النكاح صحيح، ولأنه لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ لَا يُطَلِّقَهَا كَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا، وَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا كَذَلِكَ إِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ النِّكَاحُ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: - نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ مِنَ " الْأُمِّ " وَهُوَ الْأَصَحُّ - أَنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ بِاشْتِرَاطِ الطَّلَاقِ مؤقت والنكاح ما تأبد، ولم يتوقف، وَبِهَذَا الْمَعْنَى فَرَّقْنَا بَيْنَ أَنْ يَشْتَرِطَ فِيهِ أَنْ لَا يُطَلِّقَهَا فَيَصِحُّ، لِأَنَّهُ مُؤَبَّدٌ، وَإِذَا شرط أَنْ يُطَلِّقَهَا لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ مُؤَقَّتٌ.
وَالْقِسْمُ الثالث: أنه يُشْتَرَطُ ذَلِكَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْعَقْدِ، وَيَتَزَوَّجَهَا مُطْلَقًا من غير شرط لكنه ينوي، وَيَعْتَقِدُهُ، فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ لِخُلُوِّ عَقْدِهِ مِنْ شَرْطٍ يُفْسِدُهُ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ لِأَنَّهُ نَوَى فِيهِ مَا لَوْ أَظْهَرُهُ أَفْسَدَهُ وَلَا يَفْسُدُ بِالنِّيَّةِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَنْوِي مَا لَا يَفْعَلُ وَيَفْعَلُ مَا لَا يَنْوِي، وَأَبْطَلَهُ مَالِكٌ وَقَالَ: هُوَ نِكَاحُ مُحَلِّلٍ، وَحَكَى أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ عَنْ أبي حنيفة أنه استحبه، لأنه قد تصير الأول بإحلالها له، وكلام المذهبي خَطَأٌ بَلْ هُوَ صَحِيحٌ بِخِلَافِ قَوْلِ مَالِكٍ وَمَكْرُوهٌ بِخِلَافِ اسْتِحْبَابِ أبي حنيفة، لِمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: أَنَّ امْرَأَةً طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ثَلَاثًا، وَكَانَ يَقْعُدُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ أعربي مِسْكِينٌ فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ لَهُ: هَلْ لَكَ في امرأة تنكحها فتبيت معها الليلة، فإذا أصبحت فارقتها قال نعم ومضى فتزوجها، وبات معها لَيْلَةً، فَقَالَتْ لَهُ: سَيَقُولُونَ لَكَ(9/333)
إذا أصبحت فارقها لا تَفْعَلْ فَإِنِّي مُقِيمَةٌ لَكَ مَا تَرَى وَاذْهَبْ إلى عمر فلما أصبح أتوه وأتوها، فَقَالَتْ لَهُمْ: كَلِّمُوهُ فَأَنْتُمْ أَتَيْتُمْ بِهِ، فَقَالُوا له: فارقها، فقال: لا أفعل امض إِلَى عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ: الْزَمْ زَوْجَتَكَ، فإن رابوك بريبة فائتني وبعث عمر إلى المرأة التي شئت لذلك فَنَكَّلَ بِهَا، وَكَانَ الْأَعْرَابِيُّ يَغْدُو وَيَرُوحُ إِلَى عُمَرَ فِي حُلَّةٍ، فَيَقُولُ لَهُ عُمَرُ: الْحَمْدُ لله الَّذِي كَسَاكَ يَا ذَا الرُّقْعَتَيْنِ حُلَّةً تَغْدُو فِيهَا وَتَرُوحُ، فَقَدْ أَمْضَى عُمْرُ النِّكَاحَ: فَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ مَالِكٍ فِي فَسَادِهِ، وَنَكَّلَ عُمَرُ بالمرأة التي مشت فِيهِ فَدَلَّ عَلَى كَرَاهَتِهِ وَفَسَادِ مَا حُكِيَ عَنْ أبي حنيفة مِنِ اسْتِحْبَابِهِ.
فَصْلٌ
فَإِذَا تقرر ما ذكرنا من أقسام نِكَاحِ الْمَحَلِّلِ، فَإِنْ قُلْنَا بِصِحَّتِهِ تَعَلَّقَ بِهِ أحكام النكاح الصحيح من ثبوت الحصانة، ووجوب النفقة، وأن يكون مخيراً فيه بَيْنَ الْمُقَامِ، أَوِ الطَّلَاقِ، فَإِنْ طَلَّقَ بَعْدَ الْإِصَابَةِ التَّامَّةِ فَقَدْ أَحَلَّهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ، فَأَمَّا المهر فإن لم يتضمن العقد شرط يُؤَثِّرُ فِيهِ فَالْمُسَمَّى هُوَ الْمُسْتَحَقُّ، وَإِنْ تَضَمَّنَ شَرْطًا يُؤَثِّرُ فِيهِ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ مَهْرَ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى، وَإِنْ قُلْنَا بِفَسَادِ الْعَقْدِ، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِيهِ لِأَجْلِ الشُّبْهَةِ لَكِنْ يُعَزَّرُ لِإِقْدَامِهِ عَلَى مَنْهِيٍّ عَنْهُ، وَلَا يثبت بالإصابة فيه حصانة، وَلَا يَسْتَحِقُّ فِيهِ نَفَقَةٌ، وَيَجِبُ فِيهِ بِالْإِصَابَةِ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَهَلْ يُحِلُّهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ إِذَا ذَاقَتْ عُسَيْلَتَهُ وَذَاقَ عُسَيْلَتَهَا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ - أَنَّهُ يُحِلُّهَا لِلْأَوَّلِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَعْلِيلِهِ، فَقَالَ بعضهم: ذوق العسيلة في شبهة النكاح تجري عَلَيْهِ حُكْمُ الصَّحِيحِ مِنَ النِّكَاحِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: اختصاصه باسم المحلل موجب لاختصاصه بحكم التعليل، فَعَلَى التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ تَحِلُّ بِالْإِصَابَةِ فِي كُلِّ نِكَاحٍ فَاسِدٍ مِنْ شِغَارٍ، وَمُتْعَةٍ، وَبِغَيْرِ وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ.
وَعَلَى التَّعْلِيلِ الثَّانِي: لَا تَحِلُّ بِغَيْرِ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ مِنْ سَائِرِ الْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ.
والقول الثاني: - وهو الجديد الصَّحِيحُ - إِنَّهُ لَا يُحِلُّهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ لَا فِي نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ وَلَا فِي غَيْرِهِ مِنَ الأنكحة الفاسدة حتى يكون نكاحاً صحيحاً، لقول اللَّهِ تَعَالَى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) {البقرة: 230) وَهَذَا لَيْسَ بِزَوْجٍ، وَلِأَنَّ كُلَّ إِصَابَةٍ لَمْ يَتَعَلَّقْ بها إحصان لم يتعلق فيها إحلال الزوج كالإصابة بملك اليمين.(9/334)
باب نكاح المحرم
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " أخبرنا مالكٌ عن نافعٍ عن نبيه بين وهب عن أبان بن عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " لا يَنكح المحرم ولا يُنكح " وقال بعض الناس رُوِّينَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نكح ميمونة رضي الله عنها وهو محرمٌ قلت رواية عثمان ثابتةٌ ويزيد بْنَ الْأَصَمِّ ابْنُ أُخْتِهَا وَسُلَيْمَانَ بْنَ يسارٍ عتيقها أو ابن عتيقها يقولان نكحها وهو حلالٌ وثالثٌ وهو سعيد بن المسيب وينفرد عليك حديث عثمان الثابت وقلت أليس أعطيتني أنه إذا اختلفت الرِّوَايَةُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نظرت فيما فعل أصحابه من بعده فأخذت به وتركت الذي يخالفه؟ قال بلى قلت فعمر بن الخطاب ويزيد بن ثابت يردان نكاح المحرم وقال ابن عمر لا ينكح المحرم ولا يُنكح ولا أعلم لهما مخالفاً فلم لا قلت به؟ (قال الشافعي) فإن كان المحرم حاجّاً فحتى يرمي ويحلق ويطوف بالبيت يوم النحر أو بعده وإن كان معتمراً فحتى يطوف بالبيت ويسعى ويحلق فإن نكح قبل ذلك فمفسوخٌ والرجعة والشهادة على النكاح ليسا بنكاحٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى فِي كِتَابِ الْحَجِّ أَنَّ نِكَاحَ الْمُحْرِمِ لَا يَجُوزُ، وَدَلَّلْنَا عَلَيْهِ وذكرنا ما خَالَفَنَا فِيهِ، وَنَحْنُ الْآنَ نُشِيرُ إِلَيْهِ، مَتَى عُقِدَ النِّكَاحُ وَالزَّوْجُ، أَوِ الزَّوْجَةُ، أَوِ الْوَلِيُّ مُحْرِمٌ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ.
وَقَالَ مَالِكٌ: صَحِيحٌ وَيُفْسَخُ بِطَلْقِةٍ.
وَقَالَ أبو حنيفة: نِكَاحُهُ جَائِزٌ وَلَا يَلْزَمُ فَسْخَهُ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَكَحَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ.
وَبِرِوَايَةِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَزَوَّجَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يُسْتَبَاحُ بِهِ الْبُضْعُ فَلَمْ يَمْنَعِ الْإِحْرَامُ مِنْهُ كَالرَّجْعَةِ وَشِرَاءِ الْإِمَاءِ.
وَدَلِيلُنَا: رِوَايَةُ عُثْمَانَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنكح " وَرَوَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " لا يخطب الْمُحْرِمُ وَلَا يَتَزَوَّجُ ".
وَرَوَى مَطَرٌ عَنِ الْحَسَنِ أن علياً - رضي الله تعالى عَنْهُ - قَالَ: مَنْ تَزَوَّجَ وَهُوَ مُحْرِمٌ نَزَعْنَا منه امرأته، ولم يجز نكاحه.(9/335)
وَرَوَى أَبُو غَطْفَانَ عَنْ أَبِيهِ أَنْ عُمَرَ - رضي الله تعالى عَنْهُ - فَرَّقَ بَيْنَ مُحْرِمَيْنِ تَزَوَّجَا.
وَرَوَى قُدَامَةُ بْنُ مُوسَى عَنْ شَوْذَبٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ تَزَوَّجَ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَفَرَّقَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا رُوِيَ عَنْهُمُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَلَا يَسُوغُ ذَلِكَ فِي عَقْدٍ يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ دَلَّ عَلَى أَنَّ النَّصَّ فِيهِ ثَابِتٌ لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ، وَلِأَنَّهُ مَعْنًى ثابت بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ الْإِحْرَامُ كَالْوَطْءِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ مَيْمُونَةَ، فَقَدْ رَوَى مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ عَنْ يَزِيدَ بن الأصم عَنْ مَيْمُونَةٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَزَوَّجَهَا وَهُمَا حَلَالَانِ.
وَرَوَى رَبِيعَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ حَلَالًا وَبَنَى بِهَا حَلَالًا، وَكُنْتُ أنا الرسول بَيْنَهُمَا.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ فَضَعِيفٌ لَا أَصْلَ لَهُ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَإِنْ صَحَّ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُحْرِمِ عَلَى أَنَّ أَبَا الطِّيِّبِ ابْنَ سَلَمَةَ جعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَخْصُوصًا بِالنِّكَاحِ فِي الْإِحْرَامِ.
وَأَمَّا الْقِيَاسُ عَلَى شِرَاءِ الْإِمَاءِ، فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الِاسْتِمْتَاعَ، لِجَوَازِ شِرَاءِ الْمُعْتَدَّةِ وَذَاتِ الْمَحْرَمِ، وَكَذَلِكَ الْمُحْرِمَةُ، وَالْمَقْصُودُ، مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ الِاسْتِمْتَاعُ، إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْكِحَ مُعْتَدَّةً وَلَا ذَاتَ مَحْرَمٍ وَكَذَلِكَ الْمُحْرِمَةُ. فَأَمَّا الرَّجْعَةُ فَتَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ، لِأَنَّهَا سَدُّ ثَلْمٍ فِي الْعَقْدِ وَرَفْعُ تَحْرِيمٍ طَرَأَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَتْ عَقْدًا مُبْتَدَأً فَجَازَتْ فِي الْإِحْرَامِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ يُرَاجِعُ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْكِحَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ اعتباراً بهذا المعنى.
فصل
فإذا تقرر ما وصفنا أَنَّ نِكَاحَ الْمُحْرِمِ بَاطِلٌ، فَمَتَى كَانَ الزَّوْجُ مُحْرِمًا فَوَكَّلَ حَلَالًا فِي الْعَقْدِ كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا، لِأَنَّهُ نِكَاحٌ لِمُحْرِمٍ، وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ حلالاً فوكل محرماً كان النكاح باطلاً، لأنه نكاح عقده محرم، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الْوَلِيُّ مُحْرِمًا فَوَكَّلَ حَلَالًا أَوْ كَانَ حَلَالًا فَوَكَّلَ مُحْرِمًا كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا.
فَأَمَّا الْحَاكِمُ إِذَا كَانَ مُحْرِمًا لَمْ يجز له أن يزوج مسلمة وَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ كَافِرَةً أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ كَالْمُسْلِمَةِ.
والثاني: لا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ لَا يُزَوِّجُهَا بِوِلَايَةٍ وَإِنَّمَا يُزَوِّجُهَا لحكم فَجَرَى مَجْرَى سَائِرِ أَحْكَامِهِ فِي إِحْرَامِهِ.(9/336)
فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْإِمَامُ مُحْرِمًا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَلَا يُزَوِّجَ، وَهَلْ يَجُوزُ لخلفائه من القضاة المحليين أَنْ يُزَوِّجُوا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يُزَوِّجُوا كَوُكَلَاءِ الْمُحْرِمِ.
وَالْوَجْهِ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يُزَوِّجُوا لِعُمُومِ وَلَايَاتِهِمْ، وَنُفُوذِ أحكامه فَخَالَفُوا الْوُكَلَاءَ فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْخَطِيبِ فِي عقد فَالنِّكَاحِ جَائِزٌ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَ بِغَيْرِ خِطْبَةٍ، وَلَوْ كَانَ الشُّهُودُ مُحْرِمِينَ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ - أَنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الشُّهُودَ شَرْطٌ فِي الْعَقْدِ كَالْوَلِيِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - أَنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ، لِأَنَّ الشُّهُودَ غَيْرُ مَعْنِيِّينَ فِي النِّكَاحِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِمْ شُرُوطُ مَنْ يَتَعَيَّنُ فِي النِّكَاحِ أَلَا تَرَى أَنَّ نِكَاحَ الْكَافِرَةِ إِذَا عَقَدْنَاهُ لَمْ يَصِحَّ إِلَّا بِوَلِيٍّ كافر وشهود مسلمين - والله أعلم -.(9/337)
العيب في المنكوحة من كتاب نكاح الجديد ومن النكاح القديم ومن النكاح والطلاق إملاءً على مسائل مالكٍ، وغير ذلك
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " أخبرنا مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المسيب أنه قال قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيُّمَا رجلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَبِهَا جُنُونٌ أَوْ جذامٌ أَوْ برصٌ فَمَسَّهَا فَلَهَا صَدَاقُهَا وَذَلِكَ لزوجها غرمٌ على وليها وَقَالَ أَبُو الشَّعْثَاءِ: أَرْبَعٌ لَا يَجُزْنَ فِي النكاح إلا أن تسمى: الْجُنُونُ، وَالْجُذَامُ، وَالْبَرَصُ، وَالْقَرَنُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ النِّكَاحَ يُفْسَخُ بِالْعُيُوبِ، وَالْعُيُوبُ الَّتِي يُفْسَخُ بِهَا النِّكَاحُ تُسْتَحَقُّ مِنَ الْجِهَتَيْنِ فَيَسْتَحِقُّهَا الزَّوْجُ إذا وجدت بِالزَّوْجَةِ، وَهِيَ خَمْسَةُ عُيُوبٍ: الْجُنُونُ، وَالْجُذَامُ، وَالْبَرَصُ، وَالْقَرَنُ، وَالرَّتْقُ، وَتَسْتَحِقُّهَا الزَّوْجَةُ إِذَا وَجَدَتْهَا بِالزَّوْجِ، وَهِيَ خَمْسَةٌ الْجُنُونُ، وَالْجُذَامُ، وَالْبَرَصُ، وَالْجَبُّ، وَالْعُنَّةُ، فَيَشْتَرِكَانِ فِي الْجُنُونِ، وَالْجُذَامِ، وَالْبَرَصِ، وَتَخْتَصُّ الزَّوْجَةُ بِالْقَرَنِ، وَالرَّتْقِ، وَيَخْتَصُّ الزَّوْجُ بِالْجَبِّ وَالْعُنَّةِ، وَلَا يُفْسَخُ نِكَاحُهُمَا بِغَيْرِ هَذِهِ الْعُيُوبِ، مِنْ عَمَى أو زمانة، أو قبح أو غيره.
وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ.
وَمِنَ التَّابِعِينَ: أَبُو الشَّعْثَاءِ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: الْأَوْزَاعِيُّ، وَمَالِكٌ. وَقَالَ أبو حنيفة: لَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَفْسَخَ النِّكَاحَ بِشَيْءٍ مِنَ الْعُيُوبِ، وَلَا لِلْمَرْأَةِ أَنَّ تَفْسَخَ إِلَّا بِالْجَبِّ وَالْعُنَّةِ دُونَ الْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ، وَبِأَنْ لَا يُفْسَخَ النِّكَاحُ بِعَيْبٍ.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وقال أبو الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: لِلزَّوْجَةِ أَنَّ تَفْسَخَ بِهَذِهِ الْعُيُوبِ فِي الزَّوْجِ، وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَفْسَخَ بِهَا، لِأَنَّ الطَّلَاقَ بِيَدِهِ وَاسْتَدَلَّ مَنْ نَصَرَ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنْ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي النِّكَاحِ هُوَ الِاسْتِبَاحَةُ وَلَيْسَ فِي الِاسْتِبَاحَةِ عَيْبٌ، وَإِنَّمَا الْعَيْبُ فِي الْمُسْتَبِيحَةِ فلم يشتبه خيار إسلامه الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَالَ: وَلِأَنَّهُ عَيْبٌ فِي الْمَنْكُوحَةِ فلم يفسخ نكاحها قِيَاسًا عَلَى مَا سِوَى الْعُيُوبِ الْخَمْسَةِ قَالَ: وَلِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ لَمْ يُفْسَخْ بِنُقْصَانِ الْأَجْزَاءِ لَمْ يُفْسَخْ بِتَغَيُّرِ الصِّفَاتِ كَالْهِبَةِ طَرْدًا وَالْبُيُوعِ عَكْسًا.
قَالَ: وَلِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ إِنْ جَرَى مَجْرَى عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ كَالْبُيُوعِ وَجَبَ أَنْ يُفْسَخَ بِكُلِّ عَيْبٍ، وَإِنْ جَرَى مَجْرَى غَيْرِهَا مِنْ عُقُودِ الْهِبَاتِ وَالصِّلَاتِ وَجَبَ أَنْ لَا يُفْسَخَ بعيب، وفي إجماعهم على أن لَا يُفْسَخُ بِكُلِّ الْعُيُوبِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُفْسَخُ بِشَيْءٍ مِنَ الْعُيُوبِ.(9/338)
وَدَلِيلُنَا: مَا رَوَاهُ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي بَيَاضَةَ فَوَجَدَ بِكَشْحِهَا بَيَاضًا فَرَدَّهَا، وَقَالَ: دَلَّسْتُمْ عَلَيَّ.
وَوَجْهُ الدَّلِيلِ منه هو أنه لما نقل الْعَيْبَ وَالرَّدَّ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الرَّدُّ، لِأَجْلِ الْعَيْبِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ طَلَّقَهَا لأجل العيب كالتي قالت له حِينَ تَزَوَّجَهَا: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، فَقَالَ: " لَقَدِ استعذتي بمعاذ فالحقي بِأَهْلِكِ " فَكَانَ ذَلِكَ طَلَاقًا مِنْهُ لِأَجْلِ اسْتِعَاذَتِهَا مِنْهُ قِيلَ لَا يَصِحُّ هَذَا التَّأْوِيلُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِأَنَّهُ خَالَفَ الظَّاهِرَ، لِأَنَّ نَقْلَ الْحُكْمِ مَعَ السَّبَبِ يَقْتَضِي تَعَلُّقَهُ بِهِ كَتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالْعِلَّةِ، وَالطَّلَاقُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْبِ كَتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالْعِلَّةِ، وَإِنْ كَانَ دَاعِيًا إِلَيْهِ فَلَمْ يَصِحَّ حَمْلُهُ عَلَيْهِ، وَخَالَفَ حَالُ طَلَاقِهِ لِلْمُسْتَعِيذَةِ، لِأَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ لَيْسَتْ عَيْبًا يُوجِبُ الرَّدَّ فَعَدَلَ بِهِ إِلَى الطَّلَاقِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّدَّ صَرِيحٌ فِي الْفَسْخِ وَكِنَايَةٌ فِي الطَّلَاقِ، وَحَمْلُ اللَّفْظِ على ما هو صريح فيه.
وَرَوَى أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جده عن اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اجْتَنِبُوا مِنَ النِّكَاحِ أَرْبَعَةً: الْجُنُونُ، وَالْجُذَامُ، وَالْبَرَصُ، وَالْقَرَنُ، فَدَلَّ تَخْصِيصُهُ لِهَذِهِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ عُيُوبِ النِّكَاحِ عَلَى اخْتِصَاصِهَا بِالْفَسْخِ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ: هُوَ أَنَّهُ عَيْبٌ يَمْنَعُ غَالِبَ الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ خِيَارَ الْفَسْخِ كَالْجَبِّ وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الصِّغَرُ، وَالْمَرَضُ، لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِعَيْبٍ، وَلِأَنَّ الْعَقْدَ الَّذِي يَلْزَمُ مِنَ الْجِهَتَيْنِ إذا احتمل الفسخ وجب أن يجري الفسخ في جنس العقد ولأنه عيب مقصود بعقد النكاح فوجب أن يستحق الْفَسْخَ كَالْعَيْبِ فِي الصَّدَاقِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ مَلَكَ رَدَّ عِوَضٍ مَلَكَ عَلَيْهِ رَدَّ الْمُعَوَّضَ كَالثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ فِي الْبَيْعِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُوَ الِاسْتِبَاحَةُ، وَلَيْسَ فِيهَا عَيْبٌ فَهُوَ أَنَّ هَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ المعقود عليه هو الاستمتاع المستباح، وَهَذِهِ عُيُوبٌ فِيهِ كَمَا أَنَّ زَمَانَةَ الْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ عَيْبٌ فِي مَنَافِعِهِ فَاسْتَحَقَّ بِهَا الْفَسْخَ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى مَا سِوَى الْخَمْسَةِ مِنَ الْعُيُوبِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ تِلْكَ الْعُيُوبَ لَا تَمْنَعُ مَقْصُودَ الْعَقْدِ وَلَا تُنَفِّرُ النُّفُوسَ مِنْهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ هَذِهِ الْخَمْسَةُ، لِأَنَّهَا إِمَّا مَانِعَةً من المقصود أو منفرة لِلنُّفُوسِ فَافْتَرَقَا.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْهِبَةِ بِعِلَّةِ أَنَّهَا لَا تُفْسَخُ بِنُقْصَانِ الْأَجْزَاءِ فَهَذَا الْوَصْفُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، لِأَنَّهُ يُسْتَحَقُّ بِالْجَبِّ، وَهُوَ نُقْصَانُ جُزْءٍ. ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْهِبَةِ، أَنَّهُ لَا عِوَضَ فِيهَا فَيَلْحَقَهُ ضَرَرٌ(9/339)
بالعيب، والنكاح بخلافه وعلى أن فسخه بالعنت وَهُوَ يُعْتَبَرُ صِفَةً تَمْنَعُ مِنِ اطِّرَادِ هَذَا التَّعْلِيلِ.
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُفْسَخَ بِكُلِّ الْعُيُوبِ كَالْبُيُوعِ أَوْ لَا يُفْسَخُ بِشَيْءٍ مِنْهَا كَالْهِبَاتِ.
فَالْجَوَابُ عَنْهُ: إِنَّهُ بِالْبُيُوعِ أَخَصُّ، لِأَنَّهُمَا عَقْدَا مُعَاوَضَةٍ غَيْرَ أَنَّ جَمِيعَ الْعُيُوبِ تُؤَثِّرُ فِي نُقْصَانِ الثَّمَنِ فَاسْتُحِقَّ بِجَمِيعِهَا الْفَسْخُ وَلَيْسَ كُلُّ الْعُيُوبِ تُؤَثِّرُ فِي نُقْصَانِ الِاسْتِمْتَاعِ فلم يستحق بجميعها الفسخ.
مسألة
قال الشافعي: " القرن المانع للجماع لِأَنَّهَا فِي غَيْرِ مَعْنَى النِّسَاءِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْعُيُوبِ الَّتِي يُفْسَخُ بِهَا عَقْدُ النِّكَاحِ وَأَجْنَاسُهَا سَبْعَةٌ: اثْنَانِ يَخْتَصُّ بهما الرجل وهما الجب والعنة.
واثنان تختص بِهِمَا النِّسَاءُ، وَهُمَا: الرَّتْقُ، وَالْقَرَنُ، وَثَلَاثَةٌ يَشْتَرِكُ فِيهَا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَهِيَ: الْجُنُونُ، وَالْجُذَامُ، وَالْبَرَصُ.
فَأَمَّا مَا يَخْتَصُّ بِهِ الرِّجَالُ مِنَ الْعُنَّةِ فَلَهُ بَابٌ يَأْتِي.
وَأَمَّا الْجَبُّ: فَهُوَ قَطْعُ الذَّكَرِ فَإِنْ كَانَ جَمِيعُهُ مَقْطُوعًا فَلَهَا الْخِيَارُ، لِأَنَّهُ أَدْوَمُ ضَرَرًا مِنَ الْعُنَّةِ الَّتِي يُرْجَى زوالها، وإن كان بعض الذكر مَقْطُوعًا نُظِرَ فِي بَاقِيهِ، فَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِيلَاجِهِ إِمَّا لِضَعْفِهِ أَوْ لِصِغَرِهِ فَلَهَا الْخِيَارُ، وَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى إِيلَاجِهِ فَفِي خِيَارِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الصَّحِيحُ إِنَّهُ لَا خِيَارَ لَهَا، لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى صِغَرِ الذَّكَرِ الَّذِي لَا خِيَارَ فِيهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهَا الْخِيَارُ، لِأَنَّهُ نَقْصٌ لَا تَكْمُلُ بِهِ الإصابة.
وأما الخصاء وهي قَطْعُ الْأُنْثَيَيْنِ مَعَ بَقَاءِ الذَّكَرِ فَفِي كَوْنِهِ عَيْبًا يُوجِبُ خِيَارَهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَيْسَ بِعَيْبٍ ولا خيار لها فِيهِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْإِيلَاجِ، وَأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ أَمْتَعَ إِصَابَةً.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ عَيْبٌ وَلَهَا الْخِيَارُ، لِأَنَّهُ نَقْصٌ يُعْدَمُ مَعَهُ النَّسْلُ، وَلَوْ كَانَ خُنْثَى لَهُ فَرْجٌ زَائِدٌ أَوْ كَانَتْ خُنْثَى لَهَا ذَكَرٌ زَائِدٌ فَفِي كَوْنِهِ عَيْبًا يوجب الخيار قولان:
أحدهما: ليس بعيب، لأنها زيادة عضو فأشبه الأصبع الزائد.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ عَيْبٌ، لِأَنَّهُ نَقْصٌ يُعَافُّ.
فَأَمَّا ما تختص به المرأة من القرن، والرنق.
فَالْقَرَنُ: هُوَ عَظَمٌ يَعْتَرِضُ الرَّحِمِ يَمْنَعُ مِنَ الْإِصَابَةِ، وَالرَّتْقُ لَحْمٌ يَسُدُّ مَدْخَلَ الذَّكَرِ فَلَا تمكن مَعَهُ الْإِصَابَةُ وَلَهُ الْخِيَارُ فِيهِمَا، وَلَا يُمْكِنُهَا شَقُّ الْقَرَنِ، وَيُمْكِنُهَا شَقُّ الرَّتْقِ إِلَّا أَنَّهَا لا(9/340)
تخبر بِشِقِّهِ، لِأَنَّهُ جِنَايَةٌ عَلَيْهَا فَإِنْ شَقَّتْهُ بَعْدَ فَسْخِ الزَّوْجِ لَمْ يُؤَثِّرْ بَعْدَ وُقُوعِ الْفَسْخِ، وَإِنْ شَقَّتْهُ قَبْلَ فَسْخِهِ فَفِي خِيَارِ الزَّوْجِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَهُ الْخِيَارُ اعْتِبَارًا بِالِابْتِدَاءِ.
وَالثَّانِي: لَا خِيَارَ لَهُ اعْتِبَارًا بِالِانْتِهَاءِ، فَأَمَّا الْإِفْضَاءُ وَهُوَ أَنْ يَنْخَرِقَ الْحَاجِزُ الَّذِي بَيْنَ مَدْخَلِ الذكر ومخرج البول فتصير مغطاة فلا خيار فيه لإمكان الإصابة التامة معه فَلَوْ كَانَتْ عَاقِرًا لَا تَلِدُ، أَوْ كَانَ الزَّوْجُ عَقِيمًا لَا يُولَدُ لَهُ فَلَا خِيَارَ فِيهِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ مَظْنُونٌ وَرُبَّمَا زَالَ بتنقل الأمنان.
فأما العفلاء ففي العفلة ثلاثة تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَحْمٌ مُسْتَدِيرٌ يَنْبُتُ فِي الرَّحِمِ بَعْدَ ذَهَابِ الْعُذْرَةِ، وَلَا يَنْبُتُ مَعَ الْبَكَارَةِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ.
وَالتَّأْوِيلُ الثاني: أنه ورم يكون في اللحمة التي في قبل الْمَرْأَةِ يَضِيقُ بِهِ. فَرْجُهَا حَتَّى لَا يَنْفُذَ فِيهِ الذَّكَرُ.
وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: إِنَّهُ مَبَادِئُ الرَّتْقِ، وَهُوَ لَحْمٌ يَزِيدُ فِي الْفَرْجِ حَتَّى يَصِيرَ رتقاً فيسد بِهِ الْفَرْجُ فَلَا يَنْفُذُ فِيهِ الذَّكَرُ، فَإِنْ كان العقل يُكْمِلُ مَعَهُ الِاسْتِمْتَاعَ التَّامَّ فَلَا خِيَارَ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يُكْمِلْ مَعَهُ الِاسْتِمْتَاعَ لِضِيقِ الْفَرْجِ أَوِ انْسِدَادِهِ حَتَّى لَا يُمْكِنَ إِيلَاجُ الذَّكَرِ فَفِيهِ الْخِيَارُ.
فَصْلٌ
وَأَمَّا الْعُيُوبُ الَّتِي يَشْتَرِكُ فيها الرجل والمرأة وهي ثَلَاثَةٌ:
أَحَدُهَا: الْجُنُونُ، وَهُوَ زَوَالُ الْعَقْلِ الَّذِي يكون معه تأدية حق سواء خِيفَ مِنْهُ أَمْ لَا وَهُوَ ضَرْبَانِ: مُطْبِقٌ لَا يَتَخَلَّلُهُ إِفَاقَةٌ، وَغَيْرُ مُطْبِقٍ يَتَخَلَّلُهُ إِفَاقَةٌ فَيُجَنُّ تَارَةً، وَيَفِيقُ أُخْرَى وَكِلَاهُمَا سَوَاءٌ، وَفِيهِمَا الْخِيَارُ سَوَاءٌ قَلَّ زَمَانُ الْجُنُونِ أَوْ كَثُرَ، لِأَنَّ قَلِيلَهُ يَمْنَعُ مِنْ تَأْدِيَةِ الْحَقِّ فِي زمانه، ولأن قليله كَثِيرًا وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِالزَّوْجِ أَوْ بِالزَّوْجَةِ.
فَأَمَّا الْإِغْمَاءُ فَهُوَ زَوَالُ الْعَقْلِ بِمَرَضٍ فَلَا خِيَارَ فِيهِ كَالْمَرَضِ، وَإِنَّهُ عَارِضٌ يُرْجَى زَوَالُهُ، وأنه قد يجوز حدوث مثله بالأنبياء الذي لَا يَحْدُثُ بِهِمْ جُنُونٌ، فَإِنْ زَالَ الْمَرَضُ فَلَمْ يَزَلْ مَعَهُ الْإِغْمَاءُ صَارَ حِينَئِذٍ جُنُونًا يَثْبُتُ فِيهِ الْخِيَارُ.
وَأَمَّا الْبَلَهُ فَهُوَ غَلَبَةُ السلامة فَيَكُونُ الْأَبْلَهُ سَلِيمَ الصَّدْرِ ضَعِيفَ الْعَزْمِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا بُلْهًا " يَعْنِي الَّذِينَ غَلَبَتِ السَّلَامَةُ عَلَى صُدُورِهِمْ وَمِنْهُ قول الشاعر:
(ولقد لهوت بطفلةٍ ميالةٍ ... بَلْهَاءَ تُطْلِعُنِي عَلَى أَسْرَارِهَا)(9/341)
فَلَا خِيَارَ فِي الْبَلَهِ، لِأَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ كَامِلٌ، وَكَذَلِكَ لَا خِيَارَ فِي الْحُمْقِ وَقِلَّةِ الضَّبْطِ لِكَمَالِ الِاسْتِمْتَاعِ مَعَهُمَا، وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ تَدْبِيرِ الْمَنْزِلِ وَتَرْبِيَةِ الْوَلَدِ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا تسترضعوا الحمقى فَإِنَّ صُحْبَتَهَا بَلَاءٌ وَوَلَدَهَا ضَيَاعٌ ".
فَصْلٌ
وَالثَّانِي مِنْ عُيُوبِهِمَا: الْجُذَامُ وَهُوَ: عَفَنٌ يَكُونُ فِي الأطراف والأنف يسري فيهما حتى يسقط فتبطل، وَرُبَّمَا سَرَى إِلَى النَّسْلِ وَتَعَدَّى إِلَى الْخَلِيطِ، وَالنَّفْسُ تَعَافُّهُ وَتَنْفُرُ مِنْهُ فَلَا يَسْمَحُ بِالْمُخَالَطَةِ ولا تحبب إِلَى الِاسْتِمْتَاعِ، وَقَدْ رَوَى سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فِرُّوا مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكُمْ مِنَ الْأَسَدِ " وَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِيُبَايِعَهُ فَمَدَّ يَدًا جَذْمَاءَ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَبَضَ يَدَهُ وَلَمْ يُصَافِحْهُ وَقَالَ: اذْهَبْ فَقَدْ بايعناك، فَفِي الْجُذَامِ الْخِيَارُ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، لِأَنَّ قَلِيلُهُ يَصِيرُ كَثِيرًا، وَسَوَاءٌ كَانَ فِي الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ.
فَأَمَّا الزَّعَرُ فَهُوَ مِنْ مَبَادِئَ الْجُذَامِ، وَرُبَّمَا بَرِئَ وَلَمْ يَصِرْ جُذَامًا ويقع في الحاجبين فيناثر به الشعر، وفي الأنف فيتغير يه الْجِلْدُ وَلَا خِيَارَ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِجُذَامٍ عَادِيٍّ وَلَا النُّفُوسُ مِنْهُ نَافِرَةً، فَلَوِ اخْتَلَفَا فِيهِ فَادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّ بِهَا جُذَامًا، وَقَالَتْ: بَلْ هُوَ زَعَرٌ وَقَفَ عَلَيْهِ عَدْلَانِ مِنْ عُلَمَاءِ الطِّبِّ فَإِنْ قَالَا: هُوَ جُذَامٌ ثَبَتَ فِيهِ الْخِيَارُ، وَإِنْ قَالَا: زَعَرٌ فَلَا خِيَارَ فِيهِ، وَإِنْ أُشْكِلَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا أَنَّهُ زَعَرٌ وَلَا خِيَارَ فِيهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْخِيَارِ إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ مَا يُوجِبُهُ.
فَصْلٌ
وَالثَّالِثُ مِنْ عُيُوبِهِمَا: الْبَرَصُ: وَهُوَ حُدُوثُ بَيَاضٍ فِي الْجِلْدِ يَذْهَبُ مَعَهُ دَمُ الْجِلْدِ وَمَا تَحْتَهُ مِنَ اللَّحْمِ وَفِيهِ عَدْوَى إِلَى النَّسْلِ وَالْمُخَالِطِينَ، وَتَعَافَّهُ النُّفُوسُ، وَتَنْفِرُ مِنْهُ فَلَا يكمل معه الاستمتاع فلذلك رد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نِكَاحَ امْرَأَةٍ وَجَدَ بِكَشْحِهَا بَيَاضًا، وَفِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ الْخِيَارُ، لِأَنَّ قَلِيلَهُ يَصِيرُ كَثِيرًا، وَسَوَاءٌ كان بالزوج أو الزوجة.
فأما البهق فتغير لَوْنَ الْجِلْدِ وَلَا يَذْهَبُ بِدَمِهِ وَيَزُولُ وَلَا تَنْفِرُ مِنْهُ النُّفُوسُ فَلَا خِيَارَ فِيهِ، فَلَوِ اخْتَلَفَا فَقَالَ الزَّوْجُ: هَذَا الْبَيَاضُ بَرَصٌ وَلِي الخيار، وقالت الزوجة: بَلْ هُوَ بَهَقٌ فَلَا خِيَارَ وَقَفَ عَلَيْهِ عَدْلَانِ مِنْ عُلَمَاءِ الطِّبِّ، وَعَمِلَ عَلَى قَوْلِهِمَا فيه فَإِنْ أُشَكِلَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا مَعَ يَمِينِهَا أَنَّهُ بَهَقٌ وَلَا خِيَارَ فِيهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ جَعَلَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجُذَامِ وَالْبَرَصِ عَدْوَى، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الطَّبَائِعِ، وَقَدْ كَذَّبَهُ الشَّرْعُ وَمَنَعَ مِنْهُ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا عدوى ولا طيرة " فقيل له: أما ترى النكتة من الجرب في شفر البعير فتعدوا إِلَى سَائِرِهِ وَإِلَى غَيْرِهِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ " أَيْ إِذَا كَانَ الْأَوَّلُ بغير عدوى كان ما بعده، وفي غَيْرِهِ بِغَيْرِ عَدْوَى.(9/342)
قِيلَ: إِنَّمَا مَنْعُ الشَّرْعِ مِنْ أَنَّ الطَّبِيعَةَ هِيَ الَّتِي تُحْدِثُ الْعَدْوَى كَمَا يَزْعُمُ الطِّبُّ، ولا يمنع أن الله تَعَالَى قَدْ جَعَلَ فِيهَا الْعَدْوَى كَمَا جَعَلَ فِي النَّارِ الْإِحْرَاقَ، وَفِي الطَّعَامِ الشِّبَعَ، وَفِي الْمَاءِ الرِّيَّ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا يوردن ممرض ذُو عَاهَةٍ عَلَى مُصِحٍّ " وَامْتَنَعَ مِنْ مُبَايَعَةِ الأجذام.
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ عُمَرَ بن الخطاب توجه إلى الشام فلما انتهى إلى سرغ تَلَقَّاهُ أُمَرَاءُ الْأَجْنَادِ وَأَخْبَرُوهُ بِحُدُوثِ الطَّاعُونِ بِالشَّامِ، فتوقف عن المسير وَشَاوَرَ الْمُهَاجِرِينَ فِي الْمَسِيرِ أَوِ الرُّجُوعِ فَاخْتَلَفُوا، وَشَاوَرَ الْأَنْصَارَ فَاخْتَلَفُوا وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عوف غائباً عنهم فحضر فشاوره عُمَرُ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: إِنَّ عِنْدِي فِي هَذَا عِلْمًا قَالَ عُمْرُ: مَا هُوَ، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ فِي وَادٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ وَأَنْتُمْ فِيهِ فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهُ " فَحَمِدَ عُمَرُ اللَّهَ تَعَالَى وَرَجَعَ وَرَجَعَ النَّاسُ مَعَهُ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " لبن الحمقى يُعْدِي ".
فَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ " فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ رَدُّ قَوْلِهِمْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ إِلَّا مِنْ عَدْوَى الْأَوَّلِ، وَلَوْلَاهُ مَا جَرِبَتْ، وَقَالَ: " مِنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ " أَيْ إِذَا كَانَ الْأَوَّلُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يعني عَدْوَى كَانَ مَا بَعْدَهُ مِنْهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ أَضَافَ الشَّافِعِيُّ الْعَدْوَى إِلَى الْجُذَامِ وَالْبَرَصِ، وَلَمْ يُضِفْهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
قِيلَ: عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ وَالتَّوَسُّعِ فِي الْعِبَارَةِ كَمَا يُقَالُ: طَالَتِ النَّخْلَةُ، وَقَصُرَ اللَّيْلُ وَأَثْمَرَتِ الشَّجَرَةُ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْفَاعِلُ لِذَلِكَ.
فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَحْكَامِ الْعُيُوبِ فَوَجَدَ الزَّوْجُ بِالزَّوْجَةِ قَلِيلًا مِنْ بَرَصٍ أَوْ جذام عرض بِهِ فَانْتَشَرَ وَزَادَ حَتَّى صَارَ كَثِيرًا لَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ، لِأَنَّ الرَّاضِي بِقَلِيلِهِ رَاضٍ بِكَثِيرِهِ، وَلِأَنَّ قَلِيلَهُ فِي الْغَالِبِ يَصِيرُ كَثِيرًا، وَلَوْ ظَهَرَ بِهَا بَرَصٌ فِي غَيْرِ الْمَكَانِ الْأَوَّلِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الثَّانِي أقبح منظراً من الأول كأنه كَانَ الْأَوَّلُ فِي فَخْذِهَا وَحَدَثَ الثَّانِي فِي وَجْهِهَا فَلَهُ الْخِيَارُ نَصَّ عَلَيْهِ فِي " الْإِمْلَاءِ " لِأَنَّ النَّفْسَ مِنَ الثَّانِي أَشَدُّ نُفُورًا مِنَ الأول.
والضرب الثاني: أن يكن مثل الأول في القبح، كأنه كَانَ الْأَوَّلُ فِي يَدِهَا الْيُمْنَى وَالثَّانِي فِي يَدِهَا الْيُسْرَى فَفِيهِ وَجْهَانِ:(9/343)
أَحَدُهُمَا: لَهُ الْخِيَارُ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي غَيْرِ مَكَانِ الْأَوَّلِ كَانَ عَيْبًا غَيْرَ الْأَوَّلِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا خِيَارَ، لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الأول كالمتصل فَلَوْ رَضِيَ بِبَرَصِهَا فَظَهَرَ بِهَا جُذَامٌ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ بِالْجُذَامِ دُونَ الْبَرَصِ، لِأَنَّهُ قَدْ تأنف نَفْسُهُ الْجُذَامَ، وَلَا تَعَافُ الْبَرَصَ وَلَوْ كَانَ بِهَا جُذَامٌ أَوْ بَرَصٌ فَلَمْ يَخْتَرْ فَسْخَ نِكَاحِهَا حَتَّى زَالَ وَبَرِئَ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَزُولَ قَبْلَ عِلْمِهِ بِهِ فَلَا خيار بعدم مَا يُوجِبُهُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَزُولَ بَعْدَ علمه وقبل فسخه بعذر آخر عَنْهُ فَفِي خِيَارِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَهُ الْخِيَارُ اعْتِبَارًا بِالِابْتِدَاءِ.
وَالثَّانِي: لَا خِيَارَ لَهُ اعْتِبَارًا بالانتهاء.
فَلَوْ وَجَدَ الزَّوْجُ بِهَا عَيْبًا وَوَجَدَتْ بِالزَّوْجِ عَيْبًا، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَخْتَلِفَ الْعَيْبَانِ فَيَكُونُ عَيْبُ أَحَدِهِمَا جُذَامًا وَعَيْبُ الْآخَرِ بَرَصًا، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ الْخِيَارُ بِعَيْبِ صَاحِبِهِ، لِأَنَّ الْمَجْذُومَ قَدْ يَعَافُ الْأَبْرَصَ وَالْأَبْرَصُ قَدْ يَعَافُ الْمَجْذُومَ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتَسَاوَى الْعَيْبَانِ فَيَكُونُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَرَصٌ أَوْ جُذَامٌ فَفِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا خِيَارَ لتكافئهما وأنه ليس بنقص أَحَدُهُمَا عَنْ حَالَةِ صَاحِبِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْخِيَارَ، لِأَنَّهُ قَدْ يَعَافُ مِنْ غَيْرِهِ مَا لَا يَعَافُهُ مِنْ نَفْسِهِ مِنْ بُصَاقٍ وَمُخَاطٍ وَأَذًى - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
مَسْأَلَةٌ
قال الشافعي: " فإن اخْتَارَ فِرَاقَهَا قَبْلَ الْمَسِيسِ فَلَا نِصْفَ مهرٍ وَلَا مُتْعَةَ وَإِنِ اخْتَارَ فِرَاقَهَا بَعْدَ الْمَسِيسِ فَصَدَّقَتْهُ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ فَلَهُ ذَلِكَ وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا بِالْمَسِيسِ وَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ فِي عِدَّتِهَا وَلَا سُكْنَى وَلَا يَرْجِعُ بِالْمَهْرِ عَلَيْهَا ولا على وليها لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال في التي نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا باطلٌ فَإِنْ مَسَّهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا ولم يرده به عليها وهي التي غرته فهو في النكاح الصحيح الذي للزوج فيه الخيار أولى أن يكون للمرأة وإذا كان لها لم يجز أن يغرمه وليها وقضى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي التي نكحت في عدتها أن لها الْمَهْرِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا فُسِخَ النِّكَاحُ بِأَحَدِ الْعُيُوبِ فِي أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا مَهْرَ لَهَا وَلَا مُتْعَةَ سَوَاءٌ(9/344)
كَانَ الْفَسْخُ مَنْ قِبَلِهَا أَوْ مِنْ قِبَلِهِ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنْهَا سَقَطَ بِهِ مَهْرُهَا كَمَا لَوِ ارْتَدَّتْ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الزَّوْجِ فَهُوَ لِعَيْبٍ فِيهَا فَصَارَ مُضَافًا إِلَيْهَا، وَيَكُونُ هذا فائدة الفسخ التي تخالف حُكْمَ الطَّلَاقِ أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ نِصْفُ الْمَهْرِ الَّذِي كَانَ يُلْزِمُهُ بِالطَّلَاقِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَهُوَ لَا يُعْلِمُ بِعَيْبِهَا ثُمَّ عَلِمَ كَانَ عَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ ولم تسقط عَنْهُ بِظُهُورِهِ عَلَى الْعَيْبِ، لِأَنَّ النِّكَاحَ انْقَطَعَ بالطلاق، ولم يرفع بِالْفَسْخِ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي " الْإِمْلَاءِ " ثُمَّ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، وَلَا نَفَقَةَ لَهَا، وَلَا سُكْنَى، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِبْ ذَلِكَ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَجِبَ بِالْفَسْخِ قَبْلَهُ.
فَصْلٌ
وَإِنْ كَانَ الْفَسْخُ بَعْدَ الدُّخُولِ وَذَلِكَ، بِأَنْ لَا يَعْلَمَ بِعَيْبِهَا حَتَّى يُصِيبَهَا فَيَكُونُ لَهُ الْفَسْخُ بَعْدَ الْإِصَابَةِ كَمَا كَانَ لَهُ قَبْلَهَا، فَإِنِ ادَّعَتْ عَلِمَهُ بِالْعَيْبِ قَبْلَ الْإِصَابَةِ وَأَنْكَرَهَا وَأَمْكَنَ الْأَمْرَانِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ عَدَمُ عِلْمِهِ وَثُبُوتُ خِيَارِهِ، فَإِذَا فُسِخَ النِّكَاحُ بَعْدَ الْإِصَابَةِ فَلَهَا مهر مثلها بالإصابة وسواء كَانَ الْفَسْخُ مِنْ جِهَتِهَا أَوْ مِنْ جِهَتِهِ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فلها المهر بما استحل من فرجها " فإن قيل: أفليس لو وطء أَمَةً قَدِ اشْتَرَاهَا ثُمَّ رَدَّهَا بِعَيْبٍ لَمْ يلزمه بالوطء مهر فَهَلَّا كَانَتِ الْمَنْكُوحَةُ إِذَا رُدَّتْ بِعَيْبٍ لَمْ يَلْزَمْهُ بِوَطْئِهَا مَهْرٌ.
قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْوَطْءَ فِي الْمِلْكِ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْمَهْرِ وَفِي النِّكَاحِ مَضْمُونٌ بِالْمَهْرِ، لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي الْبَيْعِ الرَّقَبَةُ، وَفِي النِّكَاحِ الْمَنْفَعَةُ ثُمَّ أَوْجَبْنَا بِالْإِصَابَةِ مَهْرُ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى، وَإِنْ كَانَ الْفَسْخُ بَعْدَ الْإِصَابَةِ لِأَنَّهُ بِعَيْبٍ تَقَدَّمَ عَلَى النِّكَاحِ فَصَارَتْ أَفْعَالُهُ مِنْ أَصِلِهِ فَسَقَطَ مَا تضمنه من صداق مسمى.
فَصْلٌ
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَلَيْهِ مَهْرَ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى، فَهَلْ يَرْجِعُ بَعْدَ غُرْمِهِ عَلَى من غره أو لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: - وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ - يَرْجِعُ بِهِ لِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تعال عَنْهُ - وَذَلِكَ لِزَوْجِهَا غُرْمٌ عَلَى وَلِيِّهَا، وَلِأَنَّ الْغَارَّ قَدْ أَلْجَأَهُ إِلَى الْتِزَامِ الْمَهْرِ بِهَذِهِ الإصابة ولولاه لما لزمه المهر إلا بإصابة مُسْتَدَامَةً فِي نِكَاحٍ ثَابِتٍ فَجَرَى مَجْرَى الشَّاهِدَيْنِ إِذَا أَلْزَمَاهُ بِشَهَادَتِهِمَا غُرْمًا ثُمَّ رَجَعَا لَزِمَهُمَا غُرْمُ مَا اسْتُهْلِكَ بِشَهَادَتِهِمَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: - قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ - لَا يَرْجِعُ عَلَى الْغَارِّ لِقَوْلِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيٍّ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَإِنْ مَسَّهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا " وَلَمْ يَجْعَلْ لِلزَّوْجِ الرُّجُوعَ بِهِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ فِي إِذْنِ الْوَلِيِّ أَوْ عَلَى مَنِ ادَّعَى فِي نِكَاحِهَا أَنَّهُ وَلِيٌّ فَدَلَّ عَلَى أَنْ لَا رُجُوعَ بِالْغَرُورِ، وَلِأَنَّ غُرْمَ الْمَهْرِ بَدَلٌ مِنِ اسْتِهْلَاكِهِ لِلْبُضْعِ وَاسْتِمْتَاعِهِ بِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْجِعَ بِغُرْمِ مَا أَوْجَبَهُ اسْتِهْلَاكُهُ، وَإِنْ كَانَ مَغْرُورًا كَالْمَغْرُورِ فِي مبيع قد استهلكه، ولأن لا يُجْمَعَ بَيْنَ تَمَلُّكِ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ، وَقَدْ يَمْلِكُ الاستمتاع(9/345)
الَّذِي هُوَ مُعَوَّضٌ مُبْدَلٌ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَمَلَّكَ الْمَهْرَ الَّذِي هُوَ عِوَضٌ بَدَلٌ فَإِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى مَنْ غَرَّهُ فَلَا مَسْأَلَةَ وَإِذَا قُلْنَا بِالرُّجُوعِ فَلَا يخول من غره من أن يكون الزوجة أو وليها أو أجنبي فَإِنْ غَرَّهُ الْوَلِيُّ أَوْ أَجْنَبِيٌّ رَجَعَ الزَّوْجُ عَلَيْهِ بَعْدَ غُرْمِهِ بِمَا غَرِمَهُ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، فَلَوْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ قَدْ أَبْرَأَتْهُ مِنْهُ لم يرجع به على الزَّوْجُ عَلَى الْغَارِّ، وَلَوْ رَدَّتْهُ عَلَيْهِ بَعْدَ قَبْضِهِ فَفِي رُجُوعِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَرْجِعُ كالابن.
وَالثَّانِي: يَرْجِعُ، لِأَنَّ رَدَّهَا لَهُ ابْتِدَاءُ هِبَةٍ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الَّتِي غَرَّتْهُ لَمْ يَغْرَمْ لَهَا مِنَ الْمَهْرِ مَا يَرْجِعُ بِهِ عليها، لأنه غير مقيد وَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَدْ سَقَطَ جَمِيعُ مَهْرِهَا بِالْغَرُورِ كَمَا يَرْجِعُ بِجَمِيعِهِ عَلَى غَيْرِهَا لَوْ غَرَّهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ يَسْقُطُ مَهْرُ الْمِثْلِ إِلَّا أَقَلَّ ما يجوز أن يكون مهراً فيلتزمه لَهَا لِئَلَّا يَصِيرَ مُسْتَبِيحًا لِبُضْعِهَا بِغَيْرِ بَذْلٍ.
فصل
فأما العدة فواجبة عليها بالإصابة، لأنه فِرَاشٌ يَلْحَقُ بِهِ وَلَدُهَا، وَأَمَّا النَّفَقَةُ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا فِي الْعِدَّةِ إِنْ كَانَتْ حَائِلًا لِارْتِفَاعِ الْعَقْدِ الْمُوجِبِ لَهَا وَلَا سُكْنَى لَهَا وَإِنْ وَجَبَتْ لِلْمَبْتُوتَةِ، وَفِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ لَهَا إِنْ كَانَتْ حَامِلًا، قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي نَفَقَةِ الْحَامِلِ هَلْ وَجَبَتْ لَهَا أَوْ لِحَمْلِهَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا وَجَبَتْ لَهَا بِالزَّوْجِيَّةِ، فَعَلَى هَذَا لَا نَفَقَةَ لِهَذِهِ لِارْتِفَاعِ عَقْدِ الزَّوْجِيَّةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ النَّفَقَةَ وَجَبَتْ لِحَمْلِهَا فَعَلَى هَذَا لَهَا النَّفَقَةُ، لِأَنَّ حَمْلَهَا فِي اللُّحُوقِ كَحَمْلِ الزَّوْجَةِ.
مَسْأَلَةٌ
قَالَ الشافعي: " وَمَا جَعَلْتُ لَهُ فِيهِ الْخِيَارَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ ثُمَّ حَدَثَ بِهَا فَلَهُ الْخِيَارُ لِأَنَّ ذلك المعنى قائمٌ فيها لحقه في ذلك وحق الولد (قال المزني) رحمه الله وكذلك ما فسخ عقد نكاح الأمة من الطول إذا حدث بعد النكاح فسخه لأنه المعنى الذي يفسخ به النكاح (قال الشافعي) وكذلك هي فيه فإن اختارت فراقه قبل المسيس فلا مهر ولا متعة فإن لم تعلم حتى أصابها فاختارت فراقه فلها المهر مع الفراق والذي يكون به مثل الرتق بها أن يكون مجبوباً فأخيرها مكانها وأيهما تركه أو وطئ بعد العلم فلا خيار له (وقال) في القديم إن حدث به فلها الفسخ وليس له (قال المزني) أولى بقوله إنهما سواءٌ في الحديث كما كانا فيه سواءٌ قبل الحديث (قال) والجذام والبرص فيما زعم أهل العلم بالطب يعدي ولا تكاد نفس أحدٍ تطيب أن يجامع من هو به ولا نفس امرأةٍ بذلك منه وأما الولد فقلما يسلم فإن سلم أدرك ذلك نسله نسأل الله تعالى(9/346)
العافية والجنون والخبل لا يكون معهما تأدية لحق زوجٍ ولا زوجةٍ بعقلٍ ولا امتناعٌ من محرمٍ وقد يكون من مثله القتل ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْعَيْبِ إِذَا كَانَ بِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ قَبْلَ الْعَقْدِ، فَأَمَّا الْعَيْبُ الْحَادِثُ بَعْدَ الْعَقْدِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بِالزَّوْجِ فَلِلزَّوْجَةِ الْخِيَارُ فِيمَا حَدَثَ بِهِ مِنَ الْعُيُوبِ كَمَا ثَبَتَ لَهَا الْخِيَارُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْهَا، وَلَا اعْتِبَارَ بِالنَّفَقَةِ وَكَمَا أَنَّ لَهَا أَنْ تَفْسَخَ بِرِقِّ الزَّوْجِ إِذَا حَدَثَ عِتْقُهَا بَعْدَ الْعَقْدِ كَمَا كَانَ لَهَا أَنْ تَفْسَخَ إِذَا تَقَدَّمَتْ حُرِّيَّتُهَا قَبْلَ الْعَقْدِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْعَيْبُ حَادِثًا بِالزَّوْجَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ، فَفِي خِيَارِ الزَّوْجِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: - قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ - لَا خِيَارَ لَهُ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَغْرُورًا بِهِ لحدوثه فإنه يقدر على دفع الغرور عَنْ نَفْسِهِ بِطَلَاقِهِ فَخَالَفَ مَا تَقَدَّمَ، لِأَنَّهُ كَانَ فِيهِ مَغْرُورًا، وَخَالَفَ الزَّوْجَةَ فِيمَا حَدَثَ، لِأَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى الطَّلَاقِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَهُ الْخِيَارُ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ بِعِتْقِهِ الْمُتَقَدِّمِ دُونَ الْحَادِثِ وَكَانَ لَهَا الْخِيَارُ فِي نِكَاحِ الْعَبْدِ بِعِتْقِهَا الْمُتَقَدِّمِ وَالْحَادِثِ كَذَلِكَ الْعُيُوبُ يَكُونُ لَهُ الْخِيَارُ بِالْمُتَقَدِّمِ مِنْهَا دُونَ الْحَادِثِ، وَيَكُونُ لَهَا الْخِيَارُ بِالْمُتَقَدِّمِ مِنْهَا وَالْحَادِثِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: - قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ - لَهُ الْخِيَارُ بِالْعُيُوبِ الْحَادِثَةِ وَالْمُتَقَدِّمَةِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أن ما تستحقه من الخيار في مقابلة ما تستحق عَلَيْهِ مِنَ الْخِيَارِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) {البقرة: 228) . فَلَمَّا اسْتَحَقَّتِ الزَّوْجَةُ عَلَيْهِ الْخِيَارَ بِالْعُيُوبِ الْحَادِثَةِ اسْتَحَقَّ الْخِيَارَ عَلَيْهَا بِالْعُيُوبِ الْحَادِثَةِ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْعَقْدُ فِيهِ عَلَى مَنَافِعِهِ اسْتَوَى فِيهِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعُيُوبِ، وَمَا حَدَثَ كَالْإِجَارَةِ فَلَمَّا كَانَ لِلزَّوْجِ الْخِيَارُ بِمَا تَقَدَّمَ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ بِمَا حَدَثَ.
فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ ثُبُوتِ الْخِيَارِ بِمَا حَدَثَ مِنَ الْعُيُوبِ فَفُسِخَ بِهِ النِّكَاحُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا مَهْرَ فِيهِ لارتفاع العقد، وَسَوَاءٌ كَانَ الْفَسْخُ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ أَوْ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجَةِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْعَيْبُ حَادِثًا بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَهَا الْمَهْرُ الْمُسَمَّى لِاسْتِقْرَارِهِ بِالدُّخُولِ وَحُدُوثِ مَا أَوْجَبَ الْفَسْخَ بَعْدَ استقراره.(9/347)
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ الدُّخُولِ وَلَا يَعْلَمُ بِهِ إِلَّا بَعْدَ الدخول فلها مهر المثل دون المسمى، لأنه لَمَّا ارْتَفَعَ الْعَقْدُ بِعَيْبٍ تَقَدَّمَ عَلَى الدُّخُولِ صَارَ الدُّخُولُ فِي حُكْمِ الْحَادِثِ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الْعَقْدِ فَسَقَطَ بِهِ الْمُسَمَّى، وَاسْتُحِقَّ بِمَا بَعْدَهُ مَهْرُ الْمِثْلِ.
فَصْلٌ
فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا فَالْخِيَارُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ هَذِهِ الْعُيُوبِ وَحَدَثَ عَلَى الْفَوْرِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهَا، لِأَنَّهَا عُيُوبٌ قد عرف الحظر فِي الْفَسْخِ بِهَا مِنْ غَيْرِ فِكْرٍ وَلَا ارْتِيَاءٍ فَجَرَى مَجْرَى الْعُيُوبِ فِي الْبَيْعِ الَّتِي يثبت فيها الخيار عَلَى الْفَوْرِ، وَخَالَفَ خِيَارَ الْأَمَةِ إِذَا أُعْتِقَتْ تحت عبد في أن خيارها فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عَلَى التَّرَاخِي، لِأَنَّهَا تَحْتَاجُ فِي مَعْرِفَةِ الْحَظِّ لَهَا إِلَى زَمَانِ فِكْرٍ وَارْتِيَاءٍ، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْفَسْخِ حَتَّى يَأْتِيَ الْحَاكِمُ فَيَحْكُمَ لَهُ بِالْفَسْخِ، لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَلَمْ يَثْبُتْ إِلَّا بِحُكْمٍ، وَخَالَفَ عِتْقَ الْأَمَةِ تَحْتَ عَبْدٍ فِي جَوَازِ تَفَرُّدِهَا بِالْفَسْخِ، لِأَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَإِنْ تَصَادَقَ الزَّوْجَانِ عَلَى الْعَيْبِ فَسَخَ الْحَاكِمُ النِّكَاحَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ تَنَاكَرَا فَادَّعَاهُ الزَّوْجُ وَأَنْكَرَتْهُ الزَّوْجَةُ كلف المدعي ببينة، فإن أقامها وإلا أحلف الْمُنْكِرُ وَلَا فَسْخَ، لِأَنَّ الْأَصْلَ السَّلَامَةُ مِنَ الْعُيُوبِ فَلَوْ تَصَادَقَ الزَّوْجَانِ عَلَى الْعَيْبِ وَاتَّفَقَا على الفسخ عن تراضي فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ، لِأَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَ التَّنَازُعِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ ما اشتبه حكمه لم يتعين إلا بالحكم - والله أعلم.
مسألة
قال الشافعي: " وَلِوَلِيِّهَا مَنْعُهَا مِنْ نِكَاحِ الْمَجْنُونِ كَمَا يَمْنَعُهَا من غير كفءٍ فإن قيل فهل في حكم بينهما فيه الخيار أو الفرقة؟ قيل نعم المولى يمتنع من الجماع بيمين لو كانت على غير مأثمٍ كانت طاعة الله أن لا يحنث فأرخص له في الحنث بكفارة اليمين فإن لم يفعل وجب عليه الطلاق والعلم محيطٌ بأن الضرر بمباشرة الأجذم والأبرص والمجنون والمخبول أكثر منها بترك مباشرة المولى ما لم يحنث ".
قال الماوردي: أما إذا أوصى الْوَلِيُّ أَنْ يُزَوِّجَهَا بِمَنْ فِيهِ أَحَدُ هَذِهِ الْعُيُوبِ فَامْتَنَعَتْ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، وَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ إِجْبَارُهَا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ أَبًا، لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ حَقِّهَا مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ زَوَّجَهَا بِهِ لَكَانَ لَهَا الْفَسْخُ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ لَهَا الِامْتِنَاعُ قَبْلَ الْعَقْدِ، فَأَمَّا إِذَا رَضِيَتْ بِمَنْ فِيهِ أَحَدُ هَذِهِ الْعُيُوبِ، وَامْتَنَعَ الْوَلِيُّ فَالْعُيُوبُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهُمَا: مَا لِلْوَلِيِّ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ نِكَاحِ مَنْ هِيَ فِيهِ، وَذَلِكَ الْجُنُونُ وَالْخَبَلُ لِمَا فِيهِ مِنْ عار على الأولياء فكان لهم دفعه عنه بِالِامْتِنَاعِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَنْعُهَا من نكاح من هي فيه، وذلك العنت،(9/348)
والجب، والخصاء لأنه عَارَ فِيهِ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ، وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ بِعَدَمِ الاستمتاع الذي هو حق لا دُونَ الْأَوْلِيَاءِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا فِيهِ، وَهُوَ الْجُذَامُ، وَالْبَرَصُ وَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَنْعُهَا مِنْ مَجْذُومٍ وَلَا أبرص لاختصاصها بِالِاسْتِمْتَاعِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهُ مَنْعُهَا مِنْهُمَا لِنُفُورِ النُّفُوسِ مِنْهُمَا، وَلِتَعَدِّي ذَلِكَ إِلَى نَسْلِهَا فَأَمَّا إِنْ حَدَثَتْ هَذِهِ الْعُيُوبُ فِي الزَّوْجِ بَعْدَ الْعَقْدِ فَالْخِيَارُ لَهَا دُونَ الْأَوْلِيَاءِ فَإِنْ رَضِيَتْ وَكَرِهَ الْأَوْلِيَاءُ كَانَ رِضَاهَا أَوْلَى وَلَا اعْتِرَاضَ لِلْأَوْلِيَاءِ، لِأَنَّ حَقَّهُمْ مُخْتَصٌّ بِطَلَبِ الْكَفَاءَةِ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ دون استدامته.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا مسلمةٌ فَإِذَا هِيَ كتابيةٌ كَانَ لَهُ فَسْخُ النِّكَاحِ بِلَا نِصْفِ مهرٍ وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا كتابيةٌ فَإِذَا هِيِ مسلمةٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَسْخُ النِّكَاحِ لِأَنَّهَا خيرٌ من كتابية (قال المزني) رحمه الله هذا يدل عَلَى أَنَّ مَنِ اشْتَرَى أَمَةً عَلَى أَنَّهَا نصرانية فأصابها مسلمةً فليس للمشتري أن يردها وإذا اشتراها على أنها مسلمةً فوجدها نصرانية فله أن يردها ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي أَنَّ خِلَافَ الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ هَلْ تَجْرِي مَجْرَى خِلَافِ الْعَيْنِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فَإِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا مُسْلِمَةٌ فَوَجَدَهَا نَصْرَانِيَّةً فَفِي النِّكَاحِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ.
وَالثَّانِي: جائز نص عليه هاهنا، وَهَلْ لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ أَمْ لا؟ على قولين،
أحدها: لَا خِيَارَ لَهُ.
وَالثَّانِي: لَهُ الْخِيَارُ نَصَّ عليه هاهنا، وَهَكَذَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا نَصْرَانِيَّةٌ فَكَانَتْ مسلمة كان عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ.
وَالثَّانِي: جَائِزٌ وَلَا خِيَارَ لَهُ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّ الْمُسْلِمَةَ أَعْلَى حَالًا مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ، فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ، فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنِ اشْتَرَى أَمَةً عَلَى أَنَّهَا مُسْلِمَةٌ فَكَانَتْ نَصْرَانِيَّةً أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ، وَلَوِ اشْتَرَاهَا عَلَى أَنَّهَا نَصْرَانِيَّةٌ، فَكَانَتْ مُسْلِمَةً فَلَيْسَ لَهُ خِيَارٌ كَالنِّكَاحِ فَرَدَّ أَصْحَابُنَا ذَلِكَ عليه، وقالوا له: في البيع الْخِيَارِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْبَيْعِ وُفُوْرُ الثَّمَنِ، وَالثَّمَنُ يَتَوَفَّرُ بِكَثْرَةِ الطَّالِبِ وَطَالِبُ النَّصْرَانِيَّةِ أَكْثَرُ مِنْ(9/349)
طَالِبِ الْمُسْلِمَةِ، لِأَنَّ النَّصْرَانِيَّةَ يَشْتَرِيهَا الْمُسْلِمُونَ وَالنَّصَارَى وَالْمُسْلِمَةُ لَا يَشْتَرِيهَا إِلَّا الْمُسْلِمُونَ دُونَ النَّصَارَى فَإِذَا اشْتَرَاهَا عَلَى أَنَّهَا نَصْرَانِيَّةٌ فَكَانَتْ مُسْلِمَةً كَانَ لَهُ الْخِيَارُ، لِأَنَّهَا أَقَلُّ طَلَبًا فَصَارَتْ أَقَلَّ ثَمَنًا، وَلَوِ اشْتَرَاهَا عَلَى أَنَّهَا مُسْلِمَةٌ فَكَانَتْ نَصْرَانِيَّةً فَلَهُ الْخِيَارُ لِنَقْصِهَا بِالدِّينِ، وَأَنَّ الْمُسْلِمَةَ أَحْسَنُ مِنْهَا عِشْرَةً، وَأَكْثَرُ نَظَافَةً وَطَهَارَةً، وَلَيْسَ كَذَلِكَ النِّكَاحُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْعِشْرَةُ وَحُسْنُ الصُّحْبَةِ وَكَمَالُ الْمُتْعَةِ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْمُسْلِمَةِ أَوْجَدُ مِنْهُ فِي النَّصْرَانِيَّةِ، فَافْتَرَقَ حُكْمُ البيع والنكاح بما ذكرناه.
فَصْلٌ
وَإِذَا تَزَوَّجَتْ مُسْلِمَةٌ رَجُلًا عَلَى أَنَّهُ مُسْلِمٌ فَكَانَ نَصْرَانِيًّا فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ تزوجت بِغَيْرِ شَرْطٍ، لَأَنَّ الْمُسْلِمَةَ لَا تَحِلُّ لِكَافِرٍ وَلَوْ تَزَوَّجَتْ نَصْرَانِيَّةٌ رَجُلًا عَلَى أَنَّهُ مُسْلِمٌ فَكَانَ نَصْرَانِيًّا فَفِي النِّكَاحِ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ.
وَالثَّانِي: جَائِزٌ وَلَهَا الْخِيَارُ قَوْلًا وَاحِدًا لِنُقْصَانِ دِينِهِ، وَأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ فِرَاقَهُ إِلَّا بِالْفَسْخِ وَلَوْ تَزَوَّجَتْهُ عَلَى أَنَّهُ نَصْرَانِيٌّ فَكَانَ مُسْلِمًا، فَفِي النِّكَاحِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ.
وَالثَّانِي: جَائِزٌ، وَلَهَا الْخِيَارُ وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ أَفْضَلَ دِينًا، لِأَنَّهَا إِلَى مَنْ وَافَقَهَا فِي الدِّينِ أَرْغَبُ وَهِيَ مِمَّنْ خَالَفَهَا فِيهِ أنفر.
فصل
وإذا تَزَوَّجَ الْمُسْلِمُ امْرَأَةً بِغَيْرِ شَرْطٍ يَظُنُّهَا مُسْلِمَةً فكانت نصرانية، فالنكاح جائز لا خِيَارَ لَهُ وَلَوْ تَزَوَّجَهَا يَظُنُّهَا حُرَّةً فَكَانَتْ أَمَةً فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ إِذَا كَانَ مِمَّنْ يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ الْإِمَاءِ، وَفِي خِيَارِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - لَا خِيَارَ لَهُ كَالنَّصْرَانِيَّةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ - لَهُ الْخِيَارُ.
وَالْفَرْقُ بينهما: أن ولي النصرانية متميز الهبة عَنْ وَلِيِّ الْمُسْلِمَةِ وَوَلِيَّ الْأَمَةِ لَا يَتَمَيَّزُ عَنْ وَلِيِّ الْحُرَّةِ وَلِأَنَّ وَلَدَهُ مِنَ الْأَمَةِ مَرْقُوقٌ وَمِنَ النَّصْرَانِيَّةِ مُسْلِمٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(9/350)
باب الأمة تغر من نفسها من الجامع من كتاب النكاح الجديد ومن التعريض بالخطبة ومن نكاح القديم ومن النكاح والطلاق، إملاءً على مسائل مالكٍ
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وإذا وكل بتزويج أَمَتِهِ فَذَكَرَتْ وَالْوَكِيلُ أَوْ أَحَدُهُمَا أَنَّهَا حرةٌ فتزوجها ثم علم فله الخيار فإن اختار فراقها قبل الدخول فلا نصف مهر ولا منعه وإن أصابها فلها مهر مثلها كان أكثر مما سمى أو أقل لأن فراقها فسخ ولا يرجع به فإن كانت ولدت فهم أحرارٌ وعليه قيمتهم يوم سقطوا وذلك أول ما كان حكمهم حكم أنفسهم لسيد الأمة ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ مَضَتْ وَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ فَتَكُونُ أَمَةً، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ مِمَّنْ لَا يَنْكِحُ الْأَمَةَ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَنْكِحُ الْأَمَةَ إِلَّا أَنَّهَا مَنْكُوحَةٌ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَتْ مَنْكُوحَةً بِإِذْنِ السَّيِّدِ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي شَرَطَ حُرِّيَّتَهَا فَقَدْ عَتَقَتْ وَالنِّكَاحُ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ هُوَ الَّذِي شَرَطَ حُرِّيَّتَهَا إِمَّا هِيَ أَوْ وَكِيلُهُ أَوْ هُمَا فَهِيَ حِينَئِذٍ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ وَفِي النِّكَاحِ قَوْلَانِ حُرًّا كَانَ الزَّوْجُ أَوْ عَبْدًا:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ، فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَعَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا، فَإِنْ أَوْلَدَهَا كَانَ وَلَدُهُ حراً، لأنه على شرط الحرية، أو ولده سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا غَرِمَ مَهْرَ الْمِثْلِ وَقِيمَةِ الْوَلَدِ وَقْتَ الْوِلَادَةِ وَرَجَعَ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ، لِأَنَّهُ أَلْجَأَهُ إِلَى غُرْمِهِ، وَهَلْ يَرْجِعُ بِمَهْرِ مِثْلِهَا عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قولين، وإن كان الزوج عبداً ففي ما قَدْ لَزِمَهُ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَقِيمَةِ الْوَلَدِ على ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: فِي كَسْبِهِ.
وَالثَّانِي: فِي ذِمَّتِهِ إِذَا أَيْسَرَ بَعْدَ عِتْقِهِ.
وَالثَّالِثُ: فِي رَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهِ إِلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ سَيِّدُهُ، وَهَذِهِ الْأَقَاوِيلُ الثَّلَاثَةُ مِنْ أَصْلَيْنِ فِي كُلِّ أَصْلٍ مِنْهُمَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا نَكَحَ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدُهُ، هَلْ يَكُونُ الْمَهْرُ إِنْ وَطِئَهَا فِي ذِمَّتِهِ أَوْ فِي رَقَبَتِهِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي النِّكَاحِ فَنَكَحَ نِكَاحًا فَاسِدًا، هَلْ يَدْخُلُ فِي(9/351)
جُمْلَةِ إِذْنِهِ، وَيَكُونُ الْمَهْرُ وَالنَّفَقَةُ فِي كَسْبِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، ثُمَّ لَا رُجُوعَ لِلْعَبْدِ قَبْلَ غُرْمِ الْمَهْرِ وَقِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى الْغَارِّ لَهُ، فَإِذَا غَرِمَهَا رَجَعَ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ وَفِي رُجُوعِهِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ قَوْلَانِ، فَهَذَا إِذَا قِيلَ: إِنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي الْأَصْلِ إِنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا، فَهَلْ لَهُ الْخِيَارُ فِي الْفَسْخِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، يَقُولُ خِيَارُهُ عَلَى قولين كالحر لمكان شروطه وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَقُولُ لَا خِيَارَ لَهُ بِخِلَافِ الْحُرِّ لِمُسَاوَاتِهِ لَهَا فِي الرِّقِّ، فَإِذَا قِيلَ لَهُمَا الْخِيَارُ فَاخْتَارَا الْفَسْخَ فَالْحُكْمُ فِي الْمَهْرِ، وَقِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى مَا مَضَى.
وَإِذَا قِيلَ بِأَنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ، وَإِنِ اخْتَارَ الْمُقَامَ أَوْ قِيلَ إِنَّ لَيْسَ لَهُ خِيَارٌ فالحكم في الحالين واحد، وهو أن يختلف عَلَيْهِ الْمَهْرُ الْمُسَمَّى بِالْعَقْدِ وَأَوْلَادُهُ مِنْهَا قَبْلَ علمه أحراراً، وَبَعْدَ عِلْمِهِ مَمَالِيكَ فَمَنْ وَضَعَتْهُ مِنْهُمْ لِأَقَلَّ من ستة أشهر بعد علمه فهم أحراراً، لِأَنَّهُمْ عَلَقُوا قَبْلَ عِلْمِهِ وَمَنْ وَضَعَتْهُ بَعْدَ علمه بستة أشهر فصاعداً فهم مَمَالِيكُ، وَلَا يَرْجِعُ بِالْمَهْرِ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّهُ الْمُسَمَّى بِعَقْدٍ صَحِيحٍ، وَيَرْجِعُ بِقِيمَةِ مَنْ عَتَقَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَوْلَادِ، لِأَنَّهُ الْتَزَمَهَا بِالْغَرُورِ دُونَ الْعَقْدِ فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا كَانَ الْمَهْرُ فِي كَسْبِهِ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّهُ نِكَاحٌ قَدْ صَحَّ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ وَلَا يَكُونُ قِيمَةُ الْوَلَدِ فِي كَسْبِهِ؟ لِأَنَّ إِذْنَ سَيِّدِهِ بِالنِّكَاحِ لَا يقتضيها وأين تكون؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي رَقَبَتِهِ.
وَالثَّانِي: فِي ذمته إذا أعتق، وَيَكُونُ مَا اسْتُحِقَّ مِنَ الْمَهْرِ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ وَفَسَادِهِ مِلْكًا لِلسَّيِّدِ، لِأَنَّهُ مِنْ كَسْبِ أمته، ويكون من رق من الأولاد مِلْكًا لِلسَّيِّدِ وَقِيمَةُ مَنْ عَتَقَ مِنْهُمْ لِلسَّيِّدِ.
مسألة
قال الشافعي: " وَلَا يَرْجِعُ بِهَا عَلَى الَّذِي غَرَّهُ إِلَّا بعد أن يغرمها فإن كان الزوج عبداً فولده أحرارٌ لأنه تزوج على أنهم أحرارٌ ولا مهر له عليه حتى بعتق (قال المزني) وقيمة الولد في معناه وهذا يدل على أن لا غرم على من شهد على رجلٍ بقتل خطأ أو بعتقٍ حتى يغرم للمشهود له (قال الشافعي) رحمه الله وإن كانت هي الغارة رجع عليها به إذا أعتقت ".
قال الماوردي: فذكرنا أن الزوج يرجع بما غرمه من قيمته الْوَلَدِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَفِي رُجُوعِهِ بِمَا غَرِمَهُ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى قَوْلَانِ، وَرُجُوعُهُ بِذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى مَنْ غَرَّهُ بَعْدَ غُرْمِهِ فَأَمَّا قَبْلَهُ فَلَا رُجُوعَ لَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَغْرَمْ مَا يَرْجِعُ بِهِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَبْرَأَ مِنْهُ فَلَا يَرْجِعُ بِهِ.(9/352)
قَالَ الْمُزَنِيُّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ شَهِدَ عَلَى رَجُلٍ بِقَتْلٍ خَطَأٍ ثُمَّ رَجَعَ الشُّهُودُ لَمْ يَلْزَمْهُمْ غُرْمُ الدِّيَةِ إِلَّا بَعْدَ أن يغرمها الْعَاقِلَةُ فَيَرْجِعُ بِهَا حينئذٍ عَلَى الشُّهُودِ وَهَذَا صحيح، لأنه قبل الغرم قد يجوز أن يبرأ الْعَاقِلَةُ فَلَا يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعُ، فَإِذَا غَرِمَ الزَّوْجُ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُنْسَبَ الْغَرُورُ إِلَى السَّيِّدِ، لِأَنَّهَا تَعْتِقُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ هِيَ حُرَّةٌ فَلَا يَكُونُ غَارًّا، وَإِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْغَرُورُ إِمَّا مِنْهَا، أَوْ مِنْ وَكِيلِهِ فِي نِكَاحِهَا، أَوْ مِنْهُمَا مَعًا، فَإِنْ تَفَرَّدَ الْوَكِيلُ بِغَرُورِ الزَّوْجِ رَجَعَ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ وَمَهْرِ الْمِثْلِ فِي الْحَالِ إِنْ كَانَ مُوسِرًا، وَأُنْظِرَ إِلَى مَيْسَرَتِهِ إِنْ كَانَ مُعْسِرًا، وَإِنْ تَفَرَّدَتِ الأمة بالغرور يرجع الزوج عليها بقيمة الولد، وبجميع مَهْرِ الْمِثْلِ وَلَا يَتْرُكُ عَلَيْهَا شَيْئًا مِنْهُ، لِأَنَّهُ قَدْ غَرِمَ جَمِيعَهُ لِلسَّيِّدِ فَلَمْ يَصِرْ بُضْعُهَا مُسْتَهْلَكًا بِغَيْرِ مَهْرٍ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي ذِمَّتِهَا لِأَنَّهَا أَمَةٌ تُؤَدِّيهِ إِذَا أَيْسَرَتْ بَعْدَ الْعِتْقِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا كَانَ ذَلِكَ فِي رَقَبَتِهَا تُبَاعُ فِيهِ كَالْعَبْدِ إِذَا نَكَحَ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ وَلَزِمَهُ الْمَهْرُ بِإِصَابَتِهِ كَانَ فِي رَقَبَتِهِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ.
قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الرَّقَبَةَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا إِلَّا جِنَايَةٌ، وَوَطْءُ الْعَبْدِ جِنَايَةٌ تُوجِبُ الْغُرْمَ فَجَازَ أَنْ يتعلق بِرَقَبَتِهِ، وَلَيْسَ غَرُورُ الْأَمَةِ جِنَايَةً وَلَا الْغُرْمُ بِهَا يَتَعَلَّقُ وَإِنَّمَا تَعَلَقَّ بِوَطْءِ الزَّوْجِ فَلَمْ يجز أن يتعلق برقبتها، وإن اشتراك الْوَكِيلُ، وَالْأَمَةُ فِي الْغَرُورِ كَانَ غُرْمُ الْمَهْرِ وقيمة الأولاد بينهما نصفين لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْغَرُورِ، لَكِنْ مَا وَجَبَ عَلَى الْوَكِيلِ مَنْ نِصْفِ الْغُرْمِ يُؤْخَذُ بِهِ مُعَجَّلًا، لِأَنَّهُ حُرٌّ، وَمَا وَجَبَ عَلَى الْأَمَةِ مَنْ نِصْفِ الْغُرْمِ تُؤْخَذُ بِهِ إِذَا أَيْسَرَتْ بَعْدَ العتق.
مسألة
قال الشافعي: " إلا أن تكون مكاتبةً فيرجع عَلَيْهَا فِي كِتَابَتِهَا، لِأَنَّهَا كَالْجِنَايَةِ فَإِنْ عَجَزَتْ فحتى تعتق فإن ضربها أحدٌ فألقت جنيناً ففيه ما في جنين الحرة (قال المزني) رحمه الله قد جعل الشافعي جنين المكاتبة كجنين الحرة إذا تزوجها على أنها حرة ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ فَكَانَتْ مُكَاتِبَةً كَانَ فِي نِكَاحِهَا قَوْلَانِ كَالْأَمَةِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ.
وَالثَّانِي: جَائِزٌ:
وَهَلْ لَهُ الْخِيَارُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْأَمَةِ.
فَإِذَا قِيلَ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ، وَأَنْ لَا خِيَارَ فِيهِ أَوْ فِيهِ الْخِيَارُ فَاخْتَارَ الْمُقَامَ عَلَيْهِ فَالْمَهْرُ الْمُسَمَّى بِالْعَقْدِ وَاجِبٌ وَهُوَ لِلْمُكَاتِبَةِ دُونَ سَيِّدِهَا، لِأَنَّهُ مِنْ كَسْبِهَا وَاكْتِسَابُ الْمُكَاتِبَةِ لَهَا بِخِلَافِ الْأَمَةِ، فَأَمَّا أَوْلَادُهَا الَّذِينَ عُلِّقَتْ بِهِمْ بَعْدَ عِلْمِ الزَّوْجِ بِكِتَابَتِهَا فَفِيهِمْ قَوْلَانِ:(9/353)
أَحَدُهُمَا: مَمَالِيكُ لِسَيِّدِهَا.
وَالثَّانِي: تَبَعٌ لَهَا يُعْتَقُونَ بِعِتْقِهَا إِنْ أَدَّتْ، وَيَرِقُّونَ بِرِقِّهَا إِنْ عَجَزَتْ.
وَإِذَا قِيلَ بِبُطْلَانِ النِّكَاحِ أَوْ قِيلَ بِصِحَّتِهِ، وَفِيهِ الْخِيَارُ فَاخْتَارَ الْفَسْخَ فَالْحُكْمُ فِي الْحَالَيْنِ سَوَاءٌ وَيَنْظُرُ فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا الزَّوْجُ فَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ دَخَلَ بِهَا فَعَلَيْهِ مَهْرُ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى يَكُونُ ذَلِكَ لِلْمُكَاتِبَةِ دُونَ سَيِّدِهَا، وَعَلَيْهِ قِيمَةُ أَوْلَادِهَا وَفِيمَنْ تَكُونُ لَهُ قِيمَتُهُمْ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لِلسَّيِّدِ إِذَا قِيلَ: إِنَّهُمْ عَبِيدُهُ لَوْ رَقُّوا.
وَالثَّانِي: لِلْمُكَاتِبَةِ إِذَا قِيلَ: إِنَّهُمْ تَبَعٌ لَهَا ثُمَّ فِيمَا يَأْخُذُهُ مِنْ قِيمَتِهِمْ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - تستعين بِهِ فِي كِتَابَتِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ - إنَّهُ يَكُونَ مَوْقُوفًا كَمَا يُوقَفُ الْأَوْلَادُ لَوْ رَقُّوا، فَإِنْ عَتَقَتْ بِالْأَدَاءِ مَلَكَتْ قِيمَتَهُمْ، وَإِنْ رَقَّتْ بِالْعَجْزِ كَانَتْ قِيمَتُهُمْ لِلسَّيِّدِ وَيَرْجِعُ الزَّوْجُ بِقِيمَةِ الْأَوْلَادِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ فَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ هُوَ الَّذِي غَرَّهُ رَجَعَ عَلَيْهِ بِهَا بَعْدَ غُرْمِهَا سَوَاءٌ غَرِمَهَا لِلْمُكَاتِبَةِ أَوْ لِسَيِّدِهَا، وَإِنْ كَانَتِ الْمُكَاتِبَةُ هِيَ الَّتِي غَرَّتْهُ فَإِنْ قِيلَ: يَجِبُ لِلسَّيِّدِ غُرْمَهَا لِلسَّيِّدِ ثُمَّ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْمُكَاتِبَةِ فِي مَالِ كِتَابَتِهَا فَإِنْ عَجَزَتْ وَرَقَّتْ فَبَعْدَ عتقها.
وإن قيل: تجب قِيمَةُ الْأَوْلَادِ لَهَا دُونَ السَّيِّدِ سَقَطَتْ عَنْهُ ولم يغرمها، لأنه لو غرمها لرجح بِهَا، وَأَمَّا الْمَهْرُ فَفِي رُجُوعِ الزَّوْجِ بِهِ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى.
فَإِنْ قِيلَ: لَا يرجع به دفع جمعيه إِلَيْهَا.
وَإِنْ قِيلَ: يَرْجِعُ بِهِ نَظَرَ فِي الْغَارِّ بِهِ، فَإِنْ كَانَ الْوَكِيلَ غَرِمَ لَهَا مَهْرَهَا وَرَجَعَ بِجَمِيعِهِ عَلَى الْوَكِيلِ وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْغَارَّةُ سَقَطَ عَنْهُ الْمُهْرُ، لِأَنَّهُ لَهَا وهل يسقط جميعه أم لا؟ فيه وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَسْقُطُ جَمِيعُهُ، لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ على غيرها بجميعه.
والوجه الثاني: لَا يَسْقُطُ إِلَّا أَقَلُّ مَا يَجُوزُ، أَنْ يَكُونَ مَهْرًا فَيَلْزَمُهُ دَفْعُهُ إِلَيْهَا وَلَا يَرْجِعُ به عليها، لأن لا يصير مُسْتَمْتَعًا بِبُضْعِهَا مِنْ غَيْرِ بَذْلٍ.
فَصْلٌ
فَلَوْ كانت والمسألة بحالها حَامِلًا مِنْ هَذَا الزَّوْجِ الْمَغْرُورِ فَضُرِبَ بَطْنُهَا، فَأَلْقَتْ حَمْلَهَا جَنِينًا مَيِّتًا فَعَلَى الضَّارِبِ فِي جَنِينِهَا غِرَّةُ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ، لِأَنَّهُ حُرٌّ فِي حَقِّهِ وَيَكُونُ ذَلِكَ لِلزَّوْجِ، لِأَنَّهُ أَبُوهُ وَوَارِثُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الضَّارِبَ فَلَا يَرِثْهُ، لِأَنَّهُ صَارَ قَاتِلًا وَلَا تَرِثْهُ الْأُمُّ، لِأَنَّهَا مُكَاتِبَةٌ وَيَكُونُ عَلَى الزَّوْجِ فِيهِ عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّهِ كَالَّذِي يَكُونُ فِي جَنِينٍ مَمْلُوكٍ، لِأَنَّهُ فِيمَا يُسْتَحَقُّ عَلَى الْأَبِ مِنَ الْغُرْمِ فِي حُكْمِ الْجَنِينِ الْمَمْلُوكِ وَفِيمَا يَسْتَحِقُّهُ(9/354)
الْأَبُ عَلَى الضَّارِبِ مِنَ الدِّيَةِ فِي حُكْمِ الجنين الحر وفيمن يَسْتَحِقُّ مَا غَرِمَهُ الْأَبُ مِنْ عُشْرِ قِيمَةِ أُمِّهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ لِلسَّيِّدِ إِذَا قِيلَ: إِنَّ الْوَلَدَ مِلْكٌ لَهُ لَوْ رَقَّ.
وَالثَّانِي: يَكُونُ لِلْأُمِّ الْمُكَاتِبَةِ إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ يَكُونُ تَبَعًا لَهَا لَوْ رَقَّ، وَهَلْ تَسْتَعِينُ بِهِ فِي مَالِ كِتَابَتِهَا أَوْ يَكُونُ مَوْقُوفًا بِيَدِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ ثُمَّ يَكُونُ رُجُوعُ الزَّوْجِ بِهِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ مُسْتَحَقٌّ عَلَى مَا مَضَى - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.(9/355)
باب الأمة تعتق وزوجها عبدٌ من كتابٍ قديمٍ ومن إملاءٍ وكتاب نكاحٍ وطلاقٍ إملاءٍ على مسائل مالكٍ
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " أَخْبَرَنَا مالكٌ عَنْ رَبِيعَةَ عَنِ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها أَنَّ بَرِيرَةَ أُعْتِقَتْ فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (قال) وفي ذلك دليلٌ على أن ليس بيعها طلاقها إِذْ خَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْدَ بَيْعِهَا فِي زَوْجِهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا كَانَتْ الْأَمَةُ ذَاتَ زَوْجٍ فبيعت أو أعتقت كَانَ النِّكَاحُ بِحَالِهِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَلَاقًا لَهَا.
وَبِهِ قَالَ عُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَاصٍّ وَأَكْثَرُ الصَّحَابَةِ، وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَأَنَسُ بْنُ مالك إلى أن بيعها طلاق لها، وَكَذَلِكَ عِتْقُهَا، وَلَا نَعْرِفُ قَائِلًا بِهِ مِنَ التابعين إلا مجاهد استدلالاً بقول اللَّهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) {النساء: 23) . إِلَى قَوْلِهِ: {وَالمُحْصَنَاتِ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ) {النساء: 24) . فَحَرَّمَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ إِلَّا أَنْ يُمْلَكْنَ فَيَحْلِلْنَ لِلْمَالِكِ، وَهَذِهِ قَدْ مُلِكَتْ بِالِابْتِيَاعِ فوجب أن تحل لمالكها، لأنه لَمَّا حَلَّتْ ذَاتُ الزَّوْجِ بِالسَّبْيِ لِحُدُوثِ مِلْكِ السَّابِي وَجَبَ أَنْ تَحِلَّ بِالشِّرَاءِ لِحُدُوثِ مِلْكِ الْمُشْتَرِي.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِ النِّكَاحِ أَنَّ بَرِيرَةَ أُعْتِقَتْ تَحْتَ زَوْجٍ فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي نِكَاحِهِ، فَلَوْ كَانَ نِكَاحُهَا قَدْ بَطَلَ بِعِتْقِهَا لِأَخْبَرَهَا بِهِ وَلَمْ يُخَيِّرْهَا فِيهِ، وَلِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ أَثْبَتُ مِنْ عَقْدِ الْإِجَارَةِ لِدَوَامِهِ فَلَمَّا لَمْ يَبْطُلْ عَقْدُ الْإِجَارَةِ بِالْعِتْقِ وَالْبَيْعِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَبْطُلَ بِهِمَا عَقْدُ النِّكَاحِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ بَيْعُ الزَّوْجِ وَعِتْقُهُ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ نِكَاحِهِ كَذَلِكَ بَيْعُ الزَّوْجَةِ، وَعِتْقُهَا لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ نِكَاحِهَا، وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَلَكَ عَنِ الْبَائِعِ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي كَانَ الْبَائِعُ مَالِكَهَا فَلَمَّا كَانَ النِّكَاحُ مُقَرًّا عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ كَانَ مُقَرًّا عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي، فَأَمَّا الْآيَةُ فَوَارِدَةٌ فِي السَّبَايَا.
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالسَّبَايَا فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ السَّبْيَ لَمَّا أَبْطَلَ الْحُرِّيَّةَ الَّتِي هِيَ أَقْوَى، كَانَ بِأَنْ يُبْطِلَ النِّكَاحَ أَوْلَى وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْبَيْعُ والعتق.(9/356)
وَالثَّانِي: أَنَّ السَّبْيَ قَدْ أَحْدَثَ حَجْرًا فَجَازَ أَنْ يَبْطُلَ بِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ نِكَاحِهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْبَيْعُ وَالْعِتْقُ.
فَصْلٌ
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ النِّكَاحَ بِحَالِهِ فَعَلَى الْمُشْتَرِي إِقْرَارُ الزَّوْجِ عَلَى نِكَاحِهِ، وَلَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ إِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِنِكَاحِهِ لِتَفْوِيتِ بُضْعِهَا عليه.
مسألة
قال الشافعي: " وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ كان عبداً وعن ابن عباس أنه كان عبداً يقال له مغيثٌ كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للعباس رضي الله عنه يا عباس ألا تعجب من حب مغيثٍ بريرة ومن بغض بريرة مغيثاً؟ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لو راجعته فإنما هو أبو ولدك " فقالت يا رسول الله بأمرك؟ قال " إنما أنا شفيعٌ " قالت فلا حاجة لي فيه وعن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ كان عبداً (قال الشافعي) رحمه الله ولا يشبه العبد الحر لأن العبد لا يملك نفسه ولأن للسيد إخراجه عنها ومنعه منها ولا نفقة عليه لولدها ولا ولاية ولا ميراث بينهما ".
قال الماوردي: أما إذا أعتقت الْأَمَةُ تَحْتَ زَوْجٍ، وَكَانَ عَبْدًا فَلَهَا الْخِيَارُ فِي فَسْخِ نِكَاحِهِ لِكَمَالِهَا وَنَقْصِهِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِبَرِيرَةَ: " مَلَكْتِ نَفْسَكِ فَاخْتَارِي ".
فَأَمَّا إِذَا أعتقت الأمة وَزَوْجُهَا حُرٌّ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي خِيَارِهَا فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهَا.
وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةُ.
وَمِنَ التَّابِعِينَ: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: رَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ.
وَقَالَ أبو حنيفة: وَصَاحِبَاهُ: لَهَا الْخِيَارُ.
وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَالثَّوْرِيُّ، وَطَاوُسٌ اسْتِدْلَالًا برواية إبراهيم بن الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَيَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَرِيرَةَ، وَكَانَ زَوْجُهَا حُرًّا، وَهَذَا نَصٌّ قَالُوا: وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِبَرِيرَةَ: " قَدْ مَلَكْتِ بُضْعَكِ فَاخْتَارِي " فَجَعَلَ عِلَّةَ اخْتِيَارِهَا أَنَّهَا مَلَكَتْ بُضْعَهَا، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ موجودة إذا أعتقت تحت حر لوجودها إذا أعتقت تَحْتَ عَبْدٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهَا الْخِيَارُ فِي الْحَالَيْنِ قَالَ: وَلِأَنَّهَا أُعْتِقَتْ تَحْتَ زَوْجٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهَا الْخِيَارُ.(9/357)
أَصْلُهُ: إِذَا كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا، وَلِأَنَّهُ قَدْ ملك عليها بعضها بعد العتق بمهر ملكه غَيْرُهَا فِي الرِّقِّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهَا فسخه فيصح أَنْ تَمْلِكَ بِالْحُرِّيَّةِ مَا كَانَ مَمْنُوعًا عَلَيْهَا فِي الْعُبُودِيَّةِ.
وَدَلِيلُنَا: مَا رَوَاهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَعَمْرَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَيَّرَ بَرِيرَةَ، وَكَانَ زَوْجُهَا عَبْدًا.
فَوَجْهُ الدَّلِيلِ فيه أن الحكم إذا انتقل مَعَ السَّبَبِ تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِذَلِكَ السَّبَبِ كَمَا إذا نقل الحكم مع علة تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِتِلْكَ الْعِلَّةِ، وَقَدْ نُقِلُ التَّخْيِيرُ بِعِتْقِهَا تَحْتَ عَبْدٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى الْأَسْوَدُ عَنْ عائشة أنه كان حراً فتعارضت الروايتان في النقل، وَكَانَتْ رِوَايَةُ الْحُرِّيَّةِ أَثْبَتَ فِي الْحُكْمِ، إِلَّا ترى لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ بِحُرِّيَّةِ رَجُلٍ وَشَهِدَ آخَرَانِ بِعُبُودِيَّتِهِ كَانَ شَهَادَةُ الْحُرِّيَّةِ أَوْلَى مِنْ شَهَادَةِ العبودية كذلك في النقلين المتعارضين.
قيل: روايتنا إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا أَوْلَى مِنْ رِوَايَتِهِمْ إِنَّهُ كَانَ حُرًّا مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ رَاوِي الْعُبُودِيَّةِ عَنْ عَائِشَةَ ثَلَاثَةٌ عُرْوَةُ، وَالْقَاسِمُ، وَعَمْرَةُ، وَرَاوِي الْحُرِّيَّةِ عَنْهَا وَاحِدٌ، وَهُوَ الْأَسْوَدُ وَرِوَايَةُ الثَّلَاثَةِ أَوْلَى مِنْ رِوَايَةِ الْوَاحِدِ، لِأَنَّهُمْ مِنَ السَّهْوِ أَبْعَدُ وَإِلَى التَّوَاتُرِ وَالِاسْتِفَاضَةِ أَقْرَبُ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرُ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى) {البقرة: 282) . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الشَّيْطَانُ مَعَ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ ".
وَالثَّانِي: أَنَّ مَنْ ذَكَرْنَا أَخَصُّ بِعَائِشَةَ مِنَ الْأَسْوَدِ، لِأَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ هُوَ ابْنُ أُخْتِهَا أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، وَالْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ هُوَ ابْنُ أَخِيهَا مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَعَمْرَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، هِيَ بِنْتُ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، فَهُمْ مِنْ أَهْلِهَا يَسْتَمِعُونَ كَلَامَهَا مُشَاهَدَةً من غير حجاب، والأسود أجنبي لا يسمع كَلَامَهَا إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، فَكَانَتْ رِوَايَتُهُمْ أَوْلَى مِنْ رِوَايَتِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ نَقْلَ الْعُبُودِيَّةِ يُفِيدُ عِلَّةَ الْحُكْمِ، وَنَقْلَ الْحُرِّيَّةِ لَا يُفِيدُهَا، لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَجْعَلُ حُرِّيَّةَ الزَّوْجِ عِلَّةً في ثبوت الخيار، والعبودية يجعله عِلَّةً فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ فَكَانَتْ رِوَايَةُ الْعُبُودِيَّةِ أَوْلَى.
وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ قَدْ وَافَقَ عَائِشَةَ فِي رِوَايَةِ الْعُبُودِيَّةِ صَحَابِيَّانِ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ وما وافقهما فِي رِوَايَةِ الْحُرِّيَّةِ أَحَدٌ، أَمَّا ابْنُ عُمَرَ فَرَوَى أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا، وَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَرَوَى عَنْهُ خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ زَوْجُ بَرِيرَةَ عَبْدًا أَسْوَدَ، يُقَالُ لَهُ مُغِيثٌ كَأَنِّي أَرَاهُ يَطُوفُ خَلْفَهَا بِالْمَدِينَةِ، وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ، فَقَالَ(9/358)
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِعَمِّهِ الْعَبَّاسِ أَلَا تَعْجَبُ مِنْ شِدَّةِ حُبِّ مغيث بريرة ومن شدة بغض بريرة مغيث، قَالَ: فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لو راجعته فإنما هُوَ أَبُو وَلَدِكِ " فَقَالَتْ: أَتَأْمُرُنِي فَقَالَ: إِنَّمَا أَنَا شَافِعٌ، قَالَتْ فَلَا حَاجَةَ لِي فِيهِ.
فَأَمَّا تَرْجِيحُهُ بِأَنَّ شُهُودَ الْحُرِّيَّةِ أَوْلَى مِنْ شُهُودِ الْعُبُودِيَّةِ كَذَلِكَ رَاوِي الْحُرِّيَّةِ أَوْلَى مِنْ رَاوِي الْعُبُودِيَّةِ.
فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنْ يُقَالَ: إِنْ عَلِمَ شُهُودُ الْحُرِّيَّةِ بِالْعُبُودِيَّةِ فَشَهَادَتُهُمْ أَوْلَى، لِأَنَّهُمْ أَزْيَدُ عِلْمًا مِمَّنْ عَلِمَ الْعُبُودِيَّةَ، وَلَمْ يَعْلَمْ مَا يُجَدَّدُ بَعْدَهَا مِنَ الْحُرِّيَّةِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ شُهُودُ الْحُرِّيَّةِ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَكَانَ مَجْهُولَ الْحَالِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّهَادَتَيْنِ قَدْ تَعَارَضَتَا فَسَقَطَتَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ شَهَادَةَ الْعُبُودِيَّةِ أَوْلَى، لِأَنَّهَا تُخَالِفُ الظَّاهِرَ مَنْ حُكْمِ الدَّارِ فَكَانَتْ أَزْيَدَ مِمَّنْ شَهِدَ بِالْحُرِّيَّةِ الَّتِي هِيَ الْغَالِبُ مَنْ حُكْمِ الدَّارِ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّقِيطَ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْحُرِّيَّةِ فِي الظَّاهِرِ، لِأَنَّهُ الْغَالِبُ مِنْ حُكْمِ الدار، ولأن أَهْلَهَا أَحْرَارٌ فَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الِاسْتِشْهَادِ ترجيح.
فإن قالوا: تستعمل الرِّوَايَتَيْنِ فَتَحْمِلُ رِوَايَةَ مَنْ نَقَلَ الْعُبُودِيَّةَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا وَقْتَ الْعَقْدِ، وَرِوَايَةَ مَنْ نَقَلَ الْحُرِّيَّةَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ حُرًّا وَقْتَ الْعِتْقِ، لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ تَطْرَأُ عَلَى الرِّقِّ، وَلَا يَطْرَأُ الرِّقُّ عَلَى الْحُرِّيَّةِ فَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى مِمَّنِ اسْتَعْمَلَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى.
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَأْوِيلٌ يَبْطُلُ بِخَبَرَيْنِ:
أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ: أَنَّ أُسَامَةَ رَوَى عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِبَرِيرَةَ: " إِنْ شِئْتِ أَنْ تَسْتَقِرِّي تَحْتَ هَذَا الْعَبْدِ، وَإِنْ شِئْتِ فَارَقْتِيهِ " فَيُقَالُ إِنَّهُ كَانَ فِي وَقْتِ التَّخْيِيرِ عَبْدًا.
وَالْخَبَرُ الثَّانِي: مَا رَوَاهُ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا، وَلَوْ كَانَ حُرًّا لَمْ يُخَيِّرْهَا.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: إِنَّنَا نُقَابِلُ هَذَا الِاسْتِعْمَالَ بِمِثْلِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَ حُرًّا قَبْلَ السبي وعبداً بعد السبي عند العقد والتخيير.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا وَقْتَ الْعِتْقِ وَحُرًّا وقت التخيير فتكون لَهَا الْخِيَارُ فِي أَحَدِ(9/359)
الْمَذْهَبَيْنِ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ أَيْضًا مَا رَوَاهُ ابْنُ مَوْهَبٍ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ كَانَ لَهَا غُلَامٌ وَجَارِيَةٌ، فأرادت عتقها فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ابدأي بِالْغُلَامِ فَلَمْ يَأْمُرِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِتَقْدِيمِ عِتْقِ الزَّوْجِ إِلَّا لِفَائِدَةٍ وَلَا فَائِدَةَ إلا سقوط خيار الزوجة عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لَهَا: ابدأي بالغلام، لأن لا يَكُونَ لِلزَّوْجَةِ خِيَارٌ، فَكَانَ هَذَا نَصًّا صَرِيحًا.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ: أَنَّهَا كَافَأَتْ زَوْجَهَا فِي الْفَضِيلَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَثْبُتَ لَهَا بِذَلِكَ خِيَارٌ كَمَا لَوْ أَسْلَمَتْ تَحْتَ مسلم أو أفاقت من جنون تَحْتَ عَاقِلٍ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَثْبُتْ بِهِ الْخِيَارُ فِي ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ الخيار في أثناء النكاح كالعمى طَرْدًا، وَكَالْجَبِّ عَكْسًا، وَلِأَنَّ مَا لَزِمَ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ مِنْ غَيْرِ عَيْبٍ خِيَارٌ كَالْبَيْعِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِقَوْلِهِ: " قَدْ مَلَكْتِ بُضْعَكِ فَاخْتَارِي " فَهُوَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ مَا نَقَلَهُ غَيْرُهُمْ وَلَا وُجِدَ إِلَّا فِي كُتُبِهِمْ ثُمَّ يَكُونُ مَعْنَاهُ قَدْ مَلَكْتِ نَفْسَكِ تَحْتَ الْعَبْدِ فَاخْتَارِي فَلَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا تَحْتَ الْحُرِّ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الزَّوْجِ إِذَا كَانَ عَبْدًا فَالْمَعْنَى فيه نقصه بالرق عن كمالها بالحرية فذلك كَانَ عَيْبًا يُوجِبُ الْخِيَارَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ عِتْقُهَا مَعَ الْحُرِّ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَ عَلَيْهَا بُضْعَهَا بِمَهْرٍ مَلَكَهُ غَيْرُهَا فَلَا تَأْثِيرَ لهذا المعنى، واستحقاق الْخِيَارِ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُكَاتِبَةً وَقْتَ الْعَقْدِ فَمَلَكَتْ مَهْرَهَا ثُمَّ أُعْتِقَتْ كَانَ لَهَا الْخِيَارُ فبطل أن يكون استحقاقه لهذه العلة، وبطل أن يكون الْعِلَّةَ، لِأَنَّهَا قَدْ مَلَكَتْ بِالْعِتْقِ مَا مُلِكَ عليها في الرق، لأنها لو أوجرت ثم عتقت لَمْ يَكُنْ لَهَا فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ خِيَارٌ فَلَمْ يَصِحَّ التَّعْلِيلُ بِوَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ فَبَطَلَ الاستدلال - والله أعلم -.
قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: " فَلِهَذَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - كَانَ لَهَا الْخِيَارُ إِذَا أعتقت ما لم يصبها زوجها بَعْدَ الْعِتْقِ وَلَا أَعْلَمُ فِي تَأَقْيِتِ الْخِيَارِ شَيْئًا يُتَّبَعُ إِلَّا قَوْلَ حَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا لَمْ يَمَسَّهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِذَا ثَبَتَ أَنْ لَا خِيَارَ لَهَا إِذَا أُعْتِقَتْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ زَوْجُهَا عَبْدًا فَلَهَا أَنْ تَخْتَارَ الْفَسْخَ بِحُكْمِ حَاكِمٍ، وَغَيْرِ حُكْمِهِ بِخِلَافِ الْفَسْخِ بالعيوب، لأن خيارها بالعتق غير مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى حَاكِمٍ، وَخِيَارَهَا بِالْعَيْبِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَافْتَقَرَ إِلَى حَاكِمٍ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَلْ يَكُونُ خِيَارُهَا عَلَى الْفَوْرِ أَوِ التَّرَاخِي فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ على الفور معتبراً بالمكنة، لأنه خيار عيب ثبت لرفع ضرر فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ عَلَى الْفَوْرِ كَالْخِيَارِ بِالْعِتْقِ فِي الْبُيُوعِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ مُمْتَدٌّ بَعْدَ الْعِتْقِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ هِيَ آخِرُ حَدِّ القليل، وأول حد الكثير، واعتباراً بالخيار في المصراة ثلاثاً، بأنه جَعَلَ الْخِيَارَ خِيَارَ ثَلَاثٍ.(9/360)
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي مَا لَمْ تصرح بالرضى أو التمكين مِنْ نَفْسِهَا، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِبَرِيرَةَ: لَمَّا رَأَى مُغِيثًا بَاكِيًا: " لَوْ راجعتيه فَإِنَّهُ أَبُو وَلَدِكِ " وَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ زَمَانٍ مِنْ عِتْقِهَا، فَلَوْلَا امْتِدَادُ خِيَارِهَا عَلَى التَّرَاخِي لَأَبْطَلَهُ وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ خُزَيْمَةَ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ بِإِسْنَادٍ رَفَعَهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِبَرِيرَةَ: " لَكِ الْخِيَارُ مَا لَمْ يُصِبْكِ " وهذا نص إِنْ صَحَّ، وَلِأَنَّهُ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَحَفْصَةَ وليس يعرف لهما فيه خلاف، ولأن طلب الأحظ في هذا الخيار مثبته يَحْتَاجُ إِلَى فِكْرٍ وَارْتِيَاءٍ فَتَرَاخَى زَمَانُهُ لِيُعْرَفَ بِامْتِدَادِهِ أَحَظُّ الْأَمْرَيْنِ لَهَا، وَخَالَفَ خِيَارَ الْعُيُوبِ التي لا يشتبه الأحظ منها.
مسألة
قال الشافعي: " فإن أصابها فادعت الجهالة ففيها قولان أحدهما أن لَا خِيَارَ لَهَا وَالْآخَرُ لَهَا الْخِيَارُ وَهَذَا أحب إلينا (قلت أنا) وقد قَطَعَ بِأَنَّ لَهَا الْخِيَارَ فِي كِتَابَيْنِ وَلَا مَعْنَى فِيهَا لِقَوْلَيْنِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي أَمَةٍ عَتَقَتْ تَحْتَ عَبْدٍ فَمَكَّنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا ثُمَّ ادَّعَتِ الْجَهَالَةَ، وَأَرَادَتْ فَسْخَ نِكَاحِهِ فَدَعْوَى الْجَهَالَةِ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَدَّعِي الْجَهَالَةَ بِالْعِتْقِ وَإِنَّهَا لَمْ تَعْلَمْ بِهِ حَتَّى مَكَّنَتْ مِنْ نَفْسِهَا فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُعْلَمَ صِدْقَهَا لِبُعْدِهَا عَنِ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ سَيِّدُهَا، وَقُرْبِ الزَّمَانِ عَنْ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهَا خَبَرُ عِتْقَهَا فَقَوْلُهَا مَقْبُولٌ، وَلَهَا الْخِيَارُ، لِأَنَّ خِيَارَ الْعُيُوبِ لَا يُبْطَلُ بِالتَّأْخِيرِ إِذَا جهلت.
والقسم الثاني: أن تعلم كذلك بها، لِأَنَّهَا وُجِّهَتْ بِالْعِتْقِ أَوْ بُشِّرَتْ بِهِ فَعَلِمَتْ أَحْكَامَهَا فَقَوْلُهَا مَرْدُودٌ، وَلَا خِيَارَ لَهَا بَعْدَ التَّمْكِينِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَحْتَمِلَ الْأَمْرَيْنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ عِلْمِهَا وثبوت الخيار لها فَلَمْ يُصَدَّقِ الزَّوْجُ فِي إِبْطَالِهِ عَلَيْهَا، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَ فِيهِ وَجْهًا آخَرَ أَنَّ الْقَوْلَ فِيهِ قَوْلُ الزَّوْجِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ ثُبُوتُ النِّكَاحِ فَلَا يَقْبَلُ قَوْلَهَا فِي فَسْخِهِ مع احتمال تخريجها مِنْ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْجَهَالَةِ بِالْحُكْمِ.
فَصْلٌ: وَالضَّرْبُ الثَّانِي
: أَنْ تَدَّعِي الْجَهَالَةَ بِالْحُكْمِ مَعَ عِلْمِهَا بِالْعِتْقِ فَتَقُولُ: لَمْ أَعْلَمْ بِأَنَّ لِي الْخِيَارَ إِذَا أُعْتِقْتُ فَمَكَّنَتْهُ مِنْ نَفْسِي، وَإِنْ كَانَتْ عَالِمَةً بِالْعِتْقِ فَهُوَ أَيْضًا عَلَى الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ مِثْلَهَا لَا يعلم، لأنها جلبية أَعْجَمِيَّةٌ فَقَوْلُهَا مَقْبُولٌ، وَلَهَا الْخِيَارُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يعلم أن مثلها يعلم، لأنها مخالطة للفقهاء مسائلة العلماء فَقَوْلُهَا غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَلَا خِيَارَ لَهَا بَعْدَ التمكين.(9/361)
والثالث: أن يحتمل الأمران أن يعلم، وأن لا يعلم، فَإِنْ صَدَّقَهَا الزَّوْجُ عَلَى أَنْ لَمْ تَعْلَمْ فَلَهَا الْخِيَارُ، وَإِنَّ أَكْذَبَهَا فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا اعْتِبَارًا بِثُبُوتِ الخيار لها وأنه حكم قَدْ يَخْفَى عَلَى الْعَامَّةِ وَلَا يَكَادُ يَعْرِفُهُ إِلَّا الْخَاصَّةُ فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي إِبْطَالِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ وَلَا خِيَارَ لَهَا اعْتِبَارًا بِلُزُومِ النِّكَاحِ فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا فِي فَسْخِهِ.
فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَاخْتَارَ الْأَوَّلَ، وَهُوَ أَصَحُّ لَكِنَّهُ جَعَلَ نَصَّ الشَّافِعِيِّ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعَيْنِ إِبْطَالًا لِلثَّانِي، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَبْطُلُ الثَّانِي بِذِكْرِ الْأَوَّلِ لَمْ يَبْطُلْ بِإِعَادَةِ الْأَوَّلِ - وَاللَّهُ أعلم -.
مسألة
قال الشافعي: " فَإِنِ اخْتَارَتْ فِرَاقَهُ وَلَمْ يَمَسَّهَا فَلَا صَدَاقَ لها فإن أَقَامَتْ مَعَهُ فَالصَّدَاقُ لِلسَّيِّدِ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِالْعَقْدِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا خُيِّرَتِ الْمُعْتَقَةُ تَحْتَ عَبْدٍ فَلَهَا حَالَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ تختار الْفَسْخُ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُفْسَخَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَيَسْقُطُ مَهْرُهَا، لِأَنَّ الْفَسْخَ إِذَا جَاءَ مِنْ قِبَلِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ أَسْقَطَ مَهْرَهَا كَالرِّدَّةِ، وَكَمَا لَوْ قَالَ لَهَا، وَهِيَ غَيْرُ مَدْخُولٍ بِهَا أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شِئْتِ فَشَاءَتْ طلقتين لا مَهْرَ لَهَا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ بِمَشِيئَتِهَا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُفْسَخَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَالْمَهْرُ مُسْتَقِرٌّ بِالدُّخُولِ ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ الدُّخُولُ قَبْلَ الْعِتْقِ، وَجَبَ الْمَهْرُ الْمُسَمَّى، لِأَنَّ فَسْخَ النِّكَاحِ كَانَ بحادث بَعْدَ الدُّخُولِ، وَإِنْ كَانَ الدُّخُولُ بَعْدَ الْعِتْقِ وَهُوَ أَنْ لَا تَعْلَمَ بِالْعِتْقِ حَتَّى يَدْخُلَ بِهَا فَيَكُونُ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى، لِأَنَّهُ فُسِخَ بِسَبَبٍ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا بَعْدَهُ فَصَارَ الْعَقْدُ مَرْفُوعًا بِسَبَبِهِ الْمُتَقَدِّمِ فَلِذَلِكَ وَجَبَ بِالْعِدَّةِ فِي الْإِصَابَةِ مَهْرُ الْمِثْلِ كَمَا قُلْنَا فِي الْعَيْبِ ثُمَّ يَكُونُ هَذَا الْمَهْرُ لِلسَّيِّدِ سَوَاءٌ كَانَتِ الْإِصَابَةُ قَبْلَ الْعِتْقِ أو بعده.
فصل: والحالة الثانية
: أن يختار المقام والنكاح ثابت والصداق عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُسَمًّى فِي العقد فهو للسيد دونهما.
وَقَالَ مَالِكٌ: يَكُونُ الصَّدَاقُ لَهَا وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَهْرَ مُسْتَحَقٌّ بِالْعَقْدِ، وَإِنْ صَارَ مُسْتَقِرًّا بِالدُّخُولِ، وَالْعَقْدُ فِي مِلْكِ السَّيِّدِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الصَّدَاقُ لَهُ كَمَا لَوْ عَقَدَتْهُ فِي حُرِّيَّتِهَا كَانَ الصَّدَاقُ لَهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ يَعْقِدُ عَلَى مَنَافِعِهَا بِالْإِجَارَةِ تَارَةً وَبِالنِّكَاحِ أُخْرَى فَلَمَّا كَانَ لَوْ(9/362)
أَجَرَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا كَانَتِ الْأُجْرَةُ لَهُ دُونَهَا كَذَلِكَ إِذَا زَوَّجَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا كَانَ الصَّدَاقُ لَهُ دُونَهَا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مُفَوَّضَةً لم يسم لها في العقد صداقاً حتى أعتقت فَفِيهِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِيِ الشَّافِعِيِّ فِيمَا فَرَضَ مِنْ صَدَاقِ الْمُفَوَّضَةِ هَلْ يَكُونُ مُسْتَحَقًّا بِالْعَقْدِ أَوْ بِالْفَرْضِ.
فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: إِنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِالْعَقْدِ، وَإِنْ فَرَضَ بَعْدَهُ، لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الْمُسَمَّى فِيهِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِلسَّيِّدِ استحقاقه فِي مِلْكِهِ كَالْمُسَمَّى.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِالْفَرْضِ لِخُلُوِّ الْعَقْدِ مِنْهُ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ للمعتقة لاستحقاقه بعد عتقها.
مسألة
قال الشافعي: " وَلَوْ كَانَتْ فِي عِدَّةِ طلقةٍ فَلَهَا الْفَسْخُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي عَبْدٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ الأمة واحدة بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَهُ عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ وَقَدْ بَقِيَتْ مَعَهُ عَلَى طَلْقَةٍ، وَصَارَتْ كَزَوْجَةِ الْحُرِّ بَعْدَ الطَّلْقَتَيْنِ، لِأَنَّ الْحُرَّ يَمْلِكُ ثَلَاثًا وَالْعَبْدَ طَلْقَتَيْنِ فَإِنْ أُعْتِقَتْ هَذِهِ الْأَمَةُ الْمُطَلَّقَةُ فِي عِدَّتِهَا فَلَهَا الْفَسْخُ، لِأَنَّهَا فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ في حكم الزوجات لوقوع طلاقه عليها، وصحة ظهاره وَإِيلَائِهِ مِنْهَا فَكَانَ لَهَا الْفَسْخُ، وَإِنْ كَانَتْ جارية في فسخ، لأن الفسخ لا ينافي الفسخ وليستعيد بِالْفَسْخِ قُصُورَ إِحْدَى الْعِدَّتَيْنِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَهَا بَعْدَ عِتْقِهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يختار الفسخ.
والثاني: أن يختار الْمُقَامُ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ تُمْسِكَ فَلَا تَخْتَارُ الْفَسْخَ وَلَا الْمُقَامَ فَإِنِ اخْتَارَتِ الْفَسْخَ، كَانَ ذَلِكَ لَهَا وَهَلْ لِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ بَعْدَ الْفَسْخِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَهُ الرَّجْعَةُ، لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَ الرَّجْعَةَ بِطَلَاقِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا رَجْعَةَ لَهُ، لِأَنَّ الرَّجْعَةَ تُرَادُ لِلِاسْتِبَاحَةِ، وَالْفَسْخُ قَدْ مَنَعَ مِنْهَا فَلَمْ يَكُنْ لِلرَّجْعَةِ تَأْثِيرٌ، فَعَلَى هَذَا إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَا رَجْعَةَ لَهُ كَانَ تَأْثِيرُ الْفَسْخِ إِسْقَاطَ الرَّجْعَةِ لَا وُقُوعَ الْفُرْقَةِ، لِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بِالطَّلَاقِ دون الفسخ، وأول عِدَّتِهَا مِنْ يَوْمِ الطَّلَاقِ فِي الرِّقِّ، وَقَدْ صارت في تضاعيفها حُرَّةٍ، فَتَكُونُ عِدَّتُهَا عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: عِدَّةُ أَمَةٍ اعْتِبَارًا بِالِابْتِدَاءِ.
وَالثَّانِي: عِدَّةُ حُرَّةٍ اعْتِبَارًا بِالِانْتِهَاءِ.
وَإِنْ قِيلَ: لَهُ الرَّجْعَةُ، فَعَلَى هَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ.(9/363)
إما أن يراجع أو لَا يُرَاجِعَ، فَإِنْ لَمْ يُرَاجِعْ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِالطَّلَاقِ دُونَ الْفَسْخِ، وَفِي عِدَّتِهَا قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى، وَإِنْ رَاجَعَ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِالْفَسْخِ دون الطلاق، وأول عِدَّتِهَا مِنْ وَقْتِ الْفَسْخِ، وَهِيَ عِدَّةُ حُرَّةٍ، لِأَنَّهَا بَدَأَتْ بِهَا، وَهِيَ حُرَّةٌ وَإِنِ اخْتَارَتِ الْمُقَامَ فَلَا تَأْثِيرَ لِهَذَا الِاخْتِيَارِ، لِأَنَّ جَرَيَانَهَا فِي الْفَسْخِ يَمْنَعُ مِنِ اسْتِقْرَارِ حُكْمِ الرِّضَى.
وَقَالَ أبو حنيفة: قَدْ بَطَلَ خِيَارُهَا بِالرِّضَى، وَلَيْسَ لَهَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ أَنْ تَفْسَخَ، لِأَنَّ أحكام الزوجية جَارِيَةً عَلَيْهَا فِي حَقِّ نَفْسِهَا إِنْ رَضِيَتْ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ الْجَارِيَةَ فِي عِدَّةِ الْفُرْقَةِ لا يلزمها حكم الرضى إذا أعتقت كَمَا لَوِ ارْتَدَّ، وَقَالَ أَنْتِ بَائِنٌ فَإِنَّ أبا حنيفة يُوَافِقُ فِيهِمَا أَنَّ الرِّضَى غَيْرُ مُؤَثِّرٍ، فَعَلَى هَذَا لِلزَّوْجِ أَنْ يُرَاجِعَ لَا يَخْتَلِفُ فَإِنْ لَمْ يُرَاجِعْ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِالطَّلَاقِ، وَكَانَ فِي عِدَّتِهَا قَوْلَانِ: وَإِنْ رَاجَعَ عَادَتْ بِالرَّجْعَةِ إِلَى الزَّوْجِيَّةِ فَتَكُونُ حِينَئِذٍ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الفسخ، والمقام، لِأَنَّ ذَلِكَ الرِّضَى لَمَّا كَانَ فِي غَيْرِ محله سقط حكمه، فإن اختارت المقام كان عَلَى الزَّوْجِيَّةِ وَإِنِ اخْتَارَتِ الْفَسْخَ اسْتَأْنَفَتْ عِدَّةَ حرة من وفت الْفَسْخِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَقْتَ الْعِتْقِ اخْتِيَارُ الْمُقَامِ وَلَا الْفَسْخُ فَهُوَ عَلَى مَا ذكرنا من أن الزوج أَنْ يُرَاجِعَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى مَضَتِ الْعِدَّةُ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِطَلَاقِهِ وَفِي عِدَّتِهَا قَوْلَانِ، وَإِنْ رَاجَعَ كَانَتْ حِينَئِذٍ بِالْخِيَارِ فَإِنْ فَسَخَتِ اسْتَأْنَفَتْ مِنْ وَقْتِ الْفَسْخِ عِدَّةَ حُرَّةٍ.
فَصْلٌ
فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْعَبْدُ قَدْ طَلَّقَهَا اثْنَتَيْنِ فَقَدِ اسْتَوْفَى مَا مَلَكَهُ مِنْ طَلَاقِهَا فَإِنْ أُعْتِقَتْ فِي الْعِدَّةِ لَمْ يَكُنْ لَهَا الْفَسْخُ؛ لِأَنَّهَا مَبْتُوتَةٌ بِالطَّلَاقِ فَصَارَتْ بَائِنًا، وَهَكَذَا لَوْ خَالَعَهَا عَلَى طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهَا الْفَسْخُ إِذَا أُعْتِقَتْ؛ لِأَنَّهَا بِالْخُلْعِ مَبْتُوتَةٌ وَإِنْ بَقِيَ لَهَا مِنَ الطَّلَاقِ وَاحِدَةٌ.
فَصْلٌ
وَإِذَا أُعْتِقَتِ الْأَمَةُ تَحْتَ عَبْدٍ فَبَادَرَ الزَّوْجُ فَطَلَّقَهَا قَبْلَ الْفَسْخِ فَفِي وُقُوعِ طَلَاقِهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: - رَوَاهُ الرَّبِيعُ - أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهَا لِلْفَسْخِ يَمْنَعُ مِنْ تَصَرُّفِ الزَّوْجِ فِيهَا بِغَيْرِ الطَّلَاقِ فَمَنَعَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهَا بِالطَّلَاقِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: - نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْإِمْلَاءِ - إِنَّ طَلَاقَهُ وَاقِعٌ، لِأَنَّهَا قَبْلَ الْفَسْخِ زَوْجَةٌ، وَإِنِ اسْتَحَقَّتِ الْفَسْخَ وَالطَّلَاقَ، وَإِنْ كَانَ تَصَرُّفًا فَهُوَ مُوَافِقٌ لِلْفَسْخِ، وَإِنَّمَا يَمْنَعُ مِنْ تَصَرُّفٍ يُضَادُّهُ كَالِاسْتِمْتَاعِ وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ سُرَيْجٍ.
وَقَالَ أَبُو حامد الإسفراييني: الطَّلَاقُ مَوْقُوفٌ فَإِنْ فَسَخَتْ بَانَ أَنَّهُ لَمْ يكن واقعاً، وإن لم يفسخ بان أنه كان واقعاً كطلاق المرتدة، والله أعلم.
مسألة
قال الشافعي: " وإن تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهِيَ عَلَى واحدةٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي أَمَةٍ أُعْتِقَتْ تَحْتَ عَبْدٍ فَإِنْ فَسَخَتْ نِكَاحَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ(9/364)
يُطَلِّقَهَا جَازَ بَعْدَ الْفَسْخِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا سَوَاءٌ كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ إِذَا كَانَتْ مِنْهُ مُنِعَتْ مِنْ نِكَاحِ غَيْرِهِ، ولم يمنع مِنْ نِكَاحِهِ فَإِذَا نَكَحَهَا كَانَتْ مَعَهُ عَلَى مَا يَمْلِكُ مِنَ الطَّلَاقِ الْكَامِلِ وَهُوَ طَلْقَتَانِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ أَكْثَرَ مِنْهُمَا، وَلَيْسَ الْفَسْخُ طَلَاقًا، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ طَلَّقَهَا قَبْلَ فَسْخِهَا طَلْقَتَيْنِ فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ كَمَا تَحْرُمُ عَلَى الْحُرِّ بِمَا بَعَدَ ثَلَاثٍ لِاسْتِيفَائِهِ مَا مَلَكَ مِنَ الطَّلَاقِ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً فَلَهُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ نِكَاحَهَا فِي الْعِدَّةِ وَبَعْدَهَا، سَوَاءٌ فَسَخَتْ بَعْدَ طَلَاقِهِ أَوْ لَمْ تَفْسَخْ وَتَكُونُ مَعَهُ عَلَى طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الْبَاقِيَةُ لَهُ مِنَ الطَّلْقَتَيْنِ، فَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ قَدْ أُعْتِقَ قَبْلَ أَنْ تَسْتَأْنِفَ نِكَاحَهَا فَفِيمَا يَمْلِكُهُ مِنْ طَلَاقِهَا قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ إِذَا عتقت فِي تَضَاعِيفِ عِدَّتِهَا:
أَحَدُهُمَا: تَكُونُ مَعَهُ عَلَى طلقة واحدة اعتباراً بما هي من نكاحه الأولى الذي كان فيه عبداً.
والقول الثَّانِي: تَكُونُ مَعَهُ عَلَى اثْنَتَيْنِ اعْتِبَارًا بِمَا يَمْلِكُهُ فِي نِكَاحِهِ الثَّانِي الَّذِي قَدْ صَارَ به حراً.
مسألة
قال الشافعي: " وَعَلَى السُّلْطَانِ أَنْ لَا يُؤَجِّلَهَا أَكْثَرَ مِنْ مُقَامِهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ لِلْمُعْتَقَةِ تحت عبد أن تختار الفسخ في نِكَاحِهِ مِنْ غَيْرِ حَكَمٍ فَإِنْ تَرَافَعَ الزَّوْجَانِ فِيهِ إِلَى الْحَاكِمِ أَوِ السُّلْطَانِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: " فعلى بالسلطان أَنْ لَا يُؤَجِّلَهَا أَكْثَرَ مِنْ مُقَامِهَا " فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَوَابٌ مِنْهُ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجْعَلُ خِيَارَهَا فِيهِ عَلَى الْفَوْرِ دُونَ التَّرَاخِي فَلَا يُؤَجِّلُهَا أَكْثَرَ مِنْ مُقَامِهَا لِلتَّحَاكُمِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ الْمُعْتَبَرُ مِنْ مَكِنَةِ الْفَوْرِ.
فَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجْعَلُ خِيَارَهَا إِلَى ثَلَاثٍ أَوْ عَلَى التَّرَاخِي فَلَيْسَ لَهُ قَطْعُ خِيَارِهَا وَلَا إِبْطَالُ مَا اسْتَحَقَّتْهُ مِنْ مُدَّتِهِ أَوْ مِنْ تَرَاخِيهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ جَوَابٌ مِنْهُ عَلَى الْأَقَاوِيلِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ مَنْصُوبٌ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْخُصُومِ، فَإِذَا قَاضَاهَا الزوج إليه، وقال الزوج: إما أن تمكنيني أَوْ تَفْسَخِي لَمْ يَجُزْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُمْهِلَهَا وَيَذْرَهَا مَعَهُ مُعَلِّقَةً لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ وَلَا مُفَارِقَةٍ فَيَقُولُ لَهَا: أَنْتِ وَإِنْ كَانَ خِيَارُكِ مُمْتَدًّا على التراخي بالتحاكم ثلاث والقضاء يفصل فاختاري تعجيل الفسخ أو الرضى فَإِنْ فَسَخَتْ فِي مَجْلِسِهِ وَإِلَّا سَقَطَ حَقُّهَا منه والله أعلم.
مسألة
قال الشافعي: " فإن كانت صبية فحتى تَبْلُغَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي أَمَةٍ صَغِيرَةٍ أُعْتِقَتْ تَحْتَ عَبْدٍ فَقَدْ وَجَبَ لَهَا(9/365)
الْخِيَارُ مَعَ الصِّغَرِ، لِأَنَّ مَا وَجَبَ فِي الْعُقُودِ مِنَ الْحُقُوقِ اسْتَوَى اسْتِحْقَاقُهُ فِي الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ كَالشُّفْعَةِ لَكِنْ لَيْسَ لَهَا قَبْلَ الْبُلُوغِ أَنْ تَخْتَارَ الْفَسْخَ بِخِلَافِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَخْيِيرٌ يُسْتَحَقُّ فِي الصِّغَرِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَفُوتَ بانتظار البلوغ فخالف خيار الْعِتْقِ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ تَخْيِيرٌ لَا يَلْزَمُ بِهِ حُكْمٌ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَيْسَ لِقَوْلِهِ حكم، وإذا كان هكذا فليس لِوَلِيِّهَا مِنْ أَبٍ وَلَا مُعْتِقٍ أَنْ يَخْتَارَ عَلَيْهَا بِخِلَافِ الشُّفْعَةِ الَّتِي يَكُونُ لِلْوَلِيِّ أَخْذُهَا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ فِي هَذَا الْخِيَارِ اسْتِهْلَاكًا لَيْسَ فِي الشُّفْعَةِ فَجَرَى مَجْرَى اسْتِحْقَاقِ الْقَوَدِ الَّذِي لَيْسَ لِلْوَلِيِّ فِيهِ خِيَارٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الِاسْتِهْلَاكِ.
فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنْ لَا خِيَارَ لَهَا وَلَا لِوَلِيِّهَا حَتَّى تَبْلُغَ، فَإِذَا بلغت كان البلوغ أَوَّلِ زَمَانِ الْخِيَارِ فَيَكُونُ فِيهِ حِينَئِذٍ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ فِي الْحَالِ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ مُمْتَدٌّ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي مَا لَمْ تَرْضَ أَوْ تُمَكِّنْ، فَلَوْ أَرَادَ الزَّوْجُ أَنْ يَطَأَهَا مَا بين عتقها وبلوغها فالصحيح أنه تمكن منه، ولا يُمْنَعُ مِنْ إِصَابَتِهَا، لأن اسْتِحْقَاقَهَا لِلْفَسْخِ مُغَيِّرٌ لِحُكْمِ مَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْإِبَاحَةِ، وَهَذَا الْوَجْهُ مُخَرَّجٌ مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي رَوَاهُ الرَّبِيعُ إِنَّ طَلَاقَ الزَّوْجِ قَبْلَ الْفَسْخِ وَبَعْدَ اسْتِحْقَاقِهِ لَا يقع.
مسألة
قال الشافعي: " ولا خيار لأمةٍ حَتَّى تَكْمُلَ فِيهَا الْحُرِّيَّةُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ: لِأَنَّ أَحْكَامَ الرِّقِّ جَارِيَةٌ عَلَيْهَا قَبْلَ استكمال الحرية، فإذا أعتق بَعْضُهَا وَرَقَّ بَاقِيهَا، فَإِنْ قَلَّ فَلَا خِيَارَ لَهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ دُبِّرَتْ أَوْ كُوتِبَتْ وَفِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ أَنْ يُعْتَقَ جَمِيعُهَا، وَقَدْ أُعْتِقَ مِنَ الزَّوْجِ بَعْضُهُ وَإِنْ كَثُرَ وَرَقَّ بَاقِيهِ، وَإِنْ قَلَّ فَلَهَا الْخِيَارُ فِي فَسْخِ نِكَاحِهِ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ الرِّقِّ جَارِيَةٌ عَلَيْهِ مَا لَمْ تَكْمُلْ حُرِّيَّتُهُ.
فَصْلٌ
وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ إِذَا زَوَّجَهَا سَيِّدَهَا بِعَبْدٍ عَلَى صَدَاقِ مِائَةِ دِرْهَمٍ ثُمَّ أَعْتَقَهَا فِي مَرَضِهِ وَقِيمَتُهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ وَخَلَّفَ مَعَهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَدْخُلِ الزَّوْجُ بِهَا فَلَا خِيَارَ لَهَا بِالْعِتْقِ، وَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا عَبْدًا؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَهَا الْفَسْخُ مُفْضٍ إِلَى إِبْطَالِ الْعِتْقِ وَالْفَسْخِ؛ لِأَنَّهَا إِذَا فَسَخَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ بَطَلَ صَدَاقُهَا فَصَارَتِ التَّرِكَةُ مِائَتَا درهم قيمتها نِصْفُهَا فَيُعْتَقُ ثُلْثَاهَا وَيَرِقُّ ثُلُثُهَا، وَإِذَا رَقَّ ثُلْثُهَا بَطَلَ خِيَارُهَا؛ لِأَنَّ مَا أَدَّى ثُبُوتُهُ إلى(9/366)
إبطاله وإبطال غيره أبطل ثبوت غيره فكذلك بَطَلَ الْخِيَارُ وَمَضَى الْعِتْقُ، وَلِهَذَا نَظَائِرُ قَدْ ذكرناها.
مسألة
قال الشافعي: " وَلَوْ أُعْتِقَ قَبْلَ الْخِيَارِ فَلَا خِيَارَ لَهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي أَمَةٍ أُعْتِقَتْ تَحْتَ عبد فلم تختر فسخ نكاح حَتَّى أُعْتِقَ إِمَّا بِأَنْ لَمْ تَعْلَمْ بِعِتْقِهَا فَيَكُونُ خِيَارُهَا بَاقِيًا عَلَى الْأَقَاوِيلِ كُلِّهَا، وَإِمَّا بِأَنْ عَلِمَتْ، وَقِيلَ خِيَارُهَا عَلَى التَّرَاخِي دُونَ الْفَوْرِ فَفِي بَقَاءِ خِيَارِهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ خِيَارَهَا ثَابِتٌ اعْتِبَارًا بِوُجُوبِهِ فِي الِابْتِدَاءِ فَلَمْ يسقط مع زوال سببه إلا بالاستبقاء.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إِنَّهُ لَا خِيَارَ لَهَا؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ خِيَارِهَا إزالة النقص الداخل عليها بِرِقِّهِ وَقَدْ زَالَ النَّقْصُ بِعِتْقِهِ فَلَمْ يَبْقَ لِاسْتِحْقَاقِ الْخِيَارِ مَعْنًى يَقْتَضِيهِ، فَلَوْ أُعْتِقَ الزَّوْجَانِ في حالة واحدة فلا خيار لهما لاستوائهما في التكافئ بِالرِّقِّ وَالْعِتْقِ، وَلَوْ أُعْتِقَ الزَّوْجُ دُونَهَا فَفِي اسْتِحْقَاقِهِ لِفَسْخِ نِكَاحِهَا بِعِتْقِهِ وَرِقِّهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَهُ الْفَسْخُ لِيَسْتَحِقَّ عَلَيْهَا مِنَ الْخِيَارِ مِثْلَ مَا تَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِ فَيَسْتَوِيَانِ فِيهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا خِيَارَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ لَهَا الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَقْدِرُ عَلَى إِزَالَةِ الضَّرَرِ بِالطَّلَاقِ وَهِيَ لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا بِالْفَسْخِ فَافْتَرَقَا فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.(9/367)
باب أجل العنين والخصي غير المجبوب والخنثى من الجامع من كتابٍ قديمٍ ومن كتاب التعريض بالخطبة
مَسْأَلَةٌ
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بن عيينة عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عن عمر رضي الله عنه أنه أجل العنين سنةً (قال) ولا أحفظ عمن لقيته خلافاً في ذلك فَإِنْ جَامَعَ وَإِلَّا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وهذا كما قال: أما العنة في الْعَجْزُ عَنِ الْوَطْءِ لِلِينِ الذَّكَرِ وَعَدَمِ انْتِشَارِهِ، فَلَا يَقْدِرُ عَلَى إِيلَاجِهِ فَسُمِّيَ مَنْ بِهِ الْعُنَّةَ عِنِّينًا، وَفِي تَسْمِيَتِهِ بِذَلِكَ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أنه سمي عنيناً للين ذكره يعني عند إرادة الوطء وَانْعِطَافِهِ مَأْخُوذٌ مِنْ عِنَانِ الْفَرَسِ لِلِينِهِ.
وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: إِنَّهُ سُمِّيَ عِنِّينًا، لِأَنَّ ذَكَرَهُ يَعِنُّ عِنْدَ إِرَادَةِ الْوَطْءِ أَنْ يَعْتَرِضَ عَنْ يَمِينِ الفرج ويساره فلا يلج مأخوذ من العنن، وهو الاعتراض، يقال عزلك الرجل إذا اعترضتك عن يمينك أو يسارك.
وَالْعُنَّةُ عَيْبٌ يَثْبُتُ بِهِ لِلزَّوْجَةِ خِيَارُ الْفَسْخِ، وَهُوَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، وَقَوْلُ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ إِلَّا شاذاً عن الحكم عن عيينة وَدَاوُدَ، إِنَّهُ لَيْسَ بِعَيْبٍ وَلَا خِيَارَ فِيهِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ امْرَأَةَ رِفَاعَةَ لَمَّا تَزَوَّجَتْ بَعْدَهُ بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقالت: أن زوجي أبت طلاقي، وقد تزوجني عبد الرحمن بن الزبير، وإنما له مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ؟ لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقُ عُسَيْلَتَكِ " فَلَمْ يَجْعَلِ الْعُنَّةَ فِيهِ عَيْبًا، وَلَا جَعَلَ لَهَا خِيَارًا.
وَرَوَى هَانِئُ بْنُ هَانِئٍ أَنَّ امْرَأَةً شَكَتْ إِلَى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أَنَّ زَوْجَهَا لَا يَنْتَشِرُ فَقَالَ: وَلَا عِنْدَ الحر قَالَتْ لَا، قَالَ مَا عِنْدَ اسْتِ هَذَا خَيْرٌ ثُمَّ قَالَ اذْهَبِي فَجِيئِي بِهِ، فَلَمَّا جَاءَهُ رَآهُ شَيْخًا ضَعِيفًا فَقَالَ: لَهَا اصْبِرِي فَلَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّ يَبْتَلِيَكِ بِأَكْثَرَ مِنْ هذا فعل، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهَا خِيَارًا.(9/368)
وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهنِ بِالمَعْرُوفِ) {البقرة: 229) فَلَمَّا كَانَ الْوَطْءُ حَقًّا لَهُ عَلَيْهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَقًّا لَهَا عَلَيْهِ وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٌ) {البقرة: 229) وَهِيَ الْفُرْقَةُ؛ وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ حُكِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَالْمُغِيرَةِ، وَابْنِ عمر وجابر، أنه يؤجل فإن أصاب وَإِلَّا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ تَقَدَّمَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ عَلِيٍّ بِخِلَافِ هَذَا.
قِيلَ: تِلْكَ الرِّوَايَةُ لَيْسَتْ ثَابِتَةً؛ لِأَنَّ هَانِئَ بْنَ هَانِئٍ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَلِأَنَّ تِلْكَ لَمْ يَكُنْ زَوْجُهَا عِنِّينًا؛ لِأَنَّهُ عَجَزَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ لِضَعْفِ الْكِبَرِ.
وَقِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ قَدْ عَنَّسَتْ عِنْدَهُ وَالْعِنِّينُ هُوَ الَّذِي لَمْ يُصِبْهَا قَطُّ وَقَدْ قال الشافعي في إثبات الإجماع: لا أحفظ عمن لَقِيتُهُ خِلَافًا؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ لَهَا بِالْجَبِّ خيار الفسخ لفقد الإصابة المقصورة فكذلك العنة؛ ولأن الْعِنِّينَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْمُولِي لِأَنَّ الْمُولِيَ تَارِكٌ لِلْإِصَابَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَالْعِنِّينَ تَارِكٌ لَهَا مَعَ الْعَجْزِ، فَلَمَّا كَانَ لَهَا الْفَسْخُ فِي الْإِيلَاءِ فَلَأَنْ يَكُونَ لَهَا فِي الْعُنَّةِ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ نِكَاحِهَا بِالرَّتْقِ لِتَعَذُّرِ الْجِمَاعِ عَلَيْهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى فِرَاقِهَا بِالطَّلَاقِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَجِبَ لَهَا بِعُنَّةِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى فِرَاقِهِ بِالطَّلَاقِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ امْرَأَةِ رِفَاعَةَ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا شَكَتْ ضَعْفَ جِمَاعِهِ، وَلَمْ تَشْكُ عَجْزَهُ عَنْهُ أَلَا تَرَاهُ قَالَ لَهَا: " لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ " وَلَوْ كَانَ عَاجِزًا لَمَا ذَاقَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عُسَيْلَةَ صَاحِبِهِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عِنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَهَا: " لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عسيلتك " فقالت يا رسول الله قد جاءني هبة وفيه معنيان:
أحدهما: أن الهبة مرة واحدة قاله ابن وهب.
والثاني: أنها حِقْبَةٌ مِنَ الدَّهْرِ قَالَهُ أَبُو زَيْدٍ، وَهَذَا نص في الجواب.
والثالث: إِنَّهَا ادَّعَتْ ذَلِكَ عَلَى زَوْجِهَا، وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الزَّوْجِ اعْتِرَافٌ بِدَعْوَاهَا بَلْ أَنْكَرَ عَلَيْهَا قَوْلَهَا فَقَالَ: كَذَبَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنِّي: " أَعْرُكُهَا عَرْكَ الْأَدِيمِ الْعُكَاظِيِّ ".
فَصْلٌ
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعُنَّةَ عَيْبٌ يَثْبُتُ بِهِ خِيَارُ الْفَسْخِ فَهُوَ مُعْتَبِرٌ بِشَرْطَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ أَصَابَهَا قَطُّ فَإِنْ أَصَابَهَا مَرَّةً زَالَ عَنْهُ حُكْمُ الْعُنَّةِ لِمَا سَنَذْكُرُهُ.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى إِيلَاجِ حَشَفَةِ الذَّكَرِ فَإِنْ قَدَرَ عَلَى إِيلَاجِ الْحَشَفَةِ وَإِنِ اسْتَعَانَ بِيَدِهِ زال عنه حكم العنة، فإن تَكَامَلَ الشَّرْطَانِ وَتَصَادَقَ عَلَيْهِمَا الزَّوْجَانِ لَمْ يَتَعَجَّلِ الْفَسْخَ بِهَا، وَأُجِّلَ الزَّوْجُ لَهَا سَنَةً كَامِلَةً بالأهلة.(9/369)
وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ يُؤَجَّلُ نِصْفَ سَنَةٍ.
وَحُكِيَ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ إِنَّهُ يُؤَجَّلُ عَشَرَةَ أَشْهُرٍ وَحُكِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ إِنَّهَا إِنْ كَانَتْ حَدِيثَةَ الْعَهْدِ مَعَهُ أُجِّلَ لَهَا سَنَةً، وَإِنْ كَانَتْ قَدِيمَةَ الْعَهْدِ مَعَهُ أُجِّلَ لَهَا خَمْسَةَ أَشْهُرٍ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ فَاسِدَةٌ لَا يَرْجِعُ التَّقْدِيرُ فِيهَا إِلَى أصل من جهة وتقدير أصله بِالسَّنَةِ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنِ عمر؛ لأنه أَجَّلَ الْعِنِّينَ سَنَةً، وَعُمْرُ لَا يَفْعَلُ هَذَا غإا عَنْ تَوْقِيفٍ يَكُونُ نَصًّا أَوْ عَنِ اجْتِهَادٍ شَاوَرَ فِيهِ الصَّحَابَةَ، لِأَنَّهُ كَانَ كَثِيرُ الْمَشُورَةِ في الأحكام فيكون مع عدم الخلاف فيه إجماعاً، وإذا تردد بين حالين نص أو إجماع لم يجز بخلافه.
والثاني: إن التأجيل إِنَّمَا وَضِعَ لِيُعْلَمَ حَالُهُ، هَلْ هُوَ مِنْ مَرَضٍ طَارِئٍ فَيُرْجَى زَوَالُهُ أَوْ مِنْ نقصٍ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ فَلَا يُرْجَى زَوَالُهُ فَكَانَتِ السَّنَةُ الْجَامِعَةُ لِلْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ أَوْلَى أَنْ تَكُونَ أَجَلًا مُعْتَبَرًا؛ لِأَنَّ فَصْلَ الشِّتَاءِ بَارِدٌ رَطْبٌ وَفَصْلَ الصَّيْفِ حَارٌّ يَابِسٌ، وَفَصْلَ الرَّبِيعِ حَارٌّ رَطْبٌ، وَفَصْلَ الْخَرِيفِ بَارِدٌ يَابِسٌ فَإِذَا مَرَّ بِالْمَرَضِ مَا يُقَابِلُهُ مِنْ فُصُولِ السَّنَةِ ظَهَرَ وَكَانَ سَبَبًا لِبُرْئِهِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ بَرْدٍ ففصل الحد يقابله فإن كَانَ مِنْ حَرٍّ فَفَصْلُ الْبَرْدِ يُقَابِلُهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ رُطُوبَةٍ فَفَصَلُ الْيُبُوسَةِ يُقَابِلُهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ يُبُوسَةٍ فَفَصْلُ الرُّطُوبَةِ يُقَابِلُهُ، وَإِنْ كَانَ مُرَكَّبًا مِنْ نَوْعَيْنِ فَمَا خَالَفَهُ فِي النَّوْعَيْنِ، هُوَ الْمُقَابِلُ لَهُ، فَإِذَا مَضَتْ عَلَيْهِ الْفُصُولُ الْأَرْبَعَةُ وَهُوَ بِحَالِهِ لَمْ يَكُنْ مَرَضًا لِمَا قِيلَ عَنْ عُلَمَاءِ الطِّبِّ أَنَّهُ لَا يسحر الدَّاءُ فِي الْجِسْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ وَعُلِمَ حِينَئِذٍ أَنَّهُ نَقْصٌ لَازِمٌ لِأَصْلِ الْخِلْقَةِ فَصَارَ عَيْبًا يُوجِبُ الْخِيَارَ.
فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حُكْمِ الْعُنَّةِ وَأَجَلِهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أصحابنا بماذا يثبت الْعُنَّةُ إِنِ ادَّعَتْهَا الزَّوْجَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهَا لَا تَثْبُتْ إِلَّا بِإِقْرَارِهِ أَوْ بَيِّنَةٍ عَلَى إِقْرَارِهِ فَيَكُونُ الْإِقْرَارُ وَحْدَهُ مُعْتَبِرًا فِي ثُبُوتِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ أنها تثبت بإقراره أو بنكوله لعدم إِنْكَارِهِ وَلَا يُرَاعَى فِيهِ يَمِينُ الزَّوْجَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَعْرِفُ بَاطِنَ حَالِهِ فَتَحْلِفَ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وأكثر أصحابنا، وحكاه أبو حامد الإسفراييني ولم يحك ما سواه أنها ثبتت بإقراره على الزوجة بعد نكوله، وإنكاره لا يثبت إن لم يحلف بعد النكول ولا يمتنع أن يحلف على مغيب بالإمارات الدالة على حاله كما يحلف على كنايات القذف والطلاق، وأنه أراد به الْقَذْفِ وَالطَّلَاقِ إِذَا أَنْكَرَ وَنَكَلَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(9/370)
مسألة
قال الشافعي: " وإن قطع من ذكره فبقي مِنْهُ مَا يَقَعُ مَوْقِعَ الْجِمَاعِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِنْ كَانَ مَقْطُوعَ الذَّكَرِ بِأَسْرِهِ فَهُوَ المجبوب، ولها الخيار في فرقتها من غير تأجيل؛ لأن جماعه ما يؤس مِنْهُ فَلَمْ يَكُنْ لِلتَّأْجِيلِ مَعْنًى يَنْتَظِرُهُ فَإِنْ رضيت لجبه ثُمَّ سَأَلَتْ أَنْ يُؤَجَّلَ لِلْعُنَّةِ لَمْ يَجُزْ لِاسْتِحَالَةِ الْوَطْءِ مَعَ الْجَبِّ الَّذِي يَقَعُ بِهِ الرضى وَإِنْ كَانَ بَعْضُ ذَكَرِهِ مَقْطُوعًا فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي مِنْهُ دُونَ قَدْرِ الْحَشَفَةِ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِيلَاجِهِ فَهَذَا كَالْمَجْبُوبِ، وَلَهَا الْخِيَارُ فِي الْحَالِ مِنْ غَيْرِ تأجيل.
والضرب الثاني: أن يبقى منه قر الحشفة ويقدر على إيلاجه فعنه قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ لَيْسَ بِعَيْبٍ فِي الْحَالِ، لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى إِيلَاجِهِ فَجَرَى مَجْرَى الذَّكَرِ إِلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ عنةٌ فَيُؤَجَّلُ لَهَا أَجَلَ الْعُنَّةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ عَيْبٌ فِي الحال وإن يَكُنْ مَعَهُ عُنَّةٌ لِنَقْصِ الِاسْتِمْتَاعِ عَنْ حَالِ الذَّكَرِ السَّلِيمِ، فَإِنْ رَضِيَتْ بِقَطْعِهِ وَأَرَادَتْ تَأْجِيلَ العنة أجل.
والضرب الثالث: ألا يُعْلَمَ قَدْرُ بَاقِيهِ هَلْ يَكُونُ قَدْرَ الْحَشَفَةِ إِنِ انْتَشَرَ فَيَقْدِرُ عَلَى إِيلَاجِهِ أَوْ يَكُونُ أَقَلَّ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى إِيلَاجِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ أكثر الأمرين، فالباقي منه قدر الحشفة، استصحاباً، بالحالة الْأُولَى، وَلَا يَكُونُ لَهَا الْخِيَارُ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ عَاجِلًا إِلَّا أَنْ يُؤَجَّلَ لَهَا أَجَلَ الْعُنَّةِ، كَالضَّرْبِ الثَّانِي.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ - أَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ أَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ، وَأَنَّ الْبَاقِيَ مِنْهُ، أَقَلُّ مِنْ قَدْرِ الْحَشَفَةِ، فَيَكُونُ لَهَا الْخِيَارُ فِي الْحَالِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْقَطْعِ دُونَ الْعُنَّةِ كَالضَّرْبِ الْأَوَّلِ.
فَصْلٌ
وَأَمَّا الْخَصِيُّ فَهُوَ الَّذِي قطعت أنثياه مع الوعاء، وأما المسلول: فهو الذي أسلت أنثتاه من الوعاء.
وأما الموجور: فهو الذي رضت أُنْثَيَاهُ فِي الْوِعَاءِ وَحُكْمُ جَمِيعِهِمْ سَوَاءٌ وَهَلْ يَكُونُ عَيْبًا يَتَعَجَّلُ بِهِ فَسْخُ النِّكَاحِ فِيهِ قولان مضيا، فإن جعل عيباً يعجل بِهِ الْفَسْخُ مِنْ وَقْتِهِ، فَإِنْ رَضِيَتْ بِهِ الزَّوْجَةُ، وَأَرَادَتْ تَأْجِيلَهُ لِلَّعُنَّةِ أُجِّلَ لَهَا بِخِلَافِ الْمَجْبُوبِ لِإِمْكَانِ الْوَطْءِ مِنْهُ وَاسْتِحَالَتِهِ مِنَ الْمَجْبُوبِ.
مسألة
قال الشافعي: " أَوْ كَانَ خُنْثَى يَبُولُ مِنْ حَيْثُ يَبُولُ الرجال ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لِلْخُنْثَى حَالَتَانِ: مُشْكِلٌ وَغَيْرُ مُشْكِلٍ فَأَمَّا الْمُشْكِلُ فَيَأْتِي وَأَمَّا غَيْرُ الْمُشَكِلِ، فَهُوَ أَنْ يَبُولَ مِنْ ذَكَرِهِ دُونَ فَرْجِهِ، فَيَكُونُ رَجُلًا، يَصِحُّ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً، وَهَلْ(9/371)
يَكُونُ زِيَادَةُ فَرْجِهِ عَيْبًا فِيهِ، يُوجِبُ الْفَسْخَ وفي الخيار فِيهِ قَوْلَانِ مَضَيَا، فَإِنْ لَمْ يُجْعَلْ عَيْبًا أُجِّلَ لِلْعُنَّةِ إِنْ ظَهَرَتْ بِهِ.
وَإِنْ جُعِلَ كَانَ لَهَا أَنْ تَتَعَجَّلَ بِهِ الْفَسْخَ فَإِنْ رَضِيَتْ بِهِ، وَظَهَرَتْ عُنَّتُهُ، أُجِّلَ لَهَا؛ لِأَنَّ نَقْصَهُ بِالْعُنَّةِ غَيْرُ نَقْصِهِ بِالْخُنُوثَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مسألة
قال الشافعي: " أَوْ كَانَ يُصِيبُ غَيْرَهَا وَلَا يُصِيبُهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ مَنْ لَهُ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
إِمَّا أن تعدمن جَمِيعِهِنَّ، وَكَانَ يَطَأَهُنَّ كُلَّهُنَّ، انْتَفَتْ عَنْهُ الْعُنَّةُ عموماً.
وما لم تعدمن جميعهن وكان يطأهن كلهن، ولا خيار، وإن عدمن جميعهن فلا يطأ واحدة منهن فإذا سألوا تأجيله أجل لهم حَوْلًا؛ لِأَنَّهَا مُدَّةٌ يُعْتَبَرُ بِهَا حَالُهُ فَاسْتَوَى حُكْمُهَا فِي حُقُوقِهِنَّ كُلِّهِنَّ فَإِذَا مَضَتِ السَّنَةُ كَانَ لَهُنَّ الْخِيَارُ، فَإِنِ اجْتَمَعْنَ عَلَى الْفَسْخِ، كَانَ ذَلِكَ لَهُنَّ، وَإِنِ افْتَرَقْنَ أَجْرَى عَلَى كل واحدة حكم اختيارها، وإن عزم بعضهن دون بعض فوطأ اثنتين، ولم يطأ اثنتين ثبتت عنته، فن امتنع من وطئها، وإن سقطت عنته فِي جَمِيعِهِنَّ، وَلَا خِيَارَ لِمَنْ لَا يَطَأْهَا مِنْهُنَّ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِنِّينًا وَغَيْرَ عِنِّينٍ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ يَمْنَعُ أن يلحقه العنة من بعضهن لما في طبعه في الميل إليهن، وقوة الشهوة لهن مختص كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِحُكْمِهَا مَعَهُ.
فَصْلٌ
وَإِذَا أخبرها الزوج قبل النكاح أَنَّهُ عِنِّينٌ فَنَكَحَتْ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ أَرَادَتْ بَعْدَ الْعَقْدِ تَأْجِيلَهُ لِلْعُنَّةِ، وَفَسْخِ النِّكَاحِ بِهَا، فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَالَ فِي الْقَدِيمِ: ليس لها ذلك، ولا خيار لها، كَمَا لَوْ نَكَحَتْهُ عَالِمَةً بِعَيْنِ ذَلِكَ مِنْ عُيُوبِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ لَهَا الْخِيَارُ بِخِلَافِ سَائِرِ الْعُيُوبِ، لِأَنَّ الْعُنَّةَ قَدْ تَكُونُ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ وَمِنِ امْرَأَةٍ دون امرأة، وغيرها من العيوب تكون فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا وَمِنَ النِّسَاءِ كُلِّهِنَّ.
مَسْأَلَةٌ
قال الشافعي: " فسألت فرقته أجلته سنةً من يوم ترافعا إلينا (قال) فإن أصابها مرةً واحدةً فهي امرأته ".
اعْلَمْ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْخِيَارِ بِالْعُنَّةِ، وَتَأْجِيلَ الزَّوْجِ فيه لا يسار إلا بحكم حاكم لِأَنَّ الْخِيَارَ مُسْتَحَقٌّ بِاجْتِهَادٍ، وَتَأْجِيلُ السَّنَةِ عَنِ اجتهاد وما أخر ثُبُوتُهُ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ دُونَ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ لَمْ يَسْتَقِرَّ إِلَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ، فَإِنْ عَلِمَتِ الْمَرْأَةُ بِعُنَّةِ الزَّوْجِ، كَانَ حَقُّهَا فِي مُرَافَعَتِهِ إِلَى الْحَاكِمِ عَلَى التَّرَاخِي دُونَ الْفَوْرِ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ التَّأْجِيلِ عَيْبٌ مَظْنُونٌ، وَلَيْسَ بِمُتَحَقِّقٍ، فَإِنْ أجزت محاكمته سنة، رافعته إلى الحاكم، استأنف بها الحول،(9/372)
مِنْ وَقْتِ التَّرَافُعِ إِلَيْهِ وَلَمْ يُحْتَسَبْ بِمَا مَضَى مِنْهُ، وَخَالَفَ مُدَّةَ الْإِيلَاءِ لِأَنَّ تِلْكَ نَصٌّ، وَهَذِهِ عَنِ اجْتِهَادٍ، فَلَوْ أَقَرَّ لَهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ بِالْعُنَّةِ أَجَّلَهُ لَهَا، وَلَمْ يُعَجِّلِ الْفَسْخَ بِإِقْرَارِهِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفَسْخَ يُؤَجَّلُ لِسَنَةٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَجَّلَ قَبْلَهَا.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ رُبَّمَا زَالَتِ الْعُنَّةُ، فَلَمْ يَجُزْ فَسْخُ النكاح بها والله أعلم.
مسألة
قال الشافعي: رضي الله عنه: " إِذَا تَزَوَّجَ رَجُلٌ امْرَأَةً وَلَمْ يُصِبْهَا فِي نِكَاحِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَنْ عُنَّةٍ.
وَالثَّانِي: بِغَيْرِ عُنَّةٍ، فإن كان لعنة كان على مضى من تأجيله لها سنة إذا حاكمته، فَإِنْ أَصَابَهَا فِي السَّنَةِ أَوْ بَعْدَهَا، أَوْ قَبْلَ الْفَسْخِ مَرَّةً وَاحِدَةً سَقَطَ حَقُّهَا مِنَ الْفَسْخِ لِارْتِفَاعِ عُنَّتِهِ بِالْإِصَابَةِ، فَلَوْ تَرَكَهَا بَعْدَ تلك الإصابة سنين كثيرة لا يَمَسُّهَا، فَلَا مُطَالَبَةَ لَهَا.
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي ثور أنه يؤجل لها ثانية إذا عادت العنة ثَانِيَةً وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّهَا قَدْ وَصَلَتْ بِإِصَابَةِ المرأة الْوَاحِدَةِ إِلَى مَقْصُودِ النِّكَاحِ مِنْ تَكْمِيلِ الْمَهْرِ وثبوت الحصانة، ولا يَبْقَ إِلَّا تَلَذُّذُ الزَّوْجِ بِهَا، وَتِلْكَ شَهْوَةٌ لا يجبر عليها، والله أعلم.
وإذا ترك الزوج إصابتها لغير عنةٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا، هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ إِصَابَتُهَا مَرَّةً أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ: إِنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمَجْنُونُ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الوطء، والقرناء التي لا يمكن وطئها، وَلَوْ وَجَبَ الْوَطْءُ لَمَا جَازَ إِلَّا نِكَاحَ من تمكنه الوطء لم يكن وطأها.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَطَأَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً فِي نِكَاحِهِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْخِيَارُ لَهَا فِي الْعُيُوبِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْوَطْءِ دَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْوَطْءِ.
وَالثَّانِي: أنه مقصود النكاح في تَكْمِيلِ الْمَهْرِ وَالْحَصَانَةِ، وَطَلَبِ الْوَلَدِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْوَطْءِ فَاقْتَضَى أَنْ يَجِبَ فِيهِ الْوَطْءُ.
فإذا قيل بالوجه الأول أنه يَجِبُ، فَلَا خِيَارَ لَهَا وَلَا تَأْجِيلَ.
وَإِذَا قِيلَ بِالْوَجْهِ الثَّانِي إِنَّهُ يَجِبُ، فَإِنْ كَانَ معذوراً بمرض أو سفرٍ أنذر بِالْوَطْءِ إِلَى وَقْتِ مَكِنَتِهِ كَمَا يَنْظُرُ بِالدَّيْنِ مِنْ إِعْسَارِهِ إِلَى وَقْتِ يَسَارِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ معذورٍ أَخَذَهُ(9/373)
الْحَاكِمُ إِذَا رَافَعَتْهُ الزَّوْجَةُ إِلَيْهِ بِالْوَطْءِ أَوِ الطلاق كما يأخذه الْمُولِي بِهِمَا، وَلَمْ يُؤَجِّلْهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعِنِّينٍ وَلَا يُطَلِّقُ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ، بِخِلَافِ الْمُولِي فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ بَلْ يَحْبِسُهُ حَتَّى يَفْعَلَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْوَطْءِ أَوِ الطَّلَاقِ، فَإِذَا وَطِئَهَا مَرَّةً سَقَطَ لَهَا مُطَالَبَتُهُ بِالْفُرْقَةِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ) {البقرة: 228) ودليلنا قول الله تعالى: {لِلْرِجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) {البقرة: 228) فَمِنْ دَرَجَةِ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ يَلْزَمَهَا إِجَابَتُهُ إِذَا دَعَاهَا إِلَى الْفِرَاشِ وَلَا يَلْزَمُهُ إِجَابَتَهَا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ رَفْعُ الْعَقْدِ بِالطَّلَاقِ إِلَيْهِ دُونَهَا كَانَ الْوَطْءُ فِيهِ حَقًّا لَهُ دُونَهَا؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الوطء في ملك اليمين حقاً للمالك دون المملوكة، كَانَ الْوَطْءُ فِي النِّكَاحِ حَقًّا لِلنَّاكِحِ دُونَ المنكوحة والله أعلم.
مسألة
قال الشافعي: رضي الله عنه: " ولا تكون إصابتها إلا بأن يُغَيِّبَ الْحَشَفَةَ أَوْ مَا بَقِيَ مِنَ الذَّكَرِ في الفرج ".
قال الماوردي: الإصابة التي تسقط بها حكم العنة هي تغييب الْحَشَفَةِ فِي الْقُبُلِ حَتَّى يَلْتَقِيَ الْخِتَانَانِ فَيَجِبُ الغسل سواء أنزل أم لَمْ يُنْزِلْ لِأَنَّهَا الْإِصَابَةُ الَّتِي يَكْمُلُ بِهَا الْمَهْرُ الْمُسَمَّى فِي النِّكَاحِ، وَيَجِبُ لَهَا مَهْرُ المثل في الشبهة والحد في الزنا، هذا إذا كان سليم الذكر باقي الحشفة، ولا اعتبار بمغيب مَا بَعْدَ الْحَشَفَةِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ مَقْطُوعَ الحشفة ففيما يعتبر بغيبه مِنْ بَقِيَّةِ الذَّكَرِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُعْتَبَرُ أَنْ تغييب باقيه قدر الحشفة ليكون بدلاً منها فسقط بِهِ حُكْمُ الْعُنَّةِ كَمَا سَقَطَ بِهَا.
وَالْوَجْهُ الثاني: أنه يعتبر تغييب باقيه كله، وهو ظاهر قوله هاهنا؛ لِأَنَّ الْحَشَفَةَ حَدٌّ لَيْسَ فِي الْبَاقِي، فَصَارَ جَمِيعُ الْبَاقِي حَدًّا.
فَصْلٌ
فَأَمَّا الْوَطْءُ فِي الدُّبُرِ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ حُكْمُ الْعُنَّةِ؛ لِأَنَّهُ محل محظور لا يستباح العقد، فَلَمْ يَسْقُطْ بِهِ حُكْمُ الْوَطْءِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ وَلَوْ وَطِئَهَا فِي الْحَيْضِ، وَالْإِحْرَامِ سَقَطَ بِهِ حُكْمُ الْعُنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مَحْظُورًا؛ لِأَنَّهُ فِي المحل المستباح بالعقد.
مسألة
قال الشافعي: رضي الله عنه: " فإن لَمْ يُصِبْهَا خَيَّرَهَا السُّلْطَانُ فَإِنْ شَاءَتْ فِرَاقَهُ فَسَخَ نِكَاحَهَا بِغَيْرِ طلاقٍ لِأَنَّهُ إِلَيْهَا دُونَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا مَضَتْ لِلْعِنِّينِ سَنَةً مِنْ حِينِ أُجِّلَ فَهِيَ عَلَى حقها، ما لم ترافعه إِلَى الْحَاكِمِ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ تَعْجِيلُ مُحَاكَمَتِهِ بَعْدَ السَّنَةِ عَلَى الْفَوْرِ بِخِلَافِ الْفَسْخِ فِي الْعُيُوبِ لأن تمكنها لِلزَّوْجِ مِنْ نَفْسِهَا فِي الْعُيُوبِ يَمْنَعُ مِنَ الفسخ، فكان الإمساك كذلك فإن حاكمها الزوج في عنته إلى الحاكم، لم يكن له ذلك، لِأَنَّهُ حَقٌّ عَلَيْهِ هُوَ مَأْخُوذٌ بِهِ، وَلَيْسَ بِحَقٍّ لَهُ، فَيُطَالِبُ بِهِ فَإِذَا رَافَعَتْهُ إِلَى الحاكم بعد السنة،(9/374)
تغير حينئذٍ زَمَانُ خِيَارِهَا فَيَعْرِضُ الْحَاكِمُ عَلَيْهَا الْفَسْخَ، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَنْفَرِدَ بِفَسْخِهِ عِنْدَهُ لِأَنَّهُ فسخ بحكم ويحكم إِلَيْهِ دُونَهَا، لَكِنْ يَكُونُ الْحَاكِمُ مُخَيَّرًا بَيْنَ أن يتولاه بنفسه وبين أن يترك ذَلِكَ إِلَيْهَا لِتَتَوَلَّاهُ بِنَفْسِهَا فَيَكُونُ هُوَ الْحَاكِمُ بِهِ، وَهِيَ الْمُسْتَوْفِيَةُ لَهُ فَإِذَا وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا، كَانَتْ فُرْقَةً تَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ أَصِلِهِ ولم تكن طلاقاً، فإن عاد فزوجها كَانَتْ مَعَهُ عَلَى ثَلَاثٍ.
وَقَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة: تَكُونُ الْفُرْقَةُ طَلَاقًا، وَلَا تَكُونُ فَسْخًا. وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّهَا فُرْقَةٌ مِنْ جِهَتِهَا وَالطَّلَاقُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ، فَأَشْبَهَتِ الفرقة بالإسلام، والفسخ بالجنون.
فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ فَسْخٌ، وَلَيْسَ بطلاقٍ فَلَا مَهْرَ لَهَا وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا.
وَقَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ: لَهَا الْمَهْرُ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَهَذَا عِنْدَنَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لَا يَكْمُلُ الْمَهْرُ، ويوجب الْعِدَّةَ بِالْإِصَابَةِ وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْعِنِّينِ الْإِصَابَةُ، لا تستحق نصف المسمى، ولأنه المتعة لم تكن مُسَمًّى؛ لِأَنَّهُ فسخٌ مِنْ جِهَتِهَا فَأَسْقَطَ مَهْرَهَا ومتعتها والله أعلم.
مسألة
قال الشافعي: رضي الله عنه: " فَإِذَا أَقَامَتْ مَعَهُ فَهُوَ تركٌ لِحَقِّهَا ".
قَالَ الماوردي: قد مضى الكلام في الفسخ؛ لأنه لَا يَصِحُّ إِلَّا بِشَرْطَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: انْقِضَاءُ السَّنَةِ.
والثاني: حكم الحاكم.
فأما الرضى فَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُقَامِ، فَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى حُكْمٍ؛ لأنه يقيم بعقد سابق، ولا يَفْتَقِرُ إِلَى حُكْمٍ فَلَمْ يَكُنِ الْمُقَامُ عَلَيْهِ مفتقراً إلى حكم، وهل يفتقر الرضى فِي لُزُومِهِ إِلَى انْقِضَاءِ الْأَجَلِ أَمْ لَا؟ فيه وجهان:
أحدهما: يفتقر الرضى إِلَى انْقِضَاءِ الْأَجَلِ فَإِنْ رَضِيَتْ قَبْلَ انْقِضَائِهِ لم يلزم؛ لأن الرضى إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِ الْفَسْخِ وَهِيَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْأَجَلِ لَمْ تَسْتَحِقَّ الْفَسْخَ فَلَمْ يَلْزَمْهَا الرضى كَالْأَمَةِ إِذَا رَضِيَتْ بِرِقِّ زَوْجِهَا قَبْلَ عِتْقِهَا لَمْ يلزمها الرضى بِوُجُودِهِ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِ الْفَسْخِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى انْقِضَاءِ الْأَجَلِ، وَيَصِحُّ الرِّضَا قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ مَضْرُوبٌ لِظُهُورِ الْعُنَّةِ، فكان الرضى بها مُبْطِلًا لِلْأَجَلِ الْمَضْرُوبِ لَهَا، وَإِذَا بَطَلَ الْأَجَلُ لزم العقد.
والرضى إِنْ كَانَ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِصَرِيحِ الْقَوْلِ، وَكَانَ أَيْضًا، بأن يعرض الحاكم عليها الفسخ ولا تختار فيكون تركها للاختيار للفسخ رِضًا مِنْهَا بِالْمُقَامِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(9/375)
مسألة
قال الشافعي: رضي الله عنه: " فَإِنْ فَارَقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ ثُمَّ رَاجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ سَأَلَتْ أَنْ يُؤَجَّلَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهَا (قَالَ الْمُزَنِيُّ) وَكَيْفَ يَكُونُ عَلَيْهَا عدةٌ ولم تكن إصابةٌ وَأَصْلُ قَوْلِهِ لَوِ اسْتَمْتَعَ رجلُ بامرأةٍ وقالت لم يصبني وطلق فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي عِنِّينٍ أُجِلَّ لِزَوْجَتِهِ ثُمَّ رَضِيَتْ بَعْدَ الْأَجَلِ بِعُنَّتِهِ، فَطَلَّقَهَا ثُمَّ رَاجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ فَسَأَلَتْ بَعْدَ رَجَعَتِهِ أَنْ يُؤَجَّلَ لها ثانية لم يجز؛ لأن المرتجعة زوجة بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ أُجِّلَ فِيهِ مُدَّةً فَرَضِيَتْ فلم يجز أن يؤجل ثانية؛ لأنه عنت إِذَا رَضِيَتْ بِهِ فِي نِكَاحٍ لَزِمَ كَمَا يَلْزَمُهَا إِذَا رَضِيَتْ بِجَبَّهِ وَجُنُونِهِ، وَهُوَ بِخِلَافِ الْإِعْسَارِ بِالنَّفَقَةِ إِذَا رَضِيَتْ بِهِ فِي نِكَاحٍ ثُمَّ عَادَتْ فِيهِ تَطْلُبُ الْفَسْخَ كَانَ لَهَا؛ لِأَنَّ الْإِعْسَارَ لَيْسَ بِلَازِمٍ، وَقَدْ يَنْتَقِلُ مِنْهُ إلى يسار كَمَا يَنْتَقِلُ مِنْ يَسَارٍ إِلَى إِعْسَارٍ، وَخَالَفَ الْعُنَّةَ الَّتِي ظَاهِرُ حَالِهَا الدَّوَامُ.
فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اعْتَرَضَ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي هذه المسألة اعتراضاً موجهاً، فَقَالَ: قَدْ تَجْتَمِعُ الرَّجْعَةُ وَالْعُنَّةُ فِي نِكَاحٍ واحد وهو إن وطئها يثبت الرجعة فِي نِكَاحٍ وَاحِدٍ وَسَقَطَتِ الْعُنَّةُ، وَإِنْ لَمْ يطأ ثَبَتَتْ الْعُنَّةُ وَبَطَلَتِ الرَّجْعَةُ وَالْعُنَّةُ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في الجواب فيه عَلَى ثَلَاثَةِ طُرُقٍ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّ الْمَسْأَلَةَ خَطَأٌ مِنَ النَّاقِلِ لها عن الشافعي رحمه الله فنقل مَا لَيْسَ مِنْ قَوْلِهِ، أَوْ سَهَا عَنْ شرط زيادة جل مِنْ نَقْلِهِ فَأَوْرَدَهَا الْمُزَنِيُّ كَمَا وَجَدَهَا فِي النقل لها عن الشافعي؛ واعترض عليها هو بِمَا هُوَ صَحِيحٌ مُتَوَجِّهٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الشَّافِعِيَّ فرع هذه الْمَسْأَلَةَ فِي الْجَدِيدِ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي الْقَدِيمِ أن الخلوة يكمل بها المهر، ويجب بِهَا الْعِدَّةُ. فَصَحَّتْ مَعَهَا الرَّجْعَةُ وَلَمْ يَسْقُطْ بِهَا حُكْمُ الْعُنَّةِ، وَهَذَا الْجَوَابُ غَيْرُ سَدِيدٍ من وجهين:
أحدهما: أن تفرعه فِي كُلِّ زَمَانٍ إِنَّمَا هُوَ عَلَى مُوجَبِ مَذْهَبِهِ فِيهِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُفَرِّعَ فِي الْجَدِيدِ عَلَى مَذْهَبٍ قَدْ تَرَكَهُ، وَإِنْ كَانَ قَائِلًا بِهِ فِي الْجَدِيدِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ أَبَا حامد المروزي قال: وحدث الشافعي فِي الْقَدِيمِ: أَنَّ الْخَلْوَةَ يَكْمُلُ بِهَا الْمَهْرُ وَلَا يَجِبُ بِهَا الْعِدَّةُ، فَبَطَلَ أَنْ يَصِحَّ مَعَهَا الرَّجْعَةُ.
وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: وَهُوَ جَوَابُ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا إِنَّهُ قَدْ يُمْكِنُ عَلَى مَذْهَبِ الشافعي رضي الله عنه في الجديد، أن تجب العدة، ونصح الرَّجْعَةُ، وَلَا يَسْقُطُ حَكَمُ الْعُنَّةِ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَطَأَ فِي الدُّبُرِ، فَيَكْمُلُ به المهر، ويجب بِهِ الْعِدَّةُ، وَتَصِحُّ فِيهِ وَلَا يَسْقُطُ حُكْمُ العنة.(9/376)
وَالثَّانِي: أَنْ يَطَأَ فِي الْقُبُلِ فَيُغَيِّبَ بَعْضَ الحشفة ويترك ماءه فِيهِ، فَتَجِبُ بِهِ الْعِدَّةُ، وَيَكْمُلُ بِهِ الْمَهْرُ وَلَا يَسْقُطُ حُكْمُ الْعُنَّةِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا سَقَطَ بتغييب جميع الحشفة.
والثالث: إن استدخل ماءه من غير وطء فيجب به العدة، ويستحق معه الرجعة، ولا يسقط بِهِ الْعُنَّةَ، وَفِي هَذَا عِنْدِي نَظَرٌ لَكِنْ قَدْ قَالَهُ أَصْحَابُنَا وَفَرَّعُوا عَلَيْهِ، فَقَالُوا: لَوْ أَنْزَلَ قَبْلَ نِكَاحِهَا، وَاسْتَدْخَلَتْهُ بَعْدَ نِكَاحِهَا لَمْ تعتد منه، لِأَنَّهَا فِي حَالِ الْإِنْزَالِ لَمْ تَكُنْ زَوْجَةً وإن صارت وَقْتَ الْإِدْخَالِ زَوْجَةً، وَإِنْ كَانَتْ وَقْتَ الْإِنْزَالِ زَوْجَةً، فَإِنَّمَا أَوْجَبُوا فِيهِ الْعِدَّةَ، وَأَلْحَقُوا مِنْهُ الْوَلَدَ إِذَا كَانَتْ فِي حَالَتَيْ إِنْزَالِهِ وَاسْتِدْخَالِهِ زَوْجَةً.
فَصْلٌ
فَأَمَّا إِذَا طَلَّقَهَا بَعْدَ الْأَجَلِ والرضا طلاقاً أبانت مِنْهُ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ نِكَاحَهَا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ فَسَأَلَتْ: أن تؤجل فِيهِ الْعُنَّةُ، فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَجَّلَ لَهَا ثَانِيَةً. وَإِنْ كَانَ فِي عَقْدٍ ثانٍ كَمَا لَا يَجُوزُ فِي نِكَاحٍ واحدٍ، وَهَكَذَا لَوْ أَنَّهَا فَسَخَتْ نِكَاحَهُ الْأَوَّلَ بِالْعُنَّةِ مِنْ غَيْرِ طلاقٍ ثُمَّ تَزَوَّجَتْهُ لَمْ يُؤَجَّلْ لَهَا فِي النِّكَاحِ الثَّانِي، لِأَنَّ عِلْمَهَا بِعُنَّتِهِ كَعِلْمِهَا بِجُذَامِهِ وَبَرَصِهِ، وهي لا تجوز إِذَا نَكَحَتْهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ أَنْ تَفْسَخَ فكذلك في العنة.
والقول الثَّانِي: - قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ - إِنَّهُ يُؤَجَّلُ لَهَا في النكاح الثاني؛ لأن لكل عقد حكم بِنَفْسِهِ، وَلَيْسَتِ الْعُنَّةُ مِنَ الْعُيُوبِ اللَّازِمَةِ، وَقَدْ يَجُوزُ زَوَالُهَا فَجَرَى مَجْرَى الْإِعْسَارِ بِالنَّفَقَةِ الَّتِي يُرْجَى زَوَالُهَا، وَيَعُودُ اسْتِحْقَاقُ الْفَسْخِ بِهَا، وَلَكِنْ لَوْ أَصَابَهَا فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ فَسَقَطَ بِإِصَابَتِهِ حُكْمُ الْعُنَّةِ ثُمَّ طَلَّقَهَا فَتَزَوَّجَهَا ثُمَّ حَدَثَتْ بِهِ الْعُنَّةُ فِي النِّكَاحِ أُجِّلَ لَهَا قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّ حُكْمَ عُنَّتِهِ الْأُولَى قَدِ ارْتَفَعَ بإصابته فصارت مستأنفة لنكاح مَنْ لَيْسَ بِعِنِّينٍ فَإِذَا ظَهَرَتْ بِهِ الْعُنَّةُ أجل والله أعلم.
مسألة
قال الشافعي: " ولو قالت لم يصبني وقال قد أَصَبْتُهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِأَنَّهَا تُرِيدُ فَسْخَ نِكَاحِهَا وَعَلَيْهِ الْيَمِينُ فَإِنْ نَكَلَ وَحَلَفَتْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا وإن كانت بكراً أريها أَرْبَعًا مِنَ النِّسَاءِ عُدُولًا وَذَلِكَ دليلٌ عَلَى صدقها فإن شاء أخلفها ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَإِنْ نَكَلَتْ وَحَلَفَ أَقَامَ مَعَهَا وَذَلِكَ أَنَّ الْعُذْرَةَ قَدْ تَعُودُ فِيمَا يَزْعُمُ أَهْلُ الْخِبْرَةِ بِهَا إِذَا لَمْ يُبَالَغْ فِي الْإِصَابَةِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: أَنْ يَخْتَلِفَ الزَّوْجَانِ فِي الْإِصَابَةِ بَعْدَ أَجَلِ الْعُنَّةِ، فَتَقُولُ الزَّوْجَةُ: لَمْ يُصِبْنِي فَلِيَ الْفَسْخُ، وَيَقُولُ الزَّوْجُ: قَدْ أَصَبْتُهَا فَلَا فَسْخَ لَهَا، فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا، فَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي الْإِصَابَةِ مَعَ يَمِينِهِ وَلَا خيار لها؛ لأنه ثُبُوتَ النِّكَاحِ يَمْنَعُ مِنْ تَصْدِيقِ قَوْلِهَا فِي فَسْخِهِ، فَإِنْ حَلَفَ سَقَطَ(9/377)
خِيَارُهَا، وَإِنْ نَكَلَ رُدَّتِ الْيَمِينِ عَلَيْهَا فَإِنْ حَلَفَتْ كَانَ لَهَا الْخِيَارُ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَإِنْ نَكَلَتْ فَلَا خِيَارَ لَهَا وَالنِّكَاحُ بِحَالِهِ، وَهَذَا قَوْلُ الْفُقَهَاءِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: وَالْأَوْزَاعِيُّ: يُؤْمَرُ الزَّوْجُ بمعاودة خلوتها ويقربهما وَقْتَ الْجِمَاعِ امْرَأَةٌ ثِقَةٌ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: امْرَأَتَانِ فإذا خرج من خلوتهما نظر فرجها، وإن كان ماء الرجل كان القول قوله، وإن لم يكن مَاؤُهُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا، وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ اخْتِلَافَهَمَا فِي إصابةٍ تَقَدَّمَتْ فَلَمْ يَدُلُّ عَلَيْهَا مَا حَدَثَ بَعْدَهَا.
وَالثَّانِي: إِنَّ وُجُودَ الْمَاءِ وَعَدَمَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْإِصَابَةِ وَعَدَمِهَا، لِأَنَّهُ قَدْ يُنْزِلُ وَلَا يُولِجُ، وَقَدْ يُولِجُ وَلَا يُنْزِلُ، وَحَقُّهَا مُتَعَلِّقٌ بِالْإِيلَاجِ دُونَ الْإِنْزَالِ، وَحُكِيَ أَنَّ امْرَأَةً ادَّعَتْ عُنَّةَ رَجُلٍ عِنْدَ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ وَاخْتَلَفَ في الإصابة، فكتب بها على معاوية يسأله عَنْهَا فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ، زَوِّجْهُ امْرَأَةً ذَاتَ جمال وحسنٍ توصف بدين وستر وسبق إليها مهرها من بيت المال لتختبر حَالَهُ، فَفَعَلَ سَمُرَةُ ذَلِكَ، فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: لَا خير عنده، فقال سمرة: ما دنى فقالت: بلى، ولكن إذا دنى شره أي أنزل قبل الإيلاج، وهذا مذهبه لِمُعَاوِيَةَ لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، وَلَا لَهُ فِي الْأُصُولِ نَظِيرٌ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ عِنِّينًا فِي وَقْتٍ وَغَيْرَ عِنِّينٍ فِي وَقْتٍ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا بَطَلَ هَذَانِ الْمَذْهَبَانِ كَانَ مذهبهم أَبْطَلَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّكُمْ قَبِلْتُمْ بِهِ قول المدعي دون المنكر، والشرع وارد بقبول قَوْلِ الْمُنْكِرِ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ لَوِ ادَّعَى إِصَابَةَ الْمُطَلَّقَةِ لِيُرَاجِعَهَا وَأَنْكَرَتْهُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا دُونَهُ فَهَلَّا كَانَ فِي الْعُنَّةِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الإصابة.
قِيلَ: الْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْعِلَّةِ فِي قَبُولِ قَوْلِهِ يَدْفَعُ هَذَا الِاعْتِرَاضَ وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ ثُبُوتُ النِّكَاحِ، وَهِيَ تَدَّعِي بِإِنْكَارِ الْإِصَابَةِ اسْتِحْقَاقَ فَسْخِهِ، فَصَارَتْ هِيَ مدعية، وهو منكر فَكَانَ مَصِيرُ هَذَا الْأَصْلِ يُوجِبُ قَبُولَ قَوْلِهِ دونها على أن ما تعذر إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ فِيهِ جَازَ أَنْ يُقْبَلَ فِيهِ قَوْلُ مُدَّعِيهِ إِذَا كَانَ مَعَهُ ظَاهِرٌ يَقْتَضِيهِ كَاللَّوْثِ فِي دَعْوَى الْقَتْلِ، فَأَمَّا دَعْوَاهُ الْإِصَابَةَ فِي الرَّجْعَةِ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ دَعْوَى الْإِصَابَةِ فِي الْعُنَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ دَعْوَى الإصابة في الرجعة تنفي مَا أَوْجَبَهُ الطَّلَاقُ مِنَ التَّحْرِيمِ وَدَعْوَى الْإِصَابَةِ في العنة تثبت مَا أَوْجَبَهُ النِّكَاحُ فِي اللُّزُومِ فَافْتَرَقَا.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ ادَّعَى الْإِصَابَةَ فِي الْعُنَّةِ مَعَ بَقَاءِ نِكَاحِهِ، فَصَارَ كَالْمُدَّعِي لِمَا فِي يَدِهِ وَدَعْوَاهُ الْإِصَابَةَ فِي الرَّجْعَةِ بَعْدَ زَوَالِ نِكَاحِهِ فَصَارَ كَالْمُدَّعِي لِمَا فِي يَدِ غَيْرِهِ فَافْتَرَقَا.(9/378)
فصل
وإن كانت بكراً إما أن يعترف لها بالبكارة وإما أن ينكرها، ويشهد بِهَا أَرْبَعُ نِسْوَةٍ عُدُولٍ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهَا في إنكار الإصابة لأن البكارة ظاهرة تدل على صداقها فزالت عن حكم الثيب الَّتِي لَا ظَاهِرَ مَعَهَا.
فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَهُ إِحْلَافُهَا، قِيلَ: إِنْ لَمْ يَدَّعِ عَوْدَ بِكَارَتِهَا، فَلَا يَمِينَ عَلَيْهَا، وَإِنِ ادَّعَى عَوْدَ الْبَكَارَةِ بَعْدَ زَوَالِ الْعُذْرَةِ فَإِذَا لَمْ يُبَالِغْ بِالْإِصَابَةِ فَتَصِيرُ هَذِهِ الدَّعْوَى مُحْتَمَلَةً، وَإِنْ خَالَفَتِ الظَّاهِرَ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهَا مَعَ يَمِينِهَا فَإِنْ حَلَفَتْ حُكِمَ لَهَا بِالْفُرْقَةِ وَإِنْ نَكَلَتْ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَيْهِ، فَإِنْ حَلَفَ سَقَطَ حَقُّهَا مِنَ الْفُرْقَةِ بالفرقة، وَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَقْبَلُ قولها إن نكل وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ وَيَحْكُمْ لَهَا بِالْفُرْقَةِ كَمَا لو ادعى وطئها وَهِيَ ثَيِّبٌ وَنَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَيْهَا فَنَكَلَتْ حُكِمَ بِقَوْلِهِ فِي سُقُوطِ الْعُنَّةِ وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ أَظْهَرُ - أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ قَوْلَهَا فِي الْفُرْقَةِ بِغَيْرِ يَمِينٍ مَعَ نُكُولِ الزَّوْجَةِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الزوج يستصحب لزوم متقدم جاز أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهُ فِيهِ وَالزَّوْجَةُ تَسْتَحِلُّ حُدُوثَ فَسْخٍ طَارِئٍ فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا فِيهِ وَاللَّهُ أعلم.
مسألة
قال الشافعي: " وَلِلْمَرْأَةِ الْخِيَارُ فِي الْمَجْبُوبِ وَغَيْرِ الْمَجْبُوبِ مِنْ سَاعَتِهَا لِأَنَّ الْمَجْبُوبَ لَا يُجَامِعُ أَبَدًا وَالْخَصِيُّ ناقصٌ عَنِ الرِّجَالِ وَإِنْ كَانَ لَهُ ذكرٌ إِلَّا أَنْ تَكُونَ عَلِمَتْ فَلَا خِيَارَ لَهَا ".
قَالَ الماوردي: قد ذكرنا أنه إذا كان الزوج مجبوب فلها الخيار وإن كان خصياً فعلى قولين، فإذا كان كذلك فَلَهَا الْخِيَارُ فِي الْمَجْبُوبِ مِنْ سَاعَتِهِ وَلَا يُؤَجِّلُ لَهَا؛ لِأَنَّهُ مَأْيُوسٌ مِنْ جِمَاعِهِ فَلَمْ يَكُنْ لِلتَّأْجِيلِ تأثيرٌ، وَخَالَفَ الْمَرْجُوَّ جِمَاعُهُ وَالْمُؤَثِّرَ تَأْجِيلُهُ، فَلَوْ رَضِيَتْ بِجَبِّهِ ثُمَّ سَأَلَتْ أَنْ يؤجل للعنة لم يجز لتقدم الرضى بعنته. وأما الخصي، فإن قيل بأن الْخِصَاءَ يُوجِبُ الْخِيَارَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَلَهَا أن تتعجله مِنْ غَيْرِ تَأْجِيلٍ كَالْمَجْبُوبِ.
وَإِنْ قِيلَ: لَا خِيَارَ لَهَا فِي الْقَوْلِ الثَّانِي، أَوْ قِيلَ: لَهَا الْخِيَارُ فَاخْتَارَتِ الْمُقَامَ ثُمَّ سَأَلَتْ تَأْجِيلَهُ للعنة أحل بِخِلَافِ الْمَجْبُوبِ، لِأَنَّ الْإِصَابَةَ مِنَ الْخَصِيِّ مُمْكِنَةٌ وَمِنَ الْمَجْبُوبِ غَيْرُ مُمْكِنَةٍ، فَافْتَرَقَا فِي تَأْجِيلِ العنة.
مسألة
قال الشافعي: " وَإِنْ لَمْ يُجَامِعْهَا الصَّبِيُّ أُجِّلَ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) مَعْنَاهُ عِنْدِي صَبِيٌّ قَدْ بَلَغَ أَنْ يُجَامِعَ مثله ".(9/379)
قال الماوردي: وهذه مسألة وهم المزني في نقله فقال ولو لم يجامعها أُجِّلَ وَهَذَا وَهْمٌ مِنْهُ، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: وَلَوْ لَمْ يُجَامِعْهَا الْخَصِيُّ أُجِّلَ، وَقَدْ نَقَلَهُ الرَّبِيعُ فِي كِتَابِ الْأُمِّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَعَدَلَ بِالْمَسْأَلَةِ عَنِ الْخَصِيِّ إِلَى الصَّبِيِّ إِمَّا لتصحيف أو لسهو الكاتب، وأما زلة فِي التَّأْوِيلِ، فَإِنَّهُ قَالَ مَعْنَاهُ عِنْدِي: " صَبِيٌّ قَدْ بَلَغَ أَنْ يُجَامِعَ مِثْلُهُ " وَالصَّبِيُّ لَا يصح عُنَّتُهُ سَوَاءٌ رَاهَقَ فَأَمْكَنَ أَنْ يُجَامِعَ أَوْ كَانَ غَيْرَ مُرَاهِقٍ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُجَامِعَ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ غَيْرَ الْبَالِغِ عَاجِزٌ بِالصِّغَرِ دُونَ الْعُنَّةِ فَلَا يَدُلُّ عَجْزُهُ عَلَى عُنَّتِهِ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ لَا يُعْرَفُ عُنَّتُهُ إِلَّا بِإِقْرَارِهِ وَإِقْرَارُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ مَا لَمْ يَبْلُغْ فَانْتَفَى عَنْهُ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ حكم العنة، وإذا كان كذلك بان المراد هو الخصي وقد ذكرناه.
مسألة
قال الشافعي: " فإن كان خنثى يبول من حيث يبول الرجل فهو رجلٌ يتزوج امْرَأَةً وَإِنْ كَانَتْ هِيَ تَبُولُ مِنْ حَيْثُ تَبُولُ الْمَرْأَةُ فَهِيَ امرأةٌ تَتَزَوَّجُ رَجُلًا وَإِنْ كان مُشْكِلًا لَمْ يُزَوَّجْ وَقِيلَ لَهُ أَنْتَ أَعْلَمُ بنفسك فأيهما شِئْتَ أَنْكَحْنَاكَ عَلَيْهِ ثُمَّ لَا يَكُونُ لَكَ غَيْرُهُ أَبَدًا (قَالَ الْمُزَنِيُّ) فَبِأَيِّهِمَا تَزَوَّجَ وَهُوَ مشكلٌ كان لصاحبه الخيار لنقصه قياساً على قوله في الخصي له الذكر إن لها فيه الخيار لنقصه ".
قال الماوردي: أما الخنثى فهو الذي له ذكر رجل وفرج امرأ " فالذكر مختص بالرجل، والفرج مختص بالمرأة وليس يخلو مُشْتَبَهُ الْحَالِ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً) {النبأ: 8) يَعْنِي ذُكُورًا وَإِنَاثًا فَإِذَا جَمَعَ الْخُنْثَى بَيْنَ آلة الذكر والأنثى وجب أن يعتبر مَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْعُضْوَيْنِ وَهُوَ الْبَوْلُ، لِأَنَّ الذكر مخرج بول الرجل وَالْفَرْجَ مَخْرَجُ بَوْلِ الْمَرْأَةِ، فَإِنْ كَانَ يَبُولُ مِنْ ذَكَرِهِ وَحْدَهُ فَهُوَ رَجُلٌ، وَالْفَرْجُ عُضْوٌ زَائِدٌ، وَإِنْ كَانَ يَبُولُ مَنْ فَرْجِهِ فَهِيَ امْرَأَةٌ وَالذَّكَرُ عُضْوٌ زَائِدٌ.
رَوَى الْكَلْبِيُّ عَنْ صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال في الذي له ماء الرجال وماء النساء إِنَّهُ يُورَّثُ مِنْ حَيْثُ يَبُولُ.
وَقَضَى عَلِيُّ بن أبي طالب فِي الْعِرَاقِ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي خُنْثَى رُفِعَ إِلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ يَبُولُ مِنْهُمَا جَمِيعًا فَعَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَسْبِقَ أَحَدُهُمَا وَيَنْقَطِعَا مَعًا فَالْحُكْمُ لِلسَّابِقِ لِقُوَّتِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَخْرُجَا مَعًا وَيَنْقَطِعَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ فَالْحُكْمُ للمتأخر لقوته.(9/380)
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَسْبِقَ خُرُوجُ أَحَدِهِمَا، وَيَتَأَخَّرَ انْقِطَاعُ الْآخَرِ فَالْحُكْمُ لِأَسْبَقِهِمَا خُرُوجًا وَانْقِطَاعًا، لِأَنَّ الْبَوْلَ يَسْبِقُ إِلَى أَقْوَى مَخْرَجَيْهِ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَخْرُجَا مَعًا وَيَنْقَطِعَا مَعًا، وَلَا يَسْبِقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَهُوَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي الْقَدْرِ وَيَسْتَوِيَا فِي الصِّفَةِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي الصِّفَةِ وَيَسْتَوِيَا فِي الْقَدْرِ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي الْقَدَرِ وَالصِّفَةِ.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ فَلَا بَيَانَ فِيهِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَخْتَلِفَا فِي الْقَدْرِ دُونَ الصِّفَةِ، فَيَكُونُ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ مِنَ الْآخَرِ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ لِأَكْثَرِهِمَا، وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة تَغْلِيبًا لِقُوَّتِهِ بِالْكَثْرَةِ، وَقَدْ حَكَاهُ الْمُزَنِيُّ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُمَا سَوَاءٌ، وَهُوَ قَوْلُ أبي يوسف لِأَنَّ اعْتِبَارَ كَثْرَتِهِ شَاقٌّ وَقَدْ قَالَ أبو يوسف رَدًّا عَلَى أبي حنيفة حَيْثُ اعْتَبَرَ كَثْرَتَهُ: أَفَيُكَالُ إِذَنْ؟
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَخْتَلِفَا فِي الصِّفَةِ فِي التَّزْرِيقِ وَالشَّرْشَرَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أصحابنا في اعتباره على وجهين:
أحدهما: أنه يُعْتَبَرُ، فَإِنَّ تَزْرِيقَ الْبَوْلِ لِلرِّجَالِ وَالشَّرْشَرَةَ لِلنِّسَاءِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ خنثى فقال: أدنوه من الحائط فإن رزق فَذَكَرٌ وَإِن شَرْشَرَ فَأُنْثَى.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِهِ، لِأَنَّ هَذَا قَدْ يَكُونُ مِنْ قُوَّةِ الْمَثَانَةِ وَضَعْفِهَا.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: فَهُوَ أَنْ يَخْتَلِفَا فِي الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ فَيَنْظُرُ فِيهِمَا فَإِنِ اجْتَمَعَا فِي أَحَدِ الْعُضْوَيْنِ فَكَانَ التَّزْرِيقُ مَعَ الْكَثْرَةِ فِي الذَّكَرِ أَوْ كَانَتِ الشَّرْشَرَةُ مَعَ الْكَثْرَةِ فِي الْفَرْجِ، كَانَ ذَلِكَ بَيَانًا يَزُولُ بِهِ الْإِشْكَالُ، وَإِذَا اخْتَلَفَا فَكَانَتِ الشَّرْشَرَةُ فِي الْفَرْجِ، وَالْكَثْرَةُ فِي الذَّكَرِ أَوْ بِالْعَكْسِ فَلَا بَيَانَ فِيهِ لِتَكَافُؤِ الْأَمَارَتَيْنِ.
فَصْلٌ
فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَبَالِ بَيَانٌ إِمَّا عِنْدَ تَسَاوِي أَحْوَالِهِمَا، وَإِمَّا عِنْدَ إِسْقَاطٍ فاختلف فِيهِ مِنَ الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَعْدِلُ إِلَى اعْتِبَارِ عَدَدِ الْأَضْلَاعِ أَمْ لا؟ على وجهين:(9/381)
أحدهما: يعتبر عدة الأضلاع فإن أضلاع المرأة يتساوى مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ وَالْجَانِبِ الْأَيْسَرِ، وَأَضْلَاعُ الرَّجُلِ ينقص مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ ضِلَعٌ لِمَا حُكِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ضِلَعِ آدَمَ الْأَيْسَرِ فَلِذَلِكَ نَقُصَ مِنْ أَضْلَاعِ الرَّجُلِ الْيُسْرَى ضِلَعٌ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قِيلَ لِلْمَرْأَةِ ضِلَعٌ أَعْوَجُ، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ:
(هِيَ الضِّلَعُ الْعَوْجَاءُ لَسْتَ تُقِيمُهَا ... ألا إن تقويم الضلوع انكسارها)
(أيجمعهن ضعفاً واقتداراً على الهوى ... أليس عجيبٌ ضَعْفُهَا وَاقْتِدَارُهَا)
وَتَوْجِيهُ هَذَا الْوَجْهِ فِي اعْتِبَارِ الْأَضْلَاعِ الْأَثَرُ الْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه أن أمر قنبرا برقاء وَهُمَا مَوْلَيَاهُ أَنْ يَعُدَّا أَضْلَاعَ خُنْثَى مُشْكِلٍ فَإِنِ اسْتَوَتْ أَضْلَاعُهُ مِنْ جَانِبَيْهِ فَهِيَ امْرَأَةٌ، وَإِنْ نَقَصَتِ الْيُسْرَى ضلعٌ فَهُوَ رَجُلٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا إِنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِالْأَضْلَاعِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عدل عنها إلى الاعتبار بالمبال وهو أَلْزَمُ حَالًا مِنَ الْمَبَالِ وَأَقْوَى لَوْ كَانَ بها اعتبار لما جَازَ الْعُدُولُ عَنْهَا إِلَى الْمَبَالِ الَّذِي هُوَ أَضْعَفُ مِنْهَا، وَلَيْسَ الْأَثَرُ الْمَرْوِيُّ فِيهِ عَنْ عَلِيٍّ ثَابِتًا.
وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُ التَّشْرِيحِ مِنْ عُلَمَاءِ الطِّبِّ: إِنَّ أَضْلَاعَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ مُتَسَاوِيَةٌ من الجانبين، أنها أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ ضِلْعًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِنْهَا اثْنَا عَشَرَ ضِلْعًا، وَقَدْ أُضِيفَ إِلَى هَذَا الأثر مع مَا يَدْفَعُهُ وَيَرُدُّهُ مِنَ الْمُشَاهَدَةِ خُرَافَةٌ مَصْنُوعَةٌ تَمْنَعُ مِنْهَا الْعُقُولُ، وَهُوَ أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ خنثى على صداق أمة، وأنه وطأ الخنثى فأولدها ووطأ الْخُنْثَى الْأَمَةَ فَأَوْلَدَهَا فَصَارَ الْخُنْثَى أُمًّا وَأَبًا فَرُفِعَ إِلَى عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فَأَمَرَ بِعَدِّ أَضْلَاعِهِ فَوُجِدَتْ مُخْتَلِفَةً فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا مدفوع ببداهة الْعُقُولُ.
فَصْلٌ
فَأَمَّا مُمَاثَلَةُ الرِّجَالِ فِي طِبَاعِهِمْ وكلامهم ومماثلة النساء في طباعهن وكلامهم فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ؛ لِأَنَّ فِي الرِّجَالِ مُؤَنَّثٌ وَفِي النِّسَاءِ مُذَكَّرٌ، وَكَذَلِكَ اللِّحْيَةُ لَا اعْتِبَارَ بِهَا لِأَنَّ فِي الرِّجَالِ مَنْ لَيْسَ لَهُ لِحْيَةٌ وَفِي النِّسَاءِ مَنْ رُبَّمَا خَرَجَ لَهَا لحية على أنه قد قَلَّ مَا يَبْقَى بَعْدَ الْبُلُوغِ إِشْكَالٌ.
فَصْلٌ
فَأَمَّا الْمَنِيُّ وَالْحَيْضُ فَإِنِ اجْتَمَعَ لَهُ إِنْزَالُ الْمَنِيِّ وَدَمُ الْحَيْضِ فَهُوَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أحدها: أن يخرجها من فرجه فتكون امْرَأَةً، وَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا أَمَارَةٌ تَدُلُّ عَلَى زَوَالِ إِشْكَالِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَخْرُجَا عن ذَكَرِهِ فَيَزُولُ إِشْكَالُهُ بِالْإِنْزَالِ وَحْدَهُ، وَيَكُونُ رَجُلًا وَلَا يَكُونُ الدَّمُ حَيْضًا.(9/382)
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الدَّمُ مِنْ ذَكَرِهِ وخروج المني من فرجه فتكون امْرَأَةً؛ لِأَنَّ إِنْزَالَ الْمَنِيِّ مِنَ الْفَرْجِ دَلِيلٌ، وَخُرُوجُ الدَّمِ مِنَ الذَّكَرِ لَيْسَ بِدَلِيلٍ:
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ خُرُوجُ الْمَنِيِّ مِنْ ذَكَرِهِ وَخُرُوجُ الْحَيْضِ مِنْ فَرجِهِ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: يُغَلِّبُ حُكْمُ الْحَيْضِ وَيَحْكُمُ بِأَنَّهُ امْرَأَةٌ، لِأَنَّ الْحَيْضَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ النِّسَاءِ، وَالْمَنِيِّ يَكُونُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُغَلِّبُ حُكْمَ الْمَنِيِّ وَيَحْكُمُ بِأَنَّهُ رَجُلٌ؛ لِأَنَّ الدَّمَ رُبَّمَا كَانَ مِنْ مَرَضٍ، وَلَمْ يَكُنْ حَيْضًا.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَلَى إِشْكَالِهِ وَلَيْسَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيَانٌ لِتُقَابُلِهُمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْخُنْثَى مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَزُولَ إِشْكَالُهُ أَوْ لَا يَزُولَ فَإِنْ زَالَ إِشْكَالُهُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَحَدِ الْأَسْبَابِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهِ أُجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ مَا بَانَ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ رَجُلًا أُجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الرِّجَالِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ مِنَ النِّكَاحِ، وَالْوِلَايَةِ، وَالشَّهَادَةِ، وَالدِّيَةِ، وَالْمِيرَاثِ، وَزُوِّجَ امْرَأَةً، وَهَلْ لَهَا الْخِيَارُ لِزِيَادَةِ فَرْجِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مَذْهَبًا ثَالِثًا إِنَّهُ إن زال إشكال؛ لِأَنَّهُ يَبُولُ مِنْ ذَكَرِهِ دُونَ فَرْجِهِ فَلَا خِيَارَ لَهَا لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُ رَجُلٌ، وَإِنْ زَالَ إشكاله لسبق بوله من ذكره ولكثرته مِنْهُ فَلَهَا الْخِيَارُ، لِأَنَّهُ اجْتِهَادٌ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَإِنَّهُ رُبَّمَا نَقَضَهُ بَعْضُ الْحُكَّامِ وَأَعَادَهُ إِلَى حَالِ الْإِشْكَالِ.
وَإِنْ بَانَ امْرَأَةً أُجْرِيَ عَلَيْهِ أَحْكَامَ النِّسَاءِ فِي النِّكَاحِ، وَالشَّهَادَةِ، وَالْوِلَايَةِ، وَالدِّيَةِ، وَالْمِيرَاثِ، وَزُوِّجَتْ رَجُلًا، وَهَلْ لَهُ الْخِيَارُ لِزِيَادَةِ ذَكَرِهَا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا:
أَحَدُهُمَا: لَا خِيَارَ لَهُ.
وَالثَّانِي: لَهُ الْخِيَارُ.
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَ مَذْهَبًا ثَالِثًا، أَنَّهُ إِنْ زَالَ إِشْكَالُهَا لِبَوْلِهَا مِنْ فَرْجِهَا وَحْدَهُ فلا خيار له، وإن زال لسبوقه منه أو كثرته فله الْخِيَارُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الرَّجُلِ.
فَصْلٌ
وَإِذَا كَانَ عَلَى إِشْكَالِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُزَوَّجَ قبل سؤاله واختياره فَإِنْ تَزَوَّجَ رَجُلًا كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا فَإِنْ بَانَ امْرَأَةً لَمْ يصح لتقدم فساده، وإن زوج امرأة بان النِّكَاحُ بَاطِلًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً، فَإِنْ كان رَجُلًا لَمْ يَصِحَّ لِتَقَدُّمِ فَسَادِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَلَمْ يَبْقَ مَا يُعْتَبَرُ مِنْ أَحْوَالِهِ غَيْرُ سُؤَالِهِ عَنْ طِبَاعِهِ الْجَاذِبَةِ لَهُ إِلَى(9/383)
أحد الجنسين سئل عنها للضرورة الداعية إليه كَمَا تُسْأَلُ الْمَرْأَةُ عَنْ حَيْضِهَا فَيَرْجِعُ فِيهِ إلى قولها فإن قال: أرى طبعي يحدثني إِلَى طَبْعِ النِّسَاءِ وَيَنْفِرُ مَنْ طَبْعِ الرِّجَالِ عُمِلَ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ مَنْ طَبْعِهِ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ لَا عَلَى مَا يَظْهَرُ من تأنيث كلامه أو تذكيره؛ لأن في الرجال قَدْ يَكُونُ مُؤَنَّثًا يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ النِّسَاءِ وَالْمَرْأَةُ قَدْ تَكُونُ مُذَكَّرَةً تَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ الرِّجَالِ.
قَالَ: وَلَا يَعْمَلُ عَلَى مَا يَشْتَهِيهِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَشْتَهِي الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ قَدْ تَشْتَهِي الْمَرْأَةَ، وَإِنَّمَا الطِّبَاعُ الْمَذْكُورَةُ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ وَالْقَائِمَةُ فِي نَفْسِ الْجِبِلَّةِ النَّافِرَةِ مِمَّا اعْتَادَتْهَا بِغَيْرِ تَصَنُّعٍ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ فِيهَا هُوَ الْمَقْبُولُ إِذْ قَدْ عُدِمَ الِاسْتِدْلَالُ بِغَيْرِ قَوْلِهِ كالمرأة التي تقبل قَوْلُهَا فِي حَيْضِهَا وَطُهْرِهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ قِيلَ لَهُ أَخْبِرْنَا عَنْ طَبْعِكَ، فَإِذَا قَالَ: يَجْذِبُنِي إِلَى طِبَاعِ النِّسَاءِ قُبِلَ قَوْلُهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَقٌّ لِغَيْرِهِ فَيَحْلِفُ عليه؛ ولأنه لو رجع لم تقبل مِنْهُ وَحُكِمَ بِأَنَّهُ امْرَأَةٌ وَزُوِّجَ رَجُلًا، فَإِنْ عاد بعد ذلك فقال: قد استمال طَبْعِي إِلَى طِبَاعِ الرِّجَالِ لَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ، وَكَانَ عَلَى الْحُكْمِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِهِ امْرَأَةً، وَعَقْدُ النِّكَاحِ عَلَى صِحَّتِهِ وَإِذَا عَلِمَ الزوج بأنه خنثى فله الخيار هاهنا قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْإِشْكَالَ لَمْ يَزُلْ إِلَّا بقوله الذي يجوز أن تكون فيه كما ذكرنا، وَكَانَ أَسْوَأَ حَالًا مِمَّنْ زَالَ إِشْكَالُهُ بِأَسْبَابٍ غَيْرِ كَاذِبَةٍ، وَلَوْ كَانَ قَدْ قَالَ هَذَا الْخُنْثَى حِينَ سُئِلَ عَمَّا يَجْذِبُهُ طَبْعُهُ إِلَيْهِ أَرَى طَبْعِي يَجْذِبُنِي إِلَى طِبَاعِ الرِّجَالِ حُكِمَ بِأَنَّهُ رَجُلٌ، وَقُبِلَ قَوْلُهُ فِي نِكَاحِهِ، وَفِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ جَمِيعِ أَحْكَامِهِ، وَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيمَا اتُّهِمَ فِيهِ مِنْ وِلَايَتِهِ وَمِيرَاثِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُقْبَلُ مِنْهُ لِتُهْمَتِهِ فِيهِ وَحَكَاهُ الرَّبِيعُ عَنْهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَهُ لَا تَتَبَعَّضُ فَيَجْرِي عَلَيْهِ فِي بَعْضِهَا أَحْكَامُ الرِّجَالِ وَفِي بَعْضِهَا أَحْكَامُ النِّسَاءِ، وَإِذَا جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ النِّسَاءِ فِي شَيْءٍ أُجْرِيَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ النِّسَاءِ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَإِذَا جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الرِّجَالِ فِي شَيْءٍ أَجْرَى عَلَيْهِ حُكْمَ الرِّجَالِ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَإِذَا حُكِمَ بِأَنَّهُ رَجُلُ زُوِّجَ امرأة ولم يقبل منه الرجوع إذا عَلِمَتِ الْمَرْأَةُ بِحَالِهِ فَلَهَا الْخِيَارُ فِي فَسْخِ نِكَاحِهِ قَوْلًا وَاحِدًا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ -.(9/384)
باب الإحصان الذي به يرجم من زنى من كتاب التعريض بالخطبة وغير ذلك
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فإذا أَصَابَ الْحُرُّ الْبَالِغُ أَوْ أُصِيبَتِ الْحُرَّةُ الْبَالِغَةُ فهو إحصانٌ في الشرك وغيره لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رجم يهوديين زنيا فلو كَانَ الْمُشْرِكُ لَا يَكُونُ مُحْصَنًا كَمَا قَالَ بعض الناس لما رجم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غَيْرَ محصنٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْإِحْصَانُ فِي اللُّغَةِ فَهُوَ الْمَنْعُ، يُقَالُ قَدْ أَحْصَنَتِ الْمَرْأَةُ فَرْجَهَا إِذَا امْتَنَعَتْ مِنَ الْفُجُورِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا) {الأنبياء: 91) أَيْ مَنَعَتْهُ وَيُقَالُ: مَدِينَةٌ حَصِينَةٌ أَيْ مَنِيعَةٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فِي قُرَىً مُحَصَّنَةٍ} (الحشر: 14) أَيْ مَمْنُوعَةٍ، وَيُقَالُ امْرَأَةٌ حَصَانٌ إِذَا امْتَنَعَتْ مِنَ الْفُجُورِ وَفَرَسٌ حَصَانٌ إِذَا امْتَنَعَ بِهِ رَاكِبُهُ، وَدِرْعٌ حصن إِذَا امْتَنَعَ بِهَا لَابِسُهَا فَسُمِّيَتْ ذَاتُ الزَّوْجِ مُحْصَنَةً؛ لِأَنَّ زَوْجَهَا قَدْ حَصَّنَهَا وَمَنَعَهَا، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَالْحَصَانَةُ فِي النِّكَاحِ اسْمٌ جَامِعٌ لِشُرُوطٍ مَانِعَةٍ إِذَا تَكَامَلَتْ كَانَ حَدَّ الزِّنَا فِيهَا الرَّجْمُ دُونَ الْجَلْدِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ ".
وَالشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْحَصَانَةِ أَرْبَعَةٌ:
أَحَدُهَا: الْبُلُوغُ الَّذِي يَصِيرُ بِهِ مَمْنُوعًا مُكَلَّفًا.
وَالثَّانِي: الْعَقْلُ؛ لِأَنَّهُ مَانِعٌ مِنَ الْقَبَائِحِ مُوجِبٌ لِتَكْلِيفِ الْعِبَادَاتِ.
وَالثَّالِثُ: الْحُرِّيَّةُ الَّتِي تَمْنَعُ مِنَ البغاء والاسترقاق وأن كمال الحد فعل يَمْنَعُ مِنْهُ نَقْصُ الرِّقِّ.
وَالرَّابِعُ: الْوَطْءُ فِي عَقْدِ نِكَاحٍ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنَ السِّفَاحِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِين) {النساء: 24) أي متناكحين غير مسافحين.
فَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْحَصَانَةِ.
فَإِذَا تَكَامَلَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ الْأَرْبَعَةُ فِي مُسْلِمٍ أَوْ كافر رجم إذا زنا.(9/385)
وقال مالك وأبو حنيفة: الْإِسْلَامُ شَرْطٌ مُعْتَبَرٌ فِي الْحَصَانَةِ وَلَا يُرْجَمُ الكافر إذا زنا اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " لا حصان فِي الشِّرْكِ ".
وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصِنٍ ".
وَرُوِيَ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ تَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّهَا لَا تُحَصِنُكَ " وَلِأَنَّ الْإِحْصَانَ مَنْزِلَةُ كَمَالٍ وَتَشْرِيفٍ يُعْتَبَرُ فِيهَا نَقْصُ الرِّقِّ، فَكَانَ بِأَنْ يُعْتَبَرَ فِيهَا نَقْصُ الْكُفْرِ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ مُعْتَبَرًا فِي حَصَانَةِ الْقَذْفِ حَتَّى لَمْ يُحَدَّ مِنْ قَذَفَ كَافِرًا، وَجَبَ أَنْ يعتبر في حصانة الحد حتى لا يرجم الكافر إذا زنا ودليلنا ما رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ زَنَيَا وَالرَّجْمُ لَا يَجِبُ إِلَّا عَلَى مُحْصَنٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا مُحْصَنَانِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّمَا رَجَمَهُمَا بِالتَّوْرَاةِ وَلَمْ يَرْجُمْهُمَا بِشَرِيعَتِهِ؛ لأنه أحضر التوراة عند رجمهما فلما ظهرت فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ تَلُوحُ رَجَمَهُمَا حِينَئِذٍ.
قِيلَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ الله تعالى عَلَيْهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ) {المائدة: 49) وَإِنَّمَا أَحْضَرَ التَّوْرَاةَ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّ فِيهَا آيَةَ الرَّجْمِ فَأَنْكَرُوا فَأَحْضَرَهَا لِإِكْذَابِهِمْ.
فَإِنْ قِيلَ: فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَبْلَ أَنْ صَارَ الْإِحْصَانُ شَرْطًا فِي الرَّجْمِ فَعَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ يُعْرَفُ فِي الشَّرْعِ وُجُوبُ الرَّجْمِ قَبْلَ اعْتِبَارِ الْحَصَانَةِ فَلَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلَيْهِ.
والثاني: أنه قد رَوَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ أَحْصَنَا فَأَبْطَلَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ هَذَا التَّأْوِيلِ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ: أَنَّ كُلَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ بِالزِّنَا حَدٌّ كَامِلٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِالْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ مُحَصَنًا كَالْمُسْلِمِ، وَلِأَنَّ كُلَّ قَتْلٍ وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِ بِسَبَبٍ وَجَبَ عَلَى الْكَافِرِ إِذَا لَمْ يُقَرَّ عَلَى ذَلِكَ السَّبَبِ كَالْقَوَدِ.
وَقَوْلُنَا: إِذَا لَمْ يُقَرَّ عَلَى ذلك السبب احترازاً مِنْ تَارِكِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ إِذَا كَانَ مُسْلِمًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَرُّ، وَلَا يُقْتَلُ إِذَا كَانَ كَافِرًا؛ لِأَنَّهُ يُقَرُّ، وَلِأَنَّ الرَّجْمَ أَحَدُ حدي الزنا(9/386)
فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ كَالْجِلْدِ؛ ولأنه لما استوى في حد الزنا حكم العبد المسلم والكافر وجب أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ حَدُّ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ.
فأما الجواب عن الخبرين الأوليين فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: حَمْلُهُ عَلَى حَصَانَةِ الْقَذْفِ دُونَ الرَّجْمِ.
وَالثَّانِي: لَا حَصَانَةَ تَمْنَعُ مِنِ اسْتِبَاحَةِ قَتْلِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا - لَا إله إلا الله - فإذا قالوها عصموا من دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا ".
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حديث حذيفة فهو أن لا يجوز حمله على حصانة الزنا؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَقُولَ لِمَنْ وَثِقَ بِدِينِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ وَحُذَيْفَةُ قَدْ كَانَ مَوْثُوقًا بِدِينِهِ، إِنَّكَ مَتَى زَنَيْتَ تَحْتَ هَذِهِ الْيَهُودِيَّةِ لَمْ تُرْجَمْ وَإِنَّمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: " لَا تُحْصِنُكَ " أَيْ لَا تَتَعَفَّفُ بك عما تَتَعَفَّفُ الْمُسْلِمَةُ.
وَأَمَّا اعْتِبَارُهُمْ ذَلِكَ بِحَصَانَةِ الْقَذْفِ.
فالفرق بينهما: أن حد الزنا حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى فَجَازَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ وَحَدُّ الْقَذْفِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، فجاز أن يفرق فِيهِ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ كَالدِّيةِ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُ لَمَّا اعْتَبَرَ فِي سُقُوطِ الرَّجْمِ نَقْصَ الرِّقَّ اعتبر فيه نقص الكفر، فالجواب عَنْهُ إِنَّهُ لَمَّا كَانَ نَقْصُ الرِّقِّ مُعْتَبَرًا فِي الْحَدِّ الْأَصْغَرِ كَانَ مُعْتَبَرًا فِي الْحَدِّ الْأَكْبَرِ وَلَمَّا كَانَ نَقْصُ الْكُفْرِ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ في الحد الأصغر كان معتبر في الحد الأكبر وافترقا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْإِسْلَامَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي شُرُوطِ الْحَصَانَةِ فَالْكَلَامُ فِيهَا مشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ:
أَحَدُها: فِي نِكَاحِ الْحَصَانَةِ.
وَالثَّانِي: فِي وَطْءِ الْحَصَانَةِ.
وَالثَّالِثُ: فِي زمان الحصانة.
فأما نكاح الحصانة النِّكَاحُ الصَّحِيحِ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِ الزَّوْجَانِ بَوْلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ فَأَمَّا الْمُتْعَةُ، وَالْمَنَاكِحُ الْفَاسِدَةُ، فَلَا تُوجِبُ الْحَصَانَةَ؛ لِأَنَّ الْحَصَانَةَ لِاعْتِبَارِ الْحُرِّيَّةِ فيها أغلظ شروطاً من إحلال المطلق للأول؛ لأن الحرية لا يعتبر فِيهَا ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْمَنَاكِحَ الْفَاسِدَةَ لَا تَحِلُّ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا تُحْصِنَ، وَلَا وَجْهَ لِمَا قَالَهُ أَبُو ثَوْرٍ: مِنْ أَنَّهَا تُحْصِنُ، وَكَذَلِكَ التَّسَرِّي بِمِلْكِ الْيَمِينِ، لَا يُحْصِنُ كما لا تحل المطلقة للمطلق، وَأَمَّا وَطْءُ الْحَصَانَةِ فَهُوَ تَغَيُّبُ الْحَشَفَةِ فِي الْفَرْجِ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ إِنْزَالٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَإِنْ تَلَذَّذَ بِمَا(9/387)
دون الفرج أو وطء في السبل الْمَكْرُوهِ لَمْ يَتَحَصَّنَا كَمَا لَا يَسْقُطُ بِهِ حُكْمُ الْعُنَّةِ لِأَنَّهُ وَطْءٌ مَقْصُودٌ فِي الشَّرْعِ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ إِلَّا بِالْفَرْجِ كَالْإِحْلَالِ لِلْمُطَلِّقِ.
فَصْلٌ
وَأَمَّا زَمَانُ الْحَصَانَةِ فَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْوَطْءُ مُثْبِتًا لِلْحَصَانَةِ وَلَا يَخْلُو حَالُهُمَا وَقْتَ الْوَطْءِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَا كَامِلَيْنِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَا نَاقِصَيْنِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ كَامِلًا وَالزَّوْجَةُ نَاقِصَةً.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ نَاقِصًا وَالزَّوْجَةُ كَامِلَةً.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَا كَامِلَيْنِ، فَكَمَالُهُمَا يَكُونُ بِالْبُلُوغِ، وَالْعَقْلِ، وَالْحُرِّيَّةِ فَإِذَا كَانَا وَقْتَ الْوَطْءِ بَالِغَيْنِ عَاقِلَيْنِ حُرَّيْنِ صَارَا جَمِيعًا بِهِ مُحْصِنَيْنِ سَوَاءٌ عُقِدَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا فِي حَالِ الْكَمَالِ أَوْ قَبْلَهُ وَسَوَاءٌ بَقِيَ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا أو ارتفع قد ثبت الحصانة بوطء المرأة الواحدة فأيهما زنا رُجِمَ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَا نَاقِصَيْنِ وَنُقْصَانُهُمَا أَنْ يَكُونَا صَغِيرَيْنِ أَوْ مَجْنُونَيْنِ أو مملوكين فلا يكونا بِالْوَطْءِ مُحْصِنَيْنِ مَا كَانَا عَلَى الصِّغَرِ، وَالْجُنُونِ، وَالرِّقِّ، فَإِنْ بَلَغَ الصَّغِيرَانِ، وَأَفَاقَ الْمَجْنُونَانِ، وَعَتَقَ المملوكان فهل يصير بالوطء المتقدم أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُمَا قَدْ صَارَا مُحْصَنَيْنِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِهِ أَحْكَامُ الْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ مِنْ كَمَالِ الْمَهْرِ، وَوُجُوبِ الْعِدَّةِ، وَتَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ، وَالْإِحْلَالِ لِلْمُطَلِّقِ فَكَذَلِكَ الْحَصَانَةُ، فإذا زنيا رجما لتقدم الشرائط على الزنا.
والوجه الثاني: - وهو مذهب الشافعي - أنهما لا يصيرا به مُحْصَنَيْنِ حَتَّى يَسْتَأْنِفَا الْوَطْءَ بَعْدَ كَمَالِ الْبُلُوغِ، وَالْعَقْلِ وَالْحُرِّيَّةِ، لِأَنَّ هَذَا الْوَطْءَ يُوجِبُ الْكَمَالَ فَوَجَبَ أَنْ يُرَاعَى وُجُودُهُ فِي أَكْمَلِ الْأَحْوَالِ؛ ولأنه لما لم يثبت الْحَصَانَةُ فِي وَقْتٍ لَمْ يُثْبِتْهَا بَعْدَ وَقْتِهِ، وبهذا خالف ما سواها مِنَ الْإِحْلَالِ، وَتَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ، وَكَمَالِ الْمَهْرِ، وَوُجُوبِ الْعِدَّةِ لِثُبُوتِهَا بِهِ فِي وَقْتِهِ وَبَعْدَ وَقْتِهِ، ثم هكذا لو كان نقص الزوجين أَوْ مَجْنُونًا فَوَطِئَا لَمْ يَصِيرَا بِهِ فِي الْحَالِ مُحْصَنَيْنِ، وَهَلْ يَصِيرَانِ بِهِ بَعْدَ الْكَمَالِ مُحْصَنَيْنِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ كَامِلًا وَالزَّوْجَةُ نَاقِصَةً فَكَمَالُ الزَّوْجِ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا، عَاقِلًا، حُرًّا، وَنُقْصَانُ الزَّوْجَةِ أَنْ تَكُونَ صَغِيرَةً، أَوْ مجنونة، أو مملوكة، أو تجمع نقص الصغر، والجنون، وَالرِّقِّ فَقَدْ صَارَ الزَّوْجُ بِذَلِكَ مُحْصَنًا إِذَا كانت(9/388)
الصغيرة التي وطئها ممن يجوز أن توطأ مِثْلُهَا، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ أَنْ توطأ مثلها لَمْ يَتَحَصَّنْ بِوَطْئِهَا، فَأَمَّا الزَّوْجَةُ فَلَا تَكُونُ مُحَصَّنَةً بِهَذَا الْوَطْءِ فِي النُّقْصَانِ بِالصِّغَرِ وَالْجُنُونِ وَالرِّقِّ، فَإِذَا كَمُلَتْ بِالْبُلُوغِ، وَالْعَقْلِ، وَالْحُرِّيَّةِ فَهَلْ تَصِيرُ بِهِ مُحَصَّنَةً أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا: نَاقِصًا لَمْ يُحَصَّنَا مَعًا فِي الْحَالِ وَلَا فِي أَيِّ حَالٍ حَتَّى يَكُونَ الْكَمَالُ مَوْجُودًا فِيهِمَا حَالَ الْوَطْءِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ مُوجِبَ الْحَصَانَةِ أَنْ يَخْتَلِفَ بِهَا حَدُّ الزنا فَيَجِبُ الرَّجْمُ عَلَى الْمُحْصَنِ وَالْجَلَدُ عَلَى غَيْرِ المحصن، ولو اختلف حالهما وقت الزنا فَكَانَ أَحَدُهُمَا مُحْصَنًا وَالْآخَرُ غَيْرُ مُحْصَنٍ رُجِمَ الْمُحْصَنُ وَجُلِدَ غَيْرُ الْمُحْصَنِ، وَلَمْ يَكُنْ لِاخْتِلَافِهِمَا تَأْثِيرٌ فِي حَصَانَةِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ كَذَلِكَ اخْتِلَافُهُمَا فِي وَقْتِ الْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ لَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَصِيرَ بِهِ أَحَدُهُمَا مُحْصَنًا دُونَ الْآخَرِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنْ يكون نَاقِصًا وَالزَّوْجَةُ كَامِلَةً، وَنُقْصَانُ الزَّوْجِ أَنْ يَكُونَ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ مَمْلُوكًا أَوْ يَجْمَعُ نَقْصَ الصِّغَرِ وَالْجُنُونِ وَالرِّقِّ فَيَطَأُ زَوْجَةً كَامِلَةً بِالْبُلُوغِ، وَالْعَقْلِ، وَالْحُرِّيَّةِ فَقَدْ صَارَتْ بِوَطْئِهِ مُحْصَنَةً إذا كان الصغر ممن يوطء مثله، فإن كان مثله لا يوطأ لَمْ تَتَحَصَّنْ بِوَطْئِهِ، فَأَمَّا الزَّوْجُ فَلَا يَكُونُ بِهِ مُحْصَنًا فِي حَالِ نَقْصِهِ، وَهَلْ يَصِيرُ بِهِ مُحْصَنًا بَعْدَ كَمَالِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ، وَعَلَى قَوْلِ أبي حنيفة: لَا يَتَحَصَّنُ بِهِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا - وَاللَّهُ أعلم بالصواب -.
فأما الخنثى إذا جعلناه رجلاً يتحصن بوطء امرأة ولا يتحصن لو وطئه رجل، ولو جعلنا امْرَأَةً تُحْصَنَ بِوَطْءِ رَجُلٍ، وَلَا يَتَحَصَّنُ لَوْ وطأ امْرَأَةً، وَلَوْ كَانَ عَلَى حَالِ إِشْكَالِهِ لَمْ يتحصن بوطء رجل ولا يوطء امْرَأَةٍ وَلَا بِوَطْءِ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ؛ لِأَنَّ نِكَاحَهُ في حال إشكال بَاطِلٌ وَالْحَصَانَةُ لَا تَثْبُتُ بِالْوَطْءِ فِي نِكَاحٍ باطل والله أعلم بالصواب.(9/389)
بسم الله الرحمن الرحيم: يا رب عونك:
كتاب الصداق
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ذَكَرَ اللَّهُ الصَّدَاقَ وَالْأَجْرَ فِي كِتَابِهِ وَهُوَ الْمَهْرُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَة) {البقرة: 236) فَدَلَّ أَنَّ عُقْدَةَ النِّكَاحِ بِالْكَلَامِ وَأَنَّ تَرْكَ الصَّدَاقِ لَا يُفْسِدُهَا ".
الدليل على وجوب الصداق
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الصَّدَاقِ فِي النِّكَاحِ: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ.
فَأَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَآَتُواْ النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً) {النساء: 4) وَفِيمَنْ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ هَذَا الْخِطَابُ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْأَزْوَاجِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْأَوْلِيَاءِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَمَلَّكُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ صَدَاقَ الْمَرْأَةِ، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِدَفْعِ صَدَاقِهِنَّ إِلَيْهِنَّ.
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي صَالِحٍ وَفِي نِحْلَةً؛ ثَلَاثُ تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: يَعْنِي تَدَيُّنًا مِنْ قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ يَنْتَحِلُ كَذَا، أَيْ يَتَدَيَّنُ به.
والثاني: يطيب نَفْسٍ كَمَا تَطِيبُ النَّفْسُ بِالنَّحْلِ الْمَوْهُوبِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ نَحْلٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَهُنَّ بَعْدَ أَنْ كَانَ مِلْكًا لِأَوْلِيَائِهِنَّ، وَالنَّحْلُ الْهِبَةُ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا حَكَّاهُ عَنْ شُعَيْبٍ فِي تَزْوِيجِ مُوسَى بِابْنَتِهِ قَالَ: {إِنِّي أُرِيدُ أنْ أَنْكِحُكَ إِحْدَى ابْنَتَيْ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِي حِجَجٍ) {القصص: 27) وَلَمْ يَقُلْ عَلَى أَنْ تَأْجُرَهَا فَجَعَلَ الصَّدَاقَ مِلْكًا لِنَفْسِهِ دُونَهَا ثُمَّ قَالَ: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نََفْساً} يَعْنِي الزَّوْجَاتِ إِنْ طِبْنَ نَفْسًا عَنْ شَيْءٍ مِنْ صَدُقَاتِهِنَّ لِأَزْوَاجِهِنَّ فِي قَوْلِ مَنْ جَعَلَهُ خِطَابًا لِلْأَزْوَاجِ، وَلِأَوْلِيَائِهِنَّ فِي قَوْلِ مَنْ جَعَلَهُ خطاباً للأولياء، {فَكُلُوا هَنِيئاً مَرِيئاً} يَعْنِي لَذِيذًا نَافِعًا وَقَالَ تَعَالَى: {وَإنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخٌذُوا مِنْهُ شَيْئاً) {النساء: 20) أَيْ قَدْ مَلَكْنَ الصَّدَاقَ، وَإِنِ اسْتَبْدَلْتُمْ بِهِنَّ غيرهن {فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} [النساء] أَيْ قَدْ ةملكن الصَّدَاقَ، وَإِنِ اسْتَبْدَلْتُمْ بِهِنَّ غَيْرَهُنَّ {فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} وَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ قِنْطَارًا وَفِي الْقِنْطَارِ سَبْعَةُ أَقَاوِيلَ:(9/390)
أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَلْفٌ وَمِائَتَا أُوقِيَّةٍ، وَهُوَ قَوْلُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَلْفٌ وَمِائَتَا دِينَارٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَالضَّحَّاكِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ أَلْفُ دِينَارٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَالرَّابِعُ: أنه ثَمَانُونَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، أَوْ مِائَةُ رِطْلٍ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَقَتَادَةَ.
وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَمُجَاهِدٍ.
والسادس: أنه ملئ مَسْكِ ثَوْرٍ ذَهَبًا، وَهُوَ قَوْلُ أَبَى نَضْرَةَ.
وَالسَّابِعُ: أَنَّهُ الْمَالُ الْكَثِيرُ، وَهُوَ قَوْلُ الرَّبِيعِ.
فَذَكَرَ الْقِنْطَارَ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ، لِأَنَّهُ لَا يُسْتَرْجَعُ إِذَا كَانَ صَدَاقًا وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا إِذَا اسْتَبْدَلَ بِهَا فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يَسْتَرْجِعَهُ إِذَا لَمْ يَسْتَبْدِلْ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى وَعِيدًا عَلَى تَحْرِيمِ الِاسْتِرْجَاعِ: {أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإثْماً مُبِيناً} (النساء: 20) ثُمَّ قَالَ تَعْلِيلًا لِتَحْرِيمِ الِاسْتِرْجَاعِ: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} .
وَفِي الْإِفْضَاءِ هَهُنَا تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْجِمَاعُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْخَلْوَةُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَفِي قَوْلِهِ: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَقْدُ النِّكَاحِ الَّذِي اسْتَحَلَّ بِهِ الْفَرْجَ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ وَالضَّحَّاكِ، وَقَتَادَةَ.
وَالثَّالِثُ: مَا رَوَاهُ مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ عَنْ صَدَقَةَ بْنِ يَسَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " أيها الناس إن النساء عندكم عوانٌ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، فَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ حَقٌّ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ حَقٌّ، وَمِنْ حَقِّكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا وَلَا يَعْصِينَكُمْ فِي معروفٍ، فَإِذَا فَعَلْنَ ذَلِكَ فَلَهُنَّ رِزْقُهُنَ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ".
وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) {النساء: 24) يُرِيدُ الصَّدَاقَ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْأَجْرِ؛ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ مَنْفَعَةٍ.
وَفِي قَوْلِهِ فَرِيضَةً تَأْوِيلَانِ:(9/391)
أَحَدُهُمَا: يَعْنِي فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاجِبَةً وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ.
وَالثَّانِي: أَيْ مُقَدَّرَةً مَعْلُومَةً وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْبَيْلَمَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَدُّوا الْعَلَائِقَ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْعَلَائِقُ؟ قَالَ: مَا تَرَاضَى بِهِ الْأَهْلُونَ ".
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنِ اسْتَحَلَّ بِدِرْهَمَيْنِ فَقَدِ اسْتَحَلَّ ".
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ مَا تَزَوَّجَ أَحَدًا مِنْ نِسَائِهِ، وَلَا زَوَّجَ وَاحِدَةً مِنْ بَنَاتِهِ عَلَى أَكْثَرَ مِنِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيِّةً وَنَشًّا.
قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَتَدْرُونَ مَا النَّشُّ؟ النَّشُّ: نِصْفُ أُوقِيَّةٍ عِشْرُونَ دِرْهَمًا، يَعْنِي خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ، لِأَنَّ الْأُوقِيَّةَ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا.
وَرَوَى الْمُنْذِرُ بْنُ فَرْقَدٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ فَقَالَ كَانَ صَدَاقُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اثنتي عشرة أوقية وشن فَقَالَ لَهُ الْقَاسِمُ بْنُ مَعِينٍ: صَحَّفْتَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إِنَّمَا هُوَ نَشٌّ أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
(تِلْكَ الَّتِي جَاوَرَهَا الْمحتشُّ ... مِنْ نِسْوَةٍ صَدَاقُهُنَّ النَّشُّ)
فَأَمَّا أَمُّ حَبِيبَةَ فَقَدْ كَانَتْ أَكْثَرَ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَدَاقًا؛ لِأَنَّ النَّجَاشِيَّ أَصْدَقَهَا عَنْهُ أَرْبَعَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ مِنْ عِنْدِهِ، وَبَعَثَ بِهَا إِلَيْهِ مَعَ شُرَحْبِيلَ بْنِ حَسَنَةَ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَوَلُ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ الْعَبْدُ مِنْ ذُنُوبِهِ صَدَاقُ زَوْجَتِهِ ".
وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ ظَلَمَ زَوْجَتَهُ صَدَاقَهَا لَقِيَ الله هو زانٍ " قَالَهُ عَلَى طَرِيقَةِ التَّغْلِيظِ وَالزَّجْرِ.
وَاجْتَمَعَتِ الْأُمَمُ عَلَى أَنَّ صَدَاقَ الزَّوْجَاتِ مُسْتَحَقٌّ.(9/392)
فصل: القول في تعريف الصداق وأسماؤه
وَالصَّدَاقُ: هُوَ الْعِوَضُ الْمُسْتَحَقُّ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ.
وَلَهُ فِي الشَّرْعِ سِتَّةُ أَسْمَاءٍ جَاءَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهَا بِثَلَاثَةِ أَسْمَاءٍ: وَهِيَ الصَّدَاقُ وَالْأَجْرُ، وَالْفَرِيضَةُ وَجَاءَتِ السُّنَّةُ مِنْهَا بِاسْمَيْنِ: الْمَهْرُ وَالْعَلَائِقُ وَجَاءَ الْأَثَرُ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِاسْمٍ وَاحِدٍ: وَهُوَ الْعَقُورُ وَقَدْ مَضَتْ شَوَاهِدُ ذَلِكَ.
فَصْلٌ: الْقَوْلُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ إذا لم يسم فيه الصداق
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الصَّدَاقَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ وَاجِبٌ فَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى غَيْرِ صَدَاقٍ سَمَّيَاهُ فِي الْعَقْدِ، صَحَّ الْعَقْدُ وَإِنْ كَرِهْنَا تَرَكَ التَّسْمِيَةِ فِيهِ.
وَإِنَّمَا صَحَّ الْعَقْدُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى المُوسِعِ قَدَرُهُ وَعلَى المُقْتِرِ قَدَرُهُ} (البقرة: 236) .
وَفِي مَعْنَى الْآيَةِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَعْنَاهَا لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لم تمسوهن ولم تفرضوا لهن فريضة، فَتَكُونُ أَوْ بِمَعْنَى لَمْ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفًا وَتَقْدِيرُهُ: فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً أَوْ لَمْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً. وَالْمُرَادُ بِالْفَرِيضَةِ هُنَا الصَّدَاقُ، وَسَمَّاهُ فَرِيضَةً، لِأَنَّهُ قَدْ أَوْجَبَهُ لَهَا وَأَصْلُ الْفَرْضِ الْوُجُوبُ كَمَا يُقَالُ: فَرَضَ السُّلْطَانُ لِفُلَانٍ الْفَيْءَ أَيْ أَوْجَبَ ذَلِكَ لَهُ، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
(كَانَتْ فَرِيضَةً مَا أَتَيْتَ ... كَمَا كَانَ الزِّنَا فَرِيضَةَ الرَّجْمِ)
فَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَثْبَتَ النِّكَاحَ مَعَ تَرْكِ الصَّدَاقِ، وَجَوَّزَ فِيهِ الطَّلَاقَ، وَحَكَمَ لَهَا بِالْمُتْعَةِ إِنْ طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْأَوْلَى لِمَنْ كَرِهَ امْرَأَةً أَنْ يُطَلِّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لِقَوْلِهِ: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُوهُنَّ) {البقرة: 236) فَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى طَلَاقَيِ الْكَارِهِ.
وَرَوَى سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُحِبُّ الذَّوَّاقَاتِ يَعْنِي الْفِرَاقَ بَعْدَ الذَّوْقِ.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ بِرْوَعَ بِنْتَ وَاشِقٍ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ مَهْرٍ فَحَكَمَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بمهر نسائها والميراث.(9/393)
وروي أنا أَبَا طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيَّ تَزَوَّجَ أَمَّ سُلَيْمٍ عَلَى غَيْرِ مَهْرٍ فَأَمْضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نِكَاحَهُ.
وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ التَّوَاصُلُ وَالْأُلْفَةُ، وَالصَّدَاقُ فِيهِ تَبَعٌ لِمَقْصُودِهِ، فَخَالَفَ عُقُودَ الْمُعَاوَضَاتِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ رُؤْيَةَ الْمَنْكُوحَةِ لَيْسَتْ شَرْطًا فِيهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ تَرْكَ الْعِوَضِ فِيهِ لَا يُفْسِدُهُ.
فَأَمَّا كَرَاهَتُنَا لِتَرْكِ الصَّدَاقِ فِي الْعَقْدِ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فَلِثَلَاثَةِ أُمُورٍ:
أَحَدُهَا: لِئَلَّا يَتَشَبَّهُ بِالْمَوْهُوبَةِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِرَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دُونَ غَيْرِهِ مِنْ أُمَّتِهِ.
وَالثَّانِي: لِمَا فِيهِ مِنْ قَطْعِ الْمُشَاجَرَةِ وَالتَّنَازُعِ إِلَى الْحُكَّامِ.
وَالثَّالِثُ: لِيَكُونَ مُلْحَقًا بِسَائِرِ الْعُقُودِ الَّتِي تُسْتَحَقُّ فِيهَا الْمُعَاوَضَاتُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْقَوْلُ فِي النِّكَاحِ إِذَا كان بمهر مجهول حرام
مسألة
قال الشافعي: " فَلَوْ عَقَدَ بمجهولٍ أَوْ بحرامٍ ثَبَتَ النِّكَاحُ وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا عَقَدَ النِّكَاحَ بِمَهْرٍ مَجْهُولٍ أَوْ حَرَامٍ، كَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ مَالِكٌ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ: إِنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ بِالْمَهْرِ الْفَاسِدِ، وَإِنْ صَحَّ بِغَيْرِ مَهْرٍ مُسَمًّى.
اسْتِدْلَالًا بِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ نِكَاحِ الشِّغَارِ؛ لِفَسَادِ الْمَهْرِ فِيهِ. قَالَ: وَلِأَنَّهُ عَقْدُ نِكَاحٍ بِمَهْرٍ فَاسِدٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا كَالشِّغَارِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ بِبَدَلٍ فَاسِدٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا كَالْبَيْعِ.
قَالَ: ولئن صح النكاح بغير مهر، لا يَمْتَنِعُ أَنْ يَبْطُلَ بِفَسَادِ الْمَهْرِ كَمَا يَصِحُّ الْبَيْعُ بِغَيْرِ أَجَلٍ وَغَيْرِ خِيَارٍ، وَيَبْطُلُ بِفَسَادِ الْأَجَلِ وَفَسَادِ الْخِيَارِ.
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ مرشدٍ وَشَاهِدَيْ عدلٍ " فَتَضَمَّنَ هَذَا الْخَبَرُ نَفْيَ النِّكَاحِ بِعِدَمِ الْوَلِيِّ وَالشَّاهِدَيْنَ، وَإِثْبَاتَ النِّكَاحِ بِوُجُودِ الْوَلِيِّ وَالشَّاهِدَيْنِ. وَهَذَا نِكَاحٌ بَوْلِيٍّ وَشَاهِدَيْنَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا.
وَلِأَنَّ فَسَادَ الْمَهْرِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ كَالْمَهْرِ الْمَغْصُوبِ، وَلِأَنَّ كُلَّ نِكَاحٍ صَحَّ بِالْمَهْرِ الصَّحِيحِ صَحَّ بِالْمَهْرِ الْفَاسِدِ كَمَا لَوْ أَصْدَقَهَا عَبْدًا فَبَانَ حُرًّا.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي فَسَادِ الْمَهْرِ أَكْثَرُ مِنْ سُقُوطِهِ، وَلَيْسَ فِي سُقُوطِهِ أَكْثَرُ مِنْ فَقْدِ ذِكْرِهِ، وَلَوْ فَقَدَ ذِكْرَهُ لَمْ يَبْطُلِ النِّكَاحُ، فَكَذَلِكَ إِذَا ذَكَرَ فَاسِدًا.(9/394)
وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّ كُلَّ مَا تَعَلَّقَ بِالْمَهْرِ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ قِيَاسًا عَلَى تَرْكِهِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ نِكَاحِ الشِّغَارِ: فَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَبْطُلْ بِفَسَادِ الْمَهْرِ، وَإِنَّمَا بَطَلَ بِالتَّشْرِيكِ عَلَى مَا بَيَّنَّا.
وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْبَيْعِ: فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ يَبْطُلُ بِتَرْكِ الثَّمَنِ فَبَطَلَ بِفَسَادِهِ وَالنِّكَاحُ لَا يَبْطُلُ بِتَرْكِ الْمَهْرِ فَلَمْ يَبْطُلْ بِفَسَادِهِ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ الْبَيْعَ يَبْطُلُ بِفَسَادِ الْخِيَارِ وَالْأَجَلِ، وَلَا يَبْطُلُ بِتَرْكِهِمَا.
فَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ الْخِيَارَ وَالْأَجَلَ قَدْ قَابَلَا جُزْءًا مِنَ الثَّمَنِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الثَّمَنَ فِي الْعُرْفِ يَزِيدُ بِدُخُولِ الْخِيَارِ وَالْأَجَلِ، فَإِذَا بَطَلَا أَوْجَبَ بُطْلَانَ مَا قَابَلَهُمَا مِنَ الثَّمَنِ فَصَارَ الْبَاقِي مَجْهُولًا، وَجَهَالَةُ الثَّمَنِ تُبْطِلُ الْبَيْعَ، وَلَيْسَ فِيمَا أَفْضَى إِلَى فَسَادِ الْمَهْرِ أَكْثَرُ مِنْ سُقُوطِهِ، وَسُقُوطُهُ لَا يُبْطِلُ النِّكَاحَ.
فَصْلٌ: الْقَوْلُ فِي فَسَادِ الْمَهْرِ لِجَهَالَتِهِ
فَإِذَا ثَبَتَ صِحَّةُ النِّكَاحِ بِجَهَالَةِ الْمَهْرِ وَتَحْرِيمِهِ، فَالْمَهْرُ بَاطِلٌ بِالْجَهَالَةِ وَكُلُّ جَهَالَةٍ مَنَعَتْ مِنْ صِحَّةِ الْبَيْعِ مَنَعَتْ مِنْ صِحَّةِ الْمَهْرِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا أَصْدَقَهَا عَبْدًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ وَلَا مَوْصُوفٍ؟ جَازَ، وَكَانَ لَهَا عَبْدٌ سِنْدِيٌ؛ لِأَنَّ الرُّومِيَّ أَعْلَى وَالزِّنْجِيَّ أَدْنَى وَالسِّنْدِيَّ وَسَطٌ، فَيُحْكَمُ لَهَا بِهِ؟ لِأَنَّهُ أَوْسَطُ الْعَبِيدِ.
احْتِجَاجًا بِأَنَّ الْمَهْرَ أَحَدُ عِوَضِ النِّكَاحِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَجْهُولًا كَالْبُضْعِ قَالَ: وَلِأَنَّ جَهَالَةَ مَهْرِ الْمِثْلِ أَكْثَرُ مِنْ جَهَالَةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ مَجْهُولُ الْجِنْسِ، مَجْهُولُ الْقَدْرِ، مَجْهُولُ الصِّفَةِ، وَالْعَبْدَ مَعْلُومُ الْجِنْسِ مَعْلُومُ الْقَدْرِ، مَجْهُولُ الصِّفَةِ. فَإِذَا جَازَ أَنْ يَجِبَ فِيهِ عِنْدَكُمْ مَهْرُ الْمِثْلِ فَلَأَنْ يَجِبُ الْعَبْدُ الْمُسَمَّى أَوْلَى.
وَدَلِيلُنَا أَنَّهَا جَهَالَةٌ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ فَوَجَبَ أَنْ تَمْنَعَ صِحَّةَ الصَّدَاقِ، أَصْلُهُ: إِذَا أَصْدَقَهَا ثَوْبًا وَافَقَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى فَسَادِ الصَّدَاقِ بِإِطْلَاقِهِ وَلِأَنَّهُ عِوَضٌ فِي عَقْدٍ يَبْطُلُ بِجَهَالَةِ الثَّوْبِ فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ بِجَهَالَةِ الْعَبْدِ كَالْبَيْعِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى جَهَالَةِ الْبُضْعِ فَهُوَ أَنَّ جَهَالَةَ الْبُضْعِ تَمْنَعُ مِنَ الصِّحَّةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ ثَلَاثُ بَنَاتٍ: كُبْرَى، وَصُغْرَى، وَوُسْطَى وَقَالَ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي وَأَطْلَقَ، كَانَ بَاطِلًا، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْوُسْطَى كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْكُبْرَى وَالصُّغْرَى. كَذَلِكَ إِذَا أَصْدَقَهَا عَبْدًا وَأَطْلَقَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى عَبْدٍ وَسَطٍ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَعْلَى وَأَدْنَى.
وَأَمَّا مَا اسْتُشْهِدَ بِهِ مِنْ جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ، فَيَفْسُدُ بِجَهَالَةِ الثَّوْبِ، وَمَهْرُ الْمِثْلِ إِنَّمَا أَوْجَبْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ قِيمَةُ مُتْلَفٍ يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي الْبَيْعِ إِذَا وَجَبَتْ فِيهِ قِيمَةُ مُتْلَفٍ وَإِنْ جُهِلَتْ(9/395)
فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ وَإِنْ سَقَطَ الْمَهْرُ بِالْفَسَادِ، فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الْبُضْعَ مُفَوَّتٌ بِالْعَقْدِ، فَلَمْ تَقْدِرْ عَلَى اسْتِرْجَاعِهِ، فَوَجَبَ أَنْ تَعْدِلَ إِلَى قِيمَتِهِ وَهِيَ مَهْرُ الْمِثْلِ، كَمَنِ اشْتَرَى عَبْدًا بِثَوْبٍ فَمَاتَ فِي يَدِهِ وَرَدَّ بَائِعُهِ الثَّوْبَ بِعَيْبٍ، رَجَعَ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ حِينَ فَاتَ الرُّجُوعُ بِعَيْنِهِ.
مَسْأَلَةٌ
قَالَ الشافعي: " وَفِيِ قَوْله تَعَالَى {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً) {النساء: 20) دليلٌ عَلَى أَنْ لَا وَقْتَ لِلصَدَاقِ يَحْرُمُ بِهِ لِتَرْكِهِ النَّهْيَ عَنِ التَّكْثِيرِ وَتَرْكِهِ حَدَّ القليل وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَدَّوُا الْعَلَائِقَ " قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا العلائق؟ قال: " ما تراضى به الأهلون " قال ولا يقع اسم علق إلا على ماله قيمةٌ وإن قلت مثل الفلس وما أشبهه وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لرجلٍ " التمس وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حديدٍ " فَالْتَمَسَ فَلَمْ يَجِدْ شيئاً فقال " هل معك شيءٌ من القرآن؟ " قَالَ نَعَمْ سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا فَقَالَ " قد زوجتكها بما معك من القرآن " وبلغنا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال؛ " من استحل بدرهم فقد استحل " وأن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ في ثلاث قبضات زبيبٍ مهرٌ وقال ابن المسيب لو أصدقها سوطاً جاز وقال ربيعة قال درهمٌ قلت وأقل؟ قال ونصف درهم قال قلت له فأقل؟ قال نعم وحبة حنطةٍ أو قبضه حنطةٍ (قال الشافعي) فما جاز أن يكون ثمناً لشيءٍ أو مبيعاً بشيءٍ أو أجرةً لشيءٍ جاز إذا كانت المرأة مالكةً لأمرها ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي أَكْثَرِ الْمَهْرِ.
وَالثَّانِي: في أقله.
القول في أكثر الصداق
فَأَمَّا أَكْثَرُهُ فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا حَدَّ لَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً) {النساء: 20) وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي الْقِنْطَارِ سَبْعَةَ أَقَاوِيلَ.
وَحَكَى الشَّعْبِيُّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَامَ خَطِيبًا فَقَالَ: لَا تُغَالُوا فِي صَدَقَاتِ النِّسَاءِ، فَمَا بَلَغَنِي أَنَّ أَحَدًا سَاقَ أَكْثَرَ مِمَّا سَاقَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَّا جَعَلْتُ الْفَضْلَ فِي بَيْتِ الْمَالِ. فَاعْتَرَضَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ نِسَاءِ قُرَيْشٍ فَقَالَتْ: يُعْطِينَا اللَّهُ وَتَمْنَعُنَا كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} (النساء: 20) فَرَجَعَ عُمَرُ وَقَالَ: كُلُّ أَحَدٍ يَصْنَعُ بِمَالِهِ مَا شَاءَ، فَكُلُّ النَّاسِ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ حَتَّى امْرَأَةٌ.(9/396)
وَقَدْ تَزَوَّجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَصْدَقَهَا أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ.
وَتَزَوَّجَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَصْدَقَهَا مِائَةَ أَلْفٍ وَتَزَوَّجَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَائِشَةَ بِنْتَ طَلْحَةَ، وَأَصْدَقَهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَتَزَوَّجَهَا بَعْدَهُ عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ معمر التميمي وَأَصْدَقَهَا مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ وَحُكِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ شَبَّةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى أَنَّ مُصْعَبَ بْنَ الزُّبَيْرِ تَزَوَّجَ بِالْبَصْرَةِ سُكَيْنَةَ بِنْتَ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَأَصْدَقَهَا أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَمَّامٍ السَّلُولِيُّ: أَبْلِغْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ رِسَالَةً مِنْ نَاصِحٍ لَكَ لا يريد وداعاً:
(بُضْعُ الْفَتَاةِ بِأَلْفِ أَلْفٍ كَامِلٍ ... وَتَبِيتُ سَادَاتُ الْجُنُودِ جِيَاعَا)
(لَوْلَا أَبُو حَفْصٍ أَقُولُ مَقَالَتِي ... وَأَبُثُّ مَا حَدَّثْتُهُ لَارْتَاعَا)
فَصْلٌ: الْقَوْلُ فِي أَقَلِّ الصَّدَاقِ
فَأَمَّا أَقَلُّ الصَّدَاقِ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ أَنَّ كُلَّ مَا جَازَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا، أَوْ مَبِيعًا، أَوْ أُجْرَةً، أَوْ مُسْتَأْجَرًا جَازَ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا قَلَّ أَوْ كَثُرَ.
وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، حَتَّى قَالَ عمر في ثلاث قبضات زبيب مهراً.
وَبِهِ قَالَ مِنَ التَّابِعِينَ: الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، حَتَّى حُكِيَ أَنَّ سَعِيدًا زَوَّجَ بِنْتَهُ عَلَى صَدَاقِ دِرْهَمَيْنِ.
وَبِهِ قَالَ مِنَ الْفُقَهَاءِ: رَبِيعَةُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ.
وَقَالَ مالك: أقل الصداق ما نقطع فِيهِ الْيَدُ؛ رُبُعُ دِينَارٍ، أَوْ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ أَقَلُّهُ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، أَوْ نِصْفُ دِينَارٍ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ؛ أَقَلُّهُ دِينَارٌ أَوْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، فَإِنْ عَقْدَهُ بِأَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ صَحَّتِ التَّسْمِيَةُ وَكُمِّلَتْ عَشَرَةً، وَمُنِعَتْ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ إِلَّا زُفَرَ وَحْدَهُ فَإِنَّهُ أَبْطَلَ التَّسْمِيَةَ وَأَوْجَبَ مَهْرَ الْمِثْلِ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: أَقَلُّهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَقَلُّهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا.
وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيرَ مُسَافِحِينَ) {النساء: 24) وَلَا يُطْلَقُ اسْمُ الْأَمْوَالِ عَلَى مَا قَلَّ مِنَ الدَّانِقِ وَالْقِيرَاطِ، فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ ابْتِغَاءً بِمَالٍ.
وَرَوَى مُبَشِّرُ بْنُ عُبَيْدٍ عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَأَةَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ(9/397)
عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تُنْكِحُوا النِّسَاءَ إِلَّا الْأَكْفَاءَ، وَلَا يُزَوِّجُ إِلَّا الْأَوْلِيَاءُ، وَلَا مَهْرَ أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ " وَهَذَا نَصٌّ.
وَلِأَنَّهُ مَالٌ يُسْتَبَاحُ بِهِ عُضْوٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّرًا كَالنِّصَابِ فِي قَطْعِ السَّرِقَةِ.
وَلِأَنَّهُ أَحَدُ بَدَلَيِ النِّكَاحِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّرًا كَالْبُضْعِ، وَلِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ يُقَدَّرُ أَقَلُّهُ كَالشُّهُودِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) {البقرة: 237) .
وَمِنَ الْآيَةِ دَلِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا عَامٌ: وَهُوَ قَوْلُهُ: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ، مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ.
وَالثَّانِي خَاصٌّ: وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا فَرَضَ لَهَا خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَطَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ اقْتَضَى أَنْ يَجِبَ لَهَا دِرْهَمَانِ وَنِصْفٌ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَجِبُ لَهَا الْخَمْسَةُ كُلُّهَا وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ.
وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْبَيْلَمَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَدُّوا الْعَلَائِقَ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وما العلائق قال: ما تراضى به الأهلون " فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِيمَا تَرَاضَوْا بِهِ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنِ اسْتَحَلَّ بِدِرْهَمَيْنِ فَقَدِ اسْتَحَلَّ " يعني فقد استحل بالدرهمين.
وَرَوَى أَبُو هَارُونَ الْعَبْدِيُّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا جُنَاحَ عَلَى امرئٍ أَنْ يُصْدِقَ امرأةً قليلاً أو كثيراً إذا أشهد وتراضو ".
وَرَوَى عَاصِمُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ أَبِيهِ أن امرأة تزوجت على نعلين فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرَضِيتِ مِنْ نَفْسِكِ وَمَالِكِ بِهَاتَيْنِ النَّعْلَيْنِ؟ فَقَالَتْ نَعَمْ فَأَجَازَهُ.
وَرَوَى أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِرَجُلٍ خَطَبَ مِنْهُ الْمَرْأَةَ الَّتِي بَذَلَتْ نَفْسَهَا لَهُ: " الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حديدٍ ".
وَالْخَاتَمُ مِنَ الْحَدِيدِ أَقَلُّ الْجَوَاهِرِ قِيمَةً، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الْقَلِيلِ مِنَ الْمَهْرِ فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ حَدِيدٍ صِينِيٍّ يُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَيَكُونُ ثَمَنُ النَّعْلَيْنِ عَشَرَةَ دراهم(9/398)
قِيلَ: لَوْ كَانَ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِلْعُرْفِ الْمَعْهُودِ لَنُقِلَ وَلَيْسَ فِي الْعُرْفِ أَنْ يُسَاوِيَ نَعْلَانِ فِي الْمَدِينَةِ وَخَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ.
عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حديدٍ: عَلَى طَرِيقِ التَّقْلِيلِ، وَلَوْ أَرَادَ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الصِّفَةِ الْمُتَقَدِّرَةِ لَكَانَ عُدُولُهُ إِلَى الْعَشَرَةِ الْمُقَدَّرَةِ أَسَهْلَ وَأَفْهَمَ فَبَطَلَ هَذَا التَّأْوِيلُ.
وورى يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ رُومَانَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَعْطَى امْرَأَةً صَدَاقًا مِلْءَ يَدَيْهِ طَعَامًا كَانَتْ بِهِ حَلَالًا ".
وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُؤَمِّلِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: إِنَّا كُنَّا لِنَنْكِحُ الْمَرْأَةَ عَلَى الْحَفْنَةِ أَوِ الْحَفْنَتَيْنِ مِنْ دَقِيقٍ.
وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: تَزَوَّجَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ قُوِّمَتْ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ.
وَهَذِهِ كُلُّهَا نُصُوصٌ لَا يَجُوزُ خِلَافُهَا.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ: هُوَ أَنْ كُلَّ مَا صَلَحَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا صَلَحَ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا كَالْعَشَرَةِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ ثَبَتَ فِيهِ الْعَشَرَةُ عِوَضًا فَصَحَّ أَنْ يَثْبُتَ دُونَهَا عِوَضًا كَالْبَيْعِ، وَلِأَنَّهُ عِوَضٌ عَلَى إِحْدَى مَنْفَعَتَيْهَا فَلَمْ يَتَقَدَّرْ قِيَاسًا عَلَى أُجْرَةِ مَنَافِعِهَا وَلِأَنَّ مَا يقابل البضع من البدل لا يقتدر فِي الشَّرْعِ كَالْخُلْعِ، وَلِأَنَّ كُلَّ عِوَضٍ لَا يَتَقَدَّرُ أَكْثَرُهُ لَا يَتَقَدَّرُ أَقَلُّهُ قِيَاسًا عَلَى جَمِيعِ الْأَعْوَاضِ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ عِوَضًا.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهَا: أَنَّ ظَاهِرَهَا مَتْرُوكٌ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَكَحَهَا بِغَيْرِ مَهْرٍ حَلَّتْ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَا دُونُ الْعَشَرَةِ مَالٌ. أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مَالٌ ثُمَّ بَيَّنَ دِرْهَمًا أَوْ دَانِقًا قُبِلَ مِنْهُ، فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى جَوَازِهِ فِي الْمَهْرِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ جَابِرٍ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ رِوَايَةُ مُبَشِّرِ بْنِ عُبَيْدٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَأَةَ وَهُوَ مُدَلِّسٌ.
وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ جَابِرٍ مِنْ طَرِيقٍ ثَابِتَةٍ قَوْلًا مُسْنَدًا، وَفِعْلًا مُنْتَشِرًا مَا يُنَافِيهِ فَدَلَّ عَلَى بُطْلَانِهِ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ إِنْ صَحَّ، فِي امْرَأَةٍ بِعَيْنِهَا كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا عَشَرَةً فَحُكِمَ لَهَا فِيهِ بِالْعَشَرَةِ.(9/399)
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ فَقَوْلُهُمْ: مَالٌ يُسْتَبَاحُ بِهِ الْبُضْعُ فَاسِدٌ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ.
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يُسْتَبَاحُ الْقَطْعُ فِي السَّرِقَةِ بِالْمَالِ، وَإِنَّمَا يُسْتَبَاحُ بِإِخْرَاجِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوِ اسْتُبِيحَ بِالْمَالِ لَمَا لَزِمَ رَدُّ الْمَالِ، وَرَدُّ الْمَالِ لَازِمٌ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَيْسَ يُسْتَبَاحُ به العضو وإنما بقطع بِهِ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ لَا يَخْتَصُّ بِاسْتِبَاحَةِ عُضْوٍ بَلْ يُسْتَبَاحُ بِهِ جَمِيعُ الْبَدَنِ، فَبَطَلَ التَّعْلِيلُ بِمَا قَالُوهُ.
ثُمَّ الْمَعْنَى فِي قَطْعِ السَّرِقَةِ أَنَّهُ عَنْ فِعْلٍ كَالْجِنَايَاتِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّرًا كَسَائِرِ الْجِنَايَاتِ وَالْمَهْرُ عِوَضٌ فِي عَقْدِ مُرَاضَاةٍ فَلَمْ يَتَقَدَّرْ كَسَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى مَا فِي مُقَابَلَتِهِ مِنَ الْبُضْعِ الْمُقَدَّرِ: فَفَاسِدٌ بِالْبَدَلِ فِي الْخُلْعِ هُوَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ وَإِنْ كَانَ فِي مُقَابَلَةِ بُضْعٍ مُقَدَّرٍ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْبُضْعِ أَنَّهُ صَارَ مُقَدَّرًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ، فَصَارَ مُقَدَّرًا لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، وَالْمَهْرُ يَتَجَزَّأُ فَصَحَّ أَنْ يَزِيدَ وَصَحَّ أَنْ يَنْقُصَ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الشَّهَادَةِ فَالْمَعْنَى فِيهَا أَنَّهَا مِنْ شُرُوطِ الْعَقْدِ فَتَقَدَّرَتْ كَمَا تَقَدَّرَتْ بِالزَّوْجِ وَالْوَلِيِّ، وَلَيْسَ كَالْمَهْرِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَعْوَاضِ الْمُرَاضَاةِ، وَلَوْ تَقَدَّرَ لَخَرَجَ أَنْ يَكُونَ عَنْ مُرَاضَاةٍ.
فَصْلٌ
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ أَقَلَّ الْمَهْرِ وَأَكْثَرَهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، فَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِمَا تَرَاضَى عَلَيْهِ الزَّوْجَانِ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، أَوْ أَقَلَّ، إِذَا كَانَتِ الزَّوْجَةُ جَائِزَةَ الْأَمْرِ.
فَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً زَوَّجَهَا أَبُوهَا، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُزَوِّجَهَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا، لِأَنَّهُ مُعَاوِضٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَرُوعِيَ فِيهِ عوض المثل كما يراعى في بيعه لما لها ثَمَنُ الْمِثْلِ، وَإِنْ لَمْ يُرَاعِ ذَلِكَ فِي بَيْعِهَا لِنَفْسِهَا.
وَالْأَوْلَى أَنْ يَعْدِلَ الزَّوْجَانِ عَنِ التَّنَاهِي فِي الزِّيَادَةِ الَّتِي يَقْصُرُ الْعُمُرُ عَنْهَا، وَعَنِ التَّنَاهِي فِي النُّقْصَانِ الَّذِي لَا يَكُونُ لَهُ فِي النُّفُوسِ مَوْقِعٌ، وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا.
وَأَنْ يُقْتَدِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مُهُورِ نِسَائِهِ طَلَبًا لِلْبَرَكَةِ فِي مُوَافَقَتِهِ، وَهُوَ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى مَا رَوَتْهُ السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
وَقَدْ جَعَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ مُهُورَ الشَّرِيفَاتِ مِنْ نِسَاءِ قَوْمِهِ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ اقْتِدَاءً بِصَدَاقِ أُمِّ حَبِيبَةَ.
وَقَدْ رَوَى مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " خَيْرُهُنَّ أَيَسَرُهُنَّ صَدَاقًا ".
وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَعْظَمُ النِّسَاءِ بَرَكَةً أَحْسَنُهُنَّ وَجْهًا وأقلهن مهراً ".(9/400)
وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ أَبِي حُسَيْنٍ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " تَيَاسَرُوا فِي الصَّدَاقِ فَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُعْطِي الْمَرْأَةَ يَبْقَى ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ عَلَيْهَا حسكةٌ " وَفِي الْحَسِيكَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْعَدَاوَةُ.
وَالثَّانِي: الْحِقْدُ.
فَصْلٌ
وَيَجُوزُ الصَّدَاقُ عَيْنًا حَاضِرَةً، وَدَيْنًا فِي الذِّمَّةِ: حَالًّا، وَمُؤَجَّلًا، وَمُنَجَّمًا وَأَنْ يُشْتَرَطَ فِيهِ رهن، وضامن، كالأثمان، والأجور. والله أعلم.(9/401)
باب الجعل والإجارة من الجامع من كتاب الصداق وكتاب النكاح من أحكام القرآن ومن كتاب النكاح القديم
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وإذا أنكح - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْقُرْآنِ فَلَوْ نَكَحَهَا عَلَى أَنْ يُعَلِّمَهَا قُرْآنًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ. فَيَكُونُ تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ مَهْرًا لَهَا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: لَا يَجُوزُ.
اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنينَ غَيْرَ مُسَافِحِين) {النساء: 24) وَلَيْسَ تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ مَالًا فَلَمْ يَصِحَّ ابْتِغَاءُ النِّكَاحِ بِهِ.
وَمَا رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ لَقَّنْتُ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ قُرْآنًا فَأَعْطَانِي قَوْسًا فأخبرت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِذَلِكَ فَقَالَ: " أَتُحِبُ أَنْ يُقَوِّسَكَ اللَّهُ بِقَوْسٍ مِنْ نَارٍ؟ قُلْتُ لَا قَالَ: فَارْدُدْهُ " فَلَوْ جَازَ أَخْذُ الْعِوَضِ عَلَيْهِ لَمَا تَوَعَّدَهُ عَلَيْهِ فَدَلَّ تَحْرِيمُهُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ عِوَضًا عَلَى تحريم أن يكون من نَفْسِهِ عِوَضًا.
وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَكُنْ مَالًا وَلَا فِي مُقَابَلَتِهِ مَالٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا، قِيَاسًا عَلَى طَلَاقِ ضَرَّتِهَا، وَعِتْقِ أَمَتِهِ.
قَالُوا: وَلِأَنَّ تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ قُرْبَةٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، وَلِأَنَّ تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ فَرْضٌ، فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُ الْعِوَضِ عَلَيْهِ كَسَائِرِ الْفُرُوضِ.
وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ وَهَبْتُ نَفْسِي لَكَ، وَقَامَتْ قِيَامًا طَوِيلًا فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ إِلَيْهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " هَلْ عِنْدَكَ شَيْءٌ تُصْدِقُهَا؟ " فَقَالَ: مَا عِنْدِي إِلَّا إِزَارِي هَذَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنْ أَخَذَتْهُ مِنْكَ عَرِيتَ، وَإِنْ تَشُقَّهُ عَرِيتَ، فَالْتَمِسْ شَيْئًا وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حديدٍ "، فَالْتَمَسَ فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " هَلْ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ شيءٌ؟ " قَالَ نَعَمْ سُورَةُ كَذَا، وَسُورَةُ كَذَا، فَقَالَ رَسُولُ(9/403)
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، قَدْ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ " وَهَذَا نَصٌّ.
وَرَوَى عَطَاءٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَعَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَيْهِ فَقَالَ: اجْلِسِي بَارَكَ اللَّهُ فِيكِ، ثُمَّ دَعَا رَجُلًا فَقَالَ: " إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُزَوِّجَكَهَا إِنْ رَضِيتَ "، فَقَالَ: مَا رَضِيتَ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَدْ رَضِيتُ فَقَالَ: " هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ؟ " فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ فَقَالَ: " مَا تَحْفَظُ مِنَ الْقُرْآنِ؟ " فَقَالَ: سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَالَّتِي تَلِيهَا فَقَالَ: " قُمْ فَعَلِّمْهَا عِشْرِينَ آيَةً وَهِيَ امْرَأَتُكَ ".
فَإِنْ قِيلَ: وَهُوَ تَأْوِيلُ أَبِي جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيِّ مَعْنَى قَوْلِهِ: " قَدْ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ "، أَيْ لِأَجْلِ فَضِيلَتِكَ بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ. قِيلَ عَنْ هَذَا جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حديدٍ " لِيَكُونَ صَدَاقًا فَلَمَّا لَمْ يَجِدْ جَعَلَ الْقُرْآنَ بَدَلًا مِنْهُ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا.
وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ يَدْفَعُهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ لِأَنَّهُ قَالَ: قُمْ فَعَلِّمْهَا عِشْرِينَ آيَةً وَهِيَ امْرَأَتُكَ.
فإن قالوا: هو تَأْوِيلُ مَكْحُولٍ إِنَّ هَذَا خَاصٌّ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قِيلَ عَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هُوَ الْمُتَزَوِّجَ بِهَا، فَيَصِيرُ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانَ مُزَوِّجًا لَهَا، فَلَمْ يَكُنْ مَخْصُوصًا.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَا خُصَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِهِ وَإِلَّا كَانَ فِيهِ مُشَارِكًا لِأُمَّتِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَوْلُهُ: " قَدْ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ " مَجْهُولٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: " قُمْ فَعَلِّمْهَا عِشْرِينَ آيَةً " هِيَ مَجْهُولَةٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَدَاقًا مَجْهُولًا قِيلَ عَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَ مَعْلُومًا؛ لِأَنَّهُ سَأَلَ الرَّجُلَ عَمَّا مَعَهُ من القرآن فذكر سوراً سماها فقال: زوجكتها بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، يَعْنِي السُّوَرَ الْمُسَمَّاةَ، وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: " عِشْرِينَ آيَةً " يَعْنِي مِنَ السُّورَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا، وَذَلِكَ يَقْتَضِي فِي الظَّاهِرِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَوَّلِهَا فَصَارَ الصَّدَاقُ مَعْلُومًا.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذَا النَّقْلِ جَوَازُ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ صَدَاقًا فَاقْتَصَرَ مِنَ الرِّوَايَةِ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ وَأَمْسَكَ عَنْ نَقْلِ مَا عُرِفَ دَلِيلُهُ مِنْ غَيْرِهِ.(9/404)
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ أَنَّ كُلَّ مَنْفَعَةٍ صَحَّ أَنْ يَبْذُلَهَا الْغَيْرُ عَنِ الْغَيْرِ تبرعاً جاز أن يبذلها مهرهاً، قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْأَعْمَالِ الْمُبَاحَةِ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ عَسِيبُ الْفَحْلِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْمَاءُ، وَهُوَ عَيْنٌ وَلَيْسَتْ بِمَنْفَعَةٍ.
فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ: فَنَحْنُ نَقُولُ بِنُطْقِهَا وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِدَلِيلِهَا. وَنَحْنُ وَإِنْ قُلْنَا بِدَلِيلِ الْخِطَابِ، فَقَدْ نَقَلْنَا عَنْهُ نُطْقَ دَلِيلٍ آخَرَ وَأَمَّا الْخَبَرُ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ تَارَةً وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أُخْرَى. وَحَدِيثُ عُبَادَةَ أَثْبَتُ، وَأَيُّهُمَا صَحَّ فَعَنْهُ جَوَابَانِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيمُهُ لِلْقُرْآنِ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فَرْضُهُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْتَاضَ عَنْهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَلَمْ يَسْتَحِقَّهُ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى طَلَاقِ امْرَأَتِهِ وَعِتْقِ أَمَتِهِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا، وَيَنْتَفِعُ بِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا.
فَإِنْ قِيلَ: فَهِيَ تَنْتَفِعُ بِطَلَاقِ زَوْجَتِهِ، أَوْ عِتْقِ أَمَتِهِ، لِأَنَّهُ يَنْفَرِدُ بِهَا.
قِيلَ: مَا تَسْتَحِقُّهُ مِنَ النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ مَعَ الضَّرَّةِ وَالْأَمَةِ مِثْلُ مَا تَسْتَحِقُّهُ مُنْفَرِدَةً، فَلَمْ يَعُدْ عَلَيْهَا مِنْهُ نَفْعٌ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ بِعِلَّةِ أَنَّهُ قُرْبَةٌ، فَمُنْتَقَضٌ بِكَتْبِ الْمَصَاحِفِ وَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا، وَإِنْ كَانَ قُرْبَةً.
ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ أَنَّ النِّيَابَةَ فِيهِمَا لَا تَصِحُّ، وَأَنَّ نَفْعَهُمَا لَا يَعُودُ عَلَى غَيْرِ فَاعِلِيهِمَا، وَلَيْسَ كَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ الَّذِي يَصِحُّ فِيهِ النِّيَابَةُ، وَيَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى غَيْرِ فَاعِلِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ فَرْضٌ فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ: فَهُوَ إِنَّهُ إِنْ كَانَ فَرْضًا فَهُوَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ وَيَجُوزُ أَنْ تُؤْخَذَ الْأُجْرَةُ فِيمَا كَانَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ كَغَسْلِ الْمَوْتَى، وَحَمْلِ الْجَنَائِزِ، وَحَفْرِ الْقُبُورِ.
فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَا أَصْدَقَهَا منه معلوماً تنتفي ع نه الْجَهَالَةُ، لِأَنَّ الصَّدَاقَ الْمَجْهُولَ لَا يَصِحُّ.
أَحْوَالُ الصَّدَاقِ بِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ. فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُصْدِقَهَا تَعْلِيمَ جَمِيعِ الْقُرْآنِ.
وَالثَّانِي: تَعْلِيمَ سُورَةٍ مِنْهُ.
وَالثَّالِثُ: تَعْلِيمَ آيَاتٍ مِنْهُ.
الْحَالَةُ الْأُولَى: أَنْ يُصْدِقَهَا تَعْلِيمَ جَمِيعِ الْقُرْآنِ فَإِنْ أَصْدَقَهَا تَعْلِيمَ جَمِيعِ الْقُرْآنِ فَجَمِيعُهُ مَعْلُومٌ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَذْكُرَ بِأَيِّ قِرَاءَةٍ يُلَقِّنُهَا فَإِنَّ حُرُوفَ الْقُرَّاءِ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي، وَالسُّهُولَةِ، وَالصُّعُوبَةِ.(9/405)
فَإِنْ ذَكَرَ قِرَاءَةً مُعَيَّنَةً لَمْ يَعْدِلْ بِهَا إِلَى غَيْرِهَا، وَإِنْ أَطْلَقَ وَلَمْ يُعَيِّنْ فَفِي الصداق وجهان:
أحدها: أَنَّهُ صَدَاقٌ بَاطِلٌ؛ لِاخْتِلَافِ الْقِرَاءَاتِ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فَصَارَ مَجْهُولًا كَمَا لَوْ أَصْدَقَهَا ثَوْبًا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ صَدَاقٌ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ قِرَاءَةٍ تَقُومُ مَقَامَ غَيْرِهَا.
وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ كُلِّهَا شَافٍ كَافٍ "، وَكَمَا لَوْ أَصْدَقَهَا قَفِيزًا مِنْ صُبْرَةٍ جَازَ وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ مَكَانَهُ مِنَ الصُّبْرَةِ لِتَمَاثُلِهَا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِيمَا يُلَقِّنُهَا بِهِ مِنَ الْحُرُوفِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ: إِنَّهُ يُلَقِّنُهَا بِالْأَغْلَبِ مِنْ قِرَاءَةِ الْبَلَدِ، كَمَا لَوْ أَصْدَقَهَا دَرَاهِمَ كَانَتْ مِنْ غَالِبِ دَرَاهِمِ الْبَلَدِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا الْبَغْدَادِيِّينَ: إِنَّهُ يُلَقِّنُهَا بِمَا شَاءَ من القراءات المفردة أو بالجائز؛ وأن كُلَّ قِرَاءَةٍ تَقُومُ مَقَامَ غَيْرِهَا.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُصْدِقَهَا تَعْلِيمَ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَإِنْ أَصْدَقَهَا تَعْلِيمَ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَلَا يَصِحُّ حَتَّى تَكُونَ السُّورَةُ مَعْلُومَةً، لِاخْتِلَافِ السُّوَرِ بِالطُّولِ وَالْقِصَرِ، وَأَنَّ فِيهَا الْمُشْتَبِهَ وَغَيْرَ الْمُشْتَبِهِ، فَإِذَا عَيَّنَ السُّورَةَ كَانَ الْكَلَامُ فِي حُرُوفِ الْقِرَاءَةِ عَلَى مَا مَضَى.
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُصْدِقَهَا تَعْلِيمَ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ.
وَإِنْ أَصْدَقَهَا تَعْلِيمَ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ، فَصِحَّةُ ذَلِكَ مُعْتَبَرَةٌ بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ السُّورَةُ مَعْلُومَةً، فَإِنْ كان مَجْهُولَةً لَمْ يَجُزْ، وَكَانَ الصَّدَاقُ بَاطِلًا.
وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْآيَاتُ مِنَ السُّورَةِ مَعْلُومَةً مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: عَشْرُ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، أَوْ مِنْ رَأْسِ الْمَائِدَةِ، أَوْ عَشْرٌ الطَّلَاقِ. فَإِنْ أَطْلَقَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ لِلْجَهْلِ بِتَعْيِينِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: جَائِزٌ وَيَتَوَجَّهُ ذَلِكَ إِلَى عَشْرِ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِهَا، اعْتِبَارًا بِعُرْفِ الْإِطْلَاقِ، وَأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، قَالَ لِلرَّجُلِ: " قُمْ فَعَلِّمْهَا عِشْرِينَ آيَةً " وَلَمْ يُعَيِّنْ.
وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ بَاذِلًا أَقْصَرَ سورة في القرآن وهي الكوثر ثلاث فَصَاعِدًا لِيَكُونَ قَدْرًا يَخْتَصُّ بِالْإِعْجَازِ، فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِالْإِعْجَازِ، وَتَعْيِينُ الْقُرْآنِ يَقْتَضِي وُجُودَ الْإِعْجَازِ.
وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ: وَهُوَ حَرْفُ الْقِرَاءَةِ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسْبِ اخْتِلَافِ الْآيَاتِ الْمَشْرُوطَةِ فَإِنْ كَانَتْ حُرُوفُ الْقِرَاءَةِ فِيهَا لَا تَخْتَلِفُ، أَوْ كَانَ اخْتِلَافُهَا يَسِيرًا لَا يُؤَثِّرُ فِي زِيَادَةِ الْحُرُوفِ وَنُقْصَانِهَا لَمْ يُلْزَمْ شَرْطَهُ، وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ.
فَأَمَّا إِنْ أَصْدَقَهَا أَنْ يُعَلِّمَهَا الْقُرْآنَ شَهْرًا جَازَ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنِ السُّوَرَ وَالْآيَاتِ؛ لِأَنَّ(9/406)
التَّعْلِيمَ قَدْ صَارَ بِتَقْدِيرِ الْمُدَّةِ مَعْلُومًا، وَإِنْ كَانَ عَيْنُهُ مَجْهُولًا، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ عَلَيَّ أَنْ أَخْدِمَكَ شَهْرًا فَيَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنِ الْخِدْمَةَ، كَمَا يَجُوزُ إِذَا أَطْلَقَ الْمُدَّةَ وَعَيَّنَ الْخِدْمَةَ، ثُمَّ لَهَا أَنْ تَأْخُذَهُ بِتَعْلِيمِ مَا شَاءَتْ مِنَ الْقُرْآنِ لَا بِمَا شَاءَ الزَّوْجُ، كمن استؤجر لخدمة شهر، كان للمستأجر أن يستخدمه فِيمَا شَاءَ دُونَ الْمُؤَجَّرِ.
فَصْلٌ: الْقَوْلُ فِي صِفَةِ التَّعْلِيمِ
فَأَمَّا صِفَةُ التَّعْلِيمِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُعَلِّمَهَا السُّورَةَ آيَةً بَعْدَ آيَةٍ، حَتَّى إِذَا حَفِظَتِ الْآيَةَ عَدَلَ بِهَا إِلَى مَا بَعْدَهَا حَتَّى تَخْتِمَ السُّورَةَ.
وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِذَا حَفِظَتِ السُّورَةَ أَنْ يُدَرِّسَهَا إِيَّاهَا؛ لِأَنَّ التَّدْرِيسَ مِنْ شُرُوطِ الْحِفْظِ لَا مِنْ شُرُوطِ التَّعْلِيمِ. فَلَوْ شَرَطَتْ عَلَيْهِ حِفْظَ الْقُرْآنِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ حِفْظَهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا إِلَيْهِ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَهَا أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُعَلِّمَهَا فَتَحْفَظَ مَا عَلَّمَهَا بِأَيْسَرِ تَعْلِيمٍ وَأَسْهَلِهِ فَهُوَ الْمَقْصُودُ وَقَدْ وَفَّى مَا عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُعَلِّمَهَا فَتَتَعَلَّمَ فِي الْحَالِ ثُمَّ تَنْسَى مَا تَعَلَّمَتْهُ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَتَعَلَّمَ جَمِيعَ السُّورَةِ ثُمَّ تَنْسَاهَا، فَقَدِ اسْتَقَرَّ التَّسْلِيمُ وَوَفَّى مَا عَلَيْهِ مِنَ التَّعْلِيمِ، فَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُعَلِّمَهَا ثَانِيَةً.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُلَقِّنَهَا مِنْهُ يَسِيرًا لَا يَخْتَصُّ بِالْإِعْجَازِ كَبَعْضِ آيَةٍ، فَالتَّسْلِيمُ لَمْ يَسْتَقِرَّ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُعَلِّمَهَا.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُعَلِّمَهَا قَدْرَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْإِعْجَازُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَسْلِيمٌ مُسْتَقِرٌّ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَدْرُ بِانْفِرَادِهِ مَهْرًا فَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُهُ تَعْلِيمُهَا ثَانِيَةً.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَسْلِيمٌ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ؛ لِأَنَّهُ بَعْضُ جُمْلَةٍ غَيْرِ مُتَمَيِّزَةٍ، فَعَلَى هَذَا يلزمه تعليمها ثانية.
والحال الثالث: أَنْ يُعَلِّمَهَا فَتَكُونَ بَلِيدَةً، قَلِيلَةَ الذِّهْنِ، لَا تَتَعَلَّمُ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ وَعَنَاءٍ، فَهَذَا عَيْبٌ، يَكُونُ الزَّوْجُ فِيهِ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْمُقَامِ عَلَيْهِ وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ فَيَعْدِلَ إِلَى بَدَلِهِ، وَفِي بَدَلِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْقَدِيمُ: أُجْرَةُ مِثْلِ التَّعْلِيمِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْجَدِيدُ: عَلَيْهِ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَسَنَذْكُرُ تَوْجِيهَ الْقَوْلَيْنِ مِنْ بَعْدُ.
وَالْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ لَا تَقْدِرُ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ بِحَالٍ فَفِي الصَّدَاقِ وَجْهَانِ:(9/407)
أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ لِتَعَذُّرِهِ وَإِعْوَازِهِ، وَفِيمَا تَسْتَحِقُّهُ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: جَائِزٌ وَتَأْتِي بِغَيْرِهَا حَتَّى يُعَلِّمَهُ؛ لِأَنَّ مَنْ لَهُ حَقٌّ إِذَا عَجَزَ عَنِ اسْتِيفَائِهِ بِنَفْسِهِ اسْتَوْفَاهُ بِغَيْرِهِ، وَلَا خِيَارَ لَهَا، لِأَنَّ الْعَيْبَ مِنْ جِهَتِهَا.
وَهَلْ لِلزَّوْجِ الْخِيَارُ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا خِيَارَ لَهُ، لِأَنَّهُ تَعْلِيمٌ قَدِ اسْتَحَقَّتْهُ لِنَفْسِهَا فَجَازَ أَنْ تَسْتَوْفِيَهُ بِغَيْرِهَا، كَسَائِرِ الْحُقُوقِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهُ الْخِيَارُ فِي الْمُقَامِ أو الفسخ، لأنه يستلذ من تعليمها مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَلِذَّ مِنْ تَعْلِيمِ غَيْرِهَا فَإِنْ فَسَخَ فَفِيمَا يَلْزَمُهُ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أُجْرَةُ مِثْلِ التَّعْلِيمِ.
وَالثَّانِي: مَهْرُ الْمِثْلِ.
فَلَوْ أَرَادَتْ وَهِيَ قَادِرَةٌ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ أَنْ تأتيه بغيرها ليعلمه بَدَلًا مِنْهَا فَإِنْ رَاضَاهَا الزَّوْجُ عَلَى ذَلِكَ جَازَ، وَإِنِ امْتَنَعَ فَفِي إِجْبَارِهِ عَلَى ذَلِكَ وَجْهَانِ وَتَعْلِيلُهُمَا مَا ذَكَرْنَا.
وَلَوْ لَمْ يُعَلِّمْهَا الْقُرْآنَ حَتَّى تَعَلَّمَتْهُ مِنْ غَيْرِهِ، فَقَدْ فَاتَ أَنْ تَسْتَوْفِيَهُ بِنَفْسِهَا فَيَكُونَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تأتيه بغيرها حتى يعلمه الْقُرْآنَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَدْ بَطَلَ الصَّدَاقُ، وَفِيمَا تَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أُجْرَةُ مِثْلِ التَّعْلِيمِ.
وَالثَّانِي: مَهْرُ الْمِثْلِ.
فَصْلٌ: الْقَوْلُ فِيمَا إِذَا أَصْدَقَهَا تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ وَهُوَ لَا يَحْفَظُهُ
وَإِذَا أَصْدَقَهَا تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ، وَهُوَ لَا يَحْفَظُ الْقُرْآنَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ فِي ذِمَّتِهِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: عَلَيَّ أَنْ أُحَصِّلَ لَكِ تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ، فَهَذَا صَدَاقٌ جَائِزٌ وَإِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُ الْقُرْآنَ وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ لَهَا مَنْ يُعَلِّمُهَا الْقُرْآنَ إِمَّا مِنَ النِّسَاءِ أَوْ مِنْ ذَوِي مَحَارِمِهَا مِنَ الرِّجَالِ وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يُعَلِّمَهَا بِنَفْسِهِ، أَوْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يُعَلِّمُهَا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ مَعْقُودًا عَلَيْهِ فِي عَيْنِهِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: عَلَيَّ أَنْ أُعَلِّمَكِ الْقُرْآنَ نُظِرَ:
فَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ جَازَ فَإِنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى تَعْلِيمِهَا مِنَ الْمُصْحَفِ وَإِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ كَمَا لَوْ أَصْدَقَهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ لَا يَمْلِكُهَا جَازَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَهَا كَذَلِكَ الْقُرْآنُ وَإِنْ كَانَ لَا يَحْفَظُهُ، فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يحفظه فيعلمها.(9/408)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ، وَيَكُونُ الصَّدَاقُ بَاطِلًا لِأَنَّهُ مَنْفَعَةٌ مِنْ مُعَيَّنٍ لَيْسَتْ فِي مِلْكِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا، كَمَا لَوْ أَصْدَقَهَا خِدْمَةَ عَبْدٍ لَا يَمْلِكُهُ كَانَ بَاطِلًا وَإِنْ جَازَ أَنْ يَمْلِكَ الْعَبْدَ أَوْ يَسْتَأْجِرَهُ.
وَخَالَفَ أَنْ يُصْدِقَهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ لَا يَمْلِكُهَا، لِأَنَّ الْأَلْفَ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ وَالْمَنْفَعَةُ هَهُنَا مُعَيَّنَةٌ، ألا تره لَوْ بَاعَ سِلْمًا ثَوْبًا مَوْصُوفًا فِي ذِمَّتِهِ وَهُوَ لَا يَمْلِكُهُ جَازَ، وَلَوْ بَاعَ ثَوْبًا مَعِيبًا لَا يَمْلِكُهُ لَمْ يَجُزْ.
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ.
فَإِنْ قِيلَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ إِنَّ الصَّدَاقَ جَائِزٌ كَانَتْ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ تَصْبِرَ عَلَيْهِ حَتَّى يَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ فَيُعَلِّمَهَا، وَبَيْنَ أَنْ تَتَعَجَّلَ الْفَسْخَ وَتَرْجِعَ عَلَيْهِ بِأُجْرَةِ مِثْلِ التَّعْلِيمِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَبِمَهْرِ الْمِثْلِ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي، فَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنَا أَسْتَأْجِرُ لَكِ مَنْ يُعَلِّمُكِ لَمْ يَلْزَمْهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ مُسْتَحَقَّةٌ مِنْهُ فِي عَيْنِهِ كَمَا لَوْ آجَرَهُ عَبْدًا فَزَمِنَ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُقِيمَ عَبْدًا غَيْرَهُ، وَخَالَفَ أَنْ تُرِيدَ إِبْدَالَ نَفْسِهَا بِغَيْرِهَا، فَيَكُونُ لَهَا ذَلِكَ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّهُ لا حق له، فَجَازَ أَنْ تَكُونَ مُخَيَّرَةً فِي اسْتِيفَائِهِ وَهُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الزَّوْجِ فَلَمْ يَكُنْ مُخَيَّرًا فِي أَدَائِهِ.
وَإِنْ قِيلَ بِالْوَجْهِ الثَّانِي إِنَّ الصَّدَاقَ بَاطِلٌ، فَلَا فَرْقَ فِي بُطْلَانِهِ بَيْنَ أَنْ يتعلم القرآن من بعد أولا يَتَعَلَّمَهُ، وَفِيمَا تَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى:
أَحَدُهُمَا: أُجْرَةُ الْمِثْلِ.
وَالثَّانِي: مَهْرُ المثل.
فصل: القول في تزويج الْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّةَ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ
وَإِذَا تَزَوَّجَ مُسْلِمٌ ذِمِّيَّةً عَلَى تَعْلِيمِهَا الْقُرْآنَ، نُظِرَ:
فَإِنْ كَانَ قَصْدُهَا الِاهْتِدَاءَ بِهِ وَاعْتِبَارَ إِعْجَازِهِ وَدَلَائِلِهِ جَازَ، وَعَلَيْهِ تَعْلِيمُهَا إِيَّاهُ كَالْمُسْلِمَةِ.
وَإِنْ كَانَ قَصْدُهَا الِاعْتِرَاضَ عَلَيْهِ وَالْقَدْحَ فِيهِ لَمْ يَجُزْ وَكَانَ صَدَاقًا بَاطِلًا؛ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ صِيَانَةِ الْقُرْآنِ عَنِ الْقَدْحِ وَالِاعْتِرَاضِ.
وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ قَصْدَهَا فَهُوَ جَائِزٌ فِي ظَاهِرِ الْحَالِ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ هِدَايَةٌ وَإِرْشَادٌ، ثُمَّ يَسِيرُ بَحْثَ حَالِهَا فِي وَقْتِ التَّعْلِيمِ، فَإِنْ عَرَفَ مِنْهَا مَبَادِئَ الْهِدَايَةِ: أَقَامَ عَلَى تَعْلِيمِهَا، وَإِنْ عَرَفَ مِنْهَا مَبَادِئَ الِاعْتِرَاضِ وَالْقَدْحِ فَسَخَ الصَّدَاقَ، وَعَدَلَ إِلَى بَدَلِهِ مِنَ الْقَوْلَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أُجْرَةُ الْمِثْلِ.
وَالثَّانِي: مهر المثل.(9/409)
فَصْلٌ: الْقَوْلُ فِي تَزَوُّجِ الذِّمِّيِّ الذِّمِّيَّةَ عَلَى تعليم التوراة والإنجيل
إذا تزوج الذمي عَلَى أَنْ يُعَلِّمَهَا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، كَانَ صَدَاقًا فَاسِدًا، لِأَنَّهُمَا قَدْ غَيَّرَا وَبَدَّلَا فَإِنْ تَحَاكَمَا إِلَيْنَا قَبْلَ التَّعْلِيمِ أَبْطَلْنَاهُ، وَإِنْ تَحَاكَمَا بَعْدَ التَّعْلِيمِ أَمْضَيْنَاهُ كَمَا لَوْ أَصْدَقَهَا خَمْرًا أَوْ خنزيراً فتقابضاه.
القول في تزويج المسلم الذمية على تعليم التوراة أو الإنجيل
وَلَوْ تَزَوَّجَ مُسْلِمٌ ذِمِّيَّةً عَلَى تَعْلِيمِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، أَبْطَلْنَاهُ قَبْلَ التَّعْلِيمِ وَبَعْدَهُ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ: أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ يَرَوْنَهُ جَائِزًا فَأَمْضَى مِنْهُ مَا تَقَابَضَاهُ، وَنَحْنُ نَرَاهُ بَاطِلًا فَأَبْطَلْنَاهُ وَإِنْ تَقَابَضَاهُ.
فَصْلٌ: الْقَوْلُ فِي التَّزَوُّجِ عَلَى تَعْلِيمِ الشِّعْرِ
وَإِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى تَعْلِيمِ الشِّعْرِ: فَإِنْ كَانَ الشِّعْرُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ لَمْ يَجُزْ وَكَانَ صَدَاقًا فَاسِدًا لِلْجَهَالَةِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ هِجَاءً وَفُحْشًا لَمْ يَجُزْ وَكَانَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، وَإِنْ كَانَ زُهْدًا وَحِكَمًا وَأَمْثَالًا وَأَدَبًا جَازَ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا.
حُكِيَ أَنَّ الْمُزَنِيَّ سُئِلَ عَنْ تَعْلِيمِ الشِّعْرِ أَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا.
فَقَالَ إِنْ كَانَ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
(يَوَدُّ الْمَرْءُ أَنْ يُعْطَى مُنَاهُ ... وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا مَا أَرَادَ)
(يَقُولُ الْمَرْءُ فَائِدَتِي وَمَالِي ... وَتَقْوَى اللَّهِ أَفْضَلُ مَا اسْتَفَادَا)
وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً وَإِنَّ مِنَ الْبَيَانَ لَسِحْرًا " جَازَ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مسألة
قال الشافعي: " أَوْ يَأْتِيهَا بِعَبْدِهَا الْآبِقِ فَعَلَّمَهَا أَوْ جَاءَهَا بِالْآبِقِ ".
الْقَوْلُ فِي التَّزْوِيجِ عَلَى مَنَافِعِ الْعَبْدِ وَالْحُرِّ
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنَافِعُ الْعَبْدِ وَالْحُرِّ صَدَاقًا لِزَوْجَتِهِ، مِثْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يَخْدِمَهَا شَهْرًا، أَوْ يَبْنِيَ لَهَا دَارًا، أَوْ يَخِيطَ لَهَا ثَوْبًا، أَوْ يَرْعَى لَهَا غَنَمًا.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنَافِعُ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ صَدَاقًا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنَافِعُ الْعَبْدِ صَدَاقًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنَافِعُ الْحُرِّ صَدَاقًا.
اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ) {النساء: 24) وليس هذا مال فَيَصِحُّ ابْتِذَالُ النِّكَاحِ بِهِ، وَلِأَنَّ تَسْلِيمَ الْمَنْفَعَةِ(9/410)
لَا يَصِحُّ إِلَّا بِتَسْلِيمِ الرَّقَبَةِ، وَلَيْسَتْ رَقَبَةُ الْحُرِّ مَالًا، فَلَمْ يَجِبْ بِتَسْلِيمِ مَنْفَعَتِهِ تَسْلِيمُ مَالٍ فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا، وَرَقَبَةُ الْعَبْدِ مَالٌ مُوجِبٌ بِتَسْلِيمِ مَنْفَعَتِهِ تَسْلِيمَ مَالٍ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا.
وَدَلِيلُنَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ شُعَيْبٍ حِينَ تَزَوَّجَ مُوسَى بِابْنَتِهِ {إِنِّي أُرِيدُ أنْ أُنْكُحكَ إحْدَى ابْنَتَي هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِي حِجَجٍ) {القصص: 27) يَعْنِي عَمَلَ ثَمَانِي حِجَجٍ فَأَسْقَطَ ذِكْرَ الْعَمَلِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهُ مَفْهُومٌ بَيْنَهُمَا، وَالْعَمَلُ رَعْيُ الْغَنَمِ، فَجَعَلَ رَعْيَ مُوسَى ثَمَانِي سِنِينَ صَدَاقًا لِبِنْتِهِ. وَهَذَا نَصٌّ.
فَإِنْ قِيلَ: فهذا في غير شريعتنا فلم يلزمنا.
قِيلَ شَرَائِعُ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَازِمَةٌ لَنَا عَلَى قَوْلِ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا فَلَمْ يَرِدْ نَسْخٌ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا مَنْسُوخُ؛ لِأَنَّ شَرْطَ صَدَاقِهَا لِنَفْسِهِ وَقَدْ نَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي شَرِيعَتِنَا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً) {النساء: 4) قِيلَ عَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَضَافَ ذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ مَجَازًا لِقِيَامِهِ فِيهِ بِنَفْسِهِ وَإِلَّا فَهُوَ مِلْكٌ لَهَا دُونَهُ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ نَسْخُ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِهِ دَلِيلًا عَلَى نَسْخِ جَمِيعِ أَحْكَامِهِ، كَمَا لَمْ يَكُنْ نَسْخُ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ دَلِيَلًا عَلَى نَسْخِ الصَّلَاةِ الَّتِي كَانَتْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَشُعَيْبٌ جَعَلَ الْمَنْفَعَةَ مُقَدَّرَةً بِمُدَّتَيْنِ وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ فِي شَرِيعَتِنَا.
قِيلَ: الْمَنْفَعَةُ مُقَدَّرَةٌ بِمُدَّةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ ثَمَانُ سِنِينَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتْ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ مُوسَى ثَمَانِي حِجَجٍ وَاجِبَةٍ وَكَانَتْ سَنَتَانِ عِدَةً مِنْهُ، فَقَضَى اللَّهُ عَنْهُ عِدَتَهُ فَأَتَمَّهَا عَشْرًا.
وَمِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ أَنَّهَا مَنْفَعَةٌ تُسْتَحَقُّ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ فَصَحَّ أَنْ تَثْبُتَ صَدَاقًا كَمَنَافِعِ الْعَبْدِ وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يَصِحُّ عَلَى مَنْفَعَةِ الْعَبْدِ فَصَحَّ عَلَى مَنْفَعَةِ الْحُرِّ كَالْإِجَارَةِ وَلِأَنَّ كُلَّ مَا صَحَّ أَنْ يَثْبُتَ فِي مُقَابَلَةِ مَنَافِعِ الْعَبْدِ صَحَّ أَنْ يَثْبُتَ فِي مُقَابَلَةِ مَنَافِعِ الْحُرِّ كَالدَّرَاهِمِ.
أَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّهَا مَنْفَعَةٌ لَا تَجِبُ بِتَسْلِيمِهَا تَسْلِيمُ مَالٍ، فَخَطَأٌ؛ لِأَنَّ الرَّقَبَةَ لَيْسَتْ فِي مُقَابَلَةِ الْعِوَضِ، فَيُرَاعَى أَنْ يَكُونَ مَالًا، وَإِنَّمَا الْعِوَضُ فِي مُقَابَلَةِ الْمَنْفَعَةِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهَا أَنْ تَكُونَ الرَّقَبَةُ مَالًا، أَوْ غَيْرَ مَالٍ، فَالْإِجَارَةُ عَلَى مَنَافِعِ الْحُرِّ كَالْإِجَارَةِ عَلَى مَنَافِعِ الْعَبْدِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ رَقَبَةُ الْحُرِّ مَالًا وَكَانَتْ رَقَبَةُ الْعَبْدِ مَالًا. فَكَذَلِكَ الصَّدَاقُ وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ أَصْدَقَهَا مَنَافِعَ أُمِّ وَلَدِهِ أَوْ مَنَافِعَ وَقْفِهِ جَازَ وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الرَّقَبَةُ مَالًا.
فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَصُورَةُ مَسْأَلَتِنَا فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَجَعَلَ صَدَاقَهَا أَنْ يَأْتِيَهَا بِعَبْدِهَا الْآبِقِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مَعْرُوفَ الْمَكَانِ، تصح الْإِجَارَةُ عَلَى الْمَجِيءِ بِهِ، فَهَذَا صَدَاقٌ جَائِزٌ، لِأَنَّ مَا جَازَتْ عَلَيْهِ الْإِجَارَةُ جَازَ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا كَسَائِرِ الْأَعْمَالِ.(9/411)
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَعْرُوفِ الْمَكَانِ فَهَذَا لَا تَصِحُّ عَلَيْهِ الْإِجَارَةُ وَتَصِحُّ عَلَيْهِ الْجُعَالَةُ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَجْهُولُ الْمَكَانِ فَيَصِيرُ الصَّدَاقُ بِهِ مَجْهُولًا، وَالصَّدَاقُ الْمَجْهُولُ بَاطِلٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُعَاوَضَةَ عَلَيْهِ جُعَالَةٌ غَيْرُ لَازِمَةٍ وَالصَّدَاقُ لَازِمٌ، فَتَنَافَيَا، فَبَطَلَ.
فَصْلٌ
فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ: إِذَا أَصْدَقَهَا أَنْ يَجِيئَهَا بِعَبْدِهَا الْآبِقِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَدَاقٌ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهَا نِصْفُ أُجْرَةِ الْمَجِيءِ بِالْآبِقِ.
فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى الضَّرْبِ الْأَوَّلِ إِذَا كَانَ مَعْرُوفَ الْمَكَانِ أَوْ إِلَى الضَّرْبِ الثَّانِي إِذَا كَانَ مَجْهُولَ الْمَكَانِ؟
فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ بِهِ الضَّرْبَ الْأَوَّلَ مَعَ الْعِلْمِ بِمَكَانِ الْآبِقِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُوَافِقًا لِلشَّافِعِيِّ وَلِسَائِرِ أَصْحَابِهِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ أَرَادَ بِهِ الضَّرْبَ الثَّانِيَ إِذَا كَانَ مَجْهُولَ الْمَكَانِ وَكَانَتِ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ جُعَالَةً، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ نَصَّ عَلَى بُطْلَانِ الصَّدَاقِ فِي كِتَابِ الْأُمِّ، وَمُخَالِفًا لِسَائِرِ أَصْحَابِنَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ فِي تَعْلِيلِ بُطْلَانِهِ، والله أعلم.
مسألة
قال الشافعي: " ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ رَجَعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِ أجر التعليم (قال المزني) وبنصف أجر المجيء بالآبق فإن لم يعلمها أو لم يأتها بالآبق رجعت عليه بنصف مهر مثلها لأنه ليس له أن يخلو بها يعلمها ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِذَا أَصْدَقَهَا تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ ثُمَّ طَلَّقَ.
وَالثَّانِي: إِذَا أَصْدَقَهَا أَنْ يَجِيئَهَا بِعَبْدِهَا الْآبِقِ ثُمَّ طَلَّقَ.
فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ وهو أن يصدقها تعليم القرآن ثم طلق فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ تَعْلِيمِهَا:
أَحَدُهَا: أَنْ يُطَلِّقَ بَعْدَ أَنْ عَلَّمَهَا جَمِيعَ الْقُرْآنِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ طَلَاقِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ.
إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ، أَوْ بَعْدَهُ.
فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ: فَقَدِ اسْتَقَرَّ لَهَا بِالدُّخُولِ جَمِيعُ الصَّدَاقِ، وَقَدْ وَفَّاهَا إِيَّاهُ بِتَعْلِيمِ جَمِيعِ الْقُرْآنِ فَلَا تراجع بينهما بشيء.
وإن كان طلاقها قَبْلَ الدُّخُولِ: فَقَدِ اسْتَحَقَّ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الصَّدَاقِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} .
فَإِنْ كَانَ عَيْنًا حَاضِرَةً رَجَعَ بِنِصْفِهَا، وَإِنْ كانت تالفة ولها مثله رَجَعَ بِنِصْفِ مِثْلِهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مِثْلٌ: رَجَعَ بِقِيمَةِ نِصْفِهَا، وَلَيْسَ تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ عَيْنًا حَاضِرَةً فَيَرْجِعُ بِنِصْفِهَا،(9/412)
وَلَا هُوَ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ فَيَرْجِعُ بِمِثْلِ نِصْفِهِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَرْجِعَ بِقِيمَةِ نصفه وذلك نصف أجرة مثل التعليم.
فَصْلٌ: الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُطَلِّقَهَا قَبْلَ تَعْلِيمِهَا
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُطَلِّقَهَا قَبْلَ أَنْ يُعَلِّمَهَا شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ فَيُنْظَرُ:
فَإِنْ كَانَ التَّعْلِيمُ مَشْرُوطًا فِي ذِمَّتِهِ اسْتَأْجَرَ لَهَا مِنَ النِّسَاءِ وَمِنْ ذَوِي مَحَارِمِهَا مِنَ الرِّجَالِ مَنْ يُعَلِّمُهَا عَلَى مَا تَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ.
وَإِنْ كَانَ التَّعْلِيمُ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فِي عَيْنِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَجُوزُ لَهُ تَعْلِيمُهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، كَمَا يَجُوزُ سَمَاعُ أَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنَ النِّسَاءِ الْأَجَانِبِ. وَقَدْ كَانَتْ نِسَاءُ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُحَدِّثْنَ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ لَا يَجُوزُ؛ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا فِي مُطَاوَلَةِ كَلَامِهَا مِنَ الِافْتِتَانِ بِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا ربما خلوا وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَخْلُوَنَّ أَحَدُكُمْ بامرأةٍ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ ثَالِثُهُمَا ".
فإذا قلنا: إن تعليمها لا يجوز نظر حَالُ الطَّلَاقِ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ رَجَعَتْ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ الْقَدِيمِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ، وَفِي قَوْلِهِ الْجَدِيدِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ: رَجَعَتْ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ الْقَدِيمِ بِنِصْفِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ، وَفِي قَوْلِهِ الْجَدِيدِ بِنِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ.
وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهَا تُعَلَّمُ الْقُرْآنَ: لَمْ يَخْلُ الطَّلَاقِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَقَدِ اسْتَقَرَّ لَهَا جَمِيعُ الصَّدَاقِ، فَعَلَى هَذَا يُعَلِّمُهَا جَمِيعَ الْقُرْآنِ.
فَلَوِ اخْتَلَفَ فَقَالَ الزَّوْجُ قَدْ عَلَّمْتُكِ الْقُرْآنَ وَقَالَتْ: لَمْ تُعَلِّمْنِي فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ حَافِظَةً لِلْقُرْآنِ فِي الْحَالِ، أَوْ غَيْرَ حَافِظَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ حَافِظَةٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا وَعَلَيْهِ تَعْلِيمُهَا وَإِنْ كَانَتْ حَافِظَةً وَقَالَتْ حَفِظْتُ مِنْ غَيْرِكَ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا أَيْضًا مَعَ يَمِينِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّ حِفْظَهَا شَاهِدٌ عَلَى صِدْقِهِ وإن طلاقها قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْقُرْآنِ هَلْ يَتَجَزَّأُ أَمْ لا؟ على وجهين:
أحدهما: أن يَتَجَزَّأَ فِي كَلِمَاتِهِ وَحُرُوفِهِ الَّتِي جَزَّأَهَا السَّلَفُ عَلَيْهَا فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُعَلِّمَهَا نِصْفَ الْقُرْآنِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ تَجَزَّأَ فِي كَلِمَاتِهِ وَحُرُوفِهِ فَلَيْسَ يَتَمَاثَلُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُتَشَابِهِ، وَأَنَّ بَعْضَهُ أَصْعَبُ مِنْ بَعْضٍ، وَسُوَرَهُ أَصْعَبُ مِنْ سُوَرِهِ، وَعَشْرٌ أَصْعَبُ مِنْ عَشْرٍ، وقد روي(9/413)
عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " شَيَّبَتْنِي هودٌ وَأَخَوَاتُهَا " فَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُهُ إِذَا اسْتَحَقَّتِ النِّصْفَ أَنْ يُعَلِّمَهَا شَيْئًا مِنْهُ؛ لِتَعَذُّرِ تَمَاثُلِهِ، وَتَرْجِعُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ أُجْرَةِ التَّعْلِيمِ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ، وَبِمِثْلِ نصف مهل المثل على قوله في الجديد.
فَصْلٌ: الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ تَعْلِيمِهَا الْبَعْضَ
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ أَنْ عَلَّمَهَا بَعْضَ الْقُرْآنِ وَبَقِيَ بَعْضُهُ، فَلَا يَخْلُو حَالُ طَلَاقِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ، أَوْ بَعْدَهُ.
فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ: فَقَدِ اسْتَقَرَّ لَهَا جَمِيعُهُ.
فَإِنْ قُلْنَا يُعَلِّمُهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ فَعَلَيْهِ تَعْلِيمُهَا مَا بَقِيَ مِنَ الْقُرْآنِ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ بِهِ جَمِيعَ الصَّدَاقِ.
وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَلِّمَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ تَرَتَّبَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي تَجْزِئَةِ الْقُرْآنِ.
فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مُتَسَاوِي الْأَجْزَاءِ سَقَطَ عَنْهُ مِنَ الصَّدَاقِ بِقَدْرِ مَا عَلَّمَ، كَأَنَّهُ عَلَّمَهَا النِّصْفَ فَيَسْقُطُ عَنْهُ نِصْفُ الْمَهْرِ وَتَرْجِعُ بِبَدَلِ نِصْفِهِ الْبَاقِي عَلَى الْقَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْقَدِيمُ: بِنِصْفِ أُجْرَةِ التَّعْلِيمِ.
وَالثَّانِي وَهُوَ الْجَدِيدُ: بِنِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ.
وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ غَيْرُ مُتَسَاوِي الْأَجْزَاءِ.
تَرَتَّبَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَا تَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ بَقِيَّةِ صَدَاقِهَا، فَإِنْ قِيلَ بِالْقَدِيمِ: إِنَّهَا تَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْبَاقِي مِنْ أُجْرَةِ مِثْلِ التَّعْلِيمِ سَقَطَ هَهُنَا عَنْهُ مِنَ الصَّدَاقِ بِقَدْرِ أُجْرَةِ مَا عَلَّمَ، وَبَنَى لَهَا عَلَيْهِ بِقَدْرِ أُجْرَةِ مِثْلِ مَا بَقِيَ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ تَقْسِيطِ ذَلِكَ عَلَى الْأُجْرَةِ لَا عَلَى الْأَجْزَاءِ.
وَإِنْ قِيلَ بِالْجَدِيدِ: إِنَّهَا تَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْبَاقِي مِنْ مهر مثلها سقط عنه من النصف نصفه وَهُوَ الرُّبُعُ؛ لِأَنَّ أَجْزَاءَ النِّصْفِ الَّذِي عَلَّمَهَا قَدْ لَا تُمَاثِلُ أَجْزَاءَ النِّصْفِ الْبَاقِي لَهَا، فَلِذَلِكَ سَقَطَ عَنْهُ نِصْفُ مَا عَلَّمَهَا وَهُوَ الرُّبُعُ، لِأَنَّهُ مُمَاثِلٌ لِحَقِّهَا، وَرَجَعَ عَلَيْهَا بِأُجْرَةِ نِصْفِ مَا عَلَّمَهَا وَهُوَ الرُّبُعُ وَرَجَعَتْ هِيَ عَلَيْهِ بِالْبَاقِي لَهَا وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مَهْرِ الْمِثْلِ.
وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ وَلَا يَخْلُو مَا عَلَّمَهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ عَلَّمَهَا مِنْهُ النِّصْفَ.
وَالثَّانِي: أَكْثَرُ مِنَ النِّصْفِ.
وَالثَّالِثُ: أَقَلُّ مِنَ النِّصْفِ.(9/414)
فَإِنْ عَلَّمَهَا مِنْهُ النِّصْفَ: تَرَتَّبَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي تَسَاوِي الْأَجْزَاءِ فَإِنْ قِيلَ إِنَّهَا مُتَسَاوِيَةٌ فَقَدِ اسْتَوْفَتْ بِالنِّصْفِ حَقَّهَا، وَلَا تَرَاجُعَ بَيْنَهُمَا.
وَإِنْ قِيلَ إِنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ تَرَتَّبَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَا تَرْجِعُ بِهِ عِنْدَ فَوَاتِ الصَّدَاقِ.
فَإِنْ قِيلَ بِالْقَدِيمِ: إِنَّهَا تَرْجِعُ بِأُجْرَةِ التَّعْلِيمِ تَقَسَّطَ ذَلِكَ عَلَى الْأُجْرَةِ لَا عَلَى الْأَجْزَاءِ.
مِثَالُهُ: أَنْ يَقُولَ كَمْ تساوي أجرة مثل تعليم القرآن؟ فإن قِيلَ: عَشَرَةُ دَنَانِيرَ.
قِيلَ: فَكَمْ تُسَاوِي أُجْرَةُ مِثْلِ النِّصْفِ الَّذِي عَلَّمَهَا؟ فَإِنْ قِيلَ: سِتَّةُ دَنَانِيرَ، لِأَنَّهُ أَصْعَبُ النِّصْفَيْنِ، صَارَتْ مُسْتَوْفِيَةً لِأَكْثَرَ مِنْ حَقِّهَا فَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِالْفَاضِلِ وَهُوَ دِينَارٌ، وَإِنْ قِيلَ أُجْرَةُ النِّصْفِ الَّذِي عَلَّمَهَا أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ؛ لِأَنَّهُ أَخَفُّ النِّصْفَيْنِ صَارَتْ آخِذَةً أَقَلَّ مِنْ حَقِّهَا فَتَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْبَاقِي وَهُوَ دِينَارٌ.
فَأَمَّا إِذَا قِيلَ بِالْجَدِيدِ: إِنَّهَا تَرْجِعُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ سَقَطَ عَنْهُ مِنَ النِّصْفِ الَّذِي عَلَّمَهَا نِصْفُهُ وَهُوَ الرُّبُعُ، وَرَجَعَ عَلَيْهَا بِأُجْرَةِ مِثْلِ تَعْلِيمِ الرُّبُعِ، وَرَجَعَتْ عَلَيْهِ بِرُبُعِ مَهْرِ مِثْلِهَا.
وَإِنْ كَانَ قَدْ عَلَّمَهَا أَكْثَرَ مِنَ النِّصْفِ كَأَنَّهُ عَلَّمَهَا الثُّلُثَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مُتَسَاوِي الْأَجْزَاءِ: فَقَدِ اسْتَوْفَتْ بِالنِّصْفِ مِنْهُ حَقَّهَا وَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهَا بِأُجْرَةِ مِثْلِ الْبَاقِي وَهُوَ السُّدُسُ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ غَيْرُ مُتَسَاوِي الْأَجْزَاءِ تَرَتَّبَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ:
فَإِنْ قِيلَ بِالْقَدِيمِ:
إِنَّ الرُّجُوعَ يَكُونُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ، نُظِرَ أُجْرَةُ مِثْلِ التَّعْلِيمِ، فَإِذَا قِيلَ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ: نُظِرَ أُجْرَةُ مِثْلِ الثلثين الذي علمها. فَإِنْ كَانَتْ خَمْسَةَ دَنَانِيرَ فَقَدِ اسْتَوْفَتْ حَقَّهَا وَلَا تَرَاجُعَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَتْ سَبْعَةً رَجَعَ عَلَيْهَا بِدِينَارَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ أَرْبَعَةً رَجَعَتْ عَلَيْهِ بِدِينَارٍ وَإِنْ قِيلَ بِالْجَدِيدِ: إِنَّ الرُّجُوعَ يَكُونُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ سَقَطَ عَنْهُ مِنَ الصَّدَاقِ الثُّلُثُ، وَهُوَ نِصْفُ مَا عَلَّمَ وَرَجَعَ عَلَيْهَا بِأُجْرَةِ مِثْلِ الثُّلُثِ الْبَاقِي، وَرَجَعَتْ عَلَيْهِ بِتَمَامِ النِّصْفِ مِنْ صَدَاقِهَا وَهُوَ سُدُسُ مَهْرِ الْمِثْلِ.
وَإِنْ كَانَ قَدْ عَلَّمَهَا أَقَلَّ مِنَ النِّصْفِ كَأَنَّهُ عَلَّمَهَا الثُّلُثَ.
فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْقُرْآنَ مُتَسَاوِي الْأَجْزَاءِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُعَلِّمَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ فعليه أن يعلمها تمام النصف، وما اسْتَوْفَتْ.
وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مُتَسَاوِي الْأَجْزَاءِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَلِّمَهَا سَقَطَ عَنْهُ مِنَ الصَّدَاقِ بِقِسْطِ مَا عَلَّمَ وَهُوَ الثُّلُثُ، وَبَقِيَ لَهَا تَمَامُ النِّصْفِ وَهُوَ السُّدُسُ، فَتَرْجِعُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ الْقَدِيمِ بِالسُّدُسِ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ بِالسُّدُسِ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ.
وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مُتَسَاوِي الْأَجْزَاءِ تَرَتَّبَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الرُّجُوعَ يَكُونُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ، قُوِّمَتْ أُجْرَةُ الْجَمِيعِ عَلَى مَا وَصَفْنَا فَإِذَا(9/415)
قِيلَ: عَشْرَةٌ نُظِرَتْ أُجْرَةُ الثُّلُثِ، فَإِنْ قِيلَ: خَمْسَةٌ فَقَدِ اسْتَوْفَتْ، وَإِنْ قِيلَ: ثَلَاثَةٌ رَدَّ عَلَيْهَا دِينَارَيْنِ، وَإِنْ قِيلَ: سِتَّةٌ رَدَّتْ عَلَيْهِ دِينَارًا.
وَإِذَا قِيلَ: إِنَّ الرُّجُوعَ يَكُونُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ سَقَطَ عَنْهُ مِنَ الصَّدَاقِ نِصْفُ الثُّلُثِ وَهُوَ السُّدُسُ، وَرَجَعَ عَلَيْهَا بِأُجْرَةِ مِثْلِ السُّدُسِ الباقي، وَرَجَعَتْ عَلَيْهِ بِبَقِيَّةِ النِّصْفِ مِنَ الصَّدَاقِ وَهُوَ ثُلُثُ مَهْرِ الْمِثْلِ.
وَهَذَا الْكَلَامُ فِي أَحَدِ فصلي المسألة، وأرجو أن أَلَّا يَكُونَ قَدْ خَرَجَ بِنَا الِاسْتِيفَاءُ إِلَى الْإِغْمَاضِ.
فَصْلٌ
وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي مِنْهُمَا وَهُوَ: أَنْ يُصْدِقَهَا الْمَجِيءَ بِعَبْدِهَا الْآبِقِ ثُمَّ يُطَلِّقُهَا فَيَتَرَتَّبُ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الضَّرْبَيْنِ فِي صِحَّةِ الصَّدَاقِ وَفَسَادِهِ.
فَإِنْ كَانَ عَلَى الضَّرْبِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الصَّدَاقُ صَحِيحًا بِأَنْ يَكُونَ مَكَانُ الْعَبْدِ مَعْلُومًا فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ جاءها بالعبد الآبق أو لم يجيئها بِهِ.
فَإِنْ كَانَ قَدْ جَاءَهَا بِعَبْدِهَا فَلَا يَخْلُو حَالُ طَلَاقِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ.
فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ: فَقَدِ اسْتَكْمَلَتْهُ وَاسْتَوْفَتْهُ، فَلَا تَرَاجُعَ بَيْنَهُمَا.
وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهَا نصفه وقد استوفت جميعه له أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِ أُجْرَةِ مِثْلِ الْمَجِيءِ بِالْآبِقِ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ جَاءَهَا بِالْآبِقِ فَلَا يَخْلُو طَلَاقُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ.
فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَقَدِ اسْتَكْمَلَتْهُ وَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَهَا بِالْآبِقِ لِيُوَفِّيَهَا الصَّدَاقَ.
وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَجِيئَهَا بِالْآبِقِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ جَمِيعَ الصَّدَاقِ وَلَا يَتَبَعَّضُ فَيُؤْخَذُ بِنِصْفِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَفِيمَا تَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: هُوَ الْقَدِيمُ بِنِصْفِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ الْجَدِيدُ نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ.
وَإِنْ كَانَ عَلَى الضَّرْبِ الَّذِي يَكُونُ الصَّدَاقُ فِيهِ فَاسِدًا، بِأَنْ يَكُونَ مَكَانُ الْعَبْدِ مَجْهُولًا، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ قَدْ جَاءَهَا بِالْعَبْدِ أَوْ لَمْ يجيئها بِهِ.
فَإِنْ كَانَ قَدْ جَاءَهَا بِهِ فَلَا يَخْلُو طَلَاقُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ.
فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ كَانَ لَهَا أَنْ تَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ قَوْلًا واحداً لفساد الصداق، ويرجع عليها بِأُجْرَةِ مِثْلِ الْمَجِيءِ بِالْآبِقِ، فَإِنْ كَانَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ تَقَاضَاهُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَتَرَادَّا الْفَضْلَ إِنْ كَانَ.(9/416)
وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ رَجَعَتْ عَلَيْهِ بِنِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ وَرَجَعَ بِأُجْرَةِ مِثْلِ الْمَجِيءِ بِالْآبِقِ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ جَاءَهَا بِالْعَبْدِ الْآبِقِ حَتَّى طَلَّقَهَا، لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ طَلَاقُهُ بَعْدَ الدُّخُولِ فَتَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَلَا يُؤْخَذُ بِالْمَجِيءِ بِالْعَبْدِ، لِفَسَادِ الصَّدَاقِ فِيهِ، أَوْ يَكُونَ طَلَاقُهُ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَتَرْجِعُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ.
قَالَ الْمُزَنِيُّ هَهُنَا: أَوْ بِنِصْفِ أُجْرَةِ الْمَجِيءِ بِالْآبِقِ. وَمِنْ هَذَا التَّخْرِيجِ قِيلَ بِتَجْوِيزِهِ هَذَا الصَّدَاقَ وَهُوَ خَطَأٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ: الْقَوْلُ فِي التَّزْوِيجِ عَلَى خِيَاطَةِ ثَوْبٍ بِعَيْنِهِ
مَسْأَلَةٌ
قَالَ الْمُزَنِيُّ: " وَكَذَا لَوْ قَالَ نَكَحْتُ عَلَى خِيَاطَةِ ثوبٍٍ بعينه فهلك الثوب فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا وَهَذَا أَصَحُّ مِنْ قَوْلِهِ لَوْ مَاتَ رَجَعَتْ فِي مَالِهِ بِأَجْرِ مِثْلِهِ فِي تَعْلِيمِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَأَصْدَقَهَا خِيَاطَةَ ثَوْبٍ بِعَيْنِهِ، فَهَذَا يَجُوزُ إِذَا وُصِفَتِ الْخِيَاطَةُ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهِ إِجَارَةً فَإِنْ تَجَدَّدَ مَا يَمْنَعُ عَنْ خِيَاطَتِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بِتَلَفِ الثَّوْبِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِعُطْلَةِ الزَّوْجِ بِزَمَانَةٍ أَوْ عَمَى.
فَإِنْ تَلَفَ الثَّوْبُ فَفِي بُطْلَانِ الصَّدَاقِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الْمُزَنِيُّ هَهُنَا: أَنَّ الصَّدَاقَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ مُعَيَّنٌ فِي تَالِفٍ فَصَارَ كَمَا لَوْ أَصْدَقَهَا حَصَادَ زَرْعٍ فَهَلَكَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الصَّدَاقَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ مُسْتَوْفًى بِهِ الصَّدَاقُ وَلَيْسَ هُوَ الصَّدَاقَ فَصَارَ كَمَنِ اسْتَأْجَرَ دَارًا لِيَسْكُنَهَا أَوْ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا فَهَلَكَ قَبْلَ السُّكْنَى وَالرُّكُوبِ، لَمْ تَبْطُلِ الْإِجَارَةُ؛ لِهَلَاكِ مَنْ تُسْتَوْفَى بِهِ الْمَنْفَعَةُ، كَذَلِكَ تَلَفُ الثَّوْبِ قَبْلَ الْخِيَاطَةِ.
وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَنْ خَالَعَ زَوْجَتَهُ عَلَى رَضَاعِ وَلَدِهِ فَمَاتَ، هَلْ يَبْطُلُ بِمَوْتِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِأَنَّ الْوَلَدَ يُسْتَوْفَى بِهِ الرَّضَاعُ الْمُسْتَحَقُّ.
وَإِنْ تَعَطَّلَ الزَّوْجُ عَنِ الْخِيَاطَةِ بِعَمَى أَوْ بِزَمَانَةٍ مَعَ بَقَاءِ الثَّوْبِ فَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ فِي ذِمَّتِهِ لَزِمَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَقُومُ بِخِيَاطَتِهِ وَلَا يَبْطُلُ الصَّدَاقُ بِزَمَانَتِهِ.
وَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ مَعْقُودًا عَلَيْهِ فِي عَيْنِهِ بَطَلَ بِزَمَانَتِهِ وَعُطْلَتِهِ؛ لِأَنَّ الصَّدَاقَ مُسْتَوْفًى مِنْهُ، فَبَطَلَ بِتَلَفِهِ كَمَوْتِ الْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ، وَانْهِدَامِ الدَّارِ الْمُكْرَاةِ. فَصَارَ اسْتِيفَاءُ الصَّدَاقِ مُتَعَلِّقًا بِثَلَاثَةِ أَشْخَاصٍ: مُسْتَوْفًى لَهُ، وَمُسْتَوْفًى بِهِ، وَمُسْتَوْفًى مِنْهُ.
فَالْمُسْتَوْفَى لَهُ: هِيَ الزَّوْجَةُ، وَمَوْتُهَا لَا يُؤَثِّرُ فِي فَسَادِهِ.(9/417)
وَالْمُسْتَوْفَى مِنْهُ: هُوَ الزَّوْجُ، وَمَوْتُهُ مُؤَثِّرٌ فِي فَسَادِهِ.
وَالْمُسْتَوْفَى بِهِ: هُوَ الثَّوْبُ وَفِي فَسَادِ الصَّدَاقِ بِتَلَفِهِ وَجْهَانِ.
فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ. فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الصَّدَاقَ لَا يَبْطُلُ بِتَلَفِ الثَّوْبِ فَلَهَا أَنْ تَأْتِيَهُ بِثَوْبٍ مِثْلِهِ حَتَّى يَخِيطَهُ.
وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الصَّدَاقَ قَدْ بَطَلَ بِتَلَفِ الثَّوْبِ فَفِيمَا تَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْقَدِيمُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ الْجَدِيدُ مَهْرُ الْمِثْلِ.
فَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ عَلَى سَلَامَتِهِ وَالثَّوْبُ بَاقِيًا فَطَلَّقَهَا كَانَ كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا وَقَدْ أَصْدَقَهَا تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ فَيَكُونُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ.
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ خَاطَ لَهَا جَمِيعَ الثَّوْبِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الطَّلَاقِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ.
فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَقَدِ اسْتَكْمَلَتْهُ وَاسْتَوْفَتْهُ فَلَا تَرَاجُعَ بَيْنَهُمَا.
وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَقَدْ مَلَكَ الزَّوْجُ نِصْفَ الصَّدَاقِ، وَقَدِ اسْتَوْفَتْ جَمِيعَهُ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ أُجْرَةِ الْخِيَاطَةِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَلَّا يَكُونَ قَدْ خَاطَهُ وَلَا شَيْئًا مِنْهُ.
فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَعْدَ الدُّخُولِ أَخَذَ الزَّوْجُ بِخِيَاطَةِ الثَّوْبِ.
وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَإِنْ كَانَتْ خِيَاطَةُ الثَّوْبِ تَتَجَزَّأُ أَوْ تَتَبَعَّضُ أَخَذَ الزَّوْجُ بِخِيَاطَةِ نِصْفِهِ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَتَجَزَّأُ لَمْ يُؤْخَذْ بِخِيَاطَتِهِ، وَكَانَ فِيمَا يَلْزَمُهُ لَهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: نِصْفُ أُجْرَةِ الْمِثْلِ.
وَالثَّانِي: نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ خَاطَ بَعْضَهُ وَبَقِيَ بَعْضُهُ.
فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَعْدَ الدُّخُولِ أَخَذَ بِإِتْمَامِ خِيَاطَتِهِ.
وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهَا نِصْفُهُ، فَيُرَاعَى قَدْرُ مَا خَاطَهُ، وَحَالُ تَجْزِئَتِهِ وَتَبْعِيضِهِ، وَيُرَاعَى فِيهِ مَا رُوعِيَ فِي تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ مِنِ اعْتِبَارِ أَقْسَامِهِ الثَّلَاثَةِ فِي أَنَّ خِيَاطَةَ الْبَعْضِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ النِّصْفَ، أَوْ أَقَلَّ مِنَ النِّصْفِ، أَوْ أَكْثَرَ مِنَ النِّصْفِ، فَيُحْمَلُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ جَوَابُهُ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.(9/418)
صداق ما يزيد ببدنه وينقص من الجامع وغير ذلك من كتاب الصداق ونكاح القديم ومن اختلاف الحديث ومن مسائل شتى
مسألة
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَكُلُّ مَا أَصْدَقَهَا فَمَلَكَتْهُ بِالْعُقْدَةِ وَضَمِنَتْهُ بِالدَّفْعِ فَلَهَا زِيَادَتُهُ وَعَلَيْهَا نُقْصَانُهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: الزَّوْجَةُ مَالِكَةٌ لِجَمِيعِ الصَّدَاقِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ مَالِكٌ: قَدْ مَلَكَتْ بِالْعَقْدِ نِصْفَهُ وَبِالدُّخُولِ بَاقِيَهُ.
اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ يَكُنْ لَهَا إِلَّا نِصْفُهُ، وَلَوْ كَانَتْ مَالِكَةً لِجَمِيعِهِ مَا زَالَ مِلْكُهَا عَنْ نِصْفِهِ إِلَّا بِعَقْدٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لم تملك منه إلا النصف.
أو لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِلْكُ الصَّدَاقِ مُقَابِلًا لَمِلْكِ الْبُضْعِ لَتَسَاوَيَا فِي التَّأْجِيلِ وَالتَّنْجِيمِ حَتَّى يَجُوزَ تَأْجِيلُ الْبُضْعِ وَتَنْجِيمُهُ كَمَا يَجُوزُ فِي الصَّدَاقِ.
أَوْ لَا يَجُوزُ فِي الصَّدَاقِ كَمَا لَا يَجُوزُ فِي الْبُضْعِ، فَلَمَّا اخْتَصَّ الصَّدَاقُ بِجَوَازِ التَّأْجِيلِ وَالتَّنْجِيمِ دُونَ الْبُضْعِ اخْتَصَّ بِتَمْلِيكِ الْبَعْضِ وَإِنْ مَلَكَ جَمِيعَ الْبُضْعِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً) {النساء: 4) وَفِي ذَلِكَ دَلِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِضَافَةُ جَمِيعِ الصَّدَاقِ إِلَيْهِنَّ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مِلْكُ جَمِيعِهِ لَهُنَّ.
وَالثَّانِي: أَمْرُهُ بِدَفْعِ جَمِيعِهِ إِلَيْهِنَّ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهُ حَقًّا لَهُنَّ.
وَلِأَنَّ الزَّوْجَ قَدْ مَلَكَ بِالْعَقْدِ جَمِيعَ الْبُضْعِ فَوَجَبَ أَنْ تُمَلَّكَ عَلَيْهِ بالعقد جميع المهر، كما أن المشتري لها مَلَكَ بِالْعَقْدِ جَمِيعَ الْمَبِيعِ مَلَكَ عَلَيْهِ جَمِيعَ الثَّمَنِ.
وَيَتَحَرَّرُ مِنْهُ قِيَاسَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَقْدٌ تَضَمَّنَ بَدَلًا وَمُبْدَلًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِلْكُ الْبَدَلِ فِي مُقَابَلَةِ مِلْكِ الْمُبْدَلِ كَالْبَيْعِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَحَدُ بَدَلَيِ الْعَقْدِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا بِالْعَقْدِ كَالْبُضْعِ.
وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِجَمِيعِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَحَبْسُ نَفْسِهَا بِهِ إِنِ امْتَنَعَ وَأَنْ تَضْرِبَ بِجَمِيعِهِ مَعَ غُرَمَائِهِ إِنْ أَفْلَسَ، دَلَّ عَلَى أَنَّهَا مَالِكَةٌ لِجَمِيعِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ لَهَا حُقُوقُ الْمِلْكِ مَعَ عَدَمِ الْمِلْكِ.(9/419)
فَأَمَّا اسْتِرْجَاعُ الزَّوْجِ نِصْفَهُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ مَالِكَةً لِمَا اسْتَرْجَعَهُ كَمَا لَوِ ارْتَدَّتْ قَبْلَ الدُّخُولِ، أَوْ فَسَخَتْ نِكَاحَهُ بِعَيْبٍ اسْتَرْجَعَ جَمِيعَهُ وَلَمْ يَمْنَعْ أَنْ تَكُونَ مَالِكَةً لِمَا اسْتَرْجَعَهُ، وَكَمَا يَسْتَرْجِعُ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ إِذَا رَدَّ بِعَيْبٍ وَلَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ مَالِكًا لَهُ.
وَأَمَّا اخْتِلَافُ الصَّدَاقِ وَالْبُضْعِ فِي التَّأْجِيلِ وَالتَّنْجِيمِ فَلَا يَقْتَضِي اخْتِلَافَهُمَا فِي التَّمْلِيكِ كَمَا أَنَّ بُيُوعَ الْأَعْيَانِ يَجُوزُ التَّأْجِيلُ وَالتَّنْجِيمُ فِي أَثْمَانِهَا، وَلَا يَجُوزُ فِيهَا، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ تَسَاوِيهِمَا فِي أَنَّهُمَا قَدْ ملكا بنفس العقد.
فَصْلٌ: الْقَوْلُ فِي ضَمَانِ الزَّوْجِ لِلصَّدَاقِ وَقْتُ الضَّمَانِ وَنَوْعُهُ
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا مَالِكَةٌ لِجَمِيعِ الصَّدَاقِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى الزَّوْجِ حَتَّى تَقْبِضَهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ عَلَيْهِ بِعَقْدِ معاوضة، فوجب أن يكون مضموناً عليه كالمبيع.
وَإِذَا كَانَ مَضْمُونًا عَلَى الزَّوْجِ فَهُوَ مَضْمُونُ الْأَصْلِ، وَمَضْمُونُ النَّقْصِ.
فَأَمَّا ضَمَانُ الْأَصْلِ: فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ: هَلْ يُضْمَنُ بِمَا فِي مُقَابَلَتِهِ أَوْ بِهِ فِي نَفْسِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّهُ يُضْمَنُ بِمَا فِي مُقَابَلَتِهِ وَهُوَ الْبُضْعُ، وَلَيْسَ لِلْبُضْعِ مِثْلٌ فَضُمِنَ بِقِيمَتِهِ، وَقِيمَتُهُ مَهْرُ الْمِثْلِ، فَيَكُونُ الصَّدَاقُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَضْمُونًا عَلَى الزَّوْجِ إِنْ تَلَفَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ إِنَّهُ يَكُونُ مَضْمُونًا فِي نَفْسِهِ لَا بِمَا فِي مُقَابَلَتِهِ كَسَائِرِ الْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ الصَّدَاقُ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ كَالدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ وَالْبُرِّ، وَالشَّعِيرِ، ضَمِنَهُ بِمِثْلِهِ فِي جِنْسِهِ، وَنَوْعِهِ، وَصِفَتِهِ، وَقَدْرِهِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ كَالثِّيَابِ، وَالْعَبِيدِ وَالْمَوَاشِي، ضَمِنَهُ بِقِيمَتِهِ. وَفِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: ضَمَانُ عَقْدٍ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ يَوْمَ أَصْدَقَ.
وَالثَّانِي: ضَمَانُ غَصْبٍ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ أَكْثَرُ مَا كَانَتْ مِنْ حِينِ أَصْدَقَ إِلَى أَنْ تَلِفَ.
وَأَمَّا ضَمَانُ النَّقْصِ، فَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِاخْتِلَافِ حَالَيْهِ فِي تَمْيِيزِهِ وَاتِّصَالِهِ.
فَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ مُتَمَيِّزًا كَتَلَفِ أَحَدِ الثَّوْبَيْنِ، وَمَوْتِ أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ، ضَمِنَهُ ضَمَانَ الْأَصْلِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ.
وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَمَيِّزٍ: كَمَرَضِ الْعَبْدِ، وَإِخْلَاقِ الثَّوْبِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَضْمَنُهُ بِأَرْشِ النَّقْصِ، وَهَذَا عَلَى الْقَدِيمِ الَّذِي جَعَلَ تَلَفَ الْأَصْلِ مُوجِبًا لِضَمَانِ قِيمَتِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ ضَمَانَهُ لَهُ مُوجِبٌ لِخِيَارِ الزَّوْجَةِ، بَيْنَ أَنْ تُقِيمَ عَلَيْهِ بنقض أو تفسخ(9/420)
وَتَرْجِعَ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ. وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الْجَدِيدِ الَّذِي يَجْعَلُ تَلَفَ الْأَصْلِ مُوجِبًا لِمَهْرِ الْمِثْلِ.
فَصْلٌ: الْقَوْلُ فِي بَيْعِ الصَّدَاقِ قَبْلَ الْقَبْضِ
فَإِذَا اسْتَقَرَّ أَنَّ الْأَصْلَ مَضْمُونٌ عَلَى الزَّوْجِ بِمَا ذَكَرْنَا فَلَيْسَ لِلزَّوْجَةِ أَنَّ تُعَاوِضَ عَلَيْهِ قَبْلَ قَبْضِهِ، كَمَا لَا تُعَاوِضُ عَلَى مَا ابْتَاعَتْهُ قَبْلَ الْقَبْضِ.
الْقَوْلُ فِي النَّمَاءِ الحادث من الصداق من يَدِ الزَّوْجِ
وَإِنْ حَدَثَ مِنَ الصَّدَاقِ فِي يَدِ الزَّوْجِ نَمَاءٌ كَالنِّتَاجِ وَالثَّمَرَةِ، كَانَ جَمِيعُهُ مِلْكًا لِلزَّوْجَةِ؛ لِأَنَّهَا مَالِكَةٌ لِجَمِيعِ الْأَصْلِ.
وَعِنْدَ مَالِكٍ: أَنَّهَا مَالِكَةٌ لِنِصْفِهِ، لِأَنَّهَا عِنْدَهُ مَالِكَةٌ لِنِصْفِ الْأَصْلِ.
الْقَوْلُ فِي ضَمَانِ النَّمَاءِ
وَإِذَا كَانَتِ الزَّوْجَةُ مَالِكَةً لِجَمِيعِ النَّمَاءِ الْحَادِثِ فِي يَدِ الزَّوْجِ فَهَلْ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الزَّوْجِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ تَبَعًا لِأَصْلِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، وَيَكُونُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ تَنَاوَلَ الْأَصْلَ دُونَ النَّمَاءِ، فَأَوْجَبَ ضَمَانَ الْأَصْلِ دُونَ النَّمَاءِ.
الْقَوْلُ فِي ضَمَانِ الزَّوْجَةِ لِصَدَاقِهَا
وَإِذَا قَبَضَتِ الزَّوْجَةُ الصَّدَاقَ صَارَ جَمِيعُهُ مِنْ ضَمَانِهَا، وَكَانَ لَهَا جَمِيعُ مَا حَدَثَ فِيهِ مِنْ نَمَاءٍ.
وَقَالَ مَالِكٌ: تَضْمَنُ نِصْفَ الَّذِي مَلَكَتْهُ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ يَكُونُ فِي يَدِهَا أَمَانَةً لِلزَّوْجِ، وَلَا يَلْزَمُهَا ضَمَانُهُ، وَلَهُ نِصْفُ النَّمَاءِ.
وَبِنَاءُ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ.
فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ جِئْنَا إِلَى شَرْحِ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ.
قَالَ " وَكُلُّ مَا أَصْدَقَهَا فَمَلَكَتْهُ بِالْعَقْدِ وَضَمِنَتْهُ بِالدَّفْعِ فَلَهَا زِيَادَتُهُ وَعَلَيْهَا نُقْصَانُهُ ".
وَهَذِهِ جُمْلَةٌ اخْتَصَرَهَا الْمُزَنِيُّ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ الأم، فإن الشافعي بسطه فأحسن المزني اختصاره.
فقوله وَكُلُّ مَا أَصْدَقَهَا فَمَلَكَتْهُ بِالْعَقْدِ أَبَانَ عَنْ مذهبه أن الزَّوْجَةَ مَالِكَةٌ لِجَمِيعِ الصَّدَاقِ بِالْعَقْدِ، وَرَدَّ بِهِ قَوْلَ مَالِكٍ إِنَّهَا تَمْلِكُ نِصْفَهُ بِالْعَقْدِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَضَمِنَتْهُ بِالدَّفْعِ فَصَحِيحٌ لِأَنَّهُ قَبْلَ دَفْعِهِ إِلَيْهَا مَضْمُونٌ عَلَى الزَّوْجِ دُونَهَا. فَإِذَا دُفِعَ إِلَيْهَا سَقَطَ ضَمَانُهُ عَنِ الزَّوْجِ، وَصَارَ مَضْمُونًا عليها.(9/421)
وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَلَهَا زِيَادَتُهُ وَعَلَيْهَا نُقْصَانُهُ: فَنُقْصَانُهُ لَا يَكُونُ عَلَيْهَا إِلَّا إِذَا دُفِعَ إِلَيْهَا، وَإِلَّا فَهُوَ عَلَى الزَّوْجِ دُونَهَا. وَأَمَّا زِيَادَتُهُ فَهِيَ لَهَا قَبْلَ الدَّفْعِ وَبَعْدَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ جَمَعَ بَيْنَ زِيَادَتِهِ وَنُقْصَانِهِ فِي أَنْ جَعَلَ ضَمَانَهَا بِالدَّفْعِ مُوجِبًا لَهَا، وَهَذَا الشَّرْطُ يَصِحُّ فِي النُّقْصَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ عَلَيْهَا إِلَّا إِذَا ضَمِنَتْهُ بِالدَّفْعِ، أَمَّا الزِّيَادَةُ فَلَا يَصِحُّ هَذَا الشَّرْطُ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا لَهَا قَبْلَ دَفْعِهِ إِلَيْهَا وَبَعْدَهُ.
فَعَنْ هَذَا ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ جَعْلَ ذَلِكَ لَهَا بَعْدَ الدَّفْعِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ لَهَا قَبْلَ الدَّفْعِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، وَتَقْدِيرُهُ: وَكُلُّ مَا أَصْدَقَهَا فَمَلَكَتْهُ بِالْعَقْدِ فَلَهَا زِيَادَتُهُ، فَإِذَا ضَمِنَتْهُ بِالدَّفْعِ فَعَلَيْهَا نُقْصَانُهُ، وَمِثْلُ هَذَا يَجُوزُ إِذَا دَلَّ عَلَيْهِ وَضْعُ الْخِطَابِ، أَوْ شَوَاهِدُ الْأُصُولِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى نَسَقِهِ صَحِيحٌ، وَالشَّرْطُ فِي حُكْمِهِ مُعْتَبَرٌ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ الْحَادِثَةَ بَعْدَ الدَّفْعِ تَمْلِكُهَا مِلْكًا مُسْتَقِرًّا وَقَبْلَ الدَّفْعِ تَمْلِكُهَا غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَتْلَفَ الصَّدَاقُ فِي يَدِ الزَّوْجِ فَيَزُولُ مِلْكُهَا عَنِ الزِّيَادَةِ إِنْ قِيلَ: إِنَّهَا تَرْجِعُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فَصَارَ الدَّفْعُ شَرْطًا فِي اسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ فَصَحَّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مسألة
قال الشافعي: " فَإِنْ أَصْدَقَهَا أَمَةً أَوْ عَبْدًا صَغِيرَيْنِ فَكَبِرَا أَوْ أَعْمَيَيْنِ فَأَبْصَرَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فعليها نصف قيمتها يَوْمَ قَبَضَهُمَا إِلَّا أَنْ تَشَاءَ دَفْعَهُمَا زَائِدَيْنِ فَلَا يَكُونُ لَهُ إِلَّا ذَلِكَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ غَيَّرَتْهُمَا بِأَنْ يَكُونَا كَبِرَا كِبَرًا بَعِيدًا فَالصَّغِيرُ يَصْلُحُ لِمَا لَا يَصْلُحُ لَهُ الْكَبِيرُ فَيَكُونُ لَهُ نِصْفُ قِيمَتِهِمَا وَإِنْ كَانَا نَاقِصَيْنِ فَلَهُ نِصْفُ قِيمَتِهِمَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ أَنْ يَأْخُذَهُمَا نَاقِصَيْنِ فَلَيْسَ لَهَا مَنْعُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَا يَصْلُحَانِ لِمَا لَا يَصْلُحُ لَهُ الصَّغِيرُ فِي نَحْوِ ذَلِكَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا سَمَّى لِزَوْجَتِهِ صَدَاقًا ثُمَّ طَلَّقَهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ سلم الصداق إليها.
والثاني: أن لا يَكُونَ قَدْ سَلَّمَهُ إِلَيْهَا.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ سَلَّمَهُ إِلَيْهَا حَتَّى طَلَّقَهَا فَهُوَ عَلَى ضربين:
أحدهما: بيان الضرب الأول.
أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ كَمُسَمًّى مِنْ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ. أَوْ مَوْصُوفًا مِنْ بُرٍّ أَوْ شَعِيرٍ فَلَا يَخْلُو طَلَاقُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ.
فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَقَدِ اسْتَحَقَّتْ جَمِيعَهُ، وَاسْتَقَرَّ مِلْكُهَا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِشَيْءٍ مِنْهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍْ} (النساء: 21) .(9/422)
وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ أُبْرِئَ مِنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}
وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَعْنَاهُ فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ لَكُمْ يَرْجِعُ إِلَيْكُمْ بِالطَّلَاقِ، وَهَذَا تَأْوِيلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا قَدْ مَلَكَتْ جَمِيعَ الصَّدَاقِ بِالْعَقْدِ.
وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ لِلزَّوْجَاتِ لَا يُمَلَّكْنَ أَكْثَرَ مِنْهُ، هَذَا تَأْوِيلُ مَنْ قَالَ إِنَّهَا لَا تَمْلِكُ بِالْعَقْدِ إِلَّا نِصْفَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الصَّدَاقِ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَالًّا، أَوْ مُؤَجَّلًا، أَوْ مُنَجَّمًا.
فَإِنْ كَانَ حَالًّا سَاقَ إِلَيْهَا نِصْفَهُ، وَقَدْ بَرِئَ مِنْ جَمِيعِهِ.
وَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا: فَعَلَيْهِ إِذَا حَلَّ الْأَجَلُ أَنْ يَسُوقَ إِلَيْهَا النِّصْفَ، وَقَدْ بَرِئَ مِنَ الْكُلِّ، وَلَا يَحُلُّ قَبْلَ أَجَلِهِ إِلَّا بِمَوْتِهِ.
وَإِنْ كَانَ مُنَجَّمًا: بَرِئَ مِنْ نِصْفِهِ عَلَى التَّنْجِيمِ، وَكَانَ النِّصْفُ بَاقِيًا لَهَا إِلَى نُجُومِهِ.
فَلَوْ كَانَ إِلَى نَجْمَيْنِ فَحَلَّ أَحَدُهُمَا وَقْتَ الطَّلَاقِ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَتَعَجَّلَ النِّصْفَ فِي الْحَالِ فَيُسْتَضَرَّ، وَلَا أَنْ يُؤَخِّرَ بِهِ إِلَى النِّصْفِ الْمُؤَجَّلِ فَتُسْتَضَرَّ الزَّوْجَةُ، وَيَبْرَأُ الزَّوْجُ مِنْ نِصْفِ الْحَالِّ، وَنِصْفِ الْمُؤَجَّلِ، وَتَأْخُذُ الزَّوْجَةُ نِصْفَ الْحَالِّ وَتَصْبِرُ بِنِصْفِ الْمُؤَجَّلِ حَتَّى يَحُلَّ.
فَصْلٌ
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الصَّدَاقُ عَيْنًا مَعْلُومَةً كَالْإِمَاءِ، وَالْعَبِيدِ، وَالْمَوَاشِي، وَالشَّجَرِ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ وَقْتَ الطَّلَاقِ مِنْ أَحَدِ خَمْسَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا بِحَالِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ تَلِفَ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ زَادَ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ نَقَصَ.
وَالْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ زَادَ من وجه ونقص من وجه.
الْقِسْمِ الْأَوَّلِ
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا بِحَالِهِ لَمْ يَزِدْ وَلَمْ يَنْقُصْ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الطَّلَاقِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ.
فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدخول فقد استقر لها جميعه، وعليه تسلميه إِلَيْهَا كَامِلًا.
وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ مَلَكَ الزَّوْجُ نِصْفَهُ.
وَبِمَاذَا يَصِيرُ مَالِكًا؟ فِيهِ قَوْلَانِ:(9/423)
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ مَلَكَ بِالطَّلَاقِ نِصْفَ الصَّدَاقِ، سَوَاءٌ اخْتَارَ تَمَلُّكَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَخْتَرْهُ، كَمَا أَنَّ الْمُشْتَرِي إِذَا رَدَّ بِالْعَيْبِ مَلَكَ بِالرَّدِّ جَمِيعَ الثَّمَنِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: إِنَّهُ مَلَكَ بِالطَّلَاقِ أَنْ يَتَمَلَّكَ نِصْفَ الصَّدَاقِ كَالشَّفِيعِ الَّذِي مَلَكَ بِالشُّفْعَةِ أَنْ يَتَمَلَّكَ. فَإِذَا اخْتَارَ الزَّوْجُ أَنْ يَتَمَلَّكَ نِصْفَ الصَّدَاقِ صَارَ بِالِاخْتِيَارِ لَا بِالطَّلَاقِ.
فَإِذَا صَارَ الزَّوْجُ مَالِكًا لِلنِّصْفِ إِمَّا بِالطَّلَاقِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَوْ بِالِاخْتِيَارِ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي صَارَا شَرِيكَيْنِ فِيهِ. فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُقْسَمُ كَانَا فِيهِ عَلَى الْخُلْطَةِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُقَسَّمُ جَبْرًا فَأَيُّهُمَا طَلَبَهَا أُجِيبَ إِلَيْهَا. وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُقَسَّمُ إِلَّا صُلْحًا فَأَيُّهُمَا امْتَنَعَ مِنْهَا أُقِرَّ عَلَيْهَا.
فَصْلٌ: الْقِسْمِ الثَّانِي
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الصَّدَاقُ قَدْ تَلِفَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أحدهما: إيضاح الضرب الأول
أَنْ يُتْلَفَ قَبْلَ أَنْ يَحْدُثَ مِنْهُ نَمَاءٌ كَعَبْدٍ مَاتَ، أَوْ دَابَّةٍ نَفَقَتْ، فَفِيمَا تَسْتَحِقُّهُ الزَّوْجَةُ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْجَدِيدُ: مَهْرُ الْمِثْلِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الصَّدَاقُ تَالِفًا عَلَى مِلْكِ الزَّوْجِ، سَوَاءٌ تَلِفَ بِحَادِثِ سَمَاءٍ، أَوْ جِنَايَةِ آدَمِيٍّ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الطَّلَاقِ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهَا نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ.
وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَهَا جَمِيعُهُ، وَيُعْتَبَرُ بِهِ مَهْرُ مِثْلِهَا وَقْتَ الْعَقْدِ، لَا وَقْتَ الطَّلَاقِ، وَلَا وَقْتَ تَلَفِ الصَّدَاقِ؛ لِأَنَّ تَلَفَ الصَّدَاقِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ مَهْرِ الْمِثْلِ بِالْعَقْدِ دُونَ الطَّلَاقِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْقَدِيمُ: إِنَّهَا تَرْجِعُ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ الصَّدَاقِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الصَّدَاقُ تَالِفًا عَلَى مِلْكِهَا.
وَلَا يَخْلُو حَالُ تَلَفِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِحَادِثِ سماء أو بجناية مِنْهُ، أَوْ بِجِنَايَةٍ مِنْ أَجْنَبِيٍّ.
فَإِنْ كَانَ بِحَادِثِ سَمَاءٍ: فَفِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُهُ ضَمَانَ عَقْدٍ، فَعَلَى هَذَا عَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ أَصْدَقَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: ضَمَانُ غَصْبٍ، فَعَلَى هَذَا عَلَيْهِ قِيمَتُهُ أَكْثَرُ مَا كَانَ قِيمَتُهُ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ أَوْ وَقْتِ التَّلَفِ.
وَإِنْ كَانَ تَلَفُهُ بِجِنَايَةٍ مِنْهُ: فَإِنْ قِيلَ إِنَّ ضَمَانَهُ غَصْبٌ ضَمِنَهُ بِأَكْثَرِ قِيمَتِهِ فِي الْأَحْوَالِ كلها.
وإن قيل إن ضمانه عَقْدٍ فَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْقِيمَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ أَوْ وَقْتِ التَّلَفِ قَوْلًا(9/424)
وَاحِدًا لِأَنَّهُ إِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ وَقْتَ الْعَقْدِ أَكْثَرَ فَهِيَ مَضْمُونَةٌ عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ، وَإِنْ كَانَتْ وَقْتَ التَّلَفِ أَكْثَرَ فَهِيَ مَضْمُونَةٌ عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ، وَلَا يَضْمَنُ زِيَادَتَهُ فِيمَا بَيْنَ الْعَقْدِ وَالْجِنَايَةِ.
وإن كان تلفه بجناية أجبي.
فَلَا تَخْلُو قِيمَتُهُ وَقْتَ الْعَقْدِ وَوَقْتَ الْجِنَايَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَا سَوَاءً.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ وَقْتَ الْعَقْدِ أَكْثَرَ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ وَقْتَ الْجِنَايَةِ أَكْثَرَ.
فَإِنِ اسْتَوَتْ قِيمَتُهُ فِي الْحَالَيْنِ كَعَبْدٍ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقْتَ الْعَقْدِ وَوَقْتَ الْجِنَايَةِ، فَالزَّوْجُ ضَامِنٌ لَهَا فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ بِالْعَقْدِ، وَالْجَانِي ضَامِنٌ لَهَا فِي حَقِّ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ بِالْجِنَايَةِ وَلِلزَّوْجَةِ الْخِيَارُ فِي مُطَالَبَةِ الزَّوْجِ بِهَا أَوِ الْجَانِي.
فَإِنْ طَالَبَتِ الزَّوْجَ بِهَا وَكَانَ الطَّلَاقُ بَعْدَ الدُّخُولِ دَفَعَ إِلَيْهَا جَمِيعَ الْقِيمَةِ، وَرَجَعَ عَلَى الْجَانِي بِجَمِيعِ الْقِيمَةِ.
وَإِنْ أَرَادَتِ الزَّوْجَةُ فِي الِابْتِدَاءِ أَنْ تُطَالِبَ بِهَا الْجَانِي دُونَ الزَّوْجِ كَانَ لَهَا ذَلِكَ.
فَإِنْ كَانَ طَلَاقُهَا بَعْدَ الدخول رجعت عليها بِجَمِيعِ الْقِيمَةِ وَبَرِئَا مِنْ حَقِّهَا وَبَرِئَ الْجَانِي مِنْ حَقِّهِمَا.
وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ رَجَعَتْ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ وَبَرِئَ الزَّوْجُ وَالْجَانِي مِنْ حَقِّهَا، وَرَجَعَ الزَّوْجُ عَلَى الْجَانِي بِبَاقِي الْقِيمَةِ وَهُوَ النِّصْفُ الَّذِي مَلَكَهُ الزَّوْجُ بِطَلَاقِهِ.
وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الصَّدَاقِ وَقْتَ الْعَقْدِ أَكْثَرَ مِنْهَا وَقْتَ الْجِنَايَةِ كَأَنَّهُ عَبْدٌ قِيمَتُهُ وَقْتَ الْعَقْدِ أَلْفٌ وَوَقْتَ الْجِنَايَةِ خَمْسُمِائَةٍ. فَالْجَانِي ضَامِنٌ بِخَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّهَا قِيمَتُهُ وَقْتَ جِنَايَتِهِ، وَالزَّوْجُ ضَامِنٌ لِجَمِيعِ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّهَا قِيمَتُهُ وَقْتَ عَقْدِهِ.
فَإِنْ كَانَ طَلَاقُهَا بَعْدَ الدُّخُولِ كَانَتْ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ تَرْجِعَ عَلَى الزَّوْجِ فَتَرْجِعُ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ الْأَلْفِ وَقَدِ اسْتَحَقَّتْهُ وَيَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَى الْجَانِي بِخَمْسِمِائَةٍ، وَبَيْنَ أَنْ تَرْجِعَ عَلَى الْجَانِي بِخَمْسِمِائَةٍ وَعَلَى الزَّوْجِ بِخَمْسِمِائَةٍ وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْجَانِي بِشَيْءٍ.
وَإِنْ كَانَ طَلَاقُهَا قَبْلَ الدُّخُولِ: كَانَتْ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ تَرْجِعَ عَلَى الزَّوْجِ بِنِصْفِ الْأَلْفِ وَهِيَ خَمْسُمِائَةٍ وَيَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَى الْجَانِي بِخَمْسِمِائَةٍ وَتَكُونُ الْخَمْسُمِائَةِ الَّتِي هل فَاضِلُ الْقِيمَةِ الْمَضْمُونَةِ عَلَى الزَّوْجِ فِي مُقَابَلَةِ مَا اسْتَحَقَّهُ مِنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ، وَبَيْنَ أَنْ تَرْجِعَ عَلَى الْجَانِي بِالْخَمْسِمِائَةِ كُلِّهَا وَقَدِ اسْتَحَقَّتْ بِهَا نِصْفَ قِيمَةِ صَدَاقِهَا وَقْتَ الْعَقْدِ وَيَكُونُ مَا ضَمِنَهُ مِنْ فَاضَلِ الْقِيمَةِ فِي مُقَابَلَةِ مَا اسْتَحَقَّهُ بِطَلَاقِهِ.
وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الصَّدَاقِ وَقْتَ الْجِنَايَةِ أَكْثَرَ كَأَنَّهُ عَبْدٌ قِيمَتُهُ وَقْتَ الْعَقْدِ خَمْسُمِائَةٍ وَوَقْتَ الْجِنَايَةِ أَلْفٌ فَالْجَانِي ضَامِنٌ لِلْأَلْفِ وَفِيمَا يَضْمَنُهُ الزَّوْجُ قَوْلَانِ:(9/425)
أَحَدُهُمَا: خَمْسُمِائَةٍ إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ يَضْمَنُهُ ضَمَانَ عَقْدٍ.
وَالثَّانِي: أَلْفٌ إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ يَضْمَنُهُ ضَمَانَ غَصْبٍ.
فَإِذَا قِيلَ: إِنَّ الزَّوْجَ يَضْمَنُ جَمِيعَ الْأَلْفِ ضَمَانَ الْغَصْبِ كَانَتْ مُخَيَّرَةً إِنْ كَانَ طَلَاقُهَا بَعْدَ الدُّخُولِ فِي رُجُوعِهَا بِالْأَلْفِ عَلَى مَنْ شَاءَتْ مِنَ الزَّوْجِ أَوِ الْجَانِي، ثُمَّ (الْكَلَامُ فِي التَّرَاجُعِ) عَلَى مَا مَضَى.
وَإِنْ كَانَ طَلَاقُهَا قَبْلَ الدُّخُولِ رَجَعَتْ بِنِصْفِ الْأَلْفِ عَلَى مَنْ شَاءَتْ مِنْهُمَا، فَإِنْ رَجَعَتْ بِهَا عَلَى الزَّوْجِ، رَجَعَ الزَّوْجُ عَلَى الْجَانِي بِالْأَلْفِ كُلِّهَا، وَإِنْ رَجَعَتْ بِهَا عَلَى الْجَانِي، رَجَعَ الزَّوْجُ عَلَى الْجَانِي بِخَمْسِمِائَةٍ بَقِيَّةِ الْأَلْفِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الزَّوْجَ يَضْمَنُ خَمْسَمِائَةٍ ضَمَانَ الْعَقْدِ نُظِرَ.
فَإِنْ كَانَ طَلَاقُهَا بَعْدَ الدُّخُولِ فَإِنْ شَاءَتِ الرُّجُوعَ عَلَى الْجَانِي رَجَعَتْ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ الْأَلْفِ وَقَدْ بَرِئَ، وَإِنْ شَاءَتِ الرُّجُوعَ عَلَى الزَّوْجِ لَمْ تَرْجِعْ عَلَيْهِ إِلَّا بِخَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْ أَكْثَرَ مِنْهَا، وَرَجَعَتْ عَلَى الْجَانِي بِخَمْسِمِائَةٍ بَقِيَّةِ الْأَلْفِ وَرَجَعَ الزَّوْجُ عَلَى الْجَانِي بِالْخَمْسِمِائَةِ الْبَاقِيَةِ مِنَ الْأَلْفِ.
وَإِنْ كَانَ طَلَاقُهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، فَإِنْ شَاءَتِ الرُّجُوعَ عَلَى الْجَانِي رَجَعَتْ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الْأَلْفِ، وَرَجَعَ الزَّوْجُ عَلَيْهِ بِخَمْسِمِائَةٍ بَقِيَّةِ الْأَلْفِ، وَإِنْ شَاءَتِ الرُّجُوعَ عَلَى الزَّوْجِ لَمْ تَرْجِعْ عَلَيْهِ إِلَّا بِنِصْفِ الْخَمْسِمِائَةِ، وَرَجَعَتْ عَلَى الْجَانِي بِمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ بَقِيَّةِ نِصْفِ الْأَلْفِ، وَرَجَعَ الزَّوْجُ عَلَى الْجَانِي بِسَبْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ بَقِيَّةِ الْأَلْفِ.
إِيضَاحُ الضَّرْبِ الثَّانِي
وَالضَّرْبُ الثَّانِي فِي الْأَصْلِ: أَنْ يَكُونَ قَدْ حَدَثَ مِنَ الصَّدَاقِ قَبْلَ تَلَفِهِ نَمَاءٌ، كَوَلَدِ أَمَةٍ، وَنِتَاجِ مَاشِيَةٍ، فَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِمَا تَرْجِعُ بِهِ الزَّوْجَةُ مِنْ بَدَلِ الصَّدَاقِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا تَرْجِعُ عَلَى الزَّوْجِ بِقِيمَتِهِ فَالنَّمَاءُ لَهَا لِحُدُوثِهِ عَنْ مِلْكِهَا.
وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا تَرْجِعُ عَلَى الزَّوْجِ بِمَهْرِ مِثْلِهَا فَفِي النَّمَاءِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لِلزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ عِنْدَ تَلَفِهِ إِلَى بَدَلِ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ مُوجِبٌ لِرَفْعِهِ مِنْ أصله كأنها لَمْ تَمْلِكْهُ فَلَمْ تَمْلِكْ نَمَاءَهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لِلزَّوْجَةِ؛ لِأَنَّهُ حَدَثَ عَنْ أَصْلٍ كَانَ في ملكها إلى وَقْتَ التَّلَفِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَسْتَحْدِثَ الزَّوْجُ مِلْكَهُ بَعْدَ التَّلَفِ.
فَصْلٌ: الْقِسْمُ الثَّالِثُ
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الصَّدَاقُ قَدْ زَادَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
إِيضَاحُ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ
أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ مُنْفَصِلَةً كَوَلَدِ الْأَمَةِ، وَنِتَاجِ الْمَاشِيَةِ، فَلَهَا إِنْ طُلِّقَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ أَنْ(9/426)
تَأْخُذَ جَمِيعَ الصَّدَاقِ، وَجَمِيعَ النَّمَاءِ، وَإِنْ طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ أَنْ تَأْخُذَ نِصْفَ الصَّدَاقِ وَجَمِيعَ النَّمَاءِ؛ لِحُدُوثِهِ عَنْ أَصْلٍ كَانَتْ مَالِكَةً لِجَمِيعِهِ.
وعنه مالك تأخذ نصف الأصل ونصف النماء.
إيضاح الضرب الثاني
وَالضَّرْبُ الثَّانِي أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ مُتَّصِلَةً، كَسِمَنِ الْمَهْزُولِ، وَبُرْءِ الْمَرِيضِ، وَتَعَلُّمِ الْقُرْآنِ، فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَهَا أَنْ تَأْخُذَ جَمِيعَ الصداق زائداً.
وإن كان قبل الدخول؛ فهي بالخيار بين أن تعطي الزوج نصفه زائداً أو تأخذ نصفه وبين أن تعدل بِهِ إِلَى نِصْفِ الْقِيمَةِ يَوْمَ أَصْدَقَ لِيَكُونَ جَمِيعُ الصَّدَاقِ لَهَا؛ لِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةً تَخْتَصُّ بِمِلْكِهَا دُونَ الزَّوْجِ لَا تَتَمَيَّزُ عَنِ الْأَصْلِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لِلزَّوْجِ أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَهُ بِزِيَادَتِهِ، لأنه الزِّيَادَةَ الَّتِي لَا تَتَمَيَّزُ تَكُونُ تَبَعًا لِلْأَصْلِ: كَالْمُفْلِسِ إِذَا زَادَ الْمَبِيعُ فِي يَدِهِ غَيْرَ متميزة، كان للبائع أن يرجع مع زِيَادَتَهُ.
قِيلَ: قَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا، وَالْجَمْعِ بَيْنَ حُكْمَيْهِمَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ وَأَبِي إِسْحَاقَ: إِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ إِذَا اسْتَوَيَا فِي مَعْنَاهُ.
وَذَلِكَ أَنَّ الْمُفْلِسَ إِنَّمَا رَجَعَ الْبَائِعُ مَعَهُ بِعَيْنِ مَالِهِ زَائِدًا؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ بِبَدَلِهِ وَهُوَ الثَّمَنُ لِأَجْلِ الْفَلَسِ، فَجَازَ أَنْ يَرْجِعَ بِالْعَيْنِ زَائِدَةً.
وَلَوْ لَمْ يَتَعَذَّرْ عَلَيْهِ الْبَدَلُ لَمَا رَجَعَ بِالْعَيْنِ، وَفِي الصَّدَاقِ لَيْسَ يَتَعَذَّرُ عَلَى الزَّوْجِ الرُّجُوعُ بِالْبَدَلِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِالْعَيْنِ زَائِدَةً، وَلَوْ تَعَذَّرَ عليه الرجوع بِالْبَدَلِ لِفَلَسِ الزَّوْجَةِ لَرَجَعَ بِالْعَيْنِ زَائِدَةً.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا: إِنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ فِي الْحُكْمِ فَيَكُونُ لِلْبَائِعِ إِذَا أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ بِعَيْنِ مَالِهِ زَائِدًا، وَلَا يَكُونُ لِلزَّوْجِ إِذَا طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِ الصَّدَاقِ زَائِدًا سَوَاءً كَانَتِ الزَّوْجَةُ مُفْلِسَةً أَوْ مُوسِرَةً.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبَائِعَ فِي الْفَلَسِ يَرْجِعُ بِفَسْخٍ قَدْ رَفَعَ الْعَقْدَ مِنْ أَصِلِهِ فَجَازَ أَنْ يَرْجِعَ بِالزِّيَادَةِ لِحُدُوثِهَا بَعْدَ الْعَقْدِ الْمَرْفُوعِ. وَالزَّوْجُ إِنَّمَا يَرْجِعُ بِطَلَاقٍ حَدَثَ بَعْدَ الزِّيَادَةِ لَمْ يَرْفَعِ الصَّدَاقَ مِنْ أَصْلِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِالزِّيَادَةِ لِتَقَدُّمِهَا قَبْلَ الطَّلَاقِ الْحَادِثِ.
وَالْفَرْقُ الثَّانِي: أَنَّ الزَّوْجَ مَتْهُومٌ لَوْ جُعِلَتْ لَهُ الزِّيَادَةُ أَنْ يَكُونَ قَدْ طَلَّقَهَا رَغْبَةً فِيمَا حَدَثَ مِنْ زِيَادَةِ صَدَاقِهَا فَمُنِعَ مِنْهَا وَلَيْسَ الْبَائِعُ مَتْهُومًا فِي فَلَسِ الْمُشْتَرِي فَلَمْ يُمْنَعْ مِنَ الزِّيَادَةِ وَاللَّهُ أعلم.(9/427)
فَصْلٌ: الْقِسْمُ الرَّابِعُ
وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الصَّدَاقُ قَدْ نَقَصَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِيضَاحُ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ
أَنْ يَكُونَ النُّقْصَانُ مُتَمَيِّزًا كَعَبْدَيْنِ مَاتَ أَحَدُهُمَا، أَوْ صُبْرَةِ طَعَامٍ تَلِفَ بَعْضُهَا، فَلَا يَخْلُو حَالُ الطَّلَاقِ مِنْ أَنْ يَكُونَ بعد الدخول أو قبله.
فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَقَدِ اسْتَكْمَلَتْ بِهِ جَمِيعَ الصَّدَاقِ، وَقَدْ تَلِفَ بَعْضُهُ فَيَنْبَنِي جَوَابُهُ عَلَى مَا نَقُولُهُ فِي الرُّجُوعِ بِبَدَلِ التَّالِفِ وَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْقَدِيمُ: إِنَّهَا تَرْجِعُ بِقِيمَةِ مَا تَلِفَ، فَعَلَى هَذَا لَا يَبْطُلُ الصداق في التالف ولا في الباقين وَتَرْجِعُ بِعَيْنِ مَا بَقِيَ وَبِقِيمَةِ التَّالِفِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ، وَبِمِثْلِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ، وَلَا خِيَارَ لَهَا فِي مُقَامٍ وَلَا فَسْخٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ الْجَدِيدُ: إِنَّ الرُّجُوعَ عِنْدَ التَّلَفِ يَكُونُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ. فَعَلَى هَذَا قَدْ بَطَلَ الصَّدَاقُ فِيمَا تَلِفَ، وَصَحَّ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِيمَا سَلِمَ. فَلَا وَجْهَ لِمَنْ خَرَّجَ فِيهِ مِنْ أَصْحَابِنَا قَوْلًا ثَانِيًا مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ أَنَّهُ بَاطِلٌ فِي السَّالِمِ لِبُطْلَانِهِ فِي التَّالِفِ، لِأَنَّ الصَّفْقَةَ لَمْ تَتَفَرَّقْ فِي حَالِ الْعَقْدِ وَإِنَّمَا تَفَرَّقَتْ بَعْدَ صِحَّةِ الْعَقْدِ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالزَّوْجَةُ بِالْخِيَارِ لِأَجْلِ مَا تَلِفَ بَيْنَ أَنْ تُقِيمَ عَلَى الْبَاقِي أَوْ تَفْسَخَ، فَإِنْ فَسَخَتْ رَجَعَتْ عَلَى الزَّوْجِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَعَادَ الْبَاقِي مِنَ الصَّدَاقِ إِلَى مِلْكِ الزَّوْجِ.
وَإِنْ أَقَامَتْ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا تُقِيمُ عَلَيْهِ بِحِسَابِهِ مِنَ الصَّدَاقِ، وَقِسْطِهِ، وَتَرْجِعُ بِقِسْطِ مَا بَقِيَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ.
فَإِنْ كَانَ التَّالِفُ النِّصْفَ رَجَعَتْ بِنِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ وَإِنْ كَانَ الثُّلُثَ رَجَعَتْ بِثُلُثَيْهِ، وَلَا وَجْهَ لِمَنْ خَرَّجَ فِيهِ مِنْ أَصْحَابِنَا قَوْلًا ثَانِيًا إِنَّهَا تُقِيمُ عَلَى الْبَاقِي بِجَمِيعِ الصَّدَاقِ اعْتِبَارًا بِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فِي حَالِ الْعَقْدِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا اقْتَرَنَ بِالْعَقْدِ وَبَيْنَ مَا حَدَثَ بَعْدَ صِحَّةِ الْعَقْدِ.
وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُتَمَاثِلَ الْأَجْزَاءِ كَالْحِنْطَةِ، فَلَهَا أَنْ تَأْخُذَ مِنَ الْبَاقِي نِصْفَ الْجَمِيعِ وَلَا خِيَارَ لَهَا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُخْتَلِفَ الْأَجْزَاءِ كَعَبْدَيْنِ مَاتَ أَحَدُهُمَا فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَأْخُذُ نِصْفَ جَمِيعِ الْعَبْدِ الْبَاقِي إِذَا تَسَاوَتْ قِيمَتُهُمَا، فَعَلَى هَذَا لَا خِيَارَ لَهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَأْخُذُ نِصْفَ الْبَاقِي، وَفِيمَا تَرْجِعُ بِبَدَلِهِ مِنْ نِصْفِ التَّالِفِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَرْجِعُ بِقِيمَةِ نِصْفِ التَّالِفِ وَهُوَ الْقَدِيمُ فَعَلَى هَذَا لَا خِيَارَ لها.(9/428)
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَرْجِعُ بِقِسْطِ ذَلِكَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ فَتَصِيرُ مُسْتَوْفِيَةً لِلنِّصْفِ مِنْ صَدَاقِ مَهْرِ الْمِثْلِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لَهَا الْخِيَارُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ أَنْ تَفَسَخَ وَتَرْجِعَ بِنِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ فَهَذَا حُكْمُ النُّقْصَانِ إِذَا كَانَ مُتَمَيِّزًا.
إيضاح بيان الضرب الثاني
وَالضَّرْبُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ النُّقْصَانُ غَيْرَ مُتَمَيِّزٍ كَالْعَبْدِ إِذَا كَانَ سَمِينًا فَهَزَلَ، أَوْ صَحِيحًا فَمَرِضَ، أَوْ بَصِيرًا فَعَمِيَ، فَلَهَا الْخِيَارُ، سَوَاءٌ قَلَّ الْعَيْبُ أَوْ كَثُرَ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا خِيَارَ لَهَا إِلَّا أَنْ يَتَفَاحَشَ الْعَيْبُ.
احْتِجَاجًا: بِأَنَّهَا إِذَا رَدَّتِ الصَّدَاقَ بِالْعَيْبِ الْيَسِيرِ رَجَعَتْ بِقِيمَتِهِ سَلِيمًا، وَقَدْ يُخْطِئُ الْمُقَوِّمَانِ فَيُقَوِّمَانِهِ صَحِيحًا بِقِيمَتِهِ مَعَ يَسِيرِ الْعَيْبِ، لِأَنَّ يَسِيرَ الْعَيْبِ لَا يَأْخُذُ مِنَ الْقِيمَةِ إِلَّا يَسِيرًا، فَعَفَى عَنْ يَسِيرِ الْعَيْبِ، لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ اسْتِدْرَاكُهُ، وَلَمْ يَعْفُ عَنْ كَثِيرِهِ، لِأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ اسْتِدْرَاكُهُ، وَلَمْ يَعْفُ فِي الْبَيْعِ عَنْ يَسِيرِهِ ولا كثيره؛ ولأنه قَدْ تَحَقَّقَ اسْتِدْرَاكُهُ فِي الرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ دُونَ الْقِيمَةِ.
وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ مَا جَازَ رَدُّهُ بِكَثِيرِ الْعَيْبِ، جَازَ رَدُّهُ بِيَسِيرِهِ، كَالثَّمَنِ؛ وَلِأَنَّهُ عَيْبٌ يَجُوزُ بِهِ الرَّدُّ فِي الْبَيْعِ فَجَازَ بِهِ الرَّدُّ فِي الصَّدَاقِ كَالْكَثِيرِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ فَهُوَ أَنَّنَا نُوجِبُ مَعَ الرَّدِّ مَهْرَ الْمِثْلِ، فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، دُونَ الْقِيمَةِ.
ثُمَّ لَوْ وَجَبَ الرُّجُوعُ بِالْقِيمَةِ لَاقْتَضَى أَنْ يُحْمَلَ التَّقْوِيمُ عَلَى الصَّوَابِ دُونَ الْخَطَأِ، وَعَلَى فَرْقِ الْمُقَوِّمِ بَيْنَ السَّلِيمِ وَالْمَعِيبِ.
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا، فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِحَادِثِ سَمَاءٍ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِجِنَايَةِ الزَّوْجِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ بِجِنَايَةِ أَجْنَبِيٍّ.
فَإِنْ كَانَ بِحَادِثِ سَمَاءٍ كَهُزَالِ السَّمِينِ، وَمَرَضِ الصَّحِيحِ، فَإِنْ سَمَحَتْ بِنَقْصِهِ أَخَذَتْهُ نَاقِصًا إِنْ طُلِّقَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَنِصْفَهُ إِنْ طُلِّقَتْ قَبْلَهُ وَلَا خِيَارَ لِلزَّوْجِ فِيمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ نِصْفِهِ النَّاقِصِ، لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ.
وَإِنْ لَمْ تَسْمَحْ بِنَقْصِهِ كَانَ خِيَارُهَا فِي الْفَسْخِ مُعْتَبَرًا بِمَا تَرْجِعُ بِهِ لَوْ فَسَخَتْ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا تَرْجِعُ بِقِيمَتِهِ فَلَا خِيَارَ لَهَا فِي الْفَسْخِ، وَتَأْخُذُهُ نَاقِصًا مَعَ أَرْشِ نَقْصِهِ إِنْ طُلِّقَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَنِصْفَهُ وَنِصْفَ أَرْشِهِ إِنْ طُلِّقَتْ قَبْلَهُ. وَإِنَّمَا سَقَطَ خِيَارُهَا فِي الْفَسْخِ؛ لِأَنَّ أَخْذَهُ نَاقِصًا مَعَ الْأَرْشِ أَخَصُّ بِحَقِّهَا مِنَ الْعُدُولِ عَنْهُ إِلَى قِيمَتِهِ.
وَإِنْ قِيلَ: لَوْ فَسَخَتْ رَجَعَتْ بِمَهْرِ الْمِثْلِ فَلَهَا الْخِيَارُ فِي الْفَسْخِ أَوِ الْمُقَامِ. فإن فسخت(9/429)
رَجَعَتْ بِمَهْرِ الْمِثْلِ إِنْ طُلِّقَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَبِنِصْفِهِ إِنْ طُلِّقَتْ قَبْلَهُ وَإِنْ أَقَامَتْ أَخَذَتْهُ نَاقِصًا وَلَا أَرْشَ لَهَا، كَالْبَائِعِ إِذَا رَضِيَ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِالْمَعِيبِ، وَإِنْ طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ رَجَعَتْ بِنِصْفِهِ نَاقِصًا مِنْ غَيْرِ أَرْشٍ وَيَكُونُ نِصْفُهُ مَعِيبًا لِلزَّوْجِ وَلَا خِيَارَ لَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ.
وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ بِجِنَايَةِ الزَّوْجِ: كَأَنَّهُ قَطَعَ إِحْدَى يَدَيْهِ، أَوْ قَلَعَ إِحْدَى عَيْنَيْهِ، فَهُوَ عُضْوٌ يَضْمَنُهُ الْجَانِي بِنِصْفِ الْقِيمَةِ، وَيَضْمَنُهُ غَيْرُ الْجَانِي بِمَا نَقَصَ فَيَكُونُ الزَّوْجُ هَاهُنَا ضَامِنًا لَهُ بِأَكْثَرِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نَقْصِهِ أَوْ نِصْفِ قِيمَتِهِ. وَإِنْ كَانَ نِصْفُ الْقِيمَةِ أَكْثَرَ لَزِمَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَلْتَزِمُهُ بِالْجِنَايَةِ مِنْ غَيْرِ يَدٍ ضَامِنَةٍ فَلَأَنْ يَلْزَمُهُ مَعَ الْيَدِ الضَّامِنَةِ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ نَقْصُهُ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ لَزِمَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَلْتَزِمُهُ بِالْيَدِ الضَّامِنَةِ مِنْ غَيْرِ جِنَايَةٍ فَلَأَنْ يَلْتَزِمَهُ مَعَ الْجِنَايَةِ أَوْلَى وَإِذَا لَزِمَهُ ضَمَانُ أَكْثَرِ الْأَمْرَيْنِ تَرَتَّبَ جَوَابُهُ عَلَى مَا يُوجِبُهُ فِي الرُّجُوعِ مَعَ التَّلَفِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ تَلَفَ الصَّدَاقِ مُوجِبٌ لِلرُّجُوعِ بِقِيمَتِهِ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ فَلَهَا أَنْ تَأْخُذَ الْعَبْدَ نَاقِصًا، وَمَا أَوْجَبْنَاهُ مِنْ ضَمَانِ نَقْصِهِ، أَوْ مَا يُقَدَّرُ بِجِنَايَتِهِ إِنْ طُلِّقَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ، أَوْ نِصْفَ ذَلِكَ إِنْ طُلِّقَتْ قَبْلَهُ، وَلَا خِيَارَ بِهَا.
وَإِنْ قِيلَ إِنَّ تَلَفَ الصَّدَاقِ مُوجِبٌ لِلرُّجُوعِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، فَهِيَ هَاهُنَا بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْمُقَامِ أَوِ الْفَسْخِ، فَإِنْ فَسَخَتْ رَجَعَتْ بِمَهْرِ الْمِثْلِ إِنْ طُلِّقَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ أَوْ بِنِصْفِهِ إِنْ طُلِّقَتْ قَبْلَهُ. وَإِنْ أَقَامَتْ أَخَذَتِ الْعَبْدَ نَاقِصًا، وَمَا أَوْجَبَهُ ضَمَانُ الْجِنَايَةِ وَهُوَ نِصْفُ الْقِيمَةِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا زَادَ عَلَيْهِ مِنْ ضَمَانِ النَّقْصِ بِالْيَدِ الضَّامِنَةِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. أَلَا تَرَاهُ لَوْ نَقَصَتْ قِيمَتُهُ مِنْ غَيْرِ جِنَايَةٍ لَمْ يَضْمَنْهَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِذَا أَقَامَتْ وَلَمْ يُفْسَخْ هَذَا إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ أَخَذَتْ نِصْفَهُ وَرُبْعَ الْقِيمَةِ بِالْجِنَايَةِ.
وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ بِجِنَايَةِ أَجْنَبِيٍّ.
كَأَنَّهُ قَطَعَ إِحْدَى يَدَيْهِ، أَوْ فَقَأَ إِحْدَى عَيْنَيْهِ، فَعَلَى الْجَانِي نِصْفُ الْقِيمَةِ أَرْشُ الْجِنَايَةِ، وَيَضْمَنُ الزَّوْجُ نُقْصَانَ الْقِيمَةِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ ضَمَانَ الْيَدِ، ثُمَّ يَتَرَتَّبُ حَقُّهَا فِيمَا تَرْجِعُ بِهِ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ.
إِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا تَرْجِعُ مَعَ التَّلَفِ بِالْقِيمَةِ رَجَعَتْ عَلَيْهِ إِنْ طُلِّقَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ بِالْعَبْدِ النَّاقِصِ، وَرَجَعَتْ مَعَهُ بِأَكْثَرِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ ضَمَانِ الْجِنَايَةِ وَهُوَ نِصْفُ الْقِيمَةِ، أَوْ ضَمَانِ الْيَدِ وَهُوَ نُقْصَانُ الْقِيمَةِ. وَهِيَ بِالْخِيَارِ فِي الرُّجُوعِ عَلَى مَنْ شَاءَتْ مِنْهُمَا. فَإِنْ رَجَعَتْ عَلَى الْجَانِي رَجَعَتْ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الْأَكْثَرُ فَقَدِ اسْتَوْفَتْ، وَلَمْ يُرْجَعْ عَلَى الزَّوْجِ بِشَيْءٍ، وَلَا يَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَى الْجَانِي بِشَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْأَقَلَّ رَجَعَتْ بِالْبَاقِي مِنْ نُقْصَانِ الْقِيمَةِ عَلَى الزَّوْجِ وَلَمْ يَرْجِعْ بِهِ الزَّوْجُ عَلَى الْجَانِي، وَإِنْ رَجَعَتْ عَلَى الزَّوْجِ رَجَعَتْ عَلَيْهِ بِنُقْصَانِ الْقِيمَةِ فَإِنْ كَانَ هُوَ الْأَكْثَرَ فَقَدِ اسْتَوْفَتْ وَرَجَعَ الزَّوْجُ عَلَى الْجَانِي بِنِصْفِ الْقِيمَةِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْأَقَلَّ رَجَعَتْ عَلَى الْجَانِي بِالْبَاقِي مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ، وَرَجَعَ الزَّوْجُ عَلَيْهِ بِمَا غَرِمَ مِنْ نقصان القيمة.(9/430)
فَإِنْ طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ رَجَعَتْ بِنِصْفِ ذَلِكَ.
وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا تَرْجِعُ مَعَ التَّلَفِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ فَهِيَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْمُقَامِ أَوِ الْفَسْخِ فَإِنْ فَسَخَتْ رَجَعَتْ عَلَى الزَّوْجِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ إِنْ طُلِّقَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَبِنِصْفِهِ إِنْ طُلِّقَتْ قَبْلَهُ، وَرَجَعَ الزَّوْجُ عَلَى الْجَانِي بِنِصْفِ الْقِيمَةِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ، وَإِنْ أَقَامَتْ كَانَ لَهَا إِنْ طُلِّقَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ أَخْذُ الْعَبْدِ وَنِصْفُ الْقِيمَةِ الَّتِي هِيَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ أَوْ أَكْثَرَهُمَا، فَإِنْ كَانَ هُوَ الْأَقَلَّ كَانَ لَهَا الْخِيَارُ فِي الرُّجُوعِ بِهِ عَلَى مَنْ شَاءَتْ مِنْهُمَا، فَإِنْ رَجَعَتْ بِهِ عَلَى الزَّوْجِ رَجَعَ بِهِ الزَّوْجُ عَلَى الْجَانِي، وَإِنْ رَجَعَتْ بِهِ عَلَى الْجَانِي لَمْ يَرْجِعْ بِهِ الْجَانِي عَلَى أَحَدٍ. وَإِنْ كَانَ نِصْفُ الْقِيمَةِ هُوَ الْأَكْثَرَ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَرْجِعَ عَلَى الزَّوْجِ إِلَّا بِنُقْصَانِ الْقِيمَةِ، وَتَرْجِعُ بِالْبَاقِي مِنَ النِّصْفِ عَلَى الْجَانِي، وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ الزَّوْجُ بِمَا غَرِمَ مِنْ نُقْصَانِ الْقِيمَةِ، وَإِنْ رَجَعَتْ عَلَى الْجَانِي رَجَعَتْ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ وَقَدِ اسْتَوْفَتْ، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ رَجَعَتْ بِالنِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ وَرَجَعَ الزَّوْجُ بِالنِّصْفِ الْآخَرِ.
فَصْلٌ: الْقِسْمُ الْخَامِسُ
وَأَمَّا الْقِسْمُ الْخَامِسُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الصَّدَاقُ قد زاد من وجه ونقص منه وَجْهٌ فَلَا تَخْلُو حَالُ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَا مُتَمَيِّزَيْنِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَا غَيْرَ مُتَمَيِّزَيْنِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ مُتَمَيِّزَةً وَالنُّقْصَانُ غَيْرَ مُتَمَيِّزٍ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ تكون الزيادة غير متميزة والنقصان متميزاً.
إِيضَاحُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ مُتَمَيِّزَةً، وَالنُّقْصَانُ مُتَمَيِّزًا:
فَمِثَالُهُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصْدَقَهَا أَمَتَيْنِ فَمَاتَتْ وَاحِدَةٌ، وَوَلَدَتِ الْأُخْرَى، فَمَوْتُ إِحْدَاهُمَا نُقْصَانٌ مُتَمَيِّزٌ، وَوِلَادَةُ الْأُخْرَى زِيَادَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ فِي مَوْتِ إِحْدَاهُمَا كَالْكَلَامِ فِي النُّقْصَانِ الْمُتَمَيِّزِ إِذَا انْفَرَدَ عَنِ الزِّيَادَةِ.
فَأَمَّا الْوَلَدُ فَإِنْ قِيلَ: تَرْجِعُ فِي التَّالِفِ بِقِيمَتِهِ فَالْوَلَدُ لَهَا، وَإِنْ قِيلَ تَرْجِعُ فِي التَّالِفِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ نُظِرَ، فَإِنْ لَمْ تَفْسَخْ وَلَمْ تَرْجِعْ بِمَهْرِ الْمِثْلِ فَالْوَلَدُ لها، سواء كَانَ الْوَلَدُ مِنَ الْبَاقِيَةِ أَوْ مِنَ الْمَيِّتَةِ، وَإِنْ فَسَخَتْ وَرَجَعَتْ بِمَهْرِ الْمِثْلِ نُظِرَ فِي الْوَلَدِ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الْبَاقِيَةِ دُونَ الْمَيِّتَةِ فَهُوَ لَهَا؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَةَ خَرَجَتْ مِنَ الصَّدَاقِ بِالْفَسْخِ الَّذِي هُوَ قَطْعٌ لَا بِالْمَوْتِ الَّذِي هُوَ رَفْعٌ، وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ مِنَ الْمَيِّتَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لِلزَّوْجَةِ أَيْضًا؛ لِحُدُوثِهِ على ملكها.(9/431)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَكُونُ لِلزَّوْجِ؛ لِأَنَّ مَوْتَ أُمِّهِ قَدْ رَفَعَ الْعَقْدَ مِنْ أَصِلِهِ.
بَيَانُ الْقِسْمِ الثَّانِي
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ غَيْرَ مُتَمَيِّزَةٍ وَالنُّقْصَانُ غَيْرَ مُتَمَيِّزٍ فَمِثَالُهُ: أَنْ يُصْدِقَهَا أَمَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا مَرِيضَةٌ، وَالْأُخْرَى صَحِيحَةٌ فَتَبْرَأُ الْمَرِيضَةُ وَتَمْرَضُ الصَّحِيحَةُ.
فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَقُلْنَا بِقَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ: إِنَّهَا تَرْجِعُ مَعَ التَّلَفِ بِالْقِيمَةِ أَخَذَتِ الْأَمَتَيْنِ وَرَجَعَتْ بِنُقْصَانِ قِيمَةِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي مَرِضَتْ، وَلَا يُجْبَرُ ذَلِكَ بِالزِّيَادَةِ الْحَادِثَةِ فِي بُرْءِ الْمَرِيضَةِ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ لَا تَمْلِكُهَا.
وَإِنْ قُلْنَا بِقَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّهَا تَرْجِعُ مَعَ التَّلَفِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ فَهِيَ هَاهُنَا بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ تَأْخُذَ الْأَمَتَيْنِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ مِنْ غَيْرِ أَرْشٍ، وَبَيْنَ أَنْ تَفْسَخَ وَتَرْجِعَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ.
وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ تَرَتَّبَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ إِذَا تَلِفَتْ إِحْدَاهُمَا وَبَقِيَتِ الْأُخْرَى هَلْ لَهَا إِذَا تَسَاوَتْ قِيمَتُهَا أَنْ تَأْخُذَ الْبَاقِيَةَ مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قِيلَ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ إِنَّهَا تَأْخُذُ الْبَاقِيَةَ بِالنِّصْفِ فَلَا خِيَارَ لَهَا هَاهُنَا، وَتَأْخُذُ بِالنِّصْفِ الَّذِي لَهَا الْأَمَةَ الَّتِي زَادَتْ وَتَرُدُّ لِلزَّوْجِ الْأَمَةَ الَّتِي نَقَصَتْ.
وَإِنْ قِيلَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي: إِنَّهَا تَأْخُذُ النِّصْفَ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْأَمَتَيْنِ: تَرَتَّبَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَا تَرْجِعُ إِلَيْهِ مَعَ التَّلَفِ.
فَإِنْ قِيلَ بِالْقَدِيمِ إِنَّ الرُّجُوعَ يَكُونُ بِالْقِيمَةِ، رَجَعَتْ بِنِصْفِ الْأَمَتَيْنِ وَبِنِصْفِ الْأَرْشِ مِنْ نُقْصَانِ الَّتِي نَقَصَتْ، ولا يجبر ذلك بزيادة التي زادت.
فَإِنْ قِيلَ بِالْقَدِيمِ إِنَّ الرُّجُوعَ يَكُونُ بِالْقِيمَةِ، رَجَعَتْ بِنِصْفِ الْأَمَتَيْنِ وَبِنِصْفِ الْأَرْشِ مِنْ نُقْصَانِ التي نقصت، ولا يجبر ذلك بزيادة الَّتِي زَادَتْ.
وَإِنْ قِيلَ بِالْجَدِيدِ: إِنَّ الرُّجُوعَ مَعَ التَّلَفِ يَكُونُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ كَانَتْ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ تَرْجِعَ بِنِصْفِ الْأَمَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَرْشٍ، وَبَيْنَ أَنْ تَفْسَخَ وَتَرْجِعَ بِنِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ.
إِيضَاحُ الْقِسْمِ الثَّالِثِ
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ مُتَمَيِّزَةً، وَالنُّقْصَانُ غَيْرَ مُتَمَيِّزٍ.
فَمِثَالُهُ: أَنْ يُصْدِقَهَا أَمَتَيْنِ فَتَلِدُ إِحْدَاهُمَا، وَتَمْرَضُ الْأُخْرَى، فَالْكَلَامُ فِي مَرَضِ إِحْدَاهُمَا كَالْكَلَامِ فِي النُّقْصَانِ الَّذِي لَا يَتَمَيَّزُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ زِيَادَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ عَلَى مَا مَضَى.
فَأَمَّا الْوَلَدُ فَيَكُونُ لِلزَّوْجَةِ بِكُلِّ حَالٍ، سَوَاءً أَقَامَتْ عَلَى الصَّدَاقِ أَوْ فَسَخَتْ وَرَجَعَتْ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَسَوَاءً كَانَ الْوَلَدُ مِنَ النَّاقِصَةِ أَوْ مِنَ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ بَقَاءَ أُمِّهِ إِنْ فُسِخَ الصَّدَاقُ فِيهَا مُوجِبٌ لِقَطْعِهِ لَا لِرَفْعِهِ.
إِيضَاحُ القسم الرابع
وأما القسم الرابع وهو أن تَكُونَ الزِّيَادَةُ غَيْرَ مُتَمَيِّزَةٍ وَالنُّقْصَانُ مُتَمَيِّزًا فَمِثَالُهُ: أَنْ يُصْدِقَهَا أَمَتَيْنِ مَرِيضَتَيْنِ، فَتَمُوتُ إِحْدَاهُمَا، وَتَبْرَأُ الْأُخْرَى، فَيَكُونُ الْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي النُّقْصَانِ(9/432)
الْمُتَمَيِّزِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ زِيَادَةٌ، فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى، وَلَيْسَ لِلزِّيَادَةِ هَاهُنَا تَأْثِيرٌ يَتَغَيَّرُ بِهِ الْحُكْمُ.
فَصْلٌ
فَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ قَدْ سَاقَ الصَّدَاقَ بِكَمَالِهِ إِلَيْهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَلَا يَخْلُو طَلَاقُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ.
فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي الصَّدَاقِ، وَقَدِ اسْتَوْفَتْهُ.
وإن كان قبل الدخول فله نصفه.
وإن كَانَ كَذَلِكَ: لَمْ يَخْلُ الصَّدَاقُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ أَوْ يَكُونُ عَيْنًا مَعْلُومَةً.
فَإِنْ كَانَ مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ؛ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَاقِيًا فِي يَدِهَا، أَوْ مُسْتَهْلَكًا.
فَإِنْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا رَجَعَ عَلَيْهَا بِالنِّصْفِ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ الصَّدَاقِ.
وَإِنْ كَانَ بَاقِيًا فِي يَدِهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ بِالنِّصْفِ مِنَ الصَّدَاقِ الَّذِي أَقْبَضَهَا؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالِهِ، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَعْدِلَ بِهِ إِلَى مِثْلِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ تُعْطِيَهُ النِّصْفَ مِنْ ذَلِكَ الصَّدَاقِ وَبَيْنَ أَنْ تَعْدِلَ بِهِ إِلَى نِصْفِ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَعَيَّنًا بِالْعَقْدِ، بَلْ كَانَ مَضْمُونًا فِي الذِّمَّةِ فَاسْتَقَرَّ فِيهِ حُكْمُ الْخِيَارِ فِي مِثْلِهِ.
وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ بِالْقَبْضِ فَصَارَ كَالْمُتَعَيَّنِ بِالْعَقْدِ.
فَلَوْ كَانَتْ قَدِ اشْتَرَتْ بِالصَّدَاقِ جَهَازًا أَوْ غَيْرَهُ، رَجَعَ عَلَيْهَا بِمِثْلِ نِصْفِ الصَّدَاقِ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَ الْجَهَازِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا تَجَهَّزَتْ بِالصَّدَاقِ لَزِمَهُ أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَ الْجَهَازِ وَبَنَى ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تُجَهَّزَ لِزَوْجِهَا.
وَعِنْدَنَا: لَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَتَجَهَّزَ لِلزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ فِي مُقَابَلَةِ الْبُضْعِ دُونَ الْجَهَازِ، فَلَمْ يَلْزَمْهَا إِلَّا تَسْلِيمُ الْبُضْعِ وَحْدَهُ.
وَلِأَنَّ مَا اشْتَرَتْهُ مِنَ الْجَهَازِ كَالَّذِي اشْتَرَتْهُ بِغَيْرِ الصَّدَاقِ. وَلِأَنَّ مَا اشْتَرَتْهُ بِالصَّدَاقِ مِنَ الْجَهَازِ كَالَّذِي اشْتَرَتْهُ مِنْ غَيْرِ الصَّدَاقِ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ الصَّدَاقُ فِي الْأَصْلِ مُعَيَّنًا بِالْعَقْدِ فَلَا تَخْلُو حَالُهُ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الأقسام الخمسة:(9/433)
إِيضَاحُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا بِحَالِهِ لَمْ يَزِدْ وَلَمْ يَنْقُصْ، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِهِ فَيَكُونُ شَرِيكًا فِيهِ.
وَهَلْ يَكُونُ شَرِيكًا فِيهِ بِنَفْسِ الطَّلَاقِ، أَوْ بِاخْتِيَارِهِ أَنْ يَتَمَلَّكَ بِالطَّلَاقِ نِصْفَ الصَّدَاقِ؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ.
إِيضَاحُ الْقِسْمِ الثَّانِي
وَالْقِسْمُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ الصَّدَاقُ قَدْ تَلِفَ فِي يَدِهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتْلَفَ فِي يَدِهَا قَبْلَ طَلَاقِ الزَّوْجِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَتْلَفَ بَعْدَ طَلَاقِهِ.
فَإِنْ تَلِفَ قَبْلَ طَلَاقِ الزَّوْجِ فللزوج أن يرجع علينا بِنِصْفِ قِيمَتِهِ قَوْلًا وَاحِدًا أَقَلَّ مَا كَانَ قِيمَتُهُ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ إِلَى وَقْتِ التَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّ قِيمَتَهُ إِنْ نَقَصَتْ فَهِيَ مَضْمُونَةٌ عَلَيْهِ فَلَا يَرْجِعُ بِهَا، وَإِنْ زَادَتْ فَالزِّيَادَةُ لِغَيْرِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ، لِأَنَّ عِنْدَهُ الصَّدَاقَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهَا وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا إِنْ تَلِفَ الصَّدَاقُ فِي يَدِهَا بَعْدَ أَنْ مَلَكَ الزَّوْجُ نِصْفَهُ بِطَلَاقِهِ فَلَمْ يَتَسَلَّمْهُ حَتَّى تلف فهذا على ضربين:
أحدهما: أن يتلف فِي يَدِهَا قَبْلَ بَذْلِهِ لَهُ، وَتَمْكِينِهِ مِنْهُ، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِ قِيمَتِهِ عَلَى مَا مَضَى.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتْلَفَ فِي يَدِهَا بَعْدَ بَذْلِهِ لَهُ، وَتَمْكِينِهِ مِنْهُ، فَلَمْ يَتَسَلَّمْهُ حَتَّى تَلِفَ فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ على اختلاف أصحابنا فيما يستحقه الزَّوْجُ عَلَيْهَا مِنَ الصَّدَاقِ.
فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: أَنَّ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهَا التَّمْكِينُ مِنَ الصَّدَاقِ، فَعَلَى هَذَا لَا ضَمَانَ عَلَيْهَا، لِوُجُودِ التَّمْكِينِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهَا تَسْلِيمُ الصَّدَاقِ، فَعَلَى هَذَا عَلَيْهَا ضَمَانُهُ لِعَدَمِ التَّسْلِيمِ.
ثُمَّ يَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ إِذَا تَلِفَ فِي يَدِهَا بِجِنَايَةِ آدَمِيٍّ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ هُوَ التَّمْكِينُ، يَرْجِعُ الزَّوْجُ إِلَى الْجَانِي.
وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ هُوَ التَّسْلِيمُ، يَكُونُ الزَّوْجُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الزَّوْجَةِ أَوْ عَلَى الْجَانِي.
وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَيْضًا إِذَا حَدَثَ بِالصَّدَاقِ بَعْدَ أَنْ تَمَلَّكَ الزَّوْجُ نِصْفَهُ نُقْصَانٌ لَا يَتَمَيَّزُ، فَلَا خِيَارَ لَهُ فِي فَسْخِ الصَّدَاقِ بِهِ وَالرُّجُوعِ إِلَى قِيمَتِهِ لِاسْتِقْرَارِ مِلْكِهِ عَلَيْهِ(9/434)
وَهَلْ يَكُونُ نَقْصُهُ بِهِ مَضْمُونًا عَلَيْهَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مُعْتَبَرٌ بِحَالِهَا فِي التَّسْلِيمِ والتمكين، ولها فيه ثلاثة أحوال:
أحدهما: أَنْ لَا تُسَلِّمَ، وَلَا تُمَكِّنَ الزَّوْجَ مِنْهُ، فَالنُّقْصَانُ مَضْمُونٌ عَلَيْهَا، لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ فِي يَدِهَا عَنْ مُعَاوَضَةٍ فَلَزِمَهَا ضَمَانُهُ كَالْمَقْبُوضِ سَوْمًا.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تُسَلِّمَهُ إِلَيْهِ، فَيَرُدَّهُ عَلَيْهَا، فَهُوَ أَمَانَةٌ كَالْوَدِيعَةِ لَا يَلْزَمُهَا ضَمَانُهُ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنْهُ فَلَمْ يَتَسَلَّمْهُ حَتَّى نَقَصَ فَفِي ضَمَانِهَا لِنُقْصَانِهِ وَجْهَانِ.
إِيضَاحُ الْقِسْمِ الثَّالِثِ
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الصَّدَاقُ قَدْ زَادَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ مُتَمَيِّزَةً، كَالْوَلَدِ فَالزِّيَادَةُ لَهَا، وَيَرْجِعُ الزَّوْجُ بِنِصْفِ الْأَصْلِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ.
وَعِنْدَ مَالِكٍ: يَرْجِعُ بِنِصْفِ الْأَصْلِ، وَنِصْفِ الزِّيَادَةِ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يَرْجِعُ بِنِصْفِ الْأَصْلِ، وَلَا بِنِصْفِ الزِّيَادَةِ، ويرجع بنصف القيمة وبناء ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ زِيَادَةَ الْمَبِيعِ تَمْنَعُ مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مُتَمَيِّزَةٍ كَالْبُرْءِ، وَالسِّمَنِ، فَهِيَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ تُعْطِيَهُ نِصْفَ الْقِيمَةِ، أَوْ نِصْفَ الْعَيْنِ.
وَعِنْدَ مَالِكٍ: تُجْبَرُ عَلَى دَفْعِ نِصْفِ الْعَيْنِ زَائِدَةً.
وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ أَنَّ الزِّيَادَةَ مِلْكٌ لَهَا وَهِيَ مُتَّصِلَةٌ بِالْأَصْلِ، فَلَمْ تُجْبَرْ عَلَى بَذْلِهَا، فَإِنْ بَذَلَتْ لَهُ نِصْفَ الْقِيمَةِ أُجْبِرَ عَلَى قَبُولِهَا، وَإِنْ بَذَلَتْ لَهُ نِصْفَ الصَّدَاقِ زَائِدًا فَفِي إِجْبَارِهِ عَلَى قَبُولِهَا وَجْهَانِ.
أَصَحُّهُمَا: يُجْبَرُ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ نِصْفُ الْقِيمَةِ، لِأَنَّ مَنْعَهُ مِنَ الْعَيْنِ إِنَّمَا كَانَ لِحَقِّ الزَّوْجَةِ مِنَ الزِّيَادَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَضْعَفُهُمَا أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ، وَلَهُ أَنْ يَعْدِلَ إِلَى نِصْفِ الْقِيمَةِ، لِأَنَّ حُدُوثَ الزِّيَادَةِ قَدْ يُقِلُّ حَقَّهُ إِلَى الْقِيمَةِ.
وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُجْبَرْ عَلَى قَبُولِ الزِّيَادَةِ إِذَا انْفَصَلَتْ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى قَبُولِهَا إِذَا اتَّصَلَتْ فَلَوْ حدثت زيادة الصداق بعد الطلاق، وقبل الرجوع الزَّوْجِ بِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَحْدُثَ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَبَعْدَ اخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ، فَيَكُونُ الزَّوْجُ شَرِيكًا فِي الزِّيَادَةِ، فَإِنْ كَانَتْ مُتَمَيِّزَةً كَالْوَلَدِ رَجَعَ بِنِصْفِهِ مَعَ نِصْفِ الْأُمِّ. وَإِنْ كانت متصلة كالسمن بملك نِصْفَهُ زَائِدًا، وَلَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجَةِ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ الْمُتَمَيِّزَةِ أَنَّ تَمْنَعَهُ مِنْ نِصْفِ الْأَصْلِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ حَادِثَةً بَعْدَ الطَّلَاقِ وَقَبْلَ اخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ.(9/435)
فَفِيهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لِلزَّوْجَةِ إِذَا قِيلَ: إِنَّ الزَّوْجَ لَا يَمْلِكُ الصَّدَاقَ إِلَّا بِاخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ بَعْدَ الطَّلَاقِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ مُتَمَيِّزَةً فَجَمِيعُهَا لِلزَّوْجَةِ، وَلَهُ نِصْفُ الْأَصْلِ لَا غَيْرَ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَّصِلَةً كَانَ لَهَا بِالزِّيَادَةِ أَنْ تَمْنَعَ الزَّوْجَ مِنْ نِصْفِ الْأَصْلِ، وَتَعْدِلُ بِهِ إِلَى نِصْفِ الْقِيمَةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الزِّيَادَةَ لِلزَّوْجِ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ قَدْ مَلَكَ بِنَفْسِ الطَّلَاقِ نِصْفَ الصَّدَاقِ، فَإِنْ كَانَتْ مُتَمَيِّزَةً كَالْوَلَدِ فَلَهُ نِصْفُهُ وَنِصْفُ الْأَصْلِ، وَهَلْ تَكُونُ حِصَّتُهُ مِنَ الْوَلَدِ مَضْمُونَةً عَلَى الزَّوْجَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ قوليه في الولد إذا حدث في يد الزوج هل يكون مضموناً أم عَلَيْهِ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ.
وَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ غَيْرَ مُتَمَيِّزَةٍ كَالسِّمَنِ فَهَلْ تَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَى الزَّوْجَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ عَلَيْهَا، فَإِنْ تَلِفَ الصَّدَاقُ ضَمِنَتْ نِصْفَ قِيمَتِهِ بِزِيَادَتِهِ وَإِنْ تَلِفَتِ الزِّيَادَةُ بِأَنْ ذَهَبَ السِّمَنُ ضَمِنَتْ قَدْرَ نَقْصِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ عَلَى الزَّوْجَةِ، فَإِنْ تَلِفَ الصَّدَاقُ ضَمِنَتْ نِصْفَ قِيمَتِهِ قَبْلَ الزِّيَادَةِ وَإِنْ زَالَ السِمَنُ لَمْ تَضْمَنْ قَدْرَ نَقْصِهِ.
إِيضَاحُ الْقِسْمِ الرَّابِعِ
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الصَّدَاقُ قَدْ نَقَصَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ النُّقْصَانُ مُتَمَيِّزًا فَلَا يَخْلُو حَالُ الصَّدَاقِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ.
إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَمَاثِلَ الْأَجْزَاءِ كَالْحِنْطَةِ، أَوْ مُخْتَلِفَ الْأَجْزَاءِ كَالْحَيَوَانِ.
- فَإِنْ كَانَ مُتَمَاثِلَ الْأَجْزَاءِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْبَاقِي جَمِيعَ النِّصْفِ.
- وَإِنْ كَانَ مُخْتَلِفَ الْأَجْزَاءِ كَأَمَتَيْنِ مَاتَتْ إِحْدَاهُمَا، وَبَقِيَتِ الْأُخْرَى فَهَلْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْبَاقِيَةَ إِذَا كَانَتَا مُتَسَاوِيَتَيِ الْقِيمَةِ بِالنِّصْفِ الَّذِي لَهُ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَهُ ذَلِكَ، وَقَدِ اسْتَوَى بِهَا جَمِيعُ حَقِّهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَهُ أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَهَا وَيَرْجِعُ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ التَّالِفَةِ.
وَلَوْ كَانَتَا مُتَفَاضِلَتَيِ الْقِيمَةِ: لَمْ يَتَمَلَّكْ مِنَ الْبَاقِيَةِ إِلَّا نِصْفَهَا، وَكَانَ لَهُ نِصْفُ قِيمَةِ التَّالِفَةِ.
وَهَلْ يَتَعَيَّنُ فِي نِصْفِ الْبَاقِيَةِ حَتَّى يَأْخُذَهُ بِالتَّقْوِيمِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: قَدْ تَعَيَّنَ فِيهِ إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ لَوْ تَسَاوَى أَخَذَ الْجَمِيعَ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ لَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ وَهُوَ مِلْكُهَا وَلَهَا أَنْ تُعْطِيَهُ قِيمَةَ نِصْفِ التَّالِفَةِ مِنْ أَيِّ أَمْوَالِهَا شَاءَتْ، إِذَا قِيلَ لَوْ تَسَاوَى لَمْ يَأْخُذْ مِنَ الْبَاقِيَةِ إِلَّا النِّصْفَ.(9/436)
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ النُّقْصَانُ غَيْرَ مُتَمَيِّزٍ كَالْعَمَى، وَالْهُزَالِ، فَيَكُونُ حَقُّهُ فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ، وَلَا يَلْزَمُهُ، أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَ الصَّدَاقِ نَاقِصًا كَمَا لَمْ يَلْزَمْهَا أَنْ تُعْطِيَهُ نِصْفَهُ زَائِدًا.
فَإِنْ رَضِيَ أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَهُ نَاقِصًا فَهَلْ يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ كَمَا مَضَى فِي الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ إِذَا بَذَلَتْهَا الزَّوْجَةُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا أَسْقَطْتُمْ خِيَارَ الزَّوْجِ إذا وجد الطلاق نَاقِصًا، وَجَعَلْتُمْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الصَّدَاقَ بِنَقْصِهِ وَيَأْخُذَ مَعَهُ أَرْشَ نَقْصِهِ كَمَا جَعَلْتُمْ لِلزَّوْجَةِ إِذَا وَجَدَتْهُ نَاقِصًا فِي يَدِهِ أَنْ تَأْخُذَهُ نَاقِصًا وَأَرْشَ نَقْصِهِ.
قُلْنَا: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا هُوَ أَنَّ الصَّدَاقَ فِي يَدِ الزَّوْجِ مِلْكٌ لِلزَّوْجَةِ فَضَمِنَ نُقْصَانَهُ لَهَا فَلِذَلِكَ غَرِمَ أَرْشَ نَقْصِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الزَّوْجَةُ، لِأَنَّ الصَّدَاقَ فِي يَدِهَا مِلْكٌ لِنَفْسِهَا فَلَمْ تَضْمَنْ نُقْصَانَهُ لِلزَّوْجِ، فَلِذَلِكَ لَمْ تَغْرَمْ لَهُ أَرْشَ نَقْصِهِ، وَاسْتَحَقَّ بِهِ مُجَرَّدَ الْخِيَارِ بَيْنَ الرِّضَا بِالنَّقْصِ أَوِ الْفَسْخِ.
إِيضَاحُ الْقِسْمِ الْخَامِسِ
وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ الصَّدَاقُ قَدْ زَادَ مِنْ وَجْهٍ وَنَقَصَ مِنْ وَجْهٍ فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ مُتَمَيِّزَةً وَالنُّقْصَانُ مُتَمَيِّزًا، كَأَمَتَيْنِ مَاتَتْ أحدهما وَوَلَدَتِ الْأُخْرَى فَالْوَلَدُ لَهَا لَا حَقَّ فِيهِ لِلزَّوْجِ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ نَقَصَ نُقْصَانًا مُتَمَيِّزًا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ غَيْرَ مُتَمَيِّزَةٍ وَالنُّقْصَانُ غَيْرَ مُتَمَيِّزٍ، كَأَمَةٍ بَصِيرَةٍ مَرِيضَةٍ فَبَرَأَتْ وَعَمِيَتْ، فَبُرْؤُهَا زِيَادَةٌ لَا تَتَمَيَّزُ، وَعَمَاهَا نُقْصَانٌ لَا يَتَمَيَّزُ. فَلَا يَلْزَمُ الزَّوْجَ أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَهَا لِأَجْلِ النُّقْصَانِ، وَلَا يَلْزَمُ الزَّوْجَةَ أَنْ تَبْذُلَ نِصْفَهَا لِأَجْلِ الزِّيَادَةِ. وَأَيُّهُمَا دَعَا إِلَى نِصْفِ الْقِيمَةِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَجْهًا وَاحِدًا فَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَى أَخْذِ النِّصْفِ بِالزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ جَازَ.
وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ مُتَمَيِّزَةً وَالنُّقْصَانُ غَيْرَ مُتَمَيِّزٍ: كَأَمَةٍ وَلَدَتْ وَمَرِضَتْ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْوَلَدِ، وَيَكُونُ كَالْكَلَامِ فِي النُّقْصَانِ الْمُنْفَرِدِ إِذَا لَمْ يَتَمَيَّزْ. فَيَكُونُ حَقُّ الزَّوْجِ فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ. فَإِنْ رَضِيَ بِنِصْفِهَا نَاقِصَةً فَفِي إِجْبَارِ الزَّوْجِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ.
وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ غَيْرَ مُتَمَيِّزَةٍ وَالنُّقْصَانُ مُتَمَيِّزًا كَأَمَتَيْنِ مَرِيضَتَيْنِ بَرِأَتْ إِحْدَاهُمَا وَمَاتَتِ الْأُخْرَى. فَحَقُّهُ فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ. فَإِنْ بَذَلَتْ لَهُ الْبَاقِيَةَ بِزِيَادَتِهَا لَمْ يُجْبَرْ عَلَى قَبُولِ نِصْفِهَا، لِأَنَّهُ عِوَضٌ مِنْ قِيمَةِ التَّالِفَةِ وَلَا يَلْزَمُهُ الْمُعَاوَضَةُ إِلَّا عَنْ مُرَاضَاةٍ، وَهَلْ يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِ النِّصْفِ الْآخَرِ فِي حَقِّهِ مِنْهُ أَمْ لَا عَلَى الْوَجْهَيْنِ.
فَهَذَا جَمِيعُ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَقْسَامُ الْمَسْأَلَةِ.(9/437)
فَصْلٌ: شَرْحُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: وَلَوْ أَصْدَقَهَا أَمَةً وَعَبْدًا أَعْمَيَيْنِ فَأَبْصَرَا فَهَذِهِ زِيَادَةٌ لَا تَتَمَيَّزُ فَيَكُونُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ حُكْمِهِمَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَوْ كَانَا صَغِيرَيْنِ فَكَبِرَا، فَإِنَّ الْكِبَرَ مُعْتَبَرٌ فإن كان مقارناً بحال الصغر، وَمَنَافِعُ الصِّغَرِ فِيهِ مَوْجُودَةٌ، فَهَذِهِ زِيَادَةٌ لَا تَتَمَيَّزُ فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى. وَإِنْ كَانَ كِبَرًا بَعِيدًا يَزُولُ عَنْهُ مَنَافِعُ الصَّغِيرِ فِي الْحَرَكَةِ وَالسُّرْعَةِ وَقِلَّةِ الْحِسِّ، فَفِيهِ زِيَادَةٌ وَنَقْصٌ لَا يَتَمَيَّزَانِ فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى.
وَجَمِيعُ الْمَسَائِلِ الْوَارِدَةِ فَلَيْسَ يَخْرُجُ عَمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الأقسام. والله أعلم.
مسألة
قال الشافعي: " وَهَذَا كُلُّهُ مَا لَمْ يَقْضِ لَهُ الْقَاضِي بِنِصْفِهِ فَتَكُونُ هِيَ حِينَئِذٍ ضَامِنَةً لِمَا أَصَابَهُ في يديها ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا أَرَادَهُ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ: " هَذَا كُلُّهُ مَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي لَهُ بِنِصْفِهِ " عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ: أَنَّ مُرَادَ الشَّافِعِيِّ بِذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ نَمَاءِ الصَّدَاقِ قَبْلَ الطَّلَاقِ أَنَّهُ لِلزَّوْجَةِ بِأَسْرِهِ، مَا لَمْ يَتَرَافَعَا إِلَى قَاضٍ مَالِكِيٍّ، فَيَقْضِي لِلزَّوْجِ بِنِصْفِ النَّمَاءِ، فَيَصِيرُ الزَّوْجُ مَالِكًا لِنِصْفِهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي الْمَالِكِيِّ، لِأَنَّهُ حُكْمٌ نُفِّذَ بِاجْتِهَادٍ سَائِغٍ.
وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ " فَتَكُونُ حِينَئِذٍ ضَامِنَةً لِنِصْفِهِ " يَعْنِي لِنِصْفِ النَّمَاءِ إِذَا طَلَبَهُ مِنْهَا فَمَنَعَتْهُ، فَتَصِيرُ بِالْمَنْعِ ضَامِنَةً، فَأَمَّا أَصْلُ الصَّدَاقِ فَلَا يَفْتَقِرُ تَمَلُّكُ الزَّوْجِ لِنِصْفِهِ بِالطَّلَاقِ إِلَى قَضَاءِ قَاضٍ، لَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَلَا عِنْدَ مَالِكٍ، سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّهُ يَمْلِكُ بِنَفْسِ الطَّلَاقِ أَوْ بِاخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ بَعْدَ الطَّلَاقِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا: أَنَّ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ رَاجِعٌ إِلَى أَصْلِ الصَّدَاقِ، إِذَا حَدَثَ فِيهِ زِيَادَةٌ، أَوْ نُقْصَانٌ. فَاخْتَلَفَا فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ أَوْ فِي نِصْفِ الْعَيْنِ، فَإِنَّ اخْتِلَافَهُمَا فِيهِ عَلَى مَا مَضَى بَيَانُهُ إِلَّا أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي لَهُ بِنِصْفِ الْعَيْنِ فَيَنْقَطِعُ الْخِلَافُ بَيْنَهُمَا بِحُكْمِهِ، وَيَصِيرُ لَهُ نِصْفُ الصَّدَاقِ، لِأَنَّ الصَّدَاقَ إِذَا كَانَ بَاقِيًا بِحَالِهِ لَمْ يَزِدْ وَلَمْ يَنْقُصْ فَلَيْسَ بَيْنَهُمَا اخْتِلَافٌ مُؤَثِّرٌ وَلَا لِحُكْمِ الْحَاكِمِ فِي تَمَلُّكِ الزَّوْجِ لِنِصْفِهِ تَأْثِيرٌ.
فَإِذَا حَدَثَ فِيهِ زِيَادَةٌ أَوْ نُقْصَانٌ، صَارَ الْخِلَافُ بَيْنَهُمَا فِي نِصْفِ الْعَيْنِ، أَوْ نِصْفِ الْقِيمَةِ مُؤَثِّرًا، وَصَارَ لِحُكْمِ الْحَاكِمِ تَأْثِيرٌ فِي تَمَلُّكِ الزَّوْجِ لِنِصْفِهِ، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ " وَتَكُونُ حِينَئِذٍ ضَامِنَةً لِمَا أَصَابَهُ فِي يَدِهَا " يَعْنِي: لِنُقْصَانِ الصَّدَاقِ بَعْدَ أَنْ قَضَى لَهُ الْقَاضِي بِنِصْفِهِ.
لِأَنَّهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ لَمْ يَمْلِكْهُ الزَّوْجُ فَلَمْ تَضْمَنِ الزَّوْجَةُ نَقْصَهُ وَبَعْدَ الْقَضَاءِ قَدْ مَلَكَهُ(9/438)
فَضَمِنَتْ نَقْصَهُ مَا لَمْ يَكُنْ مِنْهَا تَسْلِيمٌ وَلَا تَمْكِينٌ، لِأَنَّهُ فِي يَدِهَا عَنْ مُعَاوَضَةٍ كالمقبوض سوماً، فَإِنْ سَلَّمَتْهُ وَعَادَ إِلَيْهَا أَمَانَةً لَمْ تَضْمَنْهُ، وَإِنْ لَمْ تُسَلِّمْهُ وَلَكِنْ مَكَّنَتْهُ مِنْهُ فَفِي وُجُوبِ ضَمَانِهَا لِنَقْصِهِ وَجْهَانِ مَضَيَا.
فَلَوِ اخْتَلَفَا فِي النَّقْصِ فَقَالَ الزَّوْجُ: هُوَ حَادِثٌ فِي يَدِكِ فَعَلَيْكِ ضَمَانُهُ، وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ: بَلْ هُوَ مُتَقَدِّمٌ فَلَيْسَ عَلَيَّ ضَمَانُهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا، لِأَنَّهَا مُنْكِرَةٌ، وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهَا مَعَ احتمال الأمرين.
فأما الزيادة فيما تَقَدَّمَتْ مِلْكَ الزَّوْجِ لِنِصْفِ الصَّدَاقِ فَجَمِيعُهَا لِلزَّوْجَةِ، وَمَا حَدَثَ بَعْدَهُ فَهُوَ بَيْنَهُمَا. وَهَلْ تَكُونُ الزَّوْجَةُ ضَامِنَةً لَهُ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ.
فَلَوِ اخْتَلَفَا فِيهَا فَقَالَ الزَّوْجُ: هِيَ حَادِثَةٌ بَعْدَ أَنْ مَلَكَتْ نِصْفَ الصَّدَاقِ فَنِصْفُهَا لِي، وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ بَلْ هِيَ مُتَقَدِّمَةٌ قَبْلَ ذَلِكَ فَجَمِيعُهَا لِي، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجَةِ مَعَ يَمِينِهَا، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي يَدِهَا، والله أعلم.
مسألة
قال الشافعي: " فَإِنْ طَلَّقَهَا وَالنَّخْلُ مطلعةٌ فَأَرَادَ أَخْذَ نِصْفِهَا بالطلع لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَكَانَتْ كَالْجَارِيَةِ الْحُبْلَى وَالشَاةِ الْمَاخِضِ وَمُخَالِفَةً لَهُمَا فِي أَنَّ الْإِطْلَاعَ لَا يَكُونُ مُغَيِّرًا لِلنَّخْلِ عَنْ حَالِهَا فَإِنْ شَاءَتْ أَنْ تَدْفَعَ إِلَيْهِ نِصْفَهَا فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا ذَلِكَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي رَجُلٍ أَصْدَقَ امْرَأَةً نَخْلًا، وَطَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَقَدْ أَثْمَرَتْ، فَالثَّمَرَةُ زِيَادَةٌ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهَا، هَلْ تَجْرِي فِي الصَّدَاقِ مَجْرَى الزِّيَادَةِ الْمُتَمَيِّزَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهَا زِيَادَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ كَالْوَلَدِ، سَوَاءٌ كَانَتْ مُؤَبَّرَةً أَوْ غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ لِإِمْكَانِ قَطْعِهَا عَنِ الْأَصْلِ، وَجَوَازِ إِفْرَادِهَا بِالْعَقْدِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا زِيَادَةٌ غَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ فِي حُكْمِ الصَّدَاقِ سَوَاءٌ كَانَتْ مُؤَبَّرَةً أَوْ غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ، لِاتِّصَالِهَا بِالْأَصْلِ فَجَرَتْ مَجْرَى الْحَمْلِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ مُؤَبَّرَةً فَهِيَ مُتَمَيِّزَةٌ كَالْوَلَدِ، لِأَنَّهَا لَا تَتْبَعُ الْأَصْلَ فِي الْبَيْعِ وَإِنْ كَانَتْ فِي طَلْعِهَا غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ فَهِيَ غَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ كَالْحَمْلِ، لِأَنَّهَا تَتْبَعُ الْأَصْلَ فِي الْبَيْعِ.
فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ، فَالثَّمَرَةُ لِلزَّوْجَةِ عَلَى جَمِيعِ أَحْوَالِهَا، لِحُدُوثِهَا فِي مِلْكِهَا، وَلَهَا اسْتِيفَاءُ النَّخْلِ عَلَى مِلْكِهَا، لِاسْتِصْلَاحِ ثَمَرَتِهَا وَتَكَامُلِهَا، وَيَصِيرُ حَقُّ الزَّوْجِ فِي قِيمَةِ النَّخْلِ، فَيُدْفَعُ إِلَيْهِ نِصْفُ قِيمَتِهَا أَقَلَّ مَا كَانَتِ النَّخْلُ قِيمَةً مِنْ حِينِ أَصْدَقَ إِلَى أَنْ سُلِّمَ.
أَحْوَالُ بَذْلِ الْمَرْأَةِ نِصْفَ النَّخْلِ المثمر لزوجها
فإن كَانَ كَذَلِكَ فَلَهَا أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: فَالْحَالَةُ الْأُولَى.
إِيضَاحُ الْحَالَةِ الْأُولَى
أَنْ تَبْذُلَ لَهُ نِصْفَ النَّخْلِ مَعَ نِصْفِ الثَّمَرَةِ.(9/439)
فَإِنْ قَبِلَهَا جَازَ ثُمَّ يَنْظُرُ، فَإِنْ جَعَلْنَا الثَّمَرَةَ زَائِدَةً غَيْرَ مُتَمَيِّزَةٍ كَانَ بَذْلُ الزَّوْجَةِ لَهَا عَفْوًا عَنْهَا، فَلَا يُرَاعَى فِيهِ لَفْظُ الْهِبَةِ، وَلَا الْقَبْضِ.
وَإِنْ جَعَلْنَاهَا زِيَادَةً مُتَمَيِّزَةً فَهَلْ يَجْرِي عَلَيْهَا حُكْمُ الْعَفْوِ أَوْ حُكْمُ الْهِبَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: حُكْمُ الْهِبَةِ، وَلَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبْضِ، لِأَنَّهَا بِالتَّمْيِيزِ كَالْوَلَدِ الَّذِي لَوْ بَذَلَتْ نِصْفَهُ لِلزَّوْجِ مَعَ نِصْفِ أَمَةً كَانَتْ هِبَةً لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبْضِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهَا حُكْمُ الْعَفْوِ، وَتَتِمُّ بِغَيْرِ قَبْضٍ بِخِلَافِ الْوَلَدِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِبَذْلِهَا إِيصَالُ الزَّوْجِ إِلَى حَقِّهِ مِنَ النَّخْلِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا بِهَا، وَخَالَفَ الْوَلَدَ، لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الرُّجُوعِ بِالْأُمِّ دُونَهُ.
وَإِنِ امْتَنَعَ الزَّوْجُ مِنْ قَبُولِ الثَّمَرَةِ فَفِي إِجْبَارِهِ على القبول ثلاثة أوجه:
أحدهما: أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّ الثَّمَرَةَ مُتَمَيِّزَةٌ، أَوْ غَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ، لِأَنَّهُ مُنِعَ مِنَ النَّخْلِ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهَا فِي الثَّمَرَةِ، فَإِذَا صَارَتْ إِلَيْهِ فَلَا ضَرَرَ عَلَيْهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّ الثَّمَرَةَ زَائِدَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ أَوْ غَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ، لِأَنَّ حَقَّهُ صَارَ فِي الْقِيمَةِ فَلَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَعْدِلَ بِهِ إِلَى الْعَيْنِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَصَحُّ: أَنَّ إِجْبَارَهُ مُعْتَبَرٌ بِحُكْمِ الثَّمَرَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا زِيَادَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْقَبُولِ كَالْوَلَدِ، وَلَهُ أَنْ يَعْدِلَ إِلَى نِصْفِ قِيمَةِ النَّخْلِ.
وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا زِيَادَةٌ غَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ كَالسِمَنِ، أُجْبِرَ عَلَى الْقَبُولِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَعْدِلَ إِلَى نِصْفِ الْقِيمَةِ.
فَصْلٌ: إِيضَاحُ الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَبْذُلَ لَهُ نِصْفَ النَّخْلِ دُونَ الثَّمَرَةِ.
فَإِنْ قَبِلَ ذَلِكَ مِنْهَا جَازَ، وَعَلَيْهِ تَرْكُ الثَّمَرَةِ عَلَى النَّخْلِ إِلَى تَكَامُلِ صَلَاحِهَا.
وَإِنِ امْتَنَعَ مِنَ الْقَبُولِ: لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ تَعْلِيلًا لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: دُخُولُ الضَّرَرِ عَلَيْهِ بِاسْتِيفَاءِ الثَّمَرَةِ عَلَى نَخْلِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ حَقَّهُ قَدْ صَارَ فِي الْقِيمَةِ فَلَمْ يَعْدِلْ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ.
وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: حَقُّهُ فِي نِصْفِ النَّخْلِ يَرْجِعُ بِهَا، وَعَلَيْهِ تَرْكُ الثَّمَرَةِ إِلَى أَوَانِ جَذَاذِهَا كَالْمُشْتَرِي.
وَهَذَا الْجَمْعُ غَيْرُ صَحِيحٍ لِوُضُوحِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا. وَهُوَ أَنَّ الشِّرَاءَ عَقْدُ مُرَاضَاةٍ فَلِذَلِكَ أُقِرَّ عَلَى مَا تَرَاضَيَا بِهِ مِنَ اسْتِيفَاءِ الثَّمَرَةِ عَلَى نَخْلِ الْمُشْتَرِي لِرِضَاهُ بِدُخُولِ الضَّرَرِ عَلَيْهِ، وَمِلْكُ الصَّدَاقِ عَنْ طَلَاقٍ لَا مُرَاضَاةَ فِيهِ، فَاقْتَضَى الْمَنْعَ مِنْ دُخُولِ الضَّرَرِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا،(9/440)
وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي نَفْيِ الضَّرَرِ عَنْهُمَا، فَلَوْ طَلَبَ الزَّوْجُ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِ النَّخْلِ فِي الْحَالِ عَلَى أَنْ يَتْرُكَ الثَّمَرَةَ عَلَيْهَا إِلَى تَكَامُلِ الصَّلَاحِ فَفِي إِجْبَارِهَا عَلَى ذَلِكَ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا تُجْبَرُ عَلَيْهِ تَعْلِيلًا بِأَنَّ حَقَّهُ قَدْ صَارَ فِي الْقِيمَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تُجْبَرُ عَلَيْهِ تَعْلِيلًا بِزَوَالِ الضَّرَرِ عَنْهَا وَلُحُوقِهِ بِالزَّوْجِ الرَّاضِي بِهِ.
فَصْلٌ: إِيضَاحُ الْحَالَةِ الثَّالِثَةِ
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَبْذُلَ لَهُ قَطْعَ الثَّمَرَةِ، وَتَسْلِيمَ نِصْفِ النَّخْلِ:
فَإِنْ كَانَ تَعْجِيلُ قَطْعِهَا مُضِرًّا بِالنَّخْلِ: لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْقَبُولِ.
وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُضِرٍّ: فَمَا لَمْ تُبَادِرْ إِلَى الْقَطْعِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْقَبُولِ وَإِنْ بَادَرَتْ إِلَى الْقَطْعِ فَفِي إِجْبَارِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُجْبَرُ تَعْلِيلًا بِأَنَّ حَقَّهُ قَدْ صَارَ فِي الْقِيمَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُجْبَرُ تَعْلِيلًا بِزَوَالِ الضَّرَرِ عَنْهُ فِي الْأَصْلِ.
وَلَوْ طَلَبَ الزَّوْجُ مِنْهَا أَنْ تَقْطَعَ الثَّمَرَةَ وَتُعْطِيَهُ نِصْفَ النَّخْلِ لَمْ تُجْبَرِ الزَّوْجَةُ عَلَيْهِ وَجْهًا وَاحِدًا، لِمَا فِيهِ مِنْ دُخُولِ الضَّرَرِ عَلَيْهَا.
فَصْلٌ: إِيضَاحُ الْحَالَةِ الرَّابِعَةِ
وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ تَدْعُوَهُ إِلَى الصَّبْرِ عَلَيْهَا إِلَى أَنْ تَتَكَامَلَ صَلَاحَ الثَّمَرَةِ ثُمَّ تُعْطِيَهُ بَعْدَ جَذَاذِهَا نِصْفَ النَّخْلِ، فَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ وَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ تَعْلِيلًا بِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَقَّهُ فِي الْقِيمَةِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ الْعُدُولُ عَنْهَا.
وَالثَّانِي: دُخُولُ الضَّرَرِ عَلَيْهِ فِي تَأْخِيرِ مَا اسْتَحَقَّ تَعْجِيلَهُ.
وَلَوْ كَانَ هُوَ الدَّاعِي لَهَا إِلَى الْإِنْظَارِ بِالنَّخْلِ إِلَى أَوَانِ الْجَذَاذِ ثُمَّ الرُّجُوعِ بِهَا، لَمْ يَلْزَمْهَا ذَلِكَ، وَلَا تُجْبَرُ عَلَيْهِ تَعْلِيلًا بِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَقَّهُ قَدْ صَارَ فِي الْقِيمَةِ فَلَمْ يَلْزَمْهَا الْعُدُولُ عَنْهَا.
وَالثَّانِي: دُخُولُ الضَّرَرِ عَلَيْهَا بِبَقَاءِ الْحَقِّ فِي ذِمَّتِهَا، وَأَيُّهُمَا دَعَا إِلَى الْقِيمَةِ أُجِيبَ إِلَيْهَا.
فَصْلٌ
فَأَمَّا مَا جَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مثالاً للنخل إِذَا أَثْمَرَتْ مِنَ الْجَارِيَةِ الْحَامِلِ وَالشَّاةِ الْمَاخِضِ، وَجَمْعُهُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهٍ، وَتَفْرِيقٌ بَيْنَهُمَا مِنْ آخَرَ، فَنُوَضِّحُ مِنْ حُكْمِهِمَا مَا بَيَّنَ بِهِ مَوْضِعَ الْجَمْعِ، وَمَوْضِعَ الْفَرْقِ.
أَمَّا الْجَارِيَةُ إِذَا كَانَتْ صَدَاقًا فَحَمَلَتْ فِي يَدِ الزَّوْجِ فَالْحَمْلُ فِيهَا زِيَادَةٌ مِنْ وَجْهٍ وَنُقْصَانٌ مِنْ وَجْهٍ.
أَمَّا زِيَادَتُهَا فَبِالْوَلَدِ، وَأَمَّا نُقْصَانُهَا فَبِالْخَوْفِ عَلَيْهَا عِنْدَ الْوِلَادَةِ، فَإِنْ بَذَلَتْهَا الزَّوْجَةُ لَمْ(9/441)
يَلْزَمِ الزَّوْجَ قَبُولُهَا لِأَجْلِ النَّقْصِ، وَإِنْ طَلَبَهَا الزَّوْجُ لَمْ يَلْزَمِ الزَّوْجَةَ بَذْلُهَا لِأَجْلِ الزِّيَادَةِ، وَأَيُّهُمَا دَعَا إِلَى الْقِيمَةِ أُجِيبَ. فَتَكُونُ مُوَافِقَةً لِلثَّمَرَةِ فِي الزِّيَادَةِ وَمُخَالِفَةً لَهَا فِي النُّقْصَانِ.
وأما الشاة إذا كان صَدَاقًا فَحَمَلَتْ بِالْحَمْلِ فِيهَا زِيَادَةٌ مِنْ وَجْهٍ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ نَقْصًا فِيهَا، مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَكُونُ نَقْصًا فِي الْبَهَائِمِ، وَيَكُونُ زِيَادَةً مَحْضَةً، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْآدَمِيَّاتِ نَقْصًا وَزِيَادَةً، لِأَنَّ حَالَ الْوِلَادَةِ مَخُوفٌ فِي الْآدَمِيَّاتِ وَغَيْرُ مَخُوفٍ فِي الْبَهَائِمِ.
فَذَلِكَ كَانَ نَقْصًا فِي الْآدَمِيَّاتِ، وَلَمْ يَكُنْ نَقْصًا فِي الْبَهَائِمِ.
فَعَلَى هَذَا: إِذَا بَذَلَتْهَا الزَّوْجَةُ أُجْبِرَ الزَّوْجُ عَلَى قَبُولِهَا فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ فَتَكُونُ مُوَافِقَةً لِلثَّمَرَةِ فِي الزِّيَادَةِ وَغَيْرَ مُخَالِفَةٍ لَهَا فِي النُّقْصَانِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي " أَنَّ الْحَمْلَ فِي الْبَهَائِمِ نَقْصٌ أَيْضًا، وَإِنْ أَمِنَ عَلَيْهَا عِنْدَ الْوِلَادَةِ، لِأَنَّ الْحَمْلَ قَدْ أَحْدَثَ نَقْصًا فِي اللَّحْمِ، فَصَارَ نَقْصُ اللَّحْمِ نَقْصًا فِيهَا وَإِنْ لَمْ يُخَفْ عَلَيْهَا فِي وِلَادَتِهَا.
فَعَلَى هَذَا:
إِنْ بَذَلَتْهَا الزَّوْجَةُ لَمْ يُجْبَرِ الزَّوْجُ عَلَى قَبُولِهَا لِأَجْلِ النقص. فإن طلبها الزوج لم تجبر الزوجة عَلَى قَبُولِهَا لِأَجْلِ الزِّيَادَةِ وَأَيُّهُمَا دَعَا إِلَى الْقِيمَةِ أُجِيبَ.
فَتَكُونُ عَلَى هَذَا مُوَافِقَةً لِلثَّمَرَةِ فِي الزِّيَادَةِ، وَمُخَالِفَةً لَهَا فِي النُّقْصَانِ.
الْقَوْلُ فِي ثَمَرِ الشَّجَرِ فِي الصَّدَاقِ
مَسْأَلَةٌ
قَالَ الشافعي: " وَكَذَلِكَ كُلُّ شجرٍ إِلَّا أَنْ يَرْقُلَ الشَجَرُ فيصير قحاماً فلا يلزمه وليس لها ترك الثمرة على أن تستجنيها ثم تدفع إليه نصف الشجر لا يكون حقه معجلاً فتؤخره إلا أن يشاء ولو أراد أن يؤخرها إلى أن تجد الثمرة لم يكن ذلك عليها وذلك أن النخل والشجر يزيدان إلى الجداد وأنه لما طلقها وفيها الزيادة كان محولاً دونها وكانت هي المالكة دونه وحقه في قيمته (قال المزني) ليس هذا عندي بشيءٍ لأنه يجيز بيع النخل قد أبرت فيكون ثمرها للبائع حتى يستجنيها والنخل للمشتري معجلةً ولو كانت مؤخرةً ما جاز بيع عينٍ مؤخرةٍ فلما جازت معجلةً والثمر فيها جاز رد نصفها للزوج معجلاً والثمر فيها وكان رد النصف في ذلك أحق بالجواز من الشراء؛ فإذا جاز ذلك في الشراء جاز في الرد ".
قال الماوردي: إذا أصدقها شجراً غير مثمر فطلقها وقد أثمر فَالْكَلَامُ فِي ثَمَرِ الشَّجَرِ كَالْكَلَامِ فِي ثَمَرِ النَّخْلِ، فِي كَوْنِهِ مُؤَبَّرًا أَوْ غَيْرَ مُؤَبَّرٍ، عَلَى مَا مَضَى.
أَمَّا الشَّجَرُ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:(9/442)
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ غِرَاسًا غَيْرَ مُثْمِرٍ فَيَصِيرُ شَجَرًا مُثْمِرًا، فَهَذِهِ زِيَادَةٌ مَحْضَةٌ، فَيَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمَ الزِّيَادَةِ الَّتِي لَا تَتَمَيَّزُ، فَلَا تُجْبَرُ الزَّوْجَةُ عَلَى بَذْلِهَا، وَإِنْ بَذَلَتْهَا فَفِي إِجْبَارِهِ عَلَى قَبُولِهَا وَجْهَانِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ شَجَرًا مُثْمِرًا مُتَكَامِلًا فَيُرْقَلُ حَتَّى يَصِيرَ قَحَامًا.
والإرقال: التَّنَاهِي فِي الطُّولِ، وَالْقَحَامُ: التَّنَاهِي فِي الْعُمُرِ حتى قد ييئس سَعَفُهُ، وَيَخِرُّ جِذْعُهُ، فَهَذَا نُقْصَانٌ مَحْضٌ لَا يَتَمَيَّزُ، وَلَا يُجْبَرُ الزَّوْجُ عَلَى قَبُولِهِ، وَإِنْ رَضِيَ بِهِ فَفِي إِجْبَارِهِ الزَّوْجَةَ عَلَى بَذْلِهِ وَجْهَانِ:
وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ غِرَاسًا غَيْرَ مثمر فيصير قحاماً غير مثمر، فَهَذِهِ زِيَادَةٌ مِنْ وَجْهٍ، وَنُقْصَانٌ مِنْ وَجْهٍ، فَأَيُّهُمَا دَعَا إِلَى نِصْفِ الْقِيمَةِ أُجِيبَ.
مَسْأَلَةٌ
قال الشافعي: " وَكَذَلِكَ الْأَرْضُ تَزْرَعُهَا أَوْ تَغْرِسُهَا أَوْ تَحْرُثُهَا (قال المزني) الزرع مضر بالأرض منقصٌ لها وإن كان لحصاده غاية فله الخيار في قبول نصف الأرض منتقصةً أو القيمة والزرع لها وليس ثمر النخل مضراً بها فله نصف النخل والثمر لها وأما الغراس فليس بشبيهٍ لهما لأن لهما غايةً يفارقان فيهما مكانهما من جدادٍ وحصادٍ وليس كذلك الغراس لأنه ثابتٌ في الأرض فله نصف قيمتها وأما الحرث فزيادةً لها فليس عليها أن تعطيه نصف ما زاد في ملكها إلا أن تشاء وهذا عندي أشبه بقوله وبالله التوفيق ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: عَطَفَ الشَّافِعِيُّ بِزَرْعِ الْأَرْضِ وَغَرْسِهَا وَحَرْثِهَا عَلَى مَا قَدَّمَهُ مِنْ عَقْدِ الْبَابِ، وَبَيَانِ أَحْكَامِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ. فَتَوَهَّمَ الْمُزَنِيُّ أَنَّهُ عَطَفَ بِهِ عَلَى أَطْلَاعِ النَّخْلِ.
فَفَرَّقَ بَيْنَ الزَّرْعِ وَالْغَرْسِ، وَبَيْنَ أَطْلَاعِ النَّخْلِ فَأَخْطَأَ فِي تَوَهُّمِهِ، وَقَارَبَ الصِّحَّةَ فِي فَرْقِهِ.
وَحُكْمُ الْأَرْضِ تَخْتَلِفُ فِي زَرْعِهَا، وَغَرْسِهَا، وَحَرْثِهَا.
أَمَّا حَرْثُهَا: فَهُوَ فِيهَا زِيَادَةٌ مَحْضَةٌ غَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ، فَلَا يَلْزَمُ الزَّوْجَةَ بَذْلُهَا، فَإِنْ بَذَلَتْهَا أُجْبِرَ الزَّوْجُ عَلَى قَبُولِهَا فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ.
وَأَمَّا الْغَرْسُ فِي الْأَرْضِ فَهُوَ زِيَادَةٌ مِنْ وَجْهٍ وَنُقْصَانٌ مِنْ وَجْهٍ، لِأَنَّ عَيْنَ الْغَرْسِ زِيَادَةٌ، وَضَرَرَهُ في الأرض، نقصان.
فأما النقصان: مغير مُتَمَيِّزٍ، وَأَمَّا الزِّيَادَةُ: فَفِيهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُتَمَيِّزَةٌ، لِأَنَّهَا مُسْتَوْدَعَةٌ فِي الْأَرْضِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا كَالْمُتَّصِلَةِ، لِأَنَّهَا صَارَتْ تَبَعًا، فَإِنْ بَذَلَتْهَا الزَّوْجَةُ بِغَرْسِهَا لَمْ يُجْبَرِ الزَّوْجُ عَلَى الْقَبُولِ لِأَجْلِ النَّقْصِ، وَإِنْ رَضِيَ الزَّوْجُ بِهَا لَمْ تُجْبَرِ الزَّوْجَةُ عَلَى بَذْلِهَا، لِأَجْلِ الزِّيَادَةِ، وَأَيُّهُمَا دَعَا إِلَى نِصْفِ الْقِيمَةِ أُجِيبَ.(9/443)
وَأَمَّا الزَّرْعُ فِي الْأَرْضِ فَهُوَ زِيَادَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ نَقْصًا فِي الْأَرْضِ أم لا؟ على وجهين:
أحدها: أنه يكون نقصاً فيها كالغرس، وَمُخَالِفٌ لِأَطْلَاعِ النَّخْلِ، لِأَنَّ أَطْلَاعَ النَّخْلِ مِنْ ذَاتِهِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالنَّخْلِ قَبْلَ وَقْتِ أَطْلَاعِهِ. وَزَرْعَ الْأَرْضِ مِنْ فِعْلِ الْآدَمِيِّينَ وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا فِي غَيْرِ الزَّرْعِ وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ النَّوْعِ مِنَ الزَّرْعِ فَافْتَرَقَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَقْصٍ فِي الْأَرْضِ، لِأَنَّ وَقْتَ الزَّرْعِ إِذَا انْقَضَى فَلَيْسَ يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ زَرْعَهَا، وَالْأَغْلَبُ مِنْ أَرْضِ الزَّرْعِ أَنْ لَا مَنْفَعَةَ فِيهَا إِلَّا بِزَرْعِهَا فَصَارَتْ بِأَطْلَاعِ النَّخْلِ أَشْبَهَ.
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ:
- فَإِنْ جَعَلْنَا الزَّرْعَ زِيَادَةً، وَلَمْ نَجْعَلْهُ نَقْصًا فَحُكْمُ الْأَرْضِ إِذَا زُرِعَتْ مِثْلُ حُكْمِ النَّخْلِ إِذَا أَطْلَعَتْ، وَقُلْنَا: إِنَّ الثَّمَرَةَ زِيَادَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ، لِأَنَّ الزَّرْعَ زِيَادَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْأَقْسَامِ وَالْأَحْكَامِ.
- وَإِنْ جَعَلْنَا الزَّرْعَ زِيَادَةً وَنَقْصًا كَانَ فِي حُكْمِ الْغَرْسِ لَا يُجْبَرُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى الْأَرْضِ، وَأَيُّهُمَا دَعَا إِلَى الْقِيمَةِ أُجِيبَ.
فَإِنْ بَادَرَتِ الزَّوْجَةُ إِلَى قَلْعِ الزَّرْعِ فَفِي إِجْبَارِ الزَّوْجِ عَلَى قَبُولِ الْأَرْضِ إِذَا لَمْ يَضُرَّ بِهَا قَلْعُ الزَّرْعِ وَجْهَانِ كَمَا لَوْ بَادَرَتْ إِلَى قَطْعِ الثَّمَرَةِ عَنِ النَّخْلِ، وَلَكِنْ لَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ حَصَادِ الزَّرْعِ أُجْبِرَ عَلَى الْقَبُولِ، وَأُجْبِرَتْ عَلَى الدَّفْعِ وَأَيُّهُمَا دَعَا إِلَى نِصْفِ الْأَرْضِ أُجِيبَ لِتَعَيُّنِ الْحَقِّ فِيهَا وَقْتَ الطَّلَاقِ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الزَّرْعُ وَقْتَ الطَّلَاقِ وَقَدِ اسْتَحْصَدَ وَلَمْ يَحْصُدْ فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا نِصْفُ الْأَرْضِ مَا لَمْ تَنْقُصِ الْأَرْضُ بِالزَّرْعِ، وَتُجْبَرُ الزَّوْجَةُ عَلَى الْحَصَادِ، وَهَكَذَا الثَّمَرَةُ إِذَا اسْتَجَدَّتْ عَلَى رُؤُوسِ نَخْلِهَا أَخَذَتِ الزَّوْجَةُ بِجَذَاذِهَا وَرَجَعَ الزَّوْجُ بِنِصْفِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ
قال الشافعي: " وَلَوْ وَلَدَتِ الْأَمَةُ فِي يَدَيْهِ أَوْ نَتَجَتِ الْمَاشِيَةُ فَنَقَصَتْ عَنْ حَالِهَا كَانَ الْوَلَدُ لَهَا دُونَهُ لِأَنَّهُ حَدَثَ فِي مِلْكِهَا فَإِنْ شَاءَتْ أَخَذَتْ أَنْصَافَهَا نَاقِصَةً وَإِنْ شَاءَتْ أَخَذَتْ أَنْصَافَ قيمتها يوم أصدقها (قال المزني) هذا قياس قوله في أول باب ما جاء في الصداق في كتاب الأم وهو قوله وهذا خطأٌ على أصله ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ أَصْدَقَ امْرَأَتَهُ جَارِيَةً أَوْ مَاشِيَةً فَزَادَتْ فِي يَدِهِ بِحَمْلٍ أَوْ وَلَدٍ، ثُمَّ طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَقَدْ دَخَلَ حُكْمُهُ فِي أَقْسَامِ مَا قَدَّمْنَاهُ، وَنَحْنُ نُشِيرُ إِلَيْهِ وَنَذْكُرُ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ زِيَادَةٍ، وَنَقْتَصِرُ عَلَى ذِكْرِ الْجَارِيَةِ فَإِنَّ فِيهَا بَيَانَ الْمَاشِيَةِ.
وَأَحْوَالُ الْجَارِيَةِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ وَقْتَ الصَّدَاقِ حَابِلًا فَتَحْمِلُ في يده بمملوك وتلد ثم تطلق.(9/444)
والقسم الثاني: أن تكون حاملاً فَتَحْبَلُ ثُمَّ تُطَلَّقُ قَبْلَ أَنْ تَضَعَ.
وَالْقِسْمُ الثالث: أن تكون حاملاً ثم تلد ثُمَّ تُطَلَّقُ.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ تكون حاملاً فتحبل وَتَلِدُ ثُمَّ تُطَلَّقُ فَلَا يَخْلُو حَالُهَا وَحَالُ وَلَدِهَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَا بَاقِيَيْنِ.
وَالثَّانِي: تَالِفَيْنِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الْأُمُّ بَاقِيَةً وَالْوَلَدُ تَالِفًا.
وَالرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ الْأُمُّ تَالِفَةً وَالْوَلَدُ بَاقِيًا.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: إِذَا كَانَا بَاقِيَيْنِ فَالْوَلَدُ لِلزَّوْجَةِ، لِحُدُوثِهِ فِي مِلْكِهَا، وَتَكُونُ وِلَادَتُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ، كَوِلَادَتِهِ بَعْدَ الْقَبْضِ، فِي أَنْ لَا حَقَّ فِيهِ لِلزَّوْجِ وَكَذَلِكَ الْكَسْبُ.
وَقَالَ مَالِكٌ: يَكُونُ لِلزَّوْجِ نِصْفُ الْوَلَدِ وَنِصْفُ الْكَسْبِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا حَقَّ لِلزَّوْجِ فِيمَا حَدَثَ بَعْدَ القبض من ولد كسب وَلَهُ فِيمَا حَدَثَ فِي يَدِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ نِصْفُ الْوَلَدِ دُونَ الْكَسْبِ.
اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ قَبْلَ الْقَبْضِ مُسْتَحِقٌّ التَّسْلِيمَ بِالْعَقْدِ كَالْأُمِّ، فَوَجَبَ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِهِ كَرُجُوعِهِ بِنِصْفِ الْأُمِّ.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُ الله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} فَلَمْ يُوجِبِ الرُّجُوعَ إِلَّا بِنِصْفِ الْمَفْرُوضِ، وَلَيْسَ الْوَلَدُ مَفْرُوضًا.
وَلِأَنَّهُ نَمَاءٌ حَدَثَ فِي مِلْكِهَا فَلَمْ يَسْتَحِقَّ الزَّوْجُ بِطَلَاقِهِ شَيْئًا مِنْهُ كَالْحَادِثِ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَمْلِكْهُ بِالطَّلَاقِ إِذَا حَدَثَ بَعْدَ الْقَبْضِ لَمْ يَمْلِكْهُ بِالطَّلَاقِ إِذَا حَدَثَ قَبْلَ الْقَبْضِ كَالْكَسْبِ.
وَبِالْكَسْبِ يَنْتَقِصُ قِيَاسُهُمْ مَعَ أَنَّنَا لَا نَقُولُ إِنَّهُ تَسْلِيمٌ يُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ وَلَكِنْ بِالْمِلْكِ.
فَإِذَا ثَبَتَ أَنْ لَا حَقَّ لَهُ فِي الْوَلَدِ فَلِلْأُمِّ ثَلَاثَةُ أحوال:
أحدهما: أَنْ تَكُونَ بِحَالِهَا لَمْ تَزِدْ وَلَمْ تَنْقُصْ، فَيَكُونُ لِلزَّوْجِ نِصْفُهَا بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلَهَا النِّصْفُ، وَلَا خِيَارَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ قَدْ زَادَتْ فَلَهَا مَنْعُ الزَّوْجِ مِنْهَا لِحُدُوثِ الزِّيَادَةِ عَلَى مِلْكِهَا وَتَعْدِلُ بِهِ إِلَى نِصْفِ الْقِيمَةِ، فَإِنْ بَذَلَتْ لَهُ نِصْفَهَا زَائِدَةً أُجْبِرَ عَلَى الْقَبُولِ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَكُونَ نَاقِصَةً فَلَهَا الْخِيَارُ بَيْنَ الْمُقَامِ وَالْفَسْخِ. فَإِنْ أَقَامَتْ أَخَذَتِ النِّصْفَ نَاقِصًا وَأَخَذَ الزَّوْجُ نِصْفَهَا نَاقِصًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ لِحُدُوثِ النُّقْصَانِ فِي يَدِهِ وَدُخُولِهِ في ضمانه.(9/445)
وَإِنْ فَسَخَتْ فَالْوَلَدُ لَهَا، لِأَنَّ الْفَسْخَ فِي الْأَصْلِ مَعَ بَقَائِهِ قَطْعٌ لِلْعَقْدِ فِيهِ وَلَيْسَ بِرَفْعٍ لَهُ مِنْ أَصْلِهِ.
وَبِمَاذَا تَرْجِعُ عَلَيْهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: بِالْجَارِيَةِ وَأَرْشِ النَّقْصِ، فَيَكُونُ الْفَسْخُ مُفِيدًا اسْتِحْقَاقَ الْأَرْشِ وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يُوجِبُ قِيمَةَ الصَّدَاقِ عِنْدَ تَلَفِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَرْجِعُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يُوجِبُ مَهْرَ الْمِثْلِ، عِنْدَ تَلَفِ الصَّدَاقِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ تَتْلَفَ الْأُمُّ وَالْوَلَدُ مَعًا فِي يَدِ الزَّوْجِ.
فَالْأُمُّ مَضْمُونَةٌ عَلَيْهِ، وَبِمَاذَا يَضْمَنُهَا فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ إِنَّهُ يَضْمَنُهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ جَمِيعُهُ عَلَيْهِ إِنْ طَلَّقَ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَنِصْفُهُ إِنْ طَلَّقَ قَبْلَهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ يَضْمَنُهَا بِقِيمَتِهَا، وَفِي اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَوْمَ أَصْدَقَ تَغْلِيبًا لِضَمَانِ الْعَقْدِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَلْزَمُهُ قِيمَتُهَا أَكْثَرُ مَا كَانَتْ قِيمَةً مِنْ وَقْتِ الصَّدَاقِ إِلَى وَقْتِ التَّلَفِ، اعْتِبَارًا بِضَمَانِ الْغَصْبِ.
فَأَمَّا الْوَلَدُ: فَحُكْمُهُ بَعْدَ التَّلَفِ مُعْتَبَرٌ بِحُكْمِهِ لَوْ كَانَ حَيًّا، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، فَإِنْ لَمْ نَجْعَلْهُ لَهَا لَوْ كَانَ حَيًّا لَمْ يَلْزَمِ الزَّوْجَ لَهُ غُرْمٌ بِتَلَفِهِ.
وَإِنْ جَعَلْنَاهُ لَهَا لَوْ كَانَ حَيًّا فَفِي ضَمَانِهِ عَلَى الزَّوْجِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ وَلَدُ أُمٍّ مَضْمُونَةٍ، فَصَارَ مَضْمُونًا كَوَلَدِ الْمَغْصُوبَةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَضْمَنُهُ، لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَتَضَمَّنْهُ، وَخَالَفَ وَلَدَ الْمَغْصُوبَةِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِيهِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْأُمُّ بَاقِيَةً وَالْوَلَدُ تَالِفًا، فَلَهَا جَمِيعُ الْأُمِّ إِنْ طُلِّقَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَنِصْفُهَا إِنْ طُلِّقَتْ قَبْلَهُ.
وَالْكَلَامُ فِيمَا حَدَثَ فِيهَا مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ عَلَى مَا مَضَى.
وَأَمَّا الْوَلَدُ فَجَمِيعُهُ لَهَا: وَهَلْ يَضْمَنُهُ الزَّوْجُ بِالتَّلَفِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُهُ فَيَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مَا كَانَ قِيمَةً مِنْ وَقْتِ وِلَادَتِهِ إِلَى وَقْتِ تَلَفِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ كَالْأَمَانَةِ فِي يَدِهِ إِلَّا أَنْ تَطْلُبَهُ مِنْهُ فَيَمْنَعُهَا فَيَضْمَنُهُ كَالْوَدَائِعِ.(9/446)
وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْأُمُّ تَالِفَةً وَالْوَلَدُ بَاقِيًا، فَفِيمَا تَرْجِعُ عَلَيْهِ فِي بَدَلِ الْأُمِّ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: قِيمَتُهَا، وَفِي اعْتِبَارِ قيمتها قولان.
أحدهما: قيمنه وَقْتَ الْعَقْدِ.
وَالثَّانِي: أَكْثَرُ مَا كَانَ قِيمَةً مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ إِلَى وَقْتِ التَّلَفِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْوَلَدُ لَهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: تَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَهْرِ مِثْلِهَا. فَعَلَى هَذَا فِي الْوَلَدِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَكُونُ لِلزَّوْجَةِ أَيْضًا لِحُدُوثِهِ فِي مِلْكِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَكُونُ لِلزَّوْجِ، لِأَنَّهُ رفع للعقد مِنْ أَصْلِهِ، فَصَارَتْ غَيْرَ مَالِكَةٍ لِأُمِّهِ.
فَصْلٌ
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ أَقْسَامِ الْأَصْلِ وَهُوَ أن تكون الجارية حاملاً وقت الطلاق، فَالْحَمْلُ فِيهَا زِيَادَةٌ مِنْ وَجْهٍ وَنُقْصَانٌ مِنْ وَجْهٍ.
فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَعْدَ الدُّخُولِ كَانَتْ مُخَيَّرَةً بَيْنَ أَمْرَيْنِ.
إِمَّا أَنْ تَسْمَحَ فَتَأْخُذَهَا بزيادتها ونقصها.
وإما أن تفسح وَبِمَاذَا تَرْجِعُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: بِالْجَارِيَةِ حَامِلًا وَأَرْشِ مَا نَقَصَتْهَا الْوِلَادَةُ وَلَا تَجْبُرُ نُقْصَانَ الْوِلَادَةِ بِزِيَادَةِ الْحَمْلِ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: تَرْجِعُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ.
وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ: كَانَتْ مُخَيَّرَةً بَيْنَ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ.
إِمَّا أَنْ تَأْخُذَ الْكُلَّ وَتُعْطِيَهِ نِصْفَ الْقِيمَةِ أَقَلَّ مَا كَانَتْ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ إِلَى وَقْتِ الْقَبْضِ لِأَنَّ لَهَا زِيَادَةً تُسْتَحَقُّ بِمِلْكِهَا.
وَإِمَّا أَنْ تَأْخُذَ نِصْفَهَا وَتُعْطِيَهُ نصفها زائدة ناقصة، فيلزمه قبولها، وإن النقصان مضمون عليه، والزيادة مبذولة له.
وما أن تفسح فِي الْكُلِّ وَبِمَاذَا تَرْجِعُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْقَدِيمُ تَرْجِعُ بِنِصْفِهَا وَنِصْفِ أَرْشِ النُّقْصَانِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْجَدِيدُ بِنِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ.
فَصْلٌ
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْ أَقْسَامِ الْأَصْلِ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ حَامِلًا وَقْتَ الصَّدَاقِ وَقَدْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا وَقْتَ الطَّلَاقِ. فَحُكْمُهُ مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي الْحَمْلِ هَلْ لَهُ حُكْمٌ يَتَمَيَّزُ بِهِ أَوْ يَكُونُ تَبَعًا؟ فِيهِ قولان:(9/447)
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَكُونُ تَبَعًا لَا يَتَمَيَّزُ بِحُكْمٍ فَعَلَى هَذَا إِذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ كَانَ لَهَا جَمِيعُ الْوَلَدِ وَهَلْ يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا فِي حَقِّ الزَّوْجِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا فِي حَقِّهِ وَإِنْ كَانَتِ الْأُمُّ زَائِدَةً بِهِ وَقْتَ حَمْلِهِ وَيَكُونُ كَالسِمَنِ إِذَا زَالَ بِالْهُزَالِ وَيَصِيرُ الْوَلَدُ كَالنَّمَاءِ الْحَادِثِ عَلَى مِلْكِهَا ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُسْتَهْلَكُ عَلَى الزَّوْجِ حَقُّهُ مِنَ الزِّيَادَةِ بِحَمْلِهَا بِخِلَافِ ذَهَابِ السِمَنِ بِالْهُزَالِ، لِأَنَّ السِمَنَ هَلَكَ فِي يَدِهِ فَصَارَ مُسْتَهْلَكًا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ الْوَلَدُ كَذَلِكَ، لِأَنَّ زِيَادَتَهُ حَمْلًا قَدْ تَمَّتْ وَتَكَامَلَتْ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْتَهْلَكَ عَلَى الزَّوْجِ وَقَدْ صَارَتْ مُتَكَامِلَةً لِلزَّوْجَةِ.
وَإِذَا كَانَ هَكَذَا وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ مَا بَيْنَ قِيمَتِهَا وَقْتَ الْعَقْدِ حَامِلًا وَحَابِلًا فَمَا كَانَ بَيْنَهُمَا مِنْ فَصْلٍ رَجَعَ الزَّوْجُ بِنِصْفِهِ عَلَى الزَّوْجَةِ مَعَ نِصْفِ الْأُمِّ، وَصَارَ جَمِيعُ الْوَلَدِ مَعَ نِصْفِ الْأُمِّ لِلزَّوْجَةِ. فَإِنْ بَذَلَتْ لَهُ نِصْفَ الْوَلَدِ عَمَّا اسْتَحَقَّهُ مِنْ نِصْفِ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ فَرْضِيَ جَازَ، وَصَارَتِ الْأُمُّ بَيْنَهُمَا وَالْوَلَدُ بَيْنَهُمَا. وَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ وَجْهًا وَاحِدًا، لِأَنَّهُ عُدُولٌ عَنْ حَقِّهِ إِلَى مُعَاوَضَةٍ لَا يَلْزَمُ إِلَّا عَنْ مُرَاضَاةٍ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ نُظِرَ:
فَإِنْ أَخَذَ الزَّوْجُ نِصْفَ الْوَلَدِ مَعَ نِصْفِ الْأُمِّ أُقِرَّ عَلَى مِلْكِهِ لإجماع ملك الولد مع ملك الأم.
وإذا أَخَذَ الزَّوْجُ نِصْفَ الْأُمِّ وَلَمْ يَأْخُذْ نِصْفَ الْوَلَدِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَرَّ عَلَى مِلْكِ نِصْفِ الْأُمِّ، لِأَنَّ فِيهِ تَفْرِيقًا بَيْنَ الْأُمِّ وَوَلَدِهَا فِي الْمِلْكِ.
وَهَلْ تُجْبَرُ الزَّوْجَةُ عَلَى إِعْطَائِهِ نِصْفَ قِيمَةِ الْأُمِّ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ لِمَا يَلْزَمُهَا مِنَ الْقِيَامِ بِحَضَانَةِ الْوَلَدِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا لَا تُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ، وَيُقَالُ لَهَا: إِنْ دَفَعْتِ إِلَى الزَّوْجِ نِصْفَ قِيمَةِ الْأُمِّ أُقِرَّ الْوَلَدُ وَالْأُمُّ عَلَى مِلْكِكِ. وَإِنِ امْتَنَعْتِ: لَمْ تُجْبَرِي وَبِيعَا جَمِيعًا عَلَيْكِ، وَدُفِعَ إِلَى الزَّوْجِ مِنَ الثَّمَنِ النِّصْفُ فَمَا قَابَلَ ثَمَنَ الْأُمِّ، وَكَانَ الْبَاقِي لَكِ، فَهَذَا إِذَا قِيلَ: إِنَّ الْحَمْلَ تَبَعٌ لَا يَتَمَيَّزُ بِحُكْمٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي الْحَمْلِ أَنَّ لَهُ حُكْمًا يَتَمَيَّزُ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْأُمُّ وَالْحَمْلُ صَدَاقًا، لَكِنَّ الْحَمْلَ قَدْ زَادَ بِالْوِلَادَةِ عَلَى مِلْكِ الزَّوْجَةِ، فَلَمْ يَلْزَمْهَا بَدَلُ الْوَلَدِ لِحُدُوثِ الزِّيَادَةِ فِيهِ.
فَإِنْ بَذَلَتْ لَهُ نِصْفَ الْوَلَدِ مَعَ نِصْفِ الْأُمِّ أُجْبِرَ عَلَى الْقَبُولِ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ، وَإِنِ امْتَنَعَتْ مِنْ بَذْلِ نِصْفِهِ، رَجَعَ بِنِصْفِ الْأُمِّ، وَفِي كَيْفِيَّةِ مَا يَرْجِعُ بِهِ مِنْ قِيمَةِ نِصْفِ الْحَمْلِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ بِنِصْفِ مَا بَيْنَ قِيمَةِ أُمِّهِ حَامِلًا وَحَابِلًا، وَلَا يُقَوَّمُ وَقْتَ الْوِلَادَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ زَادَ إِلَى وَقْتِ الْوِلَادَةِ زِيَادَةً لَا يَمْلِكُهَا الزَّوْجُ، فَدَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى اعْتِبَارِ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ.(9/448)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُقَوَّمُ الْوَلَدُ وَقْتَ الْوِلَادَةِ وَيَرْجِعُ الزَّوْجُ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ لِأَنَّهُ فِي وَقْتِ كَوْنِهِ حَمْلًا لَا يُوصَلُ إِلَى مَعْرِفَةِ قِيمَتِهِ. فَدَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى اعْتِبَارِ قِيمَتِهِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ، وَإِنْ حَدَثَتْ فِيهِ زِيَادَةٌ لَا يُمَلَّكْهَا. كَمَا يُقَوَّمُ عَلَى مَنْ تَزَوَّجَ أَمَةً عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ فَأَوْلَدَهَا وَلَدًا صَارَ بِالْعُلُوقِ حُرًّا فَيُقَوَّمُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ صَارَ بِالْعُلُوقِ حُرًّا، وَعِنْدَ الْوِلَادَةِ زَائِدًا، لِتَعَذُّرِ تَقْوِيمِهِ حَالَ الْعُلُوقِ. كَذَلِكَ هَاهُنَا.
فَعَلَى هَذَا يُمْنَعُ مِنَ الْوَلَدِ إِلَى نِصْفِ قِيمَتِهِ لِأَجْلِ زِيَادَتِهِ، فَإِنْ بَذَلَتْ لَهُ نِصْفَ الْوَلَدِ فَفِي إِجْبَارِهِ عَلَى قَبُولِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِهِ وَيُقَرُّ الزَّوْجُ عَلَى مِلْكِهِ لِاجْتِمَاعِهِ مَعَ الْأُمِّ فِي الْمِلْكِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ وَيُطَالِبُ بِتَنْصِيفِ الْقِيمَةِ. فَإِذَا أَخَذَ نِصْفَ قِيمَةِ الْوَلَدِ فَلَهُ نِصْفُ الْأُمِّ مَا لَمْ تَزِدْ وَلَمْ تَنْقُصْ، وَلَا يَجُوزُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْوَلَدِ وَبَيْنَ أُمِّهِ فِي الْمِلْكِ.
وَهَلْ تُجْبَرُ الزَّوْجَةُ عَلَى دَفْعِ نِصْفِ قِيمَةِ الْأُمِّ، أَوْ يُبَاعَانِ مَعًا؟ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
مسألة
قال الشافعي: " فَإِنْ أَصْدَقَهَا عَرَضًا بِعَيْنِهِ أَوْ عَبْدًا فَهَلَكَ قَبْلَ أَنْ يَدْفَعَهُ فَلَهَا قِيمَتُهُ يَوْمَ وَقَعَ النِّكَاحُ فَإِنْ طَلَبَتْهُ فَمَنَعَهَا فَهُوَ غاصبٌ وَعَلَيْهِ أكثر ما كان قيمة (قال المزني) قد قال في كتاب الخلع لو أصدقها داراً فاحترقت قبل أن تقبضها كَانَ لَهَا الْخِيَارُ فِي أَنْ تَرْجِعَ بِمَهْرِ مِثْلِهَا أَوْ تَكُونَ لَهَا الْعَرْصَةُ بِحِصَّتِهَا مِنَ المهر وقال فيه أيضاً لو خلعها على عبدٍ بعينه فمات قبل أن تقبضه رَجَعَ عَلَيْهَا بِمَهْرِ مِثْلِهَا كَمَا يَرْجِعُ لَوِ اشتراه منها فمات رجع بالثمن الذي قبضت (قال المزني) هذا أشبه بأصله لأنه يجعل بدل النكاح وبدل الخلع في معنى بدل البيع المستهلك فإذا بطل البيع قبل أن يقبض وقد قبض البدل واستهلك رجع بقيمة المستهلك وكذلك النكاح والخلع إذا بطل بدلهما رجع بقيمتهما وهو مهر المثل كالبيع المستهلك ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا كَانَ الصَّدَاقُ مُعَيَّنًا مِنْ عُرُوضٍ أَوْ حُبُوبٍ، كَعَبْدٍ، أَوْ بَعِيرٍ، أَوْ حِنْطَةٍ أَوْ شَعِيرٍ، فَتَلِفَ فِي يَدِ الزَّوْجِ قَبْلَ قَبْضِهِ فَفِي بُطْلَانِ الصَّدَاقِ بِتَلَفِهِ، وَفِيمَا يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ بِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَنَّ الصَّدَاقَ لَا يَبْطُلُ مِنَ الْعَقْدِ بِتَلَفِهِ فِي يَدِ الزَّوْجِ وَأَنَّ لَهَا أَنْ تَرْجِعَ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ.
وَدَلِيلُهُ شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ مَا وَجَبَ تَسْلِيمُهُ مَعَ بَقَائِهِ إِذَا هَلَكَ مَضْمُونًا مَعَ بَقَاءِ سَبَبِ اسْتِحْقَاقِهِ يُوجِبُ ضَمَانَ قِيمَتِهِ كالمغصوب والعوادي.(9/449)
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الصَّدَاقُ فِي مُقَابَلَةِ الْبُضْعِ وَكَانَ مِلْكُ الزَّوْجِ عَلَى الْبُضْعِ مُسْتَقِرًّا قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلَا يَفْسَدُ الْعَقْدُ عَلَيْهِ لَوْ تَلِفَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِلْكُ الزَّوْجَةِ لِلصَّدَاقِ مُسْتَقِرًّا قَبْلَ الْقَبْضِ وَلَا يَفْسَدُ الْعَقْدُ عَلَيْهِ إِنْ تَلِفَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ: أَنَّ الصَّدَاقَ قَدْ بَطَلَ مِنَ الْعَقْدِ بِتَلَفِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ دُونَ قِيمَتِهِ.
وَدَلِيلُهُ شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّدَاقَ عِوَضٌ تَعَيَّنَ فِي عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ بِتَلَفِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَيَسْتَحِقَّ الرُّجُوعَ بِالْمُعَوِّضِ دون العوض كالبيع، وهو أن يبيع الرَّجُلِ عَبْدًا بِثَوْبٍ يُسَلِّمُهُ وَيَتْلَفُ الثَّوْبُ قَبْلَ أَنْ يَتَسَلَّمَهُ فَيَكُونُ لَهُ الرُّجُوعُ بِعَبْدِهِ لَا بِقِيمَةِ الثَّوْبِ الَّذِي فِي مُقَابَلَتِهِ. كَذَلِكَ تَلَفُ الصَّدَاقِ كَانَ يَقْتَضِي تَلَفُهُ الرُّجُوعَ بِالْبُضْعِ الَّذِي فِي مُقَابَلَتِهِ، لَكِنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ الرُّجُوعُ بِهِ لِلُزُومِ الْعَقْدِ مِنْهُ وَجَبَ الرُّجُوعُ بِبَدَلِهِ، وَلَيْسَ لَهُ مِثْلٌ فَوَجَبَ الرُّجُوعُ بِقِيمَتِهِ وَقِيمَتُهُ مَهْرُ الْمِثْلِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ بُطْلَانُ الصَّدَاقِ بِجَهَالَتِهِ أَوْ تَحْرِيمِهِ يُوجِبُ الرُّجُوعَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ ودون الْقِيمَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ بُطْلَانُهُ بِالتَّلَفِ بِمَثَابَتِهِ فِي الرُّجُوعِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ دُونَ قِيمَتِهِ.
فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ: انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى التفريع عليهما.
فإن قُلْنَا بِالْقَدِيمِ: إِنَّ الرُّجُوعَ بِالْقِيمَةِ دُونَ الْمَهْرِ: فَلَهُ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْهُ بِغَيْرِ عُذْرٍ حَتَّى يَتْلَفَ فِي يَدِهِ فَيَكُونُ عَلَيْهِ قيمته أكثر ما كان قيمة من وقت الْمَنْعِ إِلَى وَقْتِ التَّلَفِ إِنْ لَمْ يَكُنْ قِيمَتُهُ قَبْلَ ذَلِكَ أَكْثَرَ، لِأَنَّهُ بِالْمَنْعِ قَدْ صَارَ غَاصِبًا فَوَجَبَ أَنْ يَضْمَنَهُ ضَمَانَ الْغَصْبِ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَكُونَ مِنْهُ مَنْعٌ وَلَا مِنْهَا طَلَبٌ. فَفِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَضْمَنُهُ ضَمَانَ عَقْدٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: ضَمَانُ غَصْبٍ.
فَإِذَا قِيلَ ضَمَانُ عَقْدٍ: فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ أَصْدَقَ.
وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ تَلِفَ.
وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ نُقْصَانَهُ بَعْدَ الْعَقْدِ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَهُ قِيمَتُهُ وَقْتَ الْعَقْدِ.
وَإِذَا قِيلَ: يَضْمَنُهُ ضَمَانَ الْعَيْبِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ أَكْثَرُ مَا كَانَتْ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ إِلَى وَقْتِ التَّلَفِ فِي يَدَيْهِ.
وَهَلْ يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مَا كَانَتْ قِيمَتُهُ فِي سُوقِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُهَا كَالْمَغْصُوبِ، فَعَلَى هَذَا يَضْمَنُ زِيَادَةَ الْبَدَنِ، وزيادة السوق.(9/450)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَضْمَنُهَا، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ بالإمساك فكانت حالة أخف من الغاصب المعتدي، فَعَلَى هَذَا يَضْمَنُ زِيَادَةَ الْبَدَنِ وَلَا يَضْمَنُ زِيَادَةَ السُّوقِ.
وَإِذَا قُلْنَا بِقَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ: أَنَّ الرُّجُوعَ يَكُونُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ فَلِتَلَفِهِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بِحَادِثِ سَمَاءٍ، فَيَبْطُلُ فيه الصداق، ويستحق فِيهِ مَهْرَ الْمِثْلِ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَسْتَهْلِكَهُ الزَّوْجَةُ فِي يَدِ الزَّوْجِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ قَبْضًا مِنْهَا. وَلَا مَهْرَ لَهَا. كَمَنِ اشْتَرَى سِلْعَةً وَاسْتَهْلَكَهَا فِي يَدِ بَائِعِهَا كَانَ اسْتِهْلَاكُهُ قَبْضًا.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَسْتَهْلِكَهُ أَجْنَبِيٌّ فَفِي بُطْلَانِ الصَّدَاقِ فِيهِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَنِ ابْتَاعَ عَبْدًا فَقَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ فِي يَدِ بَائِعِهِ فَفِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَدْ بَطَلَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ صَحِيحٌ وَمُشْتَرِيهِ بِالْخِيَارِ:
كَذَلِكَ هَاهُنَا، لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَى مُتْلِفِهِ، فَيَكُونُ فِي بُطْلَانِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَدْ بَطَلَ وَلَهَا عَلَى الزَّوْجِ مَهْرُ مِثْلِهَا، وَيَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَى مُتْلِفِهِ بِالْقِيمَةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ، وَتَكُونُ الزَّوْجَةُ بِحُدُوثِ النَّقْصِ بِتَلَفِهِ مُخَيَّرَةً بَيْنَ الْمُقَامِ والفسخ.
فإذا أَقَامَتْ كَانَتْ لَهَا قِيمَةُ الصَّدَاقِ تَرْجِعُ بِهِ عَلَى مَنْ شَاءَتْ مِنَ الزَّوْجِ أَوِ الْمُسْتَهْلِكِ.
وَإِنْ فَسَخَتْ رَجَعَتْ عَلَى الزَّوْجِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَرَجَعَ الزَّوْجُ عَلَى الْمُسْتَهْلِكِ بِالْقِيمَةِ.
وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَسْتَهْلِكَهُ الزَّوْجُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اسْتِهْلَاكِهِ هَلْ يَجْرِي مَجْرَى حَادِثِ سَمَاءٍ، أَوْ مَجْرَى اسْتِهْلَاكِ أَجْنَبِيٍّ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى تَلَفِهِ بِحَادِثِ سَمَاءٍ، فَعَلَى هَذَا يَبْطُلُ فِيهِ الصَّدَاقُ، وَيَلْزَمُهُ مَهْرُ الْمِثْلِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى اسْتِهْلَاكِ أَجْنَبِيٍّ فَعَلَى هذا، يَبْطُلُ فِيهِ الصَّدَاقُ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ.
فَصْلٌ
فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اخْتَارَ قَوْلَهُ فِي الْجَدِيدِ أَنَّ تَلَفَ الصَّدَاقِ يوجب الرجوع بمهر المثل وهو اختيار أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا.
غَيْرَ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ مِنْ مَذْهَبِ الشافعي بما لا دليل فيه. وهو أنه حكى عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ الْخُلْعِ أَنَّهُ لَوْ أَصْدَقَهَا دَارًا فَاحْتَرَقَتْ قَبْلَ قَبْضِهَا كَانَ لَهَا الْخِيَارُ فِي أَنْ تَرْجِعَ بِمَهْرِ مِثْلِهَا أَوْ تَكُونَ لَهَا الْعَرْصَةُ بِحِصَّتِهَا مِنَ الْمَهْرِ.
وَهَذَا لَا دَلِيلَ فِيهِ، لِأَنَّهُ أَحَدُ قَوْلَيْهِ وَهُوَ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي تَرْجِعُ بِالْقِيمَةِ.(9/451)
قَالَ الْمُزَنِيُّ: وَقَالَ فِيهِ لَوْ خَالَعَهَا عَلَى عَبْدٍ بِعَيْنِهِ فَمَاتَ قَبْلَ قَبْضِهِ رَجَعَ عَلَيْهَا بِمَهْرِ مِثْلِهَا كَمَا يَرْجِعُ لَوِ اشْتَرَاهُ مِنْهَا فَمَاتَ بِالثَّمَنِ الَّذِي قَبَضَتْ.
وَهَذَا أَيْضًا لَا دَلِيلَ فِيهِ، لِأَنَّهُ أَحَدُ قَوْلَيْهِ، وَيَرْجِعُ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي بِقِيمَتِهِ وَلَيْسَ تَفْرِيعُهُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ إِبْطَالًا لِلْآخَرِ.
وَالشَّافِعِيُّ غَيَّرَ جَمِيعَ كُتُبِهِ الْقَدِيمَةِ فِي الْجَدِيدِ، وَصَنَّفَهَا ثَانِيَةً إِلَّا الصَّدَاقَ فَإِنَّهُ لَمْ يُغَيِّرْهُ فِي الْجَدِيدِ وَلَا أَعَادَ تَصْنِيفَهُ، وَإِنَّمَا ضَرَبَ عَلَى مَوَاضِعَ مِنْهُ وَزَادَ في مواضع والله أعلم.
مسألة
قال الشافعي: " وَلَوْ جَعَلَ ثَمَرَ النَّخْلِ فِي قَوَارِيرَ وَجَعَلَ عَلَيْهَا صَقْرًا مِنْ صَقْرِ نَخْلِهَا كَانَ لَهَا أَخْذُهُ وَنَزْعُهُ مِنَ الْقَوَارِيرِ فَإِذَا كَانَ إِذَا نَزَعَ فَسَدَ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ شيءٌ يُنْتَفَعُ بِهِ كَانَ لَهَا الْخِيَارُ فِي أَنْ تَأْخُذَهُ أو تأخذ منه مثله وَمِثْلَ صَقْرِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مثلٌ أَوْ قِيمَتِهِ إِنْ لم يكن له مثلٌ ولوْ ربه برب من عنده كان لها الخيار في أن تأخذه وتنزع ما عليه من الرب أو تأخذ مثل التمر إذا كان إذا خرج من الرب لا يبقى يابساً بقاء التمر الذي لم يصبه الرب أو تغير طعمه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ أَصْدَقَ امْرَأَةً نَخْلًا فَأَخَذَ ثَمَرَةَ النَّخْلِ فَجَذَّهَا وَجَعَلَهَا فِي قَوَارِيرَ وَطَرَحَ عَلَيْهَا صَقْرًا.
وَالصَّقْرُ: وَهُوَ مَا سَالَ مِنْ دِبْسِ الرُّطَبِ مَا لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ.
وَالرُّطَبُ هُوَ: الدِّبْسُ الْمَطْبُوخُ بِالنَّارِ.
فَلَا يَخْلُو حَالُ الثَّمَرَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ.
إِمَّا أَنْ تَكُونَ حَادِثَةً مِنَ النَّخْلِ بَعْدَ الصَّدَاقِ، أَوْ مُتَقَدِّمَةً.
فَإِنْ كَانَتْ حَادِثَةً بَعْدَ الصَّدَاقِ.
فَقَدْ مَلَكَتْهَا، لِأَنَّهَا نَمَاءُ مِلْكِهَا لِأَنَّ عَقْدَ الصَّدَاقِ تَضَمَّنَهَا فَيَكُونُ تَصَرُّفُ الزَّوْجِ فِيهَا تَصَرُّفًا فِي غَيْرِ الصَّدَاقِ مِنْ أَمْوَالِهَا.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالصَّقْرُ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ الثَّمَرَةِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لِلزَّوْجِ.
فَإِنْ كَانَ الصَّقْرُ مِنْ جُمْلَةِ الثَّمَرَةِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الصَّقْرِ وَالثَّمَرَةِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ:
إِحْدَاهُنَّ: أَنْ لَا يَنْقُصَ الصَّقْرُ وَلَا الثَّمَرَةُ بالاختلاط.
والحال الثانية: أن ينقصا معاً بالاختلاط.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَنْقُصَ الصَّقْرُ دُونَ الثَّمَرَةِ.
وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ تَنْقُصَ الثَّمَرَةُ دُونَ الصَّقْرِ.
فَإِنْ لَمْ يَنْقُصِ الصَّقْرُ بِطَرْحِهِ عَلَى الثَّمَرَةِ، وَلَا نَقَصَتِ الثَّمَرَةُ بِطَرْحِهَا فِي الصَّقْرِ فَلَا(9/452)
ضَمَانَ عَلَى الزَّوْجِ فِيهِمَا، لِأَنَّهُ وَإِنْ تَعَدَّى فَلَيْسَ لِعُدْوَانِهِ أَرْشٌ يُضْمَنُ، كَمَا لَوْ كَانَ غَاصِبًا وَلَيْسَ بِزَوْجٍ.
فَإِنْ زَادَتْ قِيمَتُهُمَا بِالْعَمَلِ فَالزِّيَادَةُ لِلزَّوْجَةِ دُونَ الزَّوْجِ وَلَا أُجْرَةَ لِلزَّوْجِ فِي عَمَلِهِ، لِأَنَّهُ تَبَرَّعَ بِهِ وَتَعَدَّى فِيهِ.
وَإِنَّ نَقَصَ الصَّقْرُ بِطَرْحِهِ عَلَى الثَّمَرَةِ، وَنَقَصَتِ الثَّمَرَةُ بِطَرْحِهَا فِي الصَّقْرِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ تَنَاهَى نَقْصُهُمَا وَاسْتَقَرَّ، فَلِلزَّوْجَةِ أَنْ تَأْخُذَهُمَا وَتَرْجِعَ عَلَى الزَّوْجِ بِأَرْشِ نُقْصَانِهِمَا، وَلَا خِيَارَ لَهَا فِي الصَّقْرِ وَالثَّمَرَةِ، لِأَنَّهُ نَقْصٌ فِي مَغْصُوبٍ قَدْ جُبِرَ بِالْأَرْشِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ نَقْصُهُمَا لَمْ يَتَنَاهَ ولم يستقر، وكلما ملا عَلَيْهِمَا وَقْتٌ بَعْدَ وَقْتٍ حَدَثَ فِيهِمَا نَقْصٌ بَعْدَ نَقْصٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ كَالْغَاصِبِ لِلطَّعَامِ إِذَا بَلَّهُ وَكَانَ نَقْصُهُ لَا يَتَنَاهَى فَهُوَ عَلَى قَوْلَيْنِ، كَذَلِكَ هَذَا.
أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَنْصُوصِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ يَصِيرُ كَالْمُسْتَهْلَكِ فَيَكُونُ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تُطَالِبَهُ بِمِثْلِ الثَّمَرَةِ إِنْ كَانَتْ ثمراً له مثل، وبمثل الصَّقْرِ، إِنْ كَانَ سَيَلَانًا لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ، وَلَا خَالَطَهُ الْمَاءُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مِثْلٌ، لِأَنَّ الثَّمَرَةَ كَانَتْ رُطَبًا وَالصَّقْرَ قَدْ مسه النَّارُ، أَوْ خَالَطَهُ الْمَاءُ، فَلَهَا الرُّجُوعُ بِقِيمَةِ الصَّقْرِ وَقِيمَةِ الثَّمَرِ.
وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا مِثْلٌ وَلَيْسَ لِلْآخَرِ مِثْلٌ رَجَعَتْ بِمِثْلِ ذِي الْمِثْلِ، وَقِيمَةِ غَيْرِ ذِي الْمِثْلِ فَلَوْ رَضِيَتِ الزَّوْجَةُ بِنُقْصَانِ ثَمَرَتِهَا وَصَقْرِهَا أُقِرَّتْ عَلَيْهَا، وَلَمْ تَرْجِعْ بِبَدَلِهِمَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: - وَهُوَ تَخْرِيجُ الرَّبِيعِ وَهُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي:
أَنَّهُمَا لَا يَصِيرَانِ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ مُسْتَهْلَكَيْنِ، وَمَا يَحْدُثُ مِنَ النُّقْصَانِ فِيمَا بَعْدُ فَمَظْنُونٌ مُجَوَّزٌ. وَرُبَّمَا أَرَادَتِ الزَّوْجَةُ أَكْلَ ذَلِكَ وَاسْتِهْلَاكَهُ قَبْلَ نُقْصَانِهِ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ رَجَعَتْ بِأَرْشِ نَقْصِهِمَا فِي الْحَالِ، ثُمَّ كُلَّمَا حَدَثَ فِيهِمَا نَقْصٌ رَجَعَتْ بِأَرْشِهِ وَقْتًا بعد وقت.
فإذا أَخَذَتْ مِنْهُ أَرْشَ نَقْصِهِمَا فِي الْحَالِ وَأَبْرَأَتْهُ مِنْ أَرْشِ نَقْصِهِمَا فِي ثَانِي حَالٍ فَفِي صِحَّةِ بَرَاءَتِهِ مِنْهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ، لأنه أبرأ مِمَّا لَمْ يَجِبْ.
وَالثَّانِي: يَصِحُّ، وَيَكُونُ الْإِبْرَاءُ كالإذن.
وهذا الْوَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ وَجْهَيْ أَصْحَابِنَا فِيمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي أَرْضٍ لَا يَمْلِكُهَا فَأَبْرَأَهُ الْمَالِكُ مِنْ ضَمَانِ مَا يَقَعُ فِيهَا.
فَهَذَا حُكْمُ نَقْصِ الثَّمَرَةِ وَالصَّقْرِ.
فَأَمَّا إِنْ نَقَصَ الصَّقْرُ دُونَ الثَّمَرَةِ: فَلَهَا أَخْذُ الثَّمَرَةِ، وَيُضْمَنُ نَقْصُ الصَّقْرِ عَلَى مَا مَضَى.(9/453)
وَأَمَّا إِنْ نَقَصَتِ الثَّمَرَةُ دُونَ الصَّقْرِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الصَّقْرِ، وَيَضْمَنُ نَقْصَ الثَّمَرَةِ عَلَى مَا مَضَى.
فَصْلٌ
وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الصَّقْرُ لِلزَّوْجِ فَيَطْرَحُهُ عَلَى ثَمَرَةِ الزَّوْجَةِ فَلَا اعْتِبَارَ بِنَقْصِ الصَّقْرِ، لِأَنَّهُ مَالُهُ، وَبِفِعْلِهِ نَقَصَ.
فَأَمَّا الثَّمَرَةُ فَلَهَا أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ تَرْكُهَا فِي الصَّقْرِ غَيْرَ مُضِرٍّ، وَإِخْرَاجُهَا مِنْهُ غَيْرَ مُضِرٍّ: فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الثَّمَرَةِ، وَعَلَيْهِ إِخْرَاجُ صَقْرِهِ مِنْهَا، وَمَؤُونَةُ إِخْرَاجِهِ عَلَيْهِ دُونَهَا.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ تَرْكُهَا فِيهِ مُضِرًّا وَإِخْرَاجُهَا مِنْهُ مُضِرًّا فَهُوَ ضَامِنٌ، وَيُعْتَبَرُ حَالُ النُّقْصَانِ: فَإِنْ كَانَ قَدْ تَنَاهَى وَاسْتَقَرَّ، رَدَّ الثَّمَرَةَ وَضَمِنَ أَرْشَ النَّقْصِ وَإِنْ لَمْ يَتَنَاهَ، وَلَمْ يَسْتَقِرَّ، فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَصِيرُ كَالْمُسْتَهْلَكِ فَيَضْمَنُهَا بِالْمِثْلِ إِنْ كَانَ لَهَا مِثْلٌ، وَبِالْقِيمَةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مِثْلٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَضْمَنُ أَرْشَ كُلِّ نَقْصٍ يَحْدُثُ فِي وَقْتٍ بَعْدَ وَقْتٍ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ تَرْكُهَا فِيهِ مُضِرًّا وَإِخْرَاجُهَا مِنْهُ غَيْرَ مُضِرٍّ، فَيُؤْخَذُ جَبْرًا بِإِخْرَاجِهَا مِنْهُ وَلَا أَرْشَ عَلَيْهِ.
وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ تَرْكُهَا فِيهِ غَيْرَ مُضِرٍّ، وَإِخْرَاجُهَا مِنْهُ مُضِرًّا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الثَّمَرَةُ إِذَا أُخْرِجَتْ مِنَ الصَّقْرِ صَلُحَتْ لِمَا لَا تَصْلُحُ لَهُ الثَّمَرَةُ إِذَا كَانَتْ فِي الصَّقْرِ. فَأَيُّهُمَا دَعَا إِلَى إِخْرَاجِهَا مِنْهُ أُجِيبَ، فَإِنْ أَرَادَ الزَّوْجُ أَخْذَ صَقْرِهِ كَانَ عَلَيْهِ نَقْصُ الثَّمَرَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنِ اعْتِبَارِ حَالِ النُّقْصَانِ فِي التَّنَاهِي، وَإِنْ أَرَادَتِ الزَّوْجَةُ إِخْرَاجَ ثَمَرَتِهَا مِنَ الصَّقْرِ أُخِذَ الزَّوْجُ بِإِخْرَاجِهَا وَضَمِنَ نُقْصَانَهَا عَلَى مَا مَضَى.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الثَّمَرَةُ فِي الصَّقْرِ تَصْلُحُ لِمَا لَا تَصْلُحُ لَهُ الثَّمَرَةُ إِذَا كَانَتْ خَارِجَةً مِنَ الصَّقْرِ.
فَإِنْ أَرَادَ الزَّوْجُ صَقْرَهُ، لَمْ يُجْبَرْ عَلَى تَرْكِهِ وَعَلَيْهِ إِخْرَاجُهُ وَعَلَيْهِ نَقْصُ الثَّمَرَةِ عَلَى مَا مَضَى وَإِنْ تَرَكَ صَقْرَهُ عَلَيْهَا فَفِي إِجْبَارِ الزَّوْجَةِ عَلَى قَبُولِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا تُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ، لِأَنَّهَا هِبَةٌ غَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ، وَلَهَا أَنْ تَأْخُذَ الزَّوْجَ بِإِخْرَاجِ الثَّمَرَةِ وَضَمَانِ نَقْصِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ؛ لِأَنَّهُ جُبْرَانُ نَقْصٍ وَدَفْعُ ضَرَرٍ، وَلَيْسَ بِهِبَةٍ مَحْضَةٍ فَهَذَا أَحَدُ شَطْرَيِ الْمَسْأَلَةِ.
فَصْلٌ
وَأَمَّا الشَّطْرُ الثَّانِي مِنَ الْمَسْأَلَةِ: وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الثَّمَرَةُ مَوْجُودَةً عَلَى رؤوس نخلها(9/454)
وَقْتَ الصَّدَاقِ، وَيَجْعَلُهُمَا جَمِيعًا صَدَاقًا ثُمَّ يَجِذُّ الثَّمَرَةَ وَيَجْعَلُهَا فِي الصَّقْرِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ أَيْضًا:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الصَّقْرُ مِنَ الثَّمَرَةِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لِلزَّوْجِ.
فَإِنْ كَانَ مِنَ الثَّمَرَةِ نُظِرَ، فَإِنْ لَمْ يَنْقُصِ الصَّقْرُ وَلَا الثَّمَرَةُ، فَلَا غُرْمَ عَلَى الزَّوْجِ، وَلَا خِيَارَ لِلزَّوْجَةِ، وَإِنْ نَقَصَا أَوْ أَحَدُهُمَا: تَرَتَّبَ الْحُكْمُ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي تَلَفِ الصَّدَاقِ هَلْ يُوجِبُ غُرْمَ الْقِيمَةِ أَوْ مَهْرَ الْمِثْلِ؟ .
فَإِنْ قِيلَ بِالْقَدِيمِ: إِنَّهُ مُوجِبٌ لِلْقِيمَةِ فَلَا خِيَارَ لِلزَّوْجَةِ لِأَنَّهُ نَقْصٌ مَضْمُونٌ بِجِنَايَةٍ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْخِيَارُ لَهَا فِيمَا لَا يُضْمَنُ بِالْجِنَايَةِ لِيَكُونَ مَضْمُونًا بِالْفَسْخِ فَتَأْخُذُ الصَّقْرَ وَالثَّمَرَةَ وَتَرْجِعُ بِأَرْشِ نَقْصِهَا إِنْ تَنَاهَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ تَنَاهَى فَعَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ.
وَإِنْ قِيلَ بِالْجَدِيدِ: إِنَّ تَلَفَ الصَّدَاقِ مُوجِبٌ لِمَهْرِ الْمِثْلِ، فَهِيَ بِالنَّقْصِ الْحَادِثِ فِي الثَّمَرَةِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْمُقَامِ وَالْفَسْخِ.
وَهَلْ يَكُونُ لَهَا الْخِيَارُ بِالنَّقْصِ الْحَادِثِ فِي الصَّقْرِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَهَا فِيهِ الْخِيَارُ أَيْضًا، لِأَنَّهُ نَقْصٌ فِيمَا هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الصَّدَاقِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا خِيَارَ لَهَا، لِأَنَّهُ وَقْتَ الصَّدَاقِ لَمْ يَكُنْ صَقْرًا فَيَنْفَسِخُ بِنُقْصَانِهِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ ثَمَرَةً صَارَتْ صَقْرًا زَائِدًا، فإن نَقَصَتِ الزِّيَادَةَ الَّتِي لَمْ يَتَضَمَّنْهَا الصَّدَاقُ لَمْ يَثْبُتْ لَهَا خِيَارٌ فِي الصَّدَاقِ اعْتِبَارًا بِنُقْصَانِ الولد الحادث، فإذا ثَبَتَ لَهَا الْخِيَارُ بِمَا ذَكَرْنَا فَهِيَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ تُقِيمَ عَلَى الْكُلِّ، وَإِمَّا أَنْ تَفْسَخَ فِي الْكُلِّ.
- فَإِنْ أَقَامَتْ عَلَى الْكُلِّ أَخَذَتِ النَّخْلَ وَالثَّمَرَةَ وَالصَّقْرَ وَلَا أَرْشَ لَهَا سَوَاءٌ كَانَ النَّقْصُ مُتَنَاهِيًا أَمْ لا.
- وإن فسخت في الْكُلِّ رَدَّتِ النَّخْلَ وَالثَّمَرَةَ وَالصَّقْرَ، وَرَجَعَتْ بِمَهْرِ الْمِثْلِ زَائِدًا كَانَ أَوْ نَاقِصًا.
- فَأَمَّا إِنْ أَرَادَتِ الْفَسْخَ فِي الثَّمَرَةِ وَالصَّقْرِ لِنَقْصِهِمَا وَالْمُقَامَ عَلَى النَّخِيلِ.
فَإِنْ رَاضَاهَا الزَّوْجُ عَلَى ذَلِكَ جَازَ، وَإِنْ أَبَى فَفِيهِ قَوْلَانِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ:
أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ إِذَا قِيلَ إِنَّ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ لَا يَجُوزُ، وَيُقَالُ لَهَا: إِمَّا أَنْ تُقِيمِي عَلَى الْكُلِّ أَوْ تَفْسَخِي فِي الْكُلِّ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَجُوزُ لَهَا ذَلِكَ إِذَا قِيلَ إِنَّ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ يَجُوزُ فَتُقِيمُ عَلَى النَّخِيلِ بِحِسَابِهِ مِنَ الصَّدَاقِ وَقِسْطِهِ، وَتَرْجِعُ بِقِسْطِ مَا بَقِيَ فِي مُقَابَلَةِ الثَّمَرَةِ مِنْ مهر المثل.(9/455)
فَصْلٌ: وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي
: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الصَّقْرُ لِلزَّوْجِ فَإِنْ لَمْ تَنْقُصِ الثَّمَرَةُ بِتَرْكِهَا فِيهِ وَلَا بِإِخْرَاجِهَا مِنْهُ فَلَا خِيَارَ لَهَا وَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ.
فَإِنْ نَقَصَتْ كَانَ عَلَى الْقَدِيمِ ضَامِنًا لِأَرْشِ نَقْصِهَا، وَلَا خِيَارَ لَهَا. وَعَلَى الْجَدِيدِ لَا أَرْشَ لَهَا، وَتَكُونُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْفَسْخِ فِي جَمِيعِ الصَّدَاقِ وَالرُّجُوعِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، أَوِ الْمُقَامِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَرْشٍ.
فَإِنْ أَرَادَتِ الْفَسْخَ فِي الثَّمَرَةِ لِنَقْصِهَا وَالْمُقَامَ عَلَى النَّخْلِ فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ.
فَإِنْ طَالَبَتْ بِمِثْلِ الثَّمَرَةِ النَّاقِصَةِ لَمْ يَكُنْ لَهَا ذَلِكَ سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّ تَلَفَ الصَّدَاقِ مُوجِبٌ لِقِيمَتِهِ، أَوْ قِيلَ إِنَّهُ مُوجِبٌ لِمَهْرِ الْمِثْلِ، لِأَنَّهُ إِنْ قِيلَ بِوُجُوبِ مَهْرِ الْمِثْلِ فَلَا وَجْهَ لِلْمِثْلِ وَلَا لِلْقِيمَةِ وَإِنْ قِيلَ بِوُجُوبِ الْقِيمَةِ أَوْ مِثْلِ ذِي الْمِثْلِ فَذَاكَ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ التَّلَفِ كَالْمُسْتَهْلَكِ بِالْغَصْبِ.
فَأَمَّا فِي نُقْصَانِهِ مَعَ بَقَائِهِ فَلَا حَقَّ فِي الرُّجُوعِ بِمِثْلِهِ كَالْمَغْصُوبِ إِذَا نَقَصَ فِي يَدِ غَاصِبِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ نَقَلَ الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي سَوَادِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَانَ لَهَا الْخِيَارُ فِي أَنْ تَأْخُذَهُ أَوْ تَأْخُذَ مِثْلَهُ أَوْ مِثْلَ صَقْرِهِ.
قِيلَ: قَدْ كَانَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ يَنْسُبُ الْمُزَنِيَّ إِلَى السَّهْوِ فِي نَقْلِهِ. وَأَنَّهُ خَطَأٌ مِنْهُ فِي الْحُكْمِ، لِأَنَّ أُصُولَ الشَّافِعِيِّ تَدْفَعُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا.
وَالَّذِي أَرَاهُ: أَنَّ نَقْلَ الْمُزَنِيِّ صَحِيحٌ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُ سَهْوٌ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى النَّقْصِ الَّذِي لَا يَتَنَاهَى عَلَى أَحَدِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ إِذَا كَانَ فِي الثَّمَرَةِ الْحَادِثَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ أَوْ فِي الْمُتَقَدِّمَةِ، إِذَا قِيلَ بِالْقَدِيمِ إِنَّ تَلَفَهُ مُوجَبٌ بِمِثْلِ ذِي الْمِثْلِ، وَقِيمَةِ غَيْرِ ذِي الْمِثْلِ فَيَكُونُ عَدَمُ التَّنَاهِي فِي نُقْصَانِهِ مُوجِبًا لِلرُّجُوعِ بِمِثْلِهِ فِي أَحَدِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ يَجْعَلُهُ بَعْدَ تَنَاهِي نقصانه كالمستهلك. والله أعلم.
مسألة
قال الشافعي: " وَكُلُّ مَا أُصِيبَ فِي يَدَيْهِ بِفِعْلِهِ أَوْ غَيْرِهِ فَهُوَ كَالْغَاصِبِ فِيهِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ أَمَةً فَيَطَأَهَا فَتَلِدُ مِنْهُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَيَقُولُ كُنْتُ أَرَاهَا لَا تُمْلَكُ إِلَّا نِصْفَهَا حَتَّى أَدْخُلَ فَيُقَوَّمُ الْوَلَدُ عَلَيْهِ يَوْمَ سَقَطَ وَيُلْحَقُ بِهِ وَلَهَا مَهْرُهَا وَإِنْ شَاءَتْ أَنْ تَسْتَرِقَّهَا فَهِيَ لَهَا وَإِنْ شَاءَتْ أَخَذَتْ قِيمَتَهَا مِنْهُ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ قيمةٌ وَلَا تَكُونُ أُمَّ ولد له وإنما جعلت لها الخيار لأن الولادة تغيرها عن حالها يوم أصدقها (قال المزني) وقد قال ولو أصدقها عبداً فأصابت به عيباً فردته أن لها مهر مثلها وهذا بقوله أولى (قال المزني) وإذا لم يختلف قوله أن لها الرد في البيع فلا يجوز أخذ قيمة ما ردت في البيع وإنما ترجع إلى ما دفعت فإن كان فائناً فقيمته وكذلك(9/456)
البضع عنده كالمبيع الفائت ومما يؤكد ذلك أيضاً قوله في الخلع لو خلعها بعبدٍ أصاب به عيباً أنه يرده ويرجع بمهر مثلها فسوى في ذلك بينه وبينها وهذا بقوله أولى ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الصَّدَاقُ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَى الزَّوْجِ. فَإِنْ طَلَبَتْهُ فَمَنَعَهَا فَضَمَانُهُ عَلَيْهِ ضَمَانَ غَصْبٍ أَكْثَرَ مَا كَانَ قِيمَةً. وَإِنْ لَمْ تَطْلُبْهُ فَفِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: ضَمَانُ عَقْدٍ.
وَالثَّانِي: ضَمَانُ غَصْبٍ.
وَأَمَّا النَّمَاءُ فَإِنْ مَنَعَهَا مِنْهُ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَمْنَعْهَا مِنْهُ فَفِي ضَمَانِهِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُتْلِفَ لَهُ فَيَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ قَوْلًا وَاحِدًا.
فَأَمَّا إِذَا أَصْدَقَهَا أَمَةً وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَتَّى وَطِئَ الْأَمَةَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ. فَالْحَدُّ عَلَيْهِ وَاجِبٌ، فَإِنْ أَكْرَهَهَا فَعَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا، وَإِنْ طَاوَعَتْهُ فَفِي وُجُوبِ الْمَهْرِ قَوْلَانِ:
أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ لَا مَهْرَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ بِالْمُطَاوَعَةِ بَغِيا، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ سُرَيْجٍ: أَنَّ الْمَهْرَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ ملك لسيدها فلا يسقط ببذلهما لَهَا وَمُطَاوَعَتِهَا كَمَا لَوْ بَذَلَتْ قَطْعَ يَدِهَا لَمْ يَسْقُطْ غُرْمُ دِيَتِهَا. فَإِنْ أَوْلَدَهَا فَالْوَلَدُ مملوك لا يلحق به، لأنه ولد زنى.
فَإِنْ نَقَصَتْهَا الْوِلَادَةُ وَالْأَمَةُ فِي يَدِهِ فَنَقْصُهَا مَضْمُونٌ عَلَيْهِ، وَفِي ضَمَانِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِأَرْشِهِ وَلَيْسَ لَهُ الْفَسْخُ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ: إِنَّ تَلَفَ الصَّدَاقِ مُوجِبٌ لِقِيمَتِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِخِيَارِهَا فِي الْمُقَامِ أَوِ الْفَسْخِ.
فَإِنْ أَقَامَتْ أَخَذَتْهَا نَاقِصَةً وَلَا أَرْشَ لَهَا.
وَإِنْ فَسَخَتْ رَجَعَتْ بِمَهْرِ الْمِثْلِ.
وَهَذَا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ إِنَّ تَلَفَهُ مُوجِبٌ لِمَهْرِ الْمِثْلِ.
فَإِنْ مَلَكَ الْوَلَدَ لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ، لِأَنَّ نَسَبَهُ غَيْرُ لَاحِقٍ بِهِ، وَإِنْ مَلَكَ الْأُمَّ لَمْ تَصِرْ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يُلْحَقْ بِهِ وَلَدُهَا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ لِإِسْلَامِهِ حَدِيثًا، أَوْ قُدُومِهِ مِنْ بَادِيَةٍ نَائِيَةٍ، أَوْ يَدَّعِي شُبْهَةَ أَنَّهُ مَالِكِيٌّ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا لَمْ تَمْلِكْ بِالْعَقْدِ إِلَّا نِصْفَهَا. وَإِنَّ نِصْفَهَا بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ، فهذا والجهل بالتحريم سواء في كونهما شبه يدرأ بها الحد وتجب بِهَا الْمَهْرُ فِي الْمُطَاوَعَةِ(9/457)
وَالْإِكْرَاهِ، وَيُلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ، وَيَكُونُ حُرًّا، لِأَنَّهُ وَطِئَ فِي شُبْهَةِ مِلْكٍ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ وَضَعَتْهُ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ أَحْوَالِ تَقْوِيمِهِ، وَإِنْ كَانَ بِالْعُلُوقِ قَدْ صَارَ حُرًّا.
فَأَمَّا الْأُمُّ: فَهِيَ عَلَى مِلْكِ الزَّوْجَةِ، وَالْكَلَامُ فِي خِيَارِهَا إِنْ حَدَثَ بِهَا نَقَصٌ عَلَى مَا مَضَى وَلَا تَصِيرُ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ قَبْلَ أَنْ يَمْلِكَهَا، فَإِنْ مَلَكَهَا فَفِي كَوْنِهَا أُمَّ وَلَدٍ بِذَلِكَ الْإِيلَادِ قَوْلَانِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ.
مَسْأَلَةٌ
قال الشافعي: " وَلَوْ أَصْدَقَهَا شِقْصًا مِنْ دارٍ فَفِيهِ الشُّفْعَةُ بمهر مثلها لأن التزويج في عامة حكمه كَالْبَيْعِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا أَصْدَقَهَا شِقْصًا مَنْ دَارٍ فَفِيهِ الشُّفْعَةُ لِلشَّرِيكِ، وَكَذَلِكَ لَوْ خَالَعَهَا عَلَى شِقْصٍ مِنْ دَارٍ وَجَبَتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ لِلشَّرِيكِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا شُفْعَةَ فِي الصَّدَاقِ، وَلَا فِي الْخُلْعِ، وَلَا فِي الْإِجَارَةِ، وَلَا فِي الصُّلْحِ.
وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَعَهُ فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ مُسْتَوْفَاةً. فَأَغْنَى مَا تَقَدَّمَ عَنِ الْإِعَادَةِ.
وَإِذَا كَانَتِ الشُّفْعَةُ فِيهِ وَاجِبَةً فَهِيَ مُسْتَحَقَّةٌ لِلشَّرِيكِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: بِقِيمَةِ الشِّقْصِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَحُكِيَ نَحْوُهُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِمَهْرِ الْمِثْلِ: أَنَّ الشِّقْصَ فِي مُقَابَلَةِ الْبُضْعِ وَلَيْسَ لَهُ مِثْلٌ، وَإِذَا كَانَ الشِّقْصُ مَمْلُوكًا بِبَدَلٍ لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ كَانَ مَأْخُوذًا بِقِيمَةِ الْبَدَلِ لَا بِقِيمَةِ الشِّقْصِ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى شقصاً بعبد كان مأخوذاً بِقِيمَةِ الْعَبْدِ لَا بِقِيمَةِ الشِّقْصِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقِيمَةُ الْبُضْعِ هُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ، فَلِذَلِكَ أَخَذَهُ الشَّفِيعُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ زَائِدًا كَانَ أَوْ ناقصاً.
فلو أصدقها شقصاً من دار وديناراً أَخَذَهُ الشَّفِيعُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ إِلَّا دِينَارًا، لِأَنَّ بُضْعَهَا فِي مُقَابَلَةِ شِقْصٍ وَدِينَارٍ. وَلَوْ أَصْدَقَهَا شِقْصًا وَأَخَذَ مِنْهَا دِينَارًا، أَخَذَهُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَبِدِينَارٍ، لِأَنَّ الشِّقْصَ فِي مُقَابَلَةِ بُضْعٍ وَدِينَارٍ.
فَصْلٌ
فَلَوْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَاسْتَحَقَّ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِ الصَّدَاقِ لَمْ يَخْلُ حَالُ الشقص من ثلاثة أقسام:
أحدهما: أَنْ يَكُونَ الشَّفِيعُ قَدْ أَخَذَهُ بِالشُّفْعَةِ، فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِ قِيمَةِ الشِّقْصِ كَمَا لو بَاعَتْهُ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ قَدِ اشْتَرَتْهُ مِنَ الشَّفِيعِ، أَوْ وَرِثَتْهُ عَنْهُ، ثُمَّ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ بِنِصْفِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ لَوْ وَهَبَ الْأَبُ لِابْنِهِ دَارًا فَبَاعَهَا الِابْنُ ثُمَّ اشْتَرَاهَا لَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فَهَلَّا كَانَ الزَّوْجُ هَكَذَا؟ .(9/458)
قُلْنَا: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ خُرُوجَ الْهِبَةِ عَنْ مِلْكِ الِابْنِ قَدْ أَسْقَطَ حَقَّ الْأَبِ فِي الرُّجُوعِ بِهَا لِأَنَّهُ لَا يَرْجِعُ فِي الْهِبَةِ، وَلَا بِبَدَلِهَا، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَعْدَ سُقُوطِ حَقِّهِ مِنَ الرُّجُوعِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ الصَّدَاقُ، لِأَنَّ زَوَالَ مِلْكِ الزَّوْجَةِ عَنْهُ مَا أَسْقَطَ حَقَّ الزَّوْجِ مِنْهُ، لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ رَجَعَ بِبَدَلِهِ فَلِذَلِكَ إِذَا عَادَ إِلَى مِلْكِهَا رَجَعَ بِنِصْفِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الشَّفِيعُ قَدْ عَفَا عَنِ الشُّفْعَةِ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِهِ، لِأَنَّهُ عَيْنُ مَا أَصْدَقَ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الشَّفِيعُ، قَدْ أَخَذَهُ بِالشُّفْعَةِ ثُمَّ رَدَّهُ عَلَيْهَا بِعَيْبٍ كَانَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الشَّفِيعُ غَائِبًا لَمْ يَعْلَمْ بِالشُّفْعَةِ، وَلَا عَفَا عنها حتى طلق الزوج، ففي أحقهما بالتقديم وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّ الزَّوْجَ أَحَقُّ لِحُضُورِهِ بِالْمُطَالَبَةِ، وَأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَالْإِجْمَاعِ، فَعَلَى هَذَا تَرْجِعُ فِي نِصْفِهِ، وَيَكُونُ لِلشَّفِيعِ إِذَا قَدِمَ أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَهُ بِنِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الزَّوْجِ نِصْفَهُ الَّذِي مَلَكَهُ بِالطَّلَاقِ، لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أبي هريرة: إن الشَّفِيعَ أَحَقُّ، لِأَنَّ حَقَّهُ أَسْبَقُ فَعَلَى هَذَا يَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ قِيمَةِ الشِّقْصِ.
فَإِنْ قَالَ الزَّوْجُ: أَنَا أَصْبِرُ حَتَّى يَحْضُرَ الشَّفِيعُ، فَإِنْ عَفَا أَخَذْتُ نِصْفَ الشِّقْصِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِأَنَّ حَقَّهُ قَدْ صَارَ في القيمة.
والثاني: لأن لا تَبْقَى ذِمَّةُ الزَّوْجَةِ مُرْتَهَنَةً بِهِ.
فَلَوْ لَمْ يَأْخُذِ الْقِيمَةَ حَتَّى حُضُورِ الشَّفِيعِ، فَعَفَا عَنِ الشُّفْعَةِ، فَفِي اسْتِحْقَاقِ الزَّوْجِ لِنِصْفِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ، لِأَنَّ حَقَّهُ قَدْ صَارَ فِي الْقِيمَةِ.
وَالثَّانِي: لَهُ أَخْذُ نِصْفِهِ تَعْلِيلًا بِأَنَّ ذِمَّتَهَا تَبْرَأُ بِهِ، وَلَكِنْ لَوْ أَخَذَ الزَّوْجُ الْقِيمَةَ ثُمَّ عَفَا الشَّفِيعُ لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ فِيهِ حَقٌّ، لِاسْتِيفَائِهِ لِحَقِّهِ. وَاللَّهُ أعلم.
مسألة
قال المزني: " وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي الرَّجُلِ يَتَزَوَّجُهَا بِعَبْدٍ يُسَاوِي أَلْفًا عَلَى أَنْ زَادَتْهُ أَلْفًا وَمَهْرُ مِثْلِهَا يَبْلُغُ أَلْفًا فَأَبْطَلَهُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَأَجَازَهُ فِي الْآخَرِ وَجَعَلَ مَا أَصَابَ قَدْرَ الْمَهْرِ مِنَ الْعَبْدِ مَهْرًا وَمَا أَصَابَ قَدْرَ الْأَلْفِ مِنَ الْعَبْدِ مَبِيعًا (قَالَ الْمُزَنِيُّ) أَشْبَهُ عِنْدِي بِقَوْلِهِ أَنْ لَا يُجِيزَهُ لِأَنَّهُ لَا يُجِيزُ الْبَيْعَ إِذَا كَانَ فِي عَقْدِهِ كراءٌ وَلَا الْكِتَابَةَ إِذَا كَانَ فِي عَقْدِهَا بيعٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْعَقْدَ الْوَاحِدَ إِذَا جَمَعَ عَقْدَيْنِ يَخْتَلِفُ حُكْمُ(9/459)
كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادِهِ، كَعَقْدٍ جَمَعَ بَيْعًا وَإِجَارَةً، أَوْ بَيْعًا وَصَرْفًا، أَوْ بَيْعًا وَكِتَابَةً، أَوْ بَيْعًا وَنِكَاحًا. فَفِيهِ لِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ صَحِيحٌ فِيهِمَا لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا صَحَّ إِفْرَادُهُمَا، صَحَّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا كَالْبَيْعَتَيْنِ وَالْإِجَارَتَيْنِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ اخْتِلَافَ حُكْمِهِمَا لَا يَمْنَعُ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، كَمَا لَوِ ابْتَاعَ فِي عَقْدٍ شِقْصًا يَجِبُ فِيهِ الشُّفْعَةُ وَعَرَضًا لَا تجب فيه الشفة وكما لو اتباع عبدين أحدهما أبوه يعتق عليه الشراء وَالْآخَرُ أَجْنَبِيٌّ لَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ بِالشِّرَاءِ.
وَالْقَوْلُ الثاني: أن العقد باطل فيهما لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَقْدَ الْوَاحِدَ لَهُ حُكْمٌ وَاحِدٌ، فَإِذَا جَمَعَ مَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ تَنَافَى، فيبطل كما لو قال: بعتك عبدي واشترته مِنْكَ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مُقَابَلَةَ الْعِوَضِ لَهُمَا مُفْضٍ إِلَى جَهَالَةِ الْعِوَضِ فِيمَا يُقَابِلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَإِذَا كَانَ عِوَضُ الْعَقْدِ مَجْهُولًا بَطَلَ.
فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْقَوْلَانِ جِئْنَا إِلَى تَفْصِيلِ مَا جَمَعَهُ الْعَقْدُ الْوَاحِدُ مِنَ الْعَقْدَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ فَنَقُولُ:
أَمَّا إِذَا جَمَعَ بَيْعًا وَإِجَارَةً فَهُوَ أَنْ يَقُولَ بِعْتُكَ عَبْدِي هَذَا، أَوْ أَجَّرْتُكَ دَارِي هَذِهِ سَنَةً بِأَلْفٍ، فَالْبَيْعُ يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ بِالْعَقْدِ، وَخِيَارُ الثَّلَاثِ بِالشَّرْطِ، وَالْإِجَارَةُ لَا يَثْبُتُ فِيهَا خِيَارُ الشَّرْطِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ثُبُوتِ خِيَارِ الْعَقْدِ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: أَنَّهُمَا بَاطِلَانِ، فَعَلَى هَذَا يَتَرَادَّانِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُمَا جَائِزَانِ فَعَلَى هَذَا يَنْظُرُ قِيمَةَ الْعَبْدِ، فَإِذَا قِيلَ: خَمْسُمِائَةٍ، نَظَرَ أُجْرَةَ مِثْلِ الدَّارِ سَنَةً، فَإِذَا قِيلَ مِائَةٌ عُلِمَ أَنَّ أُجْرَةَ الدَّارِ مِنَ الْأَلْفِ سُدُسُهَا، وَثَمَنَ الْعَبْدِ مِنَ الْأَلْفِ خَمْسَةُ أَسْدَاسِهَا.
- وَأَمَّا إذا جمع العقد بَيْعًا وَصَرْفًا فَهُوَ أَنْ يَبِيعَهُ ثَوْبًا وَدِينَارًا بمائة درهم. فما قابل الثوب بَيْعٌ، وَمَا قَابَلَ الدِّينَارَ مِنْهَا صَرْفٌ وَالْبَيْعُ لا يلزم إلا بالتفريق، وَالصَّرْفُ يَبْطُلُ إِنْ لَمْ يَتَقَابَضَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ.
فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: أَنَّهُ بَاطِلٌ فِيهِمَا وَيَتَرَاجَعَانِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَائِزٌ فِيهِمَا وَيُقْسِطُ الْمِائَةَ عَلَى قِيمَتِهَا.
- وَأَمَّا إِذَا جَمَعَ بَيْعًا وَكِتَابَةً فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ عَبْدِي هَذَا وَكَاتَبْتُكَ عَلَى نَجْمَيْنِ بِأَلْفٍ.
فَإِنْ قِيلَ بِأَنَّ اخْتِلَافَ الْحُكْمَيْنِ يُبْطِلُ الْعَقْدَ، فَالْعَقْدُ فِي الْبَيْعِ وَالْكِتَابَةِ بَاطِلٌ.
وَإِذَا قِيلَ بِأَنَّ اخْتِلَافَ الْحُكْمَيْنِ لَا يُبْطِلُ الْعَقْدَ، فَالْعَقْدُ فِي الْبَيْعِ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ بَاعَ عَبْدَهُ على عبده.(9/460)
وَهَلْ تَبْطُلُ الْكِتَابَةُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ.
وَأَمَّا إِذَا جَمَعَ بَيْعًا وَنِكَاحًا فَهُوَ أَنْ يَقُولَ قَدْ تَزَوَّجْتُكِ وَاشْتَرَيْتُ عَبْدَكِ بِأَلْفٍ، فَمَا قَابَلَ الْعَبْدَ بَيْعٌ، وَمَا قَابَلَ الْبُضْعَ صَدَاقٌ.
فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: أَنَّهُ بَاطِلٌ فِيهِمَا، فَعَلَى هَذَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ مِنَ الْعَقْدِ، وَيَبْطُلُ الصَّدَاقُ فِي النِّكَاحِ، وَلَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ، لِأَنَّ فَسَادَ الصَّدَاقِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ النِّكَاحِ، وَيَكُونُ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ جَائِزٌ فِيهِمَا فَعَلَى هَذَا يُقَوَّمُ الْعَبْدُ.
فَإِذَا قِيلَ أَلْفٌ: نُظِرَ مَهْرُ مِثْلِهَا فَإِذَا قِيلَ خَمْسُمِائَةٍ عُلِمَ أَنَّ ثُلُثَيِ الْأَلْفِ ثَمَنٌ لِلْعَبْدِ، وَثُلُثَهَا صَدَاقٌ لِلزَّوْجَةِ، فَلَوْ وَجَدَ الزَّوْجُ بِالْعَبْدِ عَيْبًا فَرَدَّهُ اسْتَرْجَعَ ثُلُثَيِ الْأَلْفِ، وَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ اسْتَرْجَعَ سُدُسَ الْأَلْفِ.
وَلَوْ تَزَوَّجَهَا وَأَصْدَقَهَا عَبْدًا عَلَى أَنْ أَخَذَ مِنْهَا أَلْفًا فَمَا قَابَلَ الْأَلْفَ مِنَ الْعَبْدِ مَبِيعٌ وَمَا قَابَلَ الْبُضْعَ مِنْهَا صَدَاقٌ.
فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: أَنَّهُمَا بَاطِلَانِ، فَتَرُدُّ الْعَبْدَ وَتَسْتَرْجِعُ الْأَلْفَ، وَيُحْكَمُ لَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُمَا جَائِزَانِ، فَعَلَى هَذَا يَنْظُرُ مَهْرَ الْمِثْلِ، فَإِنْ كَانَ أَلْفًا صَارَ الْعَبْدُ فِي مُقَابَلَةِ أَلْفَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: صَدَاقٌ، وَالْأُخْرَى: ثَمَنٌ. فَيَكُونُ نِصْفُ الْعَبْدِ صَدَاقًا وَنِصْفُهُ مَبِيعًا.
فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، اسْتَرْجَعَ رُبْعَهُ، وَلَوْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفَيْنِ صَارَ الْعَبْدُ في مقابلة ثلاثة ألف دِرْهَمٍ، فَيَكُونُ ثُلُثَاهُ صَدَاقًا، إِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ اسْتَرْجَعَ ثُلُثَهُ، وَيَكُونُ ثُلُثُ الْعَبْدِ مَبِيعًا، وَلَوْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا خَمْسَمِائَةٍ صَارَ ثُلُثُ الْعَبْدِ صَدَاقًا، وَثُلُثَاهُ مَبِيعًا.
فَلَوْ وَجَدَتْ بِالْعَبْدِ عيباً، فإن رضت بعينه فِي الْبَيْعِ وَالصَّدَاقِ أَمْسَكَتْهُ، وَإِنْ أَرَادَتِ الْفَسْخَ فِيهِمَا كَانَ لَهَا، وَرَجَعَتْ بِالثَّمَنِ وَهُوَ أَلْفٌ، وَفِيمَا تَرْجِعُ بِهِ مِنْ بَدَلِ الصَّدَاقِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَهْرُ الْمِثْلِ عَلَى قَوْلِهِ الْجَدِيدِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قِيمَةُ صَدَاقِهَا مِنْهُ مِنْ نِصْفٍ، أَوْ ثُلُثَيْنِ، أَوْ ثُلُثٍ وَلَا يَلْزَمُهَا أَنْ تَأْخُذَ ذَلِكَ الْقَدْرَ وَأَرْشَهُ فِي الصَّدَاقِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْرِيقِ صَفْقَةٍ فِي مَعِيبٍ.
وَلَوْ أَرَادَتْ حِينَ ظَهَرَتْ عَلَى عَيْبِ الْعَبْدِ أَنْ تَرُدَّ مِنْهُ الْمَبِيعَ دُونَ الصَّدَاقِ أَوْ تَرُدَّ مِنْهُ الصَّدَاقَ دُونَ الْمَبِيعِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ مِنْ تَفْرِيقِ الصفة الأول: يجوز. والثاني: لا يجوز، إذ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ لَا يَجُوزُ.
فَلَوْ تَلِفَ الْعَبْدُ في يدها قبل علمها بعينه رَجَعَتْ بِأَرْشِ الْمَبِيعِ مِنْ ثَمَنِهِ، وَمِنْ مَاذَا تَرْجِعُ بِأَرْشِ الصَّدَاقِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مِنْ قِيمَتِهِ.
وَالثَّانِي: مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ.(9/461)
فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ جَعَلَ الْأَوْلَى بِقَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ بَاطِلًا فِيهِمَا، وَاسْتَشْهَدَ بِالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، وَبِالْبَيْعِ وَالْكِتَابَةِ، وَلَا شَاهِدَ فِيهِمَا، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ.
وَحُكِيَ عَنِ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى جَوَازِ الْعَقْدِ فِيهِمَا. وَأَنَّ جَعَلَ الْأَوْلَى عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا فِيهِمَا، وَلِكِلَا الْقَوْلَيْنِ وَجْهٌ قَدْ مَضَى. والله أعلم.
مسألة
قال الشافعي: " وَلَوْ أَصْدَقَهَا عَبْدًا فَدَبَّرَتْهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ يَرْجِعْ فِي نِصْفِهِ لِأَنَّ الرُّجُوعَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِإِخْرَاجِهَا إِيَّاهُ مِنْ مِلْكِهَا (قال المزني) قد أجاز الرجوع في كتاب التدبير بغير إخراجٍ له من ملكه وهو بقوله أولى (قال المزني) إذا كان التدبير وصيةً له برقبته فهو كما لو أوصى لغيره برقبته مع أن رد نصفه إليه إخراج من الملك ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا أَنْ يُصْدِقَهَا عَبْدًا فَتُدَبِّرَهُ بِأَنْ تَقُولَ لَهُ: إِذَا مُتُّ فَأَنْتَ حُرٌّ، وَتَقُولُ: أَنْتَ مُدَبَّرٌ، تُرِيدُ بِهِ أَنَّهَا إِذَا ماتت فهو حر، فقد صار مدبراً. وللرجوع فيه قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ، وَأَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّ التَّدْبِيرَ كَالْوَصَايَا. وَلَهَا الرُّجُوعُ فِيهِ بِالْقَوْلِ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى مِلْكِهَا بِأَنْ تَقُولَ: قَدْ رَجَعْتُ فِي تَدْبِيرِكَ، أَوْ أَبْطَلْتُهُ فَيَبْطُلُ التَّدْبِيرُ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى الْمِلْكِ كَمَا تَبْطُلُ الْوَصَايَا بِالرُّجُوعِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ الثَّانِي فِي الْجَدِيدِ: إِنَّ التَّدْبِيرَ يَجْرِي مَجْرَى الْعِتْقِ بِالصِّفَاتِ وَلَيْسَ لَهَا الرُّجُوعُ فِيهِ بِالْقَوْلِ، وَلَهَا إِبْطَالُهُ بِالْفِعْلِ، وَهُوَ أَنْ تُخْرِجَهُ عَنْ مِلْكِهَا بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ فَيَبْطُلُ.
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْقَوْلَانِ وَطَلَّقَهَا الزَّوْجُ بَعْدَ تَدْبِيرِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ قَدْ أَبْطَلَتْ تَدْبِيرَهُ، إِمَّا بِالْقَوْلِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وبالفعل عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي، فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِهِ، وَهَلْ لَهُ فِيهِ الْخِيَارُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا خِيَارَ لَهُ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِإِبْطَالِ التَّدْبِيرِ عَبْدًا قِنًّا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهُ الْخِيَارُ، لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ رُبَّمَا حَاكَمَ مَوْلَاتَهُ بَعْدَ إِبْطَالِهَا لِتَدْبِيرِهِ إِلَى حَنَفِيٍّ لَا يَرَى إِبْطَالَ التَّدْبِيرِ، فَيَحْكُمُ عَلَيْهَا بِالْتِزَامِهِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الزَّوْجُ لِأَجْلِ ذَلِكَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَخْذِ نِصْفِهِ وَبَيْنَ أَنْ تَفْسَخَ، وَيَرْجِعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِ قِيمَتِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَى تَدْبِيرِهِ عِنْدَ طَلَاقِ الزَّوْجِ، لَمْ تُبْطِلْهُ الزَّوْجَةُ بِالْقَوْلِ وَلَا بِالْفِعْلِ، فَفِي رُجُوعِ الزَّوْجِ بِنِصْفِهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ.
أَحَدُهَا: لَهُ الرُّجُوعُ بِنِصْفِهِ، سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّ التَّدْبِيرَ كَالْوَصَايَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهِ بِالْقَوْلِ، أَوْ قِيلَ إِنَّهُ كَالْعِتْقِ بِالصِّفَاتِ الَّتِي لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهِ إِلَّا بِالْفِعْلِ لِبَقَاءِ الْمُدَبَّرِ على ملكها، وأن لها إزالة ملكها عند مُخْتَارَةً بِالْبَيْعِ، فَلَأَنْ يَجُوزُ إِزَالَةُ مِلْكِهَا عَنْهُ جَبْرًا بِرُجُوعِ الزَّوْجِ أَوْلَى.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ بِنِصْفِهِ، وَيَعْدِلُ عَنْهُ إِلَى بَدَلِهِ، سواء قيل إن التدبير(9/462)
كالوصايا بجوز الرُّجُوعُ فِيهَا بِالْقَوْلِ، أَوْ قِيلَ إِنَّهُ كَالْعِتْقِ بِالصِّفَاتِ لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهِ إِلَّا بِالْفِعْلِ، لِأَنَّ الرُّجُوعَ فِي التَّدْبِيرِ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا كَانَ مِنْ جِهَةِ السَّيِّدِ الْمُدَبِّرِ لَا مِنْ غَيْرِهِ، وَرُجُوعُ الزَّوْجِ فِيهِ يَكُونُ إِبْطَالًا لِلتَّدْبِيرِ مِنْ غَيْرِ السَّيِّدِ فَلَمْ يَجُزْ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِهِ، إِذَا قِيلَ: إِنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا بِالْقَوْلِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ بِنِصْفِهِ إِذَا قِيلَ: إِنَّ التَّدْبِيرَ عِتْقٌ بِصِفَةٍ لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهِ إِلَّا بِالْفِعْلِ، فَيَكُونُ حُكْمُ الزَّوْجِ فِي إِبْطَالِهِ مُعْتَبَرًا بِالزَّوْجَةِ.
فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْأَقَاوِيلُ الثَّلَاثَةُ، فَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ لَهَا الرُّجُوعُ بِنِصْفِهِ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ قِيمَتِهِ. وَإِذَا قُلْنَا: لَهُ الرُّجُوعُ بِنِصْفِهِ فَلَهُ الْخِيَارُ دُونَهَا بَيْنَ الْمُقَامِ وَالْفَسْخِ لِعِلَّتَيْنِ.
إِحْدَاهُمَا: أَنَّ بَقَاءَ نِصْفِهِ عَلَى التَّدْبِيرِ نَقْصٌ فِي قِيمَتِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ رُبَّمَا حَاكَمَ مَوْلَاتَهُ إِلَى حَنَفِيٍّ يَرَى لُزُومَ تَدْبِيرِهِ.
فَإِنْ أَقَامَ فَهُوَ حَقُّهُ، وَإِنْ فَسَخَ رَجَعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِ قِيمَتِهِ.
فَصْلٌ
فَأَمَّا إِذَا كَاتَبَتْهُ فَلَيْسَ لِلزَّوْجِ الرُّجُوعُ بِنِصْفِهِ، وَلَهُ الرُّجُوعُ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَازِمَةٌ لِلسَّيِّدِ لَا يَجُوزُ لَهُ إِبْطَالُهَا إِلَّا بِالْعَجْزِ.
فَعَلَى هَذَا لَوْ لَمْ يَرْجِعِ الزَّوْجُ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ حَتَّى عَجَزَ الْمُكَاتَبُ وَعَادَ عَبْدًا فَهَلْ يَرْجِعُ الزَّوْجُ بِنِصْفِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ بِهِ لِوُجُودِهِ فِي مِلْكِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَرْجِعُ لِأَنَّ حَقَّهُ وَقْتَ الطَّلَاقِ قَدْ كَانَ فِي قِيمَتِهِ.
وَلَكِنْ لَوْ لَمْ يُطَلِّقْهَا إِلَّا بَعْدَ عَجْزِهِ وَعَوْدِهِ إِلَى الرِّقِّ، كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ بِنِصْفِهِ وَجْهًا وَاحِدًا.
وَلَوْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ قَدْ وَهَبَتْهُ أَوْ رَهَنَتْهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَدْ أَقْبَضَتْهُ فِي الرَّهْنِ وَالْهِبَةِ فَالْعَقْدُ فِيهِ لَمْ يَلْزَمْ فِي الرَّهْنِ وَلَا فِي الْهِبَةِ، فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِهِ، وَلَهَا إِقْبَاضُ النِّصْفِ الْآخَرِ فِي الرَّهْنِ وَالْهِبَةِ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ أَقْبَضَتْهُ فِي الرَّهْنِ وَالْهِبَةِ فَقَدْ خَرَجَ بِالْقَبْضِ فِي الْهِبَةِ مِنْ مِلْكِهَا، فَيَرْجِعُ الزَّوْجُ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ وَقَدْ صَارَ وَثِيقَةً فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فَلَمْ يَجُزْ إِبْطَالُ وَثِيقَتِهِ فَيَرْجِعُ الزَّوْجُ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ.
فَلَوْ لَمْ يَرْجِعْ بِهَا حَتَّى أَفَكَّتْهُ مِنْ رَهْنِهِ فَفِي رُجُوعِهِ بِنِصْفِهِ وَجْهَانِ: وَهَكَذَا لَوْ بَاعَتْهُ ثُمَّ ابْتَاعَتْهُ، أَوْ وَهَبَتْهُ ثُمَّ اسْتَوْهَبَتْهُ كَانَ فِي رُجُوعِ الزَّوْجِ بِنِصْفِهِ وَجْهَانِ.
وَلَوْ كَانَ قَدْ أَجَّرَتْهُ لَمْ تَمْنَعْ إِجَارَتُهُ مِنْ رُجُوعِ الزَّوْجِ بِنِصْفِهِ، لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ عَلَى مَنْفَعَتِهِ، وَرَقَبَتُهُ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِهَا، فَيَكُونُ الزَّوْجُ لِنَقْضِ الْإِجَارَةِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الرُّجُوعِ بِنِصْفِهِ وَالْتِزَامِ الْإِجَارَةِ إِلَى انْقِضَاءِ مُدَّتِهَا، وَبَيْنَ الْعُدُولِ عَنْهُ إِلَى الرُّجُوعِ بنصف قيمته.(9/463)
وَلَوْ بَاعَتْهُ بِخِيَارِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَهُمَا أَوْ لَهَا دُونَهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ فَفِي رُجُوعِهِ بِنِصْفِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ بِهِ، لِأَنَّ بَيْعَهُ لَمْ يَلْزَمْ فَصَارَ كَالْهِبَةِ إِذَا لَمْ تُقْبَضْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا رُجُوعَ لَهُ بِهِ لِأَنَّ فَسْخَهُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ لَا يَسْتَحِقُّهُ غَيْرُ المالك المختار. والله أعلم.
مسألة
قال الشافعي: " وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى عبدٍ فَوُجِدَ حُرًّا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) هَذَا غلطٌ وَهُوَ يَقُولُ لَوْ تَزَوَّجَهَا بشيءٍ فَاسْتَحَقَّ رَجَعَتْ إِلَى مَهْرِ مِثْلِهَا وَلَمْ تَكُنْ لَهَا قِيمَتُهُ لِأَنَّهَا لَمْ تَمْلِكْهُ فَهِيَ مِنْ مِلْكِ قِيمَةِ الْحُرِّ أَبْعَدُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: أَنْ يُصْدِقَهَا عَبْدًا فَيَبِينُ الْعَبْدُ حُرًّا أَوْ مُسْتَحَقًّا فَهُوَ صَدَاقٌ بَاطِلٌ لَا يَتَعَلَّقُ لَهَا بِرَقَبَةِ الْحُرِّ وَلَا بِذِمَّتِهِ حَقٌّ.
وَحُكِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ، أَنَّ الْحُرَّ رَهْنٌ فِي يَدِهَا عَلَى صَدَاقِهَا حَتَّى يَفُكَّ نَفْسَهُ أَوْ يَفُكَّهُ الزَّوْجُ.
وَهَذَا خَطَأٌ قَبِيحٌ، لِأَنَّ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لَا يَجُوزُ رَهْنُهُ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَفِيمَا تَرْجِعُ بِهِ الزَّوْجَةُ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: بِقِيمَتِهِ لَوْ كَانَ عَبْدًا مَمْلُوكًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: بِمَهْرِ مِثْلِهَا، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ، وَاسْتَشْهَدَ لَهُ بِالْمُسْتَحِقِّ وَلَا دَلِيلَ فِيهِ، لِأَنَّ كِلَاهُمَا عَلَى قَوْلَيْنِ.
وَلَكِنْ لَوْ قَالَ لَهَا وَقْتَ الْعَقْدِ، قَدْ أَصْدَقْتُكِ هَذَا الْحُرَّ كَانَ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّ عِلْمَهَا بِحُرِّيَّتِهِ يَمْنَعُ مِنِ اسْتِحْقَاقِهِ أَوِ الرُّجُوعِ إِلَى قِيمَتِهِ أَنْ لَوْ كَانَ عَبْدًا.
وَلَوْ أَصْدَقَهَا خَلًّا فَبَانَ خَمْرًا، قَالَ أَصْحَابُنَا: تَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّ الْخَمْرَ لَيْسَ لَهُ فِي الْخَلِّ مِثْلٌ فَيَرْجِعُ إِلَى قِيمَتِهِ لأن لَوْ كَانَ خَلًّا وَلَيْسَ كَالْحُرِّ، لَأَنَّ لَهُ فِي الْعَبِيدِ مِثْلٌ، فَجَازَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى قِيمَتِهِ أَنْ لَوْ كَانَ عَبْدًا.
وَلَوْ أَصْدَقَهَا عَبْدًا مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ جَازَ، كَالسَّلَمِ وَلَزِمَهُ تَسْلِيمُ عَبْدٍ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ.
وَلَوْ أَصْدَقَهَا عَبْدًا غَيْرَ مَوْصُوفٍ، كَانَ صَدَاقًا بَاطِلًا، لِجَهَالَتِهِ، وَرَجَعَتْ عَلَيْهِ بِمَهْرِ مِثْلِهَا قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ لَهَا عَبْدٌ تَرْجِعُ بِقِيمَتِهِ.
وَحُكِيَ فِي الْقَدِيمِ جَوَازُهُ عَنْ مَالِكٍ وَأَنَّ لَهَا عَبْدًا وَسَطًا فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَهُ قَوْلًا ثَانِيًا وَأَنْكَرَهُ سَائِرُهُمْ، وَقَالُوا: قَدْ تَكَلَّمَ الشَّافِعِيُّ عَلَى إِبْطَالِهِ بِالْجَهَالَةِ.
وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى صَدَاقٍ مُؤَجَّلٍ صَحَّ إِنْ ذَكَرَ مُدَّةَ الْأَجَلِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهَا كَانَ بَاطِلًا.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: يَصِحُّ وَيَكُونُ حَالًّا.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: يَصِحُّ وَيَكُونُ أَجَلُهُ إِلَى وَقْتِ الطَّلَاقِ.(9/464)
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يَصِحُّ وَيَكُونُ أَجَلُهُ إِلَى سَنَةٍ، وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ جَهَالَةَ الْأَجَلِ كَجَهَالَةِ الْمِقْدَارِ فَيَكُونُ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا قَوْلًا وَاحِدًا، كَمَا يَكُونُ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ فِي جَهَالَةِ الْمِقْدَارِ.
الْقَوْلُ فِي صَدَاقِ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ
مَسْأَلَةٌ
قَالَ الشافعي: " وَإِذَا شَاهَدَ الزَّوْجُ الْوَلِيَّ وَالْمَرْأَةَ أَنَّ الْمَهْرَ كذا ويعلن أكثر منه فَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ فِي مَوْضِعٍ السِّرُّ وَقَالَ فِي غَيْرِهِ الْعَلَانِيَةُ وَهَذَا أَوْلَى عندي لأنه إنما ينظر إِلَى الْعُقُودِ وَمَا قَبْلَهَا وَعْدٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا أَنْ يَنْكِحَ امْرَأَةً فِي السِّرِّ عَلَى صَدَاقٍ قَلِيلٍ، ثُمَّ يَنْكِحَهَا فِي الْعَلَانِيَةِ عَلَى صَدَاقٍ كَثِيرٍ.
فَقَدْ حَكَى الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي مَوْضِعٍ: إِنَّ الصَّدَاقَ صَدَاقُ السِّرِّ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إِنَّ الصَّدَاقَ صَدَاقُ الْعَلَانِيَةِ، فَكَانَ الْمُزَنِيُّ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا يُخَرِّجُونَ اخْتِلَافَ نَصِّهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّدَاقَ صَدَاقُ السِّرِّ لِتَقَدُّمِهِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ، أَنَّ الصَّدَاقَ صَدَاقُ الْعَلَانِيَةِ، لِتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِظَاهِرِهِ.
وَامْتَنَعَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا مِنْ تَخْرِيجِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَجَعَلُوهُ مَحْمُولًا عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ.
فَالْمَوْضِعُ الَّذِي جَعَلَ الصَّدَاقَ في صَدَاقَ السِّرِّ دُونَ الْعَلَانِيَةِ، إِذَا عَقَدَاهُ سِرًّا بَوْلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ ثُمَّ أَعْلَنَاهُ تَجَمُّلًا بِالزِّيَادَةِ وَإِشَاعَةً لِلْعَقْدِ، لِأَنَّ النِّكَاحَ هُوَ الْأَوَّلُ الْمَعْقُودُ سراًُ وَالثَّانِي لَا حُكْمَ لَهُ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي جَعَلَ الصداق الْعَلَانِيَةِ إِذَا تَوَاعَدَا سِرًّا وَأَتَمَّاهُ سِرًّا بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ ثُمَّ عَقَدَاهُ عَلَانِيَةً بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ مَوْعِدٌ، وَالثَّانِي هُوَ الْعَقْدُ فَلَزِمَ مَا تَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ دُونَ الْوَعْدِ.
وَهَذَا أَصَحُّ مِنْ تَخْرِيجِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ.
مَسْأَلَةٌ
قَالَ الشافعي: " وإن عُقِدَ عَلَيْهِ النِّكَاحُ بِعِشْرِينَ يَوْمَ الْخَمِيسِ ثُمَّ عُقِدَ عَلَيْهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِثَلَاثِينَ وَطَلَبَهُمَا مَعًا فهما لها لأنهما نكاحان (قال المزني) رحمه الله للزوج أن يقول كان الفراق في النكاح الثاني قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا يَلْزَمُهُ إِلَّا مهرٌ ونصفٌ في قياس قوله ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا ادَّعَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى زَوْجِهَا أَنَّهُ نَكَحَهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ عَلَى صَدَاقِ عِشْرِينَ، وَشَهِدَ لَهَا شَاهِدَانِ. وَادَّعَتْ عَلَيْهِ أَنَّهُ نَكَحَهَا يوم الجمعة على صداق ثلاثين، وشهد له شَاهِدَانِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ شَاهِدَا الْأَوَّلِ هُمَا شَاهِدَا الثَّانِي، أَوْ يَكُونَ غَيْرُهُمَا وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَخْتَلِفَ الصَّدَاقَانِ أَوْ يتساويا، فإننا نحكم بالشهادتين ويثبت بهما النكاحين،(9/465)
ويلزم بهما الصداقين، لِأَنَّ لَهُمَا فِي الصِّحَّةِ وَجْهًا مُمْكِنًا، وَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ ثُمَّ يُخَالِعَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ، أَوْ يُطَلِّقَهَا قَبْلَهُ ثُمَّ يَتَزَوَّجَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ.
فَلَوْ طَالَبَتْهُ بِالصَّدَاقَيْنِ فَادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّهُمَا نِكَاحٌ وَاحِدٌ أَسَرَّاهُ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ بِالشَّاهِدَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، وَأَعْلَنَاهُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِالشَّاهِدَيْنِ الْآخَرَيْنِ فَهَذَا مُحْتَمَلٌ.
فَإِنْ كَانَ عِنْدَ الشَّاهِدَيْنِ مِنْ ذَلِكَ عِلْمٌ شَهِدَا بِهِ عُمِلَ عَلَيْهِ وَجُعِلَ ذَلِكَ نِكَاحًا وَاحِدًا. وَحُكِمَ فِيهِ بِصَدَاقٍ وَاحِدٍ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الشُّهُودِ مِنْ ذَلِكَ عِلْمٌ وَأَنْكَرَتْهُ الزَّوْجَةُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَعَهَا وَدَفَعْنَا مَا احْتَمَلَهُ قول الزوج بيمنها.
فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ: لِلزَّوْجِ أَنْ يَقُولَ طَلَّقْتُهَا فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا يَلْزَمُهُ إِلَّا مَهْرٌ وَنِصْفٌ.
وَهَذَا صَحِيحٌ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يُنَبِّهَ عَلَيْهِ.
فإن ابتدأ به وقال قَبْلَ قَوْلِهِ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّ قَوْلَ الزَّوْجِ فِي إِنْكَارِ الدُّخُولِ مَقْبُولٌ. وَسَوَاءٌ ادَّعَى عَدَمَ الدُّخُولِ فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ أَوْ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي.
وَهَكَذَا لَوِ ادَّعَى أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ بها في النكاحين معاً كان قوله مَقْبُولًا مَعَ يَمِينِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَهْرِ إِلَّا نِصْفُهُ.
وَلَوِ ادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّهَا ارْتَدَّتْ فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَسَقَطَ جَمِيعُ مَهْرِهَا وَأَنْكَرَتْهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا، وَلَهَا الْمَهْرُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّهَا عَلَى دِينِهَا لَمْ تَرْتَدَّ عَنْهُ.
وَعَلَى قِيَاسِ ما ذكرنا في النكاح من الْبُيُوعِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: بِعْتُكَ عَبْدِي فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ بِمِائَةٍ وَيَشْهَدُ لَهُ شَاهِدَانِ، ثُمَّ يَقُولُ وَبِعْتُكَهُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِمِائَتَيْنِ، وَيَشْهَدُ لَهُ شَاهِدَانِ، فَيُحْكَمُ لَهُ بِالثَّمَنَيْنِ ثَلَثِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَإِنِ ادَّعَى الْمُشْتَرِي أَنَّهُمَا بَيْعٌ وَاحِدٌ أَحْلَفْنَا له البائع.
مسألة
قال الشافعي: " وَلَوْ أَصْدَقَ أَرْبَعَ نسوةٍ أَلْفًا قُسِّمَتْ عَلَى قَدْرِ مُهُورِهِنَّ كَمَا لَوِ اشْتَرَى أَرْبَعَةَ أعبدٍ فِي صفقةٍ فَيَكُونُ الثَّمَنُ مَقْسُومًا عَلَى قدرٍ قيمتهم (قال المزني) رحمه الله نظيرهن أن يشتري من أربع نسوةٍ من كل واحدةٍ عبداً بثمنٍ واحدٍ فتجهل كل واحدةٍ منهن ثمن عبدها كما جهلت كل واحدةٍ منهن مهر نفسها وفساد المهر بقوله أولى ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ أَرْبَعَ زَوْجَاتٍ فِي عَقْدٍ وَأَصْدَقَهُنَّ أَلْفًا، فَإِنْ بَيَّنَ مِنْهَا مَهْرَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ صَحَّ النِّكَاحُ وَالْمَهْرُ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ وَفِي الْمَهْرِ قَوْلَانِ. وَهَكَذَا لَوْ خَالَعَ أَرْبَعَ زَوْجَاتٍ فِي عَقْدٍ بِأَلْفٍ صَحَّ الْخُلْعُ، وَفِي صِحَّةِ الْبَدَلِ قَوْلَانِ.
وَلَوْ كَاتَبَ أَرْبَعَةَ عَبِيدٍ لَهُ فِي عَقْدٍ بِأَلْفٍ إِلَى نَجْمَيْنِ فَفِي أَصْلِ الكتابة قولان.(9/466)
فَيَكُونُ الْقَوْلَانِ فِي بَدَلِ النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ مَعَ صِحَّةِ النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ، وَالْقَوْلَانِ فِي الْكِتَابَةِ فِي أَصْلِهَا، لِأَنَّ فَسَادَ الْبَدَلِ فِي الْكِتَابَةِ مُبْطِلٌ لَهَا، وَلَيْسَ فَسَادُ الْبَدَلِ فِي النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ مبطلاً لهما:
- أحد القولين في هذا صَحِيحٌ وَوَجْهُهُ شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَزْوِيجَهُ بِأَرْبَعٍ فِي عَقْدٍ عَلَى صَدَاقِ أَلْفٍ كَابْتِيَاعِهِ أَرْبَعَةَ أَعْبُدٍ فِي عَقْدٍ بِأَلْفٍ وَذَلِكَ يَجُوزُ إِجْمَاعًا، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ هَذَا حِجَاجًا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَعْقُودٌ بِمَا يُعْلَمُ بِهِ مَهْرُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فِي ثَانِي حَالٍ بِأَنْ يُقَسِّطَ الْأَلْفَ عَلَى مُهُورِ أَمْثَالِهِنَّ، وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا فِي الْحَالِ فَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنَ الصِّحَّةِ كَمَا لَوِ اشْتَرَى صُبْرَةَ طَعَامٍ كُلُّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ صَحَّ الْبَيْعُ، وَإِنْ جَهِلَ الثَّمَنَ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ مَعْقُودٌ بِمَا يَصِيرُ مَعْلُومًا فِي ثَانِي حَالٍ.
- وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ اخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ، كُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ، وَوَجْهُهُ شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا وَهُوَ أَنَّ مَهْرَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مِنَ الْأَلْفِ مَجْهُولٌ فِي حَالِ الْعَقْدِ فَلَمْ يَصِحَّ وَإِنْ أَمْكَنَ الْعِلْمُ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْعَقْدِ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ عَلَى انْفِرَادِهَا بِقِسْطِ مَهْرِ مِثْلِهَا مِنَ الْأَلْفِ لَمْ يَجُزْ عَلَى الِانْفِرَادِ، فَكَذَلِكَ مَعَ الِاجْتِمَاعِ.
وَالثَّانِي: ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ، أَنَّ تَزَوُّجَهُ لَهُنَّ بِالْأَلْفِ كَابْتِيَاعِهِ أَرْبَعَةَ أَعْبُدٍ مِنْهُنَّ بِأَلْفٍ، وَهُوَ فِي الْبَيْعِ بَاطِلٌ، فَكَذَلِكَ فِي الصَّدَاقِ بَاطِلٌ، لِأَنَّ مَا بَطَلَ بِهِ أَحَدُهُمَا مِنَ الْجَهَالَةِ بَطَلَ بِهِ الْآخَرُ. فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ.
فَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يُخَرِّجُ هَذَا الْبَيْعَ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالصَّدَاقِ، وَالْخُلْعِ، وَالْكِتَابَةِ، وَيُسَوِّي بَيْنَ الْجَمِيعِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ فِيهِ دَلِيلٌ.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا إِنَّهُ بَاطِلٌ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَبْطُلِ النِّكَاحُ بِفَسَادِ الصَّدَاقِ لَمْ يَبْطُلِ الصَّدَاقُ بِالْجَهَالَةِ بِهِ وَقْتَ الْعَقْدِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْبَيْعِ الثَّمَنُ فَجَازَ أَنْ يَبْطُلَ بِالْجَهَالَةِ بِهِ وَقْتَ الْعَقْدِ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنَ النِّكَاحِ الصَّدَاقُ، فَجَازَ أَنْ يَصِحَّ وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا وَقْتَ الْعَقْدِ إِذَا انْتَفَتْ عَنْهُ الْجَهَالَةُ مِنْ بَعْدُ.
فَأَمَّا تَوْجِيهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ تَزْوِيجَهُنَّ عَلَى صَدَاقِ أَلْفٍ كَابْتِيَاعِ أَرْبَعَةِ أَعْبُدٍ مِنْ رَجُلٍ بِأَلْفٍ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ الْعَقْدَ إِذَا كَانَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ جِهَتَيْهِ عَاقِدٌ وَاحِدٌ كَانَ عَقْدًا وَاحِدًا، وَإِذَا كَانَ فِي أَحَدِ جِهَتَيْهِ عَاقِدَانِ كَانَ عَقْدَيْنِ. أَلَا تَرَى لَوِ اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلَيْنِ عَبْدًا وَوَجَدَ بِالْعَبْدِ عَيْبًا كَانَ لَهُ رَدُّ نِصْفِ الْعَبْدِ عَلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، وَلَوِ اشْتَرَاهُ من واحد لم يكن له لأن شراؤه مِنَ اثْنَيْنِ يَكُونُ عَقْدَيْنِ، وَمِنَ الْوَاحِدِ يَكُونُ عَقْدًا وَاحِدًا. كَذَلِكَ إِذَا تَزَوَّجَ أَرْبَعًا(9/467)
بِأَلْفٍ كَانَتْ أَرْبَعَةَ عُقُودٍ، فَبَطَلَ الْبَدَلُ لِلْجَهَالَةِ بِبَدَلِ كُلِّ عَقْدٍ، وَلَوِ اشْتَرَى أَرْبَعَةَ أَعْبُدٍ مِنْ رَجُلٍ بِأَلْفٍ كَانَ عَقْدًا وَاحِدًا، فَلَمْ يَبْطُلْ، لِأَنَّ الثَّمَنَ فِيهِ وَاحِدٌ مَعْلُومٌ.
وَأَمَّا اعْتِبَارُ ذَلِكَ بِالصُّبْرَةِ مِنَ الطَّعَامِ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ ثَمَنَ أَجْزَاءِ الصُّبْرَةِ مَعْلُومٌ، فَصَارَ جَمِيعُ الثَّمَنِ بِهِ مَعْلُومًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مُهُورُ الْأَرْبَعِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ الْعِلْمُ بِثَمَنِ الصُّبْرَةِ تَحَقَّقَ فَصَارَ الثَّمَنُ بِهِ مَعْلُومًا، وَمَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ الْعِلْمُ بِمَهْرِ مِثْلِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ تَقْرِيبٌ، لِأَنَّهُ عَنِ اجتهاد يختلف فيه المجتهدون فَصَارَ الْمَهْرُ مَجْهُولًا.
فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَوْجِيهِ الْقَوْلَيْنِ:
- فَإِذَا قُلْنَا بِبُطْلَانِ الصَّدَاقِ، كَانَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مَهْرُ مِثْلِهَا.
- وَإِذَا قُلْنَا بِصِحَّتِهِ قُسِّمَتِ الْأَلْفُ عَلَى مُهُورِ أمثالهن، وكان لك وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ قِسْطًا مِنَ الْأَلْفِ.
مِثَالُهُ: أَنْ يَكُونَ مَهْرُ مِثْلِ وَاحِدَةٍ أَلْفًا، وَمَهْرُ الثَّانِيَةِ أَلْفَيْنِ، وَمَهْرُ الثَّالِثَةِ ثَلَاثَةَ آلَافٍ، وَمَهْرُ الرَّابِعَةِ أَرْبَعَةَ آلَافٍ: فَنَجْعَلُ الْأَلْفَ الْمُسَمَّاةَ مُقَسَّطَةً عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ، لِأَنَّهَا فِي مُقَابَلَتِهَا فَتَكُونُ الَّتِي مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفٌ عُشْرَ الْأَلْفِ، وَذَلِكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَلِلَّتِي مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفَانِ، خُمُسُ الْأَلْفِ، وَذَلِكَ مِائَتَا دِرْهَمٍ، وَلِلَّتِي مَهْرُ مِثْلِهَا ثَلَاثَةُ آلاف، ثلاثة أعشار الألف وذلك ثلثمائة دِرْهَمٍ، وَلِلَّتِي مَهْرُ مِثْلِهَا أَرْبَعَةُ آلَافٍ خُمُسَا الألف وذلك أربعمائة درهم.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ أَصْدَقَ عَنِ ابْنِهِ وَدَفَعَ الصَّدَاقَ مِنْ مَالِهِ ثُمَّ طَلَّقَ فَلِلِابْنِ النِّصْفُ كَمَا لَوْ وَهَبَهُ لَهُ فَقَبَضَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْأَبَ إِذَا زَوَّجَ ابْنَهُ الصَّغِيرَ لَمْ يَخْلُ مَا أَصْدَقَ زَوْجَتَهُ عَنْهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا، أَوْ فِي الذِّمَّةِ.
فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا كَعَبْدٍ جَعَلَهُ صَدَاقًا لِزَوْجَتِهِ فَهُوَ صَدَاقٌ جَائِزٌ، سَوَاءٌ كَانَ الْعَبْدُ لِلِابْنِ، أَوْ لِلْأَبِ، إِلَّا أَنَّهُ إِنْ كَانَ لِلْأَبِ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ هِبَةً لِلِابْنِ.
وَإِنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ: فَلَا يَخْلُو الِابْنُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا، أَوْ مُعْسِرًا، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا: وَجَبَ الصَّدَاقُ فِي ذِمَّتِهِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِذِمَّةِ الْأَبِ إِلَّا أَنْ يُصَرِّحَ بِضَمَانِهِ وَإِنْ كَانَ الْأَبُ مُعْسِرًا، فَفِي الصَّدَاقِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ: إنَّهُ لازم للأب، ولأن قَبُولَهُ لِنِكَاحِ وَلَدِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِإِعْسَارِهِ الْتِزَامٌ مِنْهُ لِمُوجِبِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ: أَنَّهُ لَازِمٌ لِلِابْنِ دُونَ الْأَبِ، لِأَنَّ الِابْنَ هُوَ الْمَالِكُ لِلْبُضْعِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُلْتَزِمَ بِمَا فِي مُقَابَلَتِهِ مِنَ الصَّدَاقِ.(9/468)
فَعَلَى هَذَا، إِذَا قُلْنَا بِقَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ: أَنَّ الصَّدَاقَ لَازِمٌ لِلِابْنِ فَهُوَ الْمَأْخُوذُ بِهِ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ دُونَ الْأَبِ.
وَإِذَا قُلْنَا بِقَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ: أَنَّهُ لَازِمٌ لِلْأَبِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَلْتَزِمُهُ الْأَبُ الْتِزَامَ تَحَمُّلٍ، أَوِ الْتِزَامَ ضَمَانٍ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْتِزَامُ تَحَمُّلٍ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الِابْنُ بريئاًَ مِنْهُ، وَلَوْ أُبْرِئَ الِابْنُ مِنْهُ لَمْ يَبْرَأِ الْأَبُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: الْتِزَامُ ضَمَانٍ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ ثَابِتًا فِي ذِمَّةِ الِابْنِ وَإِنْ أُبْرِئَ مِنْهُ بَرِئَ الْأَبُ.
فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا، وَطَلَّقَ الِابْنُ زَوْجَتَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَقَدْ مَلَكَ بِالطَّلَاقِ نِصْفَ الصَّدَاقِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يخلو الصداق مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ مال الابن، أو من مَالِ الْأَبِ.
فَإِذَا كَانَ مِنْ مَالِ الِابْنِ فحكمه فيه كحكمه لَوْ تَزَوَّجَ بَالِغًا ثُمَّ طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ عَلَى مَا مَضَى.
وَإِنْ كَانَ مِنْ مَالِ الْأَبِ: فَلَا يَخْلُو مَالِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ سَلَّمَهُ إِلَى الزَّوْجَةِ قَبْلَ طَلَاقِهَا، أَوْ لَمْ يُسَلِّمْهُ إِلَيْهَا، فَإِنْ كَانَ قَدْ سَلَّمَهُ إِلَيْهَا: فَقَدْ مَلَكَ الِابْنُ نِصْفَهُ دُونَ الْأَبِ، لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ بِالطَّلَاقِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مِلْكَ الْمُطَلَّقِ دُونَ غَيْرِهِ.
فَعَلَى هَذَا: إِذَا اسْتَرْجَعَ الِابْنُ نِصْفَ الصَّدَاقِ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَسْتَرْجِعَهُ بِعَيْنِهِ، أَوْ يَسْتَرْجِعَ بَدَلَهُ.
فَإِنِ اسْتَرْجَعَ بَدَلَهُ لِتَلَفِهِ فِي يَدِهَا، فَلَيْسَ لِلْأَبِ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الِابْنِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ الْعَيْنِ الَّتِي وَهَبَهَا.
وَإِنِ اسْتَرْجَعَ الِابْنُ مَا دَفَعَهُ الْأَبُ بِعَيْنِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الصَّدَاقُ مُعَيَّنًا وَقْتَ الْعَقْدِ كَعَبْدٍ، أَوْ ثَوْبٍ، جَعَلَهُ صَدَاقًا عَنِ الِابْنِ، فَفِي رُجُوعِ الأب به عَلَى الِابْنِ وَجْهَانِ، مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ وَجْهَيْ أَصْحَابِنَا فِي الْأَبِ إِذَا وَهَبَ لِابْنِهِ مَالًا فَخَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ، هَلْ لِلْأَبِ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: كَذَلِكَ هَاهُنَا، لِأَنَّهَا هِبَةٌ لِلْأَبِ صَارَتْ إِلَى الزَّوْجَةِ ثُمَّ عَادَتْ إِلَى الِابْنِ.
وَالضَّرْبُ الثاني: أن يكون الصداق فِي الذِّمَّةِ فَدَفَعَهُ الْأَبُ إِلَى الزَّوْجَةِ فَرُجُوعُ الْأَبِ بِهِ عَلَى الِابْنِ إِذَا عَادَ إِلَيْهِ بِطَلَاقِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ هَلْ كَانَ لَازِمًا لِلْأَبِ أَمْ لَا؟
فَإِنْ قُلْنَا: كَانَ لَازِمًا لِلْأَبِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ بِهِ، سَوَاءٌ قِيلَ: إِنَّهُ يَلْزَمُهُ تَحَمُّلًا أَوْ ضَامِنًا، لِأَنَّهُ دَفَعَ وَاجِبًا عَلَيْهِ فَخَرَجَ عَنْ حُكْمِ الهبات.(9/469)
وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ كَانَ لَازِمًا لِلِابْنِ صَارَ كالصداق الْمُعَيَّنَ فَيَكُونُ لِلْأَبِ بِهِ وَجْهَانِ:
وَإِنْ كَانَ الْأَبُ مَا سَلَّمَ الصَّدَاقَ إِلَى الزَّوْجَةِ حَتَّى طلقت فعلى ضربين:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الصَّدَاقُ مُعَيَّنًا، فَلِلزَّوْجَةِ نِصْفُهُ، والنصف الآخر يعود إلى الأب دُونَ الِابْنِ؛ لِأَنَّهَا هِبَةٌ مِنَ الْأَبِ لَمْ يَقْبِضْهَا فَلِذَلِكَ لَمْ يَمْلِكْهَا الِابْنُ عَلَيْهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي الذِّمَّةِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ لَازِمٌ لِلْأَبِ لُزُومَ ضَمَانٍ فَقَدْ بَرِئَ الْأَبُ مِنْ نِصْفٍ، لِأَنَّ الِابْنَ قَدْ بَرِئَ مِنْهُ بِطَلَاقِهِ، وَبَرَاءَةُ الْمَضْمُونِ عَنْهُ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الضَّامِنِ.
وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ لَازِمٌ لِلْأَبِ لُزُومَ تَحَمُّلٍ فَفِي بَرَاءَتِهِ مِنْهُ وَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي الْمُعَيَّنِ هَلْ لِلْأَبِ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الِابْنِ أَمْ لَا؟
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ لَوْ كَانَ مُعَيَّنًا رَجَعَ بِهِ عَلَى الِابْنِ بَرِئَ الْأَبُ مِنْهُ إِذَا كَانَ فِي الذِّمَّةِ.
وَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ مُعَيَّنًا لَمْ يَرْجِعْ بِهِ، لَمْ يَبْرَأْ مِنْهُ إِذَا كَانَ في الذمة وكان للأب مطالبته به.
فَصْلٌ
وَإِذَا تَزَوَّجَ الِابْنُ بَعْدَ كِبَرِهِ، وَقَضَى الْأَبُ عَنْهُ صَدَاقَ زَوْجَتِهِ، وَطَلَّقَ الِابْنُ قَبْلَ الدُّخُولِ، رَجَعَ بِنِصْفِ الصَّدَاقِ الَّذِي قَضَاهُ الْأَبُ عَنْهُ مِنْ مَالِهِ، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي قَضَاءِ الْأَبِ لِلصَّدَاقِ.
فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِ ابْنِهِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْهِبَةِ، وَهَلْ لِلْأَبِ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الِابْنِ إِذَا وَجَدَهُ بِعَيْنِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ.
وَإِنْ كان الأب دفع ذلك بِغَيْرِ إِذَنِ الِابْنِ، فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ حُكْمِ الْهِبَةِ إِلَى حُكْمِ الْإِبْرَاءِ، وَالْإِسْقَاطِ؛ لِأَنَّ الِابْنَ بَالِغٌ، لَا يَصِحُّ أَنْ يَنُوبَ الْأَبُ عَنْهُ فِي قَبُولِ هِبَةٍ، وَلَا قَبْضِهَا.
فَعَلَى هَذَا لَيْسَ لِلْأَبِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا إِذَا وَجَدَهَا بعينها وجهاً واحداً.
مسألة
قال الشافعي: " وَإِذَا تَزَوَّجَ الْمَوْلِيُّ عَلَيْهِ بِغَيْرِ أَمْرِ وَلِيِّهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُجِيزَ النِّكَاحَ وَإِنْ أَصَابَهَا فَلَا صَدَاقَ لَهَا وَلَا شَيْءَ تَسْتَحِلُّ بِهِ إِذَا كُنْتُ لَا أَجْعَلُ عَلَيْهِ فِي سلعةٍ يَشْتَرِيهَا فَيُتْلِفُهَا شَيْئًا لَمْ أَجْعَلْ عَلَيْهِ بِالْإِصَابَةِ شَيْئًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَوْلِيَّ بِالسَّفَهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذن وليه، لأن وقوع الْحَجْرِ عَلَيْهِ قَدْ مَنَعَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْعُقُودِ، فَإِنْ تَزَوَّجَ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ، فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَلَا أَرْشَ عَلَيْهِ وَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِمَكَانِ الشُّبْهَةِ فَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لَحِقَ بِهِ.
فَأَمَّا الْمَهْرُ: فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ أَكْرَهَهَا عَلَى نَفْسِهَا فَعَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا، لِأَنَّ إِكْرَاهَهُ لَهَا كَالْجِنَايَةِ مِنْهُ يَضْمَنُ بِهَا.(9/470)
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تُطَاوِعَهُ مِنْ غَيْرِ إِكْرَاهٍ، فَفِي وُجُوبِ الْمَهْرِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، أَنَّهُ لَا مَهْرَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْحَجْرَ قَدْ أَبْطَلَ ذِمَّتَهُ فِي الْحُقُوقِ كَمَا لَوِ اشْتَرَى سِلْعَةً وَاسْتَهْلَكَهَا لَمْ يَضْمَنْ قِيمَتَهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ: أَنَّ عَلَيْهِ مَهْرَ مِثْلِهَا، لِأَنَّ الْبُضْعَ لَا يُنْتَهَكُ إِلَّا بِمَهْرٍ فِي الشُّبْهَةِ أَوْ حَدٍّ فِي الزِّنَا، فَلَمَّا سَقَطَ الْحَدُّ وَجَبَ الْمَهْرُ وَخَالَفَ السِّلَعَ فِي الْبُيُوعِ، لِأَنَّهَا تُمْلَكُ بِالْإِبَاحَةِ، وَلَا يُمْلَكُ الْبُضْعُ بِالْإِبَاحَةِ.
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْقَوْلَانِ:
فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَوْضِعِ الْقَوْلَيْنِ.
فَذَهَبَ الْبَصْرِيُّونَ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّهُمَا مَعَ جَهْلِهِمَا بِسَفَهِهِ، وَثُبُوتِ حَجْرِهِ، فَإِنَّ وُجُوبَ مَهْرِهَا عَلَيْهِ يَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ عَالِمَةً بِسَفَهِهِ وَحَجْرِهِ فَلَا مَهْرَ لَهَا عَلَيْهِ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّ فِي تَمْكِينِهَا مَعَ الْعِلْمِ بِحَالِهِ إِبْرَاءً لَهُ.
وَقَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ مِنْهُمْ بَلِ الْقَوْلَانِ مَعَ الْعِلْمِ بِحَالِهِ مَعَ الْجَهْلِ بِهَا فِي أَنَّ مَهْرَهَا عَلَى قَوْلَيْنِ، لِأَنَّهُ غُرْمٌ يعتبر بفعله، فَعَلَى هَذَا إِنْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ الْمَهْرَ أُخِذَ مِنْ مَالِهِ فِي الْحَالِ. وَلَمْ يُنْظَرْ بِهِ فِكَاكُ الْحَجْرِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُعْسِرًا فَيُنْظَرُ به على وَقْتِ يَسَارِهِ، وَإِنْ أَسْقَطْنَا عَلَيْهِ الْمَهْرَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ، وَلَا بَعْدَ فِكَاكِ حَجْرِهِ فِي الْحُكْمِ.
وَهَلْ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ فِكَاكِ حَجْرِهِ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهَا مَا يَصِيرُ الْبُضْعُ مُسْتَبَاحًا بِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ فِعْلٌ ظَاهِرٌ، فَإِذَا لَمْ يَلْزَمْهُ بِهِ حَقٌّ فِي الظَّاهِرِ، لَمْ يَلْزَمْهُ فِي الْبَاطِنِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الله تعالى ما يستحل به البضع، لأن لا يَكُونَ مُسْتَبِيحًا لِبُضْعِهَا بِغَيْرِ بَذْلٍ فَعَلَى هَذَا فِيمَا يَلْزَمُهُ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَهْرُ مِثْلِهَا، لِأَنَّهُ قِيمَةُ مُسْتَهْلَكٍ عَلَيْهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَسْتَطِيبَ نَفْسَهَا بِمَا يَصِيرُ الْبُضْعُ مُسْتَبَاحًا بِهِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ مَهْرِ الْمِثْلِ مَا لَمْ يَزِدْ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فلها المهر بما استحل من فرجها ". ولأن لا يُشَارِكُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فِيمَا خُصَّ بِهِ مِنِ اسْتِبَاحَةِ الْمَوْهُوبَةِ بِغَيْرِ مهر. والله أعلم.(9/471)
باب التفويض من الجامع من كتاب الصداق ومن النكاح القديم، ومن الإملاء على مسائل مالكٍ
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " التَّفْوِيضُ الَّذِي مَنْ تَزَوَّجَ بِهِ عُرِفَ أَنَّهُ تفويضٌ أَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ الثَّيِّبَ الْمَالِكَةَ لِأَمْرِهَا بِرِضَاهَا وَيَقُولَ لَهَا أَتَزَوَّجُكِ بِغَيْرِ مهرٍ فَالنِّكَاحُ فِي هَذَا ثابتٌ ".
الْقَوْلُ فِي حَدِّ التَّفْوِيضِ فِي النِّكَاحِ
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا التَّفْوِيضُ فِي اللُّغَةِ: فَهُوَ التَّسْلِيمُ، يُقَالُ: فَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَى فُلَانٍ، أَيْ سَلَّمْتُ أَمْرِي إِلَيْهِ، وَوَكَلْتُهُ على تَدْبِيرِهِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَأُفَوِضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ} أَيْ أَسْتَسْلِمُ إِلَيْهِ.
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
(لَا يَصْلُحُ النَّاسُ فَوْضَى لَا سَرَاةَ لَهُمْ ... وَلَا سَرَاةَ إِذَا جُهَّالُهُمْ سَادُوا)
أَيْ: لَا يَصْلُحُونَ إِذَا كان أمرهم مفوضاً، لَا مُدَبِّرَ لَهُمْ.
وَالتَّفْوِيضُ فِي النِّكَاحِ: أَنْ تُنْكِحَ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا بِغَيْرِ مَهْرٍ. فَمَنْ مَنَعَ النِّكَاحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ قَالَ: امْرَأَةٌ مفوضةٌ، بِفَتْحِ الْوَاوِ. وَمَنْ أَجَازَهُ بِغَيْرِ وَلِيٍّ، قَالَ: مفوضةٌ بكسر الواو.
الْقَوْلُ فِي أَقْسَامِ التَّفْوِيضِ
وَالتَّفْوِيضُ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَفْوِيضُ الْبُضْعِ.
وَالثَّانِي: تَفْوِيضُ الْمَهْرِ.
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ
فَأَمَّا تَفْوِيضُ الْبُضْعِ: فَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ الثَّيِّبَ مِنْ وَلِيِّهَا بِإِذْنِهَا، وَرِضَاهَا، عَلَى أَنْ لَا مَهْرَ لَهَا، فَهَذَا نِكَاحُ التَّفْوِيضِ، لِأَنَّهَا سَلَّمَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ مَهْرٍ، وَهُوَ نِكَاحٌ صحيح ثابت، لما دللنا عليه من قوله الله تعالى: {لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءِ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ(9/472)
تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} . وَمَعْنَاهُ وَلَمْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً، فَأَقَامَ " أَوْ " مَقَامَ " لَمْ " عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ مَجَازًا.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ: فِي هَذَا الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَتَقْدِيرُهُ: فَرَضْتُمْ أَوْ لَمْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً.
وَالْفَرِيضَةُ: الْمَهْرُ الْمُسَمَّى، سُمِّيَ فَرِيضَةً، لِأَنَّ فَرَضَهُ لَهَا، بِمَعْنَى أَوْجَبَهُ لَهَا، كَمَا يُقَالُ: فَرَضَ الْحَاكِمُ النَّفَقَةَ إِذَا أَوْجَبَهَا، فَلَمَّا رَفَعَ عَنْهُ الْجُنَاحَ وَأَثْبَتَ فِيهِ الطَّلَاقَ دَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ.
وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ النِّكَاحِ التَّوَاصُلُ بَيْنَ الْمُتَنَاكِحَيْنِ، وَالْمَهْرُ تَبِعٌ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ الَّذِي مَقْصُودُهُ مِلْكُ الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ، فَبَطَلَ النِّكَاحُ بِالْجَهْلِ بِالْمُتَنَاكِحَيْنِ، لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ، وَلَمْ يَبْطُلْ بِالْجَهْلِ بِالْمَهْرِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ، كَمَا أَنَّ الْبَيْعَ يَبْطُلُ بِالْجَهْلِ بِالثَّمَنِ أَوِ الْمُثَمَّنِ، لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ، وَلَا يَبْطُلُ بِالْجَهْلِ بالمتابعين، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ. وَإِذَا صَحَّ نِكَاحُ التَّفْوِيضِ بِمَا ذَكَرْنَا لَمْ يَجِبْ لِلْمُفَوَّضَةِ بِالْعَقْدِ مَهْرٌ لاشتراط سُقُوطِهِ، وَلَا لَهَا أَنْ تُطَالِبَ بِمَهْرٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ لَهَا بِالْعَقْدِ مَهْرٌ، وَلَكِنْ لَهَا أَنْ تُطَالِبَ بِأَنْ يَفْرِضَ لَهَا مَهْرًا إِمَّا بِمُرَاضَاةِ الزَّوْجَيْنِ أَوْ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ، فَيَصِيرُ الْمَهْرُ بَعْدَ الْفَرْضِ كَالْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ، أَوْ أَنْ يَدْخُلَ الزَّوْجُ بِهَا، فَيَجِبُ لَهَا بِالدُّخُولِ مَهْرٌ.
فَإِنْ مَاتَ عَنْهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَفِي وُجُوبِ الْمَهْرِ قَوْلَانِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، فَيَصِيرُ الْمَهْرُ مُسْتَحَقًّا بِأَحَدِ أَرْبَعَةِ أُمُورٍ:
إِمَّا بِأَنْ يَفْرِضَاهُ عَنْ مُرَاضَاةٍ، وَإِمَّا بِأَنْ يَفْرِضَهُ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا، وَإِمَّا بِالدُّخُولِ بِهَا، وَإِمَّا بِالْمَوْتِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ:
فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ فَرَضْتُمْ لَهَا مَهْرًا، وَقَدْ شَرَطَ أَنْ لَيْسَ لَهَا مَهْرٌ؟ .
قِيلَ: لِتَخْرُجَ عَنْ حُكْمِ الْمَوْهُوبَةِ بِغَيْرِ مَهْرٍ الَّتِي خُصَّ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَيَكُونُ الشَّرْطُ مَحْمُولًا عَلَى أَنْ لَا مَهْرَ لَهَا بِالْعَقْدِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ نَكَحَهَا عَلَى أَنْ لَا مَهْرَ لَهَا بِحَالٍ؟ .
قِيلَ: فِي النِّكَاحِ حِينَئِذٍ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْتِزَامَ هَذَا الشَّرْطِ يَجْعَلُهَا كَالْمَوْهُوبَةِ الَّتِي جعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِهَا مَخْصُوصًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ، وَالشَّرْطَ بَاطِلٌ، لأنه شُرُوطَ الْمَهْرِ لَا تُؤَثِّرُ فِي عُقُودِ الْمَنَاكِحِ.
فَصْلٌ
فَأَمَّا إِذَا فَوَّضَ مَهْرَهَا، فَتَزَوَّجَهَا وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا فِي الْعَقْدِ مَهْرًا، وَلَا شَرَطَ فِيهِ أَنْ لَيْسَ لَهَا مَهْرٌ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ نِكَاحَ تَفْوِيضٍ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:(9/473)
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّهُ لَيْسَ بِنِكَاحِ تَفْوِيضٍ، لِعَدَمِ الشَّرْطِ فِي سُقُوطِ الْمَهْرِ، وَيَكُونُ مَهْرُ الْمِثْلِ مُسْتَحَقًّا بِالْعَقْدِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ نِكَاحُ تَفْوِيضٍ لِأَنَّ إِسْقَاطَ ذِكْرِهِ فِي الْعَقْدِ، كَاشْتِرَاطِ سُقُوطِهِ فِي الْعَقْدِ، فَعَلَى هَذَا، لَا مَهْرَ لَهَا بِالْعَقْدِ، إِلَّا أَنْ تَتَعَقَّبَهُ أَحَدُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ.
فَهَذَا حُكْمُ التَّفْوِيضِ إِذَا كَانَ عَنْ إِذْنِهَا.
فَصْلٌ
فَأَمَّا إِذَا فَوَّضَ الْوَلِيُّ نِكَاحَهَا بِغَيْرِ إِذْنِهَا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ مِمَّنْ لَا يُنْكِحُ إِلَّا بِإِذْنٍ، كَسَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ مَعَ الثَّيِّبِ، وَغَيْرِ الْأَبِ مَعَ الْبِكْرِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَأْذِنْهَا فِي النِّكَاحِ، وَلَا فِي التَّفْوِيضِ، كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا، فَإِنِ اسْتَأْذَنَهَا فِي النِّكَاحِ، وَلَمْ يَسْتَأْذِنْهَا فِي التَّفْوِيضِ صَحَّ النِّكَاحُ وَبَطَلَ التَّفْوِيضُ، وَكَانَ لَهَا بِالْعَقْدِ مَهْرُ الْمِثْلِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ مِمَّنْ يَصِحُّ أَنْ يُنْكِحَ بِغَيْرِ إِذْنٍ، كَالْأَبِ مَعَ الْبِكْرِ، فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ بِغَيْرِ إِذْنِهَا. فَأَمَّا صِحَّةُ التَّفْوِيضِ بِغَيْرِ إِذْنِهَا فَمُعْتَبَرٌ بِاخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ الزَّوْجُ دُونَ الْأَبِ، بَطَلَ تَفْوِيضُ الْأَبِ.
وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ الْأَبُ فَفِي صِحَّةِ تَفْوِيضِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّهُ بَاطِلٌ، وَلَهَا بِالْعَقْدِ مَهْرُ الْمِثْلِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ صَحِيحٌ كَالْعُقُودِ وَلَيْسَ لَهَا بِالْعَقْدِ مَهْرٌ.
فَصْلٌ
فَأَمَّا السَّيِّدُ إِذَا فَوَّضَ نِكَاحَ أَمَتِهِ صَحَّ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ فِي التَّفْوِيضِ، لِأَنَّ الْمَهْرَ لَهُ دُونَهَا، فَلَوْ فَرَضَ لَهَا الْمَهْرَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَ أَنْ بَاعَهَا أَوْ أَعْتَقَهَا فَفِي مُسْتَحِقِّ الْمَهْرِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: هِيَ إِنْ أُعْتِقَتْ، وَمُشْتَرِيهَا إِنْ بِيعَتْ، لِأَنَّ مَهْرَهَا لَمْ يَجِبْ بِالْعَقْدِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ بِالْفَرْضِ بَعْدَ زَوَالِ الْمِلْكِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لِلسَّيِّدِ الْمُنْكِحِ، لِأَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِهِ كَانَ فِي مِلْكِهِ.
فَأَمَّا تَفْوِيضُ الْمَهْرِ فَسَيَأْتِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْقَوْلُ فِي مَهْرِ الْمُفَوَّضَةِ بَعْدَ الدخول
مسألة
قال الشافعي: " فَإِنْ أَصَابَهَا فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، الْمُفَوَّضَةُ لِنِكَاحِهَا إِذَا وَطِئَهَا الزَّوْجُ فلها مهر المثل، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا " وَلِتَخْرُجَ بِالْتِزَامِ الْمَهْرِ مِمَّا خُصَّ بِهِ(9/474)
نبي الله مِنْ نِكَاحِ الْمَوْهُوبَةِ بِغَيْرِ مَهْرٍ، وَمِنْ حُكْمِ الزِّنَا الَّذِي لَا يُسْتَحَقُّ فِيهِ مَهْرٌ، فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا كَانَ التَّفْوِيضُ إِبْرَاءً مِنَ الْمَهْرِ، فَلَا يَجِبُ لَهَا بِالدُّخُولِ مَهْرٌ؟ .
قِيلَ: الْإِبْرَاءُ إِنَّمَا يَصِحُّ مِمَّا وَجَبَ، وَهَذَا مَهْرٌ وَجَبَ بِالدُّخُولِ، فَلَمْ يَصِحَّ الْإِبْرَاءُ مِنْهُ بِالْعَقْدِ.
فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ لَوْ بَذَلَتْ لَهُ يَدَهَا فَقَطَعَهَا لَمْ يَلْزَمْهُ دِيَتُهَا، وَهُوَ إِبْرَاءٌ قَبْلَ الْوُجُوبِ، فَهَلَّا إِذَا بَذَلَتْ لَهُ بُضْعَهَا صَحَّ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاءً قَبْلَ الْوُجُوبِ؟
قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ إِذْنَهَا بِقَطْعِ الْيَدِ نِيَابَةٌ عَنْهَا، لِأَنَّهُ يَصِحُّ مِنْهَا أَنْ تَتَوَلَّى قَطْعَ يَدِهَا بِنَفْسِهَا، فَصَارَتْ كَالْقَاطِعَةِ لِيَدِهَا بِنَفْسِهَا، فَلِذَلِكَ سَقَطَ عَنْهُ الغزم، وَلَيْسَ الْبُضْعُ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهَا الِاسْتِمْتَاعُ بِبُضْعِ نَفْسِهَا فَصَارَ الزَّوْجُ مُسْتَمْتِعًا بِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا فِي حَقِّهَا، فَلِذَلِكَ لَمْ يَبْرَأْ بِالْإِذْنِ مِنْ مَهْرِهَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا وَجَبَ بِهَذَا التَّعْلِيلِ مَهْرُ الزَّانِيَةِ عَلَى الزاني؟ .
قيل: لأن الزنا مغلط بِالْحَدِّ لِيَكُونَ زَاجِرًا عَنْهُ فَغُلِّظَ بِسُقُوطِ الْمَهْرِ، وَلَوْ وَجَبَ لَهَا الْمَهْرُ بِالزِّنَا لَدَعَاهَا ذَلِكَ لِفِعْلِ الزِّنَا، فَحُسِمَتْ هَذِهِ الذَّرِيعَةُ بِسُقُوطِ الْمَهْرِ، كما حسمت بوجوب الحد.
مسألة
قال الشافعي: " وإن لم يصبها حتى طلقها فلها المتعة وقال في القديم بدلاً من العقدة ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: الْمُفَوَّضَةُ لِبُضْعِهَا إِذَا طَلَّقَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَا مَهْرَ لَهَا، لِسُقُوطِهِ بِالْعَقْدِ وَهُوَ اتِّفَاقٌ، وَلَهَا الْمُتْعَةُ عِنْدَنَا.
وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَصَاحِبَاهُ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا مُتْعَةَ لَهَا، وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالْحَكَمُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ الله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى المُتَّقِينَ} (البقرة: 241) . فَلَمَّا جَعَلَهُ بِالْمَعْرُوفِ عَلَى الْمُتَّقِينَ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {عَلَى المُحْسِنِينَ) {البقرة: 236) . دَلَّ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ دُونَ وُجُوبِهِ.
وَلِأَنَّ مَا وَقَعَتْ بِهِ الْفُرْقَةُ لَمْ يَجِبْ بِهِ الْمُتْعَةُ كَالْمَوْتِ، وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ مُؤَثِّرٌ فِي سُقُوطِ الْمَالِ دُونَ إِلْزَامِهِ، كَالْمُسَمَّى لَهَا إِذَا طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا.
وَدَلِيلُنَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى المُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حقًّا عَلَى المُحْسِنِينَ) {البقرة: 236) .
إِحْدَاهُنَّ: قَوْلُهُ: " وَمَتِّعُوهُنَّ " وَهَذَا أَمْرٌ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ.
وَالثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى المُقْتِرِ قَدَرُهُ} وَذَلِكَ فِي الْوَاجِبَاتِ دُونَ التَّطَوُّعِ.(9/475)
وَالثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ " حَقًّا " وَالْحُقُوقُ مَا وَجَبَتْ.
وَالرَّابِعَةُ: قوله " على المحسنين "، وعلى مِنْ حُرُوفِ الْإِلْزَامِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} : فَجَعَلَ ذَلِكَ لَهُنَّ بِلَامِ التَّمْلِيكِ فَدَلَّ عَلَى استحقاقهن له. ثم قال: " بالمعروف " فَقَدَّرَهُ. وَمَا لَا يَجِبُ فَلَيْسَ بِمُقَدَّرٍ، ثُمَّ جعله " حقاً على المتقين " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ مَنَعَ فَلَيْسَ بِمُتَّقٍ.
فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ خَصَّ الْمُتَّقِينَ بِالذِّكْرِ وَهُوَ عَلَى الْمُتَّقِينَ، وَعَلَى غَيْرِهِمْ.
قِيلَ: عَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا، وَإِنْ كَانَ عَامَّ الْوُجُوبِ، كَمَا قَالَ: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) {البقرة: 2) .
وَالثَّانِي: مَا حَكَاهُ ابْنُ زَيْدٍ، أَنَّ لِنُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ سَبَبًا وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ " حقاً على المحسنين " قَالَ رَجُلٌ فَإِنْ أَحْسَنْتُ فَعَلْتُ، وَإِنْ لَمْ أُرِدْ أَنْ أُحْسِنَ لَمْ أَفْعَلْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى المُتَّقِينَ} وَلِأَنَّ بِوُجُوبِ الْمُتْعَةِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ، فَصَارَ إِجْمَاعًا.
وَلِأَنَّ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ بِالطَّلَاقِ يَمْنَعُ مِنْ خُلُوِّ النِّكَاحِ مِنْ بَدَلٍ كَذَاتِ الْمَهْرِ.
فَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمَوْتِ: فَالْمَعْنَى فِي الْمَيِّتَةِ أَنَّهُ لَمْ يَخْلُ نِكَاحُهَا مِنْ بَدَلٍ، فَلِذَلِكَ خَلَا مِنْ مُتْعَةٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُطْلَقَةُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ تَأْثِيرَ الطَّلَاقِ سُقُوطُ الْمَالِ فَذَاكَ فِي ذَاتِ الْمَهْرِ، فَأَمَّا فِي غَيْرِهَا فَتَأْثِيرُهُ ثُبُوتُ المال.
مسألة
قال الشافعي: " وَلَا وَقْتَ فِيهَا وَاسْتَحْسَنَ بِقَدْرِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا أَوْ مَا رَأَى الْوَالِي بِقَدْرِ الزَوْجَيْنِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْمُتْعَةِ لِلْمُفَوَّضَةِ، فَالْكَلَامُ فِيهَا يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي مُفَوَّضَةٍ لَمْ يُفْرَضْ لَهَا مَهْرٌ.
وَالثَّانِي: فِي مُفَوَّضَةٍ قَدْ فُرِضَ لَهَا مَهْرٌ.
فَأَمَّا الَّتِي لَمْ يُفْرَضْ لَهَا مَهْرٌ، فَهِيَ مُسْتَحِقَّةُ الْمُتْعَةِ، وَالْكَلَامُ فِي اسْتِحْقَاقِهَا يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ:
أَحَدُهُمَا: فِيمَا تَجِبُ بِهِ الْمُتْعَةُ.
وَالثَّانِي: فِي قَدْرِ الْمُتْعَةِ.
وَالثَّالِثُ: فِيمَنْ تُعْتَبَرُ به المتعة.(9/476)
فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَا تَجِبُ بِهِ الْمُتْعَةُ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ: أَنَّهَا تَجِبُ بِالْعَقْدِ، لِأَنَّ مُتْعَةَ الْمُفَوَّضَةِ بَدَلٌ مِنْ مَهْرِ غَيْرِ الْمُفَوَّضَةِ، وَالْمَهْرُ يَجِبُ بِالْعَقْدِ، فَكَذَلِكَ الْمُتْعَةُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّهَا تَجِبُ بِالطَّلَاقِ لَا بِالْعَقْدِ، وَهَذَا أَصَحُّ، لِأَنَّ حَالَهَا قَبْلَ الطَّلَاقِ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ وُجُوبِ الْمَهْرِ أَوِ الْمُتْعَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ بِالطَّلَاقِ وَجَبَتِ الْمُتْعَةُ. وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَرَنَ الْمُتْعَةَ بِالطَّلَاقِ، فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِهَا بِالطَّلَاقِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعُكُنَّ وَأُسَرِّحُكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً) {الأحزاب: 28) . وَيَكُونُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَتَقْدِيرُهُ: فَتَعَالَيْنَ أُسَرِّحْكُنَّ وَأُمَتِّعْكُنَّ.
وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الْكَلَامُ عَلَى نَسَقِهِ، لَيْسَ فيه تقديم ولا تأخير.
فصل
وما قَدْرُ الْمُتْعَةِ، فَهِيَ إِلَى رَأْيِ الْحَاكِمِ وَاجْتِهَادِهِ، غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ اسْتَحْسَنَ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْقَدِيمِ أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ خَادِمٍ، وَحَكَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاسْتَحْسَنَ فِيمَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، وَحَكَاهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَلَيْسَ فِيمَا ذَكَرَهُ تَقْدِيرٌ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، وَلَا النُّقْصَانُ مِنْهُ، لِاخْتِلَافِهِ بِاخْتِلَافِ الْعَادَاتِ فِي أَجْنَاسِ النَّاسِ وَبُلْدَانِهِمْ، كَالْمَهْرِ الَّذِي لَا يَنْحَصِرُ بِقَدْرٍ، وَمَا وَجَبَ وَلَمْ يَنْحَصِرْ بِمِقْدَارٍ شَرْعِيٍّ كَانَ تَقْدِيرُهُ مُعْتَبَرًا بِاجْتِهَادِ الْحَاكِمِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هِيَ مُقَدَّرَةٌ بِنِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ، لِأَنَّهُ نِصْفُ أَقَلِّ مَا يَكُونُ مَهْرًا عِنْدَهُ.
وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ التَّحْدِيدَ بِنِصْفِ الْمَهْرِ إِنْ لَمْ يُوجَدْ شَرْعًا، فَلَيْسَ فِي الِاجْتِهَادِ مَا يَقْتَضِيهِ، وَلَا نَجْعَلُهُ بِالنِّصْفِ أَخَصَّ مِنْهُ بِالثُّلُثِ أَوِ الرُّبُعِ، فَإِنْ قِيلَ: لِأَنَّ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا تَسْتَحِقُّ نِصْفَ الصَّدَاقِ.
قُلْنَا: فَقَدْ أَوْجَبَتِ الصَّدَاقَ وَأَسْقَطَتِ الْمُتْعَةَ.
وَفِي إِجْمَاعِنَا عَلَى إِيجَابِ الْمُتْعَةِ وَإِسْقَاطِ الصَّدَاقِ دَلِيلٌ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُتْعَةِ وَالصَّدَاقِ.
وَلَيْسَ مَا اسْتَحْسَنَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ قَدْرِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا قَوْلًا بِالِاسْتِحْسَانِ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَنَعَ مِنْهُ الشَّافِعِيُّ، لِأَنَّهُ قَرَنَهُ بِدَلِيلٍ، وَهُوَ يَمْنَعُ مِنِ اسْتِحْسَانٍ بِغَيْرِ دَلِيلٍ.
فَصْلٌ
وَأَمَّا مَنْ تُعْتَبَرُ بِهِ الْمُتْعَةُ، فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: تُعْتَبَرُ بِحَالِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ، فِي يَسَارِهِ، وَإِعْسَارِهِ، كَالنَّفَقَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى المُقْتِرِ قَدَرُهُ) {البقرة: 236) . كَمَا قَالَ فِي النَّفَقَةِ: {لِيُنْفِق ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا أَتَاهُ اللهُ) {الطلاق: 7) .
فَعَلَى هَذَا يَكُونُ تَأْوِيلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، " وَمَا رَأَى الْوَلِيُّ بِقَدْرِ الزَّوْجَيْنِ ".(9/477)
يَعْنِي: الزَّوْجُ الْمُوسِرُ، وَالزَّوْجُ الْمُعْسِرُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تُعْتَبَرُ بِهَا حَالُ الزَّوْجَيْنِ عَلَى ظَاهِرِ كَلَامِهِ، فَتُعْتَبَرُ حَالُ الزَّوْجِ فِي يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ، وَتُعْتَبَرُ بِهَا حَالُ الزَّوْجَةِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا نَعْتَبِرُهُ مِنْ حَالِ الزَّوْجَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُعْتَبَرُ سِنُّهَا، وَنَسَبُهَا، وَجَمَالُهَا، كَمَا يُعْتَبَرُ فِي مَهْرِ الْمِثْلِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَعْتَبِرُهَا حَالَ قُمَاشِهَا، وَجَهَازِهَا، فِي قِلَّتِهِ وَكَثْرَتِهِ، لِأَنَّهَا عِوَضٌ مِنْ أَخْلَاقِهِ وَمُؤْنَةِ نَقْلِهِ.
وَهَذَا وَجْهٌ مَرْدُودٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ الْجَهَازُ مَقْصُودًا فَيُعْتَبَرُ، وَلَوِ اعْتُبِرَ فِي الْمُتْعَةِ لَكَانَ اعْتِبَارُهُ فِي الْمَهْرِ أَحَقَّ، وَلَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مُتْعَةً لِمَنْ لَا جَهَازَ لَهَا.
فَصْلٌ
وَأَمَّا الْمُفَوَّضَةُ الَّتِي فُرِضَ لَهَا مَهْرٌ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ:
إِمَّا بِأَنْ يَتَرَاضَى الزَّوْجَانِ بِفَرْضِهِ وَتَقْدِيرِهِ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ.
وَإِمَّا بِأَنْ يَفْرِضَهُ الْحَاكِمُ، فَيَصِيرُ بِالْفَرْضِ بَعْدَ التَّفْوِيضِ كَالْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ، فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهَا نِصْفُ الْمَفْرُوضِ دُونَ الْمُتْعَةِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَبْطُلُ الْمَفْرُوضُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَيَثْبُتُ حُكْمُ التَّفْوِيضِ فِي وُجُوبِ الْمُتْعَةِ كَالَّتِي لَمْ يُفْرَضْ لَهَا مَهْرٌ، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْمُفَوَّضَةَ وَجَبَ لَهَا بِالْعَقْدِ مَهْرٌ وَسَقَطَ بِالطَّلَاقِ، وَاسْتِدْلَالًا: بِأَنَّهُ نِكَاحٌ خَلَا عَنْ ذِكْرِ مَهْرٍ فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَحَقَّ فِيهِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ الْمُتْعَةُ قِيَاسًا عَلَى غَيْرِ الْمَفْرُوضِ لَهَا مَهْرٌ.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُوهُن وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) {البقرة: 237) . فكان قوله: {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} عَلَى عُمُومِ الْحَالَيْنِ فِيمَا فَرَضَ فِي الْعَقْدِ أَوْ بَعْدَ الْعَقْدِ، وَإِنْ كَانَ بِالْمَفْرُوضِ بَعْدَ الْعَقْدِ أَشْبَهَ، فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ اسْتِرْجَاعَ نِصْفِهِ.
وَأَبُو حَنِيفَةَ يُوجِبُ اسْتِرْجَاعَ جَمِيعِهِ، فَكَانَ قَوْلُهُ مَدْفُوعًا بِالنَّصِّ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَدُّوا الْعَلَائِقَ "، قِيلَ: وَمَا الْعَلَائِقُ؟ قَالَ: " مَا تَرَاضَى بِهِ الْأَهْلُونَ " فَكَانَ عَلَى عُمُومِ التَّرَاضِي فِي حَالِ الْعَقْدِ وَبَعْدَهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ: أَنَّهُ فَرْضٌ يَسْتَقِرُّ بِالدُّخُولِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ كَالْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ، وَلِأَنَّ هَذَا الْمَفْرُوضَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسَمَّى فِي اسْتِقْرَارِهِ بِالْمَوْتِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَتِهِ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ.
فَأَمَّا بِنَاءُ أَبِي حَنِيفَةَ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ فَمُخَالِفٌ فِيهِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُ: فَالْمَعْنَى فِي الْمُفَوَّضَةِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ بِالْمَوْتِ مَفْرُوضٌ، وَتَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةَ(9/478)
بِفَرْضِ الْمَهْرِ، وَهَذِهِ يَجِبُ لَهَا الْمَفْرُوضُ بِالْمَوْتِ، وَلَا تَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةَ بِالْفَرْضِ، فَصَارَ كَالْمُسَمَّى، وَاللَّهُ أعلم.
مسألة
قال الشافعي: " فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُسَمِّيَ مَهْرًا أَوْ مَاتَتْ فسواءٌ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " بأبي هو وأمي " أَنَّهُ قَضَى فِي بَرْوَعَ بِنْتِ واشقٍ وَنُكِحَتْ بِغَيْرِ مهرٍ فَمَاتَ زَوْجُهَا فَقَضَى لَهَا بِمَهْرِ نِسَائِهَا وَبِالْمِيرَاثِ فَإِنْ كَانَ يَثْبُتُ فَلَا حُجَّةَ فِي قَوْلِ أحدٍ دُونَ النَّبِيَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقال مرة عن معقل بن يسارٍ ومرةً عن معقل بن سنان ومرةً عن بعض بني أشجع وإن لم يثبت فلا مهر ولها الميراث وهو قول علي وزيدٍ وابن عمر ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْمُفَوَّضَةُ إِذَا مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، أَوْ مَاتَتْ، فَإِنَّهُمَا يَتَوَارَثَانِ بِالْإِجْمَاعِ لِقَوْلِ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ) {النساء: 12) . وَهُمَا زَوْجَانِ لِصِحَّةِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا.
فَأَمَّا مَهْرُ مِثْلِهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي اسْتِحْقَاقِهِ بِالْمَوْتِ قَبْلَ الدُّخُولِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَفِي التَّابِعِينَ: قَوْلُ عَلْقَمَةَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَفِي الْفُقَهَاءِ: قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، لَا مَهْرَ لَهَا.
وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَفِي التَّابِعِينَ: قَوْلُ جَابِرِ بْنِ زيد، والزهري، وَعَطَاءٍ.
وَفِي الْفُقَهَاءِ: قَوْلُ رَبِيعَةَ، وَالْأَوْزَاعِيِّ.
وَدَلِيلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ: حَدِيثُ بَرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ: رَوَى قَتَادَةُ عَنْ خِلَاسٍ، وَأَبِي حَسَّانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَلَمْ يُسَمِّ لَهَا صَدَاقًا، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَتَّى مَاتَ، فَأَتَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، وَكَانَ قَاضِيًا فَاخْتَلَفُوا إِلَيْهِ مِرَارًا، وَقَالَ: شَهْرًا، فَقَالَ: إِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ فَإِنِّي أَفْرِضُ لَهَا مَهْرَ نِسَائِهَا، لَا وكسٌ، وَلَا شططٌ، وَلَهَا الْمِيرَاثُ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، إِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ، وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ مِنْهُ. فَقَالَ نَاسٌ مِنْ أَشْجَعَ: فِيهِمُ الْجَرَّاحُ أَبُو سِنَانٍ، نَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، قَضَاهَا فِينَا، فِي بَرْوَعَ بِنْتٍ واشقٍ، وَكَانَ زَوْجُهَا هِلَالَ بْنَ مرةٍ الْأَشْجَعِيَّ بِمَا قَضَيْتَ.
وَهَذَا حَدِيثٌ إِنْ صَحَّ فِي بَرْوَعَ، لَمْ يجز خلافه.(9/479)
وَمِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ: أَنَّ مَا اسْتَقَرَّ بِهِ كَمَالُ الْمُسَمَّى اسْتُحِقَّ بِهِ مَهْرُ الْمِثْلِ فِي الْمُفَوَّضَةِ كَالدُّخُولِ، وَلِأَنَّ مَا أَوْجَبَهُ عَقْدُ النِّكَاحِ بِالدُّخُولِ أَوْجَبَهُ بِالْوَفَاةِ كَالْمُسَمَّى، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ مُوجِبَيِ الدُّخُولِ فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَحَقَّ بِالْوَفَاةِ كَالْعِدَّةِ.
وَدَلِيلُ الْقَوْلِ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ.
إِنْ لَمْ يَثْبُتْ حَدِيثُ بَرْوَعَ، مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَدُّوا الْعَلَائِقَ ". قِيلَ: وَمَا الْعَلَائِقُ؟ قَالَ: " مَا تَرَاضَى بِهِ الْأَهْلُونَ ". فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ مَا تَرَاضَى بِهِ الْأَهْلُونَ دُونَ غَيْرِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ: أَنَّهُ فِرَاقُ مُفَوَّضَةٍ قَبْلَ فَرْضٍ وَإِصَابَةٍ، فَلَمْ يُسْتَحَقَّ بِهِ مَهْرٌ كَالطَّلَاقِ، وَلِأَنَّ الْمَوْتَ سَبَبٌ يَقَعُ بِهِ الْفُرْقَةُ، فَلَمْ يَجِبْ بِهِ الْمَهْرُ، كَالرَّضَاعِ وَالرِّدَّةِ، وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يُنْتَصَفْ صَدَاقُهَا بِالطَّلَاقِ لَمْ يُسْتَفَدْ بِالْمَوْتِ جَمِيعُ الصَّدَاقِ كَالْمُبَرِّئَةِ لِزَوْجِهَا مِنْ صَدَاقِهَا، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يُنْتَصَفْ بِالطَّلَاقِ لَمْ يُتَكَمَّلْ بِالْمَوْتِ، كَالزِّيَادَةِ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ.
فَأَمَّا حَدِيثُ بَرْوَعَ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي ثُبُوتِهِ. فذهب قول إِلَى ضَعْفِهِ، وَأَنَّهُ مُضْطَرِبٌ غَيْرُ ثَابِتٍ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهُا: اضْطِرَابُ طُرُقِهِ، لِأَنَّهُ رُوِيَ تَارَةً عَنْ نَاسٍ مِنْ أَشْجَعَ، وَهُمْ مَجَاهِيلُ، وَتَارَةً عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، وَتَارَةً عَنْ مَعْقِلِ بْنِ سِنَانٍ، وَتَارَةً عَنِ الْجَرَّاحِ بْنِ سِنَانٍ. فَدَلَّ اضْطِرَابُ طُرُقِهِ عَلَى وَهَائِهِ.
وَالثَّانِي: أن علياً بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْكَرَهُ، وَقَالَ: حَدِيثُ أَعْرَابِيٍّ يَبُولُ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَلَا أَقْبَلُ شَهَادَةَ الْأَعْرَابِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْوَاقِدِيَّ، طَعَنَ فِيهِ وَقَالَ هَذَا الْحَدِيثُ وَرَدَ إِلَى الْمَدِينَةِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ.
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى صِحَّةِ الْحَدِيثِ لِاشْتِهَارِهِ، وَقَبُولِ ابْنِ مَسْعُودٍ لَهُ، وَوُرُودِهِ عَنْ ثَلَاثَةِ طُرُقٍ صَحِيحَةٍ.
أَحَدُهَا: مَنْصُورُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
وَالثَّانِي: دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ.
وَالثَّالِثُ: عَنْ خِلَاسٍ، وَأَبِي حَسَّانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ.
وَلَيْسَ اخْتِلَافُ أَسْمَاءِ الرَّاوِي قَدْحًا، لِأَنَّ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارِ بْنِ سِنَانٍ مَشْهُورٌ فِي الصَّحَابَةِ، وَهُوَ الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ نَهْرُ مَعْقِلٍ بِالْبَصْرَةِ تَبَرُّكًا باسمه حين اختفره زِيَادٌ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ بَقَايَا الصَّحَابَةِ.
وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ فِي بَقَايَا الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ التَّابِعِينَ لَمْ يُدْفَعْ حَدِيثُهُ.(9/480)
وَأَمَّا الْجَرَّاحُ أَبُو سِنَانٍ، فَقَدْ شَهِدَ بِذَلِكَ مَعَ قَوْمِهِ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ في قصة مشهورة. فما ورد وَلَا رُدُّوا.
وَأَمَّا إِنْكَارُ عَلِيٍّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَقَدْ كَانَ لَهُ فِي قَبُولِ الْحَدِيثِ رَأْيٌ أَنْ يَسْتَحْلِفَ الْمُحَدِّثَ، وَلَا يَقْبَلَ حَدِيثَهُ إِلَّا بَعْدَ يَمِينِهِ وَقَالَ: مَا حَدَّثَنِي أَحَدٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَّا اسْتَحْلَفْتُهُ إِلَّا أَبُو بَكْرٍ، وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ.
وَهَذَا مَذْهَبٌ لَا يَقُولُ بِهِ الْفُقَهَاءُ.
وَأَمَّا الْوَاقِدِيُّ فَلَمْ يَقْدَحْ فِيهِ إِلَّا بِأَنَّهُ وَرَدَ مِنَ الْكُوفَةِ فَلَمْ يَعْرِفْهُ عُلَمَاءُ الْمَدِينَةِ، وَهَذَا لَيْسَ بِقَدْحٍ، لِأَنَّهَا مِنْ قَضَايَا رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْقَبَائِلِ الَّتِي انْتَشَرَ أَهْلُهَا فَصَارُوا إِلَى الْكُوفَةِ فَرَوَوْهُ بِهَا ثُمَّ نُقِلَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْحَدِيثِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْحَدِيثُ غَيْرَ صَحِيحٍ، فَالْمَهْرُ عَلَى قَوْلَيْنِ.
وَإِنْ صَحَّ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا.
فَذَهَبَ أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ وَجُمْهُورُ الْبَصْرِيِّينَ إِلَى وُجُوبِ الْمَهْرِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ.
وَذَهَبَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجُمْهُورُ الْبَغْدَادِيِّينَ إِلَى أَنَّ وُجُوبَ الْمَهْرِ مَعَ صِحَّتِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ، لِأَنَّهُ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ يَجُوزُ أن يكون وليها فوض نكاحها فَلَمْ يَصِحَّ التَّفْوِيضُ، أَوْ تَكُونَ مُفَوَّضَةَ الْمَهْرِ دُونَ الْبُضْعِ، فَإِنْ فُرِضَ لَهَا مَهْرٌ مَجْهُولٌ فَلِاحْتِمَالِهِ مَعَ الصِّحَّةِ كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ.
وَأَمَّا اعْتِبَارُ الْمَوْتِ بِالدُّخُولِ: فَفِي الدُّخُولِ إِتْلَافٌ يَجِبُ بِهِ الْغُرْمُ بِخِلَافِ الْمَوْتِ.
وَأَمَّا اعْتِبَارُ التَّفْوِيضِ بِالْمُسَمَّى: فَالْمُسَمَّى يَجِبُ بِالطَّلَاقِ نِصْفُهُ فَكَمَلَ بِالْمَوْتِ. وَالْمُفَوَّضَةُ لَمْ يَجِبْ لَهَا بِالطَّلَاقِ نِصْفُهُ، فَلَمْ يَكْمُلْ لَهَا بِالْمَوْتِ جَمِيعُهُ.
وَأَمَّا اعْتِبَارُ الْمَهْرِ بِالْعِدَّةِ: فَقَدْ تَجِبُ الْعِدَّةُ بِإِصَابَةِ السَّفِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ مَهْرٌ، فَكَذَلِكَ الْمَوْتُ فِي الْمُفَوَّضَةِ.
فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ مُسْلِمَةً، أَوْ ذِمِّيَّةً، فِي أَنَّ الْمَهْرَ إِنْ وَجَبَ لِلْمُسْلِمَةِ، وَجَبَ لِلذِّمِّيَّةِ. وَإِنْ سَقَطَ لِلْمُسْلِمَةِ سَقَطَ لِلذِّمِّيَّةِ.
وقال أبو حنيفة: أوجب المهر للمسلمة، وأسقط لِلذِّمِّيَّةِ. وَجَعَلَ ذَلِكَ مَبْنِيًّا عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ ثُبُوتَ الْمَهْرِ فِي النِّكَاحِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَهْلُ الذِّمَّةِ لَا يُؤَاخَذُونَ بِحُقُوقِ اللَّهِ، وَيُؤَاخَذُ بِهَا الْمُسْلِمُونَ. فَلِذَلِكَ سَقَطَ مَهْرُ الذِّمِّيَّةِ، لِسُقُوطِهِ مِنَ الْعَقْدِ، وَوَجَبَ مَهْرُ الْمُسْلِمَةِ لِوُجُوبِهِ فِي الْعَقْدِ.
وَهَذَا فَاسِدٌ، بَلِ الْمَهْرُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْمَحْضَةِ كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ، وَالْأُجْرَةِ فِي الْإِجَارَةِ لِاسْتِحْقَاقِهِ بِالطَّلَبِ، وَسُقُوطِهِ بِالْعَفْوِ.(9/481)
وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ اسْتِدَامَةُ ثُبُوتِهِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ ثُبُوتِهِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ كَسَائِرِ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ طَرْدًا، وَكَسَائِرِ حُقُوقِ اللَّهِ عَكْسًا، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَهْرُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فِي النِّكَاحِ كَالْوَلِيِّ وَالشَّاهِدَيْنِ لَبَطَلَ النِّكَاحُ بِتَرْكِ الْمَهْرِ، كَمَا بَطَلَ بترك الولي، والشاهدين، والله أعلم.
مسألة
قال الشافعي: " وَمَتَى طَلَبَتِ الْمَهْرَ فَلَا يَلْزَمُهُ إِلَّا أَنْ يفوضه السَّلْطَانُ لَهَا أَوْ يَفْرِضَهُ هُوَ لَهَا بَعْدَ عِلْمِهَا بِصَدَاقِ مِثْلِهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قال المفوضة لبعضها لَا تَمْلِكُ الْمَهْرَ بِعَقْدِ النِّكَاحِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَمْلِكُهُ بِالْعَقْدِ، اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الزَّوْجَ قَدْ مَلَكَ بُضْعَهَا بِالْعَقْدِ، فَوَجَبَ أَنْ تَمْلِكَ بَدَلَهُ مِنَ الْمَهْرِ بِالْعَقْدِ، كَالثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ لَا يَمْلِكُ عَلَيْهَا مُبْدَلًا لَمْ تَمْلِكْ فِي مُقَابَلَتِهِ بَدَلًا.
وَالثَّانِي: أَنَّ لِلْمُفَوَّضَةِ الْمُطَالَبَةَ بِالْمَهْرِ وَالِامْتِنَاعَ مِنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا إِلَّا بَعْدَ قَبْضِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُطَالِبَ بِمَا لَمْ يَجِبْ، وَلَا أَنْ تَمْتَنِعَ مِنْ تَسْلِيمِ مَا وَجَبَ عَلَى تَسْلِيمِ مَا لَمْ يَجِبْ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمَهْرَ لَمْ يَجِبْ بِالْعَقْدِ، أَنَّ مَا وَجَبَ بِالْعَقْدِ تَنَصَّفَ بِالطَّلَاقِ كَالْمُسَمَّى، وَمَا لَمْ ينتصف بِالطَّلَاقِ لَمْ يَجِبْ بِالْعَقْدِ، كَالزِّيَادَةِ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ، وَكَالْمَهْرِ الْفَاسِدِ.
فَأَمَّا مِلْكُ الْبُضْعِ بِالْعَقْدِ، فلأنه مقصود لا يحوز الْإِخْلَالُ بِذِكْرِهِ فِي الْعَقْدِ فَلِذَلِكَ مُلِكَ بِالْعَقْدِ، وَالْمَهْرُ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِهِ فِي الْعَقْدِ فَلَمْ يُمْلَكْ بِالْعَقْدِ مَعَ تَرْكِ ذِكْرِهِ فِيهِ فَافْتَرَقَ حُكْمُ الْبُضْعِ وَالْمَهْرِ، وَأَوْجَبَ ذَلِكَ افْتِرَاضَ حُكْمِ الْمُسَمَّى وَالتَّفْوِيضِ.
وَأَمَّا الْمُطَالَبَةُ فَلَيْسَ لَهَا الْمُطَالَبَةَ عِنْدَنَا بِالْمَهْرِ، وَإِنَّمَا لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِأَنْ يَفْرِضَ لَهَا الْمَهْرَ فَتَكُونُ قَدْ مَلَكَتْ بِالتَّفْوِيضِ أَنْ تَمْلِكَ بِالْفَرْضِ مَهْرًا كَالشَّفِيعِ مَلَكَ بِالْبَيْعِ أَنْ يَتَمَلَّكَ بِالشُّفْعَةِ.
فَصْلٌ
فَإِذَا ثبت ما وصفنا، فَفِي قَدْرِ مَا مَلَكَتْ أَنْ تَتَمَلَّكَ مِنَ الْمَهْرِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ، إِنَّهُ مَهْرُ الْمِثْلِ، لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ مُسْتَهْلَكٍ بِالْعَقْدِ، فَتُقُدِّرَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، كَالْمُسْتَهْلَكِ بِالْوَطْءِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ، إِنَّهُ مَهْرٌ مُطْلَقٌ، لَا يُتَقَدَّرُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، فَكَذَلِكَ مَا اسْتُحِقَّ بِالْفَرْضِ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمُفَوَّضَةُ تَمْلِكُ الْمَهْرَ بِأَحَدِ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ، ذَكَرْنَاهَا مُجْمَلَةً، وَنَحْنُ نَشْرَحُهَا:(9/482)
أَحَدُهَا: أَنْ يَتَرَافَعَا إِلَى الْحَاكِمِ، فَيَفْرِضُ لَهَا الْحَاكِمُ مَهْرَ الْمِثْلِ، فَلَا يَصِحُّ حُكْمُهُ بِهِ إِلَّا بَعْدَ عِلْمِهِ بِقَدْرِهِ، كَمَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَحْكُمَ بِقِيمَةِ مُتْلَفٍ إِلَّا بَعْدَ عِلْمِهِ بِقَدْرِ الْقِيمَةِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ، فَيَظْلِمَ الزَّوْجَ، إِلَّا أَنْ يَبْذُلَ الزَّوْجُ الزِّيَادَةَ، وَلَا أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ فَيَظْلِمَ الزَّوْجَةَ، إِلَّا أَنْ تَرْضَى الزَّوْجَةُ بِالنُّقْصَانِ، وَهَلْ يُعْتَبَرُ مَهْرُ الْمِثْلِ وَقْتَ الْعَقْدِ، أَوْ وَقْتَ الْفَرْضِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سريج، أنه يُعْتَبَرُ مَهْرُ مِثْلِهَا وَقْتَ الْعَقْدِ، لِأَنَّ الْبُضْعَ مُسْتَهْلَكٌ بِالْعَقْدِ.
وَالثَّانِي: وهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ، أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مَهْرُ مِثْلِهَا وَقْتَ الْفَرْضِ، لِأَنَّهَا مَلَكَتْهُ بِالْفَرْضِ دُونَ الْعَقْدِ.
فَإِذَا فَرَضَهُ الْحَاكِمُ، صَارَ كَالْمُسَمَّى بِالْعَقْدِ، إِنْ طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ وَجَبَ لَهَا نِصْفُهُ، وَهَذَا مِمَّا وَافَقَ عَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ، لِأَنَّ الْحُكْمَ إِذَا نُفِّذَ بِجَائِزٍ لَمْ يُنْقَضْ.
فَصْلٌ: وَأَمَّا الثَّانِي
: يَجِبُ بِهِ مَهْرُ الْمُفَوَّضَةِ، فَهُوَ أَنْ يَجْتَمِعَ الزَّوْجَانِ بَعْدَ الْعَقْدِ عَلَى فَرْضِ مَهْرٍ عَنْ تَرَاضٍ، فَيَصِيرُ مَا فَرَضَاهُ لَازِمًا كَالْمُسَمَّى، إِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَجَبَ لَهَا نِصْفُهُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَلْزَمُ الْمَهْرُ إِلَّا بِعَقْدٍ، أَوْ حُكْمٍ، وَلَا يَصِيرُ لَازِمًا بِاجْتِمَاعِهِمَا عَلَى فَرْضِهِ، فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهَا الْمُتْعَةُ احْتِجَاجًا بِعُمُومِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاع بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى المُتَّقِينَ) {البقرة: 231) .
وَلِأَنَّهُمَا مَلَكَا التَّسْمِيَةَ فَيَ الْعَقْدِ، لِأَنَّهَا تَصِيرُ وَاجِبَةً بِوُجُوبِ الْعَقْدِ، وَلَمْ يَمْلِكَاهَا بَعْدَ الْعَقْدِ، لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ لَهَا مُوجِبًا إِلَّا الْحَاكِمُ.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) {البقرة: 237) . وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَا فَرَضَ لَهَا فِي الْعَقْدِ، وَبَعْدَهُ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ، وَإِنْ كَانَ بِمَا بَعْدَ الْعَقْدِ أَشْبَهَ، وَلِأَنَّ الْمَهْرَ مِنْ أَعْوَاضِ الْعُقُودِ، فَكَانَ ثُبُوتُهُ بِالْمُرَاضَاةِ أَوْلَى مِنْ ثُبُوتِهِ بِالْحُكْمِ، كَالْأَثْمَانِ، وَالْأُجُورِ، ولأن كل مهر كمل بالمدخول يُنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ كَالْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ.
فَأَمَّا الْآيَةُ، فَمَحْمُولَةٌ عَلَى الَّتِي لَمْ يُفْرَضْ لها مهر، بدليل قوله: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتَّعُوهُنَّ) {البقرة: 236) .
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالْحُكْمِ فَاجْتِمَاعُهُمَا عَلَى الْفَرْضِ أَبْلَغُ فِي الِالْتِزَامِ مِنَ الْحُكْمِ، كَمَا لَوِ اجْتَمَعَا عَلَى قِيمَةِ مُتْلَفٍ أَوْ أَرْشِ مَعِيبٍ.(9/483)
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْمَهْرَ يَلْزَمُ بِفَرْضِهِمَا كَمَا يَلْزَمُ بِفَرْضِ الْحَاكِمِ، فَإِنْ فَرَضَاهُ مَعَ عِلْمِهِمَا بقدر المثل صح، وجاز أن يفرضا مهل الْمِثْلِ، وَأَكْثَرَ مِنْهُ، وَأَقَلَّ، وَأَنْ يَعْدِلَا إِلَى عِوَضٍ مِنْ ثَوْبٍ، أَوْ عَبْدٍ، بِخِلَافِ الْحَاكِمِ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ عَنْ جِنْسِ الْمَهْرِ وَمِقْدَارِهِ، لِأَنَّ فَرْضَ الزَّوْجَيْنِ كَالتَّسْمِيَةِ فِي الْعَقْدِ، وَإِنْ فَرَضَاهُ مَعَ جَهْلِهِمَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ فَفِي جَوَازِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْفَرْضُ، وَيَكُونُ بَاطِلًا كَالَّتِي لَمْ يُفْرَضْ لَهَا، كَمَا لَوْ فَرَضَهُ الْحَاكِمُ، وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ، وَلِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْإِبْرَاءِ مِنْ مَجْهُولٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ، إِنَّهُ يَجُوزُ، وَيَصِحُّ الْفَرْضُ، لِأَنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِالْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ، وَإِنْ جَهِلَا مَهْرَ الْمِثْلِ، كَذَلِكَ مَا فَرَضَاهُ بَعْدَ الْعَقْدِ.
وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ يَتَرَتَّبَانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الَّذِي يَجِبُ لَهَا، هَلْ هُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ، أَوْ هو مُطْلَقٌ؟ .
فَإِنْ قِيلَ: مَهْرُ الْمِثْلِ، لَمْ يَصِحَّ فَرْضُهُمَا، إِلَّا بَعْدَ عِلْمِهِمَا بِهِ.
وَإِنْ كَانَ مَهْرٌ مُطْلَقٌ صَحَّ فَرْضُهُمَا مَعَ الْجَهْلِ بِهِ.
فَصْلٌ: وَأَمَّا الثَّالِثُ
: مِمَّا يَجِبُ بِهِ مَهْرُ الْمُفَوَّضَةِ، فَهُوَ الدُّخُولُ، لِأَنَّ الْمَهْرَ لَمَّا وَجَبَ بِوَطْءِ الشُّبْهَةِ فَأَوْلَى أَنْ يَجِبَ بِالْوَطْءِ، فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ، وَالْوَاجِبُ بِهَذَا الدُّخُولِ هُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ قَوْلًا وَاحِدًا، سَوَاءٌ تَعَقَّبَهُ مَوْتٌ أَوْ طَلَاقٌ.
وَإِذَا وَجَبَ بِالدُّخُولِ، فَتَقْدِيرُهُ يَكُونُ لِحُكْمِ الْحَاكِمِ، وَإِنْ تَقَدَّمَ وُجُوبُهُ عَلَى حُكْمِهِ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ مَقْصُورًا عَلَى تَقْدِيرِهِ دُونَ إِيجَابِهِ، وَحُكْمُهُ فِيمَا تَقَدَّمَ مُشْتَمِلٌ عَلَى التَّقْدِيرِ وَالْإِيجَابِ.
فَإِنْ قَدَّرَهُ الزَّوْجَانِ لَمْ يَصِحَّ تَقْدِيرُهُمَا إِلَّا مَعَ عِلْمِهِمَا بِهِ، قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّ الْمَهْرَ هَاهُنَا قِيمَةُ مُسْتَهْلَكٍ، فَإِنْ جَهِلَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا لَمْ يَصِحَّ تَقْدِيرُهُ، وَكَانَ عَلَى إِرْسَالِهِ بَعْدَ وُجُوبِهِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأَسْتَحِبُ أَنْ لَا يَدْخُلَ بِهَا، إِلَّا بَعْدَ فَرْضِ الْمَهْرِ، لِيَكُونَ مُسْتَمْتِعًا بِمَهْرٍ مَعْلُومٍ، وَلِيُخَالِفَ حَالَ الْمَوْهُوبَةِ الَّتِي خُصَّ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
فَصْلٌ: وَأَمَّا الرَّابِعُ
: فَهُوَ الْمَوْتُ، وَفِي وُجُوبِ مَهْرِ الْمُفَوَّضَةِ بِهِ قَوْلَانِ مَضَيَا، ثُمَّ إِنْ أوجبناه فهو مهر المثل، ولا يقدره إلى الْحَاكِمُ وَحْدَهُ، فَإِنْ قَدَّرَهُ مَعَ الْبَاقِي مِنَ الزوجين أجبني عُلِمَ قَدْرُهُ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِيُؤَدِّيَهُ مِنْ مَالِهِ جَازَ، كَمَا لَوْ قَضَى دَيْنًا عَنْ مَيِّتٍ، أَوْ قَضَاهُ عَنْ حَيٍّ، لِوَرَثَةِ مَيِّتٍ، وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِيُؤْخَذَ مِنْ مَالِ الزَّوْجِ فَفِي جَوَازِهِ إِذَا تَرَاضَى بِهِ الْبَاقِي وَوَرَثَةُ الْمَيِّتِ قَوْلَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي حُكْمِ غير الحاكم، هو يَلْزَمُ بِالتَّرَاضِي أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ
قال الشافعي: " فَإِنْ فَرَضَهُ فَلَمْ تَرْضَهُ حَتَّى فَارَقَهَا لَمْ يَكُنْ إِلَّا مَا اجْتَمَعَا عَلَيْهِ فَيَكُونُ كَمَا لَوْ كَانَ فِي الْعُقْدَةِ ".(9/484)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا شَرَعَ الزَّوْجَانِ فِي فَرْضِ الْمَهْرِ، فِي نِكَاحِ التَّفْوِيضِ، فَلَمْ يَتَّفِقَا عَلَى قَدْرِهِ، حَتَّى يُطَلِّقَهَا، كَأَنَّهُ بَذَلَ لَهَا أَلْفًا، فَلَمْ تَرْضَ إِلَّا بِأَلْفَيْنِ، فَحُكْمُ التَّفْوِيضِ بَاقٍ وَبَذْلُ الْأَلْفِ مِنَ الزَّوْجِ كَعَدَمِهَا، وَلَهَا الْمُتْعَةُ إِذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، لِأَنَّ الْفَرْضَ لَا يَتِمُّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ إِلَّا بِالرِّضَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا كَانَ هَذَا كَالصَّدَاقِ الْمُخْتَلَفِ فِي تَسْمِيَتِهِ وَقْتَ الْعَقْدِ، فَلَا يَلْزَمُ، وَيَجِبُ لَهَا بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ.
قُلْنَا: مَا اخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَتِهِ وَقْتَ الْعَقْدِ قَدْ زَالَ عَنْهُ حُكْمُ التَّفْوِيضِ فَلِذَلِكَ وَجَبَ لَهَا نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَهَذَا لَمْ يُزَلْ عَنْهُ حُكْمُ التَّفْوِيضِ، فَلِذَلِكَ وَجَبَتْ لَهَا الْمُتْعَةُ.
وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ: لَمْ يَكُنْ لَهَا إِلَّا مَا اجْتَمَعَا عَلَيْهِ، يَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَهْرٌ مَفْرُوضٌ إِلَّا مَا اجْتَمَعَا عَلَى فَرْضِهِ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الْأَلْفَ الَّذِي بَذَلَهُ الزَّوْجُ، لِاجْتِمَاعِهِمَا عَلَيْهِ، حَتَّى طَلَبَتِ الزَّوْجَةُ زِيَادَةً عَلَيْهَا، لأن هذا افتراق، وليس باجتماع.
مسألة
قال الشافعي: " وقد يدخل في التَّفْوِيضِ وَلَيْسَ بِالتَّفْوِيضِ الْمَعْرُوفِ وَهُوَ مخالفٌ لِمَا قَبْلَهُ وَهُوَ أَنْ تَقُولَ لَهُ أَتَزَوَّجُكَ عَلَى أَنْ تَفْرِضَ لِي مَا شِئْتَ أَنْتَ أَوْ شِئْتُ أَنَا فَهَذَا كَالصَّدَاقِ الْفَاسِدِ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا بِالتَفْوِيضِ أَشْبَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ التَّفْوِيضَ في النكاح ضربان: تَفْوِيضُ الْبُضْعِ، وَتَفْوِيضُ الْمَهْرِ.
فَأَمَّا تَفْوِيضُ الْبُضْعِ، فَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى غَيْرِ مَهْرٍ لَهَا، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ.
وَأَمَّا تَفْوِيضُ الْمَهْرِ فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَرْكُ ذِكْرِهِ فِي الْعَقْدِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ أَصْحَابِنَا فِيهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى مَهْرٍ لَا يَصِحُّ، إِمَّا لِجَهَالَتِهِ، وَإِمَّا لِتَحْرِيمِهِ. فَالْمَجْهُولُ كَقَوْلِهِ: قَدْ تَزَوَّجْتُكِ عَلَى مَا شِئْنَا، أَوْ شَاءَ أَحَدُنَا، أَوْ شَاءَ فُلَانٌ.
وَالْحَرَامُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى خَمْرٍ، أَوْ خِنْزِيرٍ، فَيَكُونُ هَذَا تَفْوِيضًا لِلْمَهْرِ، لِبُطْلَانِهِ، وَلَيْسَ بِتَفْوِيضٍ لِلْبُضْعِ، لِذِكْرِهِ، فَيَخْرُجُ عَنْ حُكْمِ نِكَاحِ التَّفْوِيضِ، وَإِنْ كَانَ مُشَابِهًا لَهُ فِي سُقُوطِ الْمَهْرِ، فَيَجِبُ لَهَا بِالْعَقْدِ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَإِنْ طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ وَجَبَ نِصْفُهُ دُونَ الْمُتْعَةِ. وَإِنْ مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَجَبَ لَهَا الْمَهْرُ قَوْلًا وَاحِدًا، فَيَكُونُ مُخَالِفًا لِنِكَاحِ التَّفْوِيضِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ مَهْرَ هَذِهِ وَجَبَ بِالْعَقْدِ، وَمَهْرَ الْمُفَوَّضَةِ وَجَبَ بِالْفَرْضِ بَعْدَ الْعَقْدِ.
والثاني: أنه موجب المهر الْمِثْلِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَفِيمَا وَجَبَ لِلْمُفَوَّضَةِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَهْرُ الْمِثْلِ.(9/485)
وَالثَّانِي: مَهْرٌ مُطْلَقٌ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا إِنْ طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ وَجَبَ لَهَا نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَلِلْمُفَوَّضَةِ مُتْعَةٌ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ يَجِبُ لَهَا الْمَهْرُ بِالْمَوْتِ، قَبْلَ الدُّخُولِ، وَفِي الْمُفَوَّضَةِ قَوْلَانِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَفْوِيضُ الْمَهْرِ، كَتَفْوِيضِ الْبُضْعِ، وَلَيْسَ لَهَا إِذَا طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ إِلَّا الْمُتْعَةُ احْتِجَاجًا بِأَنَّ الْعَقْدَ، خَلَا عَنْ مَهْرٍ لَازِمٍ، فَكَانَ تَفْوِيضًا، كَمَا لَوْ خَلَا مِنْ ذِكْرِ مَهْرٍ.
وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّهُ عَقَدٌ تَضَمَّنَ مَهْرًا فَخَرَجَ عَنْ حُكْمِ التَّفْوِيضِ، كَالْمَهْرِ الصَّحِيحِ، وَلِأَنَّ التَّفْوِيضَ تَسْلِيمُ بُضْعٍ بِغَيْرٍ بَدَلٍ، وَهَذَا تَسْلِيمُهُ بِبَدَلٍ، وَإِنْ فَسَدَ.
وَفَرْقٌ فِي الْأُصُولِ بَيْنَ التَّسْلِيمِ بِغَيْرِ بَدَلٍ، وَبَيْنَ التَّسْلِيمِ بِبَدَلٍ فَاسِدٍ فِي وُجُوبِ الْغُرْمِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ مَلَّكْتُكِ عَبْدِي هَذَا، وَلَمْ يَذْكُرْ بَدَلَا، جَعَلْنَا ذَلِكَ هِبَةً لَا تُوجِبُ الْبَدَلَ.
وَلَوْ قَالَ: قَدْ مَلَّكْتُكِ عَبْدِي بِثَمَنٍ فَاسِدٍ، صَارَ بيعاً فاسداً، يوجب البدل، فدل على افتراض الْأَمْرَيْنِ.
فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا: فَأَحْوَالُ مَنْ لَا يَسْتَقِرُّ لَهَا بِعَقْدِ النِّكَاحِ مَهْرٌ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ.
قِسْمٌ تَكُونُ مُفَوَّضَةً: وَقِسْمٌ لَا تَكُونُ مُفَوَّضَةً، وَقِسْمٌ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَوْنِهَا مُفَوَّضَةً.
فَأَمَّا الَّتِي تَكُونُ مُفَوَّضَةً فَهِيَ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِي عَقْدِ نِكَاحِهَا، مَعَ إِذْنِهَا، وَجَوَازِ أَمْرِهَا، أَنْ لَا مَهْرَ لَهَا.
وَأَمَّا الَّتِي لَا تَكُونُ مُفَوَّضَةً: فَهِيَ الْمَنْكُوحَةُ عَلَى مَهْرٍ مَجْهُولٍ، أَوْ حَرَامٍ، أَوْ فَوَّضَهَا وَلِيُّهَا بِغَيْرِ إِذْنِهَا.
وَأَمَّا الَّتِي اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَوْنِهَا مُفَوَّضَةً: فَهِيَ الَّتِي تُرِكَ ذِكْرُ الصَّدَاقِ فِي نِكَاحِهَا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ.
فَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: لَيْسَتْ مُفَوَّضَةً.
وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّهَا مُفَوَّضَةٌ. وَاللَّهُ أعلم.(9/486)
تفسير مهر مثلها من الجامع من كتاب الصداق وكتاب الإملاء على مسائل مالك
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَمَتَى قُلْتُ لَهَا مهر نسائها فإنما أغني نِسَاءَ عَصَبَتِهَا وَلَيْسَ أُمَّهَا مِنْ نِسَائِهَا وَأَعْنِي نساء بلدها ".
قال الماوردي: وهذا صحيح. إِذَا اسْتَحَقَّتِ الْمَرْأَةُ مَهْرَ مِثْلِهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَجِبُ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، وَقَدْ مَضَى فِي مَوَاضِعِهِ وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ مَهْرُ مِثْلِهَا فِي حَالَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: فِي مَنْصِبِهَا.
وَالثَّانِيَةُ: فِي صِفَاتِ ذَاتِهَا.
فَأَمَّا الْمَنْصِبُ فَمُعْتَبَرٌ بِنَظِيرِهَا فِي النَّسَبِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: مُعْتَبَرٌ بِنَظِيرِهَا فِي الْبَلَدِ، فَغَلَبَ اعْتِبَارُ الْبَلَدِ عَلَى اعْتِبَارِ النَّسَبِ، وَهَذَا فَسَادٌ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَضَى فِي بَرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ بِمَهْرِ نِسَائِهَا، والميراث.
ولأن الأنساب معقود فِي الْمَنَاكِحِ دُونَ الْبُلْدَانِ، وَلِأَنَّهَا مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ اللَّازِمَةِ، وَلِأَنَّ أَهْلَ الْبَلَدِ قَدْ يَخْتَلِفُ مُهُورُهُمْ بِاخْتِلَافِ الْأَنْسَابِ، وَإِذَا وَجَبَ اعْتِبَارُ النَّظِيرِ فِي النَّسَبِ، وَجَبَ اعْتِبَارُ نَظِيرِهَا مِنْ نِسَاءِ الْعَصَبَاتِ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِنِسَاءِ الْأُمِّ وَلَا بِنِسَاءِ ذَوِي الْأَرْحَامِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، هُمَا سَوَاءٌ، فَيُعْتَبَرُ بِنِسَاءِ أَهْلِهَا مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَالْأُمِّ مِنَ الْعَصَبَاتِ وَذَوِي الْأَرْحَامِ.
وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ النَّسَبَ مُعْتَبَرٌ بِالْأَبِ دُونَ الْأُمِّ، وَكَذَلِكَ كَانَ وَلَدُ الْعَرَبِيِّ مِنَ النَّبَطِيَّةِ عَرَبِيًّا، وَوَلَدُ النَّبَطِيِّ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ نَبَطِيًّا، فَاقْتَضَى إِذَا كَانَ مَنْصِبُ النَّسَبِ مُعْتَبَرًا أَنْ يَكُونَ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ الَّذِي ثَبَتَ بِهِ النَّسَبُ دُونَ الْأُمِّ الَّتِي لَا يَلْحَقُ بِهَا نَسَبٌ.
فَصْلٌ
فَإِذَا ثَبَتَ اعْتِبَارُهَا بِنِسَاءِ عَصَبَتِهَا، فَأَقْرَبُهُنَّ الْأَخَوَاتُ، فَيُعْتَبَرُ الْأَخَوَاتُ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ، وَالْأَخَوَاتُ مِنَ الْأَبِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِالْأَخَوَاتِ مِنَ الْأُمِّ، لِأَنَّهُنَّ مُشَارِكَاتٌ فِي الرَّحِمِ دُونَ النَّسَبِ.
فَلَوِ اجْتَمَعَ أَخَوَاتٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَأَخَوَاتٌ لِأَبٍ فَفِيهِنَّ وَجْهَانِ:(9/487)
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُنَّ سَوَاءٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّ اعْتِبَارَ الْأَخَوَاتِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ لِاجْتِمَاعِ السَّبَبَيْنِ، فَهُنَّ مُقَدَّمَاتٌ عَلَى الْأَخَوَاتِ مِنَ الْأَبِ.
وَلَا اعْتِبَارَ بِبَنَاتِ الْأَخَوَاتِ، ثُمَّ بَنَاتِ الْأُخُوَّةِ، وَبَنِيهِمْ، ثُمَّ الْعَمَّاتِ دُونَ بَنَاتِهِنَّ، ثُمَّ بَنَاتِ الْأَعْمَامِ، وَبَنِيهِمْ، ثُمَّ عَمَّاتِ الْأَبِ دُونَ بَنَاتِهِنَّ، ثُمَّ بَنَاتِ أَعْمَامِ الْأَبِ وَبَنِيهِمْ، ثُمَّ كَذَلِكَ أَبَدًا فِي نِسَاءِ الْعَصَبَاتِ.
فَإِذَا عَدِمَ الْعَصَبَاتِ فَفِي اعْتِبَارِ نِسَاءِ الْمَوْلَى الْمُعْتِقِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُعْتَبَرُونَ، لِأَنَّ الْمَوْلَى عَصَبَةٌ.
وَالثَّانِي: لَا يُعْتَبَرُونَ، لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُ بِالْمَوْلَى نَسَبٌ، وَإِنْ جَرَى فِي التَّعْصِيبِ مَجْرَى النَّسَبِ.
فَصْلٌ
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْعَصَبَاتِ، دُونَ الْأُمَّهَاتِ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَعْنِي نِسَاءَ بَلَدِهَا، فَيَكُونُ الِاعْتِبَارُ بِمَنْ كَانَ مِنْ عَصَبَاتِهَا فِي بَلَدِهَا دُونَ مَنْ كَانَ فِي غَيْرِهِ، لِأَنَّ لِلْبُلْدَانِ فِي الْمُهُورِ عَادَاتٍ مُخْتَلِفَةً، فَتَكُونُ عَادَاتُ بَعْضِ الْبُلْدَانِ تَخْفِيفَ الْمُهُورِ وَعَادَاتُ بَعْضِهَا تَثْقِيلَ الْمُهُورِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُعْتَبَرًا، كَمَا تُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْمُتْلَفِ فِي مَوْضِعِ إِتْلَافِهِ، لِأَنَّ الْقِيَمَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ اعْتِبَارُ الْبَلَدِ، مَعَ نِسَاءِ الْعَصَبَاتِ.
فَهَذَا حُكْمُ الْمَنْصِبِ.
الْقَوْلُ فِي الصِّفَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْمُهُورِ
مسألة
قال الشافعي: " وَمَهْرُ مَنْ هُوَ فِي مِثْلِ سِنِّهَا وَعَقْلِهَا وَحُمْقِهَا وَجَمَالِهَا وَقُبْحِهَا وَيُسْرِهَا وَعُسْرِهَا وَأَدَبِهَا وَصَرَاحَتِهَا وَبِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا لِأَنَّ الْمُهُورَ بِذَلِكَ تَخْتَلِفُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
وَصِفَاتُ الذَّاتِ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْمُهُورِ شَرْطٌ فِي الْحُكْمِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، كَمَا تُعْتَبَرُ صِفَاتُ مَا يُقَوَّمُ، وَالصِّفَاتُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي مَهْرِ الْمِثْلِ عَشْرَةٌ:
أَحَدُهَا: السِّنُّ، لِاخْتِلَافِ الْمَهْرِ بِاخْتِلَافِهِ، لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ أَرْجَى لِلْوَلَدِ، وَأَلَذُّ فِي الِاسْتِمْتَاعِ مِنَ الْكَبِيرَةِ.
وَالثَّانِي: عَقْلُهَا، وَحُمْقُهَا، فَإِنَّ لِلْعَاقِلَةِ مَهْرًا، وَلِلرَّعْنَاءِ، وَالْحَمْقَاءِ دُونَهُ، لِكَثْرَةِ الرَّغْبَةِ فِي الْعَاقِلَةِ، وَقِلَّةِ الرَّغْبَةِ فِي الْحَمْقَاءِ. وَحُكِيَ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تعالى(9/488)
{لِيَبْلَُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} أَيْ أَيُّكُمْ أَتَمُّ عَقْلًا.
وَرَوَى كُلَيْبُ بْنُ وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تلا: " أيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاُ " ثُمَّ قَالَ: " أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عقلاُ. وَأَرْدَعُ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ وَأَسْرَعُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى ".
وَالثَّالِثُ: جَمَالُهَا، وَقُبْحُهَا. فَإِنَّ مَهْرَ الْجَمِيلَةِ أَكْثَرُ مِنْ مَهْرِ الْقَبِيحَةِ. وَقَدْ رَوَى سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يُنكح النِّسَاءُ لأربعٍ، لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَعَلَيْكَ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ ".
وَالرَّابِعُ: يسارها، وإعسارها، لأن ذا المالك مَطْلُوبٌ وَمَخْطُوبٌ، فَيَكْثُرُ مَهْرُ الْمُوسِرَةِ بِكَثْرَةِ طَالِبِهَا، وَيَقِلُّ مَهْرُ الْمُعْسِرَةِ، لِقِلَّةِ خَاطِبِهَا.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} (العاديات: 8) . يَعْنِي الْمَالَ.
وَرَوَى مُجَالِدٌ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ تَزَوَّجَ ذَاتَ جمالٍ ومالٍ فَقَدْ أَصَابَ سِدَادًا مِنْ عوزٍ ".
وَالْخَامِسُ: إِسْلَامُهَا، وَكُفْرُهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) {البقرة: 221) .
وَالسَّادِسُ: عِفَّتُهَا، وَفُجُورُهَا، لِأَنَّ الرَّغْبَةَ فِي الْعَفِيفَةِ أَكْثَرُ، وَمَهْرُهَا لِكَثْرَةِ الرَّاغِبِ فِيهَا أَكْثَرُ.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الزَّانِي لاَ يَنْكَحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنْكِحُهَا إلاَّ زَانٍ أَْوْ مُشْرِكٌ) {النور: 3) .
وَالسَّابِعُ: حُرِّيَّتُهَا، وَرِقُّهَا، لِنُقْصَانِ الْأَمَةِ عَنْ أَحْكَامِ الْحُرَّةِ. وَإِنْ كَانَ نِكَاحُهَا لَا يَحِلُّ لِكُلِّ حُرٍّ.
وَالثَّامِنُ: بَكَارَتُهَا، وَثُيُوبَتُهَا، لِأَنَّ الرَّغْبَةَ فِي الْبِكْرِ أَكْثَرُ مِنْهَا فِي الثَّيِّبِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أَنَّهُ قَالَ: " عَلَيْكُمْ بِالْأَبْكَارِ فَإِنَّهُنَّ أَعْذَبُ أَفْوَاهًا، وَأَنْتَقُ أَرْحَامًا، وَأَغَرُّ غُرَّةً، وَأَرْضَى بِالْيَسِيرِ ".
وَمَعْنَى قوله: " أنتق أرحاماً " أي: أكثر أولاداً، وفي قَوْلِهِ: " وَأَغَرُّ غُرَّةً " رِوَايَتَانِ:
أَحَدُهُمَا: غِرَّةٌ بِكَسْرِ الْغَيْنِ، يُرِيدُ أَنَّهُنَّ أَبْعَدُ مِنْ مَعْرِفَةِ الشَّرِّ، وَأَقَلُّ فِطْنَةً لَهُ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: وَأَغَرُّ غُرَّةً. بِضَمِّ الْغَيْنِ وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ غرة البياض، لأن الأغير وطول التعبيس يجيلان اللَّوْنَ، وَيُبْلِيَانِ الْجَسَدَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ حُسْنَ الْخُلُقِ وَحُسْنَ الْعِشْرَةِ.(9/489)
وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: " عَلَيْكُمْ بِالْأَبْكَارِ فَإِنَّهُنَّ أَكْثَرُ حُبًّا وَأَقَلُّ خِبًّا ".
وَالتَّاسِعُ: أَدَبُهَا، وَبَذَاؤُهَا: لِأَنَّ الْأَدِيبَةَ مَرْغُوبٌ فِيهَا، وَالْبَذِيئَةَ مَهْرُوبٌ مِنْهَا وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أنه قال: " البذاء لؤمٌ وصحبة الأحق شؤمٌ ".
وَالْعَاشِرُ: قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: وَصَرَاحَتُهَا، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَعْنَاهُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُرِيدُ فَصَاحَتَهَا، لِأَنَّ لِفَصَاحَةِ الْمَنْطِقِ حَظًّا مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ.
وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: بَلْ أَرَادَ بِهِ صَرَاحَةَ النَّسَبِ الْمَقْصُودِ فِي الْمَنَاكِحِ. وَالصَّرِيحُ النَّسَبُ الَّذِي أَبَوَاهُ عَرَبِيَّانِ.
وَالْهَجِينُ: الَّذِي أَبُوهُ عَرَبِيٌّ، وَأُمُّهُ أَمَةٌ.
وَالْمُذَرَّعُ: فِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: الَّذِي أُمُّهُ عَرَبِيَّةٌ وَأَبُوهُ عَبْدٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ الَّذِي أُمُّهُ أَشْرَفُ نَسَبًا مِنْ أَبِيهِ.
قَالَ الشَّاعِرُ:
(إِنَّ الْمُذَرَّعَ لَا تُغْنِي خُؤُولَتُهُ ... كَالْبَغْلِ يَعْجِزُ عَنْ شَوْطِ الْمَحَاضِيرِ)
وَالْفَلَنْقَسُ فِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الَّذِي أَبُوهُ مَوْلًى، وَأُمُّهُ عَرَبِيَّةٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ الَّذِي أَبَوَاهُ عَرَبِيَّانِ، وَجَدَّتَاهُ مِنْ قِبَلِ أَبَوَيْهِ أَمَتَانِ.
فَهَذِهِ عَشَرَةُ أَوْصَافٍ تُعْتَبَرُ فِي مَهْرِ مِثْلِهَا، لِاخْتِلَافِ الْمَهْرِ بها، وقد ذكر الشافعي منها سبعة وأعقل ثَلَاثَةً وَهِيَ: الدِّينُ، وَالْعِفَّةُ، وَالْحُرِّيَّةُ، اكْتِفَاءً بِمَا ذَكَرَهُ مِنْهَا فِي اعْتِبَارِ الْكَفَاءَةِ.
وَقَدْ نَصَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى بَعْضِهَا، وَنَبَّهَ عَلَى بَاقِيهَا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِدِينِهَا، وَجَمَالِهَا، وَمَالِهَا، وَمَيْسَمِهَا ".
وَرُوِيَ وَوَسَامَتِهَا، فَعَلَيْكَ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ.
وفيها ثلاث تأويلات:
أحدها: معناه، افترقت يَدَاكَ: إِنْ لَمْ تَظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ، يُقَالُ: تَرِبَ الرَّجُلُ إِذَا افْتَقَرَ، وَأَتْرَبَ إِذَا اسْتَغْنَى.(9/490)
وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهُ اسْتَغْنَتْ يَدَاكَ إِنْ ظَفِرْتَ بِذَاتِ الدِّينِ وَيَكُونُ تَرِبَتْ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَضْدَادِ بمعنى الغنى والفقر رأيه في قدر تلك الصفة، وقسطا مِنْ تِلْكَ الْمُهُورِ، فَزَادَهَا إِنْ كَانَتِ الصِّفَةُ زَائِدَةً، أَوْ نَقَصَهَا إِنْ كَانَتِ الصِّفَةُ نَاقِصَةً، لِأَنَّهُ قَلَّ مَا يَتَسَاوَى صِفَاتُهَا، وَصِفَاتُ جَمِيعِ نِسَاءِ عَصَبَتِهَا فَلَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنِ اعْتِبَارِ مَا اخْتَلَفْنَ فِيهِ بِمَا ذَكَرْنَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا كَلِمَةٌ تُقَالُ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعَرَبِ لَا يُرَادُ بِهَا حَمْدٌ وَلَا ذَمٌّ كَمَا يُقَالُ مَا أَشْجَعَهُ قَاتَلَهُ اللَّهُ وَكَالَّذِي حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ سَارَةَ زَوْجَةِ إِبْرَاهِيمَ حِينَ بُشِّرَتْ بِالْوَلَدِ {قَالَتْ يَا وَيْلَتِي أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً) {هود: 72) وَهِيَ لَا تَدْعُو بِالْوَيْلِ عِنْدَ الْبُشْرَى وَلَكِنْ كَلِمَةٌ مَأْلُوفَةٌ لِلنِّسَاءِ عِنْدَ سَمَاعِ مَا يُعَجَّلُ مِنْ فَرَحٍ أَوْ حُزْنٍ، فَإِذَا وُجِدَتْ أَوْصَافُهَا الَّتِي يَخْتَلِفُ بِهَا الْمَهْرُ مِنْ يَسَارِ عَصَبَتِهَا وَكَانَتْ مُهُورُهُنَّ مُقَدَّرَةً صَارَ مَهْرُ مِثْلِهَا ذَلِكَ الْقَدْرَ فَإِنْ خَالَفَتْهُنَّ فِي إِحْدَى الصِّفَاتِ أَشْهَدَ الْحَاكِمُ.
الْقَوْلُ فِي شَرَائِطِ اعْتِبَارِ مَهْرِ الْمِثْلِ
مَسْأَلَةٌ
قَالَ الشافعي: " وَأَجْعَلُهُ نَقْدًا كُلَّهُ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالْقِيمَةِ لَا يَكُونُ بدينٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
فِي الْحُكْمِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ مَعَ اعْتِبَارِ تِلْكَ الأوصاف شرطان:
أحدهما: أن يكون عن نُقُودِ الْأَثْمَانِ، وَالْقِيَمِ وَهِيَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ، لِأَنَّ قِيَمَ الْمُتْلَفَاتِ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنْهَا، وَمَهْرُ الْمِثْلِ قِيمَةُ مُتْلَفٍ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ مَهْرُ نِسَاءِ عَصَبَتِهَا إِبِلًا أَوْ عَبِيدًا، أَوْ ثِيَابًا قَوَّمَهَا بِالدَّرَاهِمِ أَوِ الدَّنَانِيرِ، وَحَكَمَ لَهَا بِقِيمَةِ الْإِبِلِ، أَوِ الْعَبِيدِ، أَوِ الثِّيَابِ مِنْ أَغْلَبِ النَّقْدَيْنِ مِنَ الدَّرَاهِمِ أَوِ الدَّنَانِيرِ فِي أَثْمَانِ الْإِبِلِ، وَالْعَبِيدِ دُونَ الْمُهُورِ.
وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَحْكُمَ بِهِ إِلَّا حَالًّا، وَإِنْ كَانَ نِسَاءُ عَصَبَتِهَا يُنْكَحْنَ بِمُهُورٍ مُؤَجَّلَةٍ، لِأَنَّ قِيمَةَ الْمُتْلَفِ لَا يَتَأَجَّلُ.
فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ دِيَةُ الْخَطَأِ مُؤَجَّلَةً، وَهِيَ قِيمَةُ مُتْلَفٍ؟ .
قِيلَ: لَيْسَتِ الدِّيَةُ قِيمَةً لِكَوْنِهَا مُقَدَّرَةً. وَالْقِيمَةُ لَا تَتَقَدَّرُ، وَلَوْ كَانَتْ قِيمَةً لَجَازَ أَنْ تُخَالِفَ أَحْكَامَ الْقِيَمِ فِي التَّأْجِيلِ، كَمَا خَالَفَتْهَا فِي وُجُوبِهَا عَلَى غَيْرِ الْمُتْلِفِ مِنَ الْعَاقِلَةِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيَمُ الْمُتْلَفَاتِ لَا تَجِبُ إِلَّا عَلَى الْمُتْلِفِ.
وَإِذَا وَجَبَ أَنْ يَحْكُمَ بِهَا نَقْدًا حَالًّا وَكَانَتْ مُهُورُهُنَّ مُؤَجَّلَةً نُظِرَ:(9/491)
فَإِنْ كَانَ وَقْتُ حُكْمِهِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ هُوَ وَقْتَ الْمُؤَجَّلِ سَاوَى بَيْنَ الْقَدْرَيْنِ، وَلَمْ يُنْقِصْ مِنْهُ بِالتَّعْجِيلِ شَيْئًا.
وَإِنْ كَانَ وَقْتُ حُكْمِهِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ قَبْلَ حُلُولِ آجَالِ تِلْكَ الْمُهُورِ نَقَصَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ بِالتَّعْجِيلِ بِقَدْرِ مَا يَكُونُ بَيْنَ الْحَالِّ وَالْمُؤَجَّلِ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ.
مسألة
قال الشافعي: " فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا نسبٌ فَمَهْرُ أَقْرَبِ النَّاسِ مِنْهَا شَبَهًا فِيمَا وَصَفْتُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَهْرَ مِثْلِهَا مُعْتَبَرٌ بِنِسَاءِ عَصَبَتِهَا، فَإِذَا وُجِدْنَ وَلَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنْهُنَّ إِلَى نِسَاءِ الْأُمِّ.
فَإِنْ عَدِمَ نِسَاءَ الْعَصَبَاتِ اعْتَبَرَ بَعْدَهُنَّ لِلضَّرُورَةِ نِسَاءَ الْأُمِّ، لِأَنَّهُنَّ أَقْرَبُ إِلَيْهَا بَعْدَ الْعَصَبَاتِ مِنَ الْأَجَانِبِ.
فَنَبْدَأُ بِاعْتِبَارِ الأم، ث بَنَاتِهَا، وَهُنَّ الْأَخَوَاتُ مِنَ الْأُمِّ، ثُمَّ بِأُمِّهَا، وَهِيَ الْجَدَّةُ مِنَ الْأُمِّ.
فَإِنِ اجْتَمَعَ جَدَّتَانِ أُمُّ أَبٍ، وَأُمُّ أُمٍّ، فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ اعْتِبَارَهَا بِأُمِّ الْأَبِ أَوْلَى بِهِ لِأَنَّهَا مِنْ جِهَةِ التَّعْصِيبِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ أُمَّ الْأُمِّ أَوْلَى، لِأَنَّ التَّعْصِبَةَ فِيهَا مُحَقَّقَةٌ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمَا سَوَاءٌ.
ثُمَّ بَعْدَ الْجَدَّاتِ الْخَالَاتُ، ثُمَّ بَنَاتُ الْأَخَوَاتِ، ثُمَّ بَنَاتُ الْأَخْوَالِ، ثُمَّ عَلَى هَذَا فَإِذَا عَدِمَ جَمِيعَ الْقَرَابَاتِ، فَنِسَاءُ بَلَدِهَا، لِاشْتِرَاكِهِنَّ فِي الْعَادَةِ، فَإِذَا عُدِمْنَ فَأَقْرَبُ الْبِلَادِ ببلدها.
مسألة
قال الشافعي: " وَإِنْ كَانَ نِسَاؤُهَا إِذَا نُكِحْنَ فِي عَشَائِرِهِنِّ خُفِّفْنَ خُفِّفَتْ فِي عَشِيرَتِهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أن العادات في مهر المثل معتبرة فربما جَرَتْ عَادَةُ قَبِيلَتِهَا إِذَا نُكِحْنَ فِي عَشَائِرِهِنَّ خَفَّفْنَ الْمُهُورَ، وَإِذَا نُكِحْنَ فِي غَيْرِ عَشَائِرِهِنَّ ثَقَّلْنَ الْمُهُورَ، وَهَذَا يَكُونُ مِنْ عَادَاتِ الْقَبِيلَةِ الَّتِي تُشَرِّفُ عَلَى غَيْرِهَا.
فَإِنْ كَانَتْ مِنْ هَؤُلَاءِ وَكَانَ الزَّوْجُ مِنْ عَشِيرَتِهَا خُفِّفَ مَهْرُ مِثْلِهَا. وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ عَشِيرَتِهَا ثُقِّلَ مَهْرُ مِثْلِهَا.
وَرُبَّمَا كَانَتْ عَادَةُ قَبِيلَتِهَا، إِذَا نكحن في عشائرهن، ثقلن المهور وإذا أنحكن فِي غَيْرِ عَشَائِرِهِنَّ خَفَّفْنَ الْمُهُورَ، وَهَذَا يَكُونُ مِنْ عَادَاتِ الْقَبِيلَةِ الدَّنِيئَةِ، الَّتِي غَيْرُهَا أَشْرَفُ(9/492)
مِنْهَا فَإِنْ كَانَتْ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَكَانَ الزَّوْجُ مِنْ عَشِيرَتِهَا، ثُقِّلَ مَهْرُهَا.
وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ عَشِيرَتِهَا خُفِّفَ مَهْرُهَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كُنْتُمْ تَعْتَبِرُونَ مَهْرَ الْمِثْلِ بِقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ، فَالْمُعْتَبَرُ فِي الْقِيَمِ حَالُ التَّالِفِ، لَا حَالُ الْمُتْلِفِ، فَكَيْفَ اعْتَبَرْتُمْ هَاهُنَا حَالَ الْمُتْلِفِ وَحَالَ التَّالِفِ؟ .
قِيلَ: لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ مَقْصُودٌ بِالْعَقْدِ فِي النِّكَاحِ، فَجَازَ أَنْ يُعْتَبَرَ بِالتَّالِفِ وَالْمُتْلِفِ، وَلَيْسَ كَسَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ الَّتِي لَا يُعْتَبَرُ فِيهَا إِلَّا أَثْمَانُهَا بِالْعُقُودِ وَقِيَمُهَا بِالِاسْتِهْلَاكِ.
وَعَلَى هَذَا: إِذَا كَانَ عَادَةُ قَبِيلَتِهَا أَنْ يُخَفِّفْنَ الْمُهُورَ فِي نِكَاحِ الشَّبَابِ وَيُثَقِّلْنَ الْمُهُورَ فِي نِكَاحِ الشُّيُوخِ، رُوعِيَ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(9/493)
باب الاختلاف في المهر من كتاب الصداق
اخْتِلَافُ الزَّوْجَيْنِ فِي قَدْرِ، أَوْ جِنْسِ، أَوْ صفة المهر المسمى.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَإِذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي الْمَهْرِ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ تَحَالَفَا وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا وَبَدَأْتُ بِالرَّجُلِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
إِذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي قَدْرِ الْمَهْرِ، أَوْ جِنْسِهِ، أَوْ فِي صِفَتِهِ، فَقَالَ الزَّوْجُ: تَزَوَّجْتُكِ عَلَى صَدَاقِ أَلْفٍ، وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ: بَلْ عَلَى صَدَاقِ أَلْفَيْنِ، أَوْ قَالَ: تَزَوَّجْتُكِ عَلَى دَرَاهِمَ، وَقَالَتْ: بَلْ عَلَى دَنَانِيرَ، أَوْ قَالَ: عَلَى صَدَاقٍ مُؤَجَّلٍ، فَقَالَتْ: بَلْ حَالٍّ، فَكُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَيَتَحَالَفُ الزَّوْجَانِ عَلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ، وَقَالَ النَّخَعِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ: الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الزَّوْجِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: إِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ بَعْدَ الطَّلَاقِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الطَّلَاقِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجَةِ، إِلَّا أَنْ تَدَّعِيَ أَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ قَوْلَ الزَّوْجِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ بَعْدَ الدُّخُولِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ، لِأَنَّهُ غَارِمٌ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ تَحَالَفَا.
وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: اخْتِلَافُ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ أَوِ الْمُثَمَّنِ، فَيَبْنِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ اخْتِلَافَ الزَّوْجَيْنِ فِي الصَّدَاقِ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي الْبَيْعِ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ.
ثُمَّ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مِنْ تَحَالُفِهِمَا، قَوْلُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ ".
وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ مُدَّعٍ وَمُدَّعَى عَلَيْهِ.
فَإِنَّ الزَّوْجَ يَقُولُ: تَزَوَّجْتُكِ بِأَلْفٍ، وَمَا تَزَوَّجْتُكِ بِأَلْفَيْنِ.
وَالزَّوْجَةَ تَقُولُ: تَزَوَّجْتَنِي بِأَلْفَيْنِ، وَمَا تَزَوَّجْتَنِي بألف.(9/494)
فَلَمْ يَتَرَجَّحْ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، وَتَسَاوَيَا فِي الدَّعْوَى وَالْإِنْكَارِ فَتَحَالَفَا، وَلِأَنَّهُمَا لَوْ تَدَاعَيَا دَارًا هِيَ فِي أَيْدِيهِمَا، وَتَسَاوَيَا فِيهَا وَلَمْ يَتَرَجَّحْ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ تَحَالَفَا، كَذَلِكَ اخْتِلَافُ الزَّوْجَيْنِ عِنْدَ تَسَاوِيهِمَا يُوجِبُ تَحَالُفَهُمَا.
فَصْلٌ
فَإِذَا ثبت تحالف الزوجين فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ عِنْدَ الْحَاكِمِ، لِأَنَّ الْأَيْمَانَ فِي الْحُقُوقِ لَا يَسْتَوْفِيهَا إِلَّا الْحَاكِمُ، فَإِذَا حَضَرَاهُ قَالَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا: بَدَأَ بِإِحْلَافِ الزَّوْجِ.
وَقَالَ فِي اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ: إِنَّهُ يَبْدَأُ بِإِحْلَافِ الْبَائِعِ، وَهُوَ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الزَّوْجَةِ فِي النِّكَاحِ، وَالزَّوْجُ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْمُشْتَرِي فِي الْبَيْعِ.
وَقَالَ فِي كِتَابِ " الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ " فِي اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ بِالْخِيَارِ فِي الْبِدَايَةِ بِإِحْلَافِ أَيِّهِمَا شَاءَ.
فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ طُرُقٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي اخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ وَالْمُتَبَايِعَيْنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَبْدَأُ بِإِحْلَافِ الْبَائِعِ، وَالزَّوْجَةِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ نَصُّهُ فِي الْبُيُوعِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَبْدَأُ بِإِحْلَافِ الزَّوْجِ وَالْمُشْتَرِي عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ نَصُّهُ فِي الصَّدَاقِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْحَاكِمَ بِالْخِيَارِ فِي الْبِدَايَةِ بِإِحْلَافِ أَيِّ الزَّوْجَيْنِ شَاءَ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ كَلَامُهُ فِي الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ.
وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّ الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّ الْحَاكِمَ فِيهِمَا بِالْخِيَارِ فِي الْبِدَايَةِ بِإِحْلَافِ أَيِّ الزَّوْجَيْنِ شَاءَ، وَأَيِّ الْمُتَبَايِعَيْنِ شَاءَ.
وَالطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّ حُكْمَ الْمَسْأَلَتَيْنِ مُخْتَلِفٌ وَأَنَّهُ يَبْدَأُ فِي اخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ بِإِحْلَافِ الزَّوْجِ قَبْلَ الزَّوْجَةِ وَفِي اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِإِحْلَافِ الْبَائِعِ قَبْلَ الْمُشْتَرِي.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ جَنْبَةَ الْبَائِعِ أَقْوَى، لِعَوْدِ السِّلْعَةِ إِلَيْهِ بَعْدَ التَّحَالُفِ، فَبَدَأَ بِإِحْلَافِهِ، وَجَنْبَةَ الزَّوْجِ أَقْوَى، لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَ الْبُضْعَ، وَلَا يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهُ بَعْدَ التَّحَالُفِ فَبَدَأَ بِأَحْلَافِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ
فَإِذَا ثَبَتَ تَحَالُفُهُمَا، وَمَنْ بَدَأَ الْحَاكِمُ بِإِحْلَافِهِ مِنْهُمَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا: هَلْ يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمِينًا وَاحِدَةً، أَوْ يَمِينَيْنِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا: أَنَّهُ يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمِينًا وَاحِدَةً تَجْمَعُ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ، لِأَنَّهُ أَسْرَعُ إِلَى فَصْلِ الْقَضَاءِ.(9/495)
فَعَلَى هَذَا فِي كَيْفِيَّةِ يَمِينِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُصَرَّحُ فِيهَا بِالِابْتِدَاءِ بِالنَّفْيِ. ثُمَّ بِالْإِثْبَاتِ، فَيَقُولُ الزَّوْجُ: وَاللَّهِ مَا تَزَوَّجْتُكِ عَلَى صَدَاقِ أَلْفَيْنِ، وقد تَزَوَّجْتُكِ عَلَى صَدَاقِ أَلْفٍ.
ثُمَّ تَحْلِفُ الزَّوْجَةُ فَتَقُولُ: وَاللَّهِ مَا تَزَوَّجْتَنِي عَلَى صَدَاقِ أَلْفٍ، وَلَقَدْ تَزَوَّجْتَنِي عَلَى صَدَاقِ أَلْفَيْنِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُصَرِّحُ بِالنَّفْيِ وَيُصَرِّحُ بِالْإِثْبَاتِ الدَّالِّ عَلَى النَّفْيِ، فَيَقُولُ: وَاللَّهِ مَا تَزَوَّجْتُكِ إِلَّا عَلَى صَدَاقِ أَلْفٍ.
وَتَقُولُ الزَّوْجَةُ: وَاللَّهِ مَا تَزَوَّجْتَنِي إِلَّا عَلَى صَدَاقِ أَلْفَيْنِ، لِأَنَّ الْيَمِينَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَوْجَزُ وَاللَّفْظُ فِيهِ أَخَصُّ.
فَهَذَا إِذَا قِيلَ يُحَلِّفُهُمَا يَمِينًا وَاحِدَةً.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُحَلِّفُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمِينَيْنِ، يَمِينًا لِلنَّفْيِ، ثُمَّ يَمِينًا لِلْإِثْبَاتِ.
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ، فَيَبْدَأُ بِيَمِينِ النَّفْيِ، فَيَقُولُ الزَّوْجُ: وَاللَّهِ مَا تَزَوَّجْتُكِ عَلَى صَدَاقِ أَلْفَيْنِ. وَتَقُولُ الزَّوْجَةُ: وَاللَّهِ مَا تَزَوَّجْتَنِي عَلَى صَدَاقِ أَلْفٍ.
ثُمَّ يُحَلِّفُهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ يَمِينَ الْإِثْبَاتِ، فَيَقُولُ الزَّوْجُ: وَاللَّهِ لَقَدْ تَزَوَّجْتُكِ عَلَى صَدَاقِ أَلْفٍ. وَتَقُولُ الزَّوْجَةُ: وَاللَّهِ لَقَدْ تَزَوَّجْتَنِي عَلَى صَدَاقِ أَلْفَيْنِ.
فَصْلٌ: الْأَثَرُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى تَحَالُفِ الزَّوْجَيْنِ
فَإِذَا تَحَالَفَ الزَّوْجَانِ عَلَى مَا وَصَفْنَا بَطَلَ الصَّدَاقُ، لِأَنَّهُ تَرَدَّدَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ أَلْفًا بِيَمِينِ الزَّوْجِ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ أَلْفَيْنِ بِيَمِينِ الزَّوْجَةِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى صَدَاقِ أَلْفٍ أَوْ أَلْفَيْنِ، فَيَكُونُ بَاطِلًا، لِلْجَهْلِ بِهِ، كَذَلِكَ إِذَا تَحَالَفَا.
وَهَلْ يَبْطُلُ الصَّدَاقُ بِنَفْسِ التَّحَالُفِ أَوْ بِفَسْخِ الْحَاكِمِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا فِي الْبُيُوعِ، ثُمَّ إِذَا بَطَلَ الصَّدَاقُ لَمْ يَبْطُلِ النِّكَاحُ.
وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا تَحَالَفَا بَطَلَ النِّكَاحُ، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ فَسَادَ الصَّدَاقِ مُوجِبٌ لِبُطْلَانِ النِّكَاحِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ.
فَإِنَّ فَسَادَ الصَّدَاقِ إِذَا سَقَطَ مِنَ النِّكَاحِ صَارَ نِكَاحًا بِغَيْرِ صَدَاقٍ، وَلَوْ نَكَحَهَا عَلَى غَيْرِ صَدَاقٍ صَحَّ النِّكَاحُ. فَكَذَلِكَ إِذَا نَكَحَهَا عَلَى صَدَاقٍ فَاسِدٍ، وَكَانَ هَذَا بِخِلَافِ تَحَالُفِ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ بَعْدَ التَّحَالُفِ، لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِثَمَنٍ فَبَطَلَ بِبُطْلَانِ الثَّمَنِ، وَالنِّكَاحَ يَصِحُّ بِغَيْرِ صداق فلم يبطل ببطلان الصداق.(9/496)
فَصْلٌ: أَثَرُ بُطْلَانِ الصَّدَاقِ
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَبْطُلُ بِتَحَالُفِهِمَا حُكِمَ لَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِالْعَقْدِ مُسْتَهْلِكًا لِبُضْعِهَا فَلَزِمَهُ غُرْمُ قِيمَتِهِ، وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ، كَمَا يَلْزَمُ الْبَائِعَ بَعْدَ التَّحَالُفِ إِذَا تَلِفَتِ السِّلْعَةُ غُرْمُ قِيمَتِهَا، وَيُحْكَمُ لَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ، سَوَاءٌ كَانَ أَقَلَّ مِمَّا ادَّعَتْهُ أَوْ أَكْثَرَ.
وَقَالَ أبو علي بن خيران: بحكم لَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ إِنْ كَانَ مِثْلَ مَا ادَّعَتْهُ أَوْ أَقَلَّ، وَلَا يُحْكَمُ لَهَا إِذَا كان أكثر مما ادعت إِلَّا بِقَدْرِ مَا ادَّعَتْ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُدَّعِيَةٍ لِلزِّيَادَةِ فَلَمْ يُحْكَمْ لَهَا بِمَا لَا تَدَّعِيهِ وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ دَعْوَاهَا كَانَتْ لِمُسَمًّى فِي عَقْدٍ وَقَدْ بَطَلَ بِالتَّحَالُفِ، وَهَذَا قِيمَةُ مُتْلَفٍ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ حُكْمُ الدَّعْوَى فِي غَيْرِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَوْ نَقَصَ مَهْرُ الْمِثْلِ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ الزَّوْجُ لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا مَهْرُ الْمِثْلِ وَإِنْ كَانَ مُقِرًّا بِالزِّيَادَةِ، وَجَبَ إِذَا كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ أَكْثَرَ مِمَّا ادَّعَتْ أَنْ يَحْكُمَ لَهَا به وإن كانت غير مدعية للزيادة. والله أعلم
مسألة
قال الشافعي: " وَهَكَذَا الزَّوْجُ وَأَبُو الصَبِيَّةِ الْبِكْرِ وَوَرَثَةُ الزَّوْجَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا مَسْأَلَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: فِي اخْتِلَافِ الزَّوْجِ وَالْوَلِيِّ. وَالثَّانِيَةُ: فِي اخْتِلَافِ وَرَثَةِ الزَّوْجَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا وَوَرَثَةِ الْآخَرِ.
فَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: وَهِيَ اخْتِلَافُ الزَّوْجِ وَالْوَلِيِّ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ وَقْتَ الْعَقْدِ جَائِزَةَ الْأَمْرِ بِالْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ، فَلَا اعْتِبَارَ بِقَوْلِ الْوَلِيِّ فِي تَصْدِيقٍ أَوْ تَكْذِيبٍ، سَوَاءٌ كَانَ الْوَلِيُّ أَبًا أَوْ عَصَبَةً، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الزَّوْجَةُ بِكْرًا أَوْ ثيباُ.
فَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ مُصَدِّقَةً لِزَوْجِهَا عَلَى قَدْرِ الصَّدَاقِ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ مُخَالَفَةُ الْوَلِيِّ، وَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ مُخَالِفَةً لِزَوْجِهَا فِي قَدْرِ الصَّدَاقِ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ تَصْدِيقُ الْوَلِيِّ، وَكَانَ لِلزَّوْجَيْنِ أَنْ يَتَحَالَفَا عَلَى مَا مَضَى، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ شَاهِدًا لِلزَّوْجِ فِيمَا ادَّعَاهُ مِنَ الصَّدَاقِ، لِأَنَّهُ يَشْهَدُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ وَقْتَ الْعَقْدِ صَغِيرَةً، فَلَيْسَ يَصِحُّ أَنْ يُزَوِّجَهَا إِلَّا أَبُوهَا أَوْ جَدُّهَا.
فَإِذَا اخْتَلَفَ الْأَبُ وَالزَّوْجُ فِي قَدْرِ صَدَاقِهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:(9/497)
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَا ادَّعَاهُ الْأَبُ هُوَ قَدْرَ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَمَا يُقِرُّ بِهِ الزَّوْجُ أَقَلَّ، فَلَا تَحَالُفَ بَيْنَهُمَا، وَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْأَبِ بِغَيْرِ يَمِينٍ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يُزَوِّجَ الصَّغِيرَةَ بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَلَوْ زَوَّجَهَا بِهِ لَكَانَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَا ادَّعَاهُ الْأَبُ أَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَمَا أَقَرَّ بِهِ الزَّوْجُ قَدْرَ مَهْرِ الْمِثْلِ فَهَاهُنَا يَكُونُ التَّحَالُفُ، وَإِذَا وَجَبَ التَّحَالُفُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الزَّوْجَةِ وَقْتَ الِاخْتِلَافِ وَالتَّحَالُفِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَلَى حَالِ الصِّغَرِ، أَوْ قَدْ بَلَغَتْ.
فَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً حَلَفَ الزَّوْجُ، وَهَلْ يُحَالِفُهُ الْأَبُ أَوْ تَكُونُ الْيَمِينُ مَوْقُوفَةً عَلَى بلوغ الزوج عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا حَلَفَ لَمْ يَجُزْ لِلْأَبِ أَنْ يَحْلِفَ مَعَهُ، وَوَقَفَتِ الْيَمِينُ عَلَى بُلُوغِ الزَّوْجَةِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ النِّيَابَةَ فِي الْأَيْمَانِ لَا تَصِحُّ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْيَمِينَ إِنَّمَا وُضِعَتْ لِإِثْبَاتِ حَقِّ الْحَالِفِ، أَوْ دَفْعِ مُطَالَبَةٍ عَنْهُ، وَلَيْسَ الْأَبُ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْلِفَ، وَتَأَوَّلَ قَائِلُ هَذَا الْوَجْهِ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ " وَكَذَلِكَ الزَّوْجُ وَأَبُو الصَّبِيَّةِ " يَعْنِي فِي أَنَّهُمَا إِذَا اخْتَلَفَا قَدَّمَ الْحَاكِمُ الزَّوْجَ فِي إِحْلَافِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَالظَّاهِرُ مِنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ الزَّوْجِ، لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُبَاشِرٌ لِلْعَقْدِ، فَجَازَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ كَالْوَكِيلِ.
وَالثَّانِي: وَأَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ سُرَيْجٍ: أَنَّهُ لَمَّا قُبِلَ إِقْرَارُهُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ جَازَ إِحْلَافُهُ فِيهِ عِنْدَ إِنْكَارِهِ.
فَعَلَى هَذَا إِنْ حَالَفَ الْأَبُ الزَّوْجَ حُكِمَ لِلزَّوْجَةِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَإِنْ نَكَلَ الْأَبُ عَنِ الْيَمِينِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُحْكَمُ بِنُكُولِهِ وَيُقْضَى بِالْمَهْرِ الذي اعترف به الزوج إذا كان ي قدر مَهْرِ الْمِثْلِ، لِأَنَّ مَنْ حُكِمَ بِيَمِينِهِ إِذَا حَلَفَ حُكِمَ بِنُكُولِهِ إِذَا نَكَلَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِنُكُولِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِسْقَاطِ حَقِّ الزَّوْجَةِ وَتَوَقُّفِ الْيَمِينِ عَلَى بُلُوغِهَا لِجَوَازِ أَنْ يُثْبِتَ بِيَمِينِهَا مَا لَا يُثْبِتُهُ الْوَلِيُّ فَيُحْكَمُ لَهَا بِهِ.
وَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ وَقْتَ التَّحَالُفِ بَالِغَةً؟(9/498)
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْأَبَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحَالِفَ الزَّوْجَ فِي حَالِ صِغَرِهَا فَأَوْلَى أَنْ لَا يُحَالِفَهَا فِي حَالِ كِبَرِهَا.
وَإِذَا قِيلَ: لَهُ مُحَالَفَةُ الزَّوْجِ فِي حَالِ صِغَرِهَا فَأَيُّهُمَا أَحَقُّ بِمُحَالَفَةِ الزَّوْجِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: مِنِ اخْتِلَافِ الْمَعْنَيَيْنِ فِي تَعْلِيلِ هَذَا الْوَجْهِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَبَ الْمُبَاشِرَ لِلْعَقْدِ هُوَ الْمُحَالِفُ لِلزَّوْجِ لِفَضْلِ مُبَاشَرَتِهِ وَتَعْلِيلًا بِقَبُولِ اعْتِرَافِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الزَّوْجَةَ الْمَالِكَةَ هِيَ الْمُحَالِفَةُ لِلزَّوْجِ دُونَ الْأَبِ، لِاخْتِصَاصِهَا بِالْمِلْكِ وَتَعْلِيلًا بِأَنَّ الْأَبَ نَائِبٌ.
وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ مَعًا: لَوِ امْتَنَعَ الْأَبُ مِنَ الْيَمِينِ جَازَ لَهَا مُحَالَفَةُ الزَّوْجِ وَإِنَّمَا الْوَجْهَانِ: هَلْ يَجُوزُ مَعَ بُلُوغِهَا أَنْ يَحْلِفَ الْأَبُ؟ .
فَصْلٌ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتِلَافُ وَرَثَةِ الزَّوْجَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا وَوَرَثَةِ الْآخَرِ
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ اخْتِلَافُ وَرَثَةِ الزَّوْجَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا وَوَرَثَةِ الْآخَرِ فَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إِذَا طَالَتْ صُحْبَةُ الزَّوْجَيْنِ وَحَسُنَتْ عِشْرَتُهُمَا وَذَهَبَتْ عَشِيرَتُهُمَا ثُمَّ مَاتَتِ الزَّوْجَةُ لَمْ يَكُنْ لِوَارِثِهَا مُطَالَبَةُ الزَّوْجِ بِصَدَاقِهَا، وَحَكَاهُ عَنْهُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ مِنْ أصحابه.
وعلى مذهب الشافعي وجمهور الفقهاء لوراثها مُطَالَبَةُ الزَّوْجِ بِصَدَاقِهَا وَإِنْ طَالَتْ صُحْبَتُهُمَا لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا جَازَتْ مُطَالَبَتُهُ مَعَ قُرْبِ الْمُدَّةِ، جَازَتْ مَعَ بُعْدِهَا كَالدَّيْنِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا جَازَ لِلزَّوْجَةِ مُطَالَبَتُهُ، جَازَ لِوَارِثِهَا مُطَالَبَتُهُ، كَالْمُدَّةِ الْقَصِيرَةِ.
فَلِذَا ثَبَتَ أَنَّ الصَّدَاقَ بَاقٍ، وَأَنَّ لِلْوَارِثِ مُطَالَبَةَ الزَّوْجِ بِهِ، فَاخْتَلَفَا فِي قَدْرِهِ جَازَ أَنْ يَتَحَالَفَا عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْوَارِثَ يَقُومُ مَقَامَ مَوْرُوثِهِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ فَقَامَ مَقَامَهُ فِي التَّحَالُفِ فَعَلَى هَذَا إِنْ تَحَالَفَ وَارِثَا الزَّوْجَيْنِ حَلِفَا كَتَحَالُفِ الزَّوْجَيْنِ إِلَّا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ يَمِينَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْبَتِّ وَالْقَطْعِ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ جَمِيعًا، وَيَمِينَ الْوَارِثِينَ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ فِي النَّفْيِ، وَعَلَى الْقَطْعِ فِي الْإِثْبَاتِ، لِأَنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ كَانَتْ يَمِينُهُ عَلَى الْقَطْعِ فِي نَفْيِهِ وَإِثْبَاتِهِ، وَمَنْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ كَانَتْ يَمِينُهُ عَلَى الْعِلْمِ فِي نَفْيِهِ وَعَلَى الْقَطْعِ فِي إِثْبَاتِهِ.
فَعَلَى هَذَا يَحْلِفُ وَارِثُ الزَّوْجِ فَيَقُولُ: وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُهُ تَزَوَّجَهَا عَلَى صَدَاقِ أَلْفَيْنِ، وَلَقَدْ تَزَوَّجَهَا عَلَى صَدَاقِ أَلْفٍ.(9/499)
وَيَقُولُ وَارِثُ الزَّوْجَةِ: وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُهُ تَزَوَّجَهَا عَلَى صَدَاقِ أَلْفٍ، وَلَقَدْ تَزَوَّجَهَا عَلَى صَدَاقِ أَلْفَيْنِ.
فَإِنْ كَانَ الْوَرَثَةُ جَمَاعَةً حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَمِينًا عَلَى مَا وَصَفْنَا وَلَمْ يَنُبْ أَحَدُهُمْ عَنْ غَيْرِهِ فِيهَا، فَإِنْ حَلَفَ بَعْضُهُمْ وَنَكَلَ بَعْضُهُمْ أَجْرَى عَلَى الْحَالِفِ حُكْمَهُ وَعَلَى النَّاكِلِ حُكْمَهُ.
وَلَوْ مَاتَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ وَكَانَ الْآخَرُ بَاقِيًا تَحَالَفَ الْبَاقِي مِنْهُمَا وَوَارِثُ الْمَيِّتِ، وَكَانَتْ يَمِينُ الْبَاقِي عَلَى الْقَطْعِ فِي نَفْيِهِ وَإِثْبَاتِهِ، وَيَمِينُ الْوَارِثِ عَلَى الْعِلْمِ فِي نَفْيِهِ، وَعَلَى الْقَطْعِ فِي إِثْبَاتِهِ.
فَصْلٌ
فَأَمَّا إِذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الْمَهْرِ بَيْنَ أَبَوَيِ الزَّوْجَيْنِ الصَّغِيرَيْنِ فَإِنْ حُكِمَ بِالصَّدَاقِ فِي مَالِ الزَّوْجِ إِمَّا لِيَسَارِهِ وَإِمَّا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي إِعْسَارِهِ فَلَا تَحَالُفَ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ الْأَبَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَهُ الصَّغِيرَ بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَلَا يَجُوزُ لِأَبِ الزَّوْجَةِ الصَّغِيرَةِ أَنْ يُزَوِّجَهَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، فَبَطَلَ التَّحَالُفُ وَوَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ، لِأَنَّ أَبَا الزَّوْجِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهِ، وَأَبَا الزَّوْجَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْقُصَ مِنْهُ.
وَإِنْ حُكِمَ بِالصَّدَاقِ عَلَى أَبِي الزَّوْجِ جَازَ التَّحَالُفُ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَبْذُلَ الْأَبُ مِنْ مَالِهِ على ابْنِهِ أَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ.
فَعَلَى هَذَا لِأَبِي الزَّوْجِ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ صِغَرِ ابْنِهِ وَمَعَ كِبَرِهِ، وَهَلْ يَجُوزُ لِأَبِي الزَّوْجَةِ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ صِغَرِهَا أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ.
فَصْلٌ
وَإِذَا اخْتَلَفَ زَوْجُ الْأَمَةِ وَسَيِّدُهَا فِي قَدْرِ صَدَاقِهَا تَحَالَفَ عَلَيْهِ الزَّوْجُ وَالسَّيِّدُ دُونَ الزَّوْجَةِ، لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلسَّيِّدِ دُونَهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ مُدَبَّرَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ، وَلَوْ كَانَتْ مُكَاتَبَةً كَانَتْ هِيَ الْمُحَالِفَةَ دُونَ السَّيِّدِ، لِأَنَّ مَهْرَ الْمُكَاتَبَةِ لَهَا، وَمَهْرَ الْمُدَبَّرَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ لِسَيِّدِهَا.
الْقَوْلُ فِي اخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ فِي قَبْضِ الْمَهْرِ
مَسْأَلَةٌ
قَالَ الشافعي: " وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ مَا قَبَضَتْ مَهْرَهَا لِأَنَّهُ حقٌّ مِنَ الْحُقُوقِ فَلَا يَزُولُ إِلَّا بِإِقْرَارِ الَّذِي لَهُ الْحَقُّ وَمَنْ إِلَيْهِ الْحَقُّ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
إِذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي قبض الْمَهْرُ مَعَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى قَدْرِهِ، فَقَالَ الزَّوْجُ: قَدْ أَقْبَضْتُكِ مَهْرَكِ، وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ لَمْ أَقْبِضْهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجَةِ مَعَ يَمِينِهَا أَنَّهَا لَمْ تَقْبِضْهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ، أَوْ قَبْلَ الزِّفَافِ أَوْ بَعْدَهُ.(9/500)
وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ بِالْمَدِينَةِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ قَبْلَ الزِّفَافِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الزِّفَافِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ.
وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ اسْتِدْلَالًا بِالْعُرْفِ أَنَّهَا لَا تُسَلِّمُ نَفْسَهَا غَالِبًا إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ الْمَهْرِ، فَكَانَ الظَّاهِرُ بَعْدَ الدُّخُولِ وَالزِّفَافِ مَعَ الزَّوْجِ فَقُبِلَ قَوْلُهُ، وَقَبْلَ الدُّخُولِ وَالزِّفَافِ مَعَ الزَّوْجَةِ فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ.
وَهَذَا فَاسِدٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ " وَالزَّوْجُ مُدَّعٍ فَكُلِّفَ الْبَيِّنَةَ، وَالزَّوْجَةُ مُنْكِرَةٌ فَكُلِّفَتِ الْيَمِينَ، وَلِأَنَّ مَنْ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ حَقٌّ لِغَيْرِهِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي دَفْعِهِ كَالدُّيُونِ.
فَأَمَّا الِاعْتِبَارُ بِالْعَادَةِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ عَادَاتِ النَّاسِ فِيهِ مُخْتَلِفَةٌ، ثُمَّ لَوِ اتَّفَقَتْ لَمَا تَعَلَّقَ بِهَا حُكْمٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ مُشْتَرِي السِّلْعَةِ إِذَا ادَّعَى دَفْعَ ثَمَنِهَا بَعْدَ قَبْضِهَا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، وَإِنْ جَرَتِ الْعَادَةُ بِأَنَّ السِّلْعَةَ لَا تُسَلَّمُ إِلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ الثَّمَنِ مِنْهُ.
وَلَوِ ادَّعَى الرَّاهِنُ قَضَاءَ الدَّيْنِ بَعْدَ رَدِّ الرَّهْنِ عَلَيْهِ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، وَإِنْ جَرَتِ الْعَادَةُ أَنَّ الرَّهْنَ لَا يُرَدُّ إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ الدَّيْنِ، كَذَلِكَ الزَّوْجَةُ.
إِذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي نَوْعِ الْمَدْفُوعِ مَهْرٍ أَوْ هدية؟
مسألة
قال الشافعي: " فَإِنْ قَالَتِ الْمَرْأَةُ الَّذِي قَبَضْتُ هديةٌ وَقَالَ بَلْ هُوَ مهرٌ فَقَدْ أَقَرَّتْ بمالٍ وَادَّعَتْ مِلْكَهَ فَالْقَوْلُ قَوْلِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
إِذَا دَفَعَ الزَّوْجُ إِلَيْهَا مَالًا ثُمَّ اخْتَلَفَا فِيهِ فَقَالَتِ الزَّوْجَةُ: أَخَذْتُهُ هِبَةً وَصَدَاقِي بَاقٍ، وَقَالَ الزَّوْجُ: بَلْ دَفَعْتُهُ صَدَاقًا.
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِ الصَّدَاقِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مِمَّا جَرَتِ الْعَادَةُ بِمُهَادَاةِ الزَّوْجِ بِمِثْلِهِ أَمْ لَا.
وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَ مِمَّا جَرَتِ الْعَادَةُ أَنْ يَهْدِيَهُ الزَّوْجُ لِلزَّوْجَةِ كَالثَّوْبِ وَالْمَقْنَعَةِ وَالطِّيبِ وَالْحُلِيِّ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ وَلَهَا الْمُطَالَبَةُ بِمَهْرِهَا.
وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ الْأَمْوَالَ لَا تُتَمَلَّكُ عَلَى أَرْبَابِهَا بِالدَّعَاوَى، وَلِأَنَّهَا لَوِ ادَّعَتْ هِبَةَ ذَلِكَ وَقَدْ قَبَضَتْ مَهْرَهَا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا فَكَذَلِكَ قَبْلَ قَبْضِهِ.
وَقَدْ مَضَى الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنَ الْعُرْفِ.
فَصْلٌ
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ دُونَهَا، فَإِنِ ادَّعَتْ أَنَّهُ صَرَّحَ لَهَا بِالْهِبَةِ كَانَ لَهَا(9/501)
إِحْلَافُهُ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتْ عَلَيْهَا، وَحُكِمَ لَهَا إِنْ حَلَفَتْ.
وَإِنْ لَمْ تَدَّعِ أَنَّهُ صَرَّحَ لَهَا بِالْهِبَةِ، بَلْ قَالَتْ: نَوَاهَا وَأَرَادَهَا وَلَمْ يَتَلَفَّظْ بِهَا، فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْهِبَةَ لَا تَصِحُّ بِالنِّيَّةِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ يَمِينٌ فِي دَعْوَى هِبَةٍ فَاسِدَةٍ.
فَإِذَا جَعَلْنَا الْقَوْلَ قَوْلَهُ: لَمْ يَخْلُ حَالُ مَا أَقْبَضَهَا مِنْ حَالَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ صَدَاقِهَا، لِأَنَّهُ دَرَاهِمُ وَقَدْ دَفَعَ إِلَيْهَا دَرَاهِمَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ بِضَامِنِ صَدَاقِهَا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ صَدَاقِهَا، لِأَنَّهُ دَرَاهِمُ وَقَدْ دَفَعَ إِلَيْهَا دَنَانِيرَ فَتَكُونُ الدَّنَانِيرُ لَهُ وَالصَّدَاقُ عَلَيْهِ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي أَنَّهَا أَخَذَتِ الدَّنَانِيرَ بَدَلًا مِنْ صَدَاقِهَا، فَإِنِ ادَّعَى ذَلِكَ عَلَيْهَا أَحْلَفَهَا.
القول مَنْ أَبْرَأُ لِلزَّوْجِ مِنَ الْمَهْرِ إِذَا دَفَعَهُ لولي الزوجة؟
مسألة
قال الشافعي: " وَيَبْرَأُ بِدَفْعِ الْمَهْرِ إِلَى أَبِي الْبِكْرِ صَغِيرَةً كانت أو كبيرةً التي يلي أبوها بعضها وَمَالَهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ:
اعْلَمْ أَنَّ الْأَبَ إِذَا قَبَضَ مَهْرَ ابْنَتِهِ، لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْلًى عَلَيْهَا أَوْ رَشِيدَةً.
فَإِنْ كَانَ مَوْلًى عَلَيْهَا لِصِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ أَوْ سَفَهٍ: جَازَ لَهُ قَبْضُ مَهْرِهَا، لِاسْتِحْقَاقِهِ الْوِلَايَةَ عَلَى مَالِهَا، وَلَوْ قَبَضَتْهُ مِنْ زَوْجِهَا لَمْ يَصِحَّ، وَلَمْ يَبْرَأِ الزَّوْجُ مِنْهُ إِلَّا أَنْ يُبَادِرَ الْأَبُ إِلَى أَخْذِهِ مِنْهَا، فَيَبْرَأُ الزَّوْجُ حِينَئِذٍ مِنْهُ.
وَإِنْ كَانَتْ بَالِغَةً عَاقِلَةً رَشِيدَةً فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ ثَيِّبًا لَا تُجْبَرُ عَلَى النِّكَاحِ فَلَيْسَ لِلْأَبِ قَبْضُ مَهْرِهَا إِلَّا بِإِذْنِهَا، فَإِنْ قَبَضَهُ بغير إذنها لم يبر الزوج منه، كما لو قبض لا دَيْنًا أَوْ ثَمَنًا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ بكراً بجبرها أَبُوهَا عَلَى النِّكَاحِ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ قبض مهرها إلا بإذنها، فإن قبضه بغير إذن لم يبر الزَّوْجُ مِنْهُ، وَجَعَلَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا قَبْضَ مَهْرِهَا لِأَنَّهُ يَمْلِكُ إِجْبَارَهَا عَلَى النِّكَاحِ كَالصَّغِيرَةِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَهُ قَبْضُ مَهْرِهَا بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا مَا لَمْ تَنْهَهُ عَنْهُ، وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ عِنْدَنَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ صَدَاقَهَا دَيْنٌ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْفَرِدَ الْأَبُ بِقَبْضِهِ مَعَ رُشْدِهَا كَسَائِرِ الدُّيُونِ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَمْلِكْ قَبْضَ دَيْنِهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْضُ مَهْرِهَا كَغَيْرِ الْأَبِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ مَلَكَ الْقَبْضَ بِغَيْرِ إِذْنٍ لَمَا أَثَّرَ فِيهِ النَّهْيُ كَحَالِهِ مَعَ الصَّغِيرَةِ، وَإِذَا أَثَّرَ فِيهِ النَّهْيُ لَمْ يَمْلِكْهُ بِغَيْرِ إِذْنٍ كَالْوَكِيلِ، وَاللَّهُ أعلم.(9/502)
الشرط في المهر من كتاب الصداق ومن كتاب الطلاق، ومن الإملاء على مسائل مالكٍ
إذا أصدقها ألفاُ على أن لأبيها ألفاً
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَإِذَا عُقِدَ النِّكَاحُ بألفٍ عَلَى أَنَّ لِأَبِيهَا أَلْفًا فَالْمَهْرُ فاسدٌ لأن الألف ليس بمهرٍ لها ولا يحق لَهُ بِاشْتِرَاطِهِ إِيَّاهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
إذا تزوجا عَلَى صَدَاقِ أَلْفٍ عَلَى أَنَّ لِأَبِيهَا أَلْفًا، لَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ دَفْعُ الْأَلْفِ إِلَى الْأَبِ، وَيَبْطُلُ بِهِ الصَّدَاقُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: الصَّدَاقُ صَحِيحٌ عَلَى أَلْفٍ، وَالشَّرْطُ لَازِمٌ لِلْأَبِ، وَعَلَى الزَّوْجِ لَهُ أَلْفٌ بِالشَّرْطِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: الشَّرْطُ بَاطِلٌ فِي حَقِّ الْأَبِ، وَيَصِيرُ الْأَلْفَانِ مَعًا صَدَاقًا لِلزَّوْجَةِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى مَالِكٍ فِي بُطْلَانِ الشَّرْطِ أَنَّ شُرُوطَ الْعُقُودِ مَا كَانَتْ فِي حَقِّ الْمَعْقُودِ أَوِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ الْأَبُ وَاحِدًا مِنْهُمَا، فَلَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ لَهُ كَمَا لَوْ شَرَطَهُ أَجْنَبِيٌّ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى قَتَادَةَ فِي أَنَّ مَا شَرَطَهُ الْأَبُ لَا يَصِيرُ صَدَاقًا لِلزَّوْجَةِ: هُوَ أَنَّ مَا لَمْ يُجْعَلْ صَدَاقًا مُسَمًّى لَمْ يَجُزْ أَنْ يَصِيرَ صَدَاقًا مُسَمًّى كَالْمَشْرُوطِ لِغَيْرِ الْأَبِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَا شَرَطَهُ لِلْأَبِ، زِيَادَةً فِي الصَّدَاقِ لَكَانَ مَا شَرَطَ عَلَى الْأَبِ نُقْصَانًا مِنَ الصَّدَاقِ، وَهَذَا بَاطِلٌ فِي الشَّرْطِ عَلَيْهِ، فبطل في الشرط له.
فصل: هل يبطل النكاح ببطلان الصداق؟
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الشَّرْطَ بَاطِلٌ فِي حَقِّ الْأَبِ بِخِلَافِ مَا قَالَهُ " قَتَادَةُ "، وَبَاطِلٌ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ بِخِلَافِ مَا قَالَهُ " مَالِكٌ "، كَانَ الصَّدَاقُ بَاطِلًا، لِأَنَّ لِلشَّرْطِ تَأْثِيرًا فِي النُّقْصَانِ مِنْهُ، وَقَدْرُهُ مَجْهُولٌ، فَأَفْضَى إِلَى جَهَالَةِ جَمِيعِ الصَّدَاقِ، وَإِذَا صَارَ الصَّدَاقُ مَجْهُولًا بَطَلَ، وَلَمْ يَبْطُلِ النِّكَاحُ، وَكَانَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ.
فَإِنْ طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ كَانَ لَهَا نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ، لِأَنَّهُ قَدْ سَمَّى لَهَا صَدَاقًا فَاسِدًا.
مسألة
قال الشافعي: " وَلَوْ نَكَحَ امْرَأَةً عَلَى ألفٍ وَعَلَى أَنْ يُعْطِيَ أَبَاهَا أَلْفًا كَانَ جَائِزًا وَلَهَا مَنْعُهُ وأخذها منه لأنها هبةٌ ل تقبض أو وكالةٌ ".
وقال الْمَاوَرْدِيُّ: ذَكَرَ الْمُزَنِيُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى صُورَةِ التي قبلها خالف بَيْنَهُمَا فِي الْجَوَابِ فَقَالَ: وَلَوْ نَكَحَهَا عَلَى أَلْفٍ وَعَلَى أَنْ يُعْطِيَ أَبَاهَا أَلْفًا كَانَ جائزاً.(9/503)
وقال في الأولى: ولو عقد نكاحا بِأَلْفٍ عَلَى أَنَّ لِأَبِيهَا أَلْفًا فَالْمَهْرُ فَاسِدٌ. وَهُمَا فِي الصُّورَةِ سَوَاءٌ، وَفِي الْجَوَابِ مُخْتَلِفَانِ.
فَذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ الْمُزَنِيَّ أَخْطَأَ فِي نَقْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَأَنَّ هَذَا الْجَوَابَ مَسْطُورٌ لِلشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفَيْنِ عَلَى أَنْ يُعْطِيَ أَبَاهَا أَلْفًا مِنْهَا، أَوْ تُعْطِيَ أَبَاهَا أَلْفًا مِنْهَا، فَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُعْطِيَةَ لِلْأَلْفِ فَهِيَ هِبَةٌ لِلْأَبِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُعْطِيَ لِلْأَلْفِ احْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ هِبَةً لِلْأَبِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ وَكَالَةً يَتَوَلَّى قَبْضَهَا الْأَبُ فَيَكُونُ الصَّدَاقُ جَائِزًا، لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَلْفَيْنِ صَدَاقٌ، وَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ هَذَا الشَّرْطُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ لِنَفْسِهِ عَلَيْهَا، وَلَا اشْتَرَطَ لَهَا عَلَى نَفْسِهِ.
وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الشَّرْطُ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي زِيَادَةِ الصَّدَاقِ وَلَا نُقْصَانِهِ، فَسَلِمَ مِنَ الْجَهَالَةِ، فَلِذَلِكَ صَحَّ.
فَأَمَّا مَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ فَخَطَأٌ، وَجَوَابُهُ كَجَوَابِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، لِتَمَاثُلِهِمَا فِي الصُّورَةِ. وَالَّذِي عِنْدِي أَنَّ نَقْلَ الْمُزَنِيِّ صَحِيحٌ، وَأَنَّهُ مُتَأَوَّلٌ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ، وَمَحْمُولُ الْجَوَابِ عَلَى مَا صَوَّرُوهُ، لأن في لفظ المسألة دليل عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ وَهُوَ الْمُفَرِّقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ وَعَلَى أَنْ يُعْطِيَ أَبَاهَا أَلْفًا، وَقَالَ فِي الْأُولَى: وَلَوْ عَقَدَ نِكَاحَهَا بِأَلْفٍ عَلَى أَنَّ لِأَبِيهَا أَلْفًا. فَجَعَلَ لِأَبِيهَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَبْضَ الْأَلْفِ، وَجَعَلَ لِأَبِيهَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مِلْكَ الْأَلْفِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَلْفَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ صَدَاقٌ لِلزَّوْجَةِ فَلِذَلِكَ صَحَّ، وَفِي الْأُولَى إِحْدَاهُمَا صَدَاقٌ لَهَا وَالْأُخْرَى لِلْأَبِ، فَلِذَلِكَ بَطَلَ.
ثُمَّ يُوَضِّحُ أَنَّ نَقْلَ الْمُزَنِيِّ صَحِيحٌ وَأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، مَا ذَكَرَهُ فِي الْحُكْمِ وَبَيَّنَهُ مِنَ التعليل، لأنه قال: ولما مَنْعُهُ وَأَخْذُهَا مِنْهُ، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ الزَّوْجَ مِنْ دَفْعِ مَالِهِ، وَلَا لَهَا أَنْ تَأْخُذَ غَيْرَ صَدَاقِهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَلْفَيْنِ كَانَتْ صَدَاقًا لَهَا، ثُمَّ بَيَّنَ فِي التَّعْلِيلِ فَقَالَ: لِأَنَّهَا هِبَةٌ لَمْ تُقْبَضْ، أَوْ وَكَالَةٌ لَمْ تَتِمَّ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ كَانَ مَعْقُودًا عَلَى أَنْ تَهَبَ هِيَ مِنَ الْأَلْفَيْنِ أَلْفًا لِأَبِيهَا، أَوْ تُوَكِّلَهُ فِي قَبْضِهَا فَكَانَتْ عَلَى خِيَارِهَا فِي أَنْ تُتَمِّمَ الْهِبَةَ بِالْقَبْضِ أَوْ تَرْجِعَ فِيهَا، أَوْ تُتَمِّمَ الْوَكَالَةَ أَوْ تُبْطِلَهَا.
وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ مِثْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْأُمِّ يُرِيدُ بِهَا مَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّأْوِيلِ فَقَالَ: وَلَوْ أَصْدَقَهَا أَلْفَيْنِ عَلَى أَنْ يُعْطِيَ أَبَاهَا أَلْفًا وَأُمَّهَا أَلْفًا كَانَ الْكُلُّ لِلزَّوْجَةِ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْكُلُّ لَهَا إِذَا كَانَ الْكُلُّ صَدَاقًا تَكُونُ لَهَا بِالتَّسْمِيَةِ لَا بِالشَّرْطِ بِخِلَافِ مَا قَالَ مَالِكٌ.
فَصْلٌ: فِي الشروط التي تدخل النكاح
مسألة
قال الشافعي: " وَلَوْ أَصْدَقَهَا أَلْفًا عَلَى أَنَّ لَهَا أَنْ تخرج أو على أن لا يخرجها من بلدها أو على أن لا يَنْكِحَ عَلَيْهَا أَوْ لَا يَتَسَرَّى أَوْ شَرَطَتْ عَلَيْهِ مَنْعَ مَالِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ فَلَهَا مَهْرُ(9/504)
مثلها في ذلك كله فإن كان قد زادها على مهر مثلها وزادها الشرط أبطلت الشرط ولم أجعل لها الزيادة لفساد عقد المهر بالشرط ألا ترى لو اشترى عبداً بمائة دينار وزق خمرٍ فمات العبد في يد المشتري ورضي البائع أن يأخذ المائة ويبطل الزق الخمر لم يكن له ذلك لأن الثمن انعقد بما لا يجوز فبطل وكانت له قيمة العبد ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الشَّرْطَ فِي النِّكَاحِ ضَرْبَانِ: جَائِزٌ، وَمَحْظُورٌ.
فَأَمَّا الْجَائِزُ: فَمَا وَافَقَ حُكْمَ الشَّرْعِ فِي مُطْلَقِ الْعَقْدِ، مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهَا أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَسَرَّى عَلَيْهَا، أَوْ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا، أَوْ يُسَافِرَ بِهَا، أَوْ أَنْ يُطَلِّقَهَا إِذَا شَاءَ، أَوْ أَنْ تَشْتَرِطَ هي عليه، أو يُوَفِّيَهَا صَدَاقَهَا، أَوْ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا نَفَقَةَ مِثْلِهَا، أَوْ يَقْسِمَ لَهَا مَعَ نِسَائِهِ بِالسَّوِيَّةِ.
فَكُلُّ هَذِهِ الشُّرُوطِ جَائِزَةٌ، وَالنِّكَاحُ مَعَهَا صَحِيحٌ، والمسمى فيه من الصداق لازم، لأن من شَرَطَهُ الزَّوْجُ مِنْهَا لِنَفْسِهِ يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ بغر شَرْطٍ فَكَانَ أَوْلَى بِأَنْ يَجُوزَ مَعَ الشَّرْطِ.
وَمَا شَرَطَتْهُ الزَّوْجَةُ عَلَيْهِ يَلْزَمُهُ بِغَيْرِ شَرْطٍ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَلْزَمَهُ الشَّرْطُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ أَحَقَّ مَا وَفَّيْتُمْ بِهِ مِنَ الشُّرُوطِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ ".
وَأَمَّا الْمَحْظُورُ مِنْهَا: فَمَرْدُودٌ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كُلُّ شرطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ باطلٌ وَلَوْ كَانَ مِائَةَ شرطٍ، شَرْطُ اللَّهِ أَحَقُّ وَعَقْدُهُ أَوْثَقُ ".
وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْمُؤْمِنُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إِلَّا شَرْطًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا ".
وَالشُّرُوطُ الْمَحْظُورَةُ تَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا يَبْطُلُ بِهِ النكاح.
الثاني: مَا يَبْطُلُ بِهِ الصَّدَاقُ.
وَالثَّالِثُ: مَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ لِاخْتِلَافِ مُشْتَرِطِهِ.
وَالرَّابِعُ: مَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فيه.(9/505)
فَصْلٌ: الْقَوْلُ فِي الشُّرُوطِ الَّتِي تُبْطِلُ النِّكَاحَ
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَا يُبْطِلُ النِّكَاحَ فَهُوَ كُلُّ شَرْطِ رَفَعَ مَقْصُودَ الْعَقْدِ، مِثْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا طَالِقٌ رَأْسَ الشَّهْرِ، أَوْ إِذَا قَدِمَ زَيْدٌ، أَوْ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ بِيَدِهَا تُطَلِّقُ نَفْسَهَا مَتَى شَاءَتْ.
فَالنِّكَاحُ بِهَذِهِ الشُّرُوطِ بَاطِلٌ، سَوَاءٌ كَانَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ مِنْ جِهَتِهِ أَوْ مِنْ جِهَتِهَا، لِأَنَّهَا رَافِعَةٌ لِمَقْصُودِ الْعَقْدِ مِنَ الْبَقَاءِ وَالِاسْتِدَامَةِ فَصَارَ النِّكَاحُ بِهَا مُقَدَّرَ الْمُدَّةِ، فَجَرَى مَجْرَى نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، فَكَانَ بَاطِلًا
فَصْلٌ: الْقَوْلُ فِي الشُّرُوطِ الَّتِي تبطل الصداق دون النكاح
وأما القسم الثاني: وهو أن يُبْطِلُ الصَّدَاقَ دُونَ النِّكَاحِ: فَهُوَ كُلُّ شَرْطٍ خَالَفَ حُكْمَ الْعَقْدِ، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ.
وَالثَّانِي: مَا كَانَ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَةِ.
فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ: فَمِثْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى أن لا يَقْسِمَ لَهَا مَعَ نِسَائِهِ، أَوْ عَلَى أَنَّ تُخَفِّفَ عَنْهُ نَفَقَتَهَا وَكُسْوَتَهَا، أَوْ تُنْظِرَهُ بِهِمَا.
وفي حكم ذلك: أن يشترط عليها أن لا تُكَلِّمَ أَبَاهَا وَلَا أَخَاهَا، فَهَذِهِ كُلُّهَا شُرُوطٌ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهَا مِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي تُحَلِّلُ حَرَامًا أَوْ تُحَرِّمُ حَلَالًا، وَاخْتَصَّتْ بِالصَّدَاقِ دُونَ النِّكَاحِ، لِأَنَّ مَقْصُودَ النِّكَاحِ مَوْجُودٌ مَعَهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ الصَّدَاقُ بِهَا، لِأَنَّهَا قَابَلَتْ مِنْهُ جُزْءًا إِذْ كَأَنَّهُ زَادَهَا فِيهِ لِأَجْلِهَا.
وَإِذَا أَوْجَبَ بُطْلَانَهَا بَطَلَ مَا قَابَلَهَا مِنْهُ وَهُوَ مَجْهُولٌ، صَارَ الْبَاقِي بِهَا مَجْهُولًا، فَبَطَلَ، وَكَانَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، سَوَاءٌ كَانَ أَكْثَرَ مِمَّا سَمَّى أَوْ أَقَلَّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ أَكْثَرَ مِنَ الْمُسَمَّى لَمْ أُوجِبْ لَهَا إِلَّا الْمُسَمَّى وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ مِنْ أَصْحَابِنَا، لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِهِ مَعَ اشْتِرَاطِهِ عَلَيْهَا فَلِأَنْ تَرْضَى بِهِ مَعَ عَدَمِ الشُّرُوطِ أَوْلَى.
وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ سُقُوطَ الْمُسَمَّى بِالْفَسَادِ إِذَا أَوْجَبَ الرُّجُوعَ إِلَى الْقِيمَةِ اسْتُحِقَّتْ وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنَ الْمُسَمَّى كَمَنْ قَبَضَ عَبْدًا اشْتَرَاهُ بِأَلْفٍ عَلَى شُرُوطٍ فَاسِدَةٍ شَرَطَهَا عَلَى بَائِعِهِ ثُمَّ تَلِفَ الْعَبْدُ فِي يَدِهِ وَقِيمَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ ثَمَنِهِ اسْتُحِقَّتْ عَلَيْهِ الْقِيمَةُ دُونَ الْمُسَمَّى وَإِنْ كَانَتِ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ، كَذَلِكَ هَاهُنَا.
وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَةِ.
فَمِثْلُ أَنْ تَشْتَرِطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا أَوْ أَنْ لَا يَتَسَرَّى بِالْإِمَاءِ وَأَنْ لَا يُسَافِرَ بِهَا.(9/506)
فَهَذِهِ شُرُوطٌ فَاسِدَةٌ لِأَنَّهَا مَنَعَتْهُ مِمَّا لَهُ فِعْلُهُ، وَتَوَجَّهَتْ إِلَى الصَّدَاقِ دُونَ وُجُودِ مَقْصُودِ النِّكَاحِ مَعَهَا.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلِلصَّدَاقِ الْمُسَمَّى حالان:
أحدهما: أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، فَيَبْطُلُ الْمُسَمَّى لِبُطْلَانِ الشُّرُوطِ الَّتِي قَابَلَهَا جُزْءٌ مِنْهُ فَصَارَ بِهِ مَجْهُولًا، وَيَجِبُ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الْمُسَمَّى مِنَ الصَّدَاقِ أَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ فَفِيمَا تَسْتَحِقُّهُ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهَا تَسْتَحِقُّ مَهْرَ الْمِثْلِ تَعْلِيلًا بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ بُطْلَانِ الْمُسَمَّى بِمَا قَابَلَهُ مِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي صَارَ بِهَا مَجْهُولًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ إِنَّهَا تَسْتَحِقُّ المسمى لأن لا يَجْتَمِعَ عَلَيْهَا بَخْسَانِ: بَخْسٌ بِإِسْقَاطِ الشُّرُوطِ، وَبَخْسٌ بِنُقْصَانِ الْمَهْرِ.
وَلِأَنَّهَا لَمْ تَرْضَ مَعَ مَا شَرَطَتْ إِلَّا بِزِيَادَةِ مَا سَمَّتْ فَإِذَا مُنِعَتِ الشُّرُوطَ لَمْ تُمْنَعِ الْمُسَمَّى.
فَصْلٌ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ
: وَهُوَ مَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِاخْتِلَافِ مُشْتَرِطِهِ، فَهُوَ مَا مَنَعَ مَقْصُودَ الْعَقْدِ فِي إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى، فَمِثْلُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ لَا يَطَأَهَا فَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ مِنْ جِهَتِهَا، فَتَزَوَّجَتْهُ عَلَى أَنْ لَا يَطَأَهَا فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ، لِأَنَّهَا قَدْ مَنَعَتْهُ مَا اسْتَحَقَّهُ عَلَيْهَا، مِنْ مَقْصُودِ الْعَقْدِ.
وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ مِنْ جِهَتِهِ، فَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ لَا يَطَأَهَا فَالنِّكَاحُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ صَحِيحٌ، لِأَنَّ لَهُ الِامْتِنَاعَ عن وَطْئِهَا بِغَيْرِ شَرْطٍ، فَلَمْ يَكُنْ فِي الشَّرْطِ مَنْعٌ مِنْ مُوجَبِ الْعَقْدِ.
وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَطَأَهَا فِي النِّكَاحِ مَرَّةً وَاحِدَةً، عَلَى قَوْلِهِ إِذَا شَرَطَ عَلَيْهَا أَنْ لَا يَطَأَهَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ كَمَا لَوْ شَرَطَتْ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَأَهَا.
وَلَيْسَ هَذَا بِصَحِيحٍ لِمَا ذَكَرَهُ فِي بَابِ الْعِنِّينِ.
فَأَمَّا إِذَا كَانَ الشَّرْطُ أَنْ يَطَأَهَا لَيْلًا دُونَ النَّهَارِ، فَقَدْ حَكَى أَبُو الطَّيِّبِ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيِّ أَنَّهُ إِنْ شَرَطَ الزَّوْجُ عَلَيْهَا ذَلِكَ صَحَّ الشَّرْطُ، لِأَنَّهُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، وَإِنْ شَرَطَتِ الزَّوْجَةُ ذَلِكَ بَطَلَ النِّكَاحُ، لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مَقْصُودَ الْعَقْدِ، وَهَذَا صَحِيحٌ. وَلَا يُخَالِفُ فِيهِ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ.
فَأَمَّا إِنْ كَانَ الشَّرْطُ أَنْ لَا يَقْسِمَ لَهَا:
فَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَتِهَا صَحَّ النِّكَاحُ، لِأَنَّ لَهَا الْعَفْوَ عَنِ الْقَسْمِ.(9/507)
وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَتِهِ بَطَلَ النِّكَاحُ إِنْ كَانَ مَعَهَا غَيْرُهَا، وَصَحَّ إِنِ انْفَرَدَ بِنَفْسِهَا، لِأَنَّهَا تَسْتَحِقُّ الْقَسْمَ مَعَ غَيْرِهَا وَلَا تَسْتَحِقُّهُ بِانْفِرَادِهَا.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ الشَّرْطُ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهَا سَنَةً:
فَقَدْ قَالَ الرَّبِيعُ: إِنْ كَانَ الشَّرْطُ مِنْ جِهَتِهِ صَحَّ النِّكَاحُ، لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ مِنَ الدُّخُولِ بِغَيْرِ شَرْطٍ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَتِهَا بَطَلَ النِّكَاحُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَمْنَعَهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، فَصَارَ الشَّرْطُ مَانِعًا مِنْ مَقْصُودِ الْعَقْدِ.
وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ شَهْرٍ فَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ صَحَّ الْعَقْدُ، لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَةِ بَطَلَ الْعَقْدُ، لِأَنَّهُ مَنَعَ مِنِ اسْتِدَامَةِ الْعَقْدِ.
وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يُخَالِعَهَا بَعْدَ شَهْرٍ.
فَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ مِنْ جِهَتِهَا بَطَلَ الْعَقْدُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَتِهِ فَفِي بُطْلَانِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ قَدْ أَوْجَبَ عَلَيْهَا بِالْخُلْعِ بَذْلَ مَا لَا يَلْزَمُهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ، لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ مَقْصُودِ الْعَقْدِ، فَصَارَ عَائِدًا إِلَى الصَّدَاقِ، فَبَطَلَ بِهِ الصَّدَاقُ، وَكَانَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ.
فَصْلٌ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ
: وَهُوَ مَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ فَهُوَ مَا رَفَعَ بدل الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ وَذَلِكَ شَأْنُ الصَّدَاقِ وَالنَّفَقَةِ.
فَإِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ لَا نَفَقَةَ لَهَا أَبَدًا.
فَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ مِنْ جِهَتِهَا تَوَجَّهَ إِلَى الصَّدَاقِ دُونَ النِّكَاحِ، لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهَا إِنْ تَرَكَتْهُ جَازَ، فَلِذَلِكَ تَوَجَّهَ إِلَى الصَّدَاقِ دُونَ النِّكَاحِ فَيَبْطُلُ الصَّدَاقُ بِبُطْلَانِ الشَّرْطِ فِي النَّفَقَةِ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِاشْتِرَاطِ سُقُوطِهِ، وَالنِّكَاحُ جَائِزٌ وَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ وَالنَّفَقَةُ.
وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ فَهَلْ يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَادِحٌ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ فَيَكُونُ بَاطِلًا، لِأَنَّ ذَلِكَ مَقْصُودُ الْعَقْدِ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَةِ فَصَارَ كَالْوَلِيِّ الَّذِي هُوَ مَقْصُودُ الْعَقْدِ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ غَيْرُ قَادِحٍ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ، لِجَوَازِ خُلُوِّ النِّكَاحِ مِنْ صَدَاقٍ وَنَفَقَةٍ، فَعَلَى هَذَا يَخْتَصُّ هَذَا الشَّرْطُ بِفَسَادِ الصَّدَاقِ دُونَ النِّكَاحِ، وَيُحْكَمُ لَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ. وَاللَّهُ أعلم.
الْقَوْلُ فِي شُرُوطِ الْخِيَارِ فِي النِّكَاحِ
مَسْأَلَةٌ
قال الشافعي: " وَلَوْ أَصْدَقَهَا دَارًا وَاشْتَرَطَ لَهُ أَوْ لَهُمَا الْخِيَارَ فِيهَا كَانَ الْمَهْرُ فَاسِدًا ".(9/508)
قال الماوردي: اعْلَمْ أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ لَا يَدْخُلُهُ خِيَارُ الْمَجْلِسِ، وَلَا خِيَارُ الثَّلَاثِ لِأَنَّهُ يَنْعَقِدُ نَاجِزًا لَا تُقْصَدُ فِيهِ الْمُغَابَنَةُ وَالْخِيَارُ مَوْضُوعٌ لِاسْتِدْرَاكِ الْمُغَابَنَةِ.
فَإِنْ شَرَطَ فِيهِ أَحَدَ الْخِيَارَيْنِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَشْتَرِطَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ بِاشْتِرَاطِهِ فِيهِ لِمُنَافَاتِهِ لَهُ فِي اللُّزُومِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا فِي الصَّدَاقِ دُونَ النِّكَاحِ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ، وَنَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا: إِنَّ الصَّدَاقَ بَاطِلٌ وَالنِّكَاحَ جَائِزٌ.
وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ: النِّكَاحُ بَاطِلٌ.
فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اخْتِلَافِ نَصِّهِ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ:
فَخَرَّجَهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّدَاقَ بَاطِلٌ وَالنِّكَاحَ جَائِزٌ، لِأَنَّ بُطْلَانَ الصَّدَاقِ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ لِبُطْلَانِ الصَّدَاقِ، وَلَمْ يُحْكَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ أَبْطَلَ النِّكَاحَ لِبُطْلَانِ الصَّدَاقِ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؛ لِأَنَّ دُخُولَ الْخِيَارِ فِي الْبَدَلِ كَدُخُولِهِ فِي الْمُبْدَلِ.
وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا: لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ.
فَالْمَوْضِعُ الَّذِي أَبْطَلَ فِيهِ النِّكَاحَ إِذَا كَانَ الْخِيَارُ مَشْرُوطًا فِي النِّكَاحِ.
وَالْمَوْضِعُ الَّذِي أَبْطَلَ فِيهِ الصَّدَاقَ وَأَجَازَ النِّكَاحَ، إِذَا كَانَ الْخِيَارُ مَشْرُوطًا فِي الصَّدَاقِ دُونَ النِّكَاحِ لِأَنَّ الصَّدَاقَ عَقْدٌ يَصِحُّ إِفْرَادُهُ عَنِ النِّكَاحِ كَمَا يَصِحُّ إِفْرَادُ النِّكَاحِ عَنْهُ فَلَمْ يُوجِبْ بُطْلَانُ الصَّدَاقِ بُطْلَانَ النِّكَاحِ.
فَإِذَا قِيلَ بِبُطْلَانِ النِّكَاحِ، فَلَا مَهْرَ، فَإِنْ أَصَابَهَا فَعَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا. وَإِذَا قِيلَ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ: فَقَدْ حَكَى أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ فِي الصَّدَاقِ والخيار لأصحابنا ثلاثة أوجه: ولم أو غَيْرَهُ يَحْكِيهِ، لِأَنَّ نَصَّ الشَّافِعِيِّ لَا يَقْتَضِيهِ.
أَحَدُهَا: هُوَ أَنَّ الْخِيَارَ بَاطِلٌ وَالصَّدَاقَ بَاطِلٌ، وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، لِأَنَّهُ لَمَّا امْتَنَعَ دُخُولُ الْخِيَارِ فِي النِّكَاحِ امْتَنَعَ دُخُولُهُ فِي بَدَلِهِ، وَالْخِيَارُ إِذَا دَخَلَ فِيمَا يُنَافِيهِ أَبْطَلَهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ خِلَافُ نَصِّهِ: أَنَّ الصَّدَاقَ جَائِزٌ، وَالْخِيَارَ ثَابِتٌ، لِأَنَّ الصَّدَاقَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَصِحُّ إِفْرَادُهُ فَجَرَى حُكْمُهُ حُكْمَ الْخِيَارِ فِيهِ مَجْرَاهُ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ.(9/509)
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْخِيَارَ بَاطِلٌ وَالصَّدَاقَ جَائِزٌ، لأن الصداق تبع للنكاح فيثبت ثبوته، وَلَمْ يَقْدَحْ فِيهِ بُطْلَانُ الشَّرْطِ.
فَصْلٌ
فَأَمَّا إِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى صَدَاقِ أَلْفٍ عَلَى أَنَّهُ إِنْ جَاءَهَا بِالْأَلْفِ فِي يَوْمِ كَذَا وَإِلَّا فَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا، فَهَذَا نِكَاحٌ بَاطِلٌ، وَصَدَاقٌ بَاطِلٌ، وَشَرْطٌ بَاطِلٌ.
وَحُكِيَ عَنْ طَاوُسٍ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ: أَنَّ الشَّرْطَ بَاطِلٌ وَالنِّكَاحَ جَائِزٌ.
وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ: أَنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ وَالشَّرْطَ ثَابِتٌ. وَهَذَا قَوْلٌ فَاسِدٌ بِمَا قَدَّمْنَاهُ في كتاب البيوع.
ضَمَانُ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ مِنَ الزَّوْجِ الْمِلْطِ
مَسْأَلَةٌ
قال الشافعي: " ولو ضمن نفقتها أبو الزوج عَشْرَ سِنِينَ فِي كُلِّ سنةٍ كَذَا لَمْ يَجُزْ ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ وَأَنَّهُ مَرَّةٌ أَقَلُّ وَمَرَّةٌ أَكْثَرُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
إذا كان الزوج ملطاً بِنَفَقَةِ زَوْجَتِهِ وَضَمِنَهَا عَنْهُ أَبُوهُ أَوْ غَيْرُ أَبِيهِ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ فَسَوَاءٌ.
وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَضْمَنَ نَفَقَةَ مَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ، فَهَذَا ضَمَانُ مَالٍ قَدْ وَجَبَ وَاسْتَقَرَّ، فَيَصِحُّ ضَمَانُهُ إِذَا كَانَ مَعْلُومَ الْقَدْرِ، وَمِنْ جِنْسٍ يَسْتَقِرُّ ثُبُوتُهُ فِي الذِّمَّةِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَضْمَنَ نَفَقَةَ الْمُسْتَقْبَلِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَجْهُولَ الْمُدَّةِ، مِثْلَ أَنْ يَضْمَنَ لَهَا نَفَقَتَهَا أَبَدًا، فَهَذَا ضَمَانٌ بَاطِلٌ، لِأَنَّ ضَمَانَ الْمَجْهُولِ بَاطِلٌ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْمُدَّةِ مِثْلَ أَنْ يَضْمَنَ لَهَا نَفَقَتَهَا عَشْرَ سِنِينَ فَفِي الضَّمَانِ قَوْلَانِ، بَنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ بِمَاذَا وَجَبَتْ.
فَأَحَدُ قَوْلَيْهِ وَهُوَ فِي الْقَدِيمِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ: أَنَّهَا وَجَبَتْ بِالْعَقْدِ وَحْدَهُ وَتَسْتَحِقُّ قَبْضَهَا بِالتَّمْكِينِ الْحَادِثِ بَعْدَهُ كَالصَّدَاقِ الْوَاجِبِ بِالْعَقْدِ وَالْمُسْتَحَقِّ بِالتَّمْكِينِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّهَا تَجِبُ بِالتَّمْكِينِ الْحَادِثِ بَعْدَ الْعَقْدِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ بِخِلَافِ الصداق، لأن الصداق ف مُقَابَلَةِ الْعَقْدِ فَصَارَ وَاجِبًا بِالْعَقْدِ وَالنَّفَقَةُ فِي مُقَابَلَةِ الِاسْتِمْتَاعِ فَصَارَتْ وَاجِبَةً بِالِاسْتِمْتَاعِ.
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْقَوْلَانِ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ كَانَ ضَمَانُهَا مبنياً عليهما.(9/510)
فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا لَا تَجِبُ إِلَّا بِالتَّمْكِينِ يَوْمًا بِيَوْمٍ، فَضَمَانُهَا بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ وَقَدْ يَجِبُ بِالتَّمْكِينِ، وَقَدْ لَا يَجِبُ بَعْدَهُ.
وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّهَا وَقَدْ وَجَبَتْ بِالْعَقْدِ جُمْلَةً وَتَسْتَحِقُّ قَبْضَهَا بِالتَّمْكِينِ يَوْمًا بِيَوْمٍ، صَحَّ ضَمَانُهَا بِشَرْطَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ضَمَانُهُ لِلْقُوتِ الَّذِي هُوَ الْحَبُّ مِنَ الْحِنْطَةِ أَوِ الشَّعِيرِ بِحَسْبِ قُوتِ بَلَدِهِمْ دُونَ الْأُدْمِ وَالْكُسْوَةِ، لِأَنَّهُمَا لَا يُضْبَطَانِ بِصِفَةٍ وَلَا يُتَقَدَّرَانِ بِقِيمَةٍ فَإِنْ قَدَّرَهُمَا الْحَاكِمُ بِقِيمَةٍ جَعَلَهُمَا دَرَاهِمَ مَعْلُومَةً لَمْ يَصِحَّ ضَمَانُهَا أَيْضًا، لِأَنَّهُ وَإِنْ قَوَّمَهَا فَهِيَ مُقَوَّمَةٌ لِوَقْتِهَا دُونَ الْمُسْتَقْبَلِ، وَقَدْ تَزِيدُ الْقِيمَةُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَيَكُونُ لِلزَّوْجَةِ الْمُطَالَبَةُ بِفَضْلِ الْقِيمَةِ، وَقَدْ يَنْقُصُ فَيَكُونُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَنْقُصَهَا مِنَ الْقِيمَةِ.
وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ضَمَانُهُ لِنَفَقَةِ الْمُعْسِرِ الَّتِي لَا تَسْقُطُ عَنِ الزَّوْجِ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِ وَهِيَ مُدٌّ وَاحِدٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ، فَإِنْ ضَمِنَ لَهَا نَفَقَةَ مُوسِرٍ وَهِيَ مُدَّانِ، أَوْ نَفَقَةَ مُتَوَسِّطٍ وَهِيَ مُدٌّ وَنِصْفٌ فَالزِّيَادَةُ عَلَى نَفَقَةِ الْمُعْسِرِ قَدْ تَجِبُ إِنْ أَيْسَرَ، وَقَدْ لَا تَجِبُ إِنْ أَعْسَرَ، فَصَارَ ضَمَانُهَا ضَمَانَ مَا لَمْ يَجِبْ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الضَّمَانُ فِيمَا زَادَ عَلَى الْمُدِّ فِي نَفَقَةِ الْمُعْسِرِ بَاطِلًا، وَهَلْ يَبْطُلُ فِي الْمُدِّ الَّذِي هُوَ نَفَقَةُ الْمُعْسِرِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصِّفَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ
قَالَ الشافعي: " وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ ضَمِنْتُ لَكِ مَا دَايَنْتِ بِهِ فُلَانًا أَوْ مَا وَجَبَ لَكِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ ضَمِنَ مَا لَمْ يَكُنْ وَمَا يَجْهَلُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مِنَ الضَّمَانِ أَوْرَدَهَا الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا، لِأَنَّهُ أَصْلٌ يُبْنَى عَلَيْهِ ضَمَانُ النَّفَقَةِ.
وَضَمَانُ الْأَمْوَالِ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: ضَمَانُ مَا وَجَبَ.
وَالثَّانِي: ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ.
فَأَمَّا ضَمَانُ مَا وَجَبَ فَضَرْبَانِ: مَعْلُومٌ وَمَجْهُولٌ.
فَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا صَحَّ. وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا بَطَلَ.
وَأَمَّا ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ كَقَوْلِهِ: مَنْ عَامَلَ فُلَانًا وَدَايَنَهُ فَعَلَيَّ ضَمَانُ دَيْنِهِ.
فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ ضَمَانٌ بَاطِلٌ، سَوَاءٌ عَيَّنَ الْمُدَايِنَ أَوْ لَمْ يُعَيِّنْهُ، وَسَوَاءٌ ذَكَرَ لِلدَّيْنِ قَدْرًا أَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ، لِأَنَّ الضَّمَانَ لَازِمٌ إِنْ صَحَّ، وَمَا لَمْ يَجِبْ فَلَيْسَ بِلَازِمٍ فَلَمْ يَصِحَّ ضَمَانُهُ.(9/511)
فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ ضَمَانُ الدَّرَكِ صَحِيحٌ وَهُوَ ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ؟ .
قِيلَ: الدَّرَكُ إِذَا اسْتُحِقَّ فَوُجُوبُهُ قَبْلَ الضَّمَانِ وَهُوَ مَعْلُومُ الْقَدْرِ، فَصَارَ ضَمَانُهُ ضَمَانًا وَاجِبًا مَعْلُومًا.
فَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي ضَمَانِ مَا لَمْ يَجِبْ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي الْحَالِ أَنَّهُ بَاطِلٌ.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: يَصِحُّ ضَمَانٌ مَا لَمْ يَجِبْ بِشَرْطَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لِإِنْسَانٍ مُعَيَّنٍ، فَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ لَمْ يَصِحَّ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي مَعْلُومٍ مُقَدَّرٍ، فَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ مُقَدَّرٍ لَمْ يَصِحَّ اعْتِبَارًا بِضَمَانِ الدَّرَكِ.
وَلَيْسَ لِهَذَا الْجَمْعِ وَجْهٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الدَّرَكِ يَقْتَضِي وُجُوبَهُ قَبْلَ الضَّمَانِ فَصَحَّ، وَمَا تَعَامَلَ بِهِ مُسْتَحَقٌّ بَعْدَ الضَّمَانِ فَلَمْ يصح، والله أعلم.(9/512)
باب عفو المهر وغير ذلك من الجامع ومن كتاب الصداق، ومن الإملاء على مسائل مالكٍ
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوا الَّذِي بِيَدِِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) {قَالَ) وَالَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ الزَّوْجُ وَذَلِكَ أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْفُو مِنْ مِلْكٍ فَجَعَلَ لَهَا مِمَّا وَجَبَ لَهَا مِنْ نِصْفِ الْمَهْرِ أَنْ تَعْفُوَ وَجَعَلَ لَهُ أَنْ يَعْفُوَ بِأَنْ يُتِمَّ لها الصداق وبلغنا مِنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه أن الذي بيده عقدة النكاح الزوج وهو قول شريح وسعيد بن جبيرٍ وروي عن ابن المسيب وهو قول مجاهدٍ (قال الشافعي) رحمه الله فأما أبو بكر وأبو المحجور عليه فلا يجوز عفوهما كما لا تجوز لهما هبة أموالهما ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ هَذَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) {البقرة: 237) . وَهَذَا خِطَابٌ لِلْأَزْوَاجِ فِي طَلَاقِ النِّسَاءِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَهُوَ أُولَى الطَّلَاقَيْنِ لِمَنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ كَارِهًا.
ثُمَّ قال: {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} يَعْنِي: سَمَّيْتُمْ لَهُنَّ صَدَاقًا: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} فِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ لَكُمْ تَسْتَرْجِعُونَهُ مِنْهُنَّ.
وَالثَّانِي: فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ لَهُنَّ لَيْسَ عَلَيْكُمْ غَيْرُهُ لَهُنَّ.
ثُمَّ قَالَ: {إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوا} وَهَذَا خِطَابٌ لِلزَّوْجَاتِ عَدَلَ بِهِ بَعْدَ ذِكْرِ الْأَزْوَاجِ إِلَيْهِنَّ وَنَدَبَهُنَّ فِيهِ إِلَى الْعَفْوِ عَنْ حَقِّهِنَّ مِنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ، لِيَكُونَ عَفْوُ الزَّوْجَةِ أَدْعَى إِلَى خِطْبَتِهَا، وَتَرْغِيبِ الْأَزْوَاجِ فِيهَا.
ثُمَّ قال: {أَوْ يَعْفُوا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} وَفِيهِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ: إِنَّ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ هُوَ الْوَلِيُّ أَبُو الْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ أَوْ جَدُّهَا، لِأَنَّهُ لَمَّا نَدَبَ الْكَبِيرَةَ إِلَى الْعَفْوِ نَدَبَ وَلِيَّ الصَّغِيرَةِ إِلَى مِثْلِهِ، لِيَتَسَاوَيَا فِي تَرْغِيبِ الْأَزْوَاجِ فيهما.(9/513)
وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي التَّابِعِينَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَمُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَطَاوَسٍ.
وَفِي الْفُقَهَاءِ قَوْلُ رَبِيعَةَ، وَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ هُوَ الزَّوْجُ، نَدَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الْعَفْوِ كَمَا نَدَبَهَا، لِيَكُونَ عَفْوُهُ تَرْغِيبًا لِلنِّسَاءِ فِيهِ، كَمَا كَانَ عَفْوُهَا تَرْغِيبًا لِلرِّجَالِ فِيهَا.
وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ.
وَمِنَ التَّابِعِينَ: شُرَيْحٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالشَّعْبِيُّ.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَأَبِي حَنِيفَةَ.
ثُمَّ قَالَ: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلْتَقْوَى) {البقرة: 237) . وَفِي الْمَقْصُودِ بِهَذَا الْخِطَابِ قَوْلَانِ لِأَهْلِ التَّأْوِيلِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ.
فَيَكُونُ الْعَفْوُ الْأَوَّلُ خِطَابًا لِلزَّوْجَةِ، وَالْعَفْوُ الثَّانِي خِطَابًا لِلزَّوْجِ، وَالْعَفْوُ الثَّالِثُ خِطَابًا لَهُمَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلزَّوْجِ وَحْدَهُ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ فَيَكُونُ الْعَفْوُ الْأَوَّلُ خِطَابًا لِلْكَبِيرَةِ، وَالْعَفْوُ الثَّانِي خِطَابًا لِوَلِيِّ الصَّغِيرَةِ، وَالْعَفْوُ الثَّالِثُ خِطَابًا لِلزَّوْجِ وَحْدَهُ.
وَفِي قَوْلِهِ: {أَقْرَبُ لِلْتَقْوَى} تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَقْرَبُ لِاتِّقَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ظُلْمَ صَاحِبِهِ.
وَالثَّانِي: أَقْرَبُ إِلَى اتِّقَاءِ أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي نَدْبِهِ.
ثُمَّ قَالَ: {وَلاَ تَنْسَوْا الفَضْلَ بَيْنكُمْ} أَيْ تَفَضُّلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ بِمَا نَدَبَ إِلَيْهِ مِنَ الْعَفْوِ وَنَبَّهَ عَلَى اسْتِعْمَالِ مِثْلِهِ فِي كُلِّ حَقٍّ بَيْنَ مُتَخَاصِمَيْنِ.
فَهَذَا تَأْوِيلُ الْآيَةِ.
فَصْلٌ
فَأَمَّا تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فِي الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ: فَاسْتَدَلَّ مَنْ نَصَرَ قَوْلَهُ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ وَلِيُّ الصَّغِيرَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ مِنَ الْآيَةِ بِأَرْبَعَةِ دَلَائِلَ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ افْتَتَحَهَا بِخِطَابِ الْأَزْوَاجِ مُوَاجَهَةً، ثم عدل بقول: {إِلاَّ أَنْ يُعْفُونَ} إِلَى خِطَابِ الزَّوْجَاتِ كِنَايَةً، ثُمَّ أرسلَ قَوْلَهُ: {أَوْ يَعْفُوا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} خطاباً لمكني(9/514)
عَنْهُ غَيْرِ مُوَاجَهٍ، وَالْخِطَابُ إِذَا عَدَلَ بِهِ عَنِ الْمُوَاجَهَةِ إِلَى الْكِنَايَةِ اقْتَضَى ظَاهِرُهُ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى غَيْرِ الْمُوَاجَهِ، وَالزَّوْجُ مُوَاجَهٌ فَلَمْ تَعُدْ إِلَيْهِ الْكِنَايَةُ، وَالزَّوْجَةُ قَدْ تَقَدَّمَ حُكْمُهَا، وَلَفْظُ الْكِنَايَةِ مُذَكَّرٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهَا فَلَمْ يَبْقَ مَنْ يَتَوَجَّهُ الْخِطَابُ إِلَيْهِ غَيْرُ الْوَلِيِّ.
وَالدَّلِيلُ الثَّانِي مِنَ الْآيَةِ قَوْلُهُ: {أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهَ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} وَلَيْسَ أَحَدٌ بَعْدَ الطَّلَاقِ بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ، إِلَّا الْوَلِيُّ، لِأَنَّهُ يَمْلِكُ أَنْ يُزَوِّجَهَا، فَاقْتَضَى أَنْ يَتَوَجَّهَ الْخِطَابُ إِلَيْهِ وَلَا يَتَوَجَّهَ إِلَى الزَّوْجِ الَّذِي لَيْسَ الْعَقْدُ إِلَيْهِ، لِيَكُونَ الْخِطَابُ مَحْمُولًا عَلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ غَيْرِ إِضْمَارٍ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى مَجَازٍ وَإِضْمَارٍ.
وَالدَّلِيلُ الثَّالِثُ مِنَ الْآيَةِ: أَنَّ الَّذِي يَخْتَصُّ بِهِ الْوَلِيُّ مِنَ النِّكَاحِ أَنْ يَمْلِكَ عَقْدَهُ، وَالَّذِي يَخْتَصُّ بِهِ الزَّوْجُ أَنْ يَمْلِكَ الِاسْتِمْتَاعَ بَعْدَهُ، فَكَانَ حَمْلُ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ عَلَى الْوَلِيِّ الَّذِي يَمْلِكُ عَقْدَهُ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الزَّوْجِ الَّذِي يَمْلِكُ الِاسْتِمْتَاعَ بَعْدَهُ.
وَالدَّلِيلُ الرَّابِعُ مِنَ الْآيَةِ: أَنَّ الزَّوْجَ غَارِمٌ لِلْبَاقِي مِنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ تَقْبِضُهُ الْكَبِيرَةُ وَوَلِيُّ الصَّغِيرَةِ فَكَانَ تَوَجُّهُ الْعَفْوِ إِلَى مُسْتَحِقِّ الْغُرْمِ أَوْلَى مِنْ تَوَجُّهِهِ إِلَى مُلْتَزِمِ الْغُرْمِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا نَدَبَ الزَّوْجَةَ إِلَى الْعَفْوِ لِمَا تَحْظَى بِهِ مِنْ رَغْبَةِ الْأَزْوَاجِ فِيهَا، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ وَلِيُّ الصَّغِيرَةِ مَنْدُوبًا إِلَى مِثْلِ مَا نُدِبَتْ إِلَيْهِ الْكَبِيرَةُ لِيَتَسَاوَيَا فِي عَوْدِ الْحَظِّ إِلَيْهِمَا بِتَرْغِيبِ الْأَزْوَاجِ فِيهِمَا.
فَصْلٌ
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ: أَنَّ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ هُوَ الزَّوْجُ دُونَ الْوَلِيِّ الْآيَةُ وَمِنْهَا خَمْسَةُ أَدِلَّةٍ:
أَحَدُهَا: قَوْله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِِِهِ عُقْدَةٌ النِّكَاحِ} وَالْعُقْدَةُ عِبَارَةٌ عَنِ الْأَمْرِ الْمُنْعَقِدِ، وَمِنْهُ حَبْلٌ مَعْقُودٌ، وَعَهْدٌ مَعْقُودٌ، لِمَا قَدِ اسْتَقَرَّ عَقْدُهُ وَنَجُزَ، وَالنِّكَاحُ بَعْدَ الْعَقْدِ يَكُونُ بِيَدِ الزَّوْجِ دُونَ الْوَلِيِّ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أُمِرَ بِالْعَفْوِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِنَّمَا يَعْفُو مَنْ مَلَكَ وَالزَّوْجُ هُوَ الْمَالِكُ دُونَ الْوَلِيِّ، فَاقْتَضَى أَنْ يَتَوَجَّهَ الْخِطَابُ بِالْعَفْوِ إِلَيْهِ لَا إِلَى الْوَلِيِّ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ حَقِيقَةَ الْعَفْوِ هُوَ التَّرْكُ، وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ إِلَّا مِنَ الزَّوْجِ، لِأَنَّهُ مَلَكَ بِالطَّلَاقِ أَنْ يَتَمَلَّكَ نِصْفَ الصَّدَاقِ، فَإِذَا تَرَكَ أَنْ يَتَمَلَّكَ لَمْ يَمْلِكْ، فَأَمَّا الْوَلِيُّ فَعَفْوُهُ إِمَّا أَنْ يكون هبة إن كان عيناً، أو إبراءاً إِنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ فَصَارَ حَقِيقَةُ الْعَفْوِ أَخَصَّ بِالزَّوْجِ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْمَجَازِ فِي الْوَلِيِّ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ إِذَا تَوَجَّهَ بِالْعَفْوِ إِلَى الزَّوْجِ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى عُمُومِهِ فِي كُلِّ زَوْجٍ مُطَلِّقٍ، وَإِذَا تَوَجَّهَ إِلَى الْوَلِيِّ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ فِي بَعْضِ الزَّوْجَاتِ وَهُوَ الْأَبُ وَالْجَدُّ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ مَعَ الصَّغِيرَةِ الْبِكْرِ الَّتِي لَمْ يُدْخَلْ بِهَا دون سائر(9/515)
الزَّوْجَاتِ، فَكَانَ حَمْلُ الْخِطَابِ عَلَى مَا يُوجِبُ الْعُمُومَ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى مَا يُوجِبُ الْخُصُوصَ.
وَالْخَامِسُ قَوْلُهُ: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلْتَّقْوَى} وَهَذَا الْخِطَابُ غَيْرُ مُتَوَجَّهٍ إِلَى الْوَلِيِّ، لِأَنَّ قُرْبَهُ مِنَ التَّقْوَى أَنْ يَحْفَظَ مَالَ مَنْ يَلِي عَلَيْهِ لَا أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ وَيَبْرَأَ مِنْهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ الزَّوْجُ دُونَ الْوَلِيِّ وَهُوَ رَاجِعٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَهُ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْمُتَقَدِّمُ قَبْلَهُ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ هُوَ الزَّوْجَ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ: مَا رَوَاهُ ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَلِيُّ عَقْدِ النِّكَاحِ الزَّوْجُ " وَهَذَا نَصٌّ.
وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، رَوَى شُرَيْحٌ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ الزَّوْجُ.
وَرَوَى أَبُو سَلَمَةَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي فِهْرٍ فَطَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا، وَأَرْسَلَ إِلَيْهَا صَدَاقَهَا كَامِلًا، وَقَالَ: أَنَا أَحَقُّ بِالْعَفْوِ مِنْهَا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} .
وَهَذَا قَوْلُ صَحَابِيَّيْنِ، فَإِنْ قِيلَ: خَالَفَهُمَا ابْنُ عباس.
قيل: قد اختلف عَنْهُ الرِّوَايَةُ فَتَعَارَضَتَا وَثَبَتَ خِلَافُهُ فَصَارَ الْإِجْمَاعُ بِغَيْرِهِ مُنْعَقِدًا.
وَمِنْ طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ الزَّوْجَيْنِ مُتَكَافِئَانِ فِيمَا أُمِرَا بِهِ وَنُدِبَا إِلَيْهِ، فَلَمَّا نُدِبَتِ الزَّوْجَةُ إِلَى الْعَفْوِ تَرْغِيبًا لِلرِّجَالِ فِيهَا اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ مَنْدُوبًا إِلَى مِثْلِهِ تَرْغِيبًا لِلنِّسَاءِ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ مَلَكَ الْأَبُ الْعَفْوَ لَمَلَكَهُ غَيْرُهُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، وَلَوْ مَلَكَهُ فِي الْبِكْرِ لَمَلَكَهُ فِي الثَّيِّبِ، وَلَوْ مَلَكَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ لَمَلَكَهُ بَعْدَهُ، وَلَوْ مَلَكَهُ بَعْدَ الطَّلَاقِ لَمَلَكَهُ قَبْلَهُ، وَلَوْ مَلَكَهُ فِي الْمَهْرِ لَمَلَكَهُ فِي الدَّيْنِ.
وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّ مَنْ لَمْ يَمْلِكِ الْعَفْوَ عَنْ مَهْرِهَا إِذَا كَانَتْ ثَيِّبًا لَمْ يَمْلِكْهُ إِذَا كَانَتْ بِكْرًا كَالْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ طَرْدًا، وَكَالسَّيِّدِ فِي أَمَتِهِ عَكْسًا.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّمَا اخْتَصَّ بِهِ الْأَبُ فِي الْبِكْرِ لِاخْتِصَاصِهِ بِإِجْبَارِهَا عَلَى النِّكَاحِ.
قِيلَ: قَدْ يَمْلِكُ إِجْبَارَ الْمَجْنُونَةِ وَالْبِكْرِ وَلَا يَمْلِكُ الْعَفْوَ عَنْ صَدَاقِهَا، وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يَمْلِكِ الْعَفْوَ عَنِ الْمَهْرِ بَعْدَ الدُّخُولِ لَمْ يَمْلِكْهُ قَبْلَهُ، كَالصَّغِيرَةِ طَرْدًا وَالْكَبِيرَةِ عَكْسًا.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا لَمْ يَمْلِكْهُ بَعْدَ الدُّخُولِ لِاسْتِهْلَاكِ بُضْعِهَا بِالدُّخُولِ.
قِيلَ: لَا فَرْقَ فِي رَدِّ عَفْوِهِ بَيْنَ مَا كَانَ فِي مُقَابَلَةِ رَدِّ بَدَلٍ كَالثَّمَنِ، وَبَيْنَ مَا كَانَ بِغَيْرِ بَدَلٍ كَالْمِيرَاثِ.(9/516)
وَلِأَنَّهُ مَالٌ لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ لِوَلِيِّهِ الْعَفْوُ عَنْهُ كَالثَّمَنِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا عَفَا عَنِ الْمَهْرِ، لِأَنَّهُ أَفَادَهَا إِيَّاهُ.
قِيلَ: لَوِ اتَّجَرَ لَهَا بِمَالٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْ رِبْحِهِ وَإِنْ أَفَادَهَا إِيَّاهُ.
فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ.
فَإِنْ قُلْنَا بِالْقَدِيمِ: إِنَّ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ هُوَ الْوَلِيُّ صَحَّ عَفْوُهُ، بِاجْتِمَاعِ خَمْسَةِ شَرَائِطَ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ أَبًا أَوْ جَدًّا مِمَّنْ يَلِي عَلَى بُضْعِهَا وَمَالِهَا، فَإِنْ عَفَا غَيْرُهُمَا مِنَ الْعَصَبَاتِ لَمْ يَصِحَّ.
وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ بِكْرًا يَصِحُّ إِجْبَارُ الْأَبِ لَهَا عَلَى النِّكَاحِ، فَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا لَمْ يَصِحَّ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ تكون صغيرة تبتت الْوَلَايَةُ عَلَى مَالِهَا، فَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً تَمْلِكُ النَّظَرَ فِي مَالِهَا لَمْ يَصِحَّ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ عَفْوُهُ بَعْدَ الطَّلَاقِ الَّذِي تَمْلِكُ بِهِ نَفْسَهَا، فَإِنْ عَفَا قَبْلَهُ لَمْ يَصِحَّ.
وَالْخَامِسُ: أن يكون الطلاق قبل الدخول، لأن لا يُسْتَهْلَكَ عَلَيْهَا بُضْعُهَا، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ لَمْ يَصِحَّ.
فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ الْخَمْسَةُ صَحَّ حِينَئِذٍ عَفْوُهُ.
وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ الزَّوْجُ صَحَّ عَفْوُهُ، لِجَوَازِ أَمْرِهِ بِالْبُلُوغِ، وَالْعَقْلِ، وَالْحُرِّيَّةِ وَالرُّشْدِ.
فَأَمَّا الصَّغِيرُ: فَلَا تَبِينُ زَوْجَتُهُ مِنْهُ بِالطَّلَاقِ، وَلِأَنَّ طَلَاقَهُ لَا يَقَعُ، وَتَبِينُ مِنْهُ بِالرِّدَّةِ أَوْ بِالرَّضَاعِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ عَادَ جَمِيعُ صَدَاقِهَا إِلَيْهِ لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ مِنْ جِهَتِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ.
وَإِنْ كَانَ مَجْنُونًا وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِرِدَّتِهَا لَا غَيْرَ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا صَدَاقَ لَهَا.
وَإِنْ كَانَ عَبْدًا وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِطَلَاقِهِ، فَيَكُونُ فِي وُقُوعِهِ كَالْحُرِّ، وَتَقَعُ الْفُرْقَةُ بِرِدَّتِهَا.
وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِسَفَهٍ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِطَلَاقِهِ وَبِرِدَّتِهَا فَلَا يَصِحُّ عَفْوُ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ.
وَيَصِحُّ عَفْوُ سَيِّدِ الْعَبْدِ فَأَمَّا عَفْوُ وَلِيِّ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ وَالسَّفِيهِ فَلَا يَصِحُّ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ كَانَ عَفْوُ وَلِيِّ الزَّوْجَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:(9/517)
أَحَدُهُمَا: أَنَّ وَلِيَّ الزَّوْجَةِ هُوَ الَّذِي أَكْسَبَهَا الصَّدَاقَ بِعَقْدِهِ، فَصَحَّ مِنْهُ إِسْقَاطُهُ بِعَقْدِهِ، وَوَلِيَّ الزَّوْجِ مَا أَكْسَبَهُ مَا عَادَ مِنَ الصَّدَاقِ إِلَيْهِ فَلَمْ يَصِحَّ عَفْوُهُ عَنْهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَا عَادَ مِنَ الزَّوْجِ قَدْ كَانَ مَالَهُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ بَعْدَ عَوْدِهِ، وَصَدَاقُ الزَّوْجَةِ مِلْكٌ مُسْتَفَادٌ فَصَحَّ عَفْوُهُ بَعْدَ استحقاقه، والله أعلم.
مسألة
قال الشافعي: " وَأَيُّ الزَّوْجَيْنِ عَفَا عَمَّا فِي يَدَيْهِ فَلَهُ الرُّجُوعُ قَبْلَ الدَفْعِ أَوِ الرَّدُّ وَالتَّمَامُ أَفْضَلُ ".
قال الماوردي: وهذا كما قال.
إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ الرَّشِيدُ زَوْجَتَهُ الرَّشِيدَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ تُنُصِّفَ الصَّدَاقُ بَيْنَهُمَا، فَكَانَ لَهَا نِصْفُهُ بِالْعَقْدِ، وَصَارَ لِلزَّوْجِ نِصْفُهُ، وَفِيمَا يَصِيرُ بِهِ مَالِكًا لِنِصْفِهِ قَوْلَانِ مَضَيَا:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَصِيرُ مَالِكًا لِنِصْفِهِ بِنَفْسِ الطَّلَاقِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَلَكَ بِالطَّلَاقِ أَنْ يَتَمَلَّكَ نِصْفَ الصَّدَاقِ.
فَإِنْ لَمْ يَعْفُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَنْ حَقِّهِ تَقَاسَمَاهُ عَيْنًا كَانَ أَوْ فِي الذِّمَّةِ، وَإِنْ عَفَا وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الصَّدَاقِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَيْنًا أَوْ فِي الذِّمَّةِ.
فَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ فِي الذِّمَّةِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ، وَذَلِكَ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ.
- إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصْدَقَهَا مَالًا فِي الذِّمَّةِ.
- أَوْ أَصْدَقَهَا عَيْنًا تَلِفَتْ فِي يَدِهِ فَصَارَ غُرْمُهَا فِي الذِّمَّةِ.
فَلَا يَخْلُو حَالُ الْعَافِي مِنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الزَّوْجَ أَوِ الزَّوْجَةَ.
- فَإِنْ كَانَ الْعَافِي هِيَ الزوجة، فعفوها يكون إبراءاً مَحْضًا، وَيَصِحُّ بِأَحَدِ سِتَّةِ أَلْفَاظٍ:
إِمَّا أَنْ تَقُولَ: قَدْ عَفَوْتُ، أَوْ قَدْ أَبْرَأْتُ، أَوْ قَدْ تَرَكْتُ، أَوْ قَدْ أَسْقَطْتُ، أَوْ قَدْ مَلَّكْتُ، أَوْ قَدْ وَهَبْتُ.
فَبِأَيِّ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ السِّتَّةِ أَبْرَأَتْهُ صَحَّ وَلَمْ تَفْتَقِرْ إِلَى قَبُولِهِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ مِنْهُمْ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ رَجَاءٍ الْبَصْرِيُّ: الْإِبْرَاءُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبُولِ كَالْهِبَةِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:(9/518)
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِسْقَاطُ مِلْكٍ فَأَشْبَهَ الْعِتْقَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَفْوٌ فَأَشْبَهَ الْعَفْوَ عَنِ الْقِصَاصِ وَالشُّفْعَةِ.
وَإِنْ كَانَ الْعَافِي هُوَ الزَّوْجَ: فَعَفْوُهُ هِبَةٌ مَحْضَةٌ لَا يَصِحُّ مِنَ الْأَلْفَاظِ السِّتَّةِ إِلَّا بِإِحْدَى لَفْظَيْنِ: إِمَّا الْهِبَةِ وَإِمَّا التَّمْلِيكِ، وَلَا يَتِمُّ إِلَّا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ:
بِبَذْلِ الزَّوْجِ، وَقَبُولِ الزَّوْجَةِ، وَقَبْضٍ مِنَ الزَّوْجِ أَوْ وَكِيلِهِ فِيهِ إِلَى الزَّوْجَةِ أَوْ وَكِيلِهَا فِيهِ.
فَإِنْ لَمْ تَقْبِضْ فَلَهُ الرُّجُوعُ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: فَلَهُ الرُّجُوعُ قَبْلَ الدَّفْعِ.
فَصْلٌ: وَالضَّرْبُ الثَّانِي
: أَنْ يَكُونَ الصَّدَاقُ فِي ذِمَّةِ الزَّوْجَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَسْتَهْلِكَهُ بَعْدَ قَبْضِهِ فَيَصِيرُ نِصْفُهُ الْمُسْتَحَقُّ: بِالطَّلَاقِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، أَوْ بِاخْتِيَارِ تَمَلُّكِهِ بَعْدَ الطَّلَاقِ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي، مِلْكًا لِلزَّوْجِ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الْعَافِي مِنْهُمَا هُوَ الزَّوْجَ أَوِ الزَّوْجَةَ:
- فَإِنْ كَانَ الْعَافِي هُوَ الزَّوْجَ، تَرَتَّبَ عَفْوُهُ عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فِيمَا مَلَكَ بِالطَّلَاقِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ مَلَكَ بِالطَّلَاقِ نِصْفَ الصَّدَاقِ كَانَ عَفْوُهُ إِبْرَاءً مَحْضًا يَصِحُّ بِأَحَدِ الْأَلْفَاظِ السِّتَّةِ: إِمَّا بِالْعَفْوِ، أَوْ بِالْإِبْرَاءِ، أَوْ بِالتَّرْكِ، أَوِ الْإِسْقَاطِ، أَوِ التَّمْلِيكِ، أَوِ الْهِبَةِ، وَفِي اعْتِبَارِ قَبُولِهَا وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى.
وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ مَلَكَ بِالطَّلَاقِ أَنْ يَتَمَلَّكَ نِصْفَ الصَّدَاقِ، كَانَ عَفْوُهُ إِبْطَالًا لِتَمَلُّكِ الصَّدَاقِ، فَيَصِحُّ بِالْأَلْفَاظِ السِّتَّةِ الَّتِي يَصِحُّ بِهَا الْإِبْرَاءُ، أَوْ يَصِحُّ بِزِيَادَةِ لَفْظَتَيْنِ وَهُمَا: الْإِحْلَالُ، وَالْإِبَاحَةُ، فَيَصِيرُ عَفْوُهُ بِأَحَدِ ثَمَانِيَةِ أَلْفَاظٍ، وَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْقَبُولِ وَجْهًا وَاحِدًا لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِيهِ، كَمَا لَا يَفْتَقِرُ الْعَفْوُ عَنِ الشُّفْعَةِ وَالْقِصَاصِ إِلَى قَبُولٍ.
- وَإِنْ كَانَ الْعَافِي مِنْهُمَا هِيَ الزَّوْجَةَ، فَعَفْوُهَا هِبَةٌ مَحْضَةٌ تَصِحُّ بِإِحْدَى لَفْظَيْنِ: إِمَّا الْهِبَةِ أَوِ التَّمْلِيكِ، وَلَا تَتِمُّ إِلَّا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: بِالْبَذْلِ، وَالْقَبُولِ، وَالْقَبْضِ. فَإِنْ عَفَا الزَّوْجَانِ جَمِيعًا نُظِرَ.
- فَإِنْ كَانَ فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ غُلِّبَ عَفْوُ الزَّوْجَةِ عَلَى عَفْوِ الزَّوْجِ، لِأَنَّ عَفْوَ الزَّوْجَةِ إِبْرَاءٌ وَعَفْوَ الزَّوْجِ هِبَةٌ.
- وَإِنْ كَانَ فِي ذِمَّةِ الزَّوْجَةِ غُلِّبَ عَفْوُ الزَّوْجِ عَلَى عَفْوِ الزَّوْجَةِ، لِأَنَّ عَفْوَ الزَّوْجِ إِبْرَاءٌ، وَعَفْوَ الزَّوْجَةِ هِبَةٌ.
فَصْلٌ
وَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ عَيْنًا قَائِمَةً فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ الزَّوْجِ، فَلَا يَخْلُو الْعَافِي مِنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الزَّوْجَ أَوِ الزَّوْجَةَ.(9/519)
- فَإِنْ كَانَ الْعَافِي هِيَ الزَّوْجَةَ فَعَفْوُهَا هِبَةٌ مَحْضَةٌ لِنِصْفِ عَيْنٍ مُشْتَرَكَةٍ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، فَلَا تَصِحُّ إِلَّا بِإِحْدَى لَفْظَتَيْنِ: الْهِبَةِ أَوِ التَّمْلِيكِ، وَلَا تَتِمُّ إِلَّا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ وَرَابِعٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ وَهُوَ الْبَذْلُ، وَالْقَبُولُ، وَالْقَبْضُ، وَأَنْ يَمْضِيَ عَلَيْهِمَا بَعْدَهُ زَمَانُ الْقَبْضِ، وَهَلْ يَفْتَقِرُ إِلَى إِذْنِ الزَّوْجَةِ لَهُ بِالْقَبْضِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَفْتَقِرُ إِلَى إِذْنٍ بِالْقَبْضِ، لِأَنَّهُ فِي قَبْضِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا بُدَّ مِنْ إِذْنٍ بِالْقَبْضِ، لِأَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ مِلْكًا لَهَا فَلَمْ يَزُلْ حُكْمُ يَدِهِ إِلَّا بِإِذْنِهَا.
- وَإِنْ كَانَ الْعَافِي هُوَ الزَّوْجَ: تَرَتَّبَ عَفْوُهُ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَا مَلَكَهُ بِطَلَاقِهِ فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مَلَكَ بِهِ نِصْفَ الصَّدَاقِ كَانَ عَفْوُهُ هِبَةً مَحْضَةً لِمُشَاعٍ فِي يَدِهِ، فَيَصِحُّ بِإِحْدَى لَفْظَتَيْنِ إِمَّا بِالْهِبَةِ، أَوْ بِالتَّمْلِيكِ، وَلَا يَتِمُّ إِلَّا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ، وَالْقَبْضِ.
وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مَلَكَ بِالطَّلَاقِ أَنْ يَتَمَلَّكَ نِصْفَ الصَّدَاقِ، كَانَ عَفْوُهُ إِسْقَاطًا لِحَقِّهِ فِيهِ، فَيَصِحُّ بِإِحْدَى ثَمَانِيَةِ أَلْفَاظٍ مَضَتْ، وَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْقَبُولِ وَجْهًا وَاحِدًا.
فَصْلٌ: وَالضَّرْبُ الثَّانِي
: أَنْ يَكُونَ الصَّدَاقُ فِي يَدِ الزَّوْجَةِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْعَافِي مِنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الزَّوْجَ أَوِ الزَّوْجَةَ.
فَإِنْ كَانَ الْعَافِي هِيَ الزَّوْجَةَ: فَعَفْوُهَا هِبَةٌ مَحْضَةٌ لِمُشَاعٍ فِي يَدِهَا فَلَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْبَذْلِ، وَالْقَبُولِ، وَالْقَبْضِ، وَلَهَا قَبْلَ الْقَبْضِ الرُّجُوعُ.
وَإِنْ كَانَ الْعَافِي هُوَ الزَّوْجَ تَرَتَّبَ عَفْوُهُ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَا مَلَكَهُ بِطَلَاقِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا.
فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مَلَكَ نِصْفَ الصَّدَاقِ، كَانَ عَفْوُهُ هِبَةً مَحْضَةً لِمُشَاعٍ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، فَلَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْبَذْلِ، وَالْقَبُولِ، وَأَنْ يَمْضِيَ زَمَانُ الْقَبْضِ. وَهَلْ يَفْتَقِرُ إِلَى إِذْنٍ بِالْقَبْضِ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ، وَلَهُ الرُّجُوعُ قَبْلَ أَنْ يَمْضِيَ زَمَانُ الْقَبْضِ، وَهَلْ يَرْجِعُ بَعْدَهُ وَقَبْلَ الْإِذْنِ؟ عَلَى الْقَوْلَيْنِ.
وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مَلَكَ بِالطَّلَاقِ أَنْ يَتَمَلَّكَ نِصْفَ الصَّدَاقِ كَانَ عَفْوُهُ إِسْقَاطًا يَصِحُّ بِأَحَدِ الْأَلْفَاظِ الثَّمَانِيَةِ وَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْقَبُولِ وَجْهًا وَاحِدًا.
- فَإِنْ عَفَا الزَّوْجَانِ مَعًا لَمْ يَصِحَّ عَفْوُ الزَّوْجَةِ بِحَالٍ، لِأَنَّ عَفْوَهَا هِبَةٌ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبُولِ وَلَا يَصِحُّ عَفْوُ الزَّوْجِ إِنْ جَعَلْنَاهُ وَاهِبًا لِافْتِقَارِهِ إِلَى الْقَبُولِ، وَيَصِحُّ عَفْوُهُ إِنْ جَعَلْنَاهُ مُسْقِطًا، لِأَنَّ عفوه لا يفتقر إلى قبول.(9/520)
لو وهبت الزوجة صداقها لزوجها ثم طلقا قبل الدخول - تقسيم
مسألة
قال الشافعي: " (قَالَ) وَلَوْ وَهَبَتْ لَهُ صَدَاقَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا فَفِيهَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِهِ وَالْآخَرُ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ ملكه (قال المزني) رحمه الله: وقال في كتاب القديم لا يرجع إذا قبضته فوهبته له أو لم تقبضه لأن هبتها له إبراءٌ ليس كاستهلاكها إياه لو وهبته لغيره فبأي شيءٍ يرجع عليها فيما صار إليه؟ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا وَهَبَتْ لِزَوْجِهَا صَدَاقَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ طَلَاقًا يَمْلِكُ بِهِ نِصْفَ الصَّدَاقِ، لَمْ يَخْلُ الصَّدَاقُ الْمَوْهُوبُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ.
إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْنًا، أَوْ دَيْنًا.
فَإِنْ كَانَ عَيْنًا: فَسَوَاءٌ وَهَبَتْهُ قَبْلَ قَبْضِهِ أَوْ بَعْدَ قَبْضِهِ هَلْ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ بَدَلِهِ؟
فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ، وَأَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِهِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ وَهَبَتْهُ قَبْلَ قَبْضِهِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا، وَإِنْ وَهَبَتْهُ بَعْدَهُ رَجَعَ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ فِي الْأَعْيَانِ سَوَاءٌ، لِأَنَّ التَّصَرُّفَ فِيهِمَا قَبْضٌ.
- فَإِذَا قُلْنَا بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ فَوَجْهُهُ شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ تَعَجَّلَ الصَّدَاقَ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِهِ، كَمَا لَوْ تَعَجَّلَ دَيْنًا مُؤَجَّلًا.
وَالثَّانِي: أَنَّ هِبَتَهَا لِلصَّدَاقِ يَجْعَلُهَا كَالْمَنْكُوحَةِ بِغَيْرِ صَدَاقٍ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهَا رُجُوعًا بِالطَّلَاقِ.
- وَإِذَا قُلْنَا بِالْقَوْلِ الثَّانِي: إِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِهِ فَوَجْهُهُ شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَادَ الصَّدَاقُ إِلَيْهِ بِغَيْرِ السَّبَبِ الَّذِي اسْتَحَقَّ الرُّجُوعَ بِهِ فَلَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ مِنَ الرُّجُوعِ بِنِصْفِهِ كَمَا لَوِ ابْتَاعَهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا لَوْ وَهَبَتْ لَهُ غَيْرَ الصَّدَاقِ لَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ مِنَ الرُّجُوعِ بِنِصْفِهِ كَذَلِكَ إِذَا وَهَبَتْ لَهُ الصَّدَاقَ، لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مَالٌ لَهَا.
فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنْ قِيلَ: لَهُ الرُّجُوعُ فَسَوَاءٌ كَافَأَهَا عَلَى الْهِبَةِ أَمْ لَا فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ قِيمَةِ الصَّدَاقِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ، وَبِنِصْفِ مِثْلِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مثل.(9/521)
وَإِنْ قِيلَ: لَا رُجُوعَ، وَكَانَ قَدْ كَافَأَهَا عَلَى هِبَتِهِ فَفِي رُجُوعِهِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي وُجُوبِ الْمُكَافَأَةِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَرْجِعُ، إِذَا قِيلَ: إِنَّ الْمُكَافَأَةَ لَا تَجِبُ.
وَالثَّانِي: يَرْجِعُ، إِذَا قِيلَ: إِنَّ الْمُكَافَأَةَ تَجِبُ.
فَصْلٌ
وَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ دَيْنًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أحدهما: أنه تَهَبَهُ لِلزَّوْجِ بَعْدَ قَبْضِهِ مِنْهُ، فَيَكُونُ فِي حُكْمِ الصَّدَاقِ إِذَا كَانَ عَيْنًا فَوَهَبَتْهَا لَهُ فِي أَنَّ رُجُوعَهُ يَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ.
وَالضَّرْبُ الثاني: أن تبرئه مِنْهُ قَبْلَ قَبْضِهِ، فَإِذَا قِيلَ: لَا يَرْجِعُ مَعَ الْهِبَةِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَرْجِعَ مَعَ الْإِبْرَاءِ، وَإِذَا قِيلَ: يَرْجِعُ مَعَ الْهِبَةِ فَفِي رُجُوعِهِ مَعَ الْإِبْرَاءِ قَوْلَانِ.
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَ فِي رُجُوعِهِ عَلَيْهَا مَعَ الْهِبَةِ وَالْإِبْرَاءِ ثَلَاثَةَ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: يَرْجِعُ عَلَيْهَا، سَوَاءٌ وَهَبَتْ أَوْ أَبْرَأَتْ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا، سَوَاءٌ وَهَبَتْ أَوْ أَبْرَأَتْ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: يَرْجِعُ عَلَيْهَا، إِنْ وَهَبَتْ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا إِنْ أَبْرَأَتْ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْهِبَةِ وَالْإِبْرَاءِ: أَنَّ الْهِبَةَ تَصَرُّفٌ وَالْإِبْرَاءَ إِسْقَاطٌ، وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ أَوْلَى.
فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ بَعْضُ صَدَاقِهَا عَيْنًا وَبَعْضُهُ دَيْنًا فَوَهَبَتْ لَهُ الْعَيْنَ وَأَبْرَأَتْهُ مِنَ الدَّيْنِ، أَجْرَى عَلَى الْعَيْنِ حُكْمَ الْهِبَةِ فِي جَوَازِ الرُّجُوعِ، وَعَلَى الدَّيْنِ حُكْمَ الْإِبْرَاءِ فِي عَدَمِ الرُّجُوعِ.
وَعَلَى هَذَا: لَوْ وَهَبَتْ لَهُ الصَّدَاقَ إِنْ كَانَ عَيْنًا أَوْ أَبْرَأَتْهُ مِنْهُ إِنْ كَانَ دَيْنًا ثُمَّ ارْتَدَّتْ قَبْلَ الدُّخُولِ فَمَلَكَ الرُّجُوعَ عَلَيْهَا بِجَمِيعِ صَدَاقِهَا.
كَانَ فِي رُجُوعِهِ عَلَيْهَا بِجَمِيعِهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ، كَمَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا فِي الطَّلَاقِ بِنِصْفِهِ:
أَحَدُهَا: لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ فِي الْهِبَةِ وَالْإِبْرَاءِ.
وَالثَّانِي: يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِجَمِيعِهِ فِي الْهِبَةِ وَالْإِبْرَاءِ.
وَالثَّالِثُ: يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِجَمِيعِهِ فِي الْهِبَةِ، وَلَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ فِي الْإِبْرَاءِ.
فَصْلٌ
وَيَتَفَرَّعُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا: أَنْ يَبْتَاعَ الرَّجُلَانِ سِلْعَةً وَيَهَبَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي ثَمَنَهَا ثُمَّ تُسْتَحَقُّ السِّلْعَةُ مِنْ مُشْتَرِيهَا فَفِي رُجُوعِهِ عَلَى الْبَائِعِ بِثَمَنِهَا وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي رجوع الزوج.(9/522)
وَهَكَذَا لَوْ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالسِّلْعَةِ عَيْبًا فَفِي رُجُوعِهِ بِأَرْشِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا رَدَّ وَلَا أَرْشَ.
وَالثَّانِي: لَهُ الرَّدُّ وَالرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ الرَّدُّ رَجَعَ بِالْأَرْشِ.
وَلَكِنْ لَوْ أَنَّ مُشْتَرِي السِّلْعَةِ وَهَبَهَا لِبَائِعِهَا ثُمَّ فَلَّسَ هَذَا الْمُشْتَرِي فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَضْرِبَ بِالثَّمَنِ مَعَ غُرَمَاءِ الْمُشْتَرِي قَوْلًا وَاحِدًا بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ غَيْرَ مَا وُهِبَ لَهُ.
وَيَتَفَرَّعُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا: أَنْ يُكَاتِبَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ عَلَى مَالٍ ثُمَّ يُبَرِّئَهُ فَقَدْ عَتَقَ بِالْإِبْرَاءِ كَمَا يَعْتِقُ بِالْأَدَاءِ، فَهَلْ يَلْزَمُ السَّيِّدَ أَنْ يُؤْتِيَهُ بَعْدَ الْإِبْرَاءِ مَا كَانَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْأَدَاءِ؟ .
فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ، لِأَنَّهُ مَا اسْتَأْدَى مِنْهُ شَيْئًا.
وَالثَّانِي: يَلْزَمُهُ، لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ يَقُومُ مَقَامَ الْأَدَاءِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
لَوْ وَهَبَتِ الزَّوْجَةُ لِزَوْجِهَا نِصْفَ الصَّدَاقِ ثم طلقها قبل الدخول
مسألة
قال الشافعي: " وَكَذَلِكَ إِنْ أَعْطَاهَا نِصْفَهُ ثُمَّ وَهَبَتْ لَهُ النِّصْفَ الْآخَرَ ثُمَّ طَلَّقَهَا لَمْ يَرْجِعْ بشيءٍ ولا أعلم قولاً غير هذا إلا أن يقول قائلٌ هبتها له كهبتها لغيره والأول عندنا أحسن والله أعلم ولكل وجهٌ (قال المزني) والأحسن أولى به من الذي ليس بأحسن والقياس عندي على قوله ما قال في كتاب الإملاء إذا وهبت له النصف أن يرجع عليها بنصف ما بقي ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: أَنْ تَهَبَ لَهُ نِصْفَ صَدَاقِهَا ثُمَّ يُطَلِّقُهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، فَفِي رُجُوعِهِ عَلَيْهَا أَرْبَعَةُ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ، وَيَكُونُ مَا وَهَبَتْهُ مِنْ نِصْفِهِ هُوَ الْمُسْتَحَقُّ بِطَلَاقِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِجَمِيعِ النِّصْفِ الْبَاقِي وَيَكُونُ النِّصْفُ الْمَمْلُوكُ بِالْهِبَةِ كَالْمَمْلُوكِ بِالِابْتِيَاعِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الْمَوْجُودِ وَهُوَ الرُّبُعُ، وَبِنِصْفِ قِيمَةِ الْمَوْهُوبِ وَهُوَ الرُّبُعُ.
وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الْبَاقِي وَهُوَ الرُّبُعُ، وَلَا شَيْءَ لَهُ سِوَاهُ، وَكَأَنَّ الْمَوْهُوبَ لَمْ يَكُنْ صَدَاقًا بِعَوْدِهِ إليه.
مسألة
قال الشافعي: " وإن خَالَعَتْهُ بشيءٍ مِمَّا عَلَيْهِ مِنَ الْمَهْرِ فَمَا بَقِيَ فَعَلَيْهِ نِصْفُهُ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) هَذَا أَشْبَهُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ النِّصْفَ مشاعٌ فِيمَا قَبَضَتْ وَبَقِيَ ".(9/523)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنَ الْخُلْعِ أَوْرَدَهَا الْمُزَنِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنَ الصَّدَاقِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خُلْعٌ عَلَى الصَّدَاقِ فَأَوْرَدَهَا فِيهِ.
وَالثَّانِي: لِيُفَرِّقَ بِهَا بَيْنَ مَا عَادَ مِنَ الصَّدَاقِ إِلَى الزَّوْجِ بِالْهِبَةِ وَبَيْنَ مَا عَادَ إِلَيْهِ بِالْخُلْعِ.
وَالْخُلْعُ: عَقْدٌ تَمْلِكُ بِهِ الزَّوْجَةُ نَفْسَهَا، وَيَمْلِكُ بِهِ الزَّوْجُ مَالَ خُلْعِهَا، كَالنِّكَاحِ الَّذِي يَمْلِكُ بِهِ الزَّوْجُ بُضْعَهَا، وَتَمْلِكُ الزَّوْجَةُ بِهِ صَدَاقَهَا، إِلَّا أَنَّ الزَّوْجَةَ فِي الْخُلْعِ تَقُومُ مَقَامَ الزَّوْجِ فِي النِّكَاحِ، لِأَنَّهَا تَمْلِكُ بِالْخُلْعِ بُضْعَ نَفْسِهَا كَمَا مَلَكَ الزَّوْجُ بِالنِّكَاحِ بُضْعَهَا، وَالزَّوْجُ فِي الْخُلْعِ يَقُومُ مَقَامَ الزَّوْجَةِ فِي النِّكَاحِ، لِأَنَّهُ يَمْلِكُ بِالْخُلْعِ الْبَدَلَ كَمَا مَلَكَتِ الزَّوْجَةُ بِالنِّكَاحِ الْمَهْرَ.
فَإِذَا خَالَعَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ عَلَى صَدَاقِهَا فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَالْخُلْعُ بِهِ جَائِزٌ، سَوَاءٌ خَالَعَهَا بِجَمِيعِ الصَّدَاقِ أَوْ بِبَعْضِهِ، لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَقَرَّ لَهَا جَمِيعُهُ بِالدُّخُولِ فَخَالَعَتْهُ عَلَى مَا قَدِ اسْتَقَرَّ مِلْكُهَا عَلَيْهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُخَالِعَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، فَإِنَّ الزَّوْجَ يَمْلِكُ مِنَ الصَّدَاقِ بِطَلَاقِهِ فِي غَيْرِ الْخُلْعِ نِصْفَهُ، وَيَبْقَى عَلَيْهِ نِصْفُهُ، لِأَنَّ الْفُرْقَةَ إِذَا وَقَعَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ سَقَطَ عَنْهُ نِصْفُ الصَّدَاقِ، وَلَوْ وَقَعَتْ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَةِ سَقَطَ عَنْهُ جَمِيعُ الصَّدَاقِ.
وَالْفُرْقَةُ فِي الْخُلْعِ وَإِنْ تَمَّتْ بِهِمَا فَالْمُغَلَّبُ فِيهَا الزَّوْجُ دُونَهَا، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُخَالِعَهَا مَعَ غَيْرِهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُخَالِعَهُ مَعَ غَيْرِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُخَالِعَهَا عَلَى جَمِيعِ الصَّدَاقِ، وَهَذَا يَأْتِي فِي كِتَابِ الْخُلْعِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُخَالِعَهَا عَلَى بَعْضِهِ، وَهُوَ الْمَسْطُورُ هَاهُنَا، فَإِذَا أَصْدَقَهَا أَلْفًا وَخَالَعَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ عَلَى نِصْفِهَا وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَمَا بَقِيَ فَعَلَيْهِ نِصْفُهُ، فَجَعَلَ الشَّافِعِيُّ الْخَمْسَمِائَةَ الَّتِي خَالَعَهَا عَلَيْهَا يَكُونُ الْخُلْعُ مِنْهَا عَلَى نِصْفِهَا وهو مئتان وَخَمْسُونَ، وَنِصْفُهَا يَمْلِكُهُ بِطَلَاقِهِ، وَالنِّصْفُ الْبَاقِي مِنَ الصَّدَاقِ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ يَمْلِكُ نِصْفَهُ بِطَلَاقِهِ وَهُوَ مئتان وخمسون ويبقى عليه نصفه وهو مئتان وَخَمْسُونَ يَسُوقُهُ إِلَيْهَا.
وَقَدْ كَانَ الظَّاهِرُ يَقْتَضِي أَنْ يَمْلِكَ جَمِيعَ النِّصْفِ بِالْخُلْعِ، وَيَمْلِكَ النِّصْفَ الْآخَرَ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا يَبْقَى عَلَيْهِ مِنَ الصَّدَاقِ شَيْءٌ.
فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:(9/524)
أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ، إِنَّ الْمَسْأَلَةَ مُصَوَّرَةٌ أَنَّهُ خَالَعَهَا عَلَى نِصْفِ الْأَلْفِ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ وَهُمَا يَعْلَمَانِ أَنَّهُ يَسْقُطُ بِالطَّلَاقِ نِصْفُهَا وَيَبْقَى فِي الْخُلْعِ نِصْفُهَا، فَصَارَ كَأَنَّهُ خَالَعَهَا مِنَ الْخَمْسِمِائَةِ عَلَى مَا يَمْلِكُهُ منها بعد الطلاق وهو مئتان وَخَمْسُونَ، فَمَلَكَ تِلْكَ الْخَمْسَمِائَةَ بِخُلْعِهِ وَطَلَاقِهِ وَيَبْقَى لَهَا عَلَيْهِ خَمْسُمِائَةٍ، مَلَكَ الزَّوْجُ نِصْفَهَا بِطَلَاقِهِ وذلك مئتان وَخَمْسُونَ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: وَمَا بَقِيَ فَعَلَيْهِ نِصْفُهُ، فَصَارَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الصَّدَاقِ وَهُوَ سَبْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ سَاقِطًا عَنِ الزَّوْجِ. النِّصْفُ: بِالطَّلَاقِ، وَالرُّبُعُ: بِالْخُلْعِ، وَبَقِيَ عَلَيْهِ: الرُّبُعُ لِلزَّوْجَةِ وَهُوَ مئتان وَخَمْسُونَ.
فَقِيلَ لِابْنِ خَيْرَانَ: فَعَلَى هَذَا مَا تَقُولُ فِيمَنْ بَاعَ عَبْدَهُ وَعَبْدَ غَيْرِهِ بِأَلْفٍ وَهُمَا يَعْلَمَانِ أَنَّ أَحَدَ الْعَبْدَيْنِ مَغْصُوبٌ؟
قَالَ: يَصِحُّ الْبَيْعُ فِي الْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ بِجَمِيعِ الْأَلْفِ، وَيَكُونُ ذِكْرُ الْمَغْصُوبِ فِي الْعَقْدِ لَغْوًا كَمَا قَالَ فِي الْخُلْعِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مُصَوَّرَةٌ عَلَى أَنَّهَا خَالَعَتْهُ عَلَى مَا يُسَلِّمُ لَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ، وَصَرَّحَتْ بِهِ لَفْظًا فِي الْعَقْدِ، وَلَوْ لَمْ تُصَرِّحْ بِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمَا بِهِ مُقْنِعٌ فَيَسْقُطُ عَنْهُ جَمِيعُ الْخَمْسِمِائَةِ بِالْخُلْعِ وَالطَّلَاقِ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ نِصْفُ الْخَمْسِمِائَةِ الْأُخْرَى بِالطَّلَاقِ، وَيَبْقَى عَلَيْهِ نِصْفُهَا وَهُوَ مئتان وَخَمْسُونَ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: وَمَا بَقِيَ فَعَلَيْهِ نِصْفُهُ فَيَكُونُ الْجَوَابُ مُوَافِقًا لِجَوَابِ ابْنِ خَيْرَانَ، إِذَا صَرَّحَا بِمَا عَلِمَاهُ وَمُخَالِفًا لَهُ إِنْ لَمْ يُصَرِّحَا بِهِ وَإِنْ عَلِمَاهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ:
أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مُصَوَّرَةٌ عَلَى إِطْلَاقِهِمَا لِذَلِكَ فِي أَنَّهُ خَالَعَهَا عَلَى خَمْسِمِائَةٍ هِيَ نِصْفُ الْأَلْفِ، وَقَدْ كَانَتْ وَقْتَ الْعَقْدِ مَالِكَةً لِجَمِيعِ الْأَلْفِ، فَصَحَّ الْخُلْعُ فِي نِصْفِهَا ثُمَّ سَقَطَ نِصْفُ الْخَمْسِمِائَةِ الَّتِي خَالَعَهَا بِهَا بِالطَّلَاقِ، فَصَارَ كَمَنْ خَالَعَهَا عَلَى مَالٍ تَلِفَ نِصْفُهُ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ، فَيَأْخُذُ النِّصْفَ الْبَاقِي.
وَفِيمَا يَرْجِعُ بِهِ بَدَلُ النِّصْفِ التَّالِفِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ يَرْجِعُ بِمِثْلِ التَّالِفِ إِنْ كَانَ ذَا مِثْلٍ، أَوْ بِقِيمَتِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ.
وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ: يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْخُلْعُ قَدْ صَحَّ عَلَى نصف الخمسمائة وهو مئتان وخمسون وبطل في نصفها وهو مئتان وَخَمْسُونَ، وَاسْتَحَقَّ بَدَلَهُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ مثله وهو مئتان وَخَمْسُونَ وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ نِصْفُ مَهْرِ المثل.(9/525)
ثُمَّ بَقِيَ عَلَيْهِ نِصْفُ الصَّدَاقِ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ قد سقط عنه نصفه بالطلاق وهو مئتان وخمسون وبقي عليه نصفه مئتان وَخَمْسُونَ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: وَمَا بَقِيَ فعليه نصفه، فيصير الباقي عليه مئتان وَخَمْسُونَ، وَفِي الْبَاقِي قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْقَدِيمُ مئتان وَخَمْسُونَ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ الْجَدِيدُ: نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ.
فَيَكُونُ الشَّافِعِيُّ قَدْ ذَكَرَ الْبَاقِي عَلَيْهِ وَلَمْ يَذْكُرِ الْبَاقِي لَهُ.
وَهَلْ يَكُونُ الْبَاقِي عَلَيْهِ قِصَاصًا مِنَ الْبَاقِي لَهُ أَمْ لَا؟ عَلَى اخْتِلَافِ أَقَاوِيلِهِ فِيمَنْ لَهُ مَالٌ وَعَلَيْهِ مِثْلُهُ، فَإِنْ جَعَلَ ذَلِكَ قِصَاصًا: بَرِئَا، وَإِنْ لَمْ يَجْعَلْهُ قِصَاصًا؛ تَقَابَضَا.
فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا قُلْتُمْ إِذَا خَالَعَهَا عَلَى نِصْفِ الْأَلْفِ أَنَّهُ يَصِحُّ الْخُلْعُ فِي جَمِيعِ النِّصْفِ؛ لِأَنَّهُ يُسَلِّمُ لَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ النِّصْفَ كَمَا لَوْ خَالَعَتْهُ عَلَى نِصْفِ أَلْفٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ شَرِيكٍ لَهَا أَنَّهُ يَصِحُّ فِي جَمِيعِ النِّصْفِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَلَّمَ لَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَلْفِ.
قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّهَا فِي الصَّدَاقِ قَدْ خَالَعَتْ عَلَى نِصْفِهِ وَهِيَ مَالِكَةٌ لِجَمِيعِهِ، فَإِذَا سَقَطَ بَعْدَ الْخُلْعِ نِصْفُهُ بِالطَّلَاقِ لَمْ يَتَعَيَّنْ حَقُّهَا مِنَ النِّصْفِ فِي الَّذِي خَالَعَتْ بِهِ دُونَ الْبَاقِي، فَلِذَلِكَ صَارَ مُشْتَرِكًا فِيهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ حَالُهَا فِي الألف المشتركة؛ لأنها لا تَمْلِكْ مِنْهَا وَقْتَ الْخُلْعِ إِلَّا النِّصْفَ، فَانْصَرَفَ الْعَقْدُ إِلَى النِّصْفِ الَّذِي لَهَا، وَلَمْ يَتَوَجَّهْ إلى النصف الذي يشركها فافترقا.
فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّةِ الْخُلْعِ عَلَى نِصْفِ الصَّدَاقِ وَسُقُوطِ بَاقِيهِ بِالطَّلَاقِ ثَلَاثَةَ طُرُقٍ يَصِحُّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا:
أَحَدُهَا: أَنْ يُخَالِعَهَا بِمِثْلِ نِصْفِهِ فِي ذِمَّتِهَا فَإِذَا كَانَ صَدَاقُهَا أَلْفًا فِي ذِمَّتِهِ خَالَعَهَا عَلَى خَمْسِمِائَةٍ فِي ذِمَّتِهَا، فَإِذَا طَلَّقَهَا فِي خُلْعِهِ بَرِئَ مِنْ نِصْفِ صَدَاقِهَا بِطَلَاقِهِ، وَبَقِيَ عَلَيْهِ نِصْفُهُ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ، وَوَجَبَ لَهُ عَلَيْهَا مَا خَالَعَهَا بِهِ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ فَصَارَ لَهُ عَلَيْهَا مِثْلُ مَا بَقِيَ لَهَا فَيَتَقَاصَّانِ أَوْ يَتَقَابَضَانِ أَوْ يَتَبَارَيَانِ.
وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُخَالِعَهَا عَلَى مَا يُسَلِّمُ لَهَا مِنْ صَدَاقِهَا وَالَّذِي يُسَلَّمُ لَهَا بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ نِصْفُ الصَّدَاقِ، وَيَكُونُ هُوَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْخُلْعُ فَيَبْرَأُ مِنْ جَمِيعِ نِصْفِهِ بِمَا مَلَكَهُ مِنَ الطَّلَاقِ، وَنِصْفِهِ بِمَا مَلَكَهُ مِنَ الْخُلْعِ.
وَالطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرَهَا أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: أَنْ يُخَالِعَهَا عَلَى أَنْ لَا تَبِعَةَ لَهَا عَلَيْهِ فِي مَهْرِهَا فَيَبْرَأُ مِنْ جَمِيعِهِ بِمَا مَلَكَهُ بِطَلَاقِهِ وَبِخُلْعِهِ، وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَدْ خَالَعَهَا عَلَى مَا يُسَلِّمُ لَهَا مِنْ صَدَاقِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(9/526)
مسألة
قال الشافعي: " فَأَمَّا فِي الصَّدَاقِ غَيْرِ الْمُسَمَّى أَوِ الْفَاسِدِ فَالْبَرَاءَةُ فِي ذَلِكَ باطلةٌ لِأَنَّهَا أَبْرَأَتْهُ مِمَّا لا تعلم (قال) وَلَوْ قَبَضَتِ الْفَاسِدَ ثَمَّ رَدَّتْهُ عَلَيْهِ كَانَتِ الْبَرَاءَةُ باطلةٌ وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْمَهْرِ أَوْ يُعْطِيَهَا مَا تَسْتَيْقِنُ أَنَّهُ أَقَلُّ وَتُحَلِّلُهُ مِمَّا بَيْنَ كَذَا إِلَى كَذَا أَوْ يُعْطِيَهَا أَكْثَرَ وَيُحَلِّلُهَا مِمَّا بين كذا إلى كذا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ إِبْرَاءَ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا مِنَ الصَّدَاقِ مُعْتَبَرٌ بِشَرْطَيِّ الْإِبْرَاءِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بَعْدَ وُجُوبَ الْحَقِّ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ وجوبه لم يصح، كمن عفى عَنِ الشُّفْعَةِ قَبْلَ الشِّرَاءِ لَمْ يَصِحَّ الْعَفْوُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنْ مَعْلُومِ الْقَدْرِ، فَإِنْ كَانَ الْإِبْرَاءُ مِنْ مَجْهُولٍ لَمْ يَصِحَّ. وَكَذَلِكَ الضَّمَانُ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ:
أَنْ يَكُونَ بَعْدَ وُجُوبِ الْحَقِّ، وَأَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْقَدْرِ.
وَأَسْقَطَ أَبُو حَنِيفَةَ اعْتِبَارَ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ فِي الضَّمَانِ، وَجَوَّزَ الْإِبْرَاءَ مِنَ الْمَجْهُولِ.
وَلِلْكَلَامِ عَلَيْهِ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالنِّكَاحُ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: نِكَاحُ تَفْوِيضٍ.
وَالثَّانِي: نِكَاحُ غَيْرِ تَفْوِيضٍ.
فَأَمَّا نِكَاحُ التَّفْوِيضِ الَّذِي لَمْ يُسَمِّ لَهَا فِيهِ مَهْرًا إِذَا أَبْرَأَتْ زَوْجَهَا مِنْ صَدَاقِهَا فِيهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بَعْدَ أَنْ فُرِضَ لَهَا فِيهِ مَهْرٌ، فَالْإِبْرَاءُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهَا أَبْرَأَتْهُ مِنْ وَاجِبٍ مَعْلُومٍ.
والضرب الثاني: أن يكون قبل أن فرض لَهَا فِيهِ مَهْرٌ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تُبْرِئَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا، فَالْإِبْرَاءُ بَاطِلٌ، لِأَنَّهَا أَبْرَأَتْهُ مِمَّا لَمْ يَجِبْ؛ لِأَنَّ مَهْرَ الْمُفَوَّضَةِ لَا يَجِبُ بِالْعَقْدِ وَإِنَّمَا يَجِبُ بِالْفَرْضِ أَوْ بِالدُّخُولِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا فَقَدْ وَجَبَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، فَإِنْ عَلِمَتْ قَدْرَهُ صَحَّ الْإِبْرَاءُ وَلَمْ تَفْتَقِرْ إِلَى الْقَبُولِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَتِمُّ إِلَّا بِقَبُولِ الزَّوْجِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ قدره بالإبراء بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ مِنَ الْمَجْهُولِ بَاطِلَةٌ.
فَصْلٌ
وَأَمَّا نِكَاحُ غَيْرِ التَّفْوِيضِ: وَهُوَ أَنْ يُسَمَّى فِيهِ مَهْرٌ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: صَحِيحٌ، وَفَاسِدٌ.(9/527)
- فَأَمَّا الصَّحِيحُ: فَالْإِبْرَاءُ مِنْهُ صَحِيحٌ، لِأَنَّهُ إِبْرَاءٌ مِنْ وَاجِبٍ مَعْلُومٍ.
- وَأَمَّا الْفَاسِدُ: فَالْإِبْرَاءُ مِنْهُ فاسد؛ لأنه الْفَاسِدَ لَا يَجِبُ، فَصَارَ إِبْرَاءً مِنْ غَيْرِ وَاجِبٍ، وَالْوَاجِبُ لَهَا فِي الْفَاسِدِ مَهْرُ الْمِثْلِ، فَلَوْ سَلَّمَ الصَّدَاقَ الْفَاسِدَ إِلَيْهَا فَرَدَّتْهُ عَلَيْهِ هِبَةً لَهُ لَمْ تَصِحَّ الْهِبَةُ؛ لِأَنَّهُ مَالُهُ رَدَّتْهُ عَلَيْهِ وَهِيَ عَلَى حَقِّهَا مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، فَلَوْ أَبْرَأَتْهُ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ رُوعِيَ عِلْمُهَا بِقَدْرِهِ، فَإِنْ جَهِلَتْ قَدْرَهُ فَالْإِبْرَاءُ بَاطِلٌ، سَوَاءٌ عَلِمَ الزَّوْجُ قَدْرَهُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، وَإِنْ عَلِمَتْ قَدْرَهُ صَحَّ الْإِبْرَاءُ، سَوَاءٌ عَلِمَ الزَّوْجُ قَدْرَهُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ؛ لِأَنَّ قَبُولَهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَكَانَ عِلْمُهُ بِقَدْرِهِ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ.
وَعَلَى قَوْلِ مَنْ زَعَمَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ قَبُولَ الزَّوْجِ مُعْتَبَرٌ فَعِلْمُهُ بِقَدْرِهِ مُعْتَبَرٌ،
فَصْلٌ
فَلَوْ عَلِمَتْ أَنَّ مَهْرَ مِثْلِهَا لَا يَنْقُصُ عَنْ عَشَرَةِ دَنَانِيرَ، وَجَهِلَتِ الزِّيَادَةَ عَلَيْهَا فَأَبْرَأَتْهُ مِنْ جَمِيعِهِ لَمْ يَبْرَأْ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْعَشْرَةِ؛ لِأَنَّهَا مَجْهُولَةٌ، وَفِي بَرَاءَتِهِ مِنَ الْعَشْرَةِ الْمَعْلُومَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَبْرَأُ مِنْهَا لِكَوْنِهَا مَعْلُومَةَ الْقَدْرِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَبْرَأُ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا بَعْضُ جُمْلَةٍ مَجْهُولَةٍ فَجَرَى عَلَى جَمِيعِهَا حُكْمُ الْجَهَالَةِ كَمَا لَوْ ضَمِنَ مَا يَعْلَمُ بَعْضَهُ وَيَجْهَلُ جَمِيعَهُ كَانَ ضَمَانُ الْجَمِيعِ بَاطِلًا.
فَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا مَجْهُولَ الْقَدْرِ مَعْلُومَ الطَّرَفَيْنِ، مِثْلَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ عَنْ عَشَرَةِ دَنَانِيرَ وَلَا يَزِيدُ عَلَى عِشْرِينَ دِينَارًا فَلِلْبَرَاءَةِ مِنْهُ حَالَانِ.
حَالٌ بِالْإِبْرَاءِ، وَحَالٌ بِالْأَدَاءِ.
فَأَمَّا الْإِبْرَاءُ: فَالطَّرِيقُ إِلَى صِحَّتِهِ أَنْ تَقُولَ: قَدْ أَبْرَأْتُكَ مِنْ دِينَارٍ إِلَى عِشْرِينَ دِينَارًا، فَيَبْرَأُ، لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالطَّرَفَيْنِ يَجْعَلُ الْوَسَطَ مُلْحَقًا بِهِمَا فَلَوْ أَبْرَأَتْهُ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْعَشْرَةِ إِلَى الْعِشْرِينَ صَحَّ وَصَارَ مَا تَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَهْرِ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ.
فَلَوْ قَالَتْ: قَدْ أَبْرَأْتُكَ مِنْ عَشْرَةٍ إِلَى عِشْرِينَ بَرِئَ مِنَ الْجَمِيعِ، لِأَنَّ الْحَدَّيْنِ يَدْخُلَانِ فِي الْمَحْدُودِ إِذَا جَانَسَاهُ، فَالْحَدُّ الْأَوَّلُ: هُوَ الْمُبْتَدَأُ مِنْهُ، وَالْحَدُّ الثَّانِي: هُوَ الْمُنْتَهَى إِلَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَدْخُلُ فِيهِ الْحَدُّ الْأَوَّلُ الْمُبْتَدَأُ مِنْهُ وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْحَدُّ الثَّانِي الْمُنْتَهَى إِلَيْهِ، فَيَبْرَأُ مِنْ تِسْعَةَ عَشَرَ دِينَارًا.
وَقَالَ زُفَرُ بْنُ الْهُذَيْلِ: لَا يَدْخُلُ فِيهِ وَاحِدٌ مِنَ الْحَدَّيْنِ، لَا الْمُبْتَدَأُ مِنْهُ وَلَا الْمُنْتَهَى إِلَيْهِ فَيَبْرَأُ مِنْ تِسْعَةِ دَنَانِيرَ.(9/528)
وَالدَّلِيلُ عَلَى دُخُولِ الْحَدَّيْنِ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ: إِنَّ " مِنْ " حَرْفٌ لِابْتِدَاءِ غَايَةِ الشَّيْءِ، وَ " إِلَى " حَرْفٌ لِانْتِهَاءِ غَايَةِ الشَّيْءِ، وَابْتِدَاءُ الشَّيْءِ وَانْتِهَاؤُهُ طَرَفَاهُ، وَطَرَفَا الشَّيْءِ مِنْ جُمْلَتِهِ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ دُخُولُ الْحَدِّ فِي الْمَحْدُودِ.
وَأَمَّا الْإِبْرَاءُ بِالْأَدَاءِ فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهَا عِشْرِينَ دِينَارًا فَقَدْ دَخَلَ فِيهَا جَمِيعُ مَهْرِهَا فَبَرِئَ مِنْهُ، عَشْرَةٌ مِنْهَا مُتَحَقَّقَةٌ وَالْعَشْرَةُ الْأُخْرَى مَشْكُوكَةٌ، فَتَحْتَاجُ أَنْ يُبَرِّئَهَا مِنْ دِينَارٍ إِلَى عَشْرَةٍ فَيُبَرِّئَانِ جَمِيعًا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهَا عَشْرَةً فَيَحْتَاجُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْمُبَرِّئَةَ لَهُ مِنْ دِينَارٍ إِلَى عَشْرَةٍ فَيَبْرَأُ حِينَئِذٍ مِنْ جَمِيعِ مَهْرِهَا بِالْأَدَاءِ وَالْإِبْرَاءِ.
وَإِذَا كَانَ مَهْرُهَا معلوماُ فِي الذِّمَّةِ فَقَالَتْ: قَدْ أَبْرَأْتُكَ مِنْهُ إِنْ شِئْتَ فَقَالَ: قَدْ شِئْتُ، لَمْ يَصِحَّ الْإِبْرَاءُ.
وَلَوْ كَانَتْ عَيْنًا قَائِمَةً فَقَالَتْ: قَدْ وَهَبْتُهُ لَكَ إِنْ شِئْتَ فَقَالَ: قَدْ قَبِلْتُ وَشِئْتُ، صَحَّتِ الْهِبَةُ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْإِبْرَاءَ إِسْقَاطٌ لَا يُرَاعَى فِيهِ الْمَشِيئَةُ كَمَا لَا يُرَاعَى فِيهِ الْقَبُولُ، وَالْهِبَةُ تَمْلِيكٌ يُرَاعَى فِيهِ الْمَشِيئَةُ كَمَا يُرَاعَى فِيهِ الْقَبُولُ فَافْتَرَقَا.
فَصْلٌ
وَإِذَا اعْتَقَدَتْ قَبَضَ مَهْرِهَا مِنْهُ فَقَالَتْ: قَدْ أَبْرَأْتُكَ مِنْ مَهْرِي، ثُمَّ بَانَ أَنَّ مَهْرَهَا كَانَ بَاقِيًا عَلَيْهِ فَفِي بَرَاءَتِهِ مِنْهُ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ يَبْرَأُ مِنْهُ لِأَنَّهَا بَرَاءَةٌ صَادَفَتْ حَقًّا مَعْلُومًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ: أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَقْصِدْ تَصْحِيحَ الْإِبْرَاءِ بَلْ أَوْرَدَتْهُ لَغْوًا.
وَأَصْلُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ: مَنْ بَاعَ عَبْدَ أَبِيهِ ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ كَانَ وَارِثًا لَهُ وَقْتَ بَيْعِهِ فَفِي صِحَّةِ بَيْعِهِ وجهان.(9/529)
بَابُ الْحُكْمِ فِي الدُّخُولِ وَإِغْلَاقِ الْبَابِ وَإِرْخَاءِ الستر من الجامع ومن كتاب عشرة النساء ومن كتاب الطلاق القديم
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَيْسَ لَهُ الدُّخُولُ بِهَا حَتَّى يُعْطِيَهَا الْمَالَ فَإِنْ كَانَ كُلُّهُ ديناً فله الدخول بِهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا امْتَنَعَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا لِقَبْضِ صَدَاقِهَا لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أن يكون جمعيه حَالًّا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهُ مُؤَجَّلًا.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ حَالًّا وَبَعْضُهُ مُؤَجَّلًا.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهُ حَالًّا، إِمَّا بِإِطْلَاقِ الْعَقْدِ أَوْ بِالشَّرْطِ فَيَكُونُ حَالًّا بِالْعَقْدِ، وَالشَّرْطُ تَأْكِيدٌ، فَلَهَا أَنْ تَمْتَنِعَ مِنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا عَلَى قَبْضِ صَدَاقِهَا، كَمَا كَانَ لِبَائِعِ السِّلْعَةِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ تَسْلِيمِهَا عَلَى قبض ثمنها.
فإذا تَطَوَّعَتْ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهَا قَبْلَ قَبْضِ الصَّدَاقِ ثُمَّ أَرَادَتْ بَعْدَ التَّسْلِيمِ أَنْ تَمْتَنِعَ عَلَيْهِ لِقَبْضِ الصَّدَاقِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ وَطِئَهَا، فَلَهَا أَنْ تَمْتَنِعَ عَلَيْهِ وَإِنْ سَلَّمَتْ نَفْسَهَا إِلَيْهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ وَطِئَهَا، لِأَنَّ الْقَبْضَ فِي النِّكَاحِ يَكُونُ بِالْوَطْءِ الَّذِي يَسْتَقِرُّ بِهِ كَمَالُ الْمَهْرِ دُونَ التَّسْلِيمِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ وَطِئَهَا بَعْدَ التَّسْلِيمِ فَلَيْسَ لَهَا عِنْدَنَا أَنْ تَمْتَنِعَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَهَا الِامْتِنَاعُ بَعْدَ الْوَطْءِ، كَمَا كَانَ لَهَا الِامْتِنَاعُ قَبْلَهُ احْتِجَاجًا بِأَنَّ الصَّدَاقَ فِي مُقَابَلَةِ كُلِّ وَطْءٍ فِي النِّكَاحِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي مُقَابَلَةِ الْأَوَّلِ لَوَجَبَ لِلثَّانِي مَهْرٌ آخَرُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ في مقابلة الأول لجاز لا أَنْ تَمْنَعَهُ نَفْسَهَا بَعْدَ الْأَوَّلِ لِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ به.(9/530)
وإذا ثبت بهدين أَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ كُلِّ وَطْءٍ لَمْ يَكُنْ تَسْلِيمُهَا لِبَعْضِ الْحَقِّ مُسْقِطًا لِحَقِّهَا فِي مَنْعِ مَا بَقِيَ، كَمَنْ بَاعَ عَشَرَةَ أَثْوَابٍ فَسَلَّمَ أَحَدَهَا قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ كَانَ لَهُ حَبْسُ بَاقِيهَا كَذَلِكَ هَاهُنَا.
قَالَ: وَلِأَنَّهَا لَمْ تَسْتَوْفِ مَهْرَهَا مَعَ اسْتِحْقَاقِ الْمُطَالَبَةِ فَجَازَ لَهَا أَنْ تَمْتَنِعَ مِنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا قِيَاسًا عَلَى مَا قَبْلَ الْوَطْءِ.
وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ تَسْلِيمُ رِضًا اسْتَقَرَّ بِهِ الْعِوَضُ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ بِهِ حَقُّ الْإِمْسَاكِ قِيَاسًا عَلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، وَلِأَنَّ أَحْكَامَ الْعَقْدِ إِذَا تَعَلَّقَتْ بِالْوَطْءِ اخْتَصَّتْ بِالْوَطْءِ الْأَوَّلِ وَكَانَ مَا بَعْدَهُ تَبَعًا، وَقَدْ رَفَعَ الْوَطْءُ الْأَوَّلُ حُكْمَ الْإِمْسَاكِ فِي حَقِّهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَرْفَعَهُ فِي حَقٍّ تَبِعَهُ كَالْإِحْلَالِ.
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ الْمَهْرَ فِي مُقَابَلَةِ كُلِّ وَطْءٍ: فَنَقُولُ: قَدِ اسْتُبِيحَ بِهِ كُلُّ وَطْءٍ لَكِنَّهُ قَدِ اسْتَقَرَّ بِالْوَطْءِ الْأَوَّلِ فَقَامَ فِيهِ مَقَامَ كُلِّ وَطْءٍ، أَلَا تَرَاهَا لَوِ ارْتَدَّتْ بَعْدَ الْوَطْءِ الْأَوَّلِ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي سُقُوطِ الْمَهْرِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَوْفِ كُلَّ وَطْءٍ فِي النِّكَاحِ، وَلَوْ عَادَتْ إِلَى الْإِسْلَامِ حَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا بِالْمَهْرِ الْمُتَقَدَّمِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى مَا قَبْلَ الْوَطْءِ الْأَوَّلِ: فَالْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ أَنَّهَا لَمْ تُسَلِّمْ مَا اسْتَقَرَّ بِهِ الْمَهْرُ فَجَرَى مَجْرَى الْبَيْعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَعْدَ الْوَطْءِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ سَلَّمَتْ مَا اسْتَقَرَّ بِهِ الْمَهْرُ فَجَرَى مَجْرَى الْمَبِيعِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ.
فَصْلٌ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي
: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ صَدَاقُهَا مُؤَجَّلًا، فَيَجُوزُ إِذَا كَانَ الْأَجَلُ مَعْلُومًا؛ لِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ صَحَّ بِعَيْنٍ وَبِدَيْنٍ صَحَّ أَنْ يَكُونَ مُعَجَّلًا وَمُؤَجَّلًا كَالْبَيْعِ، وَإِذَا كَانَ الصَّدَاقُ مؤجلاُ فَعَلَيْهَا تَسْلِيمُ نَفْسِهَا، وَلَيْسَ لَهَا الِامْتِنَاعُ لِقَبْضِ الصَّدَاقِ بَعْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ رَضِيَتْ بِتَأْخِيرِ حَقِّهَا وَتَعْجِيلِ حَقِّهِ، فَصَارَ كَالْبَيْعِ بِالثَّمَنِ الْمُؤَجَّلِ يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ تَأَخَّرَ تَسْلِيمُهَا لِنَفْسِهَا حَتَّى حَلَّ الْأَجَلُ فَأَرَادَتِ الِامْتِنَاعَ مِنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا حَتَّى تَقْبِضَ الصَّدَاقَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهَا وَإِنْ حَلَّ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَسْتَحِقَّ الِامْتِنَاعَ عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ.
فَصْلٌ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ
: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ صَدَاقِهَا حَالًّا وَبَعْضُهُ مُؤَجَّلًا فَيَصِحُّ إِذَا كَانَ قَدَرُ الْحَالِّ مِنْهُ مَعْلُومًا وَأَجَلُ الْمُؤَجَّلِ مَعْلُومًا، وَلَهَا أَنْ تَمْتَنِعَ مِنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا لِقَبْضِ الْحَالِّ وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَمْتَنِعَ مِنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا لِقَبْضِ الْمُؤَجَّلِ، فَيَكُونُ حُكْمُ الْحَالِّ مِنْهُ كَحُكْمِهِ لَوْ كَانَ جَمِيعُهُ حَالًّا، وَحُكْمُ الْمُؤَجَّلِ مِنْهُ كَحُكْمِهِ لَوْ كَانَ جَمِيعُهُ مُؤَجَّلًا، فَلَوْ تَرَاخَى التَّسْلِيمُ حَتَّى حَلَّ الْمُؤَجَّلُ كَانَ لَهَا مَنْعُ نَفْسِهَا عَلَى قَبْضِ الْمُعَجَّلِ دُونَ مَا حَلَّ مِنَ الْمُؤَجَّلِ.(9/531)
هَلْ يَلْزَمُ تَسْلِيمُ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا إِذَا طَلَبَهَا بعد دفعه للصداق؟ تقسيم
مسألة
قال الشافعي: " وَتُؤَخَّرُ يَوْمًا وَنَحْوَهُ لِتُصْلِحَ أَمْرَهَا وَلَا يَجَاوِزُ بِهَا ثَلَاثًا إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَغِيرَةً لَا تَحْتَمِلُ الْجِمَاعَ فَيَمْنَعُهُ أَهْلُهَا حَتَّى تَحْتَمِلَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا دَفَعَ الزَّوْجُ صَدَاقَ زَوْجَتِهِ وَسَأَلَهَا تَسْلِيمَ نَفْسِهَا لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ تَكُونَ صَغِيرَةً، أَوْ كَبِيرَةً.
فَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً لَزِمَهَا تَسْلِيمُ نَفْسِهَا كَمَا يَلْزَمُ الْبَائِعَ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ بَعْدَ قَبْضِ ثَمَنِهِ، وَالْمُؤَجِّرَ تَسْلِيمُ مَا أَجَّرَ بَعْدَ قَبْضِ أُجْرَتِهِ.
فَإِنِ اسْتَنْظَرَتْهُ لِبِنَاءِ دَارٍ أَوِ اسْتِكْمَالِ جِهَازٍ لَمْ يَلْزَمْهُ إِنْظَارُهَا وَإِنِ اسْتَنْظَرَتْهُ لِمُرَاعَاةِ نَفْسِهَا وَتَعَاهُدِ جَسَدِهَا لَزِمَهُ انْتِظَارُهَا يَوْمًا وَيَوْمَيْنِ وَأَكْثَرَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَسْتَغْنِي مَعَ بُعْدِ عَهْدِهَا بِالزَّوْجِ عَنِ التَّأَهُّبِ لها بِمُرَاعَاةِ جَسَدِهَا وَتَفَقُّدِ بَدَنِهَا لَوْ أَنَّهَا رُبَّمَا كَانَتْ عَلَى صِفَةٍ تُنَفِّرُ نَفْسَ الزَّوْجِ مِنْهَا.
وَقَدْ رَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى إِذَا أَطَالَ الرَّجُلُ الْغَيْبَةَ أَنْ يَطْرُقَ أهله ليلاً.
فما نَهَى الزَّوْجَ الَّذِي قَدْ أَلِفَهَا، وَأَلِفَتْهُ عَنْ أن يطرقها ليلاً ولم تتأهب له لأن لا يُصَادِفَهَا عَلَى حَالٍ تَنْفُرُ مِنْهَا نَفْسُهُ فَالزَّوْجُ الَّذِي لَمْ يَأْلَفْهَا وَلَمْ تَأْلَفْهُ، وَلَمْ يَعْرِفْهَا وَلَمْ تَعْرِفْهُ أَوْلَى بِالنَّهْيِ.
وَأَكْثَرُ مُدَّةِ إِنْظَارِهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّ لَهَا فِي الشَّرْعِ أَصْلًا وَأَنَّهَا أَكْثَرُ الْقَلِيلِ وَأَقَلُّ الْكَثِيرِ، وَهَذَا مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ هَاهُنَا وَفِي كِتَابِ " الْأُمِّ " وَقَالَ فِي " الْإِمْلَاءِ ".
لَا تُمْهَلُ، وَلَيْسَ هَذَا مُخَالِفًا لِمَا قَالَهُ هَاهُنَا وَفِي الْأُمِّ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهَا لَا تُمْهَلُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ رَدًّا عَلَى مَالِكٍ فِي جَوَازِ إِمْهَالِهَا السَّنَةَ.
فَصْلٌ
وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُمْكِنَ الِاسْتِمْتَاعُ بِمِثْلِهَا؛ لِأَنَّهَا ابْنَةُ تِسْعٍ أَوْ عَشْرٍ قَدْ قَارَبَتِ الْبُلُوغَ وَأَمْكَنَ اسْتِمْتَاعُ الْأَزْوَاجِ بِهَا، فَهِيَ كَالْكَبِيرَةِ، لَهَا أَنْ يُطَالِبَهُ وَلِيُّهَا بِمَهْرِهَا وَعَلَيْهَا تَسْلِيمُ نَفْسِهَا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُمْكِنَ الِاسْتِمْتَاعُ بِمِثْلِهَا، لِأَنَّهَا ابْنَةُ سِتٍّ أَوْ سَبْعٍ بِحَسْبِ حَالِهَا، فَرُبَّ صَغِيرَةِ السِّنِّ يُمْكِنُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا وَرُبَّ كَبِيرَةِ السِّنِّ لَا يُمْكِنُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا(9/532)
فَلِذَلِكَ لَمْ يَحُدَّهُ سِنٌّ مُقَدَّرَةٌ، وَإِذَا كَانَ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا غَيْرَ مُمْكِنٍ لَمْ يَلْزَمْ تَسْلِيمُهَا إِلَيْهِ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ تَسْلِيمُ الصَّدَاقِ إِلَيْهَا.
فَإِنْ طَلَبَ تَسْلِيمَهَا إِلَيْهِ لِيَقُومَ بِحَضَانَتِهَا وَتَرْبِيَتِهَا لَمْ يَلْزَمْ تَسْلِيمُهَا إِلَيْهِ أَيْضًا، لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي حَضَانَتِهَا، وَإِنَّمَا حَقُّهُ فِي الِاسْتِمْتَاعِ الذي يُخْلَقْ فِيهَا، فَيَسْتَحِقَّهُ الزَّوْجُ مِنْهَا، وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ تَغْلِبَهُ الشَّهْوَةُ عَلَى مُوَاقَعَتِهَا، فَرُبَّمَا أَفْضَى إِلَى تَلَفِهَا وَنِكَايَتِهَا.
فَلَوْ سَأَلَهُ وَلِيُّهَا وَهِيَ صَغِيرَةٌ أَنْ يَتَسَلَّمَهَا لَمْ يَلْزَمْهُ؛ لِأَنَّ مَا اسْتَحَقَّهُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا لَمْ يُخْلَقْ فِيهَا، وَلِأَنَّهَا تَحْتَاجُ إِلَى تَرْبِيَةٍ وَحَضَانَةٍ لَا يَلْزَمُهُ الْقِيَامُ بِهَا، وَلِأَنَّهُ يَلْتَزِمُ لَهَا نَفَقَةً لا يقابلها الاستمتاع، والله أعلم.
مسألة
قال الشافعي: " وَالصَّدَاقُ كَالدَّيْنِ سواءٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّهُ مَالٌ ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ بِعَقْدٍ فَكَانَ دَيْنًا كَالْأَثْمَانِ، وَمُرَادُ الشَّافِعِيِّ بِأَنَّهُ كَالدَّيْنِ فِي لُزُومِهِ فِي الذِّمَّةِ كَلُزُومِ الدَّيْنِ، وَأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ حَالًّا تَارَةً، وَمُؤَجَّلًا تَارَةً، وَمُنَجَّمًا أُخْرَى، وَأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَوْثَقَ فِيهِ بِالرَّهْنِ وَالضَّمَانِ، وَالشَّهَادَةِ، وَأَنَّ الْحَوَالَةَ بِهِ جَائِزَةٌ، وَأَنَّ أَخْذَ الْعِوَضِ عَنْهُ سَائِغٌ، وَأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُبْتَاعَ فِيهِ الْعَقَارُ، وَأَنَّ الزَّوْجَ يُحْبَسُ بِهِ إِذَا امْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهِ، وَأَنَّ الزَّوْجَةَ تَضْرِبُ بِهِ مَعَ الْغُرَمَاءِ عِنْدَ فَلَسِهِ، وَتَتَقَدَّمُ بِهِ عَلَى الْوَرَثَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ إِلَى غَيْرِ ذلك من أحكام الديون المستحقة.
مسألة
قال الشافعي: " وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَفْعُ صَدَاقِهَا وَلَا نَفَقَتِهَا حَتَّى تَكُونَ فِي الْحَالِ الَّتِي يُجَامَعُ مِثْلُهَا وَيُخَلَّى بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مِنَ النَّفَقَاتِ ذَكَرَهَا لِاتِّصَالِهَا بِالصَّدَاقِ، وَلَيْسَ يَخْلُو حَالُ الزَّوْجَيْنِ فِي اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ وَالصَّدَاقِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَا كَبِيرَيْنِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَا صَغِيرَيْنِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ كَبِيرًا وَالزَّوْجَةُ صَغِيرَةً.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ صَغِيرًا وَالزَّوْجَةُ كَبِيرَةً.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ: أَنْ يَكُونَا كَبِيرَيْنِ: فَلَهَا أَنْ تَمْتَنِعَ مِنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا عَلَى قَبْضِ الصَّدَاقِ، وَلَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ تَسْلِيمِ الصَّدَاقِ لِتَسْلِيمِ نَفْسِهَا، فَأَيُّهُمَا سَلَّمَ مَا فِي ذِمَّتِهِ أُجْبِرَ الْآخَرُ عَلَى تَسْلِيمِ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ، وَإِنْ أَقَامَا عَلَى التَّمَانُعِ فَسَنَذْكُرُ حُكْمَهُ مِنْ بَعْدُ.
وَأَمَّا النَّفَقَةُ فَلَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنْ نَفْسِهَا فَلَا يَسْتَمْتِعُ بِهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ.(9/533)
وَالثَّانِي: أَنْ يَدْعُوَهَا إِلَى نَفْسِهِ فَتَمْتَنِعَ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَا نَفَقَةَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا نَاشِزٌ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يَكُونَ مِنْهَا تَسْلِيمٌ وَلَا مِنْهُ طَلَبٌ، فَفِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَهَا النَّفَقَةُ، وَالثَّانِي: لَا نَفَقَةَ لَهَا.
بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ بِمَ تَجِبُ؟
قَالَ فِي الْقَدِيمِ: تَجِبُ بِالْعَقْدِ وَتَسْتَحِقُّ قَبْضَهَا بالتمكين، فعل هَذَا تَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ مَا لَمْ يَكُنْ مِنْهَا نُشُوزٌ.
وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: تَجِبُ بِالْعَقْدِ وَالتَّمْكِينِ مَعًا، فَعَلَى هَذَا لَا نَفَقَةَ لَهَا لِعَدَمِ التَّمْكِينِ.
فَصْلٌ
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَكُونَا صَغِيرَيْنِ: فَالتَّسْلِيمُ لَا يَجِبُ عَلَى وَلِيِّهَا وَلَوْ سَلَّمَتْ لَمْ يَجِبْ عَلَى وَلِيِّ الزَّوْجِ أَنْ يَقْبَلَهَا.
وَإِذَا كَانَ التَّسْلِيمُ لَا يَجِبُ فَالصَّحِيحُ أَنَّ دَفْعَ الصَّدَاقِ لَا يَجِبُ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ أَجْرَاهُ مَجْرَى النَّفَقَةِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَفِي اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ بَيْنَ هَذَيْنِ الصَّغِيرَيْنِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْقَدِيمُ: تَجِبُ لِوُجُوبِهَا بِالْعَقْدِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ الْجَدِيدُ: لَا تَجِبُ لِوُجُوبِهَا بِالْعَقْدِ وَالتَّمْكِينِ، فَكَذَلِكَ وُجُوبُ تَسْلِيمِ الصَّدَاقِ يَكُونُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ.
وَهَذَا الْجَمْعُ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ وُجُوبَ الصَّدَاقِ لَا يَقْتَضِي وُجُوبَ دَفْعِهِ، وَوُجُوبَ النَّفَقَةِ يَقْتَضِي وُجُوبَ دَفْعِهَا؛ لِأَنَّ الصَّدَاقَ فِي مُقَابَلَةِ عَيْنٍ بَاقِيَةٍ، وَالنَّفَقَةَ فِي مُقَابَلَةِ زَمَانٍ مَاضٍ، فَكَانَ لَهُ حَبْسُ الصَّدَاقِ لِبَقَاءِ مُوجِبِهِ حَتَّى يَصِلَ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ حَبْسُ النَّفَقَةِ لِذَهَابِ مُوجِبِهَا.
فَصْلٌ
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ كَبِيرًا وَهِيَ صَغِيرَةٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ صَدَاقِهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ تَسْلِيمَهَا لَا يَجِبُ وَلَوْ طَلَبَهَا، وَلَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ لَوْ بَذَلَتْ لَهُ.
فَأَمَّا النَّفَقَةُ فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ: لَا نَفَقَةَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ فِي الْجَدِيدِ بِالْعَقْدِ وَالتَّمْكِينِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ: فَفِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِوُجُوبِهَا عَلَى الْقَدِيمِ بِالْعَقْدِ وَحْدَهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تَجِبُ عَلَيْهِ، وَإِنْ وَجَبَتْ بِالْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ مُتَعَذِّرٌ مِنْهَا بِصِغَرِهَا فَجَرَى مَجْرَى نُشُوزِهَا.
فَصْلٌ
وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ صَغِيرًا وَهِيَ كَبِيرَةً، فَهَاهُنَا إِنْ سَلَّمَتْ نَفْسَهَا وَجَبَ عَلَى وَلِيِّ الزَّوْجِ أَنْ يَتَسَلَّمَهَا لَهُ لِتَكُونَ مَعَهُ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا، بِخِلَافِ الصَّغِيرَةِ(9/534)
الَّتِي لَا يَجِبُ عَلَى وَلِيِّهَا أَنْ يُسَلِّمَهَا إِلَى الزَّوْجِ إِذَا كَانَ كَبِيرًا لِأُمُورٍ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَوْجُودٌ فِي الْكَبِيرَةِ مَفْقُودٌ فِي الصَّغِيرَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الصَّغِيرَةَ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا الزَّوْجُ إِذَا كَانَ كَبِيرًا، وَالْكَبِيرَةُ تؤمن على الزَّوْجُ إِذَا كَانَ صَغِيرًا.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْكَبِيرَةَ إِذَا سُلِّمَتْ إِلَى الصَّغِيرِ أَقَامَتْ بِتَرْبِيَتِهِ فَكَانَ عَوْنًا، وَالصَّغِيرَةَ إِذَا سُلِّمَتْ إِلَى الْكَبِيرِ احْتَاجَ إلى تربيتها فكانت كلا، فَصَارَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ.
وَإِذَا لَزِمَ بِهَا تَسْلِيمُ الْكَبِيرَةِ إِلَى الصَّغِيرِ وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ تَسْلِيمُ الصَّغِيرَةِ إِلَى الْكَبِيرِ فَلَهَا الْمُطَالَبَةُ بِصَدَاقِهَا كَالْكَبِيرَةِ مَعَ الْكَبِيرِ.
فَأَمَّا النَّفَقَةُ فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ، وَأَنَّهَا تَجِبُ بِالْعَقْدِ وَحْدَهُ، فَلَهَا النَّفَقَةُ لِوُجُودِ الْعَقْدِ وَارْتِفَاعِ النُّشُوزِ.
وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ: أَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ بِالْعَقْدِ وَالتَّمْكِينِ فَفِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ لَهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا نَفَقَةَ لَهَا لِعَدَمِ التَّمْكِينِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهَا النَّفَقَةُ؛ لِأَنَّ التَّمْكِينَ مِنْهَا مَوْجُودٌ وَمِنَ الزَّوْجِ مَفْقُودٌ فَصَارَ الْمَنْعُ مِنْ جهته لا من جهتها.
إذا اختلف الزوج من الزَّوْجَةِ أَوْ وَلِيِّهَا أَيُّهُمَا يُسَلِّمُ أَوَّلًا مَا عليه
مسألة
قال الشافعي: " وإن كَانَتْ بَالِغَةً فَقَالَ لَا أَدْفَعُ حَتَّى تُدْخِلُوهَا وَقَالُوا لَا نُدْخِلُهَا حَتَّى تَدْفَعَ فَأَيُّهُمَا تَطَوَّعَ أَجْبَرْتُ الْآخَرَ فَإِنِ امْتَنَعُوا مَعًا أَجْبَرْتُ أَهْلَهَا عَلَى وقتٍ يُدْخِلُونَهَا فِيهِ وَأَخَذْتُ الصَّدَاقَ مِنْ زَوْجِهَا فَإِذَا دَخَلَتْ دَفَعْتُهُ إِلَيْهَا وَجَعَلْتُ لَهَا النَّفَقَةَ إِذَا قَالُوا نَدْفَعُهَا إِلَيْهِ إِذَا دَفَعَ الصَّدَاقَ إِلَيْنَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ لِلزَّوْجَيْنِ ثلاثة أَحْوَالٍ:
إِحْدَاهُنَّ: أَنْ تَبْدَأَ الْمَرْأَةُ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهَا وتمكين الزوج منها، فيجوز للزوج إصابتها قَبْلَ قَبْضِ شَيْءٍ مِنْ صَدَاقِهَا، وَعَلَى الزَّوْجِ تَسْلِيمُ صَدَاقِهَا إِلَيْهَا.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ لَهُ إِصَابَتُهَا إِلَّا أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهَا صَدَاقَهَا أَوْ شَيْئًا مِنْهُ.
وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وقتادة.(9/535)
قَالَ مَالِكٌ: وَأَقَلُّ مَا يَدْفَعُهُ إِلَيْهَا لِيَسْتَبِيحَ بِهِ إِصَابَتَهَا أَقَلُّ مَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا وَهُوَ رُبُعُ دِينَارٍ.
وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَكَمَا لَوْ كَانَ صَدَاقًا مُؤَجَّلًا ".
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَبْدَأَ الزَّوْجُ بِتَسْلِيمِ الصَّدَاقِ إِلَيْهَا فَعَلَيْهَا تَسْلِيمُ نَفْسِهَا إِلَيْهِ، فَإِنِ امْتَنَعَتْ صَارَتْ نَاشِزًا وَلَا نَفَقَةَ لَهَا.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَتَمَانَعَا فَتَقُولُ الزَّوْجَةُ: لَا أُسَلِّمُ نَفْسِي حَتَّى أَقْبِضَ صَدَاقِي، وَيَقُولُ الزَّوْجُ: لَا أَدْفَعُ الصَّدَاقَ حَتَّى تُسَلِّمِي نَفْسَكِ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى التَّسْلِيمِ، بَلْ تُقْطَعُ الْخُصُومَةُ بَيْنَهُمَا وَيُتْرَكَانِ، فَأَيُّهُمَا تَطَوَّعَ بِتَسْلِيمِ مَا عَلَيْهِ أُجْبِرَ الْآخَرُ عَلَى تَسْلِيمِ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَبْدَأْ بِإِجْبَارِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقًّا وَعَلَيْهِ حَقٌّ، فَلَمْ يَكُنِ الْحَقُّ الَّذِي عَلَيْهِ فِي الْبِدَايَةِ بِاسْتِيفَائِهِ مِنْهُ بِأَوْلَى مِنَ الْحَقِّ الَّذِي لَهُ فِي الْبِدَايَةِ بِاسْتِيفَائِهِ لَهُ فَتَسَاوَى الْأَمْرَانِ، فَوَجَبَ تَرْكُهُمَا وَقَطْعُ التَّخَاصُمِ بَيْنَهُمَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْحَاكِمَ يُنَصِّبُ لَهُمَا أَمِينًا، وَيَأْمُرُ الزَّوْجَ بِتَسْلِيمِ الصَّدَاقِ إِلَيْهِ، فَإِذَا تَسَلَّمَهُ أَمَرَ الزَّوْجَةَ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهَا إِلَى الزَّوْجِ، فَإِذَا سَلَّمَتْ نَفْسَهَا سَلَّمَ الْأَمِينُ الصَّدَاقَ إِلَيْهَا، لِأَنَّ الْحَاكِمَ مَوْضُوعٌ لِقَطْعِ التَّنَازُعِ وَفِعْلِ الْأَحْوَطِ فِي اسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ، وَهَذَا أَحْوَطُ الْأُمُورِ فِيهَا وَأَقْطَعُ لِلتَّنَازُعِ بَيْنَهُمَا.
وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ فِي تَنَازُعِ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي التَّسْلِيمِ، وَفِي الْبَيْعِ قَوْلٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُ يُجْبَرُ الْبَائِعُ عَلَى تَسْلِيمِ السِّلْعَةِ، وَيُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى تَسْلِيمِ الثَّمَنِ.
وَلَا يَجِيءُ تَخْرِيجُ هَذَا الْقَوْلِ الثَّالِثِ فِي تَنَازُعِ الزَّوْجَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِي يُمْكِنُ أَنْ يُحْجَرَ عَلَيْهِ فِي السِّلْعَةِ حَتَّى يُسْتَرْجَعَ مِنْهُ إِنَّ امْتَنَعَ مِنْ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ، وَلَا يُمْكِنُ إِذَا سَلَّمَتِ الزَّوْجَةُ نَفْسَهَا أَنْ يُمْنَعَ مِنْهَا، وَرُبَّمَا اسْتَهْلَكَ بُضْعَهَا بِالدُّخُولِ قَبْلَ تَسْلِيمِ صَدَاقِهَا.
فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ الْقَوْلَانِ فِي تَنَازُعِ الزَّوْجَيْنِ، فَإِذَا قِيلَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ إِنَّهُ لَا يُجْبَرُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَلَا نَفَقَةَ لِلزَّوْجَةِ فِي مُدَّةِ امْتِنَاعِهَا مِنْ تَمْكِينِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يَلْزَمُهُ تَعْجِيلُ الصَّدَاقِ، فَصَارَتْ مُمْتَنِعَةً بِمَا لَا يَسْتَحِقُّ تَعْجِيلَهُ فَجَرَى عَلَيْهَا حُكْمُ النُّشُوزِ فِي سُقُوطِ النَّفَقَةِ.
وَإِذَا قِيلَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي: إِنَّ الْحَاكِمَ يُجْبِرُ الزَّوْجَ عَلَى تَسْلِيمِ الصَّدَاقِ إِلَى أَمِينٍ يُنَصِّبُهُ لَهُمَا فَلَهَا النَّفَقَةُ فِي مُدَّةِ امْتِنَاعِهَا مِنْ تَمْكِينِهِ إِلَى أَنْ يَدْفَعَ الصَّدَاقَ إِلَى الْأَمِينِ؛ لِأَنَّهَا مُمْتَنِعَةٌ(9/536)
بِحَقٍّ يَجِبُ لَهَا تَعْجِيلُهُ، فَإِذَا صَارَ الصَّدَاقُ مَعَ الْأَمِينِ كَانَ امْتِنَاعُهَا بَعْدَ ذَلِكَ مُسْقِطًا لنفقتها؛ لأنها ممتنعة بغير حق.
الْقَوْلُ فِي إِجْبَارِ الْمَرْأَةِ الضَّعِيفَةِ عَلَى الدُّخُولِ
مسألة
قال الشافعي: " وَإِنْ كَانَتْ نِضْوًا أُجْبِرَتْ عَلَى الدُّخُولِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ مرضٍ لَا يُجَامَعُ فِيهِ مِثْلُهَا فَتُمْهَلُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا النِّضْوَةُ الْخَلْقِ فَهِيَ الدَّقِيقَةُ الْعَظْمِ، الْقَلِيلَةُ اللَّحْمِ، فَإِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ نِضْوَةَ الْخَلْقِ فَلَهَا حَالَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خِلْقَةً لَا يُرْجَى زَوَالُهُ، فَعَلَيْهَا تَسْلِيمُ نَفْسِهَا كَغَيْرِهَا مِنَ النِّسَاءِ، وَلِلزَّوْجِ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهَا بِحَسْبِ طَاقَتِهَا وَلَا يَنْكَأَهَا فِي نَفْسِهَا وَيُؤْذِيَهَا فِي بَدَنِهَا.
وَقَدْ كَانَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها، خفيفة اللحم، ولخفة لَحْمِهَا رُفِعَ هَوْدَجُهَا فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ، وَقَدْ خَرَجَتْ مِنْهُ لِلْحَاجَةِ فَلَمْ يُعْلَمْ خُرُوجُهَا مِنْهُ حَتَّى أَدْرَكَهَا صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ فَحَمَلَهَا.
وَكَانَ مِنْ شَأْنِ الْإِفْكِ أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ مِنَ الْقُرْآنِ مَا أَنْزَلَ فَلَمْ تَمْنَعْ ضُؤُولَتُهَا، وَخِفَّةُ لَحْمِهَا مِنْ دُخُولِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِهَا، فَلَوْ كَانَتِ النِّضْوَةُ عَلَى حَدٍّ إِنْ وَطِئَهَا الزَّوْجُ أَتْلَفَهَا مُنِعَ مِنْ وَطْئِهَا، وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي فَسْخِ نِكَاحِهَا، بِخِلَافِ الرَّتْقَاءِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ الزَّوْجُ فِيهَا خِيَارَ الْفَسْخِ لِتَعَذُّرِ وَطْئِهَا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الرَّتْقَاءَ لَا يَقْدِرُ كُلُّ زَوْجٍ عَلَى وَطْئِهَا فَصَارَ الْمَنْعُ مُخْتَصًّا بِهَا، فَكَانَ لَهُ الْخِيَارُ، وَالنِّضْوَةُ الْخَلْقِ يُمْكِنُ غَيْرُ هَذَا الزَّوْجِ إِذَا كَانَ مِثْلَهَا نِضْوًا أَنْ يَطَأَهَا فَصَارَ الْمَنْعُ مِنْهُمَا، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الْخِيَارُ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِحَادِثٍ مِنْ مَرَضٍ يُرْجَى زَوَالُهُ، فَلَا يَلْزَمُهَا تَسْلِيمُ نَفْسِهَا، وَتُمْهَلُ حَتَّى تَصِحَّ مِنْ مَرَضِهَا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بِحَادِثِ مَرَضٍ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ خِلْقَةً مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا يُرْجَى زَوَالُهُ فَالِاسْتِمْتَاعُ مُسْتَحَقٌّ فِيهِ بَعْدَ الصِّحَّةِ، فَلَمْ يَلْزَمْهَا تَسْلِيمُ نَفْسِهَا قَبْلَ الصِّحَّةِ، وَمَا لَا يُرْجَى زَوَالُهُ فَالِاسْتِمْتَاعُ فِيهِ مُسْتَحَقٌّ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهَا حَالُ الصِّحَّةِ، فَلَزِمَهَا تَسْلِيمُ نَفْسِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِتَأْخِيرِ زِفَافِ الْمَرِيضَةِ إِلَى حَالِ الصِّحَّةِ فَلَمْ يَلْزَمْهَا التَّسْلِيمُ قَبْلَ الصِّحَّةِ، وَالْعَادَةُ جَارِيَةٌ بِتَسْلِيمِ النِّضْوَةِ الْخِلْقَةِ عَاجِلًا فَلَزِمَهَا التَّسْلِيمُ فِي الْحَالِ اعْتِبَارًا بِالْعَادَةِ فيهما.(9/537)
فَعَلَى هَذَا إِذَا مَنَعَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا بِالْمَرَضِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا لِفَوَاتِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، وَلَوْ سَلَّمَتْ نَفْسَهَا لَزِمَتْهُ النَّفَقَةُ كَمَا لَوْ مَرِضَتْ بَعْدَ التَّسْلِيمِ، وَكَانَ لَهَا النَّفَقَةُ؛ لَأَنَّ الْمَرَضَ الْحَادِثَ بَعْدَ التَّسْلِيمِ، لَا يُسْقِطُ النَّفَقَةَ وَإِنْ منع من الوطء كالحيض.
القول في إفضاء الزوجة
مسألة
قال الشافعي: " وَإِنْ أَفْضَاهَا فَلَمْ تَلْتَئِمْ فَعَلَيْهِ دِيَتُهَا وَلَهَا الْمَهْرُ كَامِلًا وَلَهَا مَنْعُهُ أَنْ يُصِيبَهَا حَتَّى تَبْرَأَ الْبُرْءَ الَّذِي إِنْ عَادَ لَمْ يَنْكَأْهَا وَلَمْ يَزِدْ فِي جُرْحِهَا وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قولها ".
قال الماوردي: وصورتها: في رجل وطأ زَوْجَتَهُ فَأَفْضَاهَا بِشِدَّةِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْإِيلَاجِ وَالْإِفْضَاءُ: هُوَ أَنْ يَتَخَرَّقَ الْحَاجِزُ الَّذِي بَيْنَ مَدْخَلِ الذَّكَرِ وَمَخْرَجِ الْبَوْلِ؛ لِأَنَّ مَدْخَلَ الذَّكَرِ فِي مَخْرَجِ الْحَيْضِ وَالْمَنِيِّ، فَأَمَّا الْبَوْلُ فَمَخْرَجُهُ مِنْ غَيْرِهِ وَبَيْنَهُمَا حَاجِزٌ، فَإِذَا بَالَغَ الْوَاطِئُ فِي إِيلَاجِهِ خَرَقَ الْحَاجِزَ بَيْنَ الْمَخْرَجَيْنِ فَهَذَا هُوَ الْإِفْضَاءُ.
وَوَهِمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فَجَعَلَ الْإِفْضَاءَ خَرْقَ الْحَاجِزِ بَيْنَ السَّبِيلَيْنِ الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ حَتَّى يَصِيرَ السَّبِيلَانِ وَاحِدًا، وَهَذَا وَهْمٌ مِنْ قَائِلِهِ.
فَإِذَا أَفْضَى زَوْجَتَهُ بِوَطْئِهِ فَعَلَيْهِ الْمَهْرُ بِالْوَطْءِ وَالدِّيَةُ بِالْإِفْضَاءِ، سَوَاءٌ كَانَ الْبَوْلُ مُسْتَمْسِكًا أَوْ مُسْتَرْسِلًا، وكذلك لو وطأ أَجْنَبِيَّةً بِشُبْهَةٍ أَوِ اسْتَكْرَهَهَا عَلَى نَفْسِهَا فَأَفْضَاهَا كَانَ عَلَيْهِ الدِّيَةُ وَمَهْرُ الْمِثْلِ وَلَوْ طَاوَعَتْهُ عَلَى الزِّنَا كَانَ عَلَيْهِ دِيَةُ الْإِفْضَاءِ دُونَ الْمَهْرِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ أَفْضَى زَوْجَتَهُ فلا شيء عليه في الإفضاء، عليه الْمَهْرُ بِالْعَقْدِ، وَإِنْ أَفْضَى أَجْنَبِيَّةً بِوَطْءِ شُبْهَةٍ فَإِنْ كَانَ الْبَوْلُ مُسْتَرْسِلًا فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي الْإِفْضَاءِ وَلَا مَهْرَ فِي الْوَطْءِ، وَإِنْ كَانَ الْبَوْلُ مُسْتَمْسِكًا فَعَلَيْهِ الْمَهْرُ بِالْوَطْءِ وَثُلُثُ الدِّيَةِ بِالْإِفْضَاءِ كَالْجَائِفَةِ وَإِنْ أَفْضَى أَجْنَبِيَّةً بِوَطْءِ إِكْرَاهٍ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ دُونَ الْمَهْرِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: فِي الْإِفْضَاءِ حُكُومَةٌ.
وَالْكَلَامُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ هَاهُنَا فِي إِفْضَاءِ الزَّوْجَةِ، وَإِفْضَاءُ مَنْ سِوَاهَا لَهُ مَوْضُوعٌ مِنْ كِتَابِ الدِّيَاتِ.
وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّ إِفْضَاءَ الزَّوْجَةِ هَدْرٌ لَا يُضْمَنُ بِأَنَّ السِّرَايَةَ عَنْ مُسْتَحَقٍّ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ، كَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ إِذَا سَرَى إِلَى النَّفْسِ لَمْ يُضْمَنْ؛ لِحُدُوثِهِ عَنْ مُسْتَحَقٍّ، كَذَلِكَ الْإِفْضَاءُ سَرَى عَنْ وَطْءٍ مُسْتَحَقٍّ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُضْمَنَ.
وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهَا جِنَايَةٌ تَنْفَكُّ عَنِ الْوَطْءِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ أَرْشُهَا بِاسْتِحْقَاقِ الْوَطْءِ، كَمَا لَوْ وَطِئَهَا وَقَطَعَ يَدَهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَهْرَ يَجِبُ بِغَيْرِ مَا تَجِبُ بِهِ الدِّيَةُ، لِأَنَّ الْمَهْرَ عِنْدَهُمْ(9/538)
بِالْخَلْوَةِ، وَعِنْدَنَا بِتَغَيُّبِ الْحَشَفَةِ، وَالْإِفْضَاءُ يَكُونُ بِمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي الْإِيلَاجِ، فَصَارَ الْوَطْءُ الَّذِي تَجِبُ بِهِ دِيَةُ الْإِفْضَاءِ زَائِدًا عَلَى الْوَطْءِ الَّذِي يَجِبُ بِهِ الْمَهْرُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمُهُ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ: بِأَنَّهُ حَادِثٌ عَنْ وَطْءٍ مُسْتَحَقٍّ فَوَطْءُ الْإِفْضَاءِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ، لِأَنَّ الْوَطْءَ الْمُسْتَحَقَّ مَا لَمْ يُفْضِ إِلَى الْإِفْضَاءِ كَضَرْبِ الزَّوْجَةِ أبيح به ما لا يُفْضِ إِلَى التَّلَفِ، فَإِذَا أَفْضَى إِلَى التَّلَفِ صَارَ غَيْرَ مُبَاحٍ فَضُمِنَ، كَذَلِكَ وَطْءُ الْإِفْضَاءِ غَيْرُ مُبَاحٍ فَضُمِنَ
فَصْلٌ
وَأَمَّا مَالِكٌ فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ فِي الْإِفْضَاءِ حُكُومَةً بِأَنَّ الْحَاجِزَ بَيْنَ الْمَخْرَجَيْنِ كَالْحَاجِزِ فِي الْأَنْفِ بَيْنَ الْمَنْخَرَيْنِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَاجِزِ بَيْنَ الْمَنْخَرَيْنِ إِذَا قُطِعَ حُكُومَةٌ، كَذَلِكَ فِي خَرْقِ الْحَاجِزِ بَيْنَ المخرجين حكومة.
ودليلنا: هو أن الحاجة بَيْنَ الْمَخْرَجَيْنِ أَعْظَمُ مَنْفَعَةً مِنَ الشَّفْرَيْنِ؛ لِأَنَّ خَرْقَ الْحَاجِزِ يُفْضِي إِلَى اسْتِرْسَالِ الْبَوْلِ، وَقَطْعَ الشَّفْرَيْنِ لَا يَقْتَضِيهِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ فِي الشَّفْرَيْنِ الدِّيَةَ فَكَانَ فِي خَرْقِ الْحَاجِزِ أَوْلَى أَنْ تَجِبَ فِيهِ الدِّيَةُ.
فَأَمَّا الْحَاجِزُ بَيْنَ الْمَنْخَرَيْنِ فَمُخَالِفٌ لِلْحَاجِزِ بَيْنَ الْمَخْرَجَيْنِ؛ لِأَنَّ هَذَا عضو بكامله فَجَازَ أَنْ تُكْمَلَ فِيهِ الدِّيَةُ وَذَاكَ بَعْضُ عُضْوٍ فَلَمْ تُكْمَلْ فِيهِ الدِّيَةُ.
فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ فِي الْإِفْضَاءِ الدِّيَةَ مَعَ الْمَهْرِ، فَإِنَّمَا يَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ إِذَا لَمْ يَلْتَحِمِ الْحَاجِزُ عَلَى حَالِهِ مُنْخَرِقًا، فَأَمَّا إِنِ الْتَحَمَ وَعَادَ إِلَى حَالِهِ حَاجِزًا بَيْنَ الْمَخْرَجَيْنِ فَلَا دِيَةَ فِيهِ وَفِيهِ حُكُومَةٌ؛ لِأَنَّهُ جَانٍ عَلَيْهِ وَلَيْسَ بِمُسْتَهْلَكٍ لَهُ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوْ أَفْضَاهَا فَلَمْ تَلْتَئِمْ فَعَلَيْهِ دِيَتُهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْتِئَامَهُ يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ دِيَتِهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالدِّيَةُ إِذَا وَجَبَتْ فِيهِ فَهِيَ إِنْ عَمَدَ فَفِي مَالِهِ وَإِنْ أَخْطَأَ فَعَلَى عَاقِلَتِهِ، ثُمَّ هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ وَطْئِهَا حَتَّى يَنْدَمِلَ جُرْحُهَا وَيَبْرَأَ الْفَرْجُ الَّذِي لَا يَضُرُّهَا جِمَاعُهُ فَيُمْكِنُ حِينَئِذٍ مِنْ جِمَاعِهَا.
فَلَوِ ادَّعَى بُرْأَهَا وَانْدِمَالَهَا لِيَطَأَهَا وَقَالَتْ: بَلْ أَنَا عَلَى مَرَضِي لَمْ أَبْرَأْ مِنْهُ وَلَمْ يَنْدَمِلْ وَأَنْكَرَ مَا قَالَتْ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا وَيُمْنَعُ مِنْ وَطْئِهَا لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَرَضَهَا مُتَيَقَّنٌ وبرءها مَظْنُونٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَغِيبٌ يُمْكِنُ صِدْقُهَا فِيهِ فَجَرَى مَجْرَى الْحَيْضِ، ثُمَّ لَهَا النَّفَقَةُ وَإِنْ كان ممنوعاً منها كالمريضة، والله أعلم.
الْقَوْلُ فِي الْخَلْوَةِ فِي إِيجَابِهَا الْمَهْرَ
مَسْأَلَةٌ
قَالَ الشَّافِعِيُّ: " فَإِنْ دَخَلَتْ عَلَيْهِ فَلَمْ يَمَسَّهَا حتى طلقها فلها نصف المهر لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا(9/539)
فَرَضْتُمْ} فإن احتج محتجٌ بالأثر عن عمر رضي الله عنه في إغلاق الباب وإرخاء الستر أنه يوجب المهر فمن قول عمر ما ذنبهن لو جاء بالعجز من قبلكم؟ فأخبر أنه يجب إذا خلت بينه وبين نفسها كوجوب الثمن بالقبض وإن لم يغلق باباً ولم يرخ ستراً ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا؛ أَنْ يُطَلِّقَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ الْمُسَمَّى لَهَا صَدَاقًا مَعْلُومًا، فَلَا يَخْلُو حَالُ طَلَاقِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا وَقَبْلَ الْخَلْوَةِ، وَلَيْسَ لَهَا مِنَ الْمَهْرِ إِلَّا نِصْفُهُ، وَمَلَكَ الزَّوْجُ نِصْفَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) {البقرة: 237) .
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ بِوَطْءٍ تَامٍّ تَغِيبُ بِهِ الْحَشَفَةُ، فَقَدِ اسْتَقَرَّ لَهَا جَمِيعُ الْمَهْرِ الَّذِي كَانَتْ مَالِكَةً لَهُ بِالْعَقْدِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ) {النساء: 21) .
وَهَذَانِ الْقِسْمَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ الْخَلْوَةِ بِهَا وَقَبْلَ الْإِصَابَةِ لَهَا، فَقَدِ اختلف الفقهاء فيه على ثلاث مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَالْمَعْمُولُ عَلَيْهِ مِنْ مَذْهَبِهِ: أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا مِنَ الْمَهْرِ إِلَّا نِصْفَهُ، وَلَا تَأْثِيرَ لِلْخَلْوَةِ فِي كَمَالِ مَهْرٍ وَلَا إِيجَابِ عِدَّةٍ.
وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ.
وَمِنَ التَّابِعِينَ: الشَّعْبِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: أَبُو ثَوْرٍ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّ الْخَلْوَةَ كَالدُّخُولِ فِي كَمَالِ الْمَهْرِ وَوُجُوبِ الْعِدَّةِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَمِنَ التَّابِعِينَ: الزُّهْرِيُّ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ؛ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ.
إِلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَعْتَبِرُ الْخَلْوَةَ التامة في كمال المهر ووجوب العدة بأن لا يَكُونَا مُحْرِمِينَ وَلَا صَائِمِينَ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْخَلْوَةَ يَدٌ لِمُدَّعِي الْإِصَابَةِ مِنْهُمَا فِي كَمَالِ الْمَهْرِ أَوْ وُجُوبِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَدَّعِيَاهَا لَمْ يُكْمَلْ بِالْخَلْوَةِ مَهْرٌ وَلَا يَجِبُ بِهَا عِدَّةٌ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ في الإملاء.(9/540)
وَاسْتَدَلَّ مَنْ نَصَرَ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنَّ الْخَلْوَةَ تَقْتَضِي كَمَالَ الْمَهْرِ وَوُجُوبَ الْعِدَّةِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بَهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} وَلَهُمْ مِنَ الْآيَةِ دَلِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: عُمُومُ قَوْلِهِ {فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} إِلَّا مَا خَصَّهُ دَلِيلٌ.
وَالثَّانِي: قَوْلُهُ {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ وَقَدْ خَلَا بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ؛ لِأَنَّ الْفَضَاءَ هُوَ الْمَوْضِعُ الْوَاسِعُ الْخَالِي، وَقَوْلُ الْفَرَّاءِ فِيمَا تَعَلَّقَ بِاللُّغَةِ حُجَّةٌ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ كَشَفَ قِنَاعَ امرأةٍ فَقَدْ وَجَبَ لَهَا الْمَهْرُ كَامِلًا ".
وَهَذَا نَصٌّ.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: " مَا ذَنْبُهُنَّ إِنْ جَاءَ الْعَجْزُ مِنْ قِبَلِكُمْ ".
وَرُوِيَ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى أَنَّهُ قَالَ: قَضَى الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الْمَهْدِيُّونَ أَنَّ مَنْ أَغْلَقَ بَابًا وَأَرْخَى سِتْرًا فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْمَهْرُ، دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ " عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ ".
وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّمْكِينُ مِنَ الْمَنْفَعَةِ بِمَنْزِلَةِ اسْتِيفَائِهَا فِي اسْتِقْرَارِ بَدَلِهَا كَالْإِجَارَةِ، وَلِأَنَّ التَّسْلِيمَ الْمُسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ قَدْ وُجِدَ مِنْ جِهَتِهَا فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَقِرَّ الْعِوَضُ لَهَا، أَصْلُهُ: إِذَا وَطِئَهَا.
وَلِأَنَّ الْمَهْرَ فِي مُقَابَلَةِ الْإِصَابَةِ كَمَا أَنَّ النَّفَقَةَ فِي مُقَابَلَةِ الِاسْتِمْتَاعِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ التَّمْكِينَ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ شَرْطٌ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِمْتَاعِ فِي اسْتِقْرَارِ النَّفَقَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّمْكِينُ مِنَ الْإِصَابَةِ بِمَنْزِلَةِ الْإِصَابَةِ فِي اسْتِقْرَارِ الْمَهْرِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْخَلْوَةَ لَا تَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ فِي كَمَالِ مَهْرٍ، وَلَا وُجُوبِ عِدَّةٍ وَلَا بَدْءٍ فِي دَعْوَى قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} وَالْمَسِيسُ عِبَارَةٌ عَنِ الْوَطْءِ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَرْوِيٌّ فِي التَّفْسِيرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَسِيسَ كِنَايَةٌ لِمَا يُسْتَقْبَحُ صَرِيحُهُ، وَلَيْسَتِ الْخَلْوَةُ مُسْتَقْبَحَةَ التَّصْرِيحِ فَيُكَنِّي عَنْهَا، وَالْوَطْءُ مُسْتَقْبَحٌ فَكُنِّيَ بِالْمَسِيسِ عَنْهُ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَسِيسَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ كَمَالُ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ خَلَا بِهَا مِنْ غَيْرِ مَسِيسٍ كَمَلَ عِنْدَهُمُ الْمَهْرُ، وَلَوْ وَطِئَهَا مِنْ غَيْرِ خَلْوَةٍ كَمَلَ عَلَيْهِ الْمَهْرُ، وَلَوْ مَسَّهَا مِنْ غَيْرِ خَلْوَةٍ، وَلَا وَطْءٍ لَمْ يَكْمُلِ الْمَهْرُ، فَكَانَ حَمْلُ الْمَسِيسِ عَلَى الْوَطْءِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ(9/541)
الْحُكْمُ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ جَعَلَ الطَّلَاقَ قَبْلَ الْمَسِيسِ الَّذِي هُوَ الْوَطْءُ مُوجِبًا لِاسْتِحْقَاقِ نِصْفِ الْمَهْرِ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ: أَنَّهُ طَلَاقٌ قَبْلَ الْإِصَابَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكْمُلَ بِهِ الْمَهْرُ كَالطَّلَاقِ قَبْلَ الْخَلْوَةِ، وَلِأَنَّهَا خَلْوَةٌ خَلَتْ عَنِ الْإِصَابَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكْمُلَ بِهَا الْمَهْرُ كَالْخَلْوَةِ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مُحْرِمًا أَوْ صَائِمًا فَرْضًا؛ وَلِأَنَّ مَا لَا يُوجِبُ الْغُسْلَ لَا يُوجِبُ كَمَالَ الْمَهْرِ كَالْقُبْلَةِ مِنْ غَيْرِ خَلْوَةٍ، وَلِأَنَّ الْخَلْوَةَ لَمَّا لَمْ يَقُمْ فِي حَقِّهَا مَقَامُ الْإِصَابَةِ لَمْ يَقُمْ فِي حَقِّهِ مَقَامُ الْإِصَابَةِ كَالنَّظَرِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ خَلَا بِهَا لَمْ يَسْقُطْ بِهَا حَقُّ الْإِيلَاءِ، وَالْعُنَّةِ، وَلِأَنَّ ما لا يثبت به حق التسليم في أحد جنبي الْعَقْدِ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ حَقُّ التَّسْلِيمِ فِي الْجَنَبَةِ الْأُخْرَى قِيَاسًا عَلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ وَالْمُؤَاجَرِ إِذَا كَانَ دُونَ قَبْضِهِمَا حَائِلٌ، وَلِأَنَّ لِلْوَطْءِ أَحْكَامًا تَخْتَصُّ بِهِ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ وَالْغُسْلِ، وَثُبُوتِ الْإِحْصَانِ وَالْإِحْلَالِ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ وَسُقُوطِ الْعُنَّةِ وَحُكْمِ الْإِيلَاءِ، وَإِفْسَادِ الْعِبَادَةِ وَوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، وَاسْتِحْقَاقِ الْمَهْرِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، وَكَمَالِهِ فِي الصَّحِيحِ، وَوُجُوبِ الْعِدَّةِ فِيهِمَا.
فَلَمَّا انْتَفَى عَنِ الْخَلْوَةِ جَمِيعُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ سِوَى تَكْمِيلِ الْمَهْرِ وَالْعِدَّةِ انْتَفَى عَنْهَا هَذَانِ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْأَحْكَامِ.
وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّهُ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْوَطْءِ فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَفِيَ عَنِ الْخَلْوَةِ قِيَاسًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفَرَّاءَ قَدْ خُولِفَ فِي تَفْسِيرِ الْإِفْضَاءِ، فَقَالَ الزَّجَّاجُ فِي " مَعَانِيهِ ": إِنَّهُ الْغَشَيَانُ وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي " غَرِيبِ الْقُرْآنِ " هُوَ الْجِمَاعُ.
فَكَانَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ مَحْجُوجًا بِغَيْرِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي اسْتَدْلَلْنَا بِهَا مُفَسِّرَةٌ تَقْضِي عَلَى هَذَا الْمُجْمَلِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ: فَهُوَ أَنَّ كَشْفَ الْقِنَاعِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ كَمَالُ الْمَهْرِ عِنْدَنَا وَلَا عِنْدَهُمْ، فَإِنْ جَعَلُوهُ كِنَايَةً فِي الْخَلْوَةِ كَانَ جَعْلُهُ كِنَايَةً فِي الْوَطْءِ أَوْلَى.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْأَثَرِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: " مَا ذَنْبُهُنَّ إِنْ جَاءَ الْعَجْزُ مِنْ قِبَلِكُمْ " فَهُوَ أَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لَهَا الْمَهْرُ مَعَ الْعَجْزِ، سَوَاءٌ كَانَتْ خَلْوَةٌ أَوْ لَمْ تَكُنْ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ اسْتِحْقَاقُ دَفْعِهِ قَبْلَ الطَّلَاقِ، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْإِجَارَةِ فَمُنْتَقَضٌ مِمَّنْ سَلَّمَتْ نَفْسَهَا فِي صَوْمٍ، أَوْ إِحْرَامٍ، أَوْ حيض.(9/542)
فَإِنْ قِيلَ: الصَّوْمُ وَالْإِحْرَامُ مَانِعٌ فَلَمْ يَتِمَّ التَّسْلِيمُ.
قِيلَ: الْجُبُّ وَالْعُنَّةُ أَبْلَغُ فِي الْمَنْعِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنَ التَّسْلِيمِ الْمُوجِبِ لِكَمَالِ الْمَهْرِ عِنْدَهُمْ بِالْخَلْوَةِ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ وَطِئَ فِي الصِّيَامِ وَالْإِحْرَامِ لَكَمَلَ الْمَهْرُ وَاسْتَقَرَّ، فَجَازَ أَنْ تَكُونَ الْخَلْوَةُ لَوْ أَوْجَبَتْ كَمَالَ الْمَهْرِ فِي غَيْرِ الْإِحْرَامِ مُوجِبَةً لِكَمَالِهِ فِي الْإِحْرَامِ كَالْوَطْءِ.
عَلَى أَنَّ صَوْمَ التَّطَوُّعِ يَصِيرُ عِنْدَهُمْ وَاجِبًا بِالدُّخُولِ فِيهِ، وَلَا يَمْنَعُ الْخَلْوَةَ فِيهِ مِنْ كَمَالِ الْمَهْرِ عِنْدَهُمْ، فَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ صَوْمِ الْفَرْضِ.
عَلَى أَنَّ الْإِجَارَةَ مُقَدَّرَةٌ بِالزَّمَانِ، فَجَازَ أَنْ تَسْتَقِرَّ الْأُجْرَةُ بِالتَّمْكِينِ فِيهِ لِتَقْضِيَهُ، وَلَيْسَ النِّكَاحُ مُقَدَّرًا بِالزَّمَانِ فَلَمْ يَسْتَقِرَّ الْمَهْرُ فِيهِ بِالتَّمْكِينِ إِلَّا بِانْقِضَاءِ زَمَانِهِ بِالْمَوْتِ أَوْ بِالْوَطْءِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ؛ لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ بِالْعَقْدِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْوَطْءِ: فَالْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ بِالْوَطْءِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْخَلْوَةُ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالنَّفَقَةِ: فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ النَّفَقَةَ مُقَابَلَةٌ بِالتَّمْكِينِ دُونَ الْوَطْءِ وَلِذَلِكَ وَجَبَ لَهَا النَّفَقَةُ مَعَ التَّمْكِينِ فِي الصِّيَامِ وَالْإِحْرَامِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمَهْرُ؛ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الْوَطْءِ لِأَنَّهُمْ لَا يُكْمِلُونَ الْمَهْرَ بِالْخَلْوَةِ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ وَالصِّيَامِ.
فَصْلٌ
وَاسْتَدَلَّ مَنْ نَصَرَ قَوْلَ مَالِكٍ: أَنَّ الْخَلْوَةَ يَدٌ لِمُدَّعِي الْإِصَابَةِ مِنَ الزَّوْجَيْنِ بِأَنَّ الْخَلْوَةَ فِي دَعْوَى الْإِصَابَةِ تَجْرِي مَجْرَى اللَّوْثِ فِي الْقَسَامَةِ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِتَصْدِيقِ الْمُدَّعِي فَكَذَلِكَ الْخَلْوَةُ، وَلِأَنَّ الْإِصَابَةَ مِمَّا يَسْتَسِرُّهُ النَّاسُ وَلَا يُعْلِنُونَهُ فَتَعَذَّرَتْ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهَا، فَجَازَ أَنْ يُعْمَلَ فِيهَا عَلَى ظَاهِرِ الْخَلْوَةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا فِي قَبُولِ قَوْلِ مُدَّعِيهَا، كَمَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمَوْلَى فِي دَعْوَى الْإِصَابَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ " فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ.
وَلِأَنَّ اخْتِلَافَ الزَّوْجَيْنِ فِي الْإِصَابَةِ لَا يُوجِبُ تَرْجِيحَ مَنْ يَدَّعِيهَا بِالْخَلْوَةِ، كَمَا لَوْ خَلَا بِهَا لَيْلَةً فِي بَيْتِهَا.
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ فِي ذَلِكَ بِاللَّوْثِ فَغَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي تَرْجِيحِ الدَّعْوَى فِي الْأَمْوَالِ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَبَرًا فِي تَرْجِيحِ الدَّعْوَى فِي الدِّمَاءِ.
وَأَمَّا قَبُولُ قَوْلِ الْمَوْلَى فِي دَعْوَى الْإِصَابَةِ؛ فَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ ثُبُوتُ النِّكَاحِ فَلَمْ تُصَدَّقِ الزَّوْجَةُ فِي اسْتِحْقَاقِ فَسْخِهِ، وَالْأَصْلُ هَاهُنَا بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ وَعَدَمُ الْعِدَّةِ فَلَمْ يُصَدَّقْ مُدَّعِي اسْتِحْقَاقِهِمَا.(9/543)
مسألة
قال الشافعي: " وسواءٌ طَالَ مُقَامُهُ مَعَهَا أَوْ قَصُرَ لَا يَجِبُ الْمَهْرُ وَالْعِدَّةُ إِلَّا بِالْمِسِيسِ نَفْسِهِ (قَالَ المزني) رحمه الله قد جاء عن ابن مسعود وابن عباسٍ معنى ما قال الشافعي وهو ظاهر القرآن ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا إِنَّمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَدًّا عَلَى مَالِكٍ، فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ الْخَلْوَةَ إِنْ كَانَتْ فِي بَيْتِ الزَّوْجِ فَالْقَوْلُ مَعَهَا قَوْلُ مُدَّعِي الْإِصَابَةِ. وَإِنْ كَانَتْ فِي بَيْتِ الزَّوْجَةِ فَإِنْ طَالَتْ حَتَّى زَالَتِ الْحِشْمَةُ بَيْنَهُمَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعِي الْإِصَابَةِ مِنْهُمَا.
وَإِنْ قَصُرَتْ وَلَمْ تَزَلِ الْحِشْمَةُ بَيْنَهُمَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مُنْكِرِهَا، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ عُرْفُ الْحُكَّامِ بِالْمَدِينَةِ.
وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْخَلْوَةَ إِنْ أَوْجَبَتْ كَمَالَ الْمَهْرِ اسْتَوَى حُكْمُ طَوِيلِهَا وَقَصِيرِهَا، وَأَنْ تَكُونَ فِي بَيْتِهِ أَوْ بَيْتِهَا كَالْإِصَابَةِ.
وَإِنْ لَمْ تُوجِبْ كَمَالَ الْمَهْرِ كَانَتْ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهَا كَذَلِكَ، وَقَدْ تَكُونُ الْإِصَابَةُ فِي قَلِيلِ الْخَلْوَةِ وَلَا تَكُونُ فِي كَبِيرِهَا، وَقَدْ تَكُونُ الْإِصَابَةُ فِي خَلْوَةِ بَيْتِهَا، وَلَا تَكُونُ فِي خَلْوَةِ بَيْتِهِ.
فَلَمْ يَكُنْ لِهَذَا التَّفْصِيلِ مَعْنًى يُوجِبُهُ، وَلَا تَعْلِيلٌ يَقْتَضِيهِ، وَلَا أَصْلٌ يَرْجِعُ إِلَيْهِ وَفِعْلُ حُكَّامِ الْمَدِينَةِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ إِذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِدَلِيلٍ.
فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الزوجين إذا خلوا من أربعة أَحْوَالٍ.
إِحْدَاهُنَّ: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى الْإِصَابَةِ فَيَكْمُلُ الْمَهْرُ وَتَجِبُ الْعِدَّةُ وَتُسْتَحَقُّ الرَّجْعَةُ إِجْمَاعًا عَلَى الْأَقَاوِيلِ كُلِّهَا.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى عَدَمِ الْإِصَابَةِ.
فَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَالْإِمْلَاءِ لَا يَكْمُلُ الْمَهْرُ، وَلَا تَجِبُ الْعِدَّةُ، وَلَا تُسْتَحَقُّ الرَّجْعَةُ.
فَعَلَى هَذَا: لَوْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ وَقَدِ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الْإِصَابَةَ بَيْنَهُمَا لَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ؛ لِأَنَّهَا فِرَاشٌ.
وَفِي اسْتِكْمَالِ الْمَهْرِ عَلَى الْجَدِيدِ وَالْإِمْلَاءِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُسْتَكْمَلُ الْمَهْرُ؛ لِأَنَّ حُدُوثَ الْوَلَدِ دَلِيلٌ عَلَى تَقَدُّمِ الْإِصَابَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُسْتَكْمَلُ الْمَهْرُ، وَلَا يَكُونُ لَهَا إِلَّا نِصْفُهُ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَدِ اسْتَدْخَلَتْ مَنِيَّهُ فَعَلِقَتْ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ إصابة.(9/544)
فَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ فَفِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَهْرَ كَامِلٌ، وَالْعِدَّةَ وَاجِبَةٌ، وَالرَّجْعَةَ مُسْتَحَقَّةٌ اعْتِبَارًا بِحُكْمِ الْخَلْوَةِ،
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وهو قو أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ لَا يكمل المهر ولا تجب العدة ولا تستحق الرَّجْعَةُ اعْتِبَارًا بِعَدَمِ الْإِصَابَةِ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَدَّعِيَ الزَّوْجَةُ الْإِصَابَةَ وَيُنْكِرَهَا الزَّوْجُ، فَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ بِإِقْرَارِهَا عَلَى الْأَقَاوِيلِ كُلِّهَا إِلَّا عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْ قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ.
فَأَمَّا اسْتِكْمَالُ الْمَهْرِ فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ قَدِ استكملته بلا يمين.
وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ: الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَيْسَ لَهَا مِنَ الْمَهْرِ إِلَّا نِصْفُهُ.
فَإِنْ أَقَامَتِ الزَّوْجَةُ الْبَيِّنَةَ عَلَى إِقْرَارِ الزَّوْجِ بِالْإِصَابَةِ سُمِعَتِ الْبَيِّنَةُ بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَشَاهِدٍ وَيَمِينٍ؛ لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ لِإِثْبَاتِ مَالٍ.
وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَدَّعِيَ الزَّوْجُ الْإِصَابَةَ وَتُنْكِرَهَا الزَّوْجَةُ فَهَذِهِ الدَّعْوَى مِنْهُ إِنَّمَا هِيَ لِوُجُوبِ الْعِدَّةِ وَاسْتِحْقَاقِ الرَّجْعَةِ.
فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ: الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ بِلَا يَمِينٍ.
وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْإِمْلَاءِ: الْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَيُحْكَمُ بِوُجُوبِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا، وَبِاسْتِحْقَاقِ الرَّجْعَةِ لَهُ.
وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ: الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجَةِ مَعَ يَمِينِهَا، وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، وَلَا رَجْعَةَ لَهُ. فَأَمَّا الْمَهْرُ، فَقَدِ اسْتَكْمَلَتْهُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ.
فَأَمَّا فِي الْجَدِيدِ وَالْإِمْلَاءِ فَلَيْسَ لَهَا إِلَّا نِصْفُهُ، لَكِنْ إِنْ كَانَ الْمَهْرُ فِي يَدِهَا فَلَيْسَ لِلزَّوْجِ اسْتِرْجَاعُ نِصْفِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِيهِ وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الزَّوْجِ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ إِلَّا بِنِصْفِهِ؛ لِأَنَّهَا تُنْكِرُ اسْتِحْقَاقَ جَمِيعِهِ.
فَلَوْ أَقَامَ الزَّوْجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى إِقْرَارِهَا بِالْإِصَابَةِ لتثبت له الرجعة والعدة سمعت بشاهدي عَدْلَيْنِ، وَلَمْ تُسْمَعْ بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ لِأَنَّهَا عَلَى غَيْرِ مَالٍ.
فَصْلٌ
وَإِذَا خَالَعَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ الْمَدْخُولَ بِهَا عَلَى طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ بِعِوَضٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فِي عِدَّتِهَا وَطَلَّقَهَا فِي النِّكَاحِ الثَّانِي قَبْلَ دُخُولِهِ بِهَا كَانَ لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى فِي النِّكَاحِ الثَّانِي.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَهَا فِيهِ جَمِيعُ الْمَهْرِ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا؛ اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ:(9/545)
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نِكَاحٌ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهَا فِيهِ الْعِدَّةُ، فَوَجَبَ أَنْ يُكْمَلَ لَهَا فِيهِ جَمِيعُ الْمَهْرِ كَالْمَدْخُولِ بِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ حُكْمَ الْوَطْءِ مَوْجُودٌ فِيهِ لِلُحُوقِ وَلَدِهَا فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ حُكْمُهُ فِي كَمَالِ الْمَهْرِ.
وَدَلِيلُنَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) {البقرة: 237) وَهَذَا نِكَاحٌ لَمْ يَمَسَّهَا فِيهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُسْتَحَقَّ مِنَ الْمَفْرُوضِ لَهَا إِلَّا نِصْفُهُ، وَلِأَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ مِنْ نِكَاحٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَنَصَّفَ صَدَاقَهَا، كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا.
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّهَا تَعْتَدُّ مِنْهُ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهَا تَعْتَدُّ مِنَ الأول دون الثاني؛ لأنها تَأْتِي بِبَاقِي الْعِدَّةِ دُونَ جَمِيعِهَا.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ حُكْمَ الْوَطْءِ يُلْحِقُ وَلَدَهَا بِهِ مَوْجُودٌ فيه ففاسد؛ لأن لحوقه بالنكاح الأول دون الثاني لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لَوْ وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنَ النِّكَاحِ الثَّانِي لَحِقَ بِهِ.
الثاني: أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَتَزَوَّجْهَا بِالْعَقْدِ الثَّانِي وَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ فِرَاقِ النِّكَاحِ الْأَوَّلِ لَحِقَ بِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(9/546)
باب المتعة من كتاب الطلاق قديمٍ وجديدٍ
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " جَعَلَ اللَّهُ الْمُتْعَةَ لِلْمُطَلَّقَاتِ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ لِكُلِّ مطلقةٍ متعةٌ إِلَّا الَتِي فُرِضَ لَهَا وَلَمْ يُدْخَلْ بِهَا فحسبها نصف المهر ".
قال الماوردي: أما النفقة فَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْمَالِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْفُرْقَةِ فِي النِّكَاحِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْمَتَاعِ، وَهُوَ كُلُّ مَا اسْتُمْتِعَ بِهِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
(وَكُلُّ عمارةٍ مِنْ حبيبٍ ... لَهَا بِكَ لَوْ لَهَوْتَ بِهِ مَتَاعُ)
وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يشتمل على الطلاق الذي يستحق به المتعة، والطلاق ينقسم ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ.
قِسْمٌ يُوجِبُ الْمُتْعَةَ.
وَقِسْمٌ لَا يوجبها.
وقسم مختلف فيه.
القسم الذي يوجب المتعة
فَأَمَّا الْقِسْمُ الَّذِي يُوجِبُ الْمُتْعَةَ فَهُوَ طَلَاقُ الْمُفَوَّضَةِ الَّتِي لَمْ يُسَمَّ لَهَا صَدَاقٌ وَلَا فُرِضَ لَهَا بَعْدَ الْعَقْدِ صَدَاقٌ إِذَا طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا يُنَصَّفُ لَهَا صَدَاقٌ، وَلَيْسَ لَهَا إِلَّا مُتْعَةٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَا بَيَانَهَا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) {البقرة: 236) فَجَعَلَ لَهَا الْمُتْعَةَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مَهْرٌ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَهَذِهِ الْمُتْعَةُ وَاجِبَةٌ، وَاسْتَحَبَّهَا مَالِكٌ وَلَمْ يُوجِبْهَا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {حَقًّا عَلَى المُحْسِنِينَ) {البقرة: 236) وَقَدْ مَضَى عَلَيْهِ مِنَ الْكَلَامِ مَا أَقْنَعَ مَعَ ظَاهِرِ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ مِنَ الْأَمْرِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَ بُضْعَهَا، وَهِيَ لَا تَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنَ الْمَهْرِ إِذَا لَمْ يُسَمَّ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَوْ لَمْ يَجِبْ لَهَا الْمُتْعَةُ لَخَلَا بُضْعُهَا مِنْ بَدَلٍ فَصَارَتْ كَالْمَوْهُوبَةِ الَّتِي خُصَّ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دُونَ غَيْرِهِ مِنْ أُمَّتِهِ؛ وَلِأَنَّهَا قَدِ ابْتُذِلَتْ بِالْعَقْدِ الَّذِي لَمْ تَمْلِكْ لَهُ بَدَلًا، فَاقْتَضَى أن تكون المتعة فيه بدلاً؛ لأن لا تصير مبتذلة بغير بدل.(9/547)
فصل: القسم الذي لا يوجب المتعة
وَأَمَّا الْقِسْمُ الَّذِي لَا يُوجِبُ الْمُتْعَةَ فَهُوَ الطلاق قبل الدخول لمن سمي لها مهر بالعقد أو فرض لها مهر قَبْلَ الطَّلَاقِ وَبَعْدَ الْعَقْدِ، فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى أَوِ الْمَفْرُوضِ وَلَا مُتْعَةَ لَهَا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) {البقرة: 237) فَلَمْ يَجْعَلْ لَهَا إِلَّا نِصْفَ الْمَهْرِ، وَلِأَنَّهَا قَدْ مَلَكَتْ نِصْفَ الْمَهْرِ بِمَا ابتذلت مِنَ الْعَقْدِ فَلَمْ يَجْعَلْ لَهَا غَيْرَهُ؛ لِئَلَّا يَجْمَعَ بَيْنَ بَدَلَيْنِ؛ وَلِأَنَّ طَلَاقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ قَدْ أَسْقَطَ شَطْرَ مَهْرِهَا، فَلَا مَعْنَى لِأَنْ تستحق به متعة فوق مهرها.
فصل: القسم المختلف فيه
وَأَمَّا الْقِسْمُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ فَهُوَ الطَّلَاقُ بَعْدَ الدُّخُولِ لِمَنْ سَمَّى لَهَا مَهْرًا أَوْ لَمْ يُسَمِّ، فَلَهَا الْمَهْرُ الْمُسَمَّى، أَوْ مَهْرُ الْمِثْلِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُسَمًّى، وَفِي وُجُوبِ الْمُتْعَةِ لَهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا مُتْعَةَ لَهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْمُتْعَةَ بِشَرْطَيْنِ هُمَا: عَدَمُ الْمَهْرِ، وَعَدَمُ الدُّخُولِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجِبَ بِفَقْدِهِمَا وَلِأَنَّهُ نِكَاحٌ لَمْ يَخْلُ مِنْ عِوَضٍ فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ مُتْعَةٌ كَالْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ إِذَا كَانَ لَهَا مَهْرٌ مُسَمًّى؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِبْ لَهَا مُتْعَةٌ إِذَا اسْتَحَقَّتْ نِصْفَ الْمَهْرِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَجِبَ لَهَا مُتْعَةٌ، إِذَا اسْتَحَقَّتْ جَمِيعَ الْمَهْرِ؛ وَلِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ المتعة؛ لأن لا تَصِيرَ مُبْتَذَلَةً بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَقَدْ صَارَتْ إِلَى عِوَضٍ فَلَمْ يُجْمَعْ لَهَا بَيْنَ عِوَضَيْنِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ لَهَا الْمُتْعَةُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلِلْمُطَلَقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) {البقرة: 231) فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ فِي الْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلَيْسَ لَهَا مَهْرٌ مُسَمًّى.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَذِهِ الْآيَةُ مُجْمَلَةٌ فَسَّرَهَا قوله تعالى: {وَلاَ جُناَحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) {البقرة: 236) .
قِيلَ: حَمْلُ الْآيَتَيْنِ عَلَى عُمُومٍ وَخُصُوصٍ، أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى مُجْمَلٍ وَمُفَسِّرٍ؛ لِأَنَّ الْعُمُومَ يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ بِنَفْسِهِ وَالْمُجْمَلَ لَا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ بِنَفْسِهِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً) {الأحزاب: 28) وفي تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ وَتَقْدِيرُهُ: فَتَعَالَيْنَ أُسَرِّحْكُنَّ وَأُمَتِّعْكُنَّ، وَقَدْ كن كلهم مَدْخُولَاتٍ بِهِنَّ، فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْمُتْعَةِ لِلْمَدْخُولِ بِهَا، وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ أَنَّ الْمُتْعَةَ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ إِلَّا الَّتِي طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ وَلَمْ يُفْرَضْ لَهَا مَهْرٌ(9/548)
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ؛ وَلِأَنَّهُ طَلَاقٌ لَمْ يَسْقُطْ بِهِ شَيْءٌ مِنَ الْمَهْرِ فَجَازَ أَنْ تَجِبَ لَهَا الْمُتْعَةُ كَالْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الْفَرْضِ، وَقَبْلَ الدُّخُولِ.
وَلِأَنَّ اسْتِكْمَالَ الْمَهْرِ فِي مُقَابَلَةِ الدخول بدليل استحقاقه بوطئ الشُّبْهَةِ فَاقْتَضَى أَنْ يُسْتَحَقَّ فِي مُقَابَلَةِ الْعَقْدِ الَّذِي ابْتُذِلَتْ بِهِ بَدَلٌ وَهُوَ الْمُتْعَةُ.
وَلِأَنَّ النِّكَاحَ الصَّحِيحَ أَغْلَظُ مِنَ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعِوَضِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ تَسْتَحِقُّ بِالطَّلَاقِ فِيهِ قَبْلَ الدُّخُولِ مِنَ الْعِوَضِ مَا لَا تَسْتَحِقُّهُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ فَوَجَبَ أَنْ تَسْتَحِقَّ بِالطَّلَاقِ فِيهِ بَعْدَ الدُّخُولِ مِنَ الْمُتْعَةِ مَعَ مَهْرٍ مَا لَا تَسْتَحِقُّهُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ.
وَلَوْ سَقَطَتِ الْمُتْعَةُ وَقَدِ اسْتَوَيَا فِي الْمَهْرِ لَمْ يَتَغَلَّظْ فِي الْعِوَضِ فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فَعَلَى الْقَدِيمِ مِنْهُمَا لَا مُتْعَةَ إِلَّا لِمُطَلَّقَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الْمُطَلَّقَةُ قَبْلَ الدخول لها مهر مسمى.
مسألة
قال الشافعي: " فَالْمُتْعَةُ عَلَى كُلِّ زوجٍ طَلَّقَ وَلِكُلِّ زوجةٍ إِذَا كَانَ الْفِرَاقُ مِنْ قِبَلِهِ أَوْ يَتِمُّ بِهِ مِثْلُ أَنْ يُطَلِّقَ أَوْ يُخَالِعَ أَوْ يَمْلِكَ أَوْ يُفَارِقَ وَإِذَا كَانَ الْفِرَاقُ مِنْ قبله فَلَا مُتْعَةَ لَهَا وَلَا مَهْرَ أَيْضًا لِأَنَّهَا ليست بمطلقةٍ وكذلك إن كانت أمةً فباعها سيدها من زوجها فهو أفسد النكاح ببيعه إياها منه فأما الملاعنة فإن ذلك منه ومنها ولأنه إن شاء أمسكها فهي كالمطلقة وَأَمَّا امْرَأَةٌ الْعِنِّينِ فَلَوْ شَاءَتْ أَقَامَتْ مَعَهُ ولها عندي متعةٌ والله أعلم (قال المزني) رحمه الله عِنْدِي غلطٌ عَلَيْهِ وَقِيَاسُ قَوْلِهِ لَا حَقَّ لها لأن الفراق من قبلها دونه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْمُتْعَةَ لَا يَخْتَلِفُ وُجُوبُهَا بِاخْتِلَافِ الْأَزْوَاجِ وَالزَّوْجَاتِ فَهِيَ عَلَى كُلِّ زَوْجٍ مِنْ حُرٍّ وَعَبْدٍ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ، وَلِكُلِّ زَوْجَةٍ مِنْ حُرَّةٍ أَوْ أَمَةٍ مُسْلِمَةٍ أَوْ كَافِرَةٍ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِذَا كَانَ الزَّوْجَانِ مَمْلُوكَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا فَلَا مُتْعَةَ بَيْنَهُمَا.
وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ) {البقرة: 241) وَلِأَنَّ الْمُتْعَةَ وَجَبَتْ لِتَكُونَ الْمُطَلَّقَةُ مُفَارِقَةً لِلْمَوْهُوبَةِ فَاقْتَضَى أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهَا الْأَحْرَارُ وَالْعَبِيدُ كَمَا(9/549)
يَسْتَوِي فِي حَظْرِ الْمَوْهُوبَةِ حَالُ الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَسْتَوِي فِيهَا كُلُّ زَوْجٍ من كُلِّ زَوْجَةٍ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى تَفْصِيلِ الْفُرْقَةِ الَّتِي تَسْتَحِقُّ بِهِ الْمُتْعَةَ، وَالْفُرْقَةُ الْوَاقِعَةُ بَيْنَ الزوجين تنقسم خَمْسَةَ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ بِالْمَوْتِ.
وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مِنَ الزَّوْجِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ مِنَ الزَّوْجَةِ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ مِنْهُمَا.
وَالْخَامِسُ: أن تكون من أجنبي غيرهما.
فصل: الْقِسْمِ الْأَوَّلِ
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْفُرْقَةُ بِالْمَوْتِ فَلَا مُتْعَةَ فِيهَا سَوَاءٌ كَانَتْ بِمَوْتِ الزَّوْجِ أَوْ بِمَوْتِ الزَّوْجَةِ سَوَاءٌ تَوَارَثَا أَمْ لَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَهَا لِلْمُطَلَّقَةِ؛ لِأَنَّهُ قَطَعَ عِصْمَتَهَا وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ فِي الْوَفَاةِ، وَهَكَذَا لَوْ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِمِيرَاثٍ عَنْ وَفَاةٍ بِأَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ أَمَةً فَيَرِثُهَا الزَّوْجُ أَوْ يَكُونُ الزَّوْجُ عَبْدًا فَتَرِثُهُ الزَّوْجَةُ فَقَدْ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَمْلِكَ صَاحِبَهُ، وَإِذَا وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا بِالتَّوَارُثِ فَلَا مُتْعَةَ؛ لِأَنَّهَا عَنِ الْمَوْتِ حَدَثَتْ؛ وَلِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْوَارِثَ لَهَا فَهِيَ أَمَتُهُ وَالْأَمَةُ لَا تَمْلِكُ فِي ذِمَّةِ سَيِّدِهَا مَالًا فَلَمْ يَجِبْ لَهَا عَلَيْهِ مُتْعَةٌ، وَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ هِيَ الْوَارِثَةَ لَهُ فَقَدْ صَارَ عَبْدًا لَهَا، وَالسَّيِّدُ لَا يَثْبُتُ لَهُ فِي ذِمَّةِ عَبْدِهِ مَالٌ فَلَمْ يجب لها عليه متعة.
فصل: الْقِسْمِ الثَّانِي
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْفُرْقَةُ مِنَ الزَّوْجِ دُونَهَا، فَخَمْسُ فِرَقٍ:
أَحَدُهَا: الطَّلَاقُ، وَهُوَ مُوجِبٌ لِلْمُتْعَةِ عَلَى مَا مَضَى.
وَالثَّانِي: بِاللِّعَانِ، لِأَنَّهُ وَإِنْ تَمَّ بِهِمَا فَالْفُرْقَةُ وَاقِعَةٌ بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ فَهُوَ كَالطَّلَاقِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمُتْعَةِ بِهِ؛ وَلِأَنَّ الْفُرْقَةَ بِهِ أَغْلَظُ مِنَ الْفُرْقَةِ بِالطَّلَاقِ لِتَأْبِيدِهَا فَكَانَتْ بِوُجُوبِ الْمُتْعَةِ أَحَقَّ.
وَالثَّالِثُ: الرِّدَّةُ، وَهُوَ أَنْ يَرْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ فَتَقَعَ الْفُرْقَةُ بِرِدَّتِهِ فَتَكُونُ كَالْفُرْقَةِ بِالطَّلَاقِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمُتْعَةِ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا وَجَبَتْ بِالطَّلَاقِ الْمُبَاحِ كَانَ وُجُوبُهَا بِالرِّدَّةِ الْمُحَرَّمَةِ أَوْلَى.
وَالرَّابِعُ: الْإِسْلَامُ وَهُوَ أَنْ يُسْلِمَ الزَّوْجُ دُونَهَا فَتَبِينُ بِإِسْلَامِهِ فَلَهَا الْمُتْعَةُ كَالطَّلَاقِ، لِأَنَّهَا لَمَّا وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِفُرْقَةِ كُفْرِهِ كَانَ وُجُوبُهَا بِفُرْقَةِ إسلامه أولى.(9/550)
وَالْخَامِسُ: الْفَسْخُ بِالْعُيُوبِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ رَفْعًا لِلْعَقْدِ لِتَقَدُّمِهِ عَلَيْهِ فَلَا مُتْعَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَسْقَطَ الْمَهْرَ كَانَ بِإِسْقَاطِهِ الْمُتْعَةَ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَطْعًا لِلْعَقْدِ بِحُدُوثِهِ بَعْدَهُ فَهُوَ وُجُوبُ الْمُتْعَةِ كَالطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَسْقُطْ بِهِ الْمَهْرُ لَمْ تَسْقُطْ بِهِ الْمُتْعَةُ.
فصل: القسم الثالث
وأما القسم الثالث: أن تكون الفرقة من جهتها دون فَلَا مُتْعَةَ فِيهَا، وَإِنْ تَنَوَّعَتْ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ فَسْخُهَا مُسْقِطًا لِصَدَاقِهَا فَأَوْلَى أَنْ يُسْقِطَ مُتْعَتَهَا، وَهَذِهِ الْفُرْقَةُ قَدْ تَكُونُ مِنْ سِتَّةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: بِرِدَّتِهَا.
وَالثَّانِي: بِإِسْلَامِهَا.
وَالثَّالِثُ: بِأَنْ تجد فيها عَيْبًا فَتَفْسَخُ نِكَاحَهُ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ تَعْتِقَ وَزَوْجُهَا عَبْدٌ فَتَخْتَارُ فَسْخَ نِكَاحِهِ.
وَالْخَامِسُ: بِأَنْ يَعْسُرَ الزَّوْجُ بِنَفَقَتِهَا فَتَخْتَارُ فَسْخَ نِكَاحِهِ.
وَالسَّادِسُ: بِأَنْ تَظْهَرَ فِيهِ عُنَّةٌ فَيُؤَجَّلَ لَهَا ثُمَّ تَخْتَارُ فَسْخَ نِكَاحِهِ بِهَا إِلَّا أَنَّ الْمُزَنِيَّ حَكَى عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ قَالَ: وَأَمَّا امْرَأَةٌ الْعِنِّينِ فَلَوْ شَاءَتْ أَقَامَتْ مَعَهُ وَلَهَا عِنْدِي مُتْعَةٌ قَالَ الْمُزَنِيُّ: وَهَذَا عِنْدِي غَلَطٌ عَلَيْهِ، وَقِيَاسُ قَوْلِهِ لَا حَقَّ لَهَا؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ مِنْ قِبَلِهَا دُونَهُ.
وَهَذَا وَهْمٌ مِنَ الْمُزَنِيِّ فِي النَّقْلِ وَاسْتِدْرَاكٌ مِنْهُ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ قَالَ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " وَأَمَّا امْرَأَةٌ الْعِنِّينِ فَلَوْ شَاءَتْ أَقَامَتْ مَعَهُ فَلَيْسَ لَهَا عِنْدِي مُتْعَةٌ فَسَهَا الْكَاتِبُ فِي نَقْلِهِ فَأَسْقَطَ قَوْلَهُ: " فَلَيْسَ " وَنَقَلَ مَا بَعْدَهُ فَقَالَ: فَلَهَا عِنْدِي مُتْعَةٌ وَتَعْلِيلُ الشَّافِعِيِّ يَدُلُّ عَلَى السَّهْوِ فِي النَّقْلِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: فَلَوْ شَاءَتْ أَقَامَتْ مَعَهُ فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ الْفُرْقَةَ مِنْ جِهَتِهَا، وَالْفُرْقَةُ إِذَا كَانَتْ مِنْهَا أسقطت متعتها.
فَصْلٌ: الْقِسْمُ الرَّابِعُ
وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أن تكون الفرقة من جهتها فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَغْلِبَ فِيهِ جِهَةُ الزَّوْجِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَغْلِبَ فِيهِ جِهَةُ الزوجة.
فأما ما يغلب فيه جهة الزوجة فَشَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْخُلْعُ، لِأَنَّهُ تَمَّ بِهِمَا إِلَّا أَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ الزَّوْجُ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ مِنْ جِهَتِهِ وَقَعَتْ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ يَصِلُ إِلَى الْخُلْعِ عَنْهَا مَعَ غَيْرِهَا.(9/551)
وَالثَّانِي: أَنْ يُمَلِّكَهَا طَلَاقَ نَفْسِهَا أَوْ يَجْعَلَ ذَلِكَ إِلَى مَشِيئَتِهَا فَتُطَلِّقُ نَفْسَهَا وَتَشَاءُ طَلَاقَ نَفْسِهَا فَتَقَعُ الْفُرْقَةُ بِهِمَا إِلَّا أَنَّ جِهَةَ الزَّوْجِ أَغْلَبُ لِلْأَمْرَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ وَهُوَ أَنَّ الْفُرْقَةَ مِنْ جِهَتِهِ وَقَعَتْ، وَلِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَقْدِرُ أَنْ يَجْعَلَ طَلَاقَهَا إِلَى غَيْرِهَا أَوْ أَنْ تُعَلِّقَهُ بِمَشِيئَةِ غَيْرِهَا فَيَكُونُ فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ إِذَا انْفَرَدَ الزَّوْجُ بِإِيقَاعِهِ فِي وُجُوبِ الْمُتْعَةِ بِهِ عَلَى مَا فَصَّلْنَا.
وَأَمَّا مَا يُغَلَّبُ فِيهِ جِهَةُ الزَّوْجَةِ فَهُوَ أَنْ تَكُونَ أَمَةً فَيَبْتَاعَهَا الزَّوْجُ مِنْ سَيِّدِهَا فَقَدْ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ مِنْ جِهَتِهَا؛ لِأَنَّهَا تَمَّتْ بِبَيْعِ السَّيِّدِ، وَابْتِيَاعِ الزَّوْجِ وَالسَّيِّدِ مِنْ جِهَتِهَا فَظَاهِرُ نَصِّ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ لَا مُتْعَةَ لَهَا وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ، وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ: لَهَا الْمُتْعَةُ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى تَخْرِيجِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ لَا مُتْعَةَ لَهَا؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَنْزِلَةِ الزَّوْجِ فِي الْخُلْعِ فَاقْتَضَى أَنْ يُغَلَّبَ جِهَةُ السَّيِّدِ هَاهُنَا فِي سُقُوطِ الْمُتْعَةِ كَمَا يُغَلَّبُ فِي الْخُلْعِ جِهَةُ الزَّوْجِ فِي وُجُوبِ الْمُتْعَةِ، وَلِأَنَّ السَّيِّدَ قَدْ كَانَ يَصِلُ إِلَى بَيْعِهَا مِنْ غَيْرِهِ فَصَارَ اخْتِيَارُهُ لِلزَّوْجِ اخْتِيَارًا لِلْفُرْقَةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الْإِمْلَاءِ لَهَا الْمُتْعَةُ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِي يَتَسَاوَيَانِ فِي وُقُوعِ الْعَقْدِ بِهِمَا وَقَدِ اخْتَصَّ الزَّوْجُ بِمُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ دُونَهَا فَاقْتَضَى أَنْ يَتَرَجَّحَ حَالُهُ فِي وُجُوبِ الْمُتْعَةِ عَلَيْهَا، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ فَنَصُّهُ فِي الْقَدِيمِ، وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى أَنْ لَا مُتْعَةَ لَهَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَدْعِي لِلْبَيْعِ هُوَ السَّيِّدُ فَغَلَبَتْ جِهَتُهُ فِي سُقُوطِ الْمُتْعَةِ، وَنَصُّهُ فِي الْإِمْلَاءِ أَنَّ لَهَا الْمُتْعَةَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَدْعِي لِلْبَيْعِ هُوَ الزَّوْجُ فغلبت جهته في وجوب المتعة.
فَصْلٌ: الْقِسْمُ الْخَامِسُ
وَأَمَّا الْقِسْمُ الْخَامِسُ: وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْفُرْقَةُ مِنْ غَيْرِهِمَا، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ زَوْجَتُهُ صَغِيرَةً فَتُرْضِعَهَا أُمُّهُ أَوْ بِنْتُهُ فَتَحْرُمُ عَلَيْهِ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْفُرْقَةُ كَالطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِكُ بِهَا نِصْفَ الْمُسَمَّى فَوَجَبَ أَنْ تَسْتَحِقَّ الْمُتْعَةَ عِنْدَ عَدَمِ الْمُسَمَّى، وَتَرْجِعَ بِالْمُتْعَةِ عَلَى الَّتِي حَرَّمَتْهَا كَمَا تَرْجِعُ عَلَيْهَا بِصَدَاقِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ: وَإِذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَأَصْدَقَهَا أَنْ تُعْتِقَ عَبْدَهُ سَالِمًا عَنْهَا صَحَّ الصَّدَاقُ وَعَلَيْهِ عِتْقُهُ عَنْهَا؛ لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ عَلَى هَذَا الْعِتْقِ جَائِزَةٌ فَلَوْ أَعْتَقَهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ رَجَعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِ قِيمَتِهِ، وَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَبْلَ عِتْقِهِ عَنْهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ:(9/552)
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُعْتِقُ عَنْهَا نِصْفَهُ، وَيُقَوِّمُ عَلَيْهَا نِصْفَهُ الْبَاقِي إِنْ كَانَتْ مُوسِرَةً؛ لِأَنَّ عِتْقَ نِصْفِهِ كَانَ بِاخْتِيَارِهَا فَلِذَلِكَ وَجَبَ تَقْدِيمُ بَاقِيهِ عَلَيْهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ عَنْهَا شَيْءٌ مِنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ إِدْخَالِ الضَّرَرِ عَلَيْهَا فِي التَّقْوِيمِ وَإِدْخَالِهِ عَلَى الْعَبْدِ، وَعَلَى السَّيِّدِ فِي التَّبْعِيضِ وَتَرْجِعُ الزَّوْجَةُ عَلَيْهِ بِبَدَلِهِ، وَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: قِيمَةُ نِصْفِ الْعَبْدِ.
وَالثَّانِي: نِصْفُ مَهْرِ مِثْلِهَا لِيَرْفَعَ ذَلِكَ الضَّرَرَ عَنِ الْجَمِيعِ.
فَرْعٌ: وَإِذَا أَصْدَقَ الذِّمِّيُّ زَوْجَتَهُ الذِّمِّيَّةَ خَمْرًا فَصَارَ الْخَمْرُ فِي يَدِ الزَّوْجِ خَلًّا بِغَيْرِ عِلَاجٍ، وَأَسْلَمَ الزَّوْجَانِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَصِيرَ الْخَمْرُ خَلًّا قَبْلَ إِسْلَامِهِمَا، فَعَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَيْهَا بَعْدَ مَصِيرِهِ خَلًّا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَصِيرَ خَلًّا بَعْدَ إِسْلَامِهَا فَلَا يَلْزَمُهُ دَفْعُهُ خَلًّا إِلَيْهَا، وَيَدْفَعُ إِلَيْهَا مَهْرَ مِثْلِهَا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ يَجُوزُ دَفْعُهُ خَمْرًا، فَلِذَلِكَ وَجَبَ دَفْعُهُ بَعْدَ مَصِيرِهِ خَلًّا لِبَقَاءِ حُكْمِ الصَّدَاقِ عَلَيْهِ، وَبَعْدَ الْإِسْلَامِ، لَا يَجُوزُ دَفْعُهُ خَمْرًا فَلَمْ يَجِبْ دَفْعُهُ بَعْدَ مَصِيرِهِ خَلًّا لِانْتِفَاءِ حُكْمِ الصَّدَاقِ عَنْهُ، فَلَوْ دَفَعَ الْخَمْرَ إِلَيْهَا فِي الشِّرْكِ ثُمَّ أَسْلَمَا، وَطَلَّقَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الْخَمْرِ لِأَنَّ الْخَمْرَ لَا يَسْتَحِقُّهُ مُسْلِمٌ وَلَا بِقِيمَتِهِ لِأَنَّنَا لَا نَحْكُمُ لَهُ بِقِيمَتِهِ وَلَا بِبَدَلِهِ؛ لِأَنَّ مَا لَا قِيمَةَ لَهُ لَا بَدَلَ لَهُ، فَلَوْ كَانَ الْخَمْرُ قَدْ صَارَ خَلًّا قَبْلَ طَلَاقِهِ فَفِي رُجُوعِ الزَّوْجِ بِنِصْفِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ بِنِصْفِ الْخَلِّ؛ لِأَنَّ عَيْنَ الصَّدَاقِ مَوْجُودَةٌ عَلَى صِفَةٍ يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ مَعَهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِهِ لِزِيَادَتِهِ عَنْ حَالِ مَا أَصْدَقَ، وَلَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَجُوزُ فَلَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ فِي هَذَا الطَّلَاقِ، وَلَا فَرْقَ هَاهُنَا بَيْنَ أَنْ يَصِيرَ خَلًّا قَبْلَ إِسْلَامِهَا أَوْ بَعْدَهُ لِاسْتِقْرَارِ مِلْكِهَا عَلَيْهِ بِالْقَبْضِ، وَلَكِنْ لَوْ صَارَ خَلًّا بَعْدَ الطَّلَاقِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا بِنِصْفِهِ، وَجْهًا وَاحِدًا لِكَوْنِهِ وَقْتَ طَلَاقِهَا غَيْرَ مُسْتَحَقٍّ، وَلَوْ صَارَ قَبْلَ طَلَاقِهَا فَاسْتَهْلَكَهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا بِنِصْفِ قِيمَةِ الْخَلِّ وَجْهًا وَاحِدًا، وَلَا يَكُونُ لَهُ عَلَيْهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّ مَا يَرْجِعُ الزَّوْجُ بِهِ مِنْ قِيمَةِ الصَّدَاقِ مُعْتَبَرٌ بِأَقَلِّ أَحْوَالِهِ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ إِلَى وَقْتِ الْقَبْضِ، وَقَدْ كَانَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ مِمَّا لَا قِيمَةَ لَهُ.(9/553)
فَرْعٌ: وَإِذَا زَوَّجَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ بِامْرَأَةٍ وَجَعَلَ رَقَبَتَهُ صَدَاقَهَا، فَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ حُرَّةً فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ تَصْحِيحَ النِّكَاحِ يَجْعَلُهَا مَالِكَةً لِزَوْجِهَا، وَإِذَا مَلَكَتِ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا بَطَلَ النِّكَاحُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا صَحَّ النِّكَاحُ، وَبَطَلَ الصَّدَاقُ.
قِيلَ: لِأَنَّ هَذَا الْعَقْدَ قَدْ أَوْجَبَ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ مَالِكًا لِبُضْعِهَا بِالنِّكَاحِ، وَأَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ مَالِكَةً لِرَقَبَتِهِ بِالصَّدَاقِ، وَلَيْسَ إِثْبَاتُ أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنَ النِّكَاحِ الْآخَرِ فَبَطَلَا جَمِيعًا، وَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ أَمَةً صَحَّ النِّكَاحُ وَالصَّدَاقُ، جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِهَذَا الْعَقْدِ مِلْكًا لِسَيِّدِ زَوْجَتِهِ وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجَانِ فِي مِلْكِ سَيِّدٍ وَاحِدٍ، فَلَوْ أَنَّ الْعَبْدَ وَالْمَسْأَلَةَ بِحَالِهَا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ الْأَمَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ سَيِّدُهُ الْمُزَوِّجُ لَهُ بِنِصْفِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِيمَنْ أَصْدَقَ عَنْ عَبْدِهِ مَالًا ثُمَّ طَلَّقَ الْعَبْدَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَدْ بَاعَهُ سَيِّدُهُ فَهَلْ يَكُونُ نِصْفُ الصَّدَاقِ مِلْكًا لِسَيِّدِهِ الْأَوَّلِ الَّذِي بَذَلَهُ عَنْهُ أَوْ لِسَيِّدِهِ الثَّانِي الَّذِي طَلَّقَ، وَهُوَ فِي مِلْكِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.(9/554)
باب الوليمة والنثر من كتاب الطلاق إملاءً على مسائل مالكٍ
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " الْوَلِيمَةُ الَّتِي تُعْرَفُ وَلِيمَةُ الْعُرْسِ وَكُلُّ دعوةٍ عَلَى إملاكٍ أَوْ نفاسٍ أَوْ ختانٍ أَوْ حَادِثِ سرورٍ فَدُعِيَ إِلَيْهَا رجلٌ فَاسْمُ الْوَلِيمَةِ يَقَعُ عَلَيْهَا وَلَا أُرَخِّصُ فِي تَرْكِهَا وَمَنْ تَرَكَهَا لَمْ يَبِنْ لِي أَنَّهُ عاصٍ كَمَا يَبِينُ لِي فِي وَلِيمَةِ الْعُرْسِ لِأَنِّي لَا أَعْلَمُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَرَكَ الْوَلِيمَةَ عَلَى عرسٍ وَلَا أَعْلَمُهُ أَوْلَمَ على غير وأول على صفية رضي الله عنها في سفرٍ بسويقٍ وتمرٍ وقال لعبد الرحمن " أولم ولو بشاةٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَمَّا الْوَلِيمَةُ فَهِيَ إِصْلَاحُ الطَّعَامِ وَاسْتِدْعَاءُ النَّاسِ لِأَجْلِهِ، وَالْوَلَائِمُ سِتٌّ.
وَلِيمَةُ الْعُرْسِ: وَهِيَ الْوَلِيمَةُ عَلَى اجْتِمَاعِ الزَّوْجَيْنِ.
وَوَلِيمَةُ الْخُرْسِ: وَهِيَ الْوَلِيمَةُ عَلَى وِلَادَةِ الْوَلَدِ.
وَوَلِيمَةُ الْإِعْذَارِ: وَهِيَ الْوَلِيمَةُ عَلَى الْخِتَانِ.
وَوَلِيمَةُ الْوَكِيرَةِ: وَهِيَ الْوَلِيمَةُ عَلَى بِنَاءِ الدَّارِ قَالَ الشَّاعِرُ:
(كُلُّ الطَّعَامِ تَشْتَهِي رَبِيعَةُ ... الْخُرْسُ وَالْإِعْذَارُ وَالْوَكِيرَهْ)
وَوَلِيمَةُ النَّقِيعَةِ: وَهِيَ وَلِيمَةُ الْقَادِمِ مِنْ سَفَرِهِ، وَرُبَّمَا سَمُّوا النَّاقَةَ الَّتِي تُنْحَرُ لِلْقَادِمِ نَقِيعَةً قَالَ الشاعر:
(إنا لنضرب بالسيوف رؤوسهم ... ضَرْبَ الْقُدَارِ نَقِيعَةَ الْقُدَّامِ)(9/555)
وَوَلِيمَةُ الْمَأْدُبَةِ: هِيَ الْوَلِيمَةُ لِغَيْرِ سَبَبٍ.
فَإِنَّ خُصَّ بِالْوَلِيمَةِ جَمِيعُ النَّاسِ سُمِّيَتْ جَفَلَى، وَإِنْ خُصَّ بِهَا بَعْضُ النَّاسِ سُمِّيَتْ نَقَرَى قَالَ الشَّاعِرُ:
(نَحْنُ فِي الْمَشْتَاةِ نَدْعُو الْجَفَلَى ... لَا ترى الآدب فينا ينتقر)
فهذه الستة ينطق اسْمُ الْوَلَائِمِ عَلَيْهَا، وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْوَلِيمَةِ يَخْتَصُّ بِوَلِيمَةِ الْعُرْسِ وَيَتَنَاوَلُ غَيْرَهَا مِنَ الْوَلَائِمِ بِقَرِينَةٍ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْوَلِيمَةِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَلْمِ، وَهُوَ الِاجْتِمَاعُ؛ وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْقَيْدُ الْوَلْمُ، لِأَنَّهُ يَجْمَعُ الرِّجْلَيْنِ، فَتَنَاوَلَتْ وَلِيمَةَ الْعُرْسِ لِاجْتِمَاعِ الزَّوْجَيْنِ فِيهَا ثُمَّ أُطْلِقَتْ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْوَلَائِمِ تَشْبِيهًا بِهَا، فَإِذَا أُطْلِقَتِ الْوَلِيمَةُ تَنَاوَلَتْ وَلِيمَةَ الْعُرْسِ، فَإِنْ أُرِيدَ غَيْرُهَا قِيلَ: وَلِيمَةُ الْخُرْسِ، أَوْ وَلِيمَةُ الْإِعْذَارِ، وَقَدْ أَفْصَحَ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا، ثُمَّ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ وَلِيمَةَ غَيْرِ الْعُرْسِ لَا تَجِبُ.
فَأَمَّا وَلِيمَةُ الْعُرْسِ فَقَدْ عَلَّقَ الشَّافِعِيُّ الْكَلَامَ فِي وُجُوبِهَا؛ لِأَنَّهُ قَالَ: " وَمَنْ تَرَكَهَا لَمْ يَبِنْ لِي أَنَّهُ عَاصٍ كَمَا يَبِينُ لِي فِي وَلِيمَةِ الْعُرْسِ ".
فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَرَّجَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَأَى عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَثَرَ الْخَلُوقِ، فَقَالَ لَهُ مَهْيَمْ - أَيْ مَا الْخَبَرُ - قَالَ: أَعْرَسْتُ فَقَالَ لَهُ: أَوْلَمْتَ قَالَ: لَا قَالَ: أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ. وَهَذَا أَمْرٌ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا أَنْكَحَ قَطُّ إِلَّا أَوْلَمَ فِي ضِيقٍ أَوْ سَعَةٍ، وَأَوْلَمَ عَلَى صَفِيَّةَ فِي سَفَرِهِ بِسَوِيقٍ وَتَمْرٍ وَلِأَنَّ فِي الْوَلِيمَةِ إِعْلَانٌ لِلنِّكَاحِ فَرْقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ السِّفَاحِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَعْلِنُوا النِّكَاحَ وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفِّ "، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ إِجَابَةُ الدَّاعِي إِلَيْهَا وَاجِبَةً دَلَّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْوَلِيمَةِ وَاجِبٌ، لِأَنَّ وُجُوبَ الْمُسَبَّبِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ السَّبَبِ أَلَا تَرَى أَنَّ وُجُوبَ قَبُولِ الْإِنْذَارِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْإِنْذَارِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ لِقَوْلِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ "؛ وَلِأَنَّهُ طَعَامٌ لِحَادِثِ سُرُورٍ فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْوَلَائِمِ.
وَلِأَنَّ سَبَبَ هَذِهِ الْوَلِيمَةِ عَقْدُ النِّكَاحِ وَهُوَ غَيْرُ وَاجِبٍ، فَفَرْعُهُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ غَيْرَ وَاجِبٍ.
وَلِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ لَتَقَدَّرَتْ كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ؛ وَلَكَانَ لها بدل عند الإعساء كَمَا يَعْدِلُ الْمُكَفِّرُ فِي إِعْسَارِهِ إِلَى الصِّيَامِ فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ تَقْدِيرِهَا وَبَدَلِهَا عَلَى سُقُوطِ وجوبها.(9/556)
وَلِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ لَكَانَ مَأْخُوذًا بِفِعْلِهَا حَيًّا، وَمَأْخُوذَةً مِنْ تَرِكَتِهِ مَيِّتًا كَسَائِرِ الْحُقُوقِ وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَتَوَسَّطُ فِي وُجُوبِهَا مَذْهَبًا مَعْلُولًا، ويقول هي في فروض الكفايات إذا أظهرها الواحد فِي عَشِيرَتِهِ أَوْ قَبِيلَتِهِ ظُهُورًا مُنْتَشِرًا سَقَطَ فَرْضُهَا عَمَّنْ سِوَاهُ وَإِلَّا خَرَجُوا بِتَرْكِهَا أَجْمَعِينَ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ مَا وَجَبَ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ تَعَيَّنَ كَالْوَلِيِّ وَالشَّاهِدَيْنِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِحُقُوقِ الْأَمْوَالِ الْخَاصَّةِ عَمَّ وَجُوبُهُ كَالزَّكَوَاتِ أَوْ عَمَّ اسْتِحْبَابُهُ كَالصَّدَقَاتِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ فُرُوضَ الْكِفَايَةِ مُخْتَصٌّ بِمَا عَمَّ سُنَّتُهُ كَالْجِهَادِ أَوْ مَا تَسَاوَى فِيهِ النَّاسُ كَغُسْلِ الْمَوْتَى وَهَذَا خَاصٌّ مُعَيَّنٌ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِي فُرُوضِ الْكِفَايَةِ مَدْخَلٌ.
فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ وُجُوبِهَا أَوِ اسْتِحْبَابِهَا انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى مَا يَلْزَمُ الْمَدْعُوَّ إِلَيْهَا مِنَ الْإِجَابَةِ فَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْإِجَابَةَ إِلَيْهَا وَاجِبَةٌ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إِنَّ الْإِجَابَةَ إِلَيْهَا مُسْتَحَبَّةٌ وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ؛ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي أَكْلَ الطَّعَامِ وَتَمَلُّكَ مَالٍ وَلَا يُلْزَمُ أَحَدٌ أَنْ يَتَمَلَّكَ مَالًا بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَلِأَنَّ الزَّكَوَاتِ مَعَ وُجُوبِهَا عَلَى الْأَعْيَانِ لَا يُلْزِمُ الْمَدْفُوعَةَ إِلَيْهِ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا فَكَانَ غَيْرُهَا أَوْلَى.
وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ وُجُوبِ الْإِجَابَةِ مَا رَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ دُعِيَ إِلَى وَلِيمَةٍ فَلَمْ يُجِبْ فَلَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ جَاءَهَا بِغَيْرِ دَعْوَةٍ دَخَلَ سَارِقًا وَخَرَجَ مُغِيرًا ".
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " أجيبوا الداع فَإِنَّهُ مَلْهُوفٌ ".
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ لَقَبِلْتُ وَلَوْ دُعِيتُ إِلَى كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ ".
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " شر الطعام الولائم يدعى إليها الأغنياء ويحرمه الفقراء والمساكين ".
وَلِأَنَّ فِي الْإِجَابَةِ تَآلُفًا وَفِي تَرْكِهَا ضَرَرًا وَتَقَاطُعًا.
فَصْلٌ
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ فَسَوَاءٌ قِيلَ إِنَّ فِعْلَهَا وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ فِي وُجُوبِ الْإِجَابَةِ إِلَيْهَا؛ لِأَنَّ رَدَّ السَّلَامِ وَاجِبٌ وَإِنْ كَانَ ابْتِدَاءُ السَّلَامِ غَيْرَ وَاجِبٍ، وَهَلْ يَكُونُ وُجُوبُهَا مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ أَوْ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ:(9/557)
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مَنْ دُعِيَ إِلَيْهَا أَنْ يُجِيبَ مَا لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا بِالتَّأْخِيرِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ فَإِذَا أَجَابَ مَنْ دُعِيَ مَنْ تَقَعُ بِهِ الْكِفَايَةُ سَقَطَ وُجُوبُهَا عَنِ الْبَاقِينَ، وَإِلَّا خَرَجُوا أَجْمَعِينَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْوَلِيمَةِ ظُهُورُهَا وَانْتِشَارُهَا لِيَقَعَ الْفَرْقُ فِيهَا بَيْنَ النِّكَاحِ وَالسِّفَاحِ، فَإِذَا وُجِدَ مَقْصُودُهَا بِمَنْ خُصَّ سَقَطَ وُجُوبُهَا عَمَّنْ تَأَخَّرَ.
فَصْلٌ: شُرُوطُ الداعي
وَإِذَا كَانَتِ الْإِجَابَةُ وَاجِبَةً عَلَى مَا وَصَفْنَا فَلِوُجُوبِهَا شُرُوطٌ تُعْتَبَرُ فِي الدَّاعِي وَالْمَدْعُوِّ فَأَمَّا الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الدَّاعِي فَسِتَّةُ شُرُوطٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بَالِغًا يَصِحُّ مِنْهُ الْإِذْنُ وَالتَّصَرُّفُ فِي مَالِهِ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ بالغٍ لَمْ تَلْزَمْ إِجَابَتُهُ، وَلَمْ يَجُزْ أَيْضًا لِبُطْلَانِ إِذْنِهِ وَرَدِّ تَصَرُّفِهِ.
وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا لِأَنَّ الْمَجْنُونَ لِفَقْدِ تَمْيِيزِهِ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الصَّغِيرِ فِي فَسَادِ إِذْنِهِ وَرَدِّ تَصَرُّفِهِ.
وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ رَشِيدًا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِي مَالِهِ، فَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ لَمْ تَلْزَمْ إِجَابَتُهُ، فَلَوْ أَذِنَ لَهُ وَلِيُّهُ لَمْ تَلْزَمْ إِجَابَتُهُ أَيْضًا، لِأَنَّ وَلِيَّهُ مَنْدُوبٌ لِحِفْظِ مَالِهِ لَا لِإِتْلَافِهِ.
وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ حُرًّا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فَلَمْ تَلْزَمْ إِجَابَتُهُ لِفَسَادِ إِذْنِهِ فَلَوْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ صَارَ كَالْحُرِّ فِي لُزُومِ إِجَابَتِهِ.
وَالشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا تَلْزَمُ مُوَالَاتُهُ فِي الدِّينِ، فَإِنْ كَانَ الدَّاعِي ذِمِّيًّا لِمُسْلِمٍ فَفِي لُزُومِ إِجَابَتِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجِبُ لِعُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَجِيبُوا الدَّاعِيَ، فَإِنَّهُ مَلْهُوفٌ ".
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تَلْزَمُ إِجَابَتُهُ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ مُسْتَخْبَثَ الطَّعَامِ مُحَرَّمًا.
وَلِأَنَّ نَفْسَ الْمُسْلِمِ تَعَافُ كُلَّ طَعَامِهِ، وَلِأَنَّ مَقْصُودَ الطَّعَامِ التَّوَاصُلُ بِهِ، وَاخْتِلَافُ الدِّينِ يَمْنَعُ مِنْ تَوَاصُلِهِمَا، فَإِنْ دَعَا مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا لَمْ تَلْزَمْهُ الْإِجَابَةُ وَجْهًا وَاحِدًا، لِأَنَّهُ لَا يَلْتَزِمُ أَحْكَامَ شَرْعِنَا إِلَّا عَنْ تراضٍ.(9/558)
وَالشَّرْطُ السَّادِسُ: أَنْ يُصَرِّحَ بِالدُّعَاءِ، إِمَّا بِقَوْلٍ أَوْ مُكَاتَبَةٍ أَوْ مُرَاسَلَةٍ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ بِجَمِيعِ ذَلِكَ جارٍ وَصَرِيحُ الدُّعَاءِ أَنْ يَقُولَ: أَسْأَلُكَ الْحُضُورَ، أَوْ يَقُولَ: أُحِبُّ أَنْ تَحْضُرَ، أَوْ إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُجَمِّلَنِي بِالْحُضُورِ فَتَلْزَمُهُ إِجَابَتُهُ بِهَذَا الْقَوْلِ كُلِّهِ.
فَأَمَّا إِنْ قَالَ إِنْ شِئْتَ أَنْ تَحْضُرَ فَافْعَلْ لَمْ تَلْزَمْهُ إِجَابَتُهُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَمَا أُحِبُّ أَنْ يُجِيبَ ".
فَإِنْ كاتبه رفعة يَسْأَلُهُ الْحُضُورَ بِأَحَدِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَلْفَاظِ لَزِمَهُ الْإِجَابَةُ، فَإِنْ نَقَصَهُ فِي الْخِطَابِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عُذْرًا فِي التَّأْخِيرِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا عَدَاوَةٌ أَوْ كَانَ فِي الْوَلِيمَةِ عَدُوٌّ لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا فِي التَّأْخِيرِ، وَإِنْ رَاسَلَهُ بِرَسُولٍ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ وَصَدَّقَهُ، لَزِمَتْهُ الْإِجَابَةُ سَوَاءٌ كَانَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ بَالِغِ نُظِرَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ مُمَيِّزًا لَزِمَتْهُ الْإِجَابَةُ بِوُرُودِهِ فِي الرِّسَالَةِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُمَيِّزٍ لَمْ يَلْزَمْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ مَا يَقُولُ وَلَا الْعَادَةُ جَارِيَةٌ أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ رَسُولًا، فَإِنْ قَالَ الدَّاعِي لِرَسُولِهِ: ادْعُ مَنْ رَأَيْتَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعِيِّنَ لَهُ عَلَى أَحَدٍ لَمْ يَلْزَمْ مَنْ دَعَاهُ الرَّسُولُ أَنْ يُجِيبَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَرَى أَنْ يَدْعُوَ مَنْ غَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَى صَاحِبِ الطَّعَامِ.
فصل: شروط المدعو
وَأَمَّا الشُّرُوطُ الَّتِي فِي الْمَدْعُوِّ فَخَمْسَةُ شُرُوطٍ:
أَحَدُهَا: الْبُلُوغُ.
وَالثَّانِي: الْعَقْلُ لِيَكُونَ بِالْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ مِمَّنْ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ حُكْمُ الِالْتِزَامِ.
وَالثَّالِثُ: الْحُرِّيَّةُ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّصَرُّفِ بِحَقِّ السَّيِّدِ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ لَزِمَتْهُ الْإِجَابَةُ حِينَئِذٍ، وَإِنْ كَانَ مُكَاتَبًا نُظِرَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُضُورُهُ مُضِرًّا بِكَسْبِهِ لَزِمَتْهُ الْإِجَابَةُ، وَإِنْ كَانَ مُضِرًّا لَمْ تَلْزَمْهُ الْإِجَابَةُ إِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ السَّيِّدُ، وَفِي لُزُومِهَا بِإِذْنِهِ وَجْهَانِ فَأَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِالسَّفَهِ فَتَلْزَمُهُ الْإِجَابَةُ كَالرَّشِيدِ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا فَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا وَالدَّاعِي مُسْلِمٌ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِجَابَةَ لَا تَلْزَمُهُ وَإِنْ كَانَا ذِمِّيَّيْنِ وَرَضِيَا بِحُكْمِنَا أَخْبَرْنَاهُمَا بِلُزُومِ الْإِجَابَةِ فِي دِينِنَا، وَهَلْ يُجْبَرُ عَلَيْهِ الْمَدْعُوُّ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ.
وَالْخَامِسُ: أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ عُذْرٌ مَانِعٌ مِنْ مَرَضٍ أَوْ تَشَاغُلٍ بِمَرَضٍ أَوْ إِقَامَةٍ عَلَى حِفْظِ مَالٍ أَوْ خَوْفٍ مِنْ عَدُوٍّ عَلَى نَفْسٍ أَوْ مَالٍ، فَإِنَّ كُلَّ هَذِهِ وَمَا شَاكَلَهَا أَعْذَارٌ تُسْقِطُ لُزُومَ الْإِجَابَةِ فَإِنِ اعْتَذَرَ بِشِدَّةِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَانِعًا مَنْ تَصَرُّفِ غَيْرِهِ كَانَ عُذْرًا فِي التَّأَخُّرِ، وَإِنْ لَمْ يَمْتَنِعْ مِنْ تَصَرُّفِ غَيْرِهِ لَمْ يكن عذراً.(9/559)
وَإِنِ اعْتَذَرَ بِمَطَرٍ يَبُلُّ الثَّوْبَ كَانَ عُذْرًا؛ لِأَنَّهُ عُذْرٌ فِي التَّأَخُّرِ عَنْ فَرْضِ الْجُمُعَةِ، وَإِنِ اعْتَذَرَ بِزِحَامِ النَّاسِ فِي الْوَلِيمَةِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عُذْرًا فِي التَّأَخُّرِ عَنِ الْإِجَابَةِ وَقِيلَ احْضُرْ، فَإِنْ وَجَدْتَ سَعَةً وَإِلَّا عُذِرْتَ فِي الرُّجُوعِ.
فَصْلٌ
فَإِنْ كَانَتِ الْوَلِيمَةُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَدُعِيَ فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ لَزِمَتِ الْإِجَابَةُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَاسْتُحِبَّتْ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، وَلَمْ تَجِبْ، وَكُرِهَتْ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْوَلِيمَةُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حَقٌّ وَفِي الثَّانِي مَعْرُوفٌ وَفِي الثَّالِثِ رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ ".
فَصْلٌ
وَإِذَا دَعَاهُ اثْنَانِ فِي يَوْمٍ فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْحُضُورِ إِلَيْهِمَا لَزِمَتْهُ إِجَابَتُهُمَا وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا لَزِمَتْهُ إِجَابَةُ أَسْبَقِهِمَا، فَإِنِ اسْتَوَيَا أَجَابَ أَقْرَبَهُمَا جِوَارًا فَإِنِ اسْتَوَيَا فِي الْجِوَارِ أَجَابَ أَقْرَبَهُمَا رَحِمًا، فَإِنِ اسْتَوَيَا فِي الْقَرَابَةِ أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا، وَأَجَابَ مَنْ قرعٍ مِنْهُمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا دَعَاكَ اثْنَانِ فَأَجِبْ أَقْرَبَهُمَا بَابًا، فَإِنَّ أَقْرَبَهُمَا بَابًا أَقْرَبُهُمَا جِوَارًا، فَإِنْ جَاءَا مَعًا فَأَجِبْ أَسْبَقَهُمَا؟ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ
قال الشافعي: " وَإِنْ كَانَ الْمَدْعُوُّ صَائِمًا أَجَابَ الدَّعْوَةَ وَبَرَّكَ وَانْصَرَفَ وَلَيْسَ بحتمٍ أَنْ يَأْكُلَ وَأُحِبُّ لَوْ فَعَلَ وَقَدْ دُعِيَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَجَلَسَ وَوُضِعَ الطَّعَامُ فَمَدَّ يَدَهُ وَقَالَ خذوا بسم اللَّهِ ثَمَّ قَبَضَ يَدَهُ وَقَالَ إِنِّي صَائِمٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا كَانَ الْمَدْعُوُّ صَائِمًا لَزِمَهُ الْحُضُورُ، وَلَمْ يَكُنْ صَوْمُهُ عُذْرًا فِي التَّأْخِيرِ لِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى وَلِيمَةٍ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَأْكُلْ، وَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيَدْعُ، وَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ ".
وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِحُضُورِهِ التَّجَمُّلُ أَوِ التَّكَثُّرُ أَوِ التَّوَاصُلُ وَالصَّوْمُ لَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ فَإِذَا حَضَرَ الصَّائِمُ لَمْ يَخْلُ صَوْمُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فَرْضًا أَوْ تَطَوُّعًا، وَإِنْ كَانَ صَوْمُهُ فَرْضًا لَمْ يُفْطِرْ وَدَعَا لِلْقَوْمِ بِالْبَرَكَةِ، وَقَالَ: إِنِّي صَائِمٌ، وَكَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْمُقَامِ أَوِ الِانْصِرَافِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ، مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ وَفِعْلِهِ، وَإِنْ كَانَ صَوْمُهُ تَطَوُّعًا فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ، وَيُفْطِرَ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى طَعَامٍ وَهُوَ صَائِمٌ، فَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فَلْيُفْطِرْ وَإِلَّا فَلْيُصِلِّ " أَيْ فَلْيَدْعُ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْفِطْرُ؛ لِأَنَّهُ فِي عِبَادَةٍ فَلَمْ تَلْزَمْهُ مُفَارَقَتُهَا؛ وَلِأَنَّ مِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَحْظُرُ عَلَيْهِ الْخُرُوجَ مِنْ صَوْمِ التَّطَوُّعِ وَيُوجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ.(9/560)
فصل: حكم وجوب الأكل على المفطر
فَأَمَّا الْمُفْطِرُ إِذَا حَضَرَ فَفِي وُجُوبِ الْأَكْلِ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: يَجِبُ عَلَيْهِ الْأَكْلُ؛ لِأَنَّهُ مَقْصُودُ الْحُضُورِ وَلِرِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى وَلِيمَةٍ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَأْكُلْ وَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيَدْعُ وَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ ".
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْأَكْلُ وَهُوَ فِيهِ مُخَيَّرٌ لِرِوَايَةِ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى طَعَامٍ فَإِنْ شَاءَ طَعِمَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ "، وَلِأَنَّ فِي الْأَكْلِ تَمَلُّكٌ، قَالَ: فَلَمْ يَلْزَمْهُ كَالْهِبَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَكْلَ فِي الْوَلِيمَةِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، فَإِنْ أَكَلَ غَيْرُهُ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الْأَكْلِ وَإِلَّا خَرَجَ جَمِيعُ الْحَاضِرِينَ لِمَا فِي امتناع جميعهم من عدم مقصود، وَانْكِسَارِ نَفْسِهِ وَإِفْسَادِ طَعَامِهِ.
فَصْلٌ
وَيَنْبَغِي لِمَنْ حَضَرَ الطَّعَامَ أَنْ يَأْكُلَ إِلَى حَدِّ شِبَعِهِ وَلَهُ أَنْ يُقْصِرَ عَنِ الشِّبَعِ وَيَحْرُمَ عَلَيْهِ الزِّيَادَةُ عَلَى الشِّبَعِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَضَرَّةِ وَمُخَالَفَةِ الْعَادَةِ، فَإِنْ أَكَلَ أَكْثَرَ مِنْ شِبَعِهِ لَمْ يَضْمَنِ الزِّيَادَةَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا يَأْكُلُهُ لِيَحْمِلَهُ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَلَا أَنْ يُعْطِيَهُ لِغَيْرِهِ وَلَا أَنْ يَبِيعَهُ لِأَنَّ الْأَكْلَ هُوَ الْمَأْذُونُ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ أُبِيحَ لَهُ الْأَكْلُ جَازَ لَهُ الْبَيْعُ كَالْمُضَحِّي وَلَا يَجُوزُ إِذَا جَلَسَ عَلَى الطَّعَامِ أَنْ يُطْعِمَ غَيْرَهُ مِنْهُ، فَإِنْ فَعَلَ وَكَانَ الَّذِي أَطْعَمَهُ مِنَ الْمَدْعُوِّينَ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَدْعُوٍّ ضَمِنَ.
وَهَكَذَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَصْحِبَ إِلَى الطَّعَامِ مَنْ لَمْ يَدْعُهُ صَاحِبُ الْوَلِيمَةِ، فَإِنْ أَحْضَرَ مَعَهُ أَحَدًا فَقَدْ أَسَاءَ، وَالضَّمَانُ عَلَى الْآكِلِ دُونَ الْمُحْضِرِ وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْمَدْعُوَّ ضَيْفًا وَالتَّابِعَ ضَيْفَنَ قَالَ الشَّاعِرُ:
(إِذَا جَاءَ ضيفٌ جَاءَ لِلضَّيْفِ ضَيْفَنُ ... فَأَوْدَى بِمَا نُقْرِي الضُّيُوفَ الضَّيَافِنُ)
فَصْلٌ
وَيُخْتَارُ لَهُ إِذَا أَكَلَ أَنْ يَسْتَعْمِلَ آدَابَ أَكْلِهِ الْمَسْنُونَةَ.
فَمِنْهَا غَسْلُ يَدَيْهِ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ وَلَوْ تَوَضَّأَ فِي الْحَالَيْنِ كَانَ أَفْضَلَ.
رَوَى أَبُو هَاشِمٍ عَنْ زَاذَانَ عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: قَرَأْتُ فِي التَّوْرَاةِ الْوُضُوءُ قَبْلَ الطَّعَامِ بَرَكَةُ الطَّعَامِ فذكرته للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " الْوُضُوءُ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَ الطَّعَامِ بَرَكَةُ الطعام ".(9/561)
وَمِنْهَا التَّسْمِيَةُ عَلَى الطَّعَامِ قَبْلَ مَدِّ يَدِهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ بَعْدَ رَفْعِهَا فَقَدْ فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَلِكَ وَأَمَرَ بِهِ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَأْكُلَ مِمَّا يَلِيهِ وَلَا يَمُدَّ يَدَهُ إِلَى مَا بَعُدَ عَنْهُ وَلَا يَأْكُلَ مِنْ ذِرْوَةِ الطَّعَامِ، فَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْبِرْكَةُ فِي ذِرْوَةِ الطَّعَامِ فَكُلُوا مِنْ حواليها " وإذا وضع اسْتَبَاحَ الْحَاضِرُونَ أَكْلَهُ، وَإِنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُمْ قولاً اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ وَأَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الدُّعَاءِ إذن فِيمَا تَأَخَّرَ مِنَ الطَّعَامِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا مَتَى يَسْتَحِقُّ الْحَاضِرُ مَا يَأْكُلُهُ حَتَّى يَصِيرَ أَمْلَكَ بِهِ مِنْ رَبِّهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: إِذَا أَخَذَ اللُّقْمَةَ مِنَ الطَّعَامِ بِيَدِهِ صَارَ بِهَا أَحَقَّ وَأَمْلَكَ لَهَا؛ لِأَنَّ حُصُولَهَا فِي الْيَدِ قَبْضٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُسْتَرْجَعَ مِنْهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَصِيرُ أَحَقَّ بِهَا وأملك لها إِذَا وَضَعَهَا فِي فَمِهِ، فَأَمَّا وَهِيَ بِيَدِهِ فَمَالِكُ الطَّعَامِ أَحَقُّ بِهَا؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ فِي الْأَكْلِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ الْحُصُولِ فِي الْفَمِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَصِيرَ أحق بها وأملك إِلَّا بَعْدَ مَضْغِهَا، وَبَلْعِهَا، لِأَنَّ الْإِذْنَ يَضْمَنُ اسْتِهْلَاكَهُ بِالْأَكْلِ وَلَا يَجْلِسُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْأَكْلِ إِلَّا عَنْ إِذْنٍ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِذَا طِعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا) {الأحزاب: 53) .
وَرَوَى وَاصِلُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ أَبِي سَوْرَةَ وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَلَا حَبَّذَا الْمُتَخَلِّلُونَ مِنْ أُمَّتِي "، قَالُوا: وَمَا الْمُتَخَلِّلُونَ، قَالَ: " الْمُتَخَلِّلُونَ مِنَ الطَّعَامِ، وَالْمُتَخَلِّلُونَ بِالْمَاءِ في الوضوء ".
مسألة
قال الشافعي: " فإذا كَانَ فِيهَا الْمَعْصِيَةُ مِنَ الْمُسْكِرْ أَوِ الْخَمْرِ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ مِنَ الْمَعَاصِي الظَّاهِرَةِ نَهَاهُمْ فَإِنْ نَحَّوْا ذَلِكَ عَنْهُ وَإِلَّا لَمْ أُحِبَّ لَهُ أَنْ يَجْلِسَ فَإِنْ عَلِمَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ لم أجب لَهُ أَنْ يُجِيبَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا دُعِيَ إِلَى وَلِيمَةٍ وَفِيهَا خُمُورٌ أو ملاهي أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَاصِي فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِهِ قَبْلَ حُضُورِهِ أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ، فَإِنْ عَلِمَ بِهِ قَبْلَ حضوره فله حالتان:
أحدها: أَنْ يَقْدِرَ عَلَى إِنْكَارِهِ وَإِزَالَتِهِ فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَحْضُرَ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِإِجَابَةِ الدَّاعِي.
وَالثَّانِي: لإزالة المنكر.(9/562)
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى إِزَالَتِهِ فَفَرْضُ الْإِجَابَةِ قَدْ سَقَطَ، وَأَوْلَى أَنْ لَا يَحْضُرَ وَفِي جَوَازِ حُضُورِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَا فِي حُضُورِهِ مِنْ مُشَاهَدَةِ الْمُنْكَرِ وَالرِّيبَةِ الدَّاخِلَةِ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ ".
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجِبُ لَهُ الْحُضُورُ وَإِنْ كَرِهَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا أَحْشَمَهُمْ حُضُورُهُ فَكَفُّوا وَأَقْصَرُوا وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ، وَمُحَمَّدَ بْنَ كعب القرطي دُعِيَا إِلَى وَلِيمَةٍ فَسَمِعَا مُنْكَرًا فَقَامَ مُحَمَّدٌ لِيَنْصَرِفَ فَجَذَبَهُ الْحَسَنُ، وَقَالَ: اجْلِسْ وَلَا يَمْنَعْكَ مَعْصِيَتُهُمْ مِنْ طَاعَتِكَ.
وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِمَا فِي الْوَلِيمَةِ مِنَ الْمَعَاصِي فَعَلَيْهِ الْإِجَابَةُ، وَلَا يَكُونُ خَوْفُهُ مِنْهَا عُذْرًا فِي التَّأْخِيرِ عَنْهَا لِجَوَازِ أَنْ لَا يَكُونَ، فَإِنْ حَضَرَ وَكَانَتْ بِحَيْثُ لَا يُشَاهِدُهَا وَلَا يَسْمَعُهَا أَقَامَ عَلَى حُضُورِهِ، وَلَمْ يَنْصَرِفْ وَإِنْ سَمِعَهَا وَلَمْ يُشَاهِدْهَا لَمْ يَتَعَمَّدِ السَّمَاعَ وَأَقَامَ عَلَى الْحُضُورِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ سُمِعَ فِي مَنْزِلِهِ معاصٍ مِنْ دَارِ غَيْرِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ الِانْتِقَالُ عَنْ مَنْزِلِهِ كَذَلِكَ هَذَا، وَإِنْ شَاهَدَهَا جَازَ لَهُ الِانْصِرَافُ وَلَمْ يَلْزَمْهُ الْحُضُورُ إِنْ لَمْ تُرْفَعْ وَفِي جَوَازِ إِقَامَتِهِ مَعَ حُضُورِهَا إِذَا صَرَفَ طَرَفَهُ عنها مما ذكرنا من الوجهين.
مسألة
قال الشافعي: " فَإِنْ رَأَى صُوَرًا ذَاتَ أرواحٍ لَمْ يَدْخُلْ إِنْ كَانَتْ مَنْصُوبَةً وَإِنْ كَانَتْ تُوطَأُ فَلَا بَأْسَ فَإِنْ كَانَ صُوَرُ الشَجَرِ فَلَا بَأْسَ وأحب أن يجيب أخاه وبلغنا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ لَقَبِلْتُ وَلَوْ دُعِيتُ إلى كراعٍ لأجبت ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَإِذَا كَانَ فِي الْوَلِيمَةِ صُوَرٌ فَهِيَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ صُوَرُ شَجَرٍ وَنَبَاتٍ، وَمَا لَيْسَ بِذِي رُوحٍ فَلَا تَحْرُمُ، لِأَنَّهَا كَالنُّقُوشِ الَّتِي تُرَادُ لِلزِّينَةِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ عَلَى مُسْدَلٍ مِنْ بُسُطٍ وَوَسَائِدَ أَوْ كَانَتْ عَلَى مُصَانٍ مِنْ سَتْرٍ أَوْ جِدَارٍ وَلَا يَعْتَذِرُ بِهَا الْمَدْعُوُّ فِي التَّأَخُّرِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ صُوَرَ ذَاتِ أَرْوَاحٍ مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ بَهِيمَةٍ فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ وَصَانِعُهَا عاصٍ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لعن المصور، وقال: " يؤتي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ انْفُخْ فِيهِ الرُّوحَ، وَلَيْسَ بِنَافِخٍ فِيهِ أَبَدًا ".
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) {الأحزاب: 57) أَنَّهُمْ أَصْحَابُ التَّصَاوِيرِ وَإِذًا عَمَلُهَا مُحَرَّمٌ عَلَى صَانِعِهَا فَالْكَلَامُ فِي تَحْرِيمِ اسْتِعْمَالِهَا وَإِبَاحَتِهِ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الِاسْتِعْمَالِ، فَإِنْ كانت(9/563)
مُسْتَعْمَلَةً فِي مَنْصُوبٍ مُصَانٍ عَنِ الِاسْتِبْدَالِ كَالْحِيطَانِ فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ يَسْقُطُ مَعَهَا فَرْضُ الْإِجَابَةِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: صَنَعْتُ طَعَامًا، وَدَعَوْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَمَّا دَخَلَ الْبَيْتَ رَجَعَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا رَجَعَكَ " قَالَ: " رَأَيْتُ صُورَةً وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ أَوْ كَلْبٌ ".
وَرَوَى جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ أَمَرَ عُمَرَ أَنْ يَمْحُوَ كُلَّ صُورَةٍ فِي الْكَعْبَةِ فَلَمَّا مُحِيَتْ دَخَلَهَا، وَلِأَنَّ الصُّوَرَ كَانَتِ السَّبَبَ فِي عِبَادَاتِ الْأَصْنَامِ، حُكِيَ أَنَّ آدَمَ لَمَّا مَاتَ افْتَرَقَ أَوْلَادُهُ فَرِيقَيْنِ فَرِيقٌ تَمَسَّكُوا بِالدِّينِ وَالصَّلَاحِ، وَفَرِيقٌ مَالُوا إِلَى الْمَعَاصِي وَالْفَسَادِ ثُمَّ اعْتَزَلَ أَهْلُ الصَّلَاحِ فَصَعِدُوا جَبَلًا وَأَخَذُوا مَعَهُمْ تَابُوتَ آدَمَ وَمَكَثَ أَهْلُ الْمَعَاصِي وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ فَكَانُوا يَسْتَغْوُونَ مَنْ نَزَلَ إِلَيْهِمْ مَنْ أَهْلِ الْجَبَلِ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَى تَابُوتِ آدَمَ فَصَوَّرَ لَهُمْ إبليس صورة آدم ليتخذوا بَدَلًا مِنَ التَّابُوتِ فَعَظَّمُوهَا ثُمَّ حَدَثَ بَعْدَهُمْ مَنْ رَأَى تَعْظِيمَهَا فَعَبَدَهَا فَصَارَتْ أَصْنَامًا مَعْبُودَةً، فَلِذَلِكَ حُرِّمَ اسْتِعْمَالُ الصُّوَرِ فِيمَا كَانَ مُصَانًا مُعَظَّمًا وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: إِنَّمَا كَانَ التَّحْرِيمُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِالْأَصْنَامِ وَمُشَاهَدَتِهِمْ بِعِبَادَتِهَا لِيَسْتَقِرَّ فِي نُفُوسِهِمْ بُطْلَانُ عِبَادَتِهَا وَزَوَالُ تَعْظِيمِهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى قَدْ زَالَ فِي وَقْتِنَا لِمَا قَدِ اسْتَقَرَّ فِي النُّفُوسِ مِنَ الْعُدُولِ عَنْ تَعْظِيمِهَا فَزَالَ حُكْمُ تَحْرِيمِهَا، وَحَظْرُ اسْتِعْمَالِهَا، وَقَدْ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَنْ يَعْبُدُ كُلَّ مَا اسْتَحْسَنَ مِنْ حجر تَحْرِيمِهَا، وَحَظْرُ اسْتِعْمَالِهَا، وَقَدْ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَنْ يَعْبُدُ كُلَّ مَا اسْتَحْسَنَ مِنْ حَجَرٍ أَوْ شَجَرٍ فَلَوْ كَانَ حُكْمُ الْحَظْرِ بَاقِيًا لَكَانَ اسْتِعْمَالُ كُلِّ مَا اسْتُحْسِنَ حَرَامًا، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ خَطَأٌ؛ لِأَنَّ النَّصَّ يَدْفَعُهُ، وَإِنَّ مَا جَانَسَ الْمُحَرَّمَاتِ تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمُهَا وَلَوْ سَاغَ هَذَا فِي صُوَرٍ غَيْرِ مُجَسَّمَةٍ لَسَاغَ فِي الصُّوَرِ الْمُجَسَّمَةِ، وَمَا أَحَدٌ يَقُولُ هَذَا فَفَسَدَ بِهِ التَّعْلِيلُ.
فَصْلٌ
فَأَمَّا إِنِ اسْتُعْمِلَتِ الصُّوَرُ فِي مَكَانٍ مُهَانٍ مُسْتَبْذَلٍ كَالْبُسُطِ وَالْمُخَالِّ جَازَ، وَلَمْ يَسْقُطْ بِهِ فَرْضُ الْإِجَابَةِ.
رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ عَلَّقَتْ سِتْرًا عَلَيْهِ صُورَةٌ فَلَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَرَآهُ رَجَعَ وَقَالَ: يَا عَائِشَةُ اقْطَعِيهِ وِسَادَتَيْنِ فَقَطَعَتْهُ مِخَدَّتَيْنِ.
وَلِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ فِي مُسْتَبْذَلٍ مُهَانٍ زَالَ تَعْظِيمُهَا مِنَ النُّفُوسِ فَلَمْ تَحْرُمْ قَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِإِلْقَاءِ صَنَمَيْنِ كَانَا عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَكَانَتْ تُدَاسُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، وَهُوَ يُقِرُّهَا وَلَا يَمْنَعُ مِنِ اسْتِبْقَائِهَا؛ لِأَنَّهُ عَدَلَ بِتَعْظِيمِهَا إِلَى الِاسْتِهَانَةِ بِهَا وَالْإِذْلَالِ بِهَا.
فَصْلٌ
فَأَمَّا السُّتُورُ الْمُعَلَّقَةُ عَلَى الْأَبْوَابِ وَالْجُدْرَانِ فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ صُوَرَ ذَاتِ أَرْوَاحٍ فَاسْتِعْمَالُهَا مُحَرَّمٌ سَوَاءَ اسْتُعْمِلَتْ لِزِينَةٍ أَوْ(9/564)
مَنْفَعَةٍ وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: إِنْ كَانَتْ مُسْتَعْمَلَةً لِلزِّينَةِ حَرُمَتْ، وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَعْمَلَةً لِلْمَنْفَعَةِ لِتَسْتُرَ بَابًا أَوْ تَقِيَ مِنْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ جَازَ، وَلَمْ يَحْرُمْ؛ لِأَنَّ الْعُدُولَ بِهَا عَنِ الزِّينَةِ إِلَى الْمَنْفَعَةِ يُخْرِجُهَا عَنْ حُكْمِ الصِّيَانَةِ إِلَى الْبِذْلَةِ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالشَّيْءِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُصَانًا عَظِيمًا فَحَرُمَ اسْتِعْمَالُهَا فِي الْحَالَيْنِ، وَسَقَطَ بِهَا فَرْضُ الْإِجَابَةِ إِلَى الْوَلِيمَةِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ السُّتُورُ بِغَيْرِ صُوَرِ ذَاتِ أَرْوَاحٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُسْتَعْمَلَ لِحَاجَةٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ، لِأَنَّهَا تَسْتُرُ بَابًا أَوْ تَقِي مِنْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ فَلَا بَأْسَ بِاسْتِعْمَالِهَا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ زِينَةً لِلْجُدْرَانِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَيْهَا وَلَا مَنْفَعَةٍ بِهَا فَهِيَ سَرَفٌ مَكْرُوهٌ. رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْنَا فِيمَا رَزَقَنَا أن نكسوا الْجُدْرَانَ وَاللَّبِنَ " لَكِنْ لَا يَسْقُطُ بِهَذِهِ السُّتُورِ فَرْضُ الْإِجَابَةِ لِلْوَلِيمَةِ؛ لِأَنَّ حَظْرَهَا لِلْمُسْرِفِ فِي الِاسْتِعْمَالِ لَا لِلْمَعْصِيَةِ فِي الْمُشَاهَدَةِ.
فَصْلٌ
وَلَا فَرْقَ فِي تَحْرِيمِ صُوَرِ ذَوَاتِ الْأَرْوَاحِ مِنْ صُوَرِ الْآدَمِيِّينَ وَالْبَهَائِمِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا كَانَ مُسْتَحْسَنًا مِنْهَا أَوْ مُسْتَقْبَحًا أَوْ مَا كان عَظِيمًا أَوْ مُسْتَصْغَرًا، إِذَا كَانَتْ صُوَرَ حَيَوَانٍ مشاهد.
فأما صورة حَيَوَانٍ لَمْ يُشَاهَدْ مِثْلُهُ مِثْلُ صُورَةِ طَائِرٍ لَهُ وَجْهُ إِنْسَانٍ أَوْ صُورَةِ إِنْسَانٍ لَهُ جَنَاحُ طَيْرٍ فَفِي تَحْرِيمِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَحْرُمُ بَلْ يَكُونُ أَشَدَّ تَحْرِيمًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَبْدَعَ فِي خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يُؤْمَرُ بِالنَّفْخِ فِيهِ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ فِيهِ أَبَدًا ".
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ لَا تَحْرُمُ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ بِالتَّزَاوِيقِ الْكَاذِبَةِ أَشْبَهَ مِنْهُ بِالصُّوَرِ الْحَيَوَانِيَّةِ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَوِّرَ وَجْهَ إِنْسَانٍ بِلَا بَدَنٍ وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي لَا يَحْرُمُ.
مَسْأَلَةٌ
قَالَ الشافعي: " فِي نَثْرِ الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَالسُّكَرِ فِي الْعُرْسِ لَوْ تُرِكَ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ لِأَنَّهُ يُؤْخَذُ بخلسةٍ ونهبةٍ وَلَا يَبِينُ أَنَّهُ حرامٌ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ يَغْلِبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَيَأْخُذُ مَنْ غَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَى صَاحِبِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا نَثْرُ السُّكَّرِ وَاللَّوْزِ فِي الْعُرْسِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ طِيبٍ أَوْ دَرَاهِمَ فَمُبَاحٌ إِجْمَاعًا اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ الْجَارِي فِيهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ زَوَّجَ عَلِيًّا بِفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا نَثَرَ عَلَيْهِمَا لَكِنِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اسْتِحْبَابِهِ وكراهيته فمذهب أبو حنيفة(9/565)
إِلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، وَفِعْلُهُ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَنِ النَّثْرِ فَقَالَ: هِبَةٌ مُبَارَكَةٌ.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، هُوَ مُبَاحٌ لَيْسَ بِمُسْتَحَبٍّ وَلَا مَكْرُوهٍ وَفِعْلُهُ وَتَرْكُهُ سَوَاءٌ، وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إِنَّهُ مَكْرُوهٌ وَتَرْكُهُ أَفْضَلُ مِنْ فِعْلِهِ لِأُمُورٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَدْ يُوقِعُ بَيْنَ النَّاسِ تَنَاهُبًا وَتَنَافُرًا وَمَا أَدَّى إِلَى ذَلِكَ فَهُوَ مَكْرُوهٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ لَا يَتَسَاوَى النَّاسُ فِيهِ وَرُبَّمَا حَازَ بَعْضُهُمْ أَكْثَرَهُ وَلَمْ يَصِلْ إِلَى آخَرِينَ شَيْءٌ مِنْهُ فَتَنَافَسُوا.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدْ يَلْجَأُ النَّاسُ فيه إلى إسقاط المروآت إن أخذوا أو يتسلط عليهم السفاء إذا أَمْسَكُوا، وَقَدْ كَانَتِ الصَّحَابَةُ، وَمَنْ عَاصَرَ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أحفظ للمروآت وَأَبْعَدَ لِلتَّنَازُعِ وَالتَّنَافُسِ، فَلِذَلِكَ كُرِهَ النِّثَارُ بَعْدَهُمْ وَإِنْ لَمْ يُكْرَهْ فِي زَمَانِهِمْ وَعَادَةُ أَهْلِ المروآت فِي وَقْتِنَا أَنْ يَقْتَسِمُوا ذَلِكَ بَيْنَ مَنْ أَرَادُوا أَوْ يَحْمِلُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ فَيَخْرُجُ عَنْ حُكْمِ النَّثْرِ إِلَى الْهَدَايَا.
فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فِي النَّثْرِ فَمَنْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا وَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ فَقَدْ مَلَكَهُ وَكَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَكْلِهِ أَوْ حَمْلِهِ إِلَى مَنْزِلِهِ أَوْ بَيْعِهِ بِخِلَافِ طَعَامِ الْوَلِيمَةِ الَّذِي لَا يَمْلِكُ إِلَّا أَكْلَهُ فِي مَوْضِعِهِ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ فِي الْحَالَيْنِ، وَالْقَصْدِ الْمُفَرِّقِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَأَمَّا مَا وَقَعَ مِنَ النَّثْرِ فِي حِجْرِ بَعْضِ الْحَاضِرِينَ، فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ حَتَّى يَأْخُذَهُ بِيَدِهِ لَكِنَّهُ يَكُونُ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْرِهِ فَإِنْ أَخَذَهُ غَيْرُهُ مَلَكَهُ الْآخِذُ، وَإِنْ أَسَاءَ كَمَا يَقُولُ فِي الصَّيْدِ، إِذَا دَخَلَ دَارَ رَجُلٍ كَانَ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنْ أَخَذَهُ غَيْرُهُ مَلَكَهُ آخِذُهُ، فَأَمَّا زَوَالُ مُلْكِ رَبِّهِ عنه ففيه وجهان:
أحدهما: أن يَكُونُ نَثْرَهُ بَيْنَ النَّاسِ وَيَصِيرُ ذَلِكَ مِلْكًا لِجَمَاعَتِهِمْ، وَلَا يَتَعَيَّنُ مِلْكُهُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَّا بِالْأَخْذِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ حَتَّى يَلْتَقِطَهُ النَّاسُ فَيَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا الْتَقَطَهُ فَيَزُولُ عَنْهُ مِلْكُ صَاحِبِهِ.
فَصْلٌ
فَأَمَّا الْتِقَاطُ النَّثْرِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَرَاهِيَتِهِ مَعَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى جَوَازِهِ فَلَهُمْ فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَكْرُوهٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ: لِأَنَّهُ قَدْ يَأْخُذُ مَنْ غَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَى صَاحِبِهِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُهُمُ الْتِقَاطٌ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمَكْرُوهِ لَا يَلْزَمُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ إِذَا كَانَ الْمُلْتَقِطُ مَدْعُوًّا كَمَا لَا يُكْرَهُ أَكْلُ طَعَامِ الْوَلِيمَةِ لِلْمَدْعُوِّ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَأْكُلَهُ مَنْ غَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَى صَاحِبِهِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجِبُ(9/566)
الِالْتِقَاطُ عَلَى أَعْيَانِ الْحَاضِرِينَ؛ لِأَنَّهُ تَمَلُّكٌ مَحْضٌ فَجَرَى مَجْرَى الْهِبَةِ فِي وُجُوبِهِ عَلَى الْكَافَّةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ تَعْلِيلًا بِالْهِبَةِ، فَإِنْ تَرَكُوهُ جَمِيعًا جَازَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ لِمَا فِي تَرْكِ جَمِيعِهِمْ لَهُ مِنْ ظُهُورِ الْمُقَاطَعَةِ وَانْكِسَارِ نَفْسِ الْمَالِكِ، فَعَلَى هَذَا إِذَا الْتَقَطَهُ بَعْضُهُمْ سَقَطَ فَرْضُهُ عَنِ الْبَاقِينَ وَكَذَلِكَ، وَلَوِ الْتَقَطَ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ بَعْضَ الْمَنْثُورِ، وَبَقِيَ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ وَبَعْضُ الْمَنْثُورِ سَقَطَ عَنْهُمْ فَرْضُ الْتِقَاطِهِ، وَإِنْ كَانَ جَمِيعُهُ بَاقِيًا خَرَجُوا بِتَرْكِهِ أَجْمَعِينَ ثُمَّ النَّثْرُ مُخْتَصٌّ فِي الْعُرْفِ بِالنِّكَاحِ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِهِ كَالْوَلِيمَةِ فِي اخْتِصَاصِهَا بِعُرْسِ النِّكَاحِ، وَإِنِ اسْتُعْمِلَتْ فِي غَيْرِهِ كَمَا أَنَّ الْأَغْلَبَ فِيهِ نَثْرُ اللَّوْزِ وَالسُّكَّرِ وَإِنْ نَثَرَ قَوْمٌ غَيْرَ ذَلِكَ.
حُكِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا تَزَوَّجَ فَنَثَرَ عَلَى نَفْسِهِ الزَّبِيبَ لِإِعْوَازِ السُّكَّرِ وَأَنْشَأَ يَقُولُ:
(وَلَمَّا رَأَيْتُ السُّكَّرَ الْعَامَ قَدْ غَلَا ... وَأَيْقَنْتُ أَنِّي لَا مَحَالَةَ نَاكِحُ)
(صَبَبْتُ عَلَى رَأْسِي الزَّبِيبَ لِصُحْبَتِي ... وَقُلْتُ كُلُوا أَكْلَ الْحَلَاوَةِ صَالِحُ)(9/567)
مختصر القسم ونشوز الرجل على المرأة من الجامع ومن كتاب عشرة النساء ومن كتاب نشوز المرأة على الرجل ومن كتاب الطلاق من أحكام القرآن ومن الإملاء
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الِّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) {البقرة: 228) (قَالَ الشَّافِعِيُّ) وَجِمَاعُ الْمَعْرُوفِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ كَفُّ الْمَكْرُوهِ وَإِعْفَاءُ صَاحِبِ الْحَقِّ مِنَ الْمُؤْنَةِ فِي طَلَبِهِ لَا بِإِظْهَارِ الْكَرَاهِيَةِ فِي تَأْدِيَتِهِ فَأَيُّهُمَا مَطَلَ بِتَأْخِيرِهِ فَمَطْلُ الْغَنِيِّ ظلمٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ لِلزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا حَقًّا حَظَرَ عَلَيْهِ النُّشُوزَ عَنْهُ كَمَا أَوْجَبَ لَهُ عَلَيْهَا مِنْ ذَلِكَ حَقًّا حَظَرَ عَلَيْهَا النُّشُوزَ عَنْهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ) {الأحزاب: 50) . إِشَارَةً إِلَى مَا أَوْجَبَهُ لَهَا مِنْ كُسْوَةٍ وَنَفَقَةٍ، وَقَسْمٍ، قَالَ تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) {النساء: 19) . فَكَانَ مِنْ عِشْرَتِهَا بِالْمَعْرُوفِ تَأْدِيَةُ حَقِّهَا وَالتَّعْدِيلُ بينهما، وَبَيْنَ غَيْرِهَا فِي قَسْمِهَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَنْ تَسْتَطيِعُواْ أَنْ تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالمُعَلَقَةِ} (النساء: 129) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ) {البقرة: 228) . فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ لَهُنَّ حَقًّا، وَأَنَّ عَلَيْهِنَّ حَقًّا، وَلَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ) {البقرة: 228) فِي تَجَانُسِ الْحَقَّيْنِ وَتَمَاثُلِهِمَا، وَإِنَّمَا أَرَادَ فِي وُجُوبِهِمَا وَلُزُومِهِمَا فَكَانَ مِنْ حَقِّهَا عَلَيْهِ وُجُوبُ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ.
ثُمَّ فَسَّرَ الشَّافِعِيُّ قَوْلَهُ بِالْمَعْرُوفِ: فَقَالَ: " وَجِمَاعُ الْمَعْرُوفِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ كَفُّ الْمَكْرُوهِ، وَإِعْفَاءُ صَاحِبِ الْحَقِّ مِنَ الْمُؤْنَةِ فِي طَلَبِهِ ".
وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِعْلُ الْمَكْرُوهِ مِنَ الْمَعْرُوفِ الْمَأْمُورِ بِهِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَلَا إِلْزَامُ الْمُؤْنَةِ فِي اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مَعْرُوفٌ.
ثُمَّ قَالَ: " لَا بِإِظْهَارِ الْكَرَاهِيَةِ فِي تَأْدِيَتِهِ ".(9/568)
وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ تَأْدِيَةَ الْحَقِّ بِالْكَرَاهِيَةِ وَعُبُوسَ الْوَجْهِ وَغَلِيظَ الْكَلَامِ لَيْسَ مِنَ الْمَعْرُوفِ.
ثُمَّ قَالَ: " فَأَيُّهُمَا مَطَلَ فَمَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ ".
وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ الْقَادِرَ عَلَى أَدَاءِ الْحَقِّ ظَالِمٌ بِتَأْخِيرِهِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ " ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ مَا رَوَى مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ صَدَقَةَ بْنِ يَسَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " أيها الناس إن النساء عندكم عوان أخذتموهن بأمانة الله استحللتم فروجن بِكَلِمَةِ اللَّهِ فَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ حَقٌّ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ حَقٌّ وَمِنْ حَقِّكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا وَلَا يَعْصِينَكُمْ فِي مَعْرُوفٍ، فَإِذَا فَعَلْنَ ذَلِكَ فَلَهُنَّ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ " فَكَانَ الْقَسْمُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَعْرُوفِ الَّذِي لَهُنَّ.
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل ".
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته " فالرجل راع لأهله وهو مسؤول عَنْهُمْ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ كَانَ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ، وَيَقُولُ: " اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تُؤَاخِذْنِي فِيمَا لَا أَمْلِكُ " يَعْنِي قَلْبَهُ.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا مَرِضَ طِيفَ بِهِ عَلَى نِسَائِهِ مَحْمُولًا فَلَمَّا ثَقُلَ أَشْفَقْنَ عَلَيْهِ فَحَلَلْنَهُ مِنَ الْقَسْمِ ليقم عند عائشة رضي الله تعالى عنه لِمَيْلِهِ إِلَيْهَا فَتُوُفِّيَ عِنْدَهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلِذَلِكَ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي، وَفِي يَوْمِي وَلَمْ أَظْلِمْ فِيهِ أَحَدًا، فَدَلَّ هَذَا عَلَى وُجُوبِ الْقَسْمِ وتغليظ حكمه.
فَصْلٌ
فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْقَسْمِ فَلِوُجُوبِهِ شَرْطَانِ.
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لَهُ زَوْجَتَانِ فَأَكْثَرُ لِيَصِحَّ وُجُوبُ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا بِالْقَسْمِ فَإِنْ كَانَ لَهُ زَوْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَلَا قَسْمَ عَلَيْهِ، وَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُقِيمَ مَعَهَا فَهُوَ أَوْلَى بِهِ لِأَنَّهُ أَحْصَنُ لَهَا، وَأَغَضُّ لِطَرْفِهَا، وَبَيْنَ أَنْ يعتزلا فَلَا مُطَالَبَةَ لَهَا.
وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يُرِيدَ الْمُقَامَ عِنْدَ إِحْدَاهُمَا فَيَلْزَمُهُ بِذَلِكَ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَ الْأُخْرَى مِثْلَ مَا أَقَامَ عِنْدَهَا تَسْوِيَةً بَيْنَهُمَا فَيَلْزَمُهُ حِينَئِذٍ الْقَسْمُ بَيْنَهُمَا، فَأَمَّا إِنِ اعْتَزَلَهُمَا سَقَطَ الْقَسْمُ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّهُ قَدْ سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الِاعْتِزَالِ لَهُمَا كَمَا سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْقَسْمِ لَهُمَا فَلَمْ يَجُزِ الْمَيْلُ إِلَى إحداهما، والله أعلم.(9/569)
مسألة
قال الشافعي: " وتوفي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ تِسْعٍ وَكَانَ يَقْسِمُ لثمانٍ وَوَهَبَتْ سَوْدَةُ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) وَبِهَذَا نَقُولُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْقَسْمَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ يَجِبُ بِالْمُطَالَبَةِ، وَيَسْقُطُ بِالْعَفْوِ، وَلَا يَجُوزُ الْمُعَارَضَةُ عَلَى تَرْكِهِ كَالشُّفْعَةِ، وَيَجُوزُ هِبَتُهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَاتَ عَنْ تِسْعِ زَوْجَاتٍ، وَكَانَ يَقْسِمُ لِثَمَانٍ مِنْهُنَّ، لِأَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ أَرَادَ طَلَاقَهَا لِعُلُوِّ سِنِّهَا، وَاسْتِثْقَالِ الْقَسْمِ لَهَا فَلَمَّا عَلِمَتْ ذَلِكَ أَتَتْهُ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ أُحْشَرَ فِي جُمْلَةِ نِسَائِكَ، فَأَمْسِكْنِي فَقَدْ وَهَبْتُ يَوْمِي مِنْكَ لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - تُرِيدُ بِذَلِكَ التَّقَرُّبَ إِلَيْهِ لِعِلْمِهَا بِشِدَّةِ مَيْلِهِ إِلَى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عنها - فصار يقسم لعائشة - رضي الله عَنْهَا - يَوْمَيْنِ يَوْمَهَا وَيَوْمَ سَوْدَةَ، وَيَقْسِمُ لِغَيْرِهَا مِنْ نِسَائِهِ يَوْمًا يَوْمًا.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَنَزَلَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) {النساء: 128) . فَدَلَّ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى وُجُوبِ الْقَسْمِ، وَدَلَّ عَلَى جَوَازِ هِبَتِهِ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِ الْقَسْمِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى وُجُوبِ الْقَسْمِ عَلَى أُمَّتِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ لِهَذَا الْخَبَرِ، وَلِمَا رَوَيْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ يَقْسِمُ بَيْنَهُنَّ، وَيَقُولُ " اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تُؤَاخِذْنِي فِيمَا لَا أَمْلِكُ يَعْنِي قَلْبَهُ وَطِيفَ بِهِ فِي مَرَضِهِ عَلَى نِسَائِهِ مَحْمُولًا حَتَّى حَلَلْنَهُ مِنَ الْقَسْمِ، فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْقَسْمِ عَلَيْهِ، وَعَلَى جَمِيعِ أُمَّتِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا عَلَى أُمَّتِهِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مِنَ تَشَاءُ} (الأحزاب: 51) . وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْقَسْمِ عَلَيْهِ يَقْطَعُهُ عَلَى التَّشَاغُلِ بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، وَتَوَقُّعِ الْوَحْيِ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى فَارَقَ جَمِيعَ أُمَّتِهِ.
فَصْلٌ
فَإِذَا اسْتَقَرَّ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هِبَةَ الْقَسْمِ جَائِزَةٌ فَإِنَّمَا تَجُوزُ بِرِضَا الزَّوْجِ، لِأَنَّ لَهُ حَقَّ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فَلَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَنْفَرِدَ بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ مِنْهَا إِلَّا بِرِضَاهُ فَإِذَا رَضِيَ بِهِبَتِهَا صَارَ مُسْقِطًا لِحَقِّهِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فَتُعْتَبَرُ حِينَئِذٍ حَالُ هِبَتِهَا فَإِنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَهَبَ ذَلِكَ لِامْرَأَةٍ بِعَيْنِهَا مِنْ نِسَائِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ تَهَبَ ذَلِكَ لِجَمِيعِهِنَّ.(9/570)
وَالثَّالِثُ: أَنْ تَهَبَ ذَلِكَ لِلزَّوْجِ فَإِنْ وَهَبَتْ قَسْمَهَا لِامْرَأَةٍ بِعَيْنِهَا كَمَا وَهَبَتْ سَوْدَةُ يَوْمَهَا لعائشة - رضي الله تعالى عنها - جاز ولم يعتبر فيه رضى الْمَوْهُوبِ لَهَا فِي تَمْكِينِ الزَّوْجِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا كَمَا لَا يُرَاعَى ذَلِكَ فِي زَمَانِ نَفْسِهَا فَيَصِيرُ لَهَا يَوْمُ نَفْسِهَا، وَيَوْمُ الْوَاهِبَةِ وَهَلْ يَجْمَعُ الزَّوْجُ لَهَا بَيْنَ الْيَوْمَيْنِ أَوْ تَكُونُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الِافْتِرَاقِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَجْمَعُ لَهَا بَيْنَهُمَا وَلَا يُفَرِّقُهُمَا كَمَا لَا يُفَرِّقُ عَلَيْهَا يَوْمَهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْيَوْمَانِ عَلَى تَفْرِيقِهِمَا يَخْتَصُّ بِيَوْمِ نَفْسِهَا فَإِذَا جَاءَ يَوْمُ الْوَاهِبَةِ عَلَى تَرْتِيبِهِ جَعَلَهُ لَهَا وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا إِذَا كَانَا فِي التَّرْتِيبِ مُفْتَرِقَيْنِ، لِأَنَّهَا قَدْ أُقِيمَتْ فِيهِ مَقَامَ الْوَاهِبَةِ فَلَمْ يَعْدِلْ بِهِ عَنْ زَمَانِهِ كَمَا لَا يَعْدِلُ بِهِ عَنْ مِقْدَارِهِ، وَهَذَا أَشْبَهُ وَأَمَّا إِنْ وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِجَمِيعِ نِسَائِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَخُصَّ بِهِ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ بِعَيْنِهَا فَيَسْقُطُ حَقُّهَا مِنَ الْقَسْمِ وَلَا يَتَعَيَّنُ بِهِ قَسْمُ غَيْرِهَا، وَيَكُونُ حَالُ الْقَسْمِ بَعْدَ هِبَتِهَا كَحَالِهِ لَوْ عَدِمَتْ فَيَصِيرُ مُؤَثِّرًا فِي إِسْقَاطِ حَقِّهَا، وَلَا يُؤَثِّرُ فِي زِيَادَةِ حَقِّ غَيْرِهَا، وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ تَأْثِيرُهُ إِذَا كُنَّ مَعَ الْوَاهِبَةِ أَرْبَعًا إِنْ كَانَ يَعُودُ يَوْمُ كُلِّ وَاحِدَةٍ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَارَ يَعُودُ بَعْدَ يَوْمَيْنِ وَأَمَّا إِنْ وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِزَوْجِهَا فَلَهُ أَنْ يَجْعَلَ يَوْمَهَا لِمَنْ أَرَادَ مِنْ نِسَائِهِ، فَإِذَا جَعَلَهُ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِعَيْنِهَا اخْتَصَّتْ بِالْيَوْمَيْنِ دُونَ غَيْرِهَا، وَفِي جَمْعِهِ وَتَفْرِقَتِهِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ فَلَوْ أَرَادَ الزَّوْجُ أَنْ يَنْقُلَ يَوْمَ الْهِبَةِ فِي كُلِّ نَوْبَةٍ إِلَى أُخْرَى جَازَ فَيَجْعَلُ يَوْمَ الْهِبَةِ فِي هَذِهِ النَّوْبَةِ لِعَمْرَةَ وَفِي النَّوْبَةِ الْأُخْرَى لِحَفْصَةَ وَفِي النَّوْبَةِ الثَّالِثَةِ لِهِنْدٍ فَيَكُونُ ذَلِكَ مَحْمُولًا عَلَى خِيَارِهِ، لِأَنَّهَا هِبَةٌ فَجَازَ أَنْ يَخْتَصَّ بِهَا مَنْ شَاءَ.
فَصْلٌ
فَإِذَا رَجَعَتِ الْوَاهِبَةُ فِي هبتها، وطالبت الزوج بالقسم لها سقط حقا فِيمَا مَضَى، لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ وَقَسَمَ لَهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، لِأَنَّهَا رَجَعَتْ فِي هِبَةٍ لَمْ تُقْضَ فَلَوْ رَجَعَتْ فِي تَضَاعِيفِ يَوْمِهَا، وَقَدْ مَضَى بَعْضُهُ كَانَتْ أَحَقَّ بِبَاقِيهِ مِنَ الَّتِي صَارَ لَهَا وَعَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَنْتَقِلَ فِيهِ إِلَيْهَا، فَلَوْ رَجَعَتِ الْوَاهِبَةُ فِي يَوْمِهَا، وَلَمْ يَعْلَمِ الزَّوْجُ بِرُجُوعِهَا حَتَّى مَضَى عَلَيْهِ زَمَانٌ ثُمَّ علم قال الشافعي: " لم يقضيها مَا فَاتَ قَبْلَ عِلْمِهِ، وَاسْتَحَقَّتْ عَلَيْهِ الْقَسْمَ مِنْ وَقْتِ عِلْمِهِ ".
وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يقصد الممايلة لغيرها.
مسألة
قال الشافعي: " وَيُجْبَرُ عَلَى الْقَسْمِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ وُجُوبَ الْقَسْمِ مُعْتَبَرٌ بِشَرْطَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لَهُ زَوْجَتَانِ فَصَاعِدًا.(9/571)
وَالثَّانِي: أَنْ يُرِيدَ الْمُقَامَ عِنْدَ بَعْضِهِنَّ فَإِذَا وَجَبَ الْقَسْمُ لَهُنَّ أُجْبِرَ عَلَيْهِ إِنِ امْتَنَعَ مِنْهُ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْسِمَ، وَلَهُ زَوْجَتَانِ أَقَرَعَ بَيْنَهُمَا فِي الَّتِي يَبْدَأُ بِالْقَسْمِ لَهَا فَيَزُولُ عَنْهُ الْمَيْلُ.
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُسَافِرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْ نِسَائِهِ أَقْرَعَ بَيْنَهُنَّ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا سَافَرَ بِهَا فَلِذَلِكَ أَمَرْنَاهُ بِالْقُرْعَةِ لِتَزُولَ عَنْهُ التُّهْمَةُ بالممايلة.
فإذا خرجت قرعت إحداها بدأ بالقسم لها ثم قسم بعدها للثانية مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ وَلَوْ كُنَّ ثَلَاثًا أَقْرَعَ بَعْدَ الْأُولَى بَيْنَ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ فَإِذَا خَرَجَتْ قُرْعَةُ الثَّانِيَةِ قَسَمَ بَعْدَهَا لِلثَّالِثَةِ مِنْ غَيْرِ قرعة، ولو كن أربعاً أقرع بع الثَّانِيَةِ بَيْنَ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ فَإِذَا خَرَجَتْ قُرْعَةُ الثَّالِثَةِ قَسَمَ بَعْدَهَا لِلرَّابِعَةِ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ، فَإِذَا اسْتَقَرَّ الْقَسْمُ لَهُنَّ بِالْقُرْعَةِ فِي النَّوْبَةِ الْأُولَى سَقَطَتِ الْقُرْعَةُ فِيمَا بَعْدَهَا مِنَ النُّوَبِ، وَتَرَتَّبْنَ فِي الْقَسْمِ فِي كُلِّ نَوْبَةٍ تَأْتِي عَلَى مَرَّتَيْنِ بِالْقُرْعَةِ فِي النَّوْبَةِ الْأُولَى.
فَلَوْ رَتَّبَهُنَّ فِي النَّوْبَةِ الْأُولَى عَلَى خِيَارِهِ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ لَمْ يَسْتَقِرَّ حُكْمُ ذَلِكَ التَّرْتِيبِ فِيمَا بَعْدَهَا مِنَ النُّوَبِ إِلَّا بِقُرْعَةٍ يَسْتَأْنِفُهَا تَزُولُ التُّهْمَةُ بِهَا فِي الْمُمَايَلَةِ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الْقُرْعَةَ بَيْنَهُنَّ فِي كُلِّ نَوْبَةٍ جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ لِمَا فِيهِ مِنِ انتفاء التهمة.
مسألة
قال الشافعي: " فَأَمَّا الْجِمَاعُ فَمَوْضِعُ تَلَذُّذٍ وَلَا يُجْبَرُ أحدٌ عليه قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ المَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَقَةِ) {قال) بعض أهل التفسير لن تستطيعوا أن تعدلوا بما في القلوب لأن الله تعالى يجاوزه {فَلاَ تَمِيلُوا} لا تتبعوا أهواءكم أفعالكم فإذا كان الفعل والقول مع الهواء فذلك كل الميل وبلغنا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يقسم فيقول " اللهم هذا قسمي فيما أملك وأنت أعلم فيما لا أملك " يعني والله أعلم فيما لا أملك قلبه (قال) وبلغنا أنه كان يطاف به محمولاً في مرضه على نسائه حتى حللنه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ يَلْزَمُهُ الْقَسْمُ لَهُنَّ لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُنَّ وَلَا يَلْزَمُهُ جِمَاعُهُنَّ إِذَا اسْتَقَرَّ دُخُولُهُ بِهِنَّ وَلَهُ أَنْ يُجَامِعَ مَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ، وَلَا يَلْزَمُهُ جِمَاعُ غَيْرِهَا، لِأَنَّ الْجِمَاعَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ دَوَاعِي الشَّهْوَةِ وَخُلُوصِ الْمَحَبَّةِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَى تَكَفُّلِهَا بِالتَّصَنُّعِ لَهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ المَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَقَةِ) {النساء: 129) . قَالَ الشَّافِعِيُّ: مَعْنَاهُ وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ بِمَا(9/572)
فِي الْقُلُوبِ مِنَ الْمَحَبَّةِ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الميل في أن تتبعوا أهواءكم وأفعالكم {فَتَذَرُوهَا كَالمُعَلَقَةِ} ، وَهِيَ الَّتِي لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ وَلَا مُفَارَقَةٍ.
فَدَلَّتْ هذه الآية على أنه عَلَيْهِ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُنَّ فِيمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ أَفْعَالِهِ فِي الْقَسْمِ وَالْإِيوَاءِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُنَّ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَحَبَّةِ وَالشَّهْوَةِ فَكَذَلِكَ الْجِمَاعُ.
وَقَالَ مَالِكٌ: يُؤْخَذُ الزَّوْجُ بِجِمَاعِ امْرَأَتِهِ فِي كُلِّ مُدَّةٍ لِيُحَصِّنَهَا وَيَقْطَعَ شَهْوَتَهَا، فَإِنْ أَطَالَ تَرْكَ جِمَاعِهَا، وَحَاكَمَتْهُ إِلَى الْقَاضِي فَسَخَ النِّكَاحَ بَيْنَهُمَا إِنْ لَمْ يُجَامِعْ وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ قَوْمٌ أَنْ يُجَامِعَهَا فِي كُلِّ أَرْبَعِ لَيَالٍ مَرَّةً، لِأَنَّهُ قَدْ أُبِيحَ لَهُ نِكَاحُ أَرْبَعٍ فَصَارَتْ تَسْتَحِقُّ مِنْ كُلِّ أَرْبَعَةِ أيام يوماً وبهذا حكم كعب بن سور بِحَضْرَةِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ مِنْهُ وَوَلَّاهُ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ فَكَانَ أَوَّلَ قاضٍ قَضَى بِهَا.
وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ عِنْدَنَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَعْبٌ تَوَسَّطَ فِيمَا حَكَمَ بِهِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عَنْ صُلْحٍ وَمُرَاضَاةٍ وَكَمَا لَا يُجْبَرُ عَلَى جِمَاعِهَا، فَكَذَلِكَ لَا يُجْبَرُ عَلَى مُضَاجَعَتِهَا وَلَا عَلَى تَقْبِيلِهَا وَمُحَادَثَتِهَا وَلَا عَلَى النَّوْمِ مَعَهَا فِي فِرَاشٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ دَوَاعِي الشَّهْوَةِ وَالْمَحَبَّةِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَى تَكَلُّفِهَا، وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ زَمَانُ الْقَسْمِ بِالِاجْتِمَاعِ وَالْأُلْفَةِ.
مَسْأَلَةٌ
قال الشافعي: " وَعِمَادُ الْقَسْمِ اللَّيْلُ لِأَنَّهُ سَكَنٌ فَقَالَ: {أَزْوَاجاً لِتَسْكُنْوا إِلَيْهَا} .
قال الماوردي: وهذا كماقال، عَلَى الزَّوْجِ فِي زَمَانِ الْقَسْمِ أَنْ يَأْوِيَ إِلَيْهَا لَيْلًا، وَيَنْصَرِفَ لِنَفْسِهِ نَهَارًا، لِأَنَّ اللَّيْلَ زَمَانُ الدَّعَةِ وَالْإِيوَاءِ وَالنَّهَارَ زَمَانُ الْمَعَاشِ وَالتَّصَرُّفِ، قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً) {النبأ: 10 - 11) . وَفِي اللِّبَاسِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْإِيوَاءُ فِي الْمَسَاكِنِ وَإِلَى سَكَنِهِ فَصَارَ كَاللَّابِسِ لِمَسْكَنِهِ وَلِزَوْجَتِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَتَغَطَّى بِظُلْمَةِ اللَّيْلِ كَمَا يَتَغَطَّى بِاللِّبَاسِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} (الروم: 21) . وَالسَّكَنُ يَكُونُ فِي اللَّيْلِ، وَلِأَنَّ اللَّيْلَ زَمَانُ الدَّعَةِ وَالْإِيوَاءِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عُمْدَةَ الْقَسْمِ، وَلِأَنَّ السَّيِّدَ لَوْ زَوَّجَ أَمَتَهُ لَزِمَهُ تَمْكِينُ الزَّوْجِ مِنْهَا لَيْلًا، وَكَانَ لَهُ اسْتِخْدَامُهَا نَهَارًا فَعُلِمَ أَنَّ اللَّيْلَ عِمَادُ الْقَسْمِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ فِي اللَّيْلِ أَنْ يَخْرُجَ فِيهِ مِنْ عِنْدِ(9/573)
الَّتِي قَسَمَ لَهَا إِلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ، فَأَمَّا النَّهَارُ فَلَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِمَا شَاءَ، وَيَدْخُلُ فِيهِ إِلَى غَيْرِهَا مِنْ نِسَائِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَرَّضَ فِيهِ لِوَطْئِهَا.
رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عِنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ: قَلَّ يَوْمٌ إِلَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يدخل على نسائه فيدنو من كل امرأة مِنْهُنَّ فَيُقَبِّلُ وَيَلْمَسُ مِنْ غَيْرِ مَسِيسٍ وَلَا مُبَاشَرَةٍ ثُمَّ يَبِيتُ عِنْدَ الَّتِي هُوَ يَوْمُهَا.
فَإِنْ كَانَ فِي النَّاسِ مَنْ يَنْصَرِفُ فِي مَعَاشِهِ لَيْلًا وَيَأْوِي إِلَى مَسْكَنِهِ نَهَارًا كَالْحُرَّاسِ، وَصُنَّاعِ الْبِزْرِ وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ فَعِمَادُ هَؤُلَاءِ فِي قَسْمِهِمُ النَّهَارُ دُونَ اللَّيْلِ، لِأَنَّهُ زَمَانُ سكنهم والليل زمان معاشهم.
مسألة
قال الشافعي: " فَإِنْ كَانَ عِنْدَ الرَّجُلِ حَرَائِرُ مسلماتٌ وذمياتٌ فَهُنَّ فِي الْقَسْمِ سَوَاءٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ تَسْتَوِي الْمُسْلِمَةُ وَالذِّمِّيَّةُ فِي الْقَسْمِ لَهَا لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) {النساء: 19) . وَلِأَنَّ حُقُوقَ الزَّوْجِيَّةِ تَسْتَوِي فِيهَا الْمُسْلِمَةُ وَالذِّمِّيَّةُ كَالسُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ، وَيُقْرَعُ بَيْنَهُمَا فِي الْقَسْمِ، وَلَا تُقَدَّمُ الْمُسْلِمَةُ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ تَعْدِيلًا بَيْنَهُمَا كَمَا يَعْدِلُ في قدر الزمان.
مسألة
قال الشافعي: " وَيَقْسِمُ لِلْحُرَّةِ لَيْلَتَيْنِ وَلِلْأَمَةِ لَيْلَةً إِذَا خَلَّى الْمَوْلَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا فِي لَيْلَتِهَا وَيَوْمِهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا كَانَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ وَأَمَةٌ زَوْجَتَانِ، وَذَلِكَ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ عَبْدًا فَنَكَحَ أَمَةً وَحُرَّةً وَيَكُونَ حُرًّا تَزَوَّجَ الْأَمَةَ عِنْدَ عَدَمِ الطَّوْلِ ثُمَّ نَكَحَ بَعْدَهَا حُرَّةً، فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْسِمَ لَهُمَا، وَيَكُونُ قَسْمُ الْأَمَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ قَسْمِ الْحُرَّةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَقْسِمَ لِلْحُرَّةِ ليلتين وللأمة ليلة واحدة أَوْ لِلْحُرَّةِ أَرْبَعَ لَيَالٍ وَلِلْأَمَةِ لَيْلَتَيْنِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْقَسْمِ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إِلَى إحداهما جاء يوم القيوم وَشِقُّهُ مَائِلٌ ".
وَلِأَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِي قَسْمِ الِابْتِدَاءِ إِذَا نَكَحَهَا خَصَّهَا بِسَبْعٍ إِنْ كَانَتْ بِكْرًا، وَبِثَلَاثٍ إِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي قَسْمِ الِانْتِهَاءِ.
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الْحَسَنُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا تُنْكَحُ أَمَةٌ عَلَى حُرَّةٍ، وَلِلْحُرَّةِ الثُّلُثَانِ وَلِلْأَمَةِ الثُّلُثُ ".(9/574)
فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا مُرْسَلٌ، وَلَيْسَتِ الْمَرَاسِيلُ عِنْدَكُمْ حُجَّةً.
قِيلَ: قَدْ عَضَّدَ هَذَا الْمُرْسَلَ قَوْلُ صَحَابِيٍّ، وَهُوَ مَا رَوَى الْمِنْهَالُ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: إِذَا تُزُوِّجَتِ الْحُرَّةُ عَلَى الْأَمَةِ قَسَمَ لَهَا يَوْمَيْنِ، وللأمة يوماً وإذا عضد المرسل قول الصحابي صَارَ الْمُرْسَلُ حُجَّةً.
وَعَلَى أَنَّهُ لَيْسَ يُعْرَفُ لعلي - رضي الله تعالى عنه - فِي هَذَا الْقَوْلِ مُخَالِفٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا، وَلِأَنَّ مَا كَانَ ذَا عَدَدٍ تَبَعَّضَتِ الْأَمَةُ فِيهِ مِنَ الْحُرَّةِ كَالْحُدُودِ وَالْعِدَّةِ وَالطَّلَاقِ.
وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْقَسْمِ لَهَا فِي مُقَابَلَةِ وُجُوبِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فَلَمَّا تَبَعَّضَ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا مِنَ الْحُرَّةِ لِاسْتِحْقَاقِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فِي اللَّيْلِ وَوُجُوبِ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْحُرَّةِ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَجَبَ أَنْ يَتَبَعَّضَ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ مِنَ الْقَسْمِ.
فَأَمَّا الْخَبَرُ فَلَا دليل فيه، لأن العمل بما أوجبه لشرع لا يكون ميلاً محظوراً وأما اسْتِدْلَالَهُمْ بِقَسْمِ الِابْتِدَاءِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَسْتَوِيَانِ فِيهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّهُمَا لَا يَتَسَاوَيَانِ فِيهِ بَلْ يَتَفَاضَلَانِ كَقَسْمِ الِانْتِهَاءِ فَسَقَطَ الدَّلِيلُ.
الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّهَا يَتَسَاوَيَانِ فِي قَسْمِ الِابْتِدَاءِ وَإِنْ تَفَاضَلَا فِي قَسْمِ الِانْتِهَاءِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ قَسْمَ الِابْتِدَاءِ مَوْضُوعٌ لِلْأُنْسِيَّةِ فَاسْتَوَى فِيهِ الْحُرَّةُ وَالْأَمَةُ وَقَسْمُ الِانْتِهَاءِ مَوْضُوعٌ لِلِاسْتِمْتَاعِ، وَالِاسْتِمْتَاعُ بِالْأَمَةِ نَاقِصٌ عَنِ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْحُرَّةِ.
فَصْلٌ
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ قَسْمَ الْأَمَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ قَسْمِ الْحُرَّةِ فَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرَةُ وَالْمُكَاتَبَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ، وَمِنْ فِيهَا جُزْءٌ مِنَ الرِّقِّ، وَإِنْ قَلَّ فَإِنْ أُعْتِقَتِ الْأَمَةُ فِي وَقْتِ قَسْمِهَا كَمَّلَ لَهَا قَسْمَ حُرَّةٍ وَلَوْ أُعْتِقَتْ بَعْدَ زَمَانِ قَسْمِهَا اسْتَأْنَفَ لَهَا فِيمَا يَسْتَقْبِلُهُ مِنَ النُّوَبِ قَسْمَ حُرَّةٍ لَكِنَّهُ يَقْسِمُ لِلْحُرَّةِ مِثْلَ مَا كَانَ لِلْأَمَةِ مِنَ الْقَسْمِ، كَأَنَّهُ كَانَ يَقْسِمُ لِلْأَمَةِ لَيْلَةً، وَلِلْحُرَّةِ لَيْلَتَيْنِ، فَاسْتَكْمَلَتِ الْأَمَةُ لَيْلَتَهَا وَهِيَ عَلَى الرِّقِّ، وَأَقَامَ مَعَ الْحُرَّةِ لَيْلَةً وَاحِدَةً ثُمَّ أُعْتِقَتِ الْأَمَةُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَزِيدَ الْحُرَّةَ عَلَى تِلْكَ اللَّيْلَةِ الْوَاحِدَةِ، لِأَنَّ الْأَمَةَ قَدْ صَارَتْ مِثْلَهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَهُمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ نَصًّا فِي الْقَدِيمِ.
وَفِيهِ عِنْدِي نَظَرٌ، لِأَنَّ عِتْقَ الْأَمَةِ يُوجِبُ تَكْمِيلَ حَقِّهَا وَلَا يُوجِبُ نُقْصَانَ حَقِّ غَيْرِهَا فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْحُرَّةُ عَلَى حَقِّهَا، وَيَسْتَقْبِلَ زِيَادَةَ الْأَمَةِ بَعْدَ عِتْقِهَا، فَلَوْ أُعْتِقَتِ الْأَمَةُ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِعِتْقِهَا حَتَّى مَضَى لَهَا نَوْبٌ فِي الْقَسْمِ ثُمَّ عَلِمَ، لَمْ يَقْضِ مَا مَضَى وَكَمَّلَ قِسْمَهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْعِتْقِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(9/575)
مسألة
قال الشافعي: " وَلِلْأَمَةِ أَنْ تُحَلِّلَهُ مِنْ قَسْمِهَا دُونَ الْمَوْلَى ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ الْقَسْمَ حَقٌّ لَهَا دُونَ سَيِّدِهَا، لِأَنَّهُ إِلْفٌ لَهَا وَسَكَنٌ فَإِنْ حَلَّلَتْ زَوْجَهَا مِنَ الْقَسْمِ صَحَّ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ السَّيِّدُ وَلَوْ حَلَّلَهُ السَّيِّدُ مِنْهُ لَمْ يَصِحَّ، وَخَالَفَ ذَلِكَ الْمَهْرَ الَّذِي إِنْ عَفَا عَنْهُ السَّيِّدُ صَحَّ، وَإِنْ عَفَتْ عَنْهُ الْأَمَةُ لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّ الْمَهْرَ لِلسَّيِّدِ دُونَهَا فَصَحَّ عَفْوُهُ دُونَهَا، وَالْقَسْمُ لَهَا دُونَ السَّيِّدِ فصح عفوها عنه دون السيد.
مسألة
قال الشافعي: " ولا يجامع المرأة لا فِي غَيْرِ يَوْمِهَا وَلَا يَدْخُلُ فِي اللَّيْلِ عَلَى الَّتِي لَمْ يَقْسِمْ لَهَا (قَالَ) وَلَا بَأْسَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا بِالنَّهَارِ فِي حاجةٍ وَيَعُودَهَا فِي مَرَضِهَا فِي لَيْلَةِ غَيْرِهَا فَإِذَا ثَقُلَتْ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَهَا حَتَّى تَخِفَّ أَوْ تَمُوتَ ثُمَّ يُوَفِّي مَنْ بَقِيَ مِنْ نِسَائِهِ مِثْلَ مَا أَقَامَ عِنْدَهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ عِمَادَ الْقَسْمِ اللَّيْلُ دُونَ النَّهَارِ لَكِنَّ النَّهَارَ دَاخِلٌ فِي الْقَسْمِ تَبَعًا لِلَّيْلِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ زَمَانِ الْقَسْمِ اللَّيْلَ لِسَعَةِ الْيَوْمِ الَّذِي بَعْدَهُ، لِأَنَّ الْيَوْمَ تَبَعٌ لِمَا تَقَدَّمَهُ مِنَ اللَّيْلِ دُونَ مَا تَأَخَّرَ، وَلِذَلِكَ كَانَ أَوَّلُ الشَّهْرِ دُخُولَ اللَّيْلِ، فَإِنْ جَعَلَ أَوَّلَ زَمَانِ الْقَسْمِ النَّهَارَ مَعَ اللَّيْلَةِ الَّتِي بَعْدَهُ، جَازَ وَيَصِيرُ مُقَدِّمًا لِلتَّابِعِ عَلَى الْمَتْبُوعِ، فَإِذَا قَسَمَ لَهَا يَوْمًا وَلَيْلَةً فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْسِمَ عِنْدَهَا لَيْلًا لَا يَخْرُجُ فِيهِ إِلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ وَيَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ نَهَارًا لِلتَّصَرُّفِ فِي أَشْغَالِهِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ نِسَائِهِ فَإِنْ كَانَ فِي النَّهَارِ جَازَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنْ نِسَائِهِ دُخُولَ غَيْرِ مُسْتَوْطِنٍ عِنْدَهَا وَلَا مُقِيمٍ بَلْ لِيَسْأَلَ عَنْهَا وَيَتَعَرَّفَ خَبَرَهَا وَيَنْظُرَ فِي مَصَالِحِهَا أَوْ مَصَالِحِ نَفْسِهِ عِنْدَهَا وَيَجُوزُ لَهُ فِي دُخُولِهِ عَلَيْهَا أَنْ يقبلها ويمسها من غير وطئ لما روينا من حديث عائشة - رضي الله تعالى عنها - أَنَّهَا قَالَتْ: " قَلَّ يَوْمٌ إِلَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يدخل على نسائه فيدنو من كل امرأة مِنْهُنَّ فَيُقَبِّلُ وَيَلْمَسُ مِنْ غَيْرِ مَسِيسٍ وَلَا مُبَاشَرَةٍ ثُمَّ يَبِيتُ عِنْدَ الَّتِي هُوَ يَوْمُهَا "، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْقَسْمِ اللَّيْلُ دُونَ النَّهَارِ فَإِذَا دَخَلَ النَّهَارُ عَلَى وَاحِدَةٍ لَمْ يُفَوِّتْ عَلَى صَاحِبَةِ الْقَسْمِ حَقَّهَا مِنْهُ، وَكَانَ دُخُولُهُ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ نِسَائِهِ كَدُخُولِهِ عَلَى غَيْرِ نِسَائِهِ، فَأَمَّا وَطْؤُهُ لِغَيْرِهَا فِي النَّهَارِ فَلَا يَجُوزُ، لِأَنَّ الْوَطْءَ مَقْصُودُ الْقَسْمِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَفْعَلَهُ فِي زَمَانِ غَيْرِهَا.
وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَخَلَ عَلَى زَوْجَتِهِ حَفْصَةَ فِي يَوْمِهَا فَوَجَدَهَا قَدْ خَرَجَتْ لِزِيَارَةِ أَبِيهَا فَاسْتَدْعَى مَارِيَةَ فَخَلَا بِهَا فَلَمَّا عَلِمَتْ حَفْصَةُ عَتَبَتْ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقالت فِي بَيْتِي، وَفِي يَوْمِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَرْضَاهَا بِتَحْرِيمِ مَارِيَةَ عَلَى نَفْسِهِ وَأَمَرَهَا أَنْ لا(9/576)
تُخْبِرَ بِذَلِكَ أَحَدًا مِنْ نِسَائِهِ فَأَخْبَرَتْ بِهِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - لِمُصَافَاةٍ كَانَتْ بَيْنَهُمَا فَتَظَاهَرَتَا عَلَيْهِ وَفِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ تعالى: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ) {التحريم: 1) . فَإِنْ أَطَالَ الْمُقَامَ عِنْدَ غَيْرِهَا فِي نَهَارِ قَسْمِهَا أَوْ وَطِئَ فِيهِ غَيْرَهَا لَمْ يَقْضِ مُدَّةَ مُقَامِهِ، وَإِنْ شَاءَ، لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِالنَّهَارِ مِنْهَا، لِأَنَّهُ زَمَانُ التَّصَرُّفِ دُونَ الْإِيوَاءِ فَلَمْ يَقْضِهِ.
فَأَمَّا اللَّيْلُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ عِنْدِهَا فِيهِ إِلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ، سَوَاءٌ أَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَى زَوْجَتِهِ أَوْ غَيْرِ زَوْجَتِهِ، لِأَنَّهُ مَقْصُودُ الْقَسْمِ فَلَمْ يَجُزْ أن يفوته عليها، فإن دعته الضرورة إِلَى الْخُرُوجِ مِنْ عِنْدِهَا لَيْلًا فَخَرَجَ لَمْ يَأْثَمْ وَنُظِرَ فِي مُدَّةِ الْخُرُوجِ، فَإِنْ كَانَ يَسِيرًا لَا يَقْضِي مِثْلَهُ كَانَ عَفْوًا، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا يَقْضِي مِثْلَهُ، كَأَنْ خَرَجَ نِصْفَ اللَّيْلِ أَوْ ثُلُثَهُ قَضَاهَا زَمَانَ خُرُوجِهِ لِيُوَفِّيَهَا حَقَّهَا مِنَ الْقَسْمِ ثُمَّ يُنْظَرُ فِي مُدَّةِ الْخُرُوجِ الَّذِي يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ، فَإِنْ كَانَ لِضَرُورَةٍ عَرَضَتْ لَهُ عِنْدَ غَيْرِ زَوْجَةٍ قَضَاهَا ذَلِكَ الزَّمَانَ لَا مِنْ زَمَانِ واحدةٍ مِنْ نِسَائِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ خَرَجَ فِيهِ إِلَى غَيْرِهَا مِنْ نِسَائِهِ لِمَرَضٍ خَافَ عَلَيْهَا مِنْهُ فَإِنْ مَاتَتْ سَقَطَ قَسْمُهَا، وَقَضَى صَاحِبَةَ الْقَسْمِ مَا فَوَّتَهُ عَلَيْهَا مِنْ لَيْلَتِهَا وَإِنْ لَمْ تَمُتْ قَضَى صَاحِبَةَ الْقَسْمِ مِنْ لَيْلَةِ الْمَرِيضَةِ مَا فَوَّتَهُ عَلَيْهَا مِنْ لَيْلَتِهَا، فَأَمَّا مَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَيَعُودُهَا فِي مَرَضِهَا لَيْلَةَ غَيْرِهَا فَقَدْ كَانَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ يَنْسِبُ الْمُزَنِيَّ إِلَى الْخَطَأِ فِي هَذَا النَّقْلِ، وَيَقُولُ: إِنَّ الشَّافِعِيَّ إِنَّمَا قَالَ: وَيَعُودُهَا فِي مَرَضِهَا فِي نَهَارِ غَيْرِهَا، وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ فَاسِدٌ، وَنَقْلُ الْمُزَنِيِّ صَحِيحٌ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعُودَهَا فِي لَيْلَةِ غَيْرِهَا إِذَا كَانَ مَرَضُهَا مَخُوفًا، لِأَنَّهُ رُبَّمَا تَعَجَّلَ مَوْتُهَا قَبْلَ النَّهَارِ فَفَاتَهُ حُضُورُهَا وَهُوَ الْمُرَادُ بِمَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ مَرَضُهَا مَأْمُونًا لَمْ يَكُنْ لَهُ عِيَادَتُهَا فِي اللَّيْلِ حَتَّى يُصْبِحَ فَيَعُودُهَا نَهَارًا وَإِنَّمَا قَضَاءُ زَمَانِ الْخُرُوجِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَعْذُورًا، لِأَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ لَا تَسْقُطُ بِالْأَعْذَارِ فَلَوْ خَرَجَ فِي لَيْلَتِهَا إِلَى غَيْرِهَا فَوَطِئَهَا ثُمَّ عَادَ إِلَيْهَا فِي الْحَالِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: لَا يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ لِقُصُورِهِ عَنْ زَمَانِ الْقَضَاءِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَلْزُمُهُ قَضَاءُ لَيْلَةٍ بِكَمَالِهَا، لِأَنَّ مَقْصُودَ الْقَسْمِ فِي اللَّيْلِ هُوَ الْوَطْءُ فَإِذَا وَطِئَ فِيهِ غَيْرَهَا، فَكَأَنَّهُ فَوَّتَ عَلَيْهَا جَمِيعَ اللَّيْلَةِ فَلِذَلِكَ لَزِمَهُ قَضَاءُ جَمِيعِهَا مِنْ لَيْلَةِ الْمَوْطُوءَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ عَلَيْهِ فِي لَيْلَةِ الْمَوْطُوءَةِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ عِنْدِهَا إِلَى هَذِهِ فَيَطَأَهَا ثُمَّ يَعُودَ إِلَى تِلْكَ لِيُسَوِّيَ بَيْنَهُمَا فِي فِعْلِهِ، وَهَذَا فِي الْقَضَاءِ صَحِيحٌ وَفِي الْوَطْءِ فَاسِدٌ لِاسْتِحْقَاقِ الزَّمَانِ دُونَ الْوَطْءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(9/577)
مسألة
قال الشافعي: " وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَقْسِمَ لَيْلَتَيْنِ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثَلَاثًا كَانَ ذَلِكَ لَهُ وَأَكْرَهُ مُجَاوَزَةَ الثَّلَاثِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، الْأَوْلَى بِالزَّوْجِ فِي الْقَسْمِ بَيْنَ نِسَائِهِ أَنْ يَقْسِمَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ لَيْلَةً لَيْلَةً اتِّبَاعًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْقَسْمِ بَيْنَ نِسَائِهِ، وَلِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى استيفاء حقوقهن، فإنه جَعَلَ الْقَسْمَ لَيْلَتَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ جَازَ، وَكَذَلِكَ لو جعله ثلاث ليال، لأن آخِرُ حَدِّ الْقِلَّةِ وَأَوَّلُ حَدِّ الْكَثْرَةِ وَلَا اعْتِرَاضَ لَهُنَّ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ بَلْ هُوَ إِلَى خِيَارِهِ دُونَهُنَّ، فَأَمَّا إِنْ أَرَادَ الزِّيَادَةَ عَلَى ثَلَاثٍ، بِأَنْ يَقْسِمَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ أُسْبُوعًا أَوْ شَهْرًا، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْإِمْلَاءِ يقسم مياومة ومشاهرة ومسانهة.
وَهَذَا إِنَّمَا يَجُوزُ لَهُ مَعَ رِضَاهُنَّ بِذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يَرْضَيْنَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُجَاوِزَ بِهِنَّ ثَلَاثًا، وَلِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ دَخَلَ فِي الْكَثْرَةِ الَّتِي لَا يُؤْمَنُ تَفْوِيتُ حُقُوقِهِنَّ فِيهَا بِالْمَوْتِ فَإِنْ قَسَمَ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ شَهْرًا فَقَدْ أَسَاءَ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَقْسِمَ لِلْبَاقِيَاتِ شَهْرًا شَهْرًا، فَإِذَا اسْتَوْفَيْنَ الشَّهْرَ فَلَهُنَّ أَنْ يُلْزِمْنَهُ تَقْلِيلَ الْقَسْمِ إِلَى ثَلَاثٍ.
فَصْلٌ
فَإِنْ طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْ نِسَائِهِ فِي مُدَّةِ قَسْمِهَا، وَقَدْ بَقِيَتْ مِنْهَا بَقِيَّةٌ فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا سَقَطَ بَاقِيهِ سَوَاءٌ نَكَحَهَا بَعْدَ زَوْجٍ أَمْ لَا، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا فَإِنْ لَمْ يُرَاجِعْهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا ثُمَّ نَكَحَهَا لَمْ يَقْضِهَا بَقِيَّةَ قَسْمِهَا وَلَا مَا مَضَى مِنْ نَوْبِ الْقَسْمِ بَعْدَ طَلَاقِهَا، وَقَبْلَ نِكَاحِهَا وَإِنْ رَاجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَقْضِيَهَا مَا تَجَدَّدَ مِنْ نَوْبِ الْقَسْمِ بَعْدَ طَلَاقِهِ، وَأَمَّا بَقِيَّةُ النَّوْبَةِ الَّتِي كَانَ الطَّلَاقُ فِيهَا فَإِنَّكَ تَنْظُرُ فَإِنْ كَانَتْ آخِرَ النِّسَاءِ قَسْمًا فِي النَّوْبَةِ قَضَاهَا بَقِيَّةَ أَيَّامِهَا فِي تِلْكَ النَّوْبَةِ، لِأَنَّهَا قَدِ اسْتَحَقَّتْهَا بِالْقَسْمِ لِمَنْ تَقَدَّمَهَا وَإِنْ كَانَتْ أَوَّلَ النِّسَاءِ قَسْمًا فِي النَّوْبَةِ لَمْ يَقْضِهَا بَقِيَّةَ أَيَّامِهَا، لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ قَسْمٍ لَمْ يَسْتَحِقَّ اسْتِكْمَالَهُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَقْسِمَ لِمَنْ سِوَاهَا مِثْلَهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أراد أن يتقصر بِهَا عَلَى هَذَا الْقَدْرِ لِيَقْسِمَ لِلْبَاقِيَاتِ مِثْلَهُ جَازَ إِذَا كَانَتْ أَوَّلَهُ وَلَمْ يَجُزْ إِذَا كانت آخره.
مسألة
قال الشافعي: " وَيَقْسِمُ لِلْمَرِيضَةِ وَالرَّتْقَاءِ وَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَلِلَّتِي آلَى أَوْ ظَاهَرَ مِنْهَا وَلَا يَقْرَبْهَا حَتَّى يُكَفِّرَ لِأَنَّ فِي مَبِيتِهِ سُكْنَى وَإِلْفًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، وَالْقَسْمُ لِلْإِلْفِ وَالسَّكَنِ لَا لِلْجِمَاعِ فَلِذَلِكَ لَزِمَهُ أَنْ يَقْسِمَ لِمَنْ قَدَرَ عَلَى جِمَاعِهَا أَوْ لَمْ يَقْدِرْ مِنَ الْمَرِيضَةِ وَالرَّتْقَاءِ وَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالَّتِي آلَى مِنْهَا أَوْ ظاهر.(9/578)
قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: وَيَقْسِمُ لِلْمُحرمَةِ، فَأَمَّا الْمَجْنُونَةُ فَإِنْ أَمِنَهَا عَلَى نَفْسِهِ قَسَمَ لَهَا، وَإِنْ لَمْ يَأْمَنْهَا لَمْ يَقْسِمْ، وَيَقْسِمُ لِذَوَاتِ الْعُيُوبِ مِنَ الْجُذَامِ وَالْبَرَصِ، فَإِنْ عَافَتْهُ نَفْسُهُ فَسَخَ.
وَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَسْمُ لِمَنْ ذَكَرْنَاهُ فَلَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِالْمَرِيضَةِ فِيمَا سِوَى الْوَطْءِ إِذَا كَانَ يَضُرُّهَا.
وَأَمَّا الرَّتْقَاءُ فَيَسْتَمْتِعُ بِمَا أَمْكَنَ مِنْهَا.
وَأَمَّا الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ فَيَسْتَمْتِعُ بِهَا دُونَ الْفَرْجِ.
وَأَمَّا الَّتِي آلَى مِنْهَا فَلَهُ وطئها وَيُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِهِ.
وَأَمَّا الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا فليس له وطئها.
وَفِي إِبَاحَةِ التَّلَذُّذِ فِيمَا سِوَى الْوَطْءِ وَجْهَانِ، وَأَمَّا الْمُحْرِمَةُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الِاسْتِمْتَاعُ بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَعَلَى الْمَجْبُوبِ وَالْعِنِّينِ أَنْ يَقْسِمَ لِنِسَائِهِ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى جِمَاعِهِنَّ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ مَقْصُودِ الْقَسْمِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الزَّوْجُ مَرِيضًا لَزِمَهُ الْقَسْمُ لَهُنَّ كَالصَّحِيحِ، وَلَوْ كَانَ عبداً لزمه القسم كالحر.
مسألة
قال الشافعي: " وإن أحب أن يلزم منزلاً يأتيه فِيهِ كَانَ ذَلِكَ لَهُ عَلَيْهِنَّ فَأَيَّتُهُنَ امْتَنَعَتْ سَقَطَ حَقُّهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ لِلزَّوْجِ الْخِيَارَ فِي الْقَسْمِ بَيْنَ أَنْ يَطُوفَ عَلَيْهِنَّ فِي مَسَاكِنِهِنَّ فَيُقِيمُ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فِي زَمَانِ قَسْمِهَا كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعَ نِسَائِهِ وَبَيْنَ أَنْ يُقِيمَ فِي مَنْزِلٍ وَيَأْمُرُهُنَّ بِإِتْيَانِهِ فِيهِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَتُقِيمُ عِنْدَهُ مُدَّةَ قَسْمِهَا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَاهُمَا بِهِ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي قَسْمِهِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَصْوَنُ لَهُنَّ وَأَجْمَلُ فِي عِشْرَتِهِنَّ فَلَوْ أَمَرَهُنَّ بِإِتْيَانِهِ فَامْتَنَعَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ أَنْ تَأْتِيَهُ فَإِنْ كَانَ لِمَرَضٍ عُذِرَتْ وكانت على حقها من القسم النفقة، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ مَرَضٍ وَلَا عُذْرٍ صَارَتْ بِامْتِنَاعِهَا نَاشِزًا وَسَقَطَ حَقُّهَا مِنَ الْقَسْمِ وَالنَّفَقَةِ، لِأَنَّ عَلَيْهَا قَصْدَهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَصْدُهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا لَزِمَهَا اتِّبَاعُهُ، وَلَوْ أَرَادَتْ أَنْ تُسَافِرَ بِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ اتِّبَاعُهَا، فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْدَارِ وَالْخَفَرِ اللَّاتِي لَمْ تَجُزْ عَادَتُهُنَّ بِالْبُرُوزِ صِينَتْ عَنِ الْخُرُوجِ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَلْزَمْهَا اتِّبَاعُهُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْسِمَ لَهَا فِي مَنْزِلِهَا.
فَصْلٌ
وَإِذَا حُبِسَ الزَّوْجُ، أَمْكَنَ نسائه أَنْ يَأْوِينَ مَعَهُ فِي حَبْسِهِ، فَهُنَّ عَلَى حُقُوقِهِنَّ مِنَ الْقَسْمِ لِأَنَّ حَالَهُ فِي الْحَبْسِ كَحَالِهِ فِي مَنْزِلِهِ، وَلَوْ لَمْ يُمْكِنْهُنَّ ذَلِكَ لِكَثْرَةِ مَنْ مَعَهُ فِي الْحَبْسِ مِنَ الرِّجَالِ أَوْ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ النَّاسِ سَقَطَ الْقَسْمُ.(9/579)
مسألة
قال الشافعي: " وَكَذَلِكَ الْمُمْتَنِعَةُ بِالْجُنُونِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا بِأَنَّ الْمَجْنُونَةَ إِذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْهَا سَقَطَ قَسْمُهَا، فَأَمَّا الَّذِي لَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ جُنُونِهَا فَالْقَسْمُ لَهَا وَاجِبٌ، لِأَنَّ فِيهِ إِلْفًا لَهَا وَسَكَنًا، فَإِنِ امْتَنَعَتْ عَلَيْهِ بِالْجُنُونِ جَرَى عَلَيْهَا حُكْمُ النُّشُوزِ وَإِنْ لَمْ تَأْثَمْ، وَسَقَطَ بِذَلِكَ قَسْمُهَا وَنَفَقَتُهَا، لِأَنَّهَا فِي مقابلة استمتاع قد فات عليها بِامْتِنَاعِهَا وَإِنْ عُذِرَتْ، لِأَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ تَسْتَوِي فِي الْوُجُوبِ مَعَ الْعُذْرِ وَالِاخْتِيَارِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُؤَجِّرَ إِذَا امْتَنَعَ مِنْ تَسْلِيمِ مَا أَجَّرَ لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ سَقَطَ حَقُّهُ مِنَ الْأُجْرَةِ ثُمَّ إِذَا سَقَطَ قَسْمُهَا بِالِامْتِنَاعِ قَسَمَ بَيْنَ الْبَاقِيَاتِ مِنْ نِسَائِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ نَشَزَتْ عَلَيْهِ وَهِيَ عَاقِلَةٌ سَقَطَ حَقُّهَا، وَكَانَ الْقَسْمُ لِمَنْ سِوَاهَا، فَلَوْ أَقْلَعَتْ عَنِ النُّشُوزِ عاد قسمها معهن كالذي كان.
مسألة
قال الشافعي: " وَإِنْ سَافَرَتْ بِإِذْنِهِ فَلَا قَسْمَ لَهَا وَلَا نَفَقَةَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ أَشْخَصَهَا فَيَلْزَمُهُ كُلُّ ذَلِكَ لَهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ سَفَرِهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَعَ الزَّوْجِ أَوْ مُنْفَرِدَةً عَنْهُ، فَإِنْ سَافَرَتْ مَعَ الزَّوْجِ كَانَتْ عَلَى حَقِّهَا مِنَ النَّفَقَةِ وَالْقَسْمِ ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ سَافَرَ بِهَا بِالْقُرْعَةِ لَمْ يَقْضِ بَاقِي نِسَائِهِ مَا أَقَامَ مَعَهَا، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ قَضَاهُنَّ مُدَّةَ سَفَرِهَا مَعَهُ وَإِنْ سَافَرَتْ مُنْفَرِدَةً فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: بِإِذْنِهِ.
وَالثَّانِي: بِغَيْرِ إِذْنِهِ.
فَإِنْ سَافَرَتْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَلَا قَسْمَ لَهَا وَلَا نَفَقَةَ، وَهِيَ فِي سَفَرِهَا آثِمَةٌ وَصَارَتْ أَسْوَأَ حَالًا مِنَ الْمُقِيمَةِ النَّاشِزَةِ، وَإِنْ سَافَرَتْ بِإِذْنِهِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا لَهَا الْقَسْمُ وَالنَّفَقَةُ وَقَالَ فِي كِتَابِ النَّفَقَاتِ لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا قَسْمَ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى طَرِيقَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَهَا الْقَسْمُ وَالنَّفَقَةُ، لِأَنَّهَا لَمَّا خَرَجَتْ بِإِذْنِهِ مِنَ الْمَأْثَمِ خَرَجَتْ مِنْ حُكْمِ النُّشُوزِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي النَّفَقَاتِ لَا قَسْمَ لَهَا وَلَا نَفَقَةَ، لِأَنَّهُمَا فِي مُقَابَلَةِ اسْتِمْتَاعٍ قَدْ فَاتَ عَلَيْهِ وَإِنْ عُذِرَتْ.
وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ فَالَّذِي قَالَهُ هَاهُنَا فِي وُجُوبِ الْقَسْمِ لَهَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهَا(9/580)
سَافَرَتْ بِإِذْنِهِ فِيمَا يَخُصُّهُ مِنْ أَشْغَالِهِ، لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ مِنْهَا بِالِاسْتِمْتَاعِ وَغَيْرِهِ وَالَّذِي قَالَهُ فِي كِتَابِ النَّفَقَاتِ أَنَّهُ لَا قَسْمَ لَهَا إِذَا سَافَرَتْ بِإِذْنِهِ فِيمَا يَخُصُّهَا مِنْ أَشْغَالِهَا لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ قَدِ انْصَرَفَ إِلَيْهَا دُونَهُ، وَإِنْ عُذِرَتْ وَيَكُونُ تَأْثِيرُ إِذْنِهِ فِي رَفْعِ الْمَأْثَمِ لَا فِي وُجُوبِ الْقَسْمِ.
مَسْأَلَةٌ
قال الشافعي: " وَعَلَى وَلِيِّ الْمَجْنُونِ أَنْ يَطُوفَ بِهِ عَلَى نِسَائِهِ أَوْ أَنْ يَأْتِيَهُ بِهِنَّ وَإِنْ عَمَدَ أَنْ يَجُورَ بِهِ أَثِمَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا كَانَ لِلْمَجْنُونِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ وَذَلِكَ بِأَنْ يَتَزَوَّجَهُنَّ فِي حَالِ صِحَّتِهِ ثُمَّ يَطْرَأُ عَلَيْهِ الْجُنُونُ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَقْتَ الْعَقْدِ مَجْنُونًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُزَوَّجَ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ إِنِ احْتَاجَ إِلَيْهَا فَالْقَسْمُ لِنِسَائِهِ وَاجِبٌ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُكَلَّفٍ، لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَأَشْبَهَ النَّفَقَةَ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَعَلَى وَلِيِّهِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْهُ حُقُوقَ نِسَائِهِ مِنَ الْقَسْمِ، لِأَنَّ فِيهِ سَكَنًا لَهُ وَلَهُنَّ وَيَفْعَلُ الْوَلِيُّ أَصَحَّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ إِفْرَادِهِ بِمَسْكَنٍ يَأْمُرُهُنَّ بِإِتْيَانِهِ فِيهِ، وَبَيْنَ أَنْ يُطِيفَ بِهِ عَلَيْهِنَّ فِي مَسَاكِنِهِنَّ، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ رَتَّبَهُنَّ فِي الْقَسْمِ وَقَدَّرَ زَمَانَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ أَجْرَاهُ الْوَلِيُّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مَنْ قَسْمِهِ فِي التَّرْتِيبِ وَالتَّقْدِيرِ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمِ الزَّوْجُ لَهُنَّ اسْتَأْنَفَ الْوَلِيُّ بِالْقُرْعَةِ مَنْ يُقَدِّمُهَا مِنْهُنَّ وَقَدَّرَ لَهَا مِنْ مُدَّةِ الْقَسْمِ مَا يَرَاهُ أَصْلَحَ لَهُ وَلَهُنَّ وَلَا يَزِيدُ عَلَى ثَلَاثٍ فَإِنْ عَمَدَ الْوَلِيُّ أَنْ يَجُورَ بِهِ فِي الْقَسْمِ أَثِمَ فِي حَقِّهِ وَحُقُوقِهِنَّ وَلَا عِوَضَ لَهُنَّ عَلَى مَا فَوَّتَ مِنْ قَسْمِهِنَّ، لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ عَلَيْهِ لَا تَجُوزُ فَإِنْ أَفَاقَ الزَّوْجُ وَقَدْ جَارَ بِهِ الْوَلِيُّ نُظِرَ فِي جَوْرِهِ، فَإِنْ كَانَ يَمْنَعُ الزَّوْجَ مِنْ جَمِيعِهِنَّ فَلَا قَضَاءَ عَلَى الزَّوْجِ بَعْدَ إِفَاقَتِهِ لِتَسَاوِيهِنَّ فِي سُقُوطِ الْقَسْمِ وَيَسْتَأْنِفُ الزَّوْجُ لَهُنَّ الْقَسْمَ، وَإِنْ كَانَ جَوْرُ الْوَلِيِّ بِهِ أَنْ أَقَامَهُ عِنْدَ بَعْضِهِنَّ وَمَنَعَهُ مِنْ بَاقِيهِنَّ، فَعَلَى الزَّوْجِ بَعْدَ إِفَاقَتِهِ قَضَاءُ الْبَاقِيَاتِ بِمَا فَوَّتَهُ الْوَلِيُّ عَلَيْهِنَّ مِنَ الْقَسْمِ.
فَصْلٌ
وَإِذَا خِفْنَ عَلَى أَنْفُسِهِنَّ مِنْ جُنُونِ الزَّوْجِ سَقَطَ بِذَلِكَ حَقُّهُ مِنَ الْقَسْمِ، وَلَمْ تَسْقُطْ حُقُوقُهُنَّ فَإِنْ طَلَبْنَ الْقَسْمَ مَعَ الْخَوْفِ وَجَبَ عَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يَقْسِمَ لَهُنَّ مِنَ الزَّوْجِ إِلَّا أَنْ يَرَى مِنَ الْأَصْلَحِ لَهُ أَنْ لَا يُقِيمَ عِنْدَ وَاحِدَةٍ منهن فسقط قسمهن.
مسألة
قال الشافعي: " فَإِنْ خَرَجَ مِنْ عِنْدِ واحدةٍ فِي اللَّيْلِ أَوْ أَخْرَجَهُ سلطانٌ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُوَفِّيَهَا مَا بَقِيَ مِنْ لَيْلَتِهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا كَانَ الزَّوْجُ عِنْدَ إِحْدَى نِسَائِهِ فِي زَمَانِ قَسْمِهَا فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا أَوْ أَخْرَجَهُ السُّلْطَانُ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:(9/581)
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ نَهَارًا فَلَا قَضَاءَ لَهَا عَلَيْهِ، لِأَنَّ النَّهَارَ زَمَانُ التَّصَرُّفِ وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِي الْقَسْمِ تَبَعًا لِلَّيْلِ، وَأَنَّهُ لَا حق فيه لغيرها من نسائه.
والضرب الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لَيْلًا فَإِنْ خَرَجَ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ أَثِمَ وَقَضَى، وَإِنْ خَرَجَ لِضَرُورَةٍ لَمْ يَأْثَمْ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ إِنْ لَمْ يَظْلِمْ بِالْخُرُوجِ، وَإِنْ كَانَ مَظْلُومًا بِإِخْرَاجِهِ لِأَنَّ السُّلْطَانَ أَكْرَهَهُ عَلَى الْخُرُوجِ ظُلْمًا فَفِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ لِأَنَّ إِكْرَاهَ السُّلْطَانِ عُذْرٌ وَالْأَعْذَارُ لَا تُسْقِطُ قَضَاءَ الْقَسْمِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ السُّلْطَانُ قَدِ اسْتَهْلَكَ عَلَيْهِمَا حَقَّهُمَا فِي زَمَانِ الْإِكْرَاهِ فَلَا يَصِيرُ الزَّوْجُ مُخْتَصًّا بِذَلِكَ دُونَهَا.
فَصْلٌ
فَإِذَا أَرَادَ قَضَاءَ مَا وَجَبَ مِنْ زَمَانِ خُرُوجِهِ فِي اللَّيْلِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ قَدْ خَرَجَ النِّصْفَ الثَّانِي مِنَ اللَّيْلِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْضِيَهَا فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ خَرَجَ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْضِيَهَا فِي النِّصْفِ الثَّانِي، وَقَضَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ النِّصْفَيْنِ فِي مِثْلِهِ، فَإِذَا أَرَادَ قَضَاءَ النِّصْفِ الْأَوَّلِ أَقَامَ عِنْدَهَا النِّصْفَ الْأَوَّلَ مِنَ اللَّيْلِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا فَأَقَامَ لَا عِنْدَ وَاحِدَةٍ مِنْ نِسَائِهِ حَتَّى يَسْتَأْنِفَ لَهُنَّ لَيَالٍ كَوَامِلَ، وَإِذَا أَرَادَ قَضَاءَ النِّصْفِ الثَّانِي أَقَامَ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ لَا عِنْدَ وَاحِدَةٍ مِنْ نِسَائِهِ فَإِذَا دَخَلَ النِّصْفُ الثَّانِي أَقَامَ فِيهِ عِنْدَ صَاحِبَةِ الْقَضَاءِ، وَلَا يَأْوِي فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ عِنْدَ زَوْجَةٍ إِلَّا فِي نِصْفِ الْقَضَاءِ وَحْدَهُ حَتَّى يَتَبَعَّضَ اللَّيْلُ فِي قَسْمِهِنَّ فَذَلِكَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ، لِأَنَّهُ لَا يَكْمُلُ بِهِ إِلْفٌ وَلَا سُكْنَى.
وَأَقَلُّ زَمَانِ الْقَسْمِ لَيْلَةٌ بِكَمَالِهَا، وَيَكُونُ الْيَوْمُ تَبَعًا لَهَا فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَقْسِمَ لِإِحْدَى نِسَائِهِ لَيْلَةً بِلَا يَوْمٍ وَالْأُخْرَى يَوْمًا بِلَا لَيْلَةٍ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ لَيْلَ الْقَسْمِ مَقْصُودٌ وَنَهَارَهُ تَبَعٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مسألة
قال الشافعي: " وَلَيْسَ لِلْإِمَاءِ قسمٌ وَلَا يُعَطَّلْنَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا قَسْمَ لِلْإِمَاءِ فِي بَعْضِهِنَّ مَعَ بَعْضٍ وَلَا مَعَ الْحَرَائِرِ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا كَانَ يَقْسِمُ لِمَارِيَةَ وَلَا لِرَيْحَانَةَ مَعَ نِسَائِهِ، وَلِأَنَّ الْقَسْمَ مِنْ أَحْكَامِ الزَّوْجِيَّةِ فَاخْتَصَّ بِالزَّوْجَاتِ دُونَ الْإِمَاءِ كَالظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ، وَلِأَنَّ مَقْصُودَ الْقَسْمِ الِاسْتِمْتَاعُ وَلَا حَقَّ لِلْإِمَاءِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ السَّيِّدُ مَجْنُونًا أَوْ عِنِّينًا لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ خِيَارٌ فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ قَسْمٌ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَلَا يُعَطَّلْنَ " فِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يُعَطَّلْنَ مِنَ الْقَسْمِ يَعْنِي فِي السَّرَارِي.(9/582)
وَالثَّانِي: لَا يُعَطَّلْنَ مِنَ الْجِمَاعِ لِأَنَّهُ أَحْصَنُ لَهُنَّ وَأَغَضُّ لِطَرْفِهِنَّ، وَأَبْعَدُ لِلرِّيبَةِ مِنْهُنَّ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ لَهُ إِمَاءٌ سَرَارِي وَزَوْجَاتٌ فَأَقَامَ عِنْدَ الْإِمَاءِ وَاعْتَزَلَ الْحَرَائِرَ أَوْ أَقَامَ عِنْدَ وَاحِدَةٍ مِنْ إِمَائِهِ وَاعْتَزَلَ بَاقِيهُنَّ وَجَمِيعَ الْحَرَائِرِ جَازَ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِلْحَرَائِرِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ إِنَّمَا يَجِبُ فِي الْقَسْمِ الْمُسْتَحَقِّ، وَلَيْسَ مُقَامُهُ عِنْدَ الْأَمَةِ قَسْمًا مُسْتَحَقًّا فَلَمْ يَقْضِهِ وَجَرَى مَجْرَى مُقَامِهِ مُعْتَزِلًا عَنْ إِمَائِهِ وَنِسَائِهِ.
مسألة
قال الشافعي: " وَإِذَا ظَهَرَ الْإِضْرَارُ مِنْهُ بِامْرَأَتِهِ أَسْكَنَّاهَا إِلَى جَنْبِ مَنْ نَثِقُ بِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَمَّا إِذَا ظَهَرَ مِنْهُ إِضْرَارٌ لَمْ يَشْتَبِهْ فِيهِ حَالُهُ كُفَّ عَنْهُ وَأُمِرَ بِإِزَالَتِهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} فَأَمَّا إِذَا أَشْبَهَتْ حَالُهُ فِيهِ فَإِنِ ادَّعَتْ إِسْقَاطَ حَقِّهَا مِنَ الْقَسْمِ وَالنَّفَقَةِ أَوْ تَعَدِّيهِ عَلَيْهَا بِالضَّرْبِ وَسُوءِ الْعِشْرَةِ، وَهُوَ مُنْكِرٌ ذَاكَ وَغَيْرُ مُعْتَرِفٍ بِهِ، فَعَلَى الْحَاكِمِ إِذَا شَكَتْ ذَلِكَ إِلَيْهِ أَنْ يُسْكِنَهَا إِلَى جَنْبِ مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ أُمَنَائِهِ لِيُرَاعِيَ حَالَهَا، وَيَأْخُذَهُ بِحَقِّهَا وَيُكِفَّ أَذَاهُ عَنْهَا، فَإِنَّ الْحَاكِمَ لِتَشَاغُلِهِ بِعُمُومِ الْخُصُومِ لَا يَقْدِرُ عَلَى مُرَاعَاتِهَا بِنَفْسِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يُسْكِنَ زَوْجَتَهُ حَيْثُ يَشَاءُ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ هَاهُنَا أَنْ يُسْكِنَهَا حَيْثُ لَا تَشَاءُ.
قِيلَ: إِنَّمَا جَازَ لَهُ ذَلِكَ مَعَ زَوَالِ الِاشْتِبَاهِ وَارْتِفَاعِ الضَّرَرِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ مَعَ خَوْفِ الضَّرَرِ، وهكذا لو شكى الزوج منها الإضرار وأنها لا تودي حَقَّهُ وَلَا تَلْزَمُ مَنْزِلَهُ وَلَا تُطِيعُهُ إِلَى الْفِرَاشِ وَأَنْكَرَتْ ذَلِكَ أَسْكَنَهَا الْحَاكِمُ إِلَى جَنْبِ مَنْ يُرَاعِيهَا مِنْ أُمَنَائِهِ لِيَسْتَوْفِيَ مِنْهَا حَقَّ الزَّوْجِ كَمَا اسْتَوْفَى لَهَا حَقَّهَا مِنَ الزَّوْجِ.
مسألة
قال الشافعي: " وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسْكِنَ امَرْأَتَيْنِ فِي بَيْتٍ إِلَّا أَنْ تَشَاءَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، قَالَ: عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُفْرِدَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ نِسَائِهِ مَسْكَنًا، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فعل مثل ذلك مع نِسَائِهِ، وَكَمَا لَا يَشْتَرِكْنَ فِي النَّفَقَةِ فَكَذَلِكَ لَا يَشْتَرِكْنَ فِي الْمَسْكَنِ، وَلِأَنَّ بَيْنَ الضَّرَائِرِ تَنَافُسًا وَتَبَاغُضًا إِنِ اجْتَمَعْنَ خَرَجْنَ إِلَى الِافْتِرَاءِ وَالْقُبْحِ، وَلِأَنَّهُنَّ إِذَا اجْتَمَعْنَ شَاهَدَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ خَلْوَةَ الزَّوْجِ بِضَرَّتِهَا، وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه نهى على الوجس، وهو أن يطأ بحيث يسمع حسه، فَلِذَلِكَ لَزِمَهُ أَنْ يُفْرِدَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مَسْكَنًا فَإِنْ أَسْكَنَهُنَّ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ وَأَفْرَدَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بَيْتًا مِنْهَا، وَكَانَتْ إِذَا دَخَلَتْ تَوَارَتْ عَنْ ضَرَائِرِهَا جَازَ إِذَا كَانَ مثلهن بسكن(9/583)
مِثْلِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ أَنْ تُطَالِبَهُ بِإِفْرَادِ مَسْكَنٍ، وَإِنْ كَانَ مِثْلُهُنَّ لَا يَسْكُنُ مِثْلَ ذَلِكَ فَأَسْكَنَهُنَّ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ وَأَفْرَدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُنَّ بِحُجْرَةٍ مِنْهَا تُوَارِيهَا جَازَ إِذَا كَانَ مِثْلُهُنَّ يَسْكُنُ مِثْلَ ذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَ مِثْلُهُنَّ لَا يَسْكُنُ مِثْلَ ذَلِكَ لِجَلَالَةِ قَدْرِهِنَّ وَيَسَارِ زَوْجِهِنَّ أَفْرَدَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِدَارٍ فَسِيحَةٍ ذَاتِ بُيُوتٍ وَمَنَازِلَ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ كَمَا يُعْتَبَرُ الْعُرْفُ فِي كُسْوَتِهِنَّ وَنَفَقَاتِهِنَّ فَلَوْ تَرَاضَى جَمِيعُ نِسَائِهِ بِسُكْنَى مَنْزِلٍ وَاحِدٍ يَجْتَمِعْنَ فِيهِ جَازَ كَمَا لَوْ تَرَاضَيْنَ بِالِاشْتِرَاكِ فِي النَّفَقَةِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَخْلُوَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ حِذَاءَ ضَرَائِرِهَا، فَإِنْ غَابَ عَنْ أَبْصَارِهِنَّ جَازَ، وَإِنْ عَلِمْنَ بِخَلْوَتِهِ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، وَبَيْنَ أَمَةٍ لَهُ سُرِّيَّةٍ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ حَفْصَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنْكَرَتْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَلْوَتَهُ بِمَارِيَةَ فِي بَيْتِهَا فَاعْتَذَرَ إِلَيْهَا.
فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَ إِمَائِهِ فِي مَسْكَنٍ وَاحِدٍ جَازَ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُفْرِدَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مسكناً، لأن لَا قَسْمَ لَهُنَّ وَلَا يَلْزَمُهُ الْخَلْوَةُ بِهِنَّ، وَلِأَنَّ مَا يَجِبُ لَهُنَّ مِنَ النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ وَالسُّكْنَى مُوَاسَاةٌ بِخِلَافِ الزَّوْجَاتِ الْمُسْتَحِقَّاتِ لِذَلِكَ مُعَاوَضَةً أَلَا تَرَاهُ يَمْلِكُ فَاضِلَ نَفَقَاتِ إِمَائِهِ وَلَا يَمْلِكُ فَاضِلَ نَفَقَاتِ نِسَائِهِ.
فَصْلٌ
وَلَوْ كَانَ لَهُ زَوْجَتَانِ فِي بَلَدَيْنِ فَأَقَامَ فِي بَلَدِ إحداهن فَإِنِ اعْتَزَلَهَا فِي بَلَدِهَا وَلَمْ يَقُمْ مَعَهَا فِي مَنْزِلِهَا لَمْ يَلْزَمْهُ الْمُقَامُ فِي بَلَدِ الْأُخْرَى، لِأَنَّهُ لَيْسَ مُقَامُهُ فِي بَلَدِ الزَّوْجَةِ قَسْمًا يُقْضَى، وَلَوْ كَانَ قَدْ أَقَامَ مَعَهَا فِي مَنْزِلِهَا لَزِمَهُ أَنْ يَقْضِيَ الْأُخْرَى فَيُقِيمَ مَعَهَا بِبَلَدِهَا فِي مَنْزِلِهَا مِثْلَ تِلْكَ الْمُدَّةِ، لِأَنَّ الْقَسْمَ لَا يَسْقُطُ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ كَمَا لا يسقط باختلاف المحال.
مسألة
قال الشافعي: " وَلَهُ مَنْعُهَا مِنْ شُهُودِ جَنَازَةِ أُمِّهَا وَأَبِيهَا وَوَلَدِهَا وَمَا أُحِبُّ ذَلِكَ لَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَلِلزَّوْجِ مَنْعُ امْرَأَتِهِ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْ مَنْزِلِهِ، لِأَنَّ دَوَامَ اسْتِحْقَاقِهِ لِلِاسْتِمْتَاعِ بِهَا يَمْنَعُهَا مِنْ تَفْوِيتِ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِخُرُوجِهَا، وَلِأَنَّ لَهُ تَحْصِينَ مَائِهِ بِالْمَنْعِ مِنَ الْخُرُوجِ فَلَوْ مَرِضَ أَبُوهَا أَوْ أُمُّهَا كَانَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ عِيَادَتِهِمَا وَلَوْ مَاتَا كَانَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ حُضُورِ جَنَازَتِهِمَا لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَكَمَنِ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِيَعْمَلَ مِقْدَارًا بِمُدَّةٍ كَانَ لَهُ مَنْعُهُ مِنَ الْخُرُوجِ لِذَلِكَ، وَقَدْ رَوَى ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلًا سَافَرَ عَنْ زَوْجَتِهِ وَنَهَاهَا عَنِ الْخُرُوجِ فَمَرِضَ أَبُوهَا فَاسْتَأْذَنَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي عِيَادَتِهِ فَقَالَ: " اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُخَالِفِي زَوْجَكِ "، ثُمَّ مَاتَ أَبُوهَا فَاسْتَأْذَنَتْهُ فِي حُضُورِ جَنَازَتِهِ فَقَالَ اتَّقِ اللَّهَ، وَلَا تُخَالِفِي زَوْجَكِ(9/584)
فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لِأَبِيهَا بِطَاعَتِهَا لِزَوْجِهَا، وَلِأَنَّ فِي اتِّبَاعِ النِّسَاءِ لِلْجَنَائِزِ هُتْكَةً يُنْهَيْنَ عَنْهَا.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَرَجَ مَعَ جَنَازَةٍ إِلَى الْبَقِيعِ فَرَأَى فَاطِمَةَ فَقَالَ مِنْ أَيْنَ؟ قَالَتْ: عُدْتُ مَرِيضًا لِبَنِي فُلَانٍ، قَالَ: إِنِّي ظَنَنْتُكِ مَعَ الْجَنَازَةِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَا كَلَّمْتُكِ أَبَدًا.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِلَّا أَنَّنِي لَا أُحِبُّ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ عِيَادَةِ أَبِيهَا إِذَا ثَقُلَ، وَمِنْ حُضُورِ مُوَارَاتِهِ إِذَا مَاتَ لِمَا فِيهِ مِنْ نُفُورِهَا عَنْهُ وَإِغْرَائِهَا بِالْعُقُوقِ.
فَصْلٌ
وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ حُضُورِ الْمَسَاجِدِ لِصَلَاةٍ وَغَيْرِ صَلَاةٍ.
فَإِنْ قيل: فَلِمَ يَمْنَعُهَا، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ وَلْيَخْرُجْنَ تَافِلَاتٍ " فَعَنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَجْوِبَةٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَرَادَ الْخَلِيَّاتِ مِنَ الْأَزْوَاجِ اللَّاتِي يَمْلِكْنَ تَصَرُّفَ أَنْفُسِهِنَّ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَسَاجِدِ الْحَجُّ الَّذِي لَيْسَ لِلزَّوْجِ مَنْعُهَا مِنْ فَرْضِهِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مَخْصُوصٌ فِي زَمَانِهِ لِمَا وَجَبَ مِنْ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ إِلَيْهِنَّ ثُمَّ زَالَ الْمَعْنَى فَزَالَ التَّمْكِينُ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِمَا وَكَّدَ مِنْ لُزُومِ الْحِجَابِ.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِنِسَائِهِ حِينَ حَجَّ بِهِنَّ: " هَذِهِ ثُمَّ ظُهُورُ الْحَصْرِ " وَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَوْ عَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ بَعْدَهُ لَمَنَعَهُنَّ أَشَدَّ الْمَنْعِ، والله أعلم.(9/585)
بَابُ الْحَالِ الَّتِي يَخْتَلِفُ فِيهَا حَالُ النِّسَاءِ من الجامع من كتاب الطلاق ومن أحكام القرآن ومن نشوز الرجل على المرأة
قال الشافعي رحمه الله تعالى فِي قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: " إِنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ عِنْدَكِ وَسَبَّعْتُ عِنْدَهُنَّ وَإِنْ شِئْتِ ثَلَّثْتُ عِنْدَكِ وَدُرْتُ " دليلٌ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا تَزَوَّجَ الْبِكْرَ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَهَا سَبْعًا وَالثَّيِّبَ ثَلَاثًا وَلَا يَحْتَسِبُ عَلَيْهِ بِهَا نِسَاؤُهُ اللَّاتِي عِنْدَهُ قَبْلَهَا وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكِ لِلْبِكْرِ سبعٌ وَلِلثَّيِّبِ ثلاثٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا اسْتَجَدَّ الرَّجُلُ نِكَاحَ امْرَأَةٍ، وَكَانَ لَهُ زَوْجَاتٌ يَقْسِمُ بَيْنَهُنَّ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَخُصَّ الْمُسْتَجَدَّةَ إِنْ كَانَتْ بِكْرًا بِسَبْعِ لَيَالٍ، وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا بِثَلَاثِ لَيَالٍ يُقِيمُ فِيهِنَّ عِنْدَهَا لَا يَقْضِي بَاقِي نِسَائِهِ وَلَا تُحْسَبُ بِهِ مِنْ قَسْمِهَا، فَإِذَا انْقَضَتْ شَارَكَتْهُنَّ حِينَئِذٍ فِي الْقَسْمِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُقِيمُ مَعَ الْبِكْرِ سَبْعًا، وَمَعَ الثَّيِّبِ ثَلَاثًا، وَيَقْضِي نِسَاءَهُ مُدَّةَ مُقَامِهِ مَعَهَا اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ ".
قَالَ: وَهَذَا مِنْهُ مَيْلٌ إِنْ لَمْ يَقْضِ.
وَقَالَ: لِأَنَّ الْقَسْمَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ فَوَجَبَ أَنْ تُسَاوِيَ الْمُسْتَجَدَّةُ فِيهِ مَنْ تَقَدَّمَهَا كَالنَّفَقَةِ.
قَالَ: وَلِأَنَّهُ خَصَّ بَعْضَ نِسَائِهِ بِمُدَّةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ قَضَاءُ مِثْلِهَا لِلْبَوَاقِي قِيَاسًا عَلَيْهِ إِذَا قَامَ مَعَهَا بَعْدَ مُدَّةِ الزِّفَافِ.
وَدَلِيلُنَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا تَزَوَّجَ أُمَّ سَلَمَةَ، وَدَخَلَ بِهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقِمْ عِنْدِي(9/586)
سَبْعًا، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَا بِكِ مِنْ هَوَانٍ عَلَى أَهْلِكِ إِنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ عِنْدَكِ، وَسَبَّعْتُ عِنْدَهُنَّ، وَإِنْ شِئْتِ ثَلَّثْتُ عِنْدَكِ وَدُرْتُ ".
رَوَى أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " لِلْبِكْرِ سَبْعَةُ أَيَّامٍ وَلِلثَّيِّبِ ثَلَاثَةٌ " ثُمَّ يَعُودُ إِلَى نِسَائِهِ.
فَدَلَّ عَلَى اسْتِحْقَاقِ هَذِهِ الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ قضاءٍ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فَرْقُهُ فِيهِ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ.
وَالثَّانِي: حَصْرُهُ بِعَدَدٍ وَمَا يَقْضِي لَا يَفْتَرِقَانِ فِيهِ وَلَا يَنْحَصِرُ جَرَيَانُ الْعَادَةِ فِيمَا تَخْتَصُّ بِهِ الْمُسْتَجَدَّةُ عُرْفًا وَشَرْعًا تَجْعَلُهُ حُكْمًا مُسْتَحَقًّا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا خُصَّتِ الْمُسْتَجَدَّةُ بِوَلِيمَةِ الْعُرْسِ إِكْرَامًا وَإِينَاسًا، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَيْلًا خُصَّتْ بِهَذِهِ الْمُدَّةِ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَلِأَنَّ لِلْمُسْتَجَدَّةِ حِشْمَةً لَا تَرْتَفِعُ إِلَّا بِمُكَاثَرَةِ الِاجْتِمَاعِ وَمُطَاوَلَةِ الْإِينَاسِ وَلِذَلِكَ وَقَعَ الْفَرْقُ فِي أَنْ خُصَّتِ الْبِكْرُ بِسَبْعٍ وَالثَّيِّبُ بِثَلَاثٍ، لِأَنَّ الثَّيِّبَ لِاخْتِبَارِ الرِّجَالِ أَسْرَعُ أَنَسَةً مِنَ الْبِكْرِ الَّتِي هِيَ أَكْثَرُ انْقِبَاضًا وَأَقَلُّ اخْتِبَارًا.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَيْلٍ، لِأَنَّهُ يَفْعَلُهُ مَعَ كُلِّ زَوْجَةٍ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَنِ النَّفَقَةِ، فَعَنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ قِيَاسٌ يَرْفَعُ النِّصْفَ فَكَانَ مُطَّرَحًا.
وَالثَّانِي: أَنَّ التَّسَاوِيَ فِي النَّفَقَةِ لَا يُوجِبُ التَّسَاوِيَ فِي الْقَسْمِ، لِأَنَّ الْحُرَّةَ وَالْأَمَةَ يَسْتَوِيَانِ فِي النَّفَقَةِ وَيَخْتَلِفَانِ فِي الْقَسْمِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ النَّفَقَةَ لَمَّا لَمْ تَخْتَلِفْ بِالْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ لَمْ تَخْتَلِفْ فِي الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ وَلَمَّا اخْتَلَفَ الْقَسْمُ بِالْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ اخْتَلَفَ فِي الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى قَسْمِ الِانْتِهَاءِ فَمُنْتَقَضٌ بِالَّتِي سَافَرَ بِهَا عَلَى أَنَّهُ لَمَّا جَازَ قَطْعُ النَّوْبَةِ فِي قَسْمِ الِابْتِدَاءِ وَلَمْ يَجُزْ فِي قَسْمِ الِانْتِهَاءِ دَلَّ عَلَى الْفَصْلِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ بَيْنَ قَسْمِ الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ.
فَصْلٌ
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْبِكْرَ مَخْصُوصَةٌ بِسَبْعٍ وَالثَّيِّبَ بِثَلَاثٍ فَلَيْسَ لَهُ النقصان منها إلا برضى المستجدة، ولا له الزيادة عليها إلا برضى الْمُتَقَدِّمَاتِ، فَإِنْ أَقَامَ عِنْدَ الثَّيِّبِ سَبْعًا كَالْبِكْرِ ففيه وجهان:(9/587)
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَقْضِي مَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ وَلَا يَقْضِي الثَّلَاثَ، لِأَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ لَهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: ذَكَرَهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ أَنَّهُ تُقْضَى السَّبْعُ كُلُّهَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأُمِّ سَلَمَةَ إِنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ عِنْدَكِ وَعِنْدَهُنَّ، وَإِنْ شِئْتِ ثَلَّثْتُ عِنْدَكِ وَدُرْتُ.
فَصْلٌ
وَإِذَا اسْتَجَدَّ نِكَاحَ امْرَأَتَيْنِ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا فِي الدُّخُولِ كَمَا لَا يَجْمَعُ بَيْنَ زَوْجَتَيْنِ فِي قسم ويبدأ بأسبقهما زفافاً إليه، فإن زفا إليه في وقت واحد بدأ بأسبقهما نكاحاً، فإن نكحها فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ قَرَعَ بَيْنَهُمَا وَبَدَأَ بِالْقَارِعَةِ مِنْهُمَا، فَإِنْ قَدَّمَ إِحْدَاهُمَا مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ كَرِهْنَا ذَلِكَ لَهُ وَأَجْزَأَهُ، ثُمَّ يَدْخُلُ بِالثَّانِيَةِ وَيُوَالِي بَيْنَ الزِّفَافَيْنِ، وَلَيْسَ لِلْمُتَقَدِّمَاتِ مِنْ نِسَائِهِ أَنَّ تَمْنَعَهُ مِنَ الْمُوَالَاةِ بَيْنَهُمَا، فَلَوْ أَقَامَ عِنْدَ هَذِهِ يَوْمًا، وَعِنْدَ هَذِهِ يَوْمًا حَتَّى وَفَّاهُمَا، وَهُمَا بِكْرَانِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَقَدْ أَسَاءَ وَأَجْزَأَ، لِأَنَّ الْمُوَالَاةَ مُسْتَحَقَّةٌ وَإِنْ سَقَطَتْ بِالتَّفْرِقَةِ كَقَضَاءِ الدُّيُونِ.
فَصْلٌ
وَإِذَا كَانَ لَهُ زَوْجَتَانِ وَقَسَمَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لَيْلَتَيْنِ فَأَقَامَ عِنْدَ إِحْدَاهِمَا بَعْضَ زَمَانِهَا اسْتَجَدَّ نِكَاحَ ثَالِثَةٍ زُفَّتْ إِلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ نقضت اللَّيْلَةُ بِكَمَالِهَا كَأَنَّهُ أَقَامَ عِنْدَ الْمُتَقَدِّمَةِ إِحْدَى اللَّيْلَتَيْنِ بِكَمَالِهَا، وَبَقِيَتْ لَهَا اللَّيْلَةُ الْأُخْرَى فَاسْتَجَدَّ نِكَاحَ الثَّالِثَةِ قَدَّمَ قَسْمَ الْمُسْتَجَدَّةِ وَقَطَعَ قَسْمَ الْمُتَقَدِّمَةِ لِمَعْنَيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَسْمَ الْمُسْتَجَدَّةِ مُسْتَحَقٌّ بِالْعَقْدِ وَقَسْمَ الْمُتَقَدِّمَةِ مُسْتَحَقٌّ بِالْفِعْلِ، وَالْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ أَوْكَدُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ قَسْمَ الْمُسْتَجَدَّةِ لَا يُقْضَى، وَقَسْمَ الْمُتَقَدِّمَةِ يُقْضَى، وَمَا لَا يَلْزَمُ قَضَاؤُهُ أَوْكَدُ، فَإِذَا وَفَّى الْمُسْتَجَدَّةَ قَسْمَهَا وَفَّى الْمُتَقَدِّمَةَ بَاقِي قَسْمِهَا، وَهُوَ لَيْلَةٌ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الْقَسْمَ بَيْنَ الثَّلَاثِ وَإِنْ كَانَ قَدِ اسْتَجَدَّهَا فِي تَضَاعِيفِ اللَّيْلَةِ الْأُولَى مِنْ قَسْمِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَقْطَعُ اللَّيْلَةَ عَلَيْهَا وَيَقْسِمُ لِلْمُسْتَجَدَّةِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ ثُمَّ يَقْضِي لِلْمُتَقَدِّمَةِ بَقِيَّةَ لَيْلَتِهَا الْأُولَى وَجَمِيعَ اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُكْمِلُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، لِأَنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ اسْتِحْقَاقُ الْمُتَقَدِّمَةِ بِهَا بِالدُّخُولِ فِيهَا وَإِنَّ فِي تَبْعِيضِ اللَّيْلَةِ عَلَيْهَا مُبَايَنَةً لَهَا وَانْكِسَارًا لِنَفْسِهَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَنَّهُ لَمَّا جَازَ فِي النَّهَارِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ عِنْدِهَا جَازَ أَنْ يَقْسِمَ لِمَنِ اسْتَجَدَّ نِكَاحَهَا، وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ فِي اللَّيْلِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ عِنْدِهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْسِمَ فِيهِ لِغَيْرِهَا.
مَسْأَلَةٌ
قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَلَا أُحِبُّ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْ صلاةٍ مكتوبةٍ وَلَا شُهُودِ جنازةٍ وَلَا بِرٍّ كَانَ يَفْعَلُهُ وَلَا إِجَابَةِ دعوةٍ ".(9/588)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا كَانَ مَعَ الْمُسْتَجَدَّةِ فِي قَسْمِ الِابْتِدَاءِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ عِنْدِهَا لِئَلَّا يَقْسِمَ فِي الْمُتَقَدِّمَاتِ فِي الِانْتِهَاءِ، وَجَازَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ عِنْدِهَا نَهَارًا فِي أَشْغَالِهِ وَمُتَصَرَّفَاتِهِ، لِأَنَّ حُكْمَ الْقَسْمَيْنِ سَوَاءٌ لَكِنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِأَنْ تَكُونَ مُلَازَمَتُهُ للمستجدة فِي نَهَارِ قَسْمَتِهَا أَكْثَرَ مِنَ الْمُتَقَدِّمَاتِ لِيَتَعَجَّلَ بذلك أنسها ويقوى بها مَيْلُهَا، لَكِنَّنَا لَا نُحِبُّ لَهُ أَنْ يَتَخَلَّفَ بِهَا عَنْ حُضُورِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَعِيَادَةِ الْمَرْضَى وَتَشْيِيعِ الْجَنَائِزِ، وَلَا عَنْ بِرٍّ كَانَ يَفْعَلُهُ، وَإِنْ دُعِيَ إِلَى وَلِيمَةٍ أَجَابَ، وَيُخْتَارُ لَهُ فِي هَذَا الْقَسْمِ إِنْ كَانَ مُعْتَادًا الصِّيَامَ وَالتَّطَوُّعَ أَنْ يُفْطِرَ فِيهِ، لِأَنَّهَا أَيَّامُ بِعَالٍ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ " أَلَا إِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وشربٍ وَبِعَالٍ، فَلَا تَصُومُوا " وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(9/589)
باب القسم للنساء إذ حضر سفرٌ من الجامع من كتاب الطلاق ومن أحكام القرآن ومن نشوز الرجل على المرأة
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " أَخْبَرَنَا عَمِّي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ شافعٍ أَحْسَبُهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ " شَكَّ الْمُزَنِيُّ " عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ، وَأَرَادَ سَفَرًا، فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُسَافِرَ بِجَمِيعِهِنَّ فَلَهُ ذَاكَ إِذَا كَانَ سَفَرُهُ مَأْمُونًا، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَافَرَ بِجَمِيعِ نِسَائِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَلِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الِاسْتِمْتَاعَ بِهِنَّ فِي السَّفَرِ كَمَا يَسْتَحِقُّهُ فِي الْحَضَرِ، فَإِذَا سَافَرَ بِهِنَّ كُنَّ عَلَى قسمهن في السفر كماكن عَلَيْهِ فِي الْحَضَرِ، فَإِنِ امْتَنَعَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ أَنْ تُسَافِرَ مَعَهُ صَارَتْ نَاشِزًا وَسَقَطَ قَسْمُهَا وَنَفَقَتُهَا إِلَّا أَنْ تَكُونَ مَعْذُورَةً بِمَرَضٍ لِعَجْزِهَا عَنِ السَّفَرِ فَلَا تَعْصِي، وَلَهَا النَّفَقَةُ وَلَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ قَسْمِهَا، لِأَنَّهُ قَدْ بَذَلَ ذَلِكَ لَهَا فَكَانَ الِامْتِنَاعُ مِنْ جِهَتِهَا وَإِنْ عُذِرَتْ فِيهِ بِأَنْ كَانَ سَفَرُهُ فِي مَعْصِيَةٍ وَامْتَنَعْنَ مِنَ السَّفَرِ لِأَجْلِ الْمَعْصِيَةِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عُذْرًا لَهُنَّ عَنِ التَّأَخُّرِ إِذَا أَمِنَّ، لِأَنَّهُ لَيْسَ يَدْعُوهُنَّ إِلَى مَعْصِيَةٍ وَإِنَّمَا يَدْعُوهُنَّ إِلَى اسْتِيفَاءِ حَقٍّ لَا يَسْقُطُ بِالْمَعْصِيَةِ فَإِنْ أَقَمْنَ بِذَلِكَ عَلَى امْتِنَاعِهِنَّ نَشَزْنَ وَسَقَطَ قَسْمُهُنَّ وَنَفَقَتُهُنَّ.
فَصْلٌ: وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ
: أَنْ يَتْرُكَهُنَّ فِي أَوْطَانِهِنَّ وَلَا يُرِيدُ السَّفَرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَلَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوِ اعْتَزَلَهُنَّ وَهُوَ مُقِيمٌ جَازَ فَإِذَا اعْتَزَلَهُنَّ بِالسَّفَرِ كَانَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ إِذَا قَامَ بِمَا يَجِبُ لَهُنَّ مِنَ الْكُسْوَةِ وَالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى، فَإِذَا خِفْنَ عَلَى أَنْفُسِهِنَّ إِذَا سَافَرَ عَنْهُنَّ لَزِمَهُ أَنْ يُسْكِنَهُنَّ فِي مَوْضِعٍ يَأْمَنَّ فِيهِ، فإن وجد ذلك في وطئه وَإِلَّا نَقَلَهُنَّ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمَوَاطِنِ الْمَأْمُونَةِ فَإِنْ أَمَرَهُنَّ بَعْدَ سَفَرِهِ عَنْهُنَّ أَنْ يَخْرُجْنَ إِلَيْهِ لَزِمَهُنَّ الْخُرُوجُ إِذَا كَانَ السَّفَرُ مَأْمُونًا وَوَجَدْنَ ذَا مَحْرَمٍ فَإِنِ امْتَنَعْنَ نَشَزْنَ وَسَقَطَتْ نفقاتهن.(9/590)
فصل: والحال الثالثة
: أن يريد السفر ببعضهم دُونَ بَعْضٍ فَلَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ فَعَلَ ذَاكَ فِي أَكْثَرِ أَسْفَارِهِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُسَافِرَ بِجَمِيعِهِنَّ فَأَوْلَى أَنْ يُسَافِرَ بِبَعْضِهِنَّ، وَلَمَّا جَازَ أَنْ يَتْرُكَ جَمِيعَهُنَّ فَأَوْلَى أَنْ يَتْرُكَ بِعَضَّهُنَّ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَخَيَّرَ بَعْضَهُنَّ لِلسَّفَرِ إِلَّا بِالْقُرْعَةِ الَّتِي تَزُولُ بِهَا عَنْهُ التُّهْمَةُ لِمَا رَوَتْهُ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا، وَلِأَنَّهُنَّ قَدْ تَسَاوَيْنَ فِي اسْتِحْقَاقِ الْقَسْمِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُمَيِّزَهُنَّ فِيهِ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ كَابْتِدَاءِ الْقَسْمِ فَإِذَا أَقْرَعَ بَيْنَهُنَّ لِيُسَافِرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَ فَأَيَّتُهُنَّ قَرَعَتْ سَافَرَ بِهَا عَلَى مَا سَنَذْكُرُ مِنْ صِفَةِ الْقُرْعَةِ فِي بَابِهَا، وَلَوْ رَاضَاهُنَّ عَلَى السَّفَرِ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ جَازَ فَإِنِ امْتَنَعْنَ بَعْدَ الرِّضَا مِنْ تَسْلِيمِ الْخُرُوجِ لِتِلْكَ إِلَّا بِالْقُرْعَةِ كَانَ ذَلِكَ لَهُنَّ إِذَا لَمْ يَشْرَعْ فِي الْخُرُوجِ، فَإِنْ شَرَعَ فِيهِ وَسَافَرَ حَتَّى جَازَ لَهُ الْقَصْرُ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ ذَلِكَ وَاسْتَقَرَّ حَتَّى الْمُتَرَاضَى سَفَرُهَا وَتَعَيَّنَ ذَلِكَ لَهَا، وَلَوْ أَرَادَ الزَّوْجُ بَعْدَ خُرُوجِهَا عَلَى الْمُرَاضَاةِ أَنْ يَرُدَّهَا بَعْدَ شُرُوعِهِ فِي السَّفَرِ جَازَ، لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَعْتَزِلَهَا فِي السَّفَرِ فَجَازَ لَهُ رَدُّهَا مِنَ السَّفَرِ وَكَذَلِكَ الْخَارِجَةُ معه بِالْقُرْعَةِ وَلَوْ أَقْرَعَ بَيْنَهُنَّ فَقَرَعَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ فَقَالَ الزَّوْجُ لَسْتُ أُرِيدُهَا فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ السَّفَرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ جَازَ، وَإِنْ قَالَهُ مُرِيدًا لِلسَّفَرِ بِغَيْرِهَا لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُ قَسْمٌ قَدْ تَعَيَّنَ حَقُّهَا بِالْقُرْعَةِ.
فَصْلٌ
وَإِذَا سَافَرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ عَنْ قُرْعَةٍ أَوْ تراضٍ لَمْ يَقْضِ لِلْمُقِيمَاتِ مُدَّةَ سَفَرِهِ مَعَ الْخَارِجَةِ سَوَاءٌ كَانَ فِي السَّفَرِ مُخَالِطًا لَهَا أَوْ مُعْتَزِلًا عَنْهَا، لِأَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - لَمَّا حَكَتْ قُرْعَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِمَنْ يُسَافِرُ بِهَا لَمْ تَحْكِ بِأَنَّهُ قَضَى بَاقِي نِسَائِهِ مِثْلَ مُدَّتِهَا وَلَوْ فَعَلَهُ لَحَكَتْهُ.
ووري أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ لِبَعْضِ أَسْفَارِهِ فَخَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فَسَافَرَ بِهِمَا، وَلَمْ يَقْضِ لِلْبَاقِيَاتِ.
وَلِأَنَّ الْمُسَافِرَةَ مَعَهُ وَإِنْ حَظِيَتْ بِهِ فَقَدْ عَانَتْ مِنْ لَأْوَاءِ السَّفَرِ وَمَشَاقِّهِ مَا صَارَ فِي مُقَابَلَتِهِ كَمَا أَنَّ الْمُقِيمَاتِ وَإِنْ أَوْحَشَهُنَّ فِرَاقُهُ فَقَدْ حَصَلَ لَهُنَّ مِنْ رَفَاهَةِ الْمُقَامِ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ فَلَا يَجْمَعُ لَهُنَ بَيْنَ الْقَسْمِ وَالرَّفَاهَةِ الَّتِي حرمتها المسافرة.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَكَذَلِكَ إِذَا أَرَادَ أن يخرج باثنتين أَوْ أَكْثَرَ أَقْرَعَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يُسَافِرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْ أَرْبَعٍ وَبِاثْنَيْنِ مِنْهُنَّ وَبِثَلَاثٍ، وَيَخْلُفُ وَاحِدَةً كَمَا جَازَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِوَاحِدَةٍ، وَيَخْلُفَ ثَلَاثًا لَكِنَّهُ يَسْتَعْمِلُ الْقُرْعَةَ فِي إِخْرَاجِ الْوَاحِدَةِ فَإِذَا قَرَعَ اثْنَانِ مِنْهُنَّ، وَسَافَرَ بِهِمَا قَسَمَ بَيْنَهُمَا فِي سَفَرِهِ كَمَا كَانَ(9/591)
يَقْسِمُ بَيْنَهُمَا فِي حَضَرِهِ إِلَّا أَنْ يَعْتَزِلَهُمَا فَيَسْقُطُ الْقَسْمُ لَهُمَا، وَلَا يَقْضِي الْمُقِيمِينَ مُدَّةَ سَفَرِهِ بِالْخَارِجَتَيْنِ، وَإِنْ قَسَمَ لَهُمَا كَمَا لَا يَقْضِي مُدَّةَ سَفَرِهِ بِالْوَاحِدَةِ فَلَوْ سَافَرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِالْقُرْعَةِ ثُمَّ أَرَادَ فِي سَفَرِهِ إِخْرَاجَ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمُقِيمَاتِ أَقْرَعَ بَيْنَهُنَّ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُنَّ أَنْ يَنْفَرِدْنَ بِالْقُرْعَةِ، لِأَنَّ فِيهَا حَقًّا لِلزَّوْجِ فَلَا يَبْطُلُ حَقُّهُ مِنَ الْقُرْعَةِ بِانْفِرَادِهِنَّ بِهَا، وَأَقْرَعَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُنَّ وَأَخْرَجَ مَنْ قُرِعَتْ مِنْهُنَّ، فَإِذَا وَصَلَتْ إِلَيْهِ اسْتَأْنَفَ الْقَسْمَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمُتَقَدِّمَةِ مَعَهُ، وَلَمْ يَقْضِهَا مُدَّةَ سَفَرِهَا إِلَيْهِ.
فَلَوْ تَرَاضَى الْمُقِيمَاتُ بِإِخْرَاجِ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ لَمْ يَجُزْ لِحَقِّ الزَّوْجِ فِي الْقُرْعَةِ، فَلَوْ حَصَلَ مَعَهُ فِي السَّفَرِ اثْنَتَانِ بِالْقُرْعَةِ فَأَرَادَ رَدَّ إِحْدَاهِمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ رَدُّهَا إِلَّا بِالْقُرْعَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ
وَإِذَا كَانَ لَهُ زَوْجَتَانِ فَاسْتَجَدَّ نِكَاحَ زَوْجَتَيْنِ فَصِرْنَ أَرْبَعًا، وَأَرَادَ أَنْ يُسَافِرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْرَعَ بَيْنَ الْأَرْبَعِ فَأَيَّتُهُنَّ قُرِعَتْ سَافَرَ بِهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَخْتَصَّ بِإِخْرَاجِ إِحْدَى الْجَدِيدَتَيْنِ وَإِنْ كَانَ قَسْمُ الْعَقْدِ لَهَا مُعَجَّلًا فَإِنْ خَرَجَتْ قُرْعَةُ السَّفَرِ عَلَى إِحْدَى الْمُتَقَدِّمِينَ فَسَافَرَ بِهَا وَجَبَ عَلَيْهِ إِذَا عَادَ مِنْ سَفَرِهِ أَنْ يَقْسِمَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمُسْتَجَدَّتَيْنِ قَسْمَ الْعَقْدِ يُقَدِّمُ إِحْدَاهُمَا فِيهِ بِالْقُرْعَةِ ثُمَّ الثَّانِيَةَ بَعْدَهَا فَإِذَا أَوْفَاهَا حَقَّ الْعَقْدِ اسْتَأْنَفَ قَسْمَ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ جَمَاعَتَيْنِ وَلَوْ خَرَجَتْ قُرْعَةُ السَّفَرِ عَلَى إِحْدَى الْمُسْتَجَدَّتَيْنِ فَسَافَرَ بِهَا سَقَطَ حَقُّهَا مِنْ قَسْمِ الْعَقْدِ، لِأَنَّ مَقْصُودَ التَّفَرُّدِ بِهَا لِلْأُلْفَةِ وَالِاسْتِمْتَاعِ، وَقَدْ حَصَلَ لَهَا ذَلِكَ بِالسَّفَرِ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ مُدَّةٍ.
فَعَلَى هَذَا لَوْ قَدَمَ قَبْلَ سَبْعٍ وَهِيَ بِكْرٌ لَمْ يَلْزَمْهُ لَهَا تَمَامُ السَّبْعِ، لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَهُ إِتْمَامُ سَبْعٍ إِذَا عَادَ قَبْلَهَا لَمُنِعَتِ الزِّيَادَةَ إِذَا طَالَ سَفَرُهَا ثُمَّ إِذَا قَدِمَ فَهَلْ يَسْقُطُ حَقُّ الْمُسْتَجَدَّةِ الْمُقِيمَةِ مِنْ قَسْمِ الْعَقْدِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: قَدْ سَقَطَ حَقُّهَا مِنْ ذَلِكَ، وَيَقْسِمُ لَهَا مَعَ الْجَمَاعَةِ قَسْمَ الْمُمَاثَلَةِ، لِأَنَّ الْمَنْكُوحَةَ مَعَهَا قَدْ سَقَطَ حَقُّهَا مِنْ قَسْمِ الْعَقْدِ بِالسَّفَرِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَخُصَّهَا بِقَسْمِ الْعَقْدِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّفْضِيلِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ، لَهَا عَلَيْهِ قَسْمُ الْعَقْدِ فَتَقَدُّمُهَا بِهِ قَبْلَ قَسْمِ الْمُمَاثِلَةِ، لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهَا تَوَفَّاهُ وَقَدْ صَارَ إِلَى الْمُسَافِرَةِ مِنْ قَسْمِ السَّفَرِ مَا يَقُومُ مَقَامَ قَسْمِ الْعَقْدِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ
قال الشافعي: " وَإِنْ خَرَجَ بواحدةٍ بِغَيْرِ قرعةٍ كَانَ عَلَيْهِ أن يقسم لمن بقي بقدر واحدةٍ إلا أوفى البواقي مثل مقامه معها مَغِيبِهِ مَعَ الَّتِي خَرَجَ بِهَا وَلَوْ أَرَادَ السَّفَرَ لنقلةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ ".(9/592)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ السَّفَرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْرَعَ بَيْنَهُنَّ فَمَنْ قُرِعَتْ سَافَرَ بِهَا لَمْ يَقْضِ الْمُقِيمَاتِ مُدَّةَ سَفَرِهِ مَعَهَا، فَأَمَّا إِنْ سَافَرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ الْمُقِيمَاتِ مُدَّةَ غَيْبَتِهِ مَعَهَا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَقْضِي اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْقَسْمَ يَسْقُطُ عَنِ الْمُسَافِرِ، وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ إِذَا لَمْ يَقْرَعْ لَوَجَبَ عَلَيْهِ إِذَا أَقْرَعَ كَالْحَضَرِ.
وَدَلِيلُنَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَلَوْ سَقَطَ الْقَضَاءُ فِي الحالية لَمْ يَكُنْ لِلْقُرْعَةِ مَعْنًى، وَلِأَنَّهُ لَمَّا افْتَرَقَ وُجُودُ الْقُرْعَةِ وَعَدَمُهَا فِي الْإِبَاحَةِ افْتَرَقَا فِي الْقَضَاءِ، وَلِأَنَّهُ خَصَّ إِحْدَى نِسَائِهِ بِمُدَّةٍ يَلْحَقُهُ فِيهَا التُّهْمَةُ فَوَجَبَ بِهِ الْقَضَاءُ كَالْمُقِيمَةِ، وَلَيْسَ لِمَا ادَّعَاهُ مِنْ سُقُوطِ الْقَسْمِ عَنِ الْمُسَافِرِ لِمَا لَهُ مِنْ تَرْكِهِنَّ وَجْهٌ، لِأَنَّ الْمُقِيمَ لَوِ اعْتَزَلَهُنَّ جَازَ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ الْقَسْمِ عَنْهُ كَذَلِكَ الْمُسَافِرُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ سَافَرَ بِاثْنَتَيْنِ لَزِمَهُ الْقَسْمُ لَهُمَا وَلَوْ سَقَطَ عَنْهُ بِالسَّفَرِ لَمْ يَلْزَمْهُ فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ فَوُجُوبُهُ يَكُونُ بِمُخَالَطَتِهِ لِلْمُسَافِرَةِ وَحُلُولِهَا مَعَهُ فِي سَفَرِهِ حَيْثُ يَحُلُّ.
فَأَمَّا إِنِ اعْتَزَلَهَا فِي سَفَرِهِ وَأَفْرَدَهَا بِخَيْمَةٍ غَيْرِ خَيْمَتِهِ، وَفِي مسكن إذا دخل بلداً غير مسكنه فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ قُرْبُهُ مِنْهَا فِي السَّفَرِ قَسْمًا يُقْضَى كَمَا لَا يَكُونُ قُرْبُهَا فِي الْحَضَرِ قَسْمًا مُؤَدًّى، فَلَوْ خَالَطَهَا شَهْرًا وَاعْتَزَلَهَا شَهْرًا قَضَى شَهْرَ مُخَالَطَتِهَا وَلَمْ يَقْضِ شَهْرَ اعْتِزَالِهَا فَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُقَامِ وَالِاعْتِزَالِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ.
فَصْلٌ
وَلَوْ سَافَرَ بِإِحْدَى نِسَائِهِ بِالْقُرْعَةِ إِلَى بَلَدٍ قَرِيبٍ ثُمَّ سَافَرَ مِنْهُ إِلَى بَلَدٍ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ أَوْ عَلَى أَنَّ مُدَّةَ سَفَرِهِ شَهْرٌ فَصَارَ أَكْثَرَ مِنْهُ جَازَ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ سَفَرٌ وَاحِدٌ قَدْ أَقْرَعَ فِيهِ، وَلَيْسَ يَنْحَصِرُ السَّفَرُ بِمُدَّةٍ وَمَسَافَةٍ لِأَنَّهُ عَوَارِضُ السَّفَرِ.
فَصْلٌ
وَلَوْ تَزَوَّجَ عَلَى الَّتِي سَافَرَ بِهَا زَوْجَةً أُخْرَى فِي سَفَرِهِ خَصَّهَا بِقَسْمِ الْعَقْدِ، لِأَنَّ مَعَهَا غَيْرَهَا ثُمَّ اسْتَأْنَفَ لَهَا قَسْمَ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُسَافِرَةِ وَلَا يَقْضِي الْبَاقِيَاتِ، إِنْ كَانَ سَفَرُهُ بِالْوَاحِدَةِ بِقُرْعَةٍ وَيَقْضِيهِنَّ إن سافر بها بغير قرعة.
مسألة
قال الشافعي: " وَلَوْ خَرَجَ بِهَا مُسَافِرًا بقرعةٍ ثُمَّ أَزْمَعَ الْمُقَامَ لنقلةٍ احْتُسِبَ عَلَيْهَا مُقَامُهُ بَعْدَ الْإِزْمَاعِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا سَافَرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِالْقُرْعَةِ سَفَرَ حَاجَةٍ ثُمَّ صَارَ إِلَى بَلَدٍ فَنَوَى الْمُقَامَ فِيهِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْوِيَ الْمُقَامَ فِيهِ مُسْتَوْطِنًا لَهُ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ الْبَاقِيَاتِ مُدَّةَ مُقَامِهِ مَعَهَا بَعْدَ نِيَّتِهِ إِلَّا أَنْ يَعْتَزِلَهَا، لِأَنَّهُ بِالِاسْتِيطَانِ قَدْ خَرَجَ مِنْ حُكْمِ السَّفَرِ.(9/593)
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَنْوِيَ الْمُقَامَ مُدَّةً مُقَدَّرَةً يَلْزَمُهُ لَهَا إِتْمَامُ الصَّلَاةِ ثُمَّ يَعُودُ مِنْ غَيْرِ اسْتِيطَانٍ، كَأَنَّهُ نَوَى مُقَامَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فَمَا زَادَ إِلَى مُدَّةٍ قَدَّرَهَا ثُمَّ يَعُودُ إِلَى وَطَنِهِ فَفِي وُجُوبِ قَضَائِهِ لِتِلْكَ الْمُدَّةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُقِيمًا فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَوْطِنٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، لِأَنَّهُ مُقِيمٌ فَأَشْبَهَ الْمُسْتَوْطِنَ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا هَلْ يَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمُعَةُ أَمْ لَا؟ فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: أَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تَنْعَقِدُ بِهِ وَإِنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ فَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْقَسْمِ، لِأَنَّهُ بِالْمُسَافِرِ أَخَصُّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْجُمُعَةَ تَنْعَقِدُ بِهِ كَمَا تَجِبُ عَلَيْهِ، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْقَسْمِ لِأَنَّهُ بِالْمُقِيمِ أَخَصُّ، فَإِذَا قِيلَ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، فَلَا مَقَالَ.
وَإِذَا قِيلَ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ مُدَّةَ الْمُقَامِ، وَفِي قَضَاءِ مُدَّةِ الْعَوْدِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَقْضِيهِ إِلْحَاقًا بِمَا تَقَدَّمَهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَقْضِيهِ لُمَعَانَاةِ السَّفَرِ فِيهِ كَالسَّفَرِ فِي التَّوَجُّهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(9/594)
باب نشوز المرأة على الرجل من الجامع من كتاب نشوز الرجل على المرأة ومن كتاب الطلاق ومن أحكام القرآن
قال الشافعي رحمه الله تبارك وتعالى {وَالَّلاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} الْآيَةَ (قَالَ) وَفِي ذَلِكَ دلالةٌ عَلَى اخْتِلَافِ حَالِ الْمَرْأَةِ فِيمَا تُعَاتَبُ فِيهِ وَتُعَاقَبُ عَلَيْهِ فَإِذَا رَأَى مِنْهَا دَلَالَةً عَلَى الْخَوْفِ مِنْ فعلٍ أَوْ قولٍ وَعَظَهَا فَإِنْ أَبْدَتْ نُشُوزًا هجرها فإن أقامت عليه ضربها وقد يحتمل {تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} إذا نشزن فخفتم لجاجتهن في النشوز يكون لكم جمع العظة والهجر والضرب وقال عليه السلام " لا تضربوا إماء الله " قال فأتاه عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَئِرَ النِّسَاءُ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ فأذن في ضربهن فأطاف بآل محمدٍ نساءٌ كثيرٌ كلهن يشتكين أزواجهن فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لقد أطاف بآل محمدٍ سبعون امرأة كلهن يشتكين أزواجهن فلا تجدون أولئك خياركم " ويحتمل أن يكون قوله عليه السلام قبل نزول الآية بضربهن ثم أذن فجعل لهم الضرب فأخبر أن الاختيار ترك الضرب ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا نُشُوزُ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا فَهُوَ امْتِنَاعُهَا عَلَيْهِ إِذَا دَعَاهَا إِلَى فِرَاشِهِ مَأْخُوذٌ مِنَ الِارْتِفَاعِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلْمَكَانِ الْمُرْتَفِعِ نشز فسميت الممتنعة عن زوجها ناشراً لِارْتِفَاعِهَا عَنْهُ وَامْتِنَاعِهَا مِنْهُ، وَلَا يَخْلُو حَالُ النُّشُوزِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ النُّشُوزُ مِنَ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمْا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) {النساء: 128) . وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيمَا يَلْزَمُهُ بِنُشُوزِهِ عَنْهُ وَمَا لَا يَلْزَمُهُ فَإِنَّ الَّذِي يُؤْخَذُ بِهِ جَبْرًا فِي نُشُوزِهِ النَّفَقَةُ وَالْكُسْوَةُ وَالسُّكْنَى، وَالْقَسْمُ الَّذِي يُنْدَبُ إِلَيْهِ اسْتِحْبَابًا أَنْ لَا يَهْجُرَ مُبَاشَرَتَهَا وَلَا يُظْهِرَ كَرَاهِيَتَهَا وَلَا يُسِيءَ عِشْرَتَهَا.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ النُّشُوزُ مِنَ الزَّوْجَةِ عَلَى الزَّوْجِ، وَالْأَصْلُ فِي بَيَانِ حُكْمِهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا(9/595)
مِنْ أَمْوَالِهِمْ) {النساء: 34) . يَعْنِي أَنَّ الرِّجَالَ أَهْلُ قِيَامٍ عَلَى نِسَائِهِمْ فِي تَأْدِيبِهِنَّ، وَالْأَخْذِ عَلَى أَيْدِيهِنَّ فِيمَا يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ وَقَوْلُهُ: {بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) {النساء: 34) . يَعْنِي بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ الرِّجَالَ عَلَى النِّسَاءِ مِنَ الْعَقْلِ، وَالرَّأْيِ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمِ مِنَ الْمُهُورِ وَالْقِيَامِ بِالْكِفَايَةِ ثُمَّ قَالَ: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ) {النساء: 34) . يَعْنِي فَالصَّالِحَاتُ الْمُسْتَقِيمَاتُ الدِّينِ الْعَامِلَاتُ بِالْخِيَرِ، وَيَعْنِي بِالْقَانِتَاتِ الْمُطِيعَاتِ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِأَزْوَاجِهِنَّ وَحَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ أَيْ لِأَنْفُسِهِنَّ عِنْدَ غَيْبَةِ أَزْوَاجِهِنَّ وَلِمَا أَوْجَبَهُ مِنْ حُقُوقِهِمْ عَلَيْهِنَّ، وَفِي قوله: {بِمَا حَفِظَ اللهُ} تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَعْنِي بِحِفْظِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُنَّ حَتَّى صِرْنَ كَذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ.
وَالثَّانِي: بِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ مِنْ مُهُورِهِنَّ، وَنَفَقَاتِهِنَّ حَتَّى صِرْنَ بِهَا مَحْفُوظَاتٍ، وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " خَيْرُ النِّسَاءِ امْرَأَةٌ إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهَا سَرَّتْكَ وَإِذَا أَمَرْتَهَا أَطَاعَتْكَ وَإِذَا غِبْتَ عَنْهَا حَفِظَتْكَ فِي مَالِهَا وَنَفْسِهَا ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} (النساء: 34) ". إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَالَّلاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فِعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) {النساء: 34) . فَأَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى مُعَاقَبَتَهَا عَلَى النُّشُوزِ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ بِالْعِظَةِ، والضرب والهجر.
ثم قال: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ} يَعْنِي فِي الْإِقْلَاعِ عَنِ النُّشُوزِ {فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} فِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: فَلَا تُقَابِلُوهُنَّ بِالنُّشُوزِ عَنْهُنَّ.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يُكَلِّفَهَا مَعَ الطَّاعَةِ أَنْ تُحِبَّكَ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مِنَ النُّشُوزِ فَهُوَ أَنْ يُشْكِلَ حَالُ الزَّوْجَيْنِ فِيهِ فَلَا يُعْلَمُ أَيُّهُمَا هُوَ النَّاشِزُ عَلَى صَاحِبِهِ فَهُوَ الَّذِي ذَكَرْنَا فِيهِ أَنَّ الْحَاكِمَ يُسْكِنُهُمَا في جواز أَمِينِهِ لِيُرَاعِيَهُمَا وَيَعْلَمَ النَّاشِزَ مِنْهُمَا فَيَسْتَوْفِيَ مِنْهُ حَقَّ صَاحِبِهِ أَوْ يُنْهِيَهُ إِلَى الْحَاكِمِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ النُّشُوزُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فَهُوَ الذي أنزل الله تعالى فيه: {فَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا) {النساء: 35) الْآيَةَ، وَسَيَأْتِي فِي الباب الآتي.(9/596)
فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فَهَذَا الْبَابُ مَقْصُورٌ عَلَى نُشُوزِ الزَّوْجَةِ وَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَخَافَ نُشُوزَهَا بِأَمَارَاتٍ دَالَّةٍ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ إِظْهَارٍ لَهُ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ عَادَتُهَا أَنْ تُلَبِّيَ دَعْوَتَهُ وَتُسْرِعَ إِجَابَتَهُ وَتُظْهِرَ كَرَامَتَهُ فَتَعْدِلُ عَنْ ذَلِكَ، فَلَا تُلَبِّي لَهُ دَعْوَةً وَلَا تُسْرِعُ لَهُ إِجَابَةً وَلَا تُظْهِرُ لَهُ كَرَامَةً وَلَا تَلْقَاهُ إِلَّا مُعَبِّسَةً وَلَا تُجِيبُهُ إِلَّا مُتَبَرِّمَةً لَكِنَّهَا مُطِيعَةٌ لَهُ فِي الْفِرَاشِ، فَهَذَا مِنْ أَسْبَابِ النُّشُوزِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نُشُوزًا.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَظْهَرَ مِنْهَا ابْتِدَاءُ النُّشُوزِ الصَّرِيحِ مِنْ غَيْرِ إِضْرَارٍ عَلَيْهِ وَلَا مُدَاوَمَةٍ لَهُ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تُصِرَّ عَلَى النُّشُوزِ الصَّرِيحِ وَتُدَاوِمُهُ وَإِذَا كان لها النُّشُوزِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ، فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى عُقُوبَتَهَا عَلَيْهِ بِثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ: وَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْعُقُوبَاتِ الثَّلَاثِ، هَلْ تُرَتَّبُ عَلَى الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ أَنَّ الْعُقُوبَاتِ مُتَرَتِّبَاتٌ عَلَى أَحْوَالِهَا الثَّلَاثِ وَيَكُونُ التَّرْتِيبُ مُضَمَّنًا فِي الْآيَةِ وَيَكُونُ مَعْنَاهَا إِنْ خَافَ نُشُوزَهَا وَعَظَهَا، فَإِنْ أَبْدَتِ النُّشُوزَ هَجَرَهَا، فَإِنْ أَقَامَتْ عَلَى النُّشُوزِ ضَرَبَهَا، وَيَكُونُ هَذَا الْإِضْمَارُ فِي تَرْتِيبِهَا كَالْمُضْمَرِ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يَقْتُلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقْطَعَ أَيْدِيهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلاَفٍ) {المائدة: 33) وَإِنَّ مَعْنَاهَا الْمُضْمَرَ فِيهَا: أَنْ يُقَتَّلُوا إِنْ قَتَلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا إِنْ قَتَلُوا، وَأَخَذُوا الْمَالَ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ إِنْ أَخَذُوا الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلُوا، كَذَلِكَ آيَةُ النُّشُوزِ، لِأَنَّ الْعُقُوبَاتِ الْمُخْتَلِفَةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ فِي ذُنُوبٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَلَا تَكُونُ كَبَائِرُ الْعُقُوبَاتِ لِصَغَائِرِ الذُّنُوبِ، وَلَا صَغَائِرُ الْعُقُوبَاتِ لِكَبَائِرِ الذُّنُوبِ، فَأَوْجَبَ اخْتِلَافُ الْعُقُوبَاتِ أَنْ تَكُونَ عَلَى اخْتِلَافِ الذُّنُوبِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ وَذَكَرَ احْتِمَالَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الْعُقُوبَاتِ الثَّلَاثَ مُسْتَحَقَّةٌ فِي حَالَيْنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَيْفِيَّتِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ إِنَّهُ إِذَا خَافَ نُشُوزَهَا وَعَظَهَا وَهَجَرَهَا فَإِذَا أَبْدَتِ النُّشُوزَ ضَرَبَهَا، وَكَذَلِكَ إِذَا أَقَامَتْ عَلَيْهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ أَنَّهُ إِذَا خَافَ نُشُوزَهَا وَعَظَهَا، فَإِذَا أَبْدَتِ النُّشُوزَ هَجَرَهَا وَضَرَبَهَا، وَكَذَلِكَ إِذَا أَقَامَتْ عَلَيْهِ، وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْعُقُوبَةَ هِيَ الضَّرْبُ وَمَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْعِظَةِ وَالْهَجْرِ إِنْذَارٌ وَالْعُقُوبَةُ تَكُونُ بِالْإِقْدَامِ عَلَى الذُّنُوبِ لَا(9/597)
بِمُدَاوَمَتِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ سَائِرَ الْحُدُودِ تَجِبُ بِالْإِقْدَامِ عَلَى الذُّنُوبِ لَا بِمُدَاوَمَتِهَا فَكَذَلِكَ ضَرْبُ النُّشُوزِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى إِبْدَائِهِ دُونَ مُلَازَمَتِهِ، فَصَارَ تَحْرِيرُ الْمَذْهَبِ فِي ذَلِكَ أَنَّ لَهُ عِنْدَ خَوْفِ النُّشُوزِ أَنْ يَعِظَهَا، وَهَلْ لَهُ أَنْ يَهْجُرَهَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَلَهُ عِنْدَ إِبْدَاءِ النُّشُوزِ أَنْ يَعِظَهَا وَيَهْجُرَهَا، وَهَلْ لَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: وَلَهُ عِنْدَ مُقَامِهَا عَلَى النُّشُوزِ أَنْ يَعِظَهَا وَيَهْجُرَهَا وَيَضْرِبَهَا.
فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى صِفَةِ الْعِظَةِ وَالْهَجْرِ وَالضَّرْبِ.
أَمَّا الْعِظَةُ فَهُوَ أَنْ يُخَوِّفَهَا بِاللَّهِ تَعَالَى وَبِنَفْسِهِ فَتَخْوِيفُهَا بِاللَّهِ أَنْ يَقُولَ لَهَا: اتَّقِ اللَّهَ، وَخَافِيهِ، وَاخْشَيْ سُخْطَهُ وَاحْذَرِي عِقَابَهُ فَإِنَّ التَّخْوِيفَ بِاللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَبْلَغِ الزَّوَاجِرِ فِي ذَوِي الدِّينِ وَتَخْوِيفُهَا مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يَقُولَ لَهَا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَوْجَبَ لِي عَلَيْكِ حَقًّا إِنْ مَنَعْتِيهِ أَبَاحَنِي ضَرْبَكِ، وَأَسْقَطَ عَنِّي حَقَّكِ فَلَا تَضُرِّي نَفْسَكِ بِمَا أُقَابِلُكِ عَلَى نُشُوزِكِ إِنْ نَشَزْتِ بِالضَّرْبِ الْمُؤْلِمِ وَقَطْعِ النَّفَقَةِ الدَّارَّةِ، فَإِنَّ تَعْجِيلَ الْوَعِيدِ أَزْجَرُ لِمَنْ قَلَّتْ مُرَاقَبَتُهُ.
وَهَذِهِ الْعِظَةُ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى خَوْفِ نُشُوزٍ لَمْ يَتَحَقَّقْ فَلَيْسَ يُضَارُّهُ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْأَمَارَاتُ الَّتِي ظَهَرَتْ مِنْهَا لِنُشُوزٍ تُبْدِيهِ كَفَّهَا عَنْهُ وَمَنَعَهَا مِنْهُ وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ مِنْ هَمٍّ طَرَأَ عَلَيْهَا أَوْ لِفَتْرَةٍ حَدَثَتْ مِنْهَا أَوْ لسهوٍ لَحِقَهَا لَمْ يَضُرَّهَا أَنْ تَعْلَمَ مَا حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي النشوز، وأما الهجر نوعان:
أَحَدُهُمَا: فِي الْفِعْلِ.
وَالثَّانِي: فِي الْكَلَامِ.
فَأَمَّا الْهَجْرُ فِي الْفِعْلِ فَهُوَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ، وَهُوَ الْإِعْرَاضُ عَنْهَا، وَأَنْ لَا يُضَاجِعَهَا فِي فِرَاشٍ أَوْ يُوَلِّيَهَا ظَهْرَهُ فِيهِ أَوْ يَعْتَزِلَهَا فِي بَيْتِ غَيْرِهِ.
أَمَّا هَجْرُ الْكَلَامِ فَهُوَ الِامْتِنَاعُ مِنْ كَلَامِهَا.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا أَرَى بِهِ بَأْسًا، فَكَأَنَّهُ يَرَى أَنَّ الْآيَةَ، وَإِنْ لَمْ تضمنه فهو مِنْ إِحْدَى الزَّوَاجِرِ إِلَّا أَنَّ هَجْرَ الْفِعْلِ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَدِيمَهُ الزَّوْجُ بِحَسْبِ مَا يَرَاهُ صَلَاحًا.
فَأَمَّا هَجْرُ الْكَلَامِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَدِيمَهُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " لا يحل لمسلم يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ، وَالسَّابِقُ أَسْبَقُهُمَا إِلَى الْجَنَّةِ ".
وَأَمَّا الضَّرْبُ فَهُوَ ضَرْبُ التَّأْدِيبِ وَالِاسْتِصْلَاحِ، وهو كضرب التعزيز لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْلُغَ بِهِ أَدْنَى الْحُدُودِ، وَيَتَوَقَّى بِالضَّرْبِ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ: أَنْ يَقْتُلَ أَوْ يُزْمِنَ أَوْ يُدْمِيَ أَوْ يَشِينَ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا يَضْرِبْهَا ضَرْبًا مُبَرِّحًا وَلَا مُدْمِيًا وَلَا مُزْمِنًا، وَيَقِي الْوَجْهَ فَالْمُبَرِّحُ الْقَاتِلُ،(9/598)
وَالْمُدْمِي إِنْهَارُ الدَّمِ، وَالْمُزْمِنُ تَعْطِيلُ إِحْدَى أَعْضَائِهَا، ضَرْبُ الْوَجْهِ يَشِينُهَا وَيُقَبِّحُ صُورَتَهَا.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله نساؤها مَا نَأْتِي مِنْهُنَّ وَمَا نَذَرُ، قَالَ: حَرْثُكَ فَأْتِ حَرْثَكَ أَنَّى شِئْتَ غَيْرَ أَنْ تَضْرِبَ الْوَجْهَ، وَلَا تُقَبِّحَ وَلَا تَهْجُرَ إِلَّا فِي الْبَيْتِ وَأَطْعِمْ إِذَا أَطْعَمْتَ وَاكْسُ إِذَا اكْتَسَيْتَ كَيْفَ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ.
وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اضْرِبُوهُنَّ إِذَا عَصَيْنَكُمْ فِي الْمَعْرُوفِ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ تَوَقَّى شِدَّةَ الضَّرْبِ، وَتَوَقَّى ضَرْبَ الْوَجْهِ وَتَوَقَّى الْمَوَاضِعَ الْقَاتِلَةَ مِنَ الْبَدَنِ كَالْفُؤَادِ وَالْخَاصِرَةِ، وَتَوَقَّى أَنْ تُوَالِيَ الضَّرْبَ مَوْضِعًا فَيَنْهَرَ الدَّمُ فَإِنْ ضَرَبَهَا فَمَاتَتْ مِنَ الضَّرْبِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ مِثْلُهُ قَاتِلًا فَهُوَ قَاتِلُ عُمَدٍ، وَعَلَيْهِ الْقَوْدُ، وَإِنْ كَانَ مِثْلُهُ يَقْتُلُ وَلَا يَقْتُلُ فَهُوَ خَطَأٌ شِبْهُ الْعَمْدِ، فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةٌ يَتَحَمَّلُهَا عِنْدَ الْعَاقِلَةِ، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فِي الْحَالَيْنِ وَبَانَ بِإِفْضَاءِ الضَّرْبِ إِلَى الْقَتْلِ أَنَّهُ كَانَ غَيْرَ مُبَاحٍ كَمَا تَقُولُهُ فِي التَّعْزِيرِ، وَضَرْبِ الْمُعَلِّمِ الصِّبْيَانَ.
فَصْلٌ
فَأَمَّا مَا وَرَدَ مِنَ السُّنَّةِ فِي إِبَاحَةِ الضَّرْبِ وَحَظْرِهِ فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا تَضْرِبُوا إِمَاءَ اللَّهِ " فَنَهَى عَنْ ضَرْبِهِنَّ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْآيَةِ فِي إِبَاحَةِ الضَّرْبِ.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " كُنَّا مَعَاشِرَ قُرَيْشٍ يغلب رجالنا نسائنا، وَكَانَ الرَّجُلُ مِنَّا بِمَكَّةَ مَعَهُ هِرَاوَةٌ إِذَا تَرَمْرَمَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ هَرَاهَا بِهَا فَقَدِمْنَا هَذَيْنِ الْحَيَّيْنِ الْأَوْسَ، وَالْخَزْرَجَ فَوَجَدْنَا رِجَالًا مَغَانِمَ لِنِسَائِهِمْ يغلب نساؤهم رجالهم فاختلط نساؤها بِنِسَائِهِمْ فَذَئِرْنَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَئِرَ النِّسَاءُ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ فَأْذَنْ فِي ضَرْبِهِنَّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فاضربوهن قال: فضرب الناس نسائهم تِلْكَ اللَّيْلَةَ قَالَ: فَأَتَى نِسَاءٌ كَثِيرٌ يَشْتَكِينَ الضَّرْبَ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَقَدْ أَطَافَ بِآلِ مُحَمَّدٍ اللَّيْلَةَ سَبْعُونَ امْرَأَةً كُلُّهُنَّ يَشْتَكِينَ أَزْوَاجَهُنَّ، وَلَا تَجِدُونَ أُولَئِكَ خِيَارَكُمْ "، وَفِي قَوْلِ عُمَرَ ذَئِرَ النِّسَاءُ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ تأويلات:
أحدها: أَنَّهُ الْبَطَرُ وَالْأَشَرَةُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْبِذَاءُ وَالِاسْتِطَابَةُ. قال الشاعر:
(ولما أتاني عن تميم أنهن ذَئِرُوا ... لِقَتْلَى عَامِرٍ وَتَغَضَّبُوا)(9/599)
وَهَذَا الْخَبَرُ مُخَالِفٌ لِلْخَبَرِ الْمُتَقَدِّمِ، وَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا لِلْآيَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَتَرَتَّبُ هَذَانِ الْخَبَرَانِ مَعَ الْآيَةِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنْ يَنْسَخَ الْقُرْآنَ السُّنَةُ فَلِأَصْحَابِنَا عَنْ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ مَا جَاءَتْ بِهِ الْآيَةُ، وَالْخَبَرُ مِنْ إِبَاحَةِ الضَّرْبِ فَوَارِدٌ فِي النُّشُوزِ وَمَا وَرَدَ بِهِ الْخَبَرُ الْآخَرُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الضَّرْبِ فَفِي غَيْرِ النُّشُوزِ، فَأَبَاحَ الضَّرْبَ مَعَ وُجُودِ سَبَبِهِ، وَنَهَى عَنْهُ مَعَ ارْتِفَاعِ سَبَبِهِ، وَهَذَا مُتَّفِقٌ لَا يُعَارِضُ بَعْضُهُ بَعْضًا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَبَاحَ الضَّرْبَ جَوَازًا وَنَهَى عَنْهُ اخْتِيَارًا فَيَكُونُ الضَّرْبُ وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا بِالْإِذْنِ فِيهِ، فَتَرْكُهُ أَوْلَى لِلنَّهْيِ عَنْهُ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مُتَنَافِيًا وَلَا نَاسِخًا وَمَنْسُوخًا.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ خَبَرَ النَّهْيِ عَنِ الضَّرْبِ مَنْسُوخٌ بِخَبَرِ عُمَرَ الْوَارِدِ بِإِبَاحَتِهِ ثُمَّ جَاءَتِ الْآيَةُ مُبَيِّنَةً لِسَبَبِ الْإِبَاحَةِ فَكَانَتِ السُّنَّةُ نَاسِخَةً لِلسُّنَّةِ، والكتاب مبيناً لم ينسخ الكتاب السنة، والله أعلم.(9/600)
باب الحكم في الشقاق بين الزوجين من الجامع من كتاب الطلاق ومنن أحكام القرآن ومن نشوز الرجل على المرأة
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " فَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا خِفْنَا الشِّقَاقَ بَيْنَهُمَا بِالْحَكَمَيْنِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُمَا غَيْرُ حُكْمِ الْأَزْوَاجِ فإذا اشتبه حالاهما فَلَمْ يَفْعَلِ الرَّجُلُ الصُّلْحَ وَلَا الْفُرْقَةَ وَلَا الْمَرْأَةُ تَأْدِيَةَ الْحَقِّ وَلَا الْفِدْيَةَ وَصَارَا مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ لَهُمَا وَلَا يَحْسُنُ وَتَمَادَيَا بَعَثَ الْإِمَامُ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا مَأْمُونَيْنِ بِرِضَا الزَّوْجَيْنِ وَتَوْكِيلِهِمَا إِيَّاهُمَا بِأَنْ يَجْمَعَا أَوْ يُفَرِّقَا إِذَا رأيا ذلك واحتج بِقَوْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه ابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها ثم قال للحكمين هل تدريان ما عليكما؟ عليكما أن تجمعا إن رأيتما أن تجمعا وأن تفرقا إن رأيتما أن تفرقا فقالت المرأة رضيت بكتاب الله بما علي فيه ولي فقال الرجل أما الفرقة فلا فقال علي كذبت والله حتى تقر بمثل الذي أقرت به فدل أن ذلك ليس للحاكم إلا برضا الزوجين ولو كان ذلك لبعث بغير رضاهما ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا الْبَابُ يَشْتَمِلُ عَلَى الْحُكْمِ فِي نُشُوزِ الزَّوْجَيْنِ، وَهُوَ الشِّقَاقُ وَفِي تَسْمِيَتِهِ شِقَاقًا تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ فَعَلَ مَا شَقَّ عَلَى صَاحِبِهِ.
وَالثَّانِي: لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ صَارَ فِي شِقٍّ بِالْعَدَاوَةِ وَالْمُبَايَنَةِ.
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَاْبْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُريدَا إصْلاَحاً يُوَفِقُ اللهُ بَيْنَهُمَا) {النساء: 35) فَإِذَا شَاقَّ الزَّوْجَانِ وَشِقَاقُهُمَا يَكُونُ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَةِ بِنُشُوزِهَا عَنْهُ، وَتَرْكِ لُزُومِهَا لِحَقِّهِ، وَيَكُونُ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ بِعُدُولِهِ عَنْ إِمْسَاكٍ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٍ بِإِحْسَانٍ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ قد خرجا من الْمُشَاقَّةِ إِلَى قُبْحٍ مِنْ فِعْلٍ كَالضَّرْبِ وَلَا إِلَى قَبِيحٍ مِنْ قَوْلٍ كَالسَّبِّ، فَإِنَّ الْحَاكِمَ يُنَصِّبُ لَهُمَا أَمِينًا يَأْمُرُهُ بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمَا، وَأَنْ يَسْتَطِيبَ نَفْسَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ مِنْ عفوٍ أَوْ هبةٍ فَإِنَّ سَوْدَةَ لَمَّا هَمَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بطلاقها(9/601)
اسْتَعْطَفَتْهُ بِأَنْ وَهَبَتْ يَوْمَهَا مِنْهُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِعِلْمِهَا بِشِدَّةِ مَيْلِهِ إِلَيْهَا فَعَطَفَ لَهَا، وَأَمْسَكَهَا فَنَزَلَ فِيهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلحُ خَيْرٌ) {النساء: 128) .
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الشِّقَاقُ قَدْ أَخْرَجَهُمَا إِلَى قَبِيحِ الْفِعْلِ فَتَضَارَبَا، وَإِلَى قَبِيحِ الْقَوْلِ فَتَشَاتَمَا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: وَصَارَا مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ لَهُمَا، وَلَا يَحْسُنُ فَهِيَ الْحَالُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنَهُمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أهْلَهِ وَحَكَماً مِنْ أهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِقُ اللهُ بَيْنَهُمَا) {النساء: 35) فَيَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ إِذَا تَرَافَعَا إِلَيْهِ فِيهَا أَنْ يَخْتَارَ مِنْ أَهْلِ الزَّوْجِ حَكَمًا مَرْضِيًّا وَمِنْ أَهْلِهَا حَكَمًا مَرْضِيًّا فَإِنْ جَعَلَ الْحَاكِمُ إِلَى الْحَكَمَيْنِ الْإِصْلَاحَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ دُونَ الْفُرْقَةِ جَازَ بَلْ لَوْ فَعَلَهُ الْحَاكِمُ مُبْتَدِئًا قَبْلَ تَرَافُعِ الزَّوْجَيْنِ إِلَيْهِ أَوْ فَعَلَهُ الْحُكَمَاءُ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمَا مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الْحَاكِمِ لَهُمَا جَازَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاِّ مَنْ أَمَرَ بَصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ) {النساء: 114) وَإِنْ أَرَادَ الْحَاكِمُ أَنْ يَرُدَّ إِلَى الْحَكَمَيْنِ الْإِصْلَاحَ إِنْ رَأَيَاهُ أَوْلَى، وَالَفُرْقَةَ إِنْ رَأَيَاهَا أَصْلَحَ أَوِ الْخُلْعَ إِنْ رَأَيَاهُ أَنْجَحَ، فَهَلْ يَصِحُّ ذَلِكَ مِنَ الْحَكَمَيْنِ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ مِنْ غَيْرِ تَوْكِيلِ الزَّوْجَيْنِ أَمْ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِتَوْكِيلِهِمَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ ذَلِكَ مِنَ الْحَكَمَيْنِ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ مِنْ غَيْرِ تَوْكِيلِ الزَّوْجَيْنِ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ مِنْ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَدَلِيلُهُ قَوْله تَعَالَى: فَاْبْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُريدَا إصْلاَحاً يُوَفِقُ اللهُ بَيْنَهُمَا} (النساء: 35) فَكَانَ الدَّلِيلُ فِيهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ خِطَابٌ تُوِجَّهَ إِلَى الْحَاكِمِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَا يَضْمَنُهُ مِنْ إِنْفَاذِ الْحَكَمَيْنِ مِنْ جِهَةِ الْحَاكِمِ دُونَ الزَّوْجَيْنِ.
وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: {إِنْ يُرِيدَا إصْلاَحاً} رَاجِعٌ إِلَى الْحَكَمَيْنِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِرَادَةَ لَهُمَا دُونَ الزَّوْجَيْنِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ إِطْلَاقَ اسْمِ الْحَكَمَيْنِ عَلَيْهِمَا لِنُفُوذِ الْحُكْمِ جَبْرًا مِنْهُمَا كَالْحَاكِمِ فَلَمْ يَفْتَقِرْ ذَلِكَ إِلَى تَوْكِيلِ الزَّوْجَيْنِ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ شَجَرَ بَيْنَ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ خُصُومَةٌ تَنَافَرَا فِيهَا، وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّ فَاطِمَةَ كَانَتْ ذَاتَ مَالٍ تَدِلُّ بِمَالِهَا عَلَى عَقِيلٍ وَتُكْثِرُ إِذْكَارَهُ بِمَنْ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ أَهْلِهَا فَتَقُولُ لَهُ: مَا فَعَلَ عُتْبَةُ مَا فَعَلَ الْوَلِيدُ، مَا فَعَلَ شَيْبَةُ، وَعَقِيلٌ يُعْرِضُ عَنْهَا إِلَى أَنْ دَخَلَ ذَاتَ يَوْمٍ ضَجِرًا، فَقَالَتْ لَهُ: مَا فَعَلَ عُتْبَةُ وَالْوَلِيدُ وَشَيْبَةُ؟(9/602)
فَقَالَ لَهَا: إِذَا دَخَلْتِ النَّارَ فَعَلَى يَسَارِكِ، فَجَمَعَتْ رَحْلَهَا وَبَلَغَ ذَلِكَ عُثْمَانَ فَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَاْبْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا) {النساء: 35) فَاخْتَارَ مِنْ أَهْلِ عَقِيلٍ: عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، وَمِنْ أَهْلِ فَاطِمَةَ، مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، وَقَالَ: عَلَيْكُمَا أَنْ تَجْمَعَا إِنْ رَأَيْتُمَا، أَوْ تُفَرِّقَا إِنْ رَأَيْتُمَا.
فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عباس والله لأحرصن على الفرقة بينهما.
فقال مُعَاوِيَةُ: وَاللَّهِ لَا فَرَّقْتُ بَيْنَ شَيْخَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ فَمَضَيَا إِلَيْهِمَا وَقَدِ اصْطَلَحَا.
فَدَلَّ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمَا عَلَى أَنَّ الْحَكَمَيْنِ يَمْلِكَانِ الْفُرْقَةَ إِنْ رَأَيَاهَا، وَذَلِكَ بِمَشْهَدٍ مِنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَقَدْ حَضَرَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ مَنْ حَضَرَ فَلَمْ يُنْكِرْهُ؛ وَلِأَنَّ لِلْحَاكِمِ مَدْخَلًا فِي إِيقَاعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِالْعُيُوبِ وَالْعُنَّةِ وَفِي الْإِيلَاءِ فَجَازَ أَنْ يَمْلِكَ بِهَا تَفْوِيضَ ذَلِكَ إِلَى الْحَكَمَيْنِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنَ الْحَكَمَيْنِ إِيقَاعُ الْفُرْقَةِ وَالْخُلْعِ إِلَّا بِتَوْكِيلِ الزَّوْجَيْنِ وَلَا يَمْلِكُ الْحَاكِمُ الْإِذْنَ لَهُمَا فِيهِ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ والإملاء وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنْ يُريدَا إصْلاَحاً يُوَفِقُ اللهُ بَيْنَهُمَا) {النساء: 35) فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَرْدُودَ إِلَى الْحَكَمَيْنِ الْإِصْلَاحُ دُونَ الْفُرْقَةِ.
وَلِمَا رَوَى ابْنُ عَوْنٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ السَّلْمَانِيِّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ إِلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِيَامٌ مِنَ الناس يعني جمعاً فتلى الْآيَةَ، وَبَعَثَ إِلَى الْحَكَمَيْنِ وَقَالَ: رُوَيْدَكُمَا حَتَّى أُعْلِمَكُمَا مَاذَا عَلَيْكُمَا إِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تَجْمَعَا جمعتكما وإن رأيتما أن تفرقا فرقتكما ثم أقبل على المرأة، وقال: أقد رَضِيتِ بِمَا حَكَمَا، قَالَتْ: نَعَمْ، رَضِيتُ بِكِتَابِ اللَّهِ عَلَيَّ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الرَّجُلِ، فَقَالَ: قَدْ رَضِيتَ بِمَا حَكَمَا فَقَالَ: لَا، وَلَكِنْ أَرْضَى أَنْ تَجْمَعَا وَلَا أَرْضَى أَنْ تُفَرِّقَا، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: كَذَبْتَ، وَاللَّهِ لَا تَبْرَحُ حَتَّى تَرْضَى بِمِثْلِ الَّذِي رَضِيَتْ.
فَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ أَنَّهُ لَوْ مَلَكَ الْحَكَمَانِ ذَلِكَ بِغَيْرِ تَوْكِيلِ الزَّوْجَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِرُجُوعِ علي رضي الله عنه إلى رضى الزَّوْجِ وَجْهٌ، وَلَكَانَ بِإِذْنِ الْحَكَمَيْنِ فِيهِ، وَإِنِ امْتَنَعَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ كَذَبْتَ وَاللَّهِ حَتَّى تَرْضَى بِمِثْلِ الَّذِي رَضِيتَ، وَكَيْفَ يكون امتناعه. من الرضى كَذِبًا فَعَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تقدم منه الرضى ثُمَّ أَنْكَرَهُ فَصَارَ كَذِبًا وَزَالَ بِالْإِنْكَارِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّوْكِيلِ.(9/603)
وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ كَذَبْتَ بِمَعْنَى أَخْطَأَتْ، وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنِ الْخَطَأِ بِالْكَذِبِ؛ لِأَنَّهُ بِخِلَافِ الْحَقِّ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
(كَذَبَتْكَ عَيْنُكَ أَمْ رَأَيْتَ بواسطٍ ... غَلَسَ الظَّلَامِ مِنَ الرَّبَابِ خَيَالَا)
يَعْنِي أَخْطَأَتْكَ عَيْنُكَ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلِ الطَّلَاقَ إِلَّا إِلَى الْأَزْوَاجِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْلِكَهُ غَيْرُهُمْ، وَلِأَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَمْلِكُ إِيقَاعَ الطَّلَاقِ وَالْخُلْعِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إِلَّا عَنْ رِضَاهُمَا فَلِأَنْ لَا يَمْلِكَهُ الْحَكَمَانِ مِنْ قِبَلِهِ أَوْلَى.
فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ كَانَ الْحَكَمَانِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ حَاكِمَيْنِ وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي وَكِيلَيْنِ، وَلَا بُدَّ من اعتبار شروط في صحته تَحْكِيمِهِمَا وَهِيَ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ.
قِسْمٌ يَجِبُ اعْتِبَارُهُ فِيهِمَا.
وَقِسْمٌ يُسْتَحَبُّ اعْتِبَارُهُ فِيهِمَا.
وَقِسْمٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْقَوْلِ فِيهِمَا فَأَمَّا مَا يَجِبُ اعْتِبَارُهُ فِيهِمَا مِنَ الشُّرُوطِ فَثَلَاثَةٌ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ، فَإِنْ كَانَا أَوْ أَحَدُهُمَا امْرَأَةً لَمْ يَجُزْ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَا حُرَّيْنِ فَإِنْ كَانَا أَوْ أَحَدُهُمَا عَبْدًا لَمْ يَجُزْ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَا عَدْلَيْنِ فَإِنْ كَانَا أَوْ أَحَدُهُمَا غَيْرَ عَدْلٍ لَمْ يَجُزْ.
وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا هَذِهِ الشُّرُوطَ الثَّلَاثَةَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا؛ لِأَنَّهُمَا إِنْ كَانَا حَاكِمَيْنِ فَلَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِ هَذِهِ الشُّرُوطِ فِي الْحَاكِمِ، وَإِنْ كَانَا وَكِيلَيْنِ فَقَدِ اقْتَرَنَ بِوَكَالَتِهِمَا وِلَايَةُ اخْتِيَارِ الْحَاكِمِ لَهُمَا، وَلَا يَصِحُّ فِيمَنْ رُدَّ الْحُكْمُ إِلَيْهِ نَظَرٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَاكِمَ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَرُدَّ النَّظَرَ فِي مَالِ يَتِيمٍ إِلَى عَبْدٍ أَوْ فَاسْقٍ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا.
وَأَمَّا مَا يُسْتَحَبُّ اعْتِبَارُهُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْحَكَمَانِ مِنْ أَهْلِ الزَّوْجَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاْبْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} وَلِأَنَّ الْأَوَّلَ أَخَصُّ بِطَلَبِ الْحَظِّ مِنَ الْأَجَانِبِ؛(9/604)
وَلِأَنَّ الْأُنْسَ بِالْأَهْلِ وَالِاسْتِجَابَةَ لَهُمْ، وَشَرْحَ الْحَالِ مَعَهُمْ أَكْثَرُ مِنَ الْأَجَانِبِ، فَلِهَذِهِ الْأُمُورِ اخْتَرْنَا أَنْ يَكُونَ الْحَكَمَانِ مِنْ أَهْلِ الزَّوْجَيْنِ، فَإِنْ كَانَا أَجْنَبِيَّيْنِ جَازَ، لِأَنَّهُ إِنْ جَرَى التَّحْكِيمُ مَجْرَى الْحَاكِمِ فَحُكْمُ الْأَجْنَبِيِّ نَافِذٌ، وَإِنْ جَرَى مَجْرَى الْوَكَالَةِ فَوَكَالَةُ الْأَجْنَبِيِّ جَائِزَةٌ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ لَا يَكُونُ لِوَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ أَهْلٌ وَلَا إنه كَانُوا حَضَرُوا وَلَا إِنْ حَضَرُوا كَانُوا عُدُولًا فَدَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى جَوَازِ تَحْكِيمِ غَيْرِ الْأَهْلِ.
وَأَمَّا مَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْقَوْلِ فِيهِمَا فَهُوَ أَنْ يَكُونَا فَقِيهَيْنِ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي الْأَحْكَامِ.
فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُمَا يَجْرِيَانِ مَجْرَى الْحَاكِمَيْنِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، فَإِنْ لَمْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ فَلَمْ يَنْفُذْ إِلَّا مِنْ مُجْتَهِدٍ وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُمَا يَجْرِيَانِ مَجْرَى الْوَكِيلَيْنِ جَازَ أن يَكُونَا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، لِأَنَّ وَكَالَةَ الْعَامَّةِ جَائِزَةٌ، فَإِنْ عَدَلَ الْحَاكِمُ عَنْ أَهْلِهَا إِلَى أَجْنَبِيَّيْنِ اخْتَارَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَكَمًا يَثِقُ بِهِ وَيَأْنَسُ إِلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحَكِّمَ عليهما عدويين للتهمة اللاحقة بهما.
مسألة
قال الشافعي: " وَلَوْ فَوَّضَا مَعَ الْخُلْعِ وَالْفُرْقَةِ إِلَى الْحَكَمَيْنِ الْأَخْذَ لِكُلِّ واحدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ كَانَ عَلَى الْحَكَمَيْنِ الِاجْتِهَادُ فِيمَا يَرَيَانِهِ أَنَّهُ صلاحٌ لَهُمَا بَعْدَ مَعْرِفَةِ اخْتِلَافِهِمَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَى مَا يَتِمُّ بِهِ وِلَايَةُ الْحَكَمَيْنِ.
وَالثَّانِي: مَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَهُ الْحَكَمَانِ وَمَا لَا يَجُوزُ لَهُمَا فِعْلُهُ.
فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِيمَا يَتِمُّ بِهِ وِلَايَةُ الْحَكَمَيْنِ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِاخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فِيهِمَا.
فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُمَا حَكَمَانِ تَمَّتْ وِلَايَتُهُمَا بِتَقْلِيدِ الْحَاكِمِ لَهُمَا، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِمَا إِذَنُ الزَّوْجَيْنِ وَلَا رِضَاهُمَا، لَكَانَ لَا بُدَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُعَيِّنَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْحَكَمَيْنِ أَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنُوبُ عَنْ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فِي اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ مِنَ الْآخَرِ، وَالنَّظَرِ فِي مَصْلَحَتِهِ ثُمَّ يَرُدُّ إِلَيْهِمَا مَا رَأَيَاهُ صَلَاحًا مِنْ إِصْلَاحٍ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ خُلْعٍ، فَإِنْ أَرَادَ بَعْدَ تَحْكِيمِهِمَا أن يستدل بِهِمَا غَيْرَهُمَا فَإِنْ كَانَ لِتَغَيُّرِ حَالِهِمَا أَوْ لِوُجُودِ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُمَا جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِتَغَيُّرِ حَالٍ وَلَا لِوُجُودِ مَنْ هُوَ أَوْلَى لَمْ يَجُزْ وَلَوِ اعْتَزَلَ الْحَكَمَانِ جَازَ وَمَا يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ لَهُمَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِعَجْزٍ مِنْهُمَا أَوْ لِاشْتِبَاهِ الْأَصْلَحِ عَلَيْهِمَا، وَلَيْسَ لَهُمَا بَعْدَ أَنْ عُزِلَا أَوِ اعْتَزَلَا أَنْ يَحْكُمَا عَلَيْهِمَا بِشَيْءٍ، فَإِنْ(9/605)
حَكَمَا لَمْ يُنَفَّذْ حُكْمُهُمَا وَإِنْ قُلْتُ إِنَّ الْحَكَمَيْنِ وَكِيلَانِ لَمْ يَتِمَّ وِلَايَتُهُمَا إِلَّا بِتَوْكِيلِ الزَّوْجَيْنِ إِلَى إِذَنِ الْحَاكِمِ وَإِنَّمَا افْتَقَرَا مَعَ تَوْكِيلِ الزَّوْجَيْنِ إِلَى إِذْنِ الْحَاكِمِ لَهُمَا لِأَنَّ لَهُ مَعَ الْوَكَالَةِ وِلَايَةً لَا تَصِحُّ إِلَّا بِالْحَاكِمِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ احْتَاجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِتَوْكِيلِ الْحَكَمِ الَّذِي يَنُوبُ عَنْهُ، فَيَأْذَنُ الزَّوْجُ لِحَكَمِهِ فِي الطَّلَاقِ وَعَدَدِهِ، وَفِي الْخُلْعِ وَمِقْدَارِهِ وَلَا يَكْتَفِي فِي الْإِذْنِ بِالطَّلَاقِ عَنِ الْإِذْنِ فِي الْخُلْعِ لِأَنَّ الْخُلْعَ يُسْقِطُ الرَّجْعَةَ فَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا بِإِذْنِ مُسْتَحِقِّيهَا، وَتَأْذَنُ الزَّوْجَةُ لِحَكَمِهَا أَنْ يُخَالِعَ عَنْهَا مِنْ مَالِهَا بِمَا تُقَدِّرُهُ لَهُ أَوْ تُعَيِّنُهُ ثُمَّ يَأْذَنُ الْحَاكِمُ لِلْحَكَمَيْنِ بَعْدَ تَوْكِيلِ الزَّوْجَيْنِ فِي فِعْلِ مَا وُكِّلَا فِيهِ وَإِمْضَائِهِ فَيَكُونُ التَّوْكِيلُ مِنَ الزَّوْجَيْنِ وَالْوِلَايَةُ مِنَ الْحَاكِمِ.
فَصْلٌ
وَأَمَّا مَا يُسْتَحَقُّ عَلَى الْحَكَمَيْنِ فِعْلُهُ فَهُوَ الِاجْتِمَاعُ عَلَى فِعْلِ الْأَصْلَحِ لِلزَّوْجَيْنِ فَإِنْ كَانَ الْأَصْلَحُ لَهُمَا الْإِصْلَاحَ بَيْنَهُمَا فَلَيْسَ لَهُمَا أَنْ يَعْدِلَا عَنِ الْإِصْلَاحِ إِلَى طَلَاقٍ أَوْ خُلْعٍ فَإِنْ طَلَّقَا أَوْ خَالَعَا لَمْ يَجُزْ وَكَانَ مَرْدُودًا وَإِنْ كَانَ الْأَصْلَحُ لَهُمَا الطَّلَاقَ مِنْ غَيْرِ خُلِعٍ اتَّفَقَا عَلَيْهِ تَفَرَّدَ حَكَمُ الزَّوْجِ بِإِيقَاعِهِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُخَالِعَا، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلَحُ لَهُمَا الْخُلْعَ اجْتَمَعَا عَلَى عَقْدِ الْخُلْعِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى عَدَدِ الطَّلَاقِ، وَقَدْرِ الْعِوَضِ وَتَفَرَّدَ حَكَمُ الزَّوْجَةِ بِالْبَذْلِ وَحَكَمُ الزَّوْجِ بِالْقَبُولِ وَإِيقَاعِ الطَّلَاقِ.
فَلَوْ أَرَادَ الْحَكَمَانِ فَسْخَ النِّكَاحِ بِغَيْرِ طَلَاقٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُمَا الْحَاكِمُ فِي الْفَسْخِ جَازَ إِنْ قِيلَ: إِنَّ التَّحْكِيمَ حُكْمٌ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ بِالْفَسْخِ أَخَصُّ مِنْهُ بِالطَّلَاقِ، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ التَّحْكِيمَ وَكَالَةٌ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ لَمْ يُرِدِ الْفَسْخَ إِلَيْهِمَا فَلَوْ رَدَّ الزَّوْجَانِ إِلَيْهِمَا الْفَسْخَ لَمْ يَجُزْ؛ وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ التَّحْكِيمَ وَكَالَةٌ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَيْنِ لَا يَمْلِكَانِ الْفَسْخَ إِلَّا بِالْعَيْبِ.
فَأَمَّا إِنْ ظَهَرَ لِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ مَالٌ لَمْ يَكُنْ لِلْحَكَمَيْنِ أَنْ يَسْتَوْفِيَاهُ إِلَّا عَنْ إِذْنِ مُسْتَحِقِّهِ مِنَ الزَّوْجَيْنِ دُونَ الْحَاكِمِ؛ لِأَنَّهُ رَشِيدٌ لَا يُوَلَّى عَلَيْهِ، فَإِنْ أَخَذَهُ الْحَاكِمُ لَمْ يَبْرَأْ مِنْهُ الدَّافِعُ فَإِنْ جَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ إِلَى حَكَمِهِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مَا وَجَبَ لَهُ مِنْ حَقٍّ عَلَى صَاحِبِهِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى إِذْنِ الْحَاكِمِ فِيهِ، وَجَازَ لَهُ اسْتِيفَاؤُهُ وَلَوْ جَعَلَ الْحَاكِمُ ذَلِكَ إِلَيْهِ لَمْ يَجُزْ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا سَوَاءٌ قِيلَ: إِنَّ الْحَكَمَ حَاكِمٌ أَوْ وَكِيلٌ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي اسْتِيفَاءِ حُقُوقِ أَهْلِ الرُّشْدِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مَدْخَلٌ فِي إِيقَاعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمْ، وَهَكَذَا لَا يَجُوزُ لِلْحَكَمَيْنِ الْإِبْرَاءُ مِنْ حَقٍّ وَجَبَ لِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ دَيْنٍ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ لَا يَصِحُّ إِلَّا مِنْ مَالِكٍ أَوْ بإذن مالك.
مسألة
قال الشافعي: " وَلَوْ غَابَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ وَلَمْ يَفْسَخِ الْوَكَالَةَ أَمْضَى الْحَكَمَانِ رَأْيَهُمَا ".(9/606)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا اسْتَقَرَّتْ ولاية الحكمين في شقاق الزوجين فعاف الزَّوْجَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا وَأَرَادَ الْحَكَمَانِ تَنْفِيذَ مَا إِلَيْهِمَا فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فِيهِمَا فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ التَّحْكِيمَ وَكَالَةٌ جَازَ لَهُمَا مَعَ غَيْبَةِ الزَّوْجَيْنِ أَنْ يَفْعَلَا مَا رَأَيَاهُ صَلَاحًا؛ لِأَنَّ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّ مُوَكِّلِهِ، وَيُوَفِّيَ مَا عَلَيْهِ مِنْ حَقٍّ وَإِنْ كَانَ غائباً هذا إذا كان مفترقين في الغيبة، فأما إذا كان فِي غَيْبَتِهِمَا مُجْتَمِعَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِلْحَكَمَيْنِ إِيقَاعُ طَلَاقٍ وَلَا خُلْعٍ لِجَوَازِ أَنْ يَصْطَلِحَا فِي الْغَيْبَةِ، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ التَّحْكِيمَ حُكْمٌ لَمْ يَجُزْ لِلْحَكَمَيْنِ أَنْ يَحْكُمَا مَعَ غَيْبَتِهِمَا سَوَاءٌ كَانَا فِيهِمَا مُجْتَمِعَيْنَ أَوْ مُفْتَرِقَيْنِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ جَازَ الْحُكْمُ عِنْدَنَا عَلَى الْغَائِبِ فَالْحُكْمُ لَهُ لَا يَجُوزُ حَتَّى يَحْضُرَ فَإِنْ رَجَعَ الزَّوْجَانِ عَنِ التَّحْكِيمِ فَإِنْ كَانَ مَعَ اصْطِلَاحِهِمَا بَطَلَتْ وِلَايَةُ الْحَكَمَيْنِ سَوَاءٌ قِيلَ: إِنَّ التَّحْكِيمَ حُكْمٌ أَوْ وَكَالَةٌ؛ لِأَنَّ الشِّقَاقَ قَدْ زَالَ، وَإِنْ كَانَ مَعَ مُقَامِهَا عَلَى الشِّقَاقِ بَطَلَ التَّحْكِيمُ إِنْ قِيلَ: إِنَّهُ وَكَالَةٌ وَلَمْ يَبْطُلْ إِنْ قِيلَ: إِنَّهُ حُكْمٌ.
وَلَوْ رَجَعَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ دُونَ الْآخَرِ كَانَ كَرُجُوعِهِمَا مَعًا يَبْطُلُ بِهِ التَّحْكِيمُ إِنْ قِيلَ: إِنَّهُ وَكَالَةٌ وَلَمْ يَبْطُلْ بِهِ إِنْ قِيلَ: إِنَّهُ حُكْمٌ لِأَنَّ التَّحْكِيمَ لا يصح إلا بحكمين.
مسألة
قال الشافعي: " وَأَيُّهُمَا غُلِبَ عَلَى عَقْلِهِ لَمْ يَمْضِ الْحَكَمَانِ بَيْنَهُمَا شَيْئًا حَتَّى يَفِيقَ ثُمَّ يُحْدِثُ الْوَكَالَةَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا جُنَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ بَعْدَ تَحْكِيمِ الْحَكَمَيْنِ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ لِلْحَكَمَيْنِ أَنْ يُنَفِّذَا حُكْمَ الشِّقَاقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا؛ لِأَنَّهُ إِنْ قِيلَ: إِنَّ التَّحْكِيمَ وَكَالَةٌ فَقَدْ بَطَلَتْ بِجُنُونِ الْمُوَكِّلِ.
وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ حُكْمٌ فَالْجُنُونُ قَدْ قَطَعَ الشِّقَاقَ فَإِنْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ مِنْهُمَا بَطَلَ التَّحْكِيمُ إِنْ قِيلَ: إِنَّهُ وَكَالَةٌ حَتَّى يَسْتَأْنِفَهَا الْمُفِيقُ مِنْهُمَا دُونَ الْآخَرِ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِئْنَافِ إِذْنٍ مِنَ الْحَاكِمِ، وَلَمْ يَبْطُلِ التَّحْكِيمُ إِنْ قِيلَ: إِنَّهُ حُكْمٌ، وَجَازَ لِلْحَكَمَيْنِ بِالْإِذْنِ الْأَوَّلِ إِمْضَاءُ حُكْمِهِمَا عَلَى الزَّوْجَيْنِ وَلَمْ يُؤَثِّرِ الْجُنُونُ فِي إِبْطَالِ تَحْكِيمِهِمَا، وَإِنَّمَا أَثَّرَ التَّوَقُّفَ إِلَى إِفَاقَتِهِمَا لِيَعْلَمَ حَالَهُمَا بَعْدَ الْإِفَاقَةِ فِي مُقَامِهِمَا عَلَى الشِّقَاقِ أَوْ إِقْلَاعِهِمَا عَنْهُ.
مَسْأَلَةٌ
قال الشافعي: " وَعَلَى السُّلْطَانِ إِنْ لَمْ يَرْضَيَا حَكَمَيْنِ أَنْ يَأْخُذَ لِكُلِّ واحدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ مَا يَلْزَمُ وَيُؤَدِّبَ أَيَّهُمَا رَأَى أَدَبَهُ إِنِ امْتَنَعَ بقدر ما يجب عليه (وقال) في كتاب الطلاق من أحكام القرآن ولو قال قائلٌ نجبرهما على الحكمين كان مذهباً (قال المزني) رحمه الله هذا ظاهر الآية والقياس ما قال علي رضي الله عنه لأن الله تعالى جعل الطلاق للأزواج فلا يكون إلا لهم ".(9/607)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا أَنْ يَمْتَنِعَ الزَّوْجَانِ مِنَ الرضى بِالْحَكَمَيْنِ مَعَ مُقَامِهِمَا عَلَى الشِّقَاقِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ التَّحْكِيمَ حَكَمٌ، لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ امْتِنَاعُ الزَّوْجَيْنِ وَأَمْضَى الْحَاكِمُ رَأْيَهُ عَنِ اخْتِيَارِ الْحَكَمَيْنِ.
وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ وَكَالَةٌ، لَمْ يَصِحَّ مَعَ امْتِنَاعِ الزَّوْجَيْنِ وَلَا يَجُوزُ إِجْبَارُهُمَا عَلَيْهِ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَصِحُّ مَعَ الْإِجْبَارِ، وَكَذَلِكَ لَوِ امْتَنَعَ أَحَدُهُمَا كَانَ كَامْتِنَاعِهِمَا، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ التحكيم على هذا القول إلا عن رضى الزَّوْجَيْنِ فَعَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَنْظُرَ بَيْنَهُمَا وَيَسْتَوْفِيَ الْحَقَّ لِمَنْ وَجَبَ لَهُ عَلَى مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُوقِعُ بَيْنَهُمَا طَلَاقًا وَلَا خُلْعًا، لِأَنَّ الْحَاكِمَ مَنْدُوبٌ إِلَى اسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ وَإِنْصَافِ الْمَظْلُومِ فَإِنْ عَلِمَ مِنْ أَحَدِهِمَا عُدْوَانًا عَلَى صَاحِبِهِ مَنَعَهُ مِنْهُ فَإِنْ لَمْ يمتنع أدبه عليه.
مسألة
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوِ اسْتَكْرَهَهَا عَلَى شيءٍ أَخَذَهُ مِنْهَا عَلَى أَنْ طَلَّقَهَا وَأَقَامَتْ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً رَدَّ مَا أَخَذَهُ وَلَزِمَهُ مَا طَلَّقَ وَكَانَتْ لَهُ الرَّجْعَةُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مِنَ الْخُلْعِ، وَكَثِيرًا مَا يَخْتِمُ الْمُزَنِيُّ بِمَسْأَلَةٍ مِنَ الْكِتَابِ الَّذِي يَلِيهِ.
وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ أَكْرَهَ زَوْجَتَهُ عَلَى الْخُلْعِ بِضَرْبٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ أَحَدِ أَنْوَاعِ الْإِكْرَاهِ حَتَّى بَذَلَتْ لَهُ مَالًا عَلَى طَلَاقِهَا فَالْخُلْعُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ عُقُودَ الْمُعَارَضَاتِ لَا تَصِحُّ مَعَ الْإِكْرَاهِ وَعَلَيْهِ رَدُّ الْمَالِ عَلَيْهَا وَطَلَاقُهُ وَاقِعٌ؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَهُ بِاخْتِيَارِهِ وَلَهُ الرَّجْعَةُ إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ دُونَ الثَّلَاثِ، لِأَنَّ الْبَذْلَ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ، فَإِنِ ادَعَتْ عَلَيْهِ أَنَّهُ خَالَعَهَا مُكْرَهًا فَذَكَرَ أَنَّهُ خَالَعَهَا مُخْتَارَةً فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا؛ لِأَنَّهَا تُنْكِرُ اسْتِحْقَاقَ الْبَذْلِ وَهُوَ يَدَّعِيهِ وَطَلَاقُهُ قَدْ وَقَعَ بَائِنًا وَلَا رَجْعَةَ لَهُ مُقِرٌّ بِطَلَاقٍ لَا يَسْتَحِقُّ فِيهِ الرَّجْعَةَ وَالْفَرْقُ بَيْنَ هذه المسألة والتي تقدمها فِي الرَّجْعَةِ أَنَّهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مُقِرٌّ بِفَسَادِ الْخُلْعِ فَثَبَتَ لَهُ الرَّجْعَةُ، وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُقِرٌّ بِصِحَّةِ الْخُلْعِ فَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ الرَّجْعَةُ فَلَوِ ادَّعَتْ عَلَيْهِ أَنَّهُ خَالَعَهَا مُكْرَهًا لَهَا فَأَنْكَرَهَا الْخُلْعَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ وَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُنْكِرٌ لِلطَّلَاقِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ، وَفِي الَّتِي تقدمها مقر بالطلاق فلزمه، وبالله التوفيق.(9/608)
(بسم الله الرحمن الرحيم)
(كِتَابُ الْخُلْعِ)
(بَابُ الْوَجْهِ الَّذِي تَحِلُّ بِهِ الفدية من الجامع من الكتاب والسنة، وغير ذلك)
(مسألة)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شيئا} الآية وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إلى صلاة الصبح فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه فقال من هذه؟ فقالت أنا حبيبة بنت سهل لَا أَنَا وَلَا ثَابِتٌ لِزَوْجِهَا فَلَمَّا جَاءَ ثابت قال له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هذه حبيبة تَذْكُرُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَذْكُرَ فَقَالَتْ حَبِيبَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كُلُّ مَا أَعْطَانِي عندي فقال عليه الصلاة والسلام (خُذْ مِنْهَا) فَأَخَذَ مِنْهَا وَجَلَسَتْ فِي أَهْلِهَا.
الْقَوْلُ فِي حَدِّ الْخُلْعِ
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْخُلْعُ فِي اللُّغَةِ: فَهُوَ الِانْتِزَاعُ عَلَى مُهْلَةٍ وَمِنْهُ خَلَعَ الثَّوْبَ نَزَعَهُ وَالْخُلْعُ فِي الشَّرْعِ: هُوَ افْتِرَاقُ الزَّوْجَيْنِ عَلَى عِوَضٍ.
وَإِنَّمَا سُمِّيَ خُلْعًا؛ لِأَنَّهَا قَدْ كَانَتْ بِالزَّوْجِيَّةِ لِبَاسًا لَهُ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187] فَإِذَا افْتَرَقَا بَعِوَضٍ، فَقَدْ خَلَعَ لِبَاسَهَا، وَخَلَعَتْ لِبَاسَهُ فَسُمِّيَ خُلْعًا.
وَقِيلَ: فِدْيَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ فَدَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ بِمَالِهَا، كَفِدْيَةِ الْأَسِيرِ بِالْمَالِ.
الدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ الْخُلْعِ
وَالْأَصْلُ فِي إِبَاحَةِ الْخُلْعِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} [البقرة: 229] وَهَذَا خِطَابٌ لِلْأَزْوَاجِ حَذَّرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ أَزْوَاجِهِمْ مَا آتَوْهُمْ مِنَ الصَّدَاقِ بِغَيْرِ طِيبِ أَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ قَالَ: إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ. والخوف ها هنا بِمَعْنَى الظَّنِّ، وَتَقْدِيرُهُ إِلَّا أَنْ يَظُنَّا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
(أَتَانِي عَنْ نُصَيْبٍ كَلَامٌ يَقُولُ ... وَمَا خِفْتُ يَا سَلَامُ أَنَّكَ عَاتِبُ)
وَفِيمَا يَخَافَا أَنْ لَا يُقِيمَاهُ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: هُوَ كَرَاهَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ وَهَذَا قَوْلُ ابن المسيب.(10/3)
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِنَ الزَّوْجَةِ أَنْ لَا تُطِيعَ لَهُ أَمْرًا، وَمِنَ الزَّوْجِ أَلَّا يُؤَدِّيَ لَهَا حقاً.
ثم قال: فإن خفتم أن لا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت به، فِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ نَفْسَهَا مِنَ الصَّدَاقِ الَّذِي أَعْطَاهَا لَا غَيْرَ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالثَّانِي: مِنْ جَمِيعِ مَالِهَا وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نفساً} يعني من الصداق {فكلوه هنيئاً مريئاً} فَإِذَا أَبَاحَ أَنْ يَأْخُذَ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسًا مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ كَانَ بِالطَّلَاقِ أَوْلَى.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عن مالك عنه يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ أَنَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ سَهْلٍ أَخْبَرَتْهَا أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَرَجَ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ فَوَجَدَهَا عِنْدَ بَابِهِ بِالْغَلَسِ، فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ فَقُلْتُ: أَنَا حَبِيبَةُ بِنْتُ سَهْلٍ. قَالَ: مَا شَأْنُكِ؟ . قُلْتُ: لَا أَنَا وَلَا ثَابِتٌ لِزَوْجِهَا، فَلَمَّا جَاءَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَذِهِ حَبِيبَةُ بِنْتُ سَهْلٍ، تَذْكُرُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَذْكُرَ، فَقَالَتْ حَبِيبَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كُلُّ مَا أَعْطَانِي عِنْدِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خذ مِنْهَا، وَجَلَسَتْ فِي أَهْلِهَا. يَعْنِي خُذْ مِنْهَا وَطَلِّقْهَا.
فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَحْكَامٍ مِنْهَا: جَوَازُ اسْتِمَاعِ الدَّعْوَى عَلَى غَائِبٍ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْمُدَّعِيَ إِذَا عَرَّفَ الدَّعْوَى لَمْ يَحْتَجِ الْحَاكِمُ أَنْ يُعِيدَهَا عَلَيْهِ.
وَمِنْهَا: جَوَازُ الْخُلْعِ وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ ضَرَبَهَا، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الضَّرْبُ لِأَجْلِ الْخُلْعِ. وَمِنْهَا: جَوَازُ الْخُلْعِ فِي الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْ عَنْ حَالِهَا.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَا رَجْعَةَ عَلَى الْمُخْتَلِعَةِ لِأَمْرِهِ لها بالجلوس في أهلها.
فدل على مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ عَلَى جَوَازِ الْخُلْعِ وَهُوَ قَوْلُ الْجَمَاعَةِ وَحُكِيَ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ أَنَّ الْخُلْعَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شيئاً، أتأخذونه بهتاناً وإثما مبيناً} فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى تَحْرِيمِ الْخُلْعِ وَنَسْخِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِبَاحَتِهِ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنَعَتْ مِنْ أَخْذِ مَا لَمْ تَطِبْ بِهِ نَفْسًا وَلَمْ تَمْنَعْ مِمَّا بَذَلَتْهُ بِطِيبِ نَفْسٍ وَاخْتِيَارٍ كَمَا قَالَ: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مريئاً} وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ أَنَّ الرُّبَيِّعَ بِنْتَ(10/4)
مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ حَدَّثَتْهُ قَالَتْ: كَانَ لِي زَوْجٌ يُقِلُّ عَلَيَّ الْخَيْرَ إِذَا حَضَرَ، وَيَحْرِمُنِي إِذَا غَابَ، قَالَتْ: وَكَانَتْ مِنِّي زَلَّةٌ يَوْمًا، فَقُلْتُ: أَخْلَعُ مِنْكَ بِكُلِّ شَيْءٍ أَمْلِكُهُ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: فَفَعَلْتُ فَخَاصَمَ عَنِّي مُعَاذُ بْنُ عَفْرَاءَ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَجَازَ الْخُلْعَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا دُونَ عِقَاصِ الرَّأْسِ.
وَرَوَى أَيُّوبُ عَنْ كَثِيرٍ مَوْلَى سَمُرَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أُتِيَ بِامْرَأَةٍ نَاشِزٍ فَأَمَرَ بِهَا إِلَى بَيْتٍ كَثِيرِ الزَّبَلِ فَحَبَسَهَا فِيهِ ثَلَاثًا ثُمَّ دَعَاهَا، فَقَالَ كَيْفَ وَجَدْتِ مَكَانكِ؟ قَالَتْ: مَا وَجَدْتُ رَاحَةً مُذْ كُنْتُ عِنْدَهُ إِلَّا هَذِهِ اللَّيَالِي الَّتِي حَبَسْتَنِي، فَقَالَ لِزَوْجِهَا: اخْتَلِعْهَا وَلَوْ مِنْ قُرْطِهَا.
وَهَذِهِ قَضِيَّةُ إِمَامَيْنِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْخُلْعِ لَمْ يُخَالِفْها فِيه مِنَ الصَّحَابَةِ أَحَدٌ، فَدَلَّ عَلَى إِجْمَاعِهِمْ عَلَى ثُبُوتِ حُكْمِهِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَمْلِكَ الزَّوْجُ الْبُضْعَ بِعِوَضٍ، جَازَ أَنْ يُزِيلَ مِلْكَهُ عَنْهُ بِعِوَضٍ كَالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ، فَيَكُونُ عَقْدُ النِّكَاحِ كَالشِّرَاءِ وَالْخُلْعُ كالبيع.
(مسألة:)
قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ الْمَانِعَةُ مَا يَجِبُ عَلَيْهَا لَهُ الْمُفْتَدِيَةُ تَخْرُجُ مِنْ أَن لا تُؤَدِّيَ حَقَّهُ أَوْ كَرَاهِيَةً لَهُ فَتَحِلُّ الْفِدْيَةُ لِلزَّوْجِ وَهَذِهِ مُخَالَفَةٌ لِلْحَالِ الَّتِي تَشْتَبِهُ فِيهَا حَالُ الزَّوْجَيْنِ خَوْفَ الشِّقَاقِ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ الْخُلْعِ أَنَّهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَنْ سَبَبٍ يَدْعُو إِلَيْهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَنْ غَيْرِ سَبَبٍ.
فَإِنْ كَانَ عَنْ سَبَبٍ يَدْعُو إِلَيْهِ فَهُوَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ مُبَاحٍ وَمَكْرُوهٍ وَفَاسِدٍ وَمُخْتَلَفٍ فِيهِ.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمُبَاحُ فَيَكُونُ مِنْ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ: إِمَّا لِكَرَاهَةٍ وَإِمَّا لِعَجْزٍ.
فَأَمَّا الْكَرَاهَةُ فَهُوَ أَنْ تَكْرَهَ مِنْهُ إِمَّا سُوءَ خُلُقِهِ، وَإِمَّا سُوءَ فِعْلِهِ وَإِمَّا قِلَّةَ دِينِهِ وَإِمَّا قُبْحَ مَنْظَرِهِ وَهُوَ مُقِيمٌ بِحَقِّهَا، فَتَرَى لِكَرَاهَتِهَا لَهُ بِأَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ أَنْ تَفْتَدِيَ مِنْهُ نَفْسَهَا فَتُخَالِعُهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ مُبَاحًا. وَأَمَّا الْعَجْزُ فَيَكُونُ تَارَةً لِعَجْزِهِ عَنِ الِاسْتِمْتَاعِ أَوِ الْمَالِ، وَأَمَّا الْعَجْزُ عَنْ كَثْرَةِ الِاسْتِمْتَاعِ فَتُخَالِعُهُ لِأَجْلِ الْعَجْزِ فَيَكُونُ الْخُلْعُ مُبَاحًا.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ الْمَكْرُوهُ فَيَكُونُ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: تَارَةً مِنْ جِهَتِهَا وَتَارَةً مِنْ جِهَتِهِ، فَأَمَّا الَّذِي مِنْ جِهَتِهَا فَهُوَ أَنْ تَمِيلَ إِلَى غَيْرِهِ وَتَرْغَبَ فِي نِكَاحِهِ فَتُخَالِعَ هَذَا لِتَنْكِحَ مَنْ مَالَتْ إِلَيْهِ وَرَغِبَتْ فِيهِ فَهَذَا خُلْعٌ مَكْرُوهٌ لِمَا رَوَاهُ ثَابِتُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ:(10/5)
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (الْمُخْتَلِعَاتُ الْمُنْتَزِعَاتُ هُنَّ الْمُنَافِقَاتُ) يَعْنِي الَّتِي تُخَالِعُ الزَّوْجَ لِمَيْلِهَا إِلَى غَيْرِهِ، إِلَّا أَنَّ الْخُلْعَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ هَذَا يُفْضِي إِلَى التَّبَاغُضِ وَالْكَرَاهَةِ، فَيَكُونُ الْخُلْعُ جَائِزًا وَهُوَ مَكْرُوهٌ مِنْ جِهَتِهَا لَا مِنْ جِهَتِهِ.
وَأَمَّا الَّذِي مِنْ جِهَتِهِ فَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ ذَاتَ مَالٍ فَيُضَيِّقُ الزَّوْجُ عَلَيْهَا مَعَ قِيَامِهِ بِالْوَاجِبِ لَهَا طَمَعًا فِي مَالِهَا أَنْ تُخَالِعَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ فَهَذَا مَكْرُوهٌ مِنْ جِهَتِهِ لَا مِنْ جِهَتِهَا وَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّ لَهُ سَبَبًا يُفْضِي إِلَى التَّبَاغُضِ وَالْكَرَاهَةِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْفَاسِدُ فَيَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنَالَهَا بِالضَّرْبِ وَالْأَذَى حَتَّى تُخَالِعَهُ فَيَكُونُ الْخُلْعُ بَاطِلًا لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ عَنْ إِكْرَاهٍ فَكَانَ كَسَائِرِ عُقُودِ الْمَكْرُوهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَمْنَعَهَا مَا تَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِ مِنَ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى وَالْقَسْمِ لِتُخَالِعَهُ فَيَكُونُ الْخُلْعُ مع ذلك باطلاً لأنه يمنع الْحَقِّ قَدْ صَارَ مُكْرهًا.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وهو المختلف فيه فهو أن تزني يالزوجة فَيَعْضُلَهَا، لِتَفْتَدِيَ نَفْسَهَا مِنْهُ فَالْعَضْلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أقسام:
أحدهما: أَنْ يَمْنَعَهَا النَّفَقَةَ وَالْكُسْوَةَ الْوَاجِبَةَ لَهَا فَهَذَا الْعَضْلُ مَحْظُورٌ وَالْخُلْعُ مَعَهُ بَاطِلٌ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَقُومَ بِجَمِيعِ حُقُوقِهَا وَيَعْضُلَهَا بِالتَّضْيِيقِ عَلَيْهَا حِذَارًا مِنَ الزِّنَا فَهَذَا مُبَاحٌ، وَالْخُلْعُ مَعَهُ جَائِزٌ.
والثالث: أن يقم بنفقتها ويعضلها فِي الْقَسْمِ لَهَا فَلَا يَقْسِمُ لَهَا لِتَفْتَدِيَ مِنْهُ نَفْسَهَا فَفِي جَوَازِ الْخُلْعِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19] يَعْنِي الزِّنَا فَمَنَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْعَضْلِ لِأَجْلِ الْفِدْيَةِ إِلَّا مَعَ الزِّنَا فَكَانَ الظَّاهِرُ يَقْتَضِي جَوَازَهُ بِالْعَضْلِ مَعَ وُجُودِ الزِّنَا وَلِأَنَّهُ يَمْنَعُهَا مِنَ الْقَسْمِ مَعَ وُجُودِ الزِّنَا مِنْهَا لِيَحْفَظَ فِرَاشَهُ عَنْ مَاءِ غَيْرِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْعَضْلَ حَرَامٌ، وَهِيَ عَلَى حَقِّهَا مِنَ الْقَسْمِ وَامْتِنَاعُهُ مِنَ الْقَسْمِ لَهَا لَا يَمْنَعُ مِنْ لُحُوقِ وَلَدِهَا بِهِ، لوجوده على فراشه، وأنه قد يَقْدِرُ بِالطَّلَاقِ عَلَى الْفِرَاقِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ بِهَذَا الْمَعْنَى أَنْ يُسْقِطَ حَقَّهَا مِنَ الْقَسْمِ حَتَّى تُخَالِعَهُ لَجَازَ لِأَجْلِهِ إِسْقَاطُ حَقِّهَا مِنَ النَّفَقَةِ لِتُخَالِعَهُ.
فَأَمَّا الْآيَةُ فَفِيهَا جَوَابَانِ:(10/6)
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ حِينَ نُسِخَ حَبْسُ الزَّانِيَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} [النساء: 15] .
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَمَا أَشْبَهَ مَا قِيلَ بِمَا قِيلَ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْفَاحِشَةَ الْمُبَيِّنَةَ هِيَ النُّشُوزُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَيَجُوزُ لَهُ مَعَ النُّشُوزِ أَنْ يَعْضُلَهَا وَيُخَالِعَهَا.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْخُلْعُ بِغَيْرِ سَبَبٍ وَهُوَ أَن لا يَكُونَ مِنْ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ تَقْصِيرٌ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ وَلَا كَرَاهَةٌ لَهُ فَيَجُوزُ خُلْعُهُمَا وَلَا يُكْرَهُ لَهُمَا وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ.
وَحُكِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَعَطَاءٍ وَالنَّخَعِيِّ أَنَّ الْخُلْعَ فَاسِدٌ وَبِهِ قَالَ دَاوُدُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت به} فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْخُلْعِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تَحْرِيمُ الْخُلْعِ إِلَّا مَعَ الْخَوْفِ، وَالثَّانِي لُحُوقُ الْجُنَاحِ مَعَ ارْتِفَاعِ الْخَوْفِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] فَإِذَا حَلَّ لَهُ أَنْ يَمْتَلِكَ مَا طَابَ بِهِ نَفْسُهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُمَلِّكَهَا بِهِ بُضْعَهَا فَأَوْلَى أَنْ يَحِلَّ لَهُ إِذَا مَلكَهَا بِهِ بُضْعَهَا، وَلِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ صَحَّ مَعَ الْكَرَاهَةِ فَأَوْلَى أَنْ يَصِحَّ مع الرضى، وَكَسَائِرِ الْعُقُودِ مِنَ الْبُيُوعِ وَغَيْرِهَا.
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْآيَةِ فَقَدْ قَرَأَ حَمْزَةُ: (إِلَّا أَنْ يُخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) .
بِضَمِّ الْيَاءِ، وَيَكُونُ معناه إلا أن يخاف الحاكم إن لا يُقِيمَا الزَّوْجَانِ حُدُودَ اللَّهِ تَعَالَى هَذِهِ الْقِرَاءَةُ تُسْقِطُ أَنْ يَكُونَ خَوْفُ الزَّوْجَيْنِ شَرْطًا فِي جَوَازِ الْخُلْعِ وَقَرَأَ جَمَاعَةُ الْقُرَّاءِ إِلَّا أَنْ يَخَافَا بِفَتْحِ الْيَاءِ إِشَارَةً إِلَى الزَّوْجَيْنِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ ذَلِكَ مَعْدُولًا بِهِ عَنِ الشَّرْطِ الظَّاهِرِ إِلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا لِوُرُودِهَا عَلَى سَبَبٍ مِنَ الْخَوْفِ، وَإِنْ كَانَ حُكْمُهَا عَامًّا، وَإِمَّا عَلَى الْأَغْلَبِ مِنَ الْخُلْعِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ خَوْفٍ، وَإِنْ جَازَ فِي حَالٍ نَادِرَةٍ لَيْسَ مَعَهَا خَوْفٌ، وَإِنْ كَانَتْ هذه النادرة لا بد أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا خَوْفٌ، وَإِنْ قَلَّ، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَبْذُلُ مَالَهَا لِافْتِدَاءِ نَفْسِهَا وَهِيَ راغبة، والله أعلم.
(مسألة:)
قال الشافعي: (وَلَوْ خَرَجَ فِي بَعْضِ مَا تَمْنَعُهُ مِنَ الْحَقِّ إِلَى أَدَبِهَا بِالضَّرْبِ أَجَزْتُ ذَلِكَ لَهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ أَذِنَ لِثَابِتٍ بِأَخْذِ الْفِدْيَةِ مِنْ حَبِيبَةَ وَقَدْ نَالَهَا بِضَرْبٍ) .(10/7)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّهُ إِذَا ضَرَبَهَا عَلَى نُشُوزٍ أَوْ تَأْدِيبٍ فَخَالَعَتْهُ بَعْدَ الضَّرْبِ إِمَّا لِأَجْلِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الضَّرْبِ أَوْ لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَسْبَابِ فَالْخُلْعُ جَائِزٌ لِأَنَّهُ وَقَعَ عَنْ رِضًا وَخَلَا مِنْ إِكْرَاهٍ فَأَمَّا إِنْ كَانَ الضَّرْبُ لِأَجْلِ الْخُلْعِ فَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ مَعْقُودٌ عَلَى إِكْرَاهٍ فَافْتَرَقَا وَلِذَلِكَ أَجَازَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خُلْعَ 7 ثَابِتٍ لِزَوْجَتِهِ حَبِيبَةَ مَعَ ضَرْبِهِ لَهَا لِأَنَّ الضَّرْبَ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْخُلْعِ. وَاللَّهُ أعلم.
(مسألة:)
قال الشافعي: (وَلَمْ يَقُلْ لَا يَأْخُذُ مِنْهَا إِلَّا فِي قبل عِدَّتِهَا كَمَا أَمَرَ الْمُطَلِّق غَيْرَهُ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، الْمُخْتَلِعَةُ لَا سُنَّةَ فِي طَلَاقِهَا وَلَا بِدْعَةَ بِخِلَافِ الْمُطَلَّقَةِ بِغَيْرِ خُلْعٍ، حَيْثُ كَانَ فِي طَلَاقِهَا سُنَّةٌ وَبِدْعَةٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يُخَالِعَهَا فِي الطُّهْرِ وَالْحَيْضِ جَمِيعًا، وَهُمَا سَوَاءٌ فِي وُقُوعِ الْخُلْعِ فِيهِمَا، وَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ مُخْتَلِعَةٍ لَكَانَ طَلَاقُهَا فِي الطُّهْرِ سُنَّةً وفي الحيض بدعة، وإنما كان كذلك ظاهر وَمَعْنًى، أَمَّا الظَّاهِرُ فَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حين خالع حبيبة وزوجها ثابت، لَمْ يَسْأَلْهَا عَنْ حَالِ طُهْرِهَا وَحَيْضِهَا وَأَنْكَرَ عَلَى ابْنِ عُمَرَ الطَّلَاقَ فِي الْحَيْضِ، وَلَوْ كَانَ الْخُلْعُ فِيهِ مُنْكَرًا لَأَبَانَهُ وَمَنَعَ مِنْهُ وَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ أَنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ خُلْعِ الزَّوْجَيْنِ أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَوْ مُنِعَا مِنْهُ إِلَى وَقْتِ الطُّهْرِ لَوَقَعَا فِيهِ، وَأَثِمَا بِهِ، وَخَالَفَ ذَلِكَ حَالَ الْمُطَلِّقِ بِغَيْرِ خَوْفٍ، وَلِأَنَّ الْمُطْلَّقَةَ مُنِعَ زَوْجُهَا مِنْ طَلَاقِهَا فِي الْحَيْضِ لِئَلَّا تَطُولَ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَالْمُخْتَلِعَةَ وَقَعَ طَلَاقُهَا بِاخْتِيَارِهَا، فَصَارَتْ مُخْتَارَةً لِطُولِ الْعِدَّةِ، فَلَمْ يُمْنَعِ الزَّوْجُ مِنْ خَلْعِهَا فَافْتَرَقَا.
(مسألة:)
قال الشافعي: (وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْخُلْعَ لَيْسَ بِطَلَاقٍ وَعَنْ عُثْمَانَ قَالَ هِيَ تَطْلِيقَةٌ إِلَّا أن تكون سميت شيئاً (قال المزني) رحمه الله وقطع في باب الكلام الذي يقع به الطلاق أن الخلع سميت فلا يقع إلا بما يقع به الطلاق أو ما يشبهه من إرادة الطلاق فإن سمي عددا أو نوى عدداً فهو ما نوى) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا تَخَالَعَ الزَّوْجَانِ لَمْ يَخْلُ عَقْدُ الْخُلْعِ بَيْنَهُمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَعْقِدَاهُ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ كَقَوْلِهِ: قَدْ طَلَّقْتُكِ بِأَلْفٍ، أَوْ فَارَقْتُكِ بِأَلْفٍ أَوْ سَرَّحْتُكِ بِأَلْفٍ، فَهَذَا صَرِيحٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَكَانَ صَرِيحًا فِي الطَّلَاقِ مَعَ الْعِوَضِ وَلَا يَكُونُ فَسْخًا.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَعْقِدَاهُ بِكِنَايَاتِ الطَّلَاقِ، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ بَائِنٌ بِأَلْفٍ، أَوْ أَنْتِ خَلِيَّةٌ، أَوْ بَرِيَّةٌ بِأَلْفٍ فَهَذَا كِنَايَةٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَكِنَايَةٌ مَعَ الْعِوَضِ فِي الطَّلَاقِ دُونَ الْفَسْخِ،(10/8)
فَإِنْ أَرَادَ بِهِ الطَّلَاقَ وَقَعَ وَاسْتَحَقَّ بِهِ الْعِوَضَ، وَإِنْ لَمْ يُرِدِ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ وَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعِوَضَ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَعْقِدَاهُ بِلَفْظِ الْخُلْعِ وَالْمُفَادَاةِ كَقَوْلِهِ قَدْ خَالَعْتُكِ بِأَلْفٍ، أَوْ فَادَيْتُكِ بِأَلْفٍ، فَهَاتَانِ اللَّفْظَتَانِ كِنَايَةٌ فِي الطَّلَاقِ إِذَا تَجَرَّدَتْ عَنْ عِوَضٍ فَتَجْرِي مَجْرَى سَائِرِ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ فَأَمَّا مَعَ الْعِوَضِ فَفِيهِمَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْأُمِّ إِنَّهُ كِنَايَةٌ فِي الطَّلَاقِ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ كِنَايَةً فِيهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَانَ كِنَايَةً فِيهِ مَعَ الْعِوَضِ كَسَائِرِ كِنَايَاتِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي سَائِرِ كُتُبِهِ إنَّهُ صَرِيحٌ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ جَاءَ بِهِ كَمَا جَاءَ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ بِالنَّصِّ صَرِيحًا يَخْرُجُ عَنْ حُكْمِ الْكِنَايَاتِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ اقْتِرَانَ الْعِوَضِ بِهِ قَدْ نَفَى عَنْهُ احْتِمَالَ الْكِنَايَاتِ، فَصَارَ بِانْتِفَاءِ الِاحْتِمَالِ عَنْهُ صَرِيحًا، فَعَلَى هَذَا إِذَا كَانَ صَرِيحًا فَهَلْ يَكُونُ طَلَاقًا أَوْ فَسْخًا؟ فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي (الْأُمِّ) و (الإملاء) (وأحكام الْقُرْآنِ) أَنَّهُ صَرِيحٌ فِي الطَّلَاقِ.
وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: الْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ.
وَدَلِيلُهُ قَوْله تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] إِلَى قَوْلِهِ: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حتى تنكح زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] .
فَلَمَّا ذَكَرَ الْخُلْعَ بَيْنَ طَلَاقَيْنِ عُلِمَ أَنَّهُ مُلْحَقٌ بِهِمَا، وَلِأَنَّهُ لَفْظٌ لَا يَمْلِكُهُ غَيْرُ الزَّوْجِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ طَلَاقًا كَالطَّلَاقِ، وَلِأَنَّ الْفَسْخَ مَا كَانَ عَنْ سَبَبٍ مُتَقَدِّمٍ كَالْعُيُوبِ وَالْخُلْعُ يَكُونُ مُبْتَدَأً مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ فَكَانَ طَلَاقًا لِأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ فَسْخًا لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ سَبَبٍ، وَلِأَنَّ الْفَسْخَ يُوجِبُ اسْتِرْجَاعَ الْبَدَلِ كَالْفَسْخِ فِي الْبَيْعِ، فَلَوْ كَانَ الْخُلْعُ فَسْخًا لَمَا جَازَ إِلَّا بِالصَّدَاقِ، وَفِي جَوَازِهِ بِالصَّدَاقِ وَغَيْرِهِ دَلِيلُ خُرُوجِهِ عَنِ الْفَسْخِ وَدُخُولِهِ فِي الطَّلَاقِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ إنَّهُ صَرِيحٌ فِي الْفَسْخِ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ.(10/9)
وَمِنَ التَّابِعِينَ عِكْرِمَةُ وَطَاوُسٌ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ.
وَدَلِيلُهُ قَوْله تَعَالَى: {الطَّلاقُ مرتان} إِلَى قَوْلِهِ: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة 229] ثُمَّ قَالَ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] .
وَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْخُلْعُ طَلَاقًا لَصَارَ مَعَ الطَّلْقَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ ثَلَاثًا، وَحَرُمَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، وَلَمَّا قَالَ بَعْدَهُ: فَإِنْ طَلَّقَهَا يَعْنِي الثَّالِثَةَ فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ لِأَنَّهُ قَدْ طَلَّقَهَا الثَّالِثَةَ، وَصَارَ التَّحْرِيمُ مُتَعَلِّقًا بِأَرْبَعٍ لَا بِثَلَاثٍ.
وَلِأَنَّ الْفُرْقَةَ فِي النِّكَاحِ تَكُونُ بِطَلَاقٍ وَفَسْخٍ، فَلَمَّا كَانَتِ الْفُرْقَةُ بِالطَّلَاقِ تَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ بِعِوَضٍ وَغَيْرِ عِوَضٍ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْفُرْقَةُ بِالْفَسْخِ تَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ بِعِوَضٍ وَغَيْرِ عِوَضٍ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَإِذَا لَحِقَهُ الْفَسْخُ إِجْبَارًا جَازَ أَنْ يَلْحَقَهُ الْفَسْخُ اخْتِيَارًا كَالْبَيْعِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالطَّلَاقِ، أَنَّهُ لَوْ نَكَحَهَا بَعْدَ الْفَسْخِ كَانَتْ مَعَهُ عَلَى ثَلَاثة وَلَوْ نَكَحَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ كانت معه على اثنين، وَلَوْ كَانَ قَدْ طَلَّقَهَا طَلْقَتَيْنِ ثُمَّ فَسَخَ حَلَّتْ لَهُ قَبْلَ زَوْجٍ وَلَوْ طَلَّقَ لَمْ تَحِلَّ لَهُ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ، وَلَوْ فَسَخَ نِكَاحَهَا فِي ثَلَاثَةِ عُقُودٍ حَلَّتْ بِهِ قَبْلَ زَوْجٍ وَلَوْ طَلَّقَهَا فِي ثَلَاثَةِ عُقُودٍ لَمْ تَحِلَّ لَهُ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ فَهَذَا أَصَحُّ مَا عِنْدَنَا مِنْ تَرْتِيبِ الْمَذْهَبِ فِي حُكْمِ الْخُلْعِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ رَتَّبَهُ غَيْرَ هَذَا التَّرْتِيبِ فَجَعَلَ فِي لَفْظِ الْخُلْعِ قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فَسْخٌ وَالثَّانِي أَنَّهُ طَلَاقٌ، وَهَلْ يَكُونُ طَلَاقًا صَرِيحًا أَوْ كِنَايَةً؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ فَسْخٌ وَالثَّانِي طَلَاقٌ صَرِيحٌ وَالثَّالِثُ كِنَايَةٌ في الطلاق.
(مسألة:)
(قال المزني) رَحِمَهُ اللَّهُ: (وَإِذَا كَانَ الْفِرَاقُ عَنْ تَرَاضٍ وَلَا يَكُونُ إِلَّا بِالزَّوْجِ وَالْعَقْدُ صَحِيحٌ لَيْسَ فِي أَصْلِهِ عِلَّةٌ فَالْقِيَاسُ عِنْدِي أَنَّهُ طَلَاقٌ وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا الْفَصْلُ أَوْرَدَهُ الْمُزَنِيُّ مُرِيدًا بِهِ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْخُلْعَ طَلَاقٌ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْخُلْعَ يَصِحُّ عِنْدَ سُلْطَانٍ وَغَيْرِ سُلْطَانٍ إِذَا تَرَاضَيَا بِهِ الزَّوْجَانِ. وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأُمِّ وَلَيْسَ حُضُورُ السُّلْطَانِ وَلَا إِذْنُهُ شَرْطًا فِيه وَهُوَ قَوْلُ(10/10)
جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّ الْخُلْعَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِسُلْطَانٍ احْتِجَاجًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] . وَأَوَّلُ الْكَلَامِ خِطَابٌ لِلْحُكَّامِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ الله} وَآخِرُهُ خِطَابٌ لِلْأَزْوَاجِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {فَلا جُنَاحَ عليهما فيما افتدت به} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ حُضُورَ الْحَاكِمِ شَرْطٌ فِيهِ كَمَا أَنَّ حُضُورَ الْأَزْوَاجِ شَرْطٌ فِيهِ، وَلِأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَوَلَّى الْخُلْعَ بَيْنَ حَبِيبَةَ وَثَابِتٍ وَلَوْ جَازَ لَهُمَا التَّفَرُّدُ بِذَلِكَ لَوَكَلَهُ إِلَيْهِمَا وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نفسا فكلوه هنيئاً مريئاً} فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شِهَابٍ أَنَّ امْرَأَةً خَالَعَتْ زَوْجَهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فأجازه، وخالعت الربيع بنت معوذا بْنِ عَفْرَاءَ زَوْجَهَا بِجَمِيعِ مِلْكِهَا فَأَجَازَهُ عُثْمَانُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا دُونَ عِقَاصِ الرَّأْسِ وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى حُكْمِ حَاكِمٍ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ، وَلِأَنَّهُ تَمَلَّكَ الْبُضْعَ بِالنِّكَاحِ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى حُكْمِ حَاكِمٍ، فَكَذَلِكَ تَمْلِيكُهُ بالخلع أولى أن لا يَفْتَقِرَ إِلَى حُكْمِ حَاكِمٍ لِأَنَّ شُرُوطَ النِّكَاحِ أَغْلَظُ مِنْ شُرُوطِ الْخُلْعِ.
فَأَمَّا قَوْلُهُ {فَإِنْ خفتم ألا يقيما حدود الله} فَهُوَ خِطَابٌ لِلْأَزْوَاجِ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ بِهِ عَلَى قَوْلِهِ: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شيئاً} وَهَذَا خِطَابٌ لِلْأَزْوَاجِ، وَكَذَلِكَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ. وَأَمَّا خُلْعُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَ حَبِيبَةَ وَزَوْجِهَا فَلِأَنَّهُمَا تَخَاصَمَا إِلَيْهِ قَبْلَ الْخُلْعِ، فَصَارَ الْخُلْعُ تَبَعًا لِلتَّخَاصُمِ، وَلِأَنَّ بَيَانَ حُكْمِ الْخُلْعِ شَرْعًا مَأْخُوذٌ عَنْهُ، فَجَازَ أَنْ يَتَوَلَّاهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ حُكَّامِ أُمَّتِهِ.
(مسألة:)
قال الشافعي: (فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا كَانَ طَلَاقًا فَاجْعَلْ لَهُ الرَّجْعَةَ قِيلَ لَهُ لَمَّا أَخَذَ مِنَ الْمُطَلَّقَةِ عِوَضًا وَكَانَ مَنْ مَلَكَ عِوَضَ شَيْءٍ خَرَجَ مِنْ مِلْكِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَجْعَةٌ فِيمَا مَلَكَ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ الْمُخْتَلِعَةُ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ فُرْقَةُ الْخُلْعِ لَا يَمْلِكُ فِيهَا الرَّجْعَةَ وَإِنْ كَانَتِ الْمُخْتَلِعَةُ فِي الْعِدَّةِ سَوَاءٌ خَالَعَهَا بِلَفْظِ الْخُلْعِ أَوْ لَفْظِ الطَّلَاقِ، وَسَوَاءٌ قِيلَ إِنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ أَوْ طَلَاقٌ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَحُكِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالزُّهْرِيِّ أَنَّ الْخُلْعَ يَقْطَعُ الرَّجْعَةَ غَيْرَ أَنَّ الزَّوْجَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِالْمَالِ فَتَسْقُطَ الرَّجْعَةُ وَبَيْنَ أَنْ يَرُدَّ الْمَالَ فَتَثْبُتَ لَهُ الرَّجْعَةُ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: إِنْ خَالَعَهَا بِلَفْظِ الطَّلَاقِ فَلَهُ الرَّجْعَةُ، وَإِنْ خَالَعَهَا بِلَفْظِ الْخُلْعِ فَلَيْسَ لَهُ الرَّجْعَةُ لِأَنَّ الْخُلْعَ عِنْدَهُ فَسْخٌ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْعِتْقَ يُوجِبُ الْوَلَاءَ، كَمَا أَنَّ الطلاق(10/11)
يُوجِبُ الرَّجْعَةَ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ دُخُولَ الْعِوَضِ فِي الْعِتْقِ لَا يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ الْوَلَاءِ كَذَلِكَ ثُبُوتُ الْعِوَضِ فِي الطَّلَاقِ لَا يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ الرَّجْعَةِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جناح عليهما فيما افتدت به} وَالِافْتِدَاءُ هُوَ الْخَلَاصُ وَالِاسْتِنْقَاذُ، مَأْخُوذٌ مِنِ افْتِدَاءِ الأسير وهو خلاصه واستنقاذه، فلو ثبت الرَّجْعَةُ فِيهِ لَمَا حَصَلَ بِهِ الْخَلَاصُ وَالِاسْتِنْقَاذُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِافْتِدَاءَ يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ الرَّجْعَةِ، وَلِأَنَّ الزَّوْجَةَ مَلَكَتْ بُضْعَهَا بِالْخُلْعِ كَمَا مَلَكَ الزَّوْجُ بُضْعَهَا بِالنِّكَاحِ، فَلَمَّا كَانَ الزَّوْجُ قَدْ مَلَكَ بِالنِّكَاحِ بُضْعَهَا مِلْكًا تَامًّا لَا سُلْطَانَ فِيهِ لِلزَّوْجَةِ وَجَبَ أَنْ تَمْلِكَ الزَّوْجَةُ بُضْعَهَا بِالْخُلْعِ مِلْكًا تَامًّا لَا سُلْطَانَ فِيهِ لِلزَّوْجِ وَلِأَنَّ الزَّوْجَ قَدْ مَلَكَ عِوَضَ الْخُلْعِ فِي مُقَابَلَةِ مِلْكِ الزَّوْجَةِ لِلْبُضْعِ فَلَمَّا اسْتَقَرَّ مِلْكُ الزَّوْجِ لِلْعِوَضِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لِلزَّوْجَةِ فِيهِ حَقٌّ وَجَبَ أَنْ يَسْتَقِرَّ مِلْكُ الزَّوْجَةِ للبضع وأن لا يَبْقَى لِلزَّوْجِ فِيهِ حَقٌّ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْعِتْقِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعِتْقَ لَا يَنْفَكُّ مِنْ ثُبُوتِ الْوَلَاءِ فَلِذَلِكَ اسْتَوَى حَالُهُ مَعَ وُجُودِ الْعِوَضِ وَعَدَمِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الطَّلَاقُ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْفَكُّ مِنْ ثُبُوتِ الرَّجْعَةِ.
فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ حَالُهُ فِي وُجُودِ الْعِوَضِ وَعَدَمِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ فِي ثُبُوتِ الْوَلَاءِ مَا يَمْنَعُ مِنْ مَقْصُودِ الْعِتْقِ فِي زَوَالِ الرِّقِّ وَجَوَازِ التَّصَرُّفِ، فَثَبَتَ الْوَلَاءُ مَعَ الْعِوَضِ، كَمَا يَثْبُتُ مَعَ عَدَمِهِ، وَثُبُوتُ الرَّجْعَةِ تَمْنَعُ مِنْ مَقْصُودِ الْخُلْعِ فِي إِسْقَاطِ حَقِّ الزَّوْجَةِ وَإِزَالَةِ ضَرَرِهِ فَلِذَلِكَ لَمْ تَثْبُتِ الرَّجْعَةُ فِيهِ.
وَجَوَابٌ ثالث وهو أن ثبوت الولاء لا تقتضي عَوْدَ الْعَبْدِ إِلَى مِلْكِ السَّيِّدِ، وَالرَّجْعَةَ تَقْتَضِي عَوْدَ الزَّوْجَةِ إِلَى نِكَاحِ الزَّوْجِ فَافْتَرَقَا.
(مَسْأَلَةٌ:)
قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وَإِذَا حَلَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسًا عَلَى غَيْرِ فِرَاقٍ حَلَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسًا وَيَأْخُذَ مَا الْفِرَاقُ بِهِ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الْخُلْعُ يَجُوزُ بِمَا اتَّفَقَ الزَّوْجَانِ عَلَيْهِ مِنَ الْعِوَضِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا سَوَاءٌ كَانَ بِمِثْلِ الْمَهْرِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ وَسَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ أَوْ غَيْرِ جِنْسِهِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمِنَ التَّابِعِينَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَجُوزُ الْخُلْعُ إِلَّا بِالْمَهْرِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالشَّعْبِيُّ وَعَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ.(10/12)
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَاسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229] فَكَانَ ذَلِكَ عَائِدًا إِلَى مَا أعطي مِنَ الْمَهْرِ دُونَ غَيْرِهِ، وَبِمَا رَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ خَوْلَةَ بِنْتَ سَلُولَ أَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَا أَعِيبُ عَلَى ثَابِتٍ خلقًا وَلَا دِينًا وَلَكِنِّي لَا أَسْتَطِيقُهُ وَأَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَقَالَ لِثَابِتٍ: خُذْهَا وَلَا تَزْدَدْ فَمَنَعَهُ مِنَ الزِّيَادَةِ فَدَلَّ عَلَى حَظْرِهَا.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] فَاقْتَضَى رَفْعَ الْجُنَاحِ عَنْ جَمِيعِ مَا افْتَدَتْ بِهِ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، وَلِأَنَّ الرُّبَيِّعَ بِنْتَ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ خَالَعَتْ زَوْجَهَا بِجَمِيعِ مِلْكِهَا فَأَمْضَاهُ عُثْمَانُ وَجَعَلَ لَهُ مَا دُونَ عِقَاصِ الرَّأْسِ، وَلِأَنَّ مَا اسْتُعِيدَ مِنَ الْإِبْدَالِ بِعُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ لَمْ تَتَقَدَّرْ كَالْأَثْمَانِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَقَدَّرْ مَا يَمْتَلِكُهُ مِنْ مَالِهَا هِبَةً فَأَوْلَى أَن لا يَتَقَدَّرَ مَا يَمْتَلِكُهُ مِنْ مَالِهَا خُلْعًا.
فَأَمَّا الْآيَةُ فَأَوَّلهَا تَتَضَمَّنُ النَّهْيَ عَنْ أَخْذِ مَا أَعْطَى، وَآخِرُهَا يَتَضَمَّنُ إِبَاحَةَ أَخْذِ الْفِدَاءِ، فَلَمْ يُخَصَّ خُصُوصُ أَوَّلِهَا فِي النَّهْيِ بِعُمُومِ آخِرِهَا فِي الْإِبَاحَةِ لِأَنَّ النَّهْيَ ضِدُّ الْإِبَاحَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُخَصَّ أَحَدهُمَا بِالْآخَرِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ خُلْعِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَ خَوْلَةَ وَزَوْجِهَا بِالْمَهْرِ الَّذِي أَعْطَاهَا فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِهِ بِالْمَهْرِ وَلَا يَمْنَعُ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ كَمَا لَا يَمْنَعُ مِنَ النُّقْصَانِ مِنْهُ، لِأَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يَطْلُبْ زِيَادَةً كَمَا لم تطلب الزوجة نقصاناً.
(مسألة:)
قال الشافعي فِي كِتَابِ الْإِمْلَاءِ عَلَى مَسَائِلِ مَالِكٍ: وَلَوْ خَلَعَهَا تَطْلِيقَةً بِدِينَارٍ عَلَى أَنَّ لَهُ الرَّجْعَةَ فَالطَّلَاقُ لَازِمٌ لَهُ وَلَهُ الرَّجْعَةُ وَالدِّينَارُ مَرْدُودٌ وَلَا يَمْلِكُهُ وَالرَّجْعَةُ مَعًا وَلَا أُجِيزُ عَلَيْهِ مِنَ الطَّلَاقِ إِلَّا مَا أَوْقَعَهُ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رحمه الله ليس هذا قياس أصله لأنه يجعل النكاح والخلع بالبدل المجهول والشرط الفاسد سواء ويجعل لها في النكاح مهر مثلها وله عليها في الخلع مهر مثلها ومن قوله لو خلعها بمائة على أنها متى طلبتها فهي لها وله الرجعة عليها أن الخلع ثابت والشرط والمال باطل وعليها مهر مثلها (قال المزني) رحمه الله ومن قوله لو خلع محجوراً عليها بمال إن المال يبطل وله الرجعة وإن أراد يكون بائناً كما لو طلقها تطليقة بائنا لم تكن بائنا وكان له الرجعة (قال المزني) رحمه الله تعالى وكذلك إذا طلقها بدينار على أن له الرجعة لا يبطله الشرط) .(10/13)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَمُقَدِّمَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْخُلْعَ مَا اسْتُحِقَّ فِيهِ الْعِوَضُ، وَسَقَطَتْ فِيهِ الرَّجْعَةُ وَأَنَّ الْخُلْعَ يَتِمُّ بِالْعِوَضِ الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ وَالْمَعْلُومِ وَالْمَجْهُولِ لَكِنْ إِنْ كَانَ الْعِوَضُ صَحِيحًا كَانَ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ هُوَ الْمُسْتَحَقَّ وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا فَالْمُسْتَحَقُّ فِيهِ مَهْرُ الْمِثْلِ فَامْتَنَعَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنْ يَجْتَمِعَ فِي الْفُرْقَةِ بِالْخُلْعِ اسْتِحْقَاقُ الْعِوَضِ وَثُبُوتُ الرَّجْعَةِ، فَإِنِ اسْتُحِقَّ الْعِوَضُ سَقَطَتِ الرَّجْعَةُ وَإِنِ اسْتُحِقَّتِ الرَّجْعَةُ سَقَطَ الْعِوَضُ.
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلٍ خَالَعَ امْرَأَتَهُ عَلَى طَلْقَةٍ بِدِينَارٍ عَلَى أَنَّ لَهُ الرَّجْعَةَ فَشَرَطَ لِنَفْسِهِ الدِّينَارَ وَالرَّجْعَةَ وَاجْتِمَاعُهُمَا متنافيات وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَلَا بُدَّ مِنْ إِثْبَاتِ أَحَدِهِمَا وَإِسْقَاطِ الْأُخْرَى فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ ثُبُوتُ الرَّجْعَةِ وَسُقُوطُ الدِّينَارِ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا وَلَا شَيْءَ لَهُ.
وَقَالَ الْمُزَنِيُّ يَقَعُ الطَّلَاقُ بَائِنًا لَا رَجْعَةَ فِيهِ، وَيَكُونُ لِلزَّوْجِ مَهْرُ الْمِثْلِ، فَاخْتَارَ ذَلِكَ مَذْهَبًا لِنَفْسِهِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ قِيَاسُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ. وَنَقَلَ الرَّبِيعُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَنَقَلَ جَوَابَهَا، كَمَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ رَجْعِيًّا وَلَا شَيْءَ لِلزَّوْجِ، ثُمَّ قَالَ: وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ إنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بَائِنًا وَيَكُونُ لِلزَّوْجِ مَهْرُ الْمِثْلِ فَحَكَى قَوْلًا ثَانِيًا كَالَّذِي اخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ.
فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَخْرِيجِهِ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ قَوْلٌ ثَانٍ لِلشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الرَّبِيعَ ثِقَةٌ فِيمَا يَرْوِيهِ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: لَيْسَ بِقَوْلٍ لِلشَّافِعِيِّ وَإِنَّمَا خَرَّجَهُ الرَّبِيعُ احتمالاً، ولم يحكيه نَقْلًا، فَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ إِلَّا الْقَوْلُ الَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ عَنْهُ، وَوَافَقَهُ الرَّبِيعُ عَلَيْهِ إنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ رَجْعِيًّا وَلَا شَيْءَ لِلزَّوْجِ، وَالدِّينَارُ مَرْدُودٌ عَلَى الزَّوْجَةِ.
فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ لِصِحَّةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ بَائِنًا وَاسْتِحْقَاقِ مَهْرِ الْمِثْلِ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْخُلْعَ فِي مُقَابَلَةِ النِّكَاحِ، لِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ وَالْخُلْعَ حَلٌّ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ فِي النِّكَاحِ يُوجِبُ ثُبُوتَ النِّكَاحِ وَسُقُوطَ الشَّرْطِ وَوُجُوبَ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ الْفَاسِدُ فِي الْخُلْعِ مُوجِبًا لِثُبُوتِ الْخُلْعِ وَسُقُوطِ الشَّرْطِ وَاسْتِحْقَاقِ مَهْرِ الْمِثْلِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَا أَثْبَتَ الرَّجْعَةَ مِنَ الطَّلَاقِ لَوْ شُرِطَ سُقُوطُهَا فِيهِ لَمْ يَسْقُطْ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا انْتَفَتْ عَنْهُ الرَّجْعَةُ مِنَ الطَّلَاقِ إِذَا شُرِطَ ثُبُوتُهَا فِيهَا لَمْ تَثْبُتْ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ قَالَ نَصًّا فِي الْإِمْلَاءِ، لَوْ خَالَعَهَا عَلَى طَلْقَةٍ بِمِائَةٍ عَلَى أَنَّهَا مَتَى شَاءَتْ أَخَذَتِ الْمِائَةَ وَرَاجَعَهَا وَقَعَ الطَّلَاقُ بَائِنًا لَا رَجْعَةَ فِيهِ، وَكَانَ لَهُ مَهْرُ الْمِثْلِ كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا لِاتِّفَاقِهِمَا فِي الشَّرْطِ.(10/14)
وَالرَّابِعُ: أنْ قَالَ الِاعْتِبَارُ فِي الْخُلْعِ بِالرُّشْدِ لِأَنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهَا لَا يَصِحُّ خُلْعُهَا فِي الْأَحْوَالِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ خُلْعُ مَنْ لَا حَجْرَ عَلَيْهَا صَحِيحًا فِي الْأَحْوَالِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِ الرَّجْعَةِ وَسُقُوطِ الْعِوَضِ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَمَّا تَنَافَى ثُبُوتُ الرَّجْعَةِ وَاسْتِحْقَاقُ الْعِوَضِ وَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ ثُبُوتِ أَحَدِهِمَا وَإِسْقَاطِ الْآخَرِ كَانَ ثُبُوتُ الرَّجْعَةِ وَسُقُوطُ الْعِوَضِ أَوْلَى مِنْ ثُبُوتِ الْعِوَضِ وَسُقُوطِ الرَّجْعَةِ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ تَثْبُتُ بِغَيْرِ شَرْطٍ وَالْعِوَضَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِشَرْطٍ وَمَا ثَبَتَ بِغَيْرِ شَرْطٍ أَقْوَى مِمَّا لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِشَرْطٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّ فِي إِثْبَاتِ الرَّجْعَةِ وَإِسْقَاطِ الْعِوَضِ تَصْحِيحًا لِأَحَدِ الشَّرْطَيْنِ وإبطالاً للآخر وفيما قال المزني إبطالاً لِلشَّرْطَيْنِ مِنَ الرَّجْعَةِ وَالْعِوَضِ الْمُسَمَّى وَإِثْبَاتٌ لِثَالِثٍ لَمْ يَتَضَمَّنْهُ الشَّرْطُ وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ فَكَانَ ما أثبت أحد الشرطين أولى ما تفاهما وَأَثْبَتَ غَيْرَهُمَا.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا تَعَارَضَ الشَّرْطَانِ وتنافا اجْتِمَاعُهُمَا وَلَمْ يَكُنْ إِثْبَاتُ أَحَدِهِمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ وَجَبَ إِسْقَاطُهُمَا وَاعْتِبَارُ طَلَاقٍ لَا شَرْطَ فِيهِ وَذَلِكَ مُوجِبُ الرَّجْعَةِ فَلِذَلِكَ ثَبَتَتِ الرَّجْعَةُ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّ الِاعْتِيَاضَ عَلَى زَوَالِ الْمِلْكِ يَكُونُ مَقْصُورًا عَلَى مَا قَصَدَ زَوَالَهُ مِنَ الْمِلْكِ اعْتِبَارًا بِالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ لَا يَدْخُلُ فِيهِمَا إِلَّا الْمُسَمَّى وَالزَّوْجُ لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنِ الْبُضْعِ إِلَّا مَعَ اسْتِيفَاءِ الرَّجْعَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَزُولَ مِلْكُهُ عَنِ الرَّجْعَةِ فَأَمَّا اسْتِدْلَالُ الْمُزَنِيِّ الْأَوَّلُ بِالنِّكَاحِ فَهُوَ دَلِيلُنَا، لِأَنَّ فَسَادَ الشَّرْطِ فِي النِّكَاحِ إِذَا عَادَ إِلَى الْعِوَضِ لَمْ يَفْسُدِ النِّكَاحُ، كَذَلِكَ الْخُلْعُ إِذَا عَادَ فَسَادُ الشَّرْطِ إِلَى الْعِوَضِ لَمْ يَفْسُدِ الْخُلْعُ، وَفَسَادُ الشَّرْطِ فِي النِّكَاحِ إِذَا عَادَ إِلَى الْبُضْعِ كالشعار وَالْخِيَارِ أَوْجَبَ فَسَادَ النِّكَاحِ، كَذَلِكَ فِي الْخُلْعِ إِذَا عَادَ فَسَادُ الشَّرْطِ فِيهِ إِلَى الْبُضْعِ أَوْجَبَ فَسَادَ الْخُلْعِ.
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ الثَّانِي بِأَنَّ مَا ثَبَتَ فِيهِ الرَّجْعَةُ لَمْ يَسْقُطْ بِالشَّرْطِ كَذَلِكَ، فَأُسْقِطَتْ فِيهِ الرَّجْعَةُ لَمْ تَثْبُتْ بِالشَّرْطِ فَهُوَ إِلْزَامُ الْعَكْسِ، وَهَذَا لَا يَلْزَمُ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْمَوْضِعَيْنِ بَقَاءُ الرَّجْعَةِ بَعْدَ النِّكَاحِ.
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ الثَّالِثُ بِمَسْأَلَةِ الْإِمْلَاءِ، فَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَنْقُلُ جَوَابَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى، وَيُخْرِجُهَا عَلَى قَوْلَيْنِ، وَفَرَّقَ سَائِرُهُمْ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ بِأَنَّهُ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ لَمْ يُمَلِّكْهَا نَفْسَهَا لِاشْتِرَاطِ الرَّجْعَةِ فِي الْحَالِ، فَلِذَلِكَ ثَبَتَ حُكْمُهَا، وَبَطَلَ الْعِوَضُ.(10/15)
وَفِي مَسْأَلَةِ الْإِمْلَاءِ قَدْ مَلَّكَهَا نَفْسَهَا بِسُقُوطِ الرَّجْعَةِ، وَإِنَّمَا شَرَطَ حُدُوثَ خِيَارٍ لَهَا فِي ثُبُوتِ الرَّجْعَةِ فَلِذَلِكَ ثَبَتَ حُكْمُ الْعِوَضِ وَبَطَلَتِ الرَّجْعَةُ.
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ الرَّابِعُ بِالْمَحْجُورِ عَلَيْهَا فَهُوَ أو هي اسْتِدْلَالٍ ذَكَرَهُ وَلَيْسَ إِذَا فَسَدَ عَقْدُ الْمَحْجُورِ عليه في الأحوال ما أوجب أن لا يَصِحَّ عَقْدُ غَيْرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ فِي الْأَحْوَالِ كَالْبُيُوعِ وَسَائِرِ الْعُقُودِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ:)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وَلَا يَلْحَقُ الْمُخْتَلِعَةَ طَلَاقٌ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عباس وابن الزبير وقال بعض الناس يلحقها الطلاق في العدة واحتج ببعض التابعين واحتج الشافعي عليه من القرآن والإجماع بما يدل على أن الطلاق لا يلحقها بما ذكر الله بين الزوجين من اللعان والظهار والإيلاء والميراث والعدة بوفاة الزوج فدلت خمس آيات من كتاب الله تعالى على أنها ليست بزوجة وإنما جعل الله الطلاق يقع على الزوجة فخالف القرآن والأثر والقياس ثم قوله في ذلك متناقض فزعم إن قال لها أنت خلية أو برية أو بتة ينوي الطلاق أنه لا يلحقها طلاق فإن قال كل امرأة لي طالق لا ينويها ولا غيرها طلق نساؤه دونها ولو قال لها أنت طالق طلقت فكيف يطلق غير امرأته) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا خَالَعَ زَوْجَتَهُ عَلَى طَلْقَةٍ أَوْ طَلْقَتَيْنِ وَبَقِيَتْ عَلَى وَاحِدَةٍ أَوِ اثْنَتَيْنِ ثُمَّ طَلَّقَهَا فِي الْعِدَّةِ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ سَوَاءً طَلَّقَهَا بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ أَوْ بِكِنَايَتِهِ وَسَوَاءً عَجَّلَ ذَلِكَ فِي الْعِدَّةِ أَوْ بَعْدَ الْعِدَّةِ.
وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ.
وَمِنَ التَّابِعَيْنِ: عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ طَلَّقَهَا فِي الْعِدَّةِ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ وَقَعَ طَلَاقُهُ وَإِنْ طَلَّقَهَا بِكِنَايَةِ الطَّلَاقِ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ بَائِنٌ أَوْ حَرَامٌ أَوْ عَلَى صِفَةٍ كَقَوْلِهِ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَخَلَتْهَا، أَوْ قَالَ: كُلُّ نِسَائِي طَوَالِق، لَمْ تُطَلَّقْ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ طَلَّقَهَا عَقِيبَ خُلْعِهِ حَتَّى اتَّصَلَ طَلَاقُهُ بِخُلْعِهِ طُلِّقَتْ وَإِنِ انْفَصَلَ عَنْ خُلْعِهِ لَمْ تُطَلَّقْ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنْ طَلَّقَهَا فِي مَجْلِسِ خُلْعِهِ طُلِّقَتْ وَإِنْ طَلَّقَهَا فِي غَيْرِهِ لَمْ تُطَلَّقْ وَاسْتَدَلَّ مِنْ نَصِّ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ} إلى(10/16)
قوله: {فإن طلقها فلا جناح عليهما فيما افتدت به} يُرِيدُ الْخُلْعَ ثُمَّ قَالَ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ بَعْدَ الْخُلْعِ وَاقِعٌ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنْ طَلَّقَهَا فِي مَجْلِسِ خُلْعِهِ طُلِّقَتْ، وَإِنْ طَلَّقَهَا فِي غَيْرِهِ لَمْ تُطَلَّقْ. وَاسْتَدَلَّ مِنْ نَصِّ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ} [البقرة: 229] إلى قوله: {فإن طلقها فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] يُرِيدُ الْخُلْعَ، ثُمَّ قَالَ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ بَعْدَ الْخُلْعِ وَاقِعٌ.
وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ فِي أَمَالِيهِ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: الْمُخْتَلِعَةُ يَلْحَقُهَا الطَّلَاقُ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ، وَلِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ مِنْ طَلَاقٍ فَوَجَبَ أَنْ يَلْحَقَهَا مَا بَقِيَ مِنْ عَدَدِ الطَّلَاقِ كالرجعية، ولأن الطلاق كالعتق لسراينهما، وَجَوَازِ أَخْذِ الْعِوَضِ عَلَيْهِمَا، وَالْخُلْعَ كَالْكِتَابَةِ لِثُبُوتِ الْعِوَضِ فِيهِمَا، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْمُكَاتَبَ إِذَا أُعْتِقَ صَحَّ عِتْقُهُ لِبَقَايَا أَحْكَامِ الْمِلْكِ، وَجَبَ إِذَا طُلِّقَتِ الْمُخْتَلِعَةُ أَنْ يَصِحَّ طَلَاقُهَا لِبَقَايَا أَحْكَامِ النِّكَاحِ.
وَلِأَنَّ الْمُخْتَلِعَةَ كَالْمُتَظَاهَرِ مِنْهَا لِتَحْرِيمِهَا، وَبَقَايَا أَحْكَامِ نِكَاحِهَا، فَلَمَّا صَحَّ طَلَاقُ الْمُتَظَاهَرِ مِنْهَا وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ طَلَاقُ الْمُخْتَلِعَةِ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] فَجَعَلَ التَّسْرِيحَ لِمَنْ لَهُ الْإِمْسَاكُ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِزَوْجِ الْمُخْتَلِعَةِ إِمْسَاكُهَا، لَمْ يَكُنْ بِهِ تَسْرِيحُهَا وَطَلَاقُهَا وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ لِأَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَلَيْسَ لَهُمَا مُخَالِفٌ، وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ إِذَا لَمْ يَرْفَعْ نِكَاحًا وَلَمْ يُسْقِطْ رَجْعَةً كَانَ مُطَّرِحًا كَالْمُطَلَّقَةِ بعدة الْعِدَّةِ، وَلِأَنَّهَا امْرَأَةٌ لَا تَحِلُّ لَهُ إِلَّا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ فَلَمْ يَلْحَقْهَا طَلَاقُهُ كَالْأَجْنَبِيَّةِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْأَجْنَبِيَّةُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ، فَلَمْ يَلْحَقْهَا الطَّلَاقُ، وَالْمُخْتَلِعَةُ يَجْرِي عَلَيْهَا مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ وُجُوبُ الْعِدَّةِ وَاسْتِحْقَاقُ السُّكْنَى وَلُحُوقُ النَّسَبِ فَجَازَ أَنْ يَلْحَقَهَا الطَّلَاقُ.
فَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ وُجُوبَ الْعِدَّةِ وَلُحُوقَ النَّسَبِ مِنْ أَحْكَامِ الْوَطْءِ دُونَ النِّكَاحِ.
أَلَا تَرَى لَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ تَعْتَدَّ، وَلَوْ طَلَّقَهَا عَقِبَ نِكَاحِهِ، فَقَالَ: قَدْ قَبِلْتُ نِكَاحَهَا هِيَ طَالِقٌ لَمْ يُلْحَقْ بِهِ الْوَلَدُ، وَلَوْ وَطِئَهَا بِشُبْهَةٍ مِنْ غَيْرِ نِكَاحٍ وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَلُحِقَ بِهِ الْوَلَدُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ العدة ولحوق النسب من أحكام الوطء دون النِّكَاحِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الطَّلَاقُ، لِأَنَّهُ مِنْ أَحْكَامِ النكاح دون الوطء.(10/17)
وأما السكنى فسكنى الْمُعْتَدَّةِ مُسْتَحَقٌّ بِالطَّلَاقِ دُونَ النِّكَاحِ، لِأَنَّ سُكْنَى النكاح مخالف لسكنى الطَّلَاقِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ سُكْنَى النِّكَاحِ يَسْقُطُ بِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى تَرْكِهِ، وَسُكْنَى الطَّلَاقِ لَا يسقط وإن اتفق عَلَى تَرْكِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ سُكْنَى النِّكَاحِ يَكُونُ حَيْثُ شَاءَ الزَّوْجُ، وَسَكَنَ الطَّلَاقِ مُسْتَحَقٌّ فِي الْمَنْزِلِ الَّذِي طُلِّقَتْ فِيهِ فَافْتَرَقَا.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ الْمُخْتَلِعَةَ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهَا مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ شَيْءٌ وَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ، وَلَوْ كَانَ وُجُوبُ الْعِدَّةِ مُوجِبًا لِبَقَاءِ النِّكَاحِ وَوُقُوعِ الطَّلَاقِ، لَوَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا إِذَا اعْتَدَّتْ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ أَوْ مِنَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، وَلَكَ أَنْ تُحَرِّرَ هَذَا الِانْفِصَالَ قِيَاسًا ثَانِيًا فَتَقُولُ: كُلُّ تَصَرُّفٍ اسْتَفَادَ بِعَقْدِ النِّكَاحِ يَجِبُ أَنْ يَزُولَ بِزَوَالِ النِّكَاحِ كَالْإِيلَاءِ وَالظِّهَارِ وَاللِّعَانِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَالْإِيلَاءُ يَصِحُّ مِنْهَا وَتَضْرِبُ لَهُ الْمُدَّةَ إِذَا تَزَوَّجَهَا، قِيلَ فَكَذَلِكَ الْأَجْنَبِيَّةُ عِنْدَكُمْ، وَيَكُونُ يَمِينًا يَصِيرُ بِالنِّكَاحِ الْمُسْتَجَدِّ إِيلَاءً وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ إِيلَاءَ زَوْجَتِهِ لَضَرَبَتْ لَهُ الْمُدَّةَ وَطُولِبَ بَعْدَ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ بِالْبَيِّنَةِ أَوِ الطَّلَاقِ كَمَا يُطَالَبُ بِهِ فِي الزَّوْجِيَّةِ فَبَطَلَ مَا قَالُوهُ مِنْ صِحَّةِ الْإِيلَاءِ مِنْهَا، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَا يَمْلِكُ عَلَيْهَا الطَّلَاقَ بِبَدَلٍ لَا يَمْلِكُ عَلَيْهَا الطَّلَاقَ بِغَيْرِ بَدَلٍ كَالْأَجْنَبِيَّاتِ طَرْدًا وَالزَّوْجَاتِ عَكْسًا.
فَإِنْ نُوقِضَ بِالْمَجْنُونَةِ يَصِحُّ طَلَاقُهَا بِغَيْرِ بدل، ولا يصح ببدل لم يصح النقص، لِأَنَّ الْمَجْنُونَةَ لَا يَصِحُّ طَلَاقُ الْخُلْعِ مَعَهَا، وَيَصِحُّ مَعَ وَلِيِّهَا، وَمَعَ أَجْنَبِيٍّ مِنْهَا فَصَارَ طَلَاقُهَا بِالْبَدَلِ صَحِيحًا، وَلِأَنَّ مَنْ لَا يَلْحَقُهَا مَكْنِيُّ الطَّلَاقِ لَمْ يَلْحَقْهَا صَرِيحُهُ، كَالْأَجْنَبِيَّةِ طَرْدًا، وَالزَّوْجَةِ عَكْسًا.
فَإِنْ قِيلَ: فَالْكِنَايَةُ أَضْعَفُ مِنَ الصَّرِيحِ فَلَمْ يَلْحَقْهَا كِنَايَةُ طَلَاقٍ لِضَعْفِهِ وَلَحِقَهَا صَرِيحُهُ لِقُوَّتِهِ. قِيلَ: الْكِنَايَةُ مَعَ النِّيَّةِ كَالصَّرِيحِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ. فَاسْتَوَيَا فِي الْقُوَّةِ، وَلِأَنَّ مَا أَفَادَ الْفُرْقَةَ فِي الزَّوْجَةِ لَمْ يُفْسِدْهُ فِي الْمُخْتَلِعَةِ كَالْكِنَايَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: نِكَاحُ الْمُخْتَلِعَةِ أَضْعَفُ من نكاح الزوجة، فإذا دخل عليها ضعف الْكِنَايَة لَمْ يَعْمَلْ فِيهَا، وَإِنْ عَمِلَ فِي الزَّوْجَةِ، قِيلَ: عَكْسُ هَذَا أَلْزَمُ لِأَنَّهُ إِذَا عَمِلَ أَضْعَفَ، وَأَضْعَفُ الطَّلَاقَيْنِ فِي أَقْوَى النِّكَاحَيْنِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَعْمَلَ فِي أَضْعَفِهِمَا.
فَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ بِالْآيَةِ فَلَا دَلِيلَ لَهُمْ فِيهَا، لِأَنَّهُ قال: (الطلاق مرتان) فَجَوَّزَ بَعْدَ الثَّانِيَةِ الْخُلْعَ أَوِ الطَّلَاقَ، وَلَمْ يُجَوِّزْ بَعْدَ الْخُلْعِ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهَا دَلِيلٌ. وَأَمَّا الْخَبَرُ فَضَعِيفٌ(10/18)
لِأَنَّهُ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَإِنَّمَا رَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ فِي أَمَالِيهِ مِنْ غَيْرِ إِسْنَادٍ رَفَعَهُ فِيهِ وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَقَدْ كَانَ الشَّافِعِيُّ إِذَا ذُكِرَ لَهُ حَدِيثٌ لَا يَعْرِفُهُ قَالَ: ثَبِّتْهُ لِي حَتَّى أَصِيرَ إِلَيْهِ.
عَلَى أَنَّنَا نَتَنَاوَلُ قَوْلَهُ الْمُخْتَلِعَةُ يَلْحَقُهَا الطَّلَاقُ بِأَحَدِ تَأْوِيلَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ طَلَاقٌ وَلَيْسَ بِفَسْخٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْخُلْعِ بِغَيْرِ بَدَلٍ إِذَا اقْتَرَنَ بِهِ النِّيَّةُ كَانَ طَلَاقًا.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الرَّجْعِيَّةِ فَتِلْكَ زَوْجَةٌ لِأَنَّهُمَا يَتَوَارَثَانِ، وَتَحِلُّ لَهُ بِغَيْرِ نِكَاحٍ، وَيَلْحَقُهَا ظِهَارُهُ وإيلاءه وَلِعَانُهُ وَيَصِحُّ طَلَاقُهَا بِالْكِنَايَةِ وَعَلَى بَدَلٍ، فَجَازَ أَنْ يَلْحَقَهَا صَرِيحُ الطَّلَاقِ بِغَيْرِ بَدَلٍ، وَالْمُخْتَلِعَةُ كَالْأَجْنَبِيَّةِ فِي إِنْفَاءِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ عَنْهَا كَذَلِكَ فِي إِنْفَاءِ الطَّلَاقِ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْمُكَاتَبِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ عِتْقَ الْمُكَاتَبِ إِبْرَاءٌ وَتَحْرِيرُ الْعِتْقِ يَكُونُ بِالْعَقْدِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُخْتَلِعَةُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ بَقَاءَ الْمَالِ عَلَى الْمُكَاتَبِ كبقاء الرجعة على المطلقة. لأن يُعْتَقُ بِالصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ، وَلَوْ قَالَ كُلُّ عَبِيدِي أَحْرَارٌ دَخَلَ فِي جُمْلَتِهِمْ، فَكَذَلِكَ جَازَ أَنْ يَلْحَقَ الْمُكَاتَبَ الْعِتْقُ كَمَا يَلْحَقُ الرَّجْعِيَّةَ الطَّلَاقُ بِالصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ وَتَدْخُلُ فِي جُمْلَةِ نِسَائِهِ إِنْ طَلَّقَهُنَّ. وَلَا يَلْحَقُ الْمُخْتَلِعَةَ الطَّلَاقُ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ رَجْعَتَهَا وَلَا يَلْحَقُهَا كِنَايَةُ الطَّلَاقِ وَلَا تُطَلَّقُ لَوْ قَالَ كُلُّ نِسَائِي طَوَالِقُ، فَكَانَ إِلْحَاقُ الْمُكَاتَبِ بِالرَّجْعِيَّةِ فِي الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا، أَوْلَى مِنْ إِلْحَاقِهِ بِالْمُخْتَلِعَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ:)
إِذَا قَالَتِ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا: طَلِّقْنِي وَاحِدَةً بِأَلْفٍ، فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَطَالِقٌ ثَانِيَةً وَطَالِقٌ ثَالِثَةً. فَإِنْ أَرَادَ بِالْعِوَضِ الطَّلْقَةَ الْأُولَى لَمْ تَقَعِ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ لِأَنَّهَا مُخْتَلِعَةٌ بِالْأُولَى فَبَانَتْ بِهَا، وَإِنْ أَرَادَ بِالْعِوَضِ الثَّانِيَةَ طُلِّقَتِ الْأَوْلَى وَالثَّانِيَةَ وَلَمْ تَقَعِ الثَّالِثَةُ، وَإِنْ أَرَادَ بِالْعِوَضِ الثَّالِثَةَ طُلِّقَتْ ثَلَاثًا لِأَنَّ الْخُلْعَ كَانَ بِالثَّالِثَةِ فَوَقَعَ مَا تَقَدَّمَهَا مِنَ الطَّلْقَتَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(10/19)
(بَابُ مَا يَقَعُ وَمَا لَا يَقَعُ عَلَى امْرَأَتِهِ مِنَ الطَّلَاقِ وَمِنْ إِبَاحَةِ الطَّلَاقِ وَمِمَّا سمعت منه لفظاً)
قال الشافعي رحمه الله: (ولو قال لها أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فِي كُلِّ سَنَةٍ وَاحِدَةً فَوَقَعَتْ عَلَيْهَا تَطْلِيَقَةٌ ثَمَّ نَكَحَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَجَاءَتْ سَنَةٌ وَهِيَ تَحْتَهُ لَمْ يَقَعْ بِهَا طَلَاقٌ لِأَنَّهَا قَدْ خَلَتْ مِنْهُ وَصَارَتْ فِي حَالٍ لَوْ أَوْقَعَ عَلَيَهَا الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ وَإِنَمَا صَارَتْ عِنْدَهُ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ فَلَا يَقَعُ فِيهِ طَلَاقُ نِكَاحٍ غَيْرِهِ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا أَشْبَهُ بِأَصْلِهِ مِنْ قَوْلِهِ تُطَلَّقُ كُلَّمَا جَاءَتْ سَنَةٌ وَهِيَ تَحْتَهُ طُلِّقَتْ حتى ينقضي طلاق ذلك الملك (قال المزني) رحمه الله ولا يخلو قوله أنت طالق في كل سنة من أحد ثلاثة معان إما أن يريد في هذا النكاح الذي عقدت فيه الطلاق فقد بطل وحدث غيره فكيف يلزمه وإما أن يريد في غير ملكي فهذا لا يذهب إليه أحد يعقل وليس بشيء وإما أن يريد في نكاح يحدث فقوله لا طلاق قبل النكاح فهذا طلاق قبل النكاح. فتفهم يرحمك الله) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ مُعَجَّلًا وَمُؤَجَّلًا وَعَلَى صِفَةٍ فَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فِي كُلِّ سَنَةٍ وَاحِدَةً، فَقَدْ قَرَنَ مَا مَلَكَهُ مِنَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ جَعَلَهَا أَجَلًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فِيهَا فَيَكُونُ ابْتِدَاءُ الْأَجَلِ مِنْ وَقْتِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ تُخَالِفُ مُطْلَقَ لَفْظِهِ، لأن الآجال إذا أطلقت تعيين ابْتِدَاؤُهَا مِنْ وَقْتِ إِطْلَاقِهَا كَآجَالِ الْأَثْمَانِ وَالْأَيْمَانِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَوَّلُ السَّنَةِ الْأُولَى مِنْ وَقْتِ عَقْدِهِ لِلطَّلَاقِ فَإِذَا مَضَى مِنْهَا بَعْدَ عَقْدِهِ جُزْءٌ وَإِنْ قَلَّ طُلِّقَتْ وَاحِدَةً لِوُجُودِ الصِّفَةِ بِدُخُولِ السَّنَةِ، كَقَوْلِهِ: إِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِذَا دَخَلَتْ أَوَّلَ جُزْءِ الدَّارِ طُلِّقَتْ، وَلَا يَقَعُ عَلَيْهَا فِي السَّنَةِ الْأُولَى إِلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ.
وَقَالَ مَالِكٌ: تُطَلَّقُ ثَلَاثًا فِي وَقْتِهِ، لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ فِي وَقْتِهِ مُعَجَّلًا وَلَا يَتَأَجَّلُ وَالْكَلَامُ مَعَهُ يَأْتِي.
وَعِنْدَنَا أَنَّهَا لَا تُطَلَّقُ فِي الْمُؤَجَّلِ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ وَتُطَلَّقُ بَعْدَ أَوَّلِ جُزْءٍ مِنَ السَّنَةِ الْأُولَى طَلْقَةً وَاحِدَةً، وَبَعْدَ أَوَّلِ جُزْءٍ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ طَلْقَةً ثَانِيَةً لِدُخُولِ الْأَجَلِ الثَّانِي الَّذِي(10/20)
قَدْ صَارَ صِفَةً لِلطَّلْقَةِ الثَّانِيَةِ، وَيُطَلَّقُ بَعْدَ أَوَّلِ جُزْءٍ مِنَ السَّنَةِ الثَّالِثَةِ طَلْقَةً ثَالِثَةً لِدُخُولِ الْأَجَلِ الثَّالِثِ الَّذِي قَدْ صَارَ صِفَةً لِلطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُهَا بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلْقَةِ الْأُولَى عَلَيْهَا بَعْدَ أَوَّلِ جُزْءٍ مِنَ السَّنَةِ الْأُولَى عِنْه دُخُول السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَالسَّنَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ زَوْجَةً بِعَقْدِ نِكَاحِهِ هَذَا.
وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ بَائِنًا مِنْهُ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ بِعَقْدِ نِكَاحٍ جَدِيدٍ.
فَإِنْ دَخَلَتِ السَّنَةُ الثَّانِيَةُ وَالسَّنَةُ الثَّالِثَةُ وَهِيَ زَوْجَةٌ بِعَقْدِ نِكَاحِهِ هَذَا، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُرَاجِعَهَا بَعْدَ الطَّلْقَةِ الْأُولَى فَتُطَلَّقُ بَعْدَ أَوَّلِ جُزْءٍ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ طَلْقَةً ثَانِيَةً ثُمَّ يُرَاجِعُهَا فَتُطَلَّقُ بَعْدَ أَوَّلِ جُزْءٍ مِنَ السَّنَةِ الثَّالِثَةِ طَلْقَةً ثَالِثَةً فَيَقَعُ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ فِي السِّنِينَ الثَّلَاثِ، لِأَنَّ الرَّجْعَةَ تَرْفَعُ حَالَ الْعَقْدِ وَتَرْفَعُ تَحْرِيمَ الطَّلَاقِ فَيَصِيرُ عَقْدُ الطَّلَاقِ وَوُجُودُ الصِّفَةِ فِي نِكَاحٍ وَاحِدٍ فلذلك وقع فهذا وجه.
والوجه الثاني: أن لا يُرَاجِعَهَا بَعْدَ الطَّلْقَةِ الْأُولَى، وَلَكِنْ تَطُولُ بِهَا الْعِدَّةُ حَتَّى تَدْخُلَ السَّنَةُ الثَّانِيَةُ فَتُطَلَّقُ بِأَوَّلِ جُزْءٍ مِنْهَا الطَّلْقَةَ الثَّانِيَةَ، لِأَنَّ الْمُعْتَدَّةَ مِنَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ زَوْجَةٌ يَلْحَقُهَا الطَّلَاقُ وَالظِّهَارُ وَالْإِيلَاءُ لأنهما يتوارثان فيهما بالزوجية وإن حرم استمتاعه بِهَا كَمَا يَحْرُمُ فِي الْإِحْرَامِ وَبِالظِّهَارِ.
(فَصْلٌ:)
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ تَدْخُلَ السَّنَةُ الثَّانِيَةُ وَالسَّنَةُ الثَّالِثَةُ وَهِيَ بَائِنٌ مِنْهُ وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ طَلَّقَهَا فِي السَّنَةِ الْأُولَى بَعْدَ الطَّلْقَةِ الْأُولَى طَلْقَتَيْنِ فَاسْتَكْمَلَ طَلَاقَهَا ثَلَاثًا فَلَا تُطَلَّقُ بِدُخُولِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ وَإِنْ كَانَتْ فِي عِدَّتِهَا لِاسْتِيفَاءِ مَا مَلَكَهُ مِنْ طَلَاقِهَا.
وَإِمَّا بِأَنْ تَقْضِيَ عِدَّتَهَا مِنَ الطَّلْقَةِ الْأُولَى فِي السَّنَةِ الْأُولَى فَتَدْخُلُ السَّنَةُ الثَّانِيَةُ وَالسَّنَةُ الثَّالِثَةُ وَهِيَ غَيْرُ زَوْجَةٍ فَلَا تُطَلَّقُ بِدُخُولِهَا، لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَجْنَبِيَّةً وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لَا أَعْرِفُ فِيهِ خِلَافًا إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ بَكْرِ بْنِ الْأَشَجِّ أَنَّهَا تُطَلَّقُ بِدُخُولِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ.(10/21)
وَإِنْ كَانَتْ بَائِنًا مِنْهُ، لِأَنَّ عَقْدَ طَلَاقِهَا كَانَ وَهِيَ زَوْجَةٌ وَيَكُونُ تَأْثِيرُهُ أَن لا تَحِلَّ لَهُ إِلَّا بِزَوْجٍ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّهَا فِي حَالٍ لَوْ بَاشَرَهَا بِالطَّلَاقِ الْمُعَجَّلِ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا، فَإِذَا صَادَفَهَا طَلَاقٌ مُؤَجَّلٌ فَأَوْلَى أَن لا يَقَعَ عَلَيْهَا وَلِأَنَّ الصِّفَةَ بِدُخُولِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ قَدْ تَأْتِي وَهِيَ زَوْجَةٌ لِغَيْرِهِ فَتُطَلَّقُ تَحْتَ زَوْجٍ مِنْ غَيْرِهِ وَرُبَّمَا طَلَّقَهَا زَوْجُهَا فَتَصِيرُ طَالِقًا مِنْ زَوْجَيْنِ، وَهَذَا مُسْتَحِيلٌ.
وَلِأَنَّهُ لَوْ عَلَّقَ عِتْقَ عَبْدِهِ بِصِفَةٍ ثُمَّ بَاعَهُ ثُمَّ وُجِدَتِ الصِّفَةُ لَمْ يُعْتَقْ وَإِنْ عَقَدَهَا فِي مِلْكِهِ فَكَذَلِكَ الزَّوْجَةُ.
وَفِيهِ رَدٌّ عَمَّا تَعَلَّقَ بِهِ.
وَإِذَا لَمْ يَلْحَقْهَا الطَّلَاقُ فَلَوْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ السَّنَةِ الثَّالِثَةِ لَمْ يطلق بِدُخُولِ مَا بَعْدَهَا مِنَ السِّنِينَ لِأَنَّ مَا بَعْدَ الثَّالِثَةِ لَمْ يُجْعَلْ أَجَلًا لِطَلَاقِهَا وَلَا صِفَةً فِيهِ وَلِذَلِكَ تَوَصَّلْنَا بِالْخُلْعِ إِلَى رَفْعِ مَا عَلَّقَ بِهِ مِنَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ مِنَ الشُّرُوطِ وَالصِّفَاتِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ لَهَا: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ وَإِنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، فَلَا تَجِدُ بُدًّا مِنْ دُخُولِ الدَّارِ، ومن كلام زيد، فيخالفها عَلَى طَلْقَةٍ ثُمَّ تَدْخُلُ الدَّارَ وَتُكَلِّمُ زَيْدًا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ فَلَا تُطَلَّقُ، لِأَنَّهَا مُخْتَلِعَةٌ بَائِنٌ، وَالْمُخْتَلِعَةُ لَا يَلْحَقُهَا طَلَاقٌ، ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ الْعَقْدَ عَلَيْهَا مِنْ وَقْتِهِ إِنْ شَاءَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ فَإِذَا دَخَلَتْ بَعْدَ أَنْ تَزَوَّجَهَا الدَّارَ وَكَلَّمَتْ زَيْدًا لَمْ تُطَلَّقْ، لِأَنَّ الصِّفَةَ إِذَا لَمْ يَقَعْ بِهَا الطَّلَاقُ عِنْدَ وُجُودِهَا سَقَطَتْ فَلَمْ يَكُنْ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ حُكْمٌ.
وَهَذَا مِمَّا وَافَقَنَا عَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا: إِنَّ وُجُودَ الصِّفَةِ بَعْدَ الْخُلْعِ لَا يُسْقِطُهَا، وَأنَّ الْخُلْعَ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي رَفْعِ الصِّفَاتِ وإِذَا وُجِدَتْ فِي النِّكَاحِ. قَالُوا لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَوُجُودُ الزَّوْجَةِ مُضْمَرٌ فِي الصِّفَةِ وَتَقْدِيرُ كَلَامِهِ: إِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ وَأَنْتِ زَوْجَةٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَصَارَتِ الصِّفَةُ مُفِيدَةً بِشَرْطٍ فَإِذَا وُجِدَتْ مَعَ عَدَمِ الشَّرْطِ لَمْ يَسْقُطْ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: إِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ صَائِمَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَخَلَتْهَا مُفْطِرَةً لَمْ تَسْقُطِ الصِّفَةُ، وَطُلِّقَتْ إِذَا دَخَلَتْهَا مِنْ بَعْدُ وَهِيَ صَائِمَةٌ.
وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ إِضْمَارَ الصِّفَاتِ لَا يُعْتَمَدُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ، وَلَا أَنْ يُعْتَدَّ الْمَشْرُوط بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ. أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ لَهَا: إِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَدَخَلَتْهَا زَحْفًا أَوْ حَبْوًا طُلِّقَتْ، وَإِنْ كَانَ دُخُولًا يُخَالِفُ الْعَادَةَ، وَلَمْ يَجْعَلِ الْعَادَةَ بِدُخُولِهَا مَشْيًا شَرْطًا فِي الصِّفَةِ الَّتِي يَقَعُ(10/22)
بِهَا الطَّلَاقُ كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا.
(فَصْلٌ:)
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ تَدْخُلَ السَّنَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ وَهِيَ زَوْجَةٌ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ إِمَّا أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنَ الطَّلْقَةِ الْأُولَى فَيَسْتَأْنِفَ نِكَاحَهَا قَبْلَ الثَّانِيَةِ. وَإِمَّا بِأَنْ يُكْمِلَ طَلَاقَهَا ثَلَاثًا وَتَسْتَحِلَّ بِزَوْجٍ ثُمَّ يَعُودُ فَيَتَزَوَّجُهَا قَبْلَ الثَّانِيَةِ فَهَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ بِوُجُودِ الصِّفَةِ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي أَمْ لَا؟ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ النِّكَاحِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ زَالَ بِطَلَاقٍ دُونَ الثَّلَاثِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَأَحَدِ قَوْلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ إن الطَّلَاقَ يَقَعُ بِوُجُودِ الصِّفَةِ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي فَتُطَلَّقُ بِأَوَّلِ جُزْءٍ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ طَلْقَةً ثَانِيَةً بِأَوَّلِ جُزْءٍ وَمِنَ السَّنَةِ الثَّالِثَةِ طَلْقَةً ثَالِثَةً.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي الْجَدِيدِ إنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ بِوُجُودِ الصِّفَةِ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي لِأَنَّهَا لَا تُطَلَّقُ بِدُخُولِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ وإن زال النكاح الأول بالطلاق الثلاث فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَأَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ إنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي الْقَدِيمِ إنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ فَكَانَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الْقَدِيمِ أَقْوَى مِنْهُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ وَوُقُوعُهُ مَعَ زَوَالِ النِّكَاحِ الْأَوَّلِ بِدُونِ الثَّلَاثِ أَقْوَى مِنْ وُقُوعِهِ إِنْ زَالَ بِالثَّلَاثِ.
وَقَدْ يَخْرُجُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَقَعُ سَوَاءٌ كَانَ الطَّلَاقُ الْأَوَّلُ ثَلَاثًا أَوْ دُونَهَا وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَقَعُ سَوَاءٌ كَانَ الْأَوَّلُ ثَلَاثًا أَوْ دُونَهَا وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَقَعُ إِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ وَلَا يَقَعُ إِنْ كَانَ ثَلَاثًا.
فَإِذَا قِيلَ بِالْأَوَّلِ إِنَّهُ لَا يَقَعُ فَوَجْهُهُ قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: (لا طلاق قبل النكاح) وَهَذَا طَلَاقٌ قَبْلَ نِكَاحٍ. وَلِأَنَّ مَقْصُودَ عَقْدِ الطَّلَاقِ قَبْلَ النِّكَاحِ يَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِهِ فِي النِّكَاحِ كَمَا لَوْ عَقَدَهُ فِي أَجْنَبِيَّةٍ، وَلِأَنَّ زَوَالَ النِّكَاحِ الْأَوَّلِ يَجِبُ ارْتِفَاعُ أَحْكَامِهِ وَعَقْدُ الطَّلَاقِ مِنْ أَحْكَامِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْقَى بَعْدَ ارْتِفَاعِهِ وَلِمَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ. وَإِنْ قِيلَ بِالثَّانِي إنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ فَوَجْهُهُ أَنَّ عَقْدَ الطَّلَاقِ وَوُجُودَ صِفَتِهِ كَانَا مَعًا فِي مِلْكِهِ وَنِكَاحِهِ فَاقْتَضَى أَنْ يَقَعَ كَمَا لَوْ كَانَا فِي نِكَاحٍ وَاحِدٍ، وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ مُعْتَبَرٌ بِحَالَيْنِ عَقْدِهِ وَوُقُوعِهِ وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا تَخَلَّلَهُمَا مِنْ أَحْوَالِ الْمَنْعِ كَالْعَاقِدِ لِلطَّلَاقِ فِي صِحَّتِهِ إِذَا وُجِدَتْ صِفَتُهُ بَعْدَ جُنُونِهِ لَمْ يَمْنَعْ وُقُوعُهُ كَذَلِكَ هَذَا.
وَإِذَا قِيلَ بِالثَّالِثِ إنَّهُ يَعُودُ إِنِ ارْتَفَعَ بِدُونِ الثَّلَاثِ وَلَا يَعُودُ إِنِ ارْتَفَعَ بِالثَّلَاثِ فَوَجْهُهُ(10/23)
أَنَّ ارْتِفَاعَهُ بِدُونِ الثَّلَاثِ مُوجِبٌ لِبَقَايَا أَحْكَامِهِ مِنْ عَدَمِ الطَّلَاقِ فَأَوْجَبَ بَقَاءَ عَقْدِهِ بِالطَّلَاقِ وَإِذَا ارْتَفَعَ بِالثَّلَاثِ لَمْ يَبْقَ لَهُ حُكْمٌ مِنْ عَدَدِ الطَّلَاقِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ حُكْمٌ فِي الطَّلَاقِ.
وَعَلَى هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ فِي الطَّلَاقِ يَكُونُ حُكْمُ الظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ إِذَا عَقَدَهُ بِشَرْطٍ فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ فَوُجِدَ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي فَإِنْ قُلْنَا بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فِيهِ ثَبَتَ فِيهِ الظِّهَارُ وَالْإِيلَاءُ وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَقَعُ فِيهِ الطَّلَاقُ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ الظِّهَارُ وَالْإِيلَاءُ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي خَصَائِصِ النِّكَاحِ فَأَمَّا الْمُعْتِقُ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ: إِذَا دَخَلْتَ الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ يَبِيعُهُ وَيَشْتَرِيهِ وَيَدْخُلُ الدَّارَ بَعْدَ الشِّرَاءِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي بَيْعِهِ هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ أَمْ مَجْرَى الثَّلَاثِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الرَّجْعِيِّ، لِأَنَّهُ يَمْلِكُ شِرَاءَهُ بِغَيْرِ شَرْطٍ، فَأَشْبَهَ نِكَاحَ الرَّجْعِيَّةِ فَعَلَى هَذَا يُعْتَقُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ وَفِي الْجَدِيدِ عَلَى قَوْلَيْنِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الثَّلَاثِ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِلْمِلْكِ الْأَوَّلِ حُكْمٌ فَعَلَى هَذَا لَا يُعْتَقُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ وَالْقَدِيمِ عَلَى قَوْلَيْنِ والله أعلم.(10/24)
(باب الطلاق قبل النكاح من الإملاء على مسائل ابن القاسم ومن مسائل شتى سمعتها لفظاً)
قال الشافعي رحمه الله: (ولو قال كل امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا طَالِقٌ أَوِ امْرَأَةٌ بِعَيْنِهَا أَوْ لِعَبْدٍ إِنْ مَلَكْتُكَ حُرٌّ فَتَزَوَّجَ أَوْ مَلَكَ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ لِأَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي لَهُ الحكم كان وهو غير مالك فبطل (قال المزني) رحمه الله ولو قال لامرأة لا يملكها أنت طالق الساعة لم تطلق فهي بعد مدة أبعد فإذا لم يعمل القوي فالضعيف أولى أن لا يعمل (قال المزني) رحمه الله وأجمعوا أنه لا سبيل إلى طلاق من لم يملك للسنة المجمع عليها فهي من أن تطلق ببدعة أو على صفة أبعد) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عَقْدِ الطَّلَاقِ قَبْلَ النِّكَاحِ هَلْ يَصِحُّ أَمْ لَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ عَقْدُ الطَّلَاقِ قَبْلَ النِّكَاحِ لَا فِي الْعُمُومِ وَلَا فِي الْخُصُوصِ وَلَا فِي الْأَعْيَانِ.
فَالْعُمُومُ أَنْ يَقُولَ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ.
وَالْخُصُوصُ أَنْ يَقُولَ: كُلُّ امْرَأَةٍ أتزوجها من بني تميم مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ فَهِيَ طَالِقٌ.
وَالْأَعْيَانُ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَةٍ بِعَيْنِهَا: إِنْ تَزَوَّجْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ.
فَلَا يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ إِذَا تَزَوَّجَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَهَكَذَا الْعِتْقُ قَبْلَ الْمِلْكِ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَالْأَعْيَانِ لَا يَقَعُ بِحَالٍ، وَبِهَذَا قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ، وَفِي الْفُقَهَاءِ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الطَّلَاقَ يَنْعَقِدُ قَبْلَ النِّكَاحِ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَالْأَعْيَانِ وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ والثوري.(10/25)
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ إنَّ الطَّلَاقَ يَنْعَقِدُ قَبْلَ النِّكَاحِ فِي الْخُصُوصِ وَالْأَعْيَانِ وَلَا يَنْعَقِدُ فِي الْعُمُومِ إِذَا قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِذَلِكَ مُحَرِّمًا لِمَا أَحَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ النِّكَاحِ، وَلَا يَصِيرُ الْخُصُوصُ وَالْأَعْيَانُ مُحَرِّمًا لِلنِّكَاحِ، لِأَنَّهُ قَدْ يستبح نِكَاحَ مَنْ لَمْ يُحَصِّنْهَا وَيَعْنِيهَا وَبِهِ قَالَ رَبِيعَةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ.
قَالَ الرَّبِيعُ: وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْأَمَالِي وَحَكَى خِلَافَ النَّاسِ فِيهَا فَقُلْتُ فَمَا تَقُولُ أَنْتَ فِيهَا فَقَالَ أَنَا مُتَوَقِّفٌ.
وَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَوْلٍ آخَرَ لِأَنَّهُ قَدْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى عَقْدِهِ قَبْلَ النِّكَاحِ، وَوُقُوعِهِ بَعْدَ النِّكَاحِ بِأَنَّ الطَّلَاقَ يَصِحُّ بِالْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ فَصَحَّ عَقْدُهُ فِي غَيْرِ مِلْكٍ وَإِذَا أُضِيفَ إِلَى الْمِلْكِ كَالْوَصِيَّةِ وَالنَّذْرِ.
وَبَيَانُهُ أَنَّ الْغَرَرَ فِي الطَّلَاقِ أَنْ يَقُولَ: إِنْ قَدِمَ زَيْدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ، لِأَنَّهُ قَدْ يَقْدُمُ وَقَدْ لَا يَقْدُمُ، وَالْجَهَالَةُ فِيهِ أَنْ يَقُولَ إِحْدَى نِسَائِي طَالِقٌ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالطَّلَاقِ مجهولة.
والغررفي الْوَصِيَّةِ أَنْ يُوصِيَ بِحَمْلٍ أَوْ نَاقَةٍ أَوْ ثَمَرَةٍ أَوْ شَجَرَةٍ وَالْجَهَالَةُ فِيهَا أَنْ يُوصِيَ بِأَحَدِ عَبِيدِهِ ثُمَّ يَثْبُتُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَنْعَقِدُ فِي غَيْرِ مِلْكٍ وَهُوَ أَنْ يُوصِيَ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلَا مَالَ لَهُ فَيَصِيرُ ذَا مَالٍ أَوْ يُوصِيَ بِعَبْدٍ وَلَيْسَ لَهُ عَبْدٌ، ثُمَّ يَمْلِكُ عَبْدًا وَكَذَلِكَ فِي النَّذْرِ وَكَذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ.
قَالُوا: وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ مَبْنِيٌّ عَلَى السِّرَايَةِ فَصَحَّ عَقْدُهُ قَبْلَ الْمِلْكِ كَالْعِتْقِ إِذَا قَالَ لِأَمَتِهِ: إِذَا وَلَدْتِ وَلَدًا فَهُوَ حُرٌّ عَتَقَ عَلَيْهَا وَلَدَهَا إِذَا وَلَدَتْهُ بِمَا عَقَدَهُ قَبْلَ الْمِلْكِ كَذَلِكَ الطَّلَاقُ.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثم طلقتموهن} فَشَرَطَ أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ بَعْدَ النِّكَاحِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ النِّكَاحِ.
مِنَ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ جَابِرٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَعَائِشَةُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: (لَا طَلَاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ) .
وَرَوَى جُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ النَّزَّالِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: (لَا رضَاعَ بَعْدَ فِصَالٍ وَلَا وِصَالَ فِي صِيَامٍ وَلَا يُتْمَ بَعْدَ حُلُمٍ وَلَا صمْتَ يَوْمٍ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا طَلَاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ) .
وَرَوَى مَطَرٌ الْوَرَّاقُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: (لَيْسَ عَلَى الرَّجُلِ طَلَاقٌ فِيمَا لَا يَمْلِكُ وَلَا بَيْعٌ فِيمَا لَا يَمْلِكُ وَلَا عِتْقٌ فِيمَا لَا يَمْلِكُ) .(10/26)
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عمر بْنِ شُعَيْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: (مَنْ طَلَّقَ مَا لَا يَمْلِكُ فَلَا طَلَاقَ لَهُ، وَمَنْ أَعْتَقَ مَنْ لَا يَمْلِكُ فَلَا عِتْقَ لَهُ، وَمَنْ نَذَرَ مَا لَا يَمْلِكُ فَلَا نَذْرَ لَهُ) .
وَرَوَى عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ فَكَانَ فِيمَا عَهِدَ إليه أن لا يطلق الرجل ما لم يتزوج ولا يعيق مَا لَا يَمْلِكُ.
وَهَذِهِ كُلُّهَا نُصُوصٌ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَوْلُهُ (لَا طَلَاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ) مَحْمُولٌ عَلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ دُونَ عَقْدٍ، لِأَنَّ اسْمَ الطَّلَاقِ يَتَنَاوَلُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ دُونَ عَقْدِهِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إِنْ طَلَّقْتُكِ فَعَبْدِي حُرٌّ، ثُمَّ قَالَ لَهَا: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ لَمْ يُعْتَقْ عَبْدُهُ، حَتَّى تَدْخُلَ الدَّارَ، وَلَوْ كَانَ عَقَدَ الطَّلَاقَ طَلَاقًا لَعَتَقَ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ (لَا طَلَاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ) أَيْ لَا طَلَاقَ يَقَعُ قَبْلَ نِكَاحٍ.
قَالُوا: وَنَحْنُ نُوقِعُهُ بَعْدَ النِّكَاحِ وَإِنْ عَقَدَهُ قَبْلَ النِّكَاحِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الطَّلَاقَ إِذَا كَانَ رَفْعًا لِلنِّكَاحِ فَمَعْلُومٌ مِنْ حَالِ الْأَجْنَبِيَّةِ الَّتِي لَا نِكَاحَ عَلَيْهَا أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا فَلَا يَحْتَاجُ فِيمَا هُوَ مَعْقُولٌ إِلَى بَيَانٍ مُسْتَفَادٍ مِنَ الرَّسُولِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُحْمَلُ قَوْلُهُ (لَا طَلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ) عَلَى عُمُومِ الْأَمْرَيْنِ فَلَا طَلَاقَ وَاقِعٌ وَلَا مَعْقُودٌ، لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهَا.
أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ: (لَا طَلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ) وَاقِعًا وَلَا مَعْقُودًا، لَصَحَّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُ اللَّفْظِ مَحْمُولًا عَلَى مُحْتَمَلَيْهِ مَعًا دُونَ أَحَدِهِمَا.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدْ نُقِلَ مَا يَدْفَعُ هَذَا التَّأْوِيلَ وَيَمْنَعُ مِنْ حَمْلِهِ إِلَّا عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَهُوَ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ فقَالَ: يَوْمَ أَتَزَوَّجُ فُلَانَةَ هِيَ طَالِقٌ، فَقَالَ: طَلَّقَ مَا لَا يَمْلِكُ وَرَوَى زَيْدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّ ابْنِي خَطَبَ امْرَأَةً، وَإِنَّ ابْنِي قَالَ: هِيَ طَالِقٌ إِنْ تَزَوَّجْتُهَا فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُرِيهِ فَلْيَتَزَوَّجْهَا فَإِنَّهُ لَا طَلَاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ.
فَأَمَّا اسْتِشْهَادُهُ بِالْحَالِفِ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الطَّلَاقِ يَتَنَاوَلُ الْوُقُوعَ دُونَ الْعَقْدِ، فَلِأَنَّ الْأَيْمَانَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ دُونَ الْعُرْفِ، ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْقِيَاسِ أَنَّهُ طَلَاقٌ مُعَلَّقٌ بِالصِّفَةِ قَبْلَ النِّكَاحِ فَلَمْ يَصِحَّ وُقُوعُهُ فِي النِّكَاحِ.
أَصْلُهُ إِذَا قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ دَخَلَتِ الدَّارَ بَعْدَ أَنْ تَزَوَّجَهَا أَوْ قَالَ لَهَا: إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ بَعْدَ أَنْ تَزَوَّجَهَا لَمْ تُطَلَّقْ مُوَافِقَةً لَنَا فَكَذَلِكَ فِيمَا خَالَفَنَا.(10/27)
فَإِنْ قِيلَ: الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ فِيهِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضَافٍ إِلَى مِلْكِهِ وَوَقَعَ فِي الْفَرْعِ لِأَنَّهُ مُضَافٌ إِلَى مِلْكِهِ، وَلَوْ كَانَ قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ وَأَنْتِ زَوْجَتِي فَأَنْتِ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَهَا ثُمَّ دَخَلَتِ الدار طلقت، لأنه أَضَافَ الطَّلَاقَ إِلَى مِلْكِهِ يُوَضِّحُ هَذَا الْفَرْقُ فِي الطَّلَاقِ بَيْنَ إِضَافَتِهِ إِلَى مِلْكِهِ فَيَقَعُ وَبَيْنَ أَن لا يُضَافَ إِلَى مِلْكِهِ فَلَا يَقَعُ اتِّفَاقًا عَلَى مِثْلِهِ فِي النَّذْرِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَ عَبْدَ زَيْدٍ فَشَفَى اللَّهُ مَرِيضَهُ، وَمَلَكَ عَبْدَ زَيْدٍ لَمْ يَلْزَمْهُ عِتْقُهُ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي وَمَلَكْتُ عَبْدَ زَيْدٍ فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَهُ فَإِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضَهُ وَمَلَكَ عَبْدَ زَيْدٍ لَزِمَهُ عِتْقُهُ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّهُ فِي الْأَصْلِ مَا أَضَافَ الْعَبْدَ إِلَى مِلْكِهِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ عِتْقُهُ وَفِي الثَّانِي أَضَافَهُ إِلَى مِلْكِهِ فَلَزِمَهُ عِتْقُهُ كَذَلِكَ الطَّلَاقُ.
فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَقْدُ الطَّلَاقَ بِالصِّفَةِ قَبْلَ النِّكَاحِ صَحِيحًا كَعَقْدِهِ بَعْدَ النِّكَاحِ لَمْ يَقَعِ الْفَرْقُ قَبْلَ النِّكَاحِ وَبَيْنَ إِضَافَتِهِ إِلَى مِلْكِهِ وَبَيْنَ إِطْلَاقِهِ كَمَا لَمْ يَقَعِ الْفَرْقُ بَعْدَ النِّكَاحِ بَيْنَ إِضَافَتِهِ وَإِطْلَاقِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهُوَ بَعْدَ النِّكَاحِ مَالِكٌ فأغنى وجود الملك عن إِضَافَتِهِ إِلَى الْمِلْكِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَبْلَ النِّكَاحِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ فَافْتَقَرَ مَعَ عَدَمِ الْمِلْكِ إِلَى إِضَافَتِهِ إِلَى الْمِلْكِ.
فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ وُجُودَ الْمِلْكِ فِي الزَّوْجَةِ لَا يُغْنِي عَنِ اشْتِرَاطِ الْمِلْكِ وَيَفْتَرِقُ الْحُكْمُ بَيْنَ اشْتِرَاطِهِ وَعَدَمِهِ وهو أن يقول لزوجته: إذا دخلت الدارفأنت طَالِقٌ، ثُمَّ خَالَعَهَا فَدَخَلَتِ الدَّارَ بَعْدَ خُلْعِهِ سَقَطَتِ الْيَمِينُ فَلَوْ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ دَخَلَتِ الدَّارَ لَمْ تُطَلَّقْ وَلَوْ كَانَ قَالَ لَهَا إِذَا دَخَلْتِ وَأَنْتِ زَوْجَتِي فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ خَالَعَهَا، فَدَخَلَتِ الدَّارَ بَعْدَ خُلْعِهِ لَمْ تَسْقُطِ الْيَمِينُ، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ دَخَلَتِ الدَّارَ طُلِّقَتْ فَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ وُجُودَ الْمِلْكِ فِي الزَّوْجَةِ لَا يَقُومُ مَقَامَ اشْتِرَاطِ الْمِلْكِ فِيهَا فَبَطَلَ مَا قَالُوهُ مِنَ الِاسْتِغْنَاءِ بِوُجُودِ الْمِلْكِ عَنِ اشْتِرَاطِ الْمِلْكِ.
وَأَمَّا النَّذْرُ فَإِنَّمَا لَمْ يَلْزَمْهُ إِذَا قَالَ: إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَ عَبْدَ زَيْدٍ، لِأَنَّ نَذْرَهُ لِعِتْقِ عَبْدِ غَيْرِهِ مَعْصِيَةٌ وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ، وَلَزِمَ إِذَا قَالَ إن شفى الله مريضي وملكت عبد زيد فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَهُ لِأَنَّهُ نَذَرَ عِتْقَ مِلْكِهِ وَقَدْ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِذِمَّتِهِ فَلَزِمَهُ، لِأَنَّهُ قَدْ يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ مَا يَمْلِكُهُ وَمِثَالُهُ مِنَ الطَّلَاقِ أَنْ يَقُولَ: إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي وَمَلَكْتُ عَبْدَ زَيْدٍ فَهُوَ حُرٌّ فَشَفَى اللَّهُ مَرِيضَهُ وَمَلَكَ عَبْدَ زَيْدٍ لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ.
وَقِيَاسٌ ثَانٍ وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ إِيقَاعُ الطَّلَاقِ الْمُعَجَّلِ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ عَقْدُ الطَّلَاقِ الْمُؤَجَّلِ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا لَمْ يَصِحَّ مِنَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِعَدَمِ التَّكْلِيفِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُكَلَّفُ.(10/28)
قِيلَ افْتِرَاقُهُمَا لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ تَسَاوِيهِمَا فِي الطَّلَاقِ الْمُعَجَّلِ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ تَسَاوِيهِمَا فِي الطَّلَاقِ الْمُؤَجَّلِ.
وَقِيَاسٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّ كُلَّ قَوْلٍ وُضِعَ لِرَدِّ الْمِلْكِ لَمْ يَصِحَّ وقوعها تَقَدُّمُهُ عَلَى الْمِلْكِ كَالْإِقَالَةِ. وَقِيَاسٌ رَابِعٌ: وَهُوَ أن الفرقة في النكاح لا يصح بِلَفْظٍ مُتَقَدِّمٍ كَالْفَسْخِ.
وَقِيَاسٌ خَامِسٌ: وَهُوَ أَنَّهُ طَلَاقٌ يُنَافِيهِ الْجُنُونُ وَالصِّغَرُ فَوَجَبَ أَنْ يُنَافِيَهُ عَدَمُ الْمِلْكِ كَالطَّلَاقِ الْمُعَجَّلِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَالنَّذْرِ فَهُوَ أَنَّ عَقْدَ الْوَصِيَّةِ إِيجَابٌ وَقَبُولٌ وَعَقْدُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ يَصِحُّ فِي غَيْرِ مِلْكٍ كَالسَّلَمِ، وَعَقْدُ الطَّلَاقِ تَنْفِيرٌ وَعَقْدُ التَّنْفِيرِ لَا يَصِحُّ إِلَّا فِي مِلْكٍ كَبَيْعِ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ عِتْقِ وَلَدِ أَمَتِهِ قَبْلَ وِلَادَتِهِ فَهُوَ أَنَّ لِأَصْحَابِنَا فِيهِ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ لِأَنَّهُ عِتْقٌ قَبْلَ الْمِلْكِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُعْتَقُ فَعَلَى هَذَا إِنَّمَا عُتِقَ الْوَلَدُ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِأُمِّهِ وَالْأُمُّ فِي مِلْكِهِ، فَجَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْمِلْكِ، لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلْمِلْكِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْأَجْنَبِيَّةُ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي مِلْكِهِ وَلَا تَبَعًا لِمِلْكِهِ فَاخْتَلَفَا.
(فَصْلٌ:)
وَهَكَذَا الظِّهَارُ وَالْإِيلَاءُ قَبْلَ النِّكَاحِ لَا يَصِحُّ فَإِذَا قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ: إِنْ تَزَوَّجْتُكِ فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَتَزَوَّجَهَا لَمْ يَصِرْ مُظَاهِرًا مِنْهَا، لِأَنَّ الظِّهَارَ تَبَعٌ فِي الطَّلَاقِ فِي الثُّبُوتِ وَالنَّفْيِ.
وَلَوْ قَالَ لَهَا: إِذَا تَزَوَّجْتُكِ فَوَاللَّهِ لَا وَطِئْتُكِ أَبَدًا لَمْ يَكُنْ مُولِيًا، لِأَنَّ الْإِيلَاءَ لَا يَصِحُّ إِلَّا مِنْ زَوْجَةٍ كَالطَّلَاقِ، وَلَكِنْ يَكُونُ حَالِفًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا، وَمَتَى وَطِئَهَا حَنِثَ وَكَفَّرَ، وَإِنْ لَمْ يُؤَجِّلْ لَهَا أَجَلَ الْإِيلَاءِ لِأَنَّ الْيَمِينَ يَصِحُّ مِنَ الْأَجْنَبِيَّةِ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ مِنْهَا الْإِيلَاءُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(10/29)
(بَابُ مُخَاطَبَةِ الْمَرْأَةِ بِمَا يَلْزَمُهَا مِنَ الْخُلْعِ وما لا يلزمها من النكاح والطلاق إملاء على مسائل مالك وابن القاسم)
قال الشافعي رحمه الله: (ولو قالت له امْرَأَتُهُ إِنْ طَلَّقْتَنِي ثَلَاثًا فَلَكَ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَهُوَ كَقَوْلِ الرَّجُلِ بِعْنِي ثَوْبَكَ هَذَا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَلَهُ الْمِائَةُ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْخُلْعَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَجْرِي مَجْرَى الْمَبِيعِ، لِأَنَّ الزَّوْجَ يَمْلِكُ بِهِ الْبَدَلَ وَتَمْلِكُ الزَّوْجَةُ بِهِ الْبُضْعَ، فَيَحُلُّ الزَّوْجُ فِيهِ مَحَلَّ الْبَائِعِ، وَتَحُلُّ الزَّوْجَةُ فِيهِ مَحَلَّ الْمُشْتَرِي، فَرُبَّمَا اجْتَمَعَ الْخُلْعُ وَالْبَيْعُ فِي صِفَةِ الْعَقْدِ وَرُبَّمَا اخْتَلَفَا كَمَا يَخْتَلِفَانِ فِي أَحْكَامِ الْعَقْدِ فَيَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ خِيَارُ الْعَقْدِ وَالشَّرْطِ، وَلَا يَدْخُلُ بِوَاحِدٍ مِنَ الْخِيَارَيْنِ فِي الْخُلْعِ.
فَإِذَا قَالَتِ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ وَلَهُ الْأَلْفُ، لِأَنَّهَا طَلَبَتْ مِنْهُ أَنْ تَمْلِكَ بُضْعَهَا بِالْأَلْفِ فَأَجَابَهَا إِلَى أَنْ مَلَّكَهَا بُضْعَ نَفْسِهَا بِالْأَلْفِ فَتَمَّ ذَاكَ بِطَلَبِهَا وَإِيجَابِ الزَّوْجِ إِذَا كَانَ عَقِيبَ الطَّلَبِ وَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى الْبَيْعِ وَعَلَى صِفَتِهِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: بِعْنِي عَبْدَكَ هَذَا بِأَلْفٍ، فَيَقُولُ الْمَالِكُ: قَدْ بِعْتُكَ عَبْدِي هَذَا بِأَلْفٍ، فَيَتِمُّ الْبَيْعُ وَلَا يَحْتَاجُ الْمُشْتَرِي أَنْ يَقُولَ قَدْ قَبِلْتُ لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ من المشتري طلب ومال حَازَ بِهِ الْمَالِكُ إِيجَابٌ فَتَمَّ الْبَيْعُ بِالطَّلَبِ وَالْإِيجَابِ كَمَا يَتِمُّ الْبَدَلُ وَالْقَبُولُ.
وَلَوْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ حِينَ قَالَتْ: طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ قَالَ لَهَا الزَّوْجُ: قَدْ طَلَّقْتُكِ ثَلَاثًا وَلَمْ يَقُلْ بِأَلْفٍ، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا، وَلَهُ الْأَلْفُ لِأَنَّهُ إِيجَابٌ مِنْهُ فِي مُقَابَلَةِ طَلَبِهَا فَتَنَاوَلَ الْإِيجَابُ مَا تَضَمَّنَهُ الطَّلَبُ.
وَمِثْلُهُ فِي الْبَيْعِ جَائِزٌ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: بِعْنِي عَبْدَكَ هَذَا بِأَلْفٍ فَيَقُولُ قَدْ بِعْتُكَ وَلَا يَقُولُ بِأَلْفٍ فَيَكُونُ بَائِعًا لَهُ بِالْأَلْفِ، لِأَنَّهُ إِيجَابٌ فِي مُقَابَلَةِ طَلَبٍ تَضَمَّنَ الْأَلْفَ، فَاسْتَغْنَى عَنْ أَنْ يُصَرِّحَ فِي إِيجَابِهِ بِالْأَلْفِ.
وَلَوْ قَالَ الْوَلِيُّ فِي النِّكَاحِ: قَدْ زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى صَدَاقِ أَلْفٍ، فَقَالَ الزَّوْجُ قَبِلْتُ نِكَاحَهَا، وَلَمْ يَقُلْ بِالْأَلْفِ صَحَّ النِّكَاحُ وَلَمْ يَلْزَمْهُ الْأَلْفُ فِي أَظْهَرِ الْوَجْهَيْنِ.(10/30)
وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْبَيْعِ أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالثَّمَنِ فَإِذَا أَطْلَقَ الْإِيجَابَ بِالْبَيْعِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الثَّمَنَ عَادَ إِلَى البيع والثمن لأنهما لا يفترقا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ النِّكَاحُ، لِأَنَّهُ يَصِحُّ بِغَيْرِ صَدَاقٍ، فَإِذَا صَرَّحَ بِقَبُولِ النِّكَاحِ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِقَبُولِ الصَّدَاقِ، لَزِمَهُ النِّكَاحُ دُونَ الصَّدَاقِ لِأَنَّهُمَا قَدْ يَفْتَرِقَانِ، فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا التَّعْلِيلُ فِي الْفَرْقِ يَقْتَضِي أَن لا يَجِبَ لَهُ فِي الْخُلْعِ الْأَلْفُ حَتَّى يَقُولَ قَدْ طَلَّقْتُكِ ثَلَاثًا بِأَلْفٍ، لِأَنَّهُ يَصِحُّ الطَّلَاقُ بِغَيْرِ الْأَلْفِ.
قِيلَ: مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ تَعْلِيلِ الْفَرْقِ لَا يَقْتَضِي هَذَا فِي الْخُلْعِ وَإِنِ اقْتَضَاهُ فِي النِّكَاحِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْقَبُولَ فِي النِّكَاحِ فِي مُقَابَلَةِ الْتِزَامِهِ الْعَقْدَ وَالصَّدَاقَ فَإِنْ صَرَّحَ بِهِمَا، وَإِلَّا انْصَرَفَ إِلَى الْمَقْصُودِ مِنْهُمَا، وَهُوَ النِّكَاحُ وَلَيْسَ فِي الْخُلْعِ إِلَّا الْتِزَامٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْعِوَضُ فَتَوَجَّهَ إِطْلَاقُ الْإِجَابَةِ إِلَيْهِ.
(فَصْلٌ:)
وَلَوْ قَالَتِ الزَّوْجَةُ: إِنْ طَلَّقْتَنِي ثَلَاثًا فَلَكَ عَلَيَّ أَلْفٌ، أَوْ قَالَتْ فَلَكَ أَلْفٌ.
فَقَالَ الزَّوْجُ: قَدْ طَلَّقْتُكِ ثَلَاثًا بِأَلْفٍ أَوْ قَالَ قَدْ طَلَّقْتُكِ ثَلَاثًا، وَلَمْ يَقُلْ بِأَلْفٍ، طُلِّقَتْ ثَلَاثًا، وَلَهُ الْأَلْفُ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الشَّافِعِيِّ.
وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ لَا يَصِحُّ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ بِعْتَنِي عَبْدَكَ هَذَا فَلَكَ عَلَيَّ أَلْفٌ فَيَقُولُ الْمَالِكُ: قَدْ بِعْتُكَ هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفٍ، فَلَا يَتِمُّ الْبَيْعُ حَتَّى يَقْبَلَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ بَذْلِ الْبَائِعِ فَيَقُولُ: قَدْ قَبِلْتُ ابْتِيَاعَهُ بِالْأَلْفِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْخُلْعِ وَالْبَيْعِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ حَرْفَ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهَا: إِنْ طَلَّقْتَنِي فَلَكَ أَلْفٌ إِذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ طَلَبًا بِأَجْرٍ تَضَمَّنَ الْتِزَامًا فَصَحَّ الطَّلَاقُ بِالزَّوْجِ وَحْدَهُ وَقَدْ وُجِدَ الِالْتِزَامُ مِنْهَا لَهُ فَصَحَّ الْخُلْعُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْبَيْعُ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ بِمُجَرَّدِ الِالْتِزَامِ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهِ الطَّلَبُ، وَلَيْسَ فِي لَفْظِ الشَّرْطِ طَلَبٌ فَصَارَ الْتِزَامُ الْمُشْتَرِي سَوْمًا فَلَمْ يَتِمَّ الْبَيْعُ بَعْدَ بَذْلِ الْبَائِعِ إِلَّا بِقَبُولِ الْمُشْتَرِي.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ شَبَّهَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذِهِ المسألة بالبيع قبل موضع التشبيه بينهما في استحقال الْعِوَضِ لَا فِي صِفَةِ الْعَقْدِ.
وَهَكَذَا لَوْ قَالَتْ: طَلِّقْنِي ثَلَاثًا عَلَى أَنْ أَدْفَعَ إِلَيْكَ أَلْفًا، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا اسْتَحَقَّ عَلَيْهَا أَلْفًا لِالْتِزَامِهَا عَلَى الطَّلَاقِ أَلْفًا فَصَارَ الطَّلَاقُ شَرْطًا، وَالْأَلْفُ جَزَاءً وَمِثْلُ هَذَا فِي الْبَيْعِ لَا يَصِحُّ لما ذكرنا والله أعلم.
(مسألة:)
قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَتْ لَهُ اخْلَعْنِي أَوْ بِتَّنِي أَوْ أَبِنِّي أَوِ ابْرَأْ مِنِّي أَوْ بَارِئْنِي وَلَكَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَهِيَ تُرِيدُ الطَّلَاقَ وَطَلَّقَهَا فَلَهُ مَا سَمَّتْ لَهُ) .(10/31)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي يَتَخَالَعُ بِهِ الزَّوْجَانِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا كَانَ صَرِيحًا فِي الطَّلَاقِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَلْفَاظٍ الطَّلَاقُ وَالْفِرَاقُ وَالسَّرَاحُ فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ الثَّلَاثَةُ صَرِيحَةٌ فِي الطَّلَاقِ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهَا عِوَضٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا كَانَ كِنَايَةً فِي الطَّلَاقِ وَهُوَ قَوْلُهَا بِتَّنِي أَوْ أَبِنِّي أَوِ ابْرَأْ مِنِّي أَوْ بَارِئْنِي أَوْ خَلِّينِي أَوْ أَبْعِدْنِي أَوْ حَرِّمْنِي فَهَذَا وَمَا شَاكَلَهُ مِنَ الْأَلْفَاظِ كِنَايَةٌ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ عِوَضٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ وَهُوَ لَفْظَانِ الْخُلْعُ وَالْمُفَادَاةُ، فَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِمَا عِوَضٌ كَانَ مَعَهُ عِوَضٌ فَهُمَا كِنَايَةٌ فِي الطَّلَاقِ، وَإِنِ اقْتَرَنَ بِهِمَا عِوَضٌ فَفِيهِمَا ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْإِمْلَاءِ إِنَّهُ صَرِيحٌ كَالطَّلَاقِ فَيَكُونُ كَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ، وَنَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ إِلَى مُخْتَصَرِهِ هَذَا، إنَّهُ كِنَايَةٌ فِي الطَّلَاقِ فَيَكُونُ كَالْقِسْمِ الثَّانِي.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَكُونُ فَسْخًا صَرِيحًا فَيَكُونُ حُكْمُهُ حِينَئِذٍ مُخَالِفًا لِحُكْمِ الْقِسْمَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ.
(فَصْلٌ:)
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا فِي عَقْدِ الْخُلْعِ مِنْ أَحَدِ قِسْمَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَتَّفِقَا فِي لَفْظِ الْخُلْعِ وَإِمَّا أَنْ يَخْتَلِفَا.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَتَّفِقَا فِي لَفْظِ الْخُلْعِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَسْأَلَهُ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ فَيُجِيبَهَا بِمِثْلِهِ مِثْلَ أَنْ تَقُولَ لَهُ: طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ، فَيَقُولُ لَهَا: قَدْ فَارَقْتُكِ.
أَوْ تَقُولُ لَهُ: سَرِّحْنِي بِأَلْفٍ، فَيَقُولُ لَهَا: قَدْ سَرَّحْتُكِ فَقَدْ تَمَّ الْخُلْعُ بِطَلَبِهَا وَإِيجَابِهِ، وَلَا يُسْأَلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَنْ مُرَادِهِ.
وَهَكَذَا لَوْ قَالَتْ لَهُ: طَلِّقْنِي، فَقَالَ لَهَا: قَدْ فَارَقْتُكِ، أَوْ قَالَتْ لَهُ سَرِّحْنِي، فَقَالَ لَهَا: قَدْ طَلَّقْتُكِ، لِأَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ صَرِيحَةٌ يَقُومُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهما مَقَامَ الْآخَرِ فَكَانَ مُمَاثِلًا فِي حُكْمِهِ وَإِنْ خَالَفَهُ فِي لَفْظِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَسْأَلَهُ بِكِنَايَةِ الطَّلَاقِ فَيُجِيبَهَا بِمِثْلِهِ مِثْلَ أَنْ تَقُولَ لَهُ أَبِنِّي بِأَلْفٍ أَوْ أَبِنِّي أَوِ ابْرَأْ مِنِّي أَوْ حَرِّمْنِي أَوْ أَبْعِدْنِي فَيَقُولُ لَهَا: قَدْ أَبَنْتُكِ أَوْ بِنْتُكِ أَوْ بَارَأْتُكِ أَوْ حَرَّمْتُكِ أَوْ أبعدتك.(10/32)
وَبِأَيِّ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ أَجَابَهَا عَنْ أَيِّ لَفْظَةٍ مِنْهَا سَأَلَتْ بِهَا كَانَ مُجِيبًا بِمِثْلِهَا فِي الْحُكْمِ، وَإِنْ خَالَفَهَا فِي اللَّفْظِ، لِأَنَّ جَمِيعَ أَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ مُمَاثِلَةٌ فِي الْحُكْمِ، وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً فِي اللَّفْظِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَلْفَاظُ الْكِنَايَةِ لَا يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ إِلَّا مَعَ النِّيَّةِ فَإِنْ تَجَرَّدَتْ عَنِ النِّيَّةِ لَمْ يَقَعْ بها طلاق ولم يكن لها حكم، فسئل الزَّوْجَانِ عَنْ نِيَّتِهِمَا فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُهُمَا فيه من أربعة أحوال:
أحدها: أن تريد الزَّوْجَةُ بِسُؤَالِهَا وَيُرِيدَ الزَّوْجُ بِإِجَابَتِهِ الطَّلَاقَ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ، وَيَتِمُّ الْخُلْعُ، وَتَقُومُ الْكِنَايَةُ مَعَ البينةِ مَقَامَ الصَّرِيحِ فِي الطَّلَبِ وَالْإِيجَابِ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَن لا يُرِيدَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا الطَّلَاقَ فَلَا طلاق ولا خلع لا حُكْمَ لِلَّفْظِ الْجَارِي بَيْنَهُمَا فِي فُرْقَةٍ وَلَا عِوَضٍ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تُرِيدَ الزَّوْجَةُ الطَّلَاقَ وَلَا يُرِيدَهُ الزَّوْجُ فَلَا طَلَاقَ وَقَدْ سَأَلَتْهُ مَا لَمْ يُجِبْهَا إِلَيْهِ، وَلَا يَلْزَمُهَا مَا بَذَلَتْ مِنَ الْعِوَضِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهَا مَا سَأَلَتْ مِنَ الطَّلَاقِ، فَإِنْ أَكْذَبَتْهُ وَادَّعَتْ إِرَادَةَ الطَّلَاقِ أَحْلَفَتْهُ، وَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا.
وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يُرِيدَ الزَّوْجُ الطَّلَاقَ وَلَا تُرِيدَهُ الزَّوْجَةُ فَيُقَالُ لِلزَّوْجِ: هَلْ علمت حين أرادت الطَّلَاقَ أَنَّ الزَّوْجَةَ لَمْ تُرِدِ الطَّلَاقَ، فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ وَقَعَ طَلَاقُهُ رَجْعِيًّا وَلَا عِوَضَ لَهُ عَلَيْهَا، وَكَأَنَّهُ طَلَّقَهَا مِنْ غَيْرِ طَلَبِهَا، وَإِنْ قَالَ: ظَنَنْتُ أَنَّهَا أَرَادَتِ الطَّلَاقَ وَلَمْ أَعْلَمْ أَنَّهَا لَمْ تُرِدْهُ.
قِيلَ لَهُ: أَفَتُصَدِّقُهَا عَلَى أَنَّهَا لَمْ تُرِدِ الطَّلَاقَ فَإِنْ صَدَّقَهَا لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ، لِأَنَّهُ طَلَّقَ عَلَى شَرْطِ عِوَضٍ لَمْ يَحْصُلْ فَإِذَا لَمْ يُؤْخَذِ الشَّرْطُ لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ، وَإِنْ أَكْذَبَهَا وَقَالَ: بَلْ أَرَدْتِ الطَّلَاقَ وَقَعَ طَلَاقُهُ بَائِنًا لِاعْتِرَافِهِ بِوُقُوعِهِ، وَلَهُ إِحْلَافُهَا أَنَّهَا لَمْ تُرِدِ الطَّلَاقَ، فَإِذَا حَلَفَتْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا، فَإِنْ نَكَلَتْ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَيْهِ، فَإِذَا حَلَفَ كَانَ لَهُ عَلَيْهَا الْأَلْفُ الَّتِي صَرَّحَتْ بِذِكْرِهَا، وَحَلِفَ الزَّوْجُ عَلَيْهَا.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَسْأَلَهُ بِلَفْظِ الْخُلْعِ فَيُجِيبَهَا بِمِثْلِهِ مِثْلَ أَنْ تَقُولَ: اخْلَعْنِي بِأَلْفٍ، فَقَالَ: قَدْ خَالَعْتُكِ أَوْ تَقُولَ لَهُ: فَادِنِي بِأَلْفٍ فَيَقُولَ لَهَا: قَدْ فَادَيْتُكِ أَوْ تَقُولَ لَهُ: اخلعني فيقول: قد خالعتك فَكُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ، لِأَنَّ لَفْظَ الْخُلْعِ وَالْمُفَادَاةِ صَرِيحَانِ مُتَسَاوِيَانِ فِي الْحُكْمِ، أَمَّا الْمُفَادَاةُ فَلِوُرُودِ الْقُرْآنِ بِهَا وَأَمَّا الْخُلْعُ فَلِمَعْهُودِ اللُّغَةِ فِيهِ.
وَهَذَا الْقِسْمُ إِنَّمَا يَتَمَيَّزُ عَنِ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ إِذَا قِيلَ إِنَّ لَفْظَ الْخُلْعِ وَالْمُفَادَاةِ فَسْخٌ، وَلَوْ قِيلَ: إِنَّهُ طَلَاقٌ أَوْ كِنَايَةٌ لَدَخَلَ فِيهِمَا وَلَمْ يَتَمَيَّزْ عَنْهُمَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ تَمَّ الْخُلْعُ(10/33)
بَيْنَهُمَا بِلَفْظِ الْخُلْعِ، وَوَقَعَ بِهِ فَسْخُ النِّكَاحِ من غير أن تنقض بِهِ عَدَدُ الطَّلَاقِ وَاسْتَحَقَّ عَلَيْهَا الْأَلْفَ الَّتِي بَذَلَهَا فَلَوْ كَانَ حِينَ سَأَلَتْهُ الْخُلْعَ أَجَابَهَا بِالْفَسْخِ مِثْلَ أَنْ تَقُولَ لَهُ: اخْلَعْنِي بِأَلْفٍ، فَقَالَ لَهَا: قَدْ فَسَخْتُ نِكَاحَكِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ نِكَاحَهَا إِلَّا بِعَيْبٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَصِحُّ ذَلِكَ مِنْهُمَا، وَيَكُونُ فَسْخًا يَقُومُ مَقَامَ الْخُلْعِ، لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ مِنْهُ الْخُلْعُ وَكَانَ فَسْخًا أَوْلَى أَنْ يَصِحَّ مِنْهُ بِصَرِيحِ الْفَسْخِ، وَيَكُونَ خُلْعًا، وَهَكَذَا لَوْ قَالَتْ: افْسَخْ نِكَاحِي بِأَلْفٍ، فَقَالَ: قَدْ فَسَخْتُهُ كَانَ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ.
(فَصْلٌ:)
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: فِي الْأَصْلِ وَهُوَ أَنْ يَخْتَلِفَ لَفْظُهُمَا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ فَهَذَا عَلَى سِتَّةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَسْأَلَهُ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ فَيُجِيبُهَا بِكِنَايَةٍ، مِثْلَ أَنْ تَقُولَ لَهُ: طَلِّقْنِي بِأَلْفٍ، فَيَقُولَ لَهَا: قَدْ أَبَنْتُكِ أَوْ حَرَّمْتُكِ، فَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ الطَّلَاقَ، فَلَا خُلْعَ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الطَّلَاقَ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ: لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، لِأَنَّهَا سَأَلَتْهُ صَرِيحَ الطَّلَاقِ فَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى كِنَايَتِهِ فَلَمْ يَصِرْ مُجِيبًا إِلَى مَا سَأَلَتْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ الطَّلَاقَ وَاقِعٌ، وَلَهُ الْأَلْفُ لِأَنَّ كِنَايَةَ الطَّلَاقِ مَعَ النِّيَّةِ يَقُومُ مَقَامَ صَرِيحِ الطَّلَاقِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَسْأَلَهُ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ فَيُجِيبَهَا بِالْخُلْعِ، كَأَنَّهَا قَالَتْ لَهُ: طَلِّقْنِي بِأَلْفٍ فَقَالَ: قَدْ خَالَعْتُكِ بِأَلْفٍ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ لَفْظَ الْخُلْعِ صَرِيحٌ فِي الطَّلَاقِ فَقَدْ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ وَاسْتَحَقَّ الْبَدَلَ وَصَارَ كَمَا لَوْ أَجَابَهَا بِصَرِيحٍ عَنْ صَرِيحٍ.
وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْخُلْعَ كِنَايَةٌ، فَهُوَ عَلَى مَا مَضَى مِنْ إِجَابَتِهِ عَنِ الصَّرِيحِ بِالْكِنَايَةِ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ، وَعَلَيْهِ التَّفْرِيعُ فِيمَا نَذْكُرُهُ مِنَ الْأَقْسَامِ كُلِّهَا لِيَصِحَّ أَنْ يَكُونَ مُمَيَّزًا بِحُكْمٍ مَخْصُوصٍ فَعَلَى هَذَا فِي وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفُرْقَةَ قَدْ وَقَعَتْ، لِأَنَّ كِلَا اللَّفْظَيْنِ صَرِيحٌ فِي الْفُرْقَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تَقَعُ بِهِ الْفُرْقَةُ، وَلَا يَكُونُ جَوَابًا إِلَى مَا سَأَلَتْ، لِأَنَّهَا سَأَلَتْهُ طَلَاقًا يَنْقَضِي بِهِ مَا مَلَكَهُ عَلَيْهَا مِنْ عَدَدِ الطَّلَاقِ فَأَجَابَهَا إِلَى فَسْخٍ لَا يَنْقَضِي بِهِ عَدَدُ الطَّلَاقِ، فَصَارَ مُجِيبًا إِلَى غَيْرِ مَا سَأَلَتْ، فَلَمْ تَقَعْ بِهِ الْفُرْقَةُ، وَلَمْ يَسْتَحِقَّ به البدل.(10/34)
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَسْأَلَهُ بِكِنَايَةِ الطَّلَاقِ فَيُجِيبَهَا بِصَرِيحِهِ، كَأَنَّهَا قَالَتْ لَهُ: أَبِنِّي بِأَلْفٍ، فَقَالَ: قَدْ طَلَّقْتُكِ بِهَا، فَإِنَّهَا تُسْأَلُ عَنْ إِرَادَتِهَا دُونَهُ فَإِنْ أَرَادَتِ الطَّلَاقَ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَلَهُ الْأَلْفُ، لِأَنَّ الصَّرِيحَ أَقْوَى مِنَ الْكِنَايَةِ، وَإِنْ لَمْ تُرِدِ الزَّوْجَةُ بِالْكِنَايَةِ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ لِعَدَمِ الشَّرْطِ وَلَمْ يَسْتَحِقَّ الْبَدَلَ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: تَسْأَلُهُ بِكِنَايَةِ الطَّلَاقِ فَيُجِيبُهَا بِالْخُلْعِ كَأَنَّهَا قالت: أبني بألف، فقال لها: قد خالعتك بِهَا فَإِنَّهَا تُسْأَلُ عَنْ إِرَادَتِهَا بِالْكِنَايَةِ فَإِنْ لَمْ تُرِدِ الطَّلَاقَ، فَلَا خُلْعَ، وَإِنْ أَرَادَتِ الطَّلَاقَ فَفِي وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِلَفْظِ الْخُلْعِ وَجْهَانِ إِذَا قِيلَ: إِنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ كَمَا لَوْ سَأَلَتْهُ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ فَأَجَابَهَا بِالْخُلْعِ.
وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنْ تَسْأَلَهُ بِالْخُلْعِ فَيُجِيبَهَا بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ، كَأَنَّهَا قَالَتْ لَهُ: اخْلَعْنِي بِأَلْفٍ، فَقَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ بِأَلْفٍ، فَالطَّلَاقُ هَا هُنَا وَاقِعٌ، وَالْأَلْفُ مُسْتَحَقَّةٌ، لِأَنَّهَا سَأَلَتْهُ بِالْخُلْعِ فُرْقَةً لَا يَنْقُصُ بِهَا عَدَدُ الطَّلَاقِ، فَأَجَابَهَا بِالطَّلَاقِ الَّذِي تَقَعُ بِهِ الْفُرْقَةُ وَيَنْقُصُ بِهَا عَدَدُ الطَّلَاقِ فَصَارَ مَا أَجَابَهَا إِلَيْهِ أَكْثَرَ مِمَّا سَأَلَتْهُ مِنْهُ، وَخَالَفَ سُؤَالَهَا لِلطَّلَاقِ فَيُجِيبُهَا بِالْخُلْعِ، لِأَنَّ الْخُلْعَ انْقَضَى فَلَمْ يَصِرْ مُجِيبًا إِلَى مَا سَأَلَتْ.
وَالْقِسْمُ السَّادِسُ: أَنْ تَسْأَلَهُ بِالْخُلْعِ فَيُجِيبَهَا بِكِنَايَةِ الطَّلَاقِ كَأَنَّهَا قَالَتْ لَهُ: اخْلَعْنِي بِأَلْفٍ، فَقَالَ لَهَا: قَدْ أَبَنْتُكِ بِهَا، فَيُسْأَلُ عَنْ إِرَادَتِهِ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أن لا يُرِيدَ بِهِ الطَّلَاقَ فَيَصِيرَ بِالنِّيَّةِ طَلَاقًا، فَيَقَعُ الطَّلَاقُ وَتُسْتَحَقُّ الْأَلْفُ، وَيَصِيرُ كَأَنَّهَا سَأَلَتْهُ الْخُلْعَ، فَأَجَابَهَا بِالطَّلَاقِ فَيَقَعُ، لِأَنَّهُ أَغْلَظُ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُرِيدَ بِهِ فَسْخَ الْخُلْعِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ هَلْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً فِي فَسْخِ الْخُلْعِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ الْفَسْخَ لا يتعلق بالصفة، فيم يَصِحَّ بِالْكِنَايَةِ، فَعَلَى هَذَا لَا فُرْقَةَ وَلَا بَذْلَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَصِحُّ، وَيَكُونُ كِنَايَةً فِي الْفَسْخِ، كَمَا كَانَ كِنَايَةً فِي الطَّلَاقِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ سَأَلَتْهُ بِصَرِيحِ الْفَسْخِ فَأَجَابَهَا بِكِنَايَةٍ فَيَكُونُ وُقُوعُ الْفُرْقَةِ بِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ، كَمَا لَوْ سَأَلَتْهُ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ فَأَجَابَهَا بِكِنَايَةٍ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَن لا يُرِيدَ بِهِ طَلَاقًا وَلَا فَسْخًا فَلَا تَقَعُ بِهِ الْفُرْقَةُ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ:)
قَالَ الشافعي: (وَلَوْ قَالَتِ اخْلَعْنِي عَلَى أَلْفٍ كَانَتْ لَهُ أَلْفٌ مَا لَمْ يَتَنَاكَرَا) .(10/35)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْخُلْعَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ كَالْبَيْعِ يَنْزِلُ الزَّوْجُ فِيهِ مَنْزِلَةَ الْبَائِعِ، وَالزَّوْجَةُ مَنْزِلَةَ الْمُشْتَرِي، وَيَكُونُ الْعِوَضُ فِيهِ كَالثَّمَنِ، فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ مَعْلُومَ الْقَدْرِ وَالْجِنْسِ وَالصِّفَةِ، لِيَنْتَفِيَ عَنْهَا الْجَهَالَةُ كَالْأَثْمَانِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَصُورَةُ مَسْأَلَتِنَا: فِي امْرَأَةٍ خَالَعَتْ زَوْجَهَا عَلَى أَلْفٍ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: له الألف، ما لم يتناكرا. فتقول: إِنَّ هَذِهِ الْأَلْفَ قَدِ اسْتُفِيدَ بِهَا مَعْرِفَةُ الْقَدْرِ، وَبَقِيَ الْجِنْسُ وَالصِّفَةُ، فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُذْكَرَ الْجِنْسُ والصفة فَيَقُولَا أَلْفُ دِرْهَمٍ رَاضِيَّةٍ فَيُسْتَفَادُ بِذِكْرِ الدَّرَاهِمِ الْجِنْسُ وَيُسْتَفَادُ بِذِكْرِ الرَّضِيَّةِ الصِّفَةُ فَيَصِيرُ هَذَا الْعِوَضُ مَعْلُومَ الْقَدْرِ وَالْجِنْسِ وَالصِّفَةِ.
فَعَلَى هَذَا إِنْ تَنَاكَرَا الصِّفَةَ مَعَ اتِّفَاقِهِمَا فِي الْقَدْرِ وَالْجِنْسِ، فَقَالَ الزَّوْجُ: هِيَ رَاضِيَّةٌ، وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ: هِيَ سَلَامِيَّةٌ.
وَإِنِ اخْتَلَفَا وَلَا بَيِّنَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا تَحَالَفَا كَمَا يَتَحَالَفُ الْمُتَبَايِعَانِ إِذَا اخْتَلَفَا فَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الرَّاضِيَّةِ كَقِيمَةِ السَّلَامِيَّةِ تَحَالَفَا، وَلَمْ يَمْنَعْ تَسَاوِي قِيمَتِهَا مِنْ تَحَالُفِهِمَا، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي أَحَدِ النَّوْعَيْنِ غَرَضٌ، وَإِنْ لَمْ يَخْتَصَّ بِزِيَادَةِ قِيمَةٍ.
وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْجِنْسِ فَقَالَ الزَّوْجُ: أَلْفُ دِينَارٍ، وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ: أَلْفُ دِرْهَمٍ، تَحَالَفَا أَيْضًا، وَحُكِمَ لِلزَّوْجِ مَعَ تحالفهما بهر الْمِثْلِ، لِأَنَّ الْبُضْعَ قَدْ صَارَ مُسْتَهْلَكًا بِالطَّلَاقِ الْمَطْلُوبِ، فَاسْتَحَقَّ الزَّوْجُ قِيمَتَهُ وَقِيمَةَ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَجَرَى مَجْرَى تَحَالُفِهِمَا فِي الْبَيْعِ بَعْدَ اسْتِهْلَاكِ الْمُشْتَرِي لِلسِّلْعَةِ، فَيَلْزَمُهُ قِيمَتُهَا. وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْقَدْرِ فَقَالَ الزَّوْجُ: عَلَى أَلْفٍ، وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ: عَلَى مِائَةٍ، تَحَالَفَا وَرَجَعَ الزَّوْجُ عَلَيْهَا بَعْدَ التَّحَالُفِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، فَهَذَا قِسْمٌ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُذْكَرَ الْجِنْسُ وَيُغْفِلَا ذِكْرَ الصِّفَةِ فَيَقُولَا عَلَي أَلْف دِرْهَمٍ، فينتظر فَإِنْ كَانَ لِلْبَلَدِ نَقْدٌ غَالِبٌ فِي الدَّرَاهِمِ انْصَرَفَ إِطْلَاقُ الْجِنْسِ إِلَى الْأَغْلَبِ مِنْ دَرَاهِمِ الْبَلَدِ، لِأَنَّهُ عُرْفٌ يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَيْهِ، كَمَا تَقُولُ فِيمَنْ بَاعَ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَمْ يَصِفْهَا أَنَّهَا تَكُونُ مِنْ غَالِبِ دَرَاهِمِ الْبَلَدِ، فَلَوْ كَانَ لِلْبَلَدِ أَنْوَاعٌ مِنَ الدَّرَاهِمِ، وَلَيْسَ أَحَدُهما بِأَغْلَبَ مِنْ غَيْرِهِ بَطَلَ الْبَيْعُ، وَفَسَدَ الْخُلْعُ، لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ عُرْفٌ يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَيْهِ، وَإِذَا حُمِلَ إِطْلَاقُ الدَّرَاهِمِ عَلَى الْأَغْلَبِ من دَرَاهِمِ الْبَلَدِ فَاخْتَلَفَا فِي الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ تَحَالَفَا.
كَذَلِكَ لَوِ اخْتَلَفَا فِي الْإِطْلَاقِ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا لِيَسْتَحِقَّ بِهِ الْأَغْلَبَ مِنْ دَرَاهِمِ الْبَلَدِ فَاخْتَلَفَا فِي الْجِنْسِ أَوِ الْقَدْرِ تَحَالَفَا وَادَّعَى غَيْرُهُ تَعْيِينَهُ بِصِفَةٍ مِنْ دَرَاهِمَ غَيْرِهَا تَحَالَفَا وَحُكِمَ لَهُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ مِنْ غَالِبِ نُقُودِ الْمَهْرِ.(10/36)
والقسم الثالث: أن لا يَذْكُرَ بَعْدَ الْقَدْرِ جِنْسًا وَلَا صِفَةً فَيَقُولَانِ عَلَي أَلْف وَلَا يَقُولَا مِنْ أَيِّ شَيْءٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَا قَدْ أَشَارَا إِلَى جِنْسٍ وَصِفَةٍ قَدْ تَقَرَّرَا بَيْنَهُمَا قَبْلَ الْعَقْدِ، فَيُحْمَلَانِ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ عِنْدَهُمَا وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا عِنْدَ غَيْرِهِمَا فَإِنِ اخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ تَحَالَفَا عَلَى مَا مَضَى.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُشِيرَا بِذَلِكَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَجْنَاسِ فَهَذَا خلع فاسد يَقَعُ فِيهِ الطَّلَاقُ بَائِنًا وَيَسْتَحِقُّ فِيهِ الزَّوْجُ مَهْرَ الْمِثْلِ، لِأَنَّ إِطْلَاقَ الْقَدْرِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ جِنْسٍ مِنْ دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ وَثِيَابٍ وَعَبِيدٍ فَصَارَ الْعِوَضُ مَجْهُولًا فَبَطَلَ وَلَمْ يَبْطُلِ الْخُلْعُ، لِاسْتِهْلَاكِ الْبُضْعِ فِيهِ بِالطَّلَاقِ، فَأَوْجَبَ مَهْرَ الْمِثْلِ، لِأَنَّهُ عَنْ بَدَلٍ فَاسِدٍ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا حَمَلْتُمْ إطلاق الألف على الأغلب مما يتعامل به أهل البلد وهو الدراهم كما حملتم إطلاق الدراهم عَلَى الْأَغْلَبِ مِنْ دَرَاهِمِ الْبَلَدِ.
قِيلَ: لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُذْكَرِ الْجِنْسُ كَثُرَتْ فِيهِ الْجَهَالَةُ فَبَطَلَ، وَإِذَا ذُكِرَ الْجِنْسُ قَلَّتْ فِيهِ الْجَهَالَةُ فَصَحَّ فَعَلَى هَذَا إِنِ اخْتَلَفَا فِي هَذَا الْقِسْمِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَدَّعِيَ أَحَدُهُمَا إِطْلَاقَ الْأَلْفِ وَيَدَّعِيَ الْآخَرُ تَعْيِينَهَا بِذِكْرِ الْجِنْسِ فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ، لِأَنَّ مُدَّعِي إِطْلَاقِ الْأَلْفِ يَدَّعِي مَهْرَ الْمِثْلِ، وَمُدَّعِي ذِكْرِ الْجِنْسِ يَدَّعِيهَا من ذلك الجنس فيتخالفان وَمُدَّعِي مِثْلِ هَذَا فِي الْبَيْعِ لَا يُوجِبُ التخالف، لِأَنَّ أَحَدَ الْمُتَبَايِعَيْنِ لَوْ قَالَ: تَبَايَعْنَا هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفٍ لَمْ نُسَمِّهَا وَقَالَ الْآخَرُ بَلْ بِأَلْفٍ سَمَّيْنَاهَا وَذَكَرَ جِنْسَهَا فَلَا تَحَالُفَ بَيْنَهُمَا وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ أَنْكَرَ ذِكْرَ الْجِنْسِ لأنه يذكر فساد العقد والآخر يدعي صحته، وإذا اختلفا فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ وَفَسَادِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنِ ادَّعَى فَسَادَهُ دُونَ صِحَّتِهِ، لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلْعَقْدِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْخُلْعُ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ فِي صحيحه وفاسده فتخالفا عَلَى صَحِيحِهِ وَفَاسِدِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَن لا يَدَّعِيَ أَحَدُهُمَا ذِكْرَ الْجِنْسِ وَلَكِنْ يَقُولُ أَحَدُهُمَا: أَرَدْنَاهُ بِقُلُوبِنَا وَيَقُولُ الَآخَرُ: لَمْ نُرِدْهُ، أَوْ يقول أحدهما: أردنا الدراهم، ويقول الآخر: أدرنا الدَّنَانِيرَ فَفِي جَوَازِ تَحَالُفِهِمَا فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ ضَمَائِرَ الْقُلُوبِ لَا تُعْلَمُ إِلَّا بِالْقَوْلِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَتَحَالَفَا لأنه قد يكون بينهما من أمارات الأحوال مَا تَدُلُّ عَلَى ضَمَائِرِ الْقُلُوبِ كَالْأَحْوَالِ وَاللَّهُ أعلم.
(مسألة:)
قال الشافعي: (فَإِنْ قَالَتْ عَلَيَّ أَلْفٌ ضَمِنَهَا لَكَ غَيْرِي أَوْ عَلَى أَلْف فَلْسٍ وَأَنْكَرَ تَحَالَفَا وَكَانَ لَهُ عَلَيْهَا مَهْرُ مِثْلِهَا) .(10/37)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: جَمَعَ الشَّافِعِيُّ هَا هُنَا بَيْنَ مَسْأَلَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ تَقُولَ الزَّوْجَةُ خَالَعْتُكَ عَلَى أَلْفِ فَلْسٍ، وَيَقُولَ الزَّوْجُ: بَلْ خَالَعْتُكِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَقَدِ اتَّفَقَا عَلَى الْخُلْعِ، وَاخْتَلَفَا فِي الْعِوَضِ، فَيَتَحَالَفَانِ وَيَقَعُ طَلَاقُهُ بَائِنًا، وَيُحْكَمُ لَهُ عَلَيْهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ، عَلَى مَا مَضَى.
وَمَا أَجَابَ بِهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ تَحَالُفِهِمَا فِيهَا صَحِيحٌ.
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَهُوَ أَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ: خَالَعْتُكِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَيْكِ، فَتَقُولُ: خَالَعْتَنِي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ ضَمِنَهَا لَكَ غَيْرِي فَهَذَا ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَقُولَ الزَّوْجَةُ قَدْ خَالَعْتُكَ عَلَيْهَا لَكِنْ ضَمِنَهَا لَكِ فُلَانٌ عَنِّي فَلَا تَحَالُفَ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ الضَّمَانَ زِيَادَةُ وَثِيقَةٍ لَا تَبْرَأُ بِهِ الْمَضْمُونَ عَنْهُ، وَلَهُ مُطَالَبَتُهَا بِالْأَلْفِ لِأَنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مُطَالَبَةَ الْمَضْمُونِ عَنْهُ وَلَا يَكُونُ الضَّمَانُ مَانِعًا مِنْ مُطَالَبَتِهِ فهذا القسم مما لا تخالف فِيهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ وَلَا يَتَنَاوَلُهُ مُرَادُ الشَّافِعِيِّ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَقُولَ: خَالَعْتَنِي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ لِي فِي ذِمَّةِ غَيْرِي، وَيَقُولُ الزَّوْجُ: بَلْ خَالَعْتُكِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فِي ذِمَّتِكِ فَقَدِ اتَّفَقَا فِي هَذَا الْقِسْمِ عَلَى الْخُلْعِ وَاخْتَلَفَا فِي الْأَلْفِ، فَالزَّوْجُ يَدَّعِي أَنَّهَا ألف في ذمتها والزوجة تتدعي أَنَّهَا أَلْفٌ فِي ذِمَّةِ غَيْرِهَا، وَمَا فِي ذِمَّتِهَا غَيْرُ مَا فِي ذِمَّةِ غَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَ جَمِيعًا فِي مِلْكِهَا فَصَارَ ذَلِكَ كَاخْتِلَافِهِمَا فِي الْعِوَضِ فَيَقُولُ الزَّوْجُ: خَالَعْتُكِ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ، فَتَقُولُ الزَّوْجَةُ: بَلْ خَالَعْتَنِي عَلَى هَذَا العبد الآخر فيتحالفان كذلك ها هنا، لِأَنَّ اخْتِلَافَ الذِّمَّتَيْنِ كَاخْتِلَافِ الْعَبْدَيْنِ وَيَكُونُ لَهُ مَهْرُ الْمِثْلِ فِي ذِمَّتِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقِسْمُ هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ الشَّافِعِيُّ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ خَالَعْتُكِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَتَقُولَ الزَّوْجَةُ بَلْ خَالَعَكَ فُلَانٌ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَيْهِ دُونِي، فَهَذِهِ مِثْلُ أَنْ تَكُونَ قَدْ خَالَعَتْهُ بِشَيْءٍ وَمُقِرَّةً بِغَيْرِهَا بِأَنَّهُ خَالَعَ الزَّوْجَ عَنْهَا فَلَا تَحَالُفَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهَا مُنْكِرَةٌ لِلْعَقْدِ، وَالتَّحَالُفُ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِالْعَقْدِ وَالِاخْتِلَافِ فِي صِفَةٍ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهَا مَعَ يَمِينِهَا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا عَلَى الْغَيْرِ بِأَنَّهُ خَالَعَ الزَّوْجَ عَنْهَا، ويقع طلاق الزوج بائنا لأنه مقراً بِأَنَّهَا بَانَتْ مِنْهُ بِأَلْفٍ قَدِ اسْتَحَقَّهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْأَلْفُ بِالْجُحُودِ فينبغي أن لا يَلْزَمَهُ الطَّلَاقُ بِالْإِقْرَارِ، كَمَا لَوِ ادَّعَى أَنَّهُ بَاعَ عَبْدَهُ عَلَى زَيْدٍ بِأَلْفٍ وَأَنْكَرَهُ زَيْدٌ لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنِ الْعَبْدِ وَإِنِ اعْتَرَفَ بِبَيْعِهِ عَلَى زَيْدٍ، لِأَنَّ الثَّمَنَ لَمْ يَحْصُلْ بِهِ بِجُحُودِ زِيدٍ. قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَنْفَكُّ عَنِ الثَّمَنِ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الثَّمَنُ لَمْ(10/38)
يَلْزَمْهُ الْبَيْعُ، وَالطَّلَاقُ قَدْ يَنْفَكُّ عَنِ الْعِوَضِ، فَجَازَ أَنْ يَلْزَمَهُ الطَّلَاقُ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْعِوَضُ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ يَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا فِي التَّحَالُفِ وَالْعِوَضِ.
فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ لَا تَحَالُفَ فِيهِ، وَيُسْتَحَقُّ فِيهِ الْعِوَضُ فَلَا يَدْخُلُ فِيمَا ذكره الشافعي من التحالف.
والقسم الثاني:
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: لَا يَتَحَالَفَانِ فِيهِ وَلَا يُسْتَحَقُّ فِيهِ الْعِوَضُ وَلَا يَدْخُلُ فِيمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ من التحالف والله أعلم.
(مسألة:)
قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَتْ لَهُ طَلِّقْنِي وَلَكَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَالَ أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى الْأَلْفِ إِنْ شِئْتِ فَلَهَا الْمَشِيئَةُ وَقْتَ الْخِيَارِ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى سُؤَالَيْنِ وَجَوَابَيْنِ فَالسُّؤَالَانِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُ الْمَرْأَةِ: طَلِّقْنِي عَلَى أَلْفٍ. وَالثَّانِي: قَوْلُ الرَّجُلِ إِنْ شِئْتِ.
وَأَمَّا الْجَوَابَانِ فَأَحَدُهُمَا قَوْلُ الرَّجُلِ: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ.
وَالثَّانِي: قَوْلُ الْمَرْأَةِ: إِنْ شِئْتُ، فَإِذَا بَدَأَتِ الْمَرْأَةُ بِالطَّلَبِ فَقَالَتْ: طَلِّقْنِي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَإِنْ عَجَّلَ جَوَابَهَا فِي الْحَالِ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ، تَمَّ الْخُلْعُ بِسُؤَالٍ وَاحِدٍ وَجَوَابٍ وَاحِدٍ،. وَصَارَ سُؤَالُهَا طَلَبًا وَجَوَابُهُ إِيجَابًا، فَتَمَّ الْخُلْعُ، وَلَمْ تَحْتَجِ الْمَرْأَةُ إِلَى الْقَبُولِ بَعْدَ الْإِيجَابِ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَجَّلْ طَلَاقُ الرَّجُلِ لَهَا حَتَّى تَرَاخَى خَرَجَ طَلَاقُهُ عَنْ حُكْمِ الْإِيجَابِ وَصَارَ بَدَلًا وَكَأَنَّهُ ابْتَدَأَهَا مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ مِنْهَا فَقَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ فَلَا يَتِمُّ الْخُلْعُ بَعْدَ بَذْلِهِ حَتَّى تَقُولَ الزَّوْجَةُ فِي الْحَالِ: قَدْ قَبِلْتُ، فَيَتِمُّ الْخُلْعُ بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ، لِأَنَّ تَرَاخِيَ جَوَابِ الزَّوْجِ عَنْ طَلَبِ الزَّوْجَةِ يُخْرِجُهُ مِنْ حُكْمِ الْإِيجَابِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَى الْفَوْرِ بَعْدَ الطَّلَبِ، وَيَجْعَلُهُ حُكْمَ الْبَذْلِ الْمُسْتَبْدَأِ. فَأَمَّا إِنْ قَيَّدَ الزَّوْجُ جَوَابَهُ بِشَرْطٍ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَقَالَ عَقِيبَ قَوْلِهَا: طَلِّقْنِي عَلَى أَلْفٍ: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ إِنْ شِئْتِ، فَتَمَامُ الْخُلْعِ أَنْ يُوجَدَ مِنْهَا شَرْطُ الطَّلَاقِ، فَتَقُولُ: قَدْ شِئْتُ، وَلَا يَمْنَعُ وُقُوعَ الْخُلْعِ بِهَذَا الشَّرْطِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ بِالصِّفَاتِ وَبِالشُّرُوطِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَشِيئَتُهَا وَإِنْ كَانَتْ بِالْقَلْبِ فَلَا تُعْلَمُ إِلَّا بِقَوْلِهَا: قَدْ شِئْتُ، فَإِذَا قَالَتْ: قَدْ شِئْتُ، صَارَ الْقَوْلُ مَشِيئَةً مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ اخْتِيَارًا عَنْهَا، وَمِنْ شُرُوطِ الْمَشِيئَةِ أَنْ تَكُونَ عَلَى الْفَوْرِ، فَإِنَّهَا لَا تَصِيرُ قبولاً(10/39)
لِبَذْلٍ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ (فَلَهَا الْمَشِيئَةُ فِي وَقْتِ الْخِيَارِ) فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ وَقْتَ الْخِيَارِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ إِنَّهُ أَرَادَ خِيَارَ الْقَبُولِ بَعْدَ الْبَذْلِ، فَعَلَى هَذَا مِنْ صِحَّةِ مَشِيئَتِهَا أَنْ تَكُونَ عَلَى الْفَوْرِ، مِنْ غَيْرِ مُهْلَةٍ، كَمَا يَكُونُ قَبُولُ الْبَذْلِ عَلَى الْفَوْرِ مِنْ غَيْرِ مُهْلَةٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ إنَّهُ أَرَادَ خِيَارَ الْجَوَابِ بَعْدَ السُّؤَالِ وَهُوَ أَنْ تَشَاءَ فِي الْمَجْلِسِ قَبْلَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ وَبَعْدَهُ، وَقَبْلَ أَخْذِهَا فِي غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مُهْلَةٌ يَسِيرَةٌ، كَمَا يَكُونُ فِي الْعَرب جَوَابًا لِلسُّؤَالِ، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ إِنْ تَرَاخَى زَمَانُ مَشِيئَتِهَا لَمْ يَصِحَّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: خِيَارُهَا فِي الْمَشِيئَةِ مُمْتَدٌّ عَلَى التَّرَاخِي.
وَأَصْلُهُ اخْتِلَافُنَا وَإِيَّاهُ إِذَا قَالَ لَهَا: اخْتَارِي نَفْسَكِ، فَعِنْدَهُ إنَّ خِيَارَهَا مُمْتَدٌّ، وَعِنْدَنَا إنَّ خِيَارَهَا عَلَى الْفَوْرِ وَالْكَلَامُ مَعَهُ يَأْتِي.
(فَصْلٌ:)
وَلَوْ قَالَتْ لَهُ: طَلِّقْنِي بِأَلْفٍ، فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ إِنْ كُنْتِ حَائِلًا، فَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ حَائِلًا وَقَعَ الطَّلَاقُ بَائِنًا، وَكَانَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ دُونَ الْأَلْفِ لِأَنَّ الْخُلْعَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِصِفَةٍ، فَلِذَلِكَ بَطَلَ الْمُسَمَّى فِيهِ لِبُطْلَانِهِ وَوَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَلَا يُحْكَمُ لَهُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ إِلَّا بَعْدَ وَضْعِهَا لِيُعْلَمَ بِهِ يَقِينُ حَمْلِهَا، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ غَلَطًا، وَفِي تَحْرِيمِ وَطْئِهَا عَلَيْهِ فِي حَالِ الْحَمْلِ وَقَبْلَ الوضع وجهان.
(مسألة:)
قال الشافعي: (وَإِنْ أَعْطَتْهُ إِيَّاهَا فِي وَقْتِ الْخِيَارِ لَزِمَهُ الطَّلَاقُ وَسَوَاءٌ هَرَبَ الزَّوْجُ أَوْ غَابَ حَتَّى مَضَى وَقْتُ الْخِيَارِ أَوْ أَبْطَأَتْ هِيَ بِالْأَلْفِ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا الْكَلَامُ الَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ ها هنا عَنِ الشَّافِعِيِّ مَبْتُورٌ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ.
فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ عَطْفٌ عَلَى الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا إِذَا قَالَتْ لَهُ طَلِّقْنِي عَلَى أَلْفٍ، فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ إِنْ شِئْتِ، فَإِنْ شَاءَتْ فِي وَقْتِ الْخِيَارِ عَلَى الْفَوْرِ لَزِمَهُ، سَوَاءً أَعْطَتْهُ الْأَلْفَ فِي وَقْتِ الْخِيَارِ، أَوْ أَخَّرَتْهَا لِهَرَبِ الزَّوْجِ، أَوْ لِإِبْطَائِهَا لِأَنَّ الْعَطِيَّةَ تَصِيرُ شَرْطًا فِي الْقَبُولِ فَيُرَاعَى فِيهَا الْفَوْرُ.
وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا بَلْ هِيَ مَسْأَلَةٌ مُبْتَدَأَةٌ أَغْفَلَ الْمُزَنِيُّ ذِكْرَهَا، وَنَقْلَ جَوَابِهَا، وَقَدْ نَقَلَهَا الرَّبِيعُ فِي كِتَابِ الْأُمِّ، وَذَكَرَ فِيهَا هَذَا الْجَوَابَ، وَصُورَتُهَا: أَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ لِامْرَأَتِهِ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فأنت طالق، فإذا أَعْطَتْهُ فِي وَقْتِ الْخِيَارِ عَاجِلًا وَقَعَ(10/40)
الطَّلَاقُ، وَإِنْ أَخَّرَتْ دَفْعَ الْأَلْفِ إِمَّا لِسَبَبٍ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ بِأَنْ غَابَ أَوْ هَرَبَ، وَإِمَّا لِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهَا بِأَنْ أَبْطَأَتْ لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ، لِأَنَّ دَفْعَ الْأَلْفِ قَدْ صَارَ شَرْطًا فِي الْخُلْعِ فَرُوعِيَ فِيهِ الْفَوْرُ كَالْقَبُولِ لَكِنَّ الْفَوْرَ فِيهِ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْجَوَابِ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا مُهْلَةٌ يَسِيرَةٌ وَجْهًا وَاحِدًا، بِخِلَافِ الْمَشِيئَةِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، لِأَنَّ هَذَا فِعْلٌ وَالْمَشِيئَةَ قَوْلٌ وزمان الفعل أوسع ومن زَمَانِ الْقَوْلِ.
ثُمَّ نَقَلَ الرَّبِيعُ فِي الْأُمِّ مَعَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا مَسْأَلَةً ثَالِثَةً أغفلها المزني ها هنا، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لَهَا الزَّوْجُ: إِنْ ضَمِنْتِ لِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنْ ضَمِنَتْهَا عَلَى الْفَوْرِ فِي الْحَالِ طُلِّقَتْ سَوَاءً دَفَعَتْهَا فِي الْحَالِ، أَوْ أَخَّرَتْهَا، وَإِنْ لَمْ تَضْمَنْهَا عَلَى الْفَوْرِ حَتَّى تَرَاخَى الْوَقْتُ لَمْ تُطَلَّقْ سَوَاءً دَفَعَتْهَا فِي الْحَالِ، أَوْ أَخَّرَتْهَا، لِأَنَّ شَرْطَ الْخُلْعِ هُوَ الضَّمَانُ دُونَ الدَّفْعِ فَلِذَلِكَ رُوعِيَ تعجيل الضمان، ولم يراعى تعجيل الدفع والفور ها هنا مُعْتَبَرٌ بِفَوْرِ الْقَبُولِ بَعْدَ الْبَذْلِ وَجْهًا وَاحِدًا بِخِلَافِ الْمَشِيئَةِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، لِأَنَّهُمَا، وَإِنْ كَانَا مَعًا بِالْقَوْلِ فَالضَّمَانُ قَبُولٌ مَحْضٌ فَسَاوَاهُ، وَالْمَشِيئَةُ جَارِيَةٌ مَجْرَاهُ فَصَارَ تَحْرِيرُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ أَنَّهُ مَتَى عُلِّقَ الْخُلْعُ بِدَفْعِ الْأَلْفِ رُوعِيَ فِيهِ خِيَارُ الْجَوَابِ فَجَازَ بَعْدَ مُهْلَةٍ يَسِيرَةٍ، وَإِنْ عُلِّقَ بِضَمَانِ الْأَلْفِ رُوعِيَ فِيهِ خِيَارُ الْقَبُولِ، فَلَمْ يَجُزْ بَعْدَ مُهْلَةٍ يَسِيرَةٍ وَإِنْ عُلِّقَ بِالْمَشِيئَةِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُرَاعَى فِيهِ خِيَارُ الْجَوَابِ كَالدَّفْعِ.
وَالثَّانِي: يُرَاعَى فِيهِ خِيَارُ الْقَبُولِ كَالضَّمَانِ.
(فَصْلٌ:)
فَأَمَّا إِنِ اخْتَلَفَ حرف الشرط بأن وإذا، فَهُمَا مَعًا حَرْفَا شَرْطٍ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي خُلْعٍ يُسْتَحَقُّ فِيهِ الْعِوَضُ فَيَقُولُ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ إِنْ شِئْتِ، أَوْ يَقُولُ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ إِذَا شِئْتِ، فَهُمَا سَوَاءٌ وَيُعْتَبَرُ وُجُودُ الْمَشِيئَةِ مِنْهُمَا عَلَى الْفَوْرِ: وَ (إِذَا) ، لِأَنَّ دُخُولَ الْعِوَضِ فِيهِ يَجْعَلُهُ تَمْلِيكًا يُرَاعَى فِيهِ حُكْمُ الْقَبُولِ فَاسْتَوَى حُكْمُ إذا وإن فِي اعْتِبَارِ الْفَوْرِ فِيهِمَا فَإِنْ تَرَاخَى الْوَقْتُ فِي أَحَدِهِمَا بَطَلَ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ خُلْعٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ، فَإِنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شِئْتِ، رُوعِيَ مَشِيئَتُهَا عَلَى الْفَوْرِ فَإِنْ تَرَاخَتْ بَطَلَتْ، وَلَمْ تُطَلَّقْ وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِذَا شِئْتِ صَحَّتْ مَشِيئَتُهَا عَلَى التَّرَاخِي، فَمَتَى شَاءَتْ طُلِّقَتْ، لِأَنَّهُمَا وإن كانا حرفي شرط (فإن) شَرْطٌ فِي الْفِعْلِ، وَ (إِذَا) شَرْطٌ فِي الْوَقْتِ، لِأَنَّهُ يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: إِنْ تَأْتِنِي آتِكَ، وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: إِذَا تَأْتِينِي آتِكَ، فَلَمَّا كَانَتْ إِنْ شَرْطًا فِي الْفِعْلِ، وهو(10/41)
مَقْصُودٌ رَوْعِيَ تَقْدِيمُهُ فَصَارَ عَلَى الْفَوْرِ، وَلَمَّا كَانَ (إِذَا) شَرْطًا فِي الْوَقْتِ، وَكَانَ جَمِيعُهُ مُتَسَاوِيًا صَارَ عَلَى التَّرَاخِي. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَدْخُلَ مَعَهُمَا حَرْفُ النَّفْيِ فَيَكُونُ حُكْمُهُمَا بِضِدِّ مَا تَقَدَّمَ مِثَالُهُ أَنْ يَقُولَ: إِنْ لَمْ تَشَائِي فَأَنْتِ طَالِقٌ فَيَكُونُ عَلَى التَّرَاخِي، فَمَتَى شَاءَتْ لَمْ تُطَلَّقْ، وَلَوْ قَالَ: إِذَا لَمْ تَشَائِي فَأَنْتِ طَالِقٌ فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى الْفَوْرِ، فَإِنْ شَاءَتْ فِي الْحَالِ لَمْ تُطَلَّقْ وَإِنْ لم تشاء حتى تراخي الزمان طلقت، كمن لم تشاء لأنهما وإن كان حرفي شرط فإن مَوْضُوعَةٌ لِلشَّكِّ وَالتَّوَهُّمِ فَصَارَتْ بِالنَّفْيِ عَلَى التَّرَاخِي لتفيد بفوات الفعل يقيناً فذلك جُعِلَتْ عَلَى التَّرَاخِي، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلْيَقِينِ، فَإِذَا تَأَخَّرَ الْفِعْلُ عَنْ وَقْتِ إِمْكَانِهِ فَقَدْ خَالَفَ مَوْضُوعَهُ فَلِذَلِكَ صَارَ عَلَى الفور.
(مسألة:)
قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَعْطَتْهُ إِيَّاهَا زَائِدَةً فَعَلَيْهِ طَلْقَةٌ لِأَنَّهَا أَعْطَتْهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَزِيَادَةً) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَدْ ذَكَرْنَا إِنْ أَعْطَتْهُ الْأَلْفَ يَكُونُ عَلَى الْفَوْرِ فِي وَقْتِ الْخِيَارِ، وَهُوَ خِيَارُ الْجَوَابِ، لَا خِيَار الْقَبُولِ، فَإِذَا أَعْطَتْهُ الْأَلْفَ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تُعْطِيَهُ أَلْفًا كَامِلَةً مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ، فَقَدْ طُلِّقَتْ وَاحِدَةً إِنْ لَمْ يُرِدِ الزَّوْجُ بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ أَكْثَرَ مِنْهَا، وَسَوَاءٌ دَفَعَتِ الْأَلْفَ إِلَيْهِ فِي دَفْعَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ فِي دَفَعَاتٍ إِذَا كَانَ دَفْعُ جَمِيعِهَا فِي وَقْتِ الْخِيَارِ، لِأَنَّ دَفْعَ الْأَلْفِ قَدْ وُجِدَ مَعَ الِافْتِرَاقِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَدْفَعَ إِلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ، كَأَنَّهَا دَفَعَتْ إِلَيْهِ أَلْفَيْنِ، فَإِنْ دَفَعَتِ الزِّيَادَةَ مُفْرَدَةً طُلِّقَتْ إِجْمَاعًا، وَإِنْ دَفَعَتِ الزِّيَادَةَ مَعَ الْأَلْفِ فَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِرَاقِ إِلَى أَنَّهَا لَا تُطَلَّقُ، وَتَكُونُ الزِّيَادَةُ مُعْتَبَرَةً بِصِفَةِ الشَّرْطِ كَالنُّقْصَانِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: قَدْ بِعْتُكَ دَارِي بِأَلْفٍ فَقَالَ قَدِ اشْتَرَيْتُهَا بِأَلْفَيْنِ لَمْ يَصِحَّ، وَإِنْ كَانَتِ الْأَلْفُ دَاخِلَةً فِيهَا فَكَذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ وُجُودَ الصِّفَةِ مَعَ الزِّيَادَةِ لَا تَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ حُكْمِهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، كَمَا لَوْ أَعْطَتْهُ أَلْفًا وَعَبْدًا طُلِّقَتْ، وَلَا يَمْنَعُ زِيَادَةَ الْعَبْدِ مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ لِوُجُودِ الْأَلْفِ، كَذَلِكَ لَا تَمْنَعُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَلْفِ مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، لِوُجُودِ الْأَلْفِ فَأَمَّا النُّقْصَانُ فَلَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ، لِعَدَمِ الْأَلْفِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْبَيْعِ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الطَّلَاقَ مُعَلَّقٌ بِصِفَةٍ فَلَمْ تَمْنَعِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا مِنْ ثُبُوتِ حُكْمِهَا، وَالْبَيْعُ مُعَاوَضَةٌ تَتمّ بِالْقَبُولِ الْمُوَافِقِ لِلْبَدَلِ فَافْتَرَقَا فَإِذَا تَقَرَّرَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ مَعَ دَفْعِ الزِّيَادَةِ، فَلَهَا اسْتِرْجَاعُ الزِّيَادَةِ، وَلَا يَمْلِكُهَا الزَّوْجُ بِالْأَخْذِ وَإِنْ مَلَكَ الْأَلْفَ إِلَّا أَنْ يَقْبِضَهَا بِالْهِبَةِ فَيَمْلِكَهَا بِالْهِبَةِ وَيَمْلِكَ الْأَلْفَ بالخلع.(10/42)
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَدْفَعَ إِلَيْهِ أَقَلَّ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ نُقْصَانُهَا فِي الْعَدَدِ دُونَ الْوَزْنِ كَأَنَّهَا دَفَعَتْ إِلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَازِنَةً عَدَدُهَا أَقَلُّ مِنْ أَلْفٍ، فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ لِأَنَّ الطَّلَاقَ بِإِطْلَاقِ الدَّرَاهِمِ يَتَنَاوَلُ الْوَازِنَةَ دُونَ الْمَعْدُودَةِ شَرْعًا كَالزَّكَاةِ، وَعُرْفًا كَالْبَيْعِ، فَصَارَتِ الصِّفَةُ مَوْجُودَةً بِكَمَالِ الْوَزْنِ مَعَ نُقْصَانِ الْعَدَدِ فَلِذَلِكَ وَقَعَ الطَّلَاقُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ نَاقِصَةَ الْوَزْنِ كَامِلَةَ الْعَدَدِ، فَلَا طَلَاقَ، لِأَنَّ الصِّفَةَ لَمْ تَكْمُلْ شَرْعًا وَلَا عُرْفًا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي بَلَدٍ جَرَتْ عَادَةُ أَهْلِهِ أَنْ يَتَعَامَلُوا فِيهِ بِالدَّرَاهِمِ عَدَدًا لَا وَزْنًا، فَيَقَعُ الطَّلَاقُ بِكَمَالِ العدد مع نقصان الوزن تغلبياً لِلْعُرْفِ دُونَ الشَّرْعِ، وَلَا تُطَلَّقُ مَعَ هَذَا الْعُرْفِ بِنُقْصَانِ الْعَدَدِ مَعَ كَمَالِ الْوَزْنِ.
(مَسْأَلَةٌ:)
قال الشافعي: (وَلَوْ أَعْطَتْهُ إِيَّاهَا رَدِيئَةً فَإِنْ كَانَتْ فِضَّةً يَقَعُ عَلَيْهَا اسْمُ دَرَاهِمَ طُلِّقَتْ وَكَانَ عَلَيْهَا بَدَلُهَا فَإِنْ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا اسْمُ دَرَاهِمَ لَمْ تُطَلَّقْ) . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا قَالَ لَهَا: إِنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعَيِّنَ تِلْكَ الْأَلْفَ فَيَقُولُ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي هَذِهِ الْأَلْفَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إِلَّا بِدَفْعِهَا، فَإِنْ أَعْطَتْهُ غَيْرَهَا لَمْ تُطَلَّقْ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَهَا أَوْ أَجْوَدَ مِنْهَا لِعَدَمِ الشَّرْطِ فِي دفع غيرها.
والضرب الثاني: أن لا يُعَيِّنَ الْأَلْفَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنْ يصف الألف.
والثاني: أن لا يَصِفَهَا.
فَإِنْ وَصَفَهَا كَانَ دَفْعُهَا عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ شَرْطًا فِي وُقُوعِ طَلَاقِهَا، وَإِنْ دَفَعَتْهَا عَلَى غَيْرِ تِلْكَ الصِّفَةِ سَوَاءٌ كَانَ مَا دَفَعَتْهُ مِنْ غَالِبِ دَرَاهِمِ الْبَلَدِ، أَوْ مِنْ غَيْرِهَا إِذَا لَمْ تُوجَدْ تِلْكَ الصِّفَةُ فِيهَا ثُمَّ إِذَا دَفَعَتْهَا عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ مَلَكَهَا.
والضرب الثاني: أن لا يَصِفَ الْأَلْفَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لِلْبَلَدِ نَقْدٌ غَالِبٌ مِنَ الدَّرَاهِمِ فَهَلْ يَصِيرُ نَقْدُ الْبَلَدِ كَالصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهَا أَوْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَصِيرُ كَالصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ فَإِنْ دَفَعَتْ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ لَمْ تُطَلَّقْ وَإِنْ كَانَ اسْمُ الدَّرَاهِمِ عَلَيْهَا مُنْطَلِقًا، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ نَقْدُ الْبَلَدِ كَالصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ فِي(10/43)
الْعُقُودِ كَانَ كَذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ فَعَلَى هَذَا إِنْ دَفَعَتْ إِلَيْهِ مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ طُلِّقَتْ وَمَلَكَهَا، وَإِنْ دَفَعَتْ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ لَمْ تُطَلَّقْ وَلَمْ يَمْلِكْهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: دُونَ الْعُرْفِ فَإِنْ دَفَعَتْ إِلَيْهِ مِنْ غَالِبِ دَرَاهِمِ الْبَلَدِ، طُلِّقَتْ، وَمَلَكَ تِلْكَ الدَّرَاهِمَ، وَإِنْ دَفَعَتْ مِنْ غَيْرِ دَرَاهِمِ الْبَلَدِ طُلِّقَتْ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ تِلْكَ الدَّرَاهِمَ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهَا بِعَقْدٍ فَاعْتُبِرَ فِيهَا الْعُرْفُ مِنْ غَالِبِ دَرَاهِمِ الْبَلَدِ وَاعْتُبِرَ فِي الطَّلَاقِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الطَّلَاقِ، وَكَانَ لَهُ عَلَيْهَا أَلْفٌ مِنْ غَالِبِ دَرَاهِمِ الْبَلَدِ، لِأَنَّهَا تُمْلَكُ عَنْ مُعَاوَضَةٍ تُعْتَبَرُ فِيهَا غَالِبُ الدَّرَاهِمِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لِلْبَلَدِ نُقُودٌ مُخْتَلِفَةٌ وَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهَا بِأَغْلَبَ مِنْ غَيْرِهِ فَأَيُّ دَرَاهِمَ دَفَعَتْهَا إِلَيْهِ مِمَّا يَنْطَبِقُ اسْمُ الدَّرَاهِمِ عَلَيْهَا طُلِّقَتْ بِهَا، وَلَمْ يَمْلِكْهَا الزَّوْجُ، وَكَانَ لَهُ عَلَيْهَا مَهْرُ مِثْلِهَا قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّهُ لَيْسَ الْعِوَضُ مُعَيَّنًا وَلَا مَوْصُوفًا وَلَا فِيهِ نَقْدٌ مُسْتَحَقٌّ مِثْلُهُ.
(فَصْلٌ:)
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ هَذَا التَّفْصِيلِ، وَطَلَّقَهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ دَفَعَتْهَا إِلَيْهِ فَطُلِّقَتْ بِهَا، وَمَلَكَهَا فِي الظَّاهِرِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، ثُمَّ بَانَ لَهُ أَنَّ الدَّرَاهِمَ رَدِيئَةٌ مَعِيبَةٌ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْأَلْفُ مَعِيبًا فَلَا يَخْلُو عَيْبُهَا مِنْ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ جِنْسِ الصِّفَةِ أَوْ لَا يُخْرِجُهَا فَإِنْ أَخْرَجَهَا مِنْ جِنْسِ الصِّفَةِ فَكَانَتْ نُحَاسًا أَوْ رَصَاصًا لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ، لِأَنَّهُ قَدْ تَضَمَّنَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِدَفْعِهَا أَنْ تَكُونَ مِنْ دَرَاهِمِ الْفِضَّةِ، فَإِذَا لَمْ تُوجَدْ هَذِهِ الصِّفَةُ فِيهَا لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ لِعَدَمِ الصِّفَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ الْفِضَّةِ وَقَعَ الطَّلَاقُ لِوُجُودِ الصِّفَةِ، وَهُوَ لِأَجْلِ الْعَيْبِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْمُقَامِ أَوِ الرَّدِّ، فَإِنْ أَقَامَ لَمْ يَرْجِعْ بِأَرْشِهَا وَإِنْ رَدَّ فَمَاذَا يَرْجِعُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: بِمِثْلِهَا غَيْرِ مَعِيبَةٍ.
وَالثَّانِي: بِمَهْرِ الْمِثْلِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْأَلْفُ غَيْرَ مَعِيبَةٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ.
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَيْبُهَا لَا يُخْرِجُهَا مِنْ جِنْسِ الصِّفَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ رَدِيءِ الْفِضَّةِ وَخَشَنِهَا لِرَدَاءَةِ مَعْدِنِهَا، فَالطَّلَاقُ هَا هُنَا قَدْ وَقَعَ، وَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَسْمَحَ بِعَيْبِهَا كَمَا يَسْمَحُ بِعَيْبِ الْمَعِيبِ وَبَيْنَ أَنْ يَرُدَّهَا وَيَرْجِعَ بِمِثْلِهَا مِنْ جَيِّدِ الْفِضَّةِ غَيْرِ مَعِيبٍ وَلَا يَرْجِعُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّ حَقَّهُ فِي أَلْفِ دِرْهَمٍ غَيْرِ مَعِينةٍ.
وَالضَّرْبُ الثاني: أن يكون عيبها وردائتها قَدْ أَخْرَجَهَا مِنْ جِنْسِ الْفِضَّةِ لِمَا فِيهَا مِنْ رصَاصٍ أَوْ مَاسٍ فَالطَّلَاقُ هَا هُنَا غَيْرُ وَاقِعٍ، لِأَنَّهُ جَعَلَ طَلَاقَهَا مَشْرُوطًا بِدَفْعِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَهَذِهِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْغِشِّ أَقَلُّ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَلَمْ تُطَلَّقْ لِنُقْصَانِ الفضة، ولكن(10/44)
لَوْ دَفَعَتْ إِلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ فِيهَا مِنَ الْفِضَّةِ أَلْفُ دِرْهَمٍ طُلِّقَتْ لِوُجُودِ الْفِضَّةِ وَزِيَادَةِ الْغِشِّ، وَلَهُ بَدَلُهَا إِنْ شَاءَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا إِنْ دَفَعَتْ إِلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ نَقْرَةً فِضَّةً يَنْبَغِي عَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ أَنْ تُطَلَّقَ.
قِيلَ: لَا تُطَلَّقُ بِالْفِضَّةِ النَّقْرَةِ وَإِنْ طُلِّقَتْ بِالْفِضَّةِ فِي الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ، لِأَنَّ النَّقْرَةَ لَا يَنْطَلِقُ اسَمُ الدَّرَاهِمِ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ فِضَّةً، وَالدَّرَاهِمَ الْمَغْشُوشَةَ يَنْطَلِقُ اسْمُ الدَّرَاهِمِ عَلَيْهَا إِذَا كَانَ فِيهَا فِضَّةٌ فَافْتَرَقَا في الحكم لافتراقهما في الاسم.
(مسألة:)
قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَ مَتَى أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَذَلِكَ لَهَا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ أَخْذِهَا وَلَا لَهَا إِذَا أَعْطَتْهُ أَنْ تَرْجِعَ فِيهَا) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا قَالَ لَهَا مَتَى أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ مَتَى مَا أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَهُمَا سَوَاءٌ، لِأَنَّ مَا حَرْفُ صِلَةٍ تَدْخُلُ فِي الْكَلَامِ لِلتَّأْكِيدِ لَا يُفِيدُ نَفْيًا وَلَا إِثْبَاتًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159] . أَيْ فَبِرَحْمَةٍ مِنَ الله، وإذا كان كذلك فأي وقت أعطيته الْأَلْفَ طُلِّقَتْ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ عَلَى التَّرَاخِي، لِأَنَّ مَتَى حَرْفٌ وُضِعَ لِلتَّرَاخِي فِي الْأَوْقَاتِ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: أَيُّ وَقْتٍ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا، أَوْ فِي أَيِّ زَمَانٍ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَهُوَ عَلَى التَّرَاخِي مَتَى أَعْطَتْهُ الْأَلْفَ طُلِّقَتْ، لَا يَخْتَصُّ بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَلَا بِالْفَوْرِ دُونَ التَّرَاخِي، لِأَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْحُرُوفِ يَخْتَصُّ بِالزَّمَانِ فَعَمَّتْ جَمِيعَ الْأَزْمَانِ. فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ لَوْ قَالَ إِنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا أَوْ قَالَ: إِذَا أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا أَنْتِ طَالِقٌ أَنَّهُ يَكُونُ عَلَى الْفَوْرِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ حُكْمُ إِنْ وإذا فِي الشَّرْطِ، لِأَنَّ اقْتِرَانَ الْعِوَضِ بِهِمَا سَوَّى بَيْنَ حُكْمَيْهِمَا فِي الْفَوْرِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْعِوَضِ الْمُسْتَحَقِّ قَبُولُهُ عَلَى الْفَوْرِ فَهَلَّا كَانَ قَوْلُهُ مَتَى أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْفَوْرِ، وَإِنْ كَانَ مَوْضُوعًا لِلتَّرَاخِي تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْعِوَضِ.
قيل: الفرق بينهما أن إذا وإن مِنْ حُرُوفِ الشَّرْطِ الَّتِي لَا تَخْتَصُّ بِالزَّمَانِ، وَ (مَتَى) مِنْ حُرُوفِ الزَّمَانِ الَّتِي تَعُمُّ جَمِيعَهَا حَقِيقَةً وَالْعِوَضُ مُخْتَصٌّ بِالْفَوْرِ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ، لَا مِنْ طَرِيقِ الْحَقِيقَةِ فَإِذَا اقْتَرَنَ بِحَرْفِ الشَّرْطِ حُمِلَ عَلَى مُقْتَضَاهُ مِنَ الْفَوْرِ، وَإِنْ كَانَ بِالِاسْتِدْلَالِ، لِأَنَّهُ لَمْ تُعَارِضْهُ مَا يُنَافِيهِ، وَإِذَا اقْتَرَنَ بِحَرْفِ الزَّمَانِ الْمُوجِبِ لِلتَّرَاخِي حُمِلَ عَلَى التَّرَاخِي، لِأَنَّ مَا أَوْجَبَ التَّرَاخِيَ مِنْ طَرِيقِ الْحَقِيقَةِ غَيْرُ مُحْتَمَلٍ، وَمَا أَوْجَبَ الْفَوْرَ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ مُحْتَمَلٌ، كَمَا تَقُولُ فِي الْقِيَاسِ إِنَّهُ يُخَصُّ بِالْعُمُومِ، لِأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ وَلَا يَخُصُّ النَّصَّ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَمَلٍ، فَإِذَا دَخَلَ عَلَى (مَتَى)(10/45)
حَرْفُ النَّفْيِ فَقَالَ لَهَا: مَتَى لَمْ تُعْطِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ الْفَوْرَ عَلَى التَّرَاخِي، فَمَتَى جَاءَ زَمَانٌ يُمْكِنُهَا دَفْعُ الْأَلْفِ فِيهِ فَلَمْ تَدْفَعْهَا طُلِّقَتْ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا هُوَ أَنَّ مَتَى يَخْتَصُّ بِالزَّمَانِ، فَإِذَا اقْتَرَنَ بِهِ الْإِثْبَاتُ صَارَ تَقْدِيرُهُ مَتَى جَاءَ زَمَانٌ أَعْطَيْتِنِي فيه ألفاً فأنت طالق، فإذا أعطته بعد تراخي الزمان فقد جَاءَ زَمَانٌ دَفَعَتْ فِيهِ الْأَلْفَ فَطُلِّقَتْ.
فَأَمَّا إِذَا اقْتَرَنَ بِهِ حَرْفُ النَّفْيِ صَارَ تَقْدِيرُهُ مَتَى جَاءَ زَمَانٌ لَمْ تَدْفَعِي فِيهِ أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِذَا مَضَى زَمَانُ الْمُكْنَةِ فَقَدْ جَاءَ زَمَانٌ يُمْكِنُهَا دَفْعُ الْأَلْفِ فِيهِ فَطُلِّقَتْ.
(فَصْلٌ:)
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَلَيْسَ لِلزَّوْجِ بَعْدَ انْعِقَادِ الطَّلَاقِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ أَنْ يُبْطِلَهَا وَلَا أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مُعَاوَضَةٌ لَمْ يُقْبَلْ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الطَّلَاقِ بِالصِّفَةِ دُونَ الْمُعَاوَضَةِ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، لَمْ يَكُنْ لَهُ إِبْطَالُ مَا عَلَّقَهُ مِنَ الطَّلَاقِ بِدُخُولِ الدَّارِ، وَإِنَّمَا غُلِّبَ حُكْمُ الطَّلَاقِ بِالصِّفَةِ عَلَى حُكْمِ الْمُعَاوَضَةِ لِأَنَّهُ لَوْ جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ لَمْ يَبْطُلْ، وَلَوْ كَانَ حُكْمُ الْمُعَاوَضَةِ أَغْلَبَ كَمَا يَبْطُلُ بِهِ بَذْلُ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبُولِ.
فَأَمَّا الزَّوْجَةُ فَلَيْسَ عَلَيْهَا دَفَعُ الْأَلْفِ وَهِيَ فِي دَفْعِهَا بِالْخِيَارِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُوقِعٌ لِطَلَاقِهَا، وَلَيْسَ عَلَيْهَا فِعْلُ مَا أَوْقَعَ طَلَاقَهَا كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ لَمْ يَلْزَمْهَا دُخُولُ الدَّارِ لِتُطَلَّقَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَبُولُ مُعَاوَضَةٍ فَلَمْ يَجُزْ عَلَيْهَا كَقَبُولِ الْبَيْعِ.
وَإِذَا كَانَتْ بِالْخِيَارِ فَمَتَى أَعْطَتْهُ الْأَلْفَ فَأَخَذَهَا طُلِّقَتْ، وَإِنْ أَعْطَتْهُ فَلَمْ يَأْخُذْهَا فَإِنْ كَانَ لِتَعَذُّرِ أَخْذِهَا عَلَيْهِ إِمَّا لِغَيْبَةٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ جُنُونٍ لَمْ تُطَلَّقْ، لِأَنَّ الْإِعْطَاءَ لَمْ يَكْمُلْ، وَإِنْ كَانَ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ أَخْذِهَا طُلِّقَتْ، لِأَنَّ الْإِعْطَاءَ قَدْ وُجِدَ، وَهُوَ التَّمْكِينُ مِنَ الْأَخْذِ بِفِعْلِ الْمُعْطِي، وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ الْأَخْذُ، أَلَا تَرَاهُمْ يَقُولُونَ: قَدْ أَعْطَانِي فَلَمْ آخُذْ مِنْهُ، ثُمَّ إِذَا طُلِّقَتْ بِإِعْطَاءِ الْأَلْفِ قَبْلَ أَخْذِهَا فَقَدِ اسْتَحَقَّ الْأَلْفَ وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهَا، لِأَنَّهَا فِي مُقَابَلَةِ مَا لَزِمَهُ مِنَ الطَّلَاقِ، فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَمْنَعَهُ مِنْهَا بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا، وَهَلْ يَتَعَيَّنُ اسْتِحْقَاقُهُ لِتِلْكَ الْأَلْفِ أَمْ لَا فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَدْ تَعَيَّنَ اسْتِحْقَاقُهُ لِتَعَيُّنِ الطَّلَاقِ بِهَا، فَإِنْ أَرَادَتْ دَفْعَ غَيْرِهَا لَمْ يَجُزْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنِ اسْتِحْقَاقُهُ لَهَا وَإِنْ طُلِّقَتْ بِهَا لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْعَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِتَعَيُّنِهَا بِالْعَقْدِ أَوْ بِالْقَبْضِ، وَلَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فِي هَذِهِ الْأَلْفِ فَكَانَتْ بِالْخِيَارِ فِي دَفْعِهَا أَوْ دَفْعِ أَلْفٍ مثلها.(10/46)
(فصل:)
ولو قال: أنت طالق إذا أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا، طُلِّقَتْ فِي الْحَالِ، لِأَنَّهُ مُقِرٌّ أنها أعطته ألفاً على طلاقها، لأن (إذا) تَخْتَصُّ بِمَاضِي الزَّمَانِ دُونَ مُسْتَقْبَلِهِ، وَ (إِذَا) تَخْتَصُّ بِمُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ دُونَ مَاضِيهِ، فَإِنْ أَنْكَرَتْهُ ذَلِكَ وَطَالَبَتْهُ بِالْأَلْفِ لَزِمَهُ رَدُّهَا، لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِقَبْضِهَا وَمُدَّعٍ اسْتِحْقَاقَهَا فَلَزِمَهُ إِقْرَارُهُ وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ دَعْوَاهُ وَيَقَعُ طَلَاقُهُ بَائِنًا، وَإِن رَدَّ الْأَلْفِ لِاعْتِرَافِهِ بِهِ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا بِفَتْحِ الْأَلِفِ، وَلِأَنَّ أن المفتوحة لماضي الزمان دون مستقبله (وإن) بِالْكَسْرِ لِمُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ دُونَ مَاضِيهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا كالفرق بين إذ، وإذا، فَإِنْ طَالَبَتْهُ بِالْأَلْفِ عِنْدَ إِنْكَارِهَا لِلْخُلْعِ لَزِمَهُ رَدُّهَا لِاعْتِرَافِهِ بِأَخْذِهَا، وَلَهُ إِحْلَافُهَا عَلَى إِنْكَارِهَا وبالله التوفيق.
(مسألة:)
قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَتْ لَهُ طَلِّقْنِي ثَلَاثًا وَلَكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً فَلَهُ ثُلُثُ الْأَلْفِ وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَلَهُ الْأَلْفُ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا قَالَتْ لَهُ طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ، فَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، فَلَهُ جَمِيعُ الْأَلْفِ، وَإِنْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً كَانَ لَهُ ثُلُثُ الْأَلْفِ، لِأَنَّ الْأَلْفَ جُعِلَتْ عِوَضًا عَلَى مُقَابَلَةِ ثَلَاثَةِ أَعْدَادٍ مُتَسَاوِيَةٍ فَقُسِّطَتْ عَلَيْهَا، وَكَانَ قِسْطُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثَ الْأَلْفِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَسْتَحِقَّ بِكُلِّ طَلْقَةٍ مِنْهَا، ثُلُثَ الْأَلْفِ، كَمَا لَوْ أَبَقَ منه ثلاثة أعبد فقال من جائني بِهِمْ فَلَهُ دِينَارٌ فَجِيءَ بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ لَزِمَهُ ثُلُثُ الدِّينَارِ، لِأَنَّ الدِّينَارَ قَابَلَ ثَلَاثَةَ أَعْدَادٍ مُتَسَاوِيَةً فَتُقسطَ عَلَيْهِمْ أَثْلَاثًا مُتَسَاوِيَةً.
فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ لَوْ قَالَ لَهَا إِنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، فَأَعْطَتْهُ ثُلُثَ الْأَلْفِ لَمْ تُطَلَّقْ بِهَا وَاحِدَةً، وَإِنْ قَابَلَتْ ثُلُثَ الْأَلْفِ فَهَلَّا كَانَ فِي مَسْأَلَتِنَا إِذَا طَلَّقَهَا وَاحِدَةً لم تستحق ثُلُثَ الْأَلْفِ.
قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُغَلَّبَ فِي الْخُلْعِ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَةِ حُكْمُ الْمُعَاوَضَةِ، فَجَازَ أَنْ يُقَسَّطَ الْعِوَضُ عَلَى أَعْدَادِ الْمُعَوَّضِ، وَالْمُغَلَّبُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ حُكْمُ الطَّلَاقِ بِالصِّفَةِ، وَالصِّفَةُ إِذَا تَبَعَّضَتْ لَمْ يَتَبَعَّضْ مَا عُلِّقَ بِهَا مِنَ الطَّلَاقِ، وَلَا يَقَعُ إِلَّا بِكَمَالِهَا، كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: إِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ ثَلَاثًا فَأَنْتَ طَالِقٌ ثَلَاثًا، فَدَخَلَتْهَا مَرَّةً لَمْ تُطَلَّقْ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ دُخُولَهَا ثَلَاثًا، فَتُطَلَّقَ ثَلَاثًا، فَصَحَّ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَاسْتَحَقَّ بِالطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ ثُلُثَ الْأَلْفِ، لِأَنَّهُ قَدْ مَلَّكَهَا ثُلُثَ مَا سَأَلَتْ، فَاسْتَحَقَّ عَلَيْهَا ثُلُثَ مَا بَذَلَتْ، وَهَكَذَا لَوْ طَلَّقَهَا طَلْقَتَيْنِ اسْتَحَقَّ بِهِمَا ثُلُثَيِ الْأَلْفِ، لِأَنَّهُ قَدْ مَلَّكَهَا ثُلُثَيْ مَا سَأَلَتْ، فَاسْتَحَقَّ عَلَيْهَا ثُلُثَيْ مَا بَذَلَتْ، فَلَوْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً ونصف طُلِّقَتْ ثِنْتَيْنِ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَتَبَعَّضُ، وَفِي قَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْأَلْفِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: ثلثي الْأَلْفِ، لِأَنَّهَا قَدْ طُلِّقَتْ طَلْقَتَيْنِ مِنْ ثَلَاثِ طلقات.(10/47)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ نِصْفَ الْأَلْفِ لِأَنَّهُ قَدْ أَوْقَعَ عَلَيْهَا نِصْفَ اَلثَّلَاثِ وَأَنَّ مَا يَكْمُلُ بِالشَّرْعِ لَا يَفْعَلُهُ.
(فَصْلٌ:)
وَلَوْ قَالَتْ: طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ، فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ، وَقَالَ: نَوَيْتُ أَنْ تَكُونَ اَلْأَلْفُ فِي مُقَابَلَةِ اَلثَّلَاثِ، طُلِّقَتِ اَلْأُولَى وَحْدَهَا، وَكَانَ لَهُ ثُلُثُ اَلْأَلْفِ، وَلَمْ تَقَعِ اَلثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ، لِأَنَّهُ إِذَا جَعَلَ لِلْأُولَى فَظَاهِرُ الْأَلْفِ صَارَتْ مُخْتَلِعَةً لَا يَلْحَقُهَا طَلَاقٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ:)
قال الشافعي: (وَلَوْ لَمْ يَكُنْ بَقِيَ عَلَيْهَا إِلَّا طَلْقَةٌ فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً كَانَتْ لَهُ الْأَلْفُ لِأَنَّهَا قَامَتْ مَقَامَ الثَّلَاثِ فِي أَنَّهَا تُحَرِّمُهَا حَتَّى تَنْكِحَ زوجاً غيره (قال المزني) رحمه الله وقياس قوله ما حرمها إلا الأوليان مع الثلاثة كَمَا لَمْ يُسْكِرْهُ فِي قَوْلِهِ إِلَّا الْقَدَحَانِ مَعَ الثَّالِثِ وَكَمَا لَمْ يَعُمَّ الْأَعْوَرَ الْمَفْقُوءَةَ عَيْنُهُ الْبَاقِيَةُ إِلَّا الْفَقْءُ الْأَوَّلُ مَعَ الْفَقْءِ الآخر وأنه ليس على الفاقئ الأخير عنده إلا نصف الدية فكذلك يَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ لَمْ يُحَرِّمْهَا عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ إِلَّا الْأُولَيَانِ مَعَ الثَّالِثَةِ فليس عليها إلا ثلث الألف بالطلقة الثالثة في معنى قوله) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ طَلْقَتَيْنِ، وَبَقِيَتْ مَعَهُ عَلَى وَاحِدَةٍ، فَقَالَتْ لَهُ: طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ، فَقَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، أَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الثَّالِثَةَ، أَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا بِأَلْفٍ، فَكُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَلَا تُطَلَّقُ مِنْهُ إِلَّا وَاحِدَةً، لِأَنَّ الْبَاقِيَ لَهُ عَلَيْهَا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: كانت له هذه الطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ جَمِيعُ الْأَلْفِ ثُمَّ عَلَّلَ الشَّافِعِيُّ فِي اسْتِحْقَاقِهَا لِجَمِيعِ الْأَلْفِ بِأَنَّ هَذِهِ الطَّلْقَةَ الْوَاحِدَةَ قَدْ قَامَتْ مَقَامَ الثَّلَاثِ فِي أَنَّهَا تَحْرُمُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، فَصَارَ لَهَا بِهَذِهِ الطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ مَقْصُودُهَا بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَهُوَ التحريم التي لَا تَحِلُّ مَعَهُ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ فَاسْتَحَقَّ بِهَا مَا يَسْتَحِقُّ بِالثَّلَاثِ، وَهُوَ جَمِيعُ الْأَلْفِ.
فاعترض المزني على الشافعي فقال: (ينبغي أن لا يَسْتَحِقَّ إِلَّا ثُلُثَ الْأَلْفِ، لِأَنَّ قِيَاسَ قَوْلِهِ (مَا حَرَّمَهَا إِلَّا الْأُولَيَانِ مَعَ الثَّالِثَةِ كَمَا لَمْ يُسْكِرْهُ فِي قَوْلِهِ إِلَّا الْقَدَحَانِ مَعَ الثَّالِثِ وَكَمَا لَمْ يَعُمَّ الْأَعْوَرَ الْمَفْقُوءَةَ عَيْنُهُ الْبَاقِيَةُ إِلَّا الْفَقْءُ الْأَوَّلُ مَعَ الْفَقْءِ الْآخِرِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْفَاقِئِ الْأَخِيرِ إِلَّا نِصْفُ الدِّيَةِ، كَذَلِكَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ: لَمْ يُحَرِّمْهَا عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ إِلَّا الْأُولَيَانِ مَعَ الثَّالِثَةِ فَلَيْسَ أَنْ يَقُولَ عَلَيْهَا إِلَّا ثُلُثَ الْأَلْفِ بِالطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ.(10/48)
فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا لِهَذَا الِاعْتِرَاضِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْحُكْمَ عَلَى مَا قَالَهُ الْمُزَنِيُّ من أنه لا يستحق بالثالثة إلى ثُلُثَ الْأَلْفِ سَوَاءً عَلِمَتْ أَنَّ الْبَاقِيَ عَلَيْهَا طَلْقَةٌ أَوْ لَمْ تَعْلَمْ، تَعْلِيلًا بِمَا اسْتَشْهَدَ بِهِ الْمُزَنِيُّ مِنْ حَالِ السُّكْرِ بِالْقَدَحِ الثَّالِثِ أَنَّهُ يَكُونُ بِهِ وبالأوليين وَيُفْقِئُ عَيْنَ الْأَعْوَرِ أَنَّهُ يَكُونُ ذَهَابُ الْبَصَرِ بِالْفَقْءِ الثَّانِي مَعَ الْأَوَّلِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ جَوَابَ الشَّافِعِيِّ صَحِيحٌ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَأَنَّ لَهُ جَمِيعَ الْأَلْفِ بِالطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ تَعْلِيلًا بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ حُصُولِ التَّحْرِيمِ بِهَا كَحُصُولِهِ بِالثَّلَاثِ، سَوَاءً عَلِمَتْ أَنَّ الْبَاقِيَ عَلَيْهَا طَلْقَةٌ أَوْ لَمْ تَعْلَمْ، وَانْفَصَلُوا عَنِ اسْتِشْهَادِ الْمُزَنِيِّ بِالسُّكْرِ وَالْفَقْءِ بِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَقْدَاحِ الثَّلَاثَةِ تَأْثِيرٌ فِي مَبَادِئِ السُّكْرِ بِالْأَوَّلِ وَبِوَسَطِهِ وبِالثَّانِي وَكَمَالِهِ بِالثَّالِثِ، وَكَذَلِكَ الْفَقْءُ الْأَوَّلُ قَدْ أَثَّرَ فِي ضَعْفِ النَّظَرِ، وَقِلَّةِ الْبَصَرِ ثُمَّ ذَهَبَ بِالثَّانِي، وَلَيْسَ كَذَلِكَ حَالُ الطلقتين الأولتين، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِمَا شَيْءٌ مِنْ تَحْرِيمِ الثَّلَاثِ وَكَانَتْ تَحِلُّ بِالرَّجْعَةِ بَعْدَهُمَا، كَمَا تَحِلُّ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ وَقَعَتِ الثَّالِثَةُ فَتَعَلَّقَ بِهَا جَمِيعُ التَّحْرِيمِ فَصَارَ مَا اسْتَشْهَدَ بِهِ مُفَارِقًا لِلطَّلَاقِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إنَّ جَوَابَ الشَّافِعِيِّ مَفْرُوضٌ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَةَ عَلِمَتْ أَنَّ الْبَاقِيَ لَهُ عَلَيْهَا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ، فَصَارَ قَوْلُهَا طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ ثَلَاثًا مَحْمُولًا عَلَى أَنَّهَا أَرَادَتِ الثَّالِثَةَ، فَلِذَلِكَ كَانَ لَهُ جَمِيعُ الْأَلْفِ وَلَوْ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الْبَاقِيَ لَهُ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ وَظَنَّتْ أَنَّهُ يَمْلِكُ مَعَهَا ثَلَاثَ طَلْقَاتٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا ثُلُثُ الْأَلْفِ، لِأَنَّهَا لَمْ تَبْذُلِ الْأَلْفَ إِلَّا فِي مُقَابَلَةِ الثَّلَاثِ، فَعَلَى هَذَا لَوِ اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فَقَالَ الزَّوْجُ: قَدْ عَلِمْتِ أَيَّتُهَا الزَّوْجَةُ أَنَّ الْبَاقِيَ لِي عَلَيْكِ طَلْقَةٌ فَلِي جَمِيعُ الْأَلْفِ.
وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ: بَلْ ظَنَنْتُ أَنَّكَ تَمْلِكُ الثَّلَاثَ وَلَمْ أَعْلَمْ أَنَّ الْبَاقِيَ لَكَ تَطْلِيقَةٌ فَلَيْسَ لَكَ إِلَّا ثُلُثُ الْأَلْفِ فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَيُحْكَمُ لَهُ بَعْدَ التَّحَالُفِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، لِأَنَّ هَذَا اخْتِلَافٌ مِنْهُمَا فِي قَدْرِ الْعِوَضِ فَهِيَ تَقُولُ: خَالَعْتُكَ عَلَى هَذِهِ الْوَاحِدَةِ بِثُلُثِ الْأَلْفِ، وَهُوَ يَقُولُ: بِجَمِيعِ الْأَلْفِ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ التَّحَالُفُ وَالرُّجُوعُ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ قَدْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً وَبَقِيَتْ مَعَهُ عَلَى اثْنَتَيْنِ فَقَالَتْ: طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ، فَطَلَّقَهَا طَلْقَتَيْنِ اسْتَحَقَّ إِنْ عَلِمَتْ جَمِيعَ الْأَلْفِ، وَإِنْ جَهِلَتْ ثُلُثَيِ الْأَلْفِ، وَلَوْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً اسْتَحَقَّ إِنْ عَلِمَتْ نصف الألف، وإن جهلت ثلث الألف.
قال الشافعي رحمه الله: (ولو قالت له طَلِّقْنِي وَاحِدَةً بِأَلْفٍ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا كَانَ لَهُ الْأَلْفُ وَكَانَ مُتَطَوِّعًا بِالِاثْنَتَيْنِ) .(10/49)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، لِأَنَّ الطَّلْقَةَ الَّتِي سَأَلَتْهَا دَاخِلَةٌ فِي الثَّلَاثِ الَّتِي أَوْقَعَهَا فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهَا الْأَلْفَ الَّتِي بَذَلَتْهَا، وَإِنْ تَطَوَّعَ بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهَا كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ إِنْ جِئْتَنِي بِعَبْدِي الْآبِقِ فَلَكَ دِينَارٌ، فَجَاءَ بِعَبْدَيْنِ اسْتَحَقَّ الدِّينَارَ، وَإِنْ تَطَوَّعَ بِمَجِيئِهِ بِالْعَبْدِ الْآخَرِ.
(فَصْلٌ:)
وَلَوْ قَالَتْ لَهُ طَلِّقْنِي عَشْرًا بِأَلْفٍ فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً فَفِيمَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَهُ عُشْرُ الْأَلْفِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الطَّلَاقُ عَشْرًا، لِأَنَّهَا جَعَلَتْ لَهُ عَلَى كُلِّ طَلْقَةٍ عُشْرَ الْأَلْفِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهُ ثُلُثُ الْأَلْفِ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ مِنَ الطَّلَاقِ لَغْوٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ، وَلَوْ طَلَّقَهَا طَلْقَتَيْنِ كَانَ لَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنَ الْأَلْفِ عُشْرَاهَا، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي ثُلُثَاهَا، وَلَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، كَانَ لَهُ عَلَى الزَّوْجَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ثَلَاثَةُ أَعْشَارِ الْأَلْفِ، وَعَلَى الوجه الثاني جميع الألف.
(مسألة:)
قال الشافعي: (وَلَوْ بَقِيَتْ لَهُ عَلَيْهَا طَلْقَةٌ فَقَالَتْ طَلِّقْنِي بِأَلْفٍ وَاحِدَةً أَحْرُمُ بِهَا عَلَيْكَ وَاثْنَتَيْنِ إِنْ نَكَحْتَنِي بَعْدَ زَوْجٍ فَلَهُ مَهْرُ مِثْلِهَا إِذَا طَلَّقَهَا كَمَا قَالَتْ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ طَلْقَتَيْنِ، وَبَقِيَتْ لَهُ عَلَيْهَا وَاحِدَةٌ، فَقَالَتْ لَهُ طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ وَاحِدَةً أَحْرُمُ بِهَا عَلَيْكَ فِي هَذَا النِّكَاحِ، وَاثْنَتَانِ أحرم بها عليك إذا أنكحتني نِكَاحًا ثَانِيًا، فَالْخُلْعُ فِي الطَّلَاقِ الْمُسْتَقْبَلِ بَاطِلٌ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَمِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ فِيهِ السَّلَمُ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَقَعُ قَبْلَ النِّكَاحِ.
فَأَمَّا الْخُلْعُ فِي الطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ فِي هَذَا النِّكَاحِ فَفِيهِ قَوْلَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الصَّفْقَةِ الْوَاحِدَةِ إِذَا اجْتَمَعَتْ صَحِيحًا وَفَاسِدًا، فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ بَاطِلٌ فِي الصَّحِيحِ لِبُطْلَانِهِ فِي الْفَاسِدِ مَنْعًا لِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، فَعَلَى هَذَا الطَّلْقَةُ قَدْ وَقَعَتْ، وَإِنْ فَسَدَ الْخُلْعُ فِيهَا، لِأَنَّ الطلاق استهلاك لا يمكن استداركه بَعْدَ وُقُوعِهِ وَقَدْ وَقَعَ عَلَى بَدَلٍ فَاسِدٍ فَوَجَبَ فِيهِ مَهْرُ الْمِثْلِ وَجَرَى عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَجْرَى مَنْ بَاعَ عَبْدَيْنِ مَغْصُوبًا وَمَمْلُوكًا بِأَلْفٍ فَبَطَلَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا، وَاسْتَهْلَكَ الْمُشْتَرِي الْمَمْلُوكَ مِنْهُمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ كَذَلِكَ هَا هُنَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْخُلْعَ فِي الطَّلْقَةِ جَائِزٌ إِذَا قِيلَ: إِنَّ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ جَائِزٌ وَإِنَّ من(10/50)
بَاعَ عَبْدَيْنِ مَمْلُوكًا وَمَغْصُوبًا لَمْ يَبْطُلِ الْبَيْعُ فِي الْمَمْلُوكِ لِبُطْلَانِهِ فِي الْمَغْصُوبِ فَعَلَى هَذَا فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ الزَّوْجُ بِالطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: ثُلُثُ الْأَلْفِ إِذَا قِيلَ: يَأْخُذُ مَا صَحَّ مِنَ الْمَبِيعِ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَهُ جَمِيعُ الْأَلْفِ إِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَأْخُذُ مَا صَحَّ مِنَ الْمَبِيعِ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَهَلْ لِلزَّوْجَةِ فِي ذَلِكَ خِيَارٌ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا خِيَارَ لَهَا، لِأَنَّ الْخِيَارَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى رَفْعِ الْعَقْدِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهَا الْخِيَارُ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْخُلْعِ فِي الطَّلْقَةِ بِجَمِيعِ الْأَلْفِ وَبَيْنَ الْفَسْخِ فِي الْأَلْفِ وَدَفْعِ مَهْرِ المثل.
(مسألة:)
قال الشافعي: (وَلَوْ خَلَعَهَا عَلَى أَنْ تَكْفُلَ وَلَدَهُ عَشْرَ سِنِينَ فَجَائِزاِنِ اشْتَرَاطا إِذَا مَضَى الْحَوْلَانِ نَفَقَتهُ بَعْدَهُمَا فِي كُلِّ شَهْرٍ كَذَا قَمْحًا وَكَذَا زَيْتًا فَإِنْ كَفَى وَإِلَّا رَجَعَتْ عَلَيْهِ بِمَا يَكْفِيهِ وَإِنْ مَاتَ رَجَعَ عَلَيْهَا بِمَا بَقِيَ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي رَجُلٍ خَالَعَ زَوْجَتَهُ عَلَى أَنْ تَكْفُلَ وَلَدَهُ عَشْرَ سِنِينَ تُرْضِعُهُ مِنْهَا حَوْلَيْنِ وَتُنْفِقُ عَلَيْهِ بَعْدَهُمَا تَمَامَ الْعَشْرِ، فلا بد بَعْدَ ذِكْرِ الرَّضَاعِ مِنْ ذِكْرِ جِنْسِ النَّفَقَةِ وَنَوْعِهَا وَصِفَتِهَا وَقَدْرِهَا وَأَجَلِهَا، فَيَقُولُ: عَلَى أَنْ تُطْعِمِيهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنَ الْحِنْطَةِ الْعِرَاقِيَّةِ الصَّافِيَةِ كَذَا، وَمِنَ الزَّيْتِ الشَّامِيِّ كَذَا، وَمِنَ السُّكَّرِ الْفَارِدِ كَذَا، وَمِنَ الْعَسَلِ الْأَبْيَضِ كَذَا، وَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهَا مَعَ النَّفَقَةِ كِسْوَتَهُ قَالَ: عَلَى أَنْ تَكْسُوَهُ فِي أَوَّلِ كُلِّ سَنَةٍ كُسْوَةَ الصَّيْفِ مِنَ الْكَتَّانِ التَّوْزِيِّ الْمُرْتَفِعِ ثَوْبًا طُولُهُ كَذَا ذِرَاعًا فِي عَرْضِ كَذَا شِبْرًا يَقْطَعُ لَهُ مِنْهُ قَمِيصَيْنِ وَخَمْسَ أَذْرُعٍ مِنْ مُنِيرِ الْبَغْدَادِيِّ الْمُرْتَفِعِ فِي عَرْضِ كَذَا شِبْرًا يَقْطَعُ لَهُ مِنْهُ سَرَاوِيلَ وَمِنْدِيلَ مِنْ قَصَبِ مِصْرَ طُولُهُ كَذَا ذِرَاعًا، فِي عَرْضِ كَذَا شِبْرًا صِفَتُهُ كَذَا، وَفِي أَوَّلِ النِّصْفِ الثَّانِي مِنَ السَّنَةِ كُسْوَةُ الشِّتَاءِ مِنَ الْخَزِّ ثَوْبًا مُرْتَفِعًا مِنْ خَزِّ الْكُوفَةِ أَوِ السُّنْدُسِ طُولُهُ كَذَا ذِرَاعًا فِي عَرْضِ كَذَا شِبْرًا يَقْطَعُهُ جُبَّةً، وَمِنَ الْحَرِيرِ الْفُلَانِيِّ كَذَا ذِرَاعًا فِي عَرْضِ كَذَا شِبْرًا، يَقْطَعُهُ قَمِيصًا، فَإِذَا اسْتَوْفَى صِفَةَ كُلِّ مَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهَا وَنَفَقَتَهُ وَكُسْوَتَهُ جِنْسًا وَنَوْعًا وَصِفَةً وَقَدْرًا وَصَارَ مَعْلُومًا يَنْتَفِي عَنْهُ الْجَهَالَةُ وَمَعْلُومَ الْأَجَلِ غَيْرَ مَجْهُولِ الْمُدَّةِ كَالْمَوْصُوفِ فِي السَّلَمِ لِيَصِحَّ بِهِ الْخُلْعُ فَهَذِهِ المسألة مبينة على ثلاث أُصُولٍ فِي كُلِّ أَصْلٍ مِنْهَا قَوْلَانِ: أَحَدُ الْأُصُولِ: أَنَّ الْعَقْدَ الْوَاحِدَ إِذَا جَمَعَ شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيِ الْحُكْمِ كَبَيْعٍ وَإِجَارَةٍ كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ قَدْ جَمَعَ إِجَارَةً وَرَضَاعًا وَسَلَمًا فِي طَعَامٍ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ عَلَى قولين.(10/51)
وَالْأَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ عَقْدَ السَّلَمِ فِي جِنْسَيْنِ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ يَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَهَذَا سَلَمٌ فِي أَجْنَاسٍ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ عَلَى قَوْلَيْنِ.
وَالْأَصْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ عَقْدَ السَّلَمِ إِلَى أَجَلَيْنِ يَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَهَذَا أَسْلَم إِلَى آجَالٍ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِاخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فِي هَذِهِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ فَكَانَ بَعْضُهُمْ يُخْرِجُهَا عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْخُلْعَ بَاطِلٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ جَائِزٌ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا إنَّ هَذَا الْخُلْعَ يَصِحُّ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى أُصُولٍ هِيَ عَلَى قَوْلَيْنِ لِاخْتِصَاصِ الْخُلْعِ بِثَلَاثَةِ مَعَانٍ يُفَارِقُ بِهَا أُصُولَهُ:
أَحَدُهَا: أَنَّ النَّفَقَةَ هَا هُنَا تَبَعٌ لِلرَّضَاعِ، وَقَدْ يُخَفَّفُ حُكْمُ التَّبَعِ عَنْ حُكْمِ الِانْفِرَادِ كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ مَا لَمْ يُؤَبَّرْ مِنَ الثَّمَرَةِ تَبَعًا لِنَخْلِهَا، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بِانْفِرَادِهَا، وَكَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحَمْلِ تَبَعًا لِلْأَمَةِ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مُفْرَدًا عَنْهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ الضَّرُورَةَ دَعَتْ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّ عَقْدَ الْخُلْعِ إِذَا أُفْرِدَ بِأَحَدِهِمَا لَمْ تَصِحَّ بَعْدَهُ عَقْدُ خُلْعٍ آخَرَ فَدَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى جَمْعِهِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنَ الْعُقُودِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ عَقْدَ الْخُلْعِ مفاداة قصد بهما اسْتِنْقَاذُهُمَا مِنْ مَعْصِيَةٍ فَكَانَ حُكْمُهُ أَوْسَعَ مِنْ سَائِرِ الْعُقُودِ كَمَا وَسَّعَ فِي جَوَازِهِ عَقْدُهُ عَلَى الصِّفَاتِ الَّتِي لَا يَجُوزُ مِثْلُهَا فِي عُقُودِ الْبِيَاعَاتِ.
(فَصْلٌ:)
فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْخُلْعِ عَلَى مَا وَصَفْنَا أَخَذَتِ الزَّوْجَةُ بِرَضَاعِهِ وَبِنَفَقَتِهِ، وَكَانَ الزَّوْجُ فِي النَّفَقَةِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يستنبيها فِيهَا لِتَتَوَلَّى النَّفَقَةَ عَلَيْهِ بِنَفْسِهَا، وَبَيْنَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ ذَلِكَ مِنْهَا بِنَفْسِهِ أَوْ بِوَكِيلِهِ، لِيَكُونَ هُوَ الْمُتَوَلِّيَ لِلنَّفَقَةِ عَلَيْهَا، وَالزَّوْجُ أَيْضًا بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ تِلْكَ النَّفَقَةَ وَيُطْعِمَهُ ذَلِكَ الطَّعَامَ وَبَيْنَ أَنْ يَتَمَلَّكَهُ وَيُطْعِمَهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَا يَخْلُو الْمُقَدَّرُ عَلَيْهَا مِنَ النَّفَقَةِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ كِفَايَتِهِ لَا يَزِيدُ عَلَيْهَا وَلَا يَنْقُصُ مِنْهَا، فَلَيْسَ عَلَيْهِ لِوَلَدِهِ أَكْثَرُ مِنْهَا.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ كِفَايَتِهِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْفَاضِلَ، لِأَنَّ نَفَقَةَ الْوَلَدِ مُقَدَّرَةٌ بِالْكِفَايَةِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ أَقَلَّ مِنْ كِفَايَتِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ لَهُ مِنْ مَالِهِ قَدْرَ كفايته.(10/52)
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَزِيدَ عَلَى كِفَايَتِهِ فِي الصِّغَرِ، وَتَنْقُصَ عَنْ كِفَايَتِهِ فِي الْكِبَرِ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الزِّيَادَةَ فِي صِغَرِهِ، وَيُتِمَّ النُّقْصَانَ فِي كِبَرِهِ، وَتُجْرِي أَمْرَ الرَّضَاعِ وَالنَّفَقَةِ مَا لَمْ يَحْدُثْ مَوْتٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا حَتَّى تُوَفِّيَ مَا عَلَيْهَا.
(فَصْلٌ:)
فَإِنْ حَدَثَ مَوْتٌ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَمُوتَ الْوَلَدُ.
وَالثَّانِي: أَنْ تَمُوتَ الزَّوْجَةُ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَمُوتَ الزَّوْجُ.
فَإِنْ مَاتَ الْوَلَدُ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَمُوتَ فِي الْحَالِ قَبْلَ الرَّضَاعِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَمُوتَ بَعْدَ الرَّضَاعِ، وَقَبْلَ اسْتِيفَاءِ الطَّعَامِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَمُوتَ بَعْدَ أَنْ مَضَى بَعْضُ الرَّضَاعِ، وَبَقِيَ بَعْضُهُ وَجَمِيعُ الطَّعَامِ.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ فِي الْحَالِ قَبْلَ الرَّضَاعِ وَالطَّعَامِ فَهَلْ لِلْأَبِ أَنْ يَأْتِيَ بِوَلَدٍ تُرْضِعُهُ بَدَلًا مِنْهُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ نَذْكُرُ تَوْجِيهَهُمَا مِنْ بَعْدُ:
أَحَدُهُمَا: يَأْتِي بِبَدَلِهِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْخُلْعُ بِحَالِهِ لَا يَبْطُلُ بِمَوْتِ الْوَلَدِ لِأَنَّ غَيْرَهُ قَدْ قَامَ مَقَامَهُ فِي الرَّضَاعِ وَالنَّفَقَةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ بِبَدَلِهِ، فَعَلَى هَذَا قَدْ بَطَلَ الْخُلْعُ فِي الرَّضَاعِ فَتَفَرَّقَتْ بِهِ الصَّفْقَةُ بِمَعْنًى طَرَأَ بَعْدَ الْعَقْدِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ بَعْدَ العقد هل يكون لتفريقها حَالَ الْعَقْدِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أنهما في تفريق الصفة سَوَاءٌ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَبْطُلُ الْخُلْعُ فِي الطَّعَامِ لِبُطْلَانِهِ فِي الرَّضَاعِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: قَدْ بَطَلَ إِذَا لَمْ يُجَوَّزْ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ، فَعَلَى هَذَا قَدْ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَى خُلْعٍ فَاسِدٍ، فَوَقَعَ بَائِنًا، وَبِمَاذَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِأُجْرَةِ رَضَاعِ الْحَوْلَيْنِ وَقِيمَةِ الطَّعَامِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ إنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِمَهْرِ مِثْلِهَا كَمَا قُلْنَا فِي بُطْلَانِ الصَّدَاقِ أَنَّ فِيمَا تَرْجِعُ بِهِ الزوجة قولين.(10/53)
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي الْأَصْلِ أَنَّ الْخُلْعَ فِي الطَّعَامِ لَا يَبْطُلُ، وَإِنْ بَطَلَ فِي الرَّضَاعِ إِذَا جَوَّزْنَا تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الزَّوْجُ لِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْخُلْعِ فِي الطَّعَامِ وَبَيْنَ فَسْخِهِ، فَإِنْ فَسَخَ فَفِيمَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: بِأُجْرَةِ الرَّضَاعِ وَقِيمَةِ الطَّعَامِ.
وَالثَّانِي: بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَإِنْ أَقَامَ فَعَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقِيمَ عَلَى الطَّعَامِ بِجَمِيعِ الْخُلْعِ وَإِلَّا فَسَخَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُقِيمُ عَلَيْهِ بِحِسَابِهِ وَقِسْطِهِ، وَيَرْجِعُ بِحِسَابِ الرَّضَاعِ وَقِسْطِهِ، وَبِمَاذَا يَكُونُ رُجُوعُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْقَدِيمُ بِأُجْرَةِ رَضَاعِ الْحَوْلَيْنِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ الْجَدِيدُ بِقِسْطِهِ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ.
مِثَالُهُ: أَنْ يَنْظُرَ أُجْرَةَ الرَّضَاعِ وَقِيمَةَ الطَّعَامِ، فَإِذَا كَانَتْ أُجْرَةُ الرَّضَاعِ مِائَةً، وَقِيمَةُ الطَّعَامِ مِائَتَيْنِ كَانَ الرَّضَاعُ ثُلُثَ الْخُلْعِ فَيَرْجِعُ بِثُلُثِ مَهْرِ الْمِثْلِ، فَهَذَا الْكَلَامُ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْ أَصْحَابِنَا أَنَّ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الْعَقْدِ فِيمَا يَفِي بِخِلَافِهِمَا حَالَ الْعَقْدِ.
فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْخُلْعُ جَائِزًا فِي الطَّعَامِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ بَطَلَ فِي الرَّضَاعِ وَيَكُونُ فِيهِ بِالْخِيَارِ عَلَى مَا مَضَى، فَإِنْ أَقَامَ عَلَى الطَّعَامِ فَهَلْ يَكُونُ إِلَى آجَالِهِ أَوْ يَتَعَجَّلُ عَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ:
أَحَدُهُمَا: قَدْ حَلَّ، لِأَنَّهُ كَانَ مُؤَجَّلًا بِتَأْجِيلِ الرَّضَاعِ، فَإِذَا بَطَلَ الرَّضَاعُ ارْتَفَعَ الْأَجَلُ فَحَلَّ الطَّعَامُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّ الطَّعَامَ إِلَى أَجَلِهِ لَا يَتَعَجَّلُ، لِأَنَّ الْمُؤَجَّلَ لَا يَتَعَجَّلُ إِلَّا بِمَوْتِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ دُونَ مُسْتَوْفِيهِ، وَالطَّعَامَ أَحَدُ الْمَقْصُودِينَ، وَلَيْسَ بِبَيْعٍ مَحْضٍ وَيَكُونُ فِيهِ بِالْخِيَارِ، فَإِنْ فَسَخَ الْجَوَابُ فِيمَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى مَا مَضَى، وَإِنْ أَقَامَ عَلَيْهِ أَخَذَهُ بِقِسْطِهِ قَوْلًا وَاحِدًا وَرَجَعَ بِبَاقِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ.
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ الْوَلَدُ بَعْدَ رَضَاعِ الْحَوْلَيْنِ، وَقَبْلَ الطَّعَامِ، فَالْخُلْعُ بِحَالِهِ عَلَى صِحَّتِهِ، لِأَنَّ مَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْمَوْتُ مِنَ الرَّضَاعِ قَدِ اسْتُوفِيَ وَالطَّعَامَ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْمَوْتُ، فَكَانَ عَلَى صِحَّتِهِ لَكِنْ هَلْ يَحِلُّ أَوْ يَكُونُ إِلَى أَجَلِهِ؟ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ.
(فَصْلٌ:)
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ الْوَلَدُ بَعْدَ أَنْ مَضَى بَعْضُ الرضاع وبقي(10/54)
بَعْضُهُ وَجَمِيعُ الطَّعَامِ كَأَنَّهُ مَاتَ بَعْدَ أَنْ مَضَى أَحَدُ الْحَوْلَيْنِ وَبَقِيَ الثَّانِي فَهَلْ يَأْتِي بِوَلَدٍ آخَرَ تُرْضِعُهُ مَكَانَ ذَلِكَ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَأْتِي بِوَلَدٍ آخَرَ، فَعَلَى هَذَا الْخُلْعُ بِحَالِهِ، وَيَسْتَوْفِي رَضَاعَ الْحَوْلِ الثَّانِي بِوَلَدٍ آخَرَ وَيَسْتَوْفِي الطَّعَامَ فِي نُجُومِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَأْتِي بِغَيْرِ ذَلِكَ الْوَلَدِ، فَعَلَى هَذَا قَدْ بَطَلَ الْخُلْعُ فِي رَضَاعِ الْحَوْلِ الثاني، وهو يَبْطُلُ فِي رَضَاعِ الْحَوْلِ الْأَوَّلِ وَالطَّعَامِ الْبَاقِي أَمْ لَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ تَتَخَرَّجُ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَاضِي مِنِ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا مِنَ الْفَسَادِ الطَّارِئِ بَعْدَ الْعَقْدِ هَلْ يَكُونُ كَالْفَسَادِ الْمُقَارِنِ لِلْعَقْدِ ثُمَّ عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ أَحَدُ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ أَنَّ الْخُلْعَ بَاطِلٌ فِي الْجَمِيعِ فَيَبْطُلُ فِي الْحَوْلِ الْمَاضِي، وَفِي الطَّعَامِ لِبُطْلَانِهِ فِي الْحَوْلِ الْبَاقِي، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُ الْفَسَادَ الطَّارِئَ بَعْدَ الْعَقْدِ كَالْفَسَادِ الْمُقَارِنِ لِلْعَقْدِ، وَيَمْنَعُ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَلَى الزَّوْجِ أُجْرَةُ رَضَاعِ الْحَوْلِ الْمَاضِي، وَبِمَاذَا يَرْجِعُ عَلَى الزَّوْجَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ مَضَيَا:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْقَدِيمُ بِأُجْرَةِ رَضَاعِ الْحَوْلَيْنِ وَبِقِيمَةِ الطَّعَامِ إلا أن يكون فيه ذو مثل فَيَرْجِعُ بِمِثْلِ ذِي الْمِثْلِ وَقِيمَةِ غَيْرِ ذِي الْمِثْلِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْجَدِيدُ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي مِنَ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ: أَنَّ الْخُلْعَ جَائِزٌ فِي الْحَوْلِ الْمَاضِي، وَفِي الطَّعَامِ الْبَاقِي، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يَجْعَلُ حُدُوثَ الْفَسَادِ بَعْدَ الْعَقْدِ كَوُجُودِهِ مع العقد، فعلى هذا هل يكون للزوجة بِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ خِيَارُ الْفَسْخِ أَمْ لَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: لَا خِيَارَ لَهُ بِحَالٍ فَعَلَى هَذَا التَّقْسِيمِ عَلَى رَضَاعِ الْحَوْلِ الْمَاضِي وَجَمِيعِ الطَّعَامِ بِحِسَابِهِ وَقِسْطِهِ وَيَرْجِعُ بِحِسَابِ الْحَوْلِ الْبَاقِي وَقِسْطِهِ وَمِنْ مَاذَا يَرْجِعُ بِهِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مِنْ عِوَضِ الْخُلْعِ فَعَلَى هَذَا يَرْجِعُ بِأُجْرَةِ رَضَاعِ الْحَوْلِ الْبَاقِي.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ فَعَلَى هَذَا يَنْظُرُ أُجْرَةَ رَضَاعِ الْحَوْلَيْنِ وَقِيمَةَ الطَّعَامِ فَإِذَا قِيلَ؛ أُجْرَةُ رضاع الحولين مائتا درهم، وقيمة الطعام ثلاث مائة دِرْهَمٍ فَقَدْ بَقِيَ لَهُ بِأُجْرَةِ رَضَاعِ الْحَوْلِ الْبَاقِي مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَهِيَ الْخُمُسُ فَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِخُمُسِ مَهْرِ الْمِثْلِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ فِي فَسْخِ الْحَوْلِ الْمَاضِي، وَالطَّعَامِ الْبَاقِي أَوِ الْمُقَامِ عَلَيْهِمَا فَإِنْ فَسَخَ كَانَتْ عَلَيْهِ أُجْرَةُ الْحَوْلِ الْمَاضِي، وَبِمَاذَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِمَهْرِ الْمِثْلِ.
وَالثَّانِي: بِأُجْرَةِ رَضَاعِ الحولين وبقيمة ما ليس له من الطعام مثل وبمثل ماله منه(10/55)
مِثْلٌ، وَيَكُونُ ذَلِكَ حَالًّا وَجْهًا وَاحِدًا، لِأَنَّ فَسْخَ الْعَقْدِ قَدْ مَنَعَ مِنْ ثُبُوتِ نُجُومِهِ، وَإِنْ أَقَامَ عَلَى الْحَوْلِ الْمَاضِي، وَعَلَى الطَّعَامِ، فَهَلْ يُقِيمُ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ الْخُلْعِ أَوْ حِسَابِهِ وَقِسْطِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا مَضَى وَهَلْ يَحِلُّ الطَّعَامُ أَوْ يَكُونُ عَلَى نُجُومِهِ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْخُلْعَ لَازِمٌ لَهُ فِي الْحَوْلِ الْمَاضِي، وَلَا خِيَارَ لَهُ فِيهِ لِاسْتِيفَائِهِ وَلَهُ الْفَسْخُ فِي الطَّعَامِ أَوِ الْمُقَامُ فَيَصِيرُ الْخُلْعُ إِذَا كَانَ أُجْرَةُ الرَّضَاعِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَقِيمَةُ الطَّعَامِ ثَلَاثَ مِائَةِ دِرْهَمٍ بَاطِلًا فِي خُمُسِهِ، وَهُوَ الْحَوْلُ الْبَاقِي، ولازماً في خمسة وهو الحول الماضي، وجائز فِي ثَلَاثَةِ أَخْمَاسِهِ وَهُوَ الطَّعَامُ فَإِنْ فَسَخَ أَوْ أَقَامَ فَعَلَى مَا مَضَى، فَهَذَا حُكْمُ الْمَذْهَبِ الثَّانِي مِنَ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ مِنَ الْمَذَاهِبِ: أَنَّ الْخُلْعَ صَحِيحٌ فِي الْحَوْلِ الْمَاضِي لِاسْتِيفَائِهِ، وَبَاطِلٌ فِي الطَّعَامِ لِبُطْلَانِهِ فِي الْحَوْلِ الْبَاقِي، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَسْتَحِقُّ خِيَارَ الْفَسْخِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا خِيَارَ له، فعل هَذَا يُقِيمُ عَلَى الْحَوْلِ الْمَاضِي بِحِسَابِهِ وَقِسْطِهِ وَهُوَ الْخُمُسُ؛ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ مِائَةٍ مِنْ خَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَيَرْجِعُ بِحِسَابِ مَا بَقِيَ وَقِسْطِهِ، وَمِنْ مَاذَا يَكُونُ رُجُوعُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ مَهْرِ الْمِثْلِ.
وَالثَّانِي: مِنْ أُجْرَةِ رَضَاعِ الْحَوْلِ الْبَاقِي، وَمِثْلِ ذِي الْمِثْلِ، وَقِيمَةِ غَيْرِ ذِي الْمِثْلِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ حَالًّا لِفَسْخِ الْعَقْدِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالْمُقَامِ، فَإِنْ فَسَخَ رَدَّ أُجْرَةَ الْحَوْلِ الْمَاضِي وَبِمَاذَا يَرْجِعُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ القولين.
وإن أقام فهل يقم عَلَى الْحَوْلِ الْمَاضِي وَالطَّعَامِ بِجَمِيعِ الْخُلْعِ أَوْ بِحِسَابِهِ وَقِسْطِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ ثُمَّ عَلَى مَا مَضَى فَهَذَا الْكَلَامُ فِي مَوْتِ الْوَلَدِ.
(فَصْلٌ:)
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ تَمُوتَ الزَّوْجَةُ فَالْحُكْمُ فِي مَوْتِهَا كَالْحُكْمِ فِي مَوْتِ الْوَلَدِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَقْسَامِ وَالْأَحْكَامِ إِلَّا فِي شَيْئَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْخُلْعَ يَبْطُلُ فِي الرَّضَاعِ إِذَا مَاتَتْ قَبْلَهُ، وَلَا يُقَامُ غَيْرُهَا مَقَامَهَا فِي الرَّضَاعِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، كَمَا أُقِيمَ مَقَامَ الْوَلَدِ غَيْرُهُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الرَّضَاعَ مُسْتَوْف مِنَ الْأُمِّ فَتَعَيَّنَتْ بِالْعَقْدِ، وَالْوَلَدَ مُسْتَوْفٍ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ بِالْعَقْدِ كَالْأَجِيرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ لَمَّا كَانَ الْأَجِيرُ مُسْتَوْفًا مِنْهُ تَعَيَّنَ بِالْعَقْدِ، فَبَطَلَ بِمَوْتِهِ، وَلَمَّا كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ مُسْتَوْفِيًا لَمْ يَتَعَيَّنْ بِالْعَقْدِ فَلَمْ يَبْطُلْ بِمَوْتِهِ.(10/56)
وَالثَّانِي: أَنَّ الطَّعَامَ الْمُنَجَّمَ يَحِلُّ بِمَوْتِهَا وَجْهًا وَاحِدًا، وَإِنْ لَمْ يَحِلَّ بِمَوْتِ الْوَلَدِ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَقَّ عَلَى الزَّوْجَةِ فَحَلَّ بِمَوْتِهَا، وَأَنَّ الدُّيُونَ الْمُؤَجَّلَةَ تَحِلُّ بِمَوْتِ مَنْ هِيَ عَلَيْهِ، وَلَا تَحِلُّ بِمَوْتِ مُسْتَوْفِيهَا، أَوْ مَنْ هِيَ لَهُ.
ثُمَّ الْجَوَابُ فِيمَا سِوَى هَذَيْنِ عَلَى مَا مَضَى.
(فَصْلٌ:)
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ الزَّوْجُ فَلَا يُؤَثِّرُ مَوْتُهُ فِي فَسَادِ الْخُلْعِ، لَا فِي رَضَاعِهِ وَلَا فِي طَعَامِهِ، لَكِنْ يَكُونُ الطَّعَامُ مَوْرُوثًا لَا يَخْتَصُّ بِهِ الْوَلَدُ؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهُ تَسْقُطُ عَنِ الْأَبِ بِمَوْتِهِ.
فَأَمَّا الرَّضَاعُ فَهَلْ يَكُونُ مَوْرُوثًا أَوْ يَكُونُ الْوَلَدُ أَحَقَّ بِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي مَوْتِ الْوَلَدِ هَلْ يَقُومُ غَيْرُهُ فِيهِ مَقَامَهُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ، فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ الرَّضَاعُ مَوْرُوثًا وَيَكُونُ الْوَلَدُ أَحَقَّ بِهِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الطَّعَامُ إِلَى نُجُومِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ غَيْرَ الْوَلَدِ يَقُومُ مَقَامَ الْوَلَدِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الرَّضَاعُ مَوْرُوثًا لَا يَخْتَصُّ بِهِ الْوَلَدُ، وَهَلْ يَحِلُّ الطَّعَامُ أَوْ يَكُونُ إِلَى نُجُومِهِ، عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ:)
إِذَا خَالَعَ زَوْجَتَهُ عَلَى نَفَقَةِ عِدَّتِهَا وَأُجْرَةِ سُكْنَاهَا لِيَبْرَأَ مِنْهُ بِالْخُلْعِ لَمْ يَجُزْ وَكَانَ الْخُلْعُ فَاسِدًا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِيهِ بَائِنًا، وَيَرْجِعُ عليهما بمر المثل، ولا يبرئ مِنَ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَصِحُّ الْخُلْعُ عَلَى ذَلِكَ وَيَبْرَأُ مِنَ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ النِّكَاحَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى وَوُجُودُ السَّبَبِ كَوُجُودِ الْمُسَبَّبِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ سَبَبُ وُجُوبِهَا كَوُجُوبِهَا فِي جَوَازِ الْخُلْعِ بِهَا وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا خَالَعَتْهُ عَلَى مَا لَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَيْهِ مِلْكُهَا، وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ مَوْجُودًا فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا كَمَا لَوْ خَالَعَهَا عَلَى قِيمَةِ عَبْدِهَا إِنْ قَتَلَهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أُبْرِئَ مِنَ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهَا وَهِيَ لَوْ أَبْرَأَتْهُ بِغَيْرِ خُلْعٍ لَمْ يَصِحَّ فَكَذَلِكَ بِالْخُلْعِ. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ وُجُودَ السَّبَبِ كَوُجُودِ الْمُسَبَّبِ فَغَلَطٌ، لِأَنَّ النِّكَاحَ سبب لنفقة الزوجية، وليس سبب لِنَفَقَةِ الْحَمْلِ فِي الْعِدَّةِ، وَإِنَّمَا سَبَبُ هَذِهِ النَّفَقَةِ الطَّلَاقُ وَالْحَمْلُ فَلَمْ يُوجَدِ السَّبَبُ فَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ حُكْمُ الْمُسَبَّبِ.(10/57)
(مسألة:)
قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَ أَمْرُكِ بِيَدِكِ فَطَلِّقِي نَفْسَكِ إِنْ ضَمِنْتِ لِي أَلْفَ دِرْهَمٍ فَضَمِنَتْهَا فِي وَقْتِ الْخِيَارِ لَزِمَهَا وَلَا يَلْزَمُهَا فِي غَيْرِ وَقْتِ الْخِيَارِ كَمَا لَوْ جَعَلَ أَمْرَهَا إِلَيْهَا لَمْ يَجُزْ إِلَّا فِي وَقْتِ الْخِيَارِ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا طَلَاقٌ مُعَلَّقٌ بِشَرْطَيْنِ نُبَيِّنُ حُكْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُمَّ نَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، أَمَّا إِذَا قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ، أَوْ قَدْ جَعَلْتُ إِلَيْكِ طَلَاقَ نَفْسِكِ أَوِ اخْتَارِي طَلَاقَ نَفْسِكِ، فَكُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَقَدْ مَلَّكَهَا الطَّلَاقَ فَإِنْ عَجَّلَتْ طَلَاقَ نَفْسِهَا فِي الْمَجْلِسِ عَلَى الْفَوْرِ فِي وَقْتِ الْجَوَابِ طُلِّقَتْ، وَإِنْ أَخَّرَتْهُ حَتَّى تَرَاخَى الزَّمَانُ لَمْ تُطَلَّقْ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَتَى طَلَّقَتْ نَفْسَهَا عَلَى الْفَوْرِ أَوِ التَّرَاخِي طُلِّقَتِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ رَدَّ إِلَيْهَا طَلَاقَ نَفْسِهَا كَمَا يَرُدُّ إِلَى وَكِيلِهِ طَلَاقَهَا، وَلَوْ رَدَّهُ إِلَى الْوَكِيلِ جَازَ أَنْ يُطَلِّقَهَا عَلَى التَّرَاخِي كَذَلِكَ إِذَا رَدَّهُ إِلَيْهَا.
وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ رَدَّ الطَّلَاقِ إِلَيْهَا تَمْلِيكٌ وَرَدُّهُ إِلَى الْوَكِيلِ اسْتِنَابَةٌ فَلَزِمَ فِي التَّمْلِيكِ تَعْجِيلُ الْقَبُولِ كَالْهِبَةِ، وَلَمْ يَلْزَمْ فِي الِاسْتِنَابَةِ تَعْجِيلُ النِّيَابَةِ كَالْبَيْعِ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: بِعْ عَبْدِي هَذَا، جَازَ أَنْ يَبِيعَهُ عَلَى التَّرَاخِي، لِأَنَّهَا وَكَالَةٌ.
وَلَوْ قَالَ لَهُ: قَدْ بِعْتُكَ عَبْدِي هَذَا لَزِمَهُ قَبُولُهُ عَلَى الْفَوْرِ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ كَذَلِكَ الطَّلَاقُ يَجِبُ أَنْ يَقَعَ الْفَرْقُ فِيهِ بَيْنَ التَّمْلِيكِ وَالتَّوْكِيلِ.
وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُعَلِّقَ طَلَاقَهَا بِشَرْطِ الضَّمَانِ كَقَوْلِهِ: إِنْ ضَمِنْتِ لِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَشَرْطُ وُقُوعِ هَذَا الطَّلَاقِ تَعْجِيلُ الضَّمَانِ فِي الْمَجْلِسِ عَلَى الْفَوْرِ فِي وَقْتِ الْقَبُولِ، وَهُوَ أَضْيَقُ مِنْ وَقْتِ الْجَوَابِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
فَإِذَا تَقَرَّرَ حُكْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّرْطَيْنِ عَلَى انْفِرَادِهِ فَمَسْأَلَةُ الْكِتَابِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فَيَقُولُ: قَدْ جَعَلْتُ إِلَيْكِ طَلَاقَ نَفْسِكِ إِنْ ضَمِنْتِ إِلَيَّ أَلْفًا فَيُعَلِّقُ طَلَاقَهَا بِشَرْطَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: ضَمَانُ أَلْفٍ.
وَالثَّانِي: أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا وَكِلَا الشَّرْطَيْنِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْفَوْرِ لَكِنْ مِنْ صِحَّتِهَا تَقَدُّمُ الضَّمَانِ عَلَى الطَّلَاقِ، فَإِنْ عَجَّلَتِ الطَّلَاقَ قَبْلَ الضَّمَانِ لَمْ تُطَلَّقْ حَتَّى تُقَدِّمَ الضَّمَانَ عَلَى الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَعَلَ الضَّمَانَ شَرْطًا فِي الطَّلَاقِ فَيَلْزَمُ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الشَّرْطَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَشْرُوطِ فِيهِ، وَإِذَا لَزِمَ تَقْدِيمُ الضَّمَانِ وَتَعْقِيبُهُ بِالطَّلَاقِ فَلَا يَخْلُو حَالُهَا إِذَا ضَمِنَتِ الْأَلْفَ وَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَفْعَلَهُمَا عَلَى الْفَوْرِ فَيَصِحَّانِ، وَقَدْ طُلِّقَتْ وَلَزِمَهَا ضَمَانُ الْأَلْفِ.
وَالثَّانِي: أَنْ تَفْعَلَهُمَا عَلَى التَّرَاخِي فَيَبْطُلَانِ وَلَا طَلَاقَ وَلَا ضَمَانَ.(10/58)
وَالثَّالِثُ: أَنْ تَضْمَنَ عَلَى الْفَوْرِ، وَتُطَلِّقَ نَفْسَهَا عَلَى التَّرَاخِي، فَلَا طَلَاقَ لِتَرَاخِي إِيقَاعِهِ وَيَسْقُطُ الضَّمَانُ بَعْدَ صِحَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ طَلَاقٍ لَمْ يَقَعْ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا عَلَى الْفَوْرِ، وَتَضْمَنَ عَلَى التَّرَاخِي فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ لِفَسَادِ الضَّمَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تَرَاخِي زَمَانِهِ.
وَالثَّانِي: تَأْخِيرُهُ عَنِ الطَّلَاقِ، وَفَسَادُ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ فِي الطَّلَاقِ يَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِهِ.
(فَصْلٌ:)
فأما الشافعي فإنه ذكر ها هُنَا أَنَّهَا إِذَا ضَمِنَتِ الْأَلْفَ فِي وَقْتِ الْخِيَارِ لَزِمَهَا الطَّلَاقُ، وَلَمْ يَذْكُرْ تَطْلِيقَ نَفْسِهَا وَإِنْ كَانَ شَرْطًا فِي وُقُوعِهِ وَلِأَصْحَابِنَا فِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ سَقَطَ عَنِ الْكَاتِبِ فِي نَقْلِهِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الرَّبِيعُ فِي كِتَابِ الْأُمِّ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَصَدَ بَيَانَ حُكْمِ الضَّمَانِ أَنْ يُتَعَجَّلَ عَلَى الْفَوْرِ وَأَغْفَلَ ذِكْرَ الطَّلَاقِ إِمَّا اكْتِفَاءً بِمَا قَدَّمَهُ مِنْ شَرْطِهِ، وَإِمَّا اسْتِغْنَاءً بما قدمه من بيانه.
(مسألة:)
قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَ إِنْ أَعْطَيْتِنِي عَبْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَأَعْطَتْهُ أَيَّ عَبْدٍ مَا كَانَ فَهِيَ طَالِقٌ وَلَا يَمْلِكُ الْعَبْدَ وَإِنَّمَا يَقَعُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَا يَقَعُ بِهِ الْحِنْثُ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رحمه الله ليس هذا قياس قوله لأن هذا في معنى العوض وقد قال في هذا الباب متى أو متى أعطيتني ألف درهم فَأَنْتِ طَالِقٌ فَذَلِكَ لَهَا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يمتنع من أخذها ولا لها أن ترجع إن أعطته فيها والعبد والدرهم عندي سواء غير أن العبد مجهول فيكون له عليها مثلها) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي عَبْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعَيِّنَ الْعَبْدَ فَيَقُولَ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي عَبْدَكِ هَذَا، فَإِنْ أَعْطَتْهُ غَيْرَ ذَلِكَ الْعَبْدِ، لَمْ تُطَلَّقْ، وَإِنْ أَعْطَتْهُ ذَلِكَ الْعَبْدَ طُلِّقَتْ بِهِ، وَمَلَكَهُ الزَّوْجُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِالتَّعْيِينِ مَعْلُومًا فَصَحَّ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا، فَإِنْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا كَانَ لِأَجْلِهِ بِالْخِيَارِ فَإِنْ رَدَّهُ لَمْ يَرْتَفِعِ الطَّلَاقُ لِوُقُوعِهِ بِوُجُودِ صِفَتِهِ، وَبِمَاذَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْقَدِيمُ بِقِيمَتِهِ أَنْ لَوْ كَانَ سَلِيمًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْجَدِيدُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أن لا يُعَيِّنَ الْعَبْدَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَصِفَهُ فَتَكُونَ صِفَاتُهُ شَرْطًا فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهِ فَإِنْ أَعْطَتْهُ عَبْدًا عَلَى غَيْرِ تِلْكَ الصِّفَاتِ لَمْ تُطَلَّقْ، وَإِنْ أَعْطَتْهُ عَبْدًا عَلَى تِلْكَ الصِّفَاتِ طُلِّقَتْ بِهِ.(10/59)
ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ تِلْكَ الصِّفَاتِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَنْفِيَ عَنْهُ الْجَهَالَةَ أولا يَنْفِيهَا عَنْهُ، فَإِنِ انْتَفَتْ عَنْهُ الْجَهَالَةُ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ وَهُوَ أَنْ يَصِفَهُ بِالصِّفَاتِ الْمُسْتَحَقَّةِ فِي السَّلَمِ الَّتِي يَصِحُّ بِهَا ثُبُوتُهُ فِي الذِّمَّةِ بِأَنْ يَذْكُرَ جِنْسَهُ وَسِنَّهُ وَقَدهُ وَحِلْيَتَهُ، فَإِذَا اسْتَكْمَلَتْ هَذِهِ الصِّفَاتِ طُلِّقَتْ بِهِ، وَمَلَكَهُ الزَّوْجُ؛ وَإِنِ الْجَهَالَةَ قَدِ انْتَفَتْ عَنْهُ فَصَارَ مَعْلُومًا بِهَا فَصَحَّ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا، فَإِنْ وَجَدَهُ مَعِيبًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُبَدِّلَهُ بِمِثْلِهِ سَلِيمًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ مَعَ انْتِفَاءِ الْجَهَالَةِ عَنْهُ مُتَعَيَّنًا بِالدَّفْعِ، فَصَارَ كَالْمُعَيَّنِ بِالْعَقْدِ، وَلَوْ تَعَيَّنَ بِالْعَقْدِ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِبْدَالُهُ، كَذَلِكَ إِذَا تَعَيَّنَ بِالدَّفْعِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ بَدَلُهُ فَبِمَاذَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ فِي الْقَدِيمِ بِقِيمَتِهِ لَوْ كَانَ سَلِيمًا.
وَالثَّانِي: وَهُوَ فِي الْجَدِيدِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَلَوْ كَانَ قَدْ طَلَّقَهَا عَلَى غَيْرِ مَوْصُوفٍ فِي ذِمَّتِهَا فَسَلَّمَتْ إِلَيْهِ الْعَبْدَ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ فَوَجَدَهُ مَعِيبًا كَانَ لَهُ إِبْدَالُهُ بِسَلِيمٍ لَا عَيْبَ فِيهِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ فَقَدْ تَقَدَّمَهُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ بِالْعَقْدِ وَلَا صَارَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهِ مُعَيَّنًا بِالدَّفْعِ، فَجَرَى مَجْرَى الْمَالِ الْمَوْصُوفِ فِي الذِّمَّةِ إِذَا وَجَدَهُ مَعِيبًا أَبْدَلَهُ بِسَلِيمٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِهِ فَصَارَ مُعَيَّنًا بِالدَّفْعِ، فَجَرَى مَجْرَى الْمُعَيَّنِ بِالْعَقْدِ، وَإِنْ وَصَفَ الْعَبْدَ بِمَا لَا يَنْفِي عَنْهُ الْجَهَالَةَ، وَلَا يَجْرِي فِي السَّلَمِ، فَإِذَا وُجِدَتْ فِيهِ هَذِهِ الصِّفَاتُ طُلِّقَتْ بِدَفْعِهِ وَلَا يَمْلِكُهُ الزَّوْجُ بِجَهَالَتِهِ، وَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ قَوْلًا وَاحِدًا.
(فَصْلٌ:)
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُطْلِقَ ذِكْرَ الْعَبْدِ وَلَا يَصِفَهُ، وَيَقْتَصِرَ عَلَى قَوْلِهِ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي عَبْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَأَيُّ عَبْدٍ أَعْطَتْهُ طُلِّقَتْ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا، لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِالشُّرُوطِ الْمَجْهُولَةِ، وَلَا يَمْلِكُهُ الزَّوْجُ لِجَهَالَتِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَمْلِكَ بِالْعُقُودِ أَعْوَاضًا مَجْهُولَةً وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تُعْطِيَهُ عَبْدًا صَغِيرًا، أَوْ كَبِيرًا صَحِيحًا أَوْ ذِمِّيًّا فِي وُقُوعِ طَلَاقِهَا بِهِ، وَلَا تُطَلَّقُ لَوْ أَعْطَتْهُ أَمَةً، لِأَنَّ اسْمَ الْعَبْدِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا، وَلَا لَوْ أَعْطَتْهُ خُنْثَى لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ أَمَةً،، وَلَوْ أَعْطَتْهُ عَبْدًا مُدَبَّرًا أَوْ مُعْتَقًا بِصِفَةٍ، طُلِّقَتْ بِهِ لِانْطِلَاقِ اسْمِ الْعَبْدِ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَعْطَتْهُ مُكَاتَبًا لَمْ تُطَلَّقْ بِهِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ قَدْ أَخْرَجَتْهُ مِنْ حُكْمِ الْعَبِيدِ فَزَالَ عَنْهُ اسْمُ الْعَبْدِ.
وَلَوْ أَعْطَتْهُ عَبْدًا لَهَا مَغْصُوبًا قَالَ أَبُو حامد الإسفراييني: لَا تُطَلَّقُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُمْلَكَ بِالْعَقْدِ فَأَجْرَاهُ مَجْرَى الْمُكَاتَبِ.
وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّهَا تُطَلَّقُ بِدَفْعِهِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الصِّفَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حُكْمِ الْعَبِيدِ فَلَمْ يَزُلْ عَنْهُ اسم العبد، وَقَدْ يَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ مِنْ غَاصِبِهِ وَعَلَى أَنَّ الْمَغْصُوبَ يَخْرُجُ بِالدَّفْعِ أَنْ يَكُونَ مَغْصُوبًا، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا تُطَلَّقُ مَعَ جَهَالَةِ الْعَبْدِ بِأَيِّ عَبْدٍ دَفَعَتْهُ وَلَا تَمْلِكُهُ فَلَهُ عَلَيْهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، وَلَمْ يَكُنْ إِغْفَالُ الشَّافِعِيِّ لِذِكْرِهِ إِسْقَاطًا مِنْهُ لِإِيجَابِهِ كَمَا تَوَهَّمَهُ الْمُزَنِيُّ فَاحْتَجَّ بِمَا ذَكَرَهُ مِنَ الشَّوَاهِدِ الصَّحِيحَةِ وَإِنَّمَا أَغْفَلَهُ اكْتِفَاءً بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِهِ.(10/60)
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا أَطْلَقَ ذِكْرَ الْعَبْدِ فِي خُلْعِهِ تَنَاوَلَ عَبْدًا وَسَطًا سِنْدِيًّا بَيْنَ الأبيض والأسود، فجعل ذلك شرط في وقوع الطَّلَاقِ. وَتَمَلَّكَ الْعَبْدَ بِهِ، وَبَنَاهُ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي الصَّدَاقِ إِذَا أَصْدَقَهَا عَبْدًا مُطْلَقًا صَحَّ، وَتَنَاوَلَ عَبْدًا وَسَطًا سِنْدِيًّا بَيْنَ الْأَسْوَدِ وَالْأَبْيَضِ، وَنَحْنُ نُخَالِفُهُ فِي الْأَصْلَيْنِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ معه والله أعلم.
(مسألة:)
قال الشافعي: (وَلَوْ خَلَعَهَا بِعَبْدٍ بِعَيْنِهِ ثَمَّ أَصَابَ بِهِ عَيْبًا رَدَّهُ وَكَانَ لَهُ عَلَيْهَا مَهْرُ مِثْلِهَا) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا خَالَعَهَا عَلَى عَبْدٍ بِعَيْنِهِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعَجِّلَ طَلَاقَهَا بِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَجْعَلَهُ مُعَلَّقًا بِدَفْعِهِ.
فَإِنْ عَجَّلَ طَلَاقَهَا بِهِ كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ بِهَذَا الْعَبْدِ، فَقَدْ طُلِّقَتْ، لِأَنَّهُ جَعَلَ الْعَبْدَ عِوَضًا، وَلَمْ يَجْعَلْهُ شَرْطًا، فَإِنْ صَحَّ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا لِكَوْنِهِ مِلْكًا لَهَا وَجَارِيًا فِي تَصَرُّفِهَا صَحَّ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا، وَمَلَكَ الْعَبْدَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ بِالتَّعْيِينِ مَعْلُومٌ، فَإِنْ وُجِدَ بِهِ عَيْبٌ فسخ بِهِ فَلَا رَدَّ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَحْ بِهِ وَأَرَادَ رَدَّهُ فَلَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ مَا مُلِكَ بِالْأَعْوَاضِ رُدَّ بِالْعُيُوبِ كَالْبَيْعِ ثُمَّ بِمَاذَا يَرْجِعُ بَعْدَ رَدِّهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: بِقِيمَتِهِ لَوْ كَانَ سَلِيمًا.
وَالثَّانِي: بِمَهْرِ الْمِثْلِ.
وَإِنْ كَانَتْ لَا تَمْلِكُ هَذَا الْعَبْدَ أَوْ كَانَتْ تَمْلِكُهُ وَلَكِنْ لَا ينفذ تصرفها فيه، وإما لِكَوْنِهِ مَوْهُوبًا أَوْ لِكَوْنِهِ مَغْصُوبًا، بَطَلَ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا فِي الْخُلْعِ، كَمَا بَطَلَ أَنْ يَكُونَ مَبِيعًا، وَفِيمَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: بِقِيمَتِهِ.
وَالثَّانِي: بِمَهْرِ الْمِثْلِ.
(فَصْلٌ:)
وَإِنْ جَعَلَ طَلَاقَهَا مُعَلَّقًا بِدَفْعِهِ كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي هَذَا الْعَبْدَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْعَبْدِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ فِي مِلْكِهَا وَتَصَرُّفِهَا فَمَتَى أَعْطَتْهُ الْعَبْدَ طُلِّقَتْ بِدَفْعِهِ وَمَلَكَهُ الزَّوْجُ؛ لِأَنَّهُ بِالتَّعْيِينِ مَعْلُومٌ، فَإِنْ ظَهَرَ بِهِ عَيْبٌ، فَلَهُ رَدُّهُ وَفِيمَا يَرْجِعُ بِهِ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى) .
أَحَدُهُمَا: بِقِيمَتِهِ.
وَالثَّانِي: بِمَهْرِ الْمِثْلِ.(10/61)
فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهِ مَعِيبًا وَيَرْجِعَ بِأَرْشِهِ فَإِنْ قِيلَ؛ لَوْ رَدَّهُ رَجَعَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ دُونَ قِيمَتِهِ فَلَيْسَ لَهُ ذَاكَ، وَإِنْ قِيلَ: يَرْجِعُ بِقِيمَتِهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَيْسَ له ذاك؛ لأن القدرة على الردة بِالْعَيْبِ تَمْنَعُ مِنَ الرُّجُوعِ بِالْأَرْشِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهُ ذَاكَ؛ لِأَنَّ أَخْذَهُ مَعَ أَرْشِ عَيْنِهِ أَقْرَبُ مِنَ الرُّجُوعِ بِقِيمَتِهِ جَمِيعِهِ، وَخَالَفَ الْبَيْعَ الَّذِي لَا يُوجِبُ رَدُّهُ بِالْعَيْبِ اسْتِرْجَاعَ قِيمَتِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ مِلْكِهَا، لِأَنَّهُ عَبْدٌ لِغَيْرِهَا فَلَا تُطَلَّقُ بِدَفْعِهِ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَشْرُوطًا فِي مُعَاوَضَةٍ صَارَ حُكْمُ الْمُعَاوَضَةِ شَرْطًا فِيهِ، وَمِنْ حُكْمِ الْمُعَاوَضَةِ أَنْ يَكُونَ فِي مِلْكِهَا فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي هَذَا الْعَبْدَ الَّذِي تَمْلِكِينَهُ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِذَا دَفَعَتِ الْعَبْدَ، وَلَمْ تَكُنْ مَالِكَةً لَهُ فُقِدَ أَحَدُ الشَّرْطَيْنِ فَلَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ فِي مِلْكِهَا لَكِنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِيهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِنْهُ بِحَقِّ الرَّهْنِ فَلَا يَصِحُّ بِهِ الْخُلْعُ، وَلَا يَقَعُ بِدَفْعِهِ الطَّلَاقُ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْمُعَاوَضَةِ، وَأَنَّ الْمَرْهُونَ لَا يُمْلَكُ قَبْلَ فِكَاكِهِ بِالْمُعَاوَضَةِ فَصَارَ كَغَيْرِ الْمَمْلُوكِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مَمْنُوعَةً مِنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ كَالْغَصْبِ وَالْإِبَاقِ فَفِي صِحَّةِ الْخُلْعِ بِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إنَّ الْخُلْعَ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ بَيْعَهُ لَا يَصِحُّ فَجَرَى مَجْرَى الْمَرْهُونِ، فَعَلَى هَذَا، إِنْ أَعْطَتْهُ إِيَّاهُ لَمْ تُطَلَّقْ؛ لِأَنَّ تَمَلُّكَهُ بِالْعَطِيَّةِ كَالْمَشْرُوطِ فِي الْعِتْقِ بِالصِّفَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْخُلْعَ عَلَيْهِ جَائِزٌ، لِأَنَّ الْيَدَ الْغَاصِبَةَ يُسْتَحَقُّ رَفْعُهَا، فَقَصُرَتْ عَنْ حُكْمِ الْيَدِ الْمُرْتَهِنَةِ الَّتِي لَا يُسْتَحَقُّ رَفْعُهَا، فَعَلَى هَذَا إِنْ أَعْطَتْهُ إِيَّاهُ طُلِّقَتْ؛ لِأَنَّهُ قَدِ ارْتَفَعَتْ بِهِ يَدُ الْغَصْبِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي عَبْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَتُطَلَّقُ بِالْعَبْدِ الْمَغْصُوبِ وَبَيْنَ إِنْ أَعْطَيْتِنِي هَذَا الْعَبْدَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَيَكُونُ مَغْصُوبًا فَلَا تُطَلَّقُ، هُوَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مُطْلَقًا لَمْ يُمْلَكْ بِالدَّفْعِ فَغَلَبَ فِيهِ حُكْمُ الْعِتْقِ بِالصِّفَةِ، وَإِذَا كَانَ مُعَيَّنًا مُلِكَ بِالدَّفْعِ فَغَلَبَ فِيهِ حُكْمُ الْمُعَاوَضَةِ.
(فَصْلٌ:)
فَأَمَّا إِذَا خَالَعَهَا عَلَى حَمْلِ جَارِيَتِهَا أَوْ عَلَى مَا فِي جَوْفِهَا، فَالْخُلْعُ بَاطِلٌ، وَسَوَاءٌ وَضَعَتْ وَلَدًا أَوْ لَمْ تَضَعْ، وَالطَّلَاقُ يَقَعُ بَائِنًا، وَلَهُ عَلَيْهَا مَهْرُ الْمِثْلِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْخُلْعُ صَحِيحٌ فَإِنْ وَضَعَتْ وَلَدًا كَانَ لِلزَّوْجِ، وَإِنْ لَمْ تَضَعْ شَيْئًا فَلَا شَيْءَ لِلزَّوْجِ اعْتِبَارًا بِالْوَصِيَّةِ أَنَّهَا تَصِحُّ بِالْحَمْلِ فَكَذَلِكَ الْخُلْعُ.(10/62)
وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا فِي النِّكَاحِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا فِي الْخُلْعِ كَالْمُحَرَّمَاتِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ عَلَى حَمْلٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فاسداً كالنكاح والبيع.
(مسألة:)
قال المزني: (وَقَدْ قَالَ لَوْ قَالَ لَهَا إِنْ أَعْطَيْتِنِي شَاةً مَيِّتَةً أَوْ خِنْزِيرًا أَوْ زِقَّ خَمْرٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَفَعَلَتْ طُلِّقَتْ وَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِمَهْرِ مِثْلِهَا) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا قَالَ لَهَا: إِنْ أَعْطَيْتِنِي خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا أَوْ شَاةً مَيِّتَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَأَعْطَتْهُ ذَلِكَ، طُلِّقَتْ، وَإِنْ لَمْ تَمْلِكِ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ لِوُجُودِ الصِّفَةِ بِدَفْعِهِ، فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ لَوْ قَالَ لَهَا: إِنْ أَعْطَيْتِنِي هَذَا الْعَبْدَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَأَعْطَتْهُ إِيَّاهُ، وَهُوَ مَغْصُوبٌ لَمْ تُطَلَّقْ، وَإِنْ كَانَتِ الصِّفَةُ مَوْجُودَةً، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَمْلِكَهُ عَنْهَا فَهَلَّا كَانَ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لَا تُطَلَّقُ بِدَفْعِهِ، وَإِنْ كَانَتِ الصِّفَةُ مَوْجُودَةً، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ عَنْهَا.
قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعَبْدَ مَالٌ يَجُوزُ أَنْ يُمْلَكَ فَصَارَ التَّمْلِيكُ فِيهِ مَقْصُودًا، فَجَازَ أَنْ يَصِيرَ فِي الْحُكْمِ مَشْرُوطًا، وَإِنْ مَنَعَ الشَّرْعُ مِنْ تَمَلُّكِهِ بِالْجَهَالَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْخَمْرُ وَالْخِنْزِيرُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَمْ يَصِرِ التَّمَلُّكُ فِيهِ مَقْصُودًا، فَقَوِيَ فِيهِ حُكْمُ الطَّلَاقِ بِالصِّفَةِ، فَإِذَا ثَبَتَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ بِدَفْعِهِ وَقَعَ بَائِنًا، وَلَهُ عَلَيْهَا مَهْرُ مِثْلِهَا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَقَعُ رَجْعِيًّا، وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهَا اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْخَمْرَ لَيْسَ بِعِوَضٍ فَصَارَ مُطَلِّقًا لَهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَالطَّلَاقُ بِغَيْرِ عِوَضٍ يَكُونُ رَجْعِيًّا، فَكَذَلِكَ بِمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا.
وَلِأَنَّ خُرُوجَ الْبُضْعِ مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ غَيْرُ مُقَوَّمٍ وَلَا يَكُونُ اسْتِهْلَاكًا لِمَالٍ يَسْتَحِقُّ قِيمَتَهُ لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ:
أَحَدُهَا: جَوَازُ طَلَاقِهِ فِي الْمَرَضِ الَّذِي يُمْنَعُ فِيهِ مِنَ اسْتِهْلَاكِ مَالِهِ، وَلَا تَكُونُ قِيمَةُ الْبُضْعِ مُعْتَبَرَةً مِنْ ثَلَاثَةٍ كَالْعَطَايَا، وَالْهِبَاتِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا لَوْ قَتَلَتْ نَفْسًا فَاسْتَهْلَكَتْ عَلَى الزَّوْجِ بُضْعَهَا لَمْ يَسْتَحِقَّ الزَّوْجُ عَلَيْهَا قِيمَتَهُ، وَلَوْ كَانَ مَالًا لَوَجَبَ لَهُ عَلَيْهَا مَهْرُ الْمِثْلِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَبِ الصَّغِيرَةِ أَنْ يُخَالِعَ عَنْهَا بِمَالِهَا، وَلَوْ كَانَ الْبُضْعُ مَالًا لَجَازَ أَنْ يَتَمَلَّكَهُ لَهَا بِمَالِهَا كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهَا عَقَارًا.
وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ خُلْعٌ عَلَى عِوَضٍ فَاسِدٍ فَاقْتَضَى وُقُوعُ الطَّلَاقِ فِيهِ أَنْ يُوجِبَ الرُّجُوعَ بِبَدَلِ الْبُضْعِ.
أَصْلُهُ إِذَا خَالَعَهَا عَلَى عَصِيرٍ فَوَجَدَهُ خَمْرًا.(10/63)
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِالْمَهْرِ الَّذِي دَفَعَهُ إِلَيْهَا فِي النِّكَاحِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَالْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ أَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يَرْضَ بِخُرُوجِ الْبُضْعِ مِنْ مِلْكِهِ بِغَيْرِ بَدَلٍ، لِأَنَّهُ ظَنَّهُ عَصِيرًا، فَجَازَ أَنْ يَسْتَحِقَّ فِيهِ الْبَدَلَ وَفِي الْفَرْعِ قَدْ عَلِمَهُ خَمْرًا فَرْضِيَ بِخُرُوجِ الْبُضْعِ بِغَيْرِ بَدَلٍ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ فِيهِ الْبَدَلَ.
فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ مُنْتَقَضٌ بِالنِّكَاحِ فَإِنَّهَا إِذَا تَزَوَّجَتْ بِرَجُلٍ عَلَى خَمْرٍ كَانَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، وَإِنْ عَلِمَتْ أَنَّهُ خَمْرٌ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَتْهُ عَلَى عَصِيرٍ فَكَانَ خَمْرًا لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فَكَذَلِكَ فِي الْخُلْعِ.
وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا فَنَقُولُ: لِأَنَّهُ بُضْعٌ مُلِكَ بِخَمْرٍ لَا يُمْلَكُ فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ كَالنِّكَاحِ.
فَإِنْ قِيلَ الْبُضْعُ مُقَوَّمٌ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ وَغَيْرُ مُقَوَّمٍ فِي حَقِّ الزَّوْجِ لِأَنَّهَا لَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ لَكَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ لَهَا دُونَ الزَّوْجِ.
قِيلَ لِأَنَّ هَذَا الوطئ مَا حَرَّمَهَا عَلَيْهِ فَلَمْ يَصِرِ الْبُضْعُ مُسْتَهْلَكًا عَلَيْهِ فَلِذَلِكَ لَمْ يُضْمَنْ فِي حَقِّهِ وَلَوْ حَرَّمَهَا عَلَيْهِ وَطَئِهَا أَبُوهُ أَوِ ابْنُهُ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَهْلَكًا عَلَيْهِ وَلَكَ تَحْرِيرُ هَذَا قِيَاسًا ثَالِثًا فَتَقُولُ: مَا تَقَوَّمَ فِي انْتِقَالِهِ إِلَيْهِ بِبَدَلٍ تَقَوَّمَ فِي انْتِقَالِهِ عَنْهُ بِذَلِكَ الْبَدَلِ كَالْمُثَمَّنَاتِ يَسْتَوِي فِي اسْتِحْقَاقِهِ الْمُسَمَّى فِي الْجِهَتَيْنِ إِذَا صَحَّ وَفِي الْقِيمَةِ إِذَا فَسَدَ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِأَنَّ خُلْعَهَا بِالْخَمْرِ الَّذِي لَا يَكُونُ عِوَضًا رَضِيَ مِنْهُ بِخُلْعِهَا عَلَى غَيْرِ عِوَضٍ، فَهُوَ أَنَّهُ قَدْ يَمْلِكُ الْعِوَضَ الْفَاسِدَ كَمَا لا يَمْلِكُ الْخَمْرَ فَلَمَّا وَجَبَ لَهُ فِي الْعِوَضِ الْفَاسِدِ مَهْرُ الْمِثْلِ مَعَ عِلْمِهِ وَجَهْلِهِ وَجَبَ لَهُ فِي الْخَمْرِ مَهْرُ الْمِثْلِ مَعَ عِلْمِهِ وجهله.
وأما استدلاله بأنها الْبُضْعَ لَا يُقَوَّمُ فِي حَقِّ الزَّوْجِ لِإِمْضَاءِ طَلَاقِهِ فِي الْمَرَضِ فَفَاسِدٌ بِتَقْوِيمِهِ فِي حَقِّهِ إِذَا خَالَعَ عَلَى عِوَضٍ فَاسِدٍ، وَإِنَّ مَا لَمْ يُقَوَّمْ فِي حُقُوقِ الْوَرَثَةِ إِذَا طَلَّقَ فِي الْمَرَضِ وَإِنْ قُوِّمَ عِتْقُهُ وَهِبَاتُهُ لِأَنَّهُمْ لَا يَرِثُونَ الزَّوْجَةَ لَوْ لَمْ يُطَلِّقْهَا وَيَرِثُونَ الأعيان التي وهبها وأعتقها. وأما استدلاله بأنها لو قتلت نفسها لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا بِمَهْرِ مِثْلِهَا. فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْأَطْرَافَ تَدْخُلُ فِي حُكْمِ النَّفْسِ، لِأَنَّ مَنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ ثُمَّ قَتَلَهُ دَخَلَتْ دِيَةُ يَدِهِ فِي دِيَةِ نَفْسِهِ، وَالْبُضْعُ كَالطَّرَفِ فَإِذَا اقْتَرَنَ بِهِ تَلَفُ النَّفْسِ دَخَلَ فِي حُكْمِهِ، وَهُوَ لَاحِقٌ بِهِ فِي دِيَةِ النَّفْسِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقٌّ فِي قِيمَةِ الْبُضْعِ، وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ مُقَوَّمَةٌ(10/64)
فِي حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ، وَلَوِ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا فَقُتِلَ ضَمِنَ الْقَاتِلُ قِيمَتَهُ لِسَيِّدِهِ، وَلَمْ يَضْمَنْ مَنْفَعَتَهُ لِمُسْتَأْجِرِهِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَنَافِعُ مُقَوَّمَةً فِي حَقِّهِ كَذَلِكَ فِي قِيمَةِ الْبُضْعِ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ الْأَبَ لَا يُخَالِعُ عَنْ بِنْتِهِ الصَّغِيرَةِ فَلِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَقْدِرُ أَنْ يَتَمَلَّكَ لَهَا بِالْمَالِ مِنَ الْعَقَارِ مَا هُوَ أَنْفَعُ لَهَا، وَلِأَنَّهُ بِالْخُلْعِ وَإِنْ مَلَّكَهَا بَعْضَهَا فَقَدْ أَسْقَطَ بِهِ نَفَقَتَهَا فَلِذَلِكَ يُمْنَعُ.
(فَصْلٌ:)
وَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْخُلْعِ بِالْخَمْرِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَهُوَ مَا مَضَى، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي خَمْرًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فإذا أعطته الخمر طلقت ووجب لها عَلَيْهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، وَإِنْ كَانَ الْخَمْرُ عَيْنًا فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعَجِّلَ بِهِ الطَّلَاقَ وَكَأَنَّهُ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي هَذَا الْخَمْرَ فَقَدْ طُلِّقَتْ وَلَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا ذَلِكَ الْخَمْرَ، وَهَلْ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا مَهْرَ مِثْلِهَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَسْتَحِقُّهُ كَمَا كَانَ الْخَمْرُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَعَلَى هَذَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بَائِنًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي:؟ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ مَعَ تَعْيِينِ الْخَمْرِ مَهْرَ الْمِثْلِ، لِأَنَّهُ لَمَّا عين تملك ذلك الخمر فقد عين أن لا يَتَمَلَّكَ مَا سِوَى الْخَمْرِ فَلِذَلِكَ سَقَطَ حَقُّهُ مِنْ بَدَلِهِ، وَلَمْ يَسْقُطْ مَعَ تَرْكِ التَّعْيِينِ حَقُّهُ مِنَ الْبَدَلِ، فَعَلَى هَذَا يَقَعُ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ بَدَلًا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَجْعَلَ الطَّلَاقَ مُعَلَّقًا بِدَفْعِهِ.
مِثَالُهُ أَنْ يَقُولَ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي هَذَا الْخَمْرَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِذَا أَعْطَتْهُ ذَلِكَ فَفِي وُقُوعِ طَلَاقِهِ بِهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تُطَلَّقُ بِهِ إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ لَوْ عَجَّلَ طَلَاقَهَا بِهِ رَجَعَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ كَذَلِكَ ها هنا تُطَلَّقُ بِدَفْعِهِ وَتَرْجِعُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تُطَلَّقُ بِدَفْعِهِ إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ لَوْ عَجَّلَ طَلَاقَهَا بِهِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ، والفرق بين أن لا يُعَيِّنَ الْخَمْرَ فَتُطَلَّقَ وَبَيْنَ أَنْ يُعَيِّنَ الْخَمْرَ فَلَا تُطَلَّقَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالتَّعْيِينِ التَّمْلِيكُ وَبِالْإِطْلَاقِ الصفة والله أعلم.
(مسألة:)
قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَعَلَيْكِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَهِيَ طَالِقٌ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَعَلَيْكِ حِجَّةٌ وَلَوْ تَصَادَقَا أَنَّهَا سَأَلَتْهُ الطَّلَاقَ فَطَلَّقَهَا عَلَى ذَلِكَ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَعَلَيْكِ أَلْفٌ فَهَذَا على ضربين:(10/65)
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَنْ طَلَبٍ مِنْهَا كَأَنَّهَا سَأَلَتْهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا عَلَى أَلْفٍ فَقَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَعَلَيْكِ أَلْفٌ، فَقَدْ طُلِّقَتْ، وَلَزِمَهَا الْأَلْفُ، لِأَنَّهُ جَوَابٌ عَنْ طَلَبٍ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَبْتَدِئَهُ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ فَهِيَ طَالِقٌ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا، لِأَنَّهُ أَرْسَلَ الطَّلَاقَ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِشَرْطٍ فَوَقَعَ نَاجِزًا ثُمَّ ابْتَدَأَ بَعْدَ وُقُوعِهِ فَقَالَ (وَعَلَيْكِ أَلْفٌ) فَلَمْ تَلْزَمْهَا الْأَلْفُ بِقَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ، وَجَرَى مَجْرَى قَوْلِهِ: وَعَلَيْكِ حَجٌّ، فَلَا يَلْزَمُهَا الْحَجُّ، وَإِذَا كَانَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَلَا أَلْفَ عَلَيْهَا، فَلَهُ الرَّجْعَةُ، لِأَنَّ الرَّجْعَةَ تَسْقُطُ مَعَ اسْتِحْقَاقِ الْبَدَلِ، وَتَثْبُتُ مَعَ سُقُوطِ الْبَدَلِ، فَلَوْ أَعْطَتْهُ الْأَلْفَ لَمْ تَسْقُطِ الرَّجْعَةُ، لِأَنَّهَا ابْتِدَاءُ هِبَةٍ مِنْهَا، يُرَاعَى فِيهَا حُكْمُ الْهِبَاتِ مِنَ الْبَدَلِ وَالْقَبُولِ وَالْقَبْضِ، فَعَلَى هَذَا لَوِ اخْتَلَفَا فَقَالَ: طَلَّقْتُكِ عَنْ طَلَبٍ، فَلِي عَلَيْكِ الْأَلْفُ، وَقَالَتْ: بَلْ طَلَّقْتَنِي ابْتِدَاءً، مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ، فَلَا شَيْءَ لَكَ عَلَيَّ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا، لِأَنَّهَا مُنْكِرَةٌ وَقَدْ لَزِمَهُ الطَّلَاقُ بَائِنًا لِإِقْرَارِهِ بِهِ.
(فَصْلٌ:)
وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طالق على أن عليك ألف، لم تطلق إلا أن يضمن لَهُ أَلْفًا عَلَى الْفَوْرِ فِي وَقْتِ الْقَبُولِ، لأن على حُرُوفِ الشَّرْطِ، فَصَارَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ مُعَلَّقًا بِهِ، وَلَا يُرَاعَى فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ دَفْعُ الْأَلْفِ، كَمَا وَهِمَ فِيهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، وَإِنَّمَا يُرَاعَى فِيهِ ضَمَانُ الْأَلْفِ، لِأَنَّهُ بِالضَّمَانِ قَدْ صَارَ عَلَيْهَا أَلْفٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ، كَانَ وُقُوعُ طَلَاقِهَا مُعَلَّقًا بِضَمَانِ الْأَلْفِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: (وَالْخُلْعُ فِيمَا وَصَفْتُ كَالْبَيْعِ الْمُسْتَهْلَكِ) .
يُرِيدُ بِهِ أَنَّ الرُّجُوعَ عِنْدَ فَسَادِ الْعِوَضِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ كَمَا يَرْجِعُ فِي الْمَبِيعِ الْمُسْتَهْلَكِ بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْبَدَلِ.
(مَسْأَلَةٌ:)
قَالَ الشافعي: (وَلَوْ خَلَعَهَا عَلَى ثَوْبٍ عَلَى أَنَّهُ هَرَوِيٌ فَرَدَّهُ كَانَ لَهُ عَلَيْهَا مَهْرُ مِثْلِهَا وَالْخُلْعُ فِيمَا وَصَفْتُ كَالْبَيْعِ الْمُسْتَهْلَكِ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا خَالَعَهَا عَلَى ثَوْبٍ مَرَوِيٍّ، فَإِذَا هُوَ هَرَوِيٌّ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الثَّوْبُ مُعَيَّنًا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، فَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ مُعَيَّنًا كَأَنَّهُ قَالَ: خَالَعْتُكِ عَلَى هَذَا الثَّوْبِ بِعَيْنِهِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَشْرُطَ أَنَّهُ مَرْوِيٌّ أَوْ لَا يَشْتَرِطُ، فَإِنْ لَمْ يَشْرُطْ أَنَّهُ مَرْوِيٌّ وَلَكِنْ ظَنَّهُ مَرَوِيًّا، فَكَانَ هَرَوِيًّا، فَلَا رَدَّ لَهُ، وَكَذَلِكَ لَوِ اشْتَرَاهُ بِظَنِّهِ مَرَوِيًّا فَكَانَ هَرَوِيًّا، لأن هذه(10/66)
جَهَالَةٌ مِنْهُ بِصِفَتِهِ، وَلَيْسَ بِعَيْبٍ يَخْتَصُّ بِذَاتِهِ، وَإِنْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا غَيْرَ ذَلِكَ رَدَّهُ بِهِ، وَبِمَاذَا يَرْجِعُ عَلَيْه فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: بمهر المثل.
والثاني: بقيمته مرويا سليما من هَذَا الْعَيْبِ، وَلَا يَرْجِعُ بِقِيمَتِهِ لَوْ كَانَ مَرَوِيًّا وَإِنْ شَرَطَ فِي الْخُلْعِ أَنَّهُ مَرَوِيٌّ، فقال: (قد خَالَعْتُكِ عَلَى هَذَا الثَّوْبِ عَلَى أَنَّهُ مَرَوِيٌّ) فَإِذَا بِهِ هَرَوِيٌّ، فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ، وَلَا يَكُونُ خِلَافُ الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ مَانِعًا مِنْ وُقُوعِهِ، لِأَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى عَيْنِهِ أَقْوَى مِنْ ذِكْرِ صِفَتِهِ، فَصَارَ اعْتِبَارُ الْعَيْنِ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ أَغْلَبَ مِنِ اعْتِبَارِ الصِّفَةِ، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا نُظِرَ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ هَرَوِيًّا كَقِيمَتِهِ مَرَوِيًّا فَلَا خِيَارَ لَهُ، لِأَنَّهُ لَا نَقْصَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ مَرَوِيًّا أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ هَرَوِيًّا فَهُوَ عَيْبٌ وَلَهُ الْخِيَارُ فَيَرُدُّهُ، وَفِيمَا يَرْجِعُ بِهِ بَعْدَ رَدِّهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: بِمَهْرِ الْمِثْلِ.
وَالثَّانِي: بِقِيمَتِهِ لَوْ كَانَ مَرَوِيًّا.
(فَصْلٌ:)
وَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَصِفَهُ.
وَالثَّانِي: أَن لا يَصِفَهُ.
فَإِنْ لَمْ يَصِفْهُ وَقَالَ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي ثَوْبًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي عَبْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَأَيُّ ثَوْبٍ أَعْطَتْهُ طُلِّقَتْ بِهِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الطَّلَاقِ بِلَا صِفَةٍ، وَلَا يَمْلِكُهُ بالجهالة تغليباً لحكم المعاوضة ويرجع عليا بِمَهْرِ الْمِثْلِ قَوْلًا وَاحِدًا.
وَإِنْ وَصَفَهُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعَلِّقَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِدَفْعِهِ كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي ثَوْبًا مَرَوِيًّا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَأَعْطَتْهُ ثَوْبًا فَكَانَ هَرَوِيًّا لَمْ تُطَلَّقْ، لِأَنَّ صِفَتَهُ بِأَنَّهُ مَرَوِيٌّ صَارَتْ شَرْطًا فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ، فَإِذَا عُدِمَتْ لَمْ يَكْمُلْ شَرْطُ الطَّلَاقِ فَلَمْ يَقَعْ، وَلَيْسَ كَالْمُعَيَّنِ الَّذِي يُغَلِّبُ حُكْمَ الْعَيْنِ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى حُكْمِ الصِّفَةِ، فَإِذَا دَفَعَتْ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ ثَوْبًا مَرَوِيًّا طُلِّقَتْ بِهِ، ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ قَدْ وَصَفَهُ مَعَ كَوْنِهِ مَرَوِيًّا فَجَمِيعُ صِفَاتِهِ الْمُسْتَحَقَّةِ فِي السَّلَمِ مِلْكُهُ، فَإِنْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا رَدَّهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ اسْتِرْجَاعُ مِثْلِهِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي الذِّمَّةِ، وَقَدْ صَارَ مُعَيَّنًا بِالدَّفْعِ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فَصَارَ كَالْمُعَيَّنِ بِالْعَقْدِ فَإِذَا رَدَّهُ فَفِيمَا يَرْجِعُ بِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: بمهر المثل.
والثاني: بقيمته مرويا سليما من الْعَيْبِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ جَمِيعَ صِفَاتِهِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي السَّلَمِ بَلْ قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي ثَوْبًا مَرَوِيًّا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَأَيُّ ثَوْبٍ أَعْطَتْهُ إِنْ كَانَ مَرَوِيًّا طُلِّقَتْ(10/67)
بِدَفْعِهِ لِوُجُودِ الصِّفَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الطَّلَاقِ، وَلَا يَمْلِكُهُ لِجَهَالَتِهِ، وَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِمَهْرِ مِثْلِهَا قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ بِالْعَقْدِ وَلَا مَعْلُومٍ بِالصِّفَةِ.
(فَصْلٌ:)
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُعَجِّلَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ عَلَى ثَوْبٍ مَرَوِيٍّ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى ثَوْبٍ مَرَوِيٍّ، فَالطَّلَاقُ قَدْ وَقَعَ سَوَاءً اسْتَوْفَى جَمِيعَ صِفَاتِهِ أَمْ لَا؟ لَكِنْ إِنْ لَمْ يَسْتَوْفِ جَمِيعَ صِفَاتِهِ فَسَدَ فِيهِ الْخُلْعُ، وَإِنْ وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ وَكَانَ لَهُ عَلَيْهَا مَهْرُ الْمِثْلِ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِتَرْكِ صِفَاتِهِ مَجْهُولًا، وَإِنِ اسْتَوْفَى جَمِيعَ صِفَاتِهِ صَحَّ فِيهِ الْخُلْعُ، وَكَانَ لَهُ عَلَيْهَا ثَوْبٌ مَرَوِيٌّ عَلَى تِلْكَ الصِّفَاتِ، فَإِنْ دَفَعَتْ إِلَيْهِ ثَوْبًا بِتِلْكَ الصِّفَاتِ فَكَانَ مَعِيبًا، فَلَهُ رَدُّهُ وَإِبْدَالُهُ بِثَوْبٍ عَلَى تِلْكَ الصِّفَاتِ سَلِيمًا مِنْ عَيْبٍ لِثُبُوتِهِ فِي الذِّمَّةِ كَالسَّلَمِ إِذَا وَجَدَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ مَعِيبًا رَجَعَ بِمِثْلِهِ سَلِيمًا.
(فَصْلٌ:)
فَإِذَا خَالَعَهَا عَلَى ثَوْبٍ بِعَيْنِهِ عَلَى أَنَّهُ قُطْنٌ، فَإِذَا هُوَ كَتَّانٌ فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَدْ وَقَعَ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْعَيْنِ، وَلَا يَكُونُ بخِلَاف الْجِنْسِ مَانِعًا مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، كَمَا لَا يَكُونُ خِلَافُ الصِّفَةِ مَانِعًا مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، فَعَلَى هَذَا يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ كَتَّانًا كَقِيمَتِهِ قُطْنًا، فَلَا رَدَّ لَهُ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ فَلَهُ رَدُّهُ وَفِيمَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: بِمَهْرِ الْمِثْلِ.
وَالثَّانِي: بِقِيمَتِهِ لَوْ كَانَ قُطْنًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ بِهِ، لِأَنَّ خِلَافَ الْجِنْسِ يَجْرِي فِي الْمُعَاوَضَةِ مَجْرَى خِلَافِ الْعَيْنِ، لِأَنَّهُ لَوِ ابتاعه على أن قُطْنٌ، فَإِذَا هُوَ كَتَّانٌ، فَالْبَيْعُ فِيهِ بَاطِلٌ، ولو ابتاعه على أن مَرَوِيٌّ فَكَانَ هَرَوِيًّا فَالْبَيْعُ فِيهِ جَائِزٌ، كَذَلِكَ الْخُلْعُ إِذَا خَالَعَهَا عَلَى ثَوْبٍ عَلَى أَنَّهُ مَرَوِيٌّ فَكَانَ هَرَوِيًّا، وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَلَوْ كَانَ كَتَّانًا لَمْ يَقَعْ.
قَالَ صَاحِبُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنْ أَصْحَابِنَا أَقُولُ فِي الْبَيْعِ مِثْلَ قَوْلِي فِي الْخُلْعِ إنَّ الْبَيْعَ لَا يَبْطُلُ كَمَا أَقُولُ إِنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْعَيْنِ عَلَى الْجِنْسِ كَمَا غَلَّبْنَا حُكْمَ الْعَيْنِ عَلَى الصِّفَةِ، وَلِقَوْلِهِ إِذَا سَوَّى بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَجْهٌ وَإِنْ خَالَفَ الْجُمْهُورَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ:)
قَالَ الشافعي: (وَلَوْ خَلَعَهَا عَلَى أَنْ تُرْضِعَ وَلَدَهُ وَقْتًا مَعْلُومًا فَمَاتَ الْمَوْلُودُ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِمَهْرِ مِثْلِهَا لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تُدِرُّ عَلَى الْمَوْلُودِ وَلَا تُدِرُّ عَلَى غَيْرِهِ وَيَقْبَلُ ثَدْيَهَا وَلَا يَقْبَلُ غَيْرَهُ وَيَتَرَأَّمُهَا فَتَسْتَمْرِيهِ وَلَا يَسْتَمْرِي غَيْرَهَا وَلَا يَتَرَأَّمُهُ وَلَا تَطِيبُ نَفْسًا لَهُ) .(10/68)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي جَوَازِ الْخُلْعِ عَلَى الرَّضَاعِ وَالْكَفَالَةِ، لِأَنَّ مَا جَازَتِ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ الْخُلْعِ جَازَ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا فِي الْخُلْعِ وَالرَّضَاعُ تَصِحُّ الْإِجَارَةُ عَلَيْهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] . فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَهَا عَلَى رَضَاعِ وَلَدِهَا وَيُخَالِعَهَا عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (مَثَلُ الَّذِي يُقَاتِلُ عَنْ غَيْرِهِ وَيَأْخُذُ عَلَيْهِ أجراً كمثل أم موسى ترضع ولدها تأخذ عَلَيْهِ أَجْرًا) ، فَضَرَبَ لَكَ مَثَلًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَاتِلَ عَنْ غَيْرِهِ بِأَجْرٍ كَمَا لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُرْضِعَ وَلَدَهَا بِأَجْرٍ.
قِيلَ: رَضَاعُ الْوَلَدِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْأَبِ إِذَا كَانَ بَاقِيًا دُونَ الْأُمِّ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] . فَكَذَلِكَ الرَّضَاعُ، لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَإِنْ عُدِمَ الْأَبُ وَجَبَ الرَّضَاعُ عَلَى الْأُمِّ كَمَا يَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَيْهَا إِذَا مَاتَ الْأَبُ، فَلَيْسَ لَهَا بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ أَنْ تَأْخُذَ عَلَى رَضَاعِهِ أَجْرًا لِوُجُوبِهِ عَلَيْهَا، فَأَمَّا مَعَ بَقَاءِ الْأَبِ وَوُجُوبِ رَضَاعِهِ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَا عَلَى الزَّوْجِيَّةِ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تُرْضِعَهُ بِأَجْرٍ، لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَ بِالِاسْتِمْتَاعِ بِهَا مَا اسْتَحَقَّ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ إِجَارَةِ نَفْسِهَا لِلرَّضَاعِ فَلَمْ يَكُنْ لَهَا مُعَاوَضَةٌ عَلَى الرَّضَاعِ.
فَأَمَّا إِذَا ارْتَفَعَتِ الزَّوْجِيَّةُ فَقَدْ زَالَ مَا اسْتَحَقَّهُ مِنْ مَنْعِهَا، وَجَازَ أَنْ تُرْضِعَ غَيْرَ وَلَدِهَا بِأَجْرٍ، فَجَازَ أَنْ تُرْضِعَ وَلَدَهَا بِأَجْرٍ، لِأَنَّ رَضَاعَ وَلَدِهَا مَعَ بَقَاءِ الْأَبِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ دُونَهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَحَّ الْخُلْعُ عَلَى الرَّضَاعِ، لِأَنَّهَا تُرْضِعُهُ بَعْدَ الْفِرَاقِ، وَإِذَا صَحَّ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِهِ بِالْمُدَّةِ لِيَصِيرَ مَعْلُومًا يَنْتَفِي عَنْهُ الْجَهَالَةُ، فَإِذَا شَرَطَ عَلَيْهَا فِي الْخُلْعِ رَضَاعَ وَلَدِهِ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لَمْ تَخْلُ حَالُهُمَا مِنْ حَضَانَةِ الْوَلَدِ وَكَفَالَتِهِ وَالْقِيَامِ بِتَرْبِيَتِهِ وَغَسْلِ خِرَقِهِ وَحَمْلِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَشْتَرِطَ دُخُولَهَا فِي الْخُلْعِ، أَوْ فِي الْإِجَارَةِ فَيَدْخُلَ فِيهِ وَتُؤْخَذَ الْأُمُّ الْمُسْتَأْجَرَةُ بِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَشْتَرِطَا خُرُوجَهَا مِنَ الْخُلْعِ، أَوْ مِنَ الْإِجَارَةِ فَتَخْرُجَ مِنْهُ، وَلَا يَلْزَمُ الْأُمَّ أَنْ تُؤْخَذَ بِهِ، وَعَلَى الْأَبِ أَنْ يُقِيمَ لَهُ مَنْ يَخْدُمُهُ، وَيَقُومُ بِحَمْلِهِ وَتَنْظِيفِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يُطْلَقَ عَقْدُ الْخُلْعِ، أَوِ الْإِجَارَةِ فِي الرَّضَاعِ فَلَا يُشْتَرَطُ دُخُولُ الْقِيَامِ بِخِدْمَتِهِ فِيهِ، وَلَا خُرُوجُهُ مِنْهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ وَجْهَيْ أَصْحَابِنَا فِي الْمَقْصُودِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ.
فأحذ الْوَجْهَيْنِ: أَنَّ الْمَقْصُودَ الرَّضَاعُ وَالْقِيَامُ بِالْخِدْمَةِ تَبَعٌ فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهَا الْقِيَامُ بِخِدْمَتِهِ تَبَعًا، لِمَا اسْتَحَقَّ عَلَيْهَا مِنْ رَضَاعِهِ.(10/69)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْإِجَارَةِ الْخِدْمَةُ، لِأَنَّ لَبَنَ الرَّضَاعِ غَيْرُ مَجْهُولَةٍ لَا تَصِحُّ الْإِجَارَةُ عَلَيْهَا مِنَ الْقِيَامِ بِالْخِدْمَةِ فَصَارَ الرَّضَاعُ تَبَعًا لِمَا تَصِحُّ الْإِجَارَةُ عَلَيْهِ مِنَ الْقِيَامِ بِالْخِدْمَةِ فَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُهَا فِي اسْتِحْقَاقِ الرَّضَاعِ عَلَيْهَا الْقِيَامُ بِخِدْمَتِهِ إِلَّا بِشَرْطٍ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ مَعْلُولٌ، لِأَنَّهُ لَوْ صَارَ لِهَذَا الْمَعْنَى الرَّضَاعُ تَبَعًا لِلْقِيَامِ بِالْخِدْمَةِ لَمَا جَازَ إِفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ إِذَا شَرَطَ فِيهِ إِسْقَاطَ الْقِيَامِ بِالْخِدْمَةِ وَمَا أَحْسَبُ أَحَدًا يَمْنَعُ مِنْهُ.
(فَصْلٌ:)
فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ جَوَازِ الْخُلْعِ عَلَى رَضَاعِ وَلَدِهِ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ فَمَاتَ الْوَلَدُ فَفِي بُطْلَانِ الْخُلْعِ بِمَوْتِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: رَوَاهُ الْمُزَنِيُّ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ أَنَّ الْخُلْعَ لَا يَبْطُلُ وَلِلْأَبِ أَنْ يَأْتِيَهَا بِغَيْرِهِ لِتُرْضِعَهُ حَوْلَيْنِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْوَلَدَ فِي الرَّضَاعِ مُسْتَوْفٍ لِمَا تَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ وَمَوْتُ الْمُسْتَوْفِي لِمَا تَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ، كَمَنِ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا فَمَاتَ لَمْ تَبْطُلِ الْإِجَارَةُ بِمَوْتِهِ وَقَامَ غَيْرُهُ فِي الرُّكُوبِ مَقَامَهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَظْهَرُهُمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ وَالْإِمْلَاءِ وَنَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ هَا هُنَا أَنَّ الْخُلْعَ قَدْ بَطَلَ بِمَوْتِهِ لِعِلَّتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنَّهَا لَا تَدُرُّ عَلَى غَيْرِ وَلَدِهَا وَلَا يَسْتَمْرِي غَيْرُ وَلَدِهَا لَبَنَهَا كَمَا يَسْتَمْرِيهِ وَلَدُهَا وَلَا يَتَرَأَّمُهُ غَيْرُ وَلَدِهَا كَمَا يَتَرَأَّمُهُ وَلَدُهَا هَكَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَمَعْنَى: يَتَرَأَّمُهَا أَيْ: يستلذه.
والعلة الثانية: أن ما يرتوي كُلَّ طِفْلٍ مِنَ اللَّبَنِ مُخْتَلِفٌ فَبَعْضُهُمْ يَرْتَوِي بِالْقَلِيلِ، وَبَعْضُهُمْ لَا يَرْتَوِي إِلَّا بِالْكَثِيرِ، وَبَعْضُهُمْ يَرْتَوِي بِسُهُولَةٍ، وَبَعْضُهُمْ بِعُنْفٍ فَذَلِكَ لَمْ يَقُمْ فِيهِ وَاحِدٌ مَقَامَ وَاحِدٍ وَكَانَ الْمُعَيَّنُ فِيهِ مُتَعَيَّنًا بِالْعَقْدِ فَعَلَى اخْتِلَافِ هَذَيْنِ التَّعْلِيلَيْنِ لَوْ خالعها وَلَدِهِ مِنْ غَيْرِهَا فَمَاتَ كَانَ لَهُ عَلَى التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ إِبْدَالُهُ بِغَيْرِهِ، وَلَيْسَ لَهُ عَلَى التَّعْلِيلِ الثَّانِي أَنْ يُبَدِّلَهُ، وَهَكَذَا لَوْ خَالَعَهَا عَلَى وَلَدِهِ مِنْهَا، وَلَهُ مِنْهَا وَلَدٌ آخَرُ فَلَهُ عَلَى التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ أَنْ يُقِيمَهُ مَقَامَ الْمَيِّتِ، وَلَيْسَ لَهُ عَلَى التَّعْلِيلِ الثَّانِي أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ.
(فَصْلٌ:)
فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فَإِنْ قُلْنَا بِبُطْلَانِ الْخُلْعِ وَأَنْ لَيْسَ لَهُ إِبْدَالُ الْوَلَدِ إِذَا مَاتَ بِغَيْرِهِ فَفِيمَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهما قَوْلَانِ مَضَيَا:
أَحَدُهُمَا: بِمَهْرِ الْمِثْلِ.
وَالثَّانِي: بِأُجْرَةِ رَضَاعِ الْحَوْلَيْنِ.
وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْخُلْعَ لَا يَبْطُلُ وَإِنَّ لَهُ أَنْ يَأْتِيَهَا بِغَيْرِهِ فَإِنْ أَتَاهَا بِغَيْرِهِ أَرْضَعَتْهُ تَمَامَ الْحَوْلَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِهَا بِغَيْرِهِ حَتَّى مَضَى الْحَوْلَانِ ففيه وجهان:(10/70)
أَحَدُهُمَا: لَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهَا، لِأَنَّهَا بَذَلَتْ لَهُ الرَّضَاعَ فَكَانَ التَّفْرِيطُ مِنْهُ، فَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى مَنِ اسْتَأْجَرَ دَارًا فَمُكِّنَ مِنْهَا فَلَمْ يَسْكُنْهَا حَتَّى انْقَضَتِ الْمُدَّةُ فَقَدِ اسْتَوْفَى حَقَّهُ وَلَا شَيْءَ لَهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ حَقَّهُ بَاقٍ لَا يَسْقُطُ بِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ عَيْنٌ وَالْأَعْيَانُ إِذَا قُلْتَ تَسْلِيمُهَا بِتَرْكِ مُسْتَحِقِّهَا لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ مِنْهَا كَمَنِ ابْتَاعَ عَيْنًا فَلَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى هَلَكَتْ كَانَتْ مَضْمُونَةً عَلَى بَائِعِهَا، كَذَلِكَ فَوَاتُ اللَّبَنِ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهَا، وَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ زَمَانِهِ أَنْ يَسْتَرْضِعَهَا وَلَدًا وَيَصِيرُ كَالْخُلْعِ عَلَى فَائِتٍ فَفِيمَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَهْرُ الْمِثْلِ.
وَالثَّانِي: أُجْرَةُ رَضَاعِ الْحَوْلَيْنِ.
(فَصْلٌ:)
فَأَمَّا إِذَا مَاتَتِ الْمُرْضِعَةُ فَقَدْ بَطَلَ الْخُلْعُ بِمَوْتِهَا، وَلَا يَقُومُ غَيْرُهَا مَقَامَهَا، لِأَنَّ الْعَقْدَ مُعَيَّنٌ فِي لَبَنِهَا، وَهَكَذَا لَوْ لَمْ تَمُتْ، وَلَكِنْ جَفَّ لَبَنُهَا وَانْقَطَعَ، وَلَمْ يَثْبُتْ لَهَا فَالْخُلْعُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ اللَّبَنَ هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِا وَقَدْ فَاتَ بِذَهَابِهِ، كَمَا فَاتَ بِمَوْتِهَا فَيَكُونُ فِيمَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهَا قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى.
فَأَمَّا إِنْ قَلَّ لَبَنُهَا وَلَمْ يَنْقَطِعْ، فَإِنْ كَانَ الْبَاقِي مِنْهُ بَعْدَ قِلَّتِهِ يَرْوِي الْوَلَدَ، فَالْخُلْعُ بِحَالِهِ، وَلَا خِيَارَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَرْوِيهِ لَمْ يَبْطُلْ فِيهِ الْخُلْعُ، لَكِنَّ الزَّوْجَ فِيهِ بِالْخِيَارِ، لِأَنَّ نَقْصَهُ عَيْبٌ بَيْنَ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِ، وَيُكْمِلَ إِرْضَاعَ وَلَدِهِ مِنْ لَبَنِ غَيْرِهَا، وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ، وَفِيمَا يَرْجِعُ بِهِ بَعْدَ فسخه قولان والله أعلم.
(مسألة:)
قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَ لَهُ أَبُو امْرَأَتِهِ طَلِّقْهَا وَأَنْتَ برئ من صداقها فطلقها ومهرها عَلَيْهِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْأَبِ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْ لَهُ شَيْئًا وَلَهُ عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ مُخَالَفَةَ الزَّوْجِ مَعَ أَبِي الزَّوْجَةِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُخَالِعَهُ عَنْهَا بِمَالِهِ فَيَقُولُ لَهُ: طَلِّقْ بِنْتِي بِأَلْفٍ لَكَ عَلَيَّ أَوْ بِهَذَا الْعَبْدِ الَّذِي لِي، فَهَذَا خُلْعٌ جَائِزٌ لَوْ فَعَلَهُ الزَّوْجُ مِنْ غَيْرِ الْأَبِ مِنَ الْأَجَانِبِ جَازِ فَكَانَ الْأَبُ أَجْوَزَ، فَإِذَا طَلَّقَهَا وَجَبَ لَهُ عَلَى الْأَبِ مَا بَذَلَهُ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُخَالِعَهُ الْأَبُ عَلَى مَالِهَا، كَأَنَّهُ قَالَ لِلزَّوْجِ: طَلِّقْهَا بِأَلْفٍ عَلَيْهَا أَوْ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ الَّذِي لَهَا، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِأَمْرِهَا وَهِيَ جَائِزَةُ الْأَمْرِ، كَانَ الْأَبُ وَكِيلًا فِي الْخُلْعِ، صَحَّ خُلْعُهُ، كَمَا يَصِحُّ خُلْعُ الْوَكِيلِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ.
وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِغَيْرِ أَمْرِهَا فَالْخُلْعُ بَاطِلٌ، سَوَاءٌ كَانَتْ جَائِزَةَ الْأَمْرِ أَوْ مَحْجُورًا عَلَيْهَا، لِأَنَّهُ مَعَ رُشْدِهَا لَا يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي مَالِهَا، وَمَعَ الْحَجْرِ عَلَيْهَا يَتَصَرَّفُ فِي حِفْظِهِ دُونَ(10/71)
إِتْلَافِهِ فِي الْخُلْعِ بِمَالِهَا فَرُدَّ كَمَا تُرَدُّ هِبَاتُهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ طَلَاقُ الزَّوْجِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ. إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَاجِزًا أَوْ مُقَيَّدًا، فَإِنْ كَانَ نَاجِزًا وَقَعَ رَجْعِيًّا وَلَا شَيْءَ عَلَى الزَّوْجَةِ، لِأَنَّهَا لَمْ تُخَالِعْهُ وَلَا عَلَى الْأَبِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْهُ، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ مُقَيَّدًا كَأَنَّهُ قَالَ: قَدْ طَلَّقْتُهَا عَلَى هَذَا الْعَبْدِ الَّذِي لَهَا فَطَلَاقُهُ لَا يَقَعُ، لِأَنَّهُ جَعَلَ وُقُوعَهُ مُقَابِلًا لِتَمَلُّكِ الْعَبْدِ، فَإِذَا لَمْ يَمْلِكِ الْعَبْدَ لَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الطَّلَاقِ فَلَمْ يَقَعْ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُخَالِعَهُ الْأَبُ عَلَى صَدَاقِهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَالْخُلْعُ عَلَيْهِ بَاطِلٌ، لِأَنَّ صَدَاقَهَا كَسَائِرِ أَمْوَالِهَا لَيْسَ لِلْأَبِ أَنْ يُبَرِّئَ مِنْهُ، كَمَا لَا يُبَرِّئُ مِنْ غَيْرِهِ سَوَاءً قِيلَ إِنَّهُ الَّذِي بِيَدِهِ عَقْدُ النِّكَاحِ أَمْ لَا؟ لِأَنَّ الْأَبَ وَإِنْ جَعَلَ بِيَدِهِ عُقْدَةَ النِّكَاحِ، فَلَيْسَ لَهُ الْإِبْرَاءُ مِنَ الصَّدَاقِ بَعْدَ الدُّخُولِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُخَالِعَهُ بِصَدَاقِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ لَا يَمْلِكُ عُقْدَةَ النِّكَاحِ، فَالْخُلْعُ بَاطِلٌ، وَالْكَلَامُ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ كَوْنِهِ نَاجِزًا أَوْ مُقَيَّدًا.
وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ، وَإِنَّهُ يَمْلِكُ إِبْرَاءَ الزَّوْجِ مِنْ صَدَاقِ بِنْتِهِ الْبِكْرِ إِذَا طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ فَفِي جَوَازِ مُخَالَفتِهِ لِلزَّوْجِ عَلَى صَدَاقِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُبْرِئَهُ بِغَيْرِ خُلْعٍ وَلَا مُعَاوَضَةٍ كَانَ أَوْلَى أَنْ يُبْرِئَهُ بِخُلْعٍ وَمُعَاوَضَةٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ خُلْعُهُ وَإِنْ جَازَ إِبْرَاؤُهُ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَوَّزَ لَهُ الْإِبْرَاءَ بَعْدَ الطَّلَاقِ، وَهَذَا قَبْلَ الطَّلَاقِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِبْرَاءَ لَا يَسْقُطُ بِهِ حَقُّهَا مِنَ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ وَالْخُلْعَ مُسْقِطٌ لِحَقِّهَا مِنْ نَفَقَةِ الزَّوْجِيَّةِ وَسُكْنَاهَا.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْإِبْرَاءَ نُدِبَ إِلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْغِيبِ الْخُطَّابِ فِيهَا، وَالْخُلْعَ مُنَفِّرٌ عَنْهَا فَافْتَرَقَ الْإِبْرَاءُ وَالْخُلْعُ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ، فَلِذَلِكَ جَازَ إِبْرَاؤُهُ وَلَمْ يَجُزْ خُلْعُهُ.
(فَصْلٌ:)
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ نُظِرَ فِي إِبْرَاءِ الأب له في الخلع، فإن فيه ثلاثة مَسَائِلَ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولَ لَهُ: طَلِّقْهَا وَأَنْتَ برئ مِنْ صَدَاقِهَا، فَطَلَّقَهَا الزَّوْجُ وَقَعَ طَلَاقُهُ، لِأَنَّهُ أَوْقَعَهُ نَاجِزًا وَلَا يَبْرَأُ مِنَ الصَّدَاقِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَا يَلْزَمُ الْأَبَ الضَّمَانُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْ وَيَكُونُ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، لِأَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يَمْلِكْ فِيهِ عِوَضًا.(10/72)
وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَقُولَ الْأَبُ: طَلِّقْهَا عَلَى أَنَّكَ برئ مِنْ صَدَاقِهَا، فَطَلَّقَهَا الزَّوْجُ عَلَى هَذَا لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ، لِأَنَّهُ أَوْقَعَهُ مُقَيَّدًا فَإِذَا لَمْ يَبْرَأْ لَمْ يَقَعْ.
وَالثَّالِثَةُ: أَنْ يَقُولَ الْأَبُ: طَلِّقْهَا عَلَى صَدَاقِهَا عَلَى أَنَّنِي ضَامِنُهُ لَكَ فَطَلَّقَهَا الزَّوْجُ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يَخْلُو صَدَاقُهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ عَيْنًا أَوْ فِي الذِّمَّةِ، فَإِنْ كَانَ عَيْنًا لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ، لِأَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِتَمَلُّكِ تِلْكَ الْعَيْنِ، وَهِيَ لَا تُمَلَّكُ بِضَمَانِ الْأَبِ فَلَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ، لِعَدَمِ شَرْطِهِ وَإِنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ وَقَعَ الطَّلَاقُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ مِنَ الصَّدَاقِ، وَالْأَبُ قَدْ يَقْدِرُ عَلَى إِبْرَائِهِ مِنْهُ بِالْغُرْمِ عَنْهُ، لَكِنْ يَكُونُ بِالْخُلْعِ فَاسِدًا، لِأَنَّهُ لَيْسَ يَبْرَأُ بِهَذَا الْقَوْلِ، وَلَا يَلْزَمُ الْأَبَ ضَمَانُ الصَّدَاقِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهَا، لَمْ يَصِحَّ ضَمَانُهُ عَنْهَا، لِأَنَّ الضَّمَانَ يَصِحُّ فِيمَا كَانَ مَضْمُونَ الْأَصْلِ فَيَقُومُ الضَّامِنُ فِي لُزُومِ الضَّمَانِ مَقَامَ الْمَضْمُونِ عَنْهُ، وَإِذَا لَمْ يَلْزَمِ الْأَبَ ذَلِكَ الضَّمَانُ فَقَدْ خَالَعَ الزَّوْجَ عَلَى مَا قَدْ فَسَدَ فِيهِ الْخُلْعُ فَلَزِمَهُ الْبَدَلُ وَفِيمَا يَلْزَمُهُ قَوْلَانِ كَمَا لَوْ خُولِعَ عَلَى فَائِتٍ:
أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: يَلْزَمُهُ مَهْرُ الْمِثْلِ.
وَالثَّانِي: مِثْلُ تِلْكَ الْأَلْفِ فَهَذِهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ تَخْتَلِفُ أَجْوِبَتُهَا لِاخْتِلَافِ معانيها.
(مسألة:)
قال الشافعي: (وَلَوْ أَخَذَ مِنْهَا أَلْفًا عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا إِلَى شَهْرٍ فَطَلَّقَهَا فَالطَّلَاقُ ثَابِتٌ وَلَهَا الْأَلْفُ وَعَلَيْهَا مَهْرُ مِثْلِهَا) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَلَامٌ مُحْتَمَلٌ قَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِهِ وَيَتَضَمَّنُ أَرْبَعَ مَسَائِلَ تَسْتَوْفِي جَمِيعَ تَأْوِيلَاتِهِ:
إِحْدَاهُنَّ: أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَلْفًا عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ شَهْرٍ، فَهَذَا خُلْعٌ فَاسِدٌ لِمَعْنَيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ سَلَمٌ فِي طَلَاقٍ وَالسَّلَمُ فِيهِ لَا يَصِحُّ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ عُقِدَ عَلَى غَيْرِ شَرْطٍ فِيهِ التَّأْخِيرُ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ، فَإِذَا فَعَلَ هَذَا وَطَلَّقَهَا بَعْدَ شَهْرٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ رَدِّ الْأَلْفِ عَلَيْهَا بَعْدَ التَّنَازُعِ وَفَسَادِ الْخُلْعِ، وَالْحُكْمُ يَرُدُّ الْأَلْفَ فَالطَّلَاقُ رَجْعِيٌّ، وَلَا شَيْءَ لَهُ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِرَدِّ الْأَلْفِ يَرْفَعُ حُكْمَ الْعَقْدِ فَصَارَ كَالْمُطَلِّقِ بِغَيْرِ عقد.
والضرب الثاني: أن لا يسترجعَ مِنْهُ الْأَلْفُ، وَلَا يقضي عَلَيْهِ بِرَدِّهَا حَتَّى يُطَلِّقَهَا فَيُنَظَرُ فِي زَمَانِ طَلَاقِهِ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ مُضِيِّ شَهْرٍ فَهُوَ طَلَاقٌ فِي غَيْرِ خُلْعٍ، لِأَنَّ عَقْدَ الْخُلْعِ كَانَ عَلَى إِيقَاعِ الطَّلَاقِ فِيهِ بَعْدَ شَهْرٍ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ رَجْعِيًّا لَا يُسْتَحَقُّ فِيهِ عِوَضٌ، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَعْدَ مُضِيِّ شَهْرٍ، فَهُوَ طَلَاقٌ فِي خُلْعٍ فَاسِدٍ، فَيَكُونُ الطَّلَاقُ بَائِنًا لَا رجعة فيه،(10/73)
لِبَقَاءِ الْعَقْدِ عَلَى فَسَادِهِ، وَيَسْتَحِقُّ فِيهِ الْبَدَلَ، فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَصِيرُ الْعِوَضُ بِهَذَا الْفَسَادِ مَجْهُولًا أَمْ لَا؟ .
فَقَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ: قَدْ أَفْضَى ذَلِكَ إِلَى جَهَالَتِهِ لِأَنَّ الْأَجَلَ الْمَشْرُوطَ فِيهِ يَأْخُذُ مِنْهُ حَظًّا مَجْهُولًا فَصَارَ الْبَاقِي مِنْهُ مَجْهُولًا فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لَهُ عَلَيْهَا مَهْرُ الْمِثْلِ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّ الْعِوَضَ الْمَجْهُولَ لَا مِثْلَ لَهُ وَلَا قِيمَةَ وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ الْعِوَضُ مَعْلُومٌ لَا جَهَالَةَ فِيهِ لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَدْ وَقَعَ فِي أَجَلِهِ الْمَشْرُوطِ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى سُقُوطِه مَا قَابَلَهُ مِنَ الْعِوَضِ فَكَانَ مَعْلُومًا فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِيمَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَهْرُ الْمِثْلِ.
وَالثَّانِي: مِثْلُ الْأَلْفِ.
(فَصْلٌ:)
وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَلْفًا عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي الْحَالِ طَلَاقًا يَسْتَدِيمُ تَحْرِيمَهُ إِلَى شَهْرٍ، فَإِذَا مَضَى الشَّهْرُ عَادَتْ إِلَى إِبَاحَتِهِ، فَهَذَا فَاسِدٌ، لِمَعْنَيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَحْرِيمَ الطَّلَاقِ لَا يَتَقَدَّرُ وَزَمَانَهُ لَا يَنْحَصِرُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْخُلْعَ مَا مَلَكَتْ بِهِ نَفْسَهَا، وَهَذِهِ لَمْ تَمْلِكْ نَفْسَهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالطَّلَاقُ قَدْ وَقَعَ مُؤَبَّدًا، لِأَنَّ حُكْمَهُ لَا يَتَغَيَّرُ بِالشَّرْطِ، وَهُوَ عَنْ بَدَلٍ فَاسِدٍ.
فَعَلَى قَوْلِ الْبَغْدَادِيِّينَ هُوَ مَعَ الْفَسَادِ مَجْهُولٌ، فَيَكُونُ لَهُ مَهْرُ الْمِثْلِ قَوْلًا وَاحِدًا.
وَعَلَى قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ هُوَ مَعَ الْفَسَادِ مَعْلُومٌ فَيَكُونُ فِيمَا يَرْجِعُ بِهِ قَوْلَانِ.
(فَصْلٌ:)
وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَلْفًا عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا مِنْ وَقْتِهِ إِلَى شَهْرٍ، فَأَيُّ وَقْتٍ طَلَّقَهَا فِيهِ قَبْلَ الشَّهْرِ وَقَعَ طَلَاقُهُ فِي الْخُلْعِ، وَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الشَّهْرِ لَمْ يَكُنْ خُلْعًا فَجَعَلَ الشَّهْرَ أَجَلًا لِصِحَّةِ الْخُلْعِ فِيهِ وَرَفْعًا لَهُ بَعْدَ تَقَضِّيهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْخُلْعَ صَحِيحٌ، لِأَنَّ الْأَجَلَ لَمْ يَدْخُلْ فِي عَقْدِهِ، وَإِنَّمَا دَخَلَ فِي رَفْعِهِ وَأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى قَوْلِهِ: مَتَى أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فِي هَذَا الشَّهْرِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَيَكُونُ خُلْعًا جَائِزًا، فَعَلَى هَذَا إِنْ طَلَّقَهَا فِي الشَّهْرِ، فَهُوَ طَلَاقٌ فِي خُلْعٍ صَحِيحٍ يَقَعُ بَائِنًا، وَيَسْتَحِقُّ الْأَلْفَ، وَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الشَّهْرِ فَهُوَ طَلَاقٌ فِي غَيْرِ خُلْعٍ يَقَعُ رَجْعِيًّا، وَلَا شَيْءَ لَهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْخُلْعَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ دُخُولَ الْأَجَلِ فِيهِ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ قَبْلَ انْقِضَائِهِ كَدُخُولِهِ فِيهِ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ بَعْدَ انْقِضَائِهِ فِي أَنَّهُ مُؤَجَّلٌ غَيْرُ مُطْلَقٍ، فَعَلَى هَذَا، إِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الشَّهْرِ فَهُوَ طَلَاقٌ فِي خُلْعٍ فَاسِدٍ، يَقَعُ بَائِنًا وَيَصِيرُ الْبَدَلُ فِيهِ مَجْهُولًا عَلَى قَوْلِ الْبَغْدَادِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ جَمِيعًا، فَيَكُونُ لَهَا الْمِثْلُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الشَّهْرِ فَهُوَ طَلَاقٌ فِي غَيْرِ خُلْعٍ يَكُونُ رَجْعِيًّا وَلَا شَيْءَ لَهُ.(10/74)
(فَصْلٌ:)
وَالْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَلْفًا عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي الْحَالِ طَلَاقًا تَعَلَّقَ وُقُوعُهُ بِرَأْسِ الشَّهْرِ، فَيَقُولُ: إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَأَنْتِ طَالِقٌ عَلَى هَذَا الْأَلْفِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّةِ هَذَا الْخُلْعِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خُلْعٌ صَحِيحٌ، لِأَنَّ عَقْدَ الطَّلَاقِ مُعَجَّلٌ، وَإِنْ كَانَ وُقُوعُهُ مُؤَجَّلًا، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ قَبْلَ الشَّهْرِ زَوْجَةً يَسْتَبِيحُ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا، فَإِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ، طُلِّقَتْ طَلَاقًا بَائِنًا بِالْعَقْدِ الْمُتَقَدِّمِ، وَاسْتَحَقَّ جَمِيعَ الْأَلْفِ بِصِحَّةِ الْخُلْعِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَظْهَرُ أَنَّهُ خُلْعٌ فَاسِدٌ لِمَعْنَيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُعْتَبَرَ بِالطَّلَاقِ حَالُ وُقُوعِهِ دُونَ عَقْدِهِ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ حَلَفَ لَا يُطَلِّقُ امْرَأَةً فَقَالَ لَهَا: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ لَمْ يَحْنَثْ بِقَوْلِهِ، فَإِذَا دَخَلَتِ الدَّارَ حَنِثَ، وَوَقَعَ الطَّلَاقُ مُؤَجَّلًا فَصَارَ طَلَاقًا إِلَى أَجَلٍ.
وَالْمَعْنَى الثَّانِي: أَنَّهُ يَصِيرُ مَالِكًا لِلْأَلْفِ قَبْلَ أَنْ تَمْلِكَ نَفْسَهَا بِالطَّلَاقِ، فَعَلَى هَذَا إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ طُلِّقَتْ طَلَاقًا بَائِنًا، سَوَاءً قُضِيَ عَلَيْهِ بِرَدِّ الْأَلْفِ أَمْ لَا، لِأَنَّهُ طَلَاقٌ قَدِ انْعَقَدَتْ صِفَتُهُ بِالْبَدَلِ فَلَمْ يَجِدْ سَبِيلًا إِلَى رَدِّهِ فَوَقَعَ، وَالْبَدَلُ فِيهِ مَعْلُومٌ عَلَى قَوْلِ الْبَغْدَادِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ فَفِيمَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِمَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَهْرُ المثل.
والثاني: مثل الألف.
(مسألة:)
قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَتَا طَلِّقْنَا بِأَلْفٍ ثُمَّ ارْتَدَّتَا فَطَلَّقَهُمَا بَعْدَ الرِّدَّةِ وَقَفَ الطَّلَاقُ فَإِنْ رَجَعَتَا فِي الْعِدَّةِ لَزِمَهُمَا وَالْعِدَّةُ مِنْ يَوْمِ الطَّلَاقِ وَإِنْ لَمْ يَرْجِعَا حَتَّى انْقَضَتِ الْعِدَّةُ لَمْ يَلْزَمْهُمَا شَيْءٌ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا كَانَ لَهُ زَوْجَتَانِ فَقَالَتَا لَهُ طَلِّقْنَا بِأَلْفٍ، فَمِنْ تَمَامِ هَذَا الطَّلَبِ مِنْهُمَا أَنْ يَكُونَ طَلَاقُهُ عَلَى الْفَوْرِ جَوَابًا لَهُمَا، لِأَنَّهَا إِجَابَةٌ يُرَاعَى فِيهَا على الْفَوْر، وَإِنْ لَمْ يُطَلِّقْهُمَا حَتَّى تَرَاخَى الزَّمَانُ، بَطَلَ حُكْمُ الطَّلَبِ، وَصَارَ مُبْتَدِئًا بِالطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ تَقَدَّمَ، فَإِنْ لَمْ يَشْرُطْ فِيهِ الْعِوَضَ بَلْ قَالَ: أَنْتُمَا طَالِقَتَانِ وَقَعَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا سَوَاءً قَبِلَتَاهُ أَمْ لَا، وَسَوَاءً بَذَلَتَا عَلَيْهِ عِوَضًا أَمْ لَا، لِأَنَّهُ طَلَاقٌ مُجَرَّدٌ عَنْ غَيْرِ عِوَضٍ فِيهِ، أَوْ طَلَبٍ تَقَدَّمَهُ، وَيَكُونُ مَا بَذَلَتَاهُ مِنَ الْعِوَضِ بَعْدَهُ هِبَةً مِنْهُمَا يُرَاعَى فِيهما حُكْمُ الْهِبَاتِ وَلَا يَرْتَفِعُ بِهَا الرَّجْعَةُ، وَإِنْ شَرَطَ فِيهِ الْعِوَضَ فَقَالَ: أَنْتُمَا طَالِقَتَانِ عَلَى أَلْفٍ فَإِنْ قَبِلَتَا ذَلِكَ مِنْهُ فِي الْحَالِ وَقَعَ الطَّلَاقُ بَائِنًا بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ، فَاسْتَحَقَّ فِيهِ الْبَدَلَ، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلَاهُ لَمْ يَقَعْ، لِأَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِشَرْطٍ لَمْ يُوجَدْ، فَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَسَأَلَتَاهُ أَنْ يُطَلِّقَهُمَا عَلَى الْأَلْفِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:(10/75)
أَحَدُهَا: أَنْ يُطَلِّقَهُمَا مَعًا فِي الْحَالِ فَقَدْ أَجَابَهُمَا إِلَى مَا سَأَلَتَاهُ وَوَقَعَ طَلَاقُهُمَا بَائِنًا ثُمَّ لَا تَخْلُو حَالُهُمَا فِي الْأَلْفِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُبَيِّنَا مَا عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنَ الْأَلْفِ، وَإِمَّا أَنْ يُطْلِقَاهُ، فَإِنْ بَيَّنَتَاهُ مِنْ تساوٍ أَوْ تَفَاضُلٍ فَجَعَلَتَا الْأَلْفَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ أَوِ الْتَزَمَتْ مِنَ الْأَلْفِ بِمِائَةٍ وَالْأُخْرَى تِسْعِمِائَةٍ صَحَّ الْعِوَضُ، وَلَزِمَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَا سَمَّتْهُ مِنَ الْأَلْفِ، وَإِنْ أَطْلَقَتَا الْأَلْفَ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يُفَصِّلَا مَا يَخُصُّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَفِيهِ قَوْلَانِ كَمَنْ أَصْدَقَ زَوْجَتَيْنِ أَلْفًا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يفصل مهر كل احدة مِنَ الْأَلْفِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْخُلْعَ بِالْأَلْفِ بَاطِلٌ، إِذَا قِيلَ: إِنَّ الصَّدَاقَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ قِسْطَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنَ الْأَلْفِ مَجْهُولٌ، فَيَكُونُ لَهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي الْخُلْعِ مَهْرُ مِثْلِهَا كَمَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ فِي الصَّدَاقِ مَهْرُ مِثْلِهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْخُلْعَ بِالْأَلْفِ صَحِيحٌ، وَإِذَا قِيلَ: إِنَّ الصَّدَاقَ صَحِيحٌ، لِأَنَّ مَا جَمَعَتْهُ الصَّفْقَةُ مِنَ الْأَعْيَانِ الْمُخْتَلِفَةِ، يَسْقُطُ الْبَدَلُ فِيهِ عَلَى الْقِيَمِ كمن اشترى عبدين بألف فعلى هذا يسقط الْأَلْفَ بَيْنَهُمَا فِي الْخُلْعِ عَلَى مُهُورِ أَمْثَالِهِمَا فَيَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنَ الْأَلْفِ قِسْطُهَا مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، كَمَا قُسِّطَتِ الْأَلْفُ بَيْنَهُمَا فِي الصَّدَاقِ عَلَى مُهُورِ أَمْثَالِهِمَا، فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنَ الْأَلْفِ بِقِسْطِهَا مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ.
وَمِثَالُ ذَلِكَ: أَنْ يَكُونَ مَهْرُ مِثْلِ إحداهما ألف، وَمَهْرُ الْأُخْرَى خَمْسَمِائَةٍ، فَتَكُونُ الْأَلْفُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا يخص التي مهر مثلها ألف ثلثا الألف، وَالَّتِي مَهْرُ مِثْلِهَا خَمْسُمِائَةٍ ثُلُثُ الْأَلْفِ فَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ إِذَا طَلَّقَهُمَا فِي الْحَالِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُطَلِّقَ إِحْدَاهُمَا فِي الْحَالِ، دُونَ الْأُخْرَى فَقَدْ طُلِّقَتْ بَائِنًا، وَعَلَيْهَا مِنَ الْأَلْفِ إِنْ سَمَّتْ شَيْئًا مَا سَمَّتْهُ وَإِنْ لَمْ تُسَمِّ شَيْئًا كَانَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَهْرُ مِثْلِهَا.
وَالثَّانِي: بِقِسْطِهِ مِنَ الْأَلْفِ.
فَأَمَّا الْأُخْرَى فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهَا وَلَا شَيْءَ لَهُ.
والقسم الثالث: أن لا يطلقهما فِي الْحَالِ فَلَا طَلَاقَ وَلَا عِوَضَ، فَإِنِ اسْتَأْنَفَ طَلَاقًا كَانَ كَالْمُبْتَدِئِ فَيَكُونُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ.
(فَصْلٌ:)
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَمَسْأَلَةُ الْكِتَابِ أَنْ يُطَلِّقَهُمَا بِالْأَلْفِ بَعْدَ مَسْأَلَتِهِمَا، وَيَكُونَ مِنْهُمَا بَعْدَ الْمَسْأَلَةِ ارْتِدَادٌ عَنِ الْإِسْلَامِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ رِدَّتُهُمَا بَعْدَ الطَّلَاقِ فَقَدْ وَقَعَ الطَّلَاقُ نَاجِزًا بِالْبَدَلِ الْمُسَمَّى عَلَى مَا مَضَى وَمَا حَدَثَ مِنْ رِدَّتِهِمَا بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهِمَا غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِيهِ، وَعِدَّتُهُمَا مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ.(10/76)
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَرْتَدَّا عَنِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ سُؤَالِهِمَا فِي الْحَالِ، وَقَبْلَ الطَّلَاقِ فَيُطَلِّقَهُمَا الزَّوْجُ فِي الْحَالِ بَعْدَ الرِّدَّةِ مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ لِسُؤَالِهِمَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَتَانِ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهِمَا، فَقَدْ بَانَتَا بِالرِّدَّةِ وَالطَّلَاقُ بَعْدَهَا غَيْرُ وَاقِعٍ عَلَيْهِمَا، فَلَا يَلْزَمُهُمَا شَيْءٌ أَقَامَتَا عَلَى الرِّدَّةِ أَوْ عَادَتَا إِلَى الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا تَبِينُ بِالرِّدَّةِ فِي الْحَالِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَا مَدْخُولًا بِهِمَا بوُقُوع الطَّلَاقِ عَلَيْهِمَا مَوْقُوفٌ عَلَى مَا يَكُونُ مِنْ إِسْلَامِهِمَا فِي الْعِدَّةِ، وَلِأَنَّ نِكَاحَ الْمُرْتَدَّةِ مَوْقُوفٌ عَلَى إِسْلَامِهَا فِي الْعِدَّةِ، وَإِذَا كان كذلك فهما ثلاثة أحوال:
أحدها: أَنْ يُسْلِمَا مَعًا قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهِمَا فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ عَلَيْهِمَا، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ فِي الْعِدَّةِ قَدْ رَفَعَ سَابِقَ الرِّدَّةِ، وَصَادَفَ الطَّلَاقُ نِكَاحًا ثَابِتًا فَوَقَعَ بَائِنًا، وَكَانَ لَهُ عَلَيْهِمَا الْأَلْفُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَأَخَّرَ إِسْلَامُهُمَا مِنَ الرِّدَّةِ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ، فَالطَّلَاقُ غَيْرُ وَاقِعٍ لِارْتِفَاعِ النِّكَاحِ بِالرِّدَّةِ، فَصَادَفَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ غَيْرَ زَوْجَةٍ، فَلَمْ يَقَعْ، وَإِذَا لَمْ يَقَعْ فَالْأَلْفُ مَرْدُودَةٌ عَلَيْهِمَا.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تُسْلِمَ إِحْدَاهُمَا قَبْلَ الْعِدَّةِ، وَتُقِيمَ الْأُخْرَى عَلَى رِدَّتِهَا إِلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَالَّتِي أَسْلَمَتْ قَبْلَ الْعِدَّةِ يَقَعُ الطَّلَاقُ بَائِنًا عَلَيْهَا وَيَلْزَمُهَا مِنَ الْأَلْفِ مَا بَيَّنَّاهُ إِنْ سَمَّتْ مِنْهَا قَدْرًا لَزِمَهَا الْمُسَمَّى، وَإِنْ لَمْ تُسَمِّ مِنْهَا شَيْئًا فَعَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: قِسْطُ مَهْرِ مِثْلِهَا مِنَ الْأَلْفِ.
وَالثَّانِي: مَهْرُ مِثْلِهَا، وَتَكُونُ عِدَّتُهَا مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ.
فَأَمَّا الْمُقِيمَةُ عَلَى الرِّدَّةِ إِلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهَا، وَلَا شَيْءَ لَهُ، وَعِدَّتُهَا مِنْ وَقْتِ الردة، فلو اختلفا مَعَ الزَّوْجِ فِي إِسْلَامِهِمَا مِنَ الرِّدَّةِ هَلْ كَانَ قَبْلَ الْعِدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا؟ فَادَّعَاهُ الزَّوْجُ قَبْلَ الْعِدَّةِ لِيَقَعَ طَلَاقُهُ، وَيَسْتَحِقَّ الْأَلْفَ، وَادَّعَتَاهُ بَعْدَ الْعِدَّةِ إِنْكَارًا لِطَلَاقِهِ وَاسْتِحْقَاقِ الْأَلْفِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمَا مَعَ أَيْمَانِهِمَا، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْعِدَّةَ مِنْهُمَا، فَكَانَ الْمَرْجُوعُ فِيهِمَا إِلَى قولهما والله أعلم.
(مسألة:)
قال الشافعي: (وَلَوْ قَالَ لَهُمَا أَنْتُمَا طَالِقَتَانِ إِنْ شِئْتُمَا بِأَلْفٍ لَمْ يُطَلَّقَا وَلَا وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا حَتَّى يَشَاءَا مَعًا فِي وَقْتِ الْخِيَارِ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِزَوْجَتَيْهِ: أَنْتُمَا طَالِقَتَانِ عَلَى إِنْ شِئْتُمَا، كَانَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ عَلَيْهِمَا مُعَلَّقًا بِوُجُودِ الْمَشِيئَةِ مِنْهُمَا، وَمَشِيئَتُهُمَا مُعْتَبَرَةٌ عَلَى الْفَوْرِ فِي وَقْتِ الْخِيَارِ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ:(10/77)
أَحَدُهُمَا: خِيَارُ الْقَبُولِ.
وَالثَّانِي: خِيَارُ الْجَوَابِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ يَسِيرِ الْمُهْلَةِ الْمُعْتَبَرَةِ بالعرف، وإذا كان كذلك فلها ثلاثة أحوال:
أحدهما: أَنْ يَشَاءَا مَعًا فِي الْحَالِ، فَقَدْ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهِمَا، وَصَارَ الْخُلْعُ لَازِمًا لَهُمَا، لِأَنَّ الْمَشِيئَةَ وَإِنْ كَانَتْ صِفَةً لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فَهِيَ قَبُولٌ لِلْخُلْعِ فَلَا يُحْتَاجُ مَعَهَا إِلَى تَصْرِيحٍ بِالْقَبُولِ، وَإِذَا صَحَّ الْخُلْعُ بِالْمَشِيئَةِ وَلَزِمَ فَفِيمَا يَلْزَمُهُمَا مِنَ الْعِوَضِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْأَلْفُ مُقَسَّطَةٌ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ مُهُورِ أَمْثَالِهِمَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: تَسْقُطُ الْأَلْفُ، وَيَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَهْرُ مثلها.
والحال الثانية: أن لا يَشَاءَا أَوْ لَا وَاحِدَةَ مِنْهُمَا فَلَا طَلَاقَ وَلَا خُلْعَ، لِأَنَّ صِفَةَ الطَّلَاقِ لَمْ تُوجَدْ فَلَوْ تَمَادَى بِهِمَا زَمَانُ الْمَشِيئَةِ ثُمَّ شَاءَتَا من بعد لم يؤثر مَشِيئَتُهُمَا لِاسْتِحْقَاقِهَا عَلَى الْفَوْرِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا فِيهَا مِنْ قَبُولِ الْعَقْدِ.
وَالثَّانِي: مَا فِيهَا مِنْ قَبُولِ التَّمْلِيكِ فَصَارَتِ الْمَشِيئَةُ وَاقِعَةً فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا شَرْعًا فَجَرَتْ مَجْرَى وُقُوعِهَا فِي مَوْضِعِهَا شَرْطًا.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَشَاءَ إِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى فَلَا طَلَاقَ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، لِأَنَّ شَرْطَ الطَّلَاقِ وُجُودُ الْمَشِيئَةِ مِنْهُمَا، فَإِذَا وُجِدَتْ مِنْ إِحْدَاهُمَا لَمْ تَكْمُلِ الصِّفَة فَلَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ، وَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو، فَشَاءَ أَحَدُهُمَا لَمْ تُطَلَّقْ.
فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ لَوْ قَالَ لَهُمَا أَنْتُمَا طَالِقَتَانِ عَلَى أَلْفٍ فَقَبِلَتْ إِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى طُلِّقَتِ الْقَابِلَةُ وَلَمْ تُطَلَّقِ الْأُخْرَى فَهَلَّا طُلِّقَتِ الَّتِي شَاءَتْ وَلَمْ تُطَلَّقِ الْأُخْرَى
قِيلَ: لِأَنَّهُ جَعَلَ مَشِيئَتَهُمَا شَرْطًا فَلَمْ يُوجَدْ بِمَشِيئَةِ إِحْدَاهُمَا فَلَمْ تُطَلَّقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا طَلَّقَهُمَا بِأَلْفٍ فَقَبِلَتْ إِحْدَاهُمَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ صِفَةً لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ وَلَا اجْتِمَاعُ قَبُولِ الْمُشْتَرِكِينَ فِي الْعَقْدِ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهِ، بَلْ قَبُولُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ لِرَجُلَيْنِ: قَدْ بِعْتُكُمَا عَبْدِي بِأَلْفٍ فَقَبِلَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ لَزِمَ الْقَابِلَ ابْتِيَاعُ نِصْفِ الْعَبْدِ بِنِصْفِ الْأَلْفِ، وَإِنْ لَمْ يَلْزَمِ ابْتِيَاعُ نِصْفِهِ الْآخَرَ.
فَلَوْ قَالَتِ الزَّوْجَتَانِ فِي الْحَالِ: قَدْ شِئْنَا فَكَذَّبَهُمَا فِي الْمَشِيئَةِ، وَقَعَ الطَّلَاقُ مَعَ تَكْذِيبِهِ لَهُمَا.(10/78)
فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ لَوْ قَالَ لَهُمَا: إِذَا حِضْتُمَا فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ.
فَقَالَتَا: قَدْ حِضْنَا، فَكَذَّبَهُمَا لَمْ يَقطعِ الطَّلَاقُ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا.
قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ مَشِيئَتَهُمَا إِنَّمَا هِيَ وُجُودُ الْقَوْلِ مِنْهُمَا، وَقَدْ وُجِدَ مَعَ التَّكْذِيبِ فَوَقَعَ الطَّلَاقُ، وَلَا يَكُونُ حَيْضُهَا وُجُودَ الْقَوْلِ مِنْهُمَا فإذا أكذبهما فيه لم يَعْلَمْ وَجُودَهُ فَلَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ.
(مَسْأَلَةٌ:)
قَالَ الشافعي: (وَلَوْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا مَحْجُورًا عَلَيْهَا وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهِمَا وَطَلَاقُ غَيْرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهَا بَائِنٌ وَعَلَيْهَا مَهْرُ مِثْلِهَا وَلَا شَيْءَ عَلَى الْأُخْرَى وَيَمْلِكُ رجعتها (قال المزني) رحمه الله تعالى هذا عندي يَقْضِي عَلَى فَسَادِ تَجْوِيزِهِ مَهْرَ أَرْبَعٍ فِي عُقْدَةٍ بِأَلْفٍ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَهْرِ أَرْبَعٍ فِي عُقْدَةٍ بِأَلْفٍ وَخُلْعِ أَرْبَعٍ فِي عقدة بألف فإذا أفسده في إحداهما للجهل بما يصيب كل واحدة منهن فسد في الأخرى ولكل واحدة منهن وعليها مَهْرِ مِثْلِهَا) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ يقول لزوجته، وَإِحْدَاهُمَا مَحْجُورٌ عَلَيْهَا: أَنْتُمَا طَالِقَتَانِ عَلَى الْأَلْفِ إِنْ شِئْتُمَا فَشَاءَتَا مَعًا، طُلِّقَتَا، لِأَنَّهُ عَلَّقَ طَلَاقَهُمَا بِوُجُودِ مَشِيئَتَيْنِ، وَقَدْ وُجِدَتَا، فَأَوْجَبَ ذَلِكَ وُقُوعَ طَلَاقِهِمَا، وَيَكُونُ طَلَاقُ غَيْرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهَا بَائِنًا، وَفِيمَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَهْرُ الْمِثْلِ.
وَالثَّانِي: بِقِسْطِ مَهْرِ مِثْلِهَا مِنَ الْأَلْفِ.
فَأَمَّا طَلَاقُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهَا فَيَكُونُ رَجْعِيًّا، لِأَنَّ الْخُلْعَ عَقْدٌ يَصِحُّ مَعَ الْحَجْرِ.
فَإِنْ قِيلَ: فإذا لم يصح خلعها فينبغي أن لا تَصِحَّ مَشِيئَتُهَا.
قِيلَ: الْمُعْتَبَرُ فِي الْمَشِيئَةِ التَّمْيِيزُ وَفِي الْخُلْعِ جَوَازُ التَّصَرُّفِ، وَلِلْمَحْجُورِ عَلَيْهَا تَمْيِيزٌ فَصَحَّتْ مَشِيئَتُهَا، وَلَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهَا فَلَمْ يَصِحَّ خُلْعُهَا، فَلَوْ كَانَتْ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا إِحْدَاهُمَا مَجْنُونَة فَشَاءَتَا لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُمَا، لِأَنَّ الْمَجْنُونَةَ لَا تَمْيِيزَ لَهَا، فَلَمْ تَصِحَّ مَشِيئَتُهَا، وَكَانَتْ كَمَنْ لم تشاء، وَلَوْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا صَغِيرَةً فَشَاءَتَا، تُطْرَحُ الصَّغِيرَةُ فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُمَيِّزَةٍ لَمْ تَصِحَّ مَشِيئَتُهَا، كَالْمَجْنُونَةِ، فَلَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ، وَإِنْ كَانَتْ مُمَيِّزَةً صَحَّتْ مَشِيئَتُهَا كَالْمَحْجُورِ عَلَيْهَا، وَوَقَعَ طَلَاقُهَا، وَكَانَ طَلَاقُ الْكَبِيرَةِ بَائِنًا، وَطَلَاقُ الصَّغِيرَةِ رَجْعِيًّا.
فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ رَأَى الشَّافِعِيَّ قَدْ أَوْجَبَ عَلَى الْجَائِزَةِ الْأَمْرَ مَهْرَ مِثْلِهَا فَقَالَ: (هَذَا يَقْضِي عَلَى فَسَادِ تَجْوِيزِهِ مَهْرَ أَرْبَعٍ فِي عُقْدَةٍ بِأَلْفٍ، لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَهْرِ أَرْبَعٍ فِي عُقْدَةٍ بِأَلْفٍ، وَخُلْعِ أَرْبَعٍ فِي عُقْدَةٍ بألف.(10/79)
والأمر على ما قاله المزني، وإنما ذكره الشَّافِعِيُّ هَا هُنَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ، وَفِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ مَسْأَلَةِ الْخُلْعِ وَالصَّدَاقِ قَوْلَانِ فَهُمَا سواء والله أعلم.
(مَسْأَلَةٌ:)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وَلَوْ قَالَ لَهُ أَجْنَبِيٌّ طَلِّقْ فُلَانَة عَلَى أَنَّ لَكَ عَلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَفَعَلَ فَالْأَلْفُ لَهُ لَازِمَةٌ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا خَالَعَهُ أَجْنَبِيٌّ عَلَى طَلَاقِ زَوْجَتِهِ، فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهَا صَحَّ، وَكَانَ وَكِيلًا لَهَا عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، وَإِنْ كَانَ الْأَجْنَبِيُّ قَدْ خَالَعَ بِغَيْرِ إِذْنِ الزَّوْجَةِ بِمَالٍ فِي ذِمَّتِهِ فَقَالَ لَهُ: طَلِّقْ زَوْجَتَكَ فُلَانَة بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَكَ عَلَيَّ، صَحَّ الْخُلْعُ وَوَقَعَ الطَّلَاقُ، وَلَزِمَ الْأَجْنَبِيَّ الْأَلْفُ الَّتِي بَذَلَهَا، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ.
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: الْخُلْعُ بَاطِلٌ، وَالطَّلَاقُ غَيْرُ وَاقِعٍ فِيهِ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْخُلْعَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَمْلِكُ بِهِ الْبُضْعَ، وَالْبُضْعُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَهُ بِالْعِوَضِ، إِلَّا زَوْجٌ بِنِكَاحٍ أَوْ زَوْجَةٌ بِخُلْعٍ، فَلَمَّا لَمْ يَمْلِكْهُ الْأَجْنَبِيُّ كَالْخُلْعِ وَلَا الزَّوْجَةُ بِغَيْرِ إِذْنِهَا اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ فَاسِدًا، وَلِأَنَّ الْأَعْوَاضَ إِنَّمَا تُبْذَلُ فِي الْأَغْرَاضِ الصَّحِيحَةِ، وَإِلَّا كَانَتْ سَفَهًا، وَمِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، وَلَا غَرَضَ لِلْأَجْنَبِيِّ فِي هَذَا الْخُلْعِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَرْدُودًا، وَهَذَا خَطَأٌ.
وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ لَمَّا جَازَ لِلزَّوْجِ أَنْ يُطَلِّقَ بِغَيْرِ بَذْلٍ، وَجَازَ لِلْأَجْنَبِيِّ أَنْ يَبْذُلَ لَهُ مَالَهُ بِغَيْرِ طَلَاقٍ جَازَ أَنْ يُطَلِّقَ الزَّوْجُ عَلَى الْمَالِ الَّذِي بَذَلَهُ الْأَجْنَبِيُّ، فيقول: كل من صح منه بذلك الْمَالِ بِغَيْرِ طَلَاقٍ صَحَّ بَذْلُهُ عَلَى الطَّلَاقِ كَالزَّوْجَةِ طَرْدًا، وَالصَّغِيرَةِ عَكْسًا، وَلِأَنَّ الْعِتْقَ كَالطَّلَاقِ، يَتَنَوَّعُ تَارَةً بِعِوَضٍ، وَتَارَةً بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَبْذُلَ الْأَجْنَبِيُّ مَالًا فِي الْعِتْقِ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ بِهِ شَيْئًا جَازَ أَنْ يَبْذُلَ مَالًا فِي الطَّلَاقِ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ بِهِ شَيْئًا.
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ الْخُلْعَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ كَالْبَيْعِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ مُفَارِقٌ لِلْبَيْعِ فِي أَحْكَامٍ وَإِنْ وَافَقَهُ فِي أَحْكَامٍ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْبَيْعِ تَمَلُّكُ الْمَبِيعِ، وَالْمَقْصُودَ بِالْخُلْعِ إِزَالَةُ مِلْكِ الزَّوْجِ، فَجَازَ أَنْ يَزُولَ إِلَى غَيْرِ مُتَمَلِّكٍ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُزِيلَهُ بِالطَّلَاقِ الْمُجَرَّدِ إِلَى غَيْرِ مُتَمَلِّكٍ بِخِلَافِ الْبَيْعِ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِعَدَمِ الْغَرَضِ فِيهِ، فَخَطَأٌ، لِأَنَّ الْغَرَضَ فِيهِ مَوْجُودٌ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَرَاهُمَا الْأَجْنَبِيُّ مُقِيمَيْنِ عَلَى نِكَاحِ شُبْهَةٍ يَؤُولُ إلى مأثم فأحب أن يستنقذهما منهما.
وَالثَّانِي: أَنْ يَرَاهُمَا قَدْ خَرَجَا فِي الزَّوْجِيَّةِ إِلَى أَنْ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرَ مُؤَدٍّ لِلْحَقِّ فِيهَا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ لِرَغْبَةِ الْأَجْنَبِيِّ فِي نِكَاحِهَا فَيَسْتَنْزِلَ بِالْخُلْعِ الزَّوْجَ عَنْهَا.(10/80)
(فَصْلٌ:)
فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ خُلْعِ الْأَجْنَبِيِّ، فَلَوْ كَانَ لِلزَّوْجِ امْرَأَتَانِ فَخَالَعَهُ الْأَجْنَبِيُّ عَنْهُمَا بِأَلْفٍ مِنْ مَالِهِ صَحَّ الْخُلْعُ بِالْأَلْفِ، وَإِنْ لَمْ يُفَصِّلْ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنَ الْأَلْفِ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّ الْأَلْفَ لَازِمَةٌ لِلْأَجْنَبِيِّ وَحْدَهُ، وَمُسْتَحَقَّةٌ لِلزَّوْجِ وَحْدَهُ، فَجَازَ أَن لا يَنْفَصِلَ، وَلَيْسَ كَبَذْلِ الزَّوْجَتَيْنِ الَّذِي يَجِبُ أَنْ تَنْفَصِلَ مَا تَلْتَزِمُهُ كُلُّ وَاحِدَةٍ، فَلَوْ خَالَعَهُ الْأَجْنَبِيُّ عَلَى طَلَاقِ إِحْدَاهُمَا مُبْهَمَةً مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ وَلَا تَسْمِيَةٍ لَمْ يَجُزْ، وَكَانَ خُلْعًا فَاسِدًا، لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ لَا يَصِحُّ إِلَّا عَلَى مُعَيَّنٍ كَالْبَيْعِ.
(فَصْلٌ:)
وَإِذَا كَانَ لَهُ زَوْجَتَانِ فَقَالَتْ لَهُ إِحْدَاهُمَا: طَلِّقْنِي وَضَرَّتِي بِأَلْفٍ لَكَ عَلَيَّ، فَإِنْ طَلَّقَهُمَا صَحَّ الْخُلْعُ، وَكَانَ لَهُ عليها ألف عنها، وعن ضرته قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ طَلَّقَهَا دُونَ ضَرَّتِهَا كَانَ فِيمَا يَلْزَمُهَا قَوْلَانِ، لِأَنَّ الْأَلْفَ قَدْ تَفَصَّلَتْ:
إحداهما: مَهْرُ مِثْلِهَا.
وَالثَّانِي: بِقِسْطِ مَهْرِ مِثْلِهَا مِنَ الْأَلْفِ.
وَلَوْ طَلَّقَ ضَرَّتَهَا دُونَهَا طُلِّقَتْ، وَكَانَ فِيمَا يَلْزَمُ الْبَاذِلَةَ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَهْرُ مِثْلِ الضَّرَّةِ الْمُطَلَّقَةِ.
وَالثَّانِي: بِقِسْطِ مَهْرِ مِثْلِهَا مِنَ الْأَلْفِ.
(فَصْلٌ:)
وَلَوْ قَالَتْ لَهُ إِحْدَى زَوْجَتَيْهِ: طَلِّقْنِي بِأَلْفٍ لَكَ عَلَيَّ عَلَى أَنْ تُطَلِّقَ ضَرَّتِي، أَوْ قَالَتْ: طَلِّقْ ضَرَّتِي بِأَلْفٍ لَكَ علي أن لا تُطَلِّقَنِي.
فَأَجَابَهَا إِلَى مَا سَأَلَتْ وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَلَزِمَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، لِأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَنَ بِالْخُلْعِ شَرْطٌ فَاسِدٌ بِسُقُوطِهِ مِنَ الْعِوَضِ مَا صَارَ بِهِ مَجْهُولًا فَلَزِمَ فِيهِ مَهْرُ مِثْلِ الْمُطَلَّقَةِ قولاً واحداً.
(مسألة:)
قال الشافعي: (وَلَا يَجُوزُ مَا اخْتَلَعَتْ بِهِ الْأَمَةُ إِلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهَا) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا خَالَعَتِ الْأَمَةُ زَوْجَهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ السَّيِّدِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ.
فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِ السَّيِّدِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَأْذَنَ لَهَا أَنْ تُخَالِعَهُ بِمَالٍ فِي ذِمَّتِهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُخَالِعَهُ عَلَى مَا بِيَدِهَا مِنَ الْأَعْيَانِ، لِأَنَّ الْإِذْنَ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا، فَإِنْ خَالَعَتْهُ عَلَى غَيْرِ مَالٍ بِيَدِهَا لِلسَّيِّدِ لَمْ يَجُزْ وَنُظِرَ فِي طَلَاقِ الزَّوْجِ، فَإِنْ كَانَ مُقَيَّدًا بِتِلْكَ الْعَيْنِ لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ، وَإِنْ كَانَ نَاجِزًا وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَكَانَ لَهُ عَلَيْهَا بَذْلُ الْخُلْعِ فِي ذِمَّتِهَا يُؤَدِّيهِ بَعْدَ عِتْقِهَا وَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَهْرُ مِثْلِهَا.(10/81)
وَالثَّانِي: مِثْلُ مَا خَالَعَتْ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ، أَوْ قِيمَتِهِ إِنْ لم يكن لَهُ مِثْلٌ، وَإِنْ خَالَعَتْهُ عَلَى مَالٍ فِي ذِمَّتِهَا صَحَّ الْخُلْعُ وَاسْتَفَادَتْ بِالْإِذْنِ أَنْ تُؤَدِّيَهُ مِنْ كَسْبِهَا، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُؤَدِّيَهُ مِنَ الْأَعْيَانِ الَّتِي بِيَدِهَا، فَإِنْ كَانَ مَا خَالَعَتْ بِهِ قَدْرَ مَهْرِ مِثْلِهَا أَدَّتْ جَمِيعَهُ مِنْ كَسْبِهَا، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ أَدَّتْ مِنْ كَسْبِهَا قَدْرَ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَكَانَ الْفَاضِلُ عَلَيْهِ بَاقِيًا فِي ذِمَّتِهَا تُؤَدِّيهِ بَعْدَ عِتْقِهَا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا كَسْبٌ تُؤَدِّي مِنْهُ قَدْرَ مَا خَالَعَتْ عَلَيْهِ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ لَمْ يَلْزَمِ السَّيِّدَ غُرْمُهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْهُ فِي ذِمَّتِهِ، وَلَا فِي رَقَبَةِ أَمَتِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي ذِمَّتِهَا إِلَى أَنْ تُؤَدِّيَهُ مِنْ كَسْبٍ إِنْ حَدَثَ لَهَا فِي الرِّقِّ، أَوْ بَعْدَ عِتْقِهَا.
وَهَكَذَا لَوْ قَتَلَهَا السَّيِّدُ أَوْ بَاعَهَا بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُ الزَّوْجُ عَلَى مُطَالَبَتِهَا، لَمْ يَضْمَنِ السَّيِّدُ ذَلِكَ عَنْهَا، وَإِنْ أَذِنَ لَهَا.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَأْذَنَ لَهَا أَنْ تُخَالِعَهُ عَلَى عَيْنٍ فِي يَدِهَا كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا: خَالِعِيهِ عَلَى هَذَا الثَّوْبِ، أَوْ عَلَى هَذَا الْخَاتَمِ، فَإِنْ خَالَعَتْهُ عَلَيْهِ جَازَ، وَإِنْ خَالَعَتْهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَعْيَانِ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ خَالَعَتْهُ عَلَى مَالٍ فِي ذِمَّتِهَا جَازَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تُؤَدِّيَهُ مِنْ كَسْبِهَا لِعَدَمِ الْإِذْنِ فِيهِ، وَكَانَ بَاقِيًا فِي ذِمَّتِهَا إِلَى أَنْ تُؤَدِّيَهُ بَعْدَ عِتْقِهَا.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَأْذَنَ لَهَا إِذْنًا مُطْلَقًا، وَلَا يَذْكُرَ عَيْنًا وَلَا ذِمَّةً فَإِنْ خَالَعَتْهُ عَلَى مَالٍ فِي ذِمَّتِهَا جَازَ، وَكَانَ لَهَا أَنْ تُؤَدِّيَهُ مِنْ كَسْبِهَا إِنْ كَانَ بِقَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ فَمَا دُونَ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْهُ كَانَتِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ بَاقِيَةً فِي ذِمَّتِهَا إِلَى وَقْتِ الْعِتْقِ، وَإِنْ خَالَعَتْهُ عَلَى عَيْنٍ فِي يَدِهَا نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أُذِنَ لَهَا بِالتَّصَرُّفِ فِي تِلْكَ الْعَيْنِ صَحَّ خُلْعُهَا عَلَيْهَا، إِنْ كَانَ بِقَدْرِ مَهْرِ مِثْلِهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ أُذِنَ لَهَا بِالتَّصَرُّفِ فِيهَا لَمْ يَصِحَّ خُلْعُهَا بِهَا، وَكَانَ فِيمَا يَرْجِعُ بِهِ الزَّوْجُ عَلَيْهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَهْرُ الْمِثْلِ.
وَالثَّانِي: مِثْلُ تِلْكَ الْعَيْنِ إِنْ كَانَ لَهَا مِثْلٌ، وَقِيمَتُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مِثْلٌ، وَلَهَا أَنْ تُؤَدِّيَ مِنْ كَسْبِهَا لِإِذْنِ السَّيِّدِ لَهَا.
(فَصْلٌ:)
وَإِنْ خَالَعَتْهُ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تُخَالِعَهُ عَلَى عَيْنٍ فِي يَدِهَا، فَالْخُلْعُ بَاطِلٌ، سَوَاءً مَلَّكَهَا السَّيِّدُ تِلْكَ الْعَيْنَ أَوْ لَمْ يُمَلِّكْهَا، لِأَنَّهُ قَدْ مَلَّكَهَا فَمَلَكَتْ عَلَى قَوْلِهِ الْقَدِيمِ لَكَانَ لَهُ عَلَيْهَا حَجْرٌ فِيهَا يَمْنَعُ مِنَ التَّصَرُّفِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ نُظِرَ فِي طَلَاقِ الزَّوْجِ، فَإِنْ كَانَ مُقَيَّدًا بِتَمَلُّكِ تِلْكَ الْعَيْنِ فَهُوَ غَيْرُ وَاقِعٍ، وَإِنْ كَانَ نَاجِزًا وَقَعَ، وَفِيمَا يَرْجِعُهُ عَلَيْهِمَا بَعْدَ عِتْقِهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَهْرُ مِثْلِهَا.
وَالثَّانِي: مِثْلُ تِلْكَ الْعَيْنِ، أَوْ قِيمَتُهَا، فَلَوْ أَنَّ السَّيِّدَ بَعْدَ أَنْ خَالَعَتْ عَلَى تِلْكَ(10/82)
الْعَيْنِ أَجَازَ خُلْعَهَا لَمْ يَصِحَّ لِوُقُوعِهِ فَاسِدًا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تُخَالِعَهُ عَلَى مَالٍ فِي ذِمَّتِهَا، فَالْخُلْعُ جَائِزٌ وَلَيْسَ لَهَا دَفْعُ الْمَالِ مِنْ كَسْبِهَا، لِعَدَمِ إِذْنِ السَّيِّدِ فِيهِ، وَيَكُونُ فِي ذِمَّتِهَا إِلَى أَنْ تُؤَدِّيَهُ بَعْدَ عِتْقِهَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُؤَجَّلًا إِلَى وَقْتِ الْعِتْقِ وَهُوَ أَجَلٌ مَجْهُولٌ.
قِيلَ: إِنَّمَا تَكُونُ جَهَالَةُ الْأَجَلِ مُوجِبَةً لِفَسَادِ الْعَقْدِ، إِذَا كَانَ الْأَجَلُ مُعَلَّقًا بِالشَّرْطِ دُونَ الشَّرْعِ، وَلَا يَبْطُلُ إِذَا كَانَ وَاجِبًا بِالشَّرْعِ إِلَّا أَنْ تَرَى إِعْسَارَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ يُوجِبُ إِنْظَارَهُ إِلَى وَقْتِ يَسَارِهِ، وَلَوْ شَرَطْتَهُ فِي الْعَقْدِ لَمْ يَجُزْ.
كَذَلِكَ الْأَمَةُ إِذَا خَالَعَتْهُ بِمَالٍ أَوْجَبَ الشَّرْعُ إِنْظَارَهَا بِهِ إِلَى وَقْتِ الْعِتْقِ جَازَ، وَلَوْ شَرَطَتْهُ إِلَى وَقْتِ الْعِتْقِ لَمْ يَجُزْ، وَكَانَ فَاسِدًا يَرْجِعُ عَلَيْهَا فِيهِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ بَعْدَ الْعِتْقِ، وَهَكَذَا خُلْعُ الْمُدَبَّرَةِ، وَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُعْتَقَةِ بِصِفَةٍ لَمْ تَأْتِ.
فَأَمَّا الَّتِي نِصْفُهَا حُرٌّ، وَنِصْفُهَا مَمْلُوكٌ، فَإِنْ خَالَعَتْهُ عَلَى مَا يَمْلِكُهُ بِنِصْفِهَا الْحُرِّ جَازَ، وَكَانَتْ فِيهِ كَالْحُرَّةِ وَإِنْ خَالَعَتْهُ عَلَى مَا يَمْلِكُهُ السَّيِّدُ لَمْ يَجُزْ، وَكَانَتْ فِيهِ كَالْأَمَةِ، وَإِنْ خَالَعَتْهُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ صَارَتِ الصِّفَةُ فِيهِ جَامِعَةً لِأَمْرَيْنِ يَخْتَلِفُ حُكْمُهُمَا فَيَكُونُ عَلَى مَا يُوجِبُهُ تَفْرِيقُ الصفقة بعد جمعها.
(مسألة:)
قال الشافعي: (وَلَا الْمُكَاتَبَةُ وَلَوْ أَذِنَ لَهَا سَيِّدُهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ لِلسَّيِّدِ فَيَجُوزُ إِذْنُهُ فِيهِ وَلَا لَهَا فَيَجُوزُ مَا صَنَعَتْ فِي مَالِهَا وَطَلَاقُهُمَا بِذَلِكَ بَائِنٌ فَإِذَا أُعْتِقَتَا اتَّبِعُ كُلَّ وَاحِدَةٍ بِمَهْرِ مِثْلِهَا كَمَا لَا أَحْكُمُ عَلَى الْمُفْلِسِ حَتَّى يُوسِرَ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا خَالَعَتِ الْمُكَاتَبَةُ زَوْجَهَا لَمْ يَخْلُ خُلْعُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ السَّيِّدِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَهِيَ فِيهِ كَالْأَمَةِ إِذَا خَالَعَتْ زَوْجَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهَا، لِأَنَّهَا وَإِنْ خَالَفَتِ الْأَمَةَ فِي التَّمَلُّكِ وَالتَّصَرُّفِ فَهُوَ مَقْصُودٌ عَلَى أَدَائِهِ فِي مَالِ الْكِتَابَةِ دُونَ غَيْرِهِ، وَهِيَ كَالْأَمَةِ فِيمَا سِوَاهُ، وَإِنْ خَالَعَتْهُ بِإِذْنِ السَّيِّدِ فَهُوَ إِذْنٌ مِنْهُ بِاسْتِهْلَاكِ مَالٍ فِي غَيْرِ الْأَدَاءِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي السَّيِّدِ إِذَا أَذِنَ لِمُكَاتَبِهِ فِي الْهِبَةِ هَلْ يَصِحُّ إِذْنُهُ فِيهِ، وَيَجُوزُ هِبَتُهُ لَهُ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ أَقْوَى تَصَرُّفًا مِنَ الْعَبْدِ، فَلَمَّا صَحَّتْ هِبَةُ الْعَبْدِ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ كَانَ أَوْلَى أَنْ تَصِحَّ هِبَةُ الْمُكَاتَبِ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ هِبَتُهُ بِإِذْنِ السَّيِّدِ، وَإِنْ صَحَّتْ هِبَةُ الْعَبْدِ، لِأَنَّ السَّيِّدَ يَمْلِكُ مَا فِي يَدِ عَبْدِهِ، فَصَحَّ إِذْنُهُ فِيهِ، وَلَا يَمْلِكُ مَا فِي يَدِ مُكَاتَبِهِ، فَلَمْ يَصِحَّ إِذْنُهُ فِيهِ، فَإِذَا ثَبَتَ الْقَوْلَانِ فِي هِبَةِ الْمُكَاتَبِ بِإِذْنِ السَّيِّدِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي خُلْعِ الْمُكَاتَبَةِ(10/83)
بِإِذْنِ السَّيِّدِ: فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى أَنَّهُ عَلَى قولين كالهبة، لأنه ليس الاستهلاك بالخلع أغلط مِنَ الِاسْتِهْلَاكِ بِالْهِبَةِ، بَلْ هُوَ أَحْسَنُ حَالًا، لِأَنَّهَا قَدْ تَمْلِكُ بِهِ الْبُضْعَ، وَلَا تَمْلِكُ بِالْهِبَةِ شَيْئًا عَلَى أَصَحِّ قَوْلَيْهِ فِي سُقُوطِ الْمُكَافَأَةِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: إِنَّ خُلْعَهَا بَاطِلٌ مَعَ إِذْنِ السَّيِّدِ وَإِنْ كَانَتْ هِبَتُهَا بِإِذْنِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِأَنَّ مَا يَعُودُ مِنْ مُكَافَأَةِ الْهِبَةِ وَامْتِنَانِهَا رَاجِعٌ إِلَى السَّيِّدِ، وَمَا يَعُودُ بِالْخُلْعِ مِنْ مِلْكِ الْبُضْعِ يَكُونُ لِلْمُكَاتَبَةِ فَافْتَرَقَ إِذْنُ السَّيِّدِ فِيهِمَا لِافْتِرَاقِهِمَا فِي عَوْدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَالطَّرِيقَةُ الْأُولَى أَصَحُّ، وَلَيْسَ لِهَذَا الْفَرْقِ وَجْهٌ، وَلَوْ قُلِبَ كَانَ أَوْلَى لِمَا ذَكَرْنَا.
(فَصْلٌ:)
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَإِنْ قُلْنَا بِجَوَازِ الْخُلْعِ بِإِذْنِهِ صَحَّ إِذَا كَانَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ فَمَا دُونَهُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَأْذَنَ لَهَا أَنْ تُخَالِعَهُ بِمَال فِي ذِمَّتِهَا فَتَعْدِلَ إِلَى الْخُلْعِ بِمَالٍ فِي يَدِهَا أَوْ يَأْذَنَ لَهَا أَنْ تُخَالِعَهُ بمال في ذمتها فَتَعْدِلَ عَنْهُ إِلَى مَالٍ فِي ذِمَّتِهَا، أَوْ يَأْذَنَ لَهَا فِي عَيْنٍ، فَتَعْدِلَ إِلَى غَيْرِهَا إِذَا كَانَتْ قِيمَتُهَا سَوَاءً، بِخِلَافِ الْأَمَةِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَجْرَ عَلَى الْمُكَاتَبَةِ فِي قَدْرِ الْمَالِ، وَلَيْسَ عَلَيْهَا حَجْرٌ فِي أَعْيَانِهِ، لِأَنَّ لَهَا نَقْلَ الْأَعْيَانِ مِنْ عَيْنٍ إِلَى عَيْنٍ، فَلِذَلِكَ جَازَ خُلْعُهَا بَعْدَ الْإِذْنِ بِكُلِّ عَيْنِ، وَالْحَجْرُ عَلَى الْأَمَةِ وَاقِعٌ فِي قَدْرِ الْمَالِ، وَفِي أَعْيَانِهِ، وَلَيْسَ لَهَا نَقْلُ عَيْنٍ إِلَى عَيْنٍ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَعْدِلَ فِي الْخُلْعِ مِنْ عَيْنٍ إِلَى عَيْنٍ.
وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْخُلْعَ لَا يَصِحُّ مِنَ الْمُكَاتَبَةِ بِإِذْنِ السَّيِّدِ، وَغَيْرِ إِذْنِهِ كَانَتْ فِيهِ كَالْأَمَةِ إِنْ خَالَعَتْهُ عَلَى مَالٍ فِي ذِمَّتِهَا أَدَّتْهُ بَعْدَ عِتْقِهَا، وَإِنْ خَالَعَتْهُ عَلَى عَيْنٍ بِيَدِهَا، نُظِرَ فِي طَلَاقِ الزَّوْجِ لَهَا فَإِنْ كَانَ مُقَيَّدًا بِهَا لَمْ تُطَلَّقْ، وَإِنْ كَانَ نَاجِزًا طُلِّقَتْ، وَكَانَ فِيمَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بَعْدَ الْعِتْقِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَهْرُ الْمِثْلِ.
وَالثَّانِي: مِثْلُ مَا خَالَعَتْ بِهِ إِذَا كَانَ لَهُ مِثْلٌ وَقِيمَتُهُ إِنْ لَمْ يكن له مثل.
(مسألة:)
قال الشافعي: (وَإِذَا أَجَزْتُ طَلَاقَ السَّفِيهِ بِلَا شَيْءٍ كَانَ مَا أَخَذَ عَلَيْهِ جُعْلًا أَوْلَى وَلِوَلِيِّهِ أَنْ يَلِيَ عَلَى مَا أَخَذَ بِالْخُلْعِ لِأَنَّهُ مَالُهُ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، طَلَاقُ السَّفِيهِ وَاقِعٌ، وَخُلْعُهُ جَائِزٌ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ وَلَا يَصِحُّ خُلْعُهُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهَا عَلَى وُقُوعِ طَلَاقِهِ فِي كِتَابِ الْحَجْرِ وَإِذَا صَحَّ وُقُوعُ طَلَاقِهِ صَحَّ جَوَازُ خُلْعِهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ طَلَاقُهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَانَ بِالْعِوَضِ أَجْوَزَ، وَإِذَا كَانَ خُلْعُهُ جَائِزًا فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:(10/84)
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى طَلَاقٍ نَاجِزٍ بِعِوَضِ الذِّمَّةِ، كَأَنَّهُ طَلَّقَ زَوْجَةً وَاحِدَةً عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فِي ذِمَّتِهَا، فَقَدْ صَارَتِ الْأَلْفُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهَا بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَعَلَيْها فَلَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَدْفَعَ الْأَلْفَ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ بِالْحَجْرِ مَمْنُوعٌ مِنْ قَبْضِ مَالِهِ، وَيَدْفَعُهَا إِلَى وَلِيِّهِ لِقَبْضِ مَالِهِ، فَإِنْ دَفَعَتِ الْأَلْفَ إِلَيْهِ لَمْ تَبْرَأْ مِنْهَا إِلَّا أَنْ يُبَادِرَ الْوَلِيُّ إِلَى قَبْضِهَا سُنَّةً فَتَبْرَأَ حِينَئِذٍ مِنْهَا، بِأَخْذِ الْوَلِيِّ لَهَا فَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهَا الْوَلِيُّ مِنْهُ حَتَّى تَلِفَتْ مِنْ يَدِهِ كَانَتْ تَالِفَةً مِنْ مَالِ الزَّوْجَةِ، وَعَلَيْهَا أَنْ تَدْفَعَ إِلَى الْوَلِيِّ أَلْفًا ثَانِيَةً، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَرْجِعَ عَلَى السَّفِيهِ بِالْأَلْفِ الَّتِي اسْتَهْلَكَهَا مَا كَانَ الْحَجْرُ بَاقِيًا عَلَيْهَا، فَإِنْ فُكَّ حَجْرُهُ بِحُدُوثِ رُشْدِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ غُرْمُهَا حُكْمًا، وَفِي وُجُوبِ غُرْمِهَا عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَجْهَانِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي كِتَابِ الْحَجْرِ.
(فَصْلٌ:)
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مِنْ خُلْعِهِ أَنْ يَكُونَ عَلَى طَلَاقٍ مُقَيَّدٍ بِالدَّفْعِ مِثْلِ أَنْ يَقُولَ لِزَوْجَتِهِ: إِنْ دَفَعْتِ إِلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَيَجُوزُ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تَدْفَعَ ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَلَا تَدْفَعَهُ لِوَلِيِّهِ بِخِلَافِ مَا كَانَ فِي الذِّمَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ كَانَ مَالِكًا لِمَا فِي الذِّمَّةِ قَبْلَ الدَّفْعِ لَا يَمْلِكُ هَذَا إِلَّا بِالدَّفْعِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا لَوْ دَفَعَتْ هَذَا إِلَى الْوَلِيِّ لَمْ تُطَلَّقْ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ مُعَلَّقٌ بِالدَّفْعِ إِلَيْهِ، وَمَا فِي الذِّمَّةِ قَدْ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ وُقُوعُ الطَّلَاقِ، فَافْتَرَقَا مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ وَدَفَعَتْ إِلَيْهِ مَا طَلَّقَهَا عَلَيْهِ لَمْ تَضْمَنْهُ، لِأَنَّهُ مَا تَعَلَّقَ بِذِمَّتِهَا، وَلَا مَلَكَهُ إِلَّا بِأَخْذِهِ مِنْهَا، وَعَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يُبَادِرَ إِلَى أَخْذِهِ، فَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهُ حَتَّى تَلِفَ فَلَا غُرْمَ فِيهِ وَلَا رُجُوعَ ببدله.
(مسألة:)
قال الشافعي: (وَمَا أَخَذَ الْعَبْدُ بِالْخُلْعِ فَهُوَ لِسَيِّدِهِ فَإِنِ اسْتَهْلَكَا مَا أَخَذَا رَجَعَ الْوَلِيُّ وَالسَّيِّدُ عَلَى الْمُخْتَلِعَةِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ حَقٌّ لَزِمَهَا فَدَفَعَتْهُ إِلَى مَنْ لَا يَجُوزُ لَهَا دَفْعُهُ إِلَيْهِ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا صَحِيحٌ، وَخُلْعُ الْعَبْدِ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ طَلَاقُهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ كَانَ خُلْعُهُ أَجْوَزَ وَهُوَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ فِيهِ مُقَيَّدًا بِالدَّفْعِ إِلَيْهِ كَقَوْلِهِ: إِنْ دَفَعْتِ إِلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَيَجُوزُ أَنْ تَدْفَعَ إِلَيْهِ أَلْفًا لِيُطَلِّقَ بِهَا، وَيَجُوزُ لَهُ قَبْضُهَا، لِأَنْ يَمْلِكَهَا وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِذِمَّتِهَا وَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْ عَبْدِهِ، لِأَنَّهَا مِنْ كَسْبِهِ، فَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهَا مِنْهُ حَتَّى تَلِفَتْ فِي يَدِهِ فَهِيَ تَالِفَةٌ مِنْ مَالِ السَّيِّدِ وَلَا رُجُوعَ لَهُ بِبَدَلِهَا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ طَلَاقُ خُلْعِهِ نَاجِزًا بِمَالٍ فِي ذِمَّتِهَا كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَيْكِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْعَبْدِ فِي ذَلِكَ مع سيده مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي قَبْضِهَا فَيَجُوزَ لَهُ قَبْضُهَا، وَتَبْرَأَ الزَّوْجَةُ مِنْهَا بِدَفْعِهَا إِلَيْهِ.(10/85)
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَنْهَاهُ عَنْ قَبْضِهَا فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْبِضَهَا، وَلَا تَبْرَأُ الزَّوْجَةُ مِنْهَا بِدَفْعِهَا إِلَيْهِ إِلَّا أَنْ يُبَادِرَ السَّيِّدُ بِأَخْذِهَا مِنْهُ فَتَبْرَأَ حِينَئِذٍ الزَّوْجَةُ مِنْهَا، فَلَوْ لَمْ يَأْخُذْهَا السَّيِّدُ مِنَ الْعَبْدِ حَتَّى تَلِفَتْ فِي يَدِهِ كَانَ لَهُ مُطَالَبَةُ الزَّوْجَةِ بِهَا، وَإِغْرَامُهَا إِيَّاهَا، فَإِذَا غَرِمَتْهَا رَجَعَتْ بِهَا عَلَى الْعَبْدِ إِذَا أُعْتِقَ، وَلَيْسَ رُجُوعُ حُكْمٍ بُتَّ بِخِلَافِ السَّفِيهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ لِلْعَبْدِ ذِمَّةً وَلَيْسَ لِلسَّفِيهِ ذِمَّةٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّ عَجْزَ الْعَبْدِ بِحَقِّ سَيِّدِهِ يَزُولُ بِعِتْقِهِ، وَحَجْرَ السَّفِيهِ بِحِفْظِ مَالِهِ وَلَا يَنْحَفِظُ بِغُرْمِهِ بعد رشده.
والحال الثانية: أن لا يَأْذَنَ لَهُ السَّيِّدُ فِي الْقَبْضِ، وَلَا يَنْهَاهُ عَنْهُ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْعَبْدِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ، أَوْ غَيْرَ مَأْذُونٍ لَهُ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْذُونٍ لَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْضُهَا مِنَ الزَّوْجَةِ وَكَانَ حُكْمُهُ لَوْ قَبَضَهَا كَحُكْمِهِ لَوْ نَهَاهُ عَنْ قَبْضِهَا وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَفِي جَوَازِ قَبْضِهِ لَهَا بِإِذْنِ التِّجَارَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لَهُ قَبْضُهَا بِمُطْلَقِ ذَلِكَ الْإِذْنِ لِجَوَازِ تَصَرُّفِهِ، وَأَنَّهُ لَوْ جاز أن يقبض من مال سيده من مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ كَسْبِهِ كَانَ قَبْضُهُ لِمَا هُوَ مِنْ كَسْبِهِ أَوْلَى.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَيْسَ لَهُ قَبْضُهَا بِإِذْنِ التِّجَارَةِ، لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ مَقْصُورٌ عَلَى مَا تَعَلَّقَ بِالتِّجَارَةِ، وَمَالَ الْخُلْعِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ إِذَا أقبَضَهَا بَرِئَتِ الزَّوْجَةُ مِنْهَا، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي لَا تَبْرَأُ مِنْهَا.
(فَصْلٌ:)
فَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَخُلْعُهُ جَائِزٌ، لِأَنَّ طَلَاقَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ جَائِزٌ، فَكَانَ بِالْعِوَضِ أَجْوَزَ، وَلَهُ قَبْضُ مَالِ الْخُلْعِ مِنْ زَوْجَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ السَّيِّدُ، سَوَاءٌ كَانَ الْخُلْعُ نَاجِزًا أَوْ مُقَيَّدًا، لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَ بِالْكِتَابَةِ أَكْسَابَهُ، وَجَازَ تَصَرُّفُهُ بِخِلَافِ الْعَبْدِ، وَإِنَّمَا الْحَجْرُ عَلَيْهِ فِي الِاسْتِهْلَاكِ لَا في الأكساب.
(مسألة:)
قال الشافعي: (وَلَوِ اخْتَلَفَا فَهُوَ كَاخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ فَإِنْ قَالَتْ خَلَعْتَنِي بِأَلْفٍ وَقَالَ بِأَلْفَيْنِ أَوْ قَالَتْ عَلَى أَنْ تُطَلِّقَنِي ثَلَاثًا فَطَلَّقْتَنِي وَاحِدَةً تَحَالَفَا وَلَهُ صَدَاقُ مِثْلِهَا وَلَا يُرَدُّ الطَّلَاقُ وَلَا يَلْزَمُهُ مِنْهُ إِلَّا مَا أَقَرَّ بِهِ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا تَخَالَعَ الزَّوْجَانِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الْعِوَضِ تَحَالَفَا كَمَا يَتَحَالَفُ الْمُتَبَايِعَانِ إذا اختلفا.
وقال أبو حنيفة: لا يتحالفا، وَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الزَّوْجَةِ مَعَ يَمِينِهَا اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُمَا قَدِ اتَّفَقَا عَلَى انْتِقَالِ الْبُضْعِ إِلَيْهَا، وَاخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الْعِوَضِ الَّذِي فِي ذِمَّتِهَا فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ فِيهَا قَوْلَهَا مَعَ يَمِينِهَا، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ كَسَائِرِ الدَّعَاوَى.(10/86)
وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ اخْتِلَافٌ فِي مِقْدَارِ عِوَضِ مِلْكٍ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ مُوجِبًا لِتَحَالُفِ الْمُخْتَلِفَيْنِ فِيهِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ قَدْ صَارَ بِالِاخْتِلَافِ مُدَّعِيًا وَمُدَّعًى عَلَيْهِ، فَلَمْ تَكُنِ الْيَمِينُ فِي جَنَبَةِ أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنْهَا فِي جَنَبَةِ الْآخَرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْيَمِينِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْإِنْكَارِ.
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى مِلْكِ الْبُضْعِ وَالِاخْتِلَافِ فِي مِقْدَارِ الْعِوَضِ فَهُوَ فَاسِدٌ بِاخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ فِي قَدْرِ الصَّدَاقِ فَإِنَّهُمَا قَدِ اتَّفَقَا فِيهِ عَلَى مِلْكِ الزَّوْجِ لَهُ وَاخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الصَّدَاقِ الَّذِي فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ لَهُ وَاخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الصَّدَاقِ الَّذِي فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ، وَهُمَا يَتَحَالَفَانِ فِيهِ، وَلَا يَكُونُ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الزَّوْجِ اعْتِبَارًا بِهَذَا الْمَعْنَى فِي بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ كَذَلِكَ فِي الْخُلْعِ.
(فَصْلٌ:)
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ مَعَ اخْتِلَافٍ لم يخل اختلافهما من ثلاثة أقسام:
أحدهما: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي الْعِوَضِ وَيَتَّفِقَا فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ، وَاخْتِلَافُهُمَا فِي الْعِوَضِ قَدْ يَكُونُ تَارَةً فِي الْجِنْسِ كَقَوْلِ الزَّوْجِ: خَالَعْتُكِ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ، وَتَقُولُ الزَّوْجَةُ: عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ.
وَيَكُونُ تَارَةً فِي الْمِقْدَارِ فَيَقُولُ الزَّوْجُ: عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَتَقُولُ الزَّوْجَةُ: عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ.
وَيَكُونُ تَارَةً فِي الصِّفَةِ فَيَقُولُ الزَّوْجُ: عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ بِيضٍ، وَتَقُولُ الزَّوْجَةُ: عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ سُودٍ.
وَيَكُونُ تَارَةً فِي الْأَجَلِ فَيَقُولُ الزَّوْجُ: عَلَى أَلْف حَالَّةٍ، وَتَقُولُ الزَّوْجَةُ عَلَى أَلْفٍ مُؤَجَّلَةٍ، أَوْ يَقُولُ الزَّوْجُ عَلَى أَلْفٍ إِلَى شَهْرٍ، وَتَقُولُ الزَّوْجَةُ: عَلَى أَلْفٍ إِلَى شَهْرَيْنِ.
فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ كُلِّهِ إِذَا عَدِمَا الْبَيِّنَةَ فِيهِمْ وَالْبَيِّنَةُ شَاهِدَانِ أَوْ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ أَوْ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ، لِأَنَّهَا لِإِثْبَاتِ مَالٍ مَحْضٍ، فَإِذَا تَحَالَفَا مَعَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ فَهُوَ كَتَحَالُفِهِمَا فِي اخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَبِيعِ، وَكَاخْتِلَافِهِمَا فِي الصَّدَاقِ، فَيَكُونُ صِفَةُ التَّحَالُفِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ، فَإِذَا تَحَالَفَا فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ وَهُوَ لَا يَرْتَفِعُ بَعْدَ وُقُوعِ التَّحَالُفِ، فَيَصِيرُ كَتَحَالُفِهِمَا فِي الْبَيْعِ بَعْدَ تَلَفِ الْمَبِيعِ الْمُوجِبِ لِلرُّجُوعِ بِقِيمَةِ المبيع، كذلك هاهنا يُوجِبُ الرُّجُوعَ بِقِيمَةِ الْبُضْعِ، وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَسَوَاءٌ كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ أَقَلَّ مِمَّا أَقَرَّتْ بِهِ الزَّوْجَةُ أَوْ أَكَثَرَ مِمَّا ادَّعَاهُ الزَّوْجُ، لِأَنَّهُ قِيمَةُ مُتْلَفٍ قَدْ سَقَطَ مَعَهُ الْمُسَمَّى، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الْقِلَّةُ وَلَا الْكَثْرَةُ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ، وَيَتَّفِقَا عَلَى مِقْدَارِ الْعِوَضِ.
فَيَقُولُ الزَّوْجُ: خَالَعْتُكِ عَلَى طَلْقَةٍ بِأَلْفٍ، وَتَقُولُ الزَّوْجَةُ: خَالَعْتُكَ على ثلاث(10/87)
طَلْقَاتٍ بِأَلْفٍ، فَإِنَّمَا يَتَحَالَفَانِ أَيْضًا كَمَا يَتَحَالَفُ الْمُتَبَايِعَانِ إِذَا اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الثَّمَنِ فَإِذَا تَحَالَفَا لَمْ يَلْزَمِ الزَّوْجَ مِنَ الطَّلَاقِ إِلَّا مَا أَقَرَّ بِهِ مِنَ الْوَاحِدَةِ وَلَهُ فِيهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، فَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا بَيِّنَةً عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنْ عَدَدِ الطَّلَاقِ سُمِعَ فِيهَا شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ وشَاهِد يَمِين لِأَنَّهُمَا لِاسْتِحْقَاقِ الْمَالِ بِالطَّلَاقِ، وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ: خَالَعْتُكِ عَلَى ثَلَاثِ طَلْقَاتٍ بِأَلْفٍ، وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ: بَلْ عَلَى طَلْقَةٍ بِأَلْفٍ فَلَا تَحَالُفَ بَيْنَهُمَا لِحُصُولِ مَا ادَّعَتْ وَزِيَادَةٍ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي قَدْرِ الْعِوَضِ، وَعَدَدِ الطَّلَاقِ فَيَقُولُ الزَّوْجُ: خَالَعْتُكِ عَلَى طَلْقَةٍ بِأَلْفٍ، وَتَقُولُ الزَّوْجَةُ: خَالَعْتَنِي عَلَى ثَلَاثٍ بِمِائَةٍ، فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ أَيْضًا، وَلَا يَلْزَمُ الزَّوْجَ مِنَ الطَّلَاقِ إِلَّا مَا اعْتَرَفَ بِهِ، وَلَهُ مَهْرُ الْمِثْلِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ الزَّوْجُ: خَالَعْتُكِ عَلَى ثَلَاثٍ بِمِائَةٍ، وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ: خَالَعْتَنِي عَلَى وَاحِدَةٍ بِأَلْفٍ، فَلَا تَحَالُفَ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّهُ قَدْ زَادَهَا عَلَى مَا ذَكَرَتْ مِنَ الطَّلَاقِ، وَنَقَصَهَا فِيمَا اعْتَرَفَتْ بِهِ مِنَ الْعِوَضِ.
فَلَوْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ وُجُوبِ التَّحَالُفِ بِالِاخْتِلَافِ وَنَكَلَ الْآخَرُ قُضِيَ بِقَوْلِ الْحَالِفِ مِنْهُمَا عَلَى الناكل.
قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وَلَوْ قَالَ طَلَّقْتُكِ بِأَلْفٍ وَقَالَتْ بَلْ عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ فَهُوَ مُقِرٌ بِطَلَاقٍ لَا يَمْلِكُ فِيهِ الرَّجْعَةَ فَيَلْزَمُهُ وَهُوَ مُدَّعِي مَا لَا يَمْلِكُهُ بِدَعْوَاهُ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ إِذَا اتَّفَقَا عَلَى أَصْلِ الْخُلْعِ، وَاخْتَلَفَا فِي صِفَتِهِ أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ.
فَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَا فِي أَصْلِ الْخُلْعِ، فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا، وَأَنْكَرَهُ الْآخَرُ، فَلَا تَحَالُفَ فِيهِ، وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ مُنْكِرِهِ مَعَ يَمِينِهِ، كَمَا لَوِ اخْتَلَفَا فِي أَصْلِ الْبَيْعِ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا وَأَنْكَرَهُ الْآخَرُ لَمْ يَتَحَالَفَا، وَكَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ المنكر مع يمينه، كذلك هاهنا، لِأَنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ أَحَدُهُمَا بِالدَّعْوَى، وَتَعَيَّنَ الْآخَرُ بِالْإِنْكَارِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ اخْتِلَافُهُمَا فِي أَصْلِ الْخُلْعِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَدَّعِيَهُ الزَّوْجُ، وَتُنْكِرَهُ الزَّوْجَةُ أَوْ تَدَّعِيَهُ الزَّوْجَةُ، وَيُنْكِرَهُ الزَّوْجُ.
فَإِنِ ادَّعَاهُ الزَّوْجُ وَأَنْكَرَتْهُ الزَّوْجَةُ فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ: قَدْ طَلَّقْتُكِ وَاحِدَةً عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فِي ذِمَّتِكِ، أَوْ عَلَى عَبْدِكِ هَذَا، فَتَقُولُ: بَلْ طَلَّقْتَنِي مُتَبَرِّعًا بِغَيْرِ بَذْلٍ، فَإِنْ كَانَ لِلزَّوْجِ بَيِّنَةٌ سُمِعَتْ وَهِيَ شَاهِدَانِ، أَوْ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ، أَوْ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ، لِأَنَّهَا بَيِّنَةُ إِثْبَاتِ مَالٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الزَّوْجَةِ مَعَ يَمِينِهَا، لِأَنَّهَا مُنْكِرَةٌ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا، إِذَا حَلَفَتْ وَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ بَائِنًا لَا رَجْعَةَ لَهُ فِيهِ لِاعْتِرَافِهِ بِسُقُوطِ رَجْعَتِهِ، وَلَا شَيْءَ له عليها.(10/88)
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا كَانَ إِنْكَارُ الزَّوْجَةِ لِلْخُلْعِ مَانِعًا مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا، كَمَا كَانَ إِنْكَارُ الْمُشْتَرِي لِلشِّرَاءِ مَانِعًا مِنْ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ، وَالْبَائِعُ مُقِرٌّ لَهُ بِالْمِلْكِ، كَمَا أَنَّ الزوج مقر له بِالطَّلَاقِ.
قِيلَ: لِأَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فَلَزِمَهُ الطَّلَاقُ بِإِقْرَارِهِ، وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِتَمْلِيكِ الْمُشْتَرِي، فَلَمْ يَلْزَمْهُ التَّمْلِيكُ بِإِقْرَارِهِ، فَلَوْ عَادَتِ الزَّوْجَةُ بَعْدَ الْإِنْكَارِ وَالْيَمِينِ فَاعْتَرَفَتْ لِلزَّوْجِ بِمَا ادَّعَاهُ مِنَ الْعِوَضِ لَزِمَهَا دَفْعُهُ إِلَيْهِ، وَلَوْ عَادَ الزَّوْجُ فَصَدَّقَهَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ خَالَعَهَا وَلَا طَلَّقَهَا، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي رَفْعِ الطَّلَاقِ، وَلَا فِي سُقُوطِ الرَّجْعَةِ، لِأَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِالتَّحْرِيمِ قُبِلَ مِنْهُ، وَمَنْ رَجَعَ عَنْهُ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ.
(فَصْلٌ:)
وَإِنِ ادَّعَتْهُ الزَّوْجَةُ وَأَنْكَرَهُ الزَّوْجُ فَصُورَتُهُ أَنْ تَقُولَ الزَّوْجَةُ: قَدْ خَالَعْتَنِي عَلَى طَلْقَةٍ بِأَلْفٍ، فَيَقُولُ الزَّوْجُ: مَا خَالَعْتُكِ وَلَا طَلَّقْتُكِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ مَا لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجَةِ بَيِّنَةٌ، فَإِذَا حَلَفَ فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ، وَلَا أَلْفَ لَهُ، وَإِنِ اعْتَرَفَتْ لَهُ الزَّوْجَةُ بِهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَدَّعِهَا فَإِنْ أَقَامَتِ الزَّوْجَةُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ قُبِلَ يَمِينُهُ أَوْ بَعْدَهَا سُمِعَتْ، وَبَيِّنَتُهَا شَاهِدَانِ لَا غَيْرَ، لِأَنَّهَا بَيِّنَةُ إِثْبَاتِ طَلَاقٍ لَا تَثْبُتُ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ، فَإِنْ عَادَ الزَّوْجُ فَاعْتَرَفَ بِالْخُلْعِ قَبْلَ الْبَيِّنَةِ أَوْ بَعْدَهَا قُضِيَ لَهُ بِالْأَلْفِ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَدْ لَزِمَهُ، والزوجة معترفة له بالألف.
(مسألة:)
قال الشافعي: (وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِي الْخُلْعِ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا أَوْ مَحْجُورًا عَلَيْهِ أَوْ ذِمِّيًّا) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: التَّوْكِيلُ فِي الْخُلْعِ جَائِزٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35] . وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ لِلْحَكَمَيْنِ أَنْ يُخَالِعَا فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ التَّوْكِيلِ فِي الْخُلْعِ.
وَلِأَنَّ عَقْدَ الْخُلْعِ جَامِعٌ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْبَيْعِ، وَالتَّوْكِيلَ جَائِزٌ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَجَازَ فِيمَا جَمَعَهُمَا.
وَلِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ أَغْلَظُ مِنْ رَفْعِهِ بِالْخُلْعِ وَالتَّوْكِيلُ فِي النِّكَاحِ جَائِزٌ فَأَوْلَى أَنْ يَجُوزَ فِي الْخُلْعِ، وإذا كان ذلك جائز جَازَ أَنْ تُوَكِّلَ الزَّوْجَةُ دُونَ الزَّوْجِ، وَأَنْ يُوَكِّلَ الزَّوْجُ دُونَ الزَّوْجَةِ، لِأَنَّ الزَّوْجَةَ فِي الْخُلْعِ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرِي فِي الْبَيْعِ، وَالزَّوْجَ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ وَيَجُوزُ فِي الْبَيْعِ أَنْ يُوَكِّلَ الْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ وَيُوَكِّلَ الْبَائِعُ دُونَ الْمُشْتَرِي، فَإِذَا تَقَرَّرَ جَوَازُ تَوْكِيلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ فِي الْخُلْعِ فَصِفَةُ الْوَكِيلَيْنِ تَخْتَلِفُ، لِأَنَّ وَكَالَةَ الزَّوْجَةِ فِي مُعَاوَضَةٍ مَحْضَةٍ، وَوَكَالَةَ الزَّوْجِ فِي مُعَاوَضَةٍ وَطَلَاقٍ وَالشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي وَكَالَتِهِمَا تَنْقَسِمُ في حق الوكيلين أربعة أقسام:(10/89)
أحدهما: مَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ الْوَكِيلَيْنِ مَعًا، وَهُوَ الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُمَا عَقْدٌ، لَا يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِمَا حُكْمٌ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ الْوَكِيلَيْنِ مَعًا، وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا عَبْدَيْنِ وَكَافِرَيْنِ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا حُرَّيْنِ وَمُسْلِمَيْنِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَصِحُّ تَوْكِيلُهُمَا فِي الطَّلَاقِ وَالْبَيْعِ، فَصَحَّ فِيمَا جَمَعَهُمَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْهُمَا خُلْعُ أَنْفُسِهِمَا، فَصَحَّ فِيهِ تَوْكِيلُهُمَا لِغَيْرِهِمَا.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا يَكُونُ اعْتِبَارُهُ فِي وَكِيلِ الزَّوْجَةِ أَقْوَى مِنِ اعْتِبَارِهِ فِي وَكِيلِ الزَّوْجِ، وَهُوَ الرشيدُ فَإِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي وَكِيلِ الزَّوْجِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِالسَّفَهِ، لِأَنَّهُ لَوْ خَالَعَ لِنَفْسِهِ جَازَ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا فِي خُلْعِ غَيْرِهِ، وَهَلْ يُعْتَبَرُ فِي وَكِيلِ الزَّوْجَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُعْتَبَرُ فِي وَكِيلِهَا، وَإِنْ وَكَّلَتْ سَفِيهًا جَازَ اعْتِبَارًا بِوَكِيلِ الزَّوْجِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُعْتَبَرُ الرُّشْدُ فِي وَكِيلِ الزَّوْجَةِ، وَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي وَكِيلِ الزَّوْجِ كَمَا يُعْتَبَرُ رُشْدُ الزَّوْجَةِ فِي الْخُلْعِ، وَلَا يُعْتَبَرُ رُشْدُ الزَّوْجِ، فَلِذَلِكَ إِنْ وَكَّلَتِ الزَّوْجَةُ سَفِيهًا لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ وَكَّلَ الزَّوْجُ سَفِيهًا جَازَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَوَكَالَةُ الزَّوْجَةِ مُخْتَصَّةٌ بِمُعَاوَضَةٍ مَحْضَةٍ تمَّ الرُّشْدُ فِيهما عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُعْتَبَرٌ فَوَكَالَةُ الزَّوْجِ الْمُشْتَرِكَةُ فِي طَلَاقٍ وَمُعَاوَضَةٍ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ الرُّشْدُ فِيهَا مُعْتَبَرًا.
قِيلَ: لَمَّا تَفَرَّدَتْ وَكَالَةُ الزَّوْجَةِ بِالْمُعَاوَضَةِ تَفَرَّدَتْ بِحُكْمِهَا وَالرُّشْدُ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ مُعْتَبَرٌ فَاعْتُبِرَ فِي وَكَالَتِهَا، وَلَمَّا كَانَتِ الْمُعَاوَضَةُ فِي وَكَالَةِ الزَّوْجِ تَبَعًا لِلطَّلَاقِ الَّذِي لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الرُّشْدُ، وَكَانَ التَّبَعُ دَاخِلًا فِي حُكْمِ الْمَتْبُوعِ لَمْ يَكُنِ الرُّشْدُ فِي وَكَالَتِهِ مُعْتَبَرًا.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا يَكُونُ اعْتِبَارُهُ فِي وَكِيلِ الزَّوْجِ أَقْوَى مِنِ اعْتِبَارِهِ فِي وَكِيلِ الزَّوْجَةِ وَهُوَ الذُّكُورِيَّةُ لَا تُعْتَبَرُ فِي وَكَالَةِ الزَّوْجَةِ، فَإِنْ وَكَّلَتِ امْرَأَةً جَازَ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ تَتَوَلَّاهُ بِنَفْسِهَا مَعَ أُنُوثَتِهَا جَازَ أَنْ تُوَكَّلَ فِيهِ مِنْ مِثْلِهَا، وَكَمَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ وَكِيلًا فِي الْبَيْعِ، وَهَلْ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي وَكِيلِ الزَّوْجِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي جَوَازِ تَوْكِيلِ الْمَرْأَةِ فِي الطَّلَاقِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ الطَّلَاقَ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ وَكِيلًا فِيهِ، فَعَلَى هَذَا يُعْتَبَرُ فِي وَكِيلِ الزَّوْجِ أَنْ يكون رجلاً.(10/90)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا فِي الطَّلَاقِ، لِأَنَّهُ لَوْ مَلَّكَهَا الزَّوْجُ طَلَاقَ نَفْسِهَا مَلَكَتْ، فَجَازَ أَنْ تَكُونَ وَكِيلًا فِي طَلَاقِ غَيْرِهَا، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ الزَّوْجُ امْرَأَةً فَصَارَتِ الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي وَكِيلِ الزَّوْجَةِ الْبُلُوغَ وَالْعَقْلَ دُونَ الذُّكُورِيَّةِ، وَهَلْ يُعْتَبَرُ فِيهِ الرُّشْدُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَالشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي وَكِيلِ الزَّوْجِ الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ دُونَ الرُّشْدِ، وَهَلْ يُعْتَبَرُ فِيهِ الذُّكُورِيَّةُ أَمْ لَا؟ عَلَى وجهين.
(مسألة:)
قال الشافعي: (فَإِنْ خَلَعَ عَنْهَا بِمَا لَا يَجُوزُ فَالطَّلَاقُ لَا يُرَدُّ وَهُوَ كَشَيْءٍ اشْتَرَاهُ لَهَا فَقَبَضَتْهُ وَاسْتَهْلَكَتْهُ فَعَلَيْهَا قِيمَتُهُ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْوَكِيلِ إلا أن يكون ضمن ذلك له (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ هَذَا عِنْدِي بشيء والخلع عنده كالبيع في أكثر معانيه وإذا باع الوكيل ما وكله به صاحبه بما لا يجوز من الثمن بطل البيع فكذلك لما طلقها عليه بما لا يجوز من البدل بطل الطلاق عنه كما بطل البيع عنه) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَقْصُورَةٌ عَلَى وَكَالَةِ الزَّوْجَةِ فَإِذَا وَكَّلَتْ فِي الْخُلْعِ عَنْهَا مَنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا لَهَا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْوَكَالَةُ مُطْلَقَةً.
وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مُقَيَّدَةً.
فَإِنْ كَانَتِ الْوَكَالَةُ مُطْلَقَةً فَقَالَتْ لَهُ: خَالِعْ عَنِّي، وَلَمْ تَذْكُرْ لَهُ مِنَ الْمَالِ جِنْسًا وَلَا قَدْرًا فَعَلَى الْوَكِيلِ أَنْ يُخَالِعَ عَنْهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ حَالًّا مِنْ غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الَّتِي هِيَ أَثْمَانٌ وَقِيَمٌ دُونَ الْعُرُوضِ وَالسِّلَعِ، فَيُعْتَبَرُ فِي إِطْلَاقِهَا جِنْسًا، وَهُوَ غَالِبُ نَقْدِ الْبَلَدِ، وَقَدْرًا وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ، كَمَا يُعْتَبَرُ إِطْلَاقُ الْوَكَالَةِ فِي الشِّرَاءِ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مِنْ غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ، بِثَمَنِ الْمِثْلِ، وَالْحُلُولُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ معتبراً، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْوَكِيلِ مِنْ أَحَدِ قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُخَالِعَ عَنْهَا بِمَا كَانَ مَأْمُورًا بِهِ فِي إِطْلَاقِ الْوَكَالَةِ مِنْ غَيْرِ مُجَاوَزَةٍ، وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ حَالًّا مِنْ غَالِبِ النَّقْدِ، فَخُلْعُهُ لَازِمٌ لِلزَّوْجَةِ، وَمَضْمُونٌ عليها وللوكيل في العقد ثلاثة أحوال:
أحدها: أَنْ يَعْقِدَهُ عَلَى مَالٍ مَضْمُونٍ فِي ذِمَّتِهَا.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: عَلَى مَالٍ مَضْمُونٍ فِي ذِمَّتِهِ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُطْلِقَ فَلَا يَشْتَرِطَ أَنْ يَكُونَ فِي ذِمَّتِهَا، وَلَا فِي ذِمَّتِهِ، فَإِنْ شَرَطَ أَنْ يَكُونَ فِي ذِمَّتِهَا كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهَا دُونَ الْوَكِيلِ، وَهَلْ يَكُونُ الْوَكِيلُ مَأْخُوذًا بِاسْتِيفَائِهِ مِنْهَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:(10/91)
أَحَدُهُمَا: - وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - إِنَّهُ غَيْرُ مَأْخُوذٍ بِاسْتِيفَائِهِ مِنْهَا، لِأَنَّ وَكَالَتَهُ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْعَقْدِ دُونَ غَيْرِهِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ جَحَدَتْ وَكَالَتَهُ لَمْ يُؤْخَذِ الْوَكِيلُ بِالْغُرْمِ وَلِلزَّوْجِ إِحْلَافُهَا دُونَ الْوَكِيلِ، وَيَقَعُ طَلَاقُهُ بَائِنًا، إِنْ أَكْذَبَهَا فِي الْجُحُودِ، وَرَجْعِيًّا إِنْ صَدَّقَهَا عَلَيْهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ - أَنَّ الْوَكِيلَ مَأْخُوذٌ بِاسْتِيفَاءِ الْمَالِ مِنْهَا، لِأَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِ عَقْدِهِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ جَحَدَتْهُ الْوَكَالَةَ لَزِمَهُ حِينَئِذٍ ذَلِكَ لِلزَّوْجِ لِجُحُودِهَا لَهُ، وَكَانَ لَهُ إِحْلَافُ الزَّوْجَةِ وَوَقَعَ الطَّلَاقُ بَائِنًا سَوَاءً أَكْذَبَهَا الزَّوْجُ عَلَى الْجُحُودِ أَوْ صَدَّقَهَا، لِأَنَّهُ يَصِيرُ إِلَى الْمَالِ مِنْ جِهَةِ الْوَكِيلِ، وَإِنْ شَرَطَ الْوَكِيلُ فِي الْعَقْدِ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ فِي ذِمَّتِهِ كَانَ ضَامِنًا بِالْعَقْدِ، وَهَلْ تَضْمَنُهُ الزَّوْجَةُ بِالْعَقْدِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ:
أَحَدُهُمَا: تَكُونُ ضَامِنَةً لَهُ بِالْعَقْدِ لِأَجْلِ إِذْنِهَا فِيهِ، فَعَلَى هَذَا لَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُطَالِبَهَا بِالْمَالِ قَبْلَ غُرْمِهِ وَإِنْ أَبْرَأَهُ الزَّوْجُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا، وَإِنْ أَخَذَ الزَّوْجُ بِهِ عِوَضًا مِنَ الْوَكِيلِ رَجَعَ الْوَكِيلُ عَلَيْهَا بِالْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ دُونَ قِيمَةِ الْعِوَضِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا لَا تَكُونُ ضَامِنَةً لَهُ بِالْعَقْدِ لِانْقِضَاءِ حَدِّهِ فِي ذِمَّةِ غَيْرِهَا فَعَلَى هَذَا لَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُطَالِبَهَا بِالْمَالِ قَبْلَ غُرْمِهِ وَإِنْ أَبْرَأَهُ الزَّوْجُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا وَإِنْ أَخَذَ الزَّوْجُ بِهِ عِوَضًا مِنَ الْوَكِيلِ رَجَعَ عَلَيْهَا الْوَكِيلُ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَةِ الْعِوَضِ أَوِ الْمُسَمَّى.
فَأَمَّا إِذَا أَطْلَقَ الْوَكِيلُ الْعَقْدَ فَلَمْ يَشْتَرِطْ فِي ذِمَّتِهَا وَلَا فِي ذِمَّتِهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الْوَكِيلِ فِي حَقِّ الزَّوْجِ لِإِطْلَاقِهِ بِعَقْدٍ قَدْ تَفَرَّدَ بِهِ مَضْمُونًا عَلَى الزَّوْجَةِ فِي حَقِّ الْوَكِيلِ، لِتَقَدُّمِ إِذْنِهَا لَهُ بما أوجب ضَمَانَهُ، وَهَلْ يَكُونُ ضَامِنَهُ فِي حَقِّ الزَّوْجِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ:
أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُهُ لِلزَّوْجِ لِنِيَابَةِ الْوَكِيلِ عَنْهَا فِيهِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الزَّوْجُ مُخَيَّرًا بَيْنَ مُطَالَبَتِهَا، وَمُطَالَبَةِ الْوَكِيلِ، وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهَا، بِذَلِكَ قَبْلَ غُرْمِهِ لِارْتِهَانِ ذِمَّتِهَا بِهِ فِي حَقِّ الزَّوْجِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا غَيْرُ ضَامِنَةٍ لَهُ فِي حَقِّ الزَّوْجِ، لِأَنَّهَا لَمْ تَتَوَلَّ الْعَقْدَ، وَلَا سُمِّيَتْ فِيهِ فَعَلَى هَذَا لِلزَّوْجِ مُطَالَبَةُ الْوَكِيلِ وَحْدَهُ، وَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَتُهَا وَلِلْوَكِيلِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ ذَلِكَ مِنْهَا قَبْلَ الْغُرْمِ، فَهَذَا حُكْمُ الْخُلْعِ عَنْهَا مُعَجَّلًا بِمَهْرِ الْمِثْلِ مِنْ غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ وَهَذَا الْحُكْمُ لَوْ خَالَعَ عَنْهَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ مِنْ غَالِبِ النَّقْدِ لِأَنَّهُ إِذَا لَزِمَهَا الْخُلْعُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ كَانَ بِمَا دُونَهُ أَلْزَمَ، وَهَكَذَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ مُؤَجَّلًا جَازَ، وَلَزِمَهَا، لِأَنَّهُ لَمَّا أَلْزَمَهَا بِالْمُعَجَّلِ كَانَ بِالْمُؤَجَّلِ أَلْزَم، وَلِأَنَّ لَهَا تَعْجِيلَ الْمُؤَجَّلِ.(10/92)
(فَصْلٌ:)
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَعْدِلَ عَمَّا كَانَ يَقْتَضِيهِ إِطْلَاقُ الْعَقْدِ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ إِلَى غَيْرِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْدِلَ إِلَى الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ مِنْ جِنْسِهِ كَأَنَّهُ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفًا فَخَالَعَ عَنْهَا بِأَلْفَيْنِ فَالْأَلْفُ الَّتِي هِيَ مَهْرُ الْمِثْلِ لَازِمَةٌ لِلزَّوْجَةِ، وَفِي الْأَلْفِ الزَّائِدَةِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا بَاطِلَةٌ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ سَاقِطَةٌ عَنْهَا لِتَعَدِّي الْوَكِيلِ بِهَا ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الْوَكِيلِ فَإِنْ كَانَ قَدْ ضَمِنَ الْعِوَضَ إِمَّا بِالشَّرْطِ أَوْ بِإِطْلَاقِ الْعَقْدِ غَرِمَ الْأَلْفَ الزَّائِدَةَ لِلزَّوْجِ لِدُخُولِهَا فِي ضَمَانِهَا وَإِنْ لَمْ يَضْمَنِ الْعِوَضَ لِاشْتِرَاطِهِ لَهُ فِي ذِمَّةِ الزَّوْجَةِ فِي غُرْمِهِ لِلْأَلْفِ الزَّائِدَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ لَا يَغْرَمُهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ يَغْرَمُهَا عَلَى قَوْلَيْهِ أَنَّ الْوَكِيلَ مَأْخُوذٌ بِاسْتِيفَاءِ الْعِوَضِ وَإِنْ لَمْ يَضْمَنْهَا فِي الِابْتِدَاءِ فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَوِ الْتَزَمَتِ الزَّوْجَةُ الْأَلْفَ الزَّائِدَةَ لِلزَّوْجِ كَانَتْ هِبَةً مِنْهَا لَهُ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِبَذْلِهَا وَقَبُولِهِ وَقَبْضِهِ وَلَا يَبْرَأُ الْوَكِيلُ مِنْ غُرْمِهَا لِلزَّوْجِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْخُلْعَ فِي الْأَلْفِ الزَّائِدَةِ مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَتِهَا لَا يَبْطُلُ إِلَّا أَنْ تَخْتَارَ الزَّوْجَةُ إِبْطَالَهَا، لِأَنَّهَا كَالْعَيْبِ الدَّاخِلِ عَلَيْهَا فَأَوْجَبَ خِيَارَهَا كَسَائِرِ الْعُيُوبِ فَإِنِ اخْتَارَتْ فَسْخَ الْأَلْفِ الزَّائِدَةِ سَقَطَتْ عَنْهَا، وَالْكَلَامُ فِي غُرْمِ الْوَكِيلِ عَلَى مَا مَضَى، فَإِنِ اخْتَارَتِ الْتِزَامَهَا لَزِمَتْهَا الْأَلْفَانِ بِالْعَقْدِ، وَلَمْ يَلْزَمِ الْوَكِيلَ غُرْمُهَا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عليها فيهما إلا بالألف الَّتِي هِيَ مَهْرُ الْمِثْلِ أَنَّهَا إِذَا الْتَزَمَتِ الْأَلْفَ الزَّائِدَةَ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لِلزَّوْجِ كَانَتْ هِبَةَ تَبَرُّعٍ لَا يَسْقُطُ عَنِ الْوَكِيلِ غُرْمُهَا، وَإِذَا الْتَزَمَهَا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي كَانَتْ عِوَضًا فِي خُلْعٍ يُسْقِطُ غُرْمَهَا عَنِ الْوَكِيلِ.
(فَصْلٌ:)
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَعْدِلَ الْوَكِيلُ عَنْ جِنْسِ الْمَهْرِ إِلَى غَيْرِهِ كَأَنَّهُ كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ دَرَاهِمَ فَخَالَعَ عَنْهَا بِغَيْرِ دَرَاهِمَ فَهَذَا عَلَى ضربين:
أحدهما: أن يعدل على الدَّرَاهِمِ إِلَى مَا لَا يُسْتَبَاحُ مِنْ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ فَيُخَالِعَ بِهِ عَنْهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَجْعَلَ الزَّوْجُ طَلَاقَهَا نَاجِزًا عَلَى خَمْرٍ فِي الذِّمَّةِ فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ وَالْخُلْعُ فَاسِدٌ، وَلِلزَّوْجِ مَهْرُ الْمِثْلِ قَوْلًا وَاحِدًا وَلَا خِيَارَ لِلزَّوْجَةِ فِيهِ وَلَا يَضْمَنُ الْوَكِيلُ إِنْ لَزِمَهُ الضَّمَانُ سِوَاهُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَجْعَلَ الطَّلَاقَ مُعَلَّقًا عَلَى خَمْرٍ بِعَيْنِهِ فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهِ مَذْهَبَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَقَعُ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْمِلْكِ الْمَفْقُودِ فَعَلَى هَذَا لَا شَيْءَ لِلزَّوْجِ.(10/93)
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّ الطَّلَاقَ وَاقِعٌ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الصِّفَةِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَسْتَحِقُّ الزَّوْجُ الْخَمْرَ، لِأَنَّهَا لَا تُمْلَكُ، وَلَا قِيمَتُهَا، لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهَا، وَفِي اسْتِحْقَاقِهِ لِمَهْرِ الْمِثْلِ بَدَلًا مِنْهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا مَهْرَ لَهُ، لِأَنَّهُ لَا بَدَلَ لِلْخَمْرِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ طَلَاقُهُ رَجْعِيًّا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهُ مَهْرُ الْمِثْلِ بَدَلًا مِنِ اسْتِهْلَاكِ الْبُضْعِ عَلَيْهِ بِعِوَضٍ فَاسِدٍ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ طَلَاقُهُ بَائِنًا، وَعَلَى الزَّوْجَةِ غُرْمُ الْمَهْرِ وَضَمَانُ الْوَكِيلِ لَهُ عَلَى مَا مَضَى.
(فَصْلٌ:)
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يعدل الوكيل عن الدَّرَاهِمِ الَّتِي هِيَ الْغَالِبُ مِنْ نُقُودِ الْمَهْرِ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الْأَمْوَالِ الْمُسْتَبَاحَةِ كَالدَّنَانِيرِ أَوْ كَالْحُلِيِّ وَالثِّيَابِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ نَاجِزًا عَلَى مَالٍ فِي الذِّمَّةِ فَلَا يَخْلُو مَا طَلَّقَهَا عَلَيْهِ فِي الذِّمَّةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا، فَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا كَأَنَّهُ طَلَّقَهَا عَلَى ثَوْبٍ أَوْ عَبْدٍ، وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ مِنْهُ إِلَّا مَهْرُ الْمِثْلِ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّ الْمَجْهُولَ لَا قِيمَةَ لَهُ، فَعَلَى هَذَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَلَا خِيَارَ لَهَا، وَالْكَلَامُ فِي ضَمَانِ الْوَكِيلِ لِمَهْرِ الْمِثْلِ عَلَى مَا مَضَى، وَإِنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ مَعْلُومًا كَأَنْ خَالَعَهَا عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ وَمَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ فَفِي بُطْلَانِ الْخُلْعِ عَلَى الدَّنَانِيرِ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْخُلْعَ عَلَيْهَا بَاطِلٌ فِي حَقِّهَا سَوَاءٌ كَانَتْ بِقِيمَةِ الْأَلْفِ الَّتِي هِيَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَوْ أَكْثَرَ وَلَا يَلْزَمُهَا إِلَّا الْأَلْفُ دِرْهَمٍ الَّتِي هِيَ مَهْرُ الْمِثْلِ فَإِنْ رَضِيَ بِهَا الزَّوْجُ لَمْ يَرْجِعْ بِغَيْرِهَا عَلَى الْوَكِيلِ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ كَانَ لَهُ رَدُّهَا عَلَى الْوَكِيلِ إِنْ كَانَ الْوَكِيلُ ضَامِنًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَمُطَالَبَةُ الْوَكِيلِ بِالْمِائَةِ دِينَارٍ الَّتِي خَالَعَهُ بِهَا فَإِنِ امْتَنَعَ الزَّوْجُ مِنْ قَبْضِ الدَّرَاهِمِ مِنْهَا لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهَا، وَرَجَعَ عَلَى الْوَكِيلِ بِالدَّنَانِيرِ، وَرَجَعَ الْوَكِيلُ بِالدَّرَاهِمِ عَلَى الزَّوْجَةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْخُلْعَ عَلَى الدَّنَانِيرِ لَا يَبْطُلُ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ، وَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَتِهَا، فَإِنْ أَجَازَتِ الْخُلْعَ بِهَا دَفَعَتْهَا إِلَى الزَّوْجِ بَرِئَ مِنْهَا الْوَكِيلُ وَإِنْ فَسَخَتِ الْخُلْعَ وَرَجَعَتْ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ غَرِمَتِ الْأَلْفَ دِرْهَمٍ، وَكَانَ الْكَلَامُ فِي رُجُوعِ الزَّوْجِ عَلَى الْوَكِيلِ بِالدَّنَانِيرِ إِنْ كَانَ ضَامِنًا لَهَا عَلَى مَا مَضَى.
(فَصْلٌ:)
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ مُقَيَّدًا بِعَيْنِ لمال كَأَنَّهُ قَالَ: قَدْ طَلَّقْتُهَا عَلَى هَذَا الْعَبْدِ بِعَيْنِهِ، فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الطَّلَاقِ إِذَا كَانَ عَلَى عِوَضٍ فِي الذِّمَّةِ مِمَّا لَا يَلْزَمُهَا، هَلْ يَكُونُ الْخُلْعُ بِهِ بَاطِلًا فِي حَقِّهَا أَوْ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَتِهَا؟ .
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ باطل لم يقع الطلاق هاهنا، لِأَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِتَمَلُّكِ عَيْنٍ لَمْ تُمَلَّكْ.(10/94)
وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَتِهَا وَقَعَ الطَّلَاقُ بَائِنًا، وَكَانَتْ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الْخُلْعِ وَفَسْخِهِ، فَإِنْ أَمْضَتِ الْخُلْعَ عَلَى ذَلِكَ الْعَبْدِ بِعَيْنِهِ سَلَّمَتْهُ إِلَى الزَّوْجِ وَبَرِئَ الْوَكِيلُ مِنْ ضَمَانِهِ إِنْ لَزِمَهُ الضَّمَانُ، وَإِنْ فَسَخَتْهُ لَزِمَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، فَإِذَا أَخَذَهُ الزَّوْجُ فَإِنْ كَانَ بِقَدْرِ قِيمَةِ الْعَبْدِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْوَكِيلِ بِشَيْءٍ وَلَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةَ بِعَيْنِ الْعَبْدِ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ، وَلَيْسَ لَهُ عَلَيْهِ إِلَّا قِيمَتُهُ، وَقَدْ أَخَذَهَا مِنَ الزَّوْجَةِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ رَجَعَ الزَّوْجُ عَلَى الْوَكِيلِ إِنْ كَانَ ضَامِنًا بِالْفَاضِلِ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ فَهَذَا حُكْمُ الْوَكَالَةِ إِذَا كَانَتْ مُطْلَقَةً.
(فَصْلٌ:)
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْوَكَالَةُ مُقَيَّدَةً كَأَنَّهَا ذَكَرَتْ لَهُ جِنْسًا مِنَ الْمَالِ مُقَدَّرًا تَخَالَعَ بِهِ عَنْهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مَا عَيَّنَتْ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ الْمُخَالَعَةُ بِهِ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مِنْ وُجُوهٍ إِمَّا لِكَوْنِهِ مَغْصُوبًا، أَوْ لِكَوْنِهِ مَرْهُونًا، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ مُحَرَّمًا مِنْ وَقْفٍ أَوْ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُخَالِعَ عَنْهَا مَعَ هَذَا النَّصِّ إِلَّا بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ أَطْلَقَتْ مِنْ غَيْرِ نَصٍّ فَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيمَا يَفْعَلُهُ الْوَكِيلُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ التَّقْسِيمِ، لِأَنَّ النَّصَّ غَيْرُ مُقَيَّدٍ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَا نَصَّتْ عَلَيْهِ يَجُوزُ الْخُلْعُ بِهِ كَأَنَّهَا أَمَرَتْهُ أَنْ يُخَالِعَ عَنْهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ أَوْ بِعَبْدٍ بِعَيْنِهِ فَلِلْوَكِيلِ حَالَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يُخَالِعَ بِمَا أَمَرَتْ بِهِ، وَلَا يَعْدِلَ عَنْهُ، فَالْخُلْعُ جَائِزٌ، فَإِنْ كَانَ عَلَى عَبْدٍ بِعَيْنِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ الْوَكِيلُ، لِأَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَمِ، وَكَانَ مُسَلَّطًا عَلَى تَسْلِيمِ الْعَبْدِ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ، لِأَنَّ التَّسْلِيمَ مِنْ لَوَازِمِ الْإِذْنِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مَالٍ فِي الذِّمَّةِ كَانَ ضَمَانُهُ عَلَى الْوَكِيلِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ، وَهَلْ يَكُونُ الْوَكِيلُ مُسَلَّطًا عَلَى تَسْلِيمِهِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدِ إِذْنٍ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُسَلَّطٌ عَلَى تَسْلِيمِهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ كَالْمُعَيَّنِ لِاسْتِحْقَاقِهِمَا مَعًا بِالْإِذْنِ الْمُتَقَدِّمِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إِلَّا بِإِذْنِهَا بِخِلَافِ الْمُعَيَّنِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُعَيَّنَ لَا خِيَارَ لَهَا فِي الْعُدُولِ عَنْهُ فَجَازَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُسَلَّطَ عَلَى أَخْذِهِ، وَلَهَا فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ أَنْ تَعْدِلَ إِلَى مَا شَاءَتْ مِنْ جِنْسِهِ، فَلَمْ يَتَسَلَّطِ الْوَكِيلُ عَلَى أَخْذِهِ وَقُطِعَ خِيَارُهَا فِيهِ، فَلَوْ أَذِنَتْ أَنْ يُخَالِعَ عَنْهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ فَخَالَعَ عَنْهَا بِخَمْسِينَ أَوْ أَذِنَتْ أَنْ يُخَالِعَ عَنْهَا بِعَبْدٍ فَخَالَعَ عَنْهَا بِبَعْضِهِ لَزِمَ فِي الْحَالَيْنِ، لِأَنَّهُ إِذَا لَزِمَهَا بِالْأَكْثَرِ كَانَ الْأَقَلُّ أَلْزَمَ.(10/95)
(فَصْلٌ:)
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَعْدِلَ الْوَكِيلُ عَمَّا أَذِنَتْ فِيهِ وَنَصَّتْ عَلَيْهِ إِلَى غَيْرِهِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ أَنْ يَعْدِلَ عَنْهُ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ، فَالْخُلْعُ جَائِزٌ، وَمَهْرُ الْمِثْلِ لَازِمٌ لَهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهَا بِالْمُخَالَفَةِ إِلَّا مَهْرُ الْمِثْلِ، فَإِذَا عَدَلَ عَنْهُ وَهُوَ مُوجِبٌ مُخَالَفَتَهُ صَارَ فِي اسْتِحْقَاقٍ عَلَيْهَا كَالْمُسْتَحَقِّ فِي مُوَافَقَتِهِ فَتَصِيرُ الْمُخَالَفَةُ فِي حُكْمِ الْمُوَافَقَةِ، وَقَلَّ أَنْ يَكُونَ هَذَا إِلَّا فِي مَوَاضِعَ نَادِرَةٍ، فَلَوْ خَالَعَ عَنْهَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ كَانَ أَجْوَزَ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَعْدِلَ عَنْ مَهْرِ الْمِثْلِ وَعَمَّا سَمَّتْ إِلَى غَيْرِهِمَا مِمَّا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْأَقْسَامِ فَفِي بُطْلَانِ الْعَقْدِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بَاطِلٌ، وَإِنْ وَقَعَ فِيهِ الطَّلَاقُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى خِيَارِهَا فَيَكُونُ فِيهِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَائِهِ وَفَسْخِهِ فَإِذَا قُلْنَا إِنَّهُ بَاطِلٌ فَفِيمَا يَلْزَمُهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَهْرُ الْمِثْلِ سَوَاءٌ كَانَ أَكْثَرَ مِمَّا بَذَلَتْ أَوْ أَقَلَّ، لِأَنَّ فَسَادَ الْعَقْدِ يُوجِبُ قِيمَةَ الْمُسْتَهْلَكِ فِيهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: عَلَيْهِمَا أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ مَا بَذَلَتْ؛ لِأَنَّهَا قَدْ طَابَتْ بِهِ نَفْسًا.
مِثَالُهُ: أَنْ تَكُونَ أَذِنَتْ لَهُ أَنْ يُخَالِعَ عَنْهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَخَالَعَ عَنْهَا بِأَلْفَيْنِ، فَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا خَمْسُمِائَةٍ، لَزِمَهَا الْأَلْفُ الَّتِي بَذَلَتْ؛ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ وَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ لَزِمَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ.
وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْعَقْدَ مَوْقُوفٌ عَلَى خِيَارِهَا فَإِنِ اخْتَارَتِ الْإِمْضَاءَ لَزِمَهَا الْمُسَمَّى، وَإِنِ اخْتَارَتِ الْفَسْخَ فَفِيمَا يَلْزَمُهَا قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى:
أَحَدُهُمَا: مَهْرُ الْمِثْلِ لَا غَيْرَ.
وَالثَّانِي: أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ مَا بَذَلَتْ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ.
(فَصْلٌ:)
فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ مُخَالَفَةَ الْوَكِيلِ مُوجِبَةٌ لفسادة الْعَقْدِ وَرَفْعِ الطَّلَاقِ، وَاعْتِبَارًا بِمُخَالَفَةِ وَكِيلِ الزَّوْجِ.
قُلْنَا: أَمَّا فَسَادُ الْعَقْدِ بِالْمُخَالَفَةِ فَصَحِيحٌ، وَأَمَّا رَفْعُ الطَّلَاقِ فِيهِ اعْتِبَارًا بِوَكِيلِ الزَّوْجِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ إِشَارَةً مِنْهُ إِلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، فَهُوَ خَطَأٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَذْهَبًا لِنَفْسِهِ، فَهُوَ مُخْطِئٌ فِيهِ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ مَعَ فَسَادِ الْخُلْعِ كَمَا يَقَعُ مَعَ صِحَّتِهِ، وَخَالَفَ الْبَيْعَ فِيهِ وَإِنْ وَافَقَهُ فِي بَعْضِ أَحْكَامِهِ، وَخَالَفَ وَكِيلُ الزَّوْجِ بِمَا سَنَذْكُرُهُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ الِاسْتِشْهَادِ بِوَكِيلِ الْبَائِعِ إِذَا خَالَفَ مُوَكِّلَهُ فَوَهْمٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّ(10/96)
وَكِيلَ الْبَائِعِ يَقُومُ فِي الْخُلْعِ مَقَامَ وَكِيلِ الزَّوْجِ، وَلَا يَقُومُ مَقَامَ وَكِيلِ الزَّوْجَةِ كَمَا أَنَّ وَكِيلَ الْمُشْتَرِي يَقُومُ مَقَامَ وَكِيلِ الزَّوْجَةِ دون الزوج والله أعلم.
(مسألة:)
قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وَلَوْ وَكَّلَ مَنْ يُخَالِعُهَا بِمِائَةٍ فَخَالَعَهَا بِخَمْسِينَ فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ بِمِائَةٍ فَأَعْطَتْهُ خَمْسِينَ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ وَهَذَا بَيَانٌ لِمَا قلت في الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَالَ الْمُزَنِيُّ: هَذَا بَيَانٌ لِمَا قُلْتُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا.
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَقْصُورَةٌ عَلَى تَوْكِيلِ الزَّوْجِ فِي الْخُلْعِ عَنْهُ مَنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا لَهُ فِيهِ بِالْوَكَالَةِ لِوَكِيلِهِ عَلَى مَا يُخَالِعُهَا بِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَا نَصَّ عَلَيْهِ مَعْلُومًا فَيَقُولُ لَهُ: خَالِعْهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ يَقُولُ لَهُ: خَالِعْهَا عَلَى عَبْدِهَا الْفُلَانِيِّ فَعَلَيْهِ أَنْ يُخَالِعَهَا بِمَا سَمَّى مِنْ غَيْرِ مُخَالَفَةٍ فِيهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الْمُسَمَّى مِنْ غَيْرِ تَجَاوُزٍ عَنْهُ، وَلَا تَقْصِيرٍ فِيهِ فَيُخَالِعُ عَنْهُ بِالْأَلْفِ إِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُسَمَّاةَ أَوْ بِالْعَبْدِ الْمُعَيَّنِ إِنْ كَانَ هُوَ الْمُسَمَّى، فَالْخُلْعُ لَازِمٌ، وَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ، وَلَهُ قَبْضُ مَا خَالَعَ بِهِ، وَإِنْ لم يذكره الزوج ما لم ينهه عنه قَبْضِهِ كَالْوَكِيلِ فِي الْبَيْعِ يَجُوزُ لَهُ قَبْضُ الثَّمَنِ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ مَا لَمْ يَنْهَهُ عَنْهُ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُخَالِعَ عَنْهُ بِالْمُسَمَّى وَزِيَادَةٍ عَلَيْهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ مِنَ الْجِنْسِ كَأَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يُخَالِعَهَا بِأَلْفٍ، فَخَالَعَهَا بِأَلْفَيْنِ، فَالْخُلْعُ صَحِيحٌ، وَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ؛ لِأَنَّهُ إِذَا رَضِيَ بِالْأَلْفِ كَانَ بِهَا وَبِالزِّيَادَةِ عَلَيْهَا أَرْضَى، وَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى رَجُلٍ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: إِنْ دَفَعْتِ إِلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَفَعَتْ إِلَيْهِ أَلْفَيْنِ طُلِّقَتْ، وَلَا تَكُونُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا مَانِعَةً مِنْ حُصُولِ الصِّفَةِ بِهَا لِدُخُولِ الْأَلْفِ فِي الْأَلْفَيْنِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْمُسَمَّى مِثْلِ أَنْ يَقُولَ لَهُ: خَالِعْهَا عَلَى أَلْفٍ فَيُخَالِعَهَا عَلَى أَلْفٍ وَعَبْدٍ أَوْ يَقُولَ لَهُ: خَالِعْهَا عَلَى عَبْدٍ فَيُخَالِعَهَا عَلَى عَبْدٍ وَأَلِفٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّ الْخُلْعَ صَحِيحٌ، وَالطَّلَاقَ وَاقِعٌ لِوُجُودِ الْمُسَمَّى مَعَ هَذِهِ الزِّيَادَةِ لِوُجُودِهِ مَعَ الزِّيَادَةِ مِنَ الْجِنْسِ، وَكَمَا لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: إِنْ دَفَعْتِ إِلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَفَعَتْ إِلَيْهِ أَلْفًا وَعَبْدًا.(10/97)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْخُلْعَ بَاطِلٌ، وَالطَّلَاقَ غَيْرُ وَاقِعٍ، بِخِلَافِ زِيَادَةِ الْجِنْسِ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ الْجِنْسِ تَكُونُ تَبَعًا، فَدَخَلَتْ فِي حُكْمِ الْمَتْبُوعِ، وَزِيَادَةَ غَيْرِ الْجِنْسِ لَا تَكُونُ تَبَعًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُ الْجِنْسَيْنِ بِأَنْ يَكُونَ تَبَعًا بِأَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ مَتْبُوعًا، وَمُخَالَفَةُ الْجِنْسِ تُفْسِدُ الْخُلْعَ كَذَلِكَ الزِّيَادَةُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقْتَصِرَ مِنَ الْمُسَمَّى عَلَى بَعْضِهِ كَأَنَّهُ سمى له ألفاً فخالعها تسعمائة أو على ألف إلا درهم أَوْ سَمَّى لَهُ عَبْدًا فَخَالَعَهَا عَلَيْهِ إِلَّا جُزْءًا مِنْهُ وَإِنْ قَلَّ فَالطَّلَاقُ غَيْرُ وَاقِعٍ.
والقسم الرابع: أن يعدل على جِنْسِ الْمُسَمَّى إِلَى غَيْرِهِ، كَأَنَّهُ سَمَّى لَهُ أَلْفا دِرْهَمٍ فَخَالَعَهَا عَلَى عَبْدٍ، أَوْ سَمَّى لها عَبْدًا فَخَالَعَهَا عَلَى ثَوْبٍ، فَالطَّلَاقُ غَيْرُ وَاقِعٍ.
وهذين القسمين سَوَاءٌ خَالَفَ فِي الْجِنْسِ أَوْ فِي نُقْصَانِ الْقَدْرِ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ الَّتِي جُعِلَ الطَّلَاقُ مُعَلَّقًا بِهَا لَمْ تُؤْخَذْ فِي الْحَالَيْنِ فَجَرَى مَجْرَى قَوْلِهِ لَهَا إِنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَأَعْطَتْهُ أَقَلَّ مِنْهَا، لَمْ تُطَلَّقْ، وَكَقَوْلِهِ إِنْ أَعْطَيْتِنِي عَبْدًا فَأَعْطَتْهُ ثَوْبًا، لَمْ تُطَلَّقْ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَا أَعْطَتْهُ بِقِيمَةِ مَا قَالَهُ، أَوْ أَكَثَرَ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ مُعَلَّقٌ بِالصِّفَةِ لَا بِالْقِيمَةِ، كَذَلِكَ الْوَكِيلُ، وَفَارَقَ وَكِيلَ الزَّوْجَةِ حَيْثُ وَقَعَ الطَّلَاقُ بِمُخَالَفَتِهِ وَلَمْ يَقَعْ بِمُخَالَفَةِ وَكِيلِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَاقِعٌ مِنْ جِهَةِ وَكِيلِ الزَّوْجِ دُونَ الزَّوْجَةِ.
(فَصْلٌ:)
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الزَّوْجُ وَسَمَّاهُ لِوَكِيلِهِ مَجْهُولًا كَأَنَّهُ قَالَ لَهُ: خَالِعْهَا عَلَى عَبْدٍ، أَوْ قَالَ عَلَى ثَوْبٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَذْكُرَ نَوْعَ الْعَبْدِ فَيَقُولَ: عَلَى عَبْدٍ هِنْدِيٍّ أَوْ سِنْدِيٍّ، فَيَجُوزُ وَيَصِحُّ خُلْعُ الْوَكِيلِ، وَإِنْ لَمْ يَصِفْهُ بِالصِّفَاتِ الْمُسْتَحَقَّةِ فِي السَّلَمِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الصِّفَاتِ تُسْتَحَقُّ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ لَا فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَن لَا يَذْكُرَ نَوْعَهُ فَفِي صِحَّةِ الْوَكَالَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْعَبِيدِ يُوقِعُ جَهَالَةً فِي التَّوْكِيلِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ خُلْعُ الوكيل.
والوجه الثاني: تصح الوكالة؛ لأن لَمَّا لَمْ يَلْزَمْ فِي الْوَكَالَةِ ذِكْرُ صِفَاتِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ ذِكْرُ نَوْعِهِ، فَعَلَى هَذَا إِذَا صَحَّتِ الْوَكَالَةُ، فَعَلَى الْوَكِيلِ أَنْ يُخَالِعَهَا عَلَى عَبْدٍ مُعَيَّنٍ تَكُونُ قِيمَتُهُ بِقَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ فَمَا زَادَ، فَإِنْ خَالَعَهَا عَلَى عَبْدٍ مَوْصُوفٍ فِي ذِمَّتِهَا بِصِفَاتِ السَّلَمِ فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ، لِأَنَّهُ يَكُونُ مَعْلُومًا بِالصِّفَةِ كَمَا يَكُونُ مَعْلُومًا بِالتَّعْيِينِ.(10/98)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ فِي الذِّمَّةِ مُسَلَّمٌ، وَفِي السَّلَمِ عُذْرٌ لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْوَكِيلِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يُخَالِعَهَا عَلَى عَبْدٍ أَوْ عَلَى غَيْرِ عَبْدٍ، فَإِنْ خَالَعَهَا عَلَى غَيْرِ عَبْدٍ لَمْ يَجُزْ، وَلَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ سَوَاءً خَالَعَ بِقَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ، أَوْ أَقَلَّ وَإِنْ خَالَعَهَا عَلَى عَبْدٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ بِقَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ فَصَاعِدًا فَخُلْعُهُ جَائِزٌ، وَطَلَاقُهُ وَاقِعٌ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ مَهْرِ المثل فيكون لحكم فِيهِ كَمَا لَوْ أَطْلَقَ الزَّوْجُ الْوَكَالَةَ، فَخَالَعَ الْوَكِيلُ بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ الْآتِي.
(فَصْلٌ:)
وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي مِنْ ضَرْبَيِ الْوَكَالَةِ أَنْ تَكُونَ وَكَالَةُ الزَّوْجِ مُطْلَقَةً فَيَقُولُ لِوَكِيلِهِ: خَالِعْ زَوْجَتِي، وَلَا يَذْكُرُ لَهُ جِنْسًا وَلَا قَدْرًا، فَالْوَكَالَةُ جَائِزَةٌ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُخَالِعَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ فَمَا زَادَ.
فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ قَدْ قُلْتُمْ إِنَّهُ إِذَا قَيَّدَ الْوَكَالَةَ بِعَبْدٍ، لَمْ يَذْكُرْ نَوْعَهُ لَمْ تَصِحَّ الْوَكَالَةُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْجَهَالَةِ فَأَوْلَى إِذَا أَطْلَقَ الْوَكَالَةَ أن لا تَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ جَهَالَةً.
قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي تَسْمِيَةِ الْعَبْدِ تَمَلُّكُ مَالٍ مَخْصُوصٍ لَا يُعْلَمُ مَعَ الْجَهَالَةِ فَلَمْ يَصِحَّ، وَالْمَقْصُودُ فِي الْإِطْلَاقِ مِلْكُ الْبَدَلِ عَنِ الْبُضْعِ وَهُوَ مَعْلُومٌ بِالشَّرْعِ أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ مِنْ غَالِبِ النَّقْدِ، فَلَمْ تُؤَثِّرْ فِيهِ جَهَالَةُ الْعَقْدِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْوَكِيلِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُخَالِعَهَا عَنْهُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ حَالًّا مِنْ نَقْدِ غَالِبِ النَّقْدِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ فَهَذَا الْخُلْعُ مَاضٍ وَالطَّلَاقُ فِيهِ وَاقِعٌ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُخَالِعَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَزِيَادَةٍ، فَالْخُلْعُ جَائِزٌ، سَوَاءٌ كَانَتِ الزِّيَادَةُ مِنْ جِنْسِ الْمَهْرِ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ وَجْهًا وَاحِدًا، بِخِلَافِ الْعَيْنِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُغَلَّبَ فِي التَّعْيِينِ حُكْمُ الطَّلَاقِ بِالصِّفَةِ، وَمَعَ الْإِطْلَاقِ حُكْمُ الْمُعَاوَضَةِ، وَالزِّيَادَةُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ أَبَلَغُ فِي الِاحْتِيَاطِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُخَالِعَهَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَيَعْدِلَ إِلَى غَيْرِ جِنْسِ مَهْرِ الْمِثْلِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أقاويل.
أحدها: أن الطَّلَاق لَا يَقَعُ؛ لِأَنَّ الْمُخَالَفَةَ لِمَا أَوْجَبَهُ الْإِطْلَاقُ كَمُخَالَفَتِهِ لِمَا أَوْجَبَهُ التَّقْيِيدُ نَصًّا، وَقَدْ مَنَعَ مُخَالَفَةُ النَّصِّ مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ فَوَجَبَ أَنْ تَمْنَعَ مُخَالَفَةُ الْحُكْمِ مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ.(10/99)