سِهَامَ مَنْ سِوَى الزَّوْجَةِ تَكُنْ أَحَدًا وَعِشْرِينَ سَهْمًا ثُمَّ أَعْطِ الزَّوْجَةَ الرُّبُعَ وَاقْسِمِ الْبَاقِيَ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالِ عَلَى أَحَدٍ وَعِشْرِينَ سهما لا تنقسم لَكِنْ تُوَافِقُ بِالْأَثْلَاثِ إِلَى سَبْعَةٍ فَاضْرِبْهَا فِي الْأَصْلِ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ تَكُنْ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ: لِلزَّوْجَةِ منها الربع سبعة أسهم، والباقي وهو واحد وَعِشْرُونَ سَهْمًا لِبِنْتِ الْبِنْتِ مِنْهَا اثْنَا عَشَرَ وَلِبِنْتِ بِنْتِ الِابْنِ أَرْبَعَةٌ وَلِبِنْتِ الْعَمِّ خَمْسَةٌ.
زوج وثلاث بنات ثلاثة إخوة متفرقين فَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِالْإِخْرَاجِ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ لِبِنْتِ الْأَخِ لِلْأُمِّ سُدُسُهُ سَهْمٌ، وَبَاقِيهِ وَهُوَ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ لِبِنْتِ الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ وَتَصِحُّ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا.
وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِالْإِدْخَالِ: لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِبِنْتِ الْأَخِ مِنَ الْأُمِّ سُدُسُ جَمِيعِ الْمَالِ وَالْبَاقِي لِبِنْتِ الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ وَتَصِحُّ مِنْ سِتَّةِ أَسْهُمٍ.
زَوْجٌ هُوَ ابْنُ خَالٍ، وَبِنْتُ بِنْتِ عَمٍّ، عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِالْإِخْرَاجِ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلَهُ سُدُسُ الْبَاقِي، وَمَا بَقِيَ لِبِنْتِ بِنْتِ الْعَمِّ وَتَصِحُّ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ لِلزَّوْجِ سَبْعَةٌ وَلِبِنْتِ بِنْتِ الْعَمِّ خَمْسَةٌ، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِالْإِدْخَالِ: لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلَهُ سُدُسُ جَمِيعِ الْمَالِ، وَمَا بَقِيَ لِبِنْتِ بِنْتِ الْعَمِّ، وَتَصِحُّ مِنْ سِتَّةِ أَسْهُمٍ لِلزَّوْجِ أَرْبَعَةٌ، وَلِبِنْتِ بِنْتِ الْعَمِّ سَهْمَانِ.
زَوْجَةٌ هِيَ بِنْتُ عَمٍّ، وَبِنْتُ أُخْتٍ. عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِالْإِخْرَاجِ لِلزَّوْجَةِ الرُّبُعُ، وَلِبِنْتِ الْأُخْتِ نِصْفُ مَا بَقِيَ، وَالْبَاقِي لِلزَّوْجَةِ لِكَوْنِهَا بِنْتَ عَمٍّ، وَتَصِحُّ مِنْ ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ لِلزَّوْجَةِ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ، وَلِبِنْتِ الْأُخْتِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِالْإِدْخَالِ: لِلزَّوْجَةِ الرُّبُعُ وَلِبِنْتِ الْأُخْتِ نِصْفُ جَمِيعِ الْمَالِ، وَالْبَاقِي لِلزَّوْجَةِ فَيَصِيرُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا نصفين.
فصل: في توريث من يدلي بقرابتين
ابْنُ بِنْتِ بِنْتٍ هُوَ ابْنُ ابْنِ بِنْتٍ أخرى، وبنت بنت بنت وَاحِدَة عَلَى قَوْلِ أَهْلِ التَّنْزِيلِ: لِلِابْنِ النِّصْفُ بِقَرَابَةِ أَبِيهِ، وَلَهُ الثُّلُثُ بِقَرَابَةِ أُمِّهِ، وَلِلْبِنْتِ وَهِيَ أُخْتُهُ مِنْ أُمِّهِ السُّدُسُ، وَتَكُونُ مِنْ ستة للابن خمسة، وللبنت سهم، لأنها فِي التَّنْزِيلِ بِمَنْزِلَةِ بِنْتَيْنِ أَخَذَتَا الْمَالَ نِصْفَيْنِ ثم تركت إحداهما ابنا فصار الن صف لَهُ، وَأَمَّا الْأُخْرَى فَتَرَكَتْ بِنْتًا صَارَ النِّصْفُ إِلَيْهَا، ثُمَّ تَرَكَتِ الْبِنْتُ ابْنًا وَبِنْتًا فَصَارَ النِّصْفُ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَصَارَ إِلَى الِابْنِ النِّصْفُ عَنْ جَدَّتِهِ أُمِّ أَبِيهِ وَالثُّلُثُ عَنْ جَدَّتِهِ أُمِّ أُمِّهِ، وَصَارَ إِلَى جَدَّتِهِ السُّدُسُ عَنْ جَدَّتِهَا أُمِّ أُمِّهَا، وَكَذَلِكَ قَوْلُ أبي حنيفة ومحمد، وَعَلَى قَوْلِ أبي يوسف: لِلذَّكَرِ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ، وَلِلْأُنْثَى خُمُسٌ، لِأَنَّهُ يَجْعَلُ مَنْ يُدْلِي بِقَرَابَتَيْنِ كَشَخْصَيْنِ.
بِنْتَا أُخْتٍ لِأُمٍّ إِحْدَاهُمَا بِنْتُ أَخٍ لِأَبٍ، وَبِنْتُ أُخْتٍ لأم وأب، هِيَ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ، لِبِنْتِ الْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ النِّصْفُ سِتَّةٌ، وَلِبِنْتِ الْأَخِ مِنَ الْأَبِ أَرْبَعَةٌ بِقَرَابَةِ أَبِيهَا، وَسَهْمٌ بِقَرَابَةِ أُمِّهَا، فَصَارَ لَهَا خَمْسَةً، وَلِأُخْتِهَا سَهْمٌ؛ لِأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ أُخْتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْتٍ لِأُمٍّ وَأَخٍ لِأَبٍ.
بنتا بنت أخت لأب، وإحداهما هِيَ بِنْتُ ابْنِ أُخْتٍ لِأَبٍ، وَالْأُخْرَى هِيَ بِنْتُ ابْنِ أَخٍ لِأُمٍّ، هِيَ مِنْ عَشَرَةِ أسهم للتي هي بنت ابن أخت ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ بِأُمِّهَا وَسَهْمَانِ بِأَبِيهَا، وَلِأُخْتِهَا(8/182)
كَذَلِكَ، فَيَصِيرُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ أُخْتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْتٍ لِأَبٍ، وَأَخٍ لِأُمٍّ، فَكَانَ الْمَالُ عَلَى خَمْسَةٍ: ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ مِنْهَا وَهِيَ سِهَامُ الْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ صَارَتْ إِلَى بنتي بنتيها، وَسَهْمُ الْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ صَارَ إِلَى بِنْتِ أَبِيهَا، وَسَهْمُ الْأَخِ مِنَ الْأُمِّ صَارَ إِلَى بنت ابن.
خَالَتَانِ مِنْ أُمِّ إِحْدَاهُمَا هِيَ عَمَّةٌ مِنْ أَبٍ، وَعَمٌّ مِنْ أُمٍّ هُوَ خَالٌ مِنْ أَبٍ، هِيَ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، لِلْخَالَةِ الَّتِي هِيَ عَمَّةٌ مِنْ أَبٍ تِسْعَةُ أَسْهُمٍ بِأَنَّهَا عَمَّةٌ وَسَهْمٌ بِأَنَّهَا خَالَةٌ، وَلِأُخْتِهَا سَهْمٌ، وَلِلْعَمِّ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ بِأَنَّهُ عَمٌّ مِنْ أُمٍّ، وَلَهُ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ بِأَنَّهُ خَالٌ مِنْ أَبٍ؛ لِأَنَّهُمْ ينزلون بِمَنْزِلَةِ خَالَتَيْنِ مِنْ أُمٍّ، وَخَالٌ مِنْ أَبٍ، وَعَمَّةٌ مِنْ أَبٍ وَعَمٌّ مِنْ أُمٍّ فَكَانَ الثُّلُثُ بَيْنَ الْخَالَتَيْنِ مِنَ الْأُمِّ وَالْخَالُ مِنَ الْأَبِ عَلَى سِتَّةٍ، وَالثُّلُثَانِ بَيْنَ الْعَمَّةِ مِنَ الْأَبِ وَالْعَمِّ مِنَ الْأُمِّ عَلَى أَرْبَعَةٍ فَصَحَّتْ من ثمانية عشر سهما لبنت ابن الخال من الْأب التي هي بنت عم من أم سِتَّةُ أَسْهُمٍ بِأُمِّهَا وسهم لأبيها، وَلِأُخْتِهَا الَّتِي هِيَ بِنْتُ خَالَةٍ مِنْ أَبٍ سهم بأبيها وسهم بأمها؛ لأنها بِمَنْزِلَةِ خَالٍ وَخَالَةٍ مِنْ أَبٍ وَعَمٍّ مِنْ أُمٍّ، فَكَانَ الثُّلُثُ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَصَحَّتْ مِنْ تِسْعَةٍ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
فَصْلٌ: فِي الرَّدِّ
وَهَذَا إنما يكون عند نقصان الْفُرُوضِ عَنِ اسْتِيعَابِ الْمَالِ وَالْخِلَافُ فِيهِ كَالْخِلَافِ فِي ذَوِي الْأَرْحَامِ.
فَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَمْنَعُ مِنَ الرَّدِّ مَعَ وُجُودِ بَيْتِ الْمَالِ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمِنَ التَّابِعِينَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَالزُّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَدَاوُدُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَذَهَبَ أبو حنيفة وأهل الْعِرَاقِ إِلَى الرَّدِّ، وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، - رَضِيَ الله عنهم - وقد قدمناه في الدَّلِيلِ عَلَى تَقْدِيمِ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ وَالرَّدِّ عَلَى أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ بَقِيَّةَ الْمَالِ إِذَا لَمْ تَكُنْ عَصَبَةً إِذَا كَانَ بَيْتُ الْمَالِ مَوْجُودًا، فَأَمَّا إِذَا عُدِمَ بَيْتُ الْمَالِ فالضرورة تدعوا إِلَى الرَّدِّ كَمَا دَعَتْ إِلَى تَوْرِيثِ ذَوِي الأرحام.
واختلف القائلون بالرد في كيفية الرد فكان علي بن أبي طالب عليه السلام يَرُدُّ عَلَى كُلِّ ذِي سَهْمٍ بِقَدْرِ سَهْمِهِ إلى عَلَى الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَهُوَ الَّذِي يُعْمَلُ عَلَيْهِ وَيُفْتى بِهِ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ كَانَ لا يرد على الجد وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ.
وَكَانَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَرُدُّ عَلَى كُلِّ ذِي سَهْمٍ بِقَدْرِ سَهْمِهِ إِلَّا عَلَى الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ، وَكَانَ لَا يَرُدُّ عَلَى أَرْبَعٍ مَعَ أَرْبَعٍ: عَلَى بِنْتِ الِابْنِ مَعَ بِنْتِ الصُّلْبِ، وَعَلَى الْأُخْتِ لِلْأَبِ مَعَ الْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ، وَعَلَى ولد الأم مع الأم، وعلى الجد مَعَ ذِي سَهْمٍ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ.
وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ يَرُدُّ عَلَى كُلِّ ذِي سَهْمٍ بِقَدْرِ سَهْمِهِ إِلَّا عَلَى الزَّوْجِ والزوجة والجد.(8/183)
من مَسَائِلِ الرَّدِّ:
إِذَا تَرَكَ أُمًّا، وَبِنْتًا، فَلِلْأُمِّ السُّدُسُ، وَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي رَدٌّ عَلَيْهِمَا فَيَصِيرُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةٍ.
وَلَوْ تَرَكَ أُمًّا، وَأُخْتًا، كَانَ لِلْأُمِّ الثُّلُثُ وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي رَدٌّ عَلَيْهِنَّ فَيَصِيرُ الْمَالُ بَيْنَهُنَّ عَلَى خَمْسَةٍ.
وَلَوْ تَرَكَ أُمًّا وَبِنْتَيْنِ، كَانَ لِلْأُمِّ السُّدُسُ، وَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ وَالْبَاقِي رَدٌّ عَلَيْهِنَّ، فَيَصِيرُ الْمَالُ بَيْنَهُنَّ عَلَى خَمْسَةٍ.
وَلَوْ تَرَكَ زَوْجَةً، وَأُخْتًا لِأُمٍّ، وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ كَانَ لِلزَّوْجَةِ الرُّبُعُ وَلِلْأُخْتِ لِلْأُمِّ السُّدُسُ، وَلِلْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ النِّصْفُ وَيَبْقَى نِصْفُ سُدُسٍ يُرَدُّ عَلَى الْأُخْتَيْنِ دُونَ الزَّوْجَةِ فَيَصِيرُ الْبَاقِي بَعْدَ رُبُعِ الزَّوْجَةِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ عَلَى أَرْبَعَةٍ وتصح من ستة عشر سهما.
ولو تركت زَوْجًا، وَأُمًّا، وَبِنْتًا كَانَ لِلزَّوْجِ الرُّبُعُ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ، وَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي رَدٌّ عَلَى الْأُمِّ وَالْبِنْتِ فَيَصِيرُ الْبَاقِي بَعْدَ رُبُعِ الزَّوْجِ بَيْنَ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَتَصِحُّ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ كَالْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا.
وَلَوْ تَرَكَ بِنْتًا، وَبِنْتَ ابْنٍ، كَانَ لِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وَلِبِنْتِ الِابْنِ السُّدُسُ، والباقي رد عليهما على قول علي عليه السلام وَيُقْسَمُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ.
وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ يُرَدُّ عَلَى الْبِنْتِ فَيَكُونُ لِبِنْتِ الِابْنِ السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِلْبِنْتِ بِالْفَرْضِ وَالرَّدِّ وَتَصِحُّ مِنْ سِتَّةٍ وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي أُخْتٍ لأب وأم وأخت لأب أو لأم.
ولو ترك جدا، وبنتا، وبنت ابن فعلى قول علي عليه السلام: المال بينهم عَلَى خَمْسَةٍ، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِلْجَدَّةِ السُّدُسُ، وَلِبِنْتِ الِابْنِ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِلْبِنْتِ بِالْفَرْضِ وَالرَّدِّ، وَتَصِحُّ مِنْ سِتَّةٍ.
وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لِلْجَدَّةِ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْبِنْتِ وَبِنْتِ الِابْنِ عَلَى أَرْبَعَةٍ، وَتَصِحُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ ثُمَّ عَلَى قِيَاسِ هَذَا يَكُونُ الرَّدُّ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
آخَرُ كِتَابِ الْفَرَائِضِ والحمد لله كثيرا.(8/184)
كتاب الوصايا
إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّرَ لِخَلْقِهِ آجَالًا وبسط لهم فيها آمالا ثم أخفى عليهم حلول آجَالِهِمْ وَحَذَّرَهُمْ غُرُورَ آمَالِهِمْ، فَحَقِيقٌ عَلَى الْإِنْسَانِ أن يكون مباهيا لِلْوَصِيَّةِ حَذِرًا مِنْ حُلُولِ الْمَنِيَّةِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180] . {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سمعه} [البقرة: 181] . إلى قوله تعالى: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 182] .
أَمَّا قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عليكم} . فَيَعْنِي: فُرِضَ عَلَيْكُمْ. وَقَوْلُهُ: " إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت: يعني أسباب الموت ".
إن ترك خيرا: يَعْنِي مَالًا. قَالَ مُجَاهِدٌ: الْخَيْرُ فِي الْقُرْآنِ كله المال: {وإنه لحب الخير الشديد} [العاديات: 8] . الْمَالُ فَقَالَ {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} [ص: 32] الْمَالُ. {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] الْمَالُ.
وَقَالَ شُعَيْبٌ: {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} [هود: 84] . يَعْنِي الْغِنَى. وَقَالَ الشافعي: الخير كلمة تعرف ما أريد بها المخاطبة.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 7] . فقلنا: إنهم خير البرية بالإيمان والأعمال الصالحة، لا بالمال. وقال تعالى: {أولئك هم خير} فقلنا إن الخير المنفعة بالأجر وَقَالَ: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180] . فَقُلْنَا إِنَّهُ إِنْ تَرَكَ مَالًا، لِأَنَّ الْمَالَ هُوَ الْمَتْرُوكُ. ثُمَّ قَالَ {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} وفي الْأَقْرَبِينَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُمُ الْأَوْلَادُ الَّذِينَ لَا يَسْقُطُونَ فِي الْمِيرَاثِ، دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَقَارِبِ الَّذِينَ يَسْقُطُونَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُمُ الْوَرَثَةُ مِنَ الْأَقَارِبِ كُلِّهِمْ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ كُلُّ الْأَقَارِبِ مِنْ وَارِثٍ وَغَيْرِ وَارِثٍ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ.
واختلفوا في ثبوت حكمها فقال بعضهم: كَانَ حُكْمُهَا ثَابِتًا فِي الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ حَقًّا وَاجِبًا، وَفَرْضًا لَازِمًا، فَلَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْمَوَارِيثِ نُسِخَ مِنْهَا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَكُلُّ(8/185)
وارث وبقي فرض الوصية لغير الورثة في الْأَقْرَبِينَ عَلَى حَالِهِ وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسٍ وَقَتَادَةَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ.
فَإِنْ وَصَّى بِثُلُثِهِ لِغَيْرِ قَرَابَتِهِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا: فَقَالَ طَاوُسٌ يُرَدُّ الثُّلُثُ كُلُّهُ عَلَى قَرَابَتِهِ وَقَالَ قَتَادَةُ: يُرَدُّ ثُلُثُ الثُّلُثِ عَلَى قَرَابَتِهِ وَثُلُثَا الثُّلُثِ لِمَنْ أَوْصَى لَهُ بِهِ.
وَقَالَ جَابِرُ بْنُ زيد رد ثُلُثَا الثُّلُثِ عَلَى قَرَابَتِهِ وَثُلُثُ الثُّلُثِ لِمَنْ أوصى بِهِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ الْمَالِ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ مِنْهُ عَلَى أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَتَأَوَّلُوا قَوْله تَعَالَى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: 183] . أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَهَذَا قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه.
والثاني: خمس مائة، وهذا قول النخعي.
والثالث: يجب في قليل المال وكثيره وهو قَوْلُ الزُّهْرِيِّ. فَهَذَا قَوْلُ مَنْ جَعَلَ حُكْمَ الْآيَةِ ثَابِتًا. وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ وَجُمْهُورُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ إلى إنها منسوخة بالمواريث. واختلفوا بأية آي نُسِخَتْ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ نُسِخَتْ بآية الْوَصَايَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} [النساء: 7] . وَقَالَ آخَرُونَ نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ تعالى: {وأولوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] . وَسَنَذْكُرُ دَلِيلَ مَنْ أَثْبَتَهَا وَمَنْ نَسَخَهَا فيما بعد.
ثم قال: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فأصلح بينهما فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 182] . وَأَصْلُ الْجَنَفِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْجَوْرُ وَالْعُدُولُ عَنِ الْحَقِّ. وَمِنْهُ قول الشاعر:
(هم المولى وقد جَنَفُوا عَلَيْنَا ... وَإِنَّا مِنْ لِقَائِهِمُ لَزُورُ)
وَفِي تأويل قوله تعالى: جنفا أو إثما ثلاثة أقاويل.
أحدهما: أَنَّ الْجَنَفَ: الْمَيْلُ، وَالْإِثْمُ، أَنْ يَأْثَمَ فِي أَثَرَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ ابن دريد.
والثاني: أن الجنف: الخطأ، والإثم: العمد.
والثالث: أن الرجل يوصي لولد بنيه، وهو يرد بَنِيهِ، وَهَذَا قَوْلُ طَاوُسٍ.
وَاخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى: {فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 182] . على أربعة أوجه:
أحدهما: أَنَّ تَأْوِيلَهَا: فَمَنْ حَضَرَ مَرِيضًا وَهُوَ يُوصِي عِنْدَ إِشْرَافِهِ عَلَى الْمَوْتِ، فَخَافَ أَنْ يُخْطِئَ فِي وَصِيَّتِهِ، فَيَفْعَلَ مَا لَيْسَ لَهُ أَوْ يعمد جورا فيها فيأمر بِمَا لَيْسَ لَهُ، فَلَا حَرَجَ(8/186)
عَلَى مَنْ حَضَرَهُ، فَسَمِعَ ذَلِكَ مِنْهُ أَنْ يُصْلِحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَرَثَتِهِ، بِأَنْ يَأْمُرَهُ بِالْعَدْلِ فِي وَصِيَّتِهِ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّ تَأْوِيلَهَا فَمَنْ خَافَ مِنْ أَوْصِيَاءِ الْمَيِّتِ جَنَفًا فِي وَصِيَّتِهِ الَّتِي أَوْصَى بِهَا الْمَيِّتُ، فَأَصْلَحَ بَيْنَ وَرَثَتِهِ، وَبَيْنَ الْمُوصَى لَهُمْ، فِيمَا أَوْصَى لَهُمْ بِهِ، فَيَرُدُّ الْوَصِيَّةَ إِلَى الْعَدْلِ وَالْحَقِّ، فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ تَأْوِيلَهَا فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فِي عَطِيَّتِهِ لِوَرَثَتِهِ عند حضور أجله، فأعطى بعضهم دُونَ بَعْضٍ، فَلَا إِثْمَ عَلَى مَنْ أَصْلَحَ بَيْنَ الْوَرَثَةِ فِي ذَلِكَ. وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّ تَأْوِيلَهَا فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فِي وَصِيَّتِهِ لِمَنْ لَا يرثه لَمْ يَرْجِعْ نَفْعُهُ عَلَى مَنْ يَرِثُهُ فَأَصْلَحَ بَيْنَ وَرَثَتِهِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَهَذَا قَوْلُ طَاوُسٍ.
وَقَالَ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ الله} [النساء: 12] . فلا ضرار فِي الْوَصِيَّةِ: أَنْ يُوصِيَ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ، وَالْإِضْرَارُ فِي الدَّيْنِ أَنْ يَبِيعَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ. وَيَشْتَرِيَ بِأَكْثَرَ مِنْهُ.
وَقَدْ رَوَى عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْإِضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنَ الْكَبَائِرِ ".
وَقَالَ تعالى: {وصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب} [البقرة: 132] الْآيَةَ.
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، لَهُ شَيْءٌ يوصي فيه يبيت ليلتين، إلا ووصيته عند رأسه مَكْتُوبَةٌ ".
وَرَوَى شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ سبعين سنة، ثم يوصي، فيجنف في وصيته فيختم له بشر عمله، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ سَبْعِينَ سَنَةً، ثُمَّ يُوصِي فَيَعْدِلُ فِي وَصِيَّتِهِ، فَيُخْتَمُ له بخير عمله ".
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " أعجز الموصي أن يوصي كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ ".
وَرَوَى أَبُو قَتَادَةَ أَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا دَخَلَ الْمَدِينَةَ، سَأَلَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ معرور، فقالوا:(8/187)
هَلَكَ وَأَوْصَى لَكَ بِثُلُثِ مَالِهِ، فَقَبِلَهُ، وَرَدَّهُ عَلَى وَرَثَتِهِ. وَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ أوصى بِالثُّلُثِ، وَأَوَّلَ مَنْ وَصَّى بِأَنْ يُدْفَنَ إِلَى القبلة ثم صارا جميعا سنة متبوعة.
وَالْوَصِيَّةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ لَا يَجُوزُ، وَقِسْمٌ يَجُوزُ وَلَا يَجِبُ، وَقِسْمٌ مُخْتَلَفٌ فِي وجوبها.
فأما الذي لا يجوز: فالوصية للوارث.
وروى شُرَحْبِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ ".
وَأَمَّا التي تجوز ولا تجب، فالوصية للأجانب، وهذا مجمع عليه، فقد أَوْصَى الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِثُلُثِ مَالِهِ فَقَبِلَهُ ثُمَّ رَدَّهُ عَلَى وَرَثَتِهِ.
وأما التي اختلف فيها: فَالْوَصِيَّةُ لِلْأَقَارِبِ.
ذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ مَعَ مَنْ قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ إِلَى وُجُوبِهَا لِلْأَقَارِبِ، تَعَلُّقًا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180] . وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ مَاتَ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً ".
وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فيه يبيت ليلتين إلى وَوَصِيَّتُهُ عِنْدَهُ مَكْتُوبَةٌ ".
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ لِلْأَقَارِبِ وَالْأَجَانِبِ، مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وعائشة، وابن أبي ليلى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يُوصِ.
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: " مَرِضْتُ عَامَ الْفَتْحِ مَرَضًا أَشْرَفْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ، فَأَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَعُودُنِي، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ لِي مالا كثيرا، وليس يرثني إلا ابني، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَبِالشَّطْرِ. قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَالثُّلُثُ؟ قَالَ: الثُّلُثُ. وَالثُّلُثُ كثير. إنك إن تدع ورثتك أغنياء خيرا مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ ".
فَاقْتَصَرَ به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْوَصِيَّةِ عَلَى مَا جَعَلَهُ خَارِجًا مَخْرَجَ الْجَوَازِ، لَا مَخْرَجَ الْإِيجَابِ. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ غنى الورثة بعده أولى من فقرهم.(8/188)
وَرَوَى أَبُو زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: أن تتصدق وأنت صحيح حريص، تأمل الغنى وَتَخْشَى الْفَقْرَ، وَلَا تُمْهِلَ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ، قُلْتَ لِفُلَانٍ كَذَا، وَلِفُلَانٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ ".
فَلَمَّا جَعَلَ الصَّدَقَةَ فِي حَالِ الصِّحَّةِ أَفْضَلَ مِنْهَا عِنْدَ الْمَوْتِ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِي حَالِ الصِّحَّةِ وَاجِبَةً، فَأَوْلَى أَنْ لَا تَكُونَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَاجِبَةً.
وَرَوَى ابْنُ أبي ذؤيب عَنْ شُرَحْبِيلَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " لأن يَتَصَدَّقَ الْمَرْءُ فِي حَيَاتِهِ بِدِرْهَمٍ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمِائَةٍ عِنْدَ مَوْتِهِ " وَلِأَنَّ الوصية لو وجبت، لا جبر عَلَيْهَا، وَلَأُخِذَتْ مِنْ مَالِهِ إِنِ امْتَنَعَ مِنْهَا، كَالدُّيُونِ وَالزَّكَوَاتِ وَلِأَنَّ الْوَصَايَا عَطَايَا فَأَشْبَهَتِ الْهِبَاتِ.
فَأَمَّا الْآيَةُ: فَمَنْعُ الْوَالِدَيْنِ مِنَ الْوَصِيَّةِ مَعَ تقديم ذكرها فِيهَا، دَلِيلٌ عَلَى نَسْخِهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ مَاتَ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ مَاتَ مِيتَةً جاهلية " فمحمول على أحد أمرين.
وأما على من كانت عليه ديون حقوق لَا يُوصَلُ إِلَى أَرْبَابِهَا إِلَّا بِالْوَصِيَّةِ. فَتَصِيرُ الوصية ذكرها وَأَدَائِهَا وَاجِبَةً.
وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ " فَهَذَا خَارِجٌ مِنْهُ مَخْرَجَ الِاحْتِيَاطِ، وَمَعْنَاهُ: مَا الْحَزْمُ لِامْرِئٍ. عَلَى أَنَّ نَافِعًا قَالَ لِابْنِ عُمَرَ بَعْدَ أَنْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ حِينَ حَضَرَهُ الْمَوْتُ: هَلَّا أَوْصَيْتَ؟ قَالَ: أَمَّا مَالِي، فَاللَّهُ أَعْلَمُ مَا كُنْتُ أَفْعَلُ فِيهِ فِي حياتي، وأما رباعي وذوري، فَمَا أُحِبُّ أَنْ يُشَارِكَ وَلَدِي فِيهَا أَحَدٌ. فلو علم وجوب الوصية لما رواه ولما تَرَكَهَا.
فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنْ جَوَازِ الوصية دون وجوبها فالوصية تشتمل على أربعة شروط.
وهي: موصي، وموصى له، وموصى به، وموصى إليه.
فأما الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمُوصِي فَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ مُمَيِّزًا، حُرًّا، فَإِذَا اجْتَمَعَ فِيهِ هَذَانِ الشَّرْطَانِ صَحَّتْ وَصِيَّتُهُ فِي مَالِهِ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا.
فَأَمَّا الْمَجْنُونُ: فَلَا تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُمَيِّزٍ، وَأَمَّا الصَّبِيُّ فَإِنْ كَانَ طِفْلًا غَيْرَ مُمَيِّزٍ فَوَصَّيْتُهُ بَاطِلَةٌ. وَإِنْ كَانَ مُرَاهِقًا: فَفِي جَوَازِ وَصِيَّتِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يجوز. وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ لِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ عَنْهُ كَالْمَجْنُونِ وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ عَقْدٌ فَأَشْبَهَتْ سَائِرَ الْعُقُودِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ أن وصيته جائز لرواية عمرو بن سليم الزريقي قال:(8/189)
" سُئِلَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ غلام يبلغ من غسان أوصى لِبِنْتِ عَمِّهِ وَلَهُ عَشْرُ سِنِينَ، وَلَهُ وَارِثٌ بِبَلَدٍ آخَرَ، فَأَجَازَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَصِيَّتَهُ، وَلِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ مُنِعَتْ عُقُودُهُ هو الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ أُمْضِيَتْ وَصِيَّتُهُ لِأَنَّ الْحَظَّ لَهُ فِي مَنْعِ الْعُقُودِ، لِأَنَّهُ لَا يَتَعَجَّلُ بها نفعا، ولا يقدر على استدراكها إِذَا بَلَغَ. وَالْحَظُّ لَهُ فِي إِمْضَاءِ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ إِنْ مَاتَ فَلَهُ ثَوَابُهَا وَذَلِكَ أَحَظُّ لَهُ مِنْ تَرْكِهِ عَلَى وَرَثَتِهِ. وَإِنْ عَاشَ وبلغ، وقدر على استدراكها بالرجوع فِيهَا فَعَلَى هَذَا: لَوْ أَعْتَقَ فِي مَرَضِهِ، أَوْ حَابَى، أَوْ وَهَبَ، فَفِي صِحَّةِ ذَلِكَ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ صَحِيحٌ مَمْضِيٌّ، لِأَنَّ ذَلِكَ وصية تعتبر في الثُّلُثِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ يَقْدِرُ عَلَى الرُّجُوعِ فِيهَا إِنْ صَحَّ، وَالْعِتْقُ وَالْهِبَةُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الرُّجُوعِ فِيهِمَا إِنْ صَحَّ.
فَأَمَّا وَصِيَّةُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ، فَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِ وَصِيَّةِ الصَّبِيِّ، فَوَصِيَّةُ السَّفِيهِ أجوز، وإن قبل بِبُطْلَانِ وَصِيَّةِ الصَّبِيِّ، كَانَتْ وَصِيَّةُ السَّفِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ، لِاخْتِلَافِهِمْ فِي تَعْلِيلِ وَصِيَّةِ الصَّبِيِّ، فَإِنْ عَلَّلَ فِي إِبْطَالِ وَصِيَّتِهِ بِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ عَنْهُ جَازَتْ وَصِيَّةُ السَّفِيهِ لِجَرَيَانِ الْقَلَمِ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَلَّلَ فِي إِبْطَالِ وَصِيَّةِ الصَّبِيِّ بِإِبْطَالِ عُقُودِهِ، بَطَلَتْ وَصِيَّةُ السَّفِيهِ لِبُطْلَانِ عُقُودِهِ.
وَأَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِالْفَلْسِ، فَإِنْ رَدَّهَا الْغُرَمَاءُ بَطَلَتْ. وَإِنْ أَمْضَوْهَا جَازَتْ فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ حَجْرَ الْفَلْسِ كَحَجْرِ الْمَرَضِ صَحَّتْ. وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ كَحَجْرِ السفيه كانت على وجهين:
وأما الْعَبْدُ فَوَصِيَّتُهُ بَاطِلَةٌ. وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرُ، وَأُمُّ الْوَلَدِ، وَالْمُكَاتَبُ، لِأَنَّ السَّيِّدَ أَمْلَكُ مِنْهُمْ لِمَا فِي أَيْدِيهِمْ.
فَأَمَّا الْكَافِرُ: فَوَصِيَّتُهُ جَائِزَةٌ، ذِمِّيًّا كَانَ أو حربيا، إذا وصى بمثل ما وصى به المسلم.
فأما الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي الْمُوصَى لَهُ.
فَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِكُلِّ مَنْ جَازَ الْوَقْفُ عَلَيْهِ، مِنْ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، وَعَاقِلٍ وَمَجْنُونٍ، وَمَوْجُودٍ وَمَعْدُومٍ، إِذَا لَمْ يَكُنْ وَارِثًا، وَلَا قَاتِلًا.
فَأَمَّا الْوَارِثُ فَلِقَوْلِهِ عليه السلام: " لا وصية لوارث " ولو وَصَّى لِأَحَدِ وَرَثَتِهِ، كَانَ فِي الْوَصِيَّةِ قَوْلَانِ أحدهما: باطلة إذ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى إلا أن يستأنفه الْوَرَثَةُ الْبَاقُونَ هِبَتَهَا لَهُ بَعْدَ إِحَاطَةِ عِلْمِهِمْ بما يبذل منهم، وقبول منه، وقبض تلتزم بِهِ الْهِبَةُ، كَسَائِرِ الْهِبَاتِ، فَتَكُونُ هِبَةً مَحْضَةً لا تجري فيها حُكْمُ الْوَصِيَّةِ. وَهَذَا قَوْلُ الْمُزَنِيِّ.
وَالثَّانِي: إِنَّهَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى إِجَازَةِ الْبَاقِينَ مِنَ الْوَرَثَةِ، كَالْوَصِيَّةِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، فَإِنْ أَجَازَهَا الْبَاقُونَ مِنَ الْوَرَثَةِ: صَحَّتْ، وَإِنْ رَدُّوهَا رَجَعَتْ مِيرَاثًا، وكان الموصى له به كَأَحَدِهِمْ، يَأْخُذُ فَرْضَهُ مِنْهَا، وَإِنْ أَجَازَهَا بَعْضُهُمْ وَرَدَّهَا بَعْضُهُمْ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ فِي حِصَّةِ مَنْ(8/190)
أجازه، وَكَانَ الْمُوصَى لَهُ فِي الْبَاقِي مِنْهَا وَارِثًا مع من رده. ثُمَّ هَلْ تَكُونُ إِجَازَتُهُمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ابتداء عطية منهم، أو إمضاء على قولين.
وعلى كلا القولين لا تفتقر إِلَى بَذْلٍ وَقَبُولٍ بِخِلَافِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ لِلْقَاتِلِ فَفِيهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مذهب مالك أنها جائزة وَإِنْ لَمْ يَرْثِ، كَمَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِلْكَافِرِ وَإِنْ لَمْ يَرِثْ، وَلِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ يُرَاعَى فِيهِ القبول، فلم يمنع منه القتل كالبيع.
وأما القول الثاني: وبه قال أبو حنيفة الوصية باطلة لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ليس للقاتل وصية " وَلِأَنَّهُ مَالٌ يُمْلَكُ بِالْمَوْتِ، فَاقْتَضَى أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ الْقَاتِلُ كَالْمِيرَاثِ، عَلَى أَنَّ الْمِيرَاثَ أَقْوَى التَّمْلِيكَاتِ، فَلَمَّا مَنَعَ مِنْهُ الْقَتْلُ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ مِنَ الْوَصِيَّةِ.
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ القولان، فلا فرق أن يوصي به بَعْدَ جَرْحِهِ إِيَّاهُ وَجِنَايَتِهِ عَلَيْهِ، وَبَيْنَ أَنْ يُوصِيَ لَهُ قَبْلَ الْجِنَايَةِ ثُمَّ يَجْنِي عَلَيْهِ فَيَقْتُلُهُ فِي أَنَّ الْوَصِيَّةَ عَلَى قَوْلَيْنِ.
وَلَكِنْ لَوْ قَالَ الْمُوصِي، وَلَيْسَ بِمَجْرُوحٍ، قَدْ وَصَّيْتُ بثلث مالي لم يَقْتُلُنِي فَقَتَلَهُ رَجُلٌ: لَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ قَوْلًا واحدا لأمرين:
أحدهما: لأنها وصية عقد عَلَى مَعْصِيَةٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّ فِيهَا إِغْرَاءً بِقَتْلِهِ.
فإن وَصَّى بِثُلُثِهِ لِقَاتِلِ زَيْدٍ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ القتل، لم يجز لِمَا ذَكَرْنَا وَإِنْ كَانَ بَعْدَ قَتْلِهِ: جَازَ، وَكَانَ الْقَتْلُ تَعْرِيفًا. وَهَكَذَا لَوْ وَهَبَ فِي مَرَضِهِ لِقَاتِلِهِ هِبَةً أَوْ حَابَاهُ فِي بَيْعٍ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنِ حَقٍّ فَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ لَهُ تُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ. وَهَكَذَا: لَوْ أَعْتَقَ فِي مَرَضِهِ عَبْدًا فَقَتَلَ العبد سيده، كان له فِي عِتْقِهِ قَوْلَانِ، لِأَنَّ عِتْقَهُ وَصِيَّةٌ لَهُ.
وَلَكِنْ لَوْ وَهَبَ هِبَةً فِي صِحَّتِهِ أَوْ أَبْرَأَ مِنْ حَقٍّ، أَوْ حَابَى فِي بَيْعٍ، أَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا ثُمَّ إِنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ قتل الواهب، والمبرأ قتل المشتري، والمحابا قَتَلَ الْمُحَابِيَ، وَالْعَبْدَ الْمُعْتَقَ قَتَلَ سَيِّدَهُ، كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ نَافِذًا مَاضِيًا، لِأَنَّ فِعْلَهُ فِي الصحة يمنع مِنْ إِجْرَائِهِ مَجْرَى الْوَصِيَّةِ.
وَلَوْ جَرَحَ رَجُلٌ رَجُلًا ثُمَّ إِنِ الْمَجْرُوحُ وَصَّى لِلْجَارِحِ بِوَصِيَّةٍ ثم أجهز عَلَى الْمُوصِي آخَرُ فَذَبَحَهُ جَازَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْجَارِحِ الأول، لأن الذابح الثاني صَارَ قَاتِلًا وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الثَّانِي قَدْ ذبحه ولكن لو جرحه صار الثاني والأول قاتلين، فرد الوصية للأول على أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ.
وَإِذَا قَتَلَ الْمُدَبَّرُ سَيِّدَهُ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ، فَفِي بُطْلَانِ عِتْقِهِ قولان لأنه يعتق من الثلث.
ولو قتلت أم الولد سيدها بعد عِتْقُهَا قَوْلًا وَاحِدًا لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ عِتْقَهَا مُسْتَحِقٌّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ.(8/191)
وَالثَّانِي: أَنَّ فِي اسْتِبْقَائِهَا عَلَى حَالِهَا إِضْرَارٌ بِالْوَرَثَةِ لِأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى بَيْعِهَا وَخَالَفَ استيفاء رق المدبر للقدرة على البيعة.
ثُمَّ يَنْظُرُ فِي أُمِّ الْوَلَدِ، إِذَا كَانَ قَتْلُهَا عَمْدًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَلَدُهَا بَاقِيًا، قُتِلَتْ قَوَدًا، وَإِنْ كَانَ بَاقِيًا، سَقَطَ الْقَوَدُ عَنْهَا، لِأَنَّ وَلَدَهَا شَرِيكٌ لِلْوَرَثَةِ فِي الْقَوَدِ مِنْهَا، وَهُوَ لَا يَسْتَحِقُّ الْقَوَدُ مِنْ أُمِّهِ. فَسَقَطَ حَقُّهُ وَإِذَا سَقَطَ الْقَوَدُ عَنْهَا، فِي حَقِّ بَعْضِ الْوَرَثَةِ، سَقَطَ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ.
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا وَصَّى لِابْنِ قَاتِلِهِ، أَوْ لِأَبِيهِ، أَوْ لِزَوْجَتِهِ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ غَيْرُ قَاتِلٍ.
وَلَوْ أَوْصَى لِعَبْدِ الْقَاتِلِ لم تجز فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ لِلْقَاتِلِ.
وَلَوْ أقر رجل لقاتله دين، كان إقراره نافذا قولا واحدا لأن الدين لازم وهو مِنْ رَأْسِ الْمَالِ فَخَالَفَ الْوَصَايَا.
وَلَوْ كَانَ لِلْقَاتِلِ عَلَى الْمَقْتُولِ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ: حَلَّ بِمَوْتِ المقتول، لِأَنَّ الْأَجَلَ حَقٌّ لِمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا يُورَثُ عَنْهُ، وَلَيْسَ كَالْمَالِ الْمَوْرُوثِ، إِذَا مَنَعَ الْقَاتِلُ مِنْهُ صَارَ إِلَى الْوَرَثَةِ.
وَسَوَاءٌ كَانَ الْقَتْلُ فِي الْوَصِيَّةِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، كَمَا أَنَّ الْمِيرَاثَ يَمْنَعُ مِنْهُ قَتْلُ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، فلو أجاز الورثة للقاتل، وقد منع منهما فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، كَانَ فِي إِمْضَائِهَا بِإِجَازَتِهِمْ وَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي إِمْضَائِهِمُ الْوَصِيَّةَ للوارث.
فإن قلنا إن الوصية للوارث مردود وَلَا تَمْضِي بِإِجَازَتِهِمْ رُدَّتِ الْوَصِيَّةُ لِلْقَاتِلِ، وَلَمْ تمض بإجازتهم.
وإن قلنا: إنه يمضي الوصية للوارث بإجازتهم، أمضت الْوَصِيَّةُ لِلْقَاتِلِ بِإِجَازَتِهِمْ.
وَالْأَصَحُّ: إِمْضَاءُ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ بِالْإِجَازَةِ، وَرَدُّ الْوَصِيَّةِ لِلْقَاتِلِ مَعَ الْإِجَازَةِ، لِأَنَّ حَقَّ الرَّدِّ فِي الْوَصِيَّةِ إِنَّمَا هُوَ لِلْوَارِثِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْضِيلِ الْمُوصَى لَهُ عَلَيْهِمْ فَجَازَتِ الْوَصِيَّةُ لَهُ بِإِجَازَتِهِمْ، وَحَقُّ الرَّدِّ فِي الْوَصِيَّةِ لِلْقَاتِلِ إِنَّمَا هُوَ لِلْمَقْتُولِ، لِمَا فِيهِ من حسم الذرائع المقضية إلى قتل نفسه، فلم تصح الوصية بإجازتهم.
فصل:
وأما الوصية للعبد، فإن كان لعبد نفسه لم يجز. لأنها وصية لورثته.
وَإِنْ كَانَتْ لَعَبْدِ غَيْرِهِ جَازَ وَكَانَتْ وَصِيَّةً لِسَيِّدِهِ، وَهَلْ يَصِحُّ قَبُولُ الْعَبْدِ لَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تَصِحُّ، كَمَا يصح أن يملك والاحتشاش بالاصطياد مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سعيد الإصطرخي: لَا تَصِحُّ، لِأَنَّ السَّيِّدَ هُوَ الْمُمَلَّكُ.
فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: لَوْ قَبِلَهَا السَّيِّدُ دُونَ الْعَبْدِ، لم يجز.
وعلى الوجه الثاني: يجوز.
فأما إذا أوصى لمدبره.(8/192)
فالوصية جائزة إذا خَرَجَ الْمُدَبَّرُ مِنَ الثُّلُثِ، لِأَنَّهُ يَمْلِكُهَا دُونَ الورثة، لعتقه بموت السيد ولو خَرَجَ بَعْضُهُ مِنَ الثُّلُثِ دُونَ جَمِيعِهِ، صَحَّ من الوصية بقدر ما عتق منه، وبطل منه بقدر ما رق منه.
ولو وصى لِمُكَاتَبِهِ:
كَانَتِ الْوَصِيَّةُ جَائِزَةً، لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ يَمْلِكُ، فَإِنْ عَتَقَ بِالْأَدَاءِ فَقَدِ اسْتَقَرَّ اسْتِحْقَاقُهُ لَهَا، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَخَذَهَا قَبْلَ الْعِتْقِ، وَإِلَّا: أَخَذَهَا بَعْدَهُ.
وَإِنَّ رَقَّ بِالْعَجْزِ نُظِرَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَخَذَهَا فَهِيَ مَرْدُودَةٌ، لِأَنَّهُ صَارَ عَبْدًا مَوْرُوثًا، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَخَذَهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: تُرَدُّ اعْتِبَارًا بِالِانْتِهَاءِ فِي مَصِيرِهِ عَبْدًا مَوْرُوثًا.
وَالثَّانِي: لَا تُرَدُّ، اعْتِبَارًا بِالِابْتِدَاءِ فِي كَوْنِهِ مُكَاتَبًا مَالِكًا.
فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ لِأُمِّ وَلَدِهِ: فَجَائِزَةٌ، سَوَاءٌ كَانَ لَهَا وَلَدٌ وَارِثٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، لِأَنَّ عِتْقَهَا بِالْمَوْتِ أَنْفَذُ مِنْ عِتْقِ الْمُدَبَّرِ، وَلَا يَمْنَعُ مِيرَاثَ ابْنِهَا مِنْ إِمْضَاءِ الْوَصِيَّةِ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِأَبِي الوارث وابنه جَائِزَةٌ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوْصَى لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ لِلْكَافِرِ فَجَائِزَةٌ، ذِمِّيًّا كَانَ أَوْ حَرْبِيًّا.
وَقَالَ أبو حنيفة: الْوَصِيَّةُ لِلْحَرْبِيِّ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ لِلْمُسْلِمِينَ أَمْوَالَ الْمُشْرِكِينَ، فلم يجز أن يبيع لِلْمُشْرِكِينَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ.
وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ شِرْكُ الذِّمِّيِّ، لَمْ يَمْنَعْ شِرْكُ الْحَرْبِيِّ مِنَ الْوَصِيَّةِ، كَالنِّكَاحِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا جَازَتِ الْهِبَةُ لِلْحَرْبِيِّ وَهُوَ أَمْضَى عَطِيَّةً مِنَ الْوَصِيَّةِ، كَانَ أَوْلَى أَنْ تَجُوزَ لَهُ الْوَصِيَّةُ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُوصِي مُسْلِمًا، أو كافرا.
فأما وصية المرتد. فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ - ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ الْوَقْفِ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُوصِيَ لِمَنْ يَرْتَدُّ عَنِ الْإِسْلَامِ. فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ لِعَقْدِهَا عَلَى مَعْصِيَةٍ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُوصِيَ بِهَا لِمُسْلِمٍ فَيَرْتَدُّ عَنِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الوصية له. الوصية جَائِزَةٌ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ صَادَفَتْ حَالَ الْإِسْلَامِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يُوصِيَ بِهَا لِمُرْتَدٍّ مُعَيَّنٍ فَفِي الْوَصِيَّةِ وجهان:
أحدها: بَاطِلَةٌ.
وَالثَّانِي: جَائِزَةٌ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ لِلْمَيِّتِ: فإن ظنه الموصي حيا، فإذا هو ميت، فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ.
وَإِنْ عَلِمَهُ مَيِّتًا حِينَ الْوَصِيَّةِ: فَقَدْ أَجَازَهَا مَالِكٌ وَجَعَلَهَا لِلْوَرَثَةِ لِأَنَّ عِلْمَهُ بِمَوْتِهِ يَصْرِفُ قَصْدَهُ إِلَى وَرَثَتِهِ.(8/193)
وَهَذَا فَاسِدٌ، وَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهُ لَوْ وَهَبَ لِلْمَيِّتِ مَعَ عِلْمِهِ بِمَوْتِهِ كَانَتِ الْهِبَةُ بَاطِلَةً، فكذلك الوصية أولى. والله أعلم.
فصل:
وأما الْوَصِيَّةُ لِمَسْجِدٍ، أَوْ رِبَاطٍ، أَوْ قَنْطَرَةٍ، فَجَائِزَةٌ، وتصرف فِي عِمَارَتِهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا انْتَفَى الْمِلْكُ عَنْ هذا كله توجهت الوصية إلى مصالحهم.
وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ لِلْبِيَعِ، وَالْكَنَائِسِ، فَبَاطِلَةٌ، لِأَنَّهَا مَجْمَعُ مَعَاصِيهِمْ. وَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ بِكُتُبِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، لِتَبْدِيلِهَا وَتَغْيِيرِهَا. وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُوصِي مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، وَأَجَازَهَا أبو حنيفة مِنَ الْكَافِرِ دُونَ الْمُسْلِمِ، كما أَجَازَ وَصِيَّتَهُ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ.
وَهَذَا فَاسِدٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49] .
وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي الْمُوصَى بِهِ.
فَهُوَ كُلُّ مَا جَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ مَالٍ وَمَنْفَعَةٍ، جَازَتِ الْوَصِيَّةُ بِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَالُ عَيْنًا، أَوْ دَيْنًا حَاضِرًا، أَوْ غَائِبًا، مَعْلُومًا، أَوْ مَجْهُولًا، مُشَاعًا، أَوْ مُفْرَزًا.
وَلَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِمَا لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ. مِنْ عَيْنٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْكَلْبِ غَيْرِ الْمُعَلَّمِ.
وَهُوَ مُقَدَّرٌ بِالثُّلُثِ، وَلَيْسَ لِلْمُوصِي الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لسعد: " الثلث، والثلث كثير ".
وَأَوْلَى الْأَمْرَيْنِ بِهِ أَنْ يُعْتَبَرَ حَالُ وَرَثَتِهِ، فَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ، كَانَ النُّقْصَانُ مِنَ الثُّلُثِ أولى مِنِ اسْتِيعَابِ الثُّلُثِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - عليه السلام - أنه قال: " لأن أوصي بالسدس أحب إلي من أن أوصي بالربع، والربع أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الثُّلُثِ ".
وَإِنْ كَانَ وَرَثَتُهُ أَغْنِيَاءَ، وَكَانَ فِي مَالِهِ سِعَةٌ، فَاسْتِيفَاءُ الثُّلُثِ أَوْلَى بِهِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: " الثُلُثُ وَسَطٌ، لَا بَخْسَ فِيهِ وَلَا شَطَطَ ".
وَلَوِ اسْتَوْعَبَ الثُّلُثَ مِنْ قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ، مَعَ فقر الورثة، وغناهم، وصغرهم، وكبرهم، كانت وصية ممضاة به.
وأما الزِّيَادَةُ عَلَى الثُّلُثِ: فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْهَا فِي قليل المال وكثيره لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنَعَ سَعْدًا مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ وَقَالَ: " الثُلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ ".
فَإِنْ وَصَّى بِأَكْثَرِ مِنَ الثُّلُثِ أَوْ بِجَمِيعِ مَالِهِ: نُظِرَ.(8/194)
فَإِنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ: كَانَتِ الْوَصِيَّةُ مَوْقُوفَةً عَلَى إِجَازَتِهِ وَرَدِّهِ فَإِنْ رَدَّهَا رَجَعَتِ الْوَصِيَّةُ إِلَى الثُّلُثِ. وَإِنْ أَجَازَهَا صَحَّتْ، ثُمَّ فِيهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ إِجَازَةَ الْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً: عَطِيَّةٌ مِنْهُمْ، لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبْضِ، وَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا مَا لَمْ يُقْبِضْ. وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ القبض بطلت كالهبة.
والقول الثاني: إِجَازَةَ الْوَرَثَةِ إِمْضَاءٌ لِفِعْلِ الْمُوصِي، فَلَا تَفْتَقِرُ إِلَى قَبْضٍ، وَتَتِمُّ بِإِجَازَةِ الْوَارِثِ، وَقَبُولِ الْمُوصَى له، ليس الرُّجُوعُ بَعْدَ الْإِجَازَةِ، وَلَا تُبْطَلُ الْوَصِيَّةُ بِمَوْتِهِ بعد إجازته، وقبل إقباضه.
فصل:
وإن لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ وَارِثٌ، فَأَوْصَى بِجَمِيعِ مَالِهِ: ردت الوصية إلى الثلث والباقي لبيت الْمَالِ وَقَالَ أبو حنيفة: وَصِيَّتُهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ نَافِذَةٌ فِي جَمِيعِ مَالِهِ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا مَنَعَ سَعْدًا مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ قَالَ: " لِأَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ ".
فَجَعَلَ الْمَنْعَ مِنَ الزِّيَادَةِ حَقًّا لِلْوَرَثَةِ.
فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ سَقَطَ الْمَنْعُ. وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ وَضَعَ مَالَهُ حَيْثُ شاء ".
ولأن من جازت له الصدقة بجميع ماله، جازت وَصِيَّتُهُ بِجَمِيعِ مَالِهِ.
وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْطَاكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ ثُلُثَ أَمْوَالِكُمْ، زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ ". وَلِأَنَّ الْأَنْصَارِيَّ أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكِينَ لَهُ، لَا مَالَ لَهُ غَيْرَهُمْ، فَجَزَّأَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ، فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ، وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً، وَلَمْ يكن له وارث ولأنه لو كان له وارث، لوقف عَلَى إِجَازَتِهِ، وَلِأَنَّ مَالَ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ يَصِيرُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ إِرْثًا لِأَمْرَيْنِ:
أحدهما: أنه تخلف الورثة في استحقاق ماله.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَعْقِلُ عَنْهُ كَوَرَثَتِهِ. فَلَمَّا رُدَّتْ وصيته مع الوارث إلى الثلث رُدَّتْ إِلَى الثُّلُثِ مَعَ بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ وارث.
وقد تحرر مِنْهُ قِيَاسَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ جِهَةٍ اسْتَحَقَّتِ التركة بالوفاة، منعت من الوصية بجميع المال كَالْوَرَثَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَا مَنَعَ مِنَ الْوَصَايَا مَعَ الْوَرَثَةِ. مَنَعَ مِنْهَا مَعَ بَيْتِ الْمَالِ، كالديون.(8/195)
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لأن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تَدَعَهُمْ عَالَةً ".
فَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ تَعْلِيلًا، لِرَدِّ الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ تَعْلِيلًا لَجَازَتِ الزِّيَادَةُ عَلَى الثُّلُثِ مَعَ غِنَاهُمْ، إِذَا لَمْ يَصِيرُوا عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَإِنَّمَا قَالَهُ صِلَةً فِي الْكَلَامِ وَتَنْبِيهًا عَلَى الْحَظِّ.
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ: يَضَعُ مَالَهُ حيث يشاء.
فَمَالُهُ الثُّلُثُ وَحْدَهُ. وَلَهُ وَضْعُهُ حَيْثُ شَاءَ.
وَأَمَّا الصَّدَقَةُ فَهِيَ كَالْوَصِيَّةِ، إِنْ كَانَتْ فِي الصِّحَّةِ أُمْضِيَتْ، مَعَ وُجُودِ الْوَارِثِ، وَعَدَمِهِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْمَرَضِ رُدَّتْ إِلَى الثُّلُثِ مَعَ وجود الوارث وعدمه.
فَصْلٌ:
وَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِثُلُثِ مَالِهِ وَإِنْ لَمْ يعلم قدره.
واختلف أصحابنا: هل يراعى ثلث مَالِهِ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ أَوْ عِنْدَ الْوَفَاةِ؟
عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَكْثَرُ الْبَغْدَادِيِّينَ، أَنَّهُ يُرَاعَى ثُلُثُهُ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ، وَلَا يُدْخَلُ فيه مَا حَدَثَ بَعْدَهُ مِنْ زِيَادَةٍ. لِأَنَّهَا عَقْدٌ وَالْعُقُودُ لَا يُعْتَبَرُ بِهَا مَا بَعْدُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة وَأَكْثَرُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُ يُرَاعَى ثُلُثُ مَالِهِ وَقْتَ الْمَوْتِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا حَدَثَ قَبْلَهُ مِنْ زِيَادَةٍ، لِأَنَّ الْوَصَايَا تُمْلَكُ بِالْمَوْتِ فَاعْتُبِرَ بِهَا وَقْتَ مِلْكِهَا.
فَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ: إِنْ وَصَّى بِثُلُثِ مَالِهِ، وَلَا مَالَ لَهُ، ثُمَّ أَفَادَ مَالًا قَبْلَ الْمَوْتِ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ تَكُونُ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةً اعْتِبَارًا بِحَالِ الْوَصِيَّةِ.
وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي تَكُونُ الْوَصِيَّةُ صَحِيحَةً اعْتِبَارًا بِحَالِ الْمَوْتِ.
وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ:
لَوْ وَصَّى بِعَبْدٍ مِنْ عَبِيدِهِ، وَهَوَ لَا يَمْلِكُ عَبْدًا، ثُمَّ مَلَكَ قَبْلَ الْمَوْتِ عبدا صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ إِنِ اعْتُبِرَ بِهَا حَالُ الْمَوْتِ، وَبَطَلَتْ: إِنِ اعْتُبِرَ بِهَا حَالُ الْقَوْلِ.
وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ:
لَوْ وَصَّى بِثُلُثِ مَالِهِ، وَلَهُ مَالٌ، فَهَلَكَ مَالُهُ، وَأَفَادَ غَيْرَهُ، صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ فِي الْمَالِ الْمُسْتَفَادِ إِنِ اعْتُبِرَ بِهَا حَالُ الْمَوْتِ، وَبَطَلَتْ إِنِ اعْتُبِرَ بِهَا حَالُ الْوَصِيَّةِ.
وَأَمَّا الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِي الْمُوصَى إِلَيْهِ، فَقَدْ أَفْرَدَ الشَّافِعِيُّ لِلْأَوْصِيَاءِ بَابًا اسْتَوْفَى فِيهِ أَحْكَامَهُمْ.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فيما يُرْوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من قوله: " ما حق امرئ مسلم " يحتمل ما الحزم لامرئ مسلم " يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده " ويحتمل ما المعروف في الأخلاق إلا هذا لا من جهة الفرض (قال) فإذا أوصى الرجل بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِهِ وَلَا ابْنَ لَهُ غَيْرُهُ فَلَهُ النِّصْفُ فَإِنْ لَمْ يُجِزْ الِابْنُ فَلَهُ الثلث ".(8/196)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا كَانَ لِلْمُوصِي ابْنٌ وَاحِدٌ، فَوَصَّى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِهِ، كَانَتْ وَصِيَّتُهُ بِالنِّصْفِ، وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة، وَصَاحِبَيْهِ، فَإِنْ أَجَازَهَا الِابْنُ، وَإِلَّا رُدَّتْ إِلَى الثُّلُثِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: وَهِيَ وَصِيَّةٌ بِجَمِيعِ المال. وهو قول زفر من الهذليين وَدَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ نَصِيبَ ابْنِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ غَيْرُهُ، أَخَذَ جَمِيعَ الْمَالِ فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ بِمِثْلِ نَصِيبِهِ وَصِيَّةً بِجَمِيعِ الْمَالِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَوْ أوصى له بمثل ما كان نصيب ابنه كان وصية بجميع ماله إجماعا. وجب لو أوصى له بمثل نصيب ابنه أن يكون وصية بِجَمِيعِ الْمَالِ حِجَاجًا.
وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ نَصِيبَ الِابْنِ أَصْلٌ، وَالْوَصِيَّةُ بِمِثْلِهِ فَرْعٌ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْفَرْعُ رَافِعًا لِحُكْمِ الْأَصْلِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ جَعَلْنَا الوصية بجميع الْمَالِ لَخَرَجَ أَنْ يَكُونَ لِلِابْنِ نَصِيبٌ، وَإِذَا لم يكن للابن بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ الَّتِي هِيَ بِمِثْلِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الوصية بمثل نصيب الابن فوجب التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ وَبَيْنَ ابْنِهِ فَإِذَا وجب ذَلِكَ كَانَا فِيهِ نِصْفَيْنِ وَفِي إِعْطَائِهِ الْكُلَّ إبطال للتسوية بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ وَبَيْنَ الِابْنِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ نَصِيبَ الِابْنِ كُلُّ الْمَالِ. فَهُوَ أَنَّ لَهُ الْكُلَّ مَعَ عَدَمِ الْوَصِيَّةِ وأما مَعَ الْوَصِيَّةِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْكُلَّ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ وَصَّيْتُ لَكَ بِمِثْلِ مَا كَانَ نَصِيبُ ابْنِي فَيَكُونُ وَصِيَّةً بِالْكُلِّ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّهُ إِذَا قَالَ بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِي فَقَدْ جَعَلَ لَهُ مع الوصية نصيبا، فكذلك كانت وصيته بالنصف، نصيبا، وَإِذَا قَالَ بِمِثْلِ مَا كَانَ نَصِيبُ ابْنِي فلم يجعل مع الوصية نصيبا، فكذلك كَانَتْ بِالْكُلِّ.
فَصْلٌ:
فَعَلَى هَذَا: لَوْ قَالَ قَدْ وَصَّيْتُ لَهُ بِنَصِيبِ ابْنِي: فَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ بَاطِلَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة، لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ بِمَا لَا يَمْلِكُ، لِأَنَّ نَصِيبَ الِابْنِ مِلْكُهُ، لَا مِلْكَ أَبِيهِ.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: الْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ. وَهُوَ قَوْلُ مالك ويجري بها مجرى قوله بمثل نصيب ابني ولا ابن له فَيَجْعَلُهَا وَصِيَّةً بِالنِّصْفِ وَعِنْدَ مَالِكٍ بِالْكُلِّ وَلَوْ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِهِ، وَلَا ابْنَ لَهُ، كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لَهُ ابن قاتل أو كافر، لِأَنَّهُ لَا نَصِيبَ لَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " (وَلَوْ قَالَ) بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ وَلَدِي فَلَهُ مع الاثنين الثُّلُثُ وَمَعَ الثَّلَاثَةِ الرُّبُعُ حَتَى يَكُونَ كَأَحَدَهِمْ ".(8/197)
قال المارودي: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا أَوْصَى وَلَهُ أَوْلَادٌ ذُكُورٌ لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ. فَلِلْمُوصَى لَهُ مَعَ الِاثْنَيْنِ الثُّلُثُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَابْنٍ ثَالِثٍ، وَمَعَ الثلاثة الربع: لأنه يصير كابن رابع، ومع الأربعة الخمس لأنه يصير كَابْنٍ خَامِسٍ، وَمَعَ الْخَمْسَةِ السُّدُسُ وَيَصِيرُ كَابْنٍ سَادِسٍ.
ثُمَّ كَذَلِكَ مَا زَادَ لِيَصِيرَ كَأَحَدِهِمْ، وَلَا يُفَضَّلَ عَلَيْهِمْ.
وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ يَكُونُ لَهُ مَعَ الِاثْنَيْنِ النِّصْفُ، وَمَعَ الثَّلَاثَةِ الثُّلُثُ، وَمَعَ الْأَرْبَعَةِ الرُّبُعُ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ فَسَادِهِ، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ تَفْضِيلِ الْمُوصَى لَهُ على ابنه وهو إنما أوصى له بمثل نصيب أحدهم.
فصل:
فلو كَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ بَنِينَ، فَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَلِآخَرَ بِمَا بَقِيَ مِنْ ثُلُثِهِ، زِدْتَ عَلَى عَدَدِ الْفَرِيضَةِ مِثْلَ نِصْفِهَا، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ لِيَصِحَّ لَكَ ثُلُثُهَا، لِأَنَّ كُلَّ عَدَدٍ زِدْتَ عَلَيْهِ مِثْلَ نِصْفِهِ خَرَجَ ثُلُثُهُ، فَإِذَا زِدْتَ عَلَى الثَّلَاثَةِ مِثْلَ نِصْفِهَا، صَارَتْ أربعا ونصفا فليبسطها من جنس الكسر أيضا فليخرج كَسْرُهَا تَكُنْ تِسْعَةً، الثُّلُثَانِ مِنْهَا سِتَّةٌ بَيْنَ البنين الثلاثة لكل واحد منهم سهمان. والثلاث ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، لِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ بَنِيهِ سَهْمَانِ، وَيَبْقَى سَهْمٌ يَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ بِبَاقِي الثُّلُثِ.
وَلَوْ تَرَكَ أَرْبَعَةَ بَنِينَ وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَلِآخَرَ بِمَا بَقِيَ من ثلثه، ردت عَلَى الْأَرْبَعَةِ مِثْلُ نِصْفِهَا، تَكُنْ سِتَّةً، الثُّلُثَانِ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ بَيْنَ الْبَنِينَ الْأَرْبَعَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَهْمٌ، وَالثُّلُثُ سَهْمَانِ لِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ أَحَدِهِمْ سَهْمٌ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِبَاقِي الثُّلُثِ سَهْمٌ.
فَصْلٌ:
وَلَوْ تَرَكَ خَمْسَةَ بَنِينَ، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَلِآخَرَ بِمَا بَقِيَ مِنْ خُمُسِهِ، زِدْتَ عَلَى الْخَمْسَةِ الَّتِي هِيَ عَدَدُ فَرِيضَةِ الْبَنِينَ مِثْلَ رُبُعِهَا، لِيَصِحَّ خُمُسِهَا لِأَنَّ كُلَّ عَدَدٍ زِدْتَ عَلَيْهِ مِثْلَ رُبْعِهِ كَانَتِ الزِّيَادَةُ خُمْسَ مَا اجْتَمَعَ مِنَ الْعَدَدَيْنِ.
فَعَلَى هَذَا: إِذَا زِدْتَ عَلَى الْخَمْسَةِ مِثْلَ رُبُعِهَا كانت ستة وربعا، فابسطها من جنس الكسر أرباعها تَكُنْ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ، أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا عِشْرُونَ بَيْنَ الْبَنِينَ الْخَمْسَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ، وَالْخُمُسُ خَمْسَةٌ مِنْهَا لِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، أَرْبَعَةٌ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِبَاقِي الْخَمْسِ سَهْمٌ.
وَلَوْ تَرَكَ سِتَّةَ بَنِينَ، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَلِآخَرَ بِمَا بَقِيَ مِنْ رُبُعِهِ، زِدْتَ عَلَى السِّتَّةِ مِثْلَ ثُلُثِهَا، وَهُوَ اثْنَانِ، تَكُنْ ثَمَانِيَةً، ثُمَّ أَخَذْتَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهَا وَهُوَ سِتَّةٌ فَجَعَلْتَهُ لِلْبَنِينَ السِّتَّةِ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَهْمٌ، وَرَبُعُهَا وَهُوَ سَهْمَانِ جَعَلْتَ مِنْهُ لِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ سَهْمًا وَلِلْمُوصَى لَهُ بِبَاقِي الرُّبُعِ سَهْمًا ثُمَّ عَلَى هَذَا.
فَصْلٌ:
وَلَوْ ترك ثلاث بنين، وأوصى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَلِآخَرَ بِرُبُعِ مَالِهِ وَأَجَازَ الورثة ذلك فخذ مالا لَهُ رُبُعٌ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ فَاعْزِلْ رُبُعَهُ وَهُوَ واحد، ثم أقسم الثلاثة الباقية عَلَى أَرْبَعَةٍ، تَكُنْ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعٍ، فَابْسُطْهَا مِنْ جِنْسِ الْكَسْرِ أَرْبَاعًا تَكُنْ ستة عشر،(8/198)
للموصى له بالربع تبقي اثني عَشَرَ عَلَى أَرْبَعَةٍ لِكُلِّ ابْنٍ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْمُوصَى لَهُ ثَلَاثَةٌ ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ.
مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ولو كَانَ وَلَدُهُ رِجَالًا وَنِسَاءً أَعْطَيْتُهُ نَصِيبَ امْرَأَةٍ ولو كانت له ابنة وابنة ابن أعطيته سدسا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا كَانَ وَلَدُ الْمُوصِي عَدَدًا مِنْ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ.
فَإِنْ كان ولده، رجالا ونساء كما لو تَرَكَ ابْنَيْنِ، وَبِنْتَيْنِ، ثُمَّ وَصَّى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ. فَإِنْ وَصَّى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ الِابْنِ: كَانَ لَهُ الرُّبُعُ، وَكَأَنَّهُ ابْنٌ ثَالِثٌ مع بنين.
فَإِنْ وَصَّى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ الْبِنْتِ كَانَ له السبع وكأنه بِنْتٌ ثَالِثَةٌ مَعَ ابْنَيْنِ.
وَإِنْ أَطْلَقَ لَهُ الْوَصِيَّةَ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنًا، وَلَا بِنْتًا، أَعْطَيْتُهُ مِثْلَ نَصِيبِ الْبِنْتِ لِأَنَّهُ اليقين ولا يعطه مثل نصيب الزوجة وإن كانت أقل ورثته نصيبا.
لأنه قال مثل نصيب إحدى وَلَدِي، وَلَيْسَتِ الزَّوْجَةُ مِنْ وَلَدِهِ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ مِثْلَ نَصِيبِ إِحْدَى وَرَثَتِي، أَعْطَيْتُهُ مِثْلَ نَصِيبِ الزَّوْجَةِ، إِذَا كَانَتْ أَقَلَّ وَرَثَتِهِ نَصِيبًا كما لو ترك زوجة، وابنين وَبِنْتًا. أَصْلُهَا مِنْ ثَمَانِيَةٍ: لِلُزُوجَةِ مِنْهَا الثُّمُنُ سهم واحد، وَلِلْمُوصَى لَهُ مِثْلُهُ، فَتَصِيرُ التَّرِكَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى تِسْعَةِ أَسْهُمٍ، لِلْمُوصَى لَهُ سَهْمٌ، وَلِلزَّوْجَةِ ثُمُنُ الْبَاقِي سَهْمٌ وَمَا بَقِيَ بَيْنَ الِابْنِ وَالْبِنْتِ للذكر مثل حظ الأنثيين، وتصح من تسعة وَعِشْرِينَ.
وَلَوْ تَرَكَ: بِنْتًا، وَبِنْتَ ابْنٍ، وَأَخًا، وَوَصَّى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ: كَانَ لَهُ مِثْلُ نَصِيبِ بِنْتِ الِابْنِ، لِأَنَّهُ الْأَقَلُّ، وَهُوَ السدس، فنصفه إِلَى فَرِيضَةِ الْوَرَثَةِ، وَهِيَ سِتَّةٌ، تَصِيرُ سَبْعَةَ أَسْهُمٍ، يُعْطَى لِلْمُوصَى لَهُ مِنْهَا سَهْمًا، وَلِلْبِنْتِ ثلاثة أسهم، وبنت الابن سهما، وللأخ مَا بَقِيَ وَهُوَ سَهْمَانِ.
فَلَوْ تَرَكَ ثَلَاثَ زَوْجَاتٍ، وَابْنًا، وَبِنْتًا، وَوَصَّى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، فَفَرِيضَةُ الْوَرَثَةِ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا، لِلزَّوْجَاتِ مِنْهَا الثُّمُنُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَهُوَ الْأَقَلُّ، فَيُجْعَلُ لِلْمُوصَى لَهُ مِثْلَ نَصِيبِ إِحْدَاهُنَّ، وَهُوَ سهم واحد، فضمه إلى الفريضة، وهو أربعة وعشرين، تصير خمسة وعشرين فَتُقْسَمُ التَّرِكَةُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ وَبَيْنَ الْوَرَثَةِ، عَلَى خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا، لِلْمُوصَى لَهُ مِنْهَا سَهْمٌ وَاحِدٌ.
فَلَوْ تَرَكَ بِنْتًا، وَخَمْسَ بَنَاتِ ابْنٍ، وَعَمًّا، صَحَّتْ فَرِيضَةُ الْوَرَثَةِ مِنْ ثَلَاثِينَ سَهْمًا، لِبَنَاتِ الِابْنِ مِنْهَا السُّدُسُ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ، لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سَهْمٌ، فَلَوْ وَصَّى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، أَعْطَيْتُهُ مِثْلَ نَصِيبِ وَاحِدَةٍ مِنْ بَنَاتِ الِابْنِ، وَهُوَ سَهْمٌ؛ لِأَنَّهُ الْأَقَلُّ، وَضَمَمْتُهُ إِلَى فَرِيضَةِ الْوَرَثَةِ وَهِيَ ثَلَاثُونَ تَصِيرُ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ سَهْمًا، فَتُقْسَمُ التَّرِكَةُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ، وَبَيْنَ الْوَرَثَةِ عَلَى أَحَدٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا، مِنْهَا لِلْمُوصَى لَهُ سَهْمٌ، لِيَدْخُلَ نَقْصُ الْعَوْلِ بِسَهْمِ الْوَصِيَّةِ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ. ثُمَّ عَلَى هَذَا القياس.(8/199)
فَصْلٌ:
وَلَوْ تَرَكَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ، وَوَصَّى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنٍ رَابِعٍ، لَوْ كَانَ، فَلِلْمُوصَى لَهُ الْخُمُسُ؛ لِأَنَّ لَهُ مَعَ الْأَرْبَعَةِ الْخُمُسُ، وتكون الأربعة أخماس بَيْنَ الْبَنِينَ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ غَيْرُ مُنْقَسِمَةٍ، فَتَضْرِبُ ثَلَاثَةً فِي خَمْسَةٍ تَكُنْ خَمْسَةَ عَشَرَ.
لِلْمُوصَى له بالخمس ثلاثة أسهم، ويبقى اثني عَشَرَ سَهْمًا بَيْنَ الْبَنِينَ الثَّلَاثَةِ لِكُلِّ ابْنٍ أَرْبَعَةٌ.
وَلَوْ تَرَكَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ، وَوَصَّى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنٍ خَامِسٍ لَوْ كَانَ، وَبِنْتٍ لَوْ كَانَتْ: كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ، ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ مِنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَذَلِكَ سَهْمُ ابْنٍ وبنت من جملة ستة بنين وبنتين، ويبقى أحد عشر سهما، تقسم بين البنين الثلاث، عَلَى ثَلَاثَةٍ، فَاضْرِبْ ثَلَاثَةً فِي أَرِبْعَةَ عَشَرَ، تَكُنِ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ سَهْمًا، لِلْمُوصَى لَهُ تِسْعَةُ أسهم، ويبقى ثَلَاثَةً وَثَلَاثُونَ سَهْمًا، لِكُلِّ ابْنٍ أَحَدَ عَشَرَ سهما.
فصل آخر:
فإذا تَرَكَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَلِآخَرَ بِثُلُثِ مَا يَبْقَى مِنْ ثُلُثِهِ.
فَوَجْهُ عَمَلِهَا بِحِسَابِ الْبَابِ: أَنْ تَأْخُذَ عَدَدَ البنين، وهو ثلاثة وتضم إليه نصيب أحدهم وَهُوَ وَاحِدٌ تَصِيرُ أَرْبَعَةً، وَتَضْرِبُهُ فِي مَخْرَجِ الثُّلُثِ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ. تَكُنِ اثْنَيْ عَشَرَ، ثُمَّ تُلْقِي مِنْهُ الْمِثْلَ، وَهُوَ وَاحِدٌ، يَبْقَى أَحَدَ عَشَرَ، وَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ، ثُمَّ تَعْرِفُ قَدْرَ النَّصِيبِ، بِأَنْ تَضْرِبَ مَخْرَجَ الثُّلُثِ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ، تَكُنْ تِسْعَةً، ثُمَّ تُلْقِي مِنْهَا الْمِثْلَ، وَهُوَ واحد يبقى ثمانية، فهو نصيب، فَيَأْخُذُهُ الْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَيَبْقَى مِنَ الثُّلُثِ ثَلَاثَةٌ، فَيُدْفَعُ ثُلُثُهَا، وَهُوَ وَاحِدٌ، إِلَى الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ، الْبَاقِي مِنَ الثُّلُثِ، وَيَبْقَى مِنَ الثُّلُثِ سَهْمَانِ، تَضُمُّهَا إِلَى الثُّلُثَيْنِ وَهُوَ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ تَصِيرُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ تُقَسَّمُ بَيْنَ الْبَنِينَ الثَّلَاثَةِ، فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ ثَمَانِيَةٌ مِثْلَ مَا أَخَذَهُ الْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَتَصِحُّ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا.
فَصْلٌ آخر:
فإذا تَرَكَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أحدهم إلا ثلث ما بقي من الثلاث. فوجه عملها بالباب، أن تأخذ عدد البنين، وهو ثلاثة، وتضم إِلَيْهِ نَصِيبَ أَحَدِهِمْ، تَكُنْ أَرْبَعَةً ثُمَّ اضْرِبْهَا فِي مَخْرَجِ الثُّلُثِ ثَلَاثَةٍ، تَكُنِ اثْنَيْ عَشَرَ، تزيد عَلَيْهَا وَاحِدًا، كَمَا نَقَصَتْ مِنَ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ وَاحِدًا تَصِيرُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَهُوَ ثُلُثُ الْمَالِ، ثُمَّ تَعْرِفُ قَدْرَ النَّصِيبِ، بِأَنْ تَضْرِبَ مَخْرَجَ الثُّلُثِ فِي مِثْلِهِ تَكُنْ تِسْعَةً، وَتَزِيدُ عَلَيْهَا وَاحِدًا، كَمَا نَقَصَتْ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ وَاحِدًا تكن عشرة، هو النصيب، فتنقص منه ثلث الثلاث، وهو واحد يبقى تسعة، وهي سهام الْمُوصَى لَهُ، ثُمَّ تَضُمُّ الْبَاقِي مِنَ الثُّلُثِ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ، إِلَى ثُلُثَيِ الْمَالِ، وَهُوَ سِتَّةٌ وعشرون تكن ثلاثين، تقسم بَيْنَ الْبَنِينَ الثَّلَاثَةِ، لِكُلِّ ابْنٍ عَشَرَةٌ، وَتَصِحُّ من تسعة وثلاثين.
فصل:
في الضيم
وَإِذَا تَرَكَ خَمْسَةَ بَنِينَ وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نصيب أحدهم، ولآخر بثلث ما بقي من(8/200)
ثُلُثِهِ، وَأَوْصَى لِأَحَدِ بَنِيهِ، أنْ لََا يَدْخُلَ عَلَيْهِ ضَيْمٌ فِيمَا أَوْصَى بِهِ وَلَا نُقْصَانٌ وَأَنْ يُوَفِّرَ عَلَيْهِ نَصِيبَهُ، وَهُوَ الْخُمُسُ فَذَلِكَ موقوف على الإجازة من الْوَرَثَةِ، وَإِنْ كَانَ خَارِجًا مِنَ الثُّلُثِ، لِأَنَّ تَفْضِيلَ أَحَدِ الْوَرَثَةِ عَلَى الْبَاقِينَ وَصِيَّةٌ لِوَارِثٍ.
وإذا كان كذلك وأجاز الوصية الورثة فَوَجْهُ عَمَلِهَا بِالْبَابِ أَنْ تَجْعَلَ الِابْنَ الَّذِي وَصَّى أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهِ ضَيْمٌ، كَالْمُوصَى لَهُ بِالْخُمُسِ، فَتَصِيرُ الْمَسْأَلَةُ كَأَنَّهُ تَرَكَ أَرْبَعَةَ بَنِينَ، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ، وَلِآخَرَ بِثُلُثِ مَا يَبْقَى مِنْ ثُلُثِهِ، وَلِآخَرَ بِخُمُسِ ماله فتأخذ عددا تجمع مخرج الجميع من الْوَصَايَا وَهُوَ الْخُمُسُ وَثُلُثُ الْبَاقِي، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ، مَضْرُوبُ خَمْسَةٍ فِي تِسْعَةٍ، ثُمَّ اعْزِلْ نَصِيبَ الِابْنِ الَّذِي لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ ضَيْمٌ، وَهُوَ سَهْمٌ مِنْ خَمْسَةٍ يَبْقَى أَرْبَعَةٌ، فَاضْرِبْهَا فِي مُخْرَجِ الْوَصَايَا وَهُوَ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ تَكُنْ مِائَةً وَثَمَانِينَ، ثُمَّ انْظُرْ سَهْمَ الْمُوصَى لَهُ بمثل نصيب أحدهم وهو واحدا، فَاضْرِبْهُ فِي مُخْرَجِ الْوَصَايَا تَكُنْ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ، وَانْقُصْ مِنْهُ ثُلُثَهُ وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ لِأَنَّهُ أوصى بثلث ما يبقى بعده ويبقى ثلاثون، فزدها على مائة وَالثَّمَانِينَ تَكُنْ مِائَتَيْنِ وَعَشَرَةً، وَهِيَ سِهَامُ جَمِيعِ الْمَالِ.
فَإِذَا أَرَدْتَ مَعْرِفَةَ سِهَامِ النَّصِيبِ، فَانْقُصْ من مخرج الوصايا بثلث ثُلُثِهِ وَهُوَ خَمْسَةٌ، وَانْقُصْ مِنْهُ خُمُسَ جَمْعَيْهِ، وَهُوَ تِسْعَةٌ، يَبْقَى مِنْهُ بَعْدَ النُّقْصَانَيْنِ أَحَدٌ وَثَلَاثُونَ وَهُوَ نَصِيبُ كُلِّ ابْنٍ.
فَإِذَا أَرَدْتَ القسم فَخُذْ ثُلُثَ الْمَالِ، وَهُوَ سَبْعُونَ فَأَعْطِ مِنْهُ الموصى له بمثل نصيب أحدهم، إحدى وَثَلَاثِينَ، يَبْقَى مِنَ الثُّلُثِ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ أَعْطِ منها الموصى له بثلث الباقي له من الثلث ثلثها، وهو ثلاثة عشرة وَاضْمُمِ الْبَاقِيَ، وَهُوَ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ إِلَى ثُلُثَيِ المال، وهو مائة وأربعون تصير مائة، وستة وستون، فَأَعْطِ مِنْهَا الِابْنَ الَّذِي وصّى لَهُ بِأَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهِ ضَيْمٌ، خُمُسَ جَمِيعِ الْمَالِ الَّذِي هُوَ مِائَتَانِ وَعَشَرَةٌ يَكُنِ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وهو سهمين، ويبقى مائة وأربعة وعشرون وتقسم بَيْنَ الْبَنِينَ الْأَرْبَعَةِ، يَكُنْ لِكُلِّ ابْنٍ أَحَدٌ وَثَلَاثُونَ، وَهُوَ مِثْلَ مَا أَخَذَهُ الْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ. ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ.
فصل:
في التكملة
وَإِذَا تَرَكَ الرَّجُلُ زَوْجَةً، وَابْنًا، وَبِنْتًا، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِتَكْمِلَةِ الثُّلُثِ بِنَصِيبِ الزَّوْجَةِ.
فَوَجْهُ عَمَلِهَا بِحِسَابِ الْبَابِ: أَنْ تُصَحِّحَ الْفَرِيضَةَ، وَتُسْقِطَ مِنْهَا سهم ذوي التكملة ثم تزد عَلَى الْبَاقِي مِثْلَ نِصْفِهِ، وَتُقَسِّمَ سِهَامَ الْفَرِيضَةِ بَيْنَ أَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ بَعْدَهَا فَهُوَ لِلْمُوصَى لَهُ، فَإِذَا صَحَّحْتَ فَرِيضَةَ الزَّوْجَةِ وَالِابْنِ وَالْبِنْتِ، كانت من أربعة وعشرين، فإذا ألغيت مِنْهَا سِهَامَ الزَّوْجَةِ، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ كَانَ الْبَاقِي أَحَدًا وَعِشْرِينَ، فَإِذَا زِدْتَ عَلَيْهَا مِثْلَ نِصْفِهَا لم يسلم فأضعف الأحد والعشرين يكن اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ فَزِدْ عَلَيْهَا مِثْلَ نِصْفِهَا وَهُوَ أحد وعشرون تصير مائة وَسِتِّينَ، وَمِنْهَا تَصِحُّ سِهَامُ الْفَرِيضَةِ مَعَ الْوَصِيَّةِ لِلزَّوْجَةِ مِنْهَا سِتَّةٌ، وَلِلِابْنِ ثَمَانِيَةٌ(8/201)
وَعِشْرُونَ، وَلِلْبِنْتِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِتَكْمِلَةِ الثُّلُثِ بِنَصِيبِ الزَّوْجَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ. وَإِذَا ضَمَمْتَ إِلَيْهَا سِهَامَ الزَّوْجَةِ، وَهِيَ سِتَّةٌ، صَارَ أَحَدًا وَعِشْرِينَ، وَذَلِكَ ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ.
فَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِتَكْمِلَةِ الثُّلُثِ بِنَصِيبِ الْبِنْتِ أَسْقَطْتَهَا مِنْ سِهَامِ الْفَرِيضَةِ وَهِيَ سَبْعَةٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، يَكُنِ الْبَاقِي سَبْعَةَ عَشَرَ، ثُمَّ زِدْتَ عَلَيْهَا مِثْلَ نِصْفِهَا، وَذَلِكَ غَيْرُ سَلِيمٍ فَأَضْعِفْهُ، لِيَسْلَمَ يَكُنْ أَرْبَعَةً وَثَلَاثِينَ، وَنِصْفُهُ سَبْعَةَ عَشَرَ تَكُنْ إِحْدَى وَخَمْسِينَ، وَمِنْهَا تَصِحُّ سِهَامُ الْفَرِيضَةِ مَعَ الْوَصِيَّةِ. مِنْهَا لِلزَّوْجَةِ سِتَّةٌ، وَلِلِابْنِ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ، وَلِلْبِنْتِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَلِلْمُوصَى له بتكملة الثلث بنصيب البنت ثلاث أَسْهُمٍ، لِأَنَّكَ إِذَا ضَمَمْتَهَا إِلَى سِهَامِ الْبِنْتِ صَارَتْ سَبْعَةَ عَشَرَ، وَذَلِكَ ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ.
وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِتَكْمِلَةِ الثُّلُثِ بِنَصِيبِ الِابْنِ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةً، لِأَنَّ سِهَامَ الِابْنِ أَكْثَرُ من الثلث.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " (ولو قَالَ) مِثْلَ نَصِيبِ أَحَدِ وَرَثَتِي أَعْطَيْتُهُ مِثْلَ أَقَلِّهِمْ نَصِيبًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْوَصَايَا لَا يُسْتَحَقُّ فِيهَا إِلَّا الْيَقِينُ، وَالْأَقَلُّ يَقِينٌ، وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ شَكٌّ. فَإِنْ كَانَ سَهْمُ الزوجة أقل، أعطيته مثل أسهام الزوجة، وإن كان نصيب غيرها أقل من البنات، أو بنات الابن، أَعْطَيْتُهُ مِثْلَهُ.
وَاعْتِبَارُ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ سِهَامِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَرَثَةِ مِنْ أَصْلِ فَرِيضَتِهِمْ، فَتَجْعَلُ لِلْمُوصَى لَهُ مِثْلَ سِهَامِ أَقَلِّهِمْ، وَتَضُمُّهُ إِلَى أَصْلِ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ تُقَسِّمُ الْمَالَ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ وَالْوَرَثَةِ، عَلَى مَا اجْتَمَعَ مَعَكَ مِنَ العددين، وقد بيناه.
ولو وصى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَكْثَرِهِمْ نَصِيبًا، اعْتَبَرْتَهُ، وَزِدْتَهُ عَلَى سِهَامِ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ قَسَّمْتَ مَا اجْتَمَعَ مِنَ العددين على ما وصفنا.
فَعَلَى هَذَا: لَوِ اخْتَلَفَ الْوَرَثَةُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ، أَرَادَ مِثْلَ أَقَلِّنَا نَصِيبًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ أَرَادَ مِثْلَ أَكْثَرِنَا نَصِيبًا، أَعْطَيْتُهُ مِنْ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ حِصَّتَهُ مِمَّا اعْتَرَفَ به.
ومثاله: أَنْ يَكُونَ الْوَرَثَةُ ابْنَيْنِ، وَبِنْتَيْنِ، فَيَقُولُ الِابْنَانِ: وصى لك بمثل نصيب ذكر، وتقول الْبِنْتَانِ: وَصَّى لَكَ بِمِثْلِ نَصِيبِ أُنْثَى.
فَوَجْهُ الْعَمَلِ أَنْ يُقَالَ: لَوْ أَرَادَ ذَكَرًا لَكَانَ الْمَالُ مَقْسُومًا، عَلَى ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ فَرِيضَةِ ثَلَاثَةِ بَنِينَ، وَبِنْتَيْنِ، فَيَكُونُ لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمَانِ، وَلِكُلِّ بِنْتٍ سَهْمٌ، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ الذَّكَرِ: سهمان.
وإن أراد أنثى: كان المال مقسوما على سبعة أسهم، فريضة ذكرين وَثَلَاثِ بَنَاتٍ، فَيَكُونُ لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمَانِ وَلِكُلِّ بنت سهم، وللموصى له بمثل نصيب أنثى سَهْمٌ.
فَاضْرِبْ سَبْعَةً فِي ثَمَانِيَةٍ، تَكُنْ سِتَّةً وخمسين. للبنتين سُبْعَاهَا: سِتَّةَ عَشَرَ سَهْمًا،(8/202)
وَلِلْمُوَصَى لَهُ عَلَى أَنَّ لَهُ مِثْلَ نَصِيبِ أنثى: السبع ثمانية أسهم وعلى أن له مثل نصيب ذكر الربع، أربعة عشر سهما، فيكون له اثني عشر وللابنين لو لم يعترفا له بمثل نصيب ذَكَرٍ أَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ الْمَالِ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ سَهْمًا، وَلَهُمَا عِنْدَ اعْتِرَافِهِمَا لَهُ بِنَصِيبِ ذَكَرٍ أَرْبَعَةُ أَثْمَانِ الْمَالِ، ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ سَهْمًا.
فَيَرُدُّ الِابْنَانِ مَا بَيْنَ نَصِيبِهِمَا، وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ عَلَى الْمُوصَى لَهُ لِيَأْخُذَهُ مَعَ مَا حَصَلَ لَهُ من الأسهم الثمانية، فيصير له اثني عَشَرَ سَهْمًا، وَلِلْبِنْتَيْنِ سِتَّةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَلِلِابْنَيْنِ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ سَهْمًا وَيَرْجِعُ بِالِاخْتِصَارِ إِلَى نِصْفِهَا ... ثم على هذا القياس.
فصل:
ولو ترك ابْنًا، وَبِنْتًا، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ الِابْنِ، ولآخر بمثل نصيب البنت فهذا على ضربين:
أحدهما: أن يوصي بِمِثْلِ نَصِيبِ الْبِنْتِ قَبْلَ دُخُولِ الْوَصِيَّةِ عَلَيْهَا.
والثاني: أن يكون بَعْدَ دُخُولِ الْوَصِيَّةِ عَلَيْهَا. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ للموصى له بمثل نصيب الابن ربع المال، وللموصى له بِمِثْلِ نَصِيبِ الْبِنْتِ قَبْلَ دُخُولِ الْوَصِيَّةِ عَلَيْهَا خمس المال، فتصير الوصيتان بخمس المال وربعه، فتوقف على أجازتهما.
والضرب الثاني: أن يريد بِمِثْلِ نَصِيبِ الْبِنْتِ بَعْدَ دُخُولِ الْوَصِيَّةِ عَلَيْهَا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ الْابْنِ خُمُسُ الْمَالِ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ البنت سدس المال فتصير الوصيتان بخمس المال وسدسه، فتوقف على إجازتهما.
ولو ابتدى فَوَصَّى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ الْبِنْتِ، وَلِآخَرَ بِمِثْلِ نَصِيبِ الْابْنِ، فَإِنْ أَرَادَ قَبْلَ دُخُولِ الْوَصِيَّةِ عليه كَانَ لَهُ خُمُسَا الْمَالِ وَإِنْ أَرَادَ بَعْدَ دخول الوصية، كَانَ لَهُ ثُلُثُ الْمَالِ ... ثُمَّ عَلَى هَذَا القياس.
فصل:
ولو ترك بنتا، وأختا، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ الْبِنْتِ: فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُوصَى لَهُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَهُ الرُّبُعُ نِصْفُ حِصَّةِ الْبِنْتِ، لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَحَقَّ مَعَ الِابْنِ الْوَاحِدِ إِذَا أَوْصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِهِ النِّصْفَ، لِأَنَّهُ نِصْفُ نَصِيبِ الِابْنِ، وَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّ مَعَ البنت الواحدة، (النصف من النصف) لِأَنَّهُ نِصْفُ نَصِيبِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ لَهُ الثُّلُثُ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَعَ الْبِنْتِ الْوَاحِدَةِ، كَبِنْتٍ ثَانِيَةٍ، كَمَا يَصِيرُ مَعَ الِابْنِ الْوَاحِدِ كابن ثان وللواحدة من البنتين الثلث.
وكذلك الموصى له بمثل نصيب البنت الواحدة الثلث.
وعلى هذا: لو أوصى بِمِثْلِ نَصِيبِ أُخْتٍ مَعَ عَمٍّ، كَانَ فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ بِالْوَصِيَّةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: الرُّبُعُ.
وَالثَّانِي: الثُّلُثُ.(8/203)
وَهَكَذَا: لَوْ لَمْ يَرِثْ مَعَ الْبِنْتِ وَالْأُخْتِ غيرها لأن لكل واحدة منهما لو انْفَرَدَتِ النِّصْفَ، وَالْبَاقِي لِبَيْتِ الْمَالِ.
فَعَلَى هَذَا: لَوْ وَصَّى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَخٍ لِأُمٍّ، فَلَهُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ نِصْفُ السُّدُسِ، وَفِي الْآخَرِ السدس والله أعلم.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " (وَلَوْ قَالَ) ضِعْفُ مَا يُصِيبُ أَحَدُ وَلَدِي أعطيته مثله مرتين (وإن قَالَ) ضِعْفَيْنِ فَإِنْ كَانَ نَصِيبُهُ مِائَةً أَعْطَيْتُهُ ثلثمائة فكنت قد أضعفت المائة التي تصيبه بمنزلة مرة بعد مَرَّةٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ ضِعْفِ نَصِيبِ أَحَدِ أَوْلَادِهِ، كان الضعف مثل أحد النصيبين.
فَإِنْ كَانَ نَصِيبُ الِابْنِ مِائَةً كَانَ لِلْمُوصَى له بالضعف مائتين، وبه قال جمهور الفقهاء وبه قال الْفَرَّاءِ، وَأَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: الضِّعْفُ مثل واحد، فسوى بين المثل والضعف. وَبِهِ قَالَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ: أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، يضاعف لها العذاب ضعفين} .
فَلَمَّا أَرَادَ بِالضِّعْفَيْنِ مِثْلَيْنِ، عُلِمَ أَنَّ الضِّعْفَ الواحد مثل واحد.
واستدلوا على أن المراد بضعفي العذاب مثليه بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَاقِبَ عَلَى السَّيِّئَةِ بِأَكْثَرَ مِمَّا يُجَازِي عَلَى الْحَسَنَةِ.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي نِسَاءِ النَّبِيِّ: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31] .
فَعُلِمَ أَنَّ مَا جَعَلَهُ مِنْ ضِعْفِ الْعَذَابِ عَلَى السَّيِّئَةِ مَرَّتَيْنِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الضِّعْفَ وَالْمِثْلَ وَاحِدٌ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الضِّعْفَ مثلان هو اخْتِلَافَ الْأَسْمَاءِ تُوجِبُ اخْتِلَافَ الْمُسَمَّى إِلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ وَلِأَنَّ الضِّعْفَ أَعَمُّ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْمِثْلِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسَوى بَيْنَهُ وبين المثل.
ولأن انشقاق الضعف من المضاعفة، والتنبيه من قولهم أضعف الثَّوْبَ إِذَا طَوَيْتَهُ بِطَاقَتَيْنِ وَنَرْجِسٌ مُضَاعَفٌ: إِذَا كَانَ مَوْضِعُ كُلِّ طَاقَةٍ، طَاقَتَيْنِ وَمَكَانُ كُلِّ وَرَقَةٍ، وَرَقَتَيْنِ. فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الضِّعْفُ مِثْلَيْنِ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَضْعَفَ الصَّدَقَةَ عَلَى نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ، أَيْ أَخَذَ مَكَانَ الصَّدَقَةِ صَدَقَتَيْنِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ الشَّاعِرِ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ:
(وَأَضْعَفَ عبد الله إذا كان حَظُّهُ ... عَلَى حَظِّ لَهْفَانٍ مِنَ الْخَرْصِ فَاغِرِ)(8/204)
أراد به إعطائه مِثْلَيْ جَائِزَةِ اللَّهْفَانِ.
فَأَمَّا الْآيَةُ: فَعَنْهَا جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا مَا قَالَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ عَنِ الْأَثْرَمِ عَنْ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّهُ جَعَلَ عَذَابَهُنَّ إِذَا أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ ثَلَاثَةَ أماثل عَذَابِ غَيْرِهِنَّ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الضِّعْفَ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضِعِ الْمِثْلِ مجازا، إذا صرفه الدليل عن حَقِيقَتِهِ. وَلَيْسَتِ الْأَحْكَامُ مُعَلِّقَةً بِالْمَجَازِ وَإِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْحَقَائِقِ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا إِذَا أَوْصَى لَهُ بِضِعْفَيْ نَصِيبِ ابْنِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مذاهب.
أحدهما: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، أَنَّ لَهُ مِثْلَيْ نَصِيبِهِ، لِأَنَّهُ جَعَلَ الضِّعْفَ مِثْلًا فَجَعَلَ الضِّعْفَيْنِ مِثْلَيْنِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي ثَوْرٍ أَنَّهُ لَهُ أَرْبَعَةُ أَمْثَالِ نَصِيبِهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَحَقَّ بِالضِّعْفِ مِثْلَيْنِ، اسْتَحَقَّ بِالضِّعْفَيْنِ أَرْبَعَةَ أَمْثَالٍ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، أَنَّ لَهُ بِالضِّعْفَيْنِ ثَلَاثَةَ أَمْثَالِ نَصِيبِهِ.
فَإِنْ كَانَ نصيب الابن مائة استحق بالضعفين، ثلاثة مائة، لِأَنَّهُ لَمَّا أَخَذَ بِالضِّعْفِ سَهْمَ الِابْنِ وَمِثْلَهُ حتى استحق مثليه وجب أن يأخذ بالضعفين بسهم الِابْنِ وَمِثْلَيْهِ فَيَسْتَحِقُّ بِهِ ثَلَاثَةَ أَمْثَالِهِ.
فَعَلَى هذا: لو أوصى له ثلاثة أَضْعَافِ نَصِيبِ ابْنِهِ اسْتَحَقَّ أَرْبَعَةَ أَمْثَالِهِ.
وَبِأَرْبَعَةِ أضعافه: خمسة أمثاله. وكذلك فيما زاد. والله أعلم بالصواب.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: (وَلَوْ قَالَ) لِفُلَانٍ نَصِيبٌ أَوْ حَظٌّ أَوْ قليل أو كثير من مالي ما عرفت لكثير حدا ووجدت ربع دينار قليلا تقطع فيه اليد ومائتي درهم كثيرا فيها زكاة وكل ما وقع عليه اسم قليل وقع عليه اسم كثير وقيل للورثة أعطوه ما شئتم ما يقع عليه اسم ما قال الميت ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِنَصِيبٍ مِنْ مَالِهِ، أَوْ حَظٍّ، أَوْ قسط، أو قليل، أو كثير ولم يجد ذَلِكَ بِشَيْءٍ فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ، وَيَرْجِعُ فِي بَيَانِهَا إلى الورثة فيما بَيَّنُوهُ مِنْ شَيْءٍ كَانَ قَوْلُهُمْ فِيهِ مَقْبُولًا، فَإِنِ ادَّعَى الْمُوصَى لَهُ أَكْثَرَ مِنْهُ أَحْلَفَهُمْ عَلَيْهِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا لَا تَخْتَصُّ فِي اللُّغَةِ، وَلَا فِي الشَّرْعِ، وَلَا فِي العرف بمقدار معلوم، ولا لاستعمالها في القليل وَالْكَثِيرِ حَدٌّ، لِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَكُونُ قَلِيلًا إِذَا أُضِيفَ إِلَى مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ، وَيَكُونُ كَثِيرًا إِذَا أُضِيفَ إِلَى مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ.
وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ، وَعِكْرِمَةَ: أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِمَا لَيْسَ بِمَعْلُومٍ مِنَ الْحَظِّ وَالنَّصِيبِ بَاطِلَةٌ لِلْجَهْلِ بِهَا.(8/205)
وَهَذَا فَاسِدٌ: لِأَنَّ الْجَهْلَ بِالْوَصَايَا لَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ قَدْرَهُ جَازَتِ الْوَصِيَّةُ مَعَ الْجَهْلِ بِهَا. وَقَدْ أَوْصَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ لِثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ وَلَدِهِ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا إِذَا أَوْصَى لَهُ بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ، فَحُكِيَ عن ابن مسعود وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَإِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وأحمد بن حنبل أنه لَهُ سُدُسَ الْمَالِ. وَقَالَ شُرَيْحٌ: يُدْفَعُ لَهُ سَهْمٌ وَاحِدٌ مِنْ سِهَامِ الْفَرِيضَةِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: يُدْفَعُ إِلَيْهِ مِثْلُ نَصِيبِ أَقَلِّ الْوَرَثَةِ نَصِيبًا، مَا لَمْ يُجَاوِزِ السُّدُسَ، فَإِنْ جَاوَزَهُ أُعْطِيَ السُّدُسَ.
وَقَالَ أبو يوسف، ومحمد: يُعْطَى نصيب أقلهم مثل نَصِيبًا مَا لَمْ يُجَاوِزِ الثُّلُثَ، فَإِنْ جَاوَزَهُ، أعطي الثلث.
وقال أبو ثور. أعطيته سَهْمًا مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: السَّهْمُ اسْمٌ عَامٌّ لَا يَخْتَصُّ بِقَدْرٍ مَحْدُودٍ، لانطلاقه على القليل والكثير، كالحظ والنصيب، فيرجع إِلَى بَيَانِ الْوَارِثِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فرض لرجل أوصى له سهما سُدُسًا.
قِيلَ: هِيَ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ، يُحْتَمَلُ أن تكون البينة قامت بالسدس واعترف به الورثة.
وإذا ثَبَتَ أَنَّهُ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى بَيَانِ الْوَرَثَةِ قبل منهم ما بينوه، من قليل أو كثير.
فإن نوزعوا، أحلفوا.
فإن لم يبينوا لم يخل حَالُهُمْ مِنْ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُمْ بَيَانٌ، أَوْ لَا يَكُونَ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ بيان: رَجَعَ إِلَى بَيَانِ الْمُوصَى لَهُ. فَإِنْ نُوزِعَ، أُحْلِفَ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْمُوصَى لَهُ بيان وَقَفَ الثُّلُثُ عَلَى مَا يَكُونُ مِنْ بَيَانِ أَحَدِهِمَا، وَتَصَرَّفَ الْوَرَثَةُ فِي الثُّلُثَيْنِ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُمْ بَيَانٌ، فَأَبَوْا أَنْ يُبَيِّنُوهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ من اختلاف قوليه فيمن أقر بمجمل وامتنع أَنْ يُبَيِّنَ.
أَحَدُهُمَا: يُحْبَسُ الْوَارِثُ حَتَّى يُبَيِّنَ.
وَالثَّانِي: يُرْجَعُ إِلَى بَيَانِ الْمُوصَى لَهُ وَاللَّهُ أعلم.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلِآخَرَ بِنِصْفِهِ ولآخر بربعه فلم تجز الْوَرَثَةُ قُسِّمَ الثُّلُثُ عَلَى الْحِصَصِ، وَإِنْ أَجَازُوا قُسِمَ الْمَالُ عَلَى ثَلَاثَةَ(8/206)
عَشَرَ جُزْءًا لِصَاحِبِ النِّصْفِ سِتَّةٌ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ أَرْبَعَةٌ وَلِصَاحِبِ الرُّبُعِ ثَلَاثَةٌ حَتَّى يَكُونُوا سَوَاءً فِي الْعَوْلِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي رَجُلٍ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِنِصْفِ مَالِهِ، وَلِآخَرَ بِثُلُثِهِ، وَلِآخَرَ بربعه.
فقد عالت المسألة على كل ماله فلا يخلوا حاله وَرَثَتِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ إِمَّا أَنْ يُجِيزُوا جميعا، أو لا يجيزوا جميعا، أو يجيز بعضهم، ويرد بعضهم.
فإن أجازوا جميعا: قُسِّمَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ وَصَايَاهُمْ، وَأَصْلُهَا مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ، لِاجْتِمَاعِ الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ، وَتَعُولُ بِسَهْمٍ، وَتَصِحُّ مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، لِصَاحِبِ النِّصْفِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ.
وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ، وَلِصَاحِبِ الرُّبُعِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ. وَكَانَ النَّقْصُ بِسَهْمِ الْعَوْلِ دَاخِلًا عَلَى جَمِيعِهِمْ، كَالْمَوَارِيثِ. وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، لم يخالف أبو حنيفة ولا غيره فيه والله أعلم.
فَصْلٌ:
وَإِنْ رَدَّ الْوَرَثَةُ الْوَصَايَا بِكُلِّ الْمَالِ رَجَعَتْ إِلَى الثُّلُثِ، وَكَانَ الثُّلُثُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ عَلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ سَهْمًا، كَمَا اقْتَسَمُوا كُلَّ الْمَالِ مَعَ الْإِجَازَةِ.
فَيَكُونُ لِصَاحِبِ النِّصْفِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ، وَلِصَاحِبِ الرُّبُعِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَمَالِكٌ، وأبو يوسف، ومحمد، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ.
وَقَالَ أبو حنيفة: أَرُدُّ مِنْ وَصِيَّةِ صَاحِبِ النِّصْفِ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، لِيَسْتَوِيَ فِي الْوَصِيَّةِ صَاحِبُ الثُّلُثِ، وَصَاحِبُ النِّصْفِ، وَيَكُونُ الثُّلُثُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ على أحد عشر سهما. لصاحب النِّصْفِ أَرْبَعَةٌ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ أَرْبَعَةٌ، وَلِصَاحِبِ الرُّبُعِ ثَلَاثَةٌ، اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الزيادة على الثلث، لاستحقاق الورثة لها، فيبطل حُكْمُهَا وَصَارَ كَمَنْ وَصَّى بِمَالِهِ وَمَالِ غَيْرِهِ، تمضي الوصية في ماله، وَتُرَدُّ فِي مَالِ غَيْرِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الزِّيَادَةَ على الثلث تَضَمَّنَتْ تَقْدِيرًا وَتَفْضِيلًا، فَلَمَّا بَطَلَ التَّقْدِيرُ، بَطَلَ التفصيل.
وَتَحْرِيرُهُ: أَنَّهُ أَحَدُ مَقْصُودَيِ الزِّيَادَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ كَالتَّقْدِيرِ.
وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ لَمَّا قَصَدَ تَفْضِيلَهُمْ فِي كُلِّ الْمَالِ، قَصَدَ تَفْضِيلَهُمْ فِي كل جزء منه قِيَاسًا عَلَى الْغُرَمَاءِ. وَلِأَنَّهُمْ تَفَاضَلُوا فِي الْوَصِيَّةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَفَاضَلُوا فِي الْعَطِيَّةِ قِيَاسًا عَلَى صَاحِبِ الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ، وَلِأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ الْمَالَ عَلَى التَّفَاضُلِ عِنْدَ الْكَمَالِ، فَوَجَبَ أَنْ يَأْخُذُوهُ عَلَى التفاضل عند العجز قياسا على صاحب الثلث والربع، وَلِأَنَّ كُلَّ شَخْصَيْنِ جُعِلَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا عَلَى التَّفَاضُلِ، لَزِمَ عِنْدَ ضِيقِ الْمَالِ، أَنْ يَتَقَاسَمَاهُ عَلَى التَّفَاضُلِ كَالْعَوْلِ فِي الْفَرَائِضِ.
وَلِأَنَّهُ لَوْ كانت الوصية بالنصف والثلث مالا والرد مقدر كَمَنْ أَوْصَى لِزَيْدٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ(8/207)
هي ثلث ماله، ولعمرو بألف وخمس مائة، هِيَ نِصْفُ مَالِهِ، لَتَفَاضَلَا مَعَ الْإِجَازَةِ وَالرَّدِّ، فوجب إِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِالنِّصْفِ وَالثُّلُثِ مُطْلَقًا أَنْ يَتَفَاضَلَا مَعَ الْإِجَازَةِ وَالرَّدِّ.
وَيَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الِاعْتِلَالِ قِيَاسَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا تَفَاضَلَا فِيهِ مع التقدير يتفاضلان فِيهِ مَعَ الْإِطْلَاقِ كَالْإِجَازَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَا تَفَاضَلَا فِيهِ مَعَ الْإِجَازَةِ تَفَاضَلَا فِيهِ مَعَ الرد كالمقدر.
وأما الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِمَا زَادَ لا يملكها فصارت في حق غيره: فهو أن الرد وإن استحق فليس بمستحق فِي وَاحِدٍ دُونَ غَيْرِهِ وَسَوَاءٌ عَلَى الْوَرَثَةِ انْصِرَافُ الثُّلُثِ إِلَى أَهْلِ الْوَصَايَا عَلَى اسْتِوَاءٍ، أو تفاضل فيطل حقهم فيه، ويرجع إلى قصد الموصل فِيهِ.
وَقَوْلُهُمْ: إِنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الثُّلُثِ قَدْ تَضَمَّنَتْ تَقْدِيرًا وَتَفْضِيلًا، فَيُقَالُ: لَيْسَ بُطْلَانُ أَحَدِهِمَا مُوجِبًا لِبُطْلَانِ الْآخَرِ، أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ النصف يعد الثُّلُثِ زِيَادَةً عَلَى الثُّلُثِ وَلَوْ لَزِمَ مَا قَالُوا، لَبَطَلَتْ وَصِيَّةُ صَاحِبِ النِّصْفِ بِأَسْرِهَا. فَلَمَّا لَمْ تَبْطُلْ بِالرَّدِّ إِلَى الثُّلُثِ، لَمْ يَبْطُلْ حُكْمُ التَّفْضِيلِ بِالرَّدِّ إِلَى الثُّلُثِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا إِذَا أَجَازَ الْوَرَثَةُ الْوَصِيَّةَ لِبَعْضِهِمْ وَرَدُّوهَا لِبَعْضِهِمْ مِثْلَ أَنْ يُجِيزُوا صَاحِبَ الثُّلُثِ وَيَرُدُّوا صَاحِبَ النِّصْفِ وَالرُّبُعِ، فَتُقَسَّمُ الْوَصَايَا مِنْ تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا، لِأَنَّهَا أَقَلُّ مَا يَنْقَسِمُ ثلاثة عَلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ، فَيُعْطَى صَاحِبُ النِّصْفِ سِتَّةَ أَسْهُمٍ مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مِنَ الثُّلُثِ، فَيَكُونُ ثلاثة مِنْ تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ. وَيُعْطَى صَاحِبُ الرُّبُعِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مِنَ الثُّلُثِ فَتَكُونُ ثَلَاثَةً مِنْ تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ.
وَأَمَّا صَاحِبُ الثُّلُثِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّكَ تُعْطِيهِ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ، مَعَ دُخُولِ الْعَوْلِ عَلَيْهِ، كَالَّذِي كَانَ يَأْخُذُهُ، لَوْ وَقَعَتِ الْإِجَازَةُ لِجَمِيعِهِمْ فَعَلَى هَذَا يَأْخُذُ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ فَيَكُونُ ذَلِكَ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا مِنْ تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَأْخُذُ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ كَامِلًا مِنْ غَيْرِ عَوْلٍ. لأنه إنما أخذ الثُّلُثَ عَائِلًا مَعَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ لِجَمِيعِهِمْ، لِضِيقِ المال عن سهامهم. وإذا أجازوا ذلك لبعضهم، اتسع المال لتكمل سَهْمِ مَنْ أُجِيزَ لَهُ مِنْهُمْ.
فَعَلَى هَذَا يأخذ ثلاثة عشر من تسعة عشر من تسعة وثلاثين، ثم على هذا القياس. ولو أُجِيزَ لِصَاحِبِ النِّصْفِ وَحْدَهُ، أَوْ لِصَاحِبِ الرُّبُعِ وَحْدَهُ، أَوْ لَهُمَا أَوْ أَحَدِهِمَا مَعَ صَاحِبِ الثلث.
فصل:
ولو أوصى لِرَجُلٍ بِجَمِيعِ مَالِهِ، وَلِآخَرَ بِثُلُثِ مَالِهِ وَأَجَازَ الْوَرَثَةُ ذَلِكَ لَهُمَا كَانَ الْمَالُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمَا على أربعة أسهم، لأنه مال وثلث، يَكُونُ أَرْبَعَةَ أَثْلَاثٍ، فَيَكُونُ لِصَاحِبِ الْمَالِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ سَهْمٌ.
وَقَالَ دَاوُدُ يَكُونُ لصاحب المال ثلثا المال، ولصاحب الثلث جميع ثلث المال.(8/208)
قَالَ: لِأَنَّهُ لَمَّا أَوْصَى بِالثُّلُثِ بَعْدَ الْكُلِّ، كَانَ رُجُوعًا عَنْ ثُلُثِ الْكُلِّ وَبَنَى ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ فِي إِبْطَالِ الْعَوْلِ.
وَهَذَا أَصْلٌ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِيهِ.
فَلَوْ رَدَّ الْوَرَثَةُ ذَلِكَ:
كَانَ الثُّلُثُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ. لِصَاحِبِ الْمَالِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ سَهْمٌ.
وَقَالَ أبو حنيفة الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نصفين، إِبْطَالًا لِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ عِنْدَ الرَّدِّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ.
فَلَوْ أَجَازَ الْوَرَثَةُ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ، وَرَدُّوا صَاحِبَ الْكُلِّ، كَانَ لِصَاحِبِ الْكُلِّ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ مِنْ أَرْبَعَةٍ مِنَ الثُّلُثِ، فَيَكُونُ لَهُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ سهما.
وأما صَاحِبُ الثُّلُثِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَكْمُلُ لَهُ سَهْمُهُ مَعَ الْعَوْلِ. فَعَلَى هَذَا يَأْخُذُ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا، وَيَبْقَى مِنْهَا بعد الوصيتين ستة أسهم ترجع على الوارث.
والوجه الثاني: يكون له الثلث مع غَيْرِ عَوْلٍ، فَعَلَى هَذَا يَأْخُذُ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ، وَيَبْقَى بَعْدَ الْوَصِيَّتَيْنِ خَمْسَةٌ تَرْجِعُ عَلَى الْوَارِثِ.
فَلَوْ أَجَازَ الْوَرَثَةُ لِصَاحِبِ الْكُلِّ، وَرَدُّوا لِصَاحِبِ الثُّلُثِ: أَخَذَ صَاحِبُ الثُّلُثِ سَهْمًا مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ فَإِنْ أُعِيلَ سَهْمُ صَاحِبِ الْكُلِّ مَعَ الإجازة له أخذ تسعة أسهم، ويبقى بعد الوصيتين سهمان للوارث. فإن أكمل سَهْمُهُ مِنْ غَيْرِ عَوْلٍ، أَخَذَ جَمِيعَ الْبَاقِي وَهُوَ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا، وَهُوَ دُونُ الْكُلِّ بِسَهْمٍ زَاحَمَهُ فِيهِ صَاحِبُ الثُّلُثِ، وَلَمْ يَبْقَ للوارث شيء وبالله التوفيق.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ أَوْصَى بِغُلَامِهِ لِرَجُلٍ وَهُوَ يُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ وَبِدَارِهِ لِآخَرَ وَهِيَ تُسَاوِي أَلْفًا وَبِخَمْسِمِائَةٍ لِآخَرَ والثلث ألف دَخَلَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَوْلُ نِصْفٍ وكان للذي لَهُ الْغُلَامُ نِصْفُهُ وَلِلَّذِي لَهُ الدَّارُ نِصْفُهَا وللذي له خمسمائة نِصْفُهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا ضَاقَ الثُّلُثُ عَنِ الْوَصَايَا، فَلِلْوَرَثَةِ حَالَتَانِ:
حَالَةٌ يُجِيزُونَ، وَحَالَةٌ يَرُدُّونَ.
فَإِنْ رَدُّوا: قُسِّمَ الثُّلُثُ بَيْنَ أَهْلِ الْوَصَايَا، بِالْحِصَصِ، وَتَسْتَوِي فِيهِ الْوَصِيَّةُ بِالْمُعَيَّنِ وَالْمُقَدَّرِ.
وَحُكِيَ عَنْ أبي حنيفة: أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمُعَيَّنِ، مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِالْمُقَدَّرِ، اسْتِدْلَالًا بأن القدر يَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ فَإِذَا ضَاقَ الثُّلُثُ فِيهَا زَالَ تَعَلُّقُهَا بِالذِّمَّةِ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ. لِأَنَّ مَحَلَّ(8/209)
الْوَصَايَا فِي التَّرِكَةِ سَوَاءٌ ضَاقَ الثُّلُثُ عَنْهَا أَوِ اتَّسَعَ لَهَا، فَاقْتَضَى أَنْ يَسْتَوِيَ الْمُعَيَّنُ وَالْمُقَدَّرُ مَعَ ضِيقِ الثُّلُثِ، كَمَا يَسْتَوِيَانِ مَعَ اتِّسَاعِهِ، وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمُقَدَّرِ أَثَبَتُ مِنَ الْوَصِيَّةِ بالمعين، ولأن الْمُعَيَّنَ إِنْ تَلِفَ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ بِهِ وَالْمُقَدَّرُ إِنْ تَلِفَ بَعْضُ الْمَالِ: لَمْ تَبْطُلِ الْوَصِيَّةُ.
فَإِذَا تَقَرَّرَ اسْتِوَاءُ الْمُعَيَّنِ، وَالْمُقَدَّرِ مَعَ ضِيقِ الثُّلُثِ عَنْهُمَا: وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَجْزُ الثُّلُثِ دَاخَلَا عَلَى أَهْلِ الْوَصَايَا بِالْحِصَصِ. فَإِذَا أَوْصَى بعبده لرجل، وقيمته خمس مائة دِرْهَمٍ، وَبِدَارِهِ لِآخَرَ وَقِيمَتُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ وَبِخَمْسِمِائَةٍ لآخر، فوصاياه الثَّلَاثَةِ كُلُّهَا تَكُونُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ. فَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ أَلْفَيْنِ فَصَاعِدًا، فَلَا عَجْزَ، وَهِيَ مُمْضَاةٌ.
وَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَقَدْ عَجَزَ الثلث عن نصفها، فوجب أن يدخل القول عَلَى جَمِيعِهَا، وَيَأْخُذَ كُلُّ مُوصًى لَهُ بِشَيْءٍ نصفه، فيعطي الموصي الْمُوصَى لَهُ بِالْعَبْدِ نَصْفَهُ وَذَلِكَ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا. وَيُعْطَى الْمُوصَى لَهُ بِالدَّارِ نِصْفَهَا وذلك خمسمائة. وَيُعْطَى الْمُوصَى لَهُ بِالْخَمْسِمِائَةِ نِصْفَهَا وَذَلِكَ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا. صَارَ جَمِيعُ ذَلِكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ.
وَعَلَى قَوْلِ أبي حنيفة تَسْقُطُ الْوَصِيَّةُ بِالْخَمْسِمِائَةِ الْمُقَدَّرَةِ، وَيُجْعَلُ الثُّلُثُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِالْعَبْدِ وَالدَّارِ، فَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثَيْ وَصِيَّتِهِ لِدُخُولِ الْعَجْزِ بِالثُّلُثِ عَلَيْهِمَا. فَلَوْ كَانَ الثُّلُثُ فِي هَذِهِ الْوَصَايَا خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ فَهُوَ ربع الوصايا الثلاث. فَيُعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ رُبُعَ مَا جُعِلَ لَهُ.
وَلَوْ كَانَ الثُّلُثُ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ، فَيُجْعَلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ وَصِيَّتِهِ ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ:
وَإِنْ أَجَازَ الْوَرَثَةُ الْوَصَايَا كُلَّهَا مَعَ ضِيقِ الثُّلُثِ عَنْهَا، وَدُخُولِ الْعَجْزِ بِالنِّصْفِ عَلَيْهَا فَفِي إِجَازَتِهِمْ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ إِجَازَتَهُمُ ابْتِدَاءُ عَطِيَّةٍ مِنْهُمْ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا بِالْمَنْعِ مَالِكِينَ لِمَا مَنَعُوهُ، وَجَبَ أَنْ يَكُونُوا بِالْإِجَازَةِ مُعْطِينَ لِمَا أَجَازُوهُ.
فَعَلَى هَذَا: قَدْ مَلَكَ أَهْلُ الْوَصَايَا نِصْفَهَا بالوصية لاحتمال الثلث لها ولا يفتقر تمليكهم لَهَا إِلَى قَبْضٍ. وَنِصْفُهَا بِالْعَطِيَّةِ، لِعَجْزِ الثُّلُثِ عنها ولا يتم ملكهم إلا بقبض.
القول الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة: إِنَّ إِجَازَةَ الْوَرَثَةِ تَنْفِيذٌ وَإِمْضَاءٌ لِفِعْلِ الْمَيِّتِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مَمْلُوكٌ بِالْوَصِيَّةِ دُونَ الْعَطِيَّةِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا اسْتَحَقُّوهُ بِالْخِيَارِ فِي عُقُودِ الميت لا يكون الورثة بالإمضاء لها عاقدين كَالْمُشْتَرِي سِلْعَةً إِذَا وَجَدَ وَارِثُهُ بِهَا عَيْبًا فَأَمْضَى الشِّرَاءَ وَلَمْ يَفْسَخْهُ: كَانَ تَنْفِيذًا وَلَمْ يَكُنْ عَقْدًا، فَكَذَلِكَ خِيَارُهُ فِي إِجَازَةِ الْوَصِيَّةِ.(8/210)
وَالثَّانِي: أَنَّ لَهُمْ رَدَّ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فِي حُقُوقِ أَنْفُسِهِمْ، فَإِذَا أَجَازُوهُ سَقَطَتْ حقوقهم منه، فصار الثلث وما زادوا عَلَيْهِ سَوَاءً فِي لُزُومِهِ لَهُمْ.
فَإِذَا اسْتَوَى الْحُكْمُ فِي الْجَمِيعِ مَعَ اللُّزُومِ: اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهُ وَصِيَّةً لَا عَطِيَّةً. فَعَلَى هَذَا: يَلْزَمُهُمْ نِصْفُ الْوَصَايَا بِالْوَصِيَّةِ مِنْ غَيْرِ إِجَازَةٍ لِاحْتِمَالِ الثُّلُثِ لَهَا. وَنِصْفُهَا بِالْإِجَازَةِ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ يُعْتَبَرُ، وَلَا رُجُوعَ يَسُوغُ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْعَطَايَا فِي الْمَرَضِ: فَهِيَ مُقَدَّمَةٌ على الوصايا إذا ضاق الثلث عنها، لِأَنَّ تِلْكَ نَاجِزَةٌ، وَهَذِهِ مَوْقُوفَةٌ، فَلَوْ ضَاقَ الثُّلُثُ عَنْ عَطَايَا الْمَرَضِ قُدِّمَ الْأَسْبَقُ فَالْأَسْبَقُ. وَلَوْ ضَاقَ الثُّلُثُ عَنِ الْوَصَايَا: لَمْ يُقَدَّمِ الْأَسْبَقُ، لِأَنَّ عَطَايَا الْمَرَضِ تُمَلَّكُ بِالْقَبْضِ الْمُتَرَتِّبِ، فَثَبَتَ حُكْمُ الْمُتَقَدِّمِ. وَالْوَصَايَا كُلُّهَا تُمَلَّكُ بِالْمَوْتِ فَاسْتَوَى فِيهَا حُكْمُ الْمُتَقَدِّمِ وَالْمُتَأَخِّرِ إِلَّا أنْ رتبها الموصي فيمضي عَلَى تَرْتِيبِهِ مَا لَمْ يَتَخَلَّلِ الْوَصَايَا عِتْقٌ. فَإِنْ تَخَلَّلَهَا عِتْقٌ. فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فِي كفارة أو نذر قدم عَلَى وَصَايَا التَّطَوُّعِ، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا: فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْعِتْقَ مُقَدَّمٌ عَلَى جَمِيعِ الْوَصَايَا لِقُوَّتِهِ بِالسِّرَايَةِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَمِنَ التَّابِعِينَ شُرَيْحٌ، وَالْحَسَنُ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْعِتْقَ وَالْوَصَايَا كُلَّهَا سَوَاءٌ فِي مُزَاحَمَةِ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَهَا تَطَوُّعٌ. وَبِهِ قَالَ مِنَ التَّابِعِينَ ابْنُ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيُّ ومن الفقهاء أبو ثور.
فصل:
ولو أَوْصَى رَجُلٌ أَنْ يَشْتَرِيَ عَبْدَ زَيْدٍ بِأَلْفِ درهم وأن يعتق عليه فاشتراه الموصى بخمس مائة، وأعتقه عنه، والبائع غير عالم فقد اختلف الناس في الخمس مائة الْبَاقِيَةِ مِنَ الْأَلْفِ: فَحُكِيَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ: أَنَّهَا تُدْفَعُ إِلَى الْبَائِعِ، وَجَعَلَهَا وَصِيَّةً لَهُ.
فحكي عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: أَنَّهَا تُدْفَعُ إِلَى الْوَرَثَةِ، وَجَعَلَهَا تَرِكَةً.
وَحُكِيَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ أَنَّهَا تُصْرَفُ فِي الْعِتْقِ، وَجَعَلَهَا وَصِيَّةً له، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُنْظَرُ قِيمَةَ عَبْدِ زَيْدٍ الْمُوصَى لَهُ بِشِرَائِهِ وَعِتْقِهِ فَإِنْ كَانَ يُسَاوِي أَلْفًا فَلَيْسَ فِيهَا وَصِيَّةً فَيَعُودُ الْبَاقِي مِنْ ثمنه إلى الورثة. وإن كان يساوي خمس مائة عَادَ الْبَاقِي إِلَى زَيْدٍ الْبَائِعِ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ له. وإن كان يساوي سبع مائة. فالوصية منها بثلاث مائة دِرْهَمٍ، فَتُدْفَعُ إِلَى الْبَائِعِ، وَتُرَدُّ الْمِائَتَانِ عَلَى الْوَرَثَةِ مِيرَاثًا.
فَصْلٌ:
وَإِذَا أَوْصَى بِعِتْقِ أَمَةٍ عَلَى أَنَّهَا لَا تَتَزَوَّجُ، أُعْتِقَتْ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ. فَإِنْ تَزَوَّجَتْ لَمْ يَبْطُلِ الْعِتْقُ، وَلَا النكاح. ووجب الرجوع عليها بقيمتها ولا يعود ميراثا. لأن عدم الشرط منع مِنْ إِمْضَاءِ الْوَصِيَّةِ، وَنُفُوذَ الْعِتْقِ يَمْنَعُ مِنَ الرُّجُوعِ فِيهِ.
فَلَوْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ لَمْ يُسْتَحَقَّ اسْتِرْجَاعُ الْقِيمَةِ، لِأَنَّ شَرْطَ الْوَصِيَّةِ قَدْ عُدِمَ بِتَزْوِيجِهَا.
وَإِنْ طُلِّقَتْ: فَإِنْ أَوْصَى لِأُمِّ وَلَدِهِ بألف درهم على أن لا تتزوج وأعطيت الْأَلْفَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ، فَإِنْ تَزَوَّجَتِ اسْتُرْجِعَتِ الْأَلْفُ مِنْهَا بِخِلَافِ الْعِتْقِ. لِأَنَّ اسْتِرْجَاعَ الْمَالِ مُمْكِنٌ، وَاسْتِرْجَاعَ الْعِتْقِ غَيْرُ مُمْكِنٍ.(8/211)
فَرْعٌ:
وَإِذَا أَوْصَى بِعِتْقِ عَبْدٍ، فَاشْتَرَى الْوَصِيُّ أَبَا نَفْسِهِ فَأَعْتَقَهُ عَنِ الْمُوصِي: أَجْزَأَ سَوَاءٌ كَانَ الْعِتْقُ تَطَوُّعًا، أَوْ وَاجِبًا.
وَلَوِ اشْتَرَى أَبَا الْمُوصِي فَأَعْتَقَهُ: فَإِنْ كَانَ عَنْ وَاجِبٍ لَمْ يُجْزِئْ وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا: أَجْزَأَ.
فَصْلٌ:
وَلَوْ أَوْصَى رَجُلٌ بِعَبْدِهِ لِرَجُلٍ، وَقِيمَتُهُ مِائَةُ درهم، وبسدس ماله لآخر، وماله خمس مائة دِرْهَمٍ. فَقَدْ حُكِيَ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ فِيهَا قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْعَبْدَ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِالْعَبْدِ وَبَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِالسُّدُسِ عَلَى سَبْعَةِ أسهم. لأن السدس إذا انضم إلى الكل صار سَبْعَةً يَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ بِالْعَبْدِ سِتَّةَ أَسْبَاعِهِ، وَيَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ بِالسُّدُسِ سَبْعَةً ثُمَّ يَعُودُ صاحب السدس إلى الأربع مائة الْبَاقِيَةِ مِنَ الْمَالِ فَيَأْخُذُ سُدُسَهَا، وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا وَثُلُثَا دِرْهَمٍ، إِذَا ضُمَّتْ إِلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ، وَهِيَ مِائَةُ دِرْهَمٍ، صَارَ الْجَمِيعُ مائة درهم وستة وستون دِرْهَمًا وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ. وَهِيَ ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ من غير زيادة ولا نقصان.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ خَمْسَةَ أَسْدَاسِ الْعَبْدِ يَخْتَصُّ بها الموصى له بالعبد لأنه لم يوصى بِهِ لِغَيْرِهِ، وَالسُّدُسُ الْبَاقِي يَكُونُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِالْعَبْدِ، وَالْمُوصَى لَهُ بِالسُّدُسِ نِصْفَيْنِ، لِأَنَّهُ مُوصًى بِهِ لَهُمَا، فَيَصِيرُ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا، لِلْمُوصَى لَهُ بِالْعَبْدِ مِنْهَا أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا، وَلِلْمُوصَى لَهُ بِالسُّدُسِ سَهْمٌ، ثُمَّ يعود صاحب السدس فيأخذ سدس الأربع مائة الباقية. وذلك تمام ثلث جميع المال.
ولكل من القولين وجه. والأول أشبه.
فصل:
ولو أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ، وَلِآخَرَ بِفَرَسٍ قِيمَتُهُ سِوَى الْفَرَسِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَالْوَصِيَّتَانِ تَزِيدُ عَلَى الثُّلُثِ بِمِثْلِ ثُلُثَيْهِ، لِأَنَّ الْمَالَ ثَلَاثَةُ آلَافِ درهم والوصيتان بفرس قيمته ألف درهم، وبثلث الألفين وهو دِرْهَمٍ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا، وَثُلُثَا دِرْهَمٍ.
فَإِذَا أَسْقَطَتِ الزِّيَادَةُ عَلَى الثُّلُثِ، عِنْدَ رَدِّ الْوَرَثَةِ، سقط خمسا الوصيتين، ورجعت إلى ثلاثة أخماسه، لِأَنَّ الْأَلْفَ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهَا.
ثُمَّ فِي قسمة ذَلِكَ بَيْنَ صَاحِبِ الْفَرَسِ وَالثُّلُثِ قَوْلَانِ عَلَى مَا حَكَاهُ ابْنُ سُرَيْجٍ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَوْلَى مِنْهُمَا: إِنَّ ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِ الْفَرَسِ مَقْسُومَةٌ بَيْنَ صاحب الثلث، وصاحب الفرس عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ لِصَاحِبِ الْفَرَسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ سَهْمٌ فَيَصِيرُ الْفَرَسُ مَقْسُومًا عَلَى عِشْرِينَ سَهْمًا، مِنْهَا لِصَاحِبِ الْفَرَسِ: تِسْعَةُ أَسْهُمٍ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَعْشَارِهِ وَنِصْفُ عُشْرِهِ، وَقِيمَةُ ذَلِكَ أربع مائة وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَذَلِكَ عُشْرُهُ وَنِصْفُ عُشْرِهِ، وَقِيمَةُ ذَلِكَ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا، ثُمَّ يَأْخُذُ صَاحِبُ الثُّلُثِ ثُلُثَ ثَلَاثَةِ أخماس الألفين، وذلك أربع مائة درهم فيصير مع صاحب الثلث خمس مائة وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا مِنَ الْفَرَسِ وَالْمَالِ.(8/212)
ومع صاحب الفرس أربع مائة وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا مِنَ الْفَرَسِ، فَتَصِيرُ الْوَصِيَّتَانِ أَلْفَ درهم هو ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ.
وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْأَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِ الفرس مقسوم بين صاحب الفرس، وصاحب الثلث، عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ، مِنْهَا خَمْسَةُ أَسْهُمٍ لِصَاحِبِ الْفَرَسِ، وَسَهْمٌ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ، لِأَنَّ ثُلُثَيْ ذَلِكَ يُسَلَّمُ لِصَاحِبِ الْفَرَسِ، وَالثُّلُثَ مُوصًى بِهِ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ، وَصَاحِبِ الْفَرَسِ، فَصَارَ بَيْنَهُمَا، فَيَصِيرُ الْفَرَسُ مقسوما على عشرة أسهم منها لصاحب الفرس أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَعْشَارِهِ، وَقِيمَةُ ذَلِكَ، أربع مائة، وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ سَهْمَانِ وَهُمَا عَشَرَةٌ وَقِيمَةُ ذَلِكَ مائتا درهم. ثم يأخذ صاحب الفرس حقه من ألفين، وذلك أربع مائة درهم. فصار مع صاحب الفرس الثلث ست مائة درهم من الفرس. ومع صاحب الفرس أربع مائة من الفرس وَهُمَا جَمِيعًا أَلْفُ دِرْهَمٍ ثُلُثُ جَمِيعِ التَّرِكَةِ وَهَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أبي حنيفة. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " (وَلَوْ) أَوْصَى لِوَارِثٍ وَأَجْنَبِيٍّ فَلَمْ يُجِيزُوا فَلِلْأَجْنَبِيِّ النصف ويسقط الْوَارِثِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَلِلْوَرَثَةِ أَنْ يَعْتَرِضُوا فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، لِأَنَّهُ غَايَةُ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْمَيِّتُ مِنْ جُمْلَةِ مَالِهِ بِالْوَصِيَّةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِسَعْدٍ: " الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ " فَإِنْ أَوْصَى بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ، لَزِمَتِ الْوَصِيَّةُ فِي الثُّلُثِ وَكَانَتِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ مَوْقُوفَةً عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ وَرَدِّهِمْ.
والثاني: في اعتراض الورثة الوصية لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَةَ لِوَارِثٍ ".
فَإِنْ أَوْصَى لِوَارِثٍ فَمَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ مُخَرَّجٌ مِنْ كَلَامٍ لَهُ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ، لَا تَصِحُّ وَإِنْ أَجَازَهَا الْوَرَثَةُ لِلنَّهْيِ عَنْهَا، وَلِثُبُوتِ الْحُكْمِ بِنَسْخِهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ أَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ كَالزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ.
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ التَّفْرِيعُ. فعلى هذا:
لو أوصى لوارث بثلث ماله، ولأجنبي بثلث ماله، فقد استحق الورثة المنع في الْوَجْهَيْنِ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ لِوَارِثٍ وَغَيْرِ وَارِثٍ، وَمِنَ الْوَصِيَّةِ لِوَارِثٍ وَإِنِ احْتَمَلَهَا الثُّلُثُ.
وإذا كان كذلك: فللورثة أربعة أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُجِيزُوا الْأَمْرَيْنِ، الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ، وَالزِّيَادَةَ عَلَى الثُّلُثِ، فَتَمْضِي الْوَصِيَّةُ لَهُمَا بِالثُّلُثَيْنِ.(8/213)
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ:
أَنْ يُجِيزُوا الزِّيَادَةَ عَلَى الثُّلُثِ، وَيَمْنَعُوا الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ فَيَأْخُذُ الْأَجْنَبِيُّ الثُّلُثَ كَامِلًا، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَرِضُوا عَلَيْهِ فِي الزِّيَادَةِ، وَكَمُلَتْ وَصِيَّتُهُ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ:
أَنْ يَرُدُّوا الزِّيَادَةَ عَلَى الثُّلُثِ، وَيُجِيزُوا الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ فَيَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَ الأجنبي والوارث نصفين، ويأخذ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سُدُسًا، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِيمَا رَجَعَتْ إِلَيْهِ الْوَصِيَّةُ.
وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ:
أَنْ يَرُدُّوا الزِّيَادَةَ على الثلث، ويمضوا الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ، فَيَكُونُ لِلْأَجْنَبِيِّ السُّدُسُ لِأَنَّ مَا زَادَ مَرْدُودٌ فِي حَقِّهِمَا مَعًا فَصَارَ الثُّلُثُ لهما، ثم منع الوارث منه فصار سَهْمُهُ مِيرَاثًا وَأَخَذَ الْأَجْنَبِيُّ سَهْمَهُ مِنْهُ لَوْ كان الوارث له مشاركا.
فلو كَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِأَجْنَبِيٍّ وَوَارِثِينَ، وَلَمْ يُجِيزُوا:
كَانَ للأجنبي ثلث الثلث لأنه أحد ثلاثة أشركوا فِي الثُّلُثِ. وَلَوْ كَانَتْ لِأَجْنَبِيَّيْنِ وَوَارِثٍ.
كَانَ لهما ثلث الثُّلُثِ.
وَالِاعْتِبَارُ بِكَوْنِهِ وَارِثًا، عِنْدَ الْمَوْتِ لَا وقت الوصية.
فعلى هذا: لو كان وَارِثًا ثُمَّ صَارَ عِنْدَ الْمَوْتِ غَيْرَ وَارِثٍ: صَحَّتْ لَهُ الْوَصِيَّةُ.
وَلَوْ أَوْصَى لَهُ وَهُوَ غَيْرُ وَارِثٍ ثُمَّ صَارَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَارِثًا: رُدَّتِ الْوَصِيَّةُ.
وَلَوْ أَوْصَى لِامْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا: بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ.
وَلَوْ أَوْصَى لِزَوْجَتِهِ، ثُمَّ طَلَّقَهَا: صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ:
وَلَا تَصِحُّ إِجَازَةُ الْوَرَثَةِ إِلَّا مِنْ بَالِغٍ، عَاقِلٍ، جائز الأمر.
وإن كَانَ فِيهِمْ صَغِيرٌ أَوْ مَجْنُونٌ، أَوْ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ: لَمْ تَصِحَّ مِنْهُ الْإِجَازَةُ، وَلَا مِنَ الْحَاكِمِ عَلَيْهِ، وَلَا مِنْ وَلِيِّهِ لِمَا فِي الْإِجَازَةِ عَلَيْهِ مِنْ تَضْيِيعِ حَقِّهِ، وَلَا ضمان على الولي المجيز، ما لم يقبض.
فإن أقبض؛ صار ضامنا لما أَجَازَهُ مِنَ الزِّيَادَةِ.
فَصْلٌ:
وَإِذَا أَجَازَ الْوَرَثَةُ الزِّيَادَةَ عَلَى الثُّلُثِ، ثُمَّ قَالُوا كُنَّا نَظُنُّ أن الزِّيَادَةَ يَسِيرَةً، أَوْ كُنَّا نَظُنُّ مَالَهُ كَثِيرًا، أَوْ كُنَّا لَا نَرَى عَلَيْهِ دَيْنًا: كَانَ القول قَوْلَهُمْ مَعَ أَيْمَانِهِمْ.
فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْإِجَازَةَ ابْتِدَاءُ عَطِيَّةٍ مِنْهُمْ، بَطَلَتْ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ، لِأَنَّهَا هِبَةٌ جَهِلُوا بَعْضَهَا، فَبَطَلَتْ.
وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهَا تَنْفِيذٌ وَإِمْضَاءٌ، قِيلَ لَهُمْ قَدْ لزمكم من إمضاء الزيادة القدر كنتم تظنوه يَزِيدُ عَلَى الثُّلُثِ لِأَنَّكُمْ قَدْ عَلِمْتُمُوهُ، وَبَطَلَتِ الزيادة فيما جهلتموه.(8/214)
فَإِنِ اخْتَلَفُوا مَعَ الْمُوصَى لَهُ فِي الْقَدْرِ الَّذِي عَلِمُوهُ: كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَهُمْ مَعَ أَيْمَانِهِمْ.
فَصْلٌ:
وَإِذَا مَاتَ رَجُلٌ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ، فَادَّعَى رَجُلٌ أَنَّ أَبَاهُمَا وَصَّى لَهُ بِثُلُثِ مَالِهِ، فَصَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا، وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ، حَلَفَ الْمُكَذِّبُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي حِصَّتِهِ.
وَفِيمَا يَلْزَمُ الْمُصَدِّقَ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ ثُلُثُ حِصَّتِهِ، وَهُوَ سدس جميع المال.
والوجه الثاني: يلزمه سدس جَمِيعِ الْمَالِ مِنْ حِصَّتِهِ.
وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي إِقْرَارِ أَحَدِ الِابْنَيْنِ بِدَيْنٍ.
فَلَوْ صَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا عَلَى جَمِيعِ الثُّلُثِ، وَصَدَّقَهُ الْآخَرُ عَلَى السُّدُسِ.
لَزِمَ الْمُصَدِّقَ عَلَى السدس نصف السدس، وفيما يلزم الْمُصَدِّقَ عَلَى الثُّلُثِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: نِصْفُ الثُّلُثِ، وَهُوَ السُّدُسُ.
وَالثَّانِي: ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الثُّلُثِ، وَهُوَ الربع. والله أعلم بالصواب.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وتجوز الْوَصِيَّةُ لِمَا فِي الْبَطْنِ وَبِمَا فِي الْبَطْنِ إِذَا كَانَ يَخْرُجُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فإن خرجوا عددا ذكرانا وَإِنَاثًا فَالْوَصِيَّةُ بَيْنَهُمْ سَوَاءٌ وَهُمْ لِمَنْ أُوصى بِهِمْ لَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُشْتَمِلَةٌ على فصلين:
أحدهما: الوصية بالحمل.
والثاني: الوصية للحمل.
فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ لِلْحَمْلِ فَجَائِزَةٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ بِالْإِرْثِ، وَهُوَ أَضْيَقُ، مَلَكَ بِالْوَصِيَّةِ الَّتِي هِيَ أَوْسَعُ.
وَلَوْ أَقَرَّ لِلْحَمْلِ إِقْرَارًا مُطْلَقًا بَطَلَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْوَصِيَّةَ أحمل للجهالة له مِنَ الْإِقْرَارِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى لِمَنْ فِي هَذِهِ الدَّارِ صَحَّ. وَلَوْ أَقَرَّ لَهُ لَمْ يَصِحَّ.
فَإِذَا قَالَ: قَدْ أَوْصَيْتُ لِحَمْلِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ بِأَلْفٍ نُظِرَ حَالُهَا إِذَا وَلَدَتْ، فَإِنْ وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ تَكَلَّمَ بِالْوَصِيَّةِ لَا مِنْ حِينِ الْمَوْتِ صَحَّتْ لَهُ الْوَصِيَّةُ لِعِلْمِنَا أَنَّ الْحَمْلَ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ.
وَإِنْ وَضَعَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ حِينِ الْوَصِيَّةِ: فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ لِحُدُوثِهِ بَعْدَهَا، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا وقت تكلمه بِهَا.
وَإِنْ وَضَعَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْوَصِيَّةِ، وَلِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ، فإن كانت(8/215)
ذَاتَ زَوْجٍ أَوْ سَيِّدٍ يُمْكِنُ أَنْ يَطَأَهَا فيحدث ذلك منه: فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ لِإِمْكَانِ حُدُوثِهِ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ بِالشَّكِّ.
وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ ذَاتِ زَوْجٍ أَوْ سَيِّدٍ يطأ، فالوصية صحيحة لِأَنَّ الظَّاهِرَ تَقَدُّمُهُ وَالْحَمْلُ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الظَّاهِرِ فِي اللُّحُوقِ فَكَذَلِكَ فِي الْوَصِيَّةِ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا صَحَّتْ لَهُ الْوَصِيَّةُ فَسَوَاءٌ كَانَ الْحَمْلُ حُرًّا، أَوْ مَمْلُوكًا، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْمَمْلُوكِ جَائِزَةٌ، إِلَّا أَنَّهَا فِي الْمَمْلُوكِ لِسَيِّدِهِ، وَفِي الْحُرِّ لَهُ، دُونَ غَيْرِهِ.
ثُمَّ إِنْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، فَالْوَصِيَّةُ لَهُ.
وَإِنْ وَضَعَتْ ذكرا وأثنى كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، لِأَنَّهَا هِبَةٌ لَا مِيرَاثَ، إِلَّا أَنْ يُفَضِّلَ الْمُوصِي الذَّكَرَ عَلَى الأنثى. لو على هذه فيحمل على تفضيله.
فلو قال: إن وَلَدَتْ غُلَامًا فَلَهُ أَلْفٌ، وَإِنْ وَلَدَتْ جَارِيَةً فَلَهَا مِائَةٌ فَوَلَدَتْ غُلَامًا: اسْتَحَقَّ أَلْفًا، وَإِنْ ولدت جارية اسْتَحَقَّ الْغُلَامُ أَلْفًا وَالْجَارِيَةُ مِائَةً.
وَإِنْ وَلَدَتْ خُنْثَى دُفِعَ إِلَيْهِ مِائَةٌ لِأَنَّهَا يَقِينٌ، وَوَقَفَ تَمَامُ الْأَلْفِ حَتَّى يَسْتَبِينَ.
وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: إِنْ كَانَ فِي بَطْنِكِ غُلَامٌ فَلَهُ أَلْفٌ، وَإِنْ كَانَ فِي بَطْنِكِ جَارِيَةٌ فَلَهَا مِائَةٌ، فَوَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً، كَانَ لِلْغُلَامِ أَلْفٌ وَلِلْجَارِيَةِ مائة.
فلو ولدت وَلَدَتْ غُلَامَيْنِ، أَوْ جَارِيَتَيْنِ، صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ، وَفِيهَا ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ حَكَاهَا ابْنُ سُرَيْجٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَدْفَعُوا الْأَلْفَ إِلَى أَيِّ الْغُلَامَيْنِ شاءوا والمائة إلى الجاريتين شاءوا. لأنها لأحدهما فلم تدفع إلى أحدهما، وَرُجِعَ فِيهَا إِلَى بَيَانِ الْوَارِثِ، كَمَا لَوْ أوصى له بِأَحَدِ عَبْدَيْهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَشْتَرِكُ الْغُلَامَانِ فِي الْأَلْفِ، وَالْجَارِيَتَانِ فِي الْمِائَةِ، لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ لِغُلَامٍ وَجَارِيَةٍ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْغُلَامَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ فَشَرَّكَ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ يُرْجَعْ فِيهِ إِلَى خِيَارِ الْوَارِثِ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ بِأَحَدِ الْعَبْدَيْنِ اللَّذَيْنِ يملكهما الوارث، فجائز أَنْ يُرْجَعَ إِلَى خِيَارِهِ فِيهِمَا.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَلْفَ مَوْقُوفَةٌ بَيْنَ الْغُلَامَيْنِ، وَالْمِائَةَ مَوْقُوفَةٌ بين الجاريتين حتى يصطلحا عليهما بعد البلوغ، لأن الوصية لواحد فلم يشرك فيها بين اثنين وَلَيْسَ لِلْوَارِثِ فِيهَا خِيَارٌ، فَلَزِمَ فِيهَا الْوَقْفُ.
فَصْلٌ:
وَلَوْ قَالَ: إِنْ كَانَ الَّذِي فِي بَطْنِكِ غُلَامٌ فَلَهُ أَلْفٌ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي فِي بَطْنِكِ جَارِيَةٌ فَلَهَا مِائَةٌ، فَوَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً.
فَلَا شَيْءَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: إن كان في بطنك غلام فله الألف، لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ إِنْ كَانَ الَّذِي فِي بَطْنِكِ غُلَامٌ فَقَدْ جَعَلَ كَوْنَ الْحَمْلِ غُلَامًا شَرْطًا فِي الْحَمْلِ وَالْوَصِيَّةِ مَعًا، فَإِذَا كَانَ الْحَمْلُ غُلَامًا وَجَارِيَةً لَمْ يُوجَدِ الشَّرْطُ كَامِلًا فَلَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ.(8/216)
وَإِذَا قَالَ إِنْ كَانَ فِي بَطْنِكِ غُلَامٌ، فَلَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ شَرْطًا فِي الْحَمْلِ وَإِنَّمَا جَعَلَهُ شَرْطًا فِي الْوَصِيَّةِ فَصَحَّتِ الْوَصِيَّةُ.
وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: إِنْ كَانَ مَا فِي بَطْنِكِ غُلَامًا، فَهُوَ كَقَوْلِهِ إِنْ كَانَ الَّذِي فِي بطنك فإن وَضَعَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً فَلَا وَصِيَّةَ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قال: إن كان حملك ذكرا فكان ذَكَرًا وَأُنْثَى فَلَا وَصِيَّةَ فَلَوْ قَالَ إِنْ كَانَ الَّذِي فِي بَطْنِكِ غُلَامًا فَلَهُ أَلْفٌ، فلو ولدت غلامين ففي الوصية وجهان أحدهما: باطل كَمَا لَوْ وَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ كُلُّ حَمْلِهَا غُلَامًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا جَائِزَةٌ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غُلَامٌ فَاشْتَرَكَا فِي الصِّفَةِ، وَلَمْ تَضُرَّ الزِّيَادَةُ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَلَى الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي حَكَاهَا ابْنُ سريج من قبل أنها تَرْجِعُ إِلَى بَيَانِ الْوَرَثَةِ فِي دَفْعِ الْأَلْفِ إِلَى أَحَدِهِمَا.
وَالثَّانِي: يَشْتَرِكَانِ جَمِيعًا فِيهَا.
وَالثَّالِثُ: تُوقَفُ الْأَلِفُ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَصْطَلِحَا عَلَيْهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ:
وَلَوْ قَالَ قَدْ أَوْصَيْتُ لِحَمْلِ هذه المرأة من زجها، فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ نَفَاهُ زَوْجُهَا بِاللِّعَانِ، فَفِي الْوَصِيَّةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ - أَنَّ الْوَصِيَّةَ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّ لِعَانَهُ قَدْ نَفَى أَنْ يَكُونَ مِنْهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَهُ جَائِزَةٌ، لِأَنَّ لِعَانَ الزَّوْجِ مِنْهُ، إِنَّمَا اخْتَصَّ بِنَفْيِ النَّسَبِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ أَحْكَامِ الْأَوْلَادِ. أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِهِ، وَلَوْ قَذَفَهَا بِهِ قَاذِفٌ حد.
ولو عاد فاعترف بنسبه لَحِقَ بِهِ، وَلَكِنْ لَوْ وَضَعَتْ بَعْدَ أَنْ طَلَّقَهَا ذَلِكَ الزَّوْجُ ثَلَاثًا وَلَدًا لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ، وَلِأَقَلَّ مِنْ ستة أشهر من حين الوصية، فلا وصية لها وهو لَيْسَ مِنْهُ، وَبِخِلَافِ الْمُلَاعِنِ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مِنْهُ.
فَصْلٌ:
وَإِذَا وَضَعَتِ الْمُوصَى بحملها وَلَدًا مَيِّتًا، فَلَا وَصِيَّةَ لَهُ، كَمَا لَا مِيرَاثَ لَهُ، وَلَوْ وَضَعَتْهُ حَيًّا، فَمَاتَ، صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ، وَكَانَتْ لِوَارِثِ الْحَمَلِ، كَالْمِيرَاثِ.
وَلَوْ ضَرَبَ ضَارِبٌ بَطْنَهَا، فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا، كَانَ فِيهِ عَلَى الضَّارِبِ غُرَّةٌ وَلَا وَصِيَّةَ لَهُ، كَمَا لَا مِيرَاثَ لَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا الوصية بالحمل فجائزة، كجوازها بِالْمَجْهُولِ.
فَإِذَا أَوْصَى بِحَمْلِ جَارِيَتِهِ لِرَجُلٍ، فَوَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْوَصِيَّةِ، صحت الوصية به، سواء وضعته غُلَامًا أَوْ جَارِيَةً.(8/217)
وَإِنْ وَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ فَلَا وصية به، لِعَدَمِهِ حِينَ الْوَصِيَّةِ، وَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا ظَنَّهُ حَمْلًا فَلَمْ يَكُنْ حَمْلًا.
وَإِنْ وَلَدَتْ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَلِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ: فَإِنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ يُمْكِنُ أَنْ يَطَأَ فَالظَّاهِرُ حُدُوثُهُ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ، فَلَا وَصِيَّةَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ، فَالظَّاهِرُ تَقَدُّمُهُ فَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا إِذَا قَالَ قَدْ أَوْصَيْتُ بِمَنْ تَحْمِلُهُ جَارِيَتِي هَذِهِ. فَفِي الْوَصِيَّةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ، وَالثَّانِي: جَائِزَةٌ، مِنَ اخْتِلَافِ الوجهين في الوصية هل يراعى بها وَقْتَ الْوَصِيَّةِ أَمْ لَا؟ وَلَكِنْ لَوْ أَوْصَى لما تحمله هذه المرأة لم يجزها هنا قولا واحدا، لأن المالك هاهنا معدوم، وعدم الملك أعظم فِي التَّمْلِيكِ مِنْ عَدَمِ الْمَمْلُوكِ.
فَإِذَا قِيلَ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ فَلَا مَسْأَلَةَ. وَإِذَا قِيلَ جَائِزَةٌ، نظر: فإن وضعته وَلَدًا لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَمْ تَصِحَّ فِيهِ الْوَصِيَّةُ، لِأَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ، وَإِنَّمَا أَوْصَى بِوَلَدٍ يَحْدُثُ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ.
وَإِنْ وَضَعَتْ وَلَدًا لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ صَحَّتْ فيه الوصية لحدوثه بعد الوصية.
فإن وَضَعَتْ وَلَدًا لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَلِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ فَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ يَطَأُ فَالظَّاهِرُ حُدُوثُهُ فَصَحَّتْ فِيهِ الْوَصِيَّةُ.
وَإِنْ لم تكن ذات زوج يطأ فَالظَّاهِرُ تَقَدُّمُهُ فَلَمْ تَصِحَّ فِيهِ الْوَصِيَّةُ.
فَأَمَّا إِذَا قَالَ قَدْ أَوْصَيْتُ لِمَنْ تَلِدُهُ جَارِيَتِي فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يُرَاعَى وُجُودُ الْحَمْلِ حال الوصية أم لا؟ على وجهين:
أحدهما: أنه يراعى وجوده حال الوصية، وَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: قَدْ أَوْصَيْتُ بِحَمْلِ جَارِيَتِي.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - أَنَّهُ لا يراعى وجوده، وَفِي أَيِّ زَمَانٍ وَلَدَتْهُ، صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ بِهِ.
فَصْلٌ:
وَلَوْ قَالَ: إِنْ وَلَدَتْ هَذِهِ الْجَارِيَةُ ذكرا فهي وَصِيَّةٌ لِزَيْدٍ، وَإِنْ وَلَدَتْ أُنْثَى فَهِيَ وَصِيَّةٌ لِعَمْرٍو.
جَازَ وَكَانَ عَلَى مَا قَالَ: إِنْ وَلَدَتْ غُلَامًا ذَكَرًا كَانَ لِزَيْدٍ. وَإِنْ وَلَدَتْ جَارِيَةً أُنْثَى كَانَتْ لِعَمْرٍو.
وَإِنْ وَلَدَتْ ذَكَرًا وأنثى. كان لكل واحد منهما ما جعل له.
ولو وَلَدَتْ خُنْثَى مُشْكِلًا فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا حَقَّ فِيهِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِذَكَرٍ فَيَسْتَحِقُّهُ زَيْدٌ. وَلَا بِأُنْثَى فَيَسْتَحِقُّهَا عَمْرٌو. وَيَكُونُ موروثا.(8/218)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَوْقُوفٌ بَيْنَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو حَتَّى يَصْطَلِحَا عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى فَإِنْ أَشْكَلَ: فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْلِكَهُ الْوَرَثَةُ، وَإِنَّمَا الْإِشْكَالُ مُؤَثِّرٌ في مستحق الوصية لَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ لِلْوَرَثَةِ.
فَصْلٌ:
وَإِذَا أَوْصَى بحمل أمته لرجل، ضرب بَطْنَهَا ضَارِبٌ، فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا: صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ، وَكَانَ لِلْمُوصَى لَهُ الدِّيَةُ.
وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِحَمْلِ نَاقَتِهِ، فَضُرِبَ بَطْنُهَا، فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا: فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ، وَمَا نَقَصَهَا الضَّرْبُ لِلْوَرَثَةِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ مَا فِي جَنِينِ الْأَمَةِ بَدَلٌ مِنْهُ.
وَمَا فِي جَنِينِ الْبَهِيمَةِ لَا بَدَلَ لَهُ مِنْهَا.
أَلَا تَرَى أَنَّ فِي جَنِينِ الأدمية ديته، وفي جنين البهيمة ما نقص من ثمنها.
فصل:
ولو أوصى بحمل جارية لِحَمْلِ أُخْرَى، فَلَا يَخْلُو حَمْلُهُمَا، مِنْ أَرْبَعَةِ أقسام:
أحدها: أن يكون الحملان موجودين حال الْوَصِيَّةِ لِوِلَادَتِهِمَا، لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ.
فَمَنْ وَلَدَتْهُ الْمُوصَى بِحَمْلِهَا، مِنْ غُلَامٍ أَوْ جَارِيَةٍ، أَوْ هُمَا، فَهُوَ لِمَنْ وَلَدَتْهُ الموصى لحملها من ذكر أو أنثى أو هما بِالسَّوِيَّةِ بَيْنَهُمَا.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْحَمْلَانِ مَعْدُومَيْنِ عِنْدَ الْوَصِيَّةِ لِوِلَادَتِهِمَا لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سنين، فالوصية باطلة، لأنها وصية بِمَعْدُومٍ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْحَمْلُ الْمُوصَى بِهِ مَوْجُودًا عِنْدَ الْوَصِيَّةِ لِوِلَادَتِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ. وَالْحَمْلُ الْمُوصَى لَهُ مَعْدُومًا عِنْدَ الْوَصِيَّةِ لِوِلَادَتِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ.
فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ بِمَوْجُودٍ لِمَعْدُومٍ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أن يكون الحمل الموصى مَعْدُومًا عِنْدَ الْوَصِيَّةِ لِوِلَادَتِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ، وَالْحِمْلُ الْمُوصَى لَهُ مَوْجُودًا عِنْدَ الْوَصِيَّةِ لِوِلَادَتِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ: فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ، لأنها وصية بمعدوم لموجود.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " (وَلَوْ) أَوْصَى بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ أَوْ بِغَلَّةِ دَارِهِ أو بثمر بستانه والثلث يحتمله جاز ذلك ".
قال الماوردي: الوصية بمنافع الأعيان جائزة، كالوصية بِالْأَعْيَانِ لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ عَقْدُ الْإِجَارَةِ عَلَيْهَا، فأولى أن تصح الوصية بها، وسواء قيدت الْوَصِيَّةُ بِمُدَّةٍ، أَوْ جُعِلَتْ مُؤَبَّدَةً.
وَقَالَ ابْنُ أبي ليلى:(8/219)
إِنْ قُدِّرَتْ بِمُدَّةٍ تَصِحُّ فِيهَا الْإِجَارَةُ: صَحَّتْ. وَإِنْ لَمْ تُقَدَّرْ بِمُدَّةٍ تَصِحُّ فِيهَا الْإِجَارَةُ بَطَلَتْ حَمْلًا لِلْوَصِيَّةِ عَلَى الْإِجَارَةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وأبو حنيفة، وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِهَا عَلَى التَّأْبِيدِ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ، لِأَنَّ الْوَصَايَا تَجُوزُ مَعَ الْجَهَالَةِ كَمَا لَوْ أَوْصَى بِسَهْمٍ من ماله وماله مجهول، بخلاف الإجارة فإنها لَا تَصِحُّ مَعَ الْجَهَالَةِ.
فَإِذَا صَحَّ جَوَازُهَا مقدرة ومؤبدة فَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ الْوَصِيَّةَ بِخِدْمَةِ الْعَبْدِ، وَبِغَلَّةِ الدَّارِ وَبِثَمَرَةِ الْبُسْتَانِ. فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ بِخِدْمَةِ الْعَبْدِ فله أن يستخدمه وله أن يؤجره.
وقال أبو حنيفة: لا يجوز لمن أوصى له بخدمة عبده أن يأمره اعْتِمَادًا عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ الْوَصِيَّةُ مِنَ الِاسْتِخْدَامِ دُونَ الْإِجَارَةِ.
وَهَذَا خَطَأٌ: لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْخِدْمَةِ كَالْوَصِيَّةِ بِالرَّقَبَةِ. فَلَمَّا كَانَ الْمُوصَى لَهُ بِالرَّقَبَةِ يجوز له المعارضة عَلَيْهَا لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَهَا بِالْوَصِيَّةِ كَانَ الْمُوصَى له بالخدمة أيضا يجوز له المعارضة عليها لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَهَا بِالْوَصِيَّةِ.
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا: فالوصية بخدمته ضربان: إما مُقَدَّرَةٌ بِمُدَّةٍ وَمُؤَبَّدَةٌ.
فَإِنْ قُدِّرَتْ بِمُدَّةٍ كَأَنَّهُ قَالَ: قَدْ أَوْصَيْتُ لِزَيْدٍ بِخِدْمَةِ عَبْدِي سَنَةً، فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ لَهُ بِخِدْمَةِ سَنَةٍ.
وَالْمُعْتَبَرُ فِي الثُّلُثِ مَنْفَعَةُ السَّنَةِ دُونَ الرَّقَبَةِ، وَفِي كَيْفِيَّةِ اعتبارها وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ: أَنَّهُ يُقَوَّمُ الْعَبْدُ كَامِلَ الْمَنْفَعَةِ فِي زَمَانِهِ كُلِّهِ، فَإِذَا قِيلَ مِائَةُ دِينَارٍ، قُوِّمَ وَهُوَ مَسْلُوبُ الْمَنْفَعَةِ سَنَةً، فَإِذَا قِيلَ ثَمَانُونَ دِينَارًا فَالْوَصِيَّةُ بِعِشْرِينَ دِينَارًا وَهِيَ خَارِجَةٌ مِنَ الثُّلُثِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُوصِي دَيْنٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي أَرَاهُ مَذْهَبًا - أَنَّهُ يُقَوَّمُ خِدْمَةُ مِثْلِهِ سَنَةً، فَتُعْتَبَرُ مِنَ الثلث، ولا تقوم الرقبة لأن المنافع الممتلكة في العقود والغصوب هِيَ الْمُقَوَّمَةُ دُونَ الْأَعْيَانِ. وَكَذَلِكَ فِي الْوَصَايَا.
فَإِذَا عُلِمَ الْقَدْرُ الَّذِي تَقَوَّمَتْ بِهِ خِدْمَةُ السَّنَةِ إِمَّا مِنَ الْعَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، أَوْ مِنَ الْمَنَافِعِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي نُظِرَ:
فإنه خَرَجَ جَمِيعُهُ مِنَ الثُّلُثِ، صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ لَهُ بِخِدْمَةِ جَمِيعِ السَّنَةِ، وَإِنْ خَرَجَ نِصْفَهُ مِنَ الثُّلُثِ، رَجَعَتِ الْوَصِيَّةُ إِلَى نِصْفِهَا، وَاسْتَخْدَمَهُ نِصْفَ السَّنَةِ. وَإِنْ خَرَجَ ثُلُثُهُ مِنَ الثُّلُثِ رَجَعَتِ الْوَصِيَّةُ إِلَى ثُلُثِهَا، وَاسْتَخْدَمَهُ ثُلُثَ السَّنَةِ.
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ عَلَى هَذِهِ الْعِبْرَةِ، اسْتَحَقَّ اسْتِخْدَامَهُ جَمِيعَ السَّنَةِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ فِي التَّرِكَةِ مَالٌ غَيْرَ الْعَبْدِ، أَمْ لَا؟ .(8/220)
فَإِنْ كَانَ فِي التَّرِكَةِ مَالٌ غَيْرَ الْعَبْدِ إِذَا أَمْكَنَ الْمُوصَى لَهُ مِنَ اسْتِخْدَامِهِ سَنَةً، أمكن الورثة في تلك السنة أن يتصرفوا في التركة بِمَا يُقَابِلُ مِثْلَ الْعَبْدِ.
فَلِلْمُوصَى لَهُ أَنْ يَسْتَخْدِمَ جَمِيعَ الْعَبْدِ سَنَةً مُتَوَالِيَةً حَتَّى يَسْتَوْفِيَ جميع وصيته.
والورثة يمنعون مِنَ التَّصَرُّفِ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ حَتَّى تَمْضِيَ السَّنَةُ، فَإِنْ بَاعُوهُ قَبْلَهَا كَانَ فِي بَيْعِهِ قَوْلَانِ كَالْعَبْدِ الْمُؤَاجَرِ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي التَّرِكَةِ مَالٌ غَيْرَ الْعَبْدِ وَلَا خَلَّفَ الْمُوصِي سِوَاهُ. فَفِي كَيْفِيَّةِ اسْتِخْدَامِ الْمُوصَى لَهُ سَنَةً ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ حَكَاهَا ابْنُ سُرَيْجٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ يَسْتَخْدِمَهُ سَنَةً مُتَوَالِيَةً، وَيُمْنَعُ الْوَرَثَةُ مِنَ اسْتِخْدَامِهِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ الْمُوصَى لَهُ سَنَةَ وَصِيَّتِهِ ثُمَّ حِينَئِذٍ يَخْلُصُ لِلْوَرَثَةِ بَعْدَ انْقِضَائِهَا.
والوجه الثاني: أن يَسْتَخْدِمَ ثُلُثَ الْعَبْدِ ثَلَاثَ سِنِينَ وَيَسْتَخْدِمَ الْوَرَثَةُ ثُلُثَيْهِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْمُوصَى لَهُ سَنَةَ وَصِيَّتِهِ من ثلث العبد في ثلاث سنين لأن لا يَخْتَصَّ الْمُوصَى لَهُ بِمَا لَمْ يَحْصُلْ لِلْوَرَثَةِ مثلاه.
والوجه الثالث: أنه يتهيأ عَلَيْهِ الْمُوصَى لَهُ وَالْوَرَثَةُ، فَيَسْتَخْدِمُهُ الْمُوصَى لَهُ يَوْمًا، وَالْوَرَثَةُ يَوْمَيْنِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ سِنَةَ وَصِيَّتِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ:
وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَصَحُّ، لِأَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا إِلَى مِلْكِ الرَّقَبَةِ فَلَمْ يَلْزَمْ أَنْ يُقَابِلُوا الْمُوصَى لَهُ بِمِثْلَيِ الْمَنْفَعَةِ وَلِأَنَّ حَقَّ الْمُوصَى لَهُ فِي اسْتِخْدَامِ جَمِيعِ الْعَبْدِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ فِي ثُلُثِهِ، وَلِأَنَّ حَقَّهُ مُتَّصِلٌ وَمُعَجَّلٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ مؤجلا أو مفرقا.
فصل:
فإن كانت الوصية بخدمة العبد على التأبيد كأن قَالَ: قَدْ أَوْصَيْتُ لِزَيْدٍ بِخِدْمَةِ عَبْدِي أَبَدًا، فالوصية جائزة إذا تحملها الثُّلُثُ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الَّذِي يُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ فِي الثُّلُثِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي اخْتِلَافِ الْعِرَاقِيِّينَ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ تقوم جَمِيعُ الرَّقَبَةِ فِي الثُّلُثِ، وَإِنِ اخْتَصَّتِ الْوَصِيَّةُ بالمنفعة، كما تقوم رَقَبَةُ الْوَقْفِ فِي الثُّلُثِ وَإِنْ مَلَكَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ الْمَنْفَعَةَ.
فَعَلَى هَذَا: هَلْ يَصِيرُ الْمُوصَى لَهُ مَالِكًا الرَّقَبَةَ وَإِنْ مُنِعَ مِنْ بِيعَهَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: لَا يَمْلِكُهَا لِاخْتِصَاصِ الْوَصِيَّةِ بِمَنَافِعِهَا.
وَالثَّانِي: يَمْلِكُهَا، كَمَا يَمْلِكُ أم ولده، وَإِنْ كَانَ مَمْنُوعًا مِنْ بَيْعِهَا لِتَقْوِيمِهَا عَلَيْهِ في الثلث. وهذا قول أبي حامد المروروذي.
وهذا إِذَا قِيلَ إِنَّ الرَّقَبَةَ هِيَ الْمُقَوَّمَةُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُقَوَّمُ مَنَافِعُ الْعَبْدِ فِي الثُّلُثِ دُونِ رَقَبَتِهِ، لِأَنَّ التَّقْوِيمَ إِنَّمَا يَخْتَصُّ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ الْوَصِيَّةُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَجَاوَزَ بِالتَّقْوِيمِ إلى غيره، ولأنه لو أوصى بالمنفعة إلى رجل،(8/221)
وَبِالرَّقَبَةِ لِغَيْرِهِ، لَمْ يُقَوَّمْ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْمَنْفَعَةِ إِلَّا الْمَنْفَعَةُ دُونَ الرَّقَبَةِ. كَذَلِكَ إِذَا اسْتَبْقَى الرَّقَبَةَ عَلَى مِلْكِ الْوَرَثَةِ.
وَاعْتِبَارُ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: كَمْ قِيمَةُ الْعَبْدِ بِمَنَافِعِهِ فَإِذَا قِيلَ مِائَةُ دِينَارٍ. قِيلَ وَكَمْ قِيمَتَهُ مَسْلُوبَ الْمَنَافِعِ فَإِذَا قِيلَ عِشْرُونَ دِينَارًا عُلِمَ أَنَّ قِيمَةَ مَنَافِعِهِ ثَمَانُونَ دِينَارًا.
فَتَكُونُ هِيَ الْقَدْرَ الْمُعْتَبَرَ مِنَ الثُّلُثِ.
فَعَلَى هَذَا: هَلْ يُحْتَسَبُ الْبَاقِي مِنْ قِيمَةِ الرَّقَبَةِ وَهُوَ عِشْرُونَ دِينَارًا على الورثة أَمْ لَا؟
عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُحْتَسُبُ بِهِ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ قَدْ دَخَلَ فِي مِلْكِهِمْ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لا يُحْتَسَبُ بِهِ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ مَا زَالَتْ عَنْهُ الْمَنْفَعَةُ زَالَ عَنْهُ التَّقْوِيمُ.
فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَخَرَجَ الْقَدْرُ الَّذِي اعْتَبَرْنَاهُ مِنَ الثُّلُثِ، صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ بِجَمِيعِ الْمَنْفَعَةِ، وَكَانَ لِلْمُوصَى لَهُ استخدامه أبدا ما دام حَيًّا، وَأَخْذُ جَمِيعِ أَكْسَابِهِ الْمَأْلُوفَةِ.
وَهَلْ يَمْلِكُ مَا كَانَ غَيْرَ مَأْلُوفٍ مِنْهَا كَاللُّقَطَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ أَصَحَّهُمَا يَمْلِكُهُ.
وَفِي نَفَقَتِهِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الإصطرخي أنها على الموصى له بالمنفعة، لأن المنفعة تختص بالكسب.
والثاني: وقول أبي علي بن أبي هريرة.
أنها على الْوَرَثَةِ لِوُجُوبِهَا بِحَقِّ الْمِلْكِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: حَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ تَجِبُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لأن كل واحد من مالكي الرقبة والمنفعة.
ولم يَكْمُلْ فِيهِ اسْتِحْقَاقُ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ، فَعَدَلَ بِهَا إلى بيت المال، فإذا مَاتَ الْمُوصَى لَهُ، فَهَلْ تَنْتَقِلُ الْمَنْفَعَةُ إِلَى وَارِثِهِ أَمْ لَا؟ .
عَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي إِفْصَاحِهِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَنْفَعَةَ تنتقل إلى ورثته لتقومها عَلَى الْأَبَدِ فِي حَقِّهِ.
فَعَلَى هَذَا: تَكُونُ الْمَنْفَعَةُ، مُقَدَّرَةً بِحَيَاةِ الْعَبْدِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَدِ انْقَطَعَتِ الْوَصِيَّةُ بِمَوْتِ الْمُوصَى لَهُ، لِأَنَّهُ وَصَّى لَهُ فِي عَيْنِهِ بِالْخِدْمَةِ، لَا لِغَيْرِهِ.
فَعَلَى هَذَا: تَكُونُ الْمَنْفَعَةُ مُقَدَّرَةً، بِحَيَاةِ الْمُوصَى لَهُ، ثُمَّ تَعُودُ بَعْدَ مَوْتِهِ إِلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي.
فَصْلٌ:
وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مَا قُوِّمَتْ بِهِ المنافع كلها من الثلث وخرج بعضها مِنْهُ كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ مِنْهَا، قَدْرُ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ، مِثْلَ أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ الْمَنَافِعِ على ما بيناه: ثمانون(8/222)
دِينَارًا، وَقَدِ احْتَمَلَ الثُّلُثُ مِنْهَا أَرْبَعِينَ دِينَارًا، استحق من منافعه النصف، لاحتمال الثلث للنصف.
وَإِنِ احْتَمَلَ الثُّلُثُ مِنْهَا عِشْرِينَ دِينَارًا، اسْتَحَقَّ من منافعه الربع لاحتمال الثلث للربع.
فعلى هذا: إذا كان هذا الذي احتمله الثلث نِصْفَ الْخِدْمَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَسْتَخْدِمُ الْمُوصَى له نصف العبد بأخذ النِّصْفَ مِنْ كَسْبِهِ وَيَسْتَخْدِمُ الْوَرَثَةُ النِّصْفَ الْآخَرَ بأخذ النِّصْفَ الْآخَرِ مِنْ كَسْبِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يتهانا عليه الورثة، والموصى له يوما ويوما، أو أسبوعا وَأُسْبُوعًا.
فَأَمَّا النَّفَقَةُ: فَإِنْ قِيلَ بِوُجُوبِهَا عَلَى مَالِكِ الرَّقَبَةِ كَانَتْ عَلَى الْوَرَثَةِ.
وَإِنْ قِيلَ بِوُجُوبِهَا عَلَى مَالِكِ الْمَنْفَعَةِ، كَانَتْ بَيْنَ الْمُوصَى له والورثة نصفين لاشتراكهما بالتسوية فِي مَنْفَعَتِهِ، وَلَوْ تَفَاضَلَا فِيهَا لَفُضِّلَ بَيْنَهُمَا بقدرها.
فأما زَكَاةُ الْفِطْرِ: فَلَا تَجِبْ عَلَى الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ بِحَالٍ، سَوَاءٌ مَلَكَ جَمِيعَهَا أَوْ بَعْضَهَا وَفِي وُجُوبِهَا عَلَى الْوَرَثَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَجِبُ عَلَيْهِمْ لِتَعَلُّقِهَا بِالرَّقَبَةِ.
وَالثَّانِي: تَسْقُطُ وَلَا تَجِبُ لِأَنَّ مِلْكَهُمْ لَمْ يَكْمُلْ، وَصَارَتْ كَزَكَاةِ الْمُكَاتَبِ والله أعلم.
فصل:
وأما بيع هذا العبد الموصى بخدمته.
فإن أراد الموصى له بخدمته لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ بَيْعُهُ: لَمْ يَجُزْ، سَوَاءٌ مَلَكَ جَمِيعَ الْمَنْفَعَةِ أَوْ بَعْضَهَا، وَسَوَاءٌ قِيلَ إِنَّهُ مَالِكٌ، أَوْ غَيْرُ مَالِكٍ.
وَإِنْ أَرَادَ وَرَثَةُ الْمُوصِي بَيْعَهُ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: يَجُوزُ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ.
وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِعَدَمِ الْمَنْفَعَةِ.
وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنَ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ، وَلَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ يَنْتَفِعُ بِهِ، دُونَ غَيْرِهِ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا عِتْقُهُ: فَإِنْ أَعْتَقَهُ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ، لَمْ يَجُزْ لِاخْتِصَاصِ حَقِّهِ بِالْمَنْفَعَةِ، سَوَاءٌ قُوِّمَتِ الرَّقَبَةُ فِي حَقِّهِ أَمْ لَا. لِأَنَّ تَقْوِيمَهَا عَلَيْهِ فِي أحد الوجهين لاستحقاقه كل الْمَنْفَعَةِ لَا غَيْرَ وَإِنْ أَعْتَقَهُ وَرَثَةُ الْمُوصِي فَفِي نُفُوذِ عِتْقِهِمْ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: ذَكَرَهُ أَبُو الحسن بْنُ الْقَطَّانِ: أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُمْ. وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجْعَلُ الرَّقَبَةَ دَاخِلَةً فِي ملك الموصى له.
والوجه الثاني: وهو الأصح. أن عتقهم نافذ وإن لم يملكوا الانتفاع والبيع كالمكاتب.(8/223)
فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْوَصِيَّةُ بِالْمَنْفَعَةِ عَلَى حَالِهَا لِلْمُوصَى لَهُ بِهَا.
وَلَيْسَ لِلْمُعْتَقِ أَنْ يَرْجِعَ بِبَدَلِ مَنَافِعِهِ عَلَى الْوَرَثَةِ الْمُعْتِقِينَ بِخِلَافِ الْعَبْدِ إِذَا أَجَّرَهُ سَيِّدُهُ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ فِي مُدَّةِ إِجَارَتِهِ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى سَيِّدِهِ بِبَدَلِ مَنَافِعِهِ، بَعْدَ عِتْقِهِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا.
أَنَّ الْمُعْتِقَ فِي الْإِجَارَةِ هُوَ وَاحِدٌ، وَفِي الوصية اثنين.
فَصْلٌ:
وَإِذَا جَنَى الْعَبْدُ الْمُوصَى بِمَنَافِعِهِ جِنَايَةً، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ جِنَايَةَ عَمْدٍ تُوجِبُ الْقَوَدَ، فَإِذَا اقْتُصَّ مِنْهُ وَكَانَتْ فِي النَّفْسِ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ فِي بَاقِيهِ.
وَإِنْ كَانَتْ في طرف أو جرح بطن فِيهَا، فَإِنْ كَانَ بَاقِي الْمَنَافِعِ بَعْدَ الْقِصَاصِ، كالأنثى وَالذَّكَرِ: كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِحَالِهَا.
وَإِنْ ذَهَبَتْ مَنَافِعُهُ بَعْدَهَا، كَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ بِمَنَافِعِهِ لِفَوَاتِهَا بِالْقِصَاصِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: جِنَايَةُ خَطَأٍ تُوجِبُ الْأَرْشَ، فَإِذَا وَجَبَ أَرْشُهَا، فَإِنْ فَدَاهُ مَالِكُ الرَّقَبَةِ، كَانَ الْمُوصَى لَهُ عَلَى حَقِّهِ مِنَ الْمَنْفَعَةِ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِالْأَرْشِ، وَإِنْ فَدَاهُ مَالِكُ الْمَنْفَعَةِ، كَانَ الْوَرَثَةُ عَلَى حُقُوقِهِمْ مِنْ مِلْكِ الرَّقَبَةِ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِمْ بِالْأَرْشِ.
وَإِنْ لَمْ يفده واحد منهما، لم يجبر أحدهما عليهما، وَبِيعَ مِنْهُ بِقَدْرِ جِنَايَتِهِ، بِخِلَافِ أُمِّ الْوَلَدِ الَّتِي يُؤْخَذُ أَرْشُ جِنَايَتِهَا مِنْ سَيِّدِهَا، لِأَنَّ سَيِّدَهَا هُوَ الْمَانِعُ مِنْ بَيْعِهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَالِكُ الرَّقَبَةِ، وَلَا مَالِكُ الْمَنْفَعَةِ.
وَإِذَا كَانَ هذا كذلك نُظِرَ فِي الْأَرْشِ، فَإِنْ كَانَ بِمِثْلِ قِيمَةِ الْعَبْدِ كُلِّهِ بِيعَ فِي جِنَايَتِهِ، وَقَدْ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ.
وَإِنْ كَانَ بِمِثْلِ النِّصْفِ مِنْ قِيمَتِهِ، بيع نصفه، ومالك مُشْتَرِيهِ نِصْفَ رَقَبَتِهِ وَنِصْفَ مَنَافِعِهِ، لِأَنَّهُ مَلَكَ بِالِابْتِيَاعِ نِصْفًا تَامًّا.
فَأَمَّا النِّصْفُ الْآخَرُ فَهُوَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ حُكْمِ الْوَصِيَّةِ، فَيُنْظَرُ فِيهِ.
فَإِنْ كَانَ الْمُوصَى لَهُ مَالِكًا لِكُلِّ مَنَافِعِهِ، صَارَ بَعْدَ الْبَيْعِ مَالِكًا لِنِصْفِهَا وَصَارَ الْمُشْتَرِي وَالْمُوصَى لَهُ شَرِيكَيْنِ فِي مَنَافِعِهِ.
وَإِنْ كَانَ الْمُوصَى لَهُ قَدْ مَلَكَ نِصْفَ الْمَنَافِعِ، لِعَجْزِ الثُّلُثِ عَنْ جَمِيعِهَا صَارَتْ مَنَافِعُ النصف الباقي بين الموصى له وبين الورثة نصفين لخروج النصف المبيع من الحقين، فَتَنْقَسِمُ الْمَنَافِعُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْجِنَايَةُ عَلَى الْعَبْدِ الْمُوصَى بِمَنَافِعِهِ، فَلَهَا حَالَتَانِ: حَالَةٌ تُوجِبُ الْقَوَدَ، وَحَالَةٌ تُوجِبُ الْأَرْشَ.(8/224)
فإن وجب الْقَوَدَ، فَالْخِيَارُ فِيهِ لِلْوَرَثَةِ، دُونَ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ.
وَإِنِ اقْتَصَّ: كَانَ لَهُ، وَإِنْ عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ إِلَى الْمَالِ كَانَ لَهُ، وَإِنْ عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ وَالْمَالِ، صَحَّ عَفْوُهُ عَنِ الْقِصَاصِ، وَفِي صِحَّةِ عَفْوِهِ عَنِ الْمَالِ وَجْهَانِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ مِنْ مُسْتَحِقِّ الْمَالِ.
وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ تُوجِبُ الْأَرْشَ: لَمْ يَخْلُ حَالُ الْعَبْدِ بَعْدَ الْجِنَايَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ.
إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَاقِيَ الْمَنَافِعِ أَوْ تَالِفَهَا.
فَإِنْ كَانَتْ مَنَافِعُهُ بَاقِيَةً لِاخْتِصَاصِ الْجِنَايَةِ بِمَا لَا يُؤَثِّرُ فِي مَنَافِعِهِ، كَجَدْعِ أَنِفِهِ، وَجَبِّ ذَكَرِهِ، فَهُوَ مِلْكٌ لِلْوَرَثَةِ دُونَ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ لأن المنفعة بكمالها لَمْ تُؤَثِّرِ الْجِنَايَةُ فِيهَا، وَإِنَّمَا أَثَّرَتْ فِي رَقَبَتِهِ الَّتِي لَا حَقَّ لَهُ فِيهَا.
وَإِنْ كَانَتِ الْمَنَافِعُ تَالِفَةً كَحُدُوثِ الْجِنَايَةِ عَلَى نَفْسِهِ، فَفِي مُسْتَحِقِّ جِنَايَتِهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهَا لِمَالِكِ الْمَنْفَعَةِ، لِأَنَّهَا مِنْ مَنَافِعِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا لِلْوَرَثَةِ، لِأَنَّهَا بَدَلٌ مِنَ الرَّقَبَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا مُقَسَّطَةٌ بَيْنَ مَالِكِ الْمَنْفَعَةِ وَمَالِكِ الرَّقَبَةِ عَلَى قَدْرِ الْقِيمَتَيْنِ، كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ فِي تَقْوِيمِ الْمَنْفَعَةِ.
وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ يُشْتَرَى بِقِيمَتِهِ عَبْدٌ مِثْلُهُ يَكُونُ مَكَانَهُ، وَعَلَى حُكْمِهِ، فَتَكُونُ رَقَبَتُهُ لِلْوَرَثَةِ، وَمَنَافِعُهُ لِلْمُوصَى لَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ:
فَإِنْ كَانَ الْمُوصَى بِمَنَافِعِهِ أمة: جاز أن تزوج لاكتساب المهر ويملك الولد، وفي مستحق تزويجها ثلاثة أوجه:
أحدهما: مَالِكُ الْمَنْفَعَةِ لِأَنَّ الْمَهْرَ لَهُ.
وَالثَّانِي: مَالِكُ الرَّقَبَةِ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ.
وَالثَّالِثُ: لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْ مَالِكِ الْمَنْفَعَةِ وَالرَّقَبَةِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِتَزْوِيجِهَا، حَتَّى يَجْتَمِعَا عَلَيْهِ مَعًا، لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهَا حَقًّا، فَإِذَا تَزَوَّجَتْ كَانَ مَهْرُهَا لمالك المنفعة، ولأنه مِنْ كَسْبِهَا الْمَأْلُوفِ، فَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ لِلْمُوصَى لَهُ بِمَنَافِعِهَا، لِأَنَّهُ مِنْ كَسْبِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لِلْوَرَثَةِ، لأنه بعد مَعْهُودٍ مِنْ كَسْبِهَا، وَأَنَّهُ تَابِعٌ لِرَقَبَتِهَا.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَكُونُ فِي حُكْمِ الْأُمِّ، رَقَبَتُهُ لِلْوَرَثَةِ، وَمَنَافِعُهُ لِلْمُوصَى لَهُ، لِأَنَّ حُكْمَ الْوَلَدِ حُكْمُ أُمِّهِ.
فَإِنْ أَرَادَ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ وَطْءَ الْأَمَةِ، لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا، وَإِنْ وطأها حد(8/225)
الْمُسْتَأْجِرُ فِي وَطْئِهَا، لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَنَاوَلَتِ الْخِدْمَةَ وَلَيْسَ الْوَطْءُ خِدْمَةً، وَالْوَصِيَّةُ تَنَاوَلَتِ الْمَنْفَعَةَ، وَالْوَطْءُ مَنْفَعَةٌ، وَإِنَّمَا مُنِعَ لِأَجْلِ الرَّقَبَةِ ثُمَّ لَا مَهْرَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مَهْرَهَا لَوْ وَجَبَ لَصَارَ إِلَيْهِ.
فَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ: كَانَ حُرًّا لَاحِقًا بِهِ، لِمَكَانِ الشُّبْهَةِ.
وَفِي قِيمَتِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
الأول: ... .
والثاني: قِيمَتُهُ لِلْوَرَثَةِ، إِذَا قِيلَ إِنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ لَهُمْ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَشْتَرِي بِقِيمَةِ الْوَلَدِ مَنْ يَكُونُ كَالْأُمِّ مِلْكًا، لِلْوَرَثَةِ رَقَبَتُهُ، وَلِلْمُوصَى لَهُ منفعته، ولا تكون أم ولد الموصى لَهُ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا.
فَإِنْ مَلَكَهَا فِي ثَانِي حَالٍ، فَفِي كَوْنِهَا لَهُ أُمَّ وَلَدٍ بِذَلِكَ الْوَلَدِ قَوْلَانِ:
فَأَمَّا إِنْ وَطِئَهَا مَالِكُ الرَّقَبَةِ، وَهُوَ الْوَارِثُ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ، لِمَكَانِ الشُّبْهَةِ فِي مِلْكِهِ لِلرَّقَبَةِ، وَعَلَيْهِ مَهْرُهَا لِلْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ، وَيَكُونُ وَلَدُهُ مِنْهَا حُرًّا، يَلْحَقُ بِهِ.
وَفِي قِيمَتِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: لَا قِيمَةَ عَلَيْهِ، إِذَا قيل إنها له.
والثاني: عليه قيمتها لِلْمُوصَى لَهُ، إِذَا قِيلَ إِنَّهَا لَهُ.
وَالثَّالِثُ: أن يشتري بالقيمة من يكون مكانه وَفِي حُكْمِ الْأُمِّ.
وَهَلْ تَصِيرُ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ كَمَا لَوْ أَعْتَقَهَا.
فَصْلٌ:
وَإِذَا أَوْصَى بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ لِرَجُلٍ وَبِرَقَبَتِهِ لِآخَرَ.
صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ لَهُمَا بِمَا سُمِّيَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَكَانَ تَقْوِيمُ الرَّقَبَةِ فِي حقهما وَتَسْقُطُ الْقِيمَةُ فِي وَصِيَّتِهِمَا، بِأَنْ تُجْعَلَ قِيمَةُ الرَّقَبَةَ مَسْلُوبَةَ الْمَنَافِعِ، هُوَ الْقَدْرُ الْمُوصَى بِهِ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ، وَمَا زَادَ عَلَيْهَا إِلَى اسْتِكْمَالِ قيمته بمنافعه، هو الْقَدْرُ الْمُوصَى بِهِ لِصَاحِبِ الْمَنْفَعَةِ، وَهَذَا مَا لَمْ يَخْتَلِفْ أَصْحَابُنَا فِيهِ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا إِذَا أَوْصَى لَهُ بِغَلَّةِ دَارِهِ:
فَكَالْوَصِيَّةِ بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ، إِنْ كَانَتْ مُقَدَّرَةً بِمُدَّةٍ، قُوِّمَتِ الْمَنْفَعَةُ فِي الثُّلُثِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ:
فَإِذَا خَرَجَتْ مِنَ الثُّلُثِ، اخْتَصَّ بِغَلَّةِ تِلْكَ الْمُدَّةِ على ما ذكرنا من الأوجه الثَّلَاثَةِ الَّتِي حَكَاهَا ابْنُ سُرَيْجٍ.
وَإِنْ كَانَتْ مُؤَبَّدَةً فَفِيمَا تُقَوَّمُ بِهِ فِي الثُّلُثِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: جَمِيعُ الرَّقَبَةِ.(8/226)
وَالثَّانِي: الْمَنْفَعَةُ، وَذَلِكَ مَا بَيْنَ قِيمَتِهَا كَامِلَةَ الْمَنْفَعَةِ، وَمَسْلُوبَةَ الْمَنْفَعَةِ.
فَإِنِ احْتَاجَتِ الدَّارُ إِلَى نَفَقَةٍ مِنْ مَرَمَّةٍ:
لَمْ يَلْزَمْ ذَلِكَ وَاحِدًا منها. إِلَّا أَنْ يَتَطَوَّعَ بِهِ أَحَدُهُمَا.
فَإِنِ انْهَدَمَتِ الدَّارُ:
فَقَدْ سَقَطَ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ بِالْغَلَّةِ.
فَإِنْ بَنَاهَا الْوَارِثُ.
جَازَ وَلَمْ يُمْنَعْ ثُمَّ نظر:
فَإِنْ بَنَاهَا بِغَيْرِ تِلْكَ الْآلَةِ: فَلَا حَقَّ للموصى له بالمنفعة في تمليكها، لِأَنَّهَا غَيْرُ تِلْكَ الدَّارِ.
وَإِنْ بَنَاهَا بِتِلْكَ الْآلَةِ فَفِي اسْتِحْقَاقِهِ لِغَلَّتِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَسْتَحِقُّهَا الْمُوصَى لَهُ لِمَكَانِ الْآلَةِ.
وَالثَّانِي: لَا حَقَّ له فيهما وَتَكُونُ الدَّارُ لِلْوَارِثِ لِمَكَانِ الْعَمَلِ وَانْقِطَاعِ الْوَصِيَّةِ بِالْهَدْمِ.
وَلَوْ أَرَادَ الْمُوصَى لَهُ، بَعْدَ هَدْمِهَا أَنْ يَبْنِيَهَا، فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ تِلْكَ الْآلَةِ لم تكن له.
وإن كانت بِتِلْكَ الْآلَةِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
إِنْ قِيلَ إِنَّهُ يَمْلِكُ رَقَبَتَهَا: كَانَ لَهُ بِنَاؤُهَا.
وَإِنْ قِيلَ لَا يَمْلِكُهَا: فَلَيْسَ لَهُ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا إِذَا أَوْصَى لَهُ بِثَمَرَةِ بُسْتَانِهِ. فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أن تكون الثمرة موجودة: فالوصية بها صحيحة وتعتبر قيمة الثمرة عِنْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، لَا حِينَ الْوَصِيَّةِ.
فَإِنْ خَرَجَتْ مِنَ الثُّلُثِ: فَهِيَ لِلْمُوصَى لَهُ.
وَإِنْ خَرَجَ بَعْضُهَا: كَانَ لَهُ مِنْهَا قَدْرُ مَا احتمله الثلث، وكان الورثة شركاء فِيهَا بِمَا لَمْ يَحْتَمِلْهُ الثُّلُثُ مِنْهَا.
وَالضَّرْبُ الثاني: أن يوصي بثمرة لم تخلق أبدا: فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُوصِيَ بِثَمَرَتِهِ على الأبد: فالوصية جائزة وفيما يقوم فِي الثُّلُثِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: جَمِيعُ الْبُسْتَانِ.
وَالثَّانِي: أن يقوم كامل المنفعة، ثم يقوم مَسْلُوبَ الْمَنْفَعَةِ، ثُمَّ يُعْتَبَرُ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ مِنَ الثُّلُثِ. فَإِنِ احْتَمَلَهُ:
نُفِّذَتِ الْوَصِيَّةُ بِجَمِيعِ الثَّمَرَةِ أَبَدًا مَا بَقِيَ الْبُسْتَانُ.
وَإِنِ احْتَمَلَ بَعْضَهُ كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ قَدْرُ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ يُشَارِكُ فِيهِ الْوَرَثَةُ مِثْلَ أَنْ يَحْتَمِلَ النِّصْفَ، فَيَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ النِّصْفُ مِنْ ثَمَرَةِ كُلِّ عَامٍ، وَلِلْوَرَثَةِ النِّصْفُ الْبَاقِي.
وَإِذَا احْتَمَلَ الثلث جميع القيمة، وصارت الثَّمَرَةُ كُلُّهَا لِلْمُوصَى لَهُ فَإِنِ احْتَاجَتْ إِلَى سَقْيٍ، فَلَا يَجِبُ عَلَى الْوَرَثَةِ السَّقْيُ، بِخِلَافِ بَائِعِ الثَّمَرَةِ، حَيْثُ وَجَبَ عَلَيْهِ سَقْيُهَا لِلْمُشْتَرِي(8/227)
إِذَا احْتَاجَتْ إِلَى السَّقْيِ. لِأَنَّ الْبَائِعَ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ مَا تَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ كَامِلًا، وَالسَّقْيُ مِنْ كَمَالِهِ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ، لِأَنَّ الثَّمَرَةَ تَحْدُثُ على ملك الموصي، ولا يجب على الموصى له سقيها، لأنها بِخِلَافِ نَفَقَةِ الْعَبْدِ، لِأَنَّ نَفَقَةَ الْعَبْدِ مُسْتَحَقَّةٌ لِحُرْمَةِ نَفْسِهِ، بِخِلَافِ الثَّمَرَةِ.
وَكَذَلِكَ لَوِ احْتَاجَتِ النخل إلى سقي: لم يلزم واحد منهما.
وَأَيُّهُمَا تَطَوَّعَ بِهِ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى صاحبه.
فإن مات النخل، أو استقطع، فَأَجْذَاعُهُ لِلْوَرَثَةِ دُونَ الْمُوصَى لَهُ، وَلَيْسَ لِلْمُوصَى لَهُ أَنْ يَغْرِسَ مَكَانَهُ. وَلَا إِنْ غَرَسَ الورثة مكانه نخيلا، وكان للموصى فِيهِ حَقٌّ، لِأَنَّ حَقَّهُ فِي النَّخْلِ الْمُوصَى له بِهِ دُونَ غَيْرِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُوصِيَ بثمر له مدة مقدرة:
كأن أَوْصَى لَهُ بِثَمَرَةِ عَشْرِ سِنِينَ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ ذَهَبَ إِلَى بُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ مَعَ التَّقْدِيرِ بِالْمُدَّةِ. بِخِلَافِ الْمَنْفَعَةِ، لِأَنَّ تَقْوِيمَ الْمَنْفَعَةِ الْمُقَدَّرَةِ مُمْكِنٌ وَتَقْوِيمَ الثِّمَارِ الْمُقَدَّرَةِ بِالْمُدَّةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ.
وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى جَوَازِهَا كَالْمَنْفَعَةِ، وَفِيمَا يُقَوَّمُ فِي الثُّلُثِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُقَوَّمُ الْبُسْتَانُ [كَامِلَ الْمَنْفَعَةِ، وَيُقَوَّمُ مَسْلُوبَ الْمَنْفَعَةِ، ثُمَّ يُعْتَبَرُ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ فِي الثُّلُثِ، وَالْوَجْهُ الثاني: أن] ينظر أوسط ما يثمره النَّخْلُ غَالِبًا فِي كُلِّ عَامٍ، ثُمَّ يُعْتَبَرُ قيمة الغالب مِنْ قِيمَةِ الثَّمَرَةِ فِي أَوَّلِ عَامٍ، وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا حَدَثَ بَعْدَهُ مِنْ زِيَادَةٍ وَنَقْصٍ. فَإِنْ خَرَجَ جَمِيعُهُ مِنَ الثُّلُثِ:
فَقَدِ اسْتَحَقَّ جَمِيعَ الثَّمَرَةِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ.
وَإِنْ خَرَجَ نَصْفُهُ:
فَلَهُ النِّصْفُ مِنْ ثَمَرَةِ كُلِّ عَامٍ، إِلَى انْقِضَاءِ تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يستكمل هذه كُلِّ عَامٍ فِي نِصْفِ تِلْكَ الْمُدَّةِ، لِأَنَّهُ قَدْ تَخْتَلِفُ ثَمَرَةُ كُلِّ عَامٍ فِي الْمَقَادِيرِ وَالْأَثْمَانِ، فَخَالَفَ مَنَافِعُ الْعَبْدِ وَالدَّارِ.
وَمِثْلُ الْوَصِيَّةِ بِثَمَرَةِ الْبُسْتَانِ: أَنْ تَكُونَ لَهُ مَاشِيَةٌ فَيُوصِي لِرَجُلٍ بِرَسْلِهَا وَنَسْلِهَا.
وَتَجِبُ نَفَقَةُ الْمَاشِيَةِ، كَوُجُوبِ نفقة العبد. والله أعلم.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ولو كان أكثر من الثلث فأجاز الورثة في حياته لم يجز ذلك إِلَّا أَنْ يُجِيزُوهُ بَعْدَ مَوْتِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا أَوْصَى بِأَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِهِ، وَسَأَلَ وَارِثَهُ إِجَازَةَ وَصِيَّتِهِ، فَأَجَازَهَا فِي حياته، لم يلزمه الْإِجَازَةُ وَكَانَ مُخَيَّرًا بَعْدَ الْمَوْتِ بَيْنَ الْإِجَازَةِ وَالرَّدِّ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ.(8/228)
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَعَطَاءٌ، وَالزُّهْرِيُّ:
قَدْ لَزِمَتْهُمُ الْإِجَازَةُ، سَوَاءً أَجَازُوا فِي الصِّحَّةِ أَوْ فِي الْمَرَضِ.
وَقَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى:
إن أجازوه في الصحة: لم يلزمهم.
وَإِنْ أَجَازُوهُ فِي الْمَرَضِ: لَزِمَهُمْ.
اسْتِدْلَالًا، بِأَنَّ التَّرِكَةَ بَيْنَ الْمُوصِي وَالْوَرَثَةِ، فَإِذَا اجْتَمَعُوا فِيهَا عَلَى عَطِيَّةٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ فِيهَا اعْتِرَاضٌ، كَالْمُفْلِسِ مَعَ غُرَمَائِهِ وَالْمُرْتَهِنِ مَعَ رَاهِنِهِ.
وَهَذَا فاسد من وجوه:
أحدهما: أَنَّ الْإِجَازَةَ إِنَّمَا تَصِحُّ مِمَّنْ يَمْلِكُ مَا أجاز.
وَهُوَ قَبْلَ الْمَوْتِ، لَا يَمْلِكُهُ، فَلَمْ تَصِحَّ منه إجازته.
والثاني: أنه يملك الإجازة من يملك الرد. فَلَمَّا لَمْ يَمْلِكِ الرَّدَّ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، لَمْ يَمْلِكِ الْإِجَازَةَ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْإِجَازَةَ إِنَّمَا تَصِحُّ مِنْ وَارِثٍ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ هَذَا الْمُجِيزُ غَيْرَ وَارِثٍ فَلَمْ تَصِحَّ مِنْهُ الْإِجَازَةُ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّ إِجَازَتَهُ قَبْلَ الْإِرْثِ، كَعَفْوِهِ عَنِ الشُّفْعَةِ قَبْلَ الْبَيْعِ وَعَنِ الْعَيْبِ قَبْلَ الشِّرَاءِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا حُكْمَ لَهُ.
وَكَذَلِكَ الإجازة قبل الموت.
وبذلك الْمَعْنَى فَارَقَ الْغُرَمَاءَ مَعَ الْمُفْلِسِ، وَالْمُرْتَهِنَ مَعَ الراهن لاستحقاقهم لذلك فِي الْحَالِ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ إِجَازَةَ الْوَرَثَةِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ غَيْرُ لَازِمَةٍ، فَالْأَوْلَى لَهُمْ إِمْضَاءُ مَا أَجَازُوهُ. لِأَنَّ فِي ذَلِكَ صدقا في قول، ووفاء بوعد، وبعدا من عذر، وَطَاعَةً لِلْمَيِّتِ، وَبِرًّا لِلْحَيِّ.
وَكَذَلِكَ لَوْ أَجَازُوا وصيته لبعض ورثته في حياته.
وسواء شهد عَلَيْهِمْ بِالْإِجَازَةِ أَوْ لَمْ يُشْهِدْ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ قَالَ أَعْطُوهُ رَأْسًا مِنْ رَقِيقِي أُعْطِيَ ما شاء الوارث معيبا كان أَوْ غَيْرَ مَعِيبِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَالْكَلَامُ فِيهَا يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُوصِيَ بِرَأْسٍ مِنْ رَقِيقِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُوصِيَ بِرَأْسٍ مِنْ مَالِهِ.
فَأَمَّا إِذَا أَوْصَى بِرَأْسٍ من رقيقه: فهذا على ثلاثة أقسام:
أحدهما: أَنْ يَكُونَ لَهُ عِنْدَ الْوَصِيَّةِ رَقِيقٌ يُخَلِّفُهُمْ فِي تَرِكَتِهِ:
فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ.(8/229)
فَإِنْ خَلَّفَ رَأْسًا وَاحِدًا: فَهُوَ لِلْمُوصَى لَهُ.
وَإِنْ خَلَّفَ جَمَاعَةً فَالْخِيَارُ إِلَى الْوَرَثَةِ، فِي دَفْعِ أَيِّهِمْ شَاءُوا مِنْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ، وصحيح أو مريض، ذكر أو أنثى، مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ.
لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ينطلق عليه اسْمُ رَأْسٍ مِنْ رَقِيقٍ.
فَأَمَّا الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ:
ففيه وجهان: أحدهما: وَهُوَ قَوْلُ الرَّبِيعِ:
أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِخُرُوجِهِ عَنِ الْعُرْفِ.
وَلَكِنْ لَوْ قَالَ أَمَةً:
لَمْ يَجُزْ أَنْ يعْطىَ عَبْدًا، وَلَا خُنْثَى.
وَلَوْ قَالَ عَبْدًا:
لَمْ يَجُزْ أَنْ يعْطى أَمَةً، وَلَا خُنْثَى.
وَلَوْ كَانَ فِي كَلَامِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى مُرَادِهِ:
حُمِلَتِ الْوَصِيَّةُ عَلَى مَا يدل عليه مراده، كقوله: " أعطوه رأسا يستمتع به " فلا يعطى إلا امرأة لأنها هي المقصودة بالمنفعة ".
وَلَوْ قَالَ: رَأْسًا يَخْدِمُهُ:
لَمْ يُعْطَ إِلَّا صَحِيحًا. لِأَنَّ الزَّمِنَ لَا خِدْمَةَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الصغير.
ولو أَرَادَ الْوَرَثَةُ أَنْ يَشْتَرُوا لَهُ رَأْسًا، لَا من رقيقه:
لم يجز: لِأَنَّهُ عَيْنُ الْوَصِيَّةِ فِي رَقِيقِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ عِنْدَ الْوَصِيَّةِ بِرَأْسٍ مِنْ رَقِيقِهِ رَقِيقٌ، وَلَا يَمْلِكُ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ رقيقا فالوصية باطلة: لأنها أحالها إِلَى رَقِيقٍ مَعْدُومٍ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ عِنْدَ الْوَصِيَّةِ بِرَأْسٍ مِنْ رَقِيقِهِ رقيق، ويملك بعد الوصية وقبل الموت رَقِيقًا، فَفِي صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ وَجْهَانِ، كَمَنْ أَوْصَى بثلث ماله ولا مال له:
أحدهما: جائزة.
والثاني: باطلة.
فصل:
وأما إن أوصى برأس من رَقِيقٍ مِنْ مَالِهِ:
فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ، سَوَاءٌ خَلَّفَ رَقِيقًا أَمْ لَا، لِأَنَّهُ جَعَلَ وَصِيَّتَهُ بِالرَّقِيقِ فِي الْمَالِ، وَالْمَالُ مَوْجُودٌ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ له رقيق، كان الورثة بالخيار في شراء ما شاءوا من الرقيق.
وإن كان له رقيق:
فالورثة بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُعْطُوهُ رَأْسًا مِنْهُمْ، وَبَيْنَ أن يشتروا له.(8/230)
فصل:
ولو أوصى بعبده النوبي، ولم يكن له إلا عبدا زنجي، لَمْ يُعْطَ إِلَّا النَّوْبِيَّ، وَلَوْ كَانَ لَهُ جماعة من العبيد النوب: أعطوه أي النوبي شَاءُوا.
وَلَوْ قَالَ: أَعْطُوهُ عَبْدِي سَالِمًا الْحَبَشِيَّ، فاجتمع الاسم والجنس في عبد، فَكَانَ لَهُ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ يُسَمَّى سَالِمًا: صَحَّتِ فيه، ولو كان له عبدا يسمى سالما، وليس بحبشي، وعبدا حبشي وليس بسالم: فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّ الصِّفَتَيْنِ اللَّتَيْنِ عَلَّقَ بِهِمَا وصية مِنَ الِاسْمِ وَالْجِنْسِ لَمْ يَجْتَمِعَا.
فَصْلٌ:
فَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ أَوْصَى لِزَيْدٍ بِعَبْدِهِ سَالِمٍ الْحَبَشِيِّ وَكَانَ لَهُ عَبْدَانِ حَبَشِيَّانِ اسْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَالِمٌ.
فَإِنْ عَيَّنَا الْمُوصَى بِهِ مِنْهُمَا: صَحَّتْ شَهَادَتُهُمَا فِي الْوَصِيَّةِ لِمَنْ عَيَّنَاهُ.
وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنِ الشَّاهِدَانِ أَحَدَهُمَا، فَفِي شَهَادَتِهِمَا قولان حكاهما ابن سُرَيْجٍ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ، لِلْجَهْلِ بِهَا وَالشَّهَادَةُ الْمَجْهُولَةُ مَرْدُودَةٌ، وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْوَارِثِ فِي إِنْكَارِ الْوَصِيَّةِ وَإِثْبَاتِهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الشَّهَادَةَ جَائِزَةٌ، لأنها تضمنت وصية لا يؤثر فِيهَا الْجَهَالَةُ بِهَا، ثُمَّ فِيهَا وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابن سريج.
أحدهما: أن العبدين موقوفين بين الموصى له والوارث حتى يصطلحوا على الموصى له منهما، لأنها أشكلا بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ، لَا بِاعْتِرَافِهِمْ، فَلَمْ يُرْجَعْ إِلَى بَيَانِهِمْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى بَيَانِ الورثة في أَيِّ الْعَبْدَيْنِ شَاءُوا لِأَنَّ وُجُوبَ الْوَصِيَّةِ بِالشَّهَادَةِ، كَوُجُوبِهَا بِاعْتِرَافِهِمْ فَوَجَبَ أَنْ يُرْجَعَ فِي الْحَالَيْنِ إلى بيانهم.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ولو هلكت إِلَّا رَأْسًا كَانَ لَهُ إِذَا حَمَلَهُ الثُّلُثُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا أَوْصَى بِرَأْسٍ مِنْ ماله: فالوصية جَائِزَةٌ لَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ رَقِيقِهِ إِذَا كَانَ مَالُهُ بَاقِيًا.
فَأَمَّا إِذَا أَوْصَى بِرَأْسٍ مِنْ رَقِيقِهِ، فَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ إِذَا لَمْ يَمُتْ منهم أحد.
وأما إِذَا حَدَثَ فِيهِمْ مَوْتٌ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَهْلِكَ جَمِيعُهُمْ.
وَالثَّانِي: بَعْضُهُمْ.
فَإِنْ هَلَكُوا جميعهم فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ هَلَاكًا غَيْرَ مَضْمُونٍ كَالْمَوْتِ، فَالْوَصِيَّةُ قَدْ بَطَلَتْ، إِلَّا أَنَّهُ إِنْ كَانَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي، فَلَا وَصِيَّةَ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ فَقَدْ هَلَكَ ذَلِكَ مِنْ مَالِ الْمُوصَى لَهُ وَالْوَرَثَةِ جَمِيعًا.(8/231)
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ هَلَاكُهُمْ مَضْمُونًا كَالْقَتْلِ الَّذِي يُوجِبُ ضَمَانَ قِيمَتِهِمْ عَلَى قَاتِلِهِمْ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَتْلُهُمْ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي: فَالْوَصِيَّةُ صَحِيحَةٌ لِأَنَّ الْقِيمَةَ قَائِمَةٌ مَقَامَهُمْ، ثُمَّ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يُعْطُوهُ قِيمَةَ أَيِّهِمْ شَاءُوا، كَمَا كَانَ لَهُمْ مَعَ بَقَائِهِمْ أَنْ يعطوا أَيَّهُمْ شَاءُوا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَتْلُهُمْ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي فَفِي الْوَصِيَّةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: جَائِزَةٌ، لِأَنَّ الْقَيِّمَةَ بَدَلٌ مِنْهُمْ، فَصَارَ كَوُجُودِهِمْ فَعَلَى هَذَا يُعْطُونَهُ قِيمَةَ أَيِّهِمْ شَاءُوا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا بَاطِلَةٌ، لِأَنَّ انْتِقَالَهُمْ إِلَى الْقِيمَةِ فِي الْقَتْلِ كَانْتِقَالِهِمْ إِلَى الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ، فَلَمَّا كَانَ بَيْعُهُمْ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي مُوجِبًا لِبُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ كَذَلِكَ قَتْلُهُمْ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي موجبا لبطلان الوصية.
ومن قال بالوجه الأول يُفَرِّقَ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْقَتْلِ.
بِأَنَّ الْبَيْعَ كَانَ بِاخْتِيَارِ الْمُوصِي، فَكَانَ رُجُوعًا. وَالْقَتْلُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، فَلَمْ يَكُنْ رُجُوعًا.
فَصْلٌ:
وَإِنْ هَلَكَ بَعْضُهُمْ وبقي بعضهم كأنهم هلكوا جميعا إلا واحدا مِنْهُمْ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ مِنْهُمْ بِالْمَوْتِ دُونَ الْقَتْلِ: فَالْوَصِيَّةُ قد بقيت في العبيد الْبَاقِي، وَلَا خِيَارَ لِلْوَرَثَةِ فِي الْعُدُولِ بِهَا إِلَى غَيْرِهِ، لِتَعْيِينِهَا فِي رَقِيقِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ هَلَاكُهُمْ بِالْقَتْلِ الْمَضْمُونِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَتْلُهُمْ قَبْلَ مَوْتِ الموصي، فالوصية بقيت فِي الْعَبْدِ الْبَاقِي، وَلَيْسَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَعْدِلُوا بِهَا إِلَى قِيمَةِ أَحَدِ الْمَقْتُولِينَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ لِأَنَّ بَقَاءَ الْجِنْسِ للموصى بِهِ، يَمْنَعُ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى غَيْرِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَتْلُهُمْ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْوَصِيَّةَ مُتَعَيِّنَةٌ فِي الْعَبْدِ الْبَاقِي فَلَيْسَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَعْدِلُوا بِهَا إِلَى قِيمَةِ أَحَدِ الْمَقْتُولِينَ، كَمَا لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْقَتْلُ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ لِلْوَرَثَةِ الْخِيَارَ فِي أَنْ يُعْطُوهُ الْعَبْدَ الْبَاقِيَ، أَوْ يَعْدِلُوا بِهِ إِلَى قيمة أحد المقتولين، كما لَهُمُ الْخِيَارُ لَوْ قُتِلُوا جَمِيعًا فِي أَنْ يُعْطُوهُ قِيمَةَ أَيِّهِمْ شَاءُوا.
فَصْلٌ:
فَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ ثَلَاثَةُ عَبِيدٍ فَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِهِمْ، اسْتَحَقَّ من كل واحد الثلث، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَحَدُهُمْ كَامِلًا، إِلَّا أَنْ تراضيه الورثة عليه سلما.
فَصْلٌ:
وَلَوْ قَالَ لِوَرَثَتِهِ: اسْتَخْدِمُوا عَبْدِي سَنَةً بَعْدَ مَوْتِي، ثُمَّ هُوَ بَعْدَ السَّنَةِ وَصِيَّةٌ لِفُلَانٍ جَازَ وَلَمْ تُقَوَّمْ خِدْمَةُ السَّنَةِ عَلَى الْوَرَثَةِ فِي حَقِّهِمْ لِأَنَّهُمْ قَبْلَ السَّنَةِ اسْتَخْدَمُوا(8/232)
ملكهم، وليس كالموصى له بخدمة سَنَةٍ، حَيْثُ قُوِّمَتْ خِدْمَةُ السَّنَةِ فِي حَقِّهِ. لِأَنَّهُ اسْتَخْدَمَ بِالْوَصِيَّةِ غَيْرَ مِلْكِهِ.
وَلَوْ قَالَ: اسْتَخْدِمُوا عَبْدِي سَنَةً ثُمَّ أَعْتِقُوهُ عَنِّي:
كَانَ لَهُمُ اسْتِخْدَامُهُ، ثُمَّ عِتْقُهُ، بَعْدَ الْخِدْمَةِ، وَيُقَوَّمُ العبد في سنة الْوَصِيَّةِ فِي الْعِتْقِ، بَعْدَ خِدْمَةِ السَّنَةِ مِنْ موت الموصي، لأنه لا يجوز أن نعتبر قِيمَتَهُ فِي الْحَالِ الَّتِي لَا يُمْلَكُ بِالْوَصِيَّةِ ولا يحرر بالعتق.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: (ولو) أوصى له بِشَاةٍ مِنْ مَالِهِ قِيلَ لِلْوَرَثَةِ أَعْطُوهُ أَوِ اشتروها له صغيرة كانت أو كبيرة ضائنة أو ماعزة ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِشَاةٍ مِنْ مَالِهِ: فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ، تَرَكَ غَنَمًا، أَوْ لَمْ يَتْرُكْ، لِأَنَّهُ جَعَلَهَا فِي مَالِهِ. وَيُعْطِيهِ الْوَرَثَةُ مَا شَاءُوا مِنْ ضَأْنٍ أَوْ مَعْزٍ، صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ، سَمِينٍ أَوْ هَزِيلٍ.
وَفِي اسْتِحْقَاقِ الْأُنْثَى وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ من نَصِّ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ لَا يُعْطَى إِلَّا أُنْثَى لِأَنَّ الْهَاءَ مَوْضُوعَةٌ لِلتَّأْنِيثِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أبي هريرة.
أن الورثة بالخيار فِي إِعْطَائِهِ، ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، لِأَنَّ الْهَاءَ من أصل الكلمة، فيه اسْمِ الْجِنْسِ، فَاسْتَوَى فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى.
وَلَكِنْ لَوْ قَالَ شَاةٌ مِنْ غَنَمِي، وَكَانَتْ غَنَمُهُ كُلُّهَا إِنَاثًا، لَمْ يُعْطَ إِلَّا أُنْثَى.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ كُلُّهَا ذُكُورًا: لَمْ يُعْطَ إِلَّا ذَكَرًا مِنْهَا، وَلَوْ لَمْ يُخَلِّفْ غَنَمًا كَانَتِ الوصية باطلة.
وكذلك لَوْ دَلَّ كَلَامُهُ عَلَى الْمُرَادِ مِنْهَا: حُمِلَ عَلَيْهِ مِثْلَ قَوْلِهِ: شَاةٌ يَنْتَفِعُ بِدَرِّهَا، وَنَسْلِهَا، لم يعط إلا كبير، أنثى، لتكون ذات در ونسل وسواء كانت من الضأن أو من المعز.
فَإِنْ قَالَ: شَاةٌ يَنْتَفِعُ بِصُوفِهَا، لَمْ يُعْطَ إلا من الضأن.
وَلَا يَجُوزُ إِذَا أَوْصَى بِشَاةٍ مِنْ مَالِهِ أن يعطى غزالا أو ظَبْيًا، وَإِنِ انْطَلَقَ اسْمُ الشَّاةِ عَلَيْهِمَا مَجَازًا.
وَلَكِنْ لَوْ قَالَ: شَاةٌ مِنْ شِيَاهِي، وَلَمْ يَكُنْ فِي مَالِهِ إِلَّا ظَبْيٌ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْوَصِيَّةَ بَاطِلَةٌ: لِأَنَّ اسْمَ الشَّاةِ يَتَنَاوَلُ الْغَنَمَ، وَلَيْسَ فِي تَرِكَتِهِ، فَبَطَلَتْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ تَصِحُّ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَضَافَ ذَلِكَ إِلَى شِيَاهِهِ، وَلَيْسَ فِي مَالِهِ إِلَّا مَا(8/233)
يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ مَجَازُ الِاسْمِ، دُونَ الْحَقِيقَةِ حُمِلَ عَلَيْهِ، وَانْصَرَفَتْ وَصِيَّتُهُ إِلَى الظَّبْيِ الْمَوْجُودِ فِي تَرِكَتِهِ، حَتَّى لَا تَبْطُلَ وَصِيَّتُهُ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: (وَلَوْ قَالَ) بَعِيرًا أَوْ ثَوْرًا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يُعْطُوهُ نَاقَةً وَلَا بَقَرَةً وَلَوْ قَالَ عَشْرَ أَيْنُقٍ أَوْ عَشْرَ بَقَرَاتٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يُعْطُوهُ ذَكَرًا (وَلَوْ قَالَ) عَشَرَةَ أَجَمَالٍ أَوْ أَثْوَارٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أن يعطوه أنثى (فإن قَالَ) عَشَرَةٌ مِنْ إِبِلِي أَعْطَوْهُ مَا شَاءُوا ".
قال الماوردي: أَمَّا إِذَا أَوْصَى لَهُ بِثَوْرٍ: لَمْ يُعْطَ إِلَّا ذَكَرًا، لِأَنَّ الثَّوْرَ اسْمٌ لِلذُّكُورِ، دُونَ الْإِنَاثِ.
وَلَوْ قَالَ بَقَرَةً: لَمْ يُعْطَ إِلَّا أُنْثَى، لِأَنَّ الْهَاءَ مَوْضُوعَةٌ لِلتَّأْنِيثِ، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، يُخْرِجُ فِي الْبَقَرَةِ وَجْهًا آخَرَ، أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى ذَكَرًا، أَوْ أُنْثَى كَالشَّاةِ، لِأَنَّ الْهَاءَ مِنْ أَصْلِ اسْمِ الْجِنْسِ.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ فِي الْوَصِيَّةِ بِالثَّوْرِ وَالْبَقَرَةِ إِلَى الْجَوَامِيسِ، بِخِلَافِ الشَّاةِ الَّتِي يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا اسْمُ الضَّأْنِ وَالْمَعْزِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي كَلَامِهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، أَوْ يَقُولُ بَقَرَةً من بقري، وليس له إلا الجواميس، وَإِنْ كَانَ اسْمُ الْبَقَرِ يَتَنَاوَلُهَا مَجَازًا.
لِأَنَّ إِضَافَةَ الْوَصِيَّةِ إِلَى التَّرِكَةِ، قَدْ صَرَفَ الِاسْمَ عَنْ حَقِيقَتِهِ إِلَى مَجَازِهِ.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ بِهِ إِلَى بَقَرِ الْوَحْشِ، فَإِنْ أَضَافَ الْوَصِيَّةَ إِلَى بَقَرِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إلا بقر الوحش، فعلى ما ذكرناه من الوجهين في الظبي.
فصل:
فأما إِذَا أَوْصَى بِبَعِيرٍ.
فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ لَا يُعْطَى إِلَّا ذَكَرًا، لِأَنَّ اسْمَ الْبَعِيرِ بِالذُّكُورِ أَخَصُّ.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: هُوَ اسْمٌ لِلْجِنْسِ، فيعطى ما شاء الوارث مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى.
فَأَمَّا إِذَا أَوْصَى لَهُ بِجَمَلٍ: لَمْ يُعْطَ إِلَّا ذَكَرًا لِاخْتِصَاصِ هذا الاسم بالذكور.
ولو أوصى بعشرة مِنْ إِبِلِهِ أَعْطَاهُ الْوَارِثُ مَا شَاءَ مِنْ ذكور وإناث، وسواء أثبت التاء فِي الْعَدَدِ، أَوْ أَسْقَطَهَا.
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قال:
إن أثبت التاء فِي الْعَدَدِ فَقَالَ: عَشَرَةٌ مِنْ إِبِلِي. لَمْ يُعْطَ إِلَّا مِنَ الذُّكُورِ لِأَنَّ عَدَدَهَا بِإِثْبَاتِ التاء.
وإن أسقط التاء في العدد: فقال عشر مِنْ إِبِلِي لَمْ يُعْطَ إِلَّا مِنَ الْإِنَاثِ لأن عددها بإسقاط التاء.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ: عَشْرُ نِسْوَةٍ، وَعَشَرَةُ رجال. وهذا الأوجه لَهُ، لِأَنَّ اسْمَ الْإِبِلِ إِذَا كَانَ يَتَنَاوَلُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ تَنَاوُلًا وَاحِدًا، صَارَ الْعَدَدُ فِيهَا مَحْمُولًا عَلَى الْقَدْرِ، دُونَ النَّوْعِ.(8/234)
وَأَمَّا إِذَا قَالَ: أَعْطُوهُ مَطِيَّةً، أَوْ رَاحِلَةً.
فَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ، فَيُعْطِيهِ الْوُرَّاثُ مِنْهُمَا ما شاء. والله أعلم.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فإن قال أعطوه دابة من مالي فمن الخيل أو البغال أو الحمير ذكرا كان أو أنثى صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا أَعْجَفَ أَوْ سَمِينًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. أَمَّا اسْمُ الدَّوَابِّ: فَيَنْطَلِقُ عَلَى كُلِّ مَا دَبَّ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ حَيَوَانٍ اشْتِقَاقًا مِنْ دَبِيبِهِ عَلَيْهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] . غَيْرَ أَنَّهُ فِي الْعُرْفِ مُخْتَصٌّ بِبَعْضِهَا. فَإِنْ قَالَ: أَعْطُوهُ دَابَّةً مِنْ دَوَابِّي، قَالَ الشَّافِعِيُّ: يُعْطَى مِنَ الْخَيْلِ أو البغال، أو الحمير.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا: فَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يَحْمِلُ ذَلِكَ عَلَى عُرْفِ النَّاسِ بِمِصْرَ، حَيْثُ قَالَ ذَلِكَ فِيهِمْ، وَذِكْرُهُ لَهُمُ اعْتِبَارًا بِعُرْفِهِمْ، لِأَنَّ اسْمَ الدَّوَابِّ فِي عُرْفِهِمْ مُنْطَلَقٌ عَلَى الْأَجْنَاسِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الْخَيْلِ، وَالْبِغَالِ، وَالْحَمِيرِ.
فَأَمَّا بِالْعِرَاقِ وَالْحِجَازِ، فَلَا يَنْطَلِقُ إِلَّا عَلَى الْخَيْلِ ولا يتناول غيرها إلا مجازا بعرف بقرينته.
فَإِنْ كَانَ هَذَا الْمُوصِي بِمِصْرَ: خُيِّرَ وَرَثَتُهُ بَيْنَ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ. وَإِنْ كَانَ بِالْعِرَاقِ: لَمْ يُعْطُوهُ إِلَّا مِنَ الْخَيْلِ.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ:
بَلِ الْجَوَابُ مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي كُلِّ الْبِلَادِ، لِأَنَّ اسْمَ الدَّوَابِّ يَنْطَلِقُ عَلَى هَذِهِ الْأَجْنَاسِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الْخَيْلِ، وَالْبِغَالِ، وَالْحَمِيرِ.
فَإِنْ شَذَّ بَعْضُ الْبِلَادِ بِتَخْصِيصِ بَعْضِهَا بِالِاسْمِ لَمْ يُعْتَبَرْ بِهِ حُكْمُ الْعُرْفِ الْعَامِّ.
فَلَوْ قَرَنَ ذَلِكَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى التَّخْصِيصِ، حُمِلَ عَلَى قَرِينَتِهِ، كَقَوْلِهِ: أَعْطُوهُ دَابَّةً يُقَاتِلُ عَلَيْهَا، فَلَا يُعْطَى إِلَّا مِنَ الْخَيْلِ عَتِيقًا، أَوْ هَجِينًا، ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، وَلَا يُعْطَى صَغِيرًا وَلَا قمحا لَا يُطِيقُ الرُّكُوبَ.
وَلَوْ قَالَ دَابَّةً يُحْمَلُ عَلَيْهَا: أُعْطِيَ مِنَ الْبِغَالِ، أَوِ الْحَمِيرِ دُونَ الْخَيْلِ.
وَلَوْ قَالَ دَابَّةً يَنْتَفِعُ بِنِتَاجِهَا: أُعْطِيَ مِنَ الْخَيْلِ أَوِ الْحَمِيرِ دُونَ الْبِغَالِ لِأَنَّهَا لَا نِتَاجَ لَهَا.
وَلَوْ قَالَ دَابَّةً يَنْتَفِعُ بِدَرِّهَا وَظَهْرِهَا: لَمْ يُعْطَ إِلَّا مِنَ الْخَيْلِ، لأن لبنها من لَبَنَ غَيْرِهَا مِنَ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ: مَحْظُورٌ.
وَلَوْ قَالَ: دَابَّةً مِنْ دَوَابِّي، وَلَمْ يَكُنْ فِي مَالِهِ إِلَّا أَحَدُ الْأَجْنَاسِ لَمْ يُعْطَ غَيْرَهُ.
وَلَوْ كَانَ فِي مَالِهِ جِنْسَانِ:
أَعْطَاهُ الْوَارِثُ أحدهما، ولم يعط الثَّالِثَ الَّذِي لَيْسَ فِي مَالِهِ.(8/235)
وَلَوْ قَالَ دَابَّةً مِنْ مَالِي وَكَانَ فِي مَالِهِ أَحَدَ الْأَجْنَاسِ.
كَانَ الْوَارِثُ بِالْخِيَارِ، فِي إِعْطَائِهِ ذَلِكَ الْجِنْسَ، أَوِ الْعُدُولِ عَنْهُ إِلَى أَحَدِ الْجِنْسَيْنِ الْآخَرَيْنِ شِرَاءً مِنْ غَيْرِ مَالِهِ.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ قَالَ أَعْطُوهُ كَلْبًا مِنْ كِلَابِي أَعْطَاهُ الْوَارِثُ أَيُّهَا شَاءَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: الْوَصِيَّةُ بِالْكَلْبِ الْمُنْتَفَعِ بِهِ جَائِزَةٌ، لِأَنَّهُ لما جاز إحرازه فِي يَدِ صَاحِبِهِ، وَحَرُمَ انْتِزَاعُهُ مِنْ يَدِ صَاحِبِهِ، جَازَ أَنْ يَكُونَ وَصِيَّةً وَمِيرَاثًا.
فَإِذَا أوصى بِكَلْبٍ، وَلَا كِلَابَ لَهُ.
فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُشْتَرَى، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يُسْتَوْهَبَ.
وَإِنْ كَانَ لَهُ كِلَابٌ: فَضَرْبَانِ، مُنْتَفَعٌ بها، وغير منتفع بها.
فإن كانت كلاب كُلُّهَا غَيْرَ مُنْتَفَعٍ بِهَا: فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ، لِحَظْرِ اقْتِنَائِهِ وَتَحْرِيمِ إِمْسَاكِهِ.
وَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا مُنْتَفَعًا بها، فكان له كلب حرث وماشية وَكَلْبُ صَيْدٍ نُظِرَ.
فَإِنْ كَانَ الْمُوصَى لَهُ صَاحِبَ حَرْثٍ، وَمَاشِيَةٍ، وَصَيْدٍ، فَالْوَارِثُ بِالْخِيَارِ فِي إِعْطَائِهِ أَيَّ كَلْبٍ شَاءَ، مِنْ حَرْثٍ أَوْ مَاشِيَةٍ أَوْ صَيْدٍ.
وَإِنْ كَانَ الْمُوصَى لَهُ، لَيْسَ بِصَاحِبِ حَرْثٍ، وَلَا مَاشِيَةٍ، وَلَا صَيْدٍ فَفِي الْوَصِيَّةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ، اعْتِبَارًا بِالْمُوصَى لَهُ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ.
وَالثَّانِي: الْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ، اعْتِبَارًا بِالْكَلْبِ، وَأَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ، وأن الموصى له ربما أعطاه ما يَنْتَفِعُ بِهِ.
وَإِنْ كَانَ الْمُوصَى لَهُ مِمَّنْ يَنْتَفِعُ بِأَحَدِهَا بِأَنْ كَانَ صَاحِبَ حَرْثٍ لَا غَيْرَ، أَوْ صَاحِبَ صَيْدٍ لَا غَيْرَ، فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ وَفِيهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُ الْوارثَ أَنْ يُعْطِيَهُ الْكَلْبَ الَّذِي يَخْتَصُّ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ، دُونَ غَيْرِهِ، اعْتِبَارًا بِالْمُوصَى لَهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ لِلْوَارِثِ الخيار في إعطائه أي الكلاب شَاءَ، اعْتِبَارًا بِالْمُوصَى بِهِ.
فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ بِالْجَرْوِ الصَّغِيرِ الْمُعَدِّ لِلتَّعْلِيمِ، فَفِي جَوَازِهَا وَجْهَانِ، مِنَ اختلاف الوجهين في اقتنائه.
أحدهما: اقتنائه غَيْرُ جَائِزٍ، وَالْوَصِيَّةُ بِهِ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ فِي الْحَالِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اقتنائه جائز، لأنه سينتفع به في ثاني حال، ولأن تعليمه منفعة في الحال.(8/236)
فَصْلٌ:
وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ ثَلَاثَةُ كِلَابٍ، وَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا سِوَاهَا، فَأَوْصَى بِجَمِيعِهَا لِرَجُلٍ.
فَإِنْ أجازها الورثة فله، وإلا ردت إِلَى ثُلُثِهَا، ثُمَّ فِي كَيْفِيَّةِ رُجُوعِهَا إِلَى الثُّلُثِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ مِنْ كُلِّ كَلْبٍ ثُلُثَهُ، فَيَحْصُلُ لَهُ ثُلُثُ الثَّلَاثَةِ، وَلَا يستحق واحدا بكماله إِلَّا عَنْ مُرَاضَاتِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَدِ اسْتَحَقَّ بِالْوَصِيَّةِ أَحَدَهَا، بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ مقومة لا تختلف أثمانها وليست كالكلاب التي تُقَوَّمُ، فَاسْتَوَى حُكْمُ جَمِيعِهَا. فَعَلَى هَذَا فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّهُ يَأْخُذُ أَحَدَهَا بِالْقُرْعَةِ.
وَالثَّانِي: إِنَّ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يُعْطُوهُ أَيَّهَا شَاءُوا.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا إِنْ كَانَ لَهُ كَلْبٌ وَاحِدٌ، وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ غيره، أوصى بِهِ لِرَجُلٍ، فَهُوَ كَمَنْ أَوْصَى بِجَمِيعِ مَالِهِ.
فَإِنْ أَجَازَهُ الْوَارِثُ، وَإِلَّا كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثُهُ، وَلِلْوَرَثَةِ ثُلُثَاهُ، وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى الْمُهَايَاةِ.
وَإِنْ مَلَكَ مَالًا فَأَوْصَى بِهَذَا الْكَلْبِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ كَلْبٌ سِوَاهُ، فَفِي الْوَصِيَّةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أن الوصية جائزة، والكلب كُلِّهِ، لِلْمُوصَى لَهُ بِهِ، لِأَنَّ قَلِيلَ الْمَالِ خَيْرٌ مِنَ الْكَلْبِ الَّذِي لَيْسَ بِمَالٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ:
أَنَّ لِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثُ الْكَلْبِ، إِذَا مَنَعَ الْوَرَثَةُ مِنْ جَمِيعِهِ، وَإِنْ كَثُرَ مَالُ التَّرِكَةِ، لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُشْتَرَى، فَيُسَاوِيهِ الْوَرَثَةُ فِيمَا صَارَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمَالِ، فَاخْتَصَّ الْكَلْبُ بِحُكْمِهِ، وَصَارَ كَأَنَّهُ جَمِيعُ التَّرِكَةِ.
فَلَوْ تَرَكَ ثلاث كلاب. ومالا. أوصى بِجَمِيعِ كِلَابِهِ الثَّلَاثَةِ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، الْوَصِيَّةُ بِجَمِيعِ الْكِلَابِ الثَّلَاثَةِ مُمْضَاةٌ، وَإِنْ قَلَّ مَالُ التَّرِكَةِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ: تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ فِي أَحَدِهَا، إِذَا مَنَعَ الْوَرَثَةُ مِنْ جَمِيعِهَا.
فَصْلٌ:
وَالْوَصِيَّةُ بالميتة جائزة.
لأن قَدْ يَدْبَغُ جِلْدَهَا، وَيُطْعِمُ بُزَاتَهُ لَحْمًا.
وَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ بِالرَّوْثِ، وَالزِّبْلِ: لِأَنَّهُ قَدْ يَنْتَفِعُ بِهِ فِي نَخْلِهِ وَزَرْعِهِ.
فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، فَبَاطِلَةٌ، لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِمَا مُحَرَّمٌ.
وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِجَرَّةٍ فِيهَا خَمْرٌ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: (رَحِمَهُ اللَّهُ) أُرِيقَ الْخَمْرُ وَدُفِعَتْ إِلَيْهِ الْجَرَّةُ. لِأَنَّ الْجَرَّةَ مُبَاحَةٌ. وَالْخَمْرَ حَرَامٌ.(8/237)
فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ بِالْحَيَّاتِ، وَالْعَقَارِبِ، وَحَشَرَاتِ الْأَرْضِ، وَالسِّبَاعِ، وَالذُّبَابِ: فَبَاطِلَةٌ، لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ فِي جَمِيعِهَا.
فأما الْوَصِيَّةُ بِالْفِيلِ.
فَإِنْ كَانَ مُنْتَفَعًا بِهِ: فَجَائِزٌ، لِجَوَازِ أَنْ يَبِيعَهُ، وَيُقَوَّمَ فِي التَّرِكَةِ، وَيُعْتَبَرَ مِنَ الثُّلُثِ.
وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُنْتَفَعٍ بِهِ: فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ.
فَأَمَّا الْفَهْدُ، وَالنَّمِرُ وَالشَّاهِينُ، وَالصَّقْرُ.
فَالْوَصِيَّةُ بِذَلِكَ كُلِّهِ جَائِزَةٌ، لِأَنَّهَا جَوَارِحُ يُنْتَفَعُ بِصَيْدِهَا وَتُقَوَّمُ فِي التَّرِكَةِ لِجَوَازِ بَيْعِهَا، وَتُعْتَبَرُ في الثلث.
وأما الوصية بما تصيده كلابه:
فَبَاطِلَةٌ: لِأَنَّ الصَّيْدَ، لِمَنْ صَادَهُ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " أَعْطُوهُ طَبْلًا مِنْ طُبُولِي وَلَهُ طَبْلَانِ لِلْحَرْبِ وَاللَّهْوِ أَعْطَاهُ أَيَّهُمَا شَاءَ فَإِنْ لَمْ يَصْلُحِ الَّذِي لِلَّهْوِ إِلَّا لِلضَّرْبِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يُعْطُوهُ إِلَّا الَّذِي لِلْحَرْبِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِمَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ بَاطِلَةٌ.
وَالْوَصِيَّةُ بِمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ.
مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ، وَمَنْفَعَةٌ مَحْظُورَةٌ، وَمَنْفَعَةٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ.
فَإِنْ كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ مُبَاحَةً، جَازَ بَيْعُ ذَلِكَ، وَالْوَصِيَّةُ بِهِ.
وَإِنْ كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ مَحْظُورَةً: لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ، وَلَا الْوَصِيَّةُ بِهِ.
وَإِنْ كَانَتْ مُشْتَرَكَةً: جَازَ بَيْعُهُ وَالْوَصِيَّةُ بِهِ لِأَجْلِ الْإِبَاحَةِ.
وَنُهِيَ عَنِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْحَظْرِ.
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا: وَأَوْصَى لَهُ بِطَبْلٍ مِنْ طُبُولِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا طُبُولُ الْحَرْبِ، فَالْوَصِيَّةُ بِهِ جَائِزَةٌ، لِأَنَّ طَبْلَ الْحَرْبِ مُبَاحٌ ثُمَّ يُنْظَرُ.
فَإِنْ كَانَ اسْمُ الطَّبْلِ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ جِلْدٍ، دفع إليه الطبل بغير الجلد.
وَإِنْ كَانَ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ إِلَّا بِالْجِلْدِ: دُفِعَ إِلَيْهِ مَعَ جِلْدِهِ.
وَإِنْ كَانَتْ طُبُولُهُ كُلُّهَا طُبُولَ اللَّهْوِ، فَإِنْ كَانَتْ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لِلَّهْوِ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّ طُبُولَ اللَّهْوِ مَحْظُورَةٌ.
وَإِنْ كَانَتْ تَصْلُحُ لِغَيْرِ اللَّهْوِ في غير الْمَنَافِعِ الْمُبَاحَةِ جَازَتِ الْوَصِيَّةُ بِهَا.
وَإِنْ كَانَتْ طبوله نوعين: طبول حرب، وطبول اللهو، فَإِنْ كَانَتْ طُبُولُ اللَّهْوِ، لَا تَصْلُحُ لِغَيْرِ اللَّهْوِ، لَمْ يُعْطَ إِلَّا طَبْلَ الْحَرْبِ.(8/238)
وَإِنْ كَانَتْ طُبُولُ اللَّهْوِ: تَصْلُحُ لِغَيْرِهِ مِنَ الْمُبَاحَاتِ، كَانَ الْوَارِثُ بِالْخِيَارِ فِي إِعْطَائِهِ مَا شَاءَ مِنْ طَبْلِ لَهْوٍ، أَوْ حَرْبٍ، لِانْطِلَاقِ الاسم عليها. إِلَّا أَنْ يَدُلَّ كَلَامُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا، فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ: أَعْطُوهُ طَبْلًا لِلْجِهَادِ، أَوِ الْإِرْهَابِ، فلا يعطى إلا طبل حرب.
وَإِنْ قَالَ طَبْلًا لِلْفَرَحِ، وَالسُّرُورِ: لَمْ يُعْطَ، إِلَّا طَبْلَ اللَّهْوِ.
فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ بِالدُّفِّ الْعَرَبِيِّ.
فَجَائِزَةٌ لِوُرُودِ الشَّرْعِ بِإِبَاحَةِ الضَّرْبِ بِهِ فِي المناكح.
والله أعلم.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ولو قال أعطوه عُودًا مِنْ عِيدَانِي وَلَهُ عِيدَانٌ يُضْرَبُ بِهَا وعيدان قسي وعصي فالود الذي يواجه به المتكلم هو الَّذِي يُضْرَبُ بِهِ فَإِنْ صَلُحَ لِغَيْرِ الضَّرْبِ جَازَ بِلَا وَتَرٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا قَالَ أَعْطُوهُ عُودًا مِنْ عِيدَانِي، فَمُطْلَقُ هذا الاسم يتناول عيدان الضرب واللهو وعيدان الْقِسِيِّ، وَالْعِصِيِّ، فَإِنْ كَانَ عُودُ الضَّرْبِ لَا يَصْلُحُ لِغَيْرِ الضَّرْبِ وَاللَّهْوِ، فَالْوَصِيَّةُ بِهِ بَاطِلَةٌ وَإِنْ كَانَ يَصْلُحُ لِغَيْرِ اللَّهْوِ فَالْوَصِيَّةُ بِهِ جَائِزَةٌ، وَيُعْطَى بِغَيْرِ وَتَرٍ، لِانْطِلَاقِ الِاسْمِ عَلَيْهِ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ وَتَرٌ يُنْظَرُ.
فَإِنْ كَانَ لَا يَصْلُحُ لِغَيْرِ اللَّهْوِ إِلَّا بَعْدَ تَفْصِيلِهِ وَتَخْلِيعِهِ، فُصِّلَ وَخُلِّعَ، ثُمَّ دُفِعَ إِلَيْهِ.
وَإِنْ كَانَ يَصْلُحُ لِغَيْرِ اللَّهْوِ: لَمْ يُفَصَّلْ: ودفع إليه غير مفصل.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وهكذا المزامير ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: يَعْنِي أَنَّهُ إِنْ كَانَ لَا يصلح إلا للهو: فالوصية بَاطِلَةٌ.
وَإِنْ كَانَ يَصْلُحُ لِغَيْرِ اللَّهْوِ: فَالْوَصِيَّةُ به جائزة. ثم الكلام في التفضيل عَلَى مَا مَضَى.
فَأَمَّا الشَّبَّابَةُ الَّتِي يُنْفَخُ فِيهَا مَعَ طَبْلِ الْحَرْبِ، وَفِي الْأَسْفَارِ: فَالْوَصِيَّةُ بها جائزة.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: (وَلَوْ قَالَ) عُودًا مِنَ الْقِسِيِّ لَمْ يُعْطَ قَوْسَ نَدَّافٍ وَلَا جُلَاهِقَ وَأُعْطِيَ مَعْمُولَةَ أَيِّ قوس نَبْلٍ أَوْ نُشَّابٍ أَوْ حُسْبَانٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِقَوْسٍ مِنَ الْقِسِيِّ، فَمُطْلَقُ الْقَوْسِ يَتَنَاوَلُ قَوْسَ السِّهَامِ العربية دون قوس النداف.
والجلاهق الذي يُرْمَى عَنْهَا الْبُنْدُقُ، فَلَا يُعْطَى إِلَّا قَوْسَ السهام العربية، سواء أَعْطَاهُ قَوْسَ نُشَابٍ وَهِيَ الْفَارِسِيَّةُ، أَوْ قَوْسَ نَبْلٍ وَهِيَ الْعَرَبِيَّةُ، أَوْ قَوْسَ حُسْبَانٍ.(8/239)
والخيار فيها إِلَى الْوَارِثِ لِاشْتِرَاكِ الِاسْمِ فِي جَمِيعِهَا، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَدْفَعَ الْوَتَرَ مَعَهُ، لِأَنَّهُ يُسَمَّى قَوْسًا بِغَيْرِ وَتَرٍ.
وَهَكَذَا لَوْ أَوْصَى لَهُ بدابة: لم يعط سَرْجَهَا، أَوْ عَبْدٍ: لَمْ يُعْطَ كُسْوَتَهُ.
فَأَمَّا إن قال: أعطوه قوسا من قسي، وَلَهُ قَوْسُ نَدَّافٍ، وَقَوْسُ جُلَاهِقٍ: أُعْطِيَ قَوْسَ الجلاهق التي يرمى عنها، لِأَنَّهَا أَخَصُّ بِالِاسْمِ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا قَوْسُ نَدَّافٍ: دُفِعَ إِلَيْهِ.
وَلَوِ اقْتَرَنَ بكلامه ما يدل على مراده: عمل مَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُهُ مِنَ الْقِسِيِّ الثَّلَاثِ. والله أعلم.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وتجعل وصيته في الرقاب فِي الْمُكَاتَبِينَ وَلَا يُبْتَدَأُ مِنْهُ عِتْقٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا أَوْصَى بِثُلُثِهِ فِي الرِّقَابِ، صُرِفَ فِي الْمُكَاتَبِينَ، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة.
وَقَالَ مَالِكٌ: يُشْتَرَى بِهِ رِقَابٌ يُعْتَقُونَ.
وَأَصْلُ هَذَا اخْتِلَافُهُمْ فِي سَهْمِ الرِّقَابِ فِي الزَّكَاةِ، هَلْ يَنْصَرِفُ فِي الْعِتْقِ أَوْ فِي الْمُكَاتَبِينَ.
فَمَالِكٌ يَقُولُ: يَصْرِفُهُ فِي الْعِتْقِ.
وَالشَّافِعِيُّ وأبو حنيفة يَصْرِفَانِهِ فِي الْمُكَاتَبِينَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] . فأثبت ذلك لهم بلام الملك، وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ فَيُصْرَفُ إِلَيْهِ، وَالْمَكَاتَبُ يَمْلِكُ فَوَجَبَ صَرْفُهُ إِلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ مَصْرُوفٌ فِي ذَوِي الْحَاجَاتِ، وَلِأَنَّ مَالَ الزَّكَاةِ مَصْرُوفٌ لِغَيْرِ نَفْعٍ عاجل يَعُودُ إِلَى رَبِّهِ فَلَوْ صُرِفَ فِي الْعِتْقِ لَعَادَ إِلَيْهِ الْوَلَاءُ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ سهم الرقاب في الزكاة يصرف إلى المكاتبين.
وجب أن يكون سهام الرقاب في الوصية مَصْرُوفًا فِي الْمُكَاتَبِينَ، لِأَنَّ مُطْلَقَ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ محمولة على عرف الشرع المعتبر فيه.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يَجُوزُ فِي أَقَلِّ مِنْ ثَلَاثِ رِقَابٍ فإن نقص ضمن حصة مَنْ تَرَكَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ أَقَلُّ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يتصرف سهم الرقاب في أقل من ثلاث.
وَإِنْ زَادَ عَلَى الثَّلَاثَةِ كَانَ حَسَنًا. وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الثَّلَاثَةِ مَعَ وُجُودِ الزِّيَادَةِ أَجْزَأَ.(8/240)
وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يُسَوَّى بَيْنَهُمْ فِي الْعَطَاءِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَالُ الْوَصِيَّةِ مِنْ جِنْسِ كِتَابَتِهِمْ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ.
وَالْأَوْلَى أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى سَيِّدِ الْمُكَاتَبِ بِإِذْنِهِ، فَإِنْ دَفْعَهُ إِلَى الْمُكَاتَبِ دُونَ سَيِّدِهِ أَجْزَأَ.
وَلَوْ أَبْرَأَهُ السَّيِّدُ بَعْدَ أَخْذِهِ، وَقَبْلَ اسْتِهْلَاكِهِ، لَمْ يُسْتَرْجَعْ مِنْهُ فِي الْوَصِيَّةِ، وَاسْتُرْجِعَ مِنْهُ فِي الزَّكَاةِ. لِأَنَّ الْوَصَايَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إِلَى الْأَغْنِيَاءِ، بِخِلَافِ الزَّكَاةِ.
فَلَوْ لَمْ يَجِدْ مِنَ الْمُكَاتَبِينَ ثَلَاثَةً: دَفَعَ إِلَى مَنْ وَجَدَ مِنْهُمْ وَلَوْ وَاحِدًا.
وَلَوْ وَجَدَ ثَلَاثَةً: لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَقَلَّ مِنْهُمْ.
فَإِنْ دَفَعَهُ إِلَى اثْنَيْنِ مَعَ وُجُودِ الثَّالِثِ: ضَمِنَ حِصَّتَهُ وَفِيهَا وَجْهَانِ حَكَاهُمَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ.
أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ الثُّلُثَ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ، لِأَنَّ التَّفْضِيلَ جَائِزٌ مَعَ الِاجْتِهَادِ، فَإِذَا عَدَلَ عَنْ الِاجْتِهَادِ، لَزِمَ التَّسْوِيَةُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَضْمَنُ قَدْرَ مَا كَانَ يؤديه اجتهاده إليه لو اجتهد لأن القدر الذي تعدى فيه.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فإن لم يبلغ ثلاثة رقاب وبلغ أقل رقبتين يجدهما ثمنا وفضل فضل جَعَلَ الرَّقَبَتَيْنِ أَكْثَرُ ثَمَنًا حَتَّى يُعْتِقَ رَقَبَتَيْنِ وَلَا يَفْضُلُ شَيْئًا لَا يَبْلُغُ قِيمَةَ رَقَبَةٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ أَغْفَلَ الْمُزَنِيُّ صُورَتَهَا، وَنَقْلَ جَوَابِهَا، وَقَدْ ذَكَرَهَا الشَّافِعِيُّ نَصًّا فِي الْأُمِّ.
وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ قَالَ أَعْتِقُوا بِثُلُثِي رِقَابًا. أَوْ قَالَ حَرِّرُوا بِثُلُثِي رِقَابًا.
فَهَذَا يُشْتَرَى بِثُلُثِهِ رِقَابٌ يُعْتَقُونَ عَنْهُ وَلَا يُصْرَفُ في المكاتبين لأن ذكر العتق والتحرر صَرَفَهُ عَنْهُمْ.
وَأَقَلُّ مَا يُشْتَرَى بِهِ ثَلَاثُ رِقَابٍ إِذَا أَمْكَنُوا. اعْتِبَارًا بِأَقَلِّ الْجَمْعِ. فَإِنِ اتَّسَعَ لِلزِّيَادَةِ عَلَى الثَّلَاثِ: اشْتُرِيَ بِهِ مَا بَلَغُوا، وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى الثَّلَاثِ مَعَ إِمْكَانِ الزِّيَادَةِ بِخِلَافِ صَرْفِهِ فِي الْمُكَاتَبِينَ حَيْثُ جَازَ الاختصار عَلَى الثَّلَاثَةِ مَعَ إِمْكَانِ الزِّيَادَةِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى الْوَاحِدُ مِنَ الْمُكَاتَبِينَ، قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، وَلَا يَجُوزُ فِي عِتْقِ الرَّقَبَةِ أَنْ يَزِيدَ عَلَى ثَمَنِهَا وَلَا يُنْقِصَ مِنْهُ.
فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ مَالُ الْوَصِيَّةِ ثَمَنَ ثَلَاثِ رِقَابٍ، صَرَفَهُ فِي رَقَبَتَيْنِ: فَإِنْ فَضَلَ مِنَ الرَّقَبَتَيْنِ فَضْلَةٌ، فَإِنْ كَانَتِ الْفَضْلَةُ لَا يَقْدِرُ بِهَا عَلَى بَعْضِ ثَالِثَةٍ زَادَهَا فِي ثَمَنِ الرَّقَبَتَيْنِ، ليكون أكثرهما ثَمَنًا، فَتَكُونُ أَكْثَرَ ثَوَابًا.
وَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ بِالْفَضْلَةِ عَلَى بَعْضِ ثَالِثَةٍ، فَفِيهِ وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ:(8/241)
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَشْتَرِي بِالْفَضْلَةِ بَعْضَ ثَالِثَةٍ لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إِلَى الثَّلَاثِ الْكَامِلَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ أنها تزد فِي ثَمَنِ الرَّقَبَتَيْنِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الرِّقَابِ فَقَالَ: أَكْثَرُهَا ثَمَنًا، وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا.
وَلِأَنَّ فِي تَبْعِيضِ الرَّقَبَةِ فِي الْعِتْقِ، إِدْخَالَ ضَرَرٍ عَلَى الرَّقَبَةِ، وَعَلَى مَالِكِ الرَّقَبَةِ فِيهَا، فَكَانَ رَفْعُ الضَّرَرِ أَوْلَى.
وأما إن اتسع الثلث لأكثر من ثلاثة رِقَابٍ، فَاسْتِكْثَارُ الْعَدَدِ مِعِ اسْتِرْخَاصِ الثَّمَنِ أَوْلَى مِنْ إِقْلَالِ الْعَدَدِ مَعَ اسْتِكْثَارِ الثَّمَنِ وَجْهًا واحدا، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من أعتق رقبة، أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا، عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النار، حتى الذكر بالذكر، والفرج بالفرج ".
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ويجزئ صَغِيرُهَا وَكَبِيرُهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
إذ أَوْصَى أَنْ يُصْرَفَ ثُلُثُ مَالِهِ فِي عِتْقِ الرِّقَابِ، جَازَ أَنْ يُعْتَقَ عَنْهُ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ وفي إعتاق الْخَنَاثَى وَجْهَانِ.
وَجَازَ أَنْ يُعْتَقَ عَنْهُ الصِّغَارُ وَالْكِبَارُ لِانْطِلَاقِ الِاسْمِ عَلَى جَمِيعِهِمْ.
وَفِي جَوَازِ عتق من لا يجزئ في الكفارة من الكبار، والزمنى وجهان: تخرجا مِنَ اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فِي نَذْرِ الْهَدْيِ، هَلْ يلزم فيه ما يجوز في الأضاحي؟
أحدهما: يلزم، فعلى هذا، لا يجزئه إلا عتق من هي سَلِيمَةٍ مِنَ الْعُيُوبِ الْمُضِرَّةِ.
وَالثَّانِي: لَا يَلْزَمُ: وَيَجُوزُ أَنْ يُهْدِيَ كُلَّ مَالٍ، فَعَلَى هَذَا يجزئه عِتْقُ الْكَافِرَةِ، وَالْمُؤْمِنَةِ.
فَصْلٌ:
وَإِذَا أَوْصَى أَنْ يعتق بثلث ماله رقاب، أو اشترى بثلث ماله رِقَابًا، وَأُعْتِقُوا ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يَسْتَوْعِبُ التَّرِكَةَ، نُظِرَ فِي الرِّقَابِ.
فَإِنْ كَانُوا قَدِ اشْتُرُوا بِعَيْنِ الثُّلُثِ:
بَطَلَ الشِّرَاءُ، لِاسْتِحْقَاقِ الثَّمَنِ فِي الدَّيْنِ، وَرُدَّ الْعِتْقُ لِعَدَمِ الْمِلْكِ.
وَإِنْ كَانُوا قَدِ اشْتُرُوا فِي ذِمَّةِ الْوَارِثِ، لَا بِعَيْنِ الْمَالِ مِنَ الثُّلُثِ:
نَفَذَ عِتْقُهُمْ عَلَى الْوَارِثِ، لِثُبُوتِ الشِّرَاءِ فِي ذِمَّتِهِ، وَلَزِمَهُ صَرْفُ الثلث في الدين.
فصل:
وإذا أَوْصَى بِعِتْقِ عَبْدٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَكَانَ الثُّلُثُ خمس مائة درهم، اشترى بها عبدا وَأُعْتِقَ عَنْهُ.
وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَقَ عَنْهُ بِأَقَلَّ مِنَ الْأَلْفِ، وَيَكُونُ عَجْزُ الثُّلُثِ عَنْهَا مُبْطِلًا(8/242)
لِلْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ، لِأَنَّهُ جَعَلَ الْأَلْفَ صِفَةً فِي الْعِتْقِ فَلَمْ يَصِحَّ الْعِتْقُ مَعَ الْعَجْزِ لِعَدَمِ الصِّفَةِ، وَصَارَ كَقَوْلِهِ: أَعْتِقُوا عَبْدِي الْأَسْوَدَ، فَإِذَا عُدِمَ الْأَسْوَدُ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْتَقَ غَيْرُهُ.
وَهَذَا فَاسِدٌ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ -: " إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ ".
وَلِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ إِذَا عَجَزَ الثُّلُثُ عَنْهَا، لَمْ يَسْقُطْ حُكْمُ مَا احْتَمَلَهُ مِنْهَا، قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْوَصَايَا. وَلِأَنَّ الْعِتْقَ إِذَا ضَاقَ الثُّلُثُ عَنِ احْتِمَالِ جَمِيعِهِ، رُدَّ إِلَى ما احتمله الثلث من أجزائه، كالوصية بعتيق عَبْدٍ بِعَيْنِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ لِلْأَلْفِ صِفَةً، فَتَكُونُ شَرْطًا، وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا قَدْرًا وَجَعَلَهَا فِي الْعِتْقِ حدا.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " (ولو أوصى) أن يحج عنه ولم يكن حج حَجَّةَ الْإِسْلَامِ فَإِنْ بَلَغَ ثُلُثُهُ حَجَّةً مِنْ بَلَدِهِ أَحَجَّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ وَإِنْ لَمْ يبلغ عنه من حيث بلغ (قال المزني) رحمه الله وَالَّذِي يُشْبِهُ قَوْلَهُ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ لِأَنَّهُ فِي قَوْلِهِ دَيْنٌ عَلَيْهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ لِلْمَيِّتِ فِي الْحَجِّ عَنْهُ حَالَتَيْنِ.
حَالَةٌ يُوصِي بِهِ، وَحَالَةٌ لا يوصي به.
فإن لم يوصي بِهِ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ.
إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ حَجٌّ وَاجِبٌ، أَوْ لَا حَجَّ عَلَيْهِ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَجٌّ.
لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَطَوَّعَ عَنْهُ بِالْحَجِّ.
وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُوصِيَ بِهَا، فَوَاجِبٌ أَنْ يَحُجُّ عَنْهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ بِأَقَلِّ مَا يُوجَدُ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ، وَكَذَلِكَ يُخْرِجُ عَنْهُ مِنْ رَأْسِ ما وجب عليه من زكاة وَكَفَّارَاتٍ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهَا.
وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَصِحُّ الْحَجُّ عَنْهُ، وَلَا الزَّكَاةُ، إلا بوصية منه.
وهذا فاسد، لما ذَكَرْنَاهُ فِي الْحَجِّ، وَلِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ وُجُوبُهُ بالمال، لزم أداؤه عنه، وإذا لزم أداؤه عنه، فمن رأس المال كَالدُّيُونِ.
وَيُخْرِجُ مِنْهُ أُجْرَةَ الْمِثْلِ مِنَ الْمِيقَاتِ، لَا مِنْ بَلَدِهِ، وَإِنْ كَانَتِ اسْتِطَاعَتُهُ مِنْ بلده شرطا في وجوب، لأنه إذا كان حيا، لزم أداؤه بنفسه فصارت بعض المسافة معتبرة في استطاعته، فإذا مَاتَ، لَمْ يَتَعَيَّنْ فِي النَّائِبِ عَنْهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَلَدِهِ، وَإِنَّمَا لَزِمَ أَنْ يُؤْتَى بِالْحَجِّ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ، فَلِذَلِكَ اعْتَبَرَ أُجْرَةَ الْمِثْلِ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ.
فَصْلٌ:
وَإِنْ أَوْصَى أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ.(8/243)
إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ حَجٌّ أَوْ لَيْسَ عَلَيْهِ حَجٌّ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ حَجٌّ فَلَا يخلو حاله من ثلاث أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَجْعَلَ الْحَجَّ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَذْكُرَ قَدْرَ مَا يُحَجُّ بِهِ عَنْهُ.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَذْكُرَ فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ قَدْرَ مَا يُحَجُّ بِهِ عَنْهُ أُخْرِجَ عَنْهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ قَدْرُ أُجْرَةِ الْمِثْلِ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ وَلَا يُسْتَفَادُ بِوَصِيَّتِهِ إِلَّا لِلْإِذْكَارِ وَالتَّأْكِيدِ وَإِنْ ذَكَرَ قَدْرَ مَا يُحَجُّ بِهِ عَنْهُ فَلَهُ ثلاثة أَحْوَالٍ.
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَدْرَ أُجْرَةِ الْمِثْلِ في الْمِيقَاتِ فَيُخْرَجُ ذَلِكَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ مِنْ ميقات بلده ولا يستفاد بوصيته وإن وجد من يحج به وإلا تمم من أُجْرَةِ الْمِثْلَ وَكَانَ جَمِيعُهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ مِنَ الْمِيقَاتِ فَتَكُونَ الزِّيَادَةُ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَصِيَّةً فِي الثلث لا تجوز أن يدفع إلى وارث وإن تراجع عَيَّنَهُ لِأَنَّهُ لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ فَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ إِذَا جُعِلَ الْحَجُّ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ.
فَصْلٌ:
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُوصِيَ بِالْحَجِّ مِنْ ثُلُثِهِ. فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَجْعَلَ كُلَّ الثُّلُثِ مَصْرُوفًا إِلَى الْحَجَّةِ الْوَاجِبَةِ، فهذا يحج عَنْهُ بِالثُّلُثِ مِنْ بَلَدِهِ إِنْ أَمْكَنَ، وَلَا يجوز أن يدفع إلى وارث إِنْ زَادَ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِ إِنْ لَمْ يَزِدْ.
فَإِنْ عَجَزَ الثُّلُثُ عَنِ الْحَجِّ مِنْ بَلَدِهِ:
أُحِجَّ بِهِ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ أَمْكَنَ مِنْ طَرِيقِهِ. فَإِنْ عَجَزَ إِلَّا مِنْ مِيقَاتِ الْبَلَدِ أُحِجَّ بِهِ عنه من ميقات بلده.
فإن عَجَزَ عَنِ الْحَجِّ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ وَجَبَ إتمام أجرة المثل ميقات بلده من رأس المال، فصار فِيهَا دَوْرٌ لِأَنَّ مَا يُتَمَّمُ بِهِ أُجْرَةُ المثل من رأس ماله يقتضي نقصان ثلث المال.
مثاله:
أَنْ يَكُونَ مَالُهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَأُجْرَةُ الْمِثْلِ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، فَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ قَدْرَ الثلث وقدر ما يتم بِهِ الثُّلُثُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ أَسْقَطْتَ مِنَ الْمَالِ قَدْرَ أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَذَلِكَ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا يَكُونُ الْبَاقِي سِتِّينَ دِرْهَمًا ثُمَّ زِدْتَ عَلَيْهِ مثل نصفه فصير تِسْعِينَ دِرْهَمًا، فَهُوَ الْمَالُ الْبَاقِي بَعْدَمَا أَخَذَ تَمَامَ الثُّلُثِ، فَإِذَا أَخَذْتَ ثُلُثَهُ، كَانَ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، وَضَمَمْتَ إِلَيْهِ الْعَشَرَةَ الْبَاقِيَةَ مِنَ الْمِائَةِ صارت أربعين درهما، هي قدر أجرة المثل، فمنها ثَلَاثُونَ دِرْهَمًا هِيَ ثُلُثُ الْمَالِ، وَعَشَرَةُ دَرَاهِمَ من رأس المال وعرضه.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَجْعَلَ كُلَّ الثُّلُثِ مَصْرُوفًا إِلَى الْحَجِّ بَلْ يَقُولُ أَحِجُّوا عَنِّي مِنْ ثُلُثِي رَجُلًا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:(8/244)
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَذْكُرَ قَدْرًا كَأَنَّهُ قَالَ: أَحِجُّوا عَنِّي رَجُلًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ. فَلَا يُزَادُ عَلَيْهَا إِنْ وُجِدَ، وَيُسْتَأْجَرُ مَنْ يَحُجُّ بِهَا مِنْ حَيْثُ أَمْكَنُ مِنْ بَلَدِهِ، أَوْ مِنْ مِيقَاتِهِ.
وإن لَمْ يُوجَدْ مَنْ يَحُجُّ بِهَا مِنْ مِيقَاتِهِ: وَجَبَ إِتْمَامُهَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، لَا مِنْ ثلثه، لأنه الْقَدْرَ الَّذِي جَعَلَهُ فِي الثُّلُثِ: هُوَ الْمِائَةُ، لَا مَا زَادَ عَلَيْهَا، وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَذْكُرَ الْقَدْرَ فَيَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِهِ قَدْرُ أُجْرَةِ الْمِثْلِ. ثُمَّ فِيهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ أُجْرَةُ الْمِثْلِ مِنْ بَلَدِ الْمُوصِي، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ فِي الثُّلُثِ تَقْتَضِي الْكَمَالَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أُجْرَةُ مِثْلِ الْمِيقَاتِ، كَمَا لَوْ جَعَلَهُ مِنْ رأس المال، وما يزاد عَلَيْهِ تَطَوُّعٌ لَا يَخْرُجُ إِلَّا بِالنَّصِّ.
فَإِنْ عجز الثلث عن جميع الأجرة تمم جميعا مِثْلَ أُجْرَةِ الْمِيقَاتِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ.
فَلَوْ كان في الثلث مع الحج عطايا ووصايا، فَفِي تَقْدِيمِ الْحَجِّ عَلَى الْوَصَايَا وَجْهَانِ حَكَاهُمَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ:
أَحَدُهُمَا: يُقَدَّمُ الْحَجُّ عَلَى جَمِيعِ الْوَصَايَا فِي الثُّلُثِ، لِأَنَّهُ مَصْرُوفٌ فِي فَرْضٍ، ثُمَّ يُصْرَفُ مَا فَضَلَ بَعْدَ الْحَجِّ في أهل الوصايا.
والوجه الثاني: أنه يسقط الثلث بين الْحَجِّ، وَالْوَصَايَا بِالْحِصَصِ، لِأَنَّ الْحَجَّ وَإِنْ وَجَبَ فحمله فِي الثُّلُثِ، فَسَاوَى فِي الثُّلُثِ أَهْلَ الْوَصَايَا، ثُمَّ تَمَّمَ أُجْرَةَ الْمِثْلِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ.
وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ: لَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ دُيُونٌ واجبة، وأوصى بِقَضَائِهَا مِنْ ثُلُثِهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُقَدَّمُونَ عَلَى أَهْلِ الْوَصَايَا.
وَالثَّانِي: يُحَاصُّونَهُمْ، ثُمَّ يَسْتَكْمِلُونَ الوصايا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ.
فَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمِ الثَّانِي، إِذَا جَعَلَهُ مِنْ ثُلُثِهِ.
فَصْلٌ:
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أن يطلق الوصية بالحج، فلا يجعله في الثُّلُثِ، وَلَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ. فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْمَنَاسِكِ فِي كِتَابِهِ الْجَدِيدِ، أَنَّهُ يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ. وَقَالَ في هذا الموضع من الوصايا بالحج عنه من ثلثه.
فاختلف أَصْحَابُنَا: فَكَانَ أَبُو الطَّيِّبِ بْنُ سَلَمَةَ، وَأَبُو حَفْصِ بْنُ الْوَكِيلِ يُخَرِّجَانِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أحدهما: يكون من رأس المال، كما لم يوصي بِهِ، لِوُجُوبِهِ كَالدُّيُونِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَكُونُ مِنَ الثُّلُثِ، لِيُسْتَفَادَ بِالْوَصِيَّةِ، مَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَفَادًا بِغَيْرِهَا.
وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ:(8/245)
لَيْسَ هَذَا عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ، بَلِ الْحُكْمُ عَلَى حَالَيْنِ، فَالَّذِي جَعَلَهُ فِي الثُّلُثِ هُوَ أُجْرَةُ مِثْلِ السَّيْرِ مِنْ بَلَدِهِ إِلَى الْمِيقَاتِ.
وَالَّذِي جَعَلَهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، هُوَ أُجْرَةُ الْمِثْلِ مِنَ الْمِيقَاتِ.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: وقال أبو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّهُ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ قَوْلًا وَاحِدًا.
وَالَّذِي قَالَهُ هَاهُنَا أَنَّهُ يَكُونُ فِي الثُّلُثِ إِذَا صَرَّحَ بِأَنَّهُ فِي الثُّلُثِ تَوْفِيرًا عَلَى وَرَثَتِهِ. أَلَا تَرَاهُ قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ، تُمِّمَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ. فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ يَكُونُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ: أُحِجَّ عَنْهُ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ. وإن قلنا: يَكُونُ مِنَ الثُّلُثِ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مِنْ بلده، والثاني: من ميقات بلده.
والذي قاله هاهنا إذا كان الحج واجبا، وسواء كان حج الإسلام، أو نذرا أو قضاءا.
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ حَجَّةِ النَّذْرِ وَغَيْرِهَا. فَجَعَلَ حَجَّةَ النَّذْرِ فِي الثُّلُثِ، لِأَنَّهُ تَطَوّع بِإِيجَابِهَا عَلَى نَفْسِهِ، وَسَوَّى الْأَكْثَرُونَ بَيْنَهَا وبين الواجبات.
فصل:
ولو كان ما أوصى به عنه من الحج تَطَوُّعًا، فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْوَصِيَّةَ بَاطِلَةٌ.
والثاني: جائزة.
فَإِذَا قِيلَ بِبُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ: كَانَ الْحَجُّ عَنِ الأجير، لا عن المستأجر عنه، وفي استحقاقه للأجر قولان.
فإذا قِيلَ بِجَوَازِ الْوَصِيَّةِ، نُظِرَ مَخْرَجُ كَلَامِهِ فِيهَا، فله فيه أربعة أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولَ أَحِجُّوا عَنِّي بِمِائَةِ دِرْهَمٍ مِنَ الثُّلُثِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَقُولَ أَحِجُّوا عني بما اتسع له الحج من الثلث.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَقُولَ أَحِجُّوا عَنِّي بِالثُّلُثِ.
وَالرَّابِعُ: أن يقول أحجوا عني.
فأما الحال الأول: وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: أَحِجُّوا عَنِّي بِمِائَةِ دِرْهَمٍ مِنَ الثُّلُثِ فَلَا يُزَادُ عَلَيْهَا، وَلَا يُنْقَصُ، مَعَ احْتِمَالِ الثُّلُثِ لَهَا.
ثُمَّ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُسَمِّيَ مَنْ يَحُجُّ بِهَا، أَوْ لا يسميه.
فإن لم يسميه: دفعت إلى من يحج بها واحدا من أفضل ما يوجد. ثُمَّ لَا تَخْلُو الْمِائَةُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ، إِمَّا مِنْ بَلَدِهِ، أَوْ من الميقات، فتدفع إلى وارث، أو غير وَارِثٍ، لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ فِي الثُّلُثِ وَصِيَّةٌ، فَهِيَ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلٍ، فَلَمْ تَصِرْ لَهُ وصية،(8/246)
وصارت كالموصي يشتري عبدا يُعْتَقُ عَنْهُ، جَازَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنَ الْوَارِثِ، وَإِنْ كَانَ ثَمَنُهُ فِي الثُّلُثِ، لِأَنَّهُ فِي مقابله بدل.
والقسم الثاني: أن يكون بقدر أُجْرَةِ الْمِثْلِ، فَتُدْفَعُ إِلَى أَجْنَبِيٍّ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُدْفَعَ إِلَى وَارِثٍ، لِأَنَّ فِيهَا وَصِيَّةً بالزيادة.
والقسم الثالث: أن يكون أَقَلَّ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ. فَإِنْ وُجِدَ مَنْ يحج عنه أحججناه، وَارِثًا كَانَ، أَوْ غَيْرَ وَارِثٍ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مَنْ يَحُجُّ بِهَا، بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ بِالْحَجِّ، وعادت ميراثا، ولم يزد فِي الثُّلُثِ عَلَى أَهْلِ الْوَصَايَا، كَمَنْ أَوْصَى بِمَالٍ لِرَجُلٍ، فَرَدَّ الْوَصِيَّةَ، عَادَتْ إِلَى الْوَرَثَةِ، دُونَ أَهْلِ الْوَصَايَا.
وَإِنْ سَمَّى مَنْ يَحُجُّ بها بمائة لَمْ يُعْدَلْ بِهَا عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، مَعَ إمكان دفعها إليه. ثم لا تخلو حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ فَتُدْفَعُ إِلَى الْمُسَمَّى لَهَا، وَارِثًا كَانَ، أَوْ غَيْرَ وَارِثٍ. فَإِنْ لَمْ يقبلها المسمى بها، دُفِعَتْ حِينَئِذٍ إِلَى غَيْرِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يكون أَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ، فَلَا يَخْلُو الْمُسَمَّى لَهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا أَوْ غَيْرَ وَارِثٍ.
فَإِنْ كَانَ وَارِثًا: فَالزِّيَادَةُ عَلَى أُجْرَةِ المثل وصية يمنع منها الوراث.
فإن وصى بأجرة المثل منها: دفعت إليه دون غير وَرُدَّتِ الزِّيَادَةُ عَلَى الْوَرَثَةِ.
وَإِنْ لَمْ يَرْضَ إِلَّا بِالْمِائَةِ كُلِّهَا، مُنِعَ مِنْهَا، وَلَمْ يَجُزْ أن تدفع إليه لما فيها من الوصية لها، وَعُدِلَ إِلَى غَيْرِهِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ دُونَ الْمِائَةِ، لأن الزيادة على أجرة المثل وصية بمسمى، وَيَعُودُ الْبَاقِي مِيرَاثًا.
وَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى غَيْرَ وارث دفعت إليه المائة إن قبلها، وإن لَمْ يَقْبَلْهَا عُدِلَ إِلَى غَيْرِهِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ، وَعَادَتِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا مِيرَاثًا.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الْمِائَةُ أَقَلَّ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ، فَإِنْ قنع المسمى بها، دُفِعَتْ إِلَيْهِ، وَارِثًا كَانَ أَوْ غَيْرَ وَارِثٍ.
وإن لم يقنع بها، ووجد غيره مما يَقْنَعُ بِهَا، دُفِعَتْ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا وصية للمسمى فتبطل بالعدول. وإن لم يوجد من يحج عادت ميراثا، ولم يرجع إِلَى الثُّلُثِ.
فَأَمَّا إِنْ عَجَزَ الثُّلُثُ عَنِ احْتِمَالِ الْمِائَةِ كُلِّهَا: أُخْرِجَ مِنْهَا قَدْرُ مَا احتمله الثلث فيصير هُوَ الْقَدْرُ الْمُوصَى بِهِ، فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ: وَهُوَ أَنْ يقول أحجوا عني بِثُلُثِي، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصْرَفَ الثُّلُثُ، إِلَّا في حجة واحدة، وإن اتسع لغيرها، لأنه عين عليها فتصير كَالْوَصِيَّةِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فِي أَنْ يُسَمَّى مَنْ يحج عنه، أو يسميه فتكون على ما مضى من التقسيم والجواب.
فإما أَمْكَنَ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ بِالثُّلُثِ مِنْ بَلَدِهِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْتَصِرَ بِالْحَجِّ عَنْهُ مِنْ ميقاته، وإن(8/247)
قصر عنه الثلث، فَمِنْ حَيْثُ أَمْكَنَ، حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى الْمِيقَاتِ. فَإِنْ قَصُرَ عَنِ الْمِيقَاتِ، وَلَمْ يُوجَدْ مَنْ يحج به بطلت الوصية وعادت مِيرَاثًا.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْحَالُ الثَّالِثَةُ: وَهُوَ أَنْ يقول: أحجوا عني بثلثي حجا فيصرف الثلث فيما اتسع من الحج، وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى حَجَّةٍ وَاحِدَةٍ، مَعَ اتِّسَاعِهِ لِأَكْثَرَ مِنْهَا.
وَلَا يُزَادُ أَحَدٌ عَلَى أُجْرَةِ مِثْلِهِ مِنْ بَلَدِ الْمُوصِي، لَا مِنْ مِيقَاتِهِ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ تَطَوُّعٌ، فَاعْتُبِرَ فِيهِ أَكْمَلُ الْأَحْوَالِ.
فَإِنِ اتَّسَعَ الثُّلُثُ لِثَلَاثِ حِجَجٍ، فَاقْتَصَرَ في صرفه على حجتين ضمن الموصي الْحَجَّةَ الثَّالِثَةَ فِي مَالِهِ.
فَلَوِ اتَّسَعَ الثُّلُثُ لحجتين، وفضلت فضلة، لم تتسع لحجة ثالثة مِنْ بَلَدِهِ، نُظِرَ فِيهَا.
فَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَحُجَّ بِهَا عَنْهُ مِنْ مِيقَاتِهِ: صُرِفَتْ فِي حَجَّةٍ مِنَ الْمِيقَاتِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يصرف من الميقات وإلا ردت على الورثة ميراثا، ولم يزد عَلَى الْحَجَّتَيْنِ بِخِلَافِ الْفَاضِلِ عَنْ ثَمَنِ الرَّقَبَتَيْنِ، لِأَنَّ أَثْمَانَ الرِّقَابِ تَخْتَلِفُ، فَرُدَّتِ الْفَضْلَةُ فِي أثمانها لوفور الأجر بتوافر أثمانها وأجور الحج غَيْرُ مُخْتَلِفَةٍ.
فَلَوْ أَمْكَنَ صَرْفُ الْفَضْلَةِ فِي عُمْرَةٍ: لَمْ تُصْرَفْ فِيهَا، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ فِي الْحَجِّ، لَا فِي الْعُمْرَةِ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْحَالُ الرَّابِعَةُ: وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: أَحِجُّوا عَنِّي، وَلَا يَذْكُرُ بِكُمْ، فَيُحَجُّ عَنْهُ حَجَّةً وَاحِدَةً، بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ مِنْ بَلَدِهِ، لَا مِنْ مِيقَاتِهِ، إِنِ احتمل الثلث ذلك.
وإن لم يحتمل، فمن حيث احتمل الثلث ذلك من الميقات.
وإن لم يحتمل حجة من الميقات: بطلت الوصية، وعادت ميراثا.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ قَالَ أَحِجُّوا عَنِّي رَجُلًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَعْطُوا مَا بَقِيَ مِنْ ثُلُثِي فُلَانًا وَأَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ فَلِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ نِصْفُ الثُّلُثِ وَلِلْحَاجِّ وَالْمُوصَى لَهُ بِمَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ، نِصْفُ الثُّلُثِ وَيَحُجُّ عَنْهُ رَجُلٌ بمائة ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي رَجُلٍ قَالَ فِي وَصِيَّتِهِ: أَحِجُّوا عَنِّي رَجُلًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَأَعْطُوا مَا بَقِيَ مِنْ ثُلُثِي فُلَانًا، وَأَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ ثَالِثٍ.
فَهَذَا رَجُلٌ قَدْ أَوْصَى بِثُلُثَيْ مَالِهِ. فَإِنْ أَجَازَ الْوَرَثَةُ ذَلِكَ دُفِعَ إلى الموصى له بالثلث ثلث المال كاملا ولا يشاركه فيه أحد، ودفع الثُّلُثِ الْآخَرِ مِائَةُ دِرْهَمٍ، إِلَى الْمُوصَى لَهُ بالحج، بالثلث ولا يشاركه فيه أحد.
فإن بقيت من الثلث بعد ذلك رقبة: دُفِعَتْ إِلَى الْمُوصَى لَهُ بِمَا بَقِيَ مِنَ الثلث، وسواء قلت النفقة، أو كثرت.(8/248)
فَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الثُّلُثِ بَعْدَ الْمِائَةِ شيء، فلا شيء إلى الموصى لَهُ بِمَا بَقِيَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ.
فَهَذَا حُكْمُ الْوَصِيَّةِ إِذَا أَجَازَهَا الْوَرَثَةُ.
فإما إذا لم يجزها: ردت الوصايا كلها إلى الثلث: ثم نظر: فَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَمَا دُونَ: فَلَا شَيْءَ لِلْمُوصَى لَهُ بِمَا بَقِيَ مِنَ الثلث. وانقسم الثلث الموصى له بالمائة بالحج، وَالْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ نِصْفَيْنِ، يَتَعَادَلَانِ فِيهِ، كَمَا يَتَعَادَلُ أَهْلُ الْوَصَايَا، إِذَا ضَاقَ الثُّلُثُ عَنْهَا.
فَإِنْ لَمْ يَجِدْ بِمَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ مِنَ الْمِائَةِ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ، عَادَتْ مِيرَاثًا، وَلَمْ تَعُدْ عَلَى الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ، وَلَا عَلَى الْمُوصَى لَهُ، بِمَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ.
وَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ دِرْهَمٍ، فَإِنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالْمِائَةِ فِي الْحَجِّ، وَالْمُوصَى لَهُ بِمَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ، يُعَادِلَانِ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ، وَإِحْدَى الْوَصِيَّتَيْنِ تُعَادِلُ الْأُخْرَى، فَيُقَسَّمُ الثُّلُثُ بينهما نصفين، أو أعطى الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ نِصْفَهُ. وَهُوَ السُّدُسُ، وَدَخَلَ عَلَيْهِ مِنْ نَقْصِ الْعَوْلِ: نِصْفُ وَصِيَّتِهِ، لِأَنَّ وصيته، رَجَعَتْ إِلَى نِصْفِهَا.
وَأَمَّا النِّصْفُ الْآخَرُ مِنَ الثُّلُثِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، يُقَدَّمُ فِيهِ الْمُوصَى لَهُ بِالْمِائَةِ فِي الْحَجِّ، عَلَى الْمُوصَى لَهُ بِمَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مِائَتَهُ، ثُمَّ يَأْخُذُ الْآخَرُ بَقِيَّتَهُ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بما بقي بعد المائة، لا تستحق قبل كمال المائة لاستحالتها فَعَادَ صَاحِبُ الثُّلُثِ بِهِ تَوْفِيرًا عَلَى صَاحِبِ المائة، بما يعاد الجد بالأخوة من الأب، توفيرا على الأخ من الأب وَالْأُمِّ.
فَعَلَى هَذَا: إِنْ كَانَ نِصْفُ الثُّلُثِ، مِائَةَ دِرْهَمٍ فَمَا دُونَ، أَخَذَهُ الْمُوصَى لَهُ بِالْمِائَةِ، وَلَا شَيْءَ لِلْمُوصَى لَهُ بِمَا بَقِيَ.
وَإِنْ كَانَ نِصْفُ الثُّلُثِ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ دِرْهَمٍ، أَخَذَ مِنْهُ الْمُوصَى لَهُ بِالْمِائَةِ، مِائَةَ دِرْهَمٍ كَامِلَةً وَأَخَذَ الْمُوصَى لَهُ بِمَا بَقِيَ الْفَاضِلَ عَلَى الْمِائَةِ بَالِغًا مَا بَلَغَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ: أن الموصى له بالمائة والحج، وَالْمُوصَى لَهُ بِمَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ يَتَعَادَلَانِ فيه.
وإن كَانَ الثُّلُثُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ: فَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِيهِ لو كمل. وإذا عَادَ الثُّلُثُ الَّذِي جُعِلَ لَهُمَا إِلَى نِصْفِهِ، وَهُوَ مِائَةُ دِرْهَمٍ جُعِلَتِ الْمِائَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، لِيَكُونَا فِيهِ مُتَسَاوِيَيْنِ.
وَلَوْ كَانَ الثُّلُثَ، مِائَةً وخمسين درهما، فللموصى له بالمائة مثل مَا لِلْمُوصَى لَهُ بِمَا بَقِيَ فَيَكُونُ نِصْفُ الثلث وخمسة وَسَبْعُونَ دِرْهَمًا بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةٍ، لِلْمُوصَى لَهُ بالمائة، نصف ما كان يأخذه من الثلث، وَهُوَ خَمْسُونَ دِرْهَمًا. وَلِلْمُوصَى لَهُ بِمَا بَقِيَ: نصف ما كان يأخذه من الثلث، وهو خمسة وعشرون درهما.(8/249)
وإن كان الثلث ثلاث مائة: كان للموصى له بما بقي ثلثي ما للموصى له بالمائة، فيكون نصف الثلث، وهو مائة وخمسون [درهما] وللموصى له بما بقي وهو مائة درهم.
ولو كان الثلث أربع مائة درهم: كان للموصى لَهُ بِمَا بَقِيَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ فيكون نصف الثلث وهو مائتا [درهم] بينهما على أربعة أسهم.
فللموصى له بالمائة ربع ما كان يأخذه وهو مائة وخمسون. وللموصى له بما بقي ثلاثة أرباع ما كان يأخذه. وَهُوَ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ. ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ.
هذا فيما زاد أو نقص. وَهَذَا أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَوْصَى بِالْمِائَةِ لصاحب المال مِنْ كُلِّ الثُّلُثِ، لَا مِنْ بَعْضِهِ، فَلَمْ يجز أن يأخذ نِصْفِ الثُّلُثِ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنْ جَمِيعِهِ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا إِذَا ابْتَدَأَ بِالْوَصِيَّةِ بِثُلُثِ مَالِهِ لرجل. ثم أوصى بأن يَحُجَّ عَنْهُ رَجُلٌ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِالْبَاقِي مِنْ ثُلُثِهِ لِآخَرَ.
فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في الموصى له بالباقي [في] هذا الْمَسْأَلَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ المروزي: أنها باطلة، لأن تقدم الوصية بالثلث، يمنع أَنْ يَبْقَى شَيْءٌ مِنَ الثُّلُثِ.
فَعَلَى هَذَا: إن أجاز الوصية الورثة بالثلث وبالمائة: إمضاء.
وإن لم يجيزوها: رُدَّا إِلَى الثُّلُثِ، وَتَعَادَلَ فِيهِ صَاحِبُ الثُّلُثِ وَالْمُوصَى لَهُ بِالْمِائَةِ، ثُمَّ يُنْظَرُ قَدْرَ الثُّلُثِ. فإن كان مائة درهم، فقد تساوت وصيتهما، فَيَقْتَسِمَانِ الثُّلُثَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ.
وَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ، خمس مائة دِرْهَمٍ: كَانَ الثُّلُثُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمَا عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ، لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ، وَلِلْمُوصَى له بالمائة سهم.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ الْجَوَابَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِذَا قَدَّمَ الْوَصِيَّةَ بِالثُّلُثِ، كَالْجَوَابِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأَوْلَى، إِذَا أَخَّرَ الْوَصِيَّةَ بِالثُّلُثِ، لِأَنَّهُ إِذَا أَوْصَى بِالْمِائَةِ بَعْدَ الثُّلُثِ، عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُرَدَّ ذَلِكَ الثُّلُثُ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ الْأُولَى قَدِ اسْتَوْعَبَتْهُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ، لَبَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ بِالْمِائَةِ وَإِنَّمَا أراد ثلثا ثانيا.
فإذا أوصى بعد الْمِائَةَ بِمَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ الثَّانِي وصار موصا بِثُلُثَيْ مَالِهِ فَإِذَا امْتَنَعَ الْوَرَثَةُ مِنْ إِجَازَتِهِ، رُدَّ الثُّلُثَانِ إِلَى الثُّلُثِ فَجُعِلَ نِصْفُ الثُّلُثِ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ، وَكَانَ النِّصْفُ الْآخَرُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِالْمِائَةِ وَبَيْنَ الْمُوصَى لَهُ بِالْبَاقِي عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ.
فَصْلٌ:
وَإِذَا أَوْصَى بِعَبْدِهِ لِرَجُلٍ، وَأَوْصَى بِبَاقِي الثُّلُثِ لِآخَرَ قُوِّمَ الْعَبْدُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي. فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ الثُّلُثَ فَصَاعِدًا فَالْوَصِيَّةُ بِالْبَاقِي مِنَ الثُّلُثِ بَاطِلَةٌ.(8/250)
وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنَ الثُّلُثِ، مِثْلَ أن يكون قيمة العبد ألف درهم والثلث ألف وخمس مائة، فالوصية بالباقي من الثلث جائزة وقدرها خمس مائة دِرْهَمٍ.
فَلَوْ نَقَصَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ بَعْدَ ذَلِكَ عَنِ الْأَلْفِ مِثْلَ أَنْ يَصِيرَ أَعْوَرَ فَيُسَاوِي بعد عوره سبع مائة، فلا يزاد الموصى له بالباقي على الخمس مائة التي كانت قيمة الثُّلُثِ بَعْدَ قِيمَةِ الْعَبْدِ سَلِيمًا عِنْدَ الْمَوْتِ ولا يحتسب للعبد في الثلث إذا كان عوره بعض قبض الموصى له إلا سبع مائة، وَيَكُونُ نَقْصُهُ بِالْعَوَرِ، كَالشَّيْءِ التَّالِفِ مِنَ التَّرِكَةِ.
وعلى هَذَا: لَوْ زَادَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ عَلَى الْأَلْفِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَبْلَ قَبْضِ الْمُوصَى لَهُ حَتَّى صَارَ يُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ وَمِائَتَيْ دِرْهَمٍ، لَمْ ينقص الموصى له بالباقي عن الخمس مائة الَّتِي كَانَتْ بَقِيَّةَ الثُّلُثِ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ بعد موت الموصي.
فَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَقَبْلَ قَبْضِ الْمُوصَى لَهُ: لَمْ تَبْطُلِ الْوَصِيَّةُ بِبَاقِي الثُّلُثِ، وَقُوِّمَ الْعَبْدُ حَيًّا عِنْدَ مَوْتِ الْمُوصِي. ولو مات الموصى له فِي حَيَاةِ الْمُوصِي، بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ بِهِ.
فَأَمَّا الوصية بالباقي من الثلث بعد موت العبد فينظر: فإن جوز أن ينتهي قيمة العبد إن كان حيا إلى استغراق الثلث: صار الْوَصِيَّةُ بِالْبَاقِي مِنَ الثُّلُثِ بَاطِلَةً، لِتَرَدُّدِهَا بَيْنَ الثُّبُوتِ وَالْإِسْقَاطِ.
وَإِنْ عُلِمَ قَطْعًا أَنَّ قِيمَتَهُ لا تجوز أن تستغرق الثلث: كانت الوصية بالباقي من الثُّلُثِ جَائِزَةً، وَرُجِعَ فِيهَا إِلَى قَوْلِ الْوَارِثِ مَعَ يَمِينِهِ أَنْ تُوَزَّعَ.
وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ أَوْصَى بِأَمَةٍ لِزَوْجِهَا وَهُوَ حُرٌّ فَلَمْ يعلم حتى وضعت له بَعْدَ مَوْتِ سَيِّدِهَا أَوْلَادًا فَإِنْ قَبِلَ عُتِقُوا وَلَمْ تَكُنْ أُمُّهُمْ أُمَّ وَلَدٍ حَتَّى تَلِدَ منه بعد قبوله بستة أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ لِأَنَّ الْوَطْءَ قَبْلَ الْقَبُولِ وَطْءُ نكاح ووطء الْقَبُولِ وَطْءُ مِلْكٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ لهذه المسألة ثلاثة مقدمات لا يصح جَوَابُهَا إِلَّا بِتَقْرِيرِ مُقَدَّمَاتِهَا. أَحَدُهَا: الْحَمْلُ هَلْ يَكُونُ لَهُ حُكْمٌ يَخْتَصُّ بِهِ؟ أَوْ يَكُونُ تَبَعًا لَا يَخْتَصُّ بِحُكْمٍ وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إنَّ لَهُ حُكْمًا مَخْصُوصًا، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، وَأَنَّ الْحَامِلَ إِذَا بِيعَتْ يُقَسَّطُ الثَّمَنُ عليها، وعلى الحمل المستجد فِي بَطْنِهَا، لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ أَنْ يُعْتَقَ الحمل فلا يسري إلى أم وَيُوصَى بِهِ لِغَيْرِ مَالِكِ الْأُمِّ، دَلَّ عَلَى اختصاصه بالحكم وتمييزه عَنِ الْأُمِّ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْحَمْلَ يَكُونُ تبعا لا يَخْتَصُّ بِحُكْمٍ وَلَا يَكُونُ مَعْلُومًا، لِأَنَّهُ لَمَّا سَرَى عِتْقُ الْأُمِّ إِلَيْهِ صَارَ تَبَعًا لَهَا كأعصابها، ولما جاز أن يكون موجودا أو معدوما: لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا فَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ.
وَالْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ أَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ وَهِيَ ستة أشهر لا يجوز أن يحيى ولد وضع(8/251)
لأقل من ستة أشهر اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ الْمَعْهُودِ ثُمَّ بِالنَّصِّ الْوَارِدِ. قَالَ تَعَالَى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] .
فَلَمَّا كَانَ الْفِصَالُ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ، دَلَّ عَلَى أَنَّ السِّتَّةَ الْأَشْهُرَ الْبَاقِيَةَ هِيَ أَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ.
فَإِنْ وَلَدَتْ زَوْجَةُ رَجُلٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أشهر من عقد نكاحها، وولدت أمة لأقل من ستة أشهر من وَطْءِ سَيِّدِهَا: كَانَ الْوَلَدُ مُنْتَفِيًا عَنْهُ، وَغَيْرَ لَاحِقٍ بِهِ.
وَالْمُقَدِّمَةُ الثَّالِثَةُ: مِلْكُ الْوَصِيَّةِ مَتَى يحصل للموصى له، ويدخل فِي مِلْكِهِ؟
وَفِيهِ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَمْلِكُ الْوَصِيَّةَ بِالْقَبُولِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا قَبْلَ الْقَبُولِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ، عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، هَلْ تَكُونُ بَاقِيَةً عَلَى مِلْكِ الْمُوصِي، أَوْ دَاخِلَةً فِي مِلْكِ الْوَرَثَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ وَأَكْثَرِ الْبَصْرِيِّينَ: أَنَّ مِلْكَ الْوَصِيَّةِ مُنْتَقِلٌ عَنِ الْمَيِّتِ إِلَى وَرَثَتِهِ، ثُمَّ بالقبول يدخل فِي مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ لِزَوَالِ مِلْكِ الْمُوصِي بِالْمَوْتِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ - وَأَكْثَرِ الْبَغْدَادِيِّينَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِ الْمُوصِي بَعْدَ مَوْتِهِ حَتَّى يَقْبَلَهَا الْمُوصَى لَهُ فَتَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ بِقَبُولِهِ، وَتَنْتَقِلُ إِلَيْهِ عَنِ الْمُوصِي، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تُمَلَّكُ عَنْهُ كَالْمِيرَاثِ.
وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ، بِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تُمَلَّكُ بِالْقَبُولِ هُوَ أَنَّهَا عَطِيَّةٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَقَدَّمَ الملك على قبولها كالهبات.
قال الشافعي: " وهذا قول ينكسر " اهـ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّهُمَا: أَنَّ الْقَبُولَ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الْمِلْكِ بِالْمَوْتِ، فَيَكُونُ الْمِلْكُ مَوْقُوفًا، فإذا قبل حمل عَلَى تَقَدُّمِ مِلْكِهِ.
وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ دَلَّ عَلَى عَدَمِ مِلْكِهِ.
وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ: هُوَ أَنَّهُ لَمَّا امْتَنَعَ أَنْ يَبْقَى لِلْمَيِّتِ مِلْكٌ. وَأَنَّ الْوَارِثَ لَا يَمْلِكُ الْإِرْثَ، اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْمِلْكُ مَوْقُوفًا عَلَى قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ وَرَدِّهِ وَحَقُّهُ فِي الْقَبُولِ بَاقٍ، مَا لَمْ يعلم.
فإن عَلِمَ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَ إِنْفَاذِ الْوَصَايَا، وَقِسْمَةِ التركة فقبوله على الفور فاقبل، وَإِلَّا بَطَلَ حَقُّهُ فِي الْوَصِيَّةِ، فَأَمَّا بَعْدَ عِلْمِهِ، وَقَبْلَ إِنْفَاذِ الْوَصَايَا وَقِسْمَةِ التَّرِكَةِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَقَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ، إِنَّ الْقَبُولَ فِيهِ عَلَى التَّرَاخِي، لَا عَلَى الْفَوْرِ. فَيَكُونُ مُمْتَدًّا مَا لَمْ يُصَرِّحْ بِالرَّدِّ، حَتَّى تُنَفَّذَ الْوَصَايَا، وَتُقَسَّمَ التَّرِكَةُ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُعْتَبَرِ الْقَبُولُ مَعَ الْوَصِيَّةِ، اعْتُبِرَ عِنْدَ إِنْفَاذِ الْوَصِيَّةِ.(8/252)
وَحَكَى أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ كَجٍّ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْقَبُولَ بَعْدَ عِلْمِهِ عَلَى الْفَوْرِ، لِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ كَالْهِبَاتِ.
وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنِ الشَّافِعِيِّ قَوْلًا ثَالِثًا إِنَّ الْوَصِيَّةَ تَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ بِغَيْرِ قَبُولٍ وَلَا اختيار، الميراث.
فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَخْرِيجِهِ قَوْلًا ثَالِثًا لِلشَّافِعِيِّ. فَخَرَّجَهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا قَوْلًا ثَالِثًا تَعْلِيلًا بِالْمِيرَاثِ.
وَامْتَنَعَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَأَكْثَرُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ تَخْرِيجِهِ قَوْلًا ثَالِثًا وَتَأَوَّلُوا رِوَايَةَ ابن عبد الحكم بأحد تأولين:
إِمَّا حِكَايَةٌ عَنْ مَذْهَبِ غَيْرِهِ.
وَإِمَّا عَلَى معنى أنه بِالْقَبُولِ يُعْلَمُ دُخُولُهَا بِالْمَوْتِ فِي مِلْكِهِ.
وَفَرَّقُوا بين الوصية والميراث، بِأَنَّ الْمِيرَاثَ عَطِيَّةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ يراعى فيها الْقَبُولُ.
وَالْوَصِيَّةَ عَطِيَّةٌ مِنْ آدَمِيٍّ، فَرُوعِيَ فِيهَا الْقَبُولُ.
فَهَذِهِ مُقَدِّمَاتُ الْمَسْأَلَةِ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا تَقَرَّرَتِ الْمُقَدِّمَاتُ، فَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ أَمَةَ رَجُلٍ ثُمَّ أَوْصَى السَّيِّدُ بِهَا لِلزَّوْجِ.
فَلَا يخلو حال الزوج من أَنْ يَقْبَلَ الْوَصِيَّةَ بِهَا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي أَوْ يَرُدَّ.
فَإِنْ رَدَّ الْوَصِيَّةَ وَلَمْ يَقْبَلْهَا: فَالنِّكَاحُ بِحَالِهِ وَالْأَمَةُ مِلْكٌ (لِوَرَثَةِ الْمُوصِي) وَأَوْلَادُهَا مَوْقُوفُونَ لَهُمْ.
فَإِنْ قَبِلَ الْوَصِيَّةَ: فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَنْ تَأْتِيَ بِوَلَدٍ، أَوْ لَا تأت فإن لم تأتي بِوَلَدٍ فَالنِّكَاحُ قَدْ بَطَلَ بِالْمِلْكِ، لِأَنَّ النِّكَاحَ وَالْمِلْكَ تَتَنَافَى أَحْكَامُهُمَا، فَلَمْ يَجْتَمِعَا، [وَغَلَبَ] حُكْمُ الْمِلْكِ لِأَنَّهُ أَقْوَى.
فَإِنْ قِيلَ بِالْقَبُولِ قَدْ مَلَكَ: انْفَسَخَ نِكَاحُهَا حِينَ الْقَبُولِ، وَكَانَ الْوَطْءُ قَبْلَهُ وَطْئًا فِي نِكَاحٍ، وَبَعْدَهُ وَطْئًا فِي مِلْكٍ، وَلَا اسْتِبْرَاءَ عَلَيْهِ بِحُدُوثِ الْمِلْكِ، لِأَنَّهَا لم تزل فراشا له.
فإن قيل القبول يبنى عن مِلْكٍ سَابِقٍ مِنْ حِينِ الْمَوْتِ، انْفَسَخَ نِكَاحُهَا حين الموت، وكان وطئه قَبْلَ الْمَوْتِ وَطْئا في نِكَاحٍ، وَبَعْدَ الْمَوْتِ وَطْئًا فِي مِلْكٍ. فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ قَالَ الشافعي على هذا الْقَوْلِ لِأَنَّ الْوَطْءَ قَبْلَ الْقَبُولِ وَطْءَ نِكَاحٍ وَبَعْدَ الْقَبُولِ وَطْءَ مِلْكٍ وَهُوَ قَبْلَ الْقَبُولِ وبعده وطء ملك. وإذا كَانَ بَعْدَ الْمَوْتِ؟ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ غَلَطٌ مِنَ الْمُزَنِيِّ فِي النَّقْلِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَنْقُولٌ مِنَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ بِالْقَبُولِ يملك.(8/253)
وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّ الْوَطْءَ قَبْلَ زَمَانِ الْقَبُولِ وَطْءُ نِكَاحٍ يَعْنِي قَبْلَ الْمَوْتِ.
فَصْلٌ:
وإن أَتَتْ بِوَلَدٍ. فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَضَعَهُ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي.
وَالثَّانِي: أَنْ تَضَعَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَقَبْلَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ تَضَعَهُ بَعْدَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا عِنْدَ الْوَصِيَّةِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بَعْدَهَا.
فَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ الْوَصِيَّةِ، مِثْلَ أَنْ تَضَعَهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْوَصِيَّةِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْحَمْلِ هَلْ لَهُ حُكْمٌ أَمْ لا؟ .
فإن قيل لا حكم لَهُ: فَالْوَلَدُ مَمْلُوكٌ لِلْمُوصِي وَمُنْتَقِلٌ عَنْهُ إِلَى وَرَثَتِهِ، وَإِنْ قِيلَ لِلْحَمْلِ حُكْمٌ فَهُوَ لِلْمُوصَى لَهُ، وَكَأَنَّ الْمُوصِيَ وَصَّى لَهُ بِالْأُمِّ وَالْوَلَدِ، ثم قد أعتق الْوَلَدُ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ، وَصَارَ لَهُ وَلَاؤُهُ.
وَلَا تصير أمه به أم ولد، لأنها ولدته من نكاح. ويعتبر فِي الثُّلُثِ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأُمِّ وَالْوَلَدِ يَوْمَ مَوْتِ الْمُوصِي.
وَإِنْ كَانَ حَادِثًا بَعْدَ الْوَصِيَّةِ، مِثْلَ أَنْ تَضَعَهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ حِينِ الْوَصِيَّةِ فَهُوَ مَمْلُوكٌ لِلْمُوصِي قُولَا وَاحِدًا وَمُنْتَقِلٌ عَنْهُ إِلَى وَرَثَتِهِ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَقَبْلَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا عِنْدَ الْوَصِيَّةِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بَعْدَ الْوَصِيَّةِ وَقَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَقَبْلَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ.
فإن كان موجودا عند الوصية: فهو أَنْ تَضَعَهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْوَصِيَّةِ.
فَفِيهِ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْحَمْلِ هَلْ لَهُ حُكْمٌ أَمْ لا؟
فإن قلنا: للحمل حكم: فَالْوَصِيَّةُ بِهِمَا مَعًا، وَفِيمَا تُقَوَّمُ عَلَيْهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ:
أَحَدُهُمَا: تُقَوَّمُ عَلَيْهِ الْأَمَةُ حَامِلًا، يَوْمَ مَوْتِ الْمُوصِي، فَإِنْ خَرَجَتْ قِيمَتُهَا كُلُّهَا مِنَ الثُّلُثِ: صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ بِهَا وَبِوَلَدِهَا.
وَإِنْ خَرَجَ نِصْفُهَا مِنَ الثُّلُثِ.
كَانَ لَهُ نِصْفُهَا، وَنِصْفُ وَلَدِهَا.(8/254)
والوجه الثاني: أنه تقوم الأم يوم موت الْمُوصِي، وَيُقَوَّمُ الْوَلَدُ يَوْمَ وُلِدَ، وَيُعْتَبَرُ قِيمَتُهُمَا جَمِيعًا مِنَ الثُّلُثِ. فَإِنِ احْتَمَلَهُمَا الثُّلُثُ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ بِهِمَا، وَإِنْ عَجَزَ الثُّلُثُ عَنْهُمَا، أُمْضِيَ لَهُ مِنَ الْوَصِيَّةِ بِهِمَا: قَدْرَ مَا احْتَمَلَهُ الثلث منهما من غير تفضيل.
ثم إذا صحت الوصية لهما، لِاحْتِمَالِ الثُّلُثِ لَهُمَا، فَقَدْ عُتِقَ عَلَيْهِ الْوَلَدُ بالملك، وله ولاؤه لحدوث عتقه بعد رقه.
فلم تَصِرِ الْأُمُّ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ، لِأَنَّهَا عَلِقَتْ به فِي نِكَاحٍ.
فَهَذَا إِذَا قُلْنَا إِنَّ لِلْحَمْلِ حكما.
وإذا قُلْنَا إِنَّ الْحَمْلَ لَا حُكْمَ لَهُ. فَفِيهِ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ، فِي قَبُولِ الْوَصِيَّةِ هَلْ يَقَعُ بِهِ التَّمْلِيكُ؟ أَوْ يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ الْمِلْكِ بِالْمَوْتِ.
فَإِنْ قِيلَ إِنَّ القبول هو الملك، فَالْوَلَدُ مَمْلُوكٌ، وَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَمْلُوكٌ للموصي ومضموم إلى تركته ثم منتقل عَنْهُ إِلَى وَرَثَتِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ حَادِثٌ عَلَى مِلْكِ الْوَرَثَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَثْبُتَ عَلَيْهِ لِلْمُوصِي مِلْكٌ.
وَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْقَبُولَ يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ الْمِلْكِ بِالْمَوْتِ كَانَ الْوَلَدُ لِلْمُوصَى لَهُ، وَقَدْ عُتِقَ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ، وَلَهُ وَلَاؤُهُ، وَلَا تَكُونُ أُمُّهُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ، وَفِيمَا يُقَوَّمُ فِي الثُّلُثِ وَجْهَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا.
وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ حَادِثًا بَعْدَ الْوَصِيَّةِ، وقبل الموت، فَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْوَصِيَّةِ، وَلِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْمَوْتِ، فَفِي الْوَلَدِ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْقَبُولِ.
فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْقَبُولَ هُوَ الْمُمَلِّكُ، فَالْوَلَدُ لِلْوَرَثَةِ، فَإِنْ جُعِلَ لِلْحَمْلِ حُكْمٌ، فَقَدْ ثَبَتَ عَلَيْهِ مِلْكُ الْمُوصِي، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى وَرَثَتِهِ وَإِنْ لَمْ يُجْعَلْ لِلْحَمْلِ حُكْمٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ للموصي وتنتقل عَنْهُ إِلَى الْوَرَثَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَكُونُ لِلْوَرَثَةِ ولم يثبت على مِلْكِ الْمُوصِي. وَلَا يُحْتَسَبْ عَلَيْهِمْ مِنْ تَرِكَتِهِ.
وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْقَبُولَ يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ الْمِلْكِ بِالْمَوْتِ، فَالْوَلَدُ لِلْمُوصَى لَهُ وَقَدْ عُتِقَ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ، وَلَهُ وَلَاؤُهُ، وَلَا تَصِيرُ الْأُمُّ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ، وَفِيمَا يُقَوَّمُ فِي الثُّلُثِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: تُقَوَّمُ الْأُمُّ حَامِلًا عِنْدَ الْمَوْتِ لَا غَيْرَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تُقَوَّمُ الْأُمُّ عِنْدَ الموت، ويقوم الولد عند الوضع وتعتبر قيمتها جَمِيعًا مِنَ الثُّلُثِ.
وَإِنْ كَانَ حَادِثًا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَقَبْلَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ، فَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حين موت الموصي.(8/255)
فإن قيل: إن القبول هو المملك، فالولد مملوك لورثة الموصي لم يجز عليه للموصي مِلْكٌ وَجْهًا وَاحِدًا.
وَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْقَبُولَ يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ الْمِلْكِ بِالْمَوْتِ، فَالْوَلَدُ حُرٌّ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ رِقٌّ، وَلَا وَلَاءَ عَلَيْهِ، وَقَدْ صَارَتِ الْأُمُّ بِهِ، أُمَّ وَلَدٍ لِأَنَّهَا عَلِقَتْ بِهِ فِي مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ، وَلَا يُقَوَّمُ الْوَلَدُ عَلَيْهِ فِي الثُّلُثِ وَجْهًا وَاحِدًا، لِأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ رِقٌّ، وَإِنَّمَا تُقَوَّمُ الأم عند الموت، وقد كانت عنده حَائِلًا.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ بَعْدَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ، فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةٍ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا عِنْدَ الْوَصِيَّةِ:
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بَعْدَ الْوَصِيَّةِ وَقَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَقَبْلَ الْقَبُولِ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بَعْدَ الْقَبُولِ.
فَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ الْوَصِيَّةِ، مِثْلَ أَنْ تَضَعَهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حين الوصية بالولد لِلْمُوصَى لَهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا سَوَاءٌ قِيلَ إن للحمل حكم، أو قيل إنه يكون تبعا، لِأَنَّهُ إِنْ قِيلَ إِنَّ لَهُ حُكْمًا، فَهُوَ مَعَ الْأُمِّ مُوصًى بِهِمَا.
وَإِنْ قِيلَ: يَكُونُ تَبَعًا فَحُكْمُهُ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْوِلَادَةِ، وَهُوَ مَوْلُودٌ فِي مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ وَإِذَا كَانَ لَهُ فَقَدْ عُتِقَ عَلَيْهِ بَعْدَ رِقِّهِ، فَلَهُ وَلَاؤُهُ، فَلَا تَكُونُ أُمُّهُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ.
وَإِنْ كان حادثا بعد الوصية، وقبل الموت: فَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْوَصِيَّةِ، وَلِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْمَوْتِ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَمْلُوكٌ لِلْمُوصِي، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ إِنَّ الْحَمْلَ حُكْمًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ لِلْمُوصَى لَهُ، إِذَا قِيلَ إِنَّ الْحَمْلَ تَبَعٌ.
فَعَلَى هَذَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ بَعْدَ رِقِّهِ، وَيَكُونُ لَهُ عَلَيْهِ الْوَلَاءُ، وَلَا تَصِيرُ أُمُّهُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ.
وَإِنْ كَانَ حَادِثًا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَقَبْلَ الْقَبُولِ فَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ، لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْمَوْتِ، وَلِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ من حين الْقَبُولِ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: إِنَّهُ حُرٌّ من حين العلوق، لم يجر عليه [حكم] رق، وأن " أُمُّهُ " بِهِ أُمَّ وَلَدٍ.
وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجْعَلُهُ بِالْقَبُولِ مَالِكًا. وَيَجْعَلُ الْحَمْلَ تَبَعًا مِنْ حِينِ الْمَوْتِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ حُرٌّ بَعْدَ رِقِّهِ. وَعَلَيْهِ الْوَلَاءُ لِأَبِيهِ، وَلَا تَكُونُ أُمُّهُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ.
وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجْعَلُهُ بِالْقَبُولِ مَالِكًا، وَيَجْعَلُ الْحَمْلَ تَبَعًا.
والقول الثالث: أنه مملوك لورثة الموصي دون الموصى له.
وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجْعَلُهُ بِالْقَبُولِ مَالِكًا، وَيَجْعَلُ لِلْحَمْلِ حُكْمًا.(8/256)
وَهَكَذَا: لَوْ وَلَدَتْ أَوْلَادًا، وَكَانَ بَيْنَ أَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَحُكْمُهُمْ حُكْمُ الْوَلَدِ الْوَاحِدِ، لِأَنَّهُمْ مِنْ حَمْلٍ وَاحِدٍ.
وَلَوْ كان بين بعضهم وبعضهم سِتَّةُ أَشْهُرٍ لَاخْتَلَفَ حُكْمُهُمْ لِاخْتِلَافِ حَمْلِهِمْ وَإِنْ كَانَ حَادِثًا بَعْدَ الْقَبُولِ فَهُوَ أَنْ تَضَعَهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ حِينِ قَبُولِهِ فَهَذَا حُرُّ الْأَصْلِ، لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ رِقٌّ، وَلَا وَلَاءَ عَلَيْهِ لِلْأَبِ، وَتَصِيرُ الْأُمُّ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ، لِأَنَّهَا عُلِقَتْ بِهِ فِي مِلْكٍ لَا في نكاح.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فإن مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْبَلَ أَوْ يَرُدَّ قَامَ وَرَثَتُهُ مَقَامَهُ فَإِنْ قَبِلُوا فَإِنَمَا مِلْكُوا أَمَةً لأبيهم وأولاد أبيهم الذين ولدت بعد موت سيدها أحرارا وَأُمُّهُمْ مَمْلُوكَةٌ وَإِنْ رَدُّوا كَانُوا مَمَالِيكَ وَكَرِهْتُ ما فعلوا (قال المزني) لو مات أبوهم قبل الملك لم يجز أن يملكوا عنه ما لم يملك ومن قوله أهل شوال ثم قبل كانت الزكاة عليه وفي ذلك دليل على أن الملك متقدم ولولا ذلك ما كانت عليه زكاة ما لا يملك ".
قال الماوردي: هذا صحيح. وجملته: أن موت الموصي لا يخلو أن يكون في حياة الموصى له أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ.
فَإِنْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي، فَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أن الوصية له قد بطلت، وليس لوارثه قَبُولُهَا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي.
وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصَرِيِّ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَبْطُلُ بِمَوْتِهِ وَلِوَرَثَتِهِ قبولها.
وهذا فاسد من وجهين: أن الوصية في غير حَيَاةِ الْمُوصِي غَيْرَ لَازِمَةٍ. وَمَا لَيْسَ بِلَازِمٍ مِنَ الْعُقُودِ يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ، وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَهُ، لَا لِوَرَثَتِهِ. وَهُوَ لَا يَمْلِكُ الْوَصِيَّةَ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي.
وَإِنْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ، بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمُوصَى لَهُ قبل موته مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ رَدَّ الْوَصِيَّةَ قَبْلَ مَوْتِهِ فَقَدْ بَطَلَتْ بِرَدِّهِ: وَلَيْسَ لِوَارِثِهِ قبولها بعد موته إجماعا.
والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ قَبِلَهَا، قَبْلَ مَوْتِهِ، وبعد موت الموصي، فقد ملكها، أو انتقلت بِمَوْتِهِ إِلَى وَارِثِهِ.
وَسَوَاءٌ قَبَضَهَا الْمُوصَى لَهُ فِي حَيَاتِهِ أَمْ لَا، لِأَنَّ الْقَبْضَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي تَمَلُّكِ الْوَصِيَّةِ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ قَبُولِهِ وَرَدِّهِ.
فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: يَقُومُ وَارِثُهُ مَقَامَهُ فِي الْقَبُولِ وَالرَّدِّ، وَلَا تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ بِمَوْتِهِ قَبْلَ الْقَبُولِ.(8/257)
وَقَالَ أبو حنيفة: إِذَا مَاتَ قَبْلَ الْقَبُولِ، بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ لَهُ كَالْهِبَةِ، وَهَذَا فَاسِدٌ: لِأَنَّ مَا اسْتَحَقَّهُ فِي التَّرِكَةِ لَمْ يَسْقُطْ بِالْمَوْتِ كَالدَّيْنِ، وَلِأَنَّ كُلَّ سَبَبٍ اسْتُحِقَّ بِهِ تَمَلُّكُ عين بغير اختيار مالكها، لم يبطل بِمَوْتِهِ، قَبْلَ تَمَلُّكِهَا كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ. وَفَارَقَتِ الْوَصِيَّةُ الْهِبَةَ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْهِبَةَ قَبْلَ الْقَبْضِ غَيْرُ لَازِمَةٍ، فَجَازَ أَنْ تَبْطُلَ بِالْمَوْتِ، وَالْوَصِيَّةُ قَبْلَ الْقَبُولِ لَازِمَةٌ، فَلَمْ تَبْطُلْ بِالْمَوْتِ.
فَصْلٌ:
فإذا ثَبَتَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ الرَّدِّ وَالْقَبُولِ، فَوَرَثَتُهُ يَقُومُونَ مَقَامَهُ في القبول والرد، ولهم ثلاثة أَحْوَالٍ:
حَالٌ يَقْبَلُ جَمِيعُهُمُ الْوَصِيَّةَ، وَحَالٌ يَرُدُّ جَمِيعُهُمُ الْوَصِيَّةَ، وَحَالٌ يَقْبَلُهَا بَعْضُهُمْ وَيَرُدُّهَا بَعْضُهُمْ.
فَإِنْ قَبِلُوهَا جَمِيعًا: فَعَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجْعَلُ القبول دالا على تقدم الملك، فَالْمَالِكُ لِلْوَصِيَّةِ بِقَبُولِ الْوَرَثَةِ، هُوَ الْمُوصَى لَهُ، لَا الْوَرَثَةُ.
فَعَلَى هَذَا يَكُونُ أَوْلَادُ الْأَمَةِ أَحْرَارًا، لِأَنَّ الْأَبَ لَا يَمْلِكُ وَلَدَهُ وَيَجْعَلُهَا لَهُ أُمَّ وَلَدٍ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَصِيرُ بالولادة أم ولد.
فأما الْقَوْلِ الَّذِي يَجْعَلُ الْقَبُولَ مِلْكًا، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا، هَلْ تَدْخُلُ الْوَصِيَّةُ فِي مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ بِقَبُولِ وَرَثَتِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ الْوَصِيَّةَ يَمْلِكُهَا الْوَرَثَةُ دُونَ الْمُوصَى لَهُ، لِحُدُوثِ الْمِلْكِ بِقَبُولِهِمْ.
فَعَلَى هَذَا لَا يُعْتَقُ الْأَوْلَادُ الَّذِينَ وَلَدَتْهُمْ بَعْدَ الْقَبُولِ، وَلَا تَصِيرُ الْأَمَةُ بِهِمْ، أُمَّ وَلَدٍ، لِأَنَّ الْأَخَ يَمْلِكُ أَخَاهُ.
وَعَلَى هَذَا: لَوْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ مَالًا: لَمْ يُقْضَ مِنْهَا ديون الْمُوصَى لَهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْبَصْرِيِّينَ وَحَكَاهُ أَبُو الْقَاسِمَ بْنُ كَجٍّ عَنْ شُيُوخِهِ.
أَنَّ الْوَصِيَّةَ يَمْلِكُهَا الْمُوصَى لَهُ بِقَبُولِ وَرَثَتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْقَبُولُ مُمَلِّكًا.
لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَدْخُلْ فِي مِلْكِهِ، لَبَطَلَتْ، لَأَنَّ الْوَرَثَةَ غَيْرُ مُوصًى لَهُمْ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْلِكَ الْوَصِيَّةَ مَنْ لم يوص له.
فعلى هذا قد اعتق الْأَوْلَادُ الَّذِينَ وَلَدَتْهُمْ بَعْدَ الْقَبُولِ، وَصَارَتْ مِمَّنْ يَجِبُ أَنْ تَصِيرَ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ.
وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ مَالًا: قضى مِنْهَا دُيُون الْمُوصَى لَهُ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ حُرِّيَّةُ الْأَوْلَادِ عَلَى مَا وَصَفْنَا. لَمْ يَخْلُ حَالُ الورثة القابلين للوصية أَنْ يَسْقُطُوا بِالْأَوْلَادِ، أَوْ لَا يَسْقُطُوا.(8/258)
فإن لم يسقطوا بالأولاد، كالأخوة والأعمام، عتق هو والأولاد، وَلَمْ يَرِثُوا، لِأَنَّ تَوْرِيثَهُمْ مُخْرِجٌ لِقَابِلِ الْوَصِيَّةِ مِنَ الْمِيرَاثِ، وَخُرُوجُهُمْ مِنَ الْمِيرَاثِ: يُبْطِلُ قَبُولَهُمْ للوصية، وبطلان الْوَصِيَّةِ مُوجِبٌ لِرِقِّ الْأَوْلَادِ، وَسُقُوطِ مِيرَاثِهِمْ. فَلَمَّا أَفْضَى تَوْرِيثُهُمْ إِلَى رِقِّهِمْ وَسُقُوطِ مِيرَاثِهِمْ مُنِعُوا الْمِيرَاثَ، لِيَرْتَفِعَ رِقُّهُمْ، وَتَثْبُتُ حُرِّيَّتُهُمْ، كَمَا قُلْنَا فِي الْأَخِ إِذَا أَقَرَّ بِابْنٍ، إِنَّ نَسَبَ الابن يثبت وَلَا يَرِثُ.
فَصْلٌ:
وَلَوْ رَدَّ الْوَرَثَةُ بِأَجْمَعِهِمْ بطلت الوصية بردهم لها، وكان الأولاد عبيدا للورثة، وَكَذَلِكَ أَمُّهُمْ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَكَرِهْتُ ذَلِكَ لَهُمْ: لِمَا فِيهِ مِنَ اسْتِرْقَاقِ أولادهم، وَأَنَّهُمْ قَدْ خَالَفُوا ظَاهِرَ فِعْلِهِ لَوْ كَانَ حَيًّا.
فَأَمَّا إِذَا قَبِلَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ الْوَصِيَّةَ وَرَدَّهَا بَعْضُهُمْ: كَانَتْ حِصَّةُ مَنْ رَدَّ مَوْقُوفَةً لِوَرَثَةِ الْمُوصِي، وَحِصَّةُ مَنْ قَبِلَ أَحْرَارًا إِنْ قِيلَ إِنَّهُمْ قَدْ دَخَلُوا فِي مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ. وَيُقَوَّمُ مَا بَقِيَ مِنْ رِقِّ الْأَوْلَادِ فِي حِصَّةِ الْقَابِلِ مِنْ تَرِكَتِهِ، إِنْ كَانَ مُوسِرًا بِذَلِكَ، وَيَصِيرُ جَمِيعُ الْأَوْلَادِ أَحْرَارًا يَرِثُونَ إن لم يحجبوا القابل الْمُوصَى لَهُ.
وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَلَا تَقْوِيمَ فِي تَرِكَتِهِ وَلَا يَرِثُ هَؤُلَاءِ الْأَوْلَادُ لِأَنَّ حُرِّيَّتَهُمْ: لَمْ تَكْمُلْ، وَلَا تَقْوِيمَ عَلَى الْقَابِلِ، لِأَنَّ الْعِتْقَ كَانَ عَلَى غَيْرِهِ.
وَإِنْ قِيلَ إِنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلُوا فِي مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ لَمْ يُعْتَقْ شَيْءٌ مِنْ حِصَّةِ الْقَابِلِ مِنَ الورثة إذا كان ممن يجوز أن يتملك أَوْلَادُ الْمُوصَى لَهُ.
فَصْلٌ:
وَإِذَا كَانَ الْمُوصَى لَهُ بِزَوْجَتِهِ مَرِيضًا فَقَبِلَ الْوَصِيَّةَ فِي مَرَضِهِ الْمَخُوفِ.
فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَوْلَادِهِ مِنْهَا: إذا أعتقوا بِقَبُولِهِ، هَلْ يَرِثُونَهُ إِذَا مَاتَ مِنْ مَرَضِهِ ذَلِكَ؟ فَالَّذِي عَلَيْهِ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنْهُمْ: أَنَّهُمْ لا يرثون، لِأَنَّ عِتْقَهُمْ فِي مَرَضِهِ بِقَبُولِهِ وَصِيَّةٌ لَهُمْ، ولو ورثوا، منعوا الوصية، وإذا منعوها عادوا رقيقا لَا يَرِثُونَ، فَلِذَلِكَ عَتَقُوا وَلَمْ يَرِثُوا، كَمَا لَوِ اشْتَرَاهُمْ فِي مَرَضِهِ.
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: يَرِثُونَ بِخِلَافِ مَنِ اشْتَرَاهُ مِنْهُمْ، لأن من اشتراه قد خرج ثَمَنُهُ مِنْ مَالِهِ فَصَارَ إِخْرَاجُ الثَّمَنِ وَصِيَّةً مِنْ ثُلُثِهِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَرِثُوا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا قَبِلَ الْوَصِيَّةَ بِهِمْ، لِأَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْ أَثْمَانَهُمْ مِنْ مَالِهِ فَيَصِيرُوا مِنْ ثُلُثِهِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ قَبُولُهُمْ وَصِيَّةً، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذلك وصية، لم يمنعوا الميراث.
ولو كان قاله عِنْدَ الْوَصِيَّةِ مَرِيضًا، فَلَمْ يَقْبَلْهَا حَتَّى مَاتَ، ثُمَّ قَبِلَهَا وَرَثَتُهُ، بَعْدَ مَوْتِهِ: كَانَ مِيرَاثُ الْأَوْلَادِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ لَهُ في حال لو قبلها: كان مِيرَاثُ الْأَوْلَادِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، فَكَذَلِكَ إِذَا قبلها ورثته بعد موته.
ولو كانت الوصية لَهُ فِي صِحَّتِهِ فَلَمْ يَقْبَلْهَا حَتَّى مَاتَ: لَمْ يَسْقُطْ مِيرَاثُ هَؤُلَاءِ الْأَوْلَادِ بِقَبُولِ وَرَثَتِهِ.(8/259)
فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ: فَإِنَّهُ نَصَّ مَا اخْتَارَهُ مِنْ إن القبول يدل على تقدم الملك بالموت وهو أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " ولو أوصى بجارية ومات ثم وهب للجارية مائة دينار وهي تسوي مِائَةَ دِينَارٍ وَهِيَ ثُلُثُ مَالِ الْمَيِّتِ وَوَلَدَتْ ثُمَّ قَبِلَ الْوَصِيَّةَ فَالْجَارِيَةُ لَهُ وَلَا يَجُوزُ فِيمَا وَهَبَ لَهَا وَوَلَدَهَا إِلَّا وَاحِدٌ مِنْ قَوْلَيْنِ الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ وَلَدُهَا وَمَا وَهَبَ لها من مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ وَإِنْ رَدَّهَا فَإِنَّمَا أَخْرَجَهَا مِنْ مِلْكِهِ إِلَى الْمَيِّتِ وَلَهُ وَلَدُهَا وَمَا وَهَبَ لَهَا لِأَنَّهُ حَدَثَ فِي مِلْكِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي إِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَمْلِكُهُ حَادِثًا بِقَبُولِ الوصية وهذا قول منكر لَا نَقُولُ بِهِ لِأَنَّ الْقَبُولَ إِنَّمَا هُوَ على ملك متقدم وليس بملك حادث.
وقد قيل تكون لَهُ الْجَارِيَةُ وَثُلُثُ وَلَدِهَا وَثُلُثُ مَا وُهِبَ لها. قال المزني رحمه الله: هذا قول بعض الكوفيين. قال أبو حنيفة: تكون له الجارية وثلث ولدها. وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن: يكون له ثلثا الجارية وثلثا ولدها. (قال المزني) وأحب إلي قول الشافعي لأنها وولدها على قبول ملك متقدم (قال المزني) وقد قطع بالقول الثاني إذ الملك متقدم وإذا كان كذلك وقام الوارث في القبول مقام أبيه فالجارية له بملك متقدم وولدها وما وهب لها ملك حادث بسبب متقدم (قال المزني) وينبغي في المسألة الأولى أن تكون امرأته أم ولد وكيف تكون أولادها بقبول الوارث أحرارا على أبيهم ولا تكون أمهم أم ولد لأبيهم وهو يجيز أن يملك الأخ أخاه وفي ذلك دليل على أن لو كان ملكا حادثا لولد الميت لكانوا له مماليك وقد قطع بهذا المعنى الذي قلت في كتاب الزكاة فتفهمه كذلك نجده إِنْ شَاءَ اللَّهَ تَعَالَى ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا وُهِبَ لِلْجَارِيَةِ الْمُوصَى بِهَا مَالٌ وَوَلَدَتْ أَوْلَادًا مِنْ رِقٍّ لَمْ يَخْلُ حَالُ أَوْلَادِهَا، وَمَا وُهِبَ لَهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي، فَهُوَ مِلْكُهُ وصَائِرٌ إِلَى وَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَمَحْسُوبٌ فِي ثُلُثَيِ التَّرِكَةِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بَعْدَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ. فَذَلِكَ ملك له، لحدوثه بَعْدَ اسْتِقْرَارِ مِلْكِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَقَبْلَ الْقَبُولِ، فَيَكُونُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الْقَبُولِ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْقَبُولَ هُوَ الْمُمَلِّكُ فَذَلِكَ مِلْكُ الْوَرَثَةِ، دُونَ الْمُوصَى لَهُ، وَهَلْ يُحْتَسَبُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ ثُلُثَيِ التركة، على وجهين من اختلاف ما ذكرنا مِنَ الْوَجْهَيْنِ فِي الْمُوصَى بِهِ قَبْلَ الْقَبُولِ، هَلْ يَكُونُ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ أَوْ منتقلا إلى ورثته، فَإِنْ جَعَلْنَاهُ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ، كَانَ ما حدث من الهبة والأولاد محسوب على الورثة.(8/260)
وَإِنْ جَعَلْنَاهُ مُتَنَقِّلًا إِلَى الْوَرَثَةِ لَمْ يُحْتَسَبْ على الورثة.
فهذا حكم القول الَّذِي يَجْعَلُ الْوَصِيَّةَ بِالْقَبُولِ مُمَلَّكَةً.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وهذا قول ينكسر. اهـ.
وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْقَبُولَ يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ الْمِلْكِ بِالْمَوْتِ، فَأَوْلَادُ الْجَارِيَةِ وَمَا وُهِبَ لَهَا ملكا للموصى له، لا يحتسب به من الثُّلُثِ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَمْ يَمْلِكْهُ.
إِلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَإِنْ رَدَّهَا فَإِنَّمَا أَخْرَجَهَا مِنْ مِلْكِهِ، إِلَى الْمَيِّتِ وَلَهُ ولدها وما وهب لها.
واختلف أصحابنا، فكان بعضهم يجعل ذلك خَارِجًا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، إِنَّ الْوَصِيَّةَ تَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ بالموت كالميراث، فكذلك إِذَا رَدَّ الْوَصِيَّةَ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَقَدْ أَخْرَجَهَا مِنْ مِلْكِهِ وَمِلْكِ مَا حَدَثَ مِنْ كَسْبِهَا وَوَلَدِهَا.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هَذَا خَارِجٌ مِنْهُ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجْعَلُهُ بِالْقَبُولِ مَالِكًا مِنْ حِينِ الْمَوْتِ.
وَاخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِهَذَا فِي تَأْوِيلِ كَلَامِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعْنَاهُ وَإِنْ رَدَّ فَكَأَنَّمَا أَخْرَجَهَا مِنْ مِلْكِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا، فَإِذَا رَدَّهَا، فَقَدْ أَبْطَلَ مِلْكَهُ.
وَقَوْلُهُ: " وَلَهُ وَلَدُهَا وَمَا وُهِبَ لَهَا ".
يَعْنِي: لِوَارِثِ الْمُوصِي.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ قَبِلَهَا ثُمَّ رَدَّهَا بالهبة. هذا جَوَابُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَهَذَا شَرْحُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي كَسْبِهَا وَوَلَدِهَا.
وَقَالَ أبو حنيفة: " لِلْمُوصَى لَهُ الْجَارِيَةُ، وَثُلُثُ وَلَدِهَا، وَثُلُثُ مَا وُهِبَ لَهَا " تَعْلِيلًا بِأَنَّهُ لَا يجوز أن يملكها الْمُوصَى لَهُ بِالْوَصِيَّةِ إِلَّا مَا صَارَ لِلْوَرَثَةِ مِثْلَاهُ، وَقَدْ صَارَ إِلَيْهِمْ مِثْلَا الْجَارِيَةِ فَلِذَلِكَ صَارَ جَمِيعُهَا لِلْمُوصَى لَهُ، وَلَمْ يَصِرْ إِلَيْهِمْ مِثْلَا الْوَلَدِ وَالْكَسْبِ فَلِذَلِكَ صَارَ لِلْمُوصَى لَهُ من ذلك ثلثه، ولورثة ثُلُثَاهُ.
وَقَالَ أبو يوسف ومحمد: لَهُ ثُلُثَا الجارية، وثلثا ولدها وكسبها.
ولست أعرف تَعْلِيلًا مُحْتَمِلًا مَا ذَكَرَاهُ وَكِلَا هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ فاسد: لأن الكسب والولد تبع لمالك الْأَصْلِ فَإِنْ كَانَتِ الْجَارِيَةُ عِنْدَ حُدُوثِ النَّمَاءِ والمكسب بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَبْلَ الْقَبُولِ مِلْكًا لِلْوَرَثَةِ: فَلَهُمْ كُلُّ الْكَسْبِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ مِنْهُ الموصى له شيئا.
وإن كانت مِلْكًا لِلْمُوصَى لَهُ، فَلَهُ كُلُّ الْكَسْبِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ مِنْهُ الْوَرَثَةُ شَيْئًا.
فَأَمَّا تَبْعِيضُ الْمِلْكِ فِي النَّمَاءِ وَالْكَسْبِ مِنْ غَيْرِ تبعيض ملك الأصل وجه له، وليس(8/261)
بلازم أَنْ يَمْلِكَ الْوَرَثَةُ مِثْلَيْ مَا يَمْلِكُهُ الْمُوصَى لَهُ، بَعْدَ اسْتِقْرَارِ مِلْكِهِ، كَمَا لَا يَلْزَمُ فِيمَا حَدَثَ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ الْقَبُولِ، وَإِنَّمَا يلزم ذلك فيما ملك من تركة بينهم.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا مَا لَا يَتَمَيَّزُ مِنَ الزِّيَادَةِ، كَالسِّمَنِ وَزِيَادَةِ الْبَدَنِ، إِذَا حَدَثَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَقَبْلَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ، فَهُوَ لِلْمُوصَى لَهُ وَمَحْسُوبٌ عَلَيْهِ مِنَ الثُّلُثِ، لِأَنَّ مَا اتصل من الزيادة تبع لأصله يتنقل مَعَ الْأَصْلِ، إِلَى حَيْثُ انْتَقَلَ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ إِذَا رَدَّهَا: فَلِلْمُوصَى لَهُ فِي رَدِّهَا أربعة أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَرُدَّهَا فِي حَيَاةِ الْمُوصِي، فَلَا يَكُونُ لِرَدِّهِ تَأْثِيرٌ كَمَا لَا يَكُونُ لِقَبُولِهِ لَهُ، لَوْ قَبِلَ فِي هَذِهِ الْحَالِ تأثيرا، وخالف فيه خلافا يذكره بَعْدُ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَرُدَّهَا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَقَبْلَ قَبُولِهِ: فَالرَّدُّ صَحِيحٌ قَدْ أَبْطَلَ الوصية، ورد ذَلِكَ إِلَى التَّرِكَةِ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ قَبُولُ الورثة، ويكونوا فيه على فرائضهم.
فإن قال: ردت ذَلِكَ لِفُلَانٍ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: احْتَمَلَ ذَلِكَ مَعْنَيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ أَظْهَرُهُمَا، أَنْ يُرِيدَ لرضا فُلَانٍ، أَوْ لِكَرَامَةِ فُلَانٍ، فَإِنْ أَرَادَ ذَلِكَ، صَحَّ الرَّدُّ، وَبَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ، وَعَادَتْ إِلَى التَّرِكَةِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُرِيدَ بِالرَّدِّ لِفُلَانٍ: هِبَتَهَا لَهُ فلا تصح هبته لها قَبْلَ الْقَبُولِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا بَعْدُ.
وَلَوْ قَبِلَهَا: صَحَّ، إِذَا وُجِدَتْ فِيهَا شُرُوطُ الْهِبَةِ، وَلَا يَكُونُ فَسَادُ هَذِهِ الْهِبَةِ مُبْطِلًا لِلْوَصِيَّةِ، وَمَانِعًا مِنْ قَبُولِهَا، لِأَنَّ هِبَتَهُ لَهَا إِنَّمَا اقْتَضَتْ زَوَالَ الْمِلْكِ بَعْدَ دُخُولِهَا فِيهِ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَرُدَّهَا بَعْدَ قَبُولِ الْوَصِيَّةِ وَقَبْلَ قَبْضِهَا فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا تَصِحُّ إِلَّا بِلَفْظِ الْهِبَةِ إِيجَابًا وَقَبُولًا، لِدُخُولِ الْوَصِيَّةِ فِي مِلْكِهِ بِالْقَبُولِ.
فَعَلَى هَذَا تَعُودُ الوصية للورثة خُصُوصًا دُونَ أَهْلِ الدَّيْنِ وَالْوَصَايَا، وَيَكُونُ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فِيهَا سَوَاءً، لِأَنَّهَا هِبَةٌ لَهُمْ مَحْضَةٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَصِحُّ رَدُّهَا بِلَفْظِ الرَّدِّ دُونَ الْهِبَةِ، لَكِنْ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبُولِ، لِأَنَّهَا وَإِنْ دَخَلَتْ فِي مِلْكِهِ، فَهِيَ كَالْإِقَالَةِ.
وَإِنْ كَانَ مِلْكُ الْمُشْتَرِي فِيهَا ثَابِتًا، فَإِنَّهُ يَنْتَقِلُ بِغَيْرِ لَفْظِ الْهِبَةِ، لَكِنْ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ قَبُولٍ، كَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ بَعْدَ الْقَبُولِ.
فَعَلَى هَذَا: تَعُودُ بَعْدَ الرَّدِّ وَالْقَبُولِ تَرِكَةً، يَجْرِي فِيهَا حُكْمُ الدَّيْنِ وَالْوَصَايَا، وَفَرَائِضُ الْوَرَثَةِ.
والوجه الثالث: أنها تصح بالرد مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مِلْكًا للموصى له بقبولها، فملكه لها قبل القبض، غير منبرم، فَجَرَتْ مَجْرَى الْوَقْفِ إِذَا رَدَّهُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ بَعْدَ قَبُولِهِ وَقَبْلَ قَبْضِهِ:(8/262)
صَحَّ رَدُّهُ، وَلَمْ يَفْتَقِرِ الرَّدُّ إِلَى الْقَبُولِ، وإن كان ملكا، ثُمَّ تَكُونُ الْوَصِيَّةُ بَعْدَ الرَّدِّ تَرِكَةً.
فَصْلٌ:
وإذا رد الوصية بما يدل لَهُ عَلَى الرَّدِّ:
لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ الْمَالَ، ولم يبطل حقه في الْوَصِيَّةِ بِالرَّدِّ.
وَقَالَ مَالِكٌ: يَمْلِكُ الْمَالَ، وَيَصِحُّ الرد، ومثله يقول في الشفعة، إذا عفى عَنْهَا عَلَى مَالٍ بُذِلَ لَهُ.
وَهَذَا خَطَأٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ: لِأَنَّ أَخْذَ الْعِوَضِ عَلَى مَا لَمْ يَسْتَقِرَّ مِلْكُهُ عَلَيْهِ بَاطِلٌ كَالْبَيْعِ - وَاللَّهُ أعلم -.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ولو أوصى له بثلث شيء، بعينه استحق ثلثاه كان له الثلث الباقي إن احتمله ثلثه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ دَارٍ هُوَ فِي الظَّاهِرِ مَالِكٌ لِجَمِيعِهَا، فَاسْتُحِقَّ ثُلُثَا الدَّارِ، وَبَقِيَ عَلَى مِلْكِ الْمُوصِي ثُلُثُهَا.
فَالثُّلُثُ كان الموصى لَهُ إِذَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ. وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: يَكُونُ لَهُ ثُلُثُ الثُّلُثِ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ: لَمَّا أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِهَا، وَهُوَ فِي الظَّاهِرِ مَالِكٌ لِجَمِيعِهَا، تَنَاوَلَتِ الْوَصِيَّةُ ثُلُثَ مِلْكِهِ مِنْهَا، فَإِذَا بَانَ أَنَّ مِلْكَهُ مِنْهَا الثُّلُثُ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ بِثُلُثِ الثُّلُثِ، لِأَنَّهُ كَانَ مِلْكَهُ مِنْهَا، كَمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ ماله، وهو ثلاث مائة درهم، فاستحق منها مائتان كانت الوصية بثلث المائة الباقية.
وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ مَا طَرَأَ مِنِ اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثَيْنِ، لَيْسَ بِأَكْثَرَ مِنْ أن يكون عند الوصية غير ملكه لِلثُّلْثَيْنِ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى لَهُ بثلث دار قدر ملكه: كَانَ لَهُ جَمِيعُ الثُّلُثِ إِذَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ، كَذَلِكَ إِذَا أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِهَا، فَاسْتَحَقَّ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ مِنْهَا.
وَالثَّانِي: هُوَ أَنَّ رَفْعَ يَدِهِ بِالِاسْتِحْقَاقِ كَزَوَالِ مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ بَاعَ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ منها ما بقي من ثلثها صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ بِكُلِّ الثُّلُثِ الْبَاقِي بَعْدَ الْبَيْعِ، فكذلك تصح الوصية بِالثُّلُثِ الْبَاقِي بَعْدَ الْمُسْتَحَقِّ، وَلَيْسَ لِمَا ذَكَرَهُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِثُلُثِ الْمَالِ وَجْهٌ. لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَمْ تُعْتَبَرْ إِلَّا فِي ثُلُثِ مِلْكِهِ، وَمِلْكُهُ هُوَ الْبَاقِي بَعْدَ الِاسْتِحْقَاقِ.
وَلَوْ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْوَصِيَّةِ بِالدَّارِ فَقَالَ: قَدْ أَوْصَيْتُ لَكَ بِثُلُثِ مِلْكِي مِنْ هَذِهِ الدَّارِ فَاسْتَحَقَّ ثُلُثَاهَا كَانَ لَهُ ثُلُثُ ثُلُثِهَا الْبَاقِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ لَهُ جَمِيعَ الثُّلُثِ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثَيْنِ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْوَصَايَا فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مَسْأَلَةَ الِاسْتِحْقَاقِ:
" وَلَوْ أَوْصَى بِالثُّلُثِ مِنْ دَارٍ أَوْ أَرْضٍ، فَأَذْهَبَ السَّيْلُ ثُلُثَيْهَا، وَبَقِيَ ثُلُثُهَا، فَالثُّلُثُ الْبَاقِي(8/263)
للموصى له إذا خرج من الثلث وقيل إن الوصية موجودة، وخارجة من الثلث. أهـ.
فَسَوَّى الشَّافِعِيُّ بَيْنَ اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثَيْنِ مَشَاعًا، وَبَيْنَ ذهاب ثلثها بالسيل تجوزا في أن الوصية تجوز بِالثُّلُثِ الْبَاقِي بَعْدَ الِاسْتِحْقَاقِ وَالتَّلَفِ بِالسَّيْلِ.
وَالَّذِي أَرَاهُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ مِنْ أَنَّ اسْتِحْقَاقِ الثلثين لا يمنع من إمضاء الوصية بالثلث الْبَاقِي كُلِّهِ.
وَذَهَابُ الثُّلُثَيْنِ مِنْهَا بِالسَّيْلِ يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ بِجَمِيعِ الثُّلُثِ الْبَاقِي وَيُوجِبُ أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ بِثُلُثِ الثُّلُثِ الْبَاقِي.
وَالْفَرْقُ بينهما أن الوصية بالثلث منها هو ما تبع فِي جَمِيعِهَا فَإِذَا اسْتُحِقَّ ثُلُثَاهَا لَمْ يُمْنَعْ أن يكون الثلث الباقي سائغا فِي جَمِيعِهَا فَصَحَّتِ الْوَصِيَّةُ فِي جَمِيعِهِ.
وَإِذَا هلك ثلثاها بالسيل، يجوز إن لم يكن الثلث الباقي منها هو الثلث الْمُشَاعَ فِي جَمِيعِهَا، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ بثلث ما بقي وثلث ما هلك فيكون حُكْمُ الْإِشَاعَةِ فِي الْجَمِيعِ بَاقِيًا.
أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ رَجُلًا اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ نِصْفَ دَارِ جَمِيعُهَا بِيَدِهِ، ثُمَّ اسْتَحَقَّ بَعْدَ الشِّرَاءِ نِصْفَهَا: كَانَ النِّصْفُ الْبَاقِي هُوَ الْمَبِيعُ مِنْهَا، وَلَوْ لَمْ يَسْتَحِقَّ نِصْفَهَا وَلَكِنْ أَذْهَبَ السَّيْلُ نصفها، كان للمشتري نصف ما بقي بعدما أذهبه السيل منها.
فإن قيل: فليس لَوْ أَوْصَى لَهُ بِرَأْسٍ مِنْ غَنَمِهِ فَهَلَكَ جَمِيعُهَا إِلَّا رَأْسًا مِنْهَا بَقِيَ: فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ تَتَعَيَّنُ فِيهِ وَلَا يَكُونُ الْهَالِكُ وَإِنْ كَانَ متميزا من الوصية وغيرها فهلا كان ما ذهب بالسيل مثل ذلك؟ .
قِيلَ الْوَصِيَّةُ بِرَأْسٍ مِنْ غَنَمِهِ يُوجِبُ الْإِشَاعَةَ فِي كُلِّ رَأْسٍ مِنْهَا وَإِنَّمَا جُعِلَ إِلَى الْوَارِثِ أَنْ يُعَيِّنَهُ فِيمَا شَاءَ مِنْ مِيرَاثِهِ.
وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ بِثُلُثِ الدَّارِ، لِأَنَّ الثُّلُثَ شائع في جميعها فافترقا.
فإذا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْتُهُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الِاسْتِحْقَاقِ وَالتَّلَفِ، وَمَا رَأَيْتُهُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْتِحْقَاقِ وَالتَّلَفِ، تَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ مَا يَصِحُّ بِهِ الْجَوَابَانِ.
فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يخلف رجل ثلاث مائة درهم، وثلاثين دينارا وقيمتها ثلاث مائة دِرْهَمٍ، وَيُوصِي بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ، فَيَكُونُ لَهُ ثلث الدنانير، وثلثا الدراهم.
فإذا أَرَادَ الْوَرَثَةُ أَنْ يُعْطُوهُ ثُلُثَ الْجَمِيعِ مِنْ أَحَدِهِمَا، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُمْ لِأَنَّ الْمُوصِيَ جَعَلَهُ فِي الْجَمِيعِ مُشَارِكًا [لَهُمْ] .
فَلَوْ تَلِفَ مِنَ الدَّنَانِيرِ عِشْرُونَ، وَبَقِيَ مِنْهَا عَشَرَةٌ:
كَانَ له ثلث العشرة الباقية، وثلث الثلاث مائة درهم كلها.(8/264)
فَأَمَّا إِذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ الدَّنَانِيرِ بِعَيْنِهَا، وأوصى لآخر بثلث الدراهم بِعَيْنِهَا، فَهَلَكَ مِنَ الدَّنَانِيرِ عِشْرُونَ، وَبَقِيَ مِنْهَا عَشَرَةٌ وَسَلِمَتِ الدَّرَاهِمُ كُلُّهَا.
فَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَرَاهُ: أَنَّهُ يَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الدَّنَانِيرِ ثُلُثُ الْعَشَرَةِ الْبَاقِيَةِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ وَثُلُثُ دينار.
وللموصي بثلث الدراهم، ثلث الثلاث مائة وَهُوَ مِائَةُ دِرْهَمٍ.
وَعَلَى [الظَّاهِرِ] مِمَّا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، يَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الدَّنَانِيرِ مِنَ العشرة الباقية ستة دنانير وثلثي دِينَارٍ.
وَيَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الدَّرَاهِمِ مِنْ جميع الثلاث مائة سِتَّةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا، وَثُلُثَا دِرْهَمٍ قِيمَةُ الْجَمِيعِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ دِينَارًا وَثُلُثُ دِينَارٍ، وَيَبْقَى مَعَ الورثة ثلاثة دنانير وثلث، ومائتان وثلاثة وثلاثون درهما وثلث، وَقِيمَةُ الْجَمِيعِ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ دِينَارًا وَثُلُثَا دِينَارٍ، وهو ضعف ما صار إلى الموصى له.
وَهَكَذَا لَوْ كَانَتِ الْوَصِيَّتَانِ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ.
وَوَجْهُ الْعَمَلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: الْوَصِيَّتَانِ تُعَادِلُ عِشْرِينَ دِينَارًا مِنْ سِتِّينَ دِينَارًا، فَإِذَا تَلِفَ مِنَ التَّرِكَةِ عِشْرُونَ دِينَارًا فَهُوَ ثُلُثُ التَّرِكَةِ، ويرجع النقص على الوصيتين معا دون أحدهما، فَنُقِصَ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الثُّلُثُ.
فَالْمُوَصَى لَهُ بِثُلُثِ الدَّنَانِيرِ كَانَ لَهُ قَبْلَ التَّلَفِ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ، فَصَارَ لَهُ بَعْدَ التَّلَفِ ثُلُثَاهَا، وذلك ستة دنانير وثلثا دينار، وللموصى لَهُ بِثُلُثِ الدَّرَاهِمِ، كَانَ لَهُ قَبْلَ التَّلَفِ مِائَةُ دِرْهَمٍ، فَصَارَ لَهُ بَعْدَ تَلَفِ الدَّنَانِيرِ ثُلُثَا الدَّرَاهِمِ، وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا، وَثُلُثَا دِرْهَمٍ.
وَعَلَى هَذَا: لَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِسُدُسِ الدَّرَاهِمِ بِأَعْيَانِهَا، وَسُدُسِ الدَّنَانِيرِ بِأَعْيَانِهَا، وَالتَّرِكَةُ بِحَالِهَا: كَانَ لَهُ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا، فَلَوْ تَلِفَ مِنَ الدَّرَاهِمِ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَبَقِيَتْ مِائَةُ دِرْهَمٍ مَعَ جَمِيعِ الدَّنَانِيرِ، وَهِيَ ثَلَاثُونَ دِينَارًا. فَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي رَأَيْتُهُ: يَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ وَسِتَّةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَثُلُثُ دِرْهَمٍ، وَهُوَ سُدُسُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَالَيْنِ.
وَعَلَى الظَّاهِرِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، يَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ ثلاثة دنانير وثلث دينار، وثلاثة ثلاثون درهما وثلث درهم.
لأن يجعل نقص أحد المالين راجعا إلى الْمَالَيْنِ، وَقَدْ نُقِصَ الثُّلُثُ مِنَ الْوَصِيَّةِ بِسُدُسِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَالَيْنِ الثُّلُثَ.
فَصَارَ مَعَ الْمُوصَى لَهُ ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ وَثُلُثُ دِينَارٍ، وَثَلَاثَةٌ وثلاثون درهم وثلث درهم قيمة الْجَمِيعِ سِتَّةُ دَنَانِيرَ وَثُلُثَا دِينَارٍ، وَذَلِكَ سُدُسُ الْأَرْبَعِينَ الْبَاقِيَةِ مِنَ التَّرِكَةِ عَيْنًا وَوَرِقًا.
فَصْلٌ:
فِي خَلْعِ الثُّلُثِ
قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ رحمة الله عليه:(8/265)
" إذا أوصى الرجل بِمِائَةِ دِينَارٍ لَهُ حَاضِرَةٍ، وَتَرَكَ غَيْرَهَا أَلْفَ دِينَارٍ دَيْنًا غَائِبَةً: فَالْوَرَثَةُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِمْضَاءِ الوصية بالمائة كلها عاجلا سواء أمضى الدَّيْنُ وَسَلِمَ الْغَائِبَ أَمْ لَا، وَبَيْنَ أَنْ يُسَلِّمُوا ثُلُثَ الْمِائَةِ الْحَاضِرَةِ، وَثُلُثَ الدَّيْنِ مِنَ الْمَالِ الْغَائِبِ، وَيَصِيرُ الْمُوصَى لَهُ بِالْمِائَةِ شَرِيكًا بِالثُّلُثِ فِي كُلِّ التَّرِكَةِ وَإِنْ كَثُرَتْ، وَسُمِّيَ ذلك خلع الثلث، واستدلالا بأن للموصى له ثلث ماله، فإذا غير الْوَصِيَّةَ فِي بَعْضِهِ. فَقَدْ أَدْخَلَ الضَّرَرَ عَلَيْهِمْ بِتَعْيِينِهِ فَصَارَ لَهُمُ الْخِيَارُ بَيْنَ الْتِزَامِ الضَّرَرِ بِالتَّعْيِينِ، وَبَيْنَ الْعُدُولِ إِلَى مَا كَانَ يَسْتَحِقُّهُ الموصي فهذا دليل مالك وما عليه فِي هَذَا الْقَوْلِ.
وَاسْتَدَلَّ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ بِأَنَّ تَعْيِينَ الْمُوصِي لِلْمِائَةِ الْحَاضِرَةِ مِنْ جُمْلَةِ التركة الغائبة، بمنزلة القبول للجاني إذا تعلقت الجناية في رقبته فسيده بالخيار بين أن يفديه بِأَرْشِ جِنَايَتِهِ أَوْ تَسْلِيمِهِ.
فَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، ودليلاه.
ومذهب الشافعي: أن الموصى لَهُ ثُلُثَ الْمِائَةِ الْحَاضِرَةِ، وَثُلُثَاهَا الْبَاقِي مَوْقُوفٌ عَلَى قَبْضِ الدَّيْنِ وَوُصُولِ الْغَائِبِ، لَا يَتَصَرَّفُ فيه الوارث، ولا الموصى له، وإذا قبض الدين ووصل مِنَ الْغَائِبِ مَا يُخْرِجُ الْمِائَةَ كُلَّهَا مِنْ ثُلُثِهِ، أُمْضِيَتِ الْوَصِيَّةُ بِجَمِيعِ الْمِائَةِ.
وَإِنْ وَصَلَ ما يخرج بَعْضَهَا: أُمْضِيَ قَدْرُ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ مِنْهَا. فإن برئ الدين وقدم الْغَائِبُ: اسْتَقَرَّتِ الْوَصِيَّةُ فِي ثُلُثِ الْمِائَةِ الْحَاضِرَةِ، وتصرف الورثة في ثلثينها، لِأَنَّهَا صَارَتْ جَمِيعَ التَّرِكَةِ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا إِذَا انتظر بِالْوَصِيَّةِ قَبْضُ الدَّيْنِ، وَوُصُولُ الْغَائِبِ، هَلْ يُمَكَّنُ الموصى له من التصرف في ثُلُثِ الْمِائَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُمَكَّنُ مِنَ التصرف فيها لأنه ثلث محض.
والوجه الثاني: يمنع من التصرف فيها لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَصَرَّفَ الْمُوصَى لَهُ فِيمَا لَا يَتَصَرَّفُ الْوَرَثَةُ فِي مِثْلَيْهِ، وَقَدْ منع الورثة من التصرف في ثلث الْمِائَةِ الْمَوْقُوفِ، فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ الْمُوصَى لَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الثُّلُثِ الْمُمْضَى.
وَالدَّلِيلُ عَلَى فساد ما ذهب إليه مالك:
أنه يأول إلى أحد أمرين بمنع الوصية منها لأنه إِذَا خُيِّرَ الْوَرَثَةُ بَيْنَ الْتِزَامِ الْوَصِيَّةِ فِي ثلث كل التركة أو إمضاء الوصية في كل الْمِائَةِ.
فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ خَارِجٌ عَنْ حكم الوصية، لأنهم إذا اخْتَارُوا مَنْعَهُ مِنْ كُلِّ الْمِائَةِ، فَقَدْ أَلْزَمَهُمْ ثُلُثُ كُلِّ التَّرِكَةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُوصًى لَهُ.(8/266)
وإن اختاروا ألا يُعْطُوا ثُلُثَ التَّرِكَةِ، فَقَدْ أَلْزَمَهُمْ إِمْضَاءُ الْوَصِيَّةِ بكل المائة، فعلم فساد [دليل] مذهبه بما يأول إليه حال كل واحد من الخيارين.
وأما جعلهم تعيين الوصية بالمائة الحاضرة، أدخل ضرر، فالضرر قد رفعناه بوقف الثلثين فعلى قَبْضِ الدَّيْنِ، وَوُصُولِ الْغَائِبِ، فَصَارَ الضَّرَرُ بِذَلِكَ مُرْتَفِعًا، وَإِذَا زَالَ الضَّرَرُ ارْتَفَعَتِ الْجِنَايَةُ مِنْهُ فَبَطَلَ الْخِيَارُ فِيهِ.
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَاهُ يُفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ:
أَنْ يُوصِيَ بِعِتْقِ عَبْدٍ حَاضِرٍ وَبَاقِي تَرِكَتِهِ الَّتِي يَخْرُجُ كُلُّ الْعَبْدِ من ثلثها دين غائب فيعتق في الْعَبْدِ ثُلُثُهُ وَيُوقَفُ ثُلُثَاهُ عَلَى قَبْضِ الدَّيْنِ ووصول الغائب.
فإذا قبض أوصل منهما، أو من أحدهما كما يَخْرُجُ كُلُّ الْعَبْدِ مِنْ ثُلُثِهِ عَتَقَ جَمِيعُهُ، وهل يمكن الورثة في خلال وقف الثلثين الموقوفين من العبد أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُمَكَّنُونَ مِنْ ذلك لئلا يلزمهم إمضاء الوصية بما لا يَنْتَفِعُوا بِمِثْلَيْهِ وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقُولُ إِنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالْمِائَةِ إِذَا وَقَفَ ثُلُثَيْهَا مُنِعَ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي ثُلُثِهَا اعْتِبَارًا بِالتَّسْوِيَةِ.
فعلى هذا إن تلف الدَّيْنُ، وَتَلِفَ الْغَائِبُ، اسْتَقَرَّ مِلْكُهُمْ عَلَى مَا وقف من ثلثيه وجاز لهم بيعه.
وإن قبض مِنَ الدَّيْنِ أَوْ قَدِمَ مِنَ الْغَائِبِ مَا يُخْرِجُ جَمِيعَهُ مِنْ ثُلُثِهِ رَجَعَ الْعَبْدُ عَلَيْهِمْ بما أخذه مِنْ كَسْبِهِ وَأُجْرَةِ خِدْمَتِهِ، وَلَيْسَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَرْجِعُوا عَلَى الْعَبْدِ بِمَا أَنْفَقُوهُ عَلَيْهِ، أَوِ اسْتَخْدَمُوهُ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُمْ إِجَازَةُ عِتْقِهِ، فصاروا متطوعين بالنفقة عَلَيْهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا يُمْنَعُونَ مِنَ التَّصَرُّفِ بِالْبَيْعِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ نُفُوذُ الْوَصِيَّةِ بِعِتْقِهِ، وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجُوزُ لِلْمُوصَى لَهُ التَّصَرُّفُ فِي ثُلُثِ الْمِائَةِ. وَإِنْ مُنِعَ الْوَرَثَةُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي ثُلُثَيْهَا.
فعلى هذا إن برئ الدَّيْنُ وَتَلِفَ الْغَائِبُ: رَقَّ ثُلُثَاهُ، وَرَجَعَ الْوَرَثَةُ بِثُلُثَيْ كَسْبِهِ.
فَصْلٌ:
فِي الْوَصِيَّةِ بِالْعَيْنِ وَالدَّيْنِ
وَإِذَا مَاتَ رَجُلٌ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ وَتَرَكَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ عَيْنًا، وَعَشَرَةَ دَرَاهِمَ دَيْنًا عَلَى أَحَدِ الِابْنَيْنِ وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ: فَلِلْمُوصَى لَهُ الثلث، ثُلُثُ الْعَيْنِ وَثُلُثُ الدَّيْنِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ، سَهْمٌ لِلْمُوصَى لَهُ، وَيَبْقَى سَهْمَانِ بَيْنَ الِابْنَيْنِ.
وَفِي اسْتِيفَاءِ الِابْنِ حَقَّهُ مِنْ دَيْنِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ يَشْتَرِكُونَ فِي العين والدين فلا يَسْتَوْفِي مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ حَقَّهُ مِنَ الدَّيْنِ لِاسْتِحْقَاقِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمْ فِي الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ كَمَا لَوْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى أَجْنَبِيٍّ.(8/267)
فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْعَشَرَةُ الْعَيْنُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا، يأخذ الموصى له ثلثها، ثلاثة دراهم وثلث، وَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الِابْنَيْنِ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ وثلث وَيَبْرَأُ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ مِنْ ثُلُثِ مَا عَلَيْهِ وَهُوَ قَدْرُ حَقِّهِ، ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ وَيَبْقَى عَلَيْهِ سِتَّةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثَانِ مِنْهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ لِلْمُوصَى لَهُ، وَثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ لِلِابْنِ الْآخَرِ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ لَوْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِالرُّبُعِ أَوِ الْخُمُسِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ من عليه مِنَ الِابْنَيْنِ يُسْتَوْفَى حَقُّهُ مِنْهُ، وَيَخْتَصُّ بِالْعَيْنِ الْمُوصَى لَهُ وَالِابْنُ الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ. وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ سُرَيْجٍ، وَعَلَيْهِ فَرَّعَ، لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِأَنْ يَأْخُذَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ من التركة ما يلزم رده إلى التركة، ويجعل بدل أخذه بقدر حقه ورده قضاها مِنْ دَيْنِهِ.
فَعَلَى هَذَا يَكُونُ وَجْهُ الْعَمَلِ فيه: أن تكون التركة وهي عشرون دينارا عَيْنًا وَدَيْنًا بَيْنَهُمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ، يُسْتَحَقُّ بكل سهم منها في التَّرِكَةِ سِتَّةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثَانِ، فَيَبْرَأُ مَنْ عَلَيْهِ الدين من قدر حقه وهو ستة دراهم وثلثان، من الدين عليه، ويبقى عليه، ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، وَثُلُثٌ.
وَتُقَسَّمُ الْعَشَرَةُ الْعَيْنُ بَيْنَ الموصى له والابن الآخر بالتسوية، فَيَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ خَمْسَةً، وَيَبْقَى لَهُ مِنِ اسْتِكْمَالِ الثُّلُثِ، دِرْهَمٌ وَثُلُثَانِ، يُرْجَعُ بِهِ عَلَى من عليه الدين، ويأخذ الِابْنُ الْآخَرُ خَمْسَةً، وَيُرْجَعُ بِبَاقِي حَقِّهِ، وَهُوَ دِرْهَمٌ وَثُلُثَانِ، عَلَى أَخِيهِ، وَقَدِ اسْتَوْفَوْا جَمِيعًا حُقُوقَهُمْ.
فَعَلَى هَذَا: لَوْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِالرُّبُعِ وَالتَّرِكَةُ بِحَالِهَا. قِيلَ التَّرِكَةُ فِي الْأَصْلِ عَلَى أربعة أسهم سهم وهو الرُّبُعُ لِلْمُوصَى لَهُ، وَيَبْقَى ثَلَاثَةٌ بَيْنَ الِابْنَيْنِ لا تصح، فابسطها من ثمانية يخرج الكسر منها فتقسم العشرون الْعَيْنَ وَالدَّيْنَ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ، سَهْمَانِ مِنْهَا لِلْمُوصَى لَهُ بِالرُّبُعِ، وَثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ لِكُلِّ ابْنٍ فَيَسْقُطُ مِنْ دَيْنِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ قَدْرُ حَقِّهِ مِنْ جَمِيعِ التَّرِكَةِ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَثْمَانِ العشرين، سبعة دراهم ونصف، وَتُقَسَّمُ الْعَشَرَةُ الْعَيْنُ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ، وَالِابْنِ الْآخَرُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ، فَيَأْخُذُ الْمُوصَى لَهُ بسهم منها أربعة درهم ويأخذ الابن بثلاثة أَسْهُمٍ مِنْهَا سِتَّةَ دَرَاهِمَ، وَيَبْقَى عَلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ دِرْهَمَانِ وَنِصْفٌ وَهِيَ بَيْنَ أَخِيهِ وَالْمُوصَى لَهُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ مِنْهَا لِأَخِيهِ ثَلَاثَةُ أسهم، درهم ونصف، يَنْضَمُّ إِلَى مَا أَخَذَهُ مِنَ الْعَيْنِ وَهُوَ ستة، تصير سبعة دراهم ونصف وَهُوَ جَمِيعُ حَقِّهِ.
وَلِلْمُوصَى لَهُ مِنْ بَقِيَّةِ الدين سهمين، دِرْهَمٌ وَاحِدٌ، يَنْضَمُّ إِلَى مَا أَخَذَهُ مِنَ العين وهو أربعة، تصير خمسة دراهم وهم جميع الربع الذي أوصى لَهُ بِهِ.
وَعَلَى هَذَا: لَوْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِالْخُمُسِ، كَانَتِ التَّرِكَةُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ، مِنْهَا سَهْمٌ لِلْمُوصَى لَهُ، وَسَهْمَانِ لِكُلِّ ابْنٍ فَيَأْخُذُ صاحب الدين سهمين مِنْ دَيْنِهِ وَهُوَ ثَمَانِيَةُ دَرَاهِمَ، وَيَبْقَى عَلَيْهِ دِرْهَمَانِ وَتَكُونُ الْعَشَرَةُ الْعَيْنُ بَيْنَ أَخِيهِ وَالْمُوصَى له ثلاثة أسهم، سهمان لِلْأَخِ، سِتَّةُ دَرَاهِمٍ وَثُلُثَانِ، وَسَهْمٌ لِلْمُوصَى لَهُ، ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ، وَيَكُونُ الدِّرْهَمَانِ الْبَاقِيَانِ عَلَى(8/268)
صَاحِبِ الدَّيْنِ بَيْنَ أَخِيهِ، وَالْمُوصَى لَهُ عَلَى ثلاثة، ثلثاه لأخيه وهو درهم وثلث ويصير مَعَ مَا أَخَذَهُ ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ، وَثُلُثُهُ لِلْمُوصَى له وهو ثلثي دِرْهَمٍ، يَصِيرُ مَعَ مَا أَخَذَهُ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ. ثم يتفرع على هذا الوجه.
والمسألة الثانية: أن يكون عَلَى الِابْنِ مَعَ دَيْنِ أَبِيهِ، عَشَرَةُ دَرَاهِمَ دين لِأَجْنَبِيٍّ، وَقَدْ فَلَّسَ بِهَا فِي حَالِ حَيَاةِ الْأَبِ.
فَفِيمَا يَسْتَحِقُّهُ الِابْنُ مِنَ الْعَشَرَةِ الْعَيْنِ وجهان ذكرهما ابْنُ سُرَيْجٍ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِهَا أَخُوهُ الموصى لَهُ، دُونَ غَرِيمِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ مِنْهَا بِإِزَائِهِ مِنْ دَيْنِهِ، فَيَكُونُ الْجَوَابُ عَلَى مَا مَضَى، وَيَبْقَى عَلَيْهِ دَيْنُ الْغَرِيمِ بِكَمَالِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ حَقَّهُ مِنَ الْعَيْنِ مَالٌ مُكْتَسَبٌ، فلا يختص به بعض الدَّيْنِ وَيَسْتَوِي فِيهِ شُرَكَاؤُهُ وَالْغَرِيمُ.
وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ تَخْرِيجُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ قوليه فِي الشُّفْعَةِ، إِذَا وَرِثَ الْأَخَوَانِ دَارًا، ثُمَّ مات أحدهما وخلف ابنين، فباع أحد الابنين حقه في الدَّارِ فَفِي مُسْتَحِقِّ الشُّفْعَةِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لأخيه والموصى له دون عمه.
والثاني: أن الشفعة بَيْنَ أَخِيهِ وَعَمِّهِ.
فَعَلَى هَذَا تَكُونُ حِصَّةُ صاحب الدين بين أخيه والموصى له وغريمه.
فإذا قيل بهذا الوجه. فطريق العمل به أن يقال: يبرأ صَاحِبُ الدَّيْنِ مِنْ ثُلُثِ دَيْنِهِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ دراهم وثلث قدر حقه منه، عَلَيْهِ ثُلُثَاهُ سِتَّةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثَانِ ثُمَّ تُقَسَّمُ الْعَشَرَةُ الْعَيْنُ أَثْلَاثًا وَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُوصَى لَهُ وَالْأَخِ ثُلُثَهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ، وَيَبْقَى ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ هِيَ حِصَّةُ صَاحِبِ الدَّيْنِ، فَتُقَسَّمُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ عَلَى قَدْرِ دُيُونِهِمْ، والذي عليه لأخيه ثلاثة دراهم وثلث قدر مِيرَاثِهِ مِنْ دَيْنِهِ، وَلِلْمُوصَى لَهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ قَدْرُ الْوَصِيَّةِ لَهُ مِنْ دَيْنِهِ، وَعَلَيْهِ لِغَرِيمِهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، فَتُقَسَّمُ الثَّلَاثَةُ وَالثُّلُثُ بَيْنَهُمْ على خمسة أسهم، ويأخذ الأخ بسهمه مِنْهَا، ثُلُثَيْ دِرْهَمٍ، وَيَبْقَى لَهُ دِرْهَمَانِ وَثُلُثَانِ، ويأخذ الموصى له بسهم منها وَيَبْقَى لَهُ دِرْهَمَانِ وَثُلُثَانِ، وَيَأْخُذُ الْغَرِيمُ بِثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ مِنْهَا، دِرْهَمَيْنِ، وَيَبْقَى لَهُ ثَمَانِيَةُ دَرَاهِمَ.
ثم يتفرع على هذا أن يترك عَشَرَةً عَيْنًا، وَعَشَرَةً دَيْنًا عَلَى أَحَدِ ابْنَيْهِ وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُمَا، وَيُوصِي لِرَجُلٍ بِثُلُثَيْ دَيْنِهِ، فَتُقَسَّمُ الْعَشَرَةُ الْعَيْنُ نِصْفَيْنِ، يَأْخُذُ الِابْنُ الذي لا دين عليه نصفها خمسة، ويبقى خَمْسَةٌ هِيَ حِصَّةُ الِابْنِ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ، فتصرف فِيمَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنِهِ، وَفِي مُسْتَحِقِّهَا وجهان حكاهما ابن سريج بنيا عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تُقَسَّمُ بَيْنَ أَخِيهِ، وَبَيْنَ الْمُوصَى لَهُ، بِثُلُثَيِ الدَّيْنِ عَلَى قَدْرِ حِصَّتِهِمَا، وَذَلِكَ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ، لِأَنَّ الْبَاقِيَ لِأَخِيهِ، دِرْهَمٌ وَثُلُثَانِ وَلِلْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ الدَّيْنِ سِتَّةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثَانِ، فَيَكُونُ لِلْأَخِ سَهْمٌ من الخمسة ويأخذ به من الخمسة درهما واحدا، ويبقى(8/269)
من حقه ثلث درهم، ويرجع بِهِ عَلَى أَخِيهِ، وَيَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ مِنْ خَمْسَةٍ، وَيَأْخُذُ بِهَا مِنَ الْخَمْسَةِ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، وَيَبْقَى لَهُ مِنْ وَصِيَّتِهِ دِرْهَمَانِ وثلثان، ويرجع بِهَا عَلَى الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ، وَقَدْ بَرِئَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ مِنْ سِتَّةِ دَرَاهِمَ وَثُلُثَيْنِ.
والوجه الثاني: أن الخمسة العين الَّتِي هِيَ حِصَّةُ الِابْنِ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ مِنَ الْعَيْنِ مُخْتَصٌّ بِهَا الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثَيِ الدَّيْنِ دُونَ الْأَخِ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ إِلَى الأخ منها أربعة، لِلْمُوصَى لَهُ مِنْ بَقِيَّةِ ثُلُثَيِ الدَّيْنِ دِرْهَمٌ وثلثان، ويرجع به على من عليه الدين، ويبقى للآخر دِرْهَمٌ وَثُلُثَانِ، يَرْجِعُ بِهِ عَلَى أَخِيهِ.
وَفِي هَذَا الْفَصْلِ مِنْ دَقِيقِ الْمَسَائِلِ فِقْهٌ وَحِسَابٌ، وما أغفلناه كَرَاهَةَ الْإِطَالَةِ وَالضَّجَرِ (وَاللَّهُ الْمُعِينُ وَبِهِ التَّوْفِيقُ) .
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِلْمَسَاكِينِ نُظِرَ إِلَى مَالِهِ فَقُسِّمَ ثُلُثُهُ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: ولو أوصى بثلثه لِلْمَسَاكِينِ دَخَلَ مَعَهُمُ الْفُقَرَاءُ، وَلَوْ أَوْصَى بِهِ لِلْفُقَرَاءِ دَخَلَ مَعَهُمُ الْمَسَاكِينُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: " لِأَنَّ الفقير مسكين، والمسكين فقير، وإنما يتميز الطرفان، إذا جمع بينهما بالذكر " اهـ.
فَالْفَقِيرُ هُوَ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ، وَلَا كَسْبَ.
وَالْمِسْكِينُ: هُوَ الَّذِي لَهُ مَالٌ أَوْ كَسْبٌ لَا يُغْنِيهِ.
فَالْفَقِيرُ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ المسكين على ما يستدل عَلَيْهِ فِي قَسْمِ الصَّدَقَاتِ.
فَإِذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْمَسَاكِينِ.
قُسِّمَ فِي ثَلَاثَةٍ فَصَاعِدًا مِنَ الْمَسَاكِينِ أَوْ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ. أَوْ مِنَ الفقراء دون المساكين.
وهكذا إذا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْفُقَرَاءِ.
قُسِّمَ فِي ثَلَاثَةٍ فَصَاعِدًا مِنَ الْفُقَرَاءِ، أَوْ مِنَ الْمَسَاكِينِ وَالْفُقَرَاءِ، أَوْ مِنَ الْمَسَاكِينِ دُونَ الْفُقَرَاءِ، لِأَنَّ كِلَا الصِّنْفَيْنِ فِي الِانْفِرَادِ وَاحِدٌ.
ثُمَّ قُسِّمَ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ حَاجَاتِهِمْ فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ من يستغني بمائة ومنهم من يستغني بخمسين أعطى من غناه مائة سهمان وأعطى من غناه خمسين سهما واحدا.
ولا يفضل ذو قرابة بقرابته، وَإِنَّمَا يُقَدَّمُ ذُو الْقَرَابَةِ عَلَى غَيْرِهِ إِذَا كان فقيرا لقرابته لأن للعطية لَهُ صَدَقَةٌ، وَصِلَةٌ، وَمَا جَمَعَ ثَوَابَيْنِ كَانَ أفضل من التفرد بأحدهما.
فإذا صُرِفَ الثُّلُثُ فِي أَقَلِّ مِنْ ثَلَاثَةٍ مِنَ الفقراء والمساكين ضمن.
فإن صرفه حصته فِي اثْنَيْنِ كَانَ فِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ وجهان:(8/270)
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ: أَنَّهُ يَضْمَنُ ثُلُثَ الثُّلُثِ، لِأَنَّ أقل الأجزاء ثلاثة، والظاهر مساوتهم فِيهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَضْمَنُ مِنَ الثُّلُثِ قدر ما لو دفعه إلى ثالث أخر، فَلَا يَنْحَصِرُ بِالثُّلُثِ، لَأَنَّ لَهُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمْ وَالتَّفْضِيلَ.
وَلَوْ كَانَ اقْتَصَرَ عَلَى وَاحِدٍ، فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ أَنَّهُ يَضْمَنُ ثُلُثَيِ الثُّلُثِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَضْمَنُ أَقَلَّ مَا يُجْزِئُهُ فِي الدَّفْعِ إِلَيْهِمَا.
فَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ: صرف الثلث في الصنفين بالتسوية ودفع السدس إلى الفقراء، وأقلهم ثلاثة، وإن صرفه في أحد الصنفين ضمن السدس للنصف الْآخَرِ وَجْهًا وَاحِدًا.
ثُمَّ عَلَيْهِ صَرْفُ الثُّلُثِ فِي فُقَرَاءِ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْمَالُ، دُونَ الْمَالِكِ، كَالزَّكَاةِ، فَإِنْ تَفَرَّقَ مَالُهُ: أَخْرَجَ فِي كُلِّ بَلَدٍ ثُلُثَ مَا فِيهِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدُوا فِيهِ، نُقِلَ إِلَى أَقْرَبِ الْبِلَادِ إِلَيْهِ كَمَا قُلْنَا فِي زَكَاةِ الْمَالِ. فَأَمَّا زَكَاةُ الفطر ففيه وجهان:
أحدهما: أنها تُخْرَجُ فِي بَلَدِ الْمَالِ، دُونَ الْمَالِكِ كَزَكَاةِ الْمَالِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تُخْرَجُ فِي بَلَدِ الْمَالِكِ، دُونَ الْمَالِ، لِأَنَّهَا عَنْ فِطْرَةِ بَدَنِهِ، وطهور لِصَوْمِهِ.
فَإِنْ نَقَلَ الزَّكَاةَ عَنْ بَلَدِ الْمَالِ إِلَى غَيْرِهِ كَانَ فِي الْإِجْزَاءِ قَوْلَانِ.
فَأَمَّا نَقْلُ الْوَصِيَّةِ: فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا: فَمِنْهُمْ مَنْ خرجه عَلَى قَوْلَيْنِ كَالزَّكَاةِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يُجْزِئُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ أَسَاءَ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ عَطِيَّةٌ مِنْ آدَمِيٍّ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَضَعَهَا حَيْثُ شاء.
فصل:
فإذا فرق الثلث فيما وَصَفْنَا مِنَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، لَمْ يَمْلِكُوهُ إِلَّا بالقبول وَالْقَبْضِ، قَوْلًا وَاحِدًا، وَهَكَذَا كُلُّ وَصِيَّةٍ عُلِّقَتْ بِصِفَةٍ لَا يَلْزَمُ اسْتِيعَابُ جِنْسِهَا وَإِنَّمَا الْقَوْلَانِ فِيمَنْ كَانَ مُسَمًّى فِي الْوَصِيَّةِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ مَنْ تَعَيَّنَ بِالْعَطِيَّةِ لَمْ يَمْلِكْ إِلَّا بِهَا، وَمَنْ تَعَيَّنَ بِالْوَصِيَّةِ مَلَكَ بِهَا.
مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وكذلك لو أوصى لغازين في سبيل الله فهم الذين من الْبَلَدِ الَّذِي بِهِ مَالُهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ: إِذَا جُعِلَ ثُلُثُ مَالِهِ مَصْرُوفًا فِي الْغَارِمِينَ.
وَالْغَارِمُونَ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ اسْتَدَانُوا فِي الْمَصَالِحِ العامة كتحمل للدية " العمد " أَوْ غُرْمِ مَالٍ فِي إِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، أو تيسير الحج، أو إصلاح سبيلهم.
فَهَذَا الصِّنْفُ مِنَ الْغَارِمِينَ، لَا يُرَاعَى فَقْرُهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَوْا مَعَ الْغِنَى.(8/271)
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَسْتَدِينُوا فِي مَصَالِحِ أَنْفُسِهِمْ، فَيُرَاعَى فِيهِمُ الْفَقْرُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَوْا مع الغنى والقدرة.
ثم ينظر فيما استدانوا: فَإِنْ كَانُوا صَرَفُوهُ فِي مُسْتَحَبٍّ أَوْ مُبَاحٍ: أُعْطَوْا، وَإِنْ صَرَفُوهُ فِي مَعْصِيَةٍ: فَإِنْ لَمْ يَتُوبُوا مِنْهَا لَمْ يُعْطَوْا، لِمَا فِي إِعْطَائِهِمْ مِنْ إِعَانَتِهِمْ عَلَيْهَا وَإِغْرَائِهِمْ بِهَا.
وَإِنْ تَابُوا فَفِي إِعْطَائِهِمْ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: " لَا يُعْطَوْنَ " لِهَذَا الْمَعْنَى.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُعْطَوْنَ لِارْتِفَاعِهَا بِالتَّوْبَةِ.
وَأَقَلُّ ما يصرف الثلث في ثلاثة فصاعدا في الْغَارِمِينَ، وَأَيُّ الصِّنْفَيْنِ أَعْطَى مِنْهُمْ أَجْزَأَ، وَيَكُونُ مَا يُعْطِيهِمْ بِحَسْبِ غُرْمِهِمْ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَيُعْطِي مَنْ لَهُ الدَّيْنُ عَلَيْهِمْ، أَحَبُّ إِلَيَّ، وَلَوْ أَعْطَوْهُ فِي دَيْنِهِمْ، رَجَوْتُ أَنْ يَسَعَ ".
فَإِنْ صرفه في اثنين: غرم للثالث، وَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ ثُلُثَ الثُّلُثِ.
وَالثَّانِي: أنه يضمن أقل ما يجزئه أن يعطيه ثالثا ويكون ذلك خاصا بغارمي بلد المال، ومن كَانَ مِنْهُمْ ذَا رَحِمٍ، أَوْلَى لِمَا فِي صِلَتِهَا مِنْ زِيَادَةِ الثَّوَابِ، فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا فَجِيرَانُ الْمَالِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ، وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} [النساء: 36] .
وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أنه سيورثه ".
قال الشافعي: " وأقصى الجوار بينهم أربعين دارا، من كل ناحية " اهـ. هكذا لو أوصى لجيرانه، كان جيرانه منتهى أربعين دَارًا مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: الْجَارُ: الدار والداران.
وقال سعيد بن جبير: الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْإِقَامَةَ.
وَقَالَ أبو يوسف: هُمْ أَهْلُ الْمَسْجِدِ.
وَدَلِيلُنَا: مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا كَانَ نَازِلَا بَيْنَ قَوْمٍ فَأَتَى النبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ليشكوهم، فبعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَقَالَ: اخْرُجُوا إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ وَقُولُوا: أَلَا إِنَّ الْجِوَارَ أَرْبَعُونَ دَارًا ".
فَصْلٌ:
وَلَوْ أَوْصَى بِإِخْرَاجِ ثُلُثِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
وَجَبَ صَرْفُهُ في الغزاة - كما قلنا فِي الزَّكَاةِ - وَيُصْرَفُ ذَلِكَ فِي ثَلَاثَةٍ فَصَاعِدًا من غزاة(8/272)
الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ مَالُهُ، عَلَى حَسَبِ مَغَازِيهِمْ، في القرب، والبعد، ومن كَانَ مِنْهُمْ فَارِسًا، أَوْ رَاجِلًا، فَإِنْ لَمْ يُوجَدُوا فِي بَلَدِ الْمَالِ، نُقِلَ إِلَى أَقْرَبِ البلاد فيه.
فَصْلٌ:
وَلَوْ أَوْصَى بِإِخْرَاجِ ثُلُثِهِ فِي بَنِي السَّبِيلِ.
صُرِفَ فِيمَنْ أَرَادَ سَفَرًا، إِذَا كَانَ فِي بَلَدِ الْمَالِ سَوَاءٌ كَانَ مُجْتَازًا، أَوْ مبتدئا بالسفر.
فَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِهِ فِي الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ: صُرِفَ فِيهِمْ وَهُمْ أَهْلُ سُهْمَانِ الزَّكَاةِ وَقُسِّمَ بَيْنَ أصنافهم بالتسوية وَجَازَ تَفْضِيلُ أَهْلِ الصِّنْفِ، بِحَسْبِ الْحَاجَةِ، كَمَا قُلْنَا فِي الزَّكَاةِ، إِلَّا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ الزَّكَاةَ إِذَا عُدِمَ صِنْفٌ مِنْهَا، رد على باقي الأصناف. وإذا عدم في الوصية أهل صنف لم يرد عَلَى بَاقِي الْأَصْنَافِ وَنُقِلَ إِلَى أَهْلِ ذَلِكَ الصِّنْفِ فِي أَقْرَبِ بَلَدٍ يُوجَدُونَ فِيهِ. فَإِنْ عدموا، رجع سهمهم إِلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَالزَّكَاةِ: أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَمَّا تَعَيَّنَتْ لِلْأَشْخَاصُ، تَعَيَّنَتْ لِلْأَصْنَافِ، والزكاة لَمَّا لَمْ تَتَعَيَّنْ لِلْأَشْخَاصِ، لَمْ تَتَعَيَّنْ لِلْأَصْنَافِ.
فَصْلٌ:
وَلَوْ قَالَ: اصْرِفُوا ثُلُثِي فِي سَبِيلِ الْخَيْرِ، أَوْ فِي سَبِيلِ الْبِرِّ، أَوْ فِي سبيل الثواب.
قال الشافعي: " جزأ أَجْزَاءً، فَأُعْطِيَ ذُو قَرَابَتِهِ فُقَرَاءً كَانُوا أَوْ أغنياء، والفقراء، والمساكين، وفي الرقاب، والغارمين، والغزاة، وَابْنِ السَّبِيلِ، وَالْحَاجِّ، وَيَدْخُلُ الضَّيْفُ، وَالسَّائِلُ، وَالْمُعْتَرُّ فِيهِمْ ".
فَإِنْ لَمْ يَفْعَلِ الْمُوصِي: ضَمِنَ سَهْمَ مَنْ مَنَعَهُ إِذَا كَانَ مَوْجُودًا.
فَصْلٌ:
وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ إِلَى رَجُلٍ يَضَعُهُ حَيْثُ رآه.
لم يكن له أن يأخذ لِنَفْسِهِ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا. لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِصَرْفِهِ لَا بِأَخْذِهِ.
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يصرف إلى وارث للموصي، وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا، لِأَنَّ الْوَارِثَ مَمْنُوعٌ مِنَ الْوَصِيَّةِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ عِنْدَ نَفْسِهِ، وَلَا أَنْ يُودِعَهُ غَيْرَهُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " وَأَخْتَارُ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ أَهْلَ الْحَاجَةِ مِنْ قَرَابَةِ الْمَيِّتِ حَتَّى يُغْنِيَهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ وَلَيْسَ الرَّضَاعُ قَرَابَةً. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ له قرابة من جهة الأب والأم، وكان رضيعا، أَحْبَبْتُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَضِيعٌ: أَحْبَبْتُ أَنْ يُعْطِيَ جِيرَانَهُ، الْأَقْرَبَ مِنْهُمْ فَالْأَقْرَبَ، وَأَقْصَى الْجِوَارِ مُنْتَهَى أَرْبَعِينَ دَارًا مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَأُحِبُّ أَنْ يُعْطِيَهُ أَفْقَرَ مَنْ يجده، وأشدهم تعففا، واستئثارا، وَلَا يُبْقِي فِي يَدِهِ شَيْئًا يُمْكِنُهُ أَنْ يخرجه من ساعته ".
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ أَوْصَى لَهُ فَقَبِلَ أَوْ رَدَّ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي كَانَ لَهُ قَبُولُهُ وَرَدُّهُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَسَوَاءٌ أَوْصَى لَهُ بِأَبِيهِ أَوْ غَيْرِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَشْتَمِلُ عَلَى أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْعَطِيَّةُ.
وَالثَّانِي: الْوِلَايَةُ.(8/273)
فَأَمَّا الْعَطِيَّةُ: فَهُوَ مَا يُوصِي بِهِ الرَّجُلُ مِنْ أَمْوَالِهِ، لِمَنْ أَحَبَّ. فَالْوَقْتُ الَّذِي يَصِحُّ فِيهِ قَبُولُ ذَلِكَ وَرَدُّهُ، بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي.
فَإِنْ قَبِلَ أَوْ رَدَّ بَعْدَ مَوْتِهِ: صَحَّ وَكَانَ عَلَى مَا مَضَى مِنْ حُكْمِ الْقَبُولِ وَالرَّدِّ.
فَأَمَّا فِي حَيَاةِ الْمُوصِي: فَلَا يَصِحُّ قَبُولُهُ وَلَا رَدُّهُ.
وَقَالَ أبو حنيفة: " يَصِحُّ الرَّدُّ وَلَا يَصِحُّ الْقَبُولُ، لِأَنَّ الرَّدَّ أَوْسَعُ حكما من القبول " اهـ.
وَهَذَا فَاسِدٌ لِأُمُورٍ مِنْهَا.
إِنَّ الرَّدَّ فِي مُقَابَلَةِ الْقَبُولِ، لِأَنَّهُمَا مَعًا يَرْجِعَانِ إِلَى الْوَصِيَّةِ، فَلَمَّا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَ الْمَوْتِ زَمَانًا لِلْقَبُولِ، امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ زَمَانًا لِلرَّدِّ، وَصَارَ كَزَمَانِ مَا قَبْلَ الْوَصِيَّةِ الَّذِي لَا يَصِحُّ فِيهِ قَبُولٌ، وَلَا رَدٌّ وَعَكْسُهُ مَا بعد الموت كما صَحَّ فِيهِ الْقَبُولُ، صَحَّ فِيهِ الرَّدُّ.
وَمِنْهَا: إِنَّ الرَّدَّ فِي حَالِ الْحَيَاةِ عَفْوٌ قَبْلَ وَقْتِ الِاسْتِحْقَاقِ، فَجَرَى مَجْرَى الْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ قَبْلَ وُجُوبِهِ، وَعَنِ الشُّفْعَةِ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهَا.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ قَبْلَ الْمَوْتِ مَرْدُودٌ عَنِ الْوَصِيَّةِ، فَلَمْ يكن رده له مُخَالِفًا لِحُكْمِهَا.
فَصْلٌ:
قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَسَوَاءٌ أَوْصَى له بأبيه، أو غيره " اهـ. وَهَذَا قَالَهُ رَدًّا عَلَى طَائِفَتَيْنِ، زَعَمَتْ إِحْدَاهُمَا أَنَّ مَنْ أَوْصَى لَهُ بِأَبِيهِ وَأُمِّهِ أَوْ بِابْنِهِ فَعَلَيْهِ قَبُولُ الْوَصِيَّةِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ رَدُّهَا.
وَزَعَمَتِ الثَّانِيَةُ أَنَّهُ إِذَا قَبِلَ الْوَصِيَّةَ بِأَبِيهِ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي: صَحَّ الْقَبُولُ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُ الرَّدُّ بَعْدَ الْمَوْتِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْوَصَايَا.
وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ عِنْدَنَا خَطَأٌ، وَيَكُونُ مُخَيَّرًا بَعْدَ الْمَوْتِ فِي قَبُولِهِ وَرَدِّهِ كَغَيْرِهِ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ.
فَعَلَى هَذَا إِنْ قَبِلَ الْوَصِيَّةَ بِأَبِيهِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي عتق عليه ثم نظر.
فإن كان قبوله صحيحا: ورثه أبوه لو مات.
فلو كَانَ عِنْدَ قَبُولِهِ مَرِيضًا كَانَ فِي مِيرَاثِهِ لَوْ مَاتَ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَرِثُ، لِأَنَّ عِتْقَهُ بِالْقَبُولِ وَصِيَّةٌ لَا تَصِحُّ لِوَارِثٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ يَرِثُ، لِأَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْ ثَمَنَهُ مِنْ مَالِهِ فَيَكُونُ وصية منه.
فعلى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ: لَوْ قَبِلَهُ فِي مَرَضِهِ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، يُعْتَقُ ثُلُثُهُ، وَيَرِقُّ ثُلُثَاهُ، لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ لَهُ وَلَيْسَ الوصية مِنْهُ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْوَصِيَّةُ بالولاية على مال طفل، وتفريق ثلثه، أَوْ تَنْفِيذِ وَصِيَّةٍ، فَيَصِحُّ قَبُولُهَا وَرَدُّهَا فِي حَيَاةِ الْمُوصِي، وَبَعْدَ مَوْتِهِ، بِخِلَافِ وَصَايَا الْعَطَايَا.
لِأَنَّ هَذَا عَقْدٌ، فَكَانَ قَبُولُهُ فِي حَيَاةِ العاقد أصح وتلك عَطِيَّةٌ تُقْبَلُ فِي زَمَانِ التَّمْلِيكِ، وَقَبُولُهَا عَلَى التَّرَاخِي مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ تَنْفِيذُ الْوَصَايَا.(8/274)
ولو رد الوصية في حال حَيَاةِ الْمُوصِي، لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبُولُهَا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَا فِي حَيَاتِهِ.
وَلَوْ قَبِلَهَا فِي حَيَاةِ الْمُوصِي، صَحَّتْ، وَكَانَ لَهُ الْمُقَامُ عَلَيْهَا إن شاء، والخروج منها إن شَاءَ، فِي حَيَاةِ الْمُوصِي، وَبَعْدَ مَوْتِهِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: لَيْسَ لَهُ الْخُرُوجُ مِنَ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَيَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ مِنْهَا فِي حَيَاتِهِ، إِذَا كَانَ حَاضِرًا، وَإِنْ غَابَ، لَمْ يَجُزْ.
وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ مَا كَانَ لَازِمًا مِنَ الْعُقُودِ اسْتَوَى حُكْمُهُ فِي الْحَيَاةِ، وَبَعْدَ الْمَوْتِ، وَمَا كَانَ غَيْرَ لَازِمٍ بَطَلَ بِالْمَوْتِ، وَالْوَصِيَّةُ إِنْ خَرَجَتْ عَنْ أَحَدِهِمَا صَارَتْ أَصْلًا يَفْتَقِرُ إِلَى دَلِيلٍ.
والثاني: أنه لو كان حضور صاحب الحق شَرْطًا فِي الْخُرُوجِ مِنَ الْوَصِيَّةِ، لَكَانَ رِضَاهُ مُعْتَبَرًا، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ رِضَاهُ وَإِنْ كان حاضرا غير معتبر دليل على أنه ليس بشرط.
فَصْلٌ:
وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ أَبَاهُ فِي مَرَضِ موته، بمائة درهم، هي قدر ثلثه، لأنه لا يملك سوى ثلثمائة دِرْهَمٍ عُتِقَ عَلَيْهِ مِنَ الثُّلُثِ، وَلَمْ يَرِثْهُ، لِأَنَّ عِتْقَهُ إِذَا كَانَ فِي الثُّلُثِ وَصِيَّةٌ وَلَا يُجْمَعُ لَهُ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَالتَّوْرِيثِ. وَلَوْ وَرِثَ لَمُنِعَ الْوَصِيَّةَ، وَلَوْ مُنِعَهَا لَبَطَلَ الْعِتْقُ والشراء، وإذا بطل الْعِتْقُ وَالشِّرَاءُ، بَطَلَ الْمِيرَاثُ، فَلَمَّا كَانَ تَوْرِيثُهُ، يُفْضِي إِلَى إِبْطَالِ الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ، أَثْبَتْنَا الْوَصِيَّةَ، وَأَبْطَلْنَا الْمِيرَاثَ.
فَلَوِ اشْتَرَى بَعْدَ أَنْ عَتَقَ أبوه عَبْدًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَأَعْتَقَهُ، كَانَ عِتْقُهُ بَاطِلًا لأنه قد اشترى ثُلُثَهُ بِعِتْقِ أَبِيهِ، فَرُدَّ عَلَيْهِ عِتْقُ مَنْ سِوَاهُ.
وَلَوْ كَانَ قَبْلَ شِرَاءِ أَبِيهِ أَعْتَقَ عَبْدًا هُوَ جَمِيعُ ثُلُثِهِ، ثُمَّ اشْتَرَى أَبَاهُ وَلَيْسَ لَهُ ثُلُثٌ يَحْتَمِلُهُ، وَلَا شَيْئا مِنْهُ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: إِنَّ الشِّرَاءَ بَاطِلٌ، لأنه لو صح، لثبت الملك، لو ثَبَتَ الْمِلْكُ لَنَفَذَ الْعِتْقُ، وَالْعِتْقُ لَا يَنْفُذُ جَبْرًا فِيمَا جَاوَزَ الثُّلُثَ، فَكَذَلِكَ كَانَ الشِّرَاءُ باطلا، وسواء أفاد بعد ذلك، ما خرج ثَمَنَ الْأَبِ مِنْ ثُلُثِهِ، أَوْ لَمْ يُفِدْ، لِفَسَادِ الْعَقْدِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ الشِّرَاءَ لَازِمٌ صحيح، لأنه لم يقترف بِالْعَقْدِ مَا يُفْسِدُهُ وَإِنَّمَا عِتْقُهُ بِالْمِلْكِ حَالٌ يَخْتَصُّ بِالْعَاقِدِ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي فَسَادِ الْعَقْدِ.
فَعَلَى هَذَا: يُسْتَبْقَى رِقُّ الْأَبِ، عَلَى مِلْكِ ولده، وإن أَفَادَ مَا يُخَرَّجُ بِهِ مِنْ ثَمَنُ الْأَبِ مِنْ ثُلُثِهِ، عَتَقَ وَلَمْ يَرِثْ وَإِنْ لَمْ يَسْتَفِدْ شَيْئًا، كَانَ عَلَى رِقِّهِ، فَإِذَا مَاتَ الِابْنُ الْمُشْتَرِي، صَارَ الْأَبُ مَوْرُوثًا لِوَرَثَةِ ابْنِهِ.
فَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِمُ الْأَبُ، لِأَنَّهُمْ إِخْوَةٌ، أَوْ بَنُونَ، عُتِقَ عَلَيْهِمْ بِمِلْكِهِمْ لَهُ بِالْمِيرَاثِ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْوَرَثَةُ مِمَّنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِمُ الْأَبُ، لِأَنَّهُمْ أَعْمَامٌ أَوْ بَنُو أَعْمَامٍ كَانَ مِلْكُهُمْ مَوْقُوفًا.(8/275)
والوجه الثالث: أن الشراء موقوف فَإِنْ أَفَادَ الِابْنُ مَا يُخْرِجُ بِهِ عَنِ الْأَبِ مِنْ ثُلُثِهِ، عُتِقَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَرِثْهُ، وَإِنْ أَبْرَأَهُ الْبَائِعُ مِنْ ثَمَنِهِ، عُتِقَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ صَارَ كَالْمَوْهُوبِ لَهُ، وَفِي مِيرَاثِهِ وَجْهَانِ، لِأَنَّ عِتْقَهُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ ثَمَنٍ.
وَإِنْ لَمْ يُفِدْ شَيْئًا، وَلَا أُبْرِئَ مِنْ ثَمَنِهِ، فُسِخَ الْبَيْعُ حِينَئِذٍ، وَرُدَّ الْأَبُ عَلَى الْبَائِعِ، لِأَنَّهُ لا يجوز أن يملك الابن أباه، فلا يُعْتَقُ عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ فُسِخَ الْعَقْدُ فِيهِ.
وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ: حَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ: حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ.
فَعَلَى هَذَا لَوِ اشْتَرَى الِابْنُ أَبَاهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، وَثَمَنُهُ خَارِجٌ مِنْ ثُلُثِهِ ثُمَّ مَاتَ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يستوعب جميع تركته.
فإن أمضى الغرماء ما أعتقه نَفَذَ، وَإِنْ رَدُّوهُ فَهُوَ عَلَى الرِّقِّ، وَفِي بطلان الشراء وجهان:
أحدهما: باطل، لئلا يستبقى ملك الابن لأبيه.
والوجه الثاني: جَائِزٌ، وَيُبَاعُ فِي دَيْنِهِ، لِعَجْزِ الثُّلُثِ عَنْ ثَمَنِهِ.
ثُمَّ يَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا: لَوْ وُهِبَ أَبُوهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، فَقَبِلَهُ وَقَبَضَهُ، وَكَانَتْ عَلَيْهِ دُيُونٌ تَسْتَوْعِبُ جَمِيعَ تَرِكَتِهِ، لَمْ تَبْطُلِ الهبة. وهل ينفذ عتقه، أو يباع دُيُونِ غُرَمَائِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ عِتْقَهُ نَافِذٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَهْلِكْ عَلَى غُرَمَائِهِ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ عِتْقَهُ يُرَدُّ، كما يرد عتق المباشرة، وتباع دُيُونِ غُرَمَائِهِ، لِأَنَّ دُيُونَهُمْ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْعِتْقِ في المرض. والله أعلم.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ولو أوصى بدار كَانَتْ لَهُ وَمَا ثَبَتَ فِيهَا مِنَ أَبْوَابِهَا وَغَيْرِهَا دُونَ مَا فِيهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إِذَا كَانَتْ بِالدَّارِ، دَخَلَ فِيهَا كُلُّ مَا كَانَ مِنَ الدَّارِ وَلَهَا. وَلَمْ يَدْخُلْ فِي الْوَصِيَّةِ كُلُّ مَا كَانَ في الدار إلا لم يكن منها.
الداخل في الوصية: حيطانها، وسقوفها، وأبوابها المنصوبة عليه، وَمَا كَانَ مُتَّصِلًا بِهَا مِنْ زُخْرُفِهَا، وَدَرَجِهَا.
وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهَا مَا انْفَصَلَ عَنْهَا مِنْ أبوابها، ورفوفها، وسلالمها الْمُنْفَصِلَةِ عَنْهَا.
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ: أَنَّ كُلَّ مَا جَعَلْنَاهُ دَاخِلًا فِي الْبَيْعِ " مَعَهَا " دَخَلَ فِي الوصية [بها] وكل ما جعلناه خارجا عن البيع لم يدخل في الوصية.
ولو كَانَ الْمُوصَى بِهِ أَرْضًا: دَخَلَ فِي الْوَصِيَّةِ نَخْلُهَا، وَشَجَرُهَا، وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ زَرْعُهَا.
وَلَوْ كَانَ نَخْلُهَا عِنْدَ الْوَصِيَّةِ مُثْمِرًا: لَمْ يَدْخُلْ ثمرها في الوصية إن كان موزا. وفي دخوله فيها إن كان غير موز وجهان:(8/276)
أَحَدُهُمَا: يَدْخُلُ كَالْبَيْعِ.
وَالثَّانِي: لَا يَدْخُلُ لِخُرُوجِهِ عَنْ الِاسْمِ وَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا.
وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي دُخُولِهِ فِي الرهن.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوِ انْهَدَمَتْ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي كَانَتْ لَهُ إِلَّا مَا انْهَدَمَ مِنْهَا فَصَارَ غَيْرَ ثَابِتٍ فِيهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِدَارٍ فَانْهَدَمَتْ، فَلَا يَخْلُو انْهِدَامُهَا مِنْ ثلاثة أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَنْهَدِمَ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي.
وَالثَّانِي: بَعْدَ مَوْتِهِ، وَبَعْدَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ.
وَالثَّالِثُ: بَعْدَ مَوْتِهِ، وَقَبْلَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ.
فَإِنِ انْهَدَمَتْ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي، فَهَذَا عَلَى ضربين:
أحدها: أَنْ يَزُولَ اسْمُ الدَّارِ عَنْهَا بِالِانْهِدَامِ.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَزُولَ. فَإِنْ لَمْ يَزُلِ اسْمُ الدار عنها لبقاء بنيان فيها يسمى بِهِ دَارًا: فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ، وَلَهُ مَا كَانَ ثَابِتًا فِيهَا مِنْ بُنْيَانِهَا.
فَأَمَّا الْمُنْفَصَلُ عَنْهَا بِالْهَدْمِ، فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ: أَنَّهُ يَكُونُ خارجا عن الْوَصِيَّةِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا إِلَى حَمْلِ ذَلِكَ على ظاهره، وأنه خارج عن الوصية لأن ما انفصل عنها دَارًا، فَلَمْ يَكُنْ لِلْمُوصَى لَهُ بِالدَّارِ فِيهِ حق.
وحكي عن أَبُو الْقَاسِمِ بْنِ كَجٍّ وَجْهًا آخَرَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّ نَصَّ الشَّافِعِيِّ عَلَى خُرُوجِ مَا انْهَدَمَ مِنَ الْوَصِيَّةِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ هَدَمَهُ بِنَفْسِهِ فَصَارَ ذَلِكَ رُجُوعًا فِيهِ.
وَلَوِ انهدم بِسَبَبٍ مِنَ السَّمَاءِ، لَا يُنْسَبُ إِلَى فِعْلِ الموصي وكان مَا انْفَصَلَ بِالْهَدْمِ لِلْمُوصَى لَهُ مَعَ الدَّارِ، لِأَنَّهُ مِنْهَا. وَإِنَّمَا بَانَ عَنْهَا بَعْدَ أَنْ تَنَاوَلَتْهُ الْوَصِيَّةُ، وَإِنْ كَانَتِ الدَّارُ بَعْدَ انْهِدَامِهَا، لَا تُسَمَّى دَارًا، لِأَنَّهَا صَارَتْ عَرْصَةً لَا بِنَاءَ فِيهَا، فَفِي بُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لا تبطل وهذا قَوْلُ مَنْ جَعَلَ الْآلَةَ بَعْدَ انْفِصَالِهَا مِلْكًا لِلْمُوصَى لَهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ الْوَصِيَّةَ بِهَا باطلة، وهو الأصح، لأنها صَارَتْ عَرْصَةً لَمْ تُسَمَّ دَارًا.
أَلَا تَرَى لو حلف لا يدخلها، لم يحنث بدخول عَرْصَتَهَا، بَعْدَ ذَهَابِ بِنَائِهَا.
وَهَذَا قَوْلُ مَنْ جَعَلَ مَا انْفَصَلَ عَنْهَا، غَيْرَ دَاخِلٍ فِي الوصية.
فإن كَانَ انْهِدَامُهَا، بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَبَعْدَ قَبُولِ الموصى له، فالوصية بها ممضاة، وجميع ما انفصل مِنْ آلَتِهَا كَالْمُتَّصِلِ، يَكُونُ مِلْكًا لِلْمُوصَى لَهُ لاستقرار ملكه عليه بِالْقَبُولِ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا إِنْ كَانَ انْهِدَامُهَا، بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَقَبْلَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ: فَإِنْ لم يزل(8/277)
اسْمُ الدَّارِ عَنْهَا: فَالْوَصِيَّةُ بِحَالِهَا، فَإِذَا قَبِلَهَا الموصى له فإن قيل إن القبول يبنى عَلَى تَقَدُّمِ الْمِلْكِ بِمَوْتِ الْمُوصِي، فَكُلُّ ذَلِكَ ملك للموصى له، المنفصل منها، والمتصل.
فإن قيل إن القبول هو الملك فله ردها وَمَا اتَّصَلَ بِهَا مِنَ الْبِنَاءِ، وَفِي الْمُنْفَصِلِ وجهان:
أحدهما: للموصى له.
والثاني: للوارث.
وَإِنْ لَمْ تُسَمَّ الدَّارُ بَعْدَ انْهِدَامِهَا دَارًا، فإن قلنا إن القبول يبنى على تقدم الملك: فالوصية جائزة، وله العرصة، وجميع ما فيها من متصل، أو منفصل إِذَا كَانَ عِنْدَ الْمَوْتِ مُتَّصِلًا.
وَإِنْ قِيلَ إن القبول هو الملك، ففي البطلان بِانْهِدَامِهَا وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ.
وَالثَّانِي: جَائِزَةٌ، وَلَهُ مَا اتَّصَلَ بِهَا، وَفِي الْمُنْفَصِلِ وَجْهَانِ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِعَبْدٍ فَعَمِيَ، أَوْ زَمِنَ، فِي حَيَاةِ الْمُوصِي أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَالْوَصِيَّةُ بِحَالِهَا، لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا عَمَى الْعَبْدِ وَلَا زَمَانَتُهُ.
وَلَوْ قُطِعَتْ يَدُهُ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي: فَالْوَصِيَّةُ بِحَالِهَا فِي الْعَبْدِ مَقْطُوعًا، وَدِيَةُ " يَدِهِ " لِلْمُوصِي، تَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ وَجْهًا وَاحِدًا، بِخِلَافِ مَا انْهَدَمَ مِنْ آلَةِ الدَّارِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، لِأَنَّ الْآلَةَ، عَيْنٌ مِنْ أَعْيَانِ الْوَصِيَّةِ، وَلَيْسَتِ الدِّيَةُ كَذَلِكَ لِأَنَّهَا بَدَلٌ.
فَأَمَّا إِذَا قُتِلَ الْعَبْدُ قَتْلًا مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ: فَفِي بُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ قَوْلَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْعَبْدِ الْمَبِيعِ إِذَا قُتِلَ فِي يَدِ بَائِعِهِ، هَلْ يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِقَتْلِهِ أَمْ لَا؟ .
عَلَى قَوْلَيْنِ: كَذَلِكَ يَجِيءُ هَاهُنَا فِي بُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَدْ بَطَلَتْ، لِأَنَّ الْقِيمَةَ لَا تَكُونُ عَبْدًا، وَكَمَا لَوْ قُطِعَتْ يَدُهُ لَمْ يَكُنْ أَرْشُهَا لَهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَبْطُلُ، لِأَنَّ الْقِيمَةَ بَدَلٌ مِنْ رَقَبَتِهِ فَأُقِيمَتْ مَقَامَهَا، وَخَالَفَتْ قِيمَةُ رَقَبَتِهِ، أَرْشَ يَدِهِ، لِأَنَّ اسْمَ الْعَبْدِ مُنْطَلَقٌ عَلَيْهِ، بَعْدَ قَطْعِ يَدِهِ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ أَرْشَ يده، لأنه جعل له ما ينطلق اسم العبد عليه، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَعْدَ قَتْلِهِ.
وَلَكِنْ لَوْ قَتَلَهُ السَّيِّدُ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ بِهِ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّهُ لَا يَضْمَنُ قِيمَةَ عَبْدِهِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، وَكَمَا لَوْ أَوْصَى لَهُ بِحِنْطَةٍ، فَطَحَنَهَا، وَبِاللَّهِ التوفيق.
فصل:
ولو أوصى بعتق عبده، فقتل العبد قبل عتقه، نظر:
فإن قتل فِي حَيَاةِ الْمُوصِي: بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ بِعِتْقِهِ، لِخُرُوجِهِ فِي حَيَاةِ السَّيِّدِ عَنْ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا.
وَإِنْ كَانَ قَتْلُهُ بَعْدَ مَوْتِ السَّيِّدِ، فَقَدْ حُكِيَ عَنِ الْمُزَنِيِّ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَبْطُلُ بعتقه،(8/278)
وَيُشْتَرَى بِقِيمَتِهِ عَبْدٌ يُعْتَقُ مَكَانَهُ. لِأَنَّ قِيمَتَهُ بَدَلٌ مِنْهُ فَصَارَ كَمَنْ نَذَرَ أُضْحِيَةً فَأَتْلَفَهَا بتلف، صُرِفَتْ قِيمَتُهَا فِي أُضْحِيَةٍ غَيْرِهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَبْطُلَ الْوَصِيَّةُ، لِخُرُوجِ الْقِيمَةِ عَنْ أَنْ تَكُونَ عَبْدًا، وَخَالَفَ نَذْرُ الْأُضْحِيَةِ لِاسْتِقْرَارِ حُكْمِهَا وَالْعَبْدُ لَا يَسْتَقِرُّ حُكْمُهُ إِلَّا بِالْعِتْقِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَيَجُوزُ نِكَاحُ الْمَرِيضِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً: صَحَّ نِكَاحُهَا، وَلَهَا الْمِيرَاثُ، وَالصَّدَاقُ، إِنْ لَمْ يَزِدْ عَلَى صَدَاقِ مِثْلِهَا.
فَإِنْ زَادَ: رُدَّتِ الزِّيَادَةُ إِنْ كَانَتْ وَارِثَةً، وَأُمْضِيَتْ فِي الثُّلُثِ إِنْ كَانَتْ غَيْرَ وَارِثَةٍ.
وهكذا المريضة إذا نكحت رجلا صحيحا صَحَّ نِكَاحُهَا وَوَرِثَهَا الزَّوْجُ، وَعَلَيْهِ صَدَاقُهَا، إِنْ كان مهر المثل فيما زاد.
فإن نكحته بأقل من صداق مثلها بالمحاباة فالنقصان وصية له فترد إن كان وارثا، وتمضي في الثلث إن كان الزوج غَيْرَ وَارِثٍ.
وَقَالَ مَالِكٌ: نِكَاحُ الْمَرِيضِ فَاسِدٌ، لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ مِيرَاثًا، وَلَا يَجِبُ فِيهِ صَدَاقٌ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَهَا فَيَلْزَمُهُ مهر المثل من الثلث مقدما عَلَى الْوَصَايَا.
وَكَذَلِكَ نِكَاحُ الْمَرِيضَةِ فَاسِدٌ، وَلَا ميراث للزوج.
وقال الزهري: النِّكَاحُ فِي الْمَرَضِ جَائِزٌ، وَلَا مِيرَاثَ وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنْ ظَهَرَ مِنْهُ الإضرار في تزويجه لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ الْإِضْرَارُ وَظَهَرَ مِنْهُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ فِي خِدْمَةٍ أَوْ غَيْرِهَا جَازَ.
وَدَلِيلُ مَنْ مَنَعَ مِنْهُ شَيْئَانِ:
أحدهما: وجود التهمة بإدخالهم الضَّرَرَ عَلَى الْوَرَثَةِ فَصَارَ كَالْمُتْلِفِ لِمَالِهِ فِي مرضه.
والثاني: مزاحمتهم لميراثها ودفعهم على ما ترثه ولدان صار لهما فَصَارَ كَالْمَانِعِ لِلْوَرَثَةِ مِنَ الْمِيرَاثِ.
وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] . وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ صَحِيحٍ وَمَرِيضٍ، وَرُوِيَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي مرضه: " زوجوني لئلا ألقى الله عزبا ".
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْ أَجَلِي إِلَّا عَشَرَةُ أَيَّامٍ مَا أَحْبَبْتُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ لِي زَوْجَةٌ ".
وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ الزبير رضي الله عنه دخل على قدامة يعوده، فبصر(8/279)
عنده بجارية فقال قدامة زوجني بها فقال: ما تصنع بها وأنت على هذه الحالة فقال: إن أنا عشت فثبت الزبير وإن مت فهم أحق من يرثني.
وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يُمْنَعْ مِنَ التَّسَرِّي بالإماء لم يمنع من نكاح الحرائر كَالصَّحِيحِ.
وَلِأَنَّهُ فِرَاشٌ لَا يُمْنَعُ مِنْهُ الصَّحِيحُ، فوجب ألا يُمْنَعَ مِنْهُ الْمَرِيضُ كَالِاسْتِمْتَاعِ بِالْإِمَاءِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ الْمَرَضُ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَقْدُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِحَاجَةٍ أو لشهوة، فَإِنْ كَانَ لِحَاجَةٍ لَمْ يَجُزْ مَنْعُهُ وَإِنْ كَانَ لِشَهْوَةٍ فَهِيَ مُبَاحَةٌ لَهُ كَمَا أُبِيحُ له أن يلتزم بما شاء من أكل أو لبس.
فأما الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالتُّهْمَةِ وَدُخُولِ الضَّرَرِ فَهُوَ إِنَّ التُّهْمَةَ تَبْعُدُ عَمَّنْ هُوَ فِي مَرَضِ موته لأنه في الأغلب يقصد وجه الله عَزَّ وَجَلَّ وَالضَّرَرُ لَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ العقود كالبيع ولأنه إن كَانَ ضَرَرًا لِوَرَثَتِهِ فَهُوَ مَنْفَعَةٌ لِنَفْسِهِ وَهُوَ أحق بمنفعة نفسه من منفعة ورثته.
فأما الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ فِيهِ مُزَاحَمَةً لِبَعْضِ الورثة " ودفع " لِبَعْضِهِمْ فَهُوَ أَنَّ مَا لَمْ يَمْنَعِ الصِّحَّةُ مِنْهُ لَمْ يَمْنَعِ الْمَرَضُ مِنْهُ كَالْإِقْرَارِ بِوَارِثٍ وكالاستيلاء للأمة.
فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ إِبَاحَةُ النِّكَاحِ فِي الْمَرَضِ، فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ وَاحِدَةٍ إِلَى أَرْبَعٍ، كَهُوَ فِي الصِّحَّةِ، وَلَهُنَّ الْمِيرَاثُ، إِنْ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ أو غيره.
وأما الصداق، فإن كان مهرهن، صَدَاقَ أَمْثَالِهِنَّ، فَلَهُنَّ الصَّدَاقُ مَعَ الْمِيرَاثِ. وَإِنْ كانت عَلَيْهِ دُيُونٌ، شَارَكَهُنَّ الْغُرَمَاءُ فِي التَّرِكَةِ، وَضَرَبْنَ مَعَهُمْ بِالْحِصَصِ.
وَإِنْ تَزَوَّجَهُنَّ، أَوْ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ، بِأَكْثَرَ مِنْ صَدَاقِ مِثْلِهَا، كَانَتِ الزِّيَادَةُ عَلَى صَدَاقِ الْمِثْلِ، وَصِيَّةً فِي الثُّلُثِ.
فَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ وَارِثَةً رُدَّتِ الْوَصِيَّةُ لِأَنَّهُ لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ.
وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ وَارِثَةٍ لِرِقٍّ أَوْ كُفْرٍ، دُفِعَتِ الزِّيَادَةُ إِلَيْهَا، إِنِ احْتَمَلَهَا الثُّلُثُ، وما احتمله منها يتقدم منها عَلَى الْوَصَايَا كُلِّهَا، لِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ فِي الْحَيَاةِ.
وَهَكَذَا لَوْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ حُرَّةً مُسْلِمَةً، فَمَاتَتْ قبله، صحة الزيادة لها، إِنِ احْتَمَلَهَا الثُّلُثُ، لِأَنَّهَا بِالْمَوْتِ قَبْلَهُ، غَيْرُ وارثة.
فلو كانت حين نكاحها فِي الْمَرَضِ أَمَةً، أَوْ ذِمِّيَّةً، فَأُعْتِقَتِ الْأَمَةُ، وَأَسْلَمَتِ الذِّمِّيَّةُ، صَارَتْ وَارِثَةً، وَمُنِعَتْ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى صَدَاقِ مِثْلِهَا، وَلَوْ صَحَّ الْمَرِيضُ مِنْ مَرَضِهِ، ثُمَّ مَاتَ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ لَمْ يَمُتْ، صَحَّتِ الزِّيَادَةُ عَلَى صَدَاقِ الْمِثْلِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ لِوَارِثَةٍ، وَغَيْرِ وَارِثَةٍ.
فَعَلَى هَذَا:
لَوْ تَزَوَّجَ فِي مَرَضِهِ ذِمِّيَّةً عَلَى صَدَاقٍ ألف درهم، وصداق مثلها خمس مائة، ومات،(8/280)
وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُ الْأَلْفِ الَّتِي هِيَ صَدَاقُهَا: أُعْطِيَتْ مِنَ الْأَلْفِ سِتَّمِائَةٍ وَسِتَّةً وَسِتِّينَ درهما وثلث درهم.
لأنها لها خمس مائة من المال، وتبقى خمس مائة هي جميع التركة، وهي الوصية لَهَا، فَأُعْطِيَتْ ثُلُثَهَا، وَذَلِكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا، وَثُلُثُ دِرْهَمٍ، تَأْخُذُهَا مَعَ صَدَاقِ مثلها.
ولو خلف الزوج مع الصداق خمس مائة دِرْهَمٍ: صَارَتِ التَّرِكَةُ بَعْدَ صَدَاقِ الْمِثْلِ أَلْفَ درهم، فلها ثلثها، ثلاث مائة وثلاثة وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا وَثُلُثٌ.
وَلَوْ خَلَّفَ مَعَ الصَّدَاقِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، خَرَجَتِ الزِّيَادَةَ عَلَى صَدَاقِ الْمِثْلِ من الثلث وأخذت الألف كلها.
فصل:
فإذا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ فِي مَرَضِهِ امْرَأَةً عَلَى صَدَاقٍ ألف درهم، ومهر مثلها خمس مائة، ثُمَّ مَاتَتِ الْمَرْأَةُ قَبْلَهُ، ثُمَّ مَاتَ الزَّوْجُ من مَرَضِهِ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُ الْأَلْفِ الَّتِي أَصْدَقَهَا وَلَا لَهَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ مِنَ الْمُحَابَاةِ، قَدْرُ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ، لِأَنَّهَا صَارَتْ بِالْمَوْتِ قَبْلَهُ غَيْرَ وَارِثَةٍ، وَصَارَ وَارِثًا لَهَا، فَزَادَتْ تَرِكَتُهُ بِمَا وَرِثَهُ مِنْهَا.
وَإِذَا زَادَتْ تَرِكَتُهُ بِمَا وَرِثَهُ مِنْهَا، زَادَ فِي قَدْرِ مَا يجوز من المحاباة لها، فإذا ردت منها النصف: صح لها من المحاباة، ثلثمائة درهم، فتضم إلى صداق مثلها، وهو خمس مائة، يَصِيرُ لَهَا مِنَ الْأَلْفِ بِصَدَاقِ الْمِثْلِ، وَالْمُحَابَاةِ، وله النصف، وهو أربع مائة درهم يصير معه ست مائة دِرْهَمٍ، وَذَلِكَ ضِعْفُ مَا خَرَجَ مِنَ الْمُحَابَاةِ وهي ثلاث مائة درهم.
ومخرجه بحساب الجبر سهل على المرياض، وَلَكِنْ نَذْكُرُ وَجْهَ عَمَلِهِ بِحِسَابِ الْبَابِ لِسُهُولَتِهِ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بِحَسْبِ الْجَبْرِ ارتياض.
عمله بحساب الباب أن ننظر تركة الزوج، وهي خمسة مائة درهم التي هي المحاباة من الصداق، ويضم إليها ما ورثه زوجته من صداق مثلها، وهو نصف الخمس مائة، مائتان وخمسون، تصير جميع التركة سبع مائة وخمسين درهما، وتستحق الزَّوْجَةُ مِنْهَا بِالْمُحَابَاةِ ثُلُثَهَا، وَهُوَ سَهْمٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَقَدْ عَادَ إِلَى الزَّوْجِ نِصْفُهُ بِالْمِيرَاثِ وَهُوَ نِصْفُ سَهْمٍ فَأَسْقَطَهُ مِنَ الثُّلُثِ يَبْقَى سهمان ونصف فأضعفها ليخرج الكسر منها يكن خَمْسَةَ أَسْهُمٍ، ثُمَّ أَضْعِفِ التَّرِكَةَ لِأَجْلِ مَا أضعفته من السهام تكن ألف درهم وخمس مائة، ثُمَّ اقْسِمْهَا عَلَى السِّهَامِ الْخَمْسَةِ، تَكُنْ حِصَّةُ كل منهم، منها، ثلاثة مائة، وهي قَدْرُ الْمُحَابَاةِ.
فَعَلَى هَذَا: لَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا، وَخَلَّفَ الزَّوْجُ مَعَ الْأَلْفِ الَّتِي أَصْدَقَهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ. فَطَرِيقُ الْعَمَلِ فِيهَا بِحِسَابِ الْبَابِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ أَنْ يُنْظَرَ تَرِكَةُ الزَّوْجِ وَهِيَ سبع مائة، لأن له مائتي درهم سوى الصداق وخمس مائة مُحَابَاةً مِنَ الصَّدَاقِ فَاضْمُمْ إِلَيْهَا مَا وَرِثَهُ عن زوجته من صداق مثلها وهو مئتان وخمسون، تصير جميع التركة تسع مائة وخمسين درهما(8/281)
تقسم عَلَى سَهْمَيْنِ وَنِصْفٍ، فَأَضْعِفِ السِّهَامَ وَالتَّرِكَةَ، تَكُنِ السهام خمسة والتركة ألف درهم وتسع مائة دِرْهَمٍ، ثُمَّ اقْسِمْهَا عَلَى السِّهَامِ الْخَمْسَةِ تَكُنْ حصة كل سهم منها ثلاثمائة درهم، وثمانين درهما وهو القدر الذي احتمله الثلث من المحاباة.
وإذا ضممته إلى صداق المثل وهو خمس مائة صار ثمان مائة وَثَمَانِينَ دِرْهَمًا وَقَدْ بَقِيَ مَعَ وَارِثِ الزَّوْجِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَعَادَ إِلَيْهِ نِصْفُ تَرِكَةِ الزوجة بالميراث وذلك أربع مائة وأربعون درهما يصير الجميع تسع مائة وَسِتِّينَ دِرْهَمًا وَهُوَ ضِعْفُ مَا خَرَجَ بِالْمُحَابَاةِ لأن الذي خرج منها ثلاث مائة وَثَمَانُونَ دِرْهَمًا.
فَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا وَخَلَّفَ الزوج مع الألف التي أصدق خمس مائة دِرْهَمٍ صَحَّتِ الْمُحَابَاةُ كُلُّهَا لِأَنَّ بِيَدِ وَرَثَةِ الزوج عنده الخمس مائة ويعود إليه نصف ميراث الزوجة وهو خمس مائة يصير بِيَدِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ هِيَ ضِعْفُ الْمُحَابَاةِ.
فَلِذَلِكَ صَحَّ جَمِيعُهَا، وَلَوْ لَمْ يُخَلِّفِ الزَّوْجُ شَيْئًا سِوَى الْأَلْفِ الصَّدَاقِ وَلَكِنْ خَلَّفَتِ الزَّوْجَةُ سِوَى الصداق ألف أخرى صحت المحاباة كلها لأنها تصير تركة الزوجة ألفي درهما، يَرِثُ الزَّوْجُ نِصْفَهَا وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَهِيَ ضعف المحاباة، فذلك صَحَّتْ.
فَلَوْ تَرَكَتِ الزَّوْجَةُ سِوَى الْأَلْفِ الصَّدَاقِ خمس مائة درهم كان الخارج لها بالمحاباة أربع مائة درهم، لأن تركة الزوجة هي الخمس مائة الْمُحَابَاةُ وَوَرِثَ مِنَ الزَّوْجَةِ، نِصْفَ تَرِكَتِهَا وَهِيَ ألف درهم، لأن تركتها صداق مثلها، وهي خمس مائة درهم، وما خلفته سوى ذلك وهو خمس مائة دِرْهَمٍ، فَإِذَا أَخَذَ الزَّوْجُ نِصْفَ تَرِكَتِهَا وَهُوَ خمس مائة دِرْهَمٍ، وَضُمَّ إِلَى مَا اخْتَصَّ بِهِ مِنَ التركة، صارت تَرِكَتُهُ " أَلْفَ " دِرْهَمٍ، تُقَسَّمُ عَلَى سَهْمَيْنِ وَنِصْفٍ فإذا أضعفت سهام التركة صارت السهام خمسة، والتركة ألفين. فإن قَسَّمْتَهَا عَلَى الْخَمْسَةِ كَانَتْ حِصَّةُ كُلِّ سَهْمٍ منها، أربع مائة درهم، وذلك قدر ما احتمله الثُّلُثُ مِنَ الْمُحَابَاةِ وَقَدْ بَقِيَ مَعَ وَارِثِ الزَّوْجِ مِنْ بَقِيَّةِ الصَّدَاقِ مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَصَارَ إليه من تركة الزوج، بحق النصف سبع مائة درهم، فصار الجميع ثمان مائة دِرْهَمٍ، وَذَلِكَ ضِعْفُ مَا خَرَجَ بِالْمُحَابَاةِ، لِأَنَّ الخارج منها أربع مائة درهم.
فصل آخر منه:
فإذا تزوجها على صداق ألف لا يملك غيرها، ومهر مثلها خمس مائة درهم، ثُمَّ مَاتَتْ قَبْلَهُ وَهِيَ ذَاتُ وَلَدٍ يُحْجَبُ الزوج إلى الربع ولم يخلف سِوَى الْأَلْفِ فَبَابُ الْعَمَلِ فِيهِ أَنْ يُضَمَّ " ربع " الخمس مائة التي هي صداق مثلها وهي مائة وخمسة وعشرون إلى الخمس مائة التي له، وهي المحاباة تكن ست مائة وخمسة وعشرون دِرْهَمًا لِلزَّوْجَةِ مِنْهَا ثُلُثُهَا، وَهُوَ سَهْمٌ مِنْ ثلاثة، وقد ورث الزوج أربعة وهو ربع سهم فأسقطه من الثلاثة، ويبقى سَهْمَانِ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ فَابْسُطْهَا أَرْبَاعًا تَكُنْ أَحَدَ عشرا، ثم اضرب الست مائة والخمسة والعشرين في أربعة تكن ألفان وخمس مائة فَاقْسِمْهَا عَلَى أَحَدَ عَشَرَ تَكُنْ حِصَّةُ كُلِّ سهم منها ما تبقى، درهم وَسَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَثَلَاثَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ، وَهُوَ الْخَارِجُ لَهَا بالمحاباة.(8/282)
وإذا ضممته إلى الخمس مائة الَّتِي هِيَ صَدَاقُ الْمِثْلِ صَارَتْ تَرِكَتُهَا سَبْعمِائَةٍ وسبعة وعشرين درهما وثلاثة أجزاء من أحد عشر جزءا من درهم الْأَلْفِ مِائَتَانِ وَاثْنَانِ وَسَبْعُونَ دِرْهَمًا وَثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ وَوَرِثَ مِنَ الزَّوْجَةِ رُبُعَ تَرِكَتِهَا وَذَلِكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَأَحَدٌ وَثَمَانُونَ دِرْهَمًا وَتِسْعَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ.
يَصِيرُ الْجَمِيعُ أَرْبَعَمِائَةٍ وأربع وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا وَسِتَّةَ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ، وَذَلِكَ مِثْلَ مَا خَرَجَ بِالْمُحَابَاةِ، لِأَنَّ الْخَارِجَ بِهَا مِائَتَانِ وَسَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ درهما وثلاثة أجزاء من أحد عشر جزءا مِنْ دِرْهَمٍ.
فَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا وَلَحِقَ رُبُعَ الزَّوْجِ عَوْلٌ " لِأَنَّهُ كَانَ مَعَهُ مِنْ ورثتها أبوان فقد صارت فريضتها من خمس عشر للزوج منها ثلاثة فصارت معه خمسة فإذا كان كذلك فاضمم إلى تركته وهي خمسة مائة الْمُحَابَاةُ مَا وَرِثَهُ عَنْ زَوْجَتِهِ مِنْ صَدَاقِ مثلها وهو خمس الخمس مائة تكن مِائَةَ دِرْهَمٍ تَصِيرُ مَعَهُ سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ لِلزَّوْجَةِ مِنْهَا بِالْمُحَابَاةِ الثُّلُثُ سَهْمٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ قَدْ ورث الزوج خمسة فاسقطه من الثلاثة يبقى سهمان وأربعة أخماس فابسطه أخمسا تَكُنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ ثُمَّ اضْرِبْ تَرِكَةَ الزَّوْجِ وَهِيَ سِتُّمِائَةٍ فِي خَمْسَةٍ تَكُنْ ثَلَاثَةَ آلَافٍ ثم اقسمها على أربعة عشر تكن حصة كل سهم منها مائتان دِرْهَمٍ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَسُبْعَيْ دِرْهَمٍ وَهُوَ قدر ما احتمله الثلث في الْمُحَابَاةِ فَإِذَا ضُمَّ إِلَى صَدَاقِ مِثْلِهَا وَهُوَ خمسمائة صارت تركتها سبع مائة درهم وخمسة وثمانين درهما وخمسة أسباع دِرْهَمٍ وَوَرِثَ مِنْ تَرِكَةِ الزَّوْجَةِ خُمُسَهَا وَذَلِكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَاثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَسِتَّةُ أَسْبَاعِ درهم فصار معه أربع مائة دِرْهَمٍ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ وَذَلِكَ مِثْلَا مَا خَرَجَ بِالْمُحَابَاةِ لِأَنَّ الْخَارِجَ بِهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَسُبُعَا دِرْهَمٍ.
فَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا وَكَانَ مِيرَاثُ الزَّوْجِ بِالْعَوْلِ خُمُسًا وَأَوْصَتِ الزَّوْجَةُ بِإِخْرَاجِ ثُلُثِهَا فَوَجْهُ الْعَمَلِ بِالْبَابِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ أَنْ تُضَمَّ إلى تركة الزوج وهي خمس مائة المحاباة قدر ما يرثه من زَوْجَتِهِ مِنْ صَدَاقِ مِثْلِهَا وَهُوَ الْخُمُسُ مِنْ ثلث الخمسمائة وذلك ستة وستون درهما وثلث درهم تكن خمس مِائَةَ دِرْهَمٍ وَسِتَّةً وَسِتِّينَ دِرْهَمًا وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ لِلزَّوْجَةِ مِنْهَا بِالْمُحَابَاةِ ثُلُثُهَا وَقَدْ أَوْصَتْ فِي هَذَا الثُّلُثِ بِإِخْرَاجِ ثُلُثِهِ فَبَقِيَ لَهَا مِنَ الثُّلُثِ ثُلُثَاهُ وَذَلِكَ تُسْعَا الْمَالِ ثُمَّ وَرِثَ الزَّوْجُ خُمُسَ هَذَيْنِ التُّسْعَيْنِ وَذَلِكَ سَهْمَانِ مِنْ خمسة وأربعين سهما هي مَضْرُوبُ ثَلَاثَةٍ فِي ثَلَاثَةٍ فِي خَمْسَةٍ لِأَنَّ فِيهَا ثُلُثَ ثُلُثٍ وَخُمُسًا فَأَسْقِطْ هَذَيْنِ السَّهْمَيْنِ من عول هَذِهِ السِّهَامِ.
تَبْقَى ثَلَاثَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا ثُمَّ اضْرِبِ التَّرِكَةَ وَهِيَ خَمْسُمِائَةٍ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا وَثُلُثَا دِرْهَمٍ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ هِيَ مَخْرَجُ الثلث والخمس لأنك ضربت الثلاثة فِي خَمْسَةَ عَشَرَ، فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ كَانَ معك ثمانية آلاف وخمس مائة فاقسمها على ثلاثة وأربعين سهما يكن قسط السهم الواحد منها مائة درهم وتسعة وَتِسْعِينَ دِرْهَمًا وَتِسْعَةً وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ ثَلَاثَةٍ وأربعين جزءا من درهم وهو مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ مِنَ الْمُحَابَاةِ.
فَإِذَا ضَمَمْتَهُ إلى صداق مثلها وهو خمس مائة صار جميع ما تملكه مِنَ الْأَلْفِ سِتَّمِائَةِ(8/283)
درهم وسبعة وتسعين دِرْهَمًا وَتِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ جُزْءًا مِنْ ثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ وَبَقِيَ لِلزَّوْجِ مِنَ الْأَلْفِ ثلثمائة درهم وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ ثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا من درهم، يَكُنْ بَاقِي تَرِكَتِهَا بَعْدَ إِخْرَاجِ الثلث أربع مائة درهم وخمسة وسبعين دِرْهَمًا وَخَمْسَةَ أَجْزَاءٍ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ يَرِثُ الزَّوْجُ خُمُسَهَا وَهُوَ ثَلَاثَةٌ وَتِسْعُونَ دِرْهَمًا وَجُزْءًا مِنْ ثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ فَإِذَا ضَمَمْتَهُ إِلَى مَا بَقِيَ له من الألف وهو ثلثمائة دِرْهَمٍ وَدِرْهَمَانِ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ جُزْءًا صَارَ الْجَمِيعُ ثلثمائة وَخَمْسَةً وَتِسْعِينَ دِرْهَمًا وَخَمْسَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ ثلاثة وأربعين جزءا من درهم وهو مثلي ما خرج بالمحاباة، لأن الخارج بها مائة دِرْهَمٍ وَسَبْعَةٌ وَتِسْعُونَ دِرْهَمًا وَتِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ جُزْءًا مِنْ ثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ.
وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ أَوْصَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِإِخْرَاجِ ثُلُثِهِ رُدَّتْ وَصِيَّتُهُ لِأَنَّ ثُلُثَهُ مُسْتَحَقٌّ فِي مُحَابَاةِ مَرَضِهِ، وَالْعَطَايَا فِي الْمَرَضِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْوَصَايَا بَعْدَ الْمَوْتِ.
فَصْلٌ آخَرُ مِنْهُ:
فإذا أَعْتَقَ الْمُوصِي جَارِيَةً فِي مَرَضِهِ وَقِيمَتُهَا خَارِجَةٌ مِنْ ثُلُثِهِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا عَلَى صَدَاقٍ لَا يَعْجِزُ الْمَالُ عَنِ احْتِمَالِهِ كَانَ الْعِتْقُ نَافِذًا في الثلث والنكاح جائز النفوذ والعتق ولها والصداق من رأس المال إن لم يكن فِيهِ مُحَابَاةٌ وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ مُحَابَاةٌ كَانَتْ فِي الثُّلُثِ وَلَا مِيرَاثَ لَهَا مِنْهُ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْمَعَ لِشَخْصٍ بَيْنَ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ فَلَوْ وَرِثَتْ مُنِعَتِ الْوَصِيَّةُ وَإِذَا مُنِعَتِ الْوَصِيَّةُ بَطَلَ الْعِتْقُ وَإِذَا بَطَلَ الْعِتْقُ بَطَلَ النِّكَاحُ، وَإِذَا بَطَلَ النِّكَاحُ سَقَطَ الْمِيرَاثُ، فَلَمَّا كان توريثها مقضيا إِلَى إِبْطَالِ عِتْقِهَا وَمِيرَاثِهَا أَمْضَيْتُ الْوَصِيَّةَ بِالْعِتْقِ وَصَحَّ النِّكَاحُ وَأُسْقِطَ الْمِيرَاثُ.
وَلَوْ كَانَ هَذَا الْمُعْتِقُ لَا يَمْلِكُ غَيْرَ هَذِهِ الْأَمَةِ: عُتِقَ ثُلُثُهَا، وَرَقَّ ثُلُثَاهَا، وَبَطَلَ نِكَاحُهَا، لِأَجْلِ مَا بقي له من رقها فإن لم يجامعها فَلَا دَوْرَ فِيهَا وَقَدْ صَارَ الْعِتْقُ مُسْتَقِرًّا فِي ثُلُثِهَا، وَالرِّقُّ بَاقِيًا فِي ثُلُثَيْهَا، وَإِنْ وَطِئَهَا دَخَلَهَا دَوْرٌ لِأَجْلِ مَا اسْتَحَقَّتْهُ مِنْ مهر مثلها بالوطء. فلو كانت قيمتها مائة وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ غَيْرُهَا، وَمَهْرُ مِثْلِهَا خَمْسُونَ اسْتَحَقَّتْ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا يُجْزِئُ مِنْ عِتْقِهَا، وَسَقَطَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا بَقِيَ مِنْ رِقِّهَا فَيُعْتَقُ سبعاها ويرق لِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةُ أَسِبَاعِهَا، وَيُوقَفُ سُبُعُهَا، لِأَجْلِ مَا استحقته مِنْ سُبُعَيْ مَهْرِهَا.
وَوَجْهُ الْعَمَلِ فِيهِ: أَنْ تُجْعَلَ لِلْعِتْقِ سَهْمًا وَلِلْوَرَثَةِ سَهْمَيْنِ، لِيَكُونَ لَهُمْ مثلي ما أعتق، ولهم المثل نصف سهم لأن مهر المثل نصف قيمتها يكون ثلاثة أسهم ونصف فابسطها لمخرج النِّصْفِ يَكُنْ سَبْعَةَ أَسْهُمٍ فَاجْعَلْهَا مَقْسُومَةً عَلَى هَذِهِ السِّهَامِ السَّبْعَةِ سَهْمَانِ مِنْهَا لِلْعِتْقِ فَيُعْتَقُ سبعاها وذلك بثمانية وعشرين درهما وأربعة أسباع درهم، ورق أَرْبَعَةُ أَسِبَاعِهَا لِلْوَرَثَةِ. وَذَلِكَ سَبْعَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا وَسُبُعُ دِرْهَمٍ، وَهُوَ مِثْلَا مَا خَرَجَ بِالْعِتْقِ، ويوقف سبعاها، وَذَلِكَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَسُبُعَا دِرْهَمٍ، بِإِزَاءِ سبعي مهر مثلها الذي استحق بقدر حريتها، فإن بيع لها استرقه المشتري، وإن فداه الورثة استرقوه على أَرْبَعَةِ أَسْبَاعِهِمْ، وَإِنْ أَخَذَتْهُ بِحَقِّهَا عُتِقَ عَلَيْهَا بِالْمِلْكِ، فَإِنْ أَبْرَأَتِ السَّيِّدَ مِنْهُ، عُتِقَ عَلَيْهَا مع سبعيها وصار ثلث أسباعها حرا.(8/284)
فلو كانت قيمتها مائة درهم فأعتقها، فتزوجها على صداق مائة درهم، وخلف معها مائتا دِرْهَمٍ، فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا قَبْلَ مَوْتِهِ عُتِقَ جَمِيعُهَا، وَصَحَّ نِكَاحُهَا وَبَطَلَ صَدَاقُهَا، وَسَقَطَ مِيرَاثُهَا، وَاعْتَدَّتْ عِدَّةَ الْوَفَاةِ، وَأَمَّا نُفُوذُ عِتْقِهَا فَلِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ لِلْوَرَثَةِ مِائَتَا دِرْهَمٍ هِيَ مِثْلَا قِيمَتِهَا، وَأَمَّا صِحَّةُ نِكَاحِهَا: فَلِأَنَّهُ قَدْ عُتِقَ جَمِيعُهَا، وَأَمَّا سُقُوطُ مَهْرِهَا: فَلِأَنَّهَا لَوْ أَخَذَتْهُ لَعَجَزَتِ التَّرِكَةُ عَنْ جَمِيعِهَا وَعَجْزُهَا عَنْ جَمِيعِهَا يُوجِبُ بُطْلَانَ نِكَاحِهَا وَبُطْلَانُ نِكَاحِهَا يُوجِبُ سقوط مهرها، فصار إيجاب صداقها مقضيا إلى بطلان عِتْقِهَا وَنِكَاحِهَا وَصَدَاقِهَا. فَأُسْقِطَ الصَّدَاقُ لِيَصِحَّ الْعِتْقُ والنكاح، وأما سقوط الميراث: فلئلا يُجْمَعَ لَهَا بَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ.
وَأَمَّا عِدَّةُ الوفاة فلموته عنها وهي على زوجتيه، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا فَقَدِ اسْتَحَقَّتْ بِالدُّخُولِ مَهْرًا، فَإِنْ أُبْرِأَتْ مِنْهُ بَعْدَ الْعِتْقِ فَقَدْ صَحَّ النِّكَاحُ، وَاعْتَدَّتْ عِدَّةَ الْوَفَاةِ، وَإِنْ طَالَبَتْ بِهِ كَانَ لَهَا لِاسْتِحْقَاقِهَا لَهُ بِالدُّخُولِ وصار دينا لها في التركة لعجز الثُّلُثُ عَنْ عِتْقِ جَمِيعِهَا. وَإِذَا عَجَزَ الثُّلُثُ عَنْ عِتْقِ جَمِيعِهَا رَقَّ مِنْهَا قَدْرُ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ الثُّلُثُ وَإِذَا رَقَّ مِنْهَا شَيْءٌ بطل نكاحها ولم يلزمها عدة الوفاة، واستحقت حريتها من مَهْرَ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى، لِأَنَّ بُطْلَانَ النِّكَاحِ قَدْ أَسْقَطَ الْمُسَمَّى وَدَخَلَهَا دَوْرٌ.
فَإِذَا كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا خَمْسِينَ دِرْهَمًا وَقِيمَتُهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ وقد خلف معها مائتا درهم صارت تركته ثلثمائة دِرْهَمٍ فَقُسِّمَتْ عَلَى سَبْعَةِ أَسْهُمٍ لِأَنَّ لَهَا بِالْعِتْقِ سَهْمًا وَبِالْمَهْرِ نِصْفُ سَهْمٍ وَلِلْوَرَثَةِ سَهْمَانِ تَكُونُ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ وَنِصْفًا فَإِذَا بَسَطْتَ كَانَتْ سَبْعَةَ أَسْهُمٍ فَيُعْتَقُ عَنْهَا بِسُبُعَيِ التَّرِكَةِ سِتَّةُ أسباعها وذلك بخمس وَثَمَانِينَ دِرْهَمًا وَخَمْسَةِ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ وَجُعِلَتْ لَهَا سِتَّةُ أَسْبَاعِ مَهْرِ مِثْلِهَا سُبُعُ التَّرِكَةِ وَذَلِكَ ثمانية وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَسِتَّةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ وَجُعِلَتْ لِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ التَّرِكَةِ وَذَلِكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَأَحَدٌ وَسَبْعُونَ دِرْهَمًا وَثَلَاثَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ.
وَقَدْ بَقِيَ مَعَهُمْ مِنَ الدَّرَاهِمِ مِائَةٌ وَسَبْعَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا وسبع درهم ورق لهم من المائة سبعها وذلك أربعة عشر درهما وسبعي درهم صار جميع ماله مِائَةَ دِرْهَمٍ وَأَحَدًا وَسَبْعِينَ دِرْهَمًا وَثَلَاثَةَ أَسْبَاعِ درهم وهو مثلا ما أعتق مِنْهَا.
فَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا وَكَانَتِ الْمِائَتَا دِرْهَمٍ الَّتِي تَرَكَهَا السَّيِّدُ مِنْ كَسْبِهَا فَقَدْ صَارَ لَهَا فِي التَّرِكَةِ حَقَّانِ: أَحَدُهُمَا: مَا يستحقه مِنْ كَسْبِهَا بِقَدْرِ حُرِّيَّتِهَا. وَالثَّانِي: مَا تَسْتَحِقُّهُ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا فَيُجْعَلُ لَهَا بِالْعِتْقِ سَهْمًا وَبِالْكَسْبِ سَهْمَيْنِ لِأَنَّهَا كَسَبَتْ مِثْلَيْ قِيمَتِهَا وَيُجْعَلُ لَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ نِصْفُ سَهْمٍ لِأَنَّ مَهْرَ مثلها مثل نصف قيمتها وبجعل لِلْوَرَثَةِ سَهْمَيْنِ وَذَلِكَ مِثْلَا سَهْمِ عِتْقِهَا يَصِيرُ الجميع خمسة أسهم ونصفا فاضعف لِمَخْرَجِ النِّصْفِ مِنْهَا تَكُنْ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا، مِنْهَا لِلْعِتْقِ سَهْمَانِ وَلِلْكَسْبِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَلِلْمَهْرِ سَهْمٌ وَلِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ ثُمَّ اجْمَعْ بَيْنَ سهم الْعِتْقِ وَسِهَامِ الْكَسْبِ الْأَرْبَعَةِ تَكُنْ سِتَّةً وَهِيَ قَدْرُ مَا يُعْتَقُ مِنْهَا فَيُعْتَقُ مِنْهَا سِتَّةُ أَسْهُمٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا وَقِيمَةُ ذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا وَسِتَّةُ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عشر جزءا من درهم ويملك بِذَلِكَ سِتَّةَ أَسْهُمٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا مِنْ كَسْبِهَا وَذَلِكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَتِسْعَةُ دَرَاهِمَ وَجُزْءٌ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ وَتَسْتَحِقُّ بِذَلِكَ سِتَّةَ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا(8/285)
وَذَلِكَ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَثَلَاثَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ وَيَبْقَى مَعَ الْوَرَثَةِ مِنَ الْكَسْبِ ثَلَاثَةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا وَسَبْعَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ وَقَدْ رَقَّ لَهُمْ مِنْ رَقَبَتْهَا خَمْسَةُ أَسْهُمٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا وَقِيمَةُ ذَلِكَ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَخَمْسَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ يَصِيرُ جَمِيعُ مَا بِأَيْدِيهِمْ مائة وَتِسْعَةَ دَرَاهِمَ وَجُزْءًا مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا من درهم وذلك مِثْلَا مَا عُتِقَ مِنْهَا، لِأَنَّ الَّذِي عُتِقَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا وَسِتَّةُ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب.
فصل:
وَإِذَا أَعْتَقَ الْمَرِيضُ عَبْدًا هُوَ بِقَدْرِ ثُلُثِهِ، ثُمَّ أَعْتَقَ بَعْدَهُ عَبْدًا آخَرَ هُوَ بِقَدْرِ ثُلُثِهِ: نَفَذَ عِتْقُ الْأَوَّلِ، وَرَقَّ الثَّانِي، مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ.
وَقَالَ أبو حنيفة رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ:
يَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَيُعْتَقُ مِنْ كل واحد منهما نصفه. اهـ.
وَهَذَا فَاسِدٌ: لِأَنَّ الْأَوَّلَ قَدِ اسْتَوْعَبَ الثُّلُثَ كُلَّهُ.
فَأَمَّا إِذَا أَعْتَقَهُمَا مَعًا بِلَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُمَا ثُلُثَا مَالِهِ، أُعْتِقَ أَحَدُهُمَا بِالْقُرْعَةِ تَكْمِيلًا لِلْعِتْقِ فِي أَحَدِهِمَا. فَلَوِ اسْتَحَقَّ أَحَدُهُمَا، تَعَيَّنَ العتق في الثاني مِنْهُمَا، وَبَطَلَتِ الْقُرْعَةُ.
وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا هُوَ قَدْرُ ثُلُثِهِ، فَاسْتَحَقَّ نِصْفَهُ، لَمْ يَبْطُلِ الْعِتْقُ فِي النِّصْفِ الْمُسْتَحَقِّ، وَكَانَ لِمُسْتَحِقِّهِ قِيمَتُهُ، وَكَانَ كَشَرِيكٍ أَعْتَقَ حِصَّتَهُ فِي عَبْدٍ وَهُوَ مُوسِرٌ.
وَخَالَفَ اسْتِحْقَاقَ أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ.
وَلَوْ دَبَّرَ عَبْدًا هُوَ قَدْرُ ثُلُثِهِ، فَاسْتَحَقَّ نِصْفَهُ، بَطَلَ فِيهِ التَّدْبِيرُ، وَلَا تَقْوِيمَ بِخِلَافِ الْمُعْتِقِ، لِأَنَّ مَنْ دَبَّرَ حِصَّتَهُ مِنْ عَبْدٍ لَمْ يُقَوَّمْ عَلَيْهِ، وَإِنْ مَاتَ مُوسِرًا، لِأَنَّهُ بَعْدَ الْمَوْتِ مُعْسِرٌ.
وَلَوْ قَالَ: إِذَا أَعْتَقْتُ سَالِمًا، فَغَانِمٌ حُرٌّ، ثُمَّ قَالَ يَا سَالِمُ أَنْتَ حُرٌّ، فَإِنْ خَرَجَ سَالِمٌ وَغَانِمٌ مِنْ ثُلُثِهِ، عُتِقَا جَمِيعًا، وَكَانَ عِتْقُ سَالِمٍ بِالْمُبَاشَرَةِ، وَعِتْقُ غَانِمٍ بِالصِّفَةِ.
وَإِنْ خَرَجَ أَحَدُهُمَا مِنَ الثُّلُثِ دُونَ الْآخَرِ: عُتِقَ سَالِمٌ الْمُنْجَزُ عِتْقُهُ بِالْمُبَاشَرَةِ دُونَ غَانِمٍ المعلق عتقه بالصفة، لأن سالم يَعْتِقْ سَالِمٌ، لَمْ تَكْمُلِ الصِّفَةُ الَّتِي عُلِّقَ بِهَا عِتْقُ غَانِمٍ. فَلِذَلِكَ قُدِّمَ عِتْقُ سَالِمٍ عَلَى غَانِمٍ.
وَلَوْ كَانَ قَالَ: إِذَا أَعْتَقْتُ سالما فغانم في حال عتق سالم حر، ثُمَّ أَعْتَقَ سَالِمًا، وَالثُّلُثُ يَحْتَمِلُ أَحَدَهُمَا، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُمَا على سواء، كما لو أعتقهما معا، لأنه جَعَلَ عِتْقَ الصِّفَةِ، فِي حَالِ عِتْقِ الْمُبَاشَرَةِ، وبخلاف مَا تَقَدَّمَ، فَيُعْتَقُ أَحَدُهُمَا بِالْقُرْعَةِ، وَلَا يُقَدَّمُ عِتْقُ الْمُبَاشَرَةِ عَلَى عِتْقِ الصِّفَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ - أن يُقَدَّمُ عِتْقُ سَالِمٍ، الْمُعْتَقِ(8/286)
بِالْمُبَاشَرَةِ، عَلَى عِتْقِ غَانِمٍ الْمُعْتَقِ بِالصِّفَةِ، لِأَنَّ عِتْقَ الْمُبَاشَرَةِ، أَصْلٌ وَعِتْقَ الصِّفَةِ فَرْعٌ، فَكَانَ حُكْمُ الْأَصْلِ، أَقْوَى مِنْ حُكْمِ الْفَرْعِ، فَسَوَّى بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَالَّتِي تَقَدَّمَتْ.
وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ، يَا سَالِمُ إِذَا تَزَوَّجْتُ فُلَانَةً، فَأَنْتَ حُرٌّ، ثُمَّ تَزَوَّجَ فُلَانَةَ عَلَى صَدَاقٍ أَلْفٍ، ومهر مثلها خمس مائة، وقيمة سالم خمس مائة، وثلث ماله خمس مائة دِرْهَمٍ، فَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ وَارِثَةً، بَطَلَتِ الْمُحَابَاةُ فِي صَدَاقِهَا، لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ لَا تَصِحُّ لِوَارِثٍ، وَعَتَقَ سَالِمٌ لِأَنَّهُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ.
وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ وَارِثَةٍ كَانَتْ أَحَقَّ بِالثُّلُثِ، فِي مُحَابَاةِ صَدَاقِهَا مِنَ الْعِتْقِ، وَرَقَّ سَالِمٌ، لِأَنَّ صِفَةَ عِتْقِهِ، تَقْدُمُ النِّكَاحَ، فَصَارَتِ الْمُحَابَاةُ فِيهِ أَسْبَقَ من العتق.
ولو قال: إذا تزوجت فلانة أنت حُرٌّ فِي حَالِ تَزَوُّجِي لَهَا: فَإِنْ وَرِثَتِ الزَّوْجَةُ: عُتِقَ سَالِمٌ، وَإِنْ لَمْ تَرِثْ فَعَلَى قولي ابن سريج وأبي حامد جميعا، يكون سَهْمًا لأنه مثل قيمة العبد وللورثة سهمين، ثم اجمع السهام تكن أربعة، وتقسم التركة عليها، وهي ثلثمائة درهم، يكن قسط كل سهم خمسة وسبعين درهما، وهو سهم العتق، فأعتق منه بخمسة وسبعين درهما، تكن ثلاثة أرباعه، فيصير ثلاثة أرباعه حرا، ويأخذ من التركة ثلاثة أرباع أرش جنايته، وذلك خمس وسبعون درهما، ويبقى مع الورثة مائة وخمسة وعشرين درهما وربع العبد بخمسة وعشرين درهما وهو مثلا ما خرج بالعتق.
فلو كانت المسألة بحالها وكان أرش الجناية ثلاثمائة درهم، جعلت للعتق سهما، وللأرش ثلاثة أسهم، لأنه ثلاثة أمثال قيمة العبد، وللورثة سهمين يكن الجميع ستة أسهم، ثم قسمت التركة، وهي ثلاثمائة درهم، على ستة أسهم تكن حصة كل سهم خمسين درهما، وهو سهم العتق فاعتق منه بالخمسين درهما، تكن نصفه، فيصير نصفه حرا، ونصفه رقا، ونأخذ من التركة نصف أرش جنايته وذلك مائة درهم وخمسون درهما، ويبقى مع الورثة خمسون درهما ونصف العبد خمسين درهما، يصير الجميع مائة درهم، وذلك مثلي ما خرج بالعتق. والله أعلم.
الثُّلُثُ فِي الْمُحَابَاةِ وَالْعِتْقُ بِالسَّوِيَّةِ، وَلَا يُقَدَّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، لِأَنَّ صِفَةَ الْعِتْقِ، وُجُودُ النِّكَاحِ، وَالنِّكَاحُ قَدْ كَمُلَ، وَإِنْ بَطَلَتْ بَعْضُ مُحَابَاتِهِ. وَلَيْسَ كَالْعِتْقِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ مِنْهُ مُتَعَلِّقٌ بِالدَّوْرِ
وَإِذَا أَعْتَقَ الْمَرِيضُ عَبْدًا قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ، لَا مَالَ لَهُ سِوَاهُ، عَتَقَ ثُلُثُهُ وَرَقَّ ثُلُثَاهُ.
فَإِنْ أَجَازَ الْوَرَثَةُ عِتْقَ ثُلُثَيْهِ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّ إِجَازَتَهُمْ تَنْفِيذٌ وَإِمْضَاءٌ، لَمْ يَحْتَجِ الْوَارِثُ مَعَ الْإِجَازَةِ، أَنْ يَتَلَفَّظَ بِالْعِتْقِ، وَكَانَ وَلَاءُ جَمِيعِهِ لِلْمُعْتِقِ.
وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ إِجَازَتَهُمُ ابْتِدَاءُ عَطِيَّةٍ مِنْهُمْ، لَمْ يُعْتَقْ بِالْإِجَازَةِ إِلَّا أَنْ يَتَلَفَّظَ بِعِتْقِهِ، أَوْ يَنْوِيَ بِالْإِجَازَةِ الْعِتْقَ. لِأَنَّ الْإِجَازَةَ كِنَايَةٌ فِي الْعِتْقِ. ثُمَّ قَدْ صَارَ جَمِيعُهُ حُرًّا، وَوَلَاءُ ثُلُثِهِ(8/287)
لِلْمُعْتِقِ الْمَيِّتِ، وَفِي وَلَاءِ بَاقِي ثُلُثَيْهِ. وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْإِصْطَخْرِيِّ: لِلْوَارِثِ، لِأَنَّهُ تَحَرَّرَ بعتقه.
والثاني: وهو قول أبي الحسن الكرخي: أَنَّهُ لِلْمُعْتِقِ الْمَيِّتِ، تَبَعًا لِلثُّلُثِ، لِأَنَّ الْوارثَ نَابَ فِيهِ عَنِ الْمَوْرُوثِ، الْمُعْتِقِ، وَصَارَ كَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَنْ غَيْرِهِ بِأَمْرِهِ فَإِنَّ وَلَاءَهُ يكون للمعتق عنه دون المالك.
فَإِذَا أَعْتَقَ فِي مَرَضِهِ عَبْدًا قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَخَلَّفَ سِوَى الْعَبْدِ مِائَةَ دِرْهَمٍ: عُتِقَ ثُلُثَا الْعَبْدِ وَذَلِكَ ثُلُثُ التَّرِكَةِ، لِأَنَّ التَّرِكَةَ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَثُلُثَهَا سِتَّةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا وَثُلُثَانِ، وَذَلِكَ قِيمَةُ ثُلُثَيِ الْعَبْدِ.
فَلَوْ خَلَّفَ سِوَى الْعَبْدِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ عُتِقَ جَمِيعُهُ لِخُرُوجِهِ مِنْ ثُلُثِ التَّرِكَةِ.
فَلَوْ كَانَ السَّيِّدُ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا قَدْ جَنَى عَلَى الْعَبْدِ بَعْدَ عِتْقِهِ جِنَايَةً أَرْشُهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ: قِيلَ لِلْعَبْدِ إِنْ عَفَوْتَ عَنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ نَفَذَ عِتْقُكَ لِخُرُوجِ قِيمَتِكَ مِنَ الثلث وإن لم تعف عجز جميع الثلث عن قِيمَتِكَ فَرق مِنْكَ قَدْرُ مَا عَجَزَ الثُّلُثُ عَنْهُ وَسَقَطَ مِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ بِقِسْطِهِ وَكَانَ لَكَ مِنَ الْأَرْشِ بِقَدْرِ مَا عتقَ مِنْكَ وصار فِيكَ دَوْرٌ، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَبَابُ الْعَمَلِ فيه أن تجعل للعتق سهما وللأرش سهمين.
فَصْلٌ آخَرُ مِنْهُ:
وَإِذَا أَعْتَقَ الْمَرِيضُ عَبْدًا قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَلَا مَالَ لَهُ سِوَاهُ فَكَسَبَ الْعَبْدُ فِي حَيَاةِ سَيِّدِهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ فكسب لنفسه عَلَى حُرِّيَّتِهِ وَرِقِّهِ فَمَا قَابَلَ حُرِّيَّتَهُ فَهُوَ لَهُ غَيْرُ مَضْمُومٍ إِلَى التَّرِكَةِ وَلَا مَحْسُوبٍ فِي الثُّلُثِ وَمَا قَابَلَ رِقَّهُ فَهُوَ لِلسَّيِّدِ مضموم إلى تركته فوائد فِي ثُلُثِهِ فَيَصِيرُ بِالْكَسْبِ دَوْرٌ فِي الْعِتْقِ وقدر الدائر السدس لأنه لو لم يكتسب شَيْئًا لَعُتِقَ ثُلُثُهُ وَإِذَا كَسَبَ مِثْلَ قِيمَتِهِ عُتِقَ نِصْفُهُ فَصَارَ الزَّائِدُ بِكَسْبِهِ فِي الْعِتْقِ بقدر سدسه وبابه أن نجعل للعتق سهما وللكسب سهما وللورثة سهمين تصير أربعة أسهم فاقسم العبد عليها فاعتق منه بسهمين منها وهو سهم المعتق وسهم الكسب فَيُعْتَقُ نِصْفُهُ بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا يَمْلِكُ بِهِ نِصْفَ كَسْبِهِ وَهُوَ خَمْسُونَ دِرْهَمًا يَصِيرُ مَعَهُمْ مِنْ رَقَبَتِهِ وَكَسْبِهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ هِيَ مِثْلَا مَا خرج بالعتق وإن قِيمَتِهِ وَجَعَلْتَ لِلْوَرَثَةِ سَهْمَيْنِ تَكُنْ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ يقسم العبد عليها فيعتق منه ثلاثة أَسْهُمٍ هِيَ سَهْمُ الْعِتْقِ وَسَهْمَا الْكَسْبِ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهِ بِسِتِّينَ دِرْهَمًا وَيَمْلِكُ بِهِ ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِ كسبه مائة وعشرون درهما ويزيد لِلْوَرَثَةِ خُمُسَاهُ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا وَيَبْقَى لَهُمْ خُمُسَا كَسْبِهِ ثَمَانُونَ دِرْهَمًا وَذَلِكَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا هي مثلا ما اعتق منه وإن شئت ضممت للكسب وَهُوَ مِائَتَا دِرْهَمٍ إِلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ وَهِيَ مائة درهم تكن ثلثمائة دِرْهَمٍ ثُمَّ قَسَّمْتَهَا عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ يَكُنْ قِسْطُ كُلِّ سَهْمٍ سِتِّينَ دِرْهَمًا فَيُعْتَقُ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا خَرَجَ بِهِ السَّهْمُ الْوَاحِدُ وَهُوَ ثلاثة أخماسه وتتبعه ثلاثة أخماس كسبه فيزيد خمساه وتتبعه خُمُسَا كَسْبِهِ وَلَوْ كَانَ كَسْبُهُ خَمْسِينَ دِرْهَمًا جَعَلْتَ لَهُ بِالْعِتْقِ سَهْمًا وَبِالْكَسْبِ نِصْفَ سَهْمٍ لِأَنَّهُ مِثْلُ نِصْفِ قِيمَتِهِ وَجَعَلْتَ لِلْوَرَثَةِ سَهْمَيْنِ فيصير ذلك ثلاثة أسهم ونصفا فأبسطهما لِمَخْرَجِ النِّصْفِ تَكُنْ سَبْعَةً ثُمَّ اقْسِمِ الْعَبْدَ عَلَيْهَا وَأَعْتِقْ مِنْهُ ثَلَاثَةَ(8/288)
أسهم منها وهي سهما العتق وسهما الكسب يعتق مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَسْبَاعِهِ مَعَ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا وَسِتَّةِ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ وَيَمْلِكُ بِهِ ثَلَاثَةَ أَسْبَاعِ كسبه أحدا وعشرون درهما وثلاثة أسباع درهم ويزيد للورثة أربعة أسباعه لسبعة وخمسين درهما وسبع درهم وتبقى لَهُمْ أَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ كَسْبِهِ وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ يَكُنِ الْجَمِيعُ خَمْسَةً وثمانين درهما وخمسة أسباع درهم وذلك مثل مَا عُتِقَ مِنْهُ وَلَوْ أَعْتَقَهُ وَقِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَخَلَّفَ سِوَاهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَكَسَبَ الْعَبْدُ قَبْلَ مَوْتِ سَيِّدِهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَاجْعَلْ لِلْعِتْقِ سَهْمًا وَلِلْكَسْبِ سَهْمًا وَلِلْوَرَثَةِ سَهْمَيْنِ ثُمَّ اجْمَعِ الكسب إلى التركة تكن ثلثمائة دِرْهَمٍ ثُمَّ اقْسِمْهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ تَكُنْ حِصَّةُ كُلِّ سَهْمٍ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ دِرْهَمًا وَهُوَ قدر ما خرج بالعتق فاعتق في الْعَبْدِ بِخَمْسَةٍ وَسَبْعِينَ دِرْهَمًا تَكُنْ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ وَتَأْخُذُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ كَسْبِهِ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ دِرْهَمًا يبقى مَعَ الْوَرَثَةِ مِائَةُ دِرْهَمٍ مِنْ أَصْلِ التَّرِكَةِ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا بَقِيَّةُ الْكَسْبِ وَرُبُعُ الْعَبْدِ بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا يَكُنِ الْجَمِيعُ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا وَهُوَ مِثْلَا مَا عُتِقَ مِنْهُ وَهَكَذَا لَوْ زَادَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ كَانَتْ فِي حُكْمِ كَسْبِهِ لِأَنَّهُ فِي قَدْرِ مَا عُتِقَ منه مقوم ليوم الْعِتْقِ وَفِيمَا رَقَّ مِنْهُ مُقَوَّمٌ يَوْمَ الْمَوْتِ فَإِنْ زَادَ مِثْلَ قِيمَتِهِ كَانَ كَمَا لَوْ كَسَبَ مِثْلَ قِيمَتِهِ وَإِنْ زَادَ نِصْفَ قِيمَتِهِ كَانَ كَمَا لَوْ كَسَبَ نِصْفَ قِيمَتِهِ فَإِذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ يَوْمَ الْعِتْقِ فَصَارَتْ قِيمَتُهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ يَوْمَ الْمَوْتِ عُتِقَ مِنْهُ نِصْفُهُ وَقِيمَةُ نِصْفِهِ يَوْمَ الْعِتْقِ خَمْسُونَ دِرْهَمًا وَرَقَّ نِصْفُهُ وَقِيمَةُ نِصْفِهِ يَوْمَ الْمَوْتِ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَذَلِكَ مِثْلَا مَا عُتِقَ مِنْهُ وَالْعَمَلُ فِيهِ كَالْعَمَلِ فِي الْكَسْبِ.
فَصْلٌ:
وَإِذَا أَعْتَقَ فِي مَرَضِهِ أَمَةً حَامِلًا عتقَتْ مَعَ حَمْلِهَا سَوَاءٌ أَرَادَهُ أَوْ لَمْ يُرِدْهُ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَلِدَ الْحُرَّةُ مَمْلُوكًا وَفِيمَا يُقَوَّمُ فِي ثُلُثِ الْعِتْقِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: تُقَوَّمُ الْأَمَةُ حَامِلًا يَوْمَ الْعِتْقِ وَلَا اعْتِبَارَ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ فَإِنْ خَرَجَتِ الْأَمَةُ مِنَ الثُّلُثِ نَفَذَ عِتْقُهَا وَعُتِقَ وَلَدُهَا، وَإِنْ لَمْ تَخْرُجِ الْأَمَةُ مِنَ الثلث عتق منها بقدر ما احتمله الثلث من نصف مثله وَعُتِقَ مِنْ وَلَدِهَا مِثْلُهُ وَرَقَّ مِنْهَا مَا لَمْ يَحْتَمِلْهُ الثُّلُثُ وَرَقَّ مَنْ وَلَدِهَا مِثْلُهُ.
والوجه الثاني: أن ينظر بِالْأَمَةِ حَتَّى تَلِدَ ثُمَّ تُقَوَّمُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ وَيُقَوَّمُ الْوَلَدُ يَوْمَ وُلِدَ وَيُجْمَعُ بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ فيعتبر أنه في الثلث فإن احتملهما الثلث عتق وَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلْهُمَا الثُّلُثُ عُتِقَ مِنْهُمَا مَعًا بِالسَّوِيَّةِ قَدْرُ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ وَلَمْ يُقْرَعْ بينهما بخلاف العبدين لأن الولد تبع الأمة إِذَا كَانَ حَمْلًا يُعْتَقُ بِعِتْقِهَا وَيَرِقُّ بِرِقِّهَا ولا يجوز أن يكون بينهما شَيْءٌ لَا يُعْتَقُ مِنْ حَمْلِهَا مِثْلُهُ فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الْأُمِّ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَقِيمَةُ الْوَلَدِ يَوْمَ وُلِدَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا فَإِنْ كان الثلث مائة وخمسين درهم عتق معا وإن كان الثلث مائة فهو يقدر ثلثي العبد فيعتق من الأم ثلثاها ستة وَسِتِّينَ دِرْهَمًا وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ وَيُعْتَقُ مِنَ الْوَلَدِ ثلثاه ثلاثة وثلاثين درهما وثلث درهم ورق ثُلُثُ الْأُمِّ وَثُلُثُ الْوَلَدِ، وَلَوْ أَنَّ مَرِيضًا أعتق كل حَمْلِ أَمَتِهِ لَمْ يَسْرِ الْعِتْقُ إِلَى الْأُمِّ وَكَانَ الْحَمْلُ وَحْدَهُ حُرًّا ذَكَرًا كَانَ أَوْ أنثى، واحدا أَوْ عَدَدًا، لِأَنَّ الْأَمَةَ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَلِدَ حُرًّا، فَلِذَلِكَ لَمْ يَسْرِ عِتْقُ الْحَمْلِ، إِلَى الْأُمِّ، وَالْحُرَّةُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَلِدَ عَبْدًا، فَلِذَلِكَ سَرَى عِتْقُ الْأُمِّ إِلَى الْحَمْلِ.(8/289)
فعلى هذا تعتبر قِيمَةُ الْحَمْلِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ وَجْهًا وَاحِدًا.
فَلَوْ أَعْتَقَ الْأُمَّ بَعْدَ عِتْقِ حَمْلِهَا نُظِرَ: فَإِنْ كان الثلث محتملا لقيمة الْأَوْلَادِ وَالْأُمِّ عُتِقُوا جَمِيعًا كُلُّهُمْ وَإِنِ احْتَمَلَ قِيمَةَ الْأَوْلَادِ دُونَ الْأُمِّ عُتِقَ الْأَوْلَادُ وَرَقَّتِ الأم من غير قرعة لأن قَدَّمَ عِتْقَهُمْ عَلَى عِتْقِ الْأُمِّ، وَلَوِ اتَّسَعَ الثُّلُثُ لِلْأَوْلَادِ وَبَعْضِ الْأُمِّ: عُتِقَ جَمِيعُ الْأَوْلَادِ وَعُتِقَ مِنَ الْأُمِّ قَدْرُ مَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ وَكَانَ بَاقِيهَا رِقًّا وَلَوْ ضَاقَ الثُّلُثُ عَنْ قِيمَةِ الْأَوْلَادِ كُلِّهِمْ أُقْرِعَ بَيْنَ الْأَوْلَادِ وجرى عتقه مَنِ احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ مِنْهُمْ وَرُقَّ مَنْ لَمْ يَحْتَمِلْهُ الثُّلُثُ مَعَ الْأُمِّ، وَإِنَّمَا أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ، وَلَمْ يُجْعَلْ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ مِنَ الْعِتْقِ مُقَسَّطًا بَيْنَهُمْ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُعْتَقَ بَعْضُهُمْ وَيَرِقَّ بَعْضُهُمْ وَقَدْ أَعْتَقَهُمْ بِلَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ فَصَارَ كَمَنْ أَعْتَق ثَلَاثَةَ أَعْبُدٍ لَهُ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ وَالثُّلُثُ لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا أَحَدَهُمْ عُتِقَ أَحَدُهُمْ بِالْقُرْعَةِ.
وَلَوْ أَنَّ مَرِيضًا أَعْتَقَ أَمَةً حَامِلًا وَأَعْتَقَ حَمْلَهَا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِمَا اسْتَأْنَفَهُ مِنْ عِتْقِ الْحَمْلِ تَأْثِيرًا لأنهم قد أعتقوا مَعَ الْأُمِّ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ.
وَلَوْ أَنَّ صَحِيحًا قَالَ لِعَبْدِهِ أَوْ أَمَتِهِ: إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشهر فأنت حر ثم صار رَأْسُ الشَّهْرِ وَالسَّيِّدُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ كَانَ عِتْقُهُمْ عِتْقَ صِحَّةٍ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ لِأَنَّهُ تلفظ به فيهم في حصته فلم تنتقل عن حكمه لحدوث الْمَرَضِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ:
فِي هِبَةِ الْمَرِيضِ وما يتصل به في الدور
وإذ وهب المريض في مرضه، هِبَةً، فَإِنْ كَانَتْ لِوَارِثٍ، فَهِيَ مَرْدُودَةٌ، لِأَنَّ هِبَةَ الْمَرِيضِ وَصِيَّةٌ مِنْ ثُلُثِهِ، وَالْوَارِثُ مَمْنُوعٌ مِنَ الْوَصِيَّةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ وُهِبَ لِغَيْرِ وَارِثٍ، فَصَارَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَارِثًا، كَانَتْ بَاطِلَةً، لِأَنَّهَا صَارَتْ هِبَةً لِوَارِثٍ، وَلَوْ وَهَبَ لِوَارِثٍ، فَصَارَ عِنْدَ الْمَوْتِ غَيْرَ وَارِثٍ، فَهِيَ هِبَةٌ لِغَيْرِ وارث اعتبارا بحاله عِنْدَ الْمَوْتِ.
وَلَوْ وَهَبَ فِي مَرَضِهِ لِوَارِثِهِ، ثُمَّ مَاتَ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبْلَ الْوَاهِبِ، صَحَّتِ الْهِبَةُ إِنِ احْتَمَلَهَا الثُّلُثُ، لِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ قَبْلَهُ صَارَ غَيْرَ وَارِثٍ.
وَلَوْ وَهَبَ لِوَارِثٍ فِي مَرَضِهِ، ثُمَّ صَحَّ مِنْهُ وَمَاتَ مِنْ غَيْرِهِ، كَانَتِ الْهِبَةُ جَائِزَةً، لِأَنَّ تَعَقُّبَ الصِّحَّةِ يمنع من أن يكون ما يقدمه وَصِيَّةً.
فَأَمَّا إِذَا وَهَبَ لِأَجْنَبِيٍّ فِي مَرَضِهِ الذي مات منه، هبة فإن لم يقبضها حَتَّى مَاتَ: فَالْهِبَةُ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهَا لَا تَتِمُّ إلا بالقبض.
وإن أقبضه قبل الموت: صَحَّتِ الْهِبَةُ، وَكَانَتْ مِنَ الثُّلُثِ، تَمْضِي إِنِ احْتَمَلَهَا الثُّلُثُ، وَيُرَدُّ مِنْهَا مَا عَجَزَ الثُّلُثُ عنه.
وَهَكَذَا لَوْ وَهَبَ فِي صِحَّتِهِ، وَأَقْبَضَ فِي مَرَضِهِ، كَانَتْ فِي ثُلُثِهِ، لِأَنَّهَا بِالْقَبْضِ فِي الموصي، فَصَارَتْ هِبَةً فِي الْمَرَضِ.
فَلَوْ وَهَبَ فِي مرضه وأقبض، وأعتق، فإن كان الثلث يحتملها، صحت الهبة والعتق،(8/290)
وإن كان الثلث لا يحتملها: لم يصح. وَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ يَحْتَمِلُ أَحَدَهُمَا صَحَّتِ الْهِبَةُ لِتَقَدُّمِهَا، وَرُدَّ الْعِتْقُ لِتَأَخُّرِهِ.
وَلَوْ أَعْتَقَ قَدْرَ ثُلُثِهِ ثُمَّ وَهَبَ صَحَّ وَرُدَّتِ الْهِبَةُ اعْتِبَارًا بالتقدم سوءا كَانَ الْمُتَقَدِّمُ عِتْقًا أَوْ هِبَةً.
وَلَوْ وَهَبَ قَدْرَ ثُلُثِهِ ثُمَّ أَوْصَى بِالثُّلُثِ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي عِتْقٍ أَوْ غَيْرِهِ كَانَتِ الْهِبَةُ فِي الْمَرَضِ مُقَدَّمَةً عَلَى الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ نَاجِزَةٌ فإذا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فَدَوْرُ هَذَا الْفَصْلِ يُتَصَوَّرُ فِي مَرِيضٍ وَهَبَ لِأَخِيهِ عَبْدًا قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْهُوبُ له قبل الواهب وخلف بنتا وَأَخَاهُ الْوَاهِبُ فَقَدْ زَادَتْ تَرِكَةُ الْوَاهِبِ بِمَا ورثه من الموهوب له فزادت الهبة بالزائد في الْمِيرَاثِ وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَطَرِيقُ الْعَمَلِ فِيهِ أن تقول الخارج بالهبة سهم من ثلاثة فإذا ورث الوارث نصفه وأسقط من سهميه يبقى له سهم ونصف والهبة سَهْمٌ فَابْسُطْ ذَلِكَ لِمَخْرَجِ النِّصْفِ تَكُنْ خَمْسَةً منها للهبة سهمان فتصح الهبة في خمس الْعَبْدِ وَيَبْقَى مَعَ الْوَاهِبِ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهِ ثُمَّ وَرِثَ مِنَ الْمَوْهُوبِ أَحَدَ الْخُمُسَيْنِ فَصَارَ مَعَهُ أربعة أخماس العبد وذلك مثلي مَا صَحَّتْ فِيهِ الْهِبَةُ مِنَ الْخُمُسَيْنِ.
فَلَوْ كان الواهب وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا مَعَ الْعَبْدِ الْمَوْهُوبِ الَّذِي قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ صَارَ مَالُ الْوَاهِبِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فاقسمها على خمسة يكن قسط كل واحد سَهْمٍ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَأَمْضِ مِنْ هِبَةِ الْعَبْدِ بسهمين منهما تَكُنْ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ وَهُوَ قَدْرُ مَا جَازَتْ فيه الوصية وَبَقِيَ مَعَ الْوَاهِبِ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَخُمُسُ الْعَبْدِ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا وَوَرِثَ مِنَ الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ الْمَوْهُوبَةِ، خمسين بأربعين درهما ومعه مِائَةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا وَذَلِكَ مِثْلَا مَا جَازَتْ فيه الوصية.
وَلَوْ كَانَ الْوَاهِبُ قَدْ خَلَّفَ مِائَةً وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا جَازَتِ الْهِبَةُ فِي الْعَبْدِ كُلِّهِ لِأَنَّ التركة تصير مائتي وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا فَإِذَا قَسَّمْتَهَا عَلَى خَمْسَةٍ كَانَ قِسْطُ كُلِّ سَهْمٍ خَمْسِينَ دِرْهَمًا فَإِذَا جَمَعْتَ بَيْنَ سَهْمَيْنِ كَانَ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَهِيَ قِيمَةُ كُلِّ الْعَبْدِ وَيَبْقَى مَعَ الْوَاهِبِ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا ثُمَّ وَرِثَ نِصْفَ الْعَبْدِ خَمْسِينَ دِرْهَمًا صَارَ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَذَلِكَ مِثْلَا قِيمَةِ الْعَبْدِ.
فَلَوْ كَانَ الْوَاهِبُ لَا يَمْلِكُ غَيْرَ الْعَبْدِ وَكَانَ عَلَيْهِ خَمْسُونَ دِرْهَمًا دَيْنًا كَانَ نِصْفُ الْعَبْدِ مُسْتَحَقًّا فِي الدَّيْنِ وَنِصْفُهُ الْبَاقِي مَقْسُومًا عَلَى خَمْسَةٍ لِلْهِبَةِ مِنْهُ بِسَهْمَيْنِ الْخُمُسُ بعشرين وَيَبْقَى مَعَ الْوَاهِبِ خُمُسٌ وَنِصْفٌ بِثَلَاثِينَ دِرْهَمًا وَوَرِثَ مِنَ الْخُمُسِ الْمَوْهُوبِ نِصْفُهُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ صَارَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَهِيَ مِثْلَا مَا خَرَجَ بِالْهِبَةِ.
فَلَوْ كَانَ الْوَاهِبُ لَا يَمْلِكُ غَيْرَ الْعَبْدِ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ لَكِنْ خَلَّفَ الْمَوْهُوبَ لَهُ سِوَى مَا وَهَبَ لَهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَطَرِيقُ الْعَمَلِ فِيهِ أَنْ تَقُولَ: تَرَكَ الْوَاهِبُ عَبْدًا قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَقَدْ وَرِثَ عَنْ أَخِيهِ نِصْفَ الْمَالِ خَمْسِينَ دِرْهَمًا صَارَ الجميع مائة وخمسين درهما. فإذا قسمت عَلَى الْخَمْسَةِ كَانَ قِسْطُ كُلِّ سَهْمٍ ثَلَاثِينَ درهما فامض من هبة العبد بسهمين قَدْرُهُمَا سِتُّونَ دِرْهَمًا تَكُنْ ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِهِ وَهُوَ قدر ما كانت فِيهِ الْهِبَةُ وَقَدْ بَقِيَ مَعَ الْوَاهِبِ خُمُسَاهُ بأربعين درهما(8/291)
وورث نصف ثلاث أَخْمَاسِهِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا وَنِصْفَ الْمِائَةِ خَمْسِينَ دِرْهَمًا صار معه مائة وعشرون درهما وذلك مثلي ما جاز بالهبة.
فَصْلٌ آخَرُ مِنْهُ:
وَإِذَا وَهَبَ الْمَرِيضُ لِمَرِيضٍ عَبْدًا ثُمَّ وَهَبَهُ الْمَرِيضُ الْمَوْهُوبُ لَهُ لِلْمَرِيضِ الْوَاهِبِ ثُمَّ مَاتَا وَلَمْ يُخَلِّفَا غَيْرَ الْعَبْدِ الذي يواهباه فالعبد بين ورثتيهما عَلَى ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ مِنْهَا لِوَرَثَةِ الْوَاهِبِ الْأَوَّلِ ستة أثمانه ولورثة الواهب الثاني ثمناه.
فوجه الْعَمَلِ فِيهِ أَنَّ الْوَاهِبَ الْأَوَّلَ لَمَّا وَهَبَهُ نَفَذَتِ الْهِبَةُ فِي ثُلُثِهِ وَلَمَّا وَهَبَ الثَّانِي الثلث نفذت الهبة في ثلثه فصار الداير عَلَى الْأَوَّلِ ثُلُثَ الثُّلُثِ وَهُوَ سَهْمٌ مِنْ تسعة فاسقطه ليتقطع دوره بقي من التسعة ثمانية أسهم للعبد مَقْسُومٌ عَلَيْهَا مِنْهَا هِبَةُ الْأَوَّلِ لِلثَّانِي ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَهِبَةُ الثَّانِي لِلْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ سَهْمٌ وَقَدْ كَانَ مَعَ الْأَوَّلِ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ وَعَادَ إِلَيْهِ سَهْمٌ فَصَارَ مَعَ وَرَثَتِهِ سِتَّة أَثْمَانِ الْعَبْدِ وَهُوَ مِثْلَا مَا جَازَ مِنْ هِبَتِهِ لِأَنَّ الْجَائِزَ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَثْمَانِهِ وَمَعَ وَرَثَةِ الثَّانِي ثُمُنَا الْعَبْدِ وَهُوَ مِثْلَا مَا جاز من هبته لأن الجائز ثُمُنُهُ، وَسَوَاءٌ مَاتَ الثَّانِي قَبْلَ الْأَوَّلِ أَوِ الأول قبل الثاني لأنها هبة بتاتا. وَلَكِنْ لَوْ كَانَ الْوَاهِبُ الثَّانِي مَا وَهَبَ هبة بنات وأوصى ولو أوصى الثَّانِي لِلْأَوَّلِ بِثُلُثِ مَالِهِ نُظِرَ فَإِنْ مَاتَ الثَّانِي قَبْلَ الْأَوَّلِ كَانَ الْجَوَابُ عَلَى مَا مَضَى لِأَنَّهُ قَدْ عَادَ إِلَى الْأَوَّلِ ثُلُثُ مَا وَهَبَ وَإِنْ مَاتَ الْأَوَّلُ قَبْلَ الثَّانِي بَطَلَتْ وَصِيَّةُ الثَّانِي لِلْأَوَّلِ وَصَحَّتْ هِبَةُ الْأَوَّلِ في ثلث العبد لانقطاع الدور.
فصل:
في بيع المريض وشرائه
وبيع المريض وشراؤه جائزا إِذَا كَانَ بِثَمَنِ مِثْلِهِ وَلَمْ يَدْخُلْهُ غَبْنٌ ولا يَتَغَابَنُ أَهْلُ الْمِصْرِ بِمِثْلِهِ وَسَوَاءٌ بَاعَ الْمَرِيضُ عَلَى وَارِثٍ أَوْ غَيْرِ وَارِثٍ أَوِ اشْتَرَى الْمَرِيضُ مِنْ وَارِثٍ أَوْ غَيْرِ وَارِثٍ.
وَقَالَ أبو حنيفة: إِذَا بَاعَ الْمَرِيضُ عَلَى وَارِثِهِ كَانَ بَيْعُهُ مَرْدُودًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ غَبْنٌ وَلَا مُحَابَاةٌ لِأَنَّهُ قَدْ خَصَّ بَعْضَ ورثته بمال يتساوى فِيهِ.
وَهَذَا فَاسِدٌ بَلْ بَيْعُهُ عَلَيْهِ لَازِمٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُحَابَاةٌ وَلَا غَبْنٌ لِأَنَّ اعْتِرَاضَ الْوَرَثَةِ عَلَى الْمَرِيضِ فِي الْمِقْدَارِ لَا فِي الْأَعْيَانِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ بَاعَ أَجْنَبِيٍّ بِثَمَنِ مِثْلِهِ صَحَّ الْبَيْعُ مَعَ انْتِقَالِ الْعَيْنِ لِحُصُولِ الْمِقْدَارِ، وَلَوْ بَاعَهُمْ بِأَقَلَّ كَانَ لَهُمْ فِيهِ اعْتِرَاضٌ لِنَقْصِ الْمِقْدَارِ.
فَأَمَّا إِذَا حَابَى الْمَرِيضُ فِي بَيْعِهِ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ أَهْلُ الْمِصْرِ بِمِثْلِهِ. كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ عَطِيَّةً فِي مَرَضِهِ مَحَلُّهَا الثُّلُثُ إِنْ لَمْ يُنْقِصْهُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي وَارِثًا رُدَّتِ الْمُحَابَاةُ لأنها لَا تَجُوزُ لِوَارِثٍ.
فَعَلَى هَذَا: لَوْ بَاعَهُ عَبْدًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَالْعَبْدُ يُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَالْمِائَةُ الَّتِي هِيَ ثَمَنُهُ تُقَابِلُ نِصْفَ قِيمَتِهِ فَصَارَتِ الْمُحَابَاةُ بِنِصْفِهِ فَيُقَالُ لِلْوَارِثِ لَكَ الْخِيَارُ فِي أَنْ تَأْخُذَ بِالْمِائَةِ نِصْفَ الْعَبْدِ وَهُوَ قدر مثلها مُحَابَاةَ فِيهِ، وَيَكُونُ النِّصْفُ الْآخَرُ الَّذِي هُوَ الْمُحَابَاةُ مَرْدُودًا إِلَى(8/292)
التَّرِكَةِ. وَإِنَّمَا كَانَ لَهُ الْخِيَارُ لِأَنَّهُ عَاقِدٌ بالمائة على جميع العبد فوصل لَهُ نِصْفُهُ.
وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ يُسَاوِي مِائَةً وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا وَقَدْ بَاعَهُ عَلَيْهِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ كان له الخيار في أحد ثُلُثَيِ الْعَبْدِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَرُدَّ ثُلُثُهُ الَّذِي هُوَ قَدْرُ الْمُحَابَاةِ أَوْ يُفْسَخُ الْبَيْعُ وَيَسْتَرْجِعُ المائة وله بدل الباقي للورثة قِيمَةَ مَا زَادَ بِالْمُحَابَاةِ مِنْ نِصْفٍ أَوْ ثُلُثٍ لَمْ يُجِيزُوا عَلَيْهِ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِيهِ قد بطل فلم يلزمهم أن يستأنفوا مع عَقْدًا فِيهِ إِلَّا عَنْ مُرَاضَاةٍ، وَإِنَّمَا يُمَلَّكُ عَلَيْهِمْ بِعَقْدِ الْبَيْعِ مَا لَا مُحَابَاةَ فِيهِ.
وَكَانَ أَبُو الْقَاسِمِ الدَّارَكِيُّ يَحْمِلُ صِحَّةَ الْبَيْعِ فِيمَا لَا مُحَابَاةَ فِيهِ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ فَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي لَا يَجُوزُ فِيهِ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ فَيَجْعَلُ الْبَيْعَ فِي الْجَمِيعِ بَاطِلًا وَلَيْسَ كَمَا قَالَ لِأَنَّ قَدْرَ الْمُحَابَاةِ فِي حُكْمِ الْهِبَةِ وَمَا لا محاباة فيه بيع لم تفترق صفته، فكذلك صَحَّ الْعَقْدُ فِيهِ قَوْلًا وَاحِدًا وَإِنْ ثَبَتَ فِيهِ خِيَارٌ وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي أَجْنَبِيًّا كَانَ قدر الْمُحَابَاةَ فِي الثُّلُثِ فَإِنِ احْتَمَلَهَا الثُّلُثُ أَمْضَى الْبَيْعَ فِي الْجَمِيعِ وَإِنْ عَجَزَ الثُّلُثُ عَنْهَا أمضى منه قدر ما احتمله الثلث وعلى هَذَا لَوْ بَاعَ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ عَبْدًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَالْعَبْدُ يُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَالْمُحَابَاةُ هِيَ نِصْفُ الْعَبْدِ وَقِيمَةُ نِصْفِهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَإِنْ خَلَّفَ الْبَائِعُ مَعَ هَذَا الْعَبْدِ مِائَةَ دِرْهَمٍ خَرَجَتِ الْمُحَابَاةُ كُلُّهَا مِنَ الثُّلُثِ وَأَخَذَ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَقَدْرُ الْمُحَابَاةِ نِصْفُهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَحَصَلَ مَعَ الْوَرَثَةِ مِائَتَا دِرْهَمٍ مِائَةٌ منها ثمن، ومائة منها تركة، وهما مثلي الْمُحَابَاةِ، فَلَوْ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالْعَبْدِ عَيْبًا فَأَرَادَ رَدَّهُ، فَلَهُ ذَلِكَ، وَيَسْتَرْجِعُ الْمِائَةَ الَّتِي دَفَعَهَا ثمنا فلو قال: أرد نصف المائة وَآخُذُ نِصْفَهُ بِالْمُحَابَاةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهَا مُحَابَاةٌ فِي عَقْدٍ فَلَمْ يَصِحَّ ثُبُوتُهَا مَعَ ارْتِفَاعِ الْعَقْدِ.
فَأَمَّا إِذَا لَمْ يُخَلِّفِ الْبَائِعُ غَيْرَ الْعَبْدِ الَّذِي بَاعَهُ بِمِائَةٍ وَقِيمَتُهُ مِائَتَانِ فَالْمُحَابَاةُ بِنِصْفِهِ وَلَزِمَهُ ثُلُثُ جَمِيعِ التَّرِكَةِ وَهُوَ ثُلُثُ الْعَبْدِ فَيَكُونُ لَهُ الْخِيَارُ فِي أَنْ يَأْخُذَ خَمْسَةَ أَسْدَاسِهِ بِالْمِائَةِ أَوْ يَفْسَخَ وَيَسْتَرْجِعَ الْمِائَةَ وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَقُولَ لَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ ثَمَنًا وَلَهُ ثُلُثُ التَّرِكَةِ وَصِيَّةً وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا وَثُلُثَا دِرْهَمٍ يَصِيرُ الْجَمِيعُ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَسِتَّةً وَسِتِّينَ دِرْهَمًا وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ فَيَأْخُذُ مِنَ الْعَبْدِ بِهَا وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ الْعَبْدِ وَيَبْقَى مَعَ وَرَثَةِ الْبَائِعِ سُدُسُهُ بِثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ دِرْهَمًا وَثُلُثُ دِرْهَمٍ وَمِائَةُ دِرْهَمٍ ثَمَنًا يَصِيرُ الْجَمِيعُ مِثْلَيْ مَا خَرَجَ بِالْمُحَابَاةِ.
فَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ قَدْ خَلَّفَ سِوَى الْعَبْدِ خَمْسِينَ دِرْهَمًا: كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَ خَمْسَةَ أَسْدَاسِهِ وَنِصْفَ سُدُسِهِ بِالْمِائَةِ، لِأَنَّ التَّرِكَةَ تَصِيرُ مائتين وخمسين درهما، ثلثها ثلاثة وثلاثون درهما وثلث درهم فإذا انضم إلى الثمن وهو مِائَةُ دِرْهَمٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا وَثُلُثُ دِرْهَمٍ فيأخذ من العبد ثمنا فَيَكُونُ ذَلِكَ مُقَابِلًا لِخَمْسَةِ أَسْدَاسِهِ وَنِصْفِ سُدُسِهِ وَيَبْقَى مَعَ الْوَرَثَةِ نِصْفُ سُدُسِهِ بِسِتَّةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا تَرِكَة، وَمِائَةُ دِرْهَمٍ ثَمَنٌ صَارَ الْجَمِيعُ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَسِتَّةً وَسِتِّينَ دِرْهَمًا وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ وَذَلِكَ مِثْلَا مَا خَرَجَ بِالْمُحَابَاةِ فَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ الَّذِي بَاعَهُ الْمَرِيضُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ يُسَاوِي مِائَةً وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا صَحَّ الْبَيْعُ فِي جَمِيعِهِ وَإِنْ(8/293)
لَمْ يُخَلِّفْ غَيْرَهُ لِأَنَّ قَدْرَ الْمُحَابَاةِ فِيهِ خَمْسُونَ دِرْهَمًا هِيَ قَدْرُ ثُلُثِهِ فَصَحَّ جَمِيعُهَا، فهذا حكم المحاباة في البيع.
فصل:
فأما الْمُحَابَاةُ فِي الشِّرَاءِ:
فَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ الْمَرِيضُ عَبْدًا بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ، يُسَاوِي مِائَةً.
فَقَدْرُ الْمُحَابَاةِ فِي ثَمَنِهِ، مِائَةُ دِرْهَمٍ.
فَإِنْ صَحَّ الْمُشْتَرِي مِنْ مَرَضِهِ، لَزِمَهُ دَفْعُ الْمِائَتَيْنِ ثَمَنًا. وَإِنْ مات من مَرِضِهِ، نُظِرَ فِي الْبَائِعِ، فَإِنْ كَانَ وَارِثًا، لَا تَجُوزُ لَهُ الْمُحَابَاةُ فِي الْمَرَضِ وَرُدَّتْ وَكَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يَمْضِيَ الْبَيْعُ فِي الْعَبْدِ كُلِّهِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ الَّتِي هِيَ ثَمَنُ مِثْلِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يُفْسَخَ وَيسترْجَعَ الْعَبْدُ، لِأَنَّهُ بَاعَهُ بِثَمَنٍ صَارَ لَهُ بَعْضُهُ، فَلِذَلِكَ ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ.
فَإِنِ اخْتَارَ إِمْضَاءَ الْبَيْعِ، فَلَا خِيَارَ لِوَرَثَةِ الْمُشْتَرِي، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِمْ نَقْصٌ.
وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ أَجْنَبِيًّا: فَإِنْ خَلَّفَ الْمُشْتَرِي مَعَ الثَّمَنِ مِائَةَ دِرْهَمٍ صَحَّتِ الْمُحَابَاةُ لأن التركة ثلاثة مائة دِرْهَمٍ، وَقَدْرَ الْمُحَابَاةِ مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَهِيَ ثُلُثُ التركة.
فلو وجد وَرَثَةُ الْمُشْتَرِي بِالْعَبْدِ عَيْبًا، لَمْ يَعْلَمْ بِهِ المشتري: كان لهم في الْخِيَار فِي فَسْخِ الْبَيْعِ، وَإِبْطَالِ الْمُحَابَاةِ، وَاسْتِرْجَاعِ الثَّمَنِ كُلِّهِ، لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ إِنَّمَا تَلْزَمُهُمْ عِنْدَ احْتِمَالِ الثُّلُثِ لَهَا إِذَا لَمْ يَحْدُثْ خِيَارٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْفَسْخَ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَرِيضَ لو رآه، لا يستحق بِهِ الْفَسْخَ. فَكَذَلِكَ وَرَثَتُهُ.
وَإِنْ لَمْ يُخَلِّفِ الْمُشْتَرِي شَيْئًا سِوَى الثَّمَنِ وَهُوَ مِائَتَا دِرْهَمٍ: صَحَّتِ الْمُحَابَاةُ بِثُلُثِ الْمِائَتَيْنِ، وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا، وَثُلُثَا دِرْهَمٍ وَيَكُونُ لِلْبَائِعِ الْخِيَارُ فِي إِمْضَاءِ الْبَيْعِ فِي الْعَبْدِ كُلِّهِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَسِتَّةٍ وَسِتِّينَ دِرْهَمًا وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ، وَيُرَدُّ الْبَاقِي الَّذِي لَا يَحْتَمِلُهُ الثُّلُثُ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا وَثُلُثُ دِرْهَمٍ.
فَإِذَا عَادَ إِلَى الْوَرَثَةِ معهم عَبْدٌ يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ، صَارَ مَعَهُمْ مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا، وَثُلُثُ دِرْهَمٍ، فَذَلِكَ مِثْلَا مَا خَرَجَ بِالْمُحَابَاةِ، ثُمَّ عَلَى هَذَا القياس.
ويكون الفرق بين المحاباة في الشراء، والمحاباة في البيع مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ الثُّلُثُ مِنَ الْمُحَابَاةِ فِي الْبَيْعِ يَكُونُ مَرْدُودًا مِنَ الْمَبِيعِ، دُونَ الثَّمَنِ. وَمَا لَا يَحْتَمِلُهُ الثُّلُثُ مِنَ الْمُحَابَاةِ فِي الشِّرَاءِ يَكُونُ مَرْدُودًا مِنَ الثَّمَنِ دُونَ الْمَبِيعِ.
وَالْفَرْقُ الثَّانِي: إِنَّهُ إذا زادت الْمُحَابَاةُ فِي الْبَيْعِ، كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي دُونَ البائع.
وإذا زادت الْمُحَابَاةُ فِي الشِّرَاءِ، كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي، فَلَوِ اشْتَرَى الْمَرِيضُ مِنْ مَرِيضٍ عَبْدًا يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ، بِعَبْدٍ يُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ. فَمُشْتَرِي الْعَبْدِ الْأَعْلَى غَابِنٌ فَلَا خِيَارَ لِوَرَثَتِهِ.
وَمُشْتَرِي الْعَبْدِ الْأَدْنَى مَغْبُونٌ. فَإِنْ لَمْ يُخَلِّفْ غَيْرَ الْعَبْدِ الَّذِي دَفَعَهُ ثَمَنًا وَقِيمَتُهُ مِائَتَا(8/294)
دِرْهَمٍ، فَلِوَرَثَتِهِ أَخْذُ الْعَبْدِ الْأَدْنَى، بِخَمْسَةِ أَسْدَاسِ العبد الأعلى، ولورثة صاحب الغبن الأدنى الخيار في إمضاء البيع أو في الْفَسْخِ.
وَهَكَذَا الْغَبْنُ فِي الْمَرَضِ يَجْرِي مَجْرَى الْمُحَابَاةِ فِي اعْتِبَارِهَا مِنَ الثُّلُثِ.
فَلَوِ اشْتَرَى الْمَرِيضُ عَبْدًا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ، ثُمَّ اشْتَرَى عَبْدًا ثَانِيًا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ: فَإِنْ كَانَ الثلث يحتمل الْمُحَابَاةَ فِي الْعَبْدَيْنِ: لَزِمَتِ الْمُحَابَاةُ فِيهِمَا.
وَإِنْ كان الثلث يحتمل المحاباة في أحدهما، ويعجز في الْآخَرِ، قُدِّمَتِ الْمُحَابَاةُ فِي الْأَوَّلِ، ثُمَّ جُعِلَ مَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ مَصْرُوفًا فِي مُحَابَاةِ الثَّانِي.
وَلَوْ كَانَ الثُّلُثُ بِقَدْرِ الْمُحَابَاةِ فِي الْعَبْدِ الْأَوَّلِ جُعِلَ الثُّلُثُ مَصْرُوفًا فِي مُحَابَاةِ العبد الأول وزادت الْمُحَابَاةُ فِي الْعَبْدِ الثَّانِي، فَعَلَى هَذَا: لَوْ وَجَدَ وَرَثَةُ الْمُشْتَرِي بِالْعَبْدِ الْأَوَّلِ عَيْبًا، فَلَهُمُ الْخِيَارُ فِي إِمْضَاءِ الْبَيْعِ فِيهِ، وَرَدِّهِ.
فَإِنْ أرضوه فَالْمُحَابَاةُ فِيهِ هِيَ اللَّازِمَةُ، دُونَ الْمُحَابَاةِ الثَّانِيَةِ.
وَإِنْ رَدُّوهُ: أُمْضِيَتِ الْمُحَابَاةُ فِي الْعَبْدِ الثَّانِي، وصار الثلث مصروفا إليهما، لأن الميت قد جعل ثلث ماله لها. وَإِنَّمَا اخْتَصَّ الْأَوَّلُ بِهِ لِتَقَدُّمِهِ. فَإِذَا امْتَنَعَ منه بالفسخ صار الثاني لِأَنَّ إِخْرَاجَ الثُّلُثِ لَازِمٌ لِلْوَرَثَةِ فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا.
فَصْلٌ:
فَلَوِ اخْتَلَفَ وَرَثَةُ الْمَيِّتِ الْبَائِعُ، وَالْمُشْتَرِي، فَقَالَ وَرَثَةُ الْبَائِعِ لِلْمُشْتَرِي، حَابَاكَ فَبَاعَكَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِهِ، وَأَنْكَرَ الْمُشْتَرِي الْمُحَابَاةَ، أَوْ قَالَ وَرَثَةُ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ: حَابَاكَ فَاشْتَرَى مِنْكَ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ، وَأَنْكَرَ الْبَائِعُ الْمُحَابَاةَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ السِّلْعَةُ بَاقِيَةً.
وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ تَالِفَةً.
فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً: فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَنَّهَا: لَمْ تَزِدْ فِي بَدَنِهَا، وَلَا سُوقِهَا، وَلَمْ تنقص.
وإن كَانَ كَذَلِكَ قُطِعَ اخْتِلَافُهُمَا بِتَقْوِيمِ مُقَوِّمَيْنِ، فَمَا قَالَاهُ مِنْ ظُهُورِ الْمُحَابَاةِ، أَوْ عَدَمِهَا عُمِلَ عَلَيْهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَخْتَلِفَا مَعَ بَقَائِهَا فِي سُوقِهَا وَبَدَنِهَا. فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَذْكُرَ مُدَّعِي الْمُحَابَاةِ أَنَّهَا كَانَتْ زَائِدَةً فِي بَدَنِهَا، أَوْ سُوقِهَا عِنْدَ الْعَقْدِ، فَنَقَصَتْ عِنْدَ التَّقْوِيمِ.
وَقَالَ مُنْكِرُ الْمُحَابَاةِ، لَمْ تَزَلْ نَاقِصَةً فِي سُوقِهَا وَبَدَنِهَا عِنْدَ الْعَقْدِ وَالتَّقْوِيمِ. فَالْقَوْلُ، قَوْلُ مُنْكِرِ الْمُحَابَاةِ مَعَ يَمِينِهِ، لأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِمَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ مِنْ تَقَدُّمِ الزِّيَادَةِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَذْكُرَ مُدَّعِي الْمُحَابَاةِ، أَنَّهَا لَمْ تَزَلْ عِنْدَ الْعَقْدِ وَالتَّقْوِيمِ عَلَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ فِي سُوقِهَا وَبَدَنِهَا، وَيَذْكُرَ مُنْكِرُ الْمُحَابَاةِ أَنَّهَا كَانَتْ نَاقِصَةً عِنْدَ الْعَقْدِ، فَزَادَتْ عِنْدَ التَّقْوِيمِ فِي سُوقِهَا، أَوْ بَدَنِهَا.(8/295)
فَالْقَوْلُ، قَوْلُ مُدَّعِي الْمُحَابَاةِ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِتَقَدُّمِ النُّقْصَانِ فَهَذَا حُكْمُ اخْتِلَافِهِمَا، إِذَا كَانَتِ السِّلْعَةُ بَاقِيَةً.
فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ تَالِفَةً لَا يُمْكِنُ الرُّجُوعُ إِلَى تَقْوِيمِهَا، فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ، لأن اختلافهما في المحاباة مأول إِلَى الِاخْتِلَافِ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ، أَوْ قَدْرِ المثمن.
وإذا باع المريض كد طعام يساوي ثلاث مائة درهم، لا مال له غيره، بكد شَعِيرٍ يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ، فَقَدْرُ الْمُحَابَاةِ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَالثُّلُثُ مِائَةُ دِرْهَمٍ، فَلِلْوَرَثَةِ أَنْ يَأْخُذُوا كد الشعير بثلثي كد الطَّعَامِ. وَقِيمَتُهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ، قَدْ دَخَلَهَا مِنَ الْمُحَابَاةِ قَدْرُ الثُّلُثِ، مِائَةُ دِرْهَمٍ، ثُمَّ الْخِيَارُ لِصَاحِبِ الشَّعِيرِ لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ بِكُلِّ الشَّعِيرِ بَعْضَ الطَّعَامِ، وَلَا خِيَارَ لِصَاحِبِ الطَّعَامِ لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ بِبَعْضِ الطَّعَامِ كُلَّ الشَّعِيرِ.
وَلَوْ كان كد الشَّعِيرِ يُسَاوِي مِائَةً وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا، كَانَ لِوَرَثَةِ صاحب الطعام أن يأخذوا كد الشعير بخمسة أسداس كد الطَّعَامِ، لِأَنَّ الثُّلُثَ مِائَةُ دِرْهَمٍ، فَإِذَا زِدْتَهُ عَلَى ثَمَنِ الشَّعِيرِ، صَارَ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا، وَذَلِكَ يُقَابِلُ خَمْسَةَ أَسْدَاسِ ثَمَنِ الطَّعَامِ فَلِذَلِكَ أخذ خمسة أسداسه.
فلو باع المريض كد طعام، يساوي مائتي درهم، بكد طَعَامٍ يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ، فَيَحْتَاجُ فِي اعْتِبَارِ هَذِهِ الْمُحَابَاةِ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ مِنْهَا دَاخِلًا فِي قَدْرٍ يَتَسَاوَى فِيهِ الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ، لِأَنَّ التَّفَاضُلَ فِيهِ حَرَامٌ.
وَإِذَا كان كذلك: صح البيع في ثلثي كد من الطعام الأجود، بثلثي كد من الطعام الأدنى، لِأَنَّ التَّرِكَةَ مِائَتَا دِرْهَمٍ، ثُلُثُهَا سِتَّةٌ وَسِتُّونَ درهما وثلثا درهم، وقد حاباه في الكد الأجود بمائة درهم. فإذا أخذ ثلثي كده مِنَ الطَّعَامِ الْأَجْوَدِ قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَثَلَاثَةٌ وثلاثون درهما، وثلث درهم، بثلثي كد مِنَ الطَّعَامِ الْأَرْدَأ وَقِيمَتُهُ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا، وَثُلُثَا دِرْهَمٍ، كَانَ قَدْرُ الْمُحَابَاةِ بَيْنَهُمَا سِتَّةً وَسِتِّينَ دِرْهَمًا وَثُلُثَيْ دِرْهَمٍ وَهُوَ قَدْرُ الثُّلُثِ.
وأحضر بابا تصل إلى الاستخراج للعمل فِيهِ، بِأَنِ اسْتَخْرَجْتُهُ، سَهْلَ الطَّرِيقَةِ وَاضِحَ الْعَمَلِ، وَهُوَ أَنْ تَنْظُرَ قَدْرَ الْمُحَابَاةِ، وَقَدْرَ الثُّلُثِ ثُمَّ تَنْظُرُ قَدْرَ الثُّلُثِ وَالْمُحَابَاةِ فَإِذَا نَاسَبَهُ إلى جزء معلوم، فهو القدر الذي إن أنفذ الْبَيْعُ فِيهِ اسْتَوْعَبَ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ مِنَ المحاباة من غير تفاضل.
مثاله: أن تقول: إذا باعه الكد المساوي مائتي درهم بالكد الْمُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ: إنَّ الْمُحَابَاةَ بَيْنَهُمَا مِائَةُ درهم، وقدر الثلث: ستة وستون درهما وثلث دِرْهَمٍ، فَإِذَا قَابَلْتَ بَيْنَ الثُّلُثِ وَالْمُحَابَاةِ، وَجَدْتَ الثُّلُثَ مُقَابِلًا لِثُلُثَيِ الْمُحَابَاةِ، فَتَعْلَمُ بِذَلِكَ أَنَّ ثُلُثَيِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إِذَا بِيعَ بِمِثْلِهِ: اسْتَوْعَبَ (ثلث) التركة.
فعلى هذا: إذا باع كدا يساوي ثلاثة مائة درهم، بكد يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ فَعَمَلُهُ بِالْبَابِ الَّذِي قَدَّمْتُهُ أن تقول:(8/296)
قَدْرُ الْمُحَابَاةِ مِائَتَا دِرْهَمٍ، وَالثُّلُثُ مِائَةُ دِرْهَمٍ، والمائة نصف المائتين فيعلم أَنَّ قَدْرَهَا: يَحْتَمِلُ الثُّلُثَ مِنَ الْمُحَابَاةِ وَهُوَ نصف كد مِنَ الطَّعَامِ الْأَجْوَدِ قِيمَتُهُ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا، بنصف كد مِنَ الطَّعَامِ الْأَرْدَأ قِيمَتُهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا، وَبَيْنَهُمَا مِنَ الْفَضْلِ مِائَةُ دِرْهَمٍ هِيَ قَدْرُ الثُّلُثِ.
ولو باعه كد طعام يساوي أربع مائة درهم، بكد طعام يساوي مائة درهم، ويخلف البائع مع الكد مائتين درهم، فالتركة ست مائة، ثلثاها، مائتا درهم، وقدر المحاباة ثلاث مائة درهم، فكان الثلث، مقابل لثلثي المحاباة، فيصح البيع في ثلثي كد الطَّعَامِ الْجَيِّدِ قِيمَتُهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ درهما وثلثا درهم، وبينهما من الفضل مائتي درهم هي قدر الثلث.
فلو باعه كدا من طعام يساوي خمس مائة درهم، بكد من طعام يساوي مائة درهم، وخلف مع الكد الذي باعه مائة درهم، فالتركة ست مائة درهم ثلثاها: مائتا درهم، وقد حاباه، بأربع مائة دِرْهَمٍ، فَكَانَ الثُّلُثُ نِصْفَ الْمُحَابَاةِ، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ في نصف كد مِنَ الطَّعَامِ الْجَيِّدِ، قِيمَتُهُ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا، بنصف كد مِنَ الطَّعَامِ الْأَرْدَأ قِيمَتُهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا، وَبَيْنَهُمَا مِنَ الْفَضْلِ مِائَتَا دِرْهَمٍ: هِيَ قَدْرُ الثُّلُثِ.
ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ:
في الدور وبيع المريض
وإذا باع المريض على أخيه كد طعام يساوي مائتي درهم بكد شَعِيرٍ يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَلَا مَالَ لَهُمَا غير الكد، ثُمَّ مَاتَ صَاحِبُ الشَّعِيرِ قَبْلَ أَخِيهِ، وَخَلَّفَ بِنْتًا وَأَخَاهُ، ثُمَّ مَاتَ صَاحِبُ الطَّعَامِ، وَخَلَّفَ ابنا:
فالبيع في جميع الكد الطعام بجميع الكد الشَّعِيرِ، صَحِيحٌ، لِأَنَّ صَاحِبَ الشَّعِيرِ، بِتَقَدُّمِ مَوْتِهِ، قَدْ صَارَ غَيْرَ وَارِثٍ وَالْمُحَابَاةُ تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ صَاحِبِ الطَّعَامِ، لِأَنَّ قَدْرَ الْمُحَابَاةِ بَيْنَ الكدين مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَقَدْ صَارَ إِلَى صَاحِبِ الطَّعَامِ كد شعير يساوي مائة درهم، ثم ورث نصف الكد الطَّعَامِ، وَقِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ، فَصَارَ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ، وَذَلِكَ مِثْلَا مَا خَرَجَ بِالْمُحَابَاةِ.
وَبَابُ الْعَمَلِ فِيهِ، أَنْ تَقُولَ: تَرِكَةُ صَاحِبِ الطَّعَامِ مِائَتَا دِرْهَمٍ، وَقَدْ وَرِثَ نِصْفَ تَرِكَةِ أَخِيهِ خَمْسِينَ دِرْهَمًا، فَصَارَتِ التَّرِكَةُ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا، الْخَارِجُ مِنْهَا بِالْمُحَابَاةِ سَهْمٌ مِنْ ثُلُثِهِ، قَدْ فوت نِصْفَهُ، فَأَسْقَطَهُ مِنَ الثُّلُثِ، يَبْقَى سَهْمَانِ وَنِصْفٌ، فَاقْسِمِ التَّرِكَةَ عَلَيْهَا، يَكُنْ قِسْطُ كُلِّ سَهْمٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَهُوَ قَدْرُ الْمُحَابَاةِ فَعَلَى هَذَا: لو باع المريض على أخيه كد طعام يساوي ثلاث مائة درهم، بكد شَعِيرٍ يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَمَاتَ صَاحِبُ الشَّعِيرِ، وخلف مع كد الشَّعِيرِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَتَرَكَ بِنْتَيْنِ وَأَخَاهُ، ثُمَّ مَاتَ الْأَخُ صَاحِبُ الطَّعَامِ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ غيره، وترك ابنا، صح البيع في كد الشعير بخمسة أسداس كد الطعام.(8/297)
وعمله بالباب المقدم أن تقول: تركة صاحب الطعام ثلاثة مائة درهم، وتركة صاحب الشعير، ثلاث مائة دِرْهَمٍ، فَإِذَا وَرِثَ صَاحِبُ الطَّعَامِ مَعَ الْبِنْتَيْنِ ثُلُثَ تَرِكَةِ أَخِيهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ، صَارَتْ تَرِكَتُهُ أربع مائة دِرْهَمٍ، فَالْخَارِجُ بِالْمُحَابَاةِ ثُلُثُهَا سَهْمٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ، فَأَسْقِطْهُ مِنَ الثَّلَاثَةِ يَبْقَى سَهْمَانِ مِنْ ثَلَاثَةٍ، فَابْسُطْهَا أَرْبَاعًا، تَكُنْ ثَمَانِيَةً، ثُمَّ اقْسِمِ التَّرِكَةَ عليها وهي أربع مائة يَكُنْ قِسْطُ كُلِّ سَهْمٍ مِنْهَا خَمْسِينَ دِرْهَمًا، وَلِلْمُحَابَاةِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، تَكُنْ قَدْرُ الْمُحَابَاةِ، مِائَةَ دِرْهَمٍ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا، فَإِذَا ضَمَمْتَهُ إِلَى ثَمَنِ الشعير، وهو مائة درهم، فصار مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا، وَذَلِكَ يُقَابِلُ مِنْ كد الطعام خمسة أسداسه، لأن قيمته ثلاث مائة درهم، فيصح البيع في كد الشعير، بخمسة أسداس كد الطَّعَامِ، وَفَضْلُ مَا بَيْنَهُمَا مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا، وَهُوَ قَدْرُ الْمُحَابَاةِ، وَقَدْ بَقِيَ مَعَ صَاحِبِ الطعام سدس كد قيمته خمسون درهما، وأخذ كد شَعِيرٍ قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَوَرِثَ مِنْ أَخِيهِ ثلث مائتي الدرهم ستة وستون درهما وثلث درهم، وثلث خمسة أسداس كد الطَّعَامِ، بِثَلَاثَةٍ وَثَمَانِينَ دِرْهَمًا وَثُلُثِ دِرْهَمٍ، فَصَارَ معه ثلاث مائة دِرْهَمٍ، وَهِيَ مِثْلَا مَا خَرَجَ بِالْمُحَابَاةِ، لِأَنَّ الْخَارِجَ بِهَا مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا.
فَعَلَى هَذَا: لو كانت المسألة بحالها، وكان بدل كد الشعير الذي قيمته مائة درهم، كد طعام قيمته مائة درهم، يحرم التَّفَاضُلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّعَامِ الْجَيِّدِ، الَّذِي قِيمَتُهُ ثلاثة مائة درهم.
وعمله بِالْبَابِ الَّذِي قَدَّمْتُ لَكَ اسْتِخْرَاجَهُ، فَقُلْتُ الْمُحَابَاةُ في الكد الأجود مائة دِرْهَمٍ، وَقَدْرُ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ مِنْهَا مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا، عَلَى مَا بَيَّناهُ وَبَقِيَ مِنَ الْمِائَتَيْنِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ فِي ثَلَاثَةِ أرباع كد الطَّعَامِ الْأَجْوَدِ، وَقِيمَتُهُ مِائَتَانِ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا، بثلاثة أرباع كد مِنَ الطَّعَامِ الْأَدْوَنِ، وَقِيمَتُهُ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ دِرْهَمًا، وَفَضْلُ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُحَابَاةِ، مِائَةٌ وَخَمْسُونَ درهما، وهو قدر ما احتمله الثلث.
فَهَذَا آخِرُ مَا تَعَلَّقَ بِالدَّوْرِ الَّذِي نَعْمَلُ بِقِيَاسِهِ مَا أَغْفَلْنَاهُ.
وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ المزني: " (وَقَالَ) فِي الْإِمْلَاءِ يَلْحَقُ الْمَيِّتَ مِنْ فِعْلِ غَيْرِهِ ثَلَاثٌ حَجٌّ يُؤَدَّى وَمَالٌ يُتَصَدَّقُ بِهِ عَنْهُ أو دين يقضى ودعاء أجاز النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْحَجَّ عَنِ الْمَيِّتِ وَنَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الدعاء وأمر به رسوله عليه الصلاة والسلام. فإذا أجاز له الحج حَيًّا جَازَ لَهُ مَيِّتًا وَكَذَلِكَ مَا تُطُوِّعَ به عنه من صدقة ".
قال الماوردي: وذهب قوم من أهل الكوفة، إِلَى أَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَلْحَقُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ ثَوَابٌ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَلْحَقَهُ الْإِيمَانُ إذا مات كافرا، بإيمان غيره عنه، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَلْحَقَهُ ثَوَابُ فِعْلِ غَيْرِهِ عنه.
وذهب بعض الْفُقَهَاء إِلَى أَنَّ الْمَيِّتَ قَدْ يَلْحَقُهُ الثَّوَابُ بفعل غَيْرِهِ عَلَى مَا سَنِصِفُهُ لِقَوْلِهِ(8/298)
تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] .
فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالصَّلَاةِ عَلَى نَبِيِّهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ بِمَا لَا يَقْبَلُهُ مِنَ الدُّعَاءِ.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر: 10] . فَلَوْلَا تَأْثِيرُ هَذَا الدُّعَاءِ عِنْدَهُ لَمَا نَدَبَ إِلَيْهِ.
وَرَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، رَوَاهُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ، انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا من ثلاثة أشياء، صَدَقَة جَارِيَة، أَوْ عِلْم يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَد صَالِح يَدْعُو لَهُ ".
وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ أمي اقتتلت نفسها، ولولا ذلك لتصدقت وأعطيت، أفيجز لي أَنْ أَتَصَدَّقَ عَنْهَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: نعم فتصدقي عنها.
قولها: اقتتلت نفسها، أَيْ مَاتَتْ فَلْتَةً مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ.
وَرَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ، أَفَيَنْفَعُهَا أَنْ أَتَصَدَّقَ عَنْهَا؟ قال: نعم، قال فإن لي لمخرفا وَأُشْهِدُكَ أَنِّي قَدْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا.
وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ وَاجِبَةٌ عَلَيْنَا، وَهِيَ دُعَاءٌ لَهُ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ لَاحِقًا بِهِ، مسموعا منه فِي صَلَاةٍ وَغَيْرِ صَلَاةٍ.
وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَحِقَ الْمَيِّتَ قَضَاءُ الدُّيُونِ عَنْهُ حَتَّى لَا يَكُونَ مُؤَاخَذًا بِهَا وَمُعَاقَبًا عَلَيْهَا، وَلَعَلَّهُ لَمْ يَجُزْ ذلك حين جَازَ فِي الصَّدَقَةِ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهِ حَيًّا.
فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] .
فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: وَأَنْ لَيْسَ عَلَى الْإِنْسَانِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] . أَيْ فَعَلَيْهَا، على أن ما مات عَنْ غَيْرِهِ فِيهِ، جَازَ أَنْ يَكُونَ فِي حكم ما يسعى في قصده.
وَأَمَّا الْإِيمَانُ: فَإِنَّهُ لَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ عَنِ الْحَيِّ، فَكَذَلِكَ عَنِ الْمَيِّتِ، وَلَيْسَ كَالصَّدَقَةِ، على أنه قد يتيسر حُكْمُ الْإِيمَانِ عَنِ الْإِنْسَانِ إِلَى غَيْرِهِ، كَمَا يكون الأب متيسرا إلى صغار ولده.
فصل:
فإذا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ عَوْدِ الثَّوَابِ إِلَى الميت، بفعل غيره، فما يفعل عنه عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا يَجُوزُ أَنْ يُفْعَلَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ وَغَيْرِ أَمْرِهِ.(8/299)
وذلك قضاء الديون، وَأَدَاءُ الزَّكَاةِ، وَفِعْلُ مَا وَجَبَ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، وَالدُّعَاءُ لَهُ، وَالْقِرَاءَةُ عِنْدَ قَبْرِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ عَنْهُ بِأَمْرِهِ وَلَا بِغَيْرِ أَمْرِهِ.
وَذَلِكَ: كُلُّ مَا لا تصح فيه النيابة من العبادات، كالصلاة والصيام وَكَانَ فِي الْقَدِيمِ: يَرَى جَوَازَ النِّيَابَةِ فِي صوم الفرض، إذا أناب عَنْهُ وَارِثٌ. وَفِي نِيَابَةِ الْأَجْنَبِيِّ عَنْهُ وَجْهَانِ: وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ خِلَافُهُ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا يَجُوزُ أَنْ يُفْعَلَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ، وَلَا يَجُوزَ أَنْ يفعل عنه بغير أمره، وهو النذر بِالْعِتْقِ، لِمَا فِيهِ مِنْ لُحُوقِ الْوِلَايَةِ.
وَالرَّابِعُ: مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُفْعَلَ عَنْهُ بِغَيْرِ بأمره، وفي فعله عنه فأمره قولان: وهو حج التطوع.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " (وَقَالَ) فِي كِتَابٍ آخَرَ وَلَوْ أَوْصَى لَهُ وَلِمَنْ لَا يُحْصَى بِثُلُثِهِ فَالْقِيَاسُ أَنَّهُ كَأَحَدِهِمْ ".
قال الماوردي: وصورتها: في رجل أوصى بثلث ماله لزيد والمساكين فَلَا يَخْلُو حَالُ زَيْدٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ غَنِيًّا أَوْ مِسْكِينًا، فَإِنْ كَانَ مِسْكِينًا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا يُعْطَى مِنَ الثُّلُثِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ يَكُونُ كَأَحَدِهِمْ يُعْطِيهِ الْوَصِيُّ مَا يراه من قليل أو كثير فيعطاه أحد المساكين ويستفاد بتعينه أنه لَا يُحْرم.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُعْطَى الرُّبُعَ من الثلث الموصى به ويصرف ثلاثة أرباعه للمساكين لِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَهُ مَعَ جَمْعٍ أَقَلُّهُمْ ثَلَاثَةٌ، فصار معهم رابعا، فاختص بالرابع اعْتِبَارًا بِالتَّسْوِيَةِ ثُمَّ تَجُوزُ الثَّلَاثَةُ الْأَرْبَاعُ فِي أَكْثَر مِنْ ثَلَاثَةٍ تَفْضِيلًا وَتَسْوِيَةً.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُعْطَى النِّصْفَ مِنَ الثُّلُثِ لِأَنَّهُ جَعَلَ الثلث مصروفا في خمسين.
وإن كان غنيا ففيما يُعْطَاهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الرُّبُعُ وَالثَّانِي النِّصْفُ فَأَمَّا جَعْلُهُ كَأَحَدِهِمْ فَلَا يَجُوزُ لِأَنَّ مُخَالَفَتَهُ فِي صفتهم تقتضي مخالفتهم فِي حُكْمِهِمْ.
فَصْلٌ:
فَلَوِ امْتَنَعَ الْمُسَمَّى مَعَ الْمَسَاكِينِ مِنْ قَبُولِ مَا جُعِلَ لَهُ مِنَ الثُّلُثِ لَمْ يَجُزْ رَدُّ حِصَّتِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ لِأَنَّهُ مُوصًى بِهِ لِغَيْرِهِمْ، وَصُرِفَ فِيهِمْ مَا سِوَى قَدْرِ اسْتِحْقَاقِهِ مِنَ الثُّلُثِ.
وَهَكَذَا: لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لزيدٍ وَلِعَمْرٍو فَقَبِلَ زَيْدٌ وَلَمْ يَقْبَلْ عَمْرٌو كَانَ لِزَيْدٍ نِصْفُ الثُّلُثِ ويرجع ما كان لعمرو، ولو قبل كان مِيرَاثًا. وَلَوْ أَوْصَى بِعَبْدِهِ سَالِمٍ لِزَيْدٍ وَبِبَاقِي ثُلُثِهِ لِعَمْرٍو، فَمَاتَ عَبْدُهُ سَالِمٌ، قَبْلَ دَفْعِهِ في الوصية: قوم العبد كما لَوْ كَانَ حَيًّا يَوْمَ مَاتَ الْمُوصِي وَأُسْقِطَتْ قِيمَتُهُ مِنَ الثُّلُثِ. ثُمَّ دُفِعَ إِلَى عَمْرٍو مَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ بَعْدَ إِسْقَاطِ قِيمَةِ العبد.(8/300)
فَصْلٌ:
وَإِذَا أَوْصَى لِزَيْدٍ بِدِينَارٍ وَأَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْفُقَرَاءِ وَكَانَ زَيْدٌ فَقِيرًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يعطي غَيْرَ الدِّينَارِ لِأَنَّهُ بِالتَّقْدِيرِ قَدْ قطع اجتهاد الوصي وإعطائه زِيَادَةً عَلَى تَقْدِيرِهِ.
فَصْلٌ:
وَلَوْ أَوْصَى رَجُلٌ بِثُلُثِ مَالِهِ لِزَيْدٍ وَوَلَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِزَيْدٍ وَلَدٌ فَلَهُ نِصْفُ الثُّلُثِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا كَانَ الثُّلُثُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَلَدِهِ نِصْفَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ الْوَلَدُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى وَإِنْ كَانُوا عَدَدًا فَفِيمَا لَزِيدٍ مِنْهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ لَهُ نِصْفَ الثُّلُثِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَأَحَدِهِمْ.
فَصْلٌ:
وَلَوْ قَالَ ادْفَعُوا ثُلُثِي إِلَى زَيْدٍ وَإِلَى جِبْرِيلَ دُفِعَ إِلَى زَيْدٍ نِصْفُ الثُّلُثِ وَكَانَ النِّصْفُ الْبَاقِي الَّذِي سَمَّاهُ لِجِبْرِيلَ رَاجِعًا إِلَى وَرَثَتِهِ. وَلَوْ قَالَ ادْفَعُوا ثُلُثِي إِلَى زَيْدٍ وَإِلَى الْمَلَائِكَةِ كَانَ فِي قَدْرِ مَا لِزَيْدٍ مِنْهُ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: النِّصْفُ.
وَالثَّانِي: الرُّبُعُ وَيُرَدُّ الْبَاقِي عَلَى الْوَرَثَةِ. وَلَوْ قَالَ ادْفَعُوا ثُلُثِي إِلَى زَيْدٍ وَالشَّيَاطِينِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ لَهُ جَمِيعَ الثُّلُثِ.
وَالثَّانِي: لَهُ نِصْفُ الثُّلُثِ.
وَالثَّالِثُ: رُبُعُ الثُّلُثِ ثُمَّ يُرَدُّ بَاقِي الثُّلُثِ عَلَى الورثة. ولو وقال اصْرِفُوا ثُلُثِي إِلَى زَيْدٍ وَالرِّيَاحِ كَانَ فِيمَا لَزِيدٍ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: جَمِيعُ الثُّلُثِ لِأَنَّ ذِكْرَ الرِّيَاحِ لَغْوٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهُ نِصْفُ الثُّلُثِ لِأَنَّهُ أَحَدُ الْجِهَتَيْنِ وَيَرْجِعُ النِّصْفُ الْآخَرُ عَلَى الْوَرَثَةِ.
فَصْلٌ:
وَإِذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِبَنِي فُلَانٍ: فَإِنْ كَانُوا عَدَدًا مَحْصُورًا، صُرِفَ الثُّلُثُ فِي جَمِيعِهِمْ بِالسَّوِيَّةِ، مِنْ غَيْرِ تَفْضِيلِ كَبِيرٍ عَلَى صَغِيرٍ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِمُ الْإِنَاثُ لِأَنَّهُمْ غير بنين.
فإن كانوا عددا لا يحصر كَبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي تَمِيمٍ: فَفِي الْوَصِيَّةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ لِتَعَذُّرِ الْوُصُولِ إِلَى جَمِيعِهِمِ.
وَالثَّانِي: جَائِزَةٌ وَيُعْطَى الثُّلُث لِثَلَاثَةٍ فَصَاعِدًا عَلَى تَسْوِيَةٍ وَتَفْضِيلٍ، كَالْمَسَاكِينِ وَيَدْخُلُ الْإِنَاثُ فِيهِمْ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ اعْتِبَارًا بِالْقَبِيلَةِ.
وَهَكَذَا لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِأَهْلِ الْبَصْرَةِ: كَانَ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ إِلَّا أن يزيد فَقُرَاءُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَيَجُوزُ وَجْهًا وَاحِدًا.
فَصْلٌ:
وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِزَيْدٍ فَفِيمَا لَزِيدٍ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَهُ جَمِيعُ الثُّلُثِ ويكون ذكر الله تعالى افتتاحا للسلام تبركا بِاسْمِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ لِزَيْدٍ نِصْفَ الثُّلُثِ لِأَنَّهُ أحد الجهتين للثلث وفي النصف وجهان: أحدهما: أن يَكُون مَصْرُوفًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهُمُ الْغُزَاةُ. والثاني: في الفقراء والمساكين.(8/301)
باب الوصية للقرابة من ذوي الأرحام
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ قَالَ ثُلُثِي لقرابتي أو لذوي وأرحمي لِأَرْحَامِي فَسَوَاءٌ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَالَأُمِّ، وَأَقْرَبُهُمْ وَأَبْعَدُهُمْ وَأَغْنَاهُمْ وَأَفْقَرُهُمْ سَوَاءٌ لِأَنَّهُمْ أُعْطُوا بِاسْمِ القرابة كما أعطي من شهد القتال باسم الحضور وإن كان من قبيلة من قريش أعطي بقرابته المعروفة عند العامة فينظر إلى القبيلة التي ينسب إليها فيقال من بني عبد مناف ثم يقال وقد تفترق بنو عبد مناف فمن أيهم؟ قيل من بني عبد يزيد بن هاشم بن المطلب فإن قيل أفيتميز هؤلاء؟ قيل نعم هم قبائل فإن قيل فمن أيهم؟ قيل من بني عبيد بن عبد يزيد فإن قيل أفيتميز هؤلاء؟ قيل نعم بنو السائب بن عبيد بن عبد يزيد فإن قيل أفيتميز هؤلاء؟ قيل نعم بنو شافع وبنو علي وبنو عباس أو عياش شك المزني وكل هؤلاء بنو السائب فإن قيل أفيتميز هؤلاء؟ قيل نعم كل بطن من هؤلاء يتميز عن صاحبه فإذا كان من آل شافع قيل لقرابته هم آل شافع دون آل علي والعباس لأن كل هؤلاء متميز ظاهر ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْوَصِيَّةُ لِلْأَقَارِبِ فَمُسْتَحَبَّةٌ وَغَيْرُ واجبة لقوله تعالى: {وإذا حضر القسمة أولوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء: 8] .
وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى وُجُوبِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء: 26] . وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى بُطْلَانِهَا لِلْجَهْلِ بِعَدَدِهِمْ، وَأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ قَرَابَةٌ لأن أبيهم يَجْمَعُهُمْ.
وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ فَاسِدٌ، أَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ فَمَا قَدَّمْنَا مِنَ الْآيَةِ.
وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْأَقَارِبِ بَاطِلَةٌ لِلْجَهْلِ بِعَدَدِهِمْ فَمُنْتَقَضٌ بِالزَّكَاةِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِإِخْرَاجِهَا إِلَى أَقْوَامٍ لَا يَنْحَصِرُ عَدَدُهُمْ ثُمَّ هِيَ وَاجِبَةٌ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْوَصِيَّةِ لِلْقَرَابَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مُسْتَحِقِّ الْوَصِيَّةِ مِنْهُمْ عِنْدَ إِطْلَاقِ ذِكْرِهِمْ.
فَقَالَ أبو حنيفة: هُمْ كُلُّ ذِي رَحِمِ مَحْرَمٍ. وَقَالَ مَالِكٌ هُمْ كُلُّ مَنْ جَازَ أَنْ يَرِثَ دون من لا يرث مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ.
وَقَالَ أبو يوسف ومحمد: هم كل من جمعه وإياهم أَوَّلُ أَبٍ فِي الْإِسْلَامِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ: إِلَى أَنَّهُمُ الْمَنْسُوبُونَ فِي عُرْفِ النَّاسِ إِلَى قَرَابَتِهِ المخصوصة إذا كان(8/302)
اسْمُ الْقَرَابَةِ فِي الْعُرْفِ جَامِعًا لَهُمْ، لِأَنَّ عُرْفَ الشَّرْعِ فِي سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى لَمْ يَخُصَّ قَرِيبًا مِنْ بَعِيدٍ فَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ أبي حنيفة حيث جعل ذلك لذوي الأرحام الْمَحَارِمِ وَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ أَبِي يوسف حَيْثُ جَعَلَهُ لِمَنْ جَمَعَهُ أَوَّلُ أَبٍ فِي الْإِسْلَامِ، وَلِأَنَّ اسْمَ الْقَرَابَةِ يَنْطَلِقُ فِي الْعُرْفِ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ مِنَ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ، فَبَطَلَ بِهِ قول مالك لأن مطلق كلام الموصي محمول على العرف شرعا أو عادة وعرفها جميعا بما قُلْنَا.
فَصْلٌ:
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ مَا انْطَلَقَ عليه اسم القرابة عرفا وهو الْمُعْتَبَرُ. فَاعْتِبَارُهُ أَنْ يُنْظَرَ فِي الْمُوصِي، فَإِنْ كَانَ عَرَبِيًّا خَرَجَ مِنْهُ الْعَجَمُ، وَلَمْ يُدْفَعْ إِلَى كُلِّ الْعَرَبِ حَتَّى يُقَالَ مِنْ أَيِّهِمْ، فَإِذَا قِيلَ مِنْ مُضَرَ، قِيلَ مِنْ أَيِّهِمْ وَلِمَ يُدْفَعُ إِلَى جَمِيعِ مُضَرَ، فَإِذَا قِيلَ مِنْ قُرَيْشٍ لَمْ يُدْفَعْ إِلَى جَمِيعِهِمْ وَقِيلَ من أي قريش فإذا قيل بَنِي هَاشِمٍ لَمْ يُدْفَعْ إِلَى جَمِيعِهِمْ وَقِيلَ من أي بني هاشم.
فإذا قيل عباس لَمْ يُدْفَعْ إِلَى كُلِّ عَبَّاسِيٍّ، وَإِنْ قِيلَ طَالِبِيٌّ: لَمْ يُدْفَعْ إِلَى كُلِّ طَالِبِيٍّ. فَإِذَا قيل في العباس مَنْصُورِيٌّ: لَمْ يُدْفَعْ إِلَى جَمِيعِهِمْ حَتَّى يُقَالَ من بني المأمون، أو من بَنِي الْمُهْتَدِي، فَيَدْفَعُ ذَلِكَ إِلَى آلِ الْمَأْمُونِ وَآلِ الْمُهْتَدِي.
فَإِنْ قِيلَ فِي الْمُطَّلِبي إنَّهُ عَلَوِيٌّ لَمْ يُدْفَعْ إِلَى جَمِيعِهِمْ حَتَّى يُقَالَ مِنْ أَيِّهِمْ. فَإِذَا قِيلَ حُسَيْنِيٌّ لَمْ يُدْفَعْ إِلَى جَمِيعِهِمْ حَتَّى يُقَالَ مِنْ أَيِّهِمْ. فَإِذَا قِيلَ زَيْدِيٌّ أَوْ مُوسَوِيٌّ دُفِعَ ذَلِكَ إِلَى آلِ زَيْدٍ وَآلِ مُوسَى.
وَقَدْ شَبَّهَ الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ بِنَسَبِهِ، وَسَوَاءٌ اجْتَمَعُوا إِلَى أَرْبَعَةِ آبَاءٍ، أَوْ أَبْعَدَ.
وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ من اجتمع معه من الْأَبِ الرَّابِعِ كَانَ مِنْ قَرَابَتِهِ.
وَمَنِ اجْتَمَعَ بَعْدَ الرَّابِعِ خَرَجَ مِنَ الْقَرَابَةِ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الرابع جعل قرابة مَنِ اجْتَمَعَ مَعَهُ فِي الْأَبِ الرَّابِعِ.
وَهَذَا خطأ، لأن جَعْلَهُمْ قَرَابَةً اعْتِبَارًا بِالنَّسَبِ الْأَشْهَرِ لَا تَعْلِيلًا بِالْأَبِ الرَّابِعِ.
فَصْلٌ:
وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ قَرَابَتُهُ من قبل أبيه أو قرابته من جهة أمه فتعتبر قرابة أمه كما اعتبرنا قَرَابَةَ أَبِيهِ.
وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: لِذَوِي أَرْحَامِي فهو كقوله لقرابته، فَيُدْفَعُ إِلَى مَنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ أُمِّهِ.
وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْقَرَابَةَ: مَنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ، وَذَوِي الْأَرْحَامِ مَنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ.
وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ عُرْفَ النَّاسِ فِي الِاسْمَيْنِ يَنْطَلِقُ عَلَى مَنْ كَانَ مِنَ الْجِهَتَيْنِ.
فَصْلٌ:
وَسَوَاءٌ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ قَرِيبًا أَوْ بعيدا.(8/303)
وَقَالَ أبو حنيفة: الْقَرِيبُ مِنْهُمْ أَحَقُّ مِنَ الْبَعِيدِ، فَجَعَلَ الْإِخْوَةَ أَوْلَى مِنْ بَنِيهِمْ، وَبَنِي الْإِخْوَةِ أَوْلَى مِنَ الْأَعْمَامِ، فَأَمَّا بَنُو الْأَعْمَامِ فَلَيْسُوا عِنْدَهُ مِنَ الْقَرَابَةِ.
وَهَذَا فَاسِدٌ: لِأَنَّ اسْمَ الْقَرَابَةِ إِذَا انْطَلَقَ عَلَيْهِمْ مَعَ عَدَمِ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ، انْطَلَقَ عَلَيْهِمْ مَعَ وُجُودِ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ.
فَصْلٌ:
وَسَوَاءٌ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا. وَقَالَ مَالِكٌ: يَخْتَصُّ بِهِ الْفُقَرَاءُ مِنْهُمْ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ.
وَهَذَا فَاسِدٌ: لِأَنَّهُمْ أُعْطَوْا بِالِاسْمِ لَا بِالْحَاجَةِ فَاسْتَوَى فِيهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ كَالْمِيرَاثِ وَسَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى.
فَصْلٌ:
وَيُسَوّى بَيْنَ ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ.
وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ: أَنَّهُ يُعْطى الذَّكَر مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، كسهم ذي الْقُرْبَى.
وَهَذَا فَاسِدٌ: لِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ لِمُسَمَّى فَأَشْبَهَتِ الهبات والصدقات، وأما سهم ذي الْقُرْبَى: فَإِنَّهُمْ لَمْ يَسْتَحِقُّوهُ بِالْقَرَابَةِ وَحْدَهَا، وَإِنَّمَا اسْتَحَقُّوهُ بِالنُّصْرَةِ مَعَ الْقَرَابَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَخْرَجَ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَنَوْفَلٍ وَأَدْخَلَ بَنِي الْمُطَّلِبِ وَقَرَابَتَهُمْ وَاحِدَةً. لِأَنَّ بَنِي الْمَطَّلِبِ نَصَرُوا بَنِي هَاشِمٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ وَإِذَا اسْتَحَقُّوا بِالنُّصْرَةِ مَعَ الْقَرَابَةِ، فُضِّلَ الرِّجَالُ عَلَى النِّسَاءِ لاختصاصهم بالنصرة.
فَصْلٌ:
وَيَدْخُلُ فِيهِمْ مَنْ لَمْ يَرِثْ مِنَ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: مَنْ لَمْ يَجْعَلِ الْآبَاءَ وَالْأَبْنَاءَ مِنَ الْقَرَابَةِ وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى: {لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] أَنَّهُمُ الْأَوْلَادُ.
وَلَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] . كَانَتْ فَاطِمَةُ فِي جُمْلَةِ مَنْ دَعَاهَا لِلْإِنْذَارِ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا نُظِرَ فِي أَقَارِبِهِ، فَإِنْ كَانُوا عَدَدًا محصورا فرق الثُّلُثُ عَلَى جَمِيعِهِمْ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ قَرِيبِهِمْ وَبِعِيدِهِمْ، وَصَغِيرِهِمْ، وَكَبِيرِهِمْ، وَغَنِيِّهِمْ، وَفَقِيرِهِمْ، ذُكُورِهِمْ، وَإِنَاثِهِمْ، وَلَوْ مُنِعَ أَحَدُهُمْ مِنْ سَهْمِهِ كَانَ الْوَصِيُّ الْمَانِعُ لَهُ ضَامِنًا بِقَدْرِ حَقِّهِ. وَلَوْ رَدَّ أَحَدُهُمْ سَهْمَهُ مِنَ الْوَصِيَّةِ وَلَمْ يَقْبَلْ كَانَ رَاجِعًا إِلَى الْوَرَثَةِ فِي التَّرِكَةِ، وَلَا يَرْجِعُ إِلَى بَاقِي الْقَرَابَةِ.
وَإِنْ كَانَ أَقَارِبُهُ عَدَدًا كَبِيرًا لَا يَنْحَصِرُونَ جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِهِمْ كَالْفُقَرَاءِ، فَيَدْفَعُهُ إِلَى ثَلَاثَةٍ فَصَاعِدًا مِنْهُمْ، وَيَجُوزُ لَهُ التَّفْضِيلُ بَيْنَهُمْ، لِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ لَمْ يَلْزَمْ إِعْطَاءُ الْجَمِيعِ، لَمْ يَحْرُمِ التَّفْضِيلُ، فَلَوْ أَنَّ مَنْ صُرِفَ الثُّلُثُ إِلَيْهِ لَمْ يَقْبَلْهُ. لَمْ يَعُدْ مِيرَاثًا وَصُرِفَ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْقَرَابَةِ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ فَلَا يَدْخُلَانِ فِي اسْمِ الْقَرَابَةِ، وَكَذَلِكَ الْمُعْتَقُ وَالرَّضِيعُ.(8/304)
وَلَوْ أَوْصَى لِأَهْلِهِ فَهُمُ الْقَرَابَةُ، وَفِي دُخُولِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ مَعَهُمْ دُونَ الْمُعْتَقِ وَالرَّضِيعِ وَجْهَانِ، وَلَكِنْ لَوْ أَوْصَى لِعصبَتِهِ دَخَلَ فِيهِمُ الْمُعْتَقُ دُونَ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَدُونَ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَإِنْ كانوا قرابة.
فصل:
ولو أوصى لمناسبه فَهُوَ لِمَنْ يَنْتَسِبُ إِلَى الْمُوصِي مِنْ أَوْلَادِهِ الَّذِينَ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ فِي نَسَبِهِمْ دُونَ مَنْ علا من آبائه الذي يَرْجِعُ الْمُوصِي إِلَيْهِمْ فِي نَسَبِهِ لِأَنَّهُ أَضَافَ نَسَبَهُمْ إِلَيْهِ، وَنَسَبُ الْآبَاءِ لَا يَرْجِعُ إِلَى الْوَلَدِ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي دُخُولِ أَوْلَادِ بَنَاتِهِ فيهم على وجهين:
أحدهما: يدخلون فيهم لِأَنَّهُمْ مِنْ وَلَدِهِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ أَشْبَهُ أَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ فِيهِ لِأَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ فِي النَّسَبِ إِلَى آبَائِهِمْ.
وَلَكِنْ لَوْ قَالَ ادْفَعُوا ثُلُثِي لِمَنْ أُنَاسِبُهُ دَخَلَ فِيهِمُ الْآبَاءُ دُونَ الْأَبْنَاءِ وَدَخَلَ فِيهِمُ الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ، وَالْأَعْمَامُ وَالْعَمَّاتُ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي دُخُولِ الْأَجْدَادِ فِيهِمْ وَالْجَدَّاتِ عَلَى وَجْهَيْنِ كَاخْتِلَافِهِمْ فِي أَوْلَادِ الْبَنَاتِ. وَلَكِنْ لَا يَدْخُلُ فِيهِمُ الْأَخْوَالُ وَالْخَالَاتُ وَلَا الْإِخْوَةُ لِلْأُمِّ لأنهم غير مناسبة، بخلاف الأم المختصة بالولادة والبعضية.
فَصْلٌ:
وَلَوْ أَوْصَى لِوَرَثَةِ زَيْدٍ فَالْوَصِيَّةُ مَوْقُوفَةٌ حتى يموت زيد، ثم تدفع الْوَصِيَّةُ إِلَى مَنْ وَرِثَهُ وَلَا اعْتِبَارَ بِمَنْ كَانَ مَنْسُوبًا إِلَى وَرَثَتِهِ فِي حَيَاتِهِ لِأَنَّ الْوَارِثَ مَنْ حَازَ الْمِيرَاثَ، وَقَدْ يَجُوزُ أَن لا يَرِثَهُ هَؤُلَاءِ لِحُدُوثِ مَنْ يَحْجُبُهُمْ.
مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ولو قال لأقربهم بي رحما أعطي أقربهم بأبيه وأمه سواء وأيهم جمع قرابة الأب والأم كان أقرب ممن انفرد بأب أو أم فإن كان أخ وجد للأخ في قول من جعله أولى بولاء الموالي ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا فِي الْوَصِيَّةِ لِلْقَرَابَةِ أَنَّهُ يَشْتَرِكُ فِيهَا الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ إِذَا كَانَ اسْمُ الْقَرَابَةِ عَلَيْهِمْ مُنْطَلِقًا، أَوْ كَانَ فِي جُمْلَتِهُمْ دَاخِلًا.
فَأَمَّا إِذَا قَالَ ثُلُثِي لِأَقْرَبِ الناس إلي أو قال لأقربهم رحما لي فَلَا حَقَّ فِيهِ لِلْأَبْعَدِ مَعَ وُجُودِ مَنْ هو أقرب. وإذا كان هكذا راعيت الدرجة، فأيهما كان أقرب كان أحق، وإن استوت الدرجة تشاركوا، وَيَسْتَوِي فِيهِ مَنْ أَدْلَى بِأُمٍّ، وَمَنْ أَدْلَى بِأَبٍ، فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ أَدْلَى بِالْأَبَوَيْنِ مَعًا كَانَ أَوْلَى مِمَّنْ أَدْلَى بِأَحَدِهِمَا.
فَعَلَى هَذَا: الْأَوْلَادُ عَمُودٌ، وَهُمْ أَقْرَبُ مِنَ الْآبَاءِ، لِأَنَّهُمْ بَعْضُ الْمُوصى، وَأَقْرَبُ الْأَوْلَادِ صُلْبُهُ فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا أَخَذَ الثُّلُثَ كُلَّهُ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا، وَارِثًا أَوْ غَيْرَ وَارِثٍ إِذَا أَجَازَ الْوَرَثَةُ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لِقَرَابَتِي فَلَا يَدْخُلُ فِيهِمْ وَارِثٌ لِأَنَّهُ بِالْأَقْرَبِ قَدْ عَيَّنَ به ثُمَّ هُوَ بَعْدَ أَوْلَادِ صُلْبِهِ لِأَوْلَادِ وَلَدِهِ دُونَ مَنْ نَزَلَ عَنْهُمْ بِدَرَجَةٍ، يَسْتَوِي فِيهِ(8/305)
أَوْلَادُ الْبَنِينَ وَأَوْلَادُ الْبَنَاتِ، ثُمَّ هُوَ بَعْدَهُمْ، لأولادهم، وأهل الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ، ثُمَّ هُوَ بَعْدَ الثَّالِثَةِ لِأَهْلِ الدَّرَجَةِ الرَّابِعَةِ هَكَذَا أَبَدًا.
فَإِذَا عُدِمَ عَمُودُ الْأَوْلَادِ، فَالْأَبَوَانِ، وَهُمَا الْأَبُ وَالْأُمُّ، يَشْتَرِكَانِ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِمَا، فَإِنْ عُدِمَ أَحَدُهُمَا كَانَ الثُّلُثُ لِلْبَاقِي مِنْهُمَا، سَوَاءٌ كَانَ أَبًا أَوْ أُمًّا.
فَإِنْ عُدِمَ الْأَبَوَانِ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ أَقْرَبُ مِنَ الْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ. لِأَنَّهُمْ قَدْ رَاكَضُوهُ فِي الرَّحِمِ، فَإِنْ كَانُوا لِأَبٍ فَهُوَ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ، وَإِنْ كَانُوا لِأُمٍّ فَهُوَ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِأَبٍ وَبَعْضُهُمْ لأم فهو بين جميعهم ذكرهم وَأُنْثَاهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ. وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِأَبٍ وبعضهم لأم بالسوية، وَبَعْضُهُمْ لِأَبٍ وَأُمٍّ، فَمَنْ كَانَ لِأَبٍ وَأُمٍّ فهو أقرب وأحق لقوته بها عَلَى مَا تَفَرَّدَ بِأَحَدِهِمَا.
ثُمَّ بَعْدَ الْإِخْوَةِ والأخوات: بنوهم وبنو بنيهم وإن سفلوا يكونوا أَقْرَبَ مِنَ الْجَدِّ وَإِنْ دَنَا، وَيَشْتَرِكُ فِي ذلك أولاد الأخوة وأولاد الأخوات كما اشتركوا فِيهِ أَوْلَادُ الْبَنِينَ وَأَوْلَادُ الْبَنَاتِ لِأَنَّهُمْ أَخَذُوا بِاسْمِ الْقَرَابَةِ لَا بِالْمِيرَاثِ، ثُمَّ هَكَذَا بَطْنًا بعد بطن.
وإذا عُدِمُوا: عَدَلْنَا حِينَئِذٍ إِلَى الْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ فَيَكُونُ بَعْدَهُمْ لِجَدَّيْنِ وَجَدَّتَيْنِ، جَدٍّ وَجَدَّةٍ لِأَبٍ وَجَدٍّ وجدة لأم فينقسم بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَعْمَامٌ وَلَا عمات فهم بَعْدَهُمْ لِأَرْبَعَةِ أَجْدَادٍ وَأَرْبَعِ جَدَّاتٍ بَعْدَ ثَلَاث درجة فينقسم بينهم أثلاثا.
ثُمَّ هُوَ فِي الدَّرَجَةِ الرَّابِعَةِ بَيْنَ ثَمَانِيَةِ أجداد وثمان جَدَّاتٍ، وَإِنْ كَانَ مَعَ جَدِّ الْأَبِ أَعْمَامٌ وَعَمَّاتٌ وَمَعَ جَدِّ الْأُمِّ أَخْوَالٌ وَخَالَاتٌ فَفِيهِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَعْمَامَ وَالْعَمَّاتِ أَوْلَى مِنْ جَدِّ الْأَبِ وَجَدَّتِهِ، وَالْأَخْوَالَ وَالْخَالَاتِ أَوْلَى مِنْ جَدِّ الْأُمِّ وَجَدَّتِهَا، كَمَا كَانَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْإِخْوَةُ أَوْلَى مِنَ الجدة، وَيُشْرَكُ بَيْنَ الْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ، وَبَيْنَ الْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ لاستوائهما في الدرجة وتكافئهما فِي الْقُرْبِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ يُشَارِكُونَ أَجْدَادَ الأبوين وجداتهما.
فعلى هذا: يجمع مع الْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ، وَمَعَ الْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ أَرْبَعَةُ أَجْدَادٍ، وأربع جدات، فينقسم ذَلِكَ بَيْنَ جَمِيعِهِمْ بِالسَّوِيَّةِ.
فَصْلٌ:
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: في الأهل.
أن الجدة والأخوة سواء لاجتماعهم في الإدلاء بالأدب.
وَعَلَى هَذَا يُشْرَكُ بَيْنَ الْإِخْوَةِ وَبَيْنَ الْأَخَوَاتِ وبين جدين وجدتين جد جدة لأب، وجد جدة لِأُمٍّ، وَيَكُونُ الْجَدَّانِ وَالْجَدَّتَانِ أَوْلَى مِنْ وَلَدِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَ الْجَدِّ وَالْجَدَّةِ، لِجَدِّ الْأَبِ وَجَدَّتِهِ، وَلِجَدِّ الْأُمِّ وَجَدَّتِهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ جَدِّ الْأَبِ وَجَدَّتِهِ عَمٌّ وَلَا عَمَّةٌ، وَلَا مَعَ جد الأم وجدتها خال ولا خالة.(8/306)
فينقسم ذَلِكَ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَجْدَادٍ، وَأَرْبَعِ جَدَّاتٍ أَثْمَانًا وجدان وَجَدَّتَانِ لِلْأَبِ وَجَدَّانِ وَجَدَّتَانِ لِلْأُمِّ.
وَإِنْ كَانَ مَعَ جَدِّ الْأَبِ وَجَدَّتِهِ عَمٌّ وَعَمَّةٌ، وَمَعَ جَدِّ الْأُمِّ وَجَدَّتِهَا خَالٌ وَخَالَةٌ فَفِيهِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَمَّ وَالْعَمَّةَ والخال ولخالة يساوي جد الأبوين وجدتيهما فتقسم بَيْنَ الْعَمِّ وَالْعَمَّةِ، وَالْخَالِ وَالْخَالَةِ، وَبَيْنَ أَرْبَعَةِ أَجْدَادٍ، وَأَرْبَعِ جَدَّاتٍ كَمَا تُشَارِكُ الْإِخْوَةُ وَالْجَدُّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ جَدَّيِ الْأَبَوَيْنِ وَجَدَّتَيْهِمَا أَوْلَى مِنَ الْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ، وَمِنَ الْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِالْبَعْضِيَّةِ.
فَصْلٌ:
فَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْمُقَرَّرِ يَكُونُ التَّفْرِيعُ لِيَتَّضِحَ وَيَستبِينَ فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَجْتَمِعَ جَدٌّ لِأَبٍ، وَأَخٌ لِأُمٍّ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْأَخَّ لِلْأُمِّ أَوْلَى.
وَالثَّانِي: إنَّهُ وَالْجَدَّ سَوَاءٌ.
وَهَكَذَا لَوِ اجْتَمَعَ جَدٌّ لِأُمٍّ وَأَخٌ لأب وأم كان على قولين:
أحدهما: استويا.
وَالثَّانِي: يُقَدَّمُ الْأَخُ.
وَلَوِ اجْتَمَعَ جَدٌّ وَابْنُ أَخٍ: فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: إِنَّ الْجَدَّ أَوْلَى.
وَالثَّانِي: إِنَّ ابْنَ الْأَخِ أَوْلَى. وَلَا يُشْرَكُ بَيْنَهُمَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا.
وَلَوِ اجْتَمَعَ جَدٌّ وَعَمٌّ: كان الجد أولى. ولو اجتمع جدان وعم ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الجد الْأَبِ أَوْلَى.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَمَّ أَوْلَى.
وَالثَّالِثُ: إِنَّهُمَا سَوَاءٌ.
وَهَكَذَا لَوْ كَانَ مَعَ جَدِّ الْأَبِ عَمَّةٌ أَوْ خَالٌ أَوْ خَالَةٌ، أَوْ كَانَ مَعَ الْعَمِّ وَالْعَمَّةِ، وَالْخَالِ وَالْخَالَةِ، جَدَّة أنه عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ.
وَلَوِ اجْتَمَعَ جَدٌّ لِأُمٍّ وَخَالٌ وَخَالَةٌ، كَانَ عَلَى هَذِهِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ:
أَحَدُهَا: إنَّ جَدَّ الْأُمِّ أَوْلَى. وَالثَّانِي: إنَّ الْخَالَ وَالْخَالَةَ أَوْلَى. وَالثَّالِثُ: إنَّهُمْ سَوَاءٌ.
وَهَكَذَا لَوْ كَانَ مَعَ جَدِّ الْأُمِّ، أَوْ مع جدة الأم عمة وعم، وكان عَلَى هَذِهِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ، لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَمِّ وَالْخَالِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ جَدِّ الأب وجد الأم.
وهكذا لو اجتمع جدان وَابْنُ عَمٍّ كَانَ جَدُّ الْأَبِ أَوْلَى، وَهَكَذَا لَوِ اجْتَمَعَ جَدُّ أُمٍّ وَابْنُ خَالٍ كَانَ جَدُّ الْأُمِّ أَوْلَى، وَهَكَذَا لَوِ اجْتَمَعَ جَدُّ أُمٍّ وَابْنُ عَمٍّ كَانَ جَدُّ الْأُمِّ أَوْلَى، وَلَوِ اجْتَمَعَ جَدُّ جَدٍّ وَابْنُ عَمٍّ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
مِثْلُ جَدٍّ وَابْنِ أَخٍ. أَحَدُهُمَا: إِنَّ الجد أولى. والثاني: أن الْعَمّ أَوْلَى. وَلَا يَجِيءُ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي التسوية بينهما، كما لا يسوى بَيْنَ الْجَدِّ وَابْنِ الْأَخِ فَهَذَا مُسْتَمِرٌّ عَلَى الأصل الذي(8/307)
بَيَّنَّاهُ. ثُمَّ إِنْ كَانَ الْأَقْرَبُ إِلَيْهِ وَاحِدًا انفرد بالوصية، وإن كانوا عَدَدًا، اشْتَرَكُوا فِيهِ بِالسَّوِيَّةِ وَلَمْ يَخْتَصَّ بِهِ بَعْضُهُمْ.
فَصْلٌ:
وَلَوْ قَالَ ادْفَعُوا ثُلُثِي إِلَى جَمَاعَةٍ مِنْ أَقْرَبِ النَّاسِ مِنِّي وَكَانَ الْأَقْرَبُ إِلَيْهِ وَاحِدًا ضُمَّ إِلَيْهِ مَنْ هُوَ أَبْعَدُ منه ليصرف في ثلاثة هم أقل الجميع.
فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ ثَلَاثَةُ بَنِي ابْنٍ بَعْضُهُمْ أَسْفَلُ مِنْ بَعْضٍ دُفِعَ إِلَى الْأَوَّلِ ثُلُثٌ، وَإِلَى الثَّانِي ثُلُثٌ، وَإِلَى الثَّالِثِ ثُلُثٌ، ليكون الثلث مقسوما بينهما أَثْلَاثًا. فَلَوْ كَانَ الْبَطْنُ الثَّالِثُ مِنْ بَنِي الِابْنِ ثَلَاثَةً قُسِّمَ الثُّلُثُ أَثْلَاثًا فَدُفِعَ إِلَى الْأَوَّلِ ثُلُثٌ، وَإِلَى الثَّانِي ثُلُثٌ، وَجُعِلَ الثُّلُثُ الثالث بين ثلاثتهم مِنَ الْبَطْنِ الثَّالِثِ أَثْلَاثًا وَلَمْ يَخُصَّ بِهِ بَعْضَهُمْ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الدَّرَجَةِ فَيَصِيرُ الثُّلُثُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ عَلَى تِسْعَةٍ.
وَلَوْ كَانَ لَهُ بِنْتُ بِنْتٍ وَخَمْسُ أَخَوَاتٍ: كَانَ لِبِنْتِ الْبِنْتِ ثُلُثُ الثُّلُثِ، وَلِلْأَخَوَاتِ ثُلُثَاهُ. وَلَوْ كَانَ لَهُ أَخٌ وَبِنْتُ أَخٍ وَعَشَرَةُ أَعْمَامٍ: كَانَ لِلْأَخِ ثُلُثُ الثلث، ولبنت الأخ ثلث آخر، وكان الثلث الثَّالِث بَيْنَ الْأَعْمَامِ الْعَشَرَةِ عَلَى عَشَرَةٍ، فَيَصِيرُ الثُّلُثُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ عَلَى ثَلَاثِينَ سَهْمًا.
فَصْلٌ:
وَإِذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو فَمَاتَ عَمْرٌو بَعْدَ الْوَصِيَّةِ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي: كَانَ لِزَيْدٍ نِصْفُ الثُّلُثِ، وَلَوْ كَانَ عَمْرٌو عِنْدَ الْوَصِيَّةِ مَيِّتًا: قَالَ أبو حنيفة: لِزَيْدٍ جَمِيعُ الثُّلُثِ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَمَّا لَمْ تَصِحَّ لِمَيِّتٍ صَارَ الثُّلُثُ كُلُّهُ لِلْحَيِّ، بِخِلَافِ مَوْتِهِ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ.
وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: لَا يَكُونُ لِزَيْدٍ إِلَّا نِصْفُ الثُّلُثِ كَمَا لَوْ مَاتَ عَمْرٌو بَعْدَ الْوَصِيَّةِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لِزَيْدٍ مَعَ الشَّرِيكِ فِي الْوَصِيَّةِ إِلَّا نِصْفهَا كَمَا لَوْ مَاتَ بَعْدَهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.(8/308)
باب ما يكون رجوعا في الوصية
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِعَبْدٍ بِعَيْنِهِ ثُمَّ أَوْصَى بِهِ لِآخَرَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ لِلْمُوصِي الرُّجُوعَ فِي وَصِيَّتِهِ لِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ لَمْ يَزُلْ عَنْهَا مِلْكُ مُعْطِيهَا فَأَشْبَهَتِ الْهِبَاتِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَإِنَّمَا لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ فِي عَطَايَا مَرَضِهِ لِزَوَالِ مِلْكِهِ.
ثُمَّ الرُّجُوعُ فِي الْوَصِيَّةِ يَكُونُ بِقَوْلٍ أَوْ دَلَالَةٍ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ.
وَإِذَا كَانَ حُكْمُ الْوَصِيَّةِ جَارِيًا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فَصُورَةُ مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ فِي رَجُلٍ أَوْصَى بِعَبْدِهِ لِزَيْدٍ ثُمَّ أَوْصَى بِهِ لعمرو فقد اختلف الناس في حكم ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ دَاوُدَ أنه يكون وَصِيَّةً لِلْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ.
وَالثَّانِي: وهو مذهب الحسن وعطاء وطاوس أَنَّهُ يَكُونُ وَصِيَّةً لِلثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ بِالرُّجُوعِ أَشْبَهُ.
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَن الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِهَا بَاطِلَةٌ لَا تصح لواحد منها لِإِشْكَالِ حَالِهِمَا.
وَالرَّابِعُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وأبى حنيفة.
أَنَّهَا تَكُونُ وَصِيَّةً لَهُمَا فَتُجْعَلُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ.
وَهَكَذَا لَوْ أَوْصَى بِهِ لِثَالِثٍ، جَعَلْنَاهُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا. وَلَوْ أَوْصَى بِهِ لِرَابِعٍ جَعَلْنَاهُ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: ثَلَاثَةُ معاني:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَوْلُهُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ قَدْ أَوْصَيْتُ بِعَبْدِي هَذَا لِزَيْدٍ وَأَوْصَيْتُ به لعمر كان بينهما إجماعا فوجب أن يتراخى بين الوصيتين وأن يكون بينهما حجابا إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ اقْتِرَانِ الْوَصِيَّتَيْنِ وَبَيْنَ اقترانهما.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِزَيْدٍ ثُمَّ أَوْصَى بَعْدَ زَمَانٍ بِثُلُثِ ماله لعمرو وأن الثلث إذا لم تجز الْوَرَثَةُ بَيْنَهُمَا كَذَلِكَ يَكُونُ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا فِي الْوَصِيَّةِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ الثَّانِيَةُ رُجُوعًا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِنِسْيَانِ الأولى، ويحتمل أن يقصد بِهَا التَّشْرِيكَ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ مَعَ هَذَا(8/309)
الِاحْتِمَالِ عَلَى التَّشْرِيكِ بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْوَصِيَّةِ لَهُمَا، وَلَيْسَ يُلْزَمُ فِي الْوَصَايَا الْمُطْلَقَةِ تَقْدِيمُ الْأَوَّلِ عَلَى الثَّانِي، وَلَا الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فِي الْعَطَايَا النَّاجِزَةِ.
فَصْلٌ:
وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ جَارِيَةٌ حَامِلٌ فَأَوْصَى بِهَا لِرَجُلٍ ثُمَّ أَوْصَى بَعْدَ ذَلِكَ بِحَمْلِهَا لِآخَرَ فَالْجَارِيَةُ تَكُونُ لِلْأَوَّلِ وَالْوَلَدُ يَكُونُ بَيْنَ الْأَوَّلِ والثاني.
وإنما كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا أَوْصَى بِالْجَارِيَةِ لِلْأَوَّلِ كَانَ حَمْلُهَا دَاخِلًا فِي الْوَصِيَّةِ تَبَعًا، فَلَمَّا أوصى بالحمل للثاني صار موصيا بِهِ لَهُمَا، فَكَانَ بَيْنَهُمَا، وَهَكَذَا لَوِ ابْتَدَأَ فَأَوْصَى بِحَمْلِهَا لِرَجُلٍ ثُمَّ أَوْصَى بِهَا لِآخَرَ كَانَ الْحَمْلُ بَيْنَهُمَا وَالْجَارِيَةُ لِلثَّانِي مِنْهُمَا لِمَا ذكرناه.
ولكن لو قال: أَوْصَيْتُ لِزَيْدٍ بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ دُونَ حَمْلِهَا، وَأَوْصَيْتُ لعمرو بحملها دونها، صح وانفرد زَيْدٌ بِالْأُمِّ وَعَمْرٌو بِالْوَلَدِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ زَيْدًا الْمُوصَى لَهُ بِالْأُمِّ أَعْتَقَهَا وَهِيَ حَامِلٌ، عتقَتْ وَلَمْ يَسْرِ عِتْقُهَا إِلَى الْحَمْلِ، وَكَانَ الْحَمْلُ إِذَا وُلِدَ رَقِيقًا لِعَمْرٍو وَسَوَاءٌ كَانَ مُعْتِقُ الْأُمِّ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا لِأَنَّ الْأُمَّ تَتَمَيَّزُ عَنِ الْوَلَدِ وَقَدْ تَمَيَّزَا فِي الْمِلْكِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَسْرِ الْعِتْقُ.
فَصْلٌ:
وَإِذَا أَوْصَى الرَّجُلُ بِعَبْدِهِ لِوَاحِدٍ مِنْ رَجُلَيْنِ لَمْ يُعَيِّنْهُ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةً.
وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِوَاحِدٍ مِنْ عَبْدَيْنِ لَمْ يُعَيِّنْهُ، كَانَتِ الْوَصِيَّةُ جَائِزَةً وَدَفَعَ الْوَارِثُ أَيَّهُمَا شَاءَ.
وَقَالَ أبو حنيفة: الْوَصِيَّةُ لِأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ جَائِزَةٌ، كَالْوَصِيَّةِ بِأَحَدِ الْعَبْدَيْنِ. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ إِنَّمَا تَصِحُّ إِذَا كَانَتْ لِمُوصى لَهُ إِمَّا بِالنَّصِّ أَوْ بِإِطْلَاقِ اسْمٍ تَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ، وَلَيْسَ فِي الوصية لأحد الرجلين نَصٌّ وَلَا عُمُومُ اسْمٍ وَإِنَّمَا تَدْخُلُ فِي العموم إذا قال: ادفعوا عبدي أي هذين الرجلين شئتم فتصح الوصية كلها.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ لِأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ وَبَيْنَ الْوَصِيَّةِ بِأَحَدِ الْعَبْدَيْنِ: هُوَ الْجَهْلُ بِمُسْتَحِقِّهَا فِي أَحَدِ الرَّجُلَيْنِ، وَالْعِلْمُ بِمُسْتَحِقِّهَا فِي أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ.
وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ ": وَلَوْ أَنَّ شَاهِدًا قَالَ أَشْهَدُ أَنَّ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ قَتَلَ زَيْدًا لَمْ يَكُنْ لِأَوْلِيَائِهِ أَنْ يُقْسِمُوا مع شهادتهم وَلَا يَكُونُ لَوْثًا، وَلَوْ قَالَ أَشْهَدُ أَنَّ زَيْدًا قَتَلَ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ كَانَ ذَلِكَ لوثا لمن ادعاه من أولياء المقتولين ويقسمون مع شهادتهم، وفصل بينهما بأنه إذا ثبت الْقَاتِلُ تَوَجَّهَتِ الدَّعْوَى عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتِ الْمَقْتُولُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَثْبُتِ الْقَاتِلُ، لِأَنَّ الدَّعْوَى لَا تَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ مَعَ إِثْبَاتِ المقتول.
ومثله أن يقول عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ أَلْفٌ لَمْ تُسْمَعِ الدَّعْوَى مِنْهُ وَلَوْ قَالَ لِي عَلَى هَذَا الرَّجُلِ أَحَدُ هَذَيْنِ الْمَالَيْنِ سُمِعَتِ الدَّعْوَى مِنْهُ توجها وأخذا بالبيان تعيينا.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ قَالَ الْعَبْدُ الَّذِي أَوْصَيْتُ بِهِ لِفُلَانٍ لفلان أو قد أوصيت بالذي أوصيت به لفلان لفلان كان هذا رُجُوعًا عَنِ الْأَوَّلِ إِلَى الْآخَرِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَحُكِيَ عَنِ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ رُجُوعًا، وَيَكُونُ الْعَبْدُ وَصِيَّةً لَهُمَا كَمَا(8/310)
لَوْ أَوْصَى بِهِ لِلثَّانِي مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْأَوَّلِ وَسَاعَدَهُ عَلَى هَذَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا احْتِجَاجًا بِأَنَّهُ لَوْ وَكَّلَ زَيْدًا بِبَيْعِ سِلْعَةٍ سَمَّاهَا، ثُمَّ قَالَ قَدْ وَكَّلْتُ عَمْرًا بِمَا وَكَّلْتُ به زيدا أنهما يكونا معا وكيلين في بيعهما ولا يكون لوكيل الثَّانِي رُجُوعا عَنِ الْأَوَّلِ مَعَ ذِكْرِهِ فَكَذَلِكَ فِي الْوَصِيَّةِ.
وَهَذَا فَاسِدٌ: لِأَنَّهُ إِذَا صَرَّحَ بِذِكْرِ الْأَوَّلِ عِنْدَ الْوَصِيَّةِ بِهِ لِلثَّانِي زَالَ احْتِمَالُ النِّسْيَانِ بِالذِّكْرِ، وَزَالَ احْتِمَالُ التَّشْرِيكِ بِقَوْلِهِ فَقَدْ أَوْصَيْتُ بِهِ لِلثَّانِي فَصَارَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي الرُّجُوعِ.
فَأَمَّا الْوَكَالَةُ: فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ ضيق عَلَيْهِ الْفَرْقَ فَجَعَلَ ذَلِكَ رُجُوعًا فِي تَوْكِيلِ الْأَوَّلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْوَكَالَةَ نيابة فصح أن يوكل كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَمَاعَةِ فِي كُلِّ الْبَيْعِ، وَالْوَصِيَّةُ تَمْلِيكٌ لَا يَصِحُّ أَنْ يَمْلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَمَاعَةِ كُلَّ الْوَصِيَّةِ. فَكَانَ هَذَا فَرْقًا بَيْنَ الْوَكَالَةِ وَبَيْنَ الْوَصِيَّةِ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا تقرر أن يَكُون رُجُوعًا عَنِ الْأَوَّلِ إِلَى الثَّانِي، فَسَأَلَ الْأَوَّلُ إِحْلَافَ الثَّانِي أَنَّ الْمُوصِيَ أَرَادَ بِهِ الرُّجُوعَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ يَمِينٌ، لِأَنَّ الرُّجُوعَ فِي هَذَا إِلَى لَفْظِ الْمُوصِي فِيمَا احْتَمَلَهُ مِنَ الْمَعْنَى دُونَ إِرَادَتِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ أَوْصَى أَنْ يُبَاعَ أَوْ دَبَّرَهُ أَوْ وَهَبَهُ كَانَ هَذَا رُجُوعًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ لِلْمُوصِي الرُّجُوعَ فِي وَصِيَّتِهِ مَتَى شَاءَ، وَأَنَّ الرُّجُوعَ قَدْ يَكُونُ بِقَوْلٍ، أَوْ دلالة أو فِعْلٍ.
فَأَمَّا الْقَوْلُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ صَرِيحًا: رَجَعْتُ فِي وَصِيَّتِي أَوْ قَدْ أَبْطَلْتُهَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ رُجُوعًا مِنْهُ وَتَبْطُلُ بِهِ وَصِيَّتُهُ.
وَأَمَّا دلالة الفعل فَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْفَصْلِ ثَلَاثَ مسائل:
أحدها: أَنْ يُوصِيَ بِبَيْعِهِ.
وَالثَّانِيةُ: أَنْ يُدَبِّرَهُ.
وَالثَّالِثَةُ: أَنْ يَهَبَهُ.
فَأَمَّا الْبَيْعُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَوَلَّاهُ فِي حَيَاتِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُوصِيَ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ. فَإِنْ بَاعَهُ فِي حَيَاتِهِ كَانَ هَذَا رُجُوعًا لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إِنَّمَا تَصِحُّ إذا انتقلت عن مِلْكِ الْمُوصِي بِمَوْتِهِ إِلَى مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ بِقَبُولِهِ وَالْبَيْعُ قَدْ أَزَالَ مِلْكَهُ عَنْهَا فَلَمْ يَصِحَّ بَقَاءُ الْوَصِيَّةِ بِهِ.
فَلَوِ اشْتَرَاهُ بَعْدَ بَيْعِهِ: لَمْ تَعُدِ الْوَصِيَّةُ بِهِ لِبُطْلَانِهَا بِالْبَيْعِ. وَخَالَفَ الْمُفْلِسُ إِذَا اشْتَرَى مَا بَاعَهُ فِي رُجُوعِ الْبَائِعِ بِهِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ.
وَالِابْنُ إِذَا اشْتَرَى مَا بَاعَهُ فِي هِبَةِ أَبِيهِ فِي رُجُوعِ الْأَبِ بِهِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ.(8/311)
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ رُجُوعَ الْأَبِ فِيمَا وَهَبَهُ لِابْنِهِ وَرُجُوعَ الْبَائِعِ عَلَى الْمُفْلِسِ بِعَيْنِ مَالِهِ، حَقٌّ لَهُمَا، لَيْسَ لِلِابْنِ وَلَا لِلْمُفْلِسِ إِبْطَالُ ذلك عليهما، فكذلك لَمْ يَكُنْ بَيْعُهُمَا وَعَوْدُهُ إِلَى مِلْكِهِمَا مَانِعًا مِنَ الرُّجُوعِ بِذَلِكَ عَلَيْهِمَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ، لِأَنَّ لِلْمُوصِي إِبْطَالهَا فَإِذَا بَطَلَتْ بِالْبَيْعِ لَمْ تَعُدْ بِالشِّرَاءِ.
وَلَكِنْ لَوْ أَنَّ الْمُوصِيَ عَرَضَ ذَلِكَ لِلْبَيْعِ فَفِي كَوْنِهِ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ، لِأَنَّ تَعْرِيضَهُ لِلْبَيْعِ دَلِيلٌ عَلَى قَصْدِهِ لِلرُّجُوعِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لا يَكُونُ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ لِبَقَائِهَا عَلَى مِلْكِهِ.
فَأَمَّا إِذَا أَوْصَى أَنْ يُبَاعَ بَعْدَ مَوْتِهِ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولَ بِيعُوهُ بَعْدَ مَوْتِي، وَلَمْ يَذْكُرْ بِكمْ يُبَاعُ وَلَا عَلَى مَنْ يُبَاعُ فَالْوَصِيَّةُ بِهَذَا الْبَيْعِ بَاطِلَةٌ، وَالْوَرَثَةُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءُوا بَاعُوهُ، وَإِنْ شَاءُوا تَمَسَّكُوا بِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ مَنْ تصح وله الْوَصِيَّةُ فِيهِ لَكِنْ يُسْتَفَادُ بِذَلِكَ إِبْطَالُ الْوَصِيَّةِ وأن تكون مِلْكًا لِوَرَثَتِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُوصِيَ بِبَيْعِهِ عَلَى زَيْدٍ بِثَمَنٍ ذَكَرَهُ يُعْلَمُ أَنَّ فِيهِ مُحَابَاةً، فَالْوَصِيَّةُ بِهَذَا الْبَيْعِ جَائِزَةٌ، ثُمَّ مَذْهَبُ الشافعي أن يَكُون رُجُوعًا عَنِ الْوَصِيَّةِ الْأُولَى، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَقُولُ: إِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْوَصِيَّتَيْنِ جَمِيعًا كَمَا لَوْ أَوْصَى بِهِ لِزَيْدٍ ثُمَّ أَوْصَى بِهِ لِعَمْرٍو.
قَالَ: وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْمُحَابَاةِ فِي الثَّمَنِ، فَإِنْ كَانَتِ الْمُحَابَاة بِنِصْفِ ثَمَنِهِ صَارَ كَأَنَّهُ قَدْ أَوْصَى بِجَمِيعِهِ لِزَيْدٍ، ثم أوصى بنصفه لعمرو، فيكون بنيهما أَثْلَاثًا، وَإِنْ كَانَتِ الْمُحَابَاةُ بِثُلُثِ ثَمَنِهِ كَانَتْ بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُوصِيَ بِبَيْعِهِ عَلَى زَيْدٍ وَلَا يَذْكُرُ قَدْرَ ثَمَنِهِ الَّذِي يُبَاعُ عَلَيْهِ بِهِ، فَهُوَ بِذَلِكَ مُبْطِلٌ لِوَصِيَّتِهِ الأولى، وفي صحة وصية بيعه عَلَى زَيْدٍ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَنُصَّ عَلَى ثَمَنٍ تَكُونُ الْمُحَابَاةُ فِيهِ وَصِيَّةً، وَيَكُونُ الْخِيَارُ لِلْوَرَثَةِ فِي بَيْعِهِ وَإِمْسَاكِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْوَصِيَّةَ جَائِزَةٌ لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ قَصْدَ تَمليكِهِ إِيَّاهُ وَيُبَاعُ عَلَيْهِ بِثَمَنِ مِثْلِهِ إِنِ اشتراه.
وأما المسألة الثانية: فهو تَدْبِيرُ مَا أَوْصَى بِهِ فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ التَّدْبِيرَ عِتْقٌ بِصِفَةٍ، كَانَ تَدْبِيرُهُ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ كَالْوَصِيَّةِ فَإِنْ قُلْنَا بِتَقْدِيمِ الْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ، عَلَى الْوَصِيَّةِ بِالتَّمْلِيكِ، كَانَ التَّدْبِيرُ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ.
وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْعِتْقِ وَالتَّمْلِيكِ سَوَاءٌ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ الطَّبَرِيِّ أَنَّهُ يَكُونُ نِصْفُهُ وَصِيَّةً وَنِصْفُهُ مُدَبَّرًا كَمَا لَوْ أَوْصَى بالثان بَعْدَ أَوَّلٍ، كَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ.(8/312)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، أَنَّهُ يَكُونُ جَمِيعُهُ مُدَبَّرًا وَرُجُوعًا عَنِ الْوَصِيَّةِ، لأن عتق التدبير ناجز بالموت، فيقدم عَلَى الْوَصَايَا، كَالنَّاجِزِ مِنَ الْعَطَايَا.
وَإِنْ قُدِّمَ تَدْبِيرُهُ، ثُمَّ أَوْصَى بِهِ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ التَّدْبِيرَ عِتْقٌ بِصِفَةٍ، لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهِ، كَانَ عَلَى تَدْبِيرِهِ، وَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةً، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ كَالْوَصَايَا، نُظِرَ: فَإِنْ قَالَ الْعَبْدُ الَّذِي دَبَّرْتُهُ قَدْ أَوْصَيْتُ بِهِ لِزَيْدٍ: كَانَ رُجُوعًا فِي تَدْبِيرِهِ، وَمُوصى بِجَمِيعِهِ. وَإِنْ لَمْ يكفل ذَلِكَ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ يَكُونُ نِصْفُهُ بَاقِيًا عَلَى تدبير ونصفه موصا بِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، أن تدبيره، أقوى من الوصية وَيَكُونُ عَلَى التَّدْبِيرِ.
وَلَوْ أَوْصَى بِعِتْقِهِ: فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ رُجُوعًا عَنِ الْوَصِيَّةِ الأولى، وموصا بِعِتْقِهِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يكون رجوعا عن الوصية بصفة، وموصا بِعِتْقِ نِصْفِهِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَلَوْ قَدَّمَ الْوَصِيَّةَ بِعِتْقِهِ، ثُمَّ أَوْصَى بِهِ لزيد ففيه وجهان:
أحدهما: يكون موصا بعتقه، والوصية به بَعْدَ ذَلِكَ بَاطِلَةٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ نِصْفَهُ يكون موصا بعتقه، ونصفه موصا بِمِلْكِهِ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَهُوَ أَنْ يَهَبَ مَا أَوْصَى بِهِ، فَهَذَا يُنْظَرُ فَإِنْ أَقْبَضَهُ فِي الْهِبَةِ: كَانَ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ، لِإِخْرَاجِهِ بِالْقَبْضِ عَنْ مِلْكِهِ وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهُ ففي كونه رجوعا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَكُونُ رُجُوعًا، لِأَنَّهُ قَدْ عَقَدَ فِيهِ عقدا يقضي إلى زوال الملك مُخَالِفًا لِمَا قَصَدَهُ مِنْ قَبْلُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْبَغْدَادِيِّينَ: إِنَّهُ لَا يَكُونُ رُجُوعًا، لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي مِلْكِهِ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي رُجُوعِهِ.
وَلَوْ وَهَبَهُ هِبَةً فَاسِدَةً: فَفِي كَوْنِهِ رُجُوعًا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أحدها: يكون رجوعا قبض أَوْ لَمْ يُقْبِضْ، وَهَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَكُونُ رُجُوعًا قبض أَوْ لَمْ يُقْبِضْ، لِبَقَائِهِ عَلَى مَالِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِنْ أقْبضَ كَانَ رُجُوعًا، وَإِنْ لَمْ يُقْبِضْ لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا، لِأَنَّ فِي الْقَبْضِ تَصَرُّفًا بَيَانِيًّا.
وَهَكَذَا لَوْ رَهَنَهُ كَانَ فِي كَوْنِ الرَّهْنِ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ ثَلَاثَةُ أوجه:(8/313)
أحدها: يكون الرجوع أقْبض أَوْ لَمْ يُقْبِضْ.
وَالثَّانِي: لَا يَكُونُ رُجُوعًا أقْبضَ أَوْ لَمْ يقْبِضْ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ إن أقبض كان رجوعا، وإن لم يقبض لم يكن رجوعا.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ أَجَّرَهُ أَوْ عَلَّمَهُ أَوْ زَوَّجَهُ لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا أُجِّرَ الْعَبْدُ الَّذِي أَوْصَى بِهِ لَمْ تَكُنِ الْإِجَارَةُ رُجُوعًا فِي وَصِيَّتِهِ، لِأَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ عَلَى مَنَافِعِهِ، وَلَهُ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ وَاسْتِخْدَاما بِغَيْرِ بدل، فكذلك إِذَا اسْتَوْفَاهَا إِجَارَةً بِبَدَلٍ، فَإِنْ مَاتَ الْمُوصِي بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ انْتَقَلَ الْعَبْدُ إِلَى الْمُوصَى لَهُ بِمَنَافِعِهِ، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ كَانَتْ لَازِمَةً إِلَى انْقِضَاءِ مُدَّتِهَا. وَإِذَا قَبِلَهُ الْمُوصَى لَهُ لَزِمَهُ تَمْكِينُ الْمُسْتَأْجِرِ إِلَى انْقِضَائِهَا، وَالْأُجْرَةُ لِلْوَرَثَةِ لِأَنَّ الْمُوصِيَ قَدْ مَلَكَهَا بعقد، ثُمَّ تَمَلَّكَ مَنَافِعَهُ بَعْدَ الرَّقَبَةِ مِنْ بَعْدِ انقضاء مدة الإجارة، فكذلك قَدْ رَجَعَ فِي الْإِجَارَةِ فِي بَعْضِ مَنَافِعِهِ.
فأما إذا أوصى له بسكنى داره، ثم أجرها: ولم يَكُنْ ذَلِكَ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ بِسُكْنَاهَا، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَنْقَضِيَ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي، فَإِنِ انْقَضَتْ قَبْلَ مَوْتِهِ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ بِجَمِيعِ السُّكْنَى، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ انْقِضَائِهَا فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَسْكُنُ مُدَّةَ وَصِيَّتِهِ كُلَّهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ مَا بَقِيَ مِنْ مُدَّةِ الإجارة، ولا يكون بقي شَيْء مِنَ الْمُدَّةِ مُؤَثِّرًا فِي الرُّجُوعِ فِي الوصية لاستيفاء مُدَّةِ الْوَصِيَّةِ مُمْكِنٌ.
فَإِذَا كَانَ الْبَاقِي مِنْ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ شَهْرًا وَالْوَصِيَّةُ بِالسُّكْنَى سَنَة فَإِذَا أمضى شهر الإجارة بعد موت الوصي سَكَنَهَا الْمُوصَى لَهُ سَنَةً.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَبْطُلُ مِنَ الْوَصِيَّةِ بِالسُّكْنَى بِقَدْرِ مَا بَقِيَ مِنْ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ كَان الْوَصِيَّة بِالسُّكْنَى سَنَةً وَالْبَاقِيَ مِنْ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ شَهْرٌ، فَيَبْطُلُ مِنَ الْوَصِيَّةِ بِالسَّنَةِ شَهْرٌ وَيَبْقَى لِلْمُوصَى لَهُ أَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا. وَلَوْ كَانَ الْبَاقِي مِنْهَا سَنَةً بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ بِالسُّكْنَى كُلِّهَا.
فَصْلٌ:
وَلَوْ أَوْصَى بِعَبْدٍ فَعَلَّمَهُ عِلْمًا، أَوْ صِنَاعَةً، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ رُجُوعًا لِأَنَّ هَذَا مِنْ مَصَالِحِهِ فَصَارَ كَالنَّفَقَةِ عَلَيْهِ. وَهَكَذَا لَوْ خَتَنَهُ أَوْ حَجَمَهُ أَوْ دَاوَاهُ لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا. وَهَكَذَا لَوْ زَوَّجَهُ: لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا وَنَفَقَةُ الزَّوْجَةِ وَمَهْرُهَا فِي كَسْبِهِ. وَهَكَذَا لَوْ كَانَتْ أَمَةً فَزَوَّجَهَا، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ رُجُوعًا، وَالْمهْرُ لِلْمُوصِي فَإِذَا مَاتَ لَمْ يَكُنْ لِلْمُوصَى لَهُ أَنْ يَفْسَخَ نِكَاحَهَا، وَكَأَنَّهُ قَدْ رَجَعَ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا مُدَّةَ مَقَامِ الزَّوْجِ مَعَهَا كَالْإِجَارَةِ فَلَوْ وَطِئَهَا الموصي لم يكن وطئه رُجُوعًا كَمَا لَوِ اسْتَخْدَمَهَا إِلَّا أَنْ يُحَبِّلَهَا فَتَصِيرُ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ وَتَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ.
وَقَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ الْمِصْرِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا: إِنْ عَزَلَ عَنْهَا لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا وَإِنْ لَمْ يَعْزِلْ عَنْهَا كَانَ رُجُوعًا، وَزَعَمَ أَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْإِيلَاءِ:
" وَلَوْ حَلَفَ لا يتسرى فوطء جَارِيَةً لَهُ فَإِنْ كَانَ يَعْزِلُ عَنْهَا فَهُوَ غَيْرُ مُتَسَرٍ، وَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَعْزِلْ عَنْهَا فَهُوَ مُتَسَرٍّ، وَقَدْ حَنِثَ ".(8/314)
قال: فلما جعل المتسري طَلَبَ الْوَلَدِ لَا الِاسْتِمْتَاعَ دَلَّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، وَكَانَ طَلَبُ الْوَلَدِ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ دُونَ الِاسْتِمْتَاعِ.
فَصْلٌ:
وَلَوْ كَانَ الْمُوصَى بِهِ أَرْضًا فَزَرَعَهَا: لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا، لِأَنَّ الزَّرْعَ لا يتبقى.
ولو بنى فيها، أو غرسها: ففيها وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ ذَلِكَ رُجُوعًا. فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ الْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ فِي جَمِيعِهَا: كَانَ رُجُوعًا فِي الْجَمِيعِ، وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِهَا: كَانَ رُجُوعًا فِيمَا غَرَسَهُ وَبَنَاهُ، دُونَ مَا لَمْ يَغْرِسْهُ وَلَمْ يَبْنِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَكُونُ رُجُوعًا، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ اسْتِيفَاءِ مَنَافِعِهَا، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْوَصِيَّةُ فِيمَا بَيْنَ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ مِنْ بَيَاضِ الْأَرْضِ بِحَالِهَا.
فَأَمَّا أَسَاسُ الْبِنَاءِ، وَقَرَارُ الْغَرْسِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يكون رجوعا، وإذا تَلِفَ الْغَرْسُ، وَانْهَدَمَ الْبِنَاءُ: عَادَ إِلَى الْمُوصَى له.
والثاني: يكون رجوعا، لأنه قد صار تباعا لها عليه ومستهلكا به.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ كَانَ الْمُوصَى بِهِ قَمْحًا فَخَلَطَهُ بِقَمْحٍ أَوْ طَحَنَهُ دَقِيقًا فَصَيَّرَهُ عَجِينًا كَانَ أَيْضًا رجوعا ".
قال الماوردي: وهذه ثلاث مسائل:
أحدها: إذا أوصى له بحنطة فَخَلَطَهَا بِحِنْطَةٍ أُخْرَى كَانَ هَذَا رُجُوعًا، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ كَانَتْ بِحِنْطَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَبِخَلْطِهَا قَدْ تَعَذَّرَ الْوُصُولُ إِلَى عَيْنِهَا، سَوَاءٌ خَلَطَهَا بِمِثْلِهَا فِي الْجَوْدَةِ أَوْ بِأَجْوَدَ أَوْ بِأَرْدَأَ. وَإِنْ خَلَطَهَا بِغَيْرِ جِنْسِهَا فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَشُقُّ تَمْيِيزُهُ أَوْ لَا يَشُقُّ، فَإِنْ خَلَطَهَا بِمَا يَشُقُّ تَمْيِيزُهُ منها كحنطة أخلط بها شعيرا، أو أرزا أو عدسا: فهذا رجوع لأنه خلط بِمَا لَا يَتَمَيَّزُ.
وَإِنْ خَلَطَهَا بِمَا لَا يَشُقُّ تَمْيِيزُهُ كَالْجَوْزِ، وَاللَّوْزِ، لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا كَمَا لَوْ أَحْرَزَهَا وَلَوْ نَقَلَ الْحِنْطَةَ عَنِ الْبَلَدِ إِلَى غَيْرِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْقُلَهَا إِلَى مَا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى بَلَدِ الْمُوصَى لَهُ، فَهَذَا لَا يَكُونُ رُجُوعًا لأنه يدل على الحرص وتمامها.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَنْقُلَهَا إِلَى بَلَدٍ هُوَ أَبْعَدُ إِلَى الْمُوصَى لَهُ مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِعُذْرٍ ظَاهِرٍ مِنْ خَوْفٍ طَرَأَ، أَوْ فِتْنَةٍ حَدَثَتْ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ رُجُوعًا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِغَيْرِ عُذْرٍ ففي كونه رجوعا وجهان:
أحدهما: يكون رجوعا اعْتِبَارًا بِظَاهِرِ فِعْلِهِ.(8/315)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَكُونُ رُجُوعًا اعْتِبَارًا بِبَقَائِهَا عَلَى صِفَتِهَا عَلَى مِلْكِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ:
فالمسألة الثانية: أن لو أوصى لَهُ بِحِنْطَةٍ فَيطحَنهَا: فَيَكُونُ ذَلِكَ رُجُوعًا لِعِلَّتَيْنِ إِحْدَاهُمَا: زَوَالُ الِاسْمِ عَنْهَا بِالطَّحْنِ.
وَالثَّانِيةُ: الْقَصْدُ إِلَى اسْتِهْلَاكِهَا بِالْأَكْلِ.
وَهَكَذَا: لَوْ قَلَاهَا سَوِيقًا فَإِنْ طَحَنَهَا كَانَ رُجُوعًا لِعِلَّتَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَطْحَنْهَا بَعْدَ الْقَلْيِ كَانَ رُجُوعًا لِإِحْدَى الْعِلَّتَيْنِ وهو قصد استهلاكها.
وَهَكَذَا لَوْ بَذَرَهَا: كَانَ رُجُوعًا، وَكَذَلِكَ لَوْ عملها نشا أو بلها بالماء كَانَ رُجُوعًا.
فَصْلٌ:
وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُوصِيَ لَهُ بِدَقِيقٍ فَيُصَيِّرُهُ عَجِينًا فَهَذَا رُجُوعٌ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهِ الِاسْتِهْلَاكَ وَهَكَذَا لَوْ أَوْصَى لَهُ بِعَجِينٍ فَخَبَزَهُ خُبْزًا، كَانَ رُجُوعًا لِزَوَالِ الِاسْمِ دُونَ الِاسْتِهْلَاكِ. وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِخُبْزٍ فَدَقَّهُ فتوتا ففي كونه رجوعا وجهان:
أحدهما: أن يَكُون رُجُوعًا لِزَوَالِهِ عَنْ صِفَتِهِ.
وَالثَّانِي: لَا يَكُونُ رُجُوعًا لِبَقَاءِ اسْمِ الْخُبْزِ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ دقه إبقاء له. ولكن لو جعل سريدا كان رجوعا.
فصل:
ولو أوصى بِقُطْنٍ فَغَزَلَهُ: كَانَ رُجُوعًا لِزَوَالِ الِاسْمِ عَنْهُ. وَلَوْ حَشَاهُ فِي مِخَدّة أَوْ مضربة فَفِي كونه رجوعا وجهان:
أحدهما: هو قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ أَنَّهُ يَكُونُ رُجُوعًا كَمَا لَوْ غَزَلَهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَكُونُ رُجُوعًا لِأَنَّهُ مَا أَزَالَ عَنْهُ الِاسْمَ، وَلَا قَصَدَ بِهِ الِاسْتِهْلَاكَ وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِغَزْلٍ فَنَسَجَهُ ثَوْبًا كَانَ رُجُوعًا، لِزَوَالِ اسْمِ الْغَزَلِ عَنْهُ.
وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِثَوْبٍ فَقَطَعَهُ قميصا كان رجوعا لانتقال الِاسْم وَقَصد الِاسْتِعْمَال، وَلَوْ غَسَلَهُ لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا، وَلَوْ صَبَغَهُ كَانَ رُجُوعًا، وَلَوْ قَصَّرَهُ فَفِي كَوْنِهِ رُجُوعًا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَكُونُ رُجُوعًا كَالْغَسْلِ.
وَالثَّانِي: يَكُونُ رُجُوعًا كَالصَّبْغِ.
فَصْلٌ:
فَلَوْ أَوْصَى بِشَاةٍ فَذَبَحَهَا: كَانَ رُجُوعًا لِزَوَالِ الاسم وقصد الِاسْتِهْلَاكِ وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَكُونُ رُجُوعًا.
وَلَوْ أَوْصَى " لَهُ " بِلَحْمٍ فَقَدَّدَهُ لَمْ يَكُنْ رجوعا لأنه بالتقديد يستبقى ولو طحنه: كان رجوعا لأنه صار مستهلكا. وإذا شوي كَانَ أَبْقَى لَهُ.
فَصْلٌ:
وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِنُقْرَةِ فِضَّةٍ، فَطَبَعَهَا دَرَاهِمَ، أَوْ صَاغَهَا حُلِيًّا: كَانَ رُجُوعًا، لِانْتِقَالِ الِاسْمِ.
وَهَكَذَا: لَوْ أَوْصَى لَهُ بِحُلِيٍّ، أَوْ دَرَاهِمَ فَسَبَكَهَا نُقْرَةً، كَانَ رُجُوعًا.(8/316)
ولو أوصى له بتمر فكذه: لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا، لِأَنَّهُ يُسْتَبْقَى بِهِ.
وَلَوْ جَعَلَهُ دِبْسًا: كَانَ رُجُوعًا لِزَوَالِ الِاسْمِ.
وَهَكَذَا: لَوْ أَوْصَى لَهُ بِعِنَبٍ، فَجَعَلَهُ عَصِيرًا، أَوْ زيتون فجعله زيتا، أن بِسِمْسِمٍ فَجَعَلَهُ شَيْرَجًا، كَانَ رُجُوعًا.
وَلَوْ أَوْصَى بِرُطَبٍ فَجَفَّفَهُ تَمْرًا أَوْ بِعِنَبٍ فَجَفَّفَهُ زَبِيبًا، لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا، لِأَنَّهُ بِذَلِكَ يُدَّخَرُ وَهُوَ على صفته، فَصَارَ كَمَا لَوْ أَوْصَى لَهُ بِجَدْيٍ، فَصَارَ تيسا، أو ببصل فصار خلا.
فصل:
وإذا أوصى له دار فَهَدَمَهَا: كَانَ رُجُوعًا.
وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يكون هدم الدار رجوعا، وهذا خطأ. لأنه لما كان طحن الحنطة رُجُوعًا، كَانَ هَدْمُ الدَّارِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ رُجُوعًا. وَلَوْ جَعَلَ الدَّارَ حَمَّامًا: كَانَ رُجُوعًا بوفاق مع أبي حنيفة، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ فِي هَدْمِهَا. وَلَكِنْ لَوْ عَمَّرَهَا، لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا، وَلَوْ جعل عليها سباطا، لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا فِي الْوَصِيَّةِ.
وَهَلْ يَكُونُ وضع السباط عليه من حيطانها على وجهين كما قلنا فِي قَرَارِ الْغَرْسِ وَأَسَاسِ الْبِنَاءِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " ولو أوصى له بمكيلة حنطة مما في بيته ثم خلطها بمثلها لم يكن رجوعا وكانت له المكيلة بحالها ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيمَنْ أَوْصَى بصبرة مميزة وأنه مَتَى خَلَطَهَا بِغَيْرِهَا كَانَ رُجُوعًا.
فَأَمَّا مَسْأَلَتُنَا هذه مصورة في رجل أوصى لزيد بقفيز من صبرة حنطة في بيته، ثُمَّ خَلَطَهَا، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَخْلِطَهَا بِمِثْلِهَا، فَهَذَا لَا يَكُونُ رُجُوعًا لِأَنَّ الْقَدْرَ الْمُوصَى بِهِ كَانَ مُخْتَلِطًا بِغَيْرِهِ، وَخَالَفَ الْحِنْطَةَ الْمُتَمَيِّزَةَ الَّتِي يَصِيرُ خَلْطُهَا رُجُوعًا.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَخْلِطَهَا بِأَجْوَدَ مِنْهَا: فَهَذَا يَكُونُ رُجُوعًا، لِأَنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ فِيهَا بِالْخَلْطِ زِيَادَةً لَا يَمْلِكُهَا الْمُوصَى لَهُ فَصَارَ كَالذَّهَبِ إِذَا صَاغَهُ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَخْلِطَهَا بِأَرْدَأَ مِنْهَا: فَفِي كَوْنِهِ رُجُوعًا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قول عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا يَكُونُ رُجُوعًا، لِأَنَّهُ نَقْصٌ أَحْدَثَهُ فِيهَا، فَصَارَ كَمَا لَوْ أَخَذَ بَعْضَهَا: لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا فِيمَا بَقِيَ عَنْهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَكُونُ رُجُوعًا لِأَنَّ الْحِنْطَةَ تَتَغَيَّرُ بِالْأَرْدَأ، كَمَا تَتَغَيَّرُ بِالْأَجْوَدِ وَجُمْلَةُ مَا يَكُونُ رُجُوعًا فِي الْوَصِيَّةِ مَعَ بَقَائِهَا عَلَى مِلْكِ الْمُوصِي أَنْ يَقْصِدَ إِلَى اسْتِهْلَاكِهَا، أَوْ يُحْدِثَ فِيهَا بِفِعْلِهِ زِيَادَةً لَا يُمْكِنُ تَمْيِيزُهَا.(8/317)
فصل:
ولو حجر الْمُوصِي الْوَصِيَّةَ كَانَ رُجُوعًا.
وَحُكِيَ عَنْ محمد بن الحسن أن الحجور لا يكون رجوعا، وهذا فاسد لأن الحجور أغلظ من الرجوع. ولو قال هذا على حَرَامٌ كَانَ رُجُوعًا لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَكُونُ عَلَيْهِ حَرَامًا. وَقَالَ محمد بن الحسن لَا يكون ذلك رجوعا.
ولو قال هي لورثتي كَانَ رُجُوعًا. وَلَوْ قَالَ هِيَ مِنْ تَرِكَتِي ففي كونه رجوعا وجهان:
أحدهما: يكون رجوعا لِأَنَّ التَّرِكَةَ لِلْوَرَثَةِ.
وَالثَّانِي: لَا يَكُونُ رُجُوعًا لأن الوصايا من حملة التَّرِكَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(8/318)
بَابُ الْمَرَضِ الَّذِي تَجُوزُ فِيهِ الْعَطِيَّةُ وَلَا تجوز والمخوف غير المرض
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " كُلُّ مَرَضٍ كَانَ الْأَغْلَبُ فِيهِ أَنَّ الْمَوْتَ مَخُوفٌ عَلَيْهِ فَعَطِيَّتُهُ إِنْ مَاتَ فِي حُكْمِ الْوَصَايَا وَإِلَّا فَهُوَ كَالصَّحِيحِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ مَا يُخْرِجُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ مَالِهِ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَصَايَاهُ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَالثَّانِي: عَطَايَاهُ الْمُنْجَزَةُ فِي حَيَاتِهِ.
فَأَمَّا الْوَصَايَا: فَهِيَ مِنَ الثُّلُثِ، سَوَاءٌ أَوَصَى بِهَا فِي صِحَّةٍ أَوْ مَرَضٍ. فَإِنِ اتَّسَعَ الثُّلُثُ لِجَمِيعِهَا أُمْضِيَتْ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْوَارِثِ فِيهَا اعْتِرَاضٌ، وَإِنْ ضَاقَ الثُّلُثُ عَنْهَا: رُدَّ الْفَاضِلُ عَلَى الثُّلُثِ إِنْ لَمْ يُجِزْهُ الورثة ويحاص أهل الوصايا الورثة بِالثُّلُثِ. وَسَوَاءٌ مَنْ تَقَدَّمَتِ الْوَصِيَّةُ لَهُ أَوْ تَأَخَّرَتْ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ عِتْقٌ، فَيَكُونُ فِي تَقْدِيمِهِ عَلَى الْوَصَايَا قَوْلَانِ.
وَأَمَّا الْعَطَايَا الْمُنْجَزَةُ فِي الْحَيَاةِ: فَكَالْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالْمُحَابَاةِ وَالْعِتْقِ، وَالْوَقْفِ فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ فِي الصِّحَّةِ. وَالثَّانِي: مَا كَانَ فِي الْمَرَضِ.
فَأَمَّا عَطَايَا الصِّحَّةِ فَمِنْ رَأْسِ الْمَالِ، سَوَاءٌ قَرُبَ عَهْدُهَا بِالْمَوْتِ أَوْ بَعُدَ.
وَأَمَّا عَطَايَا الْمَرَضِ فَالْمَرَضُ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
قِسْمٌ يَكُونُ غَيْرَ مَخُوفٍ: كَوَجَعِ الضِّرْسِ، وَرَمَدِ الْعَيْنِ، وَنُفُورِ الطِّحَالِ، وَحُمَّى يَوْمٍ، فَالْعَطَايَا فِيهِ: مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، لأن الإنسان مطبوع على أحوال متغايرة ولا يَبْقَى مَعَهَا عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا يَخْلُو في تغييره واستحالته فإن أعطى في هذه الحالة كانت عطيته من رأس ماله، مثاله كَالصَّحِيحِ، وَإِنْ مَاتَ عُقَيْبَ عَطِيَّتِهِ، لِأَنَّ حُدُوثَ الموت بغيره فهذا هو قِسْمٌ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: حَالُ الْمُعَايَنَةِ، وَحشرجَةُ النَّفْسِ، وَبُلُوغُ الرُّوحِ التَّرَاقِيَ، فَلَا يَجْرِي عَلَيْهِ فِيهَا حُكْمُ قَلَمٍ، وَلَا يَكُونُ لِقَوْلِهِ حُكْمٌ، لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَوْتَى وَإِنْ كَانَ يَتَحَرَّكُ حَرَكَةَ الْمَذْبُوحِ، وَكَذَلِكَ مَنْ شُقَّ بَطُنُهُ وَأُخْرِجَتْ حَشْوَتُهُ لا يحكم بقوله ووصيته في هذه الْحَالَةِ وَإِنْ كَانَ يَتَحَرَّكُ أَوْ يَتَكَلَّمُ لِأَنَّ الباقي منه كحركة المذبوح بعد الذبح.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: الْمَرَضُ الْمَخُوفُ الَّذِي الْحَيَاةُ فِيهِ بَاقِيَةٌ وَالْإِيَاسُ مِنْ صَاحِبِهِ وَاقِعٌ كَالطَّوَاعِينِ، وَالْجِرَاحِ النَّافِذَةِ، فَعَطَايَاهُ كُلُّهَا مِنْ ثُلُثِهِ، سَوَاءٌ كَانَ هِبَةً أَوْ مُحَابَاةً أَوْ عِتْقًا.
وَقَالَ دَاوُدُ بن علي: العتق كله مِنَ الثُّلُثِ، لِلْخَبَرِ فِيهِ وَمَا سِوَاهُ مِنْ رأس المال.(8/319)
وَقَالَ طَاوُسٌ: الْعِتْقُ وَغَيْرُهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} [الحج: 77] . وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَا أَنْفَقَهُ مِنْ مَالِهِ فِي مَلَاذِّهِ وَشَهَوَاتِهِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ. كَانَ ما يتقرب بِهِ مِنْ عِتْقِهِ وَهِبَاتِهِ وَمُحَابَاتِهِ أَوْلَى أَنْ تَكُونَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران: 143] . يَعْنِي بِهِ خَوْفَ القتل وأسباب التلف وسماه بِاسْمِهِ لِقُرْبِهِ مِنْهُ، وَاتِّصَالِ حُكْمِهِ بِحُكْمِهِ، وَقَالَ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] .
يَعْنِي بِحُضُورِ الْمَوْتِ ظُهُورَ دَلَائِلِهِ وَوُجُودَ أَسْبَابِهِ.
ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْطَاكُمْ ثُلُثَ أَمْوَالِكُمْ فِي آخِرِ أَعْمَارِكُمْ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ ".
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِنَفَقَاتِ مَلَذَّاتِهِ، وَشَهَوَاتِهِ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ مَا اخْتَصَّ بِهِ الْمَرِيضُ مِنْ مَصَالِحِهِ، هُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ وَرَثَتِهِ، وَمَا عَادَ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ هِبْتِهِ وَمُحَابَاتِهِ، فَوَرَثَتُهُ أَحَقُّ بِهِ. فلذلك أمضت نَفَقَاتُهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ لِتَعَلُّقِهَا بِمَصَالِحِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، وَجُعِلَتْ هِبَاتُهُ مِنْ ثُلُثِهِ لِتَعَلُّقِهَا بمصلحة غير ثُمَّ بِنَفْسِهِ بَعْدَ مَمَاتِهِ. فَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا مَا جعلت لَهُ الشَّرِيعَةُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ومن الْمَخُوفِ مِنْهُ إِذَا كَانَتْ حُمَّى بَدَأَتْ بِصَاحِبِهَا ثُمَّ إِذَا تَطَاوَلَتْ فَهُوَ مَخُوفٌ إِلَّا الرِّبْعَ فإنها إذا استمرت بصاحبها ربعا فغير مخوفة وإن كَانَ مَعَهَا وَجَعٌ كَانَ مَخُوفًا وَذَلِكَ مِثْلُ الْبِرْسَامِ أَوِ الرّعَافِ الدَّائِمِ أَوْ ذَاتِ الْجَنْبِ أو الخاصرة أو القولنج ونحوه فهو مَخُوفٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ عَطَايَا الْمَرَضِ الْمَخُوفِ مِنَ الثُّلُثِ كَالْوَصَايَا، وَإِنْ تَقَدَّمَتْ عليها فالمرض المخوف، هو الذي لا تتطاوله بِصَاحِبِهِ مَعَهُ الْحَيَاةُ.
وَقَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ: الْمَخُوفُ هو من الْمُضْنِي، الْمُضْعِفِ عَنِ الْحَرَكَةِ الَّذِي يَصِيرُ بِهِ الإنسان صاحب فراش، وإن تطاول به أجله، وَهَذَا خَطَأٌ عِنْدِنَا لِأَنَّ مَا تَطَاوَلَ بِالْإِنْسَانِ فهو مُهْلَته، وَبَقِيَّة أَجَلِهِ، لِأَنَّ الْمَوْتَ طَارِئٌ عَلَى كُلِّ حَيٍّ وَإِنْ صَحَّ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ حَالُهُ فيما تعجل به الموت وجاء.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [البقرة: 180] . وَالْحَاضِرُ مَا كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ لَا مَا بَعُدَ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْطَاكُمْ ثُلُثَ أَمْوَالِكُمْ فِي آخِرِ أَعْمَارِكُمْ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ ".
فَصْلٌ:
فَإِذَا تقرر أن المخوف ما جاء وَعجّلَ، فَالْأَمْرَاضُ كُلُّهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:(8/320)
أَحَدُهَا: مَا كَانَ غَيْرَ مَخُوفٍ فِي الِابْتِدَاءِ والانتهاء كوجع الضرب ورمد العين، وجرب اليد، فعطاياه من رأس ماله، فَإِنْ مَاتَ فَبِحُدُوثِ غَيْرِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا كَانَ مَخُوفًا فِي الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ كَالْبِرْسَامِ، وَذَاتِ الْجَنْبِ، وَالْخَاصِرَةِ، فَعَطَايَاهُ فِيهِ مِنْ ثُلُثِهِ فَإِنْ صح فيه أو قتل أَوْ مَاتَ تَحْتَ هَدْمٍ، بَانَ أَنَّهُ كَانَ غير مخوف فيكون عَطَايَاهُ فِيهِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: ما كان في ابتدائه غير مَخُوفٍ، وَفِي انْتِهَائِهِ مَخُوفًا، كَالْحُمَّى، وَالسُّلِّ، فَعَطِيَّتُهُ فِي ابْتِدَائِهِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَفِي انْتِهَائِهِ مِنْ ثُلُثِهِ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا كَانَ فِي ابْتِدَائِهِ مَخُوفًا وَفِي انْتِهَائِهِ غَيْرَ مَخُوفٍ كَالْفَالِجِ يَكُونُ فِي ابْتِدَائِهِ عِنْدَ غَلَبَةِ الْبَلْغَمِ عَلَيْهِ مخوفا فإذا انْتَهَى بِصَاحِبِهِ حَتَّى صَارَ فَالِجًا فَهُوَ غَيْرُ مخوف، لأنه قد يدوم بصاحبه شهرا والله أعلم.
فصل:
وإذا تَقَرَّرَ مَا مَهَّدْنَاهُ مِنْ أُصُولِ الْأَمْرَاضِ فَسَنَذْكُرُ مِنْ تَفْصِيلِهَا مَا يَكُونُ مِثَالًا لِنَظَائِرِهِ فَمِنْ ذَلِكَ الْحُمَّى، فَهِيَ يَوْمٌ أَوْ يَوْمَانِ أَوْ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ غَيْرُ مَخُوفٍ، لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ من تعب الإغماء وَظُهُورِ الْحُمَّى وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا} [مريم: 71] . إِنَّهَا الْحُمَّى.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " الفيح الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ ". فَإِنِ استمرت بصاحبها فهي مخوفة، لأنها تدفن الْقُوَّةَ الَّتِي هِيَ قِوَامُ الْحَيَاةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: الحمى دابر الموت، وهي هجرة الله تعالى في أرضه، يحبس عبده بها إذا شاء فيرسله إذا شاء ". وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " حُمَّى يَوْمٍ كَفَّارَةُ سَنَةٍ " وَقَدْ قيل إنه يضرب بها عروق البدن كلها وهي ثلثمائة وستون عرقا فجعل كل عرق لكل يوم من أيام السنة التي يَحْدُثُ مِنَ الْقُوَّةِ فِي أَيَّامِ الِاسْتِرَاحَةِ يَكُونُ خَلَفًا مِمَّا ذَهَبَ بِهَا فِي يَوْمِ النَّوْبَةِ فصارت القوة محفوظة فزال الخوف.
فَأَمَّا إِذَا اقْتَرَنَ بِمَا لَا يَكُونُ مَخُوفًا من حمى يوم أو يومين ببرسام أَوْ ذَاتِ الْجَنْبِ أَوْ وَجَعِ الْخَاصِرَةِ، أَوِ الْقُولَنْجِ، فَقَدْ صَارَ مَخُوفًا.
فَإِنْ قِيلَ هَذِهِ الْأَمْرَاضُ بِانْفِرَادِهَا مَخُوفَةٌ فَكَيْفَ جَعَلَهَا الشَّافِعِيُّ مَعَ حمى يوم أو يومين مخوفة، فلأصحابنا عَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ مِنْ هَذِهِ الأمراض ما كان منها لَا يَكُونُ بِانْفِرَادِهِ مَخُوفًا. فَإِذَا اقْتَرَنَ بِحُمَّى يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ صَارَ مَخُوفًا.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أن من حمى حُمَّى يَوْمٍ فَهُوَ كَالصَّحِيحِ وَلَا يَكُونُ مَخُوفًا عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ تَحْدُثَ بِهِ هَذِهِ الْأَمْرَاضُ التي يصير حُدُوثُهَا بِالصَّحِيحِ مَخُوفًا.
وَهَكَذَا حُمَّى الرِّبْعِ إِذَا اقترن بها هذه الأمراض صارت مَخُوفَةً فَأَمَّا الرُّعَافُ فَإِنْ قَلَّ وَلَمْ(8/321)
يَسْتَمِرَّ فَهُوَ غَيْرُ مَخُوفٍ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ من غلبة الدم زيادته فبطلت من منافذ الجسد ما يخرج منه وَإِنْ كَثُرَ وَاسْتَمَرَّ فَهُوَ مَخُوفٌ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْزِفُ دَمَهُ، وَالدَّمُ هُوَ قِوَامُ الرُّوحِ وَمَادَّةُ الحياة.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وإن سهل بطنه يوما أو اثنين وتأتى منهُ الدَّمُ عِنْدَ الْخَلَاءِ لَمْ يَكُنْ مَخُوفًا فَإِنِ اسْتَمَرَّ بِهِ بَعْدَ يَوْمَيْنِ حَتَى يعجلَهُ أو يمنعه النوم أو يكون البطن متحرقا فهو مخوف فإن لم يكن متحرقا وَمَعَهُ زَحِيرٌ أَوْ تَقْطِيعٌ فَهُوَ مَخُوفٌ ".
قَالَ الماوردي: أما سهل البطن، يوم أو يومين، إذا لم يكن البطن متحرقا وَلَا وَجَدَ مَعَهُ وَجَعًا، لَمْ يَكُنْ مَخُوفًا، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ فَضْلَةٍ فِي غِذَاءٍ أَوْ خَلْطٍ فِي بَدَنٍ، وَلِأَنَّ الصَّحِيحَ، قَدْ يَقْصِدُ إِسْهَالَ بَطْنِهِ بِشُرْبِ الدَّوَاءِ وَالْمَطْبُوخِ، لِإِخْرَاجِ الْخَلْطِ الْفَاسِدِ، فَمَا أَجَابَ بِهِ الطَّبْعُ مِنْ ذَلِكَ، فَهُوَ أَدَلُّ عَلَى الصِّحَّةِ.
فَأَمَّا إِنِ اسْتَدَامَ بِهِ الْإِسْهَالُ صَارَ مَخُوفًا لِأَنَّهُ تَضْعُفُ مَعَهُ الْقُوَّةُ وَلَا يَثْبُتُ مَعَهُ الْغِذَاءُ.
وَلَوْ لَمْ يَتَطَاوَلْ وَكَانَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ لَكِنْ كان البطن متخرقا بعجلة فَلَا يَقْدِرُ عَلَى حَبْسِهِ كَانَ مَخُوفًا، وَهَكَذَا لو لم يكن متخرقا لكن كان معه زخير وَتَقْطِيعُ دَمٍ، أَوْ أَلَمٌ يَمْنَعْهُ مِنَ النَّوْمِ فَهُوَ مَخُوفٌ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ مَعَهُ فِي الْيَوْمِ أَوِ الْيَوْمَيْنِ دَمٌ فَقَدْ نَقَلَ الْمُزَنِيُّ في مختصره هذا: " ويأتي معه الدَّمُ عِنْدَ الْخَلَاءِ لَمْ يَكُنْ مَخُوفًا ".
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: لَا يَأْتِي فِيهِ دَمٌ لا شيء غير ما يخرج الْخَلَاء لَمْ يَكُنْ مَخُوفًا فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ بعضهم ينسب إلى المزني الْخَطَأ فِي نَقْلِهِ وَجَعَلَ خُرُوجَ الدَّمِ مَعَ الْإِسْهَالِ مَخُوفًا عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُهُ فِي الْأُمِّ وَحَكَى الدَّارَكِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، أَنَّ النَّقْلَ صَحِيِحٌ، وَأَنَّ الْجَوَابَ مُخْتَلِفٌ على اخْتِلَافِ حَالَيْنِ، وَحَمَلُوا نَقْلَ الْمُزَنِيِّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ مَخُوفًا إِذَا كَانَ خُرُوجُ الدَّمِ من بواسير أَوْ بَوَاصِير، وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ من أن يكون مخوفا إذا كان خروج الدم من المخوف. والله أعلم.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وإذا أَشْكَلَ سُئِلَ عَنْهُ أَهْلُ الْبَصَرِ. "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْأَمْرَاضَ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ يَكُونُ الْعِلْمُ بِهِ جَلِيًّا يَشْتَرِكُ فِي مَعْرِفَتِهِ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ، فَهَذَا لَا يَحْتَاجُ فِي مَعْرِفَتِهِ إِلَى سُؤَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهِ.
وَضَرْبٌ يَكُونُ الْعِلْمُ بِهِ خفيا يختص به أهل العلم به فيسألوا أو يرجع إِلَى قَوْلِهِمْ فِيهِ.
كَمَا أَنَّ عِلْمَ الشَّرِيعَةِ ضربان: ضرب جَلِيٌّ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَأَعْدَادِ رَكَعَاتِهَا، وَصَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَوُجُوبِهِ، فَلَا يحتاج فِيهِ إِلَى سُؤَالِ الْعُلَمَاءِ إِلَّا فِيمَا يَتَفَرَّعُ مِنْ أَحْكَامِهِ.
وَضَرْبٌ يَكُونُ خَفِيًّا فَيَلْزَمُهُمْ سُؤَالُ الْعُلَمَاءِ عَنْهُ إِذَا ابْتُلُوا بِهِ.
ثُمَّ إِذَا لزم سؤال أهل الطب فِيمَا أَشْكَلَ مِنَ الْأَمْرَاضِ، لَمْ يَقْتَنِعْ فِيهِ بِأَقَلَّ مِنْ عَدْلَيْنِ مِنْ(8/322)
طِبِّ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ. فَإِنْ قَالُوا غَالَبَهُ التلف جعلت العطايا مِنَ الثُّلُثِ لِكَوْنِهِ مَخُوفًا. وَإِنْ قَالُوا غَالَبَهُ السَّلَامَةُ فَهُوَ غَيْرُ مَخُوفٍ. وَهَكَذَا لَوْ قَالُوا غَالَبَهُ الْمَوْتُ بَعْدَ زَمَانٍ طَوِيلٍ فَهُوَ غَيْرُ مَخُوفٍ. وَالْعَطَايَا فِيهِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ.
فَلَوْ مَاتَ فَقَالَ مَنْ شَهِدَ بِسَلَامَتِهِ مِنَ الطِّبِّ أخطأنا قد كنا ظنناه أَنَّهُ غَيْرُ مُوحٍ فَبَانَ مُوحِيًا: قبل قَوْلهمْ لأن ما رجعوا إِلَيْهِ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ أَمَارَةٌ دَالَّةٌ وَهُوَ الموت، فلو اختلفوا في المرض فحكم بعض بأنه مَخُوفٌ مُوحٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ غَيْرُ مَخُوفٍ: رجعَ إِلَى قَوْلِ الْأَعْلَمِ مِنْهُمْ فَإِنِ اسْتَوَوْا فِي العلم، وأشكل عَلَى الْأَعْلَمِ: رُجِعَ إِلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِ مِنْهُمْ عَدَدًا. فَإِنِ اسْتَوَوْا فِي الْعَدَدِ رُجِعَ إِلَى قول من حكم بالمخوف لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ مِنْ غَامِضِ الْمَرَضِ مَا خَفِيَ عَلَى غَيْرِهِ.
فَلَوِ اخْتَلَفَ الْمُعْطَى وَالْوَارِثُ فِي الْمَرَضِ عِنْدَ اعْوِزَازِ الْبَيِّنَةِ، فَادَّعَى الْوَارِثُ أَنَّهُ كَانَ مَخُوفًا، وَقَالَ الْمُعْطَى غَيْرُ مَخُوفٍ: فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمُعْطَى مَعَ يَمِينِهِ دُونَ الْوارثِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّنَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ تَقَدُّمِ السَّلَامَةِ، وَفِي شَكٍّ مِنْ حُدُوثِ الْخَوْفِ.
والثاني: أنه مالك لما أعطى فلا ينزعه بعضه بالدعوى.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ومن ساوره الدم حتى تغير عَقْلُهُ أَوِ الْمُرَارِ أَوِ الْبَلْغَم كَانَ مَخُوفًا فإن استمر به فالج فَالْأَغْلَبُ إِذَا تَطَاوَلَ بِهِ أَنَّهُ غَيْرُ مَخُوفٍ ".
قال الماوردي: أما مساورة الدم يعني بِهِ مُلَازَمَةَ الدَّمِ وَغَلَبَتَهُ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
(ساورتني صيلة مِنَ الرَّقْشِ ... فِي أَنْيَابِهَا السُّمّ نَاقِعُ)
وَمُسَاوَرَةُ الدَّمِ هُوَ مَا يُسَمِّيهِ الطِّبُّ: الْحُمْرَةَ وَهُوَ أَنْ يَغْلِبَ الدَّمُ بِزِيَادَتِهِ فَلَا يَسْكُنُ بِالْفَصْدِ، وربما حدث منه الخناق والذبحة فيوصي صَاحِبُهُ فَهُوَ مَخُوفٌ.
وَأَمَّا الْمِرَارُ إِذَا غَلَبَ عليه فَهُوَ مَخُوفٌ، فَإِنِ انْقَلَبَ الْمِرَارُ إِلَى السَّوْدَاءِ فَهُوَ غَيْرُ مَخُوفٍ، لِأَنَّ السَّوْدَاءَ قَدْ تُفْضِي بِصَاحِبِهَا إِلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا تَغَيُّرُ الْعَقْلِ، وَإِمَّا ظُهُورُ حَكَّةٍ وَبُثُور، وَذَلِكَ فِي الْأَغْلَبِ غَيْرُ مَخُوفٍ.
وَأَمَّا الْبَلْغَمُ إِذَا غَلَبَ فَمَخُوفٌ، فَإِنِ اسْتَمَرَّ فَصَارَ فَالِجًا فَهُوَ غَيْرُ مَخُوفٍ، لأن المفلوج قد تسترخي بعض أعضائه فيعيش دهرا.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَالسُّلُّ غَيْرُ مَخُوفٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ: لِأَنَّ السُّلَّ قَدْ يَطُولُ بِصَاحِبِهِ فَيَعِيشُ الْمَسْلُولُ دهرا لا سيما إذا كَانَ شَيْخًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَخُوفَ مَا كَانَ مُوحِيًا، فَإِنِ اسْتَدَامَ بِصَاحِبِهِ حَتَّى اسْتَسْقَى وسقط فهو مخوف. والله أعلم.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " والطاعون مخوف حتى يذهب ".(8/323)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا حدث في الإنسان وخاف لَمْ يَتَطَاوَلْ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ إنَّهُ وَخْزٌ مِنْ وَخْزِ الشَّيْطَانِ فَإِنْ ظَهَرَ الطَّاعُونُ فِي بَلَدٍ حَتَّى لَا يَتَدَارَكَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بعضا، وكفى الله حسن الكفاية فما لم يقع الإنسان فَلَيْسَ بِمَخُوفٍ وَإِنْ وَقَعَ بِهِ صَارَ مَخُوفًا.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَمَنْ أَنْفَذَتْهُ الْجِرَاحُ فَمَخُوفٌ فَإِنْ لَمْ تَصِلْ إِلَى مَقْتَلٍ وَلَمْ تَكُنْ فِي مَوْضِعِ لَحْمٍ وَلَمْ يَغْلِبْهُ لَهَا وَجَعٌ وَلَا ضَربَانِ وَلَمْ يأتكل ويرم فَغَيَرُ مَخُوفٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْجِرَاحُ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أن تصل إلى جوفه في صَدْرٍ أَوْ ظَهْرٍ أَوْ خَصْرٍ أَوْ إِلَى الدماغ فَهَذَا مَخُوفٌ لِأَنَّهُ رُبَّمَا دَخَلَ مِنْهَا إِلَى الْجَوْفِ رِيحٌ تَصِلُ إِلَى الْقَلْبِ، أَوْ تَمَاسَّ الْكَبِدَ فَيُقْتَلُ، أَوْ رُبَّمَا خَرَجَ بِهَا مِنَ الْجَوْفِ مَا يَقْتُلُ، وَهَكَذَا كَانَتْ حَالُ عُمَرَ رضي الله عنه جُرِحَ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَن لا تَصِلَ إِلَى الْجَوْفِ وَلَا إِلَى الدِّمَاغِ فَيُنْظَرُ.
فَإِنْ وَرِمَتْ، أو اتكلت أَوِ اقْتَرَنَ بِهَا وَجَعٌ، أَوْ ضَرَبَانٌ فَمَخُوفٌ لِأَنَّ أَلَمَ وَجَعِهَا إِذَا وَصَلَ إِلَى الْقَلْبِ قتل وورمها، وأكلتها تسري إِلَى مَا يَلِيهَا، فَتَقْتُلُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ فَهِيَ غَيْرُ مَخُوفَةٍ، لِأَنَّ السَّلَامَةَ مِنْهَا أَغْلَبُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وإذا التحمت الحرب فمخوف فإن كَانَ فِي أَيْدِي مُشْرِكِينَ يَقْتُلُونَ الْأَسْرَى فَمَخُوفٌ (وقال) في الإملاء إذا قدم من عليه قصاص غَيْر مَخُوفٍ مَا لَمْ يَجْرَحُوا لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُتْرَكُوا فَيَحْيَوْا (قَالَ الْمُزَنِيُّ) الْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِقَوْلِهِ وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَسْلَمَ مِنَ الْتِحَامِ الْحَرْبِ وَمِنْ كُلِّ مَرَضٍ مَخُوفٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: ذكر الشافعي هاهنا ثَلَاثَ مَسَائِلَ: فِيمَنِ الْتَحَمَ فِي الْحَرْبِ فَهَذَا يُنْظَرُ فَإِنْ تَكَافَأَ الْفَرِيقَانِ فَمَخُوفٌ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ كان أحدهما أكثر عددا مِنَ الْآخَرِ فَلَيْسَ بِمَخُوفٍ عَلَى الْأَكْثَرِينَ وَهُوَ مَخُوفٌ عَلَى الْأَقَلِّينَ.
وَسَوَاءٌ كَانَ الْقِتَالُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مَعَ الْمُشْرِكِينَ فَجَعَلَ الشَّافِعِيُّ الْتِحَامَ القتال مخوفا.
وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا حُمِلَ الْمُسْلِمُ أَسِيرًا فِي أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ، فَإِنْ كَانُوا لَا يَقْتُلُونَ الْأَسْرَى على عادة قد عرفت لهم في استيفائهم لِمَنٍّ رقّ أَوْ فِدَى فَغَيْرُ مَخُوفٍ، وَإِنْ عُرِفُوا بِقَتْلِ الْأَسْرَى قَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ مَخُوفٌ، فجعل الأسر خوفا كالتحام القتال.
والمسألة الثانية: من قدم للقصاص وَجَبَ عَلَيْهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ غَيْرُ مَخُوفٍ مَا لَمْ يُجْرَحْ، فَلَمْ يَجْعَلِ التَّقْدِيمَ لِلْقِصَاصِ مخوفا بخلاف التحام القتال والأسير.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبُو حَامِدٍ(8/324)
المروزي، وطائفة كبيرة يَجْمَعُونَ بَيْنَ الْجَوَابَيْنِ فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ، وَيُخرجونَهَا على قولين:
أحدهما: أن يكون مخوفا، الحال فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران: 143] . فَجَعَلَ خَوْفَ الْقَتْلِ كَخَوْفِ الْمَرَضِ فِي رُؤْيَةِ الْمَوْتِ فِيهِمَا فَدَلَّ عَلَى اسْتِوَائِهِمَا وَلِأَنَّ نَفْسَ الْمَرِيضِ أسكن من هؤلاء لما يرجو مِنْ صَلَاحِ الدَّوَاءِ فَكَانَ ذَلِكَ بِالْخَوْفِ أَحَقَّ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَكُونُ مَخُوفَ الْحَالِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ، لِأَنَّ خَوْفَ الْمَرَضِ حَالٌّ فِي جِسْمِهِ، وَمُمَاسٌّ لِجَسَدِهِ، فَصَارَ حُكْمُهُ فيه مستقرا وليست حاله في هذه المسائل الثلاث كذلك لأنه يخاف من قرب أجله بحلول ما يحدث في جسده ويناله في يده وَذَلِكَ غَيْرُ حَال وَلَا مُسْتَقِرٍّ، وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الشَّيْخِ الْهَرم الَّذِي هُوَ لِعُلُوِّ السِّنِّ منتظر الموت فِي يَوْمٍ بَعْدَ يَوْمٍ وَعَطَايَاهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ.
وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: بَلْ جَوَابُ الشَّافِعِيِّ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ فَيَكُونُ الْأَسْرُ، وَالْتِحَامُ الْقِتَالِ خَوْفًا، وَلَا يَكُونُ التَّقْدِيمُ لِلْقِصَاصِ خَوْفًا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا إنَّ الْمُشْرِكِينَ يَرَوْنَ قَتْلَ الْأَسْرَى دِينًا وَنِحْلَةً فَالْعَفْوُ منهم غير موجود وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَلِيُّ الْقِصَاصُ، لِأَنَّ مَا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ وَنَدَبَهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْأَخْذِ بِالْعَفْوِ هُوَ الْأَغْلَبُ من أحوالهم والأشبه بأحوالهم فَكَانَ ذَلِكَ فَرْقًا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ.
وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: الْمَسَائِلُ الثَّلَاثُ كُلُّهَا عَلَى سَوَاءٍ فِي اعْتِبَارِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَالُ وَتَشْهَدُ بِهِ الصُّورَةُ مِنْ أَنْ يُنْظَرَ: فَإِنْ كَانَ وَلِيُّ القصاص قاسيا جنفا فَالْأَغْلَبُ مِنْ حَالِهِ التَّشَفِّي، وَأَنَّهُ مِمَّنْ لَا يَمُنُّ وَلَا يَعْفُو فَتَكُونُ حَالُ الْمُقْتَصِّ مِنْهُ مخوفة كالأسير إذا كان في يد من لَا يَعْفُو عَنْ أَسِيرٍ.
وَإِنْ كَانَ وَلِيُّ القصاص رحيما ومن الخنق والقوة بَعِيدًا فَالْأَغْلَبُ مِنْ حَالِهِ الْعَفْوُ، وَأَنْ يَمن عَنْ قُدْرَةٍ، فَتَكُونُ حَالُ الْمُقْتَصِّ مِنْهُ غَيْرَ مخوفة، كالأسير إذا كان في يد من يَعْفُو عَنِ الْأَسْرَى.
فَصْلٌ:
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وصفنا فالأمور المخوفة ضربان:
أحدهما: ما دخل في الحسن وَمَاسَّ الْبَدَنَ كَالْأَمْرَاضِ فَهِيَ مَخُوفَةٌ إِذَا كَانَ عليها التَّوْحِيَةُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا فَارَقَ الْجِسْمَ وَاخْتَصَّ بحاله كالأسير والملتحم في القتال. فإن تردت حَالُهُ بَيْنَ خَوْفٍ وَرَجَاءٍ فَغَيْرُ مَخُوفٍ، وَإِنْ كان الخوف أغلب عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ فَمِنْ ذَلِكَ أن يقترضه الْأَسَدَ فَلَا يَجِدُ مَحِيصًا، فَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً لَمْ تَكُنْ حَالُهُمْ مَخُوفَةً لِأَنَّ الْأَسَدَ لَا يَفْتَرِسُ فِي الْحَالِ إِلَّا أَحَدَهُمْ، فَلَمْ يَكُنِ الْأَغْلَبُ مِنْ حَالِ كُلِّ وَاحِدٍ التَّلَفَ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْهَالِكَ.(8/325)
وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَإِنْ بَاشَرَهُ الْأَسَدُ بِالْأَخْذِ فَحَالُهُ مَخُوفَةٌ. فَأَمَّا قَبْلَ الْمُبَاشَرَةِ فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ.
وَمِنْ ذَلِكَ مَنْ غَشِيَهُ سيل، أو غشيته نار، فإن وجد منهما نَجَاةً فَحَالُهُ غَيْرُ مَخُوفَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ منها نجاة فإن أدركه السيل ولحقته النار، فحاله مخوفة لأجل المحاسة.
وفيما قبل إدراك السيل ولفح النَّار قَوْلَانِ: وَكَذَلِكَ مَنْ طَوَّقَتْهُ أَفْعَى فَإِنْ نَهَشَتْهُ فَمَخُوفَةٌ وَقَبْلَ نَهْشَتِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ، إِلَّا أن تكون مِنْ حَيَّاتِ الْمَاءِ الَّتِي قَدْ يَقْتُلُ سُمُّهَا وقيل لا يَقْتُلُ فَلَا تَكُونُ مَخُوفَةً قَوْلًا وَاحِدًا.
وَمِنْ ذلك: أن يقيه في مغارة لا يجد فيهما طَعَامًا وَلَا شَرَابًا فَإِنْ جُوِّزَ أَنْ يَجِدَ الماء إِلَى أَقْصَى مُدَّةٍ يَتَمَاسَكُ فيهَا رَمَقُهُ طَعَامًا أَوْ شَرَابًا أَوْ مَا يَمْسِكُ رَمَقَهُ مِنْ حَشِيشٍ أَوْ مَيْتَةٍ إِمَّا بِالْوُصُولِ إِلَى عِمَارَةٍ أو بالحصول على جارة، أو بأن يدركه فَحَالُهُ غَيْرُ مَخُوفَةٍ لِتَرَدُّدِهَا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ.
وَإِنْ يَئِسَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَاشْتَدَّ جُوعُهُ وَعَطَشُهُ فَعَلَى قَوْلَيْنِ.
وَكَذَلِكَ رَاكِبُ الْبَحْرِ فَإِنْ كَانَتِ الرِّيحُ سَاكِنَةً وَالْأَمْوَاجُ هَادِئَةً فَهُوَ غَيْرُ مَخُوفٍ وَهَكَذَا لَوِ اشْتَدَّتْ بِهِمْ رِيحٌ مَعْهُودَةٌ وَأَمْوَاجٌ مَأْلُوفَةٌ فَغَيْرُ مَخُوفَةٍ، وَإِنْ عَصَفَتْ بِهِمُ الرِّيحُ وَتَلَاطَمَتْ بِهِمُ الْأَمْوَاجُ حَتَّى خَرَجُوا عَنْ مَعْهُودِ السلامة فإن كسر بهم المركب حَتَّى صَارُوا عَلَى الْمَاءِ فَمَخُوفٌ لِأَنَّ الْأَغْلَبَ منه سرعة الهلكة فأما قبل حمولهم عَلَى الْمَاءِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ وَمِنْ ذَلِكَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الرَّجْمُ فِي الزِّنَا أَوِ الْقَتْلُ فِي الْحِرَابَةِ فَإِنْ كَانَ بِإِقْرَارِهِ فَحَالُهُ غير مَخُوفَةٍ لِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ لَمْ يُرْجَمْ وَلَمْ يَتَحَتَّمْ قَتْلُ الْحِرَابَةِ عَلَيْهِ وَصَارَ إِلَى خيارِ وَلِيِّ الدَّمِ وَإِنْ كَانَ بِمُشَاهَدَةِ الْإِمَامِ لَهُ فَمَخُوفٌ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى سلامته وإن كان بنية عَادِلَة قَامَتْ عَلَيْهِ قَدْ يَجُوزُ فِي النَّادِرِ رُجُوعُهَا فَعَلَى قَوْلَيْنِ لِأَنَّ الْغَالِبَ تَمَامُ الشَّهَادَةِ ووجوب القتل.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وإذا ضَرَبَ الْحَامِلَ الطَّلْقُ فَهُوَ مَخُوفٌ لِأَنَّهُ كَالتَّلَفِ وأشد وجعا، والله تعالى أعلم ".
قال الماوردي: حكي عن مالك: أن الحامل إذا أثقلت بمعنى سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حَمْلِهَا فَهُوَ مَخُوفٌ. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا} [الأعراف: 189] .
وعندنا أنه ما لم يضر بها الطَّلْقُ فَغَيْرُ مَخُوفٍ، لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْ حَالِهَا السَّلَامَةُ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ حَالُهَا عِنْدَ ثَقْلِهَا مَخُوفَةً لِأَنَّهَا قَدْ تَؤولُ إِلَى الْخَوْفِ أَنْ يَكُونَ حَالُ الْخَوْفِ مِنْ أَوَّلِ الْحَمْلِ.(8/326)
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف: 189] .
فَأَمَّا إِذَا ضَرَبَهَا الطَّلْقُ عِنْدَ حُضُورِ الْوِلَادَةِ فَحَالُهَا مَخُوفَةٌ سَوَاءٌ كَانَتَ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا.
وقال بعض أصحابنا: إننا نخاف مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْأَبْكَارِ وَالْأَحْدَاثِ، فَأَمَّا مَنْ تَوَالَتْ وِلَادَتُهَا مِنْ كِبَارِ النِّسَاءِ فَغَيْرُ مَخُوفٍ لسهولة ذلك عليهم لاعتيادهن وَأَنَّ الْأَغْلَبَ سَلَامَتُهُنَّ.
فَأَمَّا بَعْدَ وَضْعِ الْحَمْلِ فَمَا لَمْ تَنْفَصِلِ الْمَشِيمَةُ وَيَسْكُنْ أَلَمُ الْوِلَادَةِ فمخوف فإذا أثقلت الْمَشِيمَةُ وَسَكَنَ أَلَمُ الْوِلَادَةِ فَغَيْرُ مَخُوفٌ.
فَأَمَّا إِلْقَاءُ السَّقْطِ فَإِنْ كَانَ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَمَخُوفٌ، وَإِنْ كَانَ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أشهر وقبل حركته فغير مخوف، وإذا كَانَ بَعْدَ حَرَكَتِهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الأظهر أنه مخوف.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ أَنَّهُ غَيْرُ مَخُوفٍ إِلْحَاقًا بِمَا قَبْلَ الْحَرَكَةِ.
وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ إِلْحَاقَ الْمُتَحَرِّكِ بِمَا بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَشْبَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.(8/327)
باب الأوصياء
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ إِلَّا إِلَى بَالِغٍ مُسْلِمٍ حُرٍّ عَدْلٍ أَوِ امْرَأَةٍ كَذَلِكَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْأَصْلُ فِي قَبُولِ الْوَصَايَا، وَالتَّعَاوُنِ عَلَيْهَا، قَوْله تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] .
وقَوْله تعالى: {وافعلوا الخير} [الحج: 77] .
وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أُمَّتِي كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُه بَعْضًا " وَقَدْ أَوْصَى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى عَلِيٍّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَأَوْصَى أَبُو بَكْرٍ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَنْدُوبًا إِلَيْهِ وَمَأْمُورًا بِهِ، فَيُخْتَارُ لمن علم في نَفْسِهِ الْقُدْرَةَ، وَالْأَمَانَةَ أَنْ يَقْبَلَهَا وَلِمَنْ عَلِمَ في نَفْسِهِ الْعَجْزَ وَالْخِيَانَةَ أَنْ يَرُدَّهَا.
ثُمَّ الْكَلَامُ فيها يشتمل على ثلاثة فصول:
أحدهما: فِي الْوَصِيِّ.
وَالثَّانِي: فِي الْمُوصِي.
وَالثَّالِثُ: فِي الْمُوصَى بِهِ.
فَأَمَّا الْوَصِيُّ، فَيُعْتَبَرُ فِيهِ اسْتِكْمَالُ خمسة شروط ولا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ إِلَيْهِ إِلَّا بِهَا وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِالْوِلَايَةِ عَلَى أَطْفَالٍ أَوْ بِتَفْرِيقِ مَالٍ. وَهِيَ: الْبُلُوغُ، وَالْعَقْلُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْإِسْلَامُ، وَالْعَدَالَةُ.
وَهِيَ الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي جَوَازِ الشَّهَادَةِ.
فَأَمَّا الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْبُلُوغُ فَلِأَنَّ الْقَلَمَ عَنْ غَيْرِ الْبَالِغِ مَرْفُوعٌ، وَلِأَنَّ تَصَرُّفَهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ مَرْدُودٌ، فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ مَرْدُودًا.
فَلَوْ جعلَ الصَّبِيّ وَصِيًّا بَعْدَ بُلُوغِهِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لَهَا في الحال قابل لها.(8/328)
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْحَالِ مَنْ يَقْبَلُهَا، بَلْ قَالَ: قَدْ أَوْصَيْتُ إِلَى هَذَا الصَّبِيِّ إِذَا بَلَغَ، فَالْوَصِيَّةُ إِلَيْهِ بَاطِلَةٌ فِي الْحَالِ وَبَعْدَ بُلُوغِهِ، لِأَنَّهُ ليس في الحال بأهل لو مات الصبي قام بها، فلذلك بطلت.
فإن كَانَ لَهَا فِي الْحَالِ مَنْ يَقْبَلُهَا، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: قَدْ أَوْصَيْتُ إِلَى فُلَانٍ حَتَّى يَبْلُغَ وَلَدِي، فَإِذَا بَلَغَ فَهُوَ وَصِيٌّ: جَازَ، وَلَا يَجُوزُ مِثْل ذَلِكَ فِي الْوَكَالَةِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ عَقْدَ الْوَكَالَةِ مُعَجَّلٌ، فَلَمْ يَصِحَّ بِحُدُوثِ شَرْطٍ مُؤَجَّلٍ، وَعَقْدُ الْوَصِيَّةِ مُؤَجَّلٌ فَجَازَ أَنْ يَصِحَّ بِحُدُوثِ شَرْطٍ مُؤَجَّلٍ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي: وَهُوَ الْعَقْلُ. فَلِأَنَّ الْجُنُونَ يَرْفَعُ الْقَلَمَ، وَيَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ التَّصَرُّفِ.
فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُجَنُّ فِي زَمَانٍ وَيَفِيقُ فِي زَمَانٍ: فَالْوَصِيَّةُ إِلَيْهِ بَاطِلَةٌ، سَوَاءٌ قَلَّ زَمَانُ جُنُونِهِ أَوْ كَثُرَ.
فَلَوْ أَوْصَى إِلَى عَاقِلٍ حَتَّى إِذَا أَفَاقَ هَذَا الْمَجْنُونُ كَانَ وَصِيًّا لَهُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ كَالصَّبِيِّ إِذَا بَلَغَ.
وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ. لِأَنَّ بُلُوغَ الصَّبِيِّ لَازِمٌ، وَإِفَاقَةُ الْمَجْنُونِ مُجَوَّزَةٌ.
فَلَوْ أَوْصَى إِلَى عَاقِلٍ، وَطَرَأَ عَلَيْهِ جُنُونٌ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أن يستديم به، فالوصية إليه باطلة.
والثاني: أَنْ يَفِيقَ مِنْهُ. فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَطْرَأَ الْجُنُونُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي. فَالْوَصِيَّةُ إِلَيْهِ قَدْ بَطَلَتْ، كَالْوَكَالَةِ، وَالْوَكَالَةُ تَبْطُلُ بِحُدُوثِ الْجُنُونِ فَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حُدُوثُ الْجُنُونِ وَالْإِفَاقَةِ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي فَفِي بُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ إِلَيْهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَدْ بَطَلَتْ كَمَا تَبْطُلُ بِحُدُوثِ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تَبْطُلُ. لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ التصرف في حياة الموصي فلم يجز أن يكون مَمْنُوعًا بِحُدُوثِ الْجُنُونِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ حَالُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الْحُرِيَّةُ فَلِأَنَّ الْعَبْدَ مُوَلَّى عَلَيْهِ بِالرِّقِّ، فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ وَالِيًا. وَلِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ لِحَقِّ السَّيِّدِ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّصَرُّفِ، وَسَوَاءٌ كَانَ عَبْدَ نَفْسِهِ، أَوْ عَبْدَ غَيْرِهِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: تَجُوزُ الوصية إلى عبد نفسه وعبد غيره.(8/329)
وَقَالَ أبو حنيفة: تَجُوزُ إِلَى عَبْدِ نَفْسِهِ إذا كَانَ وَلَدُهُ أَصَاغِرَ، وَلَا تَجُوزُ إِلَى عَبْدِ غَيْرِهِ، وَلَا إِذَا كَانَ وَلَدُهُ أَكَابِرَ. تَعلِيلًا بِأَنَّ عَبْدَهُ مَعَ أَصَاغِرِ وَلَدِهِ مُحْتَبسُ الرَّقَبَةِ مَمْنُوعٌ مِنْ بَيْعِهِ، فَصَحَّ نَظَرُهُ عَلَيْهِمْ، وَدَامَتْ وِلَايَتُهُ إِلَى بُلُوغِهِمْ.
وَهَذَا التَّعْلِيلُ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ احْتِبَاسَ رَقَبَتِهِ عَلَيْهِمْ وَالْمَنْعَ مِنْ بَيْعِهِ فِي حَقِّهِمْ: لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُمْ لو احتاجوا إلى نفقه لا يجدونها إلى مِنْ ثَمَنِهِ جَازَ لِلْحَاكِمِ بَيْعُهُ فِي نَفَقَاتِهِمِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ احْتِبَاسَ الرَّقَبَةِ لَا يُجِيزُ مِنَ التَّصَرُّفِ مَا كَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُ، كَالْمَجْنُونِ وَلِمَا ذكرناه مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ.
فَأَمَّا الْمُكَاتَبُ: فَلَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَجَوَّزَهَا أبو حنيفة.
وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ إِلَى الْمُدَبَّرِ، وَأُمِّ الْوَلَدِ: فَفِي جَوَازِهَا وَجْهَانِ:
أحدهما: تصح، لأنهما يعتقان بالموت الذي يكون تصرفها بعده.
والثاني: لا يصح اعتبارا بحالها عِنْدَ الْوَصِيَّةِ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا الشَّرْطُ الرَّابِعُ: وَهُوَ الإسلام لقوله تَعَالَى: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً} [التوبة: 10] . وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ، لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا، وَدُّوا مَا عنتم} [آل عمران: 118] .
وهذه الآية كتب بها عُمَرُ إِلَى أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حِينَ اتَّخَذَ كَاتِبًا نَصْرَانِيًّا.
وَقَالَ أبو حنيفة: الْوَصِيَّةُ إِلَيْهِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى فَسْخِ الْحَاكِمِ، فَإِنْ تَصَرَّفَ قَبْلَ أَنْ يَفْسَخَهَا الْحَاكِمُ عَلَيْهِ: كَانَ تصرفه نافذا.
وهذا فاسد لأنه لا يخلو أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ إِلَيْهِ جَائِزَة، فَلَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَفْسَخَهَا عَلَيْهِ، أَوْ تَكُونُ بَاطِلَةً فَلَا يَجُوزُ فِيهَا تَصَرُّفُهُ.
وَإِذَا كَانَ هَكَذَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَصَرُّفُهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِعَقْدٍ أَوِ اجْتِهَادٍ مَرْدُودًا فَأَمَّا مَا تَعَيَّنَ مِنْ دَيْنٍ قَضَاهُ، أَوْ وَصِيَّةٍ بِمُعَيَّنٍ لِمُعَيَّنٍ دَفَعَهَا فلا يضمنها، لوصول ذلك إلى مستحقه، ولأنه لَوْ أَخَذَهُ مُسْتَحِقُّهُ مِنْ غَيْرِ نَائِبٍ أَوْ وَسِيطٍ صَارَ إِلَى حَقِّهِ، وَلَيْسَ كَالَّذِي يَعْقِدُهُ مِنْ بَيْعٍ، أَوْ يَجْتَهِدُ فِيهِ مِنْ تَفْرِيقِ ثُلُثٍ بَلْ ذَلِكَ كُلُّهُ مَرْدُودٌ وَهُوَ لِمَا دَفَعَهُ مِنْ ذَلِكَ ضَامِنٌ.
فَأَمَّا وَصِيَّةُ الْكَافِرِ إِلَى الْمُسْلِمِ فَجَائِزَةٌ لِظُهُورِ أَمَانَتِهِ فِيهَا.
وَأَمَّا وَصِيَّةُ الْكَافِرِ إِلَى الْكَافِرِ فَفِيهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ تجوز كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَافِرُ وَلِيًّا لِكَافِرٍ.
والوجه الثاني: لا تجوز، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَةُ الْكَافِرِ لِكَافِرٍ وَلَا مُسْلِمٍ فَهَكَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَافِرُ وَصِيًّا لِكَافِرٍ وَلَا مُسْلِمٍ.(8/330)
فصل:
وأما الشرط الخامس: وهو العدالة: فلقوله تَعَالَى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18] .
فَكَانَ مَنْعُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمْ، موصيا لِمَنْعِ الْمُسَاوَاةِ فِي أَحْكَامِهِمْ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا مَنَعَهُ الْفِسْق مِنَ الْوِلَايَةِ عَلَى أَوْلَادِهِ، كَانَ أَوْلَى أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ الْوِلَايَةِ عَلَى أَوْلَادِ غَيْرِهِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: الْوَصِيَّةُ إِلَيْهِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى فَسْخِ الْحَاكِمِ، يَمْضِي فِيهَا تَصَرُّفُهُ قَبْلَ فَسْخِهَا عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ فِي الْكَافِرِ، وَفِيمَا مَضَى من الْكَافِرِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ فِي الْفَاسِقِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا جَازَتِ الْوَصِيَّةُ إِلَيْهِ، كَمَا جَازَتِ الْوَكَالَةُ لَهُ؟ قِيلَ لَهُ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ الْإِذْنِ، وَالْوَصِيَّةُ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَعَلَى هَذَا:
لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَذِنَ لِوَكِيلِهِ فِي التَّوْكِيلِ فَوَكَّلَ الْوَكِيلُ فَاسِقًا. فَفِي جَوَازِ وَكَالَتِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ الْغَيْرِ، فَأَشْبَهَ الْوَصِيَّةَ.
وَالثَّانِي: يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ الَّذِي لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ الْعَدَالَةُ.
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُرَاعَى فِيهِ عَدَالَةُ الْوَصِيِّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُرَاعَى عَدَالَتُهُ عِنْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَلَا يَضُرُّ أَنْ يَكُونَ فَاسِقًا عِنْدَ عَقْدِ الْوَصِيَّةِ كَمَا تُرَاعَى عَدَالَةُ الشَّاهِدِ عِنْدَ الْأَدَاءِ دُونَ التَّحَمُّلِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُرَاعَى عَدَالَةُ الْوَصِيِّ فِي الطَّرَفَيْنِ، عِنْدَ الْوَصِيَّةِ وَعِنْدَ الْمَوْتِ، وَلَا يَضُرُّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَالْمَوْتِ غَيْرَ عَدْلٍ، لِأَنَّ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ هُوَ حَالُ التَّقْلِيدِ، وَوَقْتُ الْمَوْتِ هُوَ حَالُ التَّصَرُّفِ، فاعتبر فيهما العدالة، ولم تعتبر فِي غَيْرِهِمَا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ.
والوجه الثالث: وهو أصحها أنه تعتبر عَدَالَتُهُ مِنْ حِينِ الْوَصِيَّةِ إِلَى مَا بَعْدُ لِأَنَّ كُلَّ زَمَانٍ مِنْهُ قَدْ يُسْتَحَقُّ فِيهِ التصرف لو حدث فيه الموت. فإن طَرَأَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ فِسْقٌ، بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ إِلَيْهِ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا تَكَامَلَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ الْخَمْسَةُ فِي شَخْصٍ، كَانَ مَوْضِعًا لِلْوَصِيَّةِ إِلَيْهِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ وَصِيًّا فِي مَالٍ أَوْ عَلَى أَطْفَالٍ، سَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً.
وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ: أَنَّ الْوَصِيَّةَ إِلَى الْمَرْأَةِ لا تصح، لأن فيها ولاية يعجز النِّسَاءُ عَنْهَا.
وَهَذَا فَاسِدٌ: لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ وِلَايَةً، فَالْمُغَلَّبُ فِيهَا الْأَمَانَةُ وَجَوَازُ الشَّهَادَةِ وَقَدْ تَجُوزُ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِهِنْدٍ: " خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ ".(8/331)
فَجَعَلَهَا الْقَيِّمَةَ عَلَى أَوْلَادِهَا فِي النَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ. ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَرَجَ فِي بَعْضِ الْمَغَازِي فَأَوْدَعَ أَمْوَالا كَانَتْ عِنْدَهُ عِنْدَ أُمِّ أَيْمَنَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ اسْتِنَابَةِ الْمَرْأَةِ فِي الْمَالِ وَعَلَى الْأَطْفَالِ، وَكَانَ لَهَا الْحَضَانَةُ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَعْنَى الْوِلَايَةِ.
فَإِذَا ثَبَتَ أَن لَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالْمَرِيضِ إِذَا لَمْ يُغَيِّرْهُ المرض عن فضل النَّظَرِ.
وَلَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ الْوَصِيَّةِ إِلَى الْأَعْمَى عَلَى وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: تَجُوزُ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تَجُوزُ لِأَنَّهُ قَدْ يُفْتَقَرُ فِي الْوَصَايَا إِلَى عُقُودٍ لَا تَصِحُّ مِنَ الْأَعْمَى وَفَضْلِ نَظَرٍ لَا يدرك إلا بالمعاينة.
فهذا حكم الوصي.
فصل:
فأما الموصي. فَلَا يَخْلُو مَالِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ.
إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَالًا، أَوْ وِلَايَةً عَلَى أَطْفَالٍ.
فَإِنْ كَانَ الْمُوصَى بِهِ مَالًا يُفَرَّقُ فِي أَهْلِ الْوَصَايَا، فَالْمُعْتَبَرُ فِي الْمُوصِي شَرْطَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَشَرْطَانِ مُخْتَلَفٌ فِيهِمَا، فَأَحَدُ الشَّرْطَيْنِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِمَا: التَّمْيِيزُ.
فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُمَيِّزُ لِصِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ، لَمْ تَصِحَّ وَصِيَّتُهُ.
وَالثَّانِي: الْحُرِّيَّةُ، فَإِنْ كَانَ عَبْدًا لَمْ تَصِحَّ وَصِيَّتُهُ.
وَأَمَّا الشَّرْطَانِ الْمُخْتَلَفُ فِيهِمَا: فَأَحَدُهُمَا الْبُلُوغُ. وَالثَّانِي: الرُّشْدُ وَفِيهِمَا قَوْلَانِ:
أحدهما: أنهما شرطان، فَلَا تَصِحُّ وَصِيَّةُ غَيْرِ بَالِغٍ وَلَا سَفِيهٍ.
وَالثَّانِي: لَيْسَا بِشَرْطٍ فِي جَوَازِ الْوَصِيَّةِ وَتَصِحُّ مِنْ غَيْرِ الْبَالِغِ وَالسَّفِيهِ، وَلَكِنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ وَصِيَّةِ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، وَالْعَدْلِ وَالْفَاسِقِ وَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ.
فَصْلٌ:
وَإِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِالْوِلَايَةِ عَلَى أَطْفَالٍ، اعْتُبِرُ فِي الْمُوصَى بِهَا سِتَّةُ شُرُوطٍ، لا تصح الوصية منه إلا بها.
أحدهما: جَرَيَانُ الْقَلَمِ عَلَيْهِ وَصِحَّةُ التَّكْلِيفِ لَهُ، لِأَنَّ مَنْ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ قَلَمٌ بِجُنُونٍ أَوْ صِغَرٍ، لَا تَكُونُ لَهُ وِلَايَةٌ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ تَوْلِيَةٌ.
وَالثَّانِي: الْحُرِّيَّةُ، لِأَنَّ الْوِلَايَةَ تُنَافِي الرِّقَّ.
وَالثَّالِثُ: الْإِسْلَامُ فِي الطِّفْلِ إِذَا كَانَ مُسْلِمًا، وَفِي اعْتِبَارِهِ فِي الطِّفْلِ إِذَا كَانَ مُشْرِكًا وَجْهَانِ.
وَالرَّابِعُ: الْعَدَالَةُ، لِأَنَّ الْفَاسِقَ لَيْسَ له ولاية، فكان أولى أن لا تَصِحَّ مِنْهُ تَوْلِيَةٌ.(8/332)
وَالْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَلِي عَلَى الطِّفْلِ في حياته بنفسه، لأنه يقيم الوصية مَقَامَ نَفْسِهِ فَلَمْ تَصِحَّ إِلَّا مِمَّنْ قَدِ اسْتَحَقَّ الْوِلَايَةَ بِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ فِي الْوَالِدَيْنِ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِالْوِلَايَةِ عَلَى الْأَطْفَالِ مِنْ غَيْرِ الْآبَاءِ، كَمَا تَصِحُّ مِنَ الْآبَاءِ.
وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إنَّ فِي الْوَالِدِ بَعْضِية باين بها غيره.
والقول الثاني: إنَّ لِلْوَالِدِ فِي حَيَاتِهِ وِلَايَةً لَا يَسْتَحِقُّهَا غَيْرُهُ. فَمِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ اخْتَصَّتِ الْوَصِيَّةُ بِالْآبَاءِ دُونَ غَيْرِهِمْ.
وَإِذَا كَانَ هَكَذَا، فَالَّذِي يَسْتَحِقُّ الْوِلَايَةَ فِي حَيَاتِهِ، وَيُوصِي بِهَا عِنْدَ وَفَاتِهِ هُوَ الْأَبُ وَآبَاؤُهُ. فَأَمَّا الْأُمُّ فَفِي وِلَايَتِهَا عَلَى صِغَارِ وَلَدِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ إِنَّهُ لَهَا عَلَيْهِمْ وِلَايَةٌ كَالْأَبِ، لِمَا فِيهَا مِنَ البعضية، وأنها برأفة الأنوثة، أحن عَلَيْهِمْ وَأَشْفَقُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، لَا وِلَايَةَ لَهَا، لِأَنَّهَا لَمَّا قَصُرَتْ بِنَقْصِ الْأُنُوثَةِ عَنْ وِلَايَةِ النِّكَاحِ الَّتِي تَسْرِي فِي جَمِيعِ الْعَصَبَاتِ، كَانَ أَوْلَى أَنْ تقصرَ عَمَّا يَخْتَصُّ مِنَ الْوِلَايَةِ بِالْآبَاءِ دُونَ سَائِرِ الْعَصَبَاتِ.
فَعَلَى هَذَا: إِنْ قِيلَ إِنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهَا: لَمْ تَصِحَّ مِنْهَا الْوَصِيَّةُ بِالْوِلَايَةِ عَلَى أَطْفَالِهَا. وَإِذَا قِيلَ إِنَّ لَهَا الْوِلَايَةُ بِنَفْسِهَا، فَكَذَلِكَ أُمَّهَاتُهَا وَأُمَّهَاتُ الْأَبِ. وَهَلْ يَسْتَحِقُّهَا أَبُو الْأُمِّ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَسْتَحِقُّهَا كَأُمِّ الْأُمِّ لِمَا فِيهِ مِنَ الْوِلَادَةِ وَأَنَّهُ أَحَقُّ بِالْوِلَايَةِ عَلَى الْأُمِّ مِنْ أُمِّهَا.
وَالثَّانِي: لَا وِلَايَةَ لَهُ، لِأَنَّ سُقُوطَ مِيرَاثِهِ قَدْ حَطَّهُ مِنْ مَنْزِلَةِ أُمِّ الْأُمِّ.
فَعَلَى هَذَا يَكُونُ بَعْدَ الْآبَاءِ لِلْأُمِّ. فَإِذَا اجْتَمَعَ بَعْدَ الأم، أم أب وأم أم ففي أحقيتهما بِالْوِلَايَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أُمُّ الْأَبِ، لِأَنَّ الْأَبَ بالولاية أحق.
والقول الثاني: أُمُّ الْأُمِّ، لِأَنَّهَا بِالْحَضَانَةِ أَحَقُّ.
فَإِذَا أَوْصَتْ مُسْتَحِقَّةُ الْوِلَايَةِ مِنَ الْأُمَّهَاتِ، بِالْوِلَايَةِ عَلَى الْأَطْفَالِ: صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ.
وَالشَّرْطُ السَّادِسُ: أَن لا يَكُونَ للطفل من يستحق الولاية بنفسه، لأنه مستحق الولاية بنفسه، أولى من مستحقها بِغَيْرِهِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَوْصَى الْأَبُ بِالْوِلَايَةِ عَلَى أَطْفَالٍ وَهُنَاكَ جَدٌّ: كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةً.(8/333)
وَقَالَ أبو حنيفة: لَا اعْتِبَارَ بِهَذَا الشَّرْطِ، وَيَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يُوصِيَ بِالْوِلَايَةِ عَلَى أَطْفَالِهِ إِلَى أَجْنَبِيٍّ وَهُنَاكَ جَدٌّ، كَمَا يَجُوزُ فِي إِنْفَاذِ الْوَصَايَا.
وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ الْوَصَايَا لَا يَسْتَحِقُّهَا الْجَدُّ بِنَفْسِهِ وَلَيْسَ كَالْوِلَايَةِ عَلَى الْأَطْفَالِ، لِأَنَّ الْجَدَّ يَسْتَحِقُّهَا بِنَفْسِهِ، فَكَانَ أَحَقَّ مِنَ الْوَصِيِّ.
فَلَوْ أَوْصَى الْأَبُ بِهَا وَهُنَاكَ أُمٌّ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْأُمِّ: صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ إِلَى غَيْرِهَا. وَإِنْ قِيلَ لَهَا تَصِحّ. وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُوصِيَ بِتَفْرِيقِ ثُلُثِهِ إِلَى مَنْ شَاءَ مَعَ وُجُودِ الْآبَاءِ.
فَهَذَا حُكْمُ الْمُوصِي.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْمُوصَى بِهِ، فَإِنْ كَانَ مَالًا، فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَاسْتَقْصَيْنَا شَرْحَهُ.
وَإِنْ كَانَ وِلَايَةً: فَلَا تَصِحُّ إِلَّا عَلَى صَغِيرٍ لَمْ يَبْلُغْ، أَوْ مَجْنُونٍ لَا يَفِيقُ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الِابْنُ بَالِغًا عَاقِلًا: لَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ بِالنَّظَرِ فِي مَالِهِ، سَوَاءٌ كَانَ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا.
وَقَالَ أبو حنيفة: تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِالْوِلَايَةِ عَلَى مَالِ الْبَالِغِ إِذَا كَانَ غَائِبًا، وَهَكَذَا إِذَا كَانَ حَاضِرًا وَشَرِيكُهُ فِي الْمِيرَاثِ طِفْلٌ. وَيَجُوزُ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَبِيعَ عَلَى الْكَبِيرِ مَالَهُ إِذَا رَأَى بَيْعَ مَالِ الطِّفْلِ.
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: هَذَا قَوْلٌ لَا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ وَلَوْ أَنَّ حَاكِمًا حَكَمَ بِهِ، نُقِضَ حُكْمُهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنِ لِلْمُوصِي وِلَايَةٌ عَلَى الْبَالِغِ فِي حَيَاتِهِ، فَكَيْفَ يجوز لوصية بعد وفاته.
وأما إذا كَانَ الِابْنُ بَالِغًا عَاقِلًا لَكِنْ قَدْ حُجِرَ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ، فَلَا يَصِحُّ مِنَ الْأَبِ أَنْ يُوصِيَ بِالْوِلَايَةِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْمَجْنُونِ، لِأَنَّ وِلَايَتَهُ على المجنون بنفسه، لأنها لا تقتصر إلى حكم حاكم، وولايته على صغير لَا تَكُونُ بِنَفْسِهِ، لِأَنَّهَا تَفْتَقِرُ إِلَى حُكْمِ حاكم. والله أعلم.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِنْ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ أُخْرِجَتِ الْوَصِيَّةُ مِنْ يَدِهِ وَضُمَّ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ ضَعِيفًا أَمِين مَعَهُ فإن أوصى إلى غير ثقة فقد أخطأ على غيره فلا يجوز ذَلِكَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا تغير حَالُ الْوَصِيِّ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ الشُّرُوطِ فِيهِ، فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا خَرَجَ بِهِ مِنَ الْوَصِيَّةِ. وَالثَّانِي: مَا عَجَزَ بِهِ عَنْهَا.
فَأَمَّا الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ مِنَ الْوَصِيَّةِ: فَالطَّارِئُ عَلَيْهِ مِنْ جُنُونٍ أَوْ فِسْقٍ أَوْ مَرَضٍ يُؤَثِّرُ فِي صِحَّةِ تَدْبِيرِهِ وَفَضْلِ نَظَرِهِ. فَهَذِهِ أُمُورٌ يُخْرَجُ به من الوصية.
وقال أبو حنيفة: طرؤ الْفِسْقِ لَا يُخْرِجُهُ مِنَ الْوَصِيَّةِ، كَمَا أَنَّ فِسْقَ مَنْ حُكِمَ بِشَهَادَتِهِ لَا يُوجِبُ نَقْضَ الْحُكْمِ بِهَا، وَلَكِنْ يُضَمُّ إِلَيْهِ بَعْدَ فِسْقِهِ عَدْلٌ.
وَهَذَا الْقَوْلُ لَا وَجْهَ لَهُ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْفِسْقُ مَانِعًا مِن ابْتِدَاءِ الْوَصِيَّةِ كَانَ مَانِعًا مِنْ(8/334)
استدامتها، كالكفر، وإذا كان كذا صار طرؤ الْفِسْقِ كَغَيْرِهِ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ، فَيَلْزَمُ الْحَاكِمَ معها إِخْرَاجُهَا عَنْ يَدِهِ، وَاخْتِيَارِ مَنْ يَقُومُ بِهَا، مِنْ أُمَنَائِهِ.
فَإِنْ تَصَرَّفَ الْوَصِيُّ فِي الْمَالِ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْهَا بِأَحَدِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ عَقْدًا، أَوْ مَا يَفْتَقِرُ إِلَى اجْتِهَادٍ، رُدَّ وَكَانَ لَهُ ضَامِنًا إِنْ مَاتَ.
وَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا مِنْ وَصِيَّةٍ أَوْ دَيْنٍ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى اجْتِهَادٍ: أَمْضَى، وَلَمْ يَضْمَنْهُ.
وَأَمَّا الْعَجْزُ عَنْهَا، فَالضَّعْفُ الَّذِي يَقْدِرُ مَعَهُ عَلَى الْقِيَامِ بِهَا، فَهَذَا مُقَرٌّ عَلَى حَالِهِ، لَكِنْ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَضُمَّ إِلَيْهِ مِنْ أمنائه، من يعينه على إنفاذ الوصايا، وَالْوِلَايَةِ عَلَى الْأَطْفَالِ.
فَلَوْ تَفَرَّدَ هَذَا الْوَصِيُّ قَبْلَ أَنْ يَضُمَّ الْحَاكِمُ إِلَيْهِ أَمِينًا، فَتَصَرَّفَ فِي الْوَصِيَّةِ: أَمْضَى، وَلَمْ يضمنْهُ، لِأَنَّهُ مَا انفرد بِهِ إِلَّا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ.
وَهَكَذَا: لَوِ ابتدئ بِالْوَصِيَّةِ إِلَى غَيْرِ أَمِينٍ: أَخْرَجَهَا الْحَاكِمُ مِنْ يَدِهِ.
وَلَوْ أَوْصَى إِلَى ضَعِيفٍ: ضَمَّ إِلَيْهِ غيره من أبنائه، فَإِنْ قِيلَ، فَهَلْ يَلْزَمُ الْحَاكِمَ أَنْ يَسْتَكْشِفَ عَنِ الْأَوْصِيَاءِ، وَوُلَاةِ الْأَيْتَامِ أَمْ لَا؟ .
قُلْنَا هَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ فِيمَنْ يَلِي بِنَفْسِهِ مِنْ أَبٍ، أَوْ جَدٍّ، فَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْتَكْشِفَ عَنْ حَالِهِ، وَعَلَيْهِ إِقْرَارُهُ عَلَى وِلَايَتِهِ وَنَظَرِهِ حَتَّى يَثْبُتَ عِنْدَهُ، مَا يُوجِبُ زَوَالَ نَظَرِهِ، مِنْ فِسْقٍ أَوْ خِيَانَةٍ، فَيَعْزِلُهُ حِينَئِذٍ وَيُوَلِّي غَيْرَهُ لِأَنَّ الْوَالِيَ بِنَفْسِهِ أَقْوَى نَظَرًا مِنَ الْحَاكِمِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ وِلَايَتُهُ بِغَيْرِهِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ أَمِينَ حَاكِمٍ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ وَصِيَّ أب.
فإن كان أمين الحاكم، لم يجب أَنْ يَسْتَكْشِفَ عَنْ حَالِهِ، إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ عنده خيانته، أو فسقه، لأن ما وَلَّاهُ الْحَاكِمُ، قَدِ اعْتُبِرَ مِنْ حَالِهِ مَا صَحَّتِ بِهِ وِلَايَتُهُ.
وَإِنْ كَانَ وَصِيَّ أَبٍ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، لا يجوز اسْتِكْشَافُ حَالِهِ، إِلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ فِسْقِهِ، كَالْأَبِ وَأَمِينِ الْحَاكِمِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدِي، أَنَّ عَلَى الْحَاكِمِ اسْتِكْشَافَ حَالِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَنْفُذْ بِوِلَايَتِهِ حُكْمٌ، وَلَا هُوَ مِمَّا تَنْتَفِي عَنْهُ التُّهْمَةُ، كَالْأَبِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِوَصْفِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ النَّظَرَ، فَافْتَقَرَ إِلَى الْكَشْفِ.
فَصْلٌ:
وَإِذَا دَفَعَ الْوَصِيُّ مِنْ مَالِهِ للفقراء وصاياهم ليرجع به في التركة وكان مُتَطَوِّعًا بِمَا دَفَعَهُ إِلَيْهِمْ، وَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ بِهِ فِي التَّرِكَةِ مَا لَمْ يَحْكُمْ بِذَلِكَ قَبْلَ الدَّفْعِ حَاكِمٌ.
وَقَالَ أبو حنيفة: إِذَا عَجَّلَ ذَلِكَ مِنْ مَالِهِ، نَاوِيًا بِهِ الرُّجُوعَ: رجع به.(8/335)
وَهَذَا قَوْلٌ يَنْكَسِرُ عَلَيْهِ، بِقَضَاءِ دَيْنِ الْحَيِّ إِذَا عَجَّلَهُ الْوَكِيلُ مِنْ مَالِهِ، لَمْ يَرْجِعْ به في مال موكله، فكذلك الوصي.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ أَوْصَى إِلَى رَجُلَيْنِ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا أَوْ تَغَيَّرَ أُبْدِلَ مَكَانَهُ آخَرَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ: يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُوصِيَ إِلَى وَاحِدٍ، أو إلى جَمَاعَةٍ عَلَى الِاجْتِمَاعِ وَالِانْفِرَادِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُوصِيَ إِلَى زَيْدٍ وَيَجْعَلَ عَمْرًا عَلَيْهِ مُشْرِفًا، فَيَخْتَصُّ الْوَصِيُّ بِالْعَقْدِ وَالتَّنْفِيذِ، وَيَخْتَصُّ عَمْرٌو بِالْإِشْرَافِ عَلَيْهِ.
فَإِنْ أَرَادَ الْوَصِيُّ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْعَقْدِ وَالتَّنْفِيذِ مِنْ غَيْرِ مُطَالَعَةِ الْمُشْرِفِ: لَمْ يَجُزْ. وَإِنْ أَرَادَ الْمُشْرِفُ أَنْ يَتَوَلَّى الْعَقْدَ وَالتَّنْفِيذَ لَمْ يَجُزْ.
وَقَالَ أبو حنيفة: الْمُشْرِفُ وَصِيٌّ يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَفْعَلُهُ الْوَصِيُّ، لِأَنَّهَا وِلَايَةٌ، فَلَمْ تَقِفْ عَلَى شَيْءٍ دُونَ غَيْرِهِ.
وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ نِيَابَةٌ عَنْ إِذْنٍ، فَكَانَتْ مَقْصُورَةً عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ الْإِذْنُ كَالْوَكَالَةِ، وَهُوَ لَمْ يَجْعَلْ إِلَى الْمُشْرِفِ مُبَاشَرَةَ عَقْدٍ أَوْ تَنْفِيذَ أَمْرٍ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ مُشْرِفًا عَلَى الْوَصِيِّ فِي الْعَقْدِ وَالتَّنْفِيذِ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا إِذَا أَوْصَى إِلَى رَجُلَيْنِ جَعَلَهُمَا جَمِيعًا وَصِيَّيْنِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَخُصَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِشَيْءٍ مِنْ وَصِيَّتِهِ، دُونَ صَاحِبِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُشْرِكَ بَيْنَهُمَا.
فَأَمَّا إِنْ خَصَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِشَيْءٍ مِنْهَا، مِثْلَ أَنْ يَجْعَلَ إِلَى أَحَدِهِمَا إِنْفَاذَ وَصَايَاهُ، وَإِلَى الْآخَرِ الْوِلَايَةَ عَلَى أَطْفَالِهِ، أَوْ يَجْعَلَ إِلَى أَحَدِهِمَا إِخْرَاجَ الثُّلُثِ، وَإِلَى الْآخَرِ قَضَاءَ الدُّيُونِ: فَوِلَايَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُورَةٌ عَلَى مَا جُعِلَ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيمَا جُعِلَ إِلَى الْآخَرِ، فَلِلْمُوصَى لَهُ بِإِنْفَاذِ الْوَصَايَا لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْأَطْفَالِ، وَالْمُوصَى لَهُ بِالْوِلَايَةِ عَلَى الْأَطْفَالِ، لَا وِلَايَةَ لَهُ فِي إِنْفَاذِ الْوَصَايَا.
وَقَالَ أبو حنيفة: النَّظَرُ فِي الْوَصِيَّةِ، لَا يَتَمَيَّزُ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النَّظَرُ فِي الْجَمِيعِ بِمَا جُعِلَ إِلَيْهِ وَإِلَى الْآخَرِ. فَالْوَالِي عَلَى الْأَطْفَالِ إِلَيْهِ إِنْفَاذُ الْوَصَايَا وَالْوَالِي عَلَى إِنْفَاذِ الْوَصَايَا، إِلَيْهِ الولاية اسْتِدْلَالًا، بِأَنَّهَا وِلَايَةٌ فَلَمْ تَقِفْ عَلَى شَيْءٍ دُونَ غَيْرِهِ، كَوِلَايَةِ الْحَاكِمِ.
وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ وِلَايَةٌ عَنْ عَقْدٍ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مَقْصُورَةً عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ ذَلِكَ الْعَقْدُ كَالْوَكَالَةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْكُلِّ لَمَا جاز أن ينفرد أحدهما بالنظر في الكل، فإذا خص أحدهما بالبعض، فأولى لا يَجُوزَ لَهُ النَّظَرُ فِي الْكُلِّ، وَلِأَنَّ مَنِ اؤْتُمِنَ عَلَى بَعْضِ الْمَالِ، لَمْ يَمْلِكْ بِذَلِكَ ثُبُوتَ الْيَدِ عَلَى جَمِيعِهِ، كَالْمُودعِ وَالْمُضَارِبِ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْوَصِيَّةِ، وَلَمْ يَخُصَّ أَحَدَهُمَا بِشَيْءٍ مِنْهَا دُونَ صَاحِبِهِ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:(8/336)
أَحَدُهَا: أَنْ يُوصِيَ إِلَيْهِمَا مُجْتَمِعَيْنِ، وَمُنْفَرِدَيْنَ، فَكُلُّ واحد منهما وصي كامل النظر، فأيهما انفرد بإنفاذ الوصايا، والنظر في أمور الْأَطْفَالِ جَازَ.
وَإِنِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ كَانَ أَوْلَى. وَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا، أَوْ فَسَقَ، فَالْبَاقِي مِنْهُمَا هُوَ الْوَصِيُّ، وَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَجْعَلَ مَعَهُ بدل الميت أو الفاسق أحدا إلا أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُ ضَعْفٌ فَيُقَوِّيهِ بِغَيْرِهِ.
فَصْلٌ:
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُوصِيَ إِلَيْهِمَا مُجْتَمِعَيْنِ عَلَى أَن لا يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا: بِالنَّظَرِ دُونَ صَاحِبِهِ، فَعَلَيْهِمَا الِاجْتِمَاعُ فِي إِنْفَاذِ الْوَصَايَا وَالنَّظَرِ فِي أموال الأطفال.
فإن انفرد أحدهما بشيء منهما، لَمْ يَجُزْ وَكَانَ لِمَا أَمْضَاهُ مِنْ ذَلِكَ ضَامِنًا إِنْ تَعَلَّقَ بِعَقْدٍ، أَوِ اجْتِهَادٍ، وَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا مِنْ قَضَاءِ دَيْنٍ أَوْ إِنْفَاذِ وَصِيَّةٍ عُيِّنَتْ لِمُعَيَّنٍ: لَمْ يُضَمَّنْ. وَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا مُنِعَ الْبَاقِي مِنْهُمَا مِنَ النَّظَرِ حَتَّى يُقِيمَ الْحَاكِمُ مَقَامَ الْمَيِّتِ غَيْرَهُ.
فَلَوْ أَذِنَ الْحَاكِمُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْوَصِيَّةِ: لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ الْمُوصِيَ لَمْ يَرْضَ بِنَظَرِهِ وَحْدَهُ.
وَلَوْ مَاتَا جَمِيعًا رَدَّ الْحَاكِمُ الْوَصِيَّةَ إِلَى اثْنَيْنِ، فَإِنْ رَدَّهَا إِلَى وَاحِدٍ ارْتَضَاهُ لَهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أحدهما: لا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ لَوْ نَظَرَ فِيهَا الْحَاكِمُ بِنَفْسِهِ، جَازَ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَكَذَلِكَ إِذَا اسْتَنَابَ فِيهَا وَاحِدًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إنَّهُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ الْمُوصِيَ لَمْ يَرْضَ فِي وَصَايَاهُ إِلَّا بِنَظَرِ اثْنَيْنِ مُجْتَمِعَيْنِ اسْتِظْهَارًا لِنَفْسِهِ فِي وَصِيَّتِهِ فَلَمْ يَكُنْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُخَالِفَهُ فِي إِرَادَتِهِ وَيَمْنَعَهُ فَضْلَ اسْتِظْهَارِهِ، وَلَيْسَ كَالْحَاكِمِ النَّاظِرِ بِنَفْسِهِ.
فَصْلٌ:
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُوصِيَ إِلَيْهِمَا، فَلَا يَأْمُرُهُمَا بِالِاجْتِمَاعِ، وَلَا يَأْذَنُ لَهُمَا فِي الِانْفِرَادِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: عَلَيْهِمَا أَنْ يَجْتَمِعَا عَلَى الْوَصِيَّةِ إِذَا أُطْلِقَتْ وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا التَّفَرُّدُ بِهَا، كما لو أمرهما بالاجتماع عليهما.
وَقَالَ أبو يوسف: يَجُوزُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أن ينفرد بها.
وَقَالَ أبو حنيفة: يَجُوزُ انْفِرَادُ كُلِّ وَاحِدٍ بِمَا يَخَافُ فَوَاتَهُ، أَوْ ضَرَرَهُ، وَذَلِكَ سِتَّةُ أَشْيَاءَ: الْكَفَنُ، وَرَدُّ الْوَدَائِعِ، وَقَضَاءُ الدُّيُونِ، وَإِنْفَاذُ الْوَصَايَا الْمُعَيَّنَةِ، وَالنَّفَقَةُ عَلَى الْأَطْفَالِ، وَكِسْوَتُهُمْ، وَعَلَيْهِمَا الِاجْتِمَاعُ فِيمَا سِوَى هَذِهِ السِّتَّةِ. فَإِنِ انْفَرَدَ بِهَا أَحَدُهُمَا لَمْ يَجُزْ.
وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْوَصَايَا مَوْضُوعَةٌ لِفَضْلِ الِاحْتِيَاطِ، وَهِيَ أَغْلَظُ حَالًا مِنَ الْوَكَالَاتِ، فَلَمَّا كَانَ تَوْكِيلُ اثْنَيْنِ عَلَى الْإِطْلَاقِ يَمْنَعُ مِنْ تَفَرُّدِ أَحَدِهِمَا بالوكالة، كانت الوصية إلى اثنين إلى الإطلاق أولى أن يمنع مِنْ تَفَرُّدِ أَحَدِهِمَا بِالْوَصِيَّةِ، وَلِأَنَّ تَخْصِيصَ أبي حنيفة للستة من بيع الْجَمِيعِ خَوْفَ الضَّرَرِ، قَوْلٌ يَفْسُدُ، لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَ طَعَامًا رَطْبًا يُخَافُ تَلَفُهُ إِنْ تُرِكَ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِبَيْعِهِ وَإِنْ خِيفَ ضَرَرُهُ، فَكَذَلِكَ غَيْرُهُ. فَعَلَى هَذَا: يَكُونُ حُكْمُ إِطْلَاقِ الْوَصِيَّةِ إِلَيْهِمَا، كَالْحُكْمِ فِي اجْتِمَاعِهِمَا عَلَيْهَا، فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا، أَوْ فَسَقَ، أَبْدَلَ(8/337)
الْحَاكِمُ مَكَانَهُ غَيْرَهُ، فَإِنْ تَفَرَّدَ الْبَاقِي مِنْهُمَا بالنظر: ضمن متعلق بِعَقْدٍ أَوِ اجْتِهَادٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " فإن اختلفا قسم بينهما ما كان ينقسم وَجُعِلَ فِي أَيْدِيهِمَا نِصْفَيْنِ وَأُمِرَا بِالِاحْتِفَاظِ بِمَا لَا يَنْقَسِمُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْوَصِيَّةَ إلى اثنين مقصودها، فضل النظر، فإذا دعى الْوَصِيَّانِ إِلَى قَسْمِ الْمَالِ بَيْنَهُمَا، نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ الْمُوصِي قَدْ صَرَّحَ بِمَنْعِهِمَا مِنْهُ، مُنِعَا. وَإِنْ كَانَ قَدْ صَرَّحَ لَهُمَا بِالْإِذْنِ فِيهِ، مُكِّنَا. وَإِنْ أَطْلَقَ نُظِرَ فِي الْقِسْمَةِ، فَإِنْ أَضَرَّتْ بِالْمَالِ أَوْ كَانَ مِمَّا لَا تَتَأَتَّى فِيهِ الْقِسْمَةُ، مُنِعَا مِنْهَا، وَلَمْ يَجُزْ إِذَا كَانَا مُجْتَمِعَيْنِ أَنْ يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا بِحِفْظِ الْمَالِ دُونَ صَاحِبِهِ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِإِنْفَاذِ الْوَصَايَا.
وَقَالَ أبو حنيفة: تَقَعُ بَيْنَهُمَا الْمُهَايَاةُ، فَيَحْفَظُ هَذَا يَوْمًا، وَهَذَا يَوْمًا.
وَهَذَا فاسد، لأن المهايأة تقتضي انفراد أَحَدِهِمَا بِالْحِفْظِ فِي زَمَانِهِ وَلَوْ جَازَ هَذَا، لَجَازَ تَفَرُّدُهُ بِهِ فِي كُلِّ الزَّمَانِ، لِأَنَّ مَنْ لَا يرْتَضي بِانْفِرَادِهِ فِي جَمِيعِ الزَّمَانِ، لَا يرْتَضي بِانْفِرَادِهِ فِي بَعْضِهِ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْقِسْمَةِ ضَرَرٌ، وَلَا كان بين الْمُوصِي فِيهَا نَهْيٌ نُظِرَ: فَإِنْ كَانَا مُنْفَرِدَيْنِ، قَدْ جُعِلَ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِثْلُ مَا إِلَى الْآخَرِ: جَازَ أَنْ يَقْتَسِمَا الْمَالَ إلا أنهما قِسْمَةُ حِفْظٍ، وَلَيْسَتْ قِسْمَةَ مُنَاقَلَةٍ، فَيَقْتَسِمَانِ عَلَى الْقِيَمِ، لَا عَلَى الْأَجْزَاءِ، لِأَنَّ قِسْمَةَ الْمُنَاقَلَةِ تكون بين الورثة على الأجزاء، وقسمة الحفاظ تَخْتَصُّ بِالْأَوْصِيَاءِ، وَتَكُونُ عَلَى الْقِيمَةِ، فَيَأْخُذُ أَحَدُهُمَا دَارًا، وَالْآخَرُ مَتَاعًا، ثُمَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بعد القسمة أن ينصرف فِيمَا بِيَدِهِ، وَفِيمَا بِيَدِ صَاحِبِهِ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِالنَّظَرِ فِي الْجَمِيعِ.
وَإِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ إِلَيْهِمَا مُجْتَمِعين وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا التفرد بالنظر، ففي جواز اقتسام الْمَال حِفَاظًا لَهُ، وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي، لَيْسَ لَهُمَا ذلك كَمَا لَيْسَ لَهُمَا التَّفَرُّدُ بِالْإِنْفَاذِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وهو قول أبي سعيد الإصطرخي، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، لَهُمَا الْقِسْمَةُ، لأنه اقْتِسَامَهُمَا الْمَالَ أَعْوَنُ لَهُمَا عَلَى حِفْظِهِ، وَإِنَّمَا الِاجْتِمَاعُ عَلَى التَّنْفِيذِ، فَإِذَا اقْتَسَمَا: لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيمَا بِيَدِهِ إِلَّا مَعَ اجْتِمَاعِ صَاحِبِهِ.
فَصْلٌ:
وَإِذَا أَوْصَى الرَّجُلُ بِوَصِيَّةٍ أَسْنَدَهَا إِلَى رَجُلٍ، ثُمَّ أَوْصَى بَعْدَهَا بِوَصِيَّةٍ أُخْرَى، أَسْنَدَهَا إِلَى رَجُلٍ آخَرَ، فَإِنْ صَرَّحَ فِي الثَّانِيَةِ بِالرُّجُوعِ عَنِ الْأُولَى، فَالْوَصِيَّةُ الثَّانِيَةُ هِيَ الْمَعْمُولُ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ فِي الثَّانِيَةِ بِالرُّجُوعِ عَنِ الْأُولَى، عُمِلَ عَلَيْهِمَا مَعًا، فَمَا كَانَ فِي الْوَصِيَّةِ الْأُولَى مِنْ زِيَادَة تَفَرَّد بِهَا الْوَصِيُّ الْأَوَّلُ، وَمَا كَانَ فِي الْوَصِيَّةِ الثَّانِيَةِ مِنْ زِيَادَةٍ، تَفَرَّدَ بِهَا الوصي الثاني وما اتفقت فيه الوصيتان، اجتمعا عليه الوصيان، وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا التَّفَرُّدُ بِهِ، كَمَا لَوْ أَوْصَى إِلَيْهِمَا مَعًا وَصِيَّةً مُطْلَقَةً.(8/338)
وَلَوْ أَوْصَى إِلَى رَجُلٍ بِوَصِيَّةٍ ثُمَّ صَحَّ بَعْدَهَا مِنْ مَرَضِهِ ذَلِكَ وَعَاشَ دَهْرًا، ثُمَّ مات، أمضيت وصيته الْمُتَقَدِّمَةُ، مَا لَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ الرُّجُوعُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا.
وَلَكِنْ لَوْ قَالَ: قَدْ أُوصيت إِلَى فُلَانٍ بِكَذَا إِنْ مُتُّ مِنْ مَرَضِي هذا، فصح منه: بطلت وصيته، لأن جعلها مشروطة بموته من هذا الْمَرَضِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: الْوَصِيَّةُ بِحَالِهَا، مَا لَمْ يخرق الموصي كتاب وصيته.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَيْسَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يُوصِيَ بِمَا أوصى بِهِ إِلَيْهِ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَمْ يَرْضَ الْمُوصَى إِلَيْهِ الْآخَرَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
إِذَا أَوْصَى إِلَى رَجُلٍ بِإِنْفَاذِ وَصَايَاهُ، وَالْوِلَايَة عَلَى الْأَطْفَالِ، ثُمَّ حَضَرَتِ الْوَصِيَّ الْوَفَاةُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُوصِيَ بِتِلْكَ الْوَصِيَّةِ إِلَى غَيْرِهِ.
وَقَالَ أبو حنيفة:
" إِنْ أَوْصَى بِهَا إِلَى غَيْرِهِ جَازَ، وَلَوْ أَوْصَى بِإِخْرَاجِ ثُلُثِهِ كَانَ لِوَصِيِّهِ الْقِيَامُ بِتِلْكَ الْوَصِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُ بِهَا اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْوَصِيَّ قَدْ ملك من النظر بالوصية مثل ما ملك الْجَدُّ مِنَ النَّظَرِ بِنَفْسِهِ، فَلَمَّا جَازَ لِلْجَدِّ أَنْ يُوصِيَ بِمَا إِلَيْهِ مِنَ النَّظَرِ، جَازَ للوصي أن يوصي إليه بِمَا إِلَيْهِ مِنَ النَّظَرِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ وِلَايَةَ الْوَصِيِّ عَامَّةٌ فِي حَقِّ الْمُوصِي، كَمَا أَنَّ وِلَايَةَ الْإِمَامِ عَامَّةٌ فِي حُقُوقِ الْأُمَّةِ، فَلَمَّا كَانَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ بَعْدَهُ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ: جَازَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَسْتَخْلِفَ بَعْدَهُ مَنْ يقوم مقامه.
ودليلنا: شيئان:
أحدهما: أَنَّ مَنْ كَانَتْ نِيَابَتُهُ عَنْ عَقْدٍ بَطَلَ بِالْمَوْتِ كَالْوَكِيلِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ اسْتِنَابَتَهُ حَيًّا، أَقْوَى مِنَ اسْتِنَابَتِهِ مَيِّتًا، فَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ إبدال نفسه بغيره في الحياة، فأولى أن لا يَصِحَّ مِنْهُ إِبْدَالُ نَفْسِهِ بِغَيْرِ الْوَفَاةِ.
فَأَمَّا الْجَدُّ: فَوِلَايَتُهُ بِنَفْسِهِ فَجَازَ أَنْ يُوصِيَ، كَالْأَبِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْوَصِيُّ، لِأَنَّ وِلَايَتَهُ بِغَيْرِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُوصِيَ كَالْحَاكِمِ، عَلَى أَنَّ نَظَرَ الْحَاكِمِ أَقْوَى لِعُمُومِهِ.
وَأَمَّا الْإِمَامُ: فَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ بَعْدَهُ إِمَامًا يَنْظُرُ فِيمَا كَانَ إِلَيْهِ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا فَعَلَ أَبُو بَكْرٍ في استخلاف عمر رضوان الله عليهما، لأنه عام الولاية، وليس لِغَيْرِهِ مَعَهُ مَا إِلَيْهِ، فَجَازَ أَنْ يُخْتَصَّ لِفَضْلِ نَظَرِهِ بِالِاسْتِخْلَافِ كَمَا لَمْ يَبْطُلْ بِمَوْتِهِ ولاية خلفائه من القضاة والولاة. وَمَنْ كَانَ خَاصَّ النَّظَرِ بَطَلَ بِمَوْتِهِ وِلَايَةُ خلفائه كالقضاة والولاة. عَلَى أَنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلَ صِحَّةَ استخلاف الإمام بعد لِإِمَامٍ، مُعْتَبَرًا بِرِضَى أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَرِضَاهُمْ أن(8/339)
يَعْلَمُوا بِهِ فَلَا يُنْكِرُوهُ، كَمَا عَلِمَتِ الصَّحَابَةُ بِاسْتِخْلَافِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَجُعِلَ إِمْسَاكُهُمْ عن الإنكار، رضا به انْعَقَدَتْ بِهِ الْإِمَامَةُ لَهُ.
فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ: لَوِ اسْتَخْلَفَ إِمَامًا بَعْدَهُ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ: لَمْ يَصِحَّ اسْتِخْلَافُهُ، وَلَمْ تَنْعَقِدْ إِمَامَتُهُ، إِلَّا أَنْ يُجْمَعَ عليه ويرض بَعْدَ مَوْتِ الْأَوَّلِ مِمَّنْ يَصِحُّ اخْتِيَارُهُ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ.
وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: قَدِ انْعَقَدَتْ إِمَامَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا بِهِ عِنْدَ الْعَهْدِ، وَلَمْ يَتَّفِقْ عَلَيْهِ أَهْلُ الِاخْتِيَارِ بَعْدَ الْمَوْتِ، إِذَا كَانَ مِمَّنْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ إِمَامًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَالْوِلَايَاتُ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:
وِلَايَةُ حُكْمٍ، وَوِلَايَةُ عَقْدٍ، وَوِلَايَةُ نَسَبٍ.
فَأَمَّا وِلَايَةُ الْحُكْمِ فَضَرْبَانِ: عَامَّةٌ، وَخَاصَّةٌ. فَالْعَامَّةُ: الإمامة، ولا تبطل بموت من يقلدها، ولاية مستخلف ولا نظر مستناب.
وأما الخاصة: فالقضاء، ويبطل بموت من يقلده ولاية، لمستخلف ونظر كل مستناب.
وَأَمَّا وِلَايَةُ الْعَقْدِ: فَضَرْبَانِ: عَقْدٌ يَتَضَمَّنُ نِيَابَةً عَنْ حَيٍّ، وَعَقْدٌ يَتَضَمَّنُ نِيَابَةً عَنْ مَيِّتٍ.
فالذي يَتَضَمَّنُ النِّيَابَةَ عَنِ الْحَيِّ هُوَ: الْوَكَالَةُ، فَإِنْ مَاتَ الْمُوَكِّلُ؛ بَطَلَتْ وَإِنْ مَاتَ الْوَكِيلُ: لَمْ تَكُنْ لَهُ الْوَصِيَّةُ.
وَالَّذِي يَتَضَمَّنُ النِّيَابَةَ عَنِ الْمَيِّتِ هُوَ: الْوَصِيَّةُ، فَإِذَا مَاتَ الْمُوصِي، اسْتَقَرَّتْ وِلَايَةُ الْوَصِيِّ، وَإِنْ مَاتَ الْوَصِيُّ: لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُوصِيَ.
وَأَمَّا وِلَايَةُ النَّسَبِ: فَضَرْبَانِ: عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ.
فَالْعَامَّةُ: وِلَايَةُ الْأَبِ وَالْجَدِّ عَلَى صِغَارِ وَلَدِهِ، وَتَصِحُّ مِنْهُ عِنْدَ الْمَوْتِ الْوَصِيَّةُ.
وَالْخَاصَّةُ: وِلَايَةُ الْعَصَبَاتِ فِي الْأَبْضَاعِ، وَلَا تَصِحُّ فِيهِ عِنْدَ الْمَوْتِ الْوَصِيَّةُ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ أَنْ يُوصِيَ لَمْ يخل ما تولاه مِنْ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ تَعْجِيلِ إِنْفَاذِهِ، فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَلَّاهُ بِنَفْسِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ رَاجِعًا عَنِ الْوَصِيَّةِ، لِأَنَّ إِمْكَانَ تَنْفِيذِهَا مَعَ ضِيقِ وَقْتِهَا، وَالْمُقَامِ عَلَى النَّظَرِ فِيهَا، يَمْنَعُ مِنْ تَأْخِيرِهَا.
وَالثَّانِي: أَن لا يمكن تعجيل إنفاذه، لما تتضمنها مِنَ الْوِلَايَةِ عَلَى يَتِيمٍ يَلْزَمُهُ حِفْظُ مَالِهِ، أَوْ قَضَاءُ دَيْنٍ لِغَائِبٍ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمَالِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ.
إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَحْفَظُ نَفْسَهُ، كَالْعَقَارِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي مِثْلِهِ عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ حَقٌّ، لِأَنَّ الْمَوْتَ يَرْفَعُ يَدَهُ عَنِ النَّظَرِ، لَا عَنِ الْحِفْظِ.
وَالثَّانِي: أن يكون ممن لَا يَحْفَظُ نَفْسَهُ، كَالْأَمْوَالِ الْمَنْقُولَةِ، فَعَلَيْهِ حَقَّانِ: الحفظ، والنظر. فيلزمه عِنْدَ زَوَالِ نَظَرِهِ بِالْمَوْتِ أَنْ يَسْتَدِيمَ حِفْظُهُ، بِتَسْلِيمِهِ إِلَى مَنْ يَعُمَّ نَظَرُهُ، وَهُوَ الْحَاكِمُ، فإن لم يفعل مع المكنة كان ضامنا.(8/340)
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ قَالَ فَإِنْ حَدَثَ بِوَصِيٍّ حَدَثٌ فَقَدْ أَوْصَيْتُ إِلَى مَنْ أَوْصَى إِلَيْهِ لَمْ يَجُزْ لأنه إنما أوصى بمال غَيْرِهِ، (وَقَالَ) فِي كِتَابِ اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي ليلى إن ذلك جائز إذا قال قد أوصيت إليك بتركة فلان (قال المزني) رحمه الله وقوله هذا يوافق قول الكوفيين والمدنيين والذي قبله أشبه بقوله ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ للموصي أن يوصي، إذا لم يجعل له الْمُوصِي أَنْ يُوصِيَ.
فَأَمَّا إِذَا جعَلَ إِلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يعين إليه من يوصي.
والثاني: أن لا يعين.
فَإِنْ عَيَّنَ لَهُ مَنْ يُوصِي إِلَيْهِ، فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: قَدْ أَوْصَيْتُ إِلَيْكَ وَجَعَلْتُ لَكَ أن توصي إلى عمرو. وسواء قال: فإذا أوصيت فَهُوَ وَصِيٌّ، أَوْ لَمْ يَقُلْ، فَهَذَا جَائِزٌ، لِأَنَّهُ قَدْ أَذِنَ لَهُ فِي الْوَصِيَّةِ، وَقَطَعَ اجْتِهَادَهُ فِي الِاخْتِيَارِ، فَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى قَوْلِهِ: قَدْ أَوْصَيْتُ إِلَيْكَ، فَإِنْ مُتَّ: فَقَدْ أَوْصَيْتُ إِلَى عَمْرٍو.
وَلَا يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا إِلَّا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا قَالَ: إِنْ مُتَّ فَقَدْ أَوْصَيْتُ إِلَى عَمْرٍو، فَإِنَّهُ يَصِيرُ عَمْرٌو بِمَوْتِ الْوَصِيِّ وَصِيًّا لَا يَحْتَاجُ إِلَى وَصِيَّةٍ مِنْ جِهَةِ الْوَصِيِّ.
وَلَوْ قَالَ: وَقَدْ جَعَلْتُ إِلَيْكَ أَنْ تُوصِيَ إِلَى عَمْرٍو: لَمْ يَصِرْ عَمْرٌو وَصِيًّا إِلَّا بِوَصِيَّةِ الْوَصِيِّ، فَإِذَا أَوْصَى إِلَيْهِ صَارَ عَمْرٌو وَصِيًّا لِلْمَيِّتِ الْأَوَّلِ لَا لِلْوَصِيِّ.
فَلَوْ مَاتَ الْوَصِيُّ قَبْلَ أَنْ يُوصِيَ إِلَى عَمْرٍو: لَمْ تَثْبُتْ وَصِيَّةُ عَمْرٍو إِلَّا أَنْ يَرُدَّهَا الْحَاكِمُ إِلَيْهِ. فَلَوْ أَرَادَ الْحَاكِمُ رَدَّ الْوَصِيَّةَ إِلَى غَيْرِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُوصِيَ قد قطع الاجتهاد في تعينه، كما لا يجوز للوصي أن يوصي إلى غَيْره.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ تَعْيِينَ الْوَصِيَّةِ إِلَيْهِ إِنَّمَا جُعِلَ إِلَى الْوَصِيِّ، فَإِذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُوصِيَ، بَطَلَ حُكْمُ تِلْكَ الْوَصِيَّةِ، فَصَارَ نَظَرُ الْحَاكِمِ فِيهَا، نَظَرَ حُكْمٍ، لَا نَظَرَ وَصِيٍّ، فَجَازَ أَنْ يختار من يراه للنظر أوفق.
وَهَكَذَا لَوْ قَالَ الْمُوصِي، قَدْ أَوْصَيْتُ إِلَى زَيْدٍ، فَإِنْ مَاتَ فَقَدْ أَوْصَيْتُ إِلَى عَمْرٍو، فَإِنْ مَاتَ فَقَدْ أَوْصَيْتُ إِلَى بَكْرٍ: جَازَ وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ وَصِيًّا بَعْدَ مَوْتِ مَنْ تَقَدَّمَهُ، فَقَدْ جَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَيْشَ مُؤْتَةَ، وَقَالَ لَهُمْ: " أَمِيرُكُمْ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، فَإِنْ أُصِيبَ: فَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَإِنْ أُصِيبَ: فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَإِنْ أُصِيبَ: فَلْيَرْتَضِ الْمُسْلِمُونَ رَجُلًا ".(8/341)
فَأُصِيبَ زَيْدٌ فَقَامَ بِهِمْ جَعْفَرٌ، ثُمَّ أُصِيبَ جَعْفَرٌ، فَقَامَ بِهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، ثُمَّ أُصِيبَ عَبْدُ اللَّهِ فَارْتَضَى الْمُسْلِمُونَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ.
فَلَوْ قَالَ: قَدْ أَوْصَيْتُ إِلَى زَيْدٍ سَنَةً، ثُمَّ بَعْدَ السَّنَةِ إِلَى عَمْرٍو: كَانَ هَذَا جَائِزًا، وَقِيلَ: إِنَّ الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَكَذَا أَوْصَى.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا إِذَا جَعَلَ إِلَى وَصِّيهِ أَنْ يُوصِيَ، وَلَمْ يُعَيِّنْ لَهُ مَنْ يُوصِي إِلَيْهِ، فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: جَعَلْتُ إِلَيْكَ أَنْ تُوصِيَ، أَوْ يَقُولَ: مَنْ أَوْصَيْتَ إِلَيْهِ فَهُوَ وَصِيٌّ، فَالْحُكْمُ فِيهِ عَلَى سَوَاءٍ وَفِي جَوَازِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة، وَمَالِكٍ، يَجُوزُ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ نَظَرَ الْوَصِيِّ، أَقْوَى مِنْ نَظَرِ الْوَكِيلِ، فَلَمَّا جَازَ لِلْوَكِيلِ إِذَا أَذِنَ لَهُ فِي التَّوْكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ عَنْهُ مُعَيَّنًا، وَغَيْرَ مُعَيَّنٍ، كَانَ أَوْلَى فِي الْوَصِيِّ إِذَا أَذِنَ لَهُ فِي الوصية أن يوصي عنه إلى معين، وغير مُعَيَّن.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَصِيَّ بِالْإِذْنِ قَدْ صَارَ كالأب، فَلَمَّا جَازَ لِلْأَبِ أَنْ يُوصِيَ جَازَ لِلْوَصِيِّ مَعَ الْإِذْنِ أَنْ يُوصِيَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ مَعَ عَدَمِ التَّعْيِينِ أَنْ يُوصِيَ وَإِنْ أُذِنَ لَهُ، لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْوَصِيَّ لَا يَمْلِكُ الِاخْتِيَارَ بِالْوَصِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ، فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ بِالْوَصِيَّةِ الْمُقَيَّدَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ اخْتِيَارَ الْحَاكِمِ، أَقْوَى مِنَ اخْتِيَارِ الموصي، لأن له الاختيار بإذن وغير إذن، فكذلك كَانَ اخْتِيَارُ الْحَاكِمِ أَوْلَى مِنَ اخْتِيَارِ الْوَصِيِّ، والله أعلم.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا وِلَايَةَ لِلْوَصِيِّ فِي إِنْكَاحِ بَنَاتِ الْمَيِّتِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ وِلَايَةَ الْوَصِيِّ عَلَى الْيَتِيمِ، كَوِلَايَةِ الْأَبِ عَلَيْهِ، إِلَّا فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: أَنَّ لِلْأَبِ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ لِنَفْسِهِ، وَيَبِيعَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْوَصِيِّ.
وَالثَّانِي: أَنَّ لِلْأَبِ أَنْ يُوصِيَ بِالْوِلَايَةِ عَلَى وَلَدِهِ، وَلَيْسَ لِلْوَصِيِّ أن يوصي.
والثالث: أن للأب أن يزوجهم، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْوَصِيِّ.
ثُمَّ الْوَصِيُّ فِيمَا سِوَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، كَالْأَبِ سَوَاءً. فَلَوْ جَعَلَ الْأَبُ إِلَى الْوَصِيِّ مَا كَانَ(8/342)
مُخْتَصًّا بِهِ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، لِيَكُونَ مُسَاوِيًا لَهُ فِيهَا، نُظِرَ: فَإِنْ جَعَلَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ لِنَفْسِهِ، أَوْ يَبِيعَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُ إِذْنٌ بِعَقْدٍ فِي مَالٍ لَا يَمْلِكُهُ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يُوصِيَ، فَهُوَ عَلَى مَا مَضَى مِنَ التَّفْصِيلِ.
وَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي التَّزْوِيجِ، فَقَدْ أَجَازَهُ مَالِكٌ وَجَعَلَ الْوَصِيَّ أَحَقَّ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، كَمَا كَانَ أَحَقَّ بِالْوِلَايَةِ عَلَى الْمَالِ.
وَمَنَعَ مِنْهُ الشَّافِعِيُّ، وأبو حنيفة، وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، وَسَتَأْتِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ مُسْتَقْصَاةً إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.(8/343)
بَابُ مَا يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَصْنَعَهُ فِي أموال اليتامى
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَيُخْرِجُ الْوَصِيُّ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ كُلَّ مَا لَزِمَهُ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ وَجِنَايَتِهِ وَمَا لَا غناء به عَنْهُ مِنْ نَفَقَتِهِ وَكِسْوَتِهِ بِالْمَعْرُوفِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ وَلِيَّ الْيَتِيمِ مَنْدُوبٌ إِلَى الْقِيَامِ بمصالحه، قال تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] .
وَالَّذِي يَلْزَمُهُ فِي حَقِّ الْيَتِيمِ، أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: حِفْظُ أُصُولِ أَمْوَالِهِ.
والثاني: تمييز فُرُوعِهَا.
وَالثَّالِثُ: الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ.
وَالرَّابِعُ: إِخْرَاجُ مَا تَعَلَّقَ بِمَالِهِ مِنَ الْحُقُوقِ.
فَأَمَّا حِفْظُ الْأُصُولِ: فَيَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: حِفْظُ الرِّقَابِ عَنْ أَنْ تَمْتَدَّ إِلَيْهَا يَدٌ، فَإِنْ فَرَّطَ، كَانَ لِمَا تَلِفَ مِنْهَا ضَامِنًا.
وَالثَّانِي: استيفاء الْعِمَارَةِ لِئَلَّا يُسْرِعَ إِلَيْهَا خَرَابٌ، فَإِنْ أَهْمَلَ عِمَارَتَهَا حَتَّى عَطِلَ ضِيَاعُهُ، وَتَهَدَّمَ عَقَارُهُ، نُظِرَ: فإن كان لإعوان مَا يُنْفِقُ عَلَيْهَا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مَعَ وُجُودِ النَّفَقَةِ، فَقَدْ أَثِمَ وَفِي الضَّمَانِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ وَيَصِيرُ بِهَذَا الْعُدْوَانِ كَالْغَاصِبِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ خَرَابَهَا، لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِهِ، فَيَضْمَنُ بِهِ، وَلَا يَدُهُ غَاصِبَةٌ فَيَجِبُ بِهَا عَلَيْهِ ضَمَانٌ.
فصل:
وأما تمييز فُرُوعِهِ، فَلِأَنَّ النَّمَاءَ مَالٌ مَقْصُودٌ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُفَوِّتَهُ عَلَى الْيَتِيمِ كَالْأُصُولِ، وَهُوَ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ نَمَاؤُهُ أَعْيَانًا مِنْ ذَاتِهِ، كَالثِّمَارِ، وَالنِّتَاجِ، فَعَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مَا عَادَ يحفظه وَزِيَادَته، كَتَلْقِيحِ النَّخْلِ، وَعُلُوفَةِ الْمَاشِيَةِ.
فَإِنْ أَخَلَّ بِعُلُوفَةِ الْمَاشِيَةِ: ضَمِنَهَا وَجْهًا وَاحِدًا.
وَإِنْ أَخَلَّ بِتَلْقِيحِ الثَّمَرَةِ: فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَجْهًا وَاحِدًا.(8/344)
لأنها إن لم تتميز، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَضْمَنَ، مَا لَمْ يُخْلَقْ، وَلَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَيْهِ لِلْيَتِيمِ مِلْكٌ. وَإِنْ خُلِقَتْ نَاقِصَةً: فَالنُّقْصَانُ أَيْضًا مِمَّا لَمْ يُخْلَقْ.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مَا كَانَ نَمَاؤُهُ بِالْعَمَلِ.
وَذَلِكَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: تِجَارَةٌ بِمَالٍ. وَالثَّانِي: اسْتِغْلَالُ الْعَقَارِ.
فَأَمَّا التِّجَارَةُ بِالْمَالِ فَيُعْتَبَرُ فِيهَا، أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ، يُؤْخَذُ الولي بها في التجارة:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَالُهُ نَاضًّا. فَإِنْ كَانَ عَقَارًا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ لِلتِّجَارَةِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الزَّمَانُ آمِنًا، فَإِنْ كَانَ مَخُوفًا، لَمْ يَجُزْ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ السُّلْطَانُ عَادِلًا، فَإِنْ كَانَ جَائِرًا، لَمْ يَجُزْ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ الْمَتَاجِرُ مُرْبِحَةً، فَإِنْ كَانَتْ مُخْسِرَةً: لَمْ يَجُزْ.
فإن استكمل هَذِهِ الشُّرُوطَ: كَانَ مَنْدُوبًا إِلَى التِّجَارَةِ لَهُ بِالْمَالِ، فَلَوْ لَمْ يَتَّجِرْ بِهَا: لَمْ يَضْمَنْ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَسْتَقِرَّ لَهُ مِلْكٌ عَلَى رِبْحٍ مَعْلُومٍ فَيَصِحَّ ضَمَانُهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ رِبْحَ التِّجَارَةِ بِالْعَقْدِ وَالْمَالِ، تَبَعٌ، وَلِذَلِكَ جَعَلْنَا رِبْحَ الْغَاصِبِ فِي الْمَالِ الْمَغْصُوبِ لَهُ، دُونَ المغصوب منه.
فإن اتجر الولي بِالْمَالِ مَعَ إِخْلَالِهِ بِبَعْضِ هَذِهِ الشُّرُوطِ: كَانَ ضَامِنًا لِمَا تَلِفَ مِنْ أَصْلِ الْمَالِ.
وَأَمَّا اسْتِغْلَالُ الْعَقَارِ:
فَإِنَّمَا يَكُونُ بِإِجَارَتِهِ، فَإِنْ تَرَكَهُ عَاطِلًا لَمْ يُؤَجِّرْهُ، فَقَدْ أَثِمَ، وَفِي ضَمَانِهِ لِأُجْرَةِ مِثْلِهِ إِذَا كَانَ غَيْرَ مَعْذُورٍ فِي تَعْطِيلِهِ، وَجْهَانِ، لِأَنَّ مَنَافِعَهُ تُمْلَكُ كَالْأَعْيَانِ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا النَّفَقَةُ عَلَيْهِ بِالْمَعْرُوفِ.
فَلِأَنَّ فِي الزِّيَادَةِ سَرَفًا، وَفِي التَّقْصِيرِ ضَرَرًا، فَلَزِمَ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ قَصْدًا بِالْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ، وَلَا تَقْصِيرٍ، وَكَذَلِكَ يُنْفِقُ عَلَى كُلِّ مَنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُ فِي مَالِهِ مِنْ وَالِدَيْنِ، وَمَمْلُوكِينَ، ثُمَّ يكسوه وإياهم في فصل الصَّيْفِ، وَالشِّتَاءِ، كِسْوَةَ مِثْلِهِمْ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يُعْتَبَرُ بِكِسْوَةِ أَبِيهِ، فيكسوه مثلها.
وهذا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ أَبَاهُ قَدْ رُبَّمَا كَانَ مُسْرِفًا، أَوْ مُقَصِّرًا، فَكَانَ اعْتِبَارُ ذَلِكَ فِي الْكِسْوَةِ فِي يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ عَادَةً وَعُرْفًا، أَوْلَى من اعتباره عَادَة أَبِيهِ.
وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ عَادَةُ أَبِيهِ فِي صفة الملبوس إن كان تاجرا، كسى كسوة التجار، وإن كان جنديا، كسى كِسْوَةَ الْأَجْنَادِ، وَلَا يَعْدِلُ بِهِ عَنْ عَادَةِ أَبِيهِ حَتَّى يَبْلُغَ، وَيَلِيَ أَمْرَ نَفْسِهِ فَيُغَيِّرُهَا إِنْ شَاءَ.
فَإِنْ أَسْرَفَ الْوَلِيُّ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ: ضَمِنَ زِيَادَةَ السَّرَفِ وَإِنْ قَصَّرَ بِهِ عَنِ الْعَقْدِ: أَسَاءَ وَلَمْ يَضْمَنْ.(8/345)
فَإِنِ اخْتَلَفَ هُوَ وَالْوَلِيُّ بَعْدَ بُلُوغِهِ فِي قَدْرِ النَّفَقَةِ، فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَخْتَلِفَا فِي قَدْرِ النَّفَقَةِ مَعَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْمُدَّةِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْفَقْتُ عَلَيْكَ عَشْرَ سِنِينَ فِي كل سنة مائة دينار، فقال: أَنْفَقْتَ عَلَيَّ عَشْرَ سِنِينَ فِي كُلِّ سَنَةٍ خَمْسِينَ دِينَارًا.
فَالْقَوْلُ فِيهِ، قَوْلُ الْوَلِيِّ، إِذَا لَمْ يَكُنْ مَا ادَّعَاهُ سَرَفًا، فَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ وَصِيًّا، أَوْ أَمِينَ حَاكِمٍ: فَلَهُ إِحْلَافُهُ عَلَى مَا ادَّعَاهُ.
وَإِنْ كَانَ أَبًا، أَوْ جَدًّا، فَفِي إِحْلَافِهِ لَهُ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَحْلِفُ، كَالْأَجْنَبِيِّ، لِأَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِي حُقُوقِ الْأَمْوَالِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَحْلِفُ، لِأَنَّهُ يُفَارِقُ الْأَجْنَبِيَّ فِي نَفْيِ التُّهْمَةِ عَنْهُ. وَكَثْرَةِ الْإِشْفَاقِ عَلَيْهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى قَدْرِ النَّفَقَةِ، وَيَخْتَلِفَا فِي قَدْرِ الْمُدَّةِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْفَقْتُ عَلَيْكَ عَشْرَ سِنِينَ، فِي كُلِّ سَنَةٍ مِائَةَ دِينَارٍ، فَقَالَ: بَلْ أَنْفَقْتَ عَلَيَّ خَمْسَ سِنِينَ، فِي كُلِّ سَنَةٍ مِائَةَ دِينَارٍ.
فَعِنْدَ أَبِي سَعِيدٍ الإصطرخي: أن القول قول الولي، كاختلافهم فِي الْقَدْرِ مَعَ اتِّفَاقِهِمَا فِي الْمُدَّةِ.
وَقَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا: بَلِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْيَتِيمِ مَعَ يَمِينِهِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ اخْتِلَافِهِمَا فِي الْقَدْرِ، وَبَيْنَ اخْتِلَافِهِمَا فِي الْمُدَّةِ: أَنَّهُمَا فِي الْقَدْرِ مُخْتَلِفَانِ فِي الْمَالِ، فَقُبِلَ مِنْهُ قَوْلُ الْوَلِيِّ، لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ عَلَيْهِ، وَفِي الْمُدَّةِ مُخْتَلِفَانِ فِي الْمَوْتِ الذي يعقبه نظر الولي، فلم يقبل قولي الولي، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُؤْتَمَنٍ عَلَيْهِ، مَعَ أَنَّنَا عَلَى يقين من حدوث الموت في شَكٍّ مِنْ تَقَدُّمِهِ، فَلِذَلِكَ افْتَرَقَ الْحُكْمُ فِيهِمَا.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا إِخْرَاجُ مَا تَعَلَّقَ بِمَالِهِ مِنَ الْحُقُوقِ، فَضَرْبَانِ: حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى، وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ.
فَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى فَالزَّكَوَاتُ، وَالْكَفَّارَاتُ.
أَمَّا الزكوات: فزكاة الفطر، وأعشار الزروع والثمار، واجبة إِجْمَاعًا.
وَأَمَّا زَكَاةُ الْأَمْوَالِ: فَقَدْ أَسْقَطَهَا أبو حنيفة، ولم يوجبها إلى عَلَى بَالِغٍ عَاقِلٍ.
وَعِنْدَنَا: تَجِبُ بِالْحُرِّيَّةِ، وَالْإِسْلَامِ، عَلَى كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، عَاقِلٍ وَمَجْنُونٍ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ.
وَإِذَا وَجَبَتْ: لَزِمَ إِخْرَاجُهَا، وَلَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُهَا، عَنْ مُسْتَحِقِّهَا، وَقَالَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " لَيْسَ لِلْوَلِيِّ إِخْرَاجُ الزَّكَاةِ عَنْهُ وَيَتْرُكُهَا فِي مَالِهِ حَتَّى يَبْلُغَ الصَّبِيُّ، فَيُخْرِجُهَا عن نفسه ".(8/346)
ودليلنا: ما روي أَنَّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَلِيَ مَالَ يَتِيمٍ، فَلَمَّا بَلَغَ، سَلَّمَ إِلَيْهِ الْمَالَ، فَنَقَصَ كَثِيرًا: فَقَالُوا لَهُ: نَقُصَ الْمَالُ، فَقَالَ: احْسِبُوا قَدْرَ الزَّكَاةِ وَالنُقْصَانِ، فَحَسبُوا فَوَافَقَ، فَقَالَ: أَتَرَانِي أَلِي مَالًا وَلَا أُخْرِجُ زَكَاتَهُ.
فَلَوْ لَمْ يُخْرِجْهَا الْوَلِيُّ، لَزِمَ الْيَتِيمَ إِذَا بَلَغَ أَنْ يُخْرِجَهَا بِنَفْسِهِ، وَأَمَّا حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ فَنَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: حَقٌّ وَجَبَ بِاخْتِيَارٍ كَالدُّيُونِ، فَعَلَى الْوَلِيِّ قَضَاؤُهَا إِذَا ثَبَتَتْ وَطَالَبَ بِهَا أربابها، فإن أبرئوا مِنْهَا: سَقَطَتْ وَإِنْ أَمْسَكُوا عَنِ الْمُطَالَبَةِ مِنْ غَيْرِ إِبْرَاءٍ، نُظِرَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ، فَإِنْ كَانَ نَاضًّا، أَلْزَمَهُمُ الْوَلِيُّ قَبْضَ دُيُونِهِمْ، أَوِ الْإِبْرَاءَ مِنْهَا، خَوْفًا مِنْ أَنْ يَتْلَفَ الْمَالُ وَيَبْقَى الدَّيْنُ.
وَإِنْ كَانَ أَرْضًا أَوْ عَقَارًا، تَرَكَهُمْ عَلَى خِيَارِهِمْ فِي الْمُطَالَبَةِ بِدُيُونِهِمْ إِذَا شَاءُوا.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مَا وَجَبَ بِغَيْرِ اخْتِيَار، الجنايات وَهِيَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَى مَالٍ، فَيَكُونُ غُرْمُ ذَلِكَ فِي مَالِهِ، كَالدُّيُونِ.
وَالثَّانِي: عَلَى نَفْسٍ، وَذَلِكَ ضَرْبَانِ، عَمْدٌ وَخَطَأٌ، فَإِنْ كَانَ خَطَأٌ فديَتُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، لَا فِي مَالِهِ.
وَإِنْ كَانَ عَمْدًا، فَفِيهِ قَوْلَانِ: مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي عَمْدِ الصَّبِيِّ هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الْعَمْدِ، أو مجرى الخطأ:
أحدهما: أنه جاري مَجْرَى الْعَمْدِ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَارٍ مَجْرَى الْخَطَأ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ.
فَأَمَّا الْكَفَّارَةُ: فَفِي مَالِهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا.
وَقَالَ مَالِكٌ، وأبو حنيفة: " لَا كَفَّارَةَ عَلَى الصَّبِيِّ ".
فَهَذَا مَا يَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ فِي حَقِّ الْيَتِيمِ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا شَهَادَةُ الْوَصِيِّ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْوَصِيَّةِ فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَشْهَدَ عَلَى الْمُوصِي، فَشَهَادَتُهُ مَقْبُولَةٌ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَشْهَدَ لِلْمُوصِي، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لَهُ نَظَرٌ فِيمَا شهد به، كأن شَهِدَ لَهُ بِمَالٍ، أَوْ مِلْكٍ هُوَ وَصِيٌّ في تفريق ثلثه، أو ولاية على أطفال، فَشَهَادَتُهُ مَرْدُودَةٌ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَن لا يَكُونَ لَهُ نَظَرٌ فِيمَا شَهِدَ بِهِ. كَأَنَّهُ وَصِيٌّ فِي تَفْرِيقِ مَالٍ مُعَيَّنٍ مِنْ تَرِكَتِهِ، فَشَهِدَ لِلْمُوصِي بِمِلْكٍ لَا يَدْخُلُ فِي وَصِيَّتِهِ، وَلَيْسَ وارث، مثلا، فَيَكُونُ فِي وِلَايَتِهِ: فَشَهَادَتُهُ مَقْبُولَةٌ، لِأَنَّهُ لَا يجر بها نفعا.(8/347)
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وإذا بلغ الحلم ولم يرشد زوجه وإن احتاج إلى خادم ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَلَا يُزَوِّجُهُ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الْيَتِيمُ عَلَى حَالِ صِغَرِهِ، فَلَا يَجُوزُ لِوَصِيِّهِ أَنْ يُزَوِّجَهُ وَقَالَ أَبُو ثور:
يجوز له أن يزوجه فِي صِغَرِهِ، كَالْأَبِ.
وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْوَصِيَّ لَمَّا مُنِعَ مِنْ تَزْوِيجِ الصَّغِيرَةِ، وَإِنْ كَانَ لِلْأَبِ تَزْوِيجُهَا مَعَ مَا فِيهِ مِنَ اكْتِسَابِ الْمَهْرِ، كَانَ أَوْلَى أَنْ يُمْنَعَ مِنْ تَزْوِيجِ الصَّغِير وَإِنْ كَانَ لِلْأَبِ تَزْوِيجُهُ، لِمَا فِيهِ من التزام المهر، ولأن الموصي مَمْنُوعٌ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ مَا لَا حَاجَةَ بِهِ إِلَيْهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى النِّكَاحِ.
فَإِذَا بَلَغَ الْيَتِيمُ: زَالَ اسْمُ اليتيم عَنْهُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لا يتم بعد حلم.
ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ مِنْ أَنْ يَبْلُغَ رَشِيدًا، أَوْ غَيْرَ رَشِيدٍ، فَإِنْ بلغ رشيدا: وجب فله حَجْرُهُ، وَإِمْضَاءُ تَصَرُّفِهِ.
ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ وليه من ثلاثة أقسام:
أحدها: أَنْ يَكُونَ أَبًا، فَيَنْفَكُّ حَجْرُهُ بِظُهُورِ الرُّشْدِ بَعْدَ الْبُلُوغِ مِنْ غَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ، لِأَنَّ ثُبُوتَ الْوِلَايَةِ لِلْأَبِ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ به، فَارْتَفَعَتْ بِالرُّشْدِ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ أَمِينَ الْحَاكِمِ، فَلَا يَنْفَكُّ حجره عَنْهُ بِظُهُورِ الرُّشْدِ إِلَّا أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بفك حجره، لأن الولاية عليه، تثبت بِحُكْمِهِ فَلَمْ تَرْتَفِعْ إِلَّا بِحُكْمِهِ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ عَلَيْهِ وَصِيًّا لِأَبٍ، أَوْ جَدٍّ، فَفِي فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ بِظُهُورِ رُشْدِهِ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَنْفَكُّ حَجْرُهُ بِغَيْرِ حُكْمٍ لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ.
وَالثَّانِي: لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ إِلَّا بِحُكْمٍ، لِأَنَّهَا وِلَايَةٌ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ، كَالْأَمِينِ.
فَصْلٌ:
وَإِنْ بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ: كَانَ حَجْرُهُ بَاقِيًا، لِأَنَّ فَكَّهُ مقيد بِشَرْطَيْنِ: الْبُلُوغُ وَالرُّشْدُ، فَلَمْ يَنْفَكَّ بِالْبُلُوغِ دُونَ الرُّشْدِ، كَمَا لَا يَنْفَكُّ بِالرُّشْدِ دُونَ الْبُلُوغِ.
وَإِذَا كَانَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ بَاقِيًا، كَانَتْ وِلَايَةُ الوالي عَلَيْهِ بِحَالِهَا، سَوَاءٌ كَانَ الْوَالِي عَلَيْهِ أَبًا، أَوْ وَصِيًّا، أَوْ أَمِينًا.
وَإِنْ كَانَ حَجْرُهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ. حَجْرَ سَفَهٍ، لَا يَتَوَلَّاهُ إِلَّا حاكم، (تقديم حجر) مستديم، فحجر مُتَقَدِّمٍ، فَدَامَتِ الْوِلَايَةُ عَلَيْهِ لِوَلِيِّهِ الْمُتَقَدِّمِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِئْنَافِ تَوْلِيَةٍ، كَمَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِئْنَافِ حَجْرٍ.
فَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً: لَمْ يجز لوصي تَزْوِيجُهَا.
وَإِنْ كَانَ غُلَامًا: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ به حاجة إلى النساء، لم يزوج.(8/348)
وَإِنْ كَانَتْ بِهِ إِلَى النِّسَاءِ حَاجَةٌ لِمَا يرى من فورته عَلَيْهِنَّ، وَمَيْلِهِ إِلَيْهِنَّ، زَوَّجَهُ الْوَصِيُّ، لِمَا فِيهِ من المصلحة له، وَتَحْصِينِ فَرْجِهِ، وَلَا يَزِيدُهُ عَلَى وَاحِدَةٍ، وَلَا يزوجه إلا بمن اختارها من أكفائه.
فإذا أَذِنَ لَهُ الْوَصِيُّ فِي تَوَلِّي الْعَقْدِ بِنَفْسِهِ، جَازَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ فَمَا دُونَ وَإِنْ نَكَحَ بأكثر من مهر المثل، ردت الزيادة على وليه، ودفع الْمَهْرَ عِنْدَ طَلَبِهِ، وَالْإِنْفَاقِ عَلَى زَوْجَتِهِ وَعَلَيْهِ بالمعروف لمثلها مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ، وَلَا تَقْصِيرٍ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " ومثله يخدم اشترى له ولا يجمع له امرأتين ولا جاريتين للوطء وإن اتسع ماله لأنه لا ضيق في جارية للوطء ".
قال الماوردي: فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَمِثْلُهُ يُخْدَمُ اشْتَرَى له خادما.
أَمَّا إِذَا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى خَادِمٍ: تَرَكَهُ وَخَدَمَ نَفْسَهُ. وَإِنِ احْتَاجَ إِلَى خَادِمٍ فَإِنِ اكْتَفَى بِخِدْمَةِ زَوْجَتِهِ: اقْتَصَرَ عَلَيْهَا.
وَإِنْ لَمْ يَكْتَفِ بِخِدْمَةِ زَوْجَتِهِ نُظِرَ: فَإِنْ ضَاقَ مَالُهُ اكْتَرَى لَهُ خَادِمًا وَإِنِ اتَّسَعَ اشْتَرَى لَهُ خادما.
فإن كانت خدمته، تَقُومُ بِهَا الْجَوَارِي، وَأَمْكَنَ أَنْ تَقُومَ الْجَارِيَةُ بخدمته واستمتاعه: اقتصر على جارية الخدمة والاستمتاع بزوجه.
وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْجَارِيَةُ لِاسْتِمْتَاعِ مِثْلِهِ: اشْتَرَى لَهُ مَعَ التَّزْوِيجِ جَارِيَةً لِخِدْمَتِهِ.
وَإِنْ كَانَتْ خِدْمَتُهُ مِمَّا لَا يَقُومُ بِهَا إِلَّا الْغِلْمَانُ: اشْتَرَى لَهُ غُلَامًا لِخِدْمَتِهِ.
فَإِنِ احْتَاجَ فِي خِدْمَتِهِ إِلَى خِدْمَةِ جَارِيَةٍ لِخِدْمَةِ مَنْزِلِهِ، وَغُلَامٍ لِخِدْمَتِهِ فِي تَصَرُّفِهِ، اشْتَرَاهُمَا لَهُ إِذَا اتَّسَعَ مَالُهُ، وَفِي الْجُمْلَةِ أَنَّهُ يُرَاعِي فِي ذَلِكَ مَا دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ، وَجَرَتِ الْعَادَةُ بِمِثْلِهِ.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِنْ أَكْثَرَ الطَّلَاقَ لَمْ يُزَوَّجْ وَسرّى وَالْعِتْقُ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: طَلَاقُ السَّفِيهِ وَاقِعٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ أبو يوسف: طَلَاقُ السَّفِيهِ لَا يَقَعُ. اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الطَّلَاقَ اسْتِهْلَاكُ مَالٍ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَلَيْهِ فِي الْخُلْعِ فَمُنِعَ مِنْهُ السَّفِيهُ، كَالْعِتْقِ.
وَهَذَا فَاسِدٌ: لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَاطِعٌ لِلِاسْتِدَامَةِ ومانع من الاستمتاع وليس بإتلاف مال، إنما يستفاد به إسقاط مال، لأنه إذا كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ: أَسْقَطَ نِصْفَ الصَّدَاقِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ، أَسْقَطَ النَّفَقَةَ وَالْكِسْوَةَ، وَخَالَفَ الْعِتْقَ الذي هو استهلاك مال، ولذلك جاز للكاتب أَنْ يُطَلِّقَ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْتِقَ، وَجَازَ طلاق العبد وإن لم يأذن له فِيهِ السَّيِّدُ، وَالْعِوَضُ الْمَأْخُوذُ فِي الْخُلْعِ(8/349)
إِنَّمَا هُوَ لِرَفْعِ الْيَدِ عَنِ التَّصَرُّفِ فِي الْبُضْعِ بِالِاسْتِمْتَاعِ، فَصَارَ الْعِوَضُ مَأْخُوذًا عَلَى تَرْكِ الاستمتاع، لا على أنه في مقابلة ماله. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ طَلَاقَ السَّفِيهِ وَاقِعٌ: نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ مِطْلَاقًا يُكْثِرُ الطَّلَاقَ لَمْ يُزَوِّجْهُ لِمَا يَتَوَالَى فِي مَالِهِ مِنَ اسْتِحْقَاقِ مَهْرٍ بَعْدَ مَهْرٍ، وَسَرَّاهُ بِجَارِيَةٍ يَسْتَمْتِعُ بِهَا، فَإِنْ أَعْتَقَهَا، لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ، وَإِنَّمَا عَدَلَ بِهِ عَنِ التَّزْوِيجِ إِذَا كَانَ مِطْلَاقًا إِلَى التَّسَرِّي، لِأَنَّ ذَلِكَ أَحْفَظُ لِمَالِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ يُحْبِلُ الْجَارِيَةَ فَيَبْطُلُ ثَمَنُهَا، فَصَارَ ذَلِكَ كَالطَّلَاقِ أَوْ أَسْوَأَ حَالًا؟ قِيلَ: إِحْبَالُهَا لَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فكان مقصده فِيهَا بَاقِيًا، وَلَيْسَ كَالطَّلَاقِ الَّذِي يَمْنَعُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ وَيَرْفَعُ الِاسْتِبَاحَةِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا اسْتَقَرَّ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ هَذَا الْبَابُ مِنْ أَحْوَالِ الْأَوْصِيَاءِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْوَصِيِّ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَطَوِّعًا، أَوْ مستعجلا.
فإن تطوع فهي أمانة محضة، أو اسْتَعْجَلَ: فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بعقد.
والثاني: بغير عقد.
فإن كان بعقد فَهِيَ إِجَارَةٌ لَازِمَةٌ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِمَا يضمنها، وَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ بِهَا، وَإِنْ ضَعُفَ عَنْهَا، استأجر عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ فِيمَا ضعف عنه، ولو الْأُجْرَةَ الْمُسَمَّاةَ.
وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عَقْدٍ فَهِيَ جَعَالَةٌ، ثُمَّ هِيَ ضَرْبَانِ: مُعَيَّنَةٌ، وَغَيْرُ مُعَيَّنَةٍ.
فَإِنْ كَانَتْ مُعَيَّنَةً: كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ قَامَ زيد بوصيتي له مِائَةُ دِرْهَمٍ، فَإِنْ قَامَ بِهَا غَيْرُ زَيْدٍ، فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَإِنْ قَامَ بِهَا زَيْدٌ وعمرو، فلا شيء لعمرو، وَإِنْ عَاوَنَ زَيْدًا فِيهَا فَلِزَيْدٍ جَمِيعُ الْمِائَةِ، وَإِنْ عَمِلَ لِنَفْسِهِ، فَلَيْسَ لِزَيْدٍ إِلَّا نِصْفُ الْمِائَةِ، لِأَنَّ لَهُ نِصْفَ الْعَمَلِ.
وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ: كَقَوْلِهِ مَنْ قَامَ بِوَصِيَّتِي هَذِهِ فَلَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ: فَأَيُّ النَّاسِ قَامَ بِهَا وَهُوَ مِنْ أَهْلِهَا، فَلَهُ الْمِائَةُ.
فَإِنْ قَامَ بِهَا جَمَاعَةٌ: كَانَتِ الْمِائَةُ بَيْنَهُمْ، وَإِذَا قَامَ بِهَا وَاحِدٌ وَكَانَ كَافِيًا: مُنِعَ غَيْرُهُ بَعْدَ الْعَمَلِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهَا.
فَإِنْ رَجَعَ بَعْدَ شُرُوعِهِ فِي إِنْفَاذِ الْوَصَايَا وَالْقِيَامِ بِالْوَصِيَّةِ عَنْ إِتْمَامِهَا: لَمْ يُجْبَرْ لِأَنَّ عَقْدَ الْجَعَالَةِ لَا يَلْزَمُ وَجَازَ لِغَيْرِهِ بَعْدَ رَفْعِ يَدِهِ أَنْ يُتَمِّمَ مَا بَقِيَ، وَلِلْأَوَّلِ مِنَ الْجَعَالَةِ بِقَدْرِ عَمَلِهِ: وَلِلثَّانِي: بِقَدْرِ عَمَلِهِ مُقَسَّطًا عَلَى أُجُورِ أمثالها.
فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا: لَمْ يَخْلُ حَالُ الْوَصِيِّ إِذَا كَانَ مُسْتَعْجِلًا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ.
إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَصِيًّا فِي كُلِّ الْمَالِ، أَوْ فِي بَعْضِهِ.
فَإِنْ كَانَ وَصِيًّا فِي جميع ما وصى بِهِ: لَمْ يَخْلُ حَالُ مَا جَعَلَهُ لَهُ مِنَ الْأُجْرَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:(8/350)
أَحَدُهَا: أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، وَالثَّانِي: مِنْ ثُلُثِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يُطْلِقَ.
فَإِنْ جَعَلَهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، نُظِرَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْأُجْرَةِ مُحَابَاةٌ، كَانَتْ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، وإن كانت فِيهَا مُحَابَاةٌ: كَانَتْ أُجْرَةُ الْمِثْلِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَمَا زَادَ عَلَيْهَا مِنَ الْمُحَابَاةِ، فِي الثُّلُثِ، يُضَارَبُ بِهَا أَهْلُ الْوَصَايَا.
فَإِنْ جَعَلَ ذلك من ثلثه، كان في ثُلُثِهِ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْأُجْرَةِ مُحَابَاةٌ، وعجز الثلث عنها: تمت لَهُ الْأُجْرَةُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ.
فَلَوْ كَانَ فِي الثُّلُثِ مَعَ الْأُجْرَةِ وَصَايَا، فَفِي تَقْدِيمِ الْوَصِيِّ بِأُجْرَتِهِ عَلَى أَهْلِ الْوَصَايَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يقدم بِأُجْرَتِهِ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَنْ عَمَلٍ، لَا مُحَابَاةَ فيه، ثم يتمتم مَا عَجَزَ الثُّلُثُ عَنْهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ.
والوجه الثاني: أن يَكُون مُسَاوِيًا لَهُمْ فِي الْمُضَارَبَةِ بِهَا مَعَهُمْ فِي الثُّلُثِ لِأَنَّ لِبَاقِي أُجْرَتِهِ مَحَلًّا يَسْتَوْفِيهِ منه، وهو رأس المال، وهذا الوجهان بنيا عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِيمَنْ جَعَلَ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ من ثلثه، وجعل دَيْنه مِنْ ثُلُثِهِ، هَلْ يُقَدَّمُ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الْوَصَايَا أَمْ لَا؟ .
فَلَوْ كَانَ فِي أكرة هذا الوصي محاباة، كانت أجرة المثل إذا عجز الثلث عنها متمة من رأس المال، وكانت محاباة وَصِيَّةً يُضَارَبُ بِهَا مَعَ أَهْلِ الْوَصَايَا وَيسقط مِنْهَا مَا عَجَزَ الثُّلُثُ عَنْهُ.
وَإِنْ أَطْلَقَ أُجْرَةَ الْوَصِيِّ وَلَمْ يَجْعَلْهَا مِنْ رَأْسِ مَالِهِ وَلَا مِنْ ثُلُثِهِ: فَهِيَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مُحَابَاةٌ، إِذَا تَعَلَّقَتْ بِوَاجِبٍ مِنْ قَضَاءِ دُيُونٍ، وَتَأْدِيَةِ حُقُوقٍ، وَكَانَ مَا تَعَلَّقَ بِهَا مِمَّا لَيْسَ بِوَاجِبٍ تَبَعًا: فَإِنْ كَانَ فِي الْأُجْرَةِ مُحَابَاةٌ كَانَ قَدْرُ أُجْرَةِ الْمِثْلِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَكَانَتِ الْمُحَابَاةُ فِي الثُّلُثِ يُضَارَبُ بِهَا أَهْلُ الْوَصَايَا.
فَهَذَا حُكْمُ أُجْرَةِ الْوَصِيِّ، إِذَا كَانَ وَصِيًّا فِي جَمِيعِ الْمَالِ.
فَأَمَّا إِذَا كَانَ وَصِيًّا فِي شَيْءٍ دُونَ غَيْرِهِ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ وَصِيًّا فِي قَضَاءِ دُيُونٍ وَتَأْدِيَةِ حُقُوقٍ، فَأُجْرَتُهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مُحَابَاةٌ، تَكُون مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، لِأَنَّهَا بَدَلٌ عَنْ وَاجِبٍ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا مُحَابَاةٌ، كَانَتْ فِي الثُّلُثِ يُضَارَبُ بِهَا أَهْلُ الْوَصَايَا.
فَإِنْ جَعَلَ كُلَّ الْأُجْرَةِ فِي ثُلُثِهِ وَلَا محاباة فيها: تممت وعند عَجْزِ الثُّلُثِ عَنْهَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَدَخَلَهَا دَوْرٌ، كَالْحَجِّ إِذَا أَوْصَى بِهِ فِي الثُّلُثِ فعجز الثلث عنه، فيكون على مَا مَضَى.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ وَصِيًّا فِي تَفْرِيقِ الثُّلُثِ، فَأُجْرَتُهُ تَكُونُ فِي الثُّلُثِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ(8/351)
فِيهَا مُحَابَاةٌ قَدَّمْتُهَا عَلَى أَهْلِ الْوَصَايَا وَجْهًا واحدا لأنها مُقَابَلَة عَمَلٍ يَتَعَلَّقُ بِإِنْفَاذِ وَصَايَاهُمْ وَلَيْسَ لَهَا مَحَلٌّ غَيْرَ الثُّلُثِ فَلِذَلِكَ يُقَدَّمُ بِهَا.
وَإِنْ كان فيها محاباة: تقدمهم بأجرة المثل، وَشَارَكَهُمْ فِي الثُّلُثِ لِمُحَابَاتِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ وَصِيًا عَلَى أَيْتَامِ وَلَدِهِ: فَإِنَّ أُجْرَتَهُ عِنْدَ إِطْلَاقِ الْمُوصِي تَكُونُ فِي مَالِ الْيَتِيمِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا مُحَابَاةٌ، وَيَكُونُ الْوَصِيُّ وَكِيلًا مُسْتَأْجَرًا بِعَقْدِ الْأَبِ الْمُوصِي.
فَإِنْ كَانَ فِي الْأُجْرَةِ مُحَابَاةٌ: كَانَتْ أُجْرَةُ الْمِثْلِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ، وَكَانَتِ الْمُحَابَاةُ وَصِيَّة ثُلُثِ الْمُوصِي يُضْرَبُ بِهَا مَعَ أَهْلِ الْوَصَايَا.
فَإِنْ جَعَلَ الْمُوصِي جَمِيعَ الْأُجْرَةِ فِي ثُلُثِهِ: كَانَتْ فِيهِ، فَإِنِ احْتَمَلَهَا الثُّلُثُ فَلَا شَيْءَ فِي مَالِ اليتيم، ولا خيار للموصي.
وَإِنْ عَجَزَ الثُّلُثُ عَنْهَا: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فيها محاباة، ضُرِبَ مَعَ أَهْلِ الْوَصَايَا بِجَمِيعِ الْأُجْرَةِ، وَأُخِذَ مِنْهَا قَدْرُ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ، ثم قسط الباقي في الْمُسَمَّى لَهُ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَالْمُحَابَاةِ، فَمَا بَقِيَ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ، رَجَعَ بِهِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ، وَمَا بَقِيَ مِنَ الْمُحَابَاةِ، يَكُونُ باطلا.
مثاله: أَنْ يَكُونَ قَدْ جَعَلَ لَهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَأُجْرَةُ مِثْلِهِ خَمْسُونَ دِرْهَمًا، وَقَدْرُ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ مِنَ الْمِائَةِ خَمْسُونَ دِرْهَمًا، فَإِذَا أَخَذَهَا فَقَدْ أَخَذَ نِصْفَ الْمُسَمَّى مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَالْمُحَابَاةِ، وَبَقِيَ النِّصْفُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا، مِنْهَا نِصْفُهَا خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا بَقِيَّةُ أُجْرَةِ مِثْلِهِ يَرْجِعُ بِهَا فِي مَالِ الْيَتِيمِ وَنِصْفُهَا خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ درهما نصيب المحاباة، فتكون بَاطِلَةً وَيَكُونُ الْوَصِيُّ بِالْخِيَارِ فِي الْفَسْخِ لِنُقْصَانِ مَا عَاقَدَ عَلَيْهِ، فَإِنْ فَسَخَ أَقَامَ الْحَاكِمُ من أمنائه من يقوم مقامه مِنْ غَيْرِ أُجْرَةٍ، لِأَنَّ الْحَاكِمَ نُصِبَ لِلْقِيَامِ بِذَلِكَ، وَرِزْقُهُ، وَأُجُورُ أُمَنَائِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.
فإن لم يكن ببيت المال مال، يدفع أُجْرَةَ أَمِينٍ، وَلَا وَجَدَ مُتَطَوِّعًا: كَانَتْ أُجْرَتُهُ فِي مَالِ الْيَتِيمِ.
وَأَكْثَرُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ يَدْخُلُهَا دور وطريق عمله مَا ذَكَرْنَا فِي الْحَجِّ، فَصَارَ مَحْصُولُ هَذَا الْفَصْلِ فِي إِطْلَاقِ أُجْرَةِ الْوَصِيِّ إِذَا لَمْ يكن فِيهَا مُحَابَاةٌ أَنْ يُنْظَرَ فَإِنْ كَانَ وَصِيًّا فِي الْبَعْضِ نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ وَصِيًّا فِي تَأْدِيَةِ حُقُوقٍ، فَأُجْرَتُهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ.
وَإِنْ كَانَ وَصِيًّا فِي تَفْرِيقِ ثُلُثٍ، فَأُجْرَتُهُ مُقَدَّمَةٌ فِي الثُّلُثِ وَإِنْ كَانَ وَصِيًّا عَلَى يَتِيمٍ، فأجرته في مال اليتيم.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " هذا آخر ما وصفت من هذا الكتاب أنه وَضَعَهُ بِخَطِّهِ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا سَمِعَهُ مِنْهُ وسمعته يَقُولُ لَوْ قَالَ أَعْطُوهُ كَذَا وَكَذَا مِنْ دَنَانِيرِي أُعْطِيَ دِينَارَيْنِ وَلَوْ لَمْ يَقُلْ مِنْ دنانيري أعطوه ما شاءوا اثنين ".(8/352)
وَهَذَا الْفَصْلُ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَرْبَعِ مَسَائِلَ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنْ يَقُولَ أَعْطُوهُ كَذَا وَكَذَا مِنْ دنانيري الذي نقله المزني هاهنا أنها وصية بدينارين لأنها لما ذكر عددا مِنْ دَنَانِيرِهِ دَلَّ عَلَى دِينَارَيْنِ وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ مُخَرَّجٌ مِنَ الْإِقْرَارِ إنَّهَا وَصِيَّةٌ بِدِينَارٍ لِأَنَّهُ قَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ من الفردين أَقَلَّ مِنْ دِينَارٍ وَهُمَا مَعًا دِينَارٌ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ وَصِيَّةً بِمَا ذَكَرْنَا نُظِرَ فَإِنْ كَانَتْ لَهُ دَنَانِيرُ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ بِالْقَدْرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلِ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يكن له دَنَانِيرُ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةً.
وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقُولَ كَذَا وَكَذَا مِنَ الدَّنَانِيرِ فَيَكُونُ أَيْضًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا وَصِيَّةٌ بِدِينَارَيْنِ. وَالثَّانِي: بِدِينَارٍ لَكِنْ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِهَذَا الْقَدْرِ سَوَاءٌ تَرَكَ دَنَانِيرَ أَوْ لَمْ يَتْرُكْ.
وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقُولَ كَذَا وَكَذَا فهذه وصية بعد دين يرجع في بيانها إلى الوارث فإن ذكر شيئا بينه قبلنا منه مع يمينه إن حلف فِيهِ وَسَوَاءٌ بَيَّنَ ذَلِكَ مِنْ جِنْسٍ أَوْ جِنْسَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ:
إِذَا قَالَ أَعْطُوا ثُلُثِي لِأَعْقَلِ النَّاسِ فَقَدْ حَكَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يُعْطى أَزْهَد النَّاسِ وَهَذَا صَحِيحٌ. لِأَنَّ الْعَقْلَ مَانِعٌ مِنَ الْقَبَائِحِ وَالزُّهَّادُ هُمْ أَشَدُّ النَّاسِ مَنْعًا لِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الشُّبُهَاتِ.
فَصْلٌ:
ولو قال أعطوا ثلثي لأجمل النَّاسِ فَقَدْ قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ يُعْطَاهُ أَهْلُ الذِّمَّةِ وَالَّذِي أَرَاهُ أَنْ يُعْطَاهُ أَهْلُ الكبار مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ قَدْ أَقْدَمُوا عَلَى فِعْلِ مَا يَعْتَقِدُونَ اسْتِحْقَاقَ الْعَذَابِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ كَأَهْلِ الذِّمَّةِ الَّذِينَ لَا يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ قَصْدِ الْمُسْلِمِ بِوَصِيَّتِهِ الْمُسْلِمِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ.
فَصْلٌ:
وَلَوْ قَالَ أَعْطُوا ثلثي لأحمق الناس قال إبراهيم الجريري يُعْطَاهُ مَنْ يَقُولُ بِالتَّثْلِيثِ مِنَ النَّصَارَى، وَالَّذِي أَرَاهُ أَنْ يُعْطَاهُ أَسْفَهُ النَّاسِ لِأَنَّ الْحُمْقَ يَرْجِعُ إِلَى الْفِعْلِ دُونَ الِاعْتِقَادِ.
فَصْلٌ:
وَلَوْ قَالَ أَعْطُوا ثُلُثِي لِأَعْلَمِ النَّاسِ كَانَ مَصْرُوفًا فِي الْفُقَهَاءِ لِاضْطِلَاعِهِمْ بِعُلُومِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي هِيَ بِأَكْثَرِ الْعُلُومِ مُتَعَلِّقَةً.
فَصْلٌ:
وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِسَيِّدِ النَّاسِ كَانَ لِلْخَلِيفَةِ - رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْمَنَامِ فَجَلَسْتُ مَعَهُ ثُمَّ قُمْتُ أُمَاشِيهِ فَضَاقَ الطَّرِيقُ بِنَا فَوَقَفَ فَقُلْتُ تَقَدَّمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّكَ سَيِّدُ النَّاسِ قَالَ لَا تَقُلْ هَكَذَا قُلْتُ بَلَى يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِسَيِّدِ النَّاسِ كَانَ لِلْخَلِيفَةِ أَنَا أُفْتِيكَ بِهَذَا فَخُذْ حَظِّي به ولم أكن سمعت هذه المسألة قبل(8/353)
هَذَا الْمَنَامِ وَلَيْسَ الْجَوَابُ فِيهَا إِلَّا كَذَلِكَ لِأَنَّ سَيِّدَ النَّاسِ هُوَ الْمُتَقَدِّمُ عَلَيْهِمْ وَالْمُطَاعُ فِيهِمْ وَهَذِهِ صِفَةُ الْخَلِيفَةِ المتقَدّمُ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
آخِرُ كِتَابِ الْوَصَايَا بحمد الله ومنه.(8/354)
كتاب الوديعة
مسألة:
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَإِذَا أَوْدَعَ رَجُلٌ وَدِيعَةً فَأَرَادَ سَفَرًا فَلَمْ يَثِقْ بِأَحَدٍ يَجْعَلُهَا عِنْدَهُ فَسَافَرَ بِهَا بَرًّا أَوْ بَحْرًا ضَمِنَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا اسْتِيدَاعُ الْوَدَائِعِ فَمِنَ التَّعَاوُنِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَالْإِرْفَاقِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] .
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] .
وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] .
وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران: 75] .
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ ".
وَرَوَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " تَقَبَّلُوا إِلَيَّ بِسِتٍّ أَتَقَبَّلُ بِالْجَنَّةِ، قَالُوا: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِذَا حَدَّثَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَكْذِبْ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ فَلَا يَخُنْ، وَإِذَا وَعَدَ فَلَا يُخْلِفْ وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ، وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ ".
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ ".
وَقَدِ اسْتَوْدَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَدَائِعَ الْقَوْمِ، وَكَانَ يُسَمَّى فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِقِيَامِهِ بها محمد الْأَمِينَ، فَلَمَّا أَرَادَ الْهِجْرَةَ إِلَى الْمَدِينَةِ تَرَكَهَا عِنْدَ أُمِّ أَيْمَنَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وَخَلَّفَ عليا - عليه(8/355)
السلام - لِرَدِّهَا عَلَى أَهْلِهَا، وَلِأَنَّ بِالنَّاسِ إِلَى التَّعَاوُنِ بِهَا حَاجَةً مَاسَّةً وَضَرُورَةً دَاعِيَةً لِعَوَارِضِ الزَّمَانِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْقِيَامِ عَلَى الْأَمْوَالِ، فَلَوْ تَمَانَعَ النَّاسُ فِيهَا لَاسْتَضَرُّوا وَتَقَاطَعُوا.
فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ التَّعَاوُنِ الْمَأْمُورِ بِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُ مَنِ اسْتَوْدَعَ وَدِيعَةً مِنْ ثَلَاثِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَعْجِزُ عَنْهَا، وَلَا يَثِقُ بِأَمَانَتِهِ نَفْسِهِ فِيهَا، فَهَذَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْبَلَهَا.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ أَمِينًا عَلَيْهَا قَادِرًا عَلَى الْقِيَامِ بِهَا وَلَيْسَ غَيْرُهُ مِمَّنْ يَقُومُ بِهَا فَهَذَا مِمَّنْ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ قَبُولُهَا، وَلَزِمَهُ اسْتِيدَاعُهَا، كَمَا تُعَيَّنُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّاهِدِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ مَنْ يَتَحَمَّلُهَا سِوَاهُ، وَكَمَا يَلْزَمُ الْإِنْسَانَ خَلَاصُ نَفْسٍ يَقْدِرُ عَلَى إِحْيَائِهَا إِذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ، لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَالِ كَحُرْمَةِ النَّفْسِ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ أَمِينًا عَلَيْهَا، وَقَادِرًا عَلَى حِفْظِهَا، وَقَدْ يُوجَدُ غَيْرُهُ مِنَ الْأُمَنَاءِ عَلَيْهَا، فَهَذَا مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا قَبِلَ الْوَدِيعَةَ كَانَ قَبُولُهَا مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ لَهُ الْمُقَامُ عَلَيْهَا وَالرُّجُوعُ فِيهَا، وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِذَا قَبِلَهَا مَعْرِفَةُ مَا فِيهَا، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَوْدِعَهَا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مَا فِيهَا، بِخِلَافِ اللُّقَطَةِ الَّتِي يَلْزَمُهُ مَعْرِفَتُهَا لِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ تَعْرِيفِهَا، ثُمَّ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِحِفْظِهَا فِي حِرْزِ مِثْلِهَا، فَإِنْ فَرَّطَ كَانَ ضَامِنًا وَإِنْ لَمْ يُفَرِّطْ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَحُكِيَ عَنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ أَنَّ الْمُسْتَوْدَعَ إِنِ اتُّهِمَ فِي الْوَدِيعَةِ ضَمِنَهَا، اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَوْدَعَ عِنْدَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ سِتَّةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَسُرِقَتْ مِنْ بَيْنِ مَالِهِ، فَتَخَاصَمَا إِلَى عُمَرَ فَقَالَ: هَلْ أُخِذَ مَعَهَا مِنْ ثِيَابِكِ شَيْءٌ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: عَلَيْكَ الْغَرَامَةُ، فَرُوِيَ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ لِابْنِ سِيرِينَ وَقَدْ حَمَّلَ مَعَهُ رَجُلٌ مَتَاعًا إِلَى الْبَصْرَةِ: يَا أَنَسُ، احْفَظْهُ كَيْلَا تَغْرَمَهُ كَمَا غَرَّمَنِي عُمَرُ، وَهَذَا قَوْلٌ شَاذٌّ وَاضِحُ الْفَسَادِ، لِرِوَايَةِ الْمُثَنَّى بْنُ الصَّبَّاحِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَوَدَعِ ضَمَانٌ " وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَوْدَعَ عِنْدَ جَابِرٍ وَدِيعَةً، فَتَلِفَتْ، فَتَحَاكَمَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: لَيْسَ عَلَى الْمُؤْتَمَنِ ضَمَانٌ، وَهُوَ قَوْلٌ مُنْتَشِرٌ فِي الصَّحَابَةِ لَا يُعْرَفُ بَيْنَهُمْ فِيهِ تَنَازُعٌ، وَلِأَنَّ تَضْمِينَ الْوَدِيعَةِ يَخْرُجُ عَنْ حُكْمِ التَّعَاوُنِ وَعُقُودِ الْإِرْفَاقِ، فَأَمَّا أَنَسٌ فَإِنَّمَا ضَمَّنَهُ عُمَرُ لِتَفْرِيطِهِ، فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ دَفَعَهَا إِلَى خَادِمِهِ، وَإِلَّا فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى صَحَابَةَ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ أَنْ تَتَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ تُهْمَةٌ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا، فَصُورَةُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فِي رَجُلٍ اسْتَوْدَعَ وَدِيعَةً فَأَرَادَ سَفَرًا، فَالْوَدِيعَةُ لَا تَحْبِسُهُ عَنِ السَّفَرِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَمْتَنِعْ عَنِ الْهِجْرَةِ لِأَجْلِ مَا كَانَ عِنْدَهُ مِنَ الْوَدَائِعِ، وَلِأَنَّ اسْتِدَامَةَ الْوَدِيعَةِ غَيْرُ لَازِمٍ، وَرَدُّهَا عَلَى مَالِكِهَا مَتَى شَاءَ الْمُسْتَوْدَعُ جَائِزٌ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا وَمَالِكُهَا حَاضِرٌ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِ.(8/356)
فَلَوْ قَالَ لِمَالِكِهَا: لَسْتُ أَدْفَعُهَا إِلَيْكَ إِلَّا أَنْ تُشْهِدَ عَلَى نَفْسِكَ بِقَبْضِهَا، فَفِي وُجُوبِ الْإِشْهَادِ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: لَا يَجِبُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ فِي الرَّدِّ مَقْبُولٌ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَنْعُ مِنْهَا لِأَجْلِ الْإِشْهَادِ مُتَعَدِّيًا، وَهَذَا أصح الوجوه.
والوجه الثاني: أن إشهاد المالك على نفسه واجب، لأن يتوجه على المستودع يمين أن نوزع فِي الرَّدِّ، فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ بِالْمَنْعِ مِنْهَا لِأَجْلِ الْإِشْهَادِ مُتَعَدِّيًا.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يُنْظَرَ، فَإِنْ كَانَ الْمَالِكُ قَدْ أَشْهَدَ عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ عِنْدَ دَفْعِهَا إِلَيْهِ لَزِمَهُ الْإِشْهَادُ عَلَى نَفْسِهِ عِنْدَ رَدِّهَا عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ عِنْدَ الدَّفْعِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِشْهَادُ عَلَى نَفْسِهِ عِنْدَ الرَّدِّ، وَإِنْ لَمْ يَرُدَّهَا عَلَى مَالِكِهَا مَعَ حُضُورِهِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِيهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُسَافِرَ بِهَا مَعَهُ.
والثاني: أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى غَيْرِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يُخَلِّفَهَا فِي حِرْزِهِ.
فَإِنْ سَافَرَ بِهَا ضَمِنَ، سَوَاءٌ كَانَ سَفَرُهُ مَأْمُونًا أَوْ غَيْرَ مَأْمُونٍ.
وَقَالَ أبو حنيفة: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ سَفَرُهُ مَأْمُونًا، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ فِي الْوَدِيعَةِ حِفْظَهَا، فَإِذَا حَفِظَهَا فِي أَيِّ مَكَانٍ كان من حضر أو سفر كان مؤديا لحق الأمانة فيها، قال: ولأنه لَمَّا جَازَ أَنْ يَحْفَظَهَا فِي أَيِّ مَوْضِعٍ شاء من البلد إذا كان مأمونا كان له [ذلك في غير الْبَلَدِ إِذَا كَانَ مَأْمُونًا] .
وَالدَّلِيلُ عَلَى تَعَدِّيهِ إِذَا سَافَرَ بِهَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ الْمُسَافِرَ وَمَالَهُ عَلَى قَلْتٍ إِلَّا مَا وَقَى اللَّهُ " يَعْنِي عَلَى خَطَرٍ، وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَرُقَادَهُ " وَلِأَنَّ السَّفَرَ مَخُوفٌ فِي الْغَالِبِ، وَأَمْنُهُ نَادِرٌ لَا يُوثَقُ بِهِ، ولذلك يمنع السيد مكاتبه من السفر، ويمنع وَلِيُّ الْيَتِيمِ مِنَ السَّفَرِ بِمَالِهِ، وَلِأَنَّ فِي السَّفَرِ بِالْوَدِيعَةِ مَعَ التَّغْرِيرِ بِهَا إِحَالَةً بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَالِكِهَا بِإِبْعَادِهَا عَنْهُ، وَهَذَا عُدْوَانٌ، وَلِأَنَّ الْعُرْفَ فِي حِفْظِ الْوَدَائِعِ وَإِحْرَازِهَا جَازَ فِي الْأَمْصَارِ دُونَ الْأَسْفَارِ، فَكَانَ الْخُرُوجُ عَنِ الْعُرْفِ فِيهَا عُدْوَانًا، وَلَيْسَ بِمَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْحِفْظُ وَجْهٌ: لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ مَعَ الْحِفْظِ أَنْ لَا يُخَاطِرَ بِهَا وَلَا يُغَرِّرَ، وَهُوَ بِالسَّفَرِ مُغَرَّرٌ وَمُخَاطِرٌ.(8/357)
وَقَوْلُهُ: " إِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَخْتَصَّ حِفْظُهَا بِمَكَانٍ مِنَ الْمِصْرِ دُونَ مَكَانٍ فَكَذَلِكَ فِي السَّفَرِ " فَلَا وَجْهَ لَهُ، لِأَنَّ الْمِصْرَ يَتَسَاوَى حُكْمُ أَمَاكِنِهِ الْمَأْمُونَةِ، وَالسَّفَرُ مُخَالِفٌ لِلْمِصْرِ.
فَصْلٌ:
وَإِنْ دَفْعَهَا مَعَ حُضُورِ مَالِكِهَا إِلَى غَيْرِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُ مِنْ دَفْعِهَا إِلَيْهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى وَكِيلِ مَالِكِهَا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى الْحَاكِمِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى أَجْنَبِيٍّ يَسْتَوْدِعُهُ إِيَّاهَا، فَإِنْ دَفَعَهَا إِلَى وَكِيلِ مَالِكِهَا لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا خَاصًّا فِي قَبْضِ وَدَائِعِهِ، فَلَهُ دَفْعُهَا إِلَيْهِ مَعَ حُضُورِ الْمَالِكِ، لِأَنَّ يَدَ الْوَكِيلِ كَيَدِ الْمُوَكِّلِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا خَاصًّا فِي غَيْرِ قَبْضِ الْوَدِيعَةِ، فَهَذَا فِي حَقِّ الْوَدِيعَةِ كَالْأَجَانِبِ لَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِي شَيْءٍ لَا يَكُونُ وَكِيلًا فِي غَيْرِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا عَامًّا فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَفِي جَوَازِ رَدِّهَا عَلَيْهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي صِحَّةِ الْوَكَالَةِ العام:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لَا تَصِحُّ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ رَدُّهَا عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: تَصِحُّ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ رَدُّهَا عَلَيْهِ، فَإِنْ طَالَبَ الْمُسْتَوْدَعُ الْوَكِيلَ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِقَبْضِ الْوَدِيعَةِ مِنْهُ لَزِمَ الْوَكِيلَ الْإِشْهَادُ بِذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ وَجْهًا وَاحِدًا، لِأَنَّ قَوْلَ الْمُسْتَوْدَعِ مَقْبُولٌ عَلَى المودع فجاز أن لا يلزم الإشهاد، وقول غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَى وَكِيلِهِ، فَلِذَلِكَ لَزِمَهُ الْإِشْهَادُ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَوْدَعُ قَدْ قَبَضَهَا مِنَ الْمُودِعِ أَوْ مِنْ وَكِيلِهِ فِي لُزُومِ الْإِشْهَادِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْوَكِيلُ عَدْلًا أَوْ فَاسِقًا فِي جَوَازِ دَفْعِهَا إِلَيْهِ، لِأَنَّ لِلْمُودِعِ أَنْ يُوَكِّلَ مَنْ شَاءَ مِنْ عَدْلٍ أَوْ فَاسِقٍ بِخِلَافِ الْوَصِيِّ.
فَصْلٌ:
وَإِنْ دَفَعَهَا إِلَى الْحَاكِمِ مَعَ وُجُودِ الْمَالِكِ فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ، لِأَنَّ مَالِكَهَا رَشِيدٌ لَا يُوَلَّى عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ يَدَ الْحَاكِمِ نَائِبَةٌ عَنْ كُلِّ مَالِكٍ، فَعَلَى هَذَا إِنِ دَعَاهُ الْمُسْتَوْدَعُ إِلَى الْإِشْهَادِ عَلَى نَفْسِهِ بِالْقَبْضِ قِيلَ لِلْحَاكِمِ: أَنْتَ بِالْخِيَارِ فِي الْإِشْهَادِ عَلَى نَفْسِكَ، أَوْ في إعلام مالكها بالاسترجاع، فإن أخذها وَاجِبٌ عَلَيْكَ، وَأَنْتَ مُخَيَّرٌ فِي أَيِّهِمَا شِئْتَ.
فصل:
وإن دفعها مع حضور مالكها إلى أجنبي ائتمنه عليها فَاسْتَوْدَعَهُ إِيَّاهَا ضَمِنَهَا، لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ مَعَ حُضُورِ الْمَالِكِ إِلَى دَفْعِهَا إِلَى غَيْرِهِ، فَصَارَ كَالسَّفَرِ بِالْمَالِ.(8/358)
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَالِكَ رَضِيَ بِأَمَانَتِهِ دُونَ أَمَانَةِ غيره، فصارت يد من ائتمنه عليها يد غَيْرَ مَأْذُونٍ فِيهَا، فَصَارَتْ مُتَعَدِّيَةً، وَلَزِمَ الضَّمَانُ، وكان مالكها مخير بَيْنَ مُطَالَبَةِ الْمُسْتَوْدَعِ الْأَوَّلِ إِنْ تَلِفَتْ أَوْ مُطَالَبَةِ الثَّانِي.
وَقَالَ أبو حنيفة: لَهُ مُطَالَبَةُ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، وَوَافَقَ فِي الْغَاصِبِ إِذَا أَوْدَعَ أَنَّ لِلْمَالِكِ مُطَالَبَةَ أَيِّهِمَا شَاءَ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ فِي الْوَدِيعَةِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُسْتَوْدَعِ أَنْ يُودِعَ، كَمَا لَيْسَ لِلْغَاصِبِ أَنْ يُودِعَ، فَصَارَ الْمُسْتَوْدَعُ مِنْهُمَا جَمِيعًا يَدُهُ غَيْرُ مُحِقَّةٍ فَلَزِمَهُ الضَّمَانُ، وَسَوَاءٌ عَلِمَ بِالْحَالِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، لِأَنَّ الْعَمْدَ وَالْخَطَأَ فِي ضَمَانِ الْأَمْوَالِ سَوَاءٌ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لَهُ مُطَالَبَةَ أَيِّهِمَا شاء بغرمها، فَإِنْ أُغْرِمَهَا الثَّانِي نُظِرَ فَإِنْ عَلِمَ بِالْحَالِ لَمْ يَرْجِعْ بِمَا غَرِمَهُ عَلَى الْأَوَّلِ، وَإِنْ لم يعلم ففي رجوعه عليه بغرمها وَجْهَانِ.
وَإِنْ أُغْرِمَهَا الْأَوَّلُ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ الثَّانِي عَالِمًا بِالْحَالِ رَجَعَ الْأَوَّلُ عَلَيْهِ بِمَا غَرِمَ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَفِي رُجُوعِهِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْغَاصِبِ إِذَا وَهَبَ مَا غَصَبَهُ ثُمَّ غَرِمَهُ هَلْ يَرْجِعُ بِالْغُرْمِ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ.
وَعَلَى مَالِكِ الْوَدِيعَةِ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى نَفْسِهِ بِقَبْضِ الْهِبَةِ، لِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِخِلَافِ قَبْضِ الْوَدِيعَةِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ.
فَصْلٌ:
وَإِنْ لَمْ يَدْفَعْهَا إِلَى أَحَدٍ مَعَ حُضُورِ مَالِكِهَا وَخَلَّفَهَا وَسَافَرَ ضَمِنَهَا، وَقَالَ: إِنْ خَلَّفَهَا مَعَ أَمْوَالِهِ لَمْ يَضْمَنْ، وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْحِرْزَ بِغَيْرِ حَافِظٍ لَا يَكُونُ حِرْزًا، وَتَغْرِيرُهُ بِمَالِهِ لَا يَكُونُ فِي الْوَدِيعَةِ عُذْرًا، فَهَذَا حُكْمُ الْوَدِيعَةِ إِذَا كَانَ الْمُودِعُ حَاضِرًا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمُودِعُ غَائِبًا عِنْدَ إِرَادَةِ الْمُسْتَوْدَعِ السَّفَرَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لَهُ وَكِيلٌ فِي قَبْضِهَا.
والثاني: أن لا يَكُونَ لَهُ.
فَإِنْ كَانَ لَهُ وَكِيلٌ فَوَكِيلُهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ بِقَبْضِهَا، لِأَنَّ يَدَ الْوَكِيلِ كَيَدِ الْمُوَكِّلِ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ فِي عُدُولِ الْمُسْتَوْدَعِ إِلَى غَيْرِهِ كَالْحُكْمِ فِي عُدُولِهِ عَنِ الْمُودِعِ مَعَ حُضُورِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّقْسِيمِ وَالْجَوَابِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَكِيلٌ فَالْمُسْتَحِقُّ لِقَبْضِهَا هُوَ الْحَاكِمُ، فَإِنْ دَفَعَهَا إِلَيْهِ لَزِمَهُ الْإِشْهَادُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْقَبْضِ، فَإِنْ عَدَلَ عَنِ الْحَاكِمِ مَعَ كَوْنِهِ مَأْمُونًا فَدَفَعَهَا إِلَى أَمِينٍ ثِقَةٍ فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّ الْأَمِينَ عَلَيْهَا يُمْكِنُ أَنْ يُحَاكِمَهُ الْمُودِعُ فِيهَا إِلَى الْحَاكِمِ وَيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ بِمَا عِنْدَهُ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ مَعَ الْحَاكِمِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ، وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَضْمَنُ، لِأَنَّ اخْتِيَارَ الْحَاكِمِ وَاخْتِيَارَ الْأَمِينِ اجْتِهَادٌ، وَلِأَنَّ نَظَرَ الْحَاكِمِ عَامٌّ وَنَظَرَ الأمين(8/359)
خاص، فإن لَمْ يَجِدْ حَاكِمًا، أَوْ كَانَ إِلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُونٍ جَازَ أَنْ يَخْتَارَ لَهَا أَمِينًا ثِقَةً يَسْتَوْدِعُهُ إِيَّاهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ فِي حِفْظِهَا، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أودع ما خلفه من الودائع عند أم أيمن حين هاجر واستخلف عليا في الرد - رضي الله عنه -.
وَهَلْ يَلْزَمُهُ الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ عِنْدَ دَفْعِهَا إِلَيْهِ أم لا: أحدهما: يلزمه الإشهاد عليه خوفا من تغير حَالِهِ وَحُدُوثِ جُحُودِهِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يشهد عليه ضمنها.
والوجه الثاني: لا يلزمه الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ يَنُوبُ عَنِ الْمَالِكِ، وَلِأَنَّ قَوْلَ الْأَمِينِ فِي الرَّدِّ مَقْبُولٌ، فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهِ لَمْ يَضْمَنْهَا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ ثِقَةً يَسْتَوْدِعُهِ إِيَّاهَا لَمْ يَخْلُ حِينَئِذٍ حَالُ الْمِصْرِ وَالسَّفَرِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمِصْرُ مَخُوفًا بِغَارَةٍ، أَوْ حَرِيقٍ، وَالسَّفَرُ مَأْمُونًا، فَعَلَيْهِ أَنْ يُسَافِرَ بِالْمَالِ مَعَهُ، لِأَنَّهَا حَالُ ضَرُورَةٍ هِيَ أَحْفَظُ وَأَحْرَزُ، فَإِنْ تَرَكَهَا وَسَافَرَ كَانَ ضَامِنًا، وَإِنْ سَافَرَ بِهَا لَمْ يَضْمَنْهَا.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمِصْرُ مَأْمُونًا وَالسَّفَرُ مَخُوفًا، فَعَلَيْهِ تَرْكُهَا فِي المصر على ما سنذكره، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا، فَإِنْ سَافَرَ بِهَا ضَمِنَ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمِصْرُ مَخُوفًا وَالسَّفَرُ مَخُوفًا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا، لِأَنَّهُ إِذَا اسْتَوَى الْخَوْفَانِ كَانَ خَوْفُ السَّفَرِ أَعَمَّ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمِصْرُ مَأْمُونًا وَالسَّفَرُ مَأْمُونًا، فَفِي جَوَازِ السَّفَرِ بِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا، فَإِنْ سَافَرَ بِهَا ضَمِنَ، لِأَنَّ السَّفَرَ أَخْطَرُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَجُوزُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، لِاسْتِوَاءِ الْأَمْنِ فِي الْحَالَيْنِ، وفضل حفظه لها بِنَفْسِهِ فِي السَّفَرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي: " وَإِنْ دَفَنَهَا فِي مَنْزِلِهِ وَلَمْ يُعْلِمْ بِهَا أحدا يأتمنه على ماله فهلكت ضمن وإذا أودعها غيره وصاحبها حاضر عند سفره ضمن فإن لم يكن حاضرا فأودعها أمينا يودعه ماله لم يضمن ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ مَتَى مَا لَمْ يَجِدْ حَاكِمًا وَلَا ثِقَةً يَسْتَوْدِعُهَا إِيَّاهُ فَدَفَنَهَا فِي الْأَرْضِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ الْمَدْفُونَةُ فِيهِ سَابِلًا لَا تَحْجِيرَ عَلَيْهِ يَمْنَعُ مِنَ الْوُصُولِ، فَدَفْنُهَا فِي مِثْلِهِ عُدْوَانٌ يُوجِبُ الضَّمَانَ، سَوَاءٌ أَعْلَمَ بِهَا أَحَدًا أَوْ لَمْ يُعْلِمْهُ، لِأَنَّ مَا تَصِلُ إِلَيْهِ الْأَيْدِي مُعَرَّضٌ لِلتَّلَفِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الموضع حصيا حَرِيزًا كَالْمَنَازِلِ الْمَسْكُونَةِ الَّتِي لَا تَصِلُ الْيَدُ إليها إِلَّا مَنْ أَرَادَ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُعْلِمَ بِهَا أَحَدًا أَوْ لَا يُعْلِمَ بِهَا(8/360)
أَحَدًا، فَإِنْ لَمْ يُعْلِمْ بِهَا أَحَدًا ضَمِنَهَا، لأنه قد ربما أدركته منيته فلو يوصل إليها، فصار بذلك تَغْرِيرًا، وَإِنْ أَعْلَمَ بِهَا ثِقَةً مُؤْتَمَنًا صَحَّ، وَهَلْ يُرَاعَى فِي الْإِعْلَامِ بِهَا حُكْمَ الشَّهَادَةِ أَوْ حُكْمَ الِائْتِمَانِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: حُكْمُ الشَّهَادَةِ، فَعَلَى هَذَا لَا يُجْزِئُهُ أَقَلُّ مِنْ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ، أَوْ شَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَيَرَى الشَّاهِدَانِ ذَلِكَ عِنْدَ دَفْنِهِ لِيَصِحَّ تَحَمُّلُهُمَا لِذَلِكَ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ خَرَجَ عَنِ التَّعَدِّي، وَسَقَطَ الضَّمَانُ عَنْهُ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَأْذَنَ لِلشَّاهِدَيْنَ فِي نَقْلِهَا عِنْدَ الْخَوْفِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يُرَاعَى فِيهِ حُكْمُ الِائْتِمَانِ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُعْلِمَ بِهَا وَاحِدًا ثِقَةً، سَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَرَاهَا، وَهَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي نَقْلِهَا إِنْ حَدَثَ بِمَكَانِهَا خَوْفٌ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ فَضْلِ الِاسْتِظْهَارِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ضَمِنَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ، لِمَا فِي نَقْلِهَا مِنَ التَّعْرِيضِ لِلْأَخْطَارِ، فَإِنْ نَقَلَهَا الْمُؤْتَمَنُ عَلَيْهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عِنْدَ حُدُوثِ الْخَوْفِ بِمَكَانِهَا فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ مِنَ اخْتِلَافِهِمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، هَلْ يَكُونُ إِعْلَامُهُ بِهَا يَجْرِي مَجْرَى الْخَبَرِ، أَوْ مَجْرَى الْأَمَانَةِ؟ فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْخَبَرِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ لَهُ نَقْلُهَا، فَإِنْ نَقَلَهَا ضَمِنَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا، وَأَنْ يَكُونَ بَعِيدًا عَنْهَا، وَلَيْسَ لَهُ يَدٌ عَلَيْهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَجْرِيَ مَجْرَى الْأَمَانَةِ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ لَهُ نَقْلُهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا وَلَا أَنْ يَبْعُدَ عَنْهَا، وَتَكُونُ يَدُهُ عَلَيْهَا، فَأَمَّا إِذَا دَفَنَهَا عَلَى مَا وَصَفْنَا مَعَ وُجُودِ حَاكِمٍ مَأْمُونٍ، أَوْ عَدْلٍ مَوْثُوقٍ بِهِ يُودِعُهَا عِنْدَهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ وَيَضْمَنُ إِنْ فَعَلَ.
وَالثَّانِي: يَجُوزُ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا إِذَا تَرَكَ الْوَدِيعَةَ فِي بَيْتِ الْمَالِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: " يَضْمَنُ " وَلَيْسَ هَذَا الْجَوَابُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ بِهِ إِذَا كَانَ مَالِكُهَا حَاضِرًا، وَلَوْ كَانَ غَائِبًا لَمْ يَضْمَنْ، وَهَذَا تَأْوِيلُ مَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ دَفْعُ الْوَدِيعَةِ إِلَى الْحَاكِمِ مَعَ وُجُودِ صَاحِبِهَا، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ إِذَا لَمْ يُعْلِمْ صَاحِبَ بَيْتِ الْمَالِ بِهَا وَلِمَنْ هِيَ، فَإِنْ أَعْلَمَهُ بِهَا وَلِمَنْ هِيَ لَمْ يَضْمَنْ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ لَا يُجَوِّزُ دَفْعَهَا إِلَى الْحَاكِمِ مَعَ حُضُورِ صَاحِبِهَا.
مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ تَعَدَّى فِيهَا ثُمَّ رَدَّهَا فِي مَوْضِعِهَا فَهَلَكَتْ ضَمِنَ لِخُرُوجِهِ بِالتَّعَدِّي مِنَ الْأَمَانَةِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ التَّعَدِّيَ الَّذِي يَجِبُ بِهِ ضَمَانُ الْوَدِيعَةِ عَلَى سَبْعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: التَّفْرِيطُ فِي الْحِرْزِ، ذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَضَعَهَا فِي غير حرز أن يَكُونُ قَدْ وَضَعَهَا فِي(8/361)
حِرْزٍ ثُمَّ أَخْرَجَهَا إِلَى مَا لَيْسَ بِحِرْزٍ، أَوْ يَكُونُ قَدْ أَعْلَمَ بِمَكَانِهَا مِنْ أَهْلِهِ مَنْ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا، فَهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ مِنَ التَّفْرِيطِ عُدْوَانٌ يَجِبُ بِهِ الضَّمَانُ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: الِاسْتِعْمَالُ، مِثْلَ أَنْ يَسْتَوْدِعَهُ ثَوْبًا فَيَلْبَسُهُ أَوْ دَابَّةً فَيَرْكَبُهَا، أَوْ بُسَاطًا فَيَفْتَرِشُهُ فَهَذَا وَمَا شَاكَلَهُ عُدْوَانٌ يَجِبُ بِهِ الضَّمَانُ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: خَلَطَهَا بِغَيْرِهَا، وَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَخْلِطَهَا بِمَالِ نَفْسِهِ، كَمَا لَوْ أَوْدَعَ دَرَاهِمَ فَخَلَطَهَا بِدَرَاهِمَ حَتَّى لَمْ تَتَمَيَّزْ، فَهَذَا عَدُوَانٌ يُوجِبُ الضَّمَانَ، وَكَذَلِكَ لَوْ خَلَطَهَا بِدَرَاهِمِ غَيْرِ الْمُودِعِ أَيْضًا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَخْلِطَهَا بِمَالِ الْمُودِعِ، كَأَنَّهُ أَوْدَعَ وَدِيعَتَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَخَلَطَ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، فَفِي تَعَدِّيهِ وَضَمَانِهِ بِذَلِكَ وَجْهَانِ:
أَصَحُّهُمَا يَضْمَنُهَا، لِأَنَّ مَالِكَهَا لَمَّا مَيَّزَهَا لَمْ يَرْضَ بِخَلْطِهَا، وَلَكِنْ لَوْ خَلَطَهَا بِمَا يتميز منها مِثْلَ أَنْ يَخْلِطَ دَرَاهِمَ بِدَنَانِيرَ لَمْ يَضْمَنْ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ خَلْطُ الدَّرَاهِمِ بِالدَّنَانِيرِ قَدْ نَقَصَ قِيمَتَهُ مِنَ الدَّنَانِيرِ فَيَضْمَنُ قَدْرَ النُّقْصَانِ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: الْخِيَانَةُ، وَهُوَ أَنْ يُخْرِجَهَا لِيَبِيعَهَا، أَوْ لِيُنْفِقَهَا، فَهَذَا عُدْوَانٌ يَجِبُ بِهِ الضَّمَانُ وَكَذَلِكَ لَوْ جَحَدَهَا.
وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: التَّعَرُّفُ لَهَا، مِثْلَ أَنْ تَكُونَ دَرَاهِمُ فَيَزِنُهَا، أَوْ يَعُدُّهَا، أَوْ ثِيَابًا فَيَعْرِفُ طُولَهَا وَعَرْضَهَا، فَفِي تَعَدِّيهِ وَضَمَانِهِ بِذَلِكَ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ، لِأَنَّهُ نَوْعٌ من التصرف.
والثاني: لا يضمن، لأنه قد رُبَّمَا أَرَادَ بِهِ فَضْلَ الِاحْتِيَاطِ.
وَالْقِسْمُ السَّادِسُ: التَّصَرُّفُ فِي بَعْضِ مَا اسْتَظْهَرَ بِهِ الْمُودِعُ فِي حِرْزِهَا وَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ منيعا بالقفل الذي يفتحه، فهذا عدوان بجب بِهِ الضَّمَانُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَنِيعٍ كَالْخَتْمِ يَكْسِرُهُ، وَالشِّدَادِ يُحِلُّهُ، فَفِي ضَمَانِهِ بِذَلِكَ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا يَضْمَنُ، لِمَا فِيهِ مِنْ هَتْكِ الْحِرْزِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِشُرَيْحٍ: طِينَةٌ خَيْرٌ مِنْ طِينَةٍ يَعْنِي أَنَّ طِينَةَ الْخَتْمِ تَنْفِي التُّهْمَةَ.
وَالْقِسْمُ السَّابِعُ: أَنْ يَنْوِيَ الْخِيَانَةَ وَالتَّعَدِّيَ، فَقَدْ كَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يَرَى أَنَّ ذَلِكَ مُوجِبٌ لِضَمَانِهَا وَيَجْعَلُ النِّيَّةَ فِيهَا كَالْفِعْلِ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ النِّيَّةَ فِي تَمَلُّكِ اللُّقَطَةِ يَقُومُ مَقَامَ التَّصَرُّفِ فِي ثُبُوتِ الْمِلْكِ، فَكَذَلِكَ فِي ضَمَانِ الْوَدِيعَةِ، وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَضْمَنُهَا بِالنِّيَّةِ، لِأَنَّ النِّيَّةَ إِنَّمَا تُرَاعَى فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى لَا فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَصِيرَ مُتَعَدِّيًا بِالنِّيَّةِ لَجَازَ أَنْ يَصِيرَ خَائِنًا وَسَارِقًا بِالنِّيَّةِ، وَلِأَنَّ النِّيَّةَ مَا أَثَّرَتْ فِي حِرْزِهَا فَلَمْ تُؤَثِّرْ فِي ضَمَانِهَا، غَيْرَ أَنَّهُ يَأْثَمُ بِهَا، فَأَمَّا اللقطة فمع النية في تملكها علم ظاهره وَهُوَ انْقِضَاءُ حَقِّ التَّعْرِيفِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ لَمْ يَجْعَلْهُ مَالِكًا مَعَ النِّيَّةِ إلا(8/362)
بِالتَّصَرُّفِ وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَرُوذِيُّ: يَجْعَلُهُ مَالِكًا مَعَ النِّيَّةِ إِلَّا بِالتَّصَرُّفِ فَإِنْ نَوَى حَبْسَهَا لِنَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَرُدَّهَا عَلَى رَبِّهَا ضَمِنَهَا، وَإِنْ نَوَى أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ حِرْزِهَا إِخْرَاجَ عُدْوَانٍ لَمْ يَضْمَنْهَا، وَهَذَا أَصَحُّ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّهُ إِذَا نَوَى أَنْ لَا يَرُدَّهَا أَمْسَكَهَا لِنَفْسِهِ فَضَمِنَهَا، وَإِذَا نَوَى أَنْ يُخْرِجَهَا فَقَدْ أَمْسَكَهَا لِمَالِكِهَا فَلَمْ يَضْمَنْهَا.
فَصْلٌ:
فَإِذَا اسْتَقَرَّ ضَمَانُ الْوَدِيعَةِ مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ بِالتَّعَدِّي ثُمَّ كَفَّ عَنْ تَعَدِّيهِ وَأَعَادَهَا إِلَى حِرْزِهَا لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الضَّمَانُ.
وَقَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ: قَدْ سَقَطَ عَنْهُ الضَّمَانُ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْحُكْمَ إِذَا ثَبَتَ لِعِلَّةٍ زَالَ بِزَوَالِهَا كَالشِّدَّةِ المطربة في الخمر، والردة الموجبة للقتل، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ قَدْ يَضْمَنُ الْوَدِيعَةَ بِالْإِخْرَاجِ كَمَا يضمن المحرم الصَّيْدَ بِالْإِمْسَاكِ، فَلَمَّا كَانَ إِرْسَالُ الْمُحْرِمِ لِلصَّيْدِ بَعْدَ إِمْسَاكِهِ مُسْقِطًا لِلضَّمَانِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِعَادَةُ الْمُسْتَوْدَعِ لَهَا بَعْدَ الْإِخْرَاجِ مُسْقِطًا لِلضَّمَانِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَوْ أَخْرَجَهَا مِنْ حرز المستودع سارق فضمنها سقط عنه الضمان بردها [كان أولى إذا أخرجها المستودع فضمنها أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ الضَّمَانُ بِرَدِّهَا] .
وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ مَا ضُمِنَتْ بِهِ الْوَدِيعَةُ لَمْ يَسْقُطْ بِارْتِفَاعِ سَبَبِهِ كَالْجُحُودِ، وَلِأَنَّ مَنْ ضَمِنَ بِالْيَدِ لَمْ يَنْفَرِدْ بِإِسْقَاطِ الضَّمَانِ كَالْغَاصِبِ، وَلِأَنَّ الضَّمَانَ إِذَا وَجَبَ بِالْإِخْرَاجِ مِنَ الْحِرْزِ لَمْ يَخْرُجْ بِالرَّدِّ إِلَى الْحِرْزِ كَالسَّارِقِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ خَرَجَ بِالتَّعَدِّي فِي الْأَمَانَةِ فَلَمْ يَعُدْ إِلَيْهَا إِلَّا بِاسْتِئْنَافِ أَمَانَةٍ وَإِلَّا كَانَ أَمِينَ نَفْسِهِ، وَلِأَنَّ الضَّمَانَ إِذَا تَعَلَّقَ بِذِمَّتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ سبيل إلا إبراء نفسه بنفسه، أما استدلالهم بأن الحكم إذا ثبت لعلة زوال بِزَوَالِهَا فَالْعِلَّةُ لَمْ تَزُلْ، لِأَنَّ التَّعَدِّيَ الْأَوَّلَ انْقَطَعَ وَلَمْ يَرْتَفِعْ، وَأَمَّا إِرْسَالُ الْمُحْرِمِ لِلصَّيْدِ فَإِنَّمَا سَقَطَ عَنْهُ الضَّمَانُ، لِأَنَّهُ قَدْ أَعَادَهُ إِلَى حَقِّهِ.
وَمِثَالُهُ مِنَ الْوَدِيعَةِ أَنْ يُعِيدَهَا إِلَى مَالِكِهَا، وَأَمَّا السَّارِقُ مِنَ الْمُسْتَوْدَعِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ عَنْهُ إِذَا رَدَّهُ عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَسْقُطُ الضَّمَانُ عَنْهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَالِكِهِ.
وَالْوَجْهُ الثاني: قط سَقَطَ عَنْهُ الضَّمَانُ، لِأَنَّ الْمُسْتَوْدَعَ عَلَى أَمَانَتِهِ فَصَارَ عَوْدُهَا إِلَى يَدِهِ كَعَوْدِهَا إِلَى الْمَالِكِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمُسْتَوْدَعُ هُوَ الضَّامِنُ لَهُ، لِأَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مِنَ الْأَمَانَةِ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ ضَمَانَ التَّعَدِّي بَاقٍ وَإِنْ كَفَّ عَنْهُ فَسُقُوطُهُ عَنْهُ يَكُونُ بِرَدِّهَا عَلَى مَالِكِهَا أَوْ وَكِيلِ مَالِكِهَا فِي قَبْضِهَا، فَأَمَّا إِبْرَاءُ الْمُودِعِ لَهُ مِنْ ضَمَانِهَا فَإِنْ كَانَ بَعْدَ تَلَفِهَا وَاسْتِقْرَارِ غُرْمِهَا فِي ذِمَّتِهِ صَحَّ الْإِبْرَاءُ إِذَا كَانَ بَعْدَ تَلَفِهَا، وَإِنْ كَانَ مَعَ بَقَائِهَا فَفِي سُقُوطِ ضَمَانِهَا وَجْهَانِ:(8/363)
أحدهما: وهو قول المروروذي قَدْ سَقَطَ الضَّمَانُ، لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ اسْتِئْمَانٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الضَّمَانَ لَا يَسْقُطُ عَنِ الْغَاصِبِ بِالْإِبْرَاءِ قَبْلَ الرَّدِّ، وَلِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ إِلَى مَا اسْتَقَرَّ مِنَ الدُّيُونِ فِي الذِّمَمِ لَا إِلَى مَا فِي الْأَيْدِي مِنَ الْأَعْيَانِ، وَإِنَّمَا هِبَاتُ الْأَعْيَانِ لَا تُسْقِطُ ضَمَانَهَا، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَعَادَهَا الْمُسْتَوْدَعُ إِلَى حِرْزِهَا بِإِذْنِ مَالِكِهَا كَانَ سُقُوطُ الضَّمَانِ عَنْهُ عَلَى هَذَيْنِ الوجهين. والله أعلم.
مسألة:
قال الشافعي: " وَلَوْ أَوْدَعَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَأَنْفَقَ مِنْهَا دِرْهَمًا ثم رده فيها ولو ضمن الدرهم ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ فِي وُجُوبِ الضمان بكسر الختم وحل الشداد وَجْهَانِ: فَأَمَّا إِذَا أَوْدَعَ دَرَاهِمَ غَيْرَ مَخْتُومَةٍ وَلَا مَشْدُودَةٍ فَأَخْرَجَ مِنْهَا دِرْهَمًا لِيُنْفِقَهُ قَدْ ضَمِنَهُ وَحْدَهُ، وَلَا يَضْمَنُ غَيْرَهُ، فَإِنْ رَدَّهُ بِعَيْنِهِ وَلَمْ يُنْفِقْهُ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ ضَمَانُهُ، فَإِنْ خَلَطَهُ بِالدَّرَاهِمِ، نُظِرَ فَإِنْ تَمَيَّزَ عَنْهَا ضَمِنَهُ وَحْدَهُ وَلَمْ يَضْمَنْ جَمِيعَ الدَّرَاهِمِ وَإِنْ لَمْ يَتَمَيَّزْ عَنْهَا فَفِي ضَمَانِ جَمِيعِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ جَمِيعَهَا، لِأَنَّهُ قَدْ خَلَطَ مَضْمُونًا بِغَيْرِ مَضْمُونٍ فَصَارَ بِذَلِكَ مُتَعَدِّيًا فَضَمِنَ الْجَمِيعَ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَرُوذِيِّ، وَالْبَصْرِيِّينَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَضْمَنُ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَالٌ وَاحِدٌ قَدْ آثَرَ مَالِكُهُ خَلْطَهُ فَلَمْ يَكُنْ فِي خَلْطِهِ خِلَافُ غَرَضِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالْبَغْدَادِيِّينَ، وَإِنْ أَنْفَقَ ذَلِكَ الدِّرْهَمَ وَرَدَّ بَدَلَهُ وَخَلَطَهُ بِالدَّرَاهِمِ فَلَا يَخْلُو حَالُ ذَلِكَ الدِّرْهَمِ الَّذِي رَدَّهُ بَدَلًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَن لَا يَتَمَيَّزَ مِنْ جَمِيعِ الدَّرَاهِمِ، فَيَصِيرُ بِخَلْطِهِ مُتَعَدِّيًا فِي الْجَمِيعِ، لِأَنَّهُ قَدْ خَلَطَ الْوَدِيعَةَ بِمَالِ نَفْسِهِ، فَصَارَ ضَامِنًا بِجَمِيعِهَا.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَتَمَيَّزَ ذَلِكَ الدِّرْهَمُ دُونَ غَيْرِهِ مِمَّا يَتَمَيَّزُ وَيَصِيرُ كَمَنْ خَلَطَ دَرَاهِمَ الْوَدِيعَةِ بِدَنَانِيرِ نَفْسِهِ عَنْ جَمِيعِ الدَّرَاهِمِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا ضَمَانُ ذَلِكَ الدِّرْهَمِ دُونَ غَيْرِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ ما يَتَمَيَّزُ عَنْ بَعْضِ الدَّرَاهِمِ وَلَا يَتَمَيَّزُ عَنْ بَعْضِهَا، مِثْلَ أَنْ تَكُونَ بَعْضُ الدَّرَاهِمِ بَيْضَاءَ وَبَعْضُهَا سَوْدَاءَ، وَالدَّرَاهِمُ الْمَرْدُودَةُ فِيهَا أَبْيَضُ أَوْ أَسْوَدُ، فَيَضْمَنُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يَتَمَيَّزُ عَنِ الدِّرْهَمِ الْمَرْدُودِ بَدَلًا، وَلَا يَضْمَنُ مَا تميز عنه.
مسألة:
قال الشافعي: " وَلَوْ أَوْدَعَهُ دَابَّةً وَأَمَرَهُ بِعَلْفِهَا وَسَقْيِهَا فَأَمَرَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهَا فِي دَارِهِ كَمَا يَفْعَلُ بِدَوَابِّهِ لَمْ يَضْمَنْ وَإِنْ بَعَثَهَا إِلَى غَيْرِ دَارِهِ وَهِيَ تُسْقَى فِي دَارِهِ ضَمِنَ وَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُ بِعَلْفِهَا وَلَا بِسَقْيِهَا وَلَمْ يَنْهَهُ فَحَبَسَهَا مُدَّةً إِذَا أَتَتْ عَلَى مِثْلِهَا لَمْ تَأْكُلْ وَلَمْ تَشْرَبْ هَلَكَتْ ضَمِنَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ فَتَلِفَتْ لَمْ يَضْمَنْ وَيَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ الْحَاكِمُ حَتَّى يُوَكِّلَ مَنْ يَقْبِضُ مِنْهُ النَّفَقَةَ عَلَيْهَا وَيَكُونُ دَيْنًا عَلَى رَبِّهَا أَوْ يَبِيعُهَا فَإِنْ أَنْفَقَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ فهو متطوع ".(8/364)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ أَوْدَعَ رَجُلًا دَابَّةً فَلَا يَخْلُو حَالُهُ عِنْدَ إِيدَاعِهَا عِنْدَهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَأْمُرَهُ بِعَلْفِهَا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَنْهَاهُ عَنْ عَلْفِهَا.
وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يَأْمُرَهُ وَلَا يَنْهَاهُ.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَأْمُرَهُ بِعَلْفِهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْبِطَهَا فِي حِرْزِ مِثْلِهَا، وَيَعْلِفَهَا وَيَسْقِيَهَا عِنْدَ حَاجَتِهَا، وَقَدْرَ كِفَايَتِهَا، فَإِنْ عَلَفَهَا مَعَ دَوَابِّهِ فِي مَنْزِلِهِ وَكَانَ حِرْزًا جَازَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حِرْزًا ضَمِنَ، وَإِنْ عَلَفَهَا مَعَ دَوَابِّهِ وَفِي غَيْرِ مَنْزِلِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حِرْزًا أَوْ كَانَ إِلَّا أَنَّ الْقَيِّمَ بِهَا إِذَا لَمْ يُشَاهِدْهُ قَصَّرَ فِي عَلْفِهَا ضَمِنَ، وَإِنْ كَانَ حِرْزًا وَالْقَيِّمُ بِهَا إِذَا أَفْرَدَهُ بِعَلْفِهَا مَعَ غَيْرِ دَوَابِّهِ لَمْ يُقَصِّرْ فِي عَلْفِهَا لَمْ يَضْمَنْ، وَمُرَادُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِإِطْلَاقِ الضَّمَانِ مَا ذَكَرْنَا، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا.
وقال أبو سعيد الإصطرخي: مَتَى عَزَلَهَا عَنْ دَوَابِّهِ وَعَلَفَهَا فِي غَيْرِ إصْطَبْلِهِ ضَمِنَهَا بِكُلِّ حَالٍ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ فِعْلِ نَظِيرِهِ لِنَفْسِهِ أَنَّ إِصْطَبْلَهُ أَحْرَزُ، وَعَلْفَهَا مَعَ دَوَابِّهِ أَحْوَطُ، فَإِنْ ثَبْتَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حَالِ حِرْزِهَا وَعَلْفِهَا فَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِي الْإِذْنِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَشْتَرِطَ لَهُ الرُّجُوعَ، أَوْ لَا يَشْتَرِطَ لَهُ الرُّجُوعَ، فَإِنْ شَرَطَ لَهُ الرُّجُوعَ فَقَالَ: أَنْفِقْ عليها لترجع علي، أو أنفق علي ففي وجوب تقديره للنفقة وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجِبُ تَقْدِيرُهَا لِتَنْتَفِيَ الْجَهَالَةُ عَنْ ضَمَانِهَا، وَلِيَزُولَ الْخُلْفُ بَيْنَهُمَا فِي قَدْرِهَا، فَعَلَى هَذَا إِنْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ الْمُودِعِ كَانَ مُتَطَوِّعًا لَا يَرْجِعُ بِنَفَقَتِهِ، وَإِنْ قَدَّرَ لَهُ قَدْرًا رَجَعَ بِهِ، وَإِنْ زَادَ عَلَيْهِ كَانَ مُتَطَوِّعًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجِبُ تَقْدِيرُهَا لِأَنَّ لِنَفَقَتِهَا حَدًّا يُرَاعَى فِيهِ كِفَايَتُهَا فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى التَّقْدِيرِ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ إِذَا كَانَ الْمَالِكُ هُوَ الْآذِنُ فِي النَّفَقَةِ أَنْ يَتَوَلَّاهَا الْمُسْتَوْدَعُ بِنَفْسِهِ، وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي قَدْرِهَا إِذَا لَمْ يَدَّعِ سَرَفًا، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ لَهُ الرُّجُوعَ بِالنَّفَقَةِ حِينَ أَذِنَ فِيهَا فَفِي جَوَازِ رُجُوعِهِ بِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ اعْتِبَارًا بِالْأَغْلَبِ مِنْ حَالِ الْإِذْنِ.
وَالثَّانِي: لَا يَرْجِعُ لِاحْتِمَالِ الْإِذْنِ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَنْهَاهُ عَنْ عَلْفِهَا فَلَا يَجُوزُ لَهُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَدَعَ عَلْفَهَا، لِأَنَّهَا ذَاتُ نَفْسٍ يَحْرُمُ تَعْذِيبُهَا، وَنَهَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ ذَبْحِ الْبَهَائِمِ إِلَّا لِمَأْكَلَةٍ، وَقَالَ: " فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ " وَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ الْحَاكِمُ حَتَّى يُجْبِرَ الْمَالِكَ عَلَى عَلْفِهَا إِنْ كَانَ حَاضِرًا أَوْ يَأْذَنَ لَهُ فِي عَلْفِهَا لِيَرْجِعَ بِهِ إِنْ كَانَ غَائِبًا، فَإِنْ عَلَفَهَا مِنْ غَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ لَمْ يَرْجِعْ، وَإِنْ تَرَكَهَا فَلَمْ يَعْلِفْهَا حَتَّى هَلَكَتْ فَالْمَحْكِيُّ عَنْ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ،(8/365)
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَغَيْرِهِمَا، لِأَنَّ نَهْيَهُ عَنِ النَّفَقَةِ إِبْرَاءٌ مِنْ ضَمَانِ الذِّمَّةِ.
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: يَضْمَنُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدِي، لِأَنَّهُ شَرْطٌ قَدْ مَنَعَ الشَّرْعُ مِنْهُ فَكَانَ مُطْرَحًا، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْمَأْثَمُ، وَإِنَّمَا الْوَجْهَانِ فِي الْغُرْمِ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَوْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ فِي قَتْلِ عَبْدِهِ كَانَ فِي سُقُوطِ الْغُرْمِ عَنْ قَاتِلِهِ وَجْهَانِ، وَقَدْ حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَعَمَ أَنَّهُمَا مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الرَّهْنِ إِذَا أُذِنَ لِلْمُرْتَهِنِ فِي وَطْءِ الْجَارِيَةِ الْمَرْهُونَةِ: هَلْ يَسْقُطُ عَنْهُ الْمَهْرُ بِالْإِذْنِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ.
فأما إِنْ أُمِرَ بِقَطْعِ يَدِهِ أَوْ جَلْدِهِ لَمْ يَضْمَنْ وَجْهًا وَاحِدًا، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِقَطْعِهِ حَدًّا فِي سَرِقَةٍ وَالْجَلَدُ حَدًّا فِي زِنًا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ لَا يَأْمُرَهُ بِعَلْفِهَا وَلَا يَنْهَاهُ فَعَلَيْهِ عَلْفُهَا، لِمَا يَلْزَمُهُ فِي الشَّرْعِ مِنْ حُرْمَةِ نَفْسِهَا، فَإِنْ لَمْ يَعْلِفْهَا حَتَّى هَلَكَتْ فِي مُدَّةٍ إِنْ لَمْ تَأْكُلْ فِيهِ تَلِفَتْ فَعَلَيْهِ غُرْمُهَا.
وَقَالَ أبو حنيفة: لَا غُرْمَ عَلَيْهِ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْأَمْرَ إِنَّمَا تَضَمَّنَ الْحِفْظَ دُونَ الْعَلْفِ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْهُ تَقْصِيرٌ فِيمَا تَضَمَّنَهُ الْأَمْرُ فَلَمْ يَضْمَنْ، وَتَعَلُّقًا بِأَنَّهُ لَوْ رَأَى بَهِيمَةً تَتْلَفُ جُوعًا فَلَمْ يُطْعِمْهَا لَمَا ضَمِنَ، فَكَذَلِكَ هَذِهِ، وَهَذَا فَاسِدٌ، لَأَنَّ مَا وجب بالشرع فَهُوَ كَالْمُقْتَرِنِ بِالْأَمْرِ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَنْ تُتَّخَذَ الرُوحُ غَرَضًا " وَذَكَرَ فِي صَاحِبَةِ الْهِرَّةِ الَّتِي دَخَلَتْ بِهَا النَّارُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُ الْبَهِيمَةِ بِلَا عَلْفٍ، وَلِأَنَّ عَلْفَهَا مِنْ شُرُوطِ حِفْظِهَا، فَلَمَّا كَانَ حِفْظُهَا وَاجِبًا وَإِنْ جَازَ أَنْ تَبْقَى بغير حافظ أولى أَنْ يَكُونَ عَلْفُهَا وَاجِبًا إِذْ لَيْسَ يَجُوزُ أَنْ تَبْقَى بِغَيْرِ عَلْفٍ، وَبِهَذَا بَطَلَ اسْتِدْلَالُهُ.
فَأَمَّا مَنْ رَأَى بَهِيمَةَ غَيْرِهِ تَمُوتُ جُوعًا فلم يطعمها فَإِنَّمَا لَمْ يَضْمَنْهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ حفظها، وليس كَالْوَدِيعَةِ الَّتِي تَعَيَّنَ عَلَيْهِ حِفْظُهَا، فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ عَلْفِهَا عَلَيْهِ وَأَنَّهُ يَضْمَنُهَا إِنْ لَمْ تُعْلَفْ فَالطَّرِيقُ إِلَى رُجُوعِهِ بِعَلْفِهَا أَنْ يَأْتِيَ الْحَاكِمُ حَتَّى يَنْظُرَ حَالَ مَالِكِهَا، فَإِنْ كَانَ حَاضِرًا أَلْزَمَهُ عَلْفُهَا، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا نُظِرَ أَوْلَى الْأَمْرَيْنِ لَهُ مِنْ بَيْعِهَا إِنْ خَافَ أن يذهب في علفها أكثر منها أو النفقة عليها إن رأى ذَلِكَ قَلِيلًا، فَإِنْ رَأَى الْحَاكِمُ أَنْ يَأْذَنَ لِلْمُسْتَوْدَعِ فِي النَّفَقَةِ عَلَيْهَا، فَهَلْ يَلْزَمُهُ تَقْدِيرُهَا لَهُ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ فِي الْمَالِكِ لَوْ كَانَ هُوَ الْآذِنَ، وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى النَّفَقَةَ عَلَيْهَا بِنَفْسِهِ أَوْ يُنَصِّبَ لَهُ أَمِينًا يَأْخُذُهَا مِنْهُ؟ عَلَى وجهين ذكرناهما في " اللقطة "، فإن اتفق الْمُسْتَوْدَعُ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى اسْتِئْذَانِ الْحَاكِمِ كَانَ مُتَطَوِّعًا بِالنَّفَقَةِ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِئْذَانِهِ فَفِي رُجُوعِهِ بالنفقة ثلاثة أوجه:
أحدهما: يَرْجِعُ بِهَا أَشْهَدَ، أَوْ لَمْ يُشْهِدْ، لِوُجُوبِهَا عَلَيْهِ، وَعَدَمِ مَنْ يَحْكُمُ بِهَا لَهُ.(8/366)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَرْجِعُ بِهَا أَشْهَدَ، أَوْ لم يشهد، لأن لا يَكُونَ حَاكَمَ نَفْسَهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِنْ أشهد رَجَعَ، وَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ لَمْ يَرْجِعْ، لِأَنَّ الإشهاد غاية إمكانه.
مسألة:
قال الشافعي: " وَلَوْ أَوْصَى الْمُودِعُ إِلَى أَمِينٍ لَمْ يَضْمَنْ فَإِنْ كَانَ غَيْرَ أَمِينٍ ضَمِنَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا حَضَرَ الْمُسْتَوْدَعَ الْمَوْتُ، فَإِنْ كَانَ مَالِكُهَا حَاضِرًا، أَوْ وَكِيلُهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُوصِيَ بِهَا، كَمَا لَا يَجُوزُ إِذَا أَرَادَ السَّفَرَ مَعَ حُضُورِ مَالِكِهَا أَنْ يُودِعَهَا، وَإِنْ كَانَ مَالِكُهَا غَائِبًا وَلَيْسَ لَهُ وَكِيلٌ حَاضِرٌ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى حَاكِمٍ جَازَ أَنْ يُوصِيَ بِهَا إِلَى أَمِينٍ وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْحَاكِمِ فَفِي جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِهَا غَيْرَهُ وَجْهَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي السَّفَرِ، فَإِذَا جَازَ لَهُ الْوَصِيَّةُ بِهَا مَعَ عَدَمِ الْحَاكِمِ وَمَعَ وُجُودِهِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ اخْتَارَ لَهَا أَمِينًا، فَإِنِ اخْتَارَ لَهَا أَمِينًا قَدِ اخْتَارَهُ لِوَصِيَّةِ نَفْسِهِ كَانَ أَوْلَى وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَفِي وُجُوبِ الْإِشْهَادِ عَلَيْهِ بِهَا وَجْهَانِ، وَإِنِ اخْتَارَ لَهَا أَمِينًا غَيْرَ مَنِ اخْتَارَهُ لِوَصِيَّةِ نَفْسِهِ، فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَضْمَنُ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا، كَمَا لَوْ أَوْصَى بِبَعْضِ مَالِهِ إِلَى رَجُلٍ وَبَعْضِهِ إِلَى غَيْرِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قِيَاسُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ فِي عَلْفِ الدَّابَّةِ فِي غَيْرِ مَنْزِلِهِ أَنَّهُ يَضْمَنُ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِمَّنِ اخْتَارَهُ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ أَظْهَرُ أَمَانَةً، قُلْنَا إِنْ أَوْصَى بِهَا إلى غير أمين لم يجز، سواء جَعَلَهُ وَصِيَّ نَفْسِهِ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ عَلِمَ فِسْقَهُ أَمْ لَا، لِأَنَّ الْعَمْدَ وَالْخَطَأَ فِي ضَمَانِ الْأَمْوَالِ سَوَاءٌ فَإِنْ فَعَلَ، نُظِرَ فَإِنْ سَلَّمَهَا إِلَيْهِ ضَمِنَهَا لِتَفْرِيطِهِ فِيهَا، وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْهَا إِلَيْهِ عِنْدَ الْوَصِيَّةِ حَتَّى هَلَكَتْ فَفِي ضَمَانِهِ لَهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَضْمَنُهَا، لِأَنَّهُ مَا أَحْدَثَ فِيهَا فِعْلًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَضْمَنُهَا، لِأَنَّهُ قَدْ سُلِّطَ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهَا فَصَارَ ذَلِكَ عُدْوَانًا فَوَجَبَ الضَّمَانُ، فَأَمَّا إِنْ لَمْ يُوصِ بِهَا حَتَّى مَاتَ نُظِرَ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْوَصِيَّةِ لِمُفَاجَأَةِ الْمَوْتِ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهَا ضَمِنَ - وَبِاللَّهِ التوفيق -.
مسألة:
قال الشافعي: " فَإِنِ انْتَقَلَ مِنْ قَرْيَةٍ آهِلَةٍ إِلَى غَيْرِ آهِلَةٍ ضَمِنَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي نَقْلِ هَذَا اللَّفْظِ، فَذَهَبَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ إِلَى أَنَّ الرِّوَايَةَ فِيهِ: " وَلَوِ انْتَقَلَ مِنْ قَرْيَةِ أَهْلِهِ " يَعْنِي: كَثِيرَةَ الْأَهْلِ " إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ " يَعْنِي: قَلِيلَةَ الْأَهْلِ.
وَذَهَبَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: " وَلَوِ انْتَقَلَ مِنْ قَرْيَةِ أَهْلِهِ " يَعْنِي: وَطَنَ أَهْلِهِ إِلَى غَيْرِ وَطَنِ أَهْلِهِ.
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ: أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ الْقَرْيَةِ الَّتِي انْتَقَلَ إِلَيْهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ آمِنَةً أَوْ غَيْرَ آمِنَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ آمِنَةٍ كَانَ ضَامِنًا بِنَقْلِ الْوَدِيعَةِ إِلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ آمِنَةً لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَنْ تَكُونَ(8/367)
قَرِيبَةً أَوْ بَعِيدَةً، فَإِنْ كَانَتْ بَعِيدَةً ضَمِنٍ لِمَا فِي نَقْلِهَا مِنْ إِبْعَادِهَا عَنْ مَالِكِهَا، فَإِنْ كَانَتْ قَرِيبَةً لَمْ يَخْلُ حَالُ الطَّرِيقِ مِنْ أَنْ يَكُونَ آمِنًا أَوْ مَخُوفًا فَإِنْ كَانَ مَخُوفًا ضَمِنَ وَإِنْ كَانَ آمِنًا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْقَرْيَةِ الَّتِي انْتَقَلَ عَنْهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مَخُوفَةً أَوْ آمِنَةً، فَإِنْ كَانَتْ مَخُوفَةً لَا يُأْمَنُ عَلَى الْوَدِيعَةِ فِيهَا مِنْ غَارَةٍ أَوْ حَرِيقٍ، أَوْ غَرَقٍ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ كَانَتْ آمِنَةً فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: إنه لا يَضْمَنُ عَلَى مَا قَدَّمْتُهُ مِنْ رِوَايَةِ اللُّقَطَةِ، وَكَمَا لَوْ نَقَلَهَا مِنْ مَحَلَّةٍ إِلَى أُخْرَى.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدِي، أَنَّهُ يَضْمَنُ، لأن في إخراج المال عن القرية تغرير لم تدع إليه ضرورة.
مسألة:
قال الشافعي: " وَإِنْ شَرَطَ أَنْ لَا يُخْرِجَهَا مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ فَأَخْرَجَهَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ ضَمِنَ فَإِنْ كَانَ ضَرُورَةً وَأَخْرَجَهَا إِلَى حِرْزٍ لَمْ يَضْمَنْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ حَالِ الْمُودِعِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يُعَيِّنَ لِلْمُسْتَوْدَعِ عَلَى حِرْزٍ أَوْ لَا يُعَيِّنَ، فَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ عَلَى حِرْزٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُحْرِزَهَا حِرْزَ مِثْلِهَا، وَيَجُوزُ لَهُ نَقْلُهَا مِنْ ذَلِكَ الْحِرْزِ إِلَى حِرْزٍ مِثْلِهِ أَوْ آخَرَ لِضَرُورَةٍ أَوْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، إِذَا لَمْ يَكُنِ النَّقْلُ مَخُوفًا، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُ فِي الِابْتِدَاءِ أَنْ يُحْرِزَهَا حَيْثُ شَاءَ فَلِذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَنْقُلَهَا حَيْثُ شَاءَ وَسَوَاءٌ أَحْرَزَهَا مَعَ مَالِهِ أَوْ نَقَلَهَا مَعَ غَيْرِ مَالِهِ، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ مَتَى أَحْرَزَهَا مَعَ غَيْرِ مَالِهِ أَوْ نَقَلَهَا مَعَ غَيْرِ مَالِهِ ضَمِنَ كَالدَّابَّةِ.
فَصْلٌ:
فإن عين على حرز يحرزها فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَنْ يَنْهَاهُ عَنْ إخراجها من ذلك الحرز [أو لا ينهاه، فإن لم ينهاه عن إخراجها من الْحِرْزِ] الَّذِي عَيَّنَهُ جَازَ إِحْرَازُهَا فِيهِ، سَوَاءٌ كَانَ حِرْزًا لِمِثْلِهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ، لِأَنَّ مَالِكَهَا بِالتَّعْيِينِ قَدْ قَطَعَ اجْتِهَادَهُ فِي الِاخْتِيَارِ، فَإِنْ أَخْرَجَهَا مِنْ ذَلِكَ الْحِرْزِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أحدهما: لضرورة أمن غَشَيَانِ نَارٍ، أَوْ حُدُوثِ غَارَةٍ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِإِخْرَاجِهَا مِنْهُ إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ فِي إِخْرَاجِهَا مَأْمُونًا، وَلَوْ تَرَكَهَا مَعَ حُدُوثِ هَذِهِ الضَّرُورَةِ لَكَانَ لَهَا ضَامِنًا، لِأَنَّهُ فَرَّطَ بِتَرْكِهَا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَنْقُلَهَا مِنْ ذَلِكَ الْحِرْزِ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ حَدَثَتْ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْحِرْزِ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ، وَالْحِرْزُ الَّذِي نُقِلَتْ إِلَيْهِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُعَيَّنُ غَيْرَ حَرِيزٍ وَالْمَنْقُولُ إِلَيْهِ حَرِيزًا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُعَيَّنُ حَرِيزًا وَالْمَنْقُولُ غَيْرَ حَرِيزٍ، فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُعَيَّنُ غَيْرَ حَرِيزٍ وَالْمَنْقُولُ غَيْرَ حَرِيزٍ، فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ، لِأَنَّهُ قَدْ عَدَلَ عَنِ التَّعْيِينِ إِلَى غَيْرِهِ اخْتِيَارًا.(8/368)
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمُعَيَّنُ حَرِيزًا وَالْمَنْقُولُ إِلَيْهِ حَرِيزًا، فَيُنْظَرُ فِي الْحِرْزِ الْمُعَيَّنِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِرَبِّ الْوَدِيعَةِ جَازَ نَقْلُهَا وَلَمْ يَضْمَنْ، لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْإِحْرَازِ دُونَ الْحِرْزِ، وَإِنْ كَانَ مِلْكًا لِرَبِّ الْوَدِيعَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ نَقْلُهَا وَلَا يَضْمَنُهَا تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْحِفْظِ الْمُعْتَبَرِ مَعَ الْإِطْلَاقِ، وَيَضْمَنُهَا اعْتِبَارًا بِالتَّعْيِينِ الْقَاطِعِ لِلِاخْتِيَارِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ لَهُ نَقَلُهَا اعْتِبَارًا بِالتَّعْيِينِ الْقَاطِعِ لِلِاخْتِيَارِ.
فَصْلٌ:
وَإِنْ نَهَاهُ مَعَ التَّعْيِينِ عَلَى الْحِرْزِ عَنْ إِخْرَاجِهَا مِنْهُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْحِرْزِ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِلْمُودِعِ أَوِ الْمُسْتَوْدَعِ، فَإِنْ كَانَ لِلْمُودِعِ فَسَوَاءٌ كَانَ مَالِكًا أَوْ مُسْتَأْجِرًا شَرْطُهُ وَاجِبٌ، وَلَيْسَ لِلْمُسْتَوْدَعِ نَقْلُهَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، فَإِنْ نَقَلَهَا مَعَ ارْتِفَاعِ الضَّرُورَةِ ضَمِنَهَا، سَوَاءٌ نَقَلَهَا مِنْ دَارٍ إِلَى دَارٍ، ضَمِنَ أَوْ نَقَلَهَا مَنْ بَيْتٍ إِلَى بَيْتٍ ضَمِنَ.
وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ نَقَلَهَا مِنْ دَارٍ إِلَى دَارٍ ضَمِنَ وَإِنْ نَقْلَهَا مِنْ بَيْتٍ إِلَى بَيْتٍ أَوْ مِنْ صُنْدُوقٍ إِلَى صُنْدُوقٍ لَمْ يَضْمَنِ احْتِجَاجًا بِأَنَّ الدُّورَ الْمُخْتَلِفَةَ قَدْ تَتَبَايَنُ فِي الْإِحْرَازِ، وَالْبُيُوتُ فِي الدَّارِ الْوَاحِدَةِ لَا تَتَبَايَنُ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبُيُوتَ مِنَ الدَّارِ الْوَاحِدَةِ قَدْ تَخْتَلِفُ فِي الْحِرْزِ كَاخْتِلَافِ الدُّورِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ فِي نَقْلِهَا مَعَ التَّعْيِينِ تَصَرُّفًا غَيْرَ مَأْذُونٍ فِيهِ، فَصَارَ بِهِ مُتَعَدِّيًا، وجملة ذلك أن له في نقلها مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، وَالثَّانِي: مِنْ دَارٍ إِلَى دَارٍ، وَالثَّالِثُ: مِنْ بَيْتٍ إِلَى بَيْتٍ، وَالرَّابِعُ: مِنْ صُنْدُوقٍ إِلَى صُنْدُوقٍ، فَعِنْدَنَا يَضْمَنُ إِذَا نَقَلَهَا فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الْأَرْبَعَةِ مَعَ التَّعْيِينِ، وَعِنْدَ أبي حنيفة يَضْمَنُ فِي حَالَتَيْنِ فِي الْبَلَدِ وَالدَّارِ، وَلَا يَضْمَنُ فِي حَالَتَيْنِ فِي الْبَيْتِ وَالصُّنْدُوقِ، وَإِنْ كَانَ الْحِرْزُ لِلْمُسْتَوْدَعِ فَفِي لُزُومِ مَا شَرَطَهُ لِلْمُودِعِ عَلَيْهِ مِنْ أن لا يحرزها منه وجهان:
أحدهما: قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، أَنَّهُ شَرْطٌ وَاجِبٌ، وَمَتَى أَخْرَجَهَا مِنْهُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ ضَمِنَ، لِأَنَّ الْمُودِعَ لَمْ يَرْضَ لِإِحْرَازِ مَالِهِ إِلَّا مَا عَيَّنَهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَجِبُ، وَإِنْ أَخْرَجَهَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ لَهُ لَا يَضْمَنُ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْحِرْزَ وَلَيْسَ يَسْتَحِقُّ إِلَّا الْحِفْظَ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا إِذَا دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى إِخْرَاجِهَا مِنَ الْحِرْزِ الَّذِي عَيَّنَهُ لِحِفْظِ الْوَدِيعَةِ فِيهِ مِنْ غَشَيَانِ نَارٍ أَوْ حُدُوثِ حَرِيقٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنُصَّ الْمُودِعُ عَلَى أَنْ لَا يُخْرِجَهَا مِنْهُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَنُصَّ، فَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَى ذَلِكَ بَلْ نَهَى عَنْ إِخْرَاجِهَا مِنْهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ جَازَ مَعَ حُدُوثِ هَذِهِ الضَّرُورَاتِ الْمُتَجَدِّدَةِ إِخْرَاجُهَا، لِأَنَّ نَهْيَهُ عَنْ إِخْرَاجِهَا إِنَّمَا هُوَ لِفَرْطِ الِاحْتِيَاطِ فِي حِفْظِهَا، فَلَمْ يَجُزْ تَرْكُهَا فِي مَكَانٍ يُفْضِي إِلَى تَلَفِهَا، فَإِنْ تَرَكَهَا وَلَمْ يَنْقُلْهَا حَتَّى(8/369)
تَلِفَتْ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ، لِتَفْرِيطِهِ بِالتَّرْكِ، وَإِنْ نَصَّ عَلَى أَنْ لَا تَخْرُجَ مِنْهُ، وَإِنْ غَشِيَتْ نَارٌ، أَوْ حَدَثَتْ غَارَةٌ، فَإِنْ كَانَ حَيَوَانًا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ غَشَيَانِ النَّارِ كَانَ هذا فيه شَرْطًا بَاطِلًا، وَلَزِمَ إِخْرَاجُهُ مَعَ النَّهْيِ عَنْهُ، كَمَا يَلْزَمُ عَلْفُهُ، وَإِنْ نَهَى عَنْهُ، فَإِنْ أَخْرَجَهُ لَمْ يَضْمَنْهُ، وَإِنْ تَرَكَهُ فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ كَالدَّابَّةِ إِذَا شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَعْلِفَهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَيَوَانًا يُخَافُ تَلَفُ نَفْسِهِ فَفِي لُزُومِ شَرْطِهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ الْمَحْكِيَّيْنِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ فِي الْوَكِيلِ إِذَا وُكِّلَ فِي شِرَاءِ عَبْدٍ يَعْنِيهِ بِعَشَرَةٍ فَاشْتَرَاهُ بِأَقَلَّ مِنْهَا، فَإِنْ لَمْ يَنْهَهُ الْمُوَكِّلُ عَنْ شِرَائِهِ بِأَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ صَحَّ الشِّرَاءُ، وَإِنْ نَهَاهُ فَفِي لُزُومِ شَرْطِ وَصِحَّةِ عَقْدِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: الشَّرْطُ بَاطِلٌ، وَالشِّرَاءُ صَحِيحٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الشَّرْطَ لَازِمٌ، وَالشِّرَاءَ بَاطِلٌ كَذَلِكَ هَذَا الشَّرْطُ، وَهَذَا الْمَوْضِعُ يَخْرُجُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُ لِقَطْعِ الِاجْتِهَادِ بِالنَّصِّ، فَعَلَى هَذَا إِنْ أَخْرَجَهُ ضَمِنَ وَإِنْ تَرَكَهُ لَمْ يَضْمَنْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَلْزَمُ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الِاحْتِيَاطِ فِي نَصِّهِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ أَخْرَجَهُ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ تَرَكَهُ فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الدَّابَّةِ الْمَنْهِيِّ عَنْ عَلْفِهَا إِذَا لَمْ يَعْلِفْهَا، فَأَمَّا مُؤْنَةُ إِخْرَاجِهَا وَنَقْلِهَا فَإِنْ مُنِعَ مِنْهُ كَانَ مُتَطَوِّعًا بِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لَهُ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ كَانَ مُتَطَوِّعًا بِهِ، وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ كَانَ كَالْعَلْفِ عَلَى مَا مَضَى.
مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي: " ولو قال المودع أَخْرَجْتُهَا لَمَّا غَشِيَتْنِي النَّارُ، فَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ نَارٌ أَوْ أثر يدل فالقول قول مَعَ يَمِينِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
إِذَا أَخْرَجَ الْوَدِيعَةَ مِنْ حِرْزٍ شُرِطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُخْرِجَهَا مِنْهُ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ إِنْ كَانَ لِضَرُورَةٍ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ ضَمِنَ، فَلَوِ اخْتَلَفَ الْمُودِعُ وَالْمُسْتَوْدَعُ فَقَالَ الْمُسْتَوْدَعُ أَخْرَجْتُهَا لِنَارٍ غَشِيَتْ أَوْ لِغَارَةٍ حَدَثَتْ فَلَا ضَمَانَ عَلَيَّ، وَقَالَ الْمُودِعُ: بَلْ أَخْرَجْتَهَا بِغَيْرِ سَبَبٍ فَعَلَيْكَ الضَّمَانُ فَلَا يَخْلُو حَالُ هَذِهِ الدَّعْوَى فِي غَشَيَانِ النَّارِ وَحُدُوثِ الْغَارَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَعْلَمَهُ عِيَانًا أَوْ خَبَرًا أَوْ يَرَى لِذَلِكَ أَثَرًا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَوْدَعِ مَعَ يَمِينِهِ بِاللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ أَخْرَجَهَا لِذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ الْيَمِينُ وَإِنْ عَلِمْنَا حَالَ الْعُذْرِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ إِخْرَاجُهُ لَهَا لِغَيْرِ هَذَا الْعُذْرِ، وَسَوَاءٌ كَانَ حُدُوثُ ذَلِكَ فِي دَارِهِ أَوْ فِي جِوَارِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُعْلَمَ كَذِبُ مَا ادَّعَاهُ مِنْ حُدُوثِ النَّارِ وَالْغَارَةِ فَدَعْوَاهُ مَرْدُودَةٌ، بِيَقِينِ كَذِبِهِ، وَلَا يَمِينَ عَلَى الْمُودِعِ، لِاسْتِحَالَةِ الدَّعْوَى.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَا ادَّعَاهُ مُمْكِنًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَدَثَ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ، فَيُقَالُ لِلْمُسْتَوْدَعِ أَلَا عَلِمْتَ مِنَ الْحَالِ السَّلَامَةَ، وَالظَّاهِرُ مِنْ إِخْرَاجِكَ التَّعَدِّي، فَإِنْ(8/370)
أَقَمْتَ بَيِّنَةً بِحُدُوثِ الْخَوْفِ يَنْتَقِلُ بِهَا عَنِ الظَّاهِرِ جَعَلْنَا حِينَئِذٍ الْقَوْلَ قَوْلَكَ مَعَ يَمِينِكَ بِأَنَّكَ أَخْرَجْتَهَا بِغَشَيَانِ النَّارِ وَحُدُوثِ الْغَارَةِ، وَإِنْ لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ تَنْقُلُنَا عَنِ الظَّاهِرِ غَلَّبْنَا حُكْمَ الظَّاهِرِ وَجَعَلْنَا الْقَوْلَ قَوْلَ الْمُودِعِ مَعَ يَمِينِهِ بِاللَّهِ بِأَنَّهُ لَمْ يُحْدِثْ فِي النَّاحِيَةِ نَارًا وَلَا غَارَةً، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَعَهُ، وَيَصِيرُ ضَامِنًا لِلْوَدِيعَةِ، فَأَمَّا إِنْ نَقَلَهَا خَوْفًا مِنْ حُدُوثِ غَارَةٍ أَوْ نَارٍ فَلَمْ تَحْدُثْ غَارَةٌ ولم تغشى نَارٌ فَإِنْ كَانَتْ أَمَارَاتُ صِدْقِ دَعْوَاهُ ظَاهِرَةً وَدَوَاعِيهِ غَالِبَةً لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ كَانَ ظَنًّا وتوهما ضمن.
مسألة:
قال الشافعي: " وَلَوْ قَالَ دَفَعْتُهَا إِلَى فُلَانٍ بِأَمْرِكَ فَالْقَوْلُ قول المودع وَلَوْ قَالَ دَفَعْتُهَا إِلَيْكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُودَعِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُمَا مَسْأَلَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَدَّعِيَ الْمُسْتَوْدَعُ رَدَّ الْوَدِيعَةِ عَلَى مَالِكِهَا.
وَالثَّانِيةُ: أَنْ يَدَّعِيَ دَفْعَهَا إِلَى غَيْرِ مَالِكِهَا بِإِذْنِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي الرَّدِّ مَعَ يَمِينِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُودِعُ قَدْ أَشْهَدَ عَلَيْهِ عِنْدَ الدَّفْعِ لِلْوَدِيعَةِ إِلَيْهِ أَوْ لَمْ يُشْهِدْ.
وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَ الْمُودِعُ قَدْ أَشْهَدَ عَلَيْهِ عِنْدَ الدَّفْعِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ الْمُسْتَوْدَعِ فِي الرَّدِّ، وَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهِ فَقُبِلَ قَوْلُهُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهِ فَقَدْ رَضِيَ بِأَمَانَتِهِ قبل قَوْلَهُ عَلَيْهِ، فَإِذَا أَشْهَدَ عَلَيْهِ لَمْ يَرْضَ بِأَمَانَتِهِ فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَوْلُهُ فِي التَّلَفِ مَقْبُولًا مَعَ الشَّهَادَةِ وَعَدَمِهَا، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فِي الرَّدِّ مَقْبُولًا مَعَ الشَّهَادَةِ وَعَدَمِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَوْلُ الْوَكِيلِ مَقْبُولًا فِي الْحَالَيْنِ، وَقَوْلُ الْمُقْرِضِ وَالْمُسْتَعِيرِ في الرد غير مقبول في الحالين، كان الْمُسْتَوْدَعُ مُلْحَقًا بِأَحَدِ الْأَصْلَيْنِ فِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فِي الرَّدِّ مَقْبُولًا فِي الْحَالَيْنِ أَوْ مردودا في الحالين، فلما كان في أحد الْحَالَيْنِ مَقْبُولًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الْآخَرِ مَقْبُولًا.
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَقْبُولُ الْقَوْلِ فِي الرَّدِّ فإنما يقبل مَا كَانَ عَلَى أَمَانَتِهِ، فَلَوْ ضَمِنَهَا بِتَفْرِيطٍ أَوْ عُدْوَانٍ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي الرَّدِّ، وكان القول قول المودع مع يمينه، وله الغرم، وهكذا لو مات المودع فادعى المستودع رد الوديعة على وارثه لم يقبل قوله، لأنه وإن لم يصر بموت المودع ضَامِنًا فَقَدْ صَارَ بِمَوْتِهِ خَارِجًا مِنْ عَقْدِ الوديعة [وولاية النظر، ولأنه يصير مدعيا للرد على غير من ائتمنه فصار كالوصي الذي لا يقبل قوله في رد مال اليتيم عليه، وهكذا لو مات المستودع فادعى وارثه رد الوديعة] على المودع لم يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَيْهِ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ: ارْتِفَاعُ الْعَقْدِ بِالْمَوْتِ، وَعَدَمُ الِائْتِمَانِ فِي الْوَارِثِ.(8/371)
فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ رَدَّ الْوَدِيعَةِ عَلَى غَيْرِ الْمُودَعِ بِأَمْرِ الْمُودِعِ فَقَوْلُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِيمَا ادَّعَاهُ عَلَى الْمُودِعِ مِنَ الْأَمْرِ وَالدَّفْعِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ مَقْبُولٌ، كَمَا لَوِ ادَّعَى رَدَّهَا عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ عَلَى أَمَانَتِهِ، وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ عَلَى الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يُقْبَلَ عَلَى الْمُودِعِ الَّذِي لَيْسَ بِمَدْفُوعٍ إِلَيْهِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَرِينَةٌ وَدَلِيلٌ أَنَّهُ قَدِ ادَّعَى عَلَى الْمَدْفُوعِ إِذْنًا لَمْ يَتَضَمَّنْهُ عَقْدُ الْوَدِيعَةِ فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِيهِ، وَفِي ادِّعَاءِ الرَّدِّ يَكُونُ مُدَّعِيًا لِمَا تَضَمَّنَهُ عَقْدُ الْوَدِيعَةِ فَقِيلَ قَوْلُهُ فِيهِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ غَيْرُ مَقْبُولِ الْقَوْلِ فِيمَا ادَّعَاهُ مِنَ الْإِذْنِ وَالدَّفْعِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُودِعِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُقِرَّ بِالْإِذْنِ أَوْ يُنْكِرَهُ، فَإِنْ أَنْكَرَ الْإِذْنَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَالْمُسْتَوْدَعُ ضَامِنٌ لِلْوَدِيعَةِ بِمَا ادَّعَاهُ مِنْ دَفْعِهَا إِلَى غَيْرِ مَالِكِهَا، ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ الْوَدِيعَةِ مِنْ أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً فِي يَدِ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ أَوْ تَالِفَةً، فَإِنْ كَانَتْ بَاقيَةً فَعَلَى الْمُسْتَوْدَعِ اسْتِرْجَاعُهَا مِنَ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ وَرَدُّهَا عَلَى الْمُودِعِ الْمَالِكِ، وَلِلْمُودِعِ مُطَالَبَةُ أَيِّهِمَا شَاءَ بِالرَّدِّ، وَإِنْ لَزِمَ فِي الرَّدِّ مُؤْنَةٌ الْتَزَمَهَا الْمُسْتَوْدَعُ لِأَنَّ بِعُدْوَانِهِ لَزِمَتْ.
وَإِنْ كَانَتِ الْوَدِيعَةُ تَالِفَةً - فَلَا يَخْلُو - حَالُ الْمَدْفُوعَةِ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُقِرًّا بِقَبْضِهَا أَوْ مُنْكِرًا، فَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مِنَ الْمُطَالَبَةِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ يَمِينٌ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَا يَدَّعِيهَا عَلَيْهِ، وَالدَّافِعُ مُقِرٌّ له بالإبراء إلا أن يدعي دفعها إِلَيْهِ قَرْضًا أَوْ عَارِيَةً وَلَا وَدِيعَةً فَيَكُونُ لَهُ عَلَيْهِ الثَّمَنُ، ثُمَّ لِلْمُودِعِ الرُّجُوعُ بِغُرْمِهَا عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ.
فَصْلٌ:
وَإِنْ كَانَ الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ مُقِرًّا بِقَبْضِهَا مِنْهُ فَالْمُودِعُ بِالْخِيَارِ فِي الرُّجُوعِ بِغُرْمِهَا عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ، فَإِنْ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ كَانَ لَهُ، لِعُدْوَانِهِ بِالدَّفْعِ، وَإِنْ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ كَانَ لَهُ، لِعُدْوَانِهِ بِالْقَبْضِ، فَإِذَا رَجَعَ بِهِمَا عَلَى أَحَدِهِمَا وَأَرَادَ الْغَارِمُ لَهُمَا الرُّجُوعَ بِهَا عَلَى صَاحِبِهِ نُظِرَ فِي سَبَبِ الدَّفْعِ فَسَتَجِدُهُ عَلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولَ أَمَرَنِي بِدَفْعِهَا قَرْضًا.
وَالثَّانِي: عَارِيَةً.
وَالثَّالِثُ: قَضَاءً مِنْ دَيْنٍ.
وَالرَّابِعُ: هِبَةً.
وَالْخَامِسُ: وَدِيعَةً، فَإِنْ قَالَ: أَمَرَنِي بِدَفْعِهَا قَرْضًا، أَوْ عَارِيَةً فَالْحُكْمُ فِيهِمَا سَوَاءٌ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الضَّمَانِ، فَإِنْ كَانَ الْمَالِكُ قَدْ رَجَعَ بِالْغُرْمِ عَلَى الدَّافِعِ، رَجَعَ الدَّافِعُ بِهِ عَلَى(8/372)
الْآخِذِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رَجَعَ بِالْغُرْمِ عَلَى الْآخِذِ لَمْ يَرْجِعِ بِالْأَخْذِ بِهِ عَلَى الدَّافِعِ، وَإِنْ قَالَ: أَمَرَنِي أَنْ أَدْفَعَهَا قَضَاءً مِنْ دَيْنٍ فَإِنْ كَانَ الْمُودِعُ مُعْتَرِفًا بِالدَّيْنِ وَحُلُولِهِ، وَكَانَتِ الْوَدِيعَةُ مِنْ جِنْسِهِ فَلَا رُجُوعَ لَهُ بِالْغُرْمِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهَا، لِأَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ فِي دَيْنِهِ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ بِهَا، وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا لِلدَّيْنِ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ بِالْغُرْمِ عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ، فَإِنْ رَجَعَ بِهِ عَلَى الدَّافِعِ نُظِرَ فَإِنْ صَدَقَ الْآخِذُ فِي الدَّيْنِ لَمْ يَرْجِعِ الدَّافِعُ عَلَيْهِ بِالْغُرْمِ، وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ رَجَعَ بِهِ عَلَيْهِ، وَإِنْ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْآخِذِ لَمْ يَرْجِعِ الْآخِذُ بِهِ عَلَى الدَّافِعِ بِكُلِّ حَالٍ، سَوَاءٌ صَدَّقَهُ عَلَى دَيْنِهِ أَوْ كذبه، وَإِنْ قَالَ الدَّافِعُ: أَمَرَنِي بِدَفْعِهَا هِبَةً، نُظِرَ [فإن رجع المودع بالغرم على الدافع لم يرجع الدافع على الآخذ، وإن رجع بالغرم على الآخذ لم يرجع الآخذ على الدافع، وإن قال الدافع: أمرني بدفعها وديعة نظر فإن رجع المودع على الدافع لم يرجع الدافع على الآخذ] وإن رَجَعَ بِالْغُرْمِ عَلَى الْآخِذِ فَفِي رُجُوعِ الْآخِذِ بِهِ عَلَى الدَّافِعِ وَجْهَانِ
أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا رُجُوعَ لَهُ، لِأَنَّهُ مُقِرٌّ أَنَّهُ مَظْلُومٌ بِهِ.
وَالثَّانِي: يَرْجِعُ بِهِ لِأَنَّ الدَّافِعَ أَلْجَأَهُ إِلَى الْغُرْمِ بِائْتِمَانِهِ لَهُ وَدَفْعِهِ إِلَيْهِ، فَهَذَا حُكْمُ الْمُودِعِ إِذَا أَنْكَرَ الْإِذْنَ.
فَصْلٌ:
وَإِنْ أَقَرَّ الْمُودِعُ أَنَّهُ قَدْ أَذِنَ لَهُ فِي الدَّفْعِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَدْفُوعُ إليه مقرا بالقبض، فالدافع يتبرئ مِنَ الضَّمَانِ، وَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ صَدَّقَهُ الْمُودِعُ عَلَى الدَّفْعِ أَوْ كَذَّبَهُ، لِأَنَّ الْمُرَاعَى مِنْ جِهَةِ الْمُودِعِ الْإِذْنُ وَقَدْ أَقَرَّ بِهِ، وَالْمُرَاعَى مِنْ جِهَةِ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ الْقَبْضُ وَقَدْ أَقَرَّ بِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ مُنْكِرًا لِلْقَبْضِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُودِعِ الْمُقِرِّ بِالْإِذْنِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُصَدِّقًا لِلدَّافِعِ أَوْ مُكَذِّبًا، فَإِنْ كَانَ مُكَذِّبًا لَهُ فَالدَّافِعُ ضَامِنٌ، وَادِّعَاؤُهُ لِلدَّفْعِ غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَى الْمُودِعِ لِتَكْذِيبِهِ وَلَا عَلَى الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ لِإِنْكَارِهِ.
وَإِنْ كَانَ الْمُودِعُ مُصَدِّقًا لَهُ عَلَى الدَّفْعِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا عِنْدَ الدَّفْعِ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ غَائِبًا، فَإِنْ كَانَ حَاضِرًا عِنْدَ الدَّفْعِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الدَّافِعِ، لِأَنَّ التَّوَثُّقَ بِالْإِشْهَادِ مَعَ حُضُورِ الْإِذْنِ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ دُونَ الدَّافِعِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ فَلَمْ يَكُنْ مِنَ الدَّافِعِ تَفْرِيطٌ بِتَرْكِ الْإِشْهَادِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَضْمَنْ.
فَصْلٌ:
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُودِعُ الْمُصَدِّقُ عَلَى الدَّفْعِ وَالْآذِنُ غَائِبًا عَنِ الدَّفْعِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الدَّفْعِ المأذون فيه من ستة أقسام:
أحدهما: أَنْ يَكُونَ قَرْضًا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَارِيَةً وَالْحُكْمُ فِي هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ سَوَاءٌ، وَالدَّافِعُ ضَامِنٌ لما دفع(8/373)
وَإِنْ صَدَّقَهُ الْآذِنُ عَلَى الدَّفْعِ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى الدَّفْعِ لِيَتَمَكَّنَ الْآذِنُ بِالشَّهَادَةِ أَنْ يَرْجِعَ بِبَدَلِ الْقَرْضِ وَقِيمَةِ الْعَارِيَةِ، فَصَارَ بِتَرْكِ الْإِشْهَادِ مُفْرِطًا فَلَزِمَهُ الْغُرْمُ وَإِنْ كَانَ مُصَدِّقًا فَلَوْ كَانَ قَدْ أَشْهَدَ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ فَمَاتَا لَمْ يَضْمَنْ، لِأَنَّ مَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْإِشْهَادِ قَدْ فَعَلَهُ، وَلَكِنْ لو كَانَ قَدْ أَشْهَدَ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ فَمَاتَا لَمْ يَضْمَنْ، لِأَنَّ مَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْإِشْهَادِ قَدْ فَعَلَهُ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ قَدْ أَشْهَدَ عَبْدَيْنِ، أَوْ كَافِرَيْنِ لَزِمَهُ الضَّمَانُ، وَلَوْ أَشْهَدَ شَاهِدَيْنِ فَاسِقَيْنِ، فَإِنْ كَانَ فِسْقُهُمَا ظَاهِرًا ضَمِنَ، وَإِنْ كَانَ بَاطِنًا فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ كَالْفِسْقِ الظَّاهِرِ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِرَدِّهِمَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَضْمَنُ، لِأَنَّ الْبَاطِنَ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ إِلَّا الْحُكَّامُ لِفَضْلِ اجْتِهَادِهِمْ، فَلَوْ أَشْهَدَ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ لَمْ يَضْمَنْ، لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ فِي الْأَمْوَالِ، وَلَوْ أَشْهَدَ رَجُلًا وَاحِدًا لِيَحْلِفَ مَعَهُ فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَضْمَنُ، لِأَنَّ الشَّاهِدَ وَالْيَمِينَ بَيِّنَةٌ فِي الْأَمْوَالِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَضْمَنُ، لِأَنَّ مِنَ الْحُكَّامِ مَنْ لَا يَحْكُمُ بِهَا فَصَارَ ذَلِكَ تَقْرِيرًا.
فَصْلٌ:
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَكُونَ الْأَمْرُ بِالدَّفْعِ قَضَاءً لِدَيْنٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى الْمُودِعِ فِيهِ شَهَادَةٌ فَيَضْمَنُ الدَّافِعُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَشْهَدْ بِالدَّفْعِ فَيَبْرَأُ الْمُودِعُ مِنَ الْمُطَالَبَةِ بِالدَّيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُودِعِ فِيهِ شَهَادَةٌ فَفِي ضمان الدافع فيه وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَضْمَنُ، لِأَنَّ لِلْمُودِعِ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الدَّيْنِ إِنْ طُولِبَ بِهِ فَيَبْرَأُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ ضَامِنٌ، لِأَنَّ إِذْنَهُ يَضْمَنُ دَفْعًا لَا يَتَعَقَّبُهُ مُطَالَبَةٌ وَلَا يَتَوَجَّهُ فِيهِ يَمِينٌ، فَصَارَ بِمُخَالَفَةِ ذَلِكَ مِنْ تَرْكِ الشَّهَادَةِ مُفَرِّطًا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
فَصْلٌ:
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالدَّفْعِ هِبَةً.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْمُكَافَأَةَ فِيهَا لَا تَسْتَحِقُّ لَمْ يَضْمَنِ الدَّافِعُ بِتَرْكِ الْإِشْهَادِ.
وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْمُكَافَأَةَ مُسْتَحَقَّةٌ ضَمِنَ، لِأَنَّ الْأَمْرَ لَا يَصِلُ إِلَيْهَا بِتَرْكِ الْإِشْهَادِ.
فَصْلٌ:
وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالدَّفْعِ اسْتِيدَاعًا لَهَا عِنْدَ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ، فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي وُجُوبِ الْإِشْهَادِ فِيمَنْ أَوْدَعَ لِغَيْرِهِ مَالًا:
أَحَدُهُمَا: يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُشْهِدَ، فَعَلَى هَذَا يَضْمَنُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُشْهِدَ، فَعَلَى هَذَا لَا يَضْمَنُ.
فَصْلٌ:
وَالْقِسْمُ السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالدَّفْعِ، لِأَنَّهَا وَدِيعَةٌ لِلْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ أَمَرَهُ الْمُودِعُ بِرَدِّهَا عَلَيْهِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُودِعِ الْآمِرِ بِالرَّدِّ مِنْ أَحَدِ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَرُدَّهَا عَلَى يَدِ هَذَا الْمُسْتَوْدَعِ مِنْ غَيْرِ أَمْرٍ وَلَا عُذْرٍ، فَيَكُونُ الأمر متعديا(8/374)
ضَامِنًا، وَقَوْلُ الدَّافِعِ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ، وَهَلْ يَكُونُ لِلْآمِرِ الرُّجُوعُ إِذَا أَغْرَمَهَا عَلَى الدَّافِعِ إِذَا لَمْ يُشْهِدْ عِنْدَ الدَّفْعِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَرُدَّهَا بِغَيْرِ أَمْرٍ لَكِنْ بِعُذْرٍ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْآمِرِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَالِ عُذْرِهِ بِسَفَرٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الدَّافِعِ الْمَأْمُورِ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: قَوْلُهُ مَقْبُولٌ عَلَيْهِ كَمَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْآمِرِ عَلَيْهِ، وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْمَالِكَ قَدِ ائْتَمَنَ الْأَمْرَ عَلَى نَفْسِهِ فَجَازَ أَنْ يُقْبَلَ قوله عليه، ولم يأتمن المأمور فلم يقبل قوله عليه.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ رَدَّهَا بِأَمْرِ مَالِكِهَا، لَكِنْ لَمْ يُعَيِّنْ لَهُ مَنْ يَرُدُّهَا مَعَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْآمِرِ إِذَا صَدَّقَهُ الْمَالِكُ فِي الرَّدِّ، لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتَمِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ الْمَأْمُورُ لَهُ يَعْمَلُ ضَامِنًا لَهَا فِي حَقِّ الْمَالِكِ لَا فِي حَقِّ الْآمِرِ [عَلَى الدَّفْعِ إِلَى الْمَأْمُورِ، وَقَوْلُ الْمَأْمُورِ غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَى الْمَالِكِ فِي حَقِّ الْمَالِكِ] .
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ رَدَّهَا بِأَمْرِ مَالِكِهَا وَتَعْيِينِهِ لَهُ عَلَى الْمَأْمُورِ أَنْ يَرُدَّهَا مَعَهُ، فَقَوْلُ الْمَأْمُورِ هَاهُنَا مَقْبُولٌ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ، لِأَنَّ الْمَالِكَ قَدِ ائْتَمَنَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالتَّعْيِينِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ الْمَالِكُ مُصَدِّقًا لِلْآمِرِ فِي الدَّفْعِ إِلَى الْمَأْمُورِ، وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ فَالْآمِرُ ضَامِنٌ، وَقَوْلُهُ فِي الدَّفْعِ إِلَى الْمَأْمُورِ غَيْرُ مَقْبُولٍ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي: " وَلَوْ حَوَّلَهَا مِنْ خَرِيطَةٍ إِلَى أَحْرَزَ أَوْ مِثْلِ حِرْزِهَا لَمْ يَضْمَنْ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حِرْزًا لَهَا ضَمِنَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
والحكم فِي نَقْلِ الْوَدِيعَةِ مِنْ خَرِيطَةٍ إِلَى أُخْرَى، أَوْ مِنْ صُنْدُوقٍ إِلَى صُنْدُوقٍ، كَنَقْلِهَا مِنْ بَيْتٍ إِلَى بَيْتٍ، وَمِنْ دَارٍ إِلَى دَارٍ، وإن خالفنا أبو حنيفة خلافا تقدم الْكَلَامُ مَعَهُ فِيهِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا فَلَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ الْخَرِيطَةُ مَخْتُومَةً مَشْدُودَةً أَمْ لَا، فَإِنْ كَانَتْ مَشْدُودَةً مَخْتُومَةً فَكَسَرَ خَتْمَهَا وَحَلَّ شَدَّهَا وَنَقَلَهَا إِلَى غَيْرِهَا فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَلَوْ لَمْ يَنْقُلْهَا بَعْدَ كَسْرِ الْخَتْمِ وَحَلِّ الشِّدَادِ فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ، وَإِنْ كَانَتِ الْخَرِيطَةُ غَيْرَ مَشْدُودَةٍ وَلَا مَخْتُومَةٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْخَرِيطَةُ لِلْمُسْتَوْدَعِ، لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ كَانَتْ مُرْسَلَةً فَأَحْرَزَهَا الْمُسْتَوْدَعُ فِي خَرِيطَةٍ فَلَهُ نَقْلُهَا إِلَى مِثْلِهَا أَوْ أَحْرَزَ، فَإِنْ فَعَلَ فَلَا ضَمَانَ لِعُذْرٍ كَانَ أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَإِنْ نَقَلَهَا إِلَى أَدْوَنِ مِنْهَا مِمَّا لَا يَكُونُ حِرْزًا لَهَا ضَمِنَ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْخَرِيطَةُ لِلْمَالِكِ، فَلَيْسَ لَهُ نَقْلُهَا مِنْ تِلْكَ الْخَرِيطَةِ إِلَى غَيْرِهَا إِلَّا مِنْ عُذْرٍ، فَإِنْ نَقَلَهَا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ضَمِنَ، سَوَاءٌ نَقَلَهَا إِلَى أَحْرَزَ مِنْهَا أَمْ لَا، وَإِنْ نَقَلَهَا مِنْ عُذْرٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، فَلَوِ اخْتَلَفَا فِي صِفَةِ النَّقْلِ هَلْ هُوَ لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ مع يمينه، لأن الظاهر إخراجها عدوان إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ عُذْرٍ.(8/375)
مسألة:
قال الشافعي: " ولو أَكْرَهَهُ رَجُلٌ عَلَى أَخْذِهَا لَمْ يَضْمَنْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِ الشَّافِعِيِّ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى أَخْذِ الْوَدِيعَةِ.
فَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: هِيَ مُصَوَّرَةٌ فِي مَالِكِ مَالٍ أَرَادَ أَنْ يُودِعَهُ عِنْدَ رَجُلٍ فَامْتَنَعَ عَلَيْهِ فَأَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ دَفَعَهَا إِلَيْهِ، فَأَخَذَهَا الْمُسْتَوْدَعُ مِنْهُ كَرْهًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مُكْرَهًا فِي الْأَخْذِ، لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْهُ عُدْوَانٌ أَوْ تَفْرِيطٌ فَيَضْمَنُ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُكْرَهًا، فَقَدْ صَارَ حِفْظُهَا عَلَيْهِ بَعْدَ حُصُولِهَا فِي يَدِهِ واجب، فَإِذَا خَالَفَهُ ضَمِنَ، فَإِنْ لَمْ يُحْسِنِ الْتِزَامَ حِفْظِهَا سَلَّمَهَا إِلَى الْحَاكِمِ، فَسَقَطَ الْحِفْظُ وَالضَّمَانُ عَنْهُ بِتَسْلِيمِهَا إِلَيْهِ إِذَا كَانَ الْمَالِكُ مُمْتَنِعًا مِنَ اسْتِرْجَاعِهَا.
فَصْلٌ:
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، هِيَ مُصَوَّرَةٌ فِي رَجُلٍ قَبِلَ وَدِيعَةً طَوْعًا ثم تغلب عليه متغلب فأكرهه عَلَى أَخْذِهَا مِنْهُ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَأْخُذَهَا الْمُتَغَلِّبُ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْفَعَهَا الْمُسْتَوْدَعُ وَلَا دَلَالَةَ عَلَيْهَا، فَهَذَا غَيْرُ ضَامِنٍ لَهَا، لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ الْأَيْدِي الْغَالِبَةِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَدْفَعَهَا بِنَفْسِهِ مُكْرَهًا فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ، لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَقِيَ مَالَ غَيْرِهِ بِنَفْسِهِ، كَمَا لَوْ صَالَ عَلَيْهِ فَحْلٌ فَغَلَبَهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّهُ ضَامِنٌ لَهَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقِيَ نَفْسَهُ بِمَالِ غَيْرِهِ، كَمَا لَوْ أَلْقَى فِي الْبَحْرِ مَالَ غَيْرِهِ، وَقَدْ جُعِلَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي الصَّائِمِ إِذَا أُكْرِهَ عَلَى الْفِطْرِ فَأَكَلَ بِنَفْسِهِ وَتَخْرِيجًا مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمُكْرَهِ عَلَى الْقَتْلِ، فَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَوِ امْتَنَعَ مِنْ دَفْعِهِمَا وَحَلَفَ إِنْكَارًا لَهَا فَإِنْ جَعَلْنَاهُ ضَامِنًا لِلدَّفْعِ كَانَتْ يَمِينُهُ يَمِينَ مُكْرَهٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حِنْثٌ، وَإِنْ لم نجعله ضَامِنًا بِالدَّفْعِ حَنِثَ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَدْفَعُهَا بِنَفْسِهِ وَلَكِنْ يَدُلُّ عَلَيْهَا فَتُؤْخَذُ بِدَلَالَتِهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الدَّلَالَةَ سَبَبٌ وَالْأَخْذَ مُبَاشَرَةٌ، فَصَارَ كَالْمُحْرِمِ إِذَا دَلَّ عَلَى صَيْدٍ لَمْ يَضْمَنْهُ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ: يَضْمَنُ، لِأَنَّهُ فِي الْوَدِيعَةِ مَمْنُوعٌ مِنَ العدوان والتفريط وَالدَّلَالَةُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، فَضَمِنَ بِهَا وَإِنْ كَانَ معذورا.
مسألة:
قال الشافعي: " وَلَوْ شَرَطَ أَنْ لَا يَرْقُدَ عَلَى صُنْدُوقٍ هِيَ فِيهِ فَرَقَدَ عَلَيْهِ كَانَ قَدْ زَادَهُ حِرْزًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا نَوْمُهُ عَلَى الصُّنْدُوقِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْهَاهُ الْمَالِكُ عَنْهُ فَهُوَ زِيَادَةُ حِرْزٍ لَا يَضْمَنُ بِهِ إِجْمَاعًا، فَأَمَّا إِذَا نَهَاهُ عَنِ النَّوْمِ عَلَيْهِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَقْصِدَ بِنَهْيِهِ التَّخْفِيفَ عَنْهُ وَالتَّرْفِيهَ عَلَيْهِ، فَمَتَى نَامَ عَلَيْهِ لَمْ يَضْمَنْهُ.(8/376)
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَقْصِدَ بِالنَّهْيِ عَنِ النَّوْمِ عَلَيْهِ الْكَرَاهَةَ خَوْفًا مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ، فَفِي ضَمَانِهِ إِذَا نَامَ عَلَيْهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَقَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ لِأَنَّهُ قَدْ زَادَهُ حِرْزًا، فَصَارَ كَمَنْ أُودِعَ خَرِيطَةً فَجَعَلَهَا فِي خَرِيطَةٍ ثَانِيَةٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، يَضْمَنُ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَيْهَا وَالْإِغْرَاءِ بِهَا، وَهَكَذَا لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَقْفِلَهَا بِقُفْلٍ وَاحِدٍ فَقَفَلَهَا بِقُفْلَيْنِ كَانَ ضَمَانُهُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، وَهَكَذَا لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَدْفِنَهَا فِي أَرْضٍ لَيْسَ عَلَيْهَا حَائِطٌ فَدَفَنَهَا فِيهَا وَبَنَى عليها حائط كَانَ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، وَهَكَذَا لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَتْرُكَهَا فِي بَيْتٍ لَا يَحْفَظُهُ أَحَدٌ فَأَقَامَ فِيهِ مَنْ يَحْفَظُهُ فَسُرِقَتْ، فَإِنْ كَانَ الْحَافِظُ لَهَا سَرَقَهَا ضَمِنَ، وَإِنْ سَرَقَهَا غَيْرُهُ فضمانه على وجهين.
مسألة:
قال الشافعي: " وَلَوْ قَالَ لَمْ تُودِعْنِي شَيْئًا ثُمَّ قَالَ قَدْ كُنْتَ اسْتَوْدَعْتَنِيهِ فَهَلَكَ ضَمِنَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي رَجُلٍ أَوْدَعَ رَجُلًا وَدِيعَةً ثُمَّ طَالَبَهُ بِهَا فَجَحَدَهَا وَقَالَ: لَمْ تُودِعْنِي شَيْئًا، ثُمَّ عَادَ فَاعْتَرَفَ بِهَا وَقَالَ: قَدْ كُنْتُ اسْتُودِعْتُهَا وَتَلِفَتْ، أَوْ قَامَتْ بِهَا الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ فَادَّعَى بِتَلَفِهَا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ صَارَ بِالْجَحْدِ مُتَعَدِّيًا فَضَمِنَهَا، وَمَنْ ضَمِنَ وَدِيعَةً لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْغُرْمُ بِتَلَفِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ بِالْإِنْكَارِ الْأَوَّلِ قَدْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ بِادِّعَاءِ التَّلَفِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى تَلَفِهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَشْهَدَ لَهُ الْبَيِّنَةُ بِتَلَفِهَا بَعْدَ الْجُحُودِ، فَلَا تُسْمَعُ وَالْغُرْمُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا تَلِفَتْ بَعْدَ الضمان ولو سأل إحلاف المودع أنه لا يَعْلَمُ بِتَلَفِهَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَشْهَدَ لَهُ الْبَيِّنَةُ بِتَلَفِهَا قَبْلَ الْجُحُودِ، فَفِي اسْتِمَاعِهَا وَالْحُكْمِ بِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يسمح وَيَحْكُمُ بِهَا، وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْغُرْمُ، لِأَنَّهَا تَلِفَتْ قَبْلَ ضَمَانِهَا بِالْجُحُودِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهَا لَا تُسْمَعُ وَلَا تُسْقِطُ عَنْهُ الْغُرْمَ، لِأَنَّهُ قَدْ كَذَّبَ لَهَا بِالْجَحُودِ الْمُتَقَدِّمِ.
فَصْلٌ:
وَلَوْ قَالَ حِينَ طُولِبَ بِالْوَدِيعَةِ: لَيْسَ لَكَ مَعِي وَدِيعَةٌ، أَوْ لَا حَقَّ لَكَ فِي يَدِي، ثُمَّ أَقَرَّ بِهَا وَادَّعَى تَلَفَهَا قُبِلَ مِنْهُ، لِأَنَّهُ ليس في القولين تكاذب، وَمَنْ تَلِفَتِ الْوَدِيعَةُ مِنْهُ فَلَا وَدِيعَةَ مَعَهُ وَلَا فِي يَدِهِ، وَخَالَفَ حَالُ الْمُنْكِرِ لَهَا لِمَا فِيهِ مِنْ تَكَاذُبِ الْقَوْلَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب.(8/377)
مسألة:
قال الشافعي: " وَإِنْ شَرَطَ أَنْ يَرْبِطَهَا فِي كُمِّهِ فَأَمْسَكَهَا بِيَدِهِ فَتَلِفَتْ لَمْ يَضْمَنْ وَيَدُهُ أَحْرَزُ ".
قَالَ الماوردي: هكذا روى الْمُزَنِيُّ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ وَيَدُهُ أَحْرَزُ، وَرَوَى الرَّبِيعُ فِي الْأُمِّ أَنَّهُ يَضْمَنُ وَكُمُّهُ أَحْرَزُ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَحْمِلُ اخْتِلَافَ الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ، وَيَدُهُ أَحْرَزُ مِنْ كُمِّهِ، لِأَنَّهَا قَدْ تُسْرَقُ مِنْ كُمِّهِ وَلَا تُسْرَقُ مِنْ يَدِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ مَا رَوَاهُ الرَّبِيعُ فِي " الْأُمِّ ": أَنَّهُ يَضْمَنُ وَكُمُّهُ أَحْرَزُ مِنْ يَدِهِ، لِأَنَّ الْيَدَ حِرْزٌ مَعَ الذِّكْرِ دُونَ النِّسْيَانِ، وَالْكُمُّ حِرْزٌ مَعَ الذِّكْرِ وَالنِّسْيَانِ وَامْتَنَعَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ تَخْرِيجِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَحَمَلُوا رِوَايَةَ الْمُزَنِيِّ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ عَلَى أَنَّهُ رَبَطَهَا فِي كُمِّهِ ثُمَّ أَمْسَكَهَا بِيَدِهِ فَلَا يَضْمَنُ، لِأَنَّ يَدَهُ مَعَ كُمِّهِ أَحْرَزُ مِنْ كُمِّهِ، وَحَمَلُوا رِوَايَةَ الرَّبِيعِ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى أَنَّهُ تَرَكَهَا فِي يَدِهِ وَلَمْ يَرْبِطْهَا فِي كُمِّهِ فَيَضْمَنُ، لِأَنَّ كُمَّهُ أَحْرَزُ مِنْ يَدِهِ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا إِذَا شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يُمْسِكَهَا فِي يَدِهِ فَرَبَطَهَا فِي كُمِّهِ فَمَنْ جَعَلَ يَدَهُ أَحْرَزَ ضَمَّنَهُ، وَمَنْ جَعَلَ كُمَّهُ أَحْرَزَ خرج ضمانه عَلَى وَجْهَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي نَصِّ الْمُودِعِ هَلْ يَقْطَعُ اجْتِهَادَ الْمُسْتَوْدَعِ، وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يُحْرِزَهَا فِي جَيْبِهِ فَأَحْرَزَهَا فِي كُمِّهِ ضَمِنَ لِأَنَّ جَيْبَهُ أَحْرَزُ وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يحرزها في كمه فأحرزها فِي جَيْبِهِ كَانَ ضَمَانُهُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ.
فَصْلٌ:
وَلَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ وَدِيعَةً وَلَمْ يَشْرُطْ عَلَيْهِ أَنْ يَضَعَهَا فِي كُمِّهِ وَلَا فِي جَيْبِهِ وَلَا فِي يَدِهِ فَإِنْ وَضْعَهَا فِي كمه وَرَبَطَهَا كَانَ حِرْزًا، سَوَاءٌ رَبَطَهَا مِنْ دَاخِلِ كُمِّهِ أَوْ مِنْ خَارِجِهِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ جَعَلَهَا فِي ظَاهِرِ كُمِّهِ وَرَبَطَهَا مِنْ دَاخِلِهِ لَمْ يَضْمَنْ، لِأَنَّهَا تَصِيرُ بَعْدَ الرَّبْطِ دَاخِلَةً فِي كُمِّهِ، وَإِنْ جَعَلَهَا دَاخِلَ كُمِّهِ وَرَبَطَهَا مِنْ خَارِجِهِ ضَمِنَ، لِأَنَّهَا تَصِيرُ بَعْدَ الرَّبْطِ خَارِجَةً مِنْ كُمِّهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ لَا وَجْهَ لَهُ، لِأَنَّ الْكُمَّ بِهِ يَصِيرُ حِرْزًا لَا بِانْفِرَادِهِ فَاسْتَوَى الْأَمْرَانِ، فَأَمَّا إِنْ تَرَكَهَا فِي كُمِّهِ وَلَمْ يَرْبِطْهَا، نُظِرَ فَإِنْ كَانَ ذلك خفيفا قد ربما يسقط مِنْهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ ضَمِنَ وَإِنْ كان ثقيلا، ولا يَخْفَى عَلَيْهِ حَالُ سُقُوطِهِ لَمْ يَضْمَنْ وَلَوْ تَرَكَ الْوَدِيعَةَ فِي جَيْبِهِ فَإِنْ لَمْ يَزُرَّهُ عَلَيْهَا ضَمِنَ، وَإِنْ زَرَّهُ عَلَيْهَا لَمْ يَضْمَنْ، لِأَنَّ الْجَيْبَ أَحْفَظُ لَهَا إِذَا أَمِنَ سُقُوطَهَا مِنْهُ لِبُعْدِهِ مِنَ السَّارِقِ، فَلَوْ كَانَ الْجَيْبُ مَثْقُوبًا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ فَسَقَطَتْ أَوْ حَصَلَتْ بَيْنَ قَمِيصِهِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِهَا فَسَقَطَتْ ضَمِنَهَا، وَلَوْ تَرَكَهَا فِي يَدِهِ فَإِنْ كَانَ مَنْزِلُهُ قَرِيبًا كَانَتْ يَدُهُ أَحْرَزَ، وَإِنْ كَانَ مَنْزِلُهُ بَعِيدًا فَإِنْ كَانَتْ خَفِيفَةً لَا يَأْمَنُ السَّهْوَ عَنْهَا ضَمِنَ وَلَمْ تَكُنْ يَدُهُ حِرْزًا، وَإِنْ كَانَتْ ثَقِيلَةً يَأْمَنُ السَّهْوَ فِيهَا لَمْ يَضْمَنْ، فَأَمَّا الْخَاتَمُ إِذَا لَبِسَهُ فِي أُصْبُعِهِ كَانَتْ حِرْزًا إِذَا كَانَ مُتَمَاسِكًا فِي خِنْصَرِهِ، وَلَوْ كَانَ وَاسِعًا لَمْ يَكُنْ حِرْزًا، وَلَوْ لَبِسَ الْخَاتَمَ الْمُسْتَقِرَّ فِي(8/378)
خِنْصَرِهِ فِي الْبِنْصِرِ مِنْ أَصَابِعِهِ لَمْ يَضْمَنْ، لأنها أغلظ، ولو لبسه فِي الْإِبْهَامِ ضَمِنَهُ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَقِرُّ فِيهَا وَإِنْ غَلُظَتْ، وَلَوْ لَبِسَ الْخَاتَمَ فِي إِحْدَى يَدَيْهِ ثُمَّ نَقَلَهُ إِلَى الْيَدِ الْأُخْرَى فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِعَمَلٍ أَرَادَ أَنْ يَعْمَلَهُ بِتِلْكَ الْيَدِ لَمْ يَضْمَنْ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ سَبَبٍ ضَمِنَ.
فَصْلٌ:
وَإِذَا حَمَلَ مَا فِي كُمِّهِ أَوْ جَيْبِهِ أَوْ يَدِهِ إِلَى مَنْزِلِهِ مِنَ الْوَدِيعَةِ فَعَلَيْهِ إِحْرَازُهُ فِيهِ، وَلَا يَكُونُ كُمُّهُ وَلَا جَيْبُهُ وَلَا يَدُهُ حِرْزًا لَهُ بَعْدَ حُصُولِهِ فِي مَنْزِلِهِ، فَإِنَّ مُنْزِلَهُ أَحْرَزُ لَهُ فَلَوْ خَرَجَ بِهَا فِي جَيْبِهِ أَوْ كُمِّهِ أَوْ يَدِهِ مِنْ مَنْزِلِهِ ضَمِنَ.
فَصْلٌ:
وَلَوْ أَوْدَعَ وَدِيعَةً وَهُوَ فِي دُكَّانِهِ فَحَمَلَهَا إِلَى مَنْزِلِهِ فَإِنْ كَانَ الدُّكَّانُ حِرْزًا لِمِثْلِهَا ضَمِنَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حِرْزًا لَمْ يَضْمَنْ إِذَا حَمَلَهَا إِلَى مَنْزِلِهِ، وَهَكَذَا لَوْ أَوْدَعَ وَدِيعَةً وَهُوَ فِي مَنْزِلِهِ فَحَمَلَهَا إِلَى دُكَّانِهِ، فَإِنْ كَانَ مُنْزِلُهُ حِرْزًا لِمِثْلِهَا ضَمِنَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حِرْزًا لِمِثْلِهَا وَكَانَ الدُّكَّانُ أَحْرَزَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَوْدَعَ وَدِيعَةً وَهُوَ فِي دُكَّانِهِ فَوَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ فَسُرِقَتْ فَإِنْ كَانَ وَضْعُهُ لَهَا ارْتِيَادًا لِمَوْضِعٍ مِنْ دُكَّانِهِ يُحْرِزُهَا فيه لم يضمن لعدم تفريطه، وَإِنْ كَانَ اسْتِرْسَالًا وَإِمْهَالًا ضَمِنَ.
فَصْلٌ:
وَلَوْ أَوْدَعَ وَدِيعَةً وَهُوَ فِي مَنْزِلِهِ فَأَحْرَزَهَا فِيهِ ثُمَّ دَخَلَ مَنْ سَرَقَهَا مِنْهُ فَإِنْ دَخَلَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ دَخَلَ بِإِذْنِهِ ضَمِنَ إِذَا نَالَتْهَا يَدُهُ، وَلَوْ سَرَقَهَا بَعْضُ أَهْلِ مَنْزِلِهِ مِنْ زَوْجَةٍ، أَوْ خَادِمٍ، أَوْ وَلَدٍ نُظِرَ فِي سَارِقِهَا، فَإِنْ كَانَ مَشْهُورًا بِالسَّرِقَةِ ضَمِنَ، لِأَنَّ تَمْكِينَ مِثْلِهِ مِنْ مَنْزِلٍ فِيهِ وَدِيعَةٌ لِغَيْرِهِ أَوْ تَرْكَ الْوَدِيعَةِ فِي منزل تركها في مثل تَفْرِيطٌ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَشْهُورٍ بِذَلِكَ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ أَخَذَهَا مِنْ وَرَاءِ حِرْزٍ فِي الْمَنْزِلِ كَبَابٍ وَقُفْلٍ لَمْ يَضْمَنْ، لِأَنَّهُ لَا يُنْسَبُ إِلَى التَّفْرِيطِ، وَإِنْ كَانَتْ بَارِزَةً تَمْتَدُّ إِلَيْهَا يَدُهُ فِي الْمَنْزِلِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَتِ الْوَدِيعَةُ دَرَاهِمَ أَوْ حُلِيًّا أَوْ ثِيَابًا جَرَتِ الْعَادَةُ أَنْ يَكُونَ حِرْزُهَا فِي الْمَنَازِلِ مُفْرَدًا عَنْ مَوَاضِعِ سَاكِنِيهِ ضَمِنَ، وَإِنْ كَانَ خَافِيًا لَا يُحْرَزُ مِثْلَهُ إِلَّا فِي ظَوَاهِرِ الْمَنَازِلِ لم يضمن والله أعلم (بالصواب) .
مسألة:
وَإِذَا هَلَكَ وَعِنْدَهُ وَدِيعَةٌ بِعَيْنِهَا فَهِيَ لِرَبِّهَا وَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرٍ عَنْهَا مِثْلَ دَنَانِيرَ أَوْ مَا لَا يُعْرَفُ بِعَيْنِهِ حَاصَّ رَبُّ الْوَدِيعَةِ الْغُرَمَاءَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَمَّا مَوْتُ الْمُسْتَوْدَعِ فَمُبْطِلٌ لِعَقْدِ الْوَدِيعَةِ، لِأَنَّ مَالِكَهَا لَمْ يَأْتَمِنْ وَارِثَهُ عَلَيْهَا، فَإِنْ كَانَ مَالِكُهَا حَاضِرًا وَجَبَ عَلَى الْوَارِثِ رَدُّهَا عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ضَمِنَ، وَإِنْ كَانَ مَالِكُهَا غَائِبًا لَزِمَ الْوَارِثَ إِعْلَامُ الحاكم بها حتى يأمره فيها بِمَا يَرَاهُ حَظًّا لِمَالِكِهَا مِنْ إِحْرَازِهَا فِي يَدِ الْوَارِثِ، أَوْ نَقْلِهَا إِلَى غَيْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْحَاكِمُ بِهَا وَيَسْتَأْذِنْهُ فِيهَا ضَمِنَ، وَهَكَذَا لَوْ مَاتَ رَبُّ الْوَدِيعَةِ بَطَلَ الْعَقْدُ، وَلَزِمَ الْمُسْتَوْدَعَ رَدُّهَا عَلَى وَارِثِهِ، لِأَنَّهَا صَارَتْ بِالْمَوْتِ مِلْكًا لِلْوَارِثِ وَالْوَارِثُ لَمْ يَأْتَمِنْهُ عَلَيْهَا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ضَمِنَ إِلَّا أَنْ يَسْتَأْنِفَ الْوَارِثُ إِيدَاعَهَا عِنْدَهُ فَتَصِيرُ وَدِيعَةً مُبْتَدَأَةً، وَلَوْ أَنَّ الْمَالِكَ الْمُودِعَ جُنَّ، أَوْ حُجِرَ عَلَيْهِ بالسفه لبطل الْوَدِيعَةُ، وَكَانَ عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ رَدُّهَا عَلَى وَلِيِّهِ، لِأَنَّهُ خَرَجَ بِالْجُنُونِ وَالسَّفَهِ أَنْ يَكُونَ ذَا نَظَرٍ فِي مَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلِ(8/379)
الْمُسْتَوْدَعُ ذَلِكَ ضَمِنَ، وَلَوْ جُنَّ الْمُسْتَوْدَعُ أَوْ حُجِرَ عَلَيْهِ بِالسَّفَهِ كَانَ عَلَى وَلِيِّهِ رَدُّ الْوَدِيعَةِ عَلَى رَبِّهَا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ضَمِنَهَا الْوَلِيُّ، لِزَوَالِ الِائْتِمَانِ بِطُرُوءِ الْجُنُونِ وَالسَّفَهِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
فَصْلٌ:
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا وَمَاتَ الْمُسْتَوْدَعُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْوَدِيعَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً بِعَيْنِهَا أَوْ غَيْرَ مَوْجُودَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً وَعَيْنُهَا بَاقِيَةٌ لَزِمَ الْوَارِثَ تَسْلِيمُهَا إِلَى مَالِكِهَا وَذَلِكَ بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ.
إِمَّا بِوَصِيَّةِ الْمَيِّتِ، وَإِمَّا بِإِقْرَارِ الوارث، وإما ببينة يضمها الْمُودِعُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةً وَلَا وَصِيَّةً وَأَنْكَرَ الْوَارِثُ وَادَّعَاهَا مِلْكًا فَالْقَوْلُ فِيهَا قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، هَذَا إِذَا كَانَتِ الْوَدِيعَةُ مَوْجُودَةً بِعَيْنِهَا فَأَمَّا إِذَا لَمْ تُوجَدِ الْوَدِيعَةُ بِعَيْنِهَا فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُعْلَمَ تَلَفُهَا بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ إِمَّا بِوَصِيَّةِ الْمَيِّتِ أَوْ بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ بِذَلِكَ فَلَا ضَمَانَ فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ، فَإِنْ أَكْذَبَ الْمَالِكُ الْمَيِّتَ فِي وَصِيَّتِهِ بِتَلَفِهَا فَلَهُ إِحْلَافُ الْوَرَثَةِ ثُمَّ هُمْ بَرَاءٌ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهَا تَلِفَتْ بِتَفْرِيطِهِ وَتَعَدِّيهِ إِمَّا بِوَصِيَّةٍ أَوْ بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ لَهُ بِذَلِكَ، فَهِيَ مَضْمُونَةٌ فِي مَالِهِ وَيُحَاصُّ الْمَالِكُ بِهَا جَمِيعَ الْغُرَمَاءِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُجْهَلَ حَالُهَا فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَيُحَاصُّ رَبُّ الْوَدِيعَةِ الْغُرَمَاءَ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ، وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ ثُبُوتِ يَدِهِ عَلَيْهَا أَنَّهَا تَلِفَتْ بِفِعْلِهِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّهَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ فِي تَرِكَتِهِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ عَلَى أَمَانَتِهِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِنْ وُجِدَ فِي تَرِكَتِهِ مِنْ جِنْسِهَا كَانَتْ مَضْمُونَةً فِيهَا، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْ جِنْسِهَا شَيْءٌ فِي تَرِكَتِهِ لَمْ يَضْمَنْ، وهذا قول أبي حامد المروزي، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ وُجُودِ جِنْسِهَا أَنَّهَا فِيهِ أَوْ مِنْهُ.
وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ إِنْ ذَكَرَ فِي وَصِيَّتِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ أَنَّ عِنْدَهُ وَدِيعَةً كَانَتْ مَضْمُونَةً فِي تَرِكَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ لَمْ يَضْمَنْ، لِأَنَّهُ لَا يُوصِي بِالْوَدِيعَةِ إِلَّا وَهِيَ عِنْدَهُ أَوْ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِذَا صَارَتْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ مَضْمُونَةً فِي تَرِكَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي التَّرِكَةِ مِنْ جِنْسِهَا شَيْءٌ حَاصَّ رَبُّ الْوَدِيعَةِ بِهَا جَمِيعَ الْغُرَمَاءِ، وَإِنْ كَانَ فِي التَّرِكَةِ شيء من جنسها فيه وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَتَقَدَّمُ بِهَا عَلَى الْغُرَمَاءِ اعْتِبَارًا بالظاهر من الجنس أنه منها.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَكُونُ أُسْوَتَهُمْ وَلَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِمُ اعتبارا باليقين في الاشتراك.
مسألة:
قال الشافعي: " وَلَوِ ادَّعَى رَجُلَانِ الْوَدِيعَةَ مِثْلَ عَبْدٍ أَوْ بَعِيرٍ فَقَالَ هِيَ لِأَحَدِكُمَا وَلَا أَدْرِي أَيُّكُمَا هُوَ قِيلَ لَهُمَا هَلْ تَدَّعِيَانِ شَيْئًا غَيْرَ هَذَا بِعَيْنِهِ؟ فَإِنْ قَالَا لَا أُحْلِفَ الْمُودَعُ بالله(8/380)
مَا يَدْرِي أَيُّهُمَا هُوَ وَوَقَفَ ذَلِكَ لَهُمَا جَمِيعًا حَتَى يَصْطَلِحَا فِيهِ أَوْ يُقِيمُ أَحَدُهُمَا بَيِّنَةً وَأَيُّهُمَا حَلَفَ مَعَ نُكُولِ صَاحِبِهِ كَانَ لَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ بِيَدِهِ عَبْدٌ أَوْ بِعِيرٌ ادَّعَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ رَجُلَيْنِ أَنَّهُ أَوْدَعَهُ إِيَّاهُ، فَلَا يَخْلُو حَالُ صَاحِبِ الْيَدِ فِي جَوَابِهِ لَهُمَا مِنْ سِتَّةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُنْكِرَهُمَا وَيَدَّعِيَهُ مِلْكًا لِنَفْسِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُنْكِرَهُمَا وَيُقِرَّ بِأَنَّهُ وَدِيعَةٌ لِغَيْرِهِمَا.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يُقِرَّ بِأَنَّهُ وَدِيعَةٌ لِأَحَدِهِمَا يَعْرِفُهُ بِعَيْنِهِ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يُقِرَّ بِأَنَّهُ وَدِيعَةٌ لَهُمَا مَعًا.
وَالْخَامِسُ: أَنْ يُقِرَّ بِأَنَّهُ وَدِيعَةٌ لِأَحَدِهِمَا لا يعرفه بعينه.
والسادس: أن يقر بأنه وَدِيعَةٌ لَيْسَ يَعْرِفُ مُودِعَهَا هَلْ هُمَا أَوْ أَحَدُهُمَا؟ أَوْ غَيْرُهُمَا؟ .
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يُنْكِرَهُمَا وَيَدَّعِيَهُ مِلْكًا لِنَفْسِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ مَا لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنَ الْمُدَّعِينَ بَيِّنَةٌ، فَإِنْ حَلَفَ بِاللَّهِ أَنَّهَا لَهُ بريء مِنْ مُطَالَبَتِهَا وَتَصَرَّفَ فِيمَا بِيَدِهِ تَصَرُّفَ الْمَالِكِينَ، فَإِنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ رُدَّتْ عَلَيْهِمَا، إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ، فَإِنْ سَبْقَ أَحَدُهُمَا بِالدَّعْوَةِ بَرِئَ بِإِحْلَافِهِ. وَإِنِ ادَّعَيَا مَعًا فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُقَدِّمُ بِالْقُرْعَةِ مَنْ قُرِعَ مِنْهُمَا.
وَالثَّانِي: يُقَدِّمُ بِاجْتِهَادِهِ مَنْ رَأَى مِنْهُمَا، فَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ قَضَى بِهَا لِلْحَالِفِ دُونَهُ النَّاكِلُ، وَإِنْ نَكَلَا مَعًا فَلَا حَقَّ فِيهِمَا لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَكَانَتْ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِلْكًا وَإِنْ حَلَفَا مَعًا نُزِعَتْ مِنْ يَدِهِ ثُمَّ فِيهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: تُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا مِلْكًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تُوَقَّفُ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَصْطَلِحَا.
فصل:
وأما القسم الثاني: وهو أن ينكرهما وَيُقِرَّ بِأَنَّهَا وَدِيعَةٌ لِغَيْرِهِمَا فَلِلْمُدَّعِينَ حَالَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَسْأَلَاهُ عَنْ مَالِكِهَا.
وَالثَّانِيةُ: أَنْ لَا يَسْأَلَاهُ، فَإِنْ لَمْ يَسْأَلَاهُ عَنْ مَالِكِهَا جَازَ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْأَلَهُ، وَكَانَ الْقَوْلُ فِيهَا قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ لَا حَقَّ فِيهَا لَهُمَا، وَلَا لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَا يُحَلِّفُهُ أَنَّهَا لِغَيْرِهِمَا، فَإِنْ حَلَفَ أُقِرَّتْ فِي يَدِهِ وَدِيعَةً لِمَنْ يُقِرُّ لَهُ بِهَا، فَإِنْ نَكَلَ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَيْهِمَا، فَإِنْ نَكَلَا أُقِرَّتْ فِي يَدِهِ وَدِيعَةً لِمَنْ هِيَ لَهُ، وَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ أَحَدُهُمَا وَنَكَلَ الْآخَرُ سُلِّمَتْ إِلَى الْحَالِفِ مِنْهُمَا، ثُمَّ نَظَرَ الْحَاكِمُ فَإِنْ كَانَتِ الْوَدِيعَةُ مما لا تنقل لم يطالب المدفوعة إلي بِكَفِيلٍ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا تُنْقَلُ طَالَبَهُ بِكَفِيلٍ إِنْ كَانَ غَيْرَ أَمِينٍ، لِأَنَّهُ قَدْ سَمِعَ أَنَّهَا مِلْكٌ لِغَائِبٍ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ إِقْرَارٌ وَلَا قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ.(8/381)
وَإِنْ حَلَفَا مَعًا فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: تُنْزَعُ من يده ويقسم بَيْنَهُمَا، وَيُطَالِبُهُ الْحَاكِمُ بِكَفِيلٍ لِمَالِكِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تُوقَفُ فِي يَدِ صَاحِبِ الْيَدِ وَلَا تنتزع من يده، فإن قالا الْمُدَّعِيَانِ لَا نَرْضَى بِأَمَانَتِهِ ضَمَّ الْحَاكِمُ إِلَيْهِ أَمِينًا يَرْضَيَانِ بِهِ، وَإِنْ سَأَلَ الْمُدَّعِيَانِ صَاحِبَ اليد عن مالكها حين أقر بها لغيرهما وَجَبَ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ حَاضِرًا أَنْ يَذْكُرَهُ، وَلَمْ يُجِبْ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ غَائِبًا، لِأَنَّ ذِكْرَ الْحَاضِرِ يُفِيدُ، وَذِكْرَ الْغَائِبِ لَا يُفِيدُ، وإذا كان هذا سَأَلَهُ الْحَاكِمُ أَحَاضِرٌ مَالِكُهَا أَمْ غَائِبٌ؟ (فَإِنْ قَالَ: غَائِبٌ) لَمْ يَسْأَلْهُ عَنْهُ، وَكَانَ عَلَى مَا مَضَى، وَإِنْ قَالَ: حَاضِرٌ، سَأَلَهُ عَنْهُ، فَإِنْ ذَكَرَهُ صَارَ هُوَ الْخَصْمُ فِي الْوَدِيعَةِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ حَبَسَهُ الْحَاكِمُ حَتَّى يَذْكُرَهُ، لِامْتِنَاعِهِ مِنْ بَيَانِ مَا لَزِمَهُ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا القسم الثالث: وهو أن يُقِرُّ بِأَنَّهَا وَدِيعَةٌ لِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وفي وجوب اليمين عليه قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ الْيَمِينُ، لِإِنْكَارِهِ الْآخَرَ.
وَالثَّانِي: أنه لَا يَمِينَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ لَمْ يُقْبَلْ، فَإِذَا قُلْنَا: لَا يَمِينَ عَلَيْهِ أَوْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ فَحَلَفَ فَهِيَ لِلْمُصَدَّقِ مِنْهُمَا، فَإِنِ اسْتَأْنَفَ الْمُكَذَّبُ الدَّعْوَى عَلَى الْمُصَدَّقِ سُمِعَتْ مِنْهُ، وَإِنْ قُلْنَا: عَلَيْهِ الْيَمِينُ فَنَكَلَ عَنْهَا رُدَّتْ عَلَى الْمُكَذَّبِ، فَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا اسْتَقَرَّتِ الْوَدِيعَةُ مَعَ الْمُصَدَّقِ، وَإِنْ حَلَفَ فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ حَكَاهَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ كَجٍّ رَحِمَهُ اللَّهُ:
أحدهما: أَنَّهَا تُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ يَمِينَ الْمُكَذَّبِ بَعْدَ النُّكُولِ تُسَاوِي الْإِقْرَارَ لِلْمُصَدِّقِ فَاسْتَوَيَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تُنْتَزَعُ مِنْ يَدِ صَاحِبِ الْيَدِ وَتُوقَفُ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَصْطَلِحَا.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُحْكَمُ بِهَا لِلْأَوَّلِ وَيُغَرَّمُ لِلْمُكَذِّبِ الْحَالِفِ بَعْدَ نُكُولِهِ قِيمَتَهَا، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِالْإِقْرَارِ الْمُتَقَدِّمِ كَالْمُتْلِفِ لَهَا.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنْ يُقِرَّ بِأَنَّهَا وَدِيعَةٌ لَهُمَا مَعًا فَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ، وَقَدْ صَارَ مُصَدِّقًا لِكُلِّ وَاحِدٍ عَلَى النِّصْفِ مُكَذِّبًا لَهُ عَلَى النِّصْفِ الْآخَرِ، فَهَلْ يَحْلِفُ فِي تَكْذِيبِهِ عَلَى النِّصْفِ الْآخَرِ يمين أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ، ثُمَّ الْجَوَابُ إِنْ حَلَفَ أَوْ نَكَلَ عَلَى مَا مَضَى، فَإِذَا جَعَلَ ذَلِكَ بَيْنَهُمَا وَاسْتَأْنَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الدَّعْوَى عَلَى صَاحِبِهِ فِي النِّصْفِ الَّذِي بِيَدِهِ سُمِعَتْ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْقِسْمُ الْخَامِسُ: وَهُوَ أَنْ يُقِرَّ بِأَنَّهَا وَدِيعَةٌ لِأَحَدِهِمَا لَا يَعْرِفُهُ بِعَيْنِهِ فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَدَّعِيَا عِلْمَهُ.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَدَّعِيَاهُ، فَإِنْ لَمْ يَدَّعِيَا عِلْمَهُ فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ، وَيَتَحَالَفُ عَلَيْهِ الْمُدَّعِيَانِ،(8/382)
فَإِنْ نَكَلَا أُقِرَّ فِي يَدِ صَاحِبِ الْيَدِ حَتَّى يَصْطَلِحَا وَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا حُكِمَ بِهِ لِلْحَالِفِ مِنْهُمَا، وَإِنْ حَلَفَا مَعًا فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا تُوقَفُ في يد صاحب اليد حتى يصطلحا، وإن ادَّعَيَا عِلْمَهُ أُحْلِفَ بِاللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ لِمَنْ هِيَ مِنْهُمَا، فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ وَتَحَالَفَ الْمُدَّعِيَانِ، فَإِنْ نَكَلَ فَقَدْ حُكِيَ عَنْ أبي حنيفة أَنَّهُ قَالَ: أُقَسِّمُ الْوَدِيعَةَ بَيْنَ الْمُدَّعِيَيْنِ وَأُغَرِّمُهُ الْقِيمَةَ فَتَكُونُ بَيْنَهُمَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: لَا غُرْمَ عَلَيْهِ إِنْ نَكَلَ، وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ: قِيلَ لَهُمَا هَلْ تَدَّعِيَانِ شَيْئًا غَيْرَ هَذَا بِعَيْنِهِ؟ فَإِنْ قَالَا: لَا، أُحْلِفَ، وَوُقِفَ ذَلِكَ لَهُمَا رَدًّا عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُغَرَّمُ الْقِيمَةَ لَهُمَا، لِأَنَّهُمَا مَا ادَّعَيَا إِلَّا وَدِيعَةً عَيْنُهَا بَاقِيَةٌ وَلَمْ يَسْتَهْلِكْهَا عَلَى أَحَدِهِمَا بِالْإِقْرَارِ بِهَا لِغَيْرِهِ، وَكَيْفَ يُغَرَّمُ قِيمَةً لَا يَدَّعِيَانِهَا وَمَا ادَّعَيَاهُ كَانَ لَهُمَا.
فَإِنْ قِيلَ فَإِحْلَافُ الْمُسْتَوْدَعِ لَا يُفِيدُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ شَيْئًا، لِاسْتِوَاءِ الْحُكْمِ فِيهِ إِنْ نَكَلَ؟ قِيلَ قَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَذْهَبُ لِأَجْلِ هَذَا إلى أن اليمين غير واجبة، وَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى وُجُوبِهَا، لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلزَّجْرِ وَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا غُرِّمَ، وَقَدْ يَجُوزُ إِذَا عُرِضَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ أَنْ يَنْزَجِرَ بِهَا فَيُبَيِّنُ عِلْمًا قَدْ كَتَمَهُ، فَعُلِمَ بِهِ، فَلِذَلِكَ وَجَبَتْ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ فِي يَدِ الْمُسْتَوْدَعِ [بَيَانٌ تَحَالَفَ الْمُدَّعِيَانِ، فَإِنْ نَكَلَا أُقِرَّتِ الْوَدِيعَةُ فِي يَدِ الْمُسْتَوْدَعِ] ، فَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا قَضَى بِهَا لِلْحَالِفِ مِنْهُمَا، وَإِنْ حَلَفَا مَعًا فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا بِأَثْمَانِهِمَا.
وَالثَّانِي: يَكُونُ مَوْقُوفًا بَيْنَهُمَا، وَهُوَ ظَاهِرٌ، قَالَهُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَتَّى يَصْطَلِحَا عَلَيْهَا وَأَيْنَ تُوقَفُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي يَدِ الْمُسْتَوْدَعِ عَلَى مَا كَانَتْ مِنْ قَبْلُ.
وَالثَّانِي: ينتزع مِنْ يَدِهِ وَيُقِرُّهَا الْحَاكِمُ فِي يَدِ مَنْ يَرْضَيَانِهِ، لِأَنَّ الْمُسْتَوْدَعَ قَدْ صَارَ بِالنُّكُولِ وَالْإِنْكَارِ خَصْمًا.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْقِسْمُ السَّادِسُ: وَهُوَ أَنْ يُقِرَّ أَنَّهَا وَدِيعَةٌ فِي يَدِهِ وَلَيْسَ يَعْلَمُ هَلْ هِيَ لَهُمَا أَوْ لِغَيْرِهِمَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، ثُمَّ يَتَحَالَفُ الْمُتَدَاعِيَانِ فَإِنْ نَكَلَا أُقِرَّتْ فِي يَدِهِ، وَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا دُفِعَتْ إِلَيْهِ، وَهَلْ يَأْخُذُهُ الْحَاكِمُ بِكَفِيلِ الْمَالِكِ لَهَا لَوْ حَضَرَ عَلَى وَجْهَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْوَارِثِ إِذَا دُفِعَتْ إِلَيْهِ التَّرِكَةُ وَلَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً بَعْدَ طُولِ الْكَشْفِ بِأَنْ لَا وارث سواه، وإن حلف مَعًا فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا، وَفِي أَخْذِ الْكَفِيلِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وجهان.
والثاني: أنهما تُوقَفُ، وَفِي الْمَوْقُوفَةِ عَلَى يَدِهِ وَجْهَانِ.(8/383)
فَصْلٌ:
وَإِذَا أَوْدَعَ رَجُلًا دَابَّةً ثُمَّ أَذِنَ لَهُ فِي رُكُوبِهَا جَازَ أَنْ يَرْكَبَهَا، ثُمَّ هُوَ قَبْلَ الرُّكُوبِ مُسْتَوْدَعٌ لَا يَضْمَنُ، فَإِذَا رَكِبَ صَارَ مُسْتَعِيرًا ضَامِنًا، فَإِنْ تَرَكَ الرُّكُوبَ لن يَسْقُطْ عَنْهُ الضَّمَانُ إِلَّا بِالرَّدِّ، فَلَوْ أَذِنَ لَهُ الْمُودِعُ بَعْدَ الْكَفِّ عَنِ الرُّكُوبِ أَنْ يُؤَجِّرَهَا لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ ضَمَانُهَا قَبْلَ تَسْلِيمِهَا إِلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَفِي سُقُوطِهِ عَنْهُ بَعْدَ تَسْلِيمِهَا وَجْهَانِ مِنْ عُدْوَانِ الْمُسْتَوْدَعِ إِذَا أُبْرِئَ مِنْهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
فَصْلٌ:
وَإِذَا أَذِنَ الْمُودِعُ لِلْمُسْتَوْدَعِ فِي إِجَارَةِ الدَّابَّةِ الَّتِي أَوْدَعَهَا إِيَّاهُ فَهُوَ عَلَى أَمَانَتِهِ فِي يَدِهِ، فَإِذَا أَخْرَجَهَا وَسَلَّمَهَا فَقَدِ ارْتَفَعَتْ يَدُهُ، فَإِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَرْجِعَهَا إِلَّا بِإِذْنٍ، وَلَوْ أَعَادَهَا بِإِذْنِهِ جَازَ أَنْ يَسْتَرْجِعَهَا مِنَ الْمُسْتَعِيرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّهَا فِي الْإِجَارَةِ مُنْتَزَعَةٌ مِنْ يَدِهِ بِعَقْدٍ وَاجِبٍ، وَفِي الْعَارِيَةِ بِعَقْدٍ جَائِزٍ.
فَصْلٌ:
وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ وَدِيعَةً إِلَى صَبِيٍّ اسْتَوْدَعَهُ إِيَّاهَا كَانَ مُغَرَّرًا بِمَالِهِ، لأن الصبي لا يباشر حفاظ مَالِهِ فَكَيْفَ مَالُ غَيْرِهِ، فَإِنْ تَلِفَتْ فِي يَدِ الصَّبِيِّ لَمْ يَخْلُ تَلَفُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَتْلَفَ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ وَلَا جِنَايَةٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهَا، لِأَنَّ الْبَالِغَ لَا يَضْمَنُهَا.
وَالثَّانِي: أَنْ تَتْلَفَ بِتَفْرِيطٍ مِنْهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ ضَمِنَهَا الْبَالِغُ، لِأَنَّ حِفْظَهَا لَا يَلْزَمُهُ لِأَنَّ صَاحَبَهَا هُوَ الْمُفَرِّطُ دُونَهُ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَتْلَفَ بِجِنَايَتِهِ، فَفِي وُجُوبِ ضَمَانِهَا فِي مَالِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مَالِكَهَا هُوَ الَّذِي سَلَّطَهُ عَلَى اسْتِهْلَاكِهَا فَصَارَ كَمَا لَوْ بَاعَهُ شَيْئًا فَاسْتَهْلَكَهُ لَمْ يَضْمَنْهُ.
وَالْوَجْهُ الثانِي: أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ فِي مَالِهِ، لِأَنَّ الِائْتِمَانَ عَلَيْهَا لَيْسَ بِإِذْنٍ فِي اسْتِهْلَاكِهَا، فَصَارَ كَمَنْ أَبَاحَ صَبِيًّا شُرْبَ مَاءٍ فِي دَارِهِ وَأَكْلَ طَعَامِهِ فَدَخَلَ وَاسْتَهْلَكَ عَلَيْهِ فِي مَنْزِلِهِ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ.
فَصْلٌ:
وَإِذَا أَوْدَعَ صَبِيٌّ رَجُلًا وَدِيعَةً لَمْ يَكُنْ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقْبَلَهَا مِنْهُ، لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَا نَظَرَ لَهُ فِي مَالِ نَفْسِهِ، فَإِنْ قَبِلَهَا الرَّجُلُ مِنْهُ ضَمِنَهَا حَتَّى يُسَلِّمَهَا إِلَى وَلِيِّهِ، أَوِ الْحَاكِمِ فَإِنْ رَدَّهَا عَلَى الصَّبِيِّ لَمْ يَسْقُطِ الضَّمَانُ عَنْهُ، فَلَوْ كَانَ عِنْدَ أَخْذِ الْوَدِيعَةِ مِنَ الصَّبِيِّ خَائِفًا عَلَيْهَا مِنْ أَنْ يَسْتَهْلِكَهَا فَأَخَذَهَا لِيَدْفَعَهَا إِلَى وَلِيِّهِ أَوْ إِلَى الْحَاكِمِ فَهَلَكَتْ فِي يَدِهِ فَفِي ضَمَانِهِ لَهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَضْمَنُهَا، لِأَنَّهُ قَصَدَ خَلَاصَهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَضْمَنُهَا، لِأَنَّ يَدَهُ عَلَيْهَا بِغَيْرِ حَقٍّ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْمُحْرِمِ إِذَا خَلَّصَ طَائِرًا فِي جَارِحٍ أَوْ حَيَّةٍ فَتَلِفَ، فَفِي ضمانه بالجزاء قولان - والله أعلم بالصواب -.
آخر كتاب الوديعة والحمد لله كثيرا ولله العصمة.(8/384)
مُخْتَصَرٌ مِنْ كِتَابِ قَسْمِ الْفَيْءِ وَقَسْمِ الْغَنَائِمِ
مسألة:
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " أَصْلُ مَا يَقُومُ به الولاة من جمل الْمَالِ ثَلَاثَةَ وُجُوهٍ أَحَدُهَا مَا أُخِذَ مِنْ مَالِ مُسْلِمٍ تَطْهِيرًا لَهُ فَذَلِكَ لِأَهْلِ الصَّدَقَاتِ لَا لِأَهْلِ الْفَيْءِ وَالْوَجْهَانِ الْآخَرَانِ مَا أُخِذَ من مال مشرك كلاهما مُبَيَّنٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وفعله فأحدهما الغنيمة قال تبارك وتعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خمسه وللرسول} [الأنفال: 41] . الآية. والوجه الثاني هو الفيء قال الله تعالى: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى} [الحشر: 7] الآية. (قال الشافعي) رحمه الله: فالغنيمة والفيء يجتمعان في أن فيهما معا الخمس من جميعهما لمن سماه الله تعالى له في الآيتين معا سواء ثم تفترق الأحكام في الأربعة الأخماس بما بين الله تبارك وتعالى على لسان رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وفي فعله فإنه قسم أربعة أخماس الغنيمة على ما وصفت من قسم الغنيمة وهي الموجف عليها بالخيل والركاب لمن حضر من غني وفقير والفيء هو ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فَكَانَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في قرى عربية أفاءها الله عليه أربعة أخماسها لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خاصة دون المسلمين يضعه حيث أراه الله تعالى قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حيث اختصم إليه العباس وعلي رضي الله عنهما فِي أَمْوَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِمَّا لَمْ يُوجِفِ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بخيل ولا ركاب فكانت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خاصة دون المسلمين فكان يُنْفِقُ مِنْهَا عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَةٍ فَمَا فَضَلَ جَعَلَهُ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فوليها أبو بكر بِمِثْلِ مَا وَلِيَهَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثم وليها عمر بِمِثْلِ مَا وَلِيَهَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأبو بكر فوليتكماها على أن تعملا فيها بمثل ذلك فإن عجزتما عنها فادفعاها إلي أكفيكماها (قال الشافعي) وفي ذلك دلالة على أن عمر رضي الله عن حكى أن أبا بكر وهو أمضيا ما بقي من هذه الأموال التي كانت بيد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على ما رأيا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يعمل به فيها وأنه لم يكن لهما مما لم يوجف عليه من الفيء ما للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأنهما فيه أسوة المسلمين وكذلك سيرتهما وسيرة من بعدهما وقد مضى من كان ينفق عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولم أعلم أحدا من أهل العلم قال إن(8/385)
ذلك لورثتهم ولا خالف في أن تجعل تلك النفقات حيث كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يجعل فضول غلات تلك الأموال فيما فيه صلاح للإسلام وأهله قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا يقتسمن ورثتي دينارا ما تركت بعد نفقة أهلي ومؤنة عاملي فهو صدقة " قال فما صار في أيدي المسلمين من فيء لم يوجف عليه فخمسه حيث قسمه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأربعة أخماسه على ما سأبينه وكذلك ما أخذ من مشرك من جزية وصلح عن أرضهم أو أخذ من أموالهم إذا اختلفوا في بلاد المسلمين أو مات منهم ميت لا وارث له أو ما أشبه هذا مما أخذه الولاة من المشركين فالخمس فيه ثابت على من قسمه الله له من أهل الخمس الموجف عليه من الغنيمة وهذا هو المسمى في كتاب الله تبارك وتعالى الفيء وفتح فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فتوح من قرى عربية وعدها الله رسوله قبل فتحها فأمضاها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لمن سماها الله له ولم يحبس منها ما حبس من القرى التي كانت له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ومعنى قول عمر لرسول الله خاصة يريد ما كان يكون للموجفين وذلك أربعة أخماس فاستدللنا بذلك أن خمس ذلك كخمس ما أوجف عليه لأهله وجملة الفيء ما رده الله على أهل دينه من مال من خالف دينه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْغَنِيمَةُ فَهِيَ مِنَ الْغُنْمِ، وَالْغُنْمُ مُسْتَفَادٌ بِغَيْرِ بَدَلٍ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسَ:
(وَقَدْ طَوَّفْتُ فِي الْآفَاقِ حَتَّى ... رَضِيتُ مِنَ الْغَنِيمَةِ بِالْإِيَابِ)
وَأَمَّا الْفَيْءُ: فَهُوَ الرُّجُوعُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] أَيْ تَرْجِعَ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لِمَا بَعْدَ الزَّوَالِ مِنَ الظِّلِّ فَيْءٌ لِرُجُوعِهِ وَالْأَنْفَالُ لِمَا قَبْلَ الزَّوَالِ فَيْءٌ إِلَّا عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسَ:
(تَيَمَّمَتِ الْعَيْنُ الَّتِي عِنْدَ ضَارِجٍ ... يَفِيءُ عَلَيْهَا الظِّلُّ عَرْمَضُهَا طَامِي)
[الْقَوْلُ فِي حَدِّ الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ]
وَالْغَنِيمَةُ كُلُّ مَالٍ أُخِذَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَهْرًا - بِقِتَالٍ - بِإِيجَافِ خَيْلٍ أَوْ رِكَابٍ.
سُمِّيَ غَنِيمَةً، لِاسْتِقَادَتِهِ بِغَيْرِ بَدَلٍ.
وَالْفَيْءُ كُلُّ مَا أُخِذَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَفْوًا بِغَيْرِ قِتَالٍ وَلَا إِيجَافِ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ.
سُمِّيَ فَيْئًا لِرُجُوعِهِ إِلَى أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَهْلِ طَاعَتِهِ بَعْدَ خُرُوجِهِ عَنْهُمْ إِلَى أَعْدَائِهِ وأهل معصيته.(8/386)
وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ: الْغَنِيمَةُ مَا ظُهِرَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَالْفَيْءُ مَا ظُهِرَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَرْضِينَ، وَهَذَا قَوْلٌ شَذَّ بِهِ عن الكافة فكان مطرحا معمل فِي الْفَيْءِ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر: 7] ، وَلَمْ يَقُلْ مِنَ الْقُرَى.
وَالْأَصْلُ فِي الْغَنِيمَةِ قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] .
وَالْأَصْلُ فِي الفيبء قَوْله تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى واليتامى والمساكين} [الحشر: 7] الآية.
فَصْلٌ:
وَقَدْ كَانَتِ الْغَنِيمَةُ مُحَرَّمَةً عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَانَتْ تُجْمَعُ فَتَنْزِلُ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ فَتُحْرِقُهَا إِلَى أَنْ أَحَلَّهَا اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي " إِلَى أَنْ قَالَ: " وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ " الْحَدِيثَ. فَجَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ مِلْكًا لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خالصا دون غيره بقوله تعالى: {ويسألونك عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ} [الأنفال: 1] . وَالْأَنْفَالُ: هِيَ الْغَنَائِمُ، لِأَنَّ النَّفْلَ فِي كَلَامِهِمْ هُوَ الزِّيَادَةُ مِنَ الْخَيْرِ، وَمِنْهُ صَلَاةُ النَّافِلَةِ، وَقَالَ لَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ:
(إِنَّ تَقْوَى رَبِّنَا خَيْرُ نَفَلْ ... وَبِإِذْنِ اللَّهِ رَيْثِي وَعَجَلْ}
فَسُمِّيَتِ الْغَنَائِمُ أَنْفَالًا، لِأَنَّهَا زِيَادَةُ مَالٍ مُسْتَفَادٍ، وَفِي السَّبَبِ الَّذِي نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَجْلِهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: أَنَّ أَهْلَ بَدْرٍ شَكُّوا فِي غَنَائِمِهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} [الأنفال: 1] . وَلَمْ يَعْلَمُوا حُكْمَ إِبَاحَتِهَا وَحَظْرِهَا حَتَّى سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] .
وَالثَّانِي: أَنَّ شُبَّانَ الْمُقَاتِلَةِ يَوْمَ بَدْرٍ تَسَارَعُوا إِلَى الْقِتَالِ، وَثَبَتَ الشُّيُوخُ تَحْتَ الرَّايَاتِ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَالَ الشُّبَّانُ: نَحْنُ أَحَقُّ بِالْغَنَائِمِ لِقِتَالِنَا، وَقَالَ الشُّيُوخُ: لَا تَسْتَأْثِرُوا عَلَيْنَا فَإِنَّا كُنَّا ردءا لَكُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ فِيهِمْ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ اخْتَلَفُوا وَكَانُوا أَثْلَاثًا فِي الْغَنَائِمِ أَيُّهُمْ أَحَقُّ بِهَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ، وَجَعَلَهَا اللَّهُ لِرَسُولِهِ دُونَهُمْ حَسْمًا لِتَنَازُعِهِمْ، فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيهِمْ عَلَى رَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ، وَأَدْخَلَ مِنْهُمْ ثَمَانِيَةً لَمْ يَشْهَدُوا بَدْرًا، مِنْهُمْ(8/387)
عثمان بن عفان، وطلحة - رضي الله عنهما - أَمَّا عُثْمَانُ فَلِتَشَاغُلِهِ بِتَمْرِيضِ زَوْجَتِهِ رُقَيَّةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَأَمَّا طَلْحَةُ فَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ كَانَ أَنْفَذَهُ لِيَتَعَرَّفَ خَبَرَ الْعِيرِ وَأَبِي سُفْيَانَ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَسَخَ هَذِهِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] الْآيَةَ، فَلَمَّا أَضَافَ اللَّهُ تَعَالَى مَالَ الْغَنِيمَةِ إِلَى الْغَانِمِينَ، ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْ خُمُسِهِ لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَمَنْ سَمَّى مَعَهُ أَهْلَ الْخُمُسِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى والمساكين وابن السبيل} دَلَّ عَلَى أَنَّ الْبَاقِيَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهِ مِلْكٌ لِلْغَانِمِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] . فَدَلَّ إِضَافَةُ الْمَالِ إِلَيْهِمَا عَلَى اسْتِثْنَاءِ الثُّلُثِ مِنْهُ لِلْأُمِّ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي لِلْأَبِ، ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَارَةً مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَتَارَةً مُسْنَدًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ " فَصَارَ مَالُ الْغَنِيمَةِ مَقْسُومًا عَلَى خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا، خَمْسَةٌ مِنْهَا لِأَهْلِ الْخُمُسِ وَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وذوي الْقُرْبَى، وَالْيَتَامَى، وَالْمَسَاكِينُ، وَابْنُ السَّبِيلِ، وَفِيهِ خِلَافٌ يُذْكَرُ مِنْ بَعْدُ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ وَهُوَ عِشْرُونَ سَهْمًا تُقَسَّمُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُشَارِكَهُمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ، وَلَا يُفَضَّلُ ذُو غِنًى عَلَى غَيْرِهِ، فَهَذَا حُكْمُ مَالِ الْغَنِيمَةِ.
فَصْلٌ:
[حكم مال الفيء]
وَأَمَّا مَالُ الْفَيْءِ، وَهِيَ الْأَمْوَالُ الْوَاصِلَةُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِغَيْرِ قِتَالٍ وَلَا إِيجَافِ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، كَالَّذِي انْجَلَى عَنْهُ الْمُشْرِكُونَ خَوْفًا وَرُعْبًا، كَالْأَمْوَالِ الَّتِي صَالَحُونَا بِهَا عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَدِيَارِهِمْ، وأموالهم استكفافا وتورعا، والمأخوذة من عشور أموالهم إذا دخلوا علينا فجارا وَالْجِزْيَةِ الَّتِي نُقِرُّهُمْ بِهَا فِي دَارِنَا، وَقَالَ: الخراج الْمَضْرُوبِ عَلَى أَرَاضِيهِمْ، وَالْأَرْضِينَ الْمَأْخُوذَةِ عَفْوًا مِنْهُمْ، وَقَالَ مَنْ مَاتَ فِي دَارِنَا وَلَا وَارِثَ لَهُ مِنْهُمْ، كُلُّ ذَلِكَ فَيْءٌ، لِأَنَّهُ وَاصَلٌ بِغَيْرِ قِتَالٍ وَلَا إِيجَافِ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، هَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ في الجديد، وله في التقديم قَوْلٌ آخَرُ: أَنَّ الْفَيْءَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ مَا انْجَلَى عَنْهُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ ذَلِكَ خَوْفًا وَرُعْبًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الحشر: 7] وَمَا سِوَاهُ مِنَ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ وَعُشُورِ تِجَارَتِهِمْ وَمِيرَاثِ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ لَا يَكُونُ فَيْئًا، وَيَكُونُ مَصْرُوفًا فِي الْمَصَالِحِ وَلَا يُخَمَّسُ، وَالْقَوْلُ الأول من قوله أصح، لاستواء جميعها في الوصول إلينا بِغَيْرِ قِتَالٍ وَلَا إِيجَافِ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، وَإِذَا كَانَ جَمِيعُ ذَلِكَ فَيْئًا فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ يَمْلِكُ جَمِيعَ الْفَيْءِ كَمَا مَلَكَ جَمِيعَ الْغَنِيمَةِ، وَلِذَلِكَ مَلَكَ أَمْوَالَ بَنِي النَّضِيرِ، فَكَانَتْ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ لَمْ يُشَارِكْهُ فِيهَا أَحَدٌ وَصَارَتْ مِنْ صَدَقَاتِهِ الَّتِي تَصَدَّقَ بِهَا إِلَى أَنْ أَنْزَلَ الله تعالى: {ما أفاء الله على رسوله من أهل(8/388)
الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [الحشر: 7] الْآيَةَ، فَاخْتَلَفَ النَّاسُ حِينَئِذٍ، فِيمَا اسْتَقَرَّ حكم الفيء عليه عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حنيفة: أَنَّ مَالَ الْفَيْءِ مَصْرُوفٌ فِي وُجُوهِ الْمَصَالِحِ وَلَا يُخَمَّسُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَصْرِفُهُ فِيهَا.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ: أَنَّ مَالَ الْفَيْءِ مَقْسُومٌ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيهَا سَهْمٌ كَأَحَدِ أَهْلِ الْخُمُسِ، وَلَا يَخْتَصُّ بِأَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهِ، اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مَرْدُودٌ فِيكُمْ ".
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنْ خُمُسَهُ مَقْسُومٌ عَلَى خَمْسَةٍ، مِنْهَا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَهْمٌ، وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لَهُ خَاصَّةً، فَيَكُونُ جَمِيعُ مَالِ الْفَيْءِ مَقْسُومًا عَلَى خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا، منها أحد وعشرين سَهْمًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ هِيَ لِأَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ هُمْ ذَوُو الْقُرْبَى، وَالْيَتَامَى، وَالْمَسَاكِينُ، وَابْنُ السَّبِيلِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى واليتامى والمساكين} فَأَضَافَ اللَّهُ تَعَالَى الْفَيْءَ إِلَى رَسُولِهِ كَمَا أَضَافَ الْغَنِيمَةَ إِلَى الْغَانِمِينَ، ثُمَّ اسْتَثْنَى مَنِ اسْتَثْنَاهُ فِي سَهْمِ الْغَانِمِينَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُ مَا جُعِلَ لَهُ مِنَ الْفَيْءِ مَحْمُولًا على المقدار المجعول لَهُمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَهُوَ الْخُمُسُ، وَيَكُونُ الْبَاقِي بَعْدَهُ لِمَنْ أَضَافَ الْمَالَ إِلَيْهِ وَهُوَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَمَا كَانَ الْبَاقِي مِنَ الْغَنِيمَةِ لِمَنْ أَضَافَهَا إِلَيْهِ وَهُمُ الْغَانِمُونَ.
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُيَيْنَةَ يُحَدِّثُ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ مَالِكَ بْنَ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ يَقُولُ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، وَالْعَبَّاسَ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَخْتَصِمَانِ إِلَيْهِ فِي أموال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ عُمَرُ: كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِمَّا لَمْ يُوجِفِ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، فَكَانَتْ لِرَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَالِصًا دُونَ الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُنْفِقُ مِنْهَا عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَةٍ فَمَا فَضَلَ مِنْهَا جَعَلَهُ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَوَلِيَهَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمِثْلِ مَا وَلِيَهَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثم وليتها بِمِثْلِ مَا وَلِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ سَأَلْتُمَانِي أَنْ أُوَلِّيكُمَاهَا فَوَلَّيْتُكُمَاهَا عَلَى أَنْ لَا تَعْمَلَا فِيهَا إِلَّا بِمِثْلِ مَا وَلِيَهَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ وَلِيتُمَاهَا ثُمَّ جِئْتُمَانِي تَخْتَصِمَانِ، أَتُرِيدَانِ أَنْ أَدْفَعَ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا نِصْفًا أَتُرِيدَانِ مِنِّي قضاء غير ما قضيت بينكما، أو لا؟ فَلَا وَالَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، لَا أَقْضِي بَيْنَكُمَا قَضَاءً غَيْرَ هَذَا فَإِنْ عَجَزْتُمَا عَنْهَا فَادْفَعَاهَا إِلَيَّ أَكْفِيكُمَاهَا.(8/389)
فَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ يَقْتَضِي كُلَّ مَرَّةٍ بِأَنَّ جَمِيعَ الْفَيْءِ مِلْكٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَظَاهِرُ الْآيَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ الْفَيْءِ مَقْسُومٌ عَلَى خَمْسَةٍ فَاقْتَضَى الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْخَبَرِ أَنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ خَالِصٌ لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ خُمُسَهُ مَقْسُومٌ عَلَى خَمْسَةٍ حتى يستعمل عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَنَافَيَا وَلَا يَسْقُطْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ، ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى أبي حنيفة أَنَّ مَا يَمْلِكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَكُنْ جَمِيعُهُ خُمُسًا كَالْغَنِيمَةِ، ثُمَّ يَدُلُّ عَلَيْهَا أَنَّهُ لما كَانَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ مِلْكًا لِلْغَانِمِينَ لِلْوُصُولِ إِلَيْهَا بِالرُّعْبِ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أربعة أخماس الفيء ملكا للرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للوصل إِلَيْهِ بِالرُّعْبِ مِنْهُ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ فَالْعَدُوُّ يَرْهَبُنِي مَسِيرَةَ شَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ ".
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَصْرِفُ ذَلِكَ فِي الْمَصَالِحِ، فَهُوَ أَنَّ أَمْوَالَهُ كَانَ يَصْرِفُهَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَلَا يَدُلُّ لِقُرْبِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِهَا عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ لَهَا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ مَالِكٍ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا لِيَ فِيمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ إِلَّا الْخُمُسُ " فَهُوَ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْغَنِيمَةِ دُونَ الْفَيْءِ، لِأَنَّهُ أَضَافَ ذَلِكَ إِلَيْنَا، وَالْغَنِيمَةُ هِيَ الْمُضَافَةُ إِلَيْنَا، فَأَمَّا الْفَيْءُ فَهُوَ مُضَافٌ إِلَيْهِ لَا إِلَيْنَا.
فَصْلٌ:
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حُكْمِ الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ فَالَّذِي مَلَّكَ اللَّهُ تعالى رسوله منهما مما يبين:
أَحَدُهُمَا: خُمُسُ الْخُمُسِ مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ.
وَالثَّانِي: أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ، فَأَمَّا الصَّفِيُّ مِنَ الْغَنِيمَةِ فَقَدْ كَانَ مَخْصُوصًا بِهِ، فَيَصْطَفِي مِنَ الْغَنِيمَةِ مَا شَاءَ مِنْ جَارِيَةٍ وَثَوْبٍ وَعَبْدٍ وَفَرَسٍ، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ، وَكَانَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ مِمَّا اصْطَفَاهَا لِنَفْسِهِ بِخَيْبَرَ، ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا.
وَقِيلَ إِنَّهَا سُمِّيَتْ صَفِيَّةً لِأَنَّهُ اصْطَفَاهَا لِنَفْسِهِ، وَكَانَتِ الصَّفَايَا مِمَّا يَخْتَصُّ بِهَا مُلُوكُ الْعَرَبِ مِنْ جَاهِلِيَّةٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
(لَكَ الْمِرْبَاعُ فِيهَا وَالصَّفَايَا ... وَحُكْمُكَ وَالنَّشِيطَةُ وَالْفُضُولُ)
فَصَارَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَالِكًا لِأَرْبَعَةِ أَمْوَالٍ، مَالَيْنِ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَهُوَ خُمُسُ الْخُمُسِ، وَالصَّفِيُّ، وَمَالَيْنِ مِنَ الْفَيْءِ وَهُوَ خُمُسُ خُمُسِهِ، وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ.
فَأَمَّا حُكْمُ ذَلِكَ بَعْدَ وَفَاتِهِ فَهُوَ أَنَّ مَا كَانَ قَدْ مَلَكَهُ مِنْ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ كَأَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ، وَالنِّصْفِ مِنْ فَدَكٍ، وَالثُّلُثِ مِنْ وَادِي الْقُرَى، وَثُلُثِهِ حُصُونٍ مِنْ خَيْبَرَ الْكَتِيبَةِ، وَالْوَطِيحِ، وَالسَّلَالِمِ فَهَذِهِ صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ بِهَا فِي حَيَاتِهِ لَا تُورَثُ عَنْهُ، وَمَا مُلِكَ مِنْ ذَلِكَ بعد(8/390)
وَفَاتِهِ فَسَهْمُهُ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ مَصْرُوفٌ بَعْدَهُ فِي الْمَصَالِحِ مِنَ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ، وَأَرْزَاقِ الْمُقَاتِلَةِ، وَالْقُضَاةِ وَالْأَئِمَّةِ، وَعِمَارَاتِ الْمَسَاجِدِ وَقَنَاطِرِ السَّائِلَةِ، وَأَمَّا سَهْمُهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ فَفِي مَصْرِفِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: فِي الْمُقَاتِلَةِ من الجيش الذي يَذُبُّونَ عَنِ الْبَيْضَةِ وَيُمْنَعُونَ عَنِ الْحِرْفَةِ وَيُجَاهِدُونَ الْعَدُوَّ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَلَكَهُ فِي حَيَاتِهِ لِرُعْبِ الْعَدُوِّ مِنْهُ وَرُعْبِ العدو بعده من الجيش المقاتلة، فملكوه بَعْدَهُ مَا مَلَكَهُ، فَعَلَى هَذَا يُصْرَفُ جَمِيعُهُ فِيهِمْ وَإِنْ فَضَلَ عَنْ كِفَايَتِهِمْ وَلَا يُصْرَفُ مِنْهُ شَيْءٌ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْمَصَالِحِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُصْرَفُ جَمِيعُهُ فِي الْمَصَالِحِ كُلِّهَا، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَمْلِكُ ذَلِكَ وَيَصْرِفُهُ فِيهَا، فَمِنَ الْمَصَالِحِ إعطاء الجيش، وأرزاق المقاتلة، وما قدمنا ذكر مِمَّا فِيهِ إِعْزَازُ الْإِسْلَامِ وَصَلَاحُ الْمُسْلِمِينَ، فَعَلَى هَذَا لَا تَزْدَادُ جُيُوشُ الْمُقَاتِلَةِ عَلَى قَدْرِ كِفَايَاتِهِمْ، لِخُرُوجِ الزِّيَادَةِ عَنِ الْمَصْلَحَةِ، وَأَمَّا الصَّفِيُّ فَقَدْ سَقَطَ حُكْمُهُ وَبَطَلَ أَنْ يَسْتَحِقَّهُ أَحَدٌ بَعْدَهُ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ سَهْمَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْدَهُ مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ مَصْرُوفٌ فِيمَا وَصَفْنَا فَالْإِمَامُ النَّاظِرُ فِيهِ كَأَحَدِ أَهْلِ الْجَيْشِ فِيمَا يَسْتَحِقُّ مِنْهُ، وَهُوَ قَدْرُ كِفَايَتِهِ، يَأْخُذُهُ رِزْقًا كَأَرْزَاقِ الْجَيْشِ.
وَقَالَ: يَمْلِكُ الْإِمَامُ بَعْدَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ مَا كَانَ يَمْلِكُهُ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَيَصِيرُ مَالِكًا لِخُمُسِ الْخُمُسِ مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ، وَلِأَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَا أَطْعَمَ اللَّهُ نَبِيًّا طُعْمَةً ثُمَّ قَبَضَهُ إِلَّا جَعَلَهَا لِلَّذِي أَتَى بَعْدَهُ ".
وَهَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود فيكم " فصار مردودا عليها بَعْدَ مَوْتِهِ لَا عَلَى الْخَلِيفَةِ مِنْ بَعْدِهِ، وَلِأَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْدِهِ لَمْ يَتَمَلَّكُوا مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ يَمْلِكُهُ، فَانْعَقَدَ بِهِ الْإِجْمَاعُ عَلَى رَدِّ مَا خَالَفَهُ.
فَأَمَّا الْخَبَرُ الْمُسْتَدَلُّ بِهِ فَمَعْنَاهُ: مَا أَطْعَمَ اللَّهُ نَبِيًّا طُعْمَةً إِلَّا جَعَلَ النَّظَرَ فِيهَا لِمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُ لَا مِلْكًا لَهُ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يُورَثُ، وَأَنَّ الْخَلِيفَةَ بَعْدَهُ لَا يَمْلِكُهُ، ثَبَتَ مِنَ التَّعْلِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَنَّ مَصْرِفَهُ فِيمَا وَصَفْنَاهُ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْفَيْءُ وَالْغَنِيمَةُ يَجْتَمِعَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَيَفْتَرِقَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ، فَأَمَّا وَجْهَا الِاجْتِمَاعِ.
فَأَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَأْخُوذٌ مِنْ مُشْرِكٍ.(8/391)
وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُخَمَّسُ.
وَقَالَ أبو حنيفة: مَالُ الْفَيْءِ لَا يُخَمَّسُ، وَفِي نص الآية ما يدفع قوله.
وأما وجه الِافْتِرَاقِ:
فَأَحَدُهُمَا: فِي الِاسْمِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَخْتَصُّ بِاسْمٍ وَالثَّانِي: فِي حُكْمِ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهَا فَإِنَّ مَصْرِفَهَا مُخْتَلِفٌ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي صَدْرِ هَذَا الْبَابِ " أَصْلُ مَا يَقُومُ بِهِ الْوُلَاةُ مِنْ جَعْلِ الْمَالِ ثَلَاثَةَ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: مَا أُخِذَ مِنْ مَالِ مُسْلِمٍ تَطْهِيرًا لَهُ فَذَاكَ لِأَهْلِ الصَّدَقَاتِ لَا لِأَهْلِ الْفَيْءِ، وَالْوَجْهَانِ الْآخَرَانِ مَا أُخِذَ مِنْ مَالِ مُشْرِكٍ، وَكِلَاهُمَا مُبَيَّنٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وفعله، فجعل نظر الإمام في الأموال مختص بِثَلَاثَةِ أَمْوَالٍ:
أَحَدُهَا: مَا أُخِذَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ صَدَقَاتِ أَمْوَالِهِمْ تَطْهِيرًا لَهُمْ وَهِيَ الزَّكَاةُ.
وَالثَّانِي: مَا أُخِذَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَنْوَةً وَهُوَ الْغَنِيمَةُ.
وَالثَّالِثُ: مَا أُخِذَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَفْوًا وَهُوَ الْفَيْءُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَمْوَالِ الثَّلَاثَةِ مَنْصُوصٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - عَلَى وُجُوبِهِ وَجِهَةِ مَصْرِفِهِ، وَلَيْسَ قِيَامُ الْإِمَامِ بِهِ إِلَّا قِيَامَ نِيَابَةٍ إِلَّا أَنَّهُ فِي الزكاة ينوب عن معطيها ومستحقها معا، وفي الفيء والغنيمة ينوب عن مستحقها دُونَ مُعْطِيهَا، لِأَنَّ نِيَابَتَهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ لَا عَنِ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ إِنَّ أَصْحَابَنَا اعْتَرَضُوا عَلَى هَذَا الْفَصْلِ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ مِنْ وَجْهَيْنِ: "
أَحَدُهُمَا: قَالُوا: قَدْ جَعَلَ الشَّافِعِيُّ نَظَرَ الْإِمَامِ مَقْصُورًا عَلَى النَّظَرِ فِي ثَلَاثَةِ أَمْوَالٍ، وَقَدْ يَنْظُرُ الْإِمَامُ فِي الْمَوَاتِ وَفِي الْمَعَادِنِ الْبَاطِنَةِ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ إِنَّمَا قَدْ خُصَّ الْأَمْوَالُ الثَّلَاثَةُ بِنَظَرِهِ لِاخْتِصَاصِ وُجُوبِهَا لِكِتَابِ اللَّهِ وَتَعَيُّنِ مُسْتَحِقِّيهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَيْسَ غَيْرُهَا مُسَاوِيًا لَهَا فِي هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ فَتَمَيَّزَتْ فِي نَظَرِهِ.
وَالِاعْتِرَاضُ الثَّانِي: أَنْ قَالُوا: قَدْ جُعِلَ الْإِمَامُ مُخْتَصًّا بِالْوِلَايَةِ عَلَى الصَّدَقَاتِ وَلَوْ أَخْرَجَهَا أَرْبَابُهَا أَجْزَاءً فَلَمْ يَكُنْ يَخْتَصُّ بِالْوِلَايَةِ عَلَيْهَا، وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ أَمَّا الْأَمْوَالُ الْبَاطِنَةُ وَإِنْ جَازَ لِأَرْبَابِهَا أَنْ يَنْفَرِدُوا بِإِخْرَاجِهَا فَوِلَايَتُهُ فِيهَا عَلَى مَنِ امْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهَا أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْهُ جَبْرًا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَيْهَا لَمَا اعْتَرَضَ عَلَيْهِمْ فِي أَخْذِهَا جبرا منهم، وأما الأموال الظاهرة قولان:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْ أَرْبَابِهَا أَنْ ينفردوا بإخراجها، فعلى هذا تكون وِلَايَتُهُ عَامَّةً عَلَى الْمُعْطِي وَالْمُمْتَنِعِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْهُمْ أَنْ يَنْفَرِدُوا بِإِخْرَاجِهَا، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ وِلَايَتُهُ خَاصَّةً عَلَى الْمُمْتَنِعِ دُونَ المعطي والله أعلم.(8/392)
باب الأنفال
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يَخْرُجُ مِنْ رَأْسِ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْخُمُسِ شيء غير السلب للقاتل قال أبو قتادة رضي الله عنه خرجنا مع رسول الله عام حنين قال فلما التقينا كانت للمسلمين جولة فَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ عَلَا رَجُلًا من المسلمين قال فاستدرت له حتى أتيته من ورائه فَضَرَبْتُهُ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ ضَرْبَةً فَأَقْبَلَ عَلَيَّ فَضَمَّنِي ضَمَّةً وَجَدْتُ مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ ثُمَّ أدركه الموت فأرسلني فلحقت عمر فقال ما بال الناس؟ قلت أَمْرُ اللَّهِ ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ رَجَعُوا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سلبه " فقمت فقلت من يشهد لي؟ ثم جلست يقول وأقول ثلاث مرات فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا لَكَ يَا أَبَا قَتَادَةَ؟ فَاقْتَصَصْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ صَدَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَلَبُ ذَلِكَ الْقَتِيلِ عِنْدِي فَأَرْضِهْ منه. فقال أبو بكر رضي الله عنه لاها الله إذا لَا يَعْمِدُ إِلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ تعالى يُقَاتِلُ عَنِ اللَّهِ وَعَنْ رَسُولِهِ فَيُعْطِيكَ سَلَبَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صدق فأعطه إياه " فأعطانيه فبعت الدرع وابتعت بِهِ مَخْرَفًا فِي بَنِي سَلَمَةَ فَإِنَّهُ لَأَوَّلُ مال تأثلته في الإسلام وروي أن شبر بن علقمة قال بارزت رَجُلًا يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ فَبَلَغَ سَلَبُهُ اثْنَيْ عَشَرَ ألفا فنفلنيه سعد ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ مَنْ قَتَلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مُشْرِكًا فِي مَعْرَكَةِ الْحَرْبِ فَلَهُ سَلَبُهُ، سَوَاءٌ شَرَطَهُ الْإِمَامُ لَهُ أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ، وَلَا يُخَمِّسْهُ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَهُ سَلَبُهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ. لَكِنْ يُخَمِّسُهُ.
وَقَالَ أبو حنيفة: لَيْسَ لَهُ سَلَبُهُ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْإِمَامُ لَهُ فَيُعْطِيهِ لِلشَّرْطِ مِنْ جُمْلَةِ الْخُمُسِ اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] .
وَرِوَايَةُ مُعَاذٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَيْسَ لِلْمَرْءِ إِلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إِمَامِهِ " وَبِرِوَايَةِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ وَرَافَقَنِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَتَلَ رُومِيًّا فَأَخَذَ سَلَبَهُ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَعَثَ إِلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فأخذ منه السَّلَبِ فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: يَا خَالِدُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنِّي اسْتَكْثَرْتُهُ، قُلْتُ لَتَرُدَّنَّهُ عَلَيْهِ أَوْ لَأُعَرِّفَنَّكُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن يرده،(8/393)
فَاجْتَمَعْنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ قِصَّةَ الْيَمَنِيِّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: يَا خَالِدُ ارْدُدْهُ عَلَيْهِ، قَالَ عَوْفٌ: فَقُلْتُ يَا خَالِدُ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَمَا ذَاكَ فَأَخْبَرْتُهُ فَغَضِبَ وَقَالَ: " يَا خَالِدُ لا ترده عليه، هل أنتم تاركون لي أُمَرَائِي؟ لَكُمْ صَفْوَةُ أَمْرِهِمْ وَعَلَيْهِمْ كَدَرُهُ ".
قَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: فَلَوِ اسْتَحَقَّهُ الْقَاتِلُ لَمَا اسْتَجَازَ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْهُ لِغَضَبٍ وَلَا غَيْرِهِ، قَالُوا: وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ عَوْفٍ وَمُعَاذَ بْنَ عَمْرٍو قَتَلَا أَبَا جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ فَأَعْطَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَلَبَهُ مُعَاذَ بْنَ عَمْرٍو، فَلَوْ كَانَ لِلْقَاتِلِ مَا خَصَّ بِهِ أَحَدَهُمَا.
وَاسْتَدَلُّوا مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ بِأَنْ قَالُوا: كُلُّ مَالٍ يُسْتَحَقُّ بِالتَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ يَجِبُ أَنْ يَتَعَلَّقَ اسْتِحْقَاقُهُ بِشَرْطِ الْإِمَامِ كَالنَّفْلِ، وَلِأَنَّ السَّلَبَ لَوِ اسْتُحِقَّ بِالْقَتْلِ لوجب إذا قتل موليا أَوْ رَمَاهُ مِنْ صِفِّهِ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ أَنْ يَسْتَحِقَّ سَلَبَهُ، فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ مَعَ وُجُودِ الْقَتْلِ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ بِالْقَتْلِ، وَلِأَنَّ السَّلَبَ لَوْ صَارَ بِالْقَتْلِ مِلْكًا لِلْقَاتِلِ لَوَجَبَ إِذَا وُجِدَ قَتِيلًا عَلَيْهِ سَلَبٌ لَا يُعْرَفُ قَاتِلُهُ أَنْ لَا يَغْنَمَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مِلْكًا لِمُسْلِمٍ لَا يُعْرَفُ، وفي إجماعهم على قسمة في الْغَنِيمَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بِالْقَتْلِ.
وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ أَبُو مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ " وَرَوَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ يَوْمَ خَيْبَرَ: " مَنْ قَتَلَ كَافِرًا فَلَهُ سَلَبُهُ " فَقَتَلَ أَبُو طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيُّ يَوْمَئِذٍ عِشْرِينَ كَافِرًا فَأَخَذَ أَسَلَابَهُمْ.
وَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ: أَنَّهُ ابْتِدَاءُ شَرْعٍ بَيِّنٍ فِيهِ فَاسْتُحِقَّ بِهِ السَّلَبُ وَهُوَ الْقَتْلُ، وَاعْتَمَدَ الشَّافِعِيُّ عَلَى مَا رَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ أَبِي محمد مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَامَ حُنَيْنٍ، فَلَمَّا الْتَقَيْنَا كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ قَالَ: فَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ عَلَا رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَاسْتَدَرْتُ لَهُ حَتَّى أَتَيْتُهُ مِنْ وَرَائِهِ قَالَ: فَضَرَبْتُهُ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ ضَرْبَةً، فَأَقْبَلَ عَلَيَّ فَضَمَّنِي ضَمَّةً وَجَدْتُ مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ، فَأَرْسَلَنِي، فَلَحِقْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقُلْتُ لَهُ: مَا بَالُ النَّاسِ؟ فَقَالَ أَمْرُ اللَّهِ، ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ رَجَعُوا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ " فَقُمْتُ فَقُلْتُ مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ فَجَلَسْتُ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ " فَقُمْتُ وَقُلْتُ مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ فَجَلَسْتُ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ " فَقُمْتُ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَا لَكَ يَا أَبَا قَتَادَةَ فَاقْتَصَصْتُ عَلَيْهِ القصة، فقال(8/394)
رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: صَدَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَلَبُ ذَلِكَ الْقَتِيلِ عِنْدِي فَأَرْضِهْ عَنِّي، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا هلم اللَّهِ إِذَنْ لَا يَعْمِدُ إِلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنِ اللَّهِ وَعَنْ رَسُولِهِ فَيُعْطِيكَ سَلَبَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَأَعْطِهِ إِيَّاهُ " قَالَ أَبُو قَتَادَةَ فَأَعْطَانِيهِ فَبِعْتُ الدِّرْعَ فَابْتَعْتُ بِهِ مَخْرَفًا فِي بَنِي سَلَمَةَ فَإِنَّهُ لَأَوَّلُ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: ذَلِكَ بَعْدَ الْوَقْعَةِ، وَإِجَازَةِ الْغَنِيمَةِ وَبَعْدَ قَتْلِ أَبِي قَتَادَةَ لِلْكَافِرِ، فَعَلِمَ أَنَّهُ يُسْتَحَقُّ بِالْقَتْلِ لَا بِالشَّرْطِ، فَإِنْ حَمَلُوا عَلَى شَرْطِ تَقَدُّمٍ مِنْهُ لَمْ يَصِحَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِثْبَاتُ مَا لَمْ يُنْقَلْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ بَيَانُ شَرْعٍ وَإِنْ تَقَدَّمَ كَمَا يَكُونُ بَيَانُهُ، لِأَنَّهُ نَقْلُ سَبَبٍ عُلِّقَ عَلَيْهِ حُكْمٌ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ تَقَدَّمَ شَرْطٌ لَأَخَذَهُ أَبُو قَتَادَةَ وَلَمْ يَدَّعِيهِ أَوْ لَا يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ عَلَى قَتْلِهِ، فَإِنْ قِيلَ: فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَعَلَ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ بَالْبَيِّنَةِ وَقَدْ أَعْطَاهُ أَبَا قَتَادَةَ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَعْطَاهُ نَفْلًا لَاحِقًا، فَعَنْ ذَلِكَ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْ كَانَ يَدُهُ عَلَى السَّلَبِ فَقَدْ صَدَّقَهُ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى بَيِّنَةٍ.
وَالثَّانِي: رُوِيَ أَنَّهُ شَهِدَ لِأَبِي قَتَادَةَ اثْنَانِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ وَالْأَسْوَدُ بْنُ خُزَاعِيٍّ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْقِيَاسِ أَنَّهُ مَالٌ مَغْنُومٌ، يُسْتَحَقُّ بِسَبَبٍ لَا يَفْتَقِرُ تَقْدِيرُهُ إِلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ فِيهِ شَرْطُ الْإِمَامِ كَسَهْمِ الْغَانِمِينَ طَرْدًا أَوِ النَّفْلِ عَكْسًا؛ وَلِأَنَّهُ ذُو سَهْمٍ تَحَرَّرَ بِنَفْسِهِ فِي قَتْلِ كَافِرٍ فَقَاتَلَ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّ سَلَبَهُ قِيَاسًا عَلَيْهِ إِذَا شَرَطَهُ الْإِمَامُ لَهُ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ السَّلَبَ خَارِجٌ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ قَالَ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41] وَلَيْسَ السَّلَبُ مَا غَنِمُوهُ وَإِنَّمَا غَنِمَهُ أَحَدُهُمْ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ بَيَانٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِجْمَالِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: لَيْسَ لِأَحَدٍ إِلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إِمَامِهِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ نَفْسَ الْإِمَامِ إِمَامِ الْأَئِمَّةِ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ طَابَتْ بِهِ فَكَانَتْ أَوْكَدَ مِنْ أَنْ تَطِيبَ بِهِ نَفْسُ إِمَامٍ مِنْ بَعْدِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَامٌّ يُحْمَلُ عَلَى النَّفْلِ، وَيُخَصُّ مِنْهُ السَّلَبُ، وَأَمَّا حَدِيثُ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ فَهُوَ دَلِيلٌ لَنَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ عوفا وخالد اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ، وَلَكِنِ اسْتَكْثَرَهُ خَالِدٌ، وَاسْتِحْقَاقُ السَّلَبِ لَا يَسْقُطُ بِالْكَثْرَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ عَوْفًا حِينَ أَخْبَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَسْأَلْ عَنِ الشَّرْطِ.(8/395)
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ أَمَرَ خَالِدًا بِرَدِّهِ عَلَى الْقَاتِلِ، فأما قوله لخالد حين غضب " لا ترده " فَتَأْدِيبٌ مِنْهُ لِعَوْفٍ حَتَّى لَا يَنْبَسِطَ الرَّعَايَا عَلَى الْأُمَرَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ رَدَّهُ مِنْ بَعْدُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ إِعْطَائِهِ سَلَبَ أَبِي جَهْلٍ لِأَحَدِ قَاتِلِيهِ فَالْمَرْوِيُّ أَنَّ ابْنَيْ عَفْرَاءَ أَثْخَنَا أَبَا جَهْلٍ جِرَاحًا، وَخَرَّ صَرِيعًا فَأَتَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ لِيَجُزَّ رَأْسَهُ، فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: ابْنُ مَسْعُودٍ، فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ رُوَيْعِينَا بِالْأَمْسِ فَمَكِّنْ يَدَيْكَ وَجُزَّ الرَّقَبَةَ مَعَ الرَّأْسِ إِذَا لَقِيتَ أُمَّكَ فَأَخْبِرْهَا أَنَّكَ قَتَلْتَ أَبَا الْحَكَمِ فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَأَخَذَ رَأْسَهُ مَعَ القبة وَكَانَ قَصْدُ أَبِي جَهْلٍ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَبْهَى لِرَأْسِهِ، ثُمَّ أَخْبَرَ أُمَّهُ بِذَلِكَ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَعْتَقَ تِسْعِينَ رَجُلًا مِنْ قَوْمِكَ، ودفع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى ابْنَيْ عَفْرَاءَ أَوْ إِلَى أَحَدِهِمَا بِحَسْبِ اخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ أَثْخَنَهُ بِالْجِرَاحِ وَبِإِثْخَانِ الْمَقْتُولِ يُسْتَحَقُّ السَّلَبُ لَا بِإِمَاتَةِ نَفْسِهِ وَرُوحِهِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى النَّفْلِ فَالْمَعْنَى فِيهِ افْتِقَارُ النَّفْلِ إِلَى تَقْدِيرِ الْإِمَامِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ السَّلَبُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: لَوْ كَانَ مُسْتَحِقًّا بِالْقَتْلِ لَاسْتَحَقَّهُ إِذَا قَتَلَهُ مُوَلِّيًا أَوْ رَمَاهُ بِسَهْمٍ، فَهُوَ أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ بِقَتْلٍ عَلَى صِفَةٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِلْقَاتِلِ مِغْرَارًا بِنَفْسِهِ وَيَكُفَّ شَرَّ الْمَقْتُولِ بِقَتْلِهِ، وَهُوَ إِذَا رَمَاهُ لَمْ يُغَرِّرْ، وَإِذَا قَتَلَهُ مُوَلِّيًا فَقَدْ كَفَّ الْمُوَلِّي شَرَّ نَفْسِهِ، أَلَا تَرَاهُ لَوِ اسْتَحَقَّهُ بِشَرْطِ الْإِمَامِ لَمْ يَسْتَحِقَّهُ إِلَّا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: لَوْ كَانَ السَّلَبُ مُسْتَحَقًّا بِالْقَتْلِ لَوَجَبَ أَنْ لَا يُغْنَمَ سَلَبُ مَقْتُولٍ لَا يُعْرَفُ قَاتِلُهُ فَهُوَ أَنَّهُ قَدْ يَسْتَحِقُّ بِقَتْلٍ عَلَى صِفَةٍ لَمْ يُغْنَمْ بِغَنِيمَةٍ فَيُمْنَعُ مِنْ قَسْمِهِ، فَلِذَلِكَ قُسِّمَ، أَلَا تَرَى لَوْ شَرَطَهُ الْإِمَامُ لَكَانَ مَغْنُومًا إِذَا لَمْ يَتَيَقَّنْ مُسْتَحِقَّهُ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ عَلَى صِفَةٍ لَا يَسْتَحِقُّ بِهَا السَّلَبَ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا مَالِكٌ فَاسْتَدَلَّ عَلَى تَخْمِيسِ السَّلَبِ بِقَوْلِهِ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] وَلِأَنَّهُ مَالٌ مَغْنُومٌ فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْغَنَائِمِ، وَدَلِيلُنَا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْأَخْبَارِ مِنْ إِعْطَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - السَّلَبَ مِنْ غَيْرِ تَخْمِيسٍ. وَرُوِيَ أَنَّ سَلَمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِ قَتَلَ رَجُلًا فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنْ قَتَلَهُ؟ قَالُوا سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ قَالَ: لَهُ سَلَبُهُ ".
وَهَذَا نَصٌّ.
وَرَوَى سُفْيَانُ عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ عَلْقَمَةَ قَالَ: قَتَلْتُ رَجُلًا يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ فَبَلَغَ سَلَبُهُ اثني عشر ألفا فنفلنيه سعد، ولأنه أَهْلَ الْغَنِيمَةِ أَقْوَى مِنْ أَهْلِ الْخُمُسِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: كَثْرَةُ سَهْمِهِمْ.
وَالثَّانِي: حُضُورُهُمُ الْوَقْعَةَ مَعَ الْقَاتِلِ، ثُمَّ كَانُوا مَعَ قُوَّتِهِمْ لَا يُشَارِكُونَ الْقَاتِلَ فِي السَّلَبِ، فَلَأَنْ لَا يُشَارِكَهُ أَهْلُ الْخُمُسِ الَّذِينَ هُمْ أَضْعَفُ أَوْلَى، وَالْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ قَدْ مَضَى وَقِيَاسُهُمْ عَلَى الْغَنِيمَةِ مَدْفُوعٌ بهذا الاستدلال.(8/396)
فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ مِنْ غَيْرِ تَخْمِيسٍ فَهُوَ لَهُ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِرَاقِ: هُوَ لَهُ مِنَ الْخُمْسِ سَهْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمُعَدِّ لِوُجُوهِ الْمَصَالِحِ، فَإِنْ زَادَ السَّلَبُ عَلَيْهِ رُدَّتِ الزِّيَادَةُ إِلَى الْقِسْمَةِ اعْتِبَارًا بِالنَّفْلِ الْمُسْتَحَقِّ من الخمس، وهذا غير صحيح؛ لأنه قَتِيلَ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَلَبَهُ لَهُ أَجْمَعَ - وَكَانَ جَمِيعَ الْغَنِيمَةِ - لِأَنَّهُ لَمْ يَغْنَمْ سِوَاهُ، وَلِأَنَّ مَا اسْتُحِقَّ مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ وَلَا شَرْطٍ كَانَ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ دُونَ الْخُمُسِ كَالسِّهَامِ، وَخَالَفَ النَّفْلَ الَّذِي لَا يُسْتَحَقُّ إِلَّا بِاجْتِهَادٍ أَوْ شَرْطٍ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا صَحَّ مَا وَصَفْنَا مِنَ اسْتِحْقَاقِ السَّلَبِ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ مِنْ غَيْرِ تَخْمِيسٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ: هَلْ هُوَ ابْتِدَاءُ عَطِيَّةٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؟ أَوْ بَيَانٌ لِمُجْمَلِ الْآيَةِ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ابْتِدَاءُ عَطِيَّةٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ بَيَانٌ لِمُجْمَلِ الْآيَةِ، ولهذين الْقَوْلَيْنِ بَيَانٌ نَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَالَّذِي لَا أَشُكُّ فِيهِ أَنْ يُعْطَى السَّلَبُ مَنْ قَتَلَ مُشْرِكًا مُقْبِلًا مُقَاتِلًا مِنْ أَيِّ جهة قتله مبارزا أو غير مبارز وقد أعطى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سلب مرحب من قتله مبارزا وأبو قتادة غير مبارز ولكن المقتولين مقبلان ولقتلهما مقبلين والحرب قائمة مؤنة ليست له إذا انهزموا أو انهزم المقتول وفي حديث أبي قتادة رضي الله عنه دل عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " من قتل قتيلا له عليه بينة " يوم حنين بعد ما قتل أبو قتادة الرجل فأعطاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذلك حكم عندنا (قال الشافعي) ولو ضربه ضَرَبَهُ فَقَدَّ يَدَيْهِ أَوْ رِجْلَيْهِ ثُمَّ قَتَلَهُ آخر فإن سلبه للأول وإن ضربه ضربة وهو ممتنع فقتله آخر كان سلبه للآخر ولو قتله اثنان كان سلبه بينهما نصفين وهذا صحيح ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا ثَبَتَ أَنَّ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ مِنْ غَيْرِ تَخْمِيسٍ فَاسْتِحْقَاقُ الْقَاتِلِ مُعْتَبَرٌ بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ الْحَرْبُ قَائِمَةً وَالْقِتَالُ مُسْتَمِرًّا، فَإِنْ قَتَلَهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ وَانْجِلَاءِ الْوَاقِعَةِ فَلَا سَلَبَ لَهُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ مُقْبِلًا عَلَى الْحَرْبِ، سَوَاءٌ كَانَ يُقَاتِلُ أَوْ لَا يُقَاتِلُ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلْ فَهُوَ رَدٌّ لِمَنْ تَقَاتَلَ، فأما إن قتله وهو مولي عن الحرب تاركا لَهَا فَلَا سَلَبَ لَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ فَرَّ فَيَكُونُ لَهُ سَلَبُهُ؛ لِأَنَّ الْحَرْبَ كَرٌّ وَفَرٌّ، لَكِنْ فَرْقٌ بَيْنَ أَنْ يَقْتُلَهُ مِنْ أَمَامِهِ أَوْ مِنْ وَرَائِهِ فِي اسْتِحْقَاقِ سَلَبِهِ؛ لِأَنَّ أَبَا قَتَادَةَ قَتَلَ الْمُشْرِكَ الَّذِي أَخَذَ سَلَبَهُ مِنْ وَرَائِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ فِي قَتْلِهِ مُغَرِّرًا بِنَفْسِهِ إِمَّا بِأَنْ يَقْتُلَهُ مُبَارَزَةً أَوْ غَيْرَ مُبَارَزَةٍ، وَإِذَا خَرَجَ الْقَاتِلُ عَنْ صَفِّهِ فَغَرَّرَ، فَأَمَّا إِذَا قَتَلَهُ مِنَ الصَّفِّ بِسَهْمٍ رَمَاهُ فَلَا سَلَبَ لَهُ.(8/397)
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ مُمْتَنِعًا بِسَلَامَةِ جِسْمِهِ حَتَّى قُتِلَ لِيَكُونَ فِي الْقَتْلِ كَفٌّ لِشَرِّهِ وَأَمَّا إِنْ كَانَ قَدْ صَارَ بِجِرَاحٍ قَدْ تَقَدَّمَتْ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ فَسَلَبُهُ لِمَنْ كَفَّهُ وَمَنَعَهُ دُونَ مَنْ قَتَلَهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعْطَى سَلَبَ أَبِي جَهْلٍ ابْنَ عَفْرَاءَ دُونَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَإِنْ كَانَ هُوَ الْقَاتِلُ؛ لِأَنَّهُمَا صَرَعَاهُ فَجَرَحَاهُ وَكَفَّاهُ عَنِ الْقِتَالِ، وَصِفَةُ الْكَفِّ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ اسْتِحْقَاقُ السَّلَبِ أَنْ يَجْتَمِعَ شَرْطَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنَالَهُ مِنَ الْجِرَاحِ مَا يَعْجِزُ مَعَهُ عَنِ الْقِتَالِ فَيَصِيرُ بِهِ مَكْفُوفَ الشَّرِّ، وَسَوَاءٌ قَطَعَ أَطْرَافَهُ الْأَرْبَعَةَ أَوْ بَعْضَهَا أَوْ كَانَ الْجِرَاحُ فِي غَيْرِ أَطْرَافِهِ، وَقَدْ رَوَى الْمُزَنِيُّ: " وَلَوْ ضَرَبَهُ فَقَدَّ يَدَيْهِ أَوْ رِجْلَيْهِ ثُمَّ قَتَلَهُ آخَرُ فَإِنَّ سَلَبَهُ لِلْأَوَّلِ ".
وَرَوَى الرَّبِيعُ: " وَلَوْ ضَرَبَهُ فَقَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ " وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ فِيمَا يَصِيرُ بِهِ مَكْفُوفًا كَمَا وَهِمَ فِيهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ فِيهِ بِأَنْ يَصِيرَ بِالْجِرَاحِ عَاجِزًا عَنِ الْقِتَالِ صَرِيعًا.
وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ لَا تَطُولَ بِهِ مُدَّةُ الْحَيَاةِ بَعْدَ الْجِرَاحِ، فَيُكْفَى شَرَّ رَأْيِهِ وَتَدْبِيرِهِ فَيَصِيرُ بِاجْتِمَاعِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ سَلَبُهُ لِلْجَارِحِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي الْقَاتِلِ.
وَأَمَّا إِنْ جَرَحَهُ جِرَاحَةً لَا تَطُولُ مُدَّةُ الْحَيَاةِ بَعْدَهَا لَكِنَّهُ قَدْ يُقَابِلُ مَعَهُ فَلَا سَلَبَ لِجَارِحِهِ؛ لِأَنَّ مَا كَفَى شَرَّ قِتَالِهِ وَالسَّلَبُ لِقَاتِلِهِ وَلَوْ نَالَهُ بِالْجِرَاحِ مَا كَفَّهُ عَنِ الْقِتَالِ وَأَعْجَزَهُ عَنْهُ أَبَدًا، لَكِنْ طَالَتْ بِهِ مُدَّةُ الْحَيَاةِ بَعْدَهُ فَفِي سَلَبِهِ قَوْلَانِ مِنْ قَتْلِ الشُّيُوخِ:
أَحَدُهُمَا: السَّلَبُ لِجَارِحِهِ دُونَ قَاتِلِهِ إِذَا قِيلَ إِنَّ الشُّيُوخَ وَالرُّهْبَانَ لَا يُقْتَلُونَ.
وَالثَّانِي: لِقَاتِلِهِ دُونَ جَارِحِهِ إِذَا قِيلَ يُقْتَلُونَ، فَهَذِهِ الشُّرُوطُ الَّتِي ذَكَرْنَا يُسْتَحَقُّ السَّلَبُ بِهَا، وَقَالَ دَاوُدُ وَأَبُو ثَوْرٍ: " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ " وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعْطَى سَلَبَ أَبِي جَهْلٍ لِابْنِ عَفْرَاءَ دُونَ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَإِنْ كَانَ قَاتِلًا، وَقِيلَ: إِنَّهُ تقلد منه سيفه وحده.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَالسَّلَبُ الَّذِي يَكُونُ لِلْقَاتِلِ كُلُّ ثَوْبٍ يَكُونُ عَلَيْهِ وَسِلَاحُهُ وَمِنْطَقَتُهُ وَفَرَسُهُ إِنْ كَانَ رَاكِبَهُ أَوْ مُمْسِكَهُ وَكُلُّ مَا أُخِذَ مِنْ يَدِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا كَانَ السَّلَبُ مُسْتَحَقًّا بِالْقَتْلِ الَّذِي وَصَفْنَاهُ انْتَقَلَ الْكَلَامُ فِيهِ إِلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ:
أَحَدُهَا: فِيمَنْ يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ مِنَ الْقَاتِلِينَ.
الثَّانِي: فِيمَنْ يَسْتَحِقُّ سَلَبَهُ عَنِ الْمَقْتُولِينَ.
وَالثَّالِثُ: فِيمَا يَكُونُ سَلَبًا مُسْتَحَقًّا بِالْقَتْلِ.
فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ وَهُوَ: الْقَاتِلُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ فَهُوَ كُلُّ ذِي سَهْمٍ فِي الْغَنِيمَةِ مِنْ فَارِسٍ وَرَاجِلٍ فَلَهُ سَلَبُ قَتِيلِهِ.
فَأَمَّا مَنْ لَا سَهْمَ لَهُ فِي الْغَنِيمَةِ فَضَرْبَانِ:(8/398)
أَحَدُهُمَا: مَنْ لَا سَهْمَ لَهُ لِكُفْرِهِ.
وَالثَّانِي: لِنَقْصِهِ.
فَأَمَّا مَنْ لَا سَهْمَ لَهُ بِكُفْرِهِ كَالْمُشْرِكِ إِذَا قَتَلَ مُشْرِكًا فَلَا سَلَبَ لَهُ إِنْ قُتِلَ؛ لِأَنَّ السَّلَبَ غَنِيمَةٌ نَقَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُنْقَلَ عَنْهُمْ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَإِنَّمَا يُعْطَوْنَ إِذَا قَاتَلُوا أَجْرًا مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ لَا سَهْمًا مِنَ الْغَنِيمَةِ.
وَأَمَّا مَنْ لَا سَهْمَ لَهُ لِنَقْصِهِ كَالْعَبِيدِ وَالصِّبْيَانِ، وَالنِّسَاءِ فَفِي اسْتِحْقَاقِهِمْ فِي السَّلَبِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي السَّلَبِ، هَلْ هُوَ ابْتِدَاءُ عَطِيَّةٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؟ أَوْ بَيَانٌ لِمُجْمَلِ الْآيَةِ؟ فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ ابْتِدَاءُ عَطِيَّةٍ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُعْطِيَهُ الْقَاتِلُ عَبْدًا كَانَ أَوْ صَبِيًّا أَوِ امْرَأَةً؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ " وَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ بَيَانٌ لِمُجْمَلِ الْآيَةِ لَمْ يُعْطَ الْعَبْدُ وَالصَّبِيُّ وَالْمَرْأَةُ وَإِنْ كَانُوا قَاتِلِينَ؛ لِأَنَّ تَمَلُّكَ السَّهْمِ مِنَ الْغَنِيمَةِ مُسْتَحَقٌّ لِمُجَرَّدِ الْحُضُورِ؛ فَلَمَّا ضَعُفُوا عَنْ تَمَلُّكِهِ كَانُوا عَنْ تَمَلُّكِ السَّلَبِ أَضْعَفَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا مَنْ يَسْتَحِقُّ سَلَبَهُ مِنَ الْمَقْتُولِينَ فَهُمْ مَنْ جَازَ قَتْلُهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَالْمُشْرِكُونَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مُقَاتِلَةٌ ومن دونهم، من الذُّرِّيَّةِ، وَمَنْ فَوْقَهُمْ مِنَ الشُّيُوخِ وَالرُّهْبَانِ.
فَأَمَّا الْمُقَاتِلَةُ فَسَلَبُ مَنْ قُتِلَ سَهْمٌ لِقَاتِلِهِ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُمْ مُبَاحٌ لَهُ، سَوَاءٌ قَاتَلُوا أَوْ لَمْ يُقَاتِلُوا.
وَأَمَّا الذُّرِّيَّةُ وَهُمُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ فَإِنْ قَاتَلُوا كَانَ قَتْلُهُمْ مُبَاحًا وَلِلْقَاتِلِ سَلَبُ مَنْ قَتَلَهُ مِنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلُوا حَرُمَ قَتْلُهُمْ؛ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ، وَلَا سَلَبَ لِقَاتِلِهِمْ؛ لِحَظْرِ قَتْلِهِمْ عَلَيْهِ لَكِنَّهُ يَكُونُ مَغْنُومًا؛ لِأَنَّهُ مَالُ مُشْرِكٍ.
وَأَمَّا الشُّيُوخُ وَالرُّهْبَانُ فَإِنْ قَاتَلُوا جَازَ قَتْلُهُمْ، وَكَانَ لِلْقَاتِلِ سَلَبُ مَنْ قَتَلَهُ مِنْهُمْ وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلُوا فَفِي جَوَازِ قَتْلِهِمْ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ قَتْلُهُمْ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ سَلَبُهُمْ لِلْقَاتِلِ.
وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ، فَعَلَى هَذَا لَا سَلَبَ لِقَاتِلِهِمْ وَيَكُونُ مَغْنُومًا.
فَصْلٌ:
[القول فيما يكون السلب]
وَأَمَّا مَا يَكُونُ سَلَبًا فَمَا ظُهِرَ عَلَيْهِ فِي الْوَقْعَةِ مِنْ مَالِ الْمَقْتُولِ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا يَكُونُ سَلَبًا، وَهُوَ ما كان راكبه من فرسه أَوْ بَعِيرٍ، وَمُسْتَجِنًّا بِهِ مِنْ دِرْعٍ وَمِغْفَرٍ وَمُتَّقٍ بِهِ مِنْ تُرْسٍ وَدَرَقَةٍ وَمُقَاتِلٍ بِهِ مِنْ سَيْفٍ أَوْ رُمْحٍ، فَهَذَا كُلُّهُ مَعَ مَا عَلَى الْفَرَسِ مِنْ سَرْجٍ وَلِجَامٍ، وَمَا عَلَى الْمَقْتُولِ مِنْ حُلِيٍّ وَلِبَاسٍ سَلَبٌ يَسْتَحِقُّهُ الْقَاتِلُ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَا يَكُونُ سَلَبًا وَيَكُونُ غَنِيمَةً، وَهُوَ مَا فِي رَحْلِهِ مِنْ مَالٍ وَرَحْلٍ وَسِلَاحٍ وَخَيْلٍ، فَهَذَا كُلُّهُ غَنِيمَةٌ يَشْتَرِكُ فِيهَا جَمِيعُ الْجَيْشِ، وَلَا يَخْتَصُّ الْقَاتِلُ بِشَيْءٍ مِنْهُ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهِ وَهُوَ كلما كانت يده عليه في المعركة قوة على القتال(8/399)
وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُقَاتِلٍ بِهِ فِي الْحَالِ كالفرس الذي بجنبه عدة لقتاله أو هيمان النفقة الذي في وسطه قوة ليستعين بِهَا عَلَى قِتَالِهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ سَلَبًا؛ لِأَنَّهُ قُوَّةٌ لَهُ عَلَى قِتَالِنَا فَصَارَ كَالَّذِي يُقَاتِلُ بِهِ.
وَالثَّانِي: يَكُونُ غَنِيمَةً وَلَا يَكُونُ سَلَبَا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقَاتِلٍ بِهِ وَإِنْ كَانَ قُوَّةً لَهُ كَالَّذِي فِي رَحْلِهِ.
فَصْلٌ:
وَإِذَا أَسَرَ الْمُسْلِمُ مُشْرِكًا غَرَّرَ بِنَفْسِهِ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ فِي أَسْرِهِ وَلَمْ يَقْتُلْهُ فَفِي اسْتِحْقَاقِ سَلَبِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَسْتَحِقُّهُ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ " وَهَذَا لَمْ يَقْتُلْهُ وَلَا كَفَى الْمُسْلِمِينَ شَرَّهُ، فَعَلَى هَذَا إِنْ قَتَلَهُ بَعْدَ أَسْرِهِ فَإِنْ كَانَ وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ، وَإِنْ قَتَلَهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَسْتَحِقُّهُ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ بِسَبَبٍ كَانَ مِنْهُ فِي وَقْتِ الْحَرْبِ.
وَالثَّانِي: لَا سَلَبَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْحَرْبَ قَدِ انْقَطَعَ حُكْمُهَا بِانْقِضَائِهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ سَلَبَ أَسْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَقْتُلْهُ؛ لِأَنَّ تَغْرِيرَهُ لِنَفْسِهِ فِي الْأَسْرِ أَعْظَمُ، وَلِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى الْأَسْرِ فَهُوَ عَلَى الْقَتْلِ أَقْدَرُ، فَإِنْ سَلَّمَهُ إِلَى الْإِمَامِ حَيًّا أَعْطَاهُ الْإِمَامُ سَلَبَهُ، وَكَانَ مُخَيَّرًا فِيهِ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: بَيْنَ أَنْ يَقْتُلَ، أَوْ يَمُنَّ عَلَيْهِ، أَوْ يَسْتَرِقَّهُ، أَوْ يُفَادِيَ، فَإِنْ قَتَلَهُ أَوْ مَنَّ عَلَيْهِ فَلَيْسَ لِلَّذِي أَسَرَهُ غَيْرُ سَلَبِهِ، وَإِنِ اسْتَرَقَّهُ أَوْ فَادَى بِهِ عَلَى مَالٍ كَانَ حُكْمُ اسْتِرْقَاقِهِ وَمَالِ فِدَائِهِ كَحُكْمِ السَّلَبِ فَيَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أحدهما: غنيمة إذا قلنا إن السلب لمن أسره.
وَالثَّانِي: لِمَنْ أَسَرَهُ إِذَا قُلْنَا: إِنَّ السَّلَبَ لمن أسره.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَالنَّفْلُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ نَفَّلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ غَنِيمَةٍ قِبَلَ نَجْدٍ بَعِيرًا بَعِيرًا وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ كَانُوا يُعْطَوْنَ النَّفْلَ مِنَ الخمس (قال الشافعي) رحمه الله نفلهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ خُمُسِهِ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ بِسَائِرِ مَالِهِ فِيمَا فِيهِ صَلَاحُ الْمُسْلِمِينَ وَمَا سِوَى سَهْمِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من جميع الخمس لمن سماه الله تعالى فينبغي للإمام أن يجتهد إذا كثر العدو واشتدت شوكته وقل من بإزائه من المسلمين فينفل منه اتباعا لسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وإلا لم يفعل وقد روي في النفل في البداءة والرجعة الثلث في واحدة والربع في الأخرى وروى ابن عمر أنه نفل نصف السدس وهذا يدل على أنه ليس للنفل حد لا يجاوزه الإمام ولكن على الاجتهاد ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.(8/400)
قَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْبَابِ أَنَّ النَّفْلَ فِي كَلَامِهِمْ هُوَ زِيَادَةٌ مِنَ الْخَيْرِ، وَهُوَ ها هنا الزِّيَادَةُ مِنَ الْغَنِيمَةِ يُخْتَصُّ بِهَا بَعْضُ الْغَانِمِينَ دُونَ بَعْضٍ. وَقَدْ تَكُونُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: السَّلَبُ، يَسْتَحِقُّهُ الْقَاتِلُ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ.
وَالثَّانِي: ما ادعى إلى التَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ وَالِاجْتِهَادِ فِي الظَّفَرِ، مِثْلَ: أَنْ يَقُولَ الْإِمَامُ أَوْ أَمِيرُ الْجَيْشِ مَنْ يُقَدَّمْ فِي السَّرَايَا إِلَى دَارِ الْحَرْبِ فَلَهُ كَذَا وَكَذَا، وَمَنْ فَتَحَ هَذِهِ الْقَلْعَةَ فَلَهُ كَذَا وَكَذَا، أَوْ مَنْ قَتَلَ فُلَانًا فَلَهُ كَذَا، أَوْ مَنْ أَقَامَ كَمِينًا فَلَهُ كَذَا، فَهَذَا جَائِزٌ، سَوَاءً جَعَلَ مَا بَذَلَهُ مُقَدَّرًا فِي الْغَنِيمَةِ كَقَوْلِهِ: فَلَهُ أَلْفُ دِينَارٍ أَوْ جَعَلَهُ شَائِعًا فِي الْغَنِيمَةِ كَقَوْلِهِ: فَلَهُ رُبْعُ الغنيمة أو ثلثها، أو جعله مقدار بِالسَّهْمِ فِيهَا كَقَوْلِهِ: فَلَهُ نِصْفُ مِثْلِ سَهْمٍ، كُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ إِذَا دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعَثَ سَرِيَّةً قِبَلَ نَجْدٍ فَغَنِمُوا إِبِلًا كَثِيرَةً فَكَانَتْ سِهَامُهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا أَوْ أَحَدَ عَشَرَ بَعِيرًا ثُمَّ نَفَلُوا بَعِيرًا.
وَرَوَى زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ مُسْلِمٍ أَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَفَلَ الثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ فِي بُدَائِهِ.
وَرَوَى مَكْحُولٌ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَنْفُلُ فِي الْبُدَاءَةِ الرُّبُعَ وَفِي الرُّجْعَةِ الثُّلُثَ.
وَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْبُدَاءَةَ أَنْ يَبْتَدِئَ بِإِنْفَاذِ سَرِيَّةٍ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ فَجَعَلَ لَهَا الرُّبُعَ، وَالرُّجْعَةَ أَنْ يُنْفِذَ بَعْدَهَا سَرِيَّةً ثَانِيَةً فَيَجْعَلُ لَهَا الثُّلُثَ فَيَزِيدُ الثَّانِيَةَ؛ لِأَنَّهَا تَدْخُلُ بَعْدَ عِلْمِ أَهْلِ الْحَرْبِ بِالْأُولَى.
وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّ الْبُدَاءَةَ أَنْ يُنْفِذَ سَرِيَّةً فِي ابْتِدَاءِ دُخُولِهِ دَارَ الْحَرْبِ فَيَجْعَلُ لَهَا الرُّبُعَ، وَلِلْرُّجْعَةِ أَنْ يُنْفِذَهَا بَعْدَ رُجُوعِهِ عَنْ دَارِ الْحَرْبِ فَيَجْعَلُ لَهَا الثُّلُثَ؛ لِأَنَّهَا بِرُجُوعِ الْجَيْشِ أَكْثَرُ تَغْرِيرًا مِنَ الْأُولَى.
وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْبُدَاءَةَ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالْقَوْلِ فَيَقُولُ مَنْ يَفْتَحُ هَذَا الْحِصْنَ وَلَهُ الرُّبُعُ إِمَّا مِنْ غَنَائِمِهِ وَإِمَّا مِثْلٌ مِنْ رُبْعِ سَهْمِهِ فَلَا يُجِيبُهُ أَحَدٌ فَيَرْجِعَ فَيَقُولُ ثَانِيَةً مَنْ يَفْتَحُهُ وَلَهُ الثُّلُثُ فَيُجَابُ إِلَيْهِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ بُدَاءَةً وَالثَّانِي رُجْعَةً، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ يَتَحَدَّدُ الْأَقَلُّ فِي الْبُدَاءَةِ بِالرُّبُعِ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَوَى أَنَّهُ نَفَلَ نِصْفَ السُّدُسِ بَعِيرًا مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ وَلَا يَتَحَدَّدُ الْأَكْثَرُ فِي الرُّجْعَةِ بِالثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِالْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ وَكَانَ تَقْدِيرُهُ فِي الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ مُوكَلًا(8/401)
إِلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ، وَلَوْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى أَنْ يَبْذُلَ فِي الْبُدَاءَةِ بِدُخُولِ الْحَرْبِ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ يَبْذُلُهُ فِي الرُّجْعَةِ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ فِي الْبُدَاءَةِ مُتَوَفِّرُونَ وَفِي الرُّجْعَةِ مَهْزُومُونَ جَازَ ثُمَّ يَكُونُ هَذَا النَّفْلُ الَّذِي جُعِلَ لَهُمْ فِي الْبُدَاءَةِ وَالرُّجْعَةِ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ وَهُوَ خُمْسِ الْخُمْسِ سَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمَصْرُوفُ بَعْدَهُ فِي وُجُوهِ الْمَصَالِحِ لِرِوَايَةِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: كَانَ النَّاسُ يُعْطَوْنَ النَّفْلَ مِنَ الْخُمُسِ يَعْنِي خُمُسَ الْخُمُسِ؛ وَلِأَنَّهُ مَبْذُولٌ فِي الْمَصَالِحِ فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْمَصَالِحِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّرَ بِشَرْطِ الْإِمَامِ وَاجْتِهَادِهِ بِخِلَافِ السَّلَبِ كَانَ مَأْخُوذًا مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ لأمن أَصْلِ الْغَنِيمَةِ بِخِلَافِ السَّلَبِ، وَحَكَى ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَوْلًا ثَانِيًا أَنَّهُ كَالرَّضْخُ الْمُسْتَحَقُّ مِنَ الْغَنِيمَةِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ؛ لِأَنَّ الرُّبُعَ فِي الْبُدَاءَةِ وَالثُّلُثَ فِي الرُّجْعَةِ أَكْثَرُ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ؛ لِأَنَّ الثُّلُثَ سَهْمٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَخُمُسَ الْخُمُسِ سَهْمٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ تَأْوِيلَانِ، وَهُمَا لَهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَعَلَ الرُّبُعَ فِي الْبُدَاءَةِ وَالثُّلُثَ فِي الرُّجْعَةِ مِمَّا اخْتَصَّتْ تِلْكَ السَّرِيَّةُ بِغَنِيمَةٍ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خُمُسَ خُمُسِ جَمِيعِ الْغَنَائِمِ ثُمَّ الَّتِي أَجَازَهَا جَمِيعَ الْخُمُسِ وَأَقَلَّ مِنْهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ عَلَى خُمُسِ الْخُمُسِ تَمَّمَهَا رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَمْوَالِهِ الَّتِي خُصَّ بِهَا وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ وَخُمُسُ خُمُسِهِ وَمَا يَصْطَفِيهِ لِنَفْسِهِ.
فَصْلٌ:
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: مِنَ النَّفْلِ وَهُوَ الرَّضْخُ وَالرَّضْخُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا يَرْضَخُ بِهِ الْإِمَامُ لِمَنْ لَا سَهْمَ له من العبيد والصبيان الذين يشهدون الوقيعة.
وَالثَّانِي: مَا يَرْضَخُ بِهِ لِمَنِ اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ فِي الْحَرْبِ مِنْ فَارِسٍ وَرَاجِلٍ زِيَادَةً عَلَى سَهْمِهِ لِحُسْنِ أَثَرِهِ وَلَا يَبْلُغُ بِالرَّضْخِ الزَّائِدِ سَهْمَ فَارِسٍ وَلَا رَاجِلٍ فَقَدْ فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَلِكَ وَنَفَلَ ابْنَ مَسْعُودٍ سَيْفَ أَبِي جَهْلٍ وَنَفَلَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَوْمَ بَدْرٍ سَيْفَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وَكَانَ يُسَمَّى ذَا الْكَاشِفَةِ وَفِي الرَّضْخِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ.
وَالثَّانِي: مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسٍ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ.
فَصْلٌ:
وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: مِنَ النَّفْلِ أَنْ يَقُولَ الْإِمَامُ أَوْ أَمِيرُ الْجَيْشِ قَبْلَ اللِّقَاءِ: مَنْ غَنِمَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ تَحْرِيضًا لِلْمُسْلِمِينَ؛ لِمَا يُخَافُ مِنْ كَثْرَةِ الْعَدُوِّ وَقُوَّةِ شَوْكَتِهِمْ، فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِ وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا يُوجِبُ اخْتِصَاصَ كُلِّ إِنْسَانٍ بِمَا أَخَذَهُ، وَالْوَاجِبُ رَدُّ جَمِيعِهِ إِلَى الْمَغْنَمِ، وَإِخْرَاجُ خُمُسِهِ، وَقِسْمَةُ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهِ فِي جَمِيعِ مَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ.
وَقَالَ أبو حنيفة: وَهَذَا الشَّرْطُ لَازِمٌ، وَمَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ وَلَا يُخَمَّسُ؛ لِأَنَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ غَزَوْا وَبِهِ رَضَوْا.(8/402)
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوْ قَالَهُ قَائِلٌ كَانَ مَذْهَبًا، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَهُ قَوْلًا لَهُ ثَانِيًا اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ مَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ وَدَلِيلُ الْقَوْلِ الْأَصَحِّ فِي أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ لَا حُكْمَ لَهُ عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] وَقَوْلُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمُسْنَدًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ " فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْتَصَّ بِهَا بَعْضُهُمْ؛ وَلِأَنَّ مَنِ اسْتَحَقَّ الْغَنِيمَةَ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْإِمَامِ لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ لِشَرْطِ الْإِمَامِ كَمَا لَوْ شَرَطَهَا لِغَيْرِ الْقَائِمِينَ، فَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْمَ بَدْرٍ: " مَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ "، فَلَيْسَ بِثَابِتٍ، وَلَوْ ثَبَتَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ؛ لِأَنَّ غَنَائِمَ بَدْرٍ كَانَتْ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَيَضَعُهَا حَيْثُ شَاءَ حَتَّى جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ بَدْرٍ لِمَنْ شَهِدَهَا بَعْدَ إِخْرَاجِ خُمُسِهَا، والله أعلم.(8/403)
باب تفريق الغنيمة
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " كُلُّ مَا حُصِّلَ مِمَّا غُنِمَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ مِنْ شَيْءٍ قَلَّ أَوْ كَثُرَ مِنْ دَارٍ أَوْ أَرْضٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ قُسِّمَ إِلَّا الرِّجَالَ الْبَالِغِينَ فَالْإِمَامُ فِيهِمْ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَمُنَّ أَوْ يَقْتُلَ أَوْ يُفَادِيَ أو يسبي وسيبل مَا سُبِيَ أَوْ أُخِذَ مِنْهُمْ مِنْ شَيْءٍ عَلَى إِطْلَاقِهِمْ سَبِيلُ الْغَنِيمَةِ وَفَادَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَجُلًا بِرَجُلَيْنِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ جَمِيعَ مَا ظَهَرَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
قِسْمٌ هِيَ أَمْوَالٌ مَنْقُولَةٌ، وَقِسْمٌ هِيَ أَرْضٌ ثَابِتَةٌ، وَقِسْمٌ هُمْ آدَمِيُّونَ مَقْهُورُونَ.
فَأَمَّا الْأَمْوَالُ الْمَنْقُولَةُ: كَالْفِضَّةِ، وَالذَّهَبِ، وَالسِّلَاحِ، وَالْآلَةِ وَالْعُرُوضِ، وَالْأَمْتِعَةِ، وَالْخَيْلِ، وَالرَّقِيقِ فَالْوَاجِبُ إِخْرَاجُ خُمُسِهَا لِأَهْلِ الْخُمُسِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ ثُمَّ يُقَسَّمُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا بَيْنَ جَمِيعِ مَنْ شَهِدَ الْوَاقِعَةِ بِالسَّوِيَّةِ مِنْ غَيْرِ تَفْضِيلٍ إِلَّا ما استحقه الفارس بفرسه ولا يفضل ذا شَجَاعَةٍ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَا مَنْ قَاتَلَ عَلَى مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، وَلَا يُعْطَى مِنَ الْغَنِيمَةِ مَنْ لَمْ يَشْهَدِ الْوَاقِعَةَ.
وَقَالَ أبو حنيفة لِلْإِمَامِ أَنْ يُفَاضِلَ بَيْنَهُمْ فِي الْقَسْمِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ مَنْ لَمْ يَحْضُرِ الْوَاقِعَةَ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَاضَلَ بَيْنَ النَّاسِ فِي غَنَائِمِ حُنَيْنٍ.
وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ أَنْ يُفَاضِلَ بَيْنَهُمْ، وَيُعْطِيَ مِنْهَا مَنْ لَمْ يَحْضُرْ مَعَهُمُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قسم من غنائم بدرا لثمانية لم يشهدوا بدار مِنْهُمْ: عُثْمَانُ، وَطَلْحَةُ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِمَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي بَعْدَ الْخُمُسِ لِمَنْ غَنِمَ كَمَا قَالَ: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] فَدَلَّ عَلَى أن الباقي للأب إذا اقْتَضَتِ الْآيَةُ أَنْ يَكُونَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ لِلْغَانِمِينَ أَوْجَبَ بِذَلِكَ التَّسْوِيَةَ مَا لَمْ يَرِدْ نَصٌّ بِالتَّفْضِيلِ وَأَنْ لَا يُشَارِكَهُمْ غَيْرُهُمْ لِظَاهِرِ التَّنْزِيلِ.
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو أَنَّ رَجُلًا أَخَذَ مِنَ الْمَغْنَمِ جُبَّةَ غَزْلٍ مِنْ شَعْرٍ فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقال أخذت هذه لأصلح بها بردعة بَعِيرِي، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَّا مَا كَانَ لِيَ وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ(8/404)
فهو لك فقال الرجل: أما إذا بَلَغَتْ مَا أَرَى فَلَا أَرَبَ لِي بِهَا، فَلَوْ جَازَ التَّفْضِيلُ لَفَضَّلَ بِهَذَا الْقَدْرِ الْيَسِيرِ وَلِأَنَّ مَا اشْتَرَكُوا فِي سَبَبِ تَمَلُّكِهِ أَوْجَبَ تَسَاوِيَهُمْ فِي مِلْكِهِ كَالِاشْتِرَاكِ فِي صَيْدٍ وَاحْتِشَاشٍ، فَأَمَّا تَفْضِيلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَ النَّاسِ فِي غَنَائِمِ حُنَيْنٍ، فَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ بِالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، فَأَلَّفَ عَدَدًا مِنْهُمْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمِائَةِ بَعِيرٍ مِنْهُمْ: أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، وَاسْتَعْتَبَ الْعَبَّاسُ بْنُ مرداس فقال:
(أتجعل نهبي ونهب العبيد ... بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ)
(وَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حابس ... يفوقان مرداس في مجمع)
(وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا ... وَمَنْ تَضَعِ البوم لَا يُرْفَعِ)
فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اقْطَعُوا لِسَانَهُ عَنِّي ".
وَأَمَرَ لَهُ بِخَمْسِينَ بَعِيرًا، وكان مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ إِعْطَاءِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ إِمَّا مِنْ سَهْمِهِ مِنَ الْخُمُسِ، وَإِمَّا لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَبَتَ بِحُنَيْنٍ مَعَ ثَمَانِيَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَانْهَزَمَ جَمِيعُ النَّاسِ؛ فَصَارَتْ جَمِيعُ الْغَنَائِمِ لَهُ فَصَنَعَ بِهَا مَا شَاءَ وَتَأَلَّفَ بِهَا مَنْ شَاءَ، وَلِذَلِكَ قَالَتِ الْأَنْصَارُ حِينَ رَأَوْهُ قَدْ تَأَلَّفَ قُرَيْشًا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ عَزَمَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ إِنَّكُمْ لَتَكْثُرُونَ عِنْدَ الْفَزَعِ وَتَقِلُّونَ عِنْدَ الطَّمَعِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا وَسَلَكَ الْأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَنْصَرِفَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ، وَتَنْصَرِفُونَ برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالُوا: رَضِينَا فَكَانَ مَا فَعَلَهُ مِنَ التَّفْضِيلِ بِحُنَيْنٍ مَحْمُولًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَأَمَّا غَنَائِمُ بَدْرٍ فَكَانَتْ خَالِصَةً لَهُ فَوَضَعَهَا فِيمَنْ شَاءَ من حاضر وغائب على تساوي وتفضيل.
فصل:
وأما ما لا ينقل مِنَ الدُّورِ وَالْأَرَضِينَ فَحُكْمُهُ عِنْدَنَا حُكْمُ الْأَمْوَالِ المنقولة، يَكُونُ خُمُسُهُ لِأَهْلِ الْخُمُسِ، وَتُقَسَّمُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ.
وَقَالَ أبو حنيفة: الْإِمَامُ فِي الْأَرَضِينَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ بَيْنَ أَنْ يُقَسِّمَهَا عَلَى الْغَانِمِينَ، أَوْ يُقَسِّمَهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، أَوْ يُقِرَّهَا فِي أَيْدِي أَهْلِهَا الْمُشْرِكِينَ بِخَرَاجٍ يَضْرِبُهُ عَلَيْهَا، وَجِزْيَةٍ عَلَى رِقَابِ أَهْلِهَا، تَصِيرُ خَرَاجًا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ لَا تَسْقُطُ عَنْ رِقَابِهِمْ.
وَقَالَ مَالِكٌ: قَدْ صَارَتْ بِالْغَلَبَةِ وَقْفًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَأَمَّا أبو حنيفة فَاسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ عَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لَمَّا فَتَحَ أَرْضَ السَّوَادِ، أَرَادَ أَنْ يُقَسِّمَهُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، فَشَاوَرَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا فَقَالَ دَعْهَا تَكُونُ عُدَّةً لِلْمُسْلِمِينَ، فَتَرَكَهَا وَلَمْ يُقَسِّمْهَا وَضَرَبَ عَلَيْهَا خَرَاجًا، وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا فُتِحَتْ مِصْرُ، وَكَانَ الْأَمِيرُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، قَالَ لَهُ الزُّبَيْرُ اقْسِمْهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ، فَقَالَ: لَا حَتَّى أَكْتُبَ إِلَى عُمَرَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ فَأَجَابَهُ عُمَرُ دَعْهَا حَتَّى يَغْدُوَ(8/405)
فِيهِمَا حَبَلُ الْحَبَلَةِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُصَالِحَهُمْ عَلَى خَرَاجِهَا قَبْلَ الْقُدْرَةِ جَازَ أَنْ يَكُونَ مُخَيَّرًا فِيهَا بَعْدَ الْقُدْرَةِ كَالرِّقَابِ.
وَأَمَّا مالك فاستدل بقوله تعالى: {وللذين جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر: 10] فَكَانَ هَذَا الدُّعَاءُ مِنْهُمْ لِأَجْلِ مَا انْتَقَلَ إِلَيْهِمْ مِنْ فُتُوحِ بِلَادِهِمُ الَّتِي اسْتَبْقَوْهَا وَقْفًا عَلَيْهِمْ، وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَتَحَ مَكَّةَ عَنْوَةً فَلَمْ يُقَسِّمْهَا وَقَسَّمَ غَنَائِمَ هَوَازِنَ وَلَمْ يُقَسِّمْ أَرْضَهُمْ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ تَصِيرُ وَقْفًا لَا يَجُوزُ أَنْ تُقَسَّمَ؛ وَلِأَنَّ الْغَنَائِمَ كَانَتْ عَلَى عَهْدِ مَنْ سَلَفَ من الأنبياء تنزل نارا مِنَ السَّمَاءِ تَأْكُلُهَا فَأَحَلَّهَا اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَهُمْ لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلِأُمَّتِهِ وَالنَّارُ إِنَّمَا تَخْتَصُّ بِأَكْلِ الْمَنْقُولِ دُونَ الْأَرَضِينَ فَدَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِ الْمَنْفُولِ بِالْغَنِيمَةِ الْمُسْتَبَاحَةِ دُونَ الْأَرَضِينَ.
وَالدِّلَالَةُ عَلَيْهَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] وَرَوَى مُجَمِّعُ بْنُ جَارِيَةَ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَسَّمَ خَيْبَرَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْغَانِمِينَ كَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، مِنْهُمْ مِائَتَا فَارِسٍ أَعْطَى كُلَّ فَارِسٍ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ، فَكَانَ لَهُمْ سِتُّمِائَةِ سَهْمٍ وَلِأَلْفٍ وَمِائَتَيْ رَجُلٍ أَلْفٌ وَمِائَتَا سَهْمٍ؛ صَارَتْ جَمِيعُ السِّهَامِ ألفا وثمان مائه سهم فقسمها على ثمانية عشرة مِنْهُمْ، وَأَعْطَى كُلَّ مِائَةٍ سَهْمًا، وَلِذَلِكَ رُوِيَ أن عمر رضي الله عنه ملك مائة سَهْمٍ مِنْ خَيْبَرَ ابْتَاعَهَا، وَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنِّي قَدْ أَصَبْتُ مَا لَمْ أُصِبْ قَطُّ مِثْلَهُ، وَقَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ أَتَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَبِّسِ الْأَصْلَ وَسَبِّلِ الثَّمَرَةَ؛ فَدَلَّتْ قِسْمَتُهَا وَابْتِيَاعُ عُمَرَ لَهَا لِمِائَةِ سَهْمٍ مِنْهَا عَلَى أَنَّهَا طِلْقٌ مَمْلُوكٌ وَمَالٌ مَقْسُومٌ.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ظَهَرَ عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، فَقَسَّمَ عَقَارَهُمْ مِنَ الْأَرَضِينَ وَالنَّخِيلِ قِسْمَةَ الْأَمْوَالِ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: عصبة اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَخُمُسُهَا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ هِيَ لَكُمْ مِنِّي إِنَّمَا قُرْبَةٌ؛ وَلِأَنَّهُ مَالٌ مَغْنُومٌ فَوَجَبَ أَنْ يُقَسَّمَ كَالْمَنْفُولِ، وَلِأَنَّ مَا اسْتُحِقَّ بِهِ قِسْمَةُ الْمَنْفُولِ اسْتُحِقَّ بِهِ قِسْمَةُ غَيْرِ الْمَنْفُولِ كَالْمِيرَاثِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ أبي حنيفة أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَاوَرَ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَسْمِ السَّوَادِ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالتَّرْكِ، فَهُوَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَسَمَ أَرْضَ السَّوَادِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، وَأَشْغَلُوهُ أَرْبَعَ سِنِينَ ثُمَّ رَأَى أَنَّ الْغَانِمِينَ قَدْ تَشَاغَلُوا بِهِ عَنِ الْجِهَادِ؛ فَاسْتَنْزَلَهُمْ عَنْهُ فَنَزَلُوا؛ وَتَرَكَ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيَّ وَأَكْثَرَ قَوْمِهِ وَكَانَتْ نَخِيلُهُ رُبُعَ النَّاسِ، فَأَبَتْ طَائِفَةٌ منهم أن(8/406)
يَنْزِلُوا فَعَاوَضَهُمْ عَنْهُ وَجَاءَتْهُ أُمُّ كُرْزٍ، فَقَالَتْ: إني أَبِي شَهِدَ الْقَادِسِيَّةِ، وَإِنَّهُ مَاتَ وَلَا أَنْزِلُ عن حقي إلا أن تركبني ناقة زلولا، عليها قطيفة حمراء، وتملاء كَفِّي ذَهَبًا، فَفَعَلَ حَتَّى نَزَلَتْ عَنْ حَقِّهَا، وَكَانَ قَدْرُ مَا مُلِئَ بِهِ كَفُّهَا ذَهَبًا نيفا وثمانين مثقالا، فولا أَنَّ قِسْمَةَ ذَلِكَ وَاجِبَةٌ، وَأَنَّ أَمْلَاكَ الْغَانِمِينَ عَلَيْهَا مُسْتَقِرَّةٌ، لَمَا اسْتَنْزَلَهُمْ عَنْهَا بِطِيبِ نَفْسٍ وَمُعَاوَضَةٍ، فَلَمَّا صَارَتْ لِلْمُسْلِمِينَ شَاوَرَ عَلِيًّا فِيهَا فَقَالَ: دَعْهَا تَكُونُ عُدَّةً لَهُمْ، فَوَقَفَهَا عَلَيْهِمْ، وَضَرَبَ عَلَيْهَا خَرَاجًا هُوَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أُجْرَةٌ وَعِنْدَ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ ثَمَنٌ، وَأَمَّا أرض مصر فبعض فتوحها عنوة وبعضها صلح، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ نِزَاعُ عَمْرٍو وَالزُّبَيْرِ فِي أَحَدِهِمَا فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَنِ الرِّقَابِ فَهُوَ أَنَّهُ مُنْتَقِضٌ بِالْمَنْفُولِ، فَإِنَّ عُمَرَ صَالَحَ نَصَارَى الْعَرَبِ عَلَى مُضَاعَفَةِ الصَّدَقَةِ عَلَى مَوَاشِيهِمْ وَزُرُوعِهِمْ وَسَائِرِ أَمْوَالِهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ خَرَاجًا بِاسْمِ الصَّدَقَةِ ثُمَّ لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوبِ قَسْمِهِ فِي الْغَنِيمَةِ كَذَلِكَ الْأَرَضُونَ؛ ثُمَّ لَو سَلِمَ مِنْ هَذَا النَّقْصُ لَكَانَ الْمَعْنَى فِي الرِّقَابِ أَنَّهَا لَيْسَتْ فِي وَقْتِ خِيَارِ الْإِمَامِ فِيهَا مَالًا، وَإِنَّمَا يَصِيرُ بِالِاسْتِرْقَاقِ مَالًا، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ بَعْدَ الِاسْتِرْقَاقِ خِيَارٌ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ مَالِكٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وللذين جاؤوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] فَهُوَ أَنَّ هَذَا مِنْهُمْ لَمْ يَتَعَيَّنْ أَنَّهُ لِلْمَعْنَى الَّذِي ادَّعَاهُ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُمْ لِتَمْهِيدِ الْأَرْضِ لَهُمْ، وَإِزَالَةِ الْمُشْرِكِينَ عَنْهُمْ، وَنُصْرَةِ الدِّينِ بِجِهَادِهِمْ ثُمَّ بِمَا صَارَ إِلَيْهِمْ مِنْ بِلَادِ الْفَيْءِ وَمَوَارِيثِ الْعَنْوَةِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ فَتْحِ مَكَّةَ فَهُوَ أنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ عِنْدَنَا صُلْحًا، فَالْكَلَامُ فِي فَتْحِهَا يَأْتِي، وَأَمَّا أَرْضُ هَوَازِنَ فَلَمْ تُغْنَمْ؛ لِأَنَّ قِتَالَهُمْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا، وَإِنَّمَا قُوتِلُوا بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْهَا إِلَى حُنَينٍ، وَأَحْرَزُوا أَمْوَالَهُمْ فِي أَوْطَاسٍ فَلَمَّا أَظْفَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِمْ، وَغُنِمَتْ أَمْوَالُهُمْ، وَسُبِيَتْ ذَرَارِيهِمْ، آتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُدْلُونَ إِلَيْهِ بِحُرْمَةِ الرَّضَاعِ؛ لِأَنَّ حَلِيمَةَ مُرْضِعَةَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَتْ مِنْ هَوَازِنَ، وَقَالُوا لَوْ كُنَّا مَلَّحْنَا لِلْحَارِثِ بْنِ أَبِي شِمْرٍ وَنَزَلْنَا مَعَهُ مَنْزِلَنَا مِنْكَ لَوَعَى ذَاكَ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْكَفِيلَيْنِ.
وَقَوْلُهُمْ مَلَّحْنَا: أَيْ رَضَّعْنَا وَأَنْشَدَ شَاعِرُهُمْ:
(امْنُنْ عَلَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ فِي كَرَمٍ ... فَإِنَّكَ الْمَرْءُ نَرْجُوهُ وَنَنْتَظِرُ)
(امْنُنْ عَلَى نِسْوَةٍ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهَا ... إِذْ فُوكَ تَمْلَؤُهُ مِنْ مَحْضِهَا الدُّرَرُ)
فَقَالَ: اخْتَارُوا أَمْوَالَكُمْ، أَوْ ذَرَارِيَكُمْ فَقَالُوا: خَيَّرْتَنَا بَيْنَ أَمْوَالِنَا وَأَحْسَابِنَا فَنَخْتَارُ أَحْسَابَنَا عَلَى أَمْوَالِنَا، فَقَالَ أَمَّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي هَاشِمٍ فَلِلَّهِ وَلَكُمْ، وَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ: وَأَمَّا مَا لَنَا فلله ولرسوله ولكم فانكفوا إِلَى دِيَارِهِمُ الَّتِي لَا تُمَلَّكُ عَلَيْهِمْ آمِنِينَ، وَقَدْ أَسْلَمُوا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَكْلِ النَّارِ الْمَنْفُولِ دُونَ الْأَرَضِينَ فَكَانَ هُوَ الْمَغْنُومُ، فهو(8/407)
أنه استدل رَكِيكٌ وَضَعَهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي ثُمَّ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَمْ تَكُنْ تَحِلُّ لِلْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلُ فَوَجَبَ أَنْ تَحِلَّ لنبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِقَوْلِهِ أُعْطِيتُ مَا لَمْ يُعْطَ نَبِيٌّ مِنْ قَبْلِي أُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ عَلَى أَنَّ النَّارَ لَا تَأْكُلُ الْفِضَّةَ وَالذَّهَبَ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ أَنْ تَكُونَ غَنِيمَةً مَقْسُومَةً كَذَلِكَ الْأَرْضُ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْآدَمِيُّونَ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِمْ، وَالْمَظْفُورُ بِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَضَرْبَانِ: عَبِيدٌ وَأَحْرَارٌ.
فَأَمَّا الْعَبِيدُ فَمَالٌ مَغْنُومٌ.
وَأَمَّا الْأَحْرَارُ فَضَرْبَانِ: ذُرِّيَّةٌ وَمُقَاتِلَةٌ.
فَأَمَّا الذُّرِّيَّةُ فَهُمُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ وَمِنْهُمْ لَا يَصِيرُونَ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، مَرْقُوقِينَ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ فِيهِمْ خِيَارٌ وَعَلَيْهِ أَنْ يُقَسِّمَهُمْ بَيْنَ الْغَانِمِينَ بَعْدَ إِخْرَاجِ خُمُسِهِمْ وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ لِكَوْنِهِمْ مَالًا مَغْنُومًا وَقَسَمَ سَبْيَ بَنِي الْمُصْطَلِقِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، وَاصْطَفَى صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ مِنْ سَبْيِ خَيْبَرَ وَقَسَمَ سبي هوازن بين الناس حتى استنزله هَوَازِنُ فَنَزَلَ وَاسْتَنْزَلَ.
وَأَمَّا الْمُقَاتِلَةُ فَلِلْإِمَامِ فِيهِمُ بالخيار اجْتِهَادًا وَنَظَرًا بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ وَمِنْهَا مَا رَآهُ صَالِحًا:
أَحَدُهُمَا: الْقَتْلُ.
وَالثَّانِي: الِاسْتِرْقَاقُ.
وَالثَّالِثُ: الْفِدَاءُ بِمَالٍ أَوْ رِجَالٍ.
وَالرَّابِعُ: الْمَنُّ، فَإِنْ كَانَ ذَا قُوَّةٍ يُخَافُ شَرُّهُ أَوْ ذَا رَأْيٍ يُخَافُ مَكْرُهُ قَتَلَهُ، وَإِنْ كَانَ مَهِينًا ذَا كَدٍّ وَعَمَلٍ اسْتَرَقَّهُ، وَإِنْ كَانَ ذَا مَالٍ فَادَاهُ بِمَالٍ، وَإِنْ كَانَ ذَا جَاهٍ فَادَاهُ بِمَنْ فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ الْأَسْرَى، وَإِنْ كَانَ ذَا خَيْرٍ وَرَغْبَةٍ فِي الْإِسْلَامِ مَنَّ عليه وأطلقه من غير فداء، فيكون خيار لِلْإِمَامِ أَوْ أَمِيرِ الْجَيْشِ، فَمَنْ أُسِرَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْيَاءِ بَيْنَ الْقَتْلِ أَوِ الِاسْتِرْقَاقِ أَوِ الْفِدَاءِ بِمَالٍ، أَوْ رِجَالٍ، أَوِ الْمَنِّ.
وَقَالَ أبو حنيفة: هُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ: الْقَتْلُ، أَوِ الِاسْتِرْقَاقُ، وَلَيْسَ لَهُ الْفِدَاءُ وَالْمَنُّ.
وَقَالَ صَاحِبَاهُ أبو يوسف ومحمد: هُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: بَيْنَ الْقَتْلِ أَوِ الِاسْتِرْقَاقِ أَوِ الْفِدَاءِ بِرِجَالٍ وَلَيْسَ لَهُ الْفِدَاءُ بِمَالٍ وَلَا الْمَنُّ، وَنَحْنُ نَدُلُّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى انْفِرَادِهِ.
أَمَّا الْقَتْلُ فَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا المشركين حيث وجدتموهم} الآية [التوبة: 5] وَقَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنَ الْأَسْرَى أَرْبَعَةَ أَنْفُسٍ صَبْرًا، وَمِنْهُمْ: أَبُو عَزَّةَ الْجُمَحِيُّ وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ وَابْنُ خَطَلٍ وَابْنُ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، فَأَمَّا أَبُو عَزَّةَ الْجُمَحِيُّ فَإِنَّهُ أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مُنَّ عَلَيَّ، فَمَنَّ عَلَيْهِ، فَلَمَّا عَادَ إِلَى مَكَّةَ قَالَ سَخِرْتُ بِمُحَمَّدٍ، وَعَادَ لِقِتَالِهِ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اللهم أوقع أبا عزة فما أسر غيره فَأُتِيَ بِهِ فَقَالَ:(8/408)
يَا مُحَمَّدُ مُنَّ عَلَيَّ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمُنُّ عَلَيْكَ حَتَّى تَأْتِيَ مَكَّةَ فَتَقُولُ فِي نَادِي قُرَيْشٍ: سَخِرْتُ مِنْ مُحَمَّدٍ مَرَّتَيْنِ، لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ، اقْتُلُوهُ فَقُتِلَ.
وَأَمَّا عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ فَلَمَّا أُسِرَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِقَتْلِهِ، فَقَالَ مَنِ الْمُصِيبَةُ فَقَالَ: النَّارُ، وَأَمَّا ابْنُ خَطَلٍ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ أَبَاحَ دَمَ سِتَّةٍ هُوَ مِنْهُمْ، فَتَعَلَّقَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ؛ لِأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ تَعَلَّقَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَهُوَ آمِنٌ " وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَثْنَى السِّتَّةَ وَقَالَ اقْتُلُوهُمْ وَإِنْ تَعَلَّقُوا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَلَمَّا أُقِرَّ بِذَلِكَ قَالَ اقْتُلُوهُ فَقُتِلَ.
وَأَمَّا النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ بِقَتْلِهِ حِينَ أُسِرَ فَقُتِلَ فَلَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ اسْتَقْبَلَتْهُ قُتَيْلَةُ بِنْتُ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ وَأَنْشَدَتْهُ:
(أَمُحَمَّدٌ وَلَدَتْكَ خَيْرُ نَجِيبَةٍ ... مِنْ قَوْمِهَا وَالْفَحْلُ فَحْلٌ مُعْرِقُ)
(مَا كَانَ ضَرُّكَ لَوْ مَنَنْتَ وَرُبَّمَا ... مَنَّ الْفَتَى وَهُوَ الْمَغِيظُ الْمُحْنَقُ)
(فَالنَّضْرُ أَقْرَبُ مَنْ تَرَكْتَ قَرَابَةً ... وَأَحَقُّهُمْ إِنْ كَانَ عِتْقٌ يُعْتَقُ)
فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَوْ سَمِعْتُ شِعْرَهَا مَا قَتَلْتُهُ.
فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ قَتْلِ الْأَسْرَى مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ اسْتِرْقَاقِهِمْ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فشدوا الوثاق} وفي الآية تأويلان:
أحدها: إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ بِالظَّفَرِ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ بِالْأَسْرِ.
وَالثَّانِي: إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ بِالْأَسْرِ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ بِالِاسْتِرْقَاقِ وَقَدِ اسْتَرَقَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَبْيَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَهَوَازِنَ وَرَجُلًا مِنْ بَنِي عُقَيْلٍ، فَقَالَ لَهُ قَدْ أَسْلَمْتُ، فَقَالَ: لَوْ أَسْلَمْتَ قَبْلَ هَذَا لَكُنْتَ قَدْ أَفْلَحْتَ كُلَّ الْفَلَاحِ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْفِدَاءُ وَالْمَنُّ فَاسْتِدْلَالُ أبي حنيفة عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُمَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يثخن في الأرض} إِلَى قَوْلِهِ: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 67، 68] يَعْنِي من أموال الفداء في أسرى(8/409)
بدر وإذا مَنَعَتِ الْآيَةُ مِنَ الْفِدَاءِ بِمَالٍ كَانَتْ مِنَ الْفِدَاءِ بِالْمَنِّ لِمَنْ بَغَيرِ مَالٍ أَمْنَعُ، وَقَالَ تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] فَأَمَرَ بِقَتْلِهِمْ وَنَهَى عَنْ تَخْلِيَتِهِمْ بَعْدَ أَخْذِهِمْ وَحَصْرِهِمْ إِلَّا بِإِسْلَامِهِمْ فَدَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزِ الْمَنُّ عَلَيْهِمْ بِسِلَاحِهِمْ وَعَبِيدِهِمْ وَلَا مَنْعُ السِّلَاحِ وَالْعَبِيدِ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ تَبَعٌ يَقِلُّ ضَرَرُهُ قَصْدًا لِإِضْعَافِهِمْ فَكَانَ بِأَنْ لَا يَمُنَّ عَلَيْهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَلَا يُفَادَوْا بِمَالٍ عَنْ رِقَابِهِمْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ بِهِمْ أَعْظَمُ، وَإِضْعَافَهُمْ بِالْقَتْلِ وَالِاسْتِرْقَاقِ أَبْلَغُ وَلِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي حَظْرِ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ ظَاهِرَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ إِذَا تَصَوَّرُوا جَوَازَهَا عِنْدَنَا أَقْدَمُوا عَلَى الْحَرْبِ تَعْوِيلًا عَلَى الْفِدَاءِ بَعْدَ الْأَسْرِ وَرَجَاءَ الْمَنِّ، وَإِذَا تَصَوَّرُوا أَنَّهُ لَا خَلَاصَ لَهُمْ مِنَ الْقَتْلِ إِذَا أَصَرُّوا كَانَ ذَلِكَ أَحْجَمَ لَهُمْ عَنِ الْإِقْدَامِ وَأَمْنَعَ مِنَ الْقِتَالِ، وَإِذَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِيهِ ظاهرة كان ما دعى إليها لازما.
والدليل عَلَى جَوَازِ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ، قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا لقيتم الذين كفروا} إِلَى قَوْلِهِ: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4] وَقَالَ مُجَاهِدٌ: حَتَّى لَا يَبْقَى فِي الْأَرْضِ دِينٌ غَيْرُ الْإِسْلَامِ، فَكَانَ الْمَنُّ وَالْفِدَاءُ صَرِيحًا فِي هَذَا الْآيَةِ وَلَيْسَ لَهُمْ نَسْخُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِذَا أَمْكَنَ اسْتِعْمَالُ الْآيَتَيْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَنْسَخَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى، وَاسْتِعْمَالُهُمَا مُمْكِنٌ فِي جَوَازِ الْكُلِّ، وَيُعْتَبَرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ وَرَأْيِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَمْرَ بِالْقَتْلِ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ دُونَ الْوُجُوبِ، وَإِبَاحَتُهُ لَا تَمْنَعُ مِنَ الْعُدُولِ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْمَنِّ خَاصَّةً مَا رَوَاهُ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِأُسَارَى بَدْرٍ لَوْ كَانَ مُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى لَأَطْلَقْتُهُمْ لَهُ، وهُوَ لَا يَقُولُ ذَلِكَ إِلَّا لِجَوَازِهِ عِنْدَهُ.
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعَثَ خَيْلًا قِبَلَ نَجْدٍ فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، فَرَبَطُوهُ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ: مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ. قَالَ عِنْدِي يَا مُحَمَّدُ خَبَرٌ إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ فَتَرَكَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ ذَكَرَ مِثْلَ هَذَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَقَالَ: " أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ "، وَكَتَبَ إِلَى قَوْمِهِ فَأَتَوْهُ مُسْلِمِينَ وَقَدْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى أَبِي عَزَّةَ الْجُمَحِيِّ يَوْمَ بَدْرٍ عَلَى(8/410)
أَنْ لَا يَعُودَ لِحَرْبِهِ أَبَدًا فَعَادَ يَوْمَ أُحُدٍ وَأَسَرَهُ، وَمَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ الرَّبِيعِ وَكَانَ صِهْرَهُ عَلَى ابْنَتِهِ زَيْنَبَ.
وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْفِدَاءِ رواية عِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ [أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فادى رجل برجلين رواه الشافعي مفسرا أن عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ] قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سرية فأسروا رجلا من بني عقيل فاستوثق منه، وطرح في الحرة فمن به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال: فيما أخذت وفيم أُخذت سالفة الحاج يعني العضباء قال أخذت بجريرة حلفائكم مِنْ ثَقِيفٍ قَدْ أَسَرُوا مُسْلِمِينَ فَقَالَ الْعُقَيْلِيُّ: إِنِّي جَائِعٌ فَأَطْعِمْنِي وَعَطْشَانٌ فَاسْقِنِي، وَأَنَا مُسْلِمٌ فَخَلِّنِي فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَوْ قُلْتَ هَذَا قَبْلَ هَذَا أَفْلَحْتَ كُلَّ الفلاح، يعني: قبل أن تسترق وفاده بِرَجُلَيْنِ، وَحَبَسَ الْعَضْبَاءَ وَهِيَ نَاقَتُهُ الَّتِي خَطَبَ عَلَيْهَا بِمِنًى فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يُفَادِي بِهِ بَعْدَ إِسْلَامِهِ.
قِيلَ لِأَنَّهُ كَانَ مُسْتَرَقًّا فَصَارَتْ مُفَادَاتُهُ عِتْقًا؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ بِالْفِدَاءِ [مَعَ خُرُوجِهِمْ مِنْ دَارِنَا بِالْجِزْيَةِ] مَعَ إِقْرَارِهِمْ فِي دَارِنَا جَازَ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُمْ بِالْفِدَاءِ مَعَ خُرُوجِهِمْ مِنْ دَارِنَا أَوْلَى.
وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ اعْتِيَاضُ رَقَبَةٍ مُشْرِكَةٍ فَجَازَ كَالْحُرِّيَّةِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ تَآلُفُ الْمُشْرِكِينَ بِإِعْطَائِهِمْ سَهْمَ الْمُؤَلَّفَةِ كَانَ تَآلُفُهُمْ بالْمَنِّ أَوْلَى، وَرُبَّمَا كَانَ الْمَنُّ أَبْلَغَ فِي تَآلُفِهِمْ أَثَرًا أَوْ أعم صلاحاء.
وَحُكِيَ أَنَّ الْحَجَّاجَ أُتِيَ بِأَسِيرٍ مِنَ الْخَوَارِجِ مِنْ أَصْحَابِ قَطَرِيِّ بْنِ الْفُجَاءَةِ، وَكَانَ يَعْرِفُهُ فَلَمَّا رَآهُ مَنَّ عَلَيْهِ فَعَادَ إِلَى قَطَرِيٍّ، فَقَالَ لَهُ قَطَرِيٌّ: عُدْ إِلَى قِتَالِ عَدُوِّ اللَّهِ الْحَجَّاجِ فَقَالَ: هَيْهَاتَ عَلَا يَدًا مُطْلِقُهَا وَاسْتَرَقَّ رَقَبَةً مُعَتِقُهَا، وَأَنْشَدَ يَقُولُ:
(أُقَاتِلُ الْحَجَّاجَ عَنْ سُلْطَانِهِ ... بِيَدٍ تُقِرُّ بِأَنَّهَا مَوْلَاتُهُ)
(إِنِّي إِذَنْ لَأَخُو الدَّنَاءَةِ وَالَّذِي ... شَهِدَتْ بِأَقْبَحِ فِعْلِهِ غدراته)
(ماذا أقول جار على أني إذن ... لَأَحَقُّ مَنْ جَارَتْ عَلَيْهِ وُلَاتُهُ)
(وَتَحَدَّثَ الْأَقْوَامُ أن ضائعا ... عَرَسَتْ لِذِي مُحْبَنْطِلٍ نَحَلَاتُهُ)
وَإِذَا كَانَ الْمَنُّ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ مِنَ التَّآلُفِ وَالِاسْتِصْلَاحِ جَازَ إِذَا أَدَّى الِاجْتِهَادُ إِلَيْهِ أَنْ يُفْعَلَ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67] فَهُوَ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَاوَرَ أَصْحَابَهُ فِي أَسْرَى بَدْرٍ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُمْ قَوْمُكَ وَعَشِيرَتُكَ فَاسْتَبْقِهِمْ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَهُمْ، وَقَالَ عُمَرُ: هُمْ(8/411)
أَعْدَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَذَّبُوكَ وَأَخْرَجُوكَ فَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ، فَمَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْدَ انْصِرَافِهِ عَنْهُمْ إِلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وأخذ فداء الأسرى (ليتقوا بِهِ الْمُسْلِمُونَ) فَقِيلَ إِنَّهُ فَدَى كُلَّ أَسِيرٍ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَقِيلَ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَقَالَ لِلْمُهَاجِرِينَ: أَنْتُمْ عَالَةٌ يَعْنِي فُقَرَاءَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِنْكَارًا عَلَى نَبِيِّهِ فِي فِدَاءِ أُولَئِكَ الْأَسْرَى، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَوْ عُذِّبْنَا فِي هَذَا الْأَمْرِ يَا عُمَرُ ما نجا غيرك في إنكار هذا الفداء فكان دَلِيلٌ عَلَى إِبَاحَةِ الْفِدَاءِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67] وَهُوَ كَثْرَةُ الْقَتْلِ فَاقْتَضَى إِبَاحَةَ ذَلِكَ بَعْدَ الْإِثْخَانِ فِي الْأَرْضِ وَقَدْ أَثْخَنَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْأَرْضِ وَكَثْرَةِ الْقَتْلِ وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ.
وَالثَّانِي: قَوْله تَعَالَى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 68] وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ فِي أَنَّهُ سَيُحِلُّ لَكُمُ الْغَنَائِمَ لَمَسَّكُمْ فِي تَعَجُّلِهَا مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ عذاب عظيم (قاله ابن عباس وأبو هريرة والحسن وعبيدة) .
وَالثَّانِي: لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ فِي أَهْلِ بَدْرٍ أنْ يُعَذِّبَهُمْ لَمَسَّهُمْ فِيمَا أَخَذُوا من فداء أسرى بدر عذاب عظيم (قاله مجاهد وسعيد بن جبير) .
وَالثَّالِثُ: قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا} [الأنفال: 69] يَعْنِي بِهِ مَالَ الْغَنِيمَةِ وَالْفِدَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {اقتلوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] فَهُوَ أَنَّهُ عَلَى طَرِيقِ الْإِبَاحَةِ وَإِنْ خَرَجَ مَخْرَجَ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّهُ بعد حظر، وإذا أَبَاحَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْقَتْلَ لَمْ تَمْنَعْ مِنْ جوز الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ تَحْرِيمِ الْمَنِّ عليهم لسلاحهم وعبدهم؛ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ السِّلَاحَ وَالْعَبِيدَ وَالْمَالَ لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ إِتْلَافُهُ فَلَمْ يَجُزْ لَهُ المن به، وليس الرجال الأحرار مال لِأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ إِتْلَافُهُمْ فَجَازَ لَهُ الْمَنُّ بِهِمْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ السِّلَاحَ وَالْعَبِيدَ قَدْ دَخَلَا فِي مِلْكِ الْغَانِمِينَ فَلَمْ يَكُنْ لِلْإِمَامِ فِي الْمَنِّ بِهِمَا اجْتِهَادٌ. وَلَمْ يَدْخُلِ الرِّجَالُ الْأَحْرَارُ فِي مِلْكِ الْغَانِمِينَ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ لِلْإِمَامِ فِي الْمَنِّ عَلَيْهِمُ اجْتِهَادٌ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّهُ لَا مَصْلَحَةَ فِي الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ فَهُوَ أَنَّنَا نُجَوِّزُهُ مَعَ ظُهُورِ الْمَصْلَحَةِ فيمن يرجئ إِسْلَامُهُ أَوْ تَآلُفُ قَوْمِهِ وَيُمْنَعُ مِنْهُ عِنْدَ عَدَمِ الْمَصْلَحَةِ وَظُهُورِ الضَّرَرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْزِلَ خُمُسَ مَا حُصِّلَ بَعْدَ مَا وَصَفْنَا كَامِلًا وَيُقِرَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ لِأَهْلِهَا ثُمَّ يَحْسِبَ مَنْ حَضَرَ الْقِتَالَ مِنَ الرجال(8/412)
الْمُسْلِمِينَ الْبَالِغِينَ وَيَرْضَخَ مِنْ ذَلِكَ لِمَنْ حَضَرَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَغَيْرِ الْبَالِغِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالنِّسَاءِ فَيَنْفُلُهُمْ شَيْئًا لِحُضُورِهِمْ وَيَرْضَخُ لِمَنْ قَاتَلَ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ وَقَدْ قِيلَ يَرْضَخُ لَهُمْ مِنَ الْجَمِيعِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَجُمْلَةُ مَالِ الْغَنِيمَةِ أَنَّهُ لِصِنْفَيْنِ: لِحَاضِرٍ، وَغَائِبٍ.
فَأَمَّا الْغَائِبُونَ فَهُمْ أَهْلُ الْخُمُسِ يَسْتَحِقُّونَهُ بِأَوْصَافِهِمْ لَا بِحُضُورِهِمْ وَلَا يُزَادُ مِنْهُمْ حَاضِرٌ لِحُضُورِهِ عَلَى غَائِبٍ لِغَيْبَتِهِ.
وَأَمَّا الْحَاضِرُونَ فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَنْ تَفَرَّدَ مِنْهُمَا بِحَقٍّ مُعَيَّنٍ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ وَهُوَ الْقَاتِلُ يَسْتَحِقُّ سَلَبَ قَتِيلِهِ لَا يُشَارَكُ فِيهِ وَقَدْ مَضَى حُكْمُهُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا كَانَ حَقُّهُ مُشْتَرِكًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ وَهُمْ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَنْ كَانَ لَهُ سَهْمٌ مُقَدَّرٌ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَنْ عُيِّنَ لَهُ رَضْخٌ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، فَأَمَّا أَصْحَابُ السِّهَامِ الْمُقَدَّرَةِ فَهُمْ أَهْلُ الْقِتَالِ قَدْ تَعَذَّرَتْ سِهَامُهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ بِأَعْدَادِ رُؤُوسِهِمْ لَا يُفَضَّلُ فِيهَا إِلَّا الْفَارِسُ بِفَرَسِهِ بِمَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ تَفْضِيلِهِ عَلَى الرَّاجِلِ.
وَأَمَّا أَصْحَابُ الرَّضْخِ فَهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ، وَهُمْ خَمْسَةُ أَصْنَافٍ: الصِّبْيَانُ، وَالْمَجَانِينُ، وَالنِّسَاءُ، وَالْعَبِيدُ، وَأَهْلُ الذِّمَّةِ، يَرْضَخُ لَهُمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ لِحُضُورِ الْوَاقِعَةِ بِسَبَبِ غِيَابِهِمْ، وَيُفَضِّلُ مَنْ قَاتَلَ عَلَى مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، وَلَا يَبْلُغُ بِرَضْخِ أَحَدِهِمْ سَهْمَ فَارِسٍ وَلَا رَاجِلٍ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، بِسَهْمٍ لِجَمِيعِ هَؤُلَاءِ وَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ كَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الغنيمة لمن شهد الواقعة " وَتَعْلِيَلًا بِأَنَّهُمْ شَهِدُوا الْوَاقِعَةَ فَأَسْهَمَ لَهُمْ كَأَهْلِ الْجِهَادِ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا} [الأنفال، 68، 69] فَلَمَّا كَانَ الْوَعْدُ فِيمَا أَخَذُوهُ مُتَوَجِّهًا إِلَى أَهْلِ الْجِهَادِ كَانَ السَّهْمُ فِيمَا غَنِمُوهُ مُسْتَحَقًّا لِأَهْلِ الْجِهَادِ؛ وَلِأَنَّ سَهْمَ الْغَنِيمَةِ فِي مُقَابَلَةِ فَرْضِ الْجِهَادِ فَلَمَّا خَرَجَ هَؤُلَاءِ مِنَ الْفَرْضِ خَرَجُوا مِنَ السَّهْمِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ هَؤُلَاءِ قَدْ حَضَرُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي غَزَوَاتِهِ فَرَضَخَ لَهُمْ وَلَمْ يُسْهِمْ حَتَّى أَنَّهُ اسْتَعَانَ بِيَهُودِ بَنِي قَيْنُقَاعَ فَرَضَخَ لَهُمْ وَلَمْ يُسْهِمْ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا تَخْصِيصًا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ عَلَى أَنَّنَا نَجْعَلُهَا لِجَمِيعِهِمْ، وَإِنَّمَا نُفَاضِلُ بَيْنَ أَهْلِ الرَّضْخِ وَالْجِهَادِ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يُرْضَخُ لِهَؤُلَاءِ الْخَمْسَةِ وَلَا يُسْهَمُ، فَالرَّضْخُ يَتَقَدَّرُ بِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ وَرَأْيِهِ أَوْ مَنْ يَسْتَخْلِفُهُ الْإِمَامُ مِنْ أَمِيرِ جَيْشٍ أَوْ قَاسِمِ يَغْنَمُ؛ فَيَقَعُ التَّفْضِيلُ بَيْنَهُمْ بِحَسَبِ تَفَاضُلِهِمْ فِي الْقِتَالِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا سُوِّيَ بَيْنَهُمْ وَإِنْ تَفَاضَلُوا كالْغَانِمِينَ.(8/413)
قِيلَ: لِأَنَّ سِهَامَ الْغَانِمِينَ مُقَدَّرَةٌ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِمُ التَّفَاضُلُ كَدِيَةِ الْحُرِّ، وَالرَّضْخُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ فَاعْتُبِرَ فِيهِ التَّفَاضُلُ كَغَنِيمَةِ الْعَبْدِ، وَلَا يُبْلَغُ بِالرَّضْخِ سَهْمُ فَارِسٍ وَلَا رَاجِلٍ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلسِّهَامِ فَنُقِصَ عَنْ قَدْرِهَا كَحُكُومَاتِ الْجِرَاحِ عَلَى الأعضاء لما كانت تبع لِلْأَعْضَاءِ لَمْ تَبْلُغْ بِأَرْشِهَا دِيَاتِ تِلْكَ الْأَعْضَاءِ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ الرَّضْخُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ إِخْرَاجِ خُمُسِهَا كَالسَّلَبِ لِأَنَّهُمْ أَعْوَانٌ. فصاروا كحافظي الغنيمة (وحامليها الذين أعطون أجورهم من أصل الْغَنِيمَةِ) ؛ فَعَلَى هَذَا يَبْدَأُ مِنَ الْغَنِيمَةِ بِإِعْطَاءِ السَّلَبِ وَأُجُورِ الْحَفَظَةِ وَالْحَمَّالِينَ ثُمَّ الرَّضْخِ ثُمَّ يُخَمِّسُ الْبَاقِيَ، فَيَعْزِلُ خُمُسَهُ لِأَهْلِ الْخُمُسِ، وَتُقَسَّمُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ فِي الْغَانِمِينَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يَرْضَخَ لَهُمْ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّهُمْ أَضْعَفُ مِنَ الْغَانِمِينَ حُكْمًا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونُوا أَقْوَى حَقًّا؛ فَعَلَى هَذَا يَبْدَأُ بِالسَّلَبِ ثُمَّ بِالْأُجُورِ ثُمَّ بِالْخُمُسِ ثُمَّ بِالرَّضْخِ ثُمَّ يُقَسِّمُ الْبَاقِيَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَرْضَخُ لَهُمْ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَتِهَا وَهُوَ أَضْعَفُ الْأَقَاوِيلِ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ في بعض منصوصاته.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ثُمَّ يَعْرِفُ عَدَدَ الْفُرْسَانِ وَالرَّجَّالَةِ الَّذِينَ حَضَرُوا الْقِتَالَ فَيَضْرِبُ كَمَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلَلْفَارِسِ سَهْمًا وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا وَلَيْسَ يملك الفرس شيئا إنما يملكه صاحبه لما تكلف من اتخاذه واحتمل من مؤنته وندب الله تعالى إلى اتخاذه لعدوه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
إِذَا أَفْرَدَ الإمام خمس الغنيمة على أربعة أخامسها يَبْدَأُ بالْغَانِمِينَ، فَقَسَّمَ فِيهِمْ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ، وقدمهم على أهل الخمس لثلاثة معاني:
أَحَدُهَا: لِحُضُورِهِمْ وَغَيْبَةِ أَهْلِ الْخُمُسِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ اجْتِهَادِهِمْ فَصَارَ مُعَاوَضَةً وَحَقُّ أَهْلِ الخمس مواساة.
والثالث: أن يهم مِلْكَ أَهْلِ الْخُمُسِ خُمُسَهُمْ؛ فَكَانُوا أَقْوَى فِي الْغَنِيمَةِ مِنْهُمْ فَإِذَا شَرَعَ فِي قِسْمَتِهَا فِيهِمْ لَمْ يَخْلُ حَالُهُمْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
إِمَّا أَنْ يَكُونُوا رَجَّالَةً لَا فَارِسَ فِيهِمْ، أَوْ فُرْسَانًا لَا رِجَالَ فِيهِمْ أَوْ يَكُونُوا فُرْسَانًا وَرِجَالًا.
فَإِنْ كَانُوا رَجَّالَةً لَا فَارِسَ فِيهِمْ أَوْ فُرْسَانًا لَا رِجَالَ فِيهِمْ سَوَّى بَيْنَهُمْ، وَقَسَمَهَا عَلَى أَعْدَادِ رُؤُوسِهِمْ وَلَمْ يُفَضِّلْ شُجَاعًا عَلَى جَبَانٍ، وَلَا مُحَارِبًا عَلَى كَافٍّ، لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ حَاضِرٌ مُكَثِّرٌ، وَرَدٌّ مَهِيبٌ كَمَا يُسَوَّى فِي الْمَوَارِيثِ بَيْنَ الْبَارِّ وَالْعَاقِّ، وَالْمُحْسِنِ وَالْمُسِيءِ لِتَسَاوِيهِمْ فِي النَّسَبِ.(8/414)
وَإِنْ كَانُوا فُرْسَانًا وَرَجَّالَةً فَضَّلَ الْفَارِسَ عَلَى الرَّاجِلِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ مَا يُفَضِّلُ بِهِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ: إِلَى أَنَّهُ يُعْطِي الْفَارِسَ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ، سَهْمًا لَهُ وَسَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ، وَيُعْطِي الرَّاجِلَ سَهْمًا وَاحِدًا. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَمِنَ التَّابِعِينَ: عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: مَالِكٌ مَعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَالْأَوْزَاعِيُّ مَعَ أَهْلِ الشَّامِ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ مَعَ أَهْلِ مِصْرَ، وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ مَعَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَالثَّوْرِيُّ وأبو يوسف ومحمد مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ، إِلَّا أبا حنيفة وَحْدَهُ فَإِنَّهُ تَفَرَّدَ عَنْهُمْ فَذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ يُعْطِي الْفَارِسَ سَهْمَيْنِ وَالرَّاجِلَ سَهْمًا اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عُبَيدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعْطَى الْفَارِسَ سَهْمَيْنِ فَبِرِوَايَةِ الْمِقْدَادِ قَالَ أَعْطَانِي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَهْمًا لِي وَسَهْمًا لِفَرَسِي وَبِرِوَايَةِ مَجْمَعِ بْنِ حَارِثَةَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَيْبَرَ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا وَكَانَ الْجَيْشُ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ فَمِنْهُمْ ثَلَاثُمِائَةِ فَارِسٍ فَأَعْطَى الْفَارِسَ سهمين، والراجل سهما؛ لأنه جعل لثلاث مائة فَارِسٍ سِتَّمِائَةِ سَهْمٍ حَتَّى صَارَ لِكُلِّ مِائَةٍ مِنْهُمْ سَهْمٌ وَاحِدٌ مِنْ خَيْبَرَ.
وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّهُ حَيَوَانٌ يُسْهَمُ لَهُ؛ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُزَادَ عَلَى سَهْمٍ كَالرَّاجِلِ؛ وَلِأَنَّ الْفَرَسَ تَبَعٌ أَلَا تَرَاهُ لَوْ حَضَرَ بِلَا صَاحِبِهِ لَمْ يُسْهَمْ لَهُ، وَلَوْ حَضَرَ صَاحِبُهُ بِلَا فَرَسٍ أُسْهِمَ لَهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَهْمُ التَّابِعِ أَفْضَلَ مِنْ سَهْمِ الْمَتْبُوعِ؛ وَلِأَنَّ عَنَاءَ صَاحِبِهِ أَكْثَرُ تَأْثِيرًا وَتَأْثِيرُهُ أَظْهَرُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُقَاتِلُ دُونَ الْفَرَسِ، وَسَهْمُ الْغَنِيمَةِ إِنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِحَسَبِ الْعَنَاءِ وَعَلَى قَدْرِ الْبَلَاءِ؛ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُفَضَّلَ مَا قَلَّ تَأْثِيرُهُ عَلَى مَا كَثُرَ قَالَ أبو حنيفة: لِأَنَّ فِي إِعْطَاءِ الْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَصَاحِبِهِ سَهْمًا تَفْضِيلًا لِلْبَهِيمَةِ عَلَى الْآدَمِيِّ وَإِنِّي لِأَسْتَحِي أَنَّ أُفَضِّلَ بَهِيمَةً عَلَى آدَمِيٍّ.
قَالَ أَصْحَابُهُ: وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُسْهَمَ لِلْفَرَسِ؛ لِأَنَّهُ آلَةٌ كَالسِّلَاحِ؛ وَلِأَنَّهُ بَهِيمَةٌ كَالْبِغَالِ، وَلَكِنْ صِرْنَا إِلَى إِعْطَائِهِ سَهْمًا وَاحِدًا بِالْإِجْمَاعِ وَمَنَعَ الْقِيَاسُ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ.
ودليلنا ما رواه عُبَيدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَسْهَمَ لِلرَّاجِلِ وَلِفَرَسِهِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ سَهْمًا لَهُ، وَسَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ، وَقَدْ رَوَى جَابِرٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ مِثْلَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ قَالُوا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يسهم للفارس(8/415)
ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ: سَهْمًا لَهُ وَسَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنِ اسْتِدَامَةِ فِعْلِهِ، لَكِنَّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ أَشْهَرُ وَأَصَحُّ؛ لِأَنَّ مَدَارَ هَذَا عَلَى بِشْرِ بْنِ مُعَاذٍ، وَفِيهِ لِينٌ.
وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَسَمَ يَوْمَ خَيْبَرَ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ.
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ كان يضرب في المغنم بأربعة أسهم سهما لَهُ؛ وَسَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ، وَسَهْمٍ لِأُمِّهِ صَفِيَّةَ، لِأَنَّهَا مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى وَكُلُّ هَذِهِ الْأَخْبَارِ نُصُوصٌ تَمْنَعُ مِنَ الْخِلَافِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَيُحْمَلُ السَّهْمُ الثَّالِثُ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دفعه إلى الفارس نقلا كما نقل الرُّبُعَ فِي الْبُدَاءَةِ وَالثُّلُثَ فِي الرُّجْعَةِ فَعَنْ ذلك أربعة أجوبة:
أحدهما: أَنَّ السَّهْمَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُسْتَحَقِّ لَا عَنِ النَّفْلِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ النَّفْلَ يُسْتَحَقُّ بِالشَّرْطِ وَلَيْسَ فِي الْفَرَسِ شَرْطٌ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ النَّفْلَ لَا يَكُونُ لِلْفَرَسِ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّ حُكْمَ السَّهْمِ الثَّالِثِ كَحُكْمِ السَّهْمَيْنَ الْمُتَقَدِّمَيْنِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُونَا نَفْلًا لَمْ يَكُنِ الثَّالِثُ نَفْلًا.
ثُمَّ الدَّلِيلُ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ يَزِيدُ عَلَى مُقَدَّرٍ عَلَى وَجْهِ الرِّفْقِ؛ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِالضَّعْفِ قِيَاسًا عَلَى الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ لَمَّا مَسَحَ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً أَرْفَقَ الْمُسَافِرَ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ولياليهن؛ ولأن مؤنة الفرس أقصر لِمَا يُتَكَلَّفُ مِنْ عُلُوفِهِ وَأُجْرَةِ خَادِمِهِ وَكَثْرَةِ آلَتِهِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَحَقُّ بِهِ أَكْثَرَ؛ وَلِأَنَّهُ فِي الْحَرْبِ أَهْيَبُ، وَتَأْثِيرُهُ فِي الْكَرِّ وَالْفَرِّ أَظْهَرُ. فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ سَهْمُهُ أَوْفَرَ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عمرو العمري فيمن ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ ضَعِيفٌ وَأَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ أَقْوَى عِنْدَهُمْ مِنْهُ وَأَصَحُّ حَدِيثًا، وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْهُ خِلَافَ مَا رَوَاهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ خَبَرَ عَبْدِ اللَّهِ أَزْيَدُ مِنْ خَبَرِهِ وَالْأَخْذُ بِالزِّيَادَةِ أَوْلَى.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَحْمِلُ سَهْمَ الْفَارِسِ عَلَى الزِّيَادَةِ الَّتِي اسْتَحَقَّهَا بِفَرَسِهِ عَلَى السَّهْمِ الرَّاتِبِ لِنَفْسِهِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ كَمَا رَوَيْنَا اسْتِعْمَالًا لِلرِّوَايَتَيْنِ فَيَكُونُ أَوْلَى مِنْ إِسْقَاطِ(8/416)
إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى كَمَا رُوِيَ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَبَّرَ فِي الْأُولَى سَبْعًا وَفِي الثَّانِيَةِ خَمْسًا فَحَمَلْنَا ذَلِكَ عَلَى التَّكْبِيرِ الزَّائِدِ عَلَى التَّكْبِيرَةِ الرَّاتِبَةِ فِي الْإِحْرَامِ وَالْقِيَامِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ الْمِقْدَادِ فَقَدْ رَوَتْ عَنْهُ بِنْتُهُ كَرِيمَةُ أَنَّهُ قَالَ: أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ: سَهْمًا لِي، وَسَهْمَيْنِ لِفَرَسِي فَتَعَارَضَتِ الرِّوَايَتَانِ عَنْهُ وَسَقَطَتَا وَاسْتُعْمِلَتَا عَلَى مَا وَصَفْنَا.
وَأَمَّا حَدِيثُ مَجْمَعِ بْنِ حَارِثَةَ فَعَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا قَالَهُ أَبُو دَاوُدَ أَنَّ مَجْمَعًا وهم في حديثه. أنهم كانوا ثلاث مائة فَارِسٍ، وَإِنَّمَا كَانُوا مِائَتَيْ فَارِسٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُمْ كَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ فَهُمْ مِائَتَا فَارِسٍ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَصَحُّ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ رِوَايَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ تُوَافِقُهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْجَيْشَ هُمْ أَهْلُ الْحُدَيْبِيَةِ، وَقَدِ اتَّفَقَ أَهْلُ السِّيَرِ عَلَى أَنَّ عِدَّتَهُمْ أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةٍ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الرَّاجِلِ لِعِلَّةِ أَنَّهُ حَيَوَانٌ يُسْهَمُ لَهُ فَهُوَ أَنَّ الْفَرَسَ لَا يُسْهَمُ لَهُ وَإِنَّمَا يُسْهَمُ لِصَاحِبِهِ لِأَجْلِهِ؛ فَكَانَ الْوَصْفُ غَيْرَ سَلِيمٍ ثُمَّ المعنى في الفرس أن مؤنته أكثر وبلائه أَظْهَرُ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ أَكْثَرَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ تَابِعٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَهْمُهُ أَكْثَرَ مِنْ سَهْمِ الْمَتْبُوعِ.
فالجواب عنه أن كِلَا السَّهْمَيْنِ لِلْمَتْبُوعِ لَيْسَ لِلتَّابِعِ سَهْمٌ وَهُوَ أَكْثَرُ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَوْ جَازَ أَنْ يَمْنَعَ مِنَ الزِّيَادَةِ لَجَازَ أَنْ يَمْنَعَ مِنَ الْمُسَاوَاةِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الْمَتْبُوعِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُسَاوِيَهُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ عَنَاءَ صَاحِبِهِ أَكْثَرُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُقَاتِلُ.
فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ كِلَا الْعَنَائَيْنِ مُضَافٌ إِلَى صَاحِبِهِ إِلَّا أَنَّ تَأْثِيرَهُ لِفَرَسِهِ أَكْثَرُ مِنْ تَأْثِيرِهِ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ بِالْفَرَسِ يَلْحَقُ إِنْ طَلَبَ وَلَا يُلْحَقُ إِنْ هَرَبَ.
وَأَمَّا قَوْلُ أبي حنيفة: " إِنَّنِي أَسْتَحِي أَنَّ أُفَضِّلَ بَهِيمَةٍ عَلَى آدَمِيٍّ " [فَيُقَالُ لَهُ لَئِنِ اسْتَحْيَيْتَ أَنْ تفضل بينهما] فاستحي أَنْ تُسَاوِيَ بَيْنَهُمَا وَأَنْتَ قَدْ سَوَّيْتَ.
ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: أَلَسْتَ قَدْ فَضَّلْتَ قِيمَةَ الْبَهِيمَةِ إِذَا تَلَفَتْ عَلَى ذِمَّةِ الْحُرِّ إِذَا قُتِلَ وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ الِاسْتِحْيَاءَ، فَكَذَلِكَ فِي السَّهْمِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ السَّهْمُ لِلْبَهِيمَةِ فَيَسْتَحِي مِنْ تَفْضِيلِهَا بِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِصَاحِبِهَا وَالْبَهِيمَةُ لَا تَمْلِكُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ الْقِيَاسَ يَمْنَعُ مِنَ السَّهْمِ لِلْبَهِيمَةِ فَهَذَا قِيَاسٌ قَدْ أَبْطَلَهُ النَّصُّ فبطل.(8/417)
فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ، فَالْفُرْسَانُ هُمْ أَصْحَابُ الْخَيْلِ دُونَ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَالْمَطَايَا وَالْفِيَلَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَا خَيْلَ اللَّهِ ارْكَبِي " وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الخيل مقعود بِنَوَاصِيهَا الْخَيْرُ " وَلِأَنَّهَا هِيَ الْمُخْتَصَّةُ بِالْكَرِّ وَالْفَرِّ دُونَ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْخَيْلُ كُلُّهَا سَوَاءٌ لَا فَرْقَ بَيْنَ عَتِيقِهَا وبَرَاذِينِهَا ومقارفها وهجنها؛ والعتيق: ما كان أبواه عربين.
وَالْبِرْذَوْنُ: مَا كَانَ أَبَوَاهُ أَعْجَمِيَّيْنِ.
وَالْمُقْرِفُ: مَا كَانَتْ أُمُّهُ عَرَبِيَّةً وَأَبُوهُ أَعْجَمِيُّ.
وَالْهَجِينُ: مَا كَانَ أَبُوهُ عَرَبِيًّا وَأُمُّهُ أَعْجَمِيَّةً وَبِهَذَا قَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِنْ كَانَ الْفَرَسُ عَتِيقًا أُسْهِمَ لَهُ سَهْمَانِ وَإِنْ كَانَ بِرْذَوْنًا لَمْ يُسْهَمْ لَهُ، وَإِنْ كَانَ مُقْرِفًا أو هجينا أسهم له بسهم وَاحِدٌ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: يُسْهَمُ لِلْعَتِيقِ سَهْمَانِ وَلِغَيْرِهِ مِنَ الْخَيْلِ سَهْمٌ وَاحِدٌ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْمُخْتَصَّةَ بِالْكَرِّ وَالْفَرِّ هِيَ الْعُتْقُ فَاخْتَصَّتْ بِالسَّهْمِ الْأَوْفَى وَكَانَ مَا سِوَاهُمَا بِالنَّقْصِ أَوْلَى وَهَذَا خَطَأٌ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] وَلِأَنَّ الْعَتِيقَ وَإِنْ كَانَ أَحَدَّ وَأَسْرَعَ فَالْبِرْذَوْنُ أَشَدُّ وَأَبْهَى وَأَصْبَرُ فَصَارَ اخْتِصَاصُ الْعَتِيقِ بِالْحِدَّةِ فِي مُقَابَلَةِ اخْتِصَاصِ الْبِرْذَوْنِ بِالشِّدَّةِ فَتَقَابَلَا وَاسْتَوَيَا، وَلِأَنَّ أَصْحَابَ الْخَيْلِ لَمَّا اسْتَوَى عَرَبِيُّهُمْ وعَجَمِيُّهُمْ فِي السُّهُمِ فَالْخَيْلُ أَوْلَى بِأَنْ يَسْتَوِيَ عَرَبِيُّهَا وَعَجَمِيُّهَا فِي السُّهُمِ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ دَلِيلٌ وانفصال والله أعلم.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَمَنْ حَضَرَ بِفَرَسَيْنِ فَأَكْثَرَ لَمْ يُعْطَ إِلَّا لواحد لأنه لا يلقى إلا بواحد ولو أسهم لاثنين لأسهم لأكثر ولا يسهم لراكب دابة غير دابة الخيل ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
إِذَا حَضَرَ الْفَارِسُ الْوَقْعَةَ بِأَفْرَاسٍ لَمْ يُعْطَ إِلَّا سَهْمَ فَرَسٍ وَاحِدٍ، وَلَوْ حَضَرَهَا بِمِائَةِ فَرَسٍ، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: يُسْهَمُ لِفَرَسَيْنِ، وَلَا يُسْهَمُ لِأَكْثَرَ اسْتِدْلَالًا بِمَا رَوَى مَكْحُولٌ أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ حَضَرَ خَيْبَرَ بِفَرَسَيْنِ فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَمْسَةَ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لَهُ، وَأَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ لِفَرَسَيْهِ؛ ولأن الثاني عدة(8/418)
مجيئها يرواح بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَوَّلِ إِنْ أَعْيَا أَوْ زَمِنَ فَكَانَ تَأْثِيرُهُمَا أَكْثَرَ مَعَ مَا قَدْ تَكَلَّفَهُ لَهُمَا مِنْ زِيَادَةِ الْمُؤْنَةِ، وَهَذَا خَطَأٌ.
وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ أَبُو عَاصِمٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ حَضَرَ خَيْبَرَ وَمَعَهُ أَفْرَاسٌ فَلَمْ يُسْهِمِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَضَرَ خَيْبَرَ وَمَعَهُ ثَلَاثَةُ أَفْرَاسٍ: السَّكْبُ وَالظَّرِبُ وَالْمُرْتَجِزُ فَلَمْ يَأْخُذِ السَّهْمَ إِلَّا لِوَاحِدٍ؛ وَلِأَنَّهُ لا يقاتل إلا على واحد منهما وَلَوْ تَحَوَّلَ عَنْهُ صَارَ تَارِكًا لَهُ وَيَكُونُ الثَّانِي إِنِ انْتَقَلَ إِلَيْهِ كَالثَّالِثِ فِي أَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَيْهِ وَلَا يُسْهَمُ لَهُ فَكَذَلِكَ الثَّانِي، وَيَصِيرُ مَا سِوَى الْأَوَّلِ زِينَةً وَاسْتِظْهَارًا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمُ الِاسْتِحْقَاقِ كَخَدَمِ الزَّوْجَةِ لَا تَسْتَحِقُّ إِلَّا نَفَقَةَ وَاحِدَةٍ مِنْهُمْ لِوُقُوعِ الْكِفَايَةِ بِهِ وَيَصِيرُ مَا عَدَاهُ زِينَةً وَزِيَادَةً وَاسْتِظْهَارًا.
وَأَمَّا حَدِيثُ مَكْحُولٍ فَقَدْ رَوَيْنَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ خِلَافَهُ وَهُوَ صَحَابِيٌّ خَبَرُهُ مُسْنَدٌ وَذَاكَ تَابِعِيٌّ خَبَرُهُ مُرْسَلٌ وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ أَنَّ الثَّانِيَ عُدَّةٌ وَقَدْ تُكُلِّفَ لَهُ زِيَادَةُ مُؤْنَةٍ فَهَذَا حَالُ الثَّالِثِ أَيْضًا وَلَا يُوجِبُ السَّهْمَ لَهُ فَكَذَلِكَ الثَّانِي.
فَصْلٌ:
وَإِذَا حَضَرَ الرَّجُلُ الْوَقْعَةَ بِفَرَسٍ يُقَاتِلُ عَلَيْهِ أُسْهِمَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ هَيَّبَ بِهِ وَقَدْ يُقَاتِلُ عَلَيْهِ إِنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ، وَهَكَذَا لَوْ قَاتَلَ فِي الْمَاءِ أُسْهِمَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ رُبَّمَا انتقل إلى البئر وَقَاتَلَ عَلَيْهِ، وَهَكَذَا لَوْ قَاتَلَ عَلَى حِصَارِ حِصْنٍ أُسْهِمَ لِفَرَسِهِ، لِأَنَّهُ عُدَّةٌ يَلْحَقُ بِهِ أَهْلَ الْحِصْنِ إِنْ هَرَبُوا أَوْ يُرْهِبَهُمْ بِهِ إِنْ حُوصِرُوا.
فَصْلٌ:
وَإِذَا غَصَبَ الرَّجُلُ فَرَسًا، فَشَهِدَ بِهِ الْوَقْعَةَ، أُسْهِمَ لِلْفَرَسِ لِلْحُضُورِ مَعَ الْغَاصِبِ، لِظُهُورِ التَّأْثِيرِ فِيهِ، وَحُصُولِ الْإِرْهَابِ بِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَعْصِيَةً، وَإِنْ كَانَ الْغَصْبُ مَعْصِيَةً، وَإِذَا كَانَ سَهْمُ الْفَرَسِ الْمَغْصُوبِ مُسْتَحَقًّا، فَفِي مُسْتَحِقِّهِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيهِ فِي رِبْحِ الْمَالِ الْمَغْصُوبِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ لِلْغَاصِبِ بِعَمَلِهِ، جُعِلَ سَهْمُ الْفَرَسِ الْمَغْصُوبِ لِلْغَاصِبِ لِقِتَالِهِ.
وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ رِبْحَ الْمَالِ الْمَغْصُوبِ لِرَبِّ الْمَالِ بِحَقِّ مَالِهِ، جُعِلَ سَهْمُ الْفَرَسِ الْمَغْصُوبِ لِمَالِهِ بِحَقِّ مِلْكِهِ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ صَاحِبٌ مِمَّنْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ فَغَصَبَ فَرَسَهُ غَاصِبٌ قَاتَلَ عَلَيْهِ كَانَ سَهْمُ الْفَرَسِ لِمَالِكِهِ دُونَ غَاصِبِهِ وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَحَقَّهُ بِالْحُضُورِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْغَصْبِ، وَيَكُونُ عَلَى الْغَاصِبِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ وَإِنْ كَانَ السَّهْمُ لِغَيْرِهِ لِوُجُوبِهَا بِالْغَصْبِ.
فَصْلٌ:
وَلَوِ اسْتَعَارَ فَرَسًا أَوِ اسْتَأْجَرَهُ، فَشَهِدَ بِهِ الْوَقْعَةَ نُظِرَ، فَإِنِ اسْتَعَارَهُ أَوِ اسْتَأْجَرَهُ لِلْقِتَالِ عَلَيْهِ مَلَكَ سَهْمَهُ، لِتَمَلُّكِهِ هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ بِالْعَارِيَةِ وَالْإِجَارَةِ، وَإِنِ اسْتَعَارَهُ أَوِ اسْتَأْجَرَهُ لِلرُّكُوبِ دُونَ الْقِتَالِ صَارَ كَالْغَاصِبِ فَيَكُونُ فِي سَهْمِهِ وَجْهَانِ.(8/419)
فَصْلٌ:
وَإِذَا حَضَرَ رَجُلٌ بِفَرَسٍ فَضَلَّ مِنْهُ الْفَرَسُ نُظِرَ، فَإِنْ حَضَرَ لَمْ يَخْرُجْ عَنِ الْوَقْعَةِ وَمَصَافِّ الْقِتَالِ أُسْهِمَ لَهُ، وَإِنْ خَرَجَ عَنْهَا وَتَجَاوَزَ مَصَافَّ الْقِتَالِ لَمْ يُسْهَمْ لَهُ.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يُسْهَمُ لَهُ لِبَقَائِهِ وَخُرُوجِهِ عَنْهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ الْأَعْذَارَ تُؤَثِّرُ فِي تَمَلُّكِ الْأَمْوَالِ كَمَا لَوْ ضَلَّ صَاحِبُهُ عَنْ حُضُورِ الْوَقْعَةِ حَتَّى فَاتَتْهُ، لَمْ يُسْهَمْ لَهُ، وإِنْ كَانَ مَعْذُورًا.
فَصْلٌ:
وَإِنْ خَلَفَ الرَّجُلُ فَرَسَهُ فِي مُعَسْكَرِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يَشْهَدْ بِهِ وَقْعَةَ الْقِتَالِ، لَمْ يُسْهَمْ لَهُ؛ لِأَنَّ مَالِكَهُ لَوْ تَأَخَّرَ فِي الْمُعَسْكَرِ عَنْ حُضُورِ الْوَقْعَةِ لَمْ يُسْهَمْ لَهُ، فَفَرَسُهُ أَوْلَى أَنْ لَا يُسْهَمَ لَهُ وَلَكِنْ لَوِ اسْتَخْلَفَهُ أَمِيرُ الْجَيْشِ بِالْمُعَسْكَرِ عَلَى حِفْظِهِ وَحِرَاسَتِهِ حَظْرًا مِنْ هُجُومِ الْعَدُوِّ عَلَيْهِ أُسْهِمَ لَهُ وَلِفَرَسِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ أَنْفَعَ لِلْجَيْشِ مِنْ حُضُورِهِ مَعَهُمْ، وَهَكَذَا لَوْ أَنَّ أَمِيرَ الْجَيْشِ أَفْرَدَ مِنْهُمْ كَمِينًا لِيَظْفَرَ مِنَ الْعَدُوِّ بِفَرِّهِ، أُسْهِمَ لَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا الْوَقْعَةَ؛ لِأَنَّهُمْ عَوْنٌ فِيهَا يَخَافُهُمُ الْعَدُوُّ وَيَقْوَى بِهِمُ الْجَيْشُ.
مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَعَاهَدَ الْخَيْلَ فَلَا يُدْخِلُ إِلَّا شَدِيدًا وَلَا يُدْخِلُ حَطِمًا وَلَا قَمْحًا ضعيفا ولا ضرعا (قال المزني) رحمه الله القحم الكبير والضرع الصغير ولا أعجف رازحا وإن أغفل فدخل رجل على واحدة منها فقد قيل لا يسهم له لأنه لا يغني غناء الخيل التي يسهم لها ولا أعلمه أسهم فيما مضى على مثل هذه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَعَاهَدَ خَيْلَ الْمُجَاهِدِينَ وَتَجْهِيزَهَا، وَلَا يُدْخِلُ فِيهَا حَطِمًا وَهُوَ الْكَبِيرُ وَلَا ضَرْعًا وَهُوَ الصَّغِيرُ، وَلَا أَعْجَفَ رَازِحًا وَهُوَ الْهَزِيلُ الَّذِي لَا حَرَاكَ بِهِ لِأَنَّهَا لَا تَفِي عَنَاءَ الْخَيْلِ الشَّدِيدَةِ وَقَدْ تَضُرُّ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: عجزهما عَنِ النَّهْضَةِ وَعَجْزُ رَاكِبِهَا عَنِ الْمُقَاتَلَةِ.
وَالثَّانِي: ضِيقُ الْغَنِيمَةِ بِالْإِسْهَامِ لَهَا عَلَى ذَوِي الْعَنَاءِ وَالشِّدَّةِ، فَلَوْ دَخَلَ رَجُلٌ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الضَّعِيفَةِ الْعَاجِزَةِ عَنْ عَنَاءِ الْخَيْلِ السَّلِيمَةِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ أَوْ أَمِيرُ الْجَيْشِ قَدْ نَادَى فِيهِمْ أَلَّا يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنَ الْجَيْشِ بِوَاحِدٍ مِنْهَا فَلَا سَهْمَ لِمَنْ دَخَلَ بِهَا لأن في الْبِغَالَ الَّتِي لَا سَهْمَ لَهَا مَا هُوَ عناء منها، وإن لم ينادي فِيهِمْ بِذَلِكَ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ هَا هُنَا وفي الأم قيل: لَا يُسْهَمُ، وَقِيلَ يُسْهَمُ لَهَا فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ حَيْرَانَ يُخَرِّجُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُسْهَمُ لَهَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ فَعَجْزُهَا عَنِ الْعَنَاءِ كَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُسْهَمُ لَهَا؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَهُمَا فِي السَّهْمِ كَالْمُقَاتِلَةِ وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ(8/420)
فَقَوْلُهُ يُسْهَمُ لَهَا إِذَا أَمْكَنَ الْقِتَالُ عَلَيْهَا مَعَ ضَعْفِهَا، وَقَوْلُهُ لَا يُسْهَمُ لَهَا إِذَا لَمْ يُمْكِنِ الْقِتَالُ عَلَيْهَا لِضَعْفِهَا.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنَّمَا يُسْهَمُ لِلْفَرَسِ إِذَا حَضَرَ صَاحِبُهُ شَيْئًا مِنَ الْحَرْبِ فَارِسًا فَأَمَّا إِذَا كَانَ فَارِسًا إِذَا دَخَلَ بِلَادَ الْعَدُوِّ ثُمَّ مَاتَ فَرَسُهُ أَوْ كَانَ فَارِسًا بَعْدَ انْقِطَاعِ الْحَرْبِ وَجَمْعِ الْغَنِيمَةِ فَلَا يُضْرَبُ لَهُ وَلَوْ جَازَ أَنْ يُسْهَمَ لَهُ لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي الدِّيوَانِ حِينَ دَخَلَ لَكَانَ صَاحِبُهُ إِذَا دَخَلَ ثَبَتَ فِي الدِّيوَانِ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ الْغَنِيمَةِ أَحَقُّ أَنْ يُسْهَمَ لَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِيمَنْ دَخَلَ أَرْضَ الْعَدُوِّ فَارِسًا، ثُمَّ نَفِقَ فَرَسُهُ أَوْ بَاعَهُ أَوْ أَجَّرَهُ قَبْلَ حُضُورِ الْوَقْعَةِ حَتَّى حَضَرَهَا رَاجِلًا، لَمْ يُسْهَمْ لَهُ.
وَقَالَ أبو حنيفة: يُسْهَمُ لَهُ إِذَا زَالَ عَنْ مِلْكِهِ بَعْدَ دُخُولِ الْحَرْبِ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدِ الْوَقْعَةَ.
وَقَالَ محمد بن الحسن: إِنْ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ كَنِفَاقِهِ أَوْ سَرِقَتِهِ أُسْهِمَ لَهُ، وَإِنْ زَالَ بِاخْتِيَارِهِ كَبَيْعِهِ أَوْ هِبَتِهِ، لَمْ يُسْهَمْ لَهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أبي حنيفة مِثْلُهُ، وَرُوِيَ عَنْهُ مِثْلُ قَوْلِنَا، فَصَارَ عن أبي حنيفة ثلاثة رِوَايَاتٍ أَشْهَرُهَا الْأُولَى.
وَالْفَصْلُ الثَّانِي: فِيمَنْ دَخَلَ أرض العدو راجلا، ثم ملك قبل تقضي الْحَرْبُ فَرَسًا بِابْتِيَاعٍ أَوْ هِبَةٍ فَحَضَرَ بِهِ الْوَقْعَةَ أُسْهِمَ لَهُ.
وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يُسْهَمُ لَهُ اعْتِبَارًا فِي اسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ بِدُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ فَارِسًا فِي الْفَصْلَيْنِ مَعًا اسْتِدْلَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] فَكَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ الْإِعْدَادُ، وَقَدْ أَعَدَّهُ بِدُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ، فَاسْتَحَقَّ سَهْمَهُ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: " مَا غُزِيَ قَوْمٌ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إِلَّا ذَلُّوا " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ دُخُولَ دَارِ الْحَرْبِ قَدْ حَصَّلَ الْإِذْلَالَ وَالْقَهْرَ، فَاسْتُحِقَّ بِهِ السَّهْمُ، قَالُوا: وَلِأَنَّ سَهْمَ فَرَسِهِ فِي مُقَابَلَةِ مَا تَكَلَّفَهُ مِنْ مُؤْنَتِهِ، وَقَدْ تَكَلَّفَهَا فَاسْتَحَقَّ السَّهْمَ بِهَا، وَرُبَّمَا حَرَّرُوا هَذَا الِاعْتِلَالَ قِيَاسًا فَقَالُوا؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَارِسًا مُجَاهِدًا، فَاسْتَحَقَّ سَهْمَ الْفَارِسِ كَالْحَاضِرِ لِلْوَاقِعَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ اعْتِبَارَ استحقاق السهم في الفصين مَعًا بِحُضُورِ الْوَقْعَةِ لَا بِدُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] فَاعْتُبِرَ بِمِلْكٍ حَالَ الْمَغْنَمِ إِجَازَتُهُ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْلِكَ قَبْلَهَا، وَلِأَنَّ الْفَرَسَ تَابِعٌ وَالْمَالِكَ مَتْبُوعٌ، فَلَمَّا كَانَ مَوْتُ الْمَالِكِ الْمَتْبُوعِ بَعْدَ دُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ وَقَبْلَ الْوَقْعَةِ يَمْنَعُ مِنِ اسْتِحْقَاقِ سَهْمِهِ، فَالْفَرَسُ التَّابِعُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ مَانِعًا مِنِ اسْتِحْقَاقِهِ.
وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهُ ذُو سَهْمٍ مَاتَ قَبْلَ حُضُورِ الْوَقْعَةِ، فَلَمْ يُسْهَمْ لَهُ كَالْمَالِكِ وَلِأَنَّ يَدَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَا دَخَلَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ أَثْبَتُ وَأَقْوَى مِنْهَا عَلَى ما في دار الحرب (فلما(8/421)
استوى اعتبار سهم الفارس والفرس في دار الإسلام بحضور الإسلام، كان أولى أن يعتبر فِي دَارِ الْحَرْبِ) بِحُضُورِ الْوَقْعَةِ.
وَيَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الِاعْتِلَالِ قِيَاسَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ حَالٍ مَنَعَ مَا قَبْلَهَا مِنِ اسْتِحْقَاقِ سَهْمِ الْفَارِسِ مَنَعَ مِنِ اسْتِحْقَاقِ سَهْمِ الْفَرَسِ قِيَاسًا عَلَى دَارِ الْإِسْلَامِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ مَغْنَمٍ مُنِعَ بِدَارِ الْإِسْلَامِ مِنِ اسْتِحْقَاقِهِ مَنَعَتْ دَارُ الْحَرْبِ مِنِ اسْتِحْقَاقِهِ قِيَاسًا عَلَى مَوْتِ الْفَارِسِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ، فَهُوَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ الْقِتَالُ بَعْدَ الِاسْتِعْدَادِ لَا الِاقْتِصَارُ عَلَى الِاسْتِعْدَادِ، أَلَا تَرَى أَنْ لَوِ اسْتَعَدَّ وَلَمْ يَحْضُرْ لَمْ يُسْهَمْ لَهُ، وَلَوْ حَضَرَ وَلَمْ يَسْتَعِدَّ أُسْهِمَ لَهُ فَإِنْ قِيلَ: فَالرَّهْبَةُ قَدْ وَقَعَتْ بِالْفَرَسِ فِي دُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ الرَّهْبَةِ بِالْفَارِسِ لَا بِالْفَرَسِ ثُمَّ لَيْسَتِ الرَّهْبَةُ مِنَ الْفَارِسِ بِدُخُولِهِ دَارَ الْحَرْبِ مُوجِبَةً لِسَهْمِهِ، فكذلك لفرسه.
وأما قول عليه بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " مَا غُزِيَ قَوْمٌ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إِلَّا ذَلُّوا "، فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ جَعَلَ الْغَزْوَ فِي الدَّارِ هُوَ الْإِذْلَالَ لَا دُخُولَ الدَّارِ عَلَى أَنَّ الْغَنِيمَةَ لَا تُمْلَكُ بِالْإِذْلَالِ، وَإِنَّمَا تُمْلَكُ بِالْغَلَبَةِ وَالْإِجَازَةِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِمَا تَكَلَّفَهُ مِنْ مُؤْنَتِهِ، فَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ تَكَلُّفُ الْمُؤْنَةِ مُوجِبًا لِمِلْكِ السَّهْمِ فِي الْمَغْنَمِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ تَكَلَّفَهَا لِفَرَسِهِ فَهَلَكَ قَبْلَ دُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ، أَوْ تَكَلَّفَهَا لِنَفْسِهِ وَهَلَكَ بَعْدَ دُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يُسْهَمْ لِوَاحِدٍ مِنْهَا، فَبَطَلَ التَّعْلِيلُ بذلك.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ دَخَلَ يُرِيدُ الْجِهَادَ فَمَرِضَ وَلَمْ يُقَاتِلْ أُسْهِمَ لَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الصَّحِيحُ إِذَا حَضَرَ الْوَاقِعَةَ فَلَهُ سَهْمُهُ، قَاتَلَ أَوْ لَمْ يُقَاتِلْ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعَثَ سَرِيَّةً مِنْ حُنَينٍ إِلَى أَوَطَاسٍ فَغَنِمَتْ، فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ أَقَامَ بِحُنَينٍ، وَلَمْ يَحْضُرْ مَعَهُمْ، فَكَانَ الْحَاضِرُ مَعَهُمْ وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلْ أَوْلَى أَنْ يَشْرُكَهُمْ وَلِأَنَّهُ إِذَا حَضَرَ هَيَّبَ وَكَثَّرَ وَأَرْهَبَ وَخَوَّفَ، فَصَارَ حُضُورُهُ مُؤَثِّرًا كَالْمُقَاتِلِ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَادَةِ جَمِيعِ الْجَيْشِ أَنْ يُقَاتِلَ وَإِنَّمَا يُقَاتِلُ بَعْضُهُمْ، وَيَكُونُ الْبَاقُونَ رِدًّا لَهُمْ لِتَقْوَى نَفْسُ الْمُقَاتِلِ بِحُضُورِ مَنْ لَا يُقَاتِلُ.
وَأَمَّا إِذَا حَضَرَهَا وَهُوَ مَرِيضٌ أَوْ كَانَ صَحِيحًا فَمَرِضَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَرِيضًا يَقْدِرُ عَلَى الْقِتَالِ كالصُّدَاعِ وَالسُّعَالِ وَنُفُورِ الطِّحَالِ وَالْحُمَّى الْقَرَنِيَّةِ، فَهَذَا يُسْهَمُ لَهُ، لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ لِعَدَمِ تَأْثِيرِهِ، وَقِلَّةِ خُلُوِّ الْأَبْدَانِ مِنْ مِثْلِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَرِيضًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِتَالِ مَعَهُ فَفِي اسْتِحْقَاقِهِ لِلسَّهْمِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ لِأَصْحَابِنَا:(8/422)
أَحَدُهَا: وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ هَا هُنَا أَنَّهُ يُسْهَمُ لَهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ "؛ وَلِأَنَّهُ مُهَيِّبٌ وَمُكَثِّرٌ كَالصَّحِيحِ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ يَنْفَعُ بِرَأْيِهِ أَكْثَرَ مِنْ نَفْعِهِ بِقِتَالِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُسْهَمَ لَهُ وَيُعْطَى رَضْخًا؛ لِأَنَّهُ مَسْلُوبُ النُّهُوضِ بِالْمَرَضِ فَصَارَ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ مَرِيضًا يَخْرُجُ بِهِ، مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ كَالْعَمَى وَقَطْعِ الْيَدَيْنِ أَوِ الرِّجْلَيْنِ أَوِ الزَّمَانَةِ الْمُقْعِدَةِ فَلَا يُسْهَمُ لَهُ.
وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا لَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ فَيُرْجَى زَوَالُهُ بِالْعَوْدِ إِلَى الصِّحَّةِ كَالْحُمَّى الشَّدِيدَةِ، وَرَمَدِ الْعَيْنِ، وَانْطِلَاقِ الْجَوْفِ أُسْهِمَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فِي فَرْضِ الْجِهَادِ فَرْقٌ بَيْنَهُمَا فِي اسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ أَجِيرٌ يُرِيدُ الْجِهَادَ فَقَدْ قِيلَ يُسْهَمُ لَهُ وَقِيلَ يُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يسهم له وتطرح الإجارة وَلَا يُسْهَمُ لَهُ وَقِيلَ يُرْضَخُ لَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ، أَنَّ الْأَجِيرَ إِذَا حَضَرَ الْوَاقِعَةَ لَمْ يَخْلُ حَالُ إِجَارَتِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ تَكُونَ ثَابِتَةً فِي ذِمَّتِهِ أَوْ مُعَيَّنَةً فِي رَقَبَتِهِ.
فَإِنْ كَانَتْ فِي الذِّمَّةِ أُسْهِمَ لَهُ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُقُوقِ فِي الذِّمَمِ لَا يَمْنَعُ مِنِ اسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ فِي الْمَغْنَمِ كَالدُّيُونِ.
وَإِنْ كَانَتْ مُعَيَّنَةً فِي رَقَبَتِهِ وَعَلَى يَدَيْهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مُقَدَّرَةً بِالْعَمَلِ.
وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مُقَدَّرَةً بِالزَّمَانِ.
فَإِنْ كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ فِيهَا مُقَدَّرَةً بِالْعَمَلِ كَرَجُلٍ استأجر لِخِيَاطَةِ ثَوْبٍ أَوْ صِنَاعَةِ حُلِيٍّ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ إِجَارَةً لَازِمَةً لَا يَقْدِرُ عَلَى فَسْخِهَا.
وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ إِجَارَةً يَقْدِرُ عَلَى فَسْخِهَا فَإِنْ كَانَتْ لَازِمَةً لَا يَقْدِرُ عَلَى فَسْخِهَا فَفِي اسْتِحْقَاقِهِ لِلسَّهْمِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا سَهْمَ لَهُ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ بِالْعَقْدِ مُسْتَحَقَّةٌ فَأَشْبَهَ الْعَبْدَ فَعَلَى هَذَا يُرْضَخُ لَهُ وَهُوَ عَلَى إِجَارَتِهِ مُسْتَحِقٌّ لِأُجْرَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْتَضْ عَنْ مَنْفَعَتِهِ فَانْصَرَفَتْ إِلَى إِجَارَتِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُسْهَمُ لَهُ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ مَنَافِعِهِ بِالْعَقْدِ لَا يَمْنَعُ مِنِ اسْتِيفَاءِ أَحْكَامِ قُرْبِهِ كَالْحَجِّ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ خَالَفَ أَحْكَامَ الْعَبْدِ فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ حُضُورُ الْوَقْعَةِ لَا يمنع(8/423)
مِنْ مَنَافِعِ إِجَارَتِهِ كَأَجِيرٍ يَخْدُمُ مَنْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ فَلَهُ الْأُجْرَةُ مَعَ السَّهْمِ كَمَا يَكُونُ لَهُ الْحَجُّ مَعَ الْأُجْرَةِ وَإِنْ كَانَ حُضُورُ الْوَقْعَةِ يَمْنَعُ مِنْ مَنَافِعِ إِجَارَتِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَدْعُوَهُ الْمُسْتَأْجِرُ إِلَى خِدْمَتِهِ فَيَأْبَى وَيَغْلِبَهُ عَلَى مَنَافِعِ نَفْسِهِ. فَهَذَا يَرُدُّ مِنَ الْأُجْرَةِ مَا قَابَلَ مُدَّةَ حُضُورِهِ لِئَلَّا يَجْمَعَ فِيهَا بَيْنَ بَدَلَيْنِ وَقَدِ امْتَلَكَهَا فِي إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: لَا يَدْعُوهُ الْمُسْتَأْجِرُ إِلَى خِدْمَتِهِ فَفِي اسْتِحْقَاقِ الْأَجْرِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَسْتَحِقُّهَا تَعْلِيلًا بِمَا ذَكَرْنَا.
وَالثَّانِي: يَسْتَحِقُّهَا؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ فِي مُقَابَلَةِ التَّمْكِينِ مِنَ الْخِدْمَةِ، وَالتَّمْكِينُ مَوْجُودٌ وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ الِاسْتِيفَاءُ، وَإِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ تُقَدَّرُ عَلَى قَسْمِهَا فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: لَا يُسْهَمُ لَهُ سَوَاءً أَقَامَ عَلَيْهَا مِنْ بَعْدُ أَوْ فَسَخَ.
وَالثَّانِي: يُسْهَمُ لَهُ سَوَاءً أَقَامَ عَلَيْهَا مِنْ بَعْدُ أَوْ فَسَخَ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُقِيمَ عَلَى الْإِجَارَةِ فَلَا يُسْهَمُ لَهُ وَيُعْطَى رَضْخًا وَتَكُونَ لَهُ الْأُجْرَةُ، وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ فَيُسْهَمُ لَهُ وَتَسْقُطُ الْأُجْرَةُ.
فَإِذَا قِيلَ: يُسْهَمُ لَهُ فَسَوَاءً قَاتَلَ أَوْ لَمْ يُقَاتِلْ لَهُ سَهْمُهُ كَغَيْرِهِ مِنَ الْجَيْشِ.
وَإِذَا قِيلَ لَا يُسْهَمُ لَهُ كَانَ ذَلِكَ حُكْمَهُ مَا لَمْ يُقَاتِلْ فِي حُضُورِهِ، فَأَمَّا إِذَا قَاتَلَ وَأَبْلَى فِإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ السَّلَبَ إِنْ قَتَلَ قَتِيلًا، وَفِي اسْتِحْقَاقِهِ لِلسَّهْمِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْبَصْرِيِّينَ مِنْهُمْ أَبُو الْفَيَّاضِ يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ لِبَلَائِهِ وَظُهُورِ عَنَائِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ لَا سَهْمَ لَهُ؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَسْتَحِقَّ السَّهْمَ بِالْحُضُورِ إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ لَمْ يَسْتَحِقَّهُ وَإِنْ قَاتَلَ كَأَهْلِ الرَّضْخِ طردا وأهل الجهاد عكسا.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ولو أفلت إليهم أسير قبل تحرز الْغَنِيمَةَ فَقَدْ قِيلَ يُسْهَمُ لَهُ وَقِيلَ لَا يُسْهَمُ لَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قِتَالٌ فَيُقَاتِلُ فَأَرَى أَنْ يُسْهَمَ لَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا كَانَ فِي أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ أَسِيرٌ وَأَفْلَتَ مِنْهُمْ وَقْتَ الْقِتَالِ وَصَارَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَنْ يَخْتَلِطَ بِالْجَيْشِ أَوْ لَا يَخْتَلِطُ فَإِنْ لَمْ يَخْتَلِطْ وَتَوَجَّهَ إِلَى وَطَنِهِ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْغَنِيمَةِ، وَإِنِ اخْتَلَطَ فِي الْجَيْشِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَحْضُرَ قَبْلَ تَقَضِّي الْحَرْبِ فَهَذَا يُسْهَمُ لَهُ قَاتَلَ أَوْ لَمْ يُقَاتِلْ.
وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يُسْهَمُ لَهُ إِلَّا أَنْ يُقَاتِلَ؛ لِأَنَّهُ مَا قَصَدَ الْجِهَادَ وَلَا تَكَلَّفَ لَهُ وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ " وَلِأَنَّ مَنْ أُسْهِمَ لَهُ إِذَا قَاتَلَ أُسْهِمَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلْ كَسَائِرِ الْجَيْشِ؛ وَلِأَنَّ مَا عَانَاهُ مِنْ شِدَّةِ الْأَسْرِ وَذُلِّهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سببا لحرمانه فأمانية الْقَصْدِ وَتَكَلُّفُ الْمُؤَنِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي سَهْمِ غَيْرِهِ فَكَذَلِكَ فِي سَهْمِهِ.(8/424)
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَحْضُرَ بَعْدَ الْوَقْعَةِ وَقَبْلَ إِحَازَةِ الْغَنِيمَةِ فَفِي اسْتِحْقَاقِهِ لِلسَّهْمِ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ مَتَى يَمْلِكُ الْغَانِمُونَ الْغَنِيمَةَ.
فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ لَهُمْ بِانْقِضَاءِ الْحَرْبِ أَنْ يَتَمَلَّكُوهَا، فَعَلَى هَذَا يُسْهَمُ مِنْهَا لِأَسِيرٍ لِأَنَّهُ قَدْ شَارَكَهُمْ فِي سَهْمِ التَّمَلُّكِ لَهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ يَتَمَلَّكُونَهَا بِشَرْطَيْنِ: الْقِتَالُ عَلَيْهَا وَالْإِحَازَةُ لَهَا.
فَعَلَى هَذَا لَا سَهْمَ لِأَسِيرٍ بِحُضُورِهِ بَعْدَ أَنْ مَلَكَ الْجَيْشُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا.
فَإِذَا قِيلَ يُسْهَمُ لَهُ، فَبِحَسَبِ حَالِهِ فَارِسًا كَانَ أَوْ رَاجِلًا وَإِذَا قِيلَ: لَا يُسْهَمُ لَهُ، فَإِنْ حَضَرَ بَعْدَ قَسْمِ الْغَنِيمَةِ فَلَا رَضْخَ لَهُ فِيهَا، وَإِنْ حَضَرَ قَبْلَ قِسْمَتِهَا رُضِخَ لَهُ مِنْهَا، وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا آخَرَ أَنْ لَا يُرْضَخَ لَهُ لِفَوَاتِ زَمَانِ التَّمَلُّكِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ دَخَلَ تُجَّارٌ فَقَاتَلُوا لَمْ أَرَ بَأْسًا أن يسهم لهم وقيل لَا يُسْهَمُ لَهُمْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا اتَّبَعَ الْجَيْشَ تُجَّارٌ وَصُنَّاعٌ قَصَدُوا كَسْبَ مَنَافِعِهِمْ وَصَنَائِعِهِمْ فِي جِهَادِ عَدُوِّهِمْ فَإِنْ تَأَخَّرُوا عَنِ الْوَقْعَةِ لَمْ يُسْهَمْ لَهُمْ وَإِنْ حَضَرُوهَا نُظِرَ فَإِنْ قَاتَلُوا أُسْهِمَ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ بِالْقِتَالِ قَدْ عَدَلُوا عَنْ قَصْدِ الْكَسْبِ إِلَى نِيَّةِ الْجِهَادِ وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلُوا فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا سَهْمَ لَهُمْ وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ".
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُسْهَمُ لَهُمْ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَمْنَعِ التِّجَارَةُ وَالصِّنَاعَةُ مِنَ الْحَجِّ لَمْ تَمْنَعْ مِنَ الْجِهَادِ، فَإِذَا أُسْهِمَ لَهُمُ اعْتُبِرَتْ أَحْوَالُهُمْ فُرْسَانًا وَرَجَّالَةً.
وَإِذَا قِيلَ: لَا يُسْهَمُ، أُعْطَوْا رَضْخًا لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ لِإِدْرَاكِهِمْ زَمَانَ الِاسْتِحْقَاقِ.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ولو جاءهم مرد قبل أن تنقضي الْحَرْبُ فَحَضَرُوا مِنْهَا شَيْئًا قَلَّ أَوْ كَثُرَ شَرَكُوهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ فَإِنِ انْقَضَتِ الْحَرْبُ وَلَمْ يَكُنْ لِلْغَنِيمَةِ مَانِعٌ لَمْ يَشْرُكُوهُمْ ".
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا أَلْحَقَ بِالْجَيْشِ فِي دَارِ الحرب مرد لم يخل حال المرد مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُدْرِكُوا الْوَقْعَةَ قَبْلَ تَقَضِّي الْحَرْبُ فَيَكُونُوا شُرَكَاءَ لِلْجَيْشِ فِي الْغَنِيمَةِ سَوَاءً قَاتَلُوا مَعَهُمْ أَمْ لَا وَسَوَاءً احْتَاجَ الْجَيْشُ إِلَيْهِمْ أَمْ لَا؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الْغَنِيمَةُ لِمَنْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ وَلِأَنَّ لِوُرُودِهِمْ تَأْثِيرًا فِي الْقُوَّةِ وَرُبَّمَا كَانَ سَبَبًا لِلظَّفَرِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يُدْرِكُوهُمْ بَعْدَ تَقَضِّي الْحَرْبُ، وَانْجِلَاءِ الْوَقْعَةِ، وَقَبْلَ إِحَازَةِ الْغَنِيمَةِ.(8/425)
وَالْإِحَازَةُ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ وَيُوَلِّيَ عَنْهَا الْمُشْرِكُونَ وَنَأْمَنُ رَجَعَتَهُمْ فِي الْحَالِ فَتَكْمُلُ الْإِحَازَةُ بهذه الشروط الثلاثة فإن انحزم شَرْطٌ مِنْهَا لَمْ تَكْمُلِ الْإِحَازَةُ، فَإِذَا كَانَ حضور المرد بَعْدَ تَقَضِّي الْحَرْبُ وَقَبْلَ الْإِحَازَةِ فَهَلْ يُشْرِكُونَهُمْ فِيهَا أَمْ لَا عَلَى الْقَوْلَيْنَ الْمَاضِيَيْنِ نَصًّا، وَتَخْرِيجًا.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُدْرِكُوهُمْ بَعْدَ تَقَضِّي الْحَرْبُ وَبَعْدَ إِحَازَةِ الْغَنِيمَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ صِفَةِ الْإِحَازَةِ فَلَا حَقَّ لَهُمْ فِي الغنيمة والجيش أحق بها من المرد.
وقال أبو حنيفة: المرد شُرَكَاءُ الْجَيْشِ فِي الْغَنِيمَةِ إِذَا أَدْرَكُوهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَإِنْ أُحْرِزَتِ الْغَنَائِمُ مَا لَمْ يَقْتَسِمُوهَا أَوْ يَكُنِ الْإِمَامُ قَدْ بَاعَهَا وَلَوْ كان المرد أَسْرَى لَحِقُوا بِالْجَيْشِ فِي دَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ إجازة الغنائم لم يشركوهم.
واستدل على مشاركة المرد لَهُمْ بِأَنَّهُمْ جَيْشٌ اجْتَمَعُوا عَلَى نَفْلِ الْغَنِيمَةِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ؛ فَوَجَبَ أَنْ يُشْرَكُوا فِيهَا قِيَاسًا عَلَى الْحَاضِرِينَ قَبْلَ الْحَرْبِ؛ وَلِأَنْ لَمَّا كان الرد مشاركا وجب أن يكون المرد مُشَارِكًا لِأَنَّ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ عَوْنٌ وَلِلْجَيْشِ بِهِمَا قُوَّةٌ، وَلِأَنَّ الْغَنِيمَةَ لَا تُمْلَكُ إِلَّا بِالْإِحَازَةِ إلى دار الإسلام فصار المرد مدركا لها قبل إحازتهما.
ودليلنا قوله ^: " الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ " وَالَّذِي شَهِدَهَا الْجَيْشُ دون المرد فوجب أن يكون أحق بها من المرد.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَّرَ أَبَّانَ بْنَ سَعِيدٍ عَلَى سَرِيَّةٍ قِبَلَ نَجْدٍ فَقَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِخَيْبَرَ، وَقَدْ فَتَحَهَا وَأَجَازَهَا فَسَأَلَهُ أَنْ يُسْهِمَ لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ مِنْهَا فَأَبَى؛ فَدَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِ الجيش بها دون المرد، وَلِأَنَّ لُحُوقَهُمْ بِالْجَيْشِ بَعْدَ إِجَازَةِ الْغَنِيمَةِ يَمْنَعُ مُشَارَكَتَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ قِيَاسًا عَلَى الْأَسْرَى وَلِأَنَّ كُلَّ غَنِيمَةٍ لَا يُسْهَمُ لِلْأَسْرَى مِنْهَا لَمْ يُسْهَمْ لِلْمَرَدِّ مِنْهَا قِيَاسًا عَلَى مَا نُفِلَ أَوْ قُسِّمَ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّهُمُ اجْتَمَعُوا عَلَى نَفْلِ الْغَنِيمَةِ فَلَيْسَ النَّفْلُ عِلَّةً فِي التَّمَلُّكِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَسْرَى لَوْ نَفَلُوا لَمْ يَتَمَلَّكُوا وَكَذَلِكَ الْأُجَرَاءُ عَلَى النَّفْلِ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالرَّدِ، فَهُمْ وَالْمَرَدُّ سَوَاءٌ إِنْ أَدْرَكَ الْوَقْعَةَ أُسْهِمَ لَهُمْ كَالرِّدِّ وَإِنْ لَمْ يدرك الرد الْوَقْعَةَ لَمْ يُسْهَمْ لَهُمْ كَالْمَرَدِّ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ الْغَنِيمَةَ يُمْكِنُ إِحَازَتُهَا إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فليس للدار تأثيرا في تملكها وإنما تملك بمجرد الإجارة عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ وَاللَّهُ أعلم بالصواب.
مسألة:
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " وَلَوْ أَنَّ قَائِدًا فَرَّقَ جُنْدَهُ فِي وَجْهَيْنِ فَغَنِمَتْ إِحْدَى الْفِرْقَتَيْنِ أَوْ غَنِمَ الْعَسْكَرُ وَلَمْ تَغْنَمْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا شَرَكُوهُمْ لِأَنَّهُمْ جَيْشٌ وَاحِدٌ وكلهم ردء(8/426)
لصاحبه وقد مضت خيل المسلمين فغنموا بأوطاس غنائم كثيرة وأكثر العساكر بحنين فشركوهم وهم مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولكن لو كان قوم مقيمين ببلادهم فخرجت منهم طائفة فغنموا لم يشركوهم وإن كانوا منهم قريبا لأن السرايا كانت تخرج من المدينة فتغنم فلا يشركهم أهل المدينة ولو أن إماما بعث جيشين على كل واحد منهما قائد وأمر كل واحد منهما أن يتوجه ناحية غير ناحية صاحبه من بلاد عدوهم فغنم أحد الجيشين لم يشركهم الآخرون فإذا اجتمعوا فغنموا مجتمعين فهم كجيش واحد ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَلِلسَّرَايَا الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى الْجُيُوشِ حَالَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ تَسْرِيَ مِنْ جُمْلَةِ جَيْشٍ خَارِجٍ فِي الْجِهَادِ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنْ تَسْرِيَ من جملة جيش مقيم.
فأما الحالة الْأُولَى وَهُوَ أَنْ تَسْرِيَ مِنْ جُمْلَةِ جَيْشٍ خَارِجٍ فِي الْجِهَادِ فَصُورَتُهَا أَنْ يَخْرُجَ الْإِمَامُ لِجَيْشِهِ أَوْ يَسْتَخْلِفَ عَلَى الْجَيْشِ أَمِيرًا فَيُنْفِذَ السَّرَايَا مِنْ جُمْلَةِ الْجَيْشِ الْخَارِجِ فَفِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
فَالْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنْ يَتَقَدَّمَ مِنْ جُمْلَتِهِ سَرِيَّةٌ وَاحِدَةٌ إِلَى بَعْضِ الْجِهَاتِ؛ فَتَكُونُ السَّرِيَّةُ وَالْجَيْشُ شُرَكَاءَ بِجَمِيعِ مَا غَنِمُوهُ، فَإِنْ غَنِمَتِ السرية شاركهم الجيش، وإن غنم الجيش شركتهم السَّرِيَّةُ وسَوَاءً كَانَ تَفَرُّدُ السَّرِيَّةِ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي يَقْصِدُهَا الْجَيْشُ أَوْ إِلَى غَيْرِهَا، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَتَمَيَّزُ حُكْمُ السَّرِيَّةِ عَنِ الْجَيْشِ وَيَخْتَصُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا غَنِمَهُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ " وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ هَزَمَ هَوَازِنَ بِحُنَيْنٍ أَسْرَى قِبَلَ أَوْطَاسٍ سَرِيَّةً غَنِمَتْ فَقَسَّمَ غَنَائِمَهُمْ فِي الْجَمِيعِ.
وَرَوَى عُمَرُ بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ ويجيد عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ يَرُدُّ مُشَدُّهُمْ عَلَى مُضْعَفِهِمْ وَمُتَسَرِّيهِمْ عَلَى قَاعِدِهِمْ، لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ، فَأَخْبَرَ أَنَّ السَّرَايَا تَرُدُّ عَلَى الْقَاعِدِ وَلِأَنَّهُمْ جَيْشٌ وَاحِدٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ردا لِصَاحِبِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَيْشَ إِنِ احْتَاجَ إِلَيْهَا رَجَعَتْ إِلَيْهِ وَإِنِ احْتَاجَتْ إِلَيْهِ لَحِقَ بِهَا.
وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُنْفِذَ مِنَ الْجَيْشِ سَرِيَّتَيْنِ إِلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ فِي طَرِيقٍ وَاحِدٍ أَوْ طَرِيقَيْنِ فَيَكُونُ الْجَيْشُ وَالسَّرِيَّتَانِ جَيْشًا وَاحِدًا إِنْ غَنِمَتِ السَّرِيَّتَانِ اشْتَرَكَتَا مَعَ الْجَيْشِ، وَإِنْ غَنِمَتْ إِحْدَاهُمَا شَرَكَتْهَا الْأُخْرَى وَالْجَيْشُ، وَإِنْ غَنِمَ الْجَيْشُ شَارَكَتْهُ السَّرِيَّتَانِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ النَّصِّ والتعليل.(8/427)
والمسألة الثانية: أَنْ يُنْفِذَ سَرِيَّتَيْنِ إِلَى جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ فَتَكُونُ السريتان مشاركتين للجيش والجيش مشارك لِلسَّرِيَّتَيْنِ، وَهَلْ تَكُونُ إِحْدَى السَّرِيَّتَيْنِ مُشَارِكَةً لِلْأُخْرَى أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تَكُونُ مُشَارِكَةً لَهَا؛ لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ جَيْشٍ وَاحِدٍ فَصَارَ الْكُلُّ جَيْشًا وَاحِدًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ لِكُلِّ واحد مِنَ السَّرِيَّتَيْنِ حُكْمُ نَفْسِهَا لَا تُشَارِكُ الْأُخْرَى ولا يشاركها؛ لأن الجيش أصل السريتين وليس إحدى السريتين أصل للأخرى.
فصل:
وأما الحالة الأخرى وهو أَنْ يَكُونَ الْجَيْشُ مُقِيمًا وَالسَّرَايَا مِنْهُ نَافِذَةٌ فَفِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
إِحْدَاهَا: أَنْ يُنْفِذَ الْإِمَامُ مِنْ جُمْلَةِ جَيْشِهِ الْمُقِيمِ سَرِيَّةً فَتَغْنَمُ فَتَخْتَصُّ السَّرِيَّةُ بِغَنِيمَتِهَا وَلَا يَشْرُكُهَا الْجَيْشُ الْمُقِيمُ سَوَاءً أَسْرَتْ إِلَى مَوْضِعٍ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ، لِأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُنْفِذُ السَّرَايَا مِنَ الْمَدِينَةِ فَلَا يُشْرِكُهُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَلِأَنَّ الْغَنِيمَةَ لِلْمُجَاهِدِينَ وَلَيْسَ الْمُقِيمُ مُجَاهِدًا.
وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُنْفِذَ الْإِمَامُ مِنْ جملة جيشه المقيم سريتين إلى وجهة واحدة في طريق واحد أو طريقتين فَتَكُونُ السَّرِيَّتَانِ جَيْشًا وَاحِدًا، أَيُّهُمَا غَنِمَتْ شَارَكَتْهَا الأخرى، ولا يشاركهما الجيش المقيم لكون غَيْرَ مُجَاهِدٍ.
وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُنْفِذَ الْإِمَامُ مِنْ جُمْلَةِ الْجَيْشِ الْمُقِيمِ سَرِيَّتَيْنِ إِلَى جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ وَقَدْ أَفْرَدَ كُلَّ سَرِيَّةٍ مِنْهُمَا بِقَائِدٍ فَإِنِ اجْتَمَعَتِ السَّرِيَّتَانِ عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي غَنَائِمِهَا دُونَ الْجَيْشِ الْمُقِيمِ، وَإِنِ انْفَرَدَتْ كُلُّ سَرِيَّةٍ بِالْجِهَةِ الَّتِي أُنْفِذَتْ إِلَيْهَا لَنْ تُشَارِكَهَا الْأُخْرَى فِي غَنَائِمِهَا، وَلَا يُشَارِكُ الْجَيْشُ وَاحِدَةً مِنْهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ السَّرِيَّتَيْنِ إِذَا اخْتَصَّتْ بِجِهَةٍ لَمْ تَكُنْ رِدًّا للأخرى فصارت جيشا منفردا فلو انضم نفرا مِنْ إِحْدَى السَّرِيَّتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى وَغَنِمُوا شَارَكُوهَا فِي غَنَائِمِهِمْ، لِأَنَّهُمْ بِالِانْضِمَامِ إِلَيْهَا قَدْ صَارُوا مِنْ جُمْلَتِهَا فَإِذَا حَازَ النَّفَرُ سَهْمَهُمْ مِنْهَا فَهَلْ يُشَارِكُهُمْ فِيهِ بَاقِي أَصْحَابِهِ مِنَ السَّرِيَّةِ الْأُخْرَى أَوْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُشَارِكُونَهُمْ فِيهِ، لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ جَيْشٌ وَاحِدٌ؛ فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ بَاقِي السَّرِيَّةِ غَنِمَتْ شَارَكَهُمْ فِيهَا النَّفَرُ الْمُنْفَرِدُ عَنْهُمْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَؤُلَاءِ النَّفَرَ يَخْتَصُّونَ بِمَا أَخَذُوا مِنَ السَّرِيَّةِ الَّتِي انْضَمُّوا إِلَيْهَا؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا صَارُوا مِنْ جُمْلَتِهَا بِالِانْضِمَامِ إِلَيْهَا خَرَجُوا مِنْ جُمْلَةِ سَرِيَّتِهِمْ بِالِانْفِرَادِ عَنْهَا؛ فَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ الْبَاقِينَ مِنْ سَرِيَّتِهِمْ غَنِمُوا لَمْ يُشَارِكُوهُمْ كَمَا لَمْ يَرُدُّوا عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(8/428)
باب تفريق الخمس
مسألة:
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء} الآية وروي أن جبير بن مطعم قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما قسم سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي المطلب أتيته أنا وعثمان بن عفان رضي الله عنه فقلنا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَؤُلَاءِ إِخْوَانُنَا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ لَا نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ لِمَكَانِكَ الَّذِي وَضَعَكَ الله به مِنْهُمِ أَرَأَيْتَ إِخْوَانَنَا مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ أَعْطَيْتَهُمْ وتركتنا وإنما قرابتنا وقرابتهم وَاحِدَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ هكذا وشبك بين أصابعه " وروى جبير بن مطعم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يعط بني عبد شمس ولا بني نوفل من ذلك شيئا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ، فَأَمَّا خُمُسُهَا وَخُمُسُ الْفَيْءِ فَهُمَا سَوَاءٌ، وَلِأَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ حُكْمٌ يُخَالِفُ حُكْمَ خُمُسِهِ، وَخُمُسُ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ مَقْسُومٌ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ: سَهْمٍ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَيَاتِهِ وَيُصْرَفُ بَعْدَهُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ، وَسَهْمٍ لِذَوِي الْقُرْبَى مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ بَاقٍ لَهُمْ مَا بَقَوْا، وَسَهْمٍ لِلْيَتَامَى، وَسَهْمٍ لِلْمَسَاكِينِ، وَسَهْمٍ لِبَنِي السَّبِيلِ.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيُّ: يُقَسَّمُ الْخُمُسُ عَلَى سِتَّةِ أسهم: سهم منها لله تعالى مصروف في رياح الْكَعْبَةِ وَزِينَتِهَا، ثُمَّ الْخَمْسَةُ الْأَسْهُمِ بَعْدَهُ عَلَى مَا وَصَفْنَاهُ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يُقَسَّمُ الْخُمُسُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ أُسْقِطَ مِنْهَا سَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمَوْتِهِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: يُقَسَّمُ الْخُمُسُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ سَهْمٍ لِلْيَتَامَى، وَسَهْمٍ لِلْمَسَاكِينِ، وَسَهْمٍ لِبَنِي السَّبِيلِ وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ نُقَسِّمُ الْخُمُسَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ أُسْقِطَ مِنْهَا سَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَسَهْمُ ذِي الْقُرْبَى.
وَقَالَ مَالِكٌ: يُصْرَفُ الْخُمُسُ مَعَ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ فِي وُجُوهِ الْمَصَالِحِ.
فَأَمَّا أَبُو الْعَالِيَةِ فَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَفْسَهُ مِنَ الْمُسْتَحِقِّينَ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ لَهُ.
وَدَلِيلُنَا مَا رَوَى مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " مَا لِيَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ(8/429)
عَلَيْكُمْ إِلَّا الْخُمُسَ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ " فَلَوْ كَانَ مَقْسُومًا عَلَى سِتَّةٍ لَقَالَ إِلَّا السُّدُسَ وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُقَسِّمُ الْخُمُسَ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ.
فَأَمَّا الْآيَةُ فَالْجَوَابُ عَنْهَا أَنَّ تَقْدِيمَ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا هُوَ لِلتَّبَرُّكِ بِاسْمِهِ، وَلِإِبَاحَةِ الْمَالِ بَعْدَ حَظْرِهِ وَإِلَّا فَجَمِيعُ الْأَمْوَالِ لَهُ، وَلِتَغَلُّظِ حَظْرِ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ مَنْ سَمَّاهُ.
وَأَمَّا أبو حنيفة فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ سَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَاقِطٌ بِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْ مَلَكَ فِي حَيَاتِهِ حَقًّا كَانَ بَعْدَ مَوْتِهِ، إِمَّا مَوْرُوثًا، وَإِمَّا سَاقِطًا فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ سَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَوْرُوثًا سَقَطَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ يَمْلِكُ سَهْمَهُ مِنَ الْخُمُسِ كَمَا كَانَ يَمْلِكُ مِنَ الْغَنِيمَةِ الصَّفِيَّ فَلَمَّا سَقَطَ حَقُّهُ مِنَ الصَّفِيِّ بِمَوْتِهِ سَقَطَ سَهْمُهُ مِنَ الْخُمُسِ بِهِ.
وَاسْتُدِلَّ أَيْضًا على أن لا حق لذوي القرب فِيهِ إِلَّا بِالْفَقْرِ مِنْ جُمْلَةِ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ؛ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ من أهل القربى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] فَحَظَرُوا بِهَذَا التَّعْلِيلِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ وَثُبُوتُ حَقِّهِمْ فِيهِ يُوجِبُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْفُقَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ؛ فَدَلَّ عَلَى سُقُوطِهِ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه قَالَ: دَعَانِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ عَزَلَ لَنَا سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى فقلت إن بني هاشم عنه في غناء وإن بالمسلمين حلة وَفَاقَةً فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَرُدَّهُ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا تَرَكَهُ لِلْغَنِيِّ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَهُ بِالْفَقْرِ.
قَالَ: وَلِأَنَّ كُلَّ مَالٍ لَمْ يَجُزْ صرفه إلى أغنياء غير ذي القربة لَمْ يَجُزْ صَرْفُهُ إِلَى أَغْنِيَاءِ ذِي الْقُرْبَى كَالصَّدَقَاتِ؛ وَلِأَنَّهُمْ صِنْفٌ مُسَمًّى فِي الْخُمُسِ؛ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْتَحِقُّوهُ مَعَ الْغِنَى كَالْيَتَامَى وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ وَهُوَ أَنَّ سَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَابِتٌ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: مَا لِيَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ إِلَّا الْخُمُسَ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ: فَدَلَّ رَدُّهُ ثُبُوتَهُ وَإِنْ تَغَيَّرَ حُكْمُهُ، لَا عَلَى سُقُوطِهِ.
وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِمَّا لَمْ يُوجِفِ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بَخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ فَكَانَتْ لِرَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دُونَ الْمُسْلِمِينَ؛ وَكَانَ يُنْفِقُ مِنْهَا عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَةٍ. فَمَا فَضَلَ جَعَلَهُ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَوَلِيَهَا أَبُو بَكْرٍ مِثْلَ مَا وَلِيَهَا رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثُمَّ وَلِيَهَا عُمَرُ بِمِثْلِ مَا وَلِيَهَا رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبُو بَكْرٍ فَمَوْضِعُ الدِّلَالَةِ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا سَلَكَا بِحَقِّهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ مَسْلَكَهُ بِحَقِّهِ فِي حَيَاتِهِ؛ فَدَلَّ عَلَى بَقَائِهِ وَثُبُوتِهِ؛ وَلِأَنَّ مَا اسْتَحَقَّ مِنْ سِهَامِ الْخُمُسِ لَمْ يَسْقُطْ كَسَائِرِ السهام.(8/430)
فَصْلٌ:
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى ثَابِتٌ يُسْتَحَقُّ مَعَ الْغِنَى وَالْفَقْرِ، قَوْله تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الحشر: 7] فَأَضَافَ الْخُمُسَ إِلَى خَمْسَةِ أَصْنَافٍ بِلَامِ التَّمْلِيكِ وَجَمَعَ بَيْنَهُمْ بِوَاوِ التَّشْرِيكِ، فَاقْتَضَى الظَّاهِرُ تَسَاوِيَهُمْ بِجَمِيعِهِمْ بِالْأَوْصَافِ الَّتِي أَضَافَهَا اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِمْ، وَهُوَ إِنَّمَا وَصَفَهُمْ بِذِي الْقُرْبَى فَدَلَّ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِمْ إِيَّاهُ بِاسْمِ الْقَرَابَةِ لَا بِالْفَقْرِ وَقَالَ تَعَالَى: {فأتى ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} [الروم: 38] قَالَ السُّدِّيُّ: هُمْ ذَوِي الْقُرْبَى مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ.
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ مَازِنٍ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ لَمَّا قَسَمَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ أَتَيْتُهُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَؤُلَاءِ إِخْوَانُنَا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ لَا نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ لِمَكَانِكَ الَّذِي وَضَعَكَ اللَّهُ مِنْهُمِ أَرَأَيْتَ إِخْوَانَنَا مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ أَعْطَيْتَهُمْ وَتَرَكْتَنَا وَإِنَّمَا قَرَابَتُنَا وَاحِدَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ كَذَا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ لَمْ يَفْتَرِقُوا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ.
وَالدَّلَالَةُ فِي هَذَا الْخَبَرِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ عثمان بن عفان وجبير كانا من أغنياء قريش، سألاه لما أَعْطَيْتَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ وَحَرَمْتَنَا، وَنَحْنُ وَهُمْ فِي الْقَرَابَةِ سَوَاءٌ؟ فَلَمْ يَجْعَلْ سَبَبَ الْمَنْعِ الْغِنَى فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْغَنِيَّ فِيهِ كَالْفَقِيرِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ فِي بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ أَغْنِيَاءُ وَفُقَرَاءُ وَقَدْ أَعْطَاهُمْ. وَكَانَ فِي عَبْدِ شَمْسٍ أَغْنِيَاءُ وَفُقَرَاءُ وَقَدْ حَرَمَهُمْ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ اعْتَبَرَ الْقَرَابَةَ دُونَ الْفَقْرِ.
فَإِنْ قِيلَ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْتَبَرَ النُّصْرَةَ دُونَ الْقَرَابَةِ؛ لِأَنَّ هَاشِمًا وَالْمُطَّلِبَ وعبد شمس ونوفل كَانُوا أُخْوَةً وَكُلُّهُمْ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ، وَقَدْ خص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سهم ذي القربة بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ دُونَ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَنَوْفَلٍ وَجَمِيعُهُمْ فِي الْقَرَابَةِ سَوَاءٌ، لِمَا قَالَ فِي ضَمِّ بَنِي الْمُطَّلِبِ إِلَى بَنِي هَاشِمٍ بِأَنَّهُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَلَمْ يَفْتَرِقُوا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ لِيُعْلِمَهُمْ أَنَّ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ قَدْ خَالَفُوهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعَطَاءَ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ النُّدْرَةِ الَّتِي مَيَّزَتْهُمْ بِهَا دُونَ الْقَرَابَةِ الَّتِي قَدِ اشْتَرَكُوا فِيهَا فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا لِأَجْلِ ذَلِكَ فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أحدهما: أن الاستحقاق بالقرابة وحدها دون النصرة، ولأنهم لَيْسَ لِلنُّصْرَةِ فِيهَا تَأْثِيرٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ عُثْمَانُ وَجُبَيْرٌ فِي طَلَبِهِمَا وَلَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مَنْعِهِمَا وَدَفَعَ ذَلِكَ لِمَنْ لَا نُصْرَةَ(8/431)
فِيهِ مِنْ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ وَرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وَمَنَعَ مَنْ ظَهَرَتْ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ مَنْ قَامَ بِالنُّصْرَةِ مَقَامَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَأَبِي دُجَانَةَ وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فَمَنَعَهُمْ وَأَعْطَى مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ مَنْ هُوَ أَقَلُّ نُصْرَةً مِنْهُمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا ذَلِكَ بِالْقَرَابَةِ لَا بِالنُّصْرَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْقَرَابَةِ وَالتَّقْدِيمَ بِالنُّصْرَةِ كَمَا نَقُولُ فِي الْأَخَوَيْنِ أَحَدُهُمَا لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَالْآخَرُ لِأَبٍ ابْنُهُمَا فِي التَّعْصِيبِ بِالْأَبِ سَوَاءٌ، وَيُقَدَّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ لِلْأُمِّ، وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي التَّعْصِيبِ، كَذَلِكَ بَنِي الْمُطَّلِبِ وَإِنْ شَارَكُوا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ فِي الْقَرَابَةِ قُدِّمُوا عَلَيْهِمْ بِمَا اخْتُصُّوا بِهِ مِنَ النُّصْرَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ التَّقْدِيمُ بِالنُّصْرَةِ فَهَلَّا زَالَ حُكْمُهُمَا بِزَوَالِهَا، وَقَدْ زَالَتِ الْيَوْمَ.
قِيلَ: النُّصْرَةُ فِي الْآبَاءِ أَوْجَبَتْ ثُبُوتَ حُكْمِهَا فِي الْأَبْنَاءِ كَمَا نَقُولُ فِي تَمْيِيزِ كَفَرَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي قَبُولِ الْجِزْيَةِ إِنَّ حُرْمَةَ آبَائِهِمْ حِينَ كَانُوا عَلَى حَقٍّ أَوْجَبَتْ ثُبُوتَهَا لِأَبْنَائِهِمْ وَإِنْ زَالُوا عَنِ الْحَقِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْقَرَابَةِ وَحْدَهَا، وَالْمَنْعَ مَعَ وُجُودِهَا لِسَبَبٍ آخَرَ كَمَا نَقُولُ فِي ابْنَيْنِ أَحَدُهُمَا قَاتِلٌ إِنَّهُمَا وَإِنِ اسْتَوَيَا فِي الْبُنُوَّةِ، فَالْقَاتِلُ مَمْنُوعٌ بِعِلَّةٍ، فَكَذَلِكَ بَنُو عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنُو نَوْفَلٍ وَإِنْ سَاوَوْا بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ فِي الْقَرَابَةِ، فَقَدْ كَانَ مِنْهُمْ مَا يَسْقُطُ بِهِ حَقُّهُمْ كَمَا يَسْقُطُ حَقُّ الِابْنِ الْقَاتِلِ.
فَإِنْ قِيلَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ رَاوِي هَذَا الْحَدِيثِ أَسْلَمَ بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ فَلَمْ يُلْتَفَتْ إِلَى حَدِيثِهِ فِي أَحْكَامِ غَنَائِهِمَا فَعَنْ ذَلِكَ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنِ الْخَبَرَ فِي خُمُسِ خَيْبَرَ، وَقَدْ كَانَ بَعْدَهَا غَنَائِمُ يُحْمَلُ خَبَرُهُ عَلَى خُمُسِهَا.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: قَدْ كَانَ أَكْثَرُهَا فَيْئًا فَيُسْتَغَلُّ فِي كُلِّ عَامٍ فَكَانَ خُمُسُهُ بَاقِيًا.
وَرُوِيَ أَنَّ الْفَضْلَ بْنَ الْعَبَّاسِ اسْتَشْفَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعلي - رضوان الله عليهما فِي عِمَالَةِ الصَّدَقَاتِ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ: " أَلَيْسَ فِي خُمُسِ الْخُمُسِ مَا يُغْنِيكُمْ عَنْ أَوْسَاخِ النَّاسِ " فَجَعَلَ لَهُمْ خُمُسَ الْخُمُسِ تَنْزِيهًا عَمَّا يُمْلَكُ بِالْفَقْرِ مِنَ الصَّدَقَاتِ؛ فَلَمْ يُجِزْ أَنْ يَسْتَحِقُّوهُ بِالْفَقْرِ الْمَشْرُوطِ فِي الصَّدَقَاتِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، وَقَدْ رُوِيَ عَلَى وَجْهَيْنِ يَكُونُ في أحدهما نصا مسندا، فَهُوَ مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ اجْتَمَعْتُ أَنَا وَالْعَبَّاسُ وَفَاطِمَةُ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ تَوَلَّيْنَا حَقَّنَا مِنْ هَذَا الْخُمُسِ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَاقْسِمْهُ فِي حَيَاتِكَ كَيْ لَا يُنَازِعَنَا أَحَدٌ بَعْدَكَ فَافْعَلْ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " نَفْعَلُ ذَلِكَ " فَوَلَّانِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَسَمْتُهُ فِي حَيَاتِهِ ثُمَّ فِي وِلَايَةِ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى كَانَتْ آخِرَ سَنَةٍ مِنْ سِنِي عُمَرَ، فَإِنَّهُ أَتَاهُ(8/432)
مَالٌ كَثِيرٌ فَعَزَلَ حَقَّنَا ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيَّ فَقُلْتُ: لَنَا عَنْهُ الْعَامَ غَنَاءٌ، وَبِالْمُسْلِمِينَ الْآنَ حَاجَةٌ فَارْدُدْهُ عَلَيْهِمْ فَرَدَّهُ عَلَيْهِمْ، فَلَقِيتُ الْعَبَّاسَ بَعْدَ مَا خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِ عُمَرَ فَقَالَ يَا عَلِيُّ: حَرَمْتَنَا لَا تُرَدُّ عَلَيْنَا أَبَدًا، وكان راجلا دَاهِيًا فَلَمْ يَدْعُنِي إِلَيْهِ أَحَدٌ بَعْدَ عُمَرَ.
فَدَلَّ قَوْلُ عَلِيٍّ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُوَلِّيَنَا حَقَّنَا عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ يَخْتَصُّ بِهِمْ لَا يُسْتَحَقُّ بِالْفَقْرِ الَّذِي هُوَ فِي غَيْرِهِمْ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي يَكُونُ إِجْمَاعًا مُنْعَقِدًا فَهُوَ مَا رَوَاهُ الْحَكَمُ بْنُ عيينة بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: لَقِيتُ عليا عليه السلام عند أحجار الركب فَقُلْتُ لَهُ: بِأَبِي وَأُمِّي مَا فَعَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فِي حَقِّكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ مِنَ الْخُمُسِ فَقَالَ عَلِيٌّ: أَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِهِ أَخْمَاسٌ وَمَا كَانَ فَقَدْ أَوْفَانَاهُ، وَأَمَّا عُمَرُ فَلَمْ يَزَلْ يُعْطِينَا حَتَّى جاءه مال السوس والأهواز أو قال أَخْمَاسٌ وَمَا كَانَ فَقَدْ أَوْفَانَاهُ، وَأَمَّا عُمَرُ فَلَمْ يَزَلْ يُعْطِينَا حَتَّى جَاءَهُ مَالُ السُّوسِ وَالْأَهْوَازِ أَوْ قَالَ مَالُ فَارِسَ - الشَّافِعِيُّ يَشُكُّ -، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ بِالْمُسْلِمِينَ خَلَّةً فَإِنْ أَحْبَبْتُمْ تَرَكْتُمْ حَقَّكُمْ فَجَعَلْنَاهُ فِي خَلَّةِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَأْتِيَنَا مَالٌ فَأُوَفِّيَكُمْ حَقَّكُمْ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ لِعَلِيٍّ: لا تطعمهم فِي حَقِّنَا، فَقُلْتُ يَا أَبَا الْفَضْلِ أَلَسْنَا أَحَقَّ مَنْ أَجَابَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَدَفَعَ خَلَّةَ الْمُسْلِمِينَ، فَتُوُفِّيَ عُمَرُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ مَالٌ فَيَقْضِينَاهُ. فَدَلَّ اسْتِنْزَالُ عُمَرَ لَهُمْ ثَمَنَهُ بِخَلَّةِ الْمُسْلِمِينَ، أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَحِقُّوهُ بِالْفَقْرِ الَّذِي قَدْ شَارَكُوا فِيهِ فُقَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنَّهُ حَقٌّ لَهُمْ لَا يَسْقُطُ بِمُطَالَبَتِهِمْ وَلَا يُؤَخَّرُ لِفَقْرِهِمْ، وَإِنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ قَضَاءَ مَا أُخِّرُوهُ مِنْ حَقِّهِمْ.
وَرَوَى زيد بْنُ هُرْمُزَ أَنَّ نَجْدَةَ الْحَرُورِيَّ حِينَ حَجَّ فِي فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَرْسَلَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ عَنْ سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَقُولُ لِمَنْ تَرَاهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِقُرْبَى رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَسَمَهُ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَدْ كَانَ عُمَرُ عَوَّضَ مِنْ ذَلِكَ عِوَضًا رَأَيْنَاهُ دُونَ حَقِّنَا فَرَدَدْنَاهُ عَلَيْهِ، وَأَبَيْنَا أَنْ نَقْبَلَهُ؛ وَلِأَنَّهُمْ أَحَدُ أَصْنَافِ أَهْلِ الْخُمُسِ؛ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ حَقُّهُمْ مِنْهُ كَسَائِرِ الْأَصْنَافِ.
وَلِأَنَّ مَنْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ الصَّدَقَاتُ الْمَفْرُوضَاتُ فِي جميع الأحوال ثبت لهم سهم في خمس الخمس كالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَلِأَنَّهُمْ عُوِّضُوا عَنِ الصَّدَقَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ بِخُمُسِ الْخُمُسِ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أو ليس في خمس الخمس ما يغنيكم عن أوساخ النَّاسِ، فَلَمَّا كَانَ تَحْرِيمُ الصَّدَقَاتِ عَلَيْهِمْ ثَابِتًا لَا يَزُولُ؛ كَانَ مَا عُوِّضُوهُ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ ثَابِتًا لَهُمْ لَا يَزُولُ.
وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ ما تميز به ذوو الْقُرْبَى فِي الْأَمْوَالِ اسْتَلْزَمَ ثُبُوتَهُ قِيَاسًا عَلَى تَحْرِيمِ الصَّدَقَاتِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا لَمْ يَكُنْ مَوْرُوثًا كَانَ سَاقِطًا، فَهُوَ أَنَّ الْمِيرَاثَ إِذَا انْتَفَى عَنْهُ رُدَّ إِلَى مَا قَدْ أُقِيمَ مَقَامَهُ مِنْ وُجُوهِ الْمَصَالِحِ لِقَوْمِهِ فِي حَقِّهِ مَقَامَ الْمِيرَاثِ فِي حَقِّ غيره، فوجب أن يكون ذَلِكَ مَصْرِفُ مَالِهِ.(8/433)
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ إِنَّ سُقُوطَ حَقِّهِ مِنَ الصَّفِيِّ بِمَوْتِهِ يُوجِبُ سُقُوطَ حَقِّهِ مِنْ غَيْرِهِ، فَهُوَ أَنَّ الْحَقَّ مِنَ الصَّفِّيِّ غَيْرُ مُقَدَّرٍ فَلَا يَكُونُ ثَابِتًا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَأْخُذُ مِنَ الْغَنِيمَةِ مَا شَاءَ بِاخْتِيَارِهِ وَاخْتِيَارِهِ لِلصَّفِيِّ مَعْدُومٌ بَعْدَ مَوْتِهِ فَسَقَطَ بِخِلَافِ غيره.
وأما الجواب عن استتدلال أبي حنيفة فِي سُقُوطِ سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى جَمِيعِ الْخُمُسِ وَلَيْسَ هُوَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ؛ لِأَنَّ سَهْمَ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السبيل يستحق بالفقر.
والثاني: أنه سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى لَيْسَ هُوَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْأَغْنِيَاءُ وَالْفُقَرَاءُ وَمَا كَانَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ حَقٌّ لِلْفُقَرَاءِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ استدلاله بحديث علي (عليه السلام) أَنَّهُ رَدَّ سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى لِغِنَاهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِخَلَّتِهِمْ وَفَقْرِهِمْ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اخْتَارَ تَرْكَ حَقِّهِ وَمَنْ يَتْرُكُ حَقَّهُ بِاخْتِيَارِهِ لَمْ يَدُلَّ عَلَى سُقُوطِ اسْتِحْقَاقِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَخَّرَهُ لِخَلَّةِ الْمُسْلِمِينَ لِيَأْخُذَ عِوَضَهُ عِنْدَ اسْتِغْنَائِهِمْ فَكَانَ حَقُّهُ ثَابِتًا بَاقِيًا، وَهُوَ أَدَلُّ شَيْءٍ عَلَى ثُبُوتِ اسْتِحْقَاقِهِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الصَّدَقَاتِ مَعَ جَوَازِ أَنْ يُدْفَعَ مِنَ الصَّدَقَاتِ إِلَى أَغْنِيَاءِ الْعَامِلِينَ وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَالْغَارِمِينَ فَهُوَ أَنَّ الصَّدَقَةَ مُوَاسَاةٌ؛ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْفُقَرَاءُ أَحَقَّ بِهَا، وَالْخُمُسُ يُمْلَكُ مِنْ غَنَائِمِ الْمُشْرِكِينَ قَهْرًا لَا بِالْمُوَاسَاةِ؛ فَجَازَ أَنْ يَشْتَرِكَ فِيهِ الْفُقَرَاءُ وَالْأَغْنِيَاءُ كالْغَانِمِينَ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قياسهم على الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ فَهُوَ أَنَّ مَا أُخِذَ بِاسْمِ الْمَسْكَنَةِ وَالْفَقْرِ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْفَقْرُ فِيهِ شَرْطًا، وَمَا أُخِذَ بِاسْمِ الْقَرَابَةِ كَانَتِ الْقَرَابَةُ شَرْطًا فِيهِ إِذَا وُجِدَتْ وَلَمْ يَكُنِ الْفَقْرُ شَرْطًا وَمَا أُخِذَ بِاسْمِ الْقَرَابَةِ كَانَتِ الْقَرَابَةُ كالميراث والله أعلم. (قال الشافعي) : " فيعطى سَهْمُ ذِي الْقُرْبَى فِي ذِي الْقُرْبَى حَيْثُ كَانُوا وَلَا يُفَضَّلُ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ حَضَرَ الْقِتَالَ أَوْ لَمْ يَحْضُرْ إِلَّا سَهْمَهُ فِي الْغَنِيمَةِ كَسَهْمِ الْعَامَّةِ وَلَا فَقِيرٌ عَلَى غَنِيٍّ وَيُعْطَى الرَّجُلُ سَهْمَيْنِ وَالْمَرْأَةُ سَهْمًا لِأَنَّهُمْ أُعْطُوا باسم القرابة فإن قيل فقد أعطى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعضهم مائة وسق وبعضهم أقل قيل لِأَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ ذَا وَلَدٍ فَإِذَا أَعْطَاهُ حَظَّهُ وَحَظَّ غَيْرِهِ فَقَدْ أَعْطَاهُ أَكْثَرَ مِنْ غيره والدلالة على صحة ما حكيت من التسوية أن كل من لقيت من علماء أصحابنا لم يختلفوا في ذلك وإن باسم القرابة أعطوا وإن حديث جبير بن مطعم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قسم سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي المطلب ".(8/434)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي أَنَّ سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى ثَابِتٌ وَثُبُوتُهُ يَقْتَضِي إِبَانَةَ أَحْكَامِهِمْ فِيهِ وَذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَى خَمْسَةِ فُصُولٍ:
فَالْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي ذِي الْقُرْبَى مَنْ هُمْ؟ وَهُمْ بَنُو هَاشِمٍ، وَبَنُو الْمُطَّلِبِ دُونَ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ، وَجَمِيعُهُمْ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ، وَكَانَ لِعَبْدِ مَنَافٍ مَعَ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ خَامِسٌ اسْمُهُ عَمْرٌو وَلَيْسَ لَهُ عَقِبٌ فَأَمَّا هَاشِمٌ فَهُوَ جَدُّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ؛ فَهَاشِمٌ فِي عَمُودِ الشَّرَفِ الَّذِي تَعَدَّى شَرَفُهُ بِرَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى أُخْوَتِهِ، وَالْمُطَّلِبُ أَخُوهُ وَالشَّافِعِيُّ مِنْ وَلَدِهُ ثُمَّ عَبْدُ شَمْسٍ أَخُوهُمَا وَعُثْمَانُ مِنْ وَلَدِهِ ثُمَّ نَوْفَلٌ أَخُوهُمْ وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ مِنْ ولده؛ فاختص بسهم ذي القربة بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ دُونَ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَنَوْفَلٍ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَمْ يَفْتَرِقُوا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ " يَعْنِي أَنَّهُمْ كَانُوا مُتَنَاصِرِينَ بِحِلْفٍ عَقَدُوهُ بَيْنَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَيَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَنَوْفَلٍ؛ وَلِهَذَا الْحَلِفِ دَخَلَ بَنُو الْمُطَّلِبِ مَعَ بَنِي هَاشِمٍ الشِّعْبَ بِمَكَّةَ حِينَ دَخَلَهُ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ جبير بن مطعم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَقْسِمْ لِبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَلَا لِبَنِي نَوْفَلٍ مِنَ الْخُمُسِ شَيْئًا كَمَا قَسَمَ لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ.
فَصْلٌ:
وَالْفَصْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي ذِي الْقُرْبَى بَيْنَ صَغِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ وَبَيْنَ غَنِيِّهِمْ وَفَقِيرِهِمْ وَقَالَ أبو حنيفة: لَا حَقَّ لِغَنِيِّهِمْ فِيهِ وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعْطَى مِنْهُ الْعَبَّاسَ وَكَانَ لِيَسَارِهِ يَعُولُ عَامَّةَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَا اسْتُحِقَّ بِالْقَرَابَةِ اسْتَوَى فِيهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ كَالْمِيرَاثِ، ثُمَّ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ حَضَرَ الْقِتَالَ وَمَنْ لَمْ يَحْضُرْهُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ شَاقَقَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَوْ لَمْ يُشَاقِقْهُ فِي أَنَّهُمْ سَوَاءٌ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فِي سَهْمِهِمْ إِلَّا أَنَّ مَنْ حَضَرَ الْقِتَالَ أَخَذَ سَهْمَهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ خَارِجًا عَنْ حَقِّهِ فِي الْخُمُسِ.
فَصْلٌ:
وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَشْتَرِكُ فِيهِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ لِأَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ أَخَذَ مِنَ الْخُمُسِ سَهْمَ أُمِّهِ صَفِيَّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَلِأَنَّ مَا اسْتُحِقَّ بِالْقَرَابَةِ اشْتَرَكَ فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ كَالْمِيرَاثِ وَخَالَفَ الْعَقْلَ الَّذِي يَخْتَصُّ الرِّجَالُ بِتَحَمُّلِهِ دُونَ النِّسَاءِ، لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ مَنْ ذَبَّ عَنِ الْقَاتِلِ مُنِعَ مِنْهُ بِالسَّيْفِ، وَهَذَا يَخْتَصُّ بِالرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، وَسَهْمُ ذِي الْقُرْبَى لِأَجْلِ النَّسَبِ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، فَإِذَا ثَبَتَ اشْتِرَاكُ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ فِيهِ فُضِّلَ الذُّكُورُ عَلَى الْإِنَاثِ وَكَانَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ سَهْمَانِ وَلِلْأُنْثَى سَهْمٌ كَالْمِيرَاثِ.
وَقَالَ الْمُزَنِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: يُسَوَّى بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ كَالْوَصَايَا لِلْقَرَابَةِ يُسَوَّى فِيهَا بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ اعْتِبَارَ سَهْمِهِمْ بِالْمِيرَاثِ أَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِهِ بِالْوَصَايَا من وجهين:(8/435)
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمِيرَاثَ وَسَهْمَ ذِي الْقُرْبَى عَطِيَّتَانِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْوَصَايَا عَطِيَّةٌ مِنْ آدَمِيٍّ تَقِفُ عَلَى خِيَارِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ فِي ذِي الْقُرْبَى نُصْرَةً هِيَ بِالذُّكُورِ أَخَصُّ فَجَازَ أَنْ يَكُونُوا بِهَا أَفْضَلَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْوَصَايَا ثم لاحظ لأولاد الإناث فيه إذا لم يكن أبائهم مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى، لِأَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ فِي النَّسَبِ إِلَى الْآبَاءِ الَّذِينَ لَيْسُوا مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى.
فَصْلٌ:
وَالْفَصْلُ الرَّابِعُ: أَنْ يُسَوَّى بَيْنَ جَمِيعِ الذُّكُورِ وَيُسَوَّى بَيْنَ جَمِيعِ الْإِنَاثِ وَيُفَضَّلَ الذُّكُورُ عَلَى الْإِنَاثِ، وَيُسَوَّى بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ وَبَيْنَ الْمُطِيعِ وَالْعَاصِي وَبَيْنَ الْعَدْلِ وَالْبَاغِي كَمَا يُسَوَّى بَيْنَهُمْ فِي الْمِيرَاثِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ أَعْطَى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْضَهُمْ مِائَةَ وَسْقٍ، وَبَعْضَهُمْ أَقَلَّ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: لِأَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ ذَا وَلَدٍ فَإِذَا أَعْطَاهُ حَظَّهُ وَحَظَّ غَيْرِهِ فَقَدْ أَعْطَاهُ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا قُسِّمَ سَهْمُهُمْ عَلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ وَرَأْيِهِ فِي التَّسْوِيَةِ وَالتَّفْضِيلِ كَمَا يُقَسَّمُ سَهْمُ الْفُقَرَاءِ فِي الزَّكَاةِ عَلَى اجْتِهَادِهِ؟ قِيلَ: لِأَنَّ الْفُقَرَاءَ يَأْخُذُونَ سَهْمَهُمْ بِالْحَاجَةِ الَّتِي قَدْ تَخْتَلِفُ فِيهِمْ فَجَازَ أَنْ يُفَضِّلَ بَيْنَهُمْ لِأَجْلِهَا وَسَهْمُ ذِي الْقُرْبَى لِلْقَرَابَةِ الَّتِي قَدْ صَارُوا فِيهَا سَوَاءً فَوَجَبَتِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ لِأَجْلِهَا.
فَصْلٌ:
وَالْفَصْلُ الْخَامِسُ: أَنَّ سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى مِنْ غَنَائِمِ جَمِيعِ الثُّغُورِ مَقْسُومٌ بَيْنَ جَمِيعِ ذوي القربى في جميع الأقليم.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: يُقَسِّمُ سِهَامَهُمْ مِنْ غَيْرِ كُلِّ ثَغْرٍ فِي إِقْلِيمِ ذَلِكَ الثَّغْرِ الَّذِينَ هُمْ بِالْجِهَادِ فِيهِ أَخَصُّ، وَلَا يَنْتَقِلُ سَهْمُهُمْ مِنْ غَنَائِمِ ثَغْرِ الْمَشْرِقِ إِلَى مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي بِلَادِ الْمَغْرِبِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ لِيُحَالَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ عَلَى غَنَائِمِ الثَّغْرِ الَّذِي فِي إِقْلِيمِهِمْ فَيَكُونُ أَسْهَلَ كما يحال ثغر كل بلد على ذكواته وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُفْضِي إِلَى إِعْطَاءِ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ خَطَأٌ يُخَالِفُ نَصَّ الْآيَةِ وَخَالَفَ سَهْمَ الْفُقَرَاءِ فِي الزَّكَاةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا جَازَ إِعْطَاءُ بَعْضِ فُقَرَاءِ الْبَلَدِ دُونَ جَمِيعِهِمْ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي ذَوِي الْقُرْبَى، جَازَ أَنْ يَخْتَصَّ بِهَا فُقَرَاءُ ذَلِكَ الْبَلَدِ بِخِلَافِ ذَوِي الْقُرْبَى.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا نُقِلَ سَهْمُ ذِي الْقُرْبَى وَغَنِيمَةُ الثَّغْرِ إِلَى بِلَادِ ذَلِكَ الْإِقْلِيمِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ وَجَبَ نَقْلُهُ إِلَى جَمِيعِ الْأَقَالِيمِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ.
وَالْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ الزَّكَاةِ وَالْغَنِيمَةِ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ هُوَ أَنَّ فِي كُلِّ الْبِلَادِ زَكَوَاتٍ وَفُقَرَاءَ، فَجَازَ أَنْ يُحَالَ فُقَرَاءُ كُلِّ بَلَدٍ عَلَى زَكَوَاتِهِ وَلَيْسَ لِكُلِّ بَلَدٍ غَنِيمَةٌ وَلَا فِي(8/436)
كُلِّ بَلَدٍ ذَوِي الْقُرْبَى؛ فَلِذَلِكَ اشْتَرَكَ جَمِيعُ ذَوِي الْقُرْبَى فِي جَمِيعِ الْغَنَائِمِ حَتَّى لَا يُخْتَصَّ بِهَا بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مسألة:
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَيُفَرَّقُ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ الْخُمُسِ عَلَى مَنْ سَمَّى اللَّهَ تَعَالَى عَلَى الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ يُحْصَوْنَ ثُمَّ يُوَزَّعُ بَيْنَهُمْ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمْ سهمه لا يعطى أحد مِنْهُمْ سَهْمُ صَاحِبِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ وَإِذْ قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي سَهْمِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَسَهْمِ ذِي الْقُرْبَى مِنَ الْخُمُسِ؛ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى بَاقِي السِّهَامِ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ لِثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ: سَهْمٌ لِلْيَتَامَى، وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ، وَسَهْمٌ لِبَنِي السبيل على ما تضمنه الآية من قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] .
فَأَمَّا الْيَتَامَى فَهُمُ الَّذِينَ مَاتَ آبَاؤُهُمْ وَإِنْ بَقِيَتْ أمهاتهم فيكون اليتيم بِمَوْتِ الْآبَاءِ دُونَ الْأُمَّهَاتِ لِاخْتِصَاصِ الْآبَاءِ بِالنَّسَبِ فَاخْتُصُّوا بِالْيُتْمِ، وَسُمُّوا بِذَلِكَ لُغَةً لِتَفَرُّدِهِمْ بِمَوْتِ الْآبَاءِ دُونَ الْأُمَّهَاتِ كَمَا يُقَالُ دُرَّةٌ يَتِيمَةٌ لِتَفَرُّدِهَا عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهَا نَظِيرٌ ثُمَّ يُعْتَبَرُ فِيهِمْ مَعَ فَقْدِ الْآبَاءِ شَرْطَانِ آخَرَانِ: هُمَا الصِّغَرُ وَالْإِسْلَامُ، فَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَيُعْتَبَرُ فِيهِمْ شَرْعًا لَا لُغَةً؛ لِأَنَّ الْيَتِيمَ يَعُمُّ مُسْلِمَهُمْ وَمُشْرِكَهُمْ، إِنَّمَا خَصَّ الشَّرْعُ بِهَذَا السَّهْمِ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُسْلِمًا لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَالٌ لِلَّهِ تَعَالَى فَاخْتَصَّ بِهِ أَهْلَ طَاعَتِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَالٌ قَدْ مُلِكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَكَانَ لِغَيْرِهِمْ لَا لَهُمْ، وَأَمَّا الصِّغَرُ فَكَانَ فِيهِمْ معتبرا لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لا يتيم بَعْدَ الْحُلُمِ، لَكِنِ اخْتُلِفَ فِي هَذَا الشَّرْطِ هَلْ ثَبَتَ اعْتِبَارُهُ شَرْعًا أَمْ لُغَةً، فَقَالَ بعضهم: يثبت اعتباره شرعا للخير وإلا فهو اللغة يَنْطَلِقُ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ يَثْبُتُ اعْتِبَارُهُ لُغَةً وَشَرْعًا لِأَنَّ اسْمَ الْيَتِيمِ فِي اللُّغَةِ مَوْضُوعٌ لِمَنْ كَانَ مُتَضَعِّفًا مَحْرُومًا، وَهَذَا بِالصِّغَارِ أَخَصُّ مِنْهُ بِالْكِبَارِ فَإِذَا ثَبَتَ اعْتِبَارُ هَذِهِ الشُّرُوطِ الثَّلَاثَةِ فِي الْيَتَامَى فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اعْتِبَارِ شَرْطٍ رَابِعٍ فِيهِمْ وَهُوَ الْفَقْرُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْفَقْرَ شَرْطٌ رَابِعٌ يُعْتَبَرُ فِي اسْتِحْقَاقِهِمْ لِهَذَا السَّهْمِ مِنَ الْخُمُسِ، لِأَنَّهُ مَصْرُوفٌ فِي ذَوِي الْحَاجَاتِ، فَخَرَجَ مِنْهُمُ الِاعْتِبَارُ وَلِأَنَّهُ إِرْفَاقٌ لِمَنْ تُوَجَّهُ إِلَيْهِ الْمَعُونَةُ وَالرَّحْمَةُ وَهُمُ الْفُقَرَاءُ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِمُ الْفَقْرُ وَأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ لِغَنِيِّهِمْ وَفَقِيرِهِمْ لِذَوِي الْقُرْبَى اعْتِبَارًا بِمُطْلَقِ الِاسْمِ؛ لِأَنَّهُمْ لَوِ اعْتُبِرَ فِيهِمُ الْفَقْرُ لَدَخَلُوا فِي جُمْلَةِ الْمَسَاكِينِ، وَلَمَّا كَانَ تَخْصِيصُهُمْ بِالذِّكْرِ فَائِدَةً: فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْفَقْرَ فِيهِمْ مُعْتَبَرٌ يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِيهِمْ بَيْنَ مَنْ مَاتَ أَبُوهُ أَوْ قُتِلَ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي الْحَاجَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهِمْ.(8/437)
وَالْحُكْمُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِ الْيَتَامَى دُونَ جَمِيعِهِمْ كَالْفُقَرَاءِ.
وَالْحُكْمُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ الْإِمَامُ بِرَأْيِهِ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمْ وَالتَّفْضِيلِ كَالْفُقَرَاءِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: أَنَّ الْفَقْرَ فِيهِمْ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ تُخَالِفُ تِلْكَ:
فَالْحُكْمُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُخْتَصُّ بِذَلِكَ مَنْ قُتِلَ أَبُوهُ فِي الْجِهَادِ دُونَ غَيْرِهِ رِعَايَةً لِنُصْرَةِ الْآبَاءِ فِي الْأَبْنَاءِ كَذَوِي الْقُرْبَى.
وَالْحُكْمُ الثَّانِي: أَنْ يُفَرَّقَ فِي جَمِيعِهِمْ وَلَا يُخَصُّ بِهِ بَعْضُهُمْ فَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ يُفَرَّقُ فِي أَيْتَامِ جَمِيعِ الْأَقَالِيمِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يُفَرَّقُ فِي إِقْلِيمِ ذَلِكَ الثَّغْرِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَقَالِيمِ.
وَالْحُكْمُ الثَّالِثُ: أنه يسوي بينهم من غير تفضيل كذي الْقُرْبَى وَأَنْ يُسَوَّى بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ بِخِلَافِ ذَوِي الْقُرْبَى؛ لِأَنَّ سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى كَالْمِيرَاثِ؛ ففضل فيه الذكر على الأنثى وسهم اليتامى عطية كالوقف والوصية يسوي فِيهِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْمَسَاكِينُ وَالْفُقَرَاءُ يَدْخُلُونَ فِي جُمْلَتِهِمْ إِذَا أُطْلِقُوا وَكَذَلِكَ إِذَا أُطْلِقَ الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ يَدْخُلُونَ فِي جُمْلَتِهِمْ وَيُمَيَّزُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ إِذَا جُمِعُوا، وَالْفَقِيرُ هُوَ الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ، وَالْمِسْكِينُ هُوَ الَّذِي لَهُ مَا يَكْفِيهِ فَصَارَ الْفَقِيرُ أَسْوَأَ حَالًا مِنَ الْمِسْكِينِ وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ فِي قِسْمِ الصَّدَقَاتِ، وَإِذَا دَخَلَ الْفُقَرَاءُ مَعَ الْمَسَاكِينِ فِي سَهْمِهِمْ مِنَ الْخُمُسِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُسْتَحِقِّيهِ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَسْتَوِي فِيهِ جَمِيعُ الْمَسَاكِينِ مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ لِدُخُولِ الْمَسْكَنَةِ فِي جَمِيعِهِمْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُخْتَصُّ بِهِ مَسَاكِينُ أَهْلِ الْجِهَادِ الَّذِينَ قَدْ عَجَزُوا عَنْهُ بِالْمَسْكَنَةِ أَوِ الزَّمَانَةِ وَلَا حَقَّ فِيهِ لِغَيْرِهِمْ مِنَ الْمَسَاكِينِ؛ لِأَنَّ مَالَ الْغَنِيمَةِ لِأَهْلِ الْجِهَادِ أَخَصُّ وَلِيَصِيرَ ذَوُو الْقُدْرَةِ عَلَى الْجِهَادِ أَحْرَصَ؛ فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يَسْتَوِي فِي جَمِيعِ الْمَسَاكِينِ وَيَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُخْتَصَّ بِهِ بَعْضُ الْمَسَاكِينِ دُونَ جَمِيعِهِمْ كَالزَّكَاةِ.
وَالْحُكْمُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ الْإِمَامُ بِرَأْيِهِ فِي التَّسْوِيَةِ وَالتَّفْضِيلِ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ.
وَالْحُكْمُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ لَهُمْ بَيْنَ سَهْمِهِمْ مِنَ الزَّكَاةِ وَسَهْمِهِمْ مِنَ الْخُمُسِ وَحَقِّهِمْ فِي الْكَفَّارَاتِ فَيَصِيرُ إِلَيْهِمْ ثَلَاثَةُ أَمْوَالٍ:
وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: أَنَّهُ يَخُصُّ بِهِ مَسَاكِينَ أَهْلِ الْجِهَادِ دُونَ غَيْرِهِمْ وَيَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُفَرَّقَ فِي جَمِيعِهِمْ وَلَا يُخْتَصُّ بِهِ بَعْضُهُمْ؛ فَعَلَى مذهب(8/438)
الشَّافِعِيِّ فِي مَسَاكِينِ جَمِيعِ الْأَقَالِيمِ، وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ فِي مَسَاكِينِ إِقْلِيمِ الثَّغْرِ الْمَغْنُومِ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَقَالِيمِ.
وَالْحُكْمُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَسْتَوِي بَيْنَهُمْ فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَفْضِيلٍ وَلَا يُفَضَّلُ ذَكَرٌ عَلَى أُنْثَى، وَلَا صَغِيرٌ عَلَى كَبِيرٍ، فَإِنِ اجْتَمَعَ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ مَسْكَنَةٌ وَيُتْمٌ أُعْطِيَ بِالْيُتْمِ دُونَ الْمَسْكَنَةِ؛ لأن اليتيم صِفَةٌ لَازِمَةٌ وَالْمَسْكَنَةُ صِفَةٌ زَائِلَةٌ.
وَالْحُكْمُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يُجْمَعُ لَهُمْ بَيْنَ سَهْمِهِمْ مِنَ الْخُمُسِ وَبَيْنَ سَهْمِهِمْ مِنَ الزَّكَاةِ، لِتَمَيُّزِ أَهْلِ الْفَيْءِ عَنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ، وَتَمَيُّزِ مَسَاكِينِ الْخُمُسِ عَنِ مَسَاكِينِ الزَّكَاةِ، وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ إليهم من الكفارات فيصير إليهم مالان ويمنعوا مَالًا، وَلَا يَخْتَصُّ الْكَفَّارَاتِ بِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا بَنُو السَّبِيلِ فَهُمُ الْمُسَافِرُونَ سُمُّوا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ بِمُلَازَمَةِ سَبِيلِ السَّفَرِ قَدْ صَارُوا كَأَبْنَائِهِ وَهُمْ ضَرْبَانِ: مُنْشِئُ سَفَرٍ، وَمُجْتَازٌ فِيهِ، وَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ يُعْتَبَرُ فِيهِمُ الْحَاجَةُ فِي سفرهم ولا يدفع إِلَيْهِمْ مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَّا أَنَّ النَّاشِئَ لِسَفَرِهِ لَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ مَعَ الْفَقْرِ وَالْمُجْتَازُ يَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِ مَعَ الْغِنَى إِذَا كَانَ فِي سَفَرِهِ مُعْدِمًا ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِمْ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لِبَنِي السَّبِيلِ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لِبَنِي السَّبِيلِ مِنَ الْمُجَاهِدِينَ خَاصَّةً، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لِبَنِي السَّبِيلِ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي الْمَسَاكِينِ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُخْتَصَّ بِهِ بَعْضُ الْمَسَاكِينِ دُونَ جَمِيعِهِمْ.
وَالْحُكْمُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ الْإِمَامُ بِرَأْيِهِ فِي التَّسْوِيَةِ وَالتَّفْضِيلِ.
والحكم الثالث: أنه يجوز أن يجمع لهم بَيْنَ سَهْمِهِمْ مِنَ الْخُمُسِ وَبَيْنَ سَهْمِهِمْ مِنَ الزَّكَاةِ.
وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي أَنَّهُ يُخَصُّ بِهِ بَنُو السَّبِيلِ مِنَ الْمُجَاهِدِينَ؛ فَعَلَى هَذَا يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ الثَّلَاثَةُ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُفَرَّقَ فِي جَمِيعِهِمْ وَلَا يُخَصُّ بِهِ بَعْضُهُمْ؛ فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يُفَرَّقُ فِي بَنِي السَّبِيلِ فِي الْأَقَالِيمِ كُلِّهَا، وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يُفَرَّقُ فِي بَنِي السَّبِيلِ فِي إِقْلِيمِ الثَّغْرِ الْمَغْنُومِ فِيهِ.
وَالْحُكْمُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُسَوَّى بَيْنَ جَمِيعِهِمْ فِيهِ تَقْسِيطًا عَلَى مَسَافَةِ أَسْفَارِهِمْ فَيَكُونُ تَسْوِيَةً بَيْنَهُمْ فِي الْبَاطِنِ وَإِنْ تَفَاضَلُوا فِي الظَّاهِرِ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ بَايَنُوا الْمَسَاكِينَ الذي يُسَوَّى بَيْنَهُمْ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ.
وَالْحُكْمُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يُجْمَعُ لَهُمْ بَيْنَ سَهْمٍ مِنَ الْخُمُسِ وَبَيْنَ سَهْمٍ مِنَ الزَّكَاةِ، وَتَمَيَّزَ بَنُو السَّبِيلِ فِي الْخُمُسِ عَنْ بَنِي السَّبِيلِ فِي الزَّكَاةِ؛ فَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ شَخْصًا جَمَعَ بين(8/439)
الْمَسْكَنَةِ وَبَيْنَ كَوْنِهِ ابْنَ السَّبِيلِ أُعْطَى بِأَيِّ السَّبَبَيْنِ شَاءَ وَلَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَخَصَّ بِهِ مِنَ الْآخَرِ وَلَا يُجْمَعُ لَهُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ والله أعلم.
مسألة:
قال الشافعي: " فَقَدْ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بأبي هو وأمي - فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ عِنْدَنَا فِي سَهْمِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يُرَدُّ عَلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ الَّذِينَ ذكرهم الله تعالى معه لأني رأيت المسلمين قالوا فيمن سمي له سهم من الصدقات فلم يوجد رد على من سمي معه وهذا مذهب يحسن ومنهم من قال يضعه الإمام حيث رأى على الاجتهاد للإسلام وأهله ومنهم من قال يضعه في الكراع والسلاح والذي أختار أن يضعه الإمام في كل أمر حصن به الإسلام وأهله من سد ثغر أو إعداد كراع أو سلاح أو إعطاء أهل البلاء في الإسلام نفلا عند الحرب وغير الحرب إعدادا للزيادة في تعزيز الإسلام وأهله على ما صنع فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فإنه أعطى المؤلفة ونفل في الحرب وأعطى عام حنين نفرا من أصحابه من المهاجرين والأنصار أهل حاجة وفضل وأكثرهم أهل حاجة ونرى ذلك كله من سهمه والله أعلم ومما احتج به الشافعي في ذوي القربى أن روى حديثا عن ابن أبي ليلى قال لقيت عليا رضي الله عنه فَقُلْتُ لَهُ بِأَبِي وَأُمِّي مَا فَعَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فِي حَقِّكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ مِنَ الخمس؟ فقال علي أما أبو بكر رحمه الله فَلَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِهِ أَخْمَاسٌ وَمَا كَانَ فقد أوفاناه وأما عمر فلم يزل يعطيناه حَتَّى جَاءَهُ مَالُ السُّوسِ وَالْأَهْوَازِ أَوْ قَالَ مال فارس (الشافعي يشك) وقال عمر في حديث مطر أو حديث آخر إن في المسلمين خَلَّةً فَإِنْ أَحْبَبْتُمْ تَرَكْتُمْ حَقَّكُمْ فَجَعَلْنَاهُ فِي خَلَّةِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَأْتِيَنَا مَالٌ فَأُوَفِّيَكُمْ حَقَّكُمْ منه فقال العباس لا تطعمه فِي حَقِّنَا فَقُلْتُ يَا أَبَا الْفَضْلِ أَلَسْنَا من أحق من أجاب أمير المؤمنين ورفع خَلَّةَ الْمُسْلِمِينَ فَتُوُفِّيَ عُمَرُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ مال فيقضيناه وقال الحكم في حديث مطر أو الآخر إن عمر رضي الله عنه قال لكم حقا ولا يبلغ عملي إذ كثر أن يكون لكم كله فإن شئتم أعطيتكم منه بقدر ما أرى لكم فأبينا عليه إلا كله فأبى أن يعطينا كله (قال الشافعي) رحمه الله للمنازع في سهم ذي القربى أليس مذهب العلماء في القديم والحديث أن الشيء إذا كان منصوصا في كتاب الله مبينا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بخبر الثقة لا معارض له في إعطاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غنيا لا دين عليه في إعطائه العباس بن عبد المطلب وهو في كثرة ماله يعول عامة بني المطلب دليل على أنهم استحقوا بالقرابة لا بالحاجة كما أعطى الغنيمة من حضرها لا بالحاجة وكذلك من استحق الميراث بالقرابة لا بالحاجة وكيف جاز لك أن تريد إبطال اليمين مع الشاهد بأن تقول هي بخلاف ظاهر القرآن وليست مخالفة له ثم تجد سهم ذي القربى منصوصا في آيتين من كتاب الله تعالى ومعهما سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فترده؟ أرأيت لو عارضك معارض فأثبت سهم ذي القربى وأسقط اليتامى والمساكين وابن السبيل ما حجتك عليه إلا كهي عليك ".(8/440)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي ثُبُوتِ سهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي خُمُسِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ، وَأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ.
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَصْرِفِهِ فَحَكَى الشَّافِعِيُّ فيه مذاهب فمنه مَنْ جَعَلَهُ مَصْرُوفًا إِلَى الْإِمَامِ الْقَائِمِ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ لِوَرَثَتِهِ، وَمِنْهُمْ من جعله مصروفا في القراع وَالسِّلَاحِ خَاصَّةً وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ سَهْمَهُ مَصْرُوفٌ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الْخُمُسُ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ ".
وَلِأَنَّهُ قَدْ كَانَ مَا فَضَلَ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ بَعْدَ فَوْتِ سَنَةٍ يَصْرِفُهُ فِي إِعْزَازِ الدِّينِ وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ فَكَذَلِكَ حُكْمُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ.
فَأَمَّا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ فِي ثُبُوتِ سَهْمِ ذِي الْقَرَابَةِ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَاسْتَوْفَيْنَا حُكْمَ كُلِّ سَهْمٍ مِنَ السِّهَامِ الْخَمْسَةِ بِمَا أَغْنَى عَنِ الْإِعَادَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.(8/441)
بَابُ تَفْرِيقِ مَا أُخِذَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الفيء غير الموجف عليه
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَيَنْبَغِي لِلْوَالِي أَنْ يُحْصِيَ جَمِيعَ مَنْ فِي الْبُلْدَانِ مَنَ الْمُقَاتِلَةِ وَهُمْ مَنْ قَدِ احْتَلَمَ أَوِ اسْتَكْمَلَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً مِنَ الرِّجَالِ وَيُحْصِيَ الذُّرِّيَّةَ وَهُمْ مَنْ دُونَ الْمُحْتَلِمِ وَدُونَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَالنِّسَاءَ صَغِيرَهُمْ وَكَبِيرَهُمْ وَيَعْرِفَ قَدْرَ نَفَقَاتِهِمْ وَمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ مُؤْنَاتِهِمْ بِقَدْرِ مَعَاشِ مِثْلِهِمْ فِي بُلْدَانِهِمْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْغَنِيمَةِ، وَهُوَ الْمَأْخُوذُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَنْوَةً بِقِتَالٍ، فَأَمَّا الْفَيْءُ وَهُوَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُمْ بِغَيْرِ قِتَالٍ فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا تَرَكُوهُ عَلَيْنَا خَوْفًا وَرُعْبًا كَالْأَمْوَالِ الَّتِي انْجَلَوْا عَنْهَا وَمَا بَذَلُوهُ صُلْحًا فِي كَفِّنَا وَرَدِّنَا عَنْ أَنْفُسِهِمْ، فَهَذَا يُخَمَّسُ وَيَكُونُ خُمُسُهُ كَخُمُسِ الغنيمة مقسوم عَلَى السِّهَامِ الْخَمْسَةِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا وَصَلَ إِلَيْنَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فِي غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا رُعْبٍ كَالْجِزْيَةِ وَعُشْرِ تِجَارَتِهِمْ وَمَالِ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ فِي دَارِنَا وَلَا وَارِثَ لَهُ فَفِي تَخْمِيسِهِ قَوْلَانِ:
أَصَحُّهُمَا: وَهُوَ الْجَدِيدُ أَنَّهُ يُخَمَّسُ وَيَكُونُ خُمُسُهُ مَقْسُومًا عَلَى السِّهَامِ الْخَمْسَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -] وَلِأَنَّهُ كَالْمَتْرُوكِ رُعْبًا فِي كَوْنِهِ فَيْئًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُخَمَّسًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ لَا يُخَمَّسُ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي الْغَنِيمَةِ مَالًا يُخَمَّسُ وَهُوَ السَّلَبُ كَانَ في الفيء مالا يخمس وهو العقر وَالْأَوَّلُ مِنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ أَشْهَرُ وَأَصَحُّ.
فَأَمَّا أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ فَفِي مَصْرِفِهِ الْآنَ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَصْرُوفٌ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ مِنْ أَرْزَاقِ الْمُقَاتِلَةِ وَالْأَئِمَّةِ وَالْقُضَاةِ وَبِنَاءِ الحصون والمساجد والقناطر وإعداد القراع وَالسِّلَاحِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَتَمَلَّكُ ذَلِكَ فَيَصْرِفُهُ فِي هَذِهِ الْمَصَالِحِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَصْرُوفٌ فِي أَرْزَاقِ الْجَيْشِ الْمُقَاتِلَةِ الْخَاصَّةِ الْمَنْدُوبُونَ لِجِهَادِ(8/442)
الْعَدُوِّ وَالذَّبِّ عَنِ الْبَيْضَةِ، وَالْمَنْعِ مِنَ الْحَرِيمِ، لِأَنَّهُمُ الْقَائِمُونَ بِذَلِكَ بَعْدَ الرَّسُولِ فَمَلَكُوا بَعْدَهُ مَا كَانَ لَهُ، وَجُمْلَةُ الْمُجَاهِدِينَ ضَرْبَانِ: مُرْتَزِقَةٌ، وَمُتَطَوِّعَةٌ.
فَأَمَّا الْمُرْتَزِقَةٌ فَهُمُ الَّذِينَ فَرَّغُوا أَنْفُسَهُمْ لِلْجِهَادِ فَلَمْ يُشَّاغَلُوا إِلَّا بِهِ، وَثَبَتُوا فِي الدِّيوَانِ فَصَارُوا جَيْشًا لِلْمُسْلِمِينَ وَمُقَاتِلَةً لِلْمُشْرِكِينَ فَهَؤُلَاءِ يُرْزَقُونَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ، وَلَا حَقَّ لَهُمْ فِي الصَّدَقَاتِ وَأَمَّا الْمُتَطَوِّعَةُ فَهُمْ أَرْبَابُ الْمَعَائِشِ وَالصَّنَائِعِ وَالْأَعْرَابُ الَّذِينَ يَتَطَوَّعُونَ بِالْجِهَادِ إِنْ شَاءُوا وَيَقْعُدُونَ عَنْهُ إِنْ أَحَبُّوا، وَلَمْ يَثْبُتُوا فِي الدِّيوَانِ، وَلَا جُعِلَ لَهُمْ رِزْقٌ فَهَؤُلَاءِ يُعْطَوْنَ مِنَ الصَّدَقَاتِ مِنْ سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَا حَقَّ لَهُمْ فِي الْفَيْءِ، وَلِهَذَا تَمَيَّزَ أَهْلُ الصَّدَقَةِ عَنْ أَهْلِ الْفَيْءِ وَقَدْ كَانَ الْمُتَطَوِّعَةُ يُسَمَّوْنَ أَعْرَابًا، وَيُسَمَّى الْمُقَاتِلَةُ مُهَاجِرِينَ فَتَمَيَّزُوا بِهَذَيْنِ الِاثْنَيْنِ لِتَمَيُّزِهِمْ فِي الْمَالَيْنَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
(قَدْ حَسَّهَا اللَّيْلُ بِعُصْلُبِيٍّ ... أَرْوَعَ خَرَّاجٍ من الدادي)
(مُهَاجِرٍ لَيْسَ بِأَعْرَابِيِّ)
فَصْلٌ:
وَإِذْ قَدْ تَمَيَّزَ أَهْلُ الْفَيْءِ عَنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ بِمَا وَصَفْنَا فَسَنَذْكُرُ أَهْلَ الصَّدَقَةِ فِي قِسْمِ الصَّدَقَاتِ، وَنُبَيِّنُ حُكْمَ أَهْلِ الْفَيْءِ فَنَقُولُ: يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُثْبِتَ الْمُقَاتِلَةَ فِي جَمِيعِ الثُّغُورِ وَالْبُلْدَانِ فِي دِيوَانِهِ وَمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي نَفَقَاتِهِمْ وَمُؤْنَاتِهِمْ فيعطيهم مِنْ مَالِ الْفَيْءِ قَدْرَ كِفَايَاتِهِمْ حَتَّى لَا يَتَشَاغَلُوا بِاكْتِسَابِ الْمَالِ عَنْ جِهَادِ الْعَدُوِّ، وَيَكُونُوا مُتَشَاغِلِينَ بِالْحَرْبِ فِي الذَّبِّ عَنِ الْبَيْضَةِ.
وَإِذَا لَزِمَ الْإِمَامَ الْقِيَامُ بِكِفَايَتِهِمْ فَكِفَايَتُهُمْ تَخْتَلِفُ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: كَثْرَةُ الْعِيَالِ وَقِلَّتُهُمُ الَّذِينَ تَلْزَمُ نَفَقَاتُهُمْ مِنَ الْأَوْلَادِ وَالزَّوْجَاتِ وَالْعَبِيدِ وَالْخَدَمِ فَيُثْبِتُ ذُرِّيَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَهُمْ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ مِنْ أَوْلَادِهِ فَثَبَتَ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي حَالِ الْفَقْرِ ثُمَّ فِي حَالِ النُّشُوءِ وَالْكِبَرِ، هَذَا مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: وَتُعْطِي المنقوس شَيْئًا، وَكُلَّمَا كَبُرَ يُزَادُ عَلَى قَدْرِ مُؤْنَتِهِ يَعْنِي أَنَّهُ يُعْطِي أَبَاهُ لِأَجْلِهِ وَيَزِيدُ لِكِبَرِهِ. وَيَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الزَّوْجَاتِ وَالْعَبِيدِ وَالْخَدَمِ لِيَعْلَمَ بِذَلِكَ قَدْرَ مُؤْنَتِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَعْرِفَ حَالَهُ هَلْ هُوَ مِنَ الرَّجَّالَةِ أَوِ الْفُرْسَانِ فَإِنْ كَانَ مِنَ الْفُرْسَانِ عَرَفَ عَدَدَ خَيْلِهِ وَظَهْرِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَعْرِفَ حَالَ بَلَدِهِ فِي قُرْبِهِ مِنَ الْمَغْزَى وَبُعْدِهِ، فَإِنَّهُ إِنْ بَعُدَ كَثُرَتْ مُؤْنَتُهُ وَإِنْ قَرُبَ قَلَّتْ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يعرف خصب بلده وجدبه فإن المؤن في بلاد الخصب قليلة في بِلَادِ الْجَدْبِ كَثِيرَةٌ.
وَالْخَامِسُ: أَنْ يَعْرِفَ غَلَاءَ السِّعْرِ وَرُخْصَهُ لِيَزِيدَهُ مَعَ الْغَلَاءِ، وَيَنْقُصَهُ مَعَ الرخص،(8/443)
فَإِذَا كَشَفَ عَنْ أَحْوَالِهِمْ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ الْخَمْسَةِ عَرَفَ قَدْرَ كِفَايَتِهِمْ فَأَثْبَتَهَا أَوْ جَعَلَهَا مَبْلَغَ أَرْزَاقِهِمْ فِي كُلِّ عَامٍ مِنْ غَيْرِ صَرْفٍ وَلَا تَقْصِيرٍ، وَذَلِكَ قَدْ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ فِي الْوُجُوهِ الْخَمْسَةِ؛ فَلِذَلِكَ مَا اخْتَلَفَ قَدْرُ أَرْزَاقِهِمْ، وَإِنْ وَجَبَتْ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمْ فِي الْقِيَامِ بِكِفَايَاتِهِمْ، وَقَدْ رَوَى عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ بَلَغَ بِالْعَطَاءِ خَمْسَةَ آلاف درهما فَمِنَ النَّاسِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الْكِفَايَةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفْرَضَ لِلْمُقَاتِلَةِ أَكْثَرُ مِنْ كِفَايَتِهِمْ، وَقِيلَ: لَيْسَ هَكَذَا لِأَنَّ خَمْسَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ مَعَ بُعْدِ الْمَغْزَى وَغَلَاءِ الْأَسْعَارِ لَيْسَتْ بِأَكْثَرَ مِنْ كِفَايَةِ ذِي عِيَالٍ، فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَقْدِيرِ أَرْزَاقِهِمْ بِحَسَبِ كِفَايَاتِهِمْ خَرَجَ مَا يُعْطُونَهُمْ مِنْهَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي مَصْرِفِ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ مَصْرُوفٌ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ أُعْطُوا مِنْهُ قَدْرَ أَرْزَاقِهِمْ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْهَا كَانَ الْفَضْلُ بَاقِيًا فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَإِنْ نَقَصَ عَنْهَا كَانَ الْبَاقِي لَهُمْ دَيْنًا عَلَى بَيْتِ المال، وإن قيل: إن لِلْجَيْشِ خَاصَّةً قُسِمَ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ كِفَايَاتِهِمْ بِزِيَادَةٍ وَنَقْصٍ.
مِثَالُهُ: أَنْ يَكُونَ رِزْقُ أَحَدِهِمُ الْكَافِي لَهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَرِزْقُ الْآخَرِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَرِزْقُ الثَّالِثِ الْآخَرِ ثَلَاثَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ وَرِزْقُ الرَّابِعِ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فَيَكُونُ رِزْقُ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ عَشْرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ لِصَاحِبِ الْأَلْفِ عُشْرُهَا وَلِصَاحِبِ الْأَلْفَيْنِ خُمُسُهَا وَلِصَاحِبِ الثَّلَاثَةِ آلَافٍ ثَلَاثَةُ أَعْشَارِهَا وَلَصَاحِبِ الْأَرْبَعَةِ آلَافٍ خُمُسَاهَا، فَيَنْقَسِمُ الْحَاصِلُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ عَلَى عَشْرَةِ أَسْهُمٍ لِصَاحِبِ الْأَلْفِ سَهْمٌ وَلِصَاحِبِ الْأَلْفَيْنِ سَهْمَانِ، وَلِصَاحِبِ الثَّلَاثَةِ آلَافٍ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَعَلَى هَذَا الْحِسَابِ فَإِنْ كَانَ الْمَالُ عَشْرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ بِقَدْرِ أَرْزَاقِهِمْ فَقَدِ اسْتَوْفَوْهَا، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ قُسِمَ جَمِيعُهُ عَلَى هَذَا أَوْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ لَهُمْ، وَلَا يُحْتَسَبُ بِمَا عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ كَانَ النُّقْصَانُ عَلَيْهِمْ لَا يُحْتَسَبُ بِهِ لَهُمْ فَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ إِذَا اتَّسَعَ المال لم يزادوا على أرزاقهم، وَعَلَى الثَّانِي يُزَادُونَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّهُمَا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ إِذَا ضَاقَ الْمَالُ يَقْضُونَ بَقِيَّةَ أَرْزَاقِهِمْ وَعَلَى الثَّانِي لَا يَقْضُونَ.
فَصْلٌ:
وَيَنْبَغِي لِوَالِي الْجَيْشِ أَنْ يَسْتَعْرِضَ أَهْلَ الْعَطَاءِ فِي وَقْتِ كُلِّ عَطَاءٍ فَمَنْ وُلِدَ لَهُ مِنْهُمْ زَادَهُ لِأَجْلِ وَلَدِهِ وَمَنْ مات له ولد نقصه قسط ولده وإذا ينفس الْمَوْلُودُ زَادَهُ حَالًا بَعْدَ حَالٍ حَتَّى يَبْلُغَ، فَإِذَا بَلَغَ خَرَجَ مِنْ جُمْلَةِ الذُّرِّيَّةِ، وَصَارَ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ، فَأَثْبَتَهُ فِي الدِّيوَانِ، وَفَرَضَ لَهُ فِي الْعَطَاءِ رِزْقًا، وَرَاعَى حَالَ مَنْ يَنْكِحُ مِنَ الزَّوْجَاتِ أَوْ يُطَلِّقُ وَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ أَوْ يَبِيعُ لِيَزِيدَهُ مِمَّنْ نَكَحَ أَوْ مَلَكَ وَيَنْقُصَهُ لِأَجْلِ مَنْ طَلَّقَ أَوْ بَاعَ وَكَذَا يُرَاعِي حَالَ خَيْلِهِ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ قَدْرَ الْحَاجَةِ فِي شراء العبيد والخيل فلا يزاد لأجلهم.(8/444)
مسألة:
قال الشافعي: " ثُمَّ يُعْطِي الْمُقَاتِلَةَ فِي كُلِّ عَامٍ عَطَاءَهُمْ وَالذُّرِّيَّةَ وَالنِّسَاءَ مَا يَكْفِيهِمْ لِسَنَتِهِمْ فِي كُسْوَتِهِمْ وَنَفَقَاتِهِمْ طَعَامًا أَوْ قِيمَتَهُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ يُعْطِي الْمَنْفُوسَ شَيْئًا ثُمَّ يُزَادُ كُلَّمَا كَبُرَ عَلَى قَدْرِ مُؤْنَتِهِ وَهَذَا يَسْتَوِي لِأَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ الكفاية ويختلف في مبلغ العطاء باختلاف أسعار البلدان وحالات الناس فيها فإن المؤنة في بعض البلدان أثقل منها في بعض ولا أعلم أصحابنا اختلفوا في أن العطاء للمقاتلة حيث كانت إنما يكون من الفيء وقالوا لا بأس أن يعطى الرجل لنفسه أكثر من كفايته وذلك أن عمر رضي الله عنه بلغ في العطاء خمسة آلاف وهي أكثر من كفاية الرجل لنفسه ومنهم من قال خمسة آلاف بالمدينة ويغزو إذا غزى وليست بأكثر من الكفاية إذا غزا عليها لبعد المغزى (قال الشافعي) وهذا كالكفاية على أنه يغزو وإن لم يغز في كل سنة ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَإِذَا قَدْ مَضَى مَا يَتَعَذَّرُ بِهِ الْعَطَاءُ فَهَذَا الْفَصْلُ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَقْتُ الْعَطَاءِ وَزَمَانُهُ.
وَالثَّانِي: جِنْسُهُ وَنَوْعُهُ.
وَهَذَانِ الْفَصْلَانِ يَخْتَلِفَانِ بِاخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي مَالِ الْفَيْءِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ مِلْكٌ لِلْجَيْشِ خَاصَّةً فَوَقْتُ الْعَطَاءِ هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يَتَكَامَلُ فِيهِ حُصُولُ الْمَالِ سَوَاءً تَعَجَّلَ أَوْ تَأَجَّلَ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُؤَخِّرَهُ عَنْهُمْ إِذَا حُصِّلَ وَلَا لَهُمْ مُطَالَبَتُهُ بِهِ إِنْ تَأَخَّرَ إِلَّا أَنْ يُؤَخِّرَ جِبَايَتَهُ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِهِ فَلَهُمْ أَنْ يُطَالِبُوهُ بِاجْتِبَائِهِ وَاسْتِخْلَاصِهِ، ثُمَّ الْجِنْسُ الْحَاصِلُ مِنَ الْمَالِ هُوَ الَّذِي يُسْتَحَقُّ دَفْعُهُ إِلَيْهِمْ سَوَاءً كَانَ وَرِقًا أَوْ ذَهَبًا أَوْ حِنْطَةً أَوْ شَعِيرًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي جُمْلَةِ عُرُوضٍ فَتُبَاعُ وَتُضَمُّ أَثْمَانُهَا إِلَى الْمَالِ ثُمَّ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُجْمَعُ الْفَيْءُ فِي جَمِيعِ الْأَقَالِيمِ فَيُقَسَّمُ فِي جَمِيعِ أَهْلِ الْفَيْءِ حَتَّى يَتَسَاوَى جَمِيعُ أَهْلِ الْفَيْءِ فِي كُلِّ مَالِ الْفَيْءِ، وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ يُقَسَّمُ مَالُ كُلِّ إِقْلِيمٍ فِي أَهْلِهِ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا إِذَا قِيلَ إِنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ مَصْرُوفٌ فِي وُجُوهِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الَّتِي مِنْهَا عَطَاءُ الْجَيْشِ وَجَبَ بَيَانُ الْفَصْلَيْنِ فِي وَقْتِ الْعَطَاءِ وَجِنْسِ الْمَالِ الْمُعْطَى.
فَأَمَّا وَقْتُ الْعَطَاءِ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِمَالِ الْفَيْءِ فَإِنْ كَانَ مُسْتَحَقًّا فِي دُفْعَةٍ وَاحِدَةٍ جُعِلَ وَقْتُ الْعَطَاءِ فِي دُفْعَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ السَّنَةِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ مِنَ السَّنَةِ مَعْلُومًا عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ الفيء ليقدر إليه نفقاتهم يتوقعوا فيهم أَرْزَاقَهُمْ وَيُنْظِرَهُمْ إِلَيْهِ تُجَّارُهُمْ، وَيُخْتَارُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمُحَرَّمِ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ السَّنَةِ الْعَرَبِيَّةِ، فَإِذَا حَلَّ وَفَّاهُمْ عَطَاءَ السَّنَةِ بِأَسْرِهِ، وَإِذَا كَانَ مَالُ الْفَيْءِ مُسْتَحَقًّا فِي أَوْقَاتٍ شَتَّى مِنَ السَّنَةِ جَعَلَ لِلْعَطَاءِ وَقْتَيْنِ وَقَسَمَهُ نِصْفَيْنِ وَأَعْطَاهُمْ بعد كل سنة(8/445)
أَشْهُرٍ نِصْفَهُ وَلَا يَجِبُ أَنْ يَجْعَلَ لِلْعَطَاءِ فِي السَّنَةِ أَكْثَرَ مِنْ وَقْتَيْنِ وَلَا أَنْ يَجْعَلَهُ مُشَاهَرَةً، وَإِنْ قُبِضَ مَالُ الْفَيْءِ مُشَاهَرَةً لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِئَلَّا يَصِيرَ الْجَيْشُ مُتَشَاغِلًا فِي كُلِّ السَّنَةِ بِالْقَبْضِ وَالطَّلَبِ.
وَالثَّانِي: كَيْ لَا يَنْقَطِعَ عَنِ الْجِهَادِ تَوَقُّعًا لِحُلُولِ الشُّهُورِ أَوْ تَتَأَخَّرُ عَنْهُمْ إِنْ خَرَجُوا.
فَإِنْ قِيلَ: أَفَيَكُونُ الْعَطَاءُ لِمَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ أَوْ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنْهَا.
قِيلَ: لَيْسَ هُوَ لِمَا مَضَى وَلَا لِمَا يُسْتَقْبَلُ لِأَنَّ أَرْزَاقَ الْمُقَاتِلَةِ تَجْرِي مَجْرَى الْجُعَالَةِ، وَالْوُجُوبُ مُتَعَلِّقٌ بِحُصُولِ الْمَالِ وَالْأَدَاءُ مُسْتَحَقٌّ بِحُلُولِ الْوَقْتِ وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْوُجُوبُ وَالْأَدَاءُ مَعًا مُتَعَلِّقَيْنِ بِحُصُولِ الْمَالِ وَاللَّهُ أعلم.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا جِنْسُ الْمَالِ الْمُعْطَى فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي جُمْلَةِ مَا قَدَّرَهُ مِنْ كِفَايَاتِهِمْ طَعَامٌ لِأَقْوَاتِهِمْ وَشَعِيرٌ لِدَوَابِّهِمْ وَثِيَابٌ لِكُسْوَتِهِمْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ أَهْلُ الْأَمْصَارِ فَيَجِبُ اخْتِلَافُهَا عَلَى قَدْرِ عَادَاتِهَا؛ فَيُقَوِّمُ مَا سِوَى الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَرِقًا أَوْ ذَهَبًا، فَأَمَّا الْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ فَيَنْظُرُ فَإِنْ كَانَ فِي مَالِ الْفَيْءِ الْمُسْتَحَقِّ حِنْطَةٌ وَشَعِيرٌ قَدَّرَهُ لَهُمْ حَبًّا، وَأَعْطَاهُمْ إِيَّاهُ مَعَ أَرْزَاقِهِمْ مِنَ الْوَرِقِ وَالذَّهَبِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَالِ الْفَيْءِ الْمُسْتَحَقِّ حِنْطَةٌ وَلَا شَعِيرٌ أَعْطَاهُمْ قِسْمَتَهُ وَرِقًا أَوْ ذَهَبًا بِسِعْرِ وَقْتِهِ وَالْوَرِقُ أَخَصُّ بِالْعَطَاءِ مِنَ الذَّهَبِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: اتِّبَاعُ الْأَئِمَّةِ الرَّاشِدِينَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُصْرَفُ فِي قَلِيلِ النَّفَقَاتِ وَكَثِيرِهَا فَلَا يُعْدَلُ عَنْهُ إِلَى الذَّهَبِ إِلَّا إِذَا كَانَ مَالُ الْفَيْءِ ذَهَبًا أَوْ كَانَ هُوَ الْأَغْلَبَ فِي مُعَامَلَاتِ النَّاسِ، فَلَوْ تَعَامَلَ النَّاسُ بِالْفُلُوسِ لَمْ يَجْعَلْ مَالَ الْعَطَاءِ فُلُوسًا، لِأَنَّهَا فِي الْمُعَامَلَاتِ نَادِرَةٌ وَلِذَلِكَ خَرَجَتْ عَنْ أَنْ يَثْبُتَ فِيهَا الرِّبَا، وَتَجِبَ فِيهَا الزَّكَاةُ.
مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي: " وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ لَقِيتُهُ فِي أَنْ لَيْسَ لِلْمَمَالِيكِ فِي الْعَطَاءِ حَقٌّ وَلَا الْأَعْرَابِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الصَّدَقَةِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
الْمَمْلُوكُ لَا يُفْرَدُ لَهُ فِي الْعَطَاءِ سَوَاءً قَاتَلَ مَعَ سَيِّدِهِ أَوْ تَشَاغَلَ بِخِدْمَتِهِ لَكِنْ يُزَادُ السَّيِّدُ فِي عَطَائِهِ لِمَا يَتَكَلَّفُهُ مِنْ نَفَقَةِ عَبْدِهِ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَعْطَى الْعَبِيدَ فِي أَيَّامِ خِلَافَتِهِ فَلَمَّا أَفْضَى الْأَمْرُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَرَمَهُمْ. وَلَمْ يُعْطِهِمْ وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ وَإِنَّمَا هُوَ عَوْنٌ لِسَيِّدِهِ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ وَكُسْوَتُهُ وَلَهُ كَسْبُهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ فَيُعْطَى عَطَاءَ الْمُجَاهِدِينَ أَلَا تَرَاهُ لَوْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ الْقِتَالُ فِيهَا.(8/446)
فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ قَالَ الشَّافِعِيُّ لَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ لَقِيتُهُ فِي أَنْ لَيْسَ لِلْمَمَالِيكِ فِي الْعَطَاءِ حَقٌّ فَادَّعَى فِي ذَلِكَ الْإِجْمَاعَ، وَأَبُو بَكْرٍ قَدْ خَالَفَ وَلَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ مَعَ خِلَافِهِ فَعَنْ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ صَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَنْ لَقِيَهُ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ وَهُوَ لَمْ يُعَاصِرِ الصَّحَابَةَ.
وَالثَّانِي: قَدْ يَعْقُبُ خِلَافَ الصَّحَابَةِ إِجْمَاعُ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْأَعْصَارِ فَصَارَ حُكْمُ الْخِلَافِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أصحابنا مرتفعا.
والثالث: أنه أشار ذلك إِلَى عَبِيدِ الْخِدْمَةِ لَا عَبِيدِ الْمُقَاتِلَةِ وَلَمْ يعطهم أبو بكر ولا أحد بعدهم شَيْئًا.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا الْأَعْرَابُ فَالْمُرَادُ بِهِمْ مَنْ لَمْ يَثْبُتْ فِي دِيوَانَ الْجَيْشِ، وَلَا الْتَزَمَ مُلَازَمَةَ الْجِهَادِ وَلَكِنْ يَغْزُو إِذَا أَرَادَ وَيَقْعُدُ إِذَا شَاءَ، فَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُسَمَّوْنَ أَعْرَابًا سَوَاءً كَانُوا عَرَبًا أَوْ عَجَمًا فَيُعْطَى هَؤُلَاءِ إِذَا غزو مِنَ الصَّدَقَاتِ مِنْ سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ مَا يُعِينُهُمْ عَلَى غَزْوِهِمْ وَلَا يُعْطَوْنَ مِنْ مَالِ الْفَيْءِ شَيْئًا، فَإِنْ دَخَلُوا فِي أَهْلِ الْفَيْءِ وَأَثْبَتُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الدِّيوَانِ وَالْتَزَمُوا الْجِهَادَ مَعَهُمْ، إِذَا جَاهَدُوا صَارُوا فِي عَدَدِ الْجَيْشِ وَمِنْ جُمْلَةِ الْمُقَاتِلَةِ فَيُفْرَضُ لَهُمْ فِي عَطَاءِ أَهْلِ الْفَيْءِ وَيُخْرَجُوا مِنْ عِدَادِ أَهْلِ الصَّدَقَةِ وَيُحْرَمُوا مَا كَانُوا يُعْطَوْهُ مِنْهَا كَيْ لَا يَجْمَعُوا بَيْنَ مَالِ الصَّدَقَةِ وَمَالِ الْفَيْءِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ مَيَّزَ أَهْلَ الصَّدَقَةِ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ فِي أَيَّامِهِ وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ مِنْ بَعْدِهِ فَصَارَ الْغُزَاةُ ضَرْبَيْنِ.
أَهْلَ صَدَقَةٍ وَهُمْ مَا ذَكَرْنَا.
وَأَهْلَ فَيْءٍ وَهُمْ مَنْ وَصَفْنَا، وَحُكْمُهُمَا مُتَمَيِّزٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَجْعَلُ الْأَعْرَابَ الْمُعْطَوْنَ مِنَ الصَّدَقَةِ دُونَ الْفَيْءِ الَّذِينَ هُمْ أَشْذَاذٌ مُفْتَرِقُونَ لَا يَرْهَبُهُمُ الْعَدُوُّ وَلَا يَسْتَعِينُ بِهِمُ الْإِمَامُ، فَإِنْ قَوِيَ جَمْعُهُمْ وَكَثُرَ عَدَدُهُمْ حَتَّى رَهِبَهُمُ الْعَدُوُّ وَاسْتَعَانَ بِهِمُ الْإِمَامُ صَارُوا مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ وَالْأَوَّلُ هُوَ المذهب والله أعلم.
مسألة:
قال الشافعي: " وَاخْتَلَفُوا فِي التَّفْضِيلِ عَلَى السَّابِقَةِ وَالنَّسَبِ فَمِنْهُمْ من قال أسوي بين الناس فإن أبا بكر رضي الله عنه حين قال له عمر أتجعل للذين جاهدوا في سبيل اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَهَجَرُوا دِيَارَهُمْ كَمَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ كَرْهًا؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّمَا عَمِلُوا لِلَّهِ وَإِنَّمَا أُجُورُهُمْ عَلَى اللَّهِ وَإِنَّمَا الدنيا بلاغ وسوى علي بن أبي طالب رضي الله عنه بين الناس ولم يفضل (قال الشافعي) رحمه الله: وهذا الذي أختاره وأسأل الله التوفيق وذلك أني رأيت الله تعالى قسم المواريث على العدد فسوى فقد تكون الإخوة متفاضلي الغناء عن الميت في الصلة في الحياة والحفظ بعد الموت وَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قسم لمن حضر الوقعة من الأربعة الأخماس على العدد فسوى ومنهم من يغنى غاية الغناء ويكون الفتوح على يديه ومنهم من يكون محضره إما غير نافع وإما ضارا بالجبن والهزيمة فلما(8/447)
وجدت الكتاب والسنة على التسوية كما وصفت كانت التسوية أولى من التفضيل على النسب أو السابقة ولو وجدت الدلالة على التفضيل أرجح بكتاب أو سنة كُنْتُ إِلَى التَّفْضِيلِ بِالدِّلَالَةِ مَعَ الْهَوَى أَسْرَعَ (قال الشافعي) وإذا قرب القوم من الجهاد ورخصت أسعارهم أعطوا أقل ما يعطى من بعدت داره وغلا سعره وهذا وإن تفاضل عدد العطية تسوية على معنى ما يلزم كل واحد من الفريقين في الجهاد إذا أراده ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ أَهْلِ الْفَيْءِ وَالتَّفْضِيلِ بِالسَّابِقَةِ وَالنَّسَبِ، وَفِي السَّابِقَةِ الَّتِي أُشِيرُ بِالتَّفْضِيلِ إِلَيْهَا تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا السَّابِقَةُ فِي الْإِسْلَامِ.
وَالثَّانِي: السَّابِقَةُ فِي الْهِجْرَةِ فَحُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَ النَّاسِ فِي الْعَطَاءِ وَلَمْ يُفَضِّلْ أَحَدًا بِسَابِقَةٍ وَلَا نَسَبٍ، وَأَعْطَى الْعَبِيدَ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ أَتَجْعَلُ الَّذِينَ جَاهَدُوا فِي اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَهَجَرُوا دِيَارَهُمْ كَمَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ كَرْهًا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّمَا عَمِلُوا لِلَّهِ، وَإِنَّمَا أُجُورُهُمْ عَلَى اللَّهِ، وَإِنَّمَا الدُّنْيَا بَلَاغٌ يَعْنِي بَلَاغٌ إِلَى الْآخِرَةِ الَّتِي هِيَ دَارُ الْجَزَاءِ، فَلَمَّا أَفْضَى الْأَمْرُ إِلَى عُمَرَ فَضَّلَ بَيْنَ النَّاسِ وَلَمْ يُعْطِ الْعَبِيدَ. وَأَعْطَى عَائِشَةَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا وَأَعْطَى غَيْرَهَا مِنْ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْعَرَبِيَّاتِ عَشْرَةَ آلَافٍ وَأَعْطَى صَفِيَّةَ وَجُوَيْرِيَّةَ سِتَّةَ آلَافٍ لِأَنَّهُمَا كَانَتَا مُعْتَقَتَيْنِ وَأَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ عَلِيٍّ وَالْعَبَّاسِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ سِتَّةَ آلَافٍ، وأعطى كل واحد من المهاجرين وَالْأَنْصَارِ السَّابِقِينَ خَمْسَةَ آلَافٍ، وَأَعْطَى الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ كُلَّ وَاحِدٍ أَرْبَعَةَ آلَافٍ وَأَعْطَى أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ أَلْفَيْنِ، وَأَعْطَى ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ، فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ: أَتُفَضِّلُ عَلَيَّ أُسَامَةَ وَتَنْقُصُ مِنْهُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ لِأَنَّهُ كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْكَ، وَكَانَ أَبُوهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَبِيكَ؛ فَلَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِلَى عَلِيٍّ رَجَعَ إِلَى رَأْيِ أَبِي بَكْرٍ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْعَطَاءِ وَلَا يُفَضِّلُ أَحَدَهُمْ بِسَابِقَةٍ وَلَا نَسَبٍ، وَمَذْهَبُ عُمَرَ التَّفْضِيلُ بَيْنَهُمْ بِالسَّابِقَةِ وَالنَّسَبِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمْ أَوْلَى مِنَ التَّفْضِيلِ اتِّبَاعًا لِرَأْيِ أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَاسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ لِمَا سَوَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَلَمْ يُفَضِّلْ ذَا غِنًى عَلَى فَقِيرٍ، وَلَا فَضَّلَ شُجَاعًا عَلَى جَبَانٍ بَعْدَ مَا حَضَرَ الْوَقْعَةَ؛ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ يُسَوَّى فِيهِ بَيْنَ أَهْلِهِ لِإِرْصَادِ أَنْفُسِهِمْ لِلْجِهَادِ الَّذِينَ هُمْ فِيهِ سَوَاءٌ، وَإِنْ تَفَاضَلُوا بِالسَّابِقَةِ وَالنَّسَبِ تَسْوِيَةً بَيْنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ فِي أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهِ كَاسْتِوَاءِ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا فِي خُمُسِهِ.(8/448)
وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَوَّى فِي الْمِيرَاثِ بَيْنَ الْبَارِّ وَالْعَاقِّ، وَبَيْنَ الْمُحِبِّ وَالْمُشَاقِّ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ كَذَلِكَ أَهْلُ الْفَيْءِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوْ وَجَدْتُ الدِّلَالَةَ عَلَى أَنَّ التَّفْضِيلَ أَرْجَحُ بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كُنْتُ إِلَى التَّفْضِيلِ بِالدِّلَالَةِ مَعَ الْهَوَى أَسْرَعَ بِمَكَانَ الشَّافِعِيِّ مِنَ السَّابِقَةِ وَالنَّسَبِ الَّذِي لَوْ جَازَ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِهِ التَّفْضِيلَ لَكَانَ أَسْرَعَ إِلَى هَوَاهُ مِنَ التَّسْوِيَةِ وَلَكِنَّ اتِّبَاعَ الدِّلَالَةِ أحق.
مسألة:
قال الشافعي " وَعَلَيْهِمْ أَنْ يَغْزُوَا إِذَا غُزُوا وَيَرَى الْإِمَامُ فِي إِغْزَائِهِمْ رَأْيَهُ فَإِنِ اسْتَغْنَى مُجَاهِدُهُ بِعَدَدٍ وَكَثْرَةٍ مِنْ قُرْبِهِ أَغْزَاهُمْ إِلَى أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ مِنْ مُجَاهِدِهِمْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ وَالْأَعْرَابِ أَنْ يَغْزُوا إلا بأمر الإمام وإذنه لأمورا مِنْهَا:
أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَغْزُو عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَّا بِأَمْرِهِ وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ مِنْ بَعْدِهِ، ولأن الإمام أعرف بأحول الْعَدُوِّ وَفِيمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ قُوَّةٍ وَضَعْفٍ وَخَصْبٍ وَجَدْبٍ وَاخْتِلَافٍ وَوِفَاقٍ وَيُنْفِذُ مِنَ الْجَيْشِ مَنْ يُكَافِئُ الْعَدُوَّ فِي الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ وَالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ وَلِأَنَّهُمْ رُبَّمَا اضْطُرُّوا لِتَكَاثُرِ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ إِلَى مَدَدٍ فَيَمُدُّهُمْ، وَلِأَنَّهُمْ رُبَّمَا احْتَاجُوا إِلَى مَيْزَةٍ فَيُمَيِّزُهُمْ وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا عَرَفَ لِاتِّصَالِ الْأَخْبَارِ به من مكامن الْعَدُوِّ مَا سَدَّدَهُمْ.
فَبِهَذِهِ الْأُمُورِ وَنَظَائِرِهَا مَا مُنِعُوا مِنَ الْغَزْوِ إِلَّا بِأَمْرِهِ، فَإِذَا أَمَرَهُمْ بِالْغَزْوِ لَزِمَتْهُمْ طَاعَتُهُ وَإِجَابَتُهُ، فَإِنْ لَمْ يُطِيعُوهُ مَعَ ارْتِفَاعِ الْمَوَانِعِ سَقَطَتْ أَرْزَاقُهُمْ؛ لِأَنَّ مَا يُرْزَقُونَ مِنَ الْعَطَاءِ فِي مُقَابَلَةِ مَا يَأْخُذُونَ بِهِ مِنَ الْجِهَادِ، فَإِذَا قَعَدُوا عَنْهُ بَعْدَ الْأَمْرِ سَقَطَ مَا يُعْطَوْنَهُ عَلَيْهِ مِنَ الرِّزْقِ كَالزَّوْجَاتِ لَمَّا اسْتَحَقُّوا نَفَقَاتِهِمْ بِالطَّاعَةِ سَقَطَتْ بِالنُّشُوزِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَفْسِرَ مِنَ الْجِهَادِ مَعَ الْمُكْنَةِ اتِّبَاعًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَاقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَتَحْقِيقًا لِوَعْدِهِ تَعَالَى وَإِظْهَارًا عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَأَقَلُّ مَا عَلَيْهِ أَنْ يَغْزُوَ فِي كُلِّ عام إِمَّا بِنَفْسِهِ أَوْ خُلَفَائِهِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا تَرَكَهُ فِي كُلِّ عَامٍ مُنْذُ فُرِضَ عَلَيْهِ الْجِهَادُ، وَكَيْ لَا يَمْضِيَ عَطَاءُ الْعَامِ هَدَرًا، وَكَيْ لَا يَقْوَى الْعَدُوُّ بِالْمُشَارَكَةِ، وَكَيْ لَا يَأْلَفَ أَهْلُ الْجِهَادِ الرَّاحَةَ.
فَصْلٌ:
قَالَ الشافعي: الْإِمَامُ فِي إِغْزَائِهِمْ رَأْيُهُ: يَعْنِي: فِي الزَّمَانِ الَّذِي يَأْمُرُهُمْ بِالْغَزْوِ إِلَيْهِ وَالْعَدَدِ الَّذِي يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ، فَإِذَا أَرَادَ ذَلِكَ اخْتَارَ لَهُمْ مِنَ الزَّمَانِ أُولَاهُ، وَمِنَ الْمَكَانِ أَدْنَاهُ، وَيَنْدُبُ عَنْ كُلِّ طَائِفَةٍ إِلَى مَنْ يَلِيهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] وَلِأَنَّ كُلَّ قَوْمٍ بِمَنْ يَلِيهِمْ أَخْبَرُ، وَعَلَى قِتَالِهِمْ أَقْدَرُ وَمَا يَتَكَلَّفُونَهُ مِنَ الْمُؤْنَةِ فِي قِتَالِهِمْ أَيْسَرُ، فَلَا يُنْفَذُ أَهْلُ ثَغْرٍ إِلَى غَيْرِهِ إِلَّا لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ.
إِمَّا أَنْ يُسْلِمَ أَهْلُهُ فَيَنْقُلُهُمْ عَنْهُ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي لَمْ يُسَلِمْ أَهْلُهَا وَيَسْتَوْطِنُوا فِيمَا يُقَابِلُهَا وَيَلِيهَا.(8/449)
وَإِمَّا لِظُهُورِ قُوَّةٍ مِنْ عَدُوٍّ فِي غَيْرِ جِهَتِهِمْ، فَأَقْرَبُهَا عَلَى مَنْ بِإِزَائِهِمْ يَكُونُ هَؤُلَاءِ أَظْهَرُ عَلَى عَدُوِّهِمْ فَيَسْتَمِدُّ مِنْهُمْ مَنْ يَدْفَعُ بِهِمْ قُوَّةَ الْآخَرِينَ، ثُمَّ يَعُودُوا بَعْدَ الْفَرَاغِ إِلَى أَمَاكِنِهِمْ، فَإِذَا فَعَلَ الْإِمَامُ هَذَا بِهِمْ زَادَهُمْ نَفَقَةَ مَا تَكَلَّفُوهُ مِنْ زِيَادَةِ سَفَرِهِمْ، فَإِنْ تَزَايَدَتْ قُوَّةُ الْعَدُوِّ فِي إِحْدَى الْجِهَاتِ وَضَعُفَتْ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْجِهَاتِ عَنِ الْمُنَادَاةِ جَازَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْمَعَ عَلَى تِلْكَ الْجِهَةِ الْقَوِيَّةِ جَمِيعَ أَهْلِ الْفَيْءِ؛ لِأَنَّ فِي كَسْرِهَا كسر لِمَنْ هُوَ أَضْعَفُ مِنْهَا، وَلَيْسَ فِي كَسْرِ الْأَضْعَفِ كَسْرٌ إِلَيْهَا، وَيَفْعَلُ فِي إِعْطَاءِ الْمَنْقُولِ من زيادة النفقة ما ذكرنا.
مسألة:
قال الشافعي: " وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي إِعْطَاءِ الذُّرِّيَّةِ وَنِسَاءِ أَهْلِ الْفَيْءِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يُعْطَوْنَ وَأَحْسِبُ مِنْ حجتهم فإن لم تفعل فَمُؤنَتُهُمْ تَلْزَمُ رِجَالَهُمْ فَلَمْ يُعْطِهِمُ الْكِفَايَةَ فَيُعْطِيهِمْ كَمَالَ الْكِفَايَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِذَا أُعْطُوا وَلَمْ يُقَاتِلُوا فَلَيْسُوا بِذَلِكَ أَوْلَى مِنْ ذُرِّيَّةِ الْأَعْرَابِ وَنِسَائِهِمْ وَرِجَالِهِمُ الَّذِينَ لَا يُعْطَوْنَ مِنَ الْفَيْءِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
إِذَا مَاتَ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ مُرْتَزِقٌ وَخَلَفَ ذُرِّيَّةً لَمْ يُدْفَعْ إِلَيْهِ جَمِيعُ عَطَائِهِ، وَفِي إِعْطَائِهِمْ مِنْ قَدْرِ الْكِفَايَةِ، قَوْلَانِ حَكَاهُمَا الشَّافِعِيُّ خِلَافًا عَنْ أَصْحَابِهِ:
أَحَدُهُمَا: يُعْطَوْنَ مِنْ مَالِ الْفَيْءِ قَدْرَ كِفَايَتِهِمُ اعْتِبَارًا بِالْمَصْلَحَةِ فِي تَرْغِيبِ أَهْلِ الفيء في الجهاد، ثقة لحفظ الذرية وإلا يتشاغلوا عنه بطلب الكسب لمن يخلفون، أو يجبنوا عن الْجِهَادِ فَلَا يُقْدِمُونَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ لَا يُعْطَوْنَ؛ لِأَنَّ مَا اسْتُحِقَّ بِهِ الْعَطَاءُ وَهُوَ إِرْصَادُ النَّفْسِ لِلْجِهَادِ مَفْقُودٌ فِيهِمْ، وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا تَبَعًا فَإِذَا بَطَلَ حُكْمُ الْمَتْبُوعِ بَطَلَ حُكْمُ التَّابِعِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: إِنْ كَانَ فِي الذُّرِّيَّةِ مِنْ أَصَاغِرِ الذُّكُورِ يُرْجَى أَنْ يكون أَهْلِ الْفَيْءِ إِذَا بَلَغَ أُعْطُوا قَدْرَ الْكِفَايَةِ، وَإِلَّا مُنِعُوا فَامْتَنَعَ قَائِلُ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ تَخْرِيجِ الْقَوْلَيْنِ وَخَرَّجَهُ عَلَى اخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ، وَحَكَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الدَّقَّاقِ.
فَإِذَا قِيلَ: إِنَّهُمْ لَا يُعْطَوْنَ اعْتُبِرَتْ أَحْوَالُهُمْ، فَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ فَلَا حَقَّ لَهُمْ فِي مَالِ الْفَيْءِ وَلَا فِي مَالِ الصَّدَقَاتِ، وَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ صَارُوا مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ وَأُعْطُوا مِنْهَا مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ.
وَإِذَا قِيلَ: إِنَّهُمْ يُعْطَوْنَ قَدْرَ الْكِفَايَةِ فَسَوَاءً كَانُوا أَغْنِيَاءَ ذَوِي كِفَايَةٍ أَوْ فُقَرَاءَ ذَوِي حَاجَةٍ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُمْ لِمَنْ كَانَتْ نَفَقَتُهُ وَاجِبَةً عَلَى مَيِّتِهِمْ مِنْ أَوْلَادِهِ الْأَصَاغِرِ وَزَوْجَاتِهِ مَا لَمْ يَتَزَوَّجْنَ وَأَقَمْنَ عَلَى رِعَايَةِ الزَّوْجِ فِي حِفْظِ ذُرِّيَّتِهِ، فَإِنْ تَزَوَّجْنَ قُطِعَ عَطَاؤُهُنَّ فَإِذَا بَلَغَ الْأَوْلَادُ خَرَجُوا بِالْبُلُوغِ مِنْ جُمْلَةِ الذُّرِّيَّةِ، فَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ أُثْبِتُوا فِي دِيوَانِهِ وَصَارُوا بِأَنْفُسِهِمْ مُرْتَزِقِينَ وَتَبِعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ، وَإِنْ عَدَلُوا عَنْ أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ رَغْبَةً فِي غَيْرِهِ فَلَا حَقَّ لَهُمْ فِي مَالِ الْفَيْءِ لَا تَبَعًا وَلَا مَتْبُوعِينَ لِخُرُوجِهِمْ مِنَ الذُّرِّيَّةِ بِالْبُلُوغِ وَمِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ بِالْعُدُولِ عَنْهُ وَاللَّهُ أعلم.(8/450)
مسألة:
قال الشافعي: " حَدَّثَنِي سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَا أَحَدٌ إِلَّا وَلَهُ فِي هَذَا الْمَالِ حَقٌّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أيمانكم أعطيه أو منعه (قال الشافعي) وهذا الحديث يحتمل معاني منها أن نقول ليس أحد بمعنى حاجة من الصدقة أو بمعنى أنه من أهل الفيء الذين يغزون إلا وله في مال الفيء أو الصدقة حق وكان هذا أولى معانيه به فإن قيل ما دل على هذا؟ قيل قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في الصدقة " لا حظ فيها لغني ولا لذي مرة مكتسب " والذي أحفظ عن أهل العلم أن الأعراب لا يعطون من الفيء (قال) وقد روينا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ أهل الفيء كانوا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بمعزل عن أهل الصدقة وأهل الصدقة بمعزل عن أهل الفيء ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنْ قِيلَ فَكَيْفَ تَأْوِيلُ هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَكُمْ وَمِنْ مَذْهَبِكُمْ أَنَّ أَهْلَ الْفَيْءِ لَا يَأْخُذُونَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ، وَأَهْلُ الصَّدَقَاتِ، لَا يَأْخُذُونَ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ، قِيلَ فِيهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى مَالِ بَيْتِ الْمَالِ الْجَامِعِ لِمَالِ الْفَيْءِ وَمَالِ الصَّدَقَاتِ، وَالنَّاسُ صِنْفَانِ: أَغْنِيَاءُ وَحَقُّهُمْ فِي مَالِ الْفَيْءِ وَفُقَرَاءُ وَحَقُّهُمْ فِي مَالِ الصَّدَقَةِ، أَمَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ مِنَ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ فَلَا حَقَّ لَهُمْ فِي الْمَالَيْنِ جَمِيعًا.
وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى مَالِ الْفَيْءِ وَحْدَهُ وَلَيْسَ أَحَدٌ إِلَّا وَلَهُ فِيهِ حَقٌّ، أَمَّا الْفُقَرَاءُ فَفِيهِ خُمُسُهُ مِنْ سَهْمِ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَبَنِي السَّبِيلِ، وَأَمَّا الْأَغْنِيَاءُ فَفِي أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهِ فَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ فَالْعَطَاءُ وَإِنْ كَانُوا مِنْ غَيْرِهِمْ فَمِنَ الْمَصَالِحِ، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي نَجْعَلُهُ مَصْرُوفًا فِي الْمَصَالِحِ.
وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى مَالِ الْفَيْءِ، لِأَنَّهُ إِنِ اخْتُصَّ بِأَهْلِ الْفَيْءِ فَنَفْعُهُ عَائِدٌ إِلَى غَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ، لَذَبِّ أَهْلِ الْفَيْءِ عَنْهُمْ وَقِيَامِهِمْ بِالْجِهَادِ الَّذِي بِهِ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْهُمْ، فَصَارَ الْمَالُ الْمَصْرُوفُ إِلَى مَنْ قَامَ بِغَرَضِ الْجِهَادِ عَنْهُمْ كَالْمَصْرُوفِ إِلَيْهِمْ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي جعله ملكا للجيش خاصة.
مسألة:
قال الشافعي: " وَالْعَطَاءُ الْوَاجِبُ فِي الْفَيْءِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِبَالِغٍ يُطِيقُ مِثْلُهُ الْقِتَالَ (قَالَ) ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عُرِضْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَامَ أُحُدٍ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَرَدَّنِي وَعُرِضْتُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَنِي وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ هَذَا فَرْقٌ بَيْنَ الْمُقَاتِلَةِ وَالذُّرِّيَّةِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.(8/451)
لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ فِي أَهْلِ الْفَيْءِ إِلَّا مَنِ اسْتَكْمَلَ شُرُوطَ الْجِهَادِ فَصَارَ مِنْ أَهْلِهِ، فَحِينَئِذٍ يُثْبِتُ نَفْسَهُ فِي دِيوَانِ الْفَيْءِ وَيُفْرَضُ لَهُ مِنَ الْعَطَاءِ قَدْرُ كِفَايَتِهِ، وَشُرُوطُ الْجِهَادِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ فَرْضُ الْجِهَادِ بِهَا وَيَجُوزُ الدخول في أهل الفيء معها ستة وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا بَالِغًا عَاقِلًا حُرًّا مُسْلِمًا قَادِرًا عَلَى الْقِتَالِ، فَإِنْ أَخَلَّ بِشَرْطٍ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ وَلَا مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ فِي أَهْلِ الْفَيْءِ، وَإِنِ اسْتَكْمَلَهَا صَارَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَتَوَجَّهُ الْفَرْضُ إِلَيْهِ إِلَّا بِالِاسْتِطَاعَةِ، لِجَوَازِ أَنْ يَدْخُلَ فِي أَهْلِ الْفَيْءِ مَعَ عَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَطِيعُ بِعَطَائِهِ إِذَا أَخَذَهُ على القتال إذا ندب.
مسألة:
قال الشافعي: " فَإِنْ كَمَّلَهَا أَعْمَى لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِتَالِ أَبَدًا أَوْ مَنْقُوصُ الْخَلْقِ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِتَالِ أَبَدًا لَمْ يُفْرَضْ لَهُ فَرْضُ الْمُقَاتِلَةِ وَأُعْطِيَ عَلَى كِفَايَةِ الْمَقَامِ وَهُوَ شَبِيهٌ بِالذُّرِّيَّةِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
إِذَا بَلَغَ الصِّغَارُ مِنْ ذُرِّيَّةِ أَهْلِ الْفَيْءِ بِالِاحْتِلَامِ أَوْ بِاسْتِكْمَالِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً لَمْ يَخْلُ حَالُهُمْ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونُوا قَادِرِينَ عَلَى الْقِتَالِ أَوْ عَاجِزِينَ عَنْهُ، فَإِنْ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَيْهِ خَرَجُوا مِنْ جُمْلَةِ الذُّرِّيَّةِ سَوَاءً كَانُوا مِنْ ذُرِّيَّةِ أَمْوَاتٍ أَوْ أَحْيَاءٍ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ جَعَلَ الْبُلُوغَ فَرْقًا بَيْنَ الذُّرِّيَّةِ وَالْمُقَاتِلَةِ، وَلِأَنَّ بُلُوغَ الذُّرِّيَّةِ يُسْقِطُ نَفَقَاتِهِمْ عَنِ الْمُقَاتِلَةِ فَخَرَجُوا مِنْ جُمْلَةِ الذُّرِّيَّةِ، ثُمَّ هُمْ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَكْتُبُوا أَنْفُسَهُمْ فِي دِيوَانِ الْفَيْءِ فَيَكُونُوا مِنْ أَهْلِهِ، وَبَيْنَ أَنْ لَا يَفْعَلُوا فَيُمْنَعُوا مِنَ الْفَيْءِ، وَيَصِيرُوا مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ وَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ وَإِنْ بَلَغُوا عَاجِزِينَ عَلَى الْقِتَالِ لِعَمًى أَوْ زَمَانَةٍ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُثْبَتُوا فِي دِيوَانِ الْفَيْءِ مُنْفَرِدِينَ وَهَلْ يُبْقَوْا عَلَى حُكْمِ الذُّرِّيَّةِ فِي إِعْطَائِهِمْ مَالَ الْفَيْءِ تَبَعًا أَمْ لَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ بَاقُونَ عَلَى حُكْمِ الذَّرَارِي فِي مَنْعِهِمْ مِنْ مَالِ الصَّدَقَةِ وَإِعْطَائِهِمْ قَدْرَ الْكِفَايَةِ بَيْنَ مَالِ الْفَيْءِ، سَوَاءً كَانُوا ذُرِّيَّةً لِأَحْيَاءٍ أَوْ لِأَمْوَاتٍ، اسْتِصْحَابًا لِمَا تَقَدَّمَ فِي حُكْمِهِمْ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ قَدْ خَرَجُوا فِي حُكْمِ الذَّرَارِي لِتَمَيُّزِهِمْ بِالْبُلُوغِ، وَيُعْدَلُ بِهِمْ إِلَى مَالِ الصَّدَقَاتِ إِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِهَا، وَسَوَاءً كَانُوا ذُرِّيَّةً لِأَحْيَاءٍ أَوْ لِأَمْوَاتٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ إِنْ كَانُوا مِنْ ذُرِّيَّةِ أَمْوَاتٍ مُنِعُوا مِنْ مَالِ الْفَيْءِ وَعُدِلَ بِهِمْ إِلَى مَالِ الصَّدَقَاتِ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ ذُرِّيَّةِ أَحْيَاءٍ بَقَوْا فِي مَالِ الْفَيْءِ عَلَى حُكْمِ الذَّرَارِي وَمُنِعُوا مَالَ الصَّدَقَاتِ، لِأَنَّ الْحَيَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَتْبُوعًا فِي مَالِ الْفَيْءِ لِبَقَاءِ عَطَائِهِ، وَالْمَيِّتَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَتْبُوعًا فِيهِ لِسُقُوطِ عَطَائِهِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنْ يُنْظَرَ فَإِنْ كَانَ الَّذِي أَقْعَدَهُمْ عَنِ الْقِتَالِ مُوجِبًا لِنَفَقَاتِهِمْ عَلَى الْآبَاءِ بَعْدَ بُلُوغِهِمْ، كَوُجُوبِهَا عَلَيْهِمْ فِي صِغَرِهِمْ كَالْجُنُونِ وَالزَّمَانَةِ الْمَانِعَةِ مِنَ الِاكْتِسَابِ بَقُوا عَلَى حُكْمِ الذَّرَارِي فِي مَالِ الْفَيْءِ، وَلَمْ يُعْدَلْ بِهِمْ إِلَى مَالِ الصَّدَقَاتِ سَوَاءً كَانُوا ذُرِّيَّةَ أَحْيَاءٍ أَوْ أَمْوَاتٍ؛ لِأَنَّ بقاء حكمهم في وجوب النفقة موجبا لبقائهم(8/452)
عَلَى حُكْمِ الذُّرِّيَّةِ فِي مَالِ الْفَيْءِ وَإِنْ كَانَ مَا أَعْجَزَهُمْ عَنِ الْقِتَالِ لَا يُوجِبُ نَفَقَاتِهِمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ لِقُدْرَتِهِمْ عَلَى الِاكْتِسَابِ مَعَ الْعَجْزِ عَنِ الْقِتَالِ خَرَجُوا عَنْ حُكْمِ الذُّرِّيَّةِ فِي مَالِ الْفَيْءِ، وَعُدِلَ بِهِمْ إِلَى مَالِ الصَّدَقَاتِ، إِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِهَا سَوَاءً كَانُوا ذُرِّيَّةَ أَحْيَاءٍ أَوْ أَمْوَاتٍ، لِأَنَّ سُقُوطَ نَفَقَتِهِمْ بِالْبُلُوغِ تُخْرِجُهُمْ عَنْ حُكْمِ الذُّرِّيَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مسألة:
قال الشافعي: " فَإِنْ فُرِضَ لِصَحِيحٍ ثُمَّ زَمِنَ خَرَجَ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ وَإِنْ مَرِضَ طَوِيلًا يُرْجَى أُعْطِيَ كَالْمُقَاتِلَةِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا مَرِضَ أَحَدُ الْمُقَاتِلَةِ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ لَمْ يَخْلُ حَالُ مَرَضِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ يجرى مِنَ اللَّهِ زَوَالُهُ، أَوْ لَا يُرْجَى فَإِنْ كَانَ زَوَالُهُ مَرْجُوًّا كَانَ عَلَى حَقِّهِ فِي الْعَطَاءِ سَوَاءً أَكَانَ مَرَضًا مُخَوِّفًا أَمْ غَيْرَ مُخَوِّفٍ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَاضَ تَنَاوَبُ وَلَا تَنْفَكُّ الْأَبْدَانُ مِنْهَا فِي الْغَالِبِ، وَإِنْ كَانَ الْمَرَضُ مِمَّا لَا يُرْجَى زَوَالُهُ كَالْعَمَى وَالْفَالَجِ سَقَطَ عَطَاؤُهُ فِي الْمُقَاتِلَةِ بِخُرُوجِهِ مِنْهَا بِالْعَجْزِ عَنِ الْقِتَالِ، وَصَارَ كَالذُّرِّيَّةِ إِذَا انْفَرَدُوا، فَهَلْ يُعْطَى كِفَايَتُهُ مِنْ مَالِ الْفَيْءِ، أَوْ يُعْدَلُ بِهِ إِلَى مَالِ الصَّدَقَةِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُعْطَى مِنْ مَالِ الْفَيْءِ قَدْرَ كِفَايَتِهِ كَالذُّرِّيَّةِ فَيَكُونُ حَقُّهُ فِي أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُعْطَى مِنْ مَالِ الْفَيْءِ فَيُمْنَعُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهِ، ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَتْ زَمَانَتُهُ بِمَرَضٍ عُدِلَ إِلَى مَالِ الصَّدَقَاتِ، وَإِنْ كَانَتْ زَمَانَتُهُ عن جِرَاحٍ نَالَتْهُ فِي الْقِتَالِ، فَهَلْ يُعْدَلُ بِهِ إِلَى مَالِ الصَّدَقَاتِ، أَوْ إِلَى سَهْمِ الْمَسَاكِينِ مِنْ خُمُسِ الْفَيْءِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُعْدَلُ بِهِ إِلَى سَهْمِ الْمَسَاكِينِ مِنْ خُمُسِ الْفَيْءِ، وَيُمَيَّزُ عَنْ مَسَاكِينِ الصَّدَقَاتِ اسْتِيفَاءً لِحُكْمِ الْفَيْءِ فِيهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُعْدَلُ بِهِ إِلَى مَالِ الصَّدَقَاتِ، كَالذي زَمَانَتُه بِمَرَضٍ وَاللَّهُ أعلم.
مسألة:
قال الشافعي: " وَيُخْرَجُ الْعَطَاءُ لِلْمُقَاتِلَةِ كُلَّ عَامٍ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ وَالذُّرِّيَّةِ عَلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا كَانَ مَالُ الْفَيْءِ لَا يَجِيءُ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فِي كُلِّ عَامٍ لَمْ يُجْعَلِ الْعَطَاءُ إِلَّا مَرَّةً فِي كُلِّ عَامٍ، فِي وَقْتٍ مِنْهُ مَعْلُومٍ يَتَقَدَّرُ بِاسْتِكْمَالِ الْمَالِ فِيهِ، وَأَوْلَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فِي الْمُحَرَّمِ إِذَا أَمْكَنَ، وَإِنْ كَانَ مَالُ الْفَيْءِ يُحَصَّلُ فِي مَرَّتَيْنِ مِنْ كُلِّ عَامٍ أَوْ مرارا لم ينبغي أَنْ يُجْعَلَ الْعَطَاءُ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّتَيْنِ فِي كُلِّ عَامٍ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَشَاغُلِ الْمُجَاهِدِينَ بِالِاقْتِضَاءِ، وَتَشَاغُلِ الْإِمَامِ بِالْعَطَاءِ، ثُمَّ يَنْظُرُ الْإِمَامُ فِي أَرْفَقِ الْأَمْرَيْنِ بِهِ وَبِالْجَيْشِ، فَإِنْ كَانَ الأرفق أصلح أَنْ يَجْعَلَهُ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً لِبُعْدِ الْمَغْزَى أَوْ طُولِ الْمُدَّةِ فَعَلَ، وَإِنْ كَانَ الْأَرْفَقُ الْأَصْلَحُ أَنْ يَجْعَلَهُ فِي مَرَّتَيْنِ مِنْهَا صَيْفًا وَشِتَاءً، كَيْ لَا يَتَشَاغَلَ بِحِفْظِ الْمَالِ إِذَا اسْتَبْقَاهُ وَلَا يَسْتَبْطِئُ الْجَيْشُ مَعَ قُرْبِ الْمَغْزَى وَبُعْدِ مَدَاهُ فَعَلَ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: لَا يَنْظُرُ الْإِمَامُ فِي(8/453)
ذَلِكَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَهُ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ كُلِّ عَامٍ وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّهُ كَالزَّكَاةِ لَا تَجِبُ فِي الْعَامِ إِلَّا مَرَّةً فَلَمَ يَجُزْ أَنْ يُفَرَّقَ فِي الْعَامِ إِلَّا مَرَّةً، وَفِي الْفَيْءِ مَا قَدْ يُحَصَّلُ فِي السَّنَةِ بِأَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، فَجَازَ أَنْ يُفَرَّقَ فِي الْعَامِ فِي أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ والله أعلم بالصواب.
مسألة:
قال الشافعي: " وَإِذَا صَارَ مَالُ الْفَيْءِ إِلَى الْوَالِي ثُمَّ مَاتَ مَيِّتٌ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ عَطَاءَهُ أُعْطِيَهُ وَرَثَتُهُ فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ إِلَيْهِ مَالُ ذَلِكَ الْعَامِ لَمْ يُعْطَهُ وَرَثَتُهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْعَطَاءِ يَكُونُ بِحُصُولِ مَالِ الْفَيْءِ وَأَدَاؤُهُ يَجِبُ بِحُلُولِ وَقْتِ الْعَطَاءِ.
وَقَالَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: اسْتِحْقَاقُهُ وَأَدَاؤُهُ يَكُونَانِ مَعًا بِحُلُولِ وَقْتِ الْعَطَاءِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِحُصُولِ الْمَالِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَالْأَدَاءِ، وَهَذَا مَعَ كَوْنِهِ مُخَالِفًا لِنَصِّ الشَّافِعِيِّ خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَا لَمْ يَجِبْ عَلَى مُؤَدِّيهِ لَمْ يَجِبْ بِمُسْتَوْفِيهِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَحِلَّ وَقْتُ الْعَطَاءِ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِ مَالِ الْفَيْءِ عَلَى أَهْلِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَطَاءَ يَتَعَلَّقُ اسْتِحْقَاقُهُ بِعَيْنٍ لَا بِذِمَّةٍ وَفِي اعْتِبَارِ وُجُوبِهِ بِالْوَقْتِ دُونَ الْمَالِ نَقْلٌ لَهُ مِنَ الْعَيْنِ إِلَى الذِّمَّةِ، فَبَطَلَ تَقْدِيرُ مَا اعْتَبَرَهُ.
وَإِذَا كَانَ حُصُولُ الْمَالِ مُعْتَبَرًا فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ حُصُولَهُ هُوَ قَبْضُهُ مِنْ أَهْلِهِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: حُصُولُهُ هُوَ حُلُولُ وُجُوبِهِ عَلَى أَهْلِهِ.
وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّهُ قَدْ يَحِلُّ وُجُوبُهُ وَلَا يَحْصُلُ بِمَوْتٍ وَإِعْسَارٍ، فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا، لَمْ يَخْلُ حَالُ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ قَبْلَ حُصُولِ الْمَالِ وَقَبْلَ حُلُولِ وَقْتِ الْعَطَاءِ، فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لَا يَكُونُ حَقُّهُ فِيهِ ثَابِتًا.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ بَعْدَ حُصُولِ الْمَالِ وَبَعْدَ حُلُولِ وَقْتِ الْعَطَاءِ، فَحَقُّهُ فِيهِ ثَابِتٌ وَهُوَ لِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ لئلا يختلفوا.
القسم الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ بَعْدَ حُصُولِ الْمَالِ وَقَبْلَ حُلُولِ وَقْتِ الْعَطَاءِ، فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يَكُونُ حَقُّهُ ثَابِتًا فِيهِ يَنْتَقِلُ عَنْهُ إِلَى وَرَثَتِهِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ بَعْدَ حُلُولِ وَقْتِ الْعَطَاءِ وَقَبْلَ حُصُولِ الْمَالِ، فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَامِدٍ يَكُونُ حَقُّهُ فيه ثابتا يورث عنه.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن فضل من الفيء شيء بعد ما وَصَفْتُ مِنْ إِعْطَاءِ الْعَطَايَا وَضَعَهُ الْإِمَامُ فِي إِصْلَاحِ الْحُصُونِ وَالِازْدِيَادِ فِي السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ وَكُلِّ ما قوي(8/454)
بِهِ الْمُسْلِمُونَ فَإِنِ اسْتَغْنَوْا عَنْهُ وَكَمُلَتْ كُلُّ مَصْلَحَةٍ لَهُمْ فُرِّقَ مَا يَبْقَى مِنْهُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّونَ فِي ذَلِكَ الْمَالِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي مَالِ الْفَيْءِ إِذَا حُصِّلَ أَنْ يَبْدَأَ مِنْهُ بَعْدَ إِخْرَاجِ خُمُسِهِ بِأَرْزَاقِ الْجَيْشِ، لِأَنَّهُ إِنْ قِيلَ إِنَّهُ لِلْجَيْشِ خَاصَّةً فَلَا شَرِيكَ لَهُمْ فِيهِ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ لِلْمَصَالِحِ فَمِنْ أَهَمِّهَا أَرْزَاقُ الْجَيْشِ، فَإِنْ كَانَ بِقَدْرِ أَرْزَاقِهِمْ لَمْ يَفْضُلْ مِنْهُ مَتَى أُعْطُوا جَمِيعَهُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْزَاقِهِمْ وَكَانَ يَفْضُلُ مِنْ بَعْدِ إِعْطَاءِ جَمِيعِهِمْ فَضْلٌ فَمَصْرِفُ الْفَضْلِ مُعْتَبَرٌ بِاخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَصْرِفِ الْفَيْءِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ لِلْجَيْشِ خَاصَّةً وَاسْتَوْفَوْا مِنْهُ قَدْرَ أَرْزَاقِهِمْ رَدَّ الْفَاضِلَ عَلَيْهِ بِقِسْطِ أَرْزَاقِهِمْ، وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُصْرَفَ مِنَ الْفَضْلِ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ وَإِصْلَاحِ الْحُصُونِ وَالثُّغُورِ مَا دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ استحقاقهم لَهُ كَالْغَنِيمَةِ.
وَالثَّانِي: يَجُوزُ، لِأَنَّهُ مَعُونَةٌ لَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ تَكَلَّفُوهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، فَيَبْدَأُ بَعْدَ أَرْزَاقِهِمْ بِشِرَاءِ مَا احْتِيجَ إِلَيْهِ مِنَ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ وَإِصْلَاحِ مَا تَشَعَّثَ مِنَ الْحُصُونِ وَالثُّغُورِ، ثُمَّ رَدِّ مَا فَضَلَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ مَصْرُوفٌ فِي الْمَصَالِحِ قَدَّمَ الْجَيْشَ مِنْهُ بِقَدْرِ أَرْزَاقِهِمْ، وَصُرِفَ الْفَضْلُ فِي الْكُرَاعِ والسلاح وَمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ إِصْلَاحِ الْحُصُونِ وَالثُّغُورِ، فَإِنْ فَضَلَ مِنْهُ بَعْدَ الْمَصَالِحِ كُلِّهَا فَضْلٌ فَفِي رَدِّهِ عَلَى الْجَيْشِ، وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُسْتَبْقَى فِي بَيْتِ الْمَالِ وَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ قَدْ يَتَجَدَّدُ مِنْ وُجُوهِ الْمَصَالِحِ مَا يَكُونُ ذَلِكَ مُعَدًّا لَهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ يُرَدُّ عَلَى الْجَيْشِ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ الْمَصَالِحِ، بِقِسْطِ أَرْزَاقِهِمْ وَلَا يُسْتَبْقَى لِمَصْلَحَةٍ لَمْ يُعْلَمْ بِهَا مَعَ ظُهُورِ المصلحة في اتساع الجيش بِهَا، وَلِمَا رَوَى عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ حَلَفَ فِي الْمَالِ الْمَحْمُولِ مِنْ فَارِسَ أَنَّهُ لَا يَأْوِي تَحْتَ سَقْفٍ حَتَّى يُقَسِّمَهُ، وَلِمَا رُوِيَ عَنْهُ فِي أَهْلِ الرَّمَادَةِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَدِ اسْتَبْقَى لَهُمْ فِي بيت المال ما يسد بهم خَلَّتَهُمْ، حَتَّى انْتَظَرَ بِهِمْ مَا يَأْتِي مِنْ مَالٍ بَعْدَ مَالٍ إِلَى أَنِ اسْتَقَلُّوا فَرَحَلُوا، فَعَلَى هَذَا فِي حُكْمِ رَدِّهِ عَلَيْهِمْ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ يُرَدُّ عَلَيْهِمْ مَعُونَةً لَهُمْ لَا يُحْتَسَبُ بِهَا عَلَيْهِمْ.
وَالثَّانِي: يُرَدُّ عَلَيْهِمْ سَلَفًا مُعَجَّلًا، يُحْتَسَبُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ رِزْقِ الْعَامِ القابل والله أعلم.
مسألة:
قال الشافعي: " وَإِنْ ضَاقَ عَنْ مَبْلَغِ الْعَطَاءِ فَرَّقَهُ بَيْنَهُمْ بَالِغًا مَا بَلَغَ لَمْ يُحْبَسْ عَنْهُمْ مِنْهُ شَيْءٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا ضَاقَ مَالُ الْفَيْءِ عَنْ أَرْزَاقِ الْجَيْشِ وَجَبَ أَنْ يُقَسِّمَهُ بَيْنَ جَمِيعِهِمْ عَلَى قَدْرِ أَرْزَاقِهِمْ، كَمَا لَوْ ضَاقَتْ أَمْوَالُ الْمُفْلِسِ عَنْ دُيُونِ غُرَمَائِهِ قُسِّمَ بَيْنَهُمْ على قدر(8/455)
دُيُونِهِمْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ ذَلِكَ بَعْضَ الْجَيْشِ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ ذَلِكَ مَالَ الْمُفْلِسِ بَعْضَ الْغُرَمَاءِ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الِاسْتِحْقَاقِ، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي الْبَاقِي مِنْ أَرْزَاقِهِمْ.
فَإِنْ قيل إن مال الفيء لِلْجَيْشِ سَقَطَ الْبَاقِي مِنْ أَرْزَاقِهِمْ وَلَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَقْضُوهُ مِنْ عَامٍ قَابِلٍ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُعَوِّضَهُمْ مِنَ الْغَنَائِمِ مَا يُتَمِّمُونَ بَاقِي كِفَايَاتِهِمْ.
وَإِنْ قِيلَ إِنَّ مَالَ الْفَيْءِ مَصْرُوفٌ فِي الْمَصَالِحِ كَانَ الْبَاقِي مِنْ أَرْزَاقِ الْجَيْشِ، دَيْنًا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ يَقْضُونَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَإِنْ عَوَّضُوهُمْ بِمَغْنَمٍ قبله كان أولى.
مسألة:
قال الشافعي: " وَيُعْطَى مِنَ الْفَيْءِ رِزْقُ الْحُكَّامِ وَوُلَاةِ الْأَحْدَاثِ وَالصَّلَاةِ لِأَهْلِ الْفَيْءِ وَكُلُّ مَنْ قَامَ بِأَمْرِ أَهْلِ الْفَيْءِ مِنْ وَالٍ وَكَاتِبٍ وَجُنْدِيٍّ مِمَّنْ لَا غَنَاءَ لِأَهْلِ الْفَيْءِ عَنْهُ رِزْقُ مِثْلِهِ فإن وجد من يغني غناءه وكان أمينا بأقل لم يزد أحدا على أقل ما يجد لأن منزلة الوالي من رعيته منزلة والي اليتيم من ماله لا يعطى منه عن الغناء لليتيم إلا أقل ما يقدر عليه ومن ولي على أهل الصدقات كان رزقه مما يؤخذ منها لا يعطى من الفيء عليها كما لا يعطى من الصدقات على الفيء (قال) واختلف أصحابنا وغيرهم في قسم الفيء وذهبوا مذاهب لا أحفظ عنهم تفسيرها ولا أحفظ أيهم قال ما أحكي من القول دون من خالفه وسأحكي ما حضرني من معاني كل من قال في الفيء شيئا فمنهم من قال هذا المال لله تعالى دل على من يعطاه فإذا اجتهد الوالي ففرقه في جميع من سمى له على قدر ما يرى من استحقاقهم بالحاجة إليه وإن فضل بعضهم على بعض في العطاء فذلك تسوية إذا كان ما يعطى كل واحد منهم سد خلته ولا يجوز أن يعطي صنفا منهم ويحرم صنفا ومنهم من قال إذا اجتمع المال نظر في مصلحة المسلمين فرأى أن يصرف المال إلى بعض الأصناف دون بعض فإن كان الصنف الذي يصرفه إليه لا يستغني عن شيء مما يصرفه إليه وكان أرفق بجماعة المسلمين صرفه وحرم غيره ويشبه قول الذي يقول هذا أنه إن طلب المال صنفان وكان إذا حرمه أحد الصنفين تماسك ولم يدخل عليه خلة مضرة وإن ساوى بينه وبين الآخر كانت على الصنف الآخر خلة مضرة أعطاه الذين فيهم الخلة المضرة كله (قال) ثم قال بعض من قال إذا صرف مال الفيء إلى ناحية فسدها وحرم الأخرى ثم جاءه مال آخر أعطاها إياه دون الناحية التي سدها فكأنه ذهب إلى أنه إنما عجل أهل الخلة وأخر غيرهم حتى أوفاهم بعد (قال) ولا أعلم أحدا منهم قال يعطى من يعطى من الصدقات ولا مجاهدا من الفيء وقال بعض من أحفظ عنه وإن أصابت أهل الصدقات سنة فهلكت أموالهم أنفق عليهم من الفيء فإذا استغنوا عنه منعوا الفيء ومنهم من قال في مال الصدقات هذا القول يرد بعض مال أهل الصدقات (قال الشافعي) رحمه الله: والذي أقول به وأحفظ(8/456)
عمن أرضى ممن سمعت أن لا يؤخر المال إذا اجتمع ولكن يقسم فإن كانت نازلة من عدو وجب على المسلمين القيام بها وإن غشيهم عدو في دارهم وجب النفير على جميع من غشيه أهل الفيء وغيرهم (قال الشافعي) رحمه الله أخبرنا غير واحد من أهل العلم أنه لما قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مال أصيب بالعراق فقال له صاحب بيت المال ألا ندخله بيت المال؟ قال لا ورب الكعبة لا يأوي تحت سقف بيت حتى أقسمه فأمر به فوضع في المسجد ووضعت عليه الأنطاع وحرسه رجال من المهاجرين والأنصار فلما أصبح غدا معه العباس بن عبد المطلب وعبد الرحمن بن عوف آخذا بيد أحدهما أو أحدهما أخذ بيده فلما رأوه كشفوا الأنطاع عن الأموال فرأى منظرا لم ير مثله الذهب فيه والياقوت والزبرجد واللؤلؤ يتلألأ فبكى فقال له أحدهما إنه والله ما هو بيوم بكاء لكنه والله يوم شكر وسرور فقال إني والله ما ذهبت حيث ذهبت ولكن والله ما كثر هذا في قوم قط إلا وقد بأسهم بينهم ثم أقبل على القبلة ورفع يديه إلى السماء وقال اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرجا فإني أسمعك تقول: " سنستدرجهم من حيث لا يعلمون " ثم قال أين سراقة بن جعشم؟ فأتي به أشعرالذراعين دقيقهما فأعطاه سواري كسرى وقال البسهما ففعل فقال قل الله أكبر فقال الله أكبر قال فقل الحمد لله الذي سلبهما كسرى ابن هرمز ونظر وألبسهما سراقة بن جعشم أعرابيا من بني مدلج، وإنما ألبسه إياهما لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال لسراقة ونظر إلى ذراعه " كأني بك وقد لبست سوارى كسرى " ولم يجعل له إلا سواريه وجعل يقلب بعض ذلك بعضا ثم قال إن الذي أدى هذا لأمين فقال قائل أنا أخبرك أنك أمين الله وهم يؤدون إليك ما أديت إلى الله فإذا رتعت رتعوا قال صدقت ثم فرقه (قال الشافعي) وأخبرنا الثقة من أهل المدينة قال أنفق عمر رضي الله عنه على أهل الرمادة في مقامهم حتى وقع مطر فترحلوا فخرج عمر رضي الله عنه راكبا إليهم فرسا ينظر إليهم كيف يترحلون فدمعت عيناه فقال رجل من محارب خصفة أشهد أنها انحسرت عنك ولست بابن أمية فقال عمر رضي الله عنه ويلك ذاك لو كنت أنفق عليهم من مالي أو مال الخطاب إنما أنفق عليهم من مال الله عز وجل ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا أَرْزَاقُ الْجَيْشِ وَكُتَّابُهُمْ وَقُضَاتُهُمْ وَأَئِمَّتُهُمْ وَمُؤَذِّنِيهِمْ وَعُمَّالُهُمْ فَفِي أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ على قولين مَعًا، وَأَمَّا أَرْزَاقُ الْقُضَاةِ بَيْنَ الْكَافَّةِ وَوُلَاةِ الأحدايث وَهُمْ أَصْحَابُ الشُّرْطِ وَأَئِمَّةُ الْجَوَامِعِ وَالْمُؤَذِّنُونَ فِيهَا.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ مَصْرُوفٌ فِي الْمَصَالِحِ أُعْطُوا مِنْهَا أَرْزَاقَهُمْ.
وَإِنْ قِيلَ؛ إِنَّهُ مِلْكٌ لِلْجَيْشِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطَوْا مِنْهُ وَأُعْطُوا مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ مِنَ الْخُمُسِ وَهُوَ سَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمَصْرُوفُ بَعْدَهُ فِي وُجُوهِ الْمَصَالِحِ، وَإِذَا وَجَدَ الْإِمَامُ مُتَطَوِّعًا بِالْقَضَاءِ وَالْإِمَامَةِ وَالْأَذَانِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطِيَ عَلَيْهِ رِزْقًا وَإِذَا وَجَدَ مُرْتَزِقًا بِأَقَلَّ مِنْ أُجْرَةِ(8/457)
مِثْلِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُكْمِلَ لَهُ جَمِيعَ أُجْرَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إِلَّا مُسْتَوْفِيًا لِأُجْرَتِهِ وَفَّاهُ وَلَا يَزِيدُ عَلَى أُجْرَةِ مِثْلِهِ، لِأَنَّهُ فِي مَالِ الْمُسْلِمِينَ بِمَنْزِلَةِ الْوَلِيِّ فِي مَالِ الْيَتِيمِ.
فَأَمَّا عُمَّالُ الصَّدَقَاتِ فَأَرْزَاقُهُمْ مِنْهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرْزَقُوا مِنْ مَالِ الْفَيْءِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا، فَأَمَّا مَالُ الْفَيْءِ وَمَالُ الصَّدَقَاتِ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ وَمَصْرِفُهُمَا مُتَمَيِّزَانِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُشْرَكَ بَيْنَهُمَا وَلَا أَنْ يُعْدَلَ بِأَحَدِهِمَا إِلَى مَصْرِفِ الْآخَرِ، وَإِنْ خَالَفَ فِيهِ مَنْ قَهَرَهُ بِالدَّلِيلِ، وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ.(8/458)
بَابُ مَا لَمْ يُوجَفُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَرَضِينَ بخيل ولا ركاب
مسألة:
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " كُلُّ مَا صُولِحَ عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ بِغَيْرِ قِتَالِ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ فسبيله سبيل الفيء على قسمه وما كان من أَرَضِينَ وَدُورٍ فَهِيَ وَقْفٌ لِلْمُسْلِمِينَ يُسْتَغَلُّ وَيُقَسَّمُ عليهم في كل عام كذلك أبدا (قال) وأحسب ما ترك عمر رضي الله عنه من بلاد أهل الشرك هكذا أو شيئا استطاب أنفس من ظهر عليه بخيل وركاب فتركوه كما استطاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنفس أهل سبي هوازن فتركوا حقوقهم وفي حديث جرير بن عبد الله عن عمر رضي الله عنه أنه عوضه من حقه وعوض امرأته من حقها بميراثها كالدليل على ما قلت ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
لَا يَخْلُو مَالُ الْفَيْءِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَنْقُولًا أَوْ غَيْرَ مَنْقُولٍ، فَإِنْ كَانَ مَنْقُولًا كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْعُرُوضِ وَالسِّلَعِ قُسِمَ بَيْنَ أَهْلِ الْفَيْءِ بِوَضْعِ خُمُسِهِ فِي أَهْلِهِ وَأَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهِ فِي مُسْتَحِقِّهِ وَجَازَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الْعُرُوضَ إِذَا رَأَى ذَلِكَ صَلَاحًا بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِمَا لَهُ فِيهِ مِنَ الِاجْتِهَادِ إِلَّا سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ عَلَيْهِمْ إِلَّا بِإِذْنِهِمْ لِانْقِطَاعِ اجْتِهَادِهِ فِيهِ وَأَنَّهُ صَائِرٌ إِلَيْهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْمِيرَاثِ وَإِنْ كَانَ مَالُ الْفَيْءِ غَيْرَ مَنْقُولٍ كَالدُّورِ وَالْعَقَارِ وَالْأَرَضِينَ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ فَهِيَ وَقْفٌ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا تَكُونُ وَقْفًا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجْعَلُ مَصْرِفَ الْفَيْءِ فِي وُجُوهِ الْمَصَالِحِ لِمَا فِي وَقْفِهَا مِنِ اسْتِدَامَةِ الْمَصْلَحَةِ وَاسْتِدْرَارِ الْعِلَّةِ فِي كُلِّ عَامٍ، وَأَنَّهُ يَسْتَغِلُّهَا لِأَهْلِ الْفَيْءِ فِي كُلِّ عَصْرِهِ، فَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجْعَلُ مَالَ الْفَيْءِ مِلْكًا لِلْجَيْشِ خَاصَّةً فَلَا يَجُوزُ وَقْفُهَا إِلَّا بِإِذْنِهِمْ وَاخْتِيَارِهِمْ كَالْغَنِيمَةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ وَقْفُ دُورِهَا وَأَرَضِيهَا إِلَّا بِرِضَى الْغَانِمِينَ وَاخْتِيَارِهِمْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَالَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا إِنَّهَا تَصِيرُ وَقْفًا عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا، لِأَنَّ تَمْلِيكَ الْغَلَّةِ فِي كُلِّ عَامٍ أَمَدُّ وَأَنْفَعُ، وَلِأَنَّ أَهْلَ الْفَيْءِ قَامُوا فِي تَمَلُّكِهِ مَقَامَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَقِّهِ وَمَا مَلَكَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَحَقُّهُ مِنَ الْفَيْءِ وَقْفٌ، فَكَذَلِكَ مَا مَلَكَهُ الْجَيْشُ بَعْدَهُ فَصَارَ الْحُكْمُ فِيهِ أَنْ يَصِيرَ وَقْفًا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَجْعَلُ مَصْرِفَهُ فِي وُجُوهِ الْمَصَالِحِ وَهُوَ يَصِيرُ وَقْفًا عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّهُ مِلْكٌ لِلْجَيْشِ خَاصَّةً أَمْ لَا؟ على وجهين.(8/459)
فَصْلٌ:
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ كَوْنِ ذَلِكَ وَقْفًا كَانَ جَمِيعُهُ مِنَ الْخُمُسِ وَغَيْرِهِ وَقْفًا إِلَّا سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى وَحْدَهُ فَإِنَّ أَصْحَابَنَا اخْتَلَفُوا فِيهِ هَلْ يَصِيرُ سَهْمُهُمْ مِنْهُ وَقْفًا مَعَهُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَصِيرُ وقفا إلا عن رضى مِنْهُمْ وَاخْتِيَارٍ لِتَمَلُّكِهِمْ لَهُ عَلَى سَبِيلِ الْمِيرَاثِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ إِنَّهُ قَدْ صَارَ وَقْفًا لِأَنَّهُمْ قَدْ مَلَكُوا خُمُسَ الْخُمُسِ مِنْ مَالٍ مَحْكُومٍ لَهُ بِالْوَقْفِ فَلَمْ يُمَيَّزْ حُكْمُ سَهْمِهِمْ مِنْهُ عَنْ حُكْمِ جَمِيعِهِ وَصَارَ مَا مَلَكُوهُ مِنْهُ وَهُوَ اسْتِغْلَالُهُ فِي كُلِّ عَامٍ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ يَكُونُ وَقْفًا فَإِنَّهَا تَصِيرُ وَقْفًا بِمَصِيرِهَا فِيهَا وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى وَاقِفٍ يَقِفُهَا.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ: لَا تَصِيرُ وَقْفًا إِلَّا أَنْ يَقِفَهَا الْإِمَامُ لَفْظًا لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَنْزَلَ أَهْلَ السَّوَادِ عَنْهُ وَعَارَضَ مَنْ أَبَى أَنْ يَنْزِلَ عَنْهُ ثُمَّ وَقَفَهُ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ مَا لَا يَتِمُّ وَقْفُهُ إِلَّا بِاللَّفْظِ إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا رُدَّ إِلَى خِيَارِ الْوَاقِفِ فِي تَمَلُّكِهِ وَوَقْفِهِ وَهَذَا غَيْرُ مَرْدُودٍ إِلَى خِيَارِ الْوَاقِفِ فِي تملكه وَوَقْفِهِ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى لَفْظٍ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ حُكْمٌ قَدْ يَثْبُتُ لِأَرْضِ الْفَيْءِ عِنْدَ انْتِقَالِهَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَصَارَتْ بِالِانْتِقَالِ وَقْفًا، وَأَمَّا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَفِي فِعْلِهِ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ الَّذِي فَعَلَهُ هُوَ أَنْ حَكَمَ بِوَقْفِهَا.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ اسْتَنْزَلَ الْغَانِمِينَ عَنْ مِلْكٍ فَجَازَ أَنْ يَقِفَهُ بِلَفْظٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْفَيْءُ، وَاللَّهُ أعلم.
مسألة:
قال الشافعي: قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا} الْآيَةَ (قَالَ) وَرَوَى الزُّهْرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَرَّفَ عَامَ حُنَيْنٍ عَلَى كُلِّ عَشَرَةٍ عَرِيفًا (قال) وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للمهاجرين شعارا وللأوس شعارا وللخزرج شعارا (قال) وعقد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الألوية فعقد للقبائل قبيلة فقبيلة حتى جعل في القبيلة ألوية كل لواء لأهله وكل هذا ليتعارف الناس في الحرب وغيرها فتخف المؤنة عليهم باجتماعهم وعلى الوالي كذلك لأن في تفرقهم إذا أريدوا مؤنة عليهم وعلى واليهم فهكذا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَمِيزَ الْجَيْشَ بِمَا يَتَزَيَّنُونَ بِهِ وَيَتَعَارَفُونَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتتعارفوا} [الحجرات: 13] وَفِي الشُّعُوبِ وَالْقَبَائِلِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: أن الشعوب للنسب الأبعد والقبائل للنسب الْأَقْرَبُ.
وَالثَّانِي: إِنَّ الشُّعُوبَ عَرَبُ الْيَمَنِ مِنْ قَحْطَانَ وَالْقَبَائِلَ رَبِيعَةُ وَمُضَرُ وَسَائِرُ عَدْنَانَ.
وَالثَّالِثُ: إِنَّ الشُّعُوبَ بُطُونُ الْعَجَمِ وَالْقَبَائِلَ بُطُونُ الْعَرَبِ فَجَعَلَ ذَلِكَ سِمَةً لِلتَّعَارُفِ وَأَصْلُهُ التَّمْيِيزُ وَذَلِكَ يَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ:(8/460)
أَحَدُهُمَا: مَا يَتَعَارَفُونَ بِهِ.
وَالثَّانِي: مَا يَتَرَتَّبُونَ فِيهِ.
فَأَمَّا مَا يَتَعَارَفُونَ بِهِ فَثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ الْعُرَفَاءُ وَالنُّقَبَاءُ وَاخْتِلَافُ الشِّعَارِ.
فَأَمَّا الْعُرَفَاءُ فَهُوَ أَنْ يُضَمَّ إِلَى كُلِّ جَمَاعَةٍ وَاحِدٌ مِنْهُمْ يَكُونُ عَرِيفًا عَلَيْهِمْ وَقَيِّمًا بِهِمْ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ فِي عَوَارِضِهِمْ، وَيَرْجِعُ الْإِمَامُ إِلَيْهِ فِي تَعَرُّفِ أَحْوَالِهِمْ وَيُضِيفُهُمْ إِلَيْهِ إِذَا أَرَادَ أَغْزَاهُمْ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَرَّفَ عَامَ حُنَيْنٍ عَلَى كُلِّ عَشَرَةٍ عَرِيفًا، وَقَدْ سُمِّيَ الْعُرَفَاءُ فِي وَقْتِنَا هَذَا قُوَّادًا.
وَأَمَّا النُّقَبَاءُ فَجَعَلَ عَلَى كُلِّ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُرَفَاءِ نَقِيبًا؛ لِيَكُونَ لَهُمْ مُرَاعِيًا وَلِأَحْوَالِهِمْ وَأَحْوَالِ أَصْحَابِهِمْ مُنْهِيًا وَلَهُمْ إِذَا ارْتَدُّوا مُسْتَدْعِيًا لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اخْتَارَ مِنَ الْأَنْصَارِ حِينَ بَايَعَهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا.
وَأَمَّا الشِّعَارُ فَهِيَ الْعَلَامَةُ الَّتِي يَتَمَيَّزُ بِهَا كُلُّ قَوْمٍ مِنْ غَيْرِهِمْ فِي مَسِيرِهِمْ وَفِي حُرُوبِهِمْ حَتَّى لَا يَخْتَلِطُوا بِغَيْرِهِمْ وَلَا يَخْتَلِطَ بِهِمْ غَيْرُهُمْ؛ فَيَكُونُ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي تضافرهم لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَعَلَ لِلْمُهَاجِرِينَ شِعَارًا وَلِلْأَنْصَارِ شِعَارًا عَلَامَةً مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: الرَّايَةُ الَّتِي يَتَّبِعُونَهَا وَيَسِيرُونَ إِلَى الْحُرُوبِ تَحْتَهَا فَتَكُونُ رَايَةُ كُلِّ قَوْمٍ مُخَالِفَةً لِرَايَةِ غَيْرِهِمْ.
وَالثَّانِي: مَا يُعَلَّمُونَ بِهِ فِي حُرُوبِهِمْ فَيُعَلَّمُ كُلُّ قَوْمٍ بِخِرْقَةٍ ذَاتِ لَوْنٍ مِنْ أَسْوَدَ أَوْ أَحْمَرَ أَوْ أَصْفَرَ أو أخضر تكون إما عصابة على رؤوسهم، وَإِمَّا مَشْدُودَةً فِي أَوْسَاطِهِمْ.
وَالثَّالِثُ: النِّدَاءُ الَّذِي يَتَعَارَفُونَ بِهِ فَيَقُولُ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ يَا آَلَ كَذَا أَوْ يَا آَلَ فُلَانٍ أَوْ كَلِمَةً إِذَا تَلَاقَوْا تَعَارَفُوا بِهَا لِيَجْتَمِعُوا إِذَا افْتَرَقُوا وَيَتَنَاصَرُوا إِذَا أُرْهِبُوا، فَهَذَا كُلُّهُ وَإِنْ كَانَ سِيَاسَةً وَلَمْ يَكُنْ فِقْهًا، فَهُوَ مِنْ أَبْلَغِ الْأُمُورِ فِي مَصَالِحِ الْجَيْشِ وَأَحْفَظِهَا لِلسِّيَرِ الشَّرْعِيَّةِ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا مَا يَتَرَتَّبُونَ فِيهِ فَهُوَ الدِّيوَانُ الْمَوْضُوعُ لِإِثْبَاتِ أَسْمَائِهِمْ وَمَبْلَغِ أَرْزَاقِهِمْ يَتَرَتَّبُونَ فِيهِ بِشَيْئَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: النَّسَبُ.
وَالثَّانِي: السَّابِقَةُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى إِذَا دُعُوا لِلْعَطَاءِ أَوِ الْغَزْوِ قُدِّمَ فِيهِ الْمُقَدَّمُ فِي الدِّيوَانِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَضَعَ الدِّيوَانَ عَلَى هَذَا حِفْظًا لِلْأَسْمَاءِ وَالْأَرْزَاقِ.
فَإِنْ قِيلَ لِمَ اسْتَحْدَثَ عُمَرُ وَضْعَ الدِّيوَانِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَا عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كل محدث بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النار.(8/461)
قِيلَ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْحَاجَةُ دَعَتْهُ إِلَيْهِ عِنْدَ كَثْرَةِ الْجَيْشِ وَاخْتِلَافِ الثُّغُورِ لِيَحْفَظَ بِهِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ لَا تَنْحَفِظُ بِغَيْرِهِ:
أَحَدُهَا: حِفْظُ أَسْمَائِهِمْ وَأَنْسَابِهِمْ.
وَالثَّانِي: حِفْظُ أَرْزَاقِهِمْ وَأَوْقَاتِ عَطَائِهِمْ.
وَالثَّالِثُ: تَرْتِيبُهُمْ بِالنَّسَبِ وَالسَّابِقَةِ فِي إِسْلَامِهِمْ وَبِأَنْفُسِهِمْ وَكُلُّ ذَلِكَ احْتِيَاطٌ فِي الدِّينِ وَمُسْتَحْسَنٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ وَمَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ سَيِّئًا فَهُوَ عِنْدَ الله سيء " فَهَذَا وَجْهٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ فَعَلَ مَا نَبَّهَ بِهِ عَلَى وَضْعِ الدِّيوَانِ وَإِنْ أَخَّرَهُ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ مَعَ اجْتِمَاعِ الْجَيْشِ وَقِلَّتِهِمْ كَالَّذِي فَعَلَهُ مِنْ تَعْرِيفِ الْعُرَفَاءِ وَاخْتِيَارِ النُّقَبَاءِ وَالْمُخَالَفَةِ بَيْنَ الشِّعَارِ وَالنِّدَاءِ، فَتَمَّمَ عُمَرُ بِوَضْعِ الدِّيوَانِ مَا ابْتَدَأَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنِ مُقَدِّمَاتِهِ حِينَ احْتَاجَ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُسْتَغْنِيًا عَنْهُ فَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مُخَالِفًا ولا مبتدعا، وبالله التوفيق.
مسألة:
قال الشافعي: " وَأُحِبُّ لِلْوَالِي أَنْ يَضَعَ دِيوَانَهُ عَلَى الْقَبَائِلِ وَيَسْتَظْهِرَ عَلَى مَنْ غَابَ عَنْهُ وَمَنْ جَهِلَ مِمَّنْ حَضَرَهُ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ مِنْ قَبَائِلِهِمْ (قال الشافعي) رحمه الله وأخبرني غير واحد من أهل العلم والصدق من أهل المدينة ومكة من قبائل قريش وكان بعضهم أحسن اقتصاصا للحديث من بعض وقد زاد بعضهم على بعض أن عمر رضي الله عنه لما دون الديوان قال أبدأ ببني هاشم ثم قال حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يعطيهم وبني المطلب فإذا كَانَتِ السِّنُّ فِي الْهَاشِمِيِّ قَدَّمَهُ عَلَى الْمُطَّلِبِيِّ وَإِذَا كَانَتْ فِي الْمُطَّلِبِيِّ قَدَّمَهُ عَلَى الْهَاشِمِيِّ فوضع الديوان عَلَى ذَلِكَ وَأَعْطَاهُمْ عَطَاءَ الْقَبِيلَةِ الْوَاحِدَةِ ثُمَّ استوت له بنو عبد شمس ونوفل في قدم النسب فقال عبد شمس إخوة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأبيه وأمه دون نوفل فقدمهم ثم دعا ببني نوفل يلونهم ثم استوت له عبد العزى وعبد الدار فقال في بني أسد بن عبد العزى أصهار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وفيهم أنهم من المطيبين وقال بعضهم هم حلف من الفضول وفيهم كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقيل ذكر سابقة فقدمهم على بني عبد الدار ثم دعا بني عبد الدار يلونهم ثم انفردت له زهرة فدعاها تتلوا عبد الدار ثم استوت له تيم ومخزوم فقال في تيم إنهم من حلف الفضول والمطيبين وفيهما كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقيل ذكر سابقة وقيل ذكر صهرا فقدمهم على مخزوم ثم دعا مخزوما يلونهم ثم استوت له سهم وجمح وعدي بن كعب فقيل ابدأ بعدي فَقَالَ بَلْ أُقِرُّ نَفْسِي حَيْثُ كُنْتُ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ دَخَلَ وَأَمْرُنَا وَأَمْرُ بَنِي سَهْمٍ وَاحِدٌ ولكن انظروا بين جمح وسهم فقيل قَدَّمَ بَنِي جُمَحَ ثُمَّ دَعَا بَنِي سَهْمٍ وكان ديوانه عدي وسهم مختلطا كالدعوة الواحدة فلما خلصت إِلَيْهِ دَعْوَتُهُ كَبَّرَ تَكْبِيرَةً عَالِيَةً ثُمَّ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي(8/462)
أَوْصَلَ إِلَيَّ حَظِّي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثم دعا عامر بن لؤي (قال الشافعي) فقال بعضهم إن أبا عبيدة بن عبد الله الجراح الفهري رضي الله عنه لما رأى من تقدم عليه قال أكل هؤلاء يدعى أمامي؟ فقال يَا أَبَا عُبَيْدَةَ اصْبِرْ كَمَا صَبَرْتُ أَوْ كلم قَوْمَكَ فَمَنْ قَدَّمَكَ مِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ أمنعه فأما أنا وبنو عدي فنقدمك إن أحببت على أنفسنا قال فقدم معوية بعد بني الحارث بن فهر ففصل بهم بين بني عبد مناف وأسد بن عبد العزى وشجر بين بني سهم وعدي شيء فِي زَمَانِ الْمَهْدِيِّ فَافْتَرَقُوا فَأَمَرَ الْمَهْدِيُّ بِبَنِي عَدِيٍّ فَقُدِّمُوا عَلَى سَهْمٍ وجُمَحَ لِسَابِقَةٍ فِيهِمْ (قال) فإذا فرغ من قريش بدئت الأنصار على العرب لمكانهم من الإسلام (قال الشافعي) الناس عباد الله فأولاهم أن يكون مقدما أقربهم بخيرة الله تعالى لِرِسَالَتِهِ وَمُسْتَوْدَعِ أَمَانَتِهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَخَيْرِ خَلْقِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (قال الشافعي) ومن فرض له الوالي من قبائل العرب رأيت أن يقدم الأقرب فالأقرب منهم برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فإذا استووا قدم أهل السابقة على غير أهل السابقة ممن هو مثلهم في القرابة ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِذَا كَانَ وَضْعُ الدِّيوَانِ مَأْثُورًا قَدْ عَمِلَ بِهِ الْأَئِمَّةُ الرَّاشِدُونَ وَلَمْ يَجِدِ الْإِمَامُ مِنْهُ بُدًّا فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَتِهِ بِالدِّيوَانِ.
فَقَالَ قَوْمٌ: لِأَنَّ كِسْرَى اطَّلَعَ يَوْمًا عَلَى كِتَابِهِ وَهُمْ مُنْتَحُونَ مَعَ أَنْفُسِهِمْ فَقَالَ: " دِيوَانُهُ " أَيْ مَجْنُونٌ فَسُمِّيَ وَضْعُ جُلُوسِهِمْ دِيوَانًا.
وَقَالَ آخَرُونَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الدِّيوَانَ اسْمٌ لِلسَّلَاطِينِ فَسُمِّي الْكِتَابُ بِاسْمِهِمْ لِوُصُولِهِمْ إِلَى غَوَامِضِ الْأُمُورِ وَضَبْطِهِمُ الشَّاذَّ وَجَمْعِهِمُ الْمُتَفَرِّقَ ثُمَّ سُمِّيَ مَوْضِعُ جُلُوسِهِمْ بِاسْمِهِمْ فَقِيلَ دِيوَانٌ، فَإِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يَضَعَ دِيوَانَ الْجَيْشِ قَدَّمَ فِيهِ الْعَرَبَ عَلَى الْعَجَمِ لِمَا فَضَّلَهُمُ اللَّهُ بِهِ من رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: النَّاسُ عِبَادُ اللَّهِ وَأَوْلَاهُمْ أَنْ يكون مقدما أقربهم فخيره اللَّهِ لِرِسَالَتِهِ وَمُسْتَوْدَعِ أَمَانَتِهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَخَيْرِ خَلْقِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِذَا أَرَادَ تَقْدِيمَ الْعَرَبِ قَدَّمَ مِنْهُمْ قُرَيْشًا لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: قَدِّمُوا قُرَيْشًا وَلَا تَتَقَدَّمُوهَا ثُمَّ مَنْ يَلِيهِمْ مِنْ بُطُونِ قُرَيْشٍ بِحَسَبِ قُرْبِ آبَائِهِمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قَصِيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ. فَأَقْرَبُهُمْ إِلَيْهِ نَسَبًا بَنُو هَاشِمٍ وَضَمَّ إِلَيْهِمْ بَنُو الْمُطَّلِبِ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِنَّ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ لَمْ يَفْتَرِقُوا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ.
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا أَرَادَ وَضْعَ الدِّيوَانِ قَالَ بِمَنْ أَبْدَأُ؟ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ ابْدَأْ بِنَفْسِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِمَّا عَلَى عَادَةِ الْفُرْسِ فِي تَقْدِيمِ الْوُلَاةِ، وَإِمَّا لِتَخَيُّرِ(8/463)
عُمَرَ فِيمَا يَفْعَلُهُ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عنه أذكرتني بأن أبدأ ببني هاشم فإن حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُعْطِيهِمْ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ فَكَانَ إِذَا كَانَتِ السِّنُّ فِي الْهَاشِمِيِّ قَدَّمَهُ عَلَى الْمُطَّلِبِيِّ، وَإِذَا كَانَتْ فِي الْمُطَّلِبِيِّ قَدَّمَهُ عَلَى الْهَاشِمِيِّ فَوَضَعَ دِيوَانَهُ عَلَى ذَلِكَ وَأَعْطَاهُمْ عَطَاءَ الْقَبِيلَةِ الْوَاحِدَةِ ثُمَّ اسْتَوَتْ لَهُ عَبْدُ شَمْسٍ وَنَوْفَلٍ فِي قِدَمِ النَّسَبِ لِأَنَّ عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلًا أَخَوَا هَاشِمٍ وَالْمُطَّلِبِ لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ، وَحَكَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ أَنَّهُ كَانَ يُقَالُ لِهَاشِمٍ وَالْمُطَّلِبِ الْبَدْرَانِ وَلِعَبْدِ شَمْسٍ وَنَوْفَلٍ الْأَبْهَرَانِ.
وَأَصْلُ عَبْدِ شَمْسٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ عَبَاءُ الشَّمْسِ أَيْ يَسْتُرُ الشَّمْسَ ثُمَّ خَفَّفُوا فَقَالُوا عَبْدُ شَمْسٍ وَكَانَ أَكْبَرَ وَلَدِ عَبْدِ مَنَافٍ وَأَصْغَرَهُمُ الْمُطَّلِبُ فَقَدَّمَ عُمَرُ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ عَلَى بَنِي نَوْفَلٍ، لِأَنَّ عَبْدَ شَمْسٍ أَخُو هَاشِمٍ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ وَنَوْفَلٌ أَخُو هَاشِمٍ لِأَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ، وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ لِآدَمَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ:
(يَا أَمِيرُ إِنِّي قَائِلٌ قَوْلَ ... ذِي دِينٍ وَبِرٍّ وحسب)
(عبد شمس [ ... ،...] أَنَّهَا ... عَبْدُ شَمْسٍ عَمُّ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ)
(عَبْدُ شمس كان يتلوها شما ... وَهُمَا بَعْدُ لِأُمٍّ وَلِأَبْ)
فَقَدَّمَ عُمَرُ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ ثُمَّ دَعَا بَعْدَهُمْ بَنِي نَوْفَلٍ ثُمَّ اسْتَوَتْ لَهُ بَنُو عَبْدِ الْعُزَّى وَبَنُو عَبْدِ الدَّارِ وَهُمَا أَخَوَا عَبْدِ مَنَافٍ وَجَمِيعُهُمْ بَنُو قُصَيٍّ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ عَدَلَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَخَوَيْ عَبْدِ مَنَافٍ وَعَبْدِ الْعُزَّى وَعَبْدِ الدَّارِ ابْنَيْ قُصَيٍّ، فَقَدَّمَ بَنِي عَبْدِ الْعُزَّى عَلَى بَنِي عَبْدِ الدَّارِ لِأَرْبَعَةِ أُمُورٍ.
مِنْهَا: إِنَّهُمْ أَصْهَارُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَنَّ خَدِيجَةَ مِنْهُمْ.
وَمِنْهَا السَّابِقَةُ لِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، لِأَنَّهُ مِنْهُمْ.
وَمِنْهَا لِأَنَّهُمْ مِنْ حِلْفِ الْمُطَيَّبِينَ.
وَمِنْهَا لِأَنَّهُمْ مِنْ حِلْفِ الْفُضُولِ، فَأَمَّا حِلْفُ الْمُطَيَّبِينَ فَإِنَّهُ حِلْفٌ عَقَدَتْهُ قَبَائِلُ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَعَلَى رَدْعِ الظَّالِمِ وَنُصْرَةِ الْمَظْلُومِ وَقَالُوا إِنَّ لَنَا حَرَمًا يُعَظَّمُ وَبَيْتًا يُزَارُ فَأَخْرَجُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ مَا أَعَدُّوهُ لِلتَّعَاوُنِ عَلَى حِلْفِهِمْ فَصَارَ الِاجْتِمَاعُ عَلَى هَذَا الْحِلْفِ كَالِاشْتِرَاكِ فِي النَّسَبِ.
وَاخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَتِهِ بِحِلْفِ الْمُطَيَّبِينَ، فَقَالَ قَوْمٌ: لِأَنَّهُمْ طَيَّبُوا مَكَّةَ بِرَدْعِ الظَّالِمِ وَنُصْرَةِ الْمَظْلُومِ، لِأَنَّ قُرَيْشًا تَسَلَّطُوا حِينَ قَوُوا.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّ أُمَّ حَكِيمٍ الْبَيْضَاءَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَخْرَجَتْ لَهُمْ عِنْدَ عَقْدِ هَذَا الْحِلْفِ جِفْنَةً فِيهَا طِيبٌ فَغَمَسُوا أَيْدِيَهُمْ فِيهَا عِنْدَ التَّحَالُفِ وَتَطَيَّبُوا بِهِ فَسُمِّيَ حِلْفُ الْمُطَيَّبِينَ وَكَانَ مَنْ دَخَلَ فِيهِ مِنْ قُرَيْشٍ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ وَبَنُو أَسَدٍ، وَبَنُو زُهْرَةَ، وبنو تيم، وبنو الحرث بْنِ فِهْرٍ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِذَلِكَ بَنُو هَاشِمٍ نَحَرُوا جَزُورًا ثُمَّ قَالُوا مَنْ أَدْخَلَ يَدَهُ(8/464)
فِي دَمِهَا ثُمَّ عَلَّقَ مِنْهُ فَهُوَ مِنَّا لِيَتَمَيَّزُوا عَنْ حِلْفِ الْمُطَيَّبِينَ فَأَدْخَلَتْ أَيْدِيَهَا بَنُو هَاشِمٍ فَأَدْخَلُوا أَيْدِيَهُمْ بَنُو سَهْمٍ وَبَنُو عَبْدِ الدَّارِ وَبَنُو جُمَحَ وَبَنُو عَدِيٍّ وَبَنُو مَخْزُومٍ فَسُمِّيَ هَذَا أَحْلَافَ اللَّعْقَةِ، فَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ فِي ذَلِكَ.
(وَسُمِّينَا الْأَطَايبَ مِنْ قُرَيْشٍ ... عَلَى كَرَمٍ فَلَا طِبْنَا وَلَا طَابَا)
(وَأَيُّ الْخَيْرِ لَمْ نَسْبِقْ إِلَيْهِ ... وَلَمْ نَفْتَحْ بِهِ لِلنَّاسِ بَابَا)
وَأَمَّا حِلْفُ الْفُضُولِ فَهُوَ حِلْفٌ عَقَدَتْهُ أَيْضًا قَبَائِلُ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي حِلْفِ الْمُطَيَّبِينَ وَكَانَ سَبَبُهُ مَا حَكَاهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: أَنَّ قَيْسَ بْنَ شَيْبَةَ السلمي باع متاعا على أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيِّ فَلَوَاهُ وَذَهَبَ بِحَقِّهِ، فَاسْتَجَارَ عَلَيْهِ بَنِي جُمَحَ فَلَمْ يُجِيرُوهُ فَقَامَ قَيْسٌ مُنْشِدًا فَقَالَ:
(يَا آَلَ قُصَيٍّ كَيْفَ هَذَا فِي الْحَرَمْ ... وَحُرْمَةُ الْبَيْتِ وَأَخْلَاقُ الْكَرَمْ)
(أَظُلْمٌ لَا يُمْنَعُ مَنْ ظُلِمْ)
فَجَدَّدُوا لِأَجْلِهِ حِلْفَ الْفُضُولِ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ عَلَى رَدِّ الظُّلْمِ بِمَكَّةَ، وَأَنْ لَا يُظْلَمَ بِهَا أَحَدٌ إِلَّا مَنَعُوهُ وَدَخَلَ فِي الْحِلْفَ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ وَبَنُو أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى وَبَنُو زُهْرَةَ وَبَنُو تَيْمٍ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْمَئِذٍ مَعَهُمْ وَذَلِكَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً فَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفَ الْفُضُولِ، وَلَوْ دُعِيتُ إِلَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْتُ وَمَا أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ لِي حُمْرُ النَّعَمِ، وَإِنِّي كُنْتُ نَقَضْتُهُ وَمَا يَزِيدُهُ الْإِسْلَامُ إِلَّا شِدَّةً وَلَمْ يَدْخُلْ بَنُو عَبْدِ شَمْسٍ فِيهِ، وَاخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَتِهِ بِحِلْفِ الْفُضُولِ فَقَالَ قَوْمٌ: لِمَا فِيهِ مِنَ الْأَخْذِ بِالْفَضْلِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: لِأَنَّ قُرَيْشًا وَسَائِرَ الْأَحْلَافِ كَرِهُوهُ فَعَابُوا مَنْ دَخَلَ فِيهِ وَنَسَبُوهُمْ إِلَى الْفُضُولِ. فَسُمِّيَ بِحِلْفِ الْفُضُولِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ سُمِّيَ حِلْفَ الْفُضُولِ لِأَنَّهُمْ تَحَالَفُوا عَلَى مِثْلِ مَا تَحَالَفَ عَلَيْهِ قَومٌ مِنْ جُرْهُمٍ فِيهِمُ الْفَضْلُ وَفُضَالٌ وَفُضَيْلٌ وَسُمِّيَ بِإِضَافَتِهِ إِلَيْهِمْ حِلْفَ الْفُضُولِ، فَهَذَا الْكَلَامُ فِي تَرْتِيبِ بَنِي قُصَيٍّ ثم انفرد، بعدهم بنو زهرة أخوا قُصَيٍّ وَهُمَا ابْنَا كِلَابٍ، وَلَيْسَ لَهُ عَقِبٌ مِنْ غَيْرِهِمَا وَقَدْ رَوَى الْأَوْزَاعِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: صريح قريش ابنا كلاب يعني قصي وَزُهْرَةَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُنْسَبُ إِلَيْهِمَا لِأَنَّ أَبَاهُ مِنْ قُصَيٍّ، وَأُمَّهُ مِنْ زُهْرَةَ، ثُمَّ اسْتَوَتْ لَهُ بَعْدَ بَنِي كِلَابٍ بَنُو تَيْمٍ وَبَنُو مَخْزُومٍ لِأَنَّ تَيْمًا وَمَخْزُومًا أَخَوَا كِلَابٍ وَجَمِيعُهُمَا بَنُو مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ فَقَدَّمَ بَنِي تَيْمٍ عَلَى بَنِي مَخْزُومٍ لِأَرْبَعَةِ أُمُورٍ.
مِنْهَا السَّابِقَةُ لِأَبِي بَكْرٍ لِأَنَّهُ منهم.(8/465)
وَمِنْهَا لِأَنَّهُمْ أَصْهَارُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأن عَائِشَةَ مِنْهُمْ.
وَمِنْهَا لِأَنَّهُمْ مِنْ حِلْفِ الْمُطَيَّبِينَ.
وَمِنْهَا لِأَنَّهُمْ مِنْ حِلْفِ الْفُضُولِ.
ثُمَّ اسْتَوَتْ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بَنُو عَدِيٍّ وَبَنُو سَهْمٍ وَبَنُو جُمَحَ لِأَنَّهُمْ أُخْوَةُ مُرَّةَ وَجَمِيعُهُمْ بَنُو كَعْبِ بْنِ عَامِرٍ فَقِيلَ لَهُ: ابْدَأْ بِبَنِي عَدِيٍّ وَهُمْ قَوْمُهُ، فَقَالَ؛ بَلْ أُقِرُّ نَفْسِي حَيْثُ كُنْتُ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ دَخَلَ وَأَمْرُنَا وَأَمْرُ بَنِي سَهْمٍ وَاحِدٌ وَلَكِنِ انْظُرُوا بَيْنَ بَنِي جُمَحَ وَبَنِي سَهْمٍ فَقِيلَ إِنَّهُ قَدَّمَ بَنِي جُمَحَ ثُمَّ دَعَا بَنِي سَهْمٍ وَكَانَ دِيوَانُ عَدِيٍّ وَسَهْمٍ مُخْتَلِطًا كَالدَّعْوَةِ الْوَاحِدَةِ فَلَمَّا بَلَغَتْ إِلَيْهِ دَعْوَتُهُ كَبَّرَ تَكْبِيرَةً عَالِيَةً ثُمَّ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَوْصَلَ إِلَيَّ حَظِّي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثُمَّ دَعَا بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ، وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ حَاضِرًا وَهُوَ مِنْ بَنِي فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ فَلَمَّا رَأَى مَنْ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ قَالَ: أَكُلُّ هَذَا يُدْعَى أَمَامِي، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ يَا أَبَا عبيدة اصبر كما صبرت أو كلم قَوْمَكَ، فَمَنْ قَدَّمَكَ مِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ أَمْنَعْهُ، فَأَمَّا أَنَا وَبَنُو عَدِيٍّ فَنُقَدِّمُكَ عَلَى أَنْفُسِنَا إِنْ أَحْبَبْتَ ثُمَّ دَعَا بَعْدَ بَنِي لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ.
ثُمَّ دَعَا بِعْدَهُمْ بَنِي فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ حَتَّى اسْتَكْمَلَ قُرَيْشًا وَاخْتَلَفَ النَّسَّابُونَ مِنْ عُلَمَاءِ الشَّرْعِ فِي قُرَيْشٍ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُمْ بَنُو فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ فَمَنْ تَفَرَّقَ نَسَبُهُ عن فهر فهو مِنْ قُرَيْشٍ وَمَنْ جَاوَزَ فِهْرَ بْنَ مَالِكٍ بِنَسَبِهِ فَلَيْسَ مِنْ قُرَيْشٍ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ وَطَائِفَةٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ قُرَيْشًا هُمْ بَنُو النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ جَدِّ فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ؛ لِأَنَّهُ فِهْرُ بْنُ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ فَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ وَلَدِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ فَهُوَ مِنْ قُرَيْشٍ وَمَنْ جَاوَزَ النَّضْرَ بِنَسَبِهِ فَلَيْسَ مِنْ قُرَيْشٍ وَهَذَا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَطَائِفَةٍ أُخْرَى، وَاخْتَلَفُوا فِي تَسْمِيَتِهِمْ قُرَيْشًا عَلَى سِتَّةِ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: إِنَّ فِهْرَ بْنَ مَالِكٍ كَانَ اسْمُهُ قُرَيْشًا وَإِنَّمَا نبزته أمه فهرا لقيا، وَهَذَا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ سُمِّيَ قُرَيْشًا لِأَنَّ قُرَيْشَ بْنَ بَدْرِ بْنِ مَخْلَدِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ كَانَ دَلِيلَ بَنِي كِنَانَةَ فِي تِجَارَتِهِمْ، وَكَانَ يُقَالُ قَدِمَتْ عِيرُ قُرَيْشٍ فَسُمِّيَتْ قُرَيْشٌ بِهِ، وَأَبُوهُ بَدْرُ بْنُ مَخْلَدٍ هُوَ صَاحِبُ بَدْرٍ الْمَوْضِعِ الَّذِي لَقِيَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قُرَيْشًا وَهُوَ احْتَفَرَ بِئْرَهَا وَفِيهِ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123] وَهَذَا الْقَوْلُ حَكَاهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ عَنْ عُمَرَ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّهُمْ سُمُّوا قُرَيْشًا؛ لِأَنَّ النَّضْرَ بْنَ كِنَانَةَ سُمِّيَ قُرَيْشًا لِأَنَّهُ كَانَ يُقَرِّشُ عَنْ خَلَّةِ النَّاسِ وَحَاجَتِهِمْ فَيَسُدُّهَا وَالتَّقَرُّشُ هُوَ التَّفْتِيشُ وَمِنْهُ قَوْلُ الْحَارِثِ بن حلزة.(8/466)
(أَيُّهَا النَّاطِقُ الْمُقَرِّشُ عَنَّا ... عِنْدَ عَمْرٍو، فَهَلْ لَهُ إِبْقَاءُ)
وَهَذَا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ.
وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: إِنَّهُمْ سُمُّوا قُرَيْشًا لِلتِّجَارَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا تُجَّارًا فِي رِحْلَتَيِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، لِأَنَّ التُّجَّارَ يُقَرِّشُونَ وَيُفَتِّشُونَ عَنْ أَمْوَالِ التِّجَارَةِ وَحَكَاهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ.
وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ: إِنَّهُمْ سُمُّوا قُرَيْشًا لِتَجَمُّعِهِمْ إِلَى الْحَرَمِ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمْ لِأَنَّ قُصَيًّا جَمَعَهُمْ إِلَيْهِ وَالتَّقَرُّشُ التَّجَمُّعُ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ.
(إِخْوَةٌ قَرَّشُوا الذُّنُوبَ عَلَيْنَا ... فِي حَدِيثٍ مِنْ دَهْرِهِمْ وَقَدِيمِ)
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى.
وَالْقَوْلُ السَّادِسُ: إِنَّهُمْ سُمُّوا قُرَيْشًا لِقُوَّتِهِمْ تَشْبِيهًا بِدَابَّةٍ فِي الْبَحْرِ قَوِيَّةٍ تُسَمَّى قُرَيْشًا كما قال تبع بن عمرو الجبري:
(وقريش هي التي تسكن البحر ... بِهَا سُمِّيَتْ قُرَيْشُ قُرَيْشَا)
(تَأْكُلُ الْغَثَّ وَالسَّمِينَ ولا تترك ... يوما من جَنَاحَيْنِ رِيشَا)
(هَكَذَا فِي الْعِبَادِ حَيُّ قُرَيْشٍ ... يَأْكُلُونَ الْبِلَادَ أَكْلًا كَشِيشَا)
(وَلَهُمْ آخِرُ الزَّمَانِ نَبِيٌّ ... يُكْثِرُ الْقَتْلَ فِيهِمْ وَالْخُمُوشَا)
(يَمْلَأُ الْأَرْضَ خيلة ورجالا ... يحشرون المطي حشرا كَمِيشَا)
فَلَمَّا فَرَغَ عُمَرُ مِنْ قُرَيْشٍ دَعَا بَعْدَهُمْ بِالْأَنْصَارِ وَقَدَّمَهُمْ عَلَى سَائِرِ الْعَرَبِ بَعْدَ قُرَيْشٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ} [التوبة: 100] وَلِنُصْرَتِهِمْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا} [الأنفال: 72] ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: الْأَنْصَارُ كِرْشِي وَعَيْبَتِي لَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا وَالْأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَشَجَرَ بَيْنَ بَنِي سَهْمٍ وَعَدِيٍّ فِي زَمَانِ الْمَهْدِيِّ فَافْتَرَقُوا فَأَمَرَ الْمَهْدِيُّ بِبَنِي عَدِيٍّ فَقُدِّمُوا عَلَى سَهْمٍ وجُمَحَ لِسَابِقَةٍ فِيهِمْ، وَلِأَنَّهُمْ أَصْهَارُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ قِبَلِ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا يَنْبَغِي أن يكون منع الديوان على مثل ما وضعه عُمَرُ يَبْدَأُ بِقُرَيْشٍ فَيُقَدِّمُ مِنْهُمْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ ثُمَّ مَنْ يَلِيهِمْ مِنْ بِنِي أَبٍ بَعْدَ أَبٍ حَتَّى يَسْتَوْعِبَ جَمِيعَ قُرَيْشٍ، ثُمَّ يُقَدِّمُ بَعْدَهُمُ الْأَنْصَارَ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، ثُمَّ يَعْدِلُ بَعْدَهُمْ إِلَى مُضَرَ ثُمَّ(8/467)
رَبِيعَةَ ثُمَّ جَمِيعِ وَلَدِ عَدْنَانَ، ثُمَّ يَعْدِلُ بَعْدَهُمْ إِلَى قَحْطَانَ فَيُرَتِّبُهُمْ عَلَى السَّابِقَةِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي قُرَيْشٍ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ جَمِيعِ الْعَرَبِ عَدَلَ بَعْدَهُمْ إِلَى الْعَجَمِ فَرَتَّبَهُمْ عَلَى سَابِقَةٍ إِنْ كَانَتْ لَهُمْ.
فَأَمَّا تَرْتِيبُ أَهْلِ الْقَبِيلَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ قُرَيْشٍ أَوْ غَيْرِهِمْ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ مِنْهُمْ ذُو السَّابِقَةِ ثُمَّ ذُو السِّنِّ ثُمَّ ذُو الشَّجَاعَةِ، فَإِذَا أَرَادَ تَفْرِيقَ الْعَطَاءِ فِيهِمْ بَدَأَ بِالْقَبِيلَةِ الْمُقَدَّمَةِ فِي الدِّيوَانِ فَقَدَّمَهَا فِي الْعَطَاءِ وَقَدَّمَ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِي الدِّيوَانِ مُقَدَّمًا، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِعْطَاءُ جَمِيعِهِمْ إِلَّا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، فَيُقَدِّمُ الْأَسْبَقَ فَالْأَسْبَقَ فِي الدِّيوَانِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ جَمِيعَ أَهْلِهِ، وبالله التوفيق.(8/468)
مختصر كتاب الصدقات من كتابين قديم وجديد
مسألة:
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " فَرَضَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى أَهْلِ دِينِهِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقًّا لِغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ الْمُسْلِمِينَ الْمُحْتَاجِينَ إِلَيْهِ لَا يَسَعُهُمْ حَبْسُهُ عَمَّنْ أُمِرُوا بِدَفْعِهِ إليه أو ولائه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
اعْلَمْ أَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ يَتَعَلَّقُ بِثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ:
أَحَدُهَا: الْمَالُ الذي تجب فيه.
والثاني: المال الَّذِي تَجِبُ عَلَيْهِ.
وَالثَّالِثُ: الْمُسْتَحِقُّ الَّذِي تُصْرَفُ إِلَيْهِ.
فَأَمَّا الْمَالُ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ " الزَّكَاةِ " أَنَّهُ الْمَالُ الثَّانِي عَلَى شُرُوطِهِ الْمَاضِيَةِ وَأَمَّا الْمَالِكُ الَّذِي تَجِبُ عَلَيْهِمْ فَهُمُ الْمُسْلِمُونَ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْمُشْرِكِينَ هَلْ هُمْ مُخَاطَبُونَ بِهَا؟ وَإِنْ لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهَيْنِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا، هَلْ خُوطِبُوا مَعَ الْإِيمَانِ بِالْعِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةِ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْعِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ كَمُخَاطَبَتِهِمْ بِالْإِيمَانِ، وَأَنَّهُمْ مُعَاقَبُونَ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ لقوله تعالى: {ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين} [المدثر: 42 و 43 و 44] وَقَالَ آخَرُونَ: وَهُوَ قَوْلُ الْعِرَاقِيِّينَ إِنَّهُمْ فِي حَالِ الْكُفْرِ إِنَّمَا خُوطِبُوا بِالْإِيمَانِ وَحْدَهُ، وَلَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَيْهِمُ الْخِطَابُ بِالْعِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةِ إِلَّا بَعْدَ الإيمان لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دمائهم وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ لَوْ وَجَبَتْ عليهم لطولبوا بها بعد إسلامهم.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْمُسْتَحِقُّ لِصَرْفِ الزَّكَاةِ إِلَيْهِ فَهَذَا الْكِتَابُ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] أَيْ تُطَهِّرُ ذُنُوبَهُمْ وَتُزَكِّي أَعْمَالَهُمْ فَكَانَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوبٌ لِأَدَائِهَا مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ لِمُسْتَحِقِّهَا وَقَالَ تَعَالَى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 19] فَأَمَّا السَّائِلُ: فَهُوَ الَّذِي يسائل الناس لفاقته.(8/469)
وَفِي الْمَحْرُومِ خَمْسَةُ تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: إِنَّهُ الْمُتَعَفِّفُ الذي لا يسأل [الناس شيئا ولا يعلم بحاجته] ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ الْمُحَارِفُ الَّذِي لَا يَتَيَسَّرُ لَهُ مَكْسَبُهُ، وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ.
وَالثَّالِثُ: إِنَّهُ الَّذِي يَطْلُبُ الدُّنْيَا وَتُدْبِرُ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَالرَّابِعُ: إِنَّهُ الْمُصَابُ بِزَرْعِهِ وَثَمَرِهِ [يُعِينُهُ مَنْ لَمْ يُصَبْ] وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ.
وَالْخَامِسُ: إِنَّهُ الْمَمْلُوكُ وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حُمَيْدٍ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ فَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: " يَا مُعَاذُ بَشِّرْ وَلَا تُنَفِّرْ وَيَسِّرْ وَلَا تُعَسِّرْ، ادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةٍ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقًّا يُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَيُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ " فَدَلَّ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ مَصْرُوفَةٌ فِي ذَوِي الْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ مِنْ غَيْرِ حِرْفَةٍ وَلَا تَعَيُّشٍ وَكَانَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أعلمنا أنه من اجْتِهَادِهِ إِلَى أَنْ كَانَ مَا رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقْسِمُ قَسْمًا إِذْ جَاءَهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ الْيَمَانِيُّ، فَقَالَ اعْدِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: وَيْلَكَ فَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فَأَضْرِبْ عُنُقَهُ، فَقَالَ دَعْهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة: 58] ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَزَّهَ نَبِيَّهُ عَنْ هَذَا الْعُتْبِ، وَتَوَلَّى قَسْمَهَا بَيْنَ أَهْلِهَا فَقَالَ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] الْآيَةَ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60] أَيْ عَلِيمٌ بِالْمَصْلَحَةِ حَكِيمٌ فِي الْقِسْمَةِ فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَرْضَ فِي قِسْمَةِ الْأَمْوَالِ بِمَلَكٍ مُقَرَّبٍ وَلَا نَبِيٍّ مُرْسَلٍ " حَتَّى تَوَلَّى قَسْمَهَا بِنَفْسِهِ فَصَارَ مَالُ الزَّكَوَاتِ مَقْسُومًا فِي أَهْلِهِ بِنَصِّ الْكِتَابِ كَالْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ.
وَرَوَى زياد بن الحرث الصُّدَائِيُّ فَقَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَبَايَعْتُهُ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أَعْطِنِي مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَرْضَ فِي الصَّدَقَةِ بِحُكْمِ نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ حَتَّى حَكَمَ فِيهَا هُوَ فَجَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ فَإِنْ كُنْتَ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُكَ حَقَّكَ ".
فَصْلٌ:
فإذا ثبت أنها تصرف إِلَى مَنْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ فَلَا يَجُوزُ صَرْفُهَا إِلَّا إِلَى الْمُسْلِمِينَ كَمَا لَمْ يَجُزْ أَخْذُهَا إِلَّا مِنَ الْمُسْلِمِينَ هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ(8/470)
وإسحاق وأبي ثور، وقال أبي شُبْرُمَةَ يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَوَاتِ كُلِّهَا إِلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَكَذَلِكَ الْكَفَّارَاتُ وَقَالَ أبو حنيفة: يَجُوزُ أَنْ تُصْرَفَ إِلَيْهِمْ زَكَاةُ الْفِطْرِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ " وَبِرِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعْطَى أَهْلَ الذِّمَّةِ مِنَ الصَّدَقَاتِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ أَنْ تُدْفَعَ إِلَيْهِ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ جَازَ أَنْ تُدْفَعَ إِلَيْهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ كَالْمُسْلِمِ.
وَدَلِيلُنَا، رِوَايَةُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَشَدْتُكَ اللَّهِ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَتَرُدَّهَا عَلَى فُقَرَائِنَا، فَقَالَ: نَعَمْ، فَأَخْبَرَ أَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْهُمْ هُوَ الْمَرْدُودُ عَلَيْهِمْ، وَهِيَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَأْخُوذَةٌ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِمْ مَرْدُودَةً، وَلِأَنَّهُ مَالٌ يَخْرُجُ عَلَى وَجْهِ الطُّهْرِ فَلَمْ يَجُزْ دَفْعُهُ إِلَى مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الطُّهْرَةِ قِيَاسًا عَلَى زَكَاةِ الْمَالِ؛ وَلِأَنَّ مَنْ لَا يَجُوزُ دَفْعُ زَكَاةِ الْمَالِ إِلَيْهِ لَا يَجُوزُ دَفْعُ زَكَاةِ الْفِطْرِ إِلَيْهِ كَالْأَغْنِيَاءِ وَذَوِي الْقُرْبَى؛ وَلِأَنَّ مَنْ نَقَصَ بِالْكُفْرِ حَرُمَ دَفْعُ الزَّكَاةِ إِلَيْهِ كَالْمُسْتَأْمَنِ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَوَّلَنَا أَمْوَالَ الْمُشْرِكِينَ اسْتِعْلَاءً عَلَيْهِمْ فَلَا يَجُوزُ أَنْ نُمَلِّكَهُمْ أَمْوَالَنَا اسْتِذْلَالًا لَهُمْ.
فَأَمَّا عُمُومُ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ مَخْصُوصَانِ بِمَا ذَكَرْنَا.
وَأَمَّا حَدِيثُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فَعَنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ:
أَحَدُهَا: إِنَّهُ مُرْسَلٌ لَا يَلْزَمُنَا الْعَمَلُ بِهِ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ.
وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ افْتُرِضَ مِنْهُمْ لِأَهْلِ الصَّدَقَةِ فَرَدَّ عَلَيْهِمُ الْفَرْضُ مِنْ مَالِ الصَّدَقَةِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ بِأَنَّهُ مِمَّنْ يَجُوزُ دَفْعُ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ إِلَيْهِ كَالْمُسْلِمِ فَمُنْتَقَضٌ بِذَوِي الْقُرْبَى، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْمُسْلِمِ إِنَّهُ يَجُوزُ دَفْعُ زَكَاةِ الْمَالِ إِلَيْهِ وَلَيْسَ كَذَا الذِّمِّيُّ، فَكَانَ إِلْحَاقُهُ بِالْمُسْتَأْمَنِ أَوْلَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مسألة:
قال الشافعي: " وَلَا يَسَعُ الْوُلَاةَ تَرْكُهُ لِأَهْلِ الْأَمْوَالِ لِأَنَّهُمْ أُمَنَاءُ عَلَى أَخْذِهِ لِأَهْلِهِ وَلَمْ نَعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَخَّرَهَا عَامًا لَا يَأْخُذُهَا فِيهِ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا مِمَّا أَعْطَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْأَمْوَالَ ضَرْبَانِ: ظَاهِرَةٌ، وَبَاطِنَةٌ، فَالظَّاهِرَةُ هِيَ الْمَوَاشِي وَالزُّرُوعُ وَالْمَعَادِنُ، وَالْبَاطِنَةُ الذَّهَبُ وَالْوَرِقُ وَعُرُوضُ التِّجَارَاتِ.(8/471)
فَأَمَّا الْبَاطِنَةُ: فَأَرْبَابُ التِّجَارَاتِ وَسَائِرِ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ فَصَاحِبُهَا بِالْخِيَارِ فِي تَفْرِيقِهَا بِنَفْسِهِ أَوْ دَفْعِهَا إِلَى الْإِمَامِ الْعَادِلِ لِيَتَوَلَّى تَفْرِيقَهَا بِنَفْسِهِ وَلَا يَلْزَمُ دَفْعُهَا إِلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ.
وَأَمَّا الظَّاهِرَةُ فَفِيهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ إِنَّ عَلَى أَرْبَابِهَا دَفْعَ زَكَاتِهَا إِلَى الْإِمَامِ وَلَا يُجْزِئُهُمْ تَفْرِيقُهَا بِأَنْفُسِهِمْ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ إِنَّ أَرْبَابَهَا بِالْخِيَارِ فِي دَفْعِهَا إِلَى الْإِمَامِ أَوْ تَفْرِيقِهَا بِأَنْفُسِهِمْ، وَدَلِيلُ قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ إِنَّ دَفْعَهَا إِلَى الْإِمَامِ وَاجِبٌ، وَهُوَ مذهب مالك وأبي حنيفة لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 103] وَإِذَا دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ عَلَى الْإِمَامِ الْأَخْذَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ عَلَى الْأَرْبَابِ الدَّفْعَ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ فَأَرُدَّهَا عَلَى فُقَرَائِكُمْ " فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَى مِثْلِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مَانِعِي الزَّكَاةِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا أَوْ عِقَالًا مِمَّا أَعْطَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ، فَوَافَقَتْهُ الصَّحَابَةُ بَعْدَ مُخَالَفَتِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ الْأَخْذَ وَعَلَيْهِمُ الدَّفْعَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يتَعَلَّقُ بِالْمَالِ الظَّاهِرِ يُصْرَفُ إِلَى الْأَصْنَافِ عَلَى أَوْصَافٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَفَرُّدُ الْإِمَامِ بِهِ شَرْطًا فِي إِجْزَائِهِ كَالْخُمُسِ.
وَدَلِيلُنَا، قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ إِنَّ تَفَرُّدَ أَرْبَابِهَا بِتَفْرِيقِهَا يَجُوزُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خير لكم} [البقرة: 271] فجعل كلا الأمرين مجزءا وقَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً} [البقرة: 274] فَدَلَّ عُمُومُ الْآيَتَيْنِ عَلَى جَوَازِ إِخْرَاجِ الصَّدَقَاتِ فَرْضًا وَنَفْلًا مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ.
وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ حَمَلَ صَدَقَتَهُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَرَدَّهَا وَحَمَلَهَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَرَدَّهَا وَحَمَلَهَا إِلَى عُمَرَ، فَرَدَّهَا، فَلَوْ كَانَ تَفَرُّدُهُ بِإِخْرَاجِهَا لَا يُجْزِئُهُ لَمَا اسْتَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَدَّهَا عَلَيْهِ، لِأَنَّ فِيهِ تَضْيِيعًا لَهَا مِنْ غَيْرِ إِجْزَاءٍ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُخْرَجٌ عَلَى وَجْهِ الطُّهْرَةِ فَجَازَ أَنْ يَنْفَرِدَ أَرْبَابُهُ بِإِخْرَاجِهِ كَالْكَفَّارَاتِ؛ وَلِأَنَّ مَا أُخْرِجَ زَكَاةً لَمْ يَجُزْ دَفْعُهُ إِلَى الْإِمَامِ كَالْمَالِ الْبَاطِنِ، وَلِأَنَّ مَنْ جَازَ لَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِإِخْرَاجِ زَكَاةِ الْمَالِ الْبَاطِنِ جَازَ لَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِإِخْرَاجِ زَكَاةِ الْمَالِ الظَّاهِرِ كَالْإِمَامِ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى التَّفْرِيعِ عَلَيْهِمَا فَإِذَا قِيلَ بِوُجُوبِ دَفْعِهَا إِلَى الْإِمَامِ، وَأَنَّ تَفْرِيقَ رَبِّهَا لَا يَجُوزُ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْإِمَامِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَادِلًا أَوْ جَائِرًا، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ عَادِلًا، فَعَلَى رَبِّ الْمَالِ أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى الْإِمَامِ أَوْ إِلَى مَنِ اسْتَخْلَفَهُ الْإِمَامُ عَلَيْهَا مِنْ عُمَّالِهِ وَسُعَاتِهِ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ وَالْعَامِلُ حَاضِرَيْنِ كَانَ رَبُّ الْمَالِ بِالْخِيَارِ فِي دَفْعِهَا إِلَى أَيِّهِمَا شَاءَ وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى الْإِمَامِ، لِأَنَّهُ أَصْلٌ.
وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ غَائِبًا عَنِ الْمَالِ وَالْعَامِلُ حَاضِرًا، فَعَلَى رَبِّ الْمَالِ أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى(8/472)
الْعَامِلِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرُهَا حَتَّى يَدْفَعَهَا إِلَى الْإِمَامِ وَإِذَا دَفَعَهَا رَبُّ الْمَالِ إِلَى الْإِمَامِ أَوْ إِلَى عَامِلِهِ، بَرِئَ رَبُّ الْمَالِ مِنْهَا، وَكَانَتْ يَدُ الْإِمَامِ وَيَدُ عَامِلِهِ سَوَاءً لِنِيَابَتِهِ عَنْهُ، فَإِنْ هَلَكَ ذَلِكَ فِي يَدِهِ كَانَ تَالِفًا لِأَهْلِ السُّهْمَانِ مِنْ مَالِ أَهْلِ السُّهْمَانِ وَلَمْ يَضْمَنْهُ إِلَّا بِالْعُدْوَانِ.
وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ جَائِرًا لَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ بِالْجَوْرِ قَدْ خَرَجَ مِنَ الْأَمَانَةِ، وَجَازَ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يُفَرِّقَهَا بِنَفْسِهِ لِلضَّرُورَةِ، فَإِنْ دَفَعَهَا إِلَى الْإِمَامِ الْجَائِرِ لَمْ يُجْزِ رَبَّ الْمَالِ إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ وُصُولَهَا إِلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ، وَلَا يَكُونُ الْإِمَامُ الْجَائِرُ نَائِبًا عَنْهُمْ، فَإِنْ هَلَكَ الْمَالُ فِي يَدِهِ أَوِ اسْتَهْلَكَهُ بِنَفْسِهِ، فَعَلَى رَبِّ الْمَالِ إِخْرَاجَهَا ثَانِيَةً سَوَاءً أَخَذَهَا الْإِمَامُ الْجَائِرُ مِنْهُ جَبْرًا أَوْ دَفَعَهَا إِلَيْهِ مُخْتَارًا.
وَقَالَ أبو حنيفة: يُجْزِئُهُ أَخْذُ الْإِمَامِ الْجَائِرِ لَهَا سَوَاءً أَخَذَهَا جَبْرًا أَوْ دَفَعَهَا رَبُّ الْمَالِ مُخْتَارًا.
وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ أَخَذَهَا الْإِمَامُ الْجَائِرُ جَبْرًا أَجْزَأَهُ وَإِنْ دَفَعَهَا رَبُّ الْمَالِ مُخْتَارًا لَمْ يُجْزِئْهُ.
وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَجَازَ ذلك بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " السُّلْطَانُ يُفْسِدُ، وَمَا يُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ أَكْثَرُ، فَإِنْ عَدَلَ فَلَهُ الْأَجْرُ وَعَلَيْكُمْ، وَإِنْ جَارَ فَلَهُ الْوِزْرُ وَعَلَيْكُمُ الصَّبْرُ " فَلَمَّا جَعَلَ وِزْرَ جَوْرِهِ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعُودَ عَلَى غيره، وفي تكليف رد المال الإعادة يَحْتَمِلُ لِوِزْرِهِ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ الْجَائِرَ فِي اسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ كَالْعَادِلِ فَكَذَلِكَ فِي الزَّكَاةِ، وَيَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الِاعْتِلَالِ قِيَاسَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْ سَقَطَتِ الْحُدُودُ بِاسْتِيفَائِهِ لَهَا سَقَطَتِ الزَّكَاةُ بِقَبْضِهِ لَهَا كَالْعَادِلِ.
وَالثَّانِي: إِنَّ مَا سَقَطَ بِاسْتِيفَاءِ الْإِمَامِ العادل له سقط باستفياء الْإِمَامِ الْجَائِرِ لَهُ كَالْحُدُودِ وَلِأَنَّ خِيَانَةَ النَّائِبِ لَا تَقْتَضِي فَسَادَ الْقَبْضِ كَالْوَكِيلِ.
وَدَلِيلُنَا، مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَطِيعُونِي مَا أَطَعْتُ اللَّهَ فَإِذَا عَصَيْتُ اللَّهَ فَلَا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ " فَجَعَلَ حُدُوثَ الْمَعْصِيَةِ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْمَعْصِيَةِ بَعِيدًا رَافِعًا لِوُجُوبِ الطَّاعَةِ، وَإِذَا ارْتَفَعَتْ طَاعَةُ الْوَالِي لِجَوْرِهِ صَارَ كَغَيْرِهِ مِنَ الرَّعِيَّةِ الَّتِي لَا تُجْزِئُ الزَّكَاةُ بِأَخْذِهِمْ لَهَا، وَيَتَحَرَّرُ مِنِ اعْتِلَالِ هَذَا الْخَبَرِ قِيَاسَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ مَنْ سَقَطَتْ طَاعَتُهُ سَقَطَتْ نِيَابَتُهُ كَالْعَاصِي.
وَالثَّانِي: إِنَّ مَنْ بَطُلَتْ نِيَابَتُهُ لَمْ يَصِحَّ قَبْضُهُ كَالْوَكِيلِ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ يَخْتَصُّ بِتَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ كَمَا يَخْتَصُّ بِاسْتِيفَاءِ الْأَمْوَالِ فَلَمَّا لَمْ تُنَفَّذْ أَحْكَامُهُ بِجَوْرِهِ لَمْ يَصِحَّ اسْتِيفَاؤُهُ الْأَمْوَالَ بِجَوْرِهِ وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ مَا وُقِفَتْ صِحَّتُهُ عَلَى عَدَالَةِ الْإِمَامِ كَانَ مَرْدُودًا بِجَوْرِهِ كَالْأَحْكَامِ، وَلِأَنَّ(8/473)
إِمَامَتَهُ تَبْطُلُ بِجَوْرِهِ كَمَا تَبْطُلُ بِعَزْلِهِ وَخَلْعِهِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ قَبَضَهَا بَعْدَ خَلْعِ نَفْسِهِ لَمْ تَقَعْ مَوْقِعَ الْإِجْزَاءِ كَذَلِكَ إِذَا قَبَضَهَا بَعْدَ جَوْرِهِ.
وَتَحْرِيرُهُ: إِنَّ مَا أَبْطَلَ إِمَامَتَهُ مَنَعَ مِنْ إِجْزَاءِ قَبْضِهِ كَالْخَلْعِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْخَبَرِ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: اخْتِصَاصُ الْوِزْرِ بِالْإِمَامِ دُونَ الْأَحْكَامِ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَتَعَدَّ وِزْرُهُ إِلَى غَيْرِهِ لَمْ يَتَعَدَّ وَزِرُ غَيْرِهِ إِلَيْهِ، وَرَبُّ الْمَالِ مَأْخُوذٌ بِوِزْرِ زَكَاتِهِ حَتَّى تَصِلَ إِلَى مُسْتَحِقِّهَا فَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ وِزْرُهَا لَهَا.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْحُدُودِ فَهِيَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَحْضَةِ الَّتِي لَا حَقَّ فِيهَا لِآدَمِيٍّ وَالْمَقْصُودُ بِهَا الزَّجْرُ الْحَاصِلُ بَعْدَ الْإِمَامِ وَجَوْرِهِ، وَلِذَلِكَ جَوَّزْنَا لِغَيْرِ الْإِمَامِ مِنْ سَيِّدِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ أَنْ يَحُدَّهُمَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الزَّكَاةُ، وَالْمَقْصُودُ بِهَا وُصُولُهَا إِلَى مُسْتَحِقِّهَا، وَذَلِكَ بِجَوْرِ الْإِمَامِ مَعْدُومٌ فَافْتَرَقَا.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْوَكِيلِ فَالْمَعْنَى فِي الْوَكِيلِ أَنَّ وِكَالَتَهُ لَا تَبْطُلُ بِجِنَايَتِهِ؛ فَلِذَلِكَ صَحَّ قَبْضُهُ، وَالْإِمَامُ تَبْطُلُ وِلَايَتُهُ بِجَوْرِهِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ قَبْضُهُ.
فَصْلٌ:
وَإِذَا قِيلَ بِالْقَوْلِ الْجَدِيدِ: إِنَّ دَفْعَ الزَّكَاةِ إِلَى الْإِمَامِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَإِنَّ تَفْرِيقَ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ لَهَا جَائِزٌ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ جَائِرًا لَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ عَادِلًا كَانَ رَبُّ الْمَالِ بِالْخِيَارِ فِي زَكَاةِ مَالَيْهِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ بَيْنَ دَفْعِهَا إِلَى الْإِمَامِ أَوْ تَفْرِيقِهَا بِنَفْسِهِ، فَإِنْ أَرَادَ دَفْعَهَا إِلَى الْإِمَامِ كَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُسَلِّمَهَا إِلَى الْإِمَامِ وَهُوَ أَفْضَلُ أَوْ إِلَى عَامِلِهِ وَإِنْ أَرَادَ تَفْرِيقَهَا بِنَفْسِهِ كَانَ بِالْخِيَارِ أَنْ يَتَوَلَّاهَا بِنَفْسِهِ وَهُوَ أَفْضَلُ أَوْ بِوَكِيلِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا أَفْضَلُ الْأَمْرَيْنِ؟ أَنْ يَدْفَعَ زكاة ماله إلى الإمام أو تفريقها بِنَفْسِهِ.
قِيلَ: إِنْ كَانَ مَالُهُ ظَاهِرًا فَدَفَعَ زَكَاتَهُ إِلَى الْإِمَامِ أَفْضَلُ لِمَا فِيهِ مِنْ إِظْهَارِ الطَّاعَةِ بِأَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ الْجَمَاعَةُ، وَإِنْ كَانَ مَالُهُ بَاطِنًا فَتَفَرُّدُهُ بِإِخْرَاجِ زَكَاتِهِ أَفْضَلُ مِنْ دَفْعِهَا إِلَى الْإِمَامِ لِمَا قَدِ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ فِعْلُ الْأَئِمَّةِ الرَّاشِدِينَ مِنْ إِقْرَارِ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ عَلَى إِخْرَاجِهَا، وَلِتَكُونَ مُبَاشَرَةُ التَّأْدِيَةِ مَا لَزِمَهُ مِنْ حَقِّهَا وَلِيَخُصَّ أَقَارِبَهُ وَذَوِي رَحِمِهِ بِهَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَأَيُّ الْأَمْرَيْنِ أَفْضَلُ فِي تَفْرِيقِ الزَّكَاةِ؟ أَنْ تُخْفَى أَوْ تُبْدَى؟
قِيلَ: إِنْ كَانَ الْإِمَامُ هُوَ الْمُفَرِّقُ لَهَا فَإِبْدَاؤُهَا أفضل من إخفائها سواء كان زَكَاةَ مَالٍ ظَاهِرٍ أَوْ بَاطِنٍ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ فِيهَا فَكَانَ إِظْهَارُ إِخْرَاجِهَا أَفْضَلَ لَهُ مِنْ إِخْفَائِهَا وَكَتْمِهَا، وَإِنْ كَانَ الْمُفَرِّقُ لَهَا رَبَّ الْمَالِ فَإِنْ كَانَتْ زَكَاةَ مَالٍ ظَاهِرٍ فَالْأَفْضَلُ لَهُ إِظْهَارُهَا بِالْعُدُولِ أَهْلِ السُّهْمَانِ عَنِ الْإِمَامِ إِلَيْهِ، وَلِيَعْلَمَ الْإِمَامُ أَنَّهُ قَدْ أَخْرَجَ مَا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ زَكَاةَ مَالٍ بَاطِنٍ فَالْأَفْضَلُ لَهُ إِخْفَاؤُهَا إِذَا أَخْرَجَهَا مِنْ أَنْ يَجْهَرَ بِهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فهو خير لكم} وَلِأَنَّ إِخْفَاءَهُ فِي حَقِّهِ أَبْعَدُ مِنَ الرِّيَاءِ، وَفِي حَقِّ أَهْلِ السُّهْمَانِ أَبْعَدُ مِنَ الِاسْتِحْيَاءِ، والله أعلم.(8/474)
مسألة:
قال الشافعي: " فَإِذَا أُخِذَتْ صَدَقَةُ مُسْلِمٍ دُعِيَ لَهُ بَالْأَجْرِ والبركة كما قال تعالى: {وصل عليهم} أَيِ: ادْعُ لَهُمْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] وَفِي قَوْلِهِ: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: الِاسْتِغْفَارُ لَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ الدُّعَاءُ لَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ.
وَفِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لهم} ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: قُرْبَةٌ لَهُمْ رَوَاهُ الضَّحَّاكُ [عن ابن عباس] .
وَالثَّانِي: رَحْمَةٌ لَهُمْ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي [طَلْحَةَ عن ابن عباس] .
وَالثَّالِثُ: أَمْنٌ لَهُمْ.
ثُمَّ الدُّعَاءُ نُدِبَ عَلَى الْآخْذِ لَهَا إِنْ لَمْ يُسْأَلِ الدُّعَاءَ وَأَوْجَبَهُ دَاوُدُ، وَإِنْ سُئِلَ الدُّعَاءَ، فَفِي وُجُوبِهِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ وَاجِبٌ لِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِصَدَقَاتِ قَوْمِي فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلِّ علي فقال: اللهم صلي عَلَى آَلِ أَبِي أَوْفَى وَلِيَقَعَ بِذَلِكَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْجِزْيَةِ الْمَأْخُوذَةِ صَغَارًا وَبَيْنَ الزَّكَاةِ الْمَأْخُوذَةِ تَطْهِيرًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ وَاجِبٍ، لِأَنَّ أَجْرَهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا عَلَى الْآخِذِ لَهَا كَغَيْرِهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي لَا يَلْزَمُ الدُّعَاءُ لِفَاعِلِهَا.
وَقِيلَ: إِنَّهُ إِنْ كَانَ الْإِمَامُ هُوَ الْآخِذَ لَهَا لَزِمَهُ الدُّعَاءُ لِمَا فِي دَفْعِهَا إِلَيْهِ مِنْ إِظْهَارِ طَاعَتِهِ، وَإِنْ كان الفقير وهو الْآخِذَ لَهَا لَمْ يَلْزَمْهُ وَقِيلَ: بِضِدِّهِ: إِنَّ الدُّعَاءَ يَلْزَمُ الْفَقِيرَ دُونَ الْإِمَامِ، لِأَنَّ دَفْعَهَا إِلَى الْإِمَامِ مُتَعَيَّنٌ وَإِلَى الْفَقِيرِ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ، فَأَمَّا مَا يَدْعُو بِهِ الْآخِذُ فَقَدْ مَضَى في كتاب الزكاة.
مسألة:
قال الشافعي: " وَالصَّدَقَةُ هِيَ الزَّكَاةُ وَالْأَغْلَبُ عَلَى أَفْوَاهِ الْعَامَّةِ أَنَّ لِلثَّمَرِ عُشْرًا وَلِلْمَاشِيَةِ صَدَقَةً وَلِلْوَرِقِ زَكَاةً وَقَدْ سَمَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَذَا كُلَّهُ صَدَقَةً ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ قَدْ كَانَ الشَّافِعِيُّ يَرَى فِي الْقَدِيمِ: أَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنَ الزَّرْعِ(8/475)
وَالثَّمَرِ يُسَمَّى عُشْرًا، وَالْمَأْخُوذَ مِنَ الْمَاشِيَةِ يُسَمَّى صَدَقَةً، وَالْمَأْخُوذَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ يُسَمَّى زَكَاةً، وَلَا يَجْعَلُ لِاخْتِلَافِ الْأَسْمَاءِ تَأْثِيرًا فِي اخْتِلَافِ الْأَحْكَامِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: هِيَ مُخْتَلِفَةُ الْأَسْمَاءِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَاخْتِلَافُ الْأَسْمَاءِ يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَحْكَامِ فَخَصَّ الْمَأْخُوذَ مِنَ الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ بِاسْمِ الْعُشْرِ دُونَ الصَّدَقَةِ وَالزَّكَاةِ، وَجَعَلَ حُكْمَهُ مُخَالِفًا لِحُكْمِ الصَّدَقَةِ وَالزَّكَاةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وُجُوبُ الْعُشْرِ فِي مَالِ الْمُكَاتَبِ وَالذِّمِّيِّ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ فِي مَالِهِمَا صَدَقَةٌ وَلَا زَكَاةٌ.
وَالثَّانِي: جَوَازُ مَصْرَفِ الْعُشْرِ فِي أَهْلِ الْفَيْءِ، وَإِنْ لَمْ تُصْرَفْ فِيهِمْ صَدَقَةٌ وَلَا زَكَاةٌ.
وقال الشافعي في الجديد: الأسماء المشتركة وَالْأَحْكَامُ مُتَسَاوِيَةٌ، وَإِنَّ الْمَأْخُوذَ مِنَ الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى صَدَقَةً وَزَكَاةً، أَمَّا تَسْمِيَتُهُ بالصدقة فلقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: فما دُونَ خَمْسَةِ، أَوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ صَدَقَةٌ، وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ زَكَاةً فَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْكَرْمِ: " يُخْرَصُ كَمَا يُخْرَصُ النَّخْلُ ثُمَّ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ زَبِيبًا كَمَا تُؤَدَّى زَكَاةُ النَّخْلِ ثَمَرًا " وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَسْمَاءَ مُشْتَرِكَةٌ ثَبَتَ أَنَّ الْأَحْكَامَ مُتَسَاوِيَةٌ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي مَالِ الْمُسْلِمِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ " ثَبَتَ أَنَّهُ زَكَاةٌ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ طُهْرَةً لِلْمُسْلِمِ فِي مَالِهِ كَانَ زَكَاةً لِمَالِهِ كَالزَّكَاةِ.
مسألة:
قال الشافعي: " فَمَا أُخِذَ مِنْ مُسْلِمٍ مِنْ زَكَاةِ مَالٍ نَاضٍّ أَوْ مَاشِيَةٍ أَوْ زَرْعٍ أَوْ زَكَاةِ فِطْرٍ أَوْ خُمُسِ رِكَازٍ أَوْ صَدَقَةِ مَعْدِنٍ أو غيره مما وجب عليه في ماله بكتاب أو سنة أو إجماع عوام المسلمين فمعناه واحد وقسمه واحد وقسم الفيء خلاف هذا فالفيء ما أخذ من مشرك تقوية لأهل دين الله وله موضع غير هذا الموضع ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ كُلَّمَا وَجَبَ فِي مَالِ الْمُسْلِمِ مِنْ حَقٍّ، إِمَّا بِحُلُولِ الْحَوْلِ كَالْمَوَاشِي وَزَكَاةِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ أَوْ بِتَكَامُلِ الْمَنْفَعَةِ كَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ أَوْ بِالِاسْتِفَادَةِ كَالْمَعَادِنِ وَالرِّكَازِ أَوْ عَنْ رَقَبَةٍ كَزَكَاةِ الْفِطْرِ، فَمَصْرِفُ جَمِيعِهِ وَاحِدٌ فِي السُّهْمَانِ الْمَوْضُوعَةِ فِي الزَّكَوَاتِ وَالصَّدَقَاتِ بقوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} الآية إلى أَنَّهُ مَا تَجِبُ زَكَاتُهُ بِالْحَوْلِ إِذَا حَالَ عَلَيْهِ فِي يَدِهِ أَحْوَالُ زَكَاةٍ فِي كُلِّ حَوْلٍ كَالْمَوَاشِي وَالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَمَا يَجِبُ زَكَاتُهُ بِتَكَامُلِ الْمَنْفَعَةِ كَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، إِذَا بَقِيَ فِي يَدِهِ أَحْوَالٌ لَمْ يُزَكِّهِ إِلَّا الزَّكَاةَ الْأُولَى وَمَا اسْتُفِيدَ مِنْ مَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ أَوْ رِكَازٍ زَكَّى فِي كُلِّ حَوْلٍ؛ لِأَنَّهُمَا ذَهَبٌ وَوَرِقٌ يُرَاعَى فِيهَا بَعْدَ الِاسْتِفَادَةِ حُلُولُ الْحَوْلِ، وَخُولِفَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: الزُّرُوعُ وَالثِّمَارُ، فَجَعَلَ أبو حنيفة مَصْرِفَ عُشْرِهَا مَصْرِفَ الْفَيْءِ دُونَ الزَّكَاةِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ.(8/476)
وَالثَّانِي: زَكَاةُ الْفِطْرِ جَعَلَ مَالِكٌ مَصْرِفَهَا فِي المساكين خاصة، وقال أبو سعيد الاصطرخي: إِنْ فُرِّقَتْ فِي ثَلَاثَةِ فُقَرَاءَ أَجْزَأَتْ.
وَالثَّالِثُ: الْمَعَادِنُ.
وَالرَّابِعُ: الرِّكَازُ، جَعَلَ أبو حنيفة مَصْرِفَهَا الْفَيْءَ اسْتِدْلَالًا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: إِنَّ الْمُسْتَحَقَّ فِيهَا الْخُمُسُ كَالْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ مُبَايَنَةً لِمَقَادِيرِ الزَّكَوَاتِ كُلِّهَا، فَانْصَرَفَ مَصْرِفَ الْفَيْءِ لَا مَصْرِفَ الزَّكَاةِ.
وَالثَّانِي: إِنَّ الْحَقَّ فِيهَا مُعَجَّلٌ وَفِي الزَّكَاةِ مُؤَجَّلٌ فَلَوْ جَرَيَا مَجْرَى الزَّكَاةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَتَأَجَّلَتْ وَلَمَا تَعَجَّلَتِ الْمَأْخُوذَةُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
وَالثَّالِثُ: إِذَا اعْتُبِرَ بِالرِّكَازِ حَالُ الدَّافِنِ أَنَّهُ كَافِرٌ، وَقَدْ مُلِكَ عَنْهُ كَالْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ.
وَدَلِيلُنَا، قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ " وَلِأَنَّهُ حق يجب فِي مَالِ مُسْلِمٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ فَيْئًا كَالزَّكَاةِ، وَلِأَنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ لَمَّا خَرَجَتْ عَنْ حُكْمِ الْفَيْءِ خَرَجَ خُمُسُهُ عَنْ حُكْمِ الْفَيْءِ.
وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ مَا لَمْ يَجُزْ عَلَى الْمُسْتَبْقَى مِنْهُ حُكْمُ الْفَيْءِ لَمْ يَجُزْ عَلَى الْمَأْخُوذِ مِنْهُ حُكْمُ الْفَيْءِ كَسَائِرِ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَلِأَنَّ حَقَّ الْمَعْدِنِ وَالرِّكَازِ لَمَّا اخْتُصَّ بِبَعْضِ أَمْوَالٍ دُونَ بَعْضٍ كَالزَّكَاةِ كَانَ زَكَاةً وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ فَيْئًا لِاسْتِوَاءِ حُكْمِهِ فِي جَمِيعِ الْأَمْوَالِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِاسْتِحْقَاقِ الْخُمُسِ فِيهِ فَهُوَ أَنَّ مَقَادِيرَ الزَّكَوَاتِ مُخْتَلِفَةٌ فَتَارَةً يَكُونُ رُبُعَ الْعُشْرِ وَتَارَةً نِصْفَ الْعُشْرِ وَتَارَةً الْعُشْرَ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ ذَلِكَ زَكَاةً فَكَذَلِكَ تَكُونُ تَارَةً الْخُمُسَ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ أَنْ يَكُونَ زَكَاةً وَيَكُونُ اخْتِلَافُ الْمَقَادِيرِ بِحَسَبَ اخْتِلَافِ الْمُؤَنِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَا سُقِيَ بِنَاضِحٍ أَوْ رِشَاءٍ لَمَّا كثرت مؤنته قَلَّتْ زَكَاتُهُ، فَكَانَتْ نِصْفَ الْعُشْرِ وَمَا بِسَيْحٍ أو سماء لما قلت مؤونته كَثُرَتْ زَكَاتُهُ، فَكَانَتِ الْعُشْرَ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلرِّكَازِ مُؤْنَتُهُ أُضْعِفَتْ زَكَاتُهُ فَكَانَتِ الْخُمُسَ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِتَعْجِيلِ الْحَقِّ فِيهِ فَهُوَ لِأَنَّهُ تَعَجَّلَتِ الْفَائِدَةُ بِهِ فَتَعَجَّلَ الْحَقُّ، وَمَا تَأَجَّلَتِ الْفَائِدَةُ بِهِ تَأَجَّلَ الْحَقُّ فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَا لَمْ تَكْمُلْ فَائِدَتُهُ إِلَّا بِالْحَوْلِ رُوعِيَ فِيهِ الْحَوْلُ كَالْمَوَاشِي، وَمَا كَمُلَتْ فائدته قبل الحول لم يراعى فِيهِ الْحَوْلُ كَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اعْتِبَارِهِ بِحَالِ الدَّافِنِ دُونَ الْوَاجِدِ فَهُوَ أَنَّ اعْتِبَارَهُ بِالْوَاجِدِ دُونَ الدَّافِنِ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ اعْتُبِرَ بِحَالِ الدَّافِنِ لَمَّا جَازَ أَنْ يُمَلَّكَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِمَنْ لَا يُمَلَّكُ عَلَيْهِ مَالُهُ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ مَنْ هُوَ عَلَى دِينِ مُوسَى وَعِيسَى قَبْلَ التَّبْدِيلِ أَوْ لِمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ، وَكُلُّ هَؤُلَاءِ لَا يَجُوزُ أَنْ تُمَلَّكَ عَلَيْهِمْ أَمْوَالُهُمْ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْتَبَرَ بِهِ الدَّافِنُ.(8/477)
وَالثَّانِي: إِنَّهُ لَوِ اعْتُبِرَ بِهِ الدَّافِنُ لَمَا جَازَ أَنْ يُمَلَّكَ الْوَاجِدُ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ، وَلَكَانَ إِمَّا مِلْكًا لِلْغَانِمِينَ أَوْ لِأَهْلِ الْفَيْءِ فَيَثْبُتُ أن اعتباره بحال الواجد أولى من اعتبار بحال الدافن والله أعلم.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَقَسْمُ الصَّدَقَاتِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السبيل} ثُمَّ أَكَّدَهَا وَشَدَّدَهَا فَقَالَ " فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ " الْآيَةَ وَهِيَ سُهْمَانٌ ثَمَانِيَةٌ لَا يُصْرَفُ مِنْهَا سَهْمٌ وَلَا شَيْءٌ مِنْهُ عَنْ أَهْلِهِ مَا كَانَ مِنْ أَهْلِهِ أَحَدٌ يَستَحِقُّهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ قَسْمُ الصَّدَقَاتِ يُسْتَحَقُّ فِي الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، وَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِهَا مَعَ وُجُودِ جَمِيعِهَا وَقَالَ أبو حنيفة يَجُوزُ اقْتِصَارُ أَيِّ الْأَصْنَافِ شَاءَ، وَإِنْ دَفَعَ جَمِيعَ الزَّكَاةِ إِلَى نَفْسٍ وَاحِدَةٍ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ أَجَزَأَهُ.
وَقَالَ مَالِكٌ: يَدْفَعُهَا إِلَى أَمَسِّ الْأَصْنَافِ حَاجَةً.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: إِنْ كَثُرَتِ الزَّكَاةُ دَفَعَهَا إِلَى الْأَصْنَافِ كُلِّهَا، كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَإِنْ قَلَّتْ دَفَعَهَا إِلَى أَيِّ الْأَصْنَافِ شَاءَ كَمَا قَالَ أبو حنيفة.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271] فَجَعَلَ تَخْصِيصَ الْفُقَرَاءِ بِهَا خَيْرًا مَشْكُورًا فَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِ، وَصَرْفِ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 24، 25] فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ تَفَرُّدِهِمْ بِهِ، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ "، وَبِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ سَلَمَةَ بْنَ صَخْرٍ الْأَنْصَارِيَّ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ فَذَكَرَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَجْزَهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ، فَقَالَ لَهُ انْطَلِقْ إِلَيَّ بصدقة بني زريق فتلدفع إليك فأطعم منه وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَكُلْ أَنْتَ وَعِيَالُكَ بَقِيَّتَهَا، فَدَلَّ نَصُّ هَذَا الْخَبَرِ عَلَى جواز دفعها إلى نفس واحدة عن صِنْفٍ وَاحِدٍ.
قَالُوا: وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ الْأَصْنَافَ الثَّمَانِيَةَ بِالذِّكْرِ كَمَا خَصَّ الصِّنْفَ الْوَاحِدَ بِالذِّكْرِ، فَلَمَّا لَمْ يَلْزَمِ اسْتِيفَاءُ جَمِيعِ الصِّنْفِ وَجَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِهِ لَمْ يَلْزَمِ اسْتِيفَاءُ جَمِيعِ الْأَصْنَافِ، وَجَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِهَا وَيَتَحَرَّرُ مِنْهُ قِيَاسَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا صَدَقَةٌ يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ بِهَا بَعْضُ الْفُقَرَاءِ فَجَازَ أَنْ يُخَصَّ بِهَا بَعْضُ الْأَصْنَافِ كَالْكَفَّارَاتِ.
وَالثَّانِي: إِنَّ مَنْ جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ فِي الْكَفَّارَاتِ جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ فِي الزَّكَوَاتِ، قِيَاسًا عَلَى بَعْضِ الْفُقَرَاءِ.(8/478)
قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَوِ اسْتَحَقَّ كُلُّ صِنْفٍ مِنْهُمْ سَهْمًا يَخُصُّهُ لَمَا جَازَ فِيمَنْ فُقِدَ أَنْ يُرَدَّ سَهْمُهُ عَلَى مَنْ وُجِدَ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ مَعَ فَقْدِ بَعْضِهِمْ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِهِ مَعَ وُجُودِ بَعْضِهِمْ.
قَالُوا: وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا سَدُّ الْخَلَّةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَمَّ بِهَا الْجَمِيعُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ وَمِنْ جَمِيعِ الْأَصْنَافِ، كَمَا لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ مِنْ بَعْضِ الصِّنْفِ أَوْ مِنْ جَمِيعِهِ.
وَدَلِيلُنَا، قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] الْآيَةَ وَالدَّلِيلُ فِيهَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ أصناف الصدقة إلى الأصناف الثمانية بلا التَّمْلِيكِ وَعَطَفَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِوَاوِ التَّشْرِيكِ، وَكُلَّمَا يَصِحُّ أَنْ يُمْلَكَ إِذَا أُضِيفَ إِلَى مَنْ يَصِحُّ أَنْ يُمَلَّكَ اقْتَضَتِ الْإِضَافَةُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ كَمَا لَوْ قَالَ: هَذِهِ الدَّارُ لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو.
فَإِنْ قِيلَ: فَالْإِضَافَةُ إِلَى الْأَشْخَاصِ تُوجِبُ التَّمْلِيكَ لِتَعْيِينِ الْمَالِكِ، وَالْإِضَافَةُ إِلَى الْأَوْصَافِ لَا تُوجِبُ التَّمْلِيكَ لِلْجَهَالَةِ بِالْمَالِكِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ هَذِهِ الدَّارُ لَزَيْدٍ صَحَّ إِقْرَارُهُ، وَلَوْ قَالَ هَذِهِ الدَّارُ لِإِنْسَانٍ لَمْ يَصِحَّ إِقْرَارُهُ.
قِيلَ: قَدْ يَصِحُّ تَمْلِيكُ الْأَصْنَافِ كَمَا يَصِحُّ تَمْلِيكُ الْأَعْيَانِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ قَدْ أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِلْفُقَرَاءِ وَالْغَارِمِينَ صَحَّ أَنْ يَمْلِكُوهُ كَمَا يَصِحُّ إِذَا أَوْصَى بِهِ لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو وَبَكْرٍ أَنْ يَمْلِكُوهُ.
وَالدَّلِيلُ الثَّانِي: مِنَ الْآيَةِ أَنَّ لِلْإِضَافَةِ وَجْهَيْنِ: تَشْرِيكٌ وَتَخْيِيرٌ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صِيغَةٌ، وَصِيغَةُ التَّشْرِيكِ الْوَاوُ كَقَوْلِهِ أَعْطِ هَذَا الْمَالَ لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو، فَيَقْتَضِي اشْتِرَاكَهُمَا فِيهِ وَلَا يَقْتَضِي تَفَرُّدَ أَحَدِهِمَا بِهِ، وَصِيغَةُ التَّخْيِيرِ تَكُونُ بِ " أَوْ " كَقَوْلِهِ: أَعْطِ هَذَا الْمَالَ لِزَيْدٍ أَوْ عَمْرٍو فَيَكُونُ مُخَيَّرًا فِي إِعْطَائِهِ لِأَحَدِهِمَا، وَلَا يَقْتَضِي أَنْ يُشْرِكَ بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا كَانَتِ الْإِضَافَةُ فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ عَلَى صِيغَةِ التَّشْرِيكِ دُونَ التَّخْيِيرِ وَجَبَ حَمْلُهَا عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَيُحْمَلُ مِلْكُ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ لِجَمِيعِ الصَّدَقَاتِ لَا لِكُلِّ صَدَقَةٍ مِنْهَا فَنَدْفَعُ صَدَقَةَ زَيْدٍ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَصَدَقَةَ عَمْرٍو إِلَى الْمَسَاكِينِ وَصَدَقَةَ بَكْرٍ إِلَى الْغَارِمِينَ، قِيلَ هَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ أبا حنيفة لَا يَعْتَبِرُ هَذَا فِي الصَّدَقَاتِ.
وَالثَّانِي: أنه قد يجوز أن ينفق جَمِيعُ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ عَلَى صَرْفِهَا كُلِّهَا فِي أَحَدِ الْأَصْنَافِ فَلَا يُوجَدُ مَا ذَكَرَهُ عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ هَذِهِ الْإِضَافَةِ تَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ كُلُّ صَدَقَةٍ لِمَنْ سُمِّيَ أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ: هَذِهِ الدُّورُ الثَّلَاثَةُ لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو وَبَكْرٍ كَانَتْ كُلُّ دَارٍ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا، وَلَمْ يُجْعَلْ كُلُّ دَارٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ مَا رَوَى زِيَادُ بْنُ الْحَارِثِ الصُّدَائِيُّ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أَعْطِنِي مِنَ(8/479)
الصَّدَقَاتِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَرْضَ فِي قِسْمَةِ الصَّدَقَاتِ بِنَبِيٍّ مُرْسَلٍ وَلَا مَلَكٍ مُقَرَّبٍ فَتَوَلَّى قِسْمَتَهَا بِنَفْسِهِ وَجَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ فَإِنْ كُنْتَ مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُكَ حَقَّكَ.
فَأَخْبَرَ أَنَّهَا مَقْسُومَةٌ ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ، وَأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يُعْطَى مِنْهَا إِلَّا قَدْرَ حَقِّهِ، وَهَذَا نَصٌّ لَا يُحْتَمَلُ خِلَافُهُ وَلِأَنَّهُ مَالٌ أُضِيفَ شَرْعًا إِلَى أَصْنَافٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُخْتَصَّ بِهِ بَعْضُ تِلْكَ الْأَصْنَافِ كَالْخُمُسِ وَلِأَنَّهُ مَالٌ لَوْ جُعِلَ لِصِنْفٍ وَاحِدٍ لَمْ يَعْدُهُ فَوَجَبَ إِذَا جَعَلَ الْأَصْنَافَ أَنْ يَقْتَسِمُوهُ كَالْوَصَايَا وَلِأَنَّ الْفُقَرَاءَ أَحَدُ أَصْنَافِ الصَّدَقَاتِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُخْتَصُّوا بِهَا كَالْعَامِلِينَ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} فَهُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْآيَةِ تَفْضِيلُ الْإِخْفَاءِ عَلَى الْإِبْدَاءِ لِإِتْيَانِ الْمَصْرِفِ، وَإِنَّمَا قُصِدَ بَيَانُ الْمَصْرِفِ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الْآيَةَ فَوَجَبَ أَنْ يُقْضَى بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تِلْكَ أَوْ تُحْمَلَ هَذِهِ عَلَى الْفَرْضِ وَتِلْكَ عَلَى التَّطَوُّعِ.
وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} عَلَى أَنَّهُ جَعَلَ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ فِي ذَلِكَ حَقًّا وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِمْ فِيهِ حَقٌّ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ فَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ " فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ لِأَنَّ أبا حنيفة وَإِنْ جَوَّزَ دَفْعَهَا إِلَى الْفُقَرَاءِ فَلَيْسَ يَمْنَعُ مِنْ صَرْفِهَا فِي غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَصْنَافِ فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي " فُقَرَائِكُمْ " أَيْ فِي ذَوِي الْحَاجَةِ مِنْكُمْ وَجَمِيعِ أَهْلِ الْأَصْنَافِ مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ حَاجَاتُهُمْ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: الْمَقْصُودُ بِالْخَبَرِ عَوْدُ الصَّدَقَاتِ عَلَيْنَا وَأَنَّ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يَسْتَبِدُّ بِشَيْءٍ مِنْهَا دُونَنَا فَحُمِلَ الْخَبَرُ عَلَى مَقْصُودِهِ كَالَّذِي رَوَاهُ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ فِي سَائِمَةِ الْإِبِلِ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ ابْنَةُ لَبُونٍ مَنْ أَعْطَاهَا مُؤْتَجِرًا فَلَهُ أَجْرُهَا، وَمَنْ مَنَعَهَا فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ عَزْمَةٌ مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا لَيْسَ لِآلِ مُحَمَّدٍ مِنْهَا شَيْءٌ فَحُمِلَ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى الْمَقْصُودِ بِهِ فِي أَنَّهُ لَيْسَ لِآلِ مُحَمَّدٍ فِيهَا شَيْءٌ، وَلَمْ يُحْمَلْ عَلَى أَخْذِ الشَّطْرِ إِنْ مُنِعَ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ الْأَنْصَارِيِّ. فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صَدَقَةَ بَنِي زُرَيْقٍ كَانَتْ وَقْفًا لَا زَكَاةً فَلَا يَكُونُ فِيهَا دَلِيلٌ.
وَالثَّانِي: أن مَعْنَاهُ فَلْيَدْفَعْ إِلَيْكَ حَقَّكَ مِنْهَا، أَوْ يَكُونُ: لم يبق منها إلا حق فيعتبر واحد فدفعه إليه.(8/480)
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ دَفْعُهَا إِلَى بَعْضِ الصِّنْفِ جَازَ دَفْعُهَا إِلَى بَعْضِ الْأَصْنَافِ فَهُوَ أَنَّ دَفْعَهَا إِلَى بَعْضِ الصِّنْفِ تَخْصِيصُ عُمُومٍ فَجَوَّزْنَاهُ وَدَفْعُهَا إِلَى بَعْضِ الْأَصْنَافِ نَسْخُ نَصٍّ فَأَبْطَلْنَاهُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِرَدِّ سَهْمِ مَنْ فُقِدَ مِنَ الْأَصْنَافِ عَلَى مَنْ وُجِدَ فَهُوَ بَاطِلٌ بِمِيرَاثِ الزَّوْجَاتِ الْأَرْبَعِ الرُّبُعَ، وَلَوْ بَقِيَتْ وَاحِدَةٌ لَكَانَ لَهَا فَلَمْ يَصِحَّ الِاسْتِدْلَالُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ سَدُّ الْخَلَّةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْمَقْصُودَ بِبَعْضِهِ سَدُّ الْخَلَّةِ فِي الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَبَعْضُهُ مَعُونَةٌ لِفَكِّ رِقَابِ الْمَسَاكِينِ وَالْغَارِمِينَ.
وَالثَّانِي: إِنَّ الْمَقْصُودَ سَدُّ خَلَّاتِ الْأَصْنَافِ كُلِّهَا لَا بَعْضِهَا فَلَمْ يَسْلَمِ الدَّلِيلُ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ وُجُوبِ مَصْرِفِهَا فِي الْأَصْنَافِ كُلِّهِمْ لَمْ يَخْلُ حَالُ رَبِّ المال من أن يتول تَفْرِيقَهَا بِنَفْسِهِ أَوْ يَدْفَعَهَا إِلَى الْإِمَامِ، فَإِنْ فَرَّقَهَا بِنَفْسِهِ سَقَطَ مِنْهَا سَهْمُ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا لِأَنَّهُمْ لَا عَمَلَ لَهُمْ فِيهَا وَقَسَمَ عَلَى سَبْعَةِ أَصْنَافٍ إِنْ وُجِدُوا فَإِنْ أَخَلَّ بِبَعْضِهِمْ ضُمِنَ سَهْمُهُمْ مِنْهَا، وَإِنْ دَفَعَهَا إِلَى الْإِمَامِ أَوْ سَاعِيهِ كَانَتْ يَدُهُ يَدًا لِأَهْلِ السُّهْمَانِ بِنِيَابَتِهِ عَنْهُمْ وَوِلَايَتِهِ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ حُصُولُهَا فِي يَدِ الْإِمَامِ أَوْ سَاعِيهِ مُسْقِطًا لِفَرْضِهَا عَنْ رَبِّ الْمَالِ ثُمَّ الْإِمَامُ بِالْخِيَارِ بِحَسَبِ مَا يُؤَدِّي اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ فِي أَنْ يُفَرِّقَ كُلَّ صَدَقَةٍ فِي جَمِيعِ الْأَصْنَافِ وَيَكُونُوا ثَمَانِيَةً يُدْخِلُ فِيهِمُ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا إِنْ عَمِلُوا فِيهَا أَوْ يَدْفَعُ كُلَّ صَدَقَةٍ إِلَى صِنْفٍ مِنَ الْأَصْنَافِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الصَّدَقَاتِ إِذَا جُعِلَتْ بِيَدِهِ صَارَتْ كالصدقة الواحدة.
مسألة:
قال الشافعي: " وَلَا يَخْرُجُ عَنْ بَلَدٍ وَفِيهِ أَهْلُهُ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ بعثه " فإن أجابوك فأعملهم أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ " ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ زَكَاةُ الْأَمْوَالِ يَجِبُ صَرْفُهَا فِي بَلَدِ الْمَالِ وَلَا يَجُوزُ نَقْلُهَا عَنْهُ، فَإِنْ نُقِلَتْ فَقَدْ أَسَاءَ نَاقِلُهَا وَفِي إِجْزَائِهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُجْزِئُهُ وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة وَيَكُونُ عِنْدَهُ مُسِيئًا إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْبَلَدُ الَّذِي نَقَلَهَا إِلَيْهِ أَمَسَّ حَاجَةً فَلَا يَكُونُ عِنْدَهُ مُسِيئًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ نَقْلُهَا وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ.
فَإِذَا قِيلَ بِالْأَوَّلِ إِنَّهُ يُجْزِئُ وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة فَدَلِيلُهُ قَوْله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} الْآيَةَ فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ، وَرُوِيَ أَنَّ قَبِيصَةَ بْنَ الْمُخَارِقِ الْهِلَالِيَّ وَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي تَحَمَّلْتُ بِحَمَالَةٍ فَأَعِنِّي، فَقَالَ: نُؤَدِّهَا عَنْكَ إِذَا قَدَّمْتَ لَنَا نَعَمَ الصَّدَقَةِ.
فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَتْ تُحْمَلُ إِلَيْهِ صَدَقَاتُ الْبِلَادِ.(8/481)
وَرُوِيَ أَنَّ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ حَمَلَ صَدَقَةَ قَوْمِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثُمَّ إِلَى أَبِي بَكْرٍ مِنْ بَعْدِهِ.
وَرُوِيَ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَالَ لِأَهْلِ الْيَمَنِ ائْتُونِي بِخَمِيسٍ أَوْ لَبِيسٍ آخُذُهُ مِنْكُمْ مَكَانَ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ، فَإِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ وَخَيْرٌ لِلْمُهَاجِرِينَ بِالْمَدِينَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ يُنْقَلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - زَكَاةُ الْيَمَنِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَلِأَنَّ مَا لَزِمَ إِخْرَاجُهُ لِلطُّهْرَةِ لَمْ يُخْتَصَّ بِبَلَدِهِ كَالْكَفَّارَةِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ فِعْلُ الصَّلَاةِ فِي غَيْرِ بَلَدِ الْوُجُوبِ جَازَ نَقْلُ الزَّكَاةِ إِلَى غَيْرِ بَلَدِ الْوُجُوبِ.
إِذَا قِيلَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي إِنَّ ذَلِكَ لَا يُجْزِئُ وَهُوَ الْقَوْلُ الْأَصَحُّ، فَدَلِيلُهُ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: ادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةٍ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ فِي أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ.
فَجَعَلَ وُجُوبَ أَخْذِهَا مِنْ أَغْنِيَاءِ الْيَمَنِ مُوجِبًا لِرَدِّهَا عَلَى فُقَرَاءِ الْيَمَنِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ نَقْلِهَا عَنْ بَلَدٍ مِنْ بِلَادِ الْيَمَنِ إِلَى غَيْرِهَا مِنْ بِلَادِ الْيَمَنِ، وَإِنْ دَلَّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ نَقْلِهَا إِلَى غَيْرِ الْيَمَنِ.
قِيلَ لَمَّا جَعَلَ مَحَلَّ الْوُجُوبِ مَحَلَّ التَّفْرِقَةِ اقْتَضَى أَنْ يَتَمَيَّزَ فِيهَا بِلَادُ الْيَمَنِ كَمَا يَتَمَيَّزُ بِهَا جَمِيعُ الْيَمَنِ عَلَى أَنَّ مَنْ جَوَّزَ نَقْلَهَا سَوَّى فِي الْجَوَازِ بَيْنَ الْإِقْلِيمِ الْوَاحِدِ وَالْأَقَالِيمِ، وَمَنْ مَنَعَ مِنْ نَقْلِهَا سَوَّى فِي الْمَنْعِ بَيْنَ الْإِقْلِيمِ الْوَاحِدِ وَالْأَقَالِيمِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُعَاذٍ أَنَّهُ قَالَ أَيُّمَا رَجُلٍ انْتَقَلَ مِنْ مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ إِلَى غَيْرِ مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ فَجَعْلُهُ النُّقْلَةَ عَنِ الْمَكَانِ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ يَمْتَنِعُ مِنْ نَقْلِهَا عَنْهُ، وَذَلِكَ صَادِرٌ عَنْهُ بِالْأَمْرِ الَّذِي تَقَدَّمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَيْهِ فَصَارَ كَالْمَنْقُولِ عَنْهُ نَصًّا، وَلِأَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَى الْأَبْدَانِ.
وَالثَّانِي: فِي الْأَمْوَالِ.
فَلَمَّا كَانَ فِي حُقُوقِ الْأَبْدَانِ مَا يَخْتَصُّ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ، وَهُوَ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي حُقُوقِ الْأَمْوَالِ مَا يَخْتَصُّ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ، وَهُوَ الزَّكَاةُ وَلِأَنَّ اخْتِصَاصَ الزَّكَاةِ بِالْمَكَانِ كَاخْتِصَاصِهَا بِأَهْلِ السُّهْمَانِ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ نَقْلُهَا عَنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ لَمْ يَجُزْ نَقْلُهَا عَنِ الْمَكَانِ.
وَأَمَّا الْأَجْوِبَةُ عَنْ دَلَائِلِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَالْآيَةُ قَصْدُهَا بَيَانُ أَهْلِ السُّهْمَانِ دُونَ الْمَكَانِ فَلَمْ يُعْدَلْ بِهَا عَنْ مَقْصُودِهَا.(8/482)
وَأَمَّا حَدِيثُ قَبِيصَةَ بْنَ الْمُخَارِقِ فَمَحْمُولٌ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ:
إِمَّا عَلَى مَا فِي سَوَادِ المدينة من الصدقات أو على ما لم يُوجَدُ فِي بَلَدِ الْمَالِ مُسْتَحِقٌّ لَهَا.
وَأَمَّا قَوْلُ مُعَاذٍ " ائْتُونِي بِخَمِيسٍ أَوْ لَبِيسٍ " فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَالِ الْجِزْيَةِ، لِأَنَّ الْمُهَاجِرِينَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ يُصْرَفُ إِلَيْهِمُ الْجِزْيَةُ، وَلَا تُصْرَفُ إِلَيْهِمُ الزَّكَاةُ.
وَأَمَّا نَقْلُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ صَدَقَاتِ قَوْمِهِ فَفِيهِ أَجْوِبَةٌ:
أَحَدُهَا: إِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْمُهُ حَوْلَ الْمَدِينَةِ وَفِي سَوَادِهَا فَنَقَلَ زَكَاتَهُمْ إِلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَقَلَهَا وَمُسْتَحِقُّوهَا بِالْمَدِينَةِ لِيَتَوَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَسْمَهَا فِيهِمْ.
وَالثَّالِثُ: إِنَّهُ أَظْهَرَ الطَّاعَةَ بِنَقْلِهَا لَا سِيَّمَا وَقَدْ مَنَعَ النَّاسُ الزَّكَاةَ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَدَّهَا إِلَيْهِ لِيُفَرِّقَهَا، عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ رَدَّ عَلَيْهِ صَدَقَاتِ قَوْمِهِ وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الزَّكَاةِ فِي الْجَوَازِ مَا جَعَلُوهُ فَرْقًا بَيْنَهُمَا فِي الْكَرَاهَةِ لِأَنَّهُمْ كَرِهُوا نَقْلَ الزَّكَاةِ وَلَمْ يَكْرَهُوا نَقْلَ الْكَفَّارَةِ.
وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْكَرَاهَةِ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْجَوَازِ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لا ينتفع أهل البلد بإقامتها فيهم، وينتفعوا أَهْلُ الْبَلَدِ بِتَفْرِيقِ الزَّكَاةِ فِيهِمْ فَجَازَ أَنْ يكون لهم في فريق الزَّكَاةِ حَقٌّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِي إِقَامَةِ الصَّلَاةِ حَقٌّ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا تَقَرَّرَ اخْتِصَاصُ الزَّكَاةِ بِمَكَانِهَا وَوُجُوبُ تَفْرِيقِهَا فِي نَاحِيَتِهَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الزَّكَاةِ مِنْ أَنْ تَكُونَ زَكَاةَ مَالٍ أَوْ زَكَاةَ فِطْرٍ، فَإِنْ كَانَتْ زَكَاةَ مَالٍ فَالْمُرَاعَى فِيهَا مَكَانُ الْمَالِ لَا مَكَانُ الْمَالِكِ فَلَوْ كَانَ فِي نَاحِيَةٍ وَمَالُهُ فِي أُخْرَى كَانَ نَاحِيَةُ الْمَالِ وَمَكَانُهُ أَحَقَّ بِتَفْرِيقِ زَكَاتِهِ فِيهَا مِنْ نَاحِيَةِ الْمَالِكِ ثُمَّ فِي نَاحِيَةِ الْمَالِ الَّتِي هِيَ أَحَقُّ بِتَفْرِيقِ زَكَاتِهِ فِيهَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُمَا مِنَ الْمَالِ لِمَسَافَةٍ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ؛ لِأَنَّهَا مَسَافَةُ الْإِقَامَةِ الَّتِي لَا يُقْصَرُ فِي مِثْلِهَا الصَّلَاةُ فَكَانَتْ حَدًّا لِمُسْتَحَقِّ الزَّكَاةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهَا الْبَلَدُ الَّذِي فِيهِ الْمَالُ، وَمَا أَحَاطَ بِهِ بِبِنَائِهِ دُونَ مَا خَرَجَ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَتْ زَكَاةَ زَرْعٍ وَثَمَرٍ فِي صَحْرَاءَ لَا بُنْيَانَ فِيهَا فَفِي أَقْرَبِ الْبِلَادِ وَالْبُنْيَانِ إِلَيْهَا، وَسَوَاءً كَانَ الْبَلَدُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا يَكُونُ جَمِيعُ أَهْلِ الْبَلَدِ مُسْتَحِقِّينَ لَهَا، وَإِنْ كَانَتْ زَكَاةَ مَالٍ نَاضٍّ، فَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ صَغِيرًا فَجَمِيعُ أَهْلِهِ فِيهِ سَوَاءٌ، وَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ وَاسِعًا كالبصرة وبغداد كان جبران الْمَالِ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ أَخَصَّ بِهَا مِنْ غَيْرِهِمْ، وَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى أَوْ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُمْ أَوْلَى بِهِمَا لِأَجْلِ الْجِوَارِ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا أَحَقَّ فَإِنْ فُرِّقَتْ فِي غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ أَجْزَأَ وَإِنْ عُدِلَ عَنِ الْأَوْلَى.(8/483)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُمْ أَحَقُّ بِهَا وَإِنْ فُرِّقَتْ فِي غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ لَمْ يُجْزِهِ إذا قيل إن نقل الزكاة، ولا يُجْزِئُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الجنب} [النساء: 36] يعني الجار ذِي الْقُرْبَى الْجَارَ الْقَرِيبَ فِي نَسَبِهِ، وَبِالْجَارِ الْجُنُبِ الْبَعِيدَ فِي نَسَبِهِ، فَاعْتُبِرَ فِي الْقَرِيبِ والبعيد الجوار ثم قال " والصاحب بالجنب " وَفِيهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: إِنَّهُ الرَّفِيقُ فِي السفر [وهو قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة] .
وَالثَّانِي: إِنَّهُ الَّذِي يَلْزَمُكَ وَيَصْحَبُكَ رَجَاءَ نَفْعِكَ [وهو قول ابن زيد] .
وَالثَّالِثُ: إِنَّهَا الزَّوْجَةُ الَّتِي تَكُونُ إِلَى جَنْبِكَ [وهو قول ابن مسعود] .
هَذَا إِذَا كَانَ رَبُّ الْمَالِ هُوَ الْمُفَرِّقَ لِزَكَاتِهِ فَأَمَّا إِنْ فَرَّقَهَا الْإِمَامُ أَوْ عَامِلُهُ فَجَمِيعُ أَهْلِ الْبَلَدِ فِيهَا سَوَاءٌ، لِمَا فِي مُرَاعَاةِ الْإِمَامِ لِذَلِكَ مَعَ اجْتِمَاعِ الزَّكَوَاتِ بِيَدِهِ فِي الْمَشَقَّةِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا وَلَا يُمْكِنُهُ حِفْظُهَا فَأَمَّا زَكَاةُ الْفِطْرِ، فَإِنْ كَانَ مَالُ الْمُزَكِّي فِي بَلَدٍ أَخْرَجَهَا مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ مَالُهُ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ فَفِيهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُرَاعَى فِيهِ بَلَدُ الْمَالِ لَا بَلَدُ الْمُزَكِّي لِتَعَلُّقِ وُجُوبِهَا بِالْمَالِ فَكَانَ بَلَدُ الْمَالِ أَحَقَّ أَنْ يُرَاعَى كَسَائِرِ الزَّكَوَاتِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُرَاعَى فِيهِ بَلَدُ الْمُزَكِّي لِأَنَّهَا عَنْهُ لَا عَنْ مَالِهِ فَكَانَ بَلَدُهُ أَنْ يُرَاعَى إِخْرَاجُهَا فِيهِ أَوْلَى مِنْ بَلَدِ مَالِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي: " وَتُرَدُّ حِصَّةُ مَنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ عَلَى مَنْ وُجِدَ مِنْهُمْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الزَّكَاةَ مُسْتَحَقَّةٌ لِلْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا كَانُوا هُمُ الْمُسْتَحِقُّونَ لَهَا لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ.
إِمَّا أَنْ يُفَرِّقَهَا رَبُّ الْمَالِ بِنَفْسِهِ أَوْ يَدْفَعَهَا إِلَى الْإِمَامِ أَوْ يَدْفَعَهَا إِلَى عَامِلِ الْإِمَامِ عَلَيْهَا، فَإِنْ فَرَّقَهَا رَبُّ الْمَالِ بِنَفْسِهِ سَقَطَ مِنْهَا سَهْمُ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا لِفَقْدِ عَمَلِهِمْ فِيهَا، وَوَجَبَ قَسْمُهَا عَلَى الْأَصْنَافِ السَّبْعَةِ عَلَى سَبْعَةِ أَسْهُمٍ مُتَسَاوِيَةٍ لَا يُفَضِّلُ صِنْفًا عَلَى سَهْمِهِ، وَإِنْ كَانُوا أَمَسَّ حَاجَةً وَلَا يَنْقُصُ صِنْفًا عَنْ سَهْمِهِ وَإِنْ كَانُوا أَقَلَّ حَاجَةً، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّى قِسْمَتَهَا بِنَفْسِهِ وَقَطَعَ الِاجْتِهَادَ فِيهَا بِتَفْضِيلٍ أَوْ نُقْصَانٍ، فَإِنْ فَضَّلَ صِنْفًا عَلَى غَيْرِهِ كَانَ التَّفْضِيلُ مُتَطَوَّعًا وَضُمِنَ لِلْمَفْضُولِ قَدْرَ حِصَّتِهِ مِنَ الْفَضْلِ كَمَا لَوْ أَسْقَطَ جَمِيعَ سَهْمِهِ صَارَ لِجَمِيعِهِ ضَامِنًا.
فَأَمَّا سَهْمُ كُلِّ صِنْفٍ فَإِنْ قَدَرَ عَلَى تَفْرِيقِهِ فِي جَمِيعِ الصِّنْفِ كَانَ أَوْلَى، وَإِنْ فَرَّقَهُ فِي بَعْضِ الصِّنْفِ أَجْزَأَهُ إِذَا فَرَّقَهُ فِي ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ فَصَاعِدًا، وَلَا يُجْزِئُهُ أَنْ يُفَرِّقَهُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ إِذَا وُجِدُوا لِأَنَّهُمْ أَقَلُّ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ، وَلَهُ الْخِيَارُ فِي الصِّنْفِ الْوَاحِدِ بَيْنَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمْ وَالتَّفْضِيلِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِمْ فَإِنْ تَسَاوَوْا فِي الْحَاجَةِ سَوَّى بَيْنَهُمْ فِي الْعَطِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ لَوْ فَاضَلَ أَجَزَأَ وَإِنْ تَفَاضَلُوا فِي الْحَاجَةِ فَاضَلَ بَيْنَهُمْ فِي العطية، وإن(8/484)
كَانَ لَوْ سَوَّى أَجْزَأَهُ فَلَوْ فَرَّقَ سَهْمَ الصِّنْفِ الْوَاحِدِ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَدَفَعَهُ إِلَى اثْنَيْنِ فَإِنْ كَانَ لِعَدَمِ الثَّالِثِ مِنْ ذَلِكَ الصِّنْفِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ كَانَ مَعَ وُجُودِهِ ضَمِنَ حِصَّةَ الثَّالِثِ، وَفِي قَدْرِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ ثُلُثَ ذَلِكَ السَّهْمِ اعْتِبَارًا بِالتَّسَاوِي فِيهِ.
وَالثَّانِي: يَضْمَنُ قَدْرَ الْإِجْزَاءِ وَهُوَ الْقَلِيلُ الَّذِي لَوْ أَعْطَاهُ ثَالِثًا أَجْزَأَهُ.
فَصْلٌ:
وَإِذَا دَفَعَهَا إِلَى الْإِمَامِ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُهَا بِقَبْضِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ فِي فَرْضِهَا فَصَارَتْ يَدُهُ كَأَيْدِيهِمْ ثُمَّ سَهْمُ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا قَدْ سَقَطَ مِنْهَا لِفَقْدِ عَمَلِهِمْ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَخْذُهُ لِأَنَّ نَظَرَهُ لَا يَخْتَصُّ بِالصَّدَقَاتِ وَإِنْ تَوَلَّاهَا فَلَمْ يَسْتَحِقَّ فِيهَا سَهْمًا، وَإِنَّمَا هُوَ عَامُّ النَّظَرِ وَرِزْقُهُ فِي مَالِ الْغَيْرِ ثُمَّ هُوَ بِالْخِيَارِ بِحَسَبِ مَا يُؤَدِّيهِ اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: إِمَّا أَنْ يُفَرِّقَ كُلَّ صَدَقَةٍ فِي جَمِيعِ الْأَصْنَافِ وَإِمَّا أَنْ يَجْمَعَ جَمِيعَ الصَّدَقَاتِ وَيُفَرِّقَهَا بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ جَمِيعِ الْأَصْنَافِ ثُمَّ يُفَاضِلُ بَيْنَ كُلِّ صِنْفٍ أَوْ يُسَاوِي، وَإِمَّا أَنْ يَدْفَعَ كُلَّ صَدَقَةٍ إِلَى أَحَدِ الْأَصْنَافِ فَيُرَاعِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمْ فِي جَمِيعِ الصَّدَقَاتِ، فَإِنْ أَخَلَّ بِصِنْفٍ مِنَ الْأَصْنَافِ فَلَمْ يُعْطِهِمْ شَيْئًا مِنْ جَمِيعِ الصَّدَقَاتِ ضَمِنَ فِي أَمْوَالِ الصَّدَقَاتِ لَا فِي مَالِ نَفْسِهِ قَدْرَ سَهْمِهِمْ من تلك الصدقات وخالف في ذلك رب المال الذي لا يضمنه في مال نفسه.
فَصْلٌ:
وَإِنْ دَفَعَهَا إِلَى الْعَامِلِ أَجْزَأَهُ وَكَانَ سَهْمُ الْعَامِلِ فِيهَا ثَابِتًا فَإِنْ فَوَّضَ الْإِمَامُ إِلَيْهِ جِبَايَتَهَا وَتَفْرِيقَهَا أَخَذَ سَهْمَ الْجِبَايَةِ وَالتَّفْرِيقِ وَفَعَلَ فِيهَا مِثْلَ مَا فَعَلَهُ الْإِمَامُ إِلَّا أَنَّ خِيَارَهُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ بَيْنَ أَنْ يُفَرِّقَ كُلَّ صَدَقَةٍ فِي جَمِيعِ الْأَصْنَافِ، وَبَيْنَ أَنْ يَجْمَعَ جَمِيعَ الصَّدَقَاتِ وَيَصْرِفَهَا فِي جَمِيعِ الْأَصْنَافِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخُصَّ بِكُلِّ صَدَقَةٍ صِنْفًا كَالْإِمَامِ لِأَنَّ نَظَرَ الْعَامِلِ خَاصٌّ لَا يَسْتَقِرُّ إل اعلى ما جباه وربما صرف فلم يقضي بَاقِيَ الْأَصْنَافِ، وَإِنِ اقْتَصَرَ الْإِمَامُ بِالْعَامِلِ عَلَى جِبَايَةِ الصَّدَقَاتِ دُونَ تَفْرِيقِهَا أَخَذَ الْعَامِلُ مِنْهَا قَدْرَ حَقِّهِ مِنَ الْجِبَايَةِ دُونَ التَّفْرِقَةِ وَلَمْ يَكُنْ لِلْعَامِلِ أَنْ يُفَرِّقَهَا، فَإِنْ فَرَّقَهَا ضَمِنَ مَا فَرَّقَهُ فِي مَالِ نَفْسِهِ، وَكَانَ الْإِمَامُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَتَوَلَّى تَفْرِيقَهَا بِنَفْسِهِ فَيُسْقِطُ مِنْهَا سَهْمَ التَّفْرِقَةِ، وَبَيْنَ أَنْ يُوَلِّيَ مِنْ عُمَّالِ الصَّدَقَاتِ مَنْ يُفَرِّقُهَا فَيَأْخُذُ مِنْهَا سَهْمَ التَّفْرِقَةَ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا إِذَا عَدِمَ بَعْضَ الْأَصْنَافِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْدُمُوا فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ فَيُسْقِطُ سَهْمَهُمْ بِعَدَمِهِمْ وَيُقَسِّمُ الصَّدَقَةَ عَلَى مَنْ وَجَدَ مِنْهُمْ فَإِنْ كَانَ الْبَاقُونَ مِنَ الْأَصْنَافِ خَمْسَةً قُسِّمَتِ الزَّكَاةُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمْ سَهْمٌ، وَإِنْ بَقِيَ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ قُسِّمَتْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ لِكُلِّ صِنْفٍ سَهْمٌ.
فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ لَوْ وَصَّى بثلثه لثلاثة فقد أحدهما لَمْ يَرُدَّ سَهْمَهُ عَلَى مَنْ وَجَدَ فَهَلَّا كَانَتْ سِهَامُ الْأَصْنَافِ هَكَذَا، قِيلَ: لِأَنْ لَيْسَ للصدقات غَيْرَ الْأَصْنَافِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُرَدَّ سَهْمُ الْمَفْقُودِ عَلَيْهِمْ وَالضَّرْبُ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَلِمَالِ الْمَيِّتِ مَصْرِفٌ غَيْرُ أَهْلِ الْوَصَايَا فَلَمْ يُرَدَّ سَهْمُ المفقود عليهم.(8/485)
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَعْدُمُوا فِي بَلَدِ الْمَالِ وَيُوجَدُوا فِي غَيْرِ الْبِلَادِ، فَيَنْقَسِمُ حَالُ مَنْ عُدِمَ مِنْهُمْ فِي بَلَدِ الْمَالِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يُنْقَلُ سَهْمُهُمْ، وَقِسْمٌ لَا يُنْقَلُ سَهْمُهُمْ، وَقِسْمٌ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي نَقْلِ سَهْمِهِمْ، فَأَمَّا مَنْ يُنْقَلُ سَهْمُهُمْ إِلَى الْبِلَادِ الَّتِي يُوجَدُونَ فِيهَا فَهُمُ الْغُزَاةُ يُنْقَلُ سَهْمُ سَبِيلِ اللَّهِ الْمَصْرُوفُ إِلَيْهِمْ مِنْ بَلَدِ الْمَالِ الَّذِي فُقِدُوا فِيهِ إِلَى الْبِلَادِ الَّتِي يُوجَدُونَ فِيهَا مِنَ الثُّغُورِ وَغَيْرِهَا؛ لِأَنَّهُمْ يَكْثُرُونَ فِي الثُّغُورِ وَيَقِلُّونَ فِي غَيْرِهَا فَلَمْ يَكْتَفُوا بِسَهْمِهِمْ مِنْ صَدَقَاتِ بِلَادِهِمْ، وَأَمَّا مَنْ لَا يُنْقَلُ سَهْمُهُمْ فَهُمُ الْعَامِلُونَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُمْ إِذَا قَعَدُوا قَامَ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ مَقَامَهُمْ فِيهَا؛ وَلِأَنَّ سَهْمَهُمْ يَسْقُطُ مَعَ الْحُضُورِ إِذَا لَمْ يَعْمَلُوا فَكَيْفَ بِهِمْ إِذَا قَعَدُوا، وَأَمَّا مَنِ اخْتَلَفَ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي نَقْلِ سَهْمِهِمْ فَهُمْ بَاقِي الْأَصْنَافِ، وَفِيهِمْ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُنْقَلُ اعْتِبَارًا بِتَغْلِيبِ الْمَكَانِ عَلَى الصِّنْفِ وَيُقَسَّمُ عَلَى مَنْ وُجِدَ دُونَ مَنْ فُقِدَ كَمَا يُعْتَبَرُ عَدَمُ الْمَاءِ فِي جَوَازِ التَّيَمُّمِ لِمَكَانِ عَدَمِهِ، وَيُعْتَبَرُ حَالُ ابْنِ السَّبِيلِ بِمَكَانِ حَاجَتِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُنْقَلُ اعْتِبَارًا بِتَغْلِيبِ الصِّنْفِ عَلَى الْمَكَانِ فَيُنْقَلُ إِلَى أَقْرَبِ الْبِلَادِ الَّتِي تُوجَدُ فِيهَا مَنْ فُقِدَ مِنَ الْأَصْنَافِ، لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَصْنَافِ لَهَا ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَاخْتِصَاصَ الْمَكَانِ بِهَا ثَابِتٌ بِالِاجْتِهَادِ، فَإِذَا تَعَارَضَ كَانَ تَغْلِيبُ مَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَوْلَى مِنْ تَغْلِيبِ مَا ثَبَتَ بِالِاجْتِهَادِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي: " وَيُجْمِعُ أَهْلُ السُّهْمَانِ أَنَّهُمْ أَهْلُ حَاجَةٍ إِلَى مَالِهِمْ مِنْهَا وَأَسْبَابُ حَاجَتِهِمْ مُخْتَلِفَةٌ وَكَذَلِكَ أَسْبَابُ اسْتِحْقَاقِهِمْ مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ مَالُ الصَّدَقَاتِ لَا يَنْصَرِفُ إِلَّا فِي ذَوِي الْحَاجَاتِ إِلَّا أَنَّهَا ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَنْ يُدْفَعُ إِلَيْهِ لِحَاجَتِهِ إِلَيْهَا وَهُمُ الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ والمكاتبون وأحد صنفي الغارمين الذي أُذِنُوا فِي مَصَالِحِ أَنْفُسِهِمْ وَبَنُو السَّبِيلِ.
وَالضَّرْبُ الثاني: من تدفع إليه لحاجتنا إليه وهو الْعَامِلُونَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ، وَأَحَدُ صِنْفَيِ الْغَارِمِينَ وَهُمُ الَّذِينَ أُذِنُوا فِي صَلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَالْغُزَاةِ، فَمَنْ دُفِعَتْ إِلَيْهِ لِحَاجَتِهِ إِلَيْهَا لَمْ يَسْتَحِقَّهَا إِلَّا مَعَ الْفَقْرِ وَلَمْ يُجْزِ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِ مَعَ الْغِنَى.
وَمَنْ دُفِعَتْ إِلَيْهِ لِحَاجَتِنَا إِلَيْهِ جَازَ أَنْ تُدْفَعَ إِلَيْهِ مَعَ الْغِنَى وَالْفَقْرِ ثُمَّ يَنْقَسِمُ جَمِيعُهُمْ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: فَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهَا وَيَسْتَحِقُّهَا بِسَبَبٍ مُتَقَدِّمٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهَا وَيَسْتَحِقُّهَا بِسَبَبٍ مُسْتَحْدَثٍ، فَأَمَّا الَّذِي يَأْخُذُهَا وَيَسْتَحِقُّهَا بِسَبَبٍ مُتَقَدِّمٍ فَهُمْ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: الْفُقَرَاءُ، وَالْمَسَاكِينُ، وَالْعَامِلُونَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الَّذِي بِهِ أَخَذُوا وَبِهِ اسْتَحَقُّوا هُوَ الْفَقْرُ وَالْمَسْكَنَةُ وَالْعَمَلُ، وَذَلِكَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْأَخْذِ فَإِذَا قَبَضُوهَا فَقَدِ اسْتَقَرَّ مِلْكُهُمْ عَلَيْهَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُسْتَرْجَعَ مِنْهُمْ وَإِنْ زَالَ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِهِمْ.(8/486)
وَأَمَّا الَّذِي يَأْخُذُهَا وَيَسْتَحِقُّهَا بِسَبَبٍ مُسْتَحْدَثٍ فَهُمْ صِنْفَانِ: بَنُو السَّبِيلِ، وَالْغُزَاةُ، فَيَأْخُذُ ابْنُ السَّبِيلِ لِيَبْتَدِئَ سَفَرَهُ، وَيَأْخُذُ الْغَازِي لِيَبْتَدِئَ جِهَادَهُ، فَإِذَا أَخَذُوا سَهْمَهُمْ مِنْهَا لَمْ يَسْتَقِرَّ مِلْكُهُمْ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يُسَافِرَ ابْنُ السَّبِيلِ وَيُجَاهِدَ الْغَازِي فَيَسْتَقِرُّ حِينَئِذٍ مِلْكُهُمْ عَلَى مَا أَخَذُوا، فَإِنْ لَمْ يُسَافِرِ ابْنُ السَّبِيلِ وَلَمْ يُجَاهِدِ الْغَازِي اسْتَرْجَعَ مِنْهُمَا مَا أَخَذَاهُ لِفَقْدِ السَّبَبِ الَّذِي يُعْتَبَرُ بِهِ الْأَخْذُ وَالِاسْتِحْقَاقُ، وَأَمَّا الَّذِي يَأْخُذُهَا بِسَبَبٍ مُتَقَدِّمٍ وَاسْتِحْقَاقٍ مُسْتَحْدَثٍ فَهُمْ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ يُدْفَعُ إِلَيْهِمْ لِتَغَيُّرِ نِيَّاتِهِمُ الْمُتَقَدِّمَةِ وَيَسْتَحِقُّونَهَا بِجِنْسِ نِيَّاتِهِمُ الْمُسْتَحْدَثَةِ وَالْمُكَاتَبُونَ يَأْخُذُونَهَا لِلْبَاقِي عليهم من أموال كتابتهم ويستحقونها بما يَسْتَحْدِثُونَ مِنْ قَضَاءِ دُيُونِهِمْ وَزَوَالِ غُرْمِهِمْ، فَهَؤُلَاءِ إِنْ حَدَثَ مِنْهُمْ بَعْدَ أَخْذِهَا مَا بِهِ يَسْتَقِرُّ الِاسْتِحْقَاقُ مِنْ حُسْنِ نِيَّاتِ الْمُؤَلَّفَةِ وَعِتْقِ الْمُكَاتَبِينَ بِالْأَدَاءِ وَقَضَاءِ دُيُونِ الْغَارِمِينَ بِالْقَضَاءِ فَلَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ مِنْهَا لِاسْتِقْرَارِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَالْحَادِثُ بَعْدَ الْأَخْذِ بِالسَّبَبِ الْمُتَقَدِّمِ وَإِنْ لَمْ يَحْدُثْ مِنْهُمْ بَعْدَ الْأَخْذِ مَا يَسْتَقِرُّ بِهِ الِاسْتِحْقَاقُ فَلَمْ يَحْسُنْ بِهِ نِيَّاتُ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَلَمْ يُؤَدِّ الْمُكَاتَبُونَ ذَلِكَ فِي عِتْقِهِمْ وَلَا قَضَاهُ الْغَارِمُونَ فِي دُيُونِهِمْ فَهَذَا يُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَ سَبَبُ الْأَخْذِ بَاقِيًا وَهُوَ بَقَاءُ الْكِتَابَةِ عَلَى الْمُكَاتَبِينَ وَبَقَاءُ الدَّيْنِ عَلَى الْغَارِمِينَ لَمْ يُسْتَرْجَعْ ذَلِكَ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَأْنَفَ دَفْعُهَا إِلَيْهِمْ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْتَرْجَعَ الْمُتَقَدِّمُ مِنْهُمْ وَكَذَلِكَ الْمُؤَلَّفَةُ لِأَنَّ ضَعْفَ نِيَّاتِهِمُ الَّتِي قصدوا له بتآلفهم باق ويقتضي اسْتِئْنَافَ الْعَطَاءِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَارَضَ بِالِاسْتِرْجَاعِ الْمُنْكَرِ وَإِنْ كَانَ سَبَبُ الْأَخْذِ قَدْ زَالَ مَعَ بَقَاءِ الصَّدَقَةِ بِأَيْدِيهِمْ كَعِتْقِ الْمُكَاتَبِ تَبَرُّعًا أَوْ بِأَدَاءِ مَنْ كَسَبَ وَزَالَ الْغُرْمُ بِإِبْرَاءٍ أَوْ بِقَضَاءٍ مِنْ كَسْبٍ اسْتُرْجِعَتْ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ سبب الاستحقاق لم يوجد.
مسألة:
قال الشافعي: " فَإِذَا اجْتَمَعُوا فَالْفُقَرَاءُ الزَّمْنَى الضِّعَافُ الَّذِينَ لَا حِرْفَةَ لَهُمْ وَأَهْلُ الْحِرْفَةِ الضَّعِيفَةِ الَّذِينَ لَا تَقَعُ فِي حِرْفَتِهِمْ مَوْقِعًا مِنْ حَاجَتِهِمْ وَلَا يسألون الناس (وقال) وفي الجديد زمنا كان أولى أو غير زمن سائلا أو متعففا (قال الشافعي) والمساكين السؤال ومن لا يسأل ممن له حرفة لا تقع منه موقعا ولا تغنيه ولا عياله وقال في الجديد سائلا كان أو غير سائل (قال المزني) أشبه بقوله ما قاله في الجديد لأنه قال لأن أهل هذين السهمين يستحقونهما بمعنى العدم وقد يكون السائل بين من يقل معطيهم وصالح متعفف بين من يبدونه بعطيتهم ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْفَقْرَ وَالْمَسْكَنَةَ اسْمَانِ يَشْتَرِكَانِ مِنْ وَجْهٍ وَيَفْتَرِقَانِ مِنْ وَجْهٍ، فَأَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي يَشْتَرِكَانِ فِيهِ فَهُوَ الضَّعْفُ، وَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِذَا أُفْرِدَ بِالذِّكْرِ شَارَكَهُ الْآخَرُ فِيهِ حَتَّى لَوْ وَصَّى بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْفُقَرَاءِ شَارَكَهُمُ الْمَسَاكِينُ وَلَوْ وَصَّى بِهِ لِلْمَسَاكِينِ شَارَكَهُمُ الْفُقَرَاءُ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي يَفْتَرِقَانِ فِيهِ فَهُوَ أَنَّهُ إِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا تَمَيَّزَا ثُمَّ اخْتُلِفَ فِي تَمَيُّزِهِمَا عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ هَلْ يَكُونُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا بِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْحَاجَةِ أَوْ بِاخْتِلَافِهِمَا فِي الصِّفَةِ فَذَهَبَتْ(8/487)
طَائِفَةٌ إِلَى تَمَيُّزِهَا بِالِاخْتِلَافِ فِي الصِّفَةِ مَعَ تَسَاوِيهِمَا فِي الضَّعْفِ وَالْحَاجَةِ، وَمَنْ قَالَ بِهَذَا اخْتَلَفُوا فِي الصِّفَةِ الَّتِي بِهَا وَقَعَ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: إِنَّ الْفَقِيرَ هُوَ الْمُحْتَاجُ الْمُتَعَفِّفُ عَنِ السُّؤَالِ وَالْمِسْكِينَ هُوَ الْمُحْتَاجُ السَّائِلُ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَالزُّهْرِيِّ.
وَالثَّانِي: إِنَّ الْفَقِيرَ هُوَ ذُو الزَّمَانَةِ وَالْمِسْكِينَ هُوَ الصَّحِيحُ الْجِسْمِ مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ، وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ.
وَالثَّالِثُ: إِنَّ الْفُقَرَاءَ هُمُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْمَسَاكِينَ غَيْرُ الْمُهَاجِرِينَ، وَهَذَا قَوْلُ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ.
وَالرَّابِعُ: إِنَّ الْفُقَرَاءَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمَسَاكِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهَذَا قَوْلُ عِكْرِمَةَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وأبو حنيفة وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ تَمْيِيزَهُمَا بِالِاخْتِلَافِ فِي الضَّعْفِ وَالْحَاجَةِ وَإِنْ تَسَاوَيَا فِي الصِّفَةِ، وَأَنَّ أَحَدَهُمَا أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْآخَرِ، فَبِذَلِكَ تَمَيَّزَ عَنْهُ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَيِّهِمَا أَسْوَأُ حَالًا الْفَقِيرُ أَوِ الْمِسْكِينُ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ الْفَقِيرَ هُوَ أَسْوَأُهُمَا حَالًا وَهُوَ الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ أَوْ لَهُ يَسِيرٌ تَافِهٌ لَا يُؤَثِّرُ فِي قَدْرِ حَاجَتِهِ.
وَالْمِسْكِينُ: هُوَ الَّذِي لَهُ مَا يُؤَثِّرُ فِي حَاجَتِهِ، وَيَقْتَصِرُ عَلَى كِفَايَتِهِ فَإِذَا كَانَتْ كِفَايَةُ الْوَاحِدِ عَشَرَةً فَإِنْ وَجَدَهَا فَلَيْسَ بِمِسْكِينٍ وَلَا فَقِيرٍ، وَإِنْ عَدِمَهَا أَوْ وَجَدَ أَقَلَّهَا كَانَ فَقِيرًا، وَإِنْ وَجَدَ أَكْثَرَهَا كَانَ مِسْكِينًا وَهَذَا فِي أَهْلِ اللُّغَةِ قَوْلُ الْأَصْمَعِيِّ وَقَالَ أبو حنيفة الْمِسْكِينُ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْفَقِيرِ فَالْمِسْكِينُ عِنْدَهُ عَلَى صِفَةِ الْفَقِيرِ عِنْدَنَا، وَالْفَقِيرُ عِنْدَهُ عَلَى صِفَةِ الْمِسْكِينِ عِنْدَنَا، وَهُوَ فِي أَهْلِ اللُّغَةِ قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَثَعْلَبٍ وَاخْتَارَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16] أي ملصق بِالتُّرَابِ لِضُرِّهِ وَعُرْيِهِ وَلَيْسَ أَحَدٌ أَسْوَأَ حَالًا مِمَّنْ هَذِهِ صِفَتُهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمِسْكِينَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْفَقِيرِ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ} [البقرة: 177] وَالسَّائِلُ أَحْسَنُ حَالًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمِسْكِينَ أَسْوَأُ حَالًا، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ بِمَصْرِفِ أَمْوَالِ الطُّهْرَةِ مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ مِنَ الْقُرَبِ وَالْكَفَّارَاتِ عَلَى الْمَسَاكِينِ دُونَ الْفُقَرَاءِ، فَدَلَّ تَخْصِيصُهُمْ بِالذِّكْرِ عَلَى اخْتِصَاصِهِمْ بسوء الحال.
قَالُوا: وَقَدْ حُكِيَ عَنْ يُونُسَ قَالَ: قُلْتُ لِأَعْرَابِيٍّ أَمِسْكِينٌ أَنْتَ، فَقَالَ: لَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ فَقِيرٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ أَحْسَنُ حَالًا مِنَ الْمِسْكِينِ؛ لِأَنَّ الْحَمْدَ يَكُونُ عَلَى أَحْسَنِ الْحَالَيْنِ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَيْضًا قَوْلُ:
(أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ ... وَفْقَ الْعِيَالِ فلم يترك له سيد)
فَسَمَّاهُ فَقِيرًا وَلَهُ حَلُوبَةٌ هِيَ وَفْقَ عِيَالِهِ.(8/488)
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ، وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] فَبَدَأَ بِذَوِي الْحَاجَاتِ بِالْفُقَرَاءِ وَالْبِدَايَةُ تَكُونُ بِالْأَهَمِّ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْفَقْرُ أَسْوَأَ حَالًا، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر: 51] وَلَمْ يَقُلِ الْمَسَاكِينُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ أَمَسُّ حَاجَةً وَأَسْوَأُ حَالًا من المسكين، وقال تعالى: {وأما السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف: 79] فَسَمَّاهُمْ مَسَاكِينَ وَلَهُمْ سَفِينَةٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ المسكين أحسن حالا.
وروى أبو زهرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ والتمرتان واللقمة واللقمتان، ولكن المسكين المتعفف أقراءوا إن شئتم " لا يسألون الناس إلحافا " فَكَانَ هَذَا نَصًّا فِي أَنَّ الْمِسْكِينَ أَحْسَنُ حَالًا.
وَرَوَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا، وَكَادَ الْحَسَدُ أَنْ يَغْلِبَ الْقَدَرَ، فَكَانَ هَذَا نَصًّا على أن الفقير أسوأ حالا.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمِسْكِينَ أَحْسَنُ حَالًا.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَنَّهُ كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنَ الْفَقْرِ اللَّازِبِ يَعْنِي اللَّازِمَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ أَسْوَأُ حَالًا.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ؛ لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ، وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الْأَخْلَقُ الْكَسْبِ قَالَ ابْنُ عُلَيَّةَ: الْأَخْلَقُ الْكَسْبِ: الْمُحَارِفُ، وَلِأَنَّ فِي اشْتِقَاقِ الْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْفَقْرَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْمَسْكَنَةِ.
أَمَّا الْفَقْرُ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اشْتِقَاقِهِ فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنِ انْكِسَارِ الْفَقَارِ، وَهُوَ الظَّهْرُ الَّذِي لَا تبقى مَعَهُ قُدْرَةٌ.
وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْفَاقَةِ، وَمِنْ قَوْله تَعَالَى: {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة: 25] وَفِيهَا ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ:(8/489)
أحدها: أنها [الفاقرة] الدَّاهِيَةُ الْعُظْمَى، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ.
وَالثَّانِي: إِنَّهَا الْهَلَاكُ الْمُسْتَأْصِلُ، وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ.
وَالثَّالِثُ: إِنَّهُ الشَّرُّ الْمُحَلَّى، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ، وَعَلَى أَيِّ التَّأْوِيلَاتِ كَانَ فَهُوَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي سُوءِ الْحَالِ.
وَأَمَّا الْمَسْكَنَةُ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اشْتِقَاقِهَا فَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْتَمَسْكُنِ وَهُوَ الْخُضُوعُ، وَقَالَ آخَرُونَ هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ السُّكُونِ، لِأَنَّ الْمِسْكِينَ مَا يُسْكَنُ إِلَيْهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَحْسَنُ حَالًا، وَلِأَنَّ شَوَاهِدَ أَشْعَارِ الْعَرَبِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، أَنْشَدَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ لِبَعْضِ الْعَرَبِ.
(هَلْ لَكَ فِي أَجْرٍ عَظِيمٍ تُؤْجَرُهْ ... تُغِيثُ مِسْكِينًا قَلِيلًا عَسْكَرُهْ)
(عَشْرُ شِيَاهٍ سَمْعُهُ وَبَصَرُهْ ... قَدْ حَدَّثَ النَّفْسَ بِمِصْرٍ يَحْضُرُهْ)
فَسَمَّاهُ مِسْكِينًا وَلَهُ عَشْرُ شِيَاهٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لِلْمِسْكِينِ مَالًا وَأَنَّهُ أَحْسَنُ حَالًا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16] فَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمِسْكِينِ هَا هُنَا الْفَقِيرُ لِأَنَّهُ لَمْ يُطْلِقْ ذِكْرَهُ، وَلَكِنْ قَيَّدَهُ بِصِفَاتِ الْفُقَرَاءِ، وَقَدْ يَنْطَلِقُ اسْمُ الْمِسْكِينِ عَلَى الْفَقِيرِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَإِنَّمَا كَلَامُنَا فِي الْمِسْكِينِ الَّذِي قَدْ أُطْلِقَتْ صِفَتُهُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ الْأُخْرَى فَهُوَ أَنَّ السَّائِلَ لَا يَكُونُ أَحْسَنَ حَالًا مِنَ الْمُتَعَفِّفِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْأَلُ فَيُحْرَمُ وَيَتَعَفَّفُ فَيُعْطَى.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ: لَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ أَنَا فَقِيرٌ، فَهُوَ إِذًا أَبَانَ بِذَلِكَ مَنْزِلَتَهُ فِي الشُّكْرِ مَعَ شِدَّةِ الضُّرِّ.
وَأَمَّا الشِّعْرُ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ أَخْذِ الْحَلُوبَةِ سَمَّاهُ فَقِيرًا حِينَ لَمْ يترك له سيد، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْفَقِيرَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْمِسْكِينِ فَقَدْ يَكُونُ الْفَقِيرُ سَائِلًا وَغَيْرَ سَائِلٍ وَقَدْ يَكُونُ الْمِسْكِينُ سَائِلًا وَغَيْرَ سَائِلٍ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَالْقَدِيمِ مِنَ التَّسْوِيَةِ فَظَنَّ الْمُزَنِيُّ أَنَّ قَوْلَهُ قَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ فَجَعَلَ الْجَدِيدَ أَوْلَى وَلَيْسَ كَمَا ظَنَّ والله أعلم.
مسألة:
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " فَإِنْ كَانَ رَجُلٌ جَلْدٌ يَعْلَمُ الْوَالِي أَنَّهُ صَحِيحٌ مُكْتَسِبٌ يُغْنِي عِيَالَهُ أَوْ لَا عِيَالَ لَهُ يُغْنِي نَفْسَهُ بِكَسْبِهِ لَمْ يُعْطِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الْمُكْتَسِبُ بِصَنْعَتِهِ قَدْرَ كِفَايَتِهِ وَكِفَايَةِ عِيَالِهِ لَا يَكُونُ فَقِيرًا وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ وَقَالَ أبو حنيفة: لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَإِنْ كَانَ مُكْتَسِبًا حَتَّى يَمْلِكَ نِصَابًا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ أَوْ مَا يَبْلُغُ قِيمَتُهُ نِصَابًا فَجَعَلَ الْفَقْرَ مُعْتَبَرًا بِعَدَمِ النِّصَابِ وَإِنْ(8/490)
كَانَ قَادِرًا عَلَى كِفَايَتِهِ بِنَفْسِهِ وَجَوَّزَ لَهُ أَخْذَ الزَّكَاةَ، وَجَعَلَ الْغَنَاءَ مُعْتَبَرًا بِمِلْكِ النِّصَابِ وَإِنْ عَجَزَ عَنْ كِفَايَتِهِ وَحَظَرَ عَلَيْهِ أَخْذَ الزَّكَاةَ اسْتِدْلَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] وَالْفَقِيرُ هُوَ الْعَادِمُ، وَهَذَا عَادِمٌ وَإِنْ كَانَ مُكْتَسِبًا، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ فَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ " فَمَيَّزَ الْأَغْنِيَاءَ بِأَخْذِ الصَّدَقَةِ مِنْهُمْ وَمَيَّزَ الْفُقَرَاءَ بِدَفْعِ الصَّدَقَةِ إِلَيْهِمْ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَنْ تُؤْخَذُ مِنْهُ الصَّدَقَةُ غَنِيًّا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُكْتَسِبٍ، وَمَنْ تُدْفَعُ إِلَيْهِ فَقِيرًا، وَإِنْ كَانَ مُكْتَسِبًا.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ سَأَلَنَا أَعْطَيْنَاهُ " وَقَالَ: " أَعْطُوا السائل ولو جاء على فرس " وقد سئل الْمُكْتَسِبُ فَوَجَبَ أَنْ يُعْطَى؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ نِصَابًا وَلَا قِيمَتَهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فَقِيرًا تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ قِيَاسًا عَلَى غَيْرِ الْمُكْتَسِبِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنَ الْمُكْتَسِبُ غَنِيًّا فِي وُجُوبِ الْحَجِّ وَالتَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ لَمْ يَكُنْ غَنِيًّا فِي تَحْرِيمِ الزَّكَاةِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا حَلَّتِ الزَّكَاةُ مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ حَلَّتْ لَهُ مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيٍّ أَنَّ رَجُلَيْنِ أَخْبَرَاهُ أَنَّهُمَا أَتَيَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فسألاه من الصَّدَقَاتُ فَصَعَّدَ النَّظَرَ فِيهِمَا وَصَوَّبَ وَقَالَ: " إِنْ شِئْتُمَا وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي قُوَّةٍ مُكْتَسِبٍ " فَجَعَلَ الْكَسْبَ كَالْغِنَى بِالْمَالِ فِي تَحْرِيمِ الصَّدَقَاتِ.
وَرَوَى سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي قُدْرَةٍ " فَحَرَّمَ الصَّدَقَةَ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْكَسْبِ كَمَا حَرَّمَهَا بِالْغِنَى؛ وَلِأَنَّهُ مُسْتَدِيمُ الْقُدْرَةِ عَلَى كِفَايَتِهِ فَوَجَبَ أَنْ تَحْرُمَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ بِالْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ كَالْقَادِرِ عَلَى نِصَابٍ أَوْ كَالْمُشْتَغِلِ لِوَقْفٍ؛ وَلِأَنَّ مَنْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةُ حَرُمَتْ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ كَالْغَنِيِّ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الِاكْتِسَابُ كَالْغِنَى فِي سُقُوطِ نَفَقَتِهِ عَنْ وَالِدِيهِ وَمَوْلُودِيهِ وَوُجُوبِهَا عَلَيْهِ لِوَالِدِيهِ وَمَوْلُودِيهِ كَانَ كَالْغِنَى فِي تَحْرِيمِ الصَّدَقَاتِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَهُوَ أَنَّ الْفَقْرَ لَيْسَ الْعَدَمَ وَإِنَّمَا هُوَ الْحَاجَةُ، وَالْمُكْتَسِبُ غَيْرُ محتاج وأما الجواب عن قوله: " أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ فَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ " فَهُوَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي النَّاسِ مَنْ لَا تُؤْخَذُ مِنْهُ وَلَا تُدْفَعُ إِلَيْهِ فَهُوَ مَالِكُ مَا لَا يُزَكَّى فَكَذَلِكَ الْمُكْتَسِبُ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ مَنْ تُؤْخَذُ مِنْهُ فَتُدْفَعُ إِلَيْهِ وَهُوَ مَالِكُ مَا يُزَكَّى إِذَا كَانَ غَيْرَ مُكْتَسِبٍ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَنْ سَأَلَنَا أَعْطَيْنَاهُ " فَهُوَ أَنَّ مَعْنَاهُ مَنْ أَظْهَرَ لَنَا الْفَقْرَ قَبِلْنَا مِنْهُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ في الناس العدم.(8/491)
وأما قوله: " أَعْطُوا السَّائِلَ وَلَوْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ "، فَهُوَ دَلِيلُنَا لِأَنَّ أبا حنيفة يَمْنَعُهُ إِذَا كَانَ ثَمَنُ فَرَسِهِ نِصَابًا وَنَحْنُ نُعْطِيهِ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا.
وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى غَيْرِ الْمُكْتَسِبِ فَالْمَعْنَى فِيهِ الْحَاجَةُ وَالْمُكْتَسِبُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: " لما لم يكن الاكتساب كَالْمَالِ فِي وُجُوبِ الْحَجِّ وَالتَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ كَذَلِكَ فِي تَحْرِيمِ الزَّكَاةِ " فَهُوَ فَاسِدٌ بِنَفَقَاتِ الْأَقَارِبِ الَّتِي يُجْعَلُ الِاكْتِسَابُ فِيهَا كَالْمَالِ، ثُمَّ وُجُوبُ الْحَجِّ وَالتَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ يَتَعَلَّقَانِ بِوُجُودِ الْمَالِ وَالْمُكْتَسِبُ غَيْرُ وَاجِدٍ، وَتَحْرِيمُ الزَّكَاةِ يَتَعَلَّقُ بِالْكِفَايَةِ وَالْمُكْتَسِبُ مكتف وبالله التوفيق.
مسألة:
قال الشافعي: " فَإِنْ قَالَ الْجَلْدُ لَسْتُ مُكْتَسِبًا لِمَا يُغْنِينِي وَلَا يُغْنِي عِيَالِي وَلَهُ عِيَالٌ وَلَيْسَ عِنْدَ الوالي يقين ما قال فالقول قوله: واحتج بأن رَجُلَيْنِ أَتَيَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فسألاه من الصدقة فقال " إِنْ شِئْتُمَا وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لذي قوة مكتسب " (قال الشافعي) رأى عليه الصلاة والسلام صحة وجلدا يشبه الاكتساب فأعلمهما أنه لا يصلح لهما مع الاكتساب ولم يعلم أمكتسبان أم لا فقال " إن شئتما " بعد أن أعلمتكما أن لا حظ فيها لغني ولا لمكتسب فعلت ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا تَقَرَّرَ فَرْقُ مَا بَيْنَ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ بِمَا ذَكَرْنَا فَخُصَّ رَجُلٌ ادَّعَى فَقْرًا مَسْكَنَةً فَلِلْوَالِي عَلَى الصَّدَقَةِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَعْلَمَهُ فَقِيرًا فَيَدْفَعُ إِلَيْهِ لِعِلْمِهِ مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَلَا يُكَلِّفُهُ بِبَيِّنَةٍ وَلَا يَمِينًا.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَعْلَمَهُ غَنِيًّا فَلَا يَدْفَعُ إِلَيْهِ مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ شَيْئًا فَإِنِ ادَّعَى تَلَفَ مَالِهِ لَمْ يَقْبَلْ قَوْلَهُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ، فَإِنْ أَقَامَهَا عَلَى تَلَفِ مَالِهِ الَّذِي كَانَ بِهِ غَنِيًّا سَمِعَهَا مِنْ شَاهِدَيْنِ أَوْ شَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَسَوَاءً كَانَتْ بَيِّنَتُهُ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الْبَاطِنَةِ أَمْ لَا، وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى فَقْرِهِ لَمْ يَسْمَعْهَا إِلَّا مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الْبَاطِنَةِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتُرُ الْغِنَى وَيَتَظَاهَرُ بِالْفَقْرِ فَلَمْ تُسْمَعْ مِنْهُ الْبَيِّنَةُ بَعْدَ تَقَدُّمِ الْعِلْمِ بِغِنَاهُ إِلَّا مِمَّنْ يَعْرِفُ بَاطِنَ أَمْرِهِ مِنْ أَقَارِبِهِ وَجِيرَانِهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لِقَبِيصَةَ بْنِ الْمُخَارِقِ " إِنَّ الْمَسْأَلَةَ حُرِّمَتْ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ ذَكَرَ فِيهَا أَوْ رجل أصابته جائحة " الخبر إِلَى أَنْ قَالَ حَتَّى يَشْهَدَ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَى مِنْ قَوْمِهِ إِنْ تَدَخَّلَتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الثَّلَاثَةِ هَلْ يَكُونُونَ شَرْطًا فِي بَيِّنَتِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَكَرَ الثَّلَاثَةَ تَغْلِيظًا، وَأَنَّ شَهَادَةَ الْعَدْلَيْنِ مُجْزِئَةٌ.
والثاني: أن الثلاثة هاهنا شَرْطٌ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَكُونُ شَهَادَةً أَوْ خَبَرًا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا شَهَادَةٌ غُلِّظَتْ يُرَاعَى فِيهَا عَدَالَةُ الشُّهُودِ فِي الْحُقُوقِ لِنَقْلِهَا خلاف المعلوم.(8/492)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ خَبَرٌ لَزِمَ فِيهِ الِاحْتِيَاطُ فَمُيِّزَ بِعَدَدٍ وَرُوعِيَ فِيهِ صِدْقُ الْمُخْبِرِينَ لَا عَدَالَةُ الشُّهُودِ.
وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَجْهَلَ الْوَالِي أَمْرَهُ وَلَا يَعْلَمُهُ غَنِيًّا وَلَا فَقِيرًا فَلَا يَخْلُو حَالُ السَّائِلِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُهُ مُوَافِقًا لِمَسْأَلَتِهِ أَوْ مُخَالِفًا لَهَا، فَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ مُوَافِقًا لِمَسْأَلَتِهِ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ سِمَاتِ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ وَدَلَائِلِ الضُّرِّ فِي ضَعْفِ بَدَنِهِ وَرَثَاثَةِ هَيْئَتِهِ فَهَذَا يُعْطَى مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ تَعْوِيلًا عَلَى شَاهِدِ حَالِهِ مِنْ غَيْرِ قَوْلٍ يُوعَظُ بِهِ وَلَا يَمِينٍ يَحْلِفُ بِهَا، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ مُخَالِفًا لِمَسْأَلَتِهِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَوِيَّ الْبَدَنِ حَسَنَ الْهَيْئَةِ فَيَنْبَغِي لِلْوَالِي أَنْ يَقُولَ لَهُ عَلَى طَرِيقِ الْوَعْظِ وَالْإِخْبَارِ بِحَالِ مَنْ يَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ، مَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلَّذَيْنِ سَأَلَاهُ الصَّدَقَةَ فَصَعَّدَ النَّظَرَ فِيهِمَا، وَصَوَّبَ ثُمَّ قَالَ: " إِنْ شِئْتُمَا وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي قُوَّةٍ مُكْتَسِبٍ " فَإِذَا قَالَ لَهُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ وَأَقَامَ عَلَى الْمَسْأَلَةِ وَأَنَّهُ يستحق الصدقة أعطاه منها؛ لأنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِلرَّجُلَيْنِ: " إِنْ شِئْتُمَا " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَهُمَا، وَهَلْ يَحْلِفُ عَلَى فَقْرِهِ قَبْلَ الدَّفْعِ إِلَيْهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَحْلِفُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْفَقْرُ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا عَرَضَ الْيَمِينَ عَلَى الرَّجُلَيْنِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُحَلِّفُهُ عَلَى فَقْرِهِ، لِأَنَّ ظَاهِرَهُ بِخِلَافِ قَوْلِهِ، فَأَمَّا إِنِ ادَّعَى عِيَالًا فَفِي قَبُولِ قَوْلِهِ فِيهِمْ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي دَعْوَى الْعِيَالِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ بِهِمْ، لِأَنَّهَا دَعْوَى تُخَالِفُ الظَّاهِرَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِمْ كَمَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي نَفْسِهِ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِهِ وَإِضَافَتِهِمْ إِلَيْهِ لَكِنْ لَا تُقْبَلُ إِلَّا يَمِينٌ يَحْلِفُ بِهَا وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ يَسْتَزِيدُ بِهَا عَلَى حَقِّ نَفْسِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي: " وَالْعَامِلُونَ عَلَيْهَا مَنْ وَلَّاهُ الْوَالِي قَبْضَهَا وَمَنْ لَا غِنَى لِلْوَالِي عَنْ مَعُونَتِهِ عَلَيْهَا وَأَمَّا الْخَلِيفَةُ وَوَالِي الْإِقْلِيمِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَا يَلِي قَبْضَ الصَّدَقَةِ وَإِنْ كَانَا مِنَ الْقَائِمِينَ بِالْأَمْرِ بأخذها فليسا عندنا ممن له فيها حق لأنهما لا يليان أخذها وشرب عمر رضي الله عنه لبنا فأعجبه فأخبر أنه من نعم الصدقة فأدخل أصبعه فاستقاءه (وقال) ويعطى العامل بقدر غنائه من الصدقة وإن كان موسرا لأنه يأخذه على معنى الإجارة ".
قال الماوردي: وقد ذَكَرْنَا أَنَّ سَهْمَ الْعَامِلِينَ عَلَى الصَّدَقَاتِ ثَابِتٌ إِذَا تَوَلَّوْا قَبْضَهَا وَتَفْرِيقَهَا، وَسَاقِطٌ مِنْهَا إِذَا تَوَلَّى رَبُّ الْمَالِ بِنَفْسِهِ فَإِنْ قَالَ رَبُّ المال المتولي للتفريق زَكَاتِهِ أَنَا آَخُذُ سَهْمَ الْعَامِلِينَ لِنَفْسِي لِلْقِيَامِ بِالْعَمَلِ فِي التَّفْرِقَةِ مَقَامَ الْعَامِلِينَ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْعَامِلَ مَنْ وَلَّاهُ الْإِمَامُ قَبْضَهَا وَتَفْرِيقَهَا نِيَابَةً عَنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ، وَرَبُّ الْمَالِ إِنَّمَا هُوَ نَائِبٌ عَنْ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَا(8/493)
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا عَلَيْهَا لِغَيْرِهِ، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا لَمْ يَخْلُ حَالُ رَبِّ الْمَالِ إذا دفع زكاته مَالِهِ إِلَى الْوَالِي مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى الْإِمَامِ الَّذِي هُوَ الْخَلِيفَةُ عَلَى الْأَمْرِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى وَالِي الْإِقْلِيمِ النَّاظِرِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى الْعَامِلِ الَّذِي وَلَّاهُ الْإِمَامُ قَبْضَهَا وَجَعَلَ نَظَرَهُ مَقْصُورًا عَلَيْهَا، فَإِنْ تَوَلَّاهُ الْإِمَامُ سَقَطَ مِنْهَا سَهْمُ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْإِمَامِ عَامَّةٌ قَدْ أَخَذَ رِزْقَهُ عَلَيْهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَلَمْ يُجْمَعْ لَهُ بَيْنَ رِزْقَيْنِ عَلَى عَمَلٍ وَاحِدٍ، وَلِمَا رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا أَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِلَبَنٍ فَشَرِبَهُ فَأَعْجَبَهُ فَقَالَ مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا فَقَالَ مَرَرْتُ بِلِقَاحِ الصَّدَقَةِ فَأَعْطَوْنِيهِ فَجَعَلْتُهُ فِي سِقَائِي فَاسْتَقَاءَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ مَالُ الصَّدَقَةِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَسْتَبْقِهِ فِي جَوْفِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَأْثِيرُ اسْتِقَائِهِ بَعْدَ اسْتِهْلَاكِهِ وَمَنْ أَكَلَ حَرَامًا لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَسْتَقِيئَهُ.
قِيلَ فِي اسْتِقَائِهِ لِذَلِكَ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَعْلَمَ النَّاسُ تَحْرِيمَ الصَّدَقَاتِ عَلَى الْإِمَامِ.
والثاني: أن من أخذ مالا يَحِلُّ لَهُ مِنْ مَغْصُوبٍ وَغَيْرِهِ فَتَغَيَّرَ فِي يَدِهِ لَمْ يَمْلِكْهُ بِخِلَافِ مَا قَالَ أبو حنيفة.
وَالثَّالِثُ: لِئَلَّا يَسْتَدِيمَ الِاغْتِذَاءُ وَالِانْتِفَاعُ بِحَرَامٍ، وَهَكَذَا لَوْ تَوَلَّى قَبْضَ الصَّدَقَاتِ وَتَفْرِيقَهَا وَالِي الْإِقْلِيمِ سَقَطَ مِنْهَا سَهْمُ الْعَامِلِينَ؛ لِأَنَّهُمْ فِي عُمُومِ وِلَايَتِهِ عَلَى ذَلِكَ الْإِقْلِيمِ الَّذِي قَدِ ارْتَزَقَ عَلَى عَمَلِهِ فِيهِ جَارٍ مَجْرَى الْإِمَامِ.
فَأَمَّا إِذَا اخْتَصَّ لِعَامِلٍ بِقَبْضِ الزَّكَاةِ تَفْرِيقَهَا ثَبَتَ فِيهَا حِينَئِذٍ سَهْمُ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا لِيَكُونَ مَصْرُوفًا إِلَى الْعَامِلِ وَأَعْوَانِهِ فِيهَا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يُوصَفَ مَنْ يَجُوزُ أَنْ يكون عاملا فيها بها في القبض وَالتَّفْرِقَةِ وَهُوَ مَنْ تَكَامَلَتْ فِيهِ سِتُّ خِصَالٍ:
أَحَدُهَا: الْبُلُوغُ لِأَنَّ الصِّغَرَ لَا يَصِحُّ مَعَهُ قَبْضٌ وَلَا تَقْبِيضٌ.
وَالثَّانِيَةُ: الْعَقْلُ الَّذِي يَصِحُّ التَّمْيِيزُ بِهِ.
وَالثَّالِثَةُ: الْحُرِّيَّةُ.
وَالرَّابِعَةُ: الْإِسْلَامُ لِأَنَّ الْكُفْرَ يَمْنَعُ مِنَ الْوِلَايَةِ عَلَى مُسْلِمٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: آية 1] وَقَدِمَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ مِنَ الْبَصْرَةِ عَلَى عُمَرَ بِحِسَابٍ اسْتَحْسَبَهُ عُمَرُ فَقَالَ مَنْ عَمِلَ هذا فقال كاتبي فقال: أين هو؟ هُوَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ قَالَ: أَجُنُبٌ هُوَ؟ قَالَ لَا، وَلَكِنَّهُ ذِمِّيٌّ فَأَمَرَهُ بِعَزْلِهِ وَقَالَ: لَا تَأْمَنُوهُمْ إِذْ خَوَّنَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا تقربوهم إذ بعدهم الله.(8/494)
وَالْخَامِسُ: الْأَمَانَةُ لِأَنَّهَا بَيَانُهُ لِيُقْصَدَ بِهَا حِفْظُ الْمَالِ عَلَى غَيْرِ الْمُسْتَنِيبِ فَأَشْبَهَ وَلِيَّ الْيَتِيمِ الذي إن خفيت خِيَانَتُهُ سَقَطَتْ وِلَايَتُهُ.
وَالسَّادِسَةُ: الْفِقْهُ بِأَحْكَامِ الزَّكَوَاتِ فِيمَا تَجِبُ فِيهِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَمَا لَا تَجِبُ وَفِي مَقَادِيرِهَا وَقَدْرِ الْحَقِّ فِيهَا وَأَوْصَافِ مُسْتَحِقِّيهَا وَمَبْلَغِ اسْتِحْقَاقِهِمْ مِنْهَا لِئَلَّا يَكُونَ جَاهِلًا بِمَا هُوَ مَوْكُولٌ إِلَى نَظَرِهِ، فَلَا يَصِحُّ تَقْلِيدُهُ كَالْحَاكِمِ إِذَا كَانَ جَاهِلًا وَلَيْسَ يَلْزَمُ مِنْ عَامِلِ الصَّدَقَةِ أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْحَاكِمِ جَامِعَةٌ فَاحْتَاجَ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ وَوِلَايَةُ عَامِلِ الصَّدَقَاتِ مَخْصُوصَةٌ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَكُونَ عالما يعني بأحكامها، فَإِذَا تَكَامَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْخِصَالُ السِّتَّةُ جَازَ أَنْ يَكُونَ عَامِلًا عَلَيْهَا وَسَوَاءً كَانَ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً وَإِنْ كَرِهْنَا تَقْلِيدَ النِّسَاءِ لِذَلِكَ لِمَا عَلَيْهِنَّ مِنْ لُزُومِ الْخَفَرِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَمَّا جَازَ أَنْ تَلِيَ أَمْوَالَ الْأَيْتَامِ جَازَ أَنْ تَلِيَ أَمْوَالَ الصَّدَقَاتِ فَأَمَّا أَعْوَانُ الْعَامِلِ مِنْ كُتَّابِهِ وَحُسَّابِهِ وَجُبَاتِهِ وَمُسْتَوْفِيهِ فَأُجُورُهُمْ مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِينَ لِعَمَلِهِمْ فِيهَا، وَلَا يَلْزَمُ اعْتِبَارُ الْحُرِّيَّةِ وَالْفِقْهِ فِيهِمْ، لِأَنَّهُمْ خَدَمٌ فِيهَا مَأْمُورُونَ وَيَلْزَمُ اعْتِبَارُ الْخِصَالِ الْأَرْبَعَةِ مِنَ الْبُلُوغِ وَالْفَضْلِ وَالْإِسْلَامِ وَالْأَمَانَةِ.
وَأَمَّا الرُّعَاةُ وَالْحَفَظَةُ لَهَا بَعْدَ قَبْضِهَا فَفِي أُجُورِهِمْ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا.
وَالثَّانِي: مِنْ أَصْلِ الصَّدَقَاتِ فَأَمَّا أُجْرَةُ الْحَمَّالِينَ والنَّقَّالِينَ فَإِنْ كَانَتْ عِنْدَ أَخْذِ ذَلِكَ مِنْ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ فَفِيهَا وَجْهَانِ: كَالرُّعَاةِ، وَالْحَفَظَةِ وَإِنْ كَانَتْ لِحَمْلِهَا لِأَهْلِ الصَّدَقَاتِ فَأُجُورُهُمْ فِي أَمْوَالِ الصَّدَقَاتِ وَجْهًا وَاحِدًا.
وَأَمَّا أُجُورُ الْكَيَّالِينَ وَالْوَزَّانِينَ وَالْعَدَّادِينَ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّهَا عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ التَّسْلِيمِ وَالتَّمْكِينِ فَأَشْبَهَ أُجْرَةَ الْكَيَّالِ وَالْوَزَّانِ فِي الْمَبِيعِ يَخْتَصُّ بِهَا الْبَائِعُ دُونَ الْمُشْتَرِي.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّهَا فِي سَهْمِ الْعَامِلِينَ وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْبَيْعِ أَنَّ الْبَيْعَ مَكِيلٌ فِي حَقِّ الْبَائِعِ، وَهَذَا مَكِيلٌ فِي حَقِّ أَهْلِ السُّهْمَانِ فَصَارَ مَا يَلْزَمُ مِنْ أُجُورِ الْعَمَلِ فِي أَمْوَالِ الصَّدَقَاتِ تَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا كَانَ فِي سَهْمِ الْعَامِلِينَ مِنَ الصَّدَقَاتِ وَهُوَ الْعَامِلُ وَأَعْوَانُهُ.
وَالثَّانِي: مَا كَانَ فِي أَمْوَالِ الصَّدَقَاتِ مِنْ غَيْرِ سَهْمِ الْعَامِلِينَ وَهُوَ أُجُورُ الْحَمَّالِينَ وَالنَّقَّالِينَ إِلَى أَهْلِ الصَّدَقَاتِ.
وَالثَّالِثُ: مَا كَانَ عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَمِنْ سَهْمِ الْعَامِلِينَ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي وَهُوَ أُجْرَةُ الْكَيَّالِ وَالْوَزَّانِ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا اخْتَلَفَ أصحابنا فيه وهو أجرة الرعاة والحفظة فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ أَنَّهُ مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِينَ.(8/495)
وَالثَّانِي: مِنْ مَالِ الصَّدَقَاتِ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا فَالْإِمَامُ فِيمَنْ قَلَّدَهُ مِنْ عُمَّالِهِ الصَّدَقَةَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَعْقِدَ مَعَهُ إِجَارَةً عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ فِي زَمَانٍ مَعْلُومٍ بأجرة معلومة فيكون العقد لازما له وَلَهُ الْأُجْرَةُ إِذَا عَمِلَ وَإِمَّا أَنْ يَجْعَلَهَا جُعَالَةً فَيَقُولُ: إِنْ عَمِلْتَ كَذَا فَلَكَ كَذَا، فَتَكُونُ هَذِهِ جُعَالَةً لَا تَلْزَمُ وَلَهُ إِنْ عَمِلَ مَا يُسَمَّى لَهُ فَإِنِ اسْتَعْمَلَهُ مِنْ غَيْرِ إِجَارَةٍ وَلَا جُعَالَةٍ فَلَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ ثُمَّ لَا يَخْلُو سَهْمُ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَأَجْرُهُمْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَتَسَاوَيَا فَتَكُونُ الْأُجْرَةُ بِقَدْرِ سَهْمِهِمْ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نقص فنقص عليها وَقَدِ اسْتَوْفَوْا أُجُورَهُمْ مِنْ سَهْمِهِمْ وَسَوَاءً كَانُوا أَغْنِيَاءَ أَوْ فُقَرَاءَ، لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهَا الْفَقْرُ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ إِلَّا لِخَمْسَةٍ: الْعَامِلُ عليها وغاز في سبيل الله " الحديث. وَرَوَى ابْنُ السَّاعِدِيِّ قَالَ: بَعَثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَامِلًا عَلَى الصَّدَقَةِ فَلَمَّا رَجَعْتُ بِهَا وَأَدَّيْتُهَا أَعْطَانِي عِمَالَتِي فَقُلْتُ: إِنَّمَا عَمِلْتُ لِلَّهِ وَإِنَّمَا أَجْرِي عَلَى اللَّهِ، فَقَالَ: خُذْ مَا أَعْطَيْتُكَ فَقَدْ فَعَلْتُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِثْلَ مَا فَعَلْتَ فَأُعْطِيتُ مِثْلَ مَا أُعْطِيتَ فَقُلْتُ مِثْلَ مَا قُلْتَ فَقَالَ: إِذَا أُعْطِيتَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَسْأَلَ فَكُلْ وَتَصَدَّقْ، فَدَلَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْخَبَرَيْنِ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ مَعَ الْغِنَى وَالْفَقْرِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ أُجُورُ الْعَامِلِينَ أَقَلَّ وَسَهْمُهُمْ أَكْثَرَ فَيَدْفَعُ إِلَيْهِمْ مِنْ سَهْمِهِمْ قَدْرَ أُجُورِهِمْ، وَيَرُدُّ الْفَاضِلَ مِنْهُ عَلَى السُّهْمَانِ كُلِّهَا بِالتَّسْوِيَةِ وَلَا يَسْتَبْقِي لِعَامِلِهِ عَلَى غَيْرِ تِلْكَ الصَّدَقَةِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ أُجُورُ الْعَامِلِينَ أَكْثَرَ وَسَهْمُهُمْ أَقَلَّ فَيَدْفَعُ إِلَيْهِمْ سَهْمَهُمْ وَيُتَمِّمُ لَهُ بَاقِيَ أُجُورِهِمْ وَمِنْ أَيْنَ يُتَمِّمُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: مِنْ تِلْكَ الصَّدَقَةِ الَّتِي عَمِلُوا فِيهَا لِاخْتِصَاصِ عَمَلِهِمْ بِهَا.
وَالثَّانِي: مِنْ مَالِ الْمَصَالِحِ وَهُوَ خُمُسُ الْخُمُسِ مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَتِهَا.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا اسْتِعْمَالُ ذَوِي الْقُرْبَى عَلَى الصَّدَقَاتِ فَإِنْ تَطَوَّعُوا بِالْعَمَلِ مِنْ غَيْرِ أَجْرٍ جَازَ وَسَقَطَ مِنْ تِلْكَ الصَّدَقَةِ الَّتِي عَمِلُوا فِيهَا سَهْمُ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا كَمَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَوَلَّاهَا، وَإِنْ كَانَ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى لِأَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْهَا وَيَسْقُطُ سَهْمُ الْعَامِلِينَ مِنْهَا، وَإِنْ أَرَادَ الْعَامِلُ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى أَنْ يَعْمَلَ عَلَيْهَا وَيَأْخُذَ سَهْمَ عَمَلِهِ مِنْهَا، فَفِي جَوَازِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:(8/496)
أَحَدُهَا: يَجُوزُ لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ لَا يُرَاعَى فِيهَا الفقراء فلم يراعى فِيهَا النَّسَبُ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُفَاضَلُوا عَلَى عَمَلِهِمْ فِيهَا مَا يَلْزَمُ رَبَّ الْمَالِ مِنْ أُجْرَةِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَمَا يَلْزَمُ أَهْلَ الصَّدَقَاتِ مِنْ أُجْرَةِ الْحِفْظِ وَالنَّقْلِ، جَازَ أَنْ يُفَاضَلُوا عَلَيْهِ بِمَا يَلْزَمُ فِي مَالِ الصَّدَقَاتِ مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِينَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يجوز لتحريم الصَّدَقَاتِ عَلَيْهِمْ، رُوِيَ أَنَّ الْفَضْلَ بْنَ الْعَبَّاسِ وَالْمُطَّلِبَ بْنَ رَبِيعَةَ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسَأَلَاهُ عِمَالَةَ الصَّدَقَةِ فَقَالَ: إِنَّ الصَّدَقَةَ مِنْ أَوْسَاخِ النَّاسِ لَا يَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ مِنْهَا شَيْءٌ.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: إِنَّا أَهْلَ بَيْتٍ لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ سَهْمَهُمْ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ عِوَضًا عَنْ مَالِ الصَّدَقَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلٌ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ إِنْ كَانُوا يُعْطَوْنَ سَهْمَهُمْ مِنَ الْخُمُسِ لَمْ يَجُزْ وَإِنْ كَانُوا لَا يُعْطَوْنَ جاز لأن لا يَجْمَعُوا بَيْنَ مَالَيْنِ إِنْ أُعْطُوا لَا يُحْرَمُوا المالين وإن منعوا، فأما مولى ذَوِي الْقُرْبَى فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِمْ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُمْ كَذَوِي الْقُرْبَى فِي تَحْرِيمِ الصَّدَقَاتِ عَلَيْهِمْ لِرِوَايَةِ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَعْمَلَ عَلَى الصَّدَقَةِ رَجُلًا مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ فَقُلْتُ لَهُ أَثْبِتْ لِي سَهْمًا مِنْهَا، فَقَالَ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: " إِنَّ مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ وَإِنَّا أَهْلَ بَيْتٍ لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ ".
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهَا لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِمْ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْلَى مِنْهُمْ عَامِلًا عَلَيْهَا، لِأَنَّ تَحْرِيمَهُ عَلَى ذَوِي الْقُرْبَى لِأَمْرَيْنِ تَفَرَّدُوا بِهِمَا عَنْ مَوَالِيهِمْ:
أَحَدُهُمَا: شَرَفُ نَسَبِهِمُ الَّذِي فُضِّلُوا بِهِ.
وَالثَّانِي: سَهْمُهُمْ مِنَ الْخُمُسِ الَّذِي تَفَرَّدُوا بِهِ.
فَوَجَبَ أَنْ يُخْتَصُّوا بِتَحْرِيمِ الصَّدَقَاتِ دُونَ مَوَالِيهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ:
إِذَا تَلَفَتِ الصَّدَقَةُ فِي يَدِ الْعَامِلِ فَهُوَ عَلَيْهَا أَمِينٌ لَا يَضْمَنُهَا إِلَّا بِالْعُدْوَانِ ثُمَّ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخَذَ سَهْمَهُ مِنْهَا أَوْ لَمْ يَأْخُذْ، فَإِنْ أَخَذَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ رَدُّهُ؛ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَحَقَّهُ بِعَمَلِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخَذَ أُجْرَةَ الْقَبْضِ وَالتَّفْرِيقِ، فَيَلْزَمُهُ إِذَا تَلَفَتْ قَبْلَ التَّفْرِيقِ أَنْ يَرُدَّ مِنَ الْأُجْرَةِ مَا قَابَلَ أُجْرَةَ التَّفْرِيقِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَخَذَ سَهْمَهُ مِنَ الْمَالِ قَبْلَ تَلَفِهِ أُعْطِيَ أُجْرَةً مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ مِنَ الْخُمُسِ، وَلَمْ يُفَوَّتْ عَلَيْهِ بِغَيْرِ بَدَلٍ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
مسألة:
قال الشافعي: " وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ فِي مُتَقَدِّمِ الْأَخْبَارِ ضَرْبَانِ ضَرَبٌ مُسْلِمُونَ أَشْرَافٌ مُطَاعُونَ يُجَاهِدُونَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَيَقْوَى الْمُسْلِمُونَ بِهِمْ وَلَا يَرَوْنَ مِنْ نِيَّاتِهِمْ مَا يَرَوْنَ مِنْ نِيَّاتِ غَيْرِهِمْ فَإِذَا كَانُوا هَكَذَا فَأَرَى أَنْ يُعْطَوْا مِنْ سَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ خُمُسُ الْخُمُسِ مَا يُتَأَلَّفُونَ بِهِ سِوَى سِهَامِهِمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ هَذَا السَّهْمَ(8/497)
خالصا لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فرده في مصلحة المسلمين (وَاحْتَجَّ) بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أعطى المؤلفة يوم حنين من الخمس مثل عيينة والأقرع وأصحابهما ولم يعط عباس بن مرداس وكان شريفا عظيم الغناء حتى استعتب فأعطاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (قال الشافعي) رحمه الله لما أراد ما أراد القوم احتمل أن يكون دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - منه شيء حين رغب عما صنع بالمهاجرين والأنصار فأعطاه على معنى ما أعطاهم واحتمل أن يكون رأى أن يعطيه من ماله حيث رأى أن يعطيه لأنه له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خالصا للتقوية بالعطية ولا نرى أن قد وضع من شرفه فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد أعطى من خمس الخمس النفل وغير النفل لأنه له وأعطى صفوان بن أمية ولم يسلم ولكنه أعاره أداة فقال فيه عند الهزيمة أحسن مما قال بعض من أسلم من أهل مكة عام الفتح وذلك أن الهزيمة كانت فِي أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يوم حنين أول النهار فقال له رجل غلبت هوازن وقتل محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال صفوان بن أمية بفيك الحجر فوالله لَرَبٌّ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ رَبٍّ من هوازن ثم أسلم قومه من قريش وكان كأنه لا يشك في إسلامه والله تعالى أعلم (قال الشافعي) فإذا كان مثل هذا رأيت أن يعطى مِنْ سَهْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهذا أحب إلي للاقتداء بأمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (ولو قال) قائل كان هذا السهم لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فكان له أن يضع سهمه حيث يرى فقد فعل هذا مرة وأعطى من سهمه بخيبر رجالا من المهاجرين والأنصار لأنه ماله يضعه حيث رأى ولا يعطى أحدا اليوم على هذا المعنى من الغنيمة ولم يبلغنا أن أحدا من خلفائه أعطى أحدا بعده ولو قيل ليس للمؤلفة في قسم الغنيمة سهم مع أهل السهمان كان مذهبا والله أعلم (قال) وللمؤلفة في قسم الصدقات سهم والذي أحفظ فيه من متقدم الخبر أن عدي بن حاتم جاء إلى أبي بكر الصديق أحسبه بثلاثمائة من الإبل من صدقات قومه فأعطاه أبو بكر منها ثلاثين بعيرا وأمره أن يلحق بخالد بن الوليد بمن أطاعه من قومه فجاءه بزهاء ألف رجل وأبلى بلاء حسنا والذي يكاد يعرف القلب بالاستدلال بالأخبار أنه أعطاه إياها من سهم المؤلفة فإما زاده ترغيبا فيما صنع وإما ليتألف به غيره من قومه ممن لم يثق منه بمثل ما يثق به من عدي بن حاتم (قال) فأرى أن يعطى من سهم المؤلفة قلوبهم في مثل هذا المعنى إن نزلت بالمسلمين نازلة ولن تنزل إن شاء الله تعالى وذلك أن يكون العدو بموضع منتاط لا يناله الجيش إلا بمؤنة ويكون بإزاء قوم من أهل الصدقات فأعان عليهم أهل الصدقات إما بلية فأرى أن يقووا بسهم سبيل الله من الصدقات وإما أن لا يقاتلوا إلا بأن يعطوا سهم المؤلفة أو ما يكفيهم منه وكذا إذا انتاط العدو وكانوا أقوى عليه من قوم من أهل الفيء يوجهون إليه ببعد ديارهم وثقل مؤناتهم ويضعفون عنه فإن لم يكن مثل ما وصفت مما كان في زمن أبي بكر رضي الله عنه من امتناع أكثر العرب بالصدقة على الردة وغيرها لم أر أن يعطى أحد من(8/498)
سهم المؤلفة ولم يبلغني أن عمر ولا عثمان ولا عليا رضي الله عنهم أعطوا أحدا تألفا على الإسلام وقد أغنى الله - فله الحمد - الإسلام عن أن يتألف عليه رجال (وقال في الجديد) لا يعطى مشرك يتألف على الإسلام لأن الله تعالى خول المسلمين أموال المشركين لا المشركين أموال المسلمين وجعل صدقات المسلمين مردودة فيهم ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَالِكًا وأبا حنيفة أَسْقَطَا سَهْمَ الْمُؤَلَّفَةِ كَمَا أَسْقَطَ أبو حنيفة سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى لِلِاسْتِغْنَاءِ بِقُوَّةِ الْإِسْلَامِ وَاسْتِعْلَاءِ أَهْلِهِ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى، فَأَمَّا سَهْمُ الْمُؤَلَّفَةِ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى مَا سَنَشْرَحُهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 60] وَتَآلَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِذَلِكَ، وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ضَرْبَانِ مُسْلِمُونَ، وَمُشْرِكُونَ.
فَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَشْرَافٌ مُطَاعُونَ فِيهِمْ قُوَّةٌ وَبَأْسٌ وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ نِيَّاتٌ لَكِنَّهُمْ إِنْ أُعْطُوا كَفُّوا عَنْ قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَنْ أَذَاهُمْ مُجْتَازِينَ، أَوْ مُسَافِرِينَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا قَاتَلُوهُمْ وَتَتَبَّعُوهُمْ بِالْأَذَى فِي أَسْفَارِهِمْ وَمَسَاكِنِهِمْ مِثْلَ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ فَقَدْ كَانَ ذَا غِلْظَةٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَقَتَلَ أَهْلَ بَنِي مَعُونَةَ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَتَآلَفُهُ وَيَسْتَكِفُّهُ فَأَتَى الْمَدِينَةَ وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ شَارِكْنِي فِي أَمْرِكَ، وَكُنْتَ أَنْتَ عَلَى الْمَدَرِ وَأَنَا عَلَى الْوَبَرِ، فَقَالَ: لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ ذَلِكَ لِي قَالَ وَاللَّهِ لِأَمْلَأَنَّهَا عَلَيْكَ خَيْلًا وَرِجَالًا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَأْبَى اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْكَ وَأَبْنَاءِ قَبِيلَةِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ يَعْنِي الْأَنْصَارَ فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ بِأَخْبَثِ نِيَّةٍ فَأَخَذَتْهُ غُدَّةٌ مَاتَ بِهَا وَقَدْ نَزَلَ عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ سَلُولٍ قَالَ: وَهُوَ يَجُودُ بِنَفْسِهِ غُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْبَعِيرِ وَمَوْتٌ فِي بَيْتِ سَلُولِيَّةٍ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مِنَ الْكُفَّارِ أَشْرَافٌ وَمُطَاعُونَ لهم في الإسلام ونيات لَمْ تُخْلَصْ إِنْ أُعْطُوا قَوِيَتْ نِيَّاتُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمُوا، وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا بَقَوْا عَلَى كُفْرِهِمْ مِثْلَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ فَإِنَّهُ كَانَ ذَا نِيَّةٍ فِي الْإِسْلَامِ وَاسْتَعَارَ مِنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَدَاةً فَأَعَارَهُ مِائَةَ دِرْعٍ وَحَضَرَ مَعَهُ حُنَيْنًا وَقَالَ قَدِ انْهَزَمَتِ الصَّحَابَةُ فِي أَوَّلِ الْوَقْعَةِ أحسن مما قاله بعض المسلمون الَّذِينَ أَسْلَمُوا عَامَ الْفَتْحِ بِمَكَّةَ، فَإِنَّ أَبَا سُفْيَانَ قَالَ عِنْدَ الْهَزِيمَةِ غَلَبَتْ هَوَازِنُ، وَقُتِلَ مُحَمَّدٌ فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ لِفِيكَ الْحَجَرُ، وَاللَّهِ لَرَبُّ قُرَيْشٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ رَبِّ هَوَازِنَ، فَلَمَّا انْجَلَتِ الْوَقْعَةُ وَأُحِيزَتْ غَنَائِمُ هَوَازِنَ أَعْطَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْهَا مِائَةَ بَعِيرٍ، فَلَمَّا رَآهَا وَقَدِ امْتَلَأَ بِهَا الْوَادِي فَقَالَ هَذَا عَطَاءُ مَنْ لَا يَخَافُ الْفَقْرَ ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ.
هَذَانِ الضَّرْبَانِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تَأَلَّفَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَفِي جَوَازِ تَآلُفِهِمُ الْآنَ بَعْدَ وَفَاتِهِ قَوْلَانِ:(8/499)
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعَ قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 60] .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعَزَّ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ بِمَا أَعْطَاهُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَزَادَهُمْ مِنْ قُدْرَةٍ عَنْ أَنْ يتَآلَفُوا بِأَمْوَالِهِمْ مُشْرِكًا وَيَكُونُ تَآلُفُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَهُمْ إِمَّا عَنْ حَاجَةٍ إِلَيْهِمْ عِنْدَ قِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَكَثْرَتِهِمْ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ كَانَ يُعْطِيهِمْ مِنْ مَالِهِ الَّذِي مَلَّكَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ فَكَانَ يَصْنَعُ بِهِ مَا شَاءَ مِمَّا لَيْسَ لِغَيْرِهِ مِنَ الْوُلَاةِ أَنْ يَصْنَعَ مِثْلَهُ.
فَإِذَا قِيلَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُتَآلَفُوا بِمَالٍ لِمَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى أَمْوَالَهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ حَوْلًا، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ فِي أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ حَقًّا مُنِعُوا ذَلِكَ مِنْ أَمْوَالِ الصَّدَقَاتِ وَغَيْرِهَا.
وَإِذَا قِيلَ: بِجَوَازِ تَآلُفِهِمْ جَازَ إِذَا وُجِدَ فِيهِمْ نَفْعُ التَّآلُفِ يُعْطَوْا مَعَ الْغِنَى وَالْفَقْرِ لَا مِنْ أَمْوَالِ الصَّدَقَاتِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُسْلِمِينَ وَلَكِنْ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ وَهُوَ خُمُسُ الْخُمُسِ مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ الْمُعَدَّةِ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ فَضَرْبَانِ.
ضَرْبٌ لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ فِي جَوَازِ تَآلُفِهِمْ.
وَأَمَّا الضَّرْبُ الَّذِي اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي جَوَازِ تَآلُفِهِمْ وَحَمْلِهِمْ فِيهِ عَلَى حُكْمِ الْمُشْرِكِينَ فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْأَشْرَافُ الْمُطَاعُونَ وَقَدْ حَسُنَتْ فِي الْإِسْلَامِ نياتهم لكن في إعطائهم تآلف لقومهم وترغيب لِأَكْفَائِهِمْ وَنُظَرَائِهِمْ كَالزِّبْرِقَانِ بْنِ بَدْرٍ وَعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعْطَاهُمَا تَآلُفًا لِقَوْمِهِمَا وَتَرْغِيبًا لِنُظَرَائِهِمَا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَشْرَافٌ مُطَاعُونَ قَدْ أَسْلَمُوا بِنِيَّاتٍ ضَعِيفَةٍ إِنْ أُعْطُوا قَوِيَتْ نِيَّاتُهُمْ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُمْ، وَإِنْ مُنِعُوا رُبَّمَا أَفْضَى بِهِمْ ضَعْفُ النِّيَّةَ إِلَى الرِّدَّةِ فَقَدْ أَعْطَى رَسُولُ اللَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمْثَالَ هَؤُلَاءِ مِثْلَ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيِّ وَالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ التَّمِيمِيِّ، فَإِنَّهُ تَآلَفَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمِائَةِ بَعِيرٍ وَتَرَكَ الْعَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيَّ فَلَمْ يُعْطِهِ ثِقَةً، بِحُسْنِ إِسْلَامِهِ كَمَا تَرَكَ الْأَنْصَارَ وَقَصَرَ بِهِ عَلَى مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ حَتَّى اسْتَعْتَبَ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ فِيمَا أَنْشَدَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ شِعْرِهِ حَيْثُ يَقُولُ:
(كَانَتْ ذِهَابًا تَلَافَيْتُهَا ... وكَرِّي عَلَى الْقَوْمِ بِالْأَجْرَعِ)
(وَحَثِّي الْجُنُودَ لِكَيْ يُدْلِجُوا ... إِذَا هَجَعَ الْقَوْمُ لَمْ أَهْجَعِ)
(أَتَجْعَلُ نهبي وذهب العبيد ... بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ)(8/500)
الْأَبْيَاتِ إِلَى آخِرِهَا.
فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأُعْطِيَ مِائَةَ بَعِيرٍ فَاحْتَمَلَ إِعْطَاءُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَلِكَ لَهُ أَحَدَ أَمْرَيْنِ: ذَكَرَهُمَا الشَّافِعِيُّ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ ظَنَّ بِهِ حُسْنَ النِّيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ فَمَنَعَهُ ثُمَّ بَانَ مِنْهُ ضَعْفُ النِّيَّةِ فَتَآلَفَهُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَى حُسْنِ نيته لكن خشي نقص الرتبة وحظ الْمَنْزِلَةِ فَأَحَبَّ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَكْفَائِهِ فَأَعْطَاهُ مَعَ حُسْنِ إِسْلَامِهِ وَهَذَا أَشْبَهُ الْأَمْرَيْنِ بِشِعْرِهِ، فَهَذَانِ الضَّرْبَانِ مِنْ مُؤَلَّفَةِ الْمُسْلِمِينَ قَدْ تَآلَفَهُمْ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَيَاتِهِ، وَفِي جَوَازِ تَآلُفِهِمُ الْآنَ بَعْدَ وَفَاتِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ اقْتِدَاءً بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعَ عُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 60] وَلِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا أتاه عدي بن حاتم الطائي بثلثمائة بَعِيرٍ مِنْ صَدَقَاتِ قَوْمِهِ أَعْطَاهُ مِنْهَا ثَلَاثِينَ بَعِيرًا لِيَتَآلَفَ بِهَا قَوْمَهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَلْحَقَ بِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فِيمَنْ أَطَاعَهُ مِنْ قَوْمِهِ فَلَحِقَ بِهِ فِي زُهَاءِ أَلْفِ رَجُلٍ وَأَبْلَى بَلَاءً حَسَنًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ أَنْ يُتَآلَفُوا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعَزَّ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ بِالْقُوَّةِ وَالْكَثْرَةِ عَنْ أَنْ يُتَآلَفَ فِيهِ أَحَدٌ، وَلِأَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَا تَآلَفُوا مِنْ مَالِ الصَّدَقَاتِ أَحَدًا وَقَدْ رَوَى حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ: أَنَّ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ أَتَى عُمَرَ فَسَأَلَهُ شَيْئًا فَلَمْ يُعْطِهِ فَقَالَ: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ تَعَالَى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] فَإِنْ قِيلَ: لَا يُعْطَى الْكُفَّارُ فَلَا مَقَالَ وَإِذَا قِيلَ: يُعْطَوْنَ تَآلُفًا لِقُلُوبِهِمْ، فَعَنِ الْمَالِ الَّذِي يُتَآلَفُونَ مِنْهُ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: هُوَ سَهْمُ الْمُؤَلَّفَةِ مِنَ الصَّدَقَاتِ، فَإِنَّ النَّصَّ عَلَى سَهْمِهِمْ مِنْهَا، وَلِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَعْطَى عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ ثَلَاثِينَ بَعِيرًا مِنْ صَدَقَاتِ قَوْمِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُمْ يُعْطَوْنَ مِنْ مِالِ الْمَصَالِحِ وَهُوَ خُمُسُ الْخُمُسِ مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ لِأَنَّهُمْ مِنْ جملتها، ويعطون ذلك من الْغَنَاءِ وَالْفَقْرِ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِ تَآلُفِهِمْ فَهُمْ أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَعْرَابٍ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي طَرَفٍ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ بِإِزَاءِ مُشْرِكِينَ لَا يُقَاتِلُونَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ إِلَّا بِمَالٍ يُعْطَوْنَهُ، إِمَّا لِفَقْرِهِمْ، وَإِمَّا لِضَعْفِ نِيَّتِهِمْ وَفِي مَسِيرِ الْمُجَاهِدِينَ إِلَيْهِمْ مَشَقَّةٌ عَظِيمَةٌ وَالْتِزَامُ مَالٍ جَزِيلٍ.(8/501)
وَالصِّنْفُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَنْ ذَكَرْنَا بِإِزَاءِ قَوْمٍ مُرْتَدِّينَ لَا يُقَاتِلُونَهُمْ عَلَى الرِّدَّةِ إِلَّا بِمَالٍ إِمَّا لِفَقْرٍ أَوْ لِضَعْفِ نِيَّةٍ، وَفِي تَجْهِيزِ الْجَيْشِ إِلَيْهِمْ مُؤْنَةٌ ثَقِيلَةٌ.
وَالصِّنْفُ الثَّالِثُ: أن يكونوا قَوْمٍ مِنَ الْبُغَاةِ وَهَذِهِ حَالُهُمْ مَعَهُمْ.
وَالصِّنْفُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونُوا بِإِزَاءِ قَوْمٍ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَلَا يُقَاتِلُونَهُمْ عَلَى بَذْلِهَا إِلَّا بِمَالٍ فَهَؤُلَاءِ الْأَصْنَافُ الْأَرْبَعَةُ يَجُوزُ تَآلُفُهُمْ بِالْمَالِ لِمَا فِي تَآلُفِهِمْ مِنْ مَعُونَةِ الْمُسْلِمِينَ وَنَفْعِهِمْ وَالذَّبِّ عَنْهُمْ وَفِي الْمَالِ الَّذِي يُتَآلَفُونَ مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ وَرَابِعٌ مَعْلُولٌ:
أَحَدُهَا: مِنْ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ مِنَ الصَّدَقَاتِ لِأَنَّهُمْ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: مِنْ سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ غُزَاةٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: مِنْ مَالِ الْمَصَالِحِ مِنَ الْخُمُسِ لِأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْمَصَالِحِ.
وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: الْمَعْلُولُ أَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ مِنْ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ وَسَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ وَهَذَا قَوْلٌ مَعْلُولٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الْجَمْعِ فِي دَفْعِ الصَّدَقَةِ بَيْنَ سَبَبَيْنِ مِنْ سَهْمَيْنِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الْقَوْلِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: إِنَّ هَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي جَوَّزَ الشَّافِعِيُّ فِيهِ إِعْطَاءَ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ مِنَ الزَّكَاةِ الْوَاحِدَةِ بِسَبَبَيْنِ مِنْ سَهْمَيْنِ إِذَا كَانَا فِيهِ مَوْجُودَيْنِ، فَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي مَنَعَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يُعْطَوْنَ إِلَّا مِنْ أَحَدِ السَّهْمَيْنِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي إِعْطَائِهِمْ مِنَ السَّهْمَيْنِ مَعًا عَلَى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا لِوُجُودِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ السَّبَبَيْنِ فِيهِمْ مَعَ الْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَيْهِمْ وَإِنَّمَا يُمْنَعُ مِنْ إِعْطَائِهِ بِالسَّبَبَيْنِ لِمَنْ كَانَتْ حَاجَتُهُ إِلَيْنَا.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: إِنَّهُ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْحَالِ فِيمَنْ قَاتَلَ مِنْهُمْ مَانِعِي الزَّكَاةِ أُعْطِيَ مِنْ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ وَمَنْ قَاتَلَ مِنْهُمُ الْمُشْرِكِينَ أُعْطِيَ مِنْ سَهْمِ الْغُزَاةِ.
وَالْأَصَحُّ عِنْدِي فِي هَذَا الْقَوْلُ الرَّابِعُ غَيْرُ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ أَنَّهُ يُجْمَعُ لِهَذِهِ الْأَصْنَافِ كُلِّهَا بَيْنَ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ وَبَيْنَ سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ فِي الْجُمْلَةِ إِلَّا أَنْ يُصْبِحَ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى مِنَ السَّهْمَيْنِ لَكِنْ يُعْطَى بَعْضُهُمْ مِنْ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ وَلَا يُعْطَى مِنْ سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ، وَيُعْطَى بَعْضُهُمْ مِنْ سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يُعْطَى مِنْ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ فَيَكُونُ الْجَمْعُ بَيْنَ السهمين للجنس الْعَامِّ وَالْمَنْعُ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا لِلشَّخْصِ الْوَاحِدِ، وَهَذَا أَصَحُّ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ تَخْرِيجُ هَذَا القول الرابع والله أعلم.
مسألة:
قال الشافعي: " وَالرِّقَابُ الْمُكَاتَبُونَ مِنْ حَيِّزِ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَلَا يُعْتَقُ عَبْدٌ يُبْتَدَأُ عِتْقُهُ فَيُشْتَرَى وَيُعْتَقُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَالرِّقَابُ صِنْفٌ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَفِي(8/502)
الرقاب} فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِمْ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُمُ الْمُكَاتَبُونَ يُعْطَوْنَ الْمُسَمَّى لَهُمْ يَسْتَعِينُونَ بِهِ فِي مَالِ كِتَابَتِهِمْ وَلَا يَبْتَدِئُ عِتْقَ رِقَابٍ تُشْتَرَى، وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَفِي التَّابِعِينَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالنَّخَعِيِّ.
وَفِي الْفُقَهَاءِ قَوْلُ أبي حنيفة وَالثَّوْرِيِّ.
وَقَالَ مَالِكٌ: الرِّقَابُ أَنْ يُبْتَدَأَ عتق رقاب تشترى وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي التَّابِعِينَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَفِي الْفُقَهَاءِ قَوْلُ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ استدلالا بقوله تعالى: {وفي الرقاب} وَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَدِلَّةٍ:
أَحَدُهَا: إِنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الرَّقَبَةِ يَتَنَاوَلُ الْعَبْدَ الْقِنَّ دُونَ الْمُكَاتَبِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} يَقْتَضِي عِتْقَ الْعَبْدِ الْقِنِّ دُونَ الْمُكَاتَبِ.
وَالثَّانِي: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَضَافَ سُهْمَانَ الصَّدَقَاتِ إِلَى الْأَصْنَافِ بِلَامِ التَّمْلِيكِ: {إنما الصدقات للفقراء} وَخَالَفَ صِيغَةَ اللَّفْظِ فِي الرِّقَابِ بِأَنْ حَذَفَ لام التمليك، فقال: وفي الرقاب فَجَعَلَ ذَلِكَ فِيهِمْ وَلَمْ يَجْعَلْهُ لَهُمْ فَاقْتَضَى أَنْ لَا يَمْلِكَهُ الْمُكَاتَبُونَ وَيُشْتَرَى بِهِ عَبِيدٌ يُعْتَقُونَ لِيَصِحَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ وَلَا يَكُونُ لَهُمْ.
وَالثَّالِثُ: إِنَّ الْمُكَاتَبِينَ مِنْ جُمْلَةِ الْغَارِمِينَ فَلَوْ أُرِيدُوا بِالْآيَةِ لَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْغَارِمِينَ عَنْ ذِكْرِهِمْ وَلِأَنَّ مَا وَجَبَ مِنْ أَمْوَالِ الطُّهْرَةِ نَوْعَانِ زَكَوَاتٍ وَكَفَّارَاتٍ فَلَمَّا كَانَ فِي الْكَفَّارَاتِ عِتْقٌ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الزَّكَوَاتِ عِتْقٌ.
وَتَحْرِيرُهُ: إِنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الطُّهْرَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ بِعِتْقٍ، وَيُفَرِّقَهُ كَالْكَفَّارَاتِ وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وفي الرقاب} [التوبة: 60] ومنه سَبْعَةُ أَدِلَّةٍ:
أَحَدُهَا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ ذلك في الرقاب لا في السادة، وملك يَجْعَلُهُ فِي السَّادَةِ لَا فِي الرِّقَابِ.
وَالثَّانِي: إِنَّ سَائِرَ الْأَصْنَافِ لَمَّا اسْتَحَقُّوا الْأَخْذَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ صِنْفُ الرِّقَابِ مُسْتَحِقًّا الْأَخْذَ.
وَالثَّالِثُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْآيَةِ ثَمَانِيَةَ أَصْنَافٍ وَقَرَنَ فِيهَا بَيْنَ كُلِّ صِنْفَيْنِ يَتَقَارَبُ مَعْنَاهُمَا فَنُقَارِبُ فِي حَاجَتِنَا إِلَيْهِمْ وَفَرَّقَ بَيْنَ سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ لِأَنَّ مَعْنَاهُمَا مُتَقَارِبٌ فِي اخْتِصَاصِهِمْ بِقَطْعِ مَسَافَةٍ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُمَا مُتَقَارِبًا فَلَمَّا أَخَذَ الْغَارِمُونَ لِمَا فِي الذِّمَّةِ اقْتَضَى أَنْ يَأْخُذَ الرِّقَابُ لِمَا فِي الذِّمَّةِ.
وَالرَّابِعُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْمَصْرُوفَ إِلَى الْأَصْنَافِ صَدَقَةً وَفِي صَرْفِهِ فِي الْعِتْقِ يَصِيرُ ثَمَنًا يَخْرُجُ عَنْ حُكْمِ الصَّدَقَةِ.
وَالْخَامِسُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ كُلَّ صِنْفٍ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ مِمَّنْ يُمْكِنُ دَفْعُ سَهْمِهِ إِلَيْهِ(8/503)
مِنْ كُلِّ صَدَقَةٍ وَلَا يُمْكِنُ إِذَا جَعَلَ سَهْمَ الرِّقَابِ فِي الْعِتْقِ أَنْ يُعْتِقَ سَهْمَهُمْ مِنْ كُلِّ صَدَقَةٍ وَإِذَا جُعِلَ فِي الْمُكَاتَبِينَ أَمْكَنَ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ صَدَقَةٍ.
وَالسَّادِسُ: إِنَّهُ لَوْ صُرِفَ سَهْمُ الرِّقَابِ فِي مكاتبين وبقي عليهم من آخركم آخِرُ نَجْمِ مَا يُعْتَقُونَ بِهِ فَأَعْطَوْا مَا عُتِقُوا بِهِ أَجْزَأَ، وَلَوْ خَرَجُوا مِنْ حُكْمِ الْآيَةِ لَمْ يُجْزِ كَالْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمُ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ.
وَالسَّابِعُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ أَرَادَ بِالرِّقَابِ الْمُعْتَقَ لَقَرَنَهُ بِذِكْرِ التَّحْرِيرِ كَالْكَفَّارَةِ حَيْثُ قَالَ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} وَلَا يَقْتَضِي أَنْ يُحْمَلَ مُطْلَقُ الرِّقَابِ فِي الصَّدَقَةِ عَلَى الْمُقَيَّدِ مِنْهَا فِي الْكَفَّارَةِ لِأَنَّ فِي الْمُطْلَقِ فِي الرِّقَابِ مَا يُجْزِئُ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمُكَاتَبِينَ، فَكَانَ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُطْلَقِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَخَالَفَ تَقْيِيدَ الشَّهَادَةِ بِالْعَدَالَةِ فِي مَوْضِعٍ وَإِطْلَاقَهَا فِي آخَرَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّهَادَةِ مَالٌ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْعَدَالَةُ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ أَنَّهُ صِنْفٌ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ فَوَجَبَ أَنْ يكونوا على صفة يستحقوا بِهَا الْأَخْذَ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْأَصْنَافِ، وَلِأَنَّ الْعِتْقَ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْوَلَاءِ لِلْمُعْتِقِ فَلَوْ أَعْتَقَ سَهْمُ الرِّقَابِ لَمْ يَخْلُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الْمُعْتِقِ وَلَاءٌ أَوْ لَا يَثْبُتُ فَإِنْ لَمْ يثبت عليه، ولا سُلِبَ حُكْمَ الْعِتْقِ.
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ " وَإِنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ الْوَلَاءُ لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ لِرَبِّ الْمَالِ أَوْ لِغَيْرِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَقٍ بِمَالِهِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ لِرَبِّ الْمَالِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ مَا اشْتَرَاهُ وَلَا اشْتُرِيَ لَهُ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ بِإِخْرَاجِ زَكَاتِهِ مِلْكًا كَسَائِرِ الْأَصْنَافِ فَثَبَتَ امْتِنَاعُ الْعِتْقِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ أَخَذَ الْغَارِمُ سَهْمَهُ وَعَلَيْهِ لِرَبِّ الْمَالِ دَيْنٌ جَازَ أَنْ يَسْتَعِيدَهُ مِنْ دَيْنِهِ فَيَصِيرُ مِلْكًا لَهُ.
قِيلَ: لَيْسَ هَذَا فِي كُلِّ غَارِمٍ وَلَا الْغَارِمُ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ يَلْزَمُهُ رَدُّ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ دَفَعَ غَيْرُهُ أَجْزَأَ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ مِنَ الْآيَةِ مِنْ أَنَّ مُطْلَقَ الرَّقَبَةِ يَتَنَاوَلُ الْعَبْدَ الْقِنَّ دُونَ الْمُكَاتَبِ فَهُوَ أَنَّ ادِّعَاءَ ذَلِكَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ؛ لِأَنَّهُ إِنْ أُطْلِقَ تَنَاوَلَ الْقِنَّ وَغَيْرَهُ وَإِنْ قُيِّدَ بِقَرِينَةٍ كَالتَّحْرِيرِ تَخَصَّصَ لِأَجْلِ الْقَرِينَةِ بِالْقِنِّ دُونَ غَيْرِهِ فَلَمَّا أُطْلِقَ ذِكْرُ الرِّقَابِ فِي الصَّدَقَةِ، وَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى عُمُومِهِ وَلَا يَجْرِي مَجْرَى مَا خُصَّ فِي الْكَفَّارَةِ بِقَرِينَةٍ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ مِنَ الْآيَةِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَضَافَ الصَّدَقَاتِ إِلَى أَهْلِ(8/504)
السُهمان بِلَامِ التَّمْلِيكِ إِلَّا الرِّقَابَ فَهُوَ أَنَّهُ قَدْ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْغُزَاةِ وَبَنِي السَّبِيلِ فَقَالَ: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنْ لَا يُدْفَعَ إِلَيْهِمْ تَمْلِيكًا كَذَلِكَ الرِّقَابُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ فِيهَا بِأَنَّ الْمُكَاتَبِينَ مِنْ جُمْلَةِ الْغَارِمِينَ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُمْ غَيْرُ الْغَارِمِينَ، لِأَنَّ دُيُونَهُمْ غَيْرُ مُسْتَقِرَّةٍ وَدُيُونُ الْغَارِمِينَ مُسْتَقِرَّةٌ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُمْ وإن تقاربوا في المعنى فإن يُسْتَفَادُ بِذِكْرِهِمْ أَنْ لَا يُقْتَصَرَ عَلَى الْغَارِمِينَ لَوْ لَمْ يُذْكَرُوا وَعَلَيْهِمْ دُونَ الْغَارِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْهُمْ وَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى ذِكْرِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَإِنْ كَانُوا مُتَقَارِبِينَ يُسْتَغْنَى بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا عَنْ ذكر الآخر؛ لأن لا يَقْتَصِرَ عَلَى أَحَدِهِمَا حَتَّى يَلْزَمَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْكَفَّارَاتِ فَهُوَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِإِخْرَاجِهِ فِي الْكَفَّارَاتِ هُوَ الْعِتْقُ لِذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَ رَقَبَةً يَمْلِكُهَا أَجْزَأَهُ، وَالْمَأْمُورُ بِإِخْرَاجِهِ فِي الصَّدَقَاتِ هُوَ الْمَالُ وَلِذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَ رقبة يملكها لَمْ يُجْزِهِ فَافْتَرَقَا.
فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ سَهْمَ الرِّقَابِ مَصْرُوفٌ فِي الْمُكَاتَبِينَ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُكَاتَبِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى مَا عَلَيْهِ مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ أَوْ عَاجِزًا عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ وَذَلِكَ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا بِمَالٍ فِي يَدِهِ بِقَدْرِ الْبَاقِي مِنْ مَالِ كِتَابَتِهِ أَوْ بصناعة يكتسب به فذلك يكونا فِي الْحُكْمِ سَوَاءً وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الصَّدَقَاتِ لِأَنَّهَا مَصْرُوفَةٌ فِي ذَوِي الْحَاجَاتِ وَلَيْسَ هَذَا الْمُكَاتَبُ مِنْهُمْ وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَمَّا عَلَيْهِ مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَجْمُ الْكِتَابَةِ قَدْ حَلَّ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَحُلَّ، فَإِنْ كَانَ نَجْمُ الْكِتَابَةِ قَدْ حَلَّ عَلَيْهِ، وَاسْتَحَقَّ السَّيِّدُ الْمُطَالَبَةَ بِهِ دُفِعَ إِلَيْهِ وَكَانَ رَبُّ الْمَالِ وَالْعَامِلُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى الْمُكَاتَبِ حَتَّى يَدْفَعَهُ الْمُكَاتَبُ إِلَى سَيِّدِهِ أَوْ يَدْفَعَهُ ابْتِدَاءً إِلَى السَّيِّدِ بِأَمْرِ الْمُكَاتَبِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَإِنْ كَانَ نَجْمُ الْكِتَابَةِ لَمْ يَحُلَّ وَمُطَالَبَةُ الْمُكَاتَبِ بِهِ لَمْ تَجِبْ فَفِي جَوَازِ الدَّفْعِ إِلَيْهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ.
وَالثَّانِي: يُدْفَعُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ قَدْ يَحُلُّ مَالُ النَّجْمِ فَيَحْتَاجُ إِلَيْهِ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا لَمْ يَخْلُ الْمُكَاتَبُ بَعْدَ الدَّفْعِ إِلَيْهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُعْتَقَ بِالْأَدَاءِ فَقَدِ اسْتَقَرَّ اسْتِحْقَاقُ مَا أخذه من كتابته.
والقسم الثاني: يُعْتَقَ بِغَيْرِ أَدَاءِ مَالِ الصَّدَقَةِ وَذَلِكَ إِمَّا بِإِبْرَاءِ السَّيِّدِ لَهُ أَوْ بِأَدَاءِ آخَرَ عَنْهُ أَوْ بِأَدَائِهِ مِنْ كَسْبِهِ فَيَكُونُ الْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ سَوَاءً، وَيَنْظُرُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي النَّجْمِ الْأَخِيرِ اسْتَرْجَعَ مِنْه مَا دَفَعَ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلْأَخْذِ تَأْثِيرٌ فِي الْمَقْصُودِ مِنْ عِتْقِهِ، وَإِنْ كَانَ فِيمَا قَبْلَ النَّجْمِ الْأَخِيرِ وَقَدْ أَدَّاهُ فِيهِ لَمْ يَسْتَرْجِعْ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ لِذَلِكَ الدَّفْعِ تَأْثِيرٌ فِي تَحْرِيرِ الْعِتْقِ وَلَوِ اسْتَرْجَعَ لَمْ يُعْتَقْ.(8/505)
والقسم الثَّالِثُ: أَنْ يَسْتَرِقَّهُ السَّيِّدُ بِالْعَجْزِ فَلَا يَخْلُو حال المدفوع إليه مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي النَّجْمِ الْأَخِيرِ أَوْ فِيمَا قَبْلَهُ فَإِنْ كَانَ فِي النَّجْمِ الْأَخِيرِ اسْتُرْجِعَ الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ سَوَاءً كَانَ بَاقِيًا فِي يَدِ الْمُكَاتَبِ أَوْ قَدْ قَبَضَهُ السَّيِّدُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعِتْقِ لَمْ يَقَعْ، وَإِنْ كَانَ فِيمَا قَبْلَ النَّجْمِ الْأَخِيرِ مِنَ النُّجُومِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَاقِيًا فِي يَدِ الْمُكَاتَبِ فَيُسْتَرْجَعُ مِنْهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَهُ السَّيِّدُ بَعْدَ الْعَجْزِ وَلَا يَتَمَلَّكَ الْمُكَاتَبُ بَعْدَ الرِّقِّ لِفَوَاتِ الْمَعْنَى الْمُبِيحِ لِلْأَخْذِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ السَّيِّدُ قَدْ قَبَضَهُ مِنْهُ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ قَبَضَهُ مِنْ مَالِ النَّجْمِ الَّذِي عَجَّزَهُ فِيهِ فَهَذَا يُسْتَرْجَعُ مِنْهُ أَيْضًا لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ بِذَلِكَ الْأَخْذِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ قَبَضَهُ مِنْهُ مِنْ مَالِ نَجْمٍ مُتَقَدِّمٍ قَبْلَ نَجْمِ التَّعْجِيزِ، فَفِي جَوَازِ اسْتِرْجَاعِهِ مِنْهُ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُسْتَرْجَعُ مِنْهُ لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْعِتْقِ فَشَابَهَ مَالَ النَّجْمِ الْأَخِيرِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُسْتَرْجَعُ مِنْهُ لِأَنَّ لِكُلِّ نَجْمٍ حُكْمًا.
فَصْلٌ:
فَإِذَا وَجَبَ اسْتِرْجَاعُ الْمَأْخُوذِ مِنْ مَالِ الصَّدَقَةِ فَتَلَفَ قَبْلَ الِاسْتِرْجَاعِ فَلَا يَخْلُو حَالُ تَلَفِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَتْلَفَ فِي يَدِ السَّيِّدِ أَوْ فِي يَدِ الْمُكَاتَبِ، فَإِنْ تَلَفَ فِي يَدِ السَّيِّدِ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِالْغُرْمِ سَوَاءً تَلَفَ بِاسْتِهْلَاكِهِ لَهُ أَوْ بِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ عَنِ الْعِتْقِ فَإِذَا فَاتَ الْعِتْقُ ضَمِنَهُ بِالرَّدِّ إِنْ بَقِيَ، وَبِالْغُرْمِ إِنْ تَلَفَ كَالْمَبِيعِ، وَإِنْ تَلَفَ فِي يَدِ الْمُكَاتَبِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتْلَفَ بِاسْتِهْلَاكِهِ فَإِنْ تَلَفَ بِاسْتِهْلَاكِهِ ضُمِنَ ضَمَانَ الْمَغْصُوبِ يُقَدَّمُ عَلَى دُيُونِ الْمُعَامَلَاتِ فَإِنْ ضَاقَ مَا بِيَدِهِ عَنْ غُرْمِهِ ضَمِنَهُ فِي رَقَبَتِهِ، وَإِنْ تَلَفَ بِغَيْرِ اسْتِهْلَاكِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتْلَفَ بِيَدِهِ قَبْلَ عَجْزِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَتْلَفَ بَعْدَ عَجْزِهِ فَإِنْ تَلَفَ قَبْلَ عَجْزِهِ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتْلَفَ قَبْلَ إِمْكَانِ دَفْعِهِ إِلَى سَيِّدِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى سَيِّدِهِ؛ لِأَنَّهُ كان مؤتمنا على أدائه.
والثاني: يَتْلَفُ بَعْدَ إِمْكَانِ دَفْعِهِ إِلَى سَيِّدِهِ فَهَذَا على ضربين إما أَنْ يَكُونَ قَدْ حَلَّ عَلَيْهِ نَجَمُ الْكِتَابَةِ وَأَخَّرَ دَفْعَ ذَلِكَ إِلَيْهِ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ ضَمَانَ الْمَغْصُوبِ لِعُدْوَانِهِ بِتَأْخِيرِ الْأَدَاءِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ نَجْمُ الْكِتَابَةِ قَدْ حَلَّ عَلَيْهِ فَفِي ضَمَانِهِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي جَوَازِ الدَّفْعِ إِلَيْهِ قَبْلَ حُلُولِ النَّجْمِ عَلَيْهِ:
أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُهُ إِذَا جُعِلَ كَالَّذِي حَلَّ عَلَيْهِ فِي جَوَازِ الدَّفْعِ إِلَيْهِ.(8/506)
وَالثَّانِي: لَا يَضْمَنُهُ إِذَا لَمْ يُجْعَلْ فِي جَوَازِ الدَّفْعِ إِلَيْهِ كَالَّذِي حَلَّ عَلَيْهِ وَإِنْ تَلَفَ فِي يَدِهِ بَعْدَ عَجْزِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ تَلَفُهُ بَعْدَ إِمْكَانِ رَدِّهِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ أَوِ الْعَامِلِ فَهَذَا مَضْمُونٌ عَلَيْهِ ضَمَانَ الْمَغْصُوبِ لِعُدْوَانِهِ بِتَأْخِيرِ الرَّدِّ وَيَكُونُ الضَّمَانُ فِي رَقَبَتِهِ دُونَ مَا بِيَدِهِ لِتَقَدُّمِ اسْتِحْقَاقِ مَا بِيَدِهِ فِي مُعَامَلَاتِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ تَلَفُهُ قَبْلَ إِمْكَانِ رَدِّهِ فَهُوَ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الْمُكَاتَبِ، لِأَنَّهُ مَا قَبَضَهُ لِنَفْسِهِ وَلَا كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي جِنْسِهِ وَهَلْ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى سَيِّدِهِ فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَضْمَنُهُ لِأَنَّهُ مَا صَارَ إِلَيْهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَضْمَنُهُ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ قَبَضَهُ لِسَيِّدِهِ وَيَدُهُ بعد العجز كيده.
مسألة:
قال الشافعي: (وَالْغَارِمُونَ) صِنْفَانِ صِنْفٌ دَانُوا فِي مَصْلَحَتِهِمْ أَوْ مَعْرُوفٍ وَغَيْرِ مَعْصِيَةٍ ثُمَّ عَجَزُوا عَنْ أَدَاءِ ذَلِكَ فِي الْعَرْضِ وَالنَّقْدِ فَيُعْطَوْنَ فِي غُرْمِهِمْ لعجزهم فإن كانت لهم عروض يقضون منها ديونهم فهم أغنياء لا يعطون حتى يبرءوا من الدين ثم لا يبقى لهم ما يكونون به أغنياء وصنف دانوا في صلاح ذات بين ومعروف ولهم عروض تحمل حمّالاتهم أو عامتها وإن بيعت أضر ذلك بهم وإن لم يفتقروا فيعطى هؤلاء وتوفر عروضهم كما يعطى أهل الحاجة من الغارمين حتى يقضوا سهمهم (واحتج) بأن قبيصة بن المخارق قال تحملت بحمالة فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال: " نؤديها عنك أو نخرجها عنك إذا قدم نعم الصدقة يا قبيصة " الْمَسْأَلَةَ حُرِّمَتْ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ رَجُلٍ تَحَمَّلَ بِحَمَالَةٍ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُؤَدِّيَهَا ثُمَّ يمسك ورجل أصابته فاقة أو حاجة حتى شهد أو تكلم ثلاثة من ذوي الحِجا من قومه أن به فاقة أو حاجة فحلت له المسألة حتى يصيب سدادا من عيش أو قَوَامًا مِنْ عَيْشٍ ثُمَّ يُمْسِكُ وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جائحة فاجتاحت ماله فحلت له الصدقة حتى يصيب سدادا من عيش أو قَوَامًا مِنْ عَيْشٍ ثُمَّ يُمْسِكُ وَمَا سِوَى ذلك من المسألة فهو سحت " (قال الشافعي) رحمه الله: فبهذا قلت في الغارمين وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " تحل له المسألة في الفاقة والحاجة " يعني والله أعلم من سهم الفقراء والمساكين لا الغارمين وقوله " حتى يصيب سدادا من عيش " يعني والله أعلم أقل اسم الغنا ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلَّا لِخَمْسَةٍ لِغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ لِعَامِلٍ عَلَيْهَا أَوْ لغارم أو لرجل اشتراها بماله أَوْ لِرَجُلٍ لَهُ جَارٌ مِسْكِينٌ فَتَصَدَّقَ عَلَى المسكين فأهدى المسكين للغني " فبهذا قلت يعطى الغازي والعامل وإن كانا غنيين والغارم في الحمالة على ما أبان عليه السلام لا عاما ".(8/507)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: وَالْغَارِمُونَ صِنْفٌ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ} [التوبة: 60] فَجَعَلَ لَهُمْ مِنَ الصَّدَقَاتِ سَهْمًا وَهُمْ صِنْفَانِ:
صِنْفٌ أَدَانُوا فِي مَصَالِحِ أَنْفُسِهِمْ، وَصِنْفٌ أَدَانُوا فِي مَصَالِحِ غَيْرِهِمْ، فَأَمَّا مَنْ أَدَانَ فِي مَصْلَحَةِ نَفْسِهِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ أَدَانَ فِي حَقٍّ.
وَالثَّانِي: فِي تَبْذِيرٍ.
وَالثَّالِثُ: فِي مَعْصِيَةٍ.
فَأَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَدَانَ فِي حَقٍّ فَكَرَجُلٍ أَدَانَ فِي جَوَائِحَ أَصَابَتْهُ أَوْ نَفَقَاتٍ لَزِمَتْهُ أَوْ مُعَامَلَاتٍ أَضَرَّتْ أَوْ زَكَوَاتٍ وَجَبَتْ وَحَجٍّ أُدِّيَ وَفَرْضٍ قُضِيَ إِلَى مَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ مِنْ وِاجِبَاتٍ أَوْ مُبَاحَاتٍ فَيَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ إِلَى مَنْ صَارَ بِهَا غَارِمًا مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ إِذَا كَانَ فَقِيرًا، فَأَمَّا إِنْ كَانَ غَنِيًّا فَلَا يَخْلُو مَالُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ نَاضًّا أَوْ عَقَارًا فَإِنْ كَانَ مَالُهُ نَاضًّا كَالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَعُرُوضِ التِّجَارَاتِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِ مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ لِأَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْمَعُونَةِ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ، وَلِأَنَّهُ قَلَّ مَا يَخْلُو مُوسِرٌ مِنْ دَيْنٍ فَيَجْعَلُ كُلَّ الْمُوسِرِ مِنَ الْغَارِمِينَ، وَإِنْ كَانَ مَالُهُ عَقَارًا مِنْ دُورٍ وَضِيَاعٍ كَفَى أَثْمَانُهَا بِدَيْنِهِ فَفِي جَوَازِ إِعْطَائِهِ مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ قَوْلَانِ:
أَصَحُّهُمَا: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ في هذا الموضع وأكثر كتبه أنه لا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ كَالْمُوسِرِ بِمَالٍ نَاضٍّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ وَحُكِيَ عَنْهُ فِي كِتَابِ الْأُمِّ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى، لِأَنَّ الْعَاجِزَ عَنْ قضاء الدين إلا من عقار مستقا هُوَ بِالْمُعْسِرِينَ أَشْبَهُ عَنْهُ بِالْمُوسِرِينَ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ الْغَارِمِينَ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَدَانَ فِي تَبْذِيرٍ كَرَجُلٍ بَذَّرَ فِي الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ وَأَسْرَفَ فِي الصِلاة وَالْهِبَاتِ لَا فِي بِرٍّ وَلَا تَقْوَى فَهَذَا لَا يُعْطَى مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ، وَلَهُ مَا يَقْدِرُ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ مِنْهُ مِنْ نَاضٍّ أَوْ عَقَارٍ، لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّبْذِيرِ، فَلَأَنْ يَعُودَ تَبْذِيرُهُ عَلَى مَالِهِ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَعُودَ عَلَى مَالِ الصَّدَقَاتِ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا لَا يَقْدِرُ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ مِنْ نَاضٍّ وَلَا عَقَارٍ جَازَ أَنْ يُعْطَى مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ؛ لِأَنَّهُ مِنْهُمْ فِي الْغُرْمِ وَالْحَاجَةِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَدَانَ فِي مَعْصِيَةٍ فَإِنْ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا وَكَانَ مُصِرًّا عَلَى تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطَى مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ الْمَعْصِيَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعَانَ عَلَيْهَا بِتَحَمُّلِ الْغُرْمِ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَابَ مِنْهَا وَأَقْلَعَ عَنْهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطَى مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ مَعَ الْغِنَى بِمَالٍ نَاضٍّ أَوْ عَقَارٍ؛ لِأَنَّ مَالَهُ فِي غُرْمِ الْمَعَاصِي أَوْلَى مِنْ مَالِ الصَّدَقَاتِ وَفِي جَوَازِ إِعْطَائِهِ مَعَ الْفَقْرِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِبَقَاءِ الْغُرْمِ مَعَ زَوَالِ الْمَعْصِيَةِ.
وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ غُرْمٌ سببه المعصية.(8/508)
فَصْلٌ:
وَأَمَّا مَنْ أَدَانَ فِي مَصْلَحَةِ غَيْرِهِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ أَدَانَ فِي إِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ فِي تَحَمُّلِ دِيَةٍ لِنَفْسٍ أَوْ طَرَفٍ كَفَّ بِهَا فِتْنَةً بَيْنَ قَبِيلَتَيْنِ وَقَطَعَ بِهَا حَرْبًا بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ، فَهَذَا يُعْطَى مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ مَعَ الْفَقْرِ والغنى الناض والعقار ولا يراعى فيه فقر، وَلَا اعْتِبَارٌ لِرِوَايَةِ سُفْيَانَ عَنْ هَارُونَ بْنِ رَبَابٍ عَنْ كِنَانَةَ بْنِ نُعَيْمٍ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ الْمُخَارِقِ: أَنَّهُ تَحَمَّلَ بِحَمَالَةٍ فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسَأَلَهُ فَقَالَ نُؤَدِّيهَا عَنْكَ وَنُخْرِجُهَا مِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ يَا قَبِيصَةُ، إِنَّ الْمَسْأَلَةَ حُرِّمَتْ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: رَجُلٍ تَحَمَّلَ بِحَمَالَةٍ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُؤَدِّيَهَا ثُمَّ يُمْسِكُ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جائحة فَاجْتَاحَتْ مَالَهُ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ فَيَسْأَلُ حَتَّى يُصِيبَ قَوَامًا مِنْ عَيْشٍ ثُمَّ يُمْسِكُ وَرَجُلٍ أصابته حاجة وَفَاقَةٌ حَتَّى يَشْهَدَ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الحجى من قومه إن قد حَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قَوَامًا مِنْ عَيْشٍ ثُمَّ يُمْسِكُ وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْمَسْأَلَةِ فَهُوَ سُحْتٌ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ غُرْمٌ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ فَكَانَ أَوْلَى مِنَ الْغُرْمِ فِي الْمَصَالِحِ الْخَاصَّةِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُعْطَى فِي الْغُرْمِ مَنْ حَاجَتِهِ إِلَيْنَا، فَأَوْلَى أَنْ يُعْطَى فِي الْغُرْمِ مَنْ حَاجَتِنَا إِلَيْهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ أَدَانَ فِي صَلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ فِي غُرْمِ مَالٍ كَفَّ بِهِ فِتْنَةً وَمَنَعَ بِهِ حَرْبًا فَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَى مَعَ الْفَقْرِ وَالْغِنَى بِالْعَقَارِ وَفِي جَوَازِ إِعْطَائِهِ مَعَ الْغِنَى وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ كَالْغُرْمِ فِي الدَّمِ لِمَا فِيهِمَا مِنْ قَطْعِ الْفِتْنَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ لِلدَّمِ فَضْلًا عَلَى غَيْرِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ أَدَانَ فِي مَصْلَحَةٍ لَا تَتَعَلَّقُ بِقَطْعِ فِتْنَةٍ وَلَا مَنْعِ حَرْبٍ كَرَجُلٍ أَدَانَ فِي عِمَارَةِ مَسْجِدٍ أَوْ جَامِعٍ أَوْ بِنَاءِ حِصْنٍ أَوْ قَنْطَرَةٍ أَوْ فَكِّ أَسْرَى أَوْ مَا جَرَى مَجْرَى ذلك من المصالح العامة التي تتعلق لحسم فِتْنَةٍ، فَهَذَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى مَعَ الْفَقْرِ وَالْغِنَى بِالْعَقَارِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى مَعَ الْغِنَى بِالنَّاضِّ؛ لِأَنَّهُ فِي النَّفْعِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ فِيهِ مُتَرَدِّدًا مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَحْكَامِ الْغَارِمِينَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُزَادَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ عَلَى قَدْرِ دَيْنِهِ، وَيَكُونُ الْغَارِمُ هُوَ الْمُتَوَلِّي لِقَبْضِهِ وَدَفْعِهِ إِلَى غُرَمَائِهِ، فَإِنْ دَفَعَ رَبُّ الْمَالِ أَوِ الْعَامِلُ حَقَّهُ إِلَى غُرَمَائِهِ بِإِذْنِهِ جَازَ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لَمْ يَجُزْ بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ الَّذِي يَجُوزُ دَفْعُ حَقِّهِ إِلَى سَيِّدِهِ بِأَمْرِهِ وَغَيْرِ أَمْرِهِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُكَاتَبَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِي حَقِّ سَيِّدِهِ، وَلَيْسَ الْغَارِمُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فِي دُيُونِ غُرَمَائِهِ، فَلَوْ كَانَ الْغَارِمُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِالْفَلَسِ فَدَفَعَ إِلَى غُرَمَائِهِ بِالْحِصَصِ جَازَ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِالْحَجْرِ فِي مَعْنَى الْمُكَاتَبِ، فَلَوْ كَانَ دَيْنُ الْغَارِمِ مُؤَجَّلًا فَفِي جَوَازِ الدَّفْعِ إِلَيْهِ وَجْهَانِ كَالْمُكَاتَبِ قَبْلَ حُلُولِ النَّجْمِ عَلَيْهِ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا أَخَذَ الْغَارِمُ سَهْمَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَصْرِفَهُ فِي دَيْنِهِ وَهُوَ بالخيار في دفعه إلى غرمائه شَاءَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ غَارِمًا فِي حَمَالَةِ دِيَةٍ قَدْ أُعْطِيَ فِيهَا مِنْ مَالِ الصَّدَقَاتِ مع غنائه،(8/509)
وَيَكُونُ عَلَيْهِ دَيْنَانِ دَيْنُ الْحَمَالَةِ وَدَيْنٌ عَنْ مُعَامَلَتِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصْرِفَ مَا أَخَذَهُ فِي دَيْنِ الْحَمَالَةِ وَلَا يَصْرِفُهُ فِي دَيْنِ الْمُعَامَلَةِ، وَلَوْ قَدْ أَخَذَ مَعَ الْفَقْرِ فِي دَيْنِ الْمُعَامَلَةِ كَانَ بِالْخِيَارِ فِي أَنْ يَصْرِفَهُ فِيمَا شَاءَ فِي دَيْنِ الْمُعَامَلَةِ أَوْ دَيْنِ الْحَمَالَةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الشَّرْطَ فِي دَيْنِ الْمُعَامَلَةِ أَغْلَظُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ إِلَّا بِالْفَقْرِ وَدَيْنِ الْحَمَالَةِ، أَخَفُّ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ مَعَ الْغِنَى وَالْفَقْرِ فَجَازَ أَنْ يَصْرِفَ مَا غَلُظَ شَرْطُ اسْتِحْقَاقِهِ فِيمَا خَفَّ شَرْطُهُ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَصْرِفَ مَا خَفَّ شَرْطُ اسْتِحْقَاقِهِ فِيمَا غَلُظَ شَرْطُهُ، فَإِذَا أَرَادَ الْغَارِمُ أَنْ يَصْرِفَ مَا أَخَذَهُ فِي غَيْرِ دَيْنِهِ لَمْ يَجُزْ لِاسْتِحْقَاقِهِ فِي الدَّيْنِ إِلَّا أَنْ يَعْدَمَ قُوتَ يَوْمِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ قُوتَ يَوْمِهِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ فِي دَيْنِهِ كَالْمُفْلِسِ يُقْسَمُ مَالُهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ إِلَّا قُوتَ يَوْمِهِ.
فَصْلٌ:
وَإِذَا أَخَذَ الْغَرِيمُ سَهْمَهُ فَلَمْ يَصْرِفْهُ فِي دَيْنِهِ حَتَّى أُبْرِئَ مِنْهُ أَوْ قُضِيَ عَنْهُ أَوْ قَضَاهُ مِنْ غَيْرِهِ اسْتُرْجِعَ مِنْهُ كَمَا قُلْنَا فِي الْمُكَاتَبِ إِلَّا أَنْ يَقْضِيَهُ مِنْ قَرْضٍ يقترضه فَلَا يُسْتَرْجَعُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ مَا أَسْقَطَ عنه الدين، وإنما انتقل من يستحق إِلَى مُسْتَحِقٍّ فَصَارَ كَالْحِوَالَةِ فَلَوْ أُبْرِئَ مِنَ الدَّيْنِ أَوْ قَضَاهُ مِنْ غَيْرِ قَرْضٍ فَلَمْ يُسْتَرْجَعْ مِنْهُ مَا أَخَذَهُ حَتَّى لَزِمَهُ دَيْنٌ آخَرُ صَارَ بِهِ مِنَ الْغَارِمِينَ فَفِي اسْتِرْجَاعِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُسْتَرْجَعُ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَوِ اسْتُرْجِعَ لَجَازَ أَنْ يُرَدَّ إِلَيْهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ يُسْتَرْجَعُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالْمُسْتَسْلِفِ لَهُ قَبْلَ غرمه والله أعلم.
مسألة:
قال الشافعي: " وَيُقْبَلُ قَوْلُ ابْنِ السَّبِيلِ إِنَّهُ عَاجِزٌ عَنِ الْبَلَدِ لِأَنَّهُ غَيْرُ قَوِيٍّ حَتَّى تُعْلَمَ قُوَّتُهُ بالمال ومن طلب بأنه يغزو وأعطي ومن طلب بأنه غارم أو عبد مُكَاتَبٌ لَمْ يُعْطَ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ لِأَنَّ أَصْلَ النَّاسِ أَنَّهُمْ غَيْرُ غَارِمِينَ حَتَّى يُعْلَمَ غُرْمُهُمْ وَالْعَبِيدُ غَيْرُ مُكَاتَبِينَ حَتَّى تُعْلَمَ كِتَابَتُهُمْ وَمَنْ طَلَبَ بِأَنَّهُ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ لَمْ يُعْطَ إِلَّا بِأَنْ يُعْلَمَ ذَلِكَ وَمَا وَصَفْتُ أَنَّهُ يَستَحِقُّهُ بِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَالَّذِي قَصَدَهُ الشَّافِعِيُّ بِذَلِكَ أَنْ يُبَيِّنَ مَنْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ مِنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ فِي اسْتِحْقَاقِ الصَّدَقَةِ وَمَنْ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ وَنَحْنُ نَذْكُرُ حُكْمَ كُلِّ صِنْفٍ مِنَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ.
أَمَّا الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ لَهُمْ غَنَاءٌ مُتَقَدِّمٌ قُبِلَ قَوْلُهُمْ فِي الْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ، وَإِنْ عُلِمَ لَهُمْ مَالٌ مُتَقَدِّمٌ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمْ فِي تَلَفِهِ وَفَقْرِهِمْ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ لَهُمْ بِذَلِكَ.
وَأَمَّا الْعَامِلُونَ عَلَيْهَا فَحَالُهُمْ فِي الْعَمَلِ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يَحْتَاجُوا إِلَى بَيِّنَةٍ أَوْ تَحْلِيفِ يَمِينٍ.
وَأَمَّا الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ فَلَا يُرْجَعُ إِلَى قَوْلِهِمْ لِأَنَّهُمْ مِمَّنْ تَدْعُو الضَّرُورَةُ إِلَيْهِمْ بِظُهُورِ الصَّلَاحِ وَتَآلُّفِهِمْ.
وَأَمَّا الْمُكَاتَبُونَ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ فِي دَعْوَى الْكِتَابَةِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ بِهَا وَبِالْبَاقِي مِنْهَا لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُكَاتَبِينَ فَإِذَا تَصَادَقَ الْمُكَاتَبُ وَالسَّيِّدُ عَلَيْهَا وَعَلَى الْبَاقِي مِنْهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ:(8/510)
أحدهما: أن تصادقهما بغنى عن البينة بعد إحلافهما؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِالتَّصَادُقِ مُكَاتَبًا فِي الظَّاهِرِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ لَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُمَا مع التصادق إلا ببينة لأنهما قد يتواطآن عَلَى ذَلِكَ اجْتِلَابًا لِلنَّفْعِ.
وَأَمَّا الْغَارِمُونَ فَمَنِ اسْتَدَانَ مِنْهُمْ فِي إِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ فَحَالُهُ فيه أظهر من أن يكلف عليه بينة فَإِنْ شُكَّ فِي قَضَائِهِ الدَّيْنَ مِنْ مَالِهِ أُحْلِفَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ وَمَنْ أَدَانَ فِي مَصْلَحَةِ نَفْسِهِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي دَعْوَى الدَّيْنِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ فَإِنْ تَصَادَقَ الْغَارِمُ وَرَبُّ الدَّيْنِ كَانَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ.
وَأَمَّا ابْنُ السَّبِيلِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي فَقْرِهِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي إِرَادَتِهِ لِلسَّفَرِ، وَفِي إِحْلَافِهِ عَلَى أَنَّهُ مُرِيدٌ لِلسَّفَرِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَحْلِفُ عَلَى إِرَادَةِ السَّفَرِ وَلَا يُعْطَى إِلَّا بَعْدَ يَمِينِهِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُحْلَفُ لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يُسَافِرِ اسْتُرْجِعَ مِنْهُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَأَمَّا الْغَازِي فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيمَا يُرِيدُ أَنْ يَسْتَأْنِفَهُ مِنْ غَزْوِهِ وَهَلْ يَحْلِفُ عَلَى إِرَادَةِ الْغَزْوِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَحْلِفُ وَهُوَ قَوْلُ الْمَرْوَزِيِّ.
وَالثَّانِي: لَا يَحْلِفُ وَهُوَ قَوْلُ ابن أبي هريرة.
مسألة:
قال الشافعي: " وَسَهْمُ سَبِيلِ اللَّهِ كَمَا وَصَفْتُ يُعْطَى مِنْهُ مَنْ أَرَادَ الْغَزْوَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ فَقِيرًا كَانَ أَوْ غَنِيًّا وَلَا يُعْطَى مِنْهُ غَيْرُهُمْ إِلَّا أَنْ يُحْتَاجَ إِلَى الدَّفْعِ عَنْهُمْ فَيُعْطَاهُ مَنْ دَفَعَ عَنْهُمُ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ عَنْ جَمَاعَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
سَهْمُ سَبِيلِ اللَّهِ مَصْرُوفٌ فِي الْغَزَاةِ، وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة وَمَالِكٍ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: وَهُوَ مَصْرُوفٌ فِي الْحَجِّ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَعَلَ نَاقَةً لَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَرَادَتِ امْرَأَتُهُ أَنْ تَحُجَّ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ارْكَبِيهَا فَإِنَّ الْحَجَّ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ ".
وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ سَبِيلَ اللَّهِ إِذَا أُطْلِقَ فَهُوَ محمول على الغزو ولقوله تعالى: {وجاهدوا في(8/511)
سبيل الله بأموالكم وأنفسكم} [التوبة: 41] وقوله تعالى: {إن الله يحب الذي يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} [الصف: 4] .
وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلَّا لِخَمْسَةٍ لِغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " وَلِأَنَّ مَالَ الصَّدَقَاتِ مَصْرُوفٌ فِي ذَوِي الْحَاجَاتِ وَلَيْسَ الْحَجُّ مِنْهَا، وَلِأَنَّ مَالَ الصَّدَقَاتِ لَا يَنْصَرِفُ إِلَّا فِي الْجِهَاتِ الْمَالِكَةِ فَخَرَجَ الْحَجُّ مِنْهَا، وَلِأَنَّ الْحَجَّ وَإِنْ كَانَ عَنْ رَبِّ الْمَالِ فَلَا يَجِبُ إِلَّا مَعَ عَجْزِهِ وَفِي غَيْرِ زَكَاتِهِ مِنْ أَمْوَالِهِ وَإِنْ كَانَ عَنْ غَيْرِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصْرَفَ فِيهِ زَكَاةُ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْحُجَّاجِ أُعْطُوا إِمَّا مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ أَوْ مِنْ سَهْمِ بَنِي السَّبِيلِ فَبَطَلَ بِذَلِكَ مَا قَالُوهُ وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ مَا جَاءَ بِهِ الْخَبَرُ مِنْ أَنَّ الْحَجَّ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ لِقَرِينَةٍ وَإِنْ كَانَ إِطْلَاقُهُ يَتَنَاوَلُ الْجِهَادَ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ سَهْمَ سَبِيلِ اللَّهِ مَصْرُوفٌ فِي الْغَزَاةِ فَالْغُزَاةُ ضَرْبَانِ:
ضَرْبٌ هُمْ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ وَهُمُ الْمُرْتَزَقَةُ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانَ فَهُوَ لَا يَأْخُذُ أَرْزَاقَهُمْ عَلَى الْجِهَادِ مِنْ مال الفيء ولا يجوز أن يعطوا من مَالِ الصَّدَقَاتِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: هُمْ أَهْلُ الصَّدَقَاتِ وَهُمُ الَّذِينَ لَا أَرْزَاقَ لَهُمْ إِنْ أَرَادُوا غَزْوًا وَإِنْ لَمْ يُرِيدُوا قَعَدُوا وَقَدْ سَمَّاهُمُ الشَّافِعِيُّ أَعْرَابًا فَهُمْ غُزَاةُ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ يَجُوزُ أن يعطوا منها مع الغنى وَالْفَقْرِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَوْا إِلَّا مَعَ الْفَقْرِ، وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ لَمْ يُعْطَوُا اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ فَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ " وَلِأَنَّ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ لَا يَجُوزُ أَنْ تُدْفَعَ إِلَيْهِ الصَّدَقَةُ كَالْأَصْنَافِ الْبَاقِيَةِ.
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلَّا لِخَمْسَةٍ لِغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ لِعَامِلٍ عَلَيْهَا أَوْ لِغَارِمٍ أَوْ لِرَجُلٍ لَهُ جَارٌ مِسْكِينٌ فَتَصَدَّقَ عَلَى الْمِسْكِينِ فَأَهْدَى الْمِسْكِينُ إِلَى الْغَنِيِّ "، وَلِأَنَّ مَنْ أَخَذَ الصَّدَقَةَ لِحَاجَتِنَا إِلَيْهِ جَازَ أَنْ يَأْخُذَهَا مَعَ الْغِنَى وَالْفَقْرِ كَالْعَامِلِ.
فَإِنْ قيل: فالعامل يأخذه أَجْرَهُ؛ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلٍ.
قِيلَ: هُوَ صَدَقَةٌ: وَإِنْ كَانَ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلٍ لِتَحْرِيمِهِ على ذوي القربى على أَنَّ مَا يَأْخُذُهُ الْغَازِي فِي مُقَابَلَةِ عَمَلٍ وَهُوَ الْجِهَادُ وَلِذَلِكَ يُسْتَرْجَعُ مِنْهُ إِنْ لَمْ يُجَاهِدْ.
فَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَخْصُوصُ الْعُمُومِ.
وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَغَيْرُ مُسَلَّمِ الْأَصْلِ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا أُعْطِيَ الْغَازِيَ مِنْ سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْرَ كِفَايَتِهِ إِنْ كَانَ الْمَالُ مُتَّسِعًا وَكِفَايَتُهُ تُعْتَبَرُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: قُرْبُ الْمَغْزَى وَبُعْدُهُ.(8/512)
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فَارِسًا أَوْ رَاجِلًا فَإِذَا أُعْطِيَ ذَلِكَ فَلَمْ يَغْزُ اسْتُرْجِعَ مِنْهُ وَإِنْ غَزَا فَبَقِيَتْ بَقِيَّةٌ لَمْ تُسْتَرْجَعْ، لِأَنَّ مَا أَخَذَهُ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلٍ قَدْ عَمِلَهُ فَلَوْ خَرَجَ لِلْغَزْوِ ثُمَّ عَادَ قَبْلَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَرْجِعَ قَبْلَ دُخُولِ أَرْضِ الْعَدُوِّ فَهَذَا يُسْتَرْجَعُ مِنْهُ جَمِيعُ مَا أَخَذَهُ وَلَا يُعْطَى مِنْهُ قَدْرَ نَفَقَتِهِ، لِأَنَّ الْمَفْقُودَ مِنْ غَزْوِهِ قَدْ فَوَّتَهُ بِعَوْدِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَرْجِعَ بَعْدَ دُخُولِ أَرْضِ الْعَدُوِّ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ وقفة مع المشركين قابل فيها المجاهدون فتأخير هَذَا عَنْ حُضُورِهَا فَهَذَا يُسْتَرْجَعُ مِنْهُ مَا أَخَذَهُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْغَزْوِ لِقَاءُ الْعَدُوِّ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا تَكُونَ وَقْفَةٌ وَلَا حَارَبَ الْمُجَاهِدُونَ فِيهَا أَحَدًا لِبُعْدِ الْمُشْرِكِينَ عَنْهُمْ فَهَذَا لَا يُسْتَرْجَعُ مِنْهُ مَا أَخَذَهُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِغَزْوِهِمْ هُوَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى دِيَارِهِمْ وَقَدْ وُجِدَ لبعدهم.
مسألة:
قال الشافعي: " وَابْنُ السَّبِيلِ عِنْدِي ابْنُ السَّبِيلِ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ الَّذِي يُرِيدُ الْبَلَدَ غَيْرَ بَلَدِهِ لِأَمْرٍ يَلْزَمُهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
وَبَنُو السَّبِيلِ هُمْ صِنْفٌ مِنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ قَالَ اللَّهُ تعالى: {وفي سبيل الله وابن السبيل} وَبَنُو السَّبِيلِ هُمُ الْمُسَافِرُونَ؛ لِأَنَّ السَّبِيلَ الطَّرِيقُ سُمُّوا بِهَا لِسُلُوكِهِمْ لَهَا وَهُمْ ضَرْبَانِ: مُجْتَازٌ، وَمُنْشِئٌ.
فَأَمَّا الْمُجْتَازُ فَهُوَ الْمَارُّ فِي سَفَرِهِ بِبَلَدِ الصَّدَقَةِ.
وَأَمَّا الْمُنْشِئُ: فَهُوَ الْمُبْتَدِئُ لِسَفَرِهِ عَنْ بَلَدِ الصَّدَقَةِ وَهُمَا سَوَاءٌ فِي الِاسْتِحْقَاقِ.
وَقَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ: ابْنُ السَّبِيلِ مِنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ هُوَ الْمُجْتَازُ دُونَ الْمُنْشِئِ اسْتِدْلَالًا بقوله تعالى: {وابن السبيل} يعني ابن الطريق وهذا ينطبق إلى الْمُسَافِرِ الْمُجْتَازِ دُونَ الْمُنْشِئِ الَّذِي لَيْسَ بِمُسَافِرٍ مُجْتَازٍ.
وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ ابْنَ السَّبِيلِ يُعْطَى لِمَا يَبْتَدِئُهُ مِنَ السَّفَرِ لَا لِمَا مَضَى مِنْهُ فَاسْتَوَى فِيهِ الْمُجْتَازُ وَالْمُنْشِئُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُبْتَدِئٌ؛ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ لَوْ دَخَلَ بَلَدًا أَوْ نَوَى إِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا صَارَ فِي حُكْمِ الْمُقِيمِينَ مِنْ أَهْلِهِ وَيَصِيرُ عِنْدَ إِرَادَةِ الْخُرُوجِ كَالْمُنْشِئِ ثُمَّ يَجُوزُ بِوِفَاقٍ فَكَذَا كُلُّ مُقِيمٍ مُنْشِئٌ وَفِيهِ انْفِصَالٌ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يُسَمَّى مَنْ لَمْ يُسَافِرْ مُسَافِرًا.
قِيلَ: كَمَا يُسَمَّى مَنْ لَمْ يَحُجَّ حَاجًّا وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] .(8/513)
فَصْلٌ:
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْمُجْتَازَ وَالْمُنْشِئَ سَوَاءٌ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِيمَا يُنْشِئُهُ مِنْ سَفَرٍ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي طَاعَةٍ أَوْ يَكُونَ فِي مَعْصِيَةٍ أَوْ يَكُونَ مُبَاحًا، فَإِنْ كَانَ سَفَرُهُ طَاعَةً كَالْحَجِّ وَطَلَبِ الْعِلْمِ وَزِيَارَةِ الْوَالِدَيْنِ أُعْطِيَ مِنْ سَهْمِ ابْنِ السَّبِيلِ مَعُونَةً عَلَى سَفَرِهِ وَطَاعَتِهِ، وَإِنْ كَانَ سَفَرُهُ مَعْصِيَةً كَالسَّفَرِ لِقَطْعِ الطَّرِيقِ وَإِتْيَانِ الْفُجُورِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى وَلَا يُعَانُ عَلَى مَعْصِيَةٍ كَمَا يُمْنَعُ مِنْ رُخَصِ سَفَرِهِ، فَإِنْ تَابَ الْعَاصِي فِي سَفَرِهِ صَارَ بَعْدَ التَّوْبَةِ كَالْمُبْتَدِئِ لِلسَّفَرِ فَيُعْطَى نَفَقَةَ بَاقِي سَفَرِهِ بَعْدَ تَوْبَتِهِ وَإِنْ كَانَ سَفَرُهُ مُبَاحًا فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ كَالسَّفَرِ إِلَى نُزْهَةٍ وَتَفَرُّجٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى وَإِنْ أُبِيحَتْ لَهُ الرُّخَصُ لِأَنَّ مَالَ الصَّدَقَاتِ مَصْرُوفٌ إِلَى ذَوِي الْحَاجَاتِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْهَا وَلَكِنْ لَوْ سَافَرَ لِلنُّزْهَةِ بِمَالِهِ ثُمَّ انْقَطَعَتْ بِهِ النَّفَقَةُ لِعَوْدِهِ جَازَ أَنْ يُعْطَى لِحَاجَتِهِ وَضَرُورَتِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لِحَاجَةٍ مَاسَّةٍ كَالسَّفَرِ فِي طَلَبِ غَرِيمٍ هَرَبَ أَوْ عَبْدٍ أَبَقَ أَوْ جَمَلٍ شَرَدَ فَهَذَا يُعْطَى لِسَدِّ حَاجَتِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ لِحَاجَةٍ لَكِنَّهَا غَيْرُ مَاسَّةٍ كَالسَّفَرِ فِي تِجَارَةٍ فَفِي جَوَازِ إِعْطَائِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُعْطَى لِوُجُودِ الْحَاجَةِ.
وَالثَّانِي: لَا يُعْطَى لِأَنَّهُ طَالِبٌ لِلِاسْتِزَادَةِ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ مَنْ يَجُوزُ إِعْطَاؤُهُ مَنْ بَنِي السَّبِيلِ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُنْشِئًا لِلسَّفَرِ أَوْ مُجْتَازًا فِيهِ، فَإِنْ كَانَ مُنْشِئًا لِسَفَرِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطَى إِلَّا مَعَ الْفَقْرِ وَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَمِنِ سَهْمِ ابْنِ السَّبِيلِ، وَإِنْ كَانَ مُجْتَازًا فِي سَفَرِهِ جَازَ أَنْ يَأْخُذَ مَعَ الْعَدَمِ فِي سَفَرِهِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فِي بَلَدِهِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ إِلَّا مِنْ سَهْمِ بَنِي السَّبِيلِ وَلَا يَأْخُذُ مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ لِمُرَاعَاةِ الْجِوَارِ فِي الْفَقْرِ، وَلَيْسَ الْمُجْتَازُ جَارًا ثُمَّ يُعْطَى عِنْدَ اتِّسَاعِ الْمَالِ بِحَسَبِ مَسَافَةِ سَفَرِهِ، فَإِنْ أَرَادَ الْعَوْدَ أُعْطِيَ نَفَقَةَ ذَهَابِهِ وَعَوْدِهِ وَنَفَقَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ هِيَ مُقَامُ الْمُسَافِرِ فِي بِلَادِ سَفَرِهِ، وَإِنْ لَمْ يُرِدِ الْعَوْدَ أُعْطِيَ نَفَقَةَ الذَّهَابِ وَحْدَهُ ولم يعطي نَفَقَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِانْتِهَاءِ سَفَرِهِ بِالْقُدُومِ، فَإِنْ قَصَّرَ بُعْدَ الْمَسَافَةِ فِي نَفَقَتِهِ وَضَيَّقَ عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى بَقِيَتْ مَعَهُ بَقِيَّةٌ بَعْدَ انْتِهَاءِ سَفَرِهِ اسْتُرْجِعَتْ مِنْهُ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَازِي حَيْثُ لَمْ تُسْتَرْجَعُ مِنْهُ بَقِيَّةُ نَفَقَتِهِ أَنَّ الْغَازِيَ كَالْمُعَاوَضِ عَلَى غَزْوِهِ عَنَاءً فَلَمْ يَلْزَمْهُ رَدُّ الْبَاقِي لِاسْتِكْمَالِ الْعَمَلِ وَالْمُسَافِرُ مُعَانٌ عَلَى سَفَرِهِ فَلَزِمَهُ رَدُّ مَا زَادَ عَلَى مَعُونَتِهِ، فَإِنْ أَخَذَ ابْنُ السَّبِيلِ نَفَقَةَ سَفَرِهِ ثُمَّ أَفَادَ قَدْرَ نَفَقَتِهِ اسْتُرْجِعَ مِنْهُ مَا أَخَذَ، وَلَوْ أَخَذَ الْفَقِيرُ ثُمَّ أَفَادَ مَا زَالَ بِهِ فَقْرُهُ لَمْ يُسْتَرْجَعْ مِنْهُ مَا أَخَذَهُ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ ابْنَ السَّبِيلِ يُعْطَى لِأَمْرٍ مُنْتَظَرٍ فَاعْتُبِرَتْ حَالُهُ فِيمَا بَعُدَ وَالْفَقِيرُ يُعْطَى لِلْحَالِ الَّتِي هُوَ فِيهَا فَلَمْ تُعْتَبَرْ حَالُهُ مِنْ بُعْدِهِ، وَلَوْ أَنَّ ابْنَ السَّبِيلِ أَخَذَ نَفَقَةَ سَفَرِهِ إِلَى غَايَةٍ(8/514)
قَدْرُهَا مِائَةُ فَرْسَخٍ فَسَافَرَ شَطْرَ الْمَسَافَةِ ثُمَّ قطع نَظَرْنَا فِي نَفَقَتِهِ، فَإِنْ كَانَ أَنْفَقَ فِي شَطْرِ الْمَسَافَةِ جَمِيعَ نَفَقَتِهِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ لِغَلَاءِ سِعْرٍ أَوْ زِيَادَةِ مُؤْنَةٍ لَمْ يُسْتَرْجَعْ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ لِسُرْفٍ فِي شَهْوَةٍ وَإِكْثَارٍ اسْتُرْجِعَتْ مِنْهُ نَفَقَةُ الْبَاقِي مِنْ سَفَرِهِ كَمَا لَوْ لَمْ يُسَافِرْ وَأَنْفَقَ فِي ذَلِكَ فِي مُقَامِهِ اسْتُرْجِعَ مِنْهُ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهَا لِيَسْتَقْبِلَ بِهَا مَا لَمْ يَفْعَلْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.(8/515)
باب كيف تفريق قسم الصدقات
مسألة:
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " يَنْبَغِي لِلسَّاعِي أَنْ يَأْمُرَ بِإِحْصَاءِ أَهْلِ السُّهْمَانِ فِي عَمَلِهِ حَتَّى يَكُونَ فَرَاغُهُ مِنْ قَبْضِ الصَّدَقَاتِ بَعْدَ تَنَاهِي أَسْمَائِهِمْ وَأَنْسَابِهِمْ وَحَالَاتِهِمْ وَمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ وَيُحْصِيَ مَا صَارَ فِي يَدَيْهِ مِنَ الصَّدَقَاتِ فَيَعْزِلُ مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِينَ بِقَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّونَ بِأَعْمَالِهِمْ فإن جاوز سهم العاملين رأيت أن يعطيهم سهم العاملين ويزيدهم قدر أجور أعمالهم مِنْ سَهْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الفيء والغنيمة ولو أعطاهم ذلك من السهمان ما رأيت ذلك ضيقا ألا ترى أن مال اليتيم يكون بالموضع فيستأجر عليه إذا خيف ضيعته من يحوطه وإن أتى ذلك على كثير منه (قال المزني) هذا أولى بقوله لما احتج به من مال اليتيم ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا تَوَجَّهَ عَامِلُ الصَّدَقَاتِ إِلَى عَمَلِهِ فِي جِبَايَةِ الصَّدَقَاتِ وَتَفْرِيقِهَا فَيَنْبَغِي لَهُ مَعَ ابْتِدَاءِ تَشَاغُلِهِ بِجِبَايَتِهَا أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يَتَعَرَّفُ لَهُ أَحْوَالَ أَهْلِ السُّهْمَانِ حَتَّى يَعْرِفَ أَهْلَ كُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمْ فَيُثْبِتُ كُلَّ وَاحِدٍ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ وَحِلْيَتِهِ، وَإِنَّمَا أَثْبَتَ الْأَنْسَابَ وَالْحُلِيَّ لِئَلَّا يَأْخُذَ الْوَاحِدُ مِنْ صَدَقَةٍ مَرَّتَيْنِ فَيُمَيِّزُ كُلَّ صِنْفٍ مِنْهُمْ عَلَى مَا وَصَفْنَا لِيَعْلَمَ أَعْدَادَ الْأَصْنَافِ وَعَدَدَ كُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمَا وَيَكُونُ فَرَاغُهُ مِنْ تَفْرِقَةِ ذَلِكَ مَعَ فَرَاغِهِ مِنْ جِبَايَةِ الصَّدَقَاتِ حَتَّى لَا يَتَأَخَّرَ عَنْ أَهْلِهَا وَجُودُهُمْ وَلَا يَلْزَمُ لَهَا مؤونة بِالْإِمْسَاكِ، وَلَا تَكُونُ مُعَرَّضَةً لِلتَّلَفِ بِالِاحْتِبَاسِ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ بِتِلْكَ النَّاحِيَةِ جَمِيعُ تِلْكَ الْأَصْنَافِ أَوْ بَعْضُهُمْ، فَإِنْ كَانَ بِهَا جَمِيعُ الْأَصْنَافِ قَسَمَ الصَّدَقَةَ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ مُتَسَاوِيَةٍ، وَلَا يُفَضِّلُ بَعْضَ الْأَصْنَافِ عَلَى بَعْضٍ، وَإِنْ تَفَاضَلُوا فِي الْحَاجَةِ وَالْكَثْرَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَضَافَهَا إِلَيْهِمْ بِلَامِ التَّمْلِيكِ وَجَمَعَ بَيْنَهُمْ بِوَاوِ التَّشْرِيكِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونُوا فِيهَا سَوَاءً فَإِنْ وَجَدَ خَمْسَةَ أَصْنَافٍ وَعَدِمَ ثَلَاثَةً قَسَمَ الصَّدَقَةَ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ وَإِنْ وَجَدَ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ وَعَدِمَ خَمْسَةً، قَسَمَ الصَّدَقَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَأَوَّلُ سَهْمٍ يَبْدَأُ بِقَسْمِهِ سَهْمُ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ مُسْتَحَقٌّ عَلَى عَمَلٍ فَصَارَتْ كَالْمُعَاوَضَةِ وَغَيْرُهُ مُوَاسَاةٌ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ مُقَدَّرٌ بِأُجُورِهِمْ مِنْ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانَ فَهُوَ قَدْرُ حَقِّهِمْ أَوْ يكونوا أكثر من أجورهم فيعطوا مِنْهُ قَدْرَ أُجُورِهِمْ، وَيُرَدُّ الْبَاقِي عَلَى سِهَامِ أَهْلِ السُّهْمَانِ بِالسَّوِيَّةِ أَوْ يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ أجورهم أن يتمم لَهُمْ أُجُورَهُمْ، وَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ تَمَامُهَا، قَالَ الشَّافِعِيُّ: هَا هُنَا(8/516)
أَعْطَاهُمْ مِنْ سَهْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ فَلَوْ أَعْطَاهُمْ مِنَ السُّهْمَانِ مَا رَأَيْتُ ذَلِكَ ضِيقًا فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: يَخْرُجُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُتَمِّمَهَا مِنْ سِهَامِ أَهْلِ السُّهْمَانِ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِالْعَمَلِ فِيهَا.
وَالثَّانِي: يُتَمِّمُهَا مِنْ مَالِ الْمَصَالِحِ وَهُوَ سَهْمُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَتِهَا ولأن لا يُفَضَّلُوا عَلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنْ لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَلَكِنْ لِلْإِمَامِ اجْتِهَادُ رَأْيِهِ فِي أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ فَأَيُّهُمَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ كَانَ مَذْهَبَنَا.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ، فَإِنْ كَانَ فِي أَهْلِ السُّهْمَانِ تَمَاسُكٌ يُقْنِعُهُمُ الْبَاقِي بَعْدَ أُجُورِ الْعَامِلِينَ تُمِّمَتْ أُجُورُهُمْ مِنْ مَالِ الصَّدَقَاتِ، وَإِنْ كَانُوا ذَوِي فَاقَةٍ لَا يَتَمَاسَكُونَ بِمَا يَبْقَى تُمِّمَتْ أُجُورُهُمْ مِنْ مَالِ الْمَصَالِحِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي: " وَتُفَضُّ جَمِيعُ السُّهْمَانِ عَلَى أَهْلِهَا كَمَا أَصِفُ إن شاء الله تعالى كان الفقراء عشرة والمساكين عشرين والغارمون خمسة وهؤلاء ثلاثة أصناف وكان سهمانهم الثلاثة من جميع المال ثلاثة آلاف فلكل صنف ألف فإن كان الفقراء يغترفون سهمهم كفافا يخرجون به من حد الفقر إلى أدنى الغنى أعطوه وإن كان يخرجهم من حد الفقر إلى أدنى الغنى أقل وقف الوالي ما بقي منه ثم يقسم على المساكين سهمهم هكذا وعلى الغارمين سهمهم هكذا وإذا خرجوا من اسم الفقر والمسكنة فصاروا إلى أدنى اسم الغنى ومن الغرم فبرئت ذممهم وصاروا غير غارمين فليسوا من أهله ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَالَ الصَّدَقَاتِ مَقْسُومٌ عَلَى الْمَوْجُودِينَ مِنْ أَهْلِهَا فَإِنْ كَمَلُوا قُسِمَتْ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ، وَإِنْ قَلُّوا قُسِمَتْ عَلَى مَنْ وُجِدَ مِنْهُمْ فَإِنْ كَانَ الْمَوْجُودُونَ بَعْدَ الْعَامِلِينَ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ الْفُقَرَاءُ وَالْغَارِمُونَ وَالْمَسَاكِينُ، قُسِمَتِ الصَّدَقَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ مُتَسَاوِيَةٍ سَوَاءً تَسَاوَى أَصْنَافٌ فِي الْأَعْدَادِ وَالْحَاجَةِ أَوْ تَفَاضَلُوا فَإِذَا كَانَ الْفُقَرَاءُ عَلَى الْمَثَلِ الَّذِي صَوَّرَهُ الشَّافِعِيُّ عَشْرَةً وَالْمَسَاكِينُ عِشْرِينَ، وَالْغَارِمُونَ خَمْسَةً، وَقَدْ قُسِّمَتِ الصَّدَقَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ مُتَسَاوِيَةٍ فَكَانَ كُلُّ سَهْمٍ مِنْهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ قُسِّمَ سَهْمُ الْفُقَرَاءِ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ الْأَلْفُ عَلَى قَدْرِ حَاجَاتِهِمْ فَإِنَّهُ رُبَّمَا تَفَاضَلَتْ حَاجَاتُهُمْ، وَرُبَّمَا تَسَاوَتْ، فَيُقَسَّمُ عَلَى الْحَاجَةِ لَا عَلَى الْعَدَدِ، وَكَذَلِكَ سَهْمُ الْمَسَاكِينِ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ حَاجَاتِهِمْ، وَيُقَسَّمُ سَهْمُ الْغَارِمِينَ عَلَى قَدْرِ دُيُونِهِمْ، كَمَا يُقَسَّمُ مَالُ الْمُفْلِسِ بَيْنَ غُرَمَائِهِ عَلَى قدر ديونهم لا على أعداد رؤوسهم.
فَإِنْ قِيلَ: فَأَيُّهُمْ يَبْدَأُ بِالْعَطَاءِ قَبْلَ أَنْ يُعَجِّلَ حُضُورُ أَحَدِهِمْ، وَتَأَخَّرَ الْبَاقُونَ بَدَأَ بِمَنْ تَعَجَّلَ حُضُورُهُ عَلَى مَنْ تَأَخَّرَ، وَإِنْ حَضَرُوا جَمِيعًا، فَقَدْ قِيلَ: يَبْدَأُ بِأَشَدِّهِمْ حَاجَةً وَأَمَسِّهِمْ(8/517)
ضَرُورَةً، وَقِيلَ: يَبْدَأُ بِمَنْ إِذَا فِيضَ عَلَيْهِمْ سَهْمُهُمْ بَقِيَتْ مِنْهُ بَقِيَّةٌ لِتُقْضَى عَلَى الْبَاقِينَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَلَا يَحْتَاجُ فِيهَا إِلَى اسْتِئْنَافِ قِسْمَتِهَا مِنْهُ.
وَقِيلَ: يَبْدَأُ بِمَنْ بَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ عَلَى تَرْتِيبِهِمْ فِيهَا، فَأَمَّا الصِّنْفُ فَيَبْدَأُ بِأَسْبَقِ أَهْلِهِ، فَإِنْ جاؤوا مَعًا بَدَأَ بِأَمَسِّهِمْ حَاجَةً وَضَرُورَةً، فَإِنْ تَسَاوَوْا بَدَأَ بِمَنْ يَرَى، هَذَا كُلُّهُ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى، وَبِأَيِّهِمْ بَدَأَ مِنَ الْأَصْنَافِ وَالْأَعْيَانِ جَازَ ثُمَّ يُقَسَّمُ سَهْمُ الْفُقَرَاءِ وَهُوَ أَلْفٌ عَلَيْهِمْ وَهُمْ عَشَرَةٌ بِحَسَبِ حَاجَاتِهِمْ وَيُقَسَّمُ سَهْمُ الْمَسَاكِينِ وَهُوَ أَلْفٌ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ عِشْرُونَ بِحَسَبِ حَاجَاتِهِمْ، ويقسم سهم الغارمين هو أَلْفٌ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ خَمْسَةٌ بِحَسَبِ دُيُونِهِمْ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ دَيْنُ أَحَدِهِمْ مِائَةَ دِرْهَمٍ ودين الآخر مائتي درهم، ودين الثالث ثلثمائة دِرْهَمٍ، وَدَيْنُ الرَّابِعِ أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَدَيْنُ الْخَامِسِ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَيَكُونُ مَبْلَغُ دَيْنِهِمْ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَخَمْسَمِائَةٍ، وَسَهْمُهُمْ أَلْفَ دِرْهَمٍ هِيَ ثُلُثَا دَيْنِهِمْ فَيُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ دَيْنِهِ ثُلُثَهُ، وَلَوْ كَانَ سَهْمُهُمْ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَخَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ لَكَانَ كَافِيًا لِجَمِيعِهِمْ فَيُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ جَمِيعَ دَيْنِهِ، وَلَوْ كَانَ سَهْمُهُمْ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ أُعْطِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَدْرَ دَيْنِهِ وَحُبِسَ الْبَاقِي عَنْهُمْ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ بِالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا قَسَّمَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ كَمَا وَصَفْنَا لَمْ يَخْلُ حَالُهُمْ مِنْ سِتَّةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ سِهَامُ جَمِيعِهِمْ وَفْقَ كِفَايَاتِهِمْ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ فَقَدِ اسْتَوْفَوْهَا وَخَرَجُوا بِهَا، إِنِ اسْتَحَقُّوا مِثْلَهَا مِنْ غَيْرِهَا.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ سِهَامُ جَمِيعِهِمْ مُقَصِّرَةً عَنْ كِفَايَاتِهِمْ، فَإِذَا قَسَّمَهَا فِيهِمْ كَانَ مِنَ الْبَاقِي مِنْ كِفَايَاتِهِمْ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ فِيمَا يَأْتِي مِنْهَا حَتَّى يَسْتَوفُوا قَدْرَ الْكِفَايَاتِ إِنْ أَمْكَنَتْ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ سِهَامُ جَمِيعِهِمْ زَائِدَةً عَلَى قَدْرِ كِفَايَاتِهِمْ فَإِذَا أَخَذُوا مِنْهَا قَدْرَ كِفَايَاتِهِمْ نُقِلَ الْفَاضِلُ عَنْهُمْ إِلَى أَقْرَبِ الْبِلَادِ بِهِمْ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ سِهَامُ بَعْضِهِمْ وَفْقَ كِفَايَاتِهِمْ وَسِهَامُ بَعْضٍ مُقَصِّرَةً عَنْ كِفَايَاتِهِمْ فَإِذَا قَسَّمَ الْكَافِيَ عَلَى أَهْلِهِ خَرَجُوا بِهِ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ، وَإِذَا قَسَّمَ الْمُقَصِّرُ عَلَى أَهْلِهِ كَانُوا فِي الْبَاقِي مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ.
وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنْ تَكُونَ سِهَامُ بَعْضِهِمْ زَائِدَةً عَلَى قَدْرِ كِفَايَاتِهِمْ وَسِهَامُ بَعْضِهِمْ نَاقِصَةً عَنْ كِفَايَاتِهِمْ، فَإِذَا فَضَّ النَّاقِصَ عَلَى أَهْلِهِ، وَحَبَسَ مِنَ الزَّائِدِ مَا فَضَلَ عَنْ وَفْقِ الْكِفَايَةِ فَفِي مَصْرِفِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ يَرُدُّ الْفَضْلَ إِلَى أَهْلِ السِّهَامِ الْمُقَصِّرَةِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ جَمِيعُ الْأَصْنَافِ قَدْرَ كِفَايَاتِهِمْ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْمَكَانِ أَنْ لَا نَنْقُلَ صَدَقَةً إِلَى غَيْرِهِ، وَفِيهِ مُسْتَحِقُّهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ نَنْقُلَ الْفَضْلَ عَنِ السِّهَامِ الزِّائِدَةِ إِلَى تِلْكَ الْأَصْنَافِ فِي أَقْرَبِ الْبِلَادِ بِهِمْ وَلَا تُرَدُّ عَلَى غَيْرِهِمْ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْأَعْيَانِ أَنْ لَا يُفَضَّلَ بَعْضُ الْأَصْنَافِ عَلَى بَعْضٍ.(8/518)
وَالْقِسْمُ السَّادِسُ: أَنْ تَكُونَ سِهَامُ بَعْضِهِمْ وَفْقَ كِفَايَاتِهِمْ وَسِهَامُ بَعْضِهِمْ زَائِدَةً عَلَى قَدْرِ كِفَايَاتِهِمْ فَإِذَا قَسَّمَ الْكَافِيَ وَحَبَسَ الْفَضْلَ الزَّائِدَ عَنْ أَهْلِهِ نُقِلَتْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ إِلَى أَقْرَبِ الْبِلَادِ بِهِمْ لَا يَخْتَلِفُ، وَلَكِنْ إِذَا نَقَلَهَا فَهَلْ يَخْتَصُّ بِهَا أَهْلُ تِلْكَ الْأَصْنَافِ أَوْ تَكُونُ كَالصَّدَقَةِ الْمُبْتَدَأَةِ تُقَسَّمُ فِي جَمِيعِ الْأَصْنَافِ عَلَى وجهين بناء على الوجهين الماضيين:
أحدها: أَنْ يَخْتَصَّ بِهَا أَهْلُ تِلْكَ الْأَصْنَافِ إِذَا قِيلَ فِي الْقِسْمِ الْمَاضِي بِتَغْلِيبِ الْأَعْيَانِ وَأَنَّ الْفَاضِلَ يُنْقَلُ إِلَى أَقْرَبِ الْبِلَادِ وَلَا يُرَدُّ عَلَى بَاقِي الْأَصْنَافِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْفَاضِلَ يُقَسَّمُ فِي أَقْرَبِ الْبِلَادِ عَلَى جَمِيعِ الْأَصْنَافِ، إِذَا قِيلَ فِي الْقِسْمِ الْمَاضِي بِتَغْلِيبِ الْمَكَانِ، وَأَنَّ الْفَاضِلَ يُرَدُّ عَلَى بَاقِي الْأَصْنَافِ وَاللَّهُ أعلم.
مسألة:
قال الشافعي: " وَلَا وَقْتَ فِيمَا يُعْطَى الْفَقِيرُ إِلَّا مَا يخرجه من حد الفقر إلى الغنا قَلَّ ذَلِكَ أَوْ كَثُرَ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ أَوْ لَا تَجِبُ لِأَنَّهُ يَوْمَ يُعْطَاهُ لَا زَكَاةَ فِيهِ عَلَيْهِ وَقَدْ يَكُونُ غَنِيًّا وَلَا مَالَ لَهُ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَفَقِيرًا بِكَثْرَةِ الْعِيَالِ وَلَهُ مَالٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَإِنَّمَا الْغِنَى وَالْفَقْرُ مَا يَعْرِفُ النَّاسُ بِقَدْرِ حَالِ الرِّجَالِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِيمَنْ يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ بِالْفَقْرِ مِنَ الزَّكَاةِ.
وَالثَّانِي: فِي الْقَدْرِ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يُعْطَاهُ مِنَ الزَّكَاةِ وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ مُعْتَبَرٌ بِأَدْنَى الْغِنَى وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَدْنَى الْغِنَى عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ أَنَّ أَدْنَى الْغِنَى خَمْسُونَ دِرْهَمًا، فَلَا تَحِلُّ الزَّكَاةُ لِمَنْ تَمَلَّكَهَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى أَكْثَرَ مِنْهَا، وَقَدْ حُكِيَ ذَلِكَ فِي الصَّحَابَةِ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَسَعْدٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الْفُقَهَاءِ الزُّهْرِيُّ وَالثَّوْرِيُّ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أبو حنيفة: إِنَّ أَدْنَى الْغِنَى نِصَابٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَلَا يُحِلُّ الزَّكَاةَ لِمَنْ يَمْلِكُ نِصَابًا وَلَا يُعْطَى مِنْهَا نِصَابًا، فَإِذَا مَلَكَ مَالًا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مِنْ عَقَارٍ وَرَقِيقٍ، فَإِنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ كَدَارٍ يَسْكُنُهَا أَوْ دَابَّةٍ يَرْكَبُهَا أَوْ أَمَةٍ يَسْتَخْدِمُهَا حَلَّتْ لَهُ الزَّكَاةُ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ نِصَابٍ، وَمَا اسْتَغْنَى عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ اعْتُبِرَتْ قِيمَتُهُ، فَإِنْ بَلَغَتْ نِصَابًا حَرُمَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ نَقَصَتْ عَنْ نِصَابٍ حَلَّتْ لَهُ الزَّكَاةُ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْغِنَى غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِالْمَالِ، وَإِنَّمَا هُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى الْكِفَايَةِ الدَّائِمَةِ لِنَفْسِهِ وَلِمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ إِمَّا بِضَاعَةً أَوْ تِجَارَةً أَوْ زِرَاعَةً، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ: صُنَّاعٌ، وتجار، وأصحاب عقار، وأصحاب مواشي.
فَأَمَّا الصُّنَّاعُ فَكَالْفَلَّاحِينَ وَالْمَلَّاحِينَ وَالنَّجَّارِينَ وَالْبَنَّائِينَ، فَإِنْ كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ يَكْتَسِبُ بِضَاعَتَهُ قَدْرَ كِفَايَتِهِ عَلَى الدَّوَامِ لِنَفْسِهِ، وَلِمَنْ تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ حَرُمَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ لَمْ(8/519)
يَمْلِكْ دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَإِنْ كَانَ لَا يَكْتَسِبُ بِضَاعَتَهُ قَدْرَ كِفَايَتِهِ عَلَى الدَّوَامِ حَلَّتْ لَهُ الزَّكَاةُ وَأَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا تَمَامَ كِفَايَتِهِ.
وأما التجار فهم الذي يَسْتَمِدُّونَ أَرْبَاحَ بَضَائِعِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ بِضَاعَةُ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ تُرْبِحُهُ غَالِبًا قَدْرَ كِفَايَتِهِ كَانَ غَنِيًّا تَحْرُمُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ نِصَابًا، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُرْبِحُهُ قَدْرَ كِفَايَتِهِ كَانَ فَقِيرًا وَإِنْ مَلَكَ نِصَابًا وَحَلَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الزَّكَاةِ، مَا إِذَا ضَمَّهُ إِلَى بِضَاعَتِهِ رَبِحَ بِهَا قَدْرَ كِفَايَتِهِ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي مَتَاجِرِهِمْ فَإِذَا كَانَ الْبَقْلِيُّ يَكْتَفِي بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ والْبَاقِلَّانِيُّ بِعَشَرَةٍ وَالْفَاكِهَانِيُّ بِعِشْرِينَ وَالْخَبَّازُ بِخَمْسِينَ وَالْبَقَّالُ بِمِائَةٍ وَالْعَطَّارُ بِأَلْفٍ وَالْبَزَّازُ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَالصَّيْرَفِيُّ بِخَمْسَةِ آلَافٍ وَالْجَوْهَرِيُّ بِعَشَرَةِ آلَافٍ وَمَلَكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِمَّنْ ذَكَرْنَا بِضَاعَتَهُ الَّتِي يَكْتَفِي بِرِبْحِهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ مَلَكَ أَقَلَّ مِنْهَا حَلَّتْ لَهُ الزَّكَاةُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا تَمَامَ بِضَاعَتِهِ الَّتِي يَكْتَفِي بِرِبْحِهَا حَتَّى إِنَّ الْبَقْلِيَّ إِذَا مَلَكَ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ هِيَ كِفَايَتُهُ كَانَ غَنِيًّا وَالْجَوْهَرِيَّ إِذَا مَلَكَ تِسْعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ هِيَ دُونَ كِفَايَتِهِ كَانَ فَقِيرًا أَوْ مِسْكِينًا، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي أَصْحَابِ الْعَقَارِ وَالْمَوَاشِي إِنْ كَانَ يَسْتَغِلُّ مِنْهَا قَدْرَ كِفَايَتِهِ حَرُمَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَغِلُّ مِنْهَا قَدْرَ كِفَايَتِهِ حَلَّتْ لَهُ الزَّكَاةُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا مَا يَشْتَرِي بِهِ مِنَ الْعَقَارِ وَالْمَوَاشِي مَا إِذَا ضَمَّهُ إِلَى مَالِهِ اكْتَفَى بِغَلَّتِهِ عَلَى الدَّوَامِ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا أَحْمَدُ فَاسْتَدَلَّ بِرِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ سَأَلَ النَّاسَ وَهُوَ غَنِيٌّ كَانَتْ مَسْأَلَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُمُوشًا أَوْ خُدُوشًا أَوْ كُدُوحًا فِي وَجْهِهِ "، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا غِنَاهُ قَالَ: خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ عَدْلُهَا ".
وَأَمَّا أبو حنيفة فَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ فَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ " فَجَعَلَ الْمَأْخُوذَ مِنْهُ غَيْرَ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ قَالُوا؛ وَلِأَنَّهُ مَالِكٌ لِنِصَابٍ مِنْ مَالٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ غَنِيًّا تَحْرُمُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ أَصْلُهُ إِذَا كَانَ لَهُ كِفَايَةٌ عَلَى الدَّوَامِ قَالُوا: وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ الْكِفَايَةِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَعْتَبِرُوا كِفَايَةَ زَمَانِ الْمُقَدَّرِ أَوْ كِفَايَةَ الْعُمُرِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْتَبَرَ كِفَايَةُ الْعُمُرِ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ وَأَمَّا الزَّمَانُ الْمُقَدَّرُ فَلَسْتُمْ فِي اعْتِبَارِهِ بِسَنَتِهِ بِأَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِهِ بِأَقَلَّ مِنْهَا أَوْ أَكْثَرَ، فَبَطَلَ اعْتِبَارُ الْكِفَايَةِ وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ قَبِيصَةَ بْنِ الْمُخَارِقِ: أَنَّهُ تَحَمَّلَ بِحَمَالَةٍ فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَسْأَلُهُ فَقَالَ: نُؤَدِّهَا عَنْكَ مِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ يَا قَبِيصَةُ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ حُرِّمَتْ إِلَّا فِي ثَلَاثَةٍ: رَجُلٍ تَحَمَّلَ بِحَمَالَةٍ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حتى يؤدها ثُمَّ يُمْسِكُ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فَاجْتَاحَتْ مَالَهُ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قَوَامًا مِنْ عَيْشٍ ثُمَّ يُمْسِكُ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ حَاجَةٌ حَتَّى تَكَلَّمَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَى مِنْ قَوْمِهِ أَنَّ بِهِ حَاجَةً فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قَوَامًا مِنْ عَيْشٍ ثُمَّ يُمْسِكُ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْمَسْأَلَةِ فَهُوَ سُحْتٌ. فَدَلَّ نَصُّ هَذَا الْخَبَرِ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ تَحِلُّ بِالْحَاجَةِ وَتَحْرُمُ بِإِصَابَةِ الْقَوَامِ مِنَ الْعَيْشِ وَهُوَ الْكِفَايَةُ عَلَى الدَّوَامِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْتَبَرَ النِّصَابُ، وَلِأَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنِ الْكِفَايَةِ الدَّائِمَةِ زَالَ عَنْهُ حُكْمُ الْغِنَى كَالَّذِي لَا(8/520)
يَمْلِكُ نِصَابًا، وَلِأَنَّ مِلْكَ النِّصَابِ وَالْحَاجَةَ مَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ يَجُوزُ اجْتِمَاعُهُمَا فَجَازَ اجْتِمَاعُ حُكْمِهِمَا، وَهُمَا أَخَذُ الصَّدَقَةِ مِنْهُ بِالنِّصَابِ وَدَفْعُهَا إِلَيْهِ بِالْحَاجَةِ كَالْعُشْرِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مِلْكُ قِيمَةِ النِّصَابِ مِنَ الْمَتَاعِ وَالْعُرُوضِ يَمْنَعُ مِنْ أَخْذِ الصَّدَقَةِ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ لَمْ يَكُنْ مِلْكُ النِّصَابِ مَانِعًا مِنْهَا لِأَجْلِ الْحَاجَةِ.
وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ ذُو حَاجَةٍ فَلَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى نِصَابٍ كَمَالِكِ الْمَتَاعِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ أَحْمَدَ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ تَحْدِيدَ الْغِنَى فِي جَمِيعِ النَّاسِ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ مَنْ كَانَتْ كِفَايَتُهُ خَمْسِينَ دِرْهَمًا، بِدَلِيلِ مَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ سَأَلَ النَّاسَ وَلَهُ قِيمَةُ أُوقِيَّةٍ فَقَدْ أَلْحَفَ " يَعْنِي لِمَنْ كَانَ مُكْتَفِيًا بِهَا.
وَرَوَى سَهْلُ ابْنُ الْحَنْظَلِيَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ سَأَلَ وَعِنْدَهُ مَا يُغْنِيهِ فَقَدِ اسْتَكْثَرَ مِنَ النَّارِ " قِيلَ: وَمَا يُغْنِيهِ، قَالَ: قدر ما يغذيه ويعشيه وهذا فِيمَنْ يَكْتَسِبُ بِصَنْعَتِهِ قَدْرَ عَشَائِهِ وَغَذَائِهِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ أبي حنيفة بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ فَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ " فَهُوَ أَنَّهُ قَصَدَ بِذَلِكَ إِنَّمَا يَأْخُذُهُ مِنْ صَدَقَاتِهِمْ لَيْسَ يَأْخُذُهُ لِنَفْسِهِ وَأَهْلِهِ، وَإِنَّمَا يَرُدُّهُ عَلَى فُقَرَائِهِمْ مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ، وَلَيْسَ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ مَرْدُودًا عَلَيْهِ كَالْعَامِلِ وَابْنِ السَّبِيلِ، وَكَالْمَأْخُوذِ مِنْهُ الْعُشْرُ وَالْعُشْرُ عِنْدَنَا زَكَاةٌ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ وَاجِدًا لِلْكِفَايَةِ فَتَحْرُمُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِوُجُودِ الْكِفَايَةِ لَا يَمْلِكُ النِّصَابَ فَلَمْ يَصِحَّ قِيَاسُهُمْ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُ لَا يَخْلُو اعْتِبَارُ الْكِفَايَةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِالْعُمُرِ أَوْ بِزَمَانٍ مُقَدَّرٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ أصحابنا في ذلك، فكان مذهب أبو الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ إِلَى أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِزَمَانٍ مُقَدَّرٍ وَهُوَ سَنَةٌ وَذَلِكَ أَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِهِ بِأَقَلَّ مِنْهُمَا أَوْ أَكْثَرَ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ بعد سنة، فاعتبر في مستحقها لكافية السَّنَةِ، وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ كِفَايَةُ الْعُمُرِ وَلَئِنْ كَانَ الْعُمُرُ مَجْهُولًا فَالْكِفَايَةُ فِيهِ لَا تُجْهَلُ؛ لِأَنَّ كِفَايَةَ الشهر من أجل معينا أَوْ صَنْعَةٍ تَدُلُّ عَلَى كِفَايَةِ الْعُمُرِ وَإِنْ جُهِلَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ يَمْرَضُ فَيَعْجِزُ عَنِ الكسب أو يغلا السِّعْرُ فَلَا يُكْتَفَى بِذَلِكَ الْقَدْرِ.
قِيلَ: إِذَا كَانَ ذَلِكَ صَارَ حِينَئِذٍ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ كَمَا أَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ النِّصَابَ فيصير من أهل الصدقة.
مسألة:
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَيَأْخُذُ الْعَامِلُونَ عَلَيْهَا بِقَدْرِ أُجُورِهِمْ فِي مِثْلِ(8/521)
كِفَايَتِهِمْ وَقِيَامِهِمْ وَأَمَانَتِهِمْ وَالْمُؤْنَةِ عَلَيْهِمْ فَيَأْخُذُ لِنَفْسِهِ بِهَذَا الْمَعْنَى وَيُعْطِي الْعَرِيفَ وَمَنْ يَجْمَعُ النَّاسَ عَلَيْهِ بِقَدْرِ كِفَايَتِهِ وَكُلْفَتِهِ وَذَلِكَ خَفِيفٌ لِأَنَّهُ فِي بِلَادِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَلَيْسَ وَإِنْ كَانَ الشَّافِعِيُّ قَدْ ذَكَرَهُ فَإِنَّمَا أَعَادَهُ لِيُبَيِّنَ قَدْرَ مَا يُعْطَى كُلُّ صِنْفٍ مِنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ بَعْدَ أَنْ يُبَيِّنَ كُلَّ صِنْفٍ مِنْهُمْ، فَالْعَامِلُونَ عَلَيْهَا هُمْ صِنْفٌ مِنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ يُعْطَوْنَ أُجُورَهُمْ مِنْهَا صَدَقَةً.
وَقَالَ أبو حنيفة: هُوَ أُجْرَةٌ وَلَيْسَ بِصَدَقَةٍ؛ لِأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَهُ مَعَ الْغِنَى وَلَوْ كَانَتْ صَدَقَةً حَرُمَتْ عِنْدَهُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ. وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: 60] فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُزَالَ عَنِ الصَّدَقَةِ حُكْمُهَا بِاخْتِلَافِ الْمُتَمَلِّكِينَ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - منع ذَوِي الْقُرْبَى مِنَ الْعَمَلِ عَلَيْهَا لِتَحْرِيمِ الصَّدَقَاتِ عَلَيْهِمْ، وَلَوْ خَرَجَتْ عَنْ حُكْمِ الصَّدَقَةِ إِلَى الْأُجْرَةِ مَا مَنَعَهُمْ مِنْهَا، وَلَيْسَ يُنْكَرُ أَنْ تَكُونَ الْأُجْرَةُ صَدَقَةً إِذَا كَانَتْ مَأْخُوذَةً مِنْ مَالِ الصَّدَقَةِ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنْ كَانَ الْعَامِلُونَ عَلَيْهَا مُسْتَأْجَرِينَ بِعَقْدِ إِجَارَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْمُسَمَّى فِيهِ مِنَ الْأُجْرَةِ أَكْثَرَ مِنْ أُجُورِ أَمْثَالِهِمْ، كَمَا لَا يَجُوزُ فِي الْمُسْتَأْجَرِ عَلَى أَمْوَالِ الْأَيْتَامِ أَنْ يُسَمَّى لَهُ أَكْثَرُ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مُسْتَأْجَرِينَ، بِعَقْدٍ كَانَ لَهُمْ أُجْرَةُ الْمِثْلِ كَمَنِ اسْتَهْلَكَ عَمَلَهُ بِغَيْرِ عَقْدٍ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِقُرْبِ الْمَسَافَةِ وَبُعْدِهَا وَقِلَّةِ الْعَمَلِ وَكَثْرَتِهِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَأَمَانَاتُهُمْ " لَيْسَ يُرِيدُ أَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ غَيْرُ أَمِينٍ وَلَكِنَّهُ إِنْ كَانَ مَعْرُوفَ الْأَمَانَةِ كَانَتْ أُجْرَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِ الْمَعْرُوفِ بِالْأَمَانَةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا غَيْرُ أَمِينٍ، وَمِنَ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا الْعَرِيفُ وَالْحَاشِرُ وَالْحَاسِبُ وَالْكَيَّالُ وَالْعَدَّادُ فَأَمَّا الْعَرِيفُ: فَعَرِيفَانِ: عَرِيفٌ عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، وَعَرِيفٌ عَلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ.
فَأَمَّا الْعَرِيفُ عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ فَهُوَ الَّذِي يَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُ أَمْوَالَهُمْ، وَهَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِيرَانِ أَهْلِ الْمَالِ لِيَصِحَّ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِجَمِيعِهَا وَبِأَرْبَابِهَا.
وَأَمَّا عَرِيفُ أَهْلِ السُّهْمَانِ فَهُوَ الَّذِي يَعْرِفُ كُلَّ صِنْفٍ مِنْهُمْ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَحْوَالُهُمْ، وَهَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِيرَانِ أَهْلِ السُّهْمَانِ لِيَصِحَّ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِظَاهِرِ أَحْوَالِهِمْ وَبَاطِنِهَا، وَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ أُجْرَتُهُ مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِينَ وَأُجْرَتُهُمَا أَقَلُّ لِأَنَّهُمَا مِمَّنْ لَا يَحْتَاجُ إِلَى قَطْعِ مَسَافَةٍ لِكَوْنِهِمَا مِنْ بَلَدِ الصَّدَقَةِ لَا مِنَ الْمُسَافِرِينَ إِلَيْهِ.
وَأَمَّا الْحَاشِرُ فَحَاشِرَانِ:
حَاشِرٌ لَأَهِلِ السُّهْمَانِ يَقْتَصِرُ عَلَى النِّدَاءِ فِي النَّاحِيَةِ بِاجْتِمَاعِهِمْ لِأَخْذِ الصَّدَقَةِ، وَهَذَا أَقَلُّهُمَا أُجْرَةً لِكَوْنِهِ أَقَلَّهُمْ تَحَمُّلًا.
وَالثَّانِي: حَاشِرُ الْأَمْوَالِ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْعَامِلَ أَنْ يَتْبَعَ الْمَوَاشِيَ سَارِحَةً فِي مَرَاعِيهَا فَاحْتَاجَ إِلَى حَاشِرٍ يَحْشُرُهَا إِلَى مِيَاهِ أَهْلِهَا، وَهَذَا أَكْثَرُهُمَا أُجْرَةً لِكَوْنِهِ أَكْثَرَهُمَا عَمَلًا، وَكِلَاهُمَا أُجْرَتُهُمَا فِي سهم العاملين.(8/522)
فَأَمَّا الْحَاسِبُ فَهُوَ الَّذِي يَحْسِبُ النُّصُبَ، وَقَدْرَ الْوَاجِبِ فِيهَا وَمَا يَسْتَحِقُّهُ كُلُّ صِنْفٍ مِنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ جِيرَانِ الْمَالِ، وَأُجْرَتُهُ مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِينَ، فَإِنْ كَانَ كَاتِبًا كَانَتْ أُجْرَتُهُ أَكْثَرَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَاتِبًا وَكَانَ الْعَامِلُ يَكْتُبُ وَإِلَّا احْتَاجَ إِلَى كَاتِبٍ يَكْتُبُ مَا أُخِذَ مِنَ الصَّدَقَاتِ مَنْ كُلِّ مَالِكٍ ثَبَتَ عَلَيْهِ قَدْرُ مَالِهِ وَمَبْلَغُ صَدَقَتِهِ، وَمَا أُعْطِيَ كُلُّ صِنْفٍ مِنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ بِإِثْبَاتِ أَسْهُمِ كُلِّ وَاحِدٍ وَنَسَبِهِ وَحِلْيَتِهِ وَقَدْرِ عَطِيَّتِهِ، وَكَتَبَ بَرَاءَةً لِرَبِّ الْمَالِ بِأَدَاءِ صَدَقَتِهِ، وَيُعْطَى أُجْرَتُهُ مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِينَ.
وَأَمَّا الْعَدَّادُ فَهُوَ الَّذِي يَعُدُّ مَوَاشِيَ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ فَيُعْطَى أُجْرَتُهُ مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِينَ.
وَأَمَّا الْكَيَّالُ: فَكَيَّالُ مَالِ رَبِّ الْمَالِ، وَكَيَّالٌ لِحُقُوقِ أَهْلِ السُّهْمَانِ، فَأَمَّا كَيَّالُ الْمَالِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ فَفِي أُجْرَتِهِ وَجْهَانِ مَضَيَا.
وَأَمَّا الْكَيَّالُ لِحُقُوقِ أَهْلِ السُّهْمَانِ، فَفِي أُجْرَتِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: فِي مَالِ أَهْلِ السُّهْمَانِ.
وَالثَّانِي: مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِينَ وَرُبَّمَا احْتَاجَ الْعَامِلُ إِلَى غَيْرِ مَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الْأَعْوَانِ فَيَكُونُ أُجُورُ مَنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ مِنْهُمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنِ اعْتِبَارِ حَالِهِ فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْ عَمَلِهِ وَاللَّهُ أعلم.
مسألة:
قال الشافعي: " وَكَذَلِكَ الْمُؤَلَّفَةُ إِذَا احْتِيجَ إِلَيْهِمْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ إِنِ احْتِيجَ إِلَيْهِمْ أَحَدُ أَصْنَافِ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ أَقْسَامِهِمْ وَأَحْكَامِهِمْ وَقَدْرُ مَا يُعْطَاهُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ مَا يُتَآلَفُ بِهِ قَلْبُهُ فَيُقْلِعُ عن سيء الِاعْتِقَادِ فَإِذَا صَحَّ اعْتِقَادُهُ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ خَرَجَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَإِنْ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ مَا أُعْطِيَ مُنِعَ لِئَلَّا يَكُونَ سَهْمُهُمْ مَصْرُوفًا فِي غَيْرِ نَفْعٍ، وَإِنْ أَثَّرَ تَأْثِيرًا لَمْ يُسْتَكْمَلْ مَعَهُ حُسْنُ الِاعْتِقَادِ أُعْطِيَ مِنْ بَعْدُ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ حُسْنَ إِسْلَامِهِ وَصِحَّةَ اعْتِقَادِهِ.
مسألة:
قال الشافعي: " وَالْمُكَاتَبُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ يُعْتَقَ وَإِنْ دَفَعَ إِلَى سَيِّدِهِ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ أَنَّ الْمُكَاتَبِينَ هُمُ الْمُسْتَحِقُّونَ لِسَهْمِ الرِّقَابِ فِي الصَّدَقَاتِ، وَقَدْرُ مَا يُعْطَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُعْتَبَرٌ بِمَا عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ الْبَاقِي عَلَيْهِ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْهُ مِنْ آخِرِ نُجُومِهِ أُعْطِيَ جَمِيعَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَوْسَطِ نُجُومِهِ أُعْطِيَ مَالَ ذَلِكَ النَّجْمِ الَّذِي قَدْ حَلَّ عَلَيْهِ، وَهَلْ يَجُوزُ عِنْدَ اتِّسَاعِ الْمَالِ أَنْ يُعْطَى مَا عَلَيْهِ مِنْ بَاقِي نُجُومِهِ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ عِتْقَهُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ بِنَاءً عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي جَوَازِ إِعْطَائِهِ مَالَ النَّجْمِ قَبْلَ حُلُولِهِ:
أَحَدُهُمَا: يُعْطَى مَالَ ذَلِكَ النَّجْمِ وَحْدَهُ، وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي لَا يَجُوزُ إِعْطَاءُ النَّجْمِ قَبْلَ حُلُولِهِ.
وَالثَّانِي: يُعْطَى الْجَمِيعَ، وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ أَنْ يُعْطَى مَالَ النَّجْمِ قَبْلَ حلوله.(8/523)
مسألة:
قال الشافعي: " وَيُعْطَى الْغَازِي الْحَمُولَةَ وَالسِّلَاحَ وَالنَّفَقَةَ وَالْكُسْوَةَ وَإِنِ اتَّسَعَ الْمَالُ زِيدُوا الْخَيْلَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا غزاة الصدقات فَلَهُمْ سَهْمُ سَبِيلِ اللَّهِ مِنْهَا وَمَا يُعْطَوْنَهُ مِنْهَا مُعْتَبَرٌ بِمُؤْنَةِ غَزْوِهِمْ وَإِنْ كَانَ الْجِهَادُ فِي بَلَدِهِمْ أُعْطُوا النَّفَقَةَ وَالسِّلَاحَ وَالْحَمُولَةَ الَّتِي تَحْمِلُهُمِ وَرِحَالَهُمْ، إِمَّا فِي مَاءٍ أَوْ عَلَى ظَهْرٍ ثُمَّ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونُوا فُرْسَانًا أَوْ رَجَّالَةً فَإِنْ كَانُوا فُرْسَانًا أُعْطَوْا نَفَقَاتِ خَيْلِهِمْ ومُؤْنَتِهِمْ فِي ذَهَابِهِمْ وَعَوْدَتِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا رَجَّالَةً لَا خَيْلَ لَهُمْ فَإِنْ كَانُوا لَا يُقَاتِلُونَ إِلَّا رَجَّالَةً عَلَى الْأَرْضِ لَمْ يُعْطَوُا الْخَيْلَ، وَإِنْ كَانُوا يُقَاتِلُونَ فُرْسَانًا أُعْطُوا الْخَيْلَ إِذَا عَدِمُوهَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يُعْطَوْنَ مِنْ مَالِ الزَّكَاةِ الْخَيْلَ وَالسِّلَاحَ وَلَيْسَ فِيهَا خَيْلٌ وَلَا سِلَاحٌ.
قُلْنَا: لَا يَخْلُو دَافِعُ الزَّكَاةِ إِلَيْهِمْ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ.
إِمَّا أَنْ يَكُونَ رَبَّ الْمَالِ أَوِ الْوَالِيَ فَإِنْ كَانَ دَافِعُهَا رَبَّ الْمَالِ أَعْطَاهُمْ أَثْمَانَ الْخَيْلِ وَالسِّلَاحِ لِيَتَوَلَّوْا شِرَاءَ ذَلِكَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِيَهُ رَبُّ الْمَالِ لَهُمْ؛ لِأَنَّ إِخْرَاجَ الْقِيَمِ فِي الزَّكَوَاتِ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ الْوَالِي عَلَيْهَا هُوَ الدَّافِعَ لَهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: تُدْفَعُ إِلَيْهِمْ أَثْمَانُهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى شِرَاءَهَا رب الْمَالِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى شِرَاءَ ذَلِكَ لَهُمْ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّ الْمَالِ أَنَّ لِلْوَالِي عَلَيْهِمْ وِلَايَةً لَيْسَتْ لِرَبِّ الْمَالِ، فَجَازَ أَنْ يَتَوَلَّى شِرَاءَهُ لَهُمْ وَإِنْ لم يتوله رب المال.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَيُعْطَى ابْنُ السَّبِيلِ قَدْرَ مَا يُبَلِّغُهُ الْبَلَدَ الَّذِي يُرِيدُ مِنْ نَفَقَتِهِ وَحَمُولَتِهِ إِنْ كَانَ الْبَلَدُ بَعِيدًا أَوْ كَانَ ضَعِيفًا وَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ قَرِيبًا وَكَانَ جَلْدًا الْأَغْلَبُ مِنْ مِثْلِهِ لَوْ كَانَ غَنِيًّا الْمَشْيُ إِلَيْهَا أُعْطِيَ مُؤْنَتَهُ وَنَفَقَتَهُ بِلَا حَمُولَةٍ فَإِنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ وَيَرْجِعَ أُعْطِيَ مَا يَكْفِيهِ فِي ذَهَابِهِ وَرُجُوعِهِ مِنَ النَّفَقَةِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالَّذِي يُعْطَاهُ ابْنُ السَّبِيلِ مُعْتَبَرٌ بِكِفَايَتِهِ فِي سَفَرِهِ بِحَسَبِ قُرْبِهِ وَبُعْدِهِ وَذَهَابِهِ وَعَوْدِهِ فَيُعْطَى مَا يَكْفِيهِ مِنْ نَفَقَةٍ وَمَؤُونَةٍ، فَإِنْ كَانَ جَلْدًا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ فِي سَفَرِهِ لَمِ يُزَدْ عَلَى مَؤُونَتِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ أَوْ كَانَ مُسَافِرًا فِي بَحْرٍ لَا يَجِدُ مِنَ الرُّكُوبِ بُدًّا أُعْطِيَ مَعَ النَّفَقَةِ كِرَاءَ مَرْكُوبِهِ، فَإِنْ أَرَادَ الْعَوْدَةَ أُعْطِيَ مَعَ اتِّسَاعِ الْمَالِ نَفَقَةَ الذَّهَابِ وَالْعَوْدَةِ وَنَفَقَةَ مُقَامِ الْمُسَافِرِ وَهُوَ مُدَّةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَا يُزَادُ عَلَيْهَا وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ ذَلِكَ مَا أَقْنَعَ.
مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي: " فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَأْتِي عَلَى السَّهْمِ كُلِّهِ أُعْطِيَهُ كُلَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ ابْنُ سَبِيلٍ غَيْرُهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَأْتِي إِلَّا عَلَى سَهْمٍ، سَهْمٌ مِنْ مِائَةِ سَهْمٍ مِنْ سَهْمِ ابْنِ السَّبِيلِ لَمْ يُزَدْ عَلَيْهِ ".(8/524)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا يَخْلُو حَالُ ابْنِ السَّبِيلِ وَكُلِّ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ أَهْلِ السُّهْمَانِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونُوا ثَلَاثَةً وَهُمْ أَقَلُّ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ لَا يَزِيدُونَ عَلَيْهَا وَلَا يُنْقَصُونَ مِنْهَا، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَقْضِيَ عَلَيْهِمْ سَهْمَهُمْ بِقَدْرِ حَاجَاتِهِمْ وَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِهِمْ سَوَاءً كَانَ دَافِعُ الزَّكَاةِ هُوَ الْوَالِي أَوْ رَبُّ الْمَالِ فَإِنْ كَانَ سَهْمُهُمْ وَفْقَ كِفَايَاتِهِمْ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ أُعْطَوْهُ فَإِنْ أُعْطِيَ اثْنَانِ مِنْهُمْ وَحُرِمَ الثَّالِثُ ضُمِنَتْ حِصَّتُهُ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ، وَإِنْ كَانَ سَهْمُهُمْ أَقَلَّ مِنْ كِفَايَاتِهِمْ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمُعْطِي مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ رَبَّ الْمَالِ أَوِ الْعَامِلَ فَإِنْ كَانَ رَبَّ الْمَالِ قَسَّمَهُ عَلَى خِيَارِهِ مِنْ تَسْوِيَةٍ وَتَفْضِيلٍ، وَإِنْ كَانَ الْعَامِلَ قَسَّمَهُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ وَوُكِلُوا فِي بَاقِي كِفَايَاتِهِمْ عَلَى مَا يَأْتِي مِنَ الصَّدَقَاتِ، فَإِنْ أُعْطِيَ اثْنَانِ مِنْهُمْ وَحُرِمَ الثَّالِثُ ضُمِنَتْ حِصَّتُهُ، فَإِنْ كَانَ فَاعِلُ ذَلِكَ هُوَ الْعَامِلَ ضَمِنَ حِصَّةَ الثَّالِثِ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ، وَإِنْ كَانَ رَبَّ الْمَالِ فَفِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: ثُلُثَ سَهْمِهِمُ اعْتِبَارًا بِالْعَدَدِ.
وَالثَّانِي: يَضْمَنُ أَقَلَّ مَا يُجْزِئُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمْ لَا تَلْزَمُ، وَإِنْ كَانَ سَهْمُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ كِفَايَاتِهِمْ أُعْطُوا مِنْهُ قَدْرَ كِفَايَاتِهِمْ مِنْ غَيْرِ الزِّيَادَةِ، وَفِيمَا يُصْنَعُ بِالْفَاضِلِ مِنْ سَهْمِهِمْ وَجْهَانِ مَضَيَا:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ يُرَدُّ عَلَى بَاقِي الْأَصْنَافِ.
وَالثَّانِي: يُنْقَلُ إِلَى أَهْلِ ذَلِكَ الصِّنْفِ فِي أَقْرَبِ الْبِلَادِ بِهِمْ.
فَصْلٌ:
وَالْقِسْمُ الثَّانِي أَنْ يَكُونُوا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ كَأَنَّهُمْ كَانُوا عَشَرَةً فَصَاعِدًا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ سَهْمُهُمْ وَفْقًا لِكِفَايَةِ جَمِيعِهِمْ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُقَسَّمَ عَلَى جَمِيعِهِمْ وَلَا يَجُوزَ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِهِمْ، فَإِنِ اقْتَصَرَ الْمُعْطِي عَلَى بَعْضِهِمْ وَحَرَمَ الْبَاقِينَ ضَمِنَ لِمَنْ حَرَمَهُ قَدْرَ كِفَايَتِهِ وَجْهًا وَاحِدًا سَوَاءً كَانَ الْمُعْطِي رَبَّ الْمَالِ أَوِ الْعَامِلَ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ سَهْمُهُمْ يَقْضِي عَنْ كِفَايَةِ جَمِيعِهِمْ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُعْطِي رَبَّ الْمَالِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ ثُمُنُهُمْ عَلَى ثَلَاثَةٍ فَصَاعِدًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ لِاسْتِحْقَاقِ ذَلِكَ لِأَقَلِّ الْجَمْعِ فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى اثْنَيْنِ ضَمِنَ حِصَّةَ الثَّالِثِ، وَفِي قَدْرِهَا وَجْهَانِ مَضَيَا:
أَحَدُهُمَا: الثُّلُثُ.
وَالثَّانِي: قَدْرُ الْأَجْزَاءِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُعْطِي الْوَالِيَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُفَرِّقَ ذَلِكَ عَلَى جَمِيعِهِمْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى بَعْضِهِمْ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّ الْمَالِ أَنَّ مَا يُعْطِيهِ رَبُّ الْمَالِ هُوَ بَعْضُ(8/525)
الصَّدَقَاتِ فَجَازَ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى بَعْضِ أَهْلِ السُّهْمَانِ وَمَا يُعْطِيهِ الْوَالِي هُوَ جَمِيعُ الصَّدَقَاتِ فَوَجَبَ أَنْ يُفَرِّقَهُ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ السُّهْمَانِ فَهَذَا قِسْمٌ ثَانٍ.
فَصْلٌ:
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ أَنْ يَكُونُوا أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ كَأَنَّهُ وَجَدَ وَاحِدًا لَمْ يَرَ سِوَاهُ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ السَّهْمُ أَكْثَرَ مِنْ كِفَايَتِهِ فَيُعْطَى مِنْهُ قَدْرَ كِفَايَتِهِ، وَفِيمَنْ يُنْقَلُ إِلَيْهِ الْفَاضِلُ مِنْهُ الْوَجْهَانَ الْمَاضِيَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِلَى بَاقِي الْأَصْنَافِ.
وَالثَّانِي: إِلَى ذَلِكَ الصِّنْفِ فِي أَقْرَبِ الْبِلَادِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ السَّهْمُ كُلُّهُ بِقَدْرِ كِفَايَةِ هَذَا الْوَاحِدِ، فَفِي جَوَازِ دَفْعِ جَمِيعِهِ إِلَيْهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِ جَمِيعُ السَّهْمِ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِ الْأَصْنَافِ عِنْدَ عَدَمِ مَنْ سِوَاهُ جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِ الصِّنْفِ عِنْدَ عَدَمِ مَنْ سِوَاهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنَ السَّهْمِ إِلَّا ثُلُثَهُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَهُ لِجَمْعٍ أَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ، وَيُنْقَلُ بَاقِي السَّهْمِ، وَهُوَ ثُلُثَاهُ إِلَى ذَلِكَ الصِّنْفِ فِي أَقْرَبِ الْبِلَادِ وَلَا يعاد على باقي الأصناف.
مسألة:
قال الشافعي: " ويقسم لِلْعَامِلِ بِمَعْنَى الْكِفَايَةِ وَابْنِ السَّبِيلِ بِمَعْنَى الْبَلَاغِ لِأَنِّي لَوْ أَعْطَيْتُ الْعَامِلَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالْغَازِيَ بالاسم لم يسقط عن العامل اسم العامل ما لم يعزل ولا عن ابن السبيل اسم ابن السبيل ما دام مجتازا أو يريد الاجتياز ولا عن الغازي ما كان على الشخوص للغزو ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا قَصْدُ الشَّافِعِيِّ بِذَلِكَ تَمْيِيزُ أَهْلِ السُّهْمَانِ، وَأَنَّهُمْ صِنْفَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا يُعْطَى بِالِاسْمِ حَتَّى يَزُولَ عَنْهُ.
وَالثَّانِي: مَنْ يُعْطَى لِمَعْنًى يَقْتَرِنُ بِالِاسْمِ، لَا يُرَاعِي زَوَالَهُ عَنْهُ، فَأَمَّا الْمُعْطَوْنَ بِالِاسْمِ حَتَّى يَزُولَ عَنْهُمْ فَأَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ.
الْفُقَرَاءُ يُعْطَوْنَ حَتَّى يَسْتَغْنُوا فَيَزُولُ عَنْهُمُ اسْمُ الْفَقْرِ وَالْمَسَاكِينُ يُعْطَوْنَ حَتَّى يَسْتَغْنُوا فَيَزُولَ عَنْهُمُ اسْمُ الْمَسْكَنَةِ، وَالْمُكَاتَبُونَ يُعْطَوْنَ حَتَّى يُعْتَقُوا فَيَزُولَ عَنْهُمُ اسْمُ الْكِتَابَةِ، وَالْغَارِمُونَ يُعْطَوْنَ حَتَّى يَقْضُوا دُيُونَهُمْ، فَيَزُولَ عَنْهُمُ اسْمُ الْغُرْمِ، فَأَمَّا الْمُعْطَوْنَ لِمَعْنًى يَقْتَرِنُ بِالِاسْمِ وَلَا يُرَاعَى زَوَالُ الِاسْمِ عَنْهُ فَأَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ.
الْعَامِلُونَ يُعْطَوْنَ أُجُورَهُمْ وَإِنْ سُمُّوا بَعْدَ الْأَخْذِ عُمَّالًا.
وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ يُعْطَوْنَ وَإِنْ سُمُّوا بَعْدَ الْأَخْذِ مُؤَلَّفَةً.(8/526)
وَالْغُزَاةُ يُعْطَوْنَ وَإِنْ سُمُّوا بَعْدَ الْأَخْذِ غُزَاةً، وَبَنُو السَّبِيلِ يُعْطَوْنَ وَإِنْ سُمُّوا بَعْدَ الْأَخْذِ بَنِي السَّبِيلِ وَلَا يُرَاعَى فِيهِمْ زَوَالُ الِاسْمِ عَنْهُمْ كَمَا يُرَاعَى فِيمَنْ تَقَدَّمَهُمْ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي: " وَأَيُّ السُّهْمَانِ فَضَلَ عَنْ أَهْلِهِ رُدَّ عَلَى عدد من عدد من بقّى السُّهْمَانِ كَأَنْ بَقَّى فُقَرَاءَ وَمَسَاكِينَ لَمْ يَسْتَغْنُوا وغارمون لم تقض كل دُيُونَهُمْ فَيُقَسَّمُ مَا بَقِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ فَإِنِ اسْتَغْنَى الْغَارِمُونَ رُدَّ بَاقِي سَهْمِهِمْ عَلَى هذين السهمين نصفين حتى تنفد السهمان وإنما رد ذلك لأن الله تعالى لما جعل هذا المال لا مالك له من الآدميين بعينه يرد إليه كما ترد عطايا الآدميين ووصاياهم لو أوصي بها لرجل فمات الموصى له قبل الموصي كانت وصيته راجعة إلى ورثة الموصي فلما كان هذا المال مخالفا المال يورث هَهنا لم يكن أحد أولى به عندنا في قسم الله تعالى وأقرب ممن سمى الله تعالى له هذا المال وهؤلاء من جملة من سمى الله تعالى له هذا المال ولم يبق مسلم محتاج إلا وله حق سواه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا قُسِّمَتِ الزَّكَاةُ عَلَى الْمَوْجُودِينَ مِنَ الْأَصْنَافِ فَكَانَتْ سِهَامُ بَعْضِ الْأَصْنَافِ أَكْثَرَ مِنْ كِفَايَاتِهِمْ، وَسِهَامُ الْبَاقِينَ مِنَ الْأَصْنَافِ أَقَلَّ مِنْ كِفَايَاتِهِمْ، لَمْ يُعْطَ الْمُكْتَفُونَ بِبَعْضِ سِهَامِهِمْ إِلَّا قَدْرَ كِفَايَاتِهِمْ، وَنُقِلَ عَنْهُمُ الْفَاضِلُ مِنْ كِفَايَاتِهِمْ، ثُمَّ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَغَيْرِهِ: أَنْ يُرَدَّ عَلَى بَاقِي الْأَصْنَافِ الَّذِينَ قَصَرَتْ سِهَامُهُمْ عَنْ كِفَايَاتِهِمْ عَلَى مَا وَصَفَهُ مِنَ الْمِثَالِ فِي الْقِسْمَةِ، وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ إِلَى أَنَّهُ يُنْقَلُ الْفَاضِلُ مِنْ تِلْكَ السِّهَامِ إِلَى أَهْلِهَا فِي أَقْرَبِ الْبِلَادِ، ولا يرد على باقي الأصناف لأن لا يفاضل بين الأصناف مع تسوية الله تعال بَيْنَهُمْ، وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَصَحُّ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ:
أَحَدُهَا: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ بِالصَّدَقَةِ عَنْ جِيرَانِ الْمَالِ مَا وُجِدُوا، وَفِي هَذَا عُدُولٌ عَنْهُمْ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ لَمَّا عَدِمَ بَعْضَ الْأَصْنَافِ وَجَبَ رَدُّ سَهْمِهِ عَلَى مَنْ وُجِدَ وَلَا يُنْقَلُ، فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْفَاضِلُ عَنْ كِفَايَةِ الْمَوْجُودِينَ يُرَدُّ عَلَى مَنِ احْتَاجَ وَلَا يُنْقَلُ.
وَالثَّالِثُ: إِنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْوَصَايَا إِذَا ضَاقَتْ وَرَدَّ بَعْضُهُمْ حِصَّتَهُ مِنْهَا رُدَّتْ عَلَى مَنْ بَقِيَ وَلَمْ تُرَدَّ عَلَى الْوَرَثَةِ كَانَتِ الصدقة بمثابتها، والله أعلم.
مسألة:
قال الشافعي: " أَمَّا أَهْلُ الْفَيْءِ فَلَا يَدْخُلُونَ عَلَى أَهْلِ الصدقة وأما أهل الصدقة الأخرى فَهُوَ مَقْسُومٌ لَهُمْ صَدَقَتُهُمْ فَلَوْ كَثُرَتْ لَمْ يدخل عليهم غيرهم وواحد مِنْهُمْ يَسْتَحِقُّهَا فَكَمَا كَانُوا لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ غَيْرُهُمْ فَكَذَلِكَ لَا يَدْخُلُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ مَا كَانَ مِنْ غَيْرِهِمْ مَنْ يَسْتَحِقُّ مِنْهَا شَيْئًا ".
قال الماوردي: وهذا كمال قَالَ وَهِيَ جُمْلَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ:(8/527)
أَحَدُهُمَا: تَمْيِيزُ أَهْلِ الصَّدَقَةِ عَنْ أَهْلِ الْفَيْءِ.
وَالثَّانِي: تَمْيِيزُ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ.
فَأَمَّا تَمْيِيزُ أَهْلِ الصَّدَقَةِ عَنْ أَهْلِ الْفَيْءِ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، وَقُلْنَا لِمَنْ قَالَ: الْفَيْءُ لِأَهْلِهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ أَهْلُ الصَّدَقَاتِ، وأما الصدقة لأهلها، لا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَهْلُ الْفَيْءِ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَإِنْ خَالَفَ فِيهِ أَهْلُ الْعِرَاقِ بَعْدَ مُضِيِّ الْكَلَامِ فِيهِ.
وَأَمَّا تَمْيِيزُ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ مُعْطِيهَا، فَإِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ هُوَ الْمُعْطِيَ تَمَيَّزُوا بِالْجِوَارِ فَإِذَا أَعْطَى زَكَاةَ مَالِهِ لِأَهْلِهَا مِنْ جِيرَانِهِ فَإِنِ اكْتَفَوْا بِهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ زَكَاةِ غَيْرِهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَكْتَفُوا جَازَ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ زَكَاةٍ أُخْرَى، لِأَنَّ أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ قَدْ يَتَجَاوَرُونَ فَيَكُونُ فِي جِيرَانِ جَمِيعِهِمْ أَهْلًا لِصَدَقَاتِهِمْ كُلِّهِمْ، فَإِنْ كَانَ الْعَامِلُ هُوَ الْمُعْطِيَ فَأَهْلُ عَمَلِهِ أَهْلُ الصَّدَقَاتِ الَّتِي يَجْبِيهَا، فَإِذَا فَرَّقَهَا فِيهِمْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذُوا، مِنْ غَيْرِهَا مِنَ الصَّدَقَاتِ سَوَاءً اكْتَفَوْا بِمَا قَدْ أَخَذُوا مِنَ الصَّدَقَاتِ أَمْ لَا؛ لِأَنَّهُ لا حق لهم في صدقة ليس مِنْ أَهْلِهَا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: " فَكَمَا لَا يَدْخُلُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ فَكَذَلِكَ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ غَيْرُهُمْ "، وَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ إِذَا فَضَلَتْ عَنْ كِفَايَةِ بَعْضِهِمْ فَاحْتَاجَ إِلَيْهَا الْبَاقُونَ أَنَّهَا لَا تُنْقَلُ عَنْهُمْ تَعْلِيلًا بِأَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَدْخُلُوا عَلَى غَيْرِهِمْ فِي صَدَقَةٍ أُخْرَى لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِمْ غَيْرُهُمْ فِي الْفَاضِلِ مِنْ صَدَقَاتِ بَعْضِهِمْ، وَهَذَا تَعْلِيلٌ صَحِيحٌ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يُعْطِيهِ الْعَامِلُ وَبَيْنَ مَا يُعْطِيهِ رَبُّ الْمَالِ.
قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ رَبَّ الْمَالِ يُعْطِي بَعْضَ الصَّدَقَاتِ فَجَازَ أَنْ يُعْطِيَ الْآخِذَ مِنْ صَدَقَةٍ أُخْرَى، وَالْعَامِلُ يُعْطِي جَمِيعَ الصَّدَقَاتِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطِيَ الْآخِذَ مِنْ صَدَقَةٍ أُخْرَى، وَاللَّهُ أعلم.
مسألة:
قال الشافعي: " وإن اسْتَغْنَى أَهْلُ عَمَلٍ بِبَعْضِ مَا قُسِمَ لَهُمْ وَفَضَلَ عَنْهُمْ فَضْلٌ رَأَيْتُ أَنْ يُنْقَلَ الْفَضْلُ مِنْهُمْ إِلَى أَقْرَبِ النَّاسِ بِهِمْ فِي الْجِوَارِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا اسْتَغْنَى أَهْلُ نَاحِيَةٍ بِبَعْضِ صَدَقَاتِهِمْ وَجَبَ نَقْلُ فَاضِلِهَا إِلَى أَقْرَبِ الْبِلَادِ بِهِمْ، لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُمْ فِيمَا فَضَلَ عَنْ كِفَايَاتِهِمْ فَكَانَ أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِمْ أَحَقَّ بها مِنْ غَيْرِهِمْ فَلَوْ قَرُبَ مِنْهُمْ بُلْدَانٌ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَقْرَبَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْآخَرِ كَانَ أَقْرَبُ الْبَلَدَيْنِ أَوْلَى مِنْ أَبْعَدِهِمَا سَوَاءً كَانَ الْأَقْرَبُ مِصْرًا أَوْ قَرْيَةً، وَإِنْ كَانَا فِي الْقُرْبِ سَوَاءً نُظِرَ فِي الْعَامِلِ فِي الصَّدَقَةِ، فَإِنْ كَانَتْ مَعَ رَبِّ الْمَالِ كَانَ بِالْخِيَارِ فِي إِخْرَاجِهَا فِي أَيِّ الْبَلَدَيْنِ شَاءَ، وَإِنْ كَانَتْ مَعَ الْوَالِي كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُخْرِجَهَا فِي الْبَلَدَيْنِ مَعًا؛ لِأَنَّ عَلَى الْوَالِي أَنْ يَعُمَّ وَلَيْسَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ أَنْ يَعُمَّ، وَلَوْ تَسَاوَيَا فِي الْقُرْبِ إِلَيْهِمْ قَرْيَةً وَبَادِيَةً اسْتَوَيَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ، وَكَانَا كَالْبَلَدَيْنِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْقُرْبِ وَسَوَاءً كَانَا فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ فِي جِهَتَيْنِ مِنْ عَمَلٍ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ عَمَلَيْنِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْبَلَدَيْنِ مِنْ وِلَايَةِ هَذَا الْعَامِلِ وَالْآخَرُ مِنْ غَيْرِ وِلَايَتِهِ فَيَكُونُ الْبَلَدُ الَّذِي هُوَ فِي وِلَايَتِهِ أَوْلَى بِنَقْلِ هَذَا الْفَاضِلِ إِلَيْهِمْ مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي ليس فيه ولايته.(8/528)
مسألة:
قال الشافعي: " وَلَوْ ضَاقَتِ السُّهْمَانُ قُسِّمَتْ عَلَى الْجِوَارِ دُونَ النَّسَبِ وَكَذَلِكَ إِنْ خَالَطَهُمْ عَجَمٌ غَيْرُهُمْ فَهُمْ معهم في القسم على الجوار فإن كانوا أهل بادية عند النجعة يتفرقون مرة ويختلطون أخرى فأحب إلي لو قسمها على النسب إذا استوت الحالات وإذا اختلفت الحالات فالجوار أولى من النسب وإن قال من تصدق إن لنا فقراء على غير هذا الماء وهم كما وصفت يختلطون في النجعة قسم بين الغائب والحاضر ولو كانوا بالطرف من باديتهم فكانوا ألزم له قسم بينهم وكان كالدار لهم وهذا إذا كانوا معا أهل نجعة لا دار لهم يقرون بها فأما إن كانت لهم دار يكونون لها ألزم فإني أقسمها على الجوار بالدار (وقال في الجديد) إذا استوى في القرب أهل نسبهم وعدى قسمت على أهل نسبهم دون العدى وإن كان العدى أقرب منهم دارا وكان أهل نسبهم منهم على سفر تقصر فيه الصلاة قسمت على العدى إذا كانت دون ما تقصر فيه الصلاة لأنهم أولى باسم حضرتهم وإن كان أهل نسبهم دون ما تقصر فيه الصلاة والعدى أقرب منهم قسمت على أهل نسبهم لأنهم بالبادية غير خارجين من اسم الجوار وكذلك هم في المنعة حاضرو المسجد الحرام ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُقَدِّمَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: إِنَّ الصَّدَقَةَ إِنْ قَسَّمَهَا الْعَامِلُ لَزِمَهُ أَنْ يُقَسِّمَهَا عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ السُّهْمَانِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ عَلَى طَائِفَةٍ حَتَّى يقسمها على جميعهم وإن قسهما رَبُّ الْمَالِ جَازَ أَنْ يَقْتَصِرَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ عَلَى طَائِفَةٍ أَقَلُّهَا ثَلَاثَةٌ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُفَرِّقَهَا فِي جَمِيعِ الصِّنْفِ إِلَّا أَنْ تَتَّسِعَ صَدَقَتُهُ لِجَمِيعِهِمْ فَيَلْزَمُهُ مَعَ الِاتِّسَاعِ أَنْ يُفَرِّقَهَا فِي الْجَمِيعِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَامِلِ وَبَيْنَ رَبِّ الْمَالِ مَا قَدَّمْنَاهُ، فَإِنَّ الْعَامِلَ يُقَسِّمُ جَمِيعَ الصَّدَقَاتِ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُقَسِّمَهَا فِي جَمِيعِ أَهْلِ السُّهْمَانِ، وَرَبُّ الْمَالِ يُقَسِّمُ بَعْضَ الصَّدَقَاتِ فَجَازَ أَنْ يُقَسِّمَهَا فِي بَعْضِ أَهْلِ السُّهْمَانِ.
والمقدمة الثانية: أن ينقل الصَّدَقَةِ عَنْ مَكَانِهَا لَا يَجُوزُ إِذَا وُجِدَ فِيهِ أَهْلُهَا، وَإِنْ نُقِلَتْ فَقَدْ أَسَاءَ نَاقِلُهَا، وَفِي إِجْزَائِهَا قَوْلَانِ.
فَإِنْ عُدِمَ أَهْلُ السُّهْمَانِ فِي مَكَانِهِمَا نُقِلَتْ إِلَى أَقْرَبِ الْبِلَادِ بِهِ.
فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَاتَانَ الْمُقَدِّمَتَانِ فَلَا يَخْلُو قَسْمُ الصَّدَقَاتِ مِنْ أَنْ يَتَوَلَّاهُ رَبُّ الْمَالِ أَوِ الْعَامِلُ، فَإِنْ تَوَلَّاهُ الْعَامِلُ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ صَدَقَاتِ أَمْصَارٍ أَوْ بَوَادٍ، فَإِنْ كَانَتْ صَدَقَاتِ أَمْصَارٍ لَزِمَهُ أَنْ يُقَسِّمَ صَدَقَةَ كُلِّ مِصْرٍ فِي أَهْلِهِ وَأَهْلُ الْمِصْرِ مَنِ اشْتَمَلَ عَلَيْهِمْ بُنْيَانُهُ وَأَحَاطَ بِهِمْ سُورُهُ، فَأَمَّا مَنْ خَرَجَ عَنْ سُورِهِ وَلَمْ يَتَّصِلْ بِبُنْيَانِهِ فَإِنْ كَانُوا عَلَى مَسَافَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَصَاعِدًا لَمْ تَكُنْ لَهُمْ فِي زَكَاةِ ذَلِكَ الْمِصْرِ حَقٌّ لِكَوْنِهِمْ مِنَ الْمِصْرِ عَلَى سَفَرٍ يُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُضَافُوا إِلَيْهِ وَإِنْ كَانُوا عَلَى مَسَافَةٍ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَفِيهِمْ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا:(8/529)
أحدهما: أنهم مستحقون لصدقات المصر وهم كسكانه فِي أَنَّ الْخَارِجَ إِلَيْهِمْ لَا يَكُونُ مُسَافِرًا يستبيح المصر.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ لَا حَقَّ لَهُمْ فِي صَدَقَاتِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إِلَى بلد من ليس فيه والذي أراه مذهب وَهُوَ أَصَحُّ عِنْدِي مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يُنْظَرَ فِي الْخَارِجِ عَنِ الْمِصْرِ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَلْزَمُهُ حُضُورُهُ كَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ كَانَ مُضَافًا إِلَى أَهْلِهِ فِي اسْتِحْقَاقِ صَدَقَاتِهِمْ كَمَا كَانَ مضافا إليهم في وجوب الجمعة عليهم فِي مِصْرِهِمْ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَلْزَمُهُ حُضُورُ الْمِصْرِ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ لَمْ يَكُنْ مُضَافًا إِلَى أَهْلِهِ فِي اسْتِحْقَاقِ صَدَقَاتِهِمْ كَمَا لَمْ يُضَفْ إِلَيْهِمْ فِي وُجُوبِ الْجُمُعَةِ عَلَيْهِ فِي مِصْرِهِمْ، وَهَذَا حُكْمُ صَدَقَاتِ الْأَمْصَارِ إِذَا قَسَّمَهَا الْعَامِلُ فِي أَهْلِهَا، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَنْ كَانَ قَاطِنًا فِي الْمِصْرِ أَوْ طَارِئًا إِلَيْهِ، وَأَقَارِبُ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ وَالْأَجَانِبُ؛ لِأَنَّ اسْتِيعَابَ جَمِيعِهِمْ فِي قِسْمَةِ الْعَامِلِ وَاجِبٌ.
فَصْلٌ:
[صَدَقَاتُ الْبَادِيَةِ]
وَإِنْ كَانَ مَا يُقَسِّمُهُ الْعَامِلُ صَدَقَاتِ بَادِيَةٍ لَا تَضُمُّهُمْ أَمْصَارٌ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونُوا مُقِيمِينَ بِمَكَانٍ قَدِ اسْتَوْطَنُوهُ مِنْ بَادِيَتِهِمْ لَا يَظْعَنُونَ عَنْهُ شِتَاءً وَلَا صَيْفًا ولا ينقلون عنه لمرعى ولا كلاء، فَهَؤُلَاءِ كَأَهْلِ الْمِصْرِ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي الْمُقَامِ، وَإِنِ اختلفوا في صفات المساكن فَتَكُونُ صَدَقَاتُهُمْ مَقْسُومَةً فِيمَنْ كَانَ نَازِلًا مَعَهُمْ فِي مَكَانِهِمْ، وَهَلْ يُشْرِكُهُمْ مَنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةٍ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَمْ لَا عَلَى مَا حَكَيْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أن يكونوا ممن ينتجع الْكَلَأَ، وَيَنْتَقِلُ لِطَلَبِ الْمَاءِ وَالْمَرْعَى فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونُوا مُجْتَمِعِينَ لَا يَنْفَصِلُ حَالُ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، فَجَمِيعُهُمْ جِيرَانٌ وَإِنْ تَمَيَّزَتْ أَنْسَابُهُمْ فَتُقَسَّمُ الزَّكَاةُ فِي جَمِيعِهِمْ وَفِيمَنْ كَانَ مِنْهُمْ عَلَى مَسَافَةٍ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَإِنْ تَمَيَّزُوا عَنْهُمْ وَجْهًا وَاحِدًا بِخِلَافِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ؛ لِأَنَّ الْبَادِيَةَ لَمَّا لَمْ تَضُمَّهُمُ الْأَمْصَارُ رُوعِيَ فِي تَجَاوُرِهِمُ الْقُرْبُ وَالْبُعْدُ، فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ عَلَى أَقَلَّ مِنْ مَسَافَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ كَانَ جَارًا لِقُرْبِهِ وَمَنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَصَاعِدًا لَمْ يَكُنْ جَارًا لِبُعْدِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتَمَيَّزَ حَالُهُمْ وَتَنْفَصِلَ كل حلة عن الأخرى، فتقسم زكاة كل حلة عن الأخرى فتقسم زكاة كل حلة عَلَى أَهْلِهَا، وَعَلَى مَنْ كَانَ مِنْهَا عَلَى أَقَلَّ مِنْ مَسَافَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، هَذَا حُكْمُ الْعَامِلِ إِذَا تَوَلَّى قَسْمَهَا بِنَفْسِهِ فِي الْأَمْصَارِ وَالْبَوَادِي.
فَصْلٌ:
وَإِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ هُوَ الْمُتَوَلِّي لِقَسْمِ زَكَاتِهِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ جَوَازِهِ فِي تَفْضِيلِ حُكْمِ الْمَالِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ أَوْ مِنَ الْبَوَادِي فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ لَمْ يَكُنْ مَنْ خَرَجَ عَنْ مِصْرِهِ مِنْ جِيرَانِهِ، وَلَا مِنْ مُسْتَحِقِّي زَكَاتِهِ وَجْهًا وَاحِدًا بِخِلَافِ مَا يقسمه العامل؛(8/530)
لِأَنَّنَا نُرَاعِي فِيمَا يُقَسِّمُهُ رَبُّ الْمَالِ الْجِوَارَ وَفِيمَا يُقَسِّمُهُ الْعَامِلُ النَّاحِيَةَ، ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ مِصْرِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا كَانَ جَمِيعُ أَهْلِهِ جِيرَانَهُ، فَإِنْ كَانَ أَهْلُ الصَّدَقَةِ فِيهِ أَجَانِبَ مِنْ رَبِّ الْمَالِ أَوْ جَمِيعُهُمْ أَقَارِبَ لَهُ فَجَمِيعُهُمْ سَوَاءٌ، وَلَهُ أَنْ يَدْفَعَ زَكَاةَ مَالِهِ إِلَى مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ بَعْدَ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ ثَلَاثَةً فَصَاعِدًا، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَقَارِبَ لِرَبِّ الْمَالِ وَبَعْضُهُمْ أَجَانِبَ مِنْهُ كَانَ أَقَارِبُهُ أَوْلَى بِزَكَاتِهِ مِنَ الْأَجَانِبِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " خَيْرُ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ " يَعْنِي المعادي، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صَدَقَتُكَ عَلَى غَيْرِ ذِي رَحِمِكَ صَدَقَةٌ وَعَلَى ذِي رَحِمِكَ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ " فَإِنْ عَدَلَ بِهَا عَنْ أَقَارِبِهِ إِلَى الْأَجَانِبِ فَقَدْ أَسَاءَ وَأَجْزَأَتْهُ؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْأَقَارِبِ مِنِ طَرِيقِ الْأَوْلَى مَعَ اشْتِرَاكِ الْأَقَارِبِ وَالْأَجَانِبِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ، وَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ كَبِيرًا وَاسِعًا، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يراعى فيه الجوار الخاص والجوار الْعَامُّ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْمُرَاعَى فِيهِ الْجِوَارُ الْخَاصُّ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ جِيرَانُهُ مَنْ أُضِيفَ إِلَى مَكَانِهِ مِنَ الْبَلَدِ.
وَقِيلَ: إِنَّهُمْ إلى أربعين دار من داره، ولا يكون جميع أَهْلُ الْبَلَدِ جِيرَانَهُ، وَهَذَا قَوْلٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ يُرَاعَى فِيهِ الْجِوَارُ الْعَامُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {والجار ذي القربى والجار الجنب} [النساء: آية 36] يَعْنِي الْبَعِيدَ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ جَمِيعُ أَهْلِ الْبَلَدِ جِيرَانَهُ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ الْبَغْدَادِيِّينَ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: إِنْ فَرَّقَهَا فِي غَيْرِ جِيرَانِهِ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ كَانَ نَاقِلًا لِزَكَاتِهِ عَنْ مَحَلِّهَا، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي لَا يَكُونُ نَاقِلًا لَهَا وَهُوَ أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ.
فَصْلٌ:
وَإِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ بَدَوِيًّا، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِي حَلَّةٍ قَاطِنًا بِمَكَانِهَا لَا يَظْعَنُ عَنْهَا شِتَاءً وَلَا صَيْفًا، فَهِيَ كَالْبَلَدِ وَجَمِيعُهَا جِيرَانٌ سَوَاءً صَغُرَتْ أَوْ كَبُرَتْ؛ لِأَنَّهَا لَا تَبْلُغُ وَإِنْ كَبُرَتْ مَبْلَغَ كِبَارِ الْأَمْصَارِ فَيَخُصُّ مِنْهُمْ أَقَارِبَهُ، فَإِنْ عَدَلَ عَنْهُمْ إلى الأجانب أجزأ، وَلَا يَكُونُ مَنْ فَارَقَ الْحَلَّةَ جَارًا، وَإِنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةٍ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ جَارٌ لِلْحَلَّةِ، وَالْوَاحِدُ مِنَ الْحَلَّةِ جِيرَانُهُ أَهْلُ الْحَلَّةِ، فَبَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي حَلَّةٍ يَنْجَعُ الْكَلَأَ وَيَظْعَنُ لِطَلَبِ الْمَاءِ وَالْمَرْعَى، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:(8/531)
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْحَلَّةُ مُجْتَمِعَةً لَا يَنْفَصِلُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ فَجَمِيعُ أَهْلِهَا جِيرَانُهُ كَبُرَتْ أَمْ صَغُرَتْ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مُتَفَرِّقَةً كَتَمَيُّزِ كُلِّ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِهِمْ، إِمَّا لِتَمَيُّزِهِمْ فِي الْأَنْسَابِ وَإِمَّا لِتَمَيُّزِهِمْ فِي الْأَسْبَابِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الرَّحِيلِ وَالنُّزُولِ، فَيَكُونُ جِيرَانُهُ مِنَ الْحَلَّةِ مَنْ يَرْحَلُ بِرَحِيلِهِ وَيَنْزِلُ بِنُزُولِهِ وَلَا تَكُونُ الْفِرْقَةُ الَّتِي تُخَالِفُهُ فِي الرَّحِيلِ وَالنُّزُولِ جِيرَانًا لَهُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتَّفِقُوا فِي الرَّحِيلِ وَالنُّزُولِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ جَمِيعَ الْحَلَّةِ مِنَ الْفِرَقِ كُلِّهَا جِيرَانٌ لَهُ اعْتِبَارًا بِاتِّفَاقِهِمْ فِي النُّجْعَةِ، وَإِنْ تَفَرَّقُوا فِي الْبُقْعَةِ كَمَا يَتَفَرَّقُ أَهْلُ الْأَمْصَارِ فِي مَحَالِّهِمْ، وَيَكُونُوا جِيرَةً إِذَا جَمَعَهُمُ الْمِصْرُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ جِيرَانَهُ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ فِي بُقْعَتِهِ دُونَ مَنْ فَارَقَهُ اعْتِبَارًا بِالْمَكَانِ فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ إِنْ عَدَلَ بِزَكَاتِهِ إِلَى غَيْرِ طَائِفَتِهِ مِنْ فِرَقِ الْحَلَّةِ لَمْ يَكُنْ نَاقِلًا لَهَا، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يكون ناقلا لها.
مسألة:
قال الشافعي: " وإذا وَلِيَ الرَّجُلُ إِخْرَاجَ زَكَاةِ مَالِهِ قَسَّمَهَا عَلَى قَرَابَتِهِ وَجِيرَانِهِ مَعًا فَإِنْ ضَاقَتْ فَآثَرَ قَرَابَتَهُ فَحَسَنٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنْ كَانَ لِرَبِّ الْمَالِ أَقَارِبٌ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونُوا جِيرَانًا أَوْ أَبَاعِدَ، فَإِنْ كَانَ أَقَارِبُهُ جِيرَانًا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مَعَهُمْ أَجَانِبُ أَمْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ أَجَانِبُ فَقَدِ اسْتَحَقُّوا زَكَاةَ ماله بالجوار وجاز الْفَضِيلَةَ بِالْقَرَابَةِ وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ أَجَانِبُ، فَعَلَى ضربين:
أحدهما: أن تسع زَكَاتُهُ لِلْأَقَارِبِ وَالْأَجَانِبِ فَيَفُضَّهَا عَلَى الْفَرِيقَيْنِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَضِيقَ زَكَاتُهُ عَنِ الْفَرِيقَيْنِ فَأَقَارِبُهُ أَوْلَى بِزَكَاتِهِ مِنَ الْأَجَانِبِ لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلِ الْأَفْضَلُ أَنْ يَخْلِطَ بِأَقَارِبِهِ نَفَرًا مِنَ الْأَجَانِبِ أَوْ يَتَوَفَّرَ بِهَا عَلَى أَقَارِبِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَوَفَّرَ بِهَا عَلَى أَقَارِبِهِ لِلْخَبَرِ الْمُتَقَدِّمِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَخْلِطَ بِهِمْ نَفَرًا مِنَ الْأَجَانِبِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 14، 15، 16] فَجَمَعَ بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ فِي اسْتِحْقَاقِ الثَّنَاءِ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا إِذَا كَانَ جِيرَانُهُ أَجَانِبَ وَأَقَارِبُهُ أَبَاعِدَ فَجِيرَانُهُ الْأَجَانِبُ أَوْلَى بِزَكَاتِهِ مِنْ أَقَارِبِهِ الْأَبَاعِدِ وَقَالَ أبو حنيفة: أَقَارِبُهُ الْأَبَاعِدُ أَوْلَى مِنْ جِيرَانِهِ الأجانب؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَدَقَةَ امْرِئٍ وَذُو رَحِمِهِ مُحْتَاجٌ، وَلِأَنَّ اجْتِمَاعَهُمْ فِي النَّسَبِ صِفَةٌ لَازِمَةٌ واجتماعهم في(8/532)
الْجِوَارِ صِفَةٌ زَائِلَةٌ، وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ لَمَّا وَجَبَتْ بِالنَّسَبِ دُونَ الْجِوَارِ كَانَ اعْتِبَارُ النَّسَبِ فِي الزَّكَاةِ أَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِ الْجِوَارِ.
وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قوله تعالى: {والجار ذي القربى} الْآيَةَ وَعُمُومُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ " أَيْ بِقُرْبِهِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَمَيَّزَ الْأَقَارِبُ بِوُجُوبِ النَّفَقَةِ تَمَيَّزَ الْجِيرَانُ بِاسْتِحْقَاقِ الزَّكَوَاتِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ جِيرَانُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْلَى مِنْ زَكَاتِهِ مِنْ أَقَارِبِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَانَ جِيرَانُهُ فِي بَلَدِهِ أَوْلَى بها من أقاربه في غير بلده وتحريره قياسا أن قرب الدار أحق بالزكاة من قرب النسب قياسا على دار الْحَرْبِ فَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَحْمُولٌ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَى صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ.
وَالثَّانِي: عَلَى ذِي الرَّحِمِ الَّذِي يَجِبُ نَفَقَتُهُ، فَأَمَّا الِاعْتِبَارُ لِلُزُومِ الصِّفَةِ فِي النَّسَبِ دُونَ الْجِوَارِ فَفَاسِدٌ بِالشُّفْعَةِ حَيْثُ رُوعِيَ فِيهَا الْجِوَارُ دُونَ النَّسَبِ وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِوُجُوبِ النَّفَقَةِ بِالنَّسَبِ دُونَ الْجِوَارِ فَهُوَ أَحَقُّ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَيْهِمْ لِتَمَيُّزِ مُسْتَحِقِّي النَّفَقَةِ عَنْ مُسْتَحِقِّي الزَّكَاةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي: " وَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يُوَلِّيَهَا غَيْرَهُ لِأَنَّهُ الْمُحَاسَبُ عليها والمسؤول عَنْهَا وَأَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ نَفْسِهِ وَفِي شَكٍّ مِنْ فِعْلِ غَيْرِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَكَذَلِكَ دَفْعُهَا إِلَى الْإِمَامِ أَوْلَى مِنِ اسْتِنَابَةِ الْوَكِيلِ فِيهَا لِأَنَّهَا تَسْقُطُ عَنْهُ بِقَبْضِ الْإِمَامِ لَهَا وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ بِقَبْضِ وَكِيلِهِ لَهَا، فَأَمَّا رَبُّ الْمَالِ وَالْإِمَامُ، فَإِنْ كَانَ الْمَالُ ظَاهِرًا فَدَفْعُ زَكَاتِهِ إِلَى الْإِمَامِ أَوْلَى مِنْ تَفَرُّدِ رَبِّ الْمَالِ بِإِخْرَاجِهَا عَلَى قَوْلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ لَكِنَّهَا عَلَى الْقَدِيمِ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِحْقَاقِ وَعَلَى الْجَدِيدِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى، وَإِنْ كَانَ الْمَالُ بَاطِنًا، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ أَنَّ دَفْعَهَا إِلَى الْإِمَامِ أَوْلَى وَتَفَرُّدَ رَبِّ الْمَالِ بِإِخْرَاجِهَا؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ يَعُمُّ بِهَا جَمِيعَ أَهْلِ السُّهْمَانِ إِذَا انْضَمَّتْ إِلَى غَيْرِهَا، وَرَبُّ الْمَالِ يَخُصُّ بِهَا بَعْضَهُمْ وَلِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ إِذَا دَفَعَهَا خَطَأً إِلَى غَيْرِ مُسْتَحِقٍّ لَمْ يَسْقُطْ فَرْضُهَا عَنْهُ، وَلَوْ دَفَعَهَا الْإِمَامُ خَطَأً إِلَى غَيْرِ مُسْتَحِقٍّ سَقَطَ فَرْضُهَا عَنْهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ رَبَّ الْمَالِ أَوْلَى بِإِخْرَاجِهَا مِنْ دَفْعِهَا إِلَى الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ مَا بَاشَرَهُ مَعَ عِبَادَاتِهِ كَانَ أَفْضَلَ مِمَّا عَوَّلَ فِيهِ عَلَى غَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّهُ أَوْسَعُ اجْتِهَادًا فِي مُسْتَحِقِّي زَكَاتِهِ مِنَ الْإِمَامِ؛ وَلِأَنَّهُ أعرف منه بأقاربه وذوي رحمه.
مسألة:
قال الشافعي: " وَأَقَلُّ مَنْ يُعْطَى مِنْ أَهْلِ السُّهُمِ ثَلَاثَةٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ(8/533)
كُلَّ صِنْفِ جَمَاعَةٍ فَإِنْ أَعْطَى اثْنَيْنِ وَهُوَ يجد الثالث ضمن ثلث سهم وإن أخرجه إلى غير بلده لم يبن لي أن عليه إعادة لأنه أعطى أهله بالاسم وإن ترك الجوار ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ قَسْمَ الصَّدَقَةِ يَخْتَلِفُ فِيهَا حَالُ الْعَامِلِ وَحَالُ رَبِّ الْمَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: إِنَّ عَلَى الْعَامِلِ فِيمَا يُقَسِّمُهُ أَنْ يَعُمَّ بِهِ جَمِيعَ أَهْلِ السُّهْمَانِ، وَيَجُوزُ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَقْتَصِرَ فِي كُلِّ صِنْفٍ عَلَى ثَلَاثَةٍ فَصَاعِدًا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ أَنَّ الْعَامِلَ يُقَسِّمُ جَمِيعَ الصَّدَقَاتِ، فَلَزِمَهُ أَنْ يَعُمَّ بِهَا جَمِيعَ أَهْلِ السُّهْمَانِ، وَرَبُّ الْمَالِ يُقَسِّمُ بَعْضَ الصَّدَقَاتِ فَجَازَ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى بَعْضِ أَهْلِ السُّهْمَانِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ عَلَى الْعَامِلِ أَنْ يُقَسِّمَ سَهْمَ كُلِّ صِنْفٍ عَلَى قَدْرِ حَاجَاتِهِمْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَاوِيَ بَيْنَهُمْ مَعَ تَفَاضُلِهِمْ فِي الْحَاجَةِ وَلَا أَنْ يُفَاضِلَ بَيْنَهُمْ مَعَ تَسَاوِيهِمْ فِي الْحَاجَةِ، وَرَبُّ الْمَالِ يُقَسِّمُ ذَلِكَ عَلَى خِيَارِهِ مَعَ تَسْوِيَةٍ وَتَفْضِيلٍ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُقَسِّمَهُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعَامِلَ لَمَّا لَزِمَهُ أَنْ يَعُمَّ جَمِيعَ أَهْلِ السُّهْمَانِ لَزِمَهُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ، وَرَبُّ الْمَالِ لَمَّا لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَعُمَّ جَمِيعَ أَهْلِ السُّهْمَانِ لَمْ يَلْزَمْهُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ، وَكَانَ عَلَى خِيَارِهِ فِي قَدْرِ الْعَطَاءِ كَمَا كَانَ عَلَى خِيَارِهِ فِي تَمَيُّزِ الْعَطَاءِ فَإِذَا ثَبَتَ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيمَا يَتَوَلَّاهُ الْعَامِلُ؛ فَأَمَّا رَبُّ الْمَالِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ مِنَ الصِّنْفِ الْوَاحِدِ عَلَى أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ إِذَا وُجِدُوا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ كُلَّ صِنْفٍ بِلَفْظِ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ وَقَالَ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: آية 60] وَأَقَلُّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ فَرْقًا بَيْنَ الْجَمْعِ وَالتَّثْنِيَةِ، فَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَصْنَافِ كُلِّهِمْ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْعَامِلُ وَرَبُّ الْمَالِ فَلَا يَجُوزُ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يُخِلَّ بِصِنْفٍ مِنْهُمْ إِذَا قَدَرَ عَلَيْهِ فِي بَلَدِهِ كَالْعَامِلِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ اسْتِيعَابُ كُلِّ صِنْفٍ بِخِلَافِ الْعَامِلِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ كُلَّ زَكَاةٍ لِجَمِيعِ الْأَصْنَافِ وَلَمْ يَجْعَلْهَا لِجَمِيعِ كُلِّ صِنْفٍ.
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَ ثَلَاثَةً مِنْ كُلِّ صِنْفٍ كَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمْ وَالتَّفْضِيلِ اعْتِبَارًا بِالْحَاجَةِ، فَأَيُّ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَعَلَ أَجَزَأَهُ، فَإِنْ قَسَّمَهَا عَلَى اثْنَيْنِ مَعَ وُجُودِ الثَّالِثِ ضَمِنَ حِصَّةَ الثَّالِثِ وَفِي قَدْرِ مَا ضَمِنَهُ، قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: ثُلُثُ ذَلِكَ السَّهْمِ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ اعْتِبَارًا بِالتَّسْوِيَةِ عِنْدَ تَرْكِ الِاجْتِهَادِ فِي التَّفْضِيلِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَضْمَنُ أَقَلَّ مَا يُجْزِئُ اعْتِبَارًا بِمَا جُعِلَ مِنَ الْخِيَارِ واللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
مسألة:
قال الشافعي: وَإِنْ أَعْطَى قَرَابَتَهُ مِنَ السُّهْمَانِ مِمَّنْ لَا تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ كَانَ أَحَقَّ بِهَا مِنَ الْبَعِيدِ مِنْهُ وَذَلِكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مِنْ قَرَابَتِهِ أَكْثَرَ مما يعلم من غيرهم وكذلك خاصته(8/534)